المنهج الجديد في تربية الطفل


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-08

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، المربّي الحقيقيّ للبشر، الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، والصلاة والسلام على رسوله وأهل بيته عليهم السلام الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فكانوا مدرسة تربوية نموذجية للناس أجمعين.
 
يتميّز الإنسان عن باقي الكائنات المشاركة له في وحدة الحياة بأنه كائنٌ يمتلك قابليّة التغيّر واستعداد الانتقال من حال إلى حال، كائنٌ قادر على صناعة هويّته وتشكيل شخصيّته بالإرادة الحرّة والاختيار، فهو بالمشيئة - وفق تعبير القرآن الكريم1-، أي يستطيع أن يتقدّم ويعرج في مراتب الكمال ليصير كالملائكة، أو أن يتأخّر ويتسافل في درجات النقص ليصبح كالأنعام بل أضلّ سبيلاً. فالإنسان يعيش بين الكينونة والصيرورة، فهو بما هو كائن بالفعل غيره بما يُمكنه أن يكون بالقوّة، وهذا ما أشار إليه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في قوله: "إن الله عزّ وجلّ ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم"2.
 
وهذا السلوك الاختياريّ للإنسان تجاه الكمال الملائكيّ أو النقص البهائميّ، يخضع لجملة عوامل ومؤثّرات، منها طبيعة النظام والمؤسّسات في الدولة التي يعيش فيها الإنسان، والبيئة المجتمعية المحيطة به، وخصائص البيت الأسريّ الذي ينمو فيه، والمدرسة التي 



1 قال تعالى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ سورة المدثر, الآية 37. وقال تعالى: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ سورة الكهف, الآية 29، وغيرهما من الآيات الكثيرة.
2 الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، ص5. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ سورة الأعراف, الآية 179.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

1

المقدمة

 يتعلّم فيها، والجمعيات الكشفية أو الأندية الرياضية التي ينتسب إليها، والمكتسبات التي تنتقل إليه عن طريق الوراثة، والنماذج السلوكية التي يُحاكيها ويُقلّدها، وإمبراطورية الإعلام وشبكات وسائل التواصل والاتّصال (التلفزيون والسينما وأفلام الكرتون - الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ - الألعاب الإلكترونية - برامج الهاتف-الإعلانات والدعايات...). وكلّ هذه العوامل والمؤثّرات تندرج تحت كلّية مفهوم التربية بالمعنى الأعمّ، أي تنشئة وتنمية استعدادات الإنسان شيئاً فشيئاً في جميع جوانب شخصيّته. والتربية بهذا المعنى قابلة للتحرّك، إمّا بهذا الاتّجاه لتبلغ حدّ الكمال أو ذاك لتنزل إلى حدّ النقص. والبوصلة التي تُحدّد خطّ سير التربية هي الفلسفة والرؤية الكونية والمنظومة القيمية والمفاهيم الحقوقية والتشريعية التي ينتمي إليها المربّي. وانطلاقاً من عقيدتنا الدينية عن الله والكون والإنسان والحياة، يُعتبر القرآن الكريم وسنّة المعصومين عليهم السلام المصدرين الأساسين اللذين نستمدّ منهما المنهاج التربويّ الأفضل لاستكمال شخصية أطفالنا وأبنائنا وبناتنا في جميع جوانب هويّتهم وساحاتها وأبعادها، خصوصاً أنّ التجربة النبوية في تربية الإنسان من أكثر التجارب نضوجاً ورشداً في إيصال الإنسان إلى الهدف المنشود الذي يتناسب مع كمال طبيعته البشرية. وفي هذا السياق يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إذا كان لكلّ علم موضوع، فإنّ علم جميع الأنبياء هو الإنسان، فالإنسان هو موضوع بحث جميع الأنبياء، وموضوع تربيتهم".

 
وعليه، مهما شرّق الإنسان أو غرّب في المدارس التربوية الحديثة والمعاصرة أو وجهات نظر المتخصّصين في ميدان التنظير التربويّ، مع ما فيها من الآراء المهمّة والنظريات المبتكرة، لن يجد علماً صحيحاً كالذي يخرج عن المصدر الوحيانيّ1
 
وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمة، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فتمسّكوا بهما لئلّا تضلّوا"2. فمن ترك كتاب الله تعالى والنبيّ وأهل بيته عليهم السلام لا يمكن أن يصل إلى نتائج معرفية مشرقة ومضيئة في أيّ مجال من مجالات علوم الإنسان،



1  كما قال الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عيينة: "شرّقا أو غرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت". الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، ج2، ص469.
2 الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص324.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

2

المقدمة

 فعن الإمام الكاظم عليه السلام، قال: "من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر"1.

 
وفي هذا السياق، نُلاحظ أنّ الإمام القائد السّيد عليّ الخامنئيّ دام ظله يؤكّد في مناسبات كثيرة على العمل التأصيليّ لنظريات تتعلّق بحقل دراسة الإنسان كعلم النفس والاجتماع والتربية وغيرها في ضوء المباني الوحيانية والتصوّر القرآنيّ، حيث يقول: "العلوم الإنسانية الغربية تبتني على رؤية كونية مادّية متعارضة مع المباني القرآنية والإسلامية. إنّنا نقوم بتدريس هذه العلوم الإنسانية في الأقسام المختلفة لجامعاتنا، وننشرها على شكل ترجمات من دون أن نُعمِل أي بحث فكريّ إسلاميّ فيها، مع أنّه يجب تحرّي المهمّة في البحث عن مباني العلوم الإنسانية في القرآن الكريم واستخراجها".
 
وهذا لا يعني - من وجهة نظر الإمام الخامنئيّ- إغفال الاستفادة من منجزات التجربة المعرفية الغربية في علوم الإنسان، يقول دام ظله: "أنا أُظهر حساسية تجاه قضايا العلوم الإنسانية، لم نقل إنه لا ينبغي أن نستفيد بأي شكل من الأشكال من معارف الغربيين التي يوجد فيها الكثير من الطفرات عبر قرون عدّة في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة أو أن لا نقرأ كتبهم، لكن ما نقوله هو أن لا تُقلّدوا..."2.
 
ويعتبر سماحته أنّ "جميع التحرّكات الطلائعية في المجتمع هي الجسد، والعلوم الإنسانية هي روح هذا الجسد، وأنّ العلوم الإنسانية توجّه السير، وتُحدّد الاتّجاه الذي نتحرّك نحوه، والهدف الذي يسعى إليه علمنا. وعندما تنحرف العلوم الإنسانية وتقوم على أسس ورؤى كونية خاطئة تكون النتيجة أنّ جميع تحرّكات المجتمع تتّجه نحو نزعة منحرفة"3.
 
وانطلاقاً من أهمّية وخطورة علم التربية في خارطة علوم الإنسان من جهة، ومن ضرورة أن تكون تربيتنا منسجمة مع الرؤية الكونية الوحيانية كما دعا الإمام الخامنئيّ، كان هذا الكتاب "المنهج الجديد في تربية الطفل، الرؤية الإسلامية للأبعاد والميادين"، دراسة تأصيلية، تهدف إلى توضيح المعالم العامة للمنهاج التربويّ الإسلاميّ في خطّ علاقة



1 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص56.
2 خطاب الولي 2011، مركز نون للتأليف والترجمة، ط1، 2012م، ص296.
3 المصدر نفسه، ص 422.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

3

المقدمة

 المربّي مع الطفل المتربّي، من خلال استنطاق النصّ الدينيّ - القرآن والسنّة - في ضوء فهم علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لتكون حياتنا التربوية مع أطفالنا تعيش حالة التوفيق بين السلوك التربويّ من جهة والعقيدة والقيم والشريعة الإسلامية.

 
واعتقاداً منّا بأهمّية تفعيل العلاقة الجدلية بين النص الوحيانيّ وتجربة الواقع في الإنتاج المعرفيّ الإسلاميّ -كما هي دعوة الإمام الخامنئيّ دام ظله وأشار إليها الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتاب المدرسة القرآنية-تمّ الأخذ بعين الاعتبار المنجزات التربوية للتجربة البشرية التي سجّلتها يد المتخصّصين والباحثين في حقل التربية وميادينها، فلم يتمّ إغفال النظريات التربوية المعاصرة من الحضور في طيّات أبحاث الكتاب، لأنّ "العالِم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"1، على حدّ تعبير الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
 
وقد انعكست هذه النقطة أي النظر إلى معطيات الوحي الإلهيّ ومنجزات التجربة التربوية البشرية على الكتاب منهجاً وأسلوباً وشكلاً ومضموناً، أي من حيث أسلوب الكتابة ولغة التعبير الغنية بالمصطلحات العلمية، ومن حيث المنهج المشحون بالروح الاستدلالية والتحقيقية، أو مضمون الأفكار الحافل بمقدّمات مطويّة (تدرس في أصول الفقه، وعلم الفقه الاستدلاليّ، وقواعد اللغة العربية، وعلم الكلام، والفلسفة والمنطق...) التي من المفترض أن يكون الطالب/ الطالبة قد قطع شوطاً معها في الحلقات الدراسية السابقة، خصوصاً أنّ الجهة المستهدَفة بالكتاب هي المرحلة التخصّصية، لذا قد يجد الطالب نفسه معنياً ببذل جهد شخصيّ - بالإضافة إلى شرح الأستاذ- في فهم مطالب الكتاب ومباحثه.
 
ولكون الكتاب قد أكثر من النصوص الوحيانية في استدلالاته، نُشير إلى أنّنا اعتمدنا في تخريج الروايات على منهج التحقيب التاريخيّ للموسوعات الحديثية، بمعنى أنّه تمّ اللجوء إلى المصادر الروائية بحسب تسلسلها التاريخيّ، فإنْ عثرنا على الروايات في كتب القدماء كالشيخ الكلينيّ والصدوق والطوسي...، استندنا إليها، وهكذا نتحرّك تدريجياً حسب التسلسل التاريخيّ صعوداً وصولاً إلى كتب وسائل الشيعة وبحار الأنوار والوافي وجامع أحاديث الشيعة... إلخ.



1 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

4

المقدمة

 كما أنّ كون الحصة الدراسية لها سقف زمنيّ محدّد، حال دون التوقّف بالشرح والتحليل والدراسة المقارنة والتفصيلية للعديد من متون الروايات مع كثرتها، ممّا ترك أيضاً مساحة يتحرّك فيها الأستاذ والطالب مع فقه الحديث، لاستخراج الكنوز المعرفية من البحر الواسع لعلوم المعصومين عليهم السلام.


ونُشير في الخاتمة، إلى أنّنا قد أكملنا مباحث هذا الكتاب بكتابٍ ثانٍ، نُعالج فيه التربيات المضافة، ونُسلّط الضوء فيه على الأبعاد والساحات التي تجري فيها العمليات التربوية، بالإضافة إلى الأساليب العامة للتربية، مثل: التربية باللعب، التربية بالحبّ والرحمة، التربية بالعقوبة، التربية بالثواب، التربية الاقتصادية، التربية الصحية، التربية الرياضية، التربية الجنسية...

وأخيراً، ندعو الله تعالى أن ينفع بيئتنا التربوية ومؤسّساتنا التعليمية خصوصاً التخصّصية منها بهذا الجهد المتواضع، سائلين إيّاه عزّ وجلّ أن يمنّ على مجتمعاتنا بالمزيد من الإنتاج المعرفيّ الأصيل فيما يتعلّق بميادين العلوم الإنسانية.


والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

5

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يُعرِّف التربية لغةً ومن وجهة نظر العلماء المسلمين.
2- يعرض مرادفات التربية ويُحلّل الشبكة المعنائية لها.
3- يقدر على التعريف الاصطلاحيّ لتربية الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

6

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 تمهيد

نظراً لتعدُّد الآراء ووجهات النظر في تعريف مفردة التربية من جهة1، ولكون تعريف المصطلحات ليس أمراً حيادياً بل هو انعكاس للنظام المعرفيّ والعقائديّ والقيميّ الذي ينتمي إليه الباحث2 من جهة ثانية، ومن باب تحديد المبادئ التصوّرية كان لا بدّ من الجواب عن السؤال التّالي: ما هي التربية؟ لتبنّي وجهة نظر خاصة حول مفهومها.
 
معنى التربية في اللغة
طُرحت في معنى التربية ومصدريّتها في اللغة العربية عدّة احتمالات:
الأول: أن تكون مصدراً من: رَبَا الشّيءُ، بمعنى: زاد ونما3، وارتفع وعلا4.



1 يراجع حول التعريفات المتعدّدة للتربية: عجمي، سامر توفيق، التربية مفهومها غايتها موضوعها، الفصل الأول. مع الإشارة إلى أنه قد تمت الاستفادة من المصدر المذكور في صياغة هذا الدرس والدرس الثاني أيضاً. ويراجع: إبراهيم، مجدي عزيز، موسوعة المعارف التربوية، حرف التاء، ص939.
2 المصطلح هو اللفط الذي يوضع للدلالة على معنى خاص في حقل معرفي ما، وغالباً ما تكون هناك علاقة ومناسبة بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المنقول إليه في الاصطلاح العلمي، كوضع لفظ "نفس" في علم الفلسفة للدلالة على الموجود الجوهري المجرد عن المادة ذاتاً والمتعلّق بها فعلاً، وهذا التعريف للنفس ينطلق من الفهم الفلسفي اليوناني الأرسطي مثلاً أو الإسلامي المشّائي للوجود والإنسان، أمّا مع وجود فهم آخر كمذهب الوضعية المنطقية أو الماركسية وغيرهما من المدارس الفلسفية التي تنظر إلى الوجود من زاوية حسّية-تجريبية، وتعتبر الوجود مساوقاً للمادة، فلن يتمّ تعريف النفس الإنسانيّة بأنّها موجود مجرّد لإنكار عالم المجرّدات، بل ستعرّف بتعريف يتلاءم مع أصول الفلسفة المادية والتجريبية، إذاً النظام الفلسفي يلعب دوراً في تعريف المصطلحات...، لذا نرى الاختلاف بين مدرسة وأخرى في تعريف المصطلحات وبيان مضمونها الدلالي، وليس ذلك إلا بسبب الاختلاف في الانتماء الفكري في النظرة إلى الله والوجود والإنسان والطبيعة و...
3 يراجع: الفراهيدي، أحمد بن خليل، كتاب العين، ج8، ص283. وابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ج1، ص400.
4 ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ج2، ص483.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

7

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 الثاني: من ربَّ يرُبُّه ربّاً: مَلَكَه1.

 
وقد تبنّى خسرو باقري2 في كتبه هذا الاحتمال، آخذاً معنى التربية من مادة (ر ب ب) التي تنطوي على عنصرين معنائيين: المالكية والتدبير، ليستفيد تالياً - كما سيأتي في الدرس الثاني - من تبنّي وجهة النظر هذه في التعريف الاصطلاحيّ للتربية اتّكاءً على مفهوم الربوبية لا مفهوم النموّ والزيادة.
 
والثالث: رَبَوْتُ في بَني فلان أَرْبُو نَشَأْتُ فيهِم3. ومنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ربيت في بني سعد بن بكر"4.
 
وقد تبنّى العديد من فقهاء اللغة هذا الرأي، يقول ابن سيده في معنى الربّ: "أصله في الاشتقاق من التَّرْبية، وهي التَّنْشِئة،... وقيل للمالك رَبّ لأنّه يملك تَنْشِئةَ المَرْبُوب... ومنه ربّان السفينة لأنّه ينشِئُ تدبيرها ويقوم عليها..."5.
 
وقفة مع المعاني اللغوية لمفردة التربية
1- نشأ بمعنى رَبَا: يأتي فعل نشأ بمعنى: ربا وشَبّ6. ونَشَأَ: ارتفع وسما7. وبناءً عليه، لا يختلف الاحتمال الثالث عن الأول من حيث المعنى.
 
2- مادة: ر ب ب: يظهر بالاستقراء من أغلب فقهاء اللغة أنّ أصل مفردة ربّ لغة بالمعنى المطابقيّ: إصلاح الشيء والقيام عليه8، وبمعنى: الحفظ والرعاية للشيء9... ودلالتها على معنى الملك التزامية، حيث "سُمّي به المالك لأنّه يحفظ ما يملكه"10.



1 كتاب العين، ج8، ص256. ولسان العرب، ج5، ص94.
2 يراجع: باقري، خسرو، فلسفة التربية والتعليم الإسلامية، ص158.
3 لسان العرب، ج14، ص306.
4 المفيد، محمد بن محمد، الاختصاص، ص187.
5 ابن سيده، علي بن إسماعيل، المخصص، ج5، ص155.
6 لسان العرب، ج14، ص134.
7 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص356.
8 م.ن، ج2، ص482-484.
9 الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، ج2، ص7.
10 المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج12، ص146.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

8

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 استقراء تعريف التربية عند العلماء المسلمين

- قال الشيخ محمد بن الحسن الطوسيّ (385-460هـ): "الربّ وأصله التربية، وهي: تنشئة الشيء حالاً بعد حال حتى يصير إلى الكمال"1.
 
- وقال الملا محمد صالح المازندراني (ت 1086هـ): "الربّ في الأصل مصدر بمعنى التربية: وهي تبليغ الشيء من حدّ النقص إلى حدّ الكمال على سبيل التدريج"2.
 
- وقال محمود الآلوسي (1217-1270هـ): "الربّ في الأصل مصدر بمعنى التربية: وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزليّ شيئاً فشيئاً"3.
 
- وقال السيد حسين البروجردي: "التربية: تبليغ الشيء إلى كماله أو حال أحسن من حاله، وبالجملة إلى كماله الحقيقيّ أو الإضافي شيئاً فشيئاً"4.
 
ومن الواضح أنّ المعنى الجامع للتربية عندهم هو: إيصال المتربّي إلى كماله المستعدّ له بالتدريج.
 
التربية عند أفلاطون (427 - 347 ق.م)
هذا المعنى لمفردة التربية عند العلماء المسلمين مشابه ومقارب لما هو موجود في الفلسفة اليونانية عند أفلاطون، فقد اشتهر عنه تعريف التربية بأنّها: "إعطاء الجسم والروح كلّ ما يُمكن من الجمال وكلّ ما يُمكن من الكمال"5.
 
الشبكة المعنائية لمفردة التربية
من جملة المناهج المعتمدة في التحليل اللغويّ لفهم الحقل الدلاليّ لمفردة أو كلمة مفتاحية ما، هو اعتماد طريقة الترادف والأشباه والنظائر، القائمة على الدراسة التحليلية للمفردة، من خلال البحث عن اللفظ المرادف - أو المرادفات - لها وتحديد معناها (كأن نبحث مثلاً عن كلمة التربية، فنجدها بمعنى: الحفظ)، ثم التفتيش عن مرادف المرادف،



1 الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، ج4، ص337.
2 المازندراني، م.س، ج12، ص102.
3 الألوسي، محمود بن عبد الله، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني تفسير الآلوسي-، ج1، ص77.
4 البروجردي، حسين، تفسير الصراط المستقيم، ج3، ص352.
5 سليمان، كامل، والعبد الله، علي، التربية، ص176-177.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

9

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 (أي اللفظ المرادف لكلمة الحفظ، فنجدها بمعنى: الحراسة)، وهكذا يستمرّ البحث بشكل تسلسليّ... (فنبحث مثلاً عن مفردة الحراسة فنجدها بمعنى: المراقبة، والمراقبة بمعنى: النظارة... إلخ)، بهدف الوصول في المحصّلة إلى رسم خارطة المعاني المترادفة والعلاقات المترابطة فيما بينها، لمعرفة الشبكة المعنائية وصبّها في منظومة مفهومية واحدة، بحيث تُفيد هذه الشبكة المعنائية في الكشف عن المراد من المفهوم بشكل أوضح.

 
نموذج تطبيقيّ مختصر للمنهج
إذا بحثنا مثلاً في المعاجم اللغوية عن مادّة مفردة التربية، سنراها تأتي بمعنى:
- الحفظ، ومعنى الحفظ: الحراسة. والحراسة: المراقبة. والمراقبة: النظارة. والنظارة: الحماية، والحماية: الدفاع، والدفاع: المنع...
- وتأتي التربية بمعنى: الرعاية، والإحاطة.
 
والإحاطة: بمعنى الصيانة، والرعاية. والحفظ، والتعهّد... والصيانة: الكنّ (الستر) والحفظ. والصيانة: الوقاية. والوقاية: بمعنى: الصيانة، أي الستر من الأذى، والدفاع. والتعهّد: التحفّظ بالشيء وتجديد العهد به.
 
- التربية: التنمية، وهي: بمعنى الزيادة والارتفاع والإشراف من أعلى.
 
والإشراف: من الشرف بمعنى العلوّ والمكان المرتفع. وأشرفت: اطّلعت على الشيء من فوق.
 
- التربية: بمعنى التنشئة. والتنشئة: بمعنى الترقّي والتسامي والتعالي بالشيء.
 
- التربية: بمعنى الإصلاح، وأصلح الشيء: أقامه وأحسن إليه.
 
- التربية: بمعنى السياسة، والسياسة: القيام على الشيء بما يُصلحه.
 
- التربية: بمعنى الحضانة، احتمال الشيء وجعله في الحضن.
 
- التربية: بمعنى التغذية1، والغذاء: ما يكون به نماء الجسم وقوامه.



1 الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية، ج6، ص2445.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

10

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 - التربية: بمعنى التنبيت والغرس1. والتنبيت: التغذية وحسن القيام على الشيء2.

 
- التربية: بمعنى التأهيل3، والتهيئة للشيء4.
 
... إلخ.
 
نتيجة تطبيق المنهج
وبهذا يتّضح أنّ مفردة التربية في اللغة العربية ذات حقل دلاليّ واسع، يتضمّن العديد من المعاني، ويشمل الكثير من المفاهيم، ممّا يعني أنّ العملية التربوية ليست ذات بعد واحد، ولا تتعلّق بجانب واحد من جوانب بناء شخصية الطفل، فالتربية هي مجموع عمليات مركّبة ومتشابكة ومتداخلة فيما بينها من أجل أن تصبّ في المحصّلة بخدمة هدف واحد، فالتربية حفظ ورعاية وصيانة وحماية وحراسة وتنمية وتغذية وحسن قيام وتأهيل وتهيئة وحضانة وسياسة وإصلاح وتنشئة ووقاية ودفاع وإحاطة... إلخ، ولو دقّقنا النظر في كلّ هذه المعاني لوجدنا بينها قاسماً مشتركاً ومعنى وحدانياً تلتقي عنده كلّ أجزاء الشبكة وعناصرها، وهو إيصال الشيء إلى كماله5. وقد أشار العلماء المسلمون في تعريفاتهم السابقة للتربية إلى هذا المعنى بشكل واضح، حيث عرّفوها بأنّها عبارة عن عملية: إيصال المتربّي إلى الكمال المستعدّ له في جميع جوانب شخصيّته.
 
مرادفات التربية في النصوص الدينية
هناك مفردات أخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشبكة المعنائية للتربية، ولكونها وردت في العديد من النصوص القرآنية والروائية، وتُستعمل كثيراً في علوم التربية والأخلاق والعرفان العمليّ، سنفردها بالحديث بنحو شديد الاختصار.



1 الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ج1، ص158.
2 تاج العروس، ج3، ص143.
3 المخصص، ج1، ص27.
4 لسان العرب، ج2، ص450.
5 يراجع: المصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج4، ص 18-19. وقد ذكر تحقيقاً لطيفاً حول المسألة في ما يقارب الـ 9 صفحات : 15-23، تراجع للفائدة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

11

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 التربية والتزكية

أ- التزكية في القرآن: وردت مفردة التزكية بمادّتها في العديد من الآيات القرآنية، منها: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾1.
 
ب- التزكية في اللغة: بمعنى النماء والزيادة2. والزكاة: التطهير. والزكاة: الصلاح. والزكاة: الارتفاع والعلو3.
 
ج- معنى التزكية في الآيات: حمل المفسّرون معنى التزكية في الآية المذكورة وما يُشابهها على التطهير من الكفر والشرك والدنس والذنوب وخبائث الجاهلية وألوان التعلّقات الدنيوية... إلخ. قال السيد محمد حسين الطباطبائي: "التزكية تفعيل من الزكاة، بمعنى النموّ الصالح، الذي يلازم الخير والبركة، فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحاً بتعويدهم الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، فيكملون بذلك في إنسانيّتهم فيستقيم حالهم في دنياهم وآخرتهم، يعيشون سعداء ويموتون سعداء"4.
 
وباختصار التزكية هي: أن يفعل الإنسان كلّ ما يُصبح به هو أو غيره زكياً طاهراً صالحاً5.
 
التربية والتطهير
1- التطهير في القرآن: وردت مادة (ط ه ر) في القرآن بهيئات مختلفة، منها قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾6.
 
2- الطهارة في اللغة: بمعنى النقاء وزوال الدنس7. والنظافة والخلوص من الشائبات8



1 سورة آل عمران، الآية 164.
2 كتاب العين، ج5، ص394. الصحاح، ج3، ص1223.
3 معجم مقاييس اللغة، ج2، ص468.
4 الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج19، ص264.
5 التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص467. والطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، ج10، ص6.
6 سورة التوبة، الآية 103.
7 معجم مقاييس اللغة، ج3، ص428.
8 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص464. والصحاح، ج6، ص2514.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

12

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 قال السيد الطباطبائي: "التطهير إزالة الأوساخ والقذارات من الشيء ليصفى وجوده ويستعدّ للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات"1. وكأن الفرق بين التزكية والتطهير، أنّ الأولى تحلية بالكمالات والثانية تخلية عن النواقص.

 
التربية والتذكية
1- التذكية في الروايات: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اذكُ بالأدب قلبك"2.
 
2- التذكية في اللغة: بمعنى التطهير، والتذكية بمعنى: شدّة وهج النار واشتعالها.
 
وقد فسّر متن الرواية السابقة بفهمين: الأول: ما ذكره الطريحي: أي طهّر قلبك ونظّفه عن الأدناس والرذائل3. والثاني: بمعنى نوّر بالأدب مع الله قلبك، لأنّ ضياء القلب واشتعال النور فيه يكون بسبب الأدب4، وهو الأصح، بقرينة ذيل الرواية: "اذك بالأدب قلبك كما تُذكّي النار بالحطب".
 
التربية والتهذيب
1- التهذيب في الروايات: عن الإمام علي عليه السلام، قال: "ذروة الغايات لا ينالها إلا ذوو التهذيب والمجاهدات"5.
 
 - وعنه عليه السلام: "الاشتغال بتهذيب النفس أصلح"6.
 
2- التهذيب في اللغة: تنقية الشيء ممّا يعيبه7، ليزيد نمواً وحسناً8. والتهذيب: إصلاح الشيء. والتهذيب: تطهير الأخلاق.



1 الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص377.
2 الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص385.
3 الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، ج1، ص159.
4 المحمودي، محمد باقر، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج7، ص265.
5 الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، ص257.
6 المصدر نفسه، ص47.
7 معجم مقاييس اللغة، ج6، ص 45-46.
8 تاج العروس، ج2، ص488.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

13

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 التربية والهداية

1- الهداية في القرآن: وردت بهيئات متعدّدة بكثرة، منها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1. ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ﴾2.
 
2- الهداية في الروايات: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "والله لأن يُهدَى بهداك رجلٌ واحد خير لك من حمر النعم"3.
 
3- الهداية في اللغة: بمعنى الإرشاد، والدلالة على طريق الرشد، والدلالة على المطلوب بلطف، والإيصال إلى المطلوب4. قال السيد مصطفى الخميني: "إنّ المعروف تقسيم الهداية إلى:
أ- الهداية بمعنى إراءة الطريق.
ب- والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.
ولكنّه ليس من قبيل المعنيين لِلَّفظ الواحد، بل هذا تقسيم للمعنى الواحد"5.
 
فالهداية إيصال إلى الكمال المطلوب، كما هو معنى التربية.
 
التربية والتعليم
1- التعليم في القرآن: وردت مفردة العلم بهيئات مختلفة بكثرة في النصوص الدينية القرآنية والروائية6، منها:
- التعليم الإلهيّ: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾7. ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾8.
 
- التعليم النبويّ: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾9.



1 سورة الشورى، الآية 52.
2 سورة يونس، الآية 35.
3 السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الجامع الصغير، ج2، ص714، ح9606.
4 العسكري، أبو هلال، الفروق اللغوية، ص42. والراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص705.
5 الخميني، مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج2، ص74.
6 يراجع: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، كتاب العقل والجهل. والريشهري، محمد، العلم والحكمة في الكتاب والسنة، تحقيق مؤسسة دار الحديث الثقافية، قم، ط1.
7 سورة الرحمن، الآيات 1-4.
8 سورة العلق، الآيات 3-5.
9  سورة البقرة، الآية 151.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

14

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 2- التعليم في اللغة العربية: على وزن تفعيل من العلم، والعلم إدراك الشيء بحقيقته1. والعلم بمعنى الشعور بالشيء2. والعلم المعرفة3. والعلم اليقين الذي لا يدخله احتمال4. والعلم الاعتقاد الراجح سواء أكان يقيناً أم ظنّاً5.

 
والذي يظهر بالتتبّع لاستعمالات العلم أنّه صفة قائمة في النفس توجب انكشاف وظهور الشيء لها بشكل تام يتميّز به عن غيره بنحو لا يحتمل الخلاف. وبناءً عليه، يكون معنى التعليم: إعطاء العلم وإكسابه للآخرين بحيث يتمّ رفع الجهل عن أنفسهم، وقيل: التعليم يختصّ بما يكون بتكرير وتكثير حتّى يحصل منه أثر في نفس المتعلّم6.
 
وبما أنّ الجهل نقص للنفس الإنسانية والعلم كمال لها، يكون التعليم من مصاديق التربية بجعل نفس المتعلِّم ترتفع وتتسامى من النقص إلى الكمال.
 
التربية والتأديب
1- التأديب في اللغة: مشتقّ من الأدب، وأصله: أن تجمع الناس إلى طعامك7. والأدب: ملكة تعصم من قامت به عمّا يشينه8. "والأدب اسم يقع على كلِّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضايل"9.
 
2- التأديب في أحاديث النبيّ وروايات أهل البيت عليهم السلام: لم ترد مفردة الأدب والتأديب في القرآن الكريم، وجاءت في الأحاديث بكثرة.
 
- عن الإمام عليّ عليه السلام: "يا كميل، إنّ رسول الله أدّبه الله، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورث الآداب المكرمين"10.



1 الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، ص475.
2 العين، ج2، ص152.
3 الصحاح، ج5، ص1990.
4 مجمع البحرين، ج6، ص119.
5 مفردات ألفاظ القرآن، ص475.
6 المصدر نفسه.
7 معجم مقاييس اللغة، ج1، ص74.
8 تاج العروس، ج1، ص296.
9 المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي، ج1، ص292.
10 ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول، ص171.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

15

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 - وعنه عليه السلام: "سبب تزكية الأخلاق حسن الأدب"1.

 
- وعنه عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه على محبّته"2.
 
ويظهر بشكل واضح من هذه النصوص أنّ متعلّق التأديب في الاستعمال الروائيّ وكذلك اللغويّ غير مختصّ بتهذيب الهيئة البدنية للإنسان بل يشمل الهيئات النفسانية من القيم والأخلاق والصفات الوجدانية كالحب3. وبهذا يظهر أنّ ما ذكره بعض العلماء من حصر معنى الأدب في السلوك والفعل والهيئة الحسنة دون الملكات الأخلاقية، ليس في محلّه4.
 
فهذه المعاني بمجموعها تُشكّل منظومة مفهومية مترابطة فيما بينها ترسم لنا معالم سعة مفهوم التربية على الشكل التّالي:


 

1 عيون الحكم والمواعظ، ص281.
2 م.ن، ص265.
3 يراجع: عجمي، سامر توفيق، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، ص103-109.
4 الميزان في تفسير القرآن، ج6، ص273.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

16

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 الرأي المختار في تعريف التربية

إنّ اختيار تعريف معيّن للتربية يتوقّف على معالجة العديد من المقدّمات المطوية التي سيتمّ عرضها خلال دروس الكتاب، فهو إن كان متأخّراً عنها ثبوتاً لكن نُقدِّمه عليها إثباتاً لضرورات تتعلّق بمنهجية البحث، فنقول في تعريف التربية بأنّها:
قيام وليّ الطفل أو المأذون له من قِبَله، قولاً وعملاً، بصناعة1 هوية الطفل (شخصيّته)، أو تنمية استعداداته وقابليّاته الخاصّة، في جميع جوانبها (البدنية، القلبية، والعقلية)، وبمختلف الأبعاد الحياتية (الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، و...2)، بهدف إيصاله إلى كماله (الحقيقيّ أو الإضافيّ) المتوجّه إليه، بشكل تدريجيّ، وبنحو مستدام، من خلال اعتماد مجموعة من الأصول والأساليب والتقنيات، المستخرجة من المصادر الإسلامية أو المنسجمة معها.
 
التربية وعلم الأخلاق
بعد أن اتّضح معنى التربية، يظهر الفرق بين التربية وعلم الأخلاق، فعلم الأخلاق يهدف إلى تكميل الملكات النفسانية التي تصدر عنها الأفعال الحسنة والجميلة3.
 
وبعبارة مختصرة وظيفة علم الأخلاق بناء المحتوى الداخليّ الروحيّ للإنسان، فمركز نظره على جانب من جوانب شخصية الطفل، ولا علاقة له بالجوانب الأخرى كمهارات التفكير، والرياضة البدنية، والسلامة الجسدية، وإعطاء المعرفة، وبناء العقيدة... إلخ. بينما التربية هي تنمية لكافة جوانب شخصية الطفل وأبعادها الحياتية.



1 مفردة "صناعة" مستعارة من قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾, سورة طه، الآية 39.
2 أنظر: الدرس الثالث والدرس السادس.
3 يراجع: مسكويه، أحمد بن محمد، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص51. والطوسي، نصير الدين، أخلاق ناصري، ص102.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

17

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 المفاهيم الرئيسة


- التربية لغةً من فعل ربا، بمعنى نما وعلا وسما.

- التربية في اصطلاح العلماء المسلمين هي: تنشئة الشيء حالاً بعد حال بالتدريج من حدّ النقص إلى حدّ الكمال.

- يقوم منهج الترادف والتناظر لمعرفة الشبكة المعنائية لأيّ مفردة على أساس البحث عن معناها لمعرفة مرادفها، ثم البحث عن المرادف، ومرادف المرادف، وهكذا، ومن ضمن عناصر الشبكة المعنائية للتربية: التنمية، التنشئة، التسامي، الحراسة، الرعاية، الحضانة، الإصلاح، الحماية، الصيانة، التأهيل، الإرشاد، الإشراف، التغذية...

- يُفيد المفهوم الجامع لعناصر الشبكة المعنائية للتربية أنّها بمعنى إيصال المتربّي إلى الكمال المستعدّ له في جميع جوانب شخصيّته.

- تتضمّن مفردة التربية أو تترادف مع عدّة معانٍ ذُكرت في النصوص الدينية، مثل: التعليم، التزكية، التهذيب، التذكية، الهداية، التأديب، التطهير، المجاهدة...

- تمتاز التربية عن علم الأخلاق، بأنّ التربية تشمل كلّ جوانب شخصية الإنسان، أمّا علم الأخلاق فيختصّ بجانب تنمية وبناء الملكات النفسية الفاضلة.

- نقصد بتربية الطفل باختصار: قيام وليّ الطفل بتنمية استعدادات الطفل وصناعة هويّته في جميع جوانبها، بهدف إيصاله إلى الكمال المستعدّ له بنحو تدريجيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

18

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 أسئلة الدرس


1- برأيك هل يُمكن اعتبار تعريف المصطلحات والمفاهيم أمراً حيادياً أم هو تابع للمدرسة الفلسفية والمنظومة المفاهيمية والقيمية التي ينتمي إليها الباحث؟ اضرب مثلاً على ذلك.

2- هل الانتقال بالإنسان من حدّ الكمال إلى النقص يعتبر تربية حقيقة؟ علِّل ذلك.

3- هناك مصطلحات أخرى غير التي ذُكرت في الدرس ترتبط بالشبكة المعنائية للتربية في اللغة العربية، مثل: (الرياضة، التبليغ، الدعوة، التبشير) اعطِ أمثلة من النصوص الدينية عليها، وبيّن علاقتها بالتربية.

4- هل توافق على أنّ مفردة التأديب في اللغة العربية مختصّة بتربية الهيئة البدنية والأفعال السلوكية للإنسان، أم تشمل الأبعاد الأخرى المعرفية والنفسية والعاطفية...؟ اذكر شواهد على رأيك من النصوص الروائية.

5- ما هو الفرق بين التربية وعلم الأخلاق من وجهة نظرك؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

19

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى بعض تعريفات التربية عند التربويين المسلمين والغربيين.
2- يمتلك مهارة مناقشة التعريفات المختلفة للتربية وتقويمها.
3- يُميّز بين التربية بالمعنى الأعمّ والتربية بمعنى التعليم والتمدرس.
4- يُميّز بين التربية والتنشئة الاجتماعية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

20

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 تمهيد

سنُسلّط الضوء في هذا الدرس1 على تعريف مصطلح التربية من وجهة نظر علماء التربية المحدثين والمعاصرين (المسلمين والغربيين)، ثم نُناقش مجموع تلك التعاريف ونُسجّل عليها ما ينبغي من ملاحظات استناداً إلى معياريّة التعريف الذي تبنّيناه حول التربية.
 
التربية بالمعنى الأعمّ والأخصّ
تُستعمل مفردة التربية في العلوم المعاصرة بأحد معنيين:
- الأول: التربية بالمعنى الأعمّ: وتشمل تربية الإنسان في مختلف جوانب شخصيّته وأبعاد حياته، و"تتضمّن كلّ عملية تُساعد على تشكيل عقل الفرد وخُلُقه وجسمه"2. ويُستثنى منها الجوانب البيولوجية والفيزيولوجية والوراثية التي لا يلعب الاختيار الإنسانيّ أيّ دور في تحديد معالمها - مع الإشارة إلى وجود جوانب وراثية يلعب الاختيار الإنسانيّ دوراً فيها، فيكون للتربية تأثير عليها، كما سيأتي في الدرس الخامس عشر.
 
- الثاني: التربية بالمعنى الخاصّ: و "تعني غرس المعلومات والمهارات المعرفية من خلال مؤسّسات معيّنة أُنشئت لهذا الغرض"3.
 
وقد تُطلق التربية ويُراد بها المعنى الأخصّ أي خصوص التعليم المدرسيّ أو التمدرس schooling.



1  يراجع حول هذا الدرس: عجمي، سامر توفيق، التربية مفهومها غايتها موضوعها، الفصل الأول، المبحث الرابع.
2 مرسي، محمد منير، أصول التربية، ص8.
3 ن. م، ص8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

21

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 التربية والتعليم

اتّضح في الدرس السابق في فقرة التربية والتعليم أنّ التعليم عملية موجّهة إلى العقل والجانب الذهنيّ، بإعطاء المعرفة والفهم والإدراك والتفكير، أمّا إحداث التغيير في السلوك فهو من آثار العملية التربوية ككلّ، فالتعليم أضيق من التربية، وواقع ضمن دائرتها، بل التعليم مقدّمة للتربية بمعنى التزكية، ومع ذلك ليست كلّ عملية تربوية مسبوقة بالتعليم، لأنّ تغذية الطفل الرضيع ورعايته... هي تربية، ولكنّها لا تتضمّن أي موقف تعليميّ.
 
ومن الأخطاء الشائعة -عند البعض- أنّه عندما تُطلق مفردة التربية ينصرف إلى أذهانهم المعنى الثاني للتربية، أي التربية بمعنى التعليم والتمدرس، وإن كان للمدرسة دور رئيس وحيويّ في بناء شخصية الطفل نظراً إلى المقدار الزمنيّ الذي يقضيه فيها، إلا أنّها تبقى واحدة من مجموعة عناصر ومؤسّسات مجتمعية شريكة ومؤثّرة وفاعلة في عملية تربية الطفل ورسم ملامح شخصيّته، كشبكة وسائل الإعلام والتواصل والاتّصال (التلفزيون، المجلّات، الإنترنت، الفايس بوك، برامج الهاتف...)، والألعاب الإلكترونية (الكمبيوتر، البلاي ستايشن، الإكس بوكس، و...)، والجمعيات الكشفية، والمحيط القريب والجيران، والأصدقاء، والمساجد، والأندية الرياضية... إلخ، وأهمّ من ذلك كلّه الأسرة والبيئة المنزلية والعائلية بالمعنى الأعمّ، فضلاً عن عناصر كثيرة عقّدت قدرة القيادة والتحكّم والسيطرة على العملية التربوية في عصرنا الحاضر.
 
تعريف التربية الإسلامية في رأي بعض التربويّين الإسلاميين
انطلاقاً من كون الباحث التربويّ الإسلاميّ ينتمي إلى نظام فلسفيّ -دينيّ خاصّ، فإنّه سيُحاول الاشتغال على المواءمة ما بين العلوم التربوية من جهة وبين انتمائه الإسلاميّ من جهة ثانية، فيقوم بأسلمة تعريف التربية، إمّا من حيث الغاية أو الأصول والأساليب، أو المنهج والمصادر... إلخ. وسنعرض خلال الفقرات التالية بعض التعريفات في هذا المجال.
 
- عرّفها خالد الحازمي بأنّها: "تنشئة الإنسان شيئاً فشيئاً في جميع جوانبه، ابتغاء سعادة الدّارَين، وفق المنهج الإسلاميّ"1.



1 الحازمي، خالد بن حامد، أصول التربية الإسلامية، ص19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

22

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 - وعرّفها صبحي طه بقوله: "التربية الإسلامية هي تنمية جميع جوانب الشخصية الإسلامية الفكرية والعاطفية والجسدية والاجتماعية، وتنظيم سلوكها على أساس من مبادئ الإسلام وتعاليمه بغرض أهداف الإسلام في شتّى مجالات الحياة"1.

 
- وعرّفها محمد خير فاطمة: "التربية الإسلامية ذات طابع شموليّ تكامليّ لجميع جوانب الشخصية الروحية والعقلية والوجدانية والأخلاقية والجسمية والاجتماعية والإنسانية، وفق معيار الاعتدال والاتّزان"2.
 
- وعرّفها عبد الرحمن النحلاوي وزملاؤه بأنّها: "مجموعة التصرّفات العملية والقولية التي يُمارسها راشد بإرادته نحو صغير، بهدف مساعدته في اكتمال نموّه وتفتّح استعداداته اللازمة وتوجيه قدراته ليتمكّن من الاستقلال في ممارسة النشاطات وتحقيق الغايات التي يعدّ لها بعد البلوغ، في ضوء توجيهات القرآن والسنة"3.
 
وهذه التعريفات لا بأس بها، وتتناسب مع المعنى اللغويّ، مع الإشارة إلى أنّه لا بدّ من التمييز بين تعريف تربية الإنسان بالمعنى الأعمّ وبين تعريف التربية المضافة إلى الطفل، فإنّ تعريف التربية بالمعنى الأعمّ ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الأمرين التاليين:
أوّلاً: أن لا يقتصر على جعل متعلّق التربية هو "الصغير" أي "الطفل" فقط، كما قيّد ذلك في التعريف الأخير، لأنّ العملية التربوية وفق الرؤية الإسلامية مستدامة تبدأ من المهد وتستمرّ إلى اللحد، فتشمل تربية الكبار أيضاً. وقد تنبّه علي القائمي إلى هذه الملاحظة، حيث يقول: "لا تقتصر مدّة التربية على دور الطفولة، بل يجب أن تستمرّ وتتواصل مع دور الصبا حتّى آخر العمر"4.
 
أمّا جعل متعلّق التربية في الكتاب هو الطفل فليس من باب جعل التربية في الرؤية الإسلامية محدّدة بسنٍّ معيّنة، بل لكونه موضوع البحث.



1 رشيد ابراهيم، صبحي طه، التربية الإسلامية وأساليب تدريسها، ص9.
2  فاطمة، محمد خير، منهج الإسلام في تربية عقيدة الناشئ، ص52.
3 محب الدين أبو صالح، مقداد يالجن، عبد الرحمن النحلاوي، دراسات في التربية الإسلامية، ص13.
4 القائمي، علي، الأسرة والطفل المشاكس، ص36.
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

23

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 والثانية: أن لا يحصر متعلّق التربية بالآخر فقط، كما في التعريف الأخير أيضاً، لأنّ التربية الإسلامية ليست منحصرة في التربية الغيرية، بل تشمل التربية الذاتية، أي تربية الإنسان لنفسه وتهذيبه لذاته. وهذه نقطة تمّ إغفالها من قبل العديد من علماء التربية المسلمين وغيرهم، مع أنّ نقطة انطلاق العملية التربوية في الرؤية الإسلامية تبدأ من النفس والذات نحو الطفل والآخر.

 
تعريف خسرو باقري للتربية
عطفاً على الاحتمال اللغويّ الذي تبنّاه خسرو باقري سابقاً لمعنى التربية، عرّف التربية الإسلامية اصطلاحاً بأنّها: "معرفة الله بصفته الربّ الأوحد للعالم والإنسان، واختياره ربّاً لنا، والتسليم والخضوع لربوبيّته، والابتعاد عن ربوبيّة غيره"1.
 
ويُلاحظ على هذا التعريف:
أوّلاً: أنّه تعريف للتربية بلحاظ الغاية النهائية التي يُمكن أن نُطلق عليها اسم الهدف الميتا - استراتيجيّ، أي الهدف الأعلى الأقصى الذي يقع في نهاية سلسلة الأهداف طولاً بنحو لا يكون وراءه هدف آخر، فلا تشتمل التربية حينها على الأهداف الوسيطة والكمالات الإضافية.
 
وثانياً: أنّ التربية ليست هي نفس معرفة الله واختياره ربّاً والخضوع له، بل التربية هي مجموع العمليات التي تؤدّي بالمتربّي في مرحلة عمرية ما إلى الوصول إلى هذه الكمالات.
 
وثالثاً: أنّه تعريف غير جامع، لأنّه لا يشمل جميع المراحل العمرية للطفل، إذ ليس بمقدور الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة أن يعرف الله ويختاره ربّاً ويتصرّف على أساس منطق الخضوع له تعالى.
 
وقد اعترف باقري نفسه في موضع آخر من كتابه بهذه الملاحظة، حيث يقول: "إنّ هذا المفهوم للتربية لا يتحقّق في مرحلة الطفولة، أي مرحلة ما قبل البلوغ والتكليف، لأنّ القدرات المعرفية لدى الطفل ضعيفة، وهو لا يمتلك القدرة على الاختياروالعمل على أساسها. وعلى 



1 نظرة متجدّدة في التربية الإسلامية، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

24

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 هذا الأساس فمرحلة الطفولة بمثابة المرحلة الممهّدة للتربية"1. مضيفاً، أنّ وظيفة المربّي تجاه الطفل هي التصرّف معه وفق أساليب تجعل الطفل يحمل استعدادات وقابليات خاصّة لمعرفة الله واختياره ربّاً عند دخوله مرحلة البلوغ والتكليف2.

 
وفي الحقيقة، تصنيف عملية تربية الطفل تحت عنوان: ممهّدات التربية، لا يُغيّر من واقع الأمر شيئاً، إذ النقاش ليس لفظياً، ولا مشاحة في الألفاظ.
 
كما أنّ تلك العمليّات لا تكون تربية بلحاظ الفعلية، وإنّما هي تربية بالقوّة أي بلحاظ المستقبل وباعتبار ما سيكون، وهو أمر غير صحيح، لأنّ هدف التربية - كما اتّضح في الدرس الأوّل وسيأتي في الدرس الثالث - يشمل الكمالات الإضافية والأهداف الوسيطة، فمفهوم التربية بمعناه الحقيقيّ وفق الرؤية الإسلامية ينطبق على العمليات الاستكمالية التي يقوم بها الراشدون تجاه الطفل، ويوصف حينها بالمتربّي حقيقة، والهدف النهائيّ والغائيّ من التربية وإن كان هو الوصول إلى القرب من الله تعالى، لكنّه كما ذكرنا هدف ميتا - استراتيجيّ في العملية التربوية، وهو لا يلغي وجود أهداف وسيطة وكمالات إضافية يعتبر إيصال الطفل إليها تربية حقيقة.
 
التربية والتنشئة الاجتماعية
وقع الخلط من قِبَل بعض الباحثين التربويّين بين مصطلحي التربية والتنشئة الاجتماعية، لذا من الضروريّ بيان الفرق بينهما، فمثلاً يُعرّف محمد سيف الدين فهمي التربية بأنّها: "العملية المقصودة أو غير المقصودة التي يصطنعها المجتمع لتنشئة الأجيال الجديدة فيه، بما يجعلهم على وعي بوظائفهم في المجتمع، وبدور كلٍّ منهم فيه"3.
 
وهذا التعريف للتربية ناظر إلى البعد الاجتماعيّ للعملية التربوية، بمعنى أن يُصبح الطفل قادراً على التكيّف والتأقلم مع البيئة الاجتماعية العامّة التي يعيش فيها. وهذا المعنى أقرب إلى التنشئة الاجتماعية منه إلى التربية. لأنّ التنشئة الاجتماعية عبارة عن إكساب الطفل صفات خاصّة يستطيع من خلالها أن يكون عضواً نافعاً ومتوافقاً مع الهيئة 



1 فلسفة التربية والتعليم الإسلامية ، ص177.
2 المصدر نفسه، ص178.
3 فهمي، محمد سيف الدين، محاضرات في أصول التربية، ص17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

25

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 الاجتماعية العامة التي يعيش فيها، فتكون له عقلية اجتماعية، ويتحوّل من كائن بيولوجيّ إلى كائن اجتماعيّ1.

 
وبعبارة أخرى: التنشئة الاجتماعية عبارة عن جعل الطفل قادراً على التكيّف مع البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها من حيث العادات والتقاليد والسلوكات والاتّجاهات والقيم وغيرها.
 
وبهذا تتّضح عدّة فروقات بين التربية والتنشئة الاجتماعية، منها أعميّة التربية على التنشئة، حيث إنّ التنشئة ناظرة إلى البعد الاجتماعيّ من أبعاد هوية الطفل، فتكون جزءاً من العمليات التربوية التي تهدف إلى تكامل الطفل في مختلف جوانب شخصيّته، ومنها البعد الاجتماعيّ.
 
وثانياً: التنشئة الاجتماعية انعكاس لثقافة المجتمع، والتربية الإسلامية لا تقوم دائماً على جعل الطفل متكيّفاً مع البيئة التي يعيش فيها بمعنى إكسابه قيمها وأنماطها السلوكية، بل تختلف المسألة من مجتمع إلى آخر. فلو كان المجتمع إيمانياً يلتزم بقيم الإسلام وأنماطه السلوكية تكون التربية قائمة على التوافق والتطبيع الاجتماعيّ للطفل مع بيئته. أمّا لو كان الطفل يعيش في مجتمع غير إسلاميّ كالأسر المسلمة التي تعيش في الغرب، أو تعيش في مجتمع مسلم لا يلتزم بالقيم الإسلامية، فهنا لا يكون المطلوب جعل الطفل متطبّعاً بالقيم والأنماط السلوكية لذلك المجتمع، بل جعل الطفل قادراً على المواءمة بين المنظومة الإيمانية والقيمية التي ينتمي إليها وبين المجتمع الذي يعيش فيه، بمعنى أن لا يجعله إيمانه يشعر بالغربة عن المجتمع فينعزل ويعتكف وينزوي، وفي الوقت نفسه لا ينصهر في المجتمع.
 
فالتربية الإسلامية تنطلق من المذهب التربويّ الإسلاميّ الذي يُحدّد العمليات التربوية انطلاقاً من قاعدة أيّ مجتمع نُريد أن نبني، وأيّ مجتمع مطلوب إيجاده في واقع حياة الناس، لا على أساس ما هو المجتمع الموجود كواقع قائم.



1 يراجع: وطفة، علي أسعد، والشهاب، علي جاسم، علم الاجتماع المدرسي بنيوية الظاهرة ووظيفتها الاجتماعية، ص235.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

26

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 التربية عند فلاسفة وعلماء التربية الغربيّين1

- يقول إيمانويل كانط: "... نقصد فعلاً بالتربية: الرّعاية (التغذية، التعهّد) والانضباط والتعليم المقترن بالتَّكوين... والمقصود بالرعاية: الاحتياطات التي يتّخذها الوالدان ليحولا بين أطفالهما وبين استعمال قواهم استعمالاً مضرّاً...(و) يحولالانضباط دون أن ينصرف الإنسان عن غايته -وهي غاية الإنسانية - بفعل نوازعه الحيوانية (فالانضباط يعني: السعي إلى الحيلولة دون أن تؤدّي الحيوانية إلى فقدان الإنسانية "ترويض التوحّش) ..."2.
 
- ويُعرّف جون ستيوارت ميل التربية بأنّها: "كلّ ما نفعله نحن من أجل أنفسنا وكلّ ما يفعله الآخرون من أجلنا حين تكون الغاية تقريب أنفسنا من كمال طبيعتنا"3.
 
- ويُعرّفها جون ديوي: "عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد، ثم صبّ لها في قوالب معيّنة أي تحويلها إلى عمل اجتماعيّ مقبول لدى الجماعة"4.
 
- وعرّفها رونيه أوبير بأنّها: "عملية تضمّ الأفعال والتأثيرات التي تستهدف نموّ الفرد من كلّ جهاته نمواً يسير به نحو كمال وظائفه من حيث التكيّف مع ما يُحيط به، ومن حيث ما تحتاجه هذه الوظائف من أنماط سلوك وقدرات"5.
 
- وجاء في موسوعة لالاند الفلسفية: "Education: تربية، تهذيب، تأديب:... سلسلة عملية إجرائية يُدرّبُ فيها الراشدون (الأهل عموماً) الصغار من جنسهم، ويشجعون لديهم نموّ بعض النزعات وبعض العادات"6.
 
- ويعرّف جود Good التربية في معجمه التربويّ بتعريفات عدّة، منها: "مجموعة 



1 انطلاقاً من المفهوم الذي حدّدناه للتربية والمناقشات التي ذكرناها حول بعض التعريفات سابقاً، يمكن للأستاذ والطلاب مناقشة هذه التعريفات في الحصة الدراسية.
2 كانط، إيمانويل، ثلاثة نصوص، ص11 وما بعد.
3 الرشدان، عبد الله، علم اجتماع التربية، ص25.
4 يراجع: الزهيري، شريف عبد العزيز، بناء مستقبل الأمة، ص12.
5 أوبير، رونيه، التربية العامة، ترجمة عبد الله عبد الدايم، ص27.
6 لالاند، أندريه، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، ج1، ص322.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

27

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 العمليات التي من خلالها يقوم الفرد بتنمية قدراته واتجاهاته وصور أخرى من السلوك ذات القيمة الإيجابية في المجتمع الذي يحيا فيه"1.

 
وهذا التعريف هو أقرب للتربية الذاتية المتعلّقة بالنفس دون الآخر.
 
- وعرّفتها مارغريت ميد بأنّها: "العملية الثقافية والطريقة التي يُصبح بها الوليد الإنساني الجديد عضواً كاملاً في مجتمع إنساني معيّن"2.
 
- وعرّفت اليونسكو -في مؤتمرها الـ18 الذي عقد في باريس عام 1974م- التربية بأنّها: "مجموع عملية الحياة الاجتماعية التي عن طريقها يتعلّم الأفراد والجماعات داخل مجتمعاتهم الوطنية والدولية لصالحها وأن ينمّوا وبوعي منهم كافّة قدراتهم الشخصية واتّجاهاتهم واستعداداتهم ومعارفهم. وهذه العملية لا تقتصر على أنشطة بعينها..."3.



1 نقلاً عن: أصول التربية، م.س، ص9.
2 نقلاً عن: النجيحي، محمد لبيب، التربية وأصولها الثقافية والاجتماعية، ص45.
3 يراجع: www.dfc.edunet.tn/Aoab
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

28

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 المفاهيم الرئيسة

- تستعمل مفردة التربية في العلوم التربوية المعاصرة بمعنيين: التربية بالمعنى الأعمّ، وتشمل تربية كافة جوانب الشخصية الإنسانية (العقلية والقلبية والبدنية)، والتربية بالمعنى الأخصّ، وترادف التعليم، وتعني تنمية الجانب العقليّ والمعرفيّ وإكساب المعلومات.

- عرّفت التربية الإسلامية عند التربويين المسلمين بتعريفات متعددة، منها: أن التربية الإسلامية هي تنمية جميع جوانب الشخصية الإسلامية الفكرية والعاطفية والجسدية والاجتماعية، وتنظيم سلوكها على أساس من مبادئ الإسلام وتعاليمه بغرض أهداف الإسلام في شتى مجالات الحياة.

- عرّفت التربية عند التربويين الغربيين بتعريفات متعددة، منها: التربية عملية تضم الأفعال والتأثيرات التي تستهدف نمو الفرد من كل جهاته نمواً يسير به نحو كمال وظائفه من حيث التكيّف مع ما يحيط به، ومن حيث ما تحتاجه هذه الوظائف من أنماط سلوك وقدرات.

- من خصائص التربية في الرؤية الإسلامية أنها لا تختصّ بتربية الطفل، بل هي تربية مستدامة من ما قبل المهد إلى اللحد، وأنها أيضاً لا تتعلّق بتربية الآخر والغير، بل تتعلّق بتربية النفس والذات أولاً.

- تمتاز التربية عن التنشئة الاجتماعية، بأن الأولى تشمل كلّ عمليات تنمية الإنسان في مختلف الجوانب، أما التنشئة الاجتماعية فتتعلّق بتربية الإنسان بنحو يصبح عضواً نافعاً في الهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، ومتوافقاً ومتكيفاً معها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

29

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 أسئلة الدرس

1- ما هو وجه النسبة المنطقية بين التربية والتعليم، هل هي التساوي، أم العموم والخصوص من وجه، أم العموم والخصوص مطلقاً؟ بيّن سبب اختيار الإجابة المناسبة.

2- هل تربية الطفل مختصة بالأهل، أم هناك مؤسسات شريكة في تربية الطفل؟ بيّن ذلك.

3- ناقش التعريف الذي ذكره عبد الرحمن النحلاوي للتربية، وما هي الملاحظات التي تسجلها عليه؟

4- ذكر خسرو باقري تعريفاً خاصاً للتربية، كيف تناقش هذا التعريف؟

5- ما هو الفرق بين التربية والتنشئة الاجتماعية؟ وهل أنت مع التنشئة الاجتماعية كيفما كان أم ضمن شروط خاصة؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

30

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 الدرس الثالث: هدف تربية الطفل



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أهمية الهدف ومعناه في اللغة والاصطلاح الفلسفيّ والتربويّ.
2- يُميّز بين أقسام الهدف التربويّ شكلاً ومضموناً.
3- يربط بين معنى الكمال والهدف التربويّ.
4- يُحدّد هدف تربية الطفل بشكل واضح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

31

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 تمهيد

اتّضح ممّا تقدّم في تعريف التربية - الدرس الأوّل - أنّ هدف التربية: "إيصال الطفل المتربِّي إلى الكمال المستعدّ له".
 
وفي هذا الدرس1 سنتوقّف عند تحليل معنى الهدف، ومعنى الكمال، ثمّ نقوم بعملية الربط بينهما.
 
ما هو الهدف لغة؟
الهدف لغة اسم لكلّ شيء مرتفع، ومنه سُمّي الغرض هدفاً2. قال ابن فارس: "هدف:... يدلّ على انتصاب وارتفاع... والهدف: الغرض"3.
 
ما هو الغرض لغة؟
الغرض والهدف في اللغة العربية بمعنى واحد4. قال الراغب الأصفهانيّ: "الغرض: الهدف المقصود بالرمي، ثمّ جعل اسماً لكلّ غاية يتحرّى إدراكها"5.
 
ما هي الغاية لغة؟
أصل الغاية في اللغة العربية: الراية، وسُمّيت نهاية الشيء غايته، لأنّ كلّ قوم ينتهون إلى 



1 يراجع حول هذا الدرس: عجمي، سامر توفيق، التربية مفهومها غايتها موضوعها، الفصل الثاني، حيث تمت استفادة هذا الدرس من الكتاب المذكور مع تلخيص.
2 الصحاح، ج4، ص1442.
3 معجم مقاييس اللغة، ج6، ص39.
4 كتاب العين، ج4، ص8.
5 مفردات ألفاظ القرآن، ص359. والصحاح، ج3، ص1093.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

32

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 غايتهم في الحرب أي رايتهم، ثم كثر حتى قيل لكلّ ما ينتهي إليه غاية1. فالغاية أقصى الشيء ومنتهاه2.

 
وبهذا يتبيّن أنّ الغاية والغرض والهدف بمعنى واحد، وسنستعمل هذه المفردات الثلاث بمعنى مترادف في الكتاب.
 
الغرض والغاية بالاصطلاح الفلسفيّ
الغرض من الشيء ما لأجله ذلك الشيء3.
 
والغرض: "غاية فعل فاعل يوصف بالاختيار"4.
 
والغرض: "مراد الفاعل من الفعل إذا انتهى إليه"5.
 
والغاية: الفائدة المقصودة من الفعل، بمناسبة انتهاء الفعل إليها، أي ما يفعل الفاعل فعله لأجله6.
 
الهدف في الاصطلاح التربويّ
إنّ مصطلح الهدف بالمعنى الواسع في العلوم التربوية له مفهوم تتقاطع عنده التعريفات، فقد عرّف الهدف التربويّ بأنّه: "الغاية أو النتيجة التي يُصار إلى تحقيقها بعد القيام بمجهود معيّن"7.
 
أو "المتغيّر المطلوب الذي تسعى العملية التربوية أو الجهد التربويّ إلى تحقيقه"8.
 
يقول محمد حسنين العجمي: "الأهداف هي النتائج المطلوب تحقيقها في المستقبل، وإذا كان المطلوب تحقيق هذه النتائج في المستقبل البعيد فإنّها تُسمّى غايات، وأهدافاً استراتيجية، أمّا إذا كان تحقيقها في الأجل القصير فإنّها تُسمّى أهدافاً تكتيكية"9.



1 الفروق اللغوية، ص382. ومعجم مقاييس اللغة، ج4، ص400.
2 لسان العرب، ج15، 143.
3 الرازي، قطب الدين، شرح الإشارات والتنبيهات، ج1، ص8، حاشية رقم: 1.
4 ابن سينا، الحسين بن عبد الله، الإشارات والتنبيهات، ج3، ص149.
5 المرتضى، علي بن الحسين، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص278.
6 اليزدي، محمد تقي مصباح، تعليقة على نهاية الحكمة، ج2، ص59.
7 الزغول، عماد عبد الرحيم، مقدمة في علم النفس التربوي، ص42.
8 الشيباني، عمر محمد التومي، تطور النظريات والأفكار التربوية، ص 282.
9 العجمي، محمد حسنين، الإدارة والتخطيط التربوي النظرية والتطبيق، ص368.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

33

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 وإذا رصدنا تقسيمات الهدف في العلوم التربوية المعاصرة، نُلاحظ وجود نوعين من التقسيم، التقسيم الشكليّ للأهداف، والتقسيم المضمونيّ.

 
التقسيم الشكليّ للأهداف
يُلاحظ أنّ مفردة الهدف تُستعمل في العلوم التربوية المعاصرة بعدّة معانٍ، على الشكل التّالي1:
1- الأغراض التربوية Educational pur poses: وهي تُمثّل النتائج النهائية المرغوب فيها من الناحية التربوية، وتُعتبر من أكثر مفاهيم الأهداف شمولاً، وتحتاج إلى وقت طويل لتحقيقها، مثل: إعداد الإنسان العابد، فهو غرض للتربية أو هدف نهائيّ لها.
 
2- الغايات التربوية Educational Aims: وهي أيضاً تُشابه الأغراض التربوية من حيث كونها أهدافاً بعيدة المدى، لكنّها أقلّ عمومية منها، فهي تقع بعد الأغراض التربوية في التصنيف، مثل: المشاركة الفاعلة للفرد في الحياة الاجتماعية.
 
3- الأهداف العامة التربوية Educational Goals: وهي تقع في منتصف الطريق بين الغايات التربوية والأهداف التربوية الخاصّة المذكورة أدناه، كالأهداف المطروحة لبرنامج تربويّ محدّد، مثل: الاستثمار الأمثل لأوقات الفراغ.
 
4- الأهداف الخاصّة التربوية: وهي عبارة عن الإجراءات التي ينبغي القيام بها وتنفيذها من أجل تحقيق الأهداف العامّة على مستوى التطبيق الفعلي لها في زمان ومكان محدّدين. ويُعبّر عنها بالأهداف السلوكية، أو الأهداف الإجرائية. ويكون هذا النوع من الأهداف قابلاً للقياس والملاحظة2.
 
وبهذا يتبيّن أنّ الجامع المشترك للأهداف بالتقسيمات المختلفة هو: النتيجة المطلوب تحقيقها في المستقبل من خلال القيام بعمل ما أو مجموعة أعمال محدّدة.



1  يراجع: سعادة، جودت أحمد، صياغة الأهداف التربوية والتعليمية في جميع المواد الدراسية، ص29-47.
2 يراجع: مدكور، علي أحمد، نظريات المناهج التربوية، ص229. الدريج، محمد، التدريس الهادف، ص7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

34

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 تقسيم شكليّ آخر للأهداف

وبهذا يتبيّن أنّه يُمكن تقسيم الهدف إلى ثلاثة أقسام:
1- الهدف النهائيّ: وهو ما يكون مطلوباً بذاته حسب قصد الفاعل1. وبهذا يتبيّن أنّه يُرادف الغرض التربويّ (أو الغاية على بعض الآراء)2.
 
2- هدف وسيط: وهو ما يكون مطلوباً لأجل التوصّل به إلى هدف آخر أعلى منه3. وبهذا يتبيّن أنّه يُرادف الغاية التربوية والأهداف العامّة التربوية.
 
3- هدف سلوكيّ: وهو الأداء العمليّ الذي يقوم به المتربّي، وهو هدف جزئيّ يحصل في زمان خاص محدّد4. وبهذا يظهر أنّه يُرادف الهدف الخاصّ التربويّ.
 
وبهذا يتّضح، أنّ تصنيف الأهداف إلى وسيطة ونهائية أمر نسبيّ يختلف بالقصود والوجوه والاعتبارات، فقد يكون الهدف وسيطاً لشخص ونهائياً لآخر. نعم، لا بدّ من وجود هدف تنتهي عنده سلسلة الأهداف، ويُعتبر هو الهدف الذي ليس بعده هدف آخر.
 
ما هو الكمال مفهوماً؟
1- الكمال لغة5 يدلّ على تمام الشيء6. وتتمّة كلّ شيء ما يكون تماماً لغايته7. والكمال الانتهاء إلى غاية ليس وراءها مزيد من كلّ وجه8. فالكمال لغة هو الوصول إلى الغاية المطلوبة والهدف المنشود.



1 اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، ج2، ص60.
2 كما أشار محمد حسنين العجمي، مصدر سابق.
3 المصدر نفسه، ص60.
4 الزغول، مصدر سابق، ص44.
5 يُميّز بعض فقهاء اللغة بين الكمال والتمام، فالتمام مختصّ بالذوات، فيُقال: فلان تام الخِلقة، والكمال مختصّ بالصفات. ويرى بعضهم أنّ: التّمام: الإِتْيانُ بما نَقص من الناقِص. والكَمالُ: الزِّيادةُ على التَّمامِ، فالكَمال تَمامٌ وزِيادَة. ونشير إلى أن بعض الحكماء ميّز بين الكمال والتمام، بأنّ التمام يعني توفّر الشيء على جميع أجزائه، كما في الكتاب التام أو الناقص إذا انتزعت منه بعض أجزائه، أمّا الكمال عبارة عن طيّ الشيء لجميع المراحل التي هيّأتها له الطبيعة. يراجع: مطهري، مرتضى، أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، ج2، ص66-67.
6 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص139. ويراجع: كتاب العين، ج5، ص378. والصحاح، ج5، ص1813.
7 كتاب العين، ج8، ص111.
8 تاج العروس، ج16، ص76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

35

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 قال الراغب الأصفهانيّ: "كمال الشيء حصول ما فيه الغرض منه، فإذا قيل: كَمُلَ، فمعناه حَصَلَ ما هو الغرض منه"1.

 
وقد عرّف الفلاسفة والعرفاء الكمال بهذا المعنى أيضاً2.
 
فالكمال في تربية الطفل معناه وصول الطفل إلى الهدف الذي هو مقتضى طبيعته وفطرته.
 
تحليل المبادئ النفسية للفعل الإنسانيّ
لكي يتجلّى المعنى المراد من الهدف (الغاية والغرض) بشكل واضح سنقوم بتحليل مبادئ الفعل الاختياريّ الإنسانيّ من وجهة نظر علم النفس الفلسفيّ. وقد لخّص المطلب نصير الدين الطوسيّ بقوله: "والفاعل منّا يفتقر إلى تصوّر جزئيّ ليتخصّص الفعل، ثم شوق، ثم إرادة، ثم حركة من العضلات، ليقع منّا الفعل"3.
 
بيان ذلك: أنّ الفعل الإنسانيّ ينطلق من مجموعة مبادئ نفسية، مرتّبة هندسياً على الشكل التالي4:
أولاً: (المعرفة) أن يتصوّر الإنسان ما في الفعل من كمال ومصلحة أو مفسدة، كأن يتصوّر أنّ في العفو عن الطفل فلان عند الإساءة مصلحة له وللطفل.



1 مفردات ألفاظ القرآن، ص441.
2 الشيرازي، محمد المعروف بصدر المتألهين-، المبدأ والمعاد، ص338. والإشارات والتنبيهات، ج3، ص340. وابن الفناري، محمد بن حمزة، مصباح الأنس بين المعقول والمشهود، ص225. ويراجع: عجمي، سامر توفيق، الإنسان الكامل في الرؤية العرفانية الإسلامية، مجلة الحياة الطيبة، تصدر عن جامعة المصطفى العالمية- فرع لبنان، السنة التاسعة عشرة، العدد الثاني والثلاثون، خريف 2015م-1436هـ.
3 الطوسي، نصير الدين، والحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، الفصل الثالث، المسألة التاسعة، ص123.
4 يراجع حول هذا الموضوع: الطباطبائي، محمد حسين، رسالة الاعتباريات، المقالة الثانية، الفصل الثالث. والطباطبائي ومطهري، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، المقالة الثامنة، ج2، ص198. والطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة8، الفصل7، والفصل 12. ص123. واللاهيجي، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام، ص 242. وابن سينا، الشفاء إلهيات الشفاء-، المقالة السادسة، الفصل الخامس، ص284. وصدر المتألهين، شرح وتعليقة الشفاء، ج2، ص1119. والحكمة المتعالية، ج2، ص251. والسبزواري، هادي، شرح المنظومة، المقصد الأول، الفريدة السابعة، غرر في دفع شكوك عن الغاية، ج2، ص422.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

36

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 ثانياً: (الاعتقاد) أن يُصدّق ويعتقد الإنسان بجلب الفعل الكذائيّ - كالعفو - الكمال والمصلحة له (وللطفل المتربّي) أو المفسدة، وكذا في جانب الترك، فإذا اعتقد بذلك تتشكّل عنده قضية عملية مفادها: فعل العفو واجب.

 
ثالثاً: (الحبّ والشوق) بعد المعرفة والاعتقاد تتولّد في القلب حالة من الميل والحبّ فالشوق والرغبة بالفعل (بسبب القوّة الشهوية)، أو حالة من الكراهة والنفور (بسبب القوّة الغضبية)1.
 
رابعاً: (الإرادة) والعزم والتصميم نحو الفعل أو الترك.
 
خامساً: إصدار الأمر بالفعل أو الترك من قِبَل القوّة العاملة للبدن للقيام بالعمل، أي بعث أو زجر النفس والقوّة العاملة للعضلات والأعضاء والجوارح نحو العمل.
 
النتيجة: حصول الفعل في الخارج، فتتحقّق المصلحة، أو عدم حصوله (إذا كان المطلوب ترك الفعل كضرب الطفل مثلاً) فتندفع المفسدة.
 
بعد هذه المقدّمات، يتّضح أنّ تصوّر المصلحة في الفعل الذي هو عبارة عن الهدف المراد الوصول إليه من قِبَل المربّي، له دور أساس في تحريك المربّي نحو القيام بعملية التربية بأسلوب العفو مثلاً، ولذا يُطلق على هذه المرحلة من تصوّر الهدف اسم العلّة الغائية، فتصوّر الهدف هو الذي يُحرّك المربّي نحو التربية، وبعد صدور الفعل التربوي تتحقّق الغاية أي الهدف العمليّ2.
 
ما هو وجه الحاجة لمعرفة الهدف التربويّ؟
انطلاقاً ممّا تقدّم يتّضح أنّ المربّي والمتربّي كليهما يحتاجان إلى معرفة الهدف الحقيقيّ والواقعيّ للعمليات التربوية، فإنّ معرفة الهدف تُساعد المربّي على إيصال المتربّي إليه، كما تُعينه على تحديد ما هي الطرائق والأساليب والوسائل التي يستطيع من خلالها إيصال المتربّي إلى هدفه، وتُساعده أيضاً على تحديد وتقويم مدى فعالية العمليات التربوية



1 يراجع: الخميني، روح الله، جنود العقل والجهل، ص133-231-277. والنراقي، محمد مهدي بن أبي ذكر، جامع السعادات، ص46.
2 يراجع: نهاية الحكمة، ص232.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

37

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 التي يعتمدها في تحقيق الهدف.

 
كما تُساهم أيضاً في جعل المربّي قادراً على المقارنة والمقايسة بين الهدف النظريّ من جهة والهدف العمليّ من جهة ثانية، بمعنى هل ما تمَّ رسمه على المستوى النظريّ من أهداف من أجل تحقيقه بواسطة العمليات التربوية هو عينه ما تحقّق في الواقع فعلاً بعد التربية أم لا.
 
كما أنّ معرفة الهدف تُساعد المتربّي على معرفة المطلوب منه وتُثير فيه الدافعية نحو التربّي1.
 
ما هو الكمال مصداقاً؟
تقدّم البحث عن الكمال مفهوماً، وقد حان الوقت لبيان المصداق الحقيقيّ للكمال، فما هو المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكمال ذاتاً؟
 
تقوم فلسفة التربية الإسلامية على الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو الكمال الذاتيّ وما عداه لا ينال الكمال إلا ببركة فيضه تعالى2. نعم، قد يُخطئ الإنسان في تشخيص المصداق الواقعيّ، فيحسب ما ليس بكمال كمالاً له. وبما أنّ الكمال والغاية متّحدان مصداقاً، فإنّ الغاية الحقيقية هي الله تعالى، وهو (تعالى) غاية كلّ ذي غاية3.
 
الغاية الحقيقية للتربية الإسلامية
وبهذا يتّضح أنّ الغاية النهائية للتربية الإسلامية هي مساعدة الطفل على الوصول إلى الكمال المطلوب له، أي القرب من الله تعالى، وبعبارة أخرى: الهدف الميتا -استراتيجيّ لتربية الطفل وصوله إلى مقام العبودية والقرب من الله تعالى. قال عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾4.



1 نشواتي، عبد المجيد، علم النفس التربوي، ص106-195-196.
2 يراجع: كشف المراد، ص415.
3 نهاية الحكمة، ص236-237.
4 سورة الذاريات، الآية 56.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

38

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 إشكالية هدفيّة القرب من الله تعالى لعملية تربية الطفل

انطلاقاً من تحليل معنى الهدف والكمال من جهة، وربطهما بالقرب من الله تعالى من جهة ثانية، والأخذ بعين الاعتبار أنّ الطفل غير مكلّف من جهة ثالثة، وأنّ قيامه بالأعمال العبادية ما قبل سنّ التمييز ليس عبادياً أي لا يقع قُربيّاً بالاتّفاق، وبعد سنّ التمييز موضع خلاف بين المشروعية والتمرينية، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يُمكن جعل هدف تربية الطفل إيصاله إلى القرب من الله تعالى؟
 
ويقع الجواب عن هذا السؤال في عدّة نقاط:
أوّلاً: ذكرنا أنّ الهدف ينقسم إلى نهائيّ، ووسيط، وسلوكيّ، والأهداف السلوكية والوسيطة تقع على صراط الوصول إلى الهدف النهائيّ، والوصول إلى الهدف النهائيّ لا يشترط فيه عقلاً وعقلائياً وشرعاً فترة زمنية محدّدة، ولذا نرى أنّ التخطيط الاستراتيجيّ في وقتنا الحاضر كثيراً ما يستعمل كلمات مثل: "خطّة عشرية" و"خطّة عشرينية"، أي أنّه يُراد حصد ثمار الخطّة بعد عشر أو عشرين سنة، وكلّ السياسات والتدابير والإجراءات التي تمتدّ من 0 سنة وحتّى 20 سنة مثلاً، هي في الحقيقة عنصر مساهم في التقدّم خطوة خطوة وشيئاً فشيئاً نحو تحقيق الهدف النهائيّ، ومقياس النجاح أو الفشل بالنسبة للهدف النهائيّ إنّما يحصل بعد انتهاء السقف الزمنيّ المنوطة به الخطّة الاستراتيجية، وليكن أمر التربية كذلك بالنسبة للطفل، فإنّ التربية هي عبارة عن عملية تدريجية مستدامة طويلة الأمد، تزوّد الطفل بالخصائص والفعليات والقابليات والاستعدادات التي تجعله عند بلوغ سنّ التكليف إنساناً ربّانياً متقرّباً من الله تعالى. وقد اتّضحت هذه النقطة ممّا ذكرناه سابقاً من أنّ الهدف الميتا -استراتيجيّ هو النتيجة المطلوب وصول المتربّي إليها في المستقبل البعيد.
 
ثانياً: ينقسم الكمال إلى نوعين: حقيقيّ- دينيّ1، وطبيعيّ - إضافيّ.
 
ونقصد بالكمال الحقيقيّ: الوصول إلى منزلة القرب من الله تعالى بمفهومها التشكيكيّ الواسع2.



1 تُحدّده المصادر الدينية التي ترسم الهدف من وجود الإنسان.
2 القرب من الله تعالى مقولة مشكّكة تختلف مراتبها باختلاف علاقة كل فرد بالله تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

39

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 أمّا الكمال الإضافيّ: فهو تحقّق ما فيه الكمال للشيء بحسب طبيعته المقتضية له، حتّى لو لم يكن فاعلاً مختاراً أصلاً، فوصول النبات أو النحل أو الطير...إلخ بفعل الرعاية والاهتمام من قِبَل المزارع أو غيره إلى إنتاج ما هو متوقّع منها يُعتبر تربية حقيقة، رغم كون العملية التربوية في هذا المجال غير متعلّقة بالتقرّب من الله تعالى. وهكذا الأمر في الطفل، فإنّ وصول الطفل إلى حياة صحّية بدنياً خالية من الأمراض من خلال اعتماد نظام غذائيّ معيّن، أو تعويد الطفل على القيام بالآداب العامة مع والديه كالطاعة والاحترام وتقبيل اليد، أو زرع الإحساس بجمال الطبيعة في نفس الطفل، أو تعليمه الأحرف والكلمات والحساب ورفع أميّته، أو تعليمه مهارات التفكير، أو مهارات سلوكية رياضية...، هي كمالات إضافية للطفل بحسب ما تقتضيه طبيعته وفطرته.


فكلّ عملية تُعطي الطفل المعلومات الصحيحة، وتُكوّن لديه العادات الحسنة، وتُشكّل لديه المهارات العقلية والحركية المفيدة، وتُكسبه الاتّجاهات والمشاعر العاطفية والوجدانية الجميلة، وتمنحه حياة صحّية ونمواً سليماً، وتجعله يُقدِم على الأعمال والسلوكات الخيّرة، هي تربية حقيقية لأنّها إيصال للطفل إلى كمالاته الإضافية، وكمال كلّ شيء بحسبه، ولم يشترط في تعريف التربية إيصال المتربّي إلى كماله الحقيقيّ فقط، بل إيصال المتربّي إلى كمالاته الإضافية هو تربية حقيقة - كما تبنّيناه وذكره السيد البروجردي في تعريفه للتربية -.

ومن الأفضل أن ينطلق المربّي في كلّ الإجراءات والأعمال والأنشطة التي يقوم بها للصناعة الإيجابية لشخصية الطفل من خلفية جعلها واقعة على صراط استعداد وتهيّؤ الطفل ليكون متربّياً بالكمال الحقيقيّ في مرحلة عمرية محدّدة، وعليه لأجل ذلك الأخذ بعين الاعتبار أنّ العمليات التربوية للطفل بهذا المعنى مأخوذة بالنظر الآليّ في مدى تأثير ما يقوم به قولاً وعملاً على تهيئة نفس الطفل لتقبّل الربّانية، لا أن تكون تلك العمليات مأخوذة بالنظر الاستقلاليّ بما هي في حدّ نفسها، وفي هذا السياق كلّما نوى المربّي بالعمليات التربوية نية القربة من الله تعالى، كلّما كانت تربيته للطفل فعلاً عبادياً له ثماره الطيّبة عليه وعلى الطفل نفسه.

ونُشير بهذه المناسبة، إلى أنّ بذل الجهد من أجل إيصال الطفل إلى الكمالات المطلوبة مع عدم تحقّق الهدف واقعاً وتخلّف غاية الفعل عنه بسبب عوامل خارجية أو عناصر متعلّقة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

40

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 بالمتربّي نفسه، لا ينزع صفة التربية عن مجموع الأعمال التي قام بها المربّي خلال سنوات عديدة، فإنّ من اهتمّ بالبذرة وزرعها في الأرض وسقاها وأنبتت فسيلة ثمّ صارت شجرة وقام بتطعيمها...، وبسبب مرض معيّن أُصيبت به الشجرة فلم تحمل ثمراً، لا يُلغي وصف من قام بسلسلة تلك التدابير بأنّه مربٍّ.

 
ما هو هدف تربية الطفل؟
بناءً على جميع ما تقدّم، يتّضح أنّ هدف تربية الطفل هو: إيصاله إلى الكمال الذي تقتضيه فطرته وطبيعته، وتنمية استعدادات وقابليات خاصة عند الطفل، تُساعده على أن يكون إنساناً عابداً في المستقبل مع دخوله سنّ التكليف.
 
التقسيم المضمونيّ للأهداف التربوية
كُنّا قد ذكرنا التقسيم الشكليّ للأهداف التربوية، ونختم الدرس بذكر التقسيم المضمونيّ لأهداف تربية الطفل بشكل مختصر.
 
هذا التقسيم المضمونيّ للأهداف هو بنحو يتلاءم مع نظرة فلسفة التربية الإسلامية إلى طبيعة الطفل - والذي سنُعالجه في الدرس السادس -، حيث إنّ موضوع التربية هو الطفل والإنسان، ولا بدّ من أن تُقسّم الأهداف بنحو يتناسب مع المكوّنات الذاتية للشخصية الإنسانية.
 
1- الأهداف العقلية - الفكرية - المعرفية - الاعتقادية (بالمعنى الأعم)1: وتتعلّق بالجانب العقليّ والنشاط الذهنيّ والفكريّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى تعليم الطفل وإكسابه المعلومات والمعارف والعقائد الضرورية وكيفية التفكير حول الأشياء.
 
2- الأهداف القلبية - النفسية - الوجدانية: وتتعلّق بالجانب القلبيّ والنفسيّ الداخليّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى جعل الطفل يعيش الملكات الفاضلة والمشاعر والانفعالات والاتّجاهات النفسية الإيجابية تجاه الأمور المرغوب فيها، ويعيش الميول السلبية تجاه الأمور غير المرغوبة.



1 لا نقصد بالاعتقادية المعنى الأخص، أي القضايا التي يبحث عنها في علم الكلام والعقيدة، بل نعني بالعقائد كل ما يعتقد به الطفل في الحياة حول أي موضوع من الموضوعات، وباختصار المقصود بالعقائد هنا هو كيفية نظرة الطفل إلى الأشياء المحيطة به.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

41

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 3- الأهداف البدنية - السلوكية - المهاراتية: وتتعلّق بالجانب البدنيّ والجوارحيّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى تلبية الاحتياجات البدنية للطفل، وتنمية الجانب الجسميّ له، وإكساب العادات والسلوكات الحسنة، وتدريبه وتأهيله على القيام بالنشاطات البدنية والمهارات الحركية اللازمة من أجل تحقيق الأهداف المطلوبة في الساحات المختلفة.

 
الساحات التربوية للأهداف المضمونية المختلفة
لكلّ بُعدٍ من تلك الأبعاد الثلاثة المذكورة ساحات معيّنة، هي المجال الحيويّ الذي يتحرّك فيه الطفل من خلال هذه الأبعاد، وتعود إليها ولا تخرج عنها، فالأخلاق والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإعلام والجمال والفن والرياضة و... هي ساحات وشؤون تلك الأبعاد الثلاثة، فالتربية الاقتصادية للطفل ليست شيئاً وراء إعطاء المعرفة أو كيفية النظر إلى الأشياء والتفكير فيها (البعد الذهنيّ)، أو تكوين القيم والميول والاتّجاهات، والشوق والتوجه العاطفيّ نحو الشيء... (البعد القلبيّ)، أو إيجاد الفعل والعمل والسلوك أو تعديله وتغييره (البعد البدنيّ)، وهكذا في الساحات الأخرى. وهذه الساحات متطوّرة، بمعنى أنّها تتوسّع دائرتها بنحو لا يُمكن مقارنته مع ما كان سابقاً، كالتربية الجهادية والتربية المهنية والتربية الاقتصادية...، ويُمكن أن تنشأ في كلّ زمان ساحات جديدة، فمثلاً لم يكن في السابق ما يُعرف اليوم بالتربية الإعلامية...إلخ، وعليه، لا بدّ من التمييز بين أهداف التربية بلحاظ الطبيعة الإنسانية الثلاثية الأبعاد للطفل، فهي ثابتة، وبين أهداف التربية بلحاظ شؤون حياة الطفل ومجالات ممارسة نشاطاته العقلية والقلبية والجسدية، فهي عديدة متنوّعة، تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن طفل إلى آخر، ومن مرحلة عمرية إلى أخرى.
 
ومن ساحات التربية بهذا المعنى: التربية الصحّية، التربية البيئية، التربية الإعلامية، التربية الاجتماعية، التربية الجمالية، التربية الفنّية، التربية الرياضية، التربية العبادية، التربية الاقتصادية، التربية الفكرية، التربية الأخلاقية، التربية السياسية1... إلخ.



1 وهذه الساحات التربوية هي ما سيتم تسليط الضوء عليه ومعالجته في مباحث هذا الكتاب بجزأيه الأول والثاني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

42

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 المفاهيم الرئيسة

- يُستعمل الهدف والغرض والغاية في اللغة العربية بمعنى واحد.

- الهدف في الاصطلاح الفلسفيّ عبارة عن الفائدة التي يُريد الفاعل تحقيقها من خلال قيامه بالفعل.

- الهدف بالمعنى التربويّ عبارة عن النتيجة المطلوب تحقيقها في المستقبل من القيام بالعملية التربوية.

- هناك ارتباط خاص بين الهدف والكمال، لأنّ الكمال عبارة عن تحقيق الهدف من وجود الشيء، فالكمال والهدف متّحدان مصداقاً.

- تنقسم الأهداف إلى أهداف شكلية وأهداف مضمونية، وتنقسم الأهداف الشكلية إلى: أهداف عليا نهائية (الأغراض التربوية)، وأهداف متوسّطة (الغايات والأهداف العامة التربوية)، وأهداف خاصة سلوكية.

- تهدف تربية الطفل في الرؤية الإسلامية إلى إيصاله للكمال الذي تقتضيه فطرته وطبيعته، وتنمية استعدادات وقابليات خاصة عنده، تُساعده لكي يكون إنساناً عابداً في المستقبل مع دخوله سنّ التكليف.

- ينقسم الكمال إلى حقيقيّ واقعيّ، ووهميّ خياليّ، والكمال المطلوب إيصال الطفل إليه هو الكمال الحقيقيّ لا الموهوم.

- تنقسم الأهداف مضمونياً في الرؤية التربوية الإٍسلامية بنحو يتلاءم مع النظرة الفلسفية الإسلامية إلى طبيعة الطفل، وهي على ثلاثة أقسام: الأهداف المعرفية -الاعتقادية: وتهدف إلى تعليم الطفل التفكير، وإكسابه المعلومات والمعارف والعقائد الضرورية حول الأشياء. والأهداف القلبية -الوجدانية: وتهدف إلى جعل الطفل يعيش المشاعر والميول الانفعالية والاتّجاهات النفسية الإيجابية تجاه الأمور المرغوب فيها. والأهداف البدنية -المهاراتية: وتهدف إلى إكساب الطفل النشاطات البدنية والمهارات الحركية اللازمة في الحياة، وتأمين احتياجاته البدنية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

43

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 أسئلة الدرس

1- عرِّف الهدف التربويّ بأسلوبك الخاصّ.

2- بيّن طبيعة العلاقة بين الهدف التربويّ وبين تحقيق الكمال المطلوب للطفل.

3- اضرب أمثلة على الأهداف التربوية حسب تقسيمها الشكليّ: نهائيّ، وسيط، خاصّ.

4- عالج إشكالية كيف يُمكن أن يكون هدف التربية الإسلامية إيصال الطفل المتربّي إلى الكمال الحقيقيّ الذي هو الله تعالى، في حين أنّ الطفل لا يعرف معنى القرب من الله ولا يُمارسه في حياته.

5- لماذا يحتاج المربّي والمتربّي إلى معرفة وتحديد الأهداف للعمليات التربوية التي يقوم بها؟ اضرب أمثلة على ذلك.

6- اذكر ثلاثة أمثلة على كلّ قسم من أقسام الأهداف المضمونية: ثلاثة أهداف معرفية - عقائدية، ثلاثة أهداف وجدانية - قلبية، ثلاثة أهداف بدنية - سلوكية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

44

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف بداية مرحلة الطفولة لغةً واصطلاحاً.
2- يُحدِّد ما هي علامات خروج الأنثى والصبيّ عن مرحلة الطفولة.
3- يُميّز بين الطفولة بالاصطلاح الشرعيّ والطفولة الوضعية.
4- يعرف آراء المدارس الفقهية الإسلامية المختلفة في تحديد مرحلة الطفولة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

45

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 تمهيد

ذكرنا في الدرس الأوّل أنّ عنوان تربية الطفل يتركَّب من مفردتين: "تربية" و"الطفل"، وقُلنا إنّ من المقدّمات المنهجية لأيّ بحث هو تعريف الكلمات المفتاحية الواردة فيه، وقد حلّلنا سابقاً مفهوم التربية، وفي هذا الدرس سنُحلّل مفهوم الطفل1.
 
الطِّفل في اللغة
- قال الفراهيدي (100-175هـ): "الطِّفل: الصغير من الأولاد للناس..."2.
 
- وقال ابن فارس (ت 395هـ): "(طفل) الطاء والفاء واللام أصل صحيح مطّرد ثم يُقاس عليه، والأصل المولود الصغير، يُقال هو طفل، والأنثى طفلة"3.
 
- وقال ابن منظور (ت711هـ): "الطِّفْل والطِّفْلة: الصغيران. والطفل: الصغير من كلّ شيء بيِّن..."4.
 
- وقال الفيروزآبادي (ت817هـ): "الطفل بالكسر: الصغير من كلّ شيء أو المولود"5.



1 يراجع حول هذا الدرس: عجمي، سامر توفيق، عقوبة الطفل في التربية الإٍسلامية، الفصل الثالث، ص59 وما بعد.
2 الفراهيدي، كتاب العين، ج7، ص428.
3 معجم مقاييس اللغة، ج3، ص413.
4 لسان العرب، ج8، ص174.
5 القاموس المحيط، ج4، ص7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

46

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 مفردة الطفل في القرآن الكريم

وردت مفردة الطفل 4 مرات في 4 آيات من القرآن الكريم، وهي:
- قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا...﴾1.
 
- ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا...﴾2.
 
- ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء﴾3.
 
- ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾4.
 
وقد استعملت بعض المفردات الأخرى في القرآن الكريم للدلالة على الولد الصغير، وهي: الوليد، الصبيّ، الصغير، الغلام.
 
- قال الله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾5.
 
- ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾6.
 
- ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾7.
 
- ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾8.



1 سورة الحج، الآية 5.
2 سورة غافر، الآية 67.
3 سورة النور، الآية 31.
4 سورة النور، الآية 59.
5 سورة الشعراء، الآية 18.
6 سورة مريم، الآية 12.
7 سورة مريم، الآية 29.
8 سورة الإسراء، الآيتان 23 -24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

47

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 - ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾1.

 
- ﴿وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ﴾2.
 
تحديد مبتدأ الطفولة
قال فخر الدين الطريحي (ت 1085هـ): "الطفل واحد الأطفال، وهو ما بين أن يولد إلى أن يحتلم"3.
 
وقال الزبيدي (ت 1205هـ): "الطفل بالكسر: الصغير من كلّ شيء أو المولود... ونقل الأزهري عن أبي الهيثم، قال: الصبيّ يُدعى طفلاً حين يسقط من بطن أمّه إلى أن يحتلم"4.
 
ويُستفاد من هذين النّصين أنّ مبتدأ الطفولة خروج الطفل من بطن أمّه.
 
وقد يعتبر قوله تعالى في الآيتين السابقتين: ﴿نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾5 و ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾6 قرينة تشعر بإفادة هذا المعنى الذي ذكره بعض علماء اللغة من أنّ مبدأ الطفولة يتحقّق من حين خروج الجنين من رحم أمّه إلى نور الحياة.
 
وعند رصد سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، لا نجد في الأخبار أيّ إشارة إلى تحديد نقطة بدء مرحلة الطفولة، ولعلّ ذلك لوضوح معناها في الفهم العرفيّ اللغويّ العام المفيد للظهور.
 
وعلى كلّ حال، إذا لم يتمّ التسليم بدلالة الآيتين السابقتين ظهوراً أو إشعاراً على كون مبدأ الطفولة هو خروج الوليد من بطن أمّه، لا يكون حينها بين أيدينا أيّ نصّ قرآنيّ أو روائيّ يُفيد المطلوب، فيكون المرجع الذي يعتمد عليه في المقام هو الفهم العرفيّ، والظاهر منه أنّه المأخوذ فيه المولودية، لذا عبّروا بقولهم: "المولود الصغير"، "أن يولد"، "الصغير من الأولاد"... 
 
إلخ من التعبيرات.



1 سورة آل عمران، الآية 40.
2 سورة يوسف، الآية 19.
3 مجمع البحرين، ج5، ص411.
4 تاج العروس، ج15، ص434.
5 سورة الحج، الآية 5.
6 سورة غافر، الآية 67.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

 


48

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 معانٍ أخرى مستفادة من أقوال علماء اللغة

يظهر من خلال أقوال علماء اللغة بالإضافة إلى ما تقدّم أمران آخران:
الأوّل: أنّ الجنين في بطن أمّه لا يُطلق عليه اسم "الطفل". ويُقال للجنين الذي يسقط من بطن أمّه قبل تمامه: "السقط". قال ابن سيده (ت 458هـ): "ما دام الولد في بطن أمّه فهو جنين... وإنّما سُمّي جنيناً لأنّه اجتنّ أي اكتنّ في بطن أمّه... فإذا ولدته فهو وليد ساعة تلده والأنثى وليدة"1.
 
والثاني: أنّ منتهى الطفولة هو الاحتلام كما صرّح بذلك أبو الهيثم والطريحي. وقد لا يكون هذا المعنى مفاد الدلالة اللغوية الوضعية، بل حاصل الفهم الشرعيّ لمعنى الطفولة.
 
والخلاصة: إنّ بداية مرحلة الطفولة هي خروج الوليد من بطن أمّه، فلا تُطلق على الجنين مفردة الطفل إلا تجوّزاً، كما لا تُسمّى النطفة أو البويضة طفلاً.
 
آراء الحقوقيّين حول بداية الطفولة
وقع الاختلاف بين الحقوقيّين في تحديد بداية الطفولة، ويُمكن حصرها في ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يتوافق مع ما ذكره علماء اللغة، يقول ابن عابدين (ت1252هـ): "... (وطفله) احترز به عن الجنين، فإنّه لا يُسمّى طفلاً...، إذ الطفل هو الصبيّ حين يسقط من بطن أمّه إلى أن يحتلم"2.
 
وكذلك عرّف محمد نور سويد الطفولة بقوله: "المرحلة من الولادة إلى البلوغ..."3.
 
الرأي الثاني: لم يُحدّد بداية الطفولة بشكل صريح وواضح، كما في الإعلان العالميّ لحقوق الطفل4، وكذلك اتّفاقية الطفل5، إذ لم يُحدّدا بداية مرحلة الطفولة بنحو واضح لا التباس فيه، حيث يوجد في ديباجة كلّ منهما العبارة التالية: "إنّ الطفل بسبب عدم نضجه 



1 المخصص، ج1، ص30.
2 ابن عابدين، محمد أمين، حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه الإمام أبي حنيفة النعمان، ج2، ص396. وج3، ص672.
3 سويد، محمد نور بن عبد الحفيظ، منهج التربية النبوية للطفل، ص28.
4 المنشور بموجب قرار الجمعية العامة 1386 د-14- المؤرخ في 20 تشرين الثاني 1959.
5 المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 25/44 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/1989. منشورة ضمن كتاب: مناع، هيثم، حقوق الطفل الوثائق الإقليمية والدولية الأساسية، ص25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

49

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 البدنيّ والعقليّ، يحتاج إلى إجراءات وقاية ورعاية خاصّة، بما في ذلك حماية قانونية مناسبة قبل الولادة وبعدها"1، اعتبرها البعض إشارة إلى أنّ مرحلة الطفولة تمتدّ إلى ما قبل الولادة.

 
وقيل: إنّ هذا السكوت أو عدم الوضوح أمر مقصود، من أجل أن تتجنّب الدول الأعضاء في الإعلان والاتفاقية نقطة خلافية بينهم، وهي مسألة الإجهاض، فمع الأخذ بعين الاعتبار كون المرحلة الجنينية وفترة الحمل ممّا يصدق عليها عنوان الطفولة فهذا سيؤدّي بشكل تلقائيّ إلى رفض مبدأ الإجهاض لأنّه اعتداء على حقّ الطفل في الحياة الذي كفلته الشرائع الوضعية، في حين أنّ اعتبار مرحلة الطفولة لا تشمل فترة الحمل سيفتح المجال أمام المجوّزين للإجهاض لاعتباره أمراً لا يُعارض مبدأ حقّ الطفل بالحياة، لأنّ الجنين ليس طفلاً2.
 
لكن في الحقيقة، إنّ هذا التعمّد في عدم الوضوح بتحديد بداية مرحلة الطفولة لا يؤثّر على حرمة الإجهاض وعدم شرعيّته، وذلك لأنّ عدم شمول مرحلة الطفولة للمرحلة الجنينية لا يُلازمه عقلاً ولا عرفاً ولا شرعاً نفي الأحكام الخاصّة عن المرحلة الجنينية، فإنّ المرحلة الجنينية في النظرة الإسلامية - على تقدير عدم اشتمال مرحلة الطفولة عليها - لها عنوان مستقلّ يترتّب عليه العديد من التشريعات الفقهية والتربوية، كما سيأتي التعرّض لها في بابها. فلا ربط بين تصنيف المرحلة الجنينية كعنوان مستقلّ عن مرحلة الطفولة، وبين عدم تشريع الإجهاض مثلاً، كما أنّه لا ربط بين عدم إطلاق اسم الطفل على السقط الذي يخرج من بطن أمّه قبل تمامه - اضطراراً أو اختياراً - وبين عدم وجوب تغسيله مثلاً، فالسقط حتّى لو لم يُطلق عليه اسم الطفل يجب تغسيله، فالمرحلة الجنينية لها أحكامها الخاصّة بها، من ضمنها حرمة الإجهاض والإسقاط للجنين، لأنّ الحقّ في الحياة غير منحصر بالمولود من بطن أمّه حيّاً بل يشمل الجنين الحيّ في رحم أمّه.



1 المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 25/44 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/1989. منشورة ضمن كتاب: مناع، هيثم، حقوق الطفل الوثائق الإقليمية والدولية الأساسية، ص25.
2 يراجع: الخشن، حسين، حقوق الطفل في الإسلام، ص12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

50

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 الرأي الثالث: يُصرّح أصحابه بأنّ "مرحلة الطفولة تشمل مرحلة ما قبل الولادة"1. ففترة الحمل والمرحلة الجنينية بناءً على هذا الرأي الثالث هي جزء من مرحلة الطفولة. وفي بحث تحت عنوان: "احتياجات الطفولة في جمهورية مصر العربية" ورد أنّ الطفولة "معنى جامع تضمّ جميع الأعمار ما بين المرحلة الجنينية - مرحلة ما قبل الولادة- ومرحلة الاعتماد على النفس"2.

 
وترى سمر عبد الله أنّ "هذا التحديد لبداية مرحلة الطفولة يتناسب مع اهتمام الإسلام وحثّه على العناية بالطفل قبل أن يولد"3.
 
وقد تبيّن ممّا سبق، أنّه لا علاقة تلازمية بين اهتمام الإسلام بمرحلة ما قبل الولادة وبين كونها جزءاً من خصوصية مرحلة الطفولة، إذ لو اعتبرنا المرحلة الجنينية دائرة مستقلّة عن الطفولة فلا مشكلة في أن يولي المشرّع الإسلاميّ عناية خاصّة بها بذاتها بغضّ النظر عن اندراجها تحت عنوان آخر أي الطفولة.
 
منتهى الطفولة في الاصطلاح الشرعيّ
إنّ منتهى الطفولة في الاصطلاح الشرعيّ يعرف من خلال المعنى المقابل له، أي البلوغ، فبالبلوغ يخرج الطفل عن حدّ الطفولة ويدخله مرحلة جديدة بكلّ ما للكلمة من معنى، مرحلة يُصبح فيها مكلَّفاً بالأوامر والنواهي الإلهية على نحو لو لم يمتثلها يستحقّ العقاب الأخروي4، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾5، حيث استفاد الفقهاء والمفسِّرون من هذه الآية أنّ البلوغ هو منتهى الطفولة بقرينة المقابلة بين الطفولة وبلوغ الحلم. فما هو البلوغ؟ وما هي علاماته التي يعرف بها؟



1 عبد الله، سمر خليل محمود، حقوق الطفل في الإسلام والاتفاقيات الدولية دراسة مقارنة، ص30.
2 البحث من إعداد المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، ومنظمة الأمم المتحدة للأطفال "اليونيسف". يراجع: طعيمات، هاني سليمان، حقوق فئات ذات أوضاع 
خاصة، ص10.
3 عبد الله، سمر، حقوق الطفل، ص30.
4 عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع مشفع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كتبت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات". 
الكافي، ج6، ص3.
5 سورة النور، الآية 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

 


51

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 وضع المشرّع الإسلاميّ عدّة معايير لتحديد مرحلة البلوغ1، هي:

العلامة الأولى: الإنبات، وهو علامة مشتركة بين الأنثى والذكر، والمقصود بها: نبات الشعر الخشن على العانة، ولذلك اعتبر الفقهاء أنّه لو اشتبه الطفل بالبالغ ولم يتمّ التمييز بأنّ فلاناً هل ما زال طفلاً أم تجاوز مرحلة الطفولة ودخل مرحلة البلوغ، ولم يكن هناك من علامات البلوغ غير الإنبات، أخذ بهذه العلامة كمؤشّر على البلوغ الشرعيّ. وقد قيّد الفقهاء الشعر بالخشن تحرّزاً عن الشعر الضعيف الذي قد يوجد في الطفل ويُعبّر عنه بالزغب2. وهو رأي الإمامية، والمالكية في المشهور، والشافعية في قول، والمشهور عند الحنابلة. في حين أنّ الحنفية والحنابلة على رواية، لا يعتبرون الإنبات علامة مستقلّة على حصول البلوغ.
 
العلامة الثانية: خروج السائل المنويّ، في النوم (الاحتلام) أم في اليقظة (الإنزال)، وهو علامة مشتركة بين الذكر والأنثى أيضاً. وقد حمل بعض الفقهاء والمفسِّرين معنى "الحلم" في الآية السابقة على هذه العلامة، يقول العلّامة الحلّي: "الحُلُم هو خروج المنيّ من الذكر أو قُبُل المرأة مطلقاً، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وسواء كان بجماع أو غير جماع، وسواء كان في نوم أو يقظة"3.
 
وهذه العلامة متسالم عليها بين الفقهاء، استناداً إلى بعض الآيات والعديد من الأخبار، قال تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾4. حيث حملوا المعنى المراد ببلوغ النكاح على شهوة النكاح والقدرة على الإنزال5.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبيّ حتّى يحتلم..."6.
 
العلامة الثالثة: مختصّة بالأنثى، وهي إتمامها 9 سنوات هـ.ق، أي ما يقارب الـ 8،8 سنوات ميلادية و٢٤ يوماً. وهو رأي مشهور فقهاء الإمامية.



1 يراجع: من كتب فقهاء الإمامية: العاملي، زين الدين بن علي، المعروف بالشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، ج4، ص141. ويراجع من كتب أهل السنة: 
الشوكاني، محمد بن علي، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخبار، ج5، ص370 وما بعد. والجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة، ج2، ص411 ومابعد.
2 الزغب: صغار الشعر، وأول ما يبدو من شعر الطفل.
3 الحلي، الحسن بن يوسف، تذكرة الفقهاء، ج14، ص191. ويراجع: مسالك الأفهام، ج4، ص143.
4 سورة النساء، الآية 6.
5 الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق، ج20، ص103.
6 الطوسي، محمد بن الحسن، المبسوط في فقه الإمامية، ج2، ص282.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

52

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

الرأي الفقهيّ الثاني، وهو موضع اتّفاق فقهاء أهل السنة، يُحدّد أول سنّ البلوغ عند الفتاة بـبدء العادة الشهرية، أي المرة الأولى التي ترى فيها الفتاة دم الحيض، وليست له سن محدّدة، بل يختلف باختلاف الفتيات والمجتمعات، فقد يكون في بعض المجتمعات في سن الـ10، وفي أخرى في الـ13، لكن على أن لا يكون دون سن الـ9 وإلا لم يُعتبر حيضاً، وبالتّالي ليس علامة على البلوغ.
 
ومع عدم الحيض، اختلفوا في تحديد سنّ البلوغ عند الفتاة، فأبو حنيفة، والمالكية على رواية اعتبروا أنّ سنّ البلوغ هي بإتمام 17 سنة هـ.ق، أمّا المالكية في المشهور فاعتبروها بإتمام 18 سنة هـ.ق، والحنابلة والشافعية والحنفية -ما عدا القول المنقول عن أبي حنيفة - اعتبروا أنّ سنّ البلوغ في الأنثى هي إتمام 15 سنة هـ.ق1.
 
العلامة الرابعة: مختصّة بالذكر، ففيما لو لم تحصل إحدى العلامات السابقة، يدخل الذكر مرحلة البلوغ بإتمام 15 سنة هـ.ق، أي ما يُقارب الـ 14،7 ميلادية. وهو رأي الإمامية، والمالكية على رواية، والشافعية، والحنابلة. أمّا أبو حنيفة، والمالكية في المشهور ذهبوا إلى أنّ بلوغ الذكر يحصل بإتمامه 18 سنة هـ.ق2.
 
فالحدّ الأقصى لبلوغ الصبي في مشهور النظرة الفقهية هو 14،7 سنة ميلادية، وفي حالات عديدة يبلغ الطفل قبل ذلك بالإنبات والاحتلام، فيكون في ما يقارب من سنّ الـ 13-14.
 
بناءً عليه، فإنّ منتهى مرحلة الطفولة غير محدَّد تحديداً عامّاً مشتركاً بين جميع الأطفال، بل يختلف باختلاف الجنوسة أي بين الذكر والأنثى، كما يختلف باختلاف الأطفال في الذكر، أمّا في الأنثى فلا يختلف من أنثى إلى أخرى فيما لو كان المعيار المعتمد هو بلوغ 9 سنوات.هـ.ق، ويختلف إذا كان المعيار المعتمد هو الحيض.
 
وقد استدلّ فقهاء الإمامية على رأيهم الفقهيّ بعدّة روايات، منها:
- ما رواه حمران، قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام قُلتُ له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة وتُقام عليه ويؤخذ بها؟ فقال عليه السلام: "إذا خرج عنه اليتم وأدرك".
 
قُلتُ: فلذلك حدٌّ يُعرف به؟



1 الجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة، ج2، ص411 ومابعد.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

53

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 فقال عليه السلام: "إذا احتلم، أو بلغ خمس عشرة سنة، أو أشعر أو أنبت قبل ذلك، أُقيمت عليه الحدود التامّة، وأخذ بها، وأخذت له".

 
قُلتُ: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامة وتؤخذ لها ويؤخذ بها؟
 
قال عليه السلام: "إنّ الجارية ليست مثل الغلام إنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأُقيمت عليها الحدود التامّة وأخذ لها بها". قال عليه السلام: "والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك"1.
 
- وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم وزوِّجت وأُقيمت عليها الحدود التامة عليها ولها"2.
 
منتهى الطفولة في الاصطلاح الحقوقيّ العالميّ
جاء في المادة رقم (1) من اتفاقية حقوق الطفل: "... لأغراض هذه الاتفاقية، يعني الطفل كلّ إنسان لم يتجاوز الثامنة عشر..."3.
 
وجاء في أهداف وثيقة الإطار العربيّ لحقوق الطفل4، ما نصّه: "تكريس مفهوم الحقوق للطفل حتّى إتمام سنّ الثامنة عشر..."5.
 
يتبيّن من خلال نصّ هاتين الوثيقتين العالمية والعربية أنّ مرحلة الطفولة في الاصطلاح الحقوقيّ العالمي تنتهي عند إتمام سنّ الـ18 م، أي ما يُقارب الـ18،6 هـ.ق، أي على أبواب إتمام سنّ الـ19 هـ.ق.



1 الكافي، ج7، ص197، باب حد الغلام والجارية،ح1.
2 م.ن، ح2.
3 م.ن.
4 معد من قبل اللجنة الفنية الاستشارية للطفولة العربية في جامعة الدول العربية، كإطار استرشادي للعمل في القضايا المتعلقة بالطفولة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
5 يراجع: مناع، هيثم، حقوق الطفل، ص74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

54

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 بين مفهومي الطفولة الشرعيّ والوضعيّ

اتّضح ممّا سبق، وجود نظرتين مختلفتين عن منتهى الطفولة، أولاً بين الفقهاء المسلمين أنفسهم، وثانياً بين المشرّع الإسلاميّ وبين القوانين الوضعية. وما نقصده من الطفولة في هذا البحث هو المعنى المراد عند مشهور فقهاء الإمامية، وعليه: لا نقصد بالطفولة: المرحلة الممتدّة من صفر سنة حتّى 18 سنة، لكي تشمل "البالغ" حديثاً، فالفتاة ما بين سن الـ 8،8 والـ18 س.م تكون ضمن معايير التصنيف الفقهيّ بالغة، ولكنّها ضمن المعايير الحقوقية في القوانين الوضعية وعند بعض الفقهاء المسلمين طفلة، والفتى ما بين سن الـ12/15 -18 م يكون بالغاً، في حين أنّه في النظرة الثانية يكون طفلاً.

وعلى كلّ حال، هناك مساحة للاشتراك بين البلوغ الشرعيّ وبين الطفولة الحقوقية، حيث تتراوح فترة الاشتراك في الفتاة ما بين الـ 5 إلى 9 سنوات، وذلك لأنّ منتهى الطفولة الحقوقية الوضعية هو نهاية سن الـ18 عاماً، وبدء سنّ البلوغ الشرعيّ عند الفتاة إمّا في سن الـ9 سنوات أو 13 سنة، فتكون الفتاة ما بين البلوغ الشرعيّ أي سن الـ9 أو 13 وما بين سن الـ18 بالغة في النظرة الشرعية وطفلة في النظرة الوضعية. أمّا في الصبيّ فتتراوح ما بين الـ 3 و 5 سنوات.

المقصود بالطفل في البحث
مع أنّ المعنى الاصطلاحيّ للطفولة مقتصر على الطفل بالفعل، من 0 سنة حتى 9 هـ.ق في الأنثى، ومن 0 سنة حتى 13/15 هـ.ق في الذكر، لكن لأنّ العوامل المؤثّرة في تربية الطفل في الرؤية الإسلامية تسبق وجوده الفعليّ، فنتوسّع تجوّزاً في معنى الطفل إلى الطفل المجازيّ بنحو يشمل المرحلة الصلبية والرحمية، أي النظر إلى الطفل باعتبار ما سيكون لا باعتبار ما هو كائن فعلاً.

وتخرج عن البحث مرحلة التمايز بين الطفولة الشرعية والوضعية، بمعنى أنّ الطفلة بعد بلوغ التسع سنوات ليست طفلة باصطلاحنا، وكذلك الفتى بعد دخوله في سنّ البلوغ الشرعيّ حتّى وإن كان لديه من العمر 13 سنة فهو ليس طفلاً. وبناءً عليه، لا يصحّ التعامل معهما من ناحية الفقه التربويّ على أنّهما طفلان، لخروجهما بالبلوغ عن هذا العنوان، فتترتّب على العنوان الجديد "البلوغ"، أحكام أخرى تتناسب مع تلك المرحلة العمرية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

55

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 المفاهيم الرئيسة

- الطفل في اللغة العربية هو المولود الصغير.

- تبدأ مرحلة الطفولة من حين خروج الطفل من بطن أمّه.

- تنتهي مرحلة الطفولة بالاصطلاح الشرعيّ عند دخول الذكر أو الأنثى سنّ البلوغ الشرعيّ.

- يشترك الطفل والطفلة بالخروج عن مرحلة الطفولة بإنبات الشعر الخشن على الأعضاء الجنسية، وبخروج السائل المنويّ منها بالإنزال أو الاحتلام.

- تتميّز الأنثى بأنّها تخرج عن مرحلة الطفولة قبل الطفل الذكر، وذلك بإتمامها تسع سنوات هجرية قمرية.

- يخرج الذكر عن مرحلة الطفولة ببلوغه 15 سنة هـ.ق.

- تمتدّ الطفولة من وجهة نظر القوانين الوضعية حتّى إتمام الطفل أو الطفلة 18 سنة ميلادية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

56

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 أسئلة الدرس

1- هل تشمل الطفولة مرحلة ما قبل الولادة؟ ولماذا؟

2- اذكر الآراء الثلاثة حول بداية مرحلة الطفولة.

3- اذكر ثلاثة آراء للفقهاء المسلمين حول منتهى مرحلة الطفولة عند الذكر والأنثى.

4- كيف استفاد فقهاء الإمامية من روايتي الإمام الباقر عليه السلام علامات البلوغ؟

5- ما هي الفوارق بين الطفولة بالاصطلاح الشرعيّ على مذهب الإمامية وبين الطفولة بالمعنى الوضعيّ؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

57

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يُعدِّد مراحل الطفولة حسب التقسيم الاستقرائيّ.
2- يعرف تقسيم الثلاث سبعات، ويوضح خصائص هذا التقسيم.
3- يعرف خصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة.
4- يُحدِّد مؤشّرات دخول الطفل في مرحلة التمييز.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

58

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 تمهيد

إنّ تقسيم مراحل الطفولة له دور رئيس في العمليات التربوية؛ لأنّ كلّ مرحلة من المراحل التي يمرّ بها الطفل تُعتبر ظرفاً لبعض الأحكام التربوية الخاصّة بها. وهناك عدّة تقسيمات لمراحل الطفولة عند علماء النفس والتربية، وضعت وفق معاييرهم التي اعتمدوها في المقام ليستفيدوا منها في التربية والتحليل النفسي. وهذه التقسيمات وإن كانت ذات فائدة عملية من بعض الوجوه، إلا أنّنا نُريد تقسيم مراحل الطفولة بنحوٍ يُمكننا من الاستثمار الإيجابيّ فيه بالنسبة لتربية الطفل في ضوء المنهاج الإسلاميّ. وفي هذا الدرس سنتوقّف عند النظرة الإسلامية إلى مراحل الطفولة1، ثم نعرض في الفقرات الأخيرة ثلاث نماذج من التقسيمات الأخرى للطفولة.
 
تقسيم مراحل الطفولة في النصوص الإسلامية
يُمكن ملاحظة مراحل الطفولة من زاويتي نظر في النصوص الإسلامية:
التقسيم الاستقرائيّ حسب المراحل
نقصد بالتقسيم الاستقرائيّ: تتبّع النصوص الشريفة للخروج بخلاصات عامّة عن تقسيم مراحل الطفولة - بالمعنى الأعم من الحقيقيّ والمجازيّ - بالنسبة لما يتعلّق بالتربية. ويُمكن تصنيفها بالاستقراء على النحو التالي:
1- مرحلة حسن اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر.
 
2- مرحلة الجماع، ما قبل الحمل الواقع منه تكوين الجنين.
 
3- المرحلة الصلبية، وحياة الطفل - بصورتها الأوّلية - تبدأ من النطفة التي هي مادّة



1 أنظر: عجمي، سامر توفيق، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، الفصل الثالث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

59

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 حاملة للفعلية القريبة الواقعة على صراط تكوين طفل فعليّ الوجود لاحقاً، يقول تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾1.

 
4- المرحلة الجنينية أي مرحلة الحمل.
 
5- المرحلة من 0 يوم حتى 7 أيام.
 
6- مرحلة الرضاع، من 0 سنة حتى 2.
 
7- مرحلة الحضانة، مرحلة ما قبل التمييز، من 0 سنة حتى 2/7 سنوات.
 
8- مرحلة التمييز، من 7 حتى البلوغ.
 
وقد تُضاف إليها بالاعتبار حكماً لا موضوعاً مرحلة تاسعة، هي:
9- مرحلة البلوغ السفهيّ غير الرشيد، التي يُمكن اعتبارها ملحقة بمرحلة الطفولة في بعض أحكام فقه التربية، لأنّ دخول الطفل إلى مرحلة البلوغ يكون على نحوين:
الأوّل: أن يدخل مرحلة البلوغ وهو رشيد، بمعنى أن تكون للبالغ ملكة نفسانية تقتضي تصرّفه ضمن حدود الصلاح اللائق بأفعال العقلاء، أي المرحلة التي يُحسن فيها التصرّف في شؤون نفسه وبدنه وماله بنحو يراه العقلاء عملاً مقبولاً، فلا يكون لأحد ولاية عليه.
 
الثاني: أن يدخل مرحلة البلوغ وهو غير رشيد، بمعنى أنّه لا يُحسن التصرّف في نفسه وماله وشؤونه، فلا تنفذ جميع تصرّفاته بحقّ نفسه بشكل مستقلٍّ على نحو الموجبة الكلية، بل يحتاج إلى رعاية الوليّ الشرعيّ، ويلحق بالطفل من جهة بقاء وليّه السابق مستمرّ الولاية عليه2. - سيأتي بحث هاتين النقطتين في الدرس الخامس عشر -.
 
ونُعيد التذكير، بأنّ هذا التقسيم للمراحل، ليس استنسابياً أو جزافياً، بل يترتّب على كلّ مرحلة منه أحكام وتشريعات فقهية وتربوية خاصّة3.



1 سورة الطارق، الآيات 5-7.
2 الصدر، محمد صادق، ما وراء الفقه، ج5، ص58.
3 مع الإشارة أيضاً إلى أنّ هذا التقسيم لا يعني الفصل الهندسي بين المراحل، بل قد تتداخل بعض المراحل من حيث الزمان والأحكام، ولكن كلّ مرحلة لها علامات مميّزة لها في فقه التربية ستظهر في موضعها الخاص كانت هي الميزان والملاك في تبويب هذا التقسيم، فمثلاً مرحلة أسبوع الطفل هي جزء من مرحلة الرضاع لكن لها أحكام تربوية خاصّة بها من غير جهة الرضاع، ومرحلة الرضاع هي جزء من مرحلة ما قبل التمييز لكن لها أحكام خاصة بها من جهة الرضاع، وهكذا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

60

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 الطفولة في اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل 

ورد في المادّة الثانية من ميثاق الطفل في الإسلام، الصادر عن اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل1، ما نصّه:
1 - تشمل رعاية الشريعة الإسلامية للطفل المراحل التالية:
1- اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر.
2- فترة الحمل والولادة.
3- من الولادة حتّى التمييز (مرحلة الطفل غير المميّز).
4- من التمييز حتّى البلوغ (مرحلة الطفل المميّز).
 
وتنشأ للطفل في كلّ من هذه المراحل حقوق تُلائمها2.
 
وهو تقسيم مقبول إلى حدٍّ ما، ونُسجّل عليه ملاحظة، وهي أنّه لم يُفصّل في ذكر عناوين المراحل، كالمرحلة الصلبية، والجُماعية، والأسبوعية، والرضاعية، والحضانية و... بل بقيت مطوية في تقسيم المراحل الأخرى، مع أنّ لها أحكاماً وتشريعات خاصّة بها بعنوانها.
 
2- تقسيم الـ: "ثلاث سبعات"
التقسيم الثاني الذي يُمكن أن يُستفاد من الروايات بشكل واضح هو التقسيم المعروف بـ: "ثلاث سبعات".
 
- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت خلائقه3 لإحدى وعشرين سنة، وإلا ضرب على جنبيه4، فقد أعذرت إلى الله"5.



1 وهي إحدى لجان المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة.
2 يراجع: مناع، حقوق الطفل-الوثائق الإقليمية والدولية الأساسية، ص79.
3 في نسخة مكارم الأخلاق: "أخلاقه".
4 في نسخة مكارم الأخلاق: " فاضرب على جنبه".
5 العاملي، محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج21، ص476، ح27627. والطبرسي، الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، ص222.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

61

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 - وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "يُربّى الصبي سبعاً، ويؤدّب سبعاً، ويُستخدم سبعاً..."1. وفي لفظ آخر: "يُرخى الصبي سبعاً..."2.

 
- وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلا فلا خير فيه"3.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين"4.
 
وقريب منها:
- عنه عليه السلام، قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، وألزمه نفسك سبعاً، فإن أفلح وإلا فإنّه ممّن لا خير فيه"5.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "أمهل صبيّك حتّى يأتي له ستّ سنين، ثمّ ضمّه إليك سبع سنين، فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح، وإلا فخلِّ6 عنه"7.
 
سرّ السنوات السبع الأولى
يظهر من خلال الروايات السابقة أنّ مرحلة السبع الأولى من حياة الطفل لها ميّزة خاصّة، لأنّ الطفل في هذه المرحلة قد خرج إلى عالم الحياة جاهلاً ضعيفاً فاقداً لكلّ كمال فعلي لا يملك أيّ تصوّر عن هذا العالم وليس لديه أيّ انطباع أو شعور واتّجاه نفسيّ انفعاليّ عنه أو أيّ مهارة سلوكية فيه، ويبدأ رحلته في اكتساب المعارف والقيم والاتجاهات والميول والمهارات والسلوكات المختلفة في الساحات المتعدّدة بالتدريج، وبطبيعة الحال يحتاج إلى فترة زمنية معيّنة ليتمّ له اكتساب تلك الأمور بنحو يصل إلى مرحلة عمرية يُصبح فيها قادراً على التمييز بين ما هو إيجابيّ وسلبيّ ولو بنحو إجماليّ، ويكوّن صورة أوّلية عن مفهوم الخطأ 



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص493، ح4746.
2 مكارم الأخلاق، ص223.
3 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص493، ح4743.
4 الكافي، ج6، ص47، باب تأديب الولد، ح3.
5 م.ن، ح1.
6 خلِّ: فعل أمر من خلى يخلي، بمعنى ترك. 
7 الكافي، ج6، ص47،ح2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

 


62

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 والصواب والحسن والقبيح والضارّ والنافع من تلك الأمور، فيحتاج في هذه المرحلة الأولى إلى إعطائه هامشاً من الحرّية والفسحة لأجل اكتشاف نفسه والأشياء المحيطة به، ولبناء خطوط علاقاته معها.

 
لذا، كان التوجيه التربويّ الإسلاميّ لوليّ أمر الطفل نحو إعطاء الطفل هامشاً من الحرّية وعدم تقييده بلوائح كثيرة من الممنوعات حتّى لا تُحاصر قدرته على اكتشاف الأشياء والتعرّف إليها ولمسها واختبارها بشكل شخصيّ، فعبّرت الروايات عن هذه المرحلة بعبارات مثل: "سيّد"، "أمهل"، "يرخى".
 
وباعتبار أنّ القدرة الاستكشافية لدى الطفل يتمّ إشباعها من خلال ما فطره الله تعالى عليه من أسلوب اللعب والنشاط الحركيّ، حثّت الروايات على ترك الطفل يعيش حياته بمناخ من اللعب، وبعد أن يمرّ الطفل بهذه المرحلة من اللعب والإمهال والإرخاء ليكتشف العالم المحيط به ويختبره يصل إلى مرحلة امتلاك قدرة التمييز بين الإيجاب والسلب، فيخرج من تلك المرحلة الأولى ويدخل في الثانية. وقد قدّرت الروايات المرحلة الأولى بـ 7 سنوات، وهذا ما أثبتته التجربة التربوية والنفسية كما سنوضحه في درس التربية باللعب، فترك الطفل في المرحلة الأولى من حياته بهذا النحو هو بحدّ نفسه تربية.
 
خصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة
إنّ لسنّ السابعة ميّزة خاصّة في النصوص الدينية، وهذا يُشير إلى أنّها نهاية مرحلة عمرية خاصّة وبداية أخرى بالنسبة للطفل، فالسبع الأولى هي مرحلة اللعب والإمهال (لا الإهمال)، أمّا السبع الثانية فهي بداية مرحلة التعليم والتأديب (الانتقال إلى مرحلة جديدة من التربية) كما اتّضح من النصوص السابقة. ونذكر بعض الروايات التي توضح خصوصية هذا السنّ.
 
ففي التربية الجنسية:
- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "فرّقوا بين أولادكم في المضاجع إذا بلغوا سبع سنين"1.



1 مكارم الأخلاق، ص223.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

63

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 - وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "... الغلام لا يُقبِّل المرأة إذا جاز سبع سنين"1.

 
وفي التربية العبادية:
- عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "... مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين"2.
 
لذا، عبّرت الروايات عن السبع الثانية بـ: "العبد"، "أدّبه"، "ألزمه نفسك"...، لأنّها مرحلة جديدة تحتاج إلى أصول وأساليب وتقنيات مختلفة.
 
معايير تحديد مرحلة التمييز
نُركّز النظر حول معايير تحديد مرحلة التمييز بسبب الخصوصية التي تتمتّع بها مرحلة دخول الطفل في سنّ السابعة، بحيث يُصبح في الأغلب طفلاً مميّزاً. ومفردة الطفل المميّز أو التمييز لم ترد في نصٍّ دينيٍّ يدلّ على تحديد معناها حتّى يُعتمد كمعيار في المقام، لذا لا بدّ من الرجوع إلى مدلول الكلمة في اصطلاح الفقهاء، ومع استقراء نصوص الفقهاء نخرج بالآراء التالية:
المعيار الأول: 6-7 سنوات حتّى البلوغ
تبنّى غالبية فقهاء أهل السنّة المعيار الزمانيّ لتحديد مرحلة التمييز، فهي تمتدّ من سنّ الـ6-7 حتّى مرحلة البلوغ3، وهو رأي بعض فقهاء الإمامية، ولعلّ منشأ ذلك عندهم هو الروايات السابقة التي تُفيد كون سن الـ7 يُشكّل مرحلة جديدة لها مستلزمات خاصّة في حياة الطفل.
 
قال الشيخ الطوسيّ: "... وإن كان طفلاً يُميّز وهو إذا بلغ سبع سنين أو ثمان سنين فما فوقها إلى حدّ البلوغ..."4.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص437، ح4510.
2 الكافي، ج3، ص409، باب صلاة الصبيان، ح1.
3 يراجع: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج1، ص158. والنووي، يحيى بن شرف، المجموع شرح المهذب، ج9، ص361.
4 الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف، ج5، ص131.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

64

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 وقال العلّامة الحلّي: "إذا بلغ الطفل سبع سنين،... لأنّ هذا السنّ يحصل فيه التمييز من الصبي..."1.

 
وقال الشيخ جواد التبريزي: "التمييز هو أن يُميّز الشيء القبيح من غيره، ويكون غالباً إذا بلغ الولد ستّ سنين... إذا أكمل الطفل ستّ سنوات فهو مميّز"2.
 
وسُئل الشيخ التبريزي: هل هذا - تحديد ضابط الصبيّ المميّز بالستّ سنوات - من باب تشخيص الموضوع؟ فلو شخّص المكلّف أنّ ابنه لم يُميّز (حتّى بعد بلوغ الستّ) يعتمد على تشخيصه أم لا؟ أجاب: "هذا التحديد وارد في الروايات"3.
 
المعيار الثاني: معرفة الحسن من القبح
قال الشهيد الثاني: "المراد بالمميّز مَنْ يعرف الأضرّ من الضارّ والأنفع من النافع، إذا لم يحصل بينهما التباس بحيث يخفى على غالب الناس"4.
 
وقال السيد محمد رضا الكلبايكاني: "الصبيّ إذا ميّز الحسن من القبيح، وفهم ما يفهمه الكبار فهو مميّز"5.
 
وقال الشيخ محمد علي الآراكي: "المميّز هو القادر على تشخيص القبيح والحسن"6.
 
وليس المراد من التمييز أن يكون الطفل قادراً على التفرقة بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع بشكل تفصيليّ وإنّما يكفي التمييز الإجماليّ.
 
وقد يُقال إنّ المعيار السابق لا يختلف عن هذا المعيار، لأنّه وكما عبّر الشيخ جواد التبريزي: التمييز هو أن يُميّز الشيء القبيح من غيره ويكون غالباً إذا بلغ الولد ستّ سنين، فيكون تحديد الفقهاء له بـ6 أو 7 سنوات من باب تشخيص المصداق، ولكن ينفيه أنّ جوابه بكونه وارداً في الروايات يوحي بأنّه من باب التعيين لا التشخيص.



1 تذكرة الفقهاء، ج4، ص335.
2 التبريزي، جواد بن علي، صراط النجاة، ج6، ص65.
3 صراط النجاة، م.ن.
4 العاملي، زين الدين بن علي، روض الجنان في شرح ارشاد الأذهان، ج2، ص648.
5 الكلبايكاني، محمد رضا، إرشاد السائل، ص128.
6 الآراكي، محمد علي، المسائل الواضحة، ج2، ص91.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

 


65

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 ولكن مع ذلك، فإنّ صريح عبارات بعض الفقهاء ممّن يتبنّى هذا الرأي يُفيد كون تحديد مرحلة التمييز بالـ 7 من باب تطبيق المعيار (وهو قدرة الطفل على التفرقة بين النافع والضارّ) على الطفل الخارجيّ والتشخيص للمصداق، لا من باب التحديد والتعيين.

 
المعيار الثالث: مرجعية النظرة العرفية
قال السيد محمد جواد العاملي: "المرجع في المميّز إلى العرف، لأنّه المحكّم في مثله"1.
 
المعيار الرابع: اختلاف التمييز باختلاف متعلّق التكليف
سُئِل السيد علي السيستاني: ما هو ضابط الصبيّ المميّز في مسألة جواز النظر إلى عورته، وجواز نظره إلى عورة الغير، وكون عباداته صحيحة، والاعتماد على أخباره؟
 
أجاب: "يختلف المميّز في كلّ مكان، ففي الأول المراد بالمميّز الذي يتأثّر من النظر إلى العورة أو النظر إلى عورته لو التفت وتتحرّك غريزته نسبياً، وفي اعتبار صحّة عباداته الذي يُميّز التكاليف وأنّ الأمر من قِبَل الله تعالى ويُمكنه قصد القربة، وفي الاعتماد على إخباره بالنجاسة إذا كان ذا اليد، إذا كان مميّزاً قوي الإدراك لها"2.
 
المعيار الخامس: اختلاف المميّز باختلاف الزمان والمكان والأفراد
سُئل السيد علي الخامنئي دام ظله: جاء في بعض الأحكام للصبيّ المميّز بأنّه الصبيّ الذي يُميّز الحسن من القبيح، فما هو المراد من الحسن والقبيح؟ وما هي سنّ التمييز؟
 
أجاب: "المراد من الحسن والقبيح هو ما يكون كذلك بنظر العرف، مع ملاحظة ظروف حياة الصبيّ والعادات والآداب والتقاليد المحلّية، وأمّا سنّ التمييز فهو مختلف تبعاً لاختلاف الأشخاص في الاستعداد والإدراك والذكاء"3.



1 العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة، ج6، ص432.
2 السيستاني، علي، الاستفتاءات، ص125-126.
3 الخامنئي، علي، أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص300، مسألة 822.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

66

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 الاستنتاج:

إنّ ما تقدّم في أقوال الفقهاء ليس معايير متعدّدة، وإنّما هو معيار واحد تمّ تسليط الضوء عليه من زوايا مختلفة، والمعيار هو: أن يصل الطفل إلى مرحلة عمرية تُصبح لديه ملكة التمييز بنحو إجمالي بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع في الحياة. وممّا لا شك فيه أنّ متعلّقات الحسن والقبح تختلف مجالاتها وساحاتها، فقد تتعلّق بأمور جنسية وأخرى سياسية وثالثة اجتماعية ورابعة مالية وخامسة عبادية... إلخ، وعليه سيختلف التمييز بلحاظ المتعلّق، كما سيتفاوت التمييز في الطفل نفسه بين شيء وآخر، وكذلك الأمر سيختلف التمييز بين طفل وآخر، وبين منطقة وأخرى... إلخ، ويكون مرجع تحديد أنّ هذا الطفل مميّز في هذا المجال أو ذاك هو النظرة العرفية الاجتماعية التي يعيش ويتحرّك الطفل داخل محيطها.
 
نعم، في الأعمّ الأغلب قد يكون بلوغ الطفل سنّ السابعة هو المُدخِل له إلى مرحلة التمييز لما ذكرناه في فقرتي: سرّ السنوات السبع الأولى وخصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة، ولهذا ركّزت الروايات على هذه السنّ.
 
وعليه، فإنّ الضابط الكلّي لتحديد التمييز ليس زمانياً بل معرفيّ، إلا بناءً على المعيار الأول، على تفسير، أي تُحدّد مرحلة التمييز بالسنّ 6-7 من باب التعبّد بالنصّ الشرعيّ، فيكون ميزان دخول الطفل في مرحلة التمييز هو نفس السنّ بغضّ النظر عن الحالة المعرفية لابن سبع سنوات.
 
تقسيم الطفولة على أساس مراحل نمو المعرفة وتأثير البيئة على النموّ1
اعتمد هذا التقسيم جان بياجيه (1896-1980)، حيث سلّط الضوء في أبحاثه على مراحل الطفولة من خلال ربطها بعملية تكوين المعرفة المتأثّرة بالبيئة المحيطة بالطفل، فقسّمها إلى خمس مراحل، هي:
1- المرحلة الأولى: الذكاء الحسّيّ- الحركيّ: من صفر يوم إلى سنتين (0-2).
 
2- الثانية: مرحلة الصور العقلية: (2-4 سنوات).



1 يراجع: سليم، مريم، علم نفس النمو، ص44-45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

67

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 3- الثالثة: مرحلة الذكاء الحدسيّ: (4-7 سنوات).

 
4- الرابعة: مرحلة العمليات الحسّية أو الذكاء المحسوس: (7-12 سنة).
 
5- والخامسة: الذكاء المجرّد، سنّ 13 وما فوق.
 
تقسيم مراحل الطفولة في مدرسة التحليل النفسيّ1
وهو التقسيم المعتمد عند سيجموند فرويد (1856-1939) وأتباع مدرسة التحليل النفسيّ:
1- ما قبل الولادة: صفر يوم إلى 250-300 يوم.
2- حديث الولادة: الأسابيع الأولى عقيب الولادة.
3- المرحلة الفميّة: السنة الأولى.
4- المرحلة الشرجية: 1-3.
5- المرحلة القضيبية: 2-5.
6- مرحلة الكمون: 5-10.
7- مرحلة ما قبل البلوغ: 10-12 سنة.
8- مرحلة المراهقة: 13-20 سنة.
 
تقسيم مراحل الطفولة على أساس الخصائص الجسمية2
1- المرحلة الجنينية: ما قبل الولادة: وتمتدّ من صفر يوم إلى 250-300 يوم.
- بويضة: من صفر يوم إلى أسبوعين.
- جنين: من أسبوعين إلى 10 أسابيع.
- جنين متكامل: من 10 أسابيع إلى الولادة.
 
2- مرحلة الولادة:
- حديث الولادة: الأسبوعان الأوّلان عقيب الولادة.
- المهد: من أسبوعين إلى عامين.



1 للتفصيل يراجع: ن.م.
2 يراجع: الأشول، عادل عز الدين، علم نفس النمو من الجنين إلى الشيخوخة، ص38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

68

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 3- الطفولة: تمتدّ من: 3-12 سنة.

- المبكرة: 3-5 سنوات.
- الطفولة الوسطى: 6-10 سنوات.
- الطفولة المتأخّرة: 10-12 سنة.

4- المراهقة:
- المبكرة: 12-14.
- الوسطى: 14-17.
- المتأخّرة: 17-20.

وهذا الاختلاف بين الباحثين في تحديد مراحل الطفولة وتعيين أدوارها، إنّما هو بسبب اختلاف المعايير المعتمدة في هذا المجال، فمنها معايير معرفية، ومنها نفسية، ومنها فيزيولوجية...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

69

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ تقسيم مراحل الطفولة له دور رئيس في العمليات التربوية، لأنّ كلّ مرحلة من المراحل التي يمرّ بها الطفل تُعتبر ظرفاً لبعض الأحكام التربوية الخاصّة بها.

- يُمكن تقسيم مراحل الطفولة في النصوص الإسلامية من خلال زاويتي نظر، التقسيم الاستقرائيّ، وتقسيم الثلاث سبعات.

- التقسيم الاستقرائيّ للطفولة حسب المراحل يتضمّن: مرحلة حسن اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر، مرحلة الجماع الواقع منه تكوين الجنين، المرحلة الصلبية، المرحلة الجنينية، مرحلة من 0 يوم حتّى 7 أيام، مرحلة الرضاع، مرحلة الحضانة، مرحلة ما قبل التمييز من 0 سنة حتّى 7 سنوات، مرحلة التمييز من 7 سنوات حتّى البلوغ.

- تقسيم الـ: "ثلاث سبعات"، هو التقسيم المستخرج من الروايات، كما في قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلّا فلا خير فيه".

- يظهر من الروايات أنّ مرحلة السبع الأولى من حياة الطفل هي مرحلة اللعب لأنّه يخرج حديثاً إلى عالم لا يملك أيّ تصوّر وانطباع عنه ويريد أن يكتشفه، ويحصل ذلك خلال فترة سبع سنوات عادة، بحيث يُصبح قادراً على التمييز بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع، فتكون المرحلة الثانية التي تُسمّى مرحلة التمييز هي مرحلة التعليم والتأديب.

- ذُكرت عدّة معايير لتحديد مرحلة التمييز، خلاصتها: أن يصل الطفل إلى مرحلة عمرية تُصبح لديه فيها ملكة التمييز بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع في الحياة، ويختلف الحسن والقبح حسب اختلاف المجالات الحياتية من جنسية ومالية واجتماعية...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

70

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 أسئلة الدرس

1- ما هو التقسيم الاستقرائيّ لمراحل الطفولة؟ عدّدها بالتفصيل.

2- ما هو سرّ تقسيم الثلاث سبعات الوارد في الروايات برأيك؟

3- ذكرت اللجنة الإسلامية تقسيماً لمراحل الطفولة، ما هي ملاحظتك عليه؟

4- ما هي خصوصية سنّ السابعة في النصوص الإسلامية؟

5- ما هو المعيار الذي نُحدّد من خلاله أنّ الطفل دخل مرحلة التمييز؟

6- هل يختلف التمييز من طفل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر؟ لماذا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

71

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل  وقواه النفسيّة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الأبعاد الثلاثة لهوية الطفل: العقلية، القلبية، البدنية.
2- يُميّز بين القوى الذهنية - الإدراكية المختلفة للطفل: الحسّية، الوهمية، العقلية.
3- يعرف وظيفة كلّ قوّة من القوى التخزينية والتذكرية التصرّفية في نفس الطفل.
4- يتعرّف إلى القوى القلبية - الجوانحية، والغرائز الفطرية في نفس الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

72

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 تمهيد

إنّ موضوع التربية ومتعلّقها في هذا الكتاب هو الطفل. وتختلف النظرة إلى طبيعة الطفل من فلسفة تربوية إلى أخرى، ممّا ينعكس على كيفية تربية الطفل ومجمل العمليات التربوية. فالجواب عن سؤال: كيف نُربّي؟ وعلى ماذا نُربيّ؟ يُحدّده الجواب عن سؤال: من نُربّي؟ وقد خصّصنا هذا الدرس للبحث حول ماهيّة الطفل من وجهة نظر علم النفس الفلسفيّ الإسلاميّ.

الطفل مخلوق مادّيّ روحيّ
إنّ الطفل في فلسفة التربية الإسلامية مخلوق مركّب من بعدين: مادّيّ وروحيّ، أي جسم يتمثّل بهذا الهيكل الحسّيّ، ونفس مجرّدة عن المادّة وخصائصها، دورها قيادة البدن وإدراة مملكته. والعلاقة بين هذين البعدين هي الارتباط التفاعليّ بنحو يؤثّر ويتأثّر كلّ واحد منهما بالآخر بنحو متبادل، فمثلاً إذا كان الطفل مريضاً بدنياً فسيؤثّر ذلك على إدراكه الذهنيّ وقوّة الحفظ لديه، وإذا كان الطقس حارّاً سيؤثّر ذلك على مزاجه وسرعة غضبه النفسيّ، وكذا العكس، فقد يكون وراء الأبعاد الذهنية والنفسية عوامل جسمانية وفيزيقية، يُعتبر البحث والكشف عنها عاملاً مهمّاً في تربية الطفل، فتربية أيّ بعد من البعدين ستنعكس بطبيعة الحال على البعد الآخر بسبب العلاقة التفاعلية بينهما.

البعد البدنيّ لشخصية الطفل
يُشكّل بدن الطفل وجسمه البعد المادّيّ من هويّته وشخصيّته، فجسم الطفل موضوع ومتعلّق لعمليّة التنمية والتنشئة. ونُطلق على تنمية البعد البدنيّ للطفل اسم "التربية الجسمية"، بمفهومها الواسع الشامل للرعاية الصحية والتغذية السليمة والوقاية والاهتمام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

73

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 بالنظافة الجسدية والتدريب الرياضيّ والمهارات الحركية، والتجمّل والتزيّن... إلخ، لذا يُعتبر تكوين المعلومات الأوّلية عن جسم الطفل وخصائصه ومكوّناته من جهة، وكيفية تربيته جسمياً من جهة ثانية ولو بنحو إجماليّ أمراً ضروريّاً للمربّي. 

 
وهذا اللون من المعرفة من اختصاص علوم متعدّدة أهمّها علم الطبّ وعلم التغذية وعلم الرياضة وغيرها من العلوم. ولن نتوقّف في هذا الدرس عند تعريف جسم الطفل وبيان خصائصه وتشريح قواه، حيث سنعرض أثناء كلّ درس متعلّق بالتربيات المضافة إلى الجسم المقدار الملائم من المعلومات المتناسب مع طبيعة كلّ درس. وفي هذا الدرس سنُركّز محور الاهتمام على القوى النفسية الداخلية للطفل.
 
خروج الطفل من بطن أمّه جاهلاً
يقول الله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾1.
 
تُبيّن هذه الآية القرآنية أنّ الطفل يأتي إلى الحياة فاقداً لأيّ لون من ألوان العلوم والمعارف التصوّرية والتصديقية2. يقول السيد محمد باقر الصدر مستشهداً بالآية المذكورة: "إنّ الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة فكرة مهما كانت واضحة وعامّة في الذهنية البشرية"3.
 
استعداد الطفل لتحصيل المعرفة
مع أنّ نفس الطفل في بداية الخلقة خالية من العلوم، إلا أنّ الله تعالى زوّده باستعداد خاصّ وأدوات معرفية محدّدة تُمكّنه من تحصيل العلم بنحو تدريجيّ تراكميّ4، كما تُفيده تتمّة الآية القرآنية السابقة في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾5.



1 سورة النحل، الآية 78.
2 يراجع: الحلي، الحسن بن يوسف، الأسرار الخفية في العلوم العقلية، ص7. والشيرازي، محمد، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج4، ص515.
3 الصدر، محمد باقر، فلسفتنا، ص63.
4 يراجع: الحكمة المتعالية، ج4، ص515. والميزان في تفسير القرآن، ج12، ص312.
5 سورة النحل، الآية 78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

74

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 وهذه الأدوات المعرفية والقوى الإدراكية هي ما ستُشكّل محور الحديث في الفقرات الآتية.

 
القوى الذهنية - الإدراكية1
القوى الذهنية لنفس الطفل عبارة عن الأدوات والآلات التي يستطيع بواسطتها تحصيل المعارف وتكوين العقائد وفهمها وتخزينها واسترجاعها وتحليلها وتركيبها والاستنتاج منها... إلخ، وقد قسّم الفلاسفة المسلمون القوى الذهنية إلى عدّة أقسام، هي:
الإدراك الحسّي وأدواته
أوّل مرحلة إدراكية يمرّ بها الطفل في حياته تُسمّى الإدراك الحسّي أي المعرفة التي يحصل عليها من خلال استخدام الحواسّ. والحاسّة هي القوّة النفسية التي يُدرك الطفل بواسطتها الصور الجزئية للأشياء الخارجية المحيطة به في عالم الطبيعة والمادّة. ولكلّ حاسّة نفسانية أداة جسمانية خاصّة. وتتنوّع أدوات المعرفة الحسّية إلى خمس: الباصرة، السامعة، الشامة، اللامسة، الذائقة.
 
وكتوضيح لكيفية حصول العلم الحسّي في نفس الطفل نعرض المثال التالي: ينظر الطفل إلى أمّه، فيُصبح هناك اتصال حسّي بينه وبينها، فتنطبع صورة أمّه في ذهنه، وهذا اللون من العلم يُسمّى الإدراك الحسّي أو المعرفة الحسّية.
 
مع الإشارة إلى أنّ انطباع هذه الصور الحسّية في ذهن الطفل لا يعني بالضرورة أنّه ملتفت إليها وواعٍ بها بالمعنى الذي يُدركه الكبار، بل بالتكرار والتراكم والتدريج يحصل عنده العلم الحسّي الشعوريّ بها.
 
ويترتّب على كون المرحلة الأولى من حياة الطفل هي مرحلة الإدراك الحسّي أصول وأساليب وإجراءات تربويه عديدة في كيفية التعامل التربويّ مع الطفل، منها ما سنُشير إليه في درس التربية بالقدوة والنموذج السلوكيّ.



1 حول هذا التقسيم لقوى النفس يراجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

75

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 قوّة الوهم

ثمّ يتطوّر إدراك الطفل، فبالإضافة إلى القوّة الحسّية يُصبح مالكاً لقوّة إدراكية ثانية تُسمّى الوهم، وهو قوّة نفسية يستطيع أن يُدرك الطفل بواسطتها المعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات. والمقصود بالمعاني الجزئية الصفات التي لا تخضع بذاتها للملاحظة الحسّية، كخوف فلان، وحبّ فلان، فإنّ الخوف والحبّ معانيان جزئيان قائمان في نفوس الأشخاص الآخرين لا يُدركان بواسطة الحسّ. وبهذا يتّضح أنّ الفرق بين الحسّ والوهم يكمن في أنّ الأوّل قوّة إدراك الصور الجزئية المحسوسة كالألوان والأشكال والأصوات والروائح... والثاني قوّة إدراك المعاني الجزئية كالحبّ والخوف وغيرهما من الصفات القائمة في نفس معيّنة.
 
قوّة العقل
القوّة الإدراكية الثالثة للطفل، التي تُدخله في دائرة الإنسانية بالمفهوم المنطقيّ - لأنّ الإنسان لا يتميّز عن الحيوان بالمعرفة الحسّية، ولا بالمعرفة الوهمية - تُسمّى: "العاقلة" أو "العقل"، وهي لا تنشط في الطفل إلا بمرحلة عمرية متأخّرة من حياته.
 
والعقل هو قوّة إدراك المفاهيم والقضايا الكلّية في الأشياء. والمعاني الكلّية كما ندرس في علم المنطق هي المعاني الذهنية التي لديها قابلية الصدق والحمل على أفراد في الخارج، مثل مفهوم الإنسان، فنقول: محمد إنسان، جعفر إنسان، فاطمة إنسان... وهكذا.
 
العقل النظريّ والعقل العمليّ
وينقسم العقل بالاصطلاح الفلسفيّ إلى قسمين:
العقل النظريّ: وهو القوّة الذهنية التي يُدرك من خلالها الطفل في مرحلة عمرية معيّنة متقدّمة من حياته بعض المفاهيم والتصوّرات والقضايا والتصديقات الكلّية، المتعلّقة بالواقع الموجود، ويُميّز من خلالها بين الصحيح والخطأ في التصوّرات والتصديقات. مثل علمه ببعض القواعد الرياضية والقوانين الفلكية والبيولوجية والفيزيائية، أو بعض القضايا العقائدية... إلخ.
 
وباختصار، العقل النظريّ هو قوّة إدراك ما هو موجود وكائن في الواقع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

76

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 العقل العمليّ: وهو القوّة الذهنية التي يُدرك من خلالها الطفل في مرحلة عمرية معيّنة من حياته بعض القضايا المعيارية المتعلّقة بالعمل أي الواقع المطلوب إيجاده، ويُميّز به بين الحسن والقبيح كقيم ذاتية في الأفعال، مثل: الصدق واجب فعله، احترام الأبوين واجب فعله، الكذب لا ينبغي فعله، الاعتداء على الآخرين لا ينبغي فعله... إلخ.

 
وباختصار، العقل العمليّ هو قوّة إدراك ما ينبغي أن يفعله الإنسان باختياره أو لا يفعله كذلك.
 
وكون الطفل يمتلك قدرة التفكير العقليّ في مرحلة معيّنة سيكون له دور مهمّ عند الحديث عن التربية العبادية للطفل والتربية بالعقوبة وغيرهما، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
 
القوى التخزينية عند الطفل
من الواضح أنّ نفس الطفل بالإضافة إلى إدراكها للأشياء تستطيع أن تحتفظ بالصور والمعاني التي تحصل عليها بواسطة القوى الإدراكية (الحسّ، الوهم، والعقل) في أوعية وخزائن معيّنة، يُطلق على كلّ خزانة منها اسم خاصّ حسب نوعية المدركات المحفوظة فيها.
 
1- الخيال: هو خزانة المدركات الحسّية الجزئية، فكلّ الصور الحسّية التي تحصل عليها نفس الطفل بواسطة الحواس - بعد غيبتها عن الحسّ - تحفظ في وعاء يُطلق عليه الفلاسفة اسم: "الخيال"، فالخيال وعاء حفظ المعلومات الواصلة عن طريق الحواسّ إلى نفس الطفل.
 
2- الحافظة: وهي خزانة المدركات الوهمية، أي أنّ المعاني الجزئية التي تحصل عليها النفس بواسطة قوّة الوهم تُخزّن وتُحفظ في وعاء نفسيّ يُسمّى: "الحافظة"، فالحافظة وعاء تخزين المعاني الواصلة عن طريق الوهم.
 
3- العقل الفعّال: وهو حافظ المدركات العقلية، أي أنّ المعاني الكلّية التصوّرية والتصديقية التي تحصل عليها النفس بواسطة قوّة العقل محفوظة في العقل الفعّال1.



1 يراجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج8، ص56، حاشية الملا هادي السبزواري، رقم: 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

77

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 القوّة التذكّرية عند الطفل

بالإضافة إلى القوّتين الذهنيتين السابقتين الإدراك والتخزين، توجد قوّة ثالثة في النفس، وظيفتها استرجاع واستعادة المعلومات المخزّنة والمحفوظة في النفس، ويُطلق عليها اسم: "الذاكرة" أو المسترجعة. فالذاكرة هي: قوّة ذهنية يستطيع الطفل بواسطتها أن يسترجع ويتذكّر الصور والمعاني الجزئية والكلّية.

القوّة المتصرّفة عند الطفل
القوّة المتصرّفة عبارة عن القدرة الذهنية للطفل على التصرّف في الصور والمعاني الجزئية والكلّية المحفوظة في الأوعية والخزائن المختلفة، على نحوين:
1- (الفصل) أي التجزئة والتحليل والتفكيك والتقشير والتجريد...

2- (الوصل) أي التركيب والتأليف والتجميع والربط والتعميم...

وبما أنّ الخزائن على ثلاثة أقسام، فإنّ هذه القوّة تختلف تسميتها باختلاف الخزانة التي تتصرّف فيها.

1- المتخيّلة: وهي عبارة عن تصرّف هذه القوّة بالصور الجزئية المخزّنة في الخيال تركيباً أو تحليلاً. كأن يتصوّر الطفل حيواناً مركّباً من: رأس حصان، ورقبة زرافة، وجسد ثور، وأجنحة نسر، فهو يُركّب بين صور مختلفة، وليس هذا التركيب أيضاً إلا فرع قوّة التحليل بنزع رأس الحصان عن الحصان وتصوّره مستقلّاً... إلخ. والمتخيّلة هي القوّة التي يستطيع الطفل بواسطتها إبداع الصور المتنوّعة وخلقها وابتكارها كما يتجلّى في فنّ الرسم مثلاً، حيث يرسم الطفل شكلاً معيّناً لم يأخذه من الخارج بواسطة الحواسّ مباشرة بل خلقته قوّته المتخيّلة...

2- المتوهّمة: وهي عبارة عن تصرّف القوّة المذكورة في المعاني الجزئية ونسبتها إلى الصور مثلاً، فيتصوّر الطفل أنّ فلاناً يُحبّ فلاناً، وهكذا... فالمتخيّلة تُركّب بين الصور أو تُجزّئ الصور. أمّا المتوهّمة فهي تُركّب بين المعاني والصور، أو تفصل المعاني عن الصور.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

78

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 3- المفكِّرة: وهي عبارة عن استعمال العقل لقوّة المتصرّفة في تحليل وتركيب المفاهيم العامّة والمعقولات والمعاني الكلّية والجزئية. وبواسطة هذه القوّة يكون الإنسان إنساناً أي كائناً مفكّراً، لأنّ التفكير عبارة عن استخدام العقل للمتصرّفة، باستخراج حدود الماهيات وأجزائها الذاتية وعناصرها الداخلية (الأجناس والفصول) والعرضية (العرض العامّ والخاصة)، فيكون قادراً على التعريف1، وبها يستخرج الحدّ الأوسط فيكون قادراً على الاستدلال وتركيب الأقيسة والبراهين2. وهكذا يُمكن أن يكون منطقياً بمعنى أنّه قادر على الانتقال من المعلومات التصوّرية إلى معرفة المجهولات التصوّرية (المفاهيم) بواسطة التعريف، ومن المعلومات التصديقية إلى معرفة المجهولات التصديقية (القضايا) بواسطة الاستدلال.

 
هذه هي مجموع القوى الذهنية - الإدراكية للطفل3، والتي هي قوى موجودة بأصل الخلقة والتكوين بالقوّة. لكن تفعيل وتنشيط عمل هذه القوى وتوجيهها وجعلها أقدر على إدارة نشاطاتها وتكوين مهارات خاصة في كيفية استعمالها لخروجها من الاستعداد إلى الفعلية ومن النقص إلى الكمال يحتاج إلى التربية والتعليم، ولا تستقيم من دون التعليم والتربية الإبستمولوجية، وتربية مهارات التفكير -سنتحدّث عنها في درس خاصّ-.
 
القوى القلبية - الجوانحية للطفل
يرى الفلاسفة المسلمون أنّه بالإضافة إلى القوى المتعلّقة بالعلم والإدراك، توجد قوّة أخرى متعلّقة بالعمل يُطلق عليها اسم القوّة العاملة أو القوّة المحرِّكة. ووظيفة هذه القوّة إدارة شؤون البدن وقيادة الجسم والتحكّم والسيطرة على أعضائه وجوارحه أمراً ونهياً،



1 كأن يُحلّل ماهية الإنسان إلى عناصرها الأوّلية : جوهر، جسم، نامٍ، حسّاس، متحرّك بالإرادة، ناطق مفكّر مدرِك للكلّيات. أو عناصرها العرضية، مثل: عالم، قادر، كاتب، ضاحك، ماشٍ...
2 مثل معرفته بقانون أنّ ارتفاع درجة حرارة الحديد علّة لتمدّده، فيقول مثلاً هذه الحديدة ارتفعت درجة حرارتها، وكلّ حديدة ارتفعت درجة حرارتها فهي متمدّدة، فهذه الحديدة متمدّدة. فمن خلال معرفة الحدّ الأوسط ارتفاع درجة حرارة الحديدة- يستدلّ على تمدّدها، ويُثبت التمدّد لها.
3 مع إعادة التأكيد والإشارة إلى أنّ بعض هذه القوى تتنشّط وتتفعّل في الطفل في عمر متأخّر نسبياً، بحيث يصل إلى مرحلة قوّة التجريد العقلي، وقد اعتبرها بعض علماء النفس المعرفي مثل جان بياجيه، أنّها تحصل في سنّ الـ13، مع إمكان المناقشة في ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

79

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 أي أنّ هذه القوّة هي التي تُصدر الأمر إلى عضلات الجسم وجوارحه وتطلب منها التحرّك وتدفعها نحو العمل (البعث)، أو للكفّ والترك والانقباض عن العمل (الزجر).

 
وتتوسّط القوّة العاملة القوى التالية1:
1- القوّة الفاعلة أو القدرة: وهي القوّة التكوينية في الطفل التي تهبه الاستطاعة على الفعل أو الترك، فهو إن شاء فعل وإن شاء ترك، وبعبارة أخرى هي القوّة المحرّكة للعضلات في الطفل للقيام بالعمل.
 
2- القوّة الباعثة: وتنقسم إلى قسمين:
أ- القوّة الشهوية: وهي القوّة التي تحرّك الطفل وتبعثه نحو جذب الملائم واللذّة والمنفعة والمصلحة لنفسه.
 
ب- والقوّة الغضبية: وهي القوّة التي تحرّك الطفل وتبعثه نحو دفع المنافر والألم والضرر والمفسدة عن نفسه.
 
أمّا مجموع الغرائز - ونعني بالغريزة كلّ ميل داخليّ في نفس الطفل جذباً أو دفعاً تجاه أمر ما - المتنوّعة المعجونة في نفس الطفل بأصل الخلقة والتي لا تحتاج إلى الكسب والاكتساب كغريزة الأكل والشرب، أو غريزة حبّ المعرفة وفضول الاستطلاع والاستكشاف، وغريزة التكيّف مع البيئة، الصراع من أجل البقاء، غريزة الميل إلى الجمال، وغريزة الخضوع والدهشة أمام الكمال... إلخ، فهي تعود في المحصّلة إلى واحدة من القوّتين السابقتين، لأنّ كلّ واحدة من هذه الغرائز إمّا تميل نحو جذب كمال ومصلحة ومنفعة أو نحو دفع نقص ومفسدة وضرر.
 
ونصطلح على مجموع هذه القوى اسم القوى القلبية -الجوانحية، وهي باختصار عبارة عن مجموعة الوظائف والأدوار التي يقوم بها القلب في الفعل والانفعال النفسيّ الداخليّ والذي يترك بصمته على الجسد والجوارح، فالإيمان من وظائف القلب وأعمال الجوانح، والإرادة من وظائف القلب، والعواطف والمشاعر الداخلية من وظائف القلب كالحبّ والشوق 



1 يراجع: جنود العقل والجهل، ص133-231-277. وتهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص37. وجامع السعادات، ص46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

 


80

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 والبغض والكراهة والخوف والفرح والسرور...

 
وهذه القوى العاملة مشتركة بين الحيوان والإنسان، والفرق بينهما في أنّ الحيوان يتحرّك معها على مقتضى طبيعته وغريزته التي خلقه الله تعالى عليها: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾1، ويُعبّر بعض الآيات عن هذا الحِراك الغريزي بالوحي: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾2. أمّا الإنسان فيحتاج إلى إخضاع القوى الشهوية والغضبية والغرائز إلى منطق العقل العمليّ وتعاليم الوحي، وإلا أصبح أكثر شرّاً من الأنعام والبهائم.
 
عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام فقُلتُ: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: "قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل.وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم"3.
 
وبعبارة أخرى على حدّ تعبير إيمانويل كانط يحتاج الطفل إلى ترويض التوحّش في داخله4، وهذا إنّما يحصل بالتربية، فالتربية الأخلاقية مثلاً تبني في الطفل المحتوى الداخليّ والملكات الفاضلة التي تُعتبر ضوابط لكبح غريزتي الشهوة والغضب في السلوك، فضلاً عن أنواع التربية الأخرى العقائدية والفقهية...، فحتى لا تكون صورة ولدي صورة إنسان وقلبه قلب حيوان5 يحتاج إلى التربية، فالتربية هي التي تصنع الطفل إنساناً حقيقة.



1 سورة طه، الآية 50.
2 سورة النحل، الآيتان 68-69.
3 الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، ص5. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾, سورة الأعراف، الآية 179.
4 ثلاثة نصوص، مصدر سابق، ص11.
5 عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصدّ عنه". نهج البلاغة، ج1، ص153.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

81

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 فطرة حبّ الأنا

من الأمور التي فُطرت عليها نفس الطفل فطرة حبّ الذّات أو حبّ النفس أو عشق الأنا، يقول السيد محمد باقر الصدر: "حبّ الذّات -أي حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة- طبيعيّ في الإنسان، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبيّ أوضح من استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل، الذي يُبرهن على ذاتيّة حبّ الذّات، بل لو لم يكن حبّ الذّات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأول -قبل كلّ تكوينة اجتماعية- إلى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته"1.
 
ويظهر من بعض العلماء أنّه يُرجِع مجموع الغرائز والقوى المختلفة حتّى غريزتي القوّة الشهوية والغضبية إلى غريزة حبّ الأنا. يقول السيّد الخوئيّ: "الإنسان يتحرّك نحو ما يراه نفعاً له، ويحذر ممّا يراه ضرراً عليه... (و) المنشأ فيه حبّ النفس، ولا اختصاص له بالإنسان، بل الحيوان أيضاً بفطرته يُحبّ نفسه ويتحرّك إلى ما يراه نفعاً له، ويحذر ممّا أدرك ضرره"2.
 
وليس المقصود بحبّ الذّات تلك الحالة السلبية المرضية من الأنانية والنرجسية، بل المراد من حبّ الذّات هو تلك الطاقة الإيجابية في داخل الطفل التي تهديه نحو أغراضه، وتُحرّكه لاحقاً نحو تحقيق أهدافه في الحياة.
 
فطرة عشق الكمال والنفور من النقص
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من الأمور الفطرية التي جُبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها... الفطرة التي تعشق الكمال... تجد هذا العشق والحبّ قد جُبل في طينته، فتجد قلبه متوجّهاً نحو الكمال... (و) من الأمور الفطرية التي فُطر الناس عليها هو النفور من النقص"3.



1 فلسفتنا، ص40.
2 البهسودي، محمد سرور، مصباح الأصول، تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص16.
3 المصدر نفسه، ص177-180. ويراجع: الخميني، روح الله، جنود العقل والجهل، تعريب أحمد الفهري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 1422هـ-2001م، ص58.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

82

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 فممّا فُطرت عليه نفس الطفل بنحو تميل إليه بأصل الخلقة هو عشق الكمال وطلبه والسعي نحوه، والنفور من النقص، وبما أنّ معنى التربية هو الانتقال التدريجيّ بالطفل من النقص إلى الكمال، فإنّ نفس الطفل تميل إلى التربية بنحو فطريّ.

 
b
وبهذا يتبيّن أنّ حديثنا عن خلوّ نفس الطفل من المعارف بأصل الخلقة يتعلّق بالعلوم الحصولية من تصوّرات وتصديقات. وهذا لا يُلغي وجود جملة من المعارف الفطرية والحضورية الكامنة فيه بأصل الخلقة، يكون مغفولاً عنها، لكنّها متحقّقة بالفعل في نفس الطفل، أطلقت عليها النصوص الدينية اسم: "المعرفة الفطرية"، ويُطلق عليها بلغة الفلسفة والعرفان: "المعرفة الحضورية". وهذا ما جعل السيد الطباطبائيّ يقول بعدم عمومية الآية القرآنية المذكورة في بداية الدرس1 للمعارف الحضورية، وأنّ العموم فيها منصرف إلى العلم الحصوليّ، بمعنى أنّ المنفيّ فيها هو خصوص العلم الحصوليّ دون الحضوريّ2.
 
وهناك عدّة نماذج عن العلوم الفطرية المجبولة عليها نفس الطفل بأصل التكوين، منها: فطرة المعرفة التوحيدية، وفطرة الميل نحو القيم الدينية. ونقصد بالفطرة كما يُعرّفها الإمام الخمينيّ قدس سره: "الحال والكيفية التي خُلق الناس وهم متّصفون بها، والتي تُعدّ من لوازم وجودهم، ولذلك تخمّرت طينتهم بها في أصل الخلقة"3.
 
وسيأتي البحث عن هذه النقاط في درس التربية العقائدية للطفل.
 
وقد أدرجنا هذه المعارف والميول الفطرية تحت البعد القلبيّ - الوجدانيّ في هويّة الطفل.
 
الاستنتاج: أبعاد هوية الطفل
وبهذا يتّضح أنّ هويّة الطفل تتكّون من ثلاثة أبعاد:
1- البعد العقليّ - الذهنيّ، ويرتبط بالإدراك والمعرفة والتفكّر والتخيّل والتحليل



1 ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾, سورة النحل، الآية 78.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص312.
3 الخميني، روح الله، الأربعون حديثاً، ترجمة محمد الغروي، ص175.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

83

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 والتفسير والشرح والتركيب والتأليف والحفظ والتذكّر والفهم والبصيرة والتأمّل والتدبّر والنظر والتعقّل... إلخ.


2- البعد القلبيّ - الوجدانيّ، ويرتبط بالفطرة، والعاطفة، والغرائز، والميول الداخلية، والمشاعر والأحاسيس الوجدانية، والملكات الأخلاقية، والاتّجاهات...

3- البعد البدنيّ، ويرتبط بالجسد والجوارح والأعضاء والعمل والسلوك واللفظ والمهارات الحركية... إلخ.

وهذه هي أبعاد تربية الطفل، ولكلّ بُعدٍ من هذه الأبعاد ساحات خاصّة ذكرناها في الدرس الثالث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

84

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 المفاهيم الرئيسة

- الطفل كائن مادّيّ روحيّ يتركّب من نشأتين مادّية وروحية. والتربية تعني إشباع حاجات الجنبتين بشكل متوازن.

- يخرج الطفل من بطن أمّه جاهلاً لا يملك أيّ لون من المعارف، لكن فيه قابلية واستعداد تحصيل العلوم والمعارف بالتدريج من خلال: أدوات الإدراك الحسّي (الباصرة، السامعة، الذائقة، اللامسة، الشامّة)، وقوّة الوهم التي يُدرك بها المعاني الجزئية القائمة بالأجسام المحسوسة، مثل الحبّ والخوف والشجاعة و...، وقوّة العقل المدرِك للمعاني الكلّية والقضايا العامة.

- لدى الطفل قدرة على تخزين المعلومات في أوعية متنوّعة حسب نوع المدرَكات، فيخزن المعلومات الحسّية في الخيال، والمعلومات الوهمية في الحافظة، والمعلومات العقلية مخزونة في العقل الفعّال. ولديه قدرة على استرجاع تلك المعلومات وتذكّرها.

- لدى الطفل قدرة على التصرّف في المعلومات المخزّنة في الأوعية الحافظة المختلفة، من خلال التحليل والتفكيك والتجريد والتركيب والتأليف والتعميم.

- بالإضافة إلى قوّة الإدراك والحفظ والتذكّر والتصرّف، توجد عند الطفل قوى فطرية -غريزية تُحرّكه نحو جذب الملائم واللذّة، ودفع الألم والضرر، وبها يعيش الأحاسيس والمشاعر والميول العاطفية المختلفة تجاه الأشياء حبّاً وبغضاً، وتشمل القوى القلبية الملكات النفسانية من الفضائل والرذائل، والإرادة...إلخ.

- تشمل تربية الطفل على ثلاثة أبعاد: الأول: البعد العقليّ -الذهنيّ، ويرتبط بالإدراك والمعرفة والتفكّر والتخيّل والتحليل والتركيب والتذكّر والفهم والبصيرة والتأمّل والتدبّر والنظر والتعقّل... إلخ. الثاني: البعد القلبيّ - الوجدانيّ، ويرتبط بالفطرة، والعاطفة، والغرائز، والميول الداخلية، والمشاعر والأحاسيس الوجدانية، والملكات الأخلاقية، والاتجاهات... والثالث: البعد البدنيّ، ويرتبط بالجسد والجوارح والأعضاء والعمل والسلوك واللفظ والمهارات الحركية... إلخ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

85

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 أسئلة الدرس

1- برأيك هل الجواب عن سؤال: كيف نُربّي؟ وعلى ماذا نُربّي؟ يُحدّده الجواب عن سؤال: من نُربّي؟ علّل ذلك.

2- ما هي أهمّية فهم طبيعة العناصر التي تتركّب منها شخصية الطفل بالفطرة في العمليات التربوية؟ وكيف تؤثّر على ذلك؟

3- ما هو الدليل على أنّ الطفل يولد خالي النفس من أيّ لون من المعارف والعلوم؟

4- ما هي أدوات الإدراك الحسّيّ عند الطفل؟

5- لو لم يكن الطفل مجهّزاً بقوى يستطيع أن يُخزّن فيها المعلومات والمعارف التي يتعلّمها، هل كان باستطاعته استرجاعها؟ وما الذي كان سيحصل برأيك؟

6- ما هو دور القوى القلبية والغريزية في حياة الطفل؟

7- هل فطرة حبّ الأنا المجبول عليها الطفل بأصل الخلقة إيجابية أم سلبية؟ علّل ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

86

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف النظريات الثلاث حول طبيعة فطرة الطفل ويناقشها.
2- يعتقد بإمكانية تغيير هويّة الطفل بالتربية والتعليم والتأديب.
3- يُحدِّد مجالات الخيرية والشرّية والحيادية في هويّة الطفل.
4- يعرف أنّ من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

87

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 تمهيد

إنّ تسليط الضوء على طبيعة الطفل وحقيقة فطرته يُعتبر من الأبحاث المهمّة من حيث الجواب عن السؤالين البنيويّين التاليين:
السؤال الأوّل: ما هي طبيعة التركيبة الفطرية للطفل بأصل الخلقة، هل هي طبيعة شرّيرة أم خيّرة أم حيادية؟ حيث إنّ تحديد الجواب عن هذا السؤال بأيّ من الافتراضات السابقة يُغيّر من المسار في كيفية تربية الطفل.
 
السؤال الثاني: هل طبيعة الطفل وفطرته ثابتة غير قابلة للتغيير أم أنّها تتبدّل من حال إلى حال؟ وبعبارة أخرى: هل الطفل الذي يولد شرّيراً بطبعه - بحسب بعض النظريات - يستحيل تغييره بالتربية أم يُمكن تغييره؟ لأنّه إذا كان الجواب بأنّ شخصية الطفل ثابتة لا تتحوّل فهذا يعني عبثية التربية للطفل.
 
في الجواب عن السؤال الأول يُمكن رصد ثلاث نظريات1:
النظرية الأولى: شريّة طبيعة الطفل
يرى أصحاب هذه النظرية أنّ طبيعة الطفل تميل إلى الأخلاق الذميمة، بمعنى أنّ نفس الطفل جُبلت بأصل الخلقة على الشرّ، وعُجنت طينته بالرذيلة والأطباع الخبيثة والسيّئة، فـ "الشرّ جزء من تكوينه النفسيّ، وبه يندفع إلى العدوان والانحراف. وقد عبّر عن هذه النظرة المتشائمة بعض رجال الدين المسيحي"2. ويترتّب على هذه النظرية أن "تقوم التربية باستخدام وسائل العنف والقسوة لانتزاع الشرّ منه"3.



1 يراجع: العطاران، محمد، تربية الطفل وفقاً لآراء ابن سينا والغزالي والطوسي، ص27-30.
2 أبو دف، محمود خليل، مشكلة العقاب البدني في التعليم المدرسي وعلاجها في ضوء التوجيه التربوي الإسلامي، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد السابع، العدد الأول، يناير 1999.
3 تركي، عبد الفتاح ابراهيم، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

88

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 النظرية الثانية: حيادية طبيعة الطفل

ترى هذه النظرية أنّ الطفل يميل بنحو متساوٍ إلى الخير والشرّ، وبعبارة أخرى إنّ نفس الطفل "من طبيعة محايدة، وإنّما يلحق الفساد بهذه الطبيعة نتيجة لفساد التربية التي يتلقّاها"1. يقول سعيد إسماعيل علي في هذا السياق: "الإشكالية التي شُغل بها الفكر الفلسفيّ والتربويّ والأخلاقيّ من حيث التساؤل عمّا إذا كان الإنسان بطبعه خيّراً أو شرّيراً هي إشكالية زائفة، ذلك أنّ الطبيعة الفطرية للإنسان محايدة، صفحة بيضاء، مثلها مثل المادّة الخام"2.
 
النظرية الثالثة: خيرية فطرة الطفل
يعتقد أصحاب هذه النظرية بعكس النظرية الأولى، أنّ طبيعة الطفل وفطرته جُبلت على حبّ الخير، فهو يميل إلى الخير والصلاح بأصل الخلقة.
 
وقفة مع النظريّات الثلاث
سنُحاول في هذه الفقرة التوقّف عند بعض النقاط التي ستُمهّد الطريق لتبنّي الرأي الذي نراه أقرب للصواب من ضمن النظريّات السابقة في الجواب عن السؤال الأول، وسيتّضح بنحو جليّ أيضاً موقفنا من الجواب عن السؤال الثاني خلالها بالتبع.
 
أولاً: لا ريب في أنّ الطفل في مراحل الطفولة المبكرة وما قبل سنّ التمييز، لا يعرف معنى الخير أو الشر، فإن سُلّم جدلاً بميل طبيعة الطفل نحو أيٍّ منهما فهو ميل فطريّ جبلّيّ غير واعٍ.
 
ثانياً: لا يُمكن إنكار وجود ردّات فعل طبيعية في الطفل بأصل الخلقة هدته إليها يد الله تعالى، والمقصود بها السلوكات الصادرة عن الغريزة والتي تُسبّبها القوى الطبيعية (الشهوية والغضبية) المجبول عليها الإنسان بأصل الفطرة، كالخوف أو الحبّ... إلخ. ولكن يُطرح السؤال: هل ردّات الفعل النفسانية الطبيعية هذه هي خير أم شرّ أم حيادية؟



1 تركي، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32.
2 علي، سعيد إسماعيل وفرج، هاني عبد الستار، فلسفة التربية رؤية تحليلية ومنظور إسلامي، ص299.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

 


89

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 الحقيقة، إنّ النظر إلى ردّات الفعل هذه بلحاظ القوى النفسية الناشئة منها أي بالنظر إلى نفس القوّة الشهوية أو الغضبية لا بدّ من أن يدخل في دائرة الحسن والخير، لأنّ الله تعالى لا يخلق إلّا ما هو حسن جميل، يقول تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾1، فهذه القوى النفسية تعمل بأصل الفطرة بحسب ما يقتضيه طبعها المسخّرة له، إنّما تكمن المشكلة في كيفية توظيف هذه القوى النفسية وتسييرها في أيّ اتّجاه.

 
وبناءً عليه، وظيفة التربية ليست استئصال هذه الغرائز والانفعالات والأحاسيس النفسية واقتلاعها من جذورها، لأنّ ذلك مستحيل، فكلّ ما زرعته يد الله تعالى بأصل الخلقة يستحيل استئصاله، نعم، يُمكن التعمية عليه ودسّه ودفنه في دائرة الظلمة. فلا يُمكن للتربية إزالة فطرة حبّ الأنا من نفس الطفل، ولا استئصال القوة الداخلية المحرّكة له نحو الحبّ أو البغض أو الخوف أو الحياء أو... بل هو إيجاد حالة من التحكّم والقيادة والسيطرة على هذه الانفعالات بنحو ينضبط السلوك على ضوء التعاليم التربوية الحسنة والجميلة، لذا يُقال بأنّ التربية وظيفتها الدفع وليس الرفع والاستئصال2.
 
فليس من المعقول تربية الطفل بالطلب منه أن لا يغضب أو لا يشتهي بعض الأشياء، فإنّ هذه الحالات النفسانية أمور طبيعية في ذات فطرته غير قابلة للإزالة، وإنّما المطلوب هو ضبطها وتوجيهها وإرشادها، لا قمعها وكبتها. وإذا أردت أن تُطاع فاطلب المستطاع.
 
ثالثاً: إذا كان المقصود بميل الطفل نحو الخير أو الشرّ بأصل الخلقة هو ذلك النحو من الميل الفطري الجبري الذي يُمانع الاختيار وإمكانية التغيير، فهذا ممّا لا يُمكن قبوله انطلاقاً من عقيدتنا بأنّ الإنسان كائن حرّ مختار، لذا لا بد من البحث عن الميل الفطري نحو الخير أو الشرّ بمعنى يُحافظ على اختيارية الطفل وإمكانية التغيير. لأنّنا نُنكر صحّة نظرية المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، التي تعتقد بأنّ الملكات الأخلاقية في الطفل وبالتّالي السلوك الصادر عنها طبيعيّ بأصل خلقته، بمعنى أنّ كلّ طفل يولد مزوّداً بأخلاق تقتضيها طبيعة هويّته على نحو الضرورة، وبالتّالي فإنّ هذه الأخلاق الطبيعية ثابتة وغير قابلة للتغيير



1 سورة السجدة، الآية 7.
2 جامع السعادات، ج1، ص49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

90

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 والتبديل، ويترتّب على ذلك عدم جدوائية وفعالية العمليات التربوية التي تهدف إلى إكساب الطفل ملكات أخلاقية وسلوكات على خلاف مقتضى طبيعته.

 
وقد ناقش فلاسفة الأخلاق المسلمون كمسكويه، الغزالي، الطوسي، الكاشاني، والنراقي، وغيرهم هذا المذهب في كتبهم بنحو تفصيليّ1، حيث ردّوا المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، بأنّه لو كان صائباً لأُلغيت الشرائع والديانات، ولبطلت تعاليم ووصايا الأنبياء، ولكانت الدعوة إلى التهذيب والتزكية والتأديب وتحسين الأخلاق... عبثاً ولهواً، وجلّ الله تعالى وأنبياؤه عن اللغو والعبث.
 
كما أنّ التجربة التربوية العملية تفيد بإمكان إزالة الخلق بالأسباب الخارجية من التأديب والنصائح وغيرهما. فزرع القيم التربوية وتعديل سلوكات الطفل أمر ممكن فعلاً بالوصايا والمواعظ والنصائح والإرشاد.
 
يقول الإمام السيد عليّ الخامنئيّ دام ظله: "صناعة الإنسان وتشكيل وبناء الإنسان المطلوب في الإسلام هو أمر يحصل بالتربية. فإنّ كلّ الناس لديهم قابلية التربية. قد يتقبّل البعض التربية متأخّراً والبعض أسرع، فالبعض قد تترسّخ التربية لديه وتدوم أكثر والبعض قد تُفارقه بسرعة أكبر، لكن كلّ الناس معرّضون للتغيير والتبدّل الذي يحصل بالتربية"2.
 
رابعاً: وبذلك يظهر أيضاً أنّ الأخلاق والسلوكات الحسنة ليست وليدة الطبيعة لأنّ ما هو طبيعيّ لا تُمكن إزالته وتغييره. نعم الطبيعيّ والفطريّ هو مبادئ وقوى وقابليات واستعدادات تلك الأخلاق والأفعال، أمّا كيفية استخدام هذه القوى والمبادئ فهو خاضع لإرادة الإنسان وخاضع للتربية3.
 
يقول الشيخ جعفر السبحاني: "إنّ للإنسان ماهيّتين: أولاً: ماهيّة عامّة يتكوّن معها ويتولّد بها. وثانياً: ماهيّة خاصّة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل... أمّا الطبيعة العامة، فهي عبارة عن الطاقات والمواهب الإلهية المودعة في وجوده وهي ميول طبيعية تسوقه إلى



1 يراجع مثلاً: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج8، ص101. والنراقي، جامع السعادات، ج1، ص46-49.
2 من كلمة للسيد علي الخامنئي في لقاء المعلمين والتربويين بمناسبة أسبوع المعلم بتاريخ:07/05/2014. على الرابط التالي: htt p://www.almanar.com.lb/wa padetails. php?eid=840376.
3 أرسطو، أخلاق نيكوماخوس، ص36-37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

91

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 نقطة خاصّة فيها سعادته أو شقاؤه، وقد أعطى سبحانه زمامها بيد الإنسان المختار في كيفية الاستفادة منها كمّاً وكيفاً... وأمّا الطبيعة الخاصّة، فهي عبارة عمّا يتكوّن في نفس الإنسان من الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأوّلية، إفراطاً أو تفريطاً أو اعتدالاً"1.

 
وتربية الطفل في جعله يميل إلى أحد الاتّجاهين إنْ خيراً أو شرّاً إنّما تحصل من خلال تكرار الأعمال المتشابهة بالدربة والعادة لمدّة زمنية معيّنة وطويلة غالباً، فهو الذي يؤدّي إلى إيجاد الصفات الحسنة أو السيّئة في نفس الطفل، لا أنّ الصفات الحسنة بمعنى الملكات موجودة بالفطرة. وهذا يؤكّد أهمّية عدم الإهمال والإغفال للعادات السيّئة التي قد يكتسبها الطفل تحت عنوان أنّه ما زال صغيراً، بل ينبغي الانتباه واليقظة في إيجاد العادات الحسنة عند الطفل حتى لو لم يعِ حسنها، لأنّها ستتحوّل لاحقاً إلى طبيعة ثابتة فيه وتُصبح خلقاً تصدر عنه الأفعال بسهولة.
 
وبهذا يظهر أنّ التربية ليست مجرّد عملية إعطاء المعرفة وإكساب العلم، وبالتّالي يحصل السلوك تلقائياً، بل التربية هي عملية تنمية اتّجاهات وزرع وتفتّح قيم وتغيير سلوك وإكساب مهارات بالدربة والعادة كي يتّجه الطفل نحو الهدف المطلوب. فالمعارف التي يتلقّاها المتربّي لا تُحرّكه أوتوماتيكياً تجاه السلوك، وإن كانت المعرفة واحدة من مبادئ الفعل. وفي نفس الوقت حذراً من الوقوع في فخّ تحوّل الطفل إلى مجرّد آلة فيزيائية يصدر عنه العمل نتيجة العادة من دون الإحساس بالشحنة القيمية التي تُحرّكه، لا بدّ من إعطاء جرعة إضافية إلى جانب التعويد، وهي جرعة أن يكون العمل الذي تعوّد عليه الطفل صادراً عنه عن قناعة ورغبة وإرادة ذاتية وشعور بالمسؤولية.
 
وبمعنى آخر لا ينبغي تربية الطفل بنحو يصدر عنه الفعل تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى العمل لمجرّد إلحاح تكرار العادة (الإدمان)، بل أن يصدر العمل عن الطفل في المرحلة العمرية التمييزية على أقلّ تقدير انطلاقاً من الوعي بالقيم وانتهاء إلى الوعي بالنتائج. وإلا فإنّ تعويده على قيم معيّنة موجبة أو سالبة من دون وعي وقناعة ورغبة قد يكون السبب في



1 المكي، حسن محمد، الإلهيات على ضوء الكتاب والسنة العقل محاضرات الشيخ جعفر السبحاني-، ج1، ص681.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

92

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 إضعاف الإرادة من ناحية توليد العجز عن مقاومة المتغيّرات، ممّا سيجعله يُعرض عنها بمجرّد أن يصل إلى مرحلة عمرية يُصبح فيها قادراً على الانتخاب والتمييز، أو عرضة لمؤثّرات بيئية معيّنة (مدرسة، صداقة...)، مما يؤدّي إلى انعطافة وتحوّل سريع في أخلاقه وسلوكه، أمّا العادة المنطلقة من إرادة ووعي تمنح الطفل القدرة على التغلّب على كلّ المتغيّرات، بل على طبيعته أيضاً1.

 
خامساً: يظهر من بعض العلماء المسلمين تعارض مجموع آرائه في كتاباته حول الموضوع2. وفي الحقيقة لا تعارض بين وجهات النظر الثلاث، فإنّ كلّ تعبير ناظر إلى حيثية من حيثيات طبيعة الطفل وإلى قوّة من قواه، فإنّ الطفل له قوى متعدّدة، وبلحاظ كلّ قوّة يُمكن التوصيف بالخير أو الشرّ أو الحياد، فإنّ نفس الطفل بلحاظ كونها من نور الله تعالى وروحه فهي خير وتميل إلى الخير، وبلحاظ قوّة الشهوة والغريزة تميل إلى الشرّ، وبلحاظ كونها مختارة هي مستعدّة لكلّ واحد من الطرفين، بمعنى أنّها غير مجبرة على أحدهما دون الآخر، وإنّما تسير باتّجاه الخير أو الشرّ نتيجة عوامل خارجية لا ذاتية، أي نتيجة التربية والتأديب والتعليم والبيئة... إلخ.
 
الرأي المختار في المسألة
انطلاقاً ممّا تقدّم، نقول إنّ طبيعة الطفل خيّرة بالطبع وبأصل الفطرة، كما تُفيده النصوص الدينية التي تتحدّث عن الفطرة التوحيدية. ولكنّ الطفل على الرغم من ميله الفطريّ بحسب الصبغة الإلهية إلى الخير ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾3، لا ينتفي ويرتفع



1 يراجع: الطوسي، نصير الدين، أخلاق ناصري، ص101-103.
2 فمثلاً نرى الغزالي في موضع يقول: "حبّ الإنسان للحكمة والخالق عزّ وجلّ والمعرفة والعبادات لن يُماثل الرغبة في الأكل، إذ إنّه من مقتضيات طبيعة الإنسان، وذلك لأنّ قلب الإنسان من الأمور الربّانية فيما يعد اندفاع الإنسان إلى الرذائل من مقتضيات الشهوة، ولا علاقة له بالطبيعة". كيماء السعادة، ج3، ص499. وفي موضع آخر من نفس الكتاب، ص37، يقول: "اعلم أنّ النفس مجبولة على الابتعاد عن الخير والتعلّق بالشر، وترغب في التقاعس والشهوة". وفي كتاب آخر يقول: "إنّ الصبيّ أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة، وهو قابل لكلّ نقش ومائل إلى كلّ ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعلّم نشأ عليه، وسعد في الدّنيا والآخرة، شاركه في ثوابه أبواه، وكلّ معلّم له ومؤدّب، وإن عوّد الشرّ وأهمل شقي وهلك". إحياء علوم الدين، ج8، ص130. وهذا الرأي يظهر منه أن الطفل مجبول على الخير بمعنى أن نفسه تميل إلى الخير أكثر من الشر.
3 سورة الشمس، الآية 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

93

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 استعداده النفسيّ للسير في الاتّجاهين معاً نتيجة عوامل خارجية كالتربية والبيئة وداخلية كالتفاعلات النفسية مع الأشياء ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾1، فبسبب عنصر الاختيار يكون لديه استعداد للسير في اتّجاه الخير أو اتجاه الشرّ وهو بهذا المعنى حياديّ، ولكن أيضاً بسبب ضعفه وحاجته وعدم إدراكه ووعيه ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾2، "ضعف الإدراك والجسم في الأطفال"3 من جهة، ونتيجة قواه الحيوانية لأنّه لم يتشكّل على صورة إنسان بعد من جهة ثانية، وبفعل عدم وجود قيم عقلية ودينية تُسيّر تصرّفاته، سيتحرّك على مقتضى ما تُمليه عليه قواه الطبيعية، وبالتّالي سيميل إلى ما تأمره به قوّة الشهوة والغضب وحبّالأنا، ممّا يترتّب عليه آثار ونتائج سلبية وغير حسنة، فهو للسير في اتّجاه الشرّ نتيجة ضعفه وجهله ونقصه وحاجته أوفق ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾4، ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾5، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾6. وهنا يأتي دور التربية في الأخذ بيد الطفل والسير به في أيّ اتجاه من الاتجاهات، فالطفل في المحصّلة هو صناعة التربية.

 
والتربية قبل ولادة الطفل لها دور في تكوين استعدادات خاصّة فيه، بحيث يولد مجهّزاً بتلك الاستعدادات حتى بالوراثة، ويُصبح فيما بعد من الصعوبة - وليس المستحيل - تدارك تلك الاستعدادات وتحويلها عن مسارها الذي رسم في شخصية الطفل.
 
وبناءً عليه، نفهم رأي نصير الدين الطوسي في أنّ الطفل يميل إلى الأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقص والحاجة7. فهذه النظرية التي يتبنّاها الطوسي ليست في مقام البيان من جهة الفطرة والجبلّة، وإنّما في مقام البيان من جهة العمل والسلوك، بمعنى



1 سورة الإنسان، الآية 3.
2 سورة الروم، الآية 54.
3 مغنية، محمد جواد، التفسير المبين، ص538. ومغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، ج6، ص151. قال:" ضعف البنية والإدراك في الطفل". ويراجع: مجمع البيان، ج8، ص485. في تفسير الآية: "خلقكم أطفالاً لا تقدرون على البطش، والمشي، والتصرفات". وشبّر، عبد الله، تفسير القرآن الكريم، ص390، قال: "أي ابتدأكم أطفالاً ضعافاً". والميزان في تفسير القرآن، ج16، ص215، قال: "أي ابتدأكم ضعفاء، ومصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية".
4 سورة الأحزاب، الآية 72.
5 سورة النساء، الآية 28.
6 سورة يوسف، الآية 53.
7 أخلاق ناصري، ص280-284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

94

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 أنّ الطفل لأنّه ليس كائناً عقلائيّاً ومتشرعيّاً، فإنه سيميل إلى طاعة الغريزة والشهوة، وهي بطبعها تُحرّكه نحو تحقيق ما فيه لذّته الشهوية والمادّية، وبعبارة أخرى إنّ الطفل لو خُلّي وقواه النفسية الشهوية والغضبية مع جهله وضعفه وعدم تزوّده بقضايا العقل العمليّ والوحي كضوابط للقيم والسلوك، سيجعل قواه تجذبه نحو تحقيق ما يُلائمها ويُنافرها، وهو بحسب الغالب يكون سيراً باتّجاه القبح أكثر منه نحو الحسن، لذا يُنبّه في هذا المجال فيقول الطوسي: "عندما تتمّ أيام رضاعه يجب الانشغال بتأديبه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة قبل أن يتعوّد على الأخلاق الفاسدة، إذ يكون الطفل مستعدّاً لها، وأكثر ميلاً للأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقصان والحاجة"1.

 
وفي ذات السياق، يقول الفيض الكاشاني: "إنّ الصبيّ إذا أُهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأكثر رديّ الأخلاق، كذّاباً، حسوداً، سروقاً، نمّاماً، لجوجاً، ذا فضول وضحك، وكيّاد، ومجانة، وإنّما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب"2.
 
إذاً، لا تنافي بين النظرية التي ترى أنّ الطفل خيّرٌ بطبعه وبين ما يذهب إليه بعض الحكماء المسلمين في بعض كلماته من ميل الطفل إلى الشرّ والأخلاق الرذيلة، فإنّ النظرية الأولى تُفيد أنّ طبيعة الطفل بأصل الفطرة تميل إلى الخير والتوحيد وقبول الدين، ولكن هذا لا يعني أنّه تلقائياً لو خُلّي الطفل وطبعه وبيئته وتربيته ستذهب نفسه في هذا الاتّجاه، بل تسلك اتّجاهاً آخر يتناسب مع البيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية، لأنّ الميل الفطريّ نحو الخير لا يُنافي الاستعداد الطبيعيّ بسبب قوّة الاختيار الكامنة فيه إلى الطرفين معاً. وبهذا التفسير نفهم قول الإمام عليّ - لولده الحسن - عليهما السلام: "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قِبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك"3، بنحو لا يتنافى مع قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ مولود يولد على الفطرة"4.



1 أخلاق ناصري، ص280.
2 الفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص125.
3 نهج البلاغة، من وصية له لولده الحسن كتبه إليه بحاضرين منصرفاً من صفين، رقم269، ص526.
4 الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، ص363.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

95

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

b

نختم الدرس بنقطة بنيويّة في كيفية التعامل التربويّ مع الطفل، وهي أنّه سواء أكانت طبيعة الطفل خيّرة أم شرّيرة أم حيادية، فإنّ هذا لا يعني أنّ الطفل لن يقع فيما نراه نحن الراشدون أنّه خطأ أو خطيئة، لأنّ الطفل نتيجة جهله المطلق وضعفه ونقصه يسير في طور الاكتشاف لذاته وللمحيط من حوله، ومن الطبيعيّ أن يقع في الخطأ، فإنّه يتعلّم من أخطائه، لذا يُمكن تأسيس قاعدة عامّة في سياق تربية الطفل، وهي مراعاة حقّه في أن يقع في الخطأ.
 
عن الإمام الباقر عليه السلام: "أنّ علياً عليه السلام كان يقول: عمد الصبيان خطأ..."1.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "عمد الصبيّ وخطؤه واحد"2.
 
وقد وقع الاختلاف في وجهات النظر عند الفقهاء في كون هذه الروايات مختصّة بباب الديات والجنايات أم أنّها عامّة ومطلقة. وقد استظهر بعض الفقهاء منها عدم الاختصاص بباب الجنايات، منهم الشيخ الأنصاري حيث قال: "كل حكم شرعيّ تعلّق بالأفعال التي في ترتّب الحكم الشرعيّ عليها القصد بحيث لا عبرة بها إذا وقعت بغير القصد فما يصدر منها عن الصبيّ3 قصداً بمنزلة الصادر عن غيره بلا قصد"4. وهذا مؤشّر إلى أنّ الفعل العمديّ الصادر عن الطفل - حتى المميّز، فكيف بالطفل دون سنّ التمييز - يُنزّل في الشريعة الإسلامية منزلة الخطأ، ويتمّ التعامل معه كالتعامل مع المُخطئ.
 
هذا، بالإضافة إلى إمكانية استفادة المعنى السابق من أحاديث: "رفع القلم5 عن الصبيّ حتّى يحتلم"6. يقول الشيخ محمد حسين النائيني: "إنّ الظاهر من قوله عليه السلام: 



1 تهذيب الأحكام، ج10، ص233، ح921.
2 م.ن، ص233، ح920.
3 الصبي من باب التغليب، وإلا فهو يشمل كل طفل سواء أكان ذكراً أم أنثى، ولا خصوصية للطفل الذكر.
4 الأنصاري، مرتضى، المكاسب، ج3، ص282.
5 المقصود برفع القلم هو إما: رفع الأحكام الإلزامية، أو رفع مطلق الأحكام الإلزامية والترخيصية، وبالتالي رفع المؤاخذة والعقاب، وإما رفع المؤاخذة والعقوبة، وإما رفع الاثنين معاً، أي الأحكام والمؤاخذة.
6 روي الحديث بألفاظ مختلفة، مثل: "عن الصبي حتى يدرك"، "عن الصبي حتى يبلغ"، "عن الصبي حتى يحتلم"، "عن الصبي حتى يكبر"، "عن الصبي حتى يعقل"، "عن الصبي حتى يشب". يراجع: الطوسي، الخلاف، ج2، ص41. وسائل الشيعة، ج1، ص20. والبخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج6، ص169. والسجستاني، أبي داود، سنن أبي داود، ج2، ص338. والترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ج2، ص438.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

96

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 "رفع القلم عنه"، ما هو المتعارف بين الناس والدائر على ألسنتهم: من أنّ فلاناً رفع القلم عنه، ولا حرج عليه، وأعماله كأعمال المجانين، فهذه الكلمة كناية عن أنّ عمله كالعدم، ورفع عنه ما جرى عليه القلم فلا ينفذ فعله، ولا يمضي عنه، فإنّ ما صدر عنه لا يُنسب إليه"1.

 
وهذا يُشعر بأنّه من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ. والمقصود بالحقّ هنا الحقّ القانونيّ والأخلاقيّ والطبيعيّ، لكون وقوع الطفل في الخطأ سنّة طبيعية في مراحل نموّه، فما نُصّنفه نحن الراشدون في دائرة الخطأ لا يُصنّفه الطفل في مراحل طفولته المبكرة كذلك، خصوصاً في مرحلة ما دون التمييز، لعدم معرفته بمعنى الصواب والخطأ2.
 
يبقى أن نُشير إلى نقطة أخيرة - ستتضح ملامحها خلال درس التربية بالعقوبة - وهي أنّ حقّ الطفل في الوقوع بالخطأ لا يعني إقراره على خطئه، أو عدم تنبيهه وإرشاده وتوجيهه إلى الصواب، أو التساهل والتسامح معه في كلّ خطأ كان وبأيّ مرحلة عمرية كانت.



1 الخوانساري، موسى بن محمد، منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث الميرزا محمد حسين النائيني، ج1، ص359.
2 أنظر: عجمي، سامر، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، ص240 وص305.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

97

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 المفاهيم الرئيسة

- يوجد ثلاثة آراء حول طبيعة الطفل، الرأي الأول: ينظر إلى الطفل على أنّه شرّير بطبعه. والثاني: يعتقد أنّ الطفل خيّر بأصل الفطرة. والثالث: يذهب إلى أنّ طبيعة الطفل حيادية تجاه الخير والشرّ.

- يولد الطفل مزوّداً بقوى فطرية غريزية تدفعه للتصرّف بطريقة معيّنة دون أخرى، أي بنحو يتلاءم مع مقتضى طبيعته وفطرته.

- إنّ طبيعة الطفل قابلة للتغيير والتبديل، وإلا لو كانت ثابتة لا تتغيّر لبطلت كلّ التعاليم والتوصيات الدينية في تربية الأطفال. كما أنّ التجربة الإنسانية خير شاهد على قابلية الطفل للانتقال من حال إلى حال بواسطة التربية والتدريب والتعويد.

- يلعب تعويد الطفل على أفعال معيّنة دوراً مهمّاً في تشكيل هويّته باتجاه يتوافق مع الأمور التي تمّ تعويده عليها، فالعادة لها دور مؤثّر في تنمية استعدادات خاصّة عند الطفل.

- هناك إمكانية للجمع بين الآراء الثلاثة المذكورة سابقاً، باعتبار كلّ واحدة منها نظر إلى زاوية من طبيعة الطفل، فنظريّة الخيرية تُفيد أنّ طبيعة الطفل بالفطرة تميل إلى الخير والتوحيد وقبول الدين، وهو وإن كان أمراً صحيحاً، إلا أنّه لا يعني أنّه تلقائياً لو خُلّي الطفل وطبعه وبيئته وتربيته سيذهب في هذا الاتّجاه، بل سيسلك اتّجاهاً يتناسب مع البيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية، لأنّ الميل الفطريّ نحو الخير لا يُنافي الاستعداد الطبيعيّ بسبب قوّة الاختيار الكامنة إلى الطرفين معاً، وهذا هو معنى الحيادية أي أنّه كائن مختار للطرفين.

- إنّ من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ في تصرّفاته لأنّه لا يُميّز بين مفهوم الخطأ والصواب، فما يراه الراشدون خطأ ينظر إليه الطفل على أنّه أمر طبيعيّ. وقد أعطت الشريعة الإسلامية للطفل هامشاً للوقوع في الخطأ، ولكن هذا لا يعني إقراره على خطئه وتعويده عليه وعدم تنبيهه وتوجيهه نحو الصواب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

98

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 أسئلة الدرس

1- برأيك، ما هي طبيعة التركيبة الفطرية للطفل بأصل الخلقة، هل هي طبيعة شرّيرة أم خيّرة أم حيادية؟ علّل ذلك.

2- هل طبيعة الطفل وفطرته ثابتة غير قابلة للتغيير أم أنّها تتبدّل من حال إلى حال؟ بيّن دليلك على ذلك.

3- كيف تؤثّر النظرة إلى طبيعة الطفل (خيّرة، شرّيرة، حيادية) في كيفية التربية؟

4- ما هو دور العادة في تربية الطفل على صفات وأفعال معيّنة من وجهة نظرك؟

5- كيف يُمكن الجمع بين النظريّات الثلاث المختلفة حول طبيعة الطفل؟

6- هل من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ؟ ولماذا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

99

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرض أدلة محبوبيّة إنجاب الأطفال.
2- يفهم أنّ الإكثار من إنجاب الأطفال مرغوب في الرؤية الإسلامية.
3- يُدرك أهمّية الأعمال العبادية وتأثيرها في إنجاب الأطفال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

100

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 تمهيد

التربية من المقولات الإضافية التي تحتاج إلى طرفين تتقوّم بهما، طرف هو فاعل التربية، وطرف هو موضوع أو متعلّق التربية. وموضوع التربية في هذا الكتاب هو الطفل، وخروج الطفل من ظلمة العدم إلى نور الوجود يتوسّطه عنصر الاختيار الإنسانيّ، فالإنسان في الأعمّ الأغلب هو الذي يختار أن يكون له طفل، فتحقيق موضوع التربية أي الطفل هو مسؤولية الإنسان ويقع على عاتق الوالدين، وبناءً عليه تظهر أهمّية الجواب عن السؤال التالي: ما هي النظرة الإسلامية إلى إنجاب الأطفال؟

ويُمكن تسليط الضوء على النظرة الإسلامية إلى إنجاب الأطفال من خلال عدّة عناوين تتمحور حول المباحث التالية:
المبحث الأول: أصل إنجاب الأطفال وطلب الولد.
الثاني: الإكثار من إنجاب الأطفال.
الثالث: أسباب الامتناع الاختياريّ عن إنجاب الأطفال.
الرابع: تنظيم الأسرة وتحديد النسل.
الخامس: الأعمال العبادية التي تُساعد على إنجاب الأطفال.

وسنُحاول في هذا الدرس وما يليه تسليط الضوء على هذه المباحث بشكل تدريجيّ من خلال عرض النصوص القرآنية والروائية المتعلّقة بها، مع الإشارة إلى أنّه لا يُمكن التفكيك الهندسيّ بشكل تامّ بين مجموع هذه الدوائر البحثية، إذ قد تتداخل المباحث فيما بينها ببعض الأفكار أحياناً، وذلك نتيجة الارتباط القويّ والعلاقة الوثيقة فيما بينها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

101

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 طوائف النصوص الروائية المحفِّزة على الإنجاب

يظهر بشكل واضح من النصوص الدينية تحفيز الإنسان وتشجيعه على إنجاب الأطفال إمّا بالدلالة المطابقية، وإمّا بالدلالة الالتزامية. ويُمكن تصنيف النصوص في ذلك إلى عدّة طوائف على الشكل التّالي:
الطائفة الأولى: الحثّ على طلب الولد مباشرة
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "اطلبوا الولد، والتمسوه، فإنّه قرّة العين، وريحانة القلب"1.
 
- وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: "... إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما كان يقول:... اطلبوا الولد فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً"2.
 
الطائفة الثانية: الحثّ على الزواج معلَّلاً بالإنجاب
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا، فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة، حتّى أنّ السقط ليجيء محبنطئاً3 على باب الجنّة، فيُقال له: ادخل الجنّة. فيقول: لا، حتى يدخل أبواي قبلي"4.
 
- وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً؟! لعلّ الله أن يرزقه نسمة تُثقل الأرض بلا إله إلا الله"5.
 
الطائفة الثالثة: الحثّ على اختيار الزوجة الولود
من النصوص الروائية التي يُستفاد منها الحثّ على الإنجاب وطلب الولد، ما ورد في جعل أحد معايير اختيار الزوجة أن تكون ولوداً.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبيّ الله، إنّ لي ابنة عمّ، قد رضيت جمالها وحسنها ودينها، ولكنّها عاقر.



1 مكارم الأخلاق، ص224.
2 الصدوق، محمد بن علي، الخصال، ص614-615.
3 محبنطئاً: المحبنطئ هو الممتلئ غضباً وغيظاً، والممتنع امتناع طلب لا امتناع إباء.
4 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص383، ح4344.
5 م.ن، ص382، ح4340.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

102

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 فقال: لا تزوّجها. إنّ يوسف بن يعقوب لقى أخاه فقال: يا أخي، كيف استطعت أن تزوّج النساء بعدي؟ فقال: إنّ أبي أمرني، فقال: إن استطعت أن تكون لك ذريّة تُثقل الأرض بالتسبيح فافعل..."1.

 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا بكراً، ولوداً، ولا تزوّجوا حسناء جميله عاقراً، فإنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة"2.
 
الطائفة الرابعة: حبّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمولود في الأمّة
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "والمولود في أمّتي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس"3.
 
الطائفة الخامسة: تعليم أئمة أهل البيت عليهم السلام الناس بعض الأعمال لإنجاب الأطفال
من الروايات التي يُستفاد منها محبوبية ومرغوبية طلب الولد في الرؤية الإسلامية تلك الطائفة التي تتحدّث عن تعليم أئمة أهل البيت عليهم السلام للإنسان بعض الأعمال التي تصبّ نتيجتها في إنجاب الأطفال، نذكر عدّة منها في المتن ونعرض بعضها في الحاشية للاستفادة والإفادة خصوصاً لمن يرغب في إنجاب الأطفال.
 
- عن الإمام زين العابدين عليه السلام، قال لبعض أصحابه: "قل في طلب الولد: ربّ لا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين، واجعل لي من لدنك ولياً يرثني في حياتي، ويستغفر لي بعد وفاتي، واجعله لي خلقاً سوياً4، ولا تجعل للشيطان فيه نصيباً، اللهم إنّي أستغفرك وأتوب إليك إنّك أنت الغفور الرحيم. سبعين مرة، فإنّه من أكثر هذا القول رزقه الله ما تمنّى من مال وولد، ومن خير الدنيا والآخرة. فإنه يقول: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾5"6.



1 الكافي، ج5، ص333.
2 م.ن، ج5، ص333.
3 عوالي اللئالي، ج3، ص286.
4 وفي بعض النسخ: خلفاً سوياً.
5 سورة نوح، الآيات 10-12.
6 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص474، ح4660.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

103

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 - وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إذا أبطأ على أحدكم الولد فليقل: اللهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، وحيداً وحشاً، فيقصر شكري عن تفكّري، بل هبْ لي عاقبة صدق ذكوراً وإناثاً، آنس بهم من الوحشة، وأسكن إليهم من الوحدة،وأشكرك عند تمام النعمة، يا وهّاب يا عظيم يا معظّم، ثم أعطني في كلّ عافية شكراً حتّى تبلغني منها رضوانك في صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء بالعهد"1.

 
الطائفة السادسة: بيان أهمّية الولد وفائدته في حياة الإنسان
من النصوص الروائية التي يُستفاد منها بالدلالة الالتزامية الحثّ على إنجاب الأطفال، ما ورد في بيان فائدة الولد وفضله وأهمّيته في حياة الأبوين والأسرة، وسنتعرّض لها في الدرس التاسع.
 
النظرة الإسلامية إلى الإكثار من إنجاب الأطفال
تقدّم في الفقرات السابقة إثبات أصل محبوبيّة ومرغوبيّة إنجاب الأطفال. وفي هذا المبحث نُريد أن نُسلّط الضوء على الجواب عن السؤال التالي: ما هو موقف الرؤية الإسلامية من كثرة إنجاب الأطفال؟ فهل تحدّثت عن الإنجاب على نحو القضية المهملة بمعنى أنّها حثّت على الإنجاب بغضّ النظر عن بيان الكم قلّةً وكثرةً؟ أم أنّها تحدّثت عن الإنجاب على نحو 
 
القضية المحصورة التي بيّنت الكمّ قلّةً أو كثرةً؟
إنّ القيام بعملية استقراء للنصوص الدينية من آيات وروايات يُفيد في الجملة أيضاً بالإضافة إلى محبوبيّة أصل الإنجاب، أنّ الإكثار من الإنجاب أمر مرغوب فيه من حيث المبدأ. 
 
ونعرض النصوص التي تمّ الاستدلال والاستشهاد بها على ذلك.
 
أولاً: ظواهر الآيات القرآنية
1- آية تعدّد الزوجات
يقول تعالى: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾2. يظهر من الآية 



1 الكافي، ج6، ص7.
2 سورة النساء، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

104

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 القرآنية تشريع تعدّد الزوجات، وهي مسألة مجمع عليها بين المسلمين. واستفاد البعض أنّ تشريع تعدّد الزوجات سيؤدّي بطبيعة الحال إلى كثرة النسل1، لأنّه لو أنجب من كلّ زوجة طفلين فقط ستكون النتيجة 8 أطفال، فتكون الآية دالّة بالمطابقة على مشروعية تعدّد الزوجات وبالالتزام على محبوبيّة كثرة الإنجاب.

 
وفي الحقيقة، إنّ الآية غير ناظرة إلى إثبات محبوبيّة ومرغوبيّة الإكثار من إنجاب الأطفال، وليست في مقام البيان من هذه الجهة لا مطابقة ولا التزاماً.
 
2. آيات الإمداد بالبنين
- يقول تعالى على لسان نبيّ الله نوح في دعوته لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾2.
 
- ويقول تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه عاد: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾3.
 
- ويقول تعالى في سياق المنّة على بني إسرائيل: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾4.
 
يُستفاد من هذه الآيات عدّة أمور:
1- أنّ وجود الأبناء في حياة الأسرة والمجتمع مدد إلهيّ5.
2- أنّه من جملة سنن الله تعالى في المجتمعات، تفرّع المدد الإلهيّ بالأموال والأولاد على الاستغفار.



1 يراجع: الزهراني، محمد بن مسفر، تعدد الزوجات في الإسلام، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 36، الإصدار: من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1413هـ، ص257-262.
2 سورة نوح، الآيات 10-12.
3 سورة الشعراء، الآيات 131-134.
4 سورة الإسراء، الآية 6.
5 الميزان في تفسير القرآن، ج15، ص301.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

 


105

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 3- أنّ كثرة البنين والأطفال في المجتمع أمر محبوب ومرغوب، ولذلك امتنّ الله تعالى به على قوم نوح وهود، وأيضاً على بني إسرائيل ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾.

 
وقد استدلّ بعض الفقهاء بهذه الآيات على محبوبية كثرة الأولاد1. وصنّف بعضهم جميع الآيات المذكورة أعلاه في موسوعته الحديثية تحت عنوان: "باب ما ورد في فضل الاستيلاد وتكثير الأولاد"2.
 
كما فهم العديد من المفسّرين هذا المعنى من الآيات القرآنية المذكورة3، ولعلّ هذا المعنى يُمكن استفادته من مادّة: "مدد" في قوله تعالى: ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ و﴿أَمَدَّكُم﴾ و﴿وَأَمْدَدْنَاكُم﴾، و"المدد هو ما يمدّ به الشيء أي يزداد ويكثر"، والمدد: "اتباع الثاني ما قبله شيئاً بعد شيء على انتظام"4، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه تعالى في مقام المنّة وبيان النعمة.
 
قال المحقّق الأردبيلي في تفسير آية: "﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي يُكثر أموالكم وأولادكم الذكور أيضاً..."5.
 
ومن الشواهد على استفادة هذا المعنى، الروايات التي ذكرناها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في تعليم الناس أسلوب الاستغفار كوسيلة للإكثار من الذرّية، ومنها الرواية التي تتحدّث عن الذِّكر الذي علّمه الإمام جعفر الصادق عليه السلام لحاجب هشام بن عبد الملك: "قل في كلّ يوم إذا أصبحت وأمسيت: سبحان الله سبعين مرّة. وتستغفر عشر مرّات، وتُسبّح تسع مرّات، وتختم العاشرة بالاستغفار، يقول الله: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾"6. فقالها الحاجب فرزق ذرّية طيّبة كثيرة...



1 يراجع: الشيرازي، ناصر مكارم، بحوث فقهية مهمة، ص273-275.
2 أنظر: البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص287.
3 أنظر: مجمع البيان، ج10، ص133. وزبدة البيان، ص576. والشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج19، ص54.
4 مجمع البيان، ج7، ص344.
5 زبدة البيان في أحكام القرآن، ص576.
6 سورة نوح، الآيات 10-12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

106

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 فقال سليمان بن جعفر: ففعلتها، وقد تزوّجت ابنة عم لي، فأبطأ عليّ الولد منها، فعلّمتها أهلي فرُزقت ولداً، وزعمت المرأة أنّها متى تشاء أن تحمل حملت إذا قالتها وعلّمتها غير واحد من الهاشميين ممّن لم يكن يولد لهم، فولد لهم ولد كثير، والحمد لله"1.
 
ثانياً: النصوص الروائية: في الحثّ على الإكثار من الولد
إذا كان من الممكن المناقشة في دلالة ظاهر الآيات بشكل صريح على محبوبيّة ومرغوبيّة كثرة الإنجاب، لا يُمكن ذلك في بعض الروايات، لأنّها تحثّ على الإكثار بشكل صريح.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكثروا الولد، أُكاثر بكم الأمم غداً"2.
 
كما يُمكن استفادة هذا المعنى من الأحاديث المذكورة في بداية الدرس، كونها على طائفتين:
الأولى: تحثُّ على طلب الولد بغضّ النظر عن التكثير. مثل: "اطلبوا الولد"، "يرزقه نسمة"...
 
الثانية: يُستفاد منها محبوبيّة الإكثار من الإنجاب. مثل: "تزوّجوا تكثروا"، "مكاثر بكم"... المشعرة بالحثّ على تكثير الأولاد. ومنها:
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "تناكحوا تناسلوا، فإنّي أُباهي بكم الأمم"3.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا تناسلوا، فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"4.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "تناكحوا تكثروا، فإنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط"5.
 
وفي هذا السياق، صنّف الحر العاملي هذه الروايات وأمثالها في كتابه وسائل الشيعة تحت عنوان: "استحباب الاستيلاد وتكثير الأولاد"6، وقال في كتاب هداية الأمة: "يُستحبّ الاستيلاد وتكثير الأولاد"7، مستدلّاً على ذلك بعدّة روايات منها ما ذكرناه.



1 الكليني، الكافي، ج6، ص9.
2 م.ن، ص2.
3 الرواندي، قطب الدين سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، ج2، ص920. والأحسائي، محمد بن علي بن إبراهيم، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج1، ص259.
4 الحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج2، ص362، ح2051.
5 عوالي اللئالي، ج3، ص286.
6 وسائل الشيعة، ج21، ص355.
7 الحر العاملي، محمد بن الحسن، هداية الأمة إلى أحكام الأئمة، ج7، ص303.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

107

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 والنتيجة: "أنّ التناسل والتوالد، وتكثير الولد مطلوب شرعاً، وقد حثّ عليه في الكتاب والسنة"1.

 
نسبية مفهوم الكثرة والقلّة
نُشير في الخاتمة إلى أنّ الكثرة والقلّة من جملة المعاني النسبية المتغيّرة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، وليستا من المفاهيم الثابتة.
 
يقول السيد الخوئي في هذا السياق: "الشيء اليسير والكثير ليس لهما واقع محفوظ، بل هما أمران إضافيان، فالشيء الواحد يسير بالإضافة إلى شيء وكثير بالإضافة إلى آخر، أو أنّه يسير بالإضافة إلى شخص وكثير بالإضافة إلى آخر، أو أنّه يسير في مكان أو زمان وكثير في مكان أو زمان آخر"2.
 
وبناءً عليه، فقد يكون إنجاب 7 أفراد في مجتمع ما يُعتبر إكثاراً، في حين قد يكون في مجتمع آخر إنجاب 12 فرداً إكثاراً، وهكذا. كما قد يكون هناك تردّد وشكّ في انطباق مفهوم القلّة والكثرة على أيّ عدد من الأطفال في اعتبار ذلك.
 
يقول السيد كاظم الحائري: "إنّهما - أي الكثرة والقلّة - عنوانان عرفيان، وهناك ما يتيقّن بأنّه عند العرف يعتبر يسيراً أو كثيراً حسب اكتراث العقلاء به وعدمه، ولا يضرّ اختلاف تطبيق الحكم باختلاف الزمان والمكان، وهناك بعض المصاديق المشكوك كونه من اليسير أو الكثير...، فشأن عنوان اليسير والكثير هو شأن سائر المفاهيم العرفية التي توجد لها مصاديق مشكوكة"3.
 
وبهذا يتّضح أنّ تحديد الكثرة والقلّة من حيث عدد الأطفال في الأسرة يُقدّر بحسب نظر العرف الاجتماعيّ العامّ الذي تعيش فيه تلك الأسرة.



1 الروحاني، محمد صادق، المسائل المستحدثة، ص149.
2 الخوئي، أبو القاسم، مباني تكملة المنهاج، ج1، ص136.
3 الحائري، كاظم، القضاء في الفقه الإسلامي، مجمع الفكر الإسلامي، ط1، 1415ه، ص410.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

108

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ الكثير من النصوص الدينية يحثّ بشكل مؤكّد على إنجاب الأطفال.
 
- تنقسم هذه النصوص إلى عدّة طوائف: الأولى: تحثّ على إنجاب الأطفال مباشرة، والثانية: تحثّ على الزواج مبيّنة أنّ سبب ذلك هو إنجاب الأطفال، والثالثة: تحثّ على اختيار الزوجة الولود، والرابعة: تظهر أن المولود حبيب رسول الله، والخامسة: تُبيّن كيفية تعليم أئمة أهل البيت عليهم السلام للناس بعض الأعمال المساعدة على إنجاب الأطفال، والسادسة: تُبيّن أهمّية الولد وفائدته في حياة الإنسان.
 
- لم تحثّ الرؤية الإسلامية على أصل الإنجاب فقط، بل مدحت كثرة الإنجاب أيضاً، وهذا ما يُستفاد من آيات الإمداد بالبنين في القرآن الكريم: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾، وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: "أكثروا الولد، أُكاثر بكم الأمم غداً".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

109

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 أسئلة الدرس

1- اذكر ثلاث روايات تُفيد أنّ الرؤية الإسلامية تحثّ بنحو شديد على إنجاب الأطفال.

2- كيف تستفيد محبوبية الإنجاب من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً؟! لعلّ الله أن يرزقه نسمة تُثقل الأرض بلا إله إلا الله".

3- هناك روايات صادرة عن أهل البيت تُعلّم الناس بعض الأعمال من أجل إنجاب الأطفال، اذكر رواية وحلّل مضمونها مستفيداً منه محبوبية الإنجاب.

4- كيف تناقش من استدلّ بآية تعدّد الزوجات على محبوبيّة كثرة الإنجاب؟

5- كيف تستفيد من آيات الإمداد بالبنين محبوبيّة ومرغوبيّة كثرة الإنجاب؟

6- اذكر حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدلّ على محبوبيّة كثرة الإنجاب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

110

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتمكَّن من الإجابة إلى سؤال: لماذا الطفل؟
2- يفهم الآيات القرآنية التي يُمكن الاستدلال بها على فضل الطفل وأهمّيته في حياة والديه.
3- يعرض الروايات التي تدلّ على فضل الولد وأهمّيته في الدنيا والآخرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

111

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 تمهيد

سنُسلّط الضوء في هذا الدرس على أهمّية الطفل والمصلحة من وجوده في حياة الأسرة والمجتمع في ضوء الرؤية الإسلامية، ممّا يلعب دوراً مهمّاً كعنصر تحفيزيّ وترغيبيّ على إنجاب الأطفال. فهذا الدرس باختصار هو جواب عن السؤال التّالي: لماذا الطفل؟
 
العامل الفطريّ: فطرة الأمومة والأبوّة
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: "قال موسى بن عمران: يا ربّ، أيّ الأعمال أفضل عندك؟ فقال عزّ وجلّ: حبُّ الأطفال، فإنّي فطرتهم على توحيدي، فإن أمّتهم أدخلتهم برحمتي جنّتي"1.
 
كلُّ إنسانٍ يشعر في أعماق وجدانه بأنّه مجبول على غريزة حبّ الأطفال، ومعجون بالميل إلى إنجاب الأطفال، وحبّ أن يكون أباً أو أمّاً. ومهما حاول إنسان ما التنكّر لهذا الشعور الفطريّ فإنّه سيبقى معجوناً في طينته، وسيطفو في بعض اللحظات على السطح، ويلّح على الإنسان بالاستجابة لندائه وتلبية صوت هذا الشعور، وإلا سيبقى الإنسان يتحرّك في دائرة القلق والشعور بعدم الطمأنينة.
 
فالسعي نحو إنجاب الطفل هو إشباع لحاجة فطرية جُبلت عليها كلّ نفس بشرية في حبّ الأمومة والأبوة.



1 المحاسن، ج1، ص200.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

112

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 غريزة حبّ البقاء

إنّ من الخصائص الرئيسة التي تتميّز بها الكائنات الحيّة الواقعة في الطبيعة تحت الحسّ والاستقراء من حيوانات ونباتات هي التكاثر الجنسيّ، وهو عبارة عن حصول عملية اتّصال وتلاقح بين زوجين - ذكر وأنثى - ينبثق عنها كائن حيّ ثالث جديد مغاير لهما. وهذه الخصيصة الطبيعية أيضاً تُدغدغ في الإنسان غريزة حبّ البقاء فيسعى لتوليد كائنات حيّة جديدة تؤمّن استمرارية النوع البشريّ لحفظه عن الفناء والزوال.
 
عامل القوّة بالكثرة العددية
يعرض لنا القرآن الكريم العديد من الآيات التي تُشير إلى كون الكثرة العددية عامل قوّة وعزّة للمجتمع والأمة. يقول تعالى:
- ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾1.
 
- ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا  * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾2.
 
وقد كانت وما زالت الكثرة العددية للأمم مثار فخر واعتزاز.
- ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾3.
 
- ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾4.
 
عامل الوراثة والخلافة
يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾5.



1 سورة الإسراء، الآية 6.
2 سورة نوح، الآيات 10-11-12.
3 سورة الكهف، الآية 34.
4 سورة سبأ، الآية 35.
5 سورة مريم، الآيات 5-7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

113

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 وعن أبي عبد الله عليه السلام، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقرأ: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي﴾، يعني أنّه لم يكن له وارث حتّى وهب الله له بعد الكبر.

 
كلّ إنسان يرغب في استمرار وجوده الشخصيّ بمثال وشبيه له، يخلّد اسم العائلة، بنحو لا ينقطع ذكره بين الناس، ويُعبّر عن هذه الحالة بالوراثة أو الخلافة. وقد اعتبرت الروايات أنّ من محقّقات سعادة الإنسان أن يرى وريثه وخليفته.
 
وقد تقدّم ذكر العديد من الروايات - في الدرس السابق فقرة: تعليم أئمة أهل البيت الناس بعض الأعمال لإنجاب الأطفال - تُفيد هذا المعنى، منها:
- عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، قال لبعض أصحابه: "قل في طلب الولد: ربّ لا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين، واجعل لي من لدنك وليّاً يرثني في حياتي..."1.
 
- وعن بكر بن موسى الواسطي، قال:كُنتُ عند أبي إبراهيم - الكاظم - عليه السلام، فقال: إنّ أبي جعفراً كان يقول: "سعد من لم يمت حتّى يرى خلفه من نفسه"2.
 
ثم أومى بيده إلى ابنه عليّ - الرضا عليه السلام -، فقال: "وقد أراني الله خلفي من نفسي"3.
 
وعن أبي الحسن عليه السلام: "سعد امرؤ لم يمت حتى يرى خلفاً من نفسه"4.
 
- وعن أبي الحسن عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً لم يُمته حتى يُريه الخلف"5.
 
سعادة الإنسان بالأطفال
اتّضح من بعض الروايات السابقة أنّ من سعادة الإنسان وجود الأطفال في حياته، ونُضيف إليها:



1 الكافي، ج6، ص3.
2 من لا يحضره الفقيه، ح3، ص474، ح4660.
3 الخزاز القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، ص273. ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة، ص41، ح22.
4 الكافي، ج6، ص5.
5 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص482، ح4690.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

114

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سعادة الرجل الولد الصالح"1.

 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعة من سعادة المرء: الخلطاء الصالحون والولد البار..."2.
 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: "من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبهه خلقه وخلقه وشمائله"3.
 
عامل العون والخدمة والمساعدة للوالدين
يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾4.
 
إنّ التدبّر في هذه الآية القرآنية الكريمة يُعطينا عدّة دلالات:
الأولى: أنّ إنجاب الأطفال أحد أهداف بناء بيت الزوجية.
 
الثانية: كما تُفيد الآية بقرينة سياق الآيات التي تسبقها - وهي في مقام عدّ النعم والآلاء الإلهية على الإنسان - أنّ الأولاد نعمة إلهية5.
 
والثالثة: أنّ الأولاد بالإضافة إلى كونهم هدفاً لتأسيس بيت الزوجية، ونعمة إلهية، هم مددٌ وعونٌ لوالديهم، كما تُشير إليه مفردة: ﴿وَحَفَدَةً﴾. فالحفدة لغة جمع حافد، وهو من الحفد، والحفد في اللغة: الخدمة6. وأصل الحفد يدلّ على الخفّة في العمل والتجمّع،



1 الكافي، ج6، ص3.
2 الرواندي، النوادر، ص110.
3 الكافي، ج6، ص4.
4 سورة النحل، الآية 72.
5 الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص297. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الآية: "... النعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم، وجعل البنين والحفدة من أزواجهم، فإن ذلك من أعظم النعم وأجلاها، لكونه أساساً تكوينياً يبتني عليه المجتمع البشري، ويظهر به فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الأفراد، وينتظم به لهم أمر تشريك الأعمال والمساعي، فيتيسّر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والآخرة .ولو أنّ الإنسان قطع هذا الرابط التكويني الذي أنعم الله به عليه وهجر هذا السبب الجميل وإن توسّل بأيّ وسيلة غيره لتلاشى جمعه وتشتّت شمله وفي ذلك هلاك الإنسانية".
6 العين، ج3، ص185.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

115

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 فالحفدة الأعوان لأنّه يجتمع فيهم التجمّع والتخفّف1، والسرعة إلى الطاعة. ومنه قيل للأعوان حفدة، لإسراعهم في الطاعة2.

 
وقد اختلف المفسّرون في مصداق المعنى المراد من كلمة حفدة في الآية:
- قال بعضهم: إنّ بنين تُطلق على الأولاد الصغار، والحفدة تُطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إعانة ومساعدة آبائهم3.
 
- وتبنّى بعضهم: أنّ المقصود بها أولاد الأولاد.
 
- واعتبرها بعض ثالث: أنّها من باب العطف لتغاير الوصفين4، أي أنّ الأولاد جامعون للأمرين معاً، فهم بنون وهم حافدون أي يخدمون أهلهم ويعاونونهم5. أو من باب عطف الخاصّ على العامّ بحيث يكون المقصود بالحفدة خصوص البنين الذين يُعاونون والديهم ويُساعدونهم ويخدمونهم ويُسارعون إلى طاعتهم.
 
- وقد حملها بعض المفسّرين على كلّ المعاني السابقة6.
 
وعلى كلّ حال، بأيّ معنى أُخذت، يبقى الجامع المشترك هو جهة العون والمدد والخدمة والمساعدة للوالدين7.
 
يقول السيد الطباطبائي: "المراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين...، وجعل لكم من أزواجكم بالإيلاد بنين وحفدة وأعواناً تستعينون بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون بهم عن أنفسكم المكاره"8.
 
وبعض الروايات يشهد على هذا الفهم للآية: فعن جميل بن درّاج، عن أبي عبد 



1 معجم مقاييس اللغة، ج2، ص84.
2 أنظر: مجمع البيان، ج6، ص178.
3 يراجع: الطبرسي، مصدر سابق. والطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج14، ص191. والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج8، ص256 وما بعد.
4 البيضاوي، عبد الله بن عمر، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المعروف بتفسير البيضاوي، ج3، ص411.
5 الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج2، ص419.
6 الرازي، محمد بن عمر، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، ج20، ص80.
7 الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج8، ص257.
8 الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص297.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

116

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 الله عليه السلام، عن قول الله: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ قال عليه السلام: "هم الحفدة، وهم العون منهم، يعني البنين"1.

 
عامل المعاونة والمعاضدة في الروايات
وقد صرّحت الروايات بأنّ أحد أهداف وجود الولد في حياة الوالدين هو أن يكون عضداً لهما، وأصل العضد في اللغة: ما بين المرفق إلى الكتف، ويدلّ على العضو الذي يستعار في موضع القوّة والمعين2، وجمعه: أعضاد، و"أعضاد كلّ شيء ما يشدّ من حاليه من البناء وغيره"3. وقد شبّه الولد بأنّه عضد لوالديه لأنّه العامل الذي يفترض أن يستندون إليه ويعتمدون عليه في الحياة بكافّة جوانبها ومجالاتها، فعندما تشتدّ الظروف يجد الوالدان في الولد العنصر الذي يقف إلى جانبهم ويُعينهم على تجاوز صعابها.
 
- عن عيسى بن صبيح4، قال: دخل الحسن العسكريّ عليه السلام علينا الحبس، وكُنتُ به عارفاً، فقال لي: "لك خمس وستون سنة وشهر ويومان".
 
وكان معي كتاب دعاء عليه تاريخ مولدي، وإنّي نظرت فيه فكان كما قال.
 
ثم قال: "هل رُزقتَ من ولد"؟
 
قُلتُ: لا.
 
قال: "اللهم ارزقه ولداً يكون له عضداً. فنعم العضد الولد".  ثم تمثّل عليه السلام: "من كان ذا عضد يُدرك ظلامته إنّ الذليل الذي ليس له عضد"5
 
قُلتُ: ألك ولد؟



1 العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج2، ص264. والحويزي، عبد علي بن جمعة العروسي، تفسير نور الثقلين، ج3، ص68. والبحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج3، ص438.
2 معجم مقاييس اللغة، ج4، ص348.
3 العين، ج1، ص268.
4 وفي: الأربلي، علي بن عيسى، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج3، ص307: عيسى بن شج. وفي الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ص1087: عيسى بن الفتح.
5 نسب الدينوري ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، في عيون الأخبار، ج3، ص5، هذا البيت إلى عمرو بن حبيب الثقفي أحد شعراء الجاهلية، أسلم سنة 9 ه. والبيت الثاني منه:
تنبو يداه إذا ما قل ناصره       ويأنف الضيم إن أثرى له عدد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

117

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 قال عليه السلام: "أي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فأمّا الآن فلا"1.

 
- وعن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، قال: "من سعادة الرجل أن يكون له وُلْدٌ يستعين بهم"2.
 
نعم الشيء الولد
- روي عن الحسن البصريّ أنّه قال: بئس الشيء الولد، إن عاش كدّني، وإن مات هدّني. فبلغ ذلك الإمام زين العابدين عليه السلام، فقال: "كذب، والله نِعْمَ الشيء الولد، إن عاش فدعاء حاضر، وإن مات فشفيع سابق"3.
 
تُستعمل كلمة نِعْمَ في مقام المدح للشيء، ويظهر من أصلها الاشتقاقيّ في اللغة العربية أنّها من النعمة، ويرجع معناها إلى ما "يدل على ترفّه وطيب عيش وصلاح"4، ولا ريب في أنّ الولد نعمة من الله تعالى، فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "البنون نعيم، والبنات حسنات..."5. وهذه النعمة الإلهية تجعل الإنسان يعيش حياة طيّبة، إذ بدون الولد يبقى الإنسان ناقص العيش، كما سيأتي في بعض الروايات اللاحقة.
 
إثقال الأرض بالتوحيد والتسبيح
إنّ الله عزّ وجلّ خلق الإنسان لهدف العبادة، وحقيقة العبادة متقوّمة بالتوحيد، ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾6، فعبادة الله تعالى وذكره وتسبيحه وحمده... هي الهدف الغائيّ لخلقة الإنسان كما ذكرنا في الدروس السابقة. ووظيفة التربية هي إيصال الإنسان إلى هذه المنزلة. وكي يصل الإنسان إلى هذه المنزلة لا بد من وجود الإنسان على الأرض، ووجوده رهن إرادة والديه، من هنا حثّت الروايات الأهل على إنجاب الأطفال من أجل تحقيق هذا الهدف الأعلى.



1 الخرائج والجرائح، ج1، ص478.
2 الكافي، ج6، ص2.
3 الراوندي، سعيد بن هبة الله، الدعوات سلوة الحزين-، ص285.
4 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص446.
5 الكافي، ج6، ص7.
6 سورة طه، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

118

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً، لعلّ الله يرزقه نسمة، تُثقل الأرض بلا إله إلا الله"1.

 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "لمّا لقي يوسف أخاه، قال له: يا أخي كيف استطعت أن تتزوّج النساء بعدي؟! قال: إنّ أبي أمرني، وقال: إن استطعت أن تكون لك ذرية تُثقل الأرض بالتسبيح فافعل"2.
 
الأولاد أنس للوالدين
الإنسان كائن اجتماعيّ بالفطرة، أي يميل بأصل الخلقة إلى التشكّل داخل وحدات اجتماعية، لأنّه لا يستغني عنهم في تأمين متطلّبات حياته ووجوده، من جهة، كما أنّه يستأنس بالآخرين، ولذا لو بقي الإنسان بمفرده سرعان ما يشعر بالغربة والوحشة، وأصغر وحدة يتكوّن منها المجتمع هي الأسرة، التي تُظلّل حياة الإنسان، وتُخرجه من حالة الوحدة والفرادة التي تجعله يعيش الشعور بالوحشة، إلى حالة السكن والطمأنينة، فالولد يمنح حياة الإنسان أُنساً خاصاً، ويُعطيه إحساساً بالألفة.
 
- عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إذا أبطأ علي أحدكم الولد فليقل: اللهمّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، وحيداً وحشاً فيقصر شكري عن تفكري، بل هب لي عاقبة صدق ذكوراً وإناثاً، آنس بهم من الوحشة، وأسكن إليهم من الوحدة..."3.
 
- وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "خمس خصال من فقد واحدة منهنّ لم يزل ناقص العيش، زائل العقل، مشغول القلب: فأوّلها: صحّة البدن، والثانية: الأمن، والثالثة: السعة في الرزق، والرابعة: الأنيس الموافق".
 
قُلتُ - أي الرواي -: وما الأنيس الموافق؟
 
قال عليه السلام: "الزوجة الصالحة، والولد الصالح، والخليط الصالح".
 
والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال، الدّعة"4.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص382.
2 الكافي، ج6، ص3.
3 م.ن، ص7.
4 الخصال، ص284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

119

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 الولد قرّة عين الإنسان وكبده وريحانة قلبه

الولد بضعة من الإنسان حقيقة لا مجازاً. وهذه البضعة على نحو الحقيقة تتقلّب في أعضاء الإنسان على نحو المجاز، فتارة يُعبّر الإنسان عن ولده أنّه عينه التي يرى بها، وأخرى أنّه يده التي تمدّه بالعون، وثالثة أنّه قلبه وفؤاده، ورابعة أنّه كبده...إلخ. ويلحظ في كلّ تعبير جنبة من الجوانب المناسبة للتعبير. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الإنسان لا يُمكنه الاستغناء عن الولد كما لا يُمكنه الاستغناء عن أيّ عضو من أعضائه. وهذا ما نُلاحظه بشكل واضح في الروايات.
 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اطلبوا الولد والتمسوه، فإنّه قرّة العين وريحانة القلب"1.
 
- وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد كبد المؤمن..."2.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أولادنا أكبادنا"3.
 
- وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام يوماً لولده العباس لمّا كان صغيراً: "قل: واحد، فقال: واحد، فقال: قل: اثنان، قال: استحي أن أقول باللسان الذي قُلت واحد اثنان، فقبّل عليّ عليه السلام عينيه، ثمّ التفت إلى زينب، وكانت على يساره والعباس عن يمينه، فقالت:يا أبتاه أتُحبّنا؟ قال عليه السلام: نعم يا بني، أولادنا أكبادنا"4.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد الصالح ريحانة من الله قسمها بين عباده..."5.
 
العامل الأخرويّ
إنّ الولد ليس نعمة وأنساً وريحانة وعوناً وسنداً... لأهله في الدنيا فقط، بل الولد الصالح ذخيرة لأهله بعد موتهم، فباستغفاره ودعائه وقيامه بالأعمال الصالحة قد يكون نجاتهم من العذاب والنار.



1 مكارم الأخلاق، ص224.
2 عوالي اللآلي، ج1، ص270.
3 بحار الأنوار، ج101، ص97.
4 مستدرك الوسائل، ج15، ص215.
5 الكافي، ج6، ص3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

120

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم يُنتفع به"1.

 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مرّ عيسى ابن مريم عليه السلام بقبر يُعذّب صاحبه. ثم مرّ به من قابل2، فإذا هو ليس يُعذّب. فقال عليه السلام: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أول وهو يُعذّب، ومررت به العام وهو ليس يُعذبّ! فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا روحالله، قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً، فغفرت له بما عمل ابنه.
 
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ميراث الله عزّ وجلّ من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده..."3.
 
- عن معاوية بن عمار، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: "سنّة يسنّها يعمل بها بعد موته، فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الصالح يدعولوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدّق عنهما، ويعتق ويصوم ويُصلّي عنهما.
 
فقلتُ: أشركهما في حجّي؟
 
قال عليه السلام: "نعم"4.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ستّة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له..."5.
 
- وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد كبد المؤمن، إن مات قبله صار شفيعاً، وإن مات بعده يستغفر له فيغفر الله له"6.
 
فانتفاع الوالدين بالولد يوم القيامة ينبغي أن يكون عنصراً مرغِّباً في إنجاب الأطفال، وهذا ما نُلاحظه فيما رواه إسحاق بن عمار، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "إنّ فلاناً 



1 عوالي اللآلي، ج1، ص97. ويراجع: النسائي، أحمد بن شعيب، سنن النسائي بشرح جلال الدين السيوطي، ج6، ص25.
2 قابل: وقت لاحق.
3 الكافي، ج6، ص4.
4 نفس المصدر، ص57.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص246.
6 عوالي اللآلي، ج1، ص270.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

121

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - رجل سمّاه - قال: إنّي كنتُ زاهداً في الولد، حتّى وقفت بعرفة، فإذا إلىجنبي غلام شابّ يدعو ويبكي ويقول: يا رب، والدي والدي، فرغّبني في الولد حين سمعت ذلك"1.

 
ما للوالدين من الأجر في موت أطفالهم
يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾2.
 
قد يمتحن الله تعالى الإنسان ويبتليه بموت أطفاله قبل الولادة أو بعد الولادة، ولأنّ الله تعالى كتب على نفسه الرحمة بعباده فقد جعل لمن يفقد أحبّته من الأطفال عوضاً وأجراً وثواباً عظيماً يوم القيامة، فحتّى الطفل السقط يكون له أثر في نجاة والديه يوم القيامة.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعلموا أنّ أحدكم يلقى سقطه محبنطئاً على باب الجنّة، حتى إذا رآه أخذ بيده حتى يُدخله الجنّة، وإن ولد أحدكم إذا مات أجر فيه، وإن بقي بعده استغفر له بعد موته"3.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:... أما علمتم أنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة حتّى بالسقط، يظلّ محبنطئاً على باب الجنّة فيقول الله عزّ وجلّ: ادخل الجنّة، فيقول: لا أدخل حتّى يدخل أبواي قبلي. فيقول الله تبارك وتعالى لملكمن الملائكة: ايتني بأبويه فيأمر بهما إلى الجنّة. فيقول: هذا بفضل رحمتي لك"4.
 
- وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: ... أوما علمت أنّ الوِلدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم، يحضنهم إبراهيم وتُربّيهم سارة، في جبل من مسك وعنبر وزعفران؟"5.



1 الكليني، الكافي، ج6، ص3.
2 سورة البقرة، الآيتان 155-156.
3 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص483.
4 م.ن.
5 الكليني، الكافي، ج5، ص334.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

122

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 هذه النصوص الدينية بأجمعها، مؤشّر واضح على وجوب سعي الوالدين إلى حسن تربية أطفالهما كي تكون ثمرة تلك التربية وعاقبتها وجود ولد صالح. فالإنسان يأنس ويفتخر ويفرح ويسعد بطفله وولده إذا كان صالحاً، ويأسف ويحزن ويتألّم إذا لم يكن الطفل كذلك، فـ "ولد السوء يهدم الشرف، ويشين السلف"1، كما ورد عن الإمام علي عليه السلام. وعنه أيضاً: "ولد السوء يعرّ الشرف"2. وعنه أيضاً: "أشدّ المصائب سوء الخلف"3




1 مستدرك الوسائل، ج15، ص215، ح18039.
2 عيون الحكم، ص503.
3 ميزان الحكمة، ج4، ص3671.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

123

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 المفاهيم الرئيسة

- جبل الله تعالى الإنسان على حبّ الأطفال، وعجن في طينته الإحساس الذي يُحفزّه فطرياً على الإنجاب من أجل أن يُشبع نداء الأبوة أو الأمومة.

- يؤمّن إنجاب الأطفال استمرارية النوع البشريّ على الكرة الأرضية.

- إنّ الكثرة السكّانية عامل قوّة للمجتمع وبالتّالي فإنّ كثرة الإنجاب تزيد من عناصر قوّة الأمّة والمجتمع والدولة.

- أحد محقّقات سعادة الإنسان وخيره، أن يرى الوراثة والخلافة له في أبنائه، كما ورد عن أبي الحسن عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً لم يُمته حتى يُريه الخلف".

- يُشكّل الأبناء عنصر مساعدة للوالدين، لذا يُعتبر إنجاب الأطفال خير عون للوالدين في المستقبل على خدمتهما وقضاء حوائجهما ودفع المكاره عنهما.

- إنّ وجود الأطفال في الأسرة هو عامل أنس للوالدين بنحو يدفع الوحدة والوحشة عن حياتهما.

- من أهمّ العوامل المساعدة على تخفيف العذاب عن الإنسان يوم القيامة هم أولاده من خلال قيامهم بالأعمال الصالحة عن روح والديهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

124

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 أسئلة الدرس

1- هل الاندفاع نحو إنجاب الأطفال هو بسبب عوامل خارجية كالامتثال لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم وليدة عوامل فطرية داخلية، أم كلاهما معاً؟

2- هل توافق على أنّ الكثرة السكّانية عامل قوّة للمجتمع والأمة والدولة؟ وكيف تربط ذلك بمحبوبية كثرة الإنجاب؟

3- كيف تستدلّ على أهمّية الطفل في حياة الأسرة من خلال آيات وروايات الوراثة والخلافة؟

4- ما هي أهمّية الطفل بالنسبة لوالديه في المستقبل؟ وكيف يُشكّل ذلك عاملاً محفّزاً على إنجاب الأطفال؟

5- كيف يُمكن أن يكون العامل الأخرويّ محرّكاً للإنسان للشعور بأهمّية الولد وفائدته في حياته؟ اذكر دليلاً من الروايات على ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

125

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أنواع الامتناع عن الإنجاب.
2- يُعدّد الأسباب التي يتمسّك بها للامتناع عن الإنجاب.
3- يملك القدرة على مناقشة تلك الأسباب ويُبيّن وجهة نظره منها.
4- يعرف الطريق الأكمل لإدارة الحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

126

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 تمهيد

تحدّثنا في الدرس السابق عن إيجابية الرؤية الإسلامية تجاه إنجاب الأطفال وترغيبها في ذلك. وفي هذا الدرس والذي يليه سنُسلّط الضوء على الأسباب الموجِبة لاتّخاذ بعض المتزوّجين قراراً بالامتناع عن إنجاب الأطفال من وجهة نظرهم، ثم سنقوم بمناقشة تلك الأسباب التي يتمسّكون بمانعيّتها.
 
ونُمهّد الطريق بذكر مقدّمتين:
المقدّمة الأولى: الصور المتعدّدة للامتناع عن الإنجاب
1- الامتناع عن أصل الإنجاب حدوثاً وبقاءً.
2- الامتناع عن الإنجاب حدوثاً لا بقاءً، بمعنى اتّخاذ قرار بعدم الإنجاب في بداية الحياة الزوجية إلى فترة زمنية محدّدة.
3- الامتناع عن الإنجاب بقاءً لا حدوثاً، بمعنى الإقدام على الإنجاب في بداية الحياة الزوجية ثم الامتناع لاحقاً عن الإنجاب، أي تحديد النسل بعدد معيّن.
 
المقدّمة الثانية: الامتناع الاضطراريّ والاختياريّ
إنّ امتناع الزوجين عن إنجاب الأطفال على نحوين:
الأول: الامتناع الاضطّراريّ، الخارج عن إرادة الزوج أو الزوجة، بحيث يكون الإنسان على المستوى النفسيّ راغباً في إنجاب الأطفال، لكن تحول بينه وبين رغبته أسباب قهرية، كالعقم ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا﴾1.



1 سورة الشورى، الآية 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

127

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 وهو على قسمين:

1- لا تُمكن معالجته، كما في المرأة التي استُؤصل رحمها، أو المرأة التي دخلت سنّ الإياس... إلخ.
2- تُمكن معالجته من خلال الاعتماد على الوسائل الطبّية الحديثة.

والثاني: الامتناع الاختياريّ، الواقع تحت إرادة الإنسان، من خلال اعتماد إحدى وسائل منع الحمل: كالعزل، الأدوية، العمليات الطبّية، أو الواقي الذكريّ... إلخ. وهو ما سيكون محور البحث عن أسبابه.

أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال
ينطلق الامتناع الاختياريّ من عدّة أسباب عادة، نعرض أبرزها:
1- الامتناع بسبب السلامة الصحية للزوجة: بأن يكون الحمل ضررياً على صحة الزوجة وسلامتها الجسدية، لتعرّضها أثناء الحمل أو الولادة لخطر الإصابة ببعض الأمراض أو الأعراض التي لا تحتمل عادة في أمثالها.

2- الامتناع بسبب ما قد يلحق الجنين من تشوّهات خلقية أو الخوف على الجنين من الإجهاض. وتُعرف هذه الحالة وسابقتها من خلال إجراء بعض الفحوصات الطبّية.

3- الامتناع بسبب الخوف على الجمال الجسديّ، بذريعة أنّ الحمل يُغيّر من شكل جسد المرأة وملامحه، فيجعله أكثر سمنة، ويوجد فيه التشقّقات الجلدية وآثار الترهّل العارض للبدن، مما ينعكس سلباً على جمالها، وبالتّالي ثقتها بنفسها أو رغبة الزوج فيها...

4- الامتناع بسبب مسؤوليات التربية العامّة للطفل، انطلاقاً من الشعور بعدم القدرة عملياً وعدم الاستعداد ذهنيّاً وعدم التحضّر نفسياً لتربية الطفل، والخوف من عدم الوفاء بمستلزمات إدارة شؤونه، كالمعاناة في السهر على راحته، والإشراف على إطعامه، وإلباسه، ورعايته الصحية، ونظافته الدائمة...، وما يتركه الإنجاب أيضاً من انقلاب في الساعة البيولوجية، ومن تغيّرات على مجمل التصميم الهندسيّ للوحة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

128

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 حياة الزوجين، إن من حيث العلاقة الحميمة بينهما، أو الحدّ من حرّية نشاطهما في بناء العلاقات الاجتماعية، والتأثير على حركتهما خارج المنزل كالسهرات والترفيه... إلخ.


5- الامتناع بسبب بناء المستقبل المهنيّ والطموح الوظيفيّ لتحقيق الذات، كأن يريد الزوج السفر للعمل في الخارج من أجل تأمين مستقبله العمليّ مع اعتقاده أنّ الإنجاب مانع عن ذلك لاستنزافه لرصيده الماليّ، أو ترى المرأة أنّ في الحمل والإنجاب مانعاً لها عن الخروج إلى سوق العمل، أو تحقيق طموحها الوظيفيّ، واستمرارها فيه، مع أنّ مستلزمات الحياة قد أغرقتها وزوجها في الديون المالية كالقرض السكنيّ، أو شراء سيارة...

6- الامتناع بسبب إرادة إتمام مسيرة الرحلة العلمية، قد يتزوّج الشاب أو الفتاة في سنٍّ مبكرة يُتابع فيها دراسته الجامعية، ويرسم لنفسه في الحياة هدفاً بالوصول لحمل الشهادة الجامعية (ماجستير أو دكتوراه مثلاً)، فيرى أنّ إنجاب الأطفال سيُشكّل حجر عثرة يُعيقه عن السير بنجاح في طريق الرحلة العلمية ويؤثّر سلباً عليها، فيمتنع عن الإنجاب ريثما يُحقّق هدفه العلميّ... إلخ.

7- الامتناع بسبب العامل الماليّ - الاقتصاديّ، أي عدم توفّر الإمكانات المالية والقدرات الاقتصادية اللازمة في تأمين متطلّبات عملية الحمل والإنجاب، كالفحوصات الطبّية المطلوبة، تكاليف المستشفى والولادة، شراء جهاز الطفل، والإنفاق عليه لباساً وطعاماً وشراباً ودواء ولقاحاً وتعليماً... إلخ.

خارطة الطريق لإدارة حياة الإنسان واتّخاذ القرارات
قبل الدخول في مناقشة أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال نُشير إلى عدّة مقدّمات تُعتبر خارطة طريق لإدارة الحياة وكيفية اتخاذ القرارات فيها، ومنها المورد الذي نتحدّث عنه.

المقدّمة الأولى: إنّ طبيعة العالم الذي نعيش فيه متغيّر بنحو تدريجيّ لا دفعيّ، وهو عالم التزاحم والصراع بين الأضداد، لذا لا يُمكن أن يحصل الإنسان فيه على كلّ شيء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

129

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 بشكل دفعيّ، أو من دون مواجهة الخيارات المتعارضة، ممّا يجعله يعيش حالة من الحيرة والتردّد والقلق في المقايسة والموازنة بين مروحة الخيارات المختلفة، فيضطّره للتنازل عن بعضها لصالح البعض الآخر، وبعبارة مختصرة: الحياة تُعطي مُثمَناً بيد، وتأخذ ثمناً بيد أخرى، وهي لا تُعطي شيئاً حتّى تسلب من الإنسان مقابله شيئاً آخر.

 
المقدّمة الثانية: ينبغي للإنسان في المرتبة الأولى الأخذ بعين الاعتبار أنّ الجمع والمواءمة بين الخيارات المختلفة مع الإمكان هو أولى وأوجب من طرح الخيارات، أو الأخذ ببعضها دون بعض.
 
المقدّمة الثالثة: مع قصور قدرة الإنسان عن المواءمة بين الخيارات المختلفة بسبب استحكام التعارض والتزاحم بينها، سيأخذ بطبيعة الحال ببعضها، ولكن ينبغي أن يكون الأخذ ببعضها على حساب البعض الآخر خاضعاً لمرجّحات عقلائية وشرعية، يختار على ضوئها ترتيب الأولويات، منها:
1- اختيار الأهمّ على المهمّ.
 
2- اختيار السيّئ على الأسوأ. عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "ليس العاقل من يعرف الخير من الشرّ، ولكن العاقل من يعرف خير الشرّين"1.
 
3- دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
 
... إلخ من القواعد العقلائية والشرعية.
 
فعلى الإنسان تلقين النفس وتدريبها على أنّ تحقيق أحد الخيارات المتضادة في الحياة يتطلّب غضّ الطرف عن خيارات أخرى، وأنّه لا بدّ من التنازل عن أمر مرغوب ومطلوب من أجل الوصول إلى مطلوب أسمى منه قيمة وأهمّية وأولوية.
 
انطلاقاً ممّا سبق، لا ريب في أنّ الإنسان عند التزاحم بين إنجاب الأطفال ومطلوب آخر، سيعيش حالة من الصراع تجاه ترتيب جدول أولويّاته في الحياة، بين ما هو حسن وأحسن، وما هو سيّئ وأسوأ، والنقطة المركزية هنا هي السؤالان التاليان:
 
هل ما أتصوّره تعارضاً بين الخيارات هو كذلك في الواقع؟ فقد يبدو للإنسان أنّ مطلوباً ما 



1 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج75، ص6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

130

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 يُزاحم مطلوباً آخر في حياته، فيُضحّي بأحدهما، مع إمكانية الجمع بينهما بطريق أو بآخر. فقد لا يكون هناك تعارض بين الإنجاب وبين إتمام الرحلة العلمية أو تحقيق الطموح الوظيفيّ مثلاً... وما هي معايير تشخيص الخيار الأفضل والأقل سوءاً لاتخاذ القرار على ضوئه في كيفية معالجة التعارض؟ كأن يعتمد مثلاً على معيار أرجحيّة ما يُمكن تداركه بالتسويف على ما لا يُمكن، أو ما تضعف فرصه بالتأجيل على ما لا تضعف، أو معيار ما هو الأكثر مرغوبية وتأكيداً عليه في الرؤية الدينية، أو معيار محقّقات وظيفة وأهداف بناء بيت الأسرة... إلخ.

 
بعد بيان هذه المقدّمات ندخل في مناقشة وتشريح كلّ سبب من الأسباب السابقة.
 
مناقشة الامتناع بسبب السلامة الصحّية والجسدية للمرأة أو الجنين
أمّا الحالة الأولى والثانية من أسباب الامتناع المتعلّقة بالسلامة الصحّية والجسدية للمرأة أو الطفل، فإنّ أمام الزوجين خيارين:
الأول: إمكانية تدارك الخطر الذي ستتعرّض له صحّة الزوجة أو الجنين من خلال اللجوء إلى الوسائل الطبّية، باستعمال بعض الأدوية أو إجراء بعض العمليات التي تحول دون التعرّض للأمراض، وتحمي الجنين من أيّ تشوّهات خلقية أو أمراض وراثية قد تنتقل إليه من أحد الأبوين المصاب بها. وفي هذه الحالة ينبغي عدم الاستخفاف والتهاون، والسعي نحو المعالجة قدر المستطاع، بنحو يُمكِّن من الإنجاب بدون إلحاق أيّ ضرر بالأم أو الجنين.
 
الثاني: أن لا يكون لتلك الأعراض والحالات المرضية أيّ وسيلة ممكنة للوقاية والعلاج، فهنا لا شكّ في أنّ القواعد العقلائية أمام الخيارات المتزاحمة تقتضي اتّخاذ قرار الامتناع عن الإنجاب دفعاً للضرر الذي لا يحتمل عادة، لأنّه الأهمّ أو الأقلّ سوءاً، من بين جملة الخيارات الأخرى المطروحة، انطلاقاً من القواعد القرآنية: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾1، ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾2، ويقول تعالى: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾3، وهي قاعدة قرآنية عامّة تشمل أيّ مورد يؤدّي إلى إلحاق الضرر



1 سورة الحج، الآية 78.
2 سورة البقرة، الآية 185.
3 سورة البقرة، الآية 233.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

131

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

  بالأم بسبب الطفل، لأنّ المورد والسياق لا يُخصّصان عموم القواعد القرآنية. هذا إذا كان الضرر معتداً به، أمّا إذا كان الضرر بسيطاً يُمكن تحمّله عادة فهو ليس سبباً عقلائياً للتمسّك بمانعيّته عن الإنجاب، فكلّ أمٍّ تتحمّل ضرراً معيّناً في حملها وولادتها.

 
مناقشة الامتناع بسبب الخوف على الجمال الجسديّ
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّ الله جميلٌ يُحبُّ الجمال... "1. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّ لجسدك حقّاً"2. لا ريب في أنّه من جملة حقوق جسد الإنسان عليه العناية والاهتمام بحسنه وجماله، وقد حثّت الرؤية الإسلامية الإنسان بشكل عام والمرأة بنحو خاص على ذلك3، فحفاظ المرأة على جمالها الجسديّ أمر مرغوب فطرياً ودينياً وعقلائياً، ومع ذلك، بمقتضى المقدّمة الأولى اتّضح أنّ الحياة لا تُعطي حتّى تأخذ، فالثمن الذي تدفعه المرأة لنيل مرتبة شرف الأمومة يقتضي بطبيعة الحال أن تبذل وتُعطي وتُضحّي بجزء من جمالها الجسديّ، وهذا حال جميع النساء، فلذّة إشباع الغريزة الفطرية بالإحساس بالأمومة التي تعيشها المرأة بالتجربة الوجدانية عندما تحضن طفلها بين ذراعيها أشدّ وأسمى من لذّة الشعور بكمال جمال جسدها، أو ألم خسران بعض من عناصر جمالها.
 
هذا، فضلاً عن أنّ الإنسان وفق الهندسة الإلهية لتكوينه الداخليّ لا يُمكن أن ينجح بالتصرّف على خلاف مقتضى الطبيعة. والطبيعة الأنثوية تُنشد الأمومة، وتهتف بالإنجاب والإيلاد. وهذا النداء الداخلي الذي ينطلق من أعماق روح المرأة يُلحّ عليها بالاستجابة له وتلبية صدى صوته، وإلا ستبقى تعيش داخل سجن من الأحاسيس والمشاعر السلبية التي تعكس مناخاً من التوتّر النفسيّ والقلق... إلى غير ذلك من الحالات التي لن تعرف ما هو سببها إلا بأن تعيش أمومتها، لأنّ السير بعكس حركة نداء الأمومة هو خلاف مقتضى الطبيعة.



1 عوالي اللآلي، ج1، ص437، ح150. ووردت هذه الرواية بنصها عن الإمام علي، وعند ولده الإمام الحسن، وأيضاً عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام. يراجع: الكافي، ج 6، ص 438. وابن عياش، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج2، ص14، ح29.
2 التميمي، أحمد بن علي، مسند أبي يعلى الموصلى، ج13، ص216، ح7242.
3 يراجع: عجمي، سامر توفيق، حياتنا الجنسية كيف نعيشها؟ الباب الخامس، ص431 وما بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

132

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 فالامتناع بسبب الحفاظ على الجمال الجسديّ ليس مبرّراً شرعياً وعقلائياً كافياً للتضحية بالإحساس بالأمومة عبر إنجاب الأطفال. وعلى الزوج في هذا السياق، أن يلعب دوراً إيجابياً في تحفيز زوجته وجعلها لا تشعر بضعف الثقة بنفسها من الناحية الجمالية، من خلال تعييره لها بجسدها أو وصفها بأوصاف مسيئة...

 
مناقشة الامتناع بسبب مسؤوليات التربية العامة للطفل
هذا الامتناع في الحقيقة هو وليد عامل نفسيّ تعيشه الطبيعة الإنسانية نتيجة الأنس بما اعتادت عليه والألفة بالقديم من جهة والوحشة والخوف من الجديد، فتعمل بطريقة دفاعية تقاوم أيّ عنصر تغيير يريد الدخول على حياة الإنسان. وبسبب مقاومة التغيير يرفض الإنجاب كعنصر مستجدّ يريد اقتحام حياته الزوجية وفرض بعض المتغيّرات عليها، فيتصوّر نفسه ضعيف القدرة على التعامل مع الوضع الجديد، وأنّه قاصر عن تحمّل المسؤوليات اللازمة لمواجهة هذا المتغيّر، خصوصاً أنّه لم يخض هذه التجربة سابقاً. ويُمكن للإنسان أن يُقاوم مقاومة التغيير من خلال تنمية الحسّ بالمسؤولية في نفسه بالتدرّب عليه، ومن خلال مواجهة عنصر الخوف في ذاته بالعمل على قيادته والتحكّم به والسيطرة عليه، فيكون أقدر على اتّخاذ القرارات تجاه أيّ مستجدّ يواجه حياته من دون تردّد وقلق. ومن هنا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه"1.
 
وبالتّالي، سيكون اتّخاذ قرار الإقدام على إنجاب الطفل غير مصحوب بالتردّد والقلق.
 
أمّا الحدّ من الحرّية جزئياً، فهو ثمن طبيعيّ ينبغي أن يدفعه الإنسان لينال لذّة وجمال الإحساس بالأبوّة أو الأمومة.
 
مناقشة الامتناع بسبب المستقبل العمليّ والطموح الوظيفيّ
إنّ الجواب عن هذا السبب له شقّان: الأول متعلّق بالزوج، والثاني بالزوجة. أمّا الشقّ الأوّل: فإنّ السؤال الذي ينبغي أن يطرحه على نفسه هو: لماذا أخرج إلى سوق العمل وأُعاني 



1 نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، ح175.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

133

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 وأُكابد؟ أليس من أجل بناء الأسرة؟ وممَّ تتكوّن الأسرة؟ فهل للأسرة طعم ورائحة ولون بلا الأطفال؟ وهل بناء وتحقيق الطموح الوظيفيّ أولى؟! أمّا إذا كان السبب يعود إلى عنصر المال، فسنناقشه في الفقرة اللاحقة.

 
أمّا الجواب عن الشقّ الثاني، فيحتاج إلى التعرّض لمقدّمة بنيوية تُحدّد الجواب عن ما نعية هذا السبب، انطلاقاً من طرح سؤال بات يتمتّع بأهمّية خاصّة في هذا العصر الذي أصبح خروج المرأة فيه إلى سوق العمل شائعاً في المجتمعات الإسلامية، وهو: ما هو الدور الرئيس في الرؤية الإسلامية للمرأة / الزوجة في بناء الأسرة، هل العمل الإنتاجي أم الحمل والإنجاب وتربية الأطفال والعناية بالمنزل وتدبير شؤونه وإدارته؟
 
والجواب: إنّ هناك مبدأ عاماً يعتبر البناء التحتيّ الذي ينبغي أن تقوم عليه الحياة الأسرية وفق المقاصدية الإسلامية لها، وهو مبدأ العدالة لا المساواة في تقسيم الأدوار وتوزيعها بحسب طبيعة الذكورة والأنوثة في أحبّ بناء إلى الله تعالى. ومن ضمن الأدوار أنّ الزوج يتكفّل بالإنفاق الاقتصاديّ والماليّ وبالتّالي بالعمل الإنتاجيّ، في حين أنّ الوظيفة الرئيسة للمرأة - الزوجة هي تدبير شؤون المنزل الداخلية وتربية أطفالها1.
 
يقول الإمام السيد عليّ الخامنئيّ دام ظله: "من أهمّ وظائف المرأة: التدبير المنزليّ،... إنجاب الأطفال من أهمّ أشكال الجهاد بالنسبة إلى النساء ووظائف النساء، لأنّ الإنجاب هو في الحقيقة فنّ المرأة، فهي التي تتحمّل مشاقّه ومصاعبه وآلامه، وهي التي منحها الله تعالى أدوات ولوازم تربية الأطفال..."2.
 
وبناءً على هذه القاعدة الأساسية التي ترسم الموقع الوظيفيّ للمرأة في الحياة الأسرية، فإنّ الأولوية في حياة المرأة - الزوجة ليست للعمل، بل الحمل والإنجاب وتربية الأطفال ورعاية الأسرة، ولو تعارض الطموح الوظيفيّ والعمليّ مع بناء الأسرة تُقدِّم المرأة ما يتناسب مع طبيعة دورها في الحياة الأسرية أي الزوجية والأمومة على أيّ شيء آخر.



1 يراجع: شمس الدين، محمد مهدي، مسائل حرجة في فقه المرأة، الكتاب الثالث والرابع، حقوق الزوجية ويليه حق العمل للمرأة، ص 182و 229-230. من كلمة له في جمع من مداحي أهل البيت في طهران، 1-5-2013م.
2 يراجع: خطاب الولي، سلسلة خطاب الولي 2013م، إعداد مركز نون للتأليف والترجمة، نشر جميعة المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، 1435ه-2014م، ص216-217.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

134

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 الثاني: على فرض كون العمل لسبب أو آخر أولوية عند المرأة، فإنّ وضع هذه الفرضية (التعارض بين الأمومة والعمل الإنتاجي) على محكّ التجربة مع الواقع يُكذّبها، فهناك العديد بل الكثير من نماذج المرأة العاملة الناجحة وهي زوجة وأم. نعم، ممّا لا شك فيه أنّ هذا يقتضي تضحية وجهداً وبذلاً من وقتها بنحو إضافيّ.


وإن كان ولا بدّ كخيار أخير واضطراريّ للمرأة من العمل الإنتاجيّ، فعليها بالبحث عن عوامل تُساعدها على الحفاظ على الأمرين معاً، العمل وإنجاب الأطفال، كدور الحضانة أو الخادمات أو الجدة... التي يُمكن أن تُشكّل حلّاً جزئياً في تقديم يد العون للزوجة في المواءمة بين فرصتها في بناء طموحها الوظيفيّ وبين تحقيق أمومتها بالحمل والإنجاب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

135

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ الامتناع عن الإنجاب له صور متعدّدة، منها الامتناع عن الإنجاب مطلقاً، ومنها الامتناع عن الإنجاب في بداية الحياة الزوجية بنيّة الإنجاب لاحقاً، ومنها الامتناع بعد الاكتفاء بعدد معيّن من الأطفال.

- الامتناع عن الإنجاب أيضاً على نحوين: اضطراريّ خارج عن إرادة الزوج أو الزوجة، واختياريّ بسبب قرار الزوجين.

- يتمسّك المتزوّجون للامتناع عن الإنجاب بأسباب كثيرة، منها: الامتناع بسبب السلامة الصحّية للزوجة، الامتناع بسبب ما قد يلحق الجنين من تشوّهات خلقية أو الخوف على الجنين من الإجهاض، الامتناع بسبب الخوف على الجمال الجسديّ، الامتناع بسبب مسؤوليات التربية العامة للطفل، الامتناع بسبب بناء المستقبل المهنيّ والطموح الوظيفيّ لتحقيق الذات، الامتناع بسبب إرادة إتمام مسيرة الرحلة العلمية، الامتناع بسبب العامل الماليّ - الاقتصاديّ.

- إنّ الامتناع بسبب السلامة الصحّية والجسدية للمرأة أو الجنين، أمام حالتين: الأولى إمكانية تدارك الخطر من خلال المعالجة الطبية، فهذا واجب أخلاقيّ وإنسانيّ، والثانية: أن يكون في الإنجاب ضرر لا يحتمل على حياة الأم، فالقواعد العقلائية ترى لزوم دفع الضرر عن الأم.

- لا شكّ في أنّ جسد المرأة يتأثر بسبب الحمل والوضع والرضاع... لكن الحياة لا تُعطي حتّى تأخذ، ولذّة إشباع الإحساس بالأمومة أسمى من لذّة الشعور بكمال جمال جسدها.

- إنّ الإنسان يأنس بما اعتاد عليه ويعيش الخوف من الجديد، لذا قد يمتنع عن الإنجاب لأنّه يتصوّر نفسه ضعيف القدرة على التعامل مع المولود الجديد، لكن ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخافمنه".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

136

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 أسئلة الدرس

1- إذا كان الامتناع عن إنجاب الأطفال بسبب عامل يُمكن معالجته طبيّاً، هل برأيك على الزوج أو الزوجة اللجوء إلى العلاج أم ترك الأمر للقضاء والقدر كما يقول البعض لأنّها إرادة الله؟

2- لقد رسمنا في الدرس خارطة طريق لإدارة حياة الإنسان واتّخاذ قراراته، لخّصها، وهل توافق عليها؟

3- بعض النساء تمتنع عن الإنجاب بسبب أنه يؤدّي إلى التشقّقات الجلدية ويؤثّر على الجمال الجسديّ للمرأة، كيف تُجيب على من يتذرّع بهذه الحجّة؟

4- بعض الأزواج يقول إن إنجاب الأطفال مسؤولية كبرى تحتاج إلى عناية واهتمام لا أجدهما متوفرين في نفسي، ولا أريد أن أقصّر في تربية أبنائي، فأن لا أنجبهم أصلاً أفضل من الإنجاب مع عدم القدرة على حسن التربية، كيف تناقش هذا القول؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

137

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) 
(مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستطيع مناقشة من يتمسّك بمانعية طلب العلم عن الإنجاب.
2- يمتلك القدرة على نقد امتناع الإنجاب بسبب العامل الاقتصادي.
3- يتعرّف إلى أسباب الرزق في التربية الاقتصادية الإسلامية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

138

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 تمهيد

تحدّثنا في الدرس السابق عن الأسباب الموجِبة لاتّخاذ بعض المتزوّجين قراراً بالامتناع عن إنجاب الأطفال من وجهة نظرهم، وناقشنا معظم تلك الأسباب. بقي تسجيل الملاحظات ومناقشة الامتناع تمسّكاً بذريعة إتمام الرحلة العلمية أو بسبب العامل الاقتصاديّ للأب والأسرة. وقد عقد هذا الدرس لمناقشة هذين السببين تتمّة للدرس السابق.
 
مناقشة الامتناع عن الإنجاب بسبب طلب العلم
ممّا لا شك فيه أنّ العلم له موقعيّة خاصّة في مصفوفة القيم الإسلامية، يقول تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾1. ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾2. ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾3. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾4... إلخ.
 
وانطلاقاً من أهمّية العلم وفضله في الرؤية الإسلامية قدّمه بعض الفقهاء على الزواج عند التعارض والتزاحم فيما بينهما. يقول الشهيد الثاني عند البحث عن الآداب المختصّة بالمتعلّم: "آدابه في نفسه، وهي أمور:... الرابع: أن يترك التزويج حتّى يقضي وَطَرَه - أي حاجته - من العلم، فإنّه أكبر شاغل وأعظم مانع، بل هو المانع جملة... وهذا أمر وجدانيّ مجرّب واضح، لا يحتاج إلى الشواهد، كيف مع ما يترتّب عليه على تقدير السلامة فيه من تشويش الفكر بهمّ الأولاد والأسباب... ولا يغترّ الطالب بما ورد في النكاح من الترغيب، فإنّ 



1 سورة آل عمران، الآية 18.
2 سورة المجادلة، الآية 11.
3 سورة فاطر، الآية 28.
4 سورة الزمر، الآية 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

139

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 ذلك لا يُعارضه واجب أولى منه، ولا شيء أولى ولا أفضل ولا واجب أضيق من العلم..."1.

 
وكذلك ذكر الشيخ الجواهري هذا المعنى في ذات السياق2.
 
وبناءً عليه، يُمكن تطبيق كلام الفقهاء على المورد الذي نحن فيه وهو إنجاب الأطفال، فيكون تحصيل العلم أولى وأفضل وأوجب من الإنجاب للأطفال، وينبغي تقديم العلم على كلّ فضيلة، وإيثاره على كلّ طاعة، حتّى إنجاب الأطفال.
 
لكن في حقيقة الأمر، يقع النقاش حول مسألة المقارنة بين العلم وإنجاب الأطفال من عدّة جهات:
أولاً: إنّ الرؤية الإسلامية لا تقوم على النظر إلى الأعمال والمقارنة بينها من حيث الحسن الفعليّ فقط3، بل إنّ اعتبار أيّ عمل قيمياً يتبع الحسن الفاعليّ4 أيضاً، بمعنى أنّ لنية العامل وقصده دوراً مهمّاً في إعطاء العمل قيمة محدّدة، فالعلم يتّصف بالحسن بمقدار ما ينوي به الإنسان التقرّب إلى الله تعالى، وكذا الإنجاب، وعليه فإنّ أفضلية العلم على إنجاب الأطفال لا ينظر إليها من حيث الحسن الفعليّ فقط، فقد يكون طلب العلم أفضل ذاتاً من طلب الولد، ولكن بالنيّة والقصد القربيّ يُصبح الثاني أفضل وأسمى وأكمل من الأول.
 
ثانياً: أنّه أيّ علم هو الذي يُعتبر أفضل من إنجاب الأطفال؟ هل مطلق العلم الذي يشمل مثلاً تحصيل العلوم السياسية أو الاقتصاد أو الهندسة أو الطب أو المعلوماتية...؟ إنّ الذي يظهر من النصوص القرآنية والروائية أنّه ليس مطلق طلب العلم هو الذي يحظى بتلك الميزة، وإنّما هو خصوص نوع معيّن يُطلق عليه اسم العلم الدينيّ، وهو الذي أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام في قوله: "وجدت علم الناس كلّه في أربع: أولها: أن تعرف ربّك، والثاني: أن تعرف ما صنع بك، والثالث: أن تعرف ما أراد منك، والرابع: أن تعرف ما يُخرجك من دينك"5.



1 العاملي، زين الدين بن علي، المعروف بالشهيد الثاني، منية المريد في أدب المفيد والمستفيد، 227-228.
2 الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج29، ص31-32.
3 الحسن الفعلي: هو الحسن بلحاظ الفعل نفسه، أي أن يكون الفعل بنفسه بغض النظر عن فاعله حسناً، كالقيام بالقسط والعدل، والابتعاد عن الظلم والجور، فهي أفعال حسنة بحد ذاتها من أي فاعل صدرت عنه.
4 الحسن الفاعلي: هو الحسن بلحاظ قصد الفاعل الحسن حين قيامه بالفعل الحسن، كقصده بالفعل التقرب إلى الله تعالى.
5 الكافي، ج1، ص50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

140

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 وثالثاً: هذا كلّه على فرض التعارض، ولكن قد يُناقش في أصل كون إنجاب الأطفال يُشكّل عقبة في طريق طلب العلم، وبالتّالي يتمّ تقديم التحصيل العلميّ على الإنجاب لأنّه أولى وأهمّ، إذ يُمكن عملياً الجمع بين طلب العلم وبين بناء الأسرة وإنجاب الأطفال، وخير شاهد على ذلك هو التجربة العملية، فإنّ استقراء سيرة حياة أكثر كبار علمائنا يُفيد أنّهم قد تزوّجوا في سنٍّ مبكرة، ولم يحجبهم الزواج والإنجاب وتربية الأطفال عن طلب العلم والسعي فيه وبذل الجهد وشقّ طريقهم نحو تحصيل العلوم والبحث والتدريس والكتابة والتأليف بل والقيام بمسؤوليّات التبليغ والإمامة والدعوة...1. وهنا نعود للتذكير بقاعدة أنّ الجمع بين الخيارات التي تبدو متعارضة مهما أمكن هو أولى وأفضل من الطرح وتقديم بعض الخيارات بنحو يسدّ الباب أمام خيار آخر. وعليه فالجمع بين الاشتغال بالعلم والإنجاب أولى وأفضل، كيف والأطفال هم الأنيس الموافق، ومن دونهم يبقى الإنسان ناقص العيش، زائل العقل، مشغول القلب. فعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "خمس خصال من فقد واحدةمنهنّ لم يزل ناقص العيش، زائل العقل، مشغول القلب:... والرابعة: الأنيس المُوافق. سُئِل عليه السلام: وما الأنيس الموافق؟ قال: الزوجة الصالحة والولد الصالح..."2.

 
التزاحم بين طلب العلم الواجب وبين الإنجاب
ما تقدّم الحديث عنه هو في فرض صورة التعارض بين العلم المستحبّ وبين الإنجاب. أمّا في صورة التعارض بين العلم الواجب وبين الإنجاب فلا بدّ من معالجة المسألة من خلال عرض صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون طلب العلم واجباً على نحو عينيّ، فهنا ممّا لا شكّ فيه يُقدّم طلب العلم على الإنجاب. هذا في صورة وجود تعارض فعليّ مستحكم.
 
الصورة الثانية: أن يكون طلب العلم واجباً على نحو كفائيّ، وذلك لأنّ العلوم التي تُساهم في حفظ النظام العامّ وبه يكون قوام حياة المجتمع الإسلاميّ هي واجبة كفاية على عموم



1 يراجع: الهاشمي، محمود، التعليم والتزكية وظيفة المتعلمين، مجلة المنهاج، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، صيف السنة التاسعة عشر، 1436هـ-2014م، العدد74، ص16. ويراجع: النراقي، جامع السعادات، ص281.
2 الخصال، ص284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

141

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

  المسلمين، فهنا قد يُقال إنّ طلب العلم على هذا النحو مقدّم على الإنجاب لكونه مستحبّاً، إلا أنّه في الواقع معالجة المسألة على هذا النحو ليس دقيقاً وشاملاً، لأنّ الحديث عن استحباب الإنجاب هو حديث عنه بالمعنى الفرديّ الخاصّ، أمّا الإنجاب بالمعنى النوعيّ، فقد صرّح بعض الفقهاء بخصوصه أن "توقيف نسل الأمّة إلى حدٍّ معيّن، المؤدّي إلى الانقراض بعد حين حرام شرعاً"1، وحينها يقع التزاحم نوعاً بين ما هو واجب كفائيّ وبين ما هو حرام شرعاً، وتخضع حينها لقواعد معالجة التزاحم في مثل هذه الصورة.

 
مناقشة الامتناع عن الإنجاب بسبب الوضع الاقتصاديّ
ذكرنا أنّ بعض الأزواج قد يمتنع عن الإنجاب إمّا تمسّكاً بسوء الحال الاقتصادية وإمّا خوفاً من الوقوع في الفقر بسبب دخول عناصر بشرية أخرى على الأسرة، ومناقشة هذه النقطة لأهمّيتها تحتاج إلى بيان بعض المقدّمات المختصرة التي توصل إلى رسم الجواب بشكل واضح.
 
التربية على عقيدة التوحيد في الرازقية
1- إنّ سلوك الإنسان في الحياة نتاج عقيدته الكونية. ومن جملة الأصول التربوية الإسلامية تربية الإنسان على عقيدة التوحيد الأفعاليّ، بمعنى أنّه لا فاعل ومؤثّر حقيقة في الكون وحياة الإنسان إلّا الله تعالى. ومقتضى ذلك التوحيد في الرازقية ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾2.
 
2- إنّ الله تعالى جعل لكلّ إنسان قسماً معلوماً من الرزق. قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾3. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "وجعل لكلّ روح منهم قوتاً معلوماً مقسوماً من رزقه لا ينقص من زاده ناقص ولا يزيد من نقص منهم زائد"4.



1 الروحاني، المسائل المستحدثة، ص143.
2 سورة الذاريات، الآية 58.
3 سورة الزخرف، الآية 32.
4 الصحيفة السجادية، الدعاء الأول، ص22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

142

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 3- إنّه تعالى تكفّل بإيصال هذا الرزق المقسوم إلى الإنسان عاجلاً أم آجلاً، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي، أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا الله عزّ وجلّ، وأجملوافي الطلب، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله، فإنّ الله تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً، ولم يُقسّمها حراماً، فمن اتّقى الله عزّ وجلّ وصبر أتاه الله برزقه من حلّه، ومَنْ هتك حجاب الستر وعجّل فأخذهمن غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال، وحُوسب عليه يوم القيامة"1.

 
فالخلق جميعهم عيال الله تعالى الذين ضمن أرزاقهم، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم"2. فكيف إذا كانوا أطفالاً؟ فلا شكّ بأنّ رزقهم قد تكفّل به الله تعالى وضمنه، وقد أوضح لنا القرآن الكريم هذه المسألة، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا﴾3، وقال: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾4.
 
4- إنّ مؤثّرية الله وفاعليّته في الكون لا تُلغي مؤثّرية غيره بإذنه تعالى، فالله خلق العالم بكيفية خاصّة خاضعاً لقانون السببية العامّ، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "أبى الله أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً..."5. وبناءً عليه: مع أنّ الرزّاق حقيقة هو الله تعالى، لكنّه عزّ وجلّ يُنزل رزقه على الإنسان بواسطة أسباب خاصة، فما هي هذه الأسباب التي إذا حقّقها الإنسان انفتحت عليه أبواب الرزق؟



1 الكافي، ج5، ص80.
2 نهج البلاغة، خطبة الأشباح، ص124.
3 سورة الإسراء، الآيتان 30-31.
4 سورة الأنعام، الآية 151.
5 الكافي، ج1، ص183.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

143

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 العمل الاقتصاديّ من أهمّ أسباب تحصيل الرزق

يقول تعالى: ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾1، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾2،... إلخ من الآيات. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه النصوص الدينية وغيرها الكثير تُفيد أنّ نزول الرزق على الإنسان لا يحصل بشكل تلقائيّ من الله تعالى، بل يحتاج إلى السعي والكدّ والعمل وبذل الجهد والمشي في مناكب الأرض والانتشار فيها. وقد كان أئمة أهل البيت عليهم السلام يأكلون من كدِّ يدهم وعرقهم3.
 
وهذا ممّا لا شكّ فيه كونه السبب الاعتياديّ في تحصيل الرزق، لكنّه لا يُلغي وجود جملة أسباب أخرى إذا تمسّك بها الإنسان فُتحت عليه أبواب البركات من السماء والأرض. فما هي تلك الأسباب؟
 
التربية الاقتصادية للنفس على أسباب الرازقية
إن قانون السببية العامّ لا يعني أحادية السبب في الحصول على النتائج المطلوبة، بل قد تتعدّد الأسباب في حصول مسبَّب واحد، فمثلاً إنّ التوحيد الأفعاليّ يقتضي كون الشفاء من الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾4، وقد جعل الله تعالى الطبيب وسيلة وسبباً للحصول على الشفاء، ولكن هذا لا يعني حصرية الطبيب في الاستشفاء، بل هناك أسباب أخرى إلى جانب هذا السبب، منها: القرآن، الدعاء، تربة الحسين، ماء زمزم، والصدقة... إلخ.
 
- قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء﴾5.
 
- وعن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام، قال: "شكا رجل إلى النبيّ وجعاً في صدره. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: استشفِ بالقرآن، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾6"7.



1 سورة الحجر، الآيتان 19-20.
2 سورة الملك، الآية 15.
3 يراجع: الكافي، ج5، ص73.
4 سورة الشعراء، الآية 80.
5 سورة الإسراء، الآية 82.
6 سورة يونس، الآية 57.
7 الكافي، ج2، ص600. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "من لم يستشفِ بالقرآن فلا شفاه الله". وعن العالم عليه السلام: "في القرآن شفاء من كل داء". مكارم الأخلاق، ص363.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

144

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 - وعن علاء بن كامل قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "عليك بالدعاء، فإنّه شفاء من كلّ داء"1.

 
- وعن أبي الحسن عليه السلام: "... طين قبر الحسين عليه السلام فإنّ فيه شفاء من كلّ داء"2.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "داووا مرضاكم بالصدقة"3.
 
وغيرها من الروايات الكثيرة. وفي نفس السياق إنّ العمل ليس هو السبب الوحيد والعلّة الحصرية للحصول على الرزق الإلهيّ، بل جعل الله تعالى بين الإنسان وبين الحصول على الرزق عدّة أسباب، كما جعل لعدم نزول الرزق عدّة موانع. ومن أسباب الرزق:
1- التقوى: قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾4, ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾5.
 
2- التوكّل على الله: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً"6.
 
3- الاستغفار: قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾7. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من استبطأ عليه الرزق فليستغفر الله"8.
 
4- الإكثار من التكبير: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من استبطأ الرزق فليُكثر من التكبير"9.



1 الكافي، ج2، ص470.
2 الكافي، ج6، ص266.
3 الكافي، ج4، ص3.
4 سورة الطلاق، الآيات 2-3.
5 سورة الطلاق، الآية 4.
6 عوالي اللئالي، ج4، ص57.
7 سورة نوح، الآيات 10-12.
8 الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج2، ص50، ح171.
9 ميزان الحكمة، ج2، ص1072.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

145

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 5- الصدقة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا من الصدقة تُرزقوا"1. وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "استنزلوا الرزق بالصدقة"2.

 
6- صلة الرحم: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه"3.
 
7- الدعاء للإخوان: عن الإمام الباقر عليه السلام: "عليك بالدعاء لإخوانك بظهر الغيب فإنّه يُهيل الرزق"4.
 
8- المواظبة على بعض الأذكار: عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: "من قال في كلّ يوم ثلاثين مرّة: "لا إله إلا الله الحقّ المبين، استقبل الغنى، واستدبر الفقر..."5. وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ... من ألحّ عليه الفقر فليُكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله، ينفي الله عنه الفقر..."6. وغيرها من الأذكار الكثيرة7.
 
9- حسن البرّ بالزوجة والأطفال: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من حسن برّه بأهل بيته زيد في رزقه"8.
 
10- حسن الخلق: عن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "حسن الخلق من الدين وهو يزيد في الرزق"9.
 
11- حسن الجوار: عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "حسن الجوار يزيد في الرزق"10.



1 الديلمي، الحسن بن محمد، إرشاد القلوب، ج1، ص45.
2 نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، ح137.
3 الخصال، ص32.
4 ابن ادريس الحلي، محمد بن منصور، مستطرفات السرائر، ص637.
5 الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص8.
6 الكافي، ج8، ص93.
7 الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص355.
8 بحار الأنوار، ج71، ص104.
9 تحف العقول، ص373.
10 الكافي، ج2، ص666.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

146

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 12- زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام: عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام فإنّ إتيانه يزيد في الرزق..."1.

 
13- إطعام الطعام: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الرزق أسرع إلى من يُطعم الطعام، من السكّين في السنام"2.
 
... إلى غيرها من الأسباب العديدة التي تناولتها النصوص الدينية.
 
حديث جامع في زيادة الرزق
وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "... ألا أُنبّئكم بعد ذلك بما يزيد في الرزق؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. فقال: الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق، والتعقيب بعد الغداة وبعد العصر يزيد في الرزق، وصلة الرحم تزيد في الرزق، وكسح الفنا يزيد فيالرزق، ومواساة الأخ في الله عزّ وجلّ يزيد في الرزق، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد في الرزق، واستعمال الأمانة يزيد في الرزق، وقول الحقّ يزيد في الرزق، وإجابة المؤذِّن يزيد في الرزق، وترك الكلام في الخلاءيزيد في الرزق، وترك الحرص يزيد في الرزق، وشكر المنعم يزيد في الرزق، واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق، والوضوء قبل الطعام يزيد في الرزق، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق، ومن سبّح الله كلّ يوم ثلاثين مرة دفع الله عزّ وجلّ عنه سبعين نوعاً من البلاء أيسرها الفقر"3.
 
من موانع الرزق
1- الذنوب: عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد ليُذنب الذنب فيزوي عنه الرزق"4.
 
2- حبس الحقوق عن الناس: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من حبس عن أخيه المسلم شيئاً من حقّه حرم الله عليه بركة الرزق إلّا أن يتوب"5.



1 ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات، ص284.
2 البرقي، أحمد بن محمد بن خالد، المحاسن الأخلاق والآداب-، ج2، ص390.
3 الخصال، ص505.
4 الكافي، ج2، ص270.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

147

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 3- السحت: عن الإمام الصادق عليه السلام: "كثرة السحت يمحق الرزق"1.

 
4- الزنا: عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: "اتّقِ الزنا، فإنّه يمحق الرزق"2.
 
...إلى غيرها من الموانع.
 
الاستنتاج
انطلاقاً من مجموع هذه المقدّمات، لا شكّ في أنّ الإنسان المؤمن إذا أحسن الظنّ بالله تعالى وأخلص النيّة وقام بالأعمال التي هي مقتضيات أو شروط لجلب الرزق، وابتعد عن الأعمال التي هي موانع تحجب الرزق، كان الله عند حسن ظنّ عبده به، فيفيض عليه من الرزق، وذلك مجرّب. فالتمسّك بالعامل الماليّ والاقتصاديّ للامتناع عن إنجاب الأطفال هو ضعف ثقة برازقية الله تعالى.
 
عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: وجدنا في كتاب عليّ عليه السلام: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال - وهو على منبره -: "... والذي لا إله إلا هو، لا يُحسن ظنّ عبد مؤمن بالله إلّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن، لأنّ الله كريم، بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبدهالمؤمن قد أحسن به الظنّ ثمّ يُخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه"3.



1 تحف العقول، ص372.
2 الكليني، الكافي، ج5، ص541.
3 م.ن، ج2، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

148

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 المفاهيم الرئيسة

- العلم له موقعيّة خاصّة في مصفوفة القيم الإسلامية، لذا قدّمه الفقهاء على ما صرّح الشهيد الثاني والشيخ الجواهريّ على الزواج عند التعارض والتزاحم بينهما. ويُمكن تطبيق كلامهم على مورد إنجاب الأطفال عيناً بعين.

- الرؤية الإسلامية تقوم على النظر إلى الأعمال والمقارنة بينها من حيث الحسن الفعليّ والفاعليّ معاً، فالعلم يتّصف بالحسن بمقدار ما ينوي به الإنسان التقرّب إلى الله تعالى، وكذا الإنجاب.

- إنّ الذي يظهر من النصوص القرآنية والروائية أنّه ليس مطلق طلب العلم هو الذي يحظى بتلك الميزة، وإنّما هو خصوص العلم الدينيّ.

- أوّل الكلام في كون إنجاب الأطفال يُشكّل عقبة في طريق طلب العلم، وبالتّالي يتمّ تقديم التحصيل العلميّ على الإنجاب لأنّه أولى وأهم، إذ يُمكن عملياً الجمع بين طلب العلم وبين بناء الأسرة وإنجاب الأطفال، وخير شاهد على ذلك هو التجربة العملية، فإنّ استقراء سيرة حياة أكثر كبار علمائنا تُفيد أنّهم قد تزوّجوا في سنٍّ مبكرة، ولم يحجبهم الزواج والإنجاب وتربية الأطفال عن طلب العلم والسعي فيه.

- أمّا فيما يتعلّق بالعامل الاقتصاديّ، فإن الرؤية الكونية الإسلامية تقوم على أنّ الله تعالى هو الرزاق، وأنّ الخلق جميعهم عيال الله تعالى، وقد ضمن وتكفّل تعالى بإيصال هذا الرزق المقسوم إلى الإنسان عاجلاً أم آجلاً.

- لكن، قانون السببية العامّ لا يعني أحادية السبب في الحصول على النتائج المطلوبة، بل قد تتعدّد الأسباب في حصول مسبَّب واحد، فالعمل ليس هو السبب الوحيد والعلّة الحصرية للحصول على الرزق الإلهيّ، بل جعل الله تعالى بين الإنسان وبين الحصول على الرزق عدّة أسباب، كما جعل لعدم نزول الرزق عدّة موانع.

- من أسباب الرزق الإلهيّ: التقوى، التوكّل على الله، الاستغفار، الإكثار من التكبير، الصدقة، صلة الرحم، الدعاء للأخوان، حسن البرّ بالزوجة والعيال، حسن الخلق مع الناس، حسن الجوار، زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

149

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 أسئلة الدرس

1- هل إعطاء طلب العلم قيمة خاصة في الإسلام ينبغي أن يشكّل عائقاً وحجر عثرة أمام إقدام الإنسان على الإنجاب؟ ولماذا؟

2- كيف تناقش من يقول إن الإنجاب أمر مرغوب ومهمّ، ولكن طلب العلم أهمّ، وإذا اعتمدت في حياتي القاعدة العقلائية التي تقول بتقديم الأهمّ على المهمّ، فأمتنع عن الإنجاب؟

3- ما هو الدور الذي تلعبه العقيدة التوحيدية الاقتصادية من أنّ الله تعالى هو الرزاق في تنشيط الدافع نحو الإنجاب بتجاوز التمسك بمانعية الوضع الاقتصاديّ؟

4- هل أسباب حصول الإنسان على الرزق الإلهيّ المقسوم تنحصر بالعمل الاقتصاديّ أم هناك جملة أسباب أخرى لها دخالة أساسية في هذا المجال؟ وكيف يؤثّر الاعتقاد بهذه الأسباب على مسألة الإنجاب للأطفال؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

150

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يميّز بين تنظيم النسل وتحديد الأسرة ومعرفة معنى كلٍّ منهما.
2- يعرف موقف الشريعة الإسلامية من مسألتي تنظيم الأسرة وتحديد النسل بالعنوانين الأوّليّ والثانويّ.
3- يحلّل أسباب اتّخاذ بعض الحكومات قراراً بسياسة تحديد النسل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

151

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 تمهيد

من المسائل القديمة المتجدِّدة التي تُطرح على بساط البحث كتحدٍّ يواجه المجتمع الإنسانيّ الكبير قضية "تنظيم الأسرة وتحديد النسل". ومنذ أن أبصرت هذه المسألة النور انقسمت المواقف بين مؤيّد ومعارض، حيث نرى أفلاطون تحدّث عن الحجم الأمثل لسكّان المدينة من خلال تحديد النسل وغيره، وكذلك تلميذه أرسطو في كتابه "السياسة" تحدّث عن تحديد إنجاب الأطفال لكلّ أسرة بعدد معيّن1.
 
كما يُخبرنا القرآن الكريم عن أنّ حالة الإفلاس والفقر كانت ذريعة عند بعض العرب الجاهليين إلى تحديد النسل من خلال قتل أولادهم الذكور أو الإناث2.
 
وقد تشدَّد المنهاج الإسلاميّ في مواجهة ومكافحة هذه الظاهرة، حيث نهى الله تعالى في كتابه العزيز عنها، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾3، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا﴾4، وقال: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾5.



1 أرسطو، السياسة، ص224 -227. ويراجع حول تحبيذ الفلاسفة اليونانين لتحديد النسل: ديورانت، ويل وايريل، قصة الحضارة، حياة اليونان، مجلد2/ ج2، الباب13، الفصل الأول: الطفولة، ص80-81.
2 وهي مسألة مختلفة تماماً عن ظاهرة وأد البنات التي سنأتي على بحثها لاحقاً.
3 سورة الأنعام، الآية 151.
4 سورة الإسراء، الآية 31.
5 سورة الأنعام، الآية 140.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

152

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 وقد أُثيرت مسألة تحديد النسل بقوّة في أواخر القرن الثامن عشر الميلاديّ، عندما طرح مالتوس1 (1766-1834م) نظريّته في العلاقة التوازنية بين عدد السكان وحجم المواد الغذائية المنتَجة التي تُلبّي حاجات البشر. والزيادة السكّانية تخضع لقوانين طبيعية تتعلّق بالميل الجنسيّ بين الرجل والمرأة. و"المتتالية الهندسية السكّانية" شكلها التالي: (1، 2، 4، 8، 16، 32...) فلو أنجبت الأسرة طفلين، فالطفلان سينجبان أربعة، ثمّ الأربعة ثمانية، وهكذا...، في حين أنّ المواد الغذائية تخضع لحجم الأراضي الصالحة للاستثمار الزراعيّ بزيادة تحصل بمتوالية عددية، و"المتتالية الحسابية الغذائية" على الشكل التالي: (1، 2، 3، 4، 5، 6...)، وعليه فإنّ ميزان الأرجحية سيكون لصالح الزيادة السكّانية والانفجار الديموغرافيّ مقابل زيادة المواد الغذائية، ممّا يؤدّي إلى حدوث اختلال في التوازن بين الأمرين، ويحتاج إعادة التوازن بينهما إلى عاملين: أحدهما خارجيّ وسمّاه الموانع الإيجابية صلى الله عليه وآله وسلمositiveschecks، يظهر في شكل حروب وصراعات بين الجماعات البشرية المختلفة، وفي زيادة الأوبئة والأمراض والمجاعات... إلخ، والثاني يحصل من خلال ما أسماه الموانع الأخلاقية preventivechacks.Moralustraint مثل الامتناع عن الزواج أو تأخير سنّ الزواج أو التقليل من معدّلات المواليد2.

 
وقد تمسّك أنصار هذه الأطروحة (المالتوسيون Malthusians وأيضاً النيو مالتوسيين) بها كمبرّر للدعوة إلى تحديد النسل.
 
تحديد طبيعة مشكلة البحث
انطلاقاً مما ذكرناه حول النظرة الإسلامية إلى محبوبية إنجاب الأطفال، يثار حول مسألة "تنظيم الأسرة وتحديد النسل" أو "العدد الأمثل للسكّان"، السؤال التّالي: ما هو موقف الرؤية الإسلامية من مسألة تحديد النسل وتنظيم الأسرة؟
 
وسنُعالج الجواب عن هذا السؤال ضمن النقاط التالية:



1 في عام 1789 نشر مالتوس Thomas robert Malthus كتاباً تحت عنوان: An Essay on the princi ple of poppulation، أي "مقالة عن مبدأ السكان"، تحدث فيه عن فكرته التي عرضناها.
2 يراجع: عوض الله، زينب حسين، مبادئ علم الاقتصاد، ص179-180. والببلاوي، حازم، دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي، ص72 وما بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

153

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 1- تحديد المقصود بتنظيم الأسرة وتحديد النسل.

2- موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم الأسرة بالعنوان الأوّليّ.
3- موقفها من تحديد النسل بالعنوان الأوّليّ.
4- موقفها من تنظيم الأسرة أو تحديد النسل بالعنوان الثانويّ.
5- الحكم التدبيريّ للوليّ الفقيه في المسألة.

بيان المبدأ التصوّري: تنظيم الأسرة/ تحديد النسل
عادة ما يتمّ التمييز بين عنوانين: الأول: تنظيم الأسرة أو تنظيم النسل، والثاني: تحديد النسل، وقد عُرِض العديد من وجهات النظر في بيان الفرق بينهما. وبما أنّ المفردتين لم تردا في أيّ نصٍّ تشريعيّ إسلاميّ -آية أو رواية - فإنّ تنقيح معناهما لن يتمّ من الناحية النصوصية، ولكن لأنّ تحديد موضوعهما يلعب دوراً في تحديد ما هو الحكم الشرعيّ، سنتبنّى وجهة نظر في المصطلحين تُساعدنا على بيان موقف الشريعة بشكل واضح.

ما هو تنظيم الأسرة؟
نعني بتنظيم الأسرة: قيام الزوج والزوجة بتشخيص ما هو المناسب لهما في تنظيم فترات الحمل بين الأطفال كإنجاب طفل كلّ خمس سنوات، أو تحديد الأطفال المراد إنجابهم بعدد معيّن كطفلين مثلاً، انطلاقاً من الأسباب التي تمّ عرضها ومناقشتها في الدرس السابق.

فتنظيم الأسرة هو حالة فردية متعلّقة بكلّ أسرة أسرة، لذا تختلف من أسرة إلى أخرى في نفس المجتمع الواحد.

ما هو تحديد النسل؟
نقصد بتحديد النسل: قيام السلطة أو الحكومة بإصدار قانون عام يُلزِم جميع الأُسَر في الدولة بالوقوف بالنسل وإنجاب الأطفال عند حدٍّ معيّن، كسياسة أسرة ذات مولود واحد أو اثنين مثلاً، مع قيام الحكومة بإجراءات معيّنة للتعزيز والتحفيز الإيجابيّ والسلبيّ تجاه سياسية تحديد النسل، ففي الجانب الإيجابيّ مثلاً: تقوم الحكومة بتقديم وسائل تحديد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

154

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 النسل ومنع الحمل مجّاناً...، وفي الجانب السلبيّ مثلاً: تقوم الحكومة بإجراءات معيّنة ضدّ الأسرة التي لا تلتزم بالقانون العام، كالامتناع عن تسجيل الولد في الدوائر الرسمية... إلخ.


الأسباب التي تدفع الحكومة إلى تحديد النسل
إنّ مسألة الإنجاب لا تتعلّق فقط بالموارد المادّية أو المعنوية الخاصّة بالأسرة، بل تتعلّق أيضاً بموارد وإمكانات الدولة التي تعيش تلك الأسرة فيها، لذا لا يُمكن اعتبار الإنجاب شأناً فردياً وشخصياً للأسرة فقط، فمن مسؤوليات الدولة تأمين الاحتياجات الرئيسة للمجتمع كالتعليم والصحّة والسكن وفرص العمل والأمن والدفاع والخدمات والعمران و...، وبالتّالي ستضطّر إلى بناء المؤسّسات التعليمية، مراكز الطبابة، تمديدات مياه الشرب، محطّات الكهرباء، شبكات الصرف الصحّي، الطرقات والجسور...، فضلاً عن قوى الجيش والأمن الداخليّ، المجالس البلدية، المديريات العامّة... إلخ، وكلّ ذلك لا بدّ من أن يتناسب مع حجم السكّان. وقد تكون كثافة النمو السكّاني غير متناسبة مع موارد الدولة والدخل القوميّ وقدراتها الاستثمارية، وبالتّالي فإنّ التضخّم السكّانيّ سينعكس سلباً على وضع خطط النمو الاقتصاديّ والتنمية الوطنية وتأمين احتياجات المجتمع، لأنّ الدولة التي يزداد النمو السكّانيّ فيها مثلاً بنسبة 3 %، ودخلها القوميّ مثلاً 2 % ينبغي أن تستثمر ما يزيد على 20 % من دخلها القوميّ، في حين أنّ غالبية البلاد العربية والإسلامية نادراً ما تستثمر أكثر من 5 إلى 6 % من دخلها القوميّ كحدٍّ وسط. أمام هذه الحالة تجد الدولة نفسها مضطّرة تفادياً لما يترتّب على الزيادة السكّانية من مشكلات أن تعمل على إصدار قانون عام يلزم الأسرة بتحديد إنجاب الأطفال بعدد معيّن.

هذا فضلاً عنمّا تؤدّي إليه الزيادة السكّانية في هذه الحالة من مشكلات اجتماعية مثل: البطالة، الفقر، الأمية، الجريمة... إلخ، فتواجه الدولة مشكلات إضافية تؤدّي إلى تضرّر المجتمع والأسر أيضاً.

وهنا تطرح الحكومة على نفسها السؤال التالي: ما هو الحلّ؟ أليس من المصلحة إصدار قانون عامّ يلزم بتحديد النسل؟

وهذا نظير "ما حدث في إيران منذ عام 1980م حتّى نهاية عام 1988م، إذ بلغ معدّل النموّ السكّانيّ في عام 1988م - طبقاً للإحصاء الرسميّ لمنظمة الأحوال الشخصية - 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

155

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 حوالي 7/3 %، بل بلغ عدد الولادات في هذا العام مليوناً وستمائة وسبعة وستين ألفاً ومائتين وأربعة وسبعين حالة، وأنّه قد حصلت زيادة على عدد السكان في الفترة ما بين عام 1980م ونهايات عام 1988م مليونين وخمسمائة وخمسة وأربعين، أي بإضافة مليوني نسمة في كلّ عام إلى عدد سكّان البلد"1.

 
وبعد انتهاء حرب صدام حسين على إيران وشروع إعادة البناء، وبعد إعلان الإحصاءات الرسمية عن زيادة سكّانية بنسبة 9/3 % والقلق من زيادة معدّل النمو السكّاني الكبير في إيران حتّى بلغت حدّ الدولة الثالثة في العالم، اتّخذت الحكومة الإيرانية قراراً بتحديد النسل.
 
ولسنا هنا في صدد مناقشة علمية لهذه الأسباب، ولكن ما تنبغي الإشارة إليه بشكل سريع هو أنّ الدولة العادلة المقتدرة ينبغي أن تسعى إلى تهيئة كلّ الظروف والإمكانات التي تُساعد المواطنين على أن يعيشوا عيشاً كريماً بنحو لا يؤثّر على حرّية خياراتهم المشروعة في الحياة أولاً. وثانياً: إنّ ما قد يُشخّصه علماء الاقتصاد والاجتماع والحقوق أنّه أزمة ومشكلة في مرحلة زمنية محدّدة، ويسعون إلى معالجته من خلال سياسة تحديد النسل، قد يتبيّن لهم لاحقاً أنّه هو كان مسبباً في إنتاج مشكلة أكبر للدولة، كما حصل في إيران حيث إنّ سياسة تحديد النسل أدّت إلى ولادة مشكلة كبرى تُعاني منها إيران اليوم وهي الشيخوخة، وهذا ما دفع الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله إلى الاعتراف في مناسبات متعدّدة2 بأن ذلك القرار كان خاطئاً وغير دقيق، حيث يقول: "إنجاب الأطفال جهاد عظيم، ونحن للأسف بسبب أخطائنا، أو عدم دقّتنا، غفلنا عنه لمدّة من الزمن، ونشهد مخاطر هذه الغفلة في أيّامنا هذه. لقد ذكرت هذا الأمر مراراً: إنّ هرم البلاد، وانخفاض جيل الشباب في الأعوام القادمة، سيترك آثاره المستقبلية السّيئة، وحينها لن نتمكّن من معالجة الأمر"3.



1 يراجع: صحيفة اطلاعات، 23/7/1369، 1990م-. وصحيفة جمهورى إسلامى، 14/3/1368، 1989م-.
2 يراجع: بيان الإمام الخامنئي دام ظله إلى العاملين على إقامة المؤتمر الوطني للتغيير السكاني ودوره في تحولات المجتمع المختلفة، 28-10-2013م. منشور ضمن سلسلة خطاب الولي 2013، ص577 وما بعد.
3 من كلمة له في جمع من مداحي أهل البيت في طهران، 1-5-2013م. يراجع: خطاب الولي، سلسلة خطاب الولي 2013م، إعداد مركز نون للتأليف والترجمة، نشر جميعة المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، 1435هـ-2014م، ص217.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

156

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 على كلّ حال، بعد أن اتّضح المقصود بكلّ واحد من العنوانين وأسبابهما، ندخل في بيان موقف الشريعة من كلٍّ منهما.

 
الحكم الأوّليّ/ الثانويّ/ الولائيّ
قبل بيان الحكم في المسألة، نُشير إلى مقدّمة حول معنى الحكم بالعنوان الأوّليّ، والحكم بالعنوان الثانويّ، والحكم الولائيّ.
 
1- الحكم الأوّليّ: هو الحكم المجعول على الفعل بما هو هو في نفسه، كوجوب الصلاة وحرمة أكل لحم الميتة...، بغضّ النظر عن عروض أيّ عنوان آخر يتعلّق بحالات المكلَّف وما يلحق به من الضرر أو الحرج أو الاضطرار.
 
2- والحكم الثانويّ: هو الحكم المجعول على الموضوع لا في نفسه بل بلحاظ عروض حالة من حالات المكلَّف عليه، أي على الموضوع المقيّد بعنوان ثانويّ كالضرر أو الحرج... فلحم الميتة موضوع حكمه حرمة الأكل بالعنوان الأوّليّ، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾1. ولكن إذا وصل الجوع بالإنسان إلى حدّ تهديده بالموت، واضطرّ لاستمرار حياته أن يأكل لحم الميتة أو لحم الخنزير، فإنّه يجوز له والحال هذه الأكل بمقدار الضرورة التي تُبقيه على قيد الحياة، ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.
 
3- أمّا الحكم الولائيّ أو التدبيريّ: فهو الحكم الصادر عن إمام المسلمين بلحاظ تشخيصه للمصالح والمفاسد والمنافع والمضارّ حسبما تقتضيه الظروف الزمانية والأحوال المحيطة بالدولة والأمّة، ويسري بحقّ جميع المكلّفين المخاطَبين به، ويجب عليهم طاعة هذا الحكم وتنفيذه وعدم الاعتراض عليه.
 
تحديد حكم تنظيم النسل من حيث العنوان الأوّليّ
لم يقل أحد من فقهاء المسلمين بأنّ أصل الإنجاب أو تكثير النسل من الواجبات بالعنوان



1 سورة المائدة، الآية 3.
2 سورة المائدة، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

157

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 الأوّليّ، نعم هما أمران مرغوب فيهما ومستحبّان بالعنوان الأوّلي كما ظهر من النصوص الدينية في الدروس السابقة، حيث إنّ العناوين الأوّلية غير مختصّة بالأحكام التكليفية الإلزامية، ولذا فإنّ البحث في هذه الفقرة لا يدور حول عنواني الوجوب والحرمة، ولذلك نُلاحظ أنّ فقهاء الإمامية قد جوّزوا تنظيم الأسرة من خلال الترخيص في استعمال وسائل منع الحمل.

 

 
تحديد حكم تنظيم النسل من حيث العنوان الثانويّ
ذكرنا أنّ تنظيم الأسرة له صورتان:
- التنظيم بمعنى تحديد الفترة الزمنية بين كلّ حمل وحمل من خلال وسائل معيّنة، بنحو لا يُعارض إرادة الإكثار من الإنجاب والرغبة في طلب الولد.
 
- تنظيم النسل بمعنى إرادة الوقوف عند عدد محدّد من الأطفال دون حدّ الإكثار، كطفل واحد أو اثنين مثلاً.
 
ولا ريب في أنّ تنظيم النسل بالمعنى الأول يعتبر حاجة ضرورية للأسرة سواء للأمّ أو للأب، وهو غير منافٍ لإرادة الإكثار فلا يُعارض العنوان الأوّليّ، فتنظيم النسل ومنع الحمل مؤقّتاً لتتمكّن الأم من إرضاع الطفل إرضاعاً كاملاً، وإعطائه الاهتمام العاطفيّ والصحّيّ والنفسيّ... اللازم له والمحتاج إليه، هو أمر مطلوب في الشريعة1.
 
أمّا تنظيم النسل بالمعنى الثاني، فنُسلّط الضوء عليه بلحاظين:
الأوّل: بلحاظ معارضته للعنوان الأوّلي المستحبّ، وهو ممّا لا شكّ فيه، لأنّه دون حدّ الإكثار المطلوب والمرغوب فيه شرعاً بعنوانه الأوّلي.
 
الثاني: وبلحاظ العنوان الثانويّ، فنقول: إنّ الحديث عن تنظيم الأسرة ليس منفصلاً عن فهم دور الأسرة ومسؤوليّاتها في الرؤية الإسلامية، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ على عاتق الأسرة مسؤوليّات متعدّدة:
1- مسؤوليّات التربية الجسمية والبدنية بمعناها الأعمّ من طعام وشراب ولباس ودواء وسكن وتنظيف و... وما يقتضيه ذلك من سهر وعناء وتعب وبذل جهد...



1 الروحاني، محمد صادق، المسائل المستحدثة، ص152.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

158

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 2- مسؤوليّات التربية الاقتصادية والمالية في تأمين كلّ الحاجات المادّية للأسرة، بل استحباب التوسعة على العيال في النفقة، بل حتى محبوبية الدار الواسعة. عن الإمام الباقر عليه السلام: "من شقاء العيش ضيق المنزل"1.

 
3- مسؤوليّات الترفيه وتأمين وسائل التسلية واللعب للأطفال...
 
4- مسؤوليّات إشباع الجانب العاطفيّ وإعطاء الاهتمام النفسيّ والوجدانيّ اللازم بالأطفال.
 
5- مسؤوليّات تلبية الجانب المعرفيّ والتعليميّ من حياة الطفل.
 
... إلخ.
 
هذا مضافاً إلى تعقيدات الحياة المعاصرة وتطوّراتها المتسارعة وكثرة احتياجاتها من جهة ثانية، ومع ارتفاع نسبة التحدّيات التربوية والمشكلات التي تواجه الأسرة في وقتنا الحاضر، آخذين بعين الاعتبار مبدأ التكليف على قدر السعة ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾2، فقد يُقال: "إذا رأى الوالدان أنفسهما عاجزين عن القيام بواجباتهما إزاء الأولاد، ولم يروا في أنفسهم القدرة على إدارة أكثر من اثنين أو ثلاثة أولاد، فليسا مكلّفين بزيادة النسل وإنجاب أولاد كُثُر، وبمقدورهما الإقدام على تحديد النسل عبر الطرق الشرعية لمنع التكاثر"3، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المسألة تدور بين خيارات مستحبّة، فإنّ ما ذُكر من مسؤوليّات التوسعة على العيال وإعطائهم الرعاية والاهتمام اللازم... هي أمور مستحبّة أيضاً، فإذا كان الإكثار من الإنجاب عاملاً مُضعِفاً من التربية السليمة وإعطاء الاهتمام اللازم للأطفال على مختلف المستويات، فإنّ التزاحم قد يقتضي تقديم محبوبية تنظيم الأسرة بالعنوان الثانويّ على محبوبية كثرة الإنجاب بالعنوان الأوّليّ.
 
هذا، ولكن إذا كان المانع عن الإكثار من الإنجاب هو العامل الاقتصاديّ الماليّ حصراً، ففي هذه النقطة قد يُقال: ذكر سابقاً أنّ الآيات القرآنية قد صرّحت بأنّ الله تعالى هو الذي 



1 الكافي، ج6، ص526. ويراجع: أحاديث باب سعة المنزل في نفس المصدر.
2 سورة البقرة، الآية 286.
3 طاهري، تحديد النسل في الشريعة الإسلامية، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

159

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 تكفّل برزق الأطفال، كما أنّ العديد من الروايات كشف عن أنّ الرزق مع الأهل والعيال، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "الرزق مع النساء والعيال"1.

 
وعن بكر بن صالح، قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: إنّي اجتنبت طلب الولد منذ خمس سنين، وذلك أنّ أهلي كرهت ذلك وقالت: إنّه يشتدّ عليّ تربيتهم لقلّة الشيء، فما ترى؟ فكتب إلي: "اطلب الولد فإنّ الله يرزقهم"2.
 
لكن قد يُناقش هذا الوجه أيضاً، بأنّه وإن كان أمراً صحيحاً كما تقدّم، إلا أنّه في المقابل هناك العديد من الروايات أيضاً صرّح بأنّ حسن التدبير وتقدير المعيشة أمر مطلوب، منها:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما أخاف على أمّتي الفقر، ولكن أخاف عليهم سوء التدبير"3.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التدبير، وجنّبه سوء التدبير والإسراف"4.
 
وعنه عليه السلام: "سوء التدبير مفتاح الفقر"5.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "الرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال"6.
 
وعن أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام، قال: "الرفق نصف العيش، وما عال امرؤ في اقتصاده"7.
 
فهذه الروايات تُفيد أنّه على الإنسان أن يُحسن إدارة موارده الاقتصادية الذاتية بنحو لا يضرّ به. ومن حسن تدبير المعيشة مراعاة القدرات المالية والإمكانات الاقتصادية مقارنة بالقدرة على الوفاء بالالتزامات الأسرية من الطبابة والتعليم والسكن واللباس والطعام و...

 
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في هذا السياق: "إنّ الله تعالى خلق في الإنسان العقل والدراية ولازمه التدبير في الأمور، فلو رأى أنّه إذا بذل غاية مجهوده لم يقدر على



1 الكافي، ج5، ص330.
2 م.ن، ج6، ص3.
3 عوالي اللئالي، ج4، ص39.
4 عيون الحكم والمواعظ، ص131.
5 المصدر نفسه، ص284.
6 الكافي، ج2، ص120.
7 م.ن، ج4، ص54.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

 


160

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 تربية أكثر من ولدين مثلاً من حيث تأمين الاحتياجات المادّية والمعنوية، لزم عليه الأخذ بما هو الموافق لقدرته ووسعه في ذلك"1.

 
وبهذا لا يكون تحديد النسل منطلقاً من التشكيك برازقية الله تعالى، لأنّ رازقيته لا تعني أن "لا يُقدِّر البشرُ معيشتهم بإعمال العقل وحسبان النفقات والمداخيل، ففي البلاد الفقيرة والرجعية يُعاني كثيرٌ من الناس - والأطفال على وجه الخصوص - من سوء التغذية، أو يموتون جوعاً، بيد أنّ الله رازقَهم موجود أيضاً، وذلك لأنّ رازقيّته ليست جبريّةً وعلى خلاف إرادة البشر واختيارهم"2.
 
ولعلّه يؤيّد وجهة النظر هذه ما ورد في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قلّة العيال أحد اليسارين"3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شدّة البلاء4 كثرة العيال، وقلّة المال، وقلّة العيال أحد اليسارين"5.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "جهد البلاء كثرة العيال مع قلّة الشيء"6.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قلّة العيال أحد اليسارين"7.
 
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام - مع التأمّل في سياق الرواية -، قال: "التقدير نصف العيش، ما عال امرؤ اقتصد، قلّة العيال أحد اليسارين"8.
 
وعلى كلّ حال، إنّ المسألة بلحاظ العنوان الثانويّ تختلف من شخص إلى آخر ومن زمان لآخر ومن مجتمع لآخر، وليس لها قاعدة عامة، وإنّما هي محكومة للقاعدة العقلائية في تزاحم الملاكات بتقديم الأهمّ على المهمّ، والأقل سوءاً على الأكثر...



1 بحوث فقهية مهمة، ص280.
2 طاهري، تحديد النسل في الشريعة الإسلامية، قراءة فقهية وحقوقية، ص219.
3 مستطرفات السرائر، ص33.
4 في بعض النسخ: جَهْد البلاء.
5 دعائم الإسلام، ج2، ص255.
6 الجامع الصغير، ج1، ص558.
7 الصدوق، الأمالي، ص532. ونهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، ح141.
8 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص416.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

161

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 حكم تحديد النسل أو تنظيمه بعنوان الحكم الولائيّ والتدبيريّ

هذا بالنسبة لتنظيم الأسرة فيما يتعلّق بما هو تكليف الأفراد، أمّا الحديث عن إصدار قانون عام يحدّ من النسل يقع من جهة الجواب عن السؤال التّالي: هل يحقّ لحكومة وليّ الفقيه إصدار مثل هذا القانون العامّ؟
 
لا شكّ في أنّ الشريعة الإسلامية قد منحت الوليّ الفقيه الجامع للشرائط حقّ وصلاحية إصدار الأحكام الولائية والتدبيرية وفق المتطلّبات العامة للحالات والظروف التي تعيشها الدولة والأمّة، حتّى لو كانت مقيّدة لحرية المواطنين. وعلى الأفراد الالتزام بهذه الأحكام الولائية.
 
يقول الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله: "يجب على كلّ المسلمين، إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين، والتسليم لأمره ونهيه، حتّى على سائر الفقهاء العظام..."1.



1 الخامنئي، علي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص25، س65. ويراجع: نفس المصدر، ج1، ص25، س68.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

162

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 المفاهيم الرئيسة

- طرح مسألة تنظيم الأسرة وتحديد النسل على بساط البحث قديم في الحضارات الإنسانية، حيث دعا أفلاطون وأرسطو إلى تحديد النسل، ثم تجدّدت هذه المسألة بقوّة في القرن الثامن عشر عندما طرح القسّ الإنجليزي مالتوس نظريّته في العلاقة بين المواد الغذائية وبين حجم السكّان.

- اعتبر بعض المسلمين أنّ تحديد النسل هو مؤامرة غربية ضدّ العالم الإسلاميّ من أجل التقليل من قوّة الغد للمسلمين لأنّ الكثرة العددية عامل قوّة للأمم.

- تنظيم الأسرة عبارة عن قيام الزوج والزوجة بتشخيص ما هو المناسب لهما في تنظيم فترات الحمل بين الأطفال كإنجاب طفل كلّ خمس سنوات، أو تحديد الأطفال المراد إنجابهم بعدد معيّن كطفلين مثلاً.

- تحديد النسل عبارة عن قيام السلطة أو الحكومة بإصدار قانون عام يُلزِم جميع الأُسَر في الدولة بالوقوف بالنسل وإنجاب الأطفال عند حدٍّ معيّن.

- إنّ مسألة الإنجاب ليست شأناً شخصيّاً للأسرة فقط، لأنّه من مسؤوليّات الدولة تأمين الاحتياجات الرئيسة للمجتمع كالتعليم والصحّة والسكن وفرص العمل والأمن والدفاع والخدمات والعمران و...، وكلّ ذلك لا بدّ من أنّ يتناسب مع حجم السكان.

- لم يقل أحد من فقهاء المسلمين بأنّ أصل الإنجاب أو تكثير النسل من الواجبات بالعنوان الأوّلي، ولذلك جوّز فقهاء الإمامية تنظيم الأسرة من خلال الترخيص في استعمال وسائل منع الحمل.

- إنّ مسألة تنظيم الأسرة بلحاظ العنوان الثانويّ تختلف من شخص إلى آخر ومن زمان لآخر ومن مجتمع لآخر، وليس لها قاعدة عامة، وإنّما هي محكومة للقاعدة العقلائية في تزاحم الملاكات بتقديم الأهمّ على المهمّ، والأقل سوءاً على الأكثر...

- منحت الشريعة الإسلامية الوليّ الفقيه الجامع للشرائط حقّ وصلاحية إصدار الأحكام التدبيرية وفق المتطلّبات العامة للحالة التي تعيشها الدولة والأمّة لذا باستطاعته إصدار قانون عامّ يلزم الأسر بتحديد النسل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

163

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 أسئلة الدرس

1- ما هي الأسباب التي قد تدفع بعض الدول إلى سياسة تحديد النسل؟ وكيف تُناقش هذه الأسباب من وجهة نظرك؟

2- هل تعتبر سياسة تنظيم الأسرة حاجة ضرورية للتربية الناجحة للأطفال؟ علّل ذلك.

3- برأيك هل تتعارض سياسة تنظيم الأسرة مع الثقة برازقية الله تعالى؟

4- اضرب مثلاً من الواقع العمليّ على أنّ سياسة تنظيم النسل أولى بالعنوان الثانويّ من مرغوبية كثرة الإنجاب للأطفال.

5- لماذا برأيك يُشدّد الإمام الخامنئي دام ظله في الفترة الأخيرة على أهمّية الإنجاب ويعتبره جهاداً في الأسرة؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

164

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف الولاية التربوية والأبوّة لغةً واصطلاحاً.
2- يُميّز بين الولاية الذّاتية والولاية الجعلية.
3- يحدد طبيعة العلاقة بين ولاية التصرّف والولاية التربوية.
4- يقدر على التمييز بين الولاية التربوية والتربية.
5- يعرض الأدلّة الفقهية على جعل الولاية التربوية للأب على الطفل دون الأم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

165

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 معنى الولاية لغة

الولاية في أصل اللغة تدلّ على القرب والدنو1، والولاية بمعنى: السلطان، الأولى بالتصرّف، الإمارة، التدبير، المتابعة، النصرة... والوالي: مالك الأشياء جميعها والمتصرّف فيها2. وكلّ من ولي من قوم أمراً فهو راعيهم3. والراعي: السائس.
 
فالولاية لغةً نحو من السلطة والتصرّف والسياسة والرعاية والتدبير، وهي بهذا المعنى عنصر من الشبكة المعنائية للتربية بالمعنى الأعمّ.
 
الولاية اصطلاحاً
الولاية في الاصطلاح الفقهيّ عبارة عن نحو من الإمارة والسلطة لشخص ما تمنحه حقّ التصرّف في شؤون الغير وتدبير أموره في أيّ مجال من المجالات.
 
يقول الخوانساري في تعريفها: "هي الإمارة والسلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أمر من أموره"4.
 
ويقول الإمام الخميني قدس سره: "الولاية هي السلطنة على تدبير الأمور أو إضافة بين الوليّ والمولى عليه تستتبعها السلطنة على أموره"5.



1 معجم مقاييس اللغة، ج6، ص140. الصحاح، ج6، ص2528.
2 لسان العرب، ج15، ص407.
3 العين، ج2، ص240.
4 الخوانساري، أحمد، جامع المدارك في شرح المختصر النافع، ج6، ص3.
5 الخميني، روح الله، الرسائل، ج1، ص272.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

166

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 الأب لغة

يظهر أنّ الأب في أصل اللغة من التربية والتغذية. قال ابن فارس: "الهمزة والباء والواو يدلّ على التربية والغذو. أبوت الشيء آبوه أبواً إذا غذوته. وبذلك سُمّي الأب أباً"1.
 
والأب الوالد، ويُسمّى به كلّ من كان سبباً في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره2.
 
والأب بيولوجياً هو كلّ من تكوّن الطفل من نطفته.
 
الأب في الاصطلاح الشرعيّ
أمّا الأب في الاصطلاح الشرعيّ فتُطلق على معنى خاص، وهو "الذكر الذي تولّد منه مولود منتسب إليه شرعاً. وعليه فلو زنى وتولّد من مائه مولود لم تصدق الأبوة شرعاً وإن صدقت لغة"3.
 
الولاية الحقيقية الأصيلة
من الأصول العقائدية في الرؤية الكونية الإسلامية أنّ الله تعالى هو خالق الكون والإنسان: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾4، وبما أنّه خالقه فهو مالكه، لأنّ المالكية فرع الخالقية: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾5، وبما أنّه مالكه ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾6 حصراً، بمعنى أنّ إرادته نافذة في كلّ ذرّات الكون وأنّه الأحقّ حصراً بالتصرّف في عالم الوجود وحياة الإنسان، وهو ما يُطلق عليه اسم "الولاية التكوينية".
 
وبما أنّه تعالى له الولاية التكوينية على الوجود تكون الولاية التشريعية منحصرة به عزّ وجلّ، لأنّ حقّ التشريع فرع ثبوت المولوية الحقيقية في الرتبة السابقة، "فلو لم تكن هناك مولوية ذاتية لا تثبت الجعلية أيضاً، لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه"7.



1 معجم مقاييس اللغة، ص44.
2 مفردات ألفاظ القرآن، ص57.
3 الأنصاري، محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة، ج1، ص141.
4 سورة الأنعام، الآية 102.
5 سورة الملك، الآية 1.
6 سورة الشورى، الآية 9.
7 الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول، تقريرات أبحاث السيد محمد باقر الصدر، ج4، ص29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

167

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 وبما أنّ "الناس كأسنان المشط سواء"1 كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يكون بالأصالة لأحدٍ من البشر ولاية على أحد من حيث هو2، ولأنّه لا يحقّ لأحد التصرّف في ملك الله تعالى من دون إذنه، فلكي يكون إنسان ما وليّاً على الآخرين لا بدّ من أن يُمنح هذا الحقّ من قِبَل صاحب الحقّ أي الله تعالى، فالولاية منصب شرعيّ يمنح من قِبَل الله، وكلّ من يتصدّى للولاية على أحد من دون إذنه تعالى يكون معتدّياً على حقّ الله قبل اعتدائه على حقّ الإنسان. كما أنّ كلّ من يتصدّى للولاية بإذن الله تعالى لا بدّ من أن يتقيّد بالحدود التي رسمها الله لدائرة ولايته، فالولاية المطلقة منحصرة بالله تعالى، وكلّ ما سواه ولايته مقيّدة.

 
ولاية تدبير المنزل وإدارة الأسرة
إنّ الإنسان كائن اجتماعيّ بالفطرة أو الاستخدام3، فلا تتعايش أي مجموعة من أفراد البشر فيما بينهم إلا بوجود قيّم وراعٍ يتولّى مسؤولية اتّخاذ القرارات وتدبير شؤون المجموعة في الجانب الإيجابيّ، ويقيهم من التنازع ويعمل على فضّ التزاحم وحلّ المشكلات في الجانب السلبيّ. والسيرة العقلائية منذ بداية نشأة الخلقة قائمة على هذا القانون الاجتماعيّ العامّ. وفي هذا السياق ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: "إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم"4. فالاجتماع الإنسانيّ - بأقل جمعه ثلاثة فضلاً عمّا فوق - لا ينتظم شأنه إلا بقيّم وسائس وولي وأمير، وعلى ضوء هذا القانون العام نفهم ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر"5، بغضّ النظر مبدئياً عن كون تولّيه هذه المسؤولية منطلقة من الانتخاب والاختيار أو من النّص والتعيين أو من القهر والغلبة...
 
وبيت الأسرة (الأب/ الأم/ الأولاد) هو أوّل نواة مجتمعية يتشكّل منها الاجتماع الإنسانيّ، ولا تخرج عن معطى القانون الاجتماعيّ الإنسانيّ العام بضرورة وجود قيّم وولي عليها، يتحمّل



1 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص379.
2 الإلهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل، ج1، ص425.
3 توجد نظريتان عن الفلاسفة وعلماء الاجتماع حول اجتماعية الإنسان، من أنّها هل هي بدافع فطري أم أنّها نتيجة الحاجة إلى خدمات الآخرين وتبادل المنافع معهم. وقد تبنّى أرسطو النظرية الأولى، في حين تبنّى أفلاطون النظرية الثانية.
4 سنن أبي دواد، ج1، ص587.
5 نهج البلاغة، ج1، ص91.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

168

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 مسؤولية سياستها ورعايتها وإدارة شؤونها وتدبير أمورها، ويكون له حقّ التصرّف فيما يتعلّق بتلك الشؤون والأمور المختلفة - ما كان يعرف في الفلسفة أو الحكمة العملية بتدبير المنزل - والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من هو الشخص الذي منحه الدين الإسلاميّ حقّ الولاية داخل الأسرة؟

 
في الجواب عن هذا السؤال يُمكن أن نطرح فرضيتين نظريّتين1:
الأولى: أن تمنح هذه الولاية لعنصر خارج الأسرة. وهو أمر خلاف مقتضى قانون الفطرة العام الذي نُشاهده في عالم الطبيعة من قيام الأب أو الأم بمسؤولية تربية الأولاد، كما في عالم الطيور والحيوانات، والإنسان ليس خارجاً من انطباقات هذا القانون الفطريّ العام، والسيرة العقلائية منذ بدء الخليقة حتى اليوم منعقدة على أن يتولّى مسؤولية الأسرة عنصر داخلي هو إمّا الأب أو الأم أو كلاهما معاً. فضلاً عمّا يؤدّي إليه منح هذا الحقّ لسلطة خارجية من التزاحم والصراع والتنازع في المجتمع الإنسانيّ كما سيأتي.
 
الثانية: أن تمنح هذه الولاية لعنصر داخل الأسرة، ولا شكّ في أنّ الأطفال بسبب صغرهم وضعفهم وقصورهم وعدم رشدهم...، لا يّمكن أن يتولّوا شؤون أنفسهم فضلاً عن غيرهم، فلذا هذا الاحتمال سيخرج من دائرة الخيارات التي يُمكن أن تفترض في المقام.
 
فيبقى إذاً أن نكون أمام فرضيّتين نظريّتين:
1- وحدة الولاية. وعلى ضوء هذه الفرضية الأولى يُمكن رسم صورتين:
أ- أن تكون الولاية للأب حصراً.
ب- أن تكون الولاية للأم حصراً.
 
2- تعدّد الولاية. وعلى ضوء الفرضية الثانية يُمكن رسم صورتين أيضاً:
أ- نفوذ ولاية كلٍّ منهما على نحو الاستقلال، وقد يُطلق عليها اسم الولاية بنحو الانحلال.
ب- الاشتراك في الولاية بمعنى اجتماعهما معاً، وعدم نفوذ ولاية كلٍّ منهما إلا برضا الآخر وموافقته ومشاركته.



1 يراجع: عجمي، سامر توفيق، نحو بناء المذهب التربوي قراءة في معالم المنهج بين المشروعية المعرفية والمشروعية الأصولية، مجلة أبحاث ودراسات تربوية، العدد الثاني، السنة الأولى، شتاء 1437هـ-2016م، ص37 وما بعد.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

169

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 لمن حقّ الولاية التربوية على الطفل؟

إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وصنعه، ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾1، ومقتضى ذلك أن يكون تعالى هو العالم حصراً بما عليه واقع النفس البشرية كما هي من كلّ جهة، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾2؟! كما أنّه تعالى منزّه عن الفقر والحاجة والنقص والهوى، لأنّه الغنيّ المطلق: ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾3، هذا.
 
ومن الشرائط الضرورية لمن يضع التشريعات التي تُنظّم شؤون حياة البشر وخطوط علاقاتهم فيما بينهم أن يُحيط علماً بالإنسان وجميع خصوصيّاته الذهنية والنفسية والبدنية والاجتماعية و...، وأن يكون مجرّداً عن هوى الانتفاع الشخصيّ بالتشريع4.
 
والله تعالى هو الذي يتلبّس بهاتين الصفتين: العلم بالإنسان، والغنى عن مصلحة التشريع، يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: "... تقنين القوانين وتشريع الأحكام لا يليق إلا بالله، فإنّه العالم بالمصالح والمفاسد وما يحتاج إليه خلقه في الحال والمستقبل دون غيره ممّن لا إحاطة له بمصالح الأمور ومفاسدها"5.
 
فالله تعالى يعلم التكوين الفطريّ والخصائص الذهنية والنفسية والجسدية للأنثى والذكر معاً، وقد أسند لكلٍّ منهما مجموعة الوظائف والأدوار والموقعيات التي تتناسب مع طبيعة كلٍّ منهما ليؤدّي دوره على مقتضى طبيعته، لذا نُلاحظ أنّه تعالى قد قسّم المسؤوليات في الأسرة، حيث جعل التربية البدنية للطفل من التغذية واللباس والتنظيف والتمريض والسهر على راحته... من وظائف الأم ومسؤوليّاتها في الأسرة، فمنحها ولاية الحضانة على تربية الطفل فيما يتعلّق بهذه الأمور - كما سيأتي في الدرس14 -، لأنّ نسبة العاطفة والحنان والرحمة المجبولة في قلبها تجعلها مؤهّلة ومستعدّة لتحمّل كلّ المشاق والمتاعب والصعاب في سبيل راحة طفلها، وبسبب الخصائص الذهنية الأكثر ميلاً نحو العقلانية، والنفسية الأكثر ميلاً نحو الشجاعة والصلابة والحزم...، التي تتمتّع بها الطبيعة الذكورية بأصل



1 سورة النمل، الآية 88.
2 سورة الملك، الآية 14.
3 سورة آل عمران، الآية 97.
4 الإلهيات، ج2، ص248.
5 الشيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة، ج1، ص513-514.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

170

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 الخلقة، منح الأب حقّ التصرّف واتّخاذ القرار بالنسبة لشؤون الطفل المختلفة والتصرّف في أحواله المتنوّعة، وهذا الحقّ في الواقع ليس تشريفاً بل تكليف وأمانة ومسؤولية، تضع على كاهل الأب حملاً ثقيلاً1.

 
وقد أجمع الفقهاء على أنّ الدين الإسلاميّ قد منح تمركز حقّ القيّومية وعموم الولاية على الطفل للأب في بيت الأسرة، واعتبروا أنّ الأم لا ولاية قانونياً لها على الطفل.
 
بين ولاية التصرّف والولاية التربوية
لم يتعرّض الفقهاء للبحث عن ولاية الأب على الطفل تحت عنوان الولاية التربوية، وإنّما عالجوها وسلّطوا الضوء على ولاية الأب على الطفل مطلقاً من دون تقييدها بالتربوية أو غيرها، ويُعبّرون عنها عادة باصطلاح ولاية التصرّف في النفس أو البدن أو المال... إلى غيرها من التعبيرات الناظرة إلى سعة الحقل الدلاليّ لمعنى الولاية في اصطلاحهم. وفي الحقيقة، إنّ القيام بعملية ربط بين معنى التربية حسب المفهوم الذي تبنّيناه، والذي يعني الرعاية والحفظ والصيانة والحماية والدفاع والسياسة وحسن القيام والتنمية و... إلخ من جهة، وبين معنى الولاية حسب اصطلاح الفقهاء الذي يعني السلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أي أمر من أموره من جهة ثانية، يظهر بوضوح أنّ التربية هي نحو تصرّف في شؤون الطفل، من حيث نفسه وبدنه وماله وغيرها من الأمور المتعلّقة به. وبهذا يكون البحث عن الولاية التربوية من صغريات ومتفرّعات كبرى البحث عن عموم الولاية بالمعنى الشامل، لأنّ التربية متعلّقة إمّا بنفس الطفل أو بدنه...، فيأتي السؤال من له حقّ السلطنة والسياسة والقيام على أمور الطفل وشؤونه؟
 
ومن الأهمّية بمكان، أن نُميّز في ضوء ذلك بين الولاية التربوية والتربية، فإنّ الولاية التربوية نحو سلطة تتعلّق بالجانب التخطيطيّ وصناعة القرار واتّخاذ الموقف المناسب حول شؤون الطفل وأحواله وأموره بمختلف جوانب شخصيّته ونشاطاته الحياتية، بمعنى أنّه من هو المرجعية ابتداء أو عند الاختلاف التي تحسم الخيار في تدبير شؤون الطفل في أيّ مجال من مجالات حياته؟ أمّا التربية فتتعلّق بالبعد العمليّ الإجرائيّ التنفيذيّ، بمعنى من هو الذي يقوم بتنفيذ الخطوات المطلوبة في إيصال الطفل إلى الكمال المستعدّ له؟ وبناء عليه، فإنّ منح حقّ الولاية التربوية للأب لا يعني إقصاء الأم عن الحضور في ساحة التربية، 



1 يراجع: التنقيح في شرح المكاسب، البيع، موسوعة الإمام الخوئي، ج37، ص136.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

171

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 لأنّ التربية عملية إجرائية، باستطاعة الأم أن تُمارس هذه العملية التربوية تحت إشراف الأب وتوجيهه على فرض جعل الولاية مطلقاً حتّى التربوية منها للأب.

 
كما أنّه ممّا تنبغي الإشارة إليه، أنّ عموم ولاية الأب على الطفل لا تعني عدم وجود استثاء يُخصّص تلك القاعدة العامّة، كما سيأتي تفصيل هذه النقطة عند البحث عن ولاية الحضانة على الطفل.
 
وبناءً على ما تقدّم، يتّضح أنّ تسليط الضوء على آراء الفقهاء فيما يتعلّق بولاية التصرّف يشمل معالجة مسألة الولاية التربوية لكونها من صغرياتها ومتضمناتها وليست عنواناً في مقابلها ومغايراً لها.
 
أدلّة الولاية التربوية الأبوية
استدلّ الفقهاء على هذه الولاية التربوية الأبوية على الطفل بعدّة أدلّة نعرض بعضاً منها بشكل مختصر.
 
أولاً: أنّ السيرة العقلائية والارتكازات الاجتماعية العامّة قائمة على أنّ الأب هو من له حقّ التصرّف في شؤون أطفاله. وقد كانت هذه السيرة مع كثرة الابتلاء بها على مرأى ومسمع من المشرّع الإسلاميّ ولم ينهَ عنها مع عدم وجود أيّ داعٍ للسكوت، فلو لم تكن مرضية عنده لأرشد إلى خلافها تعليماً للجاهلين، أو لنهى عنها اعتراضاً على المنكر. وكذلك حال السيرة المتشرّعية، فإنّها قائمة على مفروغية أنّ الأب هو من له حقّ التصرّف في شؤون أطفاله.
 
ثانياً: القراءة الاستقرائية -التركيبية للنصوص الروائية المتفرّقة في عدّة أبواب فقهية1، والواردة في بيان حقّ الأب بالتصرّف ببعض شؤون أطفاله، بإضافة إلغاء خصوصيات تلك الموارد وتعميم حقّ التصرّف لباقي المجالات لوحدة الملاك والمناط، قال الخونساري: "ولاية الأب والجدّ للأب بالنسبة إلى الصغير، فلا إشكال ولا خلاف في ولايتهما في الجملة، ويدلّ عليه ما ورد في الأبواب المتفرّقة"2. ومن هذه النصوص ما



1 يراجع: التنقيح في شرح المكاسب، البيع، ج37، ص136.
2 جامع المدارك، ج3، ص95.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

172

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 تضمّن أنّ للأب ولاية في النكاح وحقّ تزويج طفله، ومنها ما تضمّن أنّه من حقّ الأب تعيين الوصيّ على طفله، ومنها ما تضمّن أنه من حقّ الأب التصرّف في أموال طفله، ومنها ما تضمّن ولاية الأب على إجارة طفله، ومنها ما تضمّن بيان حقّ الأب في تعليم طفله الصنائع التي يختارها له، ومنها ما تضمّن كفاية قبض الأب عن طفله في الهبة والصدقة، ومنها ما ورد في ولاية تأديب الطفل1... إلخ من الموارد التي تظهر بالتتبع والاستقراء، فإنّه بعد "إلغاء خصوصية موارد هذه النصوص - يُصبح - فهم عموم ولاية الأب من مجموعها قريباً جداً"2. لأنّ الأمور المذكورة إذا كانت تستلزم منح الولاية للأب على الطفل فالذهنية العرفية تفهم منها عموم الولاية في سائر الأمور لعدم تفريقهم بينها من حيث الملاك والمناط والفحوى.

 
ثالثاً: الاستدلال المباشر بالنصوص الروائية: حيث استظهر بعض الفقهاء منها عموم ولاية الأب على أطفاله3، منها ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام - في الرجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا -، قال: "إذا لم يقبضوا حتّىيموت فهو ميراث، فإن تصدّق على من لم يُدرك من ولده فهو جائز، لأنّ والده هو الذي يلي أمره..."4.
 
ومثله عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام - في رجل تصدّق على وُلد له قد أدركوا -، قال: "إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، فإن تصدّق على من لم يُدرك من ولده فهو جائز، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره"5.
 
حيث إنّ التعليل الوارد في ذيل الروايتين بقولهما عليهما السلام: "لأن الوالد..." مطلق، ومقتضى إطلاق التعليل فيهما عموم ولاية الأب على ولده لا خصوص ولايته عليه في مورد قبض الصدقة له6.



1 يراجع: الحر العاملي، محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج12، باب21، من أبواب ما يكتسب به، ح1. وج15، أبواب أحكام الأولاد: باب:22،81، 82، 83، 85، 86، 97، 98. وج13، باب:4، 5 من أبواب أحكام الهبات، وباب:4 من أبواب الوقوف والصدقات.
2 الطباطبائي الحكيم، محمد سعيد، مصباح المنهاج، كتاب التجارة، ج2، ص377.
3 يراجع: فقه الصادق، ج20، ص313. ومصباح المنهاج، كتاب التجارة، ج2، ص377.
4 الكافي، ج7، ص32.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص248.
6 مصباح المنهاج، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

173

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 المفاهيم الرئيسة

- الولاية لغة تدلّ على القرب والدنوّ والسلطة والتدبير... وفي الاصطلاح هي سلطة لشخص ما تُعطيه الحقّ في التصرّف في شؤون الغير وتدبير أموره في أيّ مجال من المجالات.

- الأب بيولوجياً هو من يتولّد الطفل من نطفته، أمّا شرعاً فهو من ينتسب إليه مولود بسبب شرعيّ.

- الولاية الحقيقية وبالأصالة لله تعالى، ولا ولاية لأحد على أحد، إلا إذا منحه الله تعالى الذي هو صاحب الولاية الحقّ في ممارسة ولايته على الغير.

- إنّ الأسرة تحتاج إلى قيّم وسائس ومدبّر يقود حياة الأسرة باتّجاه الكمال والسعادة. وقد منحت الشريعة الإسلامية هذا الحقّ للأب لأنّه الأكثر أهلية لإدارة أمورها وتدبير شؤونها على ضوء الخصائص الذهنية والنفسية والبدنية التي منحها الله تعالى له.

- إن القيام بعملية ربط بين معنى التربية الذي يعني الرعاية والحفظ والصيانة والحماية والدفاع و... إلخ من جهة، وبين معنى الولاية حسب اصطلاح الفقهاء الذي يعني السلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أيّ أمر من أموره من جهة ثانية، يظهر أنّ التربية نحو تصرّف في شؤون الطفل، من حيث نفسه وبدنه وماله ، وبهذا يكون البحث عن الولاية التربوية من صغريات عموم الولاية بالمعنى الشامل.

- الفرق بين الولاية التربوية والتربية هي أن الأولى نحو سلطة تتعلّق بالجانب التخطيطيّ وصناعة القرار واتّخاذ الموقف المناسب حول شؤون الطفل وأحواله وأموره بمختلف جوانب شخصيّته ونشاطاته الحياتية، بمعنى أنّه من هو المرجعية ابتداءً أو عند الاختلاف، أمّا التربية فتتعلّق بالبعد العمليّ الإجرائيّ التنفيذيّ، بمعنى من هو الذي يقوم بتنفيذ الخطوات المطلوبة في إيصال الطفل إلى الكمال المستعد له.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

174

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 - استدلّ الفقهاء على منح الولاية التربوية في الأسرة للأب بعدّة أدلّة منها: السيرة العقلائية الممضاة من قِبَل المعصوم في تولّي الآباء لشؤون الأسرة مع عدم نهي المعصوم عن ذلك، والأدلة اللفظية التي تمنح الأب حقّ الولاية على أولاده في بعض الموارد ومع إلغاء الخصوصية للموارد يتمّ التعميم للولاية على باقي شؤون حياة الطفل، ومنها الأدلة اللفظية التي تُصرّح مباشرة بأنّ الوالد هو الذي يلي أمر الطفل، كقول الإمام الباقر عليه السلام: "لأنّ والده هو الذي يلي أمره...".

 

 

 

 

 

 

216


175

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 أسئلة الدرس

1- لماذا لا يحقّ للإنسان بالأصالة أن يُمارس حقّ الولاية على الآخرين؟

2- هل تعتقد أنّ منح حقّ الولاية للأب في الأسرة هو الخيار الأفضل أم أنّه لو أُعطي للأم أو بالاشتراك بينهما يكون هو الأفضل؟ ولماذا؟

3- ما هو الفرق بين الولاية التربوية وبين التربية؟ وكيف ينعكس ذلك على دور الأب والأم داخل الأسرة؟

4- أعرض دليلاً للفقهاء على جعل حقّ الولاية للأب.

5- أعرض دليلاً على نفي جعل حقّ الولاية للأم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

176

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف حدود حقّ ولاية الجدّ التربوية على الطفل.
2- يحدّد معنى شرطية عدالة الأب في نفوذ ولايته التربوية.
3- يميّز دوائر المصلحة المأخوذة كشرط في الولاية التربوية على الطفل.
4- يعرض أدلّة الفقهاء في شرطية العدالة والمصلحة في نفوذ الولاية التربوية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

177

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 تمهيد

عالجنا في الدرس السابق معنى الولاية التربوية الأبوية، والأدلّة التي اعتمد عليها الفقهاء في إثباتها للأب، وبقي بعض القضايا المتعلّقة بالولاية التربوية على الطفل، والتي ستعالج في هذا الدرس تتمة للدرس السابق وجواباً عن جملة الأسئلة التالية: هل لغير الأب أيّ ولاية تربوية على الطفل؟ ولمن؟ ومتى؟ وهل الولاية التربوية الأبوية على الطفل مطلقة أم مقيّدة ومشروطة؟ وما هي شروطها؟

ولاية الجدّ (أب الأب وإن علا)
ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ وليّ الطفل غير منحصر بالأب، بل يتعدّاه إلى أب الأب أي الجدّ من جهة الأب دون الجدّ للأم (نسبت المخالفة في ذلك إلى الشيخ الحسن بن علي العماني المعروف بابن أبي عقيل)، فإنّ للجدّ حقّ الولاية على شؤون الطفل، ولا نقاش بين الفقهاء فيما لو كان بين الأب والجدّ نحو من الاتّفاق والمشاركة في صناعة القرارات التربوية المتعلّقة بالطفل، وإنّما وقع الكلام فيما لو اختلفت وجهات النظر بين الأب والجدّ، حيث رأى الأب أنّ من مصلحة الطفل التصرّف بهذا النحو، في حين رأى الجدّ أنّ التصرّف بهذا النحو ليس لمصلحة الطفل، فأيّهما يُقدّم على الآخر؟ هل ولاية الأب هي التي تُقدّم على اعتبار أنّه أقرب للطفل في سلسلة الأولياء، أم تُقدّم ولاية الجد على أساس أنّ الجدّ أعلى من الأب في السلسلة؟ وبعبارة أخرى هل الحكم بين الأب والجدّ عرضيّ أم طوليّ؟ بمعنى هل يمنع الأقربُ - أي الأب - الأبعدَ - أي الجدّ - من التصرّف حال التعارض في وجهات النظر أم لا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

178

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ حقّ ولاية الجدّ في التصرّف يُقدّم على ولاية الأب1، وذلك استناداً إلى بعض الروايات منها: عن علي بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، قال: سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان ابنته، فهوى أن يزوّج أحدهما، وهوى أبوه الآخر، أيّهما أحقّ أن ينكح؟ قال عليه السلام: "الذي هوى الجدّ أحقّ، لأنّها وأباها للجدّ"2.

 
حيث إنّ أحقّية الجدّ في الرواية وإن كانت واردة فيما يتعلّق بالزواج إلا أنّ التعليل الوارد في ذيلها: "لأنّها وأباها للجدّ" يستلزم بالارتكاز العرفيّ أعلائية ولاية الجدّ على الأب مطلقاً من دون تخصيص بهذا المورد.
 
ومن الروايات أيضاً التي استدلّ بها من باب الأولوية القطعية، عن عبيد بن زرارة، قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: الجارية يريد أبوها أن يُزوّجها من رجل، ويريد جدّها أن يُزوّجها من رجل آخر، قال عليه السلام: "الجد أولى بذلك ما لم يكن مضاراً، إن لم يكنالأب زوّجها قبله. ويجوز عليها تزويج الأب والجد"3.
 
ويُلاحظ أن هذا التقديم لولاية الجد على الأب عند المزاحمة مقيّد فيما إذا لم يكن مضارّاً بحقّ الطفل4، وسيأتي شرح هذه النقطة.
 
هذا عند التزاحم في اتخاذ القرارات، ولكن في صورة الابتداء، ذهب الفقهاء إلى أنّ كلّاً من الأب والجد مستقلّ في حقّ التصرّف، بمعنى أنّ الأب مثلاً يُمكنه التصرّف في شؤون الطفل من دون الرجوع إلى إذن الجد، فالكلام في أحقّية الجد إنّما هو في خصوص صورة علم الجد والتعارض، لكن تصرّف الأب غير مرهون بإذن الجد، فله حقّ التصرّف الاستقلاليّ في شؤون الطفل بنحو يعتبر تصرّفه نافذاً حتّى لو لم يستأذن من الجد أو لم يُطلع الجدّ على تصرّفاته. نعم، أيّ من الأب أو الجدّ سبق في التصرّف فإنّ تصرّفه هو الذي ينفذ بحقّ الطفل دون الآخر في صورة عدم التنازع.



1 يراجع: الخميني، روح الله، كتاب البيع، ج2، ص593.
2 الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، ص285.
3 الكافي، ج5، ص395.
4 التنقيح في شرح المكاسب، مصدر سابق، ص144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

179

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 قال الشيخ محمد علي الأنصاري: "المعروف والمشهور هو أنّ كلّاً من الأب والجدّ مستقلّ في الولاية، فلا يلزم الاشتراك ولا الاستئذان من الآخر، فأيّهما سبق مع مراعاة ما يجب مراعاته لم يبق محلّ للآخر. والجد مقدّم في صورة التشاح"1.

 
أمّا في صورة الاقتران، يقول الإمام الخميني قدس سره: "الأب والجد مستقلّان في الولاية، فينفّذ تصرّف السابق منهما ولغا اللاحق، ولو اقترنا ففي تقديم الجد أو الأب أو عدم الترجيح وبطلان تصرّف كليهما وجوه بل أقوال، فلا يترك الاحتياط"2. والمقصود بالاحتياط هنا هو بطلان تصرّف كلٍّ منهما، كما هو رأي بعض الفقهاء3.
 
لا ولاية للأم أو الأخ الكبير أو الجد للأم...
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ولاية التصرّف في مال الطفل والنظر في مصالحه وشؤونه لأبيه وجدّه لأبيه... وأمّا الأم والجد للأم والأخ فضلاً عن سائر الأقارب فلا ولاية لهم عليه"4.
 
وبهذا يتّضح عموم نفي الولاية عن غير الأب، لتشمل الأم والأخ الكبير والعمّ والخال والجدّ من طرف الأم وغيرهم، فليس لأيٍّ منهم حقّ الولاية على الطفل أصالة.
 
وقد استدلّ الفقهاء على عدم ولاية الأم على الأطفال بثلاثة أدلة5:
1- إجماع الفقهاء، قال الشيخ الجواهري: "لا ولاية للأم ولا لأحد من آبائها على الولد الصغير بلا خلاف أجده فيه"6.
 
2- الأصل، حيث إنّه "بعد عدم وجود دليل لفظيّ على ولاية الأم، نشكّ في ولايتها، والأصل عدم الولاية"7، بمعنى أنّ الأصل عدم ولاية أحد على أحد كما تقدّم، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل خاصّ من الشارع يمنح منصب الولاية لشخص ما، ولم يرد دليل من الشارع يدلّ على ولاية الأم، فالأم من حيث الأصل لا ولاية لها على



1 الموسوعة الفقهية الميسرة، مصدر سابق، ص148.
2 الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة، ج2، ص14.
3 السيستاني، علي، منهاج الصالحين، ج2، ص297.
4 تحرير الوسيلة، ج2، ص14.
5 السبزواري، عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، ج21، ص126.
6 جواهر الكلام، ج 29، ص 234.
7 الجواهري، حسن، بحوث في الفقه المعاصر، ج3، ص192.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

180

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 أطفالها.

 
3- اختصاص الأدلّة اللفظية والروايات الواردة في هذا السياق بالأب والجد كما تقدّم.
 
شروط نفوذ الولاية التربوية للأب ذكرنا فيما سبق أن الولاية التربوية للأب مقيّدة بالتصرّف على ضوء الدائرة التي منحتها له الشريعة، فما هي الشروط التي فرضتها الرؤية الفقهية التربوية الإسلامية في الوليّ لتحمّل هذه المسؤولية؟ وقع البحث عند الفقهاء في هذه الشروط، وأهمّ شرطين تمّ بحثهما عندهم هما: العدالة والمصلحة.
 
شرطيّة العدالة في الأب
اشترط بعض الفقهاء العدالة في الأب حتى تكون ولايته نافذة على الطفل، لأنّ مناط جعل الولاية للأب ليس هو الأبوة مجرّداً، بل الأبوة بضميمة صفة وهي العدالة، فإذا كان الأب ظالماً وفاسقاً فلا حقّ له بالولاية على أطفاله، لأنّ الفسق يُنافي الولاية، والظالم لا يصلح لمنصب الولاية، يقول العلّامة الحلّي في سياق الحديث عن شرطية العدالة في الوصي: "ويُشكل الأمر في الأب الفاسق... والأب تعود ولايته بالتوبة"1.
 
وقد استدلّ أصحاب هذا الرأي بدليل نقليّ وآخر عقليّ، أمّا النقليّ فقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾2، من خلال تشكيل قياس منطقيّ مفاده: كلّ فاسق ظالم، وكلّ ظالم لا يركن إليه، فكلّ فاسق لا يركن إليه، مع لحاظ أنّ جعل الولاية للظالم ركون إليه3.
 
وأمّا الدليل العقليّ فقد عرضه فخر المحقّقين ابن العلامة الحلّي في شرح عبارة أبيه، حيث قال: "والأصحّ عندي أنّه لا ولاية له ما دام فاسقاً لأنّها ولاية على من لا يدفع عن نفسه ولا يعرف عن حاله، ويستحيل من حكمة الصانع أن يجعل الفاسق أميناً يقبل إقراراته وإخباراته على غيره مع نصّ القرآن على خلافه4، فإن عاد عادت ولايته"5.



1 الحلي، الحسن بن يوسف، قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، ج2، ص564.
2 سورة هود، الآية 113.
3 يراجع: الخميني، كتاب البيع، ج2، ص599.
4 إشارة إلى قوله تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾. سورة الحجرات، الآية 6.
5 الحلي، محمد بن الحسن، إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، ج2، ص628.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

 


181

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 فحكم العقل العملي بقبحّ جعل الولاية للفاسق من قِبَل الله تعالى لأنّه خلاف مقتضى الحكمة، يُعتبر قرينة عقلية مقيّدة لعموم أدلّة الولاية الأبوية، و "يكون كالقرينة المتّصلة بالكلام فيمنع من انعقاد الظهور في النصوص وشمولها للفاسق، ويوجب انصرافها إلى العدول واختصاصها بهم"1، حيث إنّ القواعد العقلية القطعية بحكم القرائن المنفصلة أو المتصلّة لفهم المراد الجدّي للمتكلّم وتشكيل ظهور عرفيّ لغويّ من الكلام2.

 
عدم شرطيّة العدالة في الأب
ذهب مشهور الفقهاء إلى وجهة نظر مخالفة للرأي المتقدّم، حيث قالوا بأنّ ولاية الأب ثابتة بأصل الشرع لعنوان الأبوّة من دون أيّ قيد إضافيّ فيها، فلم تُقيّد النصوص ولاية الأب بشرط العدالة، كما أنّ الشفقة الأبوية والرأفة والرحمة المركوزة في فطرة الأب والمعجونة بطينته تمنعه من تضييع مصلحة أولاده والعمل على خلاف مقتضاها3.
 
يقول المحقّق الكركي: "والذي يقتضيه النظر أنّ ولايته ثابتة بمقتضى النصّ والإجماع، واشتراط العدالة فيه لا دليل عليه"4.
 
أمّا ما استدلّ به في الفقرة السابقة من الآية على أنّ الفاسق لا يركن إليه وليس أهلاً للاستئمان، فهو خارج عن محلّ الكلام، لأنّ جعل الولاية بيد الفاسق ليس نحواً من الركون إليه حتّى يكون النهي في الآية شاملاً لهذا المورد أولاً5، وثانياً أنّ المتفاهم العرفيّ من الظالم في الآية ليس هو مطلق الفاسق بل هم ولاة الجور6، فيبقى هذا الشرط منافياً لإطلاقات أدلة عموم ولاية الأب، فضلاً عن أنّ السيرة العقلائية قائمة على أنّ الأب الفاسق أيضاً يلي شؤون أطفاله من دون إنكار من قِبَل المشرّع الإسلاميّ. والتجربة التربوية في الأسرة على امتداد الإنسانية خير شاهد على ذلك7، إذ لا علاقة لفسق الأب بالمعنى الفقهيّ بعدم التصرّف



1 الصابري الهمداني، أحمد، الهداية إلى من له الولاية، تقرير بحث السيد محمد رضا الكلبايكاني، ج1، ص9.
2 يراجع: اللنكراني، فاضل، مدخل التفسير، ص189-190.
3 المصدر نفسه.
4 جامع المقاصد، ج11، ص276.
5 كتاب البيع، ج2، ص599.
6 التنقيح، المصدر السابق، ص140.
7 يراجع: الهداية إلى من له الولاية، ج1، ص8.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

182

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 على ضوء المصلحة أو على الأقل على ضوء عدم المفسدة بشؤون أطفاله.

 
كما أنّ الدليل العقليّ الذي اعتبر قرينة غير مسلّم، فأول الكلام أن يكون جعل الولاية للأب الفاسق إذا تصرّف على ضوء مصلحة الطفل أو لا أقلّ ليس ضدّ مصلحته خلاف مقتضى الحكمة الإلهية، بل الشارع المقدّس بحكمته قد يرى أنّ منح حقّ الولاية التربوية على الطفل للأب الفاسق فيه مصلحة وهي رأفة الأب على ولده وأنّ سائر الناس ليسوا بأرأف من الأب، وأنّ إسناد الولاية إلى دائرة خارج بيت الأسرة كالعادل الأجنبيّ أضرّ على الطفل من إسناد الولاية إلى الأب أو الجد الفاسقين اللذين يعيش الطفل في حضنهما، ممّا يُشعرهما بمقتضى الطبيعة الأبوية المجبولة في داخلهما بأصل الخلقة بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية والعاطفية عن الطفل، يقول السيد الخوئي في سياق الردّ على استحالة جعل الأب الفاسق ولياً على الطفل: "إنّ المصلحة النوعية وهي الشفقة على الولد بمقتضى الطبيعة البشرية توجب جعل الولاية لهما"1.
 
فضلاً عن أنّ تشريع الولاية على الطفل للأجنبيّ مع وجود الأب والجد ستكون غير مقبولة اجتماعياً لأنّها تؤدّي إلى الصراع والنزاع بين أبناء المجتمع الإسلاميّ2، خصوصاً بين الشعب والحكومة التي ستتولّى هذه المسؤولية وتنظيمها وضبطها، وبالتّالي تكون غير صالحة للتنفيذ، بنحو يمنع من فعلية تشريع من هذا القبيل.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره: "لو لم يجعل الشارع الولاية للأب والجدّ الفاسقين، فإنْ أهملها ولم يُعيّن حافظاً...، فالفساد أفحش، ولو لم يُهمل وجعل أمرهم إلى والي المسلمين، ففيه مفاسد كثيرة... بل لازمه حصول التباغض والتباعد بين الشعب والحكومة، وهو من أفسد الأُمور، ضرورة أنّ الواقعة عامّة البلوى، وإثبات العدالة بالبيّنة الشرعيّة أو الطرق الأُخر غير ميسور"3.
 
نعم، لا شكّ أنّ شرط العدالة يُشكّل قيمة أخلاقية في تصرّف الأب بشكل أصلح فيما يتعلّق بتربية الطفل.
 
وعلى كلّ حال، إذا تبيّن للحاكم الشرعيّ أنّ فسق الأب له دخالة في التصرّف ضدّ 



1 التنقيح، مصدر سابق، ص104.
2 يراجع حول هذه النقطة: الخميني، كتاب البيع، ج2، ص598.
3 المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

183

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 مصلحة الطفل بنحو يلحق الضرر والمفسدة به، يكون له حقّ عزل الأب ومنعه من التصرّف في شؤون الطفل1، وهذا يعني أنّه لا محذور في جعل الولاية للفاسق من حيث الأصل، إلا أنّ للحاكم عزله إذا تبيّن سوء تصرّفه بحقّ الطفل.

 
لذا يُعقّب المحقّق الكركي على قوله السابق: "والمحذور مندفع بأنّ الحاكم متى ظهر عنده بقرائن الأحوال اختلال حال الطفل إذا كان للأب عليه ولاية عزله ومنعه من التصرّف..."2.
 
ويقول الإمام الخميني قدس سره: "الظاهر أنّه لا يُشترط العدالة في ولاية الأب والجد، فلا ولاية للحاكم مع فسقهما، لكن متى ظهر له ولو بقرائن الأحوال الضرر منهما على المولى عليه عزلهما ومنعهما من التصرّف"3.
 
شرطيّة تصرّف الأب على ضوء مصلحة الطفل
من الشروط التي وقع البحث عنها والاختلاف حولها فيما يتعلّق بولاية الأب، هو الجواب عن السؤال التالي: هل يعتبر أن يكون تصرّف الأب على ضوء مصلحة الطفل حتّى يكون صحيحاً ونافذاً أم يكفي أن لا يؤدّي تصرّفه إلى مفسدة -حيث يوجد بين المصلحة والمفسدة واسطة-؟ وبعبارة أخرى هل ولاية الأب مشروطة بعدم الفساد أم بوجود المصلحة؟
 
وهذا الترديد بين الشقّين يتمّ بعد إخراج احتمال أن تكون ولاية الأب مطلقة من حيث المصلحة والمفسدة، بمعنى أنّها نافذة حتّى في مورد الإضرار بالطفل، لانصراف أدلّة منح الولاية للأب عن هذا المقدار، يقول السيد الخوئي: "الإنصاف أنّه لا إطلاق لهذه الروايات بل هي منصرفة إلى جعل السلطنة للوليّ في التصرّفات التي لا تكون مضرّة بالمولى عليه"4
 
فضلاً عن وجود روايات يظهر منها شرطية الولاية بعدم الفساد ممّا يوجب تقييد النصوص المطلقة بها، منها ما ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "ما أحبّ أن يأخذ من مال



1 يراجع: الجواهر، ج26، ص102.
2 م.ن.
3 تحرير الوسيلة، ج2، ص14.
4 التنقيح، مصدر سابق، ص144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

184

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 ابنه إلا ما احتاج إليه ممّا لا بدّ منه، إنّ الله لا يُحبّ الفساد1"2. فإنّ ذيل الرواية يوضح حدود جواز التصرّف، وتقييدها بأن لا تكون تصرّفات ضررية ومؤدّية إلى ما هو فساد عرفاً، "ويبقى في الإطلاق ما فيه الصلاح والغبطة، وما لم يشتمل على الفساد وإن لم تكن فيه مصلحة"3.

 
أمّا بالنسبة للتعميم لغير التصرّفات المالية فقد ذكرنا الوجه فيه بإلغاء الخصوصية، وعموم التعليل.
 
وعلى كلّ حال، نجد في الجواب عن السؤال السابق رأيين عند الفقهاء:
- الرأي الأول: اعتبار المصلحة في التصرّف كما هو رأي الشيخ الطوسي4، وابن إدريس الحلّي5، وغيرهما.
- الرأي الثاني: وهو المشهور، اعتبار عدم المفسدة في التصرّف.
 
اعتبار المصلحة في الولاية
يرى بعض الفقهاء أنّ نفوذ سلطة وولاية الأب متوقّفة على التصرّف في ضمن دائرة المصلحة بالنسبة للطفل، بمعنى أن يدرس الوليّ ما هو الخيار الذي فيه مصلحة للطفل ويتصرّف على ضوء هذا الخيار، بحيث تسقط ولايته إذا لم يسلك هذا المنهج، والملاك في ذلك أنّ العقل يُدرك كون الحكمة في أصل تشريع الولاية على الطفل هي مراعاة مصلحته وجلب النفع له في جميع التصرّفات، وهذه القرينة العقلية تُقيّد إطلاق أدلّة جعل الولاية بالمصلحة، وتمنع انعقاد ظهور شمول النصوص لغير المصلحة، كما تقدّم في مسألة الفسق.



1 يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ سورة البقرة، الآية 205.
2 تهذيب الأحكام، ج6، ص343.
3 التنقيح، ص608.
4 المبسوط، ج2، ص200.
5 السرائر، ج1، ص441.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

185

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 اعتبار عدم المفسدة في الولاية

يرى مشهور الفقهاء، خصوصاً المعاصرين منهم، أنّ تصرّف الوليّ غير مشروط بالمصلحة، بل تصرّفه نافذ ما لم يؤدِّ إلى مفسدة بحقّ الطفل، لوجود منطقة وسطى ما بين المصلحة والمفسدة، أي أنّه ليس كلّ تصرّف يخلو من المصلحة من الضروريّ أن تترتّب عليه مفسدة للطفل، بل قد يكون التصرّف خالياً من المصلحة والمفسدة معاً، فلا فيه ملاك مصلحة ولا ملاك مفسدة. أمّا إذا تصرّف الوليّ بنحو يلحق المفسدة بالطفل فإنّ ولايته غير نافذة وتسقط في هذا المجال.
 
والدليل على ذلك، أنّ إطلاقات أدلّة الولاية منصرفة عن المفسدة، ولا دليل على تقييدها بالمصلحة. أمّا القرينة التي ذُكرت في الاستدلال السابق فالجواب عنها بأنّ جعل الولاية ليس فقط لحفظ ورعاية مصالح الطفل، بل أيضاً لدفع المفاسد عنه، بل أيضاً جُعلت الولاية للأب حفظاً لاحترامه ورعاية لمصالحه بالإضافة إلى الطفل1.
 
بين المصلحة والأصلح
إنّ البحث في المقام السابق كان في الدائرة الحقوقية دون الدائرة الأخلاقية، وإلا فإنّه من الطبيعيّ، أنّ البحث الأخلاقيّ في خطّ علاقة الوليّ بالطفل ينقلنا إلى دائرة المصلحة والأصلح، وليس فقط إلى دائرة المصلحة والمفسدة، أي إذا كان هناك جملة خيارات للتصرّف بحقّ الطفل، تدور بين المصلحة وعدم المفسدة على الوليّ أخلاقياً وعاطفياً (بغضّ النظر عن الموقف القانوني البحت) تقديم ما هو مصلحة للطفل، وإذا دارت الخيارات بين ما هو صالح وأصلح عليه أن يختار الأصلح، لأنّ مقوّم معنى الولاية التربوية هو الانتقال بالطفل من النقص إلى الكمال فالأكمل.
 
المصلحة والمفسدة بين الواقعية والاعتقادية
إنّ المصلحة أو المفسدة قد تكون واقعية لها آثار حقيقية مترتّبة على التصرّف الأبويّ بحقّ الطفل، وقد تكون المصلحة أو المفسدة اعتقادية لا واقعية، بمعنى أن يعتقد الأب أنّ في هذا التصرّف المعيّن مصلحة للطفل ثمّ يظهر أنّ الأمر ليس كذلك في الواقع، والعلاقة بينهما العموم والخصوص من وجه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أيّ منهما هو المعتبر



1 يراجع: التنقيح في شرح المكاسب، كتاب البيع، ج37، ص146.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

186

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 كشرط للولاية؟ هل الاعتبار بوجودهما الواقعيّ أو بوجودهما الإحرازيّ العلميّ؟

 
وتبرز ثمرة هذا البحث فيما لو تصرّف الأب في شأن من شؤون الطفل من خلال اعتقاده أنّه يجلب المصلحة للطفل أو أنّه لا يجلب المفسدة للطفل، ثم تبيّن لاحقاً أنّ ما اعتقده مصلحة هو مفسدة في الواقع، أو العكس تصرّف فيه بقصد الإفساد ثمّ ظهر أنّه على وفق مصلحة الطفل فهل يحكم بالصحّة أو بالفساد؟
 
إنّ الجواب عن هذا السؤال فرع الجواب علمّا هو مقوّم المصلحة أو المفسدة، فهل هي متقوّمة بأمر واحد وهو الواقع منفرداً أو القصد منفرداً، أم بأمرين هما الواقع والقصد معاً؟ فمثلاً بناءً على اختيار الشقّ الثاني من الجواب إذا تصرّف الولي في أموال الطفل بقصد الإفساد وكان ذلك فاسداً في الواقع يحكم بعدم الصحّة والنفوذ لاشتراط الولاية بعدم المفسدة. وإذا تصرّف فيه بقصد الإفساد ولم يكن فاسداً في الواقع بل كان على طبق مصلحة المولّى عليه أو تصرّف فيه من دون قصد الإفساد وكان في الواقع فاسداً فلا يحكم بالفساد، لأنّه متقوّم بوجود المفسدة الواقعية وبقصد ذلك الفساد وإذا انتفى أحدهما ينتفي الإفساد1.



1 التنقيح في شرح المكاسب، ص149.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

187

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 المفاهيم الرئيسة

- ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ وليّ الطفل غير منحصر بالأب، بل يتعدّاه إلى أب الأب أي الجدّ من جهة الأب دون الجدّ للأم، فإنّ للجدّ حقّ الولاية على شؤون الطفل.

- ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ الأب له حق التصرّف مستقلاً في شؤون طفله من دون الرجوع إلى إذن الجدّ، ولكن حقّ ولاية الجد في التصرّف يُقدّم على ولاية الأب عند التزاحم، استناداً إلى بعض الروايات.

- ولاية التصرّف في مال الطفل والنظر في مصالحه وشؤونه لأبيه وجدّه لأبيه... وأمّا الأم والجد للأم والأخ فضلاً عن سائر الأقارب فلا ولاية لهم عليه.

- اشترط بعض الفقهاء العدالة في الأب حتى تكون ولايته نافذة على الطفل، لأنّ مناط جعل الولاية للأب ليس هو الأبوة مجرّداً، بل الأبوة بضميمة صفة وهي العدالة.

- ذهب مشهور الفقهاء إلى وجهة نظر مخالفة للرأي المتقدّم، حيث قالوا بأنّ ولاية الأب ثابتة بأصل الشرع لعنوان الأبوة من دون أيّ قيد إضافي فيها، فلم تُقيّد النصوص ولاية الأب بشرط العدالة، كما أنّ الشفقة الأبوية والرأفة والرحمة المركوزة في فطرة الأب والمعجونة بطينته تمنعه من تضييع مصلحة أولاده.

- اشترط بعض الفقهاء فيما يتعلّق بولاية الأب، أن يكون تصرّف الأب على ضوء مصلحة الطفل حتّى يكون صحيحاً ونافذاً ولا يكفي أن لا يؤدّي تصرّفه إلى مفسدة، بمعنى أن يدرس الوليّ ما هو الخيار الذي فيه مصلحة للطفل ويتصرّف على ضوء هذا الخيار.

- في حين يرى مشهور الفقهاء خصوصاً المعاصرين منهم، أنّ تصرّف الولي غير مشروط بالمصلحة، بل تصرّفه نافذ ما لم يؤدِ إلى مفسدة بحقّ الطفل، لوجود منطقة وسطى ما بين المصلحة والمفسدة، أي أنّه ليس كلّ تصرّف يخلو من المصلحة من الضروريّ أن تترتّب عليه مفسدة للطفل، بل قد يكون التصرّف خالياً من المصلحة والمفسدة معاً، فلا فيه ملاك مصلحة ولا ملاك مفسدة. أمّا إذا تصرّف الوليّ بنحو يلحق المفسدة بالطفل فإنّ ولايته غير نافذة وتسقط في هذا المجال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

188

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 أسئلة الدرس

1- هل الولاية الأبوية التربوية على الطفل منحصرة بالأب المباشر أم تشمل الجدّ؟ وأيّ منهما يقدّم تصرّفه حال التزاحم والتعارض في القرارات التربوية؟

2- هل عدالة الأب شرط في نفوذ ولايته بحق الطفل؟ اعرض الأدلة التي تشترطها وناقشها من وجهة النظر الأخرى.

3- لو فرضنا عدم الوجوب القانونيّ في تصرّف الأب على ضوء ما هو مصلحة الطفل، فهل تعتبر هذا واجباً أخلاقياً؟ لماذا؟

4- إذا تصرّف الأب ضدّ مصلحة أطفاله هل يستطيع الحاكم الشرعيّ أن يعزله عن ولايته الأبوية؟ وما هي الحكمة في ذلك؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

189

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرِّف اليتيم لغة واصطلاحاً.
2- يعرض بعض النصوص الدينية التي تتحدّث عن كيفي