المقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وبعد.
كتب الإمام الخميني قدس سره في الأخلاق وفي تهذيب النّفس، فأفاض على طلّاب المعارف الحقّة وأصحاب الطّريقة الوسطى ما أنار به دروب سيرهم. وتوغّل قدس سره في أعماق النّفس البشريّة، فاستخرج منها ما يخلب الألباب. وارتقى قدس سره في مراتب المعنويّات، فصار قدوة السّالكين ومنار العارفين.
هكذا أضحى الإمام قدس سره في هذا الزّمان رمزًا عظيمًا للرّوحانيّة الأصيلة التي تمتزج بالجهاد والوعي وبُعد النّظر، وصار مدرسةً تأخذ بأيدي الباحثين من بداية المسير وإلى قمم المجد والعظمة.
المهتمّون ببرامج السّير والسّلوك، والعاملون على مناهج الأخلاق والتّهذيب، والمشتغلون بتربية النّفوس وتهذيبها، كلّ هؤلاء وجدوا ضالّتهم في هذه المدرسة الشّامخة التي اتّسعت لتلقي بظلالها الوارفة على جميع قضايا النّفس والرّوح، وتجيب عن جميع أسئلة الباحثين.
هذا ما يتعرّف إليه كل من يطالع كتابات الإمام ويكتشفه كل ذي دراية واهتمام، ولكن ماذا عن الذين لا عهد لهم بالمطالعة؟ أو أولئك الذين تحجزهم مصاعب المصطلح والمتابعة؟ هل يجوز أن يبقوا عن هذه المعارف السّامية بعيدين؟! ومن فيض روح الله محرومين؟!
14
1
المقدمة
- ألا يمكن أن تُقدَّم لهم بأسهل الطّرق وأيسر السّبل؟
- وهل يوجد مثل المنهاج التّعليميّ من وسيلة تحلّ المعضلات وتزيل المشكلات؟!
لأجل هذا وغيره، بادر مركز نون للتأليف والترجمة إلى نقل نصوص الإمام الرّائعة من مصادرها الأصيلة ووضعها في قوالب جديدة، تسهّل على طلّابنا الأعزّاء عمليّة التعرّف إلى المدرسة الأخلاقيّة السّلوكيّة الفريدة للإمام الخمينيّ قدس سره، وهذه القوالب هي التي تعتمد المنهجيّة التّحليلية المنطقيّة التي يقوم بها الذّهن السّليم عند تعامله مع قضايا النّفس وتهذيبها.
إنّ أي مهتمّ بتهذيب نفسه وتزكيتها لا بدّ له أن يتعرّف على أمراضها أوّلًا ليتخلّص منها، ومن ثمّ أحوالها الكاملة وفضائلها ليتحلّى بها ثانيًا، ولهذا، قمنا بوضع هذه الأبحاث الأخلاقيّة في قسمين. الأوّل ما ذكره الإمام في جميع كتاباته وكلماته حول أمراض القلب ورذائل الأخلاق وحالاتها السّلبيّة وجاءت تحت عنوان "مساوىء الخُلق". والثاني كلماته قدس سره حول الفضائل الاخلاقية والكمالات النفسية وجاءت تحت عنوان، "محاسن الخُلق" وبالرّغم من الغنى الملحوظ في هذا المجال، تبقى بعض الرّذائل والأمراض ممّا لم يتعرّض له الإمام قدس سره، أو اكتفى بالإشارة إليه في طيّات الأبحاث الأخرى.
ولا شكّ بأنّ السّير العلميّ في كلّ مرض يقتضي التعرّف إليه جيّدًا وقبل أيّ شيء، والسّعي لتحديده بصورة علميّة دقيقة ليعين الذّهن على التّعامل معه علميًّا وتحقيقًا، فتّتسع الفائدة وتعظم.
وإنّ من أهم طرق التعرّف إلى الأمراض معرفة عوارضها ممّا يظهر في النّفس وسلوكيّاتها وأحوالها، فيتمكّن المهتمّ بتهذيب نفسه من اكتشافها. وخصوصًا إنّ من طبيعة الأزمات الأخلاقيّة أن تخفي نفسها وتتستّر تحت أوهام الأنانيّة وحبّ النّفس.
وهذا ما يقودنا إلى دراسة آثار كلّ مرض ونتائجه على مستوى الفرد أو المجتمع، في الحياة والعمل دنيا وآخرة، ليكون أبلغ في التّوجّه إلى ضرورة القضاء عليه والتخلّص منه أو معالجته.
فيبدأ الحديث عن العلاج بذكر الأسباب والعوامل التي أدّت إلى تشكّل هذه الرّذيلة أو تلك، لأنّ أصل العلاج في الرّجوع إلى السّبب والمنشأ وسدّ بابه أو القضاء عليه. وفي كلّ
15
2
المقدمة
علاج نجد أهميّة المعرفة والاعتقاد وندرك أنّ البداية ينبغي أن تكون في العلم النّافع، لأنّ الانتقال إلى العمل لا يمكن أن يتحقّق دون ركيزة علميّة متينة.
وقد اعتمدنا نفس السّير التّحليليّ في الفضائل مع فارق يرتبط بالتّعامل معها مقارنةً بالرّذائل.
ويمّيز هذا الكتاب العديد من الخصائص، منها:
- سعينا في هذا الكتاب إلى تحقيق الغرض الأساسيّ من تدوين الكتب الأخلاقيّة، وهو أن تكون فرصة مهمّة للتّأثير في النّفوس لا مجرّد وصفة طبّيّة دقيقة. ولهذا، كان علينا أن نحافظ على النّصّ الأصليّ للإمام الخميني قدس سره، دون أي تدخّل.
- توثيق نصوص الإمام بعد مزجها في موضوع كل درس، ليتسنى للأستاذ والباحث المراجعة في المصدر عند الحاجة.
- وقد قمنا باستقصاء كل ما ذكره الإمام أو كتبه فيما يرتبط بكلّ رذيلة أو فضيلة، لكنّنا لم نتمكّن من إدراجها كلّها وإلّا لاحتاج الأمر إلى كتاب أكبر حجمًا بعدّة مرّات ما يؤثّر سلباً على تدريسه واعتماده في المناهج التّعليميّة.
- قمنا بانتقاء أهمّ ما يرتبط بالمسألة المطروحة تاركين الفرصة لكلّ من يرغب في السّباحة في بحر معارف الإمام وتعاليمه.
- أدرجنا نهاية كل درس المفاهيم الرئيسة لما طرحه الإمام في الموضوع المطروح، وهي عبارة عن خلاصة وزبدة أفكار الإمام.
- أدرجنا نهاية كل درس مجموعة من الآيات الشريفة، والأحاديث في نفس موضوع الدرس، لإغناء المادة إضافة إلى ما ذكره الإمام قدس سره من آيات وروايات.
إنّ مركز نون، وإذ يقدّم لأساتذتنا الكرام وطلّابنا الأعزّاء مثل هذا المتن التّعليميّ على أمل أن يساهم بقوّة في تفعيل تناول الموضوعات الأخلاقيّة، يرحّب بكلّ ملاحظة أو انتقاد يتقدّم بهذا العمل نحو المزيد من الدّقّة العلميّة والرّوح التّعليميّة، ويشكر كل من ساهم في اعداد هذا العمل وإيصاله إلى خواتيمه الطيبة.
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
16
3
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الرّياء، خطورته وعاقبته.
2- يبيّن منشأ الرياء وكيفيّة تشكّله في النّفس.
3- يذكر علامات المرائي وكيفيّة اكتشافها في النّفس.
17
4
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
تمهيد
إذا تحقّقت اليقظة1 في مراتبها الأولى، وأدرك الإنسان مخاطر الرّذائل الأخلاقيّة ومهالك الأمراض القلبيّة، ولو بالإجمال، سيتّجه لا محالة نحو التعرّف إليها من أجل معرفة أحوال نفسه. وما يحتاجه في هذه المرحلة هو الطّبيب الحاذق الخبير الذي يعلم أسرار النّفوس وبواطنها، ثمّ يسعى بكلّ جهده لتطبيق ما يتعلّمه منه على نفسه، وينتقل بعدها إلى العلاج.
وقد علمنا أنّ هذا الطّريق ميسّر لكلّ من أراد الله، وطلب الآخرة، وسعى لها سعيها ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾2. فمن أهمّ علامات سالك طريق الآخرة: حرص صاحبه على معرفة عيوب نفسه ونقائصها، لأنّه يعلم أنّها مورثة للّشقاء الأبديّ، ويظهر هذا الحرص في اهتمام السالك بما يوجّه إليه من نصائح وانتقادات.
إنّ السّالك إلى الله يجعل كلّ شيء في خدمة سيره إلى الله، فكيف إذا كان الكلام صادراً من عارفٍ... بالله كالإمام الخميني قدس سره، هناك سيُقبل بالقلب والرّوح على كلّ كلمة يقولها، ويغوص في أعماقها، لأنّ فيها نجاته وخلاصه، وعندها ستتفجّر ينابيع الحكمة، وتهطل أمطار المعرفة، لتغسل ما علق في قلبه من أدران الرّذائل وكدوراتها. وكم سمعنا عن أناس، كانت جملة واحدة صادرة من قلب وليّ من أولياء الله كفيلة بتغيير حياتهم.
معنى الرّياء وكيفيّة نشوئه في النّفس
من المعلوم أنّ جميع الملكات النفسيّة والخُلقيّة ليست سوى تجلّيات العقائد الرّاسخة في النّفس. وبدورها تظهر هذه الأخلاق ـ بحسنها وقبحها ـ في سلوك الإنسان وأعماله. وعندما
1 اليقظة: هي الاستيقاظ من نوم الغفلة، والصحوة من سكر الطبيعة، والإدراك بأن الإنسان مسافر، وأنه لا بُدَّ للمسافر من زاد وراحلة.
2 سورة الليل، الآية 7.
19
5
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
نربط كلّ خُلقٍ بجذوره ومنابته الاعتقاديّة، ونتعرّف إلى ظهوراته العمليّة والسّلوكيّة، نكون قد عرفناه كما يجب، وأدركنا حقيقته.
ولهذا، وجدنا الإمام الصّادق عليه السلام في الحديث المشهور الذي شرحه الإمام الخمينيّ قدس سره مفصّلًا في "الأربعون حديثًا" يبيّن "كُلُّ رِيَاءٍ شِرْك"1. فما نعرفه عن الرّياء من أنّه "إظهار وإبراز شيء من الأعمال الصّالحة أو الصّفات الحميدة أو العقائد الحقّة الصّحيحة للنّاس، لأجل الحصول على منزلة في قلوبهم والاشتهار بينهم بالصّلاح والاستقامة والأمانة والتديّن، من دون أن تكون هناك نيّة إلهيّة صحيحة"2، كما عرّفه الإمام، ليس سوى ظهور لمشكلة أكبر وأعمق، مشكلة يفهمها أهل الإيمان جيّداً، ويعلمون مدى خطورتها ووخامتها. وكلّ من كان في قلبه ذرّة إيمان سيهوله هذا الأمر ويصعقه. فحال الشّرك، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾3، وحقيقة الشّرك كما قال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾4. فمن مات على الشّرك حُرم المغفرة التي لا يستغني عنها أحد من العالمين في يوم الحساب، وهو الخائب الأكبر، لقوله تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾5.
بهذه الهزّة يتنبّه أهل الإيمان، ويتوجّهون إلى ما يمكن أن تخفيه هذه الحالة السّلوكيّة، النّاشئة من ملكة نفسيّة راسخة، ويعلمون أنّهم أمام مشكلةٍ، إذا بقيت ولم تتم إزالتها، فسوف تقضي على جميع الأعمال وتحبطها، مهما كانت هذه الأعمال حسنة أو صالحة، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾6.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "... لقد سمعتَ في الأحاديث الشريفة أنّ المرائي مشرك، إنّ من يرائي بين الناس برياسته الدينية وإمامته وتدريسه وصومه وصلاته وبأعماله
1 الشيخ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طبع دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الرابعة، 1407هـ، ج2، ص293، باب الرّياء، ح3.
2 روح الله الموسوي الخميني، الأربعون حديثًا، ترجمة محمد الغروي، دار التّعارف للمطبوعات، الطبعة الخامسة،1996م، ص 55.
3 سورة النساء، الآية 48.
4 سورة لقمان، الآية 13.
5 سورة طه، الآية 111.
6 سورة الزّمر، الآية 65.
20
6
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
الصالحة لأجل الحصول على المنزلة في قلوبهم، فهو مشرك"1.
وسواء كان هذا الإظهار أمام الأنظار والأبصار حيث يُسمّى لغةً واصطلاحًا بالرّياء، أم أمام الأسماع والآذان حيث يُسمّى بالسّمعة، فإنّه من شجرة واحدة.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ السّمعة - وهي عبارة عن إيصال خصال النّفس إلى أسماع النّاس لاجتذاب قلوبهم ولأجل الاشتهار ـ من شجرة الرّياء الخبيثة، ولهذا السّبب ذكرناها مع الرياء في باب واحد، ولم نعمد إلى ذكر كلّ واحدة منهما بصورة منفصلة"2.
وهكذا يريدنا هذا الطّبيب الشّفيق أن نتعرّف إلى أصل المشكلة. وبكلماته التي تنفذ إلى أعماق القلوب المستعدّة، يوقظ فينا حالة التّوجّه إلى خطرٍ عظيم: "أيّها المسكين، أنت في حضرة الله جلّ جلاله، وفي محضر الملائكة المقرّبين، تعمل خلاف رضا الله تعالى، والعبادة التي هي معراج القرب من الله، تؤدّيها لأجل النّفس الأمّارة بالسّوء ولأجل الشّيطان، وعندها لا تستحي أن تكذب في العبادة عدّة أكاذيب في حضرة الربّ والملائكة المقرّبين وتفتري عدّة افتراءات، وتمنّ وتعجب وتتدلّل أيضًا، ولا تخجل بعد كلّ ذلك! بماذا تختلف عبادتي هذه وعبادتك عن معصية أهل العصيان، وأشدّها الرّياء؟! فالرّياء شركٌ، وقبحه ناشئٌ من أنّك لم تؤدِّ العبادة لأجل الله. جميع عباداتنا شرك محض ولا أثر فيها للخلوص والإخلاص، بل حتّى أنّ رضا الله لا يشترك في الدّافع إلى إنجاز هذه العبادة، فهي لأجل الشّهوات وإعمار البطن والفرج فحسب"3.
وخامة أمر الرّياء وشدّة خفائه
لا يختلف المرائي عن غيره بحسب الظاهر، بل قد يكون أكثر نشاطاً وعملًا، لكنّه في باطنه يعيش مرضًا مهلكًا، لا يمكن إلّا لصاحبه أن يكتشفه. إنّ الرّياء يحكي عن علاقة سيّئة مع الله تعالى، مع أنّه قد يظهر بصورة حُسن الخُلق أمام النّاس، فلماذا عُدَّ الرياء من الأمراض القلبية المهلكة؟
1 الأربعون حديثًا، ص 75.
2 (م.ن)، ص 80.
3 (م.ن)، ص 96.
21
7
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
غالبًا ما يركن المتديّنون إلى إيمانهم باعتبار أنّه المنجي الأوّل والأساس، ولا شكّ بأنّ أصل القضيّة صحيح، ففي الحديث أنّه: "لا يدخل النّار من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان"1.
لكنّهم في كثير من الأحيان لا يلتفتون إلى عنصرين أساسيين في قضيّة الإيمان:
الأوّل: أنّ الإيمان قد يكون على سبيل الاستعارة، فلا يكون مستقرًّا بل مستودعًا (أي على نحو الوديعة)، حتّى إذا ماتوا سُلب منهم كما جاء في الأحاديث الشّريفة2. ومثل هذا الإيمان الذي لا قرار له ولا ثبات يزول عند الامتحانات الأساسيّة، ويكون الرّياء النّابع من شجرة الشّرك الخبيثة كتلك الحشرة التي تنخر في أصول الإيمان حتّى تقضي عليه.
الثّاني: أنّ الإيمان قد يكون شكليًّا أو ضعيفًا إلى الدّرجة التي يصعب معها صدور الأعمال الخالصة للّه، ونحن لم نؤمر سوى بالإخلاص، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾3. فما كان سرّ وجودنا فيه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾4، وهو الإخلاص لله في العبادة، لا يتحقّق مع هذا الإيمان الشكليّ أو الصّوريّ. ومن المعلوم أنّ الرّياء لا يكون إلّا بسبب ضعف إيمان الإنسان بالتّوحيد الذي يعني انحصار التأثير بالإله الواحد.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وهذا الإيمان الذي يمتلكه هو صورة بلا معنى، وجسد بلا روح، وقشر بلا لب، ولا يكون مقبولًا عند الله تعالى، كما أشير إليه في حديث مذكور في كتاب الكافي، عن علي بن سالم، قال: "سَمِعْتُ أبا عَبْدِالله عليه السلام يقولُ: قالَ الله عزَّ وجلَّ: أَنَا خُيْرُ شَرِيكٍ، مَنْ أَشْرَكَ مَعِي غيرِي فِي عَمَلٍ عَمِلَهْ لَمْ أَقْبَلْهُ إلاّ مَا كَانَ لِي خَالِصاً"5.
"وبديهيّ أنّ الأعمال القلبيّة، في حال عدم خلوصها، لا تصبح موردًا لتوجّه الحقّ تعالى، ولن يتقبّلها، بل سيوكلها إلى من اعتقد المرائي بتأثيره إلى جانب الله تعالى، وقد كان يعمل له
1 ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، الطبعة الأولى، 1404هـ، ج 11، ص 193.
2 "إِنَّ الله خَلَقَ خَلْقاً لِلْإِيمَانِ لَا زَوَالَ لَهُ وَخَلَقَ خَلْقاً لِلْكُفْرِ لَا زَوَالَ لَهُ وَخَلَقَ خَلْقاً بَيْنَ ذَلِكَ أَعَارَهُ الْإِيمَانَ يُسَمَّوْنَ الْمُعَارِينَ إِذَا شَاءَ سَلَبَهُمْ". الكليني، الكافي، ج2، ص 418.
3 سورة التوبة، الآية 31.
4 سورة الذاريات، الآية 56.
5 الكافي، ج 2، ص295.
22
8
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
ولأجل الحصول على المنزلة في قلبه مراءاةً وسمعةً. إذًا، فالأعمال القلبيّة تصبح مختصّة بذلك الشّخص، وتخرج من حدّ الشّرك، وتدخل إلى الكفر المحض، بل يمكن القول إنّ هذا الشّخص هو من جملة المنافقين. وكما أنّ شركه خفيٌّ فنفاقه خفيٌّ أيضًا، فهذا المسكين يتصوّر أنّه مؤمنٌ ولكنّه مشركٌ منذ البداية، وفي النّتيجة هو منافق، وعليه أن يذوق عذاب المنافقين، وويلٌ للذي ينتهي عمله إلى النفاق"1.
إنّ المشكلة العامّة في الأمراض الأخلاقيّة كلّها هي خفاؤها ودقّة أمرها، ولهذا احتجنا إلى الوعظ والتّذكير والمراقبة الدّقيقة والمحاسبة، يقول الإمام قدس سره: "كثيراً ما يتّفق أن يكون الشّخص المرائي نفسه غافلًا أيضًا عن كون الرّياء قد تسرّب إلى أعماله، وأنّ أعماله صارت رياءً وهباءً، إذ إنّ مكائد الشّيطان والنّفس من الدقّة والخفاء، وصراط الإنسانيّة من الرّهافة والظّلمة، بدرجة لا ينتبه منها الإنسان إلى ما هو فيه، إن لم يكن حذرًا جدًّا. إنّه يحسب أنّ أعماله للّه، ولكنّها تكون في الواقع للشّيطان، ولمّا كان الإنسان مجبولًا على حبّ النّفس، فإنّ حجاب حبّ النّفس يستر عنه معايب نفسه"2.
وما أجمل ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال، لمّا سئل: أَيُّ الْخَلْقِ أَعْمَى؟ قَالَ: "الَّذِي عَمِلَ لِغَيْرِ اللهِ، يَطْلُبُ بِعَمَلِهِ الثَّوَابَ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجلّ"3.
إنّ هذا المرض المهلك الخبيث الذي يتسلّل إلى جميع أعمالنا الصّالحة ليحبطها، يسري خفيةً ولا يُسمع له حسيسٌ أو يُرى له أثرٌ كما جاء بشأن الشّرك الخفيّ من أنّه أخفى من دبيب النّملة السّوداء في الليلة الظّلماء على الصّخرة الصمّاء4. ويُفهم من هذا الكلام ضرورة الغوص في أعماق النّفس وعدم التّساهل بشأن حالاتها الباطنيّة، لأنّه سيكون كحال من ركن واطمأنّ إلى العدوّ المهلك.
1 الأربعون حديثًا، ص 57.
2 (م.ن)، ص 69-70.
3 الشيخ الصدّوق، من لا يحضره الفقيه، تحقيق وتصحيح علي أكبر غفاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الثانية، 1413هـ، قم، ج4، ص 381.
4 عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "دبيب الشرك في أمتي كدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء". (منتخب الأنوار المضيئة، ص 16).
23
9
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إذًا، أيّها العزيز، كن دقيقًا في أعمالك وحاسب نفسك في كلّ عمل، واستنطقها عن الدّافع في الأعمال الخيّرة، والأمور الشّريفة، فما الذي يدفعها إلى السّؤال عن مسائل صلاة الليل أو على ترديد الأذكار؟ هل تريد أن تتفهّم أحكام صلاة الليل وتتعلّمها قربة إلى الله، أو تريد أن توحي إلى النّاس بأنّك من أهل صلاة الليل؟ لماذا تريد أن تخبر الناس بأيّ أسلوبٍ كان، عن الزّيارة للمشاهد المشرّفة، وحتّى عن عدد الزّيارات؟ لماذا لا ترضى أن لا يطّلع أحدٌ على الصّدقات التي تعطيها في الخفاء؟ وتحاول أن تتحدّث عنها ليطّلع عليها النّاس؟ إذا كان ذلك لله، وتريد أن يتأسّى به النّاس باعتبار أنّ "الدّال على الخير كفاعله" فإنّ إظهاره حسنٌ، واشكر الله على هذا الضّمير النقيّ والقلب الطاهر! ... ولكنّنا نعلم إجمالًا أنّ أعمالنا ليست خالصة لله، وإلّا فإذا كنّا عبادًا لله مُخْلصين، فلماذا تكون للشّيطان علينا هذه السّيطرة وبهذا القدر؟ مع أنّه أعطى لربِّه عهدًا أن ليس له سلطان على عباد الله المخلصين، وأنّه لا يمدّ يده إلى ساحتهم المقدّسة، وعلى حدّ قول شيخنا (الشيخ محمد علي الشاه آبادي)1 الكبير قدس سره: فإنّ الشّيطان كلب أعتاب الحضرة الإلهيّة، فلا ينبح في وجه من كانت له معرفة بالله ولن يؤذيه، وكلب الدّار لا يطارد معارف صاحب الدّار. ولكنّ الشّيطان لا يسمح بالدّخول لمن ليست له معرفة بصاحب الدار. إذًا، إذا رأيت أنّ للشّيطان شأنًا معك وسيطرة عليك، فاعلم أنّ أعمالك غير خالصة، وأنّها ليست
1 (1293 - 1369 هـ.)، وُلد في مدينة أصفهان، درس المقدّمات عند والده وأخيه، ثمّ سافر إلى العاصمة طهران عام 1304ﻫ، ودرس فيها الفقه والأُصول والفلسفة والعرفان، ثمّ سافر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، ثمّ ذهب إلى سامرّاء المقدّسة، لحضور دروس الشيخ محمّد تقي الشيرازي، ثمّ عاد إلى إيران بناءً على إصرار والدته بالعودة، فسكن طهران وأخذ يؤدّي وظائفه الدينية في مسجد سراج الملك. ثمّ ذهب إلى قم المقدّسة عام 1347ﻫ، للتدريس في حوزتها الفتية آنذاك، وبقي فيها سبع سنوات، ثمّ عاد إلى طهران عام 1354ﻫ للتدريس فيها. من تلامذته: الإمام الخميني، السيّد شهاب الدين المرعشي النجفي، السيّد محمّد الوحيدي، الشيخ هاشم الآملي، السيّد مصطفى الصفائي الخونساري، الشيخ محمّد علي المدرّس الخياباني، السيّد علي البهشتي، السيّد محمّد صادق اللواساني، السيّد إبراهيم العلوي الخوئي، الشيخ موسى المازندراني، الشيخ عبد الحسين القمّي، الشيخ علي محدّث زاده، السيّد حسن الأحمدي، الشيخ خليل الكمرئي، الشيخ حسن اليزدي. يقول الإمام الخميني قدس سره عنه: "لم أرَ طول عمري مثل لطافة وظرافة آية الله الشاه آبادي". من مؤلّفاته: مفتاح السعادة في أحكام العبادة، شرح كفاية الأُصول، شذرات المعارف، الإيمان والرجعة، الإنسان والفطرة، منازل السالكين، رشحات البحار، القرآن والعترة (باللغة الفارسية)، أربعة رسائل في النبوّة والولاية العامّة والخاصّة، رسالة العقل والجهل، حاشية على نجاة العباد. تُوفّي قدس سره في الثالث من صفر 1369ﻫ بالعاصمة طهران، ودُفن بجوار مرقد السيّد عبد العظيم الحسني قدس سره في الري جنوب العاصمة طهران.
24
10
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
لله تعالى. وإذا كنت مخلصًا، فلماذا لا تجري ينابيع الحكمة من قلبك على لسانك، مع أنّك تعمل أربعين سنة قربة إلى الله حسب تصوّرك؟ في حين أنّه ورد في الحديث الشريف عن الرّضا، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أخَلَصَ عَبْدٌ لِلهِ عَزَّ وجلَّ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً إِلاَّ جَرَتْ يَنَابِيعُ الحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ"1. إذًا، فاعلم أنّ أعمالنا غير خالصة لله، ولكنّنا لا ندري، وها هنا الدّاء الذي لا دواء له!"2.
كيف نعرف الرّياء في أنفسنا؟
بهذا يقدّم لنا الإمام قدس سره معيارًا مهمًّا ومؤشّرًا دقيقًا لمعرفة أحوال قلوبنا الخفيّة فيما يتعلّق بالرّياء الذي قد نعمى عنه. فإنّ من ظنّ أنّه خلُص من الرّياء، يجب أن تتجلّى فيه مجموعة من الآثار النّابعة من الإخلاص. فكلّ من عمل بلا رياء ولو لأربعين صباحًا ستجري ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وستظهر المعارف المحكمة في منطقه وبيانه. وحيث إنّنا ندرك هذه الحالة الظّاهرة إن وُجدت، فلا نحتاج إلى كثير تبصّر وتأمّل لاكتشاف مدى ابتلائنا بذلك المرض المهلك!
ويستمرّ الإمام قدس سره في تقديم العون لنا لنغوص في عملية اكتشاف هذه الحالة الخفيّة، فيقول: "ولمّا كانت هذه السيّئة الخبيثة الرياء شديدة الخفاء، غابت حتّى عن الإنسان نفسه، بحيث يكون في الباطن من أهل الرّياء وهو يتوهّم عمله خالصًا، ولهذا ذكروا لها علامة، وبواسطة تلك العلامة يطّلع الإنسان على سريرته، وينهض لمعالجتها، وهذه العلامة هي أنّ الإنسان يشاهد في نفسه عزوفًا عن الطّاعات عندما يكون وحده، وإذا تعبّد فمع كلفة أو من منطلق العادة، لا يكون ذات إقبال وتوجّه، بل يأتي بالعبادة مقطّعة الأوصال من غير كمالٍ وتمام، ولكن عندما يحضر في المساجد والمجامع، وفي المحافل العامّة يؤدّي تلك العبادة في الظّاهر بنشاطٍ وسرورٍ وحضور قلب، ويميل إلى إطالة الرّكوع والسّجود، ويؤدّي المستحبّات أداءً حسنًا مع توفير كافّة أجزائها وشروطها. إنّ الإنسان إذا كان منتبهًا بعض الشيء، ليسأل نفسه عن سبب مثل هذا التصرّف، ولماذا تنصب شباكها باسم التقدّس،
1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ، ج70، ص242، كتاب الإيمان والكفر، باب الإخلاص، ح1.
2 الأربعون حديثًا، ص 74.
25
11
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
لموّهت على الإنسان، وقالت: بما أنّ العبادة في المسجد أعظم ثوابًا أو أنّ في صلاة الجّماعة كذا من الثّواب، يشتدّ النّشاط، أمّا إذا صلّيت منفردًا وفي غير المسجد، فيكون الاهتمام من أجل أنّه: "يُستحب أداء العمل أمام النّاس بصورةٍ حسنة لكي يقتدي به الآخرون ويرغبون في الدين". إنّها النّفس تخدع الإنسان بأيّة وسيلة كانت، ولهذا لا يفكّر في العلاج. وإنّ المريض الذي يعتقد نفسه سالمًا، لا يُؤمل له الشّفاء... إنّ الإتيان بالمستحبّات في الخلوات مستحب، فلماذا ترغب النّفس دائمًا في أن تؤدّيها في العلن؟ إنّه يبكي من خوف الله في المحافل العامّة بحرقة وألم، ولكنّه في الخلوات، مهما ضغط على نفسه لا تندى عينه. ما الذي حدث لكي يذهب عنه خوف الله إلا بين النّاس؟ تسمع له في ليالي القدر وفي جموع النّاس الحسرات والنّحيب والحرقة والبكاء، يصلّي مئة ركعة، ويقرأ دعاء الجوشن الكبير والصّغير، وعدّة أجزاء من القرآن المجيد في وسط الجّموع، دون أن يتلكّأ أو يحسّ بالتّعب.
إذا كانت أعمال الإنسان لأجل رضا الله فقط، أو لاستحصال رحمته، أو خوفًا من النّار وشوقًا إلى الجنّة، فلماذا يرغب في أن يمدحه النّاس على كلّ عمل عمله؟ فنجد أذُنَه متوجّهةً إلى ألسن النّاس، وقلبه عندهم، لكي يسمع من يمدحه بقوله: ما أشدّ تديّن والتزام هذا الإنسان! وما أحرصه على أداء الفرائض في مواعيدها، والمستحبّات في أوقاتها! وإنّه إنسانٌ مستقيمٌ وصادقٌ في معاملاته! إن كان الله هو الهدف في عملك فما هذا الميل المفرط نحو النّاس؟! وإن كانت الجنّة والنّار هما اللتان تدفعانك إلى العمل، فما الذي لنا هذا الانحراف؟! انتبه، فإنّ هذا الحبّ هو من شجرة الرّياء الخبيثة نفسها، فاسعَ ما استطعت لإصلاح نفسك من مثل هذا الحبّ، إذا كان ذلك ممكنًا"1.
درجات الرياء وأنواعه
ولأجل إعانتنا على اكتشاف هذا المرض الخبيث الذي يعتمد على التسلّل خفيةً لسلب الإيمان والقضاء عليه في قلوبنا، يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره درجات وأنواع للرّياء. فبعض الناس يتصوّرون أنّ الرّياء لا يكون إلّا في إظهار الأعمال الحسنة، ويغفلون عن إمكانية الرّياء والتّظاهر بالخصال والعقائد. كيف لا، والمرائي يتّبع كلّ ما يجلب له حسن الذّكر والثّناء والمكانة في قلوب النّاس!
1 الأربعون حديثًا، ص 79.
26
12
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
أوليست العقائد الحقّة من الأمور التي تلفت أنظار المهتمّين؟! ألا يحبّ النّاس من يتّصف بحسن شمائل الأخلاق وحميدها؟
إنّ المرائي الذي استحكمت في نفسه حالة الشّرك، وصار يعتقد بتأثير النّاس في حياته ومصيره، لن يتردّد في التّظاهر بأيّ شيء يجذب القلوب بنظره، حتّى لو كان عقيدة التّوحيد.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: إنّ للرّياء أنواع ثلاثة، لكلّ منها درجتان:
1- المقام الأول
"وله درجتان، الأولى: وهي أن يظهر العقائد الحقّة والمعارف الإلهية، من أجل أن يشتهر بين النّاس بالدّيانة، ومن أجل الحصول على منزلة في القلوب، كأن يقول: "إنّي لا أعتبر أنّ هناك مؤثّرًا في الوجود إلّا الله"، أو أن يقول: "إنّي لا أتوكّل على أحد سوى الله"، أو أن يثني على نفسه كنايةً أو إشارةً بامتلاك العقائد الحقّة، وهذا الأسلوب هو الأكثر رواجًا. فمثلًا، عندما يجري حديث عن التوكّل أو الرّضا بقضاء الله، يجعل الشّخص المرائي نفسه في سلك أولئك الجّمع، بواسطة تأوّهه أو هزّ رأسه.
الثانية: وهي أن يبعد عن نفسه العقائد الباطلة، وينزّه نفسه عنها، لأجل الحصول على الجّاه والمنزلة في القلوب، سواء أكان ذلك بصراحة القول، أم بالإشارة والكتابة.
2- المقام الثاني
وفيه أيضًا مرتبتان، إحداهما: أن يُظْهرِ الخصال الحميدة والملكات الفاضلة.
والأخرى: أن يتبرّأ ممّا يقابلها، وأن يزكّي نفسه للغاية نفسها التي أصبحت معلومة.
3- المقام الثالث
وهو الرّياء المعروف عند الفقهاء، رضوان الله عليه، وله أيضاً نفس تلكما الدّرجتين.
إحداهما: أن يأتي بالأعمال والعبادات الشرعيّة، أو أن يأتي بالأمور الرّاجحة عقلًا، بهدف مراءاة النّاس وجلب القلوب، سواء أتى بالعمل نفسه بقصد الرّياء، وبكيفيّته، أو شرطه، أو جزئه، بقصد الرّياء على الشّكل المذكور في الكتب الفقهيّة.
27
13
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
ثانيهما: أن يترك عملًا محرّمًا أو مكروهًا بنفس الهدف المذكور"1.
المراؤون لا يختلفون فيما بينهم في دوافع التّظاهر والمراءاة، وإن استعملوا لجذب القلوب أمورًا مختلفة، كما أنّهم جميعًا مشتركون في الاعتقاد بأنّهم يؤثّرون في القلوب دون الله، لكنّ الآثار التي تترتّب على أنواع رياءاتهم تتفاوت من حيث المخاطر والنّتائج على صعيد الدّنيا والآخرة، فرديًّا واجتماعيًّا.
1 الأربعون حديثًا، ص 55 - 56.
28
14
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
المفاهيم الرئيسة
1- الرياء عبارة عن إظهار وإبراز شيء من الأعمال الصّالحة أو الصّفات الحميدة أو العقائد الحقّة الصّحيحة، للنّاس لأجل الحصول على منزلة في قلوبهم والاشتهار بينهم بالصّلاح والاستقامة دون أن تكون هناك نيّة إلهيّة صحيحة.
2- الرّياء لا يكون إلّا بسبب ضعف إيمان الإنسان بالتّوحيد الذي يعني انحصار التأثير بالإله الواحد، ونحن لم نؤمر سوى بالإخلاص، وهذا الإخلاص لا يتحقّق مع هذا الإيمان الشّكليّ والصّوريّ.
3- الأعمال القلبيّة، في حال عدم خلوصها، لا تصبح موردًا لتوجّه الحقّ تعالى ولن يتقبّلها بل سيوكلها إلى من اعتقد المرائي بتأثيره إلى جانب الله تعالى؛ فتصبح الأعمال القلبيّة مختصّة بذاك الشّخص وتخرج من حدّ الشّرك وتدخل إلى الكفر المحض، ويمكن القول إنّ هذا الشّخص هو من جملة المنافقين.
4- من علامات الخلاص من الرّياء تجلّي الآثار النابعة من الإخلاص في الإنسان ومنها أن تجري ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
5- من علامات الرياء: أنّ الإنسان يشاهد في نفسه عزوفًا عن الطّاعات عندما يكون وحده وينشط إذا كان بين الناس، يرغب في أن يمدحه النّاس، يرغب في تأدية العبادات في العلن، يبكي من خوف الله بين النّاس ولا تندى له عين في الخلوات.
6- للرّياء درجات:
المقام الأول: أن يظهر العقائد الحقّة والمعارف الإلهية، أو أن يبعد عن نفسه العقائد الباطلة وينزّه نفسه عنها، لأجل الحصول على الجاه والمنزلة.
المقام الثاني: أن يظهر الخصال الحميدة والملكات الفاضلة، أو أن يتبرّأ مما يقابلها.
المقام الثالث: أن يأتي بالأعمال والعبادات الشرعيّة، أو أن يأتي بالأمور الرّاجحة عقلًا، أو أن يترك عملًا محرّمًا أو مكروهًا بهدف مراءاة النّاس وجلب القلوب.
29
15
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ تَحْسُنَ فِي لاَمِعَةِ الْعُيُونِ عَلاَنِيَتِي، وَتَقْبُحَ فِيَما أُبْطِنُ لَكَ سَرِيرَتيِ، مُحَافِظاً عَلَى رِيَاءِ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي بِجَمِيعِ مَا أَنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مِنِّي، فَأُبْدِيَ لِلنَّاسِ حُسْنَ ظَاهِرِي، وَأُفْضِيَ إِلَيْكَ بِسُوءِ عَمَلِي، تَقَرُّباً إلَى عِبَادِكَ، وَتَبَاعُداً مِنْ مَرْضَاتِكَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾2.
﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَمَّا عَلَامَةُ الْمُرَائِي فَأَرْبَعَةٌ: يَحْرِصُ فِي الْعَمَلِ لِلَّهِ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَيَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَيَحْرِصُ فِي كُلِّ أَمْرِهِ عَلَى الْمَحْمَدَةِ، وَيُحْسِنُ سَمْتَهُ بِجُهْدِه"4.
2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "منْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يُرِيدُ بِهِ سُمْعَةً وَالْتِمَاسَ الدُّنْيَا، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَوَجْهُهُ عَظْمٌ لَيْسَ عَلَيْهِ لَحْمٌ، وَزُجَّ الْقُرْآنُ فِي قَفَاهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، وَيَهْوِيَ فِيهَا مَعَ مَنْ هَوَى"5.
1 السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح: صبحي الصالح، دار الهجرة، قم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص524.
2 سورة النساء، الآية 142.
3 سورة الماعون، الآيات 4 - 7.
4 بحار الأنوار، ج1، ص 121.
5 الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، الطبعة الأولى، 1409هـ، ج6، ص 183، باب أنه يستحب لحامل القرآن ملازمة الخشوع والصلاة والصوم، ح8.
30
16
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
3- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ". قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "هُوَ الرِّيَاءُ، يَقُولُ الله تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جَازَى الْعِبَادَ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاؤُون فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمُ الْجَزَاء"1.
4- عن الإمام علي عليه السلام، في وصف المؤمن: "لا يَفْعَلُ شَيْئاً مِنَ الْحَقِّ رِيَاءً وَلَا يَتْرُكُهُ حَيَاءً إِنْ زُكِّيَ خَافَ مِمَّا يَقُولُونَ وَاسْتَغْفَرَ اللهَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَ لَا يَغُرُّهُ قَوْلُ مَنْ جَهِلَهُ وَيَخْشَى إِحْصَاءَ مَا قَدْ عَمِلَهُ"2.
5- عَنْ الإمام أبي جَعْفَرٍ الباقر عليه السلام: "الإبْقاءُ عَلَى العَمَلِ أشَدُّ مِنَ العَمَلِ". قالَ: وَمَا الإبْقاءُ عَلَى العَمَلِ؟ قالَ: "يَصِلُ الرَّجُلُ بِصِلَةٍ، وَيُنْفِقُ نَفَقَةً لِلّهِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، فَكُتِبَ لَهُ سِرّاً، ثُمَّ يَذْكُرُها فَتُمْحى فَتُكْتَبُ لَهُ عِلانَيةً، ثُمَّ يَذْكُرُها فَتُكْتَبُ لَهُ رِياءً"3.
6- عن زرارة، عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: "سَأَّلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ الشِّيْءَ مِنَ الخَيْرِ، فَيَرَاهُ إِنْسانٌ، فَيَسَرُّهُ ذلِكَ، قالَ: "ثُمَّ لا بَأْسَ، مَا مِنْ أَحَدٍ إِلاّ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ فِي النَّاسِ الخَيْرُ، إِذا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذلِكَ لِذلِكَ"4.
7- عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً سِرّاً كُتِبَتْ لَهُ سِرّاً، فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا مُحِيَتْ، وَكُتِبَتْ جَهْراً، فَإِذَا أَقَرَّ بِهَا ثَانِياً، مُحِيَتْ وَكُتِبَتْ رِيَاءً"5.
8- عن الإمام الصادق عليه السلام: "الرِّيَاءُ مَعَ الْمُنَافِقِ فِي دَارِهِ عِبَادَةٌ، وَمَعَ الْمُؤْمِنِ شِرْك"6.
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثلاثُ علاماتٍ لِلْمُرَائِي، يَنْشَطُ إِذا رَأَى النَّاسَ، وَيَكْسَلُ إِذا كَانَ وَحْدَهُ، وَيُحبُّ أَنْ يُحْمَدَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ"7.
1 المحقق النوري، حسين بن محمد تقي، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم، الطبعة الأولى، 1408هـ، ج1، ص 107.
2 الكافي، ج2، ص 111.
3 (م.ن)، ج2، ص 296.
4 (م.ن)، ، ج2، ص 297.
5 مستدرك الوسائل، ج1، ص 114.
6 (م.ن)، ج12، ص 254.
7 الكافي، ج2، ص295.
31
17
الدرس الأوّل: الرياء (1) - حقيقته، تشكّله وأنواعه
10- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ أَوَّلَ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ فَيَقُولُ: بَلَى يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: مَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قُمْتُ بِهِ فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ الله تَعَالَى: إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِك"1.
11- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ مُرَاءٍ وَمُرَائِيَة"2.
1 مستدرك الوسائل، ج1، ص 111.
2 (م.ن)، ج1، ص 106.
32
18
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مخاطر الرّياء بالعقائد والأخلاق والأعمال وتأثيرها على إيمان الإنسان ومصيره.
2- يبيّن دور التّوحيد في التخلّص من الرّياء.
3- يتعرّف إلى دور الذّكر والعمل الصّالح ومراقبة النفس في التخلّص من الرّياء.
33
19
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
تمهيد
لا شكّ بأنّ أخطر الآثار النّاشئة من الأخلاق وأشدّها فتكًا هو ما يظهر في الحياة الآخرة. ومن المعلوم أنّ تلك الحياة تبدأ من اللحظة التي يغمض الإنسان فيها العين عن هذه الحياة الدّنيا.
وكلّما كان الخلق الفاسد أشدّ فسادًا، فإنّ آثاره وتجلّياته الأخرويّة تبقى وتستمر مع صاحبه.
إنّ بعض الحالات والملكات النفسانيّة تكون عذابًا لصاحبها في القبر وعالم البرزخ، ثمّ تزول آثارها الشّديدة بعد كل تلك العذابات البرزخيّة، إن بقي من الإيمان شيء ليوم الحشر الأكبر والعرض على الله تعالى.
إلّا أنّ بعض هذه الملكات الباطنيّة، وبحسب ما يبدو من طبيعته، لا تزيله تطهيرات ذلك العالم، بل يبقى راسخًا في النّفس إلى تلك المرحلة النّهائيّة من الحساب. والسبب - بكلّ وضوح - أنّه يكون مناقضًا للإيمان في جوهره. وما كان كذلك، فإنّه يظهر بصورة موجود يعمل على نسف الإيمان وإزالته من القلب. وليس الرّياء سوى أحد هذه العوامل البغيضة، لأنّه شرك في الحقيقة... والشّرك يأبى أن يجتمع مع الإيمان.
الآثار الوخيمة للرّياء
1- على الدين والمعتقد
لا شكّ أنّ لكلّ خلق آثارًا في الدّنيا، لأنّ طبيعة الأخلاق والملكات النفسيّة تأبى إلّا الظّهور بصورة الأعمال والسّلوكيّات التي هي من سنخ هذا العالم الأدنى. وإنّ أخطر الآثار الدنيويّة للأمراض القلبيّة هو ما يهدّد دين النّاس وعقيدتهم وحياتهم المعنويّة. وعندما نتأمّل في ماهيّة الرّياء، نجده يصوّب سهامه القاتلة على الدّين والمعتقد بصورة مباشرة. فالدّين
35
20
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
كان وسيبقى رغم كلّ الإساءات (من الأصدقاء والأعداء) أقدس قضيّة في حياة البشريّة. وعندما يتمّ تحريفه أو العبث به أو تفريغه من مضمونه ومحتواه الرّوحيّ العظيم، فإنّ هذا سيتسبّب بأضرار لا يمكن وصفها.
المراؤون الذين لا همّ لهم سوى الظهور والبروز والمنزلة والمكانة، لن يجدوا أقدس وأنبل من الدّين لبلوغ مآربهم. إنّ المرائين أشخاصٌ يمارسون طقوس الدّين ويتظاهرون بمناسكه، لكنّهم - ولا شكّ - محرومون من روح هذه المناسك وثمارها الطيّبة، لأنّ الأعمال بالنّوايا، والنيّة الصالحة تنبع من الاعتقاد الصحيح والدّافع الحسن. ولمّا كانت الثّمار الطيّبة موقوفة على أن يخلص العبد بعمله ولا يطلب به سوى الله تعالى والثّواب عنده، فإنّ المرائي محرومٌ، لأنّه فقد روح العبادة والنيّة الخالصة، وستكون النّتيجة أنّهم يقدّمون أمرًا مناقضًا للدّين والعقيدة، وإن كان بصورة الدّين. فهل يوجد خطر على الدّين أكبر من ذلك؟!
يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أنّ الرّياء في أصول العقائد والمعارف الإلهيّة أشدّ من جميع أنواع الرّياء عذابًا وأسوأها عاقبةً، وظلمته أعظم وأشدّ من ظلمات جميع أنواع الرّياء. وصاحب هذا العمل إذا كان في واقعه لا يعتقد بالأمر الذي يظهره، فهو من المنافقين، أي إنّه مخلَّد في النّار، وإنّ هلاكه أبديّ، وعذابه أشدّ العذاب.
وأمّا إذا كان معتقدًا بما يظهر، لكنّه يظهره من أجل الحصول على المنزلة والرّتبة في قلوب النّاس، فهذا الشّخص، وإن لم يكن منافقًا، إلاّ أنّ رياءه يؤدّي إلى اضمحلال نور الإيمان في قلبه، ودخول ظلمة الكفر إليه، فإنّ هذا الشّخص يكون مشركًا في الخفاء، لأنّ المعارف الإلهيّة والعقائد الحقّة، التي يجب أن تكون خالصة لله، ولصاحب تلك الذّات المقدّسة، قد حوّلها ـ المرائي ـ إلى النّاس، وأشرك فيها غيره، وجعل الشّيطان متصرّفًا فيه، فهذا القلب ليس لله"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 56.
36
21
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
2- في الأمور المعنويّة والأخلاقيّة
فهذا حال الرّياء في العقائد والقضايا الإيمانية، فهو الأخطر على دين المرء والنّاس، لأنّ العقائد هي الأصول التي تُبنى عليها أركان الدّين وعمارته الشّامخة. وإذا تزلزلت، فلن يبقى لتلك الفروع والأغصان أيّ تأثيرٍ يُذكر. ويليه خطرًا الرّياء في الأمور المعنوية الأخلاقية، حيث يقول الإمام قدس سره: "اعلم أنّ الرّياء في هذا المقام (إظهار الخصال الحميدة والملكات الفاضلة)، وإن لم يكن بحجم المقام الأوّل1 ـ من الدّفع نحو الكفر ـ إلاّ أنّه، بعد الالتفات إلى موضوعه، قد يفضي بعمل المرائي أيضًا في هذا المقام إلى الكفر، فيصبح واحدًا في النتيجة مع عمل المرائي في ذلك المقام، مقام الرّياء في العقيدة"2.
3- في الأعمال
ثم يأتي خطر الرياء في الأعمال، حيث يقول الإمام قدس سره: "اعلم أنّ الرّياء في هذا المقام (الأعمال والعبادات)، أكثر من المقامات الأخرى شيوعًا، إذ إنّنا ـ نحن العامّة من النّاس - بالعموم لسنا أهلًا لذينك المقامين (العقائد والأخلاق)، ولهذا لا يدخل الشيطان إلينا من ذلك الطريق، ولكن بما أنّ معظم النّاس المتعبّدين، هم من أهل المناسك والعبادات الظاهرية، فإنّ الشيطان أكثر حرّية في التلاعب بهم، في هذا المقام ومن خلال العبادات.
كما أنّ مكائد النفس في هذه المرحلة أكثر، وبتعبيرٍ آخر: بما أنّ عامّة النّاس يفوزون بالجنّة بالأعمال الجسمانيّة، إنّهم يحصلون على الدّرجات الأخرويّة بممارسة الأعمال الحسنة وترك الأعمال السيّئة، فإنّ الشيطان يدخل عليهم من هذا الطّريق نفسه، ويسقي جذور الرّياء والتملّق في أعمالهم، فتفرّع وتورق، ويبدّل حسناتهم سيّئات، ويدخلهم جهنّم ودركاتها عن طريق المناسك والعبادات، ويحوّل الأمور التي يريدون أن يعمّروا بها آخرتهم إلى أدوات لتخريبها ـ الآخرة ـ فيجعل الملائكة ما هو ـ الأعمال ـ من العليّين بأمر من الله في سجّين.
1 أي الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلهيّة.
2 الأربعون حديثًا، ص 65.
37
22
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
فعلى الذين يملكون هذا الجانب فقط، ولا زاد لهم سوى زاد الأعمال، عليهم أن يكونوا حذرين كلّ الحذر، لئلّا يفقدوا ـ لا سمح الله ـ الزّاد والرّاحلة كليهما، ويصبحوا من أهل جهنّم، ولا يبقى لهم طريق نحو السّعادة، وتغلق في وجوههم أبواب الجنّة، وتفتح لهم أبواب النار"1.
إنّ المرائي خاسر، لأنّ المشرك لا يصيب خيرًا، وكيف ينال الخير، والخير كلّه عند الله؟! وما يناله أهل الشّرك ليس سوى سراب نحسبه نحن الظمأى ماءً. والخسران المبين هو خسران الدّين ومحق الإيمان وزوال الآثار الطيّبة للعقائد الحقّة، كما أشار الإمام الخمينيّ قدس سره إلى أنّ رياء المرائي يؤدّي إلى اضمحلال نور الإيمان في قلبه، ودخول ظلمة الكفر إليه.
2- على الآخرة
النّاس يراقبون أهل الدّين والدّيانة ويتوقّعون أن تظهر الآثار الطيّبة في حياتهم وفي نفوسهم، وكثيرٌ من هؤلاء إنّما يلتحقون بقافلة أهل الإيمان والدّين من خلال هذه الآثار والنّتائج. وإذا لم يجدوا هذه الآثار والثّمار في العاملين، فسوف تخبو بهجة الدين وضياؤه في نفوسهم، ويضعف توجّههم أو إقبالهم عليه. فالمرائي لا يكتفي بتدمير نفسه، بل ينتقل إلى قطع الطّريق على النّاس من أن يعرفوا المعنويّات الحقيقيّة. المراؤون بالدّين، هم أبعد ما يكون عن نتائج الدّين الحقّ، ولن تكون لهم في الدّنيا سوى الحياة الشقيّة والنّفوس الضّعيفة التّعيسة، وفي الآخرة العذاب الأليم، ونار الجحيم. فهؤلاء هم الصّادّون عن سبيل الله وإن كانوا غافلين.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "أيّها المسكين، إنّك ولأجل محبّةٍ بسيطة، جزئيّة، ومنزلةٍ عديمة الفائدة بين العباد، تجاوزت تلك الكرامات وفقدت رضا الله، وعرّضت نفسك لغضب الله، لقد استبدلت الأعمال التي كان ينبغي أن تهيّئ بها دار الكرامة في الآخرة، وتوفّر الحياة السعيدة الدائمة وتصل بواسطتها إلى أعلى علّيّين في الجنان، استبدلتها بظلمات الشّرك والنّفاق، وأعددت لنفسك
1 الأربعون حديثًا، ص 69.
38
23
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
الحسرة والنّدامة والعذاب الشّديد، وجعلت نفسك من أهل "سِجِّين"، بالصورة التي وردت في الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: "قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَل العَبْدِ مُبْتَهِجَاً بِهِ، فَإِذا صَعَدَ بِحَسَنَاتِهِ، يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ، اجُعَلوهَا فِي سّجِّينٍ، إِنَّهُ لَيْسَ إِيايَ أَرَادَ بِهَا"1... إنّنا هنا، وفي هذا الحال، لا نستطيع أن نتصوّر "سجّين"، ولا أن نفهم ديوان عمل "الفُجّارِ"، ولا أن نرى صور هذه الأعمال، وهي في سجّين... وسنرى حقيقة الأمر في أحد الأيام، ولكن عندها تقصر أيدينا عن العمل، ولا سبيل حينئذٍ للنجاة"2.
كيف نتخلّص من هذا المرض القلبيّ؟
إنّ المبدأ الأوّل في معالجة الأمراض القلبيّة هو تحديد أسبابها ومناشئها. ومن حاول التخلّص من خلقٍ رذيل أو ملكة نفسيّة فاسدة دون أن يزيل أسبابها، كان كمن يطهّر أرض بيته المتنجّس بسبب بالوعة البيت الخربة دون أن يصلحها، فكلّما طهّر الأرض ونظّفها عادت البالوعة لتنضح بالمياه النّجسة.
إنّ جميع الأمراض القلبيّة تنشأ من عقائد فاسدة، ترجع كلّها إلى الكفر والتنكّر لحضور الله في حياتنا، وتنمو هذه الملكات في بيئة النّفس الضّعيفة. هذه النفس التي تتشكّل من مجموعة من العقد النفسيّة، وأشهرها عقدة الحقارة وذلّة النّفس مقابل الناس والإحساس بالدونيّة تجاههم، ويؤجّجها حبّ الدّنيا ويغذّيها، حتّى تظهر في الأعمال والسّلوكيّات... أمّا الشّيطان ـ عدوّ الإنسان المبين ـ فإنّه يقوم بتزيينها، لتغدو حاجة ضروريّة وهدفًا أساسيًّا... وفي مصباح الشّريعة عن الإمام الصّادق عليه السلام: "الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ صُورَةٍ، رَأْسُهَا الْكِبْرُ، وَعَيْنُهَا الْحِرْصُ وَأُذُنُهَا الطَّمَعُ، وَلِسَانُهَا الرِّيَاء... فَمَنْ أَحَبَّهَا أَوْرَثَتْهُ الْكِبْرَ، وَمَنِ اسْتَحْسَنَهَا أَوْرَثَتْهُ الْحِرْصَ، وَمَنْ طَلَبَهَا أَوْرَدَتْهُ إِلَى الطَّمَعِ، وَمَنْ مَدَحَهَا أَلْبَسَتْهُ الرِّيَاء"3.
1 الكافي، ج2، ص 295.
2 الأربعون حديثًا، ص 62.
3 مستدرك الوسائل، ج12، ص 37.
39
24
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
وبمعرفة كيفيّة تشكّل الرّياء واشتداده في النّفس، يمكن أن يتمركز العلاج حول الأمور الآتية:
1- إصلاح العقيدة وترسيخ الحقّ في القلب: تقوية الإيمان.
2- تقوية النّفس بالمجاهدة والرّياضة السّليمة: التخلّص من العقد.
3- اجتناب مزالق الشّيطان، والاستعاذة منه: سدّ باب الإغواء.
العلاج العلمي
أمّا العلاج العلميّ الذي يدور حول إصلاح شبكة معتقداتنا، فإنّه يرتبط بشكلٍ أساسيّ بمواجهة الشّرك، من خلال ترسيخ حقيقة التّوحيد في القلب، لأنّ القلب أمير البدن، وأصل جميع التوجّهات والتّعلّقات، وما لم تدخل عقيدة التّوحيد إليه، فلن يكون الإنسان مأمونًا من الوقوع في الرّياء وحبط الأعمال.
1- الاعتقاد بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله
"فما لم تكتب عبارة "لا إله إلّا الله" بقلم العقل على لوح القلب الصّافي، لن يكون الإنسان مؤمنًا بوحدانيّة الله. وعندما ترد هذه العبارة النّورانية الإلهيّة على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحقّ تعالى، فلا يعرف الإنسان بعدها شخصًا آخر مؤثّرًا في مملكة الحقّ، ولا يتوقّع من شخص آخر جاهًا ولا جلالًا، ولا يبحث عن المنزلة والشّهرة عند الآخرين ولا يصبح القلب مرائيًا ولا مخادعًا حينئذٍ. وإذا رأيتم رياءً في قلوبكم، فاعلموا أنّ قلوبكم لم تسلّم للعقل، وأنّ الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنّكم تعدّون شخصًا آخر إلهًا ومؤثّرًا في هذا العالم، لا الحقّ تعالى، وأنّكم في زمرة المنافقين أو المشركين أو الكفّار"1.
ويقول في مكانٍ آخر: ادخل في قلبك بأيّة وسيلة كانت التوحيد العملي، وهو أوّل درجات التوحيد، واجعل قلبك مؤمنًا ومسلمًا، واختم على قلبك بهذه الكلمة المباركة بالختم الشريف "لا إله إلا الله" واجعل صورة القلب صورة كلمة التوحيد، وأوصله إلى درجة "الاطمئنان"، وافهمه أنّ النّاس لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرّا، فالله وحده هو النّافع والضّار. أزل هذا
1 الأربعون حديثًا، ص 58 - 59.
40
25
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
العمى عن عينك، وإلا فستكون ممن يقول: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾1. وتحشر يوم كشف السرائر أعمى. واعلم أنّ إرادة الله تعالى قاهرة لجميع الإرادات، وإذا اطمأنّ قلبك بهذه الكلمة المباركة، وتسلّم لهذه العقيدة، فالأمل أن ينجز عملك، وتستأصل جذور الشرك والرياء والكفر والنفاق من قلبك"2.
2- الاعتقاد بأنّ الله هو مالك القلوب والمتصّرف الوحيد بها
"نذكر هنا أمرًا نأمل أن يكون مؤثّرًا في علاج هذا المرض القلبيّ، سواء في هذا المقام أو في المقامات الأخرى، وهذا الأمر مطابقٌ للبرهان ـ الدليل ـ والمكاشفة والعيان وأخبار المعصومين وكتاب الله، وللعقل حيث يصدّق عقول النّاس. وهو أنّه نتيجة لإحاطة قدرة الله تبارك وتعالى بجميع الموجودات، وبسطه لسلطانه على جميع الكائنات، وإحاطة قيمومته بجميع الممكنات، فإنّ قلوب العباد جميعًا تكون تحت تصرّفه وبيد قدرته وفي قبضة سلطانه، ولا يتصرّف، ولن يتصرّف، أحد في قلوب العباد بدون إذنه القيوميّ وإجازته التكوينيّة.
وحتّى أصحاب القلوب أنفسهم ليست لهم القدرة على التصرّف في قلوبهم بدون إذن من الله تعالى، وبهذا المعنى وردت كلمات إشارة وكناية وصراحة في القرآن وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام3. إذًا، فالله تعالى هو مالك القلب والمتصرّف فيه، وأمّا العبد الضّعيف العاجز فلا يستطيع أن يتصرّف بقلبه بدون إذنه، بل إنّ إرادته قاهرة لإرادتك ولإرادة جميع الموجودات. إذاً، فرياؤك وتملّقك، إذا كانا لأجل جذب قلوب العباد، ولفت نظرهم، ومن أجل الحصول على المنزلة والتّقدير في القلوب والاشتهار بالصّلاح، فإنّ ذلك خارجٌ كليّة عن تصرّفك، وهو تصرّف الله، فإله القلوب وصاحبها يوجّه القلوب نحو من يشاء، بل من الممكن أن تحصل على نتيجة عكسيّة. وقد رأينا وسمعنا أنّ أشخاصاً متملّقين ومنافقين ممّن لم تكن لهم قلوب طاهرة، قد افتُضحوا وبان زيفهم، ففرض عليهم عكس ما أرادوا الحصول عليه من النتائج في نهاية الأمر. لقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في الحديث الشريف في
1 سورة طه، الآية 125.
2 الأربعون حديثًا، ص 75 - 76.
3 "قَلْبُ المُؤْمِنِ بَيْنَ إِصْبَعَي الرَّحْمنِ يُقَلِّبِه كَيْفَ يَشَاء"(صحيح مسلم، ج 18, ص 51)، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (سورة القصص، الآية 68).
41
26
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
الكافي: "عن جرّاحٍ المَدائني، عَنْ أبي عَبْدِ الله (الصادق) عليه السلام في قَوْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾1، قال عليه السلام: الرَّجُلُ يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الثَّوابِ، لاَ يَطْلبُ بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِنَّما يَطْلُبُ تَزْكِيَةَ النَّاسِ، يَشْتَهي أَنْ يَسْمَعَ به النَّاسُ، فَهذا الَّذي أَشْرَكَ بِعِبَادةِ رَبّه، ثُمَّ قال: "مَا مِنْ عبد أَسَرَّ خَيْراً فَذَهَبَتِ الأَيّامُ أَبَداً حتى يُظْهِرَ الله لَهُ خَيْراً، وَمَا مِنْ عَبْدٍ أسرَّ شَرّاً فَذَهَبَتِ الأَيّامُ أَبداً حَتَّى يُظْهِرُ الله لَهُ شَراً"2"3.
العلاج العملي
العلاج العمليّ الذي ينطلق من المجاهدة والتّعامل مع النّفس بحذرٍ شديد واتّهامٍ دائم، فينبغي أن يصل إلى أعماق المشكلة، لأنّ المرائي إنّما يشعر بالحاجة إلى مدح النّاس له وتقبّلهم بسبب ما يراه من ضعة وذلّة في نفسه تجاههم. وهذه المشكلة لا ترتبط بالإدراك فقط، بل تكون متجذّرة في بعض الأحيان بحيث لا ينفع في اقتلاعها سوى المجاهدة المستمرّة القائمة على الزّهد بما عند النّاس والاستغناء عنهم. فالمجاهد لنفسه قد يشعر في بداية الزّهد أنّه يكاد يخسر كلّ شيء، ويمتلكه إحساس بأنّه فارغٌ تمامًا، لكنّه شيئًا فشيئًا، سيستعذب هذا الاستغناء، ويجد فيه حلاوة لا نظير لها. فالعلاج العملي يرتكز بشكل أساسي على عملية المجاهدة والمراقبة الدائمة للنفس عند أداء التكليف الشرعي:
1- الذّكر والعمل الصّالح
إنّ العلاج العمليّ للرياء يدور حول تثبيت النّفس على المعتقدات الحقّة، وأهمّها الاعتقاد بأنّ الخير كلّه بيد الله، وأنّ النّاس جميعًا محتاجون إليه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾4. وإذا كان الاعتقاد المقابل راسخًا في النّفس، وقد داومت عليه عمرًا طويلًا، فلا ينبغي أن نتوقّع أنّه بمجرّد حصول الاعتقاد الصحيح، ستزول تلك الآثار والعوامل دفعةً واحدة.
1 سورة الكهف، الآية 110.
2 الكافي، ج2، ص294.
3 الأربعون حديثًا، ص 60 - 61.
4 سورة فاطر، الآية 15.
42
27
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
عقيدة التّوحيد الحقّة ستكون بمنزلة الماء الطّاهر الذي ينظّف القلب من خلال الذّكر الذي يرسّخ بالعمل الصّالح الموافق له. ولكي تزول أدران الشّرك وقذاراته من القلب، فإنّ الأمر يتطلّب وقتًا متناسبًا مع شدّة التصاق تلك القذارات بوعاء القلب.
يقول الإمام قدس سره: "واترك كلّ عمل فيه شبهة الرّياء والتملّق، ولو كان عملًا شريفًا جدًّا. وإذا رأيت أنّك لا تستطيع أداء الواجبات بإخلاص في العلن، فأدِّها في الخفاء مع أنّه يُستحب الإتيان بها في العلن. وقليل ما يتّفق أن يقع الرّياء في أصل الواجب، والأغلب أن يقع في الخصوصيّات والمستحبّات والإضافات، وعلى أيّة حال، طهّر قلبك من دنس الشّرك بجدّ ومجاهدة شديدتين، لئلا تنتقل من هذا العالم ـ لا سمح الله ـ وأنت بهذه الحال السيّئة من دون أن يكون لك أمل بالنّجاة أبدا، ويكون الحقّ المتعال غاضبًا عليك، كما ورد في الحديث الشّريف المنقول في (الوسائل) عن (قرب الإسناد)، بسند متّصل إلى أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: "قَالَ رسُول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "منْ تَزيَّن للنَّاس بِمَا يُحبُّ الله، وبارزَ الِلهِ في السرِّ بما يَكرَهُ الله لَقِي اللهَ، وهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ لَهُ ماقِتٌ"1، وفي هذا الحديث الشّريف احتمالان: الأوّل: هو ذلك الذي يظهر للنّاس الأعمال الصالحة ويخفي الأعمال القبيحة، والآخر: هو ذلك الذي يظهر للناس هيكل العمل وفي الباطن يقصد الرياء، وكلتا الصورتين يشملهما الرياء، لأنّ الإتيان بالواجبات والمستحبّات، بغير قصد الرّياء لا يستوجب الغضب، بل يمكن القول: إنّ المعنى الثاني أفضل، لأنّ التّجاهر بالأعمال القبيحة أشدّ، وعلى كلّ حال، لا سمح الله أن يكون مالك الملوك وأرحم الراحمين غاضبًا على الإنسان "أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ الحَلِيمِ"2.
2- المراقبة والمحاسبة
"راقب قلبك وانتبه له، وأخضع أعمالك وتعاملك وحركاتك وسكناتك للملاحظة، وفتّش في خبايا قلبك، وحاسبه حسابًا شديدًا، مثلما يحاسب شخص من أهل الدّنيا شريكه"3.
1 وسائل الشيعة، ج1، ص68.
2 الأربعون حديثًا، ص 76 - 77.
3 (م.ن)، ص 76.
43
28
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
3- التضّرع إلى الله وطلب العون منه
التضرّع وطلب التوفيق من الله هو أساس وركيزة البرنامج الشرعي للتخلّص من هذه الموبقة، فالظفر بنعمة الأخلاص والخلاص من آفة الرياء هو من التوفيقات الإلهية والنعم الربانية على عبده المؤمن. يقول الإمام الخميني قدس سره: "اطلب من الله الرحيم في كلّ حين، وخصوصًا في الخلوات، وبتضرّع وعجز وتذلّل، أن يهديك بنور التّوحيد، وأن ينوّر قلبك ببارقة غيب التّوحيد في الإيمان والعبادة، حتّى تعلم أنّ جميع العالم الواهي وكلّ ما فيه لا يكون شيئاً، واسأل الذّات المقدّس بكلّ تضرّع أن يجعل أعمالك خالصة وأن يهديك إلى طريق الخلوص والولاء. وإذا واتتك حالة السموّ الروحيّ، فاذكر بالدّعاء هذا العبد الضّعيف العاطل الخالي من الحقيقة الذي ضيّع عمره في الهوى، وأصبح قلبه، بسبب كدر المعاصي والأمراض القلبيّة، بحيث لم تعد تؤثّر فيه أيّة نصيحة ولا رواية ولا برهان ولا دليل ولا آية، لعلّه يجد بدعائكم طريق النجاة، فإنّ الله لا يردّ دعاء المؤمن في حضرته، بل يستجيب دعاءه"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 76.
44
29
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ أخطر الآثار النّاشئة من الأخلاق وأشدّها فتكًا هو ما يظهر في الحياة الآخرة، وكلّما كان الخلق الفاسد أشدّ فسادًا، فإنّ آثاره وتجلّياته الأخرويّة تبقى وتستمر مع صاحبه.
2- إنّ أخطر الآثار الدنيويّة للأمراض القلبيّة هو ما يهدّد دين النّاس وحياتهم المعنويّة. وعندما نتأمّل في ماهيّة الرّياء، نجده يصوّب سهامه القاتلة على الدّين بصورة مباشرة، وذلك لأنّ المرائي محرومٌ من الآثار الطيّبة للعبادة لأنّه لم يخلص النيّة لله، ويكون بذلك يقدّم أمرًا مناقضًا للدّين بصورة الدّين.
3- الرّياء في العقائد والقضايا الإيمانية، هو الأخطر على دين المرء والنّاس لأنّ العقائد هي الأصول التي تُبنى عليها أركان الدّين وعمارته الشّامخة.
4- منشأ الرياء هو: الاعتقاد الفاسد بوجود مؤثّر غير الله تعالى، الشّعور بالحاجة إلى مدح النّاس له وتقبّلهم بسبب ما يراه من ضعة وذلّة في نفسه تجاههم، الشّيطان الذي يزيّن هذه الحاجات لتصبح ضروريّة.
5- العلاج العلميّ للرياء يكون بشكلٍ أساسيّ بمواجهة الشّرك، من خلال ترسيخ حقيقة التّوحيد في القلب بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله وبأنّ الله هو مالك القلوب والمتصّرف الوحيد بها.
6- العلاج العملي للرياء يكون عبر المجاهدة المستمرّة القائمة على الزّهد بما عند النّاس والاستغناء عنهم، طلب المنزلة في قلوب الآخرين على أساس الأحكام الإلهيّة، الذّكر والعمل الصّالح، التضّرع إلى الله وطلب العون منه والمراقبة والمحاسبة وذلك لترك كلّ عمل فيه شبهة الرّياء والتملّق ولو كان عملًا شريفًا جدًّا.
7- طلب المنزلة في قلب الإنسان الكامل وأولياؤه تعدّ من الكمالات الأخرويّة.
45
30
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ اشْغَلِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمُشْرِكِينَ عَنْ تَنَاوُلِ أَطْرَافِ الْمُسْلِمِينَ... وأَيُّمَا غَازٍ غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الأَعْلَى وَحِزْبُكَ الأَقْوَى وَحَظُّكَ الأَوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الأَمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ... وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّيَاءَ، وَخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ، وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإِقَامَتَهُ فِيكَ وَلَكَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "سُئِلَ فِيمَا النَّجَاةُ غَداً، فَقَالَ: إِنَّمَا النَّجَاةُ فِي أَنْ لَا تُخَادِعُوا اللهَ فَيَخْدَعَكُمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يُخَادِعِ اللهَ يَخْدَعْهُ وَيَخْلَعْ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ يَشْعُرُ. قِيلَ لَهُ فَكَيْفَ يُخَادِعُ اللهَ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِمَا أَمَرَهُ الله، ثُمَّ يُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي الرِّيَاءِ، فَإِنَّهُ الشِّرْكُ بِالله، إِنَّ الْمُرَائِيَ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: يَا كَافِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا غَادِرُ، يَا خَاسِرُ، حَبِطَ عَمَلُكَ وَبَطَلَ أَجْرُكَ، فَلَا خَلَاصَ لَكَ الْيَوْمَ، فَالْتَمِسْ أَجْرَكَ مِمَّنْ كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ"3.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّ المَالَ وَالبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الاْخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا الله لأقْوَام، فَاحْذَرُوا مِنَ اللهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بَتَعْذِير، وَاعْمَلُوا في غَيْرِ رِيَاء وَلاَ سُمْعَة, فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللهِ يَكِلْهُ الله إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ"4.
1 الإمام السجّاد عليه السلام، الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام لأهل الثّغور.
2 سورة البقرة، الآية 264.
3 وسائل الشيعة،ج1، ص 96.
4 نهج البلاغة، ص 64.
46
31
الدرس الثاني: الرياء (2) - أهم آثاره وسبل معالجته
3- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ النّار وأهلها يعجّون من أهل الرّياء، فقيل: يا رسول الله، وكيف تعجّ النّار؟! قال: من حرّ النّار التي يعذّبون بها"1.
4- عن الإمام الرّضا عليه السلام: "وَيْحَكَ يَا ابْنَ عَرَفَةَ، اعْمَلُوا لِغَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ، فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللهِ وَكَلَهُ الله إِلَى مَا عَمِلَ. وَيْحَكَ، مَا عَمِلَ أَحَدٌ عَمَلًا إِلَّا رَدَّاهُ الله، إِنْ خَيْراً فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرّاً فَشَرٌّ"2.
5- عن الإمام أَبِي جَعْفَرٍ الباقر عليه السلام: "سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾، فَقَالَ: مَنْ صَلَّى مُرَاءَاةَ النَّاسِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَنْ زَكَّى مُرَاءَاةَ النَّاسِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَنْ صَامَ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَنْ حَجَّ مُرَاءَاةَ النَّاسِ، فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا مِمَّا أَمَرَ الله بِهِ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَلَا يَقْبَلُ الله عَمَلَ مُرَاءٍ"3.
6- عن أميرِ المؤمنين عليه السلام: "قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، الرَّجُلُ مِنَّا يَصُومُ وَيُصَلِّي فَيَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ إِنَّكَ مُرَاءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "فَلْيَقُلْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ: أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ شَيْئاً وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ"4.
7- رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: "لَأَعْبُدَنَّ اللهَ عِبَادَةً أُذْكَرُ بِهَا، فَمَكَثَ مُدَّةً مُبَالِغاً فِي الطَّاعَاتِ، وَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا قَالُوا: مُتَصَنِّعٌ مُرَاءٍ، فَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ: قَدْ أَتْعَبْتَ نَفْسَكَ وَضَيَّعْتَ عُمُرَكَ فِي لَا شَيْءٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ لِلهِ سُبْحَانَهُ، فَغَيَّرَ نِيَّتَهُ وَأَخْلَصَ عَمَلَهُ لِلهِ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا قَالُوا: وَرِعٌ تَقِيٌّ"5.
8- عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصادقِ عليه السلام: "مَنْ أَرَادَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقَلِيلِ مِنْ عَمَلِهِ، أَظْهَرَ الله لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَرَادَ، وَمَنْ أَرَادَ النَّاسَ بِالْكَثِيرِ مِنْ عَمَلِهِ فِي تَعَبٍ مِنْ بَدَنِهِ وَسَهَرٍ مِنْ لَيْلِهِ، أَبَى الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَنْ يُقَلِّلَهُ فِي عَيْنِ مَنْ سَمِعَهُ"6.
9- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصادق عليه السلام: "مَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُظْهِرَ حَسَناً وَيُسِرَّ سَيِّئاً؟! أَلَيْسَ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ فَيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾, إِنَّ السَّرِيرَةَ إِذَا صَحَّتْ قَوِيَتِ الْعَلَانِيَةُ"7.
1 مستدرك الوسائل، ج1، ص 107.
2 الكافي، ج2، ص 294.
3 وسائل الشيعة،ج1، ص 68.
4 بحار الأنوار، ج69، ص 303.
5 (م.ن)، ص 304.
6 الكافي، ج2، ص 296.
7 (م.ن), ص 295.
47
32
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق للعجب والفرق بينه وبين الفرح بالله.
2- يتعرّف إلى أهمّ الآثار التي تنجم عن العجب في الدنيا والآخرة.
3- يعدّد مظاهر العجب وعلائمه التي تساعدنا على اكتشافه في النّفس.
49
33
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
تمهيد
نُقل عن الإمام الصَّادِقُ عليه السلام أنّه قال: "الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يُعْجَبُ بِعَمَلِهِ، وَلَا يَدْرِي بِمَ يُخْتَمُ لَهُ. فَمَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ فَقَدْ ضَلَّ عَنْ مَنْهَجِ الرُّشْدِ، وَادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ.
وَالْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ حَقٍّ كَاذِبٌ، وَإِنْ خَفِيَ دَعْوَاهُ وَطَالَ دَهْرُهُ. وَإِنَّ أَوَّلَ مَا يُفْعَلُ بِالْمُعْجَبِ نَزْعُ مَا أُعْجِبَ بِهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ عَاجِزٌ حَقِيرٌ وَيَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ لِيَكُونَ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَوْكَدَ، كَمَا فُعِلَ بِإِبْلِيسَ. وَالْعُجْبُ نَبَاتٌ حَبُّهَا الْكُفْرُ وَأَرْضُهَا النِّفَاقُ وَمَاؤُهَا الْبَغْيُ وَأَغْصَانُهَا الْجَهْلُ وَأَوْرَاقُهَا الضَّلَالَةُ وَثَمَرُهَا اللَّعْنَةُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ... فَمَنِ اخْتَارَ الْعُجْبَ فَقَدْ بَذَرَ الْكُفْرَ وَزَرَعَ النِّفَاقَ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُثْمِرَ"1.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أُعجب بنفسه هلك، ومن أُعجب برأيه هلك، وإنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه!، فقيل: يا روح الله، وما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كلّه له لا عليه، ويوجب الحقّ كلّه لنفسه ولا يوجب عليها حقّاً، فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته"2.
أما من شاهد في نفسه خيرًا فليحمد الله ويشكره، وليفرح بذلك كما يفرح إذا شاهده في غيره: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾3. وهذا ليس من العجب في شيء. وعليه، إذا تساوى فرحك بفضل الله عليك مع فرحك بهذا الفضل على غيرك، فاعلم أنّك ممن سلم من العجب إن شاء الله.
1 مستدرك الوسائل، ج1، ص 140.
2 (م.ن)، ص 138.
3 سورة يونس، الآية 58.
51
34
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
وإذا أدركنا هذه الحقيقة، علمنا أنّ مشكلة المعجب بذاته أو بعمله هي عندما يرى ما عنده من نفسه. فيحسبها منشأً للفعل وسببًا للتّأثير والإيجاد، وليس هذا سوى عين الشّرك.
إنّ حقيقة التّوحيد تقول: إنّه ما من موجدٍ أو مؤثّرٍ أو فاعلٍ في الوجود إلّا الله، وإنّ تأثير الإنسان أو فاعليّته ليست إلّا من الله وبالله، فلا حول ولا قوّة إلّا بالله. أمّا الإعجاب بالنّفس فإنّه ينبع من الاعتقاد بفاعليّتها وسببيّتها على نحو الاستقلال، وحصولها على الأشياء على نحو الاستحقاق الذاتيّ. فمن عرف أصل العجب الذي هو الشّرك، لا شكّ بأنّه سوف يعرف سبب وخامته وخطورته. وهل يوجد ما هو أخطر من الشّرك على دين المرء وإيمانه؟!
ماهيّة العجب
هذه الإشارات وغيرها تحثّنا على معرفة هذا المرض المهلك الذي لن تنفع معه الأعمال الصّالحة مهما بلغت. ومن كان من العاملين المجاهدين المضحّين المتفوّقين وهو يهمل معالجة هذه الموبقة، فإنّ أمره يكون كمن يعين عدوّه على نفسه، فإنّه كلّما زاد من ذخيرة أعماله الحسنة، زاد من قوّة مرضه، حتّى يقضي عليه ولا يبقي له خيرًا. ففي تعريف هذه الرّذيلة الموبقة.
يقول الإمام قدس سره: العُجْب هو عبارة حسب ما ذكره العلماء (رضوان الله عليهم) عن "تعظيم العمل الصّالح واستكثاره والسّرور والابتهاج به، والتغنّج والدلال بواسطته، واعتبار الإنسان نفسه غير مقصّر... وأمّا السّرور بالعمل مع التّواضع والخضوع لله تعالى وشكره على هذا التّوفيق وطلب المزيد منه، فإنّه ليس بعجب، بل هو أمرٌ ممدوح"1.
ينقل المحدّث العظيم، مولانا العلّامة المجلسيّ طاب ثراه، عن المحقّق الخبير والعالم الكبير الشيخ بهاء الدين العامل (رضوان الله عليه)، أنّه قال: "لا ريب في أنّ من عمل أعمالًا صالحة من صيام الأيّام، وقيام الليالي، وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاجٌ. فإن كان من حيث كونها عطيّة من الله له، ونعمة منه تعالى عليه، وكان مع ذلك خائفًا من نقصها شفيقًا من زوالها، طالبًا من
1 الشيخ النّراقي، جامع السّعادات، ج1، ص 8، الفيض الكاشاني، المحجّة البيضاء، ج6، ص 672 - 277.
52
35
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
الله الازدياد منها، لم يكن ذلك الابتهاج عُجبًا. وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه، فاستعظمها وركن إليها ورأى نفسه خارجًا عن حدّ التقصير، وصار كأنّه يمنّ على الله سبحانه بسببها، فذلك هو العُجْب"1.
"أقول - وأنا الفقير - إنّ تفسير العُجب بالصّورة التي ذكروها صحيح، ولكن يجب اعتبار العمل أعمّ من العمل الباطنيّ والظاهريّ، القلبيّ والشكليّ، وكذلك أعمّ من العمل القبيح والعمل الحسن، وذلك لأنّ العُجب مثلما يدخل على أعمال الجّوارح، فإنّه يدخل أيضًا على أعمال الجّوانح فيفسدها، وكما أنّ صاحب الفضيلة الحسنة يعجب بخصاله، كذلك يكون ذو العمل الشّنيع أيضًا، أي إنّه يعجب بخصاله، كما صرّح بهذا الحديث الشريف وخصّهما بالذّكر، لأنّهما خافيان عن نظر أغلب الناس"2.
إنّ مشكلة العجب ليست في أن يفرح الإنسان بالخير إذا وجده، أو أن يبتهج بالكمال إن أدركه، بل في أن يرى ذلك الخير والكمال صادرًا من نفسه.
العجب الذي عُدّ مرضًا مهلكًا ليس الفرح والسّرور بالكمالات، بل إنّ عدم الفرح بأيّ خير ـ وإن قلّ ـ من علامات الشّقاء والحماقة وخبث الطّينة واللؤم. وإنّ المؤمن ليفرح بالخير القليل كما يفرح بالخير الكثير، لأنّه يراه من ربّه. فربّه المتعال عنده محمود، والخير منه مأمول.
ليس الإعجاب بالنّفس ومتعلّقاتها سوى دليل على جهلٍ كبيرٍ بحقيقتين أساسيّتين، قام عليهما بنيان صلاح الإنسان.
الأولى: إنّ كل خير وكمال هو من الله تعالى دون سواه، وهذا العطاء الإلهيّ إنّما يكون دائمًا على نحو التفضّل والمنّة، لأنّه تعالى قديم المنّ والإحسان: "إِذْ جَمِيعُ إِحْسَانِكَ تَفَضُّلٌ، وَإِذْ كُلُّ نِعَمِكَ ابْتِدَاءٌ"3.
الثانية: إنّ منشأ الشرّ الواقعيّ هو النّفس. وإنّ أصل كلّ مصيبة تنزل على الإنسان من ذاته: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾4. ويعني هذا الأصل أنّ الإنسان بذاته ليس
1 بحار الأنوار، ج69، ص306.
2 الأربعون حديثًا، ص 84.
3 الصحيفة السجّادية، دعاؤه عليه السلام في الاعتراف وطلب التّوبة من الله تعالى.
4 سورة النّساء، الآية 79.
53
36
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
منشأً للخير والكمال، بل الكمال فيه عطاءٌ من الله. وعليه، فالكمال ليس من اللوازم الذّاتيّة للإنسان، بل هو بذاته كفورٌ وجهولٌ وظلومٌ وعجولٌ وكنودٌ و... ويرجع هذا المعنى إلى أصلٍ ثابتٍ في حكمة العقلاء، وهو أنّ كلّ ما سوى الله ليس إلّا عين الفقر والاحتياج، ومن كان كذلك كيف يصدر الخير منه؟! فالخير أمرٌ وجوديّ، وفاقد الشّيء لا يعطيه.
مفاسد العجب وآثاره المهلكة
يتفاجأ المرء للوهلة الأولى، وهو يطالع الأحاديث الشّريفة الصّادرة عن معدن الحكمة وبيت النبوّة فيما يتعلّق بوخامة أمر العجب، ويتساءل من لم يصل إلى إدراك روح الدّين وجوهر الإيمان عن السّبب الذي يجعل إعجاب المرء بنفسه مؤدّيًا إلى الهلاك العظيم، فهو يقول: وما الضّرر في أن يرى الإنسان في نفسه أمورًا حسنة كالعقائد الحقّة أو الأخلاق الفاضلة أو الأعمال الصّالحة، ثمّ يفرح بها؟!
فالعلماء العارفون بالنّفس وأسرارها، وعلى رأسهم الإمام الخميني، يتحدّثون عن الشّخصيّة التي يتملّكها الإعجاب بالذّات بأنّها مريضةٌ، وأنّ مرضها مهلكٌ، وأنّ الهلاك هو الشّقاء الأبديّ.
يذكر هؤلاء الأبرار أنّ العجب آفة الإيمان! وأنّ إعجاب المرء بنفسه يجعله لعبة بيد الشّيطان الّذي لن يرضى بأقلّ من إيصال الإنسان إلى الكفر بالله، وهو قعر جهنّم.
فأحد آثار العجب، كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "ما يحبط إيمان الإنسان وأعماله ويفسدها، كما يجيب الإمام عليه السلام الراوي عندما يسأله في هذا الحديث الشريف عن العُجْب الذي يفسد العمل، فيحدّد عليه السلام أنّ درجة منه هي العجب بالإيمان"1.
ويعدّد الإمام في نصٍّ مطوّل مجموعة أخرى من مفاسد العجب التي هي الآثار النفسيّة والمعنويّة في الدّنيا والآخرة. ولو تأمّل الإنسان في هذه المفاسد لأدرك ما تقدّم حول علاقة العجب بتدمير إيمان الإنسان وعلاقته بالله تعالى.
فيما يلي مجموعة من تلك الآثار الوخيمة للعجب يذكرها لنا الإمام قدس سره:
1 الأربعون حديثًا، ص 90.
54
37
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
1- الهلاك
"ففي أمالي الصدوق، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "مَنْ دَخَلَهُ العُجْب هَلَكَ"1، وصورة هذا السّرور ـ الحاصل من العجب ـ في البرزخ وما بعد الموت، تكون موحشة ومرعبة جدًّا، ولا نظير لها في الهول. وأوضح ما يشير إلى ذلك قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأمير المؤمنين عليه السلام: "ولا وِحْدَةَ أَوْحَشُ من العُجْبِ"2. سأل موسى بن عمران (على نبينا وآله وعليه السلام) الشّيطان: "أَخْبَرْنِي بِالْذَّنْبِ الَّذي إِذَا ارتَكَبَهُ ابنُ آدَمِ اسْتَحْوَذتَ عَلَيه، قال: إِذا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُه، واسْتكْثَر عَمَلَهُ، وَصَغُر فِي عَيْنِه ذَنْبُه"3. وقال: قال الله تعالى لداوود عليه السلام: "يا داوودَ، بَشِّرِ المُذْنِبينَ وأُنْذِرِ الصِّدّيقِينَ" قال: يا ربّ، كَيْفَ أُبَشِّر المُذْنِبينَ وأُنْذِر الصِّدِّيقين؟ قال: "يا داوود بَشِّر المُذْنبينَ أَنِي أَقْبَلُ التّوْبَةَ وأَعْفُو عَنِ الذَّنب، وأُنْذِرِ الصِّدِّيقينَ أَلاّ يُعْجَبُوا بِأَعْمالِهِمْ، فَإِنهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصِبُهِ لِلْحِسابِ إِلاّ هَلَكَ4. أعوذ بالله تعالى من المناقشة في الحساب التي تهلك الصّديقين ومن هو أعظم منهم"5.
2- استحواذ الشّيطان على الإنسان
"ينقل الشيخ الصّدوق في الخصال مسندًا إلى الإمام الصادق قال: قال ابليس لجنوده: "إذا استمكنت من ابنِ آدَمَ فِي ثَلاثٍ لم أبال ما عمل، فإنه غير مقبول مِنهُ: إِذا اسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذَنْبَهُ، ودخله العُجْبُ"6"7.
1 أمالي الصدوق، ص532.
2 وسائل الشيعة، ج61، ص103.
3 الكافي، ج2، ص314.
4 (م.ن).
5 الأربعون حديثًا، ص 89.
6 الشيخ الصدّوق، الخصال، تحقيق علي أكبر غفاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، بقم المشرفة، 1403هـ، باب الثلاثة، ص 110، ح 86.
7 الأربعون حديثًا، ص 91.
55
38
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
3- الكفر والشّرك
"يضاف إلى ما سمعت من مفاسد العجب، أنّه شجرة خبيثة، نتاجها الكثير من الكبائر والموبقات. فعندما يتأصّل العجب في القلب، يجرّ عمل الإنسان إلى الكفر والشّرك وإلى ما هو أعظم من ذلك"1.
4- استصغار المعاصي وعدم النّهوض لإصلاح النّفس
"ومن مفاسده استصغار المعاصي. بل إنّ ذا العجب لا ينهض لإصلاح نفسه، ويظنّ أنّ نفسه زكيّة طاهرة، فلا يخطر بباله أبدًا أن يطهّرها من المعاصي، لأنّ ستار الإعجاب بالنّفس وحجابه الغليظ يحول بينه وبين أن يرى معايب نفسه، وهذه مصيبة، إذ إنّها تحجز الإنسان عن جميع الكمالات، وتبتليه بأنواع النواقص، وتؤدّي بعمل الإنسان إلى الهلاك الأبديّ، ويعجز أطبّاء النّفوس عن علاجه"2.
5- الاستغناء عن الحقّ
"ومن مفاسده الأخرى أنّه يجعل الإنسان يعتمد على نفسه في أعماله، وهذا ما يصبح سببًا في أن يحسب الإنسان الجاهل المسكين نفسه في غنًى عن الحقّ تعالى، ولا يرى عليه فضل الحقّ تعالى، ويرى ـ بحسب عقله الصغير ـ أنّ الحقّ تعالى ملزمٌ بأن يعطيه الأجر والثواب، ويتوهّم أنّه حتّى لو عومل بالعدل أيضًا لاستحقّ الثّواب، وسيأتي فيما بعد ذكر هذا الأمر إن شاء الله"3.
6- احتقار عباد الله
"ومن مفاسد العجب الأخرى، أن ينظر الإنسان باحتقار إلى عباد الله، ويحسب أعمال النّاس لا شيء، وإن كانت أفضل من أعماله، فتكون هذه النّظرة سببًا لهلاك الإنسان أيضًا، وشوكة في طريق خلاصه ونجاته"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 91.
2 (م.ن).
3 (م.ن).
4 الأربعون حديثًا، ص 91 - 92.
56
39
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
7- الرّياء
"ومن مفاسده الأخرى، أنّه يدفع الإنسان إلى الرّياء، لأنّ الإنسان بصورةٍ عامّة إذا استصغر أعماله، وجدها لا شيء، ووجد أخلاقه فاسدة، وإيمانه لا يستحقّ الذّكر، وعندما لا يكون معجبًا بنفسه ولا بصفاته ولا بأعماله، بل يجد نفسه وجميع ما يصدر عنها سيّئًا وقبيحًا، لا يطرحها ولا يتظاهر بها، فإنّ البضاعة الفاسدة تكون سيّئة وغير صالحة للعرض. ولكنّه إذا رأى نفسه كاملًا وأعماله جيّدة، فإنّه يندفع إلى التّظاهر والرّياء، ويعرض نفسه على النّاس. ويجب اعتبار مفاسد الرّياء المذكورة في الحديث الثاني من مفاسد العجب أيضًا"1.
8- الكبر
"وهناك مفسدة أخرى هي أنّ هذه الرّذيلة تؤدّي إلى رذيلة الكبر المهلكة، وتبعث على ابتلاء الإنسان بمعصية التكبّر"2.
وتنشأ من هذه الرذيلة مفاسد أخرى أيضًا بصورة مباشرة وغير مباشرة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فليعلم المعجب أنّ هذه الرّذيلة هي بذرة رذائل أخرى، ومنشأ لأمورٍ يشكّل كل واحد منها سببًا للهلاك الأبديّ والخلود في العذاب... وإنّه حينما يغمض عينيه الماديّة الملكوتيّة، ويشرق عليه سلطان البرزخ والقيامة، يرى أنّ حال أهل كبائر المعاصي أفضل من حاله، حيث غمرهم الله برحمته الواسعة بسبب ندمهم أو بسبب ما كان لديهم من رجاء بفضل الله تعالى. وأمّا هذا المسكين الذي رأى نفسه مستقلًّا، وحسبها في باطن ذاته غنيّة عن فضل الله، فيرى الله تعالى يحاسبه لذلك حسابًا عسيرّا، ويخضعه لميزان العدل كما أراد، ويفهمه بأنّه لم يقم بأيّة عبادة للّه تعالى، وأنّ جميع عباداته أبعدته عن السّاحة المقدّسة، وأنّ كلّ أعماله وإيمانه باطلٌ وتافه، بل وأنّ تلك الأعمال والعبادات نفسها هي سبب الهلاك وبذرة العذاب الأليم ورأس مال الخلود في الجّحيم"3.
1 (م.ن)، ص 92.
2 (م.ن).
3 (م.ن).
57
40
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
الشّيطان مصداق
بعد أن يبيّن لنا الإمام الخمينيّ قدس سره مفاسد العجب، يقدّم لنا الشّيطان كنموذج لنعتبر منه، فيقول: "وكفى بحال الشيطان عبرةً لمن يعتبر، فإنّ هذا الخبيث المطرود من رحمة الله إنّما صار عدوًّا للّه بسبب تلك الآفات النّفسيّة والأمراض الأخلاقيّة التي أهمل معالجتها، فأورثته العناد والتمرّد على إرادة الحقّ تعالى. يقول الإمام: "إنّ التوجه للنّفس، والأنانيّة، والإنّية، والعجب، تشتدّ في الجهل كلّما تقدّم في المراقي الجهليّة، ولذلك لم تثمر صلاةُ الشّيطان على مدى أربعة آلاف سنة سوى ترسيخ الأنانيّة والعجب والتّفاخر فيه، حتى آل به الحال إلى التّجرّي وإطلاق قول: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ في الإجابة عمّا أمر به الحقّ تبارك وتعالى، فعَمِيَ عن رؤية نورانيّة آدم عليه السلام بسبب غرقه في غاية الجّهل والعجب وحبّ النفس، ووقع بسبب ذلك في قياس المغالطة. وإذا كان قد سجد أربعة آلاف سنة فإنّ هذه السجدة بحدّ ذاتها كانت هي عبادة هوى وبدافع حبّ النّفس. من هنا، كانت نتيجة عبادات إبليس طوال تلك المدّة التّوجّه للنّفس والأنانيّة والعجب، وكانت عاقبته أن قال في الردّ على أمر الحقّ تبارك وتعالى: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾، وبسبب حبّ النفس والأنانيّة والتّفاخر كان نصيبه الطّرد من حضرة القدس ومقامه"1.
تحذيرٌ وتنبيه
ويعود الإمام لينبّهنا من مكائد الشّيطان وحبائله، فيقول: "يا أيها الأخ، كن حذرًا تجاه مكائد النّفس والشّيطان، واعلم أنّه لن يدعك أيّها المسكين تؤدّي عملًا واحدًا بإخلاص، وحتّى هذه الأعمال غير الخالصة التي تقبّلها الله تعالى منك بفضله، لا يدعك - الشّيطان - تصل بها إلى الهدف. فيعمل عملًا تحبط به أعمالك كلّها، وتخسر حتّى هذا النّفع بسبب هذا العجب والتدلّل في غير موقعه. وبصرف النّظر عن بُعد الوصول إلى الله ورضاه، فإنّك لن تصل إلى الجنّة ولا إلى الحور العين، بل تخلّد في العذاب وتُعذّب بنار الغضب كذلك"2.
1 روح الله الموسوي الخميني، جنود العقل والجهل، دار المحجّة البيضاء، الطّبعة الأولى، 2003 م ترجمة مؤسّسة أم القرى، ص 54.
2 الأربعون حديثًا، ص 98.
58
41
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
المفاهيم الرئيسة
1- العُجْب عبارة عن تعظيم العمل الصّالح واستكثاره والسّرور والابتهاج به والتغنّج والدلال بواسطته واعتبار الإنسان نفسه غير مقصرٍّ. وهو غير السّرور بالعمل مع التّواضع والخضوع للّه تعالى وشكره على هذا التّوفيق وطلب المزيد منه، الذي هو أمرٌ ممدوح.
2- إنّ مشكلة العجب ليست في أن يفرح الإنسان بالخير إذا وجده، أو أن يبتهج بالكمال إن أدركه، بل في أن يرى ذلك الخير والكمال صادرًا من نفسه.
3- من مفاسد العجب وآثاره المهلكة:
- إحباط إيمان الإنسان وأعماله وإفسادها.
- الهلاك في البرزخ والآخرة.
- استصغار المعاصي وعدم النّهوض لإصلاح النّفس.
- احتقار عباد الله نتيجة أنّه يرى أعمال الناس لا شيء وإن كانت أفضل من أعماله.
4- من علامات المعجب أنّه:
- يرى نفسه من الصّالحين ومستحقًّا للمدح والثّناء.
- يرى قبائح أعماله حسنة بينما لا يعير أهميّة لأعمال الغير التي تكون أفضل وأعظم.
- يسيء الظنّ بخلق الله ويحسن الظنّ بنفسه.
5- إنّ الشيطان الخبيث المطرود من رحمة الله إنّما صار عدوًّا لله بسبب تلك الآفات النّفسيّة والأمراض الأخلاقيّة التي أهمل معالجتها، فأورثته العناد والتمرّد على إرادة الحقّ تعالى.
6- ليس الإعجاب بالنّفس ومتعلّقاتها سوى دليل على جهلٍ كبيرٍ بحقيقتين أساسيّتين: الأولى أنّ كل خير وكمال هو من الله تعالى دون سواه، والثانية أنّ منشأ الشرّ الواقعيّ هو النّفس.
7- إذا تساوى فرح الإنسان بفضل الله عليه بفرحه بهذا الفضل على غيره يكون ممّن سلم من العجب.
8- المعجب بنفسه لا بدّ وأن يعجب بكمالٍ ينسبه إليها حتّى لو كان موهومًا. ولا شكّ بأنّ أعظم الكمالات والخيرات هو الإيمان بالله تعالى والعقائد المرتبطة به.
59
42
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاِهْتِمَامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ، وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ، وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ، وَلاَ تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّنِي وَلاَ تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام علي عليه السلام: "الإعجاب ضدّ الصّواب، وآفة الألباب"2.
2- عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا جهل أضرّ من العجب"3.
3- عن الإمام علي عليه السلام: "العجب رأس الحماقة"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "سيئة تسوءك، خير عند الله من حسنة تعجبك"5.
5- عن أبي عبد الله عليه السلام: "آفَةُ الدّينِ الحَسَد والعُجْبُ وَالفَخْرُ"6.
6- عن الإمام علي عليه السلام من كتابه للأشتر لمّا ولّاه مصر: "إياك والإعجاب بنفسك، والثّقة بما يعجبك منها، وحبّ الإطراء، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشّيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين"7.
7- عن الإمام علي عليه السلام: "الإعجاب يمنع الازدياد"8.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "العجب يظهر النقيصة"9.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال.
2 نهج البلاغة، ص 397.
3 الكافي، ج8، ص 244.
4 التميمي الأمدي، تحقيق وتصحيح السيد مهدي الرجائي، نشر دار الكتاب الإسلامي، قم، غرر الحكم، ص 309.
5 نهج البلاغة، ص 477.
6 الكافي، ج2، ص 307.
7 نهج البلاغة، ص 444.
8 (م.ن)، ص 500.
9 غرر الحكم، ص 309.
60
43
الدّرس الثالث: العجب (1) - حقيقته، آثاره وعلاماته
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما أضرّ المحاسن كالعجب"1.
10- عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ عيسى بن مريم كان من شرائعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه، ومعه رجل من أصحابه قصير، وكان كثير اللزوم لعيسى عليه السلام، فلمّا انتهى عيسى إلى البحر، قال: بسم الله بصحة يقين منه، فمشى على ظهر الماء، فقال الرجل القصير، حين نظر إلى عيسى عليه السلام جازه: بسم الله بصحة يقين منه، فمشى على الماء ولحق بعيسى عليه السلام، فدخله العجب بنفسه... فرمس في الماء، فاستغاث بعيسى، فتناوله"2.
1 غرر الحكم، ص 308.
2 الكافي، ج2، ص 306.
61
44
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح العلاقة بين ضعف العقل ورؤية النّفس وتشكّل الشخصيّة المعجبة.
2- يتعرّف إلى بعض الأمور التي يُعجب بها الإنسان.
3- يتعرّف إلى درجات العجب.
63
45
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
تمهيد
لماذا يصل الإنسان إلى حيث يصبح الإعجاب بالنّفس ملكةً راسخةً في نفسه، فتستقرّ فيه هذه الصّفة المهلكة؟ وكيف يتجاوز المرء كلّ هذه الحقائق السّاطعة، ويستغرق في النّظر إلى نفسه بعين الإعجاب والزّهو والفرح ذاهلًا عمّا سواها؟!
لقد ذكرنا سابقًا أنّ جميع الأمراض والمشكلات الأخلاقيّة والاضطّرابات النفسيّة ترجع إلى مشكلة عقائديّة ترتبط بفهم حضور الله في هذا الكون والحياة الرّحبة، وترتبط بالشّعور القلبيّ بذلك. فمن عجز عن إدراك جمال حضور الله المطلق مع كلّ هذه الآيات اللامتناهية: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾1، ومن لم ينقل هذا الإدراك إلى حالة الإيمان القلبيّ والثبات المعنويّ، فإنّه سوف يقع في الشّرك. والشّرك عبارة عن الاعتقاد بتعدّد الأسباب وراء هذه الظّواهر الوجوديّة والفعليّة في الآفاق وفي الأنفس، في الحياة الاجتماعيّة وفي الأحداث الكونيّة.
كيف تتشكّل الشخصية المعجبة بنفسها؟
إنّ النّفوس الضّعيفة سرعان ما تستجيب لدعوة الشّرك، فيرى كلّ من يعيش العقد النفسيّة، الاستقلاليّةَ والغنى في نفسه وذاته، ولأجل تثبيت هذه الفكرة، يبدأ بنسبة الكمال الذي يراه في نفسه إلى نفسه، ويعتقد بأنّ التّأثير والفعليّة والسّببيّة نابعة من ذاته.
فإذا اجتمع الشّرك مع حبّ النّفس ورؤيتها مستغنيةً مستقلّةً، تولّدت منه الحالات النفسيّة البغيضة كالكبر والعجب والرّياء وغيرها.
1 سورة فصلت، الآية 53.
65
46
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "يرى الإنسان أعماله الصّغيرة كبيرة، وبذلك يرى نفسه من الصالحين ومن خاصّة الله ويرى نفسه مستحقًّا للثّناء ومستوجبًا للمدح على تلك الأعمال الحقيرة التّافهة، بل ويحدث أحيانًا أن تلوح لنظره قبائح أعماله حسنةً، وإذا ما رأى من غيره أعمالًا أفضل وأعظم من أعماله فلا يعيرها أهميّة، ويصف أعمال النّاس الصّالحة بالقبح، وأعماله السيّئة القبيحة بالحسنة. يسيء الظّنّ بخلق الله ولكنّه يحسن الظنّ بنفسه، وبسبب حبّه لنفسه يرى بعمله الصّغير الممزوج بآلاف القذارات المبعدة عن الله، أنّ الله مدينٌ له وأنّه يستوجب منه الرّحمة"1.
إنّ العقل الذي يدرك حقيقة الكمال، ويتعرّف على علّته وسببه الحقيقيّ، هو نورٌ إلهيّ لا يتعايش مع الهوى وحبّ النّفس. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "كم من عقلٍ أسير تحت هوىً أمير"2. فمن استولى على قلبه حبّ النّفس، تملّكه الهوى، فينطفئ بسبب ذلك نور العقل فيها. وعندما يفقد الإنسان هذا النّور، يحسب نفسه منشأً للكمالات والخيرات، وإن كانت محدودة أو موهومة.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وأمّا نحن المساكين فمن الجهل والحجب المتنوّعة التي أمسكت برقابنا قمنا نتكبّر ونعجب بأنفسنا ونتظاهر بأعمالنا، فيا سبحان الله! ما أصدق كلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "عجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله3. أليس من فقدان العقل أنّ الشّيطان يعمّي علينا أمرًا ضروريًّا ولا نقوم بوزنه في ميزان العقل"4.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "رضاك عن نفسك، فساد عقلك"5.
وفي الكثير من الأحاديث ـ وأشهرها حديث جنود العقل والجهل ـ استُعمل الجهل مقابل العقل، لا العلم. فقد يكون المرء عالمًا (وهو معنى امتلاك المعلومات الكاشفة عن الوقائع) وهو ليس عاقلًا. فالعاقل هو الذي يستفيد من العلم بالآيات لمعرفة صاحب الآيات والوصول إليه.
1 الأربعون حديثًا، ص 94.
2 نهج البلاغة، ص506.
3 وسائل الشيعة، ج 1، ص 105.
4 روح الله الموسوي الخميني، معراج السالكين، بيت الكاتب للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2009 م، ترجمة السيّد عبّاس نورالدّين، ص 185.
5 غرر الحكم، ص307.
66
47
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وإنّما نحن المساكين الذين قد ران حجاب الجّهل والغفلة والعجب والمعاصي على قلوبنا وقوالبنا، وغَشي أبصارنا وأسماعنا وعقولنا وكافّة قوانا المدركة، بحيث أخذنا نستعرض عضلاتنا في مقابل قدرة الله القاهرة، ونعتقد أنّ لنا استقلالًا وشيئيّة بذواتنا. أيّها "الممكن" المسكين الجّاهل بنفسك وبعلاقتك بالله! أيّها "الممكن" السيّئ الحظ الغافل عن واجباتك إزاء مالك الملوك! إنّ هذا الجّهل هو سبب جميع ما يلحقك من سوء التّوفيق، وهو الذي ابتلانا بجميع هذه الظّلمات والمكدّرات. إنّ الفساد قد ينشأ من الأساس، وإنّ تلوّث الماء قد يكون من المَعين. إنّ عيون معارفنا عمياء، وقلوبنا ميتة، وهذا سبب جميع المصائب، ولكنّنا مع كلّ ذلك لسنا حتّى بصدد إصلاح أنفسنا"1.
أما حبّ النّفس، فإنّه ينشأ من رؤيتها في عين الغنى والاستقلال، سواء في الوجود (بمعنى أنّ وجوده الحاليّ لا ينبع من مصدرٍ آخر) أو كمال الوجود (بمعنى أنّ كمالات نفسه كالقدرة والعلم والحياة تنبع من ذاته). ولأن الإنسان مفطورٌ على حبّ الكمال، فمن ظنّ أنّ نفسه هي الكمال أو المنشأ والسّبب للكمال، أحبّها وعشقها. فيعشق كلّ ما يتعلّق بها وهو جاهل أو غافل عن أنّ حقيقة كلّ خير وأصل كلّ وجود وكمال هو الله تعالى.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ رذيلة العُجب تنشأ من حبّ النّفس، لأنّ الإنسان مفطورٌ على حبّ الذّات، فيكون أساس جميع الأخطاء والمعاصي الإنسانيّة والرّذائل الأخلاقية، حبّ النفس"2.
ليس العلم بذاته ـ مهما كان شريفًا ـ ضمانةً لعدم وقوع المرء بالعجب المهلك المفسد، وكذلك العبادة، مهما كانت صحيحةً أو كثيرة. فعندما لا يكون العقل حاضرًا، ينصرف وهم الإنسان إلى نسبة هذه الأمور الشّريفة إلى سببها القريب أو علّتها المحسوسة (أي نفسه وصفاته وأفعاله)، فيقع هذا الواهم في حالة من الغرور والعجب بنفسه، لأنّ الإنسان يحبّ مع الكمال أصله وسببه، لا بل حبّه للعلّة والسّبب أعظم من حبّه للأثر والمسبّب.
1 الأربعون حديثًا، ص 93.
2 (م.ن)، ص 94.
67
48
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
وهكذا يوجّهنا الإمام قدس سره إلى منشأ جميع المهلكات النفسيّة والرّذائل الأخلاقيّة، ويقول قدس سره: "ويستفاد من الآيات الشّريفة أنّ مبدأ عدم سجود ابليس هو رؤية النّفس والعجب، فطبّل قائلًا: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ...﴾1 إنّ رؤية إبليس لنفسه صارت سببًا للعجب والكبر، وهذا الكبر صار سببًا للاستقلال مقابل الحقّ، وعصيان الأمر، فصار مطرودًا من مقام القرب"2.
وفي معرض الحديث عن أصول المهلكات والآفات يقول الإمام قدس سره: "... فكلّما قوي السّلوك، يغلب النّور على الظّلمة وتظهر سمات الرّبوبيّة في السّالك فتصير تسميته حقيقيّة إلى حدٍّ ما، وشيئًا فشيئًا ترتحل العلامات الشيطانيّة بالتّدريج، وهي في الظّاهر مخالفة نظام المدينة الفاضلة، وفي الباطن العجب والاستكبار وأمثالها، وفي باطن الباطن رؤية النفس وحبّها وأمثالها، عن مملكة باطن السّالك وظاهره، وتحلّ مكانها سمات الله، وهي في الظاهر حفظ نظام المدينة الفاضلة، وفي الباطن العبوديّة وذلّة النّفس، وفي باطن الباطن حبّ الله ورؤية الله"3.
فأصل جميع القذارات والأرجاس هو رؤية النّفس المعبّر عنها بالإنّيّة، وحبّها. ومن هذه الأنانيّة تنشأ الأمراض والرّذائل الأخلاقيّة، التي تؤدّي إلى ارتكاب الذّنوب والمعاصي، التي عبّر عنها الإمام بمخالفة نظام المدينة الفاضلة، لأنّ شريعة الله قامت على أساس بناء المجتمع الأمثل والأفضل.
أنواع العجب ودرجاته
إنّ الكمالات تتنوّع وتتدرّج، وبتبع ذلك يتدرّج العجب ويتنوّع، لأنّ المعجب بنفسه لا بدّ وأن يعجب بكمالٍ ينسبه إليها حتّى لو كان موهومًا، إلّا أنّ أصل المشكلة وحقيقة المسألة واحدة، ولا شكّ بأنّ أعظم الكمالات والخيرات هو الإيمان بالله تعالى والعقائد المرتبطة به، وقد يُبتلى بعض الأشخاص بالإعجاب بهذا الكمال.
1 سورة الأعراف، الآية 12.
2 معراج السالكين، ص 216.
3 (م.ن)، ص 243 - 244.
68
49
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
ومن المهم أن نشير إلى أنّ الكمال قد يكون موهومًا، فبعض النّاس يُعجبون بكمالاتهم التي هي نقائص وقبائح في الحقيقة، وإنّما يحصل لهم هذا العجب، بسبب اعتبار المجتمع أو البيئة المحيطة بهم تلك العيوب والنّقائص والقبائح كمالات.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "يصل أهل الكفر والنّفاق والمشركون والملحدون وذوو الأخلاق القبيحة، والملكات الخبيثة وأهل المعصية والعصيان، أحيانًا إلى درجة الإعجاب بغرورهم وزندقتهم تلك... ويرون أنّ أنفسهم تستحق المدح والثّناء، بسبب الرّوح الحرّة التي لا تعتقد بالخرافات ولا تبالي بالشّرائع. لقد تأصّلت في قلوبهم الخصال القبيحة والسيّئة وأصبحوا يأنسون بها، وبها امتلأت أعينهم وآذانهم فرأوها حسنة، وتصوّروها كمالًا مثلما وردت الإشارة إلى ذلك في هذا الحديث الشّريف، حيث قال: "العُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْهَا أنْ يُزَيّنَ لِلْعَبْدِ سُوءَ عَمَلِهِ فَيَراهُ حَسَنَاً فَيُعْجِبُهُ وَيَحْسَبُ أنَهُ يُحْسِنُ صَنْعًا"1، وهذه إشارة إلى قول الله تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾2. وقوله: "وَيَحْسَبُ أَنَهُ يُحْسِنُ صَنْعًا" يشير إلى قول الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾3"4.
وعليه، يبيّن الإمام أنّ العجب أنواع ودرجات. فمنها العجب بالإيمان والمعارف الحقّة، ويقابله العجب بالكفر والشرك والعقائد الباطلة، ومنها العجب بالملكات الفاضلة والصفات الحميدة ويقابله العجب بسيئات الأخلاق وباطل الملكات، ومنها العجب بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة ويقابله العجب بالأعمال القبيحة والأفعال السيّئة.
كما أنّ العجب بنفسه له مراتب من حيث الشدّة والضّعف. وأشدّ حالات العجب هي الحالة التي يصل فيها المعجب بنفسه إلى درجة يمنّ في قلبه على وليّ نعمته عزّ وجل.
1 الكافي، ج2، ص 313.
2 سورة فاطر، الآية 8.
3 سورة الكهف، الآيات 103 - 105.
4 الأربعون حديثًا، ص 87 - 88.
69
50
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
فإذا عرفنا مراتب الكمال والخير وأنواعهما ـ ولو بالإجمال ـ، وإذا عرفنا درجات العجب وأشدّها:
- المنّ على الله.
- ثمّ الدّلال والتغنّج عليه سبحانه،
- ثمّ رؤية الاستحقاق على الله عزّ وجل،
- وأدناها رؤية النّفس متميّزة عن سائر النّاس.
إذا عرفنا مثل هذه الأمور والوقائع، أدركنا جميع حالات العجب، وصار بإمكاننا أن نغوص إلى أعماق أنفسنا، لنكتشف هذا المرض الذي له درجات عديدة من الخفاء، ومع كلّ درجة من الخفاء والعمق يزداد الهلاك.
وهذه هي مراتب العجب كما ذكرها الإمام قدس سره:
1- المرتبة الأولى: المنّ على الله
"وهي أشدّ المراتب وأهلكها، حيث تحصل في الإنسان بسبب شدّة العُجْب حالة يمنّ معها في قلبه بإيمانه أو خصاله الحميدة الأخرى على وليّ نعمته ومالك الملوك، فيتخيّل أنّ السّاحة الإلهيّة قد اتّسعت بسبب إيمانه، أو أنّ دين الله قد اكتسب رونقًا بذلك أو أنّه بترويجه للشّريعة أو بإرشاده وهدايته أو بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أو بإقامته الحدود، أو بمحرابه ومنبره، قد أضفى على دين الله بهاءً جديدًا، أو أنّه بحضوره جماعة المسلمين، أو بإقامة مجالس التّعزية لأبي عبدالله عليه السلام قد أضفى على الدّين جلالًا، لذلك يمنّ على الله وعلى سيّد المظلومين وعلى الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يظهر لأحد هذا المعنى، إلاّ أنّه يمنّ في قلبه. ومن هنا، ومن هذا الباب بالذّات، تنشأ المنّة على عباد الله في الأمور الدّينيّة، كأن يمنّ على الضّعفاء والفقراء بإعطائهم الصّدقات الواجبة والمستحبّة ومساعدتهم، وأحيانًا تكون هذه المنّة خافية حتّى على الإنسان نفسه"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 85.
70
51
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
2- المرتبة الثّانية: الغنج والدّلال على الله
"وهي التي يتدلّل فيها الإنسان ويتغنّج بواسطة العُجب على الله تعالى وهذه غير المنّة، ولو أنّ بعضهم لم يفرّق بينهما. إنّ صاحب هذا المقام يرى نفسه محبوبًا للّه تعالى، ويرى نفسه في سلك المقرَّبين والسّابقين، وإذا جيء باسم وليّ من أولياء الله أو جرى حديث عن المحبوبين والمُحبّين أو السّالك المجذوب، اعتقد في قلبه أنّه من أولئك. وقد يبدي التّواضع رياءً وهو خلاف ذلك، أو أنّه لكي يثبت ذلك المقام لنفسه ينفيه عن نفسه بصورة تستلزم الإثبات. وإذا ما ابتلاه الله تعالى ببلاء، راح يعلن أنّ "البَلاءَ لِلْوَلاءِ". إنّ مدّعي الإرشاد من العرفاء والمتصوّفة وأهل السّلوك والرّياضة أقرب إلى هذا الخطر من سائر الناس"1.
3. المرتبة الثّالثة: رؤية الاستحقاق على الله عزّ وجلّ
"أن يرى العبد نفسه وبواسطة الإيمان أو الملكات أو الأعمال دائنًا للّه، وأنّه بذلك يكون مستحقًّا للثّواب، ويرى واجبًا على الله أن يجعله عزيزًا في هذا العالم، ومن أصحاب المقامات في الآخرة، ويرى نفسه مؤمنًا تقيًّا وطاهرًا، وكلّما جاء ذكر المؤمنين بالغيب، قال في نفسه: "حتّى لو عاملني الله بالعدل، فإنّي أستحقّ الثّواب والأجر"، بل يتعدّى بعضهم حدود القبح والوقاحة ويصرّح بهذا الكلام. وإذا ما أصابه بلاء وصادفه ما لا يرغب، فإنّه يعترض على الله في قلبه، ويتعجّب من أفعال الله العادل، حيث يبتلي المؤمن الطّاهر، ويرزق المنافق، ويغضب في باطنه على الله تبارك وتعالى وتقديراته، ولكنّه يظهر الرّضا في الظّاهر، ويصبُّ غضبه على وليّ نعمته، ويظهر الرّضا بالقضاء أمام الخلق. وعندما يسمع أنّ الله يبتلي المؤمنين في هذه الدّنيا، يسلّي نفسه بذلك في قلبه، ولا يدري بأنّ المنافقين المبتلين كثيرون أيضًا، وليس كلّ مُبْتَلٍ مؤمنًا"2.
4- المرتبة الرّابعة: رؤية النّفس متميّزة عن سائر النّاس
"هي أن يرى الإنسان نفسه مُتميّزًا عن سائر النّاس وأفضل منهم بالإيمان، وعن المؤمنين بكمال الإيمان، وبالأوصاف الحسنة عن غير المتّصفين بها، وبالعمل بالواجب وترك المحرَّم
1 الأربعون حديثًا، ص 85 - 86.
2 (م.ن)، ص 92.
71
52
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
عمّا يقابل ذلك، كما أنّه يرى في عمل المستحبّات والتزام الجّمعة والجّماعات والمناسك الأخرى وترك المكروهات يرى نفسه أكمل من عامّة النّاس، وأنّ له امتيازًا عليهم، فيثق بنفسه وبأعماله، ويرى سائر الخلق زبدًا ناقصين، وينظر إلى سائر النّاس بعين الاحتقار، ويطعن بقلبه أو بلسانه في عباد الله ويعيبهم، ويبعد كلّ شخصٍ بصورةٍ ما عن ساحة رحمة الله، ويجعل الرّحمة خالصة له ولأمثاله.
ومثل هذا الإنسان يصل إلى درجة بحيث يناقش كلّ عملٍ صالحٍ يراه من النّاس، ويخدشه بقلبه على نحو ما، ويرى أعماله خالصة من ذلك الاعتراض والنّقاش، ولا يرى الأعمال الحسنة من النّاس شيئًا، ولكن إذا صدرت هذه الأعمال نفسها عنه يراها عظيمة، إنّه يعرف جيّدًا عيوب النّاس وهو غافلٌ عن عيوبه"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 86 - 87.
72
53
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
المفاهيم الرئيسة
1- جميع الأمراض والمشكلات الأخلاقيّة والاضطرابات النفسيّة ترجع إلى مشكلة عقائديّة ترتبط بفهم حضور الله في هذا الكون والحياة الرّحبة، فمن عجز عن إدراك جمال حضور الله المطلق، ومن لم ينقل هذا الإدراك إلى حالة الإيمان القلبيّ والثبات المعنويّ، فإنّه سوف يقع في الشّرك.
2- إذا اجتمع الشّرك مع حبّ النّفس ورؤيتها مستغنية ومستقلّة تولّدت منه الحالات النفسيّة البغيضة كالكبر والعجب والرّياء وغيرها.
3- الذي يستولى على قلبه حبّ النّفس، يتملّكه الهوى، فينطفئ بسبب ذلك نور العقل فيها. وعندما يفقد الإنسان هذا النّور، يحسب نفسه منشأً للكمالات والخيرات، وإن كانت محدودة أو موهومة.
4- منشأ العُجب هو: حبّ النّفس الذي ينشأ بدوره من رؤية النّفس في عين الغنى والاستقلال سواء في الوجود.
5- أنواع العجب هي:
- العجب بالإيمان والمعارف الحقة، ويقابله العجب بالكفر والشرك والعقائد الباطلة
- العجب بالملكات الفاضلة والصفات الحميدة ويقابله العجب بسيئات الأخلاق.
- العجب بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة ويقابله العجب بالأعمال القبيحة.
6- للعجب مراتب من حيث الشدّة والضّعف، هي:
- المنّ على الله: وهي أشدّ المراتب وأهلكها، يمنّ فيها الإنسان في قلبه بإيمانه أو خصاله الحميدة الأخرى على وليّ نعمته ومالك الملوك.
- الغنج والدلال على الله: يرى الإنسان نفسه محبوبًا لله تعالى، وفي سلك المقرَّبين والسّابقين.
- رؤية الاستحقاق: يرى العبد نفسه وبواسطة الإيمان أو الملكات أو الأعمال دائنًا لله، وأنّه بذلك يكون مستحقًّا للثّواب، ويرى واجبًا على الله أن يجعله عزيزًا في هذا العالم.
- رؤية النفس متميّزة: يرى نفسه أكمل من عامّة النّاس، وأنّ له امتيازًا عليهم، فيثق بنفسه وبأعماله، ويرى سائر الخلق زبدًا ناقصين.
73
54
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
شواهد من وحي الدّرس
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام علي عليه السلام: "ما لابن آدم والعجب، أوّله نطفة قذرة، وآخره جيفة مذرة، وهو بين ذلك يحمل العذرة"1.
2- عن الإمام علي عليه السلام لرجل سأَله أَن يعظه: "لاَ تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ الْعَمَلِ... يُعْجَبُ بِنَفْسِهِ إِذَا عوفِيَ، وَيَقْنَطُ إِذَا ابتلي"2.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصادق عليه السلام، قِيلَ لَهُ، وَأَنَا حَاضِرٌ، الرَّجُلُ يَكُونُ فِي صَلَاتِهِ خَالِياً فَيَدْخُلُهُ الْعُجْبُ، فَقَالَ: "إِذَا كَانَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ بِنِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا رَبَّهُ فَلَا يَضُرُّهُ مَا دَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلْيَمْضِ فِي صَلَاتِهِ وَلْيَخْسَأِ الشَّيْطَانَ"3.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة العجب البغضاء"4.
5- عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: قَالَ الله تَعَالَى: "إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي عِبَادَتِي، فَيَقُومُ مِنْ رُقَادِهِ وَلَذِيذِ وِسَادِهِ فَيَجْتَهِدُ لِيَ اللَّيَالِيَ، فَيُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي عِبَادَتِي، فَأَضْرِبُهُ بِالنُّعَاسِ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ نَظَراً مِنِّي لَهُ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِ، فَيَنَامُ حَتَّى يُصْبِحَ، فَيَقُومُ وَهُوَ مَاقِتٌ لِنَفْسِهِ زَارِئٌ عَلَيْهَا، وَلَوْ أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ عِبَادَتِي لَدَخَلَهُ الْعُجْبُ مِنْ ذَلِكَ، فَيُصَيِّرُهُ الْعُجْبُ إِلَى الْفِتْنَةِ بِأَعْمَالِهِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ هَلَاكُهُ لِعُجْبِهِ بِأَعْمَالِهِ وَرِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ، حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ فَاقَ الْعَابِدِينَ وَجَازَ فِي عِبَادَتِهِ حَدَّ التَّقْصِيرِ، فَيَتَبَاعَدُ مِنِّي عِنْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ"5.
1 غرر الحكم، ص 308.
2 نهج البلاغة، ص 497.
3 الكافي، ج3، ص 268.
4 غرر الحكم، ص 309.
5 الكافي، ج2، ص 60.
74
55
الدّرس الرابع: العجب (2) - تشكّله، أنواعه ودرجاته
6- عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: "إِيَّاكَ وَالْعُجْبَ وَسُوءَ الْخُلُقِ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لَكَ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ صَاحِبٌ، وَلَا يَزَالُ لَكَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ مُجَانِبٌ"1.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "بالرضا عن النفس، تظهر السوآت والعيوب"2.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من كان عند نفسه عظيماً، كان عند الله حقيراً"3.
1 مستدرك الوسائل، ج1، ص 136.
2 غرر الحكم، ص 308.
3 (م.ن).
75
56
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن دور معرفة النفس والتوحيد والإيمان في التخلّص من العجب.
2- يتعرّف إلى خطط الشّيطان وكيفيّة مواجهته.
3- يبيّن أهميّة سلوك طريق العبوديّة ودوره في التخلّص من العجب.
77
57
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
تمهيد
ينغرز مرض العجب في القلب بحيث يصعب اكتشافه في حالات عديدة. ويمتزج هذا المرض مع أمور تجعل صاحبه يظنّ أنّ الفرح بالنفس محمود ومطلوب. وهنا تأتي معرفة سيرة أولياء الله الكاملين لتضيء على هذه القضية فتهدينا إلى تفاصيل دقيقة لا يمكن تلمسها بسهولة.
أما من تعرّف إلى التوحيد وعلم معنى رجوع الكل إلى الله، فإنّه لن يرى لفعله مهما بلغ تأثير إلا بالله. وكيف لا تكون الصالحات تفضّلًا من الله وكلّ الخير منه. وكيف لا تكون الفضائل والكمالات محض المنّة منه تعالى وكلّ شيء قائم به. فهل يصحّ أن يُعجب المرء بما ليس له؟ وهل يمكن أن يُعجب المرء بنفسه وهو يعلم أنّ كلّ كمال وخير وصلاح وقوّة مواهب إلهيّة؟!
العلم والمعرفة أساس العلاج
إنّ العلم المرتكز على العقل يشكّل نور المعرفة التي تهدي أصحاب النّفوس الطيّبة أو الطّاهرة - ولو نسبيًّا - إلى كلّ خير. وإنّ أوّل أثر جميل للمعرفة الحقّة هو انبعاث الإنسان للتخلّص من ظلمات رذائل الأخلاق وكدوراتها.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فإذا عرف - الإنسان - هذه المفاسد بصورة صحيحة ولاحظها بدقّة، ورجع إلى الأخبار والآثار الواردة بشأنها عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام ذلك فمن المحتّم أن يعتبر الإنسان نفسه ملزمًا بالنّهوض لإصلاح النّفس، وتطهيرها من هذه الرّذيلة واستئصال جذورها من باطن النّفس، لئلا ينتقل - لا سمح الله - إلى العالم الآخر، وهو بهذه الصّفة"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 92.
79
58
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
ولمّا عرفنا الآثار السيّئة والنّتائج الموبقة لهذه الرّذيلة، وأدركنا أنّها من أهمّ أسباب الطّرد من محلّ القرب، وجب علينا أن ننهض للتخلّص منها مهما كلّف الأمر.
معرفة أولياء الله والارتباط بهم
إنّ لمعرفة أولياء الله والارتباط المعنويّ بهم أكبر الأثر في إيقاظ الإنسان من الغفلة عن وجود رذيلة العجب وآثارها. فلو تأمّلنا في أحوال الذين بلغوا أعلى مراتب القرب والكمال، في نظرتهم إلى أنفسهم، وفي اعترافهم بعجزهم وذلّهم، وفي شدّة تواضعهم لعباد الله مهما كانوا، لكان ذلك كافيًا لكي لا نسمح لأنفسنا بالتبجّح بأيّ خيرٍ نناله أو كمالٍ نصل إليه.
1. اعترافهم الدّائم بالتّقصير
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّا نعلم بالضّرورة أنّ أعمالنا وأعمال جميع البشر العاديّين، بل أعمال جميع ملائكة الله والرّوحانيين في ميزان أعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى عليهم السلام ليس لها قدرٌ محسوس، ولا تُعدّ شيئًا، وفي الوقت نفسه الاعتراف بالتّقصير وإظهار العجز عن القيام بالأمر من أولئك الأعاظم متواترٌ، بل فوق حدّ التّواتر، وهاتان القضيّتان الضّروريّتان تنتجان لنا ألّا نفرح بشيء من أعمالنا، بل علينا إذا قمنا بالعبادة والطّاعة طول عمر الدّنيا أن نكون خجلين وننكّس رؤوسنا في محضره. ومع هذه الحال فقد تمكّن الشّيطان في قلوبنا وسيطر على عقولنا وحواسّنا، بحيث لا نخرج بنتيجة من هذه المقدّمات الضّروريّة، بل تكون أحوال قلوبنا على العكس"1.
"الويل لمن يعامله الباري تعالى بعدله، فإذا ما عومل النّاس مثل هذا التّعامل ما نجا أحدٌ من الأوّلين والآخرين. إنّ مناجاة صفوة الله ـ من الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام - مشحونةٌ بالاعتراف بالتّقصير والعجز عن القيام بالعبوديّة. وعندما يعلن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الكائنات، وأقربها إلى الله قائلًا: "مَا عَرَفناكَ حقَّ معْرِفَتِكَ، وما عَبَدْناكَ حقَّ عِبادَتِكَ"2، فماذا سيكون حال سائر النّاس؟... نعم إنّهم العارفون بعظمة الله تعالى، العالمون بحقيقة نسبة "الممكن" إلى "الواجب" إنّهم يعلمون أنّهم لو قضوا جميع
1 معراج السالكين، ص 185.
2 مرآة العقول، ج8، ص 146.
80
59
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
أعمارهم في الدّنيا بالعبادة والطّاعة والتّحميد والتّسبيح، لما أدّوا شكر نِعَم الله، فكيف يمكن أداء حقّ الثّناء على ذاته وصفاته المقدّسة؟ إنّهم يعلمون أن ليس لموجودٍ شيء، فالحياة والقدرة والعلم والقوّة وسائر الكمالات الأخرى هي ملكٌ لكماله تعالى، و"الممكن" فقير، بل فقرٌ محض يستظلّ بظلّه تعالى، وليس بمستقلٍّ بذاته. أيّ كمالٍ يملكه "الممكن" بنفسه لكي يتظاهر بالكمال؟ وأيّة قدرة يمتلكها لكي يتاجر بها؟ أولئك العارفون بالله وبجماله وجلاله شاهدوا شهود عيان نقصهم وعجزهم وشاهدوا كمال "الواجب" تعالى، وإنّما نحن المساكين الذين قد ران حجاب الجّهل والغفلة والعجب والمعاصي على قلوبنا وقوالبنا وغَشِي أبصارنا وأسماعنا وعقولنا وكافّة قوانا المدركة، بحيث أخذنا نستعرض عضلاتنا في مقابل قدرة الله القاهرة، ونعتقد أنّ لنا استقلالًا وشيئيّة بذواتنا"1.
2- ميزة عباداتهم وضرورة التأسّي بهم
"أنت تظنّ أنّك بهذه الأعمال المتفسّخة المتعفّنة الهزيلة الممزوجة بالرّياء وطلب السّمعة وألف مصيبة أخرى التي تحول دون قبول العبادات كلّها، تظنّ أنّك بها تستحقّ الأجر من الحقّ تعالى أو أنّك أصبحت بها من المحبّين والمحبوبين. أيّها المسكين الجّاهل بأحوال المحبّين! يا سيّئ الحظّ الذي لم يطّلع على قلوب المحبّين، وعلى لهب شوقها تجاه الحقّ سبحانه، أيّها المسكين الغافل عن حرقة المخلصين ونور أعمالهم! أوتظنّ أنّ أعمالهم أيضًا مثل أعمالي وأعمالك؟! أوتتوهّم أنّ ميزة صلاة أمير المؤمنين عليه السلام عن صلاتنا أنّه عليه السلام كان يمدّ ﴿الضَّالِّينَ﴾2 أكثر أو أن قراءته أصحّ أو أنّ سجوده أطول وأذكاره وأوراده أكثر؟! أو أنّ ميزة ذلك الرّجل العظيم في أنّه كان يصلّي عدّة مئات من الرّكعات ليليًّا؟! أو تظنّ أنّ مناجاة سيّد السّاجدين عليّ بن الحسين هي مثل مناجاتي ومناجاتك؟! وإنّه كان يتحرّق ويتضرّع بتلك الصّورة من أجل الحور العين والكمثريّ والرّمّان من نِعَم الجنّة؟! أقسم به صلى الله عليه وآله وسلم - ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾3 - لو أنّ المحبّين كان بعضهم ظهيرًا لبعض الآخر، وأرادوا أن يتفوّهوا بكلمة "لا إله إلا اللهَ" مرّةً واحدةً بمثل ما
1 الأربعون حديثًا، ص 92 - 93.
2 سورة الفاتحة، الآية 7.
3 سورة الواقعة، الآية 76.
81
60
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
كان يقولها أمير المؤمنين عليه السلام لما استطاعوا. فكم أكون تعيسًا وشقيًّا أن لا أكون على خطى عليّ عليه السلام، وأنا من العارفين لمقام ولاية علي عليه السلام؟"1.
معرفة حقيقة النّفس
1- أعمالنا هي محض المنّة الإلهيّة
يقع العديد من المتديّنين في حالة العجب عندما يستغرقون في فيض عصمة الله التي تقيهم من شرّ الوقوع في المعاصي الكبيرة، فيحسبون أنفسهم في مقعد صدقٍ لا يزول. ومثل هذه الحالة قد تجرّهم إلى الاعتقاد بأنّ كلّ خير نالوه هو من النّفس، فيغفلون عن حقيقتها، التي هي عين العجز والفقر، وما يمكن أن ينجم عنهما2. ولا يخفى أنّ هذا الظنّ والاعتقاد هو الحجاب الأكبر عن شهود حضور الله تعالى، فهذا هو الشّقاء المبين الذي يحصل من الإعراض عن ذكر ربّ العالمين.
وفي غمرة هذه المشاعر والظّنون، تتنزّل الرّحمة على العباد، لتعرّفهم على حقيقة نفوسهم وما فيها، فيخلّي الرّب المتعال بينها وبين آثارها ويرفع عنهم ستار العصمة الذي غفلوا عنه، فإذا بهم يرتكبون ما استقبحوه سابقًا، ويجترحون ما استبعدوه قبلًا، وفي الحديث عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "إنّ الله علم أن الذّنب خيرٌ للمؤمن من العجب، ولولا ذلك ما ابتُلي مؤمن بذنب أبدًا"3.
ويقول الإمام الخميني قدس سره: "قد يبتلي الله سبحانه المؤمن بالمعصية لكي يصبح آمنًا من العجب، وكذلك الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر العجب من المهلكات"4.
والمؤمن من يعتبر بأحوال نفسه، التي هي آيات ربّه، وها هو أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم، وحلّ العقود، ونقض الهمم"5. ولو تدبّر الإنسان بما
1 الأربعون حديثًا، ص 98 - 99.
2 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ سورة فاطر، الآية 15. ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ سورة النساء، الآية 28.
3 الكافي، ج2، ص 313.
4 الأربعون حديثًا، ص 90.
5 نهج البلاغة، ص 511.
82
61
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
يجري عليه، وكيف يوفّق للأعمال الصّالحة، حيث تخرج هذه الأعمال من بين آلاف الموانع والمعيقات التي لو استخدم البشر جميع عقولهم لما استطاعوا أن يتوقّعوا حدوثها فضلًا عن توقّيها قبل أوانها، لعلم أنّ كلّ عملٍ صالحٍ صدر منه، بل كلّ خير ناله أو كمال وصل إليه، إنّما هو محض التّفضّل من الله تعالى... فكم هو مغرورٌ وجاحدٌ من لم يتدبّر ويعتبر.
2- أعمالنا فاقدة للاستحقاق
"فلنفكّر الآن قليلًا في أعمالنا الصّالحة، ولنحكِّم العقل قليلًا في الأفعال العباديّة الصّادرة عنّا، ولننظر إليها بعين الإنصاف، لنرى هل أنّنا نستحقّ بها المدح والثّناء والثّواب والرّحمة، أو أنّنا جديرون باللوم والعتاب والغضب والنّقمة؟ وإذا ما أحرقنا الله بسبب هذه الأعمال، التي نراها حسنة، بنار القهر والغضب ألا يكون ذلك عدلًا؟
إنّي أحكّمكم في هذا السّؤال الذي أطرحه، أريد منكم الجواب عليه بإنصاف ـ بعد إعمال الفكر والتّأمّل ـ. والسّؤال هو أنّه إذا أخبركم الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الصّادق المصدّق، إنّكم إذا عبدتم الله طوال عمركم وأطعتم أوامره وتركتم شهوات النّفس ورغباتها، أو تركتم عبادته وعملتم على خلاف توجيهاته سبحانه وتعالى، وعلى أساس رغبات النّفس وشهواتها طيلة حياتكم، إذا أخبركم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنّكم سيّان ـ في كلتا الحالتين ـ لن تختلف درجاتكم في الآخرة، إنّكم على كلّ حال النّاجون وستذهبون إلى الجنّة وتأمنون من العذاب، فلا فرق ـ حسب الفرض ـ بين أن تصلّوا أو تزنوا، ولكن مع ذلك يكون رضا الله تعالى في عبادته والثّناء عليه وحمده، والابتعاد عن الشّهوات والرّغبات النّفسانيّة في هذا العالم، مع عدم الإثابة على الطّاعة، فهل كنتم تصبحون من أهل المعصية أو من أهل العبادة؟ هل كنتم تتركون الشّهوات وتحرّمون على أنفسكم اللذات النّفسيّة من أجل رضا الله تعالى والرّغبة فيه، أو لا؟ هل كنتم باقين من المتوسّلين إليه تعالى بالمستحبّات والجّمعة والجّماعات؟ أو كنتم تغرقون في الشّهوات وتلازمون اللهو واللعب والملاهي وغير ذلك؟ أجيبوا بإنصاف ودون تظاهر ورياء. إنّني أعلن عن نفسي وعمّن هو على شاكلتي بأنّا كنّا نصبح من أهل المعصية، ونترك الطّاعات ونعمل بالشّهوات النّفسيّة.
وبعد ما تقدّم، نستنتج أنّ جميع أعمالنا هي من أجل اللذات النّفسيّة ومن أجل الاهتمام
83
62
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
بالبطن والفرج. إنّنا عُبّادٌ للبطن وعُبّادٌ للشهوة، ونترك لذّة صغيرة، للذّة أعظم، وإنّ وجهة أنظارنا وقبلة آمالنا هي فتح بساط الشّهوة. إنّ الصّلاة التي هي معراج القرب إلى الله نؤدّيها قربةً لنساء الجّنّة، ولا علاقة لها بالقرب إلى الله، ولا علاقة لها بطاعة الأمر، وهي بعيدةٌ آلاف الفراسخ عن رضا الله... أفينبغي أن تمنّ بهذه الأعمال على الله وهي جميعًا لأجل النّفس ومن أجل عبادتها، وتعدّها عبادة لله؟... ألستم كاذبين حينما تقولون: إنّنا نصلّي تقرّبًا إلى الله تعالى؟ ألأجل التقرّب إلى الله هذه الصّلاة أو لأجل التقرّب لنساء الجنّة وإشباع الشّهوة؟ أقولها صراحةً، إنّ جميع عباداتنا هذه لهي من كبائر الذّنوب عند العرفاء بالله وأولياء الله.
... أيّها المسكين، أنت بهذه الصّلاة مستحقٌّ للعذاب، ومستوجبٌ لسلسلة طولها سبعون ذراعًا. فلماذا إذًا تحسب نفسك دائنًا لله، وتهيّئ لنفسك بهذا التدلّل والعُجْب عذابًا آخر؟ اعمل الأعمال التي أُمرت بها، واعلم أنّها ليست لأجل الله، واعلم أنّ الله يدخلك الجّنّة بتفضّله وترحّمه، وأنّ الله تعالى خفّف عن عباده لضعفهم بالتّجاوز عن نوعٍ من الشّرك وأسدل عليهم بغفرانه ورحمته حجاب ستره، فحاذِرْ أن يتمزّق هذا الحجاب، وليبقَ حجاب غفران الله على هذه السّيّئات التي أسميناها عبادة... وعليه، إذا استدعى العمل العُجب والتدلّل والتغنّج، فافعل.
وإذا استدعى الخجل والتذلّل والاعتراف بالتّقصير فيجب عليك بعد كلّ عبادة أن تتوب من تلك الأكاذيب التي قلتها في حضرة الله تعالى، وممّا نسبته إلى نفسك دون دليل"1.
فمن عرف نفسه في حقيقتها، وتعرّف على أحوال ومقامات أولياء الله في علاقتهم بالله، وأدرك حقيقة التّوفيق ومبدئيّة الخير والكمال ومصدره الواقعيّ، وفهم معنى التّوحيد في الصّفات، يكون قد أسّس في نفسه القواعد المعرفيّة المتينة للبدء بمواجهة وساوس إبليس وخطراته. ولا شكّ بأنّ هدف إبليس من كلّ هذه الوساوس التي تزيّن للإنسان ما عنده أن يُعجب بعمله، فيغفل عن تلك الحقائق الكبرى التي تكفي كلّ واحدةٍ منها لطرد العجب من النّفس إلى الأبد.
1 الأربعون حديثًا، ص 94 - 97.
84
63
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
معرفة خطّة الشيطان، وكيف نواجهه
"إنّ الشّيطان لا يمكن أبدًا أن يعهد إليكم، أنتم المتّقون الخائفون من الله، مهمّة قتل النّفس أو الزّنا، أو أن يقترح على الشّخص الذي يتمتّع بالشّرف وطهارة النّفس، السّرقة أو قطع الطّريق، فلا يمكن أن يقول لك منذ البداية بأن مُنَّ على الله بهذه الأعمال، أو ضع نفسك في زمرة المحبوبين والمحبّين والمقرّبين من الحضرة الإلهيّة. وإنّما يبدأ الأمر بالخطوة الأولى، ثمّ يشقّ طريقه في قلوبكم، فيدفعكم نحو الحرص الشّديد على التزام المستحبّات والأذكار والأوراد. وفي غضون ذلك يزيّن أمامكم بما يناسب حالكم، عملًا واحدًا من أهل المعصية، ويوحي لكم بأنّكم بحكم الشّرع والعقل أفضل من هذا الشخص، وأنّ أعمالكم موجبة لنجاتكم، وأنّكم بحمد الله طاهرون بعيدون عن المعاصي ومبرّؤون منها، فيتحصّل من هذه الإيحاءات نتيجتان:
الأولى: هي سوء الظّن بعباد الله.
والأخرى: العُجب بالنّفس، وكلاهما من المهلكات ومن معين المفاسد.
قولوا للشيطان والنفس: قد تكون لهذا الشّخص المبتلي بالمعصية، حسنات، أو أعمال أخرى، فيشمله الله تعالى بها بوافر رحمته، ويجعل نور تلك الحسنات والأعمال مناراً يهديه، فيؤول عمله إلى حسن العاقبة. ولعلّ الله قد ابتلى هذا الشخص بالمعصية لكي لا يُبتلى بالعُجب، الذي يعدّ أسوأ من المعصية. مثلما ورد في الحديث الشريف المنقول في الكافي، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال: "إِنَّ اللهَ عَلِمَ أن الذنب خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ العُجبِ، ولولا ذلكَ ما ابْتَلى مؤمِناً بِذَنْبٍ أَبداً"1 ولعلّ عملي أنا يؤول إلى سوء العاقبة بسبب سوء الظنّ هذا.
وكان شيخنا الجليل العارف الكامل الشاه آبادي - روحي فداه - يقول:
"لا تعيبوا على أحد، حتى في قلوبكم، وإن كان كافرا، فلعلّ نور فطرته يهديه، ويقودكم تقبيحكم ولومكم هذا إلى سوء العاقبة، إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر غير التعبير القلبي"، بل كان يقول: "لا تلعنوا الكفّار الذين لا يعلم بأنّهم رحلوا عن هذا العالم، وهم في حال الكفر، فلعلهم اهتدوا في أثناء الرحيل فتصبح روحانيّتهم مانعاً لرقيّكم".
1 الكافي، ج2، ص 313.
85
64
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
وعلى أيّ حال، فإنّ النّفس والشّيطان، يدخلانكم في المرحلة الأولى من العُجب، وقليلًا قليلًا ينقلانكم من هذه المرحلة إلى مرحلة أخرى، ومن هذه الدّرجة إلى درجة أكبر إلى أن يصلا بالإنسان في النّهاية إلى المقام الذي يمنُّ فيه على وليّ نعمته ومالك الملوك، بإيمانه أو أعماله ويصل عمله إلى أسفل الدّرجات"1.
معرفة التّوحيد والإيمان به
إنّ التّوحيد في الصّفات يعني أنّه لا كمال ولا كامل في الوجود إلّا الله تعالى، وأنّ كلّ كمال نراه في أنفسنا وفي غيرنا هو محض التّفضّل من الله تعالى. فمن استطاع أن يكتب هذا التّوحيد بقلم العقل على لوح القلب، فإنّه سيتّصل بنبع الذّكر الأكبر الطّاهر المطهّر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾2.
"وفي هذا المرهم الإلهيّ، أي الصلاة التي هي معراج القرب الإلهيّ، فإنّ استقبال القبلة والتّوجّه إلى النقطة المركزية، ورفع اليد وصرف الوجه عن الجهات المتفرّقة، هو ادّعاء بأنّ الفطرة قد تيقّظت وخرج نور الفطرة من الاحتجابات. وهذا الادّعاء حقيقي بالنسبة إلى الكمّل وأصحاب المعرفة. وأمّا بالنسبة لنا أصحاب الحجاب، فأدبه أن نفهم القلب أنّه لا كمال ولا كامل في جميع دار التّحقّق سوى الذّات المقدّسة الكاملة على الإطلاق، فإنّ تلك الذّات المقدّسة كمالٌ بلا نقص، وجمالٌ بلا عيب، وفعليّةٌ بلا شوب القوّة، وخيرٌ بلا اختلاط بالشرّ، ونورٌ بلا شوب ظلمة. وكلّ ما في دار التّحقّق من الكمال والجمال والخير والعزّة والعظمة والنورانية والفعلية والسعادة فهو من نور جمال تلك الذات المقدّسة، وليس لأحدٍ شراكة مع الذّات المقدّسة في كمالها الذّاتيّ، وليس لموجود جمال ولا كمال ولا نورٌ ولا بهاء إلّا بجمال تلك الذّات المقدّسة وكمالها ونورها وبهائها، وبالجملة، إنّ العالم قد تنوّر بجلوة جماله المقدّس الذي وهبه الحياة والعلم والقدرة. وإلا لبقيت دار التّحقّق في ظلمة العدم وكمونه وبطون البطلان، بل من كان قلبه منوّراً بنور المعرفة يرى كلّ شيء غير نور جمال الجميل باطلاً وعدماً معدوماً أزلاً وأبداً"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 88 - 89.
2 سورة الأعراف، الآية 201.
3 معراج السالكين، ص 130 - 131.
86
65
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
التحرّز من التعيّن
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ النفس الإنسانية الناطقة حقيقةٌ، هي - في عين الوحدة وكمال البساطة - ذات نشآت، عمدتها - بطريق كلّيّ ثلاث:
الأولى: النشأة الملكية الدنيوية الظاهرة، ومظهرها الحواس الظاهرة، والقشر الأدنى لها هو البدن المُلكيّ.
الثانية: النشأة البرزخية المتوسطة، ومظهرها الحواس الباطنية، والبدن البرزخي والقالب المثالي.
الثالثة: النشأة الغيبية الباطنية، ومظهرها القلب والشؤون القلبية.
ونسبة كلّ من هذه المراتب إلى الأخرى نسبة الظاهرية والباطنية، التجلّي والمتجلّي. ومن هذه الجهة تسري الآثار والخواص والانفعالات من مرتبة إلى أخرى. فمثلاً إذا أدركت حاسّة البصر شيئا ما يقع منه أثر في الحسّ البصري البرزخي مناسب لتلك النشأة، ويقع منه أثر في البصر الباطني القلبي يناسب تلك النشأة، وهكذا الآثار القلبية تظهر في النشأتين الأخيرتين. وهذا المطلب مضافاً إلى أنّه مطابق للبرهان القويّ المتين، هو مطابق للوجدان أيضاً، فلهذا يكون لجميع الآداب الصورية الشرعية في الباطن أثر، بل آثار، ولكلّ من الأخلاق الجميلة التي هي من حظوظ مقام برزخية النفس أيضًا آثار في الظاهر والباطن، ولكلّ من المعارف الإلهية والعقائد الحقّة في النشأتين البرزخية والظاهرة آثار.
وكما أنّ لتلك المراتب في الظاهر تأثيراً، بل تأثيرات، فلهيئة الظاهر وجميع الحركات والسكنات (العادية وغير العادية)، ولجميع التروك والأفعال أيضا في تلك المراتب تأثيرات عجيبة، بحيث إنّه قد يسقط السالك من الأوج الأعلى إلى أسفل سافلين بنظرة تحقيرية واحدة إلى عبد من عباد الله، ولا يستطيع جبران هذا السقوط لسنوات مديدة. وحيث إنّ قلوبنا - نحن المساكين - ضعيفة وعاجزة، ومثل شجرة الصفصاف تضطّرب من النسيم الرقيق، وتفقد حالة السكون، فاللازم أن نراقب الحالات القلبية حتى في الأمور العادية... ونلاحظ حالاتنا القلبية ونحافظ على القلب. وحيث إن للنفوس والشيطان حبائل مستحكمة وتسويلات دقيقة جدّاً، والاحاطة بها فوق طاقتنا، فلا بدّ لنا من مواجهتها بقدر قوّتنا ووسعنا،
87
66
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
ونطلب التوفيق والتأييد من الحقّ تعالى. فنقول بعدما اتّضح أنّ للباطن في الظاهر وللظاهر في الباطن تأثيراً، أنّه لا بدّ للإنسان الطالب للحقّ والارتقاء الروحاني... من هذه الجهة لا بدّ للإنسان أن يحترز... من مطلق المشي على خلاف المعتاد والمتعارف...، لأنّ قلوبنا ضعيفة وغير ثابتة بشكل ملحوظ، فبمجرد التميّز والتعيّن تزلّ وتنحرف عن الاعتدال"1.
سلوك طريق العبوديّة
"إنّ قوّة سلوك أيّ إنسان بحسب قوة هذا التوجه والنظر إلى عزّ الربوبيّة وذلك العبوديّة، بل الكمال والنقص في الإنسانية كلّما يكون تابعًا لنقصانه وكماله. وكلّما كان النظر إلى الإنّية والأنانية ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالبًا، كان بعيدًا عن كمال الإنسانية ومهجورًا من مقام القرب الربوبيّ. وإنّ حجاب رؤية النفس وعبادتها لأضخم الحجب وأظلمها، وخرق هذا الحجاب أصعب من خرق جميع الحجب التي يعدّ خرقها مقدّمة له، بل إنّ مفتاح مفاتيح الغيب والشّهادة وباب أبواب العروج إلى كمال الروحانية هو خرق هذا الحجاب. والخروج من هذا المنزل هو أوّل شرط للسلوك إلى الله، بل هو الميزان في حقّانية الرياضة وبطلانها. فكلّ سالك يسلك بقدم الأنانية ورؤية النفس ويطوي منازل السلوك في حجاب الإنيّة وحبّ النفس تكون رياضته باطلة. وما دام التعلّق بالنفس والتوجّه إلى الإنيّة موجودين، فلا يكون مسافرا، وما دامت بقايا الأنانية أمام نظر السالك، وجدران مدينة النفس غير مختفية، وأذان إعلان حبّ النفس مسموعا، فهو في حكم الحاضر لا المسافر ولا المهاجر.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فُقِد في العبودية وُجِد في الربوبية، وما خفي من الربوبية أصيب في العبودية"2.
"فمن سعى بخطوة العبودية ووسم ناصيته بسمة ذلّها سيجد سبيل الوصول إلى عزّ الرّبوبية، وطريق الوصول إلى الحقائق الرّبوبية هو السّير في مدارج العبودية، فما فُقِد من الإنّيّة والأنانية في عبوديّته يجده في ظّل حمى الرّبوبية، حتّى يصل إلى مقام يكون الحقّ تعالى سمعه وبصره ويده ورجله، كما ورد في الحديث الصحيح المشهور
1 معراج السالكين، ص 95 - 97.
2 الإمام الصادق عليه السلام (منسوب)، مصباح الشريعة، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت، الطبعة الأولى، 1400هـ، ص7.
88
67
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
عند الفريقين. فإذا أسقط العبد تصرّفاته وسلّم مملكة وجوده كلّها إلى الحقّ وخلّى بين البيت وصاحبه وفَنِي في عزّ الربوبية، فحينئذٍ يكون المتصرّف في الدّار صاحبها، فتصير تدبيراته تدبيرات إلهيّة، فيكون بصره بصراً إلهيّاً، وينظر ببصر الحق، ويكون سمعه سمعًا إلهيًّا، فيسمع بسمع الحقّ. وبمقدار ما تزداد ربوبيّة النّفس ويكون عزّها غاية في نظره، ينقص من عزّ الربوبية، لأنّ هذين متقابلان "الدنيا والآخرة ضرّتان"، فمن الضّروريّ أن يدرك السّالك مقام ذلّه، ويضع ذلّ العبودية وعزّ الربوبية نصب عينيه"1.
1 معراج السالكين، ص23.
89
68
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
المفاهيم الرئيسة
1- من الأمور التي تعين على التخلّص من العجب التعرّف على أولياء الله، فلو تأمّلنا في أحوال الذين بلغوا أعلى مراتب القرب والكمال، في نظرتهم إلى أنفسهم، وفي اعترافهم بعجزهم وذلّهم، وفي شدّة تواضعهم لعباد الله مهما كانوا، لكان ذلك كافيًا لكي لا نسمح لأنفسنا بالتبجّح بأيّ خيرٍ نناله أو كمالٍ نصل إليه.
2- إن معرفة حقيقة النّفس، بأنّها عين الفقر والعجز. ومن عرف نفسه في حقيقتها، وأدرك حقيقة التّوفيق ومبدئيّة الخير والكمال ومصدره الواقعيّ، وفهم معنى التّوحيد في الصّفات، يكون قد أسّس في نفسه القواعد المعرفيّة المتينة للبدء بمواجهة وساوس إبليس وخطراته.
3- معرفة التّوحيد والإيمان به: إنّ التّوحيد في الصّفات يعني أنّه لا كمال ولا كامل في الوجود إلا الله تعالى، وأنّ كلّ كمال نراه في أنفسنا وفي غيرنا هو محض التفضّل من الله تعالى. فمن استطاع أن يكتب هذا التّوحيد بقلم العقل على لوح القلب، فإنّه سيتّصل بنبع الذّكر الأكبر الطّاهر المطهّر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾1.
4- التحرّز من التعيّن: لأنّ قلوبنا ضعيفة وغير ثابتة بشكل ملحوظ، فبمجرد التميّز والتعيّن تزلّ وتنحرف عن الاعتدال.
5- سلوك طريق العبوديّة: فمن سعى بخطوة العبودية ووسم ناصيته بسمة ذلّها سيجد سبيل الوصول إلى عزّ الرّبوبية، وطريق الوصول إلى الحقائق الرّبوبية هو السّير في مدارج العبودية، فما فُقِد من الإنّيّة والأنانية في عبوديّته يجده في ظّل حمى الرّبوبية، حتّى يصل إلى مقام يكون الحقّ تعالى سمعه وبصره ويده ورجله
6- كلّما قوي السّلوك، يغلب النّور على الظّلمة وتظهر سمات الرّبوبيّة في السّالك. فترتحل العلامات الشيطانيّة بالتّدريج، وهي في الظّاهر مخالفة نظام المدينة الفاضلة، وفي الباطن العجب والاستكبار وأمثالها، وفي باطن الباطن رؤية النفس وحبّها وأمثالها.
1 سورة الأعراف، الآية 201.
90
69
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ إِنيِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ... الإِزْرَاءِ بِالْمُقِلِّينَ، وَسُوءِ الْوِلاَيَةِ لِمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا، وَتَرْكِ الشُّكْرِ لِمَنِ اصْطَنَعَ الْعَارِفَةَ عِنْدَنَا، أَوْ أَنْ نَعْضُدَ ظَالِماً، أَوْ نَخْذُلَ مَلْهُوفاً، أَوْ نَرُومَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، أَوْ نَقُولَ فِي الْعِلْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَنَعُوذُ بِكَ أَنْ نَنْطَوِيَ عَلَى غِشِّ أَحَدٍ، وَأَنْ نُعْجِبَ بِأَعْمَالِنَا، وَنَمُدَّ فِي آمَالِنَا"1.
الآيات الكريمة:
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام علي عليه السلام: "العجب هلاكٌ، والصّبر ملاك"3.
2- عن الإمام الباقر عليه السلام: "أمّا المهلكات: فشحٌّ مطاع، وهوًى متّبع، وإعجابُ المرء بنفسه"4.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ اللهَ عَلِمَ أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا ابْتُلِيَ مُؤْمِنٌ بِذَنْبٍ أَبَداً"5.
4- عن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ رجلاً كان في بني إسرائيل، عبد الله تبارك وتعالى أربعين سنة، فلم يقبل منه، فقال لنفسه: ما أوتيت إلا منكِ، ولا الذنب إلا لكِ، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: ذمّك نفسك أفضل من عبادة أربعين سنة"6.
1 الصّحيفة السجّادية، دعاؤه عليه السلام في الاستعاذة من المكاره وسيّء الأخلاق ومذام الأفعال.
2 سورة التوبة، الآية 25.
3 بحار الأنوار، ج74، ص 401.
4 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 361.
5 الكافي، ج2، ص 313.
6 مستدرك الوسائل، ج11، ص 253.
91
70
الدرس الخامس: العجب (3) - الطرق السليمة في معالجة العجب
5- عن الإمام الباقر عليه السلام: "سدّ سبيل العجب بمعرفة النّفس"1.
6- عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه، ويعمل العمل فيسّره ذلك، فيتراخى عن حاله تلك، فلأن يكون على حاله تلك خير له ممّا دخل فيه"2.
7- عن الإمام الصادق عليه السلام: "يدخل رجلان المسجد، أحدهما عابد والآخر فاسق، فيخرجان من المسجد والفاسق صديق والعابد فاسق، وذلك أنّه يدخل العابد المسجد وهو مدلّ بعبادته ويكون فكره في ذلك، ويكون فكرة الفاسق في التندّم على فسقه، فيستغفر الله من ذنوبه"3.
1 بحار الأنوار، ج75، ص 164.
2 الكافي، ج2، ص 313.
3 بحار الأنوار، ج69، ص 316.
92
71
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مخاطر الكبر وتأثيره على سير الإنسان التّكامليّ.
2- يبيّن معنى الكبر وكيف يتميّز عن العجب.
3- يتعرّف إلى أصناف المتكبّرين وعلاماتهم.
93
72
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
أهميّة معرفة مرض الكبر
عندما ننظر إلى لائحة الأمراض القلبيّة، قد لا نجد رذيلةً أقبح وأشنع من الكبر، ولهذا أولت التعاليم الدّينيّة عناية فائقة لمواجهته والحدّ منه. يُعلم ذلك من خلال الحجم الكبير للنّصوص الشّريفة ـ قرآنًا وسنّةً ـ التي تعرّضت لهذه الخصلة الموبقة.
نستنتج مباشرةً أنّ الكِبر من أعظم أسباب هلاك الأفراد والمجتمعات. وندرك كيف أنّ أكثر الظّلم وسفك الدّماء وارتكاب أبشع أنواع الجّرائم إنّما كان بسبب هذا المرض الخبيث، وبسببه اسودّت صفحات التّاريخ بما يندى له الجبين ويفرح له عدوّ الإنسانيّة الأكبر إبليس لعنه الله. يقول أمير المؤمنينعليه السلام: "فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الأُمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ، وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ، وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ، وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ، وَاسْتَعِيذوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكبْرِ، كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ، فَلَوْ رَخَّصَ الله فِي الْكِبْرِ لأحَد مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنبِيَائِهِ (وَأَولِيائِهِ)، وَلكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ، وَرَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ، فَأَلْصَقُوا بِالأرْضِ خُدُودَهُمْ، وَعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ، وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤمِنِينَ، وَكَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ، قَدِ اخْتَبَرَهُمُ الله بالْـمَخْمَصَةِ، وَابْتَلاَهُمْ بِالْـمَجْهَدَةِ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالْـمَخَاوِفِ، وَمَخضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ، فَلاَ تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَالسُّخْطَ بِالمَالِ وَالْوَلَدِ جَهْلاً بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ، وَالاْخْتِبَارِ فِي مَوَاضِعِ الْغِنَى وَالافْتِقارِ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ﴾1، فَإِنَّ اللهَ سْبْحَانَهْ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ"2.
1 سورة المؤمنون، الآيتان 55 و 65.
2 نهج البلاغة، ص290.
95
73
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
إنّ التكبّر معيارٌ مهمٌّ لمعرفة صحّة سير الإنسان التكامليّ. فمن وجد في نفسه شيئًا منه، ولو مثقال ذرّة، فهذا يعني أنّ كلّ إنجازاته، ولو بلغت مقدار جبال الأرض ومثاقيلها، ليست بذات قيمة أصلًا... إنّ جوهر العبادة وروح العمل الصّالح كامن في القرب من الله تعالى، هذا القرب الذي يظهر في قلب الإنسان بصورة التذلّل والخضوع والتّواضع والمتربة.
فالصّلاة التي بها تُقبل الفرائض: "إن قُبلت قُبل ما سواها"1، والتي هي الرّكن الذي يُشاد عليه بنيان العبادات والأعمال الصّالحة تُعدّ كما يقول الإمام: "جوهر التواضع والخشوع، ولبّها هو هجران النّفس، والسّفر إلى الله.. فهي "معراج المؤمن"2"3. فإذا لم تورث عباداتنا ـ وبعد كلّ هذا العمر ـ سوى التّكبّر على بعض عباد الله، ولأيّ سببٍ كان، فهذا يعني أنّها كانت فاقدة للرّوح، صلاة لن تكون مقبولة عند الله، ولن تُرفع إليه. وإذا لم تتقدّم صلاتنا مسيرةَ أعمالنا، فلن يكون لأعمالنا أيّ دورٍ في تزكيتنا وتهذيبنا، لهذا كان كلّ مؤمنٍ حريصٍ على دينه شديدَ الاهتمام في البحث عن هذا المرض المهلك المحبط.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "روي في الكافي الشريف مسنداً عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "فيما أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى داوود عليه السلام: "يا داوود، كما أنّ أقرب الناس من الله المتواضعون، كذلك أبعد الناس من الله المتكبّرون"4. وفي هذا الحديث الشريف كفاية لأهل اليقظة وأصحاب المعرفة... ولا كلام لنا مع الذين يطلبون العلم والعمل من أجل الدنيا، فحسابهم على الله الجبّار، أمّا الذين يدَّعون أنّهم يطلبون الله الحقّ تبارك وتعالى، فعليهم أن يعرفوا ـ من هذا الحديث الشّريف ـ ما ينبغي لهم أن يعملوه، ثمّ يتّخذوا هذا الحديث الشّريف معيارًا ومحكًّا يعرضون عليه نفوسهم، فإذا وجدوا بقيّةً من التّكبّر في قلوبهم، وأدركوا أنّهم مبتلون بالتّكبّر العمليّ على الناس، فليعرفوا أنّ أعمالهم وعلومهم لم تكن خالصة لله تعالى، بل كان الهدف منها تلبية أهواء النّفس الأمّارة بالسّوء، فلو كانت بهدف التقرّب إلى الله لكانت صفتهم التّواضع، وهو أهمّ من كلّ أمرٍ في تقريب الإنسان إلى الله تعالى"5.
1 الكافي، ج3، ص268، باب من حافظ على صلاته أو ضيّعها.
2 بحار الأنوار, ج79، ص 248.
3 جنود العقل والجهل، ص 77.
4 الكافي، ج2، ص123.
5 جنود العقل والجهل، ص 313 - 314.
96
74
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
تعريف الكبر
إنّ جميع الحالات النفسيّة تكون خفيّة على من لا يكترث لأحوال قلبه، بل تصبح صعبة الاكتشاف كلّما نسي المرء نفسه. ومن المعلوم أنّ السّبب الأوّل لنسيان النّفس هو الغفلة عن آيات الله تعالى التي تذكّرنا بالله عزّ وجلّ: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾1.
أمّا من اجتهد في إصلاح نفسه، فإنّ الله تعالى سيجعل له فرقانًا ونورًا يدرك بهما أسرار باطنه وكوامن قلبه. وإنّ السّعي للوصول إلى معرفة الله وحبّ الله يؤدّي إلى هذا التّوفيق كما جاء في الحديث: "إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً جَعَلَ ذُنُوبَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مُمَثَّلَة"2.
وإنّ من أوضح سبل الهداية في الحياة الدّنيا الاستنارة بتعاليم الأنبياء وورثتهم من العلماء الحكماء، فهم أهل الذّكر، وبهم يستضيء طالب الحقّ. وها هو الإمام الخمينيّ يمثّل في عصر الغيبة أعظم نموذج للمدرسة الأخلاقيّة العرفانيّة، وقد ترك لنا تراثًا غنيًّا في المعنويات مليئًا بالحكمة، يمكن أن يساعدنا كثيراً في دراسة الحالات المعنويّة المختلفة.
ففي تعريف الكبر، يقول الإمام قدس سره: "الكبر عبارة عن حالة نفسيّة تجعل الإنسان يترفّع ويتعالى على الآخرين. ومن أماراته تلك الأعمال التي تصدر عن الإنسان، والآثار التي تبدو منه، بحيث يُقال عنه إنّه متكّبر. وهذه الصفة هي غير العُجب، بل هي كما سبق قوله، صفة رذيلة وخبيثة، تنجم عن العجب، لأنّ العجب هو الإعجاب بالذات، والكبر هو التّعالي والتّعاظم على النّاس. فعندما يتوهّم الإنسان أنّ فيه صفة من صفات الكمال، تنتابه حالة، هي مزيج من السّرور والتدلّل والتغنّج وغيرها. هذه هي صفة "العُجب" ولكونه يرى الآخرين لا يملكون تلك الصّفة التي يتوهّمها في نفسه، ينتابه شعورٌ آخر هو تصوّر التفوّق والتقدّم، وهذا يؤدّي إلى التّعاظم والتّرفّع، وهذه هي صفة "الكِبر". إنّ كل هذه الحالات تكون في القلب وفي الباطن، وتظهر آثارها على الظّاهر، في الملامح وفي الأفعال وفي الأقوال، وبهذا يصبح الإنسان مغرورًا، وإذا ازداد أصبح معجبًا بنفسه، وعندما يطفح إعجابه بنفسه يتعاظم ويترفّع ويتكبّر"3.
1 سورة الحشر، الآية 19.
2 بحار الأنوار، ج74، ص 78، باب ما أوصى به الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذرّ رحمه الله.
3 الأربعون حديثًا، ص 103.
97
75
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
المطلوب أن نتعرّف على هذا المرض ونغوص في دقائقه، لأنّه قد يخفى إلى الحدّ الذي لا يُدْرَك معه. فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام مَا حَدُّ الْكِبْرِ؟ قال: "الرّجل ينظر إلى نفسه إذا لبس الثّوب الحسن يشتهي أن يُرَى عليه"، ثمّ قال: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾1.2
يذكر لنا الإمام الخمينيّ قدس سره بضعة نماذج لأحوال المتكبّرين تعيننا على اكتشاف خبايا هذه الرّذيلة الموبقة. ولكن ينبغي أن نلتفت إلى أطوار الكبر حتى نتمكّن من معالجته وفق الأصول السّليمة. فعندما نتحدّث عن الشّخصيّة المتكبّرة ونتناول باطنها وأخلاقها، نستعمل عبارة الكِبْر. وعندما يأتي الحديث عن سلوكها وتصرّفاتها نستعمل كلمة التّكبّر.
يقول الإمام: "إذا كان القلبُ معيوبًا قد استولت عليه آفات التّوجّه للنّفس وعبادتها وحبّها، فإنّه يُولِّد "الكِبْر"، وهو حالة نفسيّة يرى فيها الإنسان نفسه كبيرًا وأعظم من غيره. فإذا تعامل على وفق ما تقتضيه هذه الحالة النّفسيّة، وتعالى على عباد الله في أعماله الظاهرية، قيل: تكبَّر. أمّا إذا دفعته هذه الحالة النّفسيّة إلى التمرّد على طاعة الحقّ، قيل: استكبر. إذاً، فالاستكبار هو تمرّدٌ وطغيانٌ ينتج من حال الكِبْر، وهو ضدّ الاستسلام الذي هو عبارة عن الانقياد الظّاهريّ النّاتج من التسليم الباطنيّ القلبيّ"3.
فالكِبْر أمرٌ باطنيّ قد لا يظهر، خصوصًا في مرحلة المجاهدة الأولى، وقبل تحقيق النّصر التّام على النّفس الأمّارة. حيث يختبئ من جرّاء هذه المجاهدة، حتى يظنّ المبتلى به أنٍّه قد سلُم منه... أمّا إذا اشتدّ أو أُهمل أمره، فإنّه ولا شكّ سيظهر في الأعمال والأفعال التي يلاحظها النّاس عامّةً.
فتلك الصّفة الرّذيلة تستدعي جملةً من التّصرّفات عند وجود دواعيها. فمن كان يجد في نفسه الأفضليّة بسبب كمالٍ ما ـ وإن كان موهومًا ـ فإنّه سيندفع للتصرّف بكِبْرٍ واستعلاء، عندما يحضر عنده شخص لا يمتلك ذاك الكمال. وقد يتواضع في مكانٍ آخر لمن يجد فيه درجة أعلى أو لمن يرى فيه كمالًا آخر ليس موجودًا عنده. ولهذا، ينبغي أن نلاحظ في كلّ صفة نفسيّة جوهرها وحقيقتها، ونستخلص من النّماذج والحالات المعروضة التّعريف الدّقيق لها.
1 سورة القيامة، الآية 14.
2 بحار الأنوار، ج76، ص312.
3 جنود العقل والجهل، ص 355.
98
76
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
أصناف المتكبرين وأنواعهم
"للكبر أسبابٌ عديدةٌ ترجع كلّها إلى توّهم الإنسان الكمال في نفسه، ممّا يبعث على العُجب الممزوج بحبّ الذات، فيحجب كمال الآخرين ويراهم أدنى منه ويترفّع عليهم قلبياً أو ظاهرياً"1.
"إن كل هذه الحالات تكون في القلب وفي الباطن، وتظهر آثارها على الظاهر، في الملامح وفي الأفعال وفي الأقوال، وبهذا يصبح الإنسان مغروراً وإذا ازداد أصبح معجبًا بنفسه، وعندما يطفح إعجابه بنفسه يتعاظم ويترفّع ويتكبّر"2.
فلنقرأ حول بعض نماذج المتكبّرين التي يقدّمها لنا الإمام الخميني، ونتأمّل فيها جيّدًا:
1- علماء العرفان
"قد يحصل بين علماء العرفان أن يتصوّر أحدهم نفسه من أهل العرفان والشّهود ومن أصحاب القلوب والسّوابق الحسنى، فيترفّع على الآخرين ويتعاظم عليهم. ويرى أنّ الحكماء والفلاسفة سطحيّون، وأنّ الفقهاء والمحدّثين لا يتجاوزون الظّاهر في نظراتهم، وأنّ سائر الناس كالبهائم. وينظر إلى عباد الله بعين التّحقير والازدراء. ويذهب هذا المسكين ينمّق الحديث عن الفناء في الله والبقاء بالله، ويدقّ طبل التّحقّق. مع أنّ المعارف الإلهيّة تقضي حسن الظنّ بالكائنات، فلو أنّه كان قد تذوّق حلاوة المعرفة بالله لما تكبّر على مظاهر جمال الله وجلاله، بحيث إنّه في مقام العلم والبيان يصرّح خلاف حاله، ولكنّ الحقيقة هي أنّ هذه المعارف لم تدخل قلبه، بل إنّ هذا المسكين لم يبلغ حتّى مقام الإنسان، ولكنّه يتشدّق بالعرفان، ومن دون أن يكون له حظُّ من العرفان يتحدّث عن مقام التحقّق"3.
2- الحكماء
"وإنّ من بين الحكماء أيضًا أناسًا، يرون أنّهم بما يملكون من براهين ومن علم بالحقائق، وبكونهم من أهل اليقين بالله وملائكته وكتبه ورسله، ينظرون إلى سائر النّاس بعين التّحقير، ولا يعتبرون علوم الآخرين علومًا، ويرون عباد الله جميعًا ناقصي علم وإيمان، فيتكبّرون
1 الأربعون حديثًا، ص 106.
2 (م.ن), ص 103.
3 الأربعون حديثًا، ص 106 - 107.
99
77
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
عليهم في الباطن، ويعاملونهم في الظاهر بكبرياءٍ وغرور، مع أنّ العلم بمقام الرّبوبيّة، وفقر الممكن (المخلوق)، يقضيان بخلاف ذلك. والحكيم من تحلّى بملكة التواضع بوساطة العلم بالمبدأ والمعاد"1.
3- المتصوّفون
"نجد في الذين يدّعون الإِرشاد والتّصوّف وتهذيب الباطن، أشخاصًا يعاملون النّاس بالتّكبّر ويسيؤون الظنّ بالعلماء والفقهاء وأتباعهم، ويطعنون بالعلماء والحكماء، ويرون النّاس، عدا أنفسهم ومن يلوذ بهم، من أهل الهلاك، وبما أنّهم صفر اليدين من العلوم، يصفون العلوم بأنّها أشواك الطّريق، ويرون أصحابها شياطين طريق السّالك، مع أنّ كل ما يزعمونه لأنفسهم من مقام يقتضي خلاف ذلك كلّه"2.
4- علماء الفقه
"نجد أحيانًا بين الفقهاء وعلماء الفقه والحديث وطلاّبهما من ينظر إلى سائر النّاس بعين الاحتقار ويتكبّر عليهم، ويرى نفسه جديرًا بكلّ إكرام وإعظام، ويعتقد أنّ من المفروض على النّاس أن يطيعوا أمره إطاعةً عمياء، وأنّه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾3، وما من أحد يستحقّ الجنّة، في رأيه، إلاّ هو مع أفرادٍ معدودين مثله، وكلّما جاء ذكر طائفة مقترنًا بأيّ علم من العلوم طعن فيهم، من دون أن يعترف بأيّ علمٍ سوى علمه القليل الذي يتمتّع به، ويرى أنّ تلك العلوم تافهةً وغير نافعةٍ ومدعاة للهلاك، فيرفض العلماء وسائر العلوم جهلًا وسفهًا، ويُظهر كأنّ تديّنه هو الذي يحتّم عليه أن يحتقرهم ويستهين بهم، مع أنّ العلم والدّين منزّهان عن أمثال هذه الأطوار والأخلاق. إنّ الشريعة المطهّرة تحرّم التّصريح بقول من دون علم، وتوجب الحفاظ على كرامة المسلم. أمّا هذا المسكين الذي لا معرفة له بالدّين ولا بالعلم، فيعمل على خلاف قول الله ورسوله، ثمّ يقول إنّ ذلك من صلب الدّين، مع أنّ سيرة السّلف والخلف من العلماء العظام تكون مغايرة لهذا"4.
1 (م.ن), ص 107.
2 (م.ن).
3 سورة الأنبياء، الآية 23.
4 الأربعون حديثًا، ص 108.
100
78
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
5- أصحاب العلوم
"إنّ الكبر منتشرٌ بين علماء سائر العلوم الأخرى أيضًا، في الطّبّ والرّياضيّات والطّبيعة، وكذلك أصحاب الصّناعات الهامّة، كالكهرباء والميكانيك وغيرهما. إنّهم أيضًا لا يقيمون وزنًا للعلوم الأخرى مهما تكن، ويحتقرون أصحابها، وكلّ منهم يحسب أنّ ما عنده وحده هو العلم، وما عند غيره ليس بعلم، فيتكبّر على الناس في باطنه وظاهره، مع أنّ ما عنده من علم لا يستدعي مثل هذا التّكبّر"1.
6- أهل النّسك والعبادة
"وهناك من غير أهل العلم، مثل أهل النّسك والعبادة، من يتكبّر أيضًا على النّاس ويتعالى عليهم، ولا يعتبر النّاس حتّى العلماء من أهل النّجاة، كلّما جرى حديث عن العلم، قال: ما فائدة علم بلا عمل؟ العمل هو الأصل. إنّهم يهتمّون بما يقومون به من عمل وطاعة، وينظرون بعين الاحتقار إلى جميع الطّبقات، مع أنّ المرء إذا كان من أهل الإخلاص والعبادة ينبغي لعمله أن يصلحه"2.
مظاهر الكبر
1- التأنّف من النّاس والإعراض عنهم
"قد لا يهتم (المتكبّر) بإخفاء تكبّره على من حوله، كما لو كان العنان قد أفلت من يده، فتظهر آثار الكِبْر في أعماله وحركاته وسكناته، كأن يتقدّم في المجالس ويسبق الآخرين في الدّخول والخروج، ولا يسمح للفقراء بحضور مجالسه، ولا يحضر مجالسهم، ويحيط نفسه بهالة من الحرمة، ويظهر التّعالي في مشيته وفي نظرته وفي حديثه مع النّاس. يقول أحد المحقّقين، والذي أخذنا منه الكثير من أصول هذا البحث وترجمناه: "إنّ أدنى درجة الكِبْر في العالِم هي أن يدير وجهه عن الناس كأنّه يعرض عنهم، وفي العابد هي أن يعبس في وجوه النّاس ويقطب جبينه، وكأنّه يتجنّبهم أو أنّه غاضبٌ عليهم، غافلًا من أنّ الورع ليس
1 (م.ن), ص 108.
2 (م.ن).
101
79
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
في تقطيب الجبين، ولا في عبوس ملامح الوجه، ولا في البعد عن النّاس والإعراض عنهم، ولا في ليّ الجِيد، وطأطأة الرأس، ولملمة الأذيال، بل الورع يكون في القلب، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ها هنا التقوى" وأشار إلى صدره"1.
2- التّفاخر بالعلم والأعمال العباديّة
"قد يظهر الكبر على اللسان بتبيان المفاخرة والمباهاة وتزكية الذّات. فهذا العابد، وهو في مقام التّفاخر، يقول: إنّني قمت بكذا عمل، فينتقص بهذا من الآخرين عن طريق إضفاء الأهمّيّة على أعماله. وأحيانًا لا يصرّح بذلك، ولكنّه قد يتفوّه بما يوحي بأنّه يزكّي ذاته. والعالم يقول للآخرين: ما أدراك أنت؟ إنّني طالعت الكتاب الفلاني مرّات عديدة، وأمضيت سنوات لدى المجامع العلميّة، ورأيت عددًا من أساطين العلم وأساتذته، لقد أجهدت نفسي كثيرًا، صنّفت وألّفت الكتب الكثيرة، وما إلى ذلك"2.
3- التّفاخر بالجاه والمال
"ولكن الأحطَّ من هذا والأحقر مكانة هو ذلك الذي يتكبّر ويتباهى بالأمور الخارجيّة، مثل المال، والجّاه، والخدم، والحشم والقبيلة. فهذا المسكين بعيد عن الخُلق البشريّ والأدب الإنسانيّ، فارغ اليد من كلّ العلوم والمعارف. ولكن بما أنّ ملابسه من أجود الأصواف، وأباه فلان بن فلان، فهو يتكبّر على النّاس. فما أضيق عقله وأشدّ ظلام قلبه! إنّه يقتنع من كلّ الكمالات باللباس الجميل، ومن كلّ جمال بالقبّعة والرّداء! يرتضي المسكين مقام الحيوانيّة ويقبل بحظّها، ويقتنع من جميع المقامات السّامية الإنسانيّة بالصّورة الخالية من كلّ شكلٍ ومضمون، والفارغة من الحقيقة، ظانًّا نفسه بهذا أنّه ذو مقام. وفي الواقع، إنّه على درجة من الضّعة ومن عدم اللياقة، بحيث إنّه إذا شاهد أحدًا أعلى منه مرتبة واحدة دنيويّة تخضّع له كما يتخضّع العبد لسيّده. لا شكّ أنّ من لا همّ له سوى الدّنيا، لا يكون إلّا عبدًا للدّنيا ولأهلها. وأن يغدو ذليلًا لدى من يتزلّف ويستذلّ لديهم"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 109 - 110.
2 (م.ن), ص 110.
3 الأربعون حديثًا، ص 118.
102
80
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ التكبّر معيارٌ مهمٌّ لمعرفة صحّة سير الإنسان التكامليّ. فمن وجد في نفسه شيئًا منه ولو مثقال ذرّة، فهذا يعني أنّ كلّ إنجازاته ليست بذات قيمة أصلًا، لأنّ جوهر العبادة كامن في القرب من الله تعالى الذي يظهر في قلب الإنسان بصورة التذلّل والخضوع والتّواضع والمتربة.
2- الكبر عبارة عن حالة نفسيّة تجعل الإنسان يترفّع ويتعالى على الآخرين. وهو صفة رذيلة وخبيثة، تنجم عن العجب.
3- الفرق بين الكبر والتكبّر والاستكبار: "الكِبْر" حالة نفسيّة يرى فيها الإنسان نفسه كبيرًا وأعظم من غيره، فإذا تعامل وفق ما تقتضيه هذه الحالة النّفسيّة وتعالى على عباد الله في أعماله الظاهرية قيل: تكبَّر. أمّا إذا دفعته هذه الحالة النّفسيّة إلى التمرّد على طاعة الحقّ قيل: استكبر.
4- أصناف المتكبّرين:
علماء العرفان: كأن يتصوّر أحدهم نفسه من أهل العرفان والشّهود ومن أصحاب القلوب والسّوابق الحسنى، فيترفّع على الآخرين ويتعاظم عليهم.
الحكماء: بما يملكون من براهين ومن علم بالحقائق، وبكونهم من أهل اليقين بالله وملائكته وكتبه ورسله، ينظرون إلى سائر النّاس بعين التّحقير، ولا يعتبرون علوم الآخرين علومًا.
علماء الفقه: يرون أنفسهم جديرين بكلّ إكرام وإعظام، ويعتقدون أنّ من المفروض على النّاس أن يطيعوا أمرهم إطاعةً عمياء.
أصحاب العلوم: كلّ منهم يحسب أنّ ما عنده وحده هو العلم، وما عند غيره ليس بعلم، فيتكبّر على الناس في باطنه وظاهره.
أهل النسك والعبادة: إنّهم يهتمّون بما يقومون به من عمل وطاعة، وينظرون بعين الاحتقار إلى جميع الطّبقات.
103
81
الدّرس السادس: التكبّر (1) - حقيقته، أصنافه ومظاهره
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللهم إني تَقَرَّبْتُ إِلَيْكَ بِمَا لاَ يَقْرُبُ أَحَدٌ مِنْكَ إلاَّ بالتَّقَرُّبِ بِهِ ثُمَّ أَتْبَعْتُ ذَلِكَ بِالإِنَابَةِ إِلَيْكَ، وَالتَّذَلُّلِ وَالاِسْتِكَانَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ، وَالثِّقَةِ بِمَا عِنْدَكَ، وَشَفَعْتُهُ بِرَجَائِكَ الَّذِي قَلَّ مَا يَخِيبُ عَلَيْهِ رَاجِيكَ وَسَأَلْتُكَ مَسْأَلَةَ الْحَقِيرِ الذَّلِيلِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ الْخَائِفِ الْمُسْتَجِيرِ، وَمَعَ ذَلِكَ خِيفَةً وَتَضَرُّعاً وَتَعَوُّذاً وَتَلَوُّذاً، لاَ مُسْتَطِيلاً بِتَكَبُّرِ الْمُتَكَبِّرِينَ، وَلاَ مُتَعَالِياً بِدَالَّةِ الْمُطِيعِينَ، وَلاَ مُسْتَطِيلاً بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ وَأَنَا بَعْدَ أَقَلُّ الأَقَلِّينَ، وَأَذَلُّ الأَذَلِّينَ، وَمِثْلُ الذَّرَّةِ أَوْ دُونَهَا".
الروايات الشريفة:
1- عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ أَعْظَمَ الْكِبْرِ غَمْصُ الْخَلْقِ وَسَفَهُ الْحَقّ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا غَمْصُ الْخَلْقِ وَسَفَهُ الْحَقِّ؟ قَالَ: يَجْهَلُ الْحَقَّ وَيَطْعُنُ عَلَى أَهْلِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ نَازَعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ رِدَاءَهُ"1.
2- عن الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام: "الدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ صُورَةٍ، رَأْسُهَا الْكِبْرُ"2.
3- عَنِ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام: "الْجَهْلُ فِي ثَلَاثٍ: الْكِبْرِ، وَشِدَّةِ الْمِرَاءِ، وَالْجَهْلِ بِاللَّهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"3.
4- عن الإمام علي عليه السلام: "إِيَّاكَ وَالْكِبْرَ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَأَلْأَمُ الْعُيُوبِ، وَهُوَ حِلْيَةُ إِبْلِيسَ"4.
5- عن الإمام الباقر عليه السلام: "مَا دَخَلَ قَلْبَ امْرِئٍ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ إِلَّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ مِثْلَ مَا دَخَلَهُ مِنْ ذَلِكَ، قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ"5.
6- عن الإمام علي عليه السلام: "احذر الكبر، فإنّه رأس الطّغيان ومعصية الرّحمان"6.
1 الكافي، ج2، ص 310.
2 مستدرك الوسائل، ج12، ص 37.
3 (م.ن), ج12، ص 28.
4 (م.ن), ص 29.
5 بحار الأنوار، ج75، ص 186.
6 غرر الحكم، ص 309.
104
82
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى درجات الكبر.
2- يبيّن عواقب الكبر الدنيويّة والأخرويّة.
3- يشرح تأثير الكبر على تكامل الإنسان وإيمانه.
105
83
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
تمهيد
يعلم جميع النّاس كيف يكون المتكبّر، ولهذا فإنّ النّفور من المتكبّرين أمرٌ عام لا يختصّ باتّباع دين دون آخر. إنّ كراهية التّكبّر لهي من الأمور الفطريّة التي جُبلت عليها العائلة البشريّة قاطبةً. لكنّ بعض درجات الكبر قد تخفى على أكثر النّاس. وما لم يقتلع المجاهد كل هذه الدّرجات ويخرج جميع حالات الكبر من زوايا قلبه، فإنّ هذا المرض سيعود مجددًّا كالسّرطان الخبيث ليفتك بقلبه.
إنّ من أهم أساليب معالجة الأمراض الأخلاقيّة وتوقّيها أن يتعرّف الإنسان إلى عواقبها، خصوصًا الأخرويّة لأنّها ستكون مصيره النّهائي. وكثيرة هي المشاكل والأزمات التي نعاني منها في حياتنا وتجعل عيشنا ممتزجًا بألوان التّعب والشّقاء بسبب تغلغل هذا المرض في النّفس واشتراكه في تكوين الكثير من الدّوافع والغايات.
درجات الكبر
يبيّن الإمام الخمينيّ أنّ للكبر، من منظور المتكبَّر عليه، درجات:
1- التّكبّر على الله تعالى
"فهو أقبحها وأشدّها هلكة، ويأتي على رأس درجات الكبر، وتراه في أهل الكفر والجحود ومدّعي الألوهية، وقد تراه أحيانًا في بعض أهل الدّين ولا يناسب ذكره هنا. وهذا هو منتهى الجهل وعدم معرفة "الممكن" حدود نفسه وعدم معرفة مقام "واجب الوجود""1.
1 الأربعون حديثًا، ص 105.
107
84
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
2- التكبّر على الأنبياء والرسل والأولياء عليهم السلام
"كثيرًا ما كان يحصل في زمان الأنبياء قال تعالى على لسانهم: ﴿...أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا...﴾1 ، وقال تعالى على لسان آخرين منهم: ﴿...لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾2، وفي صدر الإٍسلام وقع الكثير من التّكبّر على أولياء الله، وفي هذا الزّمان أيضًا نجد نماذج منه في بعض المحسوبين على الإسلام"3.
3- التّكبّر على أوامر الله تعالى
"يرجع إلى التّكبّر على الله4... وهو يظهر في بعض العاصين، كأن يمتنع أحدهم عن الحجّ بحجّة أنّه لا يستسيغ مناسكه من إحرام وغيره. أو يترك الصّلاة لأنّ السّجود لا يليق بمقامه، بل قد يظهر ذلك أحيانًا عند أهل النّسك والعبادة وأهل العلم والتّديّن، كأن يترك الأذان تكبّرًا، أو لا يتقبّل مقولة الحقّ إذا جاءت ممّن هو قريب له أو دونه منزلة. فقد يسمع الإنسان قولًا من زميلٍ له فيردّه بشدّة ويطعن في قائله، ولكنّه إذا سمع ذلك القول نفسه، من كبير في الدّين أو الدّنيا، قَبِلَهُ. بل قد يكون جادًّا في ردّ الأول وجادًّا أيضًا في قبول الثّاني. إنّ شخصًا هذا شأنه لا يكون من طلّاب الحقّ، بل يكون تكبّره قد أخفى عنه الحقّ، وأعماه تملّقه لذاك الكبير وأصمّه. ومثل هذا التّكبّر يتّصف به أيضًا من يترك تدريس علم أو كتاب باعتباره لا يليق به، أو يرفض تدريس أشخاص لا مركزيّة لهم، أو لأنّ عددهم قليل، أو يترك صلاة الجماعة في مسجدٍ صغيرٍ ولا يقتنع بعدد من المأمومين، حتّى وإن علم أنّ في مثل تلك الجماعة رضا الحقّ تعالى. وقد تصبح هذه الحال من الدّقّة بحيث إنّ صاحبها لا يدرك أنّ عمله هذا يرجع إلى الكبر، إلاّ إذا تدارك الأمر بإصلاح نفسه، وتخلّص من مكائد هذه الحال"5.
1 سورة المؤمنون، الآية 47.
2 سورة الزّخرف، الآية 31.
3 الأربعون حديثًا، ص 105.
4 (م.ن), ص 104.
5 (م.ن), ص 105 - 106.
108
85
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
4- التّكبّر على عباد الله تعالى
"ويراه أهل المعرفة راجعًا إلى التّكبّر على الله1... وأقبحه التكبّر على العلماء بالله، ومفاسده أكثر من كلّ شيء وأهمّ. ومن هذا التكبّر رفض مجالسة الفقراء، والتقدّم في المجالس والمحافل، وفي المشي، وفي السلوك. وهذا النوع من التكبّر رائج وشائع بين مختلف الطبقات، ابتداءً من الأشراف والأعيان والعلماء والمحدّثين والأغنياء حتى الفقراء والمعوزين، إلاّ من حفظه الله من ذلك"2.
إذًا، كلّما عظُم شأن من نتكبّر عليه، وارتفعت أهميّة ما نتكبّر بسببه(وهو الكمال المزعوم) صار أمر الكبر أعظم، ولهذا كان التكبّر بالعقائد والمعارف الإلهيّة على الله أشدّ الدّرجات سوءًا. وهذا ما بلغه إبليس في تكبّره، لأنّه واجه ربّه المتعال بعقائد حقّة.
وكما أنّ الكبر يشتدّ وخامة بحسب المتكبَّر عليه، فإنّه يشتدّ كذلك أيضًا بحسب ما يُتكبّر به. وفيما يأتي نستعرض درجات متعلّقات الكبر.
درجات متعلّقات الكبر
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فلا بدّ أن نعرف أنّ للكبر درجات تشبه الدّرجات التي ذكرناها في العجب. ويضاف عليها درجات أخرى ذات صلة بالعجب أعرضنا عن ذكرها هناك لعدم أهمّيّتها، ولكنّنا نتعرّض إليها هنا لكونها مهمّة، فنقول:
أمّا الدّرجات التي ورد شبيهها في العجب، فهي أيضًا ستّ:
1- الكبر بسبب الإيمان والعقائد الحقّة، ويقابله الكبر بسبب الكفر والعقائد الباطلة.
2- الكبر بسبب الملكات الفاضلة والصّفات الحميدة، ويقابله الكبر بسبب الأخلاق الرّذيلة والملكات القبيحة.
3- الكبر بسبب العبادات والصّالحات من الأعمال، ويقابله الكبر بسبب المعاصي والسّيّئات من الأعمال"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 105.
2 (م.ن), ص 106.
3 الأربعون حديثًا، ص 104.
109
86
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
إنّ سوء وقبح تلك الدّرجة يتّضح بالنّظر إلى الآثار الدنيويّة التي تنجم عنها (فرديًّا واجتماعيًّا). فلا شيء أضرّ على حياة الإنسان من أن ينظر إلى أعظم الأشياء نظرة استعلاء، وهو بذاته ليس شيئًا مذكورا، ثمّ تراه يستعمل أقدس الأمور للتكبّر. ولو استفحل أمره وصار حاكمًا أو قدوة ومثلًا أعلى لأدّى إلى نسف المنظومة القيميّة السّامية من جذورها، هذه المنظومة التي تشكّل الحجر الأساس لحركة الإنسان المهتدية في الحياة. وإذا كان الله تعالى أعظم معروف في الوجود، ثمّ ضاع هذا المعروف وفُقد، فهل نتوقّع أن يبقى من معروف؟! إنّ الألوهيّة هي الأمر الجّامع لكلّ صفات العظمة والجّمال على نحو الإطلاق، فلو استعلت البشريّة عليها، لفقدت أيّة قيمة إيجابيّة في حياتها. وها هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيّن أنّ أحطّ ما يصل إليه المجتمع هو عندما يضيع بين المعروف والمنكر فلا يتمايزا: "كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَ نِسَاؤُكُمْ وَفَسَقَ شُبَّانُكُمْ، وَلَمْ تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ؟!"، فَقِيلَ لَهُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ؟! قَالَ: "نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً؟"1.
وفي حديثٍ آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّ المتكبّرين هم الثّرثارون، "أَبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَهُمُ الْمُسْتَكْبِرُونَ"2.
إلى أين يؤدّي الكبر؟
1- انسداد طريق التّكامل
لو تأمّلنا في قول الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾3، لكان هذا كافيًا في معرفة مساوئ الكبر وآثاره الهدّامة. فالتكبّر الذي يُعدّ استفحالًا للكبر في النّفس
1 الكافي، ج5، ص 59.
2 وسائل الشيعة، ج15، ص 378.
3 سورة الأعراف، الآية 146.
110
87
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
والباطن، يحرم الإنسان من الفرصة الوحيدة للوصول إلى كماله والغاية التي خُلق لأجلها. فكلّ هذا الوجود يمثّل آيات الله الدالّة عليه، والتي هي وسيلة سفرنا إليه. إنّ كلّ الإمكانات الروحيّة والمعنويّة والخياليّة والحسّيّة التي أُعطيت للإنسان هي من أجل أن يتفاعل مع آيات الله، فيصل بذلك إلى معرفته. والمتكبّر مصروفٌ عن هذه الآيات، ولن يتحقّق له الإيمان بها.
يقول الإمام قدس سره: "اعلم أنّ لهذه الصّفة القبيحة بحدّ ذاتها مفاسد كثيرة، وهذه المفاسد تتمخّض عنها مفاسد أخرى كثيرة. إنّ هذه الرذيلة تحول دون وصول الإنسان إلى الكمالات الظّاهريّة والباطنيّة والاستمتاع بالحظوظ الدّنيويّة والأخرويّة. إنّها تبعث في النّفوس الحِقد والعداوة، وتحطّ من قدر الإنسان في أعين الخلق وتجعله تافهًا، وتحمل النّاس على أن يعاملوه بالمثل، تحقيرًا له واستهانةً به"1.
2- الذلّ والهوان في الآخرة
شاء الله سبحانه وتعالى أن يصل الخير عبر النّاس وبواسطتهم، سواء كان ماء السّماء أو العلم أو الخير أو الفضل أو أيّ شيء. وشيوع التكبّر في المجتمع يؤدّي إلى أن لا يستفيد النّاس من بعضهم كما ينبغي... فلا ننسى ما في التكبّر من ترويج للعداء وتأجيج للبغضاء بين النّاس. فإنّ المتكبّرين يحرّضون غيرهم على بغضهم، وهم بدورهم سيبغضون غيرهم بسبب ذلك، فتنشأ تلك العداوات التي تؤدّي إلى الشحناء والمنازعات وسفك الدّماء وما شاكل، بالتالي الوقوع في المعاصي والأخطاء التي تكون مقدمة لذل الإنسان و هوانه في الحياة الآخرة.
يقول الإمام الخميني قدس سره:
"إنّ مثل هذا الخُلق يوجب الذلّ في الآخرة والمسكنة في ذلك العالم. فكما أنّك احتقرت النّاس في هذا العالم، وترفّعت على عباد الله وتظاهرت أمامهم بالعظمة والجلال والعزّة والاحتشام، كذلك تكون صورة هذا التكبّر في الآخرة، الهوان كما ورد في الحديث الشّريف من كتاب أصول الكافي: بإسناده، عن داوود بن فرقد، عن أخيه، قال: "سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اللهِ
1 الأربعون حديثًا، ص 110.
111
88
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
(الصادق) عليه السلام يقول: "إِنَّ المُتَكَبِّرينَ يُجْعَلُنَّ في صُوَرِ الذَّرِّ، يَتَوَطّاهُمُ النّاسُ حَتّى يَفْرَغَ الله مِنَ الحِسابِ". وجاء في وصايا الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: "إِيّاكُمْ وَالعَظَمَةَ وَالكِبْر، فإنَّ الكبرَ رِداءُ الله عَزَّ وجَلَّ، فَمَنْ نازَعَ اللهَ رِداءَهُ قَصَمَهُ الله وَأَذَلَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ"1"2.
3- الكبّ في جهنم
من العواقب الوخيمة للتكبر أيضا فضلا عن المذلة والهوان في الدنيا والآخرة، العذاب الأليم والشديد أيضا في نار جهنم. يقول الإمام الخميني قدس سره:
"إنّ عاقبة المتكبّر النّار، ففي الحديث "الْكِبْرُ مَطَايَا النَّارِ"3، فلا يرى الجنّة من كان في قلبه كبر، كما رُوي عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لَنْ يَدْخُلَ الجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ"4. وقد حدّث الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام أيضًا بهذا المضمون. وفي حديث الكافي الشّريف أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: "العِزُّ رِدَاءُ اللهِ، والكِبْرُ إِزَارُهُ، فَمَنْ تَناوَلَ شِيْئًا مِنْهُ أَكبَّهُ الله في جَهنَّمَ"5. وما أدراك ما جهنّم التي أعدّها الله للمتكبّرين. فهي غير جهنّم التي أُعدَّت لسائر النّاس. يكفي أن نورد هنا الحديث الذي سبق أن ذكرناه: عن محمّد بن يعقوب، عن عَليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبن أبي عمير، عن ابن بكير، عن أبي عبد اللهعليه السلام قال: "إِنَّ في جَهَنَّمَ لَوادياً لِلْمُتَكَبِّرِينَ يُقالُ لَهُ سقَرُ، شكى إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ شِدَّةَ حَرِّه، وِسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ، فتَنَفَّسَ فَأَحْرَقَ جَهَنَّمَ"6. والحديث في غاية الاعتبار (من حيث السّند)، بل هو كالصّحيح"7.
1 وسائل الشيعة، ج 11، أبواب جهاد النّفس، باب تحريم الكبر، ح9.
2 الأربعون حديثًا، ص 111.
3 وسائل الشيعة، ج 11، أبواب جهاد النّفس.
4 (م.ن), ح6.
5 (م.ن), ح2.
6 (م.ن), ح6.
7 الأربعون حديثًا، ص 112.
112
89
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
المفاهيم الرئيسة
1- درجات الكبر من منظور المتكبَّر عليه:
- التّكبّر على الله تعالى: فهو أقبحها وأشدّها هلكة، وتراه في أهل الكفر والجحود.
- التّكبّر على الأنبياء والرسل والأولياء صلوات الله عليهم.
- التّكبّر على أوامر الله تعالى: كأن يمتنع أحدهم عن الحجّ بحجّة أنّه لا يستسيغ مناسكه من إحرام وغيره.
- التّكبّر على عباد الله تعالى وأقبحه التكبّر على العلماء بالله ومفاسده أكثر من كل شيء، ويراه أهل المعرفة راجعًا إلى التّكبّر على الله.
2- درجات الكبر من منظور المتكبّر به:
- الكبر بسبب الإيمان والعقائد الحقّة، ويقابله الكبر بسبب الكفر والعقائد الباطلة.
- الكبر بسبب الملكات الفاضلة والصّفات الحميدة، ويقابله الكبر بسبب الأخلاق الرّذيلة.
- الكبر بسبب العبادات والصّالحات من الأعمال، ويقابله الكبر بسبب المعاصي.
3- إنّ رذيلة الكبر تؤدّي إلى:
- انسداد طريق التكامل: لأنّ كلّ الإمكانات الروحيّة والمعنويّة والخياليّة والحسّيّة التي أُعطيت للإنسان هي من أجل أن يتفاعل مع آيات الله، فيصل بذلك إلى معرفته. والمتكبّر مصروفٌ عن هذه الآيات، ولن يتحقّق له الإيمان بها.
- الإخفاق في العمل: فالمتكبّر، بالإضافة إلى أنّه لن يرى الكمال في غيره، سيمتنع عن الاعتراف بأخطائه أو نواقصه. ومن المعلوم الواضح أنّ أساس الحركة الإداريّة هو وضع الرّجل المناسب (بحسب كفاءاته) في المكان المناسب. وإنّ أقل ما يُبتلى به المتكبّر هو افتقاده للرؤية الصّحيحة للكمال والجدارة والكفاءة.
- الفساد في الحياة الاجتماعية: شيوع التكبّر في المجتمع يؤدّي إلى أن لا يستفيد النّاس من بعضهم كما ينبغي لأنّ التكبر يروج للعداء والبغضاء بين الناس.
- الهوان في الآخرة والكبّ في جهنم.
113
90
الدرس السابع: التكبّر (2) - درجات التكبّر وآثاره
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"وَأَنْتَ الَّذِي دَلَلْتَهُمْ بِقَوْلِكَ مِنْ غَيْبِكَ وَتَرْغِيبِكَ الَّذِي فِيهِ حَظُّهُمْ عَلَى مَا لَوْ سَتَرْتَهُ عَنْهُمْ لَمْ تُدْرِكْهُ أَبْصَارُهُمْ، وَلَمْ تَعِهِ أَسْمَاعُهُمْ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ أَوْهَامُهُمْ، فَقُلْتَ اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ، وَقُلْتَ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وَقُلْتَ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْبَاراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزِيدِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزُهُمْ بِرِضَاكَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ، مَنْ مَاتَ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي الْجَمَالُ حَتَّى وَدِدْتُ أَنَّ عِلَاقَةَ سَوْطِي وَقِبَالَ نَعْلِي حَسَنٌ، فَهَلْ يُرْهَبُ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ أَجِدُهُ عَارِفاً لِلْحَقِّ، مُطْمَئِنّاً إِلَيْهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِالْكِبْرِ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ أَنْ تَتْرُكَ الْحَقَّ وَتَتَجَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ (وَتَنْظُرَ إِلَى النَّاسِ)، وَلَا تَرَى أَنَّ أَحَداً عِرْضُهُ كَعِرْضِكَ، وَلَا دَمُهُ كَدَمِك"3.
2- عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْكِبْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَحَدَنَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَناً وَفِعْلُهُ حَسَناً، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ"4.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في وداع شهر رمضان.
2 سورة غافر، الآية 60.
3 مستدرك الوسائل، ج12، ص 34.
4 (م.ن), ج12، ص 33.
114
91
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح كيفيّة تشكّل الشّخصيّة المتكبّرة.
2- يبيّن علاقة ضعف النّفس والعقل وضيق الصدر بالكبر.
3- يبيّن كيف يؤدّي احتجاب الفطرة والحسد إلى الكبر.
115
92
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
تمهيد
إنّك لن تجد مؤمنًا واحدًا يقبل أن يكون متّصفًا بالكِبْر، وكيف يقبل وهو يسمع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾1. لكنّ خفاء بعض مراتب الكِبر من جهة، والتّساهل بشأن مراقبة النّفس ومحاسبتها من جهةٍ أخرى، يعميان الإنسان المتديّن عن حالةٍ من شأنها أن تقضي على دينه وإيمانه. إلّا أنّ هناك أمران أساسيّان يعينان بصورةٍ كبيرةٍ على ملاحظة هذه الرّذيلة الاخلاقيّة وملاحقتها، ومَن التفت إلى هذين الأمرين فقد حصل على نورٍ ينفذ به إلى أعماق نفسه.
الأوّل: إنّ جوهر التكبّر ومنبعه هو الاعتقاد بأنّ النّفس هي منشأ الكمال، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾2، فكلّ من اعتقد في نفسه أنّه نال هذا الفضل أو الكمال أو الخير بجهده و(شطارته) وتدبيره، فقد أسّس في قلبه لهذا المرض الخبيث.
إنّ التكبّر على عباد الله في أيّ مجال من المجالات يحصل من خلال المقارنة ورؤية جهة الأفضليّة في النّفس. والإنسان العاقل لا يمكن أن يرى لنفسه فضلًا على غيره في أمرٍ ليس له بالذّات. فما لم يعتقد بأنّ هذا الكمال من عند نفسه لن ينتقل إلى المقارنة فضلًا عن المفاضلة.
1 سورة الزّمر، الآية60.
2 سورة الزّمر، الآية 49.
117
93
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
الثّاني: ما ورد في بعض الأحاديث الشّريفة بأنّ خلوّ الإنسان من الكبر يحصل عندما يصل إلى مرحلة لا يرى نفسه أفضل من أشرّ النّاس. من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر (رض) قال: "يَا أَبَا ذَرٍّ لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى النَّاسَ فِي جَنْبِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمْثَالَ الْأَبَاعِرِ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ هُوَ أَحْقَرَ حَاقِرٍ لَهَا"1. وبهذه الطّريقة وعندما يجعل الإنسان نفسه أشرّ وأحقر من أسوأ النّاس (كالطواغيت والمجرمين العتاة) فكيف يمكن أن يتكبّر؟!
ولكن كيف يمكن للإنسان، وهو يرى نفسه مؤمنًا وصاحب علم، ويرى الآخر كافرًا منغمسًا بالرّذيلة، أن يقتنع بأنّه أشرّ وأسوأ حالًا منه؟! وكيف نطلب من الناس هذا الأمر؟
الجّواب سهلٌ وبسيط. إنّ من آمن بأنّ كلّ حسنة وخير وكمال هو محض التفضّل من الله تعالى، وآمن بأنّ القبيح يكون أقبح كلّما قرُبت منزلة الإنسان وارتقت، لن يستبعد ما قيل.
وفيما يلي نذكر أهم مناشئ التكبر وأسبابه:
توهّم الكمال في النّفس
إنّ توهّم الكمال تارة ًيكون من حيث السّبب والمنشأ (حيث ينسب المرء ذلك إلى نفسه جهلًا)، وتارةً من حيث الكمال نفسه (فيتوهّم أنّ هذا الشيء كمال، ولا يكون كذلك). كما أنّ من احتجب عن إدراك الكمال المطلق سيعتبر أيّ كمالٍ يراه ولا يرى فوقه كمالًا أنّه الكمال النهائيّ، فيبعث ذلك في نفسه حالة من العجب تقوده إلى التكبّر على غيره. فقد يكتشف عالمٌ قانونًا عامًّا في الفيزياء يهيمن على جميع القوانين، فيظنّ أنّه صار الأعلم في زمانه، ثمّ يأتي من يبيّن خطأ نظريّته.
فالكبر، وهو الاستعلاء الباطنيّ، ينشأ من عمليّة التفاضل في الكمال مع نسبة ذاك الكمال إلى النّفس على نحو الاستقلال. وإذا لم تتمّ مواجهته بالتفكّر والتّواضع ينتقل إلى الفعل والتصرّف، فيظهر التكبّر.
1 بحار الأنوار، ج74، ص83.
118
94
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
يقول الإمام قدس سره: "إنّ سبب الكبر إنّما هو تصوّر وجود كمال موهوم، والابتهاج بذلك والعُجب به، ورؤية الآخرين خلواً منه1... وهذه الصّفة هي غير العُجب، بل هي كما سبق قوله، صفة رذيلة وخبيثة، تنجم عن العجب"2.
"إنّك تتوّهم أيّها المسكين، أنّك من أهل الله وأهل معرفته تعالى، وهذا الوهم بحدِّ ذاته من تلبيسات النّفس والشّيطان، وأغفلك عن ربّك، وأقنعك بحفنة من المفاهيم والألفاظ البرّاقة، فأنت ـ في مقام العلم ـ تلهج بالحديث عن التجلّيات الذّاتيّة والأسمائيّة والأفعاليّة للحقّ تعالى، وتقول: إنّ العالم برمّته منه، وجميع الموجودات جلواته تعالى، لكنّك ـ في مقام العمل ـ تشارك الشّيطان في عمله، وتتكبّر على بني آدم، وهذا تكبّرٌ على الحقّ تعالى عند أهل المعرفة"3.
الضّعة والذلّ في النّفس
لا ينشأ التّكبّر دائمًا من الكبر، بل قد ينشأ من رؤية الضّعة والذلّ في النّفس. يخفي بعض النّاس عيوبهم أو ضعفهم من خلال التصرّفات المتكبّرة، وإنّما يحصل هذا الأمر من عقدة الحقارة الكامنة فيهم.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّه من الممكن أحيانًا أن يتكبّر فاقد الكمال على واجد الكمال، كأن يتكبّر الفقير على الغنيّ والجاهل على العالم"4.
صغر العقل
من رأى نفسه مستقلّة التأثير، منعه ذلك من معرفة التّوحيد الأفعاليّ والإيمان بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وهذا ما يدفعه إلى نسبة الكمال إلى نفسه وإلى إيجادها الاستقلاليّ.
ومن رأى نفسه مستقلّة بالكمال أحبّها استقلالًا، لا كمخلوقٍ إلهيّ... وعلامة هذا الحبّ المعبّر عنه بالأنانيّة أن لا يحب الكمال الصّادر من غيره.
1 الأربعون حديثًا، ص 109.
2 (م.ن), ص 103.
3 جنود العقل والجهل، ص307 - 380.
4 الأربعون حديثًا، ص 126.
119
95
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
ومن أحبّ نفسه سارع إلى تفضيلها على غيرها، وهذا هو الكبر. أمّا صاحب العقل المنوّر، فإنّه سيدرك انحصار الوجود وكمال الوجود بذات واحدة عالمة حيّة قديرة، فكيف ينسب الخير إلى نفسه؟!
ولو غفل عن هذه الحقيقة لغلبة الشّهوة أو الوهم، سارع إلى مجاهدة هذه النّفس لما علمه من سوء عاقبة الكبر والاستعلاء.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ من كان جهله أكبر وعقله أصغر كان تكبّره أكثر1... وعلى كلّ حال، يُعتبر ضيق أُفق الفكر وانحطاط القابليّة من أهمّ عوامل الكِبرٍ، لذلك فمن يتّصف بهذا يتأثّر بالأمور التي ليست من الكمال، أو ليست من الكمالِ اللائق، تأثّرًا شديدًا يدفع به إلى العُجْب والكبر. وكلّما كثر حبّه للنّفس وللدّنيا، ازداد تأثّرًا بهذه الأمور"2.
ويقول في موضعٍ آخر: "اعلم أنّ من عوامل التكبّر، فضلًا عمّا سبق ذكره من الأسباب، هو صغر العقل... فالإنسان لضيق أُفقه ما إن يجد في نفسه خصلة مميّزة حتى يتصوّر لها مقامًا ومركزًا خاصًّا. ولكنّه لو نظر بعين العدل والإِنصاف إلى كلّ أمر يتقنه وكلّ خصلة يتميّز بها، لأدرك أنّ ما تصوّره كمالًا يفتخر به ويتكبّر بسببه، إمّا أنّه ليس كمالًا أصلًا، وإمّا أنه إذا كان كمالًا فإنّه لا يكاد يساوي شيئًا إزاء كمالات الآخرين، وأنّه كمن صفع وجهه ليحسب النّاس احمرار وجهه نتيجة النّشاط والحيويّة، كما قيل: "اِسْتَسْمَنَ ذا وَرَمٍ"3.
احتجاب الفطرة
"إنّ التكبّر والتملّق هما من لوازم احتجاب الفطرة، لأنّ الإنسان إذا حجبته حجب النّفس عن فطرته السّليمة، وسيطر عليه حبّ النّفس والتّوجّه لها، أخذ يسجّل لنفسه، بدافع حبّها، الكثير من الكمالات، غافلًا عن مبدأ الكمالات، مستصغرًا الآخرين، إذا لم يجد عندهم ما يثير طمعه المادي، ومعظّمًا لهم إذا وجد فيهم ما يطمع به، فيتكبّر على الضّعفاء، ويتملّق لأهل الدنيا الذين يطمع بما عندهم. وفي هذه الحال تصبح الفطرة التي هي وسيلة سيره إلى
1 الأربعون حديثًا، ص 122.
2 (م.ن), ص 118.
3 (م.ن), ص 114 - 115.
120
96
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
الله، والتي تدعوه إلى التّواضع للحقّ والخلق، تصبح بعد احتجابها وسيلة سيره إلى الشّيطان والتوجّه لعالم الطبيعة، وتدفعه إلى التكبّر على النّاس حينًا والتملّق لهم حينًا آخر"1.
ضعف القابليّة وضيق الصّدر
"إنّ حبَّ النّفس والنّظر إليها نتيجةً لضيق الصّدر من جهة، وعلّة لزيادته من جهّة أخرى، وهذا هو منشأ التكبّر، لأنّ ضعف القابلية وضيق الصدر يجعلان المبتلى بهما يستعظم كلَّ ما يراه في نفسه، ويتفاخر ويتكبّر به، لكنّه في الوقت نفسه يكون على استعداد لممارسة أشكال التذلّل والتملّق لأهل الدنيا، سعياً لتحقيق مطالب نفسه بحكم كونه أسيراً لحبّها"2.
الحسد
إنّ الحسد - الذي سنتحدّث عنه في فصولٍ لاحقة بالتّفصيل - يمنع الإنسان من تحمّل نعمة أو كمال في المحسود، فيدفعه هذا الحسد إلى التنكّر وعدم الاعتراف به. وقد يشتدّ أمر الحسد هذا إلى الدّرجة التي تجعل الحاسد يقوم بتصرّفات استعلائيّة للحطّ من قدر هذا الكمال أو تلك المزيّة في المحسود. يقول الإمام قدس سره: "ولا بُدَّ أن نعرف أنّه مثلما كان العُجب أحيانًا مدخلًا للتكبّر، فإنّ الحسد قد يصبح أيضًا مدخلًا إليه. فالإنسان الذي يفتقر إلى كمال موجود في غيره، يندفع إلى أن يحسده، ثم يصير سببًا لكي يتكبّر عليه، ويسعى جهده لإذلالهِ وإهانته"3.
حبّ الدنيا
إنّ حبّ الدّنيا الذي يدفع الإنسان إلى طلبها والوصول إليها باعتبارها غاية وهدفًا يغذّي في الإنسان تلك التصرّفات الاستكباريّة، ويختلط عنده أمر التّواضع والتكبّر، فهو إنسان متكبّر في صورة تواضع.
1 جنود العقل والجهل، ص320 - 321.
2 (م.ن), ص305.
3 الأربعون حديثًا، ص 126.
121
97
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
يقول الإمام قدس سره: "وقد تظهر هذه الصّفة في بعض أهل العلم، مبرّرًا أنّ التّواضع أمام الأغنياء غير محمود، وتقول له نفسه الأمّارة بالسّوء: إنّ التّواضع للأغنياء منقصة للإيمان. إنّ المسكين لا يميّز بين التّواضع لغنيّ من أجل غناه والتّواضع لغير ذلك. فمرّة يتواضع الإنسان مدفوعًا برذيلة حبّ الدنيا والانجذاب نحو طلب الجّاه والمقام، فليس هذا من خلق التّواضع في شيء، بل إنّه المداهنة والملق، وإنّه من الرّذائل النّفسيّة، وصاحبها لا يتواضع للفقراء، إلاّ إذا طمع فيهم بشيء أو أراد منهم شيئًا"1.
ويذكر الإمام عوامل أخرى كقلّة الصّبر وضعف التحمّل. وهكذا تجتمع هذه العوامل مرّة أخرى لتشكّل أرضيّة خصبة لنشوء هذه الصّفة الخبيثة ونموّها واستفحالها.
وتنبغي الإشارة إلى أنّ التكبّر ـ كفعلٍ خارجيّ ـ ليس بمذموم إلّا إذا كان على أهل الحقّ والخير والكمال الواقعيّ. أمّا إذا كان على المتكبّرين فهو مطلوبٌ وممدوح، وفي بعض الحالات يصبح واجبًا، حتّى قيل إنّ التكبّر على المتكبّر تواضع. إلا أنّه يبقى في الفعل، فلا يمكن أن يكون المؤمن في نفسه وقلبه متكبّرًا، فهو متصنّعٌ للتكبّر حيث ينبغي. وبعض النّاس يخلطون بين هذه الحالات، ويظنّون أنّ التكبّر على أهل الجاه والغنى لازم، لكنّهم يخفون في صدورهم ما هو أدهى.
لهذا يقول الإمام قدس سره: "أمّا تحقيرك لأهل الجّاه والغنى والتكبّر عليهم، فلا يعني أنّك لست متملّقا، بل يعني أنّك حسود، وتكون في الوقت نفسه على خطأ، ولهذا إذا رأيتهم يحترمونك على غير انتظار وتوقّع، تتواضع لهم وتخفض لهم جناحك"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 127.
2 (م.ن), ص 127.
122
98
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
المفاهيم الرئيسة
1- من الممكن أن يعمى على الإنسان وجود الكبر في نفسه وذلك بسبب خفاء بعض مراتبه أو لتساهله بمراقبة نفسه.
2- منشأ الكبر وأسبابه:
- توهّم الكمال في النفس: تارة يكون من حيث السّبب والمنشأ (حيث ينسب المرء ذلك إلى نفسه جهلًا)، وتارةً من حيث الكمال نفسه (فيتوهّم أنّ هذا الشيء كمال، ولا يكون كذلك). كما أنّ من احتجب عن إدراك الكمال المطلق سيعتبر أيّ كمالٍ يراه ولا يرى فوقه كمالًا أنّه الكمال النهائيّ، فيبعث ذلك في نفسه حالة من العجب تقوده إلى التكبّر على غيره.
- الضّعة والذلّ في النّفس: حيث يخفي بعض النّاس عيوبهم أو ضعفهم من خلال التصرّفات المتكبّرة، وإنّما يحصل هذا الأمر من عقدة الحقارة الكامنة فيهم.
- صغر العقل: يجعل الإنسان يرى نفسه مستقلّة التأثير، وهذا ما يدفعه إلى نسبة الكمال إلى نفسه وإلى إيجادها الاستقلاليّ فيحبّ نفسه، ومن أحبّ نفسه لا يحب الكمال الصّادر من غيره، وسارع إلى تفضيلها على غيرها، وهذا هو الكبر.
- احتجاب الفطرة: إذا احتجبت الفطرة وسيطر على الإنسان حبّ النّفس أخذ يسجّل لنفسه الكثير من الكمالات غافلًا عن مبدأ الكمالات، مستصغرًا الآخرين فيتكبّر عليهم.
- ضعف القابليّة وضيق الصّدر: يجعلان المبتلى بهما يستعظم كلَّ ما يراه في نفسه، ويتفاخر ويتكبّر به.
- الحسد: يمنع الحاسد من تحمّل كمال أو نعمة في المحسود ويمكن أن يصل هذا لأمر إلى درجة أنّه يقوم بتصرّفات استعلائيّة من أجل الحطّ من قدر الكمال الذي في المحسود.
- حبّ الدّنيا، وقلّة الصّبر وضعف التحمّل.
123
99
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"فَقُلْتَ اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ، وَقُلْتَ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ، ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقُلْتَ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فَسَمَّيْتَ دُعَاءَكَ عِبَادَةً، وَتَرْكَهُ اسْتِكْبَاراً، وَتَوَعَّدْتَ عَلَى تَرْكِهِ دُخُولَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ فَذَكَرُوكَ بِمَنِّكَ، وَشَكَرُوكَ بِفَضْلِكَ، وَدَعَوْكَ بِأَمْرِكَ، وَتَصَدَّقُوا لَكَ طَلَباً لِمَزِيدِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ نَجَاتُهُمْ مِنْ غَضَبِكَ، وَفَوْزُهُمْ بِرِضَاكَ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما تكبّر إلّا وضيع"2.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَعَجِبْتُ لِلْمُتَكَبِّرِ الَّذِي كَانَ بِالأمْسِ نُطْفَةً، وَيَكُونُ غَداً جِيفَةً"3.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ، اللاِتي خَدَعَ بِهَا الأُمَمَ الْمَاضِيَةَ، والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ، حَتّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ، وَمهَاوِي ضَلاَلَتِهِ، ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ، سُلُساً فِي قِيَادِهِ، أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ، وَتَتَابَعَتِ الْقُرونُ عَلَيْهِ، وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ، لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ، كَلَّا مَا كَانَ الله سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً. إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ"5.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَا حَرَسَ الله عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الاْيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تسْكِيناً لأطْرَافِهِمْ، وَتَخْشِيعاً لأبْصَارِهمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لِما فِي ذلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالأرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالمُتونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً، مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ. انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هذِهِ الأفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ، وَقَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ"6.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في وداع شهر رمضان.
2 غرر الحكم، ص 310.
3 غرر الحكم، ص 310.
4 الكافي، ج2، ص 328.
5 (م.ن)، 287.
6 نهج البلاغة, ص 295.
124
100
الدّرس الثامن: التكبّر (3) - منشأ الكبر وأسبابه
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَالْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاع إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ، وَالشَّرُّ جَامِعُ مَسَاوِىءِ الْعُيُوبِ"1.
1 (م.ن), ص 540.
125
101
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الخطوات العلميّة والعمليّة للتخلّص من الكبر.
2- يبيّن أهميّة ودور محبّة الله والتمسّك بالأولياء الكمّل والتّأسّي بهم في التخلّص من الكبر.
3- يشرح كيف تساهم معرفة النّفس في التخلّص من الكبر.
127
102
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
تمهيد
قد يختبئ الشّيطان ويختفي خلف قناع النّصيحة والثّقافة العامّة، فنجده يلقي أنّ العلم والمعرفة لا قيمة لها في عالم الأخلاق، لأنّ الأخلاق كلّها عمل. وبهذه الطّريقة يتمكّن من ترسيخ الجهل الذي هو أساس جميع الرّذائل وأصل كلّ الخطايا.
إنّ للمعرفة دورًا مصيريًّا في حسم معركة جهاد النّفس الأمّارة. وصحيح أنّ العلم لوحده لا يكفي، لكنّه غالبًا ما يؤدّي إلى تفعيل المجاهدة بصورةٍ رائعة، وخصوصًا في أصحاب النّفوس الطيّبة التي لم تُجبل بطينة الخبث والشّرك.
وهنا يبرز السّؤال الكبير، فما هي المعارف التي لو اطّلع عليها الناس لهبّوا لتهذيب نفوسهم وتزكيتها. وكيف يمكن أن نوجد لأنفسنا مثل هذه الفرصة العظيمة لنتزوّد من المعارف الملهمة التي توقظ القلوب من غفلتها.!
كيف نتخلّص من مرض الكبر الخطير؟
1- العلاج العلمي للكبر
يطرح الإمام عدّة أمور تؤثّر بشكل كبير في تطهير القلب من الكبر. وينبغي أن نتوجّه إلى دور كلّ واحدٍ منها في اقتلاع هذا المرض والقضاء عليه، منها:
2- معرفة الله وحبّه
لمّا كان الكبر مرَضًا قلبيًّا، وكان كلّ مرضٍ قلبيّ ناشئًا من سوء العقيدة وضعف الإيمان، كان اللازم في عمليّة الإصلاح التّركيز على الجّانب المعرفيّ وشدّة حضوره في القلب والنّفس.
129
103
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
إنّ القلب محلّ الاعتقادات، وفيه تنمو وتشتدّ لتصبح إيمانًا، وتتدرّج في مراتبه لتصبح طمأنينةً، ثم تشتدّ وتشتدّ حّتى تصبح برهانًا مرئيًّا وشهودًا عيانيًّا، وبوصول صاحب الإيمان إلى هذه المرتبة الإدراكيّة يستحيل أن يصدر منه أي شرّ، لأنّه يرى الذّنب والمعصية على قبحها الواقعيّ، فهل رأيت عاقلًا يُقبِل على أكل جيفة؟!
وعندما يسلك المؤمن طريق المعرفة، ويسمح لأنوارها بالاستيلاء على قلبه (بتأمين طهارته) فإنّ هذه المعرفة ستنتج كلّ خير وكمال، فضلًا عن التخلّص من جميع الرّذائل والكدورات. وعندما تكون الفطرة في الإنسان حاضرة ونداؤها قويًّا، فإنّه سينجذب إلى الكمال حال معرفته أو شهوده. ولهذا، عندما تجتمع طهارة النّفس مع قوّة المعرفة الحاصلة من صفاء العقل والاتّصال به، لن تكون النّتيجة سوى حبّ الله. وإذا استولى حبّ الله على القلب ذهل عن النّفس والأنا والغير وكل ما سوى. هناك سيرى كلّ شيء مظهرًا لجمال الله، ويقول: أنا للعالم عاشقٌ، إذ الكون منه أجمع.
يقول الإمام قدس سره: "اعلم أنّ أسباب التواضع والتكبُّر وموجباتهما كثيرة، منها شرح الصدر وضيقه، فالمتحلّي بشرح الصدر لا يولي أهميّةً لما يراه في نفسه من كمال وجمال ومال ونفوذ وحشمة، ولا يستعظمه، لأنّ سعته الوجوديّة كبيرة إلى درجة تجعله يتغلّب على جميع الورادات القلبيّة، فلا يضيق وعاؤُهُ الوجوديّ بشيءٍ. وهذه السّعة في الصّدر وليدة معرفة الحقّ تعالى، وهي التي توصل قلوب المتألّهين للأنس بالله إلى مقام الإطمئنان والسكينة والطمأنينة1. إنّ مبادىء جميع الكمالات ترجع إلى معرفة الله والتحرّر من أسر النفس، في حين أنّ حبَّ النفس والنظر لها هو منشأ كلّ النقائص والسيئآت.
... إنّ معرفة الله تؤدّي إلى حبّه عزَّ وجلّ، فإذا اكتمل هذا الحبّ تحرّر هذا الإنسان من أسر نفسه، فإذا تحرّر منها تحرّر من أسر العالم كلّه، وتخلّص من الطّمع في نفسه وفي غيره، وتطّهر من رجز الشّيطان ورجز الطّبيعة، وأشرق النّور الأزليّ في باطن قلبه، وانتقل منه إلى ظاهره وجوارحه، فنوّر جميع أفعاله وأقواله، وجعل كلّ قواه وجوارحه إلهيّةً ونورانيّةً، فيكون في الوقت ذاته متواضعًا للجّميع، ممتنعًا عن التملّق لأحدٍ، فلا يتطلّعُ بعين الطّمع إلى ما عند أحد من الخلق، ولا يرجو شيئًا ممّا في أيديهم"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 304.
2 (م.ن)، ص304.
130
104
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
3- ذكر الله
"واعلم أنّ ذكر الله تعالى يجعل القلب مُعرِضًا عن جميع منازل الطّبيعة ومظاهرها، بل ويجعل العالم كلّه بما فيه عدمًا لا قيمة له في عينه، فلا يتعلّق بشيءٍ منه، بل ينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده، حتّى تبلغ همّته مرتبةً من العلّو لا يقيم معها وزنًا لجميع عوالم الوجود، وعندها لا تضعف همّته بسبب الواردات القلبيّة مهما كانت، فلا يستشعر الكِبْر في نفسه بسبب هذه الواردات. بل إنّه يستصغر كلّ شيء غير الحقّ تعالى وآثار جماله وجلاله، وهذه الحال بحدِّ ذاتها هي السّبب في تذلّله للّه عزّ وجلّ بالأصالة، ولخلقه بالتّبعيّة، لأنّه يرى الخَلْقَ من الحقّ تعالى. كما أنّ هذه الحال توجِدُ أيضًا عزّة النّفس وسعتها، لأنّ روح التملّق ناشئة من حبِّ النّفس والسّعي لاستجلاب النّفع لها، وهذه الحالُ معدومةٌ فيه.
إذاً، فحبُّ الله تعالى يثمر سعة الصّدر، وهذه السّعة تولّد التّواضع وعزّة النفس"1.
4- معرفة النفس
من عرف نفسه وأدرك فقره وعجزه، بل لا شيئيّته، كيف يتكبّر على غيره؟! بل كيف يرى لها فضلًا أو خيرًا؟!
يقول الإمام قدس سره: "فيا أيّها الإنسان، الذي لم تكن شيئًا في أوّل أمرك، وكنت كامنًا دهور العدم والآباد غير المتناهية، ما هو الأقلّ من العدم واللاشيء على صفحة الوجود؟ ثم لمّا شاءتْ مشيئة الله أن يظهرك، إلى عالم الوجود فمن جرّاء قلّة قابليّتك النّاقصة وتفاهتك وضعتك وعدم أهليّتك لتقبّل الفيض، أخرجك من هيولى العالم ـ المادّة الأولى ـ التي لا تكون سوى القوّة المحضة والضّعف الصّرف، إلى صورة الجسميّة والعنصريّة، التي هي أخسّ الموجودات وأحطّ الكائنات، ومن هناك أخرجك نطفة لو مسّتها يدك لاستقذرتها وتطهّرت منها، ووضعك في منزلٍ ضيّقٍ رجسٍ هو خصيتي الأب، وأخرجك من مجرى البول في حالة مزرية قبيحة، وأدخلك في رحم الأم، من مكان تنفر من ذكر اسمه. وحوّلك هناك إلى علقة ومضغة، وغذّاك بغذاء يزعجك سماع اسمه ويخجلك. ولكن بما أنّ الجميع هذا هو حالهم وتلك هي بليّتهم، زال الخجل "والبَلِيَّةُ إِذا عَمَّتْ طابَتْ".
1 جنود العقل والجهل، ص304.
131
105
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
في كلّ هذه التطوّرات كنت أرذل الموجودات وأذلّها وأحطّها، عاريًا عن إدراكٍ ظاهريّ وباطنيّ، بريئًا من كلّ الكمالات، ثمّ شملتك رحمته وجعلك قابلًا للحياة، فظهرت فيك الحياة رغم كونك في أشدّ حالات النّقص، بحيث إنّك كنت أحطّ من الدّودة في أمور حياتك، فزادت برحمته تدريجيًّا قابليّتك على إدارة شؤون حياتك، إلى أن أصبحت جديرًا بالظّهور في محيط الدّنيا، أظهرك في هذه الدّنيا من خلال أشدّ المجاري ضعةً، وفي أوطأ الحالات، وأنت أضعف في الكمالات وشؤون الحياة، وأدنى من جميع مواليد الحيوانات الأخرى. وبعد أن منحك بقدرته قواك الظاهريّة والباطنيّة، ما زلت ضعيفًا وتافهًا، بحيث إنّ أيًّا من قواك ليست تحت تصرّفك، فلست بقادر على المحافظة على صحّتك، ولا على قواك ولا على حياتك، ولست بقادر على الاحتفاظ بشبابك وجمالك. وإذا ما هاجمتك آفة أو انتابك مرض فلست بقادرٍ على دفعهما عنك. وعلى العموم، ليس تحت تصرّفك شيء من ذلك، لو جعت يومًا لتنازلت حتّى لأكل الجيفة، ولو غلبك العطش لما امتنعت عن شرب أيّ ماءٍ آسنٍ. وهكذا أنت في شؤونك الأخرى، عبدٌ ذليلٌ مسكينٌ لا قدرة لك على شيء. ولو قارنت حظّك من الوجود ومن الكمالات بما لسائر الموجودات، لوجدت أنّك وكلّ الكرة الأرضيّة، بل وكلّ المنظومة الشّمسيّة، لا قيمة لكم مقابل هذا العالم الجسميّ الذي هو أدنى العوالم وأصغرها... هذه شؤون حياتك وحياتي، وهذه حظوظنا ونصيبنا من عالم الوجود.
أمّا عالم برزخك، فإنّك إن انتقلت من هذه الدنيا ـ لا سمح الله ـ قبل أن تصلحه، فالله يعلم كيف تكون صورتك، وكيف تكون أحوالك، إذ إنّ قوى الإدراك في هذا العالم عاجزة عن أن تسمع أو ترى أو تشمّ شيئًا من ذلك العالم. إنّ ما تسمعه عن ظلمة القبر ووحشته وضيقه إنّما تقيسه على ما في هذا العالم من ظلمة ووحشة وضيق، مع أنّ هذا القياس وهذه المقارنة باطلة. نسأل الله أن ينجينا ممّا أعددنا لأنفسنا بأنفسنا!
... أمّا حال جهنّم التي تكون بعد يوم القيامة فأمرها معلوم أيضًا. إنك تسمع أخبارًا عن جهنّم! إنّ النّار ليست وحدها عذاب جهنّم. فلو أنّ بابًا منها انفتح على عينيك وعلى هذا العالم لهلك أهلها خوفًا. وكذلك لو انفتح بابٌ آخر على أُذنيك، وآخر على خياشيمك، لو أن أيًّا منها فتح على أهل هذا العالم لهلكوا جميعًا من شدّة العذاب. يقول أحد علماء الآخرة:
132
106
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
مثلما أنّ حرارة جهنّم أشدّ ما تكون، كذلك برودتها أشدّ ما تكون، والله تعالى قادر على أن يجمع الحرارة والبرودة. هكذا هي نهاية حالك.
إذاً، فالذي أوّله عدم غير متناهٍ، وهو منذ أن يضع قدمه في الوجود تكون جميع تطوّراته قبيحة وغير جميلة، وكلّ حالاته مخجلة، وكلّ من دنياه وبرزخه وآخرته أفجع من الأخرى، بم يتكبّر؟ بأيّ جمال أو كمالٍ يتباهى؟"1.
5- التّمسّك بأولياء الله الكمّل
إنّ أولياء الله الذين مثّلوا المرتبة الأعلى في الاتّصاف بصفات الكمال، والذين هم المظهر الأتمّ الأكمل لآيات الله تعالى، يمحقون بنور جمالهم كلّ كمالٍ آخر. ولهذا، كانت معرفتهم أفضل وسيلة لتنزيه النّفس عن الكبر والفخر والعجب. يقول الإمام الخميني قدس سره:
"النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان علمه من الوحي الإلهيّ، وكانت روحه من العظمة بحيث إنّها بمفردها غلبت نفسيّات كلّ البشر، إنّ هذا النبيّ قد وضع جميع العادات الجّاهليّة والأديان تحت قدميه، ونسخ جميع الكتب، واختتم دائرة النبوّة بشخصه الكريم، وكان هو سلطان الدّنيا والآخرة والمتصرّف في جميع العوالم بإذن الله، ومع ذلك كان تواضعه مع عباد الله أكثر من أيّ شخصٍ آخر. كان يكره أن يقوم له أصحابه احترامًا، وإذا دخل مجلسًا لم يتصدّر، ويتناول الطّعام جالسًا على الأرض، قائلًا: "إنّني عبدٌ، آكل مثل العبيد، وأجلس مجلس العبيد"2.
"... فيا أيّها العزيز، إذا كان التكبّر بالكمال المعنويّ، فقد كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام أرفع شأنًا، وإذا كان بالرّئاسة والسّلطان، فقد كانت لهما الرّئاسة الحقّة، ومع ذلك كانا أشدّ الناس تواضعًا. فاعلم، أنّ التّواضع وليد العلم والمعرفة، والكبر وليد الجّهل وانعدام المعرفة، فامسح عن نفسك عار الجّهل والانحطاط، واتّصف بصفات الأنبياء، واترك صفات الشّيطان، ولا تنازع الله في ردائه ـ الكبرياء ـ فمن ينازع الحقّ في ردائه فهو مغلوبٌ ومقهورٌ بغضبه، ويُكَبُّ على وجهه في النار3.
1 الأربعون حديثًا، ص 121 - 122.
2 (م.ن), ص 122.
3 (م.ن), ص 122 - 123.
133
107
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
... لقد نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبّ أن يركب الحمار من دون سرج، وأن يتناول الطّعام مع العبيد على الأرض، وكان يعطي الفقراء بكلتا يديه. كان ذلك الإنسان العظيم يركب الحمار مع غلامه أو غيره، ويجلس على الأرض مع العبيد، وفي سيرته أنّه كان يشترك في أعمال المنزل، ويحتلب الأغنام، ويرقع ثيابه، ويخصف نعله بيده، ويطحن مع خادمه ويعجن، يحمل متاعه بنفسه، ويجالس الفقراء والمساكين، ويأكل معهم. هذه وأمثالها، نماذج من سيرة ذلك الإنسان العظيم وتواضعه، مع أنّه فضلًا عن مقامه المعنويّ كان في أكمل حالات الرّئاسة الظّاهريّة. وهكذا قد اقتدى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، إذ كانت سيرته من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم"1.
العلاج العملي للكبر
بالإضافة إلى ما مرّ، فإنّ هذه المعرفة تحمل الإنسان على تصرّفات وسلوكيّات تقمع فيه حالة التّرفّع على غيره، بواسطة التواضع والتذلّل:
أ- من خلال العبادة:
وأعظم الأعمال وأشدّها تأثيرًا هي تلك العبادة التي بُنيت على التذلّل والخضوع والخشوع، كالصّلاة والحجّ.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الصلاة هي جوهر التّواضع والخشوع، ولبّها هو هجران النّفس، والسّفر إلى الله فهي معراج المؤمن"2.
ب. السّير وفق سيرة المتواضعين:
في العلاج العمليّ يتواضع الإنسان على من كان يتكبّر عليه، يخدمه مثلًا... ويقدّمه على نفسه، يثني عليه، خاصّة في غيابه، يعترف له بالفضل، وهكذا... يلجأ إلى أساليب التّواضع الموجودة، سواء ما يتعلّق بالجّلوس أو الكلام أو الحركات أو السّكنات، وكلّ ذلك من باب تعظيم الطّرف الآخر. التّواضع لا يعني فقط وضع النّفس، لكنّ الأساس هو تعظيم الطّرف الآخر. وبالطّبع ينبغي أن يكون التّعظيم بحسب شأن كلّ إنسان.
1 الأربعون حديثًا، ص 122.
2 جنود العقل والجهل، ص 77.
134
108
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
يقول الإمام قدس سره: "وإذا عزمت على إصلاح نفسك، فطريقه العمليّ أمرٌ يسير مع شيء من المثابرة، وإنّه طريقٌ لو اتّصفت بهمّة الرّجال وحرّية الفكر وعلوّ النّظر، فلن تصادفك أيّة مخاطر. فإنّ الأسلوب الوحيد على النّفس الأمّارة، وقهر الشّيطان، ولاتّباع طريق النّجاة، هو العمل بخلاف رغباتهما. إنّه لا يوجد سبيل أفضل لقمع النّفس من الاتّصاف بصفة التّواضع ومن السّير وفق سيرة المتواضعين، فحيثما درجة التكبّر عندك، ومهما تكن طريقتك في العلم والعمل، فاعمل قليلًا بخلاف هوى نفسك، فإنّ مع الالتفات إلى الملاحظات العلميّة تجاه التّكبّر، والانتباه إلى النّتائج المطلوبة. إذا رغبت بأن تتصدّر المجلس متقدّمًا على أقرانك، فخالفها، واعمل عكس ما ترغب فيه. وإذا كانت نفسك تأنف من مجالسة الفقراء والمساكين، فمرِّغ أنفها في التراب وجالسهم، وآكلهم، ورافقهم في السّفر، ومازحهم، وقد تجادلك نفسك، فتقول لك: إنّ لك مقامًا ومنزلةً، وإنّ عليك أن تحافظ على مقامك من أجل ترويج الشّريعة والعمل في سبيلها، فمجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك من القلوب، وإنّ المزاح مع مَنْ هو دونك، يقلّل من عظمتك، وجلوسك في ذيل المجلس يحطّ من هيبتك، فلا تقدر أن تؤدّي واجبك الشرعيّ على خير وجه! اعلم، أنّ هذه كلّها من مكائد الشيطان والنّفس الأمّارة، لقد كان مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا، من حيث الرّئاسة والمركز أرفع منك، ومع ذلك كانت سيرته هي التي قرأت عنها وسمعت بها"1.
وهكذا قد يضبط الإنسان سلوكيّاته بالكامل في مرحلة المعالجة بحيث لا يصدر منه أيّ عمل فيه تكبّر، بل قد يُشتهر بالتّواضع بين النّاس، بالرّغم من بقاء شيء من الكبر في صدره. لكن إذا أهمل الإنسان ما في قلبه، فإنّه سيعود مجدّدًا للظّهور في سلوكيّاته. ولا شكّ بأنّ ظهور المرض في السّلوك يدل على استفحاله ووصوله إلى الدّرجة الخطيرة. ولو فرضنا أنّ الإنسان استطاع أن يتصرّف تصرّف أهل التواضع، وإن بقي في قلبه كبر، فقد يطهر منه في البرزخ وعند الموت. فالمطلوب بشكلٍ أساسيّ هو أن لا يستفحل المرض ويظهر في السّلوكيّات. إنّ حرص الإنسان على أن لا يظهر ما في باطنه من مرض، لهو دليلٌ على بغضه لهذا المرض، وهذا البغض بذاته لهو أعظم مطهّر.
1 الأربعون حديثًا، ص 123.
135
109
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
المفاهيم الرئيسة
1- العلاج العلمي للكبر:
- معرفة الله وحبّه: عندما تجتمع طهارة النّفس مع قوّة المعرفة الحاصلة من صفاء العقل والاتّصال به، لن تكون النّتيجة سوى حبّ الله. وإذا استولى حبّ الله على القلب ذهل عن النّفس والأنا والغير وكل ما سوى.
- ذكر الله: يجعل القلب مُعرِضًا عن جميع منازل الطّبيعة ومظاهرها، بل ويجعل العالم كلّه بما فيه عدمًا لا قيمة له في عينه، فلا يتعلّق بشيءٍ منه، بل ينحصر تعلّقه بالحقّ تعالى وحده، حتّى تبلغ همّته مرتبةً من العلّو لا يقيم معها وزنًا لجميع عوالم الوجود، وعندها لا تضعف همّته بسبب الواردات القلبيّة مهما كانت، فلا يستشعر الكِبْر في نفسه بسبب هذه الواردات.
- معرفة النفس: من عرف نفسه وأدرك فقره وعجزه، بل لا شيئيّته، كيف يتكبّر على غيره؟! بل كيف يرى لها فضلًا أو خيرًا؟!
- التّمسّك بأولياء الله الكمّل: إنّ أولياء الله الذين هم المظهر الأتمّ الأكمل لآيات الله تعالى، يمحقون بنور جمالهم كلّ كمالٍ آخر. ولهذا، كانت معرفتهم أفضل وسيلة لتنزيه النّفس عن الكبر والفخر والعجب.
2- العلاج العملي للكبر يكون من خلال:
- العبادة: وأعظم الأعمال وأشدّها تأثيرًا هي تلك العبادة التي بُنيت على التذلّل والخضوع والخشوع، كالصّلاة والحجّ.
- السّير وفق سيرة المتواضعين: يتواضع الإنسان على من كان يتكبّر عليه، يخدمه مثلًا... ويقدّمه على نفسه، يثني عليه، خاصّة في غيابه، يعترف له بالفضل، وهكذا. التّواضع لا يعني فقط وضع النّفس، لكنّ الأساس هو تعظيم الطّرف الآخر. وبالطّبع ينبغي أن يكون التّعظيم بحسب شأن كلّ إنسان.
3- إنّ حرص الإنسان على أن لا يظهر ما في باطنه من مرض، لهو دليلٌ على بغضه لهذا المرض، وهذا البغض بذاته لهو أعظم مطهّر.
136
110
الدرس التاسع: التكبر (4) - علاج التكبّر
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"وَإنَّ أَحَبَّ عِبَادِكَ إِلَيْكَ مَنْ تَرَكَ الاِسْتِكْبَارَ عَلَيْكَ، وَجَانَبَ الإِصْرَارَ، وَلَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ، وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ أَسْتَكْبِرَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُصِرَّ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا قَصَّرْتُ فِيهِ، وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَى مَا عَجَزْتُ عَنْهُ"1.
الآيات الكريمة:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَرَضَ الله الاْيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاَةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ"3.
2- عن الإمام علي عليه السلام: "كلّ متكبّر حقير"4.
3- عن الإمام علي عليه السلام: "لا يتعلّم من يتكبّر"5.
4. عن الإمام علي عليه السلام: "طلبت الخضوع فما وجدته إلا بقبول الحقّ، اقبلوا الحقّ، فإنّ قبول الحقّ يبعد من الكبر"6.
5. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَلْوَانِ الْـمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهمْ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ"7.
1 الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في الاعتراف وطلب التّوبة.
2 سورة الأعراف، الآية 40.
3 نهج البلاغة، ص 512.
4 غرر الحكم، ص 310.
5 (م.ن)، ص 65.
6 مستدرك الوسائل، ج11، ص 192.
7 نهج البلاغة، ص 292.
137
111
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
- يبيّن المعنى الدّقيق للحسد وما يميّزه عن الغبطة.
- يذكر كيف يتشكّل هذا المرض في النّفس.
- يتعرّف إلى مخاطر الحسد ودوره في تدمير البنية المعنويّة للإنسان والقضاء على الإيمان.
139
112
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
تمهيد
ها نحن ننشأ في هذه البيئة الاجتماعيّة الحافلة بالاختلافات والامتيازات. وتتفتّح أعيننا على وجود فقرٍ مدقعٍ وثراءٍ فاحشٍ في المجتمع الواحد بل وفي العائلة الواحدة، أحيانًا. نلاحظ الحرمان في كلّ مكان، وإلى جانبه هناك من يتمتّع بلذائذ الدّنيا وخيراتها بصورة مترفة، وهناك من تسنح له الفرص ويستغلّها فيجني من ورائها الكثير من المكتسبات، بينما نرى من لا عهد له بالنّجاح والتّوفيق!
يذهلنا المشهد العجيب لكلّ هذه التّناقضات، ونبدأ ونحن أطفالٌ صغار بالبحث والتّساؤل عن أسباب ذلك كلّه. وغالبًا ما يعجز مَن حولنا عن تقديم إجابة تبثّ فينا الطمأنينة وتعطي لأنفسنا الحائرة قرارًا، لا بل نراهم يشاركون في جوقة الشكوى والحيرة المشكّكة مستعملين أمثالًا شعبيّة كـ "الله لا يعطي الحلاوة إلا لمن لا ضرس له"، فلا يزيدنا هذا إلّا حيرةً وضياعًا. وها نحن مرّةً أخرى، وقد شارفت حياتنا على عتبة جديدة من تحمّل المسؤولية، وعلينا أن نشقّ طريقنا وسط هذا التّزاحم في الفرص والإمكانات. وفيما يلي نذكر ماهيّة الحسد وكيفيّة تشكّله في النّفس:
الإخفاق في تفسير الاختلافات
عندما نخفق أو نعجز عن الوصول إلى مبتغانا، نحزن وتنقبض صدورنا، وقد نلقي باللائمة على أولئك الأوغاد الذين حرمونا أو سدّوا علينا الطّريق.
ويومًا بعد يوم يتأكّد لنا أنّ الناس هم مشكلتنا. ولولا بعض هؤلاء لما كنّا نعاني ونتألّم! ويصبح أيّ صاحب حظّ سواء في المال أو في العلم أو في الدّين أو في الدّنيا عدوًّا أو خصمًا، وإن لم نظهر معاداته.
141
113
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
تتنغّص حياتنا بمجرّد أن ننظر إلى نقائصنا ومحروميّتنا من جهة، وإلى من بلغ في الكمال الماديّ أو المعنويّ درجة من جهةٍ أخرى، وقد يتحوّل هذا الانزعاج إلى حالة دائمة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ الحسد، حالة نفسيّة يتمنّى صاحبها سلب الكمال والنّعمة التي يتصوّرهما عند الآخرين، سواء أكان يملكها أم لا، وسواء أرادها لنفسه أم لم يردها. وهذا يختلف عن الغبطة، لأنّ صاحب الغبطة يريد النّعمة التي توجد لدى الغير، أن تكون لنفسه، من دون أن يتمنّى زوالها عن الغير. وأمّا قولنا: "النّعمة التي يتصوّرها عند الآخرين" فنعني به أنّ تلك النّعمة قد لا تكون بذاتها نعمة حقيقيّة. فطالما تبيّن أنّ الأمور التي تكون بحدّ ذاتها من النّقائص والرذائل، يتصوّرها الحسود من النّعم والكمالات، فيتمنّى زوالها عن الآخرين. أو أنّ خصلة تعدّ من النّقائص للإنسان ومن الكمال للحيوان ويكون الحاسد في مرتبة الحيوانيّة فيراها كمالًا، ويتمنّى زوالها... إذًا، فالمعيار في معرفة هذه الحالة النّفسيّة هو توهّم الكمال وتصوّر وجود النّعمة، لا النّعمة نفسها، فالذي يرى في الآخرين نعمة حقيقيّة كانت، أو موهومة ويتمنّى زوالها، يعدّ حسودًا"1.
هذا حال من ضيّق على نفسه، وحُرم من لطف ربّه. أمّا من أدرك رحمة الله ورآها قد وسعت كلّ شيء، فسوف يرى مشهدًا آخر، وشتّان ما بين المشهدين.
عدم إدراك حقيقة الكمال
من الأمور التي تستدعي تأمّلًا في هذه القضيّة موضوع علاقتنا مع الكمال، لأنّ الحاسد، وبسبب عدم فهمه للكمال، يُبتلى بالغرق في هذه الحالة المدمّرة. ولا شكّ بأنّ معنى الكمال وكل ما يتعلّق به، أو بعبارة أخرى، رؤية الإنسان لحقيقة الكمال وتجلّياته، تخضع بدرجة كبيرة للتّربية والعقائد والأفكار السّائدة في المجتمع الذي يترعرع فيه.
تؤثّر الأفكار الجاهليّة في تكوين تصوّرات خاطئة عن الكمال، فكم من أمرٍ قد نحسبه كمالًا وهو ليس كذلك، كالرّئاسة والجاه والشّهرة، فهي أمور اعتباريّة ليس لها أيّة قيمة على صعيد كمال الإنسان الحقيقيّ. فلو عاش إنسان في هذه الدّنيا طوال حياته مغمورًا مجهولًا، فإنّ هذا الوضع لن يكون له تأثيرٌ على مقامه عند الله وكرامته الحقيقيّة، ما دام يعبد الله ويطيعه.
1 الأربعون حديثًا، ص 131.
142
114
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
ومن الكمالات التي يتوهّمها النّاس قضيّة الثّراء، فإنّ أكثر النّاس يعتقدون أنّ وجود مبالغ كثيرة من المال في خزانة فلان أو علّان تعطيه قدرة أو شرفًا، في حين أنّ الأمر ليس في الأرقام المسجّلة إلى جانب إشارة الدّولار أو ما شاكل، بل في حكمة هذا الثريّ وقدرته على استخدامها.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "أمّا من حيث حال المحسود، فمثل أن يُحْسد شخصٌ لما له من كمالات عقليّة، أو خصال حميدة، أو لما يتمتّع به من الأعمال الصّالحة والعباديّة، أو لأمور خارجيّة أخرى، مثل امتلاكه المال والجّاه والعظمة والاحتشام وما إلى ذلك، أو أن يحسد على ما يقابل هذه الحالات من حيث كونها من الكمال الموهوم الموجود في المحسود"1.
والأسوأ من هذا أن نعتبر القبائح والهتك فضيلة وكمالًا، يقول الإمام قدس سره: "فهناك بين النّاس أشخاص يحسبون الفتك بالغير وسفك الدّماء موهبةً عظيمةً، فإذا شاهدوا من هو كذلك حسدوه. أو قد يحسبون سلاطة اللسان وبذاءته من الكمالات، فيحسدون صاحبها. إذاً، فالمعيار في معرفة هذه الحالة النفسية هو توهّم الكمال وتصور وجود النعمة، لا النعمة نفسها، فالذي يرى في الآخرين نعمة حقيقية كان، أو موهومة ويتمنى زوالها، يعدّ حسوداً"2.
وأحد أخطر الأفكار وأشدّها تدميرًا لبنية الإنسان المعنويّة فكرة أنّ الكمال محدود، سواء من جهة القيمة أو المقدار. وكأنّ الكمال إذا أُعطي لإنسان سُلب من آخر. ويجري هذا المعنى بصورةٍ واسعة في القضايا الماديّة، كالثّروة والمال، حيث يعتقد أصحابه أنّ موارد الحياة محدودة. ومن الطبيعيّ أن ينشأ من هذا المعتقد اعتقادٌ آخر حول البقاء والسّعادة، كما هي العقيدة المالتوسيّة، التي برّرت الكثير من جرائم الاستعمار ونهبه.
وفي المقابل، لو آمن الإنسان بأنّ الكمال غير محدود، وأنّ عطاء الله غير محظور ولا مجذوذ، ﴿وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾3، ﴿عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾4، لصار مستعدًّا لفهم مسألة، يُعدّ الإيمان بها أساس السّعادة والرّضا والحياة الطيّبة، وهي أنّ الكمال مهما توزّع
1 الأربعون حديثًا، ص 131 - 132.
2 (م.ن), ص 131.
3 سورة الإسراء، الآية 20.
4 سورة هود، الآية 108.
143
115
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
وأفيض فإنّه لا ينقص. ولعلّ قول الإمام في الدّعاء المشهور: "يا من لا تزيده كثرة العطاء إلّا جودًا وكرما"1، أو الجملة الأخرى: "يا من لا تفني خزائنه المسائل"2. أفضل إشارة لهذه الحقيقة.
ويقدّم الإمام قدس سره تفسيرًا دقيقًا للعوامل التي تؤدّي إلى حالة الحسد في النّفس. بعض هذه العوامل يرجع إلى الإدراك، الذي يُعدّ الإيمان درجة مهمّة منه، وبعضها الآخر يرجع إلى عمليّة تشويه الفطرة والخلقة الإلهيّة الرّوحانيّة للإنسان، وبعضها مردّه حال النّفس وطبيعتها، التي هي مزيج تربية وسلوكيّات.
عدم الإيمان بعدل الله
لا شكّ بأنّ جمال صفات الحقّ وكمالاته تقوم على العدل، وإنّ الظّلم لا يمكن أن يعطي لأيّ كمالٍ جمالًا. فمن اتّهم الله في عدله، حُرم من مشاهدة جمال صفاته، ولهذا كان العدل الإلهيّ روح نظام العالم.
فنحن هنا أمام قضيّةٍ هي غاية في الأهميّة، وهي في المعرفة سابقة على الكثير من الصّفات، ولعلّه لهذا السّبب كان العدل صنو التوحيد وتاليه، بالرّغم من عدّه من الصّفات الفعليّة.
وعلى هذا الأساس، نرى أنّ من ينكر عدل الله أو ينسب إليه الظّلم هو إنسانٌ بعيدٌ كلّ البعد عن المعرفة التي ملأت أركان كلّ شيء، فهل يمكن أن نجد لمثل هذه المنكر المتّهم عذرًا؟!
وبناءً عليه، لم ولن يكون الجهل البسيط سببًا أو مبرّرًا لمن أنكر العدل وسخط على الحقّ تعالى في قسمته وعطائه. لمثل هذا نوجّه السؤال الآتي، ونقول: هل أنّ هذا الاختلاف في القسمة والعطاء من الله تعالى أم لا؟ فإذا أنكر أنّه من الله، فإن هذا الإنكار يستلزم الكفر بالتوحيد في الرازقية، وإذا قال أنّه من الله، نسأله: هل تظنّ أن الله يعطي جزافًا أو يمنح اعتباطًا؟
1 مفاتيح الجنان، دعاء الافتتاح.
2 الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في طلب الحوائج إلى الله.
144
116
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
ولو كان يملك الحدّ الأدنى من المعرفة بربّه، لعلم أنّ الله تعالى يستحيل أن يظلم، ولأدرك حينها أنّ هذا الانزعاج والتألّم الذي يجعله يتمنّى زوال تلك القسمة أو ذاك الكمال إنّما هو بسبب مرضٍ في قلبه، وهذا المرض الذي يُسمّى بالحسد، إذا لم تتم معالجته فسوف يحول دون تبدّل تلك المعرفة إلى إيمان. وعندما يعجز الإنسان عن تحصيل الإيمان في الحياة الدّنيا، ويموت وهو كافرٌ، فإنّ له عاقبة واحدة معروفة، نعوذ بالله من عذابه ونقمته.
يقول الإمام قدس سره: "وليعلم من يحسد الناس ويتمنّى زوال النّعمة عن الآخرين، ويحقد في قلبه على أصحاب النّعم، أنّه لا إيمان له بأنّ الله عزّ وجلّ من باب معرفة الصّالح أسبغ نعمه على أولئك، وأنّ إدراكنا لذلك قاصر. وليعلم أيضًا أنّه لا يؤمن بعدل الله تعالى ولا يرى التّقسيم عادلًا. إنّك في أصول العقائد تقول إنّ الله عادل، وما هذا إلاّ مجرّد لفظة على لسانك. إنّ الإيمان بالعدل يناقض الحسد. إنّك إذا كنت ترى الله عادلًا، لرأيت تقسيمه عادلًا أيضًا، وقد جاء في الحديث الشّريف: يقول الله عزّ وجلّ: "إنّ الحسود يشيح بوجهه عمّا قسمته بين العباد، وهو ساخط على نعمي"1.
ضمور الفطرة
عندما لا يجعل الإنسان حياته على أساس الإيمان، وعندما يرسم طريق سعيه بعيدًا عن الله، وعندما لا يطابق سلوكه مقتضيات حضور الله، وعندما تغيب قضيّة معرفة الله كهدف، فإنّ المتوقّع أن يضيع في متاهات جزئيّات الحياة، فتضيق عليه الأرض بما رحُبت. وبدلًا من أن يفتح قلبه ووجوده على الآفاق الواسعة اللامتناهية للعطاء الإلهيّ، يقوم هذا التّعيس بحصر حظوظه بما في أيدي النّاس، وهناك سيضيق صدره ويتولّد مرض الحسد المهلك.
إنّ نور فطرة الله تعالى يهدي إلى الكمال ويجذب إليه. فهذا الحبّ والتعلّق والانجذاب إلى الكمالات إنّما هو من هذه الوديعة الإلهيّة. بيد أنّ التّشخيص الخاطئ للكمال والتعلّق القلبيّ بالكمال الوهميّ يعميان عين الإنسان عن الكمال الحقيقيّ، ويؤدّي هذا الحال إلى انطفاء ذلك النّور بالكامل.
1 الأربعون حديثًا، ص 139.
145
117
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
ولأنّ الحسد في أحد أبعاده انزعاجٌ وانزجارٌ من الكمال والنّعمة، فإنّ عاقبته على نفس الإنسان ستكون وخيمة حيث يؤدّي إلى دمار إنسانيّته، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحَاسِدُ يَفْرَحُ بِالشَّرِّ وَيَغْتَمُّ بِالسُّرُور"1.
وتبدأ المشكلة بشعور الحاسد بالضّيق من الكمال أو النّعمة التي يمتلكها المحسود، لكنّ الأمر سرعان ما يتفاقم ليشوّه الإدراك الفطريّ للكمال، نظرًا لما يحدثه الحسد من نفور تجاه الخير والنّعمة.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة، وينفر بالفطرة كذلك من العسف والجور. إنّ الفطرة الإلهيّة الكامنة في أعماق البشر حبّ العدل والرّضى به، وكراهة الظّلم وعدم الانقياد له. فإذا رأى خلاف ذلك فليعلم أنّ في المقدّمات نقصًا. فإذا سخط على النّعمة وأعرض عن القسمة، فذلك لأنّه لا يرى ذلك عدلًا، بل يراه ـ والعياذ باللّه ـ جورًا. وليس معناه أنّه يرى القسمة عادلة ثم يعرض عنها، أو أنّه يرى الخطّة المرسومة مطابقة للنّظام الأتمّ والمصلحة التامّة، ثم يسخط عليها، بل يرى أنّ هذا جورٌ ومغايرٌ للعدل. أسفًا علينا!
إنّ إيماننا ناقصٌ، ولم تخرج أدلّتنا العقليّة من نطاق العقل لتصل إلى حدود القلب. ليس الإيمان بالقول والسّماع والمطالعة والمباحثة والنّقاش فحسب، وإنّما يتطلّب أيضاً خلوص النيّة.
إنّ الباحث عن الله يجده لا محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها، ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾2، ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾3"4.
الشّعور بحقارة النّفس
إنّ الانزعاج النّاشئ من رؤية ذلّة النّفس مقابل النّاس - لا مقابل الله لأنّه يكون شرفًا عظيمًا - لا يجتمع مع نور الإيمان، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا يَجْتَمِعُ الْحَسَدُ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ"5.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 22، باب تحريم الحسد ووجوب اجتنابه.
2 سورة الإسراء، الآية 72.
3 سورة النور، الآية 40.
4 الأربعون حديثًا، ص 139 - 140.
5 مستدرك الوسائل، ج12، ص18، باب تحريم الحسد ووجوب اجتنابه.
146
118
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
فمن كان مؤمنًا وحسودًا، فليعلم أنّ الإيمان والحسد يتنازعان على قلبه. وما لم يدخل في مجاهدة نفسه، فإنّ نار الحسد ودخانها الأسود سيستوليان على قلبه بسرعة تشبه سرعة انتشار النّار في الحطب الجّاهز.
يقول الإمام قدس سره: "للحسد أسبابٌ كثيرة، يرجع أكثرها إلى رؤية الذلّة في النفس، تمامًا كما أنّ الكبر ـ نوعًا ـ يتمّ على عكس ذلك. فكما أنّ المرء عندما يجد في نفسه كمالًا لا يجده في غيره، تنشأ عنده حالة من التّرفّع والتّعزّز والتّعالي في نفسه، فيتكبّر. وإذا لاحظ الكمال في غيره، انتابته حالة من الذلّ والانكسار. ولولا وجود عوامل خارجية ولياقات نفسانيّة، لنتج من ذلك الحسد. وقد ينشأ من تصوّر ذلّه في تساوي غيره معه، مِثل أن يحسد صاحب الكمال والنّعمة مثيله أو الذي يليه"1.
ولا شكّ بأنّ هذا العامل النفسيّ سيكون منشأً لآثار وحالات نفسيّة مرضيّة يؤدّي بعضها إلى الحسد في النّهاية. ولهذا، يبيّن الإمام أنّ العامل النفسيّ الأساس هو ما نعبّر عنه بعقدة الحقارة والدّونيّة. فمن نشأ في بيئة تعزّز فيه مثل هذه الخصلة السيّئة، ولم يدرك حقيقة العدل والحكمة في توزيع النّعم وإفاضة الكمال ابتُلي بالحسد.
يقول الإمام: "وقد حصر بعضهم ـ كالعلّامة المجلسيّ قدس سره ـ أسباب الحسد في سبعة أمور:
الأول: العداوة.
الثاني: التعزّز: أن يكون من حيث يعلم أنّه يستكبر بالنّعمة عليه، وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزّة نفسه.
الثالث: الكبر: أن يكون في طبعه أن يتكبّر على المحسود، ويمتنع ذلك عليه بنعمته، وهو المراد بالتكبّر.
الرابع: التعجّب: أن تكون النعمة عظيمة والمنصب كبيراً، فيتعجّب من فوز مثله بمثل تلك النّعمة كما أخبر الله تعالى عن الأمم الماضية، إذ قالوا: ﴿قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾2، و﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾3، وأمثال ذلك كثيرة فتعجّبوا من أن
1 الأربعون حديثًا، ص 132.
2 سورة يس، الآية 15.
3 سورة المؤمنون، الآية 47.
147
119
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
يفوزوا برتبة الرّسالة والوحي والقرب، مع أنّهم بشر مثلهم، فحسدوهم، وهو المراد بالتعجّب.
الخامس: الخوف: أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمة، بأن يتوصّل بها إلى مزاحمته في أغراضه.
السادس: حبّ الرئاسة: أن يكون يحّب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوى فيها.
السابع: خبث الطينة: أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب، بل لخبث النفس وشحّها بالخير لعباد الله.
ولكنني أعتقد أنّ معظم هذه الأسباب، بل كلّها تعود إلى رؤية ذلّ النفس، وإنّ السّبب المباشر للحسد حسب التّعريف المشهور له ما ذكرناه ـ انبعاث الحسد من رؤية ذلّ النّفس، فلا مجال لذكر هذه الأقسامـ. وأمّا بناءً على ما ذكرناه في معنى الحسد من أنّ نفس هذه الحالة تكون حسدًا، فلا اعتراض على صحّة ذكر هذه الأقسام"1.
ويُفهم من هذا أنّ اجتماع العوامل يشكّل علّة تامّة لظهور الحسد وإعماله. ونفهم منه كيف أنّ المؤمن قد يُبتلى بالحسد ولكنّه لا يستعمله، كما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْمُؤْمِنَ لَا يَسْتَعْمِلُ حَسَدَهُ"2.
إنّ المؤمن قد يكون ضعيف النّفس، وقد يكون بعض المؤمنين قد نشؤوا في بيئة تركت فيهم حالة الحقارة والذلّة النفسيّة، وهذا ما يدفعهم إلى الحسد. لكنّ إيمانهم يأتي لإنقاذهم ومنعهم من استعماله وإظهاره. فالمؤمن يستضيء بنور الإيمان ويسلّطه على نفسه، حتّى لا تغلبه بفعل أحوالها الأخلاقيّة الرّذيلة وطبائعها السيّئة.
وما لم يستعمل المؤمن إيمانه ويقذف بنوره على قلبه، فإنّ النّفس ستغلب في نهاية المطاف، وسيأكل الحسد الباطنيّ ما تبقّى من إيمانه ليتركه خالي الوفاض من كلّ خير.
1 الأربعون حديثًا، ص 132 - 133.
2 الكافي، ج8، ص 108.
148
120
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
المفاهيم الرئيسة
1- الحسد حالة نفسيّة يتمنّى صاحبها سلب الكمال والنّعمة اللذان يتصوّرهما عند الآخرين، سواء أكان يملكها أم لا، وسواء أرادها لنفسه أم لا. وهو يختلف عن الغبطة التي يريد صاحبها النّعمة التي توجد لدى الغير لكن دون تمنّي زوالها عنهم.
2- يتشكّل الحسد في النفس نتيجة:
- الإخفاق في تفسير الاختلافات: الحاسد، وبسبب عدم فهمه للكمال، يُبتلى بالغرق في هذه الحالة المدمّرة. وأحد أخطر الأفكار وأشدّها تدميرًا لبنية الإنسان المعنويّة فكرة أنّ الكمال محدود، سواء من جهة القيمة أو المقدار. وكأنّ الكمال إذا أُعطي لإنسان سُلب من آخر، لو آمن الإنسان بأنّ الكمال غير محدود، لعلم أنّه مهما توزّع وأفيض فإنّه لا ينقص.
- عدم الإيمان بعدل الله: فلو كان الإنسان يرى الله عادلًا لرأى قسمته عادلة ولما اعترض على القسمة الإلهيّة.
- ضمور الفطرة: نتيجة التّشخيص الخاطئ للكمال والتعلّق به وما يسبّبه الحسد من نفور تجاه الخير والنّعمة، فإنّ الأمر سرعان ما يتفاقم ليشوّه الإدراك الفطريّ للكمال.
- الشعور بحقارة النفس: فمن نشأ في بيئة تعزّز فيه مثل هذه الخصلة السيّئة، ولم يدرك حقيقة العدل والحكمة في توزيع النّعم وإفاضة الكمال ابتُلي بالحسد.
3- عندما تغيب قضيّة معرفة الله كهدف، فإنّه من المتوقّع أن يضيع الإنسان في متاهات جزئيّات الحياة، فتضيق عليه الأرض بما رحُبت. وبدلًا من أن يفتح قلبه ووجوده على الآفاق الواسعة اللامتناهية للعطاء الإلهيّ، يقوم بحصر حظوظه بما في أيدي النّاس، وهناك سيضيق صدره ويتولّد مرض الحسد المهلك.
4- يمكن للمؤمن أن يُبتلى بالحسد ولكن لا يستعمله، ولكن إذا لم يستعمل إيمانه ويقذف بنوره على قلبه، فسيأكل الحسد ما تبقّى من إيمانه.
149
121
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"الْحَمْدُ لِلهِ رِضًى بِحُكْمِ اللهِ، شَهِدْتُ أَنَّ اللهَ قَسَمَ مَعَايِشَ عِبَادِهِ بِالْعَدْلِ، وَأَخَذَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِالْفَضْلِ، اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ تَفْتِنِّي بِمَا أَعْطَيْتَهُمْ، وَلاَ تَفْتِنْهُمْ بِمَا مَنَعْتَنِي فَأَحْسُدَ خَلْقَكَ، وَأَغْمَطَ حُكْمَكَ، اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَطَيِّبْ بِقَضَائِكَ نَفْسِي، وَوَسِّعْ بِمَوَاقِعِ حُكْمِكَ صَدْرِي، وَهَبْ لِيَ الثِّقَةَ لأُقِرَّ مَعَهَا بِأَنَّ قَضَاءَكَ لَمْ يَجْرِ إلاَّ بِالْخِيَرَةِ، وَاجْعَلْ شُكْرِي لَكَ عَلَى مَا زَوَيْتَ عَنِّي أَوْفَرَ مِنْ شُكْرِي إِيَّاكَ عَلَى مَا خَوَّلْتَنِي وَاعْصِمْنِي مِنْ أَنْ أَظُنَّ بِذِي عَدَمٍ خَسَاسَةً، أَوْ أَظُنَّ بِصَاحِبِ ثَرْوَةٍ فَضْلاً، فَإِنَّ الشَّرِيفَ مَنْ شَرَّفَتْهُ طَاعَتُكَ، وَالْعَزِيزَ مَنْ أَعَزَّتْهُ عِبَادَتُكَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَمَتِّعْنَا بِثَرْوَةٍ لاَ تَنْفَدُ، وَأَيِّدْنَا بِعِزٍّ لاَ يُفْقَدُ، وَاسْرَحْنَا فِي مُلْكِ الأَبَدِ، إِنَّكَ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُواً أَحَدٌ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2.
2- ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾3.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا نظر إلى أهل الدّنيا.
2 سورة البقرة، الآية 109.
3 سورة النساء، الآية 54.
150
122
الدّرس العاشر: الحسد (1) - ماهية الحسد وكيفية تشكّله
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحسود غضبان على القدر"1.
2- عن الإمام الصادق عليه السلام: "والحسد أصله من عمى القلب والجحود بفضل الله تعالى وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً، ولا توبة لحاسد، لأنّه مصر عليه، معتقد به، مطبوع فيه، يبدو بلا معارض ولا سبب، والطبع لا يتغيّر عن الأصل، ولو عولج"2.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لله درّ الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله"3.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "صحّة الجسد من قلّة الحسد"4.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 21.
2 (م.ن)، ص 18.
3 غرر الحكم، ص 301.
4 نهج البلاغة، ص 513.
151
123
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أبرز علامات الحسد وآثاره الوخيمة على الإنسان في الدنيا والآخرة.
2- يتعرّف إلى الخطوات العلميّة والعمليّة للتخلّص من الحسد.
3- يشرح دور معرفة الله في التخلّص من الحسد.
153
124
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
تمهيد
لا يوجد بالنّسبة للمؤمن ما هو أهم من إيمانه بالله تعالى، لأنّه زاده الأوحد في الملتقى النّهائي. ولأنّ كلّ خير مهما بلغ إنّما يكون خيرًا وكمالًا إذا نبع من الإيمان. وهنا نجد الحسد يظهر كأكبر تهديد لإيماننا، لأنّه يحيل المرآة الصّافية للعالم إلى لوحة متكدّرة يكاد لا يُرى منها أيّ خير.
إنّ الحسود يمتنع عليه أن يرى وجه الجمال في الحياة وفي الكون. ولهذا سيحرم نفسه من فرصة التّكامل في ظلّ الإيمان.
وعندما يخبو نور الإيمان في القلب تبدأ الرّذائل الأخلاقية بالتّسلّل إليه، وأمّا ما كان منها كامنًا، فإنّه سرعان ما يجد لنفسه متّسعًا لكي يظهر ويقوى. ولهذا كان لا بدّ من العمل سريعًا لاجتثاث كل مسبّبات الحسد ومقوّياته. ولا يوجد في هذا المجال ما هو أهم من النّصائح الأبويّة التي تصدر من أولياء الله.
إلى أين يأخذنا الحسد؟
لقد ظهر من تحليل الحسد ودراسة عوامل نشوئه مجموعةٌ من الآثار، التي يكفي أيّ واحد منها ليكون بنفسه سببًا لهلاك الإنسان وشقائه الأبديّ.
1- سوء العلاقة مع الله
فالحسد، إذًا، تعبيرٌ نفسيّ عن سوء إدراك الإنسان لعالم الكمال (معنىً وحقيقةً وقسمةً وتوزيعًا وجمالًا). والكمال أفضل تعبير يختصر معنى حضور الله في حياة الإنسان وفي كلّ الوجود. ولهذا، كان الحسد في عمقه سخطٌ على الله تعالى، وقطيعة معه: فعن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: "قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: قالَ الله عَزَّ وَجلّ لِمَوسَى بنِ عُمْراِن: "يا
155
125
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
ابْنَ عُمْرانِ، لا تًحْسُدَنَّ النّاسَ عَلى ما اتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلي، ولا تَمُدَّنَّ عَيْنيكَ إِلى ذلِكَ، وَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ، فَإنَّ الحاسِدَ ساخِطٌ لِنِعَمي، صادٌ لِقِسْمِيَ الَّذي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبادي، وَمَنْ يَكُ ذلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنّي"1.
فصحيحٌ أنّ الحسد بظاهره هو مشكلة مع الخلق، لكنّه في حقيقة أمره مشكلة مع الله، ولهذا جاء في الأحاديث أنّه يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب.
أجل، إنّ فساد العلاقة مع الله هو أصل كلّ شقاء وخسران، مثلما أنّ صلاح العلاقة مع الله تعالى هو أساس كلّ صلاح.
ويقدّم لنا الإمام الخميني وصفًا دقيقًا لما يحدثه الحسد في القلب الذي يُفترض أن يكون محلّ الإيمان بالله ومستودعًا لتجلّياته، فيقول قدس سره: "ومعلوم أنّ الإِيمان نور إلهيّ يجعل القلب موضع تجلّيات الحقّ جلّ جلاله، كما جاء في الأحاديث القدسيّة: "لا يَسَعُنِي أَرْضي ولا سَمائي، بل يَسَعُني قَلْبُ عبدِي الْمؤمِنِ"2. فهذا النّور المعنويّ، وهذه البارقة الإلهيّة التي تجعل القلب أوسع من كلّ الموجودات، تتعارض مع هذا الضّيق والظّلام اللذين تسبّبهما هذه الرّذيلة، رذيلة الحسد. إنّ هذه الصّفة القبيحة تضغط على القلب وتضيّقه فتبدو آثارها في كلّ كيان الإنسان، باطنه وظاهره. إنّها تصيب القلب بالحزن والكدر، والصّدر بالاختناق والضّيق، والوجه بالعبوس والغضب. وهذه الحال تطفئ نور الإيمان، وتميت قلب الإنسان، وكلّما اشتدّت ازداد ضعف الإيمان. إنّ جميع الصّفات المعنويّة والظاهريّة للمؤمن، تتنافى والآثار التي يوجدها الحسد في ظاهر الإنسان وباطنه. إنّ المؤمن يحسن الظنّ باللّه تعالى، وهو راضٍ بقسمه الذي يقسمه بين عباده. أمّا الحسود فساخط على الله تعالى، يشيح بوجهه عن تقديراته"3.
ويحذّرنا الإمام قدس سره من التّساهل تجاه هذه الحالة السلبيّة تجاه ربّ العالمين، والتي قد نقوم بإخفاء سوئها ببعض الأعمال الصّالحة والعبادات ظنّاً منّا أنّها تشفع لنا مع إهمال
1 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح1.
2 الغزالي، إحياء العلوم، ج3، ص12.
3 الأربعون حديثًا، ص 134.
156
126
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
مرض القلب. أنّ الله تعالى يقول: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾1.
ويقول قدس سره: "في هذا اليوم إنّ حجب الطّبيعة الدّكناء والحجب الحاصلة من انشغالنا بهذه الطّبيعة قد حجبت جميع مشاعرنا، فأعمت أعيننا وأصمّت آذاننا، فلا ندري إنّنا غاضبون تجاه مالك الملوك ومعرضون عنه، ولا نعلم ما هي صورة هذا الغضب والإعراض في الملكوت حيث مساكننا الأصليّة الدّائميّة، وإنّما يصل إلى أسماعنا قول الإِمام الصادق عليه السلام: "ومَنَ يَكُ كَذلكَ فَلَسْتُ مَنْهُ وَلَيْسَ مِنّي"2، ولا نفهم ماذا يحمل لنا تبرّؤ الحقّ تعالى منّا، وإعراضه عنّا من مصائب إنّ من يخرج عن ولاية الله ويطرد من ظلّ راية أرحم الرّاحمين لن يكون له أمل في النجاة، ولن يشفع له أحد: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾3، من ذا الذي يتقدّم ليشفع لمن يسخط عليه الله ويكون خارجًا عن حرز ولايته، وقد انقطع حبل المودّة بينه وبين مالك الرّقاب؟ واسوأتاه! واحسرتاه على ما نفعله بأنفسنا! لم يفتأ الأنبياء والأولياء يصرخون في آذاننا ويريدون إيقاظنا من النوم، ولكنّنا نزداد غفلةً وشقاءً يومًا بعد يوم... ويكفي في شناعة هذه الرذيلة هو أن الحسد يقضي على الإيمان الذي يعدّ وسيلة النّجاة في الآخرة، وباعثًا لحياة القلوب، ويجعل الإنسان مفلسًا ومسكينًا"4.
2- منشأ للكثير من الأمراض القلبيّة الأخرى
لقد تبيّن لنا أنّ للحسد تأثيرًا كبيرًا في مرض القلب وتزلزل النّفس. الأمر الذي يكون بحدّ ذاته سببًا لتولّد أمراض أخلاقيّة عديدة. وبدورها، تكون هذه الرّذائل الأخلاقيّة علّة لصدور الكبائر والمعاصي الموبقة.
يقول الإمام قدس سره: "اعلم أنّ الحسد نفسه أحد الأمراض القلبية المهلكة، ويتولّد منه أيضاً أمراض قلبيّة كثيرة، كالكبر وفساد الأعمال وتُعدّ كلّ واحدة منها من الموبقات، وتشكّل سببًا مستقلًّا لهلاك الإنسان"5.
1 سورة الشعراء، الآيتان 88 و 89.
2 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح1.
3 سورة البقرة، الآية 255.
4 الأربعون حديثًا، ص 135.
5 (م.ن)، ص 133.
157
127
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
ويقول قدس سره: "إنّ المؤمن لا يتمنّى السّوء للمؤمنين، بل هم أعزّاء عنده، والحسود بعكس ذلك. المؤمن لا يغلبه حبّ الدّنيا، والحسود إنّما هو مُبْتَلى بشدّة حبّه للدنيا. والمؤمن لا يداخله خوفٌ ولا حزنٌ إلاّ من بارئ الخلق تعالى، أمّا الحسود فخوفه وحزنه يدوران حول المحسود. والمؤمن طلق المحيا، وبشراه في وجهه، والحسود مقطّب الجبين عبوس الوجه. والمؤمن متواضع، والحسود متكبّر في معظم الحالات"1.
3- الكدورة وضيق الصّدر
"إنّ الضّيق والضّغط والكدر والظّلام الذي يحصل في القلب بسبب الحسد قلّما يوجد في خلقٍ فاسدٍ آخر. وعلى أيّ حال، إنّ صاحب هذا الخُلُق يعيش في الدنيا معذّباً مبتلًى، ويكون له في القبر ضيق وظلمة، ويُحشر في الآخرة مسكينًا متألّمًا"2.
4- الجرائم وهتك النّواميس
وقد اشتُهر بين النّاس أنّ الكثير من العداوات التي تتسبّب بالجرائم والفظائع وهتك النّواميس وإسقاط الحرمات والصدّ عن سبيل الله وتعطيل المشاريع الإصلاحيّة وشلّ الحركة الإداريّة ترجع إلى الحسد.
يقول الإمام قدس سره: "وقلّما يتّفق أن لا تتولّد عن الحسد مفاسد أخرى فإنّ العديد من المساوئ الأخلاقية والأعمال السيئة تكون وليدة الحسد، كالكِبر في بعض الحالات، كما سبق، والغِيبة، والنميمة، والشتم، والإِيذاء، وغير ذلك مما هو من الموبقات والمهلكات"3.
إنّ الحسود يصل به الأمر أن يكون كتلك العصا التي توضع في عجلة الآلة العظيمة لإدارة المنظّمة. فكم ستكون الآثار وخيمة والأضرار كبيرة. وخصوصًا في الوقت الذي يتكالب فيه الأعداء المستكبرون على هذه الأمّة المحرومة المستضعفة. ولو قلنا بأنّ ضرر الحاسد على المجتمع أكبر من ضرر الأعداء الخارجيّين فلن نكون مبالغين.
1 الأربعون حديثًا، ص134 - 135.
2 (م.ن), ص136.
3 (م.ن), ص 136.
158
128
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
5- ضيق القبر وظلمته
إنّ الحسد، الّذي يعمي قلب الإنسان عن الكمال الواقعيّ، ويؤدّي إلى ضيق وعاء النّفس في استقبال فيض الحقّ المطلق، يظهر على حقيقته كلّما زالت القشور والأغلفة عن القلب. وعند زوال القشر الأوّل الذي هو هذا البدن الملكيّ، يظهر بصورة مهولة.
يقول الإمام قدس سره: "ومن مفاسد هذا الخلق الذميم -كما يقول العلماء - ضيق القبر وظلمته. إذ إنّهم يقولون إنّ صورة هذا الخلق الفاسد الرّديء، التي فيها ضيقٌ نفسيّ وكدرٌ قلبيّ، تشبه ضيق القبر وظلمته، إذ إنّ ضيق القبر أو اتّساعه منوط بضيق الصّدر أو انشراحه"1.
العلاج العلميّ للحسد
1- معرفة الله
لا يخفى أنّ فلسفة الوجود ومغزى الحياة يتكشّفان في ظلّ معرفة الله الخالق الموجد، ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾2. ولو انطلقنا من هذا المعنى الذي يختصر هدف الحياة، لاستطعنا أن نفهم كلّ شيء به.
إنّ مشيئة الحقّ تعالى اقتضت أن لا يكون في الوجود ما يحول دون تحقّق هذا الهدف. فالله غالبٌ على أمره. فإذا شاء أن يكون الخلق لكي يُعرف، فلا يُعقل أن يسمح بوجود شيء يمنع من هذه المعرفة. فجميع الشّياطين من الجنّ والإنس ، الّذين لا همّ لهم سوى الصدّ عن سبيل الله ، لن يتمكّنوا من سدّ باب معرفة الله أمام أيّ مخلوق يريد الوصول إليه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
أجل، إنّ هذا لا يعني سلب الإنسان حريّة الاختيار، ولهذا لم يكن الكفر والشّرك والجحود يومًا أمرًا قهريًّا. لهذا كان سوء الكفر وقبحه شديدًا، لأنّه ينبع من الاختيار التامّ والمخالفة الصّريحة الواضحة للحقّ تعالى.
1 الأربعون حديثًا، ص135.
2 سورة الطلاق، الآية 12.
159
129
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
ولأجل هذا، جعل الله كلّ الأشياء دلائل وآيات على وجوده وعظمته وصفاته وأسمائه. قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾1، وفي الدّعاء: "اللهمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء، وبقوّتك التي قهرت بها كلّ شيء، وبجبروتك التي غلبت بها كلّ شيء وبعزّتك التي لا يقوم لها شيء، وبعظمتك التي ملأت كلّ شيء، وبسلطانك الذي علا كلّ شيء، وبوجهك الباقي بعد فناء كلّ شيء، وبأسمائك التي ملأت أركان كلّ شيء، وبعلمك الذي أحاط بكلّ شيء"2.
يقول الإمام قدس سره: "وإنّ من معاني جامعيّة النبوّة الخاتمية ومقاماتها، بل من دلائل الخاتمية أنّه في جميع المقامات النفسية قد أعطى جميع حقوقها وحظوظها من جميع شؤون الشريعة. وكما أنّه في معرفة شؤون الربوبية جلّت عظمته عُرّف الحق سبحانه في العلوّ الأعلى والدنوّ الأدنى بمقام الجامعية، وقال: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾3، و﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾4 إلى آخره، "ولو دلّيتم بحبل من الأرضين السفلى لهبطتم على الله" ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾5، إلى غير ذلك ممّا قاله ويحصل به للعارف بالمعارف الإلهية والمجذوب بالجذبات الرحمانية طرب ملكوتي ووجد لاهوتي. كذلك فقد أسرى التوحيد العملي القلبي إلى آخر مراتب أفق الطبيعة وملك البدن، ولم يحرم موجودًا من حظ معرفة الله"6.
2- الإيمان بعدل الله
قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾7.
1 سورة فصّلت، الآية 53.
2 مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
3 سورة الحديد، الآية 3.
4 سورة النور، الآية 35.
5 سورة البقرة، الآية 115.
6 معراج السالكين، ص 90.
7 سورة النّساء، الآية 32.
160
130
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
إنّ سعة رحمة الله بعباده أن يريهم عدل قسمته، ويظهر لهم جمال نظامه وروعة خلقه، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِه"1. الحديث أنّ الله تعالى قد تجلّى في خلقه. فهل يُعقل والحال هذا أن يكون الخلق حجاب الحقّ بحيث لا نرى فيهم رحمة الله؟ وهل يمكن لكلّ هذه الاختلافات - التي يرجع أصلها إلى الله، لقوله تعالى: ﴿وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾2، ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾3ـ ، أن تحجب جمال الواهب المنعم الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة؟!
يجيب الإمام الخميني قدس سره على هذه التساؤلات بأبلغ بيان، فيقول: "إنّ من بين المعارف التي يصدّقها الحكماء والمتكلّمون وعامّة الناس من أهل الشرائع، ولا يشكّون فيها أبدًا، هو أنّ ما جرى به قلم الحكيم المطلق جلّت قدرته من الوجود والكمال ومن بسط النّعمة وتقسيم الآجال والأرزاق، جاء على خير تقدير وأجمل نظام، وهو يتطابق كلّ التّطابق مع المصالح التّامّة والنّظام الكليّ لأتمّ نظام متصوّر. ولكن يعبّر كلّ واحد ـ من الحكماء والمتكلّمين ، بلسانه الخاصّ واصطلاحه الذي يختصّ بفنّه الذي اتّخذه وسيلة لتبيان هذه النّعمة الإلهيّة والحكمة الكاملة. يقول العارف: ظلّ الجميل جميلٌ على الإطلاق. ويقول الحكيم: النّظام العينيّ المطابق للنّظام العلميّ خالٍ من النّقص والشّرور، والشّرور المتوهّمة الجّزئيّة هي من أجل إيصال الكائنات إلى كمالاتها التي تليق بها. ويقول المتكلّم وأهل الشّرائع: أفعال الحكيم تكون على أساس من الحكمة والصّلاح، وإنّ أيدي العقول البشريّة الجزئيّة المحدودة قاصرة عن إدراك المصالح العالية في التّقديرات الإلهيّة. هذا الموضوع يدور على ألسنة الجميع، وكلّ ما يستدلّ على ذلك بأدلّة تتناسب مع مدى سعة علمه وعقله. ولكن بما أنّه لم يتعدَّ حدود الأقوال إلى حيث القلوب والأحوال، فإنّ ألسنة الاعتراض مطلقة، وإنّ من لم يكن له حظّ من الإيمان يقوم بتفنيد برهانه وتكذيب قوله. وعلى هذا الأساس تكون المفاسد الأخلاقيّة"4.
1 نهج البلاغة، ص 155.
2 سورة النحل، الآية 71.
3 سورة النساء، الآية 78.
4 الأربعون حديثًا، ص 139.
161
131
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
وبالرّغم من أنّ كل هذه الاختلافات أو جلّها يرجع إلى ما ارتكبه النّاس بسوء فعلهم، فإنّ يد العدل الإلهيّ حاضرة دائمًا لإعادة التّوازن إلى نظام الحياة، بحيث لا تكون مظاهر الفساد تلك علّة تامّة لخفاء الحقّ وغيبته. وما أكثر الشّواهد التي يحملها كلّ واحدٍ منّا في نفسه وذاكرته، والتي تدلّنا على حكمة الله وعدله. وإنّ من حُرم فضلًا، عوّضه الله تعالى عنه بفضلٍ آخر، ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.
فالبيئة الاجتماعيّة التي لم تُبنَ على العدالة، لن تكون مظهرًا تامًّا للجّمال، ولن تصبح مهدًا مناسبًا للتّربية الإيمانيّة والمعنويّة. وإذا كنّا نتوقّع من مثل هذه البيئة أن تنشّئ أجيالًا إيمانيّة، فإنّ توقّعنا سيكون في غير محلّه.
لكنّ الله تعالى، وإبقاءً لحجّته، يفيض بأنوار هدايته على خلقه، فيريهم أنّ الظّلم لا يدوم، وأنّ وراء كلّ هذا التّفاوت والتفاضل مصلحةً كبرى وفتنةً واختبارًا، لكي يتكاملوا في مدرسة الحياة، ولكي لا تكون لهم الحجّة على ربّهم.
3- التّفكّر بالآثار الوخيمة للحسد
وهكذا يتزاحم النّور والظّلمة، نور هداية جمال الله وعدله، وظلمة المجتمع الفاسد والبعيد عن قيم الإسلام والمحكوم للطّاغوت. ويمدّ الله تعالى كلّ إنسان مكلّف بعقل يميّز به بين النّور والظّلام، والخير والشرّ، والكمال الحقيقيّ من الكمال الموهوم، فيبقى نور جمال الحقّ مشرقًا، ولو كره المشركون.
يقول الإمام قدس سره: "على الإنسان العاقل أن يشمّر عن ساعد الجدّ لينقذ نفسه من هذا العار وإيمانه من هذه النّار المحرقة والآفة الصّعبة، وأن ينجو بنفسه من ضغط الفكر وضيق الصّدر في هذه الدّنيا ـ وهما نوعان من العذاب المرافقان للعمر كلّه ـ وكذلك من الضّيق والظّلمة في القبر وفي البرزخ، ومن غضب الله تعالى. على الإنسان أن يفكّر قليلًا ليدرك أنّ أمرًا له هذا القدر من المفاسد يجب أن يعالج، مع العلم أنّ حسدك لن يضرّ المحسود، فلا تزول نعمته بمجرّد حسدك له، بل يكون له نفعٌ دنيويٌّ وأخرويّ، وذلك لأنّ شقاءك وحزنك وأنت عدوّه وحاسده يُعدّ نفعًا له، فهو يرى أنّه متنعّمٌ وأنت معذّبٌ بتنعّمه، وهذه نعمةٌ له. فإذا انتبهت لهذه النّعمة الثّانية التي تتوفّر للمحسود جلبت لنفسك عذابًا وضغطًا فكريًّا آخرَيْن
162
132
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
ويعتبر عذابك هذا نعمة له وهكذا. وعليه، فإنّك تكون دائمًا في عذابٍ وشقاءٍ وتعاسةٍ وغمّ، وهو في نعمةٍ وسرورٍ وانبساط. وفي الآخرة أيضًا يكون حسدك له نفعًا له، وخصوصًا إذا كان الحسد قد دفع بك إلى الغيبة والافتراء وسائر الرّذائل، ممّا يستوجب أخذ حسناتك وإعطائها له، فتعود أنت مفلسًا، ويزداد هو نعمة وعظمة. لو أنّك أمعنت الفكر في هذه الأمور لأقدمت على تطهير نفسك من هذه الرّذيلة، وأنقذت نفسك من هذه المهلكة"1.
العلاج العمليّ للحسد
1- العمل الصّالح
لا يخفى بأنّ الأصل والأساس في تهذيب النّفس وإصلاحها هو العمل وتطبيق الأفكار الحقّة ومجاهدة النّفس. فمجرّد العلم لا يعطي ثمرة ولا ينتج إصلاحًا. بيد أنّ العمل ينبغي أن ينبع من المعرفة، بل يجب أن يكون تجلّيًا للمعرفة. والعالم المجاهد الذي لا يستضيء بنور العلم، ولا يستحضر قوّته في قلبه سيعجز عن إصلاح نفسه وتزكيتها. وإنّ العلّاج العمليّ ينبغي أن يركّز على تقوية نور العلم في النّفس بدءًا من التصوّر ثمّ التّصديق، ومنه إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى أعلى درجات اليقين...
يقول الإمام قدس سره: "سبق القول بأنّ الإيمان، الذي هو حظّ القلب، غير العلم الذي هو حظّ العقل، ثمّ إنّ جميع المفاسد الأخلاقيّة والعمليّة تنشأ عن كون القلب غافلًا عن الإيمان، وأنّ ما يدركه العقل عن طريق البرهان العقليّ أو عن طريق أخبار الأنبياء لم يوصله إلى القلب، ولذلك فالقلب لا يعرف عنه شيئًا"2.
فليس العمل الصالح ما يقابل الإيمان، الذي هو رسوخ المعرفة في القلب، أو يقف بعرضه، بل إنّه ليس سوى تجلّي الإيمان وظهوره، ولهذا يدعو الإمام إلى العمل وفق ما يقتضيه الإيمان على صعيد الاعتقاد بعدل الله وحكمته: "ولا بُدَّ من تفهيم النّفس بأنّ هؤلاء هم من عباد الله المُخْلَصِين الذين شملهم توفيقٌ منه، ووهبهم هذه النّعم العظيمة، وهي نِعَم يجب أن تبعث في القلوب المحبّة لهم واحترامهم والخضوع لهم. فإذا رأى أنّ هذه الأمور التي يجب أن
1 الأربعون حديثًا، ص 136 - 137.
2 (م.ن)، ص 138.
163
133
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
تكون دافعًا على المحبّة والاحترام توجب نقيض ذلك فعليه أن يعلم أنّ الشّقاء قد اكتنفه من كلّ جانب، وأنّ الظّلام قد أحاط بباطنه، فلا بُدَّ أن يبادر إلى إصلاح نفسه بالطّرق العلميّة والعمليّة. وليعلم أنّه إذا اتّخذ طريق المحبّة فإنّه سرعان ما يكون موفّقًا، لأنّ نور المحبّة قاهرٌ للظّلمة ومزيلٌ للكدر، ولقد وعد الله تعالى المجاهدين أن يهديهم وأن يعينهم بلطفه الخفيّ ويوفّقهم، إنّه وليّ التوفيق والهداية"1.
2- العمل بخلاف الحسد والإحسان للمحسود
"وذلك بأن تتكلّف إظهار المحبّة للمحسود وترتّب الأمور بحيث يكون هدفك هو معالجة مرضك الباطنيّ. إنّ نفسك تدعوك لإيذائه واعتباره عدوًّا، وتكشف لك عن مساوئه ومفاسده. ولكن عليك أن تعمل خلافًا لما تريده النّفس، وأن تترحّم عليه وتحترمه وتجلّه. واحمل لسانك على أن يذكر محاسنه، واعرض أعماله الصّالحة على نفسك وعلى الآخرين، وتذكّر صفاته الجميلة. صحيح أنّ هذا سوف يكون متكلّفًا في بادئ الأمر ومن باب المجاز دون الحقيقة، ولكن لمّا كان الهدف هو إصلاح النّفس وإزالة هذه المنقصة والرّذيلة، فإنّ نفسك سوف تقترب في النّهاية من الحقيقة، ويخفّ تكلّفك شيئًا فشيئًا، وترجع نفسك إلى حالها الطّبيعي، وتصبح ذات واقعيّة. قل لنفسك، على الأقل: إنّ هذا الإنسان عبدٌ من عباد اللّه، ولعلّ الله نظر إليه نظرة لطف فأنعم عليه بما أنعم، خصّه دون غيره بها، خصوصًا إذا كان المحسود من رجال العلم والدّين، وأنّه محسودٌ على ذلك، فإنّ مثل هذا الحسد يكون أقبح، ومعاداة أمثال هؤلاء أسوأ عاقبةً"2.
"... عليك إذًا، أن تقوم جاهدًا، بتقليم فروع الحسد، والسّعي لإصلاح النّفس، ولا تدع شيئًا منه يترشّح إلى الخارج، وعندئذٍ تضعف جذوره، ويقف نموّه. وإذا وافتك المنيّة وأنت ماضٍ في سبيل الإصلاح والتّرويض للنّفس، فإنّ رحمة الله سوف تشملك، ولسوف ينالك العفو برحمة الله الواسعة وببركة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا بقيت منه باقية فإنّ بوارق الرّحمة الإلهيّة سوف تحرقها وتطهّر النفس وتزكّيها"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 140.
2 (م.ن).
3 (م.ن), ص 141.
164
134
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
المفاهيم الرئيسة
1- للحسد مجموعةٌ من الآثار وهي:
- سوء العلاقة مع الله: فالحسد، تعبيرٌ نفسيّ عن سوء إدراك الإنسان لعالم الكمال (معنىً وحقيقةً وقسمةً وتوزيعًا وجمالًا). والكمال أفضل تعبير يختصر معنى حضور الله في حياة الإنسان وفي كلّ الوجود. ولهذا، كان الحسد في عمقه سخطٌ على الله تعالى، وقطيعة معه. وفساد العلاقة مع الله هو أصل كل خسران.
- يتسبّب في الكثير من الأمراض القلبيّة الأخرى: كالكبر، والكدورة وضيق الصّدر.
ارتكاب الجرائم وهتك النّواميس.
- ضيق القبر وظلمته.
2- من علامات الحسد: غلبة حبّ الدنيا، تمنّي السوء للمؤمنين، عبوس الوجه، التكبّر.
3- العلاج العلميّ للحسد: معرفة الله - الإيمان بعدل الله - التفكّر بالآثار الوخيمة للحسد.
4- العلاج العمليّ للحسد
- العمل الصّالح: العمل وفق ما يقتضيه الإيمان على صعيد الاعتقاد بعدل الله وحكمته، وتقوية نور العلم في النّفس بدءًا من التصوّر وصولًا إلى اليقين.
- العمل بخلاف الحسد والإحسان إلى المحسود: تفهيم النّفس بأنّ هؤلاء هم من عباد الله المُخْلَصِين الذين شملهم توفيقٌ منه، ووهبهم هذه النّعم العظيمة. وهي نعم يجب أن تبعث في القلوب المحبّة لهم واحترامهم والخضوع لهم. فإذا رأى أنّ هذه الأمور توجب نقيض ذلك فعليه أن يعلم أنّ الشّقاء قد اكتنفه من كلّ جانب، وأنّ الظّلام قد أحاط بباطنه، ولكن لو اتّخذ طريق المحبّة فإنّه سرعان ما يكون موفّقًا، لأنّ نور المحبّة قاهرٌ للظّلمة ومزيلٌ للكدر، ولقد وعد الله تعالى المجاهدين أن يهديهم وأن يعينهم بلطفه الخفيّ ويوفّقهم.
165
135
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي رَوعِي مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّظَنِّي وَالْحَسَدِ ذِكْراً لِعَظَمَتِكَ، وَتَفَكُّراً فِي قُدْرَتِكَ، وَتَدْبِيراً عَلَى عَدُوِّكَ"1.
"... اللهمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي سَلاَمَةَ الصَّدْرِ مِنَ الْحَسَدِ، حَتَّى لاَ أَحْسُدَ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِكَ، وَحَتَّى لاَ أَرَى نِعْمَةً مِنْ نِعَمِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا أَوْ عَافِيَةٍ أَوْ تَقْوَى أَوْ سَعَةٍ أَوْ رَخَاءٍ، إلاَّ رَجَوْتُ لِنَفْسِي أَفْضَلَ ذَلِكَ بِكَ وَمِنْكَ، وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ"2.
الآيات الكريمة:
1- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾3.
2- ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾4.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام الصادق عليه السلام: "إيّاكم أن يحسد بعضكم بعضًا، فإنّ الكفر أصله الحسد"5.
2- عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ أبغضكم إليّ المترئّسون، المشّاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، ليسوا منّي ولا أنا منهم"، إلى أن قال: "والله، لو قدِم أحدكم بملء الأرض ذهباً على الله، ثمّ حسد مؤمناً، لكان ذلك الذهب ممّا يكوى به في النار"6.
1 الصّحيفة السجّادية، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق.
2 (م.ن)، دعاؤه عليه السلام عند الشدّة والجهد وتعسّر الأمور.
3 سورة آل عمران، الآية 118.
4 سورة المائدة، الآية 27.
5 الكافي، ج8، ص 7.
6 مستدرك الوسائل، ج12، ص 19.
166
136
الدرس الحادي عشر: الحسد (2) - آثار الحسد وعلاجه
3- عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال لقمان لابنه: للحاسد ثلاث علامات: يغتاب إذا غاب، ويتملّق إذا شهد، ويشمت بالمصيبة"1.
4- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَاناً"2.
5- عن الإمام الصادق عليه السلام: "بينما موسى بن عمران يناجي ربّه ويكلّمه، إذا رأى رجلاً تحت ظلّ عرش الله، فقال: يا ربِّ، من هو الذي أظلّه عرشك؟ فقال: يا موسى، هذا ممّن لم يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله"3.
1 مستدرك الوسائل، ج2، ص 442.
2 (م.ن)، ج9، ص 118.
3 (م.ن)، ج12، ص 15.
167
137
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى ماهيّة الشّخصيّة المدّعية أو المنافقة.
2- يتعرّف إلى بعض نماذج الشخصيّات المنافقة في مجتمعنا.
3- يبيّن مناشئ وعوامل تشكّل الشخصيّة المنافقة.
169
138
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
تمهيد
إنّ زينة الدّنيا وزخارفها عندما تصبح بيد الشّيطان ووساوسه تثير في نفس الإنسان رغبةً بالتّوجّه إليها بكلّ أبعادها. وإنّ فطرة الله تدعو الإنسان إلى الرّحيل، بل الفرار إليه ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾1، ولأنّ التوجّه إلى الدّنيا مناقضٌ للتّوجّه إلى الله، ولأنّ الأمرين لا يمكن أن يجتمعا في قلبٍ واحد، ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾2، ينشأ بسبب هذا التّناقض صراعٌ في النّفس، حيث يكون لكلّ توجّه جنودٌ وأعوان، ولا بدّ للإنسان من أن يحسم هذا الصّراع الذي يتغلغل في كلّ مراتب وجوده، قلبًا وذهنًا وجسدًا.
وعندما يتأخّر هذا الحسم ويتراخى صاحبه في التّعامل معه، فسوف يعيش التّذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ممّا يؤدّي في القريب العاجل إلى افتقاد نور الهداية واضمحلال نور معرفة الحقّ وعلامات الصّلاح، فلنحاول أن نتصوّر شخصًا يعيش في داخله تردّدًا بين كمال الدّنيا (الموهوم والمحدود) وبين كمال الآخرة وقرب الحقّ الذي هو الكمال المطلق الدّائم، أي بين الإيمان بالله والشكّ به، فأيّة حالة سيكون عليها هذا الإنسان؟ ما أبعده عن سهولة المخرج! وهل يمكن أن يبقى بعد ذلك في قلبه من نور يرى به الكمال؟!
مثل هذه الشّخصيّة جديرة بالدّراسة، وهي تحكي عن حالة مرضيّةٍ يمكن أن تكون موجودة فينا ولا نشعر. كما أنّ دراستها تعطينا فرصة مهمّة لمعرفة أنفسنا وأسرارها.
1 سورة الذاريات، الآية 50.
2 سورة الأحزاب، الآية 4.
171
139
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
ماهيّة الشخصيّة المنافقة
الشّخصيّة المنافقة أو المدّعية هي تلك الشّخصيّة التي تعيش هذه الحالة من الازدواجيّة والتّلوّن والوجهين. ويعبّر عن هذه الحالة بالمرض القلبيّ، حيث إنّ الأصل في القلب هو التّوجّه إلى مقصدِ واحدٍ. والمنافق شخصٌ لا يحسم توجّهه، فهو لا يستقرّ على حال أو جهة، ممّا يجعله في حالة من التّذبذب والتقلّب، حتّى ينتهي أمره، وقد خسر فرصته الوحيدة للسّفر إلى الله والسّير إلى لقائه.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "النفاق من الرذائل النفسانية والملكات الخبيثة التي تنجم عنها آثار كثيرة، منها هذان الأثران:
1- لقاء المسلمين بوجهين: وهو أن يبدي المرء ظاهر حاله وصورته الخارجيّة لهم على خلاف ما تكون في باطنه وسريرته. كأن يبدي أنّه من أهل المودّة والمحبّة لهم، وأنّه مخلصٌ حميمٌ، بينما يكون في الباطن على خلاف ذلك فيعاملهم بالصّدق والمحبّة في حضورهم، ولا يكون كذلك لدى غيابهم.
2- ذو اللسانين: وهو أن يثني على كلّ من يلقاه منهم ويمتدحه ويتملّق له ويظهر المحبّة له، ولكنّه في غيابه يعمد إلى تكذيبه وإلى استغابته. فبناءً على هذا التّفسير، تكون الحالة الأولى هي: "النّفاق العمليّ" والحالة الثّانية هي: "النّفاق القوليّ".
ويقول الإمام قدس سره في مكان آخر: "إنّ كل طائفة منّا تدّعي بلسانها وظاهر حالها أنّ لها مرتبتها وتتظاهر بحقيقة من الحقائق الشّائعة. فإذا كان هذا الظّاهر مطابقًا للباطن، واتّفق العلن مع السرِّ، وكان صادقًا مصدّقًا، فهنيئًا لأرباب النّعيم نعيمهم. أمّا إذا كان، مثل كاتب هذه السّطور، الأسود الوجه، القبيح، المشوّه الخلقة، فليُعلم أنّه من المنافقين وذوي الوجهين واللسانين"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 189.
172
140
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
نماذج من الازدواجية والنّفاق
﴿وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾1.
بدايًة، فلنستعرض مجموعة من الحالات المتعلّقة بالازدواجيّة في ساحتنا وبيئتنا المسلمة المتديّنة، بحسب ما ذكره الإمام الخميني قدس سره في الأربعون حديثًا:
1- مدّعو التّوحيد
"إنّ صفة التلوّن هذه تكون بحيث إنّنا ـ أنا وأنت ـ نقضي كلّ عمرنا ونحن نظهر التمسّك بكلمة التوحيد، وندّعي الإِسلام والإِيمان، بل المحبّة والمحبوبية، وغير ذلك من الادّعاءات على قدر ما نشتهي ونحبّ"2.
"يا من تدّعي الإِيمان وخضوع القلب في حضرة الله ذي الجلال، إذا كنت تؤمن بكلمة التوحيد، ولا يعبد قلبك غير الواحد، ولا يطلب غيره، ولا ترى الألوهية تستحق إِلاّ لذاته المقدسة، وإذا كان ظاهرك وباطنك يتّفقان فيما تدّعي، فلماذا نجدك وقد خضع قلبك لأهل الدنيا كل هذا الخضوع؟ لماذا تعبدهم؟"3.
2- عامّة النّاس
"فإذا كنّا من عامّة الناس وعوامهم ادّعينا الإِسلام والإِيمان والزّهد والخلوص"4.
"أيّها العزيز المدّعي للإسلام: قد ورد في "الكافي" حديث شريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ"، فلماذا نقوم أنا وأنت وعلى قدر ما نستطيع ونتمكّن، على إيصال الأذى إلى من هم أقلّ منّا، ولا نمتنع عن ظلمهم والإِجحاف بحقّهم؟ وإذا لم تصل أيدينا إليهم فلن نتوقّف عن تجريحهم بحدّ اللسان في حضورهم، أو حتى في غيابهم، فنعمد إلى هتك أسرارهم، والكشف عن مكنوناتهم، واغتيابهم، وإلصاق التّهم بهم. إذاً، فادّعاؤنا نحن الذين لا يسلم المسلمون من أيدينا وألسنتنا، للإِسلام مخالف
1 سورة التوبة، الآية 54.
2 الأربعون حديثًا، ص 188.
3 (م.ن), ص 189 - 190.
4 (م.ن), ص 188.
173
141
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
للحقيقة، وباطننا يخالف ظاهرنا، وإنّنا من زمرة المنافقين، ومن ذوي الوجهين"1.
"وأنت يا من تدّعي الزهد والإِخلاص، إذا كنت مخلصاً حقاً، وإنّك لأجل الله ولأجل دار كرامته تزهد عن مشتهيات الدنيا، فما الذي يحملك على أن تفرح بمدح الناس لك والثناء عليك بقولهم إنك من أهل الصلاح والسداد؟ فيملأ السرور قلبك، ولماذا لا تبخل بشيء في سبيل مجالسة أهل الدنيا وفي سبيل زخارفها، وتفرّ من الفقراء والمساكين؟ فاعلم أنّ زهدك وإخلاصك ليسا حقيقيين، بل إنّ زهدك في الدنيا هو من أجل الدنيا، وإن قلبك ليس خالصاً لوجه الله، وإنّك كاذب في دعواك، وإنّك من المتلوّنين المنافقين"2.
"وكما أنّ ادّعاء "رضيت بالإسلام دينًا، وبمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًّا ورسولًا، وبالقرآن كتابًا، وبعليّ أمير المؤمنين وأولاده المعصومين عليه السلام أئمّة"، يُعتبر ـ إذا لم يكن مقرونًا، لا سمح الله، بحقيقة الرّضا ـ من النّفاق والكذب، فلا يمكن أن يدّعي هذا الرّضا من لم يخضع للقواعد الدّينيّة الإسلاميّة ويرضى بها، ويفرح بالأحكام الإسلاميّة حتى لو أضرّت به أو بعائلته، بل ولا يمكن أن يدّعي هذا الرّضا، من يعترض ـ في قلبه ـ على أحد الأحكام الإسلاميّة، أو يتأذّى قلبيًّا منه، أو يتمنّى قلبيًّا تغييره إلى حكمٍ آخر، أو يصرّح بذلك، فهذا ليس راضيًا عن دين الإسلام أساسًا، ولا عن سائر الأمور الأُخر"3.
3- أهل العلم والفقه
وإِذا كنّا من أهل العلم والفقه، ادّعينا كمال الإِخلاص والولاية وخلافة الرّسول، متشبّثين بما نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "اللهمَّ ارْحَمْ خُلَفَائِي"، وبقول الإِمام صاحب الزّمان - روحي له الفداء -: "إنّهم حجّتي"، وغير ذلك من الأقوال المنقولة عن أئمّة الهدى عليهم السلام في شأن العلماء والفقهاء"4.
1 الأربعون حديثًا، ص189.
2 (م.ن), ص 190.
3 معراج السالكين، ص 163.
4 الأربعون حديثًا، ص 188.
174
142
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
"أنت يا من تدّعي الولاية من جانب وليّ الله، والخلافة من جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن كان واقعك مطابقًا للحديث المرويّ في كتاب "الاحتجاج": "صَائِنَاً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَواهُ، مُطِيعاً لأَمْرِ مَوْلاه"1. وإذا كنت ورقة على غصن الولاية والرّسالة، ولا تميل إلى الدّنيا، ولا تحبّ التّقرّب إلى السّلاطين والأشراف، ولا تنفر من مجالسة الفقراء، فإنّ اسمك يطابق مسمّاه، وإنّك من الحجج الإِلهيّة بين النّاس، وإلاّ فإنّك من علماء السّوء، وفي زمرة المنافقين، وحالك أسوأ من الطّوائف التي ذكرناها، وعملك أقبح، ويومك أشدّ سوادًا، لأنّ الحجّة على العلماء أتم"2.
4- الحكماء
"وإذا كنّا من أهل العلوم العقليّة، ادّعينا الإِيمان الحقيقيّ المبرهن، وزعمنا أنّنا نملك علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، معتقدين أنّ سائر خلق الله ناقصو علم وإيمان، ونستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث الشّريفة الواردة بحقّنا"3.
"أنت يا من تدّعي امتلاك الحكمة الإِلهيّة والعلم بحقائق المبدأ والمعاد، إذا كنتَ عالمًا بالحقائق في الأسباب والمسبّبات، وإذا كنت حقًّا عالمًا بالصّور البرزخيّة وأحوال الجنّة والنّار، فلا بُدّ أن لا يقرّ لك قرار، وعليك أن تصرف كلّ وقتك في إعمار عالم البقاء، وأن تهرب من هذه الدّنيا ومغرياتها، فأنت عالم بما هنالك من مصائب وظلام وعذاب لا يطاق. إذًا، لماذا لا تتقدّم ولو خطوة واحدة خارج حجب الكلمات والألفاظ والمفاهيم، ولم تؤثّر في قلبك البراهين الفلسفيّة قدر جناح ذبابة؟ إذًا، أنت خارج عن زمرة المؤمنين والحكماء، ومحشور في زمرة المنافقين، وويل للذي يقضي عمره وسعيه في علوم ما وراء الطبيعة، دون أن يسمح له انتشاؤه بخمر الطبيعة، ولو بدخول حقيقة واحدة إلى قلبه"4.
1 الطبرسي، الاحتجاج، ج2، احتجاجات الإمام حسن العسكري عليه السلام، ص458.
2 الأربعون حديثًا، ص 190.
3 (م.ن), ص 189.
4 (م.ن)، ص 191.
175
143
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
5- أهل العرفان والتصوّف
"وإذا كنّا من أهل العرفان والتصوّف، ادّعينا المعارف الإلهيّة والانجذاب الرّوحيّ والفناء في الله، والبقاء بالله، وولاية الأمر، وما إلى ذلك من الأقوال مما يخطر بالبال من الألفاظ الجذّابة"1.
"وأنت يا من تدّعي المعرفة والانجذاب والسّلوك والمحبّة والفناء، إذا كنت حقًّا من أهل الله ومن أصحاب القلوب، ومن ذوي السّابقة الحسنة، فهنيئًا لك. ولكن كلّ هذه الشّطحات وهذا التّلوّن وتلك الادّعاءات اللامسؤولة التي تكشف عن حبّ الذّات ووسوسة الشّيطان، تتعارض مع المحبّة والانجذاب "إنَّ أَوْلِيَائِي تَحْتَ قِبَابِي لاَ يَعْرِفُهُمْ غَيْرِي"2 ... فإذا لم تكن صادقًا في دعواك، فأنت في زمرة أهل النّفاق، ومن ذوي الوجهين"3.
من أين ينشأ النّفاق؟
1- حبّ الدّنيا
بالتّأمّل والتّحليل لشخصيّة المنافقين المعلنين والذين استفحل فيهم المرض وانكشفوا أمام المسلمين، نجد أنّ العامل الأساسيّ الذي جعلهم يعيشون هذه الازدواجيّة، فأعلنوا الإسلام وتظاهروا بالإيمان والعمل الصّالح، لكنّهم أخفوا في أنفسهم حالات الشكّ والكفر وسوء الظّنّ بالله تعالى، هو المصلحة الشّخصيّة المتمثّلة بحبّ الدّنيا والطّمع بمكتسباتها. إنّ هؤلاء كانوا يرون فرصةً في البقاء بين المسلمين لتحصيل بعض المكتسبات، ولم يؤمنوا بما آمن به المسلمون قطّ. لقد أعمت قلوبهم حالة الطّمع وسلبتهم القدرة على التّفكير الصّحيح، فترسّخ الكفر في قلوبهم لأنّهم لم يأبهوا به. وهكذا نرى مرّة أخرى كيف أنّ حبّ الدّنيا منشأ جميع المفاسد والرّذائل الأخلاقيّة، خصوصًا إذا استقرّ في قلب نفسٍ ضعيفة وبالعقد والوساوس ممتزجة.
1 الأربعون حديثًا، ص 189.
2 الغزالي، إحياء العلوم، ج4, ص 256.
3 الأربعون حديثًا، ص 191.
176
144
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
يقول الإمام قدس سره: "اعلم أيّها العزيز، أنّنا ما دمنا في هذه الحجب الغليظة لعالم الطّبيعة، ونصرف الوقت في تعمير الدّنيا ولذائذها، ونحن عن الحقّ تعالى وذكره والتّفكّر فيه غافلين، فجميع عباداتنا وأذكارنا وقراءاتنا عارية عن الحقيقة، فلا في الحمد لله نتمكّن من حصر المحامد بالحقّ، ولا في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾1 نسلك طريقًا من الحقيقة، بل نحن مع هذه الدّعاوى الفارغة مخزيّون وناكسو الرّؤوس في محضر الحقّ تعالى والملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين والأولياء المعصومين.
"فإنّ من كان لسان حاله ومقاله مشحونًا بمدح أهل الدّنيا، كيف يقول الحمد لله؟ وإنّ من كانت وجهة قلبه إلى الطّبيعة ولم يشمّ رائحة الألوهيّة وكان اعتماده واتّكاله على الخلق، فبأيّ لسان يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾؟ فإذا كنت من رجال هذا الميدان فشمّر ذيل الهمّة، وأوصل إلى قلبك هذه الحقائق واللطائف في أوائل الامر بشدّة التّذكّر والتّفكّر في عظمة الحقّ وفي ذلّة المخلوق وعجزه وفقره، وأحيي قلبك بذكر الحقّ تعالى كي تصل رائحة من التّوحيد إلى شامّة قلبك وتجد طريقًا إلى صلاة أهل المعرفة بالإمداد الغيبيّ. وإن لم تكن من رجال هذا الميدان فلا أقل اجعل نقصك نصب عينيك وتوجّه إلى ذلّتك وعجزك وقم بالأمر بالخجل والاستحياء، واحذر من دعوى العبوديّة، واقرأ هذه الآيات الشّريفة التي لست متحققًّا بلطائفها إمّا بلسان الكمّل، وإمّا أن يكون في نيّتك قراءة سورة القرآن صرفًا، حتّى لا تدّعي باطلًا، ولا يكون ادّعاؤك كاذبًا على الأقلّ"2.
2- الاعتقاد بوجود مؤثّر غير الله
"يا من تدّعي الإِيمان وخضوع القلب في حضرة الله ذي الجلال، إذا كنت تؤمن بكلمة التّوحيد، ولا يعبد قلبك غير الواحد، ولا يطلب غيره، ولا ترى الألوهيّة تستحق إِلاّ لذاته المقدّسة، وإذا كان ظاهرك وباطنك يتّفقان فيما تدّعي، فلماذا نجدك وقد خضع قلبك لأهل الدّنيا كلّ هذا الخضوع؟ لماذا تعبدهم؟ أليس ذلك لأنّك ترى لهم تأثيرًا في هذا العالم، وترى أنّ إرادتهم هي النّافذة، وترى أنّ المال والقوّة هما الطّاقة المؤثّرة والفاعلة؟
1 سورة الفاتحة، الآية 5.
2 معراج السالكين، ص 286.
177
145
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
وإنّ ما لا تراه فاعلًا في هذا العالم هو إرادة الحقّ تعالى، فتخضع لجميع الأسباب الظاهريّة، وتغفل عن المؤثّر الحقيقيّ وعن مسبّب جميع الأسباب، ومع كلّ ذلك تدّعي الإِيمان بكلمة التوحيد. إذًا، فأنت أيضًا خارج عن زمرة المؤمنين، وداخل في زمرة المنافقين، ومحشور مع أصحاب اللسانين1.
3- الغفلة عن إصلاح النّفس
ومثل هذه الحالة إذا أُهملت، تشتدّ وتستحكم مع مرور الزّمن. فقد يكون النّفاق شعبة دقيقة في القلب، وصاحبه لا يشعر. وبسبب الغفلة وترك المجاهدة والمراقبة، تمتدّ جذوره وتتشعّب فروعه حتّى تغطّي القلب كلّه.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فإذا لم يقف الإِنسان بوجه هذه الصّفة ولم يردعها، وترك نفسه وشأنها، فلن يمضي وقتٌ طويل حتى يفلت الزّمام منه، ويصبح كلّ همّه واهتمامه منصبًّا على تلك الرّذيلة، حتّى أنّه لا يلتقي شخصًا إلاّ وعامله معاملة ذي الوجهين وذي اللسانين، ولا يعاشر أحدًا إلاّ وخالطت معاشرته تلك الصّفة من التلوّن والنّفاق، دون أن يخطر له شيء سوى منافعه الخاصّة وأنانيّته وعبادته ولذّاته، واضعًا تحت قدميه الصّداقة والحميّة والهمّة والفتوّة. ومتّسمًا في كلّ حركاته وسكناته بالتلوّن، ولا يمتنع عن أيّ فساد وقبح ووقاحة"2.
4- الادّعائية
إنّ الادّعائيّة تبدأ صغيرة أو محدودة، وتصبح مع مرور الوقت حالة راسخة إلى الدّرجة التي لا يشعر معها صاحبها أنّها موجودة في كلّ شيء. فيدّعي الإيمان ومقامات القرب، ولا يكترث إذا كان ادّعاؤه كاذبًا، ولا يلتفت إلى قبح ذلك، فيما إذا كان بين يديّ الله تعالى.
كما أنّ أكثر النّاس يبدؤون مع الادّعاء، وتكون عباداتهم محض ادّعاء دون قصد معانيها، كما يحصل في الصّلاة التي تحتوي على أعظم المعاني والأسرار الغيبيّة والحقائق العرفانيّة. وإنّما كان برنامج الدّين على هذا المنوال من أجل أن يتمرّن النّاس على إدخال هذه المعاني
1 الأربعون حديثًا، ص 189 - 190.
2 (م.ن), ص 184.
178
146
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
من خلال التّوجّه إليه أثناء عباداتهم شيئًا فشيئًا. فإذا أهملوا ذلك، ولم يكترثوا لتلك الأسرار والحقائق، لم يبقَ من عباداتهم سوى تلك الحالة التي يصبحون معها سود الوجوه في المحضر الإلهيّ.
ويذكر الإمام قدس سره هذه الحقيقة قائلًا: "وإذا كان في القلب شائبة في هذه الدّعاوى ـ التي تكون الأوضاع الصّلاتيّة إشارة إليها ـ فهو نفاق عند أرباب المعرفة، وحيث إنّ خطر هذا المقام أعظم الأخطار، فيلزم للسّالك إلى الله أن يتمسّك بذيل عناية الحقّ جلّ وعلا، بجبلّته الذّاتيّة وفطرته القلبيّة، ويسأله العفو عن التّقصيرات بالذلّة والمسكنة، لأنّ هذا المقام مقامٌ خطيرٌ خارج عن عهدة أمثالنا"1.
ويقول قدس سره: "الشّهادة القوليّة وهي معلومة. وهذه الشّهادة القوليّة اذا لم تكن مشفوعة بالشّهادة القلبيّة، ولو ببعض مراتبها النّازلة، لا تكون شهادة، بل تكون خدعةً ونفاقًا... فعلى السّالك أن يجعل الشّهادة الصّوريّة بقصر المعبوديّة للحقّ تعالى جلّت عظمته منطبقة على الشّهادة القلبيّة الباطنيّة، ويعلم أنّه إن كان في القلب معبودٌ سواه فهو منافق في هذه الشّهادة"2.
1 معراج السالكين، ص 354.
2 (م.ن)، ص 145.
179
147
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
المفاهيم الرئيسة
1- الأصل في القلب هو التّوجّه إلى مقصدِ واحدٍ. والمنافق شخصٌ لم يحسم توجّهه، فهو لا يستقرّ على حال أو جهة، ممّا يجعله في حالة من التّذبذب والتقلّب والازدواجيّة والتلوّن، حتّى ينتهي أمره وقد خسر فرصته الوحيدة للسّفر إلى الله والسّير إلى لقائه.
2- النفاق العملي هو لقاء المسلمين بوجهين فيبدي المرء ظاهر حاله وصورته الخارجيّة لهم على خلاف ما تكون في باطنه وسريرته، والنفاق القولي هو الثّناء على كلّ من يلقاه من المسلمين وامتداحه والتملّق له، ولكنّه في غيابه يعمد إلى تكذيبه وإلى استغابته.
3- في ساحتنا وبيئتنا المسلمة المتديّنة نماذج وحالات متعلقة بالازدواجية، منها:
- ادّعاء التّوحيد وخضوع القلب لأهل الدنيا.
- ادّعاء الإِسلام والإِيمان مع عدم الامتناع عن إلحاق الظلم والإِجحاف بحقّ الآخرين.
- ادّعاء أهل العلم كمال الإِخلاص والولاية وخلافة الرّسول مع الميل الى الدنيا.
- ادّعاء الحكماء الإِيمان الحقيقيّ المبرهن، دون التقدّم ولو خطوة خارج حجب الألفاظ.
4- ينشأ النّفاق من:
- حبّ الدّنيا.
- الاعتقاد بوجود مؤثّر غير الله.
- الغفلة عن إصلاح النّفس: قد يكون النفاق شعبة في القلب ويعود ليغطّيه بأكلمه.
- الادّعائية: كأداء العبادة دون قصد المعاني كما يحصل في الصّلاة.
180
148
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللّهُمَّ ماكانَ فِي قَلْبِي مِنْ شَكٍّ أَوْ رِيْبَةٍ أَوْ جُحُودٍ أَوْ قُنُوطٍ أَوْ فَرَحٍ أَوْ بَذَخٍ أَوْ بَطَرٍ أَوْ خُيَلاَء أَوْ رِياءٍ أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شِقاقٍ أَوْ نِفاقٍ أَوْ كُفْرٍ أَوْ فُسُوقٍ أَوْ عِصْيانٍ أَوْ عَظَمَةٍ أَوْ شَيْء لا تُحِبُّ فأَسْأَلُكَ يارَبِّ أَنْ تُبَدِّلَنِي مَكانَهُ إِيماناً بِوَعْدِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ، وَرِضاً بِقَضائِكَ، وَزُهْداً فِي الدُّنْيا، وَرَغْبَهً فِيما عِنْدَكَ، وَأَثَرَةً وَطمْأَنِينَةً وَتَوْبَةً نَصُوحاً، أَسْأَلُكَ ذلِكَ يارَبَّ العالَمِينَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾2.
2- ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "المنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، إذا قام في الصلاة اعترض، وإذا ركع ربض، وإذا سجد نقر، وإذا جلس شغر، يمسي وهمه الطّعام وهو مفطر، ويصبح وهمّه النّوم ولم يسهر، إن حدّثك كذّبك، وإن وعدك أخلفك، وإن ائتمنته خانك، وإن خالفته اغتابك"4.
2- عن الإمام علي عليه السلام: "المنافق إذا نظر لها، وإذا سكت سها، وإذا تكلم لغا، وإذا استغنى طغا، وإذا أصابته شدة ضغا، فهو قريب السخط بعيد الرضا، يسخطه على
1 مفاتيح الجنان، دعاء أول ليلة من شهر رمضان.
2 سورة النساء، الآية 142.
3 سورة التوبة، الآية 67.
4 بحار الأنوار، ج64، ص 291.
181
149
الدرس الثاني عشر: النفاق (1) - ماهية النفاق ومنشؤه
الله اليسير، ولا يرضيه الكثير، ينوي كثيرا من الشر ويعمل بطائفة منه، ويتلهّف على ما فاته من الشرّ، كيف لم يعمل به"1.
3- عن الإمام الصادق عليه السلام: "أربعٌ من علامات النفاق: قساوة القلب، وجمود العين، والإصرار على الذنب، والحرص على الدنيا"2.
4- عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعٌ من كنّ فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"3.
5- عن الإمام علي عليه السلام: "لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجماتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، وذلك أنّه قضي، فانقضى على لسان النبيّ الأميّ صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: يا علي، لا يبغضك مؤمن، ولا يحبّك منافق"4.
1 بحار الأنوار، ج75، ص 50.
2 مستدرك الوسائل، ج11، ص 367.
3 بحار الأنوار، ج69، ص 261.
4 نهج البلاغة، ص 477.
182
150
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن الآثار الوخيمة للنّفاق وكيف يؤدّي إلى نسيان النّفس والغفلة عن عيوبها.
2- يتعرّف إلى المساوئ الأخلاقيّة الأخرى التي يوقعنا فيها النّفاق.
3- يبيّن دور الاعتراف بالعجز ومراقبة النفس في الخروج من النّفاق.
183
151
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
تمهيد
غالبًا ما تأخذنا الدّراسات الأخلاقيّة إلى فهم أعمق لأوضاع المجتمعات البشريّة، فنفهم معها الكثير من الوقائع والأحداث التي جرت وأدّت إلى تحوّلات كبيرة رسمت مصيرها. لقد كان لتيّار النّفاق في المجتمع المسلم في بداية عهده الأثر الكبير لما جرى على الإسلام والمسلمين فيما بعد. ويمكن القول أنّ ما شهدناه من أوضاع محوريّة في هذا المجال إنّما كانت بسبب هذه الموبقة.
وبالإضافة إلى الآثار الإجتماعية، فإنّ أكثر الكتابات الأخلاقيّة التي تعرّضت لهذا المرض المهلك تناولت الآثار الفرديّة على مستوى النّفس وحالاتها. إلّا أنّ أساس النّهوض للإصلاح يكمن في النّظر إلى هذا المرض كحالة نفسيّة تستفحل من جرّاء عدم الاهتمام الكافي بمراقبة النّفس. فهو مرض خفيّ له شعب كثيرة لا تنحصر بعدد قليل من الناس!
ما هي الآثار التي تنجم عن الازدواجية؟
1- نسيان النّفس
قد علمنا ممّا ذُكر بعض الآثار الوخيمة لصفة النّفاق والازدواجيّة. ولعلّ أخطر ما فيها على مستوى المريض نفسه هو أنّه لن يتمكّن بعد استفحالها من معرفة نفسه أو عيوبها، فمثله كمثل الذي استمرّ في الكذب حتّى صدّق كذبته، ولهذا قد ترجو لشخص توغّل في المعاصي والموبقات وهو يعترف بسوء حاله، لكن من الصّعب أن تأمل خيرًا فيمن يدّعي أنّه على خير لكنّه ليس كذلك في الحقيقة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أيّها العزيز، أنّ من مراتب النفاق وذي اللسانين والوجهين، النفاق مع الله تعالى والتوجّه إلى مالك الملوك ووليّ النِعم بوجهين، حيث نكون
185
152
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
المبتلين به في هذا العالمُ ونحن غافلون عنه، لأنّ أستار الجهل الكثيفة وحجب الأنانية المظلمة وحبّ الدنيا وحبّ الذات مسدولة عليه ومختفية عنّا، ومن الصعب جداً أن ننتبه له قبل انكشاف السرائر، ورفع الحجب، والظعن عن دنيا الطبيعة، وشدّ الرحال عن دار الغرور ودار الجهل والغفلة.
إنّنا الآن غارقون في نوم الغفلة، محكومون لسكر الطّبيعة، والميول والرّغبات التي تزيّن لنا كلّ قبائح الأخلاق وفساد الأعمال، وإذا ما استيقظنا وصحونا من هذه السّكرة العميقة يكون قد فات الأوان، إذ نجد أنفسنا قد صرنا في زمرة المنافقين وذي الوجهين واللسانين وحُشرنا بلسانين من نار، أو بوجهين مشوّهين بشعين! وعندئذٍ لن تنفعنا نداءاتنا ﴿قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾، إنّنا نجاب بـ كلاّ"1.
2- الذّلّ والفضيحة في الدّنيا
لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أنّ أساس الازدواجيّة والادّعائيّة يرجع إلى أنّ المدّعي يجد في إظهار حقيقة ما في نفسه تعارضًا مع مصلحته ودوافعه الباطنيّة. فالذين حسموا أمرهم لصالح الدّنيا ينسجمون في كلّ مراتب وجودهم معها، فهم عاشقون للدّنيا قلبًا وقولًا وعملًا، لكنّ المذبذب المنافق يخشى إن أظهر ما في دخيلة نفسه أن يُحرم من الوصول إليها. وخطر مثل هذه الشخصيّة أشدّ وأقبح، لأنّ صاحبها يقدّم أنموذجًا سيّئًا للدّين والإيمان، فيكون بذلك قاطع طريق المعنويّات والرّوحيّة الصّادقة. وللمنافق في الدّنيا عاقبة سيّئة، وإن كانت لا تُقارن بعقوبة الآخرة.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ النفاق والاتّصاف بذي الوجهين، وإن كانا في أنفسهما من الصفات القبيحة التي لا يتّصف بها الإنسان الشّريف، ويُعتبر المتّصف بها خارجًا عن المجتمع الإِنسانيّ، بل لا يكون شبيهًا بأيّ حيوان، ويبعثان على الفضيحة والذلّ في هذه الدّنيا أمام الأصحاب والأقران"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 188.
2 (م.ن)، ص 185.
186
153
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يضيف الإمام ويقول: "إنّ الإِنسان في هذه الدّنيا إذا عُرف بهذه الصّفة بين الناس سقط من أنظارهم، وافتُضح بين الخاصّة والعامّة، وفقد كرامته بين أصحابه، فيطردونه من مجالسهم، ويتخلّف عن محافل أنسهم، ويقتصر عن اكتساب الكمالات وبلوغ المقاصد"1.
3- العذاب والافتضاح في الآخرة
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الصادق عليه السلام، قالَ: "مَنْ لَقِيَ المُسْلِمِين بِوَجْهَيْنِ وَلِسَانَيْنِ، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَهُ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ"2.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ النفاق والاتّصاف بذي الوجهين يوجبان الذلّ والعذاب الأليم في الآخرة، فقد جاء وصفه في الحديث الشّريف وصف المنافق بأنّ صورته في ذلك العالم "أَنَّهُ يَحْشَرُ بِلِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ" ويسبّبان طأطأة الرأس والفضيحة أمام خلق الله وفي حضرة الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين. كما يتّضح من هذا الحديث شدّة عذاب المنافق وذي الوجهين، لأنّه إذا أصبح جوهر الجسم جوهر النّار، كان الإحساس أقوى والألم أشدّ ـ أعوذ بالله من شدّته ـ. عن علي عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ ذُو الوَجْهَيْنِ دَالِعًا لِسَانَهُ فِي قَفَاهُ، وَآخَرُ مِنْ قُدّامِهِ يَلْتَهِبَانِ نَارًا حَتَّى يَلْهَبَا جَسَدَهُ، ثُمَّ يُقَالُ: هذَا الذَّي كَانَ فِي الدُّنْيَا ذَا وَجْهَيْنِ وَلِسَانَيْنِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ"3. وَيَكُونُ مَشْمُولًا بِالآيَةِ الشرِيفَة: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾4"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 186 - 187.
2 الكافي، ج2، ص 343.
3 وسائل الشيعة، ج8، الباب 143، من أبواب احكام العشرة، ح5.
4 سورة الرعد، الآية 25.
5 الأربعون حديثًا، ص 185.
187
154
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
4- منشأ لآفات ورذائل أخرى
يضيف الإمام قدس سره: "إنّ النّفاق وذا الوجهين، مضافًا إلى ما تقدّم، يكونان مصدر كثير من المفاسد والمهالك، مثل "الفتنة"... ومثل "النّميمة"... ومثل "الغيبة" ... ومثل "إيذاء المؤمن وسبّه وكشف السّتر عنه وإفشاء سرّه، وغيرها ممّا يُعدّ كلّ واحدٍ منها سببًا لهلاك الإنسان"1.
"واعلم أنّه تندرج في النّفاق وذي الوجهين جملة أمور، هي: الغمز واللمز والكنايات التي يطلقها بعض الناس على بعضهم الآخر، على الرّغم من إظهار المحبّة والصّداقة الحميمة"2.
كيف نتعامل مع هذا المرض ونتخلّص منه؟
1- ترك الادّعاء والاعتراف بالعجز
من المهمّ أن نلتفت إلى أنّ القسم الأكبر من برنامج الإسلام في تربية الإنسان وإعداده يعتمد على إدخال المعاني المقدّسة إلى الباطن والقلب من خلال اللسان والظّاهر، وذلك من خلال المجاهدة القلبيّة التي تعني التّوجّه إلى هذه المعاني صدقًا وطلبها حقًّا. ففي البداية يكون الإنسان خاليًا تمامًا من جميع هذه المعاني، فيبدأ بذكرها على لسانه مع التّوجّه إليها بقلبه، من أجل أن تتحوّل إلى حالة ثابتة في قلبه.
فما الذي يقف أمام هذه العمليّة التربويّة، ويمنع من تحقيق أهدافها؟ إنّه الادّعاء. الادّعاء بأنّنا نقول تلك المعاني حقًّا وصدقًا، بينما نحن لسنا كذلك. ولو أنّنا تركنا الادّعاء واعترفنا بعجزنا وقصورنا عن الوصول إلى تلك الأحوال والمقامات والحقائق لأدركتنا يد العناية الإلهيّة.
يقول الإمام قدس سره: "واعلم أنّ الشّهادة بالوحدانيّة والرّسالة ـ في الأذان والإقامة وهما من متعلّقات الصّلاة ومهيّئات الورود فيها، وفي التّشهّد وهو الخروج من الفناء إلى البقاء ومن الوحدة إلى الكثرة وفي آخر الصّلاة ـ تذكّر العبد السّالك أنّ حقيقة الصّلاة حصول التّوحيد الحقيقيّ، والشّهادة بالوحدانيّة من مقاماتها الشّاملة التي تكون مع السّالك من أوّل
1 الأربعون حديثًا، ص185 - 186.
2 (م.ن), 186.
188
155
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
الصّلاة إلى آخرها، وفيها أيضا سرّ أوّليّة الحقّ جلّ وعلا وآخريّته، وفيها أيضًا سرٌّ عظيم وهو أنّ سفر السّالك من الله وإلى الله: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ...﴾1 فللسّالك أن يتوجّه في جميع المقامات إلى هذا المقصد ويوصل إلى القلب حقيقة وحدانيّة الحقّ وألوهيّته ويجعل القلب إلهيًّا في هذا السّفر المعراجيّ لتكون شهادته حقيقيّة وتتنزّه من النّفاق والشّرك"2.
وفي مقام الرّكوع، حيث إنّ للسّالك دعوى أنّه ليس في دار الوجود علم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة إلّا من الحقّ تعالى، وهذا الادّعاء عظيم والمقام دقيق للغاية ولا ينبغي صدور هذه الدّعاوى من أمثالنا، فلا بدّ أن نتوجّه بباطن ذاتنا إلى جناب الحقّ المقدّس بالتضرّع والمسكنة والذلّة، ونعتذر عن القصور والتّقصير ونجد نقصاننا بعين العيان وشهود الوجدان، فلعلّه يصدر عن هذا المقام المقدّس توجّه وعناية ويصير حال الاضطرار سببًا للإجابة من الذّات المقدّسة: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾3"4.
2- النّهوض لإصلاح النّفس
إنّ المبدأ الأساسيّ في جهاد النّفس هو الالتفات إلى معنى "أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك"5، ولعلّه لهذا السّبب استُعمل الجّهاد الأكبر معها، والفرصة الوحيدة لهذا الجّهاد هي هذه الحياة الدّنيا، وأثمن مرحلة فيها هي مرحلة الشّباب حيث القوى المختلفة في أوجها.
ولهذا قال الإمام الخميني قدس سره: "إنّ كل رذيلة لم يتصدَّ لها المرء بالعلاج النّاجع، بل خضع لها وتبعها، مالت إلى الاشتداد، وإنّ درجات اشتداد الرّذائل، مثل درجات اشتداد الفضائل، غير متناهية ولا تقف عند حدّ"6.
كما أنّ "التجربة والبراهين تدلّ على أنّه ما دامت النّفس في هذه الدّنيا، كانت منفعلة بما يصدر عنها من أفعال وأقوال، الصّالحة منها والطّالحة، ويكون لكلّ ذلك أثر فيها. فإذا
1 سورة الأعراف، الآية 29.
2 معراج السالكين، ص 360.
3 سورة النمل، الآية 62.
4 (م.ن), ص 348.
5 بحار الأنوار، ج67، ص36، باب القلب صلاحه وفساده.
6 الأربعون حديثًا، ص 184.
189
156
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
كان العمل صالحًا، كان أثره نورانيًّا كماليًّا، وإذا كان خلاف ذلك، كان أثره مظلمًا انتقاصيًّا، حتّى يصبح القلب كلّه نيّرًا أو مظلمًا، منخرطًا في سلك السّعداء أو الأشقياء. إذًا، فما دمنا في دار العمل وفي هذه المزرعة، فإنّنا نستطيع بإرادتنا أن ندفع بقلوبنا إمّا إلى السّعادة وإمّا إلى الشّقاء، لأنّ المرء رهينٌ بعمله وفعله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾1"2.
3- التفكّر بمفاسد هذه الموبقة
ولأنّ أساس كلّ خلق صالح أو فاسد عقيدة أو علم، فإنّ العلاج ينبغي أن يبدأ دومًا من إصلاح العلم.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أنّ لعلاج هذه الخطيئة الكبيرة طريقين: أحدهما: هو التّفكير في المفاسد التي تنتج عنها، ذلك أنّ الإِنسان في هذه الدّنيا إذا عُرف بهذه الصّفة بين النّاس سقط من أنظارهم، وافتُضح بين الخاصّة والعامّة، وفقد كرامته بين أصحابه، فيطردونه من مجالسهم، ويتخلّف عن محافل أنسهم، ويقتصر عن اكتساب الكمالات وبلوغ المقاصد، فعلى الإِنسان ذي الشّرف والضّمير أن يطهّر نفسه من هذا العار الملطّخ للشّرف، لكيلا يبتلى بأمثال هذه الحالات من الذلّ والضّعة. كذلك الأمر في عالم الآخرة، عالم كشف الأسرار، إذ كلّ ما هو مستور في هذه الدّنيا عن أنظار الناس لا يمكن ستره في عالم الآخرة. فهناك يحشر وهو مشوّه الخلقة بلسانين من نار، ويعذّب مع المنافقين والشياطين. إذًا، فالإِنسان العاقل إذا ما رأى هذه المفاسد، ولم يجد لذلك الخلق نتيجة غير القبح والرّذيلة، وجب عليه أن يتجنّب الاتّصاف بهذه الصّفة والسّلوك للمعالجة"3.
4- المراقبة والمحاسبة والعمل بالخلاف
"الطّريق الآخر: وهو الأسلوب العمليّ لعلاج النّفس وهو أن يراقب الإِنسان حركاته وسكناته بكلّ دقّة وتمحيص لفترة من الوقت، وأن يعمد إلى العمل بما يخالف رغبات النّفس وتمنّياتها، وأن يجاهد في جعل أعماله وأقواله في الظّاهر والباطن واحدة وأن يبتعد عن
1 سورة الزلزلة، الآيتان 7 و 8.
2 الأربعون حديثًا، ص 187.
3 معراج السالكين، ص 234.
190
157
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
التّظاهر والتدليس في حياته العمليّة، وأن يطلب من الله تعالى، خلال ذلك، التّوفيق والنّجاح في التّغلّب على النّفس الأمّارة وأهوائها، ويعينه في محاولاته العلاجيّة، إذ إنّ فضل الله تعالى على النّاس ورحمته بهم لا نهاية لها، وهو يشمل بعونه كلّ من خطا نحو إصلاح نفسه، ويمدّ يد الرّحمة لانتشاله. فإذا ثابر على ذلك بعض الوقت، كان له أن يرجو لنفسه الصّفاء والانعتاق من النّفاق ذي الوجهينيّة، وأن يصل إلى حيث يتطهّر قلبه من هذه الرّذيلة، ليصبح موضع ألطاف الله ورحمة وليّ نعمته الحقيقي"1.
5- إدخال حقيقة أن "لا مؤثّر في الوجود إلّا الله" إلى القلب
"تذكّر أيّها العزيز، أنّ من آمن بالتّوحيد حقًّا وعلم أنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وتوجّه إليه بقلبه، فإنّه تعالى سيأخذ بيده. وكما أنّه تعالى سيكشف له سوء عاقبة النّفاق، كذلك سيمدّه بتوفيق المجاهدة وينصره على عدوّه اللئيم الذي يتربّص به ليجعله مثيلًا له في الدّنيا وقرينًا له في الآخرة.
وما لم يمنع القلب عن تصرّف سائر الخلق، ولم يغمض عين الطّمع عن الموجودات، لا يلوذ بالله على الحقيقة، وتكون دعواه كاذبة، وينسلك بحسب مسلك أهل المعرفة في زمرة المنافقين ويُنسب إلى الخدعة والخديعة"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 187.
2 (م.ن), ص 186 - 187.
191
158
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
المفاهيم الرئيسة
1- آثار النّفاق:
نسيان النّفس والغفلة عن عيوبها: قد يُرجى لشخص توغّل في المعاصي والموبقات وهو يعترف بسوء حاله، لكن من الصّعب التأمل خيرًا فيمن يدّعي أنّه على خير لكنّه ليس كذلك في الحقيقة.
- قطع طريق المعنويّات على الآخرين: لأنّه يقدّم نموذجًا سيّئًا للدين بأنّه لا ينتج الصلاح والسعادة.
- الذّلّ والفضيحة في الدّنيا.
- العذاب والافتضاح في الآخرة.
- منشأ لآفات أخرى مثل الغيبة والنميمة والفتنة.
2- العلاج العلميّ للنفاق يكون:
بالتفكّر بمفاسد هذه الموبقة: لأنّ أساس كلّ خلق صالح أو فاسد عقيدة أو علم، فإنّ العلاج ينبغي أن يبدأ دومًا من إصلاح العلم.
3- العلاج العمليّ للنّفاق:
ترك الادّعاء والاعتراف بالعجز: فلو أنّنا تركنا الادّعاء واعترفنا بعجزنا وقصورنا عن الوصول إلى تلك الأحوال والمقامات والحقائق لأدركتنا يد العناية الإلهيّة.
النّهوض لإصلاح النّفس.
المراقبة والمحاسبة والعمل بالخلاف.
إدخال حقيقة أن "لا مؤثّر في الوجود إلّا الله" إلى القلب.
192
159
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْبُرْ بِالْقُرْآنِ خَلَّتَنَا مِنْ عَدَمِ الإِمْلاَقِ، وَسُقْ إِلَيْنَا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الأَرْزَاقِ، وَجَنِّبْنَا بِهِ الضَّرَائِبَ الْمَذْمُومَةَ وَمَدَانِيَ الأَخْلاَقِ، وَاعْصِمْنَا بِهِ مِنْ هُوَّةِ الْكُفْرِ وَدَوَاعِي النِّفَاقِ، حَتَّى يَكُونَ لَنَا فِي الْقِيَامَةِ إِلَى رِضْوَانِكَ وَجِنَانِكَ قَائِداً، وَلَنَا فِي الدُّنْيَا عَنْ سُخْطِكَ وَتَعَدِّي حُدُودِكَ ذَائِداً"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي لا أتخوّف على أمّتي مؤمنًا ولا مشركًا، أمّا المؤمن فيحجره إيمانه، وأمّا المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوّف عليكم منافقًا عليم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون"3.
2- عن الإمام علي عليه السلام: "نفاق المرء من ذلٍّ يجده في نفسه"4.
3- عن الإمام علي عليه السلام: "الكذب يؤدّي إلى النّفاق"5.
4- عن أبي عبد الله عليه السلام: "الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر"6.
5- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ، فإنّها تذهب بالنّفاق"7.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لأحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأوَائِكُمْ، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ، فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ"8.
1 الصحيفة السجّادية، دعاؤهعليه السلام عند ختم القرآن.
2 سورة النساء، الآية 140.
3 بحار الأنوار، ج2، ص. 110.
4 غرر الحكم، ص 458.
5 (م.ن), ص 220.
6 وسائل الشيعة،ج17، ص 309.
7 الكافي، ج2، ص 493.
8 مستدرك الوسائل، ج4، ص 239.
193
160
الدرس الثالث عشر: النفاق (2) - آثار النفاق وعلاجه
7- عن الإمام علي عليه السلام: "وَالْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الأمْرِ بالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْي عَنِ الْمُنكَرِ، وَالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ، وَشَنَآنِ الْفَاسِقيِنَ، فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤمِنِينَ، وَمَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُنَافِقِينَ"1.
1 نهج البلاغة، ص 473.
194
161
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى اتّباع الهوى وأين تكمن خطورته.
2- يشرح كيف تتشكّل الشخصيّة الأهوائيّة.
3- يتعرّف إلى العلامات التي نستطيع من خلالها اكتشاف هذه الرذيلة في أنفسنا.
195
162
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
تمهيد
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾1.
الشّخصيّة التي سندرسها في هذا المجال شخصيّة تجعل رغبات النّفس وما تهواه أساسًا لاتّخاذ القرارات ومنشأ للتحرّكات والأفعال. وقد اعتُبرت هذه الحالة من الأمراض التي تؤدّي إلى الكثير من الموبقات والمهلكات، وسببًا لشقاء الإنسان الأبديّ! ولنا أن نسأل عن السّبب خصوصًا أنّ العديد من رغبات النّفس ليست متعلّقة بأمورٍ قبيحة أو شرّيرة.
فلو تعلّق الهوى بالمعاصي والقبائح لربّما كان واضحًا، أمّا أن تهوى النّفس أمرًا حسنًا، فلماذا سيقودها هذا الهوى في النّهاية إلى عاقبة سيّئة ووخيمة؟!
هذا ما يجعلنا نطرح سؤالًا كبيرًا حول طبيعة النّفس البشريّة في الرّؤية الإسلاميّة، فهل هي شرّيرة بطبيعتها؟ وهل أنّها تميل دومًا إلى استغلال كلّ توجّهٍ خيّرٍ من أجل الفساد والرّذيلة؟ أم أنّه يوجد في البين سرٌّ لا نعرفه؟
المشكلة الأساسيّة في اتّباع الهوى
بالاطّلاع على مجموعة مهمّة من الآيات الكريمة والأحاديث الشّريفة حول اتّباع الهوى، يمكن أن يتكشّف لنا بعدٌ مهمٌّ من الرّؤية الإسلاميّة حول العالم المعنويّ والباطنيّ للإنسان.
لقد عرفنا سابقًا أنّ المعيار الجوهريّ لكلّ خيرٍ أو شرّ هو مستوى وطبيعة علاقة الإنسان مع الله. فإذا كانت العلاقة حسنة وعامرة، فلا شرّ أو ضير أصلًا. وإذا كانت سيّئة وخرابًا، فلا ينفع أيّ خير.
1 سورة النازعات، الآيتان 40 و41.
197
163
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
يقول الإمام قدس سره: "إنّ مبادىء جميع الكمالات ترجع إلى معرفة الله والتحرّر من أسر النفس، في حين أنّ حبَّ النفس والنّظر لها هو منشأ كلّ النقائص والسيئآت، كما أنّ التوجّه إلى الحقّ تعالى والإقبال عليه والإعراض عن الأهواء النفسيّة هو سبيل إصلاح جميع المفاسد: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾1"2.
وأجمل ما قيل في هذا المجال ما ورد في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة: "إلهي ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك"3.
أو ما جاء على لسان أحد الشّعراء:
فيا ليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وكأنّ الشّاعر هنا يريد أن يقول: إنّني لا أبالي إن كانت علاقتي بكلّ العالم خرابًا، طالما أنّ علاقتي بك عامرة وجيّدة. وبالتّأكيد، عندما تصلح علاقتنا مع الله، فإنّ كلّ شيء سيصلح على قاعدة الحديث المشهور "مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ، أَصْلَحَ الله مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ"4.
لا يشكّ من آمن بوحدانيّة الله بهذا المبدأ، لأنّه يعتقد بأنّ الله هو المصدر الوحيد لكلّ خير. أجل، تقتضي إرادة الله تعالى أن يجري الخير على أيدي النّاس أحيانًا. فمن كان مؤمنًا بهذه الحقيقة ويعيشها في قلبه ووجدانه يستحيل أن يعلّق إرادته وقلبه بغير الله، مهما كان! وكيف يتّبع من لا حول ولا قوّة له بذاته، أو يجري وراء من كان محتاجًا بذاته؟ وهل يمكن للفقير القائم بغيره أن يغني من كان مثله؟!
إنّ اتبّاع الهوى يعبّر عن تأزّم العلاقة بين الإنسان وربّه إلى الحدّ الذي يصدّه عن الوصول إليه، كما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّما أخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَيْنِ: اتِّبَاع الهَوى وَطُولَ الأمَلِ، أمّا إتِّباعُ الهَوى فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الحَقِّ وَأمّا طُولُ الأَمَل، فَإِنَّهُ يُنسِي
1 سورة النساء، الآية 79.
2 جنود العقل والجهل، ص 305
3 مفاتيح الجنان، دعاء يوم عرفة.
4 نهج البلاغة، ص483
198
164
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
الآخرة"1. وإذا كانت العاقبة والنّتيجة الصّدود عن الحقّ، تعالى، فهل يبقى فيه من الخير شيء؟
هذا ما ينبغي أن ندرسه في بحثنا حول الشّخصيّة التي تكون أهواء النّفس المصدر الأساسيّ لتوجّهاتها وميولها وتحرّكاتها.
ما هي الشّخصيّة الأهوائيّة؟
بدايةً يجب أن نتعرّف على معنى "الهوى" الوارد في الحديث عن هذه الشّخصيّة.
يقول الإمام الخمينيّ: "الهوى" في اللغة "حبّ الشّيء" و"اشتهاؤه" من دون فرق في أن يكون المتعلّق أمرًا حسنًا ممدوحًا، أو قبيحًا مذمومًا، وبمعزل عن أنّ النفس بمقتضى الطّبيعة تميل إلى الشّهوات الباطلة والأهواء النّفسيّة، لولا العقل والشّرع اللذان يكبحانها"2.
ويُعلم من هذا التّعريف أنّ المشكلة أو المصيبة التي أشارت إليها النّصوص الدّينيّة لا تكمن في اتّباع الفساد أو الرّذيلة فحسب، بل في كون النّفس في مقام السّلطان الآمر النّاهي، بحيث لو فرضنا أنَّ إنسانًا لم يفعل القبيح في حياته كلّها، لا لشيء سوى إرضاءً لنفسه أو إطاعةً لهواه لكان مع ذلك من الهالكين ما لم تدركه يد الرحمة فيهتدي ويتوب!
وبالطّبع، إنّ فرض المحال ليس محالًا، لأنّ من كان مطيعًا لهواه، سوف يجنح إلى السّوء والفساد، ولو بعد حين، وأسباب هذه المسألة سوف تتّضح عمّا قريب.
إلّا أنّ أفسد ما في القضيّة ليس الفساد الذي نتصوّره، من ارتكاب المعاصي والفواحش، بل في الجنوح والانحراف عن هدف الخلقة وسرّ الوجود، ألا وهو العبوديّة لله تعالى، كما أراد الله عز وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾3. ولو علم إبليس اللعين أنّه يستطيع أن يمنع الإنسان من الوصول إلى هذا المقام السّامي مع فعل الخيرات، لكان يحثّه ويشجّعه عليها، فما من شيء أحبّ إلى عدوّ الله والإنسانيّة هذا، أكثر من عدم تحقّق إرادة الله من خلق الإنسان في هذا العالم!
1 نهج البلاغة، ص83.
2 الأربعون حديثًا، ص 195.
3 سورة الذّاريات، الآية 56.
199
165
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
لن نتمكّن من فهم حقيقة قضيّة اتّباع الهوى (والتي تُعتبر من مميّزات الفكر الإسلاميّ البارزة) إلّا إذا أدركنا بأنّ طاعة الله والخضوع المطلق له هما نقيضان لطاعة غيره واتّباعه. ولا نقصد بالغير من كان عبدًا فانيًا في الله، وقد صارت شخصيّته وإرادته ذائبةً في ذات الحقّ المتعال وإرادته: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾1.
إنّ الهوى النّاشئ من النّفس يتعارض مع الهوى النّاشئ من الله، ولهذا جُعلا كالمتقابلين المتضادّين.
كما في قول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ كل خطوة يخطوها (الإنسان) في اتّباع هوى النّفس، يكون بالمقدار نفسه قد منع الحقّ، وحجب الحقيقة، وابتعد عن أنوار الكمال الإنسانيّ وأسرار وجوده. وبعكس ذلك، كلّما خطا خطوة مخالفة لهوى النّفس ورغبتها، يكون بالمقدار نفسه قد أزاح الحجاب وتجلّى نور الحقّ في المملكة"2.
وكما في الحديث الشّريف الوارد في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يَقُولُ الله عَزَّ وجَلَّ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعَظَمَتِي وَكِبْرِيائِي وَنُورِي وَعُلوّي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَواهُ على هَوايَ إلاّ شَتَّتُّ عَليهِ أَمْرَهُ، وَلَبَّسْتُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَشَغَلْتُ قَلْبَهُ بِهَا، وَلَمْ أوتِهِ مِنْها إلاّ ما قدَّرْتُ لَهُ، وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي وَعَظَمَتِي وَنُورِي وَعُلُوّي وَارْتِفَاع مَكَانِي، لا يُؤْثِرُ عَبْدٌ هَوايَ عَلَى هَواهُ إلاّ اسْتَحْفَظَتْهُ مَلائِكَتِي، وَكَفَّلْتُ السَّمَاواتِ والأَرْضَينَ رِزْقَةُ وَكُنْتُ لَهُ مِن وَرَاءِ تِجارةِ كُلِّ تَاجِرٍ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ راغِمَةٌ"3.
هذا هو حال جميع النّاس، إلّا من أيّده الله تعالى، فجعل له حافظًا قدسيًّا. ولهذا الشّخص علامات يُعرف بها، ولأجلها صار من زمرة المعصومين الذين وجبت طاعتهم وموالاتهم في كلّ شيء. وفي غير هذه الصّورة، فإنّ من لم يستقرّ أمره في حظيرة القدس، كيف يأمن لنفسٍ بالسّوء أمّارة وإلى الشرّ مبادرة؟! وقد مرّ معنا كيف أظهر الإمام قدس سره من بواطننا ما قد يخفى علينا، في حديثٍ طويلٍ وعميقٍ، يجدر أن نجريه مع أنفسنا في خلواتنا. هناك،
1 سورة النّساء، الآية 80.
2 الأربعون حديثًا، ص 197.
3 الكافي، ج2، ص 335.
200
166
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
لا يمكن لأحد إذا كان فيه بقيّة عقل ودين أن يبرّئ نفسه أبدًا.
وهكذا، يتّضح لنا أنّ مشكلة الشخصيّة الأهوائيّة ترجع إلى أمرين أساسيّين:
الأوّل: أنّ اتّباع الهوى سيصدّ الإنسان ويمنعه من تحقيق حالة العبوديّة، التي هي في جوهرها عبارة عن الاتّصال المطلق بمصدر الخير والكمال الأوحد.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فمن سعى بخطوة العبودية ووسم ناصيته بسمة ذلّها سيجد سبيل الوصول إلى عزّ الربوبية، وطريق الوصول إلى الحقائق الربّوبيّة هو السّير في مدارج العبوديّة، فما فقد من الإنّيّة والأنانية في عبوديّته يجده في ظّل حمى الرّبوبيّة، حتّى يصل إلى مقام يكون الحقّ تعالى سمعه وبصره ويده ورجله، كما ورد في الحديث1 الصحيح المشهور عند الفريقين. فإذا أسقط العبد تصرّفاته وسلّم مملكة وجوده كلّها إلى الحقّ وخلّى بين البيت وصاحبه وفني في عزّ الربوبية، فحينئذٍ يكون المتصرّف في الدّار صاحبها فتصير تدبيراته تدبيرات إلهيّة، فيكون بصره بصرًا إلهيًّا وينظر ببصر الحقّ، ويكون سمعه سمعًا إلهيًّا فيسمع بسمع الحقّ. وبمقدار ما تزداد ربوبيّة النّفس ويكون عزّها غاية في نظره، ينقص من عزّ الرّبوبيّة، لأنّ هذين متقابلان "الدنيا والآخرة ضرتان"2"3.
الثّاني: إنّ النّفس بطبيعتها الملكية المادية تتّجه إلى الفساد والشرّ والهلاك والخسران. وإنّ الاستثناء يكون بالاعتصام بالله وترك الهوى، ولعلّ العصر المباركة إشارة قويّة إلى هذه القضيّة.
كيف تتشكّل الشّخصيّة الأهوائيّة؟
بدايةً نتوقّف عند بيان الإمام الخميني قدس سره لنشوء النّفس وكيفيّة تكوّنها، حيث يقول: "اعلم أنّ النّفس الإنسانيّة، على الرّغم من كونها ـ في معنًى من المعاني الخارجة عن نطاق بحثنا - مفطورة على التّوحيد، بل هي مفطورة على جميع العقائد الحقّة، ولكنّها منذ ولادتها
1 "مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَ بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَ لِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَ يَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ وَ إِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُ".الكافي، ج2، ص 352، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.
2 بحار الأنوار، ج70، ص50، باب حبّ الدّنيا وذمّها.
3 معراج السالكين، ص 23.
201
167
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
وخروجها إلى هذا العالم تنمو معها الميول النّفسيّة والشّهوات الحيوانيّة، إلاّ من أيّده الله وكان له حافظًا قدسيًّا. ولمّا كان هذا الاستثناء من النّوادر فإنّه لا يدخل في حسابنا، لأنّنا نتناول نوع الإنسان عمومًا.
لقد ثبت في محلّه بالبراهين أنّ الإنسان منذ أوّل ظهوره، وبعد مروره بمراحل عدّة، لا يعدو أن يكون حيوانًا ضعيفًا لا يمتاز عن سائر الحيوانات إلاّ بقابليّاته الإنسانيّة، وأنّ تلك القابليّات ليست بمقياس إنسانيّته الفعليّة"1.
بالنّظر إلى وجود الكثير من الشّبهات في هذا المجال من جهة، وإلى خطورة الأمر وحساسيّته من جهة أخرى، فمن المهمّ أن نتعامل مع كلمات الإمام الخمينيّ بحسب الاجتهاد العرفيّ، الذي يدرك أنّ للشّخص الحكيم في بيانه ما هو محكم ومتشابه. والعرف يرجع كلّ متشابهٍ إلى المحكم ليفهم المقصود منه.
وحديث الإمام عن النّفس وأصلها ومعدنها هو من هذا القبيل. ولا يمكن إدراج كل ما ذكره هذا العالِم الفقيه حول هذه القضيّة في هذه الصّفحات المختصرة. لكنّ التأمّل في بعض نصوصه لا يبقي مجالًا للتردّد والحيرة بأنّ:
1- النّفس في الأصل تتّجه نحو الباطل. وهذا إنّما يحصل لو تركها صاحبها دون تهذيب، ولم يوصلها بأنوار الهداية الإلهيّة، وهي نور العقل ونور الفطرة.
يقول الإمام قدس سره: "الإنسان حيوان بالفعل عند دخوله هذا العالم، ولا معيار له سوى شريعة الحيوانات التي تديرها الشهوة والغضب. ولكن لمّا كان أعجوبة الدهر هذا ـ الإنسان ـ ذات جامعة، أو قابلة على الجمع، فإنّه لكي يدبّر هاتين القوّتين، تجده يلتجئ إلى استعمال الصّفات الشّيطانيّة، مثل الكذب والخديعة والنّفاق والنّميمة وسائر الصّفات الشّيطانيّة الأخرى. وهو بهذه القوى الثّلاث ـ الشّهوة، والغضب، وهوى النّفس ـ التي هي أصل كلّ المفاسد المهلكة، يخطو نحو التّقدّم، فتنمو فيه كذلك هذه القوى وتتقدّم وتتعاظم. وإذا لم تقع تحت تأثير مربّ أو معلّم، فإنّه يصبح عند الرّشد والبلوغ حيوانًا عجيبًا يفوز بقصب السّبق في تلك الأمور المذكورة على سائر الحيوانات والشّياطين، ويكون أقوى وأكمل في مقام الحيوانية والصّفات الشيطانية من الجميع"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 195 - 196.
2 (م.ن)، ص 196.
202
168
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
2- الخير من الله وبالله. وهو لا يحصل على سبيل القهر التّكوينيّ، فما لم يختر الإنسان هذا الصّراط، فإنّه لن يتحرّك نحوه. يقول الإمام قدس سره: "وكمال الإخلاص ترك الغير مطلقًا وجعل الإنّيّة والأنانية والغير والغيريّة تحت القدمين، قال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾1، أي إنّ الله تعالى قد اختار لنفسه الدّين الخالص، فإذا كان لشيءٍ من الحظوظ النّفسيّة والشّيطانيّة دخل في الدّين فلا يكون خالصًا، وما ليس بخالص فإنّ الله لم يختره. وما كانت فيه شائبة الغيريّة والنّفسيّة فهو خارج عن حدود دين الحقّ، قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾2.. وقال تعالى: ﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾3".4
3- تمايز الإنسان في أصل الخلقة عن سائر الحيوانات هو بالقابليّات الإنسانيّة. بمعنى أنّه يمتلك استعدادًا مميّزًا ليكون في أعلى مراتب الكمال والكرامة. لكنّ الميزان هو في الفعليّة والتحقّق، لا في القابليّة والاستعداد، بل من لم يستثمر هذا الاستعداد سيكون أحطّ من الأنعام وأضلّ سبيلًا. ولن تشفع له تلك القابليّات، بل لن تزيده سوى ألمًا وعذابًا.
وباختصار، ينشأ اتّباع الهوى من ترك النّفس على طبيعتها وإهمال تزكيتها وتهذيبها. ولا تحصل التّزكية إلّا بقوّة الاعتصام بالله والرّجوع إليه. يقول الإمام قدس سره:
"ما لم يتّبع في هذه الشّؤون الثّلاثة (قوى الشهوة، والغضب، وهوى النّفس) سوى أهوائه النّفسيّة، فلن يبرز فيه شيء من المعارف الإلهيّة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصّالحة، بل تنطفئ فيه جميع الأنوار الفطريّة.
فتقع جميع مراتب الحقّ التي لا تعدو هذه المقامات الثّلاثة التي ذكرناها ــ أي المعارف الإلهيّة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصّالحة ــ تحت أقدام الأهواء النفسية. وعندئذٍ يصبح اتّباع الأهواء النّفسيّة والرّغبات الحيوانيّة حائلًا دون أن يتجلّى فيه الحقّ من خلال
1 سورة الزّمّر، الآية 3.
2 سورة البيّنة، الآية 5.
3 سورة الشّورى، الآية 20.
4 معراج السالكين، ص 171 - 172.
203
169
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
أيّة واحدة من تلك المراتب، ويطفئ ظلام النّفس وأهواؤها كلّ أنوار العقل والإيمان، ولن تتاح له ولادة ثانية، أي الولادة الإنسانيّة، بل يمكث على تلك الحال ويكون ممنوعًا ومصدودًا عن الحقّ والحقيقة إلى أن يرحل عن هذا العالم. إنّ مثل هذا الشّخص إذا رحل عن هذا العالم بتلك الحالة، فلن يرى نفسه في ذلك العالم، عالم كشف السرائر، إلاّ حيوانًا أو شيطانًا. لا تُشمّ منه رائحة الإنسان والإنسانيّة أبدًا، فيبقى في تلك الحال من الظّلام والعذاب والخوف الذي لا ينتهي حتّى يقضي الله أمرًا كان مفعولا. إذاً، هذه هي حال التبعية الكاملة لأهواء النفس والتي تُبعد الإنسان نهائيًّا عن الحقّ"1.
ويُعلم من هذا الأصل أنّ تشكّل الشّخصيّة الأهوائيّة لا يحتاج إلى بيئة فاسدة أو وجود أخلاق رذيلة أو طبائع سيّئة أو علاقة حبّ لهذه الدّنيا الدّنيّة، بل يكفي ترك النّفس على طبيعتها. هذا، إذا لم نقل بأنّ الشّخصيّة الأهوائيّة يمكن أن تولّد كلّ تلك القبائح والمهلكات!
ويُفهم أيضًا أنّ التّعويل على التّواجد في البيئة الصّالحة فقط، أو على المنبت الحسن فحسب، لا ينفع ما لم ينظر الإنسان إلى نفسه بمنظار سوء الظنّ من جهة، ويتعامل معها على هذا الأساس معاملة المجاهدة والمخالفة والنّهي.
كيف نكتشف الشّخصيّة الأهوائيّة في أنفسنا؟
يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا بُدَّ أن نعرف أنّ أهواء النّفس متعدّدة ومتنوّعة من حيث المراتب والمتعلّقات، وقد تكون أحيانًا من الدّقّة بحيث أنّ الإنسان نفسه يغفل عن ملاحظة أنّها من مكائد الشّيطان ومن أهواء النّفس، ما لم يُنَبّه على ذلك، ويوقظ من غفلته. إلاّ أنّها جميعها تشترك في كونها تمنع الحقّ وتصدّ عن طريقه، رغم اختلاف مراتبها ودرجاتها"2.
ويقدّم لنا الإمام بعض النّماذج التي تساعدنا على التعرّف على هذه الحالة إذا كانت خافية علينا. وتذهلنا بعض هذه المراتب، لأنّنا لا نتوقّع أن يصل أمر اتّباع الهوى إلى هذه الدّرجة. أجل، من كان له من الله هذا الواعظ الدّاخليّ والنّور الإلهيّ لم يطل به الأمر حتّى يكتشف تلوينات النّفس وحبائلها.
1 الأربعون حديثًا، ص196 - 197.
2 (م.ن)، ص 201.
204
170
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
1- أتباع الآلهة الأخرى غير الله
"إنّ أصحاب الأهواء الباطلة من الذين يتّخذون الآلهة من الذّهب وغيرهم ـ كما يخبر الله سبحانه عنهم في قوله ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾1 وغيرها من الآيات الشّريفة ـ ينقطعون عن الله، بصورة معيّنة"2.
ويوضح الإمام قدس سره: "وما دمنا نرى لأحد في عالم الوجود العزّة والكبرياء والعظمة والجلال ونحن في حجاب أصنام التعينّات الخلقية، فلن يتجلّى سلطان كبرياء الحقّ جلّ وعلا في قلوبنا"3.
2- أتباع العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة
"وإن أتْبَاع الأهواء النّفسيّة والأباطيل الشّيطانيّة في عقائدهم الباطلة وأخلاقهم الفاسدة يحتجبون عنه سبحانه بصورة أخرى"4.
"فإنّ أعظم القذارات المعنويّة التي لا يمكن تطهيرها بسبعة أبحر، وأعجزت الأنبياء العظام هي قذارة الجهل المركّب، الذي هو منشأ ذاك الدّاء العضال، ألا وهو إنكار مقامات أهل الله وأرباب المعرفة ومبدأ سوء الظنّ بأصحاب القلوب. وما دام الإنسان ملوّثًا بهذه القذارة، لا يتقدّم خطوة إلى المعارف، بل ربّما تطفىء هذه الكدورة نور الفطرة الذي هو مصباح طريق الهداية، وتنطفئ بها نار العشق التي هي براق العروج إلى المقامات وتخلّد الانسان في أرض الطبيعة"5.
و"ما دام الخلق الباطني للنفس فاسدًا والقذارات المعنوية محيطة بها، لا تليق بمقام القدس وخلوة الأنس، بل مبدأ فساد المملكة الظاهريّة للنّفس هو الأخلاق الفاسدة والملكات الخبيثة. وما دام السّالك لم يبدّل الملكات السّيّئة بالملكات الحسنة فليس مأمونا عن شرور الأعمال. واذا وُفّق للتوبة، فإنّ الاستقامة عليها ـ التي هي من المهمات ـ لا تتيسّر له. فتطهير
1 سورة الجاثية، الآية 23.
2 الأربعون حديثًا، ص 201.
3 معراج السالكين، ص141.
4 الأربعون حديثًا، ص 201.
5 معراج السالكين، ص67.
205
171
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
الظًاهر أيضًا متوقّف على تطهير الباطن، مضافًا إلى أنّ القذارات الباطنية موجبة للحرمان من السّعادة ومنشأ لجهنّم الأخلاق التي هي كما يقول "أهل المعرفة" أشدّ حرًّا من جهنّم الأعمال"1.
3- أهل المعصية
"وإنّ أصحاب المعاصي الكبيرة والصّغيرة والموبقات والمهلكات كلٌّ حسب درجة المعصية ومرتبتها يبتعدون عن سبيل الحقّ بصورة ثالثة"2.
"فأوّل مرتبة من مراتب القذارات هي تلوّث الآلات والقوى الظاهرية للنفس بلوث المعاصي، وتقذّرها بقذارة التمرّد على وليّ النعم. وهذا هو الفخّ الصّوري الظاهري لإبليس. وما دام الإنسان أسير هذا الفخ فهو من فيض المحضر وحصول القرب الإلهي محروم. ولا يظنّن أحد أنّه يمكن أن يرقى إلى مقام حقيقة الإنسانية، أو يستطيع أن يطهّر باطن قلبه من دون تطهير ظاهر مملكة الإنسانية. فهذا غرور الشيطان ومن مكائده العظيمة، وذلك لأنّ الكدورات والظلمات القلبية تزداد بالمعاصي التي هي غلبة الطبيعة على الروحانية. وما دام السالك لم يفتتح المملكة الظاهرية فهو محروم بالكامل من الفتوحات الباطنية التي هي المقصد الأعلى، ولا ينفتح له طريق إلى السعادة. فأحد الموانع الكبيرة لهذا السلوك هو قذارات المعاصي التي لابدّ أن تطهّر بماء التوبة النصوح الطاهر الطهور"3.
4- أتباع المباحات
"وإنّ أهل الأهواء في الرّغبات النّفسيّة المباحة مع الانشغال والانهماك فيها يتخلّفون عن سبيل الحقّ بصورة رابعة"4.
5- أهل المناسك والطّاعات
"إنّ أهل المناسك والطّاعات الظّاهريّة الذين يعبدون من أجل عمران الآخرة وتلبية الشّهوات النّفسيّة، ومن أجل البلوغ إلى الدّرجات العلى أو الخشية من العذاب الأليم والنّجاة
1 معراج السالكين، ص69.
2 الأربعون حديثًا، ص 201.
3 معراج السالكين، بص66 - 67.
4 الأربعون حديثًا، ص 201.
206
172
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
من الدّركات السّفلى يحتجبون عن الحقّ وسبيله بصورة خامسة"1.
"إن المعيار في تمييز الرّياضات الحقّة عن الرّياضات الباطلة هو معرفة الدّافع إليها - بمعنًى عرفانيّ دقيق ــ هل هو الاستجابة لطلب النفس حبّالها؟ أم الاستجابة للحقّ تعالى وحبًّا له؟ فالصّلاة التي تُقام من أجل الحصول على شهوات الدّنيا أو الآخرة، ليست هي الصّلاة التي تكون معراجًا للمؤمن وقربانًا للمتّقين، بل هي صلاة تقرّب الإنسان إلى الحور العين، وتبعده عن ساحة القرب الإلهي"2.
6- أصحاب تزكية النّفس
"وإنّ أصحاب تهذيب النّفس وترويضها، لإظهار قدرتها والوصول إلى جنّة الصّفات، محجوبون عن الحقّ ولقائه بنحوٍ آخر"3.
"فعلي بن أبي طالب - وهو رائد عشّاق الله - لا يطلب الجنّة لنفسه، بل لأنّها دار كرامة الله. أمّا ، نحن المساكين ، فكلّ ما نطلبه ونحبّه إنّما نريده لأنفسنا، حتى "الله" تبارك وتعالى نطلبه لأنفسنا، في حين أنّ كلّ ما يطلبه ويحبّه عشّاق الجمال الأزلي إنّما يطلبونه ويحبّونه من أجل الحبيب، حتى الجنّة يحبونها لأنها دار كرامته جلَّ وعلا، لا لأنّها محلّ للأكل الحيواني. نحن - الحيوانات ـ نطلب الجنّة كمعلفٍ نرتع فيه - وليس لنا فيها مقام أعلى من هذا، أمّا أولئك العشّاق لجمال الأزل، فهم يطلبون الجنّة وكلّ ما فيها من أجل الحبيب - جلَّ وعلا - ويتوسّلون بكلّ وسيلة من أجل الحبيب ومعرفته والانقطاع لحضرته القدسية"4.
7- أصحاب السّلوك والمقامات
"وإنّ أهل العرفان والسّلوك والانجذاب ومقامات العارفين الذين لا يهمّهم سوى لقاء الحقّ والوصول إلى مقام القرب، يحتجبون عن الحقّ وتجليّاته الخاصّة بنوع سابع، لأنّ التلوّن وآثار وجوده الخاص لا يزال عندهم موجودًا"5.
1 الأربعون حديثًا، ص 201.
2 جنود العقل والجهل، ص 107 - 108.
3 الأربعون حديثًا،ص 201.
4 جنود العقل والجهل، ص 328.
5 الأربعون حديثًا، ص 201.
207
173
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
"إذا كان السّالك في سلوكه إلى الله طالبًا لحظّ من الحظوظ النّفسيّة، ولو كان الوصول إلى المقامات، بل ولو كان الوصول إلى قرب الحقّ، بمعنى وصول نفسه إلى الحقّ، فليس هذا السلوك سلوكًا إلى الحقّ، بل السّالك لم يخرج بعد من البيت، بل هو مسافر في جوف البيت من ركنٍ إلى ركن ومن زاوية إلى زاوية. فالسفر اذا كان في مراتب النفس وللوصول إلى الكمالات النفسانيّة فليس بسفر إلى الله، بل هو سفر من النّفس إلى النّفس"1.
فطالما كان الدّافع لأيّ عمل عبارة عن إرضاء النّفس (ولو حصل ذلك في الآخرة)، فالمعبود في الحقيقة هو النّفس، وليس الله. فانظر إلى دقّة الأمر وتدبّر، ينفتح على قلبك بابٌ عظيمٌ من أبواب المعارف الإلهيّة.
1 معراج السالكين، ص 172 - 173.
208
174
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
المفاهيم الرئيسة
1- الشّخصيّة الأهوائيّة هي شخصيّة تجعل رغبات النّفس وما تهواه أساسًا لاتّخاذ القرارات ومنشأ للتحرّكات والأفعال.
2- إنّ اتّباع الهوى يعبّر عن تأزّم العلاقة بين الإنسان وربّه إلى الحدّ الذي يصدّه عن الوصول إليه، وهذا هو الخطر الأكبر، لأنّ المعيار الجوهريّ لكلّ خير أو شرّ هو مستوى وطبيعة العلاقة مع الله.
3- "الهوى" في اللغة "حبّ الشّيء" و"اشتهاؤه" من دون فرق في أن يكون المتعلّق أمرًا حسنًا ممدوحًا، أو قبيحًا مذمومًا.
4- إنّ أفسد ما في اتّباع الهوى ليس الفساد من ارتكاب المعاصي والفواحش، بل في الجّنوح والانحراف عن هدف الخلقة وسرّ الوجود:العبوديّة لله تعالى، التي هي في جوهرها عبارة عن الاتّصال المطلق بمصدر الخير والكمال الأوحد.
5- إنّ النّفس بطبيعتها تتّجه إلى الفساد والخسران. والاستثناء يكون بالاعتصام بالله وترك الهوى.
6- ينشأ اتّباع الهوى من ترك النّفس على طبيعتها وإهمال تزكيتها وتهذيبها. ولا تحصل التّزكية إلّا بقوّة الاعتصام بالله والرّجوع إليه.
7- لن نتمكّن من فهم حقيقة قضيّة اتّباع الهوى إلّا إذا أدركنا بأنّ طاعة الله والخضوع المطلق له هما نقيضان لطاعة غيره واتّباعه إلّا إذا كان هذا الغير فانيًا في الله.
8- إنّ كل خطوة يخطوها الإنسان في اتّباع هوى النّفس، يكون بالمقدار نفسه قد منع الحقّ، وحجب الحقيقة، وابتعد عن أنوار الكمال الإنسانيّ وأسرار وجوده. والعكس صحيح.
9- أهواء النّفس وإنّ كانت متعدّدة ومتنوّعة من حيث المراتب والمتعلّقات، إلاّ أنّها جميعها تشترك في كونها تمنع الحقّ وتصدّ عن طريقه.
10- بعض نماذج الشّخصيّات الأهوائية: أتباع الآلهة الأخرى غير الله، أتباع العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة، أهل المعصية، أهل المناسك والطّاعات، أصحاب تزكية النّفس الذين يطلبون الجنة لأنفسهم، وغيرهم...
209
175
الدّرس الرابع عشر: اتباع الهوى (1) - معنى اتباع الهوى وتشكّله في النفس
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"لاَ تَمْحَقْنِي فِيمَن تَمْحَقُ مِنَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِمَا أَوْعَدْتَ وَلاَ تُهْلِكْنِي مَعَ مَنْ تُهْلِكُ مِنَ الْمُتَعَرِّضِينَ لِمَقْتِكَ وَلاَ تُتَبِّرْنِي فِيمَنْ تُتَبِّرُ مِنَ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ سُبُلِكَ وَنَجِّنِي مِنْ غَمَرَاتِ الْفِتْنَةِ، وَخَلِّصْنِي مِنْ لَهَوَاتِ الْبَلْوَى، وَأَجِرْنِي مِنْ أَخْذِ الإِمْلاَءِ وَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوٍّ يُضِلُّنِي، وَهَوًى يُوبِقُنِي، وَمَنْقَصَةٍ تَرْهَقُنِي وَلاَ تُعْرِضْ عَنِّي إِعْرَاضَ مَنْ لاَ تَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ غَضَبِكَ"1.
الآيات الكريمة:
﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: فِي حَدِيثٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ صُوحَانَ قَالَ لَهُ: أَيُّ سُلْطَانٍ أَغْلَبُ وَأَقْوَى؟ قَالَ: "الْهَوَى"3.
2- عن الإمام الصَّادِقِ عليه السلام: "وَالْهَوَى عَدُوُّ الْعَقْلِ، وَمُخَالِفُ الْحَقِّ، وَقَرِينُ الْبَاطِلِ، وَقُوَّةُ الْهَوَى مِنَ الشَّهَوَاتِ، وَأَصْلُ عَلَامَاتِ الْهَوَى مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْفَرَائِضِ وَالِاسْتِهَانَةِ بِالسُّنَنِ وَالْخَوْضِ فِي الْمَلَاهِي"4.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْعَقْلُ صَاحِبُ جَيْشِ الرَّحْمَنِ، وَالْهَوَى قَائِدُ جَيْشِ الشَّيْطَانِ، وَالنَّفْسُ مُتَجَاذِبَةٌ بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ كَانَتْ فِي حَيِّزِهِ"5.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "رَأْسُ الدِّينِ مُخَالَفَةُ الْهَوَى"6.
5- عن الإمام علي عليه السلام: "يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ بِكَثْرَةِ التُّقَى، وَمُلْكِ الشَّهْوَةِ، وَغَلَبَةِ الْهَوَى"7.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ذَهَابُ الْعَقْلِ بَيْنَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ"8.
1الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام يوم عرفة.
2 سورة ص، الآية 26.
3 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 381.
4 مستدرك الوسائل، ج11، ص 212.
5 (م.ن)، ج12، ص 113.
6 (م.ن)، ج12، ص 114.
7 (م.ن)، ج11، ص 345.
8 (م.ن)، ج11، ص 211.
210
176
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الآثار الفرديّة والاجتماعيّة الوخيمة للشخصيّة الأهوائيّة.
2- يبيّن تأثير اتّباع الهوى على العلاقة بالله تعالى والمصير الأخرويّ.
3- يتعرّف إلى المراحل التي يقطعها الإنسان للتخلّص من الهوى.
211
177
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
تمهيد
هناك أنواع عديدة من الأهواء النفسية، وهي جميعًا واقعة في خانة واحدة ومعسكر واحد هو معسكر العداء للعقل. وعندما تتفلت النفس من سلطة العقل بالكامل فتزدريه، تصبح في زمرة الفراعنة والنماريد.
كثيرة هي حالات التفلت التي تنشأ من احتقار العقل وقوانينه وقواعده. وللأسف فإن مجتمعنا لم يتمكن لحد اليوم من الوصول إلى عنصر محورية العقل واعتباره أساس جميع التحركات المطلوبة. هذا بالرغم من أنه مجتمع يرفع شعار احترام العقل وتقديره.
وبمعزل عن الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة، فإن جانبا مهما من أعمال الهوى ما زال يتصدر الكثير من الفعاليات والأنشطة الإنسانية الحساسة. وما لم تتمكن مؤسسات المجتمع الكبرى من اكتشاف قواعد العقل في عملها، فإن الهوى سيكون سيد المواقف قاطبة؟
الآثار التي تنجم عن اتّباع الهوى
لقد مرّت الإشارة إلى أنّ لاتّباع الهوى أثرًا سلبيًّا كبيرًا على مستوى علاقة الإنسان بربّه وهذا هو الخطر الأكبر.
1- بغض الحقّ والخلود في جهنّم
"إذا غفل (الإنسان) عن نفسه، ولم يسعَ في إصلاحها وتزكيتها، وربّاها على اتّباع هواها، فإنّ حجبها ستزداد كلّ ساعة، ويظهر له خلف كلّ حجاب حجاب آخر، بل حجب أخرى حتى ينطفئ نور الفطرة بالكامل ولا يبقى فيها أثر من المحبّة الإلهية، بل وتصبح مبغضةً للحق تعالى، ولكلّ ما يرتبط به، من القرآن الشريف وملائكة الله وأنبيائه العظام وأوليائه الكرام عليهم السلام، والدين الحقّ، بل وكلّ فضيلة، فتقوى جذور العداوة للحقّ جلّ وعلا، ومقرّبي
213
178
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
حضرته المقدّسة في قلب صاحب هذه الفطرة، وسدّ عليه بالكامل أبواب السعادة وطريق الصلح مع الحقّ تعالى والشّفعاء عليهم السلام، فيخلد إلى أرض الطبيعة، وهو الإخلاد الذي يظهر باطنه (حقيقته) في عالم الآخرة بالخلود في عذاب جهنّم"1.
2- الإمعان في التّسافل
وعلى مستوى علاقته بنفسه حيث تزداد انحطاطًا وتسافلًا مع كلّ تبعيّة.
كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم، أيّها العزيز، أنّ رغبات النّفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل إلى حدّ أو غاية. فإذا اتّبعها الإنسان ولو بخطوة واحدة، فسوف يضطرّ إلى أن يتبع تلك الخطوة خطوات، وإذا رضي بهوًى واحدٍ من أهوائها، أُجبر على الرّضا بالكثير منها. ولئن فتحت بابًا واحدًا لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تفتح أبوابًا عديدة له"2.
ويقول في مكانٍ آخر: "يصبح اتّباع الأهواء النفسيّة والرّغبات الحيوانيّة حائلًا دون أن يتجلّى فيه الحقّ من خلال أيّة واحدة من تلك المراتب، ويطفئ ظلام النّفس وأهواؤها كلّ أنوار العقل والإيمان، ولن تُتاح له ولادة ثانية، أي الولادة الإنسانيّة، بل يمكث على تلك الحال ويكون ممنوعًا ومصدودًا عن الحقّ والحقيقة إلى أن يرحل عن هذا العالم. إنّ مثل هذا الشّخص إذا رحل عن هذا العالم بتلك الحالة، فلن يرى نفسه في ذلك العالم، عالم كشف السّرائر، إلاّ حيوانًا أو شيطانًا. لا تُشمّ منه رائحة الإنسان والإنسانيّة أبدًا، فيبقى في تلك الحال من الظّلام والعذاب والخوف الذي لا ينتهي، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا"3.
3- الضّلال وفقدان السّكينة
"الإنسان المتّبع لهواه أضلّ وأشدّ وضاعة من جميع الحيوانات والبهائم، فلهذه هدف من الجمع، أمّا هو فلا هدف له من ذلك، بل هو ضيّع هدفه وغايته. إنّ الكعبة المقصودة هو الحقّ تبارك وتعالى، والإنسان طالب له، وليس لطلبه ــ المندفع بنور فطرة الله ــ من غاية سوى غاية الغايات، ولكن هذا اليائس الشقيّ قد أضلّ طريقه، فهو يتراكض بهذا الاتّجاه
1 جنود العقل والجهل، ص88 - 89.
2 الأربعون حديثًا، ص 198 - 199.
3 (م.ن)، ص 196 - 197.
214
179
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
أو بذاك كالمجنون ساعيًا نحو الغايات الباطلة دون أن تسكن فيه نار الطّلب ويطمئّن قلبه، غافلاً عن حقيقة: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾1"2.
4- انحطاط المجتمعات
أمّا على مستوى المجتمع، فكفى بكلام أمير المؤمنين عليه السلام، الذي يصف فيه أسباب ما لحق بالمجتمع الإسلاميّ، دليلًا على هذا الأمر، حيث يقول: "إنّما بدء الفتن أهواءٌ تُتّبع"3، وما أوصل الأمّة الإسلاميّة إلى هذه الدّرجة من الانحطاط إلّا تلك الفتن التي عصفت بها، فأفقدتها عزّتها وجعلتها كالقصعة التي تنتهشها الأمم من كلّ جانب.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "الإنسان إذا تمرّد على الأوامر الرّحمانية والعقلائية، وخضع لسلطة الشّيطان والجهل، فإنّ الصّفات الحيوانيّة تظهر فيه أشدّ ممّا هي عليه في جميع الحيوانات، فقوّة غضبه وشهواته تحرق العالم برمّته، وتهدّ أركانه، وتفني موجوداته، وتهدم أساس الحضارة والتديّن"4.
5- الوقوع في مفاسد أخرى
"إنّك بمتابعتك هوًى واحدًا من أهواء النّفس توقعها في عدد من المفاسد، ومن ثمّ سوف تُبتلى بآلاف المهالك، حتى تنغلق ـ لا سمح الله ـ جميع طرق الحقّ بوجهك في آخر لحظات حياتك، كما أخبر الله بذلك في نصّ كتابه الكريم، وكان هذا هو أخشى ما يخشاه أمير المؤمنين ووليّ الأمر، والمولى، والمرشد والكفيل للهداية والموجِّه للعائلة البشريّة عليه السلام"5.
لاحظ كيف أنّ هوى النّفس يُعدّ من الأصول التي تؤدّي إلى كلّ المفاسد المهلكة، وكيف أنّ الميزان الذي يدلّنا على مدى ابتعادنا عن الحقّ هو اتّباع هوى النّفس.
1 سورة الرّعد، الآية 28.
2 جنود العقل والجهل، ص 114.
3 نهج البلاغة، ص88، من كلامٍ له في بيان لما يخرب العالم به من الفتن.
4 جنود العقل والجهل، ص 113.
5 الأربعون حديثًا، ص 199.
215
180
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
كيف يتخلّص الإنسان من اتّباع الهوى؟
1- الخوف من الله ونهي النفس عن الهوى
إنّ وصول الإنسان إلى مقام عصمة الحقّ المتعال ـ والذي حصل لأولياء الله الكمّل في هذه الدّنيا، ويحصل لأهل الجنّة في الآخرة ـ مبنيٌّ على أمرين أساسيّين، كما قال الله تعالى، وهما:
- خوف مقام الرّبّ المتعال.
- نهي النّفس عن الهوى.
ولأجل ذلك، جعل الله تعالى للإنسان طريقًا، وجب عليه أن يسلكه بكدحٍ تام حتّى يصل إلى المطلوب. وظاهر هذا الطّريق هو العمل الصّالح والعبادة الشّرعيّة، وباطنه عبارة عن مخالفة النّفس، وباطن باطنه هو العمل وفق المحبّة الإلهيّة: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾1. يقول الإمام الخميني قدس سره:
"وقد ثبت في محلّه أنّ نشآت النّفس الثّلاث، وهي نشأة الملك والدّنيا وهي محطّ العبادات القالبيّة، ونشأة الملكوت والبرزخ وهي محلّ العبادات القلبية والتهذيبات الباطنية، ونشأة الجبروت والآخرة، وهي مظهر العبادات الرّوحية والتجريد والتفريد والتوحيد، وهي تجلّيات لحقيقة قدسيّة واحدة ومراتب لبارقة إلهيّة واحدة، فنسبة غيب النفس إلى شهادتها وبرزخها ليست نسبة الظاهرية والمظهر أيضًا، بل نسبة ظهور، وبطون الشّيء الواحد. إذاً، فكلّ حكم من أحكام النشآت الثلاث يسري إلى الأخرى بما يناسب نشأتها مثلاً: العبادات القالبية الشرعية تؤدّي إلى تهذيب الباطن، بل وبذر بذور التوحيد والتجريد في الرّوح إذا أقيمت على وفق الآداب الصورية والباطنية، مثلما أنّ تهذيب الباطن يقوّي قوّة التعبّد في الإنسان ويوصله إلى حقائق التوحيد والتجريد، ويهذّب سرّ التّوحيد باطنه ويكمل جنبة العبودية فيه، لذا يجب على السّالك أن يكون ثابت القدم في نشآت النفس الثلاث، فلا يغفل عن أيّ منها في أي وقت"2.
وفي هذا الطّريق يمرّ الإنسان بالمراحل الآتية، التي يجب أن يعبرها بوعيٍ تام وإرادة قويّة:
1 سورة آل عمران، الآية 31.
2 جنود العقل والجهل، ص 75.
216
181
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
أ- ضبط القوى المشتّتة للنّفس:
ضبط القِوى المشتّتة للنّفس في عالمي الملك والملكوت. كما يفعل القائد مع عناصره إذا عمّت الفوضى، فإنّه إن لم يضبطهم، اضطرّ إلى اتّباعهم، فيتحكّمون به بدل أن يحكمهم، ويسوقونه بدل أن يسوقهم، وفي هذا فسادٌ عظيم. وفي هذه المرحلة تصبح النّفس من القوّة بحيث لا تكون القِوى المبثوثة فيها هي التي تجرّها وتحدّد لها طريقها، بل يحصل العكس. ومن علامات النّجاح هنا على سبيل المثال أنّ المرء إذا جاع لا يندفع مباشرةً إلى الأكل، بل يفكّر فيما إذا كان الأكل مفيدًا له أو صحيحًا أو لازمًا.
ب- طاعة النّفس للقوى الرّوحانيّة:
انتقال النّفس بعد انضباط قواها إلى طاعة القوى الرّوحانيّة الإلهيّة. وعلى رأسها العقل الذي يُعدّ أعظم خليفة للّه في عالم الأرض، فبه عُبد الله، وبه اكتُسب جنانه.
ج- الفناء في الإرادة الإلهيّة:
صيرورة المملكة الإنسانيّة بعد روحنيّتها مظهرًا تامًّا للإرادة الإلهيّة، حيث تكون جميع أفعالها ظهورًا لفعل الله، كما جاء في حديث قرب النّوافل1.
وما لم يعبر السّالك هذه المراحل، فإنّه لن يصل إلى منزل المقصود، وإذا توقّف عند مرحلةٍ ما، فإنّه سيقع في إحدى مراتب هوى النّفس، كما أشار الإمام قدس سره: "فإنّ على أصحاب هذه المراتب أن يراقبوا بدقّة حالهم، وأن يطهّروا أنفسهم من الأهواء لئلّا يتخلّفوا عن طريق الله ولا يضلّوا عن مسالك الحقيقة، حتى تظلّ أبواب الرّحمة مفتوحة عليهم، مهما تكن مقاماتهم ومنازلهم، واللّهُ وَليُّ الهِدَايَةِ"2.
يبيّن الإمام الخمينيّ قدس سره هذه المراحل، فيقول: "... ذكرنا أنّ العبادات والمناسك والأذكار والأوراد إنّما تنتج نتيجةً كاملةً إذا صارت صورة باطنيّة للقلب، وتخمّر باطن ذات الإنسان بها، وتصوّر قلب الإنسان بصورة العبوديّة وخرج عن
1 قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ أَرْصَدَ لِمُحَارَبَتِي وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدٌ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا". الكافي، ج2، ص352، باب من آذى المسلمين واحتقرهم.
2 الأربعون حديثًا، ص 202.
217
182
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
الهوى والعصيان، وذكرنا أيضًا أنّ من أسرار العبادات وفوائدها أن تتقوّى إرادة النّفس وتتغلّب النّفس على الطّبيعة، وتكون القوى الطّبيعية مسخّرة تحت قدرة النّفس وسلطنتها، وتكون إرادة النّفس الملكوتيّة نافذة في ملك البدن، بحيث تكون القوى بالنّسبة إلى النّفس كملائكة الله بالنسبة إلى الحقّ تعالى: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾1.
... ونقول الآن: إنّ من أسرار العبادات وفوائدها المهمّة التي تكون بقيّة الفوائد مقدّمة لها، أن تكون مملكة البدن بجميعها، ظاهرها وباطنها، مسخّرة تحت إرادة الله ومتحركة بتحريك الله تعالى، وتكون القوى الملكوتيّة والملكيّة للنّفس من جنود الله، وتكون كلّها كملائكة الله، وهذه من المراتب النّازلة لفناء القوى والإرادات في إرادة الحقّ. ويترتّب على هذا بالتّدريج النّتائج العظيمة ويصبح الإنسان الطّبيعيّ إلهيًّا، وتكون النّفس مرتاضة بعبادة الله، وتنهزم جنود ابليس بشكلٍ نهائيّ وتنقرض، ويكون القلب مع قواه مسلّماً للحقّ، ويبرز الإسلام ببعض مراتبه الباطنيّة في القلب، وتكون نتيجة هذا التّسليم لإرادة الحقّ في الآخرة أنّ الحقّ تعالى ينفذ إرادة صاحب هذا القلب في العوالم الغيبيّة، ويجعله مثلًا أعلى لنفسه. فكما أنّه تعالى وتقدّس يوجد كلّ ما أراد بمجرّد الإرادة، يجعل إرادة هذا العبد أيضًا كذلك، كما روى بعض أهل المعرفة عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وصف أهل الجنّة، أنّه يأتيهم ملك فيستأذن للدخول عليهم، وبعد الاستئذان يدخل فيبلّغ السّلام من الله تعالى عليهم، ويعطي كلًّا منهم رسالة مكتوبًا فيها: من الحيّ القيّوم الذي لا يموت إلى الحيّ القيّوم الذي لا يموت، أمّا بعد، فإنّي أقول للشّيء كن فيكون وقد جعلتك تقول للشّيء كن فيكون، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فلا يقول أحد من أهل الجنّة للشّيء كن، إلّا ويكون.
وهذه هي السلطنة الإلهية التي تعطى للعبد لأجل تركه إرادة نفسه وترك سلطنة الأهواء النفسيّة وإطاعة ابليس وجنوده"2.
هذه هي المراحل، والعبادة فيها هي اللبّ والأصل، لكنَّ هذه العبادة ينبغي أن تكون على نهج الإنسان الكامل الذي هو وليّ الله وخليفته، ولا يمكن طيّ ذلك الطّريق إلّا بالتمسّك بمقام روحانيّته.
1 سورة التحريم، الآية 6.
2 معراج السالكين، ص45 - 46.
218
183
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
2- اتّباع أولياء الله
"لو أنّ هذا الإنسان، استطاع أن يجعل مملكة إنسانيّة هذا الإنسان الذي اقترن منذ ولادته بالقِوى الثّلاث وترعرعت وتكاملت تلك القِوى أيضًا مع نموّ الإنسان وتكامله، لو استطاع أن يجعل هذه المملكة متأثّرة بتربية تعاليم الأنبياء والعلماء والمرشدين لاستسلم شيئًا فشيئًا لسلطة تربية الأنبياء والأولياء عليهم السلام، فقد لا يمضي عليه وقتٌ طويلٌ حتّى تصبح القوّة الكاملة الإنسانيّة، التي أودعت فيه على أساس القابليّة، فعليّة تظهر للعيان، وترجع جميع شؤون مملكته وقواها إلى شأن الإنسانيّة بحيث يجعل شيطان نفسه يؤمن على يديه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ شَيْطَانِي آمَنَ بِيَدي"، فتستسلم حيوانيّته لإنسانيّته، حتّى تصبح مطيّة مروّضة على طريق عالم الكمال والرقي، وبراقًا يرتاد السّماء نحو الآخرة، ويمتنع عن كلّ معاندة وتمرّد. وبعد أن تستسلم الشّهوة والغضب إلى مقام العدل والشّرع تنتشر العدالة في المملكة، وتتشكّل حكومة عادلة حقّة يكون فيها العمل والسّيادة للحقّ وللقوانين الحقّة، بحيث لا تتّخذ فيها خطوة واحدة ضدّ الحقّ، وتكون خالية من كلّ باطلٍ وجور. وعليه، فكما أنّ ميزان منع الحقّ والصدّ عنها اتّباع الهوى، فكذلك ميزان اجتذاب الحقّ وسيادته هو متابعة الشّرع والعقل"1.
ويقول قدس سره في مكانٍ آخر: "اعلم أنّه لا يمكن طيّ هذا السّفر الرّوحيّ والمعراج الإيمانيّ بهذه الرّجل المكسورة والعنان المرخيّ والعين العمياء والقلب الذي هو بلا نور، ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾2... فمن المحتوم واللازم لسلوك هذا الطّريق الروحيّ، وعروج هذا المعراج العرفاني، التمسّك بمقام روحيّة هداة طرق المعرفة وأنوار سبل الهداية الذين هم الواصلون إلى الله والعاكفون على الله، ولو أراد أحد أن يطوي هذا الطريق بقدم أنانية نفسه من دون التمسّك بولايتهم فسلوكه إلى الشيطان والهاوية... وبالجملة، التمسّك بأولياء النعم الذين اهتدوا إلى طريق العروج إلى المعارج، وأتمّوا السير إلى الله من لوازم السير إلى الله، كما أشير كثيرا إلى ذلك في الأحاديث الشّريفة، وقد عقد في الوسائل بابًا في بطلان العبادة بدون ولاية الأئمّة والاعتقاد بإمامتهم"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 197.
2 سورة النور، الآية 40.
3 معراج السالكين، ص148 - 149.
219
184
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
موعظة للقلب
"إنّ روح النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأرواح الأئمّة عليه السلام تكون جميعًا في قلقٍ واضطراب لئلّا تسقط أوراق شجرة النبوّة والولاية وتذوي، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "تَناكحوا تَنَاسلوا فَإنّي أُبَاهي بِكُمُ الأُمَمَ وَلَوْ بِالسِّقْطِ"1. لا شكّ في أنّه لو سار الإنسان في مثل هذه الطّريق المحفوفة بالمخاطر ممّا قد يلقي به إلى هوّة الفناء ويجعله موضع عقوق أبيه الحقيقيّ، أي النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك العظيم الذي هو رحمة للعالمين. فما أشدّ تعاسته، وما أكثر المصائب والبلايا التي يخبّئها له الغيب! فإذا كنت على صلةٍ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا كنت تحبّ أمير المؤمنين عليه السلام وإذا كنت من محبّي أولادهما الطّاهرين، فاسْعَ لكي تزيل عن قلوبهم المباركة القلق والاضطراب. لقد جاء في القرآن الكريم في سورة هود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ...﴾2، وجاء في الحديث الشّريف أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "شَيَّبَتْنِي سُورَةُ هُود، لِمَكَانِ هذِهِ الآيةِ"3.
يقول الشيخ العارف الكامل الشّاه آبادي - روحي فداه - "هذا، على الرغم من أنّ هذه الآية قد جاءت في سورة الشّورى أيضًا، ولكن من دون ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾، إلاّ أنّ النبيّ خصّ سورة هود بالذّكر، والسّبب أنّ الله تعالى طلب منه استقامة الأمّة أيضًا، فكان يخشى أن لا يتحقّق ذلك الطلب، وإلاّ فإنّه بذاته كان أشدّ ما يكون استقامة، بل لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم مثال العدل والاستقامة".
... إذاً، يا أخي، إذا كنتَ تعرف أنّك من أتباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتريد أن تحقّق هدفه، فاعمل على أن لا تخجله بقبيح عملك وسوء فعلك. ألا ترى أنّه إذا كان أحدٌ من أولادك والمقرّبين إليك يعمل القبيح وغير المناسب من الأعمال التي تتعارض وشأنك، فكم سيكون ذلك مدعاة لخجلك من النّاس وسببًا في طأطأة رأسك أمامهم؟ ولا بدّ أن تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعليّ عليه السلام، هما أبوا هذه الأمّة بنصّ ما قاله النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وَعَلِيُّ أَبَوا هذِهِ
1 وسائل الشيعة، كتاب النّكاح، الباب الأول من أبواب مقدّمات النّكاح، ح17.
2 سورة هود، الآية 112.
3 الطبرسي، تفسير مجمع البيان، ج5، ص140.
220
185
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
الأُمَّة"1. فلو أُحضرنا في حضرة ربّ العالمين يوم الحساب وأمام نبيّنا وأئمّتنا، ولم يكن في كتاب أعمالنا سوى القبيح من الأعمال، فإنّ ذلك سوف يصعب عليهم ولسوف يشعرون بالخجل في حضرة الله والملائكة والأنبياء. وهذا هو الظّلم العظيم الذي نكون قد ارتكبناه بحقّهم، وإنّها لمصيبة عظمى نُبتلى بها، ولا نعلم ما الذي سيفعله الله بنا.
فيا أيّها الإنسان الظّلوم الجهول، يا من تظلم نفسك، كيف تكافئ أولياءك الذين بذلوا أموالهم وأرواحهم في سبيل هدايتك، وتحمّلوا أشدّ المصائب، وأفظع القتل، وأقسى السّبي لنسائهم وأطفالهم من أجل إرشادك ونجاتك؟ فبدلًا من أن تشكرهم على ما فعلوا وتحفظ لهم أياديهم البيض نحوك، تقوم بظلمهم ظنًّا منك أنّك إنّما تظلم نفسك وحدها! استيقظ من نوم الغفلة، واخجل من نفسك، واتركهم يعانون من الظّلم الذي تحمّلوه من أعداء الدّين من دون أن تضيف على ظلامتهم ظلامة أخرى، لأنّ الظّلم من المحبّ أشدّ ألمًا، وأكثر قبحًا!"2.
1 بحار الأنوار ج 36، ح 12، ص 11.
2 الأربعون حديثًا، ص 199 - 201.
221
186
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
المفاهيم الرئيسة
1- من آثار اتّباع الهوى:
- بغض الحقّ والخلود في جهنّم: فاتّباع الهوى يؤدّي إلى انطفاء نور الفطرة بالكامل ولا يبقى فيها أثر من المحبّة الإلهية، بل وتصبح مبغضةً للحق تعالى، ولكلّ ما يرتبط به.
- الإمعان في التّسافل: يصبح اتّباع الأهواء النفسيّة والرّغبات الحيوانيّة حائلًا دون أن يتجلّى فيه الحقّ من خلال أيّة واحدة من تلك المراتب، ويطفئ ظلام النّفس وأهواؤها كلّ أنوار العقل والإيمان، ولن تُتاح له ولادة ثانية، أي الولادة الإنسانيّة، بل يمكث على تلك الحال ويكون ممنوعًا ومصدودًا عن الحقّ والحقيقة إلى أن يرحل عن هذا العالم.
- الضّلال وفقدان السّكينة: الإنسان المتّبع لهواه أضلّ وأشدّ وضاعة من جميع الحيوانات والبهائم، فلهذه هدف من الجمع، أمّا هو فلا هدف له من ذلك، بل هو ضيّع هدفه وغايته.
- انحطاط المجتمعات.
2- يتخلّص الإنسان من اتّباع الهوى:
أ. إنّ وصول الإنسان إلى مقام عصمة الحقّ المتعال مبنيٌّ على أمرين أساسيّين هما:
- خوف مقام الرّبّ المتعال.
- ونهي النّفس عن الهوى.
ب. التمسك بمقام روحانية هداة طرق المعرفة وأنوار سبل الهداية، ولو أراد أحد أن يطوي هذا الطريق بقدم أنانية نفسه من دون التمسك بولايتهم فسلوكه إلى الشيطان والهاوية.
ج. قطع المراحل التالية: ضبط القوى المشتّتة للنّفس في عالمي الملك والملكوت، طاعة النّفس للقوى الرّوحانيّة، الفناء في الإرادة الإلهيّة.
222
187
الدرس الخامس عشر: اتباع الهوى (2) - آثار اتباع الهوى وعلاجه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"فَأَسْأَلُكَ يَا مَوْلاَيَ سُؤَالَ مَنْ نَفْسُهُ لاَهِيَةٌ لِطُولِ أَمَلِهِ، وَبَدَنُهُ غَافِلٌ لِسُكُونِ عُرُوقِهِ، وَقَلْبُهُ مَفْتُونٌ بِكَثْرَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ، وَفِكْرُهُ قَلِيلٌ لِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ، سُؤَالَ مَنْ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الأَمَلُ، وَفَتَنَهُ الْهَوَى، وَاسْتَمْكَنَتْ مِنْهُ الدُّنْيَا، وَأَظَلَّهُ الأَجَلُ، سُؤَالَ مَنِ اسْتَكْثَرَ ذُنُوبَهُ، وَاعْتَرَفَ بِخَطِيئَتِهِ، سُؤَالَ مَنْ لاَ رَبَّ لَهُ غَيْرُكَ، وَلاَ وَلِيَّ لَهُ دُونَكَ، وَلاَ مُنْقِذَ لَهُ مِنْكَ، وَلاَ مَلْجَأَ لَهُ مِنْكَ، إلاَّ إِلَيْكَ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ سَلِمَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ فَلَهُ الْجَنَّةُ: مِنَ الدُّخُولِ فِي الدُّنْيَا، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَشَهْوَةِ الْبَطْنِ، وَشَهْوَةِ الْفَرْج"2.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "كَيْفَ يَجِدُ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ مَنْ لَا يَصُومُ عَنِ الْهَوَى"3.
3- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لمعاذ: "وَاحْذَرِ الْهَوَى، فَإِنَّهُ قَائِدُ الْأَشْقِيَاءِ إِلَى النَّارِ"4.
4- عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "مَنْ لَمْ يَتَعَاهَدِ النَّقْصَ مِنْ نَفْسِهِ غَلَبَ عَلَيْهِ الْهَوَى، وَمَنْ كَانَ فِي نَقْصٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَه"5.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَخٍ لِي، كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِي عَيْنِي، وَكَانَ رَأْسُ مَا عَظُمَ بِهِ فِي عَيْنِي صِغَرَ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، كَانَ خَارِجاً مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ... كَانَ إِذَا ابْتَزَّهُ أَمْرَانِ لَا يَدْرِي أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، نَظَرَ إِلَى أَقْرَبِهِمَا إِلَى الْهَوَى فَخَالَفَه"6.
6- عن الإمام الصَّادِقِ عليه السلام: "ذِكْرُ الْمَوْتِ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ فِي النَّفْسِ، وَيَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ، وَيُقَوِّي النَّفْسَ بِمَوَاعِدِ اللَّهِ، وَيُرِقُّ الطَّبْعَ، وَيَكْسِرُ أَعْلَامَ الْهَوَى"7.
1 الصّحيفة السّجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في الإلحاح على الله تعالى.
2 مستدرك الوسائل، ج12، ص 110.
3 (م.ن), ج12، ص 115.
4 بحار الأنوار، ج21، ص 407.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 381.
6 الكافي، ج2، ص 237.
7 مصباح الشريعة، ص 171.
223
188
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن مناشئ الجزع وكيفيّة تشكّل الشّخصية الجزوعة.
2- يشرح العلاقة بين ضعف الإيمان والجزع، وكيف يؤدّي الجزع إلى بغض الحقّ.
3- يتعرّف إلى الخطوات التي تساعدنا على التخلّص من الجزع.
225
189
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
تمهيد
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا﴾1.
وعن الصّادق عليه السلام: "تَفْسِيرُ الْجَزَعِ اضْطِرَابُ الْقَلْبِ وَتَحَزُّنُ الشَّخْصِ وَتَغَيُّرُ السُّكُونِ وَتَغْيِيرُ الْحَالِ، وَكُلُّ نَازِلَةٍ خَلَتْ أَوَائِلُهَا عَنِ الْإِخْبَاتِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَصَاحِبُهَا جَزُوعٌ غَيْرُ صَابِرٍ، وَالصَّبْرُ مَا أَوَّلُهُ مُرٌّ وَآخِرُهُ حُلْوٌ لِقَوْمٍ، وَلِقَوْمٍ مُرٌّ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ، فَمَنْ دَخَلَهُ مِنْ أَوَاخِرِهِ فَقَدْ دَخَلَ، وَمَنْ دَخَلَهُ مِنْ أَوَائِلِهِ فَقَدْ خَرَجَ، وَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ الصَّبْرِ لَا يَصْبِرُ عَمَّا مِنْهُ الصَّبْرُ، قَالَ الله عَزَّ مِنْ قَائِلٍ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عليه السلام: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾2 فَمَنْ صَبَرَ كُرْهاً وَلَمْ يَشْكُ إِلَى الْخَلْقِ وَلَمْ يَجْزَعْ بِهَتْكِ سِتْرِهِ، فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ، وَنَصِيبُهُ مَا قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾3، أَيْ بِالْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ"4.
حفلت الأحاديث والرّوايات بذكر الجّزع وعدّته من أضداد الصّبر الّذي هو فضيلة عظيمة. فالجزع رذيلة نفسيّة، وإن كان له بعض موارد الحسن كما سيظهر.
إنّ حياة الإنسان في الدّنياـ وفي ظلّ غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ مليئة بالصّعاب والمصائب، وذلك لأنّ النّاس تحت حكومات الطّواغيت لن تصلح أمورهم. وما داموا كذلك، فإنّ الكثير من الأضرار سيصيبهم نتيجة تخريب الأرض. وها هو أمير المؤمنين عليه السلام يشرح هذه القضيّة ويبيّن سببها الواقعيّ في عهده الشّريف لمالك الأشتر حين ولّاه مصرا: "وَإِنَّمَا يُؤْتَى
1 سورة المعارج، الآيتان 19 و 20.
2 سورة الكهف، الآية 68.
3 سورة البقرة، الآية 155.
4 مستدرك الوسائل، ج2، ص427، باب استحباب الصّبر على البلاء.
227
190
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
خَرَابُ الأرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا، إِنَّمَا يعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ"1، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾2. فالدّنيا في غيبة الإمام دارٌ بالبلاء محفوفة، وبظهوره المبارك ستشرق بنور ربّها وتتبدّل غير الأرض.
وبسبب هذا الطّغيان وما ينجم عنه من فساد وتخريب، يقع النّاس في المضائق والشّدائد، وتنزل بهم المصائب. فمن لم يستعدّ لمثل هذه البلايا يسقط وينهار، ويفقد القدرة على المقاومة من أجل السّير نحو ذلك العهد الميمون. وعندها ستزداد المصائب وتكثر، بل وستعظم وتكبر. فعن الإمام الصّادق عليه السلام: "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُبْتَلًى بِبَلَاءٍ مُنْتَظِرٌ بِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلِيَّةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا عَافَاهُ الله مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَنْتَظِرُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ وَجَزِعَ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُنْتَظِرُ أَبَداً حَتَّى يُحْسِنَ صَبْرَهُ وَعَزَاءَهُ"3.
فالصّبر، الذي ينشأ من قوّة إلهيّة تنزل على قلب المؤمن، يمنح القدرة على الصّمود والمواجهة، وبهذه المقاومة التي تتّطلع إلى عهد إمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف تقلّ المصائب وتهون.
ما هي الشّخصيّة الجزوعة؟
المصاعب والمصائب درجات، ومع كلّ درجة منها نحتاج إلى درجة تقابلها من حيث قوّة التحمّل والصّبر. ولكن، هل يوجد مصيبة في الحياة الدّنيا لا تقابلها قوّة أو يحتملها صبر؟ وبذلك يكون الجّزع عندها مقبولًا!
إنّ ما يظهر من بعض الأحاديث المؤيّدة بالوجدان أنّ مصائب أهل البيت عليهم السلام ـ أي مصائب فقدانهم وفقدان هدايتهم الظاهرة في هذا العالم ـ لا يمكن لأيّة نفس أن تتحمّلها. وكيف تتحمّل النّفس فقدان أمرٍ يُعدّ أساس قوّتها؟! فعن الإمام الصّادق عليه السلام: "إِنَّ الْبُكَاءَ وَالْجَزَعَ مَكْرُوهٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ مَا جَزِعَ، مَا خَلَا الْبُكَاءَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام، فَإِنَّهُ فِيهِ مَأْجُورٌ"4.
1 نهج البلاغة، ص 436، خ53، من كتابٍ له لمالك الأشتر.
2 سورة الروم، الآية 41.
3 مستدرك الوسائل، ج2، ص422، باب استحباب الصبر على البلاء.
4 وسائل الشيعة، ج14، ص506، باب استحباب البكاء لقتل الحسين.
228
191
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
وعَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ: "أَمَا تَذْكُرُ مَا صُنِعَ بِهِ، يَعْنِي بِالْحُسَيْنِ عليه السلام، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَتَجْزَعُ؟ قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ، وَأَسْتَعْبِرُ بِذَلِكَ حَتَّى يَرَى أَهْلِي أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَأَمْتَنِعُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَبِينَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي، فَقَالَ: رَحِمَ الله دَمْعَتَكَ، أَمَا إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الْجَزَعِ لَنَا وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا وَيحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ حُضُورَ آبَائِي لَكَ، وَوَصِيَّتَهُمْ مَلَكَ الْمَوْتِ بِكَ، وَمَا يَلْقَوْنَكَ بِهِ مِنَ الْبِشَارَةِ أَفْضَل"1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة دُفِنَ: "إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلاَّ عَنْكَ، وَإِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلاَّ عَلَيْكَ، وَإِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وَإِنَّهُ قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ"2.
ولعلّه إلى هذا الجزع أشار الإمام الصّادق عليه السلام: "إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نَجْزَعُ مَا لَمْ تَنْزِلِ الْمُصِيبَةُ، وَإِذَا نَزَلَتْ صَبَرْنَا"3.
والجزع، إمّا أن يبقى في القلب كحالة من الاضّطراب، دون أن يظهر في الأعضاء والجوارح، وإمّا أن يظهر عليها أو يسري إليها، فيؤدّي إلى حالات سلبيّة كثيرة، (سنشير إليها لاحقًا).
فإذا استفحل الجزع وزاد عن الحدّ الّذي قد يُعفى عنه، يظهر في سلوك الإنسان بصورة الشّكوى العشوائيّة والانهيار العصبيّ والإحباط والكسل والفتور.
وكما نعلم، فإنّ تزلزل القلب غالبًا ما يؤدّي إلى تزلزل البدن وخروجه عن الاعتدال في القول والفعل والحركات. ولهذا، كان لا بدّ من معالجة هذه المشكلة واقتلاعها من جذورها بعد معرفة أسبابها.
ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "فإنّ الإنسان غير الصّابر، قلبه مضطربٌ، وباطنه موحشٌ، ونفسه قلقةٌ ومهزوزة... والإنسان غير الصّابر، يشكو عند من هو أهل للشّكاية، ومن هو ليس أهل للشّكاية... وأمّا الفزع والجزع فمضافاً إلى أنّه عيبٌ وكاشفٌ عن الضّعف في النّفس، يجعل الإنسان مضطربًا، والإرادة ضعيفة والعقل موهوناً"4.
1 وسائل الشيعة، ج14، ص507، باب استحباب البكاء لقتل الحسين.
2 نهج البلاغة، ص527.
3 وسائل الشيعة، ج2، ص276، باب جواز إظهار التأثر قبل المصيبة.
4 الأربعون حديثًا، ص 297.
229
192
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
كيف يصبح الإنسان جزوعًا؟
1- الاستسلام للطّبيعة البشريّة
لأنّ الإنسان خُلق ضعيفًا، وخُلق من ضعف ــ كما تصرّح آيات القرآن الحكيم1 ــ فإنّ الأصل فيه هو الجزع. وقد عرّفت الآيات السّابقة هذا الإنسان بمثل هذه الخصلة، وذلك لأنّ الجزع ينشأ من ضعف النّفس، وعدم قدرتها على الثّبات، ولهذا فمن الطّبيعيّ أن يكون جزوعًا.
ويُعلم من هذا الأصل أنّ الإنسان، إذا لم يربِّ نفسه على التّحمّل، ولم يحصل على القوّة الحقيقيّة من أسبابها، بل من سببها الواقعيّ، فسوف يجزع وينهار في اللحظات الصّعبة.
ولا شكّ بأنّ أكثر النّاس ليسوا محرومين من القوّة بالكامل. فإنّ الله تعالى يمنحهم من القوّة ما يقيمون به معاشهم، ولكي يعرفوا بذلك ربّهم، فيبتغون عنده العزّة والقوّة اللامتناهية.
والمطلوب أن يعدّ كلّ واحد منّا من القوّة ما يتناسب أو يتفوّق على الصّعاب والبلاءات التي سيواجهها في الحياة. وحيث إنّنا في كثيرٍ من الحالات لا نعرف حجم المصيبة إلّا بعد نزولها، فالأفضل أن نكل الأمر إلى الله ونعتمد عليه، ونفوّض إليه جميع أمورنا، ونطلب منه المدد والعون دومًا، ولا نرى أنفسنا أهلًا لتلك المواجهة، فلعلّ الله تعالى بهذا يجبر نقصاننا.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ الرجل الرّوحي الحافظ لسلامة فطرته الإلهيّة الأصلية يصبرُ على كلّ حالٍ، ولا يفقد السيطرة على نفسه، فتتغلّب قوةُ روحه على ما تطلبه طبيعته، ولا ينهار في الحوادث، ولا يهتزّ لفقدان الدّنيا والطّموحات النّفسيّة، لأنّه متحررٌ من حبّ الدنيا والنّفس، وهذا الحبّ هو منشأ كلّ انحراف وخطيئة"2.
1 ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ سورة النساء، الآية 28.
2 معراج السالكين، ص 374.
230
193
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
2- احتجاب الفطرة
فإهمال تقوية النّفس يؤدّي بصورة تلقائيّة إلى الجزع. فكيف إذا امتزج مع احتجاب الفطرة، وذلك لأنّ الفطرة الإنسانية الأصليّة ـ كما يقول الإمام الخميني: "مجبولة على حبّ الكمال والجمال وطلب الحقّ ورؤية الحقّ، فإنّ الإنسان (الفطريّ) لا يظهر الجزع ممّا يرد عليه من جانب الحقّ. وإن كان ما يرد بحسب الطّبيعة وعالمها مكروهًا، والفطرة تعدّ الجزع من واردات الحقّ عيبًا ولأنّ هذا الإنسان احتجب بالحجب النّفسيّة الطّبيعيّة وتلوثّت مرآة قلبه بصدأ رؤية النّفس والعجب، فإنّه يجزع مقابل الواردات، ويظهر الشكوى من فقدان الواردات الطّبيعيّة"1. وإنّما تحتجب الفطرة بسبب حبّ النّفس وشدّة التوجّه إليها وإلى حاجاتها. وهكذا، لن ترى الجمال الكامن في المصائب فتستغرق في ظلمة الشّرور والأعدام. وعن الإمام الصّادق عليه السلام: "الصَّبْرُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِ الْعِبَادِ مِنَ النُّورِ وَالصَّفَاءِ، وَالْجَزَعُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ"2.
ويقول قدس سره: "إذا احتجبت الفطرة المجبولة على حبِّ الكمال المطلق بحجب الطّبيعة والنّفس، توهّمت أنّ الكمال في ما تطلبه الطّبيعة والنّفس، ولذلك فهي تجزع لفقدان المطلوبات الطّبيعيّة والنّفسيّة. فإذا خرجت من هذه الحال من الاحتجاب، لم تتأذَّ إلّا لفقدانها وِصال محبوبها الأصليّ، فلا تجزع إلّا على فراق حبيبها الحقيقيّ، فيكون الصّبر عن الله أصعب الأمور عليها، والله الهادي"3.
3- نقصان المعرفة
فما يعين الإنسان على تحمّل المكاره هو أن يرى فيها الخير، ويعلم أنّه بسببها سيبلغ المقامات عند الله، لقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾4. وبسبب تكدّر الفطرة واحتجابها
1 معراج السالكين، ص373.
2 مستدرك الوسائل، ج2، ص427، باب استحباب الصّبر على البلاء.
3 معراج السالكين، ص 374.
4 سورة البقرة، الآية 155.
231
194
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
يمتنع صاحبها عن رؤية ما أخفى الله له في المكاره، وإنّما "حُفّت الجنّة بالمكاره"1، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "نفس الإنسان ما دامت تكره ما يَرِدُها من الحقّ تعالى، وما دام الإنسان يجد في باطنه جزعًا من تلك الواردات، فإنّ مقام معارفه وكمالاته ناقص"2.
ويقول قدس سره أيضًا: "اعلم أنّ الصبر يعتبر من مقامات المتوسّطين، لأنّ النّفس ما دامت تكره المصائب والبليّات، وتجزع منها، يكون مقام معرفته ناقصًا"3.
الشخصيّة الجزوعة هي شخصيّة بعمقها الفكري لا تفهم ولا تُدرك معنى الشرّ في حياتها، وهي أيضًا تُبتلى بقصر النّظر بشكلٍ ملحوظٍ، فترى ما يصيبها من شرّ أو ضرر كخسارة نهائيّة... الجزوع لا يرى الأفق البعيد أو الثّواب الإلهيّ للصّبر والثّبات، ولا يرى العاقبة الحسنة.
4- ضعف الإيمان
يقول الإمام قدس سره: "إنّ العبد الذي لا يتحمّل مصيبة واحدة نازلة عليه من الحقّ المتعال والحبيب المطلق، والذي إذا واجه بليّة واحدة رفع صوته بالشّكوى من وليّ نعمه أمام المخلوق، رغم نزول البركات عليه وتلقّيه آلاف آلاف النّعم، مثل هذا العبد أيّ إيمانٍ له؟ وأيّ تسليمٍ له أمام المقام القدسيّ للحقّ؟ فيصحّ أن يُقال أنّ: "من لا صبر له لا إيمان له"4.
ويقول في موضعٍ آخر: "لو كنت مؤمنًا بالحضرة الرّبوبيّة، ورأيت مجاري الأمور بيد قدرته الكاملة، ولا يكون لأحدٍ يدٌ في الحوادث والأمور، لما اشتكيت من حوادث الأيّام والبليّات أمام غير الحقّ تعالى، بل لاستقبلتها بكلّ حفاوة وتكريم، وشكرت نعم الحقّ سبحانه. فكلّ الاضطرابات النّفسيّة والشّكاوى اللسانيّة والحركات غير اللائقة وغير المعتادة للأعضاء، تشهد بأنّنا لسنا من ذوي الإيمان. فما دامت النّعمة موفورة، شكرنا ربّنا شكرًا ظاهريًّا لا لبّ له، بل يكون لأجل طمع الزّيادة، وحينما تواجهنا مصيبة واحدة أو يحلّ بنا ألمٌ ومرض،
1 بحار الأنوار، ج67، ص78، ترك الشّهوات والأهواء.
2 معراج السالكين، ص364.
3 الأربعون حديثًا، ص 294.
4 (م.ن), ص 297 - 298.
232
195
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
نشتكي من الحقّ المتعالي لدى النّاس ونغمز فيه، ونعترض عليه، ونبدي الشّكوى أمام كلّ من هو أهل، ومن هو ليس بأهل"1.
5- فتور القوّة الغضبيّة
إنّ الطّبيعة البشريّة إذا خرجت عن حدّ الاعتدال ـ سواء من جهة الإفراط أو التّفريط ـ فسوف تسوق صاحبها إلى الكثير ممّا لا تحمد عواقبه. ولا شكّ بأنّ القوّة الغضبيّة تُعدّ من قوى النّفس الطّبيعيّة. فلو فترت هذه القوّة واتّجهت نحو التّفريط فسوف يُبتلى الإنسان عندها بالجزع، ولهذا قال الإمام الخميني قدس سره: "إنّ فتور وخمود هذه القوّة (الغضبيّة) يولّد عيوبًا كبيرة، مثل الضّعف والتّهاون والكسل والطّمع والجزع"2، وذلك لأنّ الإنسان يستمدّ من هذه القوّة لأجل المقاومة والتجلّد، وبفتورها وخمودها يفقد تلك القدرة ويتّجه نحو الجزع.
الآثار المهلكة للجزع
1- بغض الحقّ تعالى
"وتتحوّل الشّكاوى والجزع والفزع في النّفس إلى بذور البغض تجاه الحقّ والقضاء الإلهيّ، ثمّ ينمو شيئًا فشيئًا ويشتدّ، حتّى يتحوّل إلى ملكة، بل ـ لا سمح الله ـ تتحوّل الصّورة الدّاخليّة للذّات صورة البغض لقضاء الحقّ، والعداء للذّات إلى المقدّس، وحين ذلك يفلت الزّمام من اليد، ويزول الاختيار عن الإنسان، ولا يستطيع أن يفعل شيئًا لتحسين الوضع وضبط الأوهام، ويتلوّن الظاهر والباطن بلون العداء للحقّ سبحانه تعالى، وينتقل من هذا العالم، وهو قطعة من البغض والعداء لمالك النّعم، فيُبْتلى بالشّقاء الأبديّ والظّلام الدّائم"3.
2- سلب الطّمأنينة
"إنّ الإنسان غير الصّابر، قلبه مضطرب، وباطنه موحش، ونفسه قلقة ومهزوزة. وهذا بنفسه بليّة فوق جميع البلايا، ومصيبة من أعظم المصائب التي تحلّ بالإنسان، وتسلب منه الرّاحة والقرار"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 298.
2 الأربعون حديثًا، ص 298.
3 الأربعون حديثًا، ص 298.
4 (م.ن)، ص 297.
233
196
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
ما هي الأفكار التي تعيننا على اقتلاع الجزع؟
عندما يشكو الإنسان، ولا يجد صدىً لشكواه أو جوابًا، فسوف يرى مصيبته أكبر. الشّكاية هي في جوهرها من أهمّ آثار الجزع، ومن علاماته. الشّكاية قد تحمل معها تهمة لله سبحانه وتعالى بالظّلم! فلماذا ورد في الحديث (في وسائل الشّيعة) أنّ "مَنْ شَكَا إِلَى مُؤْمِنٍ، فَقَدْ شَكَا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ شَكَا إِلَى مُخَالِفٍ، فَقَدْ شَكَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ"1؟ لأنّ المؤمن سوف يجيب هذه الشّكاية ويوضّحها، وهو يدافع عن ساحة العزّة الإلهيّة لربّ العالمين. فالذي يشكو، يشكو الله عزّ وجلّ بطريقة غير مباشرة، لأنّ كلّ ما يحدث في العالم يرجع إلى الله، ﴿قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ﴾2. لماذا يشكو الإنسان أمراً نزل به؟ لأنّه يراه خطأً، الإنسان لا يشكو شيئًا جميلًا أو مفيدًا... فالشّكاية بالنّسبة له هي تساؤل متألّم "لماذا يحصل هذا بي؟". فهي تخفي اعتراضًا على حكمة الباري وتدبيره ورأفته ورحمته بعبده، ومن المفترض أنّ المؤمن الحقيقيّ يدافع عن الله، بينما الكافر أو غير المؤمن يثبّت له هذه الشّكاية ومضمونها.
فمصيبة الجزع الكبرى هي أنّ صاحبها يتوقّف ويجمد، بالإضافة إلى أنّه سوف ينشر رسالة سلبيّة في المجتمع حول تدبير الله سبحانه وتعالى، لأنّه سوف يشير إلى الربّ المتعال بالظّلم. إنّ الجزوع غالبًا ما ينشر رسالة سلبيّة تجاه ربّ العالمين، بينما الصّبور إنسان ينشر رسالة إيجابيّة متفائلة، ويعزّز هذه الحالة الإيجابيّة تجاه ربّ العالمين.
إذاً، فالعلاج يكمن في تصحيح نظرة الإنسان للحياة والوجود والمصير، وتصحيح فهمه للشرّ. وبمقدار ما يتعمّق الإنسان في هذا المجال يصبح صافيًا، ويهيّئ مقدّمات التّحوّل النّوعيّ، وعليه أن يعمل على تقوية نفسه من خلال العبادة، ولا شكّ بأنّ الجهاد في سبيل الله وتحمّل المسؤوليات الاجتماعيّة يساعدان الإنسان كثيراً في هذا المجال. ومن الأمور المفيدة التي تعين على التخلّص من الجزع:
1 وسائل الشيعة، ج2، ص 412، باب جواز الشّكوى إلى المؤمن دون غيره.
2 سورة النّساء، الآية 78.
234
197
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
1- التفكّر في عاقبة الجزع وآثاره
ولمّا عرفنا أسباب الجزع وتعرّفنا على بعض آثاره، فإنّ ذلك كافٍ لمن أراد أن يزكّي نفسه ويصلحها. وما أجمل ما قاله الإمام الخميني قدس سره: "وأعوذ بالله من سوء العاقبة والإيمان المستعار المستودع، فيكون كلام المعصوم عليه السلام صحيحًا، حيث يقول: "عندما يذهب الصّبر يذهب الإيمان". فيا أيّها العزيز، إنّ الموضوع خطيرٌ، والطّريق محفوفٌ بالمخاطر، فابذل من كلّ وجودك الجهد، واجعل الصّبر والثّبات من طبيعتك أمام حوادث الأيّام، وانهض أمام النّكبات والرّزايا، ولقّن النّفس بأنّ الجزع والفزع، مضافًا إلى أنّهما عيبان فادحان، لا جدوى من ورائهما للقضاء على المصائب والبليّات، ولا فائدة من الشّكوى على القضاء الإلهيّ وعلى إرادة الحقّ عزّ وجل أمام المخلوق الضّعيف الذي لا حول له ولا قوّة، كما أشير إلى ذلك في الحديث الشّريف المنقول في الكافي: مُحَمَّد بْنُ يَعْقُوبَ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمَاعَةَ بْنَ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عليه السلام قالَ: قَالَ لِي: "مَا حَبَسَكَ عَنِ الحَجِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: جْعِلْتُ فِدَاكَ! وَقَعَ عَلَيَّ دَيْنٌ كَثِيرٌ وَذَهَبَ مَالِي، وَدَيْنِي الَّذي قَدّ لَزِمَنِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ مَالِي، فَلَوْلاَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا أَخْرَجَنِي مَا قَدَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ، فَقَالَ لِي: إِنْ تَصْبِرْ تُغْتَبَطْ، وألاّ تَصْبِرْ يُنْفِذِ الله مَقَادِيرَهُ، رَاضِيًا كُنْتَ أَمْ كَارِهًا"1. فاعلم بأنّ الجزع والفزع لا يجديان، بل لهما أضرارٌ مخيفةٌ ومهالك تنسف الإيمان. وأمّا الصّبر والجلادة فلهما الثّواب الجزيل والأجر الجميل والصّورة البهيّة البرزخيّة الشّريفة، كما ورد في ذيلَ الحديث الشّريف الذي نحن بصدد شرحه، حيث يقول: "وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً، فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا"2.
2- التفكّر في عاقبة الصّبر وثماره
فعاقبة الصّبر إلى الخير في هذه الدّنيا، كما يستفاد من التّمثيل بالنّبيّ يوسف عليه السلام في الحديث المذكور ، يبعث على الأجر والثّواب في يوم الآخرة.
1 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصّبر، ح1.
2 الأربعون حديثًا، ص 298 - 299.
235
198
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
وفي الحديث الشّريف، المنقول في الشيخ الكليني، الكافي، بسنده إلى أبي حمزة الثّماليّ رحمه الله قال: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِبَلاءٍ، فَصَبَرَ عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَلْفِ شَهيدٍ"1. ووردت أحاديث كثيرة في هذا المضمار... وأمّا أنّ للصّبر صورة بهيّة برزخيّة، فمضافًا إلى أنّها تتطابق مع بعض الأدلّة، نجد الأحاديث الشّريفة أيضًا تتحدّث عنها، كما في الكافي الشّريف، عن الإمام الصّادق عليه السلام، قال: "إِذَا دَخَلَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ، كَانَتِ الصَّلاَةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ، والبِرُّ مُطلٌّ عَلَيْهِ، وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ المَلَكَانَ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ، قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالبِرِّ: دُونَكُمْ2 صَاحِبَكُمْ، فَإِنْ عَجَزْتُمْ مِنْهُ، فَأَنَا دُونَهُ"3.
1 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح17.
2 دونكم: الزموا.
3 الأربعون حديثًا، ص 299.
236
199
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
المفاهيم الرئيسة
1- الجزع هو رذيلة نفسيّة كاشفة عن الضّعف في النّفس، وهو من أضداد الصّبر الّذي هو فضيلة عظيمة.
2- الجزع إمّا أن يبقى في القلب كحالة من الاضطراب، دون أن يظهر في الأعضاء والجوارح، وإمّا أن يظهر عليها و يسري إليها، وإذا استفحل الجزع وزاد عن الحدّ الّذي قد يُعفى عنه، فإنّه يظهر في سلوك الإنسان بصورة الشّكوى العشوائيّة والانهيار العصبيّ والإحباط والكسل والفتور.
3- الإنسان لا يشكو شيئًا جميلًا أو مفيدًا. فالشّكاية بالنّسبة له هي تساؤل متألّم "لماذا يحصل هذا بي؟". فهي تخفي اعتراضًا على حكمة الباري وتدبيره.
4- منشأ الجزع: 1- الاستسلام للطّبيعة البشريّة، 2-احتجاب الفطرة. 3- نقصان المعرفة. 4- ضعف الإيمان. 5- فتور القوّة الغضبيّة. 6- ضعف النّفس وعدم قدرتها على الثّبات.
5- إذا لم يربِّ الانسان نفسه على التّحمّل ولم يحصل على القوّة الحقيقيّة من سببها الواقعيّ، فسوف يجزع وينهار في اللحظات الصّعبة.
6- من الآثار المهلكة للجزع: بغض الحقّ تعالى (تتحول الشكاوى إلى بغض للحقّ والقضاء الإلهيّ)، والعداء للذّات المقدّس، وسلب الطّمأنينة.
7- مصيبة الجزع الكبرى هي أنّ صاحبها يتوقّف ويجمد بالإضافة إلى أنّه سوف ينشر رسالة سلبيّة في المجتمع حول تدبير الله سبحانه وتعالى.
8- من المعينات لإقتلاع الجزع: التفكّر في عاقبة الجزع وآثاره والتفكّر في عاقبة الصّبر وثماره.
9- يكمن العلاج في تصحيح نظرة الإنسان للحياة والوجود والمصير، وتصحيح فهمه للشرّ. وعليه أن يعمل على تقوية نفسه من خلال العبادة، ولا شكّ بأنّ الجهاد في سبيل الله وتحمّل المسؤوليات الاجتماعيّة يساعدان الإنسان كثيراً في هذا المجال.
237
200
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"إِلَهِي، إِلَيْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً، وَإِلَى الْخَطِيئَةِ مُبَادِرَةً، وَبِمَعَاصِيكَ مُوْلَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تَسْلُكُ بِي مَسَالِكَ الْمَهَالِكِ، وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هَالِكٍ، كَثِيرَةَ الْعِلَلِ، طَوِيلَةَ الأَمَلِ، إِنْ مَسَّهَا الشَّرُّ تَجْزَعُ، وَإِنْ مَسَّهَا الْخَيْرُ تَمْنَعُ، مَيَّالَةً إِلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، مَمْلُوَّةً بِالْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ، تُسْرِعُ بِي إِلَى الْحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُنِي بِالتَّوْبَةِ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "الْمُؤْمِنُ... لَا يَرْغَبُ فِي عِزِّ الدُّنْيَا، وَلَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّها"2.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من جزع، فنفسه عذّب، وأمر الله سبحانه أضاع، وثوابه باع"3.
3- عَنِ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يُكْتَبُ أَنِينُ الْمَرِيضِ حَسَنَاتٍ مَا صَبَرَ، فَإِنْ جَزَعَ، كُتِبَ هَلُوعاً، لَا أَجْرَ لَهُ"4.
4- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُبْتَلًى بِبَلَاءٍ مُنْتَظِرٍ بِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، فَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلِيَّةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، عَافَاهُ الله مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَنْتَظِرُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ وَجَزِعَ، نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ الْمُنْتَظِرِ أَبَداً، حَتَّى يُحْسِنَ صَبْرَهُ وَعَزَاءَهُ"5.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "يَا أَشْعَثُ، إِنْ صَبَرْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْكَ الْقَدَرُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ"6.
1 الصحيفة السجّاديّة، مناجاة الشّاكين.
2 الكافي، ج2، ص 231.
3 غرر الحكم، ص 262.
4 مستدرك الوسائل، ج2، ص 52.
5 (م.ن), ج2، ص 422.
6 نهج البلاغة، ص 527.
238
201
الدرس السادس عشر: الجزع ، ماهيته ، منشؤه وعلاجه
6- عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: لَوْلَا أَنِّي أَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ، مَا تَرَكْتُ عَلَيْهِ خِرْقَةً يَتَوَارَى بِهَا، وَإِذَا كَمُلَتْ لَهُ الْإِيمَانُ، ابْتَلَيْتُهُ بِضَعْفٍ فِي قُوَّتِهِ، وَقِلَّةٍ فِي رِزْقِهِ، فَإِنْ هُوَ حرج (جَزِعَ) أَعَدْتُ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَبَرَ بَاهَيْتُ بِهِ مَلَائِكَتِي"1.
7- عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ جُرْعَتَيْنِ، جُرْعَةِ غَيْظٍ يَرُدُّهَا مُؤْمِنٌ بِحِلْمٍ، وَجُرْعَةِ جَزَعٍ يَرُدُّهَا مُؤْمِنٌ بِصَبْرٍ"2.
8- أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام، أَنَّهُ قَالَ: "قَالَ إِبْلِيسُ: خَمْسَةُ أَشْيَاءَ لَيْسَ لِي فِيهِنَّ حِيلَةٌ، وَسَائِرُ النَّاسِ فِي قَبْضَتِي: مَنِ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ عَنْ نِيَّةٍ صَادِقَةٍ، وَاتَّكَلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَمَنْ كَثُرَ تَسْبِيحُهُ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَمَنْ رَضِيَ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجْزَعْ عَلَى الْمُصِيبَةِ حِينَ تُصِيبُهُ، وَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ الله لَهُ وَلَمْ يَهْتَمَّ لِرِزْقِهِ"3.
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَجْزَعْ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَمْ يُنَافِسْ فِي عِزِّهَا، هَدَاهُ الله بِغَيْرِ هِدَايَةٍ مِنْ مَخْلُوقٍ، وَعَلَّمَهُ بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ، وَأَثْبَتَ الحِكْمَةَ فِي صَدْرِهِ، وَأَجْرَاهَا عَلَى لِسَانِهِ"4.
10- عن أَبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "شِيعَتُنَا مَنْ لَا يَهِرُّ هَرِيرَ الْكَلْبِ، وَلَا يَطْمَعُ طَمَعَ الْغُرَابِ، وَلَا يَسْأَلُ عَدُوَّنَا وَإِنْ مَاتَ جُوعاً"، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأَيْنَ أَطْلُبُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: "فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ، أُولَئِكَ الْخَفِيضُ عَيْشُهُمْ، الْمُنْتَقِلَةُ دِيَارُهُمْ، إِنْ شُهِدُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَمِنَ الْمَوْتِ لَا يَجْزَعُونَ، وَفِي الْقُبُورِ يَتَزَاوَرُون"5.
1 بحار الأنوار، ج39، ص 253.
2 وسائل الشيعة ج7، ص 75.
3 بحار الأنوار، ج60، ص 248.
4 (م.ن)، ج75، ص 63.
5 الكافي، ج2، ص 238.
239
202
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى السّخط وكيف تتشكّل الشّخصيّة السّاخطة.
2- يشرح كيف يؤثّر السّخط على علاقتنا بالله وبالمؤمنين.
3- يتعرّف إلى كيفية التخلّص من السّخط علميًّا وعمليًّا.
241
203
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
تمهيد
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ السّخط والغضب على الحقّ تعالى وأفعاله من جنود إبليس والجهل، ومقتضى الفطرة المحجوبة، أعاذنا الله منه"1.
يمثّل الواقع الخارجيّ بسمائه وأرضه ومخلوقاته وحوادثه وتحوّلاته ساحة عظيمة لتكامل الإنسان من خلال معرفة آيات الله المبثوثة فيه. فما من شيء يدور حولنا، إلّا وهو مظهر لإرادة الله وتدبيره المحكم، وهذا التّدبير يحكي عن جمال الله المطلق وصفاته الحسنى.
عندما يتفاعل الإنسان مع كلّ هذا الواقع بصورة إيجابيّة، ويستفيد من آياته، فإنّه لن يرى سوى الجمال، وذلك لأنّ العالم بكلّ ما فيه هو ظلّ الله وأثر فعله، وظلّ الجميل جميل.
ومن الطّبيعيّ عندئذٍ أن يكون حاصل التّفاعل الإيجابيّ مع الجمال عبارة عن السّرور والفرح والرّضا والشّكر وأمثالها. فإذا كان الإنسان في هذا العالم، وكان السّخط غالبًا عليه، فلا شكّ بأنّ هناك مشكلة حقيقيّة. فهو صاحب شخصيّة ساخطة... فما هي هذه المشكلة؟ وكيف تنشأ؟ وإلى أين تؤدّي؟
من هي الشخصية الساخطة؟
السّخط عبارة عن حالة من الانزعاج والنّفور الّذي قد يصبح غضبًا فيما إذا اجتمع مع الكبر. والمشكلة التي يشير إليها الإمام الخميني قدس سره في هذا المجال، وبالاستفادة من الأحاديث الشّريفة، هي السّخط على الله تعالى، لا مطلق السّخط. فلو كان السّخط رذيلة أخلاقيّة لما اتّصفت به بعض أفعال الحقّ المتعال عزّت أسماؤه.
1 جنود العقل والجهل، ص 162.
243
204
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
إنّ هذه الحالة التي تترسّخ في النّفس، فتصبح من سمات شخصيّتها، إنّما تكون رذيلة مهلكة في حال توجّهت إلى الكمال الحقيقيّ. وبدلًا من أن تكون راضية عنه، فرحة مقبلة عليه، تراها مدبرة ساخطة. ولا شكّ بأنّ النّفور من الكمال الواقعيّ لهو من أعظم أسباب الشّقاء، لأنّه يؤدّي إلى قطع الارتباط به والتوجّه إليه. وإذا حصل هذا الأمر، لم يكن أمام الإنسان سوى السّقوط في أودية التّسافل والنّقصان.
قد يتعجّب بعضهم ويتساءل: "هل يمكن أن يسخط الإنسان على الكمال الواقعيّ؟!" وهذا التّعجّب في محلّه.
ينبغي أن نعلم أوّلًا أنّ السّخط يتولّد من ملاحظة النّقص وتوابعه، ثمّ الانزجار منه والنّفور. وهذا النّفور أمرٌ فطريّ، لأنّ فطرة الإنسان، كما أنّها تعشق الكمال وتميل إليه، فإنّها تنفر من النّقص وتبغضه وتهرب منه. يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أيّها السّالك إلى الله، أنّك إذا صرفت وجهك الظّاهر عن الجّهات المتشتّتة لعالم الطّبيعة، وتوجّهت إلى نقطة واحدة، فقد ادّعيت فطرتين من الفطر الإلهيّة، التي أودعت بيد الغيب في خميرة ذاتك، وقد خمّر الحقّ تعالى طينتك بها بيد الجلال والجمال، وقد أظهرت هاتين الحالتين الفطريّتين بصورة ظاهرة دنيويّة، وأشهدتهما بها، وأقمت البيّنة على عدم احتجابك عن نور هاتين الفطرتين الإلهيّتين، بصرف الظّاهر عن الغير والتّوجّه إلى القبلة التي هي محلّ ظهور يد الله وقدرة الله. وهاتان الفطرتان الإلهيّتان، إحداهما: التنفّر عن النّقص والنّاقص، والثّانية: هي العشق للكمال والكامل. والأوّل أصليّ ذاتيّ، والثّاني تبعيّ ظلّيّ، من الفطر التي عجنت بها جميع عائلة البشر ومن دون استثناء. ففي جميع سلسلة البشر مع اختلافهم في العقائد والأخلاق والطّبائع والأمزجة والأمكنة والعادات، في البدويّ منهم والحضريّ، والبدائيّ والمتمدّن، والعالم والجاهل، والإلهيّ والطّبيعيّ، هاتان الفطرتان مخمّرتان، وإن كانوا محجوبين عنهما، ويختلفون في تشخيص الكمال والنّقص والكامل والنّاقص. فذاك المتوحّش السّفّاك الفتّاك، يرى الكمال في الاستيلاء على نفوس النّاس وأعراضهم، ويرى السّفك والقتل كمالًا، فيصرف عمره لأجله. وذاك الطّالب للدّنيا والطّالب للجاه والمال، يرى الكمال بالمال والجاه ويعشقهما. وبالجملة، فصاحب كلّ قصد يرى مقصده كمالًا وصاحبه
244
205
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
كاملًا ويعشقه، ويتنفّر من غيره"1.
فمن مقتضيات الفطرة الصّافية إذًا، أن ينزعج الإنسان من النّقص، ويتنفّر منه، وتحصل له حالة من الرّفض والسّخط عليه، بل إنّ من لم يكن كذلك، فهو محجوبٌ عن هذه الخلقة الأصليّة، وهو شخصٌ يعاني من خللٍ في شخصيّته وإيمانه.
فإذا شاهدنا في أنفسنا حالة السّخط الدّائم، فهذا يعني أنّ ملاحظة النّقص ومواجهته تغلب علينا. وهل هذا الأمر مقبولٌ أو طبيعيٌّ في هذه الحياة؟ أم أنّنا نعاني من مشكلة في فهم الواقع الذي نحن فيه؟
لكنّنا لو دقّقنا قليلًا، لوجدنا أنّ هذا السّخط يعود إلى أمرين أساسيّين، أو أنّه يظهر في حالين:
الأوّل: السّخط على الكمال الواقعي، ظنًّا بأنّه نقص. ويحصل هذا الأمر عند الذين فقدوا نور العقل المميّز بين الحسن والقبح.
الثاني: السّخط على الكمال الواقعيّ تمرّدًا وكبرًا وعنادًا، أي مع علمهم بأنّه كمال لكنّهم يسخطون عليه. وهو موجود عند أعداء الله الذين فقدوا نور الفطرة بالكامل، وصاروا في زمرة الأبالسة الذين ليس فيهم سوى جبلّة الشرّ والقذارة والقبح.
هذا، ومن المتوقّع لمن فقد نور العقل أن يصل به الأمر إلى أن تنطفئ فيه أنوار الفطرة. وإنّما يطفئ نور العقل أمور، وقد اتّضح الكثير منها إلى الآن. إلّا أنّ ما يجمعها أمرٌ واحدٌ، هو عدم اتّباع العقل وطاعته.
وهكذا يُعلم أنّ السّخط على الكمال الواقعيّ ـ سواء كان من سوء التّقدير (ضعف العقل)، أو التّعمّد (انطفاء نور الفطرة) ـ هو الذي يكون رذيلة أخلاقيّة وصفة مهلكة.
الشّخصيّة السّاخطة هي التي تسخط في الظّاهر على هذه الأمور، وإن كانت في الباطن ساخطة على الله تعالى، لأنّ تلك الأمور ليست سوى مظاهر الكمال المطلق وتجلّياته في الحياة، سواء التفتَ الإنسان أم لا. وعندما يرتفع حجاب الطّبيعة ويخرج الإنسان من هذه الدّنيا، ويصبح البصر حديدًا، فكثيرًا ما تظهر العداوة والحقد على المؤمنين بصورة الحقد على الله تعالى، والسّخط على ذاته المقدّسة. نعوذ بالله تعالى من سوء العاقبة!
1 معراج السالكين، ص129-130.
245
206
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
من أين ينشأ السّخط؟
1- احتجاب الفطرة
إنّ أكثر حالات السّخط تنشأ من عدم تشخيص الكمال في الشّيء. وعندما يعجز الإنسان عن إدراك الكمال الواقعيّ، فسوف يؤدّي هذا الأمر إلى إلقاء الحجب على الفطرة، لأنّ الفطرة، التي هي عبارة عن شدّة الانجذاب والتعلّق بالكمال، ما لم تتوجّه إلى الكمال الواقعيّ، سواء من جهة التّوجّه إلى الكمال الموهوم أو من جهة عدم رؤية الكمال في الشّيء، فسوف تضعف، ويضعف في صاحبها نداؤها ودورها.
وعندما لا نجد في أنفسنا حبًّا أو رضًى بالكمال، مع بقاء شيء من نور الفطرة فينا، فهذا يعني أنّنا لا نراه كمالًا، لأنّنا لو رأيناه كمالًا وسخطنا عليه، فإنّنا أصبحنا من زمرة العتاة المردة المعاندين، الذين ليس لهم سوى جهنّم الخلد.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ السّخط من جنود الجهل وإبليس، ومن مقتضيات الفطرة المحجوبة الجاهلة، نتيجة لنقصان المعرفة بمقام الرّبوبيّة، والجهل بعزّة الشّامخ جلّ وعلا"1.
فالسّخط على أيّ كامل، أو ما يغلب عليه جهة الكمال، هو من احتجاب الفطرة، بسبب أغلفة الجهل بجهة الكمال.
فإذا تكرّر هذا الأمر، وصار حالة راسخة في النّفس، ينطفئ نور الفطرة بصورة تامّة، ولا يبقى في هذا الإنسان أي تعلّق أو رغبة بالكمال حتّى لو أدركه كمالًا، بل يفرّ منه، لأنّه كمال وحسن، كما حصل مع قوم لوط، حيث قالوا: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾2. وقد شاهدنا في حياتنا جماعة كانت تعذّب المؤمنين المجاهدين، لأنّهم مؤمنون: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾3.
1 جنود العقل والجهل، ص168.
2 سورة النمل، الآية 56.
3 سورة البروج، الآية 8.
246
207
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
2- الجهل بالله
"اعلم أنّ الإنسان الذي يعتقد بالحقّ وتقديره اعتقادًا يقينيًّا، ويعتمد على الرّكن الرّكين الذي يتمتّع بالقدرة المطلقة، والذي يقرّر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبيّة، والذي له الرّحمة الكاملة المطلقة والجود المطلق، من المعلوم أنّ مثل هذا اليقين، تتذلّل الصّعاب عنده، وتهون أمامه المصائب، ويختلف كثيرًا في طلبه لمعيشته عن أهل الدّنيا وأهل الشكّ والشّرك.
إنّ الذين يعتمدون على الأسباب الظّاهريّة، يعيشون دائمًا عند طلب الرّزق في حالة من القلق والاضطراب، ولو اصطدموا بمشكلة، لعظمت عندهم وضاقت الحياة في أعينهم، لأنّهم لا يجدونها محفوفة بالمصالح الغيبيّة التي يعلمها الله ويجهلها الإنسان.
وخلاصة الكلام: إنّ من يرى سعادته في تحصيل هذه الدّنيا، يواجه في طلبه هذا الآلام والعَناء، وتُسلب عنه الرّاحة والبهجة، وتُستنزف قواه وطاقاته في هذا الطلب. كما نرى أنّ أهل الدّنيا دائمًا في تعبٍ ونصب، وأنّهم لم يتمتّعوا باطمئنان في الرّوح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويّتهم، وزال جَلَدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا لا يكون إلاّ نتيجة شكّهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهيّ وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهمّ والتعب، نتيجةً لهذا التّزلزل"1.
إنّ ظاهرة الجهل بالله جديرة بالدّراسة والتأمّل، لأنّ ظاهر القضيّة قد يختلط مع أنواع الجهل الأخرى والتي يُعذر النّاس معها، لكنّ الجاهل لا يكون معذورًا دائمًا، ويكون مذمومًا وقبيحًا في حالتين:
الأولى: إذا كان صاحبه قادرًا على تحصيل العلم، لكنّه أهمل وقصّر.
الثّانية: إذا كان العلم بالشّيء بديهيًّا ووجدانيًّا وتلقائيًّا وحتميًّا، وهذا هو حالنا مع ربّ العالمين الذي ملأت أسماؤه أركان كلّ شيء. وهو معنى ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "عليكم بطاعة من لا تُعذرون بجهالته"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 594 - 595.
2 نهج البلاغة، ص499.
247
208
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
وهذا يعني أنّ الجهل بالله ـ الذي هو الجهل بالكمال الواقعي ومظاهره ـ ليس سوى مرض نفسيّ يحكي عن شخصيّة متأزّمة. ولا يمكن أن نعذر مثل هذا الشّخص، وهو قادرٌ حتمًا على حلّ مشكلته دون بذل أيّ جهد أو مجاهدة.
3- حبُّ الدّنيا
والمنشأ الآخر للسّخط هو حبّ الدّنيا. وقد ذكرنا مرارًا أنّ حبّ الدّنيا ـ الذي هو عبارة عن التعلّق بالأمور الزّائلة الفانية الموهومة، كالرّئاسة والجاه والاعتبار ـ إنّما يغذّي الجهل والضّعف والخلل الأخلاقيّ في الشّخصيّة، فيؤدّي إلى بروز حالات أشدّ وخامة. يقول الإمام: "وإنّ من المفاسد الكبيرة لحبّ الدّنيا ـ كما كان يقول شيخنا العارف (روحي فداه) ـ هو أنّه إذا انطبع حبّ الدّنيا على صفحة قلب الإنسان، واشتدّ الأنس بها، انكشف له عند الموت أنّ الحقّ المتعال يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدّنيا ساخطًا مغتاظًا على وليّ نعمته. إنّ هذا القول القاصم للظّهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إيقاظ، للحفاظ على قلبه. فالعياذ باللّه من إنسان يسخط على وليّ نعمته، مالك الملوك الحقّ، إذ ليس أحد يعرف صورة هذا السّخط والعداء، غير الله تعالى"1.
4- الحسد
ويأتي الحسد ليعزّز حالة العمى والنّفور من النّعم والكمالات ومظاهر الجمال. وصحيح أنّ الحسود يتمنّى زوال النّعمة عن غيره، لكنّه يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى كارهٍ وساخطٍ للنّعمة بشكلٍ مطلق، خصوصًا إذا لاحظ عدم زوالها عن المحسود على مرّ الأيّام.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إن ّجميع الصّفات المعنويّة والظاهريّة للمؤمن، تتنافى والآثار التي يوجدها الحسد في ظاهر الإنسان وباطنه، إنّ المؤمن يحسن الظنّ باللّه تعالى، وهو راضٍ بقسمه الذي يقسمه بين عباده، أمّا الحسود فساخطٌ على الله تعالى، يشيح بوجهه عن تقديراته... وإنّ من المفاسد الكبيرة التي لا تنفكّ عن الحسد، سخط الحسود على الخالق ووليّ نعمته، وإعراضه عن تقديراته تعالى"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 150.
2 (م.ن), ص 134 - 135.
248
209
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
كيف نتعامل مع حالة السّخط في أنفسنا؟
1- العلم النّافع والعمل الصّالح
قد اتّضح ممّا سبق علاج هذه الموبقة العظيمة، فإنّ أصل كلّ خير وصلاح هو العلم النّافع والعمل وفقه. والعلم النّافع هنا، هو معرفة أسرار هذا العالم وسننه الإلهيّة. فما من شيء يجري فيه إلّا وهو بتدبير المتعال الذي لا يريد سوى الخير لعباده المؤمنين، عن أبي عبد الله عليه السلام: "عَجِبْتُ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لَا يَقْضِي الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ قُرِّضَ بِالْمَقَارِيضِ كَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ مَلَكَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا كَانَ خَيْراً لَهُ"1.
ولو أدرك المؤمن هذه الحقيقة، ولاحق تجلّياتها في حياته، لامتلأت جعبة معرفته بآلاف الشّواهد الدالّة على حسن التّدبير وجماله، ولأشرق قلبه بحبّ الله ورضوانه، وتوجّهت نفسه شغفًا إليه، إن كان فيه شيء من الفطرة.
2- الذّكر
وإذا شاهد في نفسه قبحًا أو ضعفًا، فليعلم أنّ الأمر يحتاج إلى مجاهدة، وإنّ من أسمى حالات المجاهدة: الذّكر، وهو عبارة عن تلقين القلب تلك الحقائق المتعلّقة بالوجود، وخصوصًا في الخلوات. وأفضل وسيلة للذّكر هي العبادة، وأعلاها الصّلاة، قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾2، وقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾3. وليستعذ بالله من الشّيطان الرّجيم، الذي لا همّ له ولا شغل سوى إلقاء الوساوس والأباطيل، التي هي عبارة عن إظهار العالم والحياة على غير ما هما عليه في الواقع.
1 الكافي، ج2، ص62.
2 سورة طه، الآية 14.
3 سورة الأعراف، الآية 201.
249
210
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- السّخط عبارة عن حالة من الانزعاج والنّفور الّذي قد يصبح غضبًا فيما إذا اجتمع مع الكبر.
2- يتولّد السّخط من ملاحظة النّقص وتوابعه، ثمّ الانزجار منه والنّفور. لأنّ فطرة الإنسان كما أنّها تعشق الكمال وتميل إليه، فإنّها تنفر من النّقص وتبغضه وتهرب منه.
3- المشكلة هي عندما يصبح السّخط حالة دائمة في النّفس، فهذا يعني أنّ ملاحظته للنّقص ومواجهته تغلب عليه. فما من شيء يدور حولنا إلّا وهو مظهر لإرادة الله وتدبيره المحكم. وهذا التّدبير يحكي عن جمال الله المطلق وصفاته الحسنى. وعندما يتفاعل الإنسان مع كلّ هذا الواقع بصورة إيجابيّة، ويستفيد من آياته، فإنّه لن يرى سوى الجمال.
4- يكون السخط رذيلة مهلكة في حال توجّهت إلى الكمال الحقيقيّ (الحق تعالى). وبدلًا من أن تكون راضية عنه، فرحة مقبلة عليه، تراها مدبّرة ساخطة. ولا شكّ بأنّ النّفور من الكمال الواقعيّ لهو من أعظم أسباب الشّقاء، لأنّه يؤدّي إلى قطع الارتباط به والتوجّه إليه. وإذا حصل هذا الأمر، لم يكن أمام الإنسان سوى السّقوط في أودية التّسافل والنّقصان.
5- السّخط يعود إلى أمرين أساسيّين: الأوّل: السّخط على الكمال الواقعي ظنًّا بأنّه نقص. ويحصل هذا الأمر عند الذين فقدوا نور العقل المميّز بين الحسن والقبح. الثاني: السّخط على الكمال الواقعيّ تمرّدًا وكبرًا وعنادًا (أي مع علمهم بأنّه كمال لكنّهم يسخطون عليه). وهو موجود عند أعداء الله الذين فقدوا نور الفطرة بالكامل، وصاروا في زمرة الأبالسة الذين ليس فيهم سوى جبلّة الشرّ والقذارة والقبح. كما ينشأ من الجهل بالله، حبّ الدّنيا والحسد.
6- علاج هذه الموبقة العظيمة يكون من خلال العلم النّافع (معرفة أسرار العالم وسننه الإلهيّة)، الذكر الذي هو عبارة عن تلقين القلب تلك الحقائق المتعلّقة بالوجود وأفضل وسيلة للذّكر هي العبادة، وأعلاها الصّلاة.
250
211
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَارْزُقْنِي الْحَقَّ عِنْدَ تَقْصِيرِي فِي الشُّكْرِ لَكَ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، حَتَّى أَتَعَرَّفَ مِنْ نَفْسِي رَوْحَ الرِّضَا وَطُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ مِنِّي بِمَا يَجِبُ لَكَ فِيمَا يَحْدُثُ فِي حَالِ الْخَوْفِ وَالأَمْنِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالضَّرِّ وَالنَّفْعِ"1.
الآيات الكريمة:
﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بكَ مِنَ الْفِتْنَةِ، لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَة، وَلكِنْ مَنِ اسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾3، وَمَعْنَى ذلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ السَّاخِط لِرِزْقِهِ وَالرَّاضِي بِقِسْمِهِ"4.
2- عن أبي عبد الله عليه السلام: "مِنْ صِحَّةِ يَقينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أنْ لا يُرْضِيَ النّاسَ بِسَخَطِ اللهِ"5.
3- عن أبي عبد الله عليه السلام: "لقي الحسن بن علي عبد الله بن جعفر عليهما السلام فقال: "يا عبدالله، كيف يكون المؤمن مؤمنًا وهو يسخط قسمه، ويحقّر منزلته، والحاكم عليه الله؟ فأنا الضّامن لمن لا يهجس في قلبه إلا الرّضا أن يدعو الله فيستجاب له"6.
4- عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: "مِنْ صِحَّةِ يَقِينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَلَا يَلُومَهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِهِ الله، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ، لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرَّاحَةَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَط"7.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في الشدّة وعند تعسر الأمور.
2 سورة التوبة، الآيتان 58 و 59.
3 سورة الأنفال، الآية 28.
4 نهج البلاغة، 483.
5 الكافي، ج2، ص 57.
6 (م.ن)، ص 62.
7 الكافي، ج2، ص 57.
251
212
الدّرس السابع عشر: السخط ، تشكّله، آثاره وطرق معالجته
5- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أحَبَّ الله عَبداً اِبتَلاهُ بِعَظيمِ البَلاءِ، فَمَن رَضِيَ فَلَهُ عِندَ اللهِ الرِّضى، ومَن سَخَطَ البَلاءَ فَلَهُ عِندَ اللهِ السَّخَطُ"1.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ أَصْبَحَ عَلَى الدُّنْيَا حَزِيناً فَقَدْ أَصْبَحَ لِقَضَاءِ اللهِ سَاخِطاً"2.
7- عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَرْضَى سُلْطَاناً بِمَا أَسْخَطَ اللهَ خَرَجَ مِنْ دِينِ اللهِ"3.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا نَظَرَ اعْتَبَرَ، وَإِذَا سَكَتَ تَفَكَّرَ، وَإِذَا تَكَلَّمَ ذَكَرَ، وَإِذَا اسْتَغْنَى شَكَرَ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ صَبَرَ، فَهُوَ قَرِيبُ الرِّضَا بَعِيدُ السَّخَطِ، يُرْضِيهِ عَنِ اللهِ الْيَسِيرُ، وَلَا يُسْخِطُهُ الْكَثِيرُ، وَلَا يَبْلُغُ بِنِيَّتِهِ إِرَادَتُهُ فِي الْخَيْرِ، يَنْوِي كَثِيراً مِنَ الْخَيْرِ، وَيَعْمَلُ بِطَائِفَةٍ مِنْهُ، وَيَتَلَهَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْخَيْرِ كَيْفَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَالْمُنَافِقُ إِذَا نَظَرَ لَهَا، وَإِذَا سَكَتَ سَهَا، وَإِذَا تَكَلَّمَ لَغَا، وَإِذَا اسْتَغْنَى طَغَا، وَإِذَا أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ ضَغَا، فَهُوَ قَرِيبُ السَّخَطِ بَعِيدُ الرِّضَى، يُسْخِطُ عَلَى اللهِ الْيَسِيرُ، وَلَا يُرْضِيهِ الْكَثِيرُ، يَنْوِي كَثِيراً مِنَ الشَّرّ،ِ وَيَعْمَلُ بِطَائِفَةٍ مِنْهُ، وَيَتَلَهَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الشَّرِّ كَيْفَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ"4.
1 (م.ن)، ص 253.
2 نهج البلاغة، ص 508.
3 الكافي، ج2، ص 373.
4 بحار الأنوار، ج75، ص 50.
252
213
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق للجور ودرجاته.
2- يذكر أبرز الأسباب التي تؤدّي إلى تشكّل الشّخصيّة العدوانيّة وأهم آثارها.
3- يشرح كيف نحول دون تشكّل الشخصية العدوانيّة.
253
214
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
تمهيد
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "بِئْسَ الزَّادُ إِلَى الْمَعَادِ الْعُدْوَانُ عَلَى الْعِبَاد"1.
إنّ انتظام الحياة البشريّة واعتدالها يُعدّ مقدّمة أساسيّة لسير المجتمعات نحو كمالها المنشود، ولتحقّق البيئة السّليمة التي تنبعث منها الفضائل والتّوجّهات المعنويّة السّامية.
ولا يتحقّق هذا الانتظام إلّا إذا صارت رعاية الحقوق قيمةً راسخةً في المجتمع، ونبذ النّاسُ الجورَ والعدوان، وجعلوا مواجهتهما والقضاء عليهما مهمّة أساسيّة لهم.
ما هو الجور؟
يضجّ المجتمع بحالات الجور والاعتداء على الحقوق، فلا تنظر إلى جهة إلّا وترى حقًّا مسلوبًا أو مضيّعًا، سواء في البيئة والطّبيعة التي تشترك فيها الحقوق العامّة مع الخاصّة، كالكثير من الانتفاعات في المياه والتّراب والهواء والموارد، أو في النّظام العام الذي به صلاح أمر المعاش والبقاء، أو داخل العائلة الواحدة، حيث الأخ يعتدي على أخيه، ويحصل التّنازع على الأملاك والمواريث. وترى الظّلم في المؤسّسات وفي المعاهد والمنظّمات والحكومات. وكلّما صرت أكثر إدراكًا لنظام الحقوق أدركت حجم الجور ومدى تفشّيه، حتى قد يصيبك اليأس من الإصلاح! إلّا إذا سمعت عن آخر الزّمان، حيث "تُملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجوراً"2.
1 نهج البلاغة، ص507.
2 الكافي، ج1، ص341.
255
215
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
فالشّواهد الكثيرة لا نحتاج معها إلى كثير تأمّل لمعرفة معنى الجور، لكنّنا نحتاج إلى دراسة عمق القضيّة لنعرف إذا كنّا مبتلين ببعض درجات الجور، أو إذا كنّا نسير على طريقٍ سنصبح معه يومًا ما من أئمّة الجور أو أتباعهم، لا سمح الله.
لا تستبعدنّ يا عزيزي، فلو اطّلعت على أحوال الكثير من هؤلاء لوجدت أنّهم لم يختلفوا في سوابقهم عن الكثير منّا، فعندما يُبتلى الإنسان ويُختبر، لا يُعلم أيّ شيءٍ سيخرج منه!
وها هو الإمام الخمينيّ قدس سره بقوله: "ولا يتيسّر الاعتدال الحقيقيّ إلّا للإنسان الكامل الذي لم ينحرف ولم يخرج عن الصّراط المستقيم منذ بداية السّير وإلى منتهى نهاية الوصول، وهو بتمام المعنى الخطّ الأحمديّ والخطّ المحمّديّ، وبقيّة السّائرين يسيرون فيه على نحو التّبعيّة لا على نحو الأصالة"1.
يريد أن يلفت أنظارنا إلى هذه القضيّة، ويرفع من مستوى حساسيّتنا تجاه الجور، فاجتناب الجور والنّجاة من ارتكابه ليس موجودًا فينا على نحو الأصالة، وخصوصًا إذا علمنا أنّ أصل الجور يرجع إلى ما يحصل داخل النّفس، حين تتغلّب إحدى القوى الثّلاث (الشّهويّة والغضبيّة والشّيطانيّة)، أو كلّها على مملكة الإنسان. وكذلك، إذا علمنا أنّ حبّ الدّنيا، (الذي هو كثير الانتشار بيننا)، سيؤدّي إلى الجور والعدوان لا محالة.
يقول الإمام قدس سره: "فالعدالة، بما تعنيه من الحدّ الوسط بين الإفراط والتّفريط والغلوّ والتّقصير، هي من الفضائل الإنسانيّة العظمى، بل يُنقل عن الفيلسوف العظيم أرسطوطاليس قوله: "إنّ العدالة ليست من الفضائل بل هي كلّ الفضائل، والجور، وهو ضدّها، ليس من الرّذائل، بل هو كلّ الرذائل"2.
"ويُطلق اسم العدالة على معنًى آخر، هو تعديل جميع القِوى الباطنيّة والظّاهريّة والرّوحيّة والنّفسيّة، واستنادًا إلى هذا المعنى، قال الفيلسوف المتقدّم ذكره: العدالة كلّ الفضائل لا أحدها. وبناءً على هذا، يكون للجور معنيان: الأوّل: مقابل العدالة بالمعنى الخاص، والثّاني: مقابل العدالة بالمعنى العام، وهذا هو المقصود في قول الفيلسوف المذكور: إنّ
1 جنود العقل والجهل، ص 149.
2 (م.ن)، ص 147.
256
216
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
الجور هو جميع الرذائل"1.
ويذكر الإمام بعض درجات الاستقامة والعدالة، كالعدالة في تجلّيات المعارف والتّوحيد أو في العقائد الحقّة أو في الأخلاق النّفسيّة، من أجل أن ينبّهنا إلى إمكانيّة حصول الجور في هذه المراتب، وإلى معنى أعمق يرتبط بالجور، قد لا يخطر على بالنا، فيقول:
"فلو كانت الاستقامة في تجلّيات المعارف الإلهيّة وجلوات التّوحيد في قلوب أهل المعرفة، فتكون العدالة هنا بمعنى عدم الاحتجاب بالخلق عن الحقّ تعالى، وبالحقّ عن الخلق. وبعبارةٍ أخرى: رؤية الوحدة في الكثرة ورؤية الكثرة في الوحدة، وهذا المعنى مختصّ بالكمّل من أهل الله، والتّفريط والإفراط ـ في هذا المقام ـ هو الاحتجاب عن الحقّ أو الخلق بالخلق أو الحقّ، ويُحتمل أن يكون حصول هذا المعنى للعدالة هو مطلوب أهل الله في تلك الآية الشّريفة.
... أو كانت الاستقامة في العقائد الحقّة والحقائق الإيمانيّة، والعدالة فيها عبارة عن إدراك الحقائق الوجوديّة على ما هي عليه، من الغاية القصوى للكمال الأسمائيّ، إلى منتهى نهاية رجوع المظاهر إلى الظّواهر، وهي حقيقة المعاد".
... أو كانت الاستقامة في الأخلاق النّفسيّة، أي اعتدال القوى الثّلاث: الشّهويّة والغضبيّة والشّيطانيّة، ولأنّ المقصود في الحديث الشّريف ـ حسب الظّاهر ـ هو هذا القسم الأخير، فقد عُدّ العدل من جنود العقل"2.
كيف تتشكّل الشّخصيّة العدوانيّة؟
1- خروج قوى النّفس عن الاعتدال
إذاً، تبدأ القضيّة بخروج القِوى الأساسيّة للنّفس عن جادّة الاعتدال، وخصوصًا في المراحل الأولى من حياة الإنسان، حيث يفتقد إلى التّربية السّليمة.
2- حبّ الدّنيا
ثمّ يأتي حبّ الدّنيا ليشعل نيران العدوان، حينما يرى أنّ هناك من يريد سلبه ما يحبّ أو منعه من الوصول إليه.
1 جنود العقل والجهل، ص 148.
2 (م.ن)، ص144 - 145.
257
217
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
يقول الإمام قدس سره: "وإنّ العطف والرّحمة والتّواصل والمودّة والمحبّة متعارضة مع حبّ الدّنيا، وإنّ البغض والحقد والجور وقطع الرّحم والنّفاق وسائر الأخلاق الفاسدة وليدة أمّ الامراض هذه"1.
3- الطّبيعة البشريّة
إنّ الطّبيعة البشريّة التي تتمثّل في النّفس قبل تكاملها وتبدّلها إلى مقام العقل والرّوح، ذات استعدادٍ دائمٍ للانحراف عن جادّة الاعتدال إلى الإفراط والتّفريط. وما لم يتمّ تهذيب هذه النّفس وتزكيتها، فإنّ جنوحها إلى الجور يصبح أمرًا حتميًّا، سواء ظهر هذا الجور أو لم يظهر.
4- الإعراض عن نداء الفطرة
أمّا الطّبيعة الغيبيّة الإلهيّة، المعبّر عنها بالفطرة، والتي يوصل نورها إلى كلّ مخلوق، فهي التي تنفر من الظّلم والجور، كما يقول الإمام قدس سره: "إنّ القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة، وينفر بالفطرة كذلك من العسف والجور. إنّ الفطرة الإلهيّة الكامنة في أعماق البشر حبّ العدل والرّضى به، وكراهة الظّلم وعدم الانقياد له"2.
فمن ترك نور الفطرة وأعرض عن ندائها، فقد ذاك الوازع الإلهيّ، وصار أمره إلى حيث يرى الكمال في الاعتداء على النّاس وظلمهم.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ففي جميع سلسلة البشر، مع اختلافهم في العقائد والأخلاق والطّبائع والأمزجة والأمكنة والعادات، في البدويّ منهم والحضريّ، والبدائيّ والمتمدّن، والعالم والجاهل، والإلهيّ والطبيعيّ، هاتان الفطرتان مخمّرتان، وإن كانوا محجوبين عنهما، ويختلفون في تشخيص الكمال والنّقص والكامل والنّاقص. فذاك المتوحّش السّفّاك الفتّاك، يرى الكمال في الاستيلاء على نفوس النّاس وأعراضهم، ويرى السّفك والقتل كمالًا، فيصرف عمره لأجله. وذاك الطّالب للدّنيا والطّالب للجاه والمال، يرى الكمال بالمال والجاه ويعشقهما. وبالجملة، فصاحب كلّ مقصد يرى مقصده كمالًا وصاحبه كاملًا ويعشقه، ويتنفّر من غيره"3.
1 معراج السالكين، ص 62.
2 الأربعون حديثًا، ص 139.
3 معراج السالكين، ص 129-130.
258
218
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
5- البيئة الاجتماعيّة
إنّ البيئة الاجتماعيّة تلعب دورًا أساسيًّا في توجيه وجهة الإنسان نحو هذه الخصلة المهلكة. هذه البيئة هي التي تصنع تلك الأنظمة والقوانين والتي تُسمّى بشريعة الغاب، وعندها سينشأ أبناؤها على قاعدة "إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذّئاب"، فيتحوّل الجميع، ولو بالاستعداد، إلى الحالة الذّئبيّة التي هي روح الجور والعدوان.
6- عدم وضع الرّجل المناسب في المكان المناسب
وفي المؤسّسات، إذا أردنا أن نضع أيدينا على أهمّ عامل يؤدّي إلى تجرّؤ العاملين أو المسؤولين على الظّلم والاعتداء، فلنستمع إلى ما ذكره أمير المؤمنين عليه السلام في عهده الشّريف لمالك الأشتر حين ولّاه مصر، حيث يقول: "ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ"1.
فعندما يوظّف المدير شخصًا على نحو المحاباة والتودّد إليه، أو تفضيلًا له على غيره ممّن هو أكفأ منه، يكون بذلك قد بذر فيه بذرة الجور، ولن ينقضي الزّمن حتّى يأتي اليوم الذي يعتدي فيه على العاملين أو على النّاس من حوله.
ما هي عاقبة الجور في الدّنيا والآخرة؟
1- الخسران العظيم في الدّنيا والآخرة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ تعديل القوى النّفسيّة ـ الذي يرتهن به تحقّق غاية الكمال الإنسانيّ ومنتهى السّير الكماليّ، بل هو تحقّق هذا الكمال بعينه في أحد معانيه ـ هو من مهمّات الأمور التي تؤدّي الغفلة عنها إلى خسرانٍ عظيم، وضررٍ جسيم، وشقاءٍ لا يمكن جبره"2.
الملفت في موضوع الجور، أنّ صاحبه سرعان ما ينال عقابه، أو يرى عاقبة عدوانه، ولو كان فيه ذرّة عقل لأدرك قبحه وخسرانه. لكن المشكلة أنّ أكثر أئمّة الجور وأتباعهم يفقدون شيئًا فشيئًا القدرة على رؤية المخرج. فهم خاسرون، لكنّهم لا يؤمنون بأنّ طريق
1 نهج البلاغة، ص 433، من كتابٍ له للأشتر النخعي.
2 جنود العقل والجهل، ص149.
259
219
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
الصّلاح والإصلاح ميسّر لهم، وفي الحديث المروي في الكافي الشّريف بإسناده عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت باقر العلوم عليه السلام يقول: "واعلم يا محمّد، أنّ أئمّة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، قد ضلّوا وأضلّوا. فأعمالهم التي يعملونها كرمادٍ اشتدّت به الرّيح في يومٍ عاصف، لا يقدرون ممّا كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد"1.
ولهذا، فإنّ مصير هؤلاء في الآخرة يكون شديد القبح والوخامة.
ويشرح الإمام الخميني قدس سره هذا الأمر قائلًا: "إذا غلبت النّفس البهيميّة فتتصوّر بها صورة باطن نفس الإنسان، فيكون في صورته الملكوتيّة الغيبيّة الأخرويّة على هيئة أحد البهائم المناسبة لحاله، مثل صورة الثّور أو الحمار ونظائرهما. أمّا إذا كانت عاقبة أمر الإنسان ظهور فعليّة الحال السّبعيّة ـ بمعنى أنّ النّفس السّبعيّة تكون هي الغالبة على قواه ـ فإنّ صورته الغيبيّة الملكوتيّة تصير على هيئة أحد السّباع، مثل النّمر أو الذّئب ونظائرهما. أمّا إذا تغلّبت قوّة الشّيطنة على قواه الأخرى، وكانت الفعليّة الشّيطانيّة آخر فعليّاته، حينئذٍ يصير باطنه الملكوتيّ على صورة أحد الشّياطين، وهذا أصل أصول المسخ الملكوتيّ. وتظهر من تزاوج اثنين من تلك القوى الثّلاث، ثلاث صور: ثور نمر، وثور شيطان، ونمر شيطان. وتظهر من التّزاوج بين هذه القوى الثّلاث صورة هجينة خليطة مزدوجة، مثل: "ثور شيطان نمر". وعلى هذا المعنى يُحمل الحديث المرويّ عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: "يُحشر بعض النّاس على صورة، تحسن عندها القردة والخنازير"2. واعلم، أنّ مثلما أنّ الإفراط في هذه القوى الثّلاث مفسدٌ لمقام الإنسانيّة، ويخرج الإنسان تارة عن حقيقة الإنسانيّة، وتارة عن فضيلة الإنسانيّة، كذلك الحال مع التّفريط والقصور فيها، فهو أيضًا يُعتبر من مفسدات مقام الإنسانيّة، ومن رذائل الملكات"3.
2- نشر الظلم في المجتمعات
ولا تنحصر المصيبة بالشّخص الجائر نفسه ففي معظم الحالات يصبح الظّالم سببًا للمزيد من الظّلم يرتكبه غيره. وهكذا، تنتشر عدوى الظّلم لتتحوّل إلى منظومة اجتماعيّة
1 الكافي، ج1، ص 183، باب معرفة الإمام والردّ عليه.
2 الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج2، ص 901.
3 جنود العقل والجهل، ص 146 - 147.
260
220
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
يستحسنها أهلها، ويرون ما سواها ضعفًا أو خطأً أو خسارةً!
يقول الإمام قدس سره: "إنّ نورانيّة شخص واحد، مثل الفيلسوف الإسلاميّ العظيم الخواجة نصير الملّة والدّين1 ـ رضوان الله عليه ـ أو العلّامة الجليل الحلّي2 ـ قدّس الله نفسه ـ، قد نوّرت ملّة ومملكة كاملة، بحيث إنّ النّورانيّة باقية فيها إلى الأبد، في حين أنّ ظلمات وشقاوة شخصٍ واحدٍ، مثل معاوية بن أبي سفيان أو أيّ من نظائره من أئمّة الجور، قد بذرت ـ كما نرى ـ بذور الشّقاوة والخسران لأممٍ وممالك على مدى آلاف السّنين"3.
كيف نحول دون تشكّل الشّخصيّة الجائرة؟
1- تعديل القوى الباطنيّة
قد علمت أنّ الخطوة الأولى تبدأ من ذاتك، ومن استطاع أن يحفظ نفسه ويزعها عند الجمحات، فسوف يضيء مصباحًا ينير درب الكثيرين. وهو بهذه الطّريقة يقدّم أفضل خدمة للمجتمع البشريّ في القضاء على هذه الحالة المدمّرة. وبعبارةٍ ثانية: إنّ العدالة النّفسيّة، التي هي عبارة عن اعتدال القِوى المختلفة للنّفس، تكون مقدّمة للعدالة الخارجيّة واجتناب الجور.
لهذا، يقول الإمام قدس سره: "اعلم أنّ تعديل القوى النّفسيّة ـ الذي يرتهن به تحقّق غاية الكمال الإنسانيّ ومنتهى السّير الكماليّ، بل هو تحقّق هذا الكمال بعينه في أحد معانيه ـ هو من مهمّات الأمور التي تؤدّي الغفلة عنها إلى خسرانٍ عظيم، وضررٍ جسيم، وشقاءٍ لا يمكن جبره. وما دام الإنسان في عالم الطّبيعة، فإنّه قادرٌ على أن يعدّل قواه الجانحة إلى الإفراط والتّفريط، وأن يُخضع النّفس الشّموس العاصية لسيطرة العقل والشّرع، وهذا الأمر في غاية اليسر والسّهولة في أوّل الشّباب، لأنّ نور الفطرة لم يُغلب بعد، وصفاء النّفس لم يذهب بعد، والأخلاق الفاسدة والصّفات القبيحة لم تترسّخ في النّفس بعد"4.
1 نصير الديّن الطّوسيّ.
2 جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلّيّ، أحد كبار فقهاء ومتكلّمي الشيعة الإماميّة في القرن السّابع الهجريّ.
3 جنود العقل والجهل، ص 148.
4 (م.ن)، ص 149 - 150.
261
221
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
وقد علمت أنّ اعتدال القوى وثبات النّفس في مقام العدالة لا يتحقّق إلا بعد أن يصبح العقل سلطان مملكة الإنسان كلّها.
2- الاستعاذة من الشّيطان الرّجيم
وعلمت أيضًا أنّ الجور من أهمّ خصال إبليس، الذي يريد أن يجعل الإنسان على شاكلته. وقلّما نجد شيئًا كالجور والعدوان يعبّر عن هذه الشّاكلة.
الجور سجيّة إبليس
يقول الإمام قدس سره: "إنّ ابليس اللعين هو عدّو الله، وتصرّفاته وكلّ تصرّف إبليسيّ في عالم الطّبيعة جور وغصب، فالسّالك إلى الله، إن أخرج نفسه من تصرّفات ذلك الخبيث، يكون تصرّفه تصرّفًا رحمانيًّا، ويُباح ويطهر مكانه وملبسه ومطعمه ومنكحه. وبمقدار ما يقع تحت تصرّف إبليس، يخرج عن الحلّيّة، ويكون فيه شرك الشّيطان. فإذا وقعت الأعضاء الظّاهرة للإنسان في تصرّف إبليس، تكون أعضاؤه إبليسيّة ويكون غاصبًا لمملكة الحقّ، كما أنّ عكوف القوى الملكوتيّة في مسجد البدن يكون مباحًا وعدلًا إذا كانت القوى من الجنود الرّحمانيّة، وإلّا فجنود إبليس ليس لها الحقّ بأن تتصرّف في مملكة البدن الإنسانيّ، التي هي ملك للحقّ تعالى"1.
والطّريق الوحيد للخروج من تحت سلطنة إبليس والدّخول في حصن الاستعاذة الآمن، هو بأن يصبح الإنسان من أهل السّير والسّلوك.
كيفيّة الدّخول في حصن الاستعاذة
حيث يقول الإمام قدس سره: "وبالجملة، الإنسان قبل شروعه في السّلوك والسّير إلى الله ليس مستعيذًا"2.
ولا بأس أن نتأمّل قليلًا في هذا الكلام النّورانيّ، الذي أورده الإمام عند الحديث على شروط ومهمّات الاستعاذة من الشّيطان الرّجيم: "فمن مهمّات آداب الاستعاذة الخلوص، كما نقل سبحانه عن الشّيطان، أنّه قال: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ
1 معراج السالكين، ص117-118.
2 (م.ن)، ص238.
262
222
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾1، وهذا الإخلاص كما يظهر من الكريمة الشّريفة أعلى من الإخلاص العمليّ، سواء في العمل الجوانحيّ أو الجوارحيّ، لأنّ المخلَص جاء بصيغة المفعول، ولو كان المنظور هو الإخلاص العمليّ لكان التّعبير بصيغة الفاعل. فالمقصود من هذا الإخلاص هو خلوص الهويّة الإنسانيّة بجميع الشّؤون الغيبيّة والظّاهريّة، حيث الإخلاص العمليّ من رشحاته، وهذه الحقيقة واللطيفة الإلهيّة، وإن كانت لا تحصل للعامّة في ابتداء السّلوك إلّا بشدّة الرّياضات العمليّة وخصوصًا الرّياضات القلبيّة التي هي أصلها، كما أشير إليه في الحديث المشهور: "من أخلص لله أربعين صباحًا، جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"2، فمن أخلص أربعين صباحًا (بمقدار تخمير طينة آدم، وكان أربعين صباحًا، والرّبط بينهما معلوم عند أهل المعرفة وأصحاب القلوب) نفسه لله، وأخلص أعماله القلبيّة والقالبيّة للحقّ تعالى، يصبح قلبه إلهيًّا ولا ينفجر من القلب الإلهيّ سوى عيون الحكمة، فيكون لسانه الذي هو أكبر ترجمان للقلب ناطقًا بالحكمة. ففي أوّل الأمر يكون إخلاص العمل موجبًا لخلوص القلب، فإذا صار القلب خالصًا تظهر على مرآة القلب أنوار الجلال والجمال التي أودعت بالتّخمير الإلهيّ في الطّينة الآدمية، وتتجلّى وتسري من باطن القلب إلى ظاهر ملك البدن.
وبالجملة، ذاك الخلوص الذي يوجب الخروج من تحت السّلطنة الشّيطانيّة، هو خلوص هويّة الرّوح وباطن القلب لله تعالى، وإلى هذا الخَلوص يشير أمير المؤمنينعليه السلام في المناجاة الشّعبانية: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك"، فإذا وصل القلب إلى هذه المرتبة من الإخلاص، وانقطع بالكامل عمّا سوى الله، ولم يتطرّق في مملكة وجوده غير الحقّ، فإنّ الشّيطان ـ الذي يجد طريقه إلى الإنسان من غير طريق الحقّ ـ لن يجد طريقًا إليه، ويقبله الحقّ تعالى في معاذه، ويقع في الحصن الحصين للألوهيّة، كما قال تعالى: "كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل في حصني أمن من عذابي...".
1 سورة ص، الآيتان 82 و 83.
2 بحار الأنوار، ج67، ص 242.
263
223
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
وللدّخول في حصن "لا إله إلّا الله" مراتب، كما أنّ للأمن من العذاب أيضًا مراتب، فمن دخل بباطنه وظاهره وقلبه وقالبه في حصن الحقّ، وصار في معاذه، فقد أمِن من جميع مراتب العذاب، وأعلى مراتبها عذاب الاحتجاب عن جمال الحقّ والفراق عن وصال المحبوب جلّ وعلا. فالمولى أمير المؤمنين يقول في دعاء كميل: "فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟"، ويدنا عن الوصول إليه قاصرة. فمن حصل له هذا المقام، فهو عبد الله على الحقيقة، ويقع تحت قباب الرّبوبيّة، ويكون الحقّ تعالى متصرّفًا في مملكته، ويخرج من ولاية الطّاغوت1.
1 معراج السالكين، ص231-232.
264
224
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ أصل الجور يرجع إلى ما يحصل داخل النّفس، حين تتغلّب إحدى القوى الثّلاث (الشّهويّة والغضبيّة والشّيطانيّة) أو كلّها على مملكة الإنسان.
2- يُطلق اسم العدالة على معنًى آخر هو تعديل جميع القِوى الباطنيّة والظّاهريّة والرّوحيّة والنّفسيّة. وبناءً على هذا، يكون للجور معنيان: الأوّل، مقابل العدالة بالمعنى الخاص، والثّاني، مقابل العدالة بالمعنى العام.
3- كما يوجد درجات للاستقامة والعدالة، كالعدالة في تجلّيات المعارف والتّوحيد أو في العقائد الحقّة أو في الأخلاق النّفسانيّة، فإنّه يوجد مراتب للجور في مقابلها.
4- منشأ الشخصيّة العدوانيّة:
- الطّبيعة البشريّة التي، قبل تكاملها وتبدّلها إلى مقام العقل والرّوح، تكون دائما مستعدّة للانحراف عن جادة الاعتدال إلى الإفراط والتّفريط.
- الإعراض عن نداء الفطرة التي بحقيقتها تحب العدل وتنفر من الظّلم والجور.
- البيئة الاجتماعيّة التي تصنع تلك الأنظمة والقوانين والتي تُسمّى بشريعة الغاب.
5- آثار الجور:
- الخسران العظيم في الدّنيا والآخرة.
- نشر الظّلم في المجتمعات.
6- أفضل خدمة للمجتمع البشريّ في القضاء على هذه الحالة المدمّرة هي بتحقيق العدالة النّفسيّة التي هي عبارة عن اعتدال القِوى المختلفة للنّفس والتي تكون مقدّمة للعدالة الخارجيّة واجتناب الجور. ولا يتحقّق هذا الاعتدال إلا إذا أصبح العقل سلطان مملكة النّفس كلّها.
7- الاستعاذة بالله من الشّيطان الرّجيم، والطّريق الوحيد للخروج من تحت سلطنة إبليس والدّخول في حصن الاستعاذة الآمن هو بأن يصبح الإنسان من أهل السّير والسّلوك.
265
225
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي التَّحَفُّظَ مِنَ الْخَطَايَا، وَالاِحْتِرَاسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، حَتَّى أَكُونَ بِمَا يَرِدُ عَلَيَّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ، عَامِلاً بِطَاعَتِكَ، مُؤْثِراً لِرِضَاكَ عَلَى مَا سِوَاهُمَا فِي الأَوْلِيَاءِ وَالأَعْدَاءِ، حَتَّى يَأْمَنَ عَدُوِّي مِنْ ظُلْمِي وَجَوْرِي، وَيَيْأَسَ وَلِيِّي مِنْ مَيْلِي وَانْحِطَاطِ هَوَايَ، وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ يَدْعُوكَ مُخْلِصاً فِي الرَّخَاءِ دُعَاءَ الْمُخْلِصِينَ الْمُضْطَرِّينَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"1.
الروايات الشريفة:
1- عَن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "عَلَامَةُ رِضَا اللهِ فِي خَلْقِهِ عَدْلُ سُلْطَانِهِمْ وَرُخْصُ أَسْعَارِهِمْ، وَعَلَامَةُ غَضَبِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ جَوْرُ سُلْطَانِهِمْ وَغَلَاءُ أَسْعَارِهِمْ"2.
2- عن الإمام علي عليه السلام: "يَوْمُ الْعَدْلِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَومِ الْجَوْرِ عَلَى الْمَظْلُومِ"3.
3- عن الإمام علي عليه السلام: "وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الإِدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الأَحْكَامُ، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الأَبْرَارُ، وَتَعِزُّ الأَشْرَارُ، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "رَحِمَ الله رَجُلاً رَأَى حَقّاً فَأَعَانَ عَلَيْهِ، أَوْ رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ، وَكَانَ عَوْناً بِالْحَقِّ عَلَى صَاحِبِهِ"5.
5. عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "الذُّنُوبُ الَّتِي تَحْبِسُ غَيْثَ السَّمَاءِ جَوْرُ الْحُكَّامِ فِي الْقَضَاءِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْمَاعُونِ، وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ عَلَى أَهْلِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، وَظُلْمُ الْيَتِيمِ وَالْأَرْمَلَةِ، وَانْتِهَارُ السَّائِلِ، ورَدُّهُ بِاللَّيْلِ"6.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه .عليه السلام عند الشدّة والجهد وتعسر الأمور.
2 الكافي، ج5، ص 162.
3 نهج البلاغة، ص 534.
4 (م.ن), ص 333.
5 (م.ن), ص 322.
6 وسائل الشيعة، ج16، ص 281.
266
226
الدّرس الثامن عشر: العدوان ، ماهيته، تشكّله، وطرق معالجته
6- عن الإمام عَلِيٌّ عليه السلام: "إِنَّمَا هُوَ الرِّضَا وَالسَّخَطُ، وَإِنَّمَا عَقَرَ النَّاقَةَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَأَصَابَهُمُ الْعَذَابُ، فَإِذَا ظَهَرَ إِمَامُ عَدْلٍ، فَمَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَأَعَانَهُ عَلَى عَدْلِهِ، فَهُوَ وَلِيُّهُ، وَإِذَا ظَهَرَ إِمَامُ جَوْرٍ، فَمَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ وَأَعَانَهُ عَلَى جَوْرِهِ، فَهُوَ وَلِيُّهُ"1.
7- عن الإمام أبي جَعْفَرٍ عليه السلام: "مَنْ سَنَّ سُنَّةَ عَدْلٍ فَاتُّبِعَ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنِ اسْتَنَّ بِسُنَّةِ جَوْرٍ فَاتُّبِعَ، كَانَ لَهُ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"2.
8- عن أبي عبد الله عليه السلام: "الْعَامِلُ بِالظُّلْمِ وَالْمُعِينُ لَهُ وَ الرَّاضِي بِهِ شُرَكَاءُ ثَلَاثَتُهُمْ"3.
9- عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، بُطُونُهُمْ آلِهَتُهُمْ، وَنِسَاؤُهُمْ قِبْلَتُهُمْ، وَدَنَانِيرُهُمْ دِينُهُمْ، وَشَرَفُهُمْ مَتَاعُهُمْ، لَا يَبْقَى مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا رَسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا دَرْسُهُ، مَسَاجِدُهُمْ مَعْمُورَةٌ مِنَ الْبِنَاءِ، وَقُلُوبُهُمْ خَرَابٌ عَنِ الْهُدَى، عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ خَلْقِ اللهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، حِينَئِذٍ ابْتَلَاهُمُ الله فِي هَذَا الزَّمَانِ بِأَرْبَعِ خِصَالٍ: جَوْرٍ مِنَ السُّلْطَانِ، وَقَحْطٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَظُلْمٍ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ، فَتَعَجَّبَتِ الصَّحَابَةُ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُلُّ دِرْهَمٍ عِنْدَهُمْ صَنَمٌ"4.
10- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يكون العمران حيث يجور السلطان"5.
11- عن الإمام أبي جعفر عليه السلام: "وَاعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ، أَنَّ أَئِمَّةَ الْجَوْرِ وَأَتْبَاعَهُمْ لَمَعْزُولُونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ، قَدْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا، فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ"6.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 108.
2 وسائل الشيعة ج16، ص 173.
3 الكافي، ج2، ص 333.
4 مستدرك الوسائل، ج11، ص 376.
5 غرر الحكم، ص 348.
6 الكافي، ج1، ص 183.
267
227
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرّف ماهيّة الغضب ويميّز القوّة الغضبيّة الممدوحة عن الغضب المذموم.
2- يتعرّف إلى نتائج الغضب ومفاسده الدنيوّيّة والأخرويّة.
3- يبيّن كيف يؤدّي الغضب إلى مخالفة المشروع الإلهيّ.
269
228
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
تمهيد
عندما نتأمّل في حقيقة الإنسان وماهيّته، ونتفكّر في أسباب سعادته وشقائه، لا يطول بنا الأمر كثيرًا لندرك الموقعيّة المحوريّة للعقل في القضيّة كلّها، فكلّ المآسي والرّذائل والمهلكات تحصل بسبب عدم التمسّك بنور العقل. كما أنّ جميع المنجيات والمقامات والفضائل والخيرات تقوم على وجود هذا النّور في قلب الإنسان.
هكذا هو العقل: نورٌ إلهيّ يهدي إلى كلّ خير. وعلى الإنسان السّالك أن يسعى جهده لزيادة هذا النّور في قلبه، حتّى يصبح منارة دربه أينما سلك، مثلما أنّ من المهمّات الأكيدة في هذا المجال أن يتعرّف إلى ما يؤدّي إلى خمود شعلة العقل وانطفاء نوره.
وإحدى الحالات النّفسيّة التي تسلب الإنسان هذا الخير المحوريّ هي الغضب.
ماهو الغضب؟
يصل الأمر إلى الدّرجة التي نرى فيها كلًّا من العقل والغضب بمنزلة نقيضين لا يجتمعان في نفسٍ واحدة، "إذ إنّ للمؤمن نصيبًا من نورانيّة العقل، وبمقدار نصيبه منها يتغلّب على لهيب النّار الذي يكون في الدّنيا بصورة نار الشّهوة والغضب"1.
وبالتّأكيد، فإنّ الغضب "الذي عُدّ ضدًّا للرّحمة ومن جيش وجنود الجهل وإبليس، ليس هو حال الاعتدال في القوّة الغضبيّة، وليس هو الغضب الخاضع لقيادة العقل والله تعالى والشّريعة السّماويّة المقدّسة، بل المقصود هو حال الإفراط"2.
1 جنود العقل والجهل، ص55 - 56.
2 (م.ن)، ص 226 - 227.
270
229
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
ويعني ذلك أنّ للغضب مفهومين:
الأول: القوّة الغضبية المنقادة لسلطان العقل، فتكون منشأ خيرٍ عظيم، كما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ غريزة الغضب من النّعم الإلهيّة التي يمكن بها عمارة الدّنيا والآخرة، وبها يتمّ الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشريّ والنّظام العائليّ، ولها تأثيرٌ كبيرٌ في إيجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع. فلولا وجود هذه الغريزة الشّريفة في الحيوان، لما قام بالدّفاع عن نفسه ضدّ هجمات الطّبيعة، ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال. ولولا وجودها في الإنسان، لما استطاع أن يصل إلى كثيرٍ من مراتب تطوّره، وكمالاته، زائدًا على تحقّق ما تقدّم، بل إنّ التفريط والنّقص من حال الاعتدال يُعدّ من مثالب الأخلاق المذمومة، ومن نقائص الملكات التي يترتّب عليها الكثير من المفاسد والمعايب، كالخوف، والضّعف، والتّراخي، والتّكاسل، والطّمع، وقلّة الصّبر، وعدم الثّبات في المواقف التي تتطلّب الثّبات، والخمود، والخنوع، وتحمّل الظّلم، وقبول الرّذائل والاستسلام لما يصيبه أو يصيب عائلته، وانعدام الغيرة، وخور العزيمة... إنّ الله سبحانه يصف المؤمنين بقوله: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾1.
إنّ القيام بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والتّعزيرات وسائر التّعاليم السياسيّة الدينيّة والعقليّة، لا يكون إلاّ في ظلّ القوّة الغضبيّة الشّريفة. وعلى ذلك، فإنّ الذين يظنّون أنّ قتل غريزة الغضب بالكامل وإخماد أنفاسها يُعدّ من الكمالات والمعارج النّفسيّة، إنّما يرتكبون خطيئة عظيمة، ويغفلون عن حدّ الكمال ومقام الاعتدال. هؤلاء المساكين لا يعلمون أنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق هذه الغريزة الشّريفة في جميع أصناف الحيوانات عبثًا، وأنّه جعل هذه الغريزة في بني آدم رأسمال الحياة المُلكيّة والملكوتيّة، ومفتاح الخيرات والبركات. إنّ الجهاد ضدّ أعداء الدّين، وحفظ النّظام العائليّ للإنسان، والدّفاع عن النّفس والمال والعِرض، وعن سائر القوانين الإِلهيّة، والجّهاد مع النّفس، وهي ألدّ أعداء الإِنسان، لا يكون كلّ ذلك إلاّ بهذه الغريزة الشّريفة. إنّ منع الاعتداءات والذبّ عن الحدود والثّغور، ودفع المؤذيات والمضرّات عن الفرد والمجتمع، يجري تحت لواء هذه
1 سورة الفتح، الآية 29.
271
230
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
الغريزة، لذلك سعى الحكماء إلى معالجة خمود هذه الغريزة وركودها"1.
والثّاني: الرذيلة الأخلاقية الناتجة عن القوة الغضبية عندما لا تكون تحت سلطة العقل، قيادته، فيكون الغضب "حركة وحال نفسيّة، تظهر نتيجة لغليان في دم القلب، وهدفها الانتقام، فإذا اشتدّت هذه الحركة أجّجت الغضب وامتلأت الشرايين والدّماغ بدخانٍ مظلمٍ مضطربٍ يؤدّي إلى انحراف العقل وحجبه عن الإدراك والرّويّة، فلا تؤثّر فيه حينئذٍ الموعظة والنّصيحة، بل إنّها تزيد نار غضبه اشتعالًا، فيصير حاله على ما حكته الحكماء: "مثل كهفٍ مُلِئ حريقًا وأُضرِم نارًا، فاختنق فيه اللهب والدّخان، وعلا التأجّج والصّوت المسّمى وحي النار، فيصعب علاجه ويتعذّر إطفاؤه، ويصير كلّ ما يدنيه للإطفاء سببًا لزيادته ومادّة لقوّته، لذلك يعمى الإنسان عن الرّشد ويصمّ عن الموعظة، بل تصير المواعظ في تلك الحال سببًا للزّيادة في الغضب ومادّة اللّهب والتأجّج، لا يُرجى له في تلك الحال حيلة"2.
وهكذا يكون الغاضب، وهو "في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الذي فقد عنان عقله، ويصبح مثل الحيوان المفترس الذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو احتكامٍ إلى العقل، فيسلك سلوكًا قبيحًا، يفقد سيطرته على لسانه ويده وسائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئةٍ قبيحةٍ، بحيث إنّه لو أُعطي مرآة، لخجل من صورته التي يراها فيها"3.
وتجد "بعض أصحاب هذه الرّذيلة يغضبون لأتفه الأمور، بل يغضبون حتّى على الحيوانات والجّمادات، ويلعنون حتّى الرّيح والأرض والبرد والمطر وسائر الظّواهر الطّبيعيّة إذا كانت خلاف رغباتهم. ويغضبون أحيانًا على القلم والكتاب والأواني، فيمزّقونها أو يحطّمونها"4.
ولمّا كان العقل نورًا إلهيًّا هاديًا إلى كلّ خير، عُدّ النّوع الأوّل غضبًا لله، أمّا النّوع الثّاني المذموم ـ والذي يدور حوله البحث الأخلاقي، فهو الغضب للنّفس. فإذا كانت النّفس متحرّكة بدون هداية العقل، فسوف تتحرّك على طريق التّسافل والانحطاط، وعندما تسرّع حركتها بفعل القوّة الغضبية في هذه الحالة، فسوف يتزايد تسافلها بصورة كبيرة.
1 الأربعون حديثًا، ص 160 - 161.
2 جنود العقل والجهل، ص 221.
3 الأربعون حديثًا، ص 168.
4
272
231
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
ونظرًا لوقوع الكثيرين في الاشتباه بين الغضب للّه والغضب للنّفس، كان لا بدّ من بيان حدود الغضب المذموم، لعلّ النّوع الأوّل من الغضب يتّضح أكثر. ونشاهد الكثير من حالات الغضب التي يبرّر فيها أصحابها غضبهم، ولا يعدّونه قبيحًا. وأشهر هذه المبرّرات الدّفاع عن الحقّ الشخصيّ ، سواء كان مادّيًّا أو معنويًّا، حيث يرى هؤلاء أنّ غضبهم وسيلة لاسترداد هذا الحقّ أو منع الاعتداء والتعرّض له. ومع هذا المبرّر، ربّما لا يبقى شيءٌ من الغضب مذمومًا.
إنّ خطر الغضب يكمن في عدّة أشياء ، يكفي كلّ واحدٍ منها لكي يتوقّف الإنسان ويراجع نفسه، وهي تبرّر له هذه الحالة. وأحد هذه الأشياء هو أنّ الغضب غالبًا ما تكون نتيجته المزيد من الضّرر، فبدلًا من أن يسترجع هذا الغضبان حقّه، يدخل في شجارٍ أو نزاعٍ، يضطرّ معه لخسارة الكثير من الحقوق الأخرى! ولو فكّر الإنسان في الآثار السّلبيّة الكثيرة للغضب، فقد يكفّ عن اصطناع منطق التّبرير الذي يسدّ طريق مجاهدة النّفس وتزكيتها.
نتائج الغضب ومفاسده
يذكر الإمام العديد من الآثار والنّتائج الوخيمة للغضب، وهي معروفة عند أغلب النّاس، لأنّ الغضب سجيّة ظاهرة كثيرة الانتشار، وقد خلّفت بصمات واضحة على حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعيّة. ولا بأس بقراءة هذه النّصوص التّوصيفيّة، لما فيها من تنبيه للقلوب وتقوية لحضور المعرفة والوجدان. وسوف نلاحظ كيف أنّ الغضب يؤدّي إلى نشوء جملة من الرّذائل الأخلاقيّة أو استحكامها في النّفس، كما يقول الإمام قدس سره: "... فمثلاً من الأخلاق الذّميمة التي تسبّب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطة القبر، وتعذّب الإنسان في كلا الدّارين، سوء الخُلُق مع أهل الدّار والجّيران أو الزّملاء في العمل، أو أهل السّوق والمحلّة، وهو وليد الغضب والشّهوة"1.
1- العار في الآخرة
ويسرّع من حركة التّسافل بصورةٍ ملحوظةٍ جدًّا، أمّا آثاره الأخرويّة فهي التي تكشف عن مدى قبحه وشناعته: "إذا كانت خلقة الإنسان في الباطن والمَلَكة والسّريرة إنسانيّة، تكون
1 (م.ن)، ص 168 - 169.
273
232
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
الصّورة الملكوتيّة له صورة إنسانيّة أيضًا، وأمّا إذا لم تكن ملكاته ملكات إنسانيّة، فصورته - في عالم ما بعد الموت - تكون غير إنسانيّة أيضًا، وهي تابعة لتلك السّريرة والملكة... وإذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسّبعيّة، وكان حكم مملكة الباطن والسّريرة حكمًا سبعيًّا، كانت صورته الغيبيّة الملكوتيّة صورة أحد السّباع والبهائم"1.
2- زوال الإيمان
لكنّ الأسوأ من الجّميع، هو مدى تأثيره السّلبيّ على علاقة الإنسان بربّه، ففي الحديث الشّريف: عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغَضَبُ يُفْسِدُ الإِيمانَ كما يُفْسِدُ الخَلُّ العَسَلَ"2. يقول الإمام الخميني قدس سره: "وينبغي أن نعرف نحن المساكين المبتلين بغلاف الطّبيعة وبالحجب الظّلاميّة للحياة الدّنيويّة الوضيعة، المحجوبين والجّاهلين بالغيب، وبملكوت النّفس وما يضرّها ويفسدها وما يصلحها وما يهلكها، إنّنا لا ندرك كيف يزيل الغضب نور الإيمان ويفسد حقيقته، ولا نرى بنور البصيرة هذا التضادّ بين حقيقة الإيمان والغضب في غير موارده المطلوبة، وقد بعث الحقّ تعالى أطبّاء النّفوس والقلوب، العارفين بالعلم الإلهيّ المحيط، وبنور البصيرة النّافذة في بواطن الملك والملكوت بالأمراض القلبيّة وأدويتها ومصلحات القلوب ومفسداتها، بعثهم من أجل إيقاظنا بكشف الحقائق وإظهار البواطن، فهم يخبروننا بما في بواطن قلوبنا، ويكشفون لنا ملكوت نفوسنا، وهم يعرفون أنّ نار الغضب وثائرته تطفئ نور الإيمان وتفسده مثلما يفسد الخلّ والصبر العسل بسرعة، وتحوّل حلاوته اللطيفة إلى مرارة وحموضة لا تُستساغ.
ويكفي في الغضب شرّاً أنّه يسلب الإنسان رأسمال حياته الملكوتيّة، لأنّه يفسد إيمانه ويبطله، فيسلبه سرّ سعادته، وينقله إلى العالم الآخر صفر اليدين، فكيف الحال وهو ـ إضافة لذلك ـ كثيرًا ما يوقع الإنسان في هذا العالم أيضًا في المخاطر، ويورده المهالك، ويسوقه إلى الشّقاء والبؤس في الدّارين"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 38.
2 الكافي، ج2، ص302.
3 جنود العقل والجهل، ص 229 - 230.
274
233
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
و"إنّ الغضب أشبه بـ "النّار، فهو يزداد شيئًا فشيئًا ويشتّد، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الإنسان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان ذليلًا مسكينًا"1.
و"قد يصل الغضب بالإنسان إلى حدّ الارتداد عن دين الله، وإطفاء نور الإيمان، بحيث إنّ ظلام الغضب وناره يحرقان الحقائق الحقّة، بل قد يصل الأمر إلى الكفر الجحودي الذي نتيجته الهلاك الأبديّ، ثم ينتبه على نفسه بعد فوات الأوان، وحين لا ينفع النّدم!"2.
3- غضب الله
"ولا شكّ، في أنّه ليست هناك نارٌ أشدّ من نار غضب الله عذابًا، وقد جاء في كتب الحديث، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قَالَ الحَواريّون لِعيسى عليه السلام: أَيُّ الأَشْياءِ أَشَدّ؟ قٌالَ: أَشَدُّ الأَشْياءِ غَضَبُ الله عَزَّ وَجَلَّ، قالُوا بِمَ نَتّقي غَضَب اللّهِ؟ قالَ: بَأْن لا تَغْضَبُوا"3"4.
"وفي الحديث الشّريف عن الإمام باقر العلوم عليه السلام، قال: "إنّ هذا الغضب جمرةٌ من الشّيطان، تُوقد في قلب بني آدم"، ولعلّ صورة هذه النار الشّيطانيّة تظهر في العالم الآخر ــ وهو عالم ظهور السّرائر وكشف الحقائق ــ بصورة ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾5، أي إنّ باطن هذه النّار، الغضب، التي يوقدها الشيطانُ في قلب الإنسان، هي حقيقة نار الغضب الإلهي، وهي أشدّ النّيران وأقواها إحراقًا، وهي التي تطلع من باطن القلب إلى ظاهر مُلكِ البدن"6.
4- الحقد على الله وأوليائه
"أمّا المفاسد الأخلاقيّة التي تتولّد من هذا الخلق، فهي الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء، بل وحتّى على ذات الله المقدّسة الواجبة الوجود ووليّ النعم، وشدّة هذا القبح وهذه المفسدة واضحٌ للجميع، نعوذ بالله تعالى من شرّ نفسٍ
1 الأربعون حديثًا، ص 165 - 166.
2 جنود العقل والجهل، ص 229 - 230.
3 وسائل الشيعة، ج11، أبواب جهاد النّفس، باب الغضب، ح7.
4 الأربعون حديثًا، ص 162.
5 سورة الهمزة، الآيتان 6 و 7.
6 جنود العقل والجهل، ص 230.
275
234
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
عنيدة، إذا ما انفصم وثاقها للحظةٍ واحدة، جرّت الإِنسان إلى تراب الذلّ وقادته إلى أرض الهلاك الأبديّ"1.
"وقلّما تجد نظيرًا لناره الحارقة في سرعة إيقاعها للإنسان في عالم البؤس والدّمار، وكثيرًا ما تخرج غضبة واحدة الإنسان من دين الله، فيتجرّأ على الله تعالى، وعلى أنبيائه العظام"2.
5- العدوان على العباد
وعلى مستوى العمل والسّلوك: "آثار الغضب الذي أصبح ملكة للنّفس، وتولّدت منه ملكات ورذائل أخرى، هي أنّه يظلم بالقهر والغلبة كلّ ما تصل إليه يده، ويفعل ما يقدر عليه ضدّ كلّ شخص يبدي أدنى مقاومة، ويثير الحرب بأقلّ معارضة له، ويبعد المضرّات وما لا يلائمه، بأيّة وسيلة مهما كانت، ولو أدّى ذلك إلى وقوع الفساد في العالم. فهذه هي العوائد على صاحب الواهمة الشّيطانيّة الذي ترسّخت فيه هذه الملكة، فهو ينفّذ عمل الغضب والشّهوة بأيّة شيطنة وخدعة كانت، ويسيطر على عباد الله بأيّة خطّة باطلة تتم، سواء بتحطيم عائلة ما، أو بإبادة مدينة أو بلاد ما3... وقد قال الحكماء: "إنّ السّفينة التي تتعرّض لأمواج البحر العاتية، وهي بدون قبطان، لهي أقرب إلى النّجاة من الإنسان، وهو في حالة الغضب""4.
"وكثيرًا ما تؤدّي غضبة واحدة إلى قتل النّفوس المحترمة، كما يشير إلى ذلك الإمام الصادق عليه السلام في الحديث المرويّ عنه في الشيخ الكليني، الكافي، حيث يقول: "كان أبي يقول: أيّ شيء أشدّ من الغضب، إنّ الرّجل ليغضب فيقتل النفس المحترمة، ويقذف المحصنة5"6.
1 الأربعون حديثًا، ص 164.
2 جنود العقل والجهل، ص 230.
3 الأربعون حديثًا، ص 42 - 43.
4 (م.ن)، ص 49.
5 الكافي، ج2، كتاب الكفر والإيمان، باب الغضب، ح4.
6 جنود العقل والجهل، ص 229 - 230.
276
235
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
6- السّير بخلاف الهدف والمشروع الإلهيّ
"والأسوأ والأقبح من ذلك أن يستخدم هذه القوّة الإلهيّة بالاتّجاه المعاكس للهدف الإلهيّ منها، فيسخّرها ضدّ النّظام العائليّ والمدينة الإنسانيّة الفاضلة، فيصير بذلك منتهكًا للحرمات إضافةً إلى كفره بالنّعمة، وهنا تصير القوّة الغضبيّة، التي ينبغي أن تكون من الجنود الإلهيّة المعارضة لجنود الجهل والشّيطان، من كبار الجنود الشيطانيّة، مضادّة ومعادية لجنود العقل والحقّ تعالى، فتدخل مملكة الغضب شيئًا فشيئًا تحت سيطرة الشّيطان والجهل، وتصير (كلبًا معلّمًا) أو قل كلبًا طاغيًا للشّيطان، بدلًا من أن تكون (كلبًا معلّمًا) للعقل والحقّ تعالى، وعندها لا تميّز بين العدوّ والصّديق، تمزّق كلّ شيء وتزعزع، بل وتهدم نظام العالم والعائلة البشريّة، وربّما أدّت مثل هذه القوّة الغضبيّة المنحرفة في شخصٍ واحدٍ إلى تدمير المجتمع البشريّ كافّة، وإيقاع كل العالم في الاضطراب والبؤس"1.
إنّ من عاش سورة غضب واحدة لا يحتاج إلى دليل لكي يتّضح له مدى صدق هذا الكلام وصحّته، فكم يشعر الغضبان بعد انطفاء نيران غيظه أنّه كاد يرتكب خطأً فادحًا، وأنّ نفسه كانت في حالة تفلّت تام من عقال الحكمة، لكنّ الله تعالى عصم وستر، "فالحذر الحذر، فلقد ستر حتّى كأنّه قد غفر"2.
أردنا من ذكر هذه الآثار أن نشقّ طريقًا إلى القلب، لكي يقوى نور العقل فيه، لأنّ قوّة العقل في كثرة الاحتمالات. والعاقل لا يمكن أن يمرّ على هذه الاحتمالات ، التي يمكن أن تحدث في أيّة حالة غضب ، دون أن يستحضر نتائج العقل، وهو يفكّر في أحوال نفسه وأمور حياته والأحداث التي يمكن أن تقع أمامه أو تجري عليه.
لا يسلم أيّ واحدٍ منّا من وقوع أمور مزعجة أو مؤلمة. وإذا كنّا نعدّ لها غضبًا أو نوقد لها نيرانًا من الغيظ أو لا نبالي بما يمكن أن ينبعث من أنفسنا حين حصولها، فعلينا الآن أن نتوقّف مليًّا ونفكّر، ولا يمكن لأيّ تفكير أن يصل إلى نتيجة صحيحة إلّا بهداية العقل ونوره.
1 جنود العقل والجهل، ص227.
2 نهج البلاغة، ص472.
277
236
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
المفاهيم الرئيسة
1- للغضب حالتان، الأولى عندما يكون تحت سلطة العقل وحكومته فيكون منشأ خيرٍ عظيم، وهذا هو الغضب لله. والثّانية عندما لا يكون تحت سلطة العقل وقيادته، فيكون الغضب حركة وحال نفسانيّة تظهر نتيجة لغليان في دم القلب وهدفها الانتقام. وهذا هو الغضب المذموم.
2- هناك الكثير من حالات الغضب التي يبرّر فيها أصحابها غضبهم، ولا يعدّونه قبيحًا، وأشهر هذه المبرّرات الدّفاع عن الحقّ الشخصيّ.
3- الغضب يؤدّي إلى نشوء جملة من الرّذائل الأخلاقيّة أو استحكامها في النّفس وهي:
- العار في الآخرة.
- زوال الايمان.
- غضب الله.
- الحقد على الله وأوليائه.
4- السير بخلاف الهدف والمشروع الإلهيّ: حيث يستخدم هذه القوّة الإلهيّة بالاتّجاه المعاكس للهدف الإلهيّ منها، فيسخّرها ضدّ النّظام العائليّ والمدينة الإنسانيّة الفاضلة، فيصير بذلك منتهكًا للحرمات إضافةً إلى كفره بالنّعمة، وهنا تصير القوّة الغضبيّة ، التي ينبغي أن تكون من الجنود الإلهيّة المعارضة لجنود الجهل والشّيطان.
5- سوء الخُلُق مع أهل الدّار والجّيران أو الزّملاء في العمل أو أهل السّوق والمحلّة، وظلم صاحب الغضب كل ما تصل إليه يده.
6- إنّ باطن نار الغضب التي يوقدها الشيطان في قلب الإنسان، هي حقيقة نار الغضب الإلهي، وهي أشدّ النّيران وأقواها إحراقًا، وهي التي تطلع من باطن القلب إلى ظاهر مُلكِ البدن.
278
237
الدّرس التاسع عشر: الغضب (1) - ماهيته وآثاره
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ يَا كَافِيَ الْفَرْدِ الضَّعِيفِ، وَوَاقِيَ الأَمْر بالْمَخُوفِ، أَفْرَدَتْنِي الْخَطَايَا فَلاَ صَاحِبَ مَعِي، وَضَعُفْتُ عَنْ غَضَبِكَ فَلاَ مُؤَيِّدَ لِي، وَأَشْرَفْتُ عَلَى خَوْفِ لِقَائِكَ فَلاَ مُسَكِّنَ لِرَوْعَتِي وَ مَنْ يُؤْمِنُنِي مِنْكَ وَ أَنْتَ أَخَفْتَنِي، وَمَنْ يُسَاعِدُنِي وَ أَنْتَ أَفْرَدْتَنِي، وَمَنْ يُقَوِّينِي وَأَنْتَ أَضْعَفْتَنِي لاَ يُجِيرُ، يَا إِلَهِي، إلاَّ رَبٌّ عَلَى مَرْبُوبٍ، وَلاَ يُؤْمِنُ إلاَّ غَالِبٌ عَلَى مَغْلُوبٍ، وَلاَ يُعِينُ إلاَّ طَالِبٌ عَلَى مَطْلُوبٍ وَبِيَدِكَ، يَا إِلَهِي، جَمِيعُ ذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِلَيْكَ الْمَفَرُّ وَالْمَهْرَبُ"1.
الآيات الكريمة:
﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثَلَاثُ خِصَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ اسْتَكْمَلَ خِصَالَ الْإِيمَانِ، إِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْهُ رِضَاهُ فِي بَاطِلٍ، وَإِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْهُ الْغَضَبُ مِنَ الْحَقِّ، وَإِذَا قَدَرَ لَمْ يَتَعَاطَ مَا لَيْسَ لَهُ"3.
2- عَنِ الإمام الْهَادِي عليه السلام: "الْغَضَبُ عَلَى مَنْ لَا تَمْلِكُ عَجْزٌ، وَعَلَى مَنْ تَمْلِكُ لُؤْمٌ"4.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْغَضَبُ نَارٌ مُوقَدَةٌ، مَنْ كَظَمَهُ أَطْفَأَهَا، وَمَنْ أَطْلَقَهُ كَانَ أَوَّلَ مُحْتَرِقٍ بِهَا"5.
4- عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أَرْكَانُ الْكُفْرِ أَرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ وَالسَّخَطُ وَالْغَضَبُ"6.
5- عن أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: "الْغَضَبُ مَمْحَقَةٌ لِقَلْبِ الْحَكِيمِ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ غَضَبَهُ لَمْ يَمْلِكْ عَقْلَهُ"7.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "بِئْسَ الْقَرِينُ الْغَضَبُ، يُبْدِي الْمَعَائِبَ، وَيُدْنِي الشَّرَّ، وَيُبَاعِدُ الْخَيْرَ"8.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام إذا أحزنه أمر وأهمّته الخطايا.
2 سورة الشورى، الآية 37.
3 الكافي، ج2، ص 239.
4 مستدرك الوسائل، ج12، ص 11.
5 (م.ن), ج12، ص 11.
6 الكافي، ج2، ص 289.
7 (م.ن), ج2، ص 305.
8 مستدرك الوسائل، ج12، ص 13.
279
238
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أسباب وعوامل تشكّل الشّخصية الغضوبة.
2- يبّين الآثار المدمّرة للغضب على المستوى الفردي والاجتماعي.
3- يشرح كيفيّة إخضاع القوّة الغضبيّة لحكم العقل والشّرع.
281
239
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
تمهيد
ليس الغضب مجرّد حالة انفعالية طارئة وإن ظهر لنا كذلك. بل هو بركان غير مرئيّ يغلي في باطن النفس، ويتفجّر كلّ حين. فلكي نتمكّن من معالجة هذه الحالة النفسيّة الموبقة، علينا أن نفهم الغضب أكثر ونتوغّل قليلًا في أعماق نفوسنا.
إنّ قوّة الطّرد لهي من أهم القوى التي زُودّت بها النفس في الحياة الدنيا لكي تدفع عن ذاتها أنواع الأذى. لكن هذه القوّة غالبًا ما تقع في يد الشّيطان اللعين جرّاء عدم الاهتمام بتهذيب النّفس وتعديل القوى وجعلها منقادة لنور العقل المُفاض من جانب الرّحمن.
أسباب وعوامل تشكّل الشّخصيّة الغضوبة
1- خروج القوّة الغضبيّة عن سلطة العقل والشّرع
لا شكّ بأنّ أوّل خطوة في هذا الاتّجاه هي في معرفة كيفيّة تشكّل هذه الحالة وعوامل وجودها وقوّتها وانحرافها. وقد عبّر علماء النّفس الإنسانيّة عن الغضب بالقوّة، لأنّ النّفس تستخدمه للوصول إلى حاجاتها ومآربها، وعندما يكون هذا الاستخدام ضمن برنامج العقل وقيادته، فإنّ النّفس ستتكامل أثناء تفاعلها الغاضب مع الأحداث والوقائع، كما هو حال الغضب في الجهاد، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من أَحَدَّ سنان الغضب لله، قوي على قتال الباطل"1.
وفي مثل هذه الوقائع التي تقتضي مثل هذه القوّة، فإنّ النّفس إذا لم تطع العقل، فسوف تسلك سبيل التّسافل، حيث "إنّ فتور وخمود هذه القوّة يولّد عيوبًا كبيرة، مثل الضّعف والتّهاون والكسل والطّمع والجزع وقلّة التّحمّل وضعف الاستقامة والفرار في القتال
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 501.
283
240
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
والتّقاعس عن الهجوم عند الضّرورة، وترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والقبول بالذلّ والعار والخزي والمسكنة"1.
فالطّبيعة الحيوانيّة للإنسان، والتي تنشأ من هذا الجسد (بأعضائه وقواه)، تقتضي وجود هذه القوّة الغضبيّة. وبعبارةٍ ثانية: إنّ هذه القوّة ليست سوى وليدة التّركيبة الجسميّة الموروثة من الآباء والأمّهات. وبحسب اختلاف هذه التّركيبة بين البشر تختلف القوّة الغضبيّة.
وقد اقتضت حكمة الباري تعالى أن توضع هذه القوّة في خدمة الجسد (للدّفاع عنه) وخدمة المجتمع (لمنع الظّلم والاعتداء واختلال نظامه) وخدمة النّفس من خلال الخدمتين السّابقتين. فإنّ من استخدم الغضب للدّفاع عن جسده وعن المجتمع الإنسانيّ، فسوف يتكامل على الصّعيدين النّفسيّ والمعنويّ حتّى يبلغ أعلى درجات القرب والكمال. ولا شكّ بأنّ من يحدّد كيفيّة هذه الخدمة لتكون مهتدية هما العقل والشّرع، حيث نجد الكثير من أحكامهما منضوية في هذا المجال.
يقول الإمام قدس سره: "اعلمْ، أنّ القوة الغضبية إذا كانت خاضعة لحكم العقل والشرع مهذّبة به، فهي من أعظم النّعم الإلهيّة وأفضل الوسائل المعينة على سلوك طريق السّعادة، فبها يكون حفظ نظام العالم، وحفظ بقاء الفرد والنّوع الإنسانيّ، ولها أثرٌ كبيرٌ في إقامة المدينة الفاضلة.
بهذه القوّة النّبيلة يحفظ الإنسان والحيوان بقاءها كأفراد وكنوع، وبها يدفعان التّهديدات الطّبيعيّة، وينقذان النفس من المهالك، لولا هذه القوّة، لكان الإنسان محرومًا من الكثير من الكمالات وأنواع الرقيّ، ولولاها لما اندفع لحفظ النّظام العائليّ وللذبِّ عن المدينة الفاضلة، لذا فقد أوصى الحكماء والعلماء بعدّة أمور للخروج بهذه القوّة من حدّ النّقص والتّفريط، وكانوا يقومون بأنفسهم بأعمال استثنائيّة لإثارتها. وقد حُكِي عن بعضهم أنّه كان يتعمّد مواطن الخوف فيقف فيها، ويحمل نفسه على المخاطرات العظيمة، ويركب البحر عند اضطرابه وهيجانه، ليعوِّد نفسه الثبات في المخاوف. ومثل هذه المعالجات، وإن كان فيها
1 جنود العقل والجهل، ص 331.
284
241
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
إفراطٌ ومبالغة، إلّا أنّ أصل المعالجة للإيقاظ القوة الغضبية عند ضمورها وفتورها أمرٌ ضروري، لأنّ فتورها يؤدي إلى إحداث خلل خطير في النظام الاجتماعي والحكومي للمدينة الفاضلة، ويهدّد الحياة الفردية الاجتماعية بأخطار ماحقة"1.
إنّ الخطر الأكبر يكمن في استخدام القوّة الغضبيّة على غير برنامج الشّريعة، وخصوصًا في البيئة التي تترعرع فيها الخصال السيّئة والعادات القبيحة والعقائد الباطلة. هناك ستكون هذه القوّة سببًا لتعاسة الإنسان والمجتمع الإنسانيّ.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الإنسان حيوان بالفعل عند دخوله هذا العالم، ولا معيار له سوى شريعة الحيوانات التي تديرها الشّهوة والغضب. ولكن لمّا كان أعجوبة الدّهر هذا (أي الإنسان) ذاتًا جامعة، أو قابلة للجمع، فإنّه لكي يدبّر هاتين القوّتين، تجده يلتجئ إلى استعمال الصّفات الشّيطانيّة، مثل الكذب والخديعة والنّفاق والنّميمة وسائر الصّفات الشّيطانيّة الأخرى، وهو بهذه القوى الثّلاث ـ الشّهوة، والغضب، وهوى النّفس ، التي هي أصل كلّ المفاسد المهلكة، يتقدّم، فتنمو فيه كذلك هذه القِوى وتتقدّم وتتعاظم. وإذا لم تقع تحت تأثير مربّ أو معلّم، فإنّه يصبح عند الرّشد والبلوغ حيوانًا عجيبًا يفوز بقصب السّبق في تلك الأمور المذكورة على سائر الحيوانات والشّياطين، ويكون أقوى وأكمل في مقام الحيوانيّة والصّفات الشّيطانيّة من الجميع. وإذا ما استمرّت حاله على هذا المنوال، ولم يتبع في هذه الشّؤون الثّلاثة سوى أهوائه النفسية، فلن يبرز فيه شيء من المعارف الإلهيّة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصّالحة، بل تنطفئ فيه جميع الأنوار الفطريّة2.
"واعلم أنّ النّفوس البشريّة، منذ ظهورها وتعلّقها بالأجساد، وهبوطها إلى عالم المُلك ـ عالم المادّة ـ تكون على نحو القوّة ـ الأهليّة والقابليّة ـ تجاه جميع العلوم والمعارف والملكات ـ الحالات الرّاسخة المتمركزة في الإنسان ـ الحسنة والسّيّئة، بل تجاه جميع الإدراكات والفعليّات ـ الحاضرة التي هي ذات آثار ـ ثمّ تتدرّج بعناية الحقّ ـ جلّ جلاله ـ نحو الفعليّة شيئًا فشيئًا، فتبدو أوّلًا الإدراكات الضّعيفة الجزئيّة مثل حاسّة اللمس والحواس الظّاهريّة الأخرى الأخسّ فالأخسّ، ثمّ تظهر ثانيًا الإدراكات الباطنيّة متدرّجة أيضًا. ولكنّ الملكات لا تزال
1 جنود العقل والجهل، ص330 - 331.
2 الأربعون حديثًا، ص 196.
285
242
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
موجودة بالقوّة، فإن لم تتأثّر بعوامل تفجّر فيها الطّاقات الخيّرة، وتُركت لوحدها، لانتصرت الخبائث وتحقّقت الملكات الفاسدة وانعطفت نحو القبائح والمساوئ، لأنّ الدّواعي الدّاخليّة الباطنيّة، كالشّهوة والغضب وغيرها، يسوقان الإنسان إلى الفجور والتّعدّي والظلم، وبعد انقياده لهما يتحوّل في فترة قصيرة إلى حيوان عجيب وشيطانٍ غريب"1.
2- ضعف النّفس والإيمان
"أمّا الغضب فناشئ عن ضعف النّفس وتزلزلها، وقلّة الإِيمان، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الرّوح، وحبّ الدنيا والاهتمام بها، والتخوّف من فقدان اللذائذ البشريّة، لذلك تجد هذه الرّذيلة مستحكمة في المرضى أكثر ممّا هي في الأصحّاء، وفي الصّغار أكثر ممّا هي في الكبار، وفي الشّيوخ أكثر ممّا هي في الشبّان"2.
3- الرّذائل الأخلاقيّة
"ومن كانت فيه رذائل أخلاقيّة كان أسرع إلى الغضب ممّن فيهم فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع في الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر"3.
4- حبّ النّفس
"من أهم سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له... ومن تلك الأسباب حبّ الذّات، ويتفرّع عنه حبّ المال والجاه والشّرف والنّفوذ والتّسلّط. وهذه كلّها تتسبّب في إشعال نار الغضب، إذ إنّ من كانت فيه هذه الأنواع من الحبّ، يهتمّ بهذه الأمور كثيرًا، ويكون لها في قلبه مكانٌ رفيع. فإذا اتّفق أن واجه بعض الصّعوبات في واحدة منها، أو أحسّ بأنّ هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سببٍ ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطّمع وسائر الرّذائل النّاجمة عن حبّ الذّات والجاه وتمسّك بزمامه، وتحيد بأعماله عن جادة العقل والشّرع"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 272 - 273.
2 (م.ن), ص 168.
3 (م.ن), ص 168.
4 (م.ن), ص 167.
286
243
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
5- حبّ الدّينا
وأمّا حبّ الدّنيا، فهو بمنزلة الحطب الذي يوضع في هذه النّيران، فتزداد استعارًا وتوقّدًا.
"حبّ الدّنيا، فهو الذي يُنتج معظم أو جميع الأمراض النّفسيّة، ولذلك وصفته الأحاديث الشّريفة بأنّه "رأس كلّ خطيئة"، فإنّ حب المال والجاه، وحبّ السّيطرة والنّفوذ، وحبّ المطعم والمنكح والملبس وأمثالها، هي جميعًا من فروع حبّ الدّنيا وحبّ النّفس، لذلك ينبغي إرجاع جميع الأسباب المهيّجة للغضب إلى هذا الأصل. إذا تعلّق الإنسان بمثل هذه الأمور واستولى عليه حبُّها، فإنّ دم قلبه يغلي ويهيج فيه الغضب إذا ظهر مزاحم في الحصول على هذه الأمور، فيندفع بتلك القوّة لدفعه مثلما هو حال الكلاب التي تهيج عند خلوّ معدتها من الطّعام، وتتسابق في الهجوم على الميتة، فيسعى كلّ منها لدفع الآخرين عنها، كما يشير إلى ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام: "الدّنيا جيفةٌ وطلّابها كلاب"1، ولعلّ وجه التّشبيه في هذه الاستعارة هو أنّ غليان القوّة الغضبيّة في الإنسان هو في حكم الكلب، أو هو الكلب نفسه"2.
6- الاعتقاد بأنّ الغضب كمالًا
"ومن الأسباب الأخرى لإثارة الغضب هو أنّ الإِنسان قد يظنّ الغضب، وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرّذائل السّافلة، كمالًا، وذلك لجهله وقلّة معرفته. فيحسب الغضب من الفضائل ويراه بعض الجهّال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على نفسه في أنّه فعل كذا وكذا، فيحسب هذه الصّفة الرّذيلة المهلكة شجاعة، هذه الشجاعة التي تكون من أعظم صفات المؤمنين، والصفات الحسنة. فلا بدّ وأن نعرف بأنّ الشجاعة غير الغضب، وأنّ أسبابها ومبادءها وآثارها وخواصّها تختلف عن أسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصّه. مبدأ الشجاعة هو قوة النّفس والطّمأنينة والاعتدال والإيمان وقلّة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلّباتها"3.
1 بحار الأنوار، ج84، ص289.
2 جنود العقل والجهل، ص 234 - 235.
3 الأربعون حديثًا، ص 168.
287
244
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
7- الكبر
إنّ الكبر هو المفجّر لبركان الغضب، حتّى قيل إنّ المرء لا يغضب على من يراه أفضل منه، "الغاضب إنّما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممّن يغضب عليه، أو يرى أنّه، على الأقل، يتساوى معه في القوّة"1.
فاتّضح ممّا سبق أنّ القوّة الغضبيّة أمرٌ موجودٌ في النّفس بحسب جبلّتها وشاكلتها الماديّة. وإنّ الجّهل، الذي تنشأ منه المبرّرات، يسمح لفتيل الكبر أن يفجّر أكوام الحطب والوقود النّابع من حبّ الدّنيا، فيحصل الغضب المهلك.
كيف نجعل القوّة الغضبيّة تحت سلطان العقل؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من أهمّ سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له"2. وإنّ أيّ حديث عن المعالجة لا ينبغي أن ينصرف إلى القضاء على الغضب، وإن جرى التّعبير عنه بذلك، بل المطلوب ـ كما أسلفنا ـ جعل هذه القوّة في خدمة العقل والشّرع، لينال بها الإنسان خير الدّنيا والآخرة". ولمعالجة الغضب طريقين علمي وعملي.
1- العلاج العلمي
ويقول الإمام في معرض حديثه على العلاج العلميّ الذي يقوم على التّفكّر وقوّة الذّكر: "على الإِنسان، وهو سليم النّفس، أن يكون على حذرٍ كبير من حال غضبه. وإذا كان يعرف من نفسه حدوث حالات الغضب عليه، في أثناء هدوئه النّفسيّ، أن يعالجها وأن يفكّر في مبادئها وفي مفاسدها عند اشتدادها وآثارها ونتائجها في النّهاية، لعلّه يصل إلى معرفة طريق لإنقاذ نفسه. فليفكّر في أنّ هذه الغريزة التي وهبها الله تعالى إيّاه لحفظ نظام الظّاهر والباطن وعالم الغيب والشّهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضدّ المقاصد الإِلهيّة، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقّها؟ وكم هو ظلومٌ جهول؟ لأنّه لم يَصُنْ أمانة الحقّ تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات.
1 الأربعون حديثًا، ص 167.
2 (م.ن)، ص167.
288
245
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
إنّ امرأً هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهيّ. ثمّ إنّ عليه أن يفكّر في المفاسد العمليّة والأخلاقيّة التي تتولّد من الغضب وسوء الخُلُق، إذ كلّ مفسدة من هذه المفاسد يمكن أن تكون سببًا في ابتلاء الإِنسان بصورة دائمة ببلايا شديدة في الدّنيا، وبالعذاب والعقاب في الآخرة"1.
2- العلاج العملي
ثمّ ينتقل الإمام قدس سره إلى العلاج العمليّ:
أ- التخلّص من حبّ الدّنيا وحبّ النفس:
ويقول قدس سره: "هذه العلل كثيرة، نذكر بعض مهمّاتها: فمنها، ولعلّها أهمّها، هي العلّة التي ينبغي تسميتها أمّ الأمراض، ألا وهي حبّ الدّنيا، فهو الذي يُنتج معظم أو جميع الأمراض النّفسيّة ولذلك وصفته الأحاديث الشّريفة بأنّه "رأس كل خطيئة"... وبصورة عامّة، فإنّ العلاج الجذريّ لمعظم المفاسد إنّما يتحقّق بمعالجة حبّ الدنيا وحبّ النفس، وبذلك تتحلّى النّفس بالسّكينة والطّمأنينة، فيهدأ القلب حينئذٍ ويصبح الاطمئنان قوّة وملكة فيه، فيتساهل بشأن الأمور الدّنيويّة، ولا يهتمّ بأيِّ مأكلٍ ومشرب، ويتعامل بهدوءٍ وتساهل مع من يزاحمه في أيّ أمر من أمور الدّنيا، لأنّ محبوبه ليس طعمة أهل الدّنيا لكي يهيج من أجلها. إنّ قطع جذور حبّ الدنيا أمرٌ صعب ، خصوصًا في بداية الأمر وابتداء السّلوك ، ولكن كلّ صعب يتيسّر بالعزم وقوّة الإرادة، فقوّة الإرادة والعزم الرّاسخ حاكمان على كلّ أمرٍ صعب وأقوى منه، وهما ييسّران كلّ طريقٍ طويلٍ شائك، أجل لا ينبغي للسّالك أن يتوقّع قلع مادّة الفساد وجذوره وإزالة هذا المرض المهلك دفعةً واحدةً بين عشيّةٍ وضحاها، بل إنّ ذلك يتحقّق تدريجيًّا وعن طريق الاهتمام به وصرف الوقت لأجله، والتفكّر والرّياضات والمجاهدات، وقطع فروعه وبعض جذوره، فيمكن للسّالك أن يحقّق هدفه تدريجيًّا بهذه الوسائل، ولكن ينبغي أوّلًا أن يعرف أنّ العقبة الأساسيّة التي تعترض طريق الإنسان لكلّ هدفٍ دينيّ هي عقبةُ حبّ الدّنيا والنّفس، وإذا كان من أهل المعرفة والجذبة والجذوة، فإنّ حبّ الدّنيا والنّفس هو من أشدِّ الحجب السّاترة لوجه المحبوب... بل إنّ المجتهد في تهذيب الباطن وتصفية
1 الأربعون حديثًا، ص 164.
289
246
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
القلب وتعديل الأخلاق لن ينجح في قطع جذور أيِّ من الموبقات والمهلكات النّفسيّة مع بقاء حبّ الدّنيا والنّفس، ولن ينجح مع بقاء هذا الحبّ في التّحلّي بأيِّ من الفضائل النّفسيّة، وسرّ ذلك هو أنّ مبدأ كلّ تهذيب تعديل القِوى الثّلاث: الواهمة الشّيطانيّة، والشّهويّة البهيميّة، والغضبيّة السّبعيّة، في حين أنّ الحرص على الدّنيا وحبّها يخرجان هذه القوى عن حدِّ الاعتدال، واشتعال نار الشّهوة والغضب، هو من آثار حبّ النّفس والدّنيا، وبه تخرج القوّة الواهمة من حال الاعتدال، ويكون تحرّكها على وفق إرادة الشيطان"1.
ب- مخالفة هوى النّفس:
"وبعد أن يدرك الإنسان، في حال تعقّله وسكون نفسه وخمود غضبه، المفاسد النّاجمة عن الغضب، والمصالح النّاجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن يحتّم على نفسه أن يطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النّار المشتعلة في قلبه، مهما لاقى من عنت ونصب في سبيل ذلك، ليغسل قلبه من الظّلام والكدر، ويعيد إليه صفاءه ونقاءه. وهذا أمرٌ ممكن تمامًا بشيءٍ من مخالفة النّفس والعمل ضدّ هواها، وبقليلٍ من النّصح والإرشاد والتدبّر في عواقب الأمور. وهذه وسيلة يمكن بها إزالة جميع الأخلاق الفاسدة والعادات القبيحة من ساحة النّفس، وإبدالها بجميع الصّفات الحسنة والأخلاق المحمودة التي يجب أن يتحلّى بها القلب"2.
ج- الانشغال عن الغضب لحظة ظهوره بتغيير الوضعيّة والذّكر:
"فأهمّ ما في العلاج العمليّ صرف النّفس عن الغضب عند أوّل ظهوره... فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره، فيشغل نفسه بأمورٍ أخرى، أو أن يغادر المكان الذي ثار فيه غضبه، أو أن يغيّر من وضعه. فإذا كان جالسًا فلينهض واقفًا، وإذا كان واقفًا فليجلس، أو أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى، بل هناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب، أو أن يشغل نفسه بأيّ أمرٍ آخر. على كلّ حال، يسهل كبح جماح الغضب في بداية ظهوره، ولهذا العمل في هذه المرحلة نتيجتان: الأولى: هي أن يهدّئ النّفس ويقلّل من اشتعال الغضب، والثّانية: هي أن يؤدّي إلى المعالجة الجذريّة للنّفس. فإذا راقب الإنسان
1 جنود العقل والجهل، ص 234 - 236.
2 الأربعون حديثًا، ص 165.
290
247
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
حاله وعامل نفسه بهذه المعاملة، تغيّرت حاله تغيّرًا كُليًّا، واتّجهت نحو الاعتدال"1.
د- لزوم الأرض:
"وقد وردت الإشارة إلى بعض ذلك في كتاب (الكافي)، بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "إِنَّ هَذَا الغَضَبَ جَمْرَةٌ مِنَ الشَّيطانِ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ وإِنَّ أحَدَكُمْ إِذا غضِبَ احْمَرَّتْ عَيْناهُ وَانْتَفخَتْ أوْدَاجُهُ وَدَخَلَ الشَّيْطانُ فيه، فَإِذا خاف أَحَدُكُمْ ذلِكَ مِنْ نَفْسهِ فَلْيَلْزَمِ الأرْضَ، فَإنَّ رِجْزَ الشَّيْطانِ يَذْهَبُ عَنْهُ عِنْدَ ذلِكَ"2"3.
هـ- مسّ الرّحم:
"وبإسناده، عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام، فقال: "إِنَّ الرَّجَل لَيَغْضبُ، فَما يرضى أبداً حتّى يَدْخُلَ النّار، فَأَيُّما رَجُلٍ غَضِب عَلى قَوْمٍ وَهُوَ قائمٌ فَليَجْلسْ مِنْ فَوْرِه ذلِك، فَإنَّهُ سَيَذْهَبُ عَنْهُ رِجْزُ الشَّيْطانِ وَأَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ عَلى ذي رَحِمٍ فَلْيَدْنُ مِنْهُ فَلْيَمَسَّه، فَإنَّ الرَّحِمَ، إذا مُسَّت، سَكَنَتْ"4. يُستفاد من هذا الحديث الشّريف علاجان عمليّان حال ظهور الغضب. الأوّل عام، وهو الجلوس من القيام، أي تغيير وضعية الإِنسان، ففي حديثٍ آخر أنّه إذا كان جالسًا عند الغضب فليقم واقفًا. والعلاج العمليّ الآخر علاج خاص بالأرحام، وهو أن يمسّه فيسكن غضبه"5.
و- تخويف الغضوب:
"إذا أراد الآخرون معالجة الغاضب فعند ظهور بوادر الغضب، عليهم أن يعالجوه بإحدى الطّرق العلميّة والعمليّة المذكورة، ولكن إذا اشتدّت حاله واشتعل غضبه، فإنّ النّصائح تنتج عكس المطلوب، ولذلك يكون علاجه، وهو في هذه الحال، صعبًا، إلاّ بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه، وذلك لأنّ الغاضب إنّما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممّن يغضب عليه، أو يرى أنّه، على الأقل، يتساوى معه في القوّة. أمّا مع الذين يرى أنّهم أقوى منه، فلا يُظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه ويبقى محبوسًا في داخله ويولّد
1 الأربعون حديثًا، ص 165 - 166.
2 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح12.
3 الأربعون حديثًا، ص 166.
4 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ح2.
5 الأربعون حديثًا، ص 166 - 167.
291
248
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
الحزن في قلبه. وعليه، فإنّ العلاج في حالات الانفعال الشّديدة من الغضب والفورة يكون على جانبٍ كبيرٍ من الصّعوبة، نعوذ بالله منه"1.
ز- المبادرة إلى قلع مادّته والعلل المهيّجة له:
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ العلاج الأساس للنّفس ينبغي أن يكون عند سكون القوّة الغضبيّة، لأنّه من الصعب جدًّا السّيطرة عليها عند غليانها، لأنّها تتحوّل إلى نارٍ محرقةٍ رهيبةٍ ونائرةٍ قاتلةٍ، فيعجزُ حينئذٍ حتّى أطبّاء النّفوس عن معالجتها، لأنّ اشتعال هذه الجمرة الشّيطانية يشتدّ في هذه الحال إذا سعوا إلى معالجتها بالموعظة والنّصيحة"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 167.
2 جنود العقل والجهل، ص 232.
292
249
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
المفاهيم الرئيسة
1- من مناشئ الغضب:
- خروج القوّة الغضبيّة عن سلطة العقل والشّرع.
- ضعف النفس والايمان.
- الرذائل الاخلاقية.
- حب النفس.
2- مبدأ كلّ تهذيب تعديل القِوى الثّلاث: الواهمة الشّيطانيّة، والشّهويّة البهيميّة، والغضبيّة السّبعيّة، وحب الدنيا يخرج هذه القوى عن الاعتدال.
3- إنّ فتور وخمود هذه القوّة يولّد عيوبًا كبيرة منها: الضّعف والتّهاون والكسل والطّمع والجزع وقلّة التّحمّل وضعف الاستقامة والفرار في القتال والتّقاعس عن الهجوم عند الضّرورة، وترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والقبول بالذلّ والعار.
4- العلاج العلميّ يقوم على: التّفكّر بعواقب الغضب وقوّة الذّكر.
5- العلاج العمليّ يكون من خلال:
- مخالفة هوى النّفس.
- صرف النفس عن الغضب لحظة ظهوره بتغيير الوضعيّة والذّكر.
- لزوم الأرض ومسّ الرحم.
6- إذا أراد الآخرون معالجة الغاضب، إذا كان ذلك عند ظهور بوادر الغضب عليهم أن يعالجوه بإحدى الطّرق العلميّة والعمليّة المذكورة. ولكن إذا اشتدّت حاله واشتعل غضبه، فإنّ النّصائح تنتج عكس المطلوب. ولذلك يكون علاجه وهو في هذه الحال صعبًا، إلاّ بتخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه.
7- إنّ العلاج الجذريّ لمعظم المفاسد إنّما يتحقّق بمعالجة حبّ الدنيا وحبّ النفس. إنّ قطع جذور حبّ الدنيا أمرٌ صعب خصوصًا في بداية الأمر وابتداء السّلوك. ولكن كلّ صعب يتيسّر بالعزم وقوّة الإرادة، فقوّة الإرادة والعزم الرّاسخ حاكمان على كلّ أمرٍ صعب وأقوى منه، وهما ييسّران كلّ طريقٍ طويلٍ شائك.
293
250
الدرس العشرون: الغضب (2) - أسباب الغضب وعلاجه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي التَّحَفُّظَ مِنَ الْخَطَايَا، وَالاِحْتِرَاسَ مِنَ الزَّلَلِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي حَالِ الرِّضَا وَالْغَضَبِ، حَتَّى أَكُونَ بِمَا يَرِدُ عَلَيَّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ"1.
الروايات الشريفة:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شِدَّةُ الْغَضَبِ تُغَيِّرُ الْمَنْطِقَ، وَتَقْطَعُ مَادَّةَ الْحُجَّةِ، وَتُفَرِّقُ الْفَهْمَ"2.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحِلْمُ يُطْفِئُ نَارَ الْغَضَبِ، وَالْحِدَّةُ تُؤَجِّجُ إِحْرَاقَهُ"3.
عن أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك الأشتر: "فوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلاِمَامِكَ، (وَأَنْقَاهُمْ) جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ"4.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَاكْظِمِ الْغَيْظَ، وَاحْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَتَجاوَزْ عِنْدَ المَقْدِرَةِ"5.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَمَنْ شَنِىءَ الْفَاسِقِينَ وَغَضِبَ لله غَضِبَ الله لَهُ وَأَرْضَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"6.
عن الإمام الصادق عليه السلام: "أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى بعض أنبيائهِ: يا ابن آدم، اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وارضَ بي منتصراً، فإنّ انتصاري لك خيرٌ من انتصارك لنفسك"7.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام عند الشدّة والجهد وتعسّر الأمور.
2 بحار الأنوار، ج68، ص 428.
3 مستدرك الوسائل، ج12، ص 12.
4 نهج البلاغة، ص 433.
5 (م.ن)، ص 459.
6 (م.ن)، ص 473.
7 الكافي، ج2، ص 303.
294
251
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق للعصبيّة وكيفية تشكّلها.
2- يتعرّف إلى الآثار الاجتماعيّة والفرديّة، الدنيويّة والأخرويّة، للعصبيّة.
3- يبيّن كيف نتخلّص من العصبيّة.
295
252
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
تمهيد
قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾1.
تبيّن هذه الآية أنّ إدراك الحقّ يمثّل هدفًا جوهريًّا لظهور العالم (بآفاقه والأنفس). ولا يكون العالم دليلًا إلى الحقّ إلّا إذا كان ظاهرًا بالحقّ في كلّ شيء.
إنّ الحقّ هو الواقع العينيّ، ويقابله الباطل والوهم. وليس من شيء بأضرّ على كيان الإنسان من الباطل، لأنّه منشأ كلّ خسران. فاتّباع الباطل، الذي يتغذّى من الكفر - وهو عبارة عن إنكار الحقّ - وغيره من أمّهات الرّذائل، هو الذي جلب كلّ أنواع المصائب على الإنسانيّة وما زال.
أمّا التزام البشر باتّباع الحقّ، والثّبات عليه، والبحث عنه ونصرته، فهو الذي يجلب لهم كلّ خير وسعادة. وليس الإيمان في جوهره سوى ذاك الإدراك العميق للحقّ الذي يبدأ من الذّهن ويدخل إلى القلب بنور العقل. ومن المعلوم أنّ هذا الإيمان هو الذي يضمن سعادة الإنسان دنيا وآخرة.
وعليه، تكون قضيّة "الحقّ والباطل" قضيّة محوريّة ومصيريّة بحسب الرؤية الإسلاميّة، وعلى ضوئها يمكن تفسير سائر القضايا المصيريّة.
يمثّل الواقع الخارج عن أذهاننا، تلك السّاحة الوحيدة لتكامل الإنسان، وتُعدّ معرفته نقطة بدء هذا التّكامل، لأنّ الإنسان مخلوقٌ مختار، وتنبع قيمة أفعاله من هذه الحريّة التي أُعطيت له. وكما تحكي الآية الشّريفة، فإنّ تفاعل الإنسان مع مظاهر الحقّ وآياته في كلّ
1 سورة فصّلت، الآية 53.
297
253
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
أرجاء الوجود تفاعلًا إيجابيًّا بنّاءً، هو الذي يرفعه في الدّرجات ويسمو به في المقامات.
ما يُخاف منه هو أن يوجد الإنسان في نفسه أو في بيئته الاجتماعيّة حالة تصدّه عن هذا التّواصل الفعّال، فعندها ستنسدّ عليه أبواب التّكامل، ولن يكون أمامه سوى اتّباع الباطل الذي يجرّه إلى الهلاك والبوار.
على ضوء فهمنا وإدراكنا لهذه القضية، يتّضح مدى وخامة التّعصّب الذي هو من أكبر مظاهر مجانبة الحقّ، وأجلى حالات مواجهته ومعارضته، اولهذا كانت عقوبته شديدة جدًّا.
معنى العصبية
العصبيّة هي هذه الحالة النّفسيّة التي غالبًا ما تؤطّر نفسها بالأطر الثّقافيّة كالعادات والتّقاليد والأعراف التي تقدّم الاعتبارات على الحقّ وتفضّلها عليه. هنا بالتّحديد يمكن للمتفكّر أن يتعرّف إلى شيءٍ من معاني الحديث الشّريف، عَنْ أبي عَبد الله عليه السلام قالَ: "قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: مَنِ كانَ في قَلْبه حَبَّةٌ مِنْ خَرْدلٍ مِنْ عَصَبَيَّةٍ، بَعَثَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ أَعْرابِ الجَاهِليَّةِ"1.
يقول الإمام الخميني قدس سره في معنى العصبي والشخصية العصبية: "العصبي هو الذي يعين قومه على الظلم ويغضب لعصبته ويحامي عنهم، وعُصبة المرء أقرباؤه من جهة الأب، لأنهم يحيطون به فيقوى بهم. والتعصّب بمعنى الحماية والدفاع"2.
وقد عُلم من الآيات والأحاديث الكثيرة مصير أعراب الجاهليّة على مستوى الكفر والنّفاق والعاقبة السّيّئة، وذلك لأنّهم أضحوا مثلًا لذلك المجتمع الّذي لا يوجد فيه أيّ بصيصٍ لنور الحقّ، بل صار محلًّا لمحاربة الحقّ والحقيقة والتفكّر الحرّ والبحث عن معرفة الواقع والعلم به.
وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله سبحانه يعذّب طوائف ستّ بأمورٍ ستّة: أَهْلَ البَوَادِي بِالعَصَبِيَّةِ، وَأَهْـلَ الْقُرَى بِالْكِبَرِ، وَالأُّمَرَاءِ بِالظُلْمِ، وَالفُقَهَاءِ بِالحَسَدِ، وَالتُّجَّارِ بِالخِيَانَةِ، وَأَهْلِ الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْلِ"3.
1 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبيّة، ح3.
2 الأربعون حديثًا، ص 171.
3 الخصال، ج1، الباب 6، ح14، ص 325.
298
254
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
فالعصبيّة هي الدّفاع عن التّعلّقات الخاصّة، وإن كانت بالظّاهر كبيرة كالوطن والقوم، دون الأخذ بعين الاعتبار أيّ معنىً للحقّ والباطل. فهي بالظّاهر حماية ودفاع والتصاق بأمور أو أفراد أو جماعات، لكنّها في الواقع ليست سوى أنانيّة وتمجيد للأنا بعد إضافة تلك الأمور عليها لتكبيرها.
لا يتعصّب المتعصِّب لشيء إلّا لأنّه ينتمي إلى نفسه بنحوٍ ما، ولأنّه يعود عليه بنوع من المصلحة أو المنفعة ولو من بعيد. فالعصبيّة هي الأنا المضخَّمة، التي لطالما اعتبرها الإمام الخميني قدس سره أكبر حجاب بيننا وبين الحقّ المتعال.
وإذا كانت الأنا والأنانيّة ورؤية النّفس وحبّها حجابًا كبيرًا، حتّى لو لم تكن شيئًا مذكورًا، فكيف سيكون هذا الصّنم بعد أن يتمّ تضخيمه وتكبيره آلاف المرّات؟!
العصبيّة خلق إبليسيّ
العصبية من الصفات والأخلاق الشيطانية كما يبيّن الإمام الخميني قدس سره حيث يقول:
"عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: "إِنَّ المَلائكَة كانُوا يَحْسَبُونَ أنَّ إِبْليسَ منْهُمْ، وَكانَ في عِلْم الله أنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَاسْتَخْرَجَ ما فِي نَفْسِهِ بالحَمِيَّةِ وَالغَضَبِ. فقال: خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ". فاعلم أيّها العزيز، أنّ هذه الخصلة الخبيثة من الشّيطان، وإنّها من مغالطات ذلك الملعون ومعاييره الباطلة. إنّه يغالط عن طريق هذا الحجاب السّميك الذي يُخفي عن النّظر كلّ الحقائق، بل يُظهر رذائل النّفس كلّها محاسن، وجميع محاسن الآخرين رذائل، من الواضح أنّه كيف يكون مصير الإِنسان الذي يرى جميع الأشياء على غير حقيقتها وواقعيّتها"1.
مشكلة الشّخصيّة المتعصّبة وكيفيّة تشكّلها
إنّ الواقع الخارجيّ المخلوق بيديّ الجمال والجلال هو الحقّ، والذي بفضله تظهر صفات الله الحسنى وأسماؤه العليا. وبسبب هذا الظّهور، تحصل المعرفة التي هي غاية الخلقة، ويكون الإيمان - كما ذكرنا - عبارة عن شدّة قبول الحقّ والاتّصال به. أمّا العصبيّة، فهي
1 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبيّة، ح6.
299
255
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
الحالة التي تتنافى في جوهرها مع هذا الايمان، ويشرح الإمام هذه القضيّة لنا قائلًا:
"فمن المعلوم أنّ الإيمان، وهو الفوز الإِلهيّ، ومن الخِلَعِ الغيبيّة للّه جلّ جلاله الذي يفيض بها على المخلصين من عباده والخاصّة في محفل أنسه، يتنافى مع مثل هذه السّجيّة الممقوتة التي تدوس الحقّ والحقيقة، وتطأ بأقدام الجّهل على الصّدق والاستقامة. ولا شكّ في أنّ القلب إذا غطّاه صدأ حبّ الذّات والأرحام والتّعصّب القوميّ الجاهليّ، فلن يكون فيه مكانٌ لنور الإِيمان، ولا موضع للخلوة مع الله ذي الجلال تعالى.
إنّ ذلك الإنسان الذي تظهر في قلبه تجلّيات نور الإيمان والمعرفة، ويطوّق رقبته الحبل المتين والعروة الوثقى للإِيمان، ويكون رهن الحقيقة والمعرفة، هو ذلك الإنسان الذي يلتزم بالقواعد الدّينيّة وتكون ذمّته مرهونةٌ لدى القوانين العقليّة، ويتحرّك بأمرٍ من العقل والشّرع، دون أن يهزّ موقفه أيّ من عاداته وأخلاقه وما يأنس به من مألوفاته، فلا تحيد به عن الطّريق المستقيم.
إنّ الإِنسان الذي يدّعي الإِسلام والإيمان هو ذاك الذي يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه، مهما عظمت، فانية في أهداف وليّ نعمته، ويضحّي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقيّ. ومن الواضح أنّ مثل هذا الشّخص لا يعرف العصبيّة الجاهليّة، وأنّه بريء منها، ولا يتّجه قلبه إلاّ إلى حيث الحقائق ولا تغشي عينيه أستارُ العصبيّة الجاهليّة السّميكة فهو يطأ بقدميه، في سبيل إعلاء كلمة الحقّ والإِعلان عن الحقيقة، كلّ العلاقات والارتباطات، ويفدي بجميع الأقرباء والأحبّة والعادات على أعتاب وليّ النّعم المطلق. وإذا تعارضت العصبيّة الإِسلاميّة عنده مع العصبيّة الجاهليّة، قدَّم الإسلام وحبّ الحقيقة"1.
إنّ جميع وقائع العالم التّكوينيّة والأنفسيّة ليست سوى مرايا تنعكس منها أنوار الحقيقة، وإنّ أيّ تشويهٍ أو عبثٍ بالمرائي، التي جعلها الله وسيلة لإدراك الحقّ والحقيقة، يقطع الطّريق على الإنسان لبلوغ الهدف والمقصد الذي خُلق لأجله. فإذا سيطرت على الإنسان أو المجتمع
1 الأربعون حديثًا، ص 177.
300
256
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
ثقافة تقديم المصالح الشّخصيّة على الحقّ، فهذا يعني أنّ وجهة هذا الإنسان أو المجتمع أصبحت في الطّريق المعاكس للهدف السّامي من وجودهما.
ملاك التعصّب المذموم
يقول الإمام الخميني قدس سره: "العصبيّة واحدة من السّجايا الباطنيّة النّفسيّة. ومن آثارها الدّفاع عن الأقرباء والمعارف وحمايتهم، بما في ذلك الارتباط الدّينيّ أو المذهبيّ أو المسلكيّ، وكذلك الارتباط بالوطن وترابه، وغير ذلك من ارتباط المرء بمعلّمه، أو بأستاذه، أو بتلامذته وما إلى ذلك.
والعصبيّة من الأخلاق الفاسدة والسّجايا غير الحميدة، وتكون سببًا في إيجاد مفاسد في الأخلاق وفي العمل، وهي بذاتها مذمومة، حتّى وإن كانت في سبيل الحقّ، أو من أجل أمرٍ دينيّ، من غير أن يكون مستهدفًا لإظهار الحقيقة، بل يكون من أجل تفوّقه أو تفوّق مسلكه ومسلك عصبته.
أمّا إظهار الحقّ والحقيقة وإثبات الأمور الصّحيحة والتّرويج لها وحمايتها والدّفاع عنها، فإمّا أنّه ليس من التّعصّب، وإمّا أنّه ليس تعصّبًا مذمومًا.
إنّ المقياس في الاختلاف يتمثّل في الأغراض والأهداف وخطوات النّفس والشّيطان أو خطوات الحقّ والرّحمن. وبعبارةٍ أخرى، إنّ المرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّتِهِ ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحقّ ودحض الباطل، فهو تعصّبٌ محمودٌ ودفاعٌ عن الحقّ والحقيقة... أمّا إذا تحرّك بدافع قوميّته وعصبيّته، بحيث أخذ بالدّفاع عن قومه وأحبّته في باطلهم وسايَرَهم فيه ودافع عنهم، فهذا شخصٌ تجلّت فيه السّجيّة الخبيثة، سجيّة العصبيّة الجاهليّة"1.
إنّ أهم ما يرتبط بموضوع العصبيّة بعد معرفتها بصورة جيّدة معرفة قبحها ووخامتها، ومن ثمّ النّظر إلى النّفس بعين التّفحّص والمراقبة الدّقيقة لاكتشاف أدنى مستوًى منها، لأنّ مثقال حبّة من خردل منها كفيلٌ بتدمير كيان الإنسان المعنويّ بالكامل.
1 الأربعون حديثًا، ص 175.
301
257
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
العصبيّة عند طلاب العلم
يذكر الإمام مجموعة من الآثار الوخيمة لهذه الصّفة الخبيثة التي قد توجد في أهل العلم. وكلّ واحدٍ منها كفيلٌ بتخريب المنظومة القيميّة لأيّ مجتمعٍ، نظرًا لما يمثّله العلم والعلماء من موقعيّة محوريّة فيها.
1- خيانة العلم
فيقول قدس سره: "من ناحيةٍ أخرى في قباحة هذه السّجيّة لدى أهل العلم هو جانب العلم نفسه، إذ إنّ هذه العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه، إذ إنّ من يتحمّل عبء هذه الأمانة ويلبس لبوسها، فعليه أن يرعى حرمتها واحترامها، وأن يعيدها إلى صاحبها صحيحة سليمة. فإذا ما تعصّبَ تعصّب الجاهلية، يكون قد خان الأمانة وارتكب الظّلم والعدوان، وهذه بذاتها خطيئة كبرى".
2- إهانة أهل العلم
"الناحية الثّانية من جرّاء هذه السّجيّة القبيحة إهانة أهل العلم فيما إذا كان التّعصّب في المباحث العلميّة، مع العلم بأنّ أهل العلم من الودائع الإلهيّة الواجب احترامهم، بينما يكون هتكهم هتكًا لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة. وقد تؤدّي العصبيّة التي لا تكون في محلّها، إلى هتك حرمة أهل العلم. أعوذ بالله من هذه الخطيئة الكبيرة!"1.
3- فساد العالِم فساد الأمّة
"... نرى أنّ أهل العلم ينبغي أن يكونوا هم المربّين لأبناء البشر، باعتبارهم فروع شجرة النبوّة والولاية، وعارفين بوخامة الأمور وعواقب فساد الأخلاق. فإذا اتّصف العالم ـ لا قدّر الله بالعصبيّة الجاهليّة أو بالصّفات الرّذيلة الشّيطانيّة، كانت الحجّة عليه أتمّ وعقابه أشدّ. إنّ من يعرّف نفسه على أنّه مصباح الهداية، وشمع محفل العرفان، والهادي إلى السّعادة ومعرّف طرق الآخرة، ثمّ لا يعمل ـ لا سمح الله بما يقول، ويختلف باطنه عن ظاهره، يكون في زمرة أهل الرّياء والنّفاق، ويحسب من علماء السّوء، ويكون عالمًا بلا عمل، وهذا عقابه أكبر وعذابه أشدّ. وقد أشار الله سبحانه إلى أمثال هذا في القرآن بقوله: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾2... فإذا اتّصف العالم ـ
لا قدّر الله
1 الأربعون حديثًا، ص 173 - 174.
2 سورة الجمعة، الآية 5.
302
258
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
بالعصبيّة الجاهليّة أو بالصّفات الرّذيلة الشّيطانيّة، كانت الحجّة عليه أتم وعقابه أشدّ... إنّ فساد العالِم يؤدّي إلى فساد الأمّة. ومن البديهيّ أنّ الفساد الذي يتسبّب في مفاسد أخرى والخطيئة التي تزيد خطايا أخرى وتعظّمها، تكون أعظم عند وليّ النِّعم من الفساد الجزئيّ الذي لا يتعدّى إلى غيره"1.
4- العقوق الرّوحي
وتوجِد هذه الخصلة في نفس المتعصّب حالة سلبيّة، يسمّيها الإمام الخمينيّ عقوقًا روحيًّا، ويُعدّه ـ كما هو واضحٌ بالوجدان ـ أشدّ من عقوق الوالدين الذي هو أكبر الكبائر: "وهناك جانبٌ آخر، هو جانب المتعصَّب له أي الأستاذ وشيخ الإنسان. وهذا يوجب العقوق، وذلك لأنّ المشايخ العظام والأساطين الكرام ـ نضّر الله وجوههم ـ يميلون إلى جانب الحقّ، ويهربون من الباطل، ويسخطون على من يتذرّع بالتعصّب لقتل الحقّ وترويج الباطل. ولا شكّ في أنّ العقوق الرّوحي أشدّ من العقوق الجسميّ، وحقّ الأبوّة الروحيّة أسمى من حقّ الأبوة الجسمية"2.
ما هي عواقب العصبيّة ومفاسدها؟
1- الأثر الروحي والإيماني
العصبية سبب أساسي لخروج روح الإيمان من الإنسان وبالتالي الوقوع في فتن الشيطان ارتكاب المخالفات الشرعية. يقول الإمام الخميني قدس سره: "يستفاد من الأحاديث الشريفة عن أهل بين العصمة والطهارة أن العصبية من المهلكات والباعثة على سوء العاقبة والخروج من عصمة الإيمان، وأنها من ذمائم أخلاق الشيطان. جاء في الكافي بسنده الصحيح عن أبي عبد الله الصادقعليه السلام قال:"من تَعصَّب أو تُعصِّب له فقد خُلِع ربق الإيمان من عنقه"، أي أن المتعصّب بتعصبه يكون قد خرج من إيمانه، وأما المتعصب له، فبما أنه قد رضي بعمل المتعصّب، يصبح شريكاً له في العقاب، كما جاء في الحديث الشريف قال: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل في باطل إثمان:إثم العمل به، وإثم الرضا به"3.
1 الأربعون حديثاً، ص 179 - 180.
2 (م.ن)، ص 180.
3 (م.ن)، ص172.
303
259
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
2- الأثر الاجتماعي
فالعصبيّة تشعل الحروب وتؤجّج العداء وتقضي على السّلام الاجتماعيّ، وتفسد القيم، وتعزّز النّفاق، وتوقد الرّياء، وتهتك الحرمات، وفوق ذلك كلّه تصدّ عن الحقّ المتعال.
يقول الإمام قدس سره: "إذا تحرّك (الإنسان) بدافع قوميّته وعصبيّته، بحيث أخذ بالدّفاع عن قومه وأحبّته في باطلهم وسايَرَهم فيه ودافع عنهم، فهذا شخص تجلّت فيه السجيّة الخبيثة، سجيّة العصبيّة الجاهليّة، وأصبح عضواً فاسداً في المجتمع، وأفسد أخلاق المجتمع الصالح، وصار في زمرة أعراب الجاهلية"1.
3- الأثر الأخرويّ
أمّا في الآخرة فللعصبيّة ظهورٌ، بل ظهورات، تعقبها حسرات لا نهاية لها.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ الإنسان الذي فيه هذه الرّذيلة، لعلّه عندما ينتقل إلى العالم الآخر يرى نفسه من أعراب الجاهلية من غير إيمان بالله تعالى ولا بالنبوّة والرّسالة، ويرى أنّه في الصّورة التي يُحشر بها أولئك الأعراب، ولا يعلم بأنّه كان في الدّنيا يعتنق العقيدة الحقّة من الإيمان بالله وبرسوله وأنّه من أمّة الرسول الخاتمصلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في الحديث عن أهل جهنّم، ينسون اسم رسول الله، ولا يستطيعون أن يعرفوا أنفسهم إلاّ بعد أن يشاء الحقّ سبحانه أن يُنجيهم2. وبما أنّ هذه السّجيّة من سجايا الشّيطان، كما ورد في بعض الأحاديث، فلعلّ أعراب الجاهلية وأصحاب العصبيّة يُحشرون يوم القيامة على هيئة الشّياطين"3.
كيف نواجه هذه الخصلة ونعالجها؟
1- التفكّر بمفاسد العصبيّة
بالتّفكّر والتّأمّل في المفاسد، يحصل لمن كان في قلبه شيءٌ من الإيمان توجّهٌ إلى قبح العصبيّة. ومع وجود نور الفطرة في القلب، يحصل التّنفّر منها، هذا التّنفّر هو الذي يحمل الإنسان على اقتلاع هذه الخصلة المعيبة والمهلكة.
1 الأربعون حديثًا، ص 174.
2 نقل المرحوم الفيض الكاشاني في كتابه علم اليقين، ج2، ص 1042 - 1043 روايات بهذا المضمون.
3 الأربعون حديثًا، ص 176 - 177.
304
260
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
يقول الإمام قدس سره: "إذا عرف الإِنسان العاقل أنّ هذه المفاسد ناشئة من تلك السّجيّة الفاسدة، وأذعن للشهادة الصّادقة المصدّقة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، بأنّ هذه الرّذيلة تجرّ الإنسان إلى الهلاك وتدخله النّار، فما عليه إلاّ أن يتصدّى لعلاج نفسه من هذه السّجيّة، وأن يطهّر قلبه حتى من حبّة خردل منها، حتّى يكون طاهرًا عند الانتقال من هذه الدّنيا إلى العالم الآخر عند اقتراب أجله، فينتقل بنفسٍ صافية. إنّ على الإنسان أن يدرك أنّ الفرصة محدودة والوقت قصيرٌ جدّا، لأنّه لا يعلم متى يحين موعد رحيله"1.
2- العمل بخلاف هوى النّفس
وأمّا العلاج العمليّ فإنّه ـ كما اتّضح من الأصول السّالفة ـ يقوم على أساس العمل بالضدّ. ولمّا كان شأن العصبيّة تأجيج العداوة، فإنّ على من استشعر في نفسه شيئًا منها أن يعمد إلى بثّ السّلام بين النّاس وإفشائه، ونبذ كلّ أنواع المشاجرات والمشاحنات. وإذا كانت العصبيّة تحمل صاحبها على هتك الآخرين المقابلين لجماعته، فليقم من هو بصدد إصلاح نفسه بذكر حسناتهم والاعتراف بفضائلهم.
ولا شكّ بأنّ العدل والشّهادة بالحقّ، ولو على النّفس، والاعتراف بالنّقص حيث ينبغي، يطرد هذه الرّذيلة المهلكة ويخرجها من مملكة الإنسانيّة بالكامل، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾2.
1 الأربعون حديثًا، ص 177.
2 سورة المائدة، الآية 8.
305
261
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- العصبيّة هي الحالة التي تتنافى في جوهرها مع الايمان. ولا شكّ في أنّ القلب إذا غطّاه صدأ حبّ الذّات والأرحام والتّعصّب القوميّ الجاهليّ، فلن يكون فيه مكانٌ لنور الإِيمان، ولا موضع للخلوة مع الله ذي الجلال تعالى.
2- العصبيّة هي الدّفاع عن التّعلّقات الخاصّة، دون الأخذ بعين الاعتبار أيّ معنىً للحقّ والباطل. فهي بالظّاهر حماية ودفاع والتصاق بأمور أو أفراد أو جماعات، لكنّها في الواقع ليست سوى أنانيّة وتمجيد للأنا.
3- إنّ الإِنسان الذي يدّعي الإِسلام والإيمان هو ذاك الذي يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه مهما عظمت، فانية في أهداف وليّ نعمته، ويضحّي بنفسه وبإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقيّ. ومن الواضح أنّ مثل هذا الشّخص لا يعرف العصبيّة.
4- العصبية بذاتها مذمومة حتّى وإن كانت في سبيل الحقّ، أو من أجل أمرٍ دينيّ، من غير أن يكون مستهدفًا لإظهار الحقيقة، بل يكون من أجل تفوّقه أو تفوّق مسلكه ومسلك عصبته.
5- من الآثار الوخيمة لصّفة العصبية الخبيثة:
إشعال الحروب.
تأجّيج العداء.
القضاء على السّلام الاجتماعيّ.
توقيد الرّياء.
هتك الحرمات، والصدّ عن الحقّ المتعال.
6- بالتّفكّر والتّأمّل في مفاسد العصبية وبالعمل بخلاف هوى النّفس، يواجه الإنسان هذه الخصلة المعيبة والمهلكة لاقتلاعها، ولا شكّ بأنّ العدل والشّهادة بالحقّ، ولو على النّفس، والاعتراف بالنّقص حيث ينبغي، يطرد هذه الرّذيلة المهلكة ويخرجها من مملكة الإنسانيّة بالكامل.
306
262
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ لِكُلِّ نَذْرٍ نَذَرْتُهُ، وَكُلِّ وَعْدٍ وَعَدْتُهُ، وَكُلِّ عَهْدٍ عَاهَدْتُهُ، ثُمَّ لَمْ أَفِ بِهِ، وَأَسْأَلُكَ فِي حَمْلِ مَظَالِمِ عِبَادِكَ عِنْدِي، فَأَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِكَ أَوْ أَمَةٍ مِنْ إِمَائِكَ كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلُمَةٌ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي أَهْلِهِ وَوُلْدِهِ أَوْ غِيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِهَا أَوْ تَحَامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْلٍ أَوْ هَوَىً، أَوْ أَنَفَةٍ أَوْ حِمْيَةٍ أَوْ رِيَاءٍ أَوْ عَصَبِيةٍ، غَائِباً كَانَ أَوْ شَاهِداً، حَيَّاً كَانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدِي وَضَاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّهَا إِلَيْهِ وَالتَّحَلَّلِ مِنْهُ، فَأَسْأَلُكَ يَا مَنْ يَمْلُكُ الْحَاجَاتِ، وَهِيَ مُسْتَجِيبَةٌ بِمَشِيَّتِهِ وَمُسْرِعَةٌ إِلَى إِرَادَتِهِ، أَنْ تُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَآَلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِمَا شِئْتَ وَتَهَبَ لِي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً، إِنَّهُ لاَ تَنْقُصُكَ الْمَغْفِرَةُ، وَلاَ تَضُرُّكَ الْمَوْهِبَةُ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾2.
2- ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منّا من دعا إلى عصبيّة، وليس منّا من قاتل (على) عصبيّة، وليس منّا من مات على عصبيّة"4.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَلَقَدْ نَظَرْتُ، فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْء مِنَ الأشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّة تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ، أَوْ حُجَّة تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ، فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لأمْر، مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ. أمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لأصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ. وَأَمَّا الأغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الأمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لإثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ، فَـ ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾5"6.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُهُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الأفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الأمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْـمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيبِ الْقَبَائِلِ بِالأخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ، وَالأحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالأخْطَارِ الْجَلِيلَةِ، وَالاْثَارِ الَمحْمُودَةِ"7.
1 الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام يوم الإثنين.
2 سورة الفتح، الآية 26.
3 سورة يوسف، الآية 8.
4 بحار الأنوار، ج31، ص40 (الهامش).
5 سورة سبأ، الآية 35.
6 نهج البلاغة، ص 295.
7 (م.ن)، ص. 295.
307
263
الدّرس الواحد والعشرون: العصبيّة، ماهيتها، تشكّلها وطرق معالجته
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، وإنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَواتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِه"1.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ألاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ! الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَأَلْقَوُا الْهَجِينَة عَلَى رَبِّهِمْ، وَجَاحَدُوا الله مَا صَنَعَ بِهمْ، مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَمُغَالَبَةً لآلائِهِ، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ، وَسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ"2.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَاللهَ الله في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ، وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ! فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ"3.
1 (م.ن)، ص 287.
2 (م.ن)، ص 289.
3 غرر الحكم، ص 309.
308
264
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الوسوسة بدرجاتها المختلفة وإلى نماذج من الشّخصيّات الوسواسيّة.
2- يتعرّف إلى مفاسد وآثار الوسوسة الفرديّة والاجتماعيّة.
3- يبيّن خطر الشّخصيّة الوسواسيّة على الدّين.
309
265
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
تمهيد
الوسواسيّ شخصٌ مضطربٌ متردّدٌ شكّاكٌ، يصبح عالةً على غيره، ويثير شفقة العقلاء، ويعيش عيش التّعساء. والملفت في هذا المجال أنّ مثل هذه الحالة قد تصيب أيّ واحدٍ منّا، مع أنّها تكون مستبعدة تمامًا. وقد نخال في كثيرٍ من الأحيان أنّ الوسواسيّ شخصٌ يعاني منذ بداية حياته، وأنّه ما كان مستقيمًا أبدًا في عمره! لكنّ هذه الحالة قد تنشأ في بعض الظّروف المفاجئة التي نسمّيها بلاءات أو فتن، إذا لم نكن قد جهّزنا أنفسنا لمواجهتها.
أحوال الشّخصيّة الوسواسيّة
تظهر الوسوسة، وكأنّها حالة قهريّة لا يمكن السّيطرة عليها. وفي أغلب الأحيان لا يستجيب الوسواسيّ لأيّة نصيحة، فهو يشكّك في أصل النّصيحة، ويعجز عن تمييزها عن أيّ كلامٍ آخر.
بعض حالات الوسوسة تنتهي إلى ما يشبه الجنون، وبعضها ينتهي بخسائر فادحة كالانتحار وتفكّك أسرة وانهيار زواج. ويُقال إنّ هذه هي المرحلة الأخيرة منها. فمن أهمل معالجتها ـ لأيّ سببٍ كان ـ تخرج القضيّة عن إرادته بالكامل، ويصبح أمره كالسّكران، يفعل ما لا يرتضيه، لكنّه يحاسب حساب اليقظان.
أنواع الوسوسة في بيئتنا الدّينيّة
1- الوسوسة في العقيدة
ويمكن أن تصل الوسوسة إلى درجة لا ينفع معها المنطق العقليّ والبرهانيّ. فهذا الشّخص يشكّ على سبيل المثال بوجود الله أو الحياة بعد الموت، لكنّه يعجز ـ ربّما اختيارًا
311
266
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
منه1 ـ عن الخروج من هذا الشكّ. وغالبًا ما يتفاجأ بالمنطق الاستدلاليّ إذا ووجه به، وكأنّه يسمع كلامًا غير مفهوم تمامًا.
إنّ الشكّ هنا، هو جسرٌ جيّدٌ أو طبيعيّ لمن كان يعيش الإلحاد أو الغفلة التامّة عن الحقائق، لكنّه منزلٌ سيّئٌ لا عُذر للإقامة فيه، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "عليكم بطاعة من لا تُعذرون بجهالته"2. وكيف يُعذر من كانت الحياة حوله مليئة بالآيات الدّالّة على خالقه؟!
يقول الإمام الخميني قدس سره: "هذه الوساوس من الشّيطان، وهذه الخواطر من عمل إبليس، الذي يفسد عملنا، ويصرف قلوبنا عن الحقّ المتعالي. ومن المحتمل أنّه لا يكتفي بهذه الوسوسة في العمل، بل يبدي البراعة ليدخل الوسوسة في العقيدة والدّين، ويبعد دينك عن دين الله، ويجعلك شاكًّا في المبدأ والمعاد، ويدفعك إلى الشّقاء الأبديّ"3.
2- الشكّ في الأمور الأخلاقيّة
من قبيل الشكّ في قبول التّوبة أو الصّلاح الذاتيّ. ومثل هذا الشكّ أمرٌ إيجابيّ ينشأ من معرفة حقيقة النّفس التي لا يمكن الوثوق بها أبدًا، ولهذا وصف أمير المؤمنينعليه السلام أهل التّقوى بأنّهم لأنفسهم متّهمون، وأنّ نفسه منه في عناء، وهو ظنونٌ بها4 و...، مثل هذا الشكّ محمودٌ، ويؤدّي دورًا مهمًّا جدًّا في إبقاء الإنسان حذرًا تجاه أعدى الأعداء، حتّى ينتقل من هذا العالم حيث الرّاحة الأبديّة.
3- الشكّ في الأمور العمليّة العباديّة
وهو الأكثر اشتهارًا، كالشكّ في الصّلاة والوضوء والنّجاسة، وأكثر الأمثلة هي في هذا المجال، لأنّ الاهتمام العام عند النّاس في الأمور الدّينيّة ينصبّ على هذه القضايا. وعندما نتعرّف على أهم أسباب الوسوسة ومناشئها سنعرف سرّ الأمر.
1 مع الإشارة إلى أن الوسوسة وإن لم تكن بذاتها أمراً اختيارياً، إلا أن مقدّماتها اختيارية، وعليه يمكن إزالة الوسوسة بالعمل على مقدماتها فتؤول المسألة إلى اختيارية الوسوسة، وإمكانية السيطرة عليها وعدم العجز عن ذلك.
2 نهج البلاغة، ص499.
3 الأربعون حديثًا، ص 439.
4 "فَهُمْ لأنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ"، نهج البلاغة.
312
267
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره، بحكم خبرته الواسعة في معالجة النّفوس، مجموعة من النّماذج الوسواسيّة وحالاتها العجيبة، ويلفت أنظارنا إلى بعض الدّوافع التي سنتوقّف عندها لاحقًا.
4- الوسوسة في الوضوء
"إنّ الإنسان الجاهل المبتلى بالوسوسة، يغسل أعضاء الوضوء أكثر من عشر مرّات، وفي كلّ مرّة يوصل الماء إلى كلّ أطراف العضو الذي يُريد أن يغسله بدقّة متناهية، بل يغسل العضو حتّى يجري ماء الوضوء ويتحقّق الغسل الشرعيّ، ثم يكرّر الغسل مرّات عديدة، فمع أيّ مقياس نستطيع أن نطبّق عمله هذا؟ ومع أيّ حديث أو فتوى فقيه يتطابق عمله؟ لقد صلّى المسكين عشرين عامًا أو أكثر مع مثل هذا الوضوء الباطل، وتظاهر أمام النّاس أنّه في منتهى القدسيّة والطّهارة. إنّ الشّيطان قد داعبه، والنّفس الأمّارة بالسّوء قد غرّرته، ومع هذا كلّه يخطّئ الآخرين، ويرى نفسه مصيبًا"1.
5- الوسوسة في نيّة الصّلاة
"إنّ للوسواس شؤونًا كثيرة وطُرقًا لا تُحصى، لا نستطيع الآن أن نبحث فيها كلّها ونستقصي جميع شؤونها، ولكنّ الوسوسة في النّيّة لعلّها الأكثر أضحوكةً والأعجب، لأنّه إذا أراد أحدٌ ما أن يقوم بكلّ قواه وفي جميع عمره بأداء أمرٍ واحدٍ اختياريٍّ بدون نيّة لن يتمكّن أبداً. ومع ذلك ترى مسكينًا مريض النّفس وضعيف العقل يعطّل نفسه في كلّ صلاة مدّة مديدة لكي تحقّق صلاته النيّة والعزم!2.
"وأسوأ من كلّ ذلك وأكثر فضيحة، وسوسة البعض لدى نيّة الصّلاة وتكبيرة الإحرام، لأنّه يرتكب عدّة محرّمات، ويعتبر نفسه من المقدّسين، ويرى بهذا العمل ميزة لنفسه. هذه النيّة التي تتوقّف عليها الأعمال الاختياريّة بأسرها، وتعدّ من الأمور اللازمة للأعمال الاختياريّة، ولا يستطيع الإنسان أن يأتي بعمل من الأعمال العباديّة أو غير العباديّة من دونها، فمع هذا الوصف ومع مختلف أساليب الشّيطنة وهيمنة الشّيطان عليه، قد يُبتلى
1 الأربعون حديثًا، ص 436.
2 معراج السالكين، ص168 - 169.
313
268
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
ساعة أو ساعات لإنجاز هذا الأمر الضروريّ الوجود، وفي النّهاية قد لا يحصل. فهل إنّ هذا الأمر من الخواطر الشّيطانية وأعمال إبليس (لعنه الله) الذي وضع الطّوق واللجام على هذا المسكين، وأخفى عليه هذا الأمر الضّروريّ، وابتلاه بالمحرّمات الكثيرة، من قبيل قطع الصّلاة، وتركها وتجاوز وقتها، أو أنّه من طهارة الباطن والقدس والتّقوى؟"1.
6- عدم الائتمام بإمام الجماعة
"ومن شؤون الوسوسة عدم الاقتداء بأشخاص حُكم عليهم بالعدالة نصًّا وفتوًى، فإنّ ظاهرهم من أهل الصّلاح ومن المحافظين على الأعمال الشرعيّة وباطنهم معلومٌ عند الله، ولا يجب علينا البحث والتّفتيش الدّقيق عنهم، بل لا يجوز البحث والتّحرّي عنهم، ومع ذلك نرى الشّيطان يلجمه ويقوده إلى زاوية من زوايا المسجد معتزلًا عن جماعة المسلمين، فيصلّي فرادى، ويعلّل عدم التحاقه بالجّماعة بأنّني أحتاط، ولا أجد توجّهًا قلبيًّا نحو الجّماعة، ولكنّه لا يتضايق من إمامته للجّماعة، مع أنّ الإمامة أصعب، ومحلّ التباسها أكثر، ولكن لمّا كانت الإمامة موافقة للرّغبات النّفسيّة لا يحتاط في ذلك2.
7- القراءة في الصّلاة
"ومن شؤون الوسوسة التي يكثر الابتلاء بها الوسوسة في قراءة الفاتحة في الصّلاة، حيث قد تخرج نتيجة التّكرار للحروف أو الكلمات وتفخيمها من القواعد التجويديّة وقد تتغيّر صورة الكلمة كلّيًّا. مثلًا ينطق حرف الضّاد من كلمة (الضّالين) بصورة تقترب من حرف القاف. ويتفوّه بالحاء في (الرّحمن الرّحيم) وكأنّه ينطق كلمة غريبة، ويفصل بين حرفٍ وحرفٍ في كلمة واحدة، ممّا يسبّب تغييرًا في هيئة الكلمة ومادّتها، وتنسلخ الكلمة عن وضعها الطبيعيّ"3.
"وممّا يضحك الثّكلى أنّ بعض هؤلاء الأشخاص المبتلين بالوسواس يعدّون أعمال جميع النّاس باطلة، ويحسبونهم غير مبالين بدينهم. مع أنّ هذا الوسواسيّ نفسه إن كان مقلّدًا، فمرجع تقليده هو أحد هؤلاء النّاس! وإن كان من أهل الفضل (العلم)، فليرجع إلى الأخبار،
1 الأربعون حديثًا، ص 437.
2 (م.ن), ص 437 - 438.
3 (م.ن), ص 438.
314
269
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
ليرى أنّ رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة الهدى عليه السلام أيضًا كانوا في هذه الأمور كمتعارف النّاس. فهذه الطّائفة الوسواسيّة هي التي تعمل من بين جميع النّاس على خلاف رسول الله والائمّة المعصومين عليه السلام وفقهاء المذهب وعلماء الدّين، وتعدّ أعمال النّاس جميعًا كلا شيء، وأنّ عملها هي فقط موافق للاحتياط، وأنّها تبالي بالدّين"1.
إلى أين تجرّ الوسوسة؟
يذكر الإمام عددًا من الآثار التي تحصل جرّاء إهمال هذا المرض، حيث تبطل العبادات وتفقد معناها ودورها الحقيقيّ، ويسيطر الوهم على العقل ويقيّده، حتّى ينجرّ أمر الوسواسيّ إلى أن يصبح ألعوبةً بيد الشّيطان، وعلى مرّ الأيّام يتحوّل إلى ثمرة من ثماره ومواليده.
1- بطلان الأعمال والحرمان من ثمارها
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وبالجملة، لا بدّ للإنسان أن يقتلع هذا الجذر بكلّ ما تيسّر له من الرّياضة والكلفة، فإنّه يمنع الإنسان عن جميع السّعادات والخيرات، فمن الممكن أن تكون عبادات الإنسان لمدّة أربعين سنة غير صحيحة، حتّى بحسب الصّورة، وتكون فاقدة لأجزائها الصّوريّة الفقهيّة، فضلًا عن الآداب الباطنيّة والشّرعيّة.
... فالآن، انظر إلى عمل الوسواسيّ المسكين، فهو لا يكتفي بعشرين غرفة، تسبغ كلّ غرفة منها تمام اليد، وتُعدّ غسلة تامّة، فوضوؤه حينئذٍ باطلٌ بلا إشكال"2.
"ومجمل القول إنّ الصّلاة التي تُعدّ معراجًا للمؤمن، وقربانًا للمتّقين، وعمودًا للدّين، تفرغ من كافّة شؤوناتها المعنويّة وأسرارها الإلهيّة، وتتحوّل إلى كلمات يراد لها التّجويد وكيفيّة الإلقاء، ومن ثمَّ ينجرّ تجويد الكلمات، إلى فسادها وعدم إجزائها وكفايتها بحسب ظاهر الشّرع. فهل إنّ هؤلاء وفي هذه الحالات، يعيشون وساوس الشيطان؟ أو تغمرهم فيوضات الرّحمن؟ لقد وردت روايات كثيرة في حضور القلب لدى الصّلاة، والتّوجّه القلبيّ في العبادات ولكنّ هذا المسكين عرف من حضور القلب علمًا وعملًا، الوسوسة في النّية ومدّ كلمة (ولا الضّالين) أكثر من القدر اللازم، وتغيير تقاسيم الوجه والفم حين تلفّظ الكلمات.
1 معراج السالكين، ص 169 - 170.
2 (م.ن), ص 169 - 170.
315
270
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
أليست هذه بمصيبة؟ حيث إنّ الإنسان يغفل سنينًا طويلة عن حضور القلب ومعالجة قلقه النفسيّ ولم يتصدَّ لإصلاحه، ولا يعتبر لحضور القلب شأنًا من شؤون العبادة، ولم يتعلّم كيفيّة تحصيله من علماء القلوب ـ العرفاء ـ ولم يلتزم به، ويشتغل بهذه الأباطيل التي تكون من الخنّاس اللعين حسب نصّ الكتاب الكريم، وأنّها من عمل الشّيطان حسب تصريح الصّادِقَين عليهم السلام بذلك. وإنّ العمل بها يوجب البطلان، كما ذكرتها فتاوى الفقهاء، لكنّه يعتبر كلّ ذلك من شؤون الطّهارة والقدسيّة؟"1.
2- صرف العمر والهبات الإلهيّة بما لا ينبغي
"هذا التّصميم والعزم، الذي هو عبارة عن النيّة في لسان الفقهاء رضوان الله عليهم، موجود في كلّ عملٍ بلا تخلّف، بحيث لو أراد أحدٌ أن يوجد العمل الاختياريّ بدونه، فهو غير ممكن. ومع ذلك فإنّ وسوسة الشّيطان الخبيث ودعابة الواهمة تسيطران على العقل وتعميان هذا الأمر الضروريّ على الإنسان المسكين، وعوضًا عن أن يصرف عمره الثّمين لتحسين عمله وتخليصه وتنقيته من المفاسد الباطنيّة وقضائه في معارف التّوحيد ومعرفة الحقّ وطلبه، يوسوس له إبليس الخبيث، ويقضي نصف عمره في أمرٍ ضروريّ وشيءٍ واجب الحصول"2.
"فالصّلاة التي ينبغي أن تكون لهذا المسكين معراج قربه، ومفتاح سعادته، وبالتأدّب بآدابها القلبيّة والاطّلاع على أسرار هذه اللطيفة الإلهيّة يكمل ذاته ويدرك نشأة حياته، فهو يغفل عن كلّ هذه الأمور، بل لا يراها ضروريّة، لا بل يعدّها كلّها باطلة، وينفق رأسماله العزيز في خدمة الشّيطان وإطاعة الوسواس الخنّاس، ويجعل عقله الذي هو هبة الله ونور هدايته تحت سيطرة إبليس"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 438 - 439.
2 معراج السالكين، ص 168.
3 (م.ن), ص169.
316
271
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
المفاهيم الرئيسة
1- الوسواسيّ هو شخصٌ مضطربٌ متردّدٌ شكّاكٌ، يصبح عالةً على غيره، يثير شفقة العقلاء، ويعيش عيش التّعساء.
2- الوسوسة عمليّة تشكيك بالثّوابت والمتواترات واليقينيّات والوجدانيّات التي تُعدّ جميعًا العمود الفقريّ لاستقامة الشّخصيّة وتكاملها.
3- تظهر الوسوسة كحالة قهريّة لا يمكن السّيطرة عليها. وفي أغلب الأحيان لا يستجيب الوسواسيّ لأيّة نصيحة، فهو يشكّك في أصل النّصيحة ويعجز عن تمييزها عن أيّ كلامٍ آخر.
4- بعض حالات الوسوسة تنتهي إلى ما يشبه الجنون. وبعضها ينتهي بخسائر فادحة. فمن أهمل معالجتها ـ لأيّ سببٍ كان ـ تخرج القضيّة عن إرادته بالكامل.
5- أنواع الوسوسة:
- الوسوسة في العقيدة: كالشك بوجود الله أو الحياة بعد الموت.
- الشكّ في الأمور الأخلاقيّة: من قبيل الشكّ في قبول التّوبة أو الصّلاح الذاتيّ. ومثل هذا الشكّ أمرٌ إيجابيّ ينشأ من معرفة حقيقة النّفس التي لا يمكن الوثوق بها أبدًا.
- الشكّ في الأمور العمليّة العباديّة: وهي الحالة الأكثر اشتهاراً، مثل الوسوسة في الوضوء، أو نيّة الصّلاة.
7- يؤدي إهمال هذا المرض إلى عدة آثار منها:
- بطلان الأعمال والحرمان من ثمارها، حيث تبطل العبادات وتفقد معناها ودورها الحقيقيّ.
- صرف العمر والهبات الإلهيّة بما لا ينبغي.
- الصدّ عن سبيل الله، لأنّ هذه الشّخصيّة منفّرة جدًّا للجاهلين بالدّين.
- ينجرّ أمر الوسواسيّ إلى أن يصبح ألعوبةً بيد الشّيطان.
317
272
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلِ الْقُرْآنَ لَنَا فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي مُونِساً، وَمِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ وَخَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ حَارِساً، وَلأَقْدَامِنَا عَنْ نَقْلِهَا إِلَى الْمَعَاصِي حَابِساً، وَلأَلْسِنَتِنَا عَنِ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ مِنْ غَيْرِ مَا آفَةٍ مُخْرِساً، وَلِجَوَارِحِنَا عَنِ اقْتِرَافِ الْآثَامِ زَاجِراً، وَلِمَا طَوَتِ الْغَفْلَةُ عَنَّا مِنْ تَصَفُّحِ الاِعْتِبَارِ نَاشِراً، حَتَّى تُوصِلَ إِلَى قُلُوبِنَا فَهْمَ عَجَائِبِهِ، وَزَوَاجِرَ أَمْثَالِهِ الَّتِي ضَعُفَتِ الْجِبَالُ الرَّوَاسِي عَلَى صَلاَبَتِهَا عَنِ احْتِمَالِهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وَأَدِمْ بِالْقُرْآنِ صَلاَحَ ظَاهِرِنَا، وَاحْجُبْ بِهِ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ عَنْ صِحَّةِ ضَمَائِرِنَا، واغْسِلْ بِهِ دَرَنَ قُلُوبِنَا وَعَلاَئِقَ أَوْزَارِنَا، وَاجْمَعْ بِهِ مُنْتَشَرَ أُمُورِنَا، وَأَرْوِ بِهِ فِي مَوْقِفِ الْعَرْضِ عَلَيْكَ ظَمَأَ هَوَاجِرِنَا، وَاكْسُنَا بِهِ حُلَلَ الأَمَانِ يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ فِي نُشُورِنَا"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾2.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام عند ختم القرآن.
2 سورة الأعراف، الآية 201.
318
273
الدّرس الثاني والعشرون: الوسوسة (1) - معناها، أنواعها ونتائجها
2- ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: "قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ أَنَا قُمْتُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيَّ شَيْءٍ أَقُولُ؟ فَقَالَ: "قُلْ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَهَا ذَهَبَ عَنْكَ رِجْزُ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَاسُهُ إِنْ شَاءَ (الله) تَعَالَى"2.
2- عَن الإمام أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: "إِنَّ التمنّي مِنْ عَمَلِ الْوَسْوَسَةِ وَأَكْثَرِ مَصَائِدِ الشَّيْطَانِ أَكْلَ الطِّينِ"3.
3- عَن الإمام حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: سَمِعْتُهُ يَقُول: "صَامَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى قِيلَ مَا يُفْطِرُ، ثُمَّ أَفْطَرَ، حَتَّى قِيلَ مَا يَصُومُ، ثُمَّ صَامَ صَوْمَ دَاووُدَ عليه السلام يَوْماً وَيَوْماً لَا، ثُمَّ قُبِضَ عَلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ، قَالَ: إِنَّهُنَّ يَعْدِلْنَ صَوْمَ الشَّهْرِ، وَيَذْهَبْنَ بِوَحَرِ الصَّدْرِ، وَالْوَحَرُ الْوَسْوَسَةُ"، قَالَ حَمَّادٌ: فَقُلْتُ: وَأَيُّ الْأَيَّامِ هِيَ؟ قَالَ: "أَوَّلُ خَمِيسٍ فِي الشَّهْرِ، وَأَوَّلُ أَرْبِعَاءَ بَعْدَ الْعَشْرِ مِنْهُ، وَآخِرُ خَمِيسٍ فِيهِ"4.
6- عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام، يَقُولُ: "عَلَيْكُمْ بِالرُّمَّانِ الْحُلْوِ فَكُلُوهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ مِنْ حَبَّةٍ تَقَعُ فِي مَعِدَةِ مُؤْمِنٍ إِلَّا أَبَادَتْ دَاءً، وَأَطْفَأَتْ شَيْطَانَ الْوَسْوَسَةِ عَنْهُ"5.
1 سورة الأعراف، الآية 200.
2 مستدرك الوسائل. ج1، ص 481.
3 الكافي، ج 6، ص 265.
4 بحار الأنوار، ج94، ص 101.
5 الكافي، ج6، ص 354.
319
274
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المناشئ المختلفة للوسوسة.
2- يشرح العلاقة بين ضعف العقل والوسوسة ويميّز بين الاحتياط والوسوسة.
3- يتعرّف إلى الخطوات العلميّة والعمليّة التي تجنّبنا الوقوع في الوسوسة.
321
275
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
تمهيد
نظرًا لانتشار حالات الوسوسة في ظلّ هيمنة الجهل والتجهيل على مجتمعاتنا، يتطلّب البحث منّا المزيد من تسليط الضّوء على كيفيّة تشكّل هذه الظّاهرة المرضيّة التي تترك القلب واهيًا وتذره كريشةٍ في مهبّ رياح الأحقاد الإبليسيّة.
إنّ المنشأ الأساسيّ لتلاعب الأفكار السّخيفة في الذّهن وسيطرتها على الحركة الفكريّة للإنسان هو في فسح المجال لعدوّنا اللدود إبليس الذي لا يترك فرصة لغزو الذّهن البشريّ إلّا وينتهزها. ولهذا يجب علينا أن نتعرّف إلى أهمّ ساحات الجهاد الأكبر التي غالبًا ما يتمّ إهمالها بسبب التّركيز على الجوانب العمليّة والمسلكيّة. ألا وهي ساحة الفكر والتّفكير. فهذه السّاحة المهمّة لا يمكن أن تتعطّل أو تؤجّل، لأنّها قوّة عاملة بلا اختيار، ولا يمكن للإنسان أن يتّخذ قرارًا بإيقاف التفكّر. ولهذا ما لم يسمح للأفكار البنّاءة بالجولان في ذهنه، فإنّ باب انبعاث الأفكار الهدّامة سيفتح على مصراعيه.
من أين تنشأ الوسوسة؟
أكّدت الأحاديث الكثيرة والآيات على أنّ الوسواس من أهمّ أعمال إبليس وجنوده، فالوسوسة عمليّة تشكيك بالثّوابت والمتواترات واليقينيّات والوجدانيّات التي تُعدّ جميعًا العمود الفقريّ لاستقامة الشّخصيّة وتكاملها. وفي قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾1, يقول الإمام الصّادق عليه السلام: "أي بشكّ"2.
1 سورة الأنعام، الآية 82.
2 العلامة المجلسي، مرآة العقول،ج5، ص9.
323
276
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
إنّ العالم التّكوينيّ يمثّل أعظم فرصة لتكامل الخلق، لأنّه واقعٌ ممتزجٌ بالحكمة والجمال والإبداع. وكذلك العالم التّشريعيّ، فإنّه منظومة محكمة تهدف إلى جعل حياة الإنسان مفعمة بالحيويّة والاندفاع والسّعادة والحبور.
ولكي يحرم الإنسان من هذين النّظامين، يلقي الشّيطان جميع أنواع الشّكوك حولهما، لكي لا يظهرا على جمالهما الأخّاذ. وعندما يستجيب الإنسان لهذه الوساوس، فإنّه يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى شخصٍ وسواسيّ، فيقوم بدور الشّيطان نفسه. أمّا في التّكوين، فمن خلال الإيحاء المستمرّ بأنّ طريق معرفته غير متيسّرة، وأنّها في غاية الصّعوبة، وأنّ البرهان الذي يمكن أن يوصل إليها عقيم و... وأمّا في التشريع فمن خلال صناعة هذه الشّخصيّة التّعيسة التي تُظهر للنّاس أنّ الدّين صعبٌ ومعقّد، وأنّه يشكّل للنّاس ضغوطًا كبيرة. وكم يحدث أن يحمد الفسّاق أنفسهم، لأنّهم لم يصبحوا متديّنين ملتزمين بالشّريعة، عندما يشاهدون أمثال هؤلاء الوسواسيّين.
ويشرح الإمام كيفيّة وصول الإنسان إلى هذه المرحلة بالإشارة إلى الاستعدادات الموجودة في البشر. وهو بذلك، يلفت أنظارنا إلى عدم الوقوع في التّفسيرات العشوائيّة والسّطحيّة السّاذجة الغالبة على العوام في تفكيرهم حيث يتصوّرون أنّ الوسوسة أمرٌ يحدث فجأة ودون سابق إنذار. ولأنّهم يعجزون عن تفسير مثل هذه الظواهر، يقولون بتلبّس الجّن وأمثاله:
الإلقاءات الشّيطانيّة
يقول الإمام الخيمنيّ قدس سره: "اعلم، أنّ الوسوسة والشكّ والتّزلزل والشّرك وأشباهها من الخطرات الشّيطانيّة والإلقاءات الإبليسيّة التي تُقذف في قلوب النّاس، كما أنّ الطّمأنينة واليقين والثّبات والإخلاص وأمثالها من الإفاضات الرّحمانيّة والإلقاءات المُلكيّة.
وتفصيل هذا الإجمال بصورة مختصرة هو: إنّ قلب الإنسان شيءٌ لطيفٌ متوسّطٌ بين نشأة المُلك ونشأة الملكوت، بين عالم الدّنيا وعالم الآخرة، عينٌ منه نحو عالم الدّنيا والمُلك، وبها يُعمّر هذا العالم، وعينٌ أخرى منه نحو عالم الآخرة والملكوت والغيب، وبها يُعمّر عالم الآخرة والملكوت. فالقلب بمثابة مرآة لها وجهان، وجهٌ منها نحو عالم الغيب، وتنعكس فيه الصّور الغيبيّة، ووجهٌ آخر نحو عالم الشّهادة وتنعكس فيه الصّور المُلكيّة
324
277
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
الدنيويّة. ويتمّ انعكاس الصّور الدّنيويّة من خلال القوى الحسّيّة الظّاهريّة وبعض القوى الباطنيّة، مثل الخيال والوهم. وتنتقش الصّور الأخرويّة فيها من باطن العقل وسرّ القلب. فإذا قويت الوجهة الدّنيويّة، والتفتت كلّيًّا إلى تعمير الدّنيا، وانحصرت همّته في هذا العالم واستغرق في ملاذ البطن والفرج، وكافّة المشتهيات والمتع الدّنيويّة، انعطف باطن الخيال نحو الملكوت السّفلي، الذي يكون بمثابة الظلّ المظلم لعالم المُلك والطّبيعة، وعالم الجنّ والشّياطين والنّفوس الخبيثة، وتكون الإلقاءات شيطانيّة، وباعثة على تخيّلات باطلة وأوهام خبيثة. وحيث أنّ النّفس تنتبه إلى الدّنيا، اشتاقت إلى تلك التّخيّلات الباطلة، وتبعها أيضًا العزم والإرادة، وتتحوّل كلّ الأعمال القلبيّة والقالبيّة إلى سنخ الأعمال الشّيطانيّة، من قبيل الوسوسة والشكّ والتّرديد والأوهام والخيالات الباطلة. وتصبح الإرادة على ضوء ذلك في مُلك الجسم فعّالة، وتتجسّد الأعمال البدنيّة أيضًا حسب الصّور الباطنيّة للقلب، لأنّ الأعمال صورة وتمثال للإرادات، التي هي صور ومثال للأوهام التي بدورها انعكاس لاتّجاه القلب.
وحيث إنّ وجهة القلب كانت نحو عالم الشّيطان، تكون الإلقاءات في القلب من سنخ الجهل المركّب الشّيطانيّ، وفي النّهاية تستشري من باطن الذّات، الوسوسة والشكّ والشّرك والشّبهات الباطلة، وتسري في كلّ أنحاء الجسم. وعلى هذا القياس المذكور، إذا كانت وجهة القلب نحو تعمير الآخرة، والمعارف الحقّة، وعالم الغيب، لحصل له وئام مع الملكوت الأعلى... وتدلّ على ذلك بعض الأخبار الشّريفة، مثل ما ورد في مجمع البيان عن العياشيّ: روى العيّاشي، بإسناده عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وَلِقَلْبِهِ فِي صَدْرِهِ أُذُنَانِ: أُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا المَلَكُ، وَأُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا الوَسْوَاسُ الخَنّاسُ، يُؤَيِّدُ الله المُؤْمِنَ بِالمَلَكِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه"1.
وفي مجمع البحرين، في حديث آخر، إنَّهُ قَالَ: "الشَّيْطَانُ واضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، لَهُ خُرْطُومٌ مِثْلُ خُرْطُومِ الخَنْزِيرِ، يُوَسْوِسُ لابْنِ آدَمَ أنْ أَقْبِلْ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا لاَ يُحِلُّ الله، فَإِذَا ذَكَرَ الله خَنَسَ"2، إلى غير ذلك من الرّوايات"3.
1 الطبرسي، مجمع البيان، ج10، ص 571.
2 الطريحي، الشيخ فخر الدين، مجمع البحرين، ج4، ص68.
3 الأربعون حديثًا، ص 433 - 435.
325
278
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
"إنّ الشّاهد على أنّ هذه الوساوس والأعمال من ألعاب الشّيطان وإلقاءات ذلك الملعون، وأنّه لا يوجد لها دافعٌ دينيّ وباعثٌ إيمانيّ، رغم زعم صاحبها أنّ دافعه أمرٌ دينيّ، هو أنّ هذه الوساوس تخالف أحكام الشّريعة وأخبار أهل بيت العصمة والطّهارة"1.
احتجاب الفطرة
"إنّ "الشكّ"، بمعناه العام الذي يشمل الجحود والتّكذيب والإنكار، هو من جنود الجهل، وخلاف الفطرة السليمة، وناتج من احتجابها بحجب الطّبيعة والأنانيّة، والاستبداد بالرأي والتمرّد والتّوجّه للنفس، وكلها تناقض فطرة الله"2.
اعتبار الوسوسة من الفضائل
"وقد تحدث الوسوسة أو تشتدّ من جرّاء أنّ جهلةً، كهذا الإنسان الوسواسيّ، يطرون عليه ويعتبرون وسوسته من الفضائل، ويثنون على ديانته وقدسيّته وتقواه، قائلين إنّه نتيجة شدَّة دينه وتقواه أصبح وسواسيًّا، مع أنّ الوسوسة لا ترتبط بالدّيانة أبدًا، بل هي مخالفة للدّين، ومن ثمار الجهل وعدم العلم. ولكنّهم لما لم يبيّنوا له حقيقة الأمر، ولم يبتعدوا عنه ولم يؤنّبوه، بل على العكس مدحوه وأثنوا عليه، استمرّ في عمله الشّنيع، حتّى بلغ نهايته وجعل نفسه لعبة بيد الشّيطان وجنوده، فأقصاه الشّيطان من ساحة قدس المقرَّبين"3.
السّفاهة وافتقاد العقل
"فهذا الشّقيّ الضّعيف العقل يرى هذا العمل الذي أتى به طاعةً للشّيطان ووسوسته، صحيحًا وموافقًا للاحتياط ويرى أعمال سائر النّاس باطلة. فمن هنا يُعلم وجه صدق الحديث الشّريف الذي عدّه بلا عقل. ويُعلم أنّ من يرى العمل الذي يخالف عمل رسول الله صحيحًا والعمل الذي يكون موافقًا لعمله صلى الله عليه وآله وسلم باطلًا، فهو إمّا خارج عن الدّين أو بلا عقل. وحيث إنّ هذا المسكين ليس بخارجٍ عن الدّين، فهو سفيه لا عقل له، ومطيع للشّيطان،
1 (م.ن)، ص 435.
2 جنود العقل والجهل، ص 361.
3 الأربعون حديثًا، ص 439.
326
279
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
ومخالف للرّحمن"1.
حبّ الظهور
فقد تبيّن لنا أنّ الوسوسة التي تجرّ إلى تلك المفاسد وغيرها، تنشأ من جرّاء تلك العقد النّفسيّة التي تجعل صاحبها شديد الولع بالظّهور وجلب الأنظار، ونتيجة خفّة عقله يوسوس له الشّيطان أنّ الوسوسة طريقة مناسبة للظّهور أمام النّاس بشدّة التديّن والقداسة ولأنّ حبّ الدّنيا والإقبال عليها قد أخذ بمجامع قلبه، فإنّ الشّيطان يتمكّن منه ويسيطر عليه مع بقاء اختياره، وذلك لأنّ مجاري نفوذ الشّيطان إلى مملكة الإنسان إنّما تفتح عندما تصبح وجهة القلب إلى هذه الدّنيا الفانية.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ جميع أشكال الشرك والشكّ هي نتيجةٌ لعدم تسليم الإنسان روحهُ للولي المطلق، وهو الحقّ تبارك وتعالى، فإذا أسلم روحهُ له أسلمت معها ممالكه الوجودية الأخرى. فأسلمت أعضاؤه الظاهرية وقواه المُلكية، ومعنى تسليمها أنّ لا تكون أيٌ من حركاتها وسكناتها بدافع من النفس والأنانية، بل أن قبضها وبسطها بيد الإرادة الإلهية"2.
"إنّ الذي يخالف النّصّ المتواتر وإجماع العلماء، هل يجب أن نعدّه من عمل الشّيطان أو من طهارة النّفس وتقواها؟ فإذا كانت هذه الوسوسة من جرّاء منتهى التّقوى والاحتياط في الدّين، فلماذا نجد الكثير من ذوي الوسوسة التي لا مبرّر لها والجهلة المتنسّكين، لا يحتاطون في مواضع يجب الاحتياط فيها أو يُستحب؟ هل سمعت أحدًا يعيش حالة الوسوسة في الشّبهات الماليّة؟ مَن من الوسواسين دفع الزّكاة والخمس مرّات عديدة؟ وذهب إلى الحجّ لأداء الواجب مرّات متكرّرة؟ وأعرض عن الطّعام المشتبه؟ لماذا كانت أصالة الحلّيّة في الأطعمة المشتبه جارية، وأصالة الطّهارة في مشكوك النّجاسة غير جارية؟ مع أنّه في باب مشكوك الحلّيّة من الرّاجح الاجتناب.
كان أحد الأئمّة المعصومين عليهم السلام إذا ذهب لقضاء حاجته رشّ الماء على فخذيه، حتى
1 معراج السالكين، ص170.
2 جنود العقل والجهل، ص 362.
327
280
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
إذا ترشحّت لدى الاستبراء أو الاستنجاء قطرات من الماء لم يحسّ بذلك ـ فهو لم يحتط ولم يتوسوس، وهذا المسكين الذي يرى نفسه محتذيًا حذو الإمام المعصوم عليه السلام وآخذاً دينه منه، لا يتّقي لدى التصرّف في الأموال، ولا يحتاط تجاه الطّعام، بل يتّكل على قاعدة أصالة الطّهارة ويأكل، ثمّ يقوم ويغسل فمه ويديه. إنّه حين الأكل يتمسّك بأصالة الطّهارة وبعد أن يشبع يقول كلّ شيء نجس، وإذا كان من أهل العلم برّر عمله هذا بأنّني أريد أن أصلّي مع الطّهارة الواقعيّة، مع أنّنا لم نعرف ميزة للصّلاة مع الطّهارة الواقعيّة. ولم يُنقل عن أحد من الفقهاء (رضوان الله عليهم) اعتبار الطّهارة الواقعيّة في الصّلاة. وعليه، إذا كنت من أهل الطّهارة الواقعيّة، فلماذا لم تكن من أهل الحلّيّة الواقعيّة؟
وإذا فرضنا أنّك أردت الطّهارة الواقعيّة، فما معنى الغسل في الماء الكرّ أو الجاري عشر مرّات؟ مع أنّه يكفي الغسل مرّة واحدة من غير البول أو بعض النّجاسات الأخرى في الماء الجاري أو في الماء الكرّ. وأمّا في البول فتكفي مرّة واحدة على المشهور، وتكفي مرّتان إجماعًا، فلا يكون الغسل لمرّات عديدة إلّا من تدليس الشّيطان وتسويل النّفس. وحيث إنّ ذلك لا يتطلّب جهدًا منّا نجعله رأس المال للتّظاهر بالقدسيّة"1.
كيف نعالج الوسوسة؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا المرض عندما يصل إلى مراحله الأخيرة، فإنّ صاحبه لن يفكّر في معالجته، وإن كان يشعر بالعناء الشّديد والشّقاء. فمثله كمثل الشّعور الّذي ينجم عن الحكاك، فيه ألم ولذّة. وترى أصحاب الإرادة الضّعيفة يستمرّون بالحكاك حتّى تتقرّح جلودهم!
فالعلاج يكون في حالتين:
الأولى: في بداية الوسوسة بالنّسبة للمريض نفسه، حيث يمكن للإنسان أن يلاحظ أنّه واقعٌ في مشكلة.
والثّانية: إذا بقي شيء من العقل، ولو استفحل المرض، لكنّ المعالج هنا يكون غيره.
1 الأربعون حديثًا، ص 436 - 437.
328
281
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فيا أيّها العزيز، بعد أن عُلم نقلًا وفعلًا بأنّ هذه الوساوس من الشّيطان، وهذه الخواطر من عمل إبليس، الذي يفسد عملنا، ويصرف قلوبنا عن الحقّ المتعالي... بعد علمنا ذلك، لا بدّ من السّعي في سبيل معالجة هذه الحالة بأيّ شكلٍ كان، وبواسطة أيّ ترويضٍ روحيّ ممكن"1.
العلاج العلميّ
1- اكتشاف المرض في النّفس
"اعلم، أنّ معالجة هذه الآفة القلبيّة التي يُخشى منها أن تؤدّي بالإنسان إلى الهلاك الأبديّ والشّقاء الدّائم، كبقيّة الأمراض القلبيّة، يمكن أن تتمّ بواسطة العلم النّافع والعمل بكلّ سهولةٍ ويسرٍ. فيجب أوّلًا أن يشعر الإنسان بأنّه سقيم، حتّى يسعى في سبيل المعالجة. ولكنّ النّقص يكمن في أنّ الشّيطان قد يزيّن له الأمور على مستوى لا يرى فيه هذا المسكين نفسه مريضًا، وإنّما الآخرون يرونه منحرفًا عن السّبيل، وغير مكترث بالدّين"2.
2- التّفكّر في حقيقة هذه الأعمال
"أمّا المعالجة لهذه الآفة القلبيّة بواسطة العلم، فيكون بالتفكّر في هذه الأمور المذكورة، حيث يجدر بالإنسان أن تكون أعماله وأفعاله نتيجة التّفكّر والتّأمّل. بأن يفكّر في أنّ هذا العمل الذي يريد أن ينجزه ويريد أن يجعله مرضيًّا لله تعالى من أيّ مصدرٍ يكون، وممّن يؤخذ، حتى تكون كيفيّته بذلك الشّكل المخصوص؟
ومن الواضح أنّ العوام من النّاس يأخذون من الفقهاء كيفيّة العمل ومراجع التّقليد يستنبطونها من الكتاب والسّنّة والقواعد الفقهيّة. وعندما نرجع إلى الفقهاء نسمع منهم القدح في عمل الوسواسيّ، ويرون بعض أعماله باطلة، وعندما نرجع إلى الأحاديث الشّريفة، والكتاب الإلهيّ نجد بأنّ عمله يعتبر من الشّيطان ويجعل صاحبه مجنونًا. إذاً، إنّ الإنسان العاقل إذا فكّر وتدبّر قليلًا قبل أن يهيمن الشّيطان على عقله لأوجب على نفسه الإقلاع عن هذا العمل الفاسد، ولسعى في سبيل تصحيح عمله حتّى يكون مرضيًّا
1 (م.ن)، ص 439 - 440.
2
329
282
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
عند الحقّ المتعال"1.
3- عرض العمل على الفقهاء
"ويجب على كلّ من يشكّ في حصول الوسوسة عنده، أن يكون مثل النّاس العوام، في عرض عمله على العلماء والفقهاء، والاستفهام منهم بأنّه هل ابتُلي عمله بمرض الوسوسة، أم لا لأنّه كثيرًا ما يكون الإنسان الوسواسيّ غافلًا عن حاله، ومعتقدًا بأنّه معتدل، وأنّ الآخرين غير مكترثين بالدّين. ولكنّه إذا فكّر قليلًا، لوجد أنّ مصدر هذا الاعتقاد هو الشّيطان وإلقاءاته الخبيثة، لأنّه يرى بأنّ العلماء والفقهاء الكبار ومن الذين يؤمن بعلمهم وعملهم، بل ويكونون مراجع المسلمين في أخذ مسائل الحلال والحرام منهم، يعملون بما يُغاير عمله. ولا يستطيع القول بأنّ الملتزمين غالبًا والعلماء والفقهاء لا يحفلون بدين الله، وأنّ الإنسان الوسواسيّ وحده يتقيّد بالدّين"2.
العلاج العمليّ
1- عدم الاعتناء بإلقاءات الشّيطان
"وعندما أدرك ضرورة إصلاح العمل، دخل مرحلة العمل، والعمدة في هذه المرحلة عدم الاهتمام بالوساوس الشّيطانيّة والأوهام التي تلقى عليه. فمثلًا إذا كان ـ مجتهدًا ـ ومبتليًا بالوسوسة في الوضوء، فليتوضّأ مع غَرفة واحدة رغم وسوسة الشّيطان. إنّ الشّيطان يوسوس ويقول بأنّ هذا العمل ليس بصحيح، ولكن يواجهه بأنّ عملي لو لم يكن صحيحًا لوجب أن لا يكون عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الطّاهرين عليهم السلام والفقهاء جميعًا صحيحًا، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطّاهرين قد توضّؤوا في فترة طويلة تقرب من ثلاثمئة سنة، وكانت كيفيّة وضوء جميعهم واحدة، فإذا كان عملهم باطلًا، فليكن عملي باطلًا أيضًا. وإذا كنت مقلّدًا لمجتهد، فأجيب الشّيطان بأنّني أعمل على ضوء فتوى المجتهد، فإذا كان وضوئي باطلًا، فلا يؤاخذني ربّي عليه، ولا تكون عليّ حجّته. وإذا أوقعك الشّيطان الملعون في الشكّ قائلًا بأنّ المجتهد لم يقل هكذا، فافتح رسالته العمليّة وتأكّد من صحّة العمل،
1 الأربعون حديثًا، ص 440.
2 (م.ن)، ص 440.
330
283
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
فإذا لم تعبأ بإلقاءاته عدّة مرّات وعملت على خلاف رأيه غدا آيسًا منك، ونرجو أن تكون المعالجة النهائيّة لمرضك كما ورد هذا المعنى في الأحاديث الشّريفة، فعن الشيخ الكليني، الكافي، بإسناده عن زرارة وأبي بصير، قالا: قُلْنَا لَهُ: الرَّجُلُ يَشُكُّ كَثيراً في صَلاَتِهِ، حَتَّى لا يَدْري كَمْ صَلّى، وَلاَ مَا بِقِيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "يُعيدُ". قُلْنَا لَهُ: فَإِنَّهُ يَكْثُر عَلَيْهِ ذلِكَ، كُلَّمَا أَعَادَ شَكَّ. قَالَ: "يَمْضِي فِي شَكِّهِ"، ثُمَّ قَالَ: "لاَ تُعَوِّدُوا الخَبِيثَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصّلاةِ فَتُطْمِعوهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ خَبِيثٌ يَعْتَادُ لِمَا عُوِّدَ، فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الوَهْمِ، وَلاَ يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصَّلاَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذلِكَ مَرّاتٍ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ الشَّكُّ. قَالَ زُرَارَةُ: ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا يُريدُ الخَبيثُ أَنْ يُطاعَ، فَإِذَا عُصِيَ لمْ يَعُدْ إِلَى أَحَدِكُمْ"1. وبإسناده، عن أبي جعفر عليه السلام، قالَ: "إذا كَثُرَ عَلَيْكَ السَّهْوُ، فَامْضِ فِي صَلاَتِكَ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَدَعَكَ إِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ"2.
ومن الوضوح بمكان، أنّك إذا خالفت الشّيطان فترة من الزّمان، ولم تلقِ بالًا لوساوسه، لانقطع طمعه عنك، وعادت الطّمأنينة والسّكون إلى نفسك"3.
2- التضرّع إلى الله والاستعاذة به
"ولكن في غضون أيّام تصدّيك للشّيطان، تضرّع إلى ساحة الحقّ المتعالي، والتجئ إلى ذاته المقدّسة من شرّ ذاك الملعون وشرّ النفس، واستعذ بالله منه وهو يعينك عليه كما ورد في الكافي الأمر بالاستعاذة من الشّيطان، بإسناده، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "أتى رَجُلٌ النَّبيَّصلى الله عليه وآله وسلم فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أشكو إلَيْكَ مَا ألقىَ مِنَ الوَسْوَسَةِ فِي صَلاَتِي، حَتّى لاَ أَدْرِي مَا صَلَّيْتُ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَقالَ: إِذَا دَخَلْتَ فِي صَلاَتِكَ فَاطْعَنْ فَخِذَكَ الأَيْسَرَ بِإصْبَعِكَ اليُمْنَى المُسَبِّحَةِ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ الله وَبِالله، تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، أعوذُ بِالله السَّمِيع العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم، فَإِنَّكَ تَنْحَرُهُ وَتَطْرُدُهُ"4"5.
3- التّمييز بين الاحتياط والوسوسة
1 الكافي، ج3، كتاب الصّلاة، باب من شكّ في صلاته، ج2، ص 358 - 359.
2 (م.ن).
3 الأربعون حديثًا، ص 440 - 441.
4 الكافي، ج3، ص 359 كتاب الصّلاة، باب من شكّ في صلاته، ح4.
5 الأربعون حديثًا، ص 441 - 442.
331
284
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
إنّ الفرق بين الاحتياط والوسوسة، هو أنّ الاحتياط قائمٌ على معرفة الحكم الشّرعيّ، ومعرفة الآراء المختلفة في الشّرع، ولا يعرفه إلّا القليل، كما يقول الإمام الخميني. ينبغي أن يكون هناك مسوّغ عقليّ وشرعيّ للاحتياط، الاحتياط يبدأ من العقل ويستند إلى الشّرع.
332
285
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
المفاهيم الرئيسة
1- منشأ الوسوسة:
- احتجاب الفطرة: إنّ الشكّ ناتج من احتجاب الفطرة بحجب الطبيعة والأنانيّة.
- اعتبار الوسوسة من الفضائل: وقد تحدث الوسوسة أو تشتدّ من جرّاء أنّ جهلةً، يطرون عليه ويعتبرون وسوسته نتيجة شدَّة دينه وتقواه أصبح وسواسيًّا.
- السّفاهة وافتقاد العقل.
- حبّ الظهور: فقد تنشأ الوسوسة من جرّاء تلك العقد النّفسيّة التي تجعل صاحبها شديد الولع بالظّهور وجلب الأنظار.
- الفراغ واللاهدفيّة: يقع الإنسان في الوسوسة نتيجة فراغ يعيشه في حياته، ويتّجه هذا الشّخص نحو الوسوسة انطلاقًا من هذا الفراغ لتعبئته لعلّه يضفي على حياته معنىً!
2- العلاج العلمي للوسوسة يكون بـ:
- اكتشاف المرض في النّفس.
- تّفكّر صاحب المرض في حقيقة أعماله، وعرضها على الفقهاء.
3- العلاج العملي للوسوسة يكون بـ:
- عدم الاعتناء بإلقاءات الشّيطان
- والتضرّع إلى الله والاستعاذة به ليعيذه من شرّ ذاك الملعون وشرّ النفس.
- لا بد من التّمييز بين الاحتياط والوسوسة.
333
286
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
هو دعاء للخضر عليه السلام، مَنْ قَالَهُ قَوْلًا أَوْ سَمِعَهُ سَمْعاً أَمِنَ الْوَسْوَسَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
"يَا شَامِخاً فِي عُلُوِّهِ، يَا قَرِيباً فِي دُنُوِّهِ، يَا مُدَانِياً فِي بُعْدِهِ، يَا رَؤوفاً فِي رَحْمَتِهِ، يَا مُخْرِجَ النَّبَاتِ، يَا دَائِمَ الثَّبَاتِ، يَا مُحْيِيَ الْأَمْوَاتِ، يَا ظَهْرَ اللَّاجِينَ، يَا جَارَ الْمُسْتَجِيرِينَ، يَا أَسْمَعَ السَّامِعِينَ، يَا أَبْصَرَ النَّاظِرِينَ، يَا صَرِيخَ الْمُسْتَصْرِخِينَ، يَا عِمَادَ مَنْ لَا عِمَادَ لَهُ، يَا سَنَدَ مَنْ لَا سَنَدَ لَهُ، يَا ذُخْرَ مَنْ لَا ذُخْرَ لَهُ، يَا حِرْزَ مَنْ لَا حِرْزَ لَهُ، يَا كَنْزَ الضُّعَفَاءِ، يَا عَظِيمَ الرَّجَاءِ، يَا مُنْقِذَ الْغَرْقَى، يَا مُنْجِيَ الْهَلْكَى، يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى، يَا أَمَانَ الْخَائِفِينَ، يَا إِلَهَ الْعَالَمِينَ، يَا صَانِعَ كُلِّ مَصْنُوعٍ، يَا جَابِرَ كُلِّ كَسِيرٍ، يَا صَاحِبَ كُلِّ غَرِيبٍ، يَا مُونِسَ كُلِّ وَحِيد،ٍ يَا قَرِيباً غَيْرَ بَعِيدٍ، يَا شَاهِداً غَيْرَ غَائِبٍ، يَا غَالِباً غَيْرَ مَغْلُوبٍ، يَا حَيُّ حِينَ لَا حَيَّ، يَا مُحْيِيَ الْمَوْتَى، يَا حَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: شَكَا رَجُلٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام كَثْرَةَ التَّمَنِّي وَالْوَسْوَسَةِ، فَقَالَ: "أَمِرَّ يَدَكَ عَلَى صَدْرِكَ، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ الله وَبِاللهِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، اللَّهُمَّ امْسَحْ عَنِّي مَا أَحْذَرُ، ثُمَّ أَمِرَّ يَدَكَ عَلَى بَطْنِكَ، وَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَمْسَحُ عَنْكَ وَيَصْرِفُ"، قَالَ الرَّجُلُ: فَكُنْتُ كَثِيراً مَا أَقْطَعُ صَلَاتِي مِمَّا يُفْسِدُ عَلَيَّ التَّمَنِّيَ وَالْوَسْوَسَةَ، فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ سَيِّدِي وَمَوْلَايَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَصَرَفَ الله عَنِّي وَعُوفِيتُ مِنْهُ، فَلَمْ أَحُسَّ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ2.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: "أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، الْغَالِبُ عَلَيَّ الدَّيْنُ وَوَسْوَسَةُ الصَّدْرِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: قُلْ تَوَكَّلْتُ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً"3.
3- عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي غُنْدَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "... وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ وَسْوَسَةَ الصَّدْرِ"4.
4- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ شَكَا إِلَيْهِ بَعْضُهُمُ الْوَسْوَسَةَ، فَقَالَ: إِذَا وَجَدْتَ فِي قَلْبِكَ شَيْئاً، فَقُلْ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ5.
1 بحار الأنوار، ج92، ص 174.
2 (م.ن)، ص 73.
3 الكافي، ج2، ص 554.
4 وسائل الشيعة. ج5، ص 61.
5 مستدرك الوسائل، ج6، ص 425.
334
287
الدرس الثالث والعشرون: الوسوسة (2) - منشؤها وطرق معالجتها
5- عن سعيد بنِ يَسَارٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: يَدْخُلُنِيَ الْغَمُّ، فَقَالَ::"أَكْثِرْ مِنْ أَنْ تَقُولَ: "الله الله رَبِّي، لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، فَإِذَا خِفْتَ وَسْوَسَةً أَوْ حَدِيثَ نَفْسٍ، فَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، عَدْلٌ فِيَّ حُكْمُكَ، مَاضٍ فِيَّ قَضَاؤُكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ نُورَ بَصَرِي، وَرَبِيعَ قَلْبِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وذَهَابَ هَمِّي، الله الله رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً"1.
1 الكافي، ج2، ص 561.
335
288
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى التسرّع ويميّز بينه وبين المسارعة.
2- يتعرّف إلى مناشئ التسرّع ومفاسده الفرديّة والاجتماعيّة.
3- يشرح كيف نتخلّص من التسرّع.
337
289
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
تمهيد
المسارعة والتّسرّع كلمتان متضادّتان في معناهما الأخلاقيّ، وإن كانتا من أصل واحد. فالمسارع هو الذي يتحرّك بنشاط وقوّة نحو هدفٍ محقّق ونتيجة واضحة. أمّا التسرّع فإنّه يريد تحقيق الأمر قبل أوانه، أو دون أن يعلم أوانه، ويتثبّت من حصوله.
المسارع، كما في قوله تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾1 عاقلٌ، لأنّه يدرك المقدّمات الموصلة ويلتزم بها دون توانٍ أو تكاسل. أمّا المتسرّع فهو شخصٌ لا يعطي للمقدّمات والأسباب العقلائيّة أيّة قيمة أو اهتمام، تراه يندفع بدافع الوصول إلى مشتهى النّفس. لهذا، فهو عبد الشّهوة، والشّهوة تقوده. وهو مع ذلك كثير الخطأ، كثير الندّامة، لأنّه يخالف سنّة الله في الأخذ بالأسباب اللازمة من إعداد العدّة وإنضاج الثّمرة.
وفي قوله تعالى: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾2، فإنّ من أدرك الكمال المطلق والخير المطلق عند ربّه، فإنّ فطرته السّليمة ستبعث فيه حالة من الاستعجال والشّوق الشّديد للوصول إلى الغاية والنّتائج. وحيث إنّ النّتائج عظيمة للغاية وفوق قدرته وفوق طاقته ونفسه، فمن الطّبيعيّ أن يتغلّب حضور هذه النّتيجة على الصّبر أو ما يُعبّر عنه بالتّؤدة، حتّى أنّه يغلب الطمأنينة، ويتسبّب باضطرابٍ شديد، فيبعث النّفس حتّى تخرج من هذا الاضطراب والفوران أن تسرع... فعلى هذا الأساس نقول إنّ المسارعة التي هي ناشئة من العجلة إلى الله هي الثّمرة الطّيّبة للعجالة الإيجابيّة. وإنّما نقول مسارعة ولا نقول تسرّع، لسببٍ بسيط،
1 سورة آل عمران، الآية 133.
2 سورة طه، الآية 84.
339
290
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يهدي هذا الإنسان، ويأخذ بيده من أن يحرق المراحل ويدوس على المقدّمات اللازمة. وكيف لا يكون كذلك، من كان الله هاديه ومعشوقه الذي يحبّ لقاءه.
ماهيّة الشّخصية المتسرّعة
جاء في الحديث عن الإمام الصّادق عليه السلام أنّ من جنود العقل التّؤدة وضدّها التسرّع، فإنّ الإمام الخمينيّ قدس سره يعرّف التسرّع بتعريف ضدّه، لأنّ الأشياء تعرف بأضدادها، فيقول: "التُّؤدَة" على وزن "هُمَزَة" تعني التثبّت في الأمر، وكذلك الرّزانة والتّأنّي، وكذلك الطّمأنينة والثّقل في الحركة يقابلها التسرّع في كلّ هذه الموارد"1.
و"يظهر أنّ المراد من "التُّؤدَةِ" في هذا الحديث الشّريف، وبدليل مقابلتها للتسرعِ، هو "التّأنّي" وهو عبارة عن اعتدال القوّة الغضبيّة التي يكون التّسرّع طرف الإفراط فيها، كما صرّح بذلك بعض المحقّقين الأجلّاء، واعتبروا الطّمأنينة النّفسيّة من فروع الشّجاعة... وقد يكون المراد من "التُّؤدَة" التّثبّت، وهو أيضًا من ثمار اعتدال القوّة الغضبيّة ومن فروع الشّجاعة، ويعني تحلّي النّفس بالثّبات والاستقامة في تحمّل الشّدائد وطوارق الحدثان المتنوّعة، وعدم الفرار منها بسرعة واجتناب الخفّة والضّعف والتّهاون والانفعال في مواجهتها، سواء أكانت عوارض أخلاقيّة وروحيّة، أم طبيعيّة وبدنيّة.
إن النفس المتحلِّية بالثبات والاستقامة لا تنهار في مواجهة المصاعب الروحية، بل تثبت في الشدائد دون أن تسمح لها بأن تسلب منها شيئاً من الطمأنينة والاستقامة، ولعلّ في الآية الكريمة ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾2 إشارة إلى هذا المقام من مقامات النفس.
ولا يخفى أن التحلِّي بهذه الروحيّة في التعامل الاجتماعي هو من أهم المهمات وأصعبها في الوقت نفسه، ولذلك روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "شيبتني سورة هود لمكان ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾3"، لعلَّ اختصاصه هذه الآية بذلك رغم وجود آية مماثلة لها في سورة الشورى، يرجع إلى قوله تعالى في ذيلها ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾، وهذا غير موجود في آية سورة الشورى، إذ التحلّي بالاستقامة مع الأمّة أمرٌ في غاية الصعوبة.
1 جنود العقل والجهل، ص 321.
2 سورة هود، الآية 112.
3 مجمع البيان للطبرسي، ج5، ص304.
340
291
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
وعلى أي حال فإن من ثمار التحلّي بالثبات والاستقامة ثبات الإنسان وعدم فراره عند اشتداد المعارك، وتحمّل صعابها، وعدم التهاون في الذب عن النواميس الإلهية، مثلما أنه يستقيم ويثبت في مواجهة الصعاب الروحية فلا يفقد الطمأنينة والاستقامة النفسية"1.
منشأ التسرّع
إنّ أوّل ما يلاحظ في الشّخصيّة المتسرّعة هو كثرة وقوعها في الأخطاء التّي تؤدّي إلى الضّرر ـ سواء على مستوى النّفس أو الغير. ولو فرضنا شخصًا متسرّعًا، لكنّه لا يقع في الخسائر، فهو في الواقع سريع وليس متسرّعًا. ويعد الخوف على المآرب الدنيوية الفانية والحرص على اللذات والشهوات من أهم الأسباب التي توقع الإنسان في التسرّع كما يقول الإمام الخميني قدس سره: "فكثرة الوقوع في الأضرار والخسائر من علامات ضعف العقل، الذي يسمح للقوّتين الغضبيّة والشّهويّة بالاستيلاء على مملكة وجود الإنسان. وحينها، فإنّ مثل هذا الشّخص وبمجرّد أن يرى أنّ ما تشتهيه نفسه يكاد يزول أو يُفوته، فإنّه يسرع إلى الحصول عليه دون أن يجعل للعقل دورًا في تقدير الأمور. فتكون القوّة الشّهويّة سببًا في الاندفاع، حيث تؤمّن القوّة الغضبيّة قوّة الاندفاع الّذي يؤدّي إلى التّسرّع. فالشّهوة دون العقل كالحيوان يسيل لعابه رغبةً، لكنّه لا يتحرّك. وهنا تلعب القوّة الغضبيّة دور إطلاق سراح هذا الحيوان دون حسابٍ أو تدبير. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ولا ريب في كون جميع أشكال العجلة والتسرّع والتّذبذب وعدم الاستقرار ناشئةً من خوف عدم الحصول على المآرب النّفسيّة واللذات والشّهوات الحيوانيّة، أو من فقدان هذه المآرب الحيوانيّة"2.
بعض آثار التسرّع
1- الاضطراب وعدم الثّبات
عندما تترسّخ هذه الحالة في النّفس ينشأ منها اضطرابٌ وهيجانٌ دائم، ويُسلب صاحبها حالة الطّمأنينة والثّبات، فيعيش في الدّنيا عيش الأشقياء، وينتقل إلى ذاك العالم صفر
1 جنود العقل والجهل، ص323.
2 (م.ن), ص 326.
341
292
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
اليدين، حيث فقد فرصته الوحيدة لمعرفة الله تعالى التي تحصل من حالة السّلام مع موجودات العالم. يقول الإمام الخميني قدس سره: "التسرّع، فهو من الملكات القبيحة، ويؤدّي إلى عدم استقرار الإنسان وخفّته في كل حال وسرعة انهياره وإفلات زمام الأُمور من يديه، فلا هو يثبت في تحمّل الصعاب الروحية، ولا يثبت في مواجهة الشدائد الجسمية"1.
2- الانحراف عن جادّة الحقّ
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "يؤدّي هذا الخلُق القبيح إلى ظهور الكثير من المفاسد الفرديّة والاجتماعيّة في المدينة الفاضلة. فما أكثر ما يدفع المبتلى به إلى الانهيار والإعراض عن القيام بالواجبات الإلهيّة والروحيّة عند تعرّضه لأدنى الصّعوبات، فتغلبه النّفس والشّيطان، ويبعدانه عن سلوك طريق الحقّ تعالى، ويصير إيمانه لعبة بأيديهما، فيفقد بالكامل شعار دينه ومذهبه وكرامته، لأنّ طمأنينة النّفس واستقامتها هي التي تعطي الغلبة للإنسان في مواجهة جنود الجهل، وتحفظه في مجابهة حزب الشّيطان، وتجعله يسيطر على قوّتي الغضب والشّهوة، فلا يستسلم لهما، بل هي التي تُسخّر لطاعته جميع قواه الباطنيّة والظاهريّة"2.
إنّ أشدّ ما يحتاجه المجاهد في ساحتي الجّهاد الأصغر والأكبر هو الثّبات، وعندما يفقد المجاهد هذه الحالة، فإنّ عدوّه سيتمكّن منه بسهولة. ولهذا، عدّ رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم التسرّع من سلاح الشّياطين، لأنّ المواجهة في ساحة الجّهاد هي في الحقيقة والباطن مع الشّياطين، وليس للشّيطان من أسلحة أمضى وأشدّ من النّفس الأمّارة والضّعيفة والجاهلة.
3- حبّ الدّنيا
ولا يحتاج الإنسان إلى قوّة الإيمان لكي لا يكون عجولًا، فإنّ التّجارب التي ينتفع منها العقلاء تفيد بأنّ المتسرّع سيُبتلى بأنواع الخسائر والأضرار. لكن ها هنا نكتة مهمّة، وهي أنّ غير المؤمن لا بدّ له أن يقع في العجالة والتسرّع، لأنّ غير المؤمن الذي فقد معنى الآخرة
1 جنود العقل والجهل، ص 324.
2 (م.ن), ص 324.
342
293
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
لا بدّ وأن يصبح دنيويًّا. ومن أحبّ الدّنيا وتعلّق بها لا يمكن أن يرى حياتها وفرصها إلّا فوات المطالب والمآرب، فهي هكذا فعلًا. ومن جانبٍ آخر لن يستطيع مثل هذا الشّخص أن يتخلّى عن هذه المآرب، لأنّها المعنى الوحيد الذي يتبقّى له من الحياة، فمهما بلغت حكمة الحكيم الدّنيويّ، فإنّه سيقع في العجالة يومًا ما.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "أمّا الدعاء استعجالًا، وهو دعاء العامّة، فهم يستعجلون في الدّعاء، لأنّهم أسرى المقاصد النّفسيّة، ويخافون فوات المقاصد الدّنيويّة أو الأغراض الحيوانيّة"1.
كيف نقضي على التسرّع؟
1- معرفة الله وتوحيده
فإذا علمنا أسباب التسرّع ومخاطره، فإنّنا ندرك لماذا اعتبر الإمام أنّ معرفة الله تعالى وتوحيده هي الّتي تؤدّي إلى زوال هذه الملكة القبيحة.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ القلب الذي أشرق فيه نور التّوحيد ومعرفة الكمال المطلق يتحلّى بالطّمأنينة والثّبات والتّأنّي والاستقرار، وإنّ القلب الذي تنوَّر بمعرفة الحقّ ـ جلَّ وعلا ـ يرى عيانًا أنّ مجاري الأمور بيد قدرته تعالى، ويرى نفسه واجتهاده وحركته وسكونه هو، وكذلك حركات وسكنات جميع الموجودات صادرة منه تبارك وتعالى، لأنّ زمام أمورها ليس بيدها، بل بيده عزَّ وجلّ، مثل هذا القلب لا يعتريه اضطراب أو تسرّع أو تذبذب. وعلى العكس منه حال القلب المحتجب، المحروم من معرفة الله، الواقع في حجب التوجّه للنّفس والشّهوات واللذات الحيوانيّة، فهو مضطربٌ لخوفه فوات اللذات الحيوانيّة، فصاحبه فاقدٌ للطّمأنينة يقوم بأعماله بعجلةٍ وتسرُّع"2.
"وعلى أيّ حال، فإنّ من ثمار التحلّي بالثبات والاستقامة ثبات الإنسان وعدم فراره عند اشتداد المعارك، وتحمّل صعابها، وعدم التهاون في الذبّ عن النواميس الإلهية، مثلما أنّه يستقيم ويثبت في مواجهة الصعاب الروحيّة، فلا يفقد الطمأنينة والاستقامة النفسيّة.
1 جنود العقل والجهل، ص 326.
2 (م.ن), ص 326.
343
294
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
... إنّ ملكة الثّبات والاستقامة هي التي تجعل الإنسان ثابتًا كالسدِّ المنيع في مواجهة مختلف أشكال صعاب الدّهر والضّغوط الرّوحيّة والجسميّة، فلا ينحرف ولا ينهار ولا يتهاون، وهي التي تحفظ ـ بطمأنينة النفس وسكون الرّوح ـ قوّة الإيمان بيسر وسهولة، وتحمي الإنسان حتّى النّفس الأخير في مجابهة عواصف ابتلاءات هذا العالم العاتية، وهي التي تمنع أخلاق الغرباء والمنافقين وملكاتهم من النّفوذ إلى روحه، وتحفظه من أن يكون لعبةً في أيدٍ تسوقه حيثما شاءت، وتجعله ـ باستقامة نفسه وطمأنينتها ـ وحدهُ أمّةً واحدة ثابتًا شامخًا كجبلٍ من حديد، حتى إذا أغرقت سيول الانحرافات الأخلاقيّة النّاس جميعًا، لم يستوحش من ثباته لوحده في مجابهة الجميع.
إنّ الإنسان يستطيع القيام بجميع الواجبات الفرديّة والاجتماعيّة، فلا ينحرف ولا يسقط في المعاصي، في أيّة مرحلة من مراحل حياته المادّيّة والرّوحيّة، وذلك ببركة التحلّي بهذه القوّة الرّوحانيّة العظيمة، أي ملكة الاستقامة والطّمأنينة. فبها قام قادة الدّين في وجه الملايين من الجاهلين دون أن يسمحوا لكثرة هؤلاء بأن توجد فيهم أدنى وهن، وهذه الرّوح العظيمة هي التي جعلت الأنبياء العظام ينهضون فرادى لمواجهة العقائد الجاهليّة، الباطلة التي سيطرت على العالم، دون أن يدخلهم أدنى خوف أو رهبةٌ بسبب وحدتهم وكثرة مخالفيهم، وبها تغلّبوا على تلك العقائد الجاهليّة وغيّروا العادات التي أوجدتها في النّاس، واستبدلوها بصبغتهم التّوحيديّة.
إنّ روح الاستقامة المقترنة بالطّمأنينة هي التي حفظت الفئات القليلة في مواجهة الفئات الكثيرة، بل ومكّنتها من فتح البلدان والممالك القويّة والسّيطرة عليها مع قلّة العِدَّة والعَدَد، لذلك فَقَدْ أولاها القرآن الكريم مزيد الاهتمام، وقال: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾1. وهذا ما تحقّق بالفعل"2.
ويُفهم من هذا البيان أنّ الشّخص المتسرّع هو في الحقيقة بعيدٌ عن أنوار التّوحيد، الّذي يعني فيما يعنيه أنّ الله تعالى متكفّلٌ بتدبير أمورنا على الصّورة الأصلح والأجمل. فإنّ من اعتقد بهذه الحقيقة، وآمن بها، سيسعى جهده لمشاهدة تجلّياتها في كلّ حياته. والسّبيل
1 سورة الأنفال، الآية 65.
2 جنود العقل والجهل، ص 323 - 325.
344
295
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
الوحيد هو أن يمشي مع التّدبير الإلهيّ ولا يسبقه. ومعنى التّماشي مع التّدبير الإلهيّ، كما أسلفنا، هو رعاية نظام الأسباب الإلهيّ. فلا سبيل للإنسان الذي يريد شهود هذا التّوحيد سوى أن يشاهد حصوله في حياته، ولا سبيل لمشاهدة حصوله إذا كان المرء متسرّعًا، لأنّ المتسرّع شخصٌ يجعل الأسباب وراء ظهره، فكيف له أن يراها؟ فهذا هو العلاج العلميّ.
2- تصّنع التّؤدة
أمّا العلاج العمليّ، فيعتمد على تصنّع التّؤدة وتكلّفها، لأنّ من شأن السّلوكيّات السّليمة إذا استدامت أن تنتقل إلى النّفس، فتصبح ملكة راسخة فيها.
يقول الإمام: "نتيجة شدّة الاتّصال والوحدة بين المقامات النّفسيّة، فإنّ جميع أحكام الباطن تسري إلى الظّاهر مثلما أنّ جميع أحكام الظّاهر تسري إلى الباطن، ولذلك أولت الشّريعة المطهّرة الاهتمام البالغ لحفظ الظّاهر، فشرَّعت آدابًا وأحكامًا حتّى لكيفية الجلوس والقيام والمشي والكلام، لأنّ لجميع الأعمال الظاهريّة ودائع تتركها لدى النّفس والرّوح، وتؤدّي إلى إحداث تغييرات كلّية في الرّوح.
فمثلاً، إذا تسرّع الإنسان في المشي، أوجد ذلك حالَ تسرّع في روحه، وإذا كانت في روحه حالٌ من التسرّع، ظهرت آثارها على ظاهره أيضًا، وكذلك الحال إذا التزم الوقار والسّكينة والطّمأنينة في أعماله الظّاهريّة ـ حتّى لو كان ذلك على نحو التكلّف ـ ظهرت وترسّخت في باطن روحه تدريجيًّا ملكة الطّمأنينة، وهي من كرائم الصّفات، ويصدر منها الكثيرُ من الخيرات والكمالات"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 322.
345
296
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- المسارع هو الذي يتحرّك بنشاط وقوّة نحو هدفٍ محقّق ونتيجة واضحة. أمّا المتسرّع فإنّه يريد تحقيق الأمر قبل أوانه أو دون أن يعلم أو يتثبّت من حصوله.
2- المتسرّع شخصٌ لا يعطي للمقدّمات والأسباب العقلائيّة أيّة قيمة أو اهتمام، يندفع بدافع الوصول إلى مشتهى النّفس. لهذا، فهو عبد الشّهوة، والشّهوة تقوده.
3- أهم خصائص الشخصية المتسرّعة: كثرة الوقوع في الأخطاء، ضعف العقل والذي يظهر بعدم الأخذ بالأسباب، خروج القوّتين الشهويّة والغضبيّة عن حدّ الاعتدال, الاضطراب وعدم الثّبات، حبّ الدّنيا.
4- عندما لا يحصر الإنسان التّأثير بالله، ولا يرى حكمةً إلهيّة ربّانيّة في الأمور والتدبير، فإنّه يلجأ إلى نفسه لمعرفة وتحديد المقدّمات أو الشّروط أو الظّروف التي توصل إلى المآرب والمطالب. ومثل هذا الإنسان لن يصل إلى هذه الحكمة ولن يتعرّف على هذه المقدّمات.
5- يوصلنا التسرع إلى: عدم الثّبات في القيام بالتّكليف والانحراف عن جادّة الحقّ، فقدان البصيرة والوقوع في الخسران، عدم الاستفادة من أهل الحكمة.
6- إنّ معرفة الله تعالى وتوحيده هي الّتي تؤدّي إلى زوال هذه الملكة القبيحة، لأنّ القلب الذي تنوَّر بمعرفة الحقّ ـ جلَّ وعلا ـ يرى عيانًا أنّ مجاري الأمور بيد قدرته تعالى، فلا يعتريه اضطراب أو تسرّع أو تذبذب.
7- يعتمد العلاج العمليّ على تصنّع التّؤدة وتكلّفها، لأنّ من شأن السّلوكيّات السّليمة إذا استدامت أن تنتقل إلى النّفس فتصبح ملكة راسخة فيها.
346
297
الدّرس الرابع والعشرون: التسرّع، ماهيته، آثاره وطرق معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"إِلَهِي إِلَيْكَ أَشْكُو نَفْساً بِالسُّوءِ أَمَّارَةً، وَإِلَى الْخَطِيئَةِ مُبَادِرَةً، وَبِمَعَاصِيكَ مُوْلَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تَسْلُكُ بِي مَسَالِكَ الْمَهَالِكِ، وَتَجْعَلُنِي عِنْدَكَ أَهْوَنَ هَالِكٍ، كَثِيرَةَ الْعِلَلِ، طَوِيلَةَ الأَمَلِ، إِنْ مَسَّهَا الشَّرُّ تَجْزَعُ، وَإِنْ مَسَّهَا الْخَيْرُ تَمْنَعُ، مَيَّالَةً إِلَى اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، مَمْلُوَّةً بِالْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ، تُسْرِعُ بِي إِلَى الْحَوْبَةِ، وَتُسَوِّفُنِي بِالتَّوْبَةِ"1.
الروايات الشريفة:
1- عَنِ الإمام الْحَسَنِ المجتبى عليه السلام: "لَمَّا حَضَرَتْ وَالِدِي الْوَفَاةُ، أَقْبَلَ يُوصِي، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا بُنَيَّ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ وَقْتِهَا، وَالزَّكَاةِ فِي أَهْلِهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا، وَالصَّمْتِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ التَّسَرُّعِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْزَمِ الصَّمْتَ تَسْلَمْ"2.
2- عَنْ الإمام جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "التَّسَرُّعُ مِنْ سِلَاحِ الشَّيَاطِينِ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى الله مِنَ الْأَنَاةِ وَاللِّينِ"3.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاك والتسرّع إلى العقوبة، فإنّها ممقتة عند الله ومقرّب من الغير"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قلّة العفو أقبح العيوب، والتسرّع إلى الانتقام أعظم الذنوب"5.
5- عَن أمير المؤمنين عليه السلام أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ فِيمَا عَهِدَ إِلَيْهِ: "وَإِيَّاكَ وَالتَّسَرُّعَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ لِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ تَبِعَةً"6.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِيَّاكَ والْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانٍ، أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ، أَوْ (أَنْ) تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ، أَوِ التَّسَرُّعَ إِلَى الرَّعِيَّةِ بِلِسَانِكَ، فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ، وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْت"7.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من طبائع الجهّال التسرّع إلى الغضب في كلّ حال"8.
1 الصحيفة السجادية، مناجاة الشاكين.
2 وسائل الشيعة، ج27، ص 167.
3 بحار الأنوار، ج72، ص 148.
4 غرر الحكم، ص 465.
5 (م.ن)، ص 465.
6 مستدرك الوسائل، ج11، ص 120.
7 بحار الأنوار، ج74، ص 265.
8 غرر الحكم، ص 302.
347
298
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى حقيقة الحرص المذموم ومنشاءه.
2- يذكر أهمّ علامات الشخصيّة الحريصة.
3- يشرح كيفيّة التخلّص من الحرص.
350
299
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
تمهيد
الحرص في باب الرّذائل هو الحرص على الدّنيا، وفي باب الفضائل هو الحرص على الآخرة والأمور المعنويّة والكمالات. وقبل الخوض في بيان شناعة الحرص الدّنيويّ وآثاره في هذه الحياة وفي الآخرة، نحتاج إلى التوقّف قليلًا عند معنى الدّنيا وحقيقتها وقوانينها وسننها الكبرى، فإنّ من عرف ذلك، أدرك سبب قبح الحرص، قبل أن يعرف آثاره.
يخلط الكثيرون بين الدّنيا والأرض، ويظنّون أنّ حبّ الدّنيا عبارة عن حبّ مخلوقات الله في هذا العالم. لكنّ الأمر ليس كذلك، فهناك فرقٌ كبيرٌ بين مفهوم الدّنيا ومفهوم الأرض. فالدّنيا هي الاعتبارات التي تنشأ من فهمنا الخاطئ لموجودات الأرض. فعندما نجهل سرّ خلق الأولاد والذّهب والفضّة والأنعام والنّساء وغيرها من مواد الأرض، فمن المتوقّع أن ينشأ التعلّق القلبيّ بها. إنّ الله قد جعل ما على الأرض زينةً لها1، والإنسان المغرور يظنّ أنّها زينة له. وإنّ الله قد ضمن للإنسان رزقه من الأرض، وكفاه أمور عيشه، والجاهل فيها يظنّ أنّ مواردها ونعمها منقطعة محدودة لا تكفيه. وإنّ الله تعالى قد وضع في مواد الأرض من الإمكانات ما يجعل حياة الإنسان متّجهة نحو آفاق السّماء، بما تعنيه السّماء من آيات العظمة الإلهيّة، والأعمى يراها منتهى بصره.
كلّ هذا الجهل، بماهيّة الأرض ودورها في حياة الإنسان، أوجد أرضيّة خصبة لنشوء مجموعة من الخصال السيّئة والتّوجّهات البغيضة في نفوس البشر، وتشكّلت بتبع ذلك تصوّرات خاطئة حول ما في الأرض، فكانت الدّنيا.
1 قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا﴾ سورة الكهف، الآية 7.
352
300
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
إنّ الإنسان، الذي سقط ضحيّة الاعتبارات، يظنّ أنّ كثرة المال والولد تزيده عزّةً وسؤددًا، بينما لم تكن الأموال ولا الأولاد في المشروع الإلهيّ إلّا لعمارة الأرض، من أجل أن تصبح منسجمةً مع رحلة الإنسان العروجيّة إلى الله.
ما هو الحرص على الدّنيا؟
يعرّف الإمام الخمينيّ قدس سره هذه الخصلة القبيحة، قائلًا: "أمّا حقيقة الحرص فهي عبارة عن شدّة توقان النّفس للدّنيا وشؤونها، وكثرة تمسّكها بالأسباب، ومقتضى ذلك توجّه القلب لأهل الدنيا وكثراتها"1.
ونلاحظ أنّ كثرة التمسّك بالأسباب من علائم الحرص، حيث يؤدّي إلى شدّة توجّه القلب إلى أهل الدّنيا. وينبغي أن نتوقّف قليلًا عند هذه النّقطة، لما يمكن أن تقدّمه من تفسير للكثير من الحالات النّفسيّة والسّلوكيّات الاجتماعيّة والتّصرّفات المرتبطة بالعلاقات بين البشر.
وقضيّة التّمسّك بالأسباب تستدعي بحثًا مفصّلًا، لأنّ أكثر الحريصين على الدّنيا يدّعون أنّهم إنّما يراعون الأسباب التي أمر الله تعالى بالأخذ بها، ولا شكّ بأنّ رعاية الأسباب تُعدّ من الحكمة التي من يؤتاها فقد أوتي خيرًا كثيرًا. والحكيم هو الذي يفهم نظام الأسباب وعالم القوانين المرتبط بالأرزاق والإمكانات. لكن، ما هو الفرق بين الحكيم والحريص؟ وهل أنّ عدم الحرص يعني إهمال الأسباب؟
يجيب الإمام الحسين عليه السلام على جانبٍ من هذه القضيّة، قائلًا لِرَجُل: "يَا هَذَا، لَا تُجَاهِدْ فِي الرِّزْقِ جِهَادَ الْغَالِبِ، وَلَا تَتَّكِلْ عَلَى الْقَدَرِ اتِّكَالَ مُسْتَسْلِمٍ، فَإِنَّ ابْتِغَاءَ الرِّزْقِ مِنَ السُّنَّةِ، وَالْإِجْمَالَ فِي الطَّلَبِ مِنَ الْعِفَّةِ. وَلَيْسَت الْعِفَّةُ بِمَانِعَةٍ رِزْقاً، وَلَا الْحِرْصُ بِجَالِبٍ فَضْلًا. وَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ، وَالْأَجَلَ مَحْتُومٌ، وَاسْتِعْمَالَ الْحِرْصِ جَالِبُ الْمَآثِمِ"2.
ولكي نفهم القضيّة من جميع الجهات، نتطلّع إلى التوكّل الذي هو ضدّ الحرص. وسوف نخصّص له فصلًا كاملًا إن شاء الله عند دراسة الشّخصيّات الفاضلة.
1 جنود العقل والجهل، ص 205.
2 مستدرك الوسائل، ج13، ص35.
353
301
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
فالتوكّل على الله حالة قلبيّة، يشعر معها المؤمن بضرورة إيكال النتائج إلى الله مهما كانت، ولا تستقرّ هذه الحالة في القلب إلا بعد أن يلتزم المؤمن بما هو مسؤول عنه ومكلّفٌ به. فقد أمرنا الله تعالى بالتوكّل عليه في السّعي والجهاد، بمعنى أن لا نقلق فيما إذا كنا سننجح أو ننتصر، ولا يفهم أيّ عاقل أنّ التوكّل هو التواكل والقعود وترك السّعي.
فالحرص الذي هو ضدّ التوكّل أمرٌ قلبيّ كذلك، وهو مرضٌ يصيب الإنسان لأسبابٍ سنشير إليها قريبًا. إلّا أنّ أخطر ما فيه ـ وهو لبّ القضيّة ـ عدم الثّقة بمواعيد الله وسنّته التي عمّت وشملت جميع السّنن، بل إنّ جميع سنن العالم وقوانينه توصل إلى سنّة إلهيّة عظيمة هي ما عبّر عنه بكلام أمير المؤمنين عليه السلام: "من طلب الآخرة طلبته الدّنيا، حتى يستوفي رزقه منها"1، وفي كلامٍ آخر له عليه السلام: "قَدْ تُكُفِّلَ لِكُمْ بِالرِّزْقِ، وَأُمِرْتُمْ ...بَالْعَمَلِ، فَلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ، مَعَ أَنَّهُ واللهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ، وَدَخِلَ الْيَقِينُ، حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعِ عَنْكُمْ"2.
ولو أنّ الإنسان كان حريصًا فعلًا على التمسّك بالأسباب المؤدّية إلى الرّزق، لما انكبّ على الجمع وتكديس الثّروة. وقد ثبت عند العقلاء ـ بما لا يدع مجالًا للشكّ ـ أنّ تكديس الثّروات وادّخارها، الذي هو عين الحرص، من أعظم أسباب الفقر والمشاكل الاقتصاديّة. فالحريص، ولشدّة طمعه، يعمى عن عالم الأسباب التي توصل إلى الرّفاه والازدهار والبركة والوفرة، ويتّجه نحو البخل والشحّ والمنع والجمع بلا طائل. كما أنّه من المعروف أنّ من عمل وفق أسباب الرّزق، رُزق الاستغناء عن النّاس، والحريص متوجّهٌ إليهم متعلّقٌ بهم أشدّ التعلّق. إلّا أنّه - وللأسف - يجهل أكثر النّاس ما هي الأسباب الواقعيّة، ويضعون مكانها أمورًا بعنوان الأسباب. فعلى سبيل المثال، يظنّ هؤلاء أنّ كثرة العمل مجلبة للرّزق، في حين أنّ الشّغل الزّائد عن الحدّ يؤدّي إلى مشاكل كثيرة على مستوى البدن والنّفس والابداع والالتفات إلى الفرص وغيرها.
1 نهج البلاغة، ص552.
2 (م.ن)، ص169.
354
302
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
والكثير من أهل التّجارة والحرف لا يعتنون ـ بسبب كثرة انشغالهم بالجمع ـ بالنّظافة المتعلّقة بمحلّ عملهم، فيُبتلون في القريب العاجل بفوضى عارمة تمنعهم من المحافظة على معدّاتهم ولوازمهم.
والاتّزان الرّوحيّ، وقوّة النّفس التي تحصل من العبادة، تعطي صاحبها قدرة هائلة، تمكّنه من رؤية الأمور الدّنيويّة وغيرها بصورة أوضح بكثير، الأمر الذي يحتاجه كلّ طالب للرّزق والدّنيا.
ولهذا، ذُكر الحرص بأنّه من جنود الجهل، لما يتسبّبه من عظيم الضّرر للإنسانيّة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "بعد أن اتّضحت حقيقة التوكّل وفضائله، يتّضح أيضًا معنى الحرص ـ وهو ضدّه ـ وآثاره السيّئة وهو من كبار جنود الجهل وإبليس، بل قلّ نظيره من بين شباك إبليس في التأثير على الإنسان"1.
و"(الحرص) هو بنفسه شرّ، وممّا يستلزمه الشرّ، وممّا يؤدّي إلى الشرّ"2.
وقد عرفنا أنّ الجهل ضدّ العقل، لا العلم. "والعقل هو حفظ التّجارب"3، كما قال أمير المؤمنينعليه السلام في حديث يشير فيه إلى أحد أبعاد العقل في الحياة البشريّة. ولو كان الإنسان عاقلًا واعتبر من التّجارب، لما صار حريصًا على الدّنيا أبدًا.
ما هي علائم الحرص؟
1- حبّ المال وطول الأمل
يقول الإمام قدس سره: "وقد يكثر في سنّ الشيخوخة حرص الإنسان وطمعه وحبّه للمال، ويزداد طول أمله، وقد أثبتت التجربة ذلك"4. ويُعلم من هذا الكلام الملكوتيّ أنّ على الإنسان أن يراقب حياته، لأنّ الحرص إذا وُجد في النّفس وتهاون في القضاء عليه، يشتدّ مع مرور الزّمن. وتحكي التّجارب أنّ سنّ الأربعين وما يليها يشهد بروزًا واضحًا لهذه الحالة القبيحة، فكم من أناس كانوا معروفين بعدم الاعتناء بالدّنيا وحاجاتها، حتّى إذا تجاوزوا
1 جنود العقل والجهل، ص 211.
2 (م.ن)، ص205.
3 نهج البلاغة، ص 402.
4 الأربعون حديثًا، ص 306.
355
303
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
الأربعين، تعجّبوا من كثرة ما صار يعتريهم من همّ الدّنيا وشوؤنها، كلّ ذلك لأنّ من يهمل أمر مجاهدة النّفس، سيقع لا محالة في فخّها، وإن طال الزّمن.
2- التّهاون في أمور الآخرة
ومن علامات الحريص ما ذكره الإمام بصورة بليغة فيما يتعلّق بتعامل الإنسان مع قضيّة الدّنيا والآخرة: "فإنّ أصحاب هذه النفوس (المغرورة) يتهاونون في أمور الآخرة، ويسمّون تهاونهم رجاءً وثيقًا، ويضفون عليه صبغة التوكّل والثّقة بعظمة الحقّ تعالى، لكنّهم ينهمكون بكلّ حرصٍ وطمع وعجلة في الاكتناز والجمع فيما يرتبط بالأمور الدنيويّة، وكأنّ الله عظيم فقط فيما يرتبط بالآخرة وشؤونها، ولا عظمة له - والعياذ بالله من هذا القول - فيما يرتبط بالأمور الدنيوية"1.
ويظهر هذا الأمر في برنامج الحريص العباديّ: "فإنّ ترك الواجبات الماليّة، مثل دفع الزّكاة والخمس وأداء الحجّ، ناشىءٌ من الحرص على جمع المال، وترك الواجبات البدنيّة، مثل الصوم والصّلاة ونظائرهما، ناشىءٌ من الحرص على تنمية البدن"2.
وهذه هي الحياة الدّنيا، لن تخلو من الفتنة، فهي "دارٌ بالبلاء محفوفة"3، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام. وعمّا قريب سينكشف الحرص الذي اختبأ في زوايا القلب الخفيّة، قال أبو عبد الله عليه السلام: "أغنى الغنى، من لم يكن للحرص أسيراً"4.
ما هي آثار الحرص ونتائجه؟
1- إبعاد الإنسان عن الحقّ
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وقلّما تجد نظيرًا (للحرص) في تقريب الإنسان من الدّنيا، وإبعاده عن الحقّ تعالى، وعن الاعتصام بذاته المقدّسة جلّ وعلا"5. ويُعلم سبب هذا إذا التفتنا إلى أنّ من أهمّ أسرار الحياة الدّنيا أن يتعرّف الإنسان إلى ربّه. وإنّ معرفة الله إنّما
1 جنود العقل والجهل، ص 131.
2 (م.ن)، ص237.
3 نهج البلاغة، ص 348.
4 الكافي، ج2، ص316.
5 جنود العقل والجهل، ص 205.
356
304
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
تحصل من خلال التّجربة التي يعيشها في هذه الحياة التي تمثّل فرصته الوحيدة لإنشاء هذه العلاقة والوصول إلى هذه المعرفة، وإنّ تجربة الحياة الدّنيا كلّها يمكن اختصارها بقضيّة الرّزق والتّعامل معه. والحريص شخصٌ لا يريد أن يعيش تجربة الرّزق الإلهيّة، وكأنّه يقول للّه إنّني لا أريد أن أشاهد أياديك عليّ، عميت عين لا تراك عليها رقيبًا.
2- الهلاك النّفسي
والأثر الآخر للحرص هو الهلاك النّفسيّ، الذي يعني خنق النّفس ومنعها من الاتّجاه نحو عالم الرّوح والمعنويّات السّامية، كما جاء في الحديث الذي يشرحه الإمام قدس سره: "مثل الحريص على الدّنيا مثل دودة القزّ، كلّما ازدادت من القزّ على نفسها لفّا، كان أبعد لها من الخروج، حتّى تموت غمّا"1. فيقول قدس سره: "ولكنّنا نحن المساكين نلفّ حول أنفسنا باستمرار - وكما تفعل دودة القزّ - خيوط الآمال والأماني، والحرص والطّمع، وحبّ الدنيا وزخرفها، فنهلك نفوسنا داخل هذا الحجاب"2.
3- احتجاب الفطرة ونشوء الرّذائل
وبتبع ذلك، تحتجب الفطرة عن توجيه وجهة الإنسان نحو الفضائل، فتنشأ تلك الرّذائل الكثيرة بسبب الحرص. يقول الإمام الخميني قدس سره: "وهذا الخلق الفاسد يُعدّ من لوازم الفطرة المحجوبة، ومن جنود الجهل، لأنّ جميع أسسه مقامة على الجهل، والجهل بحدّ ذاته ناشئٌ من احتجاب الفطرة ـ.. وهذا يدفع الإنسان إلى التعلّق بالدّنيا، ويقوّي جذور شجرة حبّها في قلبه، ويزيّن له زخارفها، ويورث فيه مجموعة من الأخلاق والأعمال القبيحة مثل البخل، والطّمع، والغضب، ومنع الحقوق الإلهيّة الواجبة، وقطيعة الرّحم، وترك صلة الإخوان المؤمنين، وأمثالها من الصّفات التي يشكّل كلٌّ منها سببًا مستقلًّا لهلاك الإنسان3.
1 الكافي، ج2، ص134.
2 جنود العقل والجهل، ص 194.
3 (م.ن)، ص 211 - 212.
357
305
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
4- الإخفاق في عمليّة التخلية والتحلية
ويُحرم الإنسان بسبب الحرص من التحلّي بالفضائل، أو النّجاح في عالم المعنويّات.
يقول الإمام قدس سره: "إنّ المجتهد في تهذيب الباطن وتصفية القلب وتعديل الأخلاق، لن ينجح في قطع جذور أيِّ من الموبقات والمهلكات النفسيّة، مع بقاء حبّ الدنيا والنّفس، ولن ينجح مع بقاء هذا الحبّ في التحلّي بأيِّ من الفضائل النّفسيّة. وسرّ ذلك هو أنّ مبدأ كلّ تهذيب تعديل القوى الثلاث: الواهمة الشيطانيّة، والشهويّة البهيميّة، والغضبيّة السّبعيّة، في حين أنّ الحرص على الدّنيا وحبّها يخرجان هذه القوى عن حدِّ الاعتدال. واشتعال نار الشّهوة والغضب هو من آثار حبّ النّفس والدّنيا، وبه تخرج القوّة الواهمة من حال الاعتدال، ويكون تحرّكها على وفق إرادة الشيطان"1.
5- فقدان الراحة والطّمأنينة
ويؤدّي الحرص إلى سلب الإنسان الرّاحة التي يحتاج إليها لإكمال المسير المعنويّ، كما رُوي في الوسائل عن الإمام الصّادق عليه السلام: "حُرِمَ الْحَرِيصُ خَصْلَتَيْنِ، وَلَزِمَتْهُ خَصْلَتَانِ، حُرِمَ الْقَنَاعَةَ فَافْتَقَدَ الرَّاحَةَ، وَحُرِمَ الرِّضَا فَافْتَقَدَ الْيَقِينَ"2.
يقول الإمام قدس سره: "الحرص هو من آثار الجهل بالمقام المقدّس للحقّ ـ جلّ وعلا ـ وقدرته الكاملة ورأفته ورحمته الواسعة، لذلك فإنّ المحتجب عن الحقّ تعالى، والمتوجّه إلى الأسباب العاديّة، والذي يراها مستقلّة في فاعليّتها، يتشبّث بها ـ عمليًّا وقلبيًّا ـ فينقطع عن الحقّ، وتزول الطّمأنينة والثّقة بالله من نفسه، ويحلّ محلّها الاضطراب والتزلزل، ولأنّ الأسباب العاديّة لا تحقّق له ما يطمح إليه ولا تطفئ نار حاجته، لذا فإنّ حال الاضطراب والتّوقان، والتّمسّك والتّشبّث بالدّنيا وأهلها، تشتدّ فيه كلّ يوم، حتّى تغرقه بالكامل في بحر الدّنيا"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 236 - 237.
2 وسائل الشيعة، ج 16، ص 20.
3 جنود العقل والجهل، ص 205.
358
306
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
6- الذلّ والوضاعة
ويورثه الذلّ والوضاعة في المجتمع الذي يمكن أن يقدّم له الكثير من فرص التّكامل، فعن أمير المؤمنين عليه السلام عندما سُئل: أيّ ذلّ أذلّ؟ أنّه قال: "الحرص على الدنيا"1.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "لو أعطي جميع العالم بأرضه وسمائه لهذا الإنسان الحيواني، لما خمدت فيه نار الحرص والطمع، ولو سُخّرت له ممالك العالم كافّة لما حدّت من تطلّعه للمزيد، في حين أنّ الحيوانات الأخرى تسكن شهواتها إذا حصلت على طعمتها، فلا تطلب المزيد حينئذٍ، ولو وجد في بعضها - وهذا نادر - من يحرص على جمع الأطعمة للمستقبل فحرصه على ذلك محدود وضعيف، فالنّمل يجمع في الرّبيع والصّيف ما يأكله في الشّتاء، ولو كان قادرًا في الشّتاء على الخروج من أوكاره وأكل رزقه، فربّما لم يكن يشتغل بجمع الطعام. وعلى أيّ حال، فالذي يجمع هنا هو نفسه الذي يأكل ما جمع، أمّا في الإنسان فلا يتّضح الأساس الذي يجمع إستناداً إليه، فإذا كان الجمع لأجل استهلاكه ومعيشته، فلماذا يستمر في الجمع، ويشتدّ حرصه عليه، حتى بعد تأمين ما يحتاجه؟! إذاً، فالإنسان المتّبع لهواه أضلّ وأشدّ وضاعة من جميع الحيوانات والبهائم، فلهذه هدف من الجمع، أمّا هو فلا هدف له من ذلك، بل هو ضيّع هدفه وغايته"2.
7- إفناء الأمم
أمّا على مستوى المجتمع، فيقول الإمام قدس سره: "كما أنّ الإنسان إذا تمرّد على الأوامر الرّحمانيّة والعقلائية، وخضع لسلطة الشّيطان والجهل، فإنّ الصفات الحيوانيّة تظهر في أشدّ ممّا هي عليه في جميع الحيوانات، فقوّة غضبه وشهواته تحرق العالم برمّته، وتهدّ أركانه، وتفني موجوداته، وتهدم أساس الحضارة والتديّن، ويحدث أحيانًا أن يؤدّي غضب إنسانٍ واحدٍ أو حبّه للرّئاسة إلى تدمير مئات العوائل وانهيار قوم بأجمعهم، فالذي لا حدّ له
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص59.
2 جنود العقل والجهل، ص 114.
359
307
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
هو غضب الإنسان وشهواته وحرصه وطمعه الذي لا يسكّنه شيء. والإنسان هو الذي يرسل ـ بمغالطاته وشيطنته ومكره وخداعه ـ الأُسر الكثيرة إلى مقابر العدم، والعوائل التي لا يحصى عددها إلى وادي الهلاك"1.
8- المصير جهنّم
إلى أن ينتهي الأمر في الآخرة بصورة نعجز عن وصفها، "فالذين زرعوا في نفوسهم الملكة الفاسدة والرّذيلة السّيّئة الباطلة، كالطّمع والحرص والجدال والشّره وحبّ المال والجاه والدّنيا وباقي الملكات، فلهم جهنّم لا يمكن تصوّرها، لأنّ تصوّر تلك لا يمكن أن تخطر على قلبي وقلبك، بل تظهر النّار من باطن النّفس ذاتها، وأهل جهنّم أنفسهم يفرّون رعبًا من عذاب أولئك"2.
وفي قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى * إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾3، يقول الإمام الخميني قدس سره: "أيّ كلامٍ معجزٍ هذا الذي يعجز كلّ بيان (بشريّ) عن نظم معناه، بل وعن إضفاء لباس التّرجمة على (قامة قيامته)، فما من ترجمة، مهما كانت دقيقة، وما من بيان، مهما كان بليغًا، يمكن أن يوصل ما توصله هذه الآيات دون نقصان، "كلا" مرتبطة بالآيات السّابقة لها، والمعنى هو أنّه ما من شيء يستطيع إنقاذ الإنسان من العذاب في ذلك اليوم المهول حتّى لو افتدى بزوجته وأبنائه ومن في الأرض جميعًا، فهو مقبل على جهنّم المتأجّجة نارًا، والتي تذيب اللحم والجلد والعصب والعروق وتفصلها عن العظام، وتدعو إليها من أدبر عن الحقّ تعالى، وانشغل في دنياه بجمع المال والحصول على الشّهوات"4.
1 جنود العقل والجهل، ص 113.
2 الأربعون حديثًا، ص 45.
3 سورة المعارج، الآيات 15 - 21.
4 جنود العقل والجهل، ص 212.
360
308
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
من أين ينشأ الحرص؟
يذكر الإمام مجموعة من العوامل التي تؤدّي إلى نشوء هذا الخلق الفاسد، بعضها أشدّ من بعض، فمنها:
1- الجهل بالله
"الحرص هو من آثار الجهل بالمقام المقدّس للحقّ ـ جلّ وعلا ـ وقدرته الكاملة ورأفته ورحمته الواسعة، لذلك فإنّ المحتجب عن الحقّ تعالى، والمتوجّه إلى الأسباب العاديّة والذي يراها مستقلّة في فاعليّتها، يتشبّث بها ـ عمليًّا وقلبيًّا ـ فينقطع عن الحقّ، وتزول الطّمأنينة والثّقة بالله من نفسه، ويحلّ محلّها الاضطراب والتزلزل. ولأنّ الأسباب العاديّة لا تحقّق له ما يطمح إليه ولا تطفئ نار حاجته، لذا فإنّ حال الاضطراب والتّوقان، والتّمسّك والتّشبّث بالدّنيا وأهلها تشتدّ فيه كلّ يوم، حتّى تغرقه بالكامل في بحر الدّنيا"1.
ويقول قدس سره: "... وهو ينشأ من الجهل بالحقّ تعالى وتوحيده وأسمائه وصفاته ومجاري قضائه، فإنّ صاحب هذا الخلق القبيح والخصلة المهلكة غافلٌ عن الحقّ تعالى وقدرته ونعمه، بل هو داخلٌ ـ حسب عقيدة أهل المعرفة ـ في حدّ الشرك والكفر"2.
2- احتجاب الفطرة
"لو أُعطي كلّ العالم، بأرضه وسمائه، لهذا الإنسان الحيوانيّ لما خمدت فيه نار الحرص والطّمع. ولو سُخّرت له ممالك العالم كافّة، لما حدّت من تطلّعه للمزيد. في حين أنّ الحيوانات الأخرى تسكّن شهواتها إذا حصلت على طعامها، فلا تطلب المزيد حينئذٍ. ولو وُجد في بعضها ـ وهذا نادر ـ من يحرص على جمع الأطعمة للمستقبل، فحرصه على ذلك محدودٌ وضعيفٌ، فالنّمل يجمع في الرّبيع والصّيف ما يأكله في الشّتاء. ولو كان قادرًا في الشّتاء على الخروج من أوكاره وأكل رزقه، فربّما لم يكن يشتغل بجمع الطّعام. وعلى أيّ حال، فالذي يجمع هنا هو نفسه الذي يأكل ما جمع، أمّا في الإنسان فلا يتّضح الأساس الذي
1 جنود العقل والجهل، ص205.
2 (م.ن), ص 211.
361
309
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
ينطلق منه للجمع! فإذا كان الجمع لأجل استهلاكه ومعيشته، فلماذا يستمرّ في الجمع ويشتدّ حرصه عليه حتى بعد تأمين ما يحتاجه؟!"1... "فلا يخفى أنّ الحرص وما يستلزمه وما يؤدّي إليه ناشئٌ من احتجاب الفطرة، فهو من جنود الجهل وإبليس... وهذا الخُلق الفاسد يُعدّ من لوازم الفطرة المحجوبة ومن جنود الجهل، لأنّ جميع أسسه مقامة على الجهل، والجهل بحدّ ذاته ناشئ من احتجاب الفطرة"2
3- الافتقار إلى غير الله
"لا بدّ من معرفة أنّ الغنى من الأوصاف الكماليّة للنّفس، بل يكون من الصّفات الكماليّة للموجود بما هو موجود. ولهذا، يكون الغنى من الصّفات الذّاتيّة للحقّ المقدّس جلّ وعلا، وإنّ الثّروة والأموال لا توجب الغنى في النّفس، بل نستطيع أن نقول إنّ من لا يملك غنىً في النّفس، يكون حرصه تجاه المال والثّراء والمنال أكثر، وحاجته أشدّ... والأثرياء، وإن ظهروا في مظهر الغنى، ولكنّهم بالتمعّن يتبيّن أنّ حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم. فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء، ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج"3.
4- حبّ الدّنيا
"وإنّ غنى القلب والكرامة وعزّة النفس والحرّيّة كلّها من لوازم عدم الاعتناء بالدّنيا، كما أنّ الفقر والذلّة والطّمع والحرص والاستعباد والتملّق من لوازم حبّ الدّنيا"4.
"إن حبّ الدنيا والنّفس بمثابة الجذر الأصلي لشجرة الإنسان، ومنه يتفرّع الحرص والطّمع وحبّ الزّوجة والبنين والمال والجاه وأمثالها. فإن كانت هذه الفروع ضعيفة في نفس الإنسان مثل النّبتة الفتيّة، لم يكن من الصّعب فصل الإنسان عنها، ونقله إلى العالم الآخر فلا يحتاج الأمر في هذه الحال إلى شدّة الضغط من قبل ملائكة الله الموكلين بقبض الرّوح، ولا إلى شدّة الضّغط على روح الإنسان ونفسه. ولكن إذا امتدّت ـ لا سمح الله جذور تلك الفروع الخبيثة في أرض عالم الطّبيعة وترسَّخت وانتشرت فيها، فإنّ رسوخها وانتشارها لن يكون مثل رسوخ جذور الشّجرة وانتشارها، لأنّه سيمتد إلى جميع أرجاء عالم الطّبيعة، كما أنّ الشجرة مهما
1 جنود العقل والجهل، ص 114.
2 (م.ن)، ص211.
3 الأربعون حديثًا، ص 476 - 477.
4 معراج السالكين، ص62.
362
310
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
كبُرت لا تمتدّ جذورها في الأرض لأكثر من بضعة أمتار، ولكنّ جذور شجرة حبّ الدنيا تمتدّ في جميع أرجاء عالم الطبيعة الظّاهرة منها والباطنة، فتخضع جميع العالم لشهوات فروع هذه الشّجرة الخارجية، ولهذا لن يكون ممكنًا قلع هذه الشّجرة بسلام!"1.
كيف نتخلّص من الحرص؟
لأجل التخلّص من أيّة رذيلة أخلاقيّة، يحتاج الإنسان إلى الجهاد العلميّ والعمليّ. والجهاد العلميّ هنا عبارة عن إيصال المعارف المتعلّقة بالتّوحيد - خصوصًا التّوحيد الأفعاليّ والتّوحيد في الرّازقيّة - إلى مرحلة اليقين، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "مِنْ صِحَّةِ يَقينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أنْ لا يُرْضِيَ النّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلا يَلومَهُمْ عَلى ما لَمْ يؤتهِ الله، فَإنَّ الرِّزْقَ لا يَسوقُهُ حِرْصُ حَريصٍ، وَلا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كارهٍ، وَلَوْ أَنَّ أحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَما يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَما يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ"، ثُمَّ قالَ: "إنَّ الله بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرّاحَةَ فِي الْيَقينِ وَالرِّضا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ"2 أهل اليقين يعلمون بأنّ الحرص والاكتساب لا يجلبان الرّزق، فلا يلومونهم على ما لم يؤتهم الله"3.
والجهاد العمليّ ها هنا يقتضي أن نسعى لترسيخ حالة "التوكّل على الله" في القلب من خلال التّجربة العمليّة التي نعيشها مع الله يومًا بعد يوم، والتي تورثنا حالة الثّقة به وبحسن تدبيره، يقول الإمام قدس سره: "أجل، إنّ الغنى والاستغناء وعزّة النّفس وكمالها إنّما يتحقّقان بالتوكّل على الحقّ تعالى والثّقة به، فالذي يتوجّه إلى باب الغنيّ المطلق لسدّ فقره، ويتعلّق قلبه به تعالى، ويقطع طمعه عن المخلوق الفقير، يحلّ الاستغناء والغنى عن المخلوق في قلبه، ويستوطنان فيه. في حين أنّ كل فقر وذلّة وعجز ومنّة ناتجة من الحرص والطّمع بما في أيدي المخلوق الضّعيف، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾4، أي يقطعه
1 جنود العقل والجهل، ص 251 - 252.
2 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين، ح2.
3 الأربعون حديثًا، ص 586.
4 سورة الطلاق، الآية 3.
363
311
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
عن الطّمع بما عند المخلوق، وفي ذلك منتهى عزّة النّفس وعظمتها وغناها عن الآخرين"1.
وكذلك تذكّر الآخرة وما يتقدّمها، من الموت الذي يحضر بقوّة في الحياة الدّنيا، كما قال الإمام الصّادق عليه السلام: "ذِكْرُ الْمَوْتِ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ فِي النَّفْسِ، وَيَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ، وَيُقَوِّي النَّفْسَ بِمَوَاعِدِ اللهِ، وَيُرِقُّ الطَّبْعَ، وَيَكْسِرُ أَعْلَامَ الْهَوَى، وَيُطْفِئُ نَارَ الْحِرْصِ، وَيُحَقِّرُ الدُّنْيَا"2.
أمّا الحرص الإيجابيّ، كما في قوله تعالى: ﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾3.
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾4.
وهو الذي يُشار إليه تحت عنوان الذّكاء العاطفيّ.
1 جنود العقل والجهل، ص 207.
2 مستدرك الوسائل، ج2، ص105.
3 سورة النحل، الآية 37.
4 سورة التوبة، الآية 128.
364
312
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
المفاهيم الرئيسة
1- الحرص عبارة عن شدّة توقان النّفس للدّنيا وشؤونها، وكثرة تمسّكها بالأسباب. ومقتضى ذلك توجّه القلب لأهل الدنيا وكثراتها.
2- الدّنيا هي الاعتبارات التي تنشأ من فهمنا الخاطئ لموجودات الأرض. فعندما نجهل سرّ خلق الأولاد والذّهب والفضّة والأنعام والنّساء وغيرها من مواد الأرض، فمن المتوقّع أن ينشأ التعلّق القلبيّ بها.
3- الحرص الذي هو ضد التوكّل هو أمرٌ قلبيّ، وأخطر ما في الحرص، عدم الثّقة بمواعيد الله وسنّته التي عمّت وشملت جميع السّنن.
4- أكثر الحريصين على الدّنيا يدّعون أنّهم إنّما يراعون الأسباب التي أمر الله تعالى بالأخذ بها، إلا أنّ الحريص، ولشدّة طمعه يعمى عن عالم الأسباب التي توصل إلى الرّفاه والازدهار والبركة والوفرة، ويتّجه نحو البخل والشحّ والمنع والجمع بلا طائل.
5- من أهم علامات الحرص: حبّ المال وطول الأمل. والتّهاون في أمور الآخرة.
6- يؤدي الحرص إلى: إبعاد الإنسان عن الحقّ. احتجاب الفطرة ونشوء الرّذائل. الإخفاق في عمليّة التخلية والتحلية. فقدان الراحة والطّمأنينة. الدخول إلى جهنّم.
7- ينشأ الحرص من: الجهل بالله. احتجاب الفطرة. الافتقار إلى غير الله. حبّ الدّنيا. طغيان القوّة الشّهويّة.
8- العلاج العلميّ للحرص: إيصال المعارف المتعلّقة بالتّوحيد ــ خصوصًا التّوحيد الأفعاليّ والتّوحيد في الرّازقيّة ـ إلى مرحلة اليقين.
9- العلاج العمليّ للحرص: السّعي لترسيخ حالة التوكّل على الله في القلب من خلال التّجربة العمليّة التي نعيشها مع الله يومًا بعد يوم، والتي تورثنا حالة الثّقة به وبحسن تدبيره.
365
313
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْسِرْ شَهْوَتِي عَنْ كُلِّ مَحْرَمٍ، وَازْوِ حِرْصِي عَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ، وَامْنَعْنِي عَنْ أَذَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَمُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ"1.
"... وَأَعِذْنِي مِنْ سُوءِ الرَّغْبَةِ وَهَلَعِ أَهْلِ الْحِرْصِ، وَصَوِّرْ فِي قَلْبِي مِثَالَ مَا ادَّخَرْتَ لِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَأَعْدَدْتَ لِخَصْمِي مِنْ جَزَائِكَ وَعِقَابِكَ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ سَبَباً لِقَنَاعَتِي بِمَا قَضَيْتَ، وَثِقَتِي بِمَا تَخَيَّرْتَ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ"2.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من جمع له مع الحرص على الدّنيا البخل بها، فقد استمسك بعمودي اللؤم"3.
2- عن أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: "كَانَ فِيمَا أَوْصَى بِهِ رَسُولُ اللهصلى الله عليه وآله وسلم عَلِيّاً عليه السلام، يَا عَلِيُّ، أَنْهَاكَ عَنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ عِظَامٍ: الْحَسَدِ وَالْحِرْصِ وَالْكَذِبِ"4.
3- سئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَنِ الْحِرْصِ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "طَلَبُ الْقَلِيلِ بِإِضَاعَةِ الْكَثِير"5.
4- عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "الْحَرِيصُ مَحْرُومٌ، وَهُوَ مَعَ حِرْمَانِهِ مَذْمُومٌ فِي أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ مَحْرُوماً وَقَدْ فَرَّ مِنْ وَثَاقِ الله وَخَالَفَ قَوْلَ الله عَزَّ وَجَلَّ، حَيْثُ يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾، وَالْحَرِيصُ بَيْنَ سَبْعِ آفَاتٍ صَعْبَةٍ: فِكْرٍ يَضُرُّ بَدَنَهُ وَلَا يَنْفَعُهُ، وَهَمٍّ لَا يَتِمُّ لَهُ أَقْصَاهُ،
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في طلب العفو والرحمة.
2 (م.ن)، دعاؤه عليه السلام إذا اعتدي عليه أو رأى من الظالمين ما لا يحب.
3 غرر الحكم، ص 261.
4 بحار الأنوار، ج16، ص 370.
5 مستدرك الوسائل، ج12، ص 60.
366
314
الدّرس الخامس والعشرون: الحرص ، معناه، منشؤه وعلاجه
وَتَعَبٍ لَا يَسْتَرِيحُ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ، (وَيَكُونُ عِنْدَ الرَّاحَةِ أَشَدَّ تَعَباً)، وَخَوْفٍ لَا يُورِثُهُ إِلَّا الْوُقُوعَ فِيهِ، وَحُزْنٍ قَدْ كَدَرَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ بِلَا فَائِدَةٍ، وَحِسَابٍ لَا يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِ (اللَّهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الله عَنْهُ)، وَعِقَابٍ لَا مَفَرَّ لَهُ مِنْهُ وَلَا حِيلَةَ"1.
5- عن أَبي عَبْدِ الله عليه السلام: "أُصُولُ الْكُفْرِ ثَلَاثَةٌ، الْحِرْصُ وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْحَسَدُ فَأَمَّا الْحِرْصُ فَإِنَّ آدَمَ عليه السلام حِينَ نُهِيَ عَنِ الشَّجَرَةِ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أَنْ أَكَلَ مِنْهَا، وَأَمَّا الِاسْتِكْبَارُ فَإِبْلِيسُ حَيْثُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لآِدَمَ فَأَبَى، وَأَمَّا الْحَسَدُ فَابْنَا آدَمَ حَيْثُ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ"2.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحِرْصُ دَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ، وَهُوَ دَاعِي الْحِرْمَان"3.
7- عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وَإِيَّاكُمْ وَاسْتِشْعَارَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ يَشُوبُ الْقَلْبَ شِدَّةَ الْحِرْصِ، وَيَخْتِمُ عَلَى الْقُلُوبِ بِطَابَعِ حُبِّ الدُّنْيَا"4.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الجبن والحرص والبخل غرائز سوء يجمعها سوء الظنّ بالله سبحانه"5.
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَمَنْ لَهِجَ قَلْبُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا الْتَاطَ قَلْبُهُ مِنْهَا بِثَلاَث: هَمٍّ لاَ يُغِبُّهُ، وَحِرْص لاَ يَتْرُكُه، وَأَمَل لاَ يُدْرِكُهُ"6.
10- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الأجل محتوم، والرزق مقسوم، فلا يغمّن أحدكم إبطاؤه، فإنّ الحرص لا يقدّمه، والعفاف لا يؤخّره، والمؤمن بالتحمّل خليق"7.
1 مصباح الشريعة، ص 117.
2 الكافي، ج2، ص 289.
3 (م.ن), ج8، ص 18.
4 مستدرك الوسائل، ج12، ص 70.
5 نهج البلاغة، ص 430.
6 (م.ن), ص 508.
7 غرر الحكم، ص 161.
367
315
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدقيق للحماقة وكيف تتشكّل الشخصية الحمقاء.
2- يتعرّف إلى تأثير الحماقة على تكامل الإنسان.
3- يشرح كيف يمكن التخلّص من الحماقة.
368
316
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
تمهيد
يحمل النّاس تصوّرًا عن الحماقة، وتأتي الرّوايات لتصوّب هذا التصوّر. يركّز النّاس في تصوّرهم للحماقة على الوقائع المتعلّقة بالحياة الدّنيا وشؤونها من تدبير وتحصيل وكسب وتبادل. وتأتي الأحاديث الشّريفة المنقولة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام لتبيّن أنّ الحماقة ترتبط بتلك الوقائع الجليّة والحقائق الكبرى التي لا يجهلها أو يغفل عنها سوى من ابتُلي بكدورة الباطن وظلمانيّة النّفس، وبذلك تفتح علينا بابًا جديدًا لمعرفة الشّخصيّة الإنسانيّة وأنماطها. فما هي الحماقة؟ وكيف يمكن معالجتها؟
الشّخصيّة الحمقاء وما ينجم عنها
فلنتدبّر بدايةً في هذه الشّواهد الصّادرة من مشكاة النبوّة والوحي، لنرسم في أذهاننا صورةً واضحةً عن الحماقة والأحمق:
قَالَ أمير المؤمنين عليه السلام: "التَّثَبُّتُ رَأْسُ الْعَقْلِ، وَالْحِدَّةُ رَأْسُ الْحُمْقِ"1.
وعنه عليه السلام: "لا يستخفّ بالعلم وأهله، إلا أحمقٌ جاهل"2.
وقال عليه السلام أيضاً: "إعجاب المرء بنفسه حمق"3.
"ورُوي أنَّ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام اشْتَرَى دَاراً، وَأَمَرَ مَوْلًى لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا، وَقَالَ: إِنَّ مَنْزِلَكَ ضَيِّقٌ، فَقَالَ: قَدْ أَحْدَثَ هَذِهِ الدَّارَ أَبِي، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام: إِنْ كَانَ أَبُوكَ أَحْمَق يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ؟"4.
1 بحار الأنوار، ج1، ص 160.
2 غرر الحكم، ص 41.
3 (م.ن), ص309.
4 الكافي، ج2، ص 525.
370
317
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
وعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: "قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَا أَحْمَدُ، إِنَّ عَيْبَ أَهْلِ الدُّنْيَا كَثِيرٌ، فِيهِمُ الْجَهْلُ وَالْحُمْقُ لَا يَتَوَاضَعُونَ لِمَنْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ"1.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ألا أخبركم بأكيس الكيّسين وأحمق الحمقى"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أكيس الكيّسين من حاسب نفسه، وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني"2.
وعنه عليه السلام: "أحمق النّاس من ظنّ أنّه أعقل النّاس"3. و"مَنْ نَظَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ فَأَنْكَرَهَا ثُمَّ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ فذَاك الأحْمَقُ بِعَيْنِهِ"4. وقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ الْعَبْدِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيُّ سُلْطَانٍ أَغْلَبُ وَأَقْوَى؟ قَالَ: "الْهَوَى...، قَالَ فَأَيُّ النَّاسِ أَحْمَقُ؟ قَالَ: الْمُغْتَرُّ بِالدُّنْيَا، وَهُوَ يَرَى مَا فِيهَا مِنْ تَقَلُّبِ أَحْوَالِهَا"5.
إنّ قسمًا من هذه النّصوص الشّريفة يبيّن أنّ الحماقة ترتبط بالجانب الإدراكيّ، والقسم الآخر يرتبط بالجانب السّلوكيّ. لكنّنا لو تأمّلنا أكثر لوجدنا الأمر كلّه يرجع إلى الاستخفاف بالعقل الذي يكشف ويميّز بين الخير والشرّ والكمال والنّقص. فإذا اجتمع مع هذا الاستخفاف تلك العقد النّفسيّة الموجبة لتكدّر النّفس وظلمانيّتها، ظهرت تلك التصرّفات التي لا تورث صاحبها أو من يتّبعه سوى الخسارة والضّرر. فمن اتّبع هواه أورده المهالك، لأنّ النّفس بدون هداية إلهيّة لا تصيب خيرًا أو حقًّا. ومن لم يقدّر نتيجة العيش في بيتٍ ضيّق على عياله ونفسه وما ينجم عنه من آثار نفسيّة وخيمة عليهم، رضي بالسّكن فيه، ومن لم يتواضع لمن يتعلّم منه العلم حرم نفسه من المزيد من العلم، لأنّ العالم الرّبّاني لا يؤتي علمه من يرى فيه الكبر والعجب. ثمّ أليست الحدّة سببٌ للخسارة وما يعقبها من ندامة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الحدّة ضربٌ من الجنون، لأنّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم"6. فلا يستمرّ بالحدّة إلّا من عجز عن إدراك تلك الخسارة
1 مستدرك الوسائل، ج11، ص 303.
2 مجموعة ورّام، ج2، ص 94.
3 غرر الحكم، ص 77.
4 نهج البلاغة، ص 860.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 381.
6 نهج البلاغة، ص513.
371
318
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
النّاجمة عنها، فهذه بعض الخسائر التي تصيب كل من لا يحترم العقل ودوره، وهو الأحمق بعينه!
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ أعظم القذارات المعنويّة التي لا يمكن تطهيرها بسبعة أبحر، وأعجزت الأنبياء العظام، هي قذارة الجهل المركّب، الذي هو منشأ ذاك الدّاء العُضال، ألا وهو إنكار مقامات أهل الله وأرباب المعرفة ومبدأ سوء الظنّ بأصحاب القلوب. وما دام الإنسان ملوّثًا بهذه القذارة، لا يتقدّم خطوةً إلى المعارف، بل ربّما تطفىء هذه الكدورة نور الفطرة الذي هو مصباح طريق الهداية، وتنطفئ بها نار العشق التي هي بُراق العروج إلى المقامات وتخلّد الإنسان في أرض الطّبيعة"1.
وهكذا نجد الأحمق، وقد أغلق على نفسه باب التّكامل وفتح عليها باب العداء والمعاداة لأولياء الله، الذين هم حجج الله في الأرض وسبل الوصول إليه، فأيّة خسارة بعد هذه؟!
كيف يعرّف الإمام الخميني قدس سره الحماقة؟
وانطلاقًا من التّضاد الوارد في حديث جنود العقل والجهل بين الفهم والحمق، يعرّف الإمام الخمينيّ قدس سره الحماقة، فيقول: "الفهم يطلق تارةً على سرعة الانتقال والتفطّن، وأُخرى على صفاء باطن النّفس وشدّته الموجبة لسرعة الانتقال، ويُقابل المعنى الأوّل البلادة، فيما يقابل المعنى الثاني كدورة الّنفس التي تستلزم الغباء والحمق. وعلى أيّ حال، يكون الحمق مقابلًا للمعنى الجامع للفهم أو لازمًا لمقابله. وبملاحظة صدور الحديث الشّريف عن منازل الوحي والنبوّة، وعن مربّي الإنسان، فإنّ من المحتمل أن يكون المقصود بالفهم في هذا الحديث هو صفاء الباطن الذي يؤهّل الإنسان لإدراك الأمور المعنويّة، فيكون المراد بالحمق كدورة النّفس وظلمانيّتها الموجبة للغباء والعجز عن إدراك الحقائق المعنويّة والمطالب العرفانيّة"2.
وتكون معرفة النّفس ومعرفة عيوبها ونقائصها - وهي التي تكون أوّل ما يبرز من هذه النّفس في عالم الطّبيعة - من أبده المعارف وأوّل الإدراكات وبداية مراتب الفهم، ولهذا ذكر
1 معراج السالكين، ص 69.
2 جنود العقل والجهل، ص249.
372
319
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
الإمام قدس سره: "وإنّ من أعلى مراتب الحمق أن يحجب الإنسانُ نفسهُ عن نفسه وروحانيّتها أيضًا ـ نعوذ بالله من ذلك"1.
من أين تنشأ الحماقة؟
مع أنّ بعض درجات الحماقة غير قابلة للعلاج عمليًّا، لكنّها ليست خارجة عن اختيار الإنسان، فإنّ الحماقة نتيجة طبيعيّة لسلوكٍ يتّخذه الإنسان من خلال إدباره عن عالم النّور والحقائق الغيبيّة، فيصل بعدها إلى حيث لا يعقل شيئًا، ولا يقدر عليه، مهما حاول ـ نعوذ بالله من هذه العاقبة.
ومع بقاء شيء من العقل، يستطيع الإنسان أن يلتفت إلى ما فيه من حماقة، ويمكن للسّالك المجاهد أن يقذف بذاك المقدار من نور العقل على صفحة نفسه وباطنه المتكّدر بظلمة الحماقة، فيزهق ما فيه من باطلها.
1- حبّ الدنيا
ويشير الإمام الخمينيّ قدس سره إلى أنّ السّبب الأساس وراء الحماقة وضعف فهم الإنسان للأمور المعنويّة هو توجّه القلب والنّفس نحو عالم الطّبيعة كغاية نهائيّة: "إذا وُجّهت مرآة النّفس الصّافية شطر الكدورة والظّلمة ودار الطّبيعة التي هي "أسفل سافلين"، أثّرت فيها كدورة الطّبيعة بصورة تدريجيّة، وجعلتها ظلمانيّة كدرة، حتّى يستولي غبارُ وصدأ الطّبيعة على وجه مرآة ذات النّفس، بحكم أنّ عالم الطّبيعة ضدّ عالم النّور الذي يصدر منه جوهر ذات النّفس، وحينئذٍ تعمى النّفس عن فهم الأمور الرّوحيّة، ويشتدُّ فيها هذا الاحتجاب والحمق حتى تصير نفسًا "سجِّينية" من سنخ "سجِّين": ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً﴾2، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾3، ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾4. وقد أشارت آيات القرآن الشّريف
1 جنود العقل والجهل، ص 255.
2 سورة البقرة، الآية 10.
3 سورة البقرة، الآية 257.
4 سورة الإسراء، الآية 46.
373
320
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
بكثرة إلى هذين المقامين، واهتمّ الحقّ ـ جلَّ وعلا ـ كثيرًا ببيان شؤونهما، لأنّ الهدف الأصليّ لجميع الشّرائع الإلهيّة هو نشر المعارف، وهذا ما لا يتحقّق إلّا بمعالجة النّفوس وإبعادها عن ظلمات الطّبيعة، وتحريرها منها ونقلها إلى عالم النور"1.
فظلمة الطّبيعة تنشأ من إقبال القلب عليها كغاية لوجوده. وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ومن نظر إليها أعمته، ومن أبصر بها بصّرته"2.
إنّ قول رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا تُصِيبُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى تَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ حَمْقَاءَ فِي دِينِهِمْ، عُقَلَاءَ فِي دُنْيَاهُم"3، يشير إلى أنّ شدّة التعقّل والتدبّر في أمور الدّنيا، والذي ينشأ من الانصراف التامّ إليها، يؤدّي إلى الحماقة بشأن الأمور الدّينيّة التي تهدف بالدّرجة الأولى إلى عمارة الآخرة. فأيّ عاقلٍ يقدّم النّعمة الزّائلة الفانية ويفضّلها على النّعمة الباقية الأبديّة، وهل يمكن بحسابات العقل المقارنة بين المحدود والمطلق؟! أوليس المحدود في جنب المطلق إلّا صفرًا؟!
إنّ طلب الدّعة والرّاحة في الحياة الدّنيا يضاعف من حضور القوّة الشهويّة في النّفس، الأمر الذي يزيد من التّوجّه إلى اللذائذ المادّيّة. وفي مثل هذه الحالة، وحين لا يكون الرّادع التّقوائي موجودًا، فإنّ هذا الإنسان لن يتوّرع عن الفسق عن أمر ربّه من أجل الوصول إلى مشتهياته. وهكذا يصبح مثل هذا الإنسان عبدًا لهذه الشّهوات، فيسهل السّيطرة عليه من قبل من يمتلك هذه المشتهيات كالملوك والزّعماء والطّواغيت. وهو ما حكت عنه آيات القرآن الكريم بشأن قوم فرعون الذين وصلوا إلى درجة كبيرة من خفّة العقل: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾4.
1 جنود العقل والجهل، ص 250 - 251.
2 نهج البلاغة، ص106.
3 بحار الأنوار، ج74، ص 84.
4 سورة الزخرف، الآية 54.
374
321
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
2- احتجاب الفطرة
ولا شكّ بأنّ من لم يتحرّك على طريق السّير والسّلوك إلى الله تعالى، فلن تتحقّق الاستعاذة من الشّيطان وجنوده عنده. والحماقة من جنود إبليس، لهذا قال الإمام قدس سره: "الحمق من جنود الجهل وإبليس، ومن مقتضيات الفطرة المحجوبة، لأنّ الفطرة إذا احتجبت عجزت عن إدراك الحقّ تعالى والرّوحانيّات التي من جنوده عزَّ وجل، وتوجّهت إلى الدّنيا والنّفس، وتقوقعت في حجاب الإنّية والأنانية، وهي الإنّية الدنيويّة التي هي أيضًا ليست بحقيقتها الحقيقيّة، فتصير بذلك محرومة من جميع مراتب المعنويّات والمعارف الإلهيّة كافة"1.
أمّا احتجاب الفطرة فمردّه بالدّرجة الأولى إلى عدم إعمال العقل في تمييز الكمال من النّقص، حيث تتوجّه الفطرة عندها إلى الكمال الموهوم، فتحتجب به، بدل أن تتوجّه إلى الكمال الحقيقيّ لتتكامل به، وتصل بعدها إلى الكمال المطلق.
ويحدّثنا الإمام الخمينيّ قدس سره عن قصّة هذه النّفس وهي تتفاعل مع عالم الطّبيعة، وما ينجم عنه في الحالين: حال اختيار التوجّه إلى أسفل سافلين، وحال التّوجّه إلى أعلى عليّين، فيقول: "ينبغي معرفة أنّ النّفس الإنسانيّة هي كالمرآة، تكون في الفطرة الأولى صافية نورانيّة خالية من كلّ كدورة وظلمة، فإذا واجهت عالم الأنوار والأسرار المناسب لجوهر ذاتها ترقّت تدريجيًّا، وانتقلت من مقام نقص النّورانيّة إلى كمال الرّوحانيّة والنّورانيّة، حتى تتخلّص من جميع الكدورات والظّلمات، وتتحرّر وتهاجر من قرية الطّبيعة المظلمة وبيت النّفس المظلم، فيكون نصيبها مشاهدة جمال الجميل، ويقع أجرها على الله. ولعلّه إلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ﴾2، وكذلك الآية الشريفة: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾3. أجل، فالذي يتولّى أمر باطنه وظاهره ويتصرّف فيهما الحقّ تعالى وحده لا شريك له، تتحوّل أرضُ مملكة وجوده من الظّلمة إلى النّور الإلهيّ: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا﴾4، فيتخلَّص
1 جنود العقل والجهل، ص 255.
2 سورة النساء، الآية 100.
3 سورة البقرة، الآية 257.
4 سورة الزمر، الآية 69.
375
322
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
من جميع الظّلمات والكدورات، ويصل إلى النّور المطلق المساوق والقرين للوحدة المطلقة، ولعلّ في هذا يكمن سرُّ ذكر النّور بصيغة المفرد، مقابل ذكر الظّلمات بصيغة الجمع في آية الكرسيّ"1.
علاج الحماقة بالتعقّل وترك حبّ الدنيا
إنّ لله تعالى في تربية عباده شؤونًا لا تُحصى، ومن شؤونه أنّه يبتلي بعض هؤلاء الحمقى بضربة تنزل على رؤوسهم لتوقظهم ممّا هم فيه، وتبدّل توجّهاتهم المستغرقة في هذه الدّنيا الفانية. وعلينا أن نسأل الله تعالى أن لا يؤدّبنا بعقوباته، وذلك لا يحصل إلّا إذا جعلنا العقل أساس خياراتنا في هذه الحياة، ونزعنا من قلوبنا حبّ الدنيا. يقول الإمام الخميني قدس سره مخاطباً أولئك المبتلون بآفة الحمق:
"يا حبيبي! استيقظ قليلاً من هذه النومة الثقيلة، واسلك طريق عاشقي الحضرة الإلهية، وطهِّر يديك ووجهك من ظلمات هذا العالم وكدوراته وشيطانيَّته، وأدخل زقاق الأحبّاء عسى أن تسير باتجاه باب الحبيب.
يا عزيزي! إن أيّام هذه المهلة الإلهية سرعان ما تنقضي فنرحل بعدها عن هذه الدنيا شئنا أم أبينا، إمّا طواعية إلى الرَوْح والريحان والكرامات الإلهية، وإمّا كرهاً إلى النزع والصعق والضغطات والظلمات والكدورات إن مثلنا في هذه الدنيا مثل الشجرة التي غُرست جذورها في الأرض، فأن كانت فيتةً كان قلعها أيسر واسرع وحتى لو كانت - فرضاً - تحسّ بالألم من القلع فهو ألم يضعف ويقلّ كلما كان تعلّق جذورها بالأرض ونفوذها فيها أقل، ولا يخفى أن قلع النبتة الفتيّة التي تعلّقت بالأرض حديثاً يتمّ بقليل من توغّلت وتشبّثت جذورها الفرعية والأصلية في باطن الأرض، واستقوت فيها، فإن قلعها لا يتمُّ إلّا باستخدام الفأس لكي يقطع جذورها، فإذا كانت هذه الشجرة - فرضاً - تحس بالألم فتصور ما الذي ستقاسيه أثناء قلعها، ثمّ قارن حالها هنا بحالها حين قلعها لو كانت فتيّة! فكم هو الفرق في ألم القلع بين هذه وتلك.
1 جنود العقل والجهل، ص 249 - 250.
376
323
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
إن حبّ الدنيا والنفس بمثابة الجذر الأصلي لشجرة الإنسان، ومنه يتفرّع الحرص والطمع وحبّ الزوجة والبنين والمال والجاه ومثالها، فإن كانت هذه الفروع ضعيفة في نفس الإنسان مثل النبتة الفتيّة. لم يكن من الصعب فصل الإنسان عنها ونقله إلى العالم الآخر، فلا يحتاج الأمر في هذه الحال إلى شدّة الضغط من قبل ملائكة الله الموكلين بقبض الروح، ولا إلى شدّة الضغط على روح الإنسان ونفسه. ولكن إذا امتدت - لا سمح الله - جذور تلك الفروع الخبيثة في ارض عالم الطبيعة وترسَّخت وانتشرت فيها، فإن رسوخها وانتشارها لن يكون مثل رسوخ جذور الشجرة وانتشارها، لأنّه سيمتد إلى جميع أرجاء عالم الطبيعة، كما أن الشجرة مهما كبرت لا تمتد جذورها في الأرض لأكثر من بضعة امتار، ولكن جذور شجرة حب الدنيا تمتدُ في جميع أرجاء عالم الطبيعة الظاهرة منها والباطنة فتخضع جميع العالم لشهوات فروع هذه الشجرة الخارجية، ولهذا لن يكون ممكناً قلع هذه الشجرة بسلام!
إن الخطر العظيم لمحدق بالإنسان مع بقاء حبّ الدنيا في قلبه، لأن من الممكن أن يرى - عند معاينة عالم الغيب (حين الاحتضار) حيث تكون فيه بقايا من الحياة الملكية الدنيوية أيضاً - ما أُعد له في ذلك العالم إذ يُكشف له وهو في تلك الحال بعضُ حجاب الملكوت، فيرى عندئذٍ أن الحق تعالى وجنوده الموكلين بقبض الروح يفصلونه عن محبوبته - أي الدنيا - وينقلونه إلى دركات ذلك العالم وظلماته، فتظهر فيه بسبب ذلك حالٌ من البغض والعداء للحق تعالى وملائكته المأمورين بقبض روحه، فيخرج من الدنا وهو بهذه الحال من البغض والعداء لله وملائكته، ولا يخفى ماذا سيكون مصيرُ من يغادر الدنيا وهو على هذه الحال"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 253.
377
324
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- الحمق يقابل الفهم، ويطلق الفهم تارةً على سرعة الانتقال والتفطّن، وأُخرى على صفاء باطن النّفس وشدّته الموجبة لسرعة الانتقال، ويُقابل المعنى الأوّل البلادة فيما يقابل المعنى الثاني كدورة الّنفس التي تستلزم الغباء والحمق.
2- إنّ قسمًا من النّصوص الشّريفة يبيّن أنّ الحماقة ترتبط بالجانب الإدراكيّ. والقسم الآخر يرتبط بالجانب السّلوكيّ. لكنّ التأمّل في النصوص الشريفة يبيّن أنّ الأمر كلّه يرجع إلى الاستخفاف بالعقل الذي يكشف ويميّز بين الخير والشرّ والكمال والنّقص.
3- نجد الأحمق وقد أغلق على نفسه باب التّكامل وفتح عليها باب العداء والمعاداة لأولياء الله الذين هم حجج الله في الأرض وسبل الوصول إليه.
4. تكون معرفة النّفس ومعرفة عيوبها من أبده المعارف، لذا فمن أعلى مراتب الحمق أن يحجب الإنسان نفسه عن نفسه وروحانيّتها.
5- إنّ السّبب الأساس وراء الحماقة وضعف فهم الإنسان للأمور المعنويّة هو توجّه القلب والنّفس نحو عالم الطّبيعة كغاية نهائيّة، والإدبار عن عالم النّور والحقائق الغيبيّة.
6- إنّ شدّة التعقّل والتدبّر في أمور الدّنيا، والذي ينشأ من الانصراف التامّ إليها، يؤدّي إلى الحماقة بشأن الأمور الدّينيّة التي تهدف بالدّرجة الأولى إلى عمارة الآخرة.
7- الحمق من جنود الجهل وإبليس، ومن مقتضيات الفطرة المحجوبة، لأنّ الفطرة إذا احتجبت عجزت عن إدراك الحقّ تعالى والرّوحانيّات التي من جنوده عزَّ وجل، وتوجّهت إلى الدّنيا والنّفس، وتقوقعت في حجاب الإنّية والأنانية،..
8- بالرّغم من أنّ بعض درجات الحماقة غير قابلة للعلاج عمليًّا، لكنّها ليست خارجة عن اختيار الإنسان. مع بقاء شيء من العقل، يستطيع الإنسان أن يلتفت إلى ما فيه من حماقة، ويمكن للسّالك المجاهد أن يقذف بذاك المقدار من نور العقل على صفحة نفسه وباطنه المتكّدر بظلمة الحماقة، فيزهق ما فيه من باطلها.
378
325
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ لاَ تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاَّ أَصْلَحْتَهَا، وَلاَ عَائِبَةً أُوَنَّبُ بِهَا إلاَّ حَسَّنْتَهَا، وَلاَ أُكْرُومَةً فِي نَاقِصَةً إلاَّ أَتْمَمْتَهَا"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أكبر الحمق الإغراق في المدح والذم"2.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من أعظم الحمق مؤاخاة الفجّار"3.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أحمق الناس من يمنع البرّ ويطلب الشّكر، ويفعل الشرّ ويتوقّع ثواب الخير"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "طلب الجنة بلا عمل حمق"5.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحمق يوجب الفضول"6.
6- عن الإمام الكاظم عليه السلام: "يَا هِشَامُ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ: يُجِيبُ إِذَا سُئِلَ، وَيَنْطِقُ إِذَا عَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْكَلَامِ، وَيُشِيرُ بِالرَّأْيِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ صَلَاحُ أَهْلِهِ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ شَيْءٌ فَهُوَ أَحْمَقُ"7.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَخْتَبِرَ عَقْلَ الرَّجُلِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَحَدِّثْهُ فِي خِلَالِ حَدِيثِكَ بِمَا لَا يَكُونُ، فَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ عَاقِلٌ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ"8.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لِسَانُ الْعَاقِلِ وَرَاءَ قَلْبِهِ، وَقَلْبُ الأحْمَقِ وَرَاءَ لِسَانِهِ"9.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاء مكارم الأخلاق.
2 غرر الحكم ص 77.
3 (م.ن)، ص 418.
4 (م.ن)، ص 77.
5 (م.ن)، ص 157.
6 (م.ن)، ص 76.
7 الكافي، ج1، ص 17.
8 بحار الأنوار، ج1، ص 131.
9 وسائل الشيعة، ج15، ص 281.
379
326
الدّرس السادس والعشرون: الحمق، معناه، تشكّله وطرق معالجته
9- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الجاهل الأحمق إن استقبلته بجميل غفل، وإن استنزل عن حسن نزل، وإن حمل على جهل جهِل، وإن حدّث كذّب، لا يفقه وإن فقه لم يتفقّه"1.
10- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أحمق الناس من ظن أنه أعقل الناس"2.
1 الديلمي، أعلام الدين، ص 132.
2 غرر الحكم، ص 77.
380
327
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى الخرق وآثاره على إيماننا وعباداتنا.
2- يشرح كيف يؤدّي الخرق إلى قطع طريق تكاملنا وتكامل الآخرين.
3- يشرح كيف تتشكّل الشخصيّة الخرقاء، والسبيل للتخلّص من الخرق.
382
328
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
تمهيد
رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَوْ كَانَ الْخُرْقُ خَلْقاً يُرَى، مَا كَانَ شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ الله أَقْبَحَ مِنْهُ"1.
إنّ الاتّصال بمصادر الوحي وينابيع الحكمة هو أفضل طريقة للسّير في مراتب المعرفة. وها هي الآثار الكثيرة لهذه المصادر بين أيدينا، تدعونا للتدبّر فيها. وإنّ من تأمّل فيما ورد عن أهل الحكمة ومنازل الوحي يعلم يقينًا شدّة اهتمامهم بتهذيب النّفوس وتزكيتها. وعلى كلّ من أراد استفادة العلم منهم عليهم السلام أن يحصل على مفاتيح الخزائن، ومن هذه المفاتيح مصطلحات اللغة.
ليست المصطلحات سوى أداة للوصول إلى العمق المعرفيّ. فما أكثر تلك القضايا الأخلاقيّة والمعنويّة التي تختفي وراء المصطلحات. وهي تكشف عن أحوال النّفوس والقلوب ودقائقها، وتبيّن لنا أسرار الشّخصيّة الإنسانيّة وعجائبها.
ومن هذه المفردات العلميّة التي تحكي عن قضيّة نفسيّة خاصّة، مصطلح الخرق. وقد ورد هذا اللفظ في الرّوايات والأحاديث، في سياق ذكر آثاره وقبحه أكثر من بيان تعريفه وتحديده. فما هو الخرق؟ ومن هي الشّخصيّة الخرقاء؟ وكيف يمكن معالجتها؟
تعريف الشّخصيّة الخرقاء
يظهر من مجموع الأحاديث والرّوايات والشّواهد التي وردت في كلمات الإمام الخميني قدس سره أنّ الخرق هو العنف. والشّخصيّة الخرقاء تتعامل مع الأشخاص والأمور بصورة تؤدّي إلى الأذى والضّرر.
1 الكافي، ج2، ص 321.
384
329
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الرِفْقُ" (بالكسر) ضدّ "العنف"، وهو بمعنى المداراة واللطف في التّعامل... وفي المجمع: "الرِّفق بالكسر ضدّ الخُرق، وهو أن يُحسن الرّجلُ العملَ. وفي الحديث: "إذا كان الرّفق خرقًا، كان الخرق رفقًا"1... معناه واضحٌ هو: عندما يصير الرّفقُ سببًا للخرق والتّعب، فيجب الكفّ عن المداراة والرّفق، والعمل بالخرق الذي يصبح حينئذٍ الرّفق والمداراة عينهما، فمثلًا إذا صار الرّفق والمداراة في قطع اليد التّالفة التي لا مناص من قطعها سببًا للخرق والتّعب والإيذاء لصاحبها، وجب اللجوء إلى العنف والعجلة والشدّة في قطعها، فيكون هذا الخرق حينئذٍ الرّفق والمداراة عينهما. و"خرقَ خُرقاً" من باب تعب، وهو ضدّ الرّفق والمداراة، و"الخُرق" ورد بمعنى ضعف العقل والحمق والجهل والعنف والزّجر والعجلة. وفي الحديث: "الخرق شؤمٌ والرّفق يُمنٌ"2، وخرق الثّوب مزّقهُ، وخرق بمعنى دهشَ وخافَ، وأخرقَ بمعنى أدهشَ، والظّاهر أنّ معظم هذه المعاني المتعدّدة مأخوذ بعضها من بعض فأصولها ترجع إلى معنًى واحدٍ، كما هو واضح من التّأمّل في موارد استخدامها"3.
ولمّا كان الخرق ضدّ الرّفق، والرّفق هو أن يحسن الرّجل العمل ويراعي مصلحته وشروطه، فإنّ الخرق هو إساءة العمل بسبب العنف والشدّة وعدم المداراة. وهو يحصل في العبادة وفي الأعمال المختلفة وفي التّعامل مع النّاس، حيث إنّ لكلٍّ من هذه الأمور أصولًا ينبغي مراعاتها لأجل الوصول إلى النّتائج الحسنة منها. والأخرق هو الذي يفسد هذه الأمور بالشدّة والعنف والحدّة بسبب ما يكون في نفسه من أمورٍ، نشير إليها لاحقًا.
ما هي آثار الخرق؟
1- الحرمان من نور الإيمان
يذكر الإمام بعض النّماذج المتعلّقة بآثار الخرق ونتائجه، إلّا أنّ أسوأ آثاره ما يرتبط بالإيمان، حيث يؤدّي الخرق إلى حجبه بالكامل والحرمان من نوره وهدايته، فعن الإمام
1 السيد الرضي، نهج البلاغة، ص402.
2 الكافي، ج2، ص119.
3 جنود العقل والجهل، ص285 - 286.
385
330
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
الباقرعليه السلام: "من قُسم له الخُرق حجب عنه الإيمان"1. ولأنّ الرّكيزة الأساسيّة للإيمان هي العبادة، ولأنّ العبادة تمثّل الأرض الخصبة لزيادة الإيمان وتكامله، فإنّ من حُرم من العبادة ونورها سيُحرم من ثمرات الإيمان وحياته.
يقول الإمام قدس سره: "العنف والخُرق قد يؤدّيان أحيانًا إلى عدم استساغة الرّوح واستثقالها للعبادة والعبوديّة، وهذا ما يؤدّي إلى إعراض القلب عن الحقّ تعالى، ولذلك كان الرّفق قفل الإيمان فمن حصل عليه اكتسب الايمان"2.
2- النّفور من العبادة
وهذا بدوره يؤدّي إلى ضعف النّفس وسلب العزيمة، وإلى النّفور من كلّ ما يتّصل بالعبادة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وما أكثر ما يؤدّي أخذ النّفس بالشدّة ـ خاصّة في بدايات الأمر، ولا سيّما مع الشّباب ـ إلى تنفيرها من الرّياضات والسّلوك، وبالتالي إلى الفرار من الحقّ. وبالفعل فإنّ الكثير من الشّباب انحرفوا بالكامل وصاروا لا يبالون بالشّؤون الدّينيّة أصلًا بعد فترة شدّدوا فيها على أنفسهم بالمواظبة المشدّدة والالتزام المفرط في أداء المستحبّات!"3.
3- البغض والعداء لعباد الله
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "القلب الملوّث بالبغض والعداء لعباد الله، الذي يعاملهم بالعنف والخُرق، فهو منحرف عن الفطرة الإلهيّة السّليمة، بل ومحتجبٌ عنها بالتّلوّث بالدّنيا وزخرفها وحبّ النّفس والعجب بها"4.
في هذا الكلام النّورانيّ يبيّن الإمام أنّ البغض والعداء للنّاس يحمل الإنسان على أن يعاملهم بالعنف والشدّة، أي بالخرق.
4- قطع طريق التّكامل على النّفس والآخرين
إنّ من أعظم العبادات الإسلاميّة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فبهما تُقام الفرائض ويصلح المجتمع وتترعرع الفضائل وتستقرّ القيم الطّيّبة. ونلاحظ أنّ من أعداء
1 الكافي، ج2، ص 321.
2 جنود العقل والجهل، ص 292.
3 (م.ن), ص289.
4 (م.ن), ص 290 - 291.
386
331
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
هذه الفريضة الخرق، حيث يؤدّي إلى نتائج معاكسة تمامًا للإصلاح، فيفسد بدل أن يصلح، بل يزيد الفساد فسادًا.
لهذا يقول الإمام قدس سره: "إنّ أحد الأصول المهمّة في باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، الأخذُ بالرّفق والمداراة، فمرتكب المعصيّة أو تارك الفريضة ربّما أدّى منعه عن معصيته بالعنف والشدّة إلى دفعه نحو ارتكاب معصية أكبر حتّى ينتهي حاله إلى الردّة أو الكفر، لأنّ طبيعة الإنسان لا تستسيغ مرارة الأمر والنّهي، فهما يثيران فيه الغضب والتعصّب، لذا يجب على الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر أن يجبر مرارة تقبّل الأمر والنّهي غير المستساغة بحلاوة طيب الكلام والرّفق والمداراة، لكي يؤثّر كلامه في القلوب القاسية العاصية، فتلين له وتخضع لأمره ونهيه"1.
ومن أعظم مصاديق الأمر بالمعروف الدّعوة إلى معرفة الله، والسّير والسّلوك، وعبور المقامات المعنويّة. لكنّ الأخرق الذي لا يرى إلّا في العنف سبيلًا إلى هذه الدّعوة يسدّ الطّريق على هذه الحقائق والفيوضات المعنويّة التي كان عالم الخلقة من أجلها. ونجد الإمام الخميني قدس سره يشير إلى هذه القضيّة في باب الخرق عند شرحه للحديث المنقول عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "يَا عُمَرُ، لَا تَحْمِلُوا عَلَى شِيعَتِنَا، وَارْفُقُوا بِهِمْ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَحْتَمِلُونَ مَا تَحْمِلُونَ"2.
"وهذا الحديث الشّريف يحمل وصيّةً عامّة للخواص، فالنّاس متمايزون في تحمّل العلوم والمعارف، وكذلك في تحمّل الطّاعات القلبيّة والبدنيّة، فلا يمكن الإفصاح لكلّ شخص عن كلّ علم خاصّة في باب المعارف، بل إنّ سرائر التّوحيد وحقائق المعارف هي من الأسرار التي يجب كتمانها وحفظها عند أهلها. ومعظم الضّلالات وأنواع الإضلال وأشكال التّكفير، ناتجةٌ من عدم التزام هذه الوصيّة، بل إنّ اجتناب النّاس، حتّى علماء الظّاهر منهم، للعلوم الإلهيّة وابتعادهم عن المعارف والحقائق ناتجٌ من "تهتّك" بعض أرباب الاصطلاحات الذوقيّة أو أصحاب العلوم العرفانيّة الرّسميّة الذين أفصحوا عن القرآن والحديث الشّريف واصطلاحاتهما، مع أنّ هذه الحقائق المعرفيّة موجودة ـ في أكمل صورها من البيان ـ في
1 جنود العقل والجهل، ص 288 - 289.
2 الكافي، ج8، ص334.
387
332
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
كتاب الله وأحاديث أئمّة الهدى عليهم السلام، ولكنّ هؤلاء أظهورها بصورة سيّئة، جعلت أهل الظّاهر ينفرون منها، بعد أن عجزوا هم أيضًا عن فصل اللبِّ عن القشر، والحقيقة عن الصّورة الظّاهرية، والمعنى عن اللفظ، فنفوا أصل تلك الحقائق المعرفيّة الشّريفة. ولعلَّ إلى هذا المعنى تشيرُ الأحاديث الشّريفة التي تقسّم الإيمان إلى سبعة أسهم1، أو إلى عشر درجات2، أو إلى تسعة وأربعين جزءاً3، وكذلك قولهم عليهم السلام: "لا تحملوا على صاحب السّهم سهمين، ولا على صاحب السّهمين ثلاثة"4، وهكذا. ولأنّ التّمايز في درجات الأعمال والطّاقة والإقبال والشّوق إليها ينشأ غالبًا من اختلاف درجات الإيمان، فإنّهم عليهم السلام ضربوا الأحاديث الشّريفة مثلًا بهدف تقريب هذا المعنى للأذهان، فقالوا: "إنّ رجلًا كان له جارٌ، وكان نصرانيًّا، فدعاه إلى الإسلام وزيّنهُ له فأجابه، فأتاه سحيرا فقرع عليه الباب، فقال له: من هذا؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك؟ فقال: توضّأ والبس ثوبك، ومُرّ بنا إلى الصّلاة. قال: فتوضّأ ولبس ثوبه وخرج معه، قال: فصليّا ما شاء الله، ثم صليّا الفجر، ثمّ مكثا حتّى أصبحا، فقام الذي كان نصرانيًّا يريدُ منزلهُ، فقال له الرّجل: أين تذهب؟ النّهارُ قصيرٌ والذي بينك وبين الظّهر قليل! قال: فجلس معه إلى أن صلّى الظّهر، ثمّ قال: وما بين الظّهر والعصر قليل! فاحتبسه حتى صلّى العصر. قال: ثمّ قام وأراد أن ينصرف إلى منزله، فقال له: إنّ هذا آخر النّهار وأقلُّ من أوّله، فاحتبسه حتى صلّى المغرب، ثمّ أراد أن ينصرف إلى منزله، فقال له: إنّما بقيت صلاة واحدة. قال: فمكث حتى صلّى العشاء الآخرة، ثمّ تفرّقا. فلماّ كان سُحيرا غدا عليه، فضرب عليه الباب، فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك؟ قال: توضّأ والبس ثوبك، واخرج بنا نصلّي. قال: اطلب لهذا الدّين من هو أرفع منّي، وأنا إنسان مسكينٌ وعليَّ عيال"5. وقد تقدّم في هذه الأحاديث الشّريفة أنّ الإمام عليه السلام يوصي
1 الكافي، ج2، ص42.
2 (م.ن)، ص 45.
3 (م.ن).
4 (م.ن)، ص 42.
5 (م.ن)، ص 43.
388
333
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
بالرّفق والمداراة لعباد الله وعدم تحميلهم ما لا طاقة لهم به فينفروا ويتمرّدوا"1.
فنتيجة هذا الخلق القبيح انقسام المجتمع العلميّ إلى فئتين: فئة ترى أنّه لا بدّ من طرح القضايا العرفانيّة والمعنويّة بأيّ شكلٍ كان، وفئة قامت، وكردّة فعل على الفئة الأولى، بمحاربة أيّ نوعٍ من هذه الأطروحات. وفي الأحوال كلّها أدّى هذا الانقسام إلى خسائر فادحة وحرمان عظيم ابتُلي به هذا المجتمع. ويُعلم من هذه الحالة أيضًا كيف أنّ الرّفق إذا وُضع على شيء زانه وأعطاه حقّه ومقداره، وكيف أنّ الخرق إذا وُضع على شيء شانه وأخرجه عن حدّه.
إنّ حياة البشر في يوميّاتهم هي حياة تربية وتكميل وتكامل، ولكلّ الأشياء من حولنا حركة تكامليّة أيضًا. هي حركة دائمة مستديمة لا تعرف التوقّف فنحن بحاجة إلى الرّفق والمداراة دائمًا من أجل إعانة أنفسنا وغيرنا على هذا التّكامل، وبالتالي سيكون الخرق مشكلة كبيرة، لأنّه يقف في وجه هذه الحركة التكامليّة ويمنعها.
ليس كل عنّف وشدّة هو خرق، فالمعيار ينبع من الجهة التّربويّة... فإذا وجدنا أنّه يعين الآخر ويساعده ويربّيه ويكمّله ويزيل من أمامه الموانع، فلا يكون العنف أو الشدّة هنا مشكلة، كما في قوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾2.
ولا شكّ بأنّ الأخرق يلاحظ نتائج تعامله العنيف مع الأشخاص والأشياء، فإذا استمرّ في خرقه، فهذا يعني أنه يعطّل العقل ويحجبه، وسرعان ما يؤدّي ذلك إلى انطفاء نوره في القلب.
علاج الخرق
علاج الخرق يعتمد بشكل أساسي على العمل بخلاف مقتضيات هذه الرذيلة الخلقية، وعلى عكس ما تأمر به النفس، فإذا كانت النفس تطلب من الإنسان العجلة والتسرّع في الأمور فعليه أن يعمل بعكس ما تطلبه، لتكون في المقابل الرفق والمدراة هي الصفات الحاكمة. يقول الإمام الخميني قدس سره:
1 جنود العقل والجهل، ص 293 - 295.
2 سورة الفتح، الآية 29.
389
334
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
"إن للرفق والمداراة كاملَ الأثر في تحقيق الغايات المرجوة من الأمور المختلفة، سواء في مجال معاشرة الناس وأمور الدنيا، أو في مجال الشؤون الدينية وهداية الخلق وإرشادهم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو في مجال مجاهدة النفس وترويضها والسلوك إلى الله تعالى: ولعل إلى هذا يشير ما ورد في الحديث الشريف من أن "الرفق يُمنٌ والخُرق شؤمٌ"1.
فمثلاً يمكن للإنسان من خلال الرفق والمداراة في القيام بالأمور الدنيوية أن يستقطب قلوب الناس ويُخضعها لإرادته، ولكن من المحال أن يُنجز شيئاً من ذلك بالعنف والشدة. وحتى لو أجبر أحداً على طاعته بالعنف والشدة، فإنه لن يأمنَ خيانته له لأن قلبه ليس خاضعاً له، في حين أن الرفق والمودة يخضعان القلوب، فإذا خضعت تبعتها جميع القوى الظاهرة والباطنة.
إن فتح القلوب أهم من فتح البلدان، فالخدمات الصادقة والتضحيات المخلصة هي ثمرة فتح القلوب الذي يستتبعُ فتح اللدان أيضاً. والفتوحاتُ الإسلامية كانت ثمرة فتح القلوب للنظام الإسلامي، وإلا ما كانت لتتحقّق مع تلك القلة في العدَّةِ والعدد.
بل أن للرفق والمداراة الأثر الأكبر - من أثر أي عامل آخر - في تحقق الغايات المرجوة، هكذا هو الحال في الشؤون الدنيوية، وكذلك في الشؤون الدينية كإرشاد الناس وهدايتهم، فالرفق من أهم العوامل في تحقّق هذا المقصد الشريف، بل لا يمكن تحقّقه بدونه.
عندما أمر الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السلام بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الحق وإرشاده إليه، أوصاهما - فيما أوصاهما به - أن: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾2. فرغم أن فرعون بلغ في طغيان أنانيته مرتبة ادعاء الألوهية، إلّا أن الرفق والمداراة - مع ذلك - أنجعُ في جذب قلبه القاسي. وهذه وصية عامة للهداة إلى طريق الحق، تأمرهم بأن يسلكوا سبيل فتح القلوب، ولذلك مدح الله تعالى نبيّهُ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾3.
1 الكافي، ج2، ص 98.
2 سورة طه، الآيتان 43 و 44.
3 سورة القلم، الآية 4.
390
335
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
أجل، فمثل هذا الهدف العظيم (هداية الخلق) يتطلبُ خُلقاً عظيماً تكون لديه قوةُ المقاومة في مواجهة جميع الصعاب، فلا يترك ميدان هداية الخلق تحت أي طائل. وإن أشدَّ ما يشقُ ويتعب ويؤذي الهداة إلى الحق، معاشرة الجهلة ودعوة الحمقى إلى الهدى، كان الحال كذلك ما يزال، لذا وجب أن يكون هؤلاء الهداة متحلين بأسمى مراتب الخُلق الحسن، وأن تكون قوة الرفق والمداراة راسخة فيهم إلى درجة تمكنهم من التغلب على جهالات الجهلة والحمقى، لأن سرعة التأثر والانكماش ومرض الانفعال تنافي مهمتهم المقدسة، والشدة والعنف والاستعجال تصدهم عن القيام بواجبهم في الهداية إلى الله. والإرشادات إلى ذلك كثيرةٌ في الأحاديث الشريفة.
إن أحد الأصول المهمة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأخذُ بالرفق والمداراة، فمرتكب المعصية أو تارك الفريضة ربما أدى منعه عن معصيته بالعنف والشدة، إلى دفعه نحو ارتكاب معصية أكبر حتى ينتهي حاله إلى الردة أو الكفر. لأن طبيعة الإنسان لا تستسيغ مرارة الأمر والنهي، فهما يثيران فيه الغضب والتعصب، لذا يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يجبر مرارة تقبّل الأمر والنهي غير المستساغة بحلاوة طيب الكلام والرفق والمداراة، لكي يؤثر كلامه في القلوب القاسية العاصية، فتلين له وتخضع لأمره ونهيه.
روى الشيخ الصدوق رحمه الله في كتاب الخصال حديثاً شريفاً جاء فيه: "كان آخر ما أوصى به الخضرُ موسى بن عمران عليه السلام أن قال له: لا تُعيَّرنَّ أحداً بذنب، وإن أحبَّ الأمور إلى الله عزّ وجلّ ثلاثة: القصدُ في الجدةِ، والعفو عند المقدرة، والرفقُ بعباد الله، وما رفق أحدٌ بأحدٍ في الدنيا إلّا رفق الله عزّ وجلّ به يوم القيامة، ورأس الحكمة مخافة الله تبارك وتعالى"1.
كما أن الرفق من الأصول المهمة في باب ترويض النفس وسلوك طريق الحق تعالى، وما أكثر ما يؤدي أخذ النفس بالشدة - خاصة في بدايات الأمر لا سيما مع الشباب - إلى تنفيرها من الرياضات والسلوك، وإلى الفرار بالتالي من الحق. وبالفعل فإن الكثير من الشباب انحرفوا بالكامل وصاروا لا يبالون بالشؤون الدينية أصلاً بعد فترة شددوا فيها على أنفسهم بالمواظبة المشدّدة والالتزام المفرط في أداء المستحبات!"2.
1 الخصال، ج1، ص111.
2 جنود العقل والجهل، ص 287.
391
336
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
المفاهيم الرئيسة
1- الخرق هو إساءة العمل بسبب العنف والشدّة وعدم المداراة. وهو يحصل في العبادة وفي الأعمال المختلفة وفي التّعامل مع النّاس. والأخرق هو الذي يفسد هذه الأمور بالشدّة والعنف والحدّة.
2- أسوأ آثار الخرق، ما يرتبط بالإيمان، حيث يؤدّي إلى حجبه بالكامل والحرمان من نوره وهدايته.
3- يؤدّي الخرق أحيانًا إلى عدم استساغة الرّوح واستثقالها للعبادة والعبوديّة، وهذا ما يؤدّي إلى إعراض القلب عن الحقّ تعالى. ولذلك كان الرّفق قفل الإيمان.
4- من أعظم مصاديق الأمر بالمعروف: الدّعوة إلى معرفة الله والسّير والسّلوك وعبور المقامات المعنويّة. لكنّ الأخرق الذي لا يرى إلّا في العنف سبيلًا إلى هذه الدّعوة يسدّ الطّريق على هذه الحقائق والفيوضات المعنويّة التي كان عالم الخلقة من أجلها.
5- ليس كل عنّف وشدّة هو خرق. فالمعيار ينبع من الجهة التّربويّة. فإذا وجدنا أنّه يعين الآخر ويساعده ويربّيه ويكمّله ويزيل من أمامه الموانع، فلا يكون خرقًا.
6- الأخرق إذا استمرّ في خرقه، فهذا يعني أنه يعطّل العقل ويحجبه. وسرعان ما يؤدّي ذلك إلى انطفاء نوره في القلب.
7- للخرق مناشئ عديدة منها: البغض والعداء لعباد الله. احتجاب الفطرة. حبّ الدّنيا. حبّ النفس. عدم القناعة.
8- للخرق آثارًا واضحة، فالكثير منه يظهر على اللسان من خلال استعمال الكلمات النّابية والشّديدة. فإذا علم الإنسان منشأ الخرق وآثاره سهل عليه معرفة العلاج.
9- علاج الخرق يكون بالرفق والمداراة، وحمل النفس على عدم العجلة والتسرّع في الأمور.
392
337
الدّرس السابع والعشرون: الخرق، ماهيته، تشكّله وعلاجه
شواهد من وحي الدّرس
الروايات الشريفة:
1- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الرِّفْقُ يُمْنٌ، وَالْخُرْقُ شُؤْمٌ"1.
2- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مِنَ الْخُرْق الْمُعَاجَلَةُ قَبْلَ الْإِمْكَانِ، وَالْأَنَاةُ بَعْدَ الْفُرْصَةِ"2.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لِسَانُ الْجَهْلِ الْخُرْقُ"3.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً، رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً"4.
5- سَأَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ابْنَهُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَقَالَ: "يَا بُنَيَّ، مَا الْعَقْلُ؟ قَالَ: حِفْظُ قَلْبِكَ مَا اسْتُودِعَهُ... قَالَ: فَمَا الْخُرْقُ؟ قَالَ: مُعَادَاتُكَ أَمِيرَكَ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى ضَرِّكَ وَنَفْعِكَ"5.
6- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا وُضِعَ الرِّفْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا وُضِعَ الْخُرْقُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ، فَمَنْ أُعْطِيَ الرِّفْقَ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ حُرِمَهُ حُرِمَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"6.
7- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهِ الْحُسَيْنِ عليه السلام: "يَا بُنَيَّ، رَأْسُ الْعِلْمِ الرِّفْقُ، وَآفَتُهُ الْخُرْقُ"7.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْخُرْقَ مَنْدَمَةٌ فِي الْعَوَاقِبِ مَكْسَبَةٌ لِلْعَوَائِبِ"8.
9- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "الْخُرْقُ شَيْنُ الْخُلُقِ"9.
1 الكافي، ج2، ص 119.
2 نهج البلاغة، ص 538.
3 مستدرك الوسائل، ج12، ص 73.
4 نهج البلاغة، ص 402.
5 بحار الأنوار، ج69، ص 193.
6 مستدرك الوسائل. ج11، ص 292.
7 (م.ن), ص 294.
8 بحار الأنوار، ج 51، ص 236.
9 مستدرك الوسائل، ج12، ص 72.
393
338
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى الرّغبة وميّزنا بين الرغبة المذمومة والممدوحة.
2- يشرح كيف تؤدّي الرّغبة إلى تسافل الإنسان وتخريب علاقته بالله تعالى.
3- يتعرّف إلى السبيل للتخلّص من هذه الآفة.
394
339
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
تمهيد
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ أولياء الحقّ تعالى يرون البليّات هبات سماويّة، والشّدائد والضرّاء ألطافًا ربّانيّة، هم راضون عن الحقّ تعالى ولا يطلبون غيره، فأرواحهم متطلّعة إلى ذاته المقدّسة، ولا يرون سواه. إذا طلبوا دار كرامته فلأنّها منه وليس بدافع تحقيق الرّغبات النّفسيّة، إنّهم راضون بقضاء الله لأنّه قضاء الله، فحبّهم لله أثمر حبّهم لأسمائه وصفاته وآثاره وأفعاله"1.
وها هو الإمام الخمينيّ قدس سره يلفت نظرنا مرّةً أخرى إلى إحدى السّجايا النّفسيّة السّيّئة بوقوفه عند المقطع المذكور في حديث جنود العقل والجهل المنقول عن الإمام الصّادق عليه السلام، حيث يقول: "والزّهد وضدّه الرّغبة"، ولا شكّ بأنّ كلّ رغبة ليست شرًّا وقبحًا، فإنّ الرّغبة بالأمور المعنويّة التي تنبعث من الكمال أمرٌ ممدوحٌ، وهي منشأٌ لخيرٍ كثير.
يقول الإمام قدس سره: "وفي ليلة المعراج كان الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يُغشى عليه عند مشاهدة كلّ جلوة من جلوات العظمة، ثمّ يفيق بجلوةٍ من جلوات الأنس والرّحمة في كلّ مرة. ولا سبب للخوف في ذلك المقام سوى مشاهدة العظمة، فلا أثر ولا صورة للخوف من العذاب والعقاب، بل إنّ الحاكم على وجوده صلى الله عليه وآله وسلم كان فطرة العشق والمحبّة بتمام حقيقتها. وفطرة الرّهبة والرّغبة بكلّ معناها خالية بالكامل من شوائب الاحتجاب، وحكم الفطرة لا يفترق عن حكم الحقّ جلّ وعلا.
1 جنود العقل والجهل، ص 170.
396
340
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
... من هنا يتّضح أنّ كلّ خوفٍ يحدث عند الأنبياء الكُمَّل والأولياء العظام، ويكون حدوثه بعد حال الصّحو، يختلف بشكلٍ واضحٍ عن خوف غيرهم الذين هم في مقام الاحتجاب. وكذلك الحال بشأن تمايز مقام الرّهبة والرّغبة عندهم عليه السلام عمّا عند غيرهم"1.
إذًا، ما هي الرّغبة المذمومة؟ ومن أين تنشأ؟ وإلى أين تؤدّي؟ وهل يمكن تصفية النّفس وتخليصها منها؟
ما هي الرّغبة المذمومة؟
نتحدّث عن شخصيّة تسيطر عليها حالة الرّغبة بأمور لا ينبغي أن يتوجّه إليها الإنسان أو يسعى لنيلها. وفي البحث الأخلاقيّ، فإنّ هذه الحالة تصبح أزمة ومرضًا عندما تتحوّل إلى ملكة راسخة في النّفس، فتصبغ شخصيّة المتّصف بها بصبغتها.
ولأجل تعريفنا لهذه الحالة المهلكة، ينطلق الإمام من الحالة المضادّة لها، لأنّها أوضح وأجلى بالنّسبة لنا، وهي الزّهد.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "الزّهد في اللغة عبارة عن ترك الشّيء والإعراض عنه وعدم الميل إليه، وعدم الرّغبة فيه. كما فُسّر أيضًا بمعنى حقارة الشّيء وقلّته: يقال: "زهد في الشّيء وعن الشّيء، يزهد زهداً وزهادةً، أي رغب عنه وتركه، وفلان يزهد عطاء فلان، أي يعدّه زهيدًا قليلًا، والزّهد والزّهادة: الإعراض عن الشّيء احتقارًا له، من قولهم: شيءٌ زهيدٌ، أي قليلٌ"2.
"وعليه يتّضح أنّ الزّهد الحقيقيّ من أعظم جنود العقل والرّحمان، وبه يحلّق الإنسان نحو عالم القدس والطّهارة، ويقطع بالكامل تعلّقه بالعالم فيحصل على كمال الانقطاع إلى الله. في حين أنّ الرّغبة في الدّنيا وزخرفها والتّوجّه لزينتها وحبّها، من أعظم جند إبليس والجهل، ومن أدقّ مكائد النّفس التي توقع الإنسان في أسر البلاء، وتضلّه عن طريق الهداية والرّشد، وتحرمه من ثمرة الإنسانيّة، وتمنعه من التّمتّع بثمار شجرة الولاية"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 299 - 301.
2 (م.ن), ص 268 - 269.
3 (م.ن), ص 278.
397
341
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
ثمّ يقول قدس سره عند ذكر الاحتمالات الواردة في معنى الزّهد: "إنّ الرغبة في الشّيء ـ ولا شكّ ـ هي ميلٌ نفسيّ وليس عملًا خارجيًّا، كما أنّها، وإن لم تستلزم العمل، إلّا أنّ العمل يتولّد منها عادةً"1.
فاتّضح أنّ الرّغبة مرضٌ قلبيّ، أو أنّها تدلّ على وجود حالة مرضيّة في القلب، فهي بمنزلة المؤشّر على أنّ القلب في حالة من الخطر، لأنّ رغبته في أمورٍ منحطّة أو وضيعة دليلٌ على أنّ وجهته هي هذه الأمور. ولأنّ القلب أمير البدن، ولأنّ ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾2، فإنّ تلك الرّغبة تسوق صاحبها إلى التّسافل لا محالة.
وسواءٌ جرى التّعبير عن هذه الحالة القبيحة بالرّغبات النّفسيّة أو الرّغبات الدّنيويّة، فإنّ القضيّة واحدة. فالإنسان لا يرغب بأيّ أمرٍ دنيويّ إلّا إذا كان مرغوبًا نفسيًّا، وإنّما تصبح الدّنيا مرغوبةً لأنّها زينة للنّفس، يظنّ طالبها أنّه بالحصول عليها وجمعها يعلي من شأن نفسه، ويضفي عليها اعتبارًا.
إنّ المؤمن لا يرغب بالطّعام شهوةً أو تفاخرًا، لكنّ الكافر يراه شأنًا لنفسه. ولهذا، إذا جاع فإنّه يقول ربّي أهانني3. فالطّعام له كرامة والجوع عنده إهانة. والمؤمن لا يرى المسكن سوى محطّة في رحلة الرّجوع إلى الله تعالى، أمّا الكافر فإنّه يراه كرامة لنفسه وجاهًا. وهكذا، لو تأمّلنا في نظرة أهل الدّنيا للدّنيا لوجدنا أنّهم يطلبونها من أجل النّفس وسلطانها.
من أين تنشأ الرّغبة في الدّنيا؟
إنّ الحديث عن علاقة الإنسان بالدّنيا سيأتي مفصّلًا في مرحلةٍ أعلى إن شاء الله تعالى. ونكتفي في هذا الكتاب بالإشارة إلى أحد أبعاد هذه العلاقة في سياق الحديث عن الرّذائل والملكات القبيحة التي يمكن أن تتّصف بها النّفس. ولا شكّ بأنّ الرّغبة فيها وبأيّ شأن من شؤونها إنّما تنشأ من رؤية القيمة والكمال فيها. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من هنا، فإنّ الزّهد ، الذي هو عبارة عن التّنفّر من النّقص والإعراض عن غير الحقّ، مركوزٌ في الفطرة
1 جنود العقل والجهل، ص 269 - 270.
2 سورة البقرة، الآية 148.
3 ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ سورة الفجر، الآية 16.
398
342
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
المخمّرة السّليمة، ومن الأحكام الفرعيّة لفطرة الله، كما أنّ الرّغبة فيما سوى الحقّ تعالى ـ مهما كان ـ ناشئةٌ من احتجاب الفطرة، لأنّ الفطرة بعد احتجابها بحجب الطّبيعة، مثلاً تتوهّم أنّ محبوبها هو أحد مظاهر الطّبيعة، فتتعلّق به قلبيًّا، الأمر الذي يصدّها عن جمال الجميل، فيكون نصيبها الحرمان من لقاء الله والاحتجاب عنه تعالى"1.
فمتى يرغب الإنسان في شيءٍ ما؟
إنّ الرّغبة بالشّيء تنشأ في إحدى حالتين: فإمّا أنّه يراه كمالًا فيرغب فيه بحكم الفطرة التي تطلب الكمال، وإمّا أنّه يرغب فيه بالرّغم من رؤيته ناقصًا أو قبيحًا، وهذا يحدث عندما يزول نور الفطرة في النّفس وينعدم بشكلٍ تامّ. وإذا كان المرغوب فيه هو الدّنيا، وحيث إنّ الدّنيا هي النّقص، ويغلب عليها النّقص - يعلم هذا من أدرك حقيقة الآخرة وشؤونها -، فإنّ من يراها كمالًا يكون في حالة احتجاب الفطرة، أمّا من رغب فيها، وهو يعلم نقصها، فهو الذي افتقد نور الفطرة في نفسه، ولا يصل إلى هذه الحالة إلّا شرار النّاس.
عندما تحتجب الفطرة، فهذا يعني أنّها تعمل ـ ولو بدرجة محدودة ـ لكنّها تفتقد إلى نور العقل الذي يميّز بين الكمال الواقعيّ والنّقص الحقيقيّ. وغالبًا ما يحدث هذا بسبب عدم اتّباع نداء الفطرة الذي يدعونا إلى كلّ خير. فالعقل نورٌ قابلٌ للاشتداد والازدياد في النّفس فيما إذا عملت وفق أحكامه واتّبعت نداءه. ويضعف فيما إذا لم نعتنِ به ودسنا عليه واتّبعنا رغباتنا النّفسيّة. فيحدث من جرّاء هذا أن تحتجب الفطرة بحجاب الرّغبات هذه، ولا تعرف بعد ذلك وجه الكمال، فتخلط بين الكمال الموهوم والكمال الواقعيّ. ويؤدّي هذا في النّتيجة إلى ازدياد قوّة حضور الرّغبات النّفسيّة وسطوتها وتسلّطها على مملكة الإنسان، حتّى ينجرّ أمرها في النّهاية إلى انطفاء نور الفطرة بالكامل.
لكلّ حالة هنا بداية، ويجب أن نكتشفها. فقضيّة الفطرة عامّة البلوى ومخاطرها كثيرة، ولا يجوز أن نتنصّل من تحمّل المسؤولية تجاهها، سواء في تربية أنفسنا أو أبنائنا.
فلو نشأ الإنسان وترعرع على اتّباع نور الفطرة وإطاعة أحكام العقل لما تولّد في نفسه أيّة رغبة في هذه الدّنيا الدّنيّة، التي نعرف جيّدًا مدى قبحها وحقارتها فيما إذا قارنّاها بالحياة
1 جنود العقل والجهل، ص 277 - 278.
399
343
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
الآخرة. وغالبًا ما تحصل عمليّة تشويه الحقائق في هذه المجتمعات المادّيّة، فيُعرض علينا كل يوم الكثير من الأشياء ،التي يغلب عليها جهة النّقص، في قوالب مزيّنة لترغيبنا بها. وتقوم الدّعايات بشكلٍ مستمرٍّ بتحسين القبيح وتجميل البشع وتقديم المضرّ في قالب المفيد. وفي الوقت نفسه، يتمّ تعطيل عقولنا وإضعافها لكي لا تتمكّن من دراسة وتحليل هذه الأشياء ومعرفة مضارّها وتأثيراتها السّلبيّة.
ولا شكّ بأنّ أيّ مجتمع يسير على غير الصّراط المستقيم الذي ينتهي إلى الآخرة، ولا تنتشر فيه الدعوة إلى الله وتعظيم الحياة الآخرة وتفضيلها، سيفتقد إلى معايير كشف الضّرر والخسران الواقعيّ. ومثل هذا المجتمع يعجز عن فهم السّورة المباركة ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾1.
فانبعاث الرّغبة بالدّنيا يحصل من تعطيل العقل والتضييق عليه وافتقاد الإنسان في بيئته إلى مظاهر الكمال الواقعيّ أو ندرة مشاهدته لهذه المظاهر... فكيف إذا كانت الدّنيا تعرض عليها غدوًّا وعشيًّا في أهيأ هيئة وأعلى زينة؟!
إلى أين تؤدّي الرّغبة بالدّنيا؟
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مجموعة من الآثار الوخيمة لمثل هذه الحالة النّفسيّة القبيحة.
1- فقدان نور العقل
يقول الإمام قدس سره: "ما دام حبّ الدّنيا والرّغبة فيها مستقرّين في قلب الإنسان، فهما يصوّران له جميع عيوب الدّنيا محاسن وقبائحها أمورًا جميلة"2.
1 سورة العصر، الآيات 1-3.
2 جنود العقل والجهل، ص 281.
400
344
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
وهو بهذا الكلام، يلفت نظرنا إلى عاقبة مثل هذه السّجيّة السّيّئة، وهي أن يفتقد الإنسان إلى نور العقل بالكامل، لأنّ العقل ـ كما علمنا ـ هو فيض الله تعالى ونوره الذي جعله الله تعالى هاديًا إلى كلّ خير وكمال. وعندما ينعدم نوره في القلب، يسهل تصوير عيوب الدّنيا وقبائحها على أنّها محاسن وأمور جميلة.
2- التّسافل
ويقول قدس سره بأن "التعلّق بالدّنيا والرّغبة فيها هو أصل أصول الانحدار والاحتجاب، في حين أنّ الزّهد مفتاح كلّ خير، والمفتاح لا يُراد لذاته، بل هو مطلوبٌ لفتح باب السّعادة والمعرفة"1.
فعندما يتوقّف الإنسان عن السّير التّكامليّ، لن يكون أمامه سوى السّير التّسافليّ، لأنّ العالم في حالة من الحركة المستمرّة نحو غاية محدّدة، وحتّى الجبال التي نحسبها جامدة، فهي تمرّ مرّ السّحاب.
3- تحوّل الإنسان إلى موجود شيطانيّ
كما أنّ الرّغبة هذه تسلب الإنسان روح الطّاعات وجوهر العبادات، وتسوق صاحبها إلى أن يصبح موجودًا شيطانيًّا، نعوذ بالله من هذه العاقبة.
لهذا، قال الإمام قدس سره: "وما دام الإنسان في أسر النّفس وشهواتها وحبّها والعجب بها، أي ما دامت صبغته نفسيّة، وهذه هي صبغة الشّيطان، فلن تكون طاعته وعبادته عبادةً لله، ولن تكون رهبته رهبةً من الله ولا رغبته رغبة في الحقّ تعالى، بل تكون جميع أعماله الشّكليّة والمعنويّة والظّاهريّة والقلبيّة، أعمالًا للنّفس مصطبغةً بالصّبغة النّفسيّة الشّيطانيّة"2.
4- الفسق والفجور
ومثل هذا الموجود، الذي سيطرت عليه الرّغبات النّفسيّة وتعمّقت فيه حالة الإقبال على الدّنيا، لن يتورّع عن ارتكاب أيّة جريمة إذا ما وقف أيّ شخصٍ أمامه، أو ارتكاب أيّ فجور إذا ما رآه متناسبًا مع أهوائه ورغباته. لهذا، يقول الإمام قدس سره: "إنّ النّفس ذات الشّهوة المطلقة العنان المتعمّقة فيها والتي أصبحت ملكة ثابتة لها، وتولّدت منها ملكات كثيرة في أزمنة متطاولة، هذه النّفس لا تتورّع عن أيّ فجورٍ تصل يدها إليه، ولا تعرض عن أيّ مال يأتيها، ومن أيّ طريق كان، وترتكب كلّ ما يوافق رغبتها وهواها ـ مهما كان ـ ولو استلزم ذلك أيّ أمر فاسد وحرام"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 282.
2 (م.ن), ص 297.
3 الأربعون حديثًا، ص 42.
401
345
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
5- الاحتجاب عن الحقّ
وأسوأ من ذلك كلّه تلك القطيعة التي تحدث بين المخلوق وربّه والتي تتجلّى في عدم الرّغبة بالسيّر إليه، فيقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم، أنّ الرّغبة في الدّنيا سبب للاحتجاب عن الحقّ تعالى، وللحرمان من السّلوك إلى الله. والمقصود بالدّنيا كل ما يشغل الإنسان عن الحقّ تعالى، ولأنّ هذا المعنى يتحقّق أكثر في عالم الملك، لذا فهذا العالم أحقّ بهذا الاسم ـ الدّنيا ـ من غيره. وهذا ما يشير إليه حديث مصباح الشّريعة عندما يعرف الزّهد بأنّه ترك كل ما يشغل الإنسان عن الحقّ تعالى ويجعله غافلًا عنه"1.
وفي موضعٍ آخر يقول قدس سره: "إنّ أهل الأهواء والرّغبات النّفسيّة المباحة مع الانشغال والانهماك فيها يتخلّفون عن سبيل الحقّ"2.
ونلاحظ في كلّ هذا الكلام أنّ الرّغبة هذه لا يُشترط أن تتعلّق بالأمور القبيحة أو بالمحرّمات لكي تُعدّ أمرًا قبيحًا أو رذيلة موبقة، بل إنّ الرّغبة بالأمور المباحة كافية لجرّ هذا الإنسان إلى تلك القطيعة، ومن المعلوم أنّ معظم الرّغبات الفاسدة تبدأ من الرّغبات المباحة، ولا تتعجّب أيّها العزيز، بعد أن عرفت أنّ مبدأ ذلك كلّه هو احتجاب الفطرة.
6- معاداة أولياء الله
والأثر الآخر لهذه الخصلة ما ذكره الإمام قدس سره أيضًا في كتاب شرح حديث جنود العقل والجهل: "الرّغبة في الدّنيا وزخرفها والتّوجّه لزينتها وحبّها... والتي هي من أدقّ مكائد النّفس التي توقع الإنسان في أسر البلاء، وتضلّه عن طريق الهداية والرّشد، وتحرمه من ثمرة الإنسانيّة وتمنعه من التّمتّع بثمار شجرة الولاية"3.
فضياع إنسانيّة الإنسان، التي هي قاعدة الفطرة وأرضها الصّلبة، سيؤدّي في النّهاية إلى أن يرى مثل هذا المضيّع نفسه في مقابل أولياء الله، الذين هم أعلى مظاهر الكمال في عالمنا.
1 جنود العقل والجهل، ص 275.
2 الأربعون حديثًا، ص 201.
3 جنود العقل والجهل، ص 278.
402
346
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
7- الغضب
أمّا الغضب الذي هو مفتاح كلّ شرّ وأصل الكثير من القبائح والمهلكات، فإنّه يتأجّج ويشتعل مع وجود وقود الرّغبات الشّهوانيّة تلك.
ولهذا يقول الإمام قدس سره: "إنّ أحد الأسباب المثيرة للغضب هو المزاحمة لإحدى الرّغبات النّفسيّة للإنسان، فالكلاب إذا اجتمعت على جيفة ميتةٍ وقع التّزاحم بينها عليها، وأدّى ذلك إلى هيجان الغضب فيها، ثم التّنازع والعراك"1.
8- الذلّ والضّعة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ عبيد الدّنيا وعبيد الرّغبات الذاتيّة، والذين رسن عبوديّة الميول النّفسيّة في رقابهم، يعبدون كلّ من يعلمون أنّ لديه الدّنيا أو يحتملون أنّه من ذوي الدّنيا، ويخضعون له. وإذا تحدّثوا عن التّعفّف، وكبر النّفس كان حديثهم تدليسًا محضًا. وإنّ أعمالهم وأقوالهم تكذّب حديثهم عن عفّة النّفس ومناعتها. وهذا الأسر والرّقّ من الأمور التي تجعل الإنسان دائمًا في المذلّة والعذاب والنّصَب، ويجب على الإنسان ذي النّبل والكرامة أن يلتجئ إلى كلّ وسيلة لتطهير نفسه منها"2.
9- الحرمان من طلب العلم
ولو تأمّلنا في أسباب انعدام رغبتنا بالعلم، أو قلّة توجّهنا إلى المعارف التي هي حياة القلوب، بل هي الحياة الأخرويّة، لوجدنا أنّ تلك السّجيّة النّفسيّة هي أكبر مسؤول عمّا آلت إليه أمورنا.
ولهذا، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "فما دام الإنسان في البيت المظلم للنّفس، ومشدودًا بالتعلّقات والرّغبات النّفسيّة، تكون أبواب المعارف والمكاشفات عليه مسدودة"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 337.
2 الأربعون حديثًا، ص289.
3 (م.ن)، ص 375.
403
347
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
كيف نتعامل مع الرّغبة؟
لا ننسى ما للمعرفة من تأثيرٍ إيجابيٍّ كبيرٍ في النّفوس الطّيّبة، هذه النّفوس التي ما زالت تتمتّع بفاضل الطّينة الولائيّة، ولهذا ذكر الإمام المعرفة على رأس الأمور التي تساهم في التّحرّر من أسر الرّغبات النّفسيّة، أو في عملية البدء بتخليص النّفس من آثارها ومواليدها.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وإذا عرف الإنسان الحقيقة المتقدّمة، ونظر بعين الإنصاف والبصيرة إلى مبتدأ أمره ومنتهاه، عرف أنّ من الواجب الحتميّ عليه أن يجتهد في السّعي لكي يزيح عن طريقه السّلوكيّ هذه العقبة التي تُسمّى حبّ الدّنيا والرّغبة فيها وفي المال والزّخارف... فهذه هي الخطيئة المهلكة التي هي "رأس كل خطيئة" وأمّ كل مرض، ولا مناص له من أن يخرجها من بيت قلبه، ويؤهّله لكي يكون منزلًا للمحبوب، ومحلًّا للتجلّي المطلوب، فيطهّره من الرّجس ومن جنود إبليس والشّرك، ويقطع عنه يد إبليس الخبيث الغاصبة، ويحطّم الأصنام في غرفه وأروقته، لكي يجذب بذلك انتباه صاحب هذا البيت إلى بيته هذا فينوّره بتجلّياته"1
1 جنود العقل والجهل، ص 278.
404
348
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
المفاهيم الرئيسة
1- الشخصية الراغبة هي شخصيّة تسيطر عليها حالة الرّغبة بأمور لا ينبغي أن يتوجّه إليها الإنسان أو يسعى لنيلها. وتصبح هذه الحالة مرضًا عندما تتحوّل إلى ملكة راسخة في النّفس، فتصبغ شخصيّة المتّصف بها بصبغتها.
2- الرّغبة مرضٌ قلبيّ أو أنّها تدلّ على وجود حالة مرضيّة فهي بمنزلة المؤشّر على أنّ القلب في حالة من الخطر، لأنّ رغبته في أمورٍ منحطّة أو وضيعة دليلٌ على أنّ وجهته هي هذه الأمور. ولأنّ القلب أمير البدن، ولأنّ ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾، فإنّ تلك الرّغبة تسوق صاحبها إلى التّسافل لا محالة.
3- ليست كل رغبة شرًّا وقبحًا. فإنّ الرّغبة بالأمور المعنويّة التي تنبعث من الكمال أمرٌ ممدوحٌ وهي منشأٌ لخيرٍ كثير.
4- لا يرغب الإنسان بأيّ أمرٍ دنيويّ إلّا إذا كان مرغوبًا نفسانيًّا، وإنّما تصبح الدّنيا مرغوبةً لأنّها زينة للنّفس، يظنّ طالبها أنّه بالحصول عليها وجمعها يعلي من شأن نفسه ويضفي عليها اعتبارًا.
5- إنّ الرّغبة بالشّيء تنشأ في إحدى حالتين: فإمّا أنّه يراه كمالًا فيرغب فيه بحكم الفطرة التي تطلب الكمال، وإمّا أنّه يرغب فيه بالرّغم من رؤيته ناقصًا أو قبيحًا.
6- انبعاث الرّغبة بالدّنيا يحصل من تعطيل العقل والتضييق عليه وافتقاد الإنسان في بيئته إلى مظاهر الكمال الواقعيّ أو ندرة مشاهدته لهذه المظاهر.
7- تؤدّي الرّغبة بالدّنيا إلى مجموعة من الآثار الوخيمة منها: فقدان نور العقل. الاحتجاب عن الحقّ. معاداة أولياء الله. الغضب. الذلّ والضّعة.
8- إنّ المعرفة على رأس الأمور التي تساهم في التّحرّر من أسر الرّغبات النّفسانيّة وتخليص النّفس من آثارها ومواليدها، فإذا نظر الإنسان بعين الإنصاف والبصيرة إلى مبتدأ أمره ومنتهاه، عرف أنّ من الواجب الحتميّ عليه أن يجتهد في السّعي لكي يخرج حبّ الدّنيا والرّغبة فيها من قلبه ويؤهّله ليكون منزلًا للمحبوب.
405
349
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَفَرِّغْ قَلْبِي لِمَحَبَّتِكَ، وَاشْغَلْهُ بِذِكْرِكَ، وَانْعِشْهُ بِخَوْفِكَ وَبِالْوَجَلِ مِنْكَ، وَقَوِّهِ بِالرَّغْبَةِ إِلَيْكَ، وَأَمِلْهُ إِلَى طَاعَتِكَ، وَأجْرِ بِهِ فِي أَحَبِّ السُّبُلِ إِلَيْكَ، وَذَلِّلْهُ بِالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَكَ أَيَّامَ حَيَاتِي كُلَّهَا، وَاجْعَلْ تَقْوَاكَ مِنَ الدُّنْيَا زَادِي، وَإِلَى رَحْمَتِكَ رِحْلَتِي، وَفِي مَرْضَاتِكَ مَدْخَلِي، وَاجْعَلْ فِي جَنَّتِكَ مَثْوَايَ، وَهَبْ لِي قُوَّةً أَحْتَمِلُ بِهَا جَمِيعَ مَرْضَاتِكَ، وَاجْعَلْ فِرَارِي إِلَيْكَ، وَرَغْبَتِي فِيمَا عِنْدَكَ، وَأَلْبِسْ قَلْبِيَ الْوَحْشَةَ مِنْ شِرَارِ خَلْقِكَ، وَهَبْ لِيَ الْأُنْسَ بِكَ وَبِأَوْلِيَائِكَ وَأَهْلِ طَاعَتِكَ، وَلاَ تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلاَ كَافِرٍ عَلَيَّ مِنَّةً، وَلاَ لَهُ عِنْدِي يَداً، وَلاَ بِي إِلَيْهِمْ حَاجَةً، بَلِ اجْعَلْ سُكُونَ قَلْبِي وَأُنْسَ نَفْسِي وَاسْتِغْنَائِي وَكِفَايَتِي بِكَ وَبِخِيَارِ خَلْقِكَ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "علامات السفهاء خمس: قلّة الحياء، وجمود العين، والرغبة في الدّنيا، وطول الأمل، وقسوة القلب"2.
2- عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أَرْكَانُ الْكُفْرِ أَرْبَعَةٌ: الرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالسَّخَطُ، وَالْغَضَبُ"3.
3- عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا ازْدَادَ عَبْدٌ عِلْمًا فَازْدَادَ فِي الدُّنْيَا رَغْبَةً، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ الله بُعْداً"4.
4- عنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: "مَا أَقْبَحَ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لَهُ رَغْبَةٌ تُذِلُّهُ"5.
5- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "الْحِرْصُ مَطِيَّةُ التَّعَبِ، والرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ"6.
1 الصّحيفة السّجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا أحزنه أمر وأهمّته الخطايا.
2 الديلمي، إرشاد القلوب، ج1، ص 112.
3 الكافي، ج2، ص 289.
4 بحار الأنوار، ج2، ص 38.
5 الكافي، ج2، ص 320.
6 نهج البلاغة، ص 540.
406
350
الدّرس الثامن والعشرون: الرغبة بالدنيا، معناها، نشأتها وطرق معالجتها
6- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تُكَثِّرُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ"1.
7- عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "إِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ، وَعُمِّرَتْ بِالْآمَالِ، وَتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ، لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا، وَلَا تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا، غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ زَائِلَةٌ نَافِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ، لَا تَعْدُو إِذَا هِيَ تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالرِّضَى بِهَا أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ الله سُبْحَانَهُ: ﴿كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا﴾2"3.
8- عَنْ أميرِ المؤمنين عليه السلام: "مَنْ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ غَداً، فَإِنَّهُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً، وَمَنْ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً، يَقْسُو قَلْبُهُ وَيَرْغَبُ فِي الدُّنْيَا وَيَزْهَدُ فِي الَّذِي وَعَدَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى"4.
9- عن الإمام الصادق عليه السلام: "كُلَّمَا أَنْقَصَ مِنَ الْقَنَاعَةِ زَادَ فِي الرَّغْبَةِ وَالطَّمَعُ فِي الدُّنْيَا"5.
10- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ، وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغْبَةِ، فَإِنَّكَ لَنْ تُعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً، وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ الله حُرّاً"6.
11- عَنِ النَّبِيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا تَجْلِسُوا إِلَّا عِنْدَ كُلِّ عَالِمٍ يَدْعُوكُمْ مِنْ خَمْسٍ إِلَى خَمْسٍ: مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِنَ الرِّيَاءِ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَمِنَ الرَّغْبَةِ إِلَى الرَّهْبَةِ، وَمِنَ الْكِبْرِ إِلَى التَّوَاضُعِ، وَمِنَ الْغِشِّ إِلَى النَّصِيحَةِ"7.
1 بحار الأنوار، ج70، ص 91.
2 سورة الكهف، الآية 45.
3 نهج البلاغة، ص 164.
4 مستدرك الوسائل، ج2، ص 106.
5 (م.ن), ج15، ص 224.
6 نهج البلاغة، ص 401.
7 مستدرك الوسائل، ج8، ص 327.
407
351
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى قسوة القلب وآثاره الفردية والاجتماعية.
2- يبيّن كيف تؤدّي القسوة إلى عدم التفاعل مع الآيات الإلهية وعدم التكامل.
3- يتعرّف إلى سبل التخلّص من القسوة.
408
352
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
تمهيد
بقراءةٍ متأنّيةٍ للآيات والرّوايات التي تناولت موضوع القلب1، نستطيع أن نستنتج أنّ هذا المصطلح يشير إلى الهويّة المعنويّة للإنسان، والتي يُعبّر عنها بتعبيرات مختلفة. وهذه الهويّة ترتبط بالمحتوى الدّاخليّ أو الباطنيّ، بمعزل عن حسن هذا المحتوى أو قبحه، أو توجّهه وميله. وعلى هذا الأساس، يكون لكلّ إنسان قلبٌ خاصٌّ به يمكن التعرّف إليه من خلال معرفة الوجهة التي اختارها لقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2.
ويُعدّ العالم الخارجيّ، بأرضه وسماواته وما يتنزّل من الأمر بينهنّ، المسرح الكبير أو المدرسة التي هي مهد تكامل الإنسان، فيما إذا أراد هذا السّبيل وسلكه، أمّا إذا تنكّب عن هذا الصّراط الذي ارتضاه الله له وخلقه من أجله، فإنّ كلّ شيء فيه سيكون حجّة عليه يوم القيامة، لا بل عذابًا وجحيمًا في الآخرة.
ولكي يتكامل الإنسان في هذه المدرسة الكبرى للحياة، يحتاج إلى التّفاعل الباطنيّ معها وفيها، بالإضافة إلى التّفاعل الحسّيّ الذي يُعدّ أمرًا لازمًا ويشترك فيه جميع النّاس. وقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى أنّ الكثير من النّاس لا يتفاعلون مع عالمهم إلّا من خلال الحواس الظاهرة، وقد فقدوا أو خسروا الحواس الباطنة التي هي وسيلتهم للاستفادة المعنويّة والتّكامليّة فيه. ولهذا فالتّفاعل الحسّيّ، إذا لم يجعله صاحبه مقدّمة للتّفاعل القلبيّ، فإنّه سيُعدّ من زمرة الأنعام، بل أضلّ سبيلا.
1 قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ سورة الشعراء، الآيتان 88 - 89، وعن أمير المؤمنينعليه السلام: "فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان" نهج البلاغة، ص119.
2 سورة البقرة، الآية 148.
410
353
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
ويعتمد التّفاعل القلبيّ على كون القلب مفعمًا بالحياة والتأثّر وقابليّة الانفعال. فمن لم يكن قلبه كذلك، فهو محرومٌ من هذه الفرصة الوحيدة لبناء حياة معنويّة تدوم إلى الآخرة، وهذا هو القلب القاسي. ولهذا كان ـ كما جاء في الحديث الشّريف ـ أبعدَ شيء عن الله تعالى1.
ما هي الشّخصيّة القاسية؟
القسوة أو الصّلابة وصفٌ ينطبق على الأبدان كما ينطبق على القلوب، وما يهمّنا هنا هو ما يرتبط بأحوال القلوب. وكما علمنا فإنّ هذه الأحوال سرعان ما تصبح سمةً بارزةً أو ثابتةً فيها، فتطبع صاحبها بشخصيّة محدّدة، وينشأ عنها مجموعة من السّلوكيّات المتكرّرة.
وقد تمرّ قلوبنا بحالاتٍ من القسوة، لكنّ الأخطر هو أن تصبح قاسية، وتثبت على هذه الحالة، فعندها يصبح التّغيير صعبًا جدًّا، وفي بعض الحالات متعذّرًا. وفي حال القلب القاسي، فإنّ الأمر المخيف هو أنّ ما يحتاج إليه الإنسان للتغيير هو رقّة قلب تنفعل بالموعظة والكلمة الطيّبة، وهذا ما يفتقده ها هنا. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ القساوة عبارة عن غلظة القلب وشدّته وصلابته، يُقال: قسا قلبه قساوة وقساءً، غلُظ وصلُب، وحجر وقاس، أي صلب"، ويقابلهما اللين والرقّة، قال تعالى في الآية المباركة: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾2، وفي هذه الآية جعل شرح الصّدر ـ الذي يستلزم قبول الحقّ ـ مقابلًا لقساوة القلب التي تستلزم عدم قبول الحقّ. ثمّ ذكر في الآية اللاحقة اللين ورقّة القلب، وهي المقابل الحقيقيّ للقساوة، فقال: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾3"4.
إنّ القسوة أمرٌ ندركه بالوجدان والتّجربة الحسّيّة، فكثيرًا ما نواجه بعض المواد الطّبيعيّة التي تكون ليّنة رقيقة، ثمّ تقسو عبر بعض العوامل، فتكون في الحالة الأولى طيّعة، ثمّ تصبح
1 "إِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الله الْقَلْبُ الْقَاسِي"، وسائل الشيعة، ج12، ص 194.
2 سورة الزمر، الآية 22.
3 سورة الزمر، الآية 23.
4 جنود العقل والجهل، ص 220 - 221.
411
354
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
عصيّة. وهكذا، نصادف أشخاصًا لا ينفع معهم الكلام الجميل والمعاملة الرّقيقة، فنجدهم لا يتأثّرون بالمواقف التي يخشع القلب لها أو يتأثّر فرحًا أو بكاءً. وفي بعض الأحاديث ذُكرت الرأفة والرّحمة، وجُعل ضدّهما القسوة والغضب.
لهذا قال الإمام الخميني قدس سره: "وما ورد في الحديث الشّريف من ذكر الرأفة والرّحمة كمضادّين للقسوة والغضب، هو ليس من باب المقابلة والمضادّة الحقيقيّة، بل المقصود هو المقابلة على نحو مقابلة اللازم أو الملزوم، لأنّ الرأفة لازمة اللين الذي هو المقابل الحقيقيّ للقسوة، والرّحمة لازمة أو ملازمة للحلم الذي هو المقابل الحقيقي للغضب"1.
ما هي آثار القسوة القلبيّة؟
يكفي أن يُحرم الإنسان من فرصة التّكامل ليكون من الأخسرين، وهل من معنى لوجود البشر في هذا العالم أو غاية سوى التّكامل للوصول إلى لقاء الله تعالى؟!
1- قتل أولياء الله
والقلب القاسي ـ كما علمنا ـ لا يتفاعل مع آيات الله التي تمثّل دروس الحياة ومقامات الوجود. وقد قرأنا في التّاريخ أنّ بني إسرائيل وصلوا إلى حالة من القسوة القلبيّة، بحيث قال الله تعالى عنهم: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾2. فكانوا يقتلون الأنبياء كما يقتل النّاس الحشرات. حتّى أنّهم، وبحسب بعض الرّوايات المنقولة عن أهل بيت العصمة، قتلوا في ليلة واحدة ستّين نبيًّا لهم، ثمّ خرجوا في اليوم التّالي إلى أعمالهم وكأنّ شيئًا لم يكن!
وهذه الظّاهرة الاجتماعيّة ليست منحصرة في التّاريخ، فإنّ أيّ أمّة تقتل أولياءها الإلهيّين ستُصاب حتمًا بهذه الحالة حتى يصبح عندها الإجرام وسفك الدّماء وشقّ الصّدور وأكل القلوب أمرًا تتفاخر به، وذلك لأنّ وجود أولياء الله يمثّل أعظم الآيات التي تكون مليئة بالمعاني. فمن لم يتفاعل قلبه مع وجود الوليّ، لن يتفاعل مع أيّة آية أخرى، وإنّ
1 جنود العقل والجهل، ص222.
2 سورة البقرة، الآية 74.
412
355
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
من جالس وليّاً ربانيّاً، وكان في قلبه شيء من الرقّة، يعلم كيف أنّ مجرّد النّظر إلى عباد الله الصالحين كفيل بإحداث تحوّلٍ نوعيّ في حياة الإنسان.
2- تحريف كتاب الله
ولا شكّ بأنّ نصوص الكتب الإلهيّة، كالتوراة والإنجيل والقرآن، تمثّل خزانة الآيات اللامتناهية، وتعبّر عن حضور الله الأعظم، فكلام الله تعالى هو التجلي الأتم الأعظم لكمالاته. فمن الذي سيجترئ على العبث بها وتحريفها، سوى أصحاب القلوب القاسية! يقول الله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾1.
3- الدّخول في العذاب
إنّ الويل الذي يشير إلى عذاب جهنّم هو من نصيب أصحاب القلوب القاسية التي لا تتفاعل مع ذكر الله.
والمقصود من ذكر الله هو حضور الله. وليس حضور الله سوى ظهور العظمة المطلقة بكلّ معاني الجمال والجلال، قال الله تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾2.
ويذكر الإمام قدس سره بعض المقامات المعنويّة الرّفيعة قائلًا: "وللدّخول في حصن "لا إله الا الله" مراتب، كما أنّ للأمن من العذاب أيضًا مراتب، فمن دخل بباطنه وظاهره وقلبه وقالبه في حصن الحقّ وصار في معاذه، فقد أمِن من جميع مراتب العذاب، وأعلى مراتبها عذاب الاحتجاب عن جمال الحقّ والفراق عن وصال المحبوب جلّ وعلا، فالمولى أمير المؤمنين عليه السلام يقول في دعاء كميل: "فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك"؟، ويدنا عن الوصول إليه قاصرة. فمن حصل له هذا المقام فهو عبد الله على الحقيقة، ويقع تحت قباب الربوبيّة، ويكون الحقّ تعالى متصرّفًا في مملكته، ويخرج من ولاية
1 سورة المائدة، الآية 13.
2 سورة الزمّر، الآية 22.
413
356
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
الطّاغوت. وهذا المقام من أعزّ مقامات الأولياء، وأخصّ مدارج الأصفياء، وليس لسائر النّاس منه حظّ"1.
4- إنكار المقامات
ثمّ يقول قدس سره معلّقاً: "بل لعلّ القلوب القاسية للجاحدين والنّفوس الصّلبة للمجادلين البعيدة عن هذه المرحلة بمراحل تنكر هذه المقامات، ويحسبون الكلام في أطرافها باطلًا، بل ينسبون ـ والعياذ بالله ـ هذه الأمور، التي هي قرّة عين الأولياء والكتاب والسنّة مشحونة بها، إلى اختراعات الصّوفية وأراجيف الحشويّة"2.
ويذكر في محلٍّ آخر كيف أنّ القلوب القاسية يصعب عليها قبول المقامات، فيقول: "واعلم أنّ السّالك الى الله والمجاهد في سبيل الله لا بدّ له أن لا يقتنع بالحدّ العلميّ لهذه المعارف ولا يصرف كلّ عمره في الاستدلال الذي هو حجاب، بل الحجاب الأعظم، لأنّ هذه المرحلة لايمكن طيّها بالرّجل الخشبيّة، بل ولا بطائر سليمان. إنّ هذا الوادي وادي المقدّسين، وهذه المرحلة مرحلة الأحرار، فما لم يخلع نعلي حبّ الجاه والشّرف والأهل والولد، وما لم يلقِ عصا الاعتماد والتوجّه إلى الغير من يمينه، لا يمكن أن يضع قدمه في الوادي المقدّس الذي هو مكان المخلصين ومنزل المقدّسين. وإذا خطا السّالك في هذا الوادي بحقائق الإخلاص، وألقى الكثرات والدّنيا (وهي خيال في خيال) وراء ظهره، فإن بقي فيه بقايا من الأنانيّة فيؤيّد من عالم الغيب ويندكّ جبل إنّيته بالتّجليات الإلهيّة وتحصل له حالة الصّعق والفناء، وقبول هذه المقامات للقلوب القاسية التي ليس عندها خبر سوى الدّنيا وحظوظها ولا تتعرّف على شيء إلّا بالغرور الشّيطاني يكون صعبًا جدًّا وينسب إلى نسج الأوهام"3.
وقد ذكر الإمام قدس سره أنّ إنكار المقامات يُعدّ أسوأ أشواك طريق الإنسانيّة، وهو أكبر موانع السير والسّلوك.
إنّ بعض النّاس ينكرون مثل هذه المقامات دون أن يفكّروا فيها أو يتأمّلوا في معانيها المليئة بالقداسة والجمال والطّهارة، أمّا من عرف فيها مثل هذه القيم، ثمّ أنكرها، فهو بحقّ
1 معراج السالكين، ص 232.
2 (م.ن).
3 (م.ن)، ص 259-260.
414
357
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
صاحب القلب القاسي الذي تلين عنده الصّخور الصّمّاء.
ومثلما أنّ للقسوة القلبيّة آثارًا وعواقب، فهي أيضاً أثرٌ لأمور أخرى وعقاب لأفعال سابقة، وسوف يظهر من كلام الإمام الآتي أهمّ الأسباب التي تؤدّي إلى هذه الحالة المقيتة. وعلى كلّ واحدٍ منّا أن يتأمّل في الأحاديث الشّريفة التي تتحدّث عن الآثار الأخرى لقسوة القلب، فإنّ في هذا التفكّر تليينًا لقلوبنا التي باتت أكثر ميلًا نحو القسوة بفعل ما يرد عليها من أسباب الحجب.
من أين تنشأ القسوة القلبيّة؟
1- احتجاب الفطرة
إنّ العامل الأوّل الذي ذكره الإمام قدس سره وراء قسوة القلوب هو احتجاب الفطرة، لأنّ الفطرة مسؤولة عن التّوجّه والانجذاب إلى آيات الحقّ والجمال في الوجود، وبفضلها يتحقّق الانفعال الباطنيّ تلو الانفعال، فيصبح الباطن عندها رقيقًا.
يقول الإمام قدس سره: "وعلى أيّ حال، فإنّ الفطرة الإنسانيّة إذا قبلت الحقّ استسلمت له تعالى، ولكن إذا غلَّفتها الحجب، وغرقت في التّوجّه للنّفس وفي حبّها، وخضعت لتأثيرات الطّبيعة، نفرت من الحقّ والحقيقة، وظهرت فيها الجلافة والقسوة، فاستكبرت وتمرّدت على طاعة الحقّ تعالى"1.
2- كثرة الكلام واللغو
والعامل الثّاني هو كثرة الكلام واللغو، فقد رُوي عن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تكُثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسوُ القلبِ، إنّ أبعد النّاس من الله القلبُ القاسي"2.
ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "أمّا فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح، فينبغي الالتفات إلى شدّة إضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة، ويلوّثها بالجلافة والكدر والقسوة والغفلة والإدبار عن ذكر
1 جنود العقل والجهل، ص356.
2 بحار الأنوار، ج2، ص144.
415
358
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
الله"1. ويبدو أنّ السّبب يعود إلى أنّ كثرة الكلام بلا طائل تحجب الإنسان عن الانصات والاستماع إلى آيات الله المبثوثة في الآفاق وفي الكتب التّدوينيّة. وفي المقابل، فإنّ من أراد أن تتنزّل عليه الرّحمة الإلهيّة، فليستمع بإصغاء إلى تلاوة الآيات، ﴿وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾2.
3- الأمراض القلبيّة
ولا يخفى أنّ أمراض القلب المختلفة، كالعجب والرّياء، تؤدّي إلى قسوة القلب، لأنّها تسلب منه نعمة الإيمان، هذه النّعمة التي بفضلها يحصل التوجّه والإقبال على آيات الله في العالم.
يقول الإمام قدس سره: "وأمّا اللباس الظاهر فنعمة من الله، يستر عورات بني آدم، وهي كرامة أكرم الله بها عباده ذريّة آدم لم يكرم غيرهم، وهي للمؤمنين آلة لأداء ما افترض الله عليهم، وخير لباسك ما لا يشغلك عن الله عزّ وجلّ، بل يقرّبك من شكره وذكره وطاعته، ولا يحملك فيها على العجب والرّياء والتزيّن والمفاخرة والخيلاء، فإنّها من آفات الدّين، ومورثة القسوة في القلب"3.
كيف نواجه القسوة القلبيّة
ربّما لا يخلو أحد منّا من درجة ما من درجات القسوة القلبية! يشهد على هذا غفلتنا الحاصلة حينًا بعد آخر. وعندما تلين قلوبنا، فإنّ هذا يُعدّ فرصة مهمّة للإشراف على النّفس، واتّخاذ بعض الإجراءات المناسبة لمنع تكرّر القسوة وصيرورتها حالة دائمة.
1- التفكّر في آثار القسوة
ولنستمع إلى الإمام الخمينيّ قدس سره وهو يعظنا في هذا المجال قائلًا: "مسكينٌ هو الإنسان الغافل! إنّه يولي الأمور الدنيويّة الفانية كلّ هذا الاهتمام، ويجهد نفسه في اكتسابها وجمعها، متحمّلاً في ذلك كلّ ذلّة ومشقّة ومحنة، ونصب وتعب، ولا يتورّع عن كلّ عارٍ وخزي
1 جنود العقل والجهل، ص 350.
2 سورة الأعراف، الآية 204.
3 معراج السالكين، ص108.
416
359
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
من أجلها، وهو يرى كلّ يوم أنّ أهلها يتركونها ويرحلون، ولا يأخذون معهم سوى الحسرات، لكنّه رغم ذلك يتهاون إلى هذه الدرجة في اكتساب الإيمان الذي يتكفّل بتحقيق السّعادة الأبديّة له، فيبقى على تهاونه وتساهله في هذا الأمر، رغم كلّ مواعظ الأنبياء والأولياء والكتب السماويّة، فلا يفكّر في يوم مصابه وذلّته وعذابه، ولا تؤثّر في قلبه القاسي كلّ مواعظ القرآن ووعده ووعيده التي تليّن الصّخرة الصّماء، وتخشع لها جبال العالم، أجل، يقول تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾1. فيا أيّها الإنسان ذو القلب القاسي، فكّر في حالك، وانظر ما هو المرض الذي أصاب قلبك فجعله أشدّ قسوة من الصّخرة الصّمّاء؟ فكّر في علّة إعراض قلبك عن كتاب الله المنزّل لإنقاذك من أشكال العذاب والظّلمات"2.
2- القرآن
وإنّ من أعظم الأعمال التي تساهم في رقّة القلب وتحول دون اشتداد قسوته ما نقله الإمام الخمينيّ قدس سره عن الإمام الصّادق عليه السلام: "عن عبد الله بن سليمان، قالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام عَنْ قَوْلِ الله تَعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾3، قال: قال أميرُ المُؤْمِنِينَ عليه السلام: تَبَيَّنْهُ تِبْياناً... لَا تَهُذَّهُ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرَ الرَّمْلِ، ولَكِنْ أَفْزِعُوا قُلُوبَكُ الْقَاسِيَةَ، وَلاَ يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ"4...، أي لا يكن هدفكم ختم القرآن في أيّام معدودة أو الإسراع في قراءة السّورة والبلوغ إلى آخرها. فالإنسان الذي يريد أن يتلو كلام الله، ويداوي قلبه القاسي، ويشفي أمراضه القلبيّة من خلال قراءته للكلام الجامع الإلهيّ، ولكي يطوي مع نور هداية المصباح الغيبيّ المنير، وهذا النّور على النّور السّماويّ، طريق الوصول إلى المقامات الأخرويّة والمدارج الكماليّة، لا بدّ له من توفير الأسباب الظاهريّة والباطنيّة والآداب الصوريّة والمعنويّة"5.
1 سورة الحشر، الآية 21.
2 جنود العقل والجهل، ص 111 - 112.
3 سورة المزمل، الآية 4.
4 الكافي، ج2، ص 614.
5 الأربعون حديثًا، ص 538.
417
360
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
ويقول قدس سره: "فليس هذا الكتاب كتاب قصّة وتاريخ، بل هو كتاب السّير والسّلوك إلى الله، وكتاب التّوحيد والمعارف والمواعظ والحكم. والمطلوب في هذه الأمور هو التّكرار كي يؤثّر في القلوب القاسية وتأخذ منها موعظته"1.
3- التّوجّه إلى مظاهر الرّحمة الإلهيّة
ولا شكّ بأنّ التّمسّك برحمة الله والتّوجّه إلى مظاهرها في الحياة هو الذي يضمن حياة قلبيّة معنويّة وانفعالًا دائمًا تجاه جميع شؤون الرّحمة التي تملأ وجود الإنسان بكلّ معاني الحياة الأبديّة.
ولهذا، يقول الإمام قدس سره: "واسم الرّحمة ، الذي تتفرّع منه الرأفة والعطف ونظائرهما من أسماء الصّفات والأفعال ، هو أكثر اسم عرّف الحقّ تعالى نفسه به، وكرّره في كلّ سورة من سور القرآن، لكي تتعلّق قلوب عباده برحمته الواسعة، فهذا التعلّق هو منشأ تربية النّفوس وتليين القلوب القاسية، فلا يمكن جذب قلوب النّاس وصدّهم عن الطّغيان والتمرّد، بأيّ شيء بمثل ما تجذبهم الرّحمة والرأفة والمودّة، ولهذا فإنّ الأنبياء العظام هم مظاهر رحمة الحقّ جلّ وعلا، ولذلك نلاحظ في آخر سورة التوبة ـ وهي سورة الغضب ـ أنّ الله تعالى وصف رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصّورة: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾2. ويكفي في بيان شدّة رأفته ورحمتهصلى الله عليه وآله وسلم بجميع بني الإنسان قوله تعالى في أوّل سورة الشعراء: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾3، وقوله في أوائل سورة الكهف: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾4"5.
1 معراج السالكين، ص197.
2 سورة التوبة، الآية 128.
3 سورة الشعراء، الآية 3.
4 سورة الكهف، الآية 6.
5 جنود العقل والجهل، ص 218.
418
361
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
4- الإخلاص
إنّ الإخلاص لله تعالى، الذي هو عبارة عن توحيد وجهة القلب إليه مع ما يعنيه من توجّه إلى الكمال المطلق والعظمة اللامتناهية، لن يُبْقي في القلب من القسوة شيئًا.
يقول الإمام قدس سره: "حتى لو كنّا قد عملنا عملًا صالحًا، فإنّه لم يكن خالصًا، بل مشوبًا بالغشّ، ومع آلاف من موانع القبول. وإذا كنّا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علمًا بلا نتيجة، وهذا العلم إمّا أنْ يكون لغوًا وباطلًا، وإمّا أنّه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثيرٌ حتميّ وواضح فينا، نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالًا، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الذي حصل حتّى كان لعملنا وعلمنا مدّة أربعين أو خمسين سنة تأثيرٌ معكوسٌ، بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصّخر القاسي؟!"1.
في التّعامل مع قساة القلوب
1- اعتماد الرقّة والمحبّة في إرشادهم
أمّا التّعامل مع الذين ابتلوا بقسوة قلبيّة وبقي فيهم شيء من الرّقّة، فإنّه يقوم على أن نزيل من قلوبنا تلك القسوة أوّلًا، يقول الإمام قدس سره: "إذا كانت دواعي الإنسان لإرشاد الجاهلين وإيقاظ الغافلين حسّ الرحمة والشّفقة وحقّ الإنسانية والأخوّة، فتكون كيفيّة البيان والإرشاد المترشّحة من القلب الرحيم على نحوٍ يؤثّر حتمًا في المواد اللائقة تأثيرًا حسنًا وتتنازل القلوب الصّلبة القاسية عن استكبارها واستنكارها... فإذا أردت أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وترشد خلق الله، فتذكّر من هذه الآيات الشّريفة التي أُنْزِلت للتذكّر والتّعليم وتعلّم منها، والقَ عباد الله بقلبٍ مليءٍ بالمحبّة وفؤادٍ عطوفٍ واطلب الخير لهم من صميم القلب، فإذا وجدت قلبك رحمانيًّا، ورحيميًّا فقم بالأمر والنهي والإرشاد كي يرقّق برقُ عطف قلبك القلوبَ القاسية، وتلين حديد القلوب بالموعظة الممتزجة بنار محبّتك"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 203.
2 معراج السالكين، ص 246 - 248.
419
362
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
ويقول قدس سره في موضع آخر، يشرح فيه أهمية الرفق في التّعامل مع أصحاب القلوب القاسية: "عندما أمر الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السلام بالذّهاب إلى فرعون ودعوته إلى الحقّ وإرشاده إليه، أوصاهما ـ فيما أوصاهما به ـ أن: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾1. فرغم أنّ فرعون بلغ في طغيان أنانيّته مرتبة ادّعاء الألوهيّة، إلّا أنّ الرّفق والمداراة مع ذلك، أنجعُ في جذب قلبه القاسي، وهذه وصيّة عامّة للهداة إلى طريق الحقّ، تأمرهم بأن يسلكوا سبيل فتح القلوب، ولذلك مدح الله تعالى نبيّهُ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾2"3... لذا يجب على الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر أن يجبر مرارة تقبّل الأمر والنّهي غير المستساغة بحلاوة طيب الكلام والرّفق والمداراة، لكي يؤثّر كلامه في القلوب القاسية العاصية، فتلين له وتخضع لأمره ونهيه"4.
2- التّواضع
"أمّا قوله عليه السلام: "بالتواضع تعمرُ الحكمة"، فالمقصود فيه هو: إمّا أنّ بذور الحكمة لا تنمو في القلب الفاقد للتّواضع، مثلما أنّ النّبتة لا تنمو في الأرض الصّلدة، وإمّا أن يكون المقصود هو أنّ العلماء لا يستطيعون بذر بذور الحكمة وتنميتها في قلوب النّاس ما لم يكن العلماء أنفسهم متواضعين، فينبغي تليين القلوب القاسية بالتّواضع، ثمّ بذر بذور الحكمة فيها، وتوقّع الثّمار منها، وكلا هذين الاحتمالين صحيحان، فالأوّل يرتبط بإصلاح النّفس، والآخر بإصلاح الآخرين.
إذاً، فعلى الذين تصدّوا لإرشاد الخلق وعرّضوا أنفسهم كهداةٍ لطريق السّعادة، أن يدعوا النّاس لذلك بالاتّصاف بهذا الخلق الكريم، ويضعوا نصب أعينهم سيرة الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وكيف كانوا، إلى جانب سموّ مقاماتهم، يتعاملون بالتّواضع مع خلق
1 سورة طه، الآيتان 43 و 44.
2 سورة القلم، الآية 4.
3 جنود العقل والجهل، ص 287 - 288.
4 (م.ن), ص 289.
420
363
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
الله فعليهم أن يقتدوا بهم، ويزيلوا القسوة من قلوب النّاس، ويستقطبونها بأخلاقهم الكريمة"1.
3- موعظة
"اللهمّ، أدخل كلمة التّوحيد إلى قلوبنا القاسية الكدرة، نحن أهل الحجاب والظلمة، وأهل الشّرك والنّفاق، نحن الأنانيّون، عبّاد النّفس، المعجبون بها، أخرج من قلوبنا حبّ النّفس وحبّ الدّنيا، واجعلنا عشّاقًا لله وعبّادًا لك ﴿إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 315 - 316.
2 سورة آل عمران، الآية 26.
3 الأربعون حديثًا، ص 93 - 94.
421
364
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
المفاهيم الرئيسة
1- القساوة عبارة عن غلظة القلب وشدّته وصلابته، ويقابلهما اللين والرقّة. وفي الآية المباركة: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾1، جعل شرح الصّدر ـ الذي يستلزم قبول الحقّ ـ مقابلًا لقساوة القلب التي تستلزم عدم قبول الحقّ.
2- يعتمد التّفاعل القلبيّ على كون القلب مفعمًا بالحياة والتأثّر وقابليّة الانفعال. فمن لم يكن قلبه كذلك، فهو محرومٌ من هذه الفرصة الوحيدة لبناء حياة معنويّة تدوم إلى الآخرة. وهذا هو القلب القاسي.
3- أخطر آثار القسوة القلبيّة، أنها تؤدي بالإنسان إلى عدم التّفاعل مع آيات الله والحرمان من التّكامل، قتل أولياء الله، تحريف كتاب الله، الدّخول في العذاب، إنكار المقامات.
4- إنّ العامل الأول وراء قسوة القلوب هو احتجاب الفطرة. والعامل الثّاني هو كثرة الكلام واللغو. ولا يخفى أنّ أمراض القلب المختلفة كالعجب والرّياء تؤدّي إلى قسوة القلب.
5- نواجه القسوة القلبيّة في أنفسنا من خلال: التفكّر في آثار القسوة. القرآن. التّوجّه إلى مظاهر الرّحمة الإلهيّة. الإخلاص لله تعالى.
6- في التّعامل مع الذين ابتلوا بقسوة قلبيّة وبقي فيهم شيء من الرّقّة، نحتاج إلى أن نزيل من قلوبنا تلك القسوة أوّلًا. ثانيًا، نحتاج إلى التّواضع.
1 سورة الزمر، الآية 22.
422
365
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"إِلَهِي، إِلَيْكَ أَشْكُو قَلْباً قَاسِياً، مَعَ الْوَسْوَاسِ مُتَقَلِّباً وَبِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ مُتَلَبِّساً، وَعَيْناً عَنْ الْبُكَاءِ مِنْ خَوْفِكَ جَامِدَةً، وَإِلَى مَا يَسُرُّهَا طَامِحَةً. إِلَهِي، لاَ حَوْلَ لِي وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِقُدْرَتِكَ، وَلاَ نَجَاةَ لِي مِنْ مَكَارِهِ الدُّنْيَا إِلاَّ بِعِصْمَتِكَ، فَأَسْأَلُكَ بِبَلاَغَةِ حِكْمَتِكَ، وَنَفَاذِ مَشِيَّتِكَ، أَنْ لاَ تَجْعَلَنِي لِغَيْرِ جُودِكَ مُتَعَرِّضاً، وَلاَ تُصَيِّرَنِي لِلْفِتَنِ غَرَضاً، وَكُنْ لِي عَلَى الأَعْدَاءِ نَاصِراً، وَعَلَى الْمَخَازِي وَالْعُيُوبِ سَاتِراً، وَمِنْ الْبَلاَيَا وَاقِياً، وَعَنِ الْمَعَاصِي عَاصِماً، بِرَأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾2.
2- ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾3.
الروايات الشريفة:
1- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا تُمِيتُوا الْقُلُوبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ تَمُوتُ كَالزَّرْعِ، إِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ الْمَاءُ"4.
2- عن الإمام الصادق عليه السلام: "كَثْرَةُ النَّوْمِ تَتَوَلَّدُ مِنْ كَثْرَةِ الشُّرْبِ، وَكَثْرَةُ الشُّرْبِ تَتَوَلَّدُ مِنْ كَثْرَةِ الشَّبَعِ، وَهُمَا يُنْقِلَانِ النَّفْسَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَيُقْسِيَانِ الْقَلْبَ عَنِ التَّفَكُّرِ وَالْخُشُوع"5.
1 الصحيفة السجادية، مناجاة الشاكين.
2 سورة الحديد، الآية 16.
3 سورة الأنعام، الآيتان 42 و 43.
4 مستدرك الوسائل، ج16، ص 209.
5 (م.ن), ص 123.
423
366
الدّرس التاسع والعشرون: القسوة، حقيقتها، آثارها وسبل معالجتها
3- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ الله وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهَا، فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ"1.
4- عن الإمام الصادق عليه السلام: "فيما ناجى به الله موسى عليه السلام: يَا مُوسَى، لَا تُطِلْ فِي الدُّنْيَا أَمَلَكَ، فَيَقْسُوَ قَلْبُكَ، وَقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ، أَمِتْ قَلْبَكَ بِالْخَشْيَةِ، وَكُنْ خَلِقَ الثِّيَابِ، جَدِيدَ الْقَلْبِ، تُخْفَى عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَتُعْرَفُ بَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ، وَصِحْ إِلَيَّ مِنْ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ صِيَاحَ الْهَارِبِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَاسْتَعِنْ بِي عَلَى ذَلِكَ، فَإِنِّي نِعْمَ الْمُسْتَعَان"2.
5- عن الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ الله جَعَلَ الرَّحْمَةَ فِي قُلُوبِ رُحَمَاءِ خَلْقِهِ، فَاطْلُبُوا الْحَوَائِجَ مِنْهُمْ، وَلَا تَطْلُبُوهَا مِنَ الْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَلَّ غَضَبَهُ بِهِمْ"3.
6- عن الإمام الباقر عليه السلام: "مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ الْقَلب"4.
7- عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ وَشِدَّةُ الْحِرْصِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْإِصْرَارُ عَلَى الذَّنْبِ"5.
8- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَمَّتَانِ لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَمَّةٌ مِنَ الْمَلَكِ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ الرِّقَّةُ وَالْفَهْمُ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ السَّهْوُ وَالْقَسْوَةُ"6.
9- عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرِقَّ قَلْبُهُ فَلْيُدْمِنْ أَكْلَ الْبَلَسِ وَهُوَ التِّينُ"7.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 94.
2 الكافي، ج8، ص 42.
3 مستدرك الوسائل، ج7، ص 227.
4 (م.ن), ج12، ص 93.
5 الكافي، ج2، ص 288.
6 (م.ن), ص 330.
7 مستدرك الوسائل، ج16، ص 403.
424
367
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن حقيقة الكفران وكيفية تشكّل الشّخصيّة الكفورة.
2- يتعرّف إلى درجات الكفران المختلفة وبعض آثار الكفران ومفاسده.
3- يشرح السبيل للتخلّص من هذه الموبقة.
426
368
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
تمهيد
خلق الله الإنسان لا ليعيش كما يحلو له، فيعبث ويلهو! بل ليرجع إليه، ويكون خليفته في أرضه، وآية كبرى تدلّ على عظمته وحسن أسمائه. ولكي يتحقّق هذا الهدف أوجده في بيئةٍ ومحيطٍ طبيعيٍّ يدلّه على ربّه، ويدعوه للرّجوع إليه.
وقد جعل الله عزّ وجلّ سبيل الإنسان للرّجوع إليه والوصول إلى لقائه سبيل المحبّة، فبحبّه لخالقه يتّجه إليه ويتحرّك نحوه، ولولا شعلة الحبّ وجذوته في القلب لما سار أيّ مخلوق إلى خالقه أو اندفع أبدًا. وممّا يوقد هذه الشّعلة في القلب، إدراك الإنسان وشعوره بجمال حضور الرّبّ المتعال في حياته. وهذا الجمال إنّما يتحقّق في واقع النّعم التي يفيضها الله علينا ويغمرنا بها، وقيل بأنّ الله تعالى خلق الخلق وتحبّب إليهم بالنّعم، ليعرفوه.
وباختصار، إنّ إدراك النّعمة الإلهيّة وتقديرها وشكرها يُعدّ أوّل خطوة في رحلة السّير إلى الله تعالى. وعندما يفقد الإنسان هذا الشّعور، فهذا يعني أنّه قد توقّف عن السّير الذي خُلق لأجله، فكيف إذا كان يعيش شعورًا معاكسًا، وهو الكفران بالنّعمة؟!
ما هي الشّخصيّة الكفورة وكيف تتشكّل؟
نحن البشر، لا نحتاج إلى تعريفٍ علميٍّ لكي نتصوّر هذا النّوع من الشّخصيّة التي تكفر النّعمة وتجحدها. فالحياة من حولنا مليئة بأمثالها، ولعلّ قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾1، أو قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾2، يشير إلى هذه القضيّة. فكم نرى من أناسٍ لا يعبّرون عن فرحهم وسرورهم وتقديرهم للأمور المفيدة
1 سورة البقرة، الآية 243.
2 سورة سبأ، الآية 13.
428
369
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
التي يحصلون عليها، ويعتبرون أنّ ما نالوه هو أقلّ ممّا يستحقّونه! فهؤلاء هم المصداق البارز للشّخصيّة الكفورة. ولكن، هل للقضيّة عمقٌ آخرٌ ينبغي أن نتعرّف إليه؟ وهل يمكن أن يكون أحدنا مبتليًا بمثل هذا المرض المهلك، وهو لا يدري؟
إنّ ما يقدّمه الإمام الخمينيّ قدس سرهم من ملاحظات حول هذه الحالة، يلفت نظرنا إلى ضرورة أخذ القضيّة على محمل المزيد من الجدّ والانتباه، فبهذه الجدّيّة والعناية يمكن أن ندرك جيّدًا لماذا كان العباد الشّكورون قلّة إلى هذا الحدّ.
1- الجهل بالله
يقول الإمام الخميني قدس سره: "ما دامت حقيقة سريان ألوهيّة الحقّ لم تنتقش في قلب العبد بعد، ولم يؤمن بأنّه "لاَ مُؤَثِّرَ فِي الوُجُودِ إلاَّ الله"، ولا تزال غبرة الشّرك والشّكّ عالقة في قلبه، لا يستطيع أن يؤدّي شكر الحقّ المتعال كما يجب أن يكون. إنّ الذي يلتفت إلى الأسباب، ويرى تأثير الموجودات بصورةٍ مستقلّة، ولا يُرجع النّعَمُ إلى وليّ النّعم ومصدرها، يكون كافرًا بنعم الحقّ المتعالي. إنّه قد نحت أصنامًا وجعل لكلّ واحدٍ منها دورًا مؤثّرًا. إنّه قد ينسب الأعمال إلى نفسه، بل يجعل شخصه متصرّفًا في الأمور، وقد يتحدّث عن فعاليّة طبائع عالم الكون. وقد يرى النّاس بأنّ النّعم من الأرباب الظّاهريين الصّوريين، ويجرّدون الحقّ من التّصرّف، ويقولون بأنّ يد الله مغلولةً! ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾1، في حين أنّ يد الحقّ مبسوطة، وأنّ كلّ دائرة الوجود منه في الواقع والحقيقة، ولا مجال للآخرين فيها، بل إنّ العالم بأسره مظهر قدرته ونعمته، وأنّ رحمته وسعت كلّ شيء وأنّ جميع النّعم منه، وليست لأحدٍ نعمة حتى يُعدَّ منعمًا. بل إنّ وجود العالم منه، وغيره لا وجود له حتّى يصدر عنه شيء، ولكنّ العيون عمياء، والآذان صمّاء والقلوب محجوبة، شعر:
ابحث عن عينٍ تثقب الأسباب الظّاهريّة كي ترى السّبب الحقيقيّ.
إلى متى؟ وإلى أيّ مستوى تكفر قلوبنا الميتة بنعم الحقّ سبحانه، وتتعلّق بهذا العالم وظروفه وأشخاصه؟ إنّ هذه التعلّقات والتّوجّهات، كفرانٌ لنعم ذاته المقدّس، وإسدال ستار على رحمته"2.
1 سورة المائدة، الآية 64.
2 الأربعون حديثًا، ص 380.
429
370
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
إنّ حضور الله في حياتنا ليس له ظهورٌ أقوى من النّعم التي يتحفنا بها، فإذا كان الكفر عبارة عن إنكار حضور الله عزّ وجلّ، فكيف لا يكون إنكار إنعامه سبحانه وتعالى كفرانًا مبينا؟! وكيف لا يكون المنكر هنا كفورًا؟
وقد علمت ممّا سبق أنّ جميع الأحوال النّفسيّة (التي يعبّر عنها بالأخلاق)، ليست سوى انعكاس لطبيعة علاقة الإنسان بربّه، وإن كان هذا الإنسان عن سريرته غافلًا.
2- عدم شكر المخلوق
والشّخصيّة الكفورة التي لا تتفاعل بصورة إيجابيّة مع النّعمة، تشكّل أنموذجًا مهمًّا لدراسة هذه العلاقة.
إنّ بعض الملكات النّفسيّة تحتاج إلى تأمّلٍ وافٍ حتّى نلاحظ فيها هذا الارتباط، بيد أنّ الكفران هو من الوضوح بمكان لا يترك أدنى شكّ بأنّ صاحبه شخصٌ يعيش حالة مأزومة جدًّا مع ربّه وخالقه.
ويظهر الكفران في تعامل الإنسان مع من يجري الله النّعم على أيديهم، لكنّ خروج هذا الإنسان من هذه الحالة المرضيّة لا يكون بمجرّد أن يبدي حالة التّقدير والشّكر لهؤلاء، بل ينبغي أن يكون شكره هنا نابعًا من شكره لوليّ النّعمة الحقيقيّ.
ولهذا يقول الإمام قدس سره: "إنّ شكر المخلوق من الواجبات التي لا شكّ فيها، كما قيل: "من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق"1، ولكن هذا الشّكر ينبغي أن يكون بعنوان أنّ هذا المخلوق هو وسيلةٌ اتّخذها الله لبسط نعمه ورحمته، لا أن يكون شكرك للمخلوق سببًا لحجب نفسك عن الخالق والرّازق الحقيقيّ، فهذا هو عين الكفر بنعمة وليّ النّعم2... وقال الإمام الصادق عليه السلام: "من قصُرت يده بالمكافأة فليُطِل لسانه بالشّكر"3، وقال: "من حقّ الشّكر لله، أن تشكر من أجرى تلك النّعمة على يده". ويتّضح من هذا الحديث الشّريف ما تقدّمت إليه الإشارة من أنّ شكر المخلوق هو لكونه مجريًا للنعّمة الإلهيّة، وإلّا فإنّ الذي يغفل عن وليّ نعمته الحقيقيّ، ويشكر المخلوق بعنوان كونه مستقلًّا بالإنعام، هو
1 الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج2، ص289.
2 جنود العقل والجهل، ص 180.
3 وسائل الشيعة, ج16, ص311.
430
371
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
من الكافرين بالنّعمة الإلهيّة، وهذا ممّا لا يحتاج إلى مزيد توضيح واستشهاد، بل هو واضحٌ بنفسه ومبرهنٌ بذاته"1.
فعندما نعالج هذه الحالة وندرسها، ينبغي أن نلتفت إلى أصل المشكلة فيها. ولكي يتّضح الأمر أكثر نسأل: هل تعتبرون أنّ الإنسان الذي يشكر من يطرق بابه ويقدّم له هديّةً ما، ثمّ لا يشكر من أرسل هذه الهديّة، مع أنّ الموصل قد أخبره باسمه، هل يمكن أن تعتبروه شاكرًا؟
إنّ جميع العقلاء وأصحاب الوجدان السّليم لن يعتبروا مثل هذا الشّخص سوى إنسان مخادع أو متصنّع للشّكر، وإنّما شكَرَ حامل الهديّة وموصلها من باب اللياقة والمجاملة العرفيّة. فإنّ الشّكر الحقيقيّ يكون في توجّهه للمرسل الواقعيّ وتقدير عطائه.
وقد يعذر النّاس مثل هذا المرء إن لم يعلم منشأ الهديّة، ولكن هل يمكن أن يقع مثل هذا الجهل في حياة الإنسان مع ربّه وخالقه؟ وبعبارةٍ ثانية، هل يمكن أن يتلقّى المخلوق كلّ هذه النّعم التي لا تعد ولا تحصى في حياته، ثمّ يبقى جاهلًا بأنّ الذي أنعمها عليه هو ربّ العالمين؟!
لأجل هذا الوضوح اليقينيّ والبرهان الواقعيّ كان المنكِر لحضور الله الإنعاميّ كفورًا. ولا يمكن لمثل هذا الإنسان الذي يغفل عن كلّ هذه الآلاء إلّا أن يجحد في نهاية المطاف، فيتنكّر لمن أجرى الله على أيديهم نعمه وخيراته. فإنّ من ارتكب الكبيرة سهلٌ عليه فعل الصّغائر.
هكذا يريد الإمام الخمينيّ قدس سره أن ينقلنا إلى عمق المسألة، لا لأجل إدانتنا وتوبيخنا، بل لكي نتلمّس الحلّ والمخرج، فنذهب إلى أصل المشكلة، وهي التي تكمن في قضيّة المعرفة بالله تعالى ومستوى حضورها في القلب.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "أجل، إنّ الجاهلين بالتّجلّيات الذّاتيّة الأحديّة، الذين يعتقدون بذاتيّات أصيلة (مستقلّة) للموجودات، واقعون في كفران النّعم الإلهيّة بنحوٍ ما، كما أنّ الذين لم يشاهدوا التجلّيات الأسمائيّة والصّفاتيّة، ولم تتحوّل قلوبهم إلى مرايا للحضرات الأسمائيّة واقعون في الكفران بنحو آخر. كما أنّ الغافلين الجاهلين بالتجلّيات الأفعاليّة والتّوحيد في الأفعال، هم أيضًا يكفرون بالنّعم بنحو آخر من حيث لا يشعرون: ﴿وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾2"3.
1 جنود العقل والجهل، ص182 - 183.
2 سورة الأعراف، الآية 180.
3 جنود العقل والجهل، ص 176.
431
372
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
3- عدم الاستفادة من النّعم
ويذكر الإمام أنموذجًا لهذا الكفر في تعامل الإنسان مع النّعم الباطنة أو النفسيّة الذاتيّة، فيقول قدس سره: "بعد أن اتّضح أنّ الله تبارك وتعالى قد جهّز الإنسان بقوّة الغضب بهدف حفظ النّظام وتحصيل سعادة الدّنيا والآخرة، اتّضح أنّ الإنسان إذا لم يستثمر هذه النّعمة الإلهيّة في موقعها المناسب، ولم يغضب في الموقع المناسب لحفظ هذا الأساس، فقد كفر بنعمة الحقّ تعالى، وبالتّالي يشمله حكم: ﴿وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾1.
4- استخدام النّعم بخلاف الهدف الإلهيّ
والأسوأ والأقبح من ذلك أن يستخدم هذه القوّة الإلهيّة بالاتّجاه المعاكس للهدف الإلهيّ منها، فيسخّرها ضدّ النّظام العائليّ والمدينة الإنسانيّة الفاضلة، فيصير بذلك منتهكًا للحرمات إضافةً إلى كفره بالنّعمة، وهنا تصير القوّة الغضبيّة ـ التي ينبغي أن تكون من الجنود الإلهيّة المعارضة لجنود الجهل والشّيطان ـ من كبار الجنود الشّيطانيّة مضادّة ومعادية لجنود العقل والحقّ تعالى، فتدخل مملكة الغضب شيئًا فشيئًا تحت سيطرة الشّيطان والجهل"2.
ماذا ينشأ من حالة الكفران؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وإذا كفر أحدٌ بنعمة أو أحجم عن حمد المنعم عليه، فقد تكلّف ما يخالف الفطرة الإلهيّة، وخرج عن الغريزة والطّبيعة الإنسانيّة، ولهذا فإنّ عموم البشر ينتقدون وينتقصون فعل الكافرين بالنّعمة، ويرونهم خارجين عن الغريزة الذاتيّة الإنسانيّة"3.
ويعني هذا الكلام أنّ علينا أن نبحث عن أسباب انحراف الفطرة وعوامل احتجابها التي تؤدّي إلى أن يصبح الإنسان في مثل هذه الحالة المزرية فيخالف أوضح مصاديق الفطرة وتوجّهاتها. فالكفران ليس حالة نادرة أو مختصّة ببعض المقامات، بل هو أمرٌ يدركه
1 سورة إبراهيم، الآية 7.
2 جنود العقل والجهل، ص227.
3 (م.ن), ص178.
432
373
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
عموم البشر... وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ الكفور شخصٌ قد تسافل إلى أسفل سافلين.
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَلَوْ فَكَّروا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، وَلكِنَّ الْقُلُوبَ عَلِيلَةٌ، وَالأَبْصَارَ مَدْخُولَةٌ!"1.
فعندما تمرض القلوب وتستخدم الحواس في غير ما خُلقت له، فمن المتوقّع أن يجحد الإنسان قدرة الله العظيمة ويكفر بنعمته الجسيمة، وفي الحديث: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُفْرُ النِّعْمَةِ لُؤْمٌ، وَصُحْبَةُ الْجَاهِلِ شُؤْم"2، واللؤم هو خروج الإنسان عن صراط الإنسانيّة، بحيث لا يُرجى له معه أيّ خير.
هذا، ومن المتوقّع إذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة المرضيّة أن يبخل، لأنّ تقدير النّعمة يتضمّن معرفة جهة المنّة فيها، والمنّة تعني سبق العطاء الإلهيّ على الاستحقاق، والبخيل شخصٌ لا يعطي لأنّه يظنّ أنّه لن يحصل على العوض بعطائه3... أو أن يسرف، لأنّ الكفور لا يقدّر النّعمة، ولا يعرف قيمتها، فينفقها إسرافًا دون هدفٍ أو توازن وينشأ من هذه الخصلة القبيحة الكثير من الأخلاق الرّذيلة، أعاذنا الله منها.
1 نهج البلاغة، ص 270.
2 الكافي، ج8، ص22.
3 "مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ جَادَ بِالْعَطِيَّةِ"، نهج البلاغة، ص 494.
433
374
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- إنّ إدراك النّعمة الإلهيّة وتقديرها وشكرها يُعدّ أوّل خطوة في رحلة السّير إلى الله تعالى. وعندما يفقد الإنسان هذا الشّعور، فهذا يعني أنّه قد توقّف عن السّير الذي خُلق لأجله.
2- المصداق البارز للشّخصيّة الكفورة هم أولئك الذين لا يعبّرون عن فرحهم وسرورهم وتقديرهم للأمور المفيدة التي يحصلون عليها، ويعتبرون أنّ ما نالوه هو أقلّ ممّا يستحقّونه!
3- الكفران ليس حالة نادرة أو مختصّة ببعض المقامات، بل هو أمرٌ يدركه عموم البشر.. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدل على أنّ الكفور شخصٌ قد تسافل إلى أسفل سافلين.
4- إنّ الذي يلتفت إلى الأسباب، ويرى تأثير الموجودات بصورةٍ مستقلّة، ولا يُرجع النّعَمُ إلى وليّ النّعم ومصدرها، يكون كافرًا بنعم الحقّ المتعالي.
5- أقوى ظهور لحضور الله في حياتنا هو في النعم. فإذا كان الكفر عبارة عن إنكار حضور الله عزّ وجلّ، فيكون إنكار إنعامه سبحانه وتعالى كفرانًا مبينا.
6- يظهر الكفران في تعامل الإنسان مع من يجري الله النّعم على أيديهم، لكنّ خروج هذا الإنسان من هذه الحالة المرضيّة لا يكون بمجرّد أن يبدي حالة التّقدير والشّكر لهؤلاء، بل ينبغي أن يكون شكره هنا نابعًا من شكره لوليّ النّعمة الحقيقيّ.
7- إنّ عدم الاستفادة من النّعم أو استخدامها بخلاف الهدف الإلهيّ يُعدّ من الكفران بنعم الحقّ.
8- إذا كفر أحدٌ بنعمة أو أحجم عن حمد المنعم عليه، فقد تكلّف ما يخالف الفطرة الإلهيّة، وخرج عن الغريزة والطّبيعة الإنسانيّة.
9- من المتوقّع إذا وصل الإنسان إلى هذه الحالة المرضيّة:1. أن يبخل، لأنّ تقدير النّعمة يتضمّن معرفة جهة المنّة فيها. والبخيل شخصٌ لا يعطي لأنّه يظنّ أنّه لن يحصل على العوض بعطائه. أو 2. أن يسرف لأنّ الكفور لا يقدّر النّعمة ولا يعرف قيمتها فينفقها إسرافًا دون هدفٍ أو توازن.
434
375
الدّرس الثلاثون: الكفران، حقيقته، آثاره وسبل معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَوْ حَبَسَ عَنْ عِبَادِهِ مَعْرِفَةَ حَمْدِهِ عَلَى مَا أَبْلاَهُمْ مِنْ مِنَنِهِ الْمُتَتَابِعَةِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ نِعَمِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ، لَتَصَرَّفُوا فِي مِنَنِهِ فَلَمْ يَحْمَدُوهُ، وَتَوَسَّعُوا فِي رِزْقِهِ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ، وَلَوْ كَانُوا كَذَلِكَ لَخَرَجُوا مِنْ حُدُودِ الإِنْسَانِيَّةِ إِلَى حَدِّ الْبَهِيمِيَّةِ، فَكَانُوا كَمَا وَصَفَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾1"2.
الروايات الشريفة:
1- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، فِي وَصِيَّتِهِ إِلَى وَلَدِهِ: "وَلَا تَكْفُرْ نِعْمَةً، فَإِنَّ كُفْرَ النِّعْمَةِ مِنْ أَلْأَمِ الْعُذْرِ"3.
2- عن الإمام الرّضا عليه السلام: "مِنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ أَكَلْتُ الطَّعَامَ فَضَرَّنِي"4.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الجزاء على الإحسان بالإساءة كفران"5.
4- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أُتِيَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيُكَافِئْ بِهِ، فَإِنْ عَجَزَ فَلْيُثْنِ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ كَفَرَ النِّعْمَةَ"6.
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "كفران النعم يزلّ القدم ويسلب النّعم"7.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "كُفْرُ النِّعْمَةِ مُزِيلُهَا، وَشُكْرُهَا مُسْتَدِيمُهَا"8.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْق مِنْ نِيَّاتِهمْ، وَوَلَه مِنْ قُلُوبِهمْ، لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِد، وَأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِد"9.
1 سورة الفرقان، الآية 44.
2 الصّحيفة السّجّاديّة، دعاؤه عليه السلام بالتحميد لله عزّ وجل والثناء عليه.
3 مستدرك الوسائل، ج11، ص 353.
4 وسائل الشيعة، ج24، ص 433.
5 غرر الحكم، ص 322.
6 الكافي، ج4، ص 33.
7 غرر الحكم، ص 323.
8 مستدرك الوسائل، ج11، ص 353.
9 نهج البلاغة، ص 256.
435
376
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن المعنى الدّقيق للمراء.
2- يتعرّف إلى الدوافع الأساسية التي تقف خلف المراء .
3- يتعرّف إلى أبرز علامات المراء.
436
377
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
تمهيد
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ذَرُوا الْمِرَاءَ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمَارِي"1.
كثيرةٌ هي الأحاديث التي ذكرت المراء والجدال وحذّرت منهما ومن عاقبتهما السّيّئة في الدّنيا والآخرة. هذا، بالرّغم من وجود شواهد عديدة على أنّ الأنبياء عليهم السلام كانوا يجادلون، وفي بعض الحالات يكثرون الجدال كما حكى الله عن نبيّه نوح عليه السلام بلسان قومه ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾2. فهل هذا تعارض أو تناقض؟ أم للقضيّة وجهًا آخر ينبغي أن نستكشفه؟!
ما هو المِراء؟
عرّف الإمام الخميني قدس سره المراء بأنّه الجدال في الرأي والحديث. واستفاد من الحديث المرويّ عن الإمام الصّادق عليه السلام حول طلبة العلم أنّ المماري شخصٌ يفتقد إلى الدّوافع الإلهيّة، وليس له مقصد من وراء المباحثات العلميّة سوى الأمور والشّؤون النّفسيّة، والتي يُعبّر عنها بطلب حظوظ النّفس، حيث تكون هي الغاية، بدل أن تكون رضا الله وإرادته.
وبحسب الأحاديث والتأمّل في دلالاتها، فإنّ المراء يرتبط بعالم الدّوافع والنّوايا، وإن كان يظهر على اللسان وفي الأقوال. فالمماري في الحقيقة يعيش رغبة شديدة بالظّهور، ويرى الجدال وسيلة فعّالة لتحقيق رغبته تلك، وذلك لأنّه ثبت له أنّ المماراة كفيلة بجذب القلوب، من خلال ما يمكن أن تحقّقه من غلبة على الخصوم في ساحات النّقاش والحوار والمناظرة، وسواء كانت الغلبة الحواريّة في البداية هي التي حفّزت فيه تلك الرّغبة، أو أنّ الرّغبة بالظّهور هي التي دفعته نحو طلب الغلبة في الحديث، فإنّ المماري إذا سيطرت عليه
1 بحار الأنوار، ج2، ص 138.
2 سورة هود، الآية 32.
438
378
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
هذه الحالة وصارت شخصيّته مماريّة، فلن يكون له هدف من أيّ تحرّكٍ علميّ سوى إثبات النّفس. وقد يتّفق أن يكون المماري محقًّا، فيلتبس عليه الأمر، أو يتّخذ ذلك حجّةً للمضيّ قدمًا في عمليّة إثبات الذّات في تفوّقها وعلوّها وحضورها...
علامات المِراء
وبالرّغم من خفاء الأمر أحيانًا، إلّا أنّ للماري علامات يُعرف بها، وقد ذكر الإمام الخمينيّ قدس سره هذه العلامات في شرحه للحديث الوارد عن الإمام الصّادق عليه السلام، فقال:
1- إيذاء النّاس
"منها: إيذاء النّاس، وسوء مجلسه، وهذه من الصّفات الذّميمة والمفاسد التي تكون سببًا مستقلًّا لهلاك الإنسان. وفي الحديث الشّريف المنقول من الكافي "مَنْ آذى لي وَليَّا فَقَدْ بارَزَني بِالْمُحَارَبَةَ"1"2.
2- التصدّي للحديث والبحث العلميّ للتغلّب
"ومنها: المراء والتصدّي للحديث والبحث العلميّ لأجل التغلّب على الآخرين، وإظهار علمه. وأمّا جعله صلوات الله وسلامه عليه، المراء علامة على المراء، فيمكن أن يكون المقصود من المراء الأوّل ـ في كلامه عليه السلام ـ الصّفة القلبيّة وملكته الخبيثة، ومن المراء الذي هو آية وعلامة ـ المراء الثاني ـ الأثر الظّاهر من المراء"3.
3- ادّعاء الحلم
"ومنها: أن يظهر الاتّصاف بالحلم رغم أنّه غير ملتزم به، وهذا هو النّفاق وذو الوجهين والرّياء والشّرك، كما أنّ إظهار الخشوع مع الخلوّ من الورع، من أوضح مصاديق الشّرك والرّياء والنّفاق والتلوّن"4.
1 الكافي، ج1، ص 144.
2 الأربعون حديثًا، ص 408.
3 (م.ن).
4 (م.ن).
439
379
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
4- التّملّق والتزّلّف
"ومنها: أي من الآثار الظاهريّة للجهل والمراء، إنّهم يتزلّفون ويتواضعون تجاه من يطمعون فيه، وينصبون له شَرَكَ التدليس والتّملّق والتّواضع، حتى يصيدوا البسيط من النّاس، ويستفيدوا من حبّهم الدافئ الجميل، وقربهم واحترامهم الدّنيويّ، فهم يدفعون بدينهم وإيمانهم، كي يستفيدوا من دنياهم، وهؤلاء من النّاس الذين ورد فيهم الحديث قائلًا: "... يَطْلَعُ قَوْمٌ مِنْ أَهلِ الجَنَّةِ إلى قَومٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُولُونَ ما أَدْخَلَكُمُ النَّارَ، وإنّمَا دَخَلْنَا الجَنّةَ بِفَضْلِ تَعلِيمِكُمْ وَتَأَدِيِبكُمْ؟! فَيَقُولونَ: إِنَا كُنَا نَأَمُركُمْ بِالخَيرِ، وَلاَ نَفْعَلُهُ"1"2.
5- التكبّر
"ومنها: أنّهم يتكبّرون على أبناء نوعهم وأشباههم وأمثالهم، الذين لا يطمعون فيهم دنيويّ ولكنّهم يعتبرونهم عثرات في طريق تقدّمهم، ويترّفعون عليهم ويحقّرونهم مهما أمكن في سلوكهم وأقوالهم، لأنّهم يخشون أن ينافسوهم يومًا من الأيّام، ويقلّلون من اعتباراتهم"3.
فاتّضح أنّ المراء مرضٌ قلبيّ لا يجتمع مع الإيمان، وفي السلوك يدعو صاحبه إلى الجدال الظاهريّ. فالمشكلة هي ما يجري في الباطن والقلب بالدرجة الأولى، لأنّ أصحاب النّفوس الزكيّة قد يمارون مراءً ظاهرًا، ويجادلون بالتي هي أحسن. ولا إشكال في ذلك طالما أنّ النّفس قد طهُرت من المراء القلبيّ.
6- البعد عن الإيمان
ويُعلم ذلك بالنظر إلى ذكر المراء مقابل الإيمان، لأنّ الإيمان من شؤون القلب، وهو عبارة عن التّصديق بالحقّ وجعله مرجعًا أساسيًّا لأيّ بحث أو نقاش علميّ. أمّا المماري فإنه ينأى عن هذه المرجعيّة، ولا يعتني بها إلّا إذا علم أنّها ستؤيّد رأيه، وكفى بذلك بعدًا عن الإيمان، عن الرسول الأكرمصلى الله عليه وآله وسلم قال: "لاَ يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيَقَة الإِيمَانَ حَتَّى يَدَعَ المِرَاءَ، وَإنْ كَانَ مُحِقّاً"4.
1 وسائل الشيعة، ج16، ص 152.
2 الأربعون حديثًا، ص 410.
3 (م.ن).
4 بحار الأنوار، ج2، ص 138.
440
380
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
7- جحود الحقّ وبثّ الأباطيل
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "للمراء مرتبة باطنيّة وملكة نفسيّة، ومرتبة ظاهريّة تكون نتاجًا لتلك المرتبة الباطنيّة، وآية وعلامة عليها1... وبِالسَّنَدِ الْمُتَّصِل إلى حُجَّةِ الْفِرْقَةِ، وَثِقَتها محمَّد بن يَعْقُوبَ الكُلَيْنِي (رَضِيَ الله عَنْهُ)، عَن عليِّ بن إبراهيمَ، رَفَعَهُ إلى أبي عَبْدِ الله عليه السلام، قالَ: "طَلَبَةُ الْعِلْمِ ثَلاثةٌ فَاْعرفْهُمْ بِأعْيانِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ: صِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْجَهْلِ وَالْمِرَاءِ، وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلاسْتِطَالَةِ وَالْخَتْلِ، وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْفِقْهِ وَالْعَقْلِ. فَصاحِبُ الْجَهْلِ وَالْمِرَاءِ موذٍ مُمارٍ مُتَعَرِّضٌ لِلْمَقالِ في أنْدِيَةِ الرِّجَالِ بِتَذاكُرِ الْعِلْمِ وَصِفَةِ الْحَلْمِ، قَدْ تَسَرْبَلَ بِالْخُشوعِ وَتَخَلّى مِنَ الْوَرَعِ"2. والمراء: الجدال في الرأي والحديث، ومنه مادّة جَدَل التي هي من الصّناعات الخمس المذكورة في المنطق، يُقالُ: مارَيْتُ الرَّجُلَ، أُمارِيه مِراءً، إذا جادَلْتَهُ"3.
... فعُلِمَ بأنّ طلّاب العلم ينقسمون بصورة كليّة أوليّة إلى طائفتين: إحداهما: إنّ هدفهم من وراء طلب العلم يكون إلهيًّا. ثانيهما: إنّ مقصودهم من وراء الدّراسة، أمور نفسيّة. ونستطيع أن نقول أنّ غاية مطلوبهم الجهل، لأنّ العلوم الصّورية التي تحصل لديهم، تكون في الحقيقة من الجهل المركّب والحجب الملكوتيّة. وهذان الصّنفان اللذان ذكرهما الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشّريف الذي شرحناه يلتقيان في هذا الأمر الذي ذكرناه ـ أي الجهل ـ لأنّ أصحاب المراء والجدال وكذلك ذوي الاستطالة والختل، من أرباب الجهل والضّلال، ولهذا يمكننا أن نقول بأنّ "الجهل" الذي جعله الإمام عليه السلام من علامات الصّنف الأوّل، غير "الجهل" الذي له معنىً متعارف، بل المقصود إمّا التباس الأمور، وإلقاء النّاس في الجهالة، أو المقصود من الجهل، التّجاهل وعدم الإذعان للحقّ. كما أنّ هذين الأمرين من خصائص أصحاب المراء والجدال، فإنّهم يجحدون الأمور الحقّة والحقائق الشّائعة ويتجاهلون، حتّى يثبتوا كلامهم، وينعشوا الأباطيل، وينشروا أمتعتهم الفاسدة"4.
1 الأربعون حديثًا، ص 409.
2 الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب النوادر، ح5.
3 الأربعون حديثًا، ص 399 - 400.
4 (م.ن)، ص 405.
441
381
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
الشخصية الجدلية أو الممارية هي شخصية ترى الجدل وسيلة لإثبات الذات، بمعنى إثبات حضورها وقوّتها وتفوّقها، وذلك بحسب المجالس والمواطن، إلا أنّ الهدف واحد. وتُعدّ المخاصمة الكلاميّة من الوسائل القويّة لتحقيق هذا الهدف، باعتبار أنّ التفوّق بالفكر والكلام يكون أكبر من التفوّق بالجسد أو بالسلاح، وذلك لأنّه أوسع تأثيراً في النّاس. فمن يتفوّق على خصمه بالبدن ينقاد بعض الناس إليه، ومن يتفوّق على خصمه بالمال ينقاد الكثيرون إليه، ولكن من يتفوّق على خصومه بالكلام ينقاد أكثر الناس إليه.
موعظة
"الويل لنا نحن أصحاب المراء والجدال وذوي الأهواء النّفسيّة والخصومات، حيث ابتُلينا بهذه النّفس الخبيثة التي لا تعرف الرّحمة والحنان، والتي لا تتركنا، إلى أن تهلكنا في جميع النّشآت والعوالم، ولم نبادر لإصلاحها إطلاقًا، لقد صممنا آذاننا ولم نستيقظ من سباتنا العميق الباعث على التّوغّل في عالم المادّة. إلهي، أنت مصلح العباد، وبيدك القلوب، وطوع قدرتك وجود الكائنات، وتحت هيمنتك، قلوب العباد، وإنّنا لا نملك نفعًا ولا ضرًّا ولا حياةً، ولا موتًا، أَنِرْ يا إلهي بنور فيضك قلوبنا المعتمة، ونفوسنا المظلمة، وأصلح بفضلك ولطفك مفاسدنا، وأنقذ هؤلاء الضّعفاء العُجّز" .
442
382
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
المفاهيم الرئيسة
1- المِراء هو الجدال في الرأي والحديث، وهو في الحقيقة مرض قلبي لا يجتمع مع الإيمان، وإن كان يظهر في السلوك بصورة الجدال.
2- المماري هو شخصٌ يفتقد إلى الدّوافع الإلهيّة وليس له مقصد من وراء المباحثات العلميّة سوى الأمور والشّؤون النّفسيّة والتي يُعبّر عنها بطلب حظوظ النّفس، حيث تكون هي الغاية، بدل أن تكون رضا الله وإرادته.
3- فالمشكلة إذًا هي ما يجري في الباطن والقلب بالدرجة الأولى، لأنّ أصحاب النّفوس الزكيّة قد يمارون مراءً ظاهرًا، ويجادلون بالتي هي أحسن. ولا إشكال في ذلك طالما أنّ النّفس قد طهُرت من المراء القلبيّ.
4- الشخصية الجدلية أو الممارية هي شخصية ترى الجدل وسيلة لإثبات الذات، بمعنى إثبات حضورها وقوّتها وتفوّقها، وذلك بحسب المجالس والمواطن، إلا أنّ الهدف واحد.
5- تُعدّ المخاصمة الكلاميّة من الوسائل القويّة لتحقيق هذا الهدف، باعتبار أنّ التفوّق بالفكر والكلام يكون أكبر من التفوّق بالجسد أو بالسلاح.
6- من علامات المراء: إيذاء النّاس. التصدّي للحديث والبحث العلميّ. ادّعاء الحلم أو إظهار الخشوع المتصنّع. التّملّق والتزّلّف والتكبّر. البعد عن الإيمان: لأنّ الإيمان من شؤون القلب، وهو عبارة عن التّصديق بالحقّ وجعله مرجعًا أساسيًّا لأيّ بحث أو نقاش علميّ. أمّا المماري فإنه ينأى عن هذه المرجعيّة، ولا يعتني بها. جحود الحقّ وبثّ الأباطيل.
443
383
الدّرس الواحد والثلاثون: المِراء (1) - معناه، دوافعه وأبرز علاماته
شواهد من وحي الدّرس
الروايات الشريفة:
1- عن الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام: "الْمِرَاءُ دَاءٌ رَدِيءٌ، وَلَيْسَ فِي الْإِنْسَانِ خَصْلَةٌ أَشَرَّ مِنْهُ، وَهُوَ خُلُقُ إِبْلِيسَ وَنَسَبُهُ، فَلَا يُمَارِي فِي أَيِّ حَالٍ كَانَ، إِلَّا مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِنَفْسِهِ، وَبِغَيْرِهِ مَحْرُوماً مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ"1.
2- عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخٍ لَهُ مُمَارَاةٌ فِي حَقٍّ فَدَعَاهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُرَافِعَهُ إِلَى هَؤُلَاءِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِينَ قَالَ الله عَزَّوَ جَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾2"3.
3- عن الإمام علي عليه السلام: "سِتَّةٌ تُخْتَبَرُ بِهَا عُقُولُ النَّاسِ: الْحِلْمُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالصَّبْرُ عِنْدَ الرَّهَبِ، وَالْقَصْدُ عِنْدَ الرَّغَبِ، وَتَقْوَى الله فِي كُلِّ حَالٍ، وَحُسْنُ الْمُدَارَاةِ، وَقِلَّةُ الْمُمَارَاةِ (لِلنَّاسِ)"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لَيْسَ بِرَفِيقٍ مَحْمُودِ الطَّرِيقَةِ مَنْ أَحْوَجَ صَاحِبَهُ إِلَى مُمُارَاتِه"5.
5- عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لاَ يَسْتَكْمِلُ عَبْدٌ حَقِيَقَة الإِيمَانَ حَتَّى يَدَعَ المِرَاءَ وَإنْ كَانَ مُحِقّاً"6.
6- عن الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام: "الْمُؤْمِنُ يُدَارِي وَلَا يُمَارِي"7.
7- عن عَلِي بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام: "إِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِكَمَالِ دِينِ الْمُسْلِمِ تَرْكُهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَقِلَّةُ مِرَائِهِ وَحِلْمُهُ وَصَبْرُهُ وَحُسْنُ خُلُقِهِ"8.
1 مستدرك الوسائل، ج9، ص 73.
2 سورة النساء، الآية 60.
3 الكافي، ج7، ص 411.
4 غرر الحكم، ص 55.
5 (م.ن), ص 418.
6 بحار الأنوار، ج2، ص 138.
7 (م.ن), ج75، ص 277.
8 الكافي، ج2، ص 240.
444
384
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الآثار الدنيويّة والأخرويّة للمراء على الفرد.
2- يبيّن آثار المراء على الدّين.
3- يشرح كيفيّة التخلّص من المراء.
446
385
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
تمهيد
إنّ الحاجة إلى دراسة عوامل انحطاط المجتمعات وتسافلها وفشل المؤسّسات وضعفها أصبحت أمرًا مشهودًا في كلّ مكان. لكنّ القليل من الباحثين من يسلّط الضّوء على العوامل الأخلاقيّة ويتمكّن من ربطها بآثارها العمليّة والاجتماعيّة.
وتأتي المدرسة الإسلاميّة لتؤكّد على أصالة الواقع والانطلاق منه في كلّ شيء. وليس الحقّ إلا مطابقة الواقع والانطباق معه. فمن أدرك الحقّ واتّبعه انسجم مع الواقع العام للوجود، فاستفاد منه خير استفادة.
وهنا يأتي المراء ليعطّل هذه العمليّة الطيّبة، ويحول دون اتّصال النّاس بوقائع الوجود لكي يستفيدوا منها في رحلة تكاملهم.
لقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمعلى أنّ المراء هو أهم أسباب هلاك الأمم الماضية. فهل تمكّنت الأمّة الإسلاميّة من اكتشاف زوايا هذا المرض وأعراضه الكثيرة فيها؟
ما هي آثار المراء ونتائجه؟
1- هلاك المجتمعات وتسافلها
لو تأمّلنا في الشّخصيّة الممارية لوجدناها شخصيّة تدمّر أركان الحقّ والتّعادل في المجتمع الإنسانيّ، وذلك لأنّ كيان أيّ مجتمع إنّما يقوم على أساس التواصل الفعّال بين أبنائه، ولا يوجد من تواصل بين الناس أفضل من التّواصل العلميّ، وهذا التّواصل العلميّ لكي يكون مثمرًا، ينبغي أن يقوم على أساس البحث عن الحقيقة وإثبات الحقّ واتّخاذه معيارًا وحيدًا. والمماري هو الذي يعبث بهذه العمليّة التي تقوم عليها الحياة الاجتماعيّة السّليمة. والمماري، وإن بدأ بنفسه أذًى وتدميرًا، لكنّه قد يتحوّل إلى ظاهرة عامّة، فلا يبقى في
448
386
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
المجتمع أيّ خير أو هداية! فعندما تغلب على المناظرات والمحاورات حالة الاستعلاء وإثبات الذّات، ينجرّ الأمر ليصبح طابعًا سائدًا في الحياة العلميّة. هذه الحياة التي بها تتكامل المجتمعات البشريّة وتُحفظ.
من هنا نفهم بعض ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هلاك الأمم بسبب المراء، فعن أبي الدرداء وَأَبِي أُمَامَةَ وَوَاثِلَةَ وَأَنَسٍ، قَالُوا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَوْمًا، وَنَحْنُ نَتَمَارَى فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا ذَرُوا الْمِرَاءَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمَارِي، ذَرُوا الْمِرَاءَ فَإِنَّ الْمُمَارِيَ قَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ، ذَرُوا الْمِرَاءَ فَإِنَّ الْمُمَارِيَ لَا أَشْفَعُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ذَرُوا الْمِرَاءَ فَأَنَا زَعِيمٌ بِثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْجَنَّةِ، فِي رِيَاضِهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَعْلَاهَا، لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ صَادِقٌ، ذَرُوا الْمِرَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا نَهَانِي عَنْهُ رَبِّي بَعْدَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الْمِرَاءُ"1.
2- سوء الظّن بالإخوان والنّفاق
أمّا على مستوى العلاقات الفرديّة، يقول الإمام الخميني قدس سره: "في الكافي الشّريف، بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام: قالَ: قالَ أميرُ الْمُؤْمِنِين عليه السلام: "إيّاكُمْ وَالْمِراءَ وَالْخُصُومَةَ، فَإنَّهُما يُمْرِضانِ الْقُلوبَ عَلَى الإخْوانِ، وَيَنْبُتُ عَلَيْهُما النِّفَاقُ"2... أمّا بيان أنّ المراء والخصومة في المقام، يمرضان القلب، ويسيئان نظرة الإنسان إلى أصدقائه ويبعثان النّفاق في القلب، فقد سبق منّا الكلام بأنّ الأعمال الظاهريّة تترك أثارًا في الباطن والقلب، متناسبة مع تلك الأعمال، ونقول هنا بأنّ تأثير الأعمال السيّئة في القلب أسرع وأكثر، لأنّ الإنسان نتاج عالم الطبيعة ـ والمادّة ـ وأنّ القوى الشهويّة والغضبيّة والشيطانيّة ترافقه وتتصرّف فيه، كما ورد في الحديث: "إِنَّ الشَّيْطانَ يَجْري مَجْرَى الدَّمِ مِنْ بَني آدَمَ"3، ولهذا يتّجه القلب نحو المفاسد، والأمور المنسجمة مع الطّبيعة، ولدى وصول أقلّ عون أو مدد من الخارج مثل أعضاء الإنسان أو الصّديق المنحرف السيّئ، يتحقّق الأثر الشّديد في القلب. كما ورد النّهي في الرّوايات الشّريفة عن الصّداقة والمؤاخاة مع المنحرفين.
1 بحار الأنوار، ج2، ص 138.
2 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب المراء والخصومة، ح1.
3 علم اليقين، ج1، المقصد الثاني في العقبات والشّياطين.
449
387
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
... فعُلم أنّ الإنسان لو انصرف إلى المراء والخصومة، لحصلت بعد فترة، ظلمة موحشة في القلب، وأفضت الخصومة اللسانيّة الظاهريّة، إلى الخصومة القلبيّة الباطنيّة. وهذا هو السّبب الكبير للنّفاق والتلوّن، فلا بدّ من معرفة أنّ مفاسد النّفاق تعود إلى مفاسد المراء والجدال أيضًا"1.
فانظر كيف أنّ هذا السّلوك السيّئ، النّابع من حبّ الاستعلاء وحبّ النّفس، يؤدّي إلى جملة من الأمراض القلبيّة التي يكفي كلّ واحد منها لهلاك الإنسان الأبديّ.
3- إنكار مقامات الأولياء
والمماري سرعان ما يجد نفسه في مواجهة مع الحقائق الكبرى، ومن جملة تلك الحقائق ما يرتبط بمقامات الأولياء ومدارج الأصفياء، حيث إنّ هذا الإنكار أصل كلّ شقاء. ويتحدّث الإمام الخميني عن بعض المقامات الإلهية، ويقول الإمام الخميني قدس سره: "وهذا المقام من أعزّ مقامات الأولياء، وأخصّ مدارج الأصفياء، وليس لسائر النّاس منه حظّ، بل لعلّ القلوب القاسية للجاحدين والنّفوس الصّلبة للمجادلين البعيدة عن هذه المرحلة بمراحل تنكر هذه المقامات، ويحسبون الكلام في أطرافها باطلًا، بل ينسبون ـ والعياذ بالله ـ هذه الأمور، التي هي قرّة عين الأولياء والكتاب والسنّة مشحونة بها، إلى اختراعات الصّوفيّة وأراجيف الحشويّة"2.
4- الافتضاح في الدّنيا والآخرة
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وهنا نكتة، لو وقف عندها الإنسان وتأمّل فيها، لانقصم ظهره، وهي أنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول بعد ذكره لهذه العلامة: "فَدَقَّ الله مِنْ هذا خَيْشُومَهُ، وَقَطَعَ مِنْهُ حَيْزومَهُ" وهذه الجملة إمّا إخبار أو دعاءً وعلى أيّ حال فإنّها ستتحقّق، لأنّها إذا كانت إخبارًا، فإنّها إخبارٌ صادقٌ مصدّق، وإن كان دعاءً فهو دعاء معصومٍ ووليّ الله، ويكون مستجابًا وهذا كناية عن الذلّ والهوان والفضيحة. ولعلّ الإنسان يُفتضح في الدّنيا والآخرة ويكون مهانًا فيهما. إنّه يذلّ في هذا العالم أمام أناس أراد أن يكون وجيهًا
1 الأربعون حديثًا، ص 406 - 407.
2 معراج السالكين، ص 232.
450
388
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
عندهم عبر تظاهره بالعلم فعلى العكس من ذلك ينحطّ من قدره، ويذهب ماء وجهه، ويصبح مهانًا وذليلًا أمام من كان يسعى للتفوّق عليهم"1.
وفي موضع آخر يقول قدس سره: "إنّه يذلّ ويهان في عالم الآخرة أمام الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين وأوليائه المعصومين وعباده الصّالحين، ولا يكون له شأنٌ عندهم"2.
5. فقدان البصيرة والحرمان من عطايا العلماء
ويذكر الإمام قدس سره أثرًا آخر للمراء قائلًا: "يجب في هذا المقام أيضًا أن أبيّن نكتة مذكورة في ذيل الجملة الأولى من الحديث الشّريف، وهو أنّ الإمام يقول: "فَأَعْمَى الله عَلى هذا خُبْرَهُ وَقَطَعَ مِنْ آثارِ الْعُلَماءِ أثَرَهُ"، وهذه الجملة أيضًا ستحصل سواء كانت إخبارًا أو دعاءً، ويجب أن يكون الإنسان حذرًا جدًّا من العمى في البصيرة والباطن الذي يكون مصدر كافّة أنواع الشّقاء والظّلمات ومبعثًا لكلّ أصناف التّعاسة. وهكذا، فإنّ "قطع الأثر من آثار العلماء"، والحرمان من كراماتهم وعطاياهم، مضافًا إلى أنّه حرمان في نفسه، يكون شناره وعاره وفضيحته أمام الخواص في ساحة الحقّ المتعالي يوم القيامة أكثر ممّا يتصوّر"3.
في مواجهة هذه الخصلة القبيحة
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فلمّا علمنا أنّ لهذه الصّفة ـ أي المراء ـ مساوئ عظيمة، وأنّ كلّ واحدة منها توجب الموبقات والمهلكات، وجب إنقاذ أنفسنا بالتّرويض والجهد، من هذه الخصلة المشينة والرّذيلة المفسدة للقلب المدمّرة للإيمان، وتطهير النّفس من هذه الظّلمة والغبرة، وتزيين القلب وجلائه بخلوص النيّة وصدق الباطن"4.
وفي قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾5 ربّما يُستفاد أنّ الطّبيعة البشريّة إذا تُركت دون تهذيب وترويض، فإنّها ستّتجه نحو الجدل كلّما حصلت على علم، سواء كان نافعًا أم لا، بسبب عقد الضّعف والحقارة المغروزة فيها.
1 الأربعون حديثًا، ص 408 - 409.
2 (م.ن), ص 409.
3 (م.ن), ص 412.
4 (م.ن), ص 408.
5 سورة الكهف، الآية 54.
451
389
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
فنحن الضّعفاء تكوينًا الذين نفرّ من الضّعف بالفطرة، بدل أن نتّجه إلى مصدر القوّة والعزّة الحقيقيّ، ترانا نتمسّك بقوّتنا الوهميّة الحاصلة من الجدل والمراء والمخاصمة وأمثالها. فإذا حصل لنا نوع من الغلبة، زاد تمسّكنا بها. ونحن غافلون عن هذه الفتنة، وذاهلون عن مكامن خدع الشّيطان وأحابيله.
1- الاقتداء بالأولياء والأنبياء
ولو أنّنا تأمّلنا في سيرة أولياء الله وكيفيّة تعاملهم مع النّاس في نشر الحقّ وتبليغ الحقائق وشدّة اجتنابهم للتّظاهر، لربّما أحدث في أنفسنا ذكرًا.
يقول الإمام قدس سره: "وبالجملة، ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام، وكيفيّة سيرهم وسلوكهم، وكيفيّة تربيتهم عباد الله، وحكمهم مواعظهم ومجادلاتهم الحسنة من أعظم أبواب المعارف والحكم"1.
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام: "اجْلِسْ حَتَّى نَتَنَاظَرَ فِي الدِّينِ، فَقَالَ: يَا هَذَا، أَنَا بَصِيرٌ بِدِينِي مَكْشُوفٌ عَلَيَّ هُدَايَ، فَإِنْ كُنْتَ جَاهِلًا بِدِينِكَ فَاذْهَبْ وَاطْلُبْهُ، مَا لِي وَلِلْمُمَارَاةِ، وإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيُوَسْوِسُ لِلرَّجُلِ وَيُنَاجِيهِ وَيَقُولُ: نَاظِرِ النَّاسَ فِي الدِّينِ، كَيْلَا يَظُنُّوا بِكَ الْعَجْزَ وَالْجَهْلَ، ثُمَّ الْمِرَاءُ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنْ تَتَمَارَى أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فِيمَا تَعْلَمَانِ فَقَدْ تَرَكْتُمَا بِذَلِكَ النَّصِيحَةَ وَطَلَبْتُمَا الْفَضِيحَةَ وَأَضَعْتُمَا ذَلِكَ الْعِلْمَ، أَوْ تَجْهَلَانِهِ فَأَظْهَرْتُمَا جَهْلًا وَخَاصَمْتُمَا جَهْلًا، أَوْ تَعْلَمُهُ أَنْتَ فَظَلَمْتَ صَاحِبَكَ بِطَلَبِكَ عَثْرَتَهُ، أَوْ يَعْلَمُهُ صَاحِبُكَ فَتَرَكْتَ حُرْمَتَهُ وَلَمْ تُنْزِلْهُ مَنْزِلَتَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُحَالٌ، فَمَنْ أَنْصَفَ وَقَبِلَ الْحَقَّ وَتَرَكَ الْمُمَارَاةَ فَقَدْ أَوْثَقَ إِيمَانَهُ وَأَحْسَنَ صُحْبَةَ دِينِهِ وَصَانَ عَقْلَه"2.
2- تطهير النّفس وإخلاص النّيّة
يقول الإمام قدس سره: "إنّ تطهير النفوس، وإخلاص النية، وتصحيح الغايات والأهداف في تحصيل العلم وخاصّة في دراسة المعارف الحقة والعلوم الشرعية، هو الشرط الأول في ذلك، ويؤكدونه على المتعلمين، لأنّه مع تصفية النفس، وتجليتها، يشتدّ ارتباطها بالمبادئ
1 معراج السالكين، ص 197.
2 مستدرك الوسائل، ج9، ص 74.
452
390
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
العالية. وعندما يقول الرب جلّ جلاله في الآية الكريمة ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾1، فلأجل أن التقوى تزكّي النفس وتربطها بعالم الغيب المقدس، ثمّ يكون التعليم الإلهي والإلقاء الرحماني"2.
"وإذا انحرف العالم ـ لا سمح الله عن طريق الإخلاص، وسلك طريق الباطل، اعتبر من علماء السوء الذين هم أسوأ خلق الله، وقد وردت فيهم أحاديث شديدة، وتعبيرات قاسية. ويجب على طلاب العلوم الدينية، والسالكين لهذا السبيل المحفوف بالمخاطر، أن يكون أوّل ما يضعونه بعين الاعتبار، إصلاح أنفسهم أثناء الدراسة ويفضّلوه مهما أمكن على كل شيء، لأنّه أوجب كلّ الواجبات العقلية والفرائض الشرعية وأصعبها.
فيا طلاب العلوم الإسلامية، والكمالات والمعارف، استيقظوا من نومكم، واعلموا أن الله قد أتمّ الحجّة عليكم أكثر، وسيحاسبكم أشدّ، ويكون ميزان أعمالكم وعلومكم مغايراً كلياً لميزان كافة العباد، وصراطكم أرقّ وأدقّ، ومحاسبة الله لكم أعظم"3.
3- التأمّل بأحوال أهل العلم الحقيقيّين وعلامتهم
"لأصحاب الفقه والعقل، الذين يقصدون التفقّه في الدين وإدراك الحقائق أيضاً علامات وآثار، عمدتها ما ذكره الإمام عليه السلام:
أ- الحزن والهمّ والانكسار:
منها: أنّه ينجم عن هذا العلم في قلبه الحزن والهم والانكسار، ومن الواضح أنّ هذا الانكسار والفزع لا يكون لأجل الأمور الدنيوية الدنية الزائلة، بل إنّه ناجم عن الخوف من المعاد، والتقصير في وظائف العبودية. وإنّ الانكسار والحزن مضافاً إلى أنّهما ينيران القلب ويجلّيانه، يكونان مبدءاً لإصلاح النفس، ومنشأً للنهوض بوظائف العبودية. وإنّ هذا النور ـ نور القلب ـ يسلب السكون والقرار من النفس، ويعرّف قلبه على الحق سبحانه وعلى دار كرامته. ويجعله مستمتعاً في مناجاته مع الحقّ المتعالى، فيحيي لياليه ويقوم بوظائف
1 سورة البقرة، الآية 282.
2 الأربعون حديثًا، ص 404.
3 (م.ن), ص 411.
453
391
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
العبودية، كما قال عليه السلام: "قَدْ تَحَنَّكَ في بُرْنُسِهِ، وَقامَ اللَّيْلَ في حِنْدِسِهِ"1 فإنّ الجملة الأولى كناية عن ملازمة العبادة.
ب- الشّعور بالقصور والتقصير:
ومن علامات هذا العالم الرباني أنّه رغم قيامه الكامل بوظائف العبودية يعيش حالة الفزع، لأن نور العلم يهديه إلى أنّه كلّما أدّى وظائفه، يشعر بأنّه قاصر أو مقصّر، وأنه لا يستطيع أن يخرج من مسؤولية شكر نعمه وحقيقة عبادته. فيكون قلبه مملوءًا من الخوف والخشية. وقد قال الحقّ جل جلاله فيهم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾2.
ج- الخوف من يوم القيامة وعدم بلوغ الهدف:
إنّ نور العلم يبعث على الخشية والحزن، وصاحبه رغم إقباله على إصلاح نفسه لا يقرّ له قرار من جرّاء خوفه من يوم القيامة، ويدفعه نحو الطلب من الله في أن يصلحه، ويحذرّه من الانشغال بغير الحقّ، ويبعده عن أهل زمانه، ويجعل هاجسه الخوف من أنّ أهل الدنيا قد يمنعونه من السير إلى الله، والسفر إلى عالم الآخرة، ويزيّنون الدنيا ولذائذها في عينه. والحقّ سبحانه يؤيّد مثل هذا الإنسان، ويقوّي وجوده وينعم عليه بالأمان يوم القيامة"3.
4- الجدال بالتي هي أحسن
وعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيِّ عليه السلام، قَالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ الصَّادِقِ عليه السلام الْجِدَالُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وَالْأَئِمَّةَ الْمَعْصُومِينَ عليهم السلام قَدْ نَهَوْا عَنْهُ، فَقَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: "لَمْ يَنْهَ عَنْهُ مُطْلَقًا، لَكِنَّهُ نَهَى عَنِ الْجِدَالِ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَمَا تَسْمَعُونَ الله يَقُولُ: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾4، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾5، فَالْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قَدْ قَرَنَهُ الْعُلَمَاءُ بِالدِّينِ، وَالْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ
1 الكافي، ج1، ص49.
2 سورة فاطر، الآية 28.
3 الأربعون حديثًا، ص 412 - 413.
4 سورة العنكبوت، الآية 46.
5 سورة النحل، الآية 125.
454
392
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
أَحْسَنُ مُحَرَّمٌ، وَحَرَّمَهُ الله تَعَالَى عَلَى شِيعَتِنَا، وَكَيْفَ يُحَرِّمُ الله الْجِدَالَ جُمْلَةً وَهُوَ يَقُولُ: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾1، فَجَعَلَ عِلْمَ الصِّدْقِ وَالْإِيمَانَ بِالْبُرْهَانِ، وَهَلْ يُؤْتَى بِالْبُرْهَانِ إِلَّا فِي الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؟!"، قِيلَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَمَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالَّتِي لَيْسَتْ بِأَحْسَنَ؟ قَالَ: أَمَّا الْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ تُجَادِلَ مُبْطِلًا فَيُورِدَ عَلَيْكَ بَاطِلًا. فَلَا تَرُدَّهُ بِحُجَّةٍ قَدْ نَصَبَهَا الله تَعَالَى، وَلَكِنْ تَجْحَدُ قَوْلَهُ، أَوْ تَجْحَدُ حَقّاً يُرِيدُ ذَلِكَ الْمُبْطِلُ أَنْ يُعِينَ بِهِ بَاطِلَهُ، فَتَجْحَدُ ذَلِكَ الْحَقَّ مَخَافَةَ أَنْ يكون لَهُ عَلَيْكَ فِيهِ حُجَّةٌ، لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي كَيْفَ الْمَخْلَصُ مِنْهُ، فَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى شِيعَتِنَا أَنْ يَصِيرُوا فِتْنَةً عَلَى ضُعَفَاءِ إِخْوَانِهِمْ وَعَلَى الْمُبْطِلِينَ، أَمَّا الْمُبْطِلُونَ فَيَجْعَلُونَ ضَعْفَ الضَّعِيفِ مِنْكُمْ إِذَا تَعَاطَى مُجَادَلَتَهُ وَضَعُفَ فِي يَدِهِ حُجَّةً لَهُ عَلَى بَاطِلِهِ، وَأَمَّا الضُّعَفَاءُ مِنْكُمْ فَتُغَمُّ قُلُوبُهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ضَعْفِ الْمُحِقِّ فِي يَدِ الْمُبْطِلِ، وَأَمَّا الْجِدَالُ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَهُوَ مَا أَمَرَ الله تَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ أَنْ يُجَادِلَ بِهِ مَنْ جَحَدَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِحْيَاءَهُ لَهُ، فَقَالَ الله حَاكِياً عَنْهُ: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾2، فَقَالَ الله فِي الرَّدِّ عَليه: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ﴾3، فَأَرَادَ الله مِنْ نَبِيِّهِ أَنْ يُجَادِلَ الْمُبْطِلَ الَّذِي قَالَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُبْعَثُ هَذِهِ الْعِظَامُ وَهِيَ رَمِيمٌ، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾4، أَفَيَعْجِزُ مَنِ ابْتَدَأَ بِهِ لَا مِنْ شَيْءٍ أَنْ يُعِيدَهُ بَعْدَ أَنْ يَبْلَى، بَلِ ابْتِدَاؤُهُ أَصْعَبُ عِنْدَكُمْ مِنْ إِعَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا﴾5: أَيْ إِذَا كَمَنَ النَّارَ الْحَارَّةَ فِي الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الرَّطْبِ يَسْتَخْرِجُهَا، فَعَرَّفَكُمْ أَنَّهُ عَلَى إِعَادَةِ مَا بَلِيَ أَقْدَرُ، ثُمَّ قال: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى
1 سورة البقرة، الآية 111.
2 سورة يس، الآية 78.
3 سورة يس، الآيتان 79 و 80.
4 سورة يس، الآية 79.
5 سورة يس، الآية 80.
455
393
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾1، أَيْ إِذَا كَانَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَعْظَمَ وَأَبْعَدَ فِي أَوْهَامِكُمْ وَقَدَرِكُمْ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ مِنْ إِعَادَةِ الْبَالِي، فَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ مِنَ الله خَلْقَ هَذَا الْأَعْجَبِ عِنْدَكُمْ وَالْأَصْعَبِ لَدَيْكُمْ وَلَمْ تُجَوِّزُوا مِنْهُ مَا هُوَ أَسْهَلُ عِنْدَكُمْ مِنْ إِعَادَةِ الْبَالِي؟! قَالَ الصَّادِقُ عليه السلام: فَهَذَا الْجِدَالُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، لِأَنَّ فِيهَا قَطْعَ عُذْرِ الْكَافِرِينَ وَإِزَالَةَ شُبَهِهِمْ، وَأَمَّا الْجِدَالُ بِغَيْرِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بِأَنْ تَجْحَدَ حَقّاً لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاطِلِ مَنْ تُجَادِلُهُ وَإِنَّمَا تَدْفَعُهُ عن بَاطِلِهِ بِأَنْ تَجْحَدَ الْحَقَّ، فَهَذَا هُوَ الْمُحَرَّمُ لِأَنَّكَ مِثْلُهُ جَحَدَ هُوَ حَقّاً وَجَحَدْتَ أَنْتَ حَقّاً آخَرَ"2.
1 سورة يس، الآية 81.
2 بحار الأنوار، ج2، ص125.
456
394
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- يؤدّي المراء إلى:
- هلاك المجتمعات وتسافلها، فالمماري وإن بدأ بنفسه أذًى وتدميرًا، لكنّه قد يتحوّل إلى ظاهرة عامّة، فلا يبقى في المجتمع أيّ خير أو هداية.
- سوء الظّنّ بالإخوان والنِّفاق، فالخصومة اللّسانيّة الظّاهريّة قد تتحوّل إلى خصومة قلبيّة باطنيّة.
- إنكار مقامات الأولياء، الذي هو أصل كلّ شقاء.
- الافتضاح في الدّنيا والآخرة.
- فقدان البصيرة والحرمان من عطايا العلماء.
- إبطال الدّين، لأن كشف الحقائق يعتمد على طلب الحقّ.
2- التخلّص من المِراء يكون بـ:
- الاقتداء بالأولياء والأنبياء: الذين اعتمدوا الموعظة الحسنة واجتنبوا المراء.
- تطهير النّفس وإخلاص النّيّة.
- التأمّل بأحوال أهل العلم الحقيقيّين وعلامتهم كالحزن والهم والانكسار النّاشئ من الخوف من المعاد، والشّعور بالقصور والتقصير، والخوف من يوم القيامة وعدم بلوغ الهدف.
457
395
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ، فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيحِ، وَطِيبِ الْمُخَالَقَةِ، وَالسَّبْقِ إِلَى الْفَضِيلَةِ، وَإِيثَارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْيِيرِ، وَالإِفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَالْقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإِنْ عَزَّ، وَاسْتِقْلاَلِ الْخَيْرِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي، وَأَكْمِلْ ذَلِكَ لِي بِدَوَامِ الطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَرَفْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمُسْتَعْمِلِ الرَّأْيِ الْمُخْتَرَعِ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَرْبَعٌ يُمِتْنَ الْقَلْبَ: الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ، وَكَثْرَةُ مُنَاقَشَةِ النِّسَاءِ، يَعْنِي مُحَادَثَتَهُنَّ، وَمُمَارَاةُ الْأَحْمَقِ، تَقُولُ وَيَقُولُ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى خَيْرٍ أَبَداً، وَمُجَالَسَةُ الْمَوْتَى" فَقِيلَ لَهُ، يَا رَسُولَ اللهصلى الله عليه وآله وسلم، وَمَا الْمَوْتَى؟ قَالَ: "كُلُّ غَنِيٍّ مُتْرَفٍ"2.
2- قَالَ لُقْمَانُ عليه السلام لِابْنِه: "مَنْ يُشَارِكِ الْفَاجِرَ يَتَعَلَّمْ مِنْ طُرُقِهِ، مَنْ يُحِبَّ الْمِرَاءَ يُشْتَمْ وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السُّوءِ يُتَّهَم"3.
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "جِمَاعُ الشَّرِّ اللَّجَاجُ وكَثْرَةُ الْمُمَارَاة"4.
4- عَن الإمامِ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: "مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، إِنَّ الرِّئَاسَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِأَهْلِهَا"5.
1 الصّحيفة السّجّاديّة، دعاؤه عليه السلام في مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال.
2 اوسائل الشيعة، ج20، ص 197.
3 الكافي، ج2، ص 641.
4 غرر الحكم، ص 463.
5 الكافي، ج1، ص 47.
458
396
الدرس الثاني والثلاثون: المِراء (2) - آثاره وسبل معالجته
5- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الَّتمارِي، وَالهَوْلِ، وَالتَّرَدُّدِ، والاْسْتِسْلاَمِ، فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُه، وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَمَن تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْهُ سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ، وَمَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا"1.
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْيَدَعِ الْمِرَاءَ"2.
7- عَنِ الإمامِ الرِّضَا عليه السلام: "الْمِرَاءُ فِي كِتَابِ الله كُفْرٌ"3.
8- عنِ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام: "يَا ابْنَ النُّعْمَانِ، إِيَّاكَ وَالْمِرَاءَ فَإِنَّهُ يُحْبِطُ عَمَلَكَ، وَإِيَّاكَ وَالْجِدَالَ فَإِنَّهُ يُوبِقُكَ، وَإِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْخُصُومَاتِ فَإِنَّهَا تُبْعِدُكَ مِنَ اللَّهِ"4.
1 نهج البلاغة، ص 473.
2 (م.ن), ص 538.
3 وسائل الشيعة، ج27، ص 203.
4 مستدرك الوسائل، ج9، ص 73.
459
397
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى المعنى الدقيق لطول الأمل.
2- يبيّن كيف تتشكّل الشخصيّة المؤمّلة.
3- يشرح كيفيّة التخلّص من هذه الرّذيلة.
460
398
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
تمهيد
من الحالات النفسيّة الباطنيّة التي ذُكرت في الأحاديث والرّوايات بصورةٍ سلبيّةٍ حالة طول الأمل، والتي إذا استحكمت في القلب تؤدّي إلى تشكّل شخصيّة مريضة وفق موازين الآخرة والمعنويّات الإسلاميّة، ووفق ميزان الصّلاح والفساد العمليّين.
للوهلة الأولى، قد يسأل الإنسان: لماذا يُعدّ الأمل الطّويل والبعيد بهذه الدّنيا وبالعيش فيها مشكلة، طالما أنّه غير مرتبط بأيّ قبيح؟! وهل من سوء في أن يحلم الإنسان بالعمر المديد؟
لربّما كان هذا من أجل التنعّم بطيّبات الحياة الدّنيا أو حتّى القيام بالأعمال الصّالحة!
والإجابة عن هذه الأسئلة تساعدنا في التعرّف على أبعاد جديدة في عالم المعنويّات وأنماط الشخصيّات، لنتمكّن بالتّالي من إدراك أهمّ أسباب الآلام النّفسيّة والانحرافات المسلكيّة.
ما هو طول الأمل؟
نقرأ في الدّعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ ابْتَلَيْتَنَا فِي أَرْزَاقِنَا بِسُوءِ الظَّنِّ، وَفِي آجَالِنَا بِطُولِ الأَمَلِ حَتَّى الْتَمَسْنَا أَرْزَاقَكَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقِينَ، وَطَمِعْنَا بِآمَالِنَا فِي أَعْمَارِ الْمُعَمَّرِينَ"1. وندرك العلاقة بين طول الأمل والطّمع بالعمر الطّويل في الدّنيا. فطويل الأمل هو الذي يحلم دومًا ويتمنّى أن يدرك بعض الأمور الدّنيويّة في المدّة الزّمنيّة التي تزيد عن المدّة الطّبيعيّة لتوقّعات الإنسان المؤمن بالحياة الآخرة.
1 الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا قُتّر عليه رزقه.
462
399
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
فعلى سبيل المثال، قد يتوقّع المؤمن أن يعيش ثلاثة أشهر إضافيّة من أجل الذّهاب إلى الحجّ، فيعمل على هذا الأساس، باعتبار أنّ الحجّ يتطلّب تحضيرات مسبقة تمتدّ لثلاثة أشهر، لكنّ ترقّبه وانتظاره للعيش من أجل بلوغ أمرٍ دنيويّ سوف يدخل في طول الأمل السّلبيّ! وسرّ ذلك هو أنّ من أمّل شيئًا ليس بحاجة إليه في مسيرته الأخرويّة وسفره المعنويّ، فهذا يعني أنّه دخل في سفرٍ وتوجّه مختلفين... ولكي يتّضح الأمر أكثر، ينبغي أن نعتقد بأنّ الدّنيا عندما تكون مقصدًا فإنّها تصبح عدوًّا للآخرة، وطريقًا بالاتّجاه الآخر، بحيث إنّ طالب الدّنيا كلّما خطا خطوةً باتّجاهها، فهذا يعني أنّه ابتعد بنفس المقدار ـ إن لم يكن أكثر ـ عن الآخرة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ عَدُوَّانِ مُتَفَاوِتَانِ، وَسَبِيلاَنِ مُخْتَلِفَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا وَتَوَلاَّهَا أَبْغَضَ الآخِرَةَ وَعَادَاهَا، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَاشٍ بَيْنَهُمَا، كُلَّمَا قَرُبَ مِنْ وَاحِد بَعُدَ مِنَ الآخَرِ، وَهُمَا بَعْدُ ضَرَّتَانِ!"1. وهذا هو المعنى المستفاد من قوله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾2.
الحيثيّة الوحيدة التي لا تجعل الدّنيا عقبة أو مانعًا من سلوك طريق الآخرة التي خُلقنا لها هي: عندما تكون الحياة الدّنيا في خدمة الأهداف والمشاريع الإلهيّة.
في مثل هذه الحالة لن يبقى أيّ داعٍ لطول الأمل لسببٍ بسيط، وهو أنّ توفيق العمل الصّالح لا يرتبط بالزّمان والمكان والشّخص. فنحن نرجو من الله أن يتحقّق النّصر على التّكفيريّين أو أن تُقام دولة الإسلام في هذه البقعة من الأرض... وبالرّغم من شدّة شوقنا ورجائنا، لكنّنا لا نعيش مثل هذا الحلم لأنفسنا ومصالحنا الشّخصيّة، ولا نربطه بطول المدّة، لأنّ الله تعالى قادرٌ على أن يحقّقه في برهةٍ وجيزة لا تخطر على قلب بشر. وهذا هو الأمل الكبير بالله. ولأنّ نفوسنا تبقى متعلّقة بما هو أجمل وأرقى من كلّ خيرات الدّنيا وبركاتها، فإذا جاء موعد الرّحيل ولو مفاجئًا، لن نُصاب بالصّدمة أو الخيبة، إيمانًا منّا أنّنا سننتقل إلى رحمة ومغفرة هما خيرٌ ممّا يجمعون.
1 نهج البلاغة، ص486.
2 سورة الشورى، الآية 20.
463
400
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
هكذا يظهر لنا أنّ طول الأمل بالدّنيا والعيش فيها يتنافى في جوهره مع العقيدة الصّحيحة والتوجّه الصّادق. ولن يكون له مبرّر سوى الاعتقاد بقيمة الدّنيا وملذّاتها. وإذا اعتقد المرء بأيّة قيمة للدّنيا ـ حتّى الحلال منها ـ فهذا يعني عدم إدراك قيمة الآخرة أو نسيان قيمتها وعظمتها. فمع حضور عظمة الآخرة في القلب لا يمكن أن يبقى من قيمة لأيّ شيءٍ آخر، وذلك لأنّ المقارنة هنا ليست بين كمالٍ محدود وكمالٍ أكبر منه، بل هي مقارنة بين الفاني والزّائل من جهة، والمطلق والباقي من جهة ثانية! فهل يبقى لكمالات الدّنيا بعد هذا من عين أو أثر؟!
ما هي آثار طول الأمل ونتائجه؟
فلنتأمّل في هذا الكلام النّورانيّ للإمام الخمينيّ قدس سره الذي يكشف لنا بالوجدان عن الآثار السّلبيّة المتعاقبة لروحيّة طول الأمل:
1- الغفلة عن الآخرة
"اعلم أنّ المنزل الأوّل من منازل الإنسانيّة هو منزل اليقظة كما يقول كبار أهل السلوك في بيانهم لمنازل السّالكين، ولهذا المنزل كما يقول الشيخ العظيم الشأن الشاه آبادي ـ دام ظلّه ـ بيوت عشرة، لسنا الآن بصدد تعدادها. ولكن ما يجب قوله هو أنّ الإنسان ما لم ينتبه إلى أنّه مسافرٌ، ولا بُدَّ من السير، وأنّ له هدف وتجب الحركة نحوه، وأنّ البلوغ إلى المقصد ممكن، لما حصل له العزم والإرادة للتحرّك. ولكلّ واحدٍ من هذه الأمور، شرح وبيان لو ذكرناه لطال بنا المقام.
ويجب أن نعرف أنّ من أهمّ أسباب عدم التيقّظ الذي يؤدّي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير، وإلى إماتة العزم والإرادة، هو أن يظنّ الإنسان أنّ في الوقت متّسعًا للبدء بالسّير، وأنّه إذا لم يبدأ بالتحرّك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غدًا، وإذا لم يكن في هذا الشّهر، فسيكون في الشّهر المقبل. فإنّ طول الأمل هذا وامتداد الرّجاء، وظن طول البقاء، والأمل في الحياة ورجاء سعة الوقت، يمنع الإنسان من التّفكير في المقصد الأساسيّ الذي هو الآخرة. ومن لزوم السّير نحوه ومن لزوم اتّخاذ الصّديق وتهيئة الزّاد للطّريق، ويبعث الإنسان على نسيان الآخرة ومحو المقصد من فكره.
464
401
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
ولا قدّر الله إذا أصيب الإنسان بنسيان الهدف المنشود في رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع ضيق الوقت وعدم توفّر العُدَّة والعدد، رغم ضرورتهما في السفر ـ فإنّه من الواضح لا يفكّر في الزّاد والرّاحلة، ولوازم السّفر وعندما يحين وقت السّفر يشعر بالتّعاسة، ويتعثّر ويسقط في أثناء الطّريق، ويهلك دون أن يهتدي إلى سبيل"1.
2- عدم التهيئة والاستعداد للآخرة
فأوّل آثار الأمل بالعيش طويلًا، الذي هو نتاج الأمل بالأمور الدّنيويّة التي لا صلة لها بالآخرة، التّسويف وهذا باعثٌ على الكسل وترك العمل والجدّ والسّعي. وشيئًا فشيئًا لا يبقى للأمور الأخرويّة والأهداف الإلهيّة أي حضور في تفكيره. وإذا لم يعدّ لهذه الأمور من حضور في الفكر والتّخطيط، يزول الاهتمام بالتّدريج بلوازمها، كتهيئة الزّاد وأمثالها. ولأنّ طريق الآخرة طويلة ومحفوفة بالمخاطر، فإنّ صاحبنا هذا سوف يتفاجأ بأحداث ووقائع لم يعدّ لها العدّة المطلوبة. فيسقط في امتحاناتها وفتنها: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾2.
ويقول الإمام الخميني قدس سره: "وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطّريق، فلا نسعى لإزالتها بالتّوبة والإنابة والرّجوع إلى طريق الله، ولا نعمل عل تهيئة زاد وراحلة، حتى إذا ما أَزِف الوعد الموعود اضطررنا إلى الرّحيل دون زاد ولا راحلة. ومن دون العمل الصالح، والعلم النّافع، اللذين تدور عليهما مؤونة ذلك العالم، ولم نهيّئ لأنفسنا شيئًا منهما. حتى لو كنّا قد عملنا عملًا صالحًا، فإنّه لم يكن خالصًا، بل مشوبًا بالغشّ، ومع آلاف من موانع القبول.
وإذا كنّا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علمًا بلا نتيجة. وهذا العلم، إمّا أنْ يكون لغوًا وباطلًا، وإمّا أنّه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثيرٌ حتميّ وواضح فينا، نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالا، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الذي حصل حتّى كان لعملنا وعلمنا مدّة أربعين أو خمسين سنة تأثيرٌ معاكس، بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصّخر القاسي؟! ما الذي جنيناه من الصّلاة التي هي معراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم؟
1 الأربعون حديثًا، ص 202.
2 سورة التوبة، الآية 49.
465
402
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
لو أنّنا أُجبرنا على الرّحيل، ونحن على هذه الحال ـ لا سمح الله ، لكان علينا أن نتحمّل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطّريق، ممّا لا يمكن إزالته أبدا! إذًا، فنسيان الآخرة من الأمور التي يخافها علينا وليّ الله الأعظم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ويخاف علينا من الباعث لهذا النّسيان وهو طول الأمل، لأنّه يعرف مدى خطورة هذه الرّحلة، ويعلم ماذا يجري على الإنسان الذي يجب أن لا يهدأ لحظةً واحدةً عن التّهيّؤ وإعداد الزّاد والرّاحلة، عندما ينسى العالم الآخر، ويستهويه النّوم والغفلة من دون أن يعلم أنّ هناك عالمًا آخر، وأنّ عليه أن يسير إليه حثيثًا. وماذا سيحصل له وما هي المشاكل التي يواجهها؟"1.
3- التّسويف بالتّوبة
يقول الإمام الخميني قدس سره: "ومن الآثار الوخيمة لطول الأمل إرجاء وقت التّوبة: "فإنّ تدليسات الشّيطان والنّفس دقيقة للغاية، وإنّهما ليعميان على الإنسان كلّ أمر باطل فيراه بصورة الحق، ويخدعانه، فأحياناً بصورة الأمل بالتوبة في آخر العمر حتى ينتهي أمر الانسان إلى الشقاوة"2. وهكذا تستقرّ الآثار السيّئة للمعاصي وتتّحد مع النّفس. فإنّ الذنوب في أوّل وقتها تكون كالقذارات يمكن إزالتها بقليلٍ من الماء والصّابون، لكنّها تصبح بعد مدّة من الزّمن عصيّة على التّنظيف، وربّما يخال المرء أنّها ليست قذارات لشدّة التصاقها وتماهيها مع المكان المقذّر! فعن أمير المؤمنينعليه السلام: "قَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَهُ: لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيُرْجِئُ التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ..." وَسَاقَ الْكَلَامَ، إِلَى أَنْ قَالَ عليه السلام: "إِنْ عَرَضَتْ لَهُ شَهْوَةٌ أَسْلَفَ الْمَعْصِيَةَ وَسَوَّفَ التَّوْبَةَ"3.
4- الخروج من الدّنيا ساخط على الحقّ
والأسوأ من ذلك أنّ الإنسان مع طول العمر، يزداد حرصه وطمعه بالدّنيا وطول أمله.
كما يقول الإمام قدس سره: "وقد يكثر في سنّ الشّيخوخة حرص الإنسان وطمعه وحبّه للمال، ويزداد طول أمله، وقد أثبتت التّجربة ذلك"4، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ، وَيَبْقَى مِنْهُ اثْنَتَانِ
1 الأربعون حديثًا، ص 203 - 204.
2 (م.ن), ص 318.
3 نهج البلاغة، ص 497.
4 الأربعون حديثًا، ص 306.
466
403
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
الْحِرْصُ وَالْأَمَلُ"1، وهذا يعني أنّه سيكون في آخر حياته أكثر حبًّا للدّنيا. وقد تبيّن لنا أنّ حبّ الدّنيا مناقضٌ لحبّ الآخرة وطلب لقاء الله تعالى. ومن المتوقّع في مثل هذه الحالة أن يرى الإنسان الملك المأمور بقبض روحه من جانب الله تعالى عدوًّا بغيضًا. وكلّ من أبغض عمّال الله وملائكته فهو لا شكّ سيبغض الله، لأنّه سيرى أنّ الله يفصله عن محبوبه الذي أمل طويلًا بلقائه. يروي أحد المتعبّدين الثّقاة قـــائلًا: "ذهبت لزيارة أحدهم، وكان يحتضر ، فقال وهو على فراش الموت: إنّ الظلم الذي لحقني من الله تعالى لم يُصب أحدًا من النّاس، فهو يريد أن يأخذني من أبنائي الذين صرفت دم القلب في تربيتهم ورعايتهم! فقمت من عنده، ثمّ توفى"2.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَالْآخِرَةَ قَدِ احْتَمَلَتْ مُقْبِلَةً، أَلَا وَإِنَّكُمْ فِي يَوْمِ عَمَلٍ لَا حِسَابَ فِيهِ وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا فِي يَوْمِ حِسَابٍ لَيْسَ فِيهِ عَمَلٌ، وَإِنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَلَا يُعْطِي الْآخِرَةَ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ، وَإِنَّ لِلدُّنْيَا أَبْنَاءً، وَلِلْآخِرَةِ أَبْنَاءً، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، إِنَّ شَرَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يَصْرِفُ قُلُوبَكُمْ عَنِ الْحَقِّ وَطُولُ الْأَمَلِ يَصْرِفُ هِمَمَكُمْ إِلَى الدُّنْيَا وَمَا بَعْدَهُمَا لِأَحَدٍ مِنْ خَيْرٍ يُرْجَاهُ فِي دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ"3.
وقد جعل صلى الله عليه وآله وسلم طريق الجنّة بقصر الأمل وقلّة رجاء الدّنيا والاستعداد للموت قبل حلول الفوت، ففِي وَصِيَّتِهِ لأَبَي ذَرٍّ: "أَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: فَاقْصُرِ الْأَمَلَ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ نُصْبَ عَيْنِكَ، وَاسْتَحْيِ مِنَ الله حَقَّ الْحَيَاءِ"4.
5- ذهاب العقل والتكذيب بالمعاد
وفي خطبةٍ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعدّد مجموعةً من الآثار الوخيمة لطول الأمل، فيقول: "اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَّ الْأَمَلَ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَيُكَذِّبُ الْوَعْدَ وَيَحُثُّ عَلَى الْغَفْلَةِ وَيُورِثُ الْحَسْرَةَ... فَاكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غَرُورٌ، وَإِنَّ صَاحِبَهُ مَأْزُورٌ"5.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص58.
2 روح الله الموسوي الخمينيّ، وصايا عرفانيّة، بيت الكاتب للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، ص 20-21.
3 بحار الأنوار، ج74، ص 190.
4 وسائل الشيعة، ج1، ص 304.
5 بحار الأنوار، ج74، ص294.
467
404
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
6- كراهة الموت
إنّ فساد حياة الإنسان كلّها ينشأ من التعلّق بهذه الدّنيا، وإنّ صلاح حياة الإنسان كلّها يحصل من طلب الآخرة. وإنّ شدّة طلب الآخرة ملازمٌ لحبّ الموت، لأنّه وسيلته للانتقال إليها. وإنّ حبّ الموت يؤدّي إلى إكثار ذكره: "من أحبّ شيئًا أكثر ذكره". ومن أكثر ذكر الموت ماتت شهواته عن الحرام وعن كلّ ما لا يكون معنيًّا بتحصيله لآخرته. وفي الدّعاء: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنَا طُولَ الأَمَلِ، وَقَصِّرْهُ عَنَّا بِصِدْقِ الْعَمَلِ حَتَّى لاَ نُؤَمِّلَ اسْتِتْمَامَ سَاعَةٍ بَعْدَ سَاعَةٍ، وَلاَ اسْتِيفَاءَ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، وَلاَ اتِّصَالَ نَفَسٍ بِنَفَسٍ، وَلاَ لُحُوقَ قَدَمٍ بِقَدَمٍ وَسَلِّمْنَا مِنْ غُرُورِهِ، وَآمِنَّا مِنْ شُرُورِهِ، وَانْصِبِ الْمَوْتَ بَيْنَ أَيْدِينَا نَصْبًا، وَلاَ تَجْعَلْ ذِكْرَنَا لَهُ غِبًّا"1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ يُفَارِقُ الْأَحْبَابَ وَيَسْكُنُ التُّرابَ وَيُوَاجِهُ الْحِسَابَ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا يُخَلِّفُ وَيَفْتَقِرُ إِلَى مَا قَدَّمَ، كَانَ حَرِيّاً بِقِصَرِ الْأَمَلِ وَطُولِ الْعَمَلِ"2.
حبّ النّفس عامل أساسي لطول الأمل
إنّ حبّ النّفس، الذي يتشكّل بحبّ الدّنيا باعتبارها زينة لهذه النّفس وشأنًا ، يؤدّي إلى شدّة التعلّق بأغراضها البعيدة. فيكف إذا اجتمع معها تزيين الشّيطان الملعون الذي يجعل كلّ قبيح في عيون النّاس جميلًا، يقول الإمام قدس سره: "إنّ طول الأمل المعشعش عندي وعندك النّاجم من حبّ النفس ومكائد الشّيطان الملعون ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا"3.
سبيل اليقظة والعلاج
1- التفكّر بسيرة الأولياء والأنبياء
"يحسن بنا أن نفكّر قليلًا في سيرة أمير المؤمنين والنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنّسيان والزّلل والطّغيان، لكي نقارن بين حالنا
1 الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا نُعي إليه ميّت أو ذُكر الموت.
2 مستدرك الوسائل، ج2، ص 110.
3 الأربعون حديثًا، ص 203.
468
405
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
وحالهم. إنّ معرفتهم بطول السّفر ومخاطره قد سلبت الرّاحة منهم، وإنّ جهلنا أوجد النّسيان والغفلة فينا. إنّ نبيّناصلى الله عليه وآله وسلم قد روّض نفسه كثيراً في عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله حتى ورمت رجلاه، فنزلت الآية الكريمة تقول له: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾1، وعبادات عليّ عليه السلام وتهجّده وخوفه من الحقّ المتعال معروفٌ للجميع. إذًا، اعلم أنّ الرّحلة كثيرة المخاطر، وإنّما هذا النّسيان الموجود فينا ليس إلاّ من مكائد النّفس والشّيطان، وما هذه الآمال الطّوال إلاّ من أحابيل إبليس ومكائده"2.
2- التفكّر بهذه الدّنيا الفانية
"فتيقّظ أيّها النّائم من هذا السّبات وتنبّه، واعلم أنّك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنّك راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا تهيّأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك شيء من عناء السفر، ولا تصاب بالتعاسة في طريقه، وإلاّ أصبحت فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّ لا عزّة فيها، وفقر لا غناء معه، وعذاب لا راحة منه. إنّها النار التي لا تنطفئ، والضغط الذي لا يُخفّف، والحزن الذي لا يتبعه سرور، والندامة التي لا تنتهي أبداً"3.
3- التفكّر بسوء العاقبة
"انظر أيّها الأخ إلى ما يقوله الإمام في دعاء كميل، وهو يناجي الحقّ عزَّ وجلَّ: "وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاَءِ الدُّنْيَا وَعُقُوبَاتِهَا" إلى أن يقول: "وَهذَا مَا لا تَقُومُ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ"4. تُرى ما هذا العذاب الذي لا تطيقه السّماوات والأرض، الذي قد أُعدّ لك؟ أفلا تستيقظ وتنتبه، بل تزداد كلّ يومٍ استغراقًا في النّوم والغفلة؟ فيا أيّها القلب الغافل! انهض من نومك وأعدّ عدّتك للسّفر، "فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ"5، وعمّال عزرائيل منهمكون في العمل ويمكن في كلّ لحظة أن يسوقوك سوقًا إلى العالم الآخر. ولا تزال غارقًا في الجهل
1 سورة طه، الآيتان 1 - 2.
2 الأربعون حديثًا، ص 204.
3 (م.ن).
4 الشيخ الكفعمي، مصباح المتهجّد، دعاء كميل بن زياد، ص587.
5 نهج البلاغة، ص321.
469
406
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
والغفلة؟ "اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإِنَابَةَ إِلَى دارِ السُّرُورِ والاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ"1"2.
4- العلم والعمل الصّالح
يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم إذاً، أيّها العزيز، أنّ أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وأنّ ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصّالح. وهي رحلة ليس لها موعد معيّن، فقد يكون الوقت ضيّقًا جدًّا، فتفوتك الفرصة. إنّ الإنسان لا يعلم متى يقرع ناقوس الرّحيل للانطلاق فورًا"3.
وبعد كلّ هذه الملاحظات، لا أخالك ـ عزيزي القارئ ـ ستبرّر لهذه الخصلة السّيّئة بمجموعة من الآيات والأحاديث التي تمدح طيّبات الحياة الدّنيا، أو تقول "أنّ على الإنسان أن يؤمّل للدّنيا كأنّه يعيش أبدًا"، لأنّ مثل هذه الدّنيا ليست سوى وسيلة للحياة الآخرة، ومثل هذه الدّنيا لن تكون حجابًا ولا مطلبًا.
1 الشيخ عبّاس القمّي، مفاتيح الجنان، دعاء ليلة السّابع والعشرين من شهر رمضان.
2 الأربعون حديثًا، ص 204 - 205.
3 (م.ن), ص 203.
470
407
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- طويل الأمل هو الذي يحلم دومًا ويتمنّى أن يدرك بعض الأمور الدّنيويّة في المدة الزّمنيّة التي تزيد عن المدّة الطّبيعيّة لتوقّعات الإنسان المؤمن بالحياة الآخرة.
2- طول الأمل بالدّنيا والعيش فيها يتنافى في جوهره مع العقيدة الصّحيحة والتوجّه الصّادق، وليس له مبرّر سوى الاعتقاد بقيمة الدّنيا وملذّاتها ـ الحلال منها أو الحرام ـ ممّا يعني عدم إدراك قيمة الآخرة أو نسيان قيمتها وعظمتها.
3- الحيثيّة الوحيدة التي لا تجعل الدّنيا عقبة أو مانعًا من سلوك طريق الآخرة التي خُلقنا لها هي عندما تكون الحياة الدّنيا في خدمة الأهداف والمشاريع الإلهيّة، حيث لن يبقى أيّ داعٍ لطول الأمل لأنّ توفيق العمل الصّالح لا يرتبط بالزّمان والمكان والشّخص.
4- العاملان الأساسيّان وراء طول الأمل هما حبّ النّفس ومكائد الشّيطان. فحبّ النّفس ـ الذي يتشكّل بحبّ الدّنيا باعتبارها زينة لهذه النّفس وشأنًا ـ يؤدّي إلى شدّة التعلّق بأغراضها البعيدة. فكيف إذا اجتمع معها تزيين الشّيطان الملعون الذي يجعل كلّ قبيح في عيون النّاس جميلًا.
5- طول الأمل يؤدّي إلى:
الغفلة عن الآخرة، فمن أهم أسباب عدم التيقّظ الذي يؤدّي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير، أن يظنّ الإنسان أنّ في الوقت متّسعًا للبدء بالسّير.
عدم التهيئة والاستعداد للآخرة (فأوّل آثار الأمل بالعيش طويلًا هو التّسويف)
ذهاب العقل والتكذيب بالمعاد.
كراهة الموت، لأنه يبعده عن متعلّقاته الدنيويّة.
6- سبيل اليقظة والعلاج من طول الأمل: التفكّر بسيرة الأولياء والأنبياء، الذين جهدوا في العبادة وحالهم أفضل بكثير من حالنا - التفكّر بهذه الدّنيا الفانية - التفكّر بسوء العاقبة - العلم والعمل الصّالح.
471
408
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ إِنَّكَ ابْتَلَيْتَنَا فِي أَرْزَاقِنَا بِسُوءِ الظَّنِّ، وَفِي آجَالِنَا بِطُولِ الأَمَلِ، حَتَّى الْتَمَسْنَا أَرْزَاقَكَ مِنْ عِنْدِ الْمَرْزُوقِينَ، وَطَمِعْنَا بِآمَالِنَا فِي أَعْمَارِ الْمُعَمَّرِينَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَهَبْ لَنَا يَقِيناً صَادِقاً تَكْفِينَا بِهِ مِنْ مَؤونَةِ الطَّلَبِ، وَاَلْهِمْنَا ثِقَةً خَالِصَةً تُعْفِينَا بِهَا مِنْ شِدَّةِ النَّصَبِ، وَاجْعَلْ مَا صَرَّحْتَ بِهِ مِنْ عِدَتِكَ فِي وَحْيِكَ وَأَتْبَعْتَهُ مِنْ قَسَمِكَ فِي كِتَابِكَ قَاطِعاً لاِهْتِمَامِنَا بِالرِّزْقِ الَّذِي تَكَفَّلْتَ بِهِ، وَحَسْماً لِلاِشْتِغَالِ بِمَا ضَمِنْتَ الْكِفَايَةَ لَهُ، فَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ الأَصْدَقُ، وَأَقْسَمْتَ وَقَسَمُكَ الأَبَرُّ الأَوْفَى: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾1، ثُمَّ قُلْتَ: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾2"3.
الآيات الكريمة:
1- ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾4.
2- ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾5.
3- ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾6.
1 سورة الذاريات، الآية 22.
2 سورة الذاريات، الآية 23.
3 الصّحيفة السّجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا قُتر عليه رزقه.
4 سورة الحجر، الآيتان 2 و 3.
5 سورة الحديد، الآية 16.
6 سورة الكهف، الآية 46.
472
409
الدّرس الثالث والثلاثون: طول الأمل، حقيقته، منشؤه وكيفية معالجته
الروايات الشريفة:
1- عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ الْأَمَلَ يُذْهِبُ الْعَقْلَ وَيُكَذِّبُ الْوَعْدَ وَيَحُثُّ عَلَى الْغَفْلَةِ وَيُورِثُ الْحَسْرَةَ فَاكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غَرُورٌ وَإِنَّ صَاحِبَهُ مَأْزُورٌ"1.
2- فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لِعَلِيٍّ عليه السلام: "يَا عَلِيُّ، أَرْبَعُ خِصَالٍ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَبُعْدُ الْأَمَلِ وَحُبُّ الْبَقَاءِ"2.
3- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ صَلَاحَ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ وَالْأَمَلِ"3.
4- عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فِي وَصِيَّتِهِ لَأبي ذر: "يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟" فَقُلْتُ: نَعَمْ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: "فَاقْصُرِ الْأَمَلَ وَاجْعَلِ الْمَوْتَ نُصْبَ عَيْنِكَ وَاسْتَحْيِ مِنَ الله حَقَّ الْحَيَاءِ"4.
5- عن أميرِ المؤمنين عليه السلام: "يُسْتَدَلُّ عَلَى الْيَقِينِ بِقِصَرِ الْأَمَلِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا"5.
6- عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "مَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ يُفَارِقُ الْأَحْبَابَ وَيَسْكُنُ التُّرَابَ وَيُوَاجِهُ الْحِسَابَ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا يُخَلِّفُ وَيَفْتَقِرُ إِلَى مَا قَدَّمَ، كَانَ حَرِيّاً بِقِصَرِ الْأَمَلِ وَطُولِ الْعَمَلِ"6.
1 بحار الأنوار، ج74، ص 294.
2 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص 358.
3 وسائل الشيعة، ج2، ص 437.
4 (م.ن), ج1، ص 304.
5 مستدرك الوسائل، ج11، ص 201.
6 (م.ن), ج2، ص 110.
473
410
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الفارق بين اليأس المذموم والممدوح.
2- يشرح كيف يؤدّي اليأس إلى دمار المجتمعات والعلاقة مع الله.
3- يبيّن كيف تتشكّل الشخصيّة اليائسة وسبل التخلّص من اليأس.
474
411
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
تمهيد
يمثّل الوجود بأرضه وسماواته، وما يليهنّ من جنان لا نهاية لها، فرصةً إلهيّةً ممتزجةً برحمة مطلقة ورضوان وعفو وغفران. فالحياة الدّنيا ـ بالرغم من ضيقها ومحدوديّتها إذا ما قُورِنت بما في السّماء ـ فيها من النّعم والإمكانات ما لا يُحصى. ولو تفكّر الإنسان قليلًا فيما أعدّ الله له من خير وكمال وسعادة وجمال، لأشرق قلبه بفرحٍ وسرورٍ ينعدم عنده كل همّ وغمّ! فلماذا يصل بعض النّاس إلى حالة اليأس من فيض الله العميم وروحه المطلق؟ وكيف تصبح هذه الحالة سمة بارزة في شخصيّتهم، بحيث لا يظهر عليها أيّ بعد من أبعاد وعود الله العظيمة؟
من هي الشّخصيّة اليائسة؟
لا شكّ بأنّ اليأس الذي عُدّ من الكبائر ومن الصّفات النّفسيّة القبيحة، بل ومن الأمراض الباطنيّة والقلبيّة المهلكة، هو اليأس من رحمة الله ومن روحه. أمّا اليأس من الدّنيا الفانية أو ممّا في أيدي النّاس ـ كما ورد في العديد من الأحاديث الشّريفة ـ فهو يأسٌ ممدوحٌ، لأنّه موافق للفطرة الإلهيّة التي تنفر من مطلق النّقص وتبغضه. ولهذا، وجدنا عبارة اليأس مستعملة بحقّ الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله تعالى كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾1، بل إنّ الله تعالى يدعونا بطريقة غير مباشرة إلى هذا اليأس، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾2، لأنّ اليأس من الفقير والعاجز أمرٌ ينسجم مع الفطرة التي فطر الله النّاس عليها جميعًا.
1 سورة يوسف، الآية 110.
2 سورة الرعد، الآية 31.
476
412
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
واليأس حالة وجدانيّة تتلازم مع الإعراض عن الميؤوس منه، وعدم السّعي نحوه أو طلبه، مع ما يصاحب ذلك من حزن أو غمّ في النّفس، وتقاعس وتكاسل في الأعضاء والجوارح.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فلعلّ المقصود (بالطّمع) هو الأمل مع عدم رؤية العمل، وعدم الاتّكال عليه، وهذا من مقامات العارفين بالله الذين تركوا أنفسهم وأعمالهم وهاجروا من منزل كيانهم وبين الأنا والأنانية، وداسوا على رأس مملكة وجودهم، وتحرّروا من كلا النشأتين فتطلّعت عيونهم للحبيب وعميت عن نفوسهم وأعمالهم، فأحيت تجلّيات الرّحمة الإلهيّة قلوبهم، فكسروا قدم السير والسلوك، ومدّوا أيدي طمعهم إلى الحقّ تعالى ورحمته، وانقطعوا عن كل ما سواه وتعلّقوا به.
وبناءً على هذا التفسير، فإنّ اليأس هنا ـ وهو ضدّ الطّمع... فيكون عبارة عن اليأس من الرّحمة، سواء أكان مطيعاً أم عاصياً، أو أن يكون متّكلاً على طاعته مؤمّلاً ما يرجو من عمله، فهذه الحال هي أيضا ـ في مسلك أهل المعرفة ومشرب العرفان الأسنى ـ من مصاديق اليأس من الرّحمة الإلهيّة وتحديد سعتها... وكون اليأس من جنود الجهل ومخالفًا لمقتضيات الفطرة السّليمة، فهو من الواضحات، لأنّ... التّوجّه إلى "الأنا" والإقبال على الأنانيّة وفروعها ، ومنها النّظر إلى العمل ، هو من الأخطاء الجهليّة للفطرة المحجوبة التي تتميّز بالعجب وحبّ النّفس واتّباع هواها"1.
والمهم أن نتعرّف على خطورة هذه الحالة على ديننا وآخرتنا، بل حتّى على دنيانا التي ينبغي أن نتزوّد منها بالمقدار اللازم لآخرتنا. ومن لم يتزوّد من دنياه لآخرته أوشك على التوقّف وقطع الطّريق على نفسه للوصول إلى الله تعالى، ومن كلام لأمير المؤمنين عليه السلام: "فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُم"2.
ما هي آثار اليأس ونتائجه؟
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره في معرض حديثه عن جنود الجهل، الذي هو رأس كلّ شرّ، عدّة آثار لمثل هذه الخصلة المدمّرة.
1 جنود العقل والجهل، ص 184.
2 نهج البلاغة، ص 320.
477
413
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
1- التّقاعس عن العمل والخروج عن العبوديّة
يقول الإمام قدس سره: "ونتيجة هذا اليأس والقنوط والحرمان، التّقاعس عن العمل وفقدان الجدّ والاجتهاد، وانقطاع حبل العبوديّة، وإطلاق لجام العبد"1.
2- صعوبة الإصلاح
ويقول الإمام قدس سره: "واعلم بأنّ اليأس من رحمة الحقّ من أعظم الذنوب، ولا أظنّ أنّ هناك ذنباً أسوأ وأشدّ تأثيراً في النفس من القنوط من رحمة الله، فإنّ الظّلام الدّامس إذا غشي قلب الإنسان اليائس من الرّحمة الإلهيّة، لما أمكن إصلاحه، ولتحوَّل إلى طاغية، لا يوجد سبيل للهيمنة عليه"2.
3- الابتعاد عن الحقّ
ولو تأمّلنا في كلّ واحدة من هذه الآثار لوجدناها كفيلةً بإخراج الإنسان عن صراط الله المستقيم. ولهذا، قال الإمام بأنّنا قد لا نجد خصلةً كاليأس من حيث إبعاد الإنسان عن الحقّ تعالى. وقد قيل بأنّ هذه الحالة هي غاية ما يصبو إليه إبليس عدوّ الإنسان. وليس غريباً أن يكون إبليس أوّل المتّصفين بهذه الصّفة الخبيثة. وسوف تتّضح أكثر وخامة هذه الحالة عند الحديث عن أسبابها، ويتكشّف كلام الإمام عن العديد من الدلالات المفيدة.
يقول الإمام قدس سره: "وهذه حال قلّما تجد نظيراً لها في إبعاد العبد الشقيّ عن حضرة مولاه الحقّ تعالى، وطرده عن مقامه القدسيّ، وحرمانه من رحمته الواسعة"3.
من أين ينشأ اليأس؟
1- الجهل بالله والكفر به
إنّ اليأس ـ كما مرّ ـ يترافق مع حالة من الإحجام والابتعاد، لكن ليس كلّ إحجام أو ترك يأسًا، فالخوف من الله تعالى يستلزم أن يتورّع الإنسان عن الكثير من الأمور في هذه الحياة الدّنيا، ولهذا كان لا بدّ من معرفة الفارق بين الخوف من الله واليأس منه.
1 جنود العقل والجهل، ص136.
2 الأربعون حديثًا، ص 312.
3 جنود العقل والجهل، ص136.
478
414
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أنّ مصدر كلٍّ من الخوف من الحقّ تعالى، واليأس والقنوط من رحمته، مختلفان وآثارهما وثمارهما متمايزة أيضاً. فالخوف ناتجٌ من تجلّي جلال الحقّ ـ جلّ جلاله ـ وعظمته وكبريائه، أو من التّفكّر في شدّة بأسه ودقّة حسابه، ووعيده بالعذاب والعقاب، أو من رؤية العبد لنقصه وتقصيره في القيام بالأمر (الإلهيّ). ولا ينافي أيّ من هذه الأمور الرّجاء والثّقة بالرّحمة. وثمرة الخوف من الله الاجتهاد في القيام بأمر الله وتمام المواظبة على طاعته... أمّا القنوط واليأس من رحمة الحقّ تعالى فهو ناتج من تحديد وتقييد القانط للرّحمة الإلهيّة، وتوهّمه أنّ الغفران والعفو الإلهيّ أضيق من أن يشمل وجوده الذي لا قيمة له أساسًا. وهذا القنوط من أكبر الكبائر، بل هو إلحادٌ بأسماء الله، وباطنه كفرٌ بالله العظيم وجهلٌ بالمقام المقدّس للحقّ تعالى وحضراته الأسمائيّة والصّفاتيّة والأفعاليّة"1.
إنّ الشرّ الذي أشرنا إليه، كعامل لإبقاء الجهل والتّمسّك به لتبرير حالة اليأس، ليس سوى الكفر، ولهذا لا ييأس من رحمة الله إلّا الكافر، كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾2.
فالكفر رفضٌ متعمّد للفرص الإلهيّة والعطاءات الربّانيّة. وإنّما يتمسّك الكافر بالمقولات الجهليّة والمغالطات العقائديّة ويصرّ على توصيف ربّه بصفات باطلة غير حقّانيّة من أجل تبرير إعراضه المستمرّ عن تلك الفرص العظيمة.
ولو تأمّلنا في حقيقة الأمر، ونظرنا إلى أحوالنا وما نحن عليه من حرمان، لربّما قطعنا بأنّه لا يسلم أحدٌ منّا من اليأس من روح الله. هذا الرّوح الذي يظهر في عالم الطّبيعة بصورة الهداية والرّحمة التي لا حدّ لها والفرص اللامتناهية والإمكانات التي لا تُعدّ ولا تُحصى.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وهذا اليأس هو في الواقع نتيجة لتحديد رحمة الله، وهو ما يستلزم التّحديد في الأسماء والصّفات، بل وفي الذّات المقدّسة، تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوًّا كبيرًا"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 135 - 136.
2 سورة يوسف، الآية 87.
3 جنود العقل والجهل، ص 136.
479
415
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
2- احتجاب الفطرة
والعامل الآخر الذي يشارك في ترسيخ حالة اليأس في قلب العبد هو ما عبّر الإمام عنه مرارًا باحتجاب الفطرة، فإنّ "الفطرة (كما يقول الإمام) تدعو العقل إلى الكامل المطلق والرّحمة الواسعة على الإطلاق، فإنّها توصله إلى الرّجاء الكامل، وإذا احتجبت الفطرة عن نورانيّتها الأصليّة حُجبت عن الحقّ تعالى وكمالاته الذّاتيّة والصّفاتيّة وسعة رحمة ذاته المقدّسة، وقد يصل الاحتجاب أحيانًا درجة اليأس من رحمة الحقّ تعالى"1.
ويقول قدس سره: "وللعقل ـ بحسب فطرته الأصليّة السّليمة ـ معرفةٌ فطريةٌ بالحقّ تعالى، لأنّه غير محتجبٍ بحسب هذه الفطرة الذّاتيّة المخمّرة، إنّ الحجاب يتولّد من التّوجّه إلى الطّبيعة، وهي الشّجرة الخبيثة. وهي في عالم التّنزّل تلك الشّجرة المنهيّ عنها. وإذا لم يحجب الإنسان نفسه عن الحقّ تعالى بالتّوجّه إلى شجرة الطّبيعة الخبيثة، تجلّت فيه بهذا الصّفاء الباطنيّ انعكاسة حضرات الأسماء دون تحديد أو تقييد، وهذا التّجلّي يثمر التعلّق القلبيّ، والأنس والأمل، وهذا هو في الواقع الرّجاء الوثيق والأمل المستقر.
أمّا إذا توجّه إلى الشّجرة الخبيثة المنهيّ عنها، حصل عنده ـ بمقدار هذا التّوجّه ـ تقييدٌ وتحديدٌ في الأسماء والصّفات والأفعال الإلهيّة، وبالتّالي أصابه الجهل بسعة الرّحمة الإلهيّة. إلى أن يصل به الحال (مع اشتداد التّوجّه هذا) إلى الخروج بالكامل عن الفطرة، وغلبة أحكام الحجاب عليه، فتستولي الكدورات والظّلمة، على مرآة قلبه إلى حدّ حرمانه من عوالم الغيب وتجلّيات الأسماء والأفعال الإلهيّة، فيحتجب عن انعكاس التّجليات الرّحمانية، ويغلب عليه حكم اليأس والقنوط إلى درجة يعزل نفسه معها عن رحمة الحقّ تعالى الواسعة، وهذه هي غاية الخذلان، نعوذ بالله منه"2.
فالفطرة تطلب الكمال والخير، وتندفع نحوهما بكلّ شوق. وعندما يضعف هذا الاشتياق فينا ويقلّ الحماس والاندفاع نحو الأمور المعنويّة التي هي مظاهر الكمال في العالم، فهذا يعني أنّ فطرتنا قد أُسدل عليها أستار الحجب المختلفة. وأسوأ تلك الحجب ضعف العقل فينا وعدم قدرتنا على تمييز الكمال الواقعيّ عمّا عداه.
1 جنود العقل والجهل، ص128.
2 (م.ن)، ص129 - 130.
480
416
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
3- الشيطان
ففي بداية الأمر يكون الجهل بالله تعالى طبيعيًّا ومتوقّعًا نتيجة كون الإنسان في بدء نشوئه مخلوقًا طبيعيًّا صرفًا، وتكون الفطرة فيه على نحو القوّة لا الفعليّة والتّحقّق، وتكون التّوجّهات المعنويّة فيه كامنة وعلى نحو الاستعداد الصّرف، ولهذا نجد الأطفال سريعي اليأس وتعرض عليهم حالة القنوط عند أدنى سبب أو لا سبب، فيعلو صراخهم ويملأ الأرجاء بكاؤهم. لكنّ الخطأ الكبير قد يقع عندما لا يستجيب هذا الإنسان لنداء العقل ونوره الذي ينوّر مملكة الإنسان (وغالباً ما يكون هذا قبل سنّ البلوغ). فهذا النّور الإلهيّ يتّصل بنفسه ويسري إلى قلبه ليعرّفه على ربّه بما أراه الله من سعة رحمته. فلو رضي بالجهل عندها وركن إليه بالرّغم من ترادف الآلاء وترائي الآيات ولم يسعَ لدفعه بأدنى تفكّر، لسقط في الجهل المذموم... هذا الجهل الذي أشارت إليه النّصوص الشّريفة وعدّته منشأ كلّ شرّ.
فمع تواتر النّعم وتضافر الآلاء وامتلاء الأركان بالأسماء، كيف نبرّر للإنسان البقاء على الجهل الأوّل؟ اللهمّ، إلّا أن يكون هذا الجاهل ذا نفسٍ خبيثة وسريرةٍ شرّيرة. ففي مثل هذه الحالة الجهليّة الكفريّة، يدخل الشّيطان لبثّ حالة اليأس والقنوط في نفس الإنسان.
ولننظر كيف يخطّط هذا اللعين، وما هي المراحل التي يقطعها مع الإنسان الغافل حتّى يوقعه في هذه الموبقة المهلكة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ من مكائد إبليس الخطيرة والدّقيقة، أن يوقع العبد في الغرور أوّلاً، ويجعله بذلك مطلق العنان (في نقض آداب العبوديّة). فينقله بذلك من المعاصي الصّغيرة إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى الكبائر والموبقات. وبعد أن يلعب به مدّة بهذه الكيفيّة ويغرقه في بحر الغرور بوهم رجاء الرّحمة الإلهيّة ينقله في النّهاية إلى مستنقع القنوط واليأس من رحمة الله، ويقول له: لقد فاتك القطار فلا أمل في إصلاح أمرك، وذلك إذا رأى فيه بقيّة نور يمكن أن تهديه إلى التّوبة والإنابة. وهذه المكيدة الشّيطانيّة الخبيثة هي التي تجعل العبد يُعرض عن أن يطرق باب بيت الله، وتبعد يده عن التّمسّك بأذيال الرّحمة
481
417
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
الإلهيّة، وهذا يُعدّ منشأ للكثير من الدّمار والمفاسد التي لا تُحصى، فضرر هؤلاء الأشخاص على أنفسهم وعلى غيرهم أكثر من ضرر أي شخصٍ آخر. وكلّ هذا هو نتيجة الوقوع في أعماق الجهل ومنتهى الشّقاوة"1.
4- سوء الظنّ بالله
"إنّ الرّجاء من الأمور الفطريّة، في حين أنّ القنوط ناتجٌ عن الاحتجاب عن الفطرة المخمّرة، فهو خلاف ما تقتضيه هذه الفطرة. ومبدأ الرّجاء حسن الظنّ بالله تعالى، في حين أنّ مصدر القنوط من رحمة الله، هو سوء الظنّ بذاته المقدّسة جلّ وعلا. وإن كان مصدر حسن الظنّ العلم بسعة الرّحمة الإلهيّة، والإيمان بالكمال الأسمائي والصّفاتي الفعليّ، ومصدر سوء الظنّ الجهل بذلك. فهما يرجعان، بالتّالي، إلى معرفة الذّات المقدّسة، والجهل بها"2.
5- حبّ الدّنيا
ولا يخفى أنّ حبّ الدّنيا يتوسّط كلّ هذه العوامل فيقوم بتغذيتها. فلولا حبّ الدّنيا لما وجد الشّيطان سبيلًا إلى قلب الإنسان لإلقاء الوساوس ولولا حبّ الدّنيا لما عمي بصر الإنسان عن كلّ هذه النّعم والعطاءات الربّانيّة، ولولا حبّ الدّنيا لما توجّه هذا الإنسان مندفعًا نحو المعاصي والذّنوب.
لهذا، يقول الإمام قدس سره: "إذاً، كلّما نظرتَ إلى هذه الدّنيا بعين المحبّة والتّعظيم، وتعلّق قلبك بها، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبّك لها، وبان الفقر في باطنك وعلى ظاهرك، وتشتّت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهمّ، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنّياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغمّ والتّحسّر، ويتمكّن اليأس من قلبك والحيرة، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث"3.
1 جنود العقل والجهل، ص136.
2 (م.ن), ص 129.
3 (م.ن).
482
418
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
كيف نواجه اليأس ونتخلّص منه؟
ويُعلم بما مرّ - عليك أيّها القارئ العزيز - كيف يمكن مواجهة هذه الحالة المهلكة، فمن عرف الأسباب هان عليه أمر الجواب. وفي منع حصول تلك العوامل والأسباب تكمن المجاهدة الحقيقيّة والتّزكية المطلوبة التي لا بدّ منها في هذه الحياة الدّنيا.
1- المعرفة
علاج هذا المرض المهلك هو بالمعرفة وفي إيقاظ الفطرة، وللمعرفة دورٌ كبيرٌ في هذه اليقظة.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "ومن المحتمل ـ يا عزيزي ـ أن يكون الأنس بهذه المعاني صعبًا على النّفس في بداية الأمر، وتزيد صعوبته عليها بالوساوس الشّيطانيّة والنّفسيّة، التي تسعى لبعث اليأس في الإنسان من إمكانيّة تحقيق تلك المعاني، وتصوّر أنّ سلوك طريق الآخرة والسّلوك إلى الله أمرٌ عظيمٌ وشاقّ.
فتقول له: إن هذه المعاني الخاصة بالعظماء فلا تناسبنا أبداً، وبل تسعى أحيانًا إلى جعله ينفر من هذه المعاني، لكي تصرفه عنها بأيّة وسيلة كانت، ولكن على طالب الحقّ أن يلجأ إلى الاستعاذة الحقيقية به تعالى من مكائد الشيطان الخبيث، ولا يهتم بوساوسه، فلا يوقع نفسه في وهم أنّ سلوك طريق الحقّ تعالى شاق، أجل هو يبدو شاقاً في بداية الأمر، ولكنّ الله يسهّل للإنسان إذا دخل هذا الطريق السّعادة ويقرّبها إليه"1.
2- التّوبة من الذنوب والمعاصي
لكنّ إيقاظ الفطرة قد يتطلّب أمراً آخر بالإضافة إلى المعرفة، حيث إنّ ارتكاب الذّنوب والمعاصي يؤدّي إلى خمود الفطرة عند الإنسان وانطفاء نورها تدريجيًّا... ولهذا فإنّ التّوبة هنا شرطٌ أساسيّ. فالذي يلحظ في نفسه نوعاً من اليأس فليعلم أنّه بالإضافة إلى نقصان معرفته وغلبة جهله، قد وقع في ذنوب أو معاص أو تبعات لذنوبٍ سابقة، وعليه أن يتطهّر منها... ومثل هذه الطهارة هي التي تستنزل محبّة الله...
يقول الإمام قدس سره: "أيها العزيز، إيّاك أن تسمح للشيطان والنفس الأمارة بالهيمنة عليك
1 جنود العقل والجهل، ص 111.
483
419
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
والوسوسة في قلبك، فيصوّران لك العمليّة جسيمة وشاقّة ويصرفانك عن التّوبة. اعلم بأنّ إنجاز الشّيء القليل من هذه الأمور يكون أفضل، ولا تيأس من رحمة الله ولطفه، حتى وإن كانت عليك صلاة كثيرة وصيام غير قليل، وكفارات عديدة، وحقوق إلهيّة كثيرة، وذنوب متراكمة، وحقوق الناس لا تعدّ، والخطايا لا تحصى، لأنّ الحقّ المتعالي يسهّل عليك الطّريق عندما تقوم بخطوات حسب قدرتك في اتّجاهه، ويهديك سبيل النّجاة"1.
ويقول قدس سره: "وإذا ابتُلي بالمعصية - لا سمح الله - أبدى بسرعة تبرّمه وانزعاجه منها، وندم عليها، وظهرت صورة ندمه في قلبه، وتكون نتيجة هذه النّدامة عظيمةً جدًّا، وآثارها حسنة وكثيرة، ثمّ يحصل من جرّاء ندمه العزم على ترك المعصية وترك مخالفة ربّ العالمين. وعندما يتوفّر هذان الرّكنان ، النّدم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة إليها ، يتيسّر أمر سالك طريق الآخرة، وتغمره التّوفيقات الإلهيّة ليصبح حسب النّصّ القرآنيّ ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾2. وهذه الرواية الشريفة3، محبوباً لله تعالى إذا كان مخلصاً في توبته"4.
3- التّواجد في البيئة المناسبة للإيمان
يحتاج كلٍّ واحدٍ منّا إلى التّواجد في البيئة التي تفعّل الإيمان في قلبه، واجتناب الأجواء التي تبثّ اليأس في نفسه. ويحذّرنا أمير المؤمنينعليه السلام من زمرة المنافقين الذين لا شغل لهم سوى إشاعة أجواء سوء الظّنّ بالله، وما يعقبه من قنوط ويأس من مواعيد ورجاءاته: "أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ. يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَاد، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَاد، قُلوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ، وَمُؤَكِّدُوا الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُوا الرَّجَاءِ5.
1 الأربعون حديثًا، ص 312.
2 سورة البقرة، الآية 222.
3 "إِذَا تَابَ العَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ الله فَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ". الكافي، ج2، ص430.
4 الأربعون حديثًا، ص 309.
5 نهج البلاغة، ص 307.
484
420
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
ولا شكّ بأنّ للمنافقين نفوذًا في كلّ أماكن تواجد المؤمنين. وإنّما كانوا من أهل النّفاق، لأنّهم يجاورونهم ويدخلون مداخلهم ويعملون في مؤسّساتهم ويسيرون إلى بيئتهم. وكم يحدث أن يقع المرء ضحيّة أقاويلهم التي تتمظهر بصورة النّقد أو الشّكاية أو الحقائق المنتقصة، بل إنّ بعض المنافقين قد لا يعرفون أنّهم مبتلون بهذا المرض، ولا يدرون أنّهم أسرى لهذا الداء العياء.
أمّا المؤمن الواعي الذي يُسمّى بالفقيه، فهو كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ، حَقِّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ"1.
4- الإسراع للمعالجة والتفكّر بالنّعم الإلهيّة
وعندما يدرك أحدنا أنّه مبتلىً بدرجة من اليأس، فعليه أن يسارع إلى التخلّص منها، لأنّ من شأن هذه الحالة المرضيّة أن تنتشر في كلّ زوايا القلب وتهيمن عليه في النّهاية، وعلامة الخلوص من هذه الصّفة المهلكة ستظهر في مبحث الرّجاء إن شاء الله تعالى.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "... فعلى الإنسان أن يبادر لمعالجة نفسه من هذه المعصية الكبيرة والمهلكة، فيتفكّر في مظاهر الرّحمة الواسعة للحقّ تعالى وألطافه الخفيّة والجليّة. فإنّه تبارك وتعالى ، قد خصّ الإنسان بألطاف ورحمات خاصّة، بل وميّزه بكرامات خاصّة حتّى في الرّحمات التي يشترك فيها مع سائر الحيوانات، بل ومع النّباتات أيضاً.
فمثلاً، إنّ الماء والهواء ـ وهما مدارا الحياة الحيوانيّة والنّباتيّة أيضاً ـ من النّعم التي نغفل عنها، لأنّنا غارقون فيها، فلا نعدّها نعمًا. لقد أعدّ الله جلّت قدرته للإنسان قبل ولادته أفضل الأطعمة المناسبة في تلك المرحلة، وخصّه بأن قذف في قلبي والديه محبّة أكثر ممّا هي الحال في الحيوانات الأخرى، إذ جعل في النّوع الإنسانيّ محبّة للبنين أقوى ممّا في غيره من الحيوانات الأخرى، لذلك فالبشر أكثر جديّة في حفظ الأولاد ورعايتهم وتربيتهم منها، وهذه المحبّة الاستثنائيّة تدفع الإنسان إلى خدمة أولاده طواعيّةً وعن رغبة دون منّة ولا طمع في الأجر.
1 الكافي، ج1، ص36.
485
421
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
فالأم تطوي الليالي الطويلة متحمّلةً مشقّة السّهر والمتاعب المضنية التي لا يمكن إجبار أحد على تحمّلها بأي قيمة، بل وترغب في هذه المتاعب من أجل أن يستريح وليدها، فتسهر لكي ينام طفلها العزيز هانئًا، وهذا انعكاس لمحبّة الله لابن آدم، وهي المحبّة التي ظهرت في قلوب الأمّهات. ومن الكرامات التي خصّ بها الإنسان هي أنّ ثدي الأم قد جعله الباري جلّت عظمته على نحو بحيث تحتضن الأم وليدها في صورة إكرامٍ واحترامٍ عند الرّضاعة.
هذا نموذج لمئات الآلاف من الكرامات الظّاهرة التي خصّ بها الإنسان في مرحلة الطّفولة والصّبا، وخصّه بنعم ورحمات أخرى في مختلف مراحل حياته يطول الكلام بذكرها، ولكنّ أعظم النّعم وأكمل الرّحمات هي نعمة التّربية المعنويّة بأشكالها المختلفة التي خصّ الله عزّ وجلّ بها الإنسان، مثل إنزال الكتب السّماويّة وبعث الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وفيها هداية الإنسان إلى ضمان السّعادة الأبديّة والرّاحة الدّائمة، فقد دلّه على سبيل الوصول إلى السّعادة الخالدة والكمالات الإنسانيّة، وكلّ هذه النّعم المتنوّعة والألطاف الخفيّة والجليّة التي أحاطت بالإنسان دون سابق خدمة منه أو عبادة، فكلّ نعمه تعالى ابتداء، وجميع رحماته مبادرة منه.
قبل ألف سنة وبضعة قرون أنزل إلينا القرآن الكريم ، الحاوي لأعلى مراتب المعارف الإلهيّة، والمتكفّل بتحقيق أسمى السّعادات الدينيّة والدنيويّة، على نبيّ هو الرّسول الخاتم، وهو أكرم الخلائق وأعظم الموجودات وأقربهم إلى الله وبواسطة جبرائيل الأمين أفضل ملائكة الله. وكلّ هذه كرامات لهذا الإنسان: فبأيّ خدمةٍ سابقةٍ وبأيّ عبادةٍ وطاعةٍ استحقّها؟ عميت عين القلب الذي يجد ويرى كلّ هذه النّعم والرّحمات، ثمّ يسمح لليأس أن يجد سبيله إليه!"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 136 - 137.
486
422
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
موعظة للقلب
"أيها العزيز،... إيّاك أن تغفل عن رحمة الحقّ عزّ وجلّ، وإيّاك أن تستعظم الذّنوب وتبعاتها. إنّ رحمة الحقّ سبحانه أعظم وأوسع من كلّ شيء إنّ عطاء الحقّ غير مشروط بقابليّة المعطى إليه1.
ماذا كنت في بدء الأمر؟ كنت في غياهب العدم ولا توجد فيك القابليّة والأهليّة، ولكنّ الحقّ جلّ وعلا، قد وهبك نعمة الوجود وكمالاته وبسط مائدة النّعم اللامحدودة، والرّحمة اللامتناهية، وسخّر لك كافّة الموجودات، من دون استحقاق واستعداد ومن دون سؤال ودعاء مسبق. ثمّ إنّك في هذا اليوم لا يكون وضعك أسوأ، من اليوم الذي كنت فيه عدمًا صرفًا، ولا شيئًا بحتًا. إنّ الله قد وعد بالرّحمة والمغفرة. تقدّم إلى الأمام خطوةً واحدةً، باتّجاه عتبة قدسه، فإنه سيأخذ بيدك مهما كلّف الأمر. إنّك إن لم تستطع أن تؤدّي حقوقه، فهو سيتنازل عنها، وإن لم تستطع أن تدفع حقوق الناس، فإنه سيجبرها.
هل سمعت قصّة الشاب الذي كان ينبش القبور في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟
أيّها العزيز، إنّ طريق الحقّ سهلٌ بسيط، ولكنّه يحتاج إلى انتباهٍ يسير، فيجب العمل، لأنّ التباطؤ والتّسويف، ومضاعفة المعاصي في كلّ يوم، تبعث على صعوبة الأمر، وأمّا الإقبال على العمل، والعزم على إصلاح السلوك والنفس، فيقرّب الطريق ويسهّل العمل.
جرّبه، واعمل في الاتّجاه المذكور، فإذا حصلت على النتيجة تبيّن لك صحّة الموضوع، وإن لم تصل إلى النتيجة المتوخّاة فإنّ طريق الفساد مفتوحٌ ويد المذنب طويلة"2.
1 شطر من بيت شعري.
2 الأربعون حديثًا، ص 312 - 313.
487
423
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- اليأس حالة وجدانيّة تتلازم مع الإعراض عن الميؤوس منه، وعدم السّعي نحوه أو طلبه، مع ما يصاحب ذلك من حزن أو غمّ في النّفس، وتقاعس وتكاسل في الأعضاء والجوارح.
2- اليأس الذي عُدّ من الكبائر ومن الصّفات النّفسانيّة القبيحة، بل ومن الأمراض الباطنيّة والقلبيّة المهلكة هو اليأس من رحمة الله ومن روحه. أمّا اليأس من الدّنيا الفانية أو ممّا في أيدي النّاس فهو يأسٌ ممدوحٌ، لأنّه موافق للفطرة الإلهيّة التي تنفر من مطلق النّقص وتبغضه.
3- اليأس من جنود الجهل ومخالفًا لمقتضيات الفطرة السّليمة، لأنّ التّوجّه إلى "الأنا" والإقبال على الأنانيّة وفروعها، ومنها النّظر إلى العمل، هو من الأخطاء الجهليّة للفطرة المحجوبة التي تتميّز بالعجب وحبّ النّفس واتّباع هواها.
4- يؤدّي اليأس إلى: التّقاعس عن العمل والخروج عن العبوديّة - صعوبة الإصلاح، بسبب القنوط من رحمة الله - الابتعاد عن الحقّ - دمار المجتمعات، حيث أنّ اليائس لا يتورّع عن فعل أيّة أذيّة.
5- ينشأ اليأس من: الجهل بالله والكفر به، احتجاب الفطرة، الذي يؤدّي إلى الاحتجاب عن الحقّ تعالى وكمالاته عدم الاستجابة لنور العقل، بسبب الركون إلى الجهل - الشيطان، وذلك عبر إقناطه من رحمة الله بعد إيقاعه بالكبائر - سوء الظّنّ بالله، الراجع إلى الجهل به - حبّ الدّنيا، الذي يزيد الجشع والتحسر واليأس.
6- يمكن التّخلّص من اليأس عن طريق: إيقاظ الفطرة، وذلك عبر: المعرفة والتّوبة من الذّنوب والمعاصي. التّواجد في البيئة المناسبة للإيمان. الإسراع للمعالجة والتفكّر بالنّعم الإلهيّة، فكلّ النّعم المتنوّعة والألطاف الخفيّة والجليّة التي أحاطت بالإنسان كانت دون سابق خدمة منه أو عبادة.
488
424
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"إِلَهِي، أَذْهَلَنِي عَنْ إِقَامَةِ شُكْرِكَ تَتَابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَنِي عَنْ إِحْصَاءِ ثَنَائِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحَامِدِكَ تَرَادُفُ عَوَائِدِكَ، وَأَعْيَانِي عَنْ نَشْرِ عَوَارِفِكَ تَوَالِي أَيَادِيكَ، وَهَذَا مَقَامُ مَنْ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النَّعْمَاءِ وَقَابَلَهَا بِالتَّقْصِيرِ وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالإِهْمَالِ وَالتَّضْيِيعِ، وَأَنْتَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ الْبَرُّ الْكَريِم ُالَّذِي لاَ يُخَيِّبُ قَاصِدِيهِ وَلاَ يَطْرُدُ عَنْ فِنَائِهِ آَمِلِيهِ، بِسَاحَتِكَ تَحُطُّ رِحَالُ الرَّاجِينَ، وَبِعُرْصَتِكَ تَقِفُ آَمَالُ الْمُسْتَرْفِدِينَ، فَلاَ تُقَابِلْ آَمَالَنَا بِالتَّخْيِيبِ وَالإِيَاسِ، وَلاَ تُلْبِسْنَا سِرْبَالَ الْقُنُوطِ وَالإِبْلاَسِ"1.
الآيات الكريمة:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾2.
الروايات الشريفة:
1- قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ أَهْلِ عَرَفَاتٍ أَعْظَمُ جُرْماً؟ قَالَ: "الَّذِي يَنْصَرِفُ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ"، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عليه السلام، يَعْنِي: "الَّذِي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ"3.
2- عَنْ أَبَي عَبْدِ الله عليه السلام: "إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ وَالْيَأْسَ مِنْ رَوْحِ الله وَالْأَمْنَ لِمَكْرِ اللَّهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاللهِ"4.
3- عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: "اللَّهُمَّ لَا تُقَنِّطْنِي مِنْ رَحْمَتِكَ"، ثُمَّ جَهَرَ، فَقَالَ: "وَمَنْ يَقْنُطْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ"5.
1 الصّحيفة السجّاديّة، مناجاة الشّاكرين.
2 سورة العنكبوت، الآية 23.
3 مستدرك الوسائل، ج10، ص 30.
4 الكافي، ج2، ص 278.
5 مستدرك الوسائل، ج5، ص 72.
489
425
الدّرس الرابع والثلاثون: اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته
4- فِي وَصِيَّةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِوَلَدِهِ الْحَسَنِ عليه السلام: "إِيَّاكَ وَمُقَارَنَةَ مَنْ رَهِبْتَهُ عَلَى دِينِكَ، وَبَاعِدِ السُّلْطَانَ، وَلَا تَأْمَنْ خَدْعَ الشَّيْطَانِ، وَتَقُولُ: مَتَى أَرَى مَا أُنْكِرُ نَزَعْتُ، فَإِنَّهُ كَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ أَيْقَنُوا بِالْمَعَادِ، فَلَوْ سُمْتَ بَعْضَهُمْ بَيْعَ آخِرَتِهِ بِالدُّنْيَا لَمْ يَطِبْ بِذَلِكَ نَفْساً، ثُمَّ قَدْ تَخْبُلُهُ الشَّيْطَانُ بِخَدْعِهِ وَمَكْرِهِ حَتَّى يُوَرِّطَهُ فِي هَلَكَتِهِ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا حَقِيرٍ وَيَنْقُلَهُ مِنْ شَرٍّ إِلَى شَرٍّ حَتَّى يُؤْيِسَهُ مِنْ رَحْمَةِ الله وَيُدْخِلَهُ فِي الْقُنُوطِ"1.
5- عنِ الإمامِ العسكريّ عليه السلام: "لَا تَعْجَلْ بِحَوَائِجِكَ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَيَضِيقَ قَلْبُكَ وَصَدْرُكَ وَيَغْشَاكَ الْقُنُوطُ"2.
6- عَنِ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام فِي حَدِيثٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام: "إِنَّ لِي دَعْوَةً مُنْذُ (ثَلَاثِ سِنِينَ). مَا أُجِبْتُ فِيهَا بِشَيْءٍ! فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: "إِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا احْتَبَسَ دَعْوَتَهُ لِيُنَاجِيَهُ وَيَسْأَلَهُ وَيَطْلُبَ إِلَيْهِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْداً عَجَّلَ دَعْوَتَهُ (وَلْقَى) فِي قَلْبِهِ الْيَأْسَ مِنْهَا"3.
7- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَلاَ يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لأجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الاْمِلِ، وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجلاً أَوْ آجِلاً، أوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ، فَلْتَكُنْ مَسَأَلَتُكَ فِيَما يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ، وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ، فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَلاَ تَبْقَى لَهُ"4.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 308.
2 (م.ن), ج13، ص 29.
3 وسائل الشيعة، ج7، ص 62.
4 نهج البلاغة، ص 397.
490
426
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى المعنى الدقيق للهتك وكيف يساهم الغضب والعصبيّة في تشكيل الشخصيّة المتهتّكة.
2- يتعرّف إلى الآثار الوخيمة للتهتّك على علاقتنا بالله تعالى وآثاره في الدنيا والآخرة.
3- يشرح كيف يساهم اليقين بحضور الله والخوف من الله في الخلاص من هذه الموبقة.
492
427
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
تمهيد
جعل الله تعالى الحياة للإنسان على وفق القوانين والسّنن المحكمة، فمن راعاها وأدّى حقّها، ضَمِن لنفسه سيرًا مستقيمًا نحو الكمال والسّعادة. ومن تساهل بشأنها واستخفّ بها ولم يؤدِّ حقّها، وقع في الخسران وضلّ أمره وسلك في متاهات الضلالة والحيرة. ولنا أن نسأل مع وضوح هذه القاعدة: لماذا يهتك البشر هذه القوانين؟ ولماذا نجد في أنفسنا اندفاعًا إلى مخالفة تلك القوانين التي تضمن سعادتنا؟
ما هي الشّخصيّة المتهتّكة؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في شرحه لحديث جنود العقل والجهل: "الظّاهر أنّ المراد بالهتك طرف الإفراط والغلوّ في القوّة الشّهويّة، واختصاص هذا الطّرف بالذّكر هنا يرجعُ إلى كونه مورد ابتلاء بني الإنسان عمومًا، ومن النّادر أن يختار الإنسان طواعيّةً الانتقال من حدِّ الاعتدال إلى جانب التّفريط والتّقصير... ويمكن إدخال طرفي الإفراط والتّفريط في معنى الهتك، ولكن بنحوٍ من التكلّف. فيكون وجه إدخال كلا الطّرفين هو الاستناد إلى معنى الهتك لغويًّا الذي يعني الخرق، فيكون الهتك بمعنى خرق حدّ الاعتدال وحجابه، ويكون الهتك مقابلاً للاعتدال... وهذا المعنى يشمل طرفي الإفراط والتّفريط معًا"1.
الاعتدال مصطلح يشير إلى حكم العقل بشأن صلاح أمر الحياة، ولهذا يفترض بالعقلاء أن يكونوا عالمين بما يصلح أمورهم وبما يفسد شؤونهم.
لقد اتّفق أصحاب العقل في تحليلهم لأسباب أيّ نوع من الفساد على أنّها ترجع جميعًا إلى الإفراط أو التّفريط في الأمور. وأدركوا أنّ السّير بينهما ـ وهو الاعتدال ـ يضمن لهم
1 جنود العقل والجهل، ص 256 - 257.
494
428
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
الخير المرجوّ والفلاح المأمول. وعندما يخرق الإنسان هذا الاعتدال ويتّجه نحو الإفراط أو التّفريط يكون قد هتك القانون العام وخرق السّنة الإلهيّة الضامنة لصلاحه.
ولكلّ شيء في هذا الوجود سنّة، وقانون يسير على أساسه إلى غايته. وقد يهتك الإنسان القوانين التي ترتبط بنفسه أو يخرق القوانين التي ترتبط بغيره، والأوّل هو المتهتّك، والثّاني هو الهتّاك.
وعندما يضعف العقل ويعجز الإنسان بسبب ذلك عن ملاحظة جانبي الإفراط والتّفريط في الأشياء وتقدير العدالة بينهما، فإنّ الشّريعة الإسلامية التي تقوم على أعمدة الحكمة الإلهيّة وتنبع من مصدرها العذب تأتي لتبيّن له ما يحتاج إليه في هذا المجال، فمن هتك الشّريعة خرج عن العدالة حتمًا.
أمّا الفطرة فهي التي تبيّن لصاحبها جهة الكمال في أيّ قانون وبتبعه تتبيّن جهة النّقص. وعندما يهتك المرء قانونًا إلهيًّا فإنّه في الواقع يخالف حكم الفطرة.
ولهذا، قال الإمام قدس سره: "الهتك من مقتضيات الفطرة المحجوبة ومن جنود إبليس والجهل"1.
ويقول قدس سره: "كما أنّ العفّة نفسها والحياء والحشمة من الأمور الفطريّة التي جُبل عليها الإنسان، في حين أنّ التّهتّك والفحشاء والوقاحة مخالفة لفطرة كلّ إنسان، لذلك فإنّ حبّ العفّة والحياء مخمّر في فطرة كلّ إنسان مثلما أنّ بغض التّهتّك وانعدام الحياء مخمّر فيها أيضًا"2.
فاتّضح بهذا البيان أنّ الهتك عبارة عن مخالفة حكم العقل والشّرع والفطرة، وإنّما يندفع المخالف إلى ذلك بسبب طغيان القوّة الشّهويّة التي تؤجّج بدورها نيران القوّة الغضبيّة.
وعندما يفقد الإنسان نور العقل وحكم الشّرع وهداية الفطرة، فإنّه سيقع في هذه الموبقة المهلكة لا محالة. وبمقدار ما يبتعد عن هذه الأنوار الثّلاثة، فمن المتوقّع أن يخرج عن رعاية القوانين التي تصلح حياته وتقيم سيره.
1 جنود العقل والجهل، ص 257.
2 (م.ن).
495
429
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
ومن أمثلة الهتك، هتك أهل العلم الذين جعلهم الله تعالى هداة الطّريق، والعلماء يمثّلون في الحياة الدّنيا تلك المصابيح التي تضيء دروب السّالكين، فمن هتكهم وتعرّض لهم كان مثله كمن يكسر المصباح في ظلمة الليل الحالكة! فهل سيتمكّن بعدها من اجتياز الطّريق والوصول إلى المقصد.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "والناحية الثّانية من جرّاء هذه السّجيّة القبيحة إهانة أهل العلم فيما إذا كان التعصّب في المباحث العلميّة، مع العلم بأنّ أهل العلم من الودائع الإلهيّة الواجب احترامهم. بينما يكون هتكهم هتكاً لحرمات الله ومن الموبقات الكبيرة"1.
آثار الهتك ونتائجه
ويذكر الإمام قدس سره بعض الآثار التي تنجم عن هذه الخصلة الخبيثة، منها:
1- معاداة الحقّ تعالى وسوء العاقبة
"إنّ من المحتمل أن يفضي هتك حرمات المؤمنين وكشف عوراتهم بالإنسان إلى سوء العاقبة، لأنّ هذا العمل الشّنيع إذا أصبح ملكة راسخة لدى الإنسان، ترك آثارًا في النّفس، منها الضّغينة والعداوة تجاه المستغاب التي تزداد شيئًا فشيئًا... فعندما يدنو منه الأجل وتنكشف عنه حجب الملكوت، ويرى المقامات الشّامخة للذين اغتابهم ومدى تعظيم الحقّ لهم، قد تحصل عنده الكراهية للحقّ سبحانه، لأنّ الإنسان يعادي المحبّ لعدوّه ويبغض المحبّ لمبغوضه، فيخرج من الدّنيا وهو كارهٌ للحقّ والملائكة ويُمنى بالخذلان الأبديّ والشّقاء الدّائم... عزيزي، تصادق مع عباد الله الذين تشملهم رحمة الله ونعمه، والذين يتزيّنون بالإسلام والإيمان وأحببهم في قلبك. وإيّاك أن تعادي محبوب الحقّ المتعالي، لأنّه سبحانه يعادي أعداء أحبّائه وسوف يبعدك عن ساحة رحمته. إنّ عباد الله المخلصين مجهولون بين سائر عباده، ومن الممكن أن يعود عداؤك لمؤمن وهتكك حرمته وكشفك عورته، إلى هتك حرمة الله تعالى ومعاداته!"2.
1 الأربعون حديثًا، ص 180.
2 (م.ن). ص 345.
496
430
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
2- الفضيحة والعار في الدّنيا
"الناس يفرّقون بين من يتجنّب هتك أستار النّاس وكشف أعراضهم وأسرارهم، وبين غيره... حتى ذاك الذي يغتاب غيره يرى في نفسه ـ فطرة وعقلًا ـ الإنسانَ الذي يكون على حذر من هذه الأمور ـ أي هتك الأستار وكشف الأعراض والأسرار ـ مفضّلاً على نفسه. وإذا تمادى الإنسان وتجاوز الحدود وهتك أسرار وأعراض النّاس، فضحه الله في هذه الدّنيا... ويجب أن يكون على حذر من فضيحة أعدّها الله للإنسان حيث لا يمكن تداركها"1.
3- الفضيحة في الآخرة
"وليُعلم أنّ الإنسان، إن لم يستر نفسه بحجاب ستّاريّة الحقّ وغفّاريّته تعالى، ولم يقع تحت اسم الستّار والغفار مع طلب الغفّاريّة والستّاريّة، فربّما إذا طُوي ساترُ الملك وارتفع حجاب الدّنيا، تُهتك ستوره في محضر الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين عليهم السلام، ولا يعلم قباحة كشف تلك العورات الباطنيّة وخزيها سوى الله"2.
4- إبعاد النّاس عن الحقائق
"وبإسناده عن عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "يا عمر، لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم، فإنّ النّاس لا يحتملون ما تحتملون". وهذا الحديث الشّريف يحمل وصيّةً عامّةً للخواص، فالنّاس متمايزون في تحمّل العلوم والمعارف، وكذلك في تحمّل الطّاعات القلبيّة والبدنيّة، فلا يمكن الإفصاح لكلّ شخص عن كلّ علم، خاصّة في باب المعارف... بل إنّ سرائر التّوحيد وحقائق المعارف هي من الأسرار التي يجب كتمانها وحفظها عند أهلها. ومعظم الضّلالات وأنواع الإضلال وأشكال التّكفير، ناتجة من عدم التزام هذه الوصيّة، بل إنّ اجتناب النّاس، حتّى علماء الظّاهر منهم، للعلوم الإلهيّة وابتعادهم عن المعارف والحقائق ناتجٌ من "تهتّك" بعض أرباب الاصطلاحات الذوقيّة أو أصحاب العلوم العرفانيّة الرّسميّة الذين أفصحوا عن القرآن والحديث الشّريف واصطلاحاتها، مع
1 الأربعون حديثًا، ص 345.
2 معراج السالكين، ص 106.
497
431
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
أنّ هذه الحقائق المعرفيّة موجودة ـ في أكمل صورها من البيان ـ في كتاب الله وأحاديث أئمّة الهدى عليه السلام، ولكن هؤلاء أظهورها بصورة سيّئة جعلت أهل الظّاهر ينفرون منها، بعد أن عجز هؤلاء أيضًا عن فصل اللبِّ عن القشر، والحقيقة عن الصّورة الظّاهريّة، والمعنى عن اللفظ، فنفوا أصل تلك الحقائق المعرفيّة الشّريفة"1.
من أين ينشأ الهتك؟
قد علمنا من خلال تعريف الهتك أنّ أهم منشأ له هو ضعف العقل وضمور الفطرة، فعندما يضعف نور العقل في القلب يفقد صاحبه القدرة على تحديد طرفيّ الإفراط والتّفريط، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا ترى الجاهل إلّا مفرّطًا أو مفرطًا"2. والجاهل هو غير العاقل كما علمتَ. وعندما يحجب المرء فطرة الله في نفسه بشتّى الحجب فإنّه لا يرى وجه الكمال في القانون والشّرع والحكمة فيبتعد عنها. وقد يحسب المخالفة ـ بسبب ذلك ـ كمالًا، كما هو حال الرّاقصين والعابثين والمتفكّهين وأمثالهم.
ويذكر الإمام سببين آخرين للهتك، وهما:
1- العصبيّة
"وقد تؤدّي العصبيّة التي لا تكون في محلّها، إلى هتك حرمة أهل العلم. أعوذ بالله من هذه الخطيئة الكبيرة!"3.
2- الغضب
"ورُوي في الكافي الشّريف، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغضب يُفسد الإيمان كما يُفسد الخلّ العسل4، وما أكثر ما يؤدّي اشتداد تأجّج هذه القوّة وتحوّلها إلى ما يشبه حال الكلب العقور، إلى إمساكها بزمام الإنسان وبالتّالي إلى طغيانه، فتدفعه إلى هتك النّواميس المحترمة وقتل النّفوس المؤمنة"5.
1 جنود العقل والجهل، ص 293.
2 مجمع البحرين، ج4، ص265.
3 الأربعون حديثًا، ص 180.
4 الكافي، ج2، الباب 121، باب الغضب، ح1.
5 جنود العقل والجهل، ص332.
498
432
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
كيف نعالج الهتك؟
ما نقصده هنا بالدّرجة الأولى هو أن نكتشف هذه الصّفة في أنفسنا، ونمنع طغيانها وتحوّلها إلى سمة لشخصيّتنا، ثمّ ننتقل بعدها إلى اقتلاع جذورها. ويقدّم لنا الإمام الخمينيّ قدس سره نصيحتين جوهريّتين، لو تأمّلنا فيهما لأمكننا أن نضع برنامجًا عمليًّا على ضوئهما:
1- اليقين بحضور الله، وهو يحصل بالعبادة
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وبالجملة، إذا رأى السّالك نفسه بجميع شؤونه عين الحضور، يستر جميع عوراته الظّاهرية والباطنيّة لحفظ المحضر وأدب الحضور، ولأنّه وجد أنّ كشف العورات الباطنيّة في محضر الحقّ أقبح وأفضح من كشف العورات الظّاهريّة بمقتضى الحديث "إنّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"، والعورات الباطنيّة هي ذمائم الأخلاق وخبائث العادات والأحوال الخُلقيّة الرّديئة التي تسقط الإنسان من لياقة المحضر وأدب الحضور وهذه هي المرتبة الأولى من هتك السّتور وكشف العورات"1.
2- الخوف من الله، وهو يحصل بالمعرفة
"الإنسان الخائف لا يتجاسر في محضر الكبرياء على مقامه المقدّس، ولا يهتك الحرمات الإلهيّة في حضور الحقّ، وإذا قوي الإيمان بتلاوة الآيات الإلهيّة يسري نور الإيمان إلى المملكة الظّاهريّة أيضّا، فمن غير الممكن أن يكون القلب نورانيًّا ولا يكون اللسان والكلام والعين والنّظر والأذن والاستماع نورانيًّا. فالبشر النّورانيّ هو الذي تكون جميع قواه الملكيّة والملكوتيّة منيرة، فمضافًا إلى هداية نفسه إلى السّعادة والطّريق المستقيم يكون مضيئًا لسائر الخلق أيضًا ويهديهم إلى طريق الإنسانيّة"2.
1 معراج السالكين، ص106.
2 (م.ن)، ص217.
499
433
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- المراد بالهتك طرف الإفراط والغلوّ في القوّة الشّهويّة.
2- الهتك عبارة عن مخالفة حكم العقل والشّرع والفطرة. وإنّما يندفع المخالف إلى ذلك بسبب طغيان القوّة الشّهويّة التي تؤجّج بدورها نيران القوّة الغضبيّة.
3- الشريعة الإسلامية هي التي تحدد خط الاعتدال ما بين الإفراط والتفريط، وبالتالي فمن هتك الشّريعة خرج عن العدالة حتمًا.
4- الفطرة هي التي تبيّن لصاحبها جهة الكمال في أيّ قانون، وبتبعه تتبيّن جهة النّقص. وعندما يهتك المرء قانونًا إلهيًّا فإنّه في الواقع يخالف حكم الفطرة.
5- عندما يفقد الإنسان نور العقل وحكم الشّرع وهداية الفطرة، فإنّه سيقع في هذه موبقة الهتك المهلكة لا محالة. وبمقدار ما يبتعد عن هذه الأنوار الثّلاثة، فمن المتوقّع أن يخرج عن رعاية القوانين التي تصلح حياته وتقيم سيره.
6- من آثار الهتك: معاداة الحقّ تعالى وسوء العاقبة، فعندما تنكشف للإنسان مقامات الذين هتكهم واغتابهم شعر بالضغينة لهم ولله الذي أعطاهم هذه المقامات - الفضيحة والعار في الدّنيا والآخرة - إبعاد النّاس عن الحقائق، بسبب "تهتّك" بعض أرباب الاصطلاحات الذوقيّة وإظهار المعارف بطريقة منفّرة.
7- ينشأ الهتك من: ضعف العقل، والذي يعجز الإنسان بسببه عن ملاحظة جانبي الإفراط والتّفريط في الأشياء - ضمور الفطرة، فالفطرة تقتضي حبّ الحياء والعفّة- العصبيّة - الغضب.
8- لمعالجة الهتك، لا بدّ من اليقين بحضور الله تعالى، وهو يحصل بالعبادة، ولا بدّ من الخوف من الله تعالى، وهو يحصل بالمعرفة.
500
434
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"إِلَهِي فَلَكَ الْحَمْدُ، فَكَمْ مِنْ عَائِبَةٍ سَتَرْتَهَا عَلَيَّ فَلَمْ تَفْضَحْنِي، وَكَمْ مِنْ ذَنْبٍ غَطَّيْتَهُ عَلَيَّ فَلَمْ تَشْهَرْنِي، وَكَمْ مِنْ شَائِبَةٍ أَلْمَمْتُ بِهَا فَلَمْ تَهْتِكْ عَنِّي سِتْرَهَا، وَلَمْ تُقَلِّدْنِي مَكْرُوهَ شَنَارِهَا، وَلَمْ تُبْدِ سَوْءَاتِهَا لِمَنْ يَلْتَمِسُ مَعَايِبِي مِنْ جِيرَتِي، وَحَسَدَةِ نِعْمَتِكَ عِنْدِي، ثُمَّ لَمْ يَنْهَنِي ذَلِكَ عَنْ أَنْ جَرَيْتُ إِلَى سُوءِ مَا عَهِدْتَ مِنِّي فَمَنْ أَجْهَلُ مِنِّي، يَا إِلَهِي، بِرُشْدِهِ، وَمَنْ أَغْفَلُ مِنِّي عَنْ حَظِّهِ، وَمَنْ أَبْعَدُ مِنِّي مِنِ اسْتِصْلاَحِ نَفْسِهِ حِينَ أُنْفِقُ مَا أَجْرَيْتَ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ فِيمَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِكَ، وَمَنْ أَبْعَدُ غَوْراً فِي الْبَاطِلِ، وَأَشَدُّ إِقْدَاماً عَلَى السُّوءِ مِنِّي حِينَ أَقِفُ بَيْنَ دَعْوَتِكَ وَدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ فَأَتَّبِعُ دَعْوَتَهُ عَلَى غَيْرِ عَمًى مِنِّي فِي مَعْرِفَةٍ بِهِ وَلاَ نِسْيَانٍ مِنْ حِفْظِي لَهُ، وَأَنَا حِينَئِذٍ مُوقِنٌ بِأَنَّ مُنْتَهَى دَعْوَتِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمُنْتَهَى دَعْوَتِهِ إِلَي النَّارِ، سُبْحَانَكَ مَا أَعْجَبَ مَا أَشْهَدُ بِهِ عَلَى نَفْسِي! وَأُعَدِّدُهُ مِنْ مَكْتُومِ أَمْرِي وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَاتُكَ عَنِّي! وَإِبْطَاؤُكَ عَنْ مُعَاجَلَتِي! وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ كَرَمِي عَلَيْكَ، بَلْ تَأَنِّياً مِنْكَ لِي، وَتَفَضُّلاً مِنْكَ عَلَيَّ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن الإمامِ الصادقِ عليه السلام: "إِيَّاكَ وَالسُّعَاةَ وَأَهْلَ النَّمَائِمِ، فَلَا يَلْتَزِقَنَّ مِنْهُمْ بِكَ أَحَدٌ، وَلَا يَرَاكَ الله يَوْماً وَلَا لَيْلَةً وَأَنْتَ تَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفاً وَلَا عَدْلًا، فَيَسْخَطَ الله عَلَيْكَ وَيَهْتِكَ سِتْرَكَ"2.
2- عن الإمامِ الصادقِ عليه السلام: "فساد الظّاهر من فساد الباطن، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن خاف الله في السرّ لم يهتك الله علانيته، ومن خان الله في السرّ هتك الله ستره في العلانية"3.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام إذا استقال من ذنوبه.
2 وسائل الشيعة، ج17، ص 207.
3 مصباح الشريعة، ص 107.
501
435
الدّرس الخامس والثلاثون: الهتك، ماهيّته، آثاره وسبل معالجته
3- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَيُهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الدُّنْيَا دارُ مَجَاز، وَالآخِرَةُ دَارُ قَرَار، فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُمْ، وَلاَ تَهْتِكُوا أَسْتَارَكُمْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ أَسْرَارَكُم، وَأَخْرِجُوا مِنَ الدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ، فَفِيهَا اخْتُبِرْتُمْ، ولِغِيْرِهَا خُلِقْتُمْ"1.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلَانِ، عَالِمٌ مُتَهَتِّكٌ وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ، هَذَا يُضِلُّ النَّاسَ عَنْ عِلْمِهِ بِتَهَتُّكِهِ، وَهَذَا يَدْعُوهُمْ إِلَى جَهِلِهِ بِتَنَسُّكِه"2.
1 نهج البلاغة، ص 320.
2 الكراجكي، محمد بن علي، معدن الجواهر، تحقيق وتصحيح: أحمد الحسيني، نشر المكتبة المرتضوية، طهران، الطبعة الثانية، 1394هـ، ص 26. وورد مثله في بحار الانوار، ج2، ص111.
502
436
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الجهل وأنواعه.
2- يبيّن تأثير الجهل على تكامل الإنسان العلميّ والمعنويّ.
3- يشرح كيف يساهم إهمال تهذيب النفس وعدم الإخلاص في تشكّل الشخصية الجاهلة.
504
437
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
تمهيد
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ أعظم القذارات المعنويّة التي لا يمكن تطهيرها بسبعة أبحر، وأعجزت الأنبياء العظام، هي قذارة الجهل المركّب، الذي هو منشأ ذاك الدّاء العضال، ألا وهو إنكار مقامات أهل الله وأرباب المعرفة ومبدأ سوء الظنّ بأصحاب القلوب"1.
يفتح الإنسانُ عينيه على هذه الحياة وهو لا يعلم شيئًا. وتتبدّى الأيّام لتكشف عن مدرسة عظيمة صفوفها هذا العالم كلّه بما فيه من آيات الآفاق والأنفس، إنّها المدرسة التي أرادها الله تعالى كما قال في كتابه العزيز: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾2.
فلماذا نجد في أنفسنا عدم الرّغبة في التعرّف إلى أسرارها وعجائبها التي لا حدّ لعظمتها؟ ولماذا نصرّ على الكثير من الأفعال والمواقف التي تنبع من الجهل ولا تصدر عن العقل؟!
ما هي الشّخصيّة الجاهلة؟
الجهل صفة خبيثة، بل أخبث الصّفات، لأنّه منشأ جميع الخبيثات!
ورغم الاتّفاق على قذارة الجهل وقبحه، إلا أنّه لم يأخذ حقّه من البحث والتّحقيق والبيان، فأدّى ذلك إلى وقوع المجتمع المسلم في الكثير من الموبقات والمهلكات، لأنّ المجتمع الذي لا يعرف آفات نهضته وعقبات تكامله يوشك أن يقع فيها في كلّ حين. هذا، وللجهل حالات عدّة، أشهرها:
1 معراج السالكين، ص 69.
2 سورة الطلاق، الآية 12.
506
438
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
الجهل البسيط: وهو أن يجهل الواقع كما هو في حقيقة الأمر، ويعلم أنّه جاهلٌ به.
الجهل المركّب: وهو أن يجهل أنّه جاهل بهذا الواقع، ويُعدّ نفسه عالمًا به. وهؤلاء درجات أيضًا، يصل بعضها إلى حدّ الضّلالة باستخدام العلوم والمعارف.
الجهل المتعمّد: وهو أن يعرض عن إدراك الواقع، والتعرّف إليه بالرّغم من قدرته على المعرفة.
الجهل القابليّ: وهو أن يوصل نفسه إلى حالة فقدان القدرة على التعلّم.
ولكي تتّضح وخامة الجهل أكثر ينبغي أن نعلم أنّ الواقع بكلّ تجلّياته وعوالمه ظاهرٌ بيّنٌ، وأنّ إدراكه كما هو واقعٌ وحقٌّ، أمرٌ ميسور لكلّ إنسان، وإنّ هذا الإدراك هو سرّ الكمال. وبمقدار هذا الإدراك يرتقي الإنسان في مراتبه كما قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾1.
نعم، إنّ كلّ إنسان في أصل وجوده هو عين الجهل، لكنّ الله تعالى قد فتح عليه كلّ آفاق المعرفة، وسهّل له سبل الوصول إليها. فما عذر من ترك دخول الباب بعد فتحه؟!
أمّا الجهل بالواقع فلن يوصل الإنسان إلى أيّ خير، ولا يمكن لأيّ مخلوق أن يدرك كمالًا دون المعرفة، والجهل بالواقع سبب كلّ حرمان وخسران، وأصل كلّ قبح وشرّ، ومعدن كلّ فساد وعصيان. والجاهل، وإن أدرك خيرًا ما اتّفاقًا وصدفةً، لكنّه عمّا قريب سيخسره، فالخير لا يدوم إلّا مع وجود العلم. ومن أسّس بنيان العبادة والعمل الصّالح على قواعد الجهل انهارت به في وادي الخسران، مهما بلغت من الكثرة والجهد.
إنّنا جميعًا ندرك جهلنا، ولكنّ المشكلة الأخلاقيّة والمرض القلبيّ هنا هو أن نتعمّد البقاء على الجهل، لأنّ هذا التّعمّد سيوصلنا في النّهاية إلى فقدان القدرة على التعلّم. والأسوأ من ذلك أن يكون هذا الجهل محاطًا بالعلم أو موضوعًا في قالب العلم، فنجهل بعدها أنّنا جاهلون، ونعرض للنّاس الجهل بصورة العلم.
يقول الإمام قدس سره: "اِعلمْ، أنّ العلم من أفضل الكمالات وأعظم الفضائل، فهو من أشرف الأسماء الإلهية ومن صفات الموجود بما هو موجود، وببركته انتظم نظام الوجود
1 سورة المجادلة، الآية 11.
507
439
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
وطراز الغيب والشهود، وكلّ موجود يكون تحقّقه بحقيقة العلم الشريفة أقوى، فهو أقربُ إلى المقام المقدّس للحقّ تعالى وإلى المرتبة القدسية للواجب - جلّ وعلا -، بل إنّ العلم مساوقٌ للوجود، فحيثما سطع شعاع الوجود كان معه، وبمقداره شعاع نور العلم، ولذلك، فإنّ الخلو التام من حقيقة العلم يعني الخلو التام أيضاً من حقيقة الوجود، والفاقد لهذه الحقيقة هو العدم المطلق"1.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ العلم والجهل اللذين عُدّا في هذا الموضع من الحديث الشّريف2 من جنود العقل والجهل، هما غير العقل والجهل نفسيهما، لأنّ العقل، إمّا أن يكون عبارة عن "العقل المجرّد" في الإنسان، والذي تقابله القوّة الواهمة التي هي أيضًا مجرّدة ولكن بتجرّدٍ أدنى من التجرّد العقلي، وإمّا أن يكون المقصود منه "العقل الكلّيّ" الذي هو عقل العالم الكبير، ويقابله الجهل الذي هو عبارة عن "الوهم الكلّي" الذي يحتمل أن يكون هو المقصود بوصف "الشيطان" الوارد في لسان الشّريعة المطّهرة، وقد تقدّم تفصيل ذلك.
وأمّا العلم والجهل هنا في هذا المقطع من الحديث، فهما عبارة عن شؤون حقيقتي العقل والجهل المذكورتين آنفاً. فشأن العقل العلمُ، لأنّ العقل حقيقةٌ مجرّدةٌ غير محجوبة، وهي متّصلة بالبرهان، لذا فهي حقيقةٌ عاقلة عالمة.
ويُحتمل أن يكون العلم والجهل في هذا الموضع ـ بملاحظة صدور الحديث الشّريف عن مقام قطب الولاية ـ هو العلم بالله تعالى وشؤونه الذّاتيّة والصّفاتيّة والأفعاليّة، على نحوٍ يكون هذا العلم من الآيات والعلامات الهادية إليه جلّ وعلا. وبالمقابل، يكون معنى الجهل هنا هو عدم العلم بتلك المقامات. وعليه، تكون الإدراكات العقليّة هي الإدراكات المرتبطة بالحقّ جلّ جلاله، والإدراكات الجهليّة الشّيطانيّة هي المرتبطة بالشّجرة الخبيثة التي هي أصل أصول الجهالات والضّلالات. وتفصيل هذا المجمل هو: إنّ لجميع الموجودات الممكنة الوجود جهتين ووجهتين: الجهة الأولى هي النّورانيّة والوجود والإطلاق والكمال وهذه هي الوجهة الغيبيّة الإلهيّة. والجهة الثّانية هي الظّلمة والتعيّن والماهيّة والنّقص، وهذه هي الوجهة النّفسانيّة للأشياء. والأشياء في الوجهة الأولى من الشّؤون الإلهيّة والآيات الرّبّانيّة،
1 جنود العقل والجهل، ص 240.
2 حديث الإمام الصّادق عليه السلام حول جنود العقل والجهل.
508
440
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
ولعلّ المراد من قول رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم "آية محكمة"، في الحديث المرويّ عنه في الكافي الشّريف: "إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة و..."1 ، هو العلم بالوجهة النّورانيّة للأشياء، وهو علم ملازم لمعرفة الله. وشأن العقل إدراك تلك الجهة النّورانيّة التي هي من الآيات الإلهيّة، في حين أنّ شأن الوهم والجهل إدراك تعيّنات الأشياء، وهي جهالةٌ مركّبةٌ وسرابٌ باطلٌ لا حقيقة له: "ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلٌ"، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أصدق كلمةٍ قالها شاعر، كلمةُ لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ"2. 3
ويتّضح أن تعمّد الجهل هو المشكلة الكبرى التي تؤدّي إلى كلّ تلك المفاسد، وهو عبارة عن تعطيل العقل عن تحصيل العلم الذي يُفترض أن يتحقّق من خلال التّفكّر بكلّ موجودات العالم وأحداثه وأسراره وآياته، وهي التي تعبّر عن ذات الحقّ تعالى وتجلّي صفاته.
واتّضح أيضًا أنّ مصطلح الجهل في الأحاديث، تارةً يُطلق على ما يقابل العقل (وهو الأغلب) فيكون عبارة عن تعطيل العقل، وتارةً يُطلق على ما يقابل العلم فيكون عبارة عن الحرمان من ثمار حركة العقل، لأنّ الدّور الأساسيّ للعقل هو استفادة العلم بكشف الواقع كما هو.
لماذا يستجهل الإنسان نفسه؟
فإذا كان العلم ثمرةً تلقائيّةً للتّفاعل العقليّ ــ الفكريّ مع عالم الوجود، فلماذا يبتعد الإنسان عن هذه العمليّة التّفاعليّة، وكيف يحدث أن يوقع نفسه في مستنقع الجهل والجهالة؟
عدم تهذيب النّفس وإخلاص النّيّة:
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ إلقاء العلوم والمعارف من العوالم الغيبيّة، ومن نتائج ارتباط النّفس بها ـ وتقبّلها للعلوم ـ كما ورد في الحديث الشّريف: "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ التَّعْلِيمِ، بَلْ هُوَ نُورٌ يَقْذِفُهُ الله فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ"4، فكلّ نفسٍ ذات ارتباط مع الملكوت الأعلى وعالم الملائكة المقرّبين، تكون الإلقاءات إليها من نوع الفيوضات الملكيّة، والعلوم التي تفاض
1 الكافي، ج1، ص32.
2 مجمع البحرين، ج1، ص153.
3 جنود العقل والجهل، ص 238 - 239.
4 بحار الأنوار، ج1، كتاب العلم، الباب 7، ح17، ص225.
509
441
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
عليها هي من العلوم الحقيقيّة ومن عالم الملائكة. وكلّ نفس منشدّة إلى عالم الملكوت السّفليّ، وعالم الجنّ والشّيطان والنّفوس الخبيثة، كانت الإلقاءات إليها شيطانيّة ومن قبيل الجهل المركّب، والحُجب المظلمة.
ومن هذا المنطلق يرى أهل المعارف، كالعرفاء وأصحاب العلوم الحقيقيّة، أنّ تطهير النّفوس، وإخلاص النّيّة، وتصحيح الغايات والأهداف في تحصيل العلم وخاصّةً في دراسة المعارف الحقّة والعلوم الشّرعيّة، هو الشّرط الأوّل في ذلك، ويؤكّدونه على المتعلّمين، لأنّه مع تصفية النّفس وتجليتها، يشتدّ ارتباطها بالمبادئ العالية.
وعندما يقول الرّبّ جلّ جلاله في الآية الكريمة: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾1، فلأجل أنّ التّقوى تزكّي النّفس وتربطها بعالم الغيب المقدّس ثمّ يكون التّعليم الإلهيّ والإلقاء الرّحمانيّ، لأنّ البخل في المبادئ العالية محال، وإنّ فيضها يكون واجبًا، إذ إنّ واجب الوجود بالذّات واجبٌ من جميع الجهات والحيثيّات.
وإذا كان الإنسان، لأجل تعمير نفسه ومأكله ومشربه وأنانيّته النّفسانيّة، منصرفًا إلى تحصيل العلوم، غدا الهدف غير إلهيّ، وأصبحت الإلقاءات شيطانيّة.
ومن المقاييس التي لا تفرّق، بين الإلقاءات الرّحمانيّة والإلقاءات الشّيطانيّة، والتي لم يذكرها أهل المعارف حسب ما أظنّ، هو ما ذكرناه، والذي يُدركه الإنسان بنفسه في كثير من الأحيان. فإنّ ما يُلقى إلى النّفس المظلمة الفاقدة للنّقاء يكون من الجهل المركّب، الذي هو مرضٌ نفسيّ لا دواء له، وهو أشواكٌ في طريق الوصول إلى الحقيقة، لأنّ المقياس في العلم، ليس هو تجميع المفاهيم الكليّة، والاصطلاحات العلميّة، بل المقصود منه رفع الحجب عن عين البصيرة للنّفس، وفتح باب معرفة الله، حيث يكون العلم الحقيقيّ هو مصباح هداية الملكوت، والصّراط المستقيم، للتقرّب إلى الحقّ ودار كرامتة. وكلّ ما عدا ذلك، وإن كان في عالم المُلك وقبل إزاحة حجب الطّبيعة ـ الدّنيا ـ فهو في شكل العلم وصورته. وإنّ أصحابه لدى أهل الحوار والجدال، يُعدّون من العلماء والعرفاء والفقهاء. ولكنّه بعد تساقط الحجب عن وجه القلب، وكشف ستار الملكوت، والاستفاقة من السّبات العميق في عالم المُلك
1 سورة البقرة، الآية 282.
510
442
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
والطّبيعة يتبيّن بأنّ سُمك هذا الحجاب وغلظته أكثر من جميع الحجب، وإنّ هذه العلوم المقرّرة بأسرها، من الحجب الغليظة الملكوتيّة التي تكون بين حجاب وآخر مسافة أميال وفراسخ وقد كنّا من الغافلين عنه "النّاسُ نِيامٌ فَإِذا ماتُوا انْتَبَهُوا"1، ويتبيّن لنا جميعًا كيف سنكون"2.
منشأ الجهل
1- حبّ الدّنيا
ويقول قدس سره، في التّأكيد على هذا المطلب، وهو أن التّوجّه إلى الدّنيا هو أصل كلّ جهلٍ وجهالةٍ وتعطيلٍ للعقل والتّفكّر: "... فإذا قويت الوجهة الدّنيويّة، والتفت كليًّا إلى تعمير الدّنيا، وانحصرت همّته في هذا العالم واستغرق في ملاذ البطن والفرج، وكافّة المشتهيات والمتع الدّنيويّة، انعطف باطن الخيال نحو الملكوت السّفليّ، الذي يكون بمثابة الظلّ المظلم لعالم المُلك والطّبيعة، وعالم الجنّ والشّياطين والنّفوس الخبيثة، وتكون الإلقاءات شيطانيّة، وباعثة على تخيّلات باطلة وأوهام خبيثة.
وحيث تتوجّه النّفس إلى الدّنيا، تشتاق إلى تلك التخيّلات الباطلة، ويتبعها أيضًا العزم والإرادة، وتتحوّل كلّ الأعمال القلبيّة والقالبيّة إلى سنخ الأعمال الشّيطانيّة من قبيل الوسوسة والشكّ والتّرديد والأوهام والخيالات الباطلة. وتصبح الإرادة على ضوء ذلك في مُلك الجسم فعّالة، وتتجسّد الأعمال البدنيّة أيضًا حسب الصّور الباطنيّة للقلب، لأنّ الأعمال صورة وتمثال للإرادات، التي هي صور ومثال للأوهام التي بدورها انعكاس لاتّجاه القلب، وحيث إنّ وجهة القلب كانت نحو عالم الشّيطان، كانت الإلقاءات في القلب من سنخ الجهل المركّب الشّيطانيّ، وفي النّهاية تستشري من باطن الذّات، الوسوسة والشكّ والشّرك والشّبهات الباطلة وتسري في كلّ أنحاء الجسم"3.
1 مرآة العقول، ج1، ص350.
2 الأربعون حديثًا، ص 403 - 405.
3 (م.ن)، ص 433 - 434.
511
443
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
2- احتجاب الفطرة
إذًا هو خيارٌ يتّخذه الإنسان عن تصميمٍ وإرادةٍ. وليس الجهل حرمانًا من العلم يُفرض على الإنسان عنوةً. أجل، إذا كان المقصود من العلم هو ما في أيدي النّاس، كالعلم بالتّقنيّات العالية، فلا شكّ بأنّ الحرمان منه قد يحصل رغمًا عن الإنسان وبسبب المنع من قبل غيره، كما تفعل القوى الكبرى المهيمنة على العالم.
ولهذا، قال الإمام قدس سره: "ثمّة اختلاف بين بني الإنسان في تشخيص مصاديق العلم، وهذا الاختلاف ناتجٌ من احتجاب الفطرة التي تحبُّ في الواقع العلم المطلق، ولكن يجب التنبُّه إلى أنّ العلم الذي تعشقه الفطرة ليس هو العلم المعروف عند العامّة، والذي يعني العلم بالمفاهيم والعناوين والعلم الارتساميّ، فهذه العلوم ناقصة من جهاتٍ عدّة، وإن كان فيها ـ في أحد أبعادها ـ العلم الحقيقيّ، وكلّ ما فيه نقصٌ هو خارج عن دائرة العشق الفطريّ. من هنا، فإنّ جميع العلوم الجزئيّة والعلوم الكلّيّة المفهوميّة حتّى العلم (المفهوميّ) بالله وشؤونه الذّاتيّة والصّفاتيّة والأفعاليّة، ليست هي العلم الذي تعشقه الفطرة السّليمة، بل إنّ ما تعشقه هو المعرفة على نحو المشاهدة الحضوريّة، وهذه المعرفة تحصل برفع الحجب، والحجب كافّة من النّقص والعدم، ولا تصل الفطرة إلى معشوقها ومطلوبها إلّا بعد إزاحة هذه الحجب كافّة، الظّلمانيّة منها والنّورانيّة، وعندها يتحقّق للفطرة شهود "كلّ الكمال" وتصل الفطرة إلى محبوبها: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾1، ﴿وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾2، وإليه المرجع والمآب.
من هنا، يتَّضح أنّ العلم من لوازم الفطرة، أي إنّ الفطرة التي لم تحتجب ولم تنغمس في غلاف الطّبيعة تكون متوجّهة إلى المعرفة المطلقة، أمّا إذا احتجبت فإنّها تبتعد عن هذه المعرفة بمقدار احتجابها ذاك، حتّى تصل إلى مرتبة الجهالة المطلقة"3.
وأكثر النّاس يعدّون من لا يعرف علومهم جاهلًا مع أنّه قد لا يكون كذلك، وإنّما يُعرف العالم الحقيقيّ من الجاهل الواقعيّ من خلال سلوكه في هذه الحياة وما ينعكس على نفسه
1 سورة الرّعد، الآية 28.
2 سورة النّور، الآية 42.
3 جنود العقل والجهل، ص243 - 244.
512
444
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
من آثار الطّمأنينة والبهجة والاستقامة والفلاح والنّجاح. ولو أنّ النّاس اتّفقوا على معايير النّجاح والفلاح ولم يحصروهما في إطار جمع المال واكتناز الثّروة وتحصيل الجاه والسّلطة لعرفوا عندها من هو العالم ومن هو الجاهل حقًّا.
ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "يتَّضح من الرّجوع إلى الفطرة الإنسانيّة أنّ كلّ إنسان عاشقٌ للكمال المطلق... وأنّ الجميع متنفّرون من النّقص، ولأنّ العلم قرينٌ مساوق للكمال المطلق، فإنّ العشق للكمال عشقٌ للعلم أيضًا، كما أنّ الجهل قرين النّقص ومساوق له، لذا فالجميع متنفّرون منه. يُضاف إلى ذلك أنّ الفطرة تعشقُ العلم بذاته وتكره الجهل بذاته، كما هو واضحٌ من الرّجوع إلى الفطرة الإنسانيّة"1.
1 جنود العقل والجهل، ص 250.
513
445
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
المفاهيم الرئيسة
1- الجهل أخبث الصّفات لأنّه منشأ جميع الخبائث.
2- للجهل حالات عدّة، أشهرها:
الجهل البسيط: وهو أن يجهل الواقع كما هو في حقيقة الأمر. ويعلم أنّه جاهلٌ به.
الجهل المركّب: وهو أن يجهل أنّه جاهل بهذا الواقع. ويُعدّ نفسه عالمًا به. وهؤلاء درجات أيضًا، يصل بعضها إلى حدّ الضّلالة باستخدام العلوم والمعارف.
الجهل المتعمّد: وهو أن يعرض عن إدراك الواقع والتعرّف إليه بالرّغم من قدرته على المعرفة.
الجهل القابليّ: وهو أن يوصل نفسه إلى حالة فقدان القدرة على التعلّم.
3- تتّضح وخامة الجهل من معرفة أن الإنسان يرتقي ويتكامل بمقدار معرفته وإدراكه للواقع.
إنّ كلّ إنسان في أصل وجوده هو عين الجهل. لكنّ الله تعالى قد فتح عليه كلّ آفاق المعرفة، وسهّل له سبل الوصول إليها.
4- مصطلح الجهل في الأحاديث قد يُطلَق على:
ما يقابل العقل (وهو الأغلب) فيكون عبارة عن تعطيل العقل. ما يقابل العلم فيكون عبارة عن الحرمان من ثمار حركة العقل، لأنّ الدّور الأساسيّ للعقل هو استفادة العلم بكشف الواقع كما هو.
5- تعمّد الجهل المشكلة الكبرى التي تؤدّي إلى كلّ تلك المفاسد. وهو عبارة عن تعطيل العقل عن تحصيل العلم.
6- قد يستجهل الإنسان نفسه لأسباب عديدة أبرزها:
عدم تهذيب النفس وإخلاص النّيّة: فالعلوم والإلقاءات الإلهية تكون بقدر الارتباط بالله.
حبّ الدّنيا: الذي يؤدّي إلى الخيالات الباطلة ويجعل الإلقاءات في القلب من سنخ الجهل المركب الشيطاني.
احتجاب الفطرة: حيث أنّ العلم الحقيقي الحضوري من لوازم الفطرة.
.
514
446
الدّرس السادس والثلاثون: الجهل (1) - حقيقته، أنواع وأهم أسبابه
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"مَوْلاَيَ ارْحَمْ كَبْوَتِي لِحُرِّ وَجْهِي وَزَلَّةَ قَدَمِي، وعُدْ بِحِلْمِكَ عَلَى جَهْلِي وَ بِإِحْسَانِكَ عَلَى إِسَاءَتِي، فَأَنَا الْمُقِرُّ بِذَنْبِي، الْمُعْتَرِفُ بِخَطِيئَتِي، وَهَذِهِ يَدِي وَنَاصِيَتِي، أَسْتَكِينُ بِالْقَوَدِ مِنْ نَفْسِي، ارْحَمْ شَيْبَتِي، ونَفَادَ أَيَّامِي، وَاقْتِرَابَ أَجَلِي وَضَعْفِي وَمَسْكَنَتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ عَنْ جَهْلِهِ، بَلْ قَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَالْحَسْرَةُ أَدْوَمُ"2.
2- عَنْ أمير المؤمنين عليه السلام: "خَمْسٌ لَوْ شُدَّتْ إِلَيْهَا الْمَطَايَا حَتَّى يُنْضَيْنَ لَكَانَ يَسِيراً: لَا يَرْجُو الْعَبْدُ إِلَّا رَبَّهُ، وَلَا يَخَافُ إِلَّا ذَنْبَهُ، وَلَا يَسْتَحِي الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وَلَا يَسْتَحِي الْعَالِمُ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ الله أَعْلَمُ"3.
3- عن أميرِ المؤمنين عليه السلام: "كن زاهدًا فيما يرغب فيه الجهول"4.
4- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ: فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ، وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ، وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْ لا تَجْهَلُوا، وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْما تَعْلَمُوا"5.
5- عنِ الإمامِ الصَّادِقِ عليه السلام: "مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِ الْإِجَابَةُ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ، وَالْمُعَارَضَةُ قَبْلَ أَنْ يَفْهَمَ، وَالْحُكْمُ بِمَا لَا يَعْلَمُ"6.
6- عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام: "غَضَبُ الْجَاهِلِ فِي قَوْلِهِ وَغَضَبُ الْعَاقِلِ فِي فِعْلِهِ"7.
7- عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام: "طاعة الجهول وكثرة الفضول تدلّان على الجهل"8.
1 الصحيفة السجادية، دعاؤه عليه السلام في التذلّل لله عزّ وجل.
2 الكافي، ج1، ص 45.
3 مستدرك الوسائل، ج2، ص 402.
4 غرر الحكم، ص 276.
5 بحار الأنوار، ج27، ص 251.
6 (م.ن), ج2، ص 62.
7 (م.ن), ج1، ص 160.
8 غرر الحكم، ص 476.
515
447
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن الآثار الإجتماعيّة للجهل المدمّرة للحضارة والتدّين.
2- يشرح كيف يؤدّي الجهل إلى غلبة الطبيعة السّبعيّة على الإنسان.
3- يبيّن كيف يساهم اتّباع الأولياء والأنبياء في التخلّص من هذه الآفة.
516
448
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
تمهيد
تستعر الحروب وتنتشر الفتن في كلّ بقاع العالم. وعندما ندرس أسباب الكثير من هذه الكوارث، نجد مرض الجهل يسيطر على أذهان النّاس، فيدفعهم إلى الانخراط في الأعمال الإجراميّة وسفك الدّماء بغير حلّها، ويتحوّل معظمهم إلى أدوات للطواغيت الذين يستغلّون جهلهم.
ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل يتحوّل الجهل إلى عنصر خبيث تنشأ منه كلّ الخبائث، وتكون النهاية أن يجد الجاهل نفسه أمام تقصيرٍ رهيبٍ. فلقد أعرض عن العلم وأهله، وظنّ أنّه يمكن إدارة الحياة والوصول إلى السّعادة دون المعرفة.
ولا يوجد من سبيل للتخلّص من كلّ هذه التبعات إلّا بمعرفة هذا الأصل الأكبر وهو أنّ ضعف الاهتمام بالعلم النافع المطابق للواقع لا يمكن أن ينسجم مع أيّ فلاح ونجاح.
ما هي آثار الجهل؟
ولنتوقّف قليلًا عند بعض الآثار التي ذكرها الإمام الخمينيّ قدس سره للجهل. وإنّما نذكر بعضها، رغم سعينا لاستقصاء كلّ ما قاله الإمام في هذا المجال لضيقه، ولكون ما يُذكر كفيلًا بتحقيق المطلوب، وهو إدراك وخامة هذه الصّفة الخبيثة وقبحها:
1- الحشر مع أعراب الجاهليّة
"إذا تحرّك الإنسان بدافع قوميّته وعصبيّته، بحيث أخذ بالدّفاع عن قومه وأحبّته في باطلهم وسايَرَهم فيه ودافع عنهم، فهذا شخص تجلّت فيه السّجيّة الخبيثة، سجيّة العصبيّة الجاهليّة، وأصبح عضوًا فاسدًا في المجتمع، وأفسد أخلاق المجتمع الصّالح، وصار في زمرة أعراب الجاهليّة، وهم فئة من أعراب البوادي قبل الإسلام ممّن كانوا يعيشون في
518
449
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
ظلام الجهل، وقد قويت فيهم هذه النّزعة القبيحة، والسّجيّة البشعة، بل إنّ هذه الصّفة توجد في معظم أهل البوادي، عدا من اهتدى بنور الهداية، كما ورد في الحديث الشّريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "أنّ الله سبحانه يعذّب طوائف ستّة بأمورٍ ستّة: أَهْلَ البَوَادِي بِالعَصَبِيَّةِ، وَأَهْـلَ الْقُرَى بِالْكِبَرِ، وَالأُّمَرَاءِ بِالظُلْمِ، وَالفُقَهَاءِ بِالحَسَدِ، وَالتُّجَّارِ بِالخِيَانَةِ، وَأَهْلِ الرَّسَاتِيقِ بِالجَهْلِ"1"2.
2- حرف العباد وتشتيت كلمتهم
"لكنّ المصيبة في أنّ هناك بعض الجهلاء في لباس أهل العلم غير العارفين بالكتاب والسنَّة والجاهلين بهما، ظهروا في القرون الأخيرة، من دون أيّة رؤية صحيحة أو اعتماد على معيارٍ صحيحٍ أو معرفة بالكتاب والسنّة، وجعلوا جهلهم وحده دليلًا على بطلان العلم بالمبدأ والمعاد... ولكي يروّجوا بضاعتهم حرّموا النّظر في المعارف التي هي غاية ما يقصده الأنبياء والأولياء عليهم السلام، والتي امتلأ بها كتاب الله وأخبار أهل البيت عليهم السلام، وانطلقوا يرمون أهل المعرفة بكلّ شتيمةٍ واتّهامٍ، وسبّبوا انحراف قلوب عباد الله عن العلم بالمبدأ والمعاد، وكانوا سببًا في تفريق الكلمة وتشتيت شمل المسلمين. ولو سأل سائلٌ: لِمَ كل هذا التّكفير والتّفسيق؟ لتشبّث المجيب بالحديث القائل: "لا تَتَفَكّرُوا في ذاتِ اللهِ"3.
إنّ هذا الجاهل المسكين مخطئٌ وجاهلٌ من جهتين:
الأولى: أنّه ظنّ أنّ الحكماء يقومون بالتّفكّر في ذات الله، مع أنّهم يرون أنّ التّفكّر في ذات الله واكتناهها ممتنعٌ، وهذا من المسائل المبرهن عليها في هذا العلم.
الثّانية: أنّه لم يفهم معنى الحديث، فظنّ أنّه لا يجوز التّفوّه بأيّ شيءٍ عن ذات الله المقدّسة مطلقًا"4.
3- إيذاء النّاس
"وذكر الإمام الصّادق عليه السلام آثار وعلائم لصاحب الجهل والمراء: منها: إيذاء النّاس، وسوء
1 الخصال، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب العصبيّة، ح2.
2 الأربعون حديثًا، ص 174.
3 راجع الكافي، ج1، ص93 ، ح7, توحيد الصدوق, ص454 ـ 457, المحجة البيضاء, ج8، ص193, 210.
4 الأربعون حديثًا، ص 225.
519
450
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
مجلسه، وهذه من الصّفات الذّميمة والمفاسد التي تكون سببًا مستقلًّا لهلاك الإنسان، وفي الحديث الشّريف المنقول من الكافي "مَنْ آذى لي وَليَّا، فَقَدْ بارَزَني بِالْمُحَارَبَةَ"1"2.
4- الإنكار والجحود
"لقد ثبت بالبرهان العقليّ أنّ الغذاء يجب أن يكون مناسبًا للمتغذّي به (في السّنخيّة)، لذا فإنّ الذين لم تفقد فطرتهم الأصلية نورانيّتها يصدّقون بالحقّ ويخضعون للحقيقة، أمّا الذين احتجبت فطرتهم عن تلك النّورانيّة وغلبت عليها الجهالة والشّيطنة، فإنّ الإنكار والجحود ملازم لهم"3.
5- سوء العذاب
"إلاّ أنّ حجاب الجهل وعدم المعرفة وحبّ الدّنيا وحبّ الذّات، يعمي عين الإِنسان ويصمّ أذنه ويلقيه في المسكنة والعذاب"4.
6- غلبة السّبعيّة والشيطنة على الإنسان
"الإنسان إذا تمرّد على الأوامر الرّحمانيّة والعقلائيّة، وخضع لسلطة الشّيطان والجهل، فإنّ الصّفات الحيوانيّة تظهر فيه بأشدّ ممّا هي عليه في جميع الحيوانات، فقوّة غضبه وشهواته تحرق العالم برمّته، وتهدّ أركانه، وتفني موجوداته، وتهدم أساس الحضارة والتديّن"5.
عند غياب النّظم العالميّ وشيوع الحالة السّبعيّة الوحشيّة والشّيطنة والجهل بين سكّان المعمورة، فإنّ هذه الآلات والأدوات والمخترعات المحيّرة للعقول ، التي جعلها الله نصيب أوروبّا المعاصرة، والتي لو كانت إدارتها واستخدامها بيد العقل وفي ظلّ راية الدّين الإلهيّ، لأصبح العالم برمّته كتلة من النّور والعدل، وتضمن لجميع أرجائه السّعادة الأبديّة في ظلّ العلاقات الطيّبة بين دوله، نقول: هذه الآلات والأدوات والمخترعات مسخّرة اليوم، ومع
1 الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب من آذى المسلمين، ح 8.
2 الأربعون حديثًا، ص 408.
3 جنود العقل والجهل، ص 119
4 الأربعون حديثًا، ص 169.
5 جنود العقل والجهل، ص 113.
520
451
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
الأسف، لحاكميّة الجهل والشّيطنة والأنانيّات والأهواء، وجميعها تُستخدم ضدّ سعادة بني الإنسان عامّة، وضدّ نظام المدينة الفاضلة خاصّة، فصارت الوسيلة التي ينبغي أن تنير الدّنيا سائقةً العالم إلى الغرق في الظّلمات والشّقاء، وسائرة بالإنسان في طريق البؤس والذلّ والشّقاء، فإلى أين سينتهي مسيرها هذا؟
7- إغلاق باب الوحي على النّاس
"ومع من أنّ الشيعة في جميع الأمصار والأعصار اتّبعوا هؤلاء الأئمّة المعصومين المنزّهين الموحّدين، وعرفوا الحقّ ونزّهوه ووحّدوه بالبراهين الواضحة، فإنّ بعض الطّوائف المعلوم من عقائدهم وكتبهم الإلحاد قد فتحوا باب الطّعن واللعن على الشّيعة، ولما فيهم من نصب العداء الباطنيّ نسبوا التّابعين لأهل بيت العصمة إلى الشّرك والكفر... وهذا وان كان في سوق أهل المعرفة لا يقوّم بشيء، ولكن فيه مفسدة وهي أنّه يبعّد الناس النّاقصين والعوام الجاهلين عن معادن العلم ويسوقهم إلى الجهل والشّقاء. وهذه جناية عظيمة على نوع البشر لا يمكن جبرانها بوجه. فلهذه الجهة، وطبق الموازين العقليّة والشّرعيّة، يكون وزر هذه الجماعة القاصرة الجاهلة المسكينة وذنبها على الذين لم يراعوا الإنصاف، ومنعوا نشر المعارف والأحكام الإلهيّة لمنافع خياليّة في أيّام معدودة، وأوجبوا الشّقاء للنّوع البشريّ، وضيّعوا وأبطلوا جميع ما تحمّل خير البشر من التّعب، واغلقوا باب أهل بيت الوحي والتّنزيل على النّاس، اللهم العنهم لعنًا وبيلًا وعذّبهم عذابًا أليماً!"1.
كيف نواجه الجهل؟
ذكرنا أنّ إحدى أهمّ حالات الجهل شيوعًا بيننا تتمثّل في الإعراض عن العلم والتّعايش مع الجهل البسيط. فنحن نعلم أنّنا نجهل الكثير من الأمور ، سواء فيما يرتبط بديننا أو أسرار العالم وأحداثه أو.. ، لكنّنا لا نجد في أنفسنا الرّغبة المناسبة في رفع هذا الجهل. ولكي نحول دون رسوخ هذه الحالة وتحوّلها إلى انعدام القابليّة وفقدان القدرة يجب علينا أن نبدأ بالعلاج. ويذكر الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المجال عدّة توصيات مهمّة كفيلة بهدايتنا على طريق الصّلاح والإصلاح.
1 معراج السالكين، ص 289.
521
452
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
يقول الإمام قدس سره: "ولمّا كانت عناية الحقّ تعالى ورحمته قد وسعت بني الإنسان في الأزل، جعل لهم سبحانه، حسب تقديرٍ دقيقٍ، نوعين من المربّي والمهذّب، بمثابة جناحين يطير بهما من حضيض الجهل والنّقص والقباحة والشّقاء إلى أوج العلم والمعرفة والكمال والجمال والسّعادة، ويحرّر نفسه من ضغط ضيق عالم الطّبيعة إلى الفضاء الرّحب الملكوتيّ الأعلى. وهما: المربّي الباطنيّ المتجسّد بالعقل والقدرة على التمييز بين الحسن والقبح، والمربّي الخارجيّ المتمثّل في الأنبياء والأدلاّء لطرق السّعادة والشّقاء"1.
"ولا تتوهّم أبدًا أنّ لنا المنّة على الأنبياء العظام والأولياء الكرام وعلى علماء الأمّة، وهم الأدلاّء إلى سعادتنا ونجاتنا، والذين أنقذونا من الجهل والظّلمة والشّقاء، وأخذونا إلى عالم النّور والسّرور والبهجة والعظمة، والذين تحمّلوا ويتحمّلون كلّ هذه المشاق والمصاعب من أجل تربيتنا وإنقاذنا من تلك الظّلمات التي تلازم الاعتقادات الباطلة، ومن الجهل المركّب بكلّ أشكاله، ومن أنواع الضّغوطات والعذاب الذي هو صورة الملكات والأخلاق الرّذيلة، ومن تلك الصّور الموحشة والمرعبة التي هي ملكوت أعمالنا وأفعالنا القبيحة، وكذلك، لأجل إيصالنا إلى تلك الأنوار وأنواع البهجة والسّرور والرّاحة والأنس والنّعيم والحور والقصور التي لا نقدر أن نتصورها"2.
"وبالجملة، فصاحب كلّ مقصد يرى مقصده كمالًا وصاحبه كاملًا ويعشقه، ويتنفّر من غيره. فالأنبياء عليهم السلام، والعلماء بالله وأصحاب المعرفة قد جاؤوا ليخرجوا النّاس من الاحتجاب، ويخلصوا نور فطرتهم من ظلمات الجهل، ويعرّفوهم على الكامل والكمال. فإنّهم إذا شخّصوا الكمال والكامل، لن يحتاجوا إلى دعوة للتّوجّه إليه وترك ما سواه، بل نور الفطرة هو أعظم هادٍ إلهيّ، وهو موجودٌ في جميع سلالة البشر.
... فالحقّ تعالى شأنه كما جعل محمدًّاصلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وسائط الهداية، وعيّنهم الهداة لنا، ونجّى الأمّة ببركاتهم من الضّلالة والجهل فيرمّم بشفاعتهم قصورنا ويتمّم نقصنا ويقبل إطاعتنا وعباداتنا غير اللائقة، إنّه وليّ الفضل والإنعام"3.
1 الأربعون حديثًا، ص 273.
2 (م.ن), ص 64.
3 معراج السالكين، ص 325.
522
453
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
"إنّ الإنسان يستطيع القيام بجميع الواجبات الفرديّة والاجتماعيّة، فلا ينحرف ولا يسقط في المعاصي في أيّة مرحلة من مراحل حياته المادّيّة والرّوحيّة، وذلك ببركة التّحلّي بهذه القوّة الرّوحانيّة العظيمة، أي ملكة الاستقامة والطّمأنينة، فبها قام زعماء الدّين في وجه الملايين من الجاهلين دون أن يسمحوا لكثرة هؤلاء بأن توجد فيهم أدنى وهن وهذه الرّوح العظيمة هي التي جعلت الأنبياء العظام ينهضون فرادى لمواجهة العقائد الجهلية الباطلة التي سيطرت على العالم، دون أن يدخلهم أدنى خوف أو رهبة بسبب وحدتهم وكثرة مخالفيهم، وبها تغلّبوا على تلك العقائد الجهليّة وغيّروا العادات التي أوجدتها في النّاس، واستبدلوها بصبغتهم التّوحيديّة"1.
موعظة
"وعندما يعلن رسول الله محمدصلى الله عليه وآله وسلم، وهو أفضل الكائنات وأقربهم إلى الله، قائلًا: "مَا عَرَفناكَ حقَّ معْرِفَتِكَ، وما عَبَدْناكَ حقَّ عِبادَتِكَ" فماذا سيكون حال سائر النّاس؟! نعم، إنّ أولياء الله العارفون بعظمة الله تعالى، العالمون بحقيقة نسبة "الممكن" إلى "الواجب"، يعلمون أنّهم لو قضوا مدد أعمارهم في الدّنيا بالعبادة والطاعة والتّحميد والتّسبيح، لما أدّوا شكر نعم الله، فكيف يمكن أداء حقّ الثّناء على ذاته وصفاته المقدّسة؟ إنّهم يعلمون أن ليس لموجود شيء. فالحياة والقدرة والعلم والقوّة وسائر الكمالات الأخرى هي ملك لكماله تعالى، و"الممكن" فقير، بل فقرٌ محضٌ يستظل بظلّه تعالى، وليس بمستقلّ بذاته. أيّ كمالٍ يملكه "الممكن" بنفسه لكي يتظاهر بالكمال؟ وأيّة قدرة يمتلكها لكي يتاجر بها؟ أولئك العارفون بالله وبجماله وجلاله شاهدوا شهود عيان نقصهم وعجزهم وشاهدوا كمال "الواجب" تعالى...
وأما نحن المساكين، الذين قد ران حجاب الجهل والغفلة والعجب والمعاصي على قلوبنا وقوالبنا، وغشي أبصارنا وأسماعنا وعقولنا وكافّة قوانا المدركة فقد أخذنا نستعرض عضلاتنا في مقابل قدرة الله القاهرة، ونعتقد أنّ لنا استقلالًا وشيئيّة بذواتنا.
1 جنود العقل والجهل، ص 325.
523
454
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
أيّها "الممكن" المسكين الجاهل بنفسك وبعلاقتك بالله! أيّها "الممكن" السّيّئ الحظّ الغافل عن واجباتك إزاء مالك الملوك! إنّ هذا الجهل هو سبب جميع ما يلحقك من سوء التّوفيق، وهو الذي ابتلانا بجميع هذه الظّلمات والمكدّرات. إنّ الفساد قد ينشأ من الأساس، وإنّ تلوّث الماء قد يكون من المعين. إنّ عيون معارفنا عمياء، وقلوبنا ميتة، وهذا سبب جميع المصائب ولكنّنا مع كلّ ذلك لسنا حتّى بصدد إصلاح أنفسنا!
.. فيا أيّها العزيز، أشدد عزيمتك، ومزّق عن نفسك سجف الجهل، وانجُ بنفسك من هذه الورطة المهلكة! كان إمام المتّقين وسالك طريق الحقيقة ينادي في المسجد بأعلى صوته حتى يسمعه الجيران: "تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ الله فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحيلِ"1.2
1 نهج البلاغة، ص321.
2 الأربعون حديثًا، ص 92 و 125.
524
455
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- من آثار الجهل:
- الحشر مع أعراب الجاهليّة.
- حرف العباد وتشتيت كلمتهم، وخاصة من قبل الجهلاء الذين هم في لباس أهل العلم.
- إيذاء النّاس.
- الإنكار والجحود.
- سوء العذاب.
- غلبة السّبعيّة والشيطنة على الإنسان وما يستتبعه من تدمير للحضارة والتديّن.
- إغلاق باب الوحي على النّاس وسوق البشريّة إلى الشّقاء.
2- الجاهل، وإن أدرك خيرًا ما اتّفاقًا وصدفةً، لكنّه عمّا قريب سيخسره، فالخير لا يدوم إلّا مع وجود العلم.
3- لمواجهة الجهل: لا بدّ من اتّباع الأنبياء والأولياء والسّير على نهجهم. فهم قد جاؤوا ليخرجوا النّاس من الاحتجاب، ويخلصوا نور فطرتهم من ظلمات الجهل، ويعرّفوهم على الكامل والكمال حتّ تميل فطرتهم إليه.
525
456
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"هَا أَنَا ذَا، يَا رَبِّ، مَطْرُوحٌ بَيْنَ يَدَيْكَ أَنَا الَّذِي أَوْقَرَتِ الْخَطَايَا ظَهْرَهُ، وَأَنَا الَّذِي أَفْنَتِ الذُّنُوبُ عُمُرَهُ، وَأَنَا الَّذِي بِجَهْلِهِ عَصَاكَ، وَلَمْ تَكُنْ أَهْلاً مِنْهُ لِذَاكَ هَلْ أَنْتَ، يَا إِلَهِي، رَاحِمٌ مَنْ دَعَاكَ فَأُبْلِغَ فِي الدُّعَاءِ؟ أَمْ أَنْتَ غَافِرٌ لِمَنْ بَكَاكَ فَأُسْرِعَ فِي الْبُكَاءِ؟ أَمْ أَنْتَ مُتَجَاوِزٌ عَمَّنْ عَفَّرَ لَكَ وَجْهَهُ تَذَلُّلاً؟ أَمْ أَنْتَ مُغْنٍ مَنْ شَكَا إِلَيْكَ فَقْرَهُ تَوَكُّلاً؟ إِلَهِي لاَ تُخَيِّبْ مَنْ لاَ يَجِدُ مُعْطِياً غَيْرَكَ، وَلاَ تَخْذُلْ مَنْ لاَ يَسْتَغْنِي عَنْكَ بِأَحَدٍ دُونَكَ إِلَهِي فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلاَ تُعْرِضْ عَنِّي وَقَدْ أَقْبَلْتُ عَلَيْكَ، وَلاَ تَحْرِمْنِي وَقَدْ رَغِبْتُ إِلَيْكَ، وَلاَ تَجْبَهْنِي بِالرَّدِّ وَقَدِ انْتَصَبْتُ بَيْنَ يَدَيْكَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾2.
2- ﴿وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾3.
3- ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾4.
4- ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾5.
5- ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾6.
1 الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام إذا استقال من ذنوبه.
2 سورة الأنعام، الآية 111.
3 سورة هود، الآيتان 29 و 30.
4 سورة المائدة، الآية 50.
5 سورة الزمر، الآية 64.
6 سورة الأحزاب، الآية 72.
526
457
الدرس السابع والثلاثون: الجهل (2) - آثاره وسبل معالجته
الروايات الشريفة:
1- عن أميرِ المؤمنين عليه السلام: "لا يردع الجهول إلا حدّ الحسام"1.
2- عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنِ انْزَعَجَ مِنْ قَوْلِ الزُّورِ فِيهِ، وَلَا بِحَكِيمٍ مَنْ رَضِيَ بِثَنَاءِ الْجَاهِلِ عَلَيْهِ، النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ، وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ، فَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلْمِ تَبَيَّنْ أَقْدَارُكُمْ"2.
3- عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام: "لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقوْلِ بِالْجَهْلِ"3.
4- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنَّ فِيهِ لَمْ يَتِمَّ لَهُ عَمَلٌ: وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَخُلُقٌ يُدَارِي بِهِ النَّاسَ، وَحِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ الْجَاهِلِ"4.
5- عن أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام، لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنْ مُعْضِلَةٍ: "سَلْ تَفَقُّهاً وَلَا تَسْأَلْ تَعَنُّتاً، فَإِنَّ الْجَاهِلَ الْمُتَعَلِّمَ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ الْمُتَعَسِّفَ شَبِيهٌ بِالْجَاهِلِ"5.
6- عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صِفَةُ الْجَاهِلِ أَنْ يَظْلِمَ مَنْ خَالَطَهُ، وَيَتَعَدَّى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَيَتَطَاوَلَ عَلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ، كَلَامُهُ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ، إِنْ تَكَلَّمَ أَثِمَ، وَإِنْ سَكَتَ سَهَا، وَإِنْ عَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ سَارَعَ إِلَيْهَا فَأَرْدَتْهُ، وَإِنْ رَأَى فَضِيلةً أَعْرَضَ وَأَبْطَأَ عَنْهَا، لَا يَخَافُ ذُنُوبَهُ الْقَدِيمَةَ، وَلَا يَرْتَدِعُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، يَتَوَانَى عَنِ الْبِرِّ وَيُبْطِئُ عَنْهُ، غَيْرَ مُكْتَرِثٍ لِمَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ضَيَّعَهُ، فَتِلْكَ عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ صِفَةِ الْجَاهِلِ الَّذِي حُرِمَ الْعَقْلَ"6.
1 غرر الحكم ص 74.
2 الكافي، ج1، ص 50.
3 نهج البلاغة، ص 502.
4 الكافي، ج2، ص 116.
5 نهج البلاغة، ص 531.
6 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج1، ص 129.
527
458
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى البخل وعواقبه على الصعيد الفردي والاجتماعي.
2- يتعرّف إلى مناشىء البخل والتّضاد بينه وبين الإيمان.
3- يشرح كيفيّة علاج هذا المرض.
528
459
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
تمهيد
الشّخصيّة البخيلة شخصيّة ظلاميّة، تبثّ أجواء البؤس واليأس أينما حلّت، وتجعل الحياة ضيّقة تكاد تخنق كلّ من عايشها. والبخيل إنسانٌ منع نفسه الفرصة الكبرى في هذه الحياة الدّنيا، وهي التّنعّم بالموارد الإلهيّة اللامتناهيّة.
والكثير من النّاس لا يرون أيّ أمل بمعالجة البخيل، وهم يرجعون هذه الخصلة إلى الطّبع الموروث عن الآباء والأمّهات، ويقصدون بذلك أنّه غير قابل للعلاج.
فما هو البخل؟ ومن أين ينشأ؟ وكيف يمكن معالجته؟
ما هو البخل؟
يعرف الإنسان بوجدانه أنّ العطاء هو أحد الخصال الإنسانيّة التي ميّزت بني آدم عن غيرهم من كائنات العالم. فالتّراحم الذي أودعه الله في قلوب البشر لكي يتواصلوا فيما بينهم، يستلزم العطاء والتّبادل. وعندما يتوقّف الإنسان عن العطاء ـ أي يبخل ـ فهذا يعني أنّ الرّحمة فُقدت من قلبه وأصبح خارج نطاق الإنسانيّة.
وبالطّبع لا يُعرف البخيل من موقف أو موقفين، بل هو سيرة عامّة في شخصيّته. فليس كلّ من منع بخيل، لكنّ البخل هو المنع حين لا يكون مبرّر. وهو ضدّ السّخاء، كما جاء في حديث جنود العقل والجهل: "والسّخاء وضدّه البخل".
ولأجل تحديده بصورةٍ أفضل، فقد جُعل في مقابل الإسراف حيث يتوسّط السّخاء بينهما، "والسّخاء يتوسّط بين بين الإسراف والبخل"1.
1 الأربعون حديثًا، ص 424.
530
460
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
ففي الأوّل، يجب على الإنسان أن يتّجه نحو السّخاء في عالم الأخلاق والفضائل النّفسيّة، ويكون على هذا الأساس إمّا سخيًّا أو بخيلًا. وفي مجال السّلوك العمليّ عليه أن يعتدل في إنفاقه، فلا يسرف ولا يبخل.
من أين ينشأ البخل؟
وسواء أكان البخل طبعًا موروثًا أم خلقًا مستجدًّا، فإنّ ما يشكّله ويمنحه صفة الملكة في النّفس أمران أساسيّان ذكرهما الإمام الخمينيّ قدس سره:
1- قوّة الشّهوة
قوّة الشّهوة، حيث يقول قدس سره: "وقوّة الشّهوة وفروعها الشّره والحرص والطمع والبخل ونظائرها"1.
2. احتجاب الفطرة
يقول الإمام قدس سره: "وهذا الخلق الفاسد (الحرص) يُعدّ من لوازم الفطرة المحجوبة ومن جنود الجهل، لأنّ جميع أسسه مقامة على الجهل، والجهل بحدّ ذاته ناشئٌ من احتجاب الفطرة... وهذا يدفع الإنسان إلى التّعلّق بالدنيا، ويقوّي جذور شجرة حبّها في قلبه، ويزيّن له زخارفها، ويروث فيه مجموعة من الأخلاق والأعمال القبيحة مثل البخل والطمع"2.
فعندما تقوى الشّهوة وتستحكم في النّفس يزداد تعلّق الإنسان بمتاع الدّنيا (حتّى لو كانت حقيرة ووضيعة)، ويزداد حرصه عليها فيشتدّ ولعه وتمسّكه بها، وعندئذٍ تصبح هذه الأشياء جزءًا أساسيًّا في نفسه. فإذا طُلب منه العطاء كان كمن يُسلخ عنه جلده ولحمه وربّما عظامه.
وعندما تحتجب فطرته فلا يرى بعدها حقيقة الكمال أو مظاهره الواقعيّة يضيق العالم في عينيه، فيراه صغيرًا محدودًا جدًّا، ويرى حاله في حرمانٍ دائمٍ مهما كان يمتلك أو يقتني، ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: "عَجِبْتُ لِلْبَخِيلِ يَسْتَعْجِلُ الْفَقْرَ الَّذِي مِنْهُ هَرَبَ،
1 جنود العقل والجهل، ص 89.
2 (م.ن), ص 211 - 212.
531
461
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
وَيَفُوتُهُ الْغِنَى الَّذِى إِيَّاهُ طَلَبَ، فَيَعِيشُ فِي الدُّنْيَا عَيْشَ الْفُقَرَاءِ، وَيُحَاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسَابَ الاْغْنِيَاءِ"1.
عندما تجالس البخيل تراه يشكو دومًا من قلّة الموارد والنّعم، وليس هذا إلّا من احتجاب الفطرة التي خلقها الله لكي تدرك الكمال اللامتناهي والجمال المطلق في عالم الوجود. ولا شكّ بأنّ من استيقظت الفطرة فيه سيرى العالم كذلك، وعندها لن يكون من خسارةٍ أو نقصان في أن ينفق القليل مقابل ما أعدّ الله له من كثيرٍ لا نهاية له، ﴿وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾2.
فلهذا نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "من أيقن بالخلف، جاد بالعطيّة"3.
مثل هذا الشّخص البخيل هو الذي حذّرنا من عشرته ومصاحبته ومشاورته، كما قال عليّ عليه السلام: "وَلَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ وَيَعِدُكَ الْفَقْر"4.
ما هي عواقب البخل؟
لا يوجد مثل أولياء الله العارفين بحقائق الموجودات وأسرار العالم من يمكن أن يدلّنا على عواقب البخل وآثاره.
1- البعد عن الله ودخول النّار
فعن الإمام الرّضا عليه السلام أنّه قال: "السَّخَاءُ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ أَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْهَا أَدَّتْهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْبُخْلُ شَجَرَةٌ فِي النَّارِ أَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا أَدَّتْهُ إِلَى النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكُمْ مِنَ النَّارِ!"5.
وعن الإمام الصّادق عليه السلام أنّه قال: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ وَحُسْنُ الْبِشْرِ يَكْسِبَانِ الْمَحَبَّةَ وَيُدْخِلَانِ الْجَنَّةَ، وَالْبُخْلُ وَعُبُوسُ الْوَجْهِ يُبْعِدَانِ مِنَ الله وَيُدْخِلَانِ النَّارَ"6.
1 نهج البلاغة، ص491.
2 سورة المنافقون، الآية 7.
3 نهج البلاغة، ص494.
4 (م.ن), ص 430.
5 مستدرك الوسائل، ج7، ص 14، باب وجوب الجود والسّخاء بالزّكاة.
6 الكافي، ج2، ص103.
532
462
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
2- محق الدّين
وعنه عليه السلام أيضًا، أنّه قال: "مَنْ عَرَفَ الله خَافَهُ، وَمَنْ خَافَ الله حَثَّهُ الْخَوْفُ مِنَ الله عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَالْأَخْذِ بِتَأْدِيبِهِ، فَبَشِّرِ الْمُطِيعِينَ الْمُتَأَدِّبِينَ بِأَدَبِ الله وَالْآخِذِينَ عَنِ الله أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الله أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ مَضَلَّاتِ الْفِتَنِ، وَمَا رَأَيْتُ شَيْئاً هُوَ أَضَرُّ لِدِينِ الْمُسْلِمِ مِنَ الشُّح"1.
وقريبٌ من هذا المعنى، ما ورد في الكافي الشّريف، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا مَحَقَ الْإِسْلَامَ مَحْقَ الشُّحِ شَيْءٌ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ لِهَذَا الشُّحِ دَبِيباً كَدَبِيبِ النَّمْلِ، وَشُعَباً كَشُعَبِ الشِّرَكِ"2.
3- الدّاء
وعندما يصبح البخل سجيّة عامّة وخصلة اجتماعيّة ذات أعراف ومبرّرات، فإنّه يسوق المجتمع نحو أفظع الموبقات، كما فعل بقوم لوط، حيث جاء في حديث عن رسول الله أنّه كان يتعوّذ من البخل، فقال: "نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ وَنَحْنُ نَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنَ الْبُخْلِ، الله يَقُولُ: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾3، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ عَاقِبَةِ الْبُخْلِ: إِنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانُوا أَهْلَ قَرْيَةٍ أَشِحَّاءَ عَلَى الطَّعَامِ، فَأَعْقَبَهُمُ الْبُخْلُ دَاءً لَا دَوَاءَ لَهُ فِي فُرُوجِهِمْ"4.
4- ذهاب الإيمان
وما يلفت نظرنا تلك التّصريحات الواردة في الأحاديث حول التّضاد الكامل بين الإيمان والبخل، ففي حديث الإمام حول الصّادق عليه السلام قال: "الْمُؤْمِنُ لَا يَبْخَلُ، وَإِنْ بُخِلَ عَلَيْهِ صَبَرَ"5.
أو ما جاء عنه عليه السلام: "لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً وَلَا حَرِيصاً وَلَا شَحِيحاً"6.
وأيضًا قوله عليه السلام: "الْمُؤْمِنَ لَا يَكُونُ سَجِيَّتُهُ الْكَذِبَ وَالْبُخْلَ وَالْفُجُورَ، وَرُبَّمَا أَلَمَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً لَا يَدُومُ عَلَيْهِ"7.
1 بحار الأنوار، ج67، ص 400.
2 الكافي، ج4، ص45.
3 سورة الحشر، الآية 9.
4 مستدرك الوسائل، ج7، ص30.
5 الكافي، ج2، ص 226.
6 وسائل الشيعة، ج9، ص40.
7 الكافي، ج2، ص 442.
533
463
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
وعندما نأتي إلى أصل هذه الشّجرة الطّيبّة، نراه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَالْبُخْلُ فِي قَلْبِ امْرِئ"1.
وقد عرفنا أنّ الإيمان بالله تعالى يعني شعور القلب بحضور الله في شؤونه الجماليّة كالرّحمة واللطف والوهب والإنعام، ومن لم يلحظ هذا الحضور الإطلاقي في الوجود فليس بمؤمن، قال الله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾2.
وأقلّ ما يُقال عن البخيل أنّه لو لاحظ هذه النّعمة المطلقة لما مُنع من الخير الذي يأتيه من ربّه. والبخيل شخصٌ لا يؤمن أنّ ما لديه أمانة من ربّه إليه، ولو كان يعتقد أنّ ما لديه هو من عند نفسه فهذا الأحمق بعينه.
5- منشأ كلّ سوء
ويكفي البخل شرًّا أنّه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ، وَهُوَ زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ"3.
المعالجة
وإذ عرفت التّضادّ بين البخل والإيمان، وأدركت أنّ البخل والجبن والحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظّن بالله، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، تعلم أنّ المظهر الأعظم من هذا العار والقذارة المعنويّة هو أن نضع برنامجًا لحياتنا نزداد فيه إيمانًا ونثبّت فيه الإيمان، ونجعل الإيمان هدفًا ساميًا لسعينا وجهادنا في هذه الأرض.
ولا ينبغي أن يضلّك الشّيطان، فتظنّ أنّ هذا المرض لا علاج له، فعن الإمام الخمينيّ قدس سره أنّه قال: "وأمّا القول المعروف بأنّ بعض الأخلاق السيّئة والرّذائل من الأمور الذّاتيّة فلا يمكن تغييرها، وهو ممّا لا أصل له، بل هو كلامٌ فارغٌ صادرٌ من قلّة التّدبّر. ومقولة عدم تغيّر الذاتيّات لا تصدق على هذا الباب، بل إنّ من الممكن تبديل وتغيير جميع الصّفات الإنسانيّة بالرّياضات والمجاهدات، حتّى الجبن والبخل والطّمع يمكن استبدالها
1 مستدرك الوسائل، ج7، ص 26.
2 سورة إبراهيم، الآية 34.
3 نهج البلاغة، ص543.
534
464
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
بالشّجاعة والكرم والقناعة وعفّة النفس"1.
"إنّ النّبتة التي غُرست حديثاً يمكن لشخصٍ واحدٍ أن يقلعها، ولكن إذا ترسّخت جذورها في الأعماق عجزت الأفلاك عن قلعها، وما أكثر ما يحدث أنّ خُلُقاً سيّئاً ، مثل البخل أو الحسد ، يظهر في الشّاب الفتى، فيكون بالإمكان إصلاحه بقليل من المراقبة والسّعي، بل واستبداله بالخلق الصّالح المقابل له، لأنّه ما يزال ضعيفًا لم يترسّخ بعد، ولكن إذا غفل عنه صاحبه مدّة وتهاون في أمره احتاج الإصلاح إلى رياضات شديدة، ومجاهدات شاقّة طويلة، قد لا يمهل الأجل المحتوم الإنسان المجاهد لإكمالها، فيرحل إلى العالم الآخر بتلك الأخلاق المظلمة، والأرجاس المعنويّة، وهي علّة ومنشأ الضّغطات والظّلمات في القبر والبرزخ والقيامة"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 60.
2 (م.ن), ص 153.
535
465
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
المفاهيم الرئيسة
1- الشّخصيّة البخيلة شخصيّة ظلاميّة تبثّ أجواء البؤس واليأس أينما حلّت وتجعل الحياة ضيّقة تكاد تخنق كلّ من عايشها.
2- البخيل إنسانٌ منع نفسه الفرصة الكبرى في هذه الحياة الدّنيا وهي التّنعّم بالموارد الإلهيّة اللامتناهيّة.
3- ليس كلّ من منع بخيل، لكن البخل هو المنع حين لا يكون مبرّرًا.
4- البخل ضدّ السّخاء، والسّخاء يتوسّط بين الإسراف والبخل.
5- البخيل هو الذي يكون البخل بارزًا في سيرته العامّة.
6- ينشأ البخل من قوّة الشهوة، مما يزيد تعلق الإنسان بالدنيا وحرصه عليها، واحتجاب الفطرة، مما يجعله لا يرى الكمال، فيرى نفسه في حرمان دائم، وتراه يشكو دومًا من قلّة الموارد والنّعم.
7- من آثار البخل: البعد عن الله ودخول النّار، محق الدين، سَوق المجتمع نحو أفظع الموبقات (كالموبقة التي أصابت قوم لوط)، ذهاب الإيمان (فالإيمان يعني شعور القلب بحضور الله في الوهب والإنعام، والبخيل لا يرى نعمة الله عليه)، هذا بالإضافة إلى أنه زِمَامٌ يُقَادُ بِهِ إِلَى كُلِّ سُوءٍ.
8- من الخطأ الاعتقاد بأنه لا يمكن التخلص من آفة البخل. يمكن إصلاح هذا الآفة بالقليل من المراقبة والسعي ووضع برنامج لحياتنا نزداد فيه إيمانًا ونثبّت فيه الإيمان، خاصة إذا ظهرت في الشاب، وقبل أن تترسّخ في نفسه بقوة.
9- أما إذا غفل عنها صاحبها وتهاون بها، احتاج الإصلاح إلى رياضات شديدة، ومجاهدات شاقّة طويلة، وقد يرحل إلى العالم الآخر بتلك الأخلاق المظلمة التي هي علّة ومنشأ الضّغطات والظّلمات في القبر والبرزخ والقيامة.
536
466
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لاَ يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَالْجُمُودُ، وَلاَ يُكْدِيهِ الإعْطَاءُ وَالْجُودُ; إِذْ كُلُّ مُعْط مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَانِع مَذْمُومٌ مَا خَلاَهُ، وَهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ، وَعَوائِدِ المَزِيدِ وَالْقِسَمِ، عِيَالُهُ الْخَلاَئِقُ، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ، وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ، وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلُ. الأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيءٌ قَبْلَهُ، وَالآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ بَعْدَهُ، وَالرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الأبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ، مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الحَالُ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَان فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الانتِقَالُ، وَلَوْ وَهَبَ مَاتَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ، وَضَحِكَتْ عِنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ، مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيَانِ، وَنُثَارَةِ الدُّرّ وَحَصِيدِ الْمَرْجَانِ، مَا أَثَّرَ ذلِكَ فِي جُودِهِ، وَلاَ أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ، وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الأَنْعَامِ مَا لاَ تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الاَنَامِ، لأنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لاَ يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ، وَلاَ يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ المُلِحِّينَ"1.
الآيات الكريمة:
1- ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾2.
2- ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾3.
3- ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾4.
4- ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾5.
الروايات الشريفة:
5- عن الإمامِ الصادقِ عليه السلام: "إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: إِنَّ الْبَخِيلَ مَنْ يَبْخَلُ بِالسَّلَام"6.
6- عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُسْلِمٍ: الْبُخْلُ وَسُوءُ الْخُلُقِ"7.
1 نهج البلاغة، ص124.
2 سورة آل عمران، الآية 180.
3 سورة النساء، الآية 37.
4 سورة محمد، الآية 38.
5 سورة الليل، الآيات 8 - 10.
6 الكافي، ج2، ص 645.
7 وسائل الشيعة ج9، ص 39.
537
467
الدّرس الثامن والثلاثون: البخل، حقيقته، آثاره وكيفية معالجته
7- عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ الله خَلَقَ الْجَنَّةَ ثَوَاباً لِأَوْلِيَائِهِ فَحَفَّهَا بِالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَخَلَقَ النَّارَ عِقَاباً لِأَعْدَائِهِ فَحَفَّهَا بِاللُّؤْمِ وَالْبُخْلِ"1.
8- عَنِ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: "تَدْرِي مَا الشَّحِيحُ؟" قُلْتُ: هُوَ الْبَخِيلُ، قَالَ: "الشُّحُّ أَشَدُّ مِنَ الْبُخْلِ، إِنَّ الْبَخِيلَ يَبْخَلُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَالشَّحِيحُ يَشُحُّ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَعَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، حَتَّى لَا يَرَى مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ شَيْئاً إِلَّا تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ بِالْحِلِّ وَالْحَرَامِ، وَلَا يَقْنَعُ بِمَا رَزَقَهُ الله"2.
9- عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَلِيّاً عليه السلام سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: الشَّحِيحُ أَعْذَرُ مِنَ الظَّالِمِ. فَقَالَ: "كَذَبْتَ، إِنَّ الظَّالِمَ يَتُوبَ وَيَسْتَغْفِرُ الله وَيَرُدُّ الظُّلَامَةَ عَلَى أَهْلِهَا، وَالشَّحِيحُ إِذَا شَحَ مَنَعَ الزَّكَاةَ، وَالصَّدَقَةَ، وَصِلَةَ الرَّحِمِ، وَإِقْرَاءَ الضَّيْفِ، وَالنَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَبْوَابَ الْبِرِّ. وَحَرَامٌ عَلَى الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَهَا شَحِيحٌ"3.
10- عَنِ الرسولِ الأعظم ِصلى الله عليه وآله وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالشُّحِ، أَمَرَهُمْ بِالْكَذِبِ فَكَذَبُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا"4.
11- عَنْ الرسولِ الأعظمِ صلى الله عليه وآله وسلم: "يَا عَلِيُّ، لَا تُشَاوِرَنَّ جَبَاناً فَإِنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَيْكَ الْمَخْرَجَ، وَلَا تُشَاوِرَنَّ بَخِيلًا فَإِنَّهُ يَقْصُرُ بِكَ عَنْ غَايَتِك، وَلَا تُشَاوِرَنَّ حَرِيصاً فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَكَ شَرَّهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُبْنَ وَالْبُخْلَ وَالْحِرْصَ غَرِيزَةٌ يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بالله"5.
1 مستدرك الوسائل، ج15، ص 259.
2 الكافي، ج4، ص 45.
3 (م.ن), ص 44.
4 وسائل الشيعة ج9، ص 42.
5 نهج البلاغة، ص 430.
538
468
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن منشأ الهذر وآثاره ومفاسده فردياً واجتماعياً.
2- يشرح كيفيّة التخلّص من رذيلة الهذر.
3- يتعرّف إلى نماذج شخصيّات أخرى كالمتجرّئة والانتقاميّة.
540
469
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
تمهيد
ينشأ الإنسان في مجتمعٍ يولي أهميّة كبيرة للكلام. ومنذ نعومة أظافره، وقبل أن يدرج ماشيًا، نجده في معرض تعلّم الكلام كيفما كان. وعندما ينطق بأوّل كلمة ينال من الاستحسان والتّرغيب ما لا يناله على أيّ عمل آخر.
نتربّى جميعًا في بدء الأمر على حسن الكلام، ثمّ تأتي التّعاليم الإسلاميّة لتؤكّد على حسن الصّمت وقلّة الكلام! فكيف نجمع بين الأمرين؟ وكيف نجعل الصّمت فضيلةً لأبنائنا، مع ما للنطق من أهمّية ودور في بناء الشّخصيّة والتّواصل العلميّ وعبادة الحقّ؟
ما هي الشّخصيّة الهاذرة؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الهَذَر... وهو الهذيان، والكلام بالأمور الفارغة غير المفيدة"1.
والشّخصيّة الهاذرة، هي التي يكون الكلام عندها وسيلةً لإثبات الذّات وتأكيد الموقعيّة والمنزلة واجتذاب القلوب وتحصيل الاحترام والوصول إلى المبتغيات والهيمنة على الغير.
وتؤكّد التّجارب أنّ للكلام في المجتمعات البشريّة تأثيرًا كبيرًا، وغالبًا ما يفهم الإنسان من الأعراف السّائدة أنّه يستطيع أن يحصل على الكثير من النّفوذ من خلال الكلام بشتّى أساليبه وطرقه.
ولمّا كان هذا الإنسان بعيدًا عن التّهذيب الحقيقيّ وعن معنى السّير والسّلوك وأهميّة الرّجوع إلى الله والإنابة إليه، فإنّه سيتوسّل بأيّ شيء يوصله إلى القدرة التي ينشدها بحكم الفطرة، وهنا لن يجد أسهل من الكلام طريقًا إلى ما يصبو إليه!
1 جنود العقل والجهل، ص345.
542
470
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
فعندما تختفي آثار التّربية الإلهيّة، وتحلّ محلّها الأعراف الجاهليّة التي تمجّد القدرة المادّيّة، وتعلي من شأن النّفوذ الاجتماعيّ، ولو كان على حساب المعنويّات والطّهارة الرّوحيّة، فإنّ الإنسان سيتمسّك بكلّ ما كان من شأنه أن يحقّق له تلك القدرة، وهنا لن يجد أسهل من الكلام وسيلة للوصول إلى ما يريده!
ما هي آثار الهذر؟
يذكر الإمام الخميني قدس سره مجموعة كبيرة من الآثار الوخيمة لانطلاق اللسان وخروجه عن ضوابط الحكمة وموازين التّعقّل.
فيقول قدس سره: "وحيث إنّ الهذيان والهذر واللغو والكلام الباطل يُبعدُ الإنسان عن الكمال المطلق، ويقرّبه من عالم الطّبيعة وأحكامها، فإنّ الفطرة السّليمة تنفر منها، فهي سبب لاحتجاب هذه الفطرة عن مبدأ الكمال"1.
ويقول قدس سره: "أمّا فيما يرتبط بخصوص آثار اللغو والكلام القبيح فينبغي الالتفات إلى شدّة إضراره على الرّوح، فهو يسلب النّفس الصّلاح والصّفاء والسّلامة والوقار والطّمأنينة والسّكينة ويلوّثها بالجلافة والكدر والقسوة والغفلة والإدبار عن ذكر الله، ويسلب الرّوح حلاوة عبادة الله وذكره، ويضعف الايمان ويوهنه، ويميت القلب، ويزيد انحرافات وأخطاء الإنسان، ويورث النّدم العميق، ويثير الكدورات بين الأصدقاء والعداوات بين النّاس، ويبعث سوء الظنّ في الناس تجاه الإنسان، ويسقطه من أعينهم، فتنعدم ثقتهم به، وحينئذٍ لا يقيمون له وزناً. وكلّ هذه الآثار تحدث إذا لم يشتمل كلامه على أنواع المعاصي، ولكن من النّادر أن يشتغل الإنسانُ باللغو والكلام الباطل ولا يخضع لسانه للمعايير السّليمة، ثمّ لا يقع في المعاصي، ويبقى كلامه في دائرة اللغو المجرّد إلى النّهاية، لذلك فقد ورد حثٌ أكيد على السّكوت والصّمت"2.
ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تُكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوُ القلبِ، إنّ أبعد النّاس من الله القلبُ القاسي"3.
1 جنود العقل والجهل، ص 354.
2 (م.ن)، ص 350 - 351.
3 الكافي، ج2، ص 114.
543
471
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
ويقول قدس سره: "وإذا احتجبت النّفس عن فطرتها الأصلية السّليمة، وتعلّقت بعالم الطّبيعة وآماله الدّنيئة، ظهر فيها الحبّ الكاذب واللغو الباطل، حبٌّ كاذبٌ ولغوٌ باطلٌ، مثلما يظهر في المريض الاشتهاء الكاذب للطّعام المضرِّ له"1.
فالهذر، مثلما أنّه ينشأ بسبب احتجاب الفطرة، فإنّه يؤدّي إلى زيادة الحجب عليها. أمّا جهة الاحتجاب الأولى فذلك لما تقدّم من أنّ الإنسان إذا رأى في شيءٍ ناقص أو معيوب الكمال توجّه إليه بحكم الفطرة العاشقة للكمال. فالفطرة هنا فاعلة ـ ولو نسبيًّا ـ لكنّها محجوبة بحجاب الوهم الذي تغذّيه الأعراف الاجتماعيّة المتخلّفة. ولأنّ هذه الأعراف ترفع من شأن الكلام الهاذر، فإنّ الذي يصطنع الكلام ويجعله وسيلةً أساسيّةً للمقام والاعتبار سيجد من المجتمع تحسينًا وتأكيدًا لذلك، فيشتدّ شوقه وعشقه للهذر، ويشتدّ احتجاب الفطرة تبعًا لذلك.
كيف نعالج الهذر؟
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وكان أهل الرّياضات ليلزمون أنفسهم بالسّكوت كأمرٍ حتميّ، ويهتمّون لأجله بالخلوة والعزلة مع أنّ في مجالسة أهل المعرفة والعلماء وأهل الإقبال والتّوجّه إلى الله والرّياضات فوائد كثيرة وعائدات لا تُحصى، في حين أنّ في العزلة حرمانًا من الكثير من المعارف والعلوم، كما أنّ خدمة الخلق ـ وهي من أفضل الطّاعات والقربات ـ تحصل عادةً من خلال المعاشرة، لكن مشايخ أهل الرّياضات يرجّحون العزلة على المعاشرة بسبب كثرة آفات المعاشرة، وصعوبة حفظ الإنسان ـ في الأعمّ الأغلب ـ نفسه منها. والحقّ في الأمر أنّ على الإنسان في البداية ، وعند اشتغاله بالتّعلّم والاستفادة، أن يجالس العلماء والفضلاء، ولكن مع حفظ آداب العشرة ورعاية ومعرفة أحوال وأخلاق المعاشرين، كما يجب عليه أن يستفيد من مشايخ وعظماء أهل التّوجّه إلى الله في بدايات سيره وسلوكه، وفي أواسط وأوائل نهاياته، فهو مضطرٌّ للعشرة في هذه المرحلة. أمّا إذا وصل إلى مرحلة نهايات سلوكه، فينبغي له التفرّغ الكامل لنفسه لمدّة، والاشتغال بالحقّ وذكره تعالى، فإذا تعارضت الخلوة مع الحقّ خلال هذه المدّة مع معاشرة الخلق، وجب عليه أن يعتزل لكي
1 جنود العقل والجهل، ص 354.
544
472
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
يُفاض عليه الكمال اللائق به من الملكوت الأعلى. فإذا وجد في نفسه ظهور حال الطّمأنينة والسّكينة والاستقرار والاستقامة، وأَمِنَ من غلبة الحالات النّفسيّة والوساوس الإبليسيّة، حينئذٍ عليه أن يتوجّه إلى معاشرة الخلق بهدف إرشادهم وتعليم وتربية عباد الله وخدمة خلقه، فيعدّ نفسه للإقبال على خدمة الخلق ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وهذا المنهاج عام يشمل الصّمت والسّكوت والكلام والإرشاد، فعلى الإنسان أن يشتغل في بداية أمره ـ حيث يكون متعلّماً ـ بالبحث والدّرس والتّعلّم، فيجتنب فقط الكلمات والأقوال اللغويّة الباطلة. فإذا كَمُلَ فعليه أن يشتغل بالتّفكّر والتّدبُّر، فيمنع لسانهُ عن النّطق بغير ذكر الله وما يرتبط به لكي تفيض على قلبه الإفاضات الملكوتيّة. فإذا أصبح وجوده حقّانيًّا إلهيًّا، واطمأنّ إلى إلهيّة أقواله وكلامه، فعليه أن ينطق ويتصدّى لتربية النّاس وتعليمهم والأخذ بأيديهم، فلا يتوانى عن خدمتهم ولا للحظة حتّى يرضى الله عنه، ويجعله من عباده المربِّين، ويخلّع عليه خلعَة التّعليم والإِرشاد، فيجبر تبارك وتعالى بهذه الخدمة نقصه حيث وُجد"1.
ولو تأمّل الإنسان في ما في كثرة الكلام من مفاسد ونتائج وخيمة لشعر بالنّدم والتألّم من تفلّت لسانه. ولعلّ هذا النّدم يكون مقدّمة للإصلاح. أجل، إنّ ضبط اللسان ليس بالأمر السّهل نظرًا لسهولة تفلّته من عقاله، لكنّ القيمة تكمن في المجاهدة، وكلّ مجاهدة في الله لا بدّ وأن تصل إلى غايتها، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾2.
الشّخصيّة المتجرّئة
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في معرض حديثه عن جنود العقل والجهل: "الرّهبةُ تعني الخوف، يُقال: رَهِبَ ـ بكسر (الهاء) وفتحها ، رهبةً ورهبًا ورُهباناً ورِهباناً، أي خاف. ورَهبان ـ بفتح الراء ـ مثل خشيان، من المبالغة الخوف، ورُهبان جمع راهب، وجمعها رهابين. والرهبانية: العزلة عن الخلق واعتزال اللذات الدّنيويّة من أجل الاشتغال بالعبادة3، وقد نهى عنها الإسلام، وفي الحديث: "لا رهبانيّة في الإسلام"4، وفي الحديث أيضاً أن رجلاً
1 جنود العقل والجهل، ص 346 - 347.
2 سورة العنكبوت، الآية 69.
3 مستدرك الوسائل، ج14، ص155.
4 وسائل الشيعة، ج4، ص117.
545
473
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد أن أترهّب، فقالصلى الله عليه وآله وسلم: "لا تفعل، وإنّ تَرَهُّبَ أمّتي القعودُ في المساجد"1. فالرّهبانيّة بمعنى العزلة عن النّاس واعتزال النّساء وتعطيل القوى الإلهيّة الكريمة التي أنعم الله بها على الإنسان، تُعبّر عن غاية الجهل، وتولّد الكثير من المفاسد، لذا لا يمكن أن تكون نتيجةً للخوف من الحقّ تعالى، فهذا الخوف من جنود العقل ومن عوامل إصلاح النّفوس، وهو يقابل الجرأة على الحقّ تعالى"2.
ولمّا كان التجرّؤ مقابلًا للرّهبة، كما جاء في الحديث نفسه عن الإمام الصّادق عليه السلام: "الرهبة وضدّها وهي الجرأة"، فإنّ التجرّؤ درجات تقابل درجات الرّهبة والخشية من الله تعالى.
يقول الإمام قدس سره: "وتقابل كلّ درجة من درجات الرّهبة، درجة من درجات الجرأة، فتقابل الدّرجة الأولى درجة الجرأة على المعاصي، وتقابل الثّانية درجة الجرأة على الزلّات والأخطاء، وتقابل الثّالثة الجرأة على الدّخول في الحجب طواعيّة، وتقابل الرّابعة الجرأة على رؤية النّفس والصّبغة النّفسانيّة الشّيطانيّة ذاتًا وصفة وفعلًا"3.
ويقول الإمام قدس سره: "اعلم، أنّ التّعظيم والرّهبة منه، من الأمور الفطريّة المخمّرة في جبلّة جميع أفراد العائلة البشريّة، ولو فُتّشتْ قلوبهم جميعًا لما وُجِدَ مَنْ شذّ عنها فهم ـ وإن اختلفوا في تشخيص الموارد والمصاديق ـ إلّا أنهم متّفقون على أصل هذه الحقيقة الفطريّة. وتحصل الرّهبة والخوف من المقتدرين والسّلاطين والجبابرة حتى عند الأمن من الضّرر، وهذه الحالُ ناشئة من فطرة تعظيم العظيم، ولذلك يستولي على من يحضر مجلس السّلطان العادل الشّعور بالصّغر والرّهبة والخوف حتى لو لم تصدر منه أيّ معصية، بل إنّ الذين يشعرون بعظمةِ أحد العلماء تسيطر عليهم ـ فطريًّا ـ الرّهبة والخوف عند حضوره، مع أنّهم يأمنون بالكامل الضّرر منه. أمّا ما نراه في قلوبنا ـ نحن المحجوبين ـ من انعدام الخوف والرّهبة من الحقّ جلّت عظمته، فهو نتيجة عدم إدراكنا لعظمته، ونحن نتجرّأ على المولى جلّ وعلا لأنّ الفطرة فينا محجوبة بحجب الطّبيعة الغليظة... وفي ليلة المعراج كان
1 بحار الأنوار، ج80، ص 381.
2 جنود العقل والجهل، ص 295 - 296.
3 (م.ن), ص 289.
546
474
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يُغشى عليه عند مشاهدة كلّ جلوة من جلوات العظمة، ثمّ يفيق بجلوةٍ من جلوات الأنس والرّحمة في كلّ مرة. ولا سبب للخوف في ذلك المقام سوى مشاهدة العظمة فلا اسم ولا صورة للخوف من العذاب والعقاب، بل إنّ الحاكم على وجوده صلى الله عليه وآله وسلم كان فطرة العشق والمحبّة بتمام حقيقتها، وفطرة الرّهبة والرّغبة بكلّ معناها خالية بالكامل من شوائب الاحتجاب، وحكم الفطرة لا يفترق عن حكم الحقّ ـ جلّ وعلا. من هنا ينبغي الالتفات إلى أنّ الجراة على الله تعالى لا تقع ـ في أيّ مرتبة من مراتبها ـ إلّا بسبب احتجاب الفطرة، في حين أنّ الرّهبة من الحقّ تعالى تتحوَّل ـ مع كلّ مقدار من الاحتجاب ـ إلى مراتب أخرى من الخوف والرّهبة"1.
بالاستعانة بما ذكره الإمام، وبالرّجوع إلى الأحاديث الواردة في هذا الدّرس، عُرّف التجرّؤ وتُحُدّث عن أسبابه الرئيسيّة وآثاره، واقتُرح خطوات عمليّة لمعالجته، والحؤول دون تفاقمه وصيرورته سمة لشخصيّة الإنسان.
الشّخصيّة الانتقاميّة
لمّا ذُكر الانتقام مقابل الصّفح، عُلم أنّه صفة خبيثة ويؤّيد هذا النّقل الوجدان الصّافي والفطرة السّليمة، فإنّ النّاس بحسب فطرتهم يعدّون الصّفح والعفو عند المقدرة على الانتقام من فضائل الأخلاق وأعلاها شأنًا. كما أنّهم ينفرون من الشّخصيّة التي تنبعث نحو الانتقام كلّما تعرّضت مصالحها للضّرر. والأسوأ من ذلك أنّ مثل هذه الخصلة غالبًا ما تؤدّي إلى الظّلم والاعتداء وتجاوز الحدّ. ففي الصّفح تدريب للنّفس على التّوقّف عند الحدود والاحتياط في التّعامل مع الحقوق المختلفة للنّاس.
أجل إنّ الانتقام المنسجم مع الحكمة مطلوبٌ، وبه يتمّ الحدّ من الجريمة والظّلم، ولهذا كان الانتقام من الصّفات الفعليّة للحقّ تعالى، حيث يقول الإمام قدس سره: "وما كان متعلّقًا بالقهر والكبرياء فهو من صفات الجلال، كالمالك والملك والقهّار والمنتقم وأمثالها"2.
1 جنود العقل والجهل، ص 298 - 300.
2 معراج السالكين، ص 308.
547
475
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
ويقول قدس سره: "إنّ الشهوة في النّفوس الكلّيّة العشق للكمال نفسه، والغضب فيها هو النّفرة من النّقص، ويعبّر عن حقائق حقائقها وسرّها في حضرة الأسماء بالرّحمة والانتقام"1.
و "يكون سخط الحقّ المتعال لعبده، ظهوراً بالقهّارية والانتقام، وظهور حبّه له، بالرّحمة والكرامة"2.
ويقول قدس سره: "الصّفح من جنود العقل والرّحمان، ومن لوازم الفطرة السّليمة المخمّرة بيد القدرة الإلهيّة، في حين أنّ ضدّه، وهو الانتقام، من جنود إبليس ومن آثار احتجاب الفطرة، لأنّ المحافظين على سلامة فطرتهم الأصلية وروحانيّتهم الفطريّة منزَّهون عن حبّ الدنيا والنّفس، وبالتّالي فهم منزَّهون عن "التّكالب"، وهو من خصوصيّات النّفس السّبعيّة"3.
"إنّ الانتقام والغضب في غير محلّه... ينشأ من حبّ الدنيا والنّفس والاهتمام بالمآرب الدنيويّة"4.
بالنّظر إلى ما ذكره الإمام قدس سره، وبمراجعة الأحاديث الشّريفة الواردة في هذا الدّرس، عُرّف الانتقام وتُحُدّث عن أهمّ العوامل التي تؤدّي إلى صيرورته سمة لشخصيّة البعض. وذُكر أهمّ الآثار السّلبيّة لهذه الخصلة واقتُرح بعض الخطوات لمنع تشكّلها في النّفس.
1 جنود العقل والجهل، ص 377.
2 الأربعون حديثًا، ص 495.
3 جنود العقل والجهل، ص377.
4 (م.ن)، ص377.
548
476
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
المفاهيم الرئيسة
1- الهَذَر :هو الكلام بالأمور الفارغة غير المفيدة.
2- الشّخصيّة الهاذرة هي التي يكون الكلام عندها وسيلةً لإثبات الذّات وتأكيد الموقعيّة والمنزلة واجتذاب القلوب وتحصيل الاحترام والوصول إلى المبتغيات والهيمنة على الغير.
3- الهذر يؤدّي إلى:
- إبعاد الإنسان عن الكمال المطلق وحجب الفطرة.
- سلب النّفس الصّلاح وتلويثها بالقسوة والغفلة عن ذكر الله.
- زيادة انحرافات وأخطاء الإنسان مما يورث النّدم العميق ويثير الكدورات بين الأصدقاء والعداوات بين النّاس ويبعث سوء الظنّ في الناس تجاهه.
4- من أجل الابتعاد عن آفة الهذر:على الإنسان أن يشتغل في البداية بالبحث والدّرس والتّعلّم، فإذا كَمُلَ فعليه أن يشتغل بالتّفكّر والتّدبُّر، فإذا اطمأنّ إلى أقواله وكلامه، فعليه أن ينطق ويتصدّى لتربية النّاس وتعليمهم والأخذ بأيديهم.
5- الجرأة هي ضدّ الرّهبة، بمعنى الخوف من الحقّ تعالى، لا الرّهبانيّة بمعنى العزلة وتعطيل بعض القوى المنعمة من قبل الله تعالى والتجرّؤ درجات تقابل درجات الرّهبة والخشية من الله تعالى.
6- الانتقام، وهو من جنود إبليس، هو ضدّ الصّفح (أي العفو عند المقدرة).
7- في الصّفح تدريب للنّفس على التّوقّف عند الحدود والاحتياط في التّعامل مع الحقوق المختلفة للنّاس.
8- إنّ الانتقام المنسجم مع الحكمة مطلوبٌ، وبه يتمّ الحدّ من الجريمة والظّلم. ولهذا، كان الانتقام من الصّفات الفعليّة للحقّ تعالى.
9- ينشأ الانتقام من: حبّ الدنيا. حبّ النّفس. الاهتمام بالمآرب الدنيويّة. الانتقام يؤدّي إلى: الظّلم والاعتداء وتجاوز الحدّ.
549
477
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
شواهد من وحي الدّرس
دعاء:
"اللَّهُمَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَرَةُ لِي عِنْدَكَ فِي تَأْخِيرِ الأَخْذِ لِي وَتَرْكِ الاِنْتِقَامِ مِمَّنْ ظَلَمَنِي إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ وَمَجْمَعِ الْخَصْمِ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَيِّدْنِي مِنْكَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ وَصَبْرٍ دَائِمٍ وَأَعِذْنِي مِنْ سُوءِ الرَّغْبَةِ وَهَلَعِ أَهْلِ الْحِرْصِ، وَصَوِّرْ فِي قَلْبِي مِثَالَ مَا ادَّخَرْتَ لِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَأَعْدَدْتَ لِخَصْمِي مِنْ جَزَائِكَ وَعِقَابِكَ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ سَبَباً لِقَنَاعَتِي بِمَا قَضَيْتَ، وَثِقَتِي بِمَا تَخَيَّرْتَ آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ"1.
الروايات الشريفة:
1- عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام: "إياك والهذر، فمن كثر كلامه كثرت آثامه"2.
2- عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلمِ: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْلِساً، أَحْسَنُكُمْ خُلُقاً، وَأَشَدُّكُمْ تَوَاضُعاً، وَإِنَّ أَبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ، وَهُمُ الْمُسْتَكْبِرُونَ"3.
3- عَنِ الإمام جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ عليه السلام: "قَالَ دَاوُودُ لِسُلَيْمَانَ عليه السلام: يَا بُنَيَّ، عَلَيْكَ بِطُولِ الصَّمْتِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّ النَّدَامَةَ عَلَى طُولِ الصَّمْتِ مَرَّةً وَاحِدَةً خَيْرٌ مِنَ النَّدَامَةِ عَلَى كَثْرَةِ الْكَلَامِ مَرَّات"4.
4- عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام: "أيّها الناس، غضّوا أبصاركم، وعضّوا على نواجذكم، وأكثروا من ذكر ربّكم، وإيّاكم وكثرة الكلام فإنّه فشل"5.
5- سُئل أمير المؤمنين عليه السلام: عن الجرأة؟ فقال: "مواقعة الأقران"6.
1 الصّحيفة السجّاديّة، دعاؤه عليه السلام اذا اعتُدي عليه ورأى من الظّالمين ما لا يحبّ.
2 غرر الحكم، ص 214.
3 وسائل الشيعة، ج15، ص 378.
4 (م.ن), ص 186.
5 بحار الأنوار، ج32، ص 174.
6 مشكاة الأنوار، الطبرسي، ص 236.
550
478
الدّرس التاسع والثلاثون: الهذر والجرأة والانتقام، معناها، منشؤها وسبل معالجتها
6- عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اتَّقُوا الله الْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ، فَإِنَّهَا مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ وَمَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِيناً كَاذِبَةً فَقَدِ اجْتَرَى عَلَى الله فَلْيَنْتَظِرْ عُقُوبَتَهُ"1.
7- عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام: "فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِىءُ عَلَى الله إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ"2.
8- عن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام: "من انتقم من الجاني، أبطل فضله في الدنيا وفاته ثواب الآخرة"3.
9- جَاءَ فِي الْآثَارِ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَمْ يَنْتَقِمْ لِنَفْسِهِ مِنْ أَحَدٍ قَطُّ، بَلْ كَانَ يَعْفُو وَيَصْفَحُ"4.
1 مستدرك الوسائل، ج16، ص 39.
2 نهج البلاغة، ص. 441.
3 غرر الحكم، ص 346.
4 مستدرك الوسائل، ج9، ص 7.
551
479