المنهج الجديد في تربية الطفل


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-08

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، المربّي الحقيقيّ للبشر، الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى، والصلاة والسلام على رسوله وأهل بيته عليهم السلام الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فكانوا مدرسة تربوية نموذجية للناس أجمعين.
 
يتميّز الإنسان عن باقي الكائنات المشاركة له في وحدة الحياة بأنه كائنٌ يمتلك قابليّة التغيّر واستعداد الانتقال من حال إلى حال، كائنٌ قادر على صناعة هويّته وتشكيل شخصيّته بالإرادة الحرّة والاختيار، فهو بالمشيئة - وفق تعبير القرآن الكريم1-، أي يستطيع أن يتقدّم ويعرج في مراتب الكمال ليصير كالملائكة، أو أن يتأخّر ويتسافل في درجات النقص ليصبح كالأنعام بل أضلّ سبيلاً. فالإنسان يعيش بين الكينونة والصيرورة، فهو بما هو كائن بالفعل غيره بما يُمكنه أن يكون بالقوّة، وهذا ما أشار إليه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في قوله: "إن الله عزّ وجلّ ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم"2.
 
وهذا السلوك الاختياريّ للإنسان تجاه الكمال الملائكيّ أو النقص البهائميّ، يخضع لجملة عوامل ومؤثّرات، منها طبيعة النظام والمؤسّسات في الدولة التي يعيش فيها الإنسان، والبيئة المجتمعية المحيطة به، وخصائص البيت الأسريّ الذي ينمو فيه، والمدرسة التي 



1 قال تعالى: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ سورة المدثر, الآية 37. وقال تعالى: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ سورة الكهف, الآية 29، وغيرهما من الآيات الكثيرة.
2 الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، ص5. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ سورة الأعراف, الآية 179.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

1

المقدمة

 يتعلّم فيها، والجمعيات الكشفية أو الأندية الرياضية التي ينتسب إليها، والمكتسبات التي تنتقل إليه عن طريق الوراثة، والنماذج السلوكية التي يُحاكيها ويُقلّدها، وإمبراطورية الإعلام وشبكات وسائل التواصل والاتّصال (التلفزيون والسينما وأفلام الكرتون - الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعيّ - الألعاب الإلكترونية - برامج الهاتف-الإعلانات والدعايات...). وكلّ هذه العوامل والمؤثّرات تندرج تحت كلّية مفهوم التربية بالمعنى الأعمّ، أي تنشئة وتنمية استعدادات الإنسان شيئاً فشيئاً في جميع جوانب شخصيّته. والتربية بهذا المعنى قابلة للتحرّك، إمّا بهذا الاتّجاه لتبلغ حدّ الكمال أو ذاك لتنزل إلى حدّ النقص. والبوصلة التي تُحدّد خطّ سير التربية هي الفلسفة والرؤية الكونية والمنظومة القيمية والمفاهيم الحقوقية والتشريعية التي ينتمي إليها المربّي. وانطلاقاً من عقيدتنا الدينية عن الله والكون والإنسان والحياة، يُعتبر القرآن الكريم وسنّة المعصومين عليهم السلام المصدرين الأساسين اللذين نستمدّ منهما المنهاج التربويّ الأفضل لاستكمال شخصية أطفالنا وأبنائنا وبناتنا في جميع جوانب هويّتهم وساحاتها وأبعادها، خصوصاً أنّ التجربة النبوية في تربية الإنسان من أكثر التجارب نضوجاً ورشداً في إيصال الإنسان إلى الهدف المنشود الذي يتناسب مع كمال طبيعته البشرية. وفي هذا السياق يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إذا كان لكلّ علم موضوع، فإنّ علم جميع الأنبياء هو الإنسان، فالإنسان هو موضوع بحث جميع الأنبياء، وموضوع تربيتهم".

 
وعليه، مهما شرّق الإنسان أو غرّب في المدارس التربوية الحديثة والمعاصرة أو وجهات نظر المتخصّصين في ميدان التنظير التربويّ، مع ما فيها من الآراء المهمّة والنظريات المبتكرة، لن يجد علماً صحيحاً كالذي يخرج عن المصدر الوحيانيّ1
 
وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمة، حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فتمسّكوا بهما لئلّا تضلّوا"2. فمن ترك كتاب الله تعالى والنبيّ وأهل بيته عليهم السلام لا يمكن أن يصل إلى نتائج معرفية مشرقة ومضيئة في أيّ مجال من مجالات علوم الإنسان،



1  كما قال الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عيينة: "شرّقا أو غرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت". الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، ج2، ص469.
2 الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ص324.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

2

المقدمة

 فعن الإمام الكاظم عليه السلام، قال: "من نظر برأيه هلك، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضلّ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر"1.

 
وفي هذا السياق، نُلاحظ أنّ الإمام القائد السّيد عليّ الخامنئيّ دام ظله يؤكّد في مناسبات كثيرة على العمل التأصيليّ لنظريات تتعلّق بحقل دراسة الإنسان كعلم النفس والاجتماع والتربية وغيرها في ضوء المباني الوحيانية والتصوّر القرآنيّ، حيث يقول: "العلوم الإنسانية الغربية تبتني على رؤية كونية مادّية متعارضة مع المباني القرآنية والإسلامية. إنّنا نقوم بتدريس هذه العلوم الإنسانية في الأقسام المختلفة لجامعاتنا، وننشرها على شكل ترجمات من دون أن نُعمِل أي بحث فكريّ إسلاميّ فيها، مع أنّه يجب تحرّي المهمّة في البحث عن مباني العلوم الإنسانية في القرآن الكريم واستخراجها".
 
وهذا لا يعني - من وجهة نظر الإمام الخامنئيّ- إغفال الاستفادة من منجزات التجربة المعرفية الغربية في علوم الإنسان، يقول دام ظله: "أنا أُظهر حساسية تجاه قضايا العلوم الإنسانية، لم نقل إنه لا ينبغي أن نستفيد بأي شكل من الأشكال من معارف الغربيين التي يوجد فيها الكثير من الطفرات عبر قرون عدّة في مجالات العلوم الإنسانية المختلفة أو أن لا نقرأ كتبهم، لكن ما نقوله هو أن لا تُقلّدوا..."2.
 
ويعتبر سماحته أنّ "جميع التحرّكات الطلائعية في المجتمع هي الجسد، والعلوم الإنسانية هي روح هذا الجسد، وأنّ العلوم الإنسانية توجّه السير، وتُحدّد الاتّجاه الذي نتحرّك نحوه، والهدف الذي يسعى إليه علمنا. وعندما تنحرف العلوم الإنسانية وتقوم على أسس ورؤى كونية خاطئة تكون النتيجة أنّ جميع تحرّكات المجتمع تتّجه نحو نزعة منحرفة"3.
 
وانطلاقاً من أهمّية وخطورة علم التربية في خارطة علوم الإنسان من جهة، ومن ضرورة أن تكون تربيتنا منسجمة مع الرؤية الكونية الوحيانية كما دعا الإمام الخامنئيّ، كان هذا الكتاب "المنهج الجديد في تربية الطفل، الرؤية الإسلامية للأبعاد والميادين"، دراسة تأصيلية، تهدف إلى توضيح المعالم العامة للمنهاج التربويّ الإسلاميّ في خطّ علاقة



1 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص56.
2 خطاب الولي 2011، مركز نون للتأليف والترجمة، ط1، 2012م، ص296.
3 المصدر نفسه، ص 422.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

3

المقدمة

 المربّي مع الطفل المتربّي، من خلال استنطاق النصّ الدينيّ - القرآن والسنّة - في ضوء فهم علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، لتكون حياتنا التربوية مع أطفالنا تعيش حالة التوفيق بين السلوك التربويّ من جهة والعقيدة والقيم والشريعة الإسلامية.

 
واعتقاداً منّا بأهمّية تفعيل العلاقة الجدلية بين النص الوحيانيّ وتجربة الواقع في الإنتاج المعرفيّ الإسلاميّ -كما هي دعوة الإمام الخامنئيّ دام ظله وأشار إليها الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتاب المدرسة القرآنية-تمّ الأخذ بعين الاعتبار المنجزات التربوية للتجربة البشرية التي سجّلتها يد المتخصّصين والباحثين في حقل التربية وميادينها، فلم يتمّ إغفال النظريات التربوية المعاصرة من الحضور في طيّات أبحاث الكتاب، لأنّ "العالِم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس"1، على حدّ تعبير الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
 
وقد انعكست هذه النقطة أي النظر إلى معطيات الوحي الإلهيّ ومنجزات التجربة التربوية البشرية على الكتاب منهجاً وأسلوباً وشكلاً ومضموناً، أي من حيث أسلوب الكتابة ولغة التعبير الغنية بالمصطلحات العلمية، ومن حيث المنهج المشحون بالروح الاستدلالية والتحقيقية، أو مضمون الأفكار الحافل بمقدّمات مطويّة (تدرس في أصول الفقه، وعلم الفقه الاستدلاليّ، وقواعد اللغة العربية، وعلم الكلام، والفلسفة والمنطق...) التي من المفترض أن يكون الطالب/ الطالبة قد قطع شوطاً معها في الحلقات الدراسية السابقة، خصوصاً أنّ الجهة المستهدَفة بالكتاب هي المرحلة التخصّصية، لذا قد يجد الطالب نفسه معنياً ببذل جهد شخصيّ - بالإضافة إلى شرح الأستاذ- في فهم مطالب الكتاب ومباحثه.
 
ولكون الكتاب قد أكثر من النصوص الوحيانية في استدلالاته، نُشير إلى أنّنا اعتمدنا في تخريج الروايات على منهج التحقيب التاريخيّ للموسوعات الحديثية، بمعنى أنّه تمّ اللجوء إلى المصادر الروائية بحسب تسلسلها التاريخيّ، فإنْ عثرنا على الروايات في كتب القدماء كالشيخ الكلينيّ والصدوق والطوسي...، استندنا إليها، وهكذا نتحرّك تدريجياً حسب التسلسل التاريخيّ صعوداً وصولاً إلى كتب وسائل الشيعة وبحار الأنوار والوافي وجامع أحاديث الشيعة... إلخ.



1 الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص27.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

4

المقدمة

 كما أنّ كون الحصة الدراسية لها سقف زمنيّ محدّد، حال دون التوقّف بالشرح والتحليل والدراسة المقارنة والتفصيلية للعديد من متون الروايات مع كثرتها، ممّا ترك أيضاً مساحة يتحرّك فيها الأستاذ والطالب مع فقه الحديث، لاستخراج الكنوز المعرفية من البحر الواسع لعلوم المعصومين عليهم السلام.


ونُشير في الخاتمة، إلى أنّنا قد أكملنا مباحث هذا الكتاب بكتابٍ ثانٍ، نُعالج فيه التربيات المضافة، ونُسلّط الضوء فيه على الأبعاد والساحات التي تجري فيها العمليات التربوية، بالإضافة إلى الأساليب العامة للتربية، مثل: التربية باللعب، التربية بالحبّ والرحمة، التربية بالعقوبة، التربية بالثواب، التربية الاقتصادية، التربية الصحية، التربية الرياضية، التربية الجنسية...

وأخيراً، ندعو الله تعالى أن ينفع بيئتنا التربوية ومؤسّساتنا التعليمية خصوصاً التخصّصية منها بهذا الجهد المتواضع، سائلين إيّاه عزّ وجلّ أن يمنّ على مجتمعاتنا بالمزيد من الإنتاج المعرفيّ الأصيل فيما يتعلّق بميادين العلوم الإنسانية.


والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

5

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يُعرِّف التربية لغةً ومن وجهة نظر العلماء المسلمين.
2- يعرض مرادفات التربية ويُحلّل الشبكة المعنائية لها.
3- يقدر على التعريف الاصطلاحيّ لتربية الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

6

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 تمهيد

نظراً لتعدُّد الآراء ووجهات النظر في تعريف مفردة التربية من جهة1، ولكون تعريف المصطلحات ليس أمراً حيادياً بل هو انعكاس للنظام المعرفيّ والعقائديّ والقيميّ الذي ينتمي إليه الباحث2 من جهة ثانية، ومن باب تحديد المبادئ التصوّرية كان لا بدّ من الجواب عن السؤال التّالي: ما هي التربية؟ لتبنّي وجهة نظر خاصة حول مفهومها.
 
معنى التربية في اللغة
طُرحت في معنى التربية ومصدريّتها في اللغة العربية عدّة احتمالات:
الأول: أن تكون مصدراً من: رَبَا الشّيءُ، بمعنى: زاد ونما3، وارتفع وعلا4.



1 يراجع حول التعريفات المتعدّدة للتربية: عجمي، سامر توفيق، التربية مفهومها غايتها موضوعها، الفصل الأول. مع الإشارة إلى أنه قد تمت الاستفادة من المصدر المذكور في صياغة هذا الدرس والدرس الثاني أيضاً. ويراجع: إبراهيم، مجدي عزيز، موسوعة المعارف التربوية، حرف التاء، ص939.
2 المصطلح هو اللفط الذي يوضع للدلالة على معنى خاص في حقل معرفي ما، وغالباً ما تكون هناك علاقة ومناسبة بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المنقول إليه في الاصطلاح العلمي، كوضع لفظ "نفس" في علم الفلسفة للدلالة على الموجود الجوهري المجرد عن المادة ذاتاً والمتعلّق بها فعلاً، وهذا التعريف للنفس ينطلق من الفهم الفلسفي اليوناني الأرسطي مثلاً أو الإسلامي المشّائي للوجود والإنسان، أمّا مع وجود فهم آخر كمذهب الوضعية المنطقية أو الماركسية وغيرهما من المدارس الفلسفية التي تنظر إلى الوجود من زاوية حسّية-تجريبية، وتعتبر الوجود مساوقاً للمادة، فلن يتمّ تعريف النفس الإنسانيّة بأنّها موجود مجرّد لإنكار عالم المجرّدات، بل ستعرّف بتعريف يتلاءم مع أصول الفلسفة المادية والتجريبية، إذاً النظام الفلسفي يلعب دوراً في تعريف المصطلحات...، لذا نرى الاختلاف بين مدرسة وأخرى في تعريف المصطلحات وبيان مضمونها الدلالي، وليس ذلك إلا بسبب الاختلاف في الانتماء الفكري في النظرة إلى الله والوجود والإنسان والطبيعة و...
3 يراجع: الفراهيدي، أحمد بن خليل، كتاب العين، ج8، ص283. وابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ج1، ص400.
4 ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ج2، ص483.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

7

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 الثاني: من ربَّ يرُبُّه ربّاً: مَلَكَه1.

 
وقد تبنّى خسرو باقري2 في كتبه هذا الاحتمال، آخذاً معنى التربية من مادة (ر ب ب) التي تنطوي على عنصرين معنائيين: المالكية والتدبير، ليستفيد تالياً - كما سيأتي في الدرس الثاني - من تبنّي وجهة النظر هذه في التعريف الاصطلاحيّ للتربية اتّكاءً على مفهوم الربوبية لا مفهوم النموّ والزيادة.
 
والثالث: رَبَوْتُ في بَني فلان أَرْبُو نَشَأْتُ فيهِم3. ومنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ربيت في بني سعد بن بكر"4.
 
وقد تبنّى العديد من فقهاء اللغة هذا الرأي، يقول ابن سيده في معنى الربّ: "أصله في الاشتقاق من التَّرْبية، وهي التَّنْشِئة،... وقيل للمالك رَبّ لأنّه يملك تَنْشِئةَ المَرْبُوب... ومنه ربّان السفينة لأنّه ينشِئُ تدبيرها ويقوم عليها..."5.
 
وقفة مع المعاني اللغوية لمفردة التربية
1- نشأ بمعنى رَبَا: يأتي فعل نشأ بمعنى: ربا وشَبّ6. ونَشَأَ: ارتفع وسما7. وبناءً عليه، لا يختلف الاحتمال الثالث عن الأول من حيث المعنى.
 
2- مادة: ر ب ب: يظهر بالاستقراء من أغلب فقهاء اللغة أنّ أصل مفردة ربّ لغة بالمعنى المطابقيّ: إصلاح الشيء والقيام عليه8، وبمعنى: الحفظ والرعاية للشيء9... ودلالتها على معنى الملك التزامية، حيث "سُمّي به المالك لأنّه يحفظ ما يملكه"10.



1 كتاب العين، ج8، ص256. ولسان العرب، ج5، ص94.
2 يراجع: باقري، خسرو، فلسفة التربية والتعليم الإسلامية، ص158.
3 لسان العرب، ج14، ص306.
4 المفيد، محمد بن محمد، الاختصاص، ص187.
5 ابن سيده، علي بن إسماعيل، المخصص، ج5، ص155.
6 لسان العرب، ج14، ص134.
7 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص356.
8 م.ن، ج2، ص482-484.
9 الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، ج2، ص7.
10 المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج12، ص146.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

8

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 استقراء تعريف التربية عند العلماء المسلمين

- قال الشيخ محمد بن الحسن الطوسيّ (385-460هـ): "الربّ وأصله التربية، وهي: تنشئة الشيء حالاً بعد حال حتى يصير إلى الكمال"1.
 
- وقال الملا محمد صالح المازندراني (ت 1086هـ): "الربّ في الأصل مصدر بمعنى التربية: وهي تبليغ الشيء من حدّ النقص إلى حدّ الكمال على سبيل التدريج"2.
 
- وقال محمود الآلوسي (1217-1270هـ): "الربّ في الأصل مصدر بمعنى التربية: وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزليّ شيئاً فشيئاً"3.
 
- وقال السيد حسين البروجردي: "التربية: تبليغ الشيء إلى كماله أو حال أحسن من حاله، وبالجملة إلى كماله الحقيقيّ أو الإضافي شيئاً فشيئاً"4.
 
ومن الواضح أنّ المعنى الجامع للتربية عندهم هو: إيصال المتربّي إلى كماله المستعدّ له بالتدريج.
 
التربية عند أفلاطون (427 - 347 ق.م)
هذا المعنى لمفردة التربية عند العلماء المسلمين مشابه ومقارب لما هو موجود في الفلسفة اليونانية عند أفلاطون، فقد اشتهر عنه تعريف التربية بأنّها: "إعطاء الجسم والروح كلّ ما يُمكن من الجمال وكلّ ما يُمكن من الكمال"5.
 
الشبكة المعنائية لمفردة التربية
من جملة المناهج المعتمدة في التحليل اللغويّ لفهم الحقل الدلاليّ لمفردة أو كلمة مفتاحية ما، هو اعتماد طريقة الترادف والأشباه والنظائر، القائمة على الدراسة التحليلية للمفردة، من خلال البحث عن اللفظ المرادف - أو المرادفات - لها وتحديد معناها (كأن نبحث مثلاً عن كلمة التربية، فنجدها بمعنى: الحفظ)، ثم التفتيش عن مرادف المرادف،



1 الطوسي، محمد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، ج4، ص337.
2 المازندراني، م.س، ج12، ص102.
3 الألوسي، محمود بن عبد الله، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني تفسير الآلوسي-، ج1، ص77.
4 البروجردي، حسين، تفسير الصراط المستقيم، ج3، ص352.
5 سليمان، كامل، والعبد الله، علي، التربية، ص176-177.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

9

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 (أي اللفظ المرادف لكلمة الحفظ، فنجدها بمعنى: الحراسة)، وهكذا يستمرّ البحث بشكل تسلسليّ... (فنبحث مثلاً عن مفردة الحراسة فنجدها بمعنى: المراقبة، والمراقبة بمعنى: النظارة... إلخ)، بهدف الوصول في المحصّلة إلى رسم خارطة المعاني المترادفة والعلاقات المترابطة فيما بينها، لمعرفة الشبكة المعنائية وصبّها في منظومة مفهومية واحدة، بحيث تُفيد هذه الشبكة المعنائية في الكشف عن المراد من المفهوم بشكل أوضح.

 
نموذج تطبيقيّ مختصر للمنهج
إذا بحثنا مثلاً في المعاجم اللغوية عن مادّة مفردة التربية، سنراها تأتي بمعنى:
- الحفظ، ومعنى الحفظ: الحراسة. والحراسة: المراقبة. والمراقبة: النظارة. والنظارة: الحماية، والحماية: الدفاع، والدفاع: المنع...
- وتأتي التربية بمعنى: الرعاية، والإحاطة.
 
والإحاطة: بمعنى الصيانة، والرعاية. والحفظ، والتعهّد... والصيانة: الكنّ (الستر) والحفظ. والصيانة: الوقاية. والوقاية: بمعنى: الصيانة، أي الستر من الأذى، والدفاع. والتعهّد: التحفّظ بالشيء وتجديد العهد به.
 
- التربية: التنمية، وهي: بمعنى الزيادة والارتفاع والإشراف من أعلى.
 
والإشراف: من الشرف بمعنى العلوّ والمكان المرتفع. وأشرفت: اطّلعت على الشيء من فوق.
 
- التربية: بمعنى التنشئة. والتنشئة: بمعنى الترقّي والتسامي والتعالي بالشيء.
 
- التربية: بمعنى الإصلاح، وأصلح الشيء: أقامه وأحسن إليه.
 
- التربية: بمعنى السياسة، والسياسة: القيام على الشيء بما يُصلحه.
 
- التربية: بمعنى الحضانة، احتمال الشيء وجعله في الحضن.
 
- التربية: بمعنى التغذية1، والغذاء: ما يكون به نماء الجسم وقوامه.



1 الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية، ج6، ص2445.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

10

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 - التربية: بمعنى التنبيت والغرس1. والتنبيت: التغذية وحسن القيام على الشيء2.

 
- التربية: بمعنى التأهيل3، والتهيئة للشيء4.
 
... إلخ.
 
نتيجة تطبيق المنهج
وبهذا يتّضح أنّ مفردة التربية في اللغة العربية ذات حقل دلاليّ واسع، يتضمّن العديد من المعاني، ويشمل الكثير من المفاهيم، ممّا يعني أنّ العملية التربوية ليست ذات بعد واحد، ولا تتعلّق بجانب واحد من جوانب بناء شخصية الطفل، فالتربية هي مجموع عمليات مركّبة ومتشابكة ومتداخلة فيما بينها من أجل أن تصبّ في المحصّلة بخدمة هدف واحد، فالتربية حفظ ورعاية وصيانة وحماية وحراسة وتنمية وتغذية وحسن قيام وتأهيل وتهيئة وحضانة وسياسة وإصلاح وتنشئة ووقاية ودفاع وإحاطة... إلخ، ولو دقّقنا النظر في كلّ هذه المعاني لوجدنا بينها قاسماً مشتركاً ومعنى وحدانياً تلتقي عنده كلّ أجزاء الشبكة وعناصرها، وهو إيصال الشيء إلى كماله5. وقد أشار العلماء المسلمون في تعريفاتهم السابقة للتربية إلى هذا المعنى بشكل واضح، حيث عرّفوها بأنّها عبارة عن عملية: إيصال المتربّي إلى الكمال المستعدّ له في جميع جوانب شخصيّته.
 
مرادفات التربية في النصوص الدينية
هناك مفردات أخرى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشبكة المعنائية للتربية، ولكونها وردت في العديد من النصوص القرآنية والروائية، وتُستعمل كثيراً في علوم التربية والأخلاق والعرفان العمليّ، سنفردها بالحديث بنحو شديد الاختصار.



1 الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، ج1، ص158.
2 تاج العروس، ج3، ص143.
3 المخصص، ج1، ص27.
4 لسان العرب، ج2، ص450.
5 يراجع: المصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج4، ص 18-19. وقد ذكر تحقيقاً لطيفاً حول المسألة في ما يقارب الـ 9 صفحات : 15-23، تراجع للفائدة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

11

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 التربية والتزكية

أ- التزكية في القرآن: وردت مفردة التزكية بمادّتها في العديد من الآيات القرآنية، منها: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾1.
 
ب- التزكية في اللغة: بمعنى النماء والزيادة2. والزكاة: التطهير. والزكاة: الصلاح. والزكاة: الارتفاع والعلو3.
 
ج- معنى التزكية في الآيات: حمل المفسّرون معنى التزكية في الآية المذكورة وما يُشابهها على التطهير من الكفر والشرك والدنس والذنوب وخبائث الجاهلية وألوان التعلّقات الدنيوية... إلخ. قال السيد محمد حسين الطباطبائي: "التزكية تفعيل من الزكاة، بمعنى النموّ الصالح، الذي يلازم الخير والبركة، فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحاً بتعويدهم الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، فيكملون بذلك في إنسانيّتهم فيستقيم حالهم في دنياهم وآخرتهم، يعيشون سعداء ويموتون سعداء"4.
 
وباختصار التزكية هي: أن يفعل الإنسان كلّ ما يُصبح به هو أو غيره زكياً طاهراً صالحاً5.
 
التربية والتطهير
1- التطهير في القرآن: وردت مادة (ط ه ر) في القرآن بهيئات مختلفة، منها قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾6.
 
2- الطهارة في اللغة: بمعنى النقاء وزوال الدنس7. والنظافة والخلوص من الشائبات8



1 سورة آل عمران، الآية 164.
2 كتاب العين، ج5، ص394. الصحاح، ج3، ص1223.
3 معجم مقاييس اللغة، ج2، ص468.
4 الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج19، ص264.
5 التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص467. والطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، ج10، ص6.
6 سورة التوبة، الآية 103.
7 معجم مقاييس اللغة، ج3، ص428.
8 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص464. والصحاح، ج6، ص2514.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

12

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 قال السيد الطباطبائي: "التطهير إزالة الأوساخ والقذارات من الشيء ليصفى وجوده ويستعدّ للنشوء والنماء وظهور آثاره وبركاته، والتزكية إنماؤه وإعطاء الرشد له بلحوق الخيرات وظهور البركات"1. وكأن الفرق بين التزكية والتطهير، أنّ الأولى تحلية بالكمالات والثانية تخلية عن النواقص.

 
التربية والتذكية
1- التذكية في الروايات: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "اذكُ بالأدب قلبك"2.
 
2- التذكية في اللغة: بمعنى التطهير، والتذكية بمعنى: شدّة وهج النار واشتعالها.
 
وقد فسّر متن الرواية السابقة بفهمين: الأول: ما ذكره الطريحي: أي طهّر قلبك ونظّفه عن الأدناس والرذائل3. والثاني: بمعنى نوّر بالأدب مع الله قلبك، لأنّ ضياء القلب واشتعال النور فيه يكون بسبب الأدب4، وهو الأصح، بقرينة ذيل الرواية: "اذك بالأدب قلبك كما تُذكّي النار بالحطب".
 
التربية والتهذيب
1- التهذيب في الروايات: عن الإمام علي عليه السلام، قال: "ذروة الغايات لا ينالها إلا ذوو التهذيب والمجاهدات"5.
 
 - وعنه عليه السلام: "الاشتغال بتهذيب النفس أصلح"6.
 
2- التهذيب في اللغة: تنقية الشيء ممّا يعيبه7، ليزيد نمواً وحسناً8. والتهذيب: إصلاح الشيء. والتهذيب: تطهير الأخلاق.



1 الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص377.
2 الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص385.
3 الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، ج1، ص159.
4 المحمودي، محمد باقر، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج7، ص265.
5 الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، ص257.
6 المصدر نفسه، ص47.
7 معجم مقاييس اللغة، ج6، ص 45-46.
8 تاج العروس، ج2، ص488.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

13

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 التربية والهداية

1- الهداية في القرآن: وردت بهيئات متعدّدة بكثرة، منها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1. ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ﴾2.
 
2- الهداية في الروايات: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "والله لأن يُهدَى بهداك رجلٌ واحد خير لك من حمر النعم"3.
 
3- الهداية في اللغة: بمعنى الإرشاد، والدلالة على طريق الرشد، والدلالة على المطلوب بلطف، والإيصال إلى المطلوب4. قال السيد مصطفى الخميني: "إنّ المعروف تقسيم الهداية إلى:
أ- الهداية بمعنى إراءة الطريق.
ب- والهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.
ولكنّه ليس من قبيل المعنيين لِلَّفظ الواحد، بل هذا تقسيم للمعنى الواحد"5.
 
فالهداية إيصال إلى الكمال المطلوب، كما هو معنى التربية.
 
التربية والتعليم
1- التعليم في القرآن: وردت مفردة العلم بهيئات مختلفة بكثرة في النصوص الدينية القرآنية والروائية6، منها:
- التعليم الإلهيّ: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾7. ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾8.
 
- التعليم النبويّ: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾9.



1 سورة الشورى، الآية 52.
2 سورة يونس، الآية 35.
3 السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الجامع الصغير، ج2، ص714، ح9606.
4 العسكري، أبو هلال، الفروق اللغوية، ص42. والراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص705.
5 الخميني، مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج2، ص74.
6 يراجع: الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، كتاب العقل والجهل. والريشهري، محمد، العلم والحكمة في الكتاب والسنة، تحقيق مؤسسة دار الحديث الثقافية، قم، ط1.
7 سورة الرحمن، الآيات 1-4.
8 سورة العلق، الآيات 3-5.
9  سورة البقرة، الآية 151.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

14

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 2- التعليم في اللغة العربية: على وزن تفعيل من العلم، والعلم إدراك الشيء بحقيقته1. والعلم بمعنى الشعور بالشيء2. والعلم المعرفة3. والعلم اليقين الذي لا يدخله احتمال4. والعلم الاعتقاد الراجح سواء أكان يقيناً أم ظنّاً5.

 
والذي يظهر بالتتبّع لاستعمالات العلم أنّه صفة قائمة في النفس توجب انكشاف وظهور الشيء لها بشكل تام يتميّز به عن غيره بنحو لا يحتمل الخلاف. وبناءً عليه، يكون معنى التعليم: إعطاء العلم وإكسابه للآخرين بحيث يتمّ رفع الجهل عن أنفسهم، وقيل: التعليم يختصّ بما يكون بتكرير وتكثير حتّى يحصل منه أثر في نفس المتعلّم6.
 
وبما أنّ الجهل نقص للنفس الإنسانية والعلم كمال لها، يكون التعليم من مصاديق التربية بجعل نفس المتعلِّم ترتفع وتتسامى من النقص إلى الكمال.
 
التربية والتأديب
1- التأديب في اللغة: مشتقّ من الأدب، وأصله: أن تجمع الناس إلى طعامك7. والأدب: ملكة تعصم من قامت به عمّا يشينه8. "والأدب اسم يقع على كلِّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضايل"9.
 
2- التأديب في أحاديث النبيّ وروايات أهل البيت عليهم السلام: لم ترد مفردة الأدب والتأديب في القرآن الكريم، وجاءت في الأحاديث بكثرة.
 
- عن الإمام عليّ عليه السلام: "يا كميل، إنّ رسول الله أدّبه الله، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورث الآداب المكرمين"10.



1 الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، ص475.
2 العين، ج2، ص152.
3 الصحاح، ج5، ص1990.
4 مجمع البحرين، ج6، ص119.
5 مفردات ألفاظ القرآن، ص475.
6 المصدر نفسه.
7 معجم مقاييس اللغة، ج1، ص74.
8 تاج العروس، ج1، ص296.
9 المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي، ج1، ص292.
10 ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول، ص171.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

15

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 - وعنه عليه السلام: "سبب تزكية الأخلاق حسن الأدب"1.

 
- وعنه عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه على محبّته"2.
 
ويظهر بشكل واضح من هذه النصوص أنّ متعلّق التأديب في الاستعمال الروائيّ وكذلك اللغويّ غير مختصّ بتهذيب الهيئة البدنية للإنسان بل يشمل الهيئات النفسانية من القيم والأخلاق والصفات الوجدانية كالحب3. وبهذا يظهر أنّ ما ذكره بعض العلماء من حصر معنى الأدب في السلوك والفعل والهيئة الحسنة دون الملكات الأخلاقية، ليس في محلّه4.
 
فهذه المعاني بمجموعها تُشكّل منظومة مفهومية مترابطة فيما بينها ترسم لنا معالم سعة مفهوم التربية على الشكل التّالي:


 

1 عيون الحكم والمواعظ، ص281.
2 م.ن، ص265.
3 يراجع: عجمي، سامر توفيق، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، ص103-109.
4 الميزان في تفسير القرآن، ج6، ص273.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

16

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 الرأي المختار في تعريف التربية

إنّ اختيار تعريف معيّن للتربية يتوقّف على معالجة العديد من المقدّمات المطوية التي سيتمّ عرضها خلال دروس الكتاب، فهو إن كان متأخّراً عنها ثبوتاً لكن نُقدِّمه عليها إثباتاً لضرورات تتعلّق بمنهجية البحث، فنقول في تعريف التربية بأنّها:
قيام وليّ الطفل أو المأذون له من قِبَله، قولاً وعملاً، بصناعة1 هوية الطفل (شخصيّته)، أو تنمية استعداداته وقابليّاته الخاصّة، في جميع جوانبها (البدنية، القلبية، والعقلية)، وبمختلف الأبعاد الحياتية (الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، و...2)، بهدف إيصاله إلى كماله (الحقيقيّ أو الإضافيّ) المتوجّه إليه، بشكل تدريجيّ، وبنحو مستدام، من خلال اعتماد مجموعة من الأصول والأساليب والتقنيات، المستخرجة من المصادر الإسلامية أو المنسجمة معها.
 
التربية وعلم الأخلاق
بعد أن اتّضح معنى التربية، يظهر الفرق بين التربية وعلم الأخلاق، فعلم الأخلاق يهدف إلى تكميل الملكات النفسانية التي تصدر عنها الأفعال الحسنة والجميلة3.
 
وبعبارة مختصرة وظيفة علم الأخلاق بناء المحتوى الداخليّ الروحيّ للإنسان، فمركز نظره على جانب من جوانب شخصية الطفل، ولا علاقة له بالجوانب الأخرى كمهارات التفكير، والرياضة البدنية، والسلامة الجسدية، وإعطاء المعرفة، وبناء العقيدة... إلخ. بينما التربية هي تنمية لكافة جوانب شخصية الطفل وأبعادها الحياتية.



1 مفردة "صناعة" مستعارة من قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾, سورة طه، الآية 39.
2 أنظر: الدرس الثالث والدرس السادس.
3 يراجع: مسكويه، أحمد بن محمد، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص51. والطوسي، نصير الدين، أخلاق ناصري، ص102.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

17

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 المفاهيم الرئيسة


- التربية لغةً من فعل ربا، بمعنى نما وعلا وسما.

- التربية في اصطلاح العلماء المسلمين هي: تنشئة الشيء حالاً بعد حال بالتدريج من حدّ النقص إلى حدّ الكمال.

- يقوم منهج الترادف والتناظر لمعرفة الشبكة المعنائية لأيّ مفردة على أساس البحث عن معناها لمعرفة مرادفها، ثم البحث عن المرادف، ومرادف المرادف، وهكذا، ومن ضمن عناصر الشبكة المعنائية للتربية: التنمية، التنشئة، التسامي، الحراسة، الرعاية، الحضانة، الإصلاح، الحماية، الصيانة، التأهيل، الإرشاد، الإشراف، التغذية...

- يُفيد المفهوم الجامع لعناصر الشبكة المعنائية للتربية أنّها بمعنى إيصال المتربّي إلى الكمال المستعدّ له في جميع جوانب شخصيّته.

- تتضمّن مفردة التربية أو تترادف مع عدّة معانٍ ذُكرت في النصوص الدينية، مثل: التعليم، التزكية، التهذيب، التذكية، الهداية، التأديب، التطهير، المجاهدة...

- تمتاز التربية عن علم الأخلاق، بأنّ التربية تشمل كلّ جوانب شخصية الإنسان، أمّا علم الأخلاق فيختصّ بجانب تنمية وبناء الملكات النفسية الفاضلة.

- نقصد بتربية الطفل باختصار: قيام وليّ الطفل بتنمية استعدادات الطفل وصناعة هويّته في جميع جوانبها، بهدف إيصاله إلى الكمال المستعدّ له بنحو تدريجيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

18

الدرس الأول: مفهوم تربية الطفل في ضوء تحليل الشبكة المعنائية

 أسئلة الدرس


1- برأيك هل يُمكن اعتبار تعريف المصطلحات والمفاهيم أمراً حيادياً أم هو تابع للمدرسة الفلسفية والمنظومة المفاهيمية والقيمية التي ينتمي إليها الباحث؟ اضرب مثلاً على ذلك.

2- هل الانتقال بالإنسان من حدّ الكمال إلى النقص يعتبر تربية حقيقة؟ علِّل ذلك.

3- هناك مصطلحات أخرى غير التي ذُكرت في الدرس ترتبط بالشبكة المعنائية للتربية في اللغة العربية، مثل: (الرياضة، التبليغ، الدعوة، التبشير) اعطِ أمثلة من النصوص الدينية عليها، وبيّن علاقتها بالتربية.

4- هل توافق على أنّ مفردة التأديب في اللغة العربية مختصّة بتربية الهيئة البدنية والأفعال السلوكية للإنسان، أم تشمل الأبعاد الأخرى المعرفية والنفسية والعاطفية...؟ اذكر شواهد على رأيك من النصوص الروائية.

5- ما هو الفرق بين التربية وعلم الأخلاق من وجهة نظرك؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

19

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى بعض تعريفات التربية عند التربويين المسلمين والغربيين.
2- يمتلك مهارة مناقشة التعريفات المختلفة للتربية وتقويمها.
3- يُميّز بين التربية بالمعنى الأعمّ والتربية بمعنى التعليم والتمدرس.
4- يُميّز بين التربية والتنشئة الاجتماعية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

20

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 تمهيد

سنُسلّط الضوء في هذا الدرس1 على تعريف مصطلح التربية من وجهة نظر علماء التربية المحدثين والمعاصرين (المسلمين والغربيين)، ثم نُناقش مجموع تلك التعاريف ونُسجّل عليها ما ينبغي من ملاحظات استناداً إلى معياريّة التعريف الذي تبنّيناه حول التربية.
 
التربية بالمعنى الأعمّ والأخصّ
تُستعمل مفردة التربية في العلوم المعاصرة بأحد معنيين:
- الأول: التربية بالمعنى الأعمّ: وتشمل تربية الإنسان في مختلف جوانب شخصيّته وأبعاد حياته، و"تتضمّن كلّ عملية تُساعد على تشكيل عقل الفرد وخُلُقه وجسمه"2. ويُستثنى منها الجوانب البيولوجية والفيزيولوجية والوراثية التي لا يلعب الاختيار الإنسانيّ أيّ دور في تحديد معالمها - مع الإشارة إلى وجود جوانب وراثية يلعب الاختيار الإنسانيّ دوراً فيها، فيكون للتربية تأثير عليها، كما سيأتي في الدرس الخامس عشر.
 
- الثاني: التربية بالمعنى الخاصّ: و "تعني غرس المعلومات والمهارات المعرفية من خلال مؤسّسات معيّنة أُنشئت لهذا الغرض"3.
 
وقد تُطلق التربية ويُراد بها المعنى الأخصّ أي خصوص التعليم المدرسيّ أو التمدرس schooling.



1  يراجع حول هذا الدرس: عجمي، سامر توفيق، التربية مفهومها غايتها موضوعها، الفصل الأول، المبحث الرابع.
2 مرسي، محمد منير، أصول التربية، ص8.
3 ن. م، ص8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

21

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 التربية والتعليم

اتّضح في الدرس السابق في فقرة التربية والتعليم أنّ التعليم عملية موجّهة إلى العقل والجانب الذهنيّ، بإعطاء المعرفة والفهم والإدراك والتفكير، أمّا إحداث التغيير في السلوك فهو من آثار العملية التربوية ككلّ، فالتعليم أضيق من التربية، وواقع ضمن دائرتها، بل التعليم مقدّمة للتربية بمعنى التزكية، ومع ذلك ليست كلّ عملية تربوية مسبوقة بالتعليم، لأنّ تغذية الطفل الرضيع ورعايته... هي تربية، ولكنّها لا تتضمّن أي موقف تعليميّ.
 
ومن الأخطاء الشائعة -عند البعض- أنّه عندما تُطلق مفردة التربية ينصرف إلى أذهانهم المعنى الثاني للتربية، أي التربية بمعنى التعليم والتمدرس، وإن كان للمدرسة دور رئيس وحيويّ في بناء شخصية الطفل نظراً إلى المقدار الزمنيّ الذي يقضيه فيها، إلا أنّها تبقى واحدة من مجموعة عناصر ومؤسّسات مجتمعية شريكة ومؤثّرة وفاعلة في عملية تربية الطفل ورسم ملامح شخصيّته، كشبكة وسائل الإعلام والتواصل والاتّصال (التلفزيون، المجلّات، الإنترنت، الفايس بوك، برامج الهاتف...)، والألعاب الإلكترونية (الكمبيوتر، البلاي ستايشن، الإكس بوكس، و...)، والجمعيات الكشفية، والمحيط القريب والجيران، والأصدقاء، والمساجد، والأندية الرياضية... إلخ، وأهمّ من ذلك كلّه الأسرة والبيئة المنزلية والعائلية بالمعنى الأعمّ، فضلاً عن عناصر كثيرة عقّدت قدرة القيادة والتحكّم والسيطرة على العملية التربوية في عصرنا الحاضر.
 
تعريف التربية الإسلامية في رأي بعض التربويّين الإسلاميين
انطلاقاً من كون الباحث التربويّ الإسلاميّ ينتمي إلى نظام فلسفيّ -دينيّ خاصّ، فإنّه سيُحاول الاشتغال على المواءمة ما بين العلوم التربوية من جهة وبين انتمائه الإسلاميّ من جهة ثانية، فيقوم بأسلمة تعريف التربية، إمّا من حيث الغاية أو الأصول والأساليب، أو المنهج والمصادر... إلخ. وسنعرض خلال الفقرات التالية بعض التعريفات في هذا المجال.
 
- عرّفها خالد الحازمي بأنّها: "تنشئة الإنسان شيئاً فشيئاً في جميع جوانبه، ابتغاء سعادة الدّارَين، وفق المنهج الإسلاميّ"1.



1 الحازمي، خالد بن حامد، أصول التربية الإسلامية، ص19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

22

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 - وعرّفها صبحي طه بقوله: "التربية الإسلامية هي تنمية جميع جوانب الشخصية الإسلامية الفكرية والعاطفية والجسدية والاجتماعية، وتنظيم سلوكها على أساس من مبادئ الإسلام وتعاليمه بغرض أهداف الإسلام في شتّى مجالات الحياة"1.

 
- وعرّفها محمد خير فاطمة: "التربية الإسلامية ذات طابع شموليّ تكامليّ لجميع جوانب الشخصية الروحية والعقلية والوجدانية والأخلاقية والجسمية والاجتماعية والإنسانية، وفق معيار الاعتدال والاتّزان"2.
 
- وعرّفها عبد الرحمن النحلاوي وزملاؤه بأنّها: "مجموعة التصرّفات العملية والقولية التي يُمارسها راشد بإرادته نحو صغير، بهدف مساعدته في اكتمال نموّه وتفتّح استعداداته اللازمة وتوجيه قدراته ليتمكّن من الاستقلال في ممارسة النشاطات وتحقيق الغايات التي يعدّ لها بعد البلوغ، في ضوء توجيهات القرآن والسنة"3.
 
وهذه التعريفات لا بأس بها، وتتناسب مع المعنى اللغويّ، مع الإشارة إلى أنّه لا بدّ من التمييز بين تعريف تربية الإنسان بالمعنى الأعمّ وبين تعريف التربية المضافة إلى الطفل، فإنّ تعريف التربية بالمعنى الأعمّ ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار الأمرين التاليين:
أوّلاً: أن لا يقتصر على جعل متعلّق التربية هو "الصغير" أي "الطفل" فقط، كما قيّد ذلك في التعريف الأخير، لأنّ العملية التربوية وفق الرؤية الإسلامية مستدامة تبدأ من المهد وتستمرّ إلى اللحد، فتشمل تربية الكبار أيضاً. وقد تنبّه علي القائمي إلى هذه الملاحظة، حيث يقول: "لا تقتصر مدّة التربية على دور الطفولة، بل يجب أن تستمرّ وتتواصل مع دور الصبا حتّى آخر العمر"4.
 
أمّا جعل متعلّق التربية في الكتاب هو الطفل فليس من باب جعل التربية في الرؤية الإسلامية محدّدة بسنٍّ معيّنة، بل لكونه موضوع البحث.



1 رشيد ابراهيم، صبحي طه، التربية الإسلامية وأساليب تدريسها، ص9.
2  فاطمة، محمد خير، منهج الإسلام في تربية عقيدة الناشئ، ص52.
3 محب الدين أبو صالح، مقداد يالجن، عبد الرحمن النحلاوي، دراسات في التربية الإسلامية، ص13.
4 القائمي، علي، الأسرة والطفل المشاكس، ص36.
.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

23

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 والثانية: أن لا يحصر متعلّق التربية بالآخر فقط، كما في التعريف الأخير أيضاً، لأنّ التربية الإسلامية ليست منحصرة في التربية الغيرية، بل تشمل التربية الذاتية، أي تربية الإنسان لنفسه وتهذيبه لذاته. وهذه نقطة تمّ إغفالها من قبل العديد من علماء التربية المسلمين وغيرهم، مع أنّ نقطة انطلاق العملية التربوية في الرؤية الإسلامية تبدأ من النفس والذات نحو الطفل والآخر.

 
تعريف خسرو باقري للتربية
عطفاً على الاحتمال اللغويّ الذي تبنّاه خسرو باقري سابقاً لمعنى التربية، عرّف التربية الإسلامية اصطلاحاً بأنّها: "معرفة الله بصفته الربّ الأوحد للعالم والإنسان، واختياره ربّاً لنا، والتسليم والخضوع لربوبيّته، والابتعاد عن ربوبيّة غيره"1.
 
ويُلاحظ على هذا التعريف:
أوّلاً: أنّه تعريف للتربية بلحاظ الغاية النهائية التي يُمكن أن نُطلق عليها اسم الهدف الميتا - استراتيجيّ، أي الهدف الأعلى الأقصى الذي يقع في نهاية سلسلة الأهداف طولاً بنحو لا يكون وراءه هدف آخر، فلا تشتمل التربية حينها على الأهداف الوسيطة والكمالات الإضافية.
 
وثانياً: أنّ التربية ليست هي نفس معرفة الله واختياره ربّاً والخضوع له، بل التربية هي مجموع العمليات التي تؤدّي بالمتربّي في مرحلة عمرية ما إلى الوصول إلى هذه الكمالات.
 
وثالثاً: أنّه تعريف غير جامع، لأنّه لا يشمل جميع المراحل العمرية للطفل، إذ ليس بمقدور الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة أن يعرف الله ويختاره ربّاً ويتصرّف على أساس منطق الخضوع له تعالى.
 
وقد اعترف باقري نفسه في موضع آخر من كتابه بهذه الملاحظة، حيث يقول: "إنّ هذا المفهوم للتربية لا يتحقّق في مرحلة الطفولة، أي مرحلة ما قبل البلوغ والتكليف، لأنّ القدرات المعرفية لدى الطفل ضعيفة، وهو لا يمتلك القدرة على الاختياروالعمل على أساسها. وعلى 



1 نظرة متجدّدة في التربية الإسلامية، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

24

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 هذا الأساس فمرحلة الطفولة بمثابة المرحلة الممهّدة للتربية"1. مضيفاً، أنّ وظيفة المربّي تجاه الطفل هي التصرّف معه وفق أساليب تجعل الطفل يحمل استعدادات وقابليات خاصّة لمعرفة الله واختياره ربّاً عند دخوله مرحلة البلوغ والتكليف2.

 
وفي الحقيقة، تصنيف عملية تربية الطفل تحت عنوان: ممهّدات التربية، لا يُغيّر من واقع الأمر شيئاً، إذ النقاش ليس لفظياً، ولا مشاحة في الألفاظ.
 
كما أنّ تلك العمليّات لا تكون تربية بلحاظ الفعلية، وإنّما هي تربية بالقوّة أي بلحاظ المستقبل وباعتبار ما سيكون، وهو أمر غير صحيح، لأنّ هدف التربية - كما اتّضح في الدرس الأوّل وسيأتي في الدرس الثالث - يشمل الكمالات الإضافية والأهداف الوسيطة، فمفهوم التربية بمعناه الحقيقيّ وفق الرؤية الإسلامية ينطبق على العمليات الاستكمالية التي يقوم بها الراشدون تجاه الطفل، ويوصف حينها بالمتربّي حقيقة، والهدف النهائيّ والغائيّ من التربية وإن كان هو الوصول إلى القرب من الله تعالى، لكنّه كما ذكرنا هدف ميتا - استراتيجيّ في العملية التربوية، وهو لا يلغي وجود أهداف وسيطة وكمالات إضافية يعتبر إيصال الطفل إليها تربية حقيقة.
 
التربية والتنشئة الاجتماعية
وقع الخلط من قِبَل بعض الباحثين التربويّين بين مصطلحي التربية والتنشئة الاجتماعية، لذا من الضروريّ بيان الفرق بينهما، فمثلاً يُعرّف محمد سيف الدين فهمي التربية بأنّها: "العملية المقصودة أو غير المقصودة التي يصطنعها المجتمع لتنشئة الأجيال الجديدة فيه، بما يجعلهم على وعي بوظائفهم في المجتمع، وبدور كلٍّ منهم فيه"3.
 
وهذا التعريف للتربية ناظر إلى البعد الاجتماعيّ للعملية التربوية، بمعنى أن يُصبح الطفل قادراً على التكيّف والتأقلم مع البيئة الاجتماعية العامّة التي يعيش فيها. وهذا المعنى أقرب إلى التنشئة الاجتماعية منه إلى التربية. لأنّ التنشئة الاجتماعية عبارة عن إكساب الطفل صفات خاصّة يستطيع من خلالها أن يكون عضواً نافعاً ومتوافقاً مع الهيئة 



1 فلسفة التربية والتعليم الإسلامية ، ص177.
2 المصدر نفسه، ص178.
3 فهمي، محمد سيف الدين، محاضرات في أصول التربية، ص17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

25

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 الاجتماعية العامة التي يعيش فيها، فتكون له عقلية اجتماعية، ويتحوّل من كائن بيولوجيّ إلى كائن اجتماعيّ1.

 
وبعبارة أخرى: التنشئة الاجتماعية عبارة عن جعل الطفل قادراً على التكيّف مع البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها من حيث العادات والتقاليد والسلوكات والاتّجاهات والقيم وغيرها.
 
وبهذا تتّضح عدّة فروقات بين التربية والتنشئة الاجتماعية، منها أعميّة التربية على التنشئة، حيث إنّ التنشئة ناظرة إلى البعد الاجتماعيّ من أبعاد هوية الطفل، فتكون جزءاً من العمليات التربوية التي تهدف إلى تكامل الطفل في مختلف جوانب شخصيّته، ومنها البعد الاجتماعيّ.
 
وثانياً: التنشئة الاجتماعية انعكاس لثقافة المجتمع، والتربية الإسلامية لا تقوم دائماً على جعل الطفل متكيّفاً مع البيئة التي يعيش فيها بمعنى إكسابه قيمها وأنماطها السلوكية، بل تختلف المسألة من مجتمع إلى آخر. فلو كان المجتمع إيمانياً يلتزم بقيم الإسلام وأنماطه السلوكية تكون التربية قائمة على التوافق والتطبيع الاجتماعيّ للطفل مع بيئته. أمّا لو كان الطفل يعيش في مجتمع غير إسلاميّ كالأسر المسلمة التي تعيش في الغرب، أو تعيش في مجتمع مسلم لا يلتزم بالقيم الإسلامية، فهنا لا يكون المطلوب جعل الطفل متطبّعاً بالقيم والأنماط السلوكية لذلك المجتمع، بل جعل الطفل قادراً على المواءمة بين المنظومة الإيمانية والقيمية التي ينتمي إليها وبين المجتمع الذي يعيش فيه، بمعنى أن لا يجعله إيمانه يشعر بالغربة عن المجتمع فينعزل ويعتكف وينزوي، وفي الوقت نفسه لا ينصهر في المجتمع.
 
فالتربية الإسلامية تنطلق من المذهب التربويّ الإسلاميّ الذي يُحدّد العمليات التربوية انطلاقاً من قاعدة أيّ مجتمع نُريد أن نبني، وأيّ مجتمع مطلوب إيجاده في واقع حياة الناس، لا على أساس ما هو المجتمع الموجود كواقع قائم.



1 يراجع: وطفة، علي أسعد، والشهاب، علي جاسم، علم الاجتماع المدرسي بنيوية الظاهرة ووظيفتها الاجتماعية، ص235.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

26

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 التربية عند فلاسفة وعلماء التربية الغربيّين1

- يقول إيمانويل كانط: "... نقصد فعلاً بالتربية: الرّعاية (التغذية، التعهّد) والانضباط والتعليم المقترن بالتَّكوين... والمقصود بالرعاية: الاحتياطات التي يتّخذها الوالدان ليحولا بين أطفالهما وبين استعمال قواهم استعمالاً مضرّاً...(و) يحولالانضباط دون أن ينصرف الإنسان عن غايته -وهي غاية الإنسانية - بفعل نوازعه الحيوانية (فالانضباط يعني: السعي إلى الحيلولة دون أن تؤدّي الحيوانية إلى فقدان الإنسانية "ترويض التوحّش) ..."2.
 
- ويُعرّف جون ستيوارت ميل التربية بأنّها: "كلّ ما نفعله نحن من أجل أنفسنا وكلّ ما يفعله الآخرون من أجلنا حين تكون الغاية تقريب أنفسنا من كمال طبيعتنا"3.
 
- ويُعرّفها جون ديوي: "عملية صوغ وتكوين لفعالية الأفراد، ثم صبّ لها في قوالب معيّنة أي تحويلها إلى عمل اجتماعيّ مقبول لدى الجماعة"4.
 
- وعرّفها رونيه أوبير بأنّها: "عملية تضمّ الأفعال والتأثيرات التي تستهدف نموّ الفرد من كلّ جهاته نمواً يسير به نحو كمال وظائفه من حيث التكيّف مع ما يُحيط به، ومن حيث ما تحتاجه هذه الوظائف من أنماط سلوك وقدرات"5.
 
- وجاء في موسوعة لالاند الفلسفية: "Education: تربية، تهذيب، تأديب:... سلسلة عملية إجرائية يُدرّبُ فيها الراشدون (الأهل عموماً) الصغار من جنسهم، ويشجعون لديهم نموّ بعض النزعات وبعض العادات"6.
 
- ويعرّف جود Good التربية في معجمه التربويّ بتعريفات عدّة، منها: "مجموعة 



1 انطلاقاً من المفهوم الذي حدّدناه للتربية والمناقشات التي ذكرناها حول بعض التعريفات سابقاً، يمكن للأستاذ والطلاب مناقشة هذه التعريفات في الحصة الدراسية.
2 كانط، إيمانويل، ثلاثة نصوص، ص11 وما بعد.
3 الرشدان، عبد الله، علم اجتماع التربية، ص25.
4 يراجع: الزهيري، شريف عبد العزيز، بناء مستقبل الأمة، ص12.
5 أوبير، رونيه، التربية العامة، ترجمة عبد الله عبد الدايم، ص27.
6 لالاند، أندريه، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، ج1، ص322.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

27

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 العمليات التي من خلالها يقوم الفرد بتنمية قدراته واتجاهاته وصور أخرى من السلوك ذات القيمة الإيجابية في المجتمع الذي يحيا فيه"1.

 
وهذا التعريف هو أقرب للتربية الذاتية المتعلّقة بالنفس دون الآخر.
 
- وعرّفتها مارغريت ميد بأنّها: "العملية الثقافية والطريقة التي يُصبح بها الوليد الإنساني الجديد عضواً كاملاً في مجتمع إنساني معيّن"2.
 
- وعرّفت اليونسكو -في مؤتمرها الـ18 الذي عقد في باريس عام 1974م- التربية بأنّها: "مجموع عملية الحياة الاجتماعية التي عن طريقها يتعلّم الأفراد والجماعات داخل مجتمعاتهم الوطنية والدولية لصالحها وأن ينمّوا وبوعي منهم كافّة قدراتهم الشخصية واتّجاهاتهم واستعداداتهم ومعارفهم. وهذه العملية لا تقتصر على أنشطة بعينها..."3.



1 نقلاً عن: أصول التربية، م.س، ص9.
2 نقلاً عن: النجيحي، محمد لبيب، التربية وأصولها الثقافية والاجتماعية، ص45.
3 يراجع: www.dfc.edunet.tn/Aoab
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

28

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 المفاهيم الرئيسة

- تستعمل مفردة التربية في العلوم التربوية المعاصرة بمعنيين: التربية بالمعنى الأعمّ، وتشمل تربية كافة جوانب الشخصية الإنسانية (العقلية والقلبية والبدنية)، والتربية بالمعنى الأخصّ، وترادف التعليم، وتعني تنمية الجانب العقليّ والمعرفيّ وإكساب المعلومات.

- عرّفت التربية الإسلامية عند التربويين المسلمين بتعريفات متعددة، منها: أن التربية الإسلامية هي تنمية جميع جوانب الشخصية الإسلامية الفكرية والعاطفية والجسدية والاجتماعية، وتنظيم سلوكها على أساس من مبادئ الإسلام وتعاليمه بغرض أهداف الإسلام في شتى مجالات الحياة.

- عرّفت التربية عند التربويين الغربيين بتعريفات متعددة، منها: التربية عملية تضم الأفعال والتأثيرات التي تستهدف نمو الفرد من كل جهاته نمواً يسير به نحو كمال وظائفه من حيث التكيّف مع ما يحيط به، ومن حيث ما تحتاجه هذه الوظائف من أنماط سلوك وقدرات.

- من خصائص التربية في الرؤية الإسلامية أنها لا تختصّ بتربية الطفل، بل هي تربية مستدامة من ما قبل المهد إلى اللحد، وأنها أيضاً لا تتعلّق بتربية الآخر والغير، بل تتعلّق بتربية النفس والذات أولاً.

- تمتاز التربية عن التنشئة الاجتماعية، بأن الأولى تشمل كلّ عمليات تنمية الإنسان في مختلف الجوانب، أما التنشئة الاجتماعية فتتعلّق بتربية الإنسان بنحو يصبح عضواً نافعاً في الهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، ومتوافقاً ومتكيفاً معها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

29

الدرس الثاني: مفهوم التربية في العلوم التربوية المعاصرة

 أسئلة الدرس

1- ما هو وجه النسبة المنطقية بين التربية والتعليم، هل هي التساوي، أم العموم والخصوص من وجه، أم العموم والخصوص مطلقاً؟ بيّن سبب اختيار الإجابة المناسبة.

2- هل تربية الطفل مختصة بالأهل، أم هناك مؤسسات شريكة في تربية الطفل؟ بيّن ذلك.

3- ناقش التعريف الذي ذكره عبد الرحمن النحلاوي للتربية، وما هي الملاحظات التي تسجلها عليه؟

4- ذكر خسرو باقري تعريفاً خاصاً للتربية، كيف تناقش هذا التعريف؟

5- ما هو الفرق بين التربية والتنشئة الاجتماعية؟ وهل أنت مع التنشئة الاجتماعية كيفما كان أم ضمن شروط خاصة؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

30

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 الدرس الثالث: هدف تربية الطفل



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أهمية الهدف ومعناه في اللغة والاصطلاح الفلسفيّ والتربويّ.
2- يُميّز بين أقسام الهدف التربويّ شكلاً ومضموناً.
3- يربط بين معنى الكمال والهدف التربويّ.
4- يُحدّد هدف تربية الطفل بشكل واضح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

31

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 تمهيد

اتّضح ممّا تقدّم في تعريف التربية - الدرس الأوّل - أنّ هدف التربية: "إيصال الطفل المتربِّي إلى الكمال المستعدّ له".
 
وفي هذا الدرس1 سنتوقّف عند تحليل معنى الهدف، ومعنى الكمال، ثمّ نقوم بعملية الربط بينهما.
 
ما هو الهدف لغة؟
الهدف لغة اسم لكلّ شيء مرتفع، ومنه سُمّي الغرض هدفاً2. قال ابن فارس: "هدف:... يدلّ على انتصاب وارتفاع... والهدف: الغرض"3.
 
ما هو الغرض لغة؟
الغرض والهدف في اللغة العربية بمعنى واحد4. قال الراغب الأصفهانيّ: "الغرض: الهدف المقصود بالرمي، ثمّ جعل اسماً لكلّ غاية يتحرّى إدراكها"5.
 
ما هي الغاية لغة؟
أصل الغاية في اللغة العربية: الراية، وسُمّيت نهاية الشيء غايته، لأنّ كلّ قوم ينتهون إلى 



1 يراجع حول هذا الدرس: عجمي، سامر توفيق، التربية مفهومها غايتها موضوعها، الفصل الثاني، حيث تمت استفادة هذا الدرس من الكتاب المذكور مع تلخيص.
2 الصحاح، ج4، ص1442.
3 معجم مقاييس اللغة، ج6، ص39.
4 كتاب العين، ج4، ص8.
5 مفردات ألفاظ القرآن، ص359. والصحاح، ج3، ص1093.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

32

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 غايتهم في الحرب أي رايتهم، ثم كثر حتى قيل لكلّ ما ينتهي إليه غاية1. فالغاية أقصى الشيء ومنتهاه2.

 
وبهذا يتبيّن أنّ الغاية والغرض والهدف بمعنى واحد، وسنستعمل هذه المفردات الثلاث بمعنى مترادف في الكتاب.
 
الغرض والغاية بالاصطلاح الفلسفيّ
الغرض من الشيء ما لأجله ذلك الشيء3.
 
والغرض: "غاية فعل فاعل يوصف بالاختيار"4.
 
والغرض: "مراد الفاعل من الفعل إذا انتهى إليه"5.
 
والغاية: الفائدة المقصودة من الفعل، بمناسبة انتهاء الفعل إليها، أي ما يفعل الفاعل فعله لأجله6.
 
الهدف في الاصطلاح التربويّ
إنّ مصطلح الهدف بالمعنى الواسع في العلوم التربوية له مفهوم تتقاطع عنده التعريفات، فقد عرّف الهدف التربويّ بأنّه: "الغاية أو النتيجة التي يُصار إلى تحقيقها بعد القيام بمجهود معيّن"7.
 
أو "المتغيّر المطلوب الذي تسعى العملية التربوية أو الجهد التربويّ إلى تحقيقه"8.
 
يقول محمد حسنين العجمي: "الأهداف هي النتائج المطلوب تحقيقها في المستقبل، وإذا كان المطلوب تحقيق هذه النتائج في المستقبل البعيد فإنّها تُسمّى غايات، وأهدافاً استراتيجية، أمّا إذا كان تحقيقها في الأجل القصير فإنّها تُسمّى أهدافاً تكتيكية"9.



1 الفروق اللغوية، ص382. ومعجم مقاييس اللغة، ج4، ص400.
2 لسان العرب، ج15، 143.
3 الرازي، قطب الدين، شرح الإشارات والتنبيهات، ج1، ص8، حاشية رقم: 1.
4 ابن سينا، الحسين بن عبد الله، الإشارات والتنبيهات، ج3، ص149.
5 المرتضى، علي بن الحسين، رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص278.
6 اليزدي، محمد تقي مصباح، تعليقة على نهاية الحكمة، ج2، ص59.
7 الزغول، عماد عبد الرحيم، مقدمة في علم النفس التربوي، ص42.
8 الشيباني، عمر محمد التومي، تطور النظريات والأفكار التربوية، ص 282.
9 العجمي، محمد حسنين، الإدارة والتخطيط التربوي النظرية والتطبيق، ص368.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

33

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 وإذا رصدنا تقسيمات الهدف في العلوم التربوية المعاصرة، نُلاحظ وجود نوعين من التقسيم، التقسيم الشكليّ للأهداف، والتقسيم المضمونيّ.

 
التقسيم الشكليّ للأهداف
يُلاحظ أنّ مفردة الهدف تُستعمل في العلوم التربوية المعاصرة بعدّة معانٍ، على الشكل التّالي1:
1- الأغراض التربوية Educational pur poses: وهي تُمثّل النتائج النهائية المرغوب فيها من الناحية التربوية، وتُعتبر من أكثر مفاهيم الأهداف شمولاً، وتحتاج إلى وقت طويل لتحقيقها، مثل: إعداد الإنسان العابد، فهو غرض للتربية أو هدف نهائيّ لها.
 
2- الغايات التربوية Educational Aims: وهي أيضاً تُشابه الأغراض التربوية من حيث كونها أهدافاً بعيدة المدى، لكنّها أقلّ عمومية منها، فهي تقع بعد الأغراض التربوية في التصنيف، مثل: المشاركة الفاعلة للفرد في الحياة الاجتماعية.
 
3- الأهداف العامة التربوية Educational Goals: وهي تقع في منتصف الطريق بين الغايات التربوية والأهداف التربوية الخاصّة المذكورة أدناه، كالأهداف المطروحة لبرنامج تربويّ محدّد، مثل: الاستثمار الأمثل لأوقات الفراغ.
 
4- الأهداف الخاصّة التربوية: وهي عبارة عن الإجراءات التي ينبغي القيام بها وتنفيذها من أجل تحقيق الأهداف العامّة على مستوى التطبيق الفعلي لها في زمان ومكان محدّدين. ويُعبّر عنها بالأهداف السلوكية، أو الأهداف الإجرائية. ويكون هذا النوع من الأهداف قابلاً للقياس والملاحظة2.
 
وبهذا يتبيّن أنّ الجامع المشترك للأهداف بالتقسيمات المختلفة هو: النتيجة المطلوب تحقيقها في المستقبل من خلال القيام بعمل ما أو مجموعة أعمال محدّدة.



1  يراجع: سعادة، جودت أحمد، صياغة الأهداف التربوية والتعليمية في جميع المواد الدراسية، ص29-47.
2 يراجع: مدكور، علي أحمد، نظريات المناهج التربوية، ص229. الدريج، محمد، التدريس الهادف، ص7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

34

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 تقسيم شكليّ آخر للأهداف

وبهذا يتبيّن أنّه يُمكن تقسيم الهدف إلى ثلاثة أقسام:
1- الهدف النهائيّ: وهو ما يكون مطلوباً بذاته حسب قصد الفاعل1. وبهذا يتبيّن أنّه يُرادف الغرض التربويّ (أو الغاية على بعض الآراء)2.
 
2- هدف وسيط: وهو ما يكون مطلوباً لأجل التوصّل به إلى هدف آخر أعلى منه3. وبهذا يتبيّن أنّه يُرادف الغاية التربوية والأهداف العامّة التربوية.
 
3- هدف سلوكيّ: وهو الأداء العمليّ الذي يقوم به المتربّي، وهو هدف جزئيّ يحصل في زمان خاص محدّد4. وبهذا يظهر أنّه يُرادف الهدف الخاصّ التربويّ.
 
وبهذا يتّضح، أنّ تصنيف الأهداف إلى وسيطة ونهائية أمر نسبيّ يختلف بالقصود والوجوه والاعتبارات، فقد يكون الهدف وسيطاً لشخص ونهائياً لآخر. نعم، لا بدّ من وجود هدف تنتهي عنده سلسلة الأهداف، ويُعتبر هو الهدف الذي ليس بعده هدف آخر.
 
ما هو الكمال مفهوماً؟
1- الكمال لغة5 يدلّ على تمام الشيء6. وتتمّة كلّ شيء ما يكون تماماً لغايته7. والكمال الانتهاء إلى غاية ليس وراءها مزيد من كلّ وجه8. فالكمال لغة هو الوصول إلى الغاية المطلوبة والهدف المنشود.



1 اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، ج2، ص60.
2 كما أشار محمد حسنين العجمي، مصدر سابق.
3 المصدر نفسه، ص60.
4 الزغول، مصدر سابق، ص44.
5 يُميّز بعض فقهاء اللغة بين الكمال والتمام، فالتمام مختصّ بالذوات، فيُقال: فلان تام الخِلقة، والكمال مختصّ بالصفات. ويرى بعضهم أنّ: التّمام: الإِتْيانُ بما نَقص من الناقِص. والكَمالُ: الزِّيادةُ على التَّمامِ، فالكَمال تَمامٌ وزِيادَة. ونشير إلى أن بعض الحكماء ميّز بين الكمال والتمام، بأنّ التمام يعني توفّر الشيء على جميع أجزائه، كما في الكتاب التام أو الناقص إذا انتزعت منه بعض أجزائه، أمّا الكمال عبارة عن طيّ الشيء لجميع المراحل التي هيّأتها له الطبيعة. يراجع: مطهري، مرتضى، أصول الفلسفة والمذهب الواقعي، ج2، ص66-67.
6 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص139. ويراجع: كتاب العين، ج5، ص378. والصحاح، ج5، ص1813.
7 كتاب العين، ج8، ص111.
8 تاج العروس، ج16، ص76.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

35

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 قال الراغب الأصفهانيّ: "كمال الشيء حصول ما فيه الغرض منه، فإذا قيل: كَمُلَ، فمعناه حَصَلَ ما هو الغرض منه"1.

 
وقد عرّف الفلاسفة والعرفاء الكمال بهذا المعنى أيضاً2.
 
فالكمال في تربية الطفل معناه وصول الطفل إلى الهدف الذي هو مقتضى طبيعته وفطرته.
 
تحليل المبادئ النفسية للفعل الإنسانيّ
لكي يتجلّى المعنى المراد من الهدف (الغاية والغرض) بشكل واضح سنقوم بتحليل مبادئ الفعل الاختياريّ الإنسانيّ من وجهة نظر علم النفس الفلسفيّ. وقد لخّص المطلب نصير الدين الطوسيّ بقوله: "والفاعل منّا يفتقر إلى تصوّر جزئيّ ليتخصّص الفعل، ثم شوق، ثم إرادة، ثم حركة من العضلات، ليقع منّا الفعل"3.
 
بيان ذلك: أنّ الفعل الإنسانيّ ينطلق من مجموعة مبادئ نفسية، مرتّبة هندسياً على الشكل التالي4:
أولاً: (المعرفة) أن يتصوّر الإنسان ما في الفعل من كمال ومصلحة أو مفسدة، كأن يتصوّر أنّ في العفو عن الطفل فلان عند الإساءة مصلحة له وللطفل.



1 مفردات ألفاظ القرآن، ص441.
2 الشيرازي، محمد المعروف بصدر المتألهين-، المبدأ والمعاد، ص338. والإشارات والتنبيهات، ج3، ص340. وابن الفناري، محمد بن حمزة، مصباح الأنس بين المعقول والمشهود، ص225. ويراجع: عجمي، سامر توفيق، الإنسان الكامل في الرؤية العرفانية الإسلامية، مجلة الحياة الطيبة، تصدر عن جامعة المصطفى العالمية- فرع لبنان، السنة التاسعة عشرة، العدد الثاني والثلاثون، خريف 2015م-1436هـ.
3 الطوسي، نصير الدين، والحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، الفصل الثالث، المسألة التاسعة، ص123.
4 يراجع حول هذا الموضوع: الطباطبائي، محمد حسين، رسالة الاعتباريات، المقالة الثانية، الفصل الثالث. والطباطبائي ومطهري، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، المقالة الثامنة، ج2، ص198. والطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة8، الفصل7، والفصل 12. ص123. واللاهيجي، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام، ص 242. وابن سينا، الشفاء إلهيات الشفاء-، المقالة السادسة، الفصل الخامس، ص284. وصدر المتألهين، شرح وتعليقة الشفاء، ج2، ص1119. والحكمة المتعالية، ج2، ص251. والسبزواري، هادي، شرح المنظومة، المقصد الأول، الفريدة السابعة، غرر في دفع شكوك عن الغاية، ج2، ص422.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

36

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 ثانياً: (الاعتقاد) أن يُصدّق ويعتقد الإنسان بجلب الفعل الكذائيّ - كالعفو - الكمال والمصلحة له (وللطفل المتربّي) أو المفسدة، وكذا في جانب الترك، فإذا اعتقد بذلك تتشكّل عنده قضية عملية مفادها: فعل العفو واجب.

 
ثالثاً: (الحبّ والشوق) بعد المعرفة والاعتقاد تتولّد في القلب حالة من الميل والحبّ فالشوق والرغبة بالفعل (بسبب القوّة الشهوية)، أو حالة من الكراهة والنفور (بسبب القوّة الغضبية)1.
 
رابعاً: (الإرادة) والعزم والتصميم نحو الفعل أو الترك.
 
خامساً: إصدار الأمر بالفعل أو الترك من قِبَل القوّة العاملة للبدن للقيام بالعمل، أي بعث أو زجر النفس والقوّة العاملة للعضلات والأعضاء والجوارح نحو العمل.
 
النتيجة: حصول الفعل في الخارج، فتتحقّق المصلحة، أو عدم حصوله (إذا كان المطلوب ترك الفعل كضرب الطفل مثلاً) فتندفع المفسدة.
 
بعد هذه المقدّمات، يتّضح أنّ تصوّر المصلحة في الفعل الذي هو عبارة عن الهدف المراد الوصول إليه من قِبَل المربّي، له دور أساس في تحريك المربّي نحو القيام بعملية التربية بأسلوب العفو مثلاً، ولذا يُطلق على هذه المرحلة من تصوّر الهدف اسم العلّة الغائية، فتصوّر الهدف هو الذي يُحرّك المربّي نحو التربية، وبعد صدور الفعل التربوي تتحقّق الغاية أي الهدف العمليّ2.
 
ما هو وجه الحاجة لمعرفة الهدف التربويّ؟
انطلاقاً ممّا تقدّم يتّضح أنّ المربّي والمتربّي كليهما يحتاجان إلى معرفة الهدف الحقيقيّ والواقعيّ للعمليات التربوية، فإنّ معرفة الهدف تُساعد المربّي على إيصال المتربّي إليه، كما تُعينه على تحديد ما هي الطرائق والأساليب والوسائل التي يستطيع من خلالها إيصال المتربّي إلى هدفه، وتُساعده أيضاً على تحديد وتقويم مدى فعالية العمليات التربوية



1 يراجع: الخميني، روح الله، جنود العقل والجهل، ص133-231-277. والنراقي، محمد مهدي بن أبي ذكر، جامع السعادات، ص46.
2 يراجع: نهاية الحكمة، ص232.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

37

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 التي يعتمدها في تحقيق الهدف.

 
كما تُساهم أيضاً في جعل المربّي قادراً على المقارنة والمقايسة بين الهدف النظريّ من جهة والهدف العمليّ من جهة ثانية، بمعنى هل ما تمَّ رسمه على المستوى النظريّ من أهداف من أجل تحقيقه بواسطة العمليات التربوية هو عينه ما تحقّق في الواقع فعلاً بعد التربية أم لا.
 
كما أنّ معرفة الهدف تُساعد المتربّي على معرفة المطلوب منه وتُثير فيه الدافعية نحو التربّي1.
 
ما هو الكمال مصداقاً؟
تقدّم البحث عن الكمال مفهوماً، وقد حان الوقت لبيان المصداق الحقيقيّ للكمال، فما هو المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكمال ذاتاً؟
 
تقوم فلسفة التربية الإسلامية على الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو الكمال الذاتيّ وما عداه لا ينال الكمال إلا ببركة فيضه تعالى2. نعم، قد يُخطئ الإنسان في تشخيص المصداق الواقعيّ، فيحسب ما ليس بكمال كمالاً له. وبما أنّ الكمال والغاية متّحدان مصداقاً، فإنّ الغاية الحقيقية هي الله تعالى، وهو (تعالى) غاية كلّ ذي غاية3.
 
الغاية الحقيقية للتربية الإسلامية
وبهذا يتّضح أنّ الغاية النهائية للتربية الإسلامية هي مساعدة الطفل على الوصول إلى الكمال المطلوب له، أي القرب من الله تعالى، وبعبارة أخرى: الهدف الميتا -استراتيجيّ لتربية الطفل وصوله إلى مقام العبودية والقرب من الله تعالى. قال عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾4.



1 نشواتي، عبد المجيد، علم النفس التربوي، ص106-195-196.
2 يراجع: كشف المراد، ص415.
3 نهاية الحكمة، ص236-237.
4 سورة الذاريات، الآية 56.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

38

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 إشكالية هدفيّة القرب من الله تعالى لعملية تربية الطفل

انطلاقاً من تحليل معنى الهدف والكمال من جهة، وربطهما بالقرب من الله تعالى من جهة ثانية، والأخذ بعين الاعتبار أنّ الطفل غير مكلّف من جهة ثالثة، وأنّ قيامه بالأعمال العبادية ما قبل سنّ التمييز ليس عبادياً أي لا يقع قُربيّاً بالاتّفاق، وبعد سنّ التمييز موضع خلاف بين المشروعية والتمرينية، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يُمكن جعل هدف تربية الطفل إيصاله إلى القرب من الله تعالى؟
 
ويقع الجواب عن هذا السؤال في عدّة نقاط:
أوّلاً: ذكرنا أنّ الهدف ينقسم إلى نهائيّ، ووسيط، وسلوكيّ، والأهداف السلوكية والوسيطة تقع على صراط الوصول إلى الهدف النهائيّ، والوصول إلى الهدف النهائيّ لا يشترط فيه عقلاً وعقلائياً وشرعاً فترة زمنية محدّدة، ولذا نرى أنّ التخطيط الاستراتيجيّ في وقتنا الحاضر كثيراً ما يستعمل كلمات مثل: "خطّة عشرية" و"خطّة عشرينية"، أي أنّه يُراد حصد ثمار الخطّة بعد عشر أو عشرين سنة، وكلّ السياسات والتدابير والإجراءات التي تمتدّ من 0 سنة وحتّى 20 سنة مثلاً، هي في الحقيقة عنصر مساهم في التقدّم خطوة خطوة وشيئاً فشيئاً نحو تحقيق الهدف النهائيّ، ومقياس النجاح أو الفشل بالنسبة للهدف النهائيّ إنّما يحصل بعد انتهاء السقف الزمنيّ المنوطة به الخطّة الاستراتيجية، وليكن أمر التربية كذلك بالنسبة للطفل، فإنّ التربية هي عبارة عن عملية تدريجية مستدامة طويلة الأمد، تزوّد الطفل بالخصائص والفعليات والقابليات والاستعدادات التي تجعله عند بلوغ سنّ التكليف إنساناً ربّانياً متقرّباً من الله تعالى. وقد اتّضحت هذه النقطة ممّا ذكرناه سابقاً من أنّ الهدف الميتا -استراتيجيّ هو النتيجة المطلوب وصول المتربّي إليها في المستقبل البعيد.
 
ثانياً: ينقسم الكمال إلى نوعين: حقيقيّ- دينيّ1، وطبيعيّ - إضافيّ.
 
ونقصد بالكمال الحقيقيّ: الوصول إلى منزلة القرب من الله تعالى بمفهومها التشكيكيّ الواسع2.



1 تُحدّده المصادر الدينية التي ترسم الهدف من وجود الإنسان.
2 القرب من الله تعالى مقولة مشكّكة تختلف مراتبها باختلاف علاقة كل فرد بالله تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

39

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 أمّا الكمال الإضافيّ: فهو تحقّق ما فيه الكمال للشيء بحسب طبيعته المقتضية له، حتّى لو لم يكن فاعلاً مختاراً أصلاً، فوصول النبات أو النحل أو الطير...إلخ بفعل الرعاية والاهتمام من قِبَل المزارع أو غيره إلى إنتاج ما هو متوقّع منها يُعتبر تربية حقيقة، رغم كون العملية التربوية في هذا المجال غير متعلّقة بالتقرّب من الله تعالى. وهكذا الأمر في الطفل، فإنّ وصول الطفل إلى حياة صحّية بدنياً خالية من الأمراض من خلال اعتماد نظام غذائيّ معيّن، أو تعويد الطفل على القيام بالآداب العامة مع والديه كالطاعة والاحترام وتقبيل اليد، أو زرع الإحساس بجمال الطبيعة في نفس الطفل، أو تعليمه الأحرف والكلمات والحساب ورفع أميّته، أو تعليمه مهارات التفكير، أو مهارات سلوكية رياضية...، هي كمالات إضافية للطفل بحسب ما تقتضيه طبيعته وفطرته.


فكلّ عملية تُعطي الطفل المعلومات الصحيحة، وتُكوّن لديه العادات الحسنة، وتُشكّل لديه المهارات العقلية والحركية المفيدة، وتُكسبه الاتّجاهات والمشاعر العاطفية والوجدانية الجميلة، وتمنحه حياة صحّية ونمواً سليماً، وتجعله يُقدِم على الأعمال والسلوكات الخيّرة، هي تربية حقيقية لأنّها إيصال للطفل إلى كمالاته الإضافية، وكمال كلّ شيء بحسبه، ولم يشترط في تعريف التربية إيصال المتربّي إلى كماله الحقيقيّ فقط، بل إيصال المتربّي إلى كمالاته الإضافية هو تربية حقيقة - كما تبنّيناه وذكره السيد البروجردي في تعريفه للتربية -.

ومن الأفضل أن ينطلق المربّي في كلّ الإجراءات والأعمال والأنشطة التي يقوم بها للصناعة الإيجابية لشخصية الطفل من خلفية جعلها واقعة على صراط استعداد وتهيّؤ الطفل ليكون متربّياً بالكمال الحقيقيّ في مرحلة عمرية محدّدة، وعليه لأجل ذلك الأخذ بعين الاعتبار أنّ العمليات التربوية للطفل بهذا المعنى مأخوذة بالنظر الآليّ في مدى تأثير ما يقوم به قولاً وعملاً على تهيئة نفس الطفل لتقبّل الربّانية، لا أن تكون تلك العمليات مأخوذة بالنظر الاستقلاليّ بما هي في حدّ نفسها، وفي هذا السياق كلّما نوى المربّي بالعمليات التربوية نية القربة من الله تعالى، كلّما كانت تربيته للطفل فعلاً عبادياً له ثماره الطيّبة عليه وعلى الطفل نفسه.

ونُشير بهذه المناسبة، إلى أنّ بذل الجهد من أجل إيصال الطفل إلى الكمالات المطلوبة مع عدم تحقّق الهدف واقعاً وتخلّف غاية الفعل عنه بسبب عوامل خارجية أو عناصر متعلّقة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

40

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 بالمتربّي نفسه، لا ينزع صفة التربية عن مجموع الأعمال التي قام بها المربّي خلال سنوات عديدة، فإنّ من اهتمّ بالبذرة وزرعها في الأرض وسقاها وأنبتت فسيلة ثمّ صارت شجرة وقام بتطعيمها...، وبسبب مرض معيّن أُصيبت به الشجرة فلم تحمل ثمراً، لا يُلغي وصف من قام بسلسلة تلك التدابير بأنّه مربٍّ.

 
ما هو هدف تربية الطفل؟
بناءً على جميع ما تقدّم، يتّضح أنّ هدف تربية الطفل هو: إيصاله إلى الكمال الذي تقتضيه فطرته وطبيعته، وتنمية استعدادات وقابليات خاصة عند الطفل، تُساعده على أن يكون إنساناً عابداً في المستقبل مع دخوله سنّ التكليف.
 
التقسيم المضمونيّ للأهداف التربوية
كُنّا قد ذكرنا التقسيم الشكليّ للأهداف التربوية، ونختم الدرس بذكر التقسيم المضمونيّ لأهداف تربية الطفل بشكل مختصر.
 
هذا التقسيم المضمونيّ للأهداف هو بنحو يتلاءم مع نظرة فلسفة التربية الإسلامية إلى طبيعة الطفل - والذي سنُعالجه في الدرس السادس -، حيث إنّ موضوع التربية هو الطفل والإنسان، ولا بدّ من أن تُقسّم الأهداف بنحو يتناسب مع المكوّنات الذاتية للشخصية الإنسانية.
 
1- الأهداف العقلية - الفكرية - المعرفية - الاعتقادية (بالمعنى الأعم)1: وتتعلّق بالجانب العقليّ والنشاط الذهنيّ والفكريّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى تعليم الطفل وإكسابه المعلومات والمعارف والعقائد الضرورية وكيفية التفكير حول الأشياء.
 
2- الأهداف القلبية - النفسية - الوجدانية: وتتعلّق بالجانب القلبيّ والنفسيّ الداخليّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى جعل الطفل يعيش الملكات الفاضلة والمشاعر والانفعالات والاتّجاهات النفسية الإيجابية تجاه الأمور المرغوب فيها، ويعيش الميول السلبية تجاه الأمور غير المرغوبة.



1 لا نقصد بالاعتقادية المعنى الأخص، أي القضايا التي يبحث عنها في علم الكلام والعقيدة، بل نعني بالعقائد كل ما يعتقد به الطفل في الحياة حول أي موضوع من الموضوعات، وباختصار المقصود بالعقائد هنا هو كيفية نظرة الطفل إلى الأشياء المحيطة به.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

41

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 3- الأهداف البدنية - السلوكية - المهاراتية: وتتعلّق بالجانب البدنيّ والجوارحيّ من شخصية الطفل، وتهدف إلى تلبية الاحتياجات البدنية للطفل، وتنمية الجانب الجسميّ له، وإكساب العادات والسلوكات الحسنة، وتدريبه وتأهيله على القيام بالنشاطات البدنية والمهارات الحركية اللازمة من أجل تحقيق الأهداف المطلوبة في الساحات المختلفة.

 
الساحات التربوية للأهداف المضمونية المختلفة
لكلّ بُعدٍ من تلك الأبعاد الثلاثة المذكورة ساحات معيّنة، هي المجال الحيويّ الذي يتحرّك فيه الطفل من خلال هذه الأبعاد، وتعود إليها ولا تخرج عنها، فالأخلاق والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإعلام والجمال والفن والرياضة و... هي ساحات وشؤون تلك الأبعاد الثلاثة، فالتربية الاقتصادية للطفل ليست شيئاً وراء إعطاء المعرفة أو كيفية النظر إلى الأشياء والتفكير فيها (البعد الذهنيّ)، أو تكوين القيم والميول والاتّجاهات، والشوق والتوجه العاطفيّ نحو الشيء... (البعد القلبيّ)، أو إيجاد الفعل والعمل والسلوك أو تعديله وتغييره (البعد البدنيّ)، وهكذا في الساحات الأخرى. وهذه الساحات متطوّرة، بمعنى أنّها تتوسّع دائرتها بنحو لا يُمكن مقارنته مع ما كان سابقاً، كالتربية الجهادية والتربية المهنية والتربية الاقتصادية...، ويُمكن أن تنشأ في كلّ زمان ساحات جديدة، فمثلاً لم يكن في السابق ما يُعرف اليوم بالتربية الإعلامية...إلخ، وعليه، لا بدّ من التمييز بين أهداف التربية بلحاظ الطبيعة الإنسانية الثلاثية الأبعاد للطفل، فهي ثابتة، وبين أهداف التربية بلحاظ شؤون حياة الطفل ومجالات ممارسة نشاطاته العقلية والقلبية والجسدية، فهي عديدة متنوّعة، تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، ومن طفل إلى آخر، ومن مرحلة عمرية إلى أخرى.
 
ومن ساحات التربية بهذا المعنى: التربية الصحّية، التربية البيئية، التربية الإعلامية، التربية الاجتماعية، التربية الجمالية، التربية الفنّية، التربية الرياضية، التربية العبادية، التربية الاقتصادية، التربية الفكرية، التربية الأخلاقية، التربية السياسية1... إلخ.



1 وهذه الساحات التربوية هي ما سيتم تسليط الضوء عليه ومعالجته في مباحث هذا الكتاب بجزأيه الأول والثاني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

42

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 المفاهيم الرئيسة

- يُستعمل الهدف والغرض والغاية في اللغة العربية بمعنى واحد.

- الهدف في الاصطلاح الفلسفيّ عبارة عن الفائدة التي يُريد الفاعل تحقيقها من خلال قيامه بالفعل.

- الهدف بالمعنى التربويّ عبارة عن النتيجة المطلوب تحقيقها في المستقبل من القيام بالعملية التربوية.

- هناك ارتباط خاص بين الهدف والكمال، لأنّ الكمال عبارة عن تحقيق الهدف من وجود الشيء، فالكمال والهدف متّحدان مصداقاً.

- تنقسم الأهداف إلى أهداف شكلية وأهداف مضمونية، وتنقسم الأهداف الشكلية إلى: أهداف عليا نهائية (الأغراض التربوية)، وأهداف متوسّطة (الغايات والأهداف العامة التربوية)، وأهداف خاصة سلوكية.

- تهدف تربية الطفل في الرؤية الإسلامية إلى إيصاله للكمال الذي تقتضيه فطرته وطبيعته، وتنمية استعدادات وقابليات خاصة عنده، تُساعده لكي يكون إنساناً عابداً في المستقبل مع دخوله سنّ التكليف.

- ينقسم الكمال إلى حقيقيّ واقعيّ، ووهميّ خياليّ، والكمال المطلوب إيصال الطفل إليه هو الكمال الحقيقيّ لا الموهوم.

- تنقسم الأهداف مضمونياً في الرؤية التربوية الإٍسلامية بنحو يتلاءم مع النظرة الفلسفية الإسلامية إلى طبيعة الطفل، وهي على ثلاثة أقسام: الأهداف المعرفية -الاعتقادية: وتهدف إلى تعليم الطفل التفكير، وإكسابه المعلومات والمعارف والعقائد الضرورية حول الأشياء. والأهداف القلبية -الوجدانية: وتهدف إلى جعل الطفل يعيش المشاعر والميول الانفعالية والاتّجاهات النفسية الإيجابية تجاه الأمور المرغوب فيها. والأهداف البدنية -المهاراتية: وتهدف إلى إكساب الطفل النشاطات البدنية والمهارات الحركية اللازمة في الحياة، وتأمين احتياجاته البدنية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

43

الدرس الثالث: هدف تربية الطفل

 أسئلة الدرس

1- عرِّف الهدف التربويّ بأسلوبك الخاصّ.

2- بيّن طبيعة العلاقة بين الهدف التربويّ وبين تحقيق الكمال المطلوب للطفل.

3- اضرب أمثلة على الأهداف التربوية حسب تقسيمها الشكليّ: نهائيّ، وسيط، خاصّ.

4- عالج إشكالية كيف يُمكن أن يكون هدف التربية الإسلامية إيصال الطفل المتربّي إلى الكمال الحقيقيّ الذي هو الله تعالى، في حين أنّ الطفل لا يعرف معنى القرب من الله ولا يُمارسه في حياته.

5- لماذا يحتاج المربّي والمتربّي إلى معرفة وتحديد الأهداف للعمليات التربوية التي يقوم بها؟ اضرب أمثلة على ذلك.

6- اذكر ثلاثة أمثلة على كلّ قسم من أقسام الأهداف المضمونية: ثلاثة أهداف معرفية - عقائدية، ثلاثة أهداف وجدانية - قلبية، ثلاثة أهداف بدنية - سلوكية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

44

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف بداية مرحلة الطفولة لغةً واصطلاحاً.
2- يُحدِّد ما هي علامات خروج الأنثى والصبيّ عن مرحلة الطفولة.
3- يُميّز بين الطفولة بالاصطلاح الشرعيّ والطفولة الوضعية.
4- يعرف آراء المدارس الفقهية الإسلامية المختلفة في تحديد مرحلة الطفولة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

45

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 تمهيد

ذكرنا في الدرس الأوّل أنّ عنوان تربية الطفل يتركَّب من مفردتين: "تربية" و"الطفل"، وقُلنا إنّ من المقدّمات المنهجية لأيّ بحث هو تعريف الكلمات المفتاحية الواردة فيه، وقد حلّلنا سابقاً مفهوم التربية، وفي هذا الدرس سنُحلّل مفهوم الطفل1.
 
الطِّفل في اللغة
- قال الفراهيدي (100-175هـ): "الطِّفل: الصغير من الأولاد للناس..."2.
 
- وقال ابن فارس (ت 395هـ): "(طفل) الطاء والفاء واللام أصل صحيح مطّرد ثم يُقاس عليه، والأصل المولود الصغير، يُقال هو طفل، والأنثى طفلة"3.
 
- وقال ابن منظور (ت711هـ): "الطِّفْل والطِّفْلة: الصغيران. والطفل: الصغير من كلّ شيء بيِّن..."4.
 
- وقال الفيروزآبادي (ت817هـ): "الطفل بالكسر: الصغير من كلّ شيء أو المولود"5.



1 يراجع حول هذا الدرس: عجمي، سامر توفيق، عقوبة الطفل في التربية الإٍسلامية، الفصل الثالث، ص59 وما بعد.
2 الفراهيدي، كتاب العين، ج7، ص428.
3 معجم مقاييس اللغة، ج3، ص413.
4 لسان العرب، ج8، ص174.
5 القاموس المحيط، ج4، ص7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

46

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 مفردة الطفل في القرآن الكريم

وردت مفردة الطفل 4 مرات في 4 آيات من القرآن الكريم، وهي:
- قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا...﴾1.
 
- ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا...﴾2.
 
- ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء﴾3.
 
- ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾4.
 
وقد استعملت بعض المفردات الأخرى في القرآن الكريم للدلالة على الولد الصغير، وهي: الوليد، الصبيّ، الصغير، الغلام.
 
- قال الله تعالى: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾5.
 
- ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾6.
 
- ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾7.
 
- ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾8.



1 سورة الحج، الآية 5.
2 سورة غافر، الآية 67.
3 سورة النور، الآية 31.
4 سورة النور، الآية 59.
5 سورة الشعراء، الآية 18.
6 سورة مريم، الآية 12.
7 سورة مريم، الآية 29.
8 سورة الإسراء، الآيتان 23 -24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

47

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 - ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾1.

 
- ﴿وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ﴾2.
 
تحديد مبتدأ الطفولة
قال فخر الدين الطريحي (ت 1085هـ): "الطفل واحد الأطفال، وهو ما بين أن يولد إلى أن يحتلم"3.
 
وقال الزبيدي (ت 1205هـ): "الطفل بالكسر: الصغير من كلّ شيء أو المولود... ونقل الأزهري عن أبي الهيثم، قال: الصبيّ يُدعى طفلاً حين يسقط من بطن أمّه إلى أن يحتلم"4.
 
ويُستفاد من هذين النّصين أنّ مبتدأ الطفولة خروج الطفل من بطن أمّه.
 
وقد يعتبر قوله تعالى في الآيتين السابقتين: ﴿نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾5 و ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا﴾6 قرينة تشعر بإفادة هذا المعنى الذي ذكره بعض علماء اللغة من أنّ مبدأ الطفولة يتحقّق من حين خروج الجنين من رحم أمّه إلى نور الحياة.
 
وعند رصد سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، لا نجد في الأخبار أيّ إشارة إلى تحديد نقطة بدء مرحلة الطفولة، ولعلّ ذلك لوضوح معناها في الفهم العرفيّ اللغويّ العام المفيد للظهور.
 
وعلى كلّ حال، إذا لم يتمّ التسليم بدلالة الآيتين السابقتين ظهوراً أو إشعاراً على كون مبدأ الطفولة هو خروج الوليد من بطن أمّه، لا يكون حينها بين أيدينا أيّ نصّ قرآنيّ أو روائيّ يُفيد المطلوب، فيكون المرجع الذي يعتمد عليه في المقام هو الفهم العرفيّ، والظاهر منه أنّه المأخوذ فيه المولودية، لذا عبّروا بقولهم: "المولود الصغير"، "أن يولد"، "الصغير من الأولاد"... 
 
إلخ من التعبيرات.



1 سورة آل عمران، الآية 40.
2 سورة يوسف، الآية 19.
3 مجمع البحرين، ج5، ص411.
4 تاج العروس، ج15، ص434.
5 سورة الحج، الآية 5.
6 سورة غافر، الآية 67.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

 


48

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 معانٍ أخرى مستفادة من أقوال علماء اللغة

يظهر من خلال أقوال علماء اللغة بالإضافة إلى ما تقدّم أمران آخران:
الأوّل: أنّ الجنين في بطن أمّه لا يُطلق عليه اسم "الطفل". ويُقال للجنين الذي يسقط من بطن أمّه قبل تمامه: "السقط". قال ابن سيده (ت 458هـ): "ما دام الولد في بطن أمّه فهو جنين... وإنّما سُمّي جنيناً لأنّه اجتنّ أي اكتنّ في بطن أمّه... فإذا ولدته فهو وليد ساعة تلده والأنثى وليدة"1.
 
والثاني: أنّ منتهى الطفولة هو الاحتلام كما صرّح بذلك أبو الهيثم والطريحي. وقد لا يكون هذا المعنى مفاد الدلالة اللغوية الوضعية، بل حاصل الفهم الشرعيّ لمعنى الطفولة.
 
والخلاصة: إنّ بداية مرحلة الطفولة هي خروج الوليد من بطن أمّه، فلا تُطلق على الجنين مفردة الطفل إلا تجوّزاً، كما لا تُسمّى النطفة أو البويضة طفلاً.
 
آراء الحقوقيّين حول بداية الطفولة
وقع الاختلاف بين الحقوقيّين في تحديد بداية الطفولة، ويُمكن حصرها في ثلاثة آراء:
الرأي الأول: يتوافق مع ما ذكره علماء اللغة، يقول ابن عابدين (ت1252هـ): "... (وطفله) احترز به عن الجنين، فإنّه لا يُسمّى طفلاً...، إذ الطفل هو الصبيّ حين يسقط من بطن أمّه إلى أن يحتلم"2.
 
وكذلك عرّف محمد نور سويد الطفولة بقوله: "المرحلة من الولادة إلى البلوغ..."3.
 
الرأي الثاني: لم يُحدّد بداية الطفولة بشكل صريح وواضح، كما في الإعلان العالميّ لحقوق الطفل4، وكذلك اتّفاقية الطفل5، إذ لم يُحدّدا بداية مرحلة الطفولة بنحو واضح لا التباس فيه، حيث يوجد في ديباجة كلّ منهما العبارة التالية: "إنّ الطفل بسبب عدم نضجه 



1 المخصص، ج1، ص30.
2 ابن عابدين، محمد أمين، حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في فقه الإمام أبي حنيفة النعمان، ج2، ص396. وج3، ص672.
3 سويد، محمد نور بن عبد الحفيظ، منهج التربية النبوية للطفل، ص28.
4 المنشور بموجب قرار الجمعية العامة 1386 د-14- المؤرخ في 20 تشرين الثاني 1959.
5 المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 25/44 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/1989. منشورة ضمن كتاب: مناع، هيثم، حقوق الطفل الوثائق الإقليمية والدولية الأساسية، ص25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

49

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 البدنيّ والعقليّ، يحتاج إلى إجراءات وقاية ورعاية خاصّة، بما في ذلك حماية قانونية مناسبة قبل الولادة وبعدها"1، اعتبرها البعض إشارة إلى أنّ مرحلة الطفولة تمتدّ إلى ما قبل الولادة.

 
وقيل: إنّ هذا السكوت أو عدم الوضوح أمر مقصود، من أجل أن تتجنّب الدول الأعضاء في الإعلان والاتفاقية نقطة خلافية بينهم، وهي مسألة الإجهاض، فمع الأخذ بعين الاعتبار كون المرحلة الجنينية وفترة الحمل ممّا يصدق عليها عنوان الطفولة فهذا سيؤدّي بشكل تلقائيّ إلى رفض مبدأ الإجهاض لأنّه اعتداء على حقّ الطفل في الحياة الذي كفلته الشرائع الوضعية، في حين أنّ اعتبار مرحلة الطفولة لا تشمل فترة الحمل سيفتح المجال أمام المجوّزين للإجهاض لاعتباره أمراً لا يُعارض مبدأ حقّ الطفل بالحياة، لأنّ الجنين ليس طفلاً2.
 
لكن في الحقيقة، إنّ هذا التعمّد في عدم الوضوح بتحديد بداية مرحلة الطفولة لا يؤثّر على حرمة الإجهاض وعدم شرعيّته، وذلك لأنّ عدم شمول مرحلة الطفولة للمرحلة الجنينية لا يُلازمه عقلاً ولا عرفاً ولا شرعاً نفي الأحكام الخاصّة عن المرحلة الجنينية، فإنّ المرحلة الجنينية في النظرة الإسلامية - على تقدير عدم اشتمال مرحلة الطفولة عليها - لها عنوان مستقلّ يترتّب عليه العديد من التشريعات الفقهية والتربوية، كما سيأتي التعرّض لها في بابها. فلا ربط بين تصنيف المرحلة الجنينية كعنوان مستقلّ عن مرحلة الطفولة، وبين عدم تشريع الإجهاض مثلاً، كما أنّه لا ربط بين عدم إطلاق اسم الطفل على السقط الذي يخرج من بطن أمّه قبل تمامه - اضطراراً أو اختياراً - وبين عدم وجوب تغسيله مثلاً، فالسقط حتّى لو لم يُطلق عليه اسم الطفل يجب تغسيله، فالمرحلة الجنينية لها أحكامها الخاصّة بها، من ضمنها حرمة الإجهاض والإسقاط للجنين، لأنّ الحقّ في الحياة غير منحصر بالمولود من بطن أمّه حيّاً بل يشمل الجنين الحيّ في رحم أمّه.



1 المعتمدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 25/44 المؤرخ في 20 تشرين الثاني/1989. منشورة ضمن كتاب: مناع، هيثم، حقوق الطفل الوثائق الإقليمية والدولية الأساسية، ص25.
2 يراجع: الخشن، حسين، حقوق الطفل في الإسلام، ص12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

50

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 الرأي الثالث: يُصرّح أصحابه بأنّ "مرحلة الطفولة تشمل مرحلة ما قبل الولادة"1. ففترة الحمل والمرحلة الجنينية بناءً على هذا الرأي الثالث هي جزء من مرحلة الطفولة. وفي بحث تحت عنوان: "احتياجات الطفولة في جمهورية مصر العربية" ورد أنّ الطفولة "معنى جامع تضمّ جميع الأعمار ما بين المرحلة الجنينية - مرحلة ما قبل الولادة- ومرحلة الاعتماد على النفس"2.

 
وترى سمر عبد الله أنّ "هذا التحديد لبداية مرحلة الطفولة يتناسب مع اهتمام الإسلام وحثّه على العناية بالطفل قبل أن يولد"3.
 
وقد تبيّن ممّا سبق، أنّه لا علاقة تلازمية بين اهتمام الإسلام بمرحلة ما قبل الولادة وبين كونها جزءاً من خصوصية مرحلة الطفولة، إذ لو اعتبرنا المرحلة الجنينية دائرة مستقلّة عن الطفولة فلا مشكلة في أن يولي المشرّع الإسلاميّ عناية خاصّة بها بذاتها بغضّ النظر عن اندراجها تحت عنوان آخر أي الطفولة.
 
منتهى الطفولة في الاصطلاح الشرعيّ
إنّ منتهى الطفولة في الاصطلاح الشرعيّ يعرف من خلال المعنى المقابل له، أي البلوغ، فبالبلوغ يخرج الطفل عن حدّ الطفولة ويدخله مرحلة جديدة بكلّ ما للكلمة من معنى، مرحلة يُصبح فيها مكلَّفاً بالأوامر والنواهي الإلهية على نحو لو لم يمتثلها يستحقّ العقاب الأخروي4، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾5، حيث استفاد الفقهاء والمفسِّرون من هذه الآية أنّ البلوغ هو منتهى الطفولة بقرينة المقابلة بين الطفولة وبلوغ الحلم. فما هو البلوغ؟ وما هي علاماته التي يعرف بها؟



1 عبد الله، سمر خليل محمود، حقوق الطفل في الإسلام والاتفاقيات الدولية دراسة مقارنة، ص30.
2 البحث من إعداد المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، ومنظمة الأمم المتحدة للأطفال "اليونيسف". يراجع: طعيمات، هاني سليمان، حقوق فئات ذات أوضاع 
خاصة، ص10.
3 عبد الله، سمر، حقوق الطفل، ص30.
4 عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّ أولاد المسلمين موسومون عند الله شافع مشفع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كتبت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحلم كتبت عليهم السيئات". 
الكافي، ج6، ص3.
5 سورة النور، الآية 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

 


51

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 وضع المشرّع الإسلاميّ عدّة معايير لتحديد مرحلة البلوغ1، هي:

العلامة الأولى: الإنبات، وهو علامة مشتركة بين الأنثى والذكر، والمقصود بها: نبات الشعر الخشن على العانة، ولذلك اعتبر الفقهاء أنّه لو اشتبه الطفل بالبالغ ولم يتمّ التمييز بأنّ فلاناً هل ما زال طفلاً أم تجاوز مرحلة الطفولة ودخل مرحلة البلوغ، ولم يكن هناك من علامات البلوغ غير الإنبات، أخذ بهذه العلامة كمؤشّر على البلوغ الشرعيّ. وقد قيّد الفقهاء الشعر بالخشن تحرّزاً عن الشعر الضعيف الذي قد يوجد في الطفل ويُعبّر عنه بالزغب2. وهو رأي الإمامية، والمالكية في المشهور، والشافعية في قول، والمشهور عند الحنابلة. في حين أنّ الحنفية والحنابلة على رواية، لا يعتبرون الإنبات علامة مستقلّة على حصول البلوغ.
 
العلامة الثانية: خروج السائل المنويّ، في النوم (الاحتلام) أم في اليقظة (الإنزال)، وهو علامة مشتركة بين الذكر والأنثى أيضاً. وقد حمل بعض الفقهاء والمفسِّرين معنى "الحلم" في الآية السابقة على هذه العلامة، يقول العلّامة الحلّي: "الحُلُم هو خروج المنيّ من الذكر أو قُبُل المرأة مطلقاً، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وسواء كان بجماع أو غير جماع، وسواء كان في نوم أو يقظة"3.
 
وهذه العلامة متسالم عليها بين الفقهاء، استناداً إلى بعض الآيات والعديد من الأخبار، قال تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾4. حيث حملوا المعنى المراد ببلوغ النكاح على شهوة النكاح والقدرة على الإنزال5.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبيّ حتّى يحتلم..."6.
 
العلامة الثالثة: مختصّة بالأنثى، وهي إتمامها 9 سنوات هـ.ق، أي ما يقارب الـ 8،8 سنوات ميلادية و٢٤ يوماً. وهو رأي مشهور فقهاء الإمامية.



1 يراجع: من كتب فقهاء الإمامية: العاملي، زين الدين بن علي، المعروف بالشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، ج4، ص141. ويراجع من كتب أهل السنة: 
الشوكاني، محمد بن علي، نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخبار، ج5، ص370 وما بعد. والجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة، ج2، ص411 ومابعد.
2 الزغب: صغار الشعر، وأول ما يبدو من شعر الطفل.
3 الحلي، الحسن بن يوسف، تذكرة الفقهاء، ج14، ص191. ويراجع: مسالك الأفهام، ج4، ص143.
4 سورة النساء، الآية 6.
5 الروحاني، محمد صادق، فقه الصادق، ج20، ص103.
6 الطوسي، محمد بن الحسن، المبسوط في فقه الإمامية، ج2، ص282.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

52

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

الرأي الفقهيّ الثاني، وهو موضع اتّفاق فقهاء أهل السنة، يُحدّد أول سنّ البلوغ عند الفتاة بـبدء العادة الشهرية، أي المرة الأولى التي ترى فيها الفتاة دم الحيض، وليست له سن محدّدة، بل يختلف باختلاف الفتيات والمجتمعات، فقد يكون في بعض المجتمعات في سن الـ10، وفي أخرى في الـ13، لكن على أن لا يكون دون سن الـ9 وإلا لم يُعتبر حيضاً، وبالتّالي ليس علامة على البلوغ.
 
ومع عدم الحيض، اختلفوا في تحديد سنّ البلوغ عند الفتاة، فأبو حنيفة، والمالكية على رواية اعتبروا أنّ سنّ البلوغ هي بإتمام 17 سنة هـ.ق، أمّا المالكية في المشهور فاعتبروها بإتمام 18 سنة هـ.ق، والحنابلة والشافعية والحنفية -ما عدا القول المنقول عن أبي حنيفة - اعتبروا أنّ سنّ البلوغ في الأنثى هي إتمام 15 سنة هـ.ق1.
 
العلامة الرابعة: مختصّة بالذكر، ففيما لو لم تحصل إحدى العلامات السابقة، يدخل الذكر مرحلة البلوغ بإتمام 15 سنة هـ.ق، أي ما يُقارب الـ 14،7 ميلادية. وهو رأي الإمامية، والمالكية على رواية، والشافعية، والحنابلة. أمّا أبو حنيفة، والمالكية في المشهور ذهبوا إلى أنّ بلوغ الذكر يحصل بإتمامه 18 سنة هـ.ق2.
 
فالحدّ الأقصى لبلوغ الصبي في مشهور النظرة الفقهية هو 14،7 سنة ميلادية، وفي حالات عديدة يبلغ الطفل قبل ذلك بالإنبات والاحتلام، فيكون في ما يقارب من سنّ الـ 13-14.
 
بناءً عليه، فإنّ منتهى مرحلة الطفولة غير محدَّد تحديداً عامّاً مشتركاً بين جميع الأطفال، بل يختلف باختلاف الجنوسة أي بين الذكر والأنثى، كما يختلف باختلاف الأطفال في الذكر، أمّا في الأنثى فلا يختلف من أنثى إلى أخرى فيما لو كان المعيار المعتمد هو بلوغ 9 سنوات.هـ.ق، ويختلف إذا كان المعيار المعتمد هو الحيض.
 
وقد استدلّ فقهاء الإمامية على رأيهم الفقهيّ بعدّة روايات، منها:
- ما رواه حمران، قال: سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام قُلتُ له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة وتُقام عليه ويؤخذ بها؟ فقال عليه السلام: "إذا خرج عنه اليتم وأدرك".
 
قُلتُ: فلذلك حدٌّ يُعرف به؟



1 الجزيري، عبد الرحمن، الفقه على المذاهب الأربعة، ج2، ص411 ومابعد.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

53

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 فقال عليه السلام: "إذا احتلم، أو بلغ خمس عشرة سنة، أو أشعر أو أنبت قبل ذلك، أُقيمت عليه الحدود التامّة، وأخذ بها، وأخذت له".

 
قُلتُ: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامة وتؤخذ لها ويؤخذ بها؟
 
قال عليه السلام: "إنّ الجارية ليست مثل الغلام إنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في الشراء والبيع، وأُقيمت عليها الحدود التامّة وأخذ لها بها". قال عليه السلام: "والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك"1.
 
- وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم وزوِّجت وأُقيمت عليها الحدود التامة عليها ولها"2.
 
منتهى الطفولة في الاصطلاح الحقوقيّ العالميّ
جاء في المادة رقم (1) من اتفاقية حقوق الطفل: "... لأغراض هذه الاتفاقية، يعني الطفل كلّ إنسان لم يتجاوز الثامنة عشر..."3.
 
وجاء في أهداف وثيقة الإطار العربيّ لحقوق الطفل4، ما نصّه: "تكريس مفهوم الحقوق للطفل حتّى إتمام سنّ الثامنة عشر..."5.
 
يتبيّن من خلال نصّ هاتين الوثيقتين العالمية والعربية أنّ مرحلة الطفولة في الاصطلاح الحقوقيّ العالمي تنتهي عند إتمام سنّ الـ18 م، أي ما يُقارب الـ18،6 هـ.ق، أي على أبواب إتمام سنّ الـ19 هـ.ق.



1 الكافي، ج7، ص197، باب حد الغلام والجارية،ح1.
2 م.ن، ح2.
3 م.ن.
4 معد من قبل اللجنة الفنية الاستشارية للطفولة العربية في جامعة الدول العربية، كإطار استرشادي للعمل في القضايا المتعلقة بالطفولة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
5 يراجع: مناع، هيثم، حقوق الطفل، ص74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

54

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 بين مفهومي الطفولة الشرعيّ والوضعيّ

اتّضح ممّا سبق، وجود نظرتين مختلفتين عن منتهى الطفولة، أولاً بين الفقهاء المسلمين أنفسهم، وثانياً بين المشرّع الإسلاميّ وبين القوانين الوضعية. وما نقصده من الطفولة في هذا البحث هو المعنى المراد عند مشهور فقهاء الإمامية، وعليه: لا نقصد بالطفولة: المرحلة الممتدّة من صفر سنة حتّى 18 سنة، لكي تشمل "البالغ" حديثاً، فالفتاة ما بين سن الـ 8،8 والـ18 س.م تكون ضمن معايير التصنيف الفقهيّ بالغة، ولكنّها ضمن المعايير الحقوقية في القوانين الوضعية وعند بعض الفقهاء المسلمين طفلة، والفتى ما بين سن الـ12/15 -18 م يكون بالغاً، في حين أنّه في النظرة الثانية يكون طفلاً.

وعلى كلّ حال، هناك مساحة للاشتراك بين البلوغ الشرعيّ وبين الطفولة الحقوقية، حيث تتراوح فترة الاشتراك في الفتاة ما بين الـ 5 إلى 9 سنوات، وذلك لأنّ منتهى الطفولة الحقوقية الوضعية هو نهاية سن الـ18 عاماً، وبدء سنّ البلوغ الشرعيّ عند الفتاة إمّا في سن الـ9 سنوات أو 13 سنة، فتكون الفتاة ما بين البلوغ الشرعيّ أي سن الـ9 أو 13 وما بين سن الـ18 بالغة في النظرة الشرعية وطفلة في النظرة الوضعية. أمّا في الصبيّ فتتراوح ما بين الـ 3 و 5 سنوات.

المقصود بالطفل في البحث
مع أنّ المعنى الاصطلاحيّ للطفولة مقتصر على الطفل بالفعل، من 0 سنة حتى 9 هـ.ق في الأنثى، ومن 0 سنة حتى 13/15 هـ.ق في الذكر، لكن لأنّ العوامل المؤثّرة في تربية الطفل في الرؤية الإسلامية تسبق وجوده الفعليّ، فنتوسّع تجوّزاً في معنى الطفل إلى الطفل المجازيّ بنحو يشمل المرحلة الصلبية والرحمية، أي النظر إلى الطفل باعتبار ما سيكون لا باعتبار ما هو كائن فعلاً.

وتخرج عن البحث مرحلة التمايز بين الطفولة الشرعية والوضعية، بمعنى أنّ الطفلة بعد بلوغ التسع سنوات ليست طفلة باصطلاحنا، وكذلك الفتى بعد دخوله في سنّ البلوغ الشرعيّ حتّى وإن كان لديه من العمر 13 سنة فهو ليس طفلاً. وبناءً عليه، لا يصحّ التعامل معهما من ناحية الفقه التربويّ على أنّهما طفلان، لخروجهما بالبلوغ عن هذا العنوان، فتترتّب على العنوان الجديد "البلوغ"، أحكام أخرى تتناسب مع تلك المرحلة العمرية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

55

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 المفاهيم الرئيسة

- الطفل في اللغة العربية هو المولود الصغير.

- تبدأ مرحلة الطفولة من حين خروج الطفل من بطن أمّه.

- تنتهي مرحلة الطفولة بالاصطلاح الشرعيّ عند دخول الذكر أو الأنثى سنّ البلوغ الشرعيّ.

- يشترك الطفل والطفلة بالخروج عن مرحلة الطفولة بإنبات الشعر الخشن على الأعضاء الجنسية، وبخروج السائل المنويّ منها بالإنزال أو الاحتلام.

- تتميّز الأنثى بأنّها تخرج عن مرحلة الطفولة قبل الطفل الذكر، وذلك بإتمامها تسع سنوات هجرية قمرية.

- يخرج الذكر عن مرحلة الطفولة ببلوغه 15 سنة هـ.ق.

- تمتدّ الطفولة من وجهة نظر القوانين الوضعية حتّى إتمام الطفل أو الطفلة 18 سنة ميلادية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

56

الدرس الرابع: مفهوم الطفولة في الفقه التربوي

 أسئلة الدرس

1- هل تشمل الطفولة مرحلة ما قبل الولادة؟ ولماذا؟

2- اذكر الآراء الثلاثة حول بداية مرحلة الطفولة.

3- اذكر ثلاثة آراء للفقهاء المسلمين حول منتهى مرحلة الطفولة عند الذكر والأنثى.

4- كيف استفاد فقهاء الإمامية من روايتي الإمام الباقر عليه السلام علامات البلوغ؟

5- ما هي الفوارق بين الطفولة بالاصطلاح الشرعيّ على مذهب الإمامية وبين الطفولة بالمعنى الوضعيّ؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
82

57

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يُعدِّد مراحل الطفولة حسب التقسيم الاستقرائيّ.
2- يعرف تقسيم الثلاث سبعات، ويوضح خصائص هذا التقسيم.
3- يعرف خصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة.
4- يُحدِّد مؤشّرات دخول الطفل في مرحلة التمييز.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

58

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 تمهيد

إنّ تقسيم مراحل الطفولة له دور رئيس في العمليات التربوية؛ لأنّ كلّ مرحلة من المراحل التي يمرّ بها الطفل تُعتبر ظرفاً لبعض الأحكام التربوية الخاصّة بها. وهناك عدّة تقسيمات لمراحل الطفولة عند علماء النفس والتربية، وضعت وفق معاييرهم التي اعتمدوها في المقام ليستفيدوا منها في التربية والتحليل النفسي. وهذه التقسيمات وإن كانت ذات فائدة عملية من بعض الوجوه، إلا أنّنا نُريد تقسيم مراحل الطفولة بنحوٍ يُمكننا من الاستثمار الإيجابيّ فيه بالنسبة لتربية الطفل في ضوء المنهاج الإسلاميّ. وفي هذا الدرس سنتوقّف عند النظرة الإسلامية إلى مراحل الطفولة1، ثم نعرض في الفقرات الأخيرة ثلاث نماذج من التقسيمات الأخرى للطفولة.
 
تقسيم مراحل الطفولة في النصوص الإسلامية
يُمكن ملاحظة مراحل الطفولة من زاويتي نظر في النصوص الإسلامية:
التقسيم الاستقرائيّ حسب المراحل
نقصد بالتقسيم الاستقرائيّ: تتبّع النصوص الشريفة للخروج بخلاصات عامّة عن تقسيم مراحل الطفولة - بالمعنى الأعم من الحقيقيّ والمجازيّ - بالنسبة لما يتعلّق بالتربية. ويُمكن تصنيفها بالاستقراء على النحو التالي:
1- مرحلة حسن اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر.
 
2- مرحلة الجماع، ما قبل الحمل الواقع منه تكوين الجنين.
 
3- المرحلة الصلبية، وحياة الطفل - بصورتها الأوّلية - تبدأ من النطفة التي هي مادّة



1 أنظر: عجمي، سامر توفيق، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، الفصل الثالث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

59

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 حاملة للفعلية القريبة الواقعة على صراط تكوين طفل فعليّ الوجود لاحقاً، يقول تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾1.

 
4- المرحلة الجنينية أي مرحلة الحمل.
 
5- المرحلة من 0 يوم حتى 7 أيام.
 
6- مرحلة الرضاع، من 0 سنة حتى 2.
 
7- مرحلة الحضانة، مرحلة ما قبل التمييز، من 0 سنة حتى 2/7 سنوات.
 
8- مرحلة التمييز، من 7 حتى البلوغ.
 
وقد تُضاف إليها بالاعتبار حكماً لا موضوعاً مرحلة تاسعة، هي:
9- مرحلة البلوغ السفهيّ غير الرشيد، التي يُمكن اعتبارها ملحقة بمرحلة الطفولة في بعض أحكام فقه التربية، لأنّ دخول الطفل إلى مرحلة البلوغ يكون على نحوين:
الأوّل: أن يدخل مرحلة البلوغ وهو رشيد، بمعنى أن تكون للبالغ ملكة نفسانية تقتضي تصرّفه ضمن حدود الصلاح اللائق بأفعال العقلاء، أي المرحلة التي يُحسن فيها التصرّف في شؤون نفسه وبدنه وماله بنحو يراه العقلاء عملاً مقبولاً، فلا يكون لأحد ولاية عليه.
 
الثاني: أن يدخل مرحلة البلوغ وهو غير رشيد، بمعنى أنّه لا يُحسن التصرّف في نفسه وماله وشؤونه، فلا تنفذ جميع تصرّفاته بحقّ نفسه بشكل مستقلٍّ على نحو الموجبة الكلية، بل يحتاج إلى رعاية الوليّ الشرعيّ، ويلحق بالطفل من جهة بقاء وليّه السابق مستمرّ الولاية عليه2. - سيأتي بحث هاتين النقطتين في الدرس الخامس عشر -.
 
ونُعيد التذكير، بأنّ هذا التقسيم للمراحل، ليس استنسابياً أو جزافياً، بل يترتّب على كلّ مرحلة منه أحكام وتشريعات فقهية وتربوية خاصّة3.



1 سورة الطارق، الآيات 5-7.
2 الصدر، محمد صادق، ما وراء الفقه، ج5، ص58.
3 مع الإشارة أيضاً إلى أنّ هذا التقسيم لا يعني الفصل الهندسي بين المراحل، بل قد تتداخل بعض المراحل من حيث الزمان والأحكام، ولكن كلّ مرحلة لها علامات مميّزة لها في فقه التربية ستظهر في موضعها الخاص كانت هي الميزان والملاك في تبويب هذا التقسيم، فمثلاً مرحلة أسبوع الطفل هي جزء من مرحلة الرضاع لكن لها أحكام تربوية خاصّة بها من غير جهة الرضاع، ومرحلة الرضاع هي جزء من مرحلة ما قبل التمييز لكن لها أحكام خاصة بها من جهة الرضاع، وهكذا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

60

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 الطفولة في اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل 

ورد في المادّة الثانية من ميثاق الطفل في الإسلام، الصادر عن اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل1، ما نصّه:
1 - تشمل رعاية الشريعة الإسلامية للطفل المراحل التالية:
1- اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر.
2- فترة الحمل والولادة.
3- من الولادة حتّى التمييز (مرحلة الطفل غير المميّز).
4- من التمييز حتّى البلوغ (مرحلة الطفل المميّز).
 
وتنشأ للطفل في كلّ من هذه المراحل حقوق تُلائمها2.
 
وهو تقسيم مقبول إلى حدٍّ ما، ونُسجّل عليه ملاحظة، وهي أنّه لم يُفصّل في ذكر عناوين المراحل، كالمرحلة الصلبية، والجُماعية، والأسبوعية، والرضاعية، والحضانية و... بل بقيت مطوية في تقسيم المراحل الأخرى، مع أنّ لها أحكاماً وتشريعات خاصّة بها بعنوانها.
 
2- تقسيم الـ: "ثلاث سبعات"
التقسيم الثاني الذي يُمكن أن يُستفاد من الروايات بشكل واضح هو التقسيم المعروف بـ: "ثلاث سبعات".
 
- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت خلائقه3 لإحدى وعشرين سنة، وإلا ضرب على جنبيه4، فقد أعذرت إلى الله"5.



1 وهي إحدى لجان المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة.
2 يراجع: مناع، حقوق الطفل-الوثائق الإقليمية والدولية الأساسية، ص79.
3 في نسخة مكارم الأخلاق: "أخلاقه".
4 في نسخة مكارم الأخلاق: " فاضرب على جنبه".
5 العاملي، محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج21، ص476، ح27627. والطبرسي، الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، ص222.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

61

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 - وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "يُربّى الصبي سبعاً، ويؤدّب سبعاً، ويُستخدم سبعاً..."1. وفي لفظ آخر: "يُرخى الصبي سبعاً..."2.

 
- وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلا فلا خير فيه"3.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين"4.
 
وقريب منها:
- عنه عليه السلام، قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، وألزمه نفسك سبعاً، فإن أفلح وإلا فإنّه ممّن لا خير فيه"5.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "أمهل صبيّك حتّى يأتي له ستّ سنين، ثمّ ضمّه إليك سبع سنين، فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح، وإلا فخلِّ6 عنه"7.
 
سرّ السنوات السبع الأولى
يظهر من خلال الروايات السابقة أنّ مرحلة السبع الأولى من حياة الطفل لها ميّزة خاصّة، لأنّ الطفل في هذه المرحلة قد خرج إلى عالم الحياة جاهلاً ضعيفاً فاقداً لكلّ كمال فعلي لا يملك أيّ تصوّر عن هذا العالم وليس لديه أيّ انطباع أو شعور واتّجاه نفسيّ انفعاليّ عنه أو أيّ مهارة سلوكية فيه، ويبدأ رحلته في اكتساب المعارف والقيم والاتجاهات والميول والمهارات والسلوكات المختلفة في الساحات المتعدّدة بالتدريج، وبطبيعة الحال يحتاج إلى فترة زمنية معيّنة ليتمّ له اكتساب تلك الأمور بنحو يصل إلى مرحلة عمرية يُصبح فيها قادراً على التمييز بين ما هو إيجابيّ وسلبيّ ولو بنحو إجماليّ، ويكوّن صورة أوّلية عن مفهوم الخطأ 



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص493، ح4746.
2 مكارم الأخلاق، ص223.
3 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص493، ح4743.
4 الكافي، ج6، ص47، باب تأديب الولد، ح3.
5 م.ن، ح1.
6 خلِّ: فعل أمر من خلى يخلي، بمعنى ترك. 
7 الكافي، ج6، ص47،ح2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

 


62

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 والصواب والحسن والقبيح والضارّ والنافع من تلك الأمور، فيحتاج في هذه المرحلة الأولى إلى إعطائه هامشاً من الحرّية والفسحة لأجل اكتشاف نفسه والأشياء المحيطة به، ولبناء خطوط علاقاته معها.

 
لذا، كان التوجيه التربويّ الإسلاميّ لوليّ أمر الطفل نحو إعطاء الطفل هامشاً من الحرّية وعدم تقييده بلوائح كثيرة من الممنوعات حتّى لا تُحاصر قدرته على اكتشاف الأشياء والتعرّف إليها ولمسها واختبارها بشكل شخصيّ، فعبّرت الروايات عن هذه المرحلة بعبارات مثل: "سيّد"، "أمهل"، "يرخى".
 
وباعتبار أنّ القدرة الاستكشافية لدى الطفل يتمّ إشباعها من خلال ما فطره الله تعالى عليه من أسلوب اللعب والنشاط الحركيّ، حثّت الروايات على ترك الطفل يعيش حياته بمناخ من اللعب، وبعد أن يمرّ الطفل بهذه المرحلة من اللعب والإمهال والإرخاء ليكتشف العالم المحيط به ويختبره يصل إلى مرحلة امتلاك قدرة التمييز بين الإيجاب والسلب، فيخرج من تلك المرحلة الأولى ويدخل في الثانية. وقد قدّرت الروايات المرحلة الأولى بـ 7 سنوات، وهذا ما أثبتته التجربة التربوية والنفسية كما سنوضحه في درس التربية باللعب، فترك الطفل في المرحلة الأولى من حياته بهذا النحو هو بحدّ نفسه تربية.
 
خصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة
إنّ لسنّ السابعة ميّزة خاصّة في النصوص الدينية، وهذا يُشير إلى أنّها نهاية مرحلة عمرية خاصّة وبداية أخرى بالنسبة للطفل، فالسبع الأولى هي مرحلة اللعب والإمهال (لا الإهمال)، أمّا السبع الثانية فهي بداية مرحلة التعليم والتأديب (الانتقال إلى مرحلة جديدة من التربية) كما اتّضح من النصوص السابقة. ونذكر بعض الروايات التي توضح خصوصية هذا السنّ.
 
ففي التربية الجنسية:
- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "فرّقوا بين أولادكم في المضاجع إذا بلغوا سبع سنين"1.



1 مكارم الأخلاق، ص223.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

63

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 - وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "... الغلام لا يُقبِّل المرأة إذا جاز سبع سنين"1.

 
وفي التربية العبادية:
- عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "... مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين"2.
 
لذا، عبّرت الروايات عن السبع الثانية بـ: "العبد"، "أدّبه"، "ألزمه نفسك"...، لأنّها مرحلة جديدة تحتاج إلى أصول وأساليب وتقنيات مختلفة.
 
معايير تحديد مرحلة التمييز
نُركّز النظر حول معايير تحديد مرحلة التمييز بسبب الخصوصية التي تتمتّع بها مرحلة دخول الطفل في سنّ السابعة، بحيث يُصبح في الأغلب طفلاً مميّزاً. ومفردة الطفل المميّز أو التمييز لم ترد في نصٍّ دينيٍّ يدلّ على تحديد معناها حتّى يُعتمد كمعيار في المقام، لذا لا بدّ من الرجوع إلى مدلول الكلمة في اصطلاح الفقهاء، ومع استقراء نصوص الفقهاء نخرج بالآراء التالية:
المعيار الأول: 6-7 سنوات حتّى البلوغ
تبنّى غالبية فقهاء أهل السنّة المعيار الزمانيّ لتحديد مرحلة التمييز، فهي تمتدّ من سنّ الـ6-7 حتّى مرحلة البلوغ3، وهو رأي بعض فقهاء الإمامية، ولعلّ منشأ ذلك عندهم هو الروايات السابقة التي تُفيد كون سن الـ7 يُشكّل مرحلة جديدة لها مستلزمات خاصّة في حياة الطفل.
 
قال الشيخ الطوسيّ: "... وإن كان طفلاً يُميّز وهو إذا بلغ سبع سنين أو ثمان سنين فما فوقها إلى حدّ البلوغ..."4.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص437، ح4510.
2 الكافي، ج3، ص409، باب صلاة الصبيان، ح1.
3 يراجع: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج1، ص158. والنووي، يحيى بن شرف، المجموع شرح المهذب، ج9، ص361.
4 الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف، ج5، ص131.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

64

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 وقال العلّامة الحلّي: "إذا بلغ الطفل سبع سنين،... لأنّ هذا السنّ يحصل فيه التمييز من الصبي..."1.

 
وقال الشيخ جواد التبريزي: "التمييز هو أن يُميّز الشيء القبيح من غيره، ويكون غالباً إذا بلغ الولد ستّ سنين... إذا أكمل الطفل ستّ سنوات فهو مميّز"2.
 
وسُئل الشيخ التبريزي: هل هذا - تحديد ضابط الصبيّ المميّز بالستّ سنوات - من باب تشخيص الموضوع؟ فلو شخّص المكلّف أنّ ابنه لم يُميّز (حتّى بعد بلوغ الستّ) يعتمد على تشخيصه أم لا؟ أجاب: "هذا التحديد وارد في الروايات"3.
 
المعيار الثاني: معرفة الحسن من القبح
قال الشهيد الثاني: "المراد بالمميّز مَنْ يعرف الأضرّ من الضارّ والأنفع من النافع، إذا لم يحصل بينهما التباس بحيث يخفى على غالب الناس"4.
 
وقال السيد محمد رضا الكلبايكاني: "الصبيّ إذا ميّز الحسن من القبيح، وفهم ما يفهمه الكبار فهو مميّز"5.
 
وقال الشيخ محمد علي الآراكي: "المميّز هو القادر على تشخيص القبيح والحسن"6.
 
وليس المراد من التمييز أن يكون الطفل قادراً على التفرقة بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع بشكل تفصيليّ وإنّما يكفي التمييز الإجماليّ.
 
وقد يُقال إنّ المعيار السابق لا يختلف عن هذا المعيار، لأنّه وكما عبّر الشيخ جواد التبريزي: التمييز هو أن يُميّز الشيء القبيح من غيره ويكون غالباً إذا بلغ الولد ستّ سنين، فيكون تحديد الفقهاء له بـ6 أو 7 سنوات من باب تشخيص المصداق، ولكن ينفيه أنّ جوابه بكونه وارداً في الروايات يوحي بأنّه من باب التعيين لا التشخيص.



1 تذكرة الفقهاء، ج4، ص335.
2 التبريزي، جواد بن علي، صراط النجاة، ج6، ص65.
3 صراط النجاة، م.ن.
4 العاملي، زين الدين بن علي، روض الجنان في شرح ارشاد الأذهان، ج2، ص648.
5 الكلبايكاني، محمد رضا، إرشاد السائل، ص128.
6 الآراكي، محمد علي، المسائل الواضحة، ج2، ص91.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

 


65

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 ولكن مع ذلك، فإنّ صريح عبارات بعض الفقهاء ممّن يتبنّى هذا الرأي يُفيد كون تحديد مرحلة التمييز بالـ 7 من باب تطبيق المعيار (وهو قدرة الطفل على التفرقة بين النافع والضارّ) على الطفل الخارجيّ والتشخيص للمصداق، لا من باب التحديد والتعيين.

 
المعيار الثالث: مرجعية النظرة العرفية
قال السيد محمد جواد العاملي: "المرجع في المميّز إلى العرف، لأنّه المحكّم في مثله"1.
 
المعيار الرابع: اختلاف التمييز باختلاف متعلّق التكليف
سُئِل السيد علي السيستاني: ما هو ضابط الصبيّ المميّز في مسألة جواز النظر إلى عورته، وجواز نظره إلى عورة الغير، وكون عباداته صحيحة، والاعتماد على أخباره؟
 
أجاب: "يختلف المميّز في كلّ مكان، ففي الأول المراد بالمميّز الذي يتأثّر من النظر إلى العورة أو النظر إلى عورته لو التفت وتتحرّك غريزته نسبياً، وفي اعتبار صحّة عباداته الذي يُميّز التكاليف وأنّ الأمر من قِبَل الله تعالى ويُمكنه قصد القربة، وفي الاعتماد على إخباره بالنجاسة إذا كان ذا اليد، إذا كان مميّزاً قوي الإدراك لها"2.
 
المعيار الخامس: اختلاف المميّز باختلاف الزمان والمكان والأفراد
سُئل السيد علي الخامنئي دام ظله: جاء في بعض الأحكام للصبيّ المميّز بأنّه الصبيّ الذي يُميّز الحسن من القبيح، فما هو المراد من الحسن والقبيح؟ وما هي سنّ التمييز؟
 
أجاب: "المراد من الحسن والقبيح هو ما يكون كذلك بنظر العرف، مع ملاحظة ظروف حياة الصبيّ والعادات والآداب والتقاليد المحلّية، وأمّا سنّ التمييز فهو مختلف تبعاً لاختلاف الأشخاص في الاستعداد والإدراك والذكاء"3.



1 العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة، ج6، ص432.
2 السيستاني، علي، الاستفتاءات، ص125-126.
3 الخامنئي، علي، أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص300، مسألة 822.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
92

66

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 الاستنتاج:

إنّ ما تقدّم في أقوال الفقهاء ليس معايير متعدّدة، وإنّما هو معيار واحد تمّ تسليط الضوء عليه من زوايا مختلفة، والمعيار هو: أن يصل الطفل إلى مرحلة عمرية تُصبح لديه ملكة التمييز بنحو إجمالي بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع في الحياة. وممّا لا شك فيه أنّ متعلّقات الحسن والقبح تختلف مجالاتها وساحاتها، فقد تتعلّق بأمور جنسية وأخرى سياسية وثالثة اجتماعية ورابعة مالية وخامسة عبادية... إلخ، وعليه سيختلف التمييز بلحاظ المتعلّق، كما سيتفاوت التمييز في الطفل نفسه بين شيء وآخر، وكذلك الأمر سيختلف التمييز بين طفل وآخر، وبين منطقة وأخرى... إلخ، ويكون مرجع تحديد أنّ هذا الطفل مميّز في هذا المجال أو ذاك هو النظرة العرفية الاجتماعية التي يعيش ويتحرّك الطفل داخل محيطها.
 
نعم، في الأعمّ الأغلب قد يكون بلوغ الطفل سنّ السابعة هو المُدخِل له إلى مرحلة التمييز لما ذكرناه في فقرتي: سرّ السنوات السبع الأولى وخصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة، ولهذا ركّزت الروايات على هذه السنّ.
 
وعليه، فإنّ الضابط الكلّي لتحديد التمييز ليس زمانياً بل معرفيّ، إلا بناءً على المعيار الأول، على تفسير، أي تُحدّد مرحلة التمييز بالسنّ 6-7 من باب التعبّد بالنصّ الشرعيّ، فيكون ميزان دخول الطفل في مرحلة التمييز هو نفس السنّ بغضّ النظر عن الحالة المعرفية لابن سبع سنوات.
 
تقسيم الطفولة على أساس مراحل نمو المعرفة وتأثير البيئة على النموّ1
اعتمد هذا التقسيم جان بياجيه (1896-1980)، حيث سلّط الضوء في أبحاثه على مراحل الطفولة من خلال ربطها بعملية تكوين المعرفة المتأثّرة بالبيئة المحيطة بالطفل، فقسّمها إلى خمس مراحل، هي:
1- المرحلة الأولى: الذكاء الحسّيّ- الحركيّ: من صفر يوم إلى سنتين (0-2).
 
2- الثانية: مرحلة الصور العقلية: (2-4 سنوات).



1 يراجع: سليم، مريم، علم نفس النمو، ص44-45.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

67

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 3- الثالثة: مرحلة الذكاء الحدسيّ: (4-7 سنوات).

 
4- الرابعة: مرحلة العمليات الحسّية أو الذكاء المحسوس: (7-12 سنة).
 
5- والخامسة: الذكاء المجرّد، سنّ 13 وما فوق.
 
تقسيم مراحل الطفولة في مدرسة التحليل النفسيّ1
وهو التقسيم المعتمد عند سيجموند فرويد (1856-1939) وأتباع مدرسة التحليل النفسيّ:
1- ما قبل الولادة: صفر يوم إلى 250-300 يوم.
2- حديث الولادة: الأسابيع الأولى عقيب الولادة.
3- المرحلة الفميّة: السنة الأولى.
4- المرحلة الشرجية: 1-3.
5- المرحلة القضيبية: 2-5.
6- مرحلة الكمون: 5-10.
7- مرحلة ما قبل البلوغ: 10-12 سنة.
8- مرحلة المراهقة: 13-20 سنة.
 
تقسيم مراحل الطفولة على أساس الخصائص الجسمية2
1- المرحلة الجنينية: ما قبل الولادة: وتمتدّ من صفر يوم إلى 250-300 يوم.
- بويضة: من صفر يوم إلى أسبوعين.
- جنين: من أسبوعين إلى 10 أسابيع.
- جنين متكامل: من 10 أسابيع إلى الولادة.
 
2- مرحلة الولادة:
- حديث الولادة: الأسبوعان الأوّلان عقيب الولادة.
- المهد: من أسبوعين إلى عامين.



1 للتفصيل يراجع: ن.م.
2 يراجع: الأشول، عادل عز الدين، علم نفس النمو من الجنين إلى الشيخوخة، ص38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

68

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 3- الطفولة: تمتدّ من: 3-12 سنة.

- المبكرة: 3-5 سنوات.
- الطفولة الوسطى: 6-10 سنوات.
- الطفولة المتأخّرة: 10-12 سنة.

4- المراهقة:
- المبكرة: 12-14.
- الوسطى: 14-17.
- المتأخّرة: 17-20.

وهذا الاختلاف بين الباحثين في تحديد مراحل الطفولة وتعيين أدوارها، إنّما هو بسبب اختلاف المعايير المعتمدة في هذا المجال، فمنها معايير معرفية، ومنها نفسية، ومنها فيزيولوجية...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

69

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ تقسيم مراحل الطفولة له دور رئيس في العمليات التربوية، لأنّ كلّ مرحلة من المراحل التي يمرّ بها الطفل تُعتبر ظرفاً لبعض الأحكام التربوية الخاصّة بها.

- يُمكن تقسيم مراحل الطفولة في النصوص الإسلامية من خلال زاويتي نظر، التقسيم الاستقرائيّ، وتقسيم الثلاث سبعات.

- التقسيم الاستقرائيّ للطفولة حسب المراحل يتضمّن: مرحلة حسن اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر، مرحلة الجماع الواقع منه تكوين الجنين، المرحلة الصلبية، المرحلة الجنينية، مرحلة من 0 يوم حتّى 7 أيام، مرحلة الرضاع، مرحلة الحضانة، مرحلة ما قبل التمييز من 0 سنة حتّى 7 سنوات، مرحلة التمييز من 7 سنوات حتّى البلوغ.

- تقسيم الـ: "ثلاث سبعات"، هو التقسيم المستخرج من الروايات، كما في قول الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلّا فلا خير فيه".

- يظهر من الروايات أنّ مرحلة السبع الأولى من حياة الطفل هي مرحلة اللعب لأنّه يخرج حديثاً إلى عالم لا يملك أيّ تصوّر وانطباع عنه ويريد أن يكتشفه، ويحصل ذلك خلال فترة سبع سنوات عادة، بحيث يُصبح قادراً على التمييز بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع، فتكون المرحلة الثانية التي تُسمّى مرحلة التمييز هي مرحلة التعليم والتأديب.

- ذُكرت عدّة معايير لتحديد مرحلة التمييز، خلاصتها: أن يصل الطفل إلى مرحلة عمرية تُصبح لديه فيها ملكة التمييز بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع في الحياة، ويختلف الحسن والقبح حسب اختلاف المجالات الحياتية من جنسية ومالية واجتماعية...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

70

الدرس الخامس: تقسيم مراحل الطفولة

 أسئلة الدرس

1- ما هو التقسيم الاستقرائيّ لمراحل الطفولة؟ عدّدها بالتفصيل.

2- ما هو سرّ تقسيم الثلاث سبعات الوارد في الروايات برأيك؟

3- ذكرت اللجنة الإسلامية تقسيماً لمراحل الطفولة، ما هي ملاحظتك عليه؟

4- ما هي خصوصية سنّ السابعة في النصوص الإسلامية؟

5- ما هو المعيار الذي نُحدّد من خلاله أنّ الطفل دخل مرحلة التمييز؟

6- هل يختلف التمييز من طفل إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر؟ لماذا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

71

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل  وقواه النفسيّة



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الأبعاد الثلاثة لهوية الطفل: العقلية، القلبية، البدنية.
2- يُميّز بين القوى الذهنية - الإدراكية المختلفة للطفل: الحسّية، الوهمية، العقلية.
3- يعرف وظيفة كلّ قوّة من القوى التخزينية والتذكرية التصرّفية في نفس الطفل.
4- يتعرّف إلى القوى القلبية - الجوانحية، والغرائز الفطرية في نفس الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

72

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 تمهيد

إنّ موضوع التربية ومتعلّقها في هذا الكتاب هو الطفل. وتختلف النظرة إلى طبيعة الطفل من فلسفة تربوية إلى أخرى، ممّا ينعكس على كيفية تربية الطفل ومجمل العمليات التربوية. فالجواب عن سؤال: كيف نُربّي؟ وعلى ماذا نُربيّ؟ يُحدّده الجواب عن سؤال: من نُربّي؟ وقد خصّصنا هذا الدرس للبحث حول ماهيّة الطفل من وجهة نظر علم النفس الفلسفيّ الإسلاميّ.

الطفل مخلوق مادّيّ روحيّ
إنّ الطفل في فلسفة التربية الإسلامية مخلوق مركّب من بعدين: مادّيّ وروحيّ، أي جسم يتمثّل بهذا الهيكل الحسّيّ، ونفس مجرّدة عن المادّة وخصائصها، دورها قيادة البدن وإدراة مملكته. والعلاقة بين هذين البعدين هي الارتباط التفاعليّ بنحو يؤثّر ويتأثّر كلّ واحد منهما بالآخر بنحو متبادل، فمثلاً إذا كان الطفل مريضاً بدنياً فسيؤثّر ذلك على إدراكه الذهنيّ وقوّة الحفظ لديه، وإذا كان الطقس حارّاً سيؤثّر ذلك على مزاجه وسرعة غضبه النفسيّ، وكذا العكس، فقد يكون وراء الأبعاد الذهنية والنفسية عوامل جسمانية وفيزيقية، يُعتبر البحث والكشف عنها عاملاً مهمّاً في تربية الطفل، فتربية أيّ بعد من البعدين ستنعكس بطبيعة الحال على البعد الآخر بسبب العلاقة التفاعلية بينهما.

البعد البدنيّ لشخصية الطفل
يُشكّل بدن الطفل وجسمه البعد المادّيّ من هويّته وشخصيّته، فجسم الطفل موضوع ومتعلّق لعمليّة التنمية والتنشئة. ونُطلق على تنمية البعد البدنيّ للطفل اسم "التربية الجسمية"، بمفهومها الواسع الشامل للرعاية الصحية والتغذية السليمة والوقاية والاهتمام
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

73

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 بالنظافة الجسدية والتدريب الرياضيّ والمهارات الحركية، والتجمّل والتزيّن... إلخ، لذا يُعتبر تكوين المعلومات الأوّلية عن جسم الطفل وخصائصه ومكوّناته من جهة، وكيفية تربيته جسمياً من جهة ثانية ولو بنحو إجماليّ أمراً ضروريّاً للمربّي. 

 
وهذا اللون من المعرفة من اختصاص علوم متعدّدة أهمّها علم الطبّ وعلم التغذية وعلم الرياضة وغيرها من العلوم. ولن نتوقّف في هذا الدرس عند تعريف جسم الطفل وبيان خصائصه وتشريح قواه، حيث سنعرض أثناء كلّ درس متعلّق بالتربيات المضافة إلى الجسم المقدار الملائم من المعلومات المتناسب مع طبيعة كلّ درس. وفي هذا الدرس سنُركّز محور الاهتمام على القوى النفسية الداخلية للطفل.
 
خروج الطفل من بطن أمّه جاهلاً
يقول الله تعالى: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾1.
 
تُبيّن هذه الآية القرآنية أنّ الطفل يأتي إلى الحياة فاقداً لأيّ لون من ألوان العلوم والمعارف التصوّرية والتصديقية2. يقول السيد محمد باقر الصدر مستشهداً بالآية المذكورة: "إنّ الإنسان لحظة وجوده على وجه الأرض لا توجد لديه أيّة فكرة مهما كانت واضحة وعامّة في الذهنية البشرية"3.
 
استعداد الطفل لتحصيل المعرفة
مع أنّ نفس الطفل في بداية الخلقة خالية من العلوم، إلا أنّ الله تعالى زوّده باستعداد خاصّ وأدوات معرفية محدّدة تُمكّنه من تحصيل العلم بنحو تدريجيّ تراكميّ4، كما تُفيده تتمّة الآية القرآنية السابقة في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾5.



1 سورة النحل، الآية 78.
2 يراجع: الحلي، الحسن بن يوسف، الأسرار الخفية في العلوم العقلية، ص7. والشيرازي، محمد، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج4، ص515.
3 الصدر، محمد باقر، فلسفتنا، ص63.
4 يراجع: الحكمة المتعالية، ج4، ص515. والميزان في تفسير القرآن، ج12، ص312.
5 سورة النحل، الآية 78.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

74

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 وهذه الأدوات المعرفية والقوى الإدراكية هي ما ستُشكّل محور الحديث في الفقرات الآتية.

 
القوى الذهنية - الإدراكية1
القوى الذهنية لنفس الطفل عبارة عن الأدوات والآلات التي يستطيع بواسطتها تحصيل المعارف وتكوين العقائد وفهمها وتخزينها واسترجاعها وتحليلها وتركيبها والاستنتاج منها... إلخ، وقد قسّم الفلاسفة المسلمون القوى الذهنية إلى عدّة أقسام، هي:
الإدراك الحسّي وأدواته
أوّل مرحلة إدراكية يمرّ بها الطفل في حياته تُسمّى الإدراك الحسّي أي المعرفة التي يحصل عليها من خلال استخدام الحواسّ. والحاسّة هي القوّة النفسية التي يُدرك الطفل بواسطتها الصور الجزئية للأشياء الخارجية المحيطة به في عالم الطبيعة والمادّة. ولكلّ حاسّة نفسانية أداة جسمانية خاصّة. وتتنوّع أدوات المعرفة الحسّية إلى خمس: الباصرة، السامعة، الشامة، اللامسة، الذائقة.
 
وكتوضيح لكيفية حصول العلم الحسّي في نفس الطفل نعرض المثال التالي: ينظر الطفل إلى أمّه، فيُصبح هناك اتصال حسّي بينه وبينها، فتنطبع صورة أمّه في ذهنه، وهذا اللون من العلم يُسمّى الإدراك الحسّي أو المعرفة الحسّية.
 
مع الإشارة إلى أنّ انطباع هذه الصور الحسّية في ذهن الطفل لا يعني بالضرورة أنّه ملتفت إليها وواعٍ بها بالمعنى الذي يُدركه الكبار، بل بالتكرار والتراكم والتدريج يحصل عنده العلم الحسّي الشعوريّ بها.
 
ويترتّب على كون المرحلة الأولى من حياة الطفل هي مرحلة الإدراك الحسّي أصول وأساليب وإجراءات تربويه عديدة في كيفية التعامل التربويّ مع الطفل، منها ما سنُشير إليه في درس التربية بالقدوة والنموذج السلوكيّ.



1 حول هذا التقسيم لقوى النفس يراجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

75

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 قوّة الوهم

ثمّ يتطوّر إدراك الطفل، فبالإضافة إلى القوّة الحسّية يُصبح مالكاً لقوّة إدراكية ثانية تُسمّى الوهم، وهو قوّة نفسية يستطيع أن يُدرك الطفل بواسطتها المعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات. والمقصود بالمعاني الجزئية الصفات التي لا تخضع بذاتها للملاحظة الحسّية، كخوف فلان، وحبّ فلان، فإنّ الخوف والحبّ معانيان جزئيان قائمان في نفوس الأشخاص الآخرين لا يُدركان بواسطة الحسّ. وبهذا يتّضح أنّ الفرق بين الحسّ والوهم يكمن في أنّ الأوّل قوّة إدراك الصور الجزئية المحسوسة كالألوان والأشكال والأصوات والروائح... والثاني قوّة إدراك المعاني الجزئية كالحبّ والخوف وغيرهما من الصفات القائمة في نفس معيّنة.
 
قوّة العقل
القوّة الإدراكية الثالثة للطفل، التي تُدخله في دائرة الإنسانية بالمفهوم المنطقيّ - لأنّ الإنسان لا يتميّز عن الحيوان بالمعرفة الحسّية، ولا بالمعرفة الوهمية - تُسمّى: "العاقلة" أو "العقل"، وهي لا تنشط في الطفل إلا بمرحلة عمرية متأخّرة من حياته.
 
والعقل هو قوّة إدراك المفاهيم والقضايا الكلّية في الأشياء. والمعاني الكلّية كما ندرس في علم المنطق هي المعاني الذهنية التي لديها قابلية الصدق والحمل على أفراد في الخارج، مثل مفهوم الإنسان، فنقول: محمد إنسان، جعفر إنسان، فاطمة إنسان... وهكذا.
 
العقل النظريّ والعقل العمليّ
وينقسم العقل بالاصطلاح الفلسفيّ إلى قسمين:
العقل النظريّ: وهو القوّة الذهنية التي يُدرك من خلالها الطفل في مرحلة عمرية معيّنة متقدّمة من حياته بعض المفاهيم والتصوّرات والقضايا والتصديقات الكلّية، المتعلّقة بالواقع الموجود، ويُميّز من خلالها بين الصحيح والخطأ في التصوّرات والتصديقات. مثل علمه ببعض القواعد الرياضية والقوانين الفلكية والبيولوجية والفيزيائية، أو بعض القضايا العقائدية... إلخ.
 
وباختصار، العقل النظريّ هو قوّة إدراك ما هو موجود وكائن في الواقع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

76

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 العقل العمليّ: وهو القوّة الذهنية التي يُدرك من خلالها الطفل في مرحلة عمرية معيّنة من حياته بعض القضايا المعيارية المتعلّقة بالعمل أي الواقع المطلوب إيجاده، ويُميّز به بين الحسن والقبيح كقيم ذاتية في الأفعال، مثل: الصدق واجب فعله، احترام الأبوين واجب فعله، الكذب لا ينبغي فعله، الاعتداء على الآخرين لا ينبغي فعله... إلخ.

 
وباختصار، العقل العمليّ هو قوّة إدراك ما ينبغي أن يفعله الإنسان باختياره أو لا يفعله كذلك.
 
وكون الطفل يمتلك قدرة التفكير العقليّ في مرحلة معيّنة سيكون له دور مهمّ عند الحديث عن التربية العبادية للطفل والتربية بالعقوبة وغيرهما، في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
 
القوى التخزينية عند الطفل
من الواضح أنّ نفس الطفل بالإضافة إلى إدراكها للأشياء تستطيع أن تحتفظ بالصور والمعاني التي تحصل عليها بواسطة القوى الإدراكية (الحسّ، الوهم، والعقل) في أوعية وخزائن معيّنة، يُطلق على كلّ خزانة منها اسم خاصّ حسب نوعية المدركات المحفوظة فيها.
 
1- الخيال: هو خزانة المدركات الحسّية الجزئية، فكلّ الصور الحسّية التي تحصل عليها نفس الطفل بواسطة الحواس - بعد غيبتها عن الحسّ - تحفظ في وعاء يُطلق عليه الفلاسفة اسم: "الخيال"، فالخيال وعاء حفظ المعلومات الواصلة عن طريق الحواسّ إلى نفس الطفل.
 
2- الحافظة: وهي خزانة المدركات الوهمية، أي أنّ المعاني الجزئية التي تحصل عليها النفس بواسطة قوّة الوهم تُخزّن وتُحفظ في وعاء نفسيّ يُسمّى: "الحافظة"، فالحافظة وعاء تخزين المعاني الواصلة عن طريق الوهم.
 
3- العقل الفعّال: وهو حافظ المدركات العقلية، أي أنّ المعاني الكلّية التصوّرية والتصديقية التي تحصل عليها النفس بواسطة قوّة العقل محفوظة في العقل الفعّال1.



1 يراجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج8، ص56، حاشية الملا هادي السبزواري، رقم: 1.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

77

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 القوّة التذكّرية عند الطفل

بالإضافة إلى القوّتين الذهنيتين السابقتين الإدراك والتخزين، توجد قوّة ثالثة في النفس، وظيفتها استرجاع واستعادة المعلومات المخزّنة والمحفوظة في النفس، ويُطلق عليها اسم: "الذاكرة" أو المسترجعة. فالذاكرة هي: قوّة ذهنية يستطيع الطفل بواسطتها أن يسترجع ويتذكّر الصور والمعاني الجزئية والكلّية.

القوّة المتصرّفة عند الطفل
القوّة المتصرّفة عبارة عن القدرة الذهنية للطفل على التصرّف في الصور والمعاني الجزئية والكلّية المحفوظة في الأوعية والخزائن المختلفة، على نحوين:
1- (الفصل) أي التجزئة والتحليل والتفكيك والتقشير والتجريد...

2- (الوصل) أي التركيب والتأليف والتجميع والربط والتعميم...

وبما أنّ الخزائن على ثلاثة أقسام، فإنّ هذه القوّة تختلف تسميتها باختلاف الخزانة التي تتصرّف فيها.

1- المتخيّلة: وهي عبارة عن تصرّف هذه القوّة بالصور الجزئية المخزّنة في الخيال تركيباً أو تحليلاً. كأن يتصوّر الطفل حيواناً مركّباً من: رأس حصان، ورقبة زرافة، وجسد ثور، وأجنحة نسر، فهو يُركّب بين صور مختلفة، وليس هذا التركيب أيضاً إلا فرع قوّة التحليل بنزع رأس الحصان عن الحصان وتصوّره مستقلّاً... إلخ. والمتخيّلة هي القوّة التي يستطيع الطفل بواسطتها إبداع الصور المتنوّعة وخلقها وابتكارها كما يتجلّى في فنّ الرسم مثلاً، حيث يرسم الطفل شكلاً معيّناً لم يأخذه من الخارج بواسطة الحواسّ مباشرة بل خلقته قوّته المتخيّلة...

2- المتوهّمة: وهي عبارة عن تصرّف القوّة المذكورة في المعاني الجزئية ونسبتها إلى الصور مثلاً، فيتصوّر الطفل أنّ فلاناً يُحبّ فلاناً، وهكذا... فالمتخيّلة تُركّب بين الصور أو تُجزّئ الصور. أمّا المتوهّمة فهي تُركّب بين المعاني والصور، أو تفصل المعاني عن الصور.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

78

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 3- المفكِّرة: وهي عبارة عن استعمال العقل لقوّة المتصرّفة في تحليل وتركيب المفاهيم العامّة والمعقولات والمعاني الكلّية والجزئية. وبواسطة هذه القوّة يكون الإنسان إنساناً أي كائناً مفكّراً، لأنّ التفكير عبارة عن استخدام العقل للمتصرّفة، باستخراج حدود الماهيات وأجزائها الذاتية وعناصرها الداخلية (الأجناس والفصول) والعرضية (العرض العامّ والخاصة)، فيكون قادراً على التعريف1، وبها يستخرج الحدّ الأوسط فيكون قادراً على الاستدلال وتركيب الأقيسة والبراهين2. وهكذا يُمكن أن يكون منطقياً بمعنى أنّه قادر على الانتقال من المعلومات التصوّرية إلى معرفة المجهولات التصوّرية (المفاهيم) بواسطة التعريف، ومن المعلومات التصديقية إلى معرفة المجهولات التصديقية (القضايا) بواسطة الاستدلال.

 
هذه هي مجموع القوى الذهنية - الإدراكية للطفل3، والتي هي قوى موجودة بأصل الخلقة والتكوين بالقوّة. لكن تفعيل وتنشيط عمل هذه القوى وتوجيهها وجعلها أقدر على إدارة نشاطاتها وتكوين مهارات خاصة في كيفية استعمالها لخروجها من الاستعداد إلى الفعلية ومن النقص إلى الكمال يحتاج إلى التربية والتعليم، ولا تستقيم من دون التعليم والتربية الإبستمولوجية، وتربية مهارات التفكير -سنتحدّث عنها في درس خاصّ-.
 
القوى القلبية - الجوانحية للطفل
يرى الفلاسفة المسلمون أنّه بالإضافة إلى القوى المتعلّقة بالعلم والإدراك، توجد قوّة أخرى متعلّقة بالعمل يُطلق عليها اسم القوّة العاملة أو القوّة المحرِّكة. ووظيفة هذه القوّة إدارة شؤون البدن وقيادة الجسم والتحكّم والسيطرة على أعضائه وجوارحه أمراً ونهياً،



1 كأن يُحلّل ماهية الإنسان إلى عناصرها الأوّلية : جوهر، جسم، نامٍ، حسّاس، متحرّك بالإرادة، ناطق مفكّر مدرِك للكلّيات. أو عناصرها العرضية، مثل: عالم، قادر، كاتب، ضاحك، ماشٍ...
2 مثل معرفته بقانون أنّ ارتفاع درجة حرارة الحديد علّة لتمدّده، فيقول مثلاً هذه الحديدة ارتفعت درجة حرارتها، وكلّ حديدة ارتفعت درجة حرارتها فهي متمدّدة، فهذه الحديدة متمدّدة. فمن خلال معرفة الحدّ الأوسط ارتفاع درجة حرارة الحديدة- يستدلّ على تمدّدها، ويُثبت التمدّد لها.
3 مع إعادة التأكيد والإشارة إلى أنّ بعض هذه القوى تتنشّط وتتفعّل في الطفل في عمر متأخّر نسبياً، بحيث يصل إلى مرحلة قوّة التجريد العقلي، وقد اعتبرها بعض علماء النفس المعرفي مثل جان بياجيه، أنّها تحصل في سنّ الـ13، مع إمكان المناقشة في ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

79

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 أي أنّ هذه القوّة هي التي تُصدر الأمر إلى عضلات الجسم وجوارحه وتطلب منها التحرّك وتدفعها نحو العمل (البعث)، أو للكفّ والترك والانقباض عن العمل (الزجر).

 
وتتوسّط القوّة العاملة القوى التالية1:
1- القوّة الفاعلة أو القدرة: وهي القوّة التكوينية في الطفل التي تهبه الاستطاعة على الفعل أو الترك، فهو إن شاء فعل وإن شاء ترك، وبعبارة أخرى هي القوّة المحرّكة للعضلات في الطفل للقيام بالعمل.
 
2- القوّة الباعثة: وتنقسم إلى قسمين:
أ- القوّة الشهوية: وهي القوّة التي تحرّك الطفل وتبعثه نحو جذب الملائم واللذّة والمنفعة والمصلحة لنفسه.
 
ب- والقوّة الغضبية: وهي القوّة التي تحرّك الطفل وتبعثه نحو دفع المنافر والألم والضرر والمفسدة عن نفسه.
 
أمّا مجموع الغرائز - ونعني بالغريزة كلّ ميل داخليّ في نفس الطفل جذباً أو دفعاً تجاه أمر ما - المتنوّعة المعجونة في نفس الطفل بأصل الخلقة والتي لا تحتاج إلى الكسب والاكتساب كغريزة الأكل والشرب، أو غريزة حبّ المعرفة وفضول الاستطلاع والاستكشاف، وغريزة التكيّف مع البيئة، الصراع من أجل البقاء، غريزة الميل إلى الجمال، وغريزة الخضوع والدهشة أمام الكمال... إلخ، فهي تعود في المحصّلة إلى واحدة من القوّتين السابقتين، لأنّ كلّ واحدة من هذه الغرائز إمّا تميل نحو جذب كمال ومصلحة ومنفعة أو نحو دفع نقص ومفسدة وضرر.
 
ونصطلح على مجموع هذه القوى اسم القوى القلبية -الجوانحية، وهي باختصار عبارة عن مجموعة الوظائف والأدوار التي يقوم بها القلب في الفعل والانفعال النفسيّ الداخليّ والذي يترك بصمته على الجسد والجوارح، فالإيمان من وظائف القلب وأعمال الجوانح، والإرادة من وظائف القلب، والعواطف والمشاعر الداخلية من وظائف القلب كالحبّ والشوق 



1 يراجع: جنود العقل والجهل، ص133-231-277. وتهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص37. وجامع السعادات، ص46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

 


80

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 والبغض والكراهة والخوف والفرح والسرور...

 
وهذه القوى العاملة مشتركة بين الحيوان والإنسان، والفرق بينهما في أنّ الحيوان يتحرّك معها على مقتضى طبيعته وغريزته التي خلقه الله تعالى عليها: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾1، ويُعبّر بعض الآيات عن هذا الحِراك الغريزي بالوحي: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾2. أمّا الإنسان فيحتاج إلى إخضاع القوى الشهوية والغضبية والغرائز إلى منطق العقل العمليّ وتعاليم الوحي، وإلا أصبح أكثر شرّاً من الأنعام والبهائم.
 
عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام فقُلتُ: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: "قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل.وركّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم"3.
 
وبعبارة أخرى على حدّ تعبير إيمانويل كانط يحتاج الطفل إلى ترويض التوحّش في داخله4، وهذا إنّما يحصل بالتربية، فالتربية الأخلاقية مثلاً تبني في الطفل المحتوى الداخليّ والملكات الفاضلة التي تُعتبر ضوابط لكبح غريزتي الشهوة والغضب في السلوك، فضلاً عن أنواع التربية الأخرى العقائدية والفقهية...، فحتى لا تكون صورة ولدي صورة إنسان وقلبه قلب حيوان5 يحتاج إلى التربية، فالتربية هي التي تصنع الطفل إنساناً حقيقة.



1 سورة طه، الآية 50.
2 سورة النحل، الآيتان 68-69.
3 الصدوق، محمد بن علي، علل الشرائع، ص5. ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾, سورة الأعراف، الآية 179.
4 ثلاثة نصوص، مصدر سابق، ص11.
5 عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فالصورة صورة إنسان، والقلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه، ولا باب العمى فيصدّ عنه". نهج البلاغة، ج1، ص153.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

81

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 فطرة حبّ الأنا

من الأمور التي فُطرت عليها نفس الطفل فطرة حبّ الذّات أو حبّ النفس أو عشق الأنا، يقول السيد محمد باقر الصدر: "حبّ الذّات -أي حبّ الإنسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصّة- طبيعيّ في الإنسان، ولا نعرف استقراء في ميدان تجريبيّ أوضح من استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل، الذي يُبرهن على ذاتيّة حبّ الذّات، بل لو لم يكن حبّ الذّات طبيعياً وذاتياً للإنسان لما اندفع الإنسان الأول -قبل كلّ تكوينة اجتماعية- إلى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته"1.
 
ويظهر من بعض العلماء أنّه يُرجِع مجموع الغرائز والقوى المختلفة حتّى غريزتي القوّة الشهوية والغضبية إلى غريزة حبّ الأنا. يقول السيّد الخوئيّ: "الإنسان يتحرّك نحو ما يراه نفعاً له، ويحذر ممّا يراه ضرراً عليه... (و) المنشأ فيه حبّ النفس، ولا اختصاص له بالإنسان، بل الحيوان أيضاً بفطرته يُحبّ نفسه ويتحرّك إلى ما يراه نفعاً له، ويحذر ممّا أدرك ضرره"2.
 
وليس المقصود بحبّ الذّات تلك الحالة السلبية المرضية من الأنانية والنرجسية، بل المراد من حبّ الذّات هو تلك الطاقة الإيجابية في داخل الطفل التي تهديه نحو أغراضه، وتُحرّكه لاحقاً نحو تحقيق أهدافه في الحياة.
 
فطرة عشق الكمال والنفور من النقص
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من الأمور الفطرية التي جُبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها... الفطرة التي تعشق الكمال... تجد هذا العشق والحبّ قد جُبل في طينته، فتجد قلبه متوجّهاً نحو الكمال... (و) من الأمور الفطرية التي فُطر الناس عليها هو النفور من النقص"3.



1 فلسفتنا، ص40.
2 البهسودي، محمد سرور، مصباح الأصول، تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص16.
3 المصدر نفسه، ص177-180. ويراجع: الخميني، روح الله، جنود العقل والجهل، تعريب أحمد الفهري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط1، 1422هـ-2001م، ص58.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

82

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 فممّا فُطرت عليه نفس الطفل بنحو تميل إليه بأصل الخلقة هو عشق الكمال وطلبه والسعي نحوه، والنفور من النقص، وبما أنّ معنى التربية هو الانتقال التدريجيّ بالطفل من النقص إلى الكمال، فإنّ نفس الطفل تميل إلى التربية بنحو فطريّ.

 
b
وبهذا يتبيّن أنّ حديثنا عن خلوّ نفس الطفل من المعارف بأصل الخلقة يتعلّق بالعلوم الحصولية من تصوّرات وتصديقات. وهذا لا يُلغي وجود جملة من المعارف الفطرية والحضورية الكامنة فيه بأصل الخلقة، يكون مغفولاً عنها، لكنّها متحقّقة بالفعل في نفس الطفل، أطلقت عليها النصوص الدينية اسم: "المعرفة الفطرية"، ويُطلق عليها بلغة الفلسفة والعرفان: "المعرفة الحضورية". وهذا ما جعل السيد الطباطبائيّ يقول بعدم عمومية الآية القرآنية المذكورة في بداية الدرس1 للمعارف الحضورية، وأنّ العموم فيها منصرف إلى العلم الحصوليّ، بمعنى أنّ المنفيّ فيها هو خصوص العلم الحصوليّ دون الحضوريّ2.
 
وهناك عدّة نماذج عن العلوم الفطرية المجبولة عليها نفس الطفل بأصل التكوين، منها: فطرة المعرفة التوحيدية، وفطرة الميل نحو القيم الدينية. ونقصد بالفطرة كما يُعرّفها الإمام الخمينيّ قدس سره: "الحال والكيفية التي خُلق الناس وهم متّصفون بها، والتي تُعدّ من لوازم وجودهم، ولذلك تخمّرت طينتهم بها في أصل الخلقة"3.
 
وسيأتي البحث عن هذه النقاط في درس التربية العقائدية للطفل.
 
وقد أدرجنا هذه المعارف والميول الفطرية تحت البعد القلبيّ - الوجدانيّ في هويّة الطفل.
 
الاستنتاج: أبعاد هوية الطفل
وبهذا يتّضح أنّ هويّة الطفل تتكّون من ثلاثة أبعاد:
1- البعد العقليّ - الذهنيّ، ويرتبط بالإدراك والمعرفة والتفكّر والتخيّل والتحليل



1 ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾, سورة النحل، الآية 78.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص312.
3 الخميني، روح الله، الأربعون حديثاً، ترجمة محمد الغروي، ص175.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

83

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 والتفسير والشرح والتركيب والتأليف والحفظ والتذكّر والفهم والبصيرة والتأمّل والتدبّر والنظر والتعقّل... إلخ.


2- البعد القلبيّ - الوجدانيّ، ويرتبط بالفطرة، والعاطفة، والغرائز، والميول الداخلية، والمشاعر والأحاسيس الوجدانية، والملكات الأخلاقية، والاتّجاهات...

3- البعد البدنيّ، ويرتبط بالجسد والجوارح والأعضاء والعمل والسلوك واللفظ والمهارات الحركية... إلخ.

وهذه هي أبعاد تربية الطفل، ولكلّ بُعدٍ من هذه الأبعاد ساحات خاصّة ذكرناها في الدرس الثالث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

84

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 المفاهيم الرئيسة

- الطفل كائن مادّيّ روحيّ يتركّب من نشأتين مادّية وروحية. والتربية تعني إشباع حاجات الجنبتين بشكل متوازن.

- يخرج الطفل من بطن أمّه جاهلاً لا يملك أيّ لون من المعارف، لكن فيه قابلية واستعداد تحصيل العلوم والمعارف بالتدريج من خلال: أدوات الإدراك الحسّي (الباصرة، السامعة، الذائقة، اللامسة، الشامّة)، وقوّة الوهم التي يُدرك بها المعاني الجزئية القائمة بالأجسام المحسوسة، مثل الحبّ والخوف والشجاعة و...، وقوّة العقل المدرِك للمعاني الكلّية والقضايا العامة.

- لدى الطفل قدرة على تخزين المعلومات في أوعية متنوّعة حسب نوع المدرَكات، فيخزن المعلومات الحسّية في الخيال، والمعلومات الوهمية في الحافظة، والمعلومات العقلية مخزونة في العقل الفعّال. ولديه قدرة على استرجاع تلك المعلومات وتذكّرها.

- لدى الطفل قدرة على التصرّف في المعلومات المخزّنة في الأوعية الحافظة المختلفة، من خلال التحليل والتفكيك والتجريد والتركيب والتأليف والتعميم.

- بالإضافة إلى قوّة الإدراك والحفظ والتذكّر والتصرّف، توجد عند الطفل قوى فطرية -غريزية تُحرّكه نحو جذب الملائم واللذّة، ودفع الألم والضرر، وبها يعيش الأحاسيس والمشاعر والميول العاطفية المختلفة تجاه الأشياء حبّاً وبغضاً، وتشمل القوى القلبية الملكات النفسانية من الفضائل والرذائل، والإرادة...إلخ.

- تشمل تربية الطفل على ثلاثة أبعاد: الأول: البعد العقليّ -الذهنيّ، ويرتبط بالإدراك والمعرفة والتفكّر والتخيّل والتحليل والتركيب والتذكّر والفهم والبصيرة والتأمّل والتدبّر والنظر والتعقّل... إلخ. الثاني: البعد القلبيّ - الوجدانيّ، ويرتبط بالفطرة، والعاطفة، والغرائز، والميول الداخلية، والمشاعر والأحاسيس الوجدانية، والملكات الأخلاقية، والاتجاهات... والثالث: البعد البدنيّ، ويرتبط بالجسد والجوارح والأعضاء والعمل والسلوك واللفظ والمهارات الحركية... إلخ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

85

الدرس السادس: أبعاد هوية الطفل وقواه النفسيّة

 أسئلة الدرس

1- برأيك هل الجواب عن سؤال: كيف نُربّي؟ وعلى ماذا نُربّي؟ يُحدّده الجواب عن سؤال: من نُربّي؟ علّل ذلك.

2- ما هي أهمّية فهم طبيعة العناصر التي تتركّب منها شخصية الطفل بالفطرة في العمليات التربوية؟ وكيف تؤثّر على ذلك؟

3- ما هو الدليل على أنّ الطفل يولد خالي النفس من أيّ لون من المعارف والعلوم؟

4- ما هي أدوات الإدراك الحسّيّ عند الطفل؟

5- لو لم يكن الطفل مجهّزاً بقوى يستطيع أن يُخزّن فيها المعلومات والمعارف التي يتعلّمها، هل كان باستطاعته استرجاعها؟ وما الذي كان سيحصل برأيك؟

6- ما هو دور القوى القلبية والغريزية في حياة الطفل؟

7- هل فطرة حبّ الأنا المجبول عليها الطفل بأصل الخلقة إيجابية أم سلبية؟ علّل ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

86

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف النظريات الثلاث حول طبيعة فطرة الطفل ويناقشها.
2- يعتقد بإمكانية تغيير هويّة الطفل بالتربية والتعليم والتأديب.
3- يُحدِّد مجالات الخيرية والشرّية والحيادية في هويّة الطفل.
4- يعرف أنّ من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

87

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 تمهيد

إنّ تسليط الضوء على طبيعة الطفل وحقيقة فطرته يُعتبر من الأبحاث المهمّة من حيث الجواب عن السؤالين البنيويّين التاليين:
السؤال الأوّل: ما هي طبيعة التركيبة الفطرية للطفل بأصل الخلقة، هل هي طبيعة شرّيرة أم خيّرة أم حيادية؟ حيث إنّ تحديد الجواب عن هذا السؤال بأيّ من الافتراضات السابقة يُغيّر من المسار في كيفية تربية الطفل.
 
السؤال الثاني: هل طبيعة الطفل وفطرته ثابتة غير قابلة للتغيير أم أنّها تتبدّل من حال إلى حال؟ وبعبارة أخرى: هل الطفل الذي يولد شرّيراً بطبعه - بحسب بعض النظريات - يستحيل تغييره بالتربية أم يُمكن تغييره؟ لأنّه إذا كان الجواب بأنّ شخصية الطفل ثابتة لا تتحوّل فهذا يعني عبثية التربية للطفل.
 
في الجواب عن السؤال الأول يُمكن رصد ثلاث نظريات1:
النظرية الأولى: شريّة طبيعة الطفل
يرى أصحاب هذه النظرية أنّ طبيعة الطفل تميل إلى الأخلاق الذميمة، بمعنى أنّ نفس الطفل جُبلت بأصل الخلقة على الشرّ، وعُجنت طينته بالرذيلة والأطباع الخبيثة والسيّئة، فـ "الشرّ جزء من تكوينه النفسيّ، وبه يندفع إلى العدوان والانحراف. وقد عبّر عن هذه النظرة المتشائمة بعض رجال الدين المسيحي"2. ويترتّب على هذه النظرية أن "تقوم التربية باستخدام وسائل العنف والقسوة لانتزاع الشرّ منه"3.



1 يراجع: العطاران، محمد، تربية الطفل وفقاً لآراء ابن سينا والغزالي والطوسي، ص27-30.
2 أبو دف، محمود خليل، مشكلة العقاب البدني في التعليم المدرسي وعلاجها في ضوء التوجيه التربوي الإسلامي، مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد السابع، العدد الأول، يناير 1999.
3 تركي، عبد الفتاح ابراهيم، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
117

88

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 النظرية الثانية: حيادية طبيعة الطفل

ترى هذه النظرية أنّ الطفل يميل بنحو متساوٍ إلى الخير والشرّ، وبعبارة أخرى إنّ نفس الطفل "من طبيعة محايدة، وإنّما يلحق الفساد بهذه الطبيعة نتيجة لفساد التربية التي يتلقّاها"1. يقول سعيد إسماعيل علي في هذا السياق: "الإشكالية التي شُغل بها الفكر الفلسفيّ والتربويّ والأخلاقيّ من حيث التساؤل عمّا إذا كان الإنسان بطبعه خيّراً أو شرّيراً هي إشكالية زائفة، ذلك أنّ الطبيعة الفطرية للإنسان محايدة، صفحة بيضاء، مثلها مثل المادّة الخام"2.
 
النظرية الثالثة: خيرية فطرة الطفل
يعتقد أصحاب هذه النظرية بعكس النظرية الأولى، أنّ طبيعة الطفل وفطرته جُبلت على حبّ الخير، فهو يميل إلى الخير والصلاح بأصل الخلقة.
 
وقفة مع النظريّات الثلاث
سنُحاول في هذه الفقرة التوقّف عند بعض النقاط التي ستُمهّد الطريق لتبنّي الرأي الذي نراه أقرب للصواب من ضمن النظريّات السابقة في الجواب عن السؤال الأول، وسيتّضح بنحو جليّ أيضاً موقفنا من الجواب عن السؤال الثاني خلالها بالتبع.
 
أولاً: لا ريب في أنّ الطفل في مراحل الطفولة المبكرة وما قبل سنّ التمييز، لا يعرف معنى الخير أو الشر، فإن سُلّم جدلاً بميل طبيعة الطفل نحو أيٍّ منهما فهو ميل فطريّ جبلّيّ غير واعٍ.
 
ثانياً: لا يُمكن إنكار وجود ردّات فعل طبيعية في الطفل بأصل الخلقة هدته إليها يد الله تعالى، والمقصود بها السلوكات الصادرة عن الغريزة والتي تُسبّبها القوى الطبيعية (الشهوية والغضبية) المجبول عليها الإنسان بأصل الفطرة، كالخوف أو الحبّ... إلخ. ولكن يُطرح السؤال: هل ردّات الفعل النفسانية الطبيعية هذه هي خير أم شرّ أم حيادية؟



1 تركي، فلسفة التربية- مؤتلف علمي نقدي، ص32.
2 علي، سعيد إسماعيل وفرج، هاني عبد الستار، فلسفة التربية رؤية تحليلية ومنظور إسلامي، ص299.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
118

 


89

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 الحقيقة، إنّ النظر إلى ردّات الفعل هذه بلحاظ القوى النفسية الناشئة منها أي بالنظر إلى نفس القوّة الشهوية أو الغضبية لا بدّ من أن يدخل في دائرة الحسن والخير، لأنّ الله تعالى لا يخلق إلّا ما هو حسن جميل، يقول تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾1، فهذه القوى النفسية تعمل بأصل الفطرة بحسب ما يقتضيه طبعها المسخّرة له، إنّما تكمن المشكلة في كيفية توظيف هذه القوى النفسية وتسييرها في أيّ اتّجاه.

 
وبناءً عليه، وظيفة التربية ليست استئصال هذه الغرائز والانفعالات والأحاسيس النفسية واقتلاعها من جذورها، لأنّ ذلك مستحيل، فكلّ ما زرعته يد الله تعالى بأصل الخلقة يستحيل استئصاله، نعم، يُمكن التعمية عليه ودسّه ودفنه في دائرة الظلمة. فلا يُمكن للتربية إزالة فطرة حبّ الأنا من نفس الطفل، ولا استئصال القوة الداخلية المحرّكة له نحو الحبّ أو البغض أو الخوف أو الحياء أو... بل هو إيجاد حالة من التحكّم والقيادة والسيطرة على هذه الانفعالات بنحو ينضبط السلوك على ضوء التعاليم التربوية الحسنة والجميلة، لذا يُقال بأنّ التربية وظيفتها الدفع وليس الرفع والاستئصال2.
 
فليس من المعقول تربية الطفل بالطلب منه أن لا يغضب أو لا يشتهي بعض الأشياء، فإنّ هذه الحالات النفسانية أمور طبيعية في ذات فطرته غير قابلة للإزالة، وإنّما المطلوب هو ضبطها وتوجيهها وإرشادها، لا قمعها وكبتها. وإذا أردت أن تُطاع فاطلب المستطاع.
 
ثالثاً: إذا كان المقصود بميل الطفل نحو الخير أو الشرّ بأصل الخلقة هو ذلك النحو من الميل الفطري الجبري الذي يُمانع الاختيار وإمكانية التغيير، فهذا ممّا لا يُمكن قبوله انطلاقاً من عقيدتنا بأنّ الإنسان كائن حرّ مختار، لذا لا بد من البحث عن الميل الفطري نحو الخير أو الشرّ بمعنى يُحافظ على اختيارية الطفل وإمكانية التغيير. لأنّنا نُنكر صحّة نظرية المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، التي تعتقد بأنّ الملكات الأخلاقية في الطفل وبالتّالي السلوك الصادر عنها طبيعيّ بأصل خلقته، بمعنى أنّ كلّ طفل يولد مزوّداً بأخلاق تقتضيها طبيعة هويّته على نحو الضرورة، وبالتّالي فإنّ هذه الأخلاق الطبيعية ثابتة وغير قابلة للتغيير



1 سورة السجدة، الآية 7.
2 جامع السعادات، ج1، ص49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

90

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 والتبديل، ويترتّب على ذلك عدم جدوائية وفعالية العمليات التربوية التي تهدف إلى إكساب الطفل ملكات أخلاقية وسلوكات على خلاف مقتضى طبيعته.

 
وقد ناقش فلاسفة الأخلاق المسلمون كمسكويه، الغزالي، الطوسي، الكاشاني، والنراقي، وغيرهم هذا المذهب في كتبهم بنحو تفصيليّ1، حيث ردّوا المذهب الطبيعيّ في الأخلاق، بأنّه لو كان صائباً لأُلغيت الشرائع والديانات، ولبطلت تعاليم ووصايا الأنبياء، ولكانت الدعوة إلى التهذيب والتزكية والتأديب وتحسين الأخلاق... عبثاً ولهواً، وجلّ الله تعالى وأنبياؤه عن اللغو والعبث.
 
كما أنّ التجربة التربوية العملية تفيد بإمكان إزالة الخلق بالأسباب الخارجية من التأديب والنصائح وغيرهما. فزرع القيم التربوية وتعديل سلوكات الطفل أمر ممكن فعلاً بالوصايا والمواعظ والنصائح والإرشاد.
 
يقول الإمام السيد عليّ الخامنئيّ دام ظله: "صناعة الإنسان وتشكيل وبناء الإنسان المطلوب في الإسلام هو أمر يحصل بالتربية. فإنّ كلّ الناس لديهم قابلية التربية. قد يتقبّل البعض التربية متأخّراً والبعض أسرع، فالبعض قد تترسّخ التربية لديه وتدوم أكثر والبعض قد تُفارقه بسرعة أكبر، لكن كلّ الناس معرّضون للتغيير والتبدّل الذي يحصل بالتربية"2.
 
رابعاً: وبذلك يظهر أيضاً أنّ الأخلاق والسلوكات الحسنة ليست وليدة الطبيعة لأنّ ما هو طبيعيّ لا تُمكن إزالته وتغييره. نعم الطبيعيّ والفطريّ هو مبادئ وقوى وقابليات واستعدادات تلك الأخلاق والأفعال، أمّا كيفية استخدام هذه القوى والمبادئ فهو خاضع لإرادة الإنسان وخاضع للتربية3.
 
يقول الشيخ جعفر السبحاني: "إنّ للإنسان ماهيّتين: أولاً: ماهيّة عامّة يتكوّن معها ويتولّد بها. وثانياً: ماهيّة خاصّة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل... أمّا الطبيعة العامة، فهي عبارة عن الطاقات والمواهب الإلهية المودعة في وجوده وهي ميول طبيعية تسوقه إلى



1 يراجع مثلاً: الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج8، ص101. والنراقي، جامع السعادات، ج1، ص46-49.
2 من كلمة للسيد علي الخامنئي في لقاء المعلمين والتربويين بمناسبة أسبوع المعلم بتاريخ:07/05/2014. على الرابط التالي: htt p://www.almanar.com.lb/wa padetails. php?eid=840376.
3 أرسطو، أخلاق نيكوماخوس، ص36-37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

91

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 نقطة خاصّة فيها سعادته أو شقاؤه، وقد أعطى سبحانه زمامها بيد الإنسان المختار في كيفية الاستفادة منها كمّاً وكيفاً... وأمّا الطبيعة الخاصّة، فهي عبارة عمّا يتكوّن في نفس الإنسان من الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأوّلية، إفراطاً أو تفريطاً أو اعتدالاً"1.

 
وتربية الطفل في جعله يميل إلى أحد الاتّجاهين إنْ خيراً أو شرّاً إنّما تحصل من خلال تكرار الأعمال المتشابهة بالدربة والعادة لمدّة زمنية معيّنة وطويلة غالباً، فهو الذي يؤدّي إلى إيجاد الصفات الحسنة أو السيّئة في نفس الطفل، لا أنّ الصفات الحسنة بمعنى الملكات موجودة بالفطرة. وهذا يؤكّد أهمّية عدم الإهمال والإغفال للعادات السيّئة التي قد يكتسبها الطفل تحت عنوان أنّه ما زال صغيراً، بل ينبغي الانتباه واليقظة في إيجاد العادات الحسنة عند الطفل حتى لو لم يعِ حسنها، لأنّها ستتحوّل لاحقاً إلى طبيعة ثابتة فيه وتُصبح خلقاً تصدر عنه الأفعال بسهولة.
 
وبهذا يظهر أنّ التربية ليست مجرّد عملية إعطاء المعرفة وإكساب العلم، وبالتّالي يحصل السلوك تلقائياً، بل التربية هي عملية تنمية اتّجاهات وزرع وتفتّح قيم وتغيير سلوك وإكساب مهارات بالدربة والعادة كي يتّجه الطفل نحو الهدف المطلوب. فالمعارف التي يتلقّاها المتربّي لا تُحرّكه أوتوماتيكياً تجاه السلوك، وإن كانت المعرفة واحدة من مبادئ الفعل. وفي نفس الوقت حذراً من الوقوع في فخّ تحوّل الطفل إلى مجرّد آلة فيزيائية يصدر عنه العمل نتيجة العادة من دون الإحساس بالشحنة القيمية التي تُحرّكه، لا بدّ من إعطاء جرعة إضافية إلى جانب التعويد، وهي جرعة أن يكون العمل الذي تعوّد عليه الطفل صادراً عنه عن قناعة ورغبة وإرادة ذاتية وشعور بالمسؤولية.
 
وبمعنى آخر لا ينبغي تربية الطفل بنحو يصدر عنه الفعل تحت وطأة الشعور بالحاجة إلى العمل لمجرّد إلحاح تكرار العادة (الإدمان)، بل أن يصدر العمل عن الطفل في المرحلة العمرية التمييزية على أقلّ تقدير انطلاقاً من الوعي بالقيم وانتهاء إلى الوعي بالنتائج. وإلا فإنّ تعويده على قيم معيّنة موجبة أو سالبة من دون وعي وقناعة ورغبة قد يكون السبب في



1 المكي، حسن محمد، الإلهيات على ضوء الكتاب والسنة العقل محاضرات الشيخ جعفر السبحاني-، ج1، ص681.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

92

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 إضعاف الإرادة من ناحية توليد العجز عن مقاومة المتغيّرات، ممّا سيجعله يُعرض عنها بمجرّد أن يصل إلى مرحلة عمرية يُصبح فيها قادراً على الانتخاب والتمييز، أو عرضة لمؤثّرات بيئية معيّنة (مدرسة، صداقة...)، مما يؤدّي إلى انعطافة وتحوّل سريع في أخلاقه وسلوكه، أمّا العادة المنطلقة من إرادة ووعي تمنح الطفل القدرة على التغلّب على كلّ المتغيّرات، بل على طبيعته أيضاً1.

 
خامساً: يظهر من بعض العلماء المسلمين تعارض مجموع آرائه في كتاباته حول الموضوع2. وفي الحقيقة لا تعارض بين وجهات النظر الثلاث، فإنّ كلّ تعبير ناظر إلى حيثية من حيثيات طبيعة الطفل وإلى قوّة من قواه، فإنّ الطفل له قوى متعدّدة، وبلحاظ كلّ قوّة يُمكن التوصيف بالخير أو الشرّ أو الحياد، فإنّ نفس الطفل بلحاظ كونها من نور الله تعالى وروحه فهي خير وتميل إلى الخير، وبلحاظ قوّة الشهوة والغريزة تميل إلى الشرّ، وبلحاظ كونها مختارة هي مستعدّة لكلّ واحد من الطرفين، بمعنى أنّها غير مجبرة على أحدهما دون الآخر، وإنّما تسير باتّجاه الخير أو الشرّ نتيجة عوامل خارجية لا ذاتية، أي نتيجة التربية والتأديب والتعليم والبيئة... إلخ.
 
الرأي المختار في المسألة
انطلاقاً ممّا تقدّم، نقول إنّ طبيعة الطفل خيّرة بالطبع وبأصل الفطرة، كما تُفيده النصوص الدينية التي تتحدّث عن الفطرة التوحيدية. ولكنّ الطفل على الرغم من ميله الفطريّ بحسب الصبغة الإلهية إلى الخير ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾3، لا ينتفي ويرتفع



1 يراجع: الطوسي، نصير الدين، أخلاق ناصري، ص101-103.
2 فمثلاً نرى الغزالي في موضع يقول: "حبّ الإنسان للحكمة والخالق عزّ وجلّ والمعرفة والعبادات لن يُماثل الرغبة في الأكل، إذ إنّه من مقتضيات طبيعة الإنسان، وذلك لأنّ قلب الإنسان من الأمور الربّانية فيما يعد اندفاع الإنسان إلى الرذائل من مقتضيات الشهوة، ولا علاقة له بالطبيعة". كيماء السعادة، ج3، ص499. وفي موضع آخر من نفس الكتاب، ص37، يقول: "اعلم أنّ النفس مجبولة على الابتعاد عن الخير والتعلّق بالشر، وترغب في التقاعس والشهوة". وفي كتاب آخر يقول: "إنّ الصبيّ أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة، وهو قابل لكلّ نقش ومائل إلى كلّ ما يمال به إليه، فإن عوّد الخير وعلّم نشأ عليه، وسعد في الدّنيا والآخرة، شاركه في ثوابه أبواه، وكلّ معلّم له ومؤدّب، وإن عوّد الشرّ وأهمل شقي وهلك". إحياء علوم الدين، ج8، ص130. وهذا الرأي يظهر منه أن الطفل مجبول على الخير بمعنى أن نفسه تميل إلى الخير أكثر من الشر.
3 سورة الشمس، الآية 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

93

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 استعداده النفسيّ للسير في الاتّجاهين معاً نتيجة عوامل خارجية كالتربية والبيئة وداخلية كالتفاعلات النفسية مع الأشياء ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾1، فبسبب عنصر الاختيار يكون لديه استعداد للسير في اتّجاه الخير أو اتجاه الشرّ وهو بهذا المعنى حياديّ، ولكن أيضاً بسبب ضعفه وحاجته وعدم إدراكه ووعيه ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ﴾2، "ضعف الإدراك والجسم في الأطفال"3 من جهة، ونتيجة قواه الحيوانية لأنّه لم يتشكّل على صورة إنسان بعد من جهة ثانية، وبفعل عدم وجود قيم عقلية ودينية تُسيّر تصرّفاته، سيتحرّك على مقتضى ما تُمليه عليه قواه الطبيعية، وبالتّالي سيميل إلى ما تأمره به قوّة الشهوة والغضب وحبّالأنا، ممّا يترتّب عليه آثار ونتائج سلبية وغير حسنة، فهو للسير في اتّجاه الشرّ نتيجة ضعفه وجهله ونقصه وحاجته أوفق ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾4، ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾5، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾6. وهنا يأتي دور التربية في الأخذ بيد الطفل والسير به في أيّ اتجاه من الاتجاهات، فالطفل في المحصّلة هو صناعة التربية.

 
والتربية قبل ولادة الطفل لها دور في تكوين استعدادات خاصّة فيه، بحيث يولد مجهّزاً بتلك الاستعدادات حتى بالوراثة، ويُصبح فيما بعد من الصعوبة - وليس المستحيل - تدارك تلك الاستعدادات وتحويلها عن مسارها الذي رسم في شخصية الطفل.
 
وبناءً عليه، نفهم رأي نصير الدين الطوسي في أنّ الطفل يميل إلى الأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقص والحاجة7. فهذه النظرية التي يتبنّاها الطوسي ليست في مقام البيان من جهة الفطرة والجبلّة، وإنّما في مقام البيان من جهة العمل والسلوك، بمعنى



1 سورة الإنسان، الآية 3.
2 سورة الروم، الآية 54.
3 مغنية، محمد جواد، التفسير المبين، ص538. ومغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، ج6، ص151. قال:" ضعف البنية والإدراك في الطفل". ويراجع: مجمع البيان، ج8، ص485. في تفسير الآية: "خلقكم أطفالاً لا تقدرون على البطش، والمشي، والتصرفات". وشبّر، عبد الله، تفسير القرآن الكريم، ص390، قال: "أي ابتدأكم أطفالاً ضعافاً". والميزان في تفسير القرآن، ج16، ص215، قال: "أي ابتدأكم ضعفاء، ومصداقه على ما تفيده المقابلة أول الطفولية".
4 سورة الأحزاب، الآية 72.
5 سورة النساء، الآية 28.
6 سورة يوسف، الآية 53.
7 أخلاق ناصري، ص280-284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

94

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 أنّ الطفل لأنّه ليس كائناً عقلائيّاً ومتشرعيّاً، فإنه سيميل إلى طاعة الغريزة والشهوة، وهي بطبعها تُحرّكه نحو تحقيق ما فيه لذّته الشهوية والمادّية، وبعبارة أخرى إنّ الطفل لو خُلّي وقواه النفسية الشهوية والغضبية مع جهله وضعفه وعدم تزوّده بقضايا العقل العمليّ والوحي كضوابط للقيم والسلوك، سيجعل قواه تجذبه نحو تحقيق ما يُلائمها ويُنافرها، وهو بحسب الغالب يكون سيراً باتّجاه القبح أكثر منه نحو الحسن، لذا يُنبّه في هذا المجال فيقول الطوسي: "عندما تتمّ أيام رضاعه يجب الانشغال بتأديبه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة قبل أن يتعوّد على الأخلاق الفاسدة، إذ يكون الطفل مستعدّاً لها، وأكثر ميلاً للأخلاق الذميمة بسبب ما في طبيعته من النقصان والحاجة"1.

 
وفي ذات السياق، يقول الفيض الكاشاني: "إنّ الصبيّ إذا أُهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأكثر رديّ الأخلاق، كذّاباً، حسوداً، سروقاً، نمّاماً، لجوجاً، ذا فضول وضحك، وكيّاد، ومجانة، وإنّما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب"2.
 
إذاً، لا تنافي بين النظرية التي ترى أنّ الطفل خيّرٌ بطبعه وبين ما يذهب إليه بعض الحكماء المسلمين في بعض كلماته من ميل الطفل إلى الشرّ والأخلاق الرذيلة، فإنّ النظرية الأولى تُفيد أنّ طبيعة الطفل بأصل الفطرة تميل إلى الخير والتوحيد وقبول الدين، ولكن هذا لا يعني أنّه تلقائياً لو خُلّي الطفل وطبعه وبيئته وتربيته ستذهب نفسه في هذا الاتّجاه، بل تسلك اتّجاهاً آخر يتناسب مع البيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية، لأنّ الميل الفطريّ نحو الخير لا يُنافي الاستعداد الطبيعيّ بسبب قوّة الاختيار الكامنة فيه إلى الطرفين معاً. وبهذا التفسير نفهم قول الإمام عليّ - لولده الحسن - عليهما السلام: "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قِبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك"3، بنحو لا يتنافى مع قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ مولود يولد على الفطرة"4.



1 أخلاق ناصري، ص280.
2 الفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص125.
3 نهج البلاغة، من وصية له لولده الحسن كتبه إليه بحاضرين منصرفاً من صفين، رقم269، ص526.
4 الصدوق، محمد بن علي، التوحيد، ص363.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

95

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

b

نختم الدرس بنقطة بنيويّة في كيفية التعامل التربويّ مع الطفل، وهي أنّه سواء أكانت طبيعة الطفل خيّرة أم شرّيرة أم حيادية، فإنّ هذا لا يعني أنّ الطفل لن يقع فيما نراه نحن الراشدون أنّه خطأ أو خطيئة، لأنّ الطفل نتيجة جهله المطلق وضعفه ونقصه يسير في طور الاكتشاف لذاته وللمحيط من حوله، ومن الطبيعيّ أن يقع في الخطأ، فإنّه يتعلّم من أخطائه، لذا يُمكن تأسيس قاعدة عامّة في سياق تربية الطفل، وهي مراعاة حقّه في أن يقع في الخطأ.
 
عن الإمام الباقر عليه السلام: "أنّ علياً عليه السلام كان يقول: عمد الصبيان خطأ..."1.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "عمد الصبيّ وخطؤه واحد"2.
 
وقد وقع الاختلاف في وجهات النظر عند الفقهاء في كون هذه الروايات مختصّة بباب الديات والجنايات أم أنّها عامّة ومطلقة. وقد استظهر بعض الفقهاء منها عدم الاختصاص بباب الجنايات، منهم الشيخ الأنصاري حيث قال: "كل حكم شرعيّ تعلّق بالأفعال التي في ترتّب الحكم الشرعيّ عليها القصد بحيث لا عبرة بها إذا وقعت بغير القصد فما يصدر منها عن الصبيّ3 قصداً بمنزلة الصادر عن غيره بلا قصد"4. وهذا مؤشّر إلى أنّ الفعل العمديّ الصادر عن الطفل - حتى المميّز، فكيف بالطفل دون سنّ التمييز - يُنزّل في الشريعة الإسلامية منزلة الخطأ، ويتمّ التعامل معه كالتعامل مع المُخطئ.
 
هذا، بالإضافة إلى إمكانية استفادة المعنى السابق من أحاديث: "رفع القلم5 عن الصبيّ حتّى يحتلم"6. يقول الشيخ محمد حسين النائيني: "إنّ الظاهر من قوله عليه السلام: 



1 تهذيب الأحكام، ج10، ص233، ح921.
2 م.ن، ص233، ح920.
3 الصبي من باب التغليب، وإلا فهو يشمل كل طفل سواء أكان ذكراً أم أنثى، ولا خصوصية للطفل الذكر.
4 الأنصاري، مرتضى، المكاسب، ج3، ص282.
5 المقصود برفع القلم هو إما: رفع الأحكام الإلزامية، أو رفع مطلق الأحكام الإلزامية والترخيصية، وبالتالي رفع المؤاخذة والعقاب، وإما رفع المؤاخذة والعقوبة، وإما رفع الاثنين معاً، أي الأحكام والمؤاخذة.
6 روي الحديث بألفاظ مختلفة، مثل: "عن الصبي حتى يدرك"، "عن الصبي حتى يبلغ"، "عن الصبي حتى يحتلم"، "عن الصبي حتى يكبر"، "عن الصبي حتى يعقل"، "عن الصبي حتى يشب". يراجع: الطوسي، الخلاف، ج2، ص41. وسائل الشيعة، ج1، ص20. والبخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، ج6، ص169. والسجستاني، أبي داود، سنن أبي داود، ج2، ص338. والترمذي، محمد بن عيسى، سنن الترمذي، ج2، ص438.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

96

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 "رفع القلم عنه"، ما هو المتعارف بين الناس والدائر على ألسنتهم: من أنّ فلاناً رفع القلم عنه، ولا حرج عليه، وأعماله كأعمال المجانين، فهذه الكلمة كناية عن أنّ عمله كالعدم، ورفع عنه ما جرى عليه القلم فلا ينفذ فعله، ولا يمضي عنه، فإنّ ما صدر عنه لا يُنسب إليه"1.

 
وهذا يُشعر بأنّه من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ. والمقصود بالحقّ هنا الحقّ القانونيّ والأخلاقيّ والطبيعيّ، لكون وقوع الطفل في الخطأ سنّة طبيعية في مراحل نموّه، فما نُصّنفه نحن الراشدون في دائرة الخطأ لا يُصنّفه الطفل في مراحل طفولته المبكرة كذلك، خصوصاً في مرحلة ما دون التمييز، لعدم معرفته بمعنى الصواب والخطأ2.
 
يبقى أن نُشير إلى نقطة أخيرة - ستتضح ملامحها خلال درس التربية بالعقوبة - وهي أنّ حقّ الطفل في الوقوع بالخطأ لا يعني إقراره على خطئه، أو عدم تنبيهه وإرشاده وتوجيهه إلى الصواب، أو التساهل والتسامح معه في كلّ خطأ كان وبأيّ مرحلة عمرية كانت.



1 الخوانساري، موسى بن محمد، منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث الميرزا محمد حسين النائيني، ج1، ص359.
2 أنظر: عجمي، سامر، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، ص240 وص305.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

97

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 المفاهيم الرئيسة

- يوجد ثلاثة آراء حول طبيعة الطفل، الرأي الأول: ينظر إلى الطفل على أنّه شرّير بطبعه. والثاني: يعتقد أنّ الطفل خيّر بأصل الفطرة. والثالث: يذهب إلى أنّ طبيعة الطفل حيادية تجاه الخير والشرّ.

- يولد الطفل مزوّداً بقوى فطرية غريزية تدفعه للتصرّف بطريقة معيّنة دون أخرى، أي بنحو يتلاءم مع مقتضى طبيعته وفطرته.

- إنّ طبيعة الطفل قابلة للتغيير والتبديل، وإلا لو كانت ثابتة لا تتغيّر لبطلت كلّ التعاليم والتوصيات الدينية في تربية الأطفال. كما أنّ التجربة الإنسانية خير شاهد على قابلية الطفل للانتقال من حال إلى حال بواسطة التربية والتدريب والتعويد.

- يلعب تعويد الطفل على أفعال معيّنة دوراً مهمّاً في تشكيل هويّته باتجاه يتوافق مع الأمور التي تمّ تعويده عليها، فالعادة لها دور مؤثّر في تنمية استعدادات خاصّة عند الطفل.

- هناك إمكانية للجمع بين الآراء الثلاثة المذكورة سابقاً، باعتبار كلّ واحدة منها نظر إلى زاوية من طبيعة الطفل، فنظريّة الخيرية تُفيد أنّ طبيعة الطفل بالفطرة تميل إلى الخير والتوحيد وقبول الدين، وهو وإن كان أمراً صحيحاً، إلا أنّه لا يعني أنّه تلقائياً لو خُلّي الطفل وطبعه وبيئته وتربيته سيذهب في هذا الاتّجاه، بل سيسلك اتّجاهاً يتناسب مع البيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية، لأنّ الميل الفطريّ نحو الخير لا يُنافي الاستعداد الطبيعيّ بسبب قوّة الاختيار الكامنة إلى الطرفين معاً، وهذا هو معنى الحيادية أي أنّه كائن مختار للطرفين.

- إنّ من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ في تصرّفاته لأنّه لا يُميّز بين مفهوم الخطأ والصواب، فما يراه الراشدون خطأ ينظر إليه الطفل على أنّه أمر طبيعيّ. وقد أعطت الشريعة الإسلامية للطفل هامشاً للوقوع في الخطأ، ولكن هذا لا يعني إقراره على خطئه وتعويده عليه وعدم تنبيهه وتوجيهه نحو الصواب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

98

الدرس السابع: فطرة الطفل بين الخير والشرّ والحياد

 أسئلة الدرس

1- برأيك، ما هي طبيعة التركيبة الفطرية للطفل بأصل الخلقة، هل هي طبيعة شرّيرة أم خيّرة أم حيادية؟ علّل ذلك.

2- هل طبيعة الطفل وفطرته ثابتة غير قابلة للتغيير أم أنّها تتبدّل من حال إلى حال؟ بيّن دليلك على ذلك.

3- كيف تؤثّر النظرة إلى طبيعة الطفل (خيّرة، شرّيرة، حيادية) في كيفية التربية؟

4- ما هو دور العادة في تربية الطفل على صفات وأفعال معيّنة من وجهة نظرك؟

5- كيف يُمكن الجمع بين النظريّات الثلاث المختلفة حول طبيعة الطفل؟

6- هل من حقّ الطفل الوقوع في الخطأ؟ ولماذا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

99

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرض أدلة محبوبيّة إنجاب الأطفال.
2- يفهم أنّ الإكثار من إنجاب الأطفال مرغوب في الرؤية الإسلامية.
3- يُدرك أهمّية الأعمال العبادية وتأثيرها في إنجاب الأطفال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

100

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 تمهيد

التربية من المقولات الإضافية التي تحتاج إلى طرفين تتقوّم بهما، طرف هو فاعل التربية، وطرف هو موضوع أو متعلّق التربية. وموضوع التربية في هذا الكتاب هو الطفل، وخروج الطفل من ظلمة العدم إلى نور الوجود يتوسّطه عنصر الاختيار الإنسانيّ، فالإنسان في الأعمّ الأغلب هو الذي يختار أن يكون له طفل، فتحقيق موضوع التربية أي الطفل هو مسؤولية الإنسان ويقع على عاتق الوالدين، وبناءً عليه تظهر أهمّية الجواب عن السؤال التالي: ما هي النظرة الإسلامية إلى إنجاب الأطفال؟

ويُمكن تسليط الضوء على النظرة الإسلامية إلى إنجاب الأطفال من خلال عدّة عناوين تتمحور حول المباحث التالية:
المبحث الأول: أصل إنجاب الأطفال وطلب الولد.
الثاني: الإكثار من إنجاب الأطفال.
الثالث: أسباب الامتناع الاختياريّ عن إنجاب الأطفال.
الرابع: تنظيم الأسرة وتحديد النسل.
الخامس: الأعمال العبادية التي تُساعد على إنجاب الأطفال.

وسنُحاول في هذا الدرس وما يليه تسليط الضوء على هذه المباحث بشكل تدريجيّ من خلال عرض النصوص القرآنية والروائية المتعلّقة بها، مع الإشارة إلى أنّه لا يُمكن التفكيك الهندسيّ بشكل تامّ بين مجموع هذه الدوائر البحثية، إذ قد تتداخل المباحث فيما بينها ببعض الأفكار أحياناً، وذلك نتيجة الارتباط القويّ والعلاقة الوثيقة فيما بينها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

101

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 طوائف النصوص الروائية المحفِّزة على الإنجاب

يظهر بشكل واضح من النصوص الدينية تحفيز الإنسان وتشجيعه على إنجاب الأطفال إمّا بالدلالة المطابقية، وإمّا بالدلالة الالتزامية. ويُمكن تصنيف النصوص في ذلك إلى عدّة طوائف على الشكل التّالي:
الطائفة الأولى: الحثّ على طلب الولد مباشرة
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "اطلبوا الولد، والتمسوه، فإنّه قرّة العين، وريحانة القلب"1.
 
- وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: "... إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما كان يقول:... اطلبوا الولد فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً"2.
 
الطائفة الثانية: الحثّ على الزواج معلَّلاً بالإنجاب
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا، فإنّي مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة، حتّى أنّ السقط ليجيء محبنطئاً3 على باب الجنّة، فيُقال له: ادخل الجنّة. فيقول: لا، حتى يدخل أبواي قبلي"4.
 
- وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً؟! لعلّ الله أن يرزقه نسمة تُثقل الأرض بلا إله إلا الله"5.
 
الطائفة الثالثة: الحثّ على اختيار الزوجة الولود
من النصوص الروائية التي يُستفاد منها الحثّ على الإنجاب وطلب الولد، ما ورد في جعل أحد معايير اختيار الزوجة أن تكون ولوداً.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبيّ الله، إنّ لي ابنة عمّ، قد رضيت جمالها وحسنها ودينها، ولكنّها عاقر.



1 مكارم الأخلاق، ص224.
2 الصدوق، محمد بن علي، الخصال، ص614-615.
3 محبنطئاً: المحبنطئ هو الممتلئ غضباً وغيظاً، والممتنع امتناع طلب لا امتناع إباء.
4 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص383، ح4344.
5 م.ن، ص382، ح4340.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

102

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 فقال: لا تزوّجها. إنّ يوسف بن يعقوب لقى أخاه فقال: يا أخي، كيف استطعت أن تزوّج النساء بعدي؟ فقال: إنّ أبي أمرني، فقال: إن استطعت أن تكون لك ذريّة تُثقل الأرض بالتسبيح فافعل..."1.

 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا بكراً، ولوداً، ولا تزوّجوا حسناء جميله عاقراً، فإنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة"2.
 
الطائفة الرابعة: حبّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمولود في الأمّة
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "والمولود في أمّتي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس"3.
 
الطائفة الخامسة: تعليم أئمة أهل البيت عليهم السلام الناس بعض الأعمال لإنجاب الأطفال
من الروايات التي يُستفاد منها محبوبية ومرغوبية طلب الولد في الرؤية الإسلامية تلك الطائفة التي تتحدّث عن تعليم أئمة أهل البيت عليهم السلام للإنسان بعض الأعمال التي تصبّ نتيجتها في إنجاب الأطفال، نذكر عدّة منها في المتن ونعرض بعضها في الحاشية للاستفادة والإفادة خصوصاً لمن يرغب في إنجاب الأطفال.
 
- عن الإمام زين العابدين عليه السلام، قال لبعض أصحابه: "قل في طلب الولد: ربّ لا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين، واجعل لي من لدنك ولياً يرثني في حياتي، ويستغفر لي بعد وفاتي، واجعله لي خلقاً سوياً4، ولا تجعل للشيطان فيه نصيباً، اللهم إنّي أستغفرك وأتوب إليك إنّك أنت الغفور الرحيم. سبعين مرة، فإنّه من أكثر هذا القول رزقه الله ما تمنّى من مال وولد، ومن خير الدنيا والآخرة. فإنه يقول: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾5"6.



1 الكافي، ج5، ص333.
2 م.ن، ج5، ص333.
3 عوالي اللئالي، ج3، ص286.
4 وفي بعض النسخ: خلفاً سوياً.
5 سورة نوح، الآيات 10-12.
6 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص474، ح4660.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

103

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 - وعن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إذا أبطأ على أحدكم الولد فليقل: اللهم لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، وحيداً وحشاً، فيقصر شكري عن تفكّري، بل هبْ لي عاقبة صدق ذكوراً وإناثاً، آنس بهم من الوحشة، وأسكن إليهم من الوحدة،وأشكرك عند تمام النعمة، يا وهّاب يا عظيم يا معظّم، ثم أعطني في كلّ عافية شكراً حتّى تبلغني منها رضوانك في صدق الحديث، وأداء الأمانة، ووفاء بالعهد"1.

 
الطائفة السادسة: بيان أهمّية الولد وفائدته في حياة الإنسان
من النصوص الروائية التي يُستفاد منها بالدلالة الالتزامية الحثّ على إنجاب الأطفال، ما ورد في بيان فائدة الولد وفضله وأهمّيته في حياة الأبوين والأسرة، وسنتعرّض لها في الدرس التاسع.
 
النظرة الإسلامية إلى الإكثار من إنجاب الأطفال
تقدّم في الفقرات السابقة إثبات أصل محبوبيّة ومرغوبيّة إنجاب الأطفال. وفي هذا المبحث نُريد أن نُسلّط الضوء على الجواب عن السؤال التالي: ما هو موقف الرؤية الإسلامية من كثرة إنجاب الأطفال؟ فهل تحدّثت عن الإنجاب على نحو القضية المهملة بمعنى أنّها حثّت على الإنجاب بغضّ النظر عن بيان الكم قلّةً وكثرةً؟ أم أنّها تحدّثت عن الإنجاب على نحو 
 
القضية المحصورة التي بيّنت الكمّ قلّةً أو كثرةً؟
إنّ القيام بعملية استقراء للنصوص الدينية من آيات وروايات يُفيد في الجملة أيضاً بالإضافة إلى محبوبيّة أصل الإنجاب، أنّ الإكثار من الإنجاب أمر مرغوب فيه من حيث المبدأ. 
 
ونعرض النصوص التي تمّ الاستدلال والاستشهاد بها على ذلك.
 
أولاً: ظواهر الآيات القرآنية
1- آية تعدّد الزوجات
يقول تعالى: ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾2. يظهر من الآية 



1 الكافي، ج6، ص7.
2 سورة النساء، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

104

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 القرآنية تشريع تعدّد الزوجات، وهي مسألة مجمع عليها بين المسلمين. واستفاد البعض أنّ تشريع تعدّد الزوجات سيؤدّي بطبيعة الحال إلى كثرة النسل1، لأنّه لو أنجب من كلّ زوجة طفلين فقط ستكون النتيجة 8 أطفال، فتكون الآية دالّة بالمطابقة على مشروعية تعدّد الزوجات وبالالتزام على محبوبيّة كثرة الإنجاب.

 
وفي الحقيقة، إنّ الآية غير ناظرة إلى إثبات محبوبيّة ومرغوبيّة الإكثار من إنجاب الأطفال، وليست في مقام البيان من هذه الجهة لا مطابقة ولا التزاماً.
 
2. آيات الإمداد بالبنين
- يقول تعالى على لسان نبيّ الله نوح في دعوته لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾2.
 
- ويقول تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه عاد: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾3.
 
- ويقول تعالى في سياق المنّة على بني إسرائيل: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾4.
 
يُستفاد من هذه الآيات عدّة أمور:
1- أنّ وجود الأبناء في حياة الأسرة والمجتمع مدد إلهيّ5.
2- أنّه من جملة سنن الله تعالى في المجتمعات، تفرّع المدد الإلهيّ بالأموال والأولاد على الاستغفار.



1 يراجع: الزهراني، محمد بن مسفر، تعدد الزوجات في الإسلام، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 36، الإصدار: من ربيع الأول إلى جمادى الثانية لسنة 1413هـ، ص257-262.
2 سورة نوح، الآيات 10-12.
3 سورة الشعراء، الآيات 131-134.
4 سورة الإسراء، الآية 6.
5 الميزان في تفسير القرآن، ج15، ص301.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

 


105

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 3- أنّ كثرة البنين والأطفال في المجتمع أمر محبوب ومرغوب، ولذلك امتنّ الله تعالى به على قوم نوح وهود، وأيضاً على بني إسرائيل ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾.

 
وقد استدلّ بعض الفقهاء بهذه الآيات على محبوبية كثرة الأولاد1. وصنّف بعضهم جميع الآيات المذكورة أعلاه في موسوعته الحديثية تحت عنوان: "باب ما ورد في فضل الاستيلاد وتكثير الأولاد"2.
 
كما فهم العديد من المفسّرين هذا المعنى من الآيات القرآنية المذكورة3، ولعلّ هذا المعنى يُمكن استفادته من مادّة: "مدد" في قوله تعالى: ﴿يُمْدِدْكُمْ﴾ و﴿أَمَدَّكُم﴾ و﴿وَأَمْدَدْنَاكُم﴾، و"المدد هو ما يمدّ به الشيء أي يزداد ويكثر"، والمدد: "اتباع الثاني ما قبله شيئاً بعد شيء على انتظام"4، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّه تعالى في مقام المنّة وبيان النعمة.
 
قال المحقّق الأردبيلي في تفسير آية: "﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي يُكثر أموالكم وأولادكم الذكور أيضاً..."5.
 
ومن الشواهد على استفادة هذا المعنى، الروايات التي ذكرناها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في تعليم الناس أسلوب الاستغفار كوسيلة للإكثار من الذرّية، ومنها الرواية التي تتحدّث عن الذِّكر الذي علّمه الإمام جعفر الصادق عليه السلام لحاجب هشام بن عبد الملك: "قل في كلّ يوم إذا أصبحت وأمسيت: سبحان الله سبعين مرّة. وتستغفر عشر مرّات، وتُسبّح تسع مرّات، وتختم العاشرة بالاستغفار، يقول الله: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾"6. فقالها الحاجب فرزق ذرّية طيّبة كثيرة...



1 يراجع: الشيرازي، ناصر مكارم، بحوث فقهية مهمة، ص273-275.
2 أنظر: البروجردي، حسين، جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص287.
3 أنظر: مجمع البيان، ج10، ص133. وزبدة البيان، ص576. والشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج19، ص54.
4 مجمع البيان، ج7، ص344.
5 زبدة البيان في أحكام القرآن، ص576.
6 سورة نوح، الآيات 10-12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

106

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 فقال سليمان بن جعفر: ففعلتها، وقد تزوّجت ابنة عم لي، فأبطأ عليّ الولد منها، فعلّمتها أهلي فرُزقت ولداً، وزعمت المرأة أنّها متى تشاء أن تحمل حملت إذا قالتها وعلّمتها غير واحد من الهاشميين ممّن لم يكن يولد لهم، فولد لهم ولد كثير، والحمد لله"1.
 
ثانياً: النصوص الروائية: في الحثّ على الإكثار من الولد
إذا كان من الممكن المناقشة في دلالة ظاهر الآيات بشكل صريح على محبوبيّة ومرغوبيّة كثرة الإنجاب، لا يُمكن ذلك في بعض الروايات، لأنّها تحثّ على الإكثار بشكل صريح.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكثروا الولد، أُكاثر بكم الأمم غداً"2.
 
كما يُمكن استفادة هذا المعنى من الأحاديث المذكورة في بداية الدرس، كونها على طائفتين:
الأولى: تحثُّ على طلب الولد بغضّ النظر عن التكثير. مثل: "اطلبوا الولد"، "يرزقه نسمة"...
 
الثانية: يُستفاد منها محبوبيّة الإكثار من الإنجاب. مثل: "تزوّجوا تكثروا"، "مكاثر بكم"... المشعرة بالحثّ على تكثير الأولاد. ومنها:
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "تناكحوا تناسلوا، فإنّي أُباهي بكم الأمم"3.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا تناسلوا، فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"4.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "تناكحوا تكثروا، فإنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط"5.
 
وفي هذا السياق، صنّف الحر العاملي هذه الروايات وأمثالها في كتابه وسائل الشيعة تحت عنوان: "استحباب الاستيلاد وتكثير الأولاد"6، وقال في كتاب هداية الأمة: "يُستحبّ الاستيلاد وتكثير الأولاد"7، مستدلّاً على ذلك بعدّة روايات منها ما ذكرناه.



1 الكليني، الكافي، ج6، ص9.
2 م.ن، ص2.
3 الرواندي، قطب الدين سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، ج2، ص920. والأحسائي، محمد بن علي بن إبراهيم، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج1، ص259.
4 الحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج2، ص362، ح2051.
5 عوالي اللئالي، ج3، ص286.
6 وسائل الشيعة، ج21، ص355.
7 الحر العاملي، محمد بن الحسن، هداية الأمة إلى أحكام الأئمة، ج7، ص303.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

107

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 والنتيجة: "أنّ التناسل والتوالد، وتكثير الولد مطلوب شرعاً، وقد حثّ عليه في الكتاب والسنة"1.

 
نسبية مفهوم الكثرة والقلّة
نُشير في الخاتمة إلى أنّ الكثرة والقلّة من جملة المعاني النسبية المتغيّرة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، وليستا من المفاهيم الثابتة.
 
يقول السيد الخوئي في هذا السياق: "الشيء اليسير والكثير ليس لهما واقع محفوظ، بل هما أمران إضافيان، فالشيء الواحد يسير بالإضافة إلى شيء وكثير بالإضافة إلى آخر، أو أنّه يسير بالإضافة إلى شخص وكثير بالإضافة إلى آخر، أو أنّه يسير في مكان أو زمان وكثير في مكان أو زمان آخر"2.
 
وبناءً عليه، فقد يكون إنجاب 7 أفراد في مجتمع ما يُعتبر إكثاراً، في حين قد يكون في مجتمع آخر إنجاب 12 فرداً إكثاراً، وهكذا. كما قد يكون هناك تردّد وشكّ في انطباق مفهوم القلّة والكثرة على أيّ عدد من الأطفال في اعتبار ذلك.
 
يقول السيد كاظم الحائري: "إنّهما - أي الكثرة والقلّة - عنوانان عرفيان، وهناك ما يتيقّن بأنّه عند العرف يعتبر يسيراً أو كثيراً حسب اكتراث العقلاء به وعدمه، ولا يضرّ اختلاف تطبيق الحكم باختلاف الزمان والمكان، وهناك بعض المصاديق المشكوك كونه من اليسير أو الكثير...، فشأن عنوان اليسير والكثير هو شأن سائر المفاهيم العرفية التي توجد لها مصاديق مشكوكة"3.
 
وبهذا يتّضح أنّ تحديد الكثرة والقلّة من حيث عدد الأطفال في الأسرة يُقدّر بحسب نظر العرف الاجتماعيّ العامّ الذي تعيش فيه تلك الأسرة.



1 الروحاني، محمد صادق، المسائل المستحدثة، ص149.
2 الخوئي، أبو القاسم، مباني تكملة المنهاج، ج1، ص136.
3 الحائري، كاظم، القضاء في الفقه الإسلامي، مجمع الفكر الإسلامي، ط1، 1415ه، ص410.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
140

108

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ الكثير من النصوص الدينية يحثّ بشكل مؤكّد على إنجاب الأطفال.
 
- تنقسم هذه النصوص إلى عدّة طوائف: الأولى: تحثّ على إنجاب الأطفال مباشرة، والثانية: تحثّ على الزواج مبيّنة أنّ سبب ذلك هو إنجاب الأطفال، والثالثة: تحثّ على اختيار الزوجة الولود، والرابعة: تظهر أن المولود حبيب رسول الله، والخامسة: تُبيّن كيفية تعليم أئمة أهل البيت عليهم السلام للناس بعض الأعمال المساعدة على إنجاب الأطفال، والسادسة: تُبيّن أهمّية الولد وفائدته في حياة الإنسان.
 
- لم تحثّ الرؤية الإسلامية على أصل الإنجاب فقط، بل مدحت كثرة الإنجاب أيضاً، وهذا ما يُستفاد من آيات الإمداد بالبنين في القرآن الكريم: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾، وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله: "أكثروا الولد، أُكاثر بكم الأمم غداً".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

109

الدرس الثامن: الحث على إنجاب الأطفال

 أسئلة الدرس

1- اذكر ثلاث روايات تُفيد أنّ الرؤية الإسلامية تحثّ بنحو شديد على إنجاب الأطفال.

2- كيف تستفيد محبوبية الإنجاب من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً؟! لعلّ الله أن يرزقه نسمة تُثقل الأرض بلا إله إلا الله".

3- هناك روايات صادرة عن أهل البيت تُعلّم الناس بعض الأعمال من أجل إنجاب الأطفال، اذكر رواية وحلّل مضمونها مستفيداً منه محبوبية الإنجاب.

4- كيف تناقش من استدلّ بآية تعدّد الزوجات على محبوبيّة كثرة الإنجاب؟

5- كيف تستفيد من آيات الإمداد بالبنين محبوبيّة ومرغوبيّة كثرة الإنجاب؟

6- اذكر حديثاً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدلّ على محبوبيّة كثرة الإنجاب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

110

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتمكَّن من الإجابة إلى سؤال: لماذا الطفل؟
2- يفهم الآيات القرآنية التي يُمكن الاستدلال بها على فضل الطفل وأهمّيته في حياة والديه.
3- يعرض الروايات التي تدلّ على فضل الولد وأهمّيته في الدنيا والآخرة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

111

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 تمهيد

سنُسلّط الضوء في هذا الدرس على أهمّية الطفل والمصلحة من وجوده في حياة الأسرة والمجتمع في ضوء الرؤية الإسلامية، ممّا يلعب دوراً مهمّاً كعنصر تحفيزيّ وترغيبيّ على إنجاب الأطفال. فهذا الدرس باختصار هو جواب عن السؤال التّالي: لماذا الطفل؟
 
العامل الفطريّ: فطرة الأمومة والأبوّة
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: "قال موسى بن عمران: يا ربّ، أيّ الأعمال أفضل عندك؟ فقال عزّ وجلّ: حبُّ الأطفال، فإنّي فطرتهم على توحيدي، فإن أمّتهم أدخلتهم برحمتي جنّتي"1.
 
كلُّ إنسانٍ يشعر في أعماق وجدانه بأنّه مجبول على غريزة حبّ الأطفال، ومعجون بالميل إلى إنجاب الأطفال، وحبّ أن يكون أباً أو أمّاً. ومهما حاول إنسان ما التنكّر لهذا الشعور الفطريّ فإنّه سيبقى معجوناً في طينته، وسيطفو في بعض اللحظات على السطح، ويلّح على الإنسان بالاستجابة لندائه وتلبية صوت هذا الشعور، وإلا سيبقى الإنسان يتحرّك في دائرة القلق والشعور بعدم الطمأنينة.
 
فالسعي نحو إنجاب الطفل هو إشباع لحاجة فطرية جُبلت عليها كلّ نفس بشرية في حبّ الأمومة والأبوة.



1 المحاسن، ج1، ص200.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

112

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 غريزة حبّ البقاء

إنّ من الخصائص الرئيسة التي تتميّز بها الكائنات الحيّة الواقعة في الطبيعة تحت الحسّ والاستقراء من حيوانات ونباتات هي التكاثر الجنسيّ، وهو عبارة عن حصول عملية اتّصال وتلاقح بين زوجين - ذكر وأنثى - ينبثق عنها كائن حيّ ثالث جديد مغاير لهما. وهذه الخصيصة الطبيعية أيضاً تُدغدغ في الإنسان غريزة حبّ البقاء فيسعى لتوليد كائنات حيّة جديدة تؤمّن استمرارية النوع البشريّ لحفظه عن الفناء والزوال.
 
عامل القوّة بالكثرة العددية
يعرض لنا القرآن الكريم العديد من الآيات التي تُشير إلى كون الكثرة العددية عامل قوّة وعزّة للمجتمع والأمة. يقول تعالى:
- ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾1.
 
- ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا  * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾2.
 
وقد كانت وما زالت الكثرة العددية للأمم مثار فخر واعتزاز.
- ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾3.
 
- ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾4.
 
عامل الوراثة والخلافة
يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾5.



1 سورة الإسراء، الآية 6.
2 سورة نوح، الآيات 10-11-12.
3 سورة الكهف، الآية 34.
4 سورة سبأ، الآية 35.
5 سورة مريم، الآيات 5-7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

113

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 وعن أبي عبد الله عليه السلام، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقرأ: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي﴾، يعني أنّه لم يكن له وارث حتّى وهب الله له بعد الكبر.

 
كلّ إنسان يرغب في استمرار وجوده الشخصيّ بمثال وشبيه له، يخلّد اسم العائلة، بنحو لا ينقطع ذكره بين الناس، ويُعبّر عن هذه الحالة بالوراثة أو الخلافة. وقد اعتبرت الروايات أنّ من محقّقات سعادة الإنسان أن يرى وريثه وخليفته.
 
وقد تقدّم ذكر العديد من الروايات - في الدرس السابق فقرة: تعليم أئمة أهل البيت الناس بعض الأعمال لإنجاب الأطفال - تُفيد هذا المعنى، منها:
- عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، قال لبعض أصحابه: "قل في طلب الولد: ربّ لا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين، واجعل لي من لدنك وليّاً يرثني في حياتي..."1.
 
- وعن بكر بن موسى الواسطي، قال:كُنتُ عند أبي إبراهيم - الكاظم - عليه السلام، فقال: إنّ أبي جعفراً كان يقول: "سعد من لم يمت حتّى يرى خلفه من نفسه"2.
 
ثم أومى بيده إلى ابنه عليّ - الرضا عليه السلام -، فقال: "وقد أراني الله خلفي من نفسي"3.
 
وعن أبي الحسن عليه السلام: "سعد امرؤ لم يمت حتى يرى خلفاً من نفسه"4.
 
- وعن أبي الحسن عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً لم يُمته حتى يُريه الخلف"5.
 
سعادة الإنسان بالأطفال
اتّضح من بعض الروايات السابقة أنّ من سعادة الإنسان وجود الأطفال في حياته، ونُضيف إليها:



1 الكافي، ج6، ص3.
2 من لا يحضره الفقيه، ح3، ص474، ح4660.
3 الخزاز القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر، ص273. ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة، ص41، ح22.
4 الكافي، ج6، ص5.
5 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص482، ح4690.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

114

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سعادة الرجل الولد الصالح"1.

 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعة من سعادة المرء: الخلطاء الصالحون والولد البار..."2.
 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: "من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبهه خلقه وخلقه وشمائله"3.
 
عامل العون والخدمة والمساعدة للوالدين
يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾4.
 
إنّ التدبّر في هذه الآية القرآنية الكريمة يُعطينا عدّة دلالات:
الأولى: أنّ إنجاب الأطفال أحد أهداف بناء بيت الزوجية.
 
الثانية: كما تُفيد الآية بقرينة سياق الآيات التي تسبقها - وهي في مقام عدّ النعم والآلاء الإلهية على الإنسان - أنّ الأولاد نعمة إلهية5.
 
والثالثة: أنّ الأولاد بالإضافة إلى كونهم هدفاً لتأسيس بيت الزوجية، ونعمة إلهية، هم مددٌ وعونٌ لوالديهم، كما تُشير إليه مفردة: ﴿وَحَفَدَةً﴾. فالحفدة لغة جمع حافد، وهو من الحفد، والحفد في اللغة: الخدمة6. وأصل الحفد يدلّ على الخفّة في العمل والتجمّع،



1 الكافي، ج6، ص3.
2 الرواندي، النوادر، ص110.
3 الكافي، ج6، ص4.
4 سورة النحل، الآية 72.
5 الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص297. يقول السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الآية: "... النعمة هي جعل الأزواج من أنفسهم، وجعل البنين والحفدة من أزواجهم، فإن ذلك من أعظم النعم وأجلاها، لكونه أساساً تكوينياً يبتني عليه المجتمع البشري، ويظهر به فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الأفراد، وينتظم به لهم أمر تشريك الأعمال والمساعي، فيتيسّر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والآخرة .ولو أنّ الإنسان قطع هذا الرابط التكويني الذي أنعم الله به عليه وهجر هذا السبب الجميل وإن توسّل بأيّ وسيلة غيره لتلاشى جمعه وتشتّت شمله وفي ذلك هلاك الإنسانية".
6 العين، ج3، ص185.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

115

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 فالحفدة الأعوان لأنّه يجتمع فيهم التجمّع والتخفّف1، والسرعة إلى الطاعة. ومنه قيل للأعوان حفدة، لإسراعهم في الطاعة2.

 
وقد اختلف المفسّرون في مصداق المعنى المراد من كلمة حفدة في الآية:
- قال بعضهم: إنّ بنين تُطلق على الأولاد الصغار، والحفدة تُطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إعانة ومساعدة آبائهم3.
 
- وتبنّى بعضهم: أنّ المقصود بها أولاد الأولاد.
 
- واعتبرها بعض ثالث: أنّها من باب العطف لتغاير الوصفين4، أي أنّ الأولاد جامعون للأمرين معاً، فهم بنون وهم حافدون أي يخدمون أهلهم ويعاونونهم5. أو من باب عطف الخاصّ على العامّ بحيث يكون المقصود بالحفدة خصوص البنين الذين يُعاونون والديهم ويُساعدونهم ويخدمونهم ويُسارعون إلى طاعتهم.
 
- وقد حملها بعض المفسّرين على كلّ المعاني السابقة6.
 
وعلى كلّ حال، بأيّ معنى أُخذت، يبقى الجامع المشترك هو جهة العون والمدد والخدمة والمساعدة للوالدين7.
 
يقول السيد الطباطبائي: "المراد بالحفدة في الآية الأعوان الخدم من البنين...، وجعل لكم من أزواجكم بالإيلاد بنين وحفدة وأعواناً تستعينون بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون بهم عن أنفسكم المكاره"8.
 
وبعض الروايات يشهد على هذا الفهم للآية: فعن جميل بن درّاج، عن أبي عبد 



1 معجم مقاييس اللغة، ج2، ص84.
2 أنظر: مجمع البيان، ج6، ص178.
3 يراجع: الطبرسي، مصدر سابق. والطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج14، ص191. والأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج8، ص256 وما بعد.
4 البيضاوي، عبد الله بن عمر، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، المعروف بتفسير البيضاوي، ج3، ص411.
5 الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج2، ص419.
6 الرازي، محمد بن عمر، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، ج20، ص80.
7 الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج8، ص257.
8 الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج12، ص297.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

116

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 الله عليه السلام، عن قول الله: ﴿وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ قال عليه السلام: "هم الحفدة، وهم العون منهم، يعني البنين"1.

 
عامل المعاونة والمعاضدة في الروايات
وقد صرّحت الروايات بأنّ أحد أهداف وجود الولد في حياة الوالدين هو أن يكون عضداً لهما، وأصل العضد في اللغة: ما بين المرفق إلى الكتف، ويدلّ على العضو الذي يستعار في موضع القوّة والمعين2، وجمعه: أعضاد، و"أعضاد كلّ شيء ما يشدّ من حاليه من البناء وغيره"3. وقد شبّه الولد بأنّه عضد لوالديه لأنّه العامل الذي يفترض أن يستندون إليه ويعتمدون عليه في الحياة بكافّة جوانبها ومجالاتها، فعندما تشتدّ الظروف يجد الوالدان في الولد العنصر الذي يقف إلى جانبهم ويُعينهم على تجاوز صعابها.
 
- عن عيسى بن صبيح4، قال: دخل الحسن العسكريّ عليه السلام علينا الحبس، وكُنتُ به عارفاً، فقال لي: "لك خمس وستون سنة وشهر ويومان".
 
وكان معي كتاب دعاء عليه تاريخ مولدي، وإنّي نظرت فيه فكان كما قال.
 
ثم قال: "هل رُزقتَ من ولد"؟
 
قُلتُ: لا.
 
قال: "اللهم ارزقه ولداً يكون له عضداً. فنعم العضد الولد".  ثم تمثّل عليه السلام: "من كان ذا عضد يُدرك ظلامته إنّ الذليل الذي ليس له عضد"5
 
قُلتُ: ألك ولد؟



1 العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج2، ص264. والحويزي، عبد علي بن جمعة العروسي، تفسير نور الثقلين، ج3، ص68. والبحراني، هاشم، البرهان في تفسير القرآن، ج3، ص438.
2 معجم مقاييس اللغة، ج4، ص348.
3 العين، ج1، ص268.
4 وفي: الأربلي، علي بن عيسى، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج3، ص307: عيسى بن شج. وفي الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ص1087: عيسى بن الفتح.
5 نسب الدينوري ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، في عيون الأخبار، ج3، ص5، هذا البيت إلى عمرو بن حبيب الثقفي أحد شعراء الجاهلية، أسلم سنة 9 ه. والبيت الثاني منه:
تنبو يداه إذا ما قل ناصره       ويأنف الضيم إن أثرى له عدد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

117

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 قال عليه السلام: "أي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فأمّا الآن فلا"1.

 
- وعن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، قال: "من سعادة الرجل أن يكون له وُلْدٌ يستعين بهم"2.
 
نعم الشيء الولد
- روي عن الحسن البصريّ أنّه قال: بئس الشيء الولد، إن عاش كدّني، وإن مات هدّني. فبلغ ذلك الإمام زين العابدين عليه السلام، فقال: "كذب، والله نِعْمَ الشيء الولد، إن عاش فدعاء حاضر، وإن مات فشفيع سابق"3.
 
تُستعمل كلمة نِعْمَ في مقام المدح للشيء، ويظهر من أصلها الاشتقاقيّ في اللغة العربية أنّها من النعمة، ويرجع معناها إلى ما "يدل على ترفّه وطيب عيش وصلاح"4، ولا ريب في أنّ الولد نعمة من الله تعالى، فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "البنون نعيم، والبنات حسنات..."5. وهذه النعمة الإلهية تجعل الإنسان يعيش حياة طيّبة، إذ بدون الولد يبقى الإنسان ناقص العيش، كما سيأتي في بعض الروايات اللاحقة.
 
إثقال الأرض بالتوحيد والتسبيح
إنّ الله عزّ وجلّ خلق الإنسان لهدف العبادة، وحقيقة العبادة متقوّمة بالتوحيد، ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾6، فعبادة الله تعالى وذكره وتسبيحه وحمده... هي الهدف الغائيّ لخلقة الإنسان كما ذكرنا في الدروس السابقة. ووظيفة التربية هي إيصال الإنسان إلى هذه المنزلة. وكي يصل الإنسان إلى هذه المنزلة لا بد من وجود الإنسان على الأرض، ووجوده رهن إرادة والديه، من هنا حثّت الروايات الأهل على إنجاب الأطفال من أجل تحقيق هذا الهدف الأعلى.



1 الخرائج والجرائح، ج1، ص478.
2 الكافي، ج6، ص2.
3 الراوندي، سعيد بن هبة الله، الدعوات سلوة الحزين-، ص285.
4 معجم مقاييس اللغة، ج5، ص446.
5 الكافي، ج6، ص7.
6 سورة طه، الآية 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

118

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً، لعلّ الله يرزقه نسمة، تُثقل الأرض بلا إله إلا الله"1.

 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "لمّا لقي يوسف أخاه، قال له: يا أخي كيف استطعت أن تتزوّج النساء بعدي؟! قال: إنّ أبي أمرني، وقال: إن استطعت أن تكون لك ذرية تُثقل الأرض بالتسبيح فافعل"2.
 
الأولاد أنس للوالدين
الإنسان كائن اجتماعيّ بالفطرة، أي يميل بأصل الخلقة إلى التشكّل داخل وحدات اجتماعية، لأنّه لا يستغني عنهم في تأمين متطلّبات حياته ووجوده، من جهة، كما أنّه يستأنس بالآخرين، ولذا لو بقي الإنسان بمفرده سرعان ما يشعر بالغربة والوحشة، وأصغر وحدة يتكوّن منها المجتمع هي الأسرة، التي تُظلّل حياة الإنسان، وتُخرجه من حالة الوحدة والفرادة التي تجعله يعيش الشعور بالوحشة، إلى حالة السكن والطمأنينة، فالولد يمنح حياة الإنسان أُنساً خاصاً، ويُعطيه إحساساً بالألفة.
 
- عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إذا أبطأ علي أحدكم الولد فليقل: اللهمّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، وحيداً وحشاً فيقصر شكري عن تفكري، بل هب لي عاقبة صدق ذكوراً وإناثاً، آنس بهم من الوحشة، وأسكن إليهم من الوحدة..."3.
 
- وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "خمس خصال من فقد واحدة منهنّ لم يزل ناقص العيش، زائل العقل، مشغول القلب: فأوّلها: صحّة البدن، والثانية: الأمن، والثالثة: السعة في الرزق، والرابعة: الأنيس الموافق".
 
قُلتُ - أي الرواي -: وما الأنيس الموافق؟
 
قال عليه السلام: "الزوجة الصالحة، والولد الصالح، والخليط الصالح".
 
والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال، الدّعة"4.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص382.
2 الكافي، ج6، ص3.
3 م.ن، ص7.
4 الخصال، ص284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

119

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 الولد قرّة عين الإنسان وكبده وريحانة قلبه

الولد بضعة من الإنسان حقيقة لا مجازاً. وهذه البضعة على نحو الحقيقة تتقلّب في أعضاء الإنسان على نحو المجاز، فتارة يُعبّر الإنسان عن ولده أنّه عينه التي يرى بها، وأخرى أنّه يده التي تمدّه بالعون، وثالثة أنّه قلبه وفؤاده، ورابعة أنّه كبده...إلخ. ويلحظ في كلّ تعبير جنبة من الجوانب المناسبة للتعبير. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الإنسان لا يُمكنه الاستغناء عن الولد كما لا يُمكنه الاستغناء عن أيّ عضو من أعضائه. وهذا ما نُلاحظه بشكل واضح في الروايات.
 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اطلبوا الولد والتمسوه، فإنّه قرّة العين وريحانة القلب"1.
 
- وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد كبد المؤمن..."2.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أولادنا أكبادنا"3.
 
- وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام يوماً لولده العباس لمّا كان صغيراً: "قل: واحد، فقال: واحد، فقال: قل: اثنان، قال: استحي أن أقول باللسان الذي قُلت واحد اثنان، فقبّل عليّ عليه السلام عينيه، ثمّ التفت إلى زينب، وكانت على يساره والعباس عن يمينه، فقالت:يا أبتاه أتُحبّنا؟ قال عليه السلام: نعم يا بني، أولادنا أكبادنا"4.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد الصالح ريحانة من الله قسمها بين عباده..."5.
 
العامل الأخرويّ
إنّ الولد ليس نعمة وأنساً وريحانة وعوناً وسنداً... لأهله في الدنيا فقط، بل الولد الصالح ذخيرة لأهله بعد موتهم، فباستغفاره ودعائه وقيامه بالأعمال الصالحة قد يكون نجاتهم من العذاب والنار.



1 مكارم الأخلاق، ص224.
2 عوالي اللآلي، ج1، ص270.
3 بحار الأنوار، ج101، ص97.
4 مستدرك الوسائل، ج15، ص215.
5 الكافي، ج6، ص3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

120

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، وعلم يُنتفع به"1.

 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مرّ عيسى ابن مريم عليه السلام بقبر يُعذّب صاحبه. ثم مرّ به من قابل2، فإذا هو ليس يُعذّب. فقال عليه السلام: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أول وهو يُعذّب، ومررت به العام وهو ليس يُعذبّ! فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا روحالله، قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً، فغفرت له بما عمل ابنه.
 
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ميراث الله عزّ وجلّ من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده..."3.
 
- عن معاوية بن عمار، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: ما يلحق الرجل بعد موته؟ فقال: "سنّة يسنّها يعمل بها بعد موته، فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، والصدقة الجارية تجري من بعده، والولد الصالح يدعولوالديه بعد موتهما، ويحجّ ويتصدّق عنهما، ويعتق ويصوم ويُصلّي عنهما.
 
فقلتُ: أشركهما في حجّي؟
 
قال عليه السلام: "نعم"4.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ستّة تلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له..."5.
 
- وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الولد كبد المؤمن، إن مات قبله صار شفيعاً، وإن مات بعده يستغفر له فيغفر الله له"6.
 
فانتفاع الوالدين بالولد يوم القيامة ينبغي أن يكون عنصراً مرغِّباً في إنجاب الأطفال، وهذا ما نُلاحظه فيما رواه إسحاق بن عمار، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "إنّ فلاناً 



1 عوالي اللآلي، ج1، ص97. ويراجع: النسائي، أحمد بن شعيب، سنن النسائي بشرح جلال الدين السيوطي، ج6، ص25.
2 قابل: وقت لاحق.
3 الكافي، ج6، ص4.
4 نفس المصدر، ص57.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص246.
6 عوالي اللآلي، ج1، ص270.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

121

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 - رجل سمّاه - قال: إنّي كنتُ زاهداً في الولد، حتّى وقفت بعرفة، فإذا إلىجنبي غلام شابّ يدعو ويبكي ويقول: يا رب، والدي والدي، فرغّبني في الولد حين سمعت ذلك"1.

 
ما للوالدين من الأجر في موت أطفالهم
يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾2.
 
قد يمتحن الله تعالى الإنسان ويبتليه بموت أطفاله قبل الولادة أو بعد الولادة، ولأنّ الله تعالى كتب على نفسه الرحمة بعباده فقد جعل لمن يفقد أحبّته من الأطفال عوضاً وأجراً وثواباً عظيماً يوم القيامة، فحتّى الطفل السقط يكون له أثر في نجاة والديه يوم القيامة.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعلموا أنّ أحدكم يلقى سقطه محبنطئاً على باب الجنّة، حتى إذا رآه أخذ بيده حتى يُدخله الجنّة، وإن ولد أحدكم إذا مات أجر فيه، وإن بقي بعده استغفر له بعد موته"3.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:... أما علمتم أنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة حتّى بالسقط، يظلّ محبنطئاً على باب الجنّة فيقول الله عزّ وجلّ: ادخل الجنّة، فيقول: لا أدخل حتّى يدخل أبواي قبلي. فيقول الله تبارك وتعالى لملكمن الملائكة: ايتني بأبويه فيأمر بهما إلى الجنّة. فيقول: هذا بفضل رحمتي لك"4.
 
- وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: ... أوما علمت أنّ الوِلدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم، يحضنهم إبراهيم وتُربّيهم سارة، في جبل من مسك وعنبر وزعفران؟"5.



1 الكليني، الكافي، ج6، ص3.
2 سورة البقرة، الآيتان 155-156.
3 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص483.
4 م.ن.
5 الكليني، الكافي، ج5، ص334.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

122

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 هذه النصوص الدينية بأجمعها، مؤشّر واضح على وجوب سعي الوالدين إلى حسن تربية أطفالهما كي تكون ثمرة تلك التربية وعاقبتها وجود ولد صالح. فالإنسان يأنس ويفتخر ويفرح ويسعد بطفله وولده إذا كان صالحاً، ويأسف ويحزن ويتألّم إذا لم يكن الطفل كذلك، فـ "ولد السوء يهدم الشرف، ويشين السلف"1، كما ورد عن الإمام علي عليه السلام. وعنه أيضاً: "ولد السوء يعرّ الشرف"2. وعنه أيضاً: "أشدّ المصائب سوء الخلف"3




1 مستدرك الوسائل، ج15، ص215، ح18039.
2 عيون الحكم، ص503.
3 ميزان الحكمة، ج4، ص3671.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

123

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 المفاهيم الرئيسة

- جبل الله تعالى الإنسان على حبّ الأطفال، وعجن في طينته الإحساس الذي يُحفزّه فطرياً على الإنجاب من أجل أن يُشبع نداء الأبوة أو الأمومة.

- يؤمّن إنجاب الأطفال استمرارية النوع البشريّ على الكرة الأرضية.

- إنّ الكثرة السكّانية عامل قوّة للمجتمع وبالتّالي فإنّ كثرة الإنجاب تزيد من عناصر قوّة الأمّة والمجتمع والدولة.

- أحد محقّقات سعادة الإنسان وخيره، أن يرى الوراثة والخلافة له في أبنائه، كما ورد عن أبي الحسن عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً لم يُمته حتى يُريه الخلف".

- يُشكّل الأبناء عنصر مساعدة للوالدين، لذا يُعتبر إنجاب الأطفال خير عون للوالدين في المستقبل على خدمتهما وقضاء حوائجهما ودفع المكاره عنهما.

- إنّ وجود الأطفال في الأسرة هو عامل أنس للوالدين بنحو يدفع الوحدة والوحشة عن حياتهما.

- من أهمّ العوامل المساعدة على تخفيف العذاب عن الإنسان يوم القيامة هم أولاده من خلال قيامهم بالأعمال الصالحة عن روح والديهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

124

الدرس التاسع: فضل الطفل وأهميّته في الأسرة والمجتمع

 أسئلة الدرس

1- هل الاندفاع نحو إنجاب الأطفال هو بسبب عوامل خارجية كالامتثال لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم وليدة عوامل فطرية داخلية، أم كلاهما معاً؟

2- هل توافق على أنّ الكثرة السكّانية عامل قوّة للمجتمع والأمة والدولة؟ وكيف تربط ذلك بمحبوبية كثرة الإنجاب؟

3- كيف تستدلّ على أهمّية الطفل في حياة الأسرة من خلال آيات وروايات الوراثة والخلافة؟

4- ما هي أهمّية الطفل بالنسبة لوالديه في المستقبل؟ وكيف يُشكّل ذلك عاملاً محفّزاً على إنجاب الأطفال؟

5- كيف يُمكن أن يكون العامل الأخرويّ محرّكاً للإنسان للشعور بأهمّية الولد وفائدته في حياته؟ اذكر دليلاً من الروايات على ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
158

125

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أنواع الامتناع عن الإنجاب.
2- يُعدّد الأسباب التي يتمسّك بها للامتناع عن الإنجاب.
3- يملك القدرة على مناقشة تلك الأسباب ويُبيّن وجهة نظره منها.
4- يعرف الطريق الأكمل لإدارة الحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

126

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 تمهيد

تحدّثنا في الدرس السابق عن إيجابية الرؤية الإسلامية تجاه إنجاب الأطفال وترغيبها في ذلك. وفي هذا الدرس والذي يليه سنُسلّط الضوء على الأسباب الموجِبة لاتّخاذ بعض المتزوّجين قراراً بالامتناع عن إنجاب الأطفال من وجهة نظرهم، ثم سنقوم بمناقشة تلك الأسباب التي يتمسّكون بمانعيّتها.
 
ونُمهّد الطريق بذكر مقدّمتين:
المقدّمة الأولى: الصور المتعدّدة للامتناع عن الإنجاب
1- الامتناع عن أصل الإنجاب حدوثاً وبقاءً.
2- الامتناع عن الإنجاب حدوثاً لا بقاءً، بمعنى اتّخاذ قرار بعدم الإنجاب في بداية الحياة الزوجية إلى فترة زمنية محدّدة.
3- الامتناع عن الإنجاب بقاءً لا حدوثاً، بمعنى الإقدام على الإنجاب في بداية الحياة الزوجية ثم الامتناع لاحقاً عن الإنجاب، أي تحديد النسل بعدد معيّن.
 
المقدّمة الثانية: الامتناع الاضطراريّ والاختياريّ
إنّ امتناع الزوجين عن إنجاب الأطفال على نحوين:
الأول: الامتناع الاضطّراريّ، الخارج عن إرادة الزوج أو الزوجة، بحيث يكون الإنسان على المستوى النفسيّ راغباً في إنجاب الأطفال، لكن تحول بينه وبين رغبته أسباب قهرية، كالعقم ﴿وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا﴾1.



1 سورة الشورى، الآية 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

127

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 وهو على قسمين:

1- لا تُمكن معالجته، كما في المرأة التي استُؤصل رحمها، أو المرأة التي دخلت سنّ الإياس... إلخ.
2- تُمكن معالجته من خلال الاعتماد على الوسائل الطبّية الحديثة.

والثاني: الامتناع الاختياريّ، الواقع تحت إرادة الإنسان، من خلال اعتماد إحدى وسائل منع الحمل: كالعزل، الأدوية، العمليات الطبّية، أو الواقي الذكريّ... إلخ. وهو ما سيكون محور البحث عن أسبابه.

أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال
ينطلق الامتناع الاختياريّ من عدّة أسباب عادة، نعرض أبرزها:
1- الامتناع بسبب السلامة الصحية للزوجة: بأن يكون الحمل ضررياً على صحة الزوجة وسلامتها الجسدية، لتعرّضها أثناء الحمل أو الولادة لخطر الإصابة ببعض الأمراض أو الأعراض التي لا تحتمل عادة في أمثالها.

2- الامتناع بسبب ما قد يلحق الجنين من تشوّهات خلقية أو الخوف على الجنين من الإجهاض. وتُعرف هذه الحالة وسابقتها من خلال إجراء بعض الفحوصات الطبّية.

3- الامتناع بسبب الخوف على الجمال الجسديّ، بذريعة أنّ الحمل يُغيّر من شكل جسد المرأة وملامحه، فيجعله أكثر سمنة، ويوجد فيه التشقّقات الجلدية وآثار الترهّل العارض للبدن، مما ينعكس سلباً على جمالها، وبالتّالي ثقتها بنفسها أو رغبة الزوج فيها...

4- الامتناع بسبب مسؤوليات التربية العامّة للطفل، انطلاقاً من الشعور بعدم القدرة عملياً وعدم الاستعداد ذهنيّاً وعدم التحضّر نفسياً لتربية الطفل، والخوف من عدم الوفاء بمستلزمات إدارة شؤونه، كالمعاناة في السهر على راحته، والإشراف على إطعامه، وإلباسه، ورعايته الصحية، ونظافته الدائمة...، وما يتركه الإنجاب أيضاً من انقلاب في الساعة البيولوجية، ومن تغيّرات على مجمل التصميم الهندسيّ للوحة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

128

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 حياة الزوجين، إن من حيث العلاقة الحميمة بينهما، أو الحدّ من حرّية نشاطهما في بناء العلاقات الاجتماعية، والتأثير على حركتهما خارج المنزل كالسهرات والترفيه... إلخ.


5- الامتناع بسبب بناء المستقبل المهنيّ والطموح الوظيفيّ لتحقيق الذات، كأن يريد الزوج السفر للعمل في الخارج من أجل تأمين مستقبله العمليّ مع اعتقاده أنّ الإنجاب مانع عن ذلك لاستنزافه لرصيده الماليّ، أو ترى المرأة أنّ في الحمل والإنجاب مانعاً لها عن الخروج إلى سوق العمل، أو تحقيق طموحها الوظيفيّ، واستمرارها فيه، مع أنّ مستلزمات الحياة قد أغرقتها وزوجها في الديون المالية كالقرض السكنيّ، أو شراء سيارة...

6- الامتناع بسبب إرادة إتمام مسيرة الرحلة العلمية، قد يتزوّج الشاب أو الفتاة في سنٍّ مبكرة يُتابع فيها دراسته الجامعية، ويرسم لنفسه في الحياة هدفاً بالوصول لحمل الشهادة الجامعية (ماجستير أو دكتوراه مثلاً)، فيرى أنّ إنجاب الأطفال سيُشكّل حجر عثرة يُعيقه عن السير بنجاح في طريق الرحلة العلمية ويؤثّر سلباً عليها، فيمتنع عن الإنجاب ريثما يُحقّق هدفه العلميّ... إلخ.

7- الامتناع بسبب العامل الماليّ - الاقتصاديّ، أي عدم توفّر الإمكانات المالية والقدرات الاقتصادية اللازمة في تأمين متطلّبات عملية الحمل والإنجاب، كالفحوصات الطبّية المطلوبة، تكاليف المستشفى والولادة، شراء جهاز الطفل، والإنفاق عليه لباساً وطعاماً وشراباً ودواء ولقاحاً وتعليماً... إلخ.

خارطة الطريق لإدارة حياة الإنسان واتّخاذ القرارات
قبل الدخول في مناقشة أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال نُشير إلى عدّة مقدّمات تُعتبر خارطة طريق لإدارة الحياة وكيفية اتخاذ القرارات فيها، ومنها المورد الذي نتحدّث عنه.

المقدّمة الأولى: إنّ طبيعة العالم الذي نعيش فيه متغيّر بنحو تدريجيّ لا دفعيّ، وهو عالم التزاحم والصراع بين الأضداد، لذا لا يُمكن أن يحصل الإنسان فيه على كلّ شيء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

129

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 بشكل دفعيّ، أو من دون مواجهة الخيارات المتعارضة، ممّا يجعله يعيش حالة من الحيرة والتردّد والقلق في المقايسة والموازنة بين مروحة الخيارات المختلفة، فيضطّره للتنازل عن بعضها لصالح البعض الآخر، وبعبارة مختصرة: الحياة تُعطي مُثمَناً بيد، وتأخذ ثمناً بيد أخرى، وهي لا تُعطي شيئاً حتّى تسلب من الإنسان مقابله شيئاً آخر.

 
المقدّمة الثانية: ينبغي للإنسان في المرتبة الأولى الأخذ بعين الاعتبار أنّ الجمع والمواءمة بين الخيارات المختلفة مع الإمكان هو أولى وأوجب من طرح الخيارات، أو الأخذ ببعضها دون بعض.
 
المقدّمة الثالثة: مع قصور قدرة الإنسان عن المواءمة بين الخيارات المختلفة بسبب استحكام التعارض والتزاحم بينها، سيأخذ بطبيعة الحال ببعضها، ولكن ينبغي أن يكون الأخذ ببعضها على حساب البعض الآخر خاضعاً لمرجّحات عقلائية وشرعية، يختار على ضوئها ترتيب الأولويات، منها:
1- اختيار الأهمّ على المهمّ.
 
2- اختيار السيّئ على الأسوأ. عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "ليس العاقل من يعرف الخير من الشرّ، ولكن العاقل من يعرف خير الشرّين"1.
 
3- دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
 
... إلخ من القواعد العقلائية والشرعية.
 
فعلى الإنسان تلقين النفس وتدريبها على أنّ تحقيق أحد الخيارات المتضادة في الحياة يتطلّب غضّ الطرف عن خيارات أخرى، وأنّه لا بدّ من التنازل عن أمر مرغوب ومطلوب من أجل الوصول إلى مطلوب أسمى منه قيمة وأهمّية وأولوية.
 
انطلاقاً ممّا سبق، لا ريب في أنّ الإنسان عند التزاحم بين إنجاب الأطفال ومطلوب آخر، سيعيش حالة من الصراع تجاه ترتيب جدول أولويّاته في الحياة، بين ما هو حسن وأحسن، وما هو سيّئ وأسوأ، والنقطة المركزية هنا هي السؤالان التاليان:
 
هل ما أتصوّره تعارضاً بين الخيارات هو كذلك في الواقع؟ فقد يبدو للإنسان أنّ مطلوباً ما 



1 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ج75، ص6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

130

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 يُزاحم مطلوباً آخر في حياته، فيُضحّي بأحدهما، مع إمكانية الجمع بينهما بطريق أو بآخر. فقد لا يكون هناك تعارض بين الإنجاب وبين إتمام الرحلة العلمية أو تحقيق الطموح الوظيفيّ مثلاً... وما هي معايير تشخيص الخيار الأفضل والأقل سوءاً لاتخاذ القرار على ضوئه في كيفية معالجة التعارض؟ كأن يعتمد مثلاً على معيار أرجحيّة ما يُمكن تداركه بالتسويف على ما لا يُمكن، أو ما تضعف فرصه بالتأجيل على ما لا تضعف، أو معيار ما هو الأكثر مرغوبية وتأكيداً عليه في الرؤية الدينية، أو معيار محقّقات وظيفة وأهداف بناء بيت الأسرة... إلخ.

 
بعد بيان هذه المقدّمات ندخل في مناقشة وتشريح كلّ سبب من الأسباب السابقة.
 
مناقشة الامتناع بسبب السلامة الصحّية والجسدية للمرأة أو الجنين
أمّا الحالة الأولى والثانية من أسباب الامتناع المتعلّقة بالسلامة الصحّية والجسدية للمرأة أو الطفل، فإنّ أمام الزوجين خيارين:
الأول: إمكانية تدارك الخطر الذي ستتعرّض له صحّة الزوجة أو الجنين من خلال اللجوء إلى الوسائل الطبّية، باستعمال بعض الأدوية أو إجراء بعض العمليات التي تحول دون التعرّض للأمراض، وتحمي الجنين من أيّ تشوّهات خلقية أو أمراض وراثية قد تنتقل إليه من أحد الأبوين المصاب بها. وفي هذه الحالة ينبغي عدم الاستخفاف والتهاون، والسعي نحو المعالجة قدر المستطاع، بنحو يُمكِّن من الإنجاب بدون إلحاق أيّ ضرر بالأم أو الجنين.
 
الثاني: أن لا يكون لتلك الأعراض والحالات المرضية أيّ وسيلة ممكنة للوقاية والعلاج، فهنا لا شكّ في أنّ القواعد العقلائية أمام الخيارات المتزاحمة تقتضي اتّخاذ قرار الامتناع عن الإنجاب دفعاً للضرر الذي لا يحتمل عادة، لأنّه الأهمّ أو الأقلّ سوءاً، من بين جملة الخيارات الأخرى المطروحة، انطلاقاً من القواعد القرآنية: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾1، ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾2، ويقول تعالى: ﴿لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾3، وهي قاعدة قرآنية عامّة تشمل أيّ مورد يؤدّي إلى إلحاق الضرر



1 سورة الحج، الآية 78.
2 سورة البقرة، الآية 185.
3 سورة البقرة، الآية 233.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

131

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

  بالأم بسبب الطفل، لأنّ المورد والسياق لا يُخصّصان عموم القواعد القرآنية. هذا إذا كان الضرر معتداً به، أمّا إذا كان الضرر بسيطاً يُمكن تحمّله عادة فهو ليس سبباً عقلائياً للتمسّك بمانعيّته عن الإنجاب، فكلّ أمٍّ تتحمّل ضرراً معيّناً في حملها وولادتها.

 
مناقشة الامتناع بسبب الخوف على الجمال الجسديّ
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّ الله جميلٌ يُحبُّ الجمال... "1. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّ لجسدك حقّاً"2. لا ريب في أنّه من جملة حقوق جسد الإنسان عليه العناية والاهتمام بحسنه وجماله، وقد حثّت الرؤية الإسلامية الإنسان بشكل عام والمرأة بنحو خاص على ذلك3، فحفاظ المرأة على جمالها الجسديّ أمر مرغوب فطرياً ودينياً وعقلائياً، ومع ذلك، بمقتضى المقدّمة الأولى اتّضح أنّ الحياة لا تُعطي حتّى تأخذ، فالثمن الذي تدفعه المرأة لنيل مرتبة شرف الأمومة يقتضي بطبيعة الحال أن تبذل وتُعطي وتُضحّي بجزء من جمالها الجسديّ، وهذا حال جميع النساء، فلذّة إشباع الغريزة الفطرية بالإحساس بالأمومة التي تعيشها المرأة بالتجربة الوجدانية عندما تحضن طفلها بين ذراعيها أشدّ وأسمى من لذّة الشعور بكمال جمال جسدها، أو ألم خسران بعض من عناصر جمالها.
 
هذا، فضلاً عن أنّ الإنسان وفق الهندسة الإلهية لتكوينه الداخليّ لا يُمكن أن ينجح بالتصرّف على خلاف مقتضى الطبيعة. والطبيعة الأنثوية تُنشد الأمومة، وتهتف بالإنجاب والإيلاد. وهذا النداء الداخلي الذي ينطلق من أعماق روح المرأة يُلحّ عليها بالاستجابة له وتلبية صدى صوته، وإلا ستبقى تعيش داخل سجن من الأحاسيس والمشاعر السلبية التي تعكس مناخاً من التوتّر النفسيّ والقلق... إلى غير ذلك من الحالات التي لن تعرف ما هو سببها إلا بأن تعيش أمومتها، لأنّ السير بعكس حركة نداء الأمومة هو خلاف مقتضى الطبيعة.



1 عوالي اللآلي، ج1، ص437، ح150. ووردت هذه الرواية بنصها عن الإمام علي، وعند ولده الإمام الحسن، وأيضاً عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام. يراجع: الكافي، ج 6، ص 438. وابن عياش، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج2، ص14، ح29.
2 التميمي، أحمد بن علي، مسند أبي يعلى الموصلى، ج13، ص216، ح7242.
3 يراجع: عجمي، سامر توفيق، حياتنا الجنسية كيف نعيشها؟ الباب الخامس، ص431 وما بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

132

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 فالامتناع بسبب الحفاظ على الجمال الجسديّ ليس مبرّراً شرعياً وعقلائياً كافياً للتضحية بالإحساس بالأمومة عبر إنجاب الأطفال. وعلى الزوج في هذا السياق، أن يلعب دوراً إيجابياً في تحفيز زوجته وجعلها لا تشعر بضعف الثقة بنفسها من الناحية الجمالية، من خلال تعييره لها بجسدها أو وصفها بأوصاف مسيئة...

 
مناقشة الامتناع بسبب مسؤوليات التربية العامة للطفل
هذا الامتناع في الحقيقة هو وليد عامل نفسيّ تعيشه الطبيعة الإنسانية نتيجة الأنس بما اعتادت عليه والألفة بالقديم من جهة والوحشة والخوف من الجديد، فتعمل بطريقة دفاعية تقاوم أيّ عنصر تغيير يريد الدخول على حياة الإنسان. وبسبب مقاومة التغيير يرفض الإنجاب كعنصر مستجدّ يريد اقتحام حياته الزوجية وفرض بعض المتغيّرات عليها، فيتصوّر نفسه ضعيف القدرة على التعامل مع الوضع الجديد، وأنّه قاصر عن تحمّل المسؤوليات اللازمة لمواجهة هذا المتغيّر، خصوصاً أنّه لم يخض هذه التجربة سابقاً. ويُمكن للإنسان أن يُقاوم مقاومة التغيير من خلال تنمية الحسّ بالمسؤولية في نفسه بالتدرّب عليه، ومن خلال مواجهة عنصر الخوف في ذاته بالعمل على قيادته والتحكّم به والسيطرة عليه، فيكون أقدر على اتّخاذ القرارات تجاه أيّ مستجدّ يواجه حياته من دون تردّد وقلق. ومن هنا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه"1.
 
وبالتّالي، سيكون اتّخاذ قرار الإقدام على إنجاب الطفل غير مصحوب بالتردّد والقلق.
 
أمّا الحدّ من الحرّية جزئياً، فهو ثمن طبيعيّ ينبغي أن يدفعه الإنسان لينال لذّة وجمال الإحساس بالأبوّة أو الأمومة.
 
مناقشة الامتناع بسبب المستقبل العمليّ والطموح الوظيفيّ
إنّ الجواب عن هذا السبب له شقّان: الأول متعلّق بالزوج، والثاني بالزوجة. أمّا الشقّ الأوّل: فإنّ السؤال الذي ينبغي أن يطرحه على نفسه هو: لماذا أخرج إلى سوق العمل وأُعاني 



1 نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، ح175.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

133

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 وأُكابد؟ أليس من أجل بناء الأسرة؟ وممَّ تتكوّن الأسرة؟ فهل للأسرة طعم ورائحة ولون بلا الأطفال؟ وهل بناء وتحقيق الطموح الوظيفيّ أولى؟! أمّا إذا كان السبب يعود إلى عنصر المال، فسنناقشه في الفقرة اللاحقة.

 
أمّا الجواب عن الشقّ الثاني، فيحتاج إلى التعرّض لمقدّمة بنيوية تُحدّد الجواب عن ما نعية هذا السبب، انطلاقاً من طرح سؤال بات يتمتّع بأهمّية خاصّة في هذا العصر الذي أصبح خروج المرأة فيه إلى سوق العمل شائعاً في المجتمعات الإسلامية، وهو: ما هو الدور الرئيس في الرؤية الإسلامية للمرأة / الزوجة في بناء الأسرة، هل العمل الإنتاجي أم الحمل والإنجاب وتربية الأطفال والعناية بالمنزل وتدبير شؤونه وإدارته؟
 
والجواب: إنّ هناك مبدأ عاماً يعتبر البناء التحتيّ الذي ينبغي أن تقوم عليه الحياة الأسرية وفق المقاصدية الإسلامية لها، وهو مبدأ العدالة لا المساواة في تقسيم الأدوار وتوزيعها بحسب طبيعة الذكورة والأنوثة في أحبّ بناء إلى الله تعالى. ومن ضمن الأدوار أنّ الزوج يتكفّل بالإنفاق الاقتصاديّ والماليّ وبالتّالي بالعمل الإنتاجيّ، في حين أنّ الوظيفة الرئيسة للمرأة - الزوجة هي تدبير شؤون المنزل الداخلية وتربية أطفالها1.
 
يقول الإمام السيد عليّ الخامنئيّ دام ظله: "من أهمّ وظائف المرأة: التدبير المنزليّ،... إنجاب الأطفال من أهمّ أشكال الجهاد بالنسبة إلى النساء ووظائف النساء، لأنّ الإنجاب هو في الحقيقة فنّ المرأة، فهي التي تتحمّل مشاقّه ومصاعبه وآلامه، وهي التي منحها الله تعالى أدوات ولوازم تربية الأطفال..."2.
 
وبناءً على هذه القاعدة الأساسية التي ترسم الموقع الوظيفيّ للمرأة في الحياة الأسرية، فإنّ الأولوية في حياة المرأة - الزوجة ليست للعمل، بل الحمل والإنجاب وتربية الأطفال ورعاية الأسرة، ولو تعارض الطموح الوظيفيّ والعمليّ مع بناء الأسرة تُقدِّم المرأة ما يتناسب مع طبيعة دورها في الحياة الأسرية أي الزوجية والأمومة على أيّ شيء آخر.



1 يراجع: شمس الدين، محمد مهدي، مسائل حرجة في فقه المرأة، الكتاب الثالث والرابع، حقوق الزوجية ويليه حق العمل للمرأة، ص 182و 229-230. من كلمة له في جمع من مداحي أهل البيت في طهران، 1-5-2013م.
2 يراجع: خطاب الولي، سلسلة خطاب الولي 2013م، إعداد مركز نون للتأليف والترجمة، نشر جميعة المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، 1435ه-2014م، ص216-217.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

134

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 الثاني: على فرض كون العمل لسبب أو آخر أولوية عند المرأة، فإنّ وضع هذه الفرضية (التعارض بين الأمومة والعمل الإنتاجي) على محكّ التجربة مع الواقع يُكذّبها، فهناك العديد بل الكثير من نماذج المرأة العاملة الناجحة وهي زوجة وأم. نعم، ممّا لا شك فيه أنّ هذا يقتضي تضحية وجهداً وبذلاً من وقتها بنحو إضافيّ.


وإن كان ولا بدّ كخيار أخير واضطراريّ للمرأة من العمل الإنتاجيّ، فعليها بالبحث عن عوامل تُساعدها على الحفاظ على الأمرين معاً، العمل وإنجاب الأطفال، كدور الحضانة أو الخادمات أو الجدة... التي يُمكن أن تُشكّل حلّاً جزئياً في تقديم يد العون للزوجة في المواءمة بين فرصتها في بناء طموحها الوظيفيّ وبين تحقيق أمومتها بالحمل والإنجاب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

135

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ الامتناع عن الإنجاب له صور متعدّدة، منها الامتناع عن الإنجاب مطلقاً، ومنها الامتناع عن الإنجاب في بداية الحياة الزوجية بنيّة الإنجاب لاحقاً، ومنها الامتناع بعد الاكتفاء بعدد معيّن من الأطفال.

- الامتناع عن الإنجاب أيضاً على نحوين: اضطراريّ خارج عن إرادة الزوج أو الزوجة، واختياريّ بسبب قرار الزوجين.

- يتمسّك المتزوّجون للامتناع عن الإنجاب بأسباب كثيرة، منها: الامتناع بسبب السلامة الصحّية للزوجة، الامتناع بسبب ما قد يلحق الجنين من تشوّهات خلقية أو الخوف على الجنين من الإجهاض، الامتناع بسبب الخوف على الجمال الجسديّ، الامتناع بسبب مسؤوليات التربية العامة للطفل، الامتناع بسبب بناء المستقبل المهنيّ والطموح الوظيفيّ لتحقيق الذات، الامتناع بسبب إرادة إتمام مسيرة الرحلة العلمية، الامتناع بسبب العامل الماليّ - الاقتصاديّ.

- إنّ الامتناع بسبب السلامة الصحّية والجسدية للمرأة أو الجنين، أمام حالتين: الأولى إمكانية تدارك الخطر من خلال المعالجة الطبية، فهذا واجب أخلاقيّ وإنسانيّ، والثانية: أن يكون في الإنجاب ضرر لا يحتمل على حياة الأم، فالقواعد العقلائية ترى لزوم دفع الضرر عن الأم.

- لا شكّ في أنّ جسد المرأة يتأثر بسبب الحمل والوضع والرضاع... لكن الحياة لا تُعطي حتّى تأخذ، ولذّة إشباع الإحساس بالأمومة أسمى من لذّة الشعور بكمال جمال جسدها.

- إنّ الإنسان يأنس بما اعتاد عليه ويعيش الخوف من الجديد، لذا قد يمتنع عن الإنجاب لأنّه يتصوّر نفسه ضعيف القدرة على التعامل مع المولود الجديد، لكن ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخافمنه".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

136

الدرس العاشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (1)

 أسئلة الدرس

1- إذا كان الامتناع عن إنجاب الأطفال بسبب عامل يُمكن معالجته طبيّاً، هل برأيك على الزوج أو الزوجة اللجوء إلى العلاج أم ترك الأمر للقضاء والقدر كما يقول البعض لأنّها إرادة الله؟

2- لقد رسمنا في الدرس خارطة طريق لإدارة حياة الإنسان واتّخاذ قراراته، لخّصها، وهل توافق عليها؟

3- بعض النساء تمتنع عن الإنجاب بسبب أنه يؤدّي إلى التشقّقات الجلدية ويؤثّر على الجمال الجسديّ للمرأة، كيف تُجيب على من يتذرّع بهذه الحجّة؟

4- بعض الأزواج يقول إن إنجاب الأطفال مسؤولية كبرى تحتاج إلى عناية واهتمام لا أجدهما متوفرين في نفسي، ولا أريد أن أقصّر في تربية أبنائي، فأن لا أنجبهم أصلاً أفضل من الإنجاب مع عدم القدرة على حسن التربية، كيف تناقش هذا القول؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

137

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) 
(مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستطيع مناقشة من يتمسّك بمانعية طلب العلم عن الإنجاب.
2- يمتلك القدرة على نقد امتناع الإنجاب بسبب العامل الاقتصادي.
3- يتعرّف إلى أسباب الرزق في التربية الاقتصادية الإسلامية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

138

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 تمهيد

تحدّثنا في الدرس السابق عن الأسباب الموجِبة لاتّخاذ بعض المتزوّجين قراراً بالامتناع عن إنجاب الأطفال من وجهة نظرهم، وناقشنا معظم تلك الأسباب. بقي تسجيل الملاحظات ومناقشة الامتناع تمسّكاً بذريعة إتمام الرحلة العلمية أو بسبب العامل الاقتصاديّ للأب والأسرة. وقد عقد هذا الدرس لمناقشة هذين السببين تتمّة للدرس السابق.
 
مناقشة الامتناع عن الإنجاب بسبب طلب العلم
ممّا لا شك فيه أنّ العلم له موقعيّة خاصّة في مصفوفة القيم الإسلامية، يقول تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾1. ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾2. ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾3. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾4... إلخ.
 
وانطلاقاً من أهمّية العلم وفضله في الرؤية الإسلامية قدّمه بعض الفقهاء على الزواج عند التعارض والتزاحم فيما بينهما. يقول الشهيد الثاني عند البحث عن الآداب المختصّة بالمتعلّم: "آدابه في نفسه، وهي أمور:... الرابع: أن يترك التزويج حتّى يقضي وَطَرَه - أي حاجته - من العلم، فإنّه أكبر شاغل وأعظم مانع، بل هو المانع جملة... وهذا أمر وجدانيّ مجرّب واضح، لا يحتاج إلى الشواهد، كيف مع ما يترتّب عليه على تقدير السلامة فيه من تشويش الفكر بهمّ الأولاد والأسباب... ولا يغترّ الطالب بما ورد في النكاح من الترغيب، فإنّ 



1 سورة آل عمران، الآية 18.
2 سورة المجادلة، الآية 11.
3 سورة فاطر، الآية 28.
4 سورة الزمر، الآية 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

139

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 ذلك لا يُعارضه واجب أولى منه، ولا شيء أولى ولا أفضل ولا واجب أضيق من العلم..."1.

 
وكذلك ذكر الشيخ الجواهري هذا المعنى في ذات السياق2.
 
وبناءً عليه، يُمكن تطبيق كلام الفقهاء على المورد الذي نحن فيه وهو إنجاب الأطفال، فيكون تحصيل العلم أولى وأفضل وأوجب من الإنجاب للأطفال، وينبغي تقديم العلم على كلّ فضيلة، وإيثاره على كلّ طاعة، حتّى إنجاب الأطفال.
 
لكن في حقيقة الأمر، يقع النقاش حول مسألة المقارنة بين العلم وإنجاب الأطفال من عدّة جهات:
أولاً: إنّ الرؤية الإسلامية لا تقوم على النظر إلى الأعمال والمقارنة بينها من حيث الحسن الفعليّ فقط3، بل إنّ اعتبار أيّ عمل قيمياً يتبع الحسن الفاعليّ4 أيضاً، بمعنى أنّ لنية العامل وقصده دوراً مهمّاً في إعطاء العمل قيمة محدّدة، فالعلم يتّصف بالحسن بمقدار ما ينوي به الإنسان التقرّب إلى الله تعالى، وكذا الإنجاب، وعليه فإنّ أفضلية العلم على إنجاب الأطفال لا ينظر إليها من حيث الحسن الفعليّ فقط، فقد يكون طلب العلم أفضل ذاتاً من طلب الولد، ولكن بالنيّة والقصد القربيّ يُصبح الثاني أفضل وأسمى وأكمل من الأول.
 
ثانياً: أنّه أيّ علم هو الذي يُعتبر أفضل من إنجاب الأطفال؟ هل مطلق العلم الذي يشمل مثلاً تحصيل العلوم السياسية أو الاقتصاد أو الهندسة أو الطب أو المعلوماتية...؟ إنّ الذي يظهر من النصوص القرآنية والروائية أنّه ليس مطلق طلب العلم هو الذي يحظى بتلك الميزة، وإنّما هو خصوص نوع معيّن يُطلق عليه اسم العلم الدينيّ، وهو الذي أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام في قوله: "وجدت علم الناس كلّه في أربع: أولها: أن تعرف ربّك، والثاني: أن تعرف ما صنع بك، والثالث: أن تعرف ما أراد منك، والرابع: أن تعرف ما يُخرجك من دينك"5.



1 العاملي، زين الدين بن علي، المعروف بالشهيد الثاني، منية المريد في أدب المفيد والمستفيد، 227-228.
2 الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج29، ص31-32.
3 الحسن الفعلي: هو الحسن بلحاظ الفعل نفسه، أي أن يكون الفعل بنفسه بغض النظر عن فاعله حسناً، كالقيام بالقسط والعدل، والابتعاد عن الظلم والجور، فهي أفعال حسنة بحد ذاتها من أي فاعل صدرت عنه.
4 الحسن الفاعلي: هو الحسن بلحاظ قصد الفاعل الحسن حين قيامه بالفعل الحسن، كقصده بالفعل التقرب إلى الله تعالى.
5 الكافي، ج1، ص50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
176

140

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 وثالثاً: هذا كلّه على فرض التعارض، ولكن قد يُناقش في أصل كون إنجاب الأطفال يُشكّل عقبة في طريق طلب العلم، وبالتّالي يتمّ تقديم التحصيل العلميّ على الإنجاب لأنّه أولى وأهمّ، إذ يُمكن عملياً الجمع بين طلب العلم وبين بناء الأسرة وإنجاب الأطفال، وخير شاهد على ذلك هو التجربة العملية، فإنّ استقراء سيرة حياة أكثر كبار علمائنا يُفيد أنّهم قد تزوّجوا في سنٍّ مبكرة، ولم يحجبهم الزواج والإنجاب وتربية الأطفال عن طلب العلم والسعي فيه وبذل الجهد وشقّ طريقهم نحو تحصيل العلوم والبحث والتدريس والكتابة والتأليف بل والقيام بمسؤوليّات التبليغ والإمامة والدعوة...1. وهنا نعود للتذكير بقاعدة أنّ الجمع بين الخيارات التي تبدو متعارضة مهما أمكن هو أولى وأفضل من الطرح وتقديم بعض الخيارات بنحو يسدّ الباب أمام خيار آخر. وعليه فالجمع بين الاشتغال بالعلم والإنجاب أولى وأفضل، كيف والأطفال هم الأنيس الموافق، ومن دونهم يبقى الإنسان ناقص العيش، زائل العقل، مشغول القلب. فعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "خمس خصال من فقد واحدةمنهنّ لم يزل ناقص العيش، زائل العقل، مشغول القلب:... والرابعة: الأنيس المُوافق. سُئِل عليه السلام: وما الأنيس الموافق؟ قال: الزوجة الصالحة والولد الصالح..."2.

 
التزاحم بين طلب العلم الواجب وبين الإنجاب
ما تقدّم الحديث عنه هو في فرض صورة التعارض بين العلم المستحبّ وبين الإنجاب. أمّا في صورة التعارض بين العلم الواجب وبين الإنجاب فلا بدّ من معالجة المسألة من خلال عرض صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون طلب العلم واجباً على نحو عينيّ، فهنا ممّا لا شكّ فيه يُقدّم طلب العلم على الإنجاب. هذا في صورة وجود تعارض فعليّ مستحكم.
 
الصورة الثانية: أن يكون طلب العلم واجباً على نحو كفائيّ، وذلك لأنّ العلوم التي تُساهم في حفظ النظام العامّ وبه يكون قوام حياة المجتمع الإسلاميّ هي واجبة كفاية على عموم



1 يراجع: الهاشمي، محمود، التعليم والتزكية وظيفة المتعلمين، مجلة المنهاج، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، صيف السنة التاسعة عشر، 1436هـ-2014م، العدد74، ص16. ويراجع: النراقي، جامع السعادات، ص281.
2 الخصال، ص284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

141

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

  المسلمين، فهنا قد يُقال إنّ طلب العلم على هذا النحو مقدّم على الإنجاب لكونه مستحبّاً، إلا أنّه في الواقع معالجة المسألة على هذا النحو ليس دقيقاً وشاملاً، لأنّ الحديث عن استحباب الإنجاب هو حديث عنه بالمعنى الفرديّ الخاصّ، أمّا الإنجاب بالمعنى النوعيّ، فقد صرّح بعض الفقهاء بخصوصه أن "توقيف نسل الأمّة إلى حدٍّ معيّن، المؤدّي إلى الانقراض بعد حين حرام شرعاً"1، وحينها يقع التزاحم نوعاً بين ما هو واجب كفائيّ وبين ما هو حرام شرعاً، وتخضع حينها لقواعد معالجة التزاحم في مثل هذه الصورة.

 
مناقشة الامتناع عن الإنجاب بسبب الوضع الاقتصاديّ
ذكرنا أنّ بعض الأزواج قد يمتنع عن الإنجاب إمّا تمسّكاً بسوء الحال الاقتصادية وإمّا خوفاً من الوقوع في الفقر بسبب دخول عناصر بشرية أخرى على الأسرة، ومناقشة هذه النقطة لأهمّيتها تحتاج إلى بيان بعض المقدّمات المختصرة التي توصل إلى رسم الجواب بشكل واضح.
 
التربية على عقيدة التوحيد في الرازقية
1- إنّ سلوك الإنسان في الحياة نتاج عقيدته الكونية. ومن جملة الأصول التربوية الإسلامية تربية الإنسان على عقيدة التوحيد الأفعاليّ، بمعنى أنّه لا فاعل ومؤثّر حقيقة في الكون وحياة الإنسان إلّا الله تعالى. ومقتضى ذلك التوحيد في الرازقية ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ﴾2.
 
2- إنّ الله تعالى جعل لكلّ إنسان قسماً معلوماً من الرزق. قال تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾3. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "وجعل لكلّ روح منهم قوتاً معلوماً مقسوماً من رزقه لا ينقص من زاده ناقص ولا يزيد من نقص منهم زائد"4.



1 الروحاني، المسائل المستحدثة، ص143.
2 سورة الذاريات، الآية 58.
3 سورة الزخرف، الآية 32.
4 الصحيفة السجادية، الدعاء الأول، ص22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

142

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 3- إنّه تعالى تكفّل بإيصال هذا الرزق المقسوم إلى الإنسان عاجلاً أم آجلاً، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجّة الوداع: ألا إنّ الروح الأمين نفث في روعي، أنّه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا الله عزّ وجلّ، وأجملوافي الطلب، ولا يحملنّكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله، فإنّ الله تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالاً، ولم يُقسّمها حراماً، فمن اتّقى الله عزّ وجلّ وصبر أتاه الله برزقه من حلّه، ومَنْ هتك حجاب الستر وعجّل فأخذهمن غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال، وحُوسب عليه يوم القيامة"1.

 
فالخلق جميعهم عيال الله تعالى الذين ضمن أرزاقهم، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "عياله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم"2. فكيف إذا كانوا أطفالاً؟ فلا شكّ بأنّ رزقهم قد تكفّل به الله تعالى وضمنه، وقد أوضح لنا القرآن الكريم هذه المسألة، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا﴾3، وقال: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾4.
 
4- إنّ مؤثّرية الله وفاعليّته في الكون لا تُلغي مؤثّرية غيره بإذنه تعالى، فالله خلق العالم بكيفية خاصّة خاضعاً لقانون السببية العامّ، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "أبى الله أن يجري الأشياء إلّا بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً..."5. وبناءً عليه: مع أنّ الرزّاق حقيقة هو الله تعالى، لكنّه عزّ وجلّ يُنزل رزقه على الإنسان بواسطة أسباب خاصة، فما هي هذه الأسباب التي إذا حقّقها الإنسان انفتحت عليه أبواب الرزق؟



1 الكافي، ج5، ص80.
2 نهج البلاغة، خطبة الأشباح، ص124.
3 سورة الإسراء، الآيتان 30-31.
4 سورة الأنعام، الآية 151.
5 الكافي، ج1، ص183.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

143

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 العمل الاقتصاديّ من أهمّ أسباب تحصيل الرزق

يقول تعالى: ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ﴾1، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾2،... إلخ من الآيات. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه النصوص الدينية وغيرها الكثير تُفيد أنّ نزول الرزق على الإنسان لا يحصل بشكل تلقائيّ من الله تعالى، بل يحتاج إلى السعي والكدّ والعمل وبذل الجهد والمشي في مناكب الأرض والانتشار فيها. وقد كان أئمة أهل البيت عليهم السلام يأكلون من كدِّ يدهم وعرقهم3.
 
وهذا ممّا لا شكّ فيه كونه السبب الاعتياديّ في تحصيل الرزق، لكنّه لا يُلغي وجود جملة أسباب أخرى إذا تمسّك بها الإنسان فُتحت عليه أبواب البركات من السماء والأرض. فما هي تلك الأسباب؟
 
التربية الاقتصادية للنفس على أسباب الرازقية
إن قانون السببية العامّ لا يعني أحادية السبب في الحصول على النتائج المطلوبة، بل قد تتعدّد الأسباب في حصول مسبَّب واحد، فمثلاً إنّ التوحيد الأفعاليّ يقتضي كون الشفاء من الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾4، وقد جعل الله تعالى الطبيب وسيلة وسبباً للحصول على الشفاء، ولكن هذا لا يعني حصرية الطبيب في الاستشفاء، بل هناك أسباب أخرى إلى جانب هذا السبب، منها: القرآن، الدعاء، تربة الحسين، ماء زمزم، والصدقة... إلخ.
 
- قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء﴾5.
 
- وعن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام، قال: "شكا رجل إلى النبيّ وجعاً في صدره. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: استشفِ بالقرآن، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾6"7.



1 سورة الحجر، الآيتان 19-20.
2 سورة الملك، الآية 15.
3 يراجع: الكافي، ج5، ص73.
4 سورة الشعراء، الآية 80.
5 سورة الإسراء، الآية 82.
6 سورة يونس، الآية 57.
7 الكافي، ج2، ص600. وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "من لم يستشفِ بالقرآن فلا شفاه الله". وعن العالم عليه السلام: "في القرآن شفاء من كل داء". مكارم الأخلاق، ص363.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

144

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 - وعن علاء بن كامل قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "عليك بالدعاء، فإنّه شفاء من كلّ داء"1.

 
- وعن أبي الحسن عليه السلام: "... طين قبر الحسين عليه السلام فإنّ فيه شفاء من كلّ داء"2.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "داووا مرضاكم بالصدقة"3.
 
وغيرها من الروايات الكثيرة. وفي نفس السياق إنّ العمل ليس هو السبب الوحيد والعلّة الحصرية للحصول على الرزق الإلهيّ، بل جعل الله تعالى بين الإنسان وبين الحصول على الرزق عدّة أسباب، كما جعل لعدم نزول الرزق عدّة موانع. ومن أسباب الرزق:
1- التقوى: قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾4, ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾5.
 
2- التوكّل على الله: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً"6.
 
3- الاستغفار: قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾7. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من استبطأ عليه الرزق فليستغفر الله"8.
 
4- الإكثار من التكبير: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من استبطأ الرزق فليُكثر من التكبير"9.



1 الكافي، ج2، ص470.
2 الكافي، ج6، ص266.
3 الكافي، ج4، ص3.
4 سورة الطلاق، الآيات 2-3.
5 سورة الطلاق، الآية 4.
6 عوالي اللئالي، ج4، ص57.
7 سورة نوح، الآيات 10-12.
8 الصدوق، محمد بن علي، عيون أخبار الرضا، ج2، ص50، ح171.
9 ميزان الحكمة، ج2، ص1072.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

145

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 5- الصدقة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا من الصدقة تُرزقوا"1. وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "استنزلوا الرزق بالصدقة"2.

 
6- صلة الرحم: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه"3.
 
7- الدعاء للإخوان: عن الإمام الباقر عليه السلام: "عليك بالدعاء لإخوانك بظهر الغيب فإنّه يُهيل الرزق"4.
 
8- المواظبة على بعض الأذكار: عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: "من قال في كلّ يوم ثلاثين مرّة: "لا إله إلا الله الحقّ المبين، استقبل الغنى، واستدبر الفقر..."5. وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ... من ألحّ عليه الفقر فليُكثر من قول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله، ينفي الله عنه الفقر..."6. وغيرها من الأذكار الكثيرة7.
 
9- حسن البرّ بالزوجة والأطفال: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من حسن برّه بأهل بيته زيد في رزقه"8.
 
10- حسن الخلق: عن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "حسن الخلق من الدين وهو يزيد في الرزق"9.
 
11- حسن الجوار: عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "حسن الجوار يزيد في الرزق"10.



1 الديلمي، الحسن بن محمد، إرشاد القلوب، ج1، ص45.
2 نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، ح137.
3 الخصال، ص32.
4 ابن ادريس الحلي، محمد بن منصور، مستطرفات السرائر، ص637.
5 الصدوق، محمد بن علي، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص8.
6 الكافي، ج8، ص93.
7 الصدوق، محمد بن علي، الأمالي، ص355.
8 بحار الأنوار، ج71، ص104.
9 تحف العقول، ص373.
10 الكافي، ج2، ص666.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

146

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 12- زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام: عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام فإنّ إتيانه يزيد في الرزق..."1.

 
13- إطعام الطعام: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الرزق أسرع إلى من يُطعم الطعام، من السكّين في السنام"2.
 
... إلى غيرها من الأسباب العديدة التي تناولتها النصوص الدينية.
 
حديث جامع في زيادة الرزق
وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "... ألا أُنبّئكم بعد ذلك بما يزيد في الرزق؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. فقال: الجمع بين الصلاتين يزيد في الرزق، والتعقيب بعد الغداة وبعد العصر يزيد في الرزق، وصلة الرحم تزيد في الرزق، وكسح الفنا يزيد فيالرزق، ومواساة الأخ في الله عزّ وجلّ يزيد في الرزق، والبكور في طلب الرزق يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد في الرزق، واستعمال الأمانة يزيد في الرزق، وقول الحقّ يزيد في الرزق، وإجابة المؤذِّن يزيد في الرزق، وترك الكلام في الخلاءيزيد في الرزق، وترك الحرص يزيد في الرزق، وشكر المنعم يزيد في الرزق، واجتناب اليمين الكاذبة يزيد في الرزق، والوضوء قبل الطعام يزيد في الرزق، وأكل ما يسقط من الخوان يزيد في الرزق، ومن سبّح الله كلّ يوم ثلاثين مرة دفع الله عزّ وجلّ عنه سبعين نوعاً من البلاء أيسرها الفقر"3.
 
من موانع الرزق
1- الذنوب: عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد ليُذنب الذنب فيزوي عنه الرزق"4.
 
2- حبس الحقوق عن الناس: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من حبس عن أخيه المسلم شيئاً من حقّه حرم الله عليه بركة الرزق إلّا أن يتوب"5.



1 ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات، ص284.
2 البرقي، أحمد بن محمد بن خالد، المحاسن الأخلاق والآداب-، ج2، ص390.
3 الخصال، ص505.
4 الكافي، ج2، ص270.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
183

147

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 3- السحت: عن الإمام الصادق عليه السلام: "كثرة السحت يمحق الرزق"1.

 
4- الزنا: عن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: "اتّقِ الزنا، فإنّه يمحق الرزق"2.
 
...إلى غيرها من الموانع.
 
الاستنتاج
انطلاقاً من مجموع هذه المقدّمات، لا شكّ في أنّ الإنسان المؤمن إذا أحسن الظنّ بالله تعالى وأخلص النيّة وقام بالأعمال التي هي مقتضيات أو شروط لجلب الرزق، وابتعد عن الأعمال التي هي موانع تحجب الرزق، كان الله عند حسن ظنّ عبده به، فيفيض عليه من الرزق، وذلك مجرّب. فالتمسّك بالعامل الماليّ والاقتصاديّ للامتناع عن إنجاب الأطفال هو ضعف ثقة برازقية الله تعالى.
 
عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: وجدنا في كتاب عليّ عليه السلام: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال - وهو على منبره -: "... والذي لا إله إلا هو، لا يُحسن ظنّ عبد مؤمن بالله إلّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن، لأنّ الله كريم، بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبدهالمؤمن قد أحسن به الظنّ ثمّ يُخلف ظنّه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه"3.



1 تحف العقول، ص372.
2 الكليني، الكافي، ج5، ص541.
3 م.ن، ج2، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
184

148

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 المفاهيم الرئيسة

- العلم له موقعيّة خاصّة في مصفوفة القيم الإسلامية، لذا قدّمه الفقهاء على ما صرّح الشهيد الثاني والشيخ الجواهريّ على الزواج عند التعارض والتزاحم بينهما. ويُمكن تطبيق كلامهم على مورد إنجاب الأطفال عيناً بعين.

- الرؤية الإسلامية تقوم على النظر إلى الأعمال والمقارنة بينها من حيث الحسن الفعليّ والفاعليّ معاً، فالعلم يتّصف بالحسن بمقدار ما ينوي به الإنسان التقرّب إلى الله تعالى، وكذا الإنجاب.

- إنّ الذي يظهر من النصوص القرآنية والروائية أنّه ليس مطلق طلب العلم هو الذي يحظى بتلك الميزة، وإنّما هو خصوص العلم الدينيّ.

- أوّل الكلام في كون إنجاب الأطفال يُشكّل عقبة في طريق طلب العلم، وبالتّالي يتمّ تقديم التحصيل العلميّ على الإنجاب لأنّه أولى وأهم، إذ يُمكن عملياً الجمع بين طلب العلم وبين بناء الأسرة وإنجاب الأطفال، وخير شاهد على ذلك هو التجربة العملية، فإنّ استقراء سيرة حياة أكثر كبار علمائنا تُفيد أنّهم قد تزوّجوا في سنٍّ مبكرة، ولم يحجبهم الزواج والإنجاب وتربية الأطفال عن طلب العلم والسعي فيه.

- أمّا فيما يتعلّق بالعامل الاقتصاديّ، فإن الرؤية الكونية الإسلامية تقوم على أنّ الله تعالى هو الرزاق، وأنّ الخلق جميعهم عيال الله تعالى، وقد ضمن وتكفّل تعالى بإيصال هذا الرزق المقسوم إلى الإنسان عاجلاً أم آجلاً.

- لكن، قانون السببية العامّ لا يعني أحادية السبب في الحصول على النتائج المطلوبة، بل قد تتعدّد الأسباب في حصول مسبَّب واحد، فالعمل ليس هو السبب الوحيد والعلّة الحصرية للحصول على الرزق الإلهيّ، بل جعل الله تعالى بين الإنسان وبين الحصول على الرزق عدّة أسباب، كما جعل لعدم نزول الرزق عدّة موانع.

- من أسباب الرزق الإلهيّ: التقوى، التوكّل على الله، الاستغفار، الإكثار من التكبير، الصدقة، صلة الرحم، الدعاء للأخوان، حسن البرّ بالزوجة والعيال، حسن الخلق مع الناس، حسن الجوار، زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
185

149

الدرس الحادي عشر: أسباب الامتناع عن إنجاب الأطفال - عرض ومناقشة - (2) (مناقشة الامتناع بسبب طلب العلم والوضع الاقتصاديّ)

 أسئلة الدرس

1- هل إعطاء طلب العلم قيمة خاصة في الإسلام ينبغي أن يشكّل عائقاً وحجر عثرة أمام إقدام الإنسان على الإنجاب؟ ولماذا؟

2- كيف تناقش من يقول إن الإنجاب أمر مرغوب ومهمّ، ولكن طلب العلم أهمّ، وإذا اعتمدت في حياتي القاعدة العقلائية التي تقول بتقديم الأهمّ على المهمّ، فأمتنع عن الإنجاب؟

3- ما هو الدور الذي تلعبه العقيدة التوحيدية الاقتصادية من أنّ الله تعالى هو الرزاق في تنشيط الدافع نحو الإنجاب بتجاوز التمسك بمانعية الوضع الاقتصاديّ؟

4- هل أسباب حصول الإنسان على الرزق الإلهيّ المقسوم تنحصر بالعمل الاقتصاديّ أم هناك جملة أسباب أخرى لها دخالة أساسية في هذا المجال؟ وكيف يؤثّر الاعتقاد بهذه الأسباب على مسألة الإنجاب للأطفال؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
186

150

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يميّز بين تنظيم النسل وتحديد الأسرة ومعرفة معنى كلٍّ منهما.
2- يعرف موقف الشريعة الإسلامية من مسألتي تنظيم الأسرة وتحديد النسل بالعنوانين الأوّليّ والثانويّ.
3- يحلّل أسباب اتّخاذ بعض الحكومات قراراً بسياسة تحديد النسل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

151

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 تمهيد

من المسائل القديمة المتجدِّدة التي تُطرح على بساط البحث كتحدٍّ يواجه المجتمع الإنسانيّ الكبير قضية "تنظيم الأسرة وتحديد النسل". ومنذ أن أبصرت هذه المسألة النور انقسمت المواقف بين مؤيّد ومعارض، حيث نرى أفلاطون تحدّث عن الحجم الأمثل لسكّان المدينة من خلال تحديد النسل وغيره، وكذلك تلميذه أرسطو في كتابه "السياسة" تحدّث عن تحديد إنجاب الأطفال لكلّ أسرة بعدد معيّن1.
 
كما يُخبرنا القرآن الكريم عن أنّ حالة الإفلاس والفقر كانت ذريعة عند بعض العرب الجاهليين إلى تحديد النسل من خلال قتل أولادهم الذكور أو الإناث2.
 
وقد تشدَّد المنهاج الإسلاميّ في مواجهة ومكافحة هذه الظاهرة، حيث نهى الله تعالى في كتابه العزيز عنها، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم﴾3، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا﴾4، وقال: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾5.



1 أرسطو، السياسة، ص224 -227. ويراجع حول تحبيذ الفلاسفة اليونانين لتحديد النسل: ديورانت، ويل وايريل، قصة الحضارة، حياة اليونان، مجلد2/ ج2، الباب13، الفصل الأول: الطفولة، ص80-81.
2 وهي مسألة مختلفة تماماً عن ظاهرة وأد البنات التي سنأتي على بحثها لاحقاً.
3 سورة الأنعام، الآية 151.
4 سورة الإسراء، الآية 31.
5 سورة الأنعام، الآية 140.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

152

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 وقد أُثيرت مسألة تحديد النسل بقوّة في أواخر القرن الثامن عشر الميلاديّ، عندما طرح مالتوس1 (1766-1834م) نظريّته في العلاقة التوازنية بين عدد السكان وحجم المواد الغذائية المنتَجة التي تُلبّي حاجات البشر. والزيادة السكّانية تخضع لقوانين طبيعية تتعلّق بالميل الجنسيّ بين الرجل والمرأة. و"المتتالية الهندسية السكّانية" شكلها التالي: (1، 2، 4، 8، 16، 32...) فلو أنجبت الأسرة طفلين، فالطفلان سينجبان أربعة، ثمّ الأربعة ثمانية، وهكذا...، في حين أنّ المواد الغذائية تخضع لحجم الأراضي الصالحة للاستثمار الزراعيّ بزيادة تحصل بمتوالية عددية، و"المتتالية الحسابية الغذائية" على الشكل التالي: (1، 2، 3، 4، 5، 6...)، وعليه فإنّ ميزان الأرجحية سيكون لصالح الزيادة السكّانية والانفجار الديموغرافيّ مقابل زيادة المواد الغذائية، ممّا يؤدّي إلى حدوث اختلال في التوازن بين الأمرين، ويحتاج إعادة التوازن بينهما إلى عاملين: أحدهما خارجيّ وسمّاه الموانع الإيجابية صلى الله عليه وآله وسلمositiveschecks، يظهر في شكل حروب وصراعات بين الجماعات البشرية المختلفة، وفي زيادة الأوبئة والأمراض والمجاعات... إلخ، والثاني يحصل من خلال ما أسماه الموانع الأخلاقية preventivechacks.Moralustraint مثل الامتناع عن الزواج أو تأخير سنّ الزواج أو التقليل من معدّلات المواليد2.

 
وقد تمسّك أنصار هذه الأطروحة (المالتوسيون Malthusians وأيضاً النيو مالتوسيين) بها كمبرّر للدعوة إلى تحديد النسل.
 
تحديد طبيعة مشكلة البحث
انطلاقاً مما ذكرناه حول النظرة الإسلامية إلى محبوبية إنجاب الأطفال، يثار حول مسألة "تنظيم الأسرة وتحديد النسل" أو "العدد الأمثل للسكّان"، السؤال التّالي: ما هو موقف الرؤية الإسلامية من مسألة تحديد النسل وتنظيم الأسرة؟
 
وسنُعالج الجواب عن هذا السؤال ضمن النقاط التالية:



1 في عام 1789 نشر مالتوس Thomas robert Malthus كتاباً تحت عنوان: An Essay on the princi ple of poppulation، أي "مقالة عن مبدأ السكان"، تحدث فيه عن فكرته التي عرضناها.
2 يراجع: عوض الله، زينب حسين، مبادئ علم الاقتصاد، ص179-180. والببلاوي، حازم، دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي، ص72 وما بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

153

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 1- تحديد المقصود بتنظيم الأسرة وتحديد النسل.

2- موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم الأسرة بالعنوان الأوّليّ.
3- موقفها من تحديد النسل بالعنوان الأوّليّ.
4- موقفها من تنظيم الأسرة أو تحديد النسل بالعنوان الثانويّ.
5- الحكم التدبيريّ للوليّ الفقيه في المسألة.

بيان المبدأ التصوّري: تنظيم الأسرة/ تحديد النسل
عادة ما يتمّ التمييز بين عنوانين: الأول: تنظيم الأسرة أو تنظيم النسل، والثاني: تحديد النسل، وقد عُرِض العديد من وجهات النظر في بيان الفرق بينهما. وبما أنّ المفردتين لم تردا في أيّ نصٍّ تشريعيّ إسلاميّ -آية أو رواية - فإنّ تنقيح معناهما لن يتمّ من الناحية النصوصية، ولكن لأنّ تحديد موضوعهما يلعب دوراً في تحديد ما هو الحكم الشرعيّ، سنتبنّى وجهة نظر في المصطلحين تُساعدنا على بيان موقف الشريعة بشكل واضح.

ما هو تنظيم الأسرة؟
نعني بتنظيم الأسرة: قيام الزوج والزوجة بتشخيص ما هو المناسب لهما في تنظيم فترات الحمل بين الأطفال كإنجاب طفل كلّ خمس سنوات، أو تحديد الأطفال المراد إنجابهم بعدد معيّن كطفلين مثلاً، انطلاقاً من الأسباب التي تمّ عرضها ومناقشتها في الدرس السابق.

فتنظيم الأسرة هو حالة فردية متعلّقة بكلّ أسرة أسرة، لذا تختلف من أسرة إلى أخرى في نفس المجتمع الواحد.

ما هو تحديد النسل؟
نقصد بتحديد النسل: قيام السلطة أو الحكومة بإصدار قانون عام يُلزِم جميع الأُسَر في الدولة بالوقوف بالنسل وإنجاب الأطفال عند حدٍّ معيّن، كسياسة أسرة ذات مولود واحد أو اثنين مثلاً، مع قيام الحكومة بإجراءات معيّنة للتعزيز والتحفيز الإيجابيّ والسلبيّ تجاه سياسية تحديد النسل، ففي الجانب الإيجابيّ مثلاً: تقوم الحكومة بتقديم وسائل تحديد
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

154

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 النسل ومنع الحمل مجّاناً...، وفي الجانب السلبيّ مثلاً: تقوم الحكومة بإجراءات معيّنة ضدّ الأسرة التي لا تلتزم بالقانون العام، كالامتناع عن تسجيل الولد في الدوائر الرسمية... إلخ.


الأسباب التي تدفع الحكومة إلى تحديد النسل
إنّ مسألة الإنجاب لا تتعلّق فقط بالموارد المادّية أو المعنوية الخاصّة بالأسرة، بل تتعلّق أيضاً بموارد وإمكانات الدولة التي تعيش تلك الأسرة فيها، لذا لا يُمكن اعتبار الإنجاب شأناً فردياً وشخصياً للأسرة فقط، فمن مسؤوليات الدولة تأمين الاحتياجات الرئيسة للمجتمع كالتعليم والصحّة والسكن وفرص العمل والأمن والدفاع والخدمات والعمران و...، وبالتّالي ستضطّر إلى بناء المؤسّسات التعليمية، مراكز الطبابة، تمديدات مياه الشرب، محطّات الكهرباء، شبكات الصرف الصحّي، الطرقات والجسور...، فضلاً عن قوى الجيش والأمن الداخليّ، المجالس البلدية، المديريات العامّة... إلخ، وكلّ ذلك لا بدّ من أن يتناسب مع حجم السكّان. وقد تكون كثافة النمو السكّاني غير متناسبة مع موارد الدولة والدخل القوميّ وقدراتها الاستثمارية، وبالتّالي فإنّ التضخّم السكّانيّ سينعكس سلباً على وضع خطط النمو الاقتصاديّ والتنمية الوطنية وتأمين احتياجات المجتمع، لأنّ الدولة التي يزداد النمو السكّانيّ فيها مثلاً بنسبة 3 %، ودخلها القوميّ مثلاً 2 % ينبغي أن تستثمر ما يزيد على 20 % من دخلها القوميّ، في حين أنّ غالبية البلاد العربية والإسلامية نادراً ما تستثمر أكثر من 5 إلى 6 % من دخلها القوميّ كحدٍّ وسط. أمام هذه الحالة تجد الدولة نفسها مضطّرة تفادياً لما يترتّب على الزيادة السكّانية من مشكلات أن تعمل على إصدار قانون عام يلزم الأسرة بتحديد إنجاب الأطفال بعدد معيّن.

هذا فضلاً عنمّا تؤدّي إليه الزيادة السكّانية في هذه الحالة من مشكلات اجتماعية مثل: البطالة، الفقر، الأمية، الجريمة... إلخ، فتواجه الدولة مشكلات إضافية تؤدّي إلى تضرّر المجتمع والأسر أيضاً.

وهنا تطرح الحكومة على نفسها السؤال التالي: ما هو الحلّ؟ أليس من المصلحة إصدار قانون عامّ يلزم بتحديد النسل؟

وهذا نظير "ما حدث في إيران منذ عام 1980م حتّى نهاية عام 1988م، إذ بلغ معدّل النموّ السكّانيّ في عام 1988م - طبقاً للإحصاء الرسميّ لمنظمة الأحوال الشخصية - 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

155

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 حوالي 7/3 %، بل بلغ عدد الولادات في هذا العام مليوناً وستمائة وسبعة وستين ألفاً ومائتين وأربعة وسبعين حالة، وأنّه قد حصلت زيادة على عدد السكان في الفترة ما بين عام 1980م ونهايات عام 1988م مليونين وخمسمائة وخمسة وأربعين، أي بإضافة مليوني نسمة في كلّ عام إلى عدد سكّان البلد"1.

 
وبعد انتهاء حرب صدام حسين على إيران وشروع إعادة البناء، وبعد إعلان الإحصاءات الرسمية عن زيادة سكّانية بنسبة 9/3 % والقلق من زيادة معدّل النمو السكّاني الكبير في إيران حتّى بلغت حدّ الدولة الثالثة في العالم، اتّخذت الحكومة الإيرانية قراراً بتحديد النسل.
 
ولسنا هنا في صدد مناقشة علمية لهذه الأسباب، ولكن ما تنبغي الإشارة إليه بشكل سريع هو أنّ الدولة العادلة المقتدرة ينبغي أن تسعى إلى تهيئة كلّ الظروف والإمكانات التي تُساعد المواطنين على أن يعيشوا عيشاً كريماً بنحو لا يؤثّر على حرّية خياراتهم المشروعة في الحياة أولاً. وثانياً: إنّ ما قد يُشخّصه علماء الاقتصاد والاجتماع والحقوق أنّه أزمة ومشكلة في مرحلة زمنية محدّدة، ويسعون إلى معالجته من خلال سياسة تحديد النسل، قد يتبيّن لهم لاحقاً أنّه هو كان مسبباً في إنتاج مشكلة أكبر للدولة، كما حصل في إيران حيث إنّ سياسة تحديد النسل أدّت إلى ولادة مشكلة كبرى تُعاني منها إيران اليوم وهي الشيخوخة، وهذا ما دفع الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله إلى الاعتراف في مناسبات متعدّدة2 بأن ذلك القرار كان خاطئاً وغير دقيق، حيث يقول: "إنجاب الأطفال جهاد عظيم، ونحن للأسف بسبب أخطائنا، أو عدم دقّتنا، غفلنا عنه لمدّة من الزمن، ونشهد مخاطر هذه الغفلة في أيّامنا هذه. لقد ذكرت هذا الأمر مراراً: إنّ هرم البلاد، وانخفاض جيل الشباب في الأعوام القادمة، سيترك آثاره المستقبلية السّيئة، وحينها لن نتمكّن من معالجة الأمر"3.



1 يراجع: صحيفة اطلاعات، 23/7/1369، 1990م-. وصحيفة جمهورى إسلامى، 14/3/1368، 1989م-.
2 يراجع: بيان الإمام الخامنئي دام ظله إلى العاملين على إقامة المؤتمر الوطني للتغيير السكاني ودوره في تحولات المجتمع المختلفة، 28-10-2013م. منشور ضمن سلسلة خطاب الولي 2013، ص577 وما بعد.
3 من كلمة له في جمع من مداحي أهل البيت في طهران، 1-5-2013م. يراجع: خطاب الولي، سلسلة خطاب الولي 2013م، إعداد مركز نون للتأليف والترجمة، نشر جميعة المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، 1435هـ-2014م، ص217.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

156

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 على كلّ حال، بعد أن اتّضح المقصود بكلّ واحد من العنوانين وأسبابهما، ندخل في بيان موقف الشريعة من كلٍّ منهما.

 
الحكم الأوّليّ/ الثانويّ/ الولائيّ
قبل بيان الحكم في المسألة، نُشير إلى مقدّمة حول معنى الحكم بالعنوان الأوّليّ، والحكم بالعنوان الثانويّ، والحكم الولائيّ.
 
1- الحكم الأوّليّ: هو الحكم المجعول على الفعل بما هو هو في نفسه، كوجوب الصلاة وحرمة أكل لحم الميتة...، بغضّ النظر عن عروض أيّ عنوان آخر يتعلّق بحالات المكلَّف وما يلحق به من الضرر أو الحرج أو الاضطرار.
 
2- والحكم الثانويّ: هو الحكم المجعول على الموضوع لا في نفسه بل بلحاظ عروض حالة من حالات المكلَّف عليه، أي على الموضوع المقيّد بعنوان ثانويّ كالضرر أو الحرج... فلحم الميتة موضوع حكمه حرمة الأكل بالعنوان الأوّليّ، قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾1. ولكن إذا وصل الجوع بالإنسان إلى حدّ تهديده بالموت، واضطرّ لاستمرار حياته أن يأكل لحم الميتة أو لحم الخنزير، فإنّه يجوز له والحال هذه الأكل بمقدار الضرورة التي تُبقيه على قيد الحياة، ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.
 
3- أمّا الحكم الولائيّ أو التدبيريّ: فهو الحكم الصادر عن إمام المسلمين بلحاظ تشخيصه للمصالح والمفاسد والمنافع والمضارّ حسبما تقتضيه الظروف الزمانية والأحوال المحيطة بالدولة والأمّة، ويسري بحقّ جميع المكلّفين المخاطَبين به، ويجب عليهم طاعة هذا الحكم وتنفيذه وعدم الاعتراض عليه.
 
تحديد حكم تنظيم النسل من حيث العنوان الأوّليّ
لم يقل أحد من فقهاء المسلمين بأنّ أصل الإنجاب أو تكثير النسل من الواجبات بالعنوان



1 سورة المائدة، الآية 3.
2 سورة المائدة، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

157

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 الأوّليّ، نعم هما أمران مرغوب فيهما ومستحبّان بالعنوان الأوّلي كما ظهر من النصوص الدينية في الدروس السابقة، حيث إنّ العناوين الأوّلية غير مختصّة بالأحكام التكليفية الإلزامية، ولذا فإنّ البحث في هذه الفقرة لا يدور حول عنواني الوجوب والحرمة، ولذلك نُلاحظ أنّ فقهاء الإمامية قد جوّزوا تنظيم الأسرة من خلال الترخيص في استعمال وسائل منع الحمل.

 

 
تحديد حكم تنظيم النسل من حيث العنوان الثانويّ
ذكرنا أنّ تنظيم الأسرة له صورتان:
- التنظيم بمعنى تحديد الفترة الزمنية بين كلّ حمل وحمل من خلال وسائل معيّنة، بنحو لا يُعارض إرادة الإكثار من الإنجاب والرغبة في طلب الولد.
 
- تنظيم النسل بمعنى إرادة الوقوف عند عدد محدّد من الأطفال دون حدّ الإكثار، كطفل واحد أو اثنين مثلاً.
 
ولا ريب في أنّ تنظيم النسل بالمعنى الأول يعتبر حاجة ضرورية للأسرة سواء للأمّ أو للأب، وهو غير منافٍ لإرادة الإكثار فلا يُعارض العنوان الأوّليّ، فتنظيم النسل ومنع الحمل مؤقّتاً لتتمكّن الأم من إرضاع الطفل إرضاعاً كاملاً، وإعطائه الاهتمام العاطفيّ والصحّيّ والنفسيّ... اللازم له والمحتاج إليه، هو أمر مطلوب في الشريعة1.
 
أمّا تنظيم النسل بالمعنى الثاني، فنُسلّط الضوء عليه بلحاظين:
الأوّل: بلحاظ معارضته للعنوان الأوّلي المستحبّ، وهو ممّا لا شكّ فيه، لأنّه دون حدّ الإكثار المطلوب والمرغوب فيه شرعاً بعنوانه الأوّلي.
 
الثاني: وبلحاظ العنوان الثانويّ، فنقول: إنّ الحديث عن تنظيم الأسرة ليس منفصلاً عن فهم دور الأسرة ومسؤوليّاتها في الرؤية الإسلامية، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ على عاتق الأسرة مسؤوليّات متعدّدة:
1- مسؤوليّات التربية الجسمية والبدنية بمعناها الأعمّ من طعام وشراب ولباس ودواء وسكن وتنظيف و... وما يقتضيه ذلك من سهر وعناء وتعب وبذل جهد...



1 الروحاني، محمد صادق، المسائل المستحدثة، ص152.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

158

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 2- مسؤوليّات التربية الاقتصادية والمالية في تأمين كلّ الحاجات المادّية للأسرة، بل استحباب التوسعة على العيال في النفقة، بل حتى محبوبية الدار الواسعة. عن الإمام الباقر عليه السلام: "من شقاء العيش ضيق المنزل"1.

 
3- مسؤوليّات الترفيه وتأمين وسائل التسلية واللعب للأطفال...
 
4- مسؤوليّات إشباع الجانب العاطفيّ وإعطاء الاهتمام النفسيّ والوجدانيّ اللازم بالأطفال.
 
5- مسؤوليّات تلبية الجانب المعرفيّ والتعليميّ من حياة الطفل.
 
... إلخ.
 
هذا مضافاً إلى تعقيدات الحياة المعاصرة وتطوّراتها المتسارعة وكثرة احتياجاتها من جهة ثانية، ومع ارتفاع نسبة التحدّيات التربوية والمشكلات التي تواجه الأسرة في وقتنا الحاضر، آخذين بعين الاعتبار مبدأ التكليف على قدر السعة ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾2، فقد يُقال: "إذا رأى الوالدان أنفسهما عاجزين عن القيام بواجباتهما إزاء الأولاد، ولم يروا في أنفسهم القدرة على إدارة أكثر من اثنين أو ثلاثة أولاد، فليسا مكلّفين بزيادة النسل وإنجاب أولاد كُثُر، وبمقدورهما الإقدام على تحديد النسل عبر الطرق الشرعية لمنع التكاثر"3، خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المسألة تدور بين خيارات مستحبّة، فإنّ ما ذُكر من مسؤوليّات التوسعة على العيال وإعطائهم الرعاية والاهتمام اللازم... هي أمور مستحبّة أيضاً، فإذا كان الإكثار من الإنجاب عاملاً مُضعِفاً من التربية السليمة وإعطاء الاهتمام اللازم للأطفال على مختلف المستويات، فإنّ التزاحم قد يقتضي تقديم محبوبية تنظيم الأسرة بالعنوان الثانويّ على محبوبية كثرة الإنجاب بالعنوان الأوّليّ.
 
هذا، ولكن إذا كان المانع عن الإكثار من الإنجاب هو العامل الاقتصاديّ الماليّ حصراً، ففي هذه النقطة قد يُقال: ذكر سابقاً أنّ الآيات القرآنية قد صرّحت بأنّ الله تعالى هو الذي 



1 الكافي، ج6، ص526. ويراجع: أحاديث باب سعة المنزل في نفس المصدر.
2 سورة البقرة، الآية 286.
3 طاهري، تحديد النسل في الشريعة الإسلامية، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

159

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 تكفّل برزق الأطفال، كما أنّ العديد من الروايات كشف عن أنّ الرزق مع الأهل والعيال، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "الرزق مع النساء والعيال"1.

 
وعن بكر بن صالح، قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: إنّي اجتنبت طلب الولد منذ خمس سنين، وذلك أنّ أهلي كرهت ذلك وقالت: إنّه يشتدّ عليّ تربيتهم لقلّة الشيء، فما ترى؟ فكتب إلي: "اطلب الولد فإنّ الله يرزقهم"2.
 
لكن قد يُناقش هذا الوجه أيضاً، بأنّه وإن كان أمراً صحيحاً كما تقدّم، إلا أنّه في المقابل هناك العديد من الروايات أيضاً صرّح بأنّ حسن التدبير وتقدير المعيشة أمر مطلوب، منها:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما أخاف على أمّتي الفقر، ولكن أخاف عليهم سوء التدبير"3.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً ألهمه الاقتصاد وحسن التدبير، وجنّبه سوء التدبير والإسراف"4.
 
وعنه عليه السلام: "سوء التدبير مفتاح الفقر"5.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "الرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال"6.
 
وعن أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام، قال: "الرفق نصف العيش، وما عال امرؤ في اقتصاده"7.
 
فهذه الروايات تُفيد أنّه على الإنسان أن يُحسن إدارة موارده الاقتصادية الذاتية بنحو لا يضرّ به. ومن حسن تدبير المعيشة مراعاة القدرات المالية والإمكانات الاقتصادية مقارنة بالقدرة على الوفاء بالالتزامات الأسرية من الطبابة والتعليم والسكن واللباس والطعام و...

 
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في هذا السياق: "إنّ الله تعالى خلق في الإنسان العقل والدراية ولازمه التدبير في الأمور، فلو رأى أنّه إذا بذل غاية مجهوده لم يقدر على



1 الكافي، ج5، ص330.
2 م.ن، ج6، ص3.
3 عوالي اللئالي، ج4، ص39.
4 عيون الحكم والمواعظ، ص131.
5 المصدر نفسه، ص284.
6 الكافي، ج2، ص120.
7 م.ن، ج4، ص54.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

 


160

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 تربية أكثر من ولدين مثلاً من حيث تأمين الاحتياجات المادّية والمعنوية، لزم عليه الأخذ بما هو الموافق لقدرته ووسعه في ذلك"1.

 
وبهذا لا يكون تحديد النسل منطلقاً من التشكيك برازقية الله تعالى، لأنّ رازقيته لا تعني أن "لا يُقدِّر البشرُ معيشتهم بإعمال العقل وحسبان النفقات والمداخيل، ففي البلاد الفقيرة والرجعية يُعاني كثيرٌ من الناس - والأطفال على وجه الخصوص - من سوء التغذية، أو يموتون جوعاً، بيد أنّ الله رازقَهم موجود أيضاً، وذلك لأنّ رازقيّته ليست جبريّةً وعلى خلاف إرادة البشر واختيارهم"2.
 
ولعلّه يؤيّد وجهة النظر هذه ما ورد في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قلّة العيال أحد اليسارين"3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شدّة البلاء4 كثرة العيال، وقلّة المال، وقلّة العيال أحد اليسارين"5.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "جهد البلاء كثرة العيال مع قلّة الشيء"6.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قلّة العيال أحد اليسارين"7.
 
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام - مع التأمّل في سياق الرواية -، قال: "التقدير نصف العيش، ما عال امرؤ اقتصد، قلّة العيال أحد اليسارين"8.
 
وعلى كلّ حال، إنّ المسألة بلحاظ العنوان الثانويّ تختلف من شخص إلى آخر ومن زمان لآخر ومن مجتمع لآخر، وليس لها قاعدة عامة، وإنّما هي محكومة للقاعدة العقلائية في تزاحم الملاكات بتقديم الأهمّ على المهمّ، والأقل سوءاً على الأكثر...



1 بحوث فقهية مهمة، ص280.
2 طاهري، تحديد النسل في الشريعة الإسلامية، قراءة فقهية وحقوقية، ص219.
3 مستطرفات السرائر، ص33.
4 في بعض النسخ: جَهْد البلاء.
5 دعائم الإسلام، ج2، ص255.
6 الجامع الصغير، ج1، ص558.
7 الصدوق، الأمالي، ص532. ونهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، ح141.
8 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص416.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

161

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 حكم تحديد النسل أو تنظيمه بعنوان الحكم الولائيّ والتدبيريّ

هذا بالنسبة لتنظيم الأسرة فيما يتعلّق بما هو تكليف الأفراد، أمّا الحديث عن إصدار قانون عام يحدّ من النسل يقع من جهة الجواب عن السؤال التّالي: هل يحقّ لحكومة وليّ الفقيه إصدار مثل هذا القانون العامّ؟
 
لا شكّ في أنّ الشريعة الإسلامية قد منحت الوليّ الفقيه الجامع للشرائط حقّ وصلاحية إصدار الأحكام الولائية والتدبيرية وفق المتطلّبات العامة للحالات والظروف التي تعيشها الدولة والأمّة، حتّى لو كانت مقيّدة لحرية المواطنين. وعلى الأفراد الالتزام بهذه الأحكام الولائية.
 
يقول الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله: "يجب على كلّ المسلمين، إطاعة الأوامر الولائية الشرعية الصادرة من ولي أمر المسلمين، والتسليم لأمره ونهيه، حتّى على سائر الفقهاء العظام..."1.



1 الخامنئي، علي، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص25، س65. ويراجع: نفس المصدر، ج1، ص25، س68.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

162

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 المفاهيم الرئيسة

- طرح مسألة تنظيم الأسرة وتحديد النسل على بساط البحث قديم في الحضارات الإنسانية، حيث دعا أفلاطون وأرسطو إلى تحديد النسل، ثم تجدّدت هذه المسألة بقوّة في القرن الثامن عشر عندما طرح القسّ الإنجليزي مالتوس نظريّته في العلاقة بين المواد الغذائية وبين حجم السكّان.

- اعتبر بعض المسلمين أنّ تحديد النسل هو مؤامرة غربية ضدّ العالم الإسلاميّ من أجل التقليل من قوّة الغد للمسلمين لأنّ الكثرة العددية عامل قوّة للأمم.

- تنظيم الأسرة عبارة عن قيام الزوج والزوجة بتشخيص ما هو المناسب لهما في تنظيم فترات الحمل بين الأطفال كإنجاب طفل كلّ خمس سنوات، أو تحديد الأطفال المراد إنجابهم بعدد معيّن كطفلين مثلاً.

- تحديد النسل عبارة عن قيام السلطة أو الحكومة بإصدار قانون عام يُلزِم جميع الأُسَر في الدولة بالوقوف بالنسل وإنجاب الأطفال عند حدٍّ معيّن.

- إنّ مسألة الإنجاب ليست شأناً شخصيّاً للأسرة فقط، لأنّه من مسؤوليّات الدولة تأمين الاحتياجات الرئيسة للمجتمع كالتعليم والصحّة والسكن وفرص العمل والأمن والدفاع والخدمات والعمران و...، وكلّ ذلك لا بدّ من أنّ يتناسب مع حجم السكان.

- لم يقل أحد من فقهاء المسلمين بأنّ أصل الإنجاب أو تكثير النسل من الواجبات بالعنوان الأوّلي، ولذلك جوّز فقهاء الإمامية تنظيم الأسرة من خلال الترخيص في استعمال وسائل منع الحمل.

- إنّ مسألة تنظيم الأسرة بلحاظ العنوان الثانويّ تختلف من شخص إلى آخر ومن زمان لآخر ومن مجتمع لآخر، وليس لها قاعدة عامة، وإنّما هي محكومة للقاعدة العقلائية في تزاحم الملاكات بتقديم الأهمّ على المهمّ، والأقل سوءاً على الأكثر...

- منحت الشريعة الإسلامية الوليّ الفقيه الجامع للشرائط حقّ وصلاحية إصدار الأحكام التدبيرية وفق المتطلّبات العامة للحالة التي تعيشها الدولة والأمّة لذا باستطاعته إصدار قانون عامّ يلزم الأسر بتحديد النسل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

163

الدرس الثاني عشر: تنظيم الأسرة وتحديد النسل

 أسئلة الدرس

1- ما هي الأسباب التي قد تدفع بعض الدول إلى سياسة تحديد النسل؟ وكيف تُناقش هذه الأسباب من وجهة نظرك؟

2- هل تعتبر سياسة تنظيم الأسرة حاجة ضرورية للتربية الناجحة للأطفال؟ علّل ذلك.

3- برأيك هل تتعارض سياسة تنظيم الأسرة مع الثقة برازقية الله تعالى؟

4- اضرب مثلاً من الواقع العمليّ على أنّ سياسة تنظيم النسل أولى بالعنوان الثانويّ من مرغوبية كثرة الإنجاب للأطفال.

5- لماذا برأيك يُشدّد الإمام الخامنئي دام ظله في الفترة الأخيرة على أهمّية الإنجاب ويعتبره جهاداً في الأسرة؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

164

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف الولاية التربوية والأبوّة لغةً واصطلاحاً.
2- يُميّز بين الولاية الذّاتية والولاية الجعلية.
3- يحدد طبيعة العلاقة بين ولاية التصرّف والولاية التربوية.
4- يقدر على التمييز بين الولاية التربوية والتربية.
5- يعرض الأدلّة الفقهية على جعل الولاية التربوية للأب على الطفل دون الأم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

165

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 معنى الولاية لغة

الولاية في أصل اللغة تدلّ على القرب والدنو1، والولاية بمعنى: السلطان، الأولى بالتصرّف، الإمارة، التدبير، المتابعة، النصرة... والوالي: مالك الأشياء جميعها والمتصرّف فيها2. وكلّ من ولي من قوم أمراً فهو راعيهم3. والراعي: السائس.
 
فالولاية لغةً نحو من السلطة والتصرّف والسياسة والرعاية والتدبير، وهي بهذا المعنى عنصر من الشبكة المعنائية للتربية بالمعنى الأعمّ.
 
الولاية اصطلاحاً
الولاية في الاصطلاح الفقهيّ عبارة عن نحو من الإمارة والسلطة لشخص ما تمنحه حقّ التصرّف في شؤون الغير وتدبير أموره في أيّ مجال من المجالات.
 
يقول الخوانساري في تعريفها: "هي الإمارة والسلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أمر من أموره"4.
 
ويقول الإمام الخميني قدس سره: "الولاية هي السلطنة على تدبير الأمور أو إضافة بين الوليّ والمولى عليه تستتبعها السلطنة على أموره"5.



1 معجم مقاييس اللغة، ج6، ص140. الصحاح، ج6، ص2528.
2 لسان العرب، ج15، ص407.
3 العين، ج2، ص240.
4 الخوانساري، أحمد، جامع المدارك في شرح المختصر النافع، ج6، ص3.
5 الخميني، روح الله، الرسائل، ج1، ص272.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

166

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 الأب لغة

يظهر أنّ الأب في أصل اللغة من التربية والتغذية. قال ابن فارس: "الهمزة والباء والواو يدلّ على التربية والغذو. أبوت الشيء آبوه أبواً إذا غذوته. وبذلك سُمّي الأب أباً"1.
 
والأب الوالد، ويُسمّى به كلّ من كان سبباً في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره2.
 
والأب بيولوجياً هو كلّ من تكوّن الطفل من نطفته.
 
الأب في الاصطلاح الشرعيّ
أمّا الأب في الاصطلاح الشرعيّ فتُطلق على معنى خاص، وهو "الذكر الذي تولّد منه مولود منتسب إليه شرعاً. وعليه فلو زنى وتولّد من مائه مولود لم تصدق الأبوة شرعاً وإن صدقت لغة"3.
 
الولاية الحقيقية الأصيلة
من الأصول العقائدية في الرؤية الكونية الإسلامية أنّ الله تعالى هو خالق الكون والإنسان: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾4، وبما أنّه خالقه فهو مالكه، لأنّ المالكية فرع الخالقية: ﴿بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾5، وبما أنّه مالكه ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾6 حصراً، بمعنى أنّ إرادته نافذة في كلّ ذرّات الكون وأنّه الأحقّ حصراً بالتصرّف في عالم الوجود وحياة الإنسان، وهو ما يُطلق عليه اسم "الولاية التكوينية".
 
وبما أنّه تعالى له الولاية التكوينية على الوجود تكون الولاية التشريعية منحصرة به عزّ وجلّ، لأنّ حقّ التشريع فرع ثبوت المولوية الحقيقية في الرتبة السابقة، "فلو لم تكن هناك مولوية ذاتية لا تثبت الجعلية أيضاً، لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه"7.



1 معجم مقاييس اللغة، ص44.
2 مفردات ألفاظ القرآن، ص57.
3 الأنصاري، محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة، ج1، ص141.
4 سورة الأنعام، الآية 102.
5 سورة الملك، الآية 1.
6 سورة الشورى، الآية 9.
7 الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول، تقريرات أبحاث السيد محمد باقر الصدر، ج4، ص29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

167

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 وبما أنّ "الناس كأسنان المشط سواء"1 كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يكون بالأصالة لأحدٍ من البشر ولاية على أحد من حيث هو2، ولأنّه لا يحقّ لأحد التصرّف في ملك الله تعالى من دون إذنه، فلكي يكون إنسان ما وليّاً على الآخرين لا بدّ من أن يُمنح هذا الحقّ من قِبَل صاحب الحقّ أي الله تعالى، فالولاية منصب شرعيّ يمنح من قِبَل الله، وكلّ من يتصدّى للولاية على أحد من دون إذنه تعالى يكون معتدّياً على حقّ الله قبل اعتدائه على حقّ الإنسان. كما أنّ كلّ من يتصدّى للولاية بإذن الله تعالى لا بدّ من أن يتقيّد بالحدود التي رسمها الله لدائرة ولايته، فالولاية المطلقة منحصرة بالله تعالى، وكلّ ما سواه ولايته مقيّدة.

 
ولاية تدبير المنزل وإدارة الأسرة
إنّ الإنسان كائن اجتماعيّ بالفطرة أو الاستخدام3، فلا تتعايش أي مجموعة من أفراد البشر فيما بينهم إلا بوجود قيّم وراعٍ يتولّى مسؤولية اتّخاذ القرارات وتدبير شؤون المجموعة في الجانب الإيجابيّ، ويقيهم من التنازع ويعمل على فضّ التزاحم وحلّ المشكلات في الجانب السلبيّ. والسيرة العقلائية منذ بداية نشأة الخلقة قائمة على هذا القانون الاجتماعيّ العامّ. وفي هذا السياق ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: "إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم"4. فالاجتماع الإنسانيّ - بأقل جمعه ثلاثة فضلاً عمّا فوق - لا ينتظم شأنه إلا بقيّم وسائس وولي وأمير، وعلى ضوء هذا القانون العام نفهم ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر"5، بغضّ النظر مبدئياً عن كون تولّيه هذه المسؤولية منطلقة من الانتخاب والاختيار أو من النّص والتعيين أو من القهر والغلبة...
 
وبيت الأسرة (الأب/ الأم/ الأولاد) هو أوّل نواة مجتمعية يتشكّل منها الاجتماع الإنسانيّ، ولا تخرج عن معطى القانون الاجتماعيّ الإنسانيّ العام بضرورة وجود قيّم وولي عليها، يتحمّل



1 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص379.
2 الإلهيات على ضوء الكتاب والسنة والعقل، ج1، ص425.
3 توجد نظريتان عن الفلاسفة وعلماء الاجتماع حول اجتماعية الإنسان، من أنّها هل هي بدافع فطري أم أنّها نتيجة الحاجة إلى خدمات الآخرين وتبادل المنافع معهم. وقد تبنّى أرسطو النظرية الأولى، في حين تبنّى أفلاطون النظرية الثانية.
4 سنن أبي دواد، ج1، ص587.
5 نهج البلاغة، ج1، ص91.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

168

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 مسؤولية سياستها ورعايتها وإدارة شؤونها وتدبير أمورها، ويكون له حقّ التصرّف فيما يتعلّق بتلك الشؤون والأمور المختلفة - ما كان يعرف في الفلسفة أو الحكمة العملية بتدبير المنزل - والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من هو الشخص الذي منحه الدين الإسلاميّ حقّ الولاية داخل الأسرة؟

 
في الجواب عن هذا السؤال يُمكن أن نطرح فرضيتين نظريّتين1:
الأولى: أن تمنح هذه الولاية لعنصر خارج الأسرة. وهو أمر خلاف مقتضى قانون الفطرة العام الذي نُشاهده في عالم الطبيعة من قيام الأب أو الأم بمسؤولية تربية الأولاد، كما في عالم الطيور والحيوانات، والإنسان ليس خارجاً من انطباقات هذا القانون الفطريّ العام، والسيرة العقلائية منذ بدء الخليقة حتى اليوم منعقدة على أن يتولّى مسؤولية الأسرة عنصر داخلي هو إمّا الأب أو الأم أو كلاهما معاً. فضلاً عمّا يؤدّي إليه منح هذا الحقّ لسلطة خارجية من التزاحم والصراع والتنازع في المجتمع الإنسانيّ كما سيأتي.
 
الثانية: أن تمنح هذه الولاية لعنصر داخل الأسرة، ولا شكّ في أنّ الأطفال بسبب صغرهم وضعفهم وقصورهم وعدم رشدهم...، لا يّمكن أن يتولّوا شؤون أنفسهم فضلاً عن غيرهم، فلذا هذا الاحتمال سيخرج من دائرة الخيارات التي يُمكن أن تفترض في المقام.
 
فيبقى إذاً أن نكون أمام فرضيّتين نظريّتين:
1- وحدة الولاية. وعلى ضوء هذه الفرضية الأولى يُمكن رسم صورتين:
أ- أن تكون الولاية للأب حصراً.
ب- أن تكون الولاية للأم حصراً.
 
2- تعدّد الولاية. وعلى ضوء الفرضية الثانية يُمكن رسم صورتين أيضاً:
أ- نفوذ ولاية كلٍّ منهما على نحو الاستقلال، وقد يُطلق عليها اسم الولاية بنحو الانحلال.
ب- الاشتراك في الولاية بمعنى اجتماعهما معاً، وعدم نفوذ ولاية كلٍّ منهما إلا برضا الآخر وموافقته ومشاركته.



1 يراجع: عجمي، سامر توفيق، نحو بناء المذهب التربوي قراءة في معالم المنهج بين المشروعية المعرفية والمشروعية الأصولية، مجلة أبحاث ودراسات تربوية، العدد الثاني، السنة الأولى، شتاء 1437هـ-2016م، ص37 وما بعد.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

169

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 لمن حقّ الولاية التربوية على الطفل؟

إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وصنعه، ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾1، ومقتضى ذلك أن يكون تعالى هو العالم حصراً بما عليه واقع النفس البشرية كما هي من كلّ جهة، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾2؟! كما أنّه تعالى منزّه عن الفقر والحاجة والنقص والهوى، لأنّه الغنيّ المطلق: ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾3، هذا.
 
ومن الشرائط الضرورية لمن يضع التشريعات التي تُنظّم شؤون حياة البشر وخطوط علاقاتهم فيما بينهم أن يُحيط علماً بالإنسان وجميع خصوصيّاته الذهنية والنفسية والبدنية والاجتماعية و...، وأن يكون مجرّداً عن هوى الانتفاع الشخصيّ بالتشريع4.
 
والله تعالى هو الذي يتلبّس بهاتين الصفتين: العلم بالإنسان، والغنى عن مصلحة التشريع، يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: "... تقنين القوانين وتشريع الأحكام لا يليق إلا بالله، فإنّه العالم بالمصالح والمفاسد وما يحتاج إليه خلقه في الحال والمستقبل دون غيره ممّن لا إحاطة له بمصالح الأمور ومفاسدها"5.
 
فالله تعالى يعلم التكوين الفطريّ والخصائص الذهنية والنفسية والجسدية للأنثى والذكر معاً، وقد أسند لكلٍّ منهما مجموعة الوظائف والأدوار والموقعيات التي تتناسب مع طبيعة كلٍّ منهما ليؤدّي دوره على مقتضى طبيعته، لذا نُلاحظ أنّه تعالى قد قسّم المسؤوليات في الأسرة، حيث جعل التربية البدنية للطفل من التغذية واللباس والتنظيف والتمريض والسهر على راحته... من وظائف الأم ومسؤوليّاتها في الأسرة، فمنحها ولاية الحضانة على تربية الطفل فيما يتعلّق بهذه الأمور - كما سيأتي في الدرس14 -، لأنّ نسبة العاطفة والحنان والرحمة المجبولة في قلبها تجعلها مؤهّلة ومستعدّة لتحمّل كلّ المشاق والمتاعب والصعاب في سبيل راحة طفلها، وبسبب الخصائص الذهنية الأكثر ميلاً نحو العقلانية، والنفسية الأكثر ميلاً نحو الشجاعة والصلابة والحزم...، التي تتمتّع بها الطبيعة الذكورية بأصل



1 سورة النمل، الآية 88.
2 سورة الملك، الآية 14.
3 سورة آل عمران، الآية 97.
4 الإلهيات، ج2، ص248.
5 الشيرازي، ناصر مكارم، أنوار الفقاهة، ج1، ص513-514.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

170

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 الخلقة، منح الأب حقّ التصرّف واتّخاذ القرار بالنسبة لشؤون الطفل المختلفة والتصرّف في أحواله المتنوّعة، وهذا الحقّ في الواقع ليس تشريفاً بل تكليف وأمانة ومسؤولية، تضع على كاهل الأب حملاً ثقيلاً1.

 
وقد أجمع الفقهاء على أنّ الدين الإسلاميّ قد منح تمركز حقّ القيّومية وعموم الولاية على الطفل للأب في بيت الأسرة، واعتبروا أنّ الأم لا ولاية قانونياً لها على الطفل.
 
بين ولاية التصرّف والولاية التربوية
لم يتعرّض الفقهاء للبحث عن ولاية الأب على الطفل تحت عنوان الولاية التربوية، وإنّما عالجوها وسلّطوا الضوء على ولاية الأب على الطفل مطلقاً من دون تقييدها بالتربوية أو غيرها، ويُعبّرون عنها عادة باصطلاح ولاية التصرّف في النفس أو البدن أو المال... إلى غيرها من التعبيرات الناظرة إلى سعة الحقل الدلاليّ لمعنى الولاية في اصطلاحهم. وفي الحقيقة، إنّ القيام بعملية ربط بين معنى التربية حسب المفهوم الذي تبنّيناه، والذي يعني الرعاية والحفظ والصيانة والحماية والدفاع والسياسة وحسن القيام والتنمية و... إلخ من جهة، وبين معنى الولاية حسب اصطلاح الفقهاء الذي يعني السلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أي أمر من أموره من جهة ثانية، يظهر بوضوح أنّ التربية هي نحو تصرّف في شؤون الطفل، من حيث نفسه وبدنه وماله وغيرها من الأمور المتعلّقة به. وبهذا يكون البحث عن الولاية التربوية من صغريات ومتفرّعات كبرى البحث عن عموم الولاية بالمعنى الشامل، لأنّ التربية متعلّقة إمّا بنفس الطفل أو بدنه...، فيأتي السؤال من له حقّ السلطنة والسياسة والقيام على أمور الطفل وشؤونه؟
 
ومن الأهمّية بمكان، أن نُميّز في ضوء ذلك بين الولاية التربوية والتربية، فإنّ الولاية التربوية نحو سلطة تتعلّق بالجانب التخطيطيّ وصناعة القرار واتّخاذ الموقف المناسب حول شؤون الطفل وأحواله وأموره بمختلف جوانب شخصيّته ونشاطاته الحياتية، بمعنى أنّه من هو المرجعية ابتداء أو عند الاختلاف التي تحسم الخيار في تدبير شؤون الطفل في أيّ مجال من مجالات حياته؟ أمّا التربية فتتعلّق بالبعد العمليّ الإجرائيّ التنفيذيّ، بمعنى من هو الذي يقوم بتنفيذ الخطوات المطلوبة في إيصال الطفل إلى الكمال المستعدّ له؟ وبناء عليه، فإنّ منح حقّ الولاية التربوية للأب لا يعني إقصاء الأم عن الحضور في ساحة التربية، 



1 يراجع: التنقيح في شرح المكاسب، البيع، موسوعة الإمام الخوئي، ج37، ص136.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

171

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 لأنّ التربية عملية إجرائية، باستطاعة الأم أن تُمارس هذه العملية التربوية تحت إشراف الأب وتوجيهه على فرض جعل الولاية مطلقاً حتّى التربوية منها للأب.

 
كما أنّه ممّا تنبغي الإشارة إليه، أنّ عموم ولاية الأب على الطفل لا تعني عدم وجود استثاء يُخصّص تلك القاعدة العامّة، كما سيأتي تفصيل هذه النقطة عند البحث عن ولاية الحضانة على الطفل.
 
وبناءً على ما تقدّم، يتّضح أنّ تسليط الضوء على آراء الفقهاء فيما يتعلّق بولاية التصرّف يشمل معالجة مسألة الولاية التربوية لكونها من صغرياتها ومتضمناتها وليست عنواناً في مقابلها ومغايراً لها.
 
أدلّة الولاية التربوية الأبوية
استدلّ الفقهاء على هذه الولاية التربوية الأبوية على الطفل بعدّة أدلّة نعرض بعضاً منها بشكل مختصر.
 
أولاً: أنّ السيرة العقلائية والارتكازات الاجتماعية العامّة قائمة على أنّ الأب هو من له حقّ التصرّف في شؤون أطفاله. وقد كانت هذه السيرة مع كثرة الابتلاء بها على مرأى ومسمع من المشرّع الإسلاميّ ولم ينهَ عنها مع عدم وجود أيّ داعٍ للسكوت، فلو لم تكن مرضية عنده لأرشد إلى خلافها تعليماً للجاهلين، أو لنهى عنها اعتراضاً على المنكر. وكذلك حال السيرة المتشرّعية، فإنّها قائمة على مفروغية أنّ الأب هو من له حقّ التصرّف في شؤون أطفاله.
 
ثانياً: القراءة الاستقرائية -التركيبية للنصوص الروائية المتفرّقة في عدّة أبواب فقهية1، والواردة في بيان حقّ الأب بالتصرّف ببعض شؤون أطفاله، بإضافة إلغاء خصوصيات تلك الموارد وتعميم حقّ التصرّف لباقي المجالات لوحدة الملاك والمناط، قال الخونساري: "ولاية الأب والجدّ للأب بالنسبة إلى الصغير، فلا إشكال ولا خلاف في ولايتهما في الجملة، ويدلّ عليه ما ورد في الأبواب المتفرّقة"2. ومن هذه النصوص ما



1 يراجع: التنقيح في شرح المكاسب، البيع، ج37، ص136.
2 جامع المدارك، ج3، ص95.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

172

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 تضمّن أنّ للأب ولاية في النكاح وحقّ تزويج طفله، ومنها ما تضمّن أنّه من حقّ الأب تعيين الوصيّ على طفله، ومنها ما تضمّن أنه من حقّ الأب التصرّف في أموال طفله، ومنها ما تضمّن ولاية الأب على إجارة طفله، ومنها ما تضمّن بيان حقّ الأب في تعليم طفله الصنائع التي يختارها له، ومنها ما تضمّن كفاية قبض الأب عن طفله في الهبة والصدقة، ومنها ما ورد في ولاية تأديب الطفل1... إلخ من الموارد التي تظهر بالتتبع والاستقراء، فإنّه بعد "إلغاء خصوصية موارد هذه النصوص - يُصبح - فهم عموم ولاية الأب من مجموعها قريباً جداً"2. لأنّ الأمور المذكورة إذا كانت تستلزم منح الولاية للأب على الطفل فالذهنية العرفية تفهم منها عموم الولاية في سائر الأمور لعدم تفريقهم بينها من حيث الملاك والمناط والفحوى.

 
ثالثاً: الاستدلال المباشر بالنصوص الروائية: حيث استظهر بعض الفقهاء منها عموم ولاية الأب على أطفاله3، منها ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام - في الرجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا -، قال: "إذا لم يقبضوا حتّىيموت فهو ميراث، فإن تصدّق على من لم يُدرك من ولده فهو جائز، لأنّ والده هو الذي يلي أمره..."4.
 
ومثله عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام - في رجل تصدّق على وُلد له قد أدركوا -، قال: "إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، فإن تصدّق على من لم يُدرك من ولده فهو جائز، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره"5.
 
حيث إنّ التعليل الوارد في ذيل الروايتين بقولهما عليهما السلام: "لأن الوالد..." مطلق، ومقتضى إطلاق التعليل فيهما عموم ولاية الأب على ولده لا خصوص ولايته عليه في مورد قبض الصدقة له6.



1 يراجع: الحر العاملي، محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج12، باب21، من أبواب ما يكتسب به، ح1. وج15، أبواب أحكام الأولاد: باب:22،81، 82، 83، 85، 86، 97، 98. وج13، باب:4، 5 من أبواب أحكام الهبات، وباب:4 من أبواب الوقوف والصدقات.
2 الطباطبائي الحكيم، محمد سعيد، مصباح المنهاج، كتاب التجارة، ج2، ص377.
3 يراجع: فقه الصادق، ج20، ص313. ومصباح المنهاج، كتاب التجارة، ج2، ص377.
4 الكافي، ج7، ص32.
5 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص248.
6 مصباح المنهاج، مصدر سابق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

173

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 المفاهيم الرئيسة

- الولاية لغة تدلّ على القرب والدنوّ والسلطة والتدبير... وفي الاصطلاح هي سلطة لشخص ما تُعطيه الحقّ في التصرّف في شؤون الغير وتدبير أموره في أيّ مجال من المجالات.

- الأب بيولوجياً هو من يتولّد الطفل من نطفته، أمّا شرعاً فهو من ينتسب إليه مولود بسبب شرعيّ.

- الولاية الحقيقية وبالأصالة لله تعالى، ولا ولاية لأحد على أحد، إلا إذا منحه الله تعالى الذي هو صاحب الولاية الحقّ في ممارسة ولايته على الغير.

- إنّ الأسرة تحتاج إلى قيّم وسائس ومدبّر يقود حياة الأسرة باتّجاه الكمال والسعادة. وقد منحت الشريعة الإسلامية هذا الحقّ للأب لأنّه الأكثر أهلية لإدارة أمورها وتدبير شؤونها على ضوء الخصائص الذهنية والنفسية والبدنية التي منحها الله تعالى له.

- إن القيام بعملية ربط بين معنى التربية الذي يعني الرعاية والحفظ والصيانة والحماية والدفاع و... إلخ من جهة، وبين معنى الولاية حسب اصطلاح الفقهاء الذي يعني السلطنة على الغير في نفسه أو ماله أو أيّ أمر من أموره من جهة ثانية، يظهر أنّ التربية نحو تصرّف في شؤون الطفل، من حيث نفسه وبدنه وماله ، وبهذا يكون البحث عن الولاية التربوية من صغريات عموم الولاية بالمعنى الشامل.

- الفرق بين الولاية التربوية والتربية هي أن الأولى نحو سلطة تتعلّق بالجانب التخطيطيّ وصناعة القرار واتّخاذ الموقف المناسب حول شؤون الطفل وأحواله وأموره بمختلف جوانب شخصيّته ونشاطاته الحياتية، بمعنى أنّه من هو المرجعية ابتداءً أو عند الاختلاف، أمّا التربية فتتعلّق بالبعد العمليّ الإجرائيّ التنفيذيّ، بمعنى من هو الذي يقوم بتنفيذ الخطوات المطلوبة في إيصال الطفل إلى الكمال المستعد له.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
215

174

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 - استدلّ الفقهاء على منح الولاية التربوية في الأسرة للأب بعدّة أدلّة منها: السيرة العقلائية الممضاة من قِبَل المعصوم في تولّي الآباء لشؤون الأسرة مع عدم نهي المعصوم عن ذلك، والأدلة اللفظية التي تمنح الأب حقّ الولاية على أولاده في بعض الموارد ومع إلغاء الخصوصية للموارد يتمّ التعميم للولاية على باقي شؤون حياة الطفل، ومنها الأدلة اللفظية التي تُصرّح مباشرة بأنّ الوالد هو الذي يلي أمر الطفل، كقول الإمام الباقر عليه السلام: "لأنّ والده هو الذي يلي أمره...".

 

 

 

 

 

 

216


175

الدرس الثالث عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - مفهومها وأدلّتها - (1)

 أسئلة الدرس

1- لماذا لا يحقّ للإنسان بالأصالة أن يُمارس حقّ الولاية على الآخرين؟

2- هل تعتقد أنّ منح حقّ الولاية للأب في الأسرة هو الخيار الأفضل أم أنّه لو أُعطي للأم أو بالاشتراك بينهما يكون هو الأفضل؟ ولماذا؟

3- ما هو الفرق بين الولاية التربوية وبين التربية؟ وكيف ينعكس ذلك على دور الأب والأم داخل الأسرة؟

4- أعرض دليلاً للفقهاء على جعل حقّ الولاية للأب.

5- أعرض دليلاً على نفي جعل حقّ الولاية للأم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

176

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف حدود حقّ ولاية الجدّ التربوية على الطفل.
2- يحدّد معنى شرطية عدالة الأب في نفوذ ولايته التربوية.
3- يميّز دوائر المصلحة المأخوذة كشرط في الولاية التربوية على الطفل.
4- يعرض أدلّة الفقهاء في شرطية العدالة والمصلحة في نفوذ الولاية التربوية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

177

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 تمهيد

عالجنا في الدرس السابق معنى الولاية التربوية الأبوية، والأدلّة التي اعتمد عليها الفقهاء في إثباتها للأب، وبقي بعض القضايا المتعلّقة بالولاية التربوية على الطفل، والتي ستعالج في هذا الدرس تتمة للدرس السابق وجواباً عن جملة الأسئلة التالية: هل لغير الأب أيّ ولاية تربوية على الطفل؟ ولمن؟ ومتى؟ وهل الولاية التربوية الأبوية على الطفل مطلقة أم مقيّدة ومشروطة؟ وما هي شروطها؟

ولاية الجدّ (أب الأب وإن علا)
ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ وليّ الطفل غير منحصر بالأب، بل يتعدّاه إلى أب الأب أي الجدّ من جهة الأب دون الجدّ للأم (نسبت المخالفة في ذلك إلى الشيخ الحسن بن علي العماني المعروف بابن أبي عقيل)، فإنّ للجدّ حقّ الولاية على شؤون الطفل، ولا نقاش بين الفقهاء فيما لو كان بين الأب والجدّ نحو من الاتّفاق والمشاركة في صناعة القرارات التربوية المتعلّقة بالطفل، وإنّما وقع الكلام فيما لو اختلفت وجهات النظر بين الأب والجدّ، حيث رأى الأب أنّ من مصلحة الطفل التصرّف بهذا النحو، في حين رأى الجدّ أنّ التصرّف بهذا النحو ليس لمصلحة الطفل، فأيّهما يُقدّم على الآخر؟ هل ولاية الأب هي التي تُقدّم على اعتبار أنّه أقرب للطفل في سلسلة الأولياء، أم تُقدّم ولاية الجد على أساس أنّ الجدّ أعلى من الأب في السلسلة؟ وبعبارة أخرى هل الحكم بين الأب والجدّ عرضيّ أم طوليّ؟ بمعنى هل يمنع الأقربُ - أي الأب - الأبعدَ - أي الجدّ - من التصرّف حال التعارض في وجهات النظر أم لا؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

178

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ حقّ ولاية الجدّ في التصرّف يُقدّم على ولاية الأب1، وذلك استناداً إلى بعض الروايات منها: عن علي بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، قال: سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان ابنته، فهوى أن يزوّج أحدهما، وهوى أبوه الآخر، أيّهما أحقّ أن ينكح؟ قال عليه السلام: "الذي هوى الجدّ أحقّ، لأنّها وأباها للجدّ"2.

 
حيث إنّ أحقّية الجدّ في الرواية وإن كانت واردة فيما يتعلّق بالزواج إلا أنّ التعليل الوارد في ذيلها: "لأنّها وأباها للجدّ" يستلزم بالارتكاز العرفيّ أعلائية ولاية الجدّ على الأب مطلقاً من دون تخصيص بهذا المورد.
 
ومن الروايات أيضاً التي استدلّ بها من باب الأولوية القطعية، عن عبيد بن زرارة، قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: الجارية يريد أبوها أن يُزوّجها من رجل، ويريد جدّها أن يُزوّجها من رجل آخر، قال عليه السلام: "الجد أولى بذلك ما لم يكن مضاراً، إن لم يكنالأب زوّجها قبله. ويجوز عليها تزويج الأب والجد"3.
 
ويُلاحظ أن هذا التقديم لولاية الجد على الأب عند المزاحمة مقيّد فيما إذا لم يكن مضارّاً بحقّ الطفل4، وسيأتي شرح هذه النقطة.
 
هذا عند التزاحم في اتخاذ القرارات، ولكن في صورة الابتداء، ذهب الفقهاء إلى أنّ كلّاً من الأب والجد مستقلّ في حقّ التصرّف، بمعنى أنّ الأب مثلاً يُمكنه التصرّف في شؤون الطفل من دون الرجوع إلى إذن الجد، فالكلام في أحقّية الجد إنّما هو في خصوص صورة علم الجد والتعارض، لكن تصرّف الأب غير مرهون بإذن الجد، فله حقّ التصرّف الاستقلاليّ في شؤون الطفل بنحو يعتبر تصرّفه نافذاً حتّى لو لم يستأذن من الجد أو لم يُطلع الجدّ على تصرّفاته. نعم، أيّ من الأب أو الجدّ سبق في التصرّف فإنّ تصرّفه هو الذي ينفذ بحقّ الطفل دون الآخر في صورة عدم التنازع.



1 يراجع: الخميني، روح الله، كتاب البيع، ج2، ص593.
2 الحميري، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، ص285.
3 الكافي، ج5، ص395.
4 التنقيح في شرح المكاسب، مصدر سابق، ص144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
222

179

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 قال الشيخ محمد علي الأنصاري: "المعروف والمشهور هو أنّ كلّاً من الأب والجدّ مستقلّ في الولاية، فلا يلزم الاشتراك ولا الاستئذان من الآخر، فأيّهما سبق مع مراعاة ما يجب مراعاته لم يبق محلّ للآخر. والجد مقدّم في صورة التشاح"1.

 
أمّا في صورة الاقتران، يقول الإمام الخميني قدس سره: "الأب والجد مستقلّان في الولاية، فينفّذ تصرّف السابق منهما ولغا اللاحق، ولو اقترنا ففي تقديم الجد أو الأب أو عدم الترجيح وبطلان تصرّف كليهما وجوه بل أقوال، فلا يترك الاحتياط"2. والمقصود بالاحتياط هنا هو بطلان تصرّف كلٍّ منهما، كما هو رأي بعض الفقهاء3.
 
لا ولاية للأم أو الأخ الكبير أو الجد للأم...
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ولاية التصرّف في مال الطفل والنظر في مصالحه وشؤونه لأبيه وجدّه لأبيه... وأمّا الأم والجد للأم والأخ فضلاً عن سائر الأقارب فلا ولاية لهم عليه"4.
 
وبهذا يتّضح عموم نفي الولاية عن غير الأب، لتشمل الأم والأخ الكبير والعمّ والخال والجدّ من طرف الأم وغيرهم، فليس لأيٍّ منهم حقّ الولاية على الطفل أصالة.
 
وقد استدلّ الفقهاء على عدم ولاية الأم على الأطفال بثلاثة أدلة5:
1- إجماع الفقهاء، قال الشيخ الجواهري: "لا ولاية للأم ولا لأحد من آبائها على الولد الصغير بلا خلاف أجده فيه"6.
 
2- الأصل، حيث إنّه "بعد عدم وجود دليل لفظيّ على ولاية الأم، نشكّ في ولايتها، والأصل عدم الولاية"7، بمعنى أنّ الأصل عدم ولاية أحد على أحد كما تقدّم، والخروج عن هذا الأصل يحتاج إلى دليل خاصّ من الشارع يمنح منصب الولاية لشخص ما، ولم يرد دليل من الشارع يدلّ على ولاية الأم، فالأم من حيث الأصل لا ولاية لها على



1 الموسوعة الفقهية الميسرة، مصدر سابق، ص148.
2 الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة، ج2، ص14.
3 السيستاني، علي، منهاج الصالحين، ج2، ص297.
4 تحرير الوسيلة، ج2، ص14.
5 السبزواري، عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، ج21، ص126.
6 جواهر الكلام، ج 29، ص 234.
7 الجواهري، حسن، بحوث في الفقه المعاصر، ج3، ص192.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
223

180

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 أطفالها.

 
3- اختصاص الأدلّة اللفظية والروايات الواردة في هذا السياق بالأب والجد كما تقدّم.
 
شروط نفوذ الولاية التربوية للأب ذكرنا فيما سبق أن الولاية التربوية للأب مقيّدة بالتصرّف على ضوء الدائرة التي منحتها له الشريعة، فما هي الشروط التي فرضتها الرؤية الفقهية التربوية الإسلامية في الوليّ لتحمّل هذه المسؤولية؟ وقع البحث عند الفقهاء في هذه الشروط، وأهمّ شرطين تمّ بحثهما عندهم هما: العدالة والمصلحة.
 
شرطيّة العدالة في الأب
اشترط بعض الفقهاء العدالة في الأب حتى تكون ولايته نافذة على الطفل، لأنّ مناط جعل الولاية للأب ليس هو الأبوة مجرّداً، بل الأبوة بضميمة صفة وهي العدالة، فإذا كان الأب ظالماً وفاسقاً فلا حقّ له بالولاية على أطفاله، لأنّ الفسق يُنافي الولاية، والظالم لا يصلح لمنصب الولاية، يقول العلّامة الحلّي في سياق الحديث عن شرطية العدالة في الوصي: "ويُشكل الأمر في الأب الفاسق... والأب تعود ولايته بالتوبة"1.
 
وقد استدلّ أصحاب هذا الرأي بدليل نقليّ وآخر عقليّ، أمّا النقليّ فقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾2، من خلال تشكيل قياس منطقيّ مفاده: كلّ فاسق ظالم، وكلّ ظالم لا يركن إليه، فكلّ فاسق لا يركن إليه، مع لحاظ أنّ جعل الولاية للظالم ركون إليه3.
 
وأمّا الدليل العقليّ فقد عرضه فخر المحقّقين ابن العلامة الحلّي في شرح عبارة أبيه، حيث قال: "والأصحّ عندي أنّه لا ولاية له ما دام فاسقاً لأنّها ولاية على من لا يدفع عن نفسه ولا يعرف عن حاله، ويستحيل من حكمة الصانع أن يجعل الفاسق أميناً يقبل إقراراته وإخباراته على غيره مع نصّ القرآن على خلافه4، فإن عاد عادت ولايته"5.



1 الحلي، الحسن بن يوسف، قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام، ج2، ص564.
2 سورة هود، الآية 113.
3 يراجع: الخميني، كتاب البيع، ج2، ص599.
4 إشارة إلى قوله تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾. سورة الحجرات، الآية 6.
5 الحلي، محمد بن الحسن، إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، ج2، ص628.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
224

 


181

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 فحكم العقل العملي بقبحّ جعل الولاية للفاسق من قِبَل الله تعالى لأنّه خلاف مقتضى الحكمة، يُعتبر قرينة عقلية مقيّدة لعموم أدلّة الولاية الأبوية، و "يكون كالقرينة المتّصلة بالكلام فيمنع من انعقاد الظهور في النصوص وشمولها للفاسق، ويوجب انصرافها إلى العدول واختصاصها بهم"1، حيث إنّ القواعد العقلية القطعية بحكم القرائن المنفصلة أو المتصلّة لفهم المراد الجدّي للمتكلّم وتشكيل ظهور عرفيّ لغويّ من الكلام2.

 
عدم شرطيّة العدالة في الأب
ذهب مشهور الفقهاء إلى وجهة نظر مخالفة للرأي المتقدّم، حيث قالوا بأنّ ولاية الأب ثابتة بأصل الشرع لعنوان الأبوّة من دون أيّ قيد إضافيّ فيها، فلم تُقيّد النصوص ولاية الأب بشرط العدالة، كما أنّ الشفقة الأبوية والرأفة والرحمة المركوزة في فطرة الأب والمعجونة بطينته تمنعه من تضييع مصلحة أولاده والعمل على خلاف مقتضاها3.
 
يقول المحقّق الكركي: "والذي يقتضيه النظر أنّ ولايته ثابتة بمقتضى النصّ والإجماع، واشتراط العدالة فيه لا دليل عليه"4.
 
أمّا ما استدلّ به في الفقرة السابقة من الآية على أنّ الفاسق لا يركن إليه وليس أهلاً للاستئمان، فهو خارج عن محلّ الكلام، لأنّ جعل الولاية بيد الفاسق ليس نحواً من الركون إليه حتّى يكون النهي في الآية شاملاً لهذا المورد أولاً5، وثانياً أنّ المتفاهم العرفيّ من الظالم في الآية ليس هو مطلق الفاسق بل هم ولاة الجور6، فيبقى هذا الشرط منافياً لإطلاقات أدلة عموم ولاية الأب، فضلاً عن أنّ السيرة العقلائية قائمة على أنّ الأب الفاسق أيضاً يلي شؤون أطفاله من دون إنكار من قِبَل المشرّع الإسلاميّ. والتجربة التربوية في الأسرة على امتداد الإنسانية خير شاهد على ذلك7، إذ لا علاقة لفسق الأب بالمعنى الفقهيّ بعدم التصرّف



1 الصابري الهمداني، أحمد، الهداية إلى من له الولاية، تقرير بحث السيد محمد رضا الكلبايكاني، ج1، ص9.
2 يراجع: اللنكراني، فاضل، مدخل التفسير، ص189-190.
3 المصدر نفسه.
4 جامع المقاصد، ج11، ص276.
5 كتاب البيع، ج2، ص599.
6 التنقيح، المصدر السابق، ص140.
7 يراجع: الهداية إلى من له الولاية، ج1، ص8.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

182

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 على ضوء المصلحة أو على الأقل على ضوء عدم المفسدة بشؤون أطفاله.

 
كما أنّ الدليل العقليّ الذي اعتبر قرينة غير مسلّم، فأول الكلام أن يكون جعل الولاية للأب الفاسق إذا تصرّف على ضوء مصلحة الطفل أو لا أقلّ ليس ضدّ مصلحته خلاف مقتضى الحكمة الإلهية، بل الشارع المقدّس بحكمته قد يرى أنّ منح حقّ الولاية التربوية على الطفل للأب الفاسق فيه مصلحة وهي رأفة الأب على ولده وأنّ سائر الناس ليسوا بأرأف من الأب، وأنّ إسناد الولاية إلى دائرة خارج بيت الأسرة كالعادل الأجنبيّ أضرّ على الطفل من إسناد الولاية إلى الأب أو الجد الفاسقين اللذين يعيش الطفل في حضنهما، ممّا يُشعرهما بمقتضى الطبيعة الأبوية المجبولة في داخلهما بأصل الخلقة بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية والعاطفية عن الطفل، يقول السيد الخوئي في سياق الردّ على استحالة جعل الأب الفاسق ولياً على الطفل: "إنّ المصلحة النوعية وهي الشفقة على الولد بمقتضى الطبيعة البشرية توجب جعل الولاية لهما"1.
 
فضلاً عن أنّ تشريع الولاية على الطفل للأجنبيّ مع وجود الأب والجد ستكون غير مقبولة اجتماعياً لأنّها تؤدّي إلى الصراع والنزاع بين أبناء المجتمع الإسلاميّ2، خصوصاً بين الشعب والحكومة التي ستتولّى هذه المسؤولية وتنظيمها وضبطها، وبالتّالي تكون غير صالحة للتنفيذ، بنحو يمنع من فعلية تشريع من هذا القبيل.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره: "لو لم يجعل الشارع الولاية للأب والجدّ الفاسقين، فإنْ أهملها ولم يُعيّن حافظاً...، فالفساد أفحش، ولو لم يُهمل وجعل أمرهم إلى والي المسلمين، ففيه مفاسد كثيرة... بل لازمه حصول التباغض والتباعد بين الشعب والحكومة، وهو من أفسد الأُمور، ضرورة أنّ الواقعة عامّة البلوى، وإثبات العدالة بالبيّنة الشرعيّة أو الطرق الأُخر غير ميسور"3.
 
نعم، لا شكّ أنّ شرط العدالة يُشكّل قيمة أخلاقية في تصرّف الأب بشكل أصلح فيما يتعلّق بتربية الطفل.
 
وعلى كلّ حال، إذا تبيّن للحاكم الشرعيّ أنّ فسق الأب له دخالة في التصرّف ضدّ 



1 التنقيح، مصدر سابق، ص104.
2 يراجع حول هذه النقطة: الخميني، كتاب البيع، ج2، ص598.
3 المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

183

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 مصلحة الطفل بنحو يلحق الضرر والمفسدة به، يكون له حقّ عزل الأب ومنعه من التصرّف في شؤون الطفل1، وهذا يعني أنّه لا محذور في جعل الولاية للفاسق من حيث الأصل، إلا أنّ للحاكم عزله إذا تبيّن سوء تصرّفه بحقّ الطفل.

 
لذا يُعقّب المحقّق الكركي على قوله السابق: "والمحذور مندفع بأنّ الحاكم متى ظهر عنده بقرائن الأحوال اختلال حال الطفل إذا كان للأب عليه ولاية عزله ومنعه من التصرّف..."2.
 
ويقول الإمام الخميني قدس سره: "الظاهر أنّه لا يُشترط العدالة في ولاية الأب والجد، فلا ولاية للحاكم مع فسقهما، لكن متى ظهر له ولو بقرائن الأحوال الضرر منهما على المولى عليه عزلهما ومنعهما من التصرّف"3.
 
شرطيّة تصرّف الأب على ضوء مصلحة الطفل
من الشروط التي وقع البحث عنها والاختلاف حولها فيما يتعلّق بولاية الأب، هو الجواب عن السؤال التالي: هل يعتبر أن يكون تصرّف الأب على ضوء مصلحة الطفل حتّى يكون صحيحاً ونافذاً أم يكفي أن لا يؤدّي تصرّفه إلى مفسدة -حيث يوجد بين المصلحة والمفسدة واسطة-؟ وبعبارة أخرى هل ولاية الأب مشروطة بعدم الفساد أم بوجود المصلحة؟
 
وهذا الترديد بين الشقّين يتمّ بعد إخراج احتمال أن تكون ولاية الأب مطلقة من حيث المصلحة والمفسدة، بمعنى أنّها نافذة حتّى في مورد الإضرار بالطفل، لانصراف أدلّة منح الولاية للأب عن هذا المقدار، يقول السيد الخوئي: "الإنصاف أنّه لا إطلاق لهذه الروايات بل هي منصرفة إلى جعل السلطنة للوليّ في التصرّفات التي لا تكون مضرّة بالمولى عليه"4
 
فضلاً عن وجود روايات يظهر منها شرطية الولاية بعدم الفساد ممّا يوجب تقييد النصوص المطلقة بها، منها ما ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "ما أحبّ أن يأخذ من مال



1 يراجع: الجواهر، ج26، ص102.
2 م.ن.
3 تحرير الوسيلة، ج2، ص14.
4 التنقيح، مصدر سابق، ص144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

184

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 ابنه إلا ما احتاج إليه ممّا لا بدّ منه، إنّ الله لا يُحبّ الفساد1"2. فإنّ ذيل الرواية يوضح حدود جواز التصرّف، وتقييدها بأن لا تكون تصرّفات ضررية ومؤدّية إلى ما هو فساد عرفاً، "ويبقى في الإطلاق ما فيه الصلاح والغبطة، وما لم يشتمل على الفساد وإن لم تكن فيه مصلحة"3.

 
أمّا بالنسبة للتعميم لغير التصرّفات المالية فقد ذكرنا الوجه فيه بإلغاء الخصوصية، وعموم التعليل.
 
وعلى كلّ حال، نجد في الجواب عن السؤال السابق رأيين عند الفقهاء:
- الرأي الأول: اعتبار المصلحة في التصرّف كما هو رأي الشيخ الطوسي4، وابن إدريس الحلّي5، وغيرهما.
- الرأي الثاني: وهو المشهور، اعتبار عدم المفسدة في التصرّف.
 
اعتبار المصلحة في الولاية
يرى بعض الفقهاء أنّ نفوذ سلطة وولاية الأب متوقّفة على التصرّف في ضمن دائرة المصلحة بالنسبة للطفل، بمعنى أن يدرس الوليّ ما هو الخيار الذي فيه مصلحة للطفل ويتصرّف على ضوء هذا الخيار، بحيث تسقط ولايته إذا لم يسلك هذا المنهج، والملاك في ذلك أنّ العقل يُدرك كون الحكمة في أصل تشريع الولاية على الطفل هي مراعاة مصلحته وجلب النفع له في جميع التصرّفات، وهذه القرينة العقلية تُقيّد إطلاق أدلّة جعل الولاية بالمصلحة، وتمنع انعقاد ظهور شمول النصوص لغير المصلحة، كما تقدّم في مسألة الفسق.



1 يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ سورة البقرة، الآية 205.
2 تهذيب الأحكام، ج6، ص343.
3 التنقيح، ص608.
4 المبسوط، ج2، ص200.
5 السرائر، ج1، ص441.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

185

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 اعتبار عدم المفسدة في الولاية

يرى مشهور الفقهاء، خصوصاً المعاصرين منهم، أنّ تصرّف الوليّ غير مشروط بالمصلحة، بل تصرّفه نافذ ما لم يؤدِّ إلى مفسدة بحقّ الطفل، لوجود منطقة وسطى ما بين المصلحة والمفسدة، أي أنّه ليس كلّ تصرّف يخلو من المصلحة من الضروريّ أن تترتّب عليه مفسدة للطفل، بل قد يكون التصرّف خالياً من المصلحة والمفسدة معاً، فلا فيه ملاك مصلحة ولا ملاك مفسدة. أمّا إذا تصرّف الوليّ بنحو يلحق المفسدة بالطفل فإنّ ولايته غير نافذة وتسقط في هذا المجال.
 
والدليل على ذلك، أنّ إطلاقات أدلّة الولاية منصرفة عن المفسدة، ولا دليل على تقييدها بالمصلحة. أمّا القرينة التي ذُكرت في الاستدلال السابق فالجواب عنها بأنّ جعل الولاية ليس فقط لحفظ ورعاية مصالح الطفل، بل أيضاً لدفع المفاسد عنه، بل أيضاً جُعلت الولاية للأب حفظاً لاحترامه ورعاية لمصالحه بالإضافة إلى الطفل1.
 
بين المصلحة والأصلح
إنّ البحث في المقام السابق كان في الدائرة الحقوقية دون الدائرة الأخلاقية، وإلا فإنّه من الطبيعيّ، أنّ البحث الأخلاقيّ في خطّ علاقة الوليّ بالطفل ينقلنا إلى دائرة المصلحة والأصلح، وليس فقط إلى دائرة المصلحة والمفسدة، أي إذا كان هناك جملة خيارات للتصرّف بحقّ الطفل، تدور بين المصلحة وعدم المفسدة على الوليّ أخلاقياً وعاطفياً (بغضّ النظر عن الموقف القانوني البحت) تقديم ما هو مصلحة للطفل، وإذا دارت الخيارات بين ما هو صالح وأصلح عليه أن يختار الأصلح، لأنّ مقوّم معنى الولاية التربوية هو الانتقال بالطفل من النقص إلى الكمال فالأكمل.
 
المصلحة والمفسدة بين الواقعية والاعتقادية
إنّ المصلحة أو المفسدة قد تكون واقعية لها آثار حقيقية مترتّبة على التصرّف الأبويّ بحقّ الطفل، وقد تكون المصلحة أو المفسدة اعتقادية لا واقعية، بمعنى أن يعتقد الأب أنّ في هذا التصرّف المعيّن مصلحة للطفل ثمّ يظهر أنّ الأمر ليس كذلك في الواقع، والعلاقة بينهما العموم والخصوص من وجه. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أيّ منهما هو المعتبر



1 يراجع: التنقيح في شرح المكاسب، كتاب البيع، ج37، ص146.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

186

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 كشرط للولاية؟ هل الاعتبار بوجودهما الواقعيّ أو بوجودهما الإحرازيّ العلميّ؟

 
وتبرز ثمرة هذا البحث فيما لو تصرّف الأب في شأن من شؤون الطفل من خلال اعتقاده أنّه يجلب المصلحة للطفل أو أنّه لا يجلب المفسدة للطفل، ثم تبيّن لاحقاً أنّ ما اعتقده مصلحة هو مفسدة في الواقع، أو العكس تصرّف فيه بقصد الإفساد ثمّ ظهر أنّه على وفق مصلحة الطفل فهل يحكم بالصحّة أو بالفساد؟
 
إنّ الجواب عن هذا السؤال فرع الجواب علمّا هو مقوّم المصلحة أو المفسدة، فهل هي متقوّمة بأمر واحد وهو الواقع منفرداً أو القصد منفرداً، أم بأمرين هما الواقع والقصد معاً؟ فمثلاً بناءً على اختيار الشقّ الثاني من الجواب إذا تصرّف الولي في أموال الطفل بقصد الإفساد وكان ذلك فاسداً في الواقع يحكم بعدم الصحّة والنفوذ لاشتراط الولاية بعدم المفسدة. وإذا تصرّف فيه بقصد الإفساد ولم يكن فاسداً في الواقع بل كان على طبق مصلحة المولّى عليه أو تصرّف فيه من دون قصد الإفساد وكان في الواقع فاسداً فلا يحكم بالفساد، لأنّه متقوّم بوجود المفسدة الواقعية وبقصد ذلك الفساد وإذا انتفى أحدهما ينتفي الإفساد1.



1 التنقيح في شرح المكاسب، ص149.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

187

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 المفاهيم الرئيسة

- ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ وليّ الطفل غير منحصر بالأب، بل يتعدّاه إلى أب الأب أي الجدّ من جهة الأب دون الجدّ للأم، فإنّ للجدّ حقّ الولاية على شؤون الطفل.

- ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ الأب له حق التصرّف مستقلاً في شؤون طفله من دون الرجوع إلى إذن الجدّ، ولكن حقّ ولاية الجد في التصرّف يُقدّم على ولاية الأب عند التزاحم، استناداً إلى بعض الروايات.

- ولاية التصرّف في مال الطفل والنظر في مصالحه وشؤونه لأبيه وجدّه لأبيه... وأمّا الأم والجد للأم والأخ فضلاً عن سائر الأقارب فلا ولاية لهم عليه.

- اشترط بعض الفقهاء العدالة في الأب حتى تكون ولايته نافذة على الطفل، لأنّ مناط جعل الولاية للأب ليس هو الأبوة مجرّداً، بل الأبوة بضميمة صفة وهي العدالة.

- ذهب مشهور الفقهاء إلى وجهة نظر مخالفة للرأي المتقدّم، حيث قالوا بأنّ ولاية الأب ثابتة بأصل الشرع لعنوان الأبوة من دون أيّ قيد إضافي فيها، فلم تُقيّد النصوص ولاية الأب بشرط العدالة، كما أنّ الشفقة الأبوية والرأفة والرحمة المركوزة في فطرة الأب والمعجونة بطينته تمنعه من تضييع مصلحة أولاده.

- اشترط بعض الفقهاء فيما يتعلّق بولاية الأب، أن يكون تصرّف الأب على ضوء مصلحة الطفل حتّى يكون صحيحاً ونافذاً ولا يكفي أن لا يؤدّي تصرّفه إلى مفسدة، بمعنى أن يدرس الوليّ ما هو الخيار الذي فيه مصلحة للطفل ويتصرّف على ضوء هذا الخيار.

- في حين يرى مشهور الفقهاء خصوصاً المعاصرين منهم، أنّ تصرّف الولي غير مشروط بالمصلحة، بل تصرّفه نافذ ما لم يؤدِ إلى مفسدة بحقّ الطفل، لوجود منطقة وسطى ما بين المصلحة والمفسدة، أي أنّه ليس كلّ تصرّف يخلو من المصلحة من الضروريّ أن تترتّب عليه مفسدة للطفل، بل قد يكون التصرّف خالياً من المصلحة والمفسدة معاً، فلا فيه ملاك مصلحة ولا ملاك مفسدة. أمّا إذا تصرّف الوليّ بنحو يلحق المفسدة بالطفل فإنّ ولايته غير نافذة وتسقط في هذا المجال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

188

الدرس الرابع عشر: الولاية التربوية الأبوية على الطفل - شروطها وحدودها - (2)

 أسئلة الدرس

1- هل الولاية الأبوية التربوية على الطفل منحصرة بالأب المباشر أم تشمل الجدّ؟ وأيّ منهما يقدّم تصرّفه حال التزاحم والتعارض في القرارات التربوية؟

2- هل عدالة الأب شرط في نفوذ ولايته بحق الطفل؟ اعرض الأدلة التي تشترطها وناقشها من وجهة النظر الأخرى.

3- لو فرضنا عدم الوجوب القانونيّ في تصرّف الأب على ضوء ما هو مصلحة الطفل، فهل تعتبر هذا واجباً أخلاقياً؟ لماذا؟

4- إذا تصرّف الأب ضدّ مصلحة أطفاله هل يستطيع الحاكم الشرعيّ أن يعزله عن ولايته الأبوية؟ وما هي الحكمة في ذلك؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

189

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرِّف اليتيم لغة واصطلاحاً.
2- يعرض بعض النصوص الدينية التي تتحدّث عن كيفية التعامل التربويّ مع اليتيم.
3- يعرف أنّ الولاية التربوية على اليتيم مجعولة لأب الأب وللوصيّ الشرعيّ.
4- يُحدّد شروط نفوذ ولاية الوصيّ التربوية على اليتيم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

190

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 تمهيد

إنّ الراصد للنصوص الدينية والموسوعات الحديثية الإسلامية يجد الاهتمام الأكيد والتوصية الشديدة بالتعامل الحسن والإيجابيّ مع اليتيم، من خلال رعايته وكفالته والاهتمام به وإكرامه والإحسان إليه وصيانته والتعامل معه برحمة ولطف وبر و... وهذه المفردات جميعها من عناصر الشبكة المعنائية للتربية بالمعنى الأعمّ، فإنّ لليتيم حقوقاً على جميع أفراد المجتمع الإسلاميّ، ولعظم مكانة اليتيم عند الله تعالى يهتزّ العرش من بكائه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إذا بكى اليتيم اهتزّ العرش علىبكائه. فيقول الله تعالى: يا ملائكتي اشهدوا على أنّ من أسكته واسترضاه أرضيته في يوم القيامة"1. وفي هذا المعنى روايات عديدة.
 
من هو اليتيم؟
اليتيم أو اليتيمة من اليتم بمعنى الانفراد في أصل اللغة، واليتيم هو الطفل الذي فقد أباه بالموت قبل أن يبلغ، ولا يُطلق على من فقد أمّه اليتيم2.
 
واليتيم في الاصطلاح الشرعيّ هو عينه المستعمل في المعاجم اللغوية3.
 
وهل يشترط في صدق اسم اليتيم على الطفل موت الأب الأعلى أيضاً أي الجدّ، أم مجرّد موت الأب المباشر هو المعتبر تحديداً دون غيره؟ ذكر الفقهاء في الجواب أنّ اليتيم هو خصوص من مات أبوه وإن كان جدّه حيّاً، فلا عبرة ببقاء حياة الجد أو موته في صدق اليتيم أو عدمه على الطفل.



1 جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص422.
2 لسان العرب، ج12، ص645.
3 يراجع: الطوسي، المبسوط، ج2، ص282.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

191

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 ما هو الحدّ الزمني لنهاية اليتم؟

إنّ منتهى اليتم حقيقة1 هو البلوغ الشرعيّ، فإذا بلغ الإنسان سواء أكان ذكراً أم أنثى زال عنه اسم اليتم، لذا يختلف منتهى اليتم باختلاف الجنوسة أي أنّ اليتم في الطفلة ينتهي قبل اليتم في الطفل من جهة، وباختلاف الآراء الفقهية حول علامات تحقّق البلوغ من جهة ثانية. وقد تعرّضنا بالتفصيل لعلامات البلوغ في الدرس الرابع.
 
النصوص الروائية في كيفية التعامل مع اليتيم
لقد رسمت النصوص الدينية البرنامج التربويّ في كيفية التعامل مع اليتيم في الجانب الإيجابيّ على النحو التالي:
- صيانة اليتيم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "حثّ الله عزّ وجلّ على برّ اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم، فمن صانهم صانه الله، ومن أكرمهم أكرمه الله..."2.
 
- إكرام اليتيم: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "... وأكرم اليتيم..."3.
 
- برّ اليتيم: عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "برّوا أيتامكم"4.
 
- الإحسان إلى اليتيم: يقول تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾5.
 
- رعاية اليتيم: عن الإمام عليّ عليه السلام: "من رعى الأيتام روعي في بنيه"6.
 
- كفالة اليتيم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة"7.
 
- رحمة اليتيم: والتعامل معه برحمة أبوية: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ارحم اليتيم...". وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "كن لليتيم كالأب الرحيم...".



1 قد يطلق عرفاً ومجازاً بعد البلوغ على الطفلة مثلاً التي عمرها عشر سنوات... إلخ.
2 بحار الأنوار، ج72، ص12.
3 ميزان الحكمة، ج3، ص2689.
4 عيون الحكم والمواعظ، ص195.
5 سورة البقرة، الآية 83.
6 عيون الحكم والمواعظ، ص444.
7 الطبرسي، علي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص292.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

192

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 - اتّقاء الله تعالى في اليتيم لضعفه: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اتّقوا الله في الضعيفين: اليتيم والمرأة..."1.

 
- ملاطفة اليتيم والمسح على رأسه: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من أنكر منكم قساوة قلبه، فليدن يتيماً فيُلاطفه وليمسح رأسه، يلين قلبه بإذن الله عزّ وجلّ فإنّ لليتيم حقّاً"2.
 
- إعالة اليتيم: في وصية أمير المؤمنين قبل استشهاده لولده الإمام الحسن عليهما السلام، قال: "الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم3، ولا يضيعوا بحضرتكم. فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله له الجنّة كما أوجبالله لآكل مال اليتيم النار"4.
 
- إيواء اليتيم: عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "أربع من كنّ فيه بنى الله له بيتاً في الجنّة: من آوى اليتيم..."5.
 
- إشباع اليتيم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أشبع اليتيم والأرملة"6.
 
وفي الجانب السلبيّ:
- عدم أكل مال اليتيم ظلماً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾7.
 
- عدم الإساءة إلى اليتيم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشرّ بيت بيت فيه يتيم يُساء إليه"8.
 
- عدم إذلال اليتيم: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من أذلّ يتيماً أذلّه الله"9.



1 قرب الإسناد، ص92.
2 من لا يحضره الفقيه، ج1، ص188.
3 أي لا تجيعوا الأيتام، بحيث تطعمونهم يوماً وتتركونهم يوماً.
4 تهذيب الأحكام، ج9، ص178.
5 الخصال، ص223.
6 مشكاة الأنوار، ص292.
7 سورة النساء، الآية 10.
8 مشكاة الأنوار، ص292.
9 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

193

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 - عدم تضييع اليتيم: تقدّم في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يضيعوا بحضرتكم".

 
نكتفي بنقل هذا المقدار من النصوص الروائية التي تُفيد كيفية التعامل التربويّ مع اليتيم.
 
الولاية التربوية على اليتيم
إنّ اليتيم مع ضعف الطفولة، يعيش انكسار القلب بسبب موت الأب، فينقطع عمّن يُدير أموره ويتولّى تحمّل مسؤولية تربيته في مختلف الجوانب والمجالات، فتُصبح حاجته إلى الإعانة والعطف والإكرام مضاعفة نتيجة انفراده، كما عبّر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله سابقاً: "حثّ الله عزّ وجلّ على برّ اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم"، وكما ورد عن الإمام عليّ الرضا عليه السلام، قال: "... اليتيم غير مستغن، ولا يتحمّل لنفسه، ولا قائم بشأنه1، ولا له من يقوم عليه ويكفيه كقيام والديه"2. وهنا يأتي السؤال: من الذي يتحمّل مسؤولية تربية اليتيم والإشراف على شؤونه وإدارة أموره؟ وبعبارة أخرى من هو وليّ اليتيم الذي له حقّ التصرّف في جميع شؤونه؟
 
اتّضح في الدرس السابق أنّ الجدّ له حقّ الولاية على الطفل في حضور الأب وحياته، ومع وفاة الأب ذهب مشهور الفقهاء3 إلى استمرار ولاية الجد وأنّه يستقلّ بها، فالجد هو وليّ اليتيم عند موت الأب، وهو الذي يتحمّل مسؤولية الولاية التربوية على اليتيم، قال العلّامة الحلّي: "لا يشترط في ولاية الجد حياة الأب ولا عدمه بل تثبت له الولاية سواء كان الأب حيّاً أو ميتاً"4، فلا يُزاحمه أحد في هذه الولاية مع توفّر شروطها المذكورة سابقاً، من التصرّف على مقتضى مصلحة اليتيم بنحو لا يلحق الضرر والمفسدة به.
 
وبناءً عليه، مع حضور الجدّ من جهة الأب لا ولاية لأحد في عرضه على اليتيم، وإذا مات الأب أو الجد، لا تنتقل الولاية إلى الأم أو الأخ الكبير أو غيرهما كالعمّ أو الخال أو الجدّ 



1 في عيون أخبار الرضا، ج2، ص99: "ولا عليم بشأنه".
2 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص565.
3 خالف في ذلك بعض الفقهاء فيما يتعلق بمسألة تزويج الطفل، حيث اعتبر أن ولاية الجد مشروطة بحياة الأب، وإذا مات الأب سقطت ولاية الجد.
4 تذكرة الفقهاء، ج2، ص587.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

 


194

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 للأم... وعدم انتقال الولاية إلى الأمّ لا يعني أنّ الأطفال القاصرين سيبقون بدون وليّ، لأنّ "الولاية على الطفل الفاقد لأبيه وجدّه لأبيه للوليّ العامّ الشرعيّ، يتولّى شؤونه المالية والتربوية، إمّا بالمباشرة وإمّا بتعيين أحد يثق به ليقوم بالمهمّة. ولو كان هو أمّ الطفل أو أخاه أو أي فرد آخر. إذن، فالأمّ والأخ ليس لهما الولاية بالذّات. وإنّما يُمكن لهما تحصيلها بالاستئذان من الوليّ العامّ في ذلك"1.

 
وبذلك يظهر بوضوح أنّ تصرّف الأمّهات في شؤون الطفل غير مشروعة إلا في ظلّ الاستئذان من الأب مع وجوده، أو الاستئذان من الحاكم الشرعيّ مع فقدان الأب والجدّ.
 
فتكون الأم - فضلاً عن أقاربها وأقارب الأب- من الناحية القانونية مثل الآخرين في عدم نفوذ ولايتها على الطفل - ما عدا فيما يتعلّق بشؤون الحضانة على ما سيأتي بيانه -. يقول العلّامة الحلّي: "أمّا الأُمّ فلا ولاية لها، وإن كان الأب والجدّ مفقودين، فإذا لم يكن أب ولا جدّ، كان وليّه من أوصى أحدُهما إليه بالنظر في أمره، وإن لم يكن وصيّ، فالنظر إلى الحاكم"2.
 
وبهذا يتبيّن أنّ وليّ الطفل بعد وفاة الأب والجدّ هو الوصيّ عليه من قِبَل الأب قبل وفاته، فمن هو الوصي؟ وما هي الوصاية التربوية؟
 
الوصاية التربوية
الوصيّ هو الشخص الذي يوكل إليه الأب أو الجد للأب - فيما هو ثابت لهما من حقّ التصرّف في حياتهما3- تحمّل مسؤولية تربية أطفاله اليتامى قبل وفاته إمّا مطلقاً أو في دائرة خاصة، فيُصبح لهذا الشخص الموصى إليه حقّ التصرّف في شؤون الأطفال اليتامى وإدارة أمورهم وتدبير حياتهم فيما هو موصى به.
 
فمعنى الوصية في ما نحن فيه: "تسليط على تصرّف بعد الوفاة"4.



1 ما وراء الفقه، ج5، ص56-57.
2 الحلي، الحسن بن يوسف، تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، ج2، ص541.
3 يراجع: الخوئي، محمد تقي، المباني في شرح العروة الوثقى، كتاب النكاح، موسوعة الإمام الخوئي، تقريراً لأبحاث السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، ج2، ص300. وإلا فإنه ليس للأب أو الجد الإيصاء لغيرهما بما ليس ثابتاً لهما من التصرّفات بحق الطفل.
4 الحلي، جعفر بن الحسن، المختصر النافع في فقه الإمامية، ص163.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

195

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 ونُشير إلى أنّ الأصل عدم الولاية لأيّ شخص على الأطفال، وبالتّالي فإنّ كلّ شخص يدّعي الوصاية لا تثبت وصايته بمجرّد الدعوى، بل يحتاج إلى بيّنة شرعية تثبت ذلك له1.

 
والأم، وإن لم يكن لها حقّ الولاية بالذّات على الطفل اليتيم أو غيره، إلا أنّها كما أشرنا يُمكن أن تُمارس هذا الحقّ بالوصاية فيما لو أسند الأب تولّي مسؤولية ذلك إليها، فيستطيع الأب الأدنى أو الأعلى قبل وفاته أن يوصي بأن تكون الأم هي الوصيّ على أطفالها، فتنتقل لها الولاية، فيكون لها حقّ التصرّف ضمن الشروط التي سنعرضها، وقد يعتبر هذا هو الخيار الأصلح من قِبَل الأب مع أهلية الأم للقيمومة على أطفالها، لأنّهم سيعيشون في كنفها غالباً وسيكونون تحت عينها وصناعتها ورقابتها وإشرافها، فإعطاؤها هامش التحرّك معهم بالوصاية التربوية فيما تُقدّره من مصالح لهم يُعتبر عنصراً مساعداً لها على حسن تربيتهم وتولّي مسؤولية رعايتهم وصيانتهم والسير بهم نحو كمالهم اللائق بحالهم.
 
أمّا إذا لم يُوصِ الأب أو الجدّ لشخص معيّن في ولاية الأيتام، أو فُقد الوصيّ ومات، يكون الحاكم الشرعيّ هو المسؤول عن تربية اليتيم وكفالته ورعايته وصيانته، لأنّ الحاكم هو وليّ من لا وليّ له، ولا تعود هذه الولاية إلى أحد آخر لا الأم ولا الأخ، وحينها ليس لغير الوليّ حقّ التصرّف في شؤون اليتيم إلّا بإجازة الحاكم الشرعيّ، وأي تصرّف لا يقع تحت إجازة الحاكم الشرعيّ يُعتبر غير نافذ بحقّ اليتيم لا في أمواله ولا في نفسه.
 
تقيّد ولاية الوصاية التربوية بمصلحة الطفل اليتيم
تقدّم في الدرس السابق أنّ بعض الفقهاء يرون عدم شرطية تصرّفات الوليّ الأب بالمصلحة بالنسبة لشؤون الطفل بل يكفي عدم المفسدة، فهل الأمر كذلك بالنسبة لولاية الوصيّ أيضاً، بمعنى هل يشترط في ولاية غير الأب والجدّ ملاحظة المصلحة والمنفعة لليتيم أم يكفي عدم المفسدة؟
 
في الجواب عن هذا السؤال، ذهب الفقهاء بل ادّعي الإجماع2 على أنّ تصرّفات الوصيّ مختلفة عن تصرّفات الأب والجدّ، فحتّى بناءً على القول بعدم شرطية المصلحة في ولايتهما 



1 المسبوط، ج3، ص29.
2 مفتاح الكرامة، ج4، ص217.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

196

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 على الطفل، فإنّها شرط في ولاية غيرهما على اليتيم، فلا يكفي فيها عدم المفسدة، بل لا بدّ من تصرّف الوصيّ أو غيره على ضوء مصلحة الطفل اليتيم، بمعنى أنّها ولاية مقيّدة بأن يكون ناتج التصرّف يصبّ في مصلحة الطفل، وكلّ تصرّف لا يعود بمصلحة ومنفعة وغبطة على الطفل لا يُعتبر نافذاً، لأنّ الغرض من تشريع الولاية على اليتيم هو حفظ مصالحه وجلب المنافع له وليس فقط دفع المفاسد عنه.

 
بين الصالح والأصلح
اعتبر بعض الفقهاء أنّه لو ظهر وبان أمام الوليّ الوصيّ خياران صالح وأصلح، يجب اتّباع الخيار الأصلح بحقّ الطفل اليتيم1. نعم، لا يجب على الوصيّ البحث والتفتيش والتحرّي عمّا هو الأصلح، لأنّ المسألة نسبية، فقد يكون الأصلح هو كذلك بالمقارنة بينه وبين المصلحة، ولكن إذا تمّ قياس الأصلح إلى خيار أفضل فسيكون الثالث هو الأصلح، وهكذا يتسلسل الأمر. وبعبارة أخرى إنّ الأصلح من الكلّيات المشكّكة التي لا تتناهى أفرادها عرفاً، حيث يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة2. وبناءً عليه يعتبر من العسر والحرج إلزام الوصيّ بالتحرّي والبحث عن الأصلح ابتداء.
 
ارتفاع الولاية بين البلوغ والرشد
ذكرنا في الدرس السابق أنّ الطفل سواء أكان يتيماً أم غير يتيم ليس وليّ نفسه، بل هناك شخص بالغ عاقل راشد (الأب أو الجدّ أو الوصيّ أو الحاكم) يكون هو الوليّ عليه. ويبقى السؤال التالي: متى ترتفع هذه الولاية عن الطفل سواء أكان يتيماً أم غير يتيم؟ هل بمجرّد البلوغ، أم بالبلوغ والرشد؟
 
أسّس الفقهاء قاعدة عامّة في هذا السياق، مفادها أنّ الولاية الأبوية والوصاية تسقط عمّن فارق مرحلة الطفولة ودخل في مرحلة البلوغ. فالبالغ من حيث الأصل هو وليّ نفسه، ولا ولاية لأحد عليه، نعم هناك شرط يتعلّق بالعقل، وهذا الشرط له دور في استمرار الولاية على البالغ أو ارتفاعها وانتفائها.



1 العاملي، محمد بن مكي، المعروف بالشهيد الأول، القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربية، ج1، ص352.
2 المروجي، جعفر، هدى الطالب إلى شرح المكاسب، ج6، ص269.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

197

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 ولكي يظهر المقصود بشكل واضح، سنبدأ من مقدّمة منهجية نُميّز فيها بين ثلاثة أنواع من البالغين من حيث العقل:

1- البالغ العاقل الرشيد، الذي يرى العرف الاجتماعيّ العام أنّه له أهلية عقلية، بمعنى أنّه قادر على التصرّف في شؤونه الحياتية وإدراة أموره بنحو ينظر إليه العقلاء في المجتمع على أنّه تصرّف لائق بحاله وشأنه مقارنة مع غالب أقرانه. وهذا الصنف من البالغين لا ولاية لأحد عليهم، إلا على الأنثى في الزواج بناء على مشهور آراء الفقهاء المعاصرين.
 
2- البالغ المجنون، والجنون مرض عقلي يُصيب الإنسان، وقد عرّفه الشيخ الجواهري بقوله: "هو مرض في العقل يقتضي فساده وتعطيله عن أفعاله وأحكامه ولو في بعض الأوقات"1.
 
وهو معنى جامع لفساد العقل على أيّ وجه كان2، يقول الشهيد الثاني: "وتناول الجنون بإطلاقه لجميع أقسامه، فإنّ الجنون فنون، والجامع بينها فساد العقل كيف اتفق"3.
 
وبهذا يظهر أنّه لا محدّد شرعيّاً للجنون، بل كلّ من ينطبق عليه أنّه مجنون بحسب النظرة العرفية والطبّية فهو مجنون بالاصطلاح الفقهيّ4.
 
وهذا الإنسان البالغ بهذا النحو، لا تسقط ولاية أبيه وجدّه ووصيّه والحاكم الشرعيّ على الترتيب المذكور سابقاً عنه حال جنونه، فلهم حقّ التصرّف في نفسه وماله بما يرونه مناسباً من مصلحته. ومثل هذا الإنسان قد رفع الله تعالى عنه قلم التكليف5 حال جنونه على مستوى الواجبات والمسؤولية والجزاء، إلا في بعض الأحكام التكليفية والوضعية التي يتولّاها وليّه كإخراج الخمس من أموال المجنون والضمان للأشياء التي يتلفها بفعله مثلاً6...



1 جواهر الكلام، ج30، ص318.
2 العاملي، زين الدين بن علي، المعروف بالشهيد الثاني، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج5، ص385.
3 مسالك الأفهام، ج8، ص102.
4 يراجع: المجلسي، محمد تقي، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج8، ص328. والنراقي، أحمد بن محمد مهدي، عوائد الأيام، ص513.
5 عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق...". المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد، ج1، ص203.
6 ما وراء الفقه، ج4، ص258.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

198

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 وهذا يُحيلنا إلى نقطة مهمّة، وهي أهمّية العمل على تربية المجنون والمتخلّف عقلياً من قِبَل الأهل وتولّي مسؤولية رعايته وصيانته لأنّهم هم أولياء أمره وعدم التخلّي عن هذه المسؤولية التربوية.

 
وهذا يستلزم العمل على إيجاد المؤسسات التربوية المتخصّصة في كيفية التعامل مع مثل هذه الأمراض والحالات لتكون في خدمة الأهل وتوجيههم وإرشادهم، وتحمّل الأعباء والمسؤوليّات معهم.
 
3- البالغ السفيه، والسفه بالمعنى الأعمّ هو التصرّف بنحو غير لائق بأفعال العقلاء. وقد يوصف في العرف الاجتماعيّ العامّ بأوصاف مثل: خفّة العقل، التصرّفات الصبيانية، الطيش... 
 
إلخ، فـ "السفاهة: عبارة عن خفّة العقل ونقصانه، وعدم كماله بالنسبة إلى عامّة أهل المعاش والمحاورات، أي بالنسبة إلى العقل المحتاج إليه في طريقة المعاش والمعاملات، والمصاحبة مع أهل المحاورات أو العادات"1. ويُقابله الرشد بمعنى أن يكون لدى البالغ ملكة نفسانية تؤهّله للتصرّف في شؤونه الحياتية بنحو يراه العقلاء في المجتمع لائقاً بحاله وصلاحاً له. 
 
لذلك لا يُعتبر الإفساد في بعض الأحيان مع وجود الملكة سفهاً.
 
السفاهة والرشد بين التصرّفات المالية وغيرها
ميّز الفقهاء بين نوعين من التصرّفات بالنسبة للشخص الذي يخرج عن مرحلة الطفولة ويدخل مرحلة البلوغ الشرعيّ وهو متّصف بالسفاهة، الأولى التصرّفات المتعلّقة بشؤونه المالية، حيث اعتبروا أنّ تصرّف الإنسان في مثل هذه الشؤون الحياتية الاقتصادية لا يكفي فيها مجرّد البلوغ، بل يشترط بالإضافة إلى ذلك أن يتوفّر عنصر الرشد، وبناءً عليه فإنّ الطفل الذي يخرج من مرحلة الطفولة سفيهاً بنحو يكون سفهه متّصلاً بالطفولة تستمرّ ولاية أبيه وجدّه عليه ولا تسقط بالبلوغ فيما يتعلّق بشؤونه المالية، ومعنى استمرارها أنّه لا يستقلّ بالتصرّف في شؤونه المالية، ولا يحقّ له ذلك إلّا بإذن الوليّ وإجازته، وإلّا اعتبرت تصرّفاته غير نافذة ولا يترتّب عليها الأثر



1 عوائد الأيام، ص514.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

199

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 المطلوب. ولذلك ذكرنا في تقسيم المراحل العمرية أنّ مرحلة البلوغ السفهيّ ملحقة بمرحلة الطفولة في بعض أحكامها1.

 
وهذا ما أكّده القرآن الكريم والروايات، قال تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾2.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام عندما سُئل عن تفسير معنى الآية قال: "إيناس الرشد: حفظ المال"3.
 
وعنه عليه السلام، قال: "انقطاع يتم اليتيم بالاحتلام، وهو أشدّه، وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه وليّه ماله"4.
 
وعن العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال عليه السلام: "إذا علمت أنّها لا تُفسد ولا تُضيّع"5.
 
والحكمة في ذلك، هي الحفاظ على مال اليتيم كي لا يقع فريسة في يد الطامعين، فيؤدّي ذلك إلى تضييع حقه واختلال نظام الحياة الاجتماعية6.
 
أمّا النحو الثاني من تصرّفات السفيه فهي التصرّفات المتعلّقة بالتكاليف العبادية المتوجّهة إليه كالصلاة والصوم والحجّ، أو الأحكام الوضعية كالطهارة والنجاسة و...، أو المتعلّقة بالحدود والتعزيرات والديات، أو خياراته العامة الأخرى في الحياة كنوع الاختصاص الذي يريد أن يكمل به رحلته العلمية أو نوع المهنة الذي يريد أن يختاره لنفسه أو اختيار الفتاة التي يريد أن يتزوّج بها أو...، فهذه لا يشترط فيها الرشد، لأنّ الرشد ليس شرطاً في التكليف أو التصرّفات غير المالية، بل يكفي دخول الإنسان مرحلة البلوغ الشرعيّ حتّى تجب عليه أو يُصبح هو ولياً على نفسه، ويُصبح هو المسؤول عن تصرّفاته، وليس لأيّ أحد ولاية عليه في هذا المجال، إلا فيما يتعلّق بالشؤون العامة المندرجة تحت عموم 



1 الإمام الخميني قدس سره، تحرير الوسيلة، ج2، ص17.
2 سورة النساء، الآية 6.
3 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص222.
4 الكافي، ج7، ص68.
5 م.ن، ص69.
6 يراجع: الميزان في تفسير القرآن، ج4، ص173.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
244

200

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 ولاية الفقيه، لأنّ العقل الذي هو مناط التكاليف الشرعية هو الخالي عن الجنون، أمّا العقل الناقص الخفيف بالنسبة لبعض الناس مقارنة لهم بأغلب أبناء مرحلتهم العمرية فليس مانعاً عن تعلّق التكليف بمثل هذا الشخص1، فالسفهاء بهذا المعنى داخلون تحت عموم التكاليف الشرعية من دون مخصِّص ومتساوون مع غيرهم في الأحكام التكليفية الفرعية والوضعية.

 
التربية على الرشد
ما تقدّم في الدرس من مباحث، يضع من له حقّ الولاية التربوية على الطفل مسؤولية العمل الجاد على تربيته على الرشد، والسعي الحثيث من أجل تنمية القابليات والاستعدادات الخاصة التي تجعلها يسلك نحو الرشد ويسير باتجاهه، بنحو يجعل المتربّي حاصلاً على ملكة التصرّف بنحو يليق بأفعال العقلاء في المجتمع الذي يعيش فيه.



1 عوائد الأيام، ص521-523.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
245

201

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 المفاهيم الرئيسة

- اليتيم أو اليتيمة من اليتم بمعنى الانفراد في أصل اللغة، وشرعاً من مات أبوه قبل بلوغه. فأمّا من مات أبوه بعد بلوغه فلا يكون يتيماً، وكذلك إذا ماتت أمّه قبل بلوغه لا يكون يتيماً.

- رسمت النصوص الدينية البرنامج التربويّ في كيفية التعامل مع اليتيم في الجانب الإيجابيّ على النحو التالي، صيانة اليتيم، وإكرامه، والبرّ به، والإحسان إليه، ورعايته، وكفالته، وإعالته، وإيواؤه، وتفريحه، وإشباعه، والرحمة به، والتعامل معه برحمة أبوية، واتّقاء الله تعالى فيه لضعفه، وملاطفة اليتيم والمسح على رأسه.

- إنّ اليتيم مع ضعف الطفولة، يمتلك ضعفاً إضافياً وهو انكسار القلب بسبب موت الأب، حيث يفقد الوليّ والراعي والسائس والكفيل والصائن... وقد جعلت الشريعة الجدّ هو وليّ اليتيم عند موت الأب لأنّه أقرب إليه من حيث العاطفة ومراعاة المصالح والحفظ والصيانة.

- إذا مات الأب أو الجد، لا تنتقل الولاية إلى الأم أو الأخ الكبير أو غيرهما كالعم أو الخال أو الجد للأم... وعدم انتقال الولاية إلى الأم لا يعني أنّ الأطفال القاصرين سيبقون بدون وليّ، بل تنتقل الولاية إلى الوصيّ التربويّ.

- الوصي هو الشخص الذي يوكل إليه الأب أو الجد للأب - فيما هو ثابت لهما من حقّ التصرّف في حياتهما - تحمّل مسؤولية تربية أطفاله اليتامى قبل وفاته.

- أجمع الفقهاء على أنّ التصرّف على ضوء مصلحة الطفل هو شرط في نفوذ ولاية الوصي على اليتيم، لأنّ الغرض من تشريع الولاية على اليتيم هو حفظ مصالحه وجلب المنافع له وليس فقط دفع المفاسد عنه.

- تسقط الولاية الأبوية والوصاية عمّن فارق مرحلة الطفولة ودخل في مرحلة البلوغ، فالبالغ من حيث الأصل هو ولي نفسه، ولا ولاية لأحد عليه، إلا إذا كان مجنوناً فيبقى تحت الولاية الأبوية والوصاية، أو إذا بلغ سفيهاً لا يُحسن التصرّف في شؤون حياته، فيحتاج في نفوذ تصرّفاته المالية إلى الإذن من الوليّ الشرعيّ.

- من له حقّ الولاية التربوية على الطفل ينبغي له العمل من أجل تنمية القابليات والاستعدادات الخاصة للطفل التي تجعله يسلك نحو الرشد ويسير باتّجاهه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
246

202

الدرس الخامس عشر: تربية اليتيم/ والولاية التربوية على السفيه

 أسئلة الدرس

1- من هو اليتيم بالاصطلاح الشرعيّ؟ حدّد ذلك بالتفصيل.

2- إذا مات أب الطفل تمنح الولاية التربوية للجد أو الوصي دون الأم، ما هي الحكمة من وراء ذلك برأيك؟

3- ما هي معالم البرنامج التربويّ التي رسمها الإسلام في خط علاقة المجتمع الإسلاميّ مع اليتيم؟

4- اذكر أربع روايات حول كيفية التعامل مع اليتيم.

5- ما هو المقصود بالسفيه والرشيد وما الفرق بينهما؟ وما وجه الحكمة في استمرار الولاية على من بلغ سفيهاً؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
247

203

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يُعرِّف الحضانة لغة واصطلاحاً.
2- يعرض أسباب جعل ولاية الحضانة على الطفل للأم.
3- يبيّن أهمّية التوافق بين الأبوين في حضانة الطفل.
4- يعرف حكم الحضانة وشروطها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
249

204

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 تمهيد

إنّ من مميّزات طبيعة الطفل خصوصاً المولود حديثاً الضعف والنقص والحاجة والفقر، بنحو لا يُمكنه رفعها عن نفسه بقدرته وإرادته على ما اقتضته الحكمة الإلهية، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "... لو كان - المولود - يولد تام العقلمستقلّاً بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبرّ، والعطف عليهم، عند حاجتهم إلى ذلك منهم، ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولايألف الآباء أبناءهم، لأنّ الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم، فيتفرّقون عنهم حين يولدون، فلا يعرف الرجل أباه وأمّه..."1. لذا يحتاج الطفل في هذه المرحلة الأولى من حياته إلى من يُظلّله ويجهد في تلبية احتياجاته والانتقال به من النقص إلى الكمال. ومن أهمّ احتياجات الطفل المولود حديثاً تغذيته وإطعامه، وإلباسه ولفّه في ثيابه، وتنظيفه وغسله، وغسل ثيابه، وحمله، ووضعه في سريره، والهزّ له لينام، وتمريضه وإعطاؤه الدواء... إلى غيرهما من الحاجات التي تتعلّق بالتربية البدنية للطفل عند الولادة وبعدها. وقد أطلق على هذا النوع من التربية للطفل اصطلاح الحضانة. لذا يُعتبر البحث عن حضانة الطفل من الأبحاث المهمّة المتعلّقة بالمرحلة الأولى للطفولة، والبحث عنها - على رأي مشهور الفقهاء - يُصنّف ضمن متفرّعات البحث عن الولاية التربوية على الطفل التي تقدّم الحديث عنها في الدرس12، ولهذا ألحقناه هنا، مع كون حقّه التأخير حسب تقسيم المراحل العمرية المتقدّمة.
 
فما هو حقّ الحضانة؟ ولمن أُعطي هذا الحقّ؟



1 الجعفي، المفضل بن عمر، التوحيد، ص15-16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
251

205

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 الحضانة في اللغة

الحضانة لغةً من الحِضْن، وأصله إمّا بمعنى "حفظ الشيء وصيانته"1, وإمّا بمعنى ما دون الإبط إلى الكشح2. واحتضنت المرأة طفلها أي ضمّته إلى نفسها وحملته في حضنها.
 
وحَضَنَ الطفل: ربّاه. وحاضنة الطفل التي تقوم عليه في حفظه وتربيته3. قال الفراهيدي: "الحضانة: مصدر الحاضنة والحاضن، وهما اللذان يُربّيان الصبي"4.
 
فالحضانة في اللغة العربية من عناصر الشبكة المعنائية للتربية كما تقدّم.
 
الحضانة في الاصطلاح الشرعيّ
عرّفت الحضانة بالاصطلاح الشرعيّ بتعريفات متعدّدة لفظاً ترجع في المعنى إلى روح واحدة.
 
قال العلّامة الحلّي في تعريفها: "الحضانة: تربية الصبيّ وحفظه، وجعله في سريره، وأخذه منه، وكحله، ودهنه، وتنظيفه، وغسل خرقه وثيابه، وأشباه ذلك، واشتقاقها من الحضن، وهو ما تحت الإبط تشبيهاً بحضانة الطير للفراخ والبيض"5.
 
وقال الشهيد الثاني: "هي ولاية على الطفل والمجنون لفائدة تربيته، وما يتعلّق بها من مصلحته، من حفظه، وجعله في سريره، ورفعه، وكحله، ودهنه، وتنظيفه، وغسل خرقه وثيابه، ونحوه"6.
 
وقال السيّد محمد العاملي: "ولاية على الطفل لتربيته وما يتعلّق بها"7.
 
يتّضح من هذه التعاريف أنّ الحضانة هي تربية للطفل، ولكن ليس أيّ تربية، بل خصوص



1 معجم مقاييس اللغة، ج2، ص73.
2 الكشح: ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفي. العين، ج3، ص57.
3 الصحاح، ج5، ص2101. ولسان العرب، ج13، ص122.
4 العين، ج3، ص105.
5 تحرير الأحكام، ج3، ص93.
6 الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج5، ص458. ويراجع: السبزواري، محمد باقر، كفاية الفقه المعروف بكفاية الأحكام-، ج2، ص292. والبحراني، يوسف، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، ج25، ص83. آل عصفور، حسين، الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، ج10، ص334. الطباطبائي، علي، رياض المسائل، ج10، ص514.
7 نهاية المرام، ج1، ص460.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
252

206

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 التربية المتعلّقة بجانب الاحتياجات البدنية التي تتطلّبها المرحلة العمرية الأولى من حياة الطفل.

 
ويتّضح من التعريفين الأخيرين، وجود علاقة بين الحضانة والولاية التربوية، فالحضانة نحو من الولاية التربوية على الطفل.
 
الطبيعة الأنثوية العاطفية وولاية الحضانة
اعتبر الفقه التربويّ الإسلاميّ أنّ الأم هي محور حضانة الطفل، حيث أُسندت إليها مهمّة التربية البدنية للطفل. والحكمة الإلهية في ذلك أنّ حضانة الأمومة للطفل على مقتضى قانون الطبيعة العام1، حيث نرى مثلاً أنّ أنثى الطير تحضن البيض بضمّه إلى نفسها تحت جناحها، لذا اعتبر الجوهريّ أنّ المدلول اللغويّ للحضانة مأخوذ من الحضن بهذا المعنى كما ألمحنا2، وكذلك الأمر في باقي أنواع الحيوانات، حيث غرست يد الله تعالى في قلب الأم/ الأنثى صفات فطرية وجدانية - عاطفية كالحبّ والحنان والشفقة والرأفة والرحمة والقدرة على الصبر والتحمّل التي تجعل طبيعتها أكثر أهلية وقابلية من الذكر/ الأب للقيام بوظيفة احتضان الطفل ورعايته وحفظه وصيانته والاهتمام بشؤونه وتأمين احتياجاته المذكورة وتحمّل كلّ المتاعب والصعاب ببسمة ورحابة صدر في سبيل ذلك3، فالحضانة أولاً حقّ طبيعيّ فطريّ للأم.
 
وقد أنزل الله تعالى الدين الإسلاميّ مطابقاً لمقتضى الفطرة الإنسانية4، لذا ستكون أحكامه التشريعية متناغمة مع ما جهّزت به طبيعة المرأة بالتكوين، يقول العلّامة الطباطبائي: "إنّ التكليف الإلهي يتبع بحسب طبعه الفطرة التي فطر الناس عليها، ومن المعلوم أنّ الفطرة التي هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهّزت به، وفي ذلك سعادة الحياة البتة"5. وبناءً عليه أوكلت وظيفة ولاية التربية الحضانية للطفل إلى الأم، يقول الشهيد 



1 يراجع: مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، ج25، ص276.
2 الصحاح، ج5، ص2101.
3 الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج5، ص461.
4 يراجع: الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص389. وج2، ص274. وج7، ص247. وج9، ص241. وج16، ص178 وما بعد.
5 المصدر نفسه، ج6، ص293.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
253

207

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 الثاني في هذا السياق: "وهي - أي الحضانة - بالأنثى أليق منها بالرجل لمزيد شفقتها وخلقها المعدّ لذلك بالأصل"1.

 
ويقول السيد محمد جواد العاملي: "... قدّمت الأُمّ على الأب في الحضانة، فإنّما ذلك لمكان زيادة الرقّة والشفقة"2.
 
وانطلاقاً من هذه النقطة عرّف المقداد السيوري الحضانة شرعاً بأنّها: "ولاية وسلطنة تستحقّها الأم مدّة معلومة"3
 
فالولاية التربوية الحضانية للطفل في المرحلة المبكرة تتمحور حول الأم، فهي الأحقّ بطفلها ولها الأولوية في مجال التربية البدنية له في السنتين الأولتين بالاتفاق، وبذلك يجتمع لها حقّان: حقّ الرضاع وحقّ الحضانة - بناءً على كونهما حقّين لا حقّاً واحداً -4.
 
التمييز في الحضانة ما بين الفعل التربويّ والنفقة الاقتصادية
إنّ البحث عن حقّ الأم في حضانة الطفل من الناحية المادّية يقتصر على مجموع الأفعال التي تقوم بها الأم كمربّية وحاضنة للطفل، كإطعامه، وإلباسه، وغسله، وتنظيفه... إلخ، أمّا تحمّل التكاليف الاقتصادية لهذه الأفعال فهو على عاتق الأب، وخروج ولاية الحضانة عن دائرته لا يسقط الواجب الاقتصاديّ الأبويّ عنه بحقّ الطفل لجهة تأمين احتياجاته كافّة، فثمن الطعام واللباس والشامبو والحفاضات والدواء والسرير و... إلخ، كل ذلك من الموازنة المالية للأب في النفقة داخل الأسرة، ولا يجب على الأم قانونياً أن تدفع من مالها الخاص ثمن أيّ حاجة من حاجات الطفل، إلا إنْ تبرّعت بذلك عن طيب نفس، وعادة ما يحصل هذا انطلاقاً من شعورها بالأمومة والحبّ لأولادها، وباختصار ما هو حقّ للأم في الحضانة القيام بالأفعال التربوية البدنية تجاه الطفل دون تحمّل أي أعباء اقتصادية في هذا المجال.



1 مسالك الأفهام، ج8، ص421.
2 مفتاح الكرامة، ج17، ص508.
3 السيوري، مقداد بن عبد الله، التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، ج3، ص271.
4 وتظهر الثمرة في ما إذا أسقطت حقّ إرضاعها فعلى الأوّل حقّ حضانتها باق بحاله، وعلى الثاني لا حقّ لها أصلاً، وفي المسألة قولان: أحدهما للمحقّق في الشرائع وهو الثاني، والآخر حكي عن ابن إدريس وهو الأوّل. يراجع: الآراكي، محمد علي، كتاب النكاح، ص769-785.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
254

208

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 قال الشهيد الثاني: "لو احتاج الطفل إلى نفقة زائدة على الرضاع والحضانة فهي على الأب الموسر أو مال الولد إن كان له مال كأجرة الرضاع، ومنها ثمن الصابون لغسل ثيابه وخرقه، دون نفس الفعل فإنّه على الأم، لأنّه من متعلّقات الحضانة"1.

 
عموم ولاية الأب وحقّ الحضانة
تقدّم في الدرس الثالث عشر أنّ وليّ الطفل بمعنى من له حقّ التصرّف في شؤونه وتدبير أموره هو الأب لا الأم، وبناءً عليه قد يطرح السؤال التّالي: كيف يجتمع عموم الولاية الأبوية مع حقّ الأم وأولويّتها في حضانة طفلها؟
 
والجواب عن هذا السؤال يقع في ثلاث نقاط:
أولاً: إنّ خروج الحضانة عن عموم دائرة الولاية الأبوية على الطفل هو تخصيص لها2، والاستثناء من القواعد التشريعية العامّة يُعتبر أمراً عقلائياً في التقنين، فما من عام إلّا وقد خصّ. يقول ابن إدريس الحلّي في سياق بحثه عن الحضانة: "لا خلاف أنّ الأب أحقّ بالولد في جميع الأحوال، وهو الوالي عليه والقيّم بأمره، فأخرجنا بالإجماع الحولين في الذكر وفي الأنثى السبع سنين..."3.
 
ثانياً: إنّ بعض الفقهاء - كالشيخ الجواهري كما سيأتي - ذهب إلى أنّ الحضانة ليست نوعاً من الولاية حتى يأتي الإشكال، بل هي عبارة عن أحقّية الأم على غيرها في القيام بالأفعال المذكورة سابقاً فيما يتعلّق بالتربية البدنية للطفل.
 
وثالثاً: لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار، أنّ منح حقّ الحضانة للأم في الأفعال التربوية البدنية للطفل لا يسري إلى باقي شؤون حياته، بل تبقى الولاية فيما هو خارج دائرة الحضانة من حقوق الأب على نفس ومال الطفل...4.



1 مسالك الأفهام، ج8، ص421.
2 يراجع: جواهر الكلام، ج31، ص293.
3 السرائر، ج2، ص653.
4 يراجع: فياض، حسن، منتخب الأحكام المطابقة لفتاوى السيد علي الحسيني الخامنئي، ص248.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
255

209

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 التوافق التربويّ في ولاية الحضانة

إنّ البحث عن ولاية الحضانة على الطفل يقع في صورتين:
الأولى: اجتماع الزوجين في بيت الأسرة تحت سقف واحد.
الثانية: افتراق الزوجين بالطلاق.
 
وما ينبغي أن يُقال من الناحية التربوية - وقبل البحث من الزاوية الفقهية المحضة عن الموضوع - هو التأكيد على أنّ التربية بمختلف جوانبها ينبغي أن تكون توافقية بين الأم والأب مهما أمكن، سواء استمرّت حياتهما معاً أم افترقا، لأنّ التوافق التربويّ بين الوالدين ينعكس إيجاباً على هوية الطفل، بحيث لا يشعر بالتناقضات نتيجة النزاع والاختلاف الحادّ في وجهات النظر، ولا يعيش حالة من القلق والاضطراب وفقدان التوازن في الشخصية ممّا يؤثّر سلباً عليه تربوياً.
 
وهذه المسألة تُحيلنا إلى الحديث عن العلاقة بين القانون والأخلاق - التي سيأتي بحثها في درس حقّ الطفل في الرضاعة الطبيعية1 -، فانطلاقاً من قضية المواءمة بين القانون والأخلاق، ينبغي للزوجين أن لا يتحاكما في الولاية التربوية على ضوء العقلية الهندسية القانونية، بل على ضوء روح القيم الأخلاقية والعواطف الإنسانية.
 
وبناءً عليه، سواء استمرّت حياة الزوجين تحت سقف واحد، أو انفصلا بالطلاق، فإنّ التوافق أولى من التنازع، وفضّ التنازع بالتصالح أولى من اللجوء إلى المحاكمة القانونية، خصوصاً أنّ طلاق الزوجين لا يُسقط المسؤوليات التربوية المشتركة عن عاتقهما، بمعنى لزوم تهيئة البيئة الإيجابية الحاضنة لنموّ الطفل نموّاً صالحاً خالياً من الاضطرابات والصراعات وأجواء التشنّج والحقد والتعبئة بالكراهية... إلخ، فالطلاق ينبغي أن لا يُفسد على الأبناء حقّ العيش حياة طيبة تشعّ فيها كيمياء السعادة وأريج التوافق بين أبيهم وأمّهم، وعلى الوالدين أن يعيشا حالة التغافل عن شؤونهما الشخصية والتضحية لمصلحة الأطفال، لا أن يسأل كلّ واحد منهما: ماذا أوجب أو حرّم عليّ الفقه الإسلاميّ في هذا المجال ونقطة على آخر السطر.



1 يراجع: عجمي، سامر، حياتنا الجنسية كيف نعيشها، الباب الثالث، الفصل الأول، ص249 وما بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
256

210

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 وفي نفس هذا المجال، على الأبوين حال الطلاق أن لا يمنع أحدهما الآخر من الاجتماع بالطفل والتواصل معه وزيارته أو الإقامة معه فترة معيّنة انطلاقاً من مصلحة الطفل ومراعاة للآداب الأخلاقية والعواطف الإنسانية، بل حتّى قانونياً هذا هو الشأن نسبيّاً، حيث لا يجوز للأم منع أب الطفل من رؤيته في أيّ وقت شاء، وكذا العكس، فـ "إذا انتقلت الحضانة إلى الأب إمّا لتزويج الأم أو لانقضاء المدّة لم يمنع من الاجتماع بأمّه، فالذكر يذهب إلى أمّه والبنت تأتي أمّها... وكذا لو مرض الولد لم تمنع الأم من مراعاته وتمريضه، وإن مرضت هي لم يمنع ولدها من التردّد إليها ذكراً كان أو أنثى"1.

 
يقول الشيخ الجواهري: "ينبغي أن لا يمنع الولد من زيارتها والاجتماع معها، كما لا تمنع هي من زيارته والاجتماع معه، لما في ذلك من قطع الرحم والمضارّة بها..."2.
 
وعلى كلّ حال، سنُسلّط الضوء على المعالجة الفقهية لمسألة الحضانة في عدّة نقاط.
 
النقطة الأولى: هل حقّ الحضانة اختصاصيّ أم اشتراكيّ؟
وقع البحث بين الفقهاء، في أنّ حقّ الولاية للأم حال الزواج في الحضانة والأمور الراجعة إليها، هل هو اختصاصيّ بمعنى أنّه يحقّ لها قانوناً أن تتفرّد بولاية الحضانة بنحو لا يكون للأب أيّ نصيب في التدخّل، ويكون رأيها وقرارها هو المرضيّ والممضيّ في هذا الشأن حتّى لو تعارض مع رأي الزوج/ الأب، وليس له أن يُزاحمها في حقّها هذا، أم أنّ حقّ الحضانة للأم ينبغي أن تُمارسه بالشراكة مع الأب، بمعنى أنّ نظره دخيل أيضاً وولايته باقية، فالولاية بينهما بالاشتراك؟
 
يُصرّح العديد من الفقهاء بتبنّي الرأي القائل بأنّ حقّ ولاية الحضانة للأم المتزوّجة (بآخر غير الأب) هو بالاشتراك بينها وبين الأب، و"معنى ذلك، أنّه لا بدّ من توافقهما واجتماع نظريهما، ولا يمضي تصرّف أحدهما إلَّا برضا الآخر... (و) معنى كونه بينهما بالمساواة أنّه لا يُقدّم قول أحدهما عند المعارضة، بل يسوّي بينهما"3.



1 التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، ج3، ص274.
2 جواهر الكلام، ج31، ص292.
3 الآراكي، محمد علي، كتاب النكاح، ص771.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
257

211

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 ويقول المقداد السيوري: "فمع اجتماع الزوجين لا كلام في كون الولد بينهما بحيث يقوم كلٌّ منهما بما يجب عليه في تربيته"1.

 
وقد ادّعى بعض الفقهاء الإجماع على ذلك في السنتين الأولتين، قال ابن فهد الحلّي: "وقع الإجماع على اشتراك الحضانة بين الأبوين مدّة الحولين"2. وإن كان في الحقيقة دعواه الإجماع ليست في محلّها كما عبّر السيد محمد العاملي3. إذ يوجد رأي فقهيّ آخر، يرى أنّ حقّ الأم في الحضانة اختصاصيّ لا اشتراكيّ.
 
وعلى كلّ حال، سواء أكانت الحضانة من حقّ الأم منفردة قانونياً، أم من حقّ الأم بالاشتراك مع الأب، فإنّه من الأفضل من الناحية التربوية والأخلاقية والعاطفية كما أشرنا أن يتشارك الوالدان ويتوافقا في ولاية الحضانة على الطفل، فلا يستبدّ كلّ من الأم أو الأب برأيه في هذا المجال في فترة ولايته، فإنّ ذلك سيترك أثراً سلبياً على مجمل الحياة الأسرية عموماً وعلى حياة الطفل بشكل خاصّ.
 
المدّة الزمنية لولاية الحضانة
إنّ ولاية الحضانة لها أمد خاصّ تقف عنده، فلا شكّ في أنّها تسقط بعد بلوغ الطفل لأنّه لا ولاية لأحد عليه كما تقدّم في الدرس السابق، ويكون له الخيار في الانضمام إلى أيٍّ من الوالدين، كما أنّه لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الأم لها ولاية التربية الحضانية مدّة الرضاع أي السنتين الأولتين من عمر الطفل سواء أكان ذكراً أم أنثى.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الأم أحقّ بحضانة الولد وتربيته وما يتعلّق بها من مصلحة حفظه مدّة الرضاع أي الحولين إذا كانت حرّة مسلمة عاقلة، ذكراً كان أو أنثى، سواء أرضعته هي بنفسها أو بغيرها، فلا يجوز للأب أن يأخذه في هذه المدّة منها وإن فطمته"4.
 
إذاً ينحصر النقاش حول المدّة الزمنية لولاية الحضانة ما بعد السنتين ودون سنّ البلوغ، فإلى أيّ وقت تمتد ولاية الحضانة للأم على الطفل؟



1 التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، ج3، ص271.
2 ابن فهد الحلي، أحمد بن محمد بن فهد، المهذب البارع في شرح المختصر النافع، ج3، ص426.
3 يراجع: نهاية المرام، ج1، ص466.
4 تحرير الوسيلة، ج2، ص312.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
258

212

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 في الجواب عن هذا السؤال طرح الفقهاء عدّة آراء1، نعرضها ضمن الفقرة التالية بشكل مختصر2:

 
الرأي الأول: أنّ الأم أحقّ بالطفل والطفلة إلى سبع سنين3.
 
الرأي الثاني: ذهب إليه الشيخ الصدوق4، أن الأم أحقّ بالطفل والطفلة إلى أن تتزوّج الأم5.
 
الرأي الثالث: الأم أحقّ بالطفل إلى سنتين والطفلة إلى سبع سنين، كما تقدّم في قول ابن إدريس الحلّي.
 
الرأي الرابع: الأم أحقّ بالطفل إلى سنتين والطفلة إلى تسع سنين - رأي الشيخ المفيد -.
 
الرأي الخامس: الأم أحقّ بالطفل إلى سبع سنين، وأحقّ بالطفلة ما لم تتزوّج الأم6.
 
الرأي السادس: الأم أحقّ بالطفل والطفلة إلى سنتين هي مدّة الرضاع.
 
شروط الحضانة7
اشترط الفقهاء توفّر صفات خاصة في الأم -وعدّاها بعضهم إلى الأب أيضاً8 - من أجل أن تثبت لهما ولاية الحضانة، وهذه الشروط مهمّة من الناحية التربوية بغضّ النظر عن الجنبة الفقهية المحضة:
1- الإسلام، حيث تقدّم أنّ الحضانة نحو من الولاية، والمرأة غير المسلمة لا ولاية تربوية لها على الطفل المسلم بإسلام أبيه. كما أنّ إعطاء حقّ حضانة الطفل لها



1 يراجع حول هذه الآراء: المبسوط، ج6، ص39. والمهذب البارع، ج3، ص427.
2 هناك تفصيلات فقهية عديدة حول مسألة الحضانة تراجع فيها الكتب المتخصصة في ذلك.
3 يراجع: من لا يحضره الفقيه، ج3، ص436.
4 المقنع، ص360.
5 يراجع: من لا يحضره الفقيه، ج3، ص436.
6 الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف، ج5، ص131.
7 يراجع حول شروط الحضانة: مسالك الأفهام، ج8، ص 422 وما بعد. ورياض المسائل، ج10، ص523 وما بعد. وجواهر الكلام، ج31، ص287 وما بعد.
8 يراجع: رياض المسائل، ج10، ص523.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
259

213

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 سيؤثّر تربوياً على الطفل، لأنّ دين أمّه وبيئتها الاجتماعية ستنعكس على شخصية الطفل، كما ورد في الحديث من أنّ "أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه"1...

 
يقول الشهيد الثاني: "فالكافرة لا حضانة لها على الولد المسلم بإسلام أبيه، لأنّه لا حظّ له في تربية الكافرة، لأنّها تفتنه عن دينه، وهو ينشأ على ما يألفه منها، ولأنّه لا ولاية للكافر على المسلم للآية2"3.
 
وقال الجواهري: "لا حضانة للكافرة مع الأب المسلم لكون الولد حينئذ مسلماً بإسلام أبيه، ولم يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً، بناءً على أنّها ولاية، بل وإنْ قلنا: إنّها أحقّية، فإنّ "الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه"4، والمسلم أحقّ من الكافر الذي يخشى على عقيدة الولد ببقائه عنده ونموّه على أخلاقه وملكاته"5.
 
2- العقل، بمعنى أن تكون الأم عاقلة، فلا حضانة للمجنونة - تقدّم شرح معنى الجنون في الدرس السابق -، لأنّ المجنون لا يتأتّى منه الحفظ والتعهّد بل هو في نفسه محتاج إلى من يحضنه، فلا يُعقل أن يكون حاضناً لغيره.
 
3- الصحة البدنية، أي أن لا تكون الأم مريضة مرضاً معدياً للطفل، فهذا يستلزم سقوط حضانتها بذلك تحرّزاً من تعدّي الضرر إلى الولد، وأيضاً يُشترط أن لا تكون الأم مريضة مرضاً مزمناً مانعاً لها عن الاشتغال بتربية الطفل وتدبير أمره. وقد أنكر بعض الفقهاء هذا الشرط، لأنّه لا يشترط في ولاية الحضانة مباشرة الأم بالتربية، فيمكن التوصّل إلى مقتضى الولاية بالاستنابة، لأنّه يجوز لمن له حقّ الحضانة من الأبوين إيكالها إلى شخص آخر، وحينها لا تسقط ولاية الحضانة للأم على الطفل6.



1 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه". صحيح البخاري، ج7، ص211. وابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، ج2، ص315. ومن لا يحضره الفقيه، ج2، ص49، ح1668.
2 قوله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) سورة النساء، الآية 141.
3 مسالك الأفهام، ج8، ص 422.
4 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص334. الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
5 جواهر الكلام، ج31، ص287.
6  في هذا الشرط يظهر أثر رأي الشيخ الجواهري بأن الحضانة ليست ولاية بل حق للأم، وبناء عليه مع عدم قدرتها على أداء هذا الحق لا ينوب غيرها عنها، بل تكون الولاية والخيار بيد الأب في توكيل من يراه مناسباً لحضانة طفله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
260

214

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 4- الأمانة، وذلك حرصاً على عدم الإهمال أو التقصير في تربية الطفل وحفظ أموره وتدبير شؤونه، فلا حضانة لمن لا أمانة لها.

 
5- العدالة وعدم الفسق، قال الشهيد الثاني: "لا حضانة للفاسقة، لأنّ الفاسق لا يلي، ولأنّها لا تؤمن أن تخون في حفظه، ولأنّه لا حظّ له - أي الطفل - في حضانتها، لأنّه ينشأ على طريقتها، فنفس الولد كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته1"2.
 
وقد ناقش بعض الفقهاء في بعض هذه الشروط3، في حين أنّ بعضهم الآخر قد نفاها، معتبراً أنّ المعيار هو مصلحة الطفل وعدم إلحاق الضرر به. لذا قال الشيخ الجواهري: "والجميع (أي الشروط) كما ترى تهجس لا يجوز الخروج به عن إطلاق الأدلة"4.



1 إشارة إلى ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته". نهج البلاغة، من وصية له لولده الحسن كتبه إليه بحاضرين منصرفاً من صفين، رقم269، ص526.
2 مسالك الأفهام، المصدر السابق.
3 الحدائق، ج25، ص93.
4 جواهر الكلام، ج31، ص289.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
261

215

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 المفاهيم الرئيسة

- الحضانة لغة بمعنى التربية والحفظ والصيانة، واصطلاحاً هي عبارة عن تلبية الاحتياجات البدنية للطفل من إلباسه ولفّه في ثيابه، وتنظيفه، وغسل ثيابه، وحمله، ووضعه في سريره، 
والهزّ له لينام، وتمريضه وإعطائه الدواء...

- اعتبر الفقه التربويّ الإسلاميّ أنّ الأم هي محور حضانة الطفل، لأنّ يد الله تعالى غرست في قلب الأم / الأنثى صفات فطرية وجدانية -عاطفية كالحب والحنان والشفقة والرأفة والرحمة والقدرة على الصبر والتحمّل التي تجعل طبيعتها أكثر أهلية وقابلية من الذكر/ الأب للقيام بوظيفة احتضان الطفل ورعايته وحفظه وصيانته.

- إنّ حضانة الأم للطفل تقتصر على مجموع الأفعال التي تقوم بها الأم كمربّية وحاضنة للطفل، كإطعامه، وإلباسه، وغسله، وتنظيفه... إلخ، أمّا تحمّل التكاليف الاقتصادية لهذه الأفعال فهو على عاتق الأب.

- ينبغي من الناحية التربوية والأخلاقية أن تكون الحضانة توافقية بين الأب والأم، لأنّ التوافق التربوي بينهما ينعكس إيجاباً على شخصية الطفل.

- هناك عدّة آراء حول السقف الزمنيّ لولاية حضانة الأم على الطفل، ولكن موضع الاتّفاق هو أنّ الأم أحقّ بحضانة الولد وتربيته وما يتعلّق بها من مصلحة حفظه لمدّة سنتين سواء أكان ذكراً أم أنثى، وذهب مشهور الفقهاء إلى أنّه بعد السبع سنين، الأب أحقّ بالطفل الذكر، وذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ الأم أحقّ بالبنت إلى سبع سنين.

- اشترط بعض الفقهاء توفّر صفات خاصة في الأم من أجل أن تثبت لها ولاية الحضانة، وهذه الشروط مهمّة من الناحية التربوية، وهي: إسلام الأم، فالكافرة لا ولاية لها على الطفل المسلم، العقل فلا حضانة للمجنونة، الصحّة البدنية بأن لا تكون الأم مريضة مرضاً معدياً أو مضرّاً بالطفل، الأمانة وعدم الإهمال أو التقصير في تربية الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
262

216

الدرس السادس عشر: ولاية الحضانة على الطفل

 أسئلة الدرس

 

1- لماذا جعل الله تعالى حقّ ولاية الحضانة التربوية على الطفل للأم وليس للأب؟

2- هل حضانة الأم لطفلها يعني أن تقوم هي بتغطية التكاليف المالية التي يحتاجها الطفل من موازنتها الخاصة؟

3- ذكرنا سابقاً أنّ الأب له عموم الولاية التربوية على الطفل، فكيف يمكن الجمع بين عموم الولاية التربوية للأب على الطفل وبين منح حقّ ولاية الحضانة للأم؟

4- اذكر ثلاثة آراء للفقهاء حول المدّة الزمنية لحقّ الحضانة الممنوح للأم.

5- ما هي المواصفات التي اعتبرها بعض الفقهاء شروطاً لكي تثبت للأم ولاية الحضانة على طفلها؟

6- هل حقّ الأم في حضانة أطفالها يقبل التنازل عنه أم أنّه حكم واجب بحقّها؟

7- هل الأفضل أن تكون ممارسة حقّ الحضانة لكلٍّ من الأب أو الأم في فترة حضانته بالتوافق التربوي أم بالاختلاف؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
263

217

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف البيئة البشرية والطبيعية وبيان الفرق بينهما.
2- يُدرك مدى تأثير البيئة البشرية بأقسامها المختلفة على تشكيل هويّة الطفل.
3- يُدرك مدى تأثير البيئة الطبيعية على بناء شخصية الطفل، ويعرف الآراء المتعدّدة حول ذلك.
4- يعرف اقتضاء المسؤولية التربوية تجاه الطفل تأمين البيئة الحاضنة لنموّه الصالح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
267

218

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 ما هي البيئة؟

البيئة في اللغة العربية من فعل بوأ، أي نزل في المكان وأقام به واتّخذه منزلاً له1. والمعنى الاصطلاحيّ للبيئة يتقارب مع المعنى اللغويّ.
 
ويُمكن تعريف البيئة اصطلاحاً2 بأنّها: المحيط أو الحيّز الجغرافيّ- الاجتماعيّ الذي يعيش فيه الطفل، ويحصل فيه-بما يحويه من موارد - على مقوّمات حياته، ويُمارس فيه كافة أنشطته وعلاقاته مع الأشياء والكائنات الحيّة المختلفة المحيطة به، ومع باقي أفراد البشر المشاركين له في وحدة الحياة، سواء أكان حيّزاً جغرافياً صغيراً كالبيت أو المدرسة، أو حيّزاً جغرافياً كبيراً كالحيّ أو القرية أو المدينة أو الطبيعة...
 
أنواع البيئة
صنّفت البيئة إلى أنواع مختلفة حسب استفادات العلوم والباحثين، منها: بيئة جغرافية، بيئة اجتماعية، بيئة ثقافية، بيئة صحّية، بيئة صناعية...، وسنُصنّف بدورنا البيئة بالنحو الذي يُمكّننا من الاستفادة منه في هذا الدرس.
 
يخرج الطفل من رحم أمّه إلى الحياة، فيرى حوله عالمين سيعيش فيهما من دون أيّ اختيار له في بنائهما:
1- البيئة الطبيعية والمحيط الحيويّ الذي خلقه الله تعالى، بما يحويان من كواكب وأرض وما يعيش عليها من كائنات كالحيوانات والحشرات والنباتات...



1 يراجع: لسان العرب، ج1، ص39، مادة بوأ.
2 أنظر حول التعريفات المختلفة: عطية، ممدوح حامد، إنهم يقتلون البيئة، ص17-18.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
269

219

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 2- والبيئة البشرية التي بناها الإنسان ليعيش فيها، من مدن وقرى، وما تحويه مادّياً من أبنية وطرق ومصانع ومطارات ومؤسّسات، أو ثقافياً (البيئة الثقافية) واجتماعياً (البيئة الاجتماعية)...

 
فالبيئة البشرية تشتمل على أربعة أمور:
أولاً: الأفراد بما هم أفراد.
ثانياً: النظرة التركيبية إلى مجموع الأفراد بما هم مضطرّون إلى العيش المشترك في حيّز جغرافيّ واحد، تجمعهم فيه قواسم واحدة من حيث العقيدة والقيم، أو الأنظمة والقوانين والتشريعات، أو الحوائج والمنافع والمصالح...، فيتشكّل المجتمع بدوائره المختلفة سعة وضيقاً، من القرية أو المدينة أو الدولة أو الإقليم أو حتى المجتمع العالمي.
 
ثالثاً: التراث الإنسانيّ المتراكم عبر التاريخ في المجالات المعرفية المختلفة، من فلسفة وقانون وأخلاق وطب ورياضيات وطبيعيات...، وفي المجالات السلوكية من عادات وتقاليد وأنماط حياة وأساليب عيش ومهارات...
 
رابعاً: المنجزات المادّية للحضارة البشرية، ومصنوعات الإنسان ومخترعاته ومكتشفاته، من عمران وأبنية ومؤسّسات وجسور وطرقات وآلات كهربائية وأدوات إلكترونية...
 
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل لهاتين البيئتين البشرية والطبيعية أيّ دور في بناء هويّة الطفل؟ وكيف يؤثّران على رسم ملامح شخصيّته؟
 
تأثير البيئة البشرية - الاجتماعية على الطفل
يخرج الطفل من بطن أمّه كالأرض الخالية، وقد زرعت يد الله تعالى في طينته خاصّية عجيبة، وهي القدرة العالية على المحاكاة والتقليد وسرعة التلقّي. فحاسّة التقبّل عند الطفل شديدة إلى درجة أنّه أشبه بعدسة التصوير1. وفي هذا السياق ورد عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "إنّما قلب الحَدَث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته"2. فنفس الطفل إسفنجية مرآتية إنْ صحّ التعبير، تمتصّ كلّ ما تتعرّض له من الخارج وتخزنه في



1 يراجع: فلسفي، محمد تقي، الطفل بين الوراثة والتربية، ج1، ص196.
2 نهج البلاغة، من وصية له لولده الحسن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
270

220

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 ذاته، وتعكس من جهة أخرى صورة المجتمع الذي تعيش فيه.

 
فالمحيط الاجتماعيّ الذي ينشأ الطفل في مجاله بكافّة مؤسّساته: - الأسرة، الحيّ، الجيران، الأقارب، المدرسة، الأصدقاء، مجموعات اللعب، الجمعيات الكشفية، الأحزاب السياسية، المساجد، الحسينيات، الأندية الرياضية، البيئة المجتمعية الكبيرة... بالإضافة إلى عنصر خاصّ أصبح حاضراً بقوّة في عصرنا، وهو العالم الافتراضيّ والفضاء المجازيّ من الإنترنت وصفحات الفايس بوك والبرامج التلفزيونية...- يلعب دوراً بارزاً في تحديد ملامح هويّة الطفل الذهنية والنفسية والقيمية والسلوكية والوجدانية...، فالطفل لم يكتسب تصوّراته وعقائده واتجاهاته وقيمه وسلوكاته ومهاراته من تلقاء نفسه ونتيجة لتأمّله الذّاتي، بل بفعل تأثّره بالمحيط الخارجيّ، فتتشكّل لوحة شخصيّته بفعل الانفعال والتأثّر بالبيئة الاجتماعية، لأنّ شخصيّته كالعجينة التي يُمكن تشكيلها بسهولة.
 
يقول محمد لبيب النجيحي: "يتدرّج كلّ طفل إنسانيّ في مجتمع متكوّن بالفعل، وينشئ علاقات إنسانية مع أفراد من هذا المجتمع، لهم عاداتهم وتقاليدهم، وأنماط سلوكهم، وطرق قيامهم بالأعمال المختلفة، ونظرتهم إلى الأمور، ومشاعرهم وأحاسيسهم، وقيمهم، وعلى مدى سنوات قليلة يكون قد اكتسب الطفلُ معظم هذه الطرق والعادات والقيم والمبادئ كمكونات لشخصيّته، وذلك عن طريق التفاعل الاجتماعيّ بين هذا الطفل وبين بيئته الاجتماعية في كلّيتها"1.
 
فحتى الفطرة التوحيدية الصافية التي أودعها الله بأصل الخلقة في نفس الطفل لا تصمد أمام تأثيرات روح البيئة الأسرية والمجتمعية، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه يُهوّدانه ويُنصّرانه و يُمجّسانه..."2. فهذا الحديث يُقدّم مؤشّراً واضحاً على الدور الذي تلعبه البيئة الأسرية في التأثير على رسم المعالم العامّة لشخصية الطفل، وكذلك الأمر بالنسبة للبيئة الاجتماعية العامة. وفي هذا السياق ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم



1 التربية وأصولها الثقافية والاجتماعية، ص 124.
2 من لا يحضره الفقيه، ج2، ص49، ح1668.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
271

221

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 المرجئة"1. وفي الحقيقة هذا الأمر مشاهد في البالغين الراشدين فكيف في الطفل؟ وهذا ما يُخبرنا عنه القرآن عن أولئك الذين كان النبيّ يدعوهم لاتّباعه فيُجيبون: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾2. ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾3.

 
وباختصار: "لا- أحد - يستطيع أن يُنكر أصل تأثير ونفوذ البيئة الاجتماعية في تكوين شخصية كلّ واحد من أفراد الإنسان، وأن هذا التأثير والنفوذ عميق وشامل بالنسبة للأكثرية الساحقة من الناس، فلا ريب أنّ الفرد في كثير من الأحيان تابع ومحكوم لإرادة المجتمع"4.
 
منهجية البحث بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون
لكي يكون البحث أكثر منهجية، لا بدّ من التمييز بين نظرتين إلى وجود الطفل في المجتمع، الأولى: بلحاظ ما هو كائن وواقع في تجربة المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ، والثانية: بلحاظ ما يُمكن أو ينبغي أن يكون. 
 
أمّا بالاعتبار الأول: فلا شكّ في أنّ الطفل بل الإنسان عامة هو صناعة مجتمعه، فغالباً ما يسبح الطفل والإنسان في بحر عقائد وقيم وسلوكات المجتمع الذي يعيش فيه، فيُفكّر ببرامج تفكير البيئة الاجتماعية، ويتحدّث بلغة المجتمع، ويلتزم بعاداته وتقاليده وأعرافه...، وهذا أمر طبيعي في الطفل بسبب قدرة المحاكاة والتقليد، وعدم قدرته على التمييز والمقارنة والتقويم الشخصيّ لاختيار ما هو مناسب وأنسب، فتندكّ إرادة الطفل في إرادة المحيط الاجتماعيّ.
 
وعليه، كلّما سادت المجتمع نظرة فلسفية تربوية واحدة ومشتركة ومنسجمة ومنسّقة كلّما نشأت شخصية الطفل بشكل متوازن ومنسجم، وكلّما زادت التمايزات والاختلافات في الرؤى التربوية لمختلف مؤسّسات المجتمع كلّما كانت شخصية الطفل أكثر تناقضاً، وسيعيش حالة من الحيرة والاضطراب خصوصاً مع فقدانه لميزان التمييز بين الصحّة والخطأ. وهذا يؤكّد مدى الحاجة إلى توحيد الرؤى التربوية في مؤسّساتنا المجتمعية 



1 الكافي، ج6، ص47.
2 سورة البقرة، الآية 170.
3 سورة الزخرف، الآية 23.
4 اليزدي، محمد تقي مصباح، النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
272

222

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 المختلفة: الأسرة، المدرسة، الكشّاف، وسائل الإعلام، الجمعيات الثقافية... في الجواب عن سؤالين أساسيين: على ماذا نُربّي؟ وكيف نُربّي؟

 
أمّا بالاعتبار الثاني: فإنّ المجتمع ليس هو العامل الحصريّ الذي يحتكر صناعة شخصية الطفل وتشكيل هويّته بنحو قهريّ، إلى درجة يكون معها فاقداً للهوية الفردية، وبالتّالي يكون علم الاجتماع علماً واقعياً، في حين لا يكون علم النفس كذلك لعدم وجود هويّة فردية1.
 
فهناك جملة عوامل أخرى، منها الوراثة، وأهمّها التفاعلات الداخلية في نفس الطفل والانطباعات والخبرات الشخصية في خطّ علاقته مع الأشياء صحّة وخطأ وقبحاً وحسناً - في مرحلة معيّنة -، لأنّه يملك الإرادة الحرّة التي زرعتها يد الله تعالى في تكوينه بنحو تمنحه القدرة على اختيار ما يشاء من فعل أو ترك، لذا لا بد من التمييز بين تأثير المجتمع في الطفل وتأثّره عنه، وبين الجبر الاجتماعيّ، فإنّ تأثّر الطفل عن المجتمع لا يعني أنّه أصبح تحت عجلة الجبر الاجتماعيّ لوجود عنصري الانطباع والرؤية الخاصة نحو الأشياء (العلم بمراتبه) والاختيار والإرادة الحرّة.
 
وبعبارة مختصرة هنا حقيقتان:
الأولى: أنّ المجتمع مؤثّر في صناعة شخصيّة الطفل.
والثانية: أنّ تأثير المجتمع لا يصل إلى حدّ الجبر الاجتماعيّ وسلب عنصر الإرادة الحرّة والاختيار.
 
المسؤولية التربوية
وعلى كلّ حال، هذا كلّه، يضع أولياء أمر تربية الطفل أمام مسؤولية جسيمة، تتمثّل في أربعة أمور:
الأول: تربية الطفل على التفكير النقديّ والاستدلاليّ الحرّ كي تكون لديه ملكة التمييز الفكريّ بين ما هو صحيح وما هو خطأ وما هو حسن وما هو قبيح، وعدم سرعة تقبّل أي فكرة إلّا بعد التمحيص والتقويم.



1 يراجع: النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص57-58.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
273

223

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 الثاني: تقوية الإرادة وتصليبها في شخصية الطفل، حتى لا يكون مجرّد عنصر منفعل ومتأثّر بنحو سلبيّ، بل تكون لديه قوّة وقدرة على مواجهة ومقاومة ما يُعايشه في المجتمع، بل وقدرة التأثير والتغيير أيضاً.

 
الثالث: تهيئة البيئة الأسرية الصالحة الحاضنة لتنمية الطفل، أي جعل البيئة المنزلية صالحة، تشعّ فيها كيمياء السعادة، وينتشر فيها عبير المحبّة والمودّة والرحمة و...، لأنّ الطفل يرى في أبويه النموذج الذي يحتذي به، وهذا يستلزم أن تكون العلاقة بين الأب والأم وكذلك مع الإخوة الآخرين قائمة على مصفوفة القيم الإسلامية من الاحترام المتبادل والتعاون والمزاح والحوار والتجمّل والتنظّف والسلوكات الصحية...، فلا يُظهران أمام الطفل أي سلوك سلبيّ، وحتّى لو اضطرهما الغضب أن يتصرّفا بطريقة متنافية مع روح التربية، عليهما أن يسترا ذلك عن الطفل، بحيث لا يسمع ذلك منهما، بل عليهما أن لا يُشعرا الطفل من خلال لغة العينين أو البدن أو تقاسيم الوجه بأن بينهما أيّ حالة سلبية، لأنّ هذا يؤثّر على شخصيّة الطفل من جهتين:
الأولى: محاكاته لهما، فإنّ الطفل إذا عاش ضمن أسرة مفكّكة تقوم خطوط العلاقات فيما بين أعضائها على الشجار والصراخ والعبوس والضرب وسوء الأخلاق سيبني علاقاته مع الأشياء المادية والبشرية من حوله من خلال نفس الأساليب السلبية القائمة على الاعتداء والتحطيم والتكسير و...
 
والثانية: أنّ الطاقة السلبية أو الإيجابية في البيت تعكس نفسها على باقي الأفراد سلباً أو إيجاباً، وهذا الأمر يشعر به الإنسان بالوجدان نتيجة تراكم الحالات والخبرات الشخصية، فقد يدخل إلى مكان فيشعر مباشرة بطاقة إيجابية أو رحمة أو فرح أو حماسة، ويدخل إلى مكان آخر ويشعر بطاقة سلبية أو حزن أو كآبة أو إحباط.
 
الرابع: البحث عن الموضع الحسن والبيئة الصالحة لوضع الطفل فيها. فعلى وليّ تربية الطفل أن يُحسن اختيار (وأحياناً: توجيه وإرشاد) مدرسة الطفل والوسط الطلّابي، ودار حضانة الطفل، وأصدقاء الطفل، ومجموعات اللعب، والنادي الرياضيّ، والجمعية الكشفية... ليوفّر بذلك لطفله المناخ والظروف الملائمة لتشكّل وتسامي هويّته بنحو صالح وحسن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
274

224

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا عليّ، حقّ الولد على والده أن يُحسن اسمه، وأدبه، ويضعه موضعاً صالحاً"1.

 
وعن أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام، قال: "جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسولَ الله ما حقّ ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه وأدبه، وضَعْه موضعاً حسناً"2.
 
وفي هذا السياق أيضاً نرى في النصوص الروائية الحثّ على اختيار المرأة الزوجة / الأم من بيئة اجتماعية حسنة لا من بيئة اجتماعية سيّئة، لأنّ لذلك تأثيراً سلبياً على شخصية الطفل، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إيّاكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ. قيل: يا رسولالله: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"3.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا إلى آل فلان فإنّهم عفّوا فعفّت نساؤهم، ولا تزوّجوا إلى آل فلان فإنّهم بغوا فبغت نساؤهم..."4.
 
وفي المحصّلة ينبغي عدم ترك الطفل ينمو تلقائياً على ضوء مؤثّرات المجتمع وعاداته وتقاليده وقيمه ونشاطاته، بل على الوالدين أن يعملا على تربية الطفل وتنشئته اجتماعياً على تعاليم الإسلام5.
 
تأثير البيئة الطبيعية على الطفل
إنّ الحديث عن العلاقة بين البيئة الطبيعية والطفل يتمّ في اتّجاهين:
الأول: نظرة الطفل إلى البيئة الطبيعية وسلوكه تجاهها وكيفية تعامله معها. وهو ما سيكون محور الحديث في درس: التربية البيئية.
الثاني: تأثير البيئة الطبيعية على تشكيل هويّة الطفل. وهو ما سيكون محور الحديث في هذا الدرس.



1 من لا يحضره الفقيه، كتاب الفرائض، باب النوادر، ح5764، ص784، فقرة14.
2 الكافي، ج6، ص48.
3 م.ن، ج5، ص332.
4 م.ن، ص554.
5 الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، ج8، ص130. والمحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج5، ص124.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
275

225

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 تأثير البيئة على البعد الجسمانيّ للطفل

إنّ تأثير البيئة الطبيعية في البعد الجسمانيّ للطفل1 من المسائل البديهية التي أثبتها العلم التجريبيّ ويُعاينها الإنسان بالحسّ والخبرة الشخصية، كيف لا، والطفل عنصر من مكوّنات النظام البيئيّ الطبيعيّ ومجاله الحيويّ، فمثلاً لا يُمكن لأحد أن يُنكر تأثير عوامل المناخ من حرارة وبرودة على نمط حياته الصيفية أو الشتوية في لباسه وطعامه وسلوكه وأنشطته...، أو ينفي التأثير السلبي لتلّوث التربة والهواء والمياه... في تهديد الأمن الغذائيّ والسلامة الصحية للطفل...
 
كما لا شكّ أيضاً في أنّ البيئة الطبيعية تؤثّر في البعدين البيولوجيّ والفيزيولجيّ للطفل، لذلك تكون البنية الجسدية لسكان المناطق الباردة مختلفة عن سكان المناطق الصحراوية الجافة والحارة... إلى غيرها من النماذج الكثيرة.
 
لكن، إذا تجاوزنا تأثير البيئة الطبيعية في البعد البدنيّ والصفات الجسمية للطفل، السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه: هل تلعب دوراً في البعد الذهنيّ والمزاجيّ والوجدانيّ والنفسيّ والسلوكيّ للطفل؟
 
هذا السؤال ليس جديداً على بساط البحث، فنجد أنّ أرسطو طاليس (384-322 ق.م) يربط في كتابه "السياسة" بين المناخ والجغرافيا من جهة وبين طبائع الشعوب. وكذلك نُلاحظ عند ابن خلدون (1332-1406م) في مقدمة كتابه المعروف العبر وديوان المبتدأ والخبر، حديثه عن أثر المناخ في طبائع الشعوب. وأيضاً ربط جان بودان (1530-1596م) بين طبائع الناس والمناخ، حيث اعتبر أنّ أهل الأقاليم الشمالية الباردة قساة مخاطرون، بينما يتّصف أهل الأقاليم الجنوبية الحارّة بالمكر والأخذ بالثأر، أمّا أهل الأقاليم المعتدلة فهم أكثر فطنة ونشاطاً ولديهم القدرة على القيادة. ونُلاحظ هذا الاتّجاه عند شارل لوي دي سيكوندا مونتسكيو (1689-1755م) في كتابه: "روح القوانين"، حيث يعتبر أنّ سكان المناطق الباردة أكثر قوة وشجاعة وأقل ريبة ومكراً من سكان المناطق الحارة الذين يتّصفون بالوهن الجسمانيّ والسلبية، مضيفاً أنه من خصائص البلاد الحارة مثلاً كون الغريزة الجنسية مفرطة بخلاف المناطق الباردة...2.



1 يراجع: اليزدي، محمد تقي مصباح، النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص207-208.
2 يراجع: وهيبة، عبد الفتاح محمّد، جغرافية الإنسان، وإدمون ديمولان، كيف خلق الطريق النمط الاجتماعي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
276

226

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 الرؤية الإسلامية في تأثير البيئة الطبيعية على الطفل

إنّ جميع أطفالنا عندما يسمعون صوت الرعد أو نباح الكلب، أو يرون البرق وسعة البحر وظلمة الليل، أو يشعرون بالهزّة الأرضية، تتحرّك في داخلهم مشاعر الخوف والاضطراب، وكذلك عندما يسمع الطفل صوت زقزقة العصافير، أو يشاهد الحقول الجميلة والأزهار، تطرب نفسه لا شعورياً ويحسّ بالراحة والسعادة... فالبيئة تمنح الطفل انطباعات وصوراً ومشاعر وجدانية خاصة عن العالم المحيط به من سماء ونجوم وقمر وشمس وأشجار وبحار وأنهار وصحراء وجبال...، والبيئة الطبيعية تُساعد الطفل على استكشاف العديد من الأشياء ممّا يُساهم في تفتّح طاقاته ونمو قابلياته الذهنية والنفسية والمهاراتية...، بل البيئة تلعب هذا الدور بحقّ الراشدين. ومن هنا دعانا القرآن إلى التفكّر والنظر والتأمّل والتدبّر في الآيات الآفاقية المنتشرة في البيئة الطبيعية وذكر عدّة نماذج وأمثلة في هذا المجال، لما له من دور في تكوين عقائد واتّجاهات ومشاعر خاصة عند الإنسان، فالإنسان يتأثّر بالبيئة الطبيعية المحيطة به وينفعل عنها حتّى في أمزجته وطباعه وأنماط تفكيره ومشاعره النفسية. وقد نفهم هذا المعنى من تشبيه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ألا وإنّ الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرقّ جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً"1. ولكن هل هذا يعني أنّ الطفل ابن بيئته الطبيعية، بمعنى أنّها تُشكّل ملامح شخصيّته بنحو لا يكون فيها إلا عنصراً متأثّراً ومتلقيّاً ومنفعلاً؟
 
إنّ أزمة المدرسة الحتمية تكمن في اعتمادها نظرية العامل الواحد في تفسير علاقة البيئة الطبيعية بالإنسان، وهو التأثير الحتميّ والجبريّ، في حين أنّ هذه الأطروحة - التفسير على أساس العامل الواحد - ليست علمية في أيّ مجال من مجالات فهم الإنسان، لذا يذهب السيد محمد باقر الصدر إلى أنّ التصوّرات التي اعتمدت العامل الواحد في فهم الإنسان باءت بالفشل، كما حصل عند سيجموند فرويد من خلال نظرية الغريزة الجنسية، والماركسية في المادّية التاريخية... إلخ، ومن هذا الباب ينقض أيضاً على نظرية الحتمية 



1 نهج البلاغة، ج3، ص72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
277

227

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 الجغرافية، معتبراً أنّ "كلّ هذه المحاولات لا تتّفق مع الواقع، ولا يقرّها الإسلام، لأنّ كلّ واحد منها حاول أن يستوعب بعامل واحد تفسير الحياة الإنسانية كلّها"1.
 
فالملاحظة الأولى في نقد النظرية الحتمية، عدم منطقية وعلمية نظرية العامل الواحد في تفسير هوية الإنسان ونشاطاته. والملاحظة الثانية التي يُمكن تسجيلها أيضاً هو اختلاف المجتمعات المتشابهة في الظروف البيئية من حيث مناهج التفكير وأنماط الحياة والخصائص النفسية.
 
والملاحظة الثالثة أنّ الإنسان عنصر فاعل في البيئة ومؤثّر في الطبيعة، إلى درجة أنّ التطوّر العلمي والتقني منح الإنسان مساحة أكبر في مجال تسخير الطبيعة واستثمارها لصالح أهدافه.
 
والخلاصة أنّ الجغرافيا البيئية مؤثّرة نسبياً - بغضّ النظر عن نسبة التأثير كمّاً وكيفاً-، ولكن تأثير البيئة الجغرافية أولاً قابل للتغيير، وثانياً هو أقل بكثير من تأثير جملة عوامل أخرى متشابكة ومعقّدة ومتداخلة تلعب دوراً في رسم شخصيّة الطفل وهويّته، منها الوراثة، ومنها البيئة البشرية، ومنها التربية والتعليم، ومنها التفاعلات الداخلية في نفس الطفل مع الطبيعة والأفكار والأشياء والأشخاص... ومنها عوامل غيبية، حيث إنّ من أخطر المشكلات التي يواجهها الفكر الغربي هو عزل التربية الإلهية عن التدخّل في مسارات صناعة هويّة الطفل والإنسان.
 
ولذا، فإنّ تصنيف أجناس البشر على أساس العامل البيئيّ هو خطأ منهجيّ، لأنّ ما قد يعتقده علماء الاجتماع أو التربية أنّه نتيجة العامل البيئيّ قد يكون نتيجة جملة هذه العوامل الأخرى التي تُشكّل مجتمعة المقتض أو العلّة لتشكّل هويّة أبناء المجتمع بنحو مشترك من حيث الطباع والأمزجة والأفكار والمشاعر والتصوّرات، خصوصاً أنّه لا يمكن عزل تلك العوامل لدراسة البيئة كمتغيّر مستقلّ دالّ في المعادلة، لأنّ العوامل الأخرى تلعب دوراً أهمّ في عملية تشكيل الهويّة، فكيف يُمكن عزل عامل تأثير البيئة البشرية مثلاً، أي مجموع الموروثات الثقافية والمشاعر والتصوّرات والعادات والتقاليد المشتركة التي تنتقل إلى الأجيال عن طريق التنشئة الاجتماعية، فتوجد اشتراكاً فيما يعتقد أنّه صنيعة البيئة الطبيعية؟!



1 يراجع: الصدر، محمد باقر، اقتصادنا، ص55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
278

228

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 المفاهيم الرئيسة

- البيئة هي الحيّز الجغرافيّ - الاجتماعيّ الذي يعيش فيه الطفل، ويحصل فيه على مقوّمات حياته، ويُمارس فيه كافة أنشطته وعلاقاته مع الأشياء والكائنات الحيّة المختلفة المحيطة به، ومع باقي أفراد البشر المشاركين له في وحدة الحياة.

- تنقسم البيئة إلى: البيئة الطبيعية بما تحويه من أرض وما يعيش عليها من كائنات كالحيوانات والحشرات والنباتات... والبيئة البشرية التي بناها وشيّدها الإنسان ليعيش فيها، من مدن وقرى، وما تحويه مادياً من أبنية وطرق وجسور ومصانع، أو ثقافياً (البيئة الثقافية) واجتماعياً (البيئة الاجتماعية).

- جبلت يد الله تعالى في طينة الطفل خاصّية عجيبة، وهي القدرة العالية على المحاكاة والتقليد وسرعة التلقّي والامتصاص، لذا يلعب المحيط الاجتماعي الذي ينشأ الطفل في مجاله بكافّة مؤسّساته كالأسرة، المدرسة، مجموعات اللعب، الجمعيات الكشفية، الفضاء المجازي من الإنترنت وصفحات الفايس بوك والبرامج التلفزيونية، دوراً بارزاً في تحديد ملامح هويّة الطفل.

- كلّما سادت المجتمع نظرة فلسفية تربوية واحدة ومشتركة و كلّما نشأت شخصيّة الطفل بشكل متوازن ومنسجم، وكلّما زادت التمايزات والاختلافات في الرؤى التربوية لمختلف مؤسّسات المجتمع كلّما كانت شخصيّة الطفل أكثر تناقضاً.

- المجتمع ليس هو العامل الحصريّ الذي يحتكر صناعة شخصية الطفل وتشكيل هويّته، كما يحاول تصويره بعض فلاسفة الاجتماع، بل هناك جملة عوامل أخرى، منها الوراثة، وأهمّها التفاعلات الداخلية في نفس الطفل والانطباعات والخبرات الشخصيّة في خطّ علاقته مع الأشياء صحّة وخطأ وقبحاً وحسناً.

- تقتضي المسؤولية التربوية أمام مؤثّرات المجتمع، تربية الطفل على التفكير النقديّ والاستدلاليّ الحرّ، تقوية الإرادة وتصليبها في شخصية الطفل، تهيئة البيئة الأسرية الصالحة الحاضنة لتنمية الطفل، والبحث عن الموضع الحسن والبيئة الصالحة لوضع الطفل فيها.

- إنّ تأثير البيئة الطبيعية كالمناخ وطبيعة التضاريس والتلوّث البيئيّ في البعد الجسمانيّ للطفل من المسائل الثابتة بالعلم التجريبيّ ويُعاينها الإنسان بالحسّ والخبرة الشخصية. كما يتأثّر الطفل بالبيئة الطبيعية المحيطة به وينفعل عنها حتّى في أمزجته وطباعه وأنماط تفكيره ومشاعره النفسية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
279

229

الدرس السابع عشر: تأثير البيئة البشرية والطبيعية على هويّة الطفل

 أسئلة الدرس

1- ما هو التعريف الاصطلاحيّ للبيئة؟ وإلى كم قسم تنقسم البيئة؟

2- ما هو الدور الذي يلعبه المحيط الاجتماعيّ العامّ في تكوين هوية الطفل؟

3- هل الأسرة هي التي تلعب الدور الأبرز في تنمية قابليّات خاصة في شخصية الطفل أم هناك مؤسّسات ووسائط أخرى تُشارك في هذه الصناعة؟ وما هو دور الأسرة تجاهها؟

4- هل لتوحيد الرؤية التربوية بين كافّة مؤسّسات المجتمع أيّ دور إيجابيّ في تربية الطفل؟

5- هل تؤثّر البيئة الطبيعية على أبعاد شخصية الطفل؟ اضرب أمثلة على ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
280

230

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الوراثة ودورها في تكوين طبيعة الكائن الحيّ.
2- يتعرّف إلى آراء العلماء المسلمين في تأثير قانون الوراثة على شخصيّة الطفل.
3- يعرض الأدلة الروائية التي تُفيد مجالات تأثير قانون الوراثة على الطفل.
4- يُحدّد الصفات القابلة للتوريث للطفل والصفات غير القابلة للتوريث.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
281

231

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 تمهيد

يعتبر عامل الوراثة من العناصر الرئيسة التي يتمّ البحث عن مدى تأثيرها في صناعة شخصيّة الطفل عند علماء التربية والنفس والاجتماع والبيولوجيا، فما هي الوراثة؟ وما هو الدور الذي تلعبه في رسم معالم ماهية الطفل؟
 
ما هي الوراثة؟
الوراثة في اللغة العربية من مادة (و ر ث)، بمعنى "أن يكون الشيء لقوم ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب"1
 
فالوراثة عبارة عن انتقال شيء جزءاً أو كلّاً من شخص أو موضوع إلى آخر مادياً أو معنوياً2.
 
والمدلول الاصطلاحيّ للكلمة لا يختلف في المضمون عن المعنى اللغويّ.
 
وقد أصبح موضوع الوراثة اليوم محوراً مستقلّاً لعلم خاصّ من فروع علم الأحياء أطلق عليه وليام باتسون مصطلح: "علم الوراثة" Genetics، ووظيفته دراسة الصفات التي يتمّ انتقالها من الآباء إلى الأبناء، وكيفية ذلك الانتقال، وتفسير أسباب التشابه والاختلاف بين من تجمعهم صلة القرابة.
 
التكوين البيولوجيّ للكائن الحيّ
ابتدأت أوّليات الأبحاث العلمية المعتمدة على الملاحظة الحسّية حول الوراثة مع غريغور مندل Gregor Mendel في منتصف القرن التاسع عشر، حيث قام بمراقبة كيفية انتقال الصفات الموروثة من الآباء إلى الأبناء. وهكذا أخذ البحث في هذا العلم بالتطوّر شيئاً 



1 معجم مقاييس اللغة، ج6، ص105.
2 التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج13، ص77.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
283

232

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 فشيئاً نتيجة التراكم الكمّيّ والكيفيّ في هذا المجال. وقد ساعد تطوّر البحث العلميّ، والتقدّم التقنيّ، خصوصاً في مجال صناعة الأجهزة المجهرية الدقيقة - الميكروسكوب الإلكترونيّ - وصناعة الكمبيوتر، في تسجيل واحد من أعظم الإنجازات البشرية في اكتشاف عظمة سرّ الله تعالى وقدرته في خلق الإنسان، ألا وهي قراءة الخارطة الوراثية وفكّ رموزها Gentic Mapping، ومعرفة ترتيب المعلومات الوراثية الكاملة عند الإنسان من خلال تحديد نوع وتسلسل الجينات الموجودة في الحقيبة الوراثية (الجينوم)1.

 
ويؤكّد هذا الاكتشاف أهمّية إجراء الفحوص المخبرية اللازمة قبل الزواج من أجل الاسترشاد الوراثيّ الوقائيّ. وقد أُعطي الإنسان أيضاً القدرة على التدخّل عن طريق الجينات لتحديد جنس المولود ذكراً أو أنثى، أو العبث وإيجاد التشوّهات الخلقية، أو جعل الإنسان أكثر شبهاً لأمّه أو أبيه... إلخ.
 
كما يُشكّل هذا الاكتشاف الخطوة الأولى على طريق إعطاء الإنسان قدرة أكبر على التحكّم في الحدّ من الأمراض ذات الصلة بالناحية الوراثية من حيث قابلية الإصابة بها، ولكن ما زالت الطريق طويلة في هذا السياق وتحتاج إلى الكثير من الأبحاث وتراكم الجهود البشرية.
 
وقد زرعت يد الله تعالى هذا القانون الوراثيّ الطبيعيّ كميزة وجودية في الكائنات الحيّة لضمان الحفاظ على وحدة الصور النوعية لها، ونقل الصفات والخصائص البيولوجية (كلون البشرة والعينين والشعر، وفصيلة الدم، وشكل الجسد...). كما يسمح هذا القانون الوراثيّ بنقل الأمراض القابلة للانتقال، من الأصل إلى الفرع.
 
والبحث عن فقه تطبيقات علم الوراثة له مجال واسع في الدراسات الفقهية المعاصرة،



1 ونوضح هذه الفكرة بشكل مختصر، يتركّب جسم كلّ كائن حيّ كالإنسان من مجموعة أجزاء صغيرة جداً يُطلق عليها اسم الخلايا الحيّة. وتحتوي كلّ خلية على نواة في داخلها، وفي 
داخل النواة أجزاء تُسمّى: الكروموسومات  chromosomeالصبغيات - وهي شريط من الحمض النوويّ DNA، يحتوي على الجينات gene. ومن هاتين الكلمتين تمّ اشتقاق مصطلح الجينوم genome، فهو يجمع بين gen وهي الأحرف الثلاثة الأولى لكلمة جين، والجزء الثاني هو الأحرف الثلاثة الأخيرة من كلمة كروموسوم وهي ome. والدلالة العلمية 
لمصطلح الجينوم البشريّ: الخريطة الجينية البشرية أو الخريطة الوراثية أو الحقيبة الوراثية البشرية الموجودة داخل نواة الخلية، والتي تحمل الصفات والخصائص الوراثية للإنسان.
وعدد الكروموسومات في كل خلية 46، تحتوي الخلية التناسلية على نصف هذا العدد 23، وعندما يلتقي الحيوان المنويّ مع البويضة يُصبح العدد 46، أي أنّ نصفه يأتي من الأم، والنصف الآخر من الأب، وبالمقدار الذي تكون الصفات الوراثية بارزة في كروموسومات أيٍّ منهما يأتي الشبه للأب أو الأم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
284

233

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 مثل تحديد النسب، وتحديد جنس المولود، وتحديد التشوّهات الخلقية المجوّزة للإجهاض، والاستنساخ...

 
رأي العلماء المسلمين في قانون الوراثة بيولوجياً
من المسائل الثابتة في البحث البيولوجيّ، أنّ الإنسان يورّث الخصائص الجسمانية لذريّته. ولا ريب عند أحد من العلماء المسلمين في صحّة وبداهة قانون الوراثة الطبيعيّ فيما يتعلّق بنقل الخصائص والصفات الجسمانية من الآباء والأجداد للأبناء والأحفاد، مؤكّدين أنّ هذا ما كشفت عنه الأحاديث النبوية، خصوصاً الوارد فيها لفظ: "العرق"، منها:
عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "أتى رجل من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هذه ابنة عمّي وامرأتي، لا أعلم منها إلا خيراً، وقد أتتني بولد شديد السواد، منتشر المنخرين جعد قطط1، أفطس الأنف، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي.
 
فقال- النبي صلى الله عليه وآله وسلم- لامرأته: ما تقولين؟
 
قالت: لا والذي بعثك بالحقّ نبيّاً ما أقعدت مقعده منّي - منذ ملكني - أحداً غيره.
 
قال الإمام الباقر عليه السلام-: فنكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه مليّاً، ثم رفع بصره إلى السماء، ثم أقبل على الرجل فقال: يا هذا، إنّه ليس من أحد إلا بينه وبين آدم تسعة وتسعون عرقاً كلّها تضرب في النسب، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروقوتسأل الله الشبه لها. فهذا من تلك العروق التي لم تُدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك. 
 
خذي إليك ابنك. فقالت المرأة: فرّجت عنّي يا رسول الله"2.
 
وهناك عدّة روايات قريبة المعنى من هذه الرواية3.
 
ومنها: ما ورد في الحثّ على حسن اختيار الزوجة، كقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ العرق دسّاس"4، حيث اعتبر بعض العلماء أنّ هذا الحديث يُسلّط الضوء على قانون



1 جعد قطط: أي شعره شديد الجعودة.
2 الكافي، ج5، ص562.
3 أنظر: جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص327- 328.
4 السرائر، ج2، ص559. والمحجة البيضاء، ج3، ص93.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
285

234

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 الوراثة بشكل صريح باعتبار الترادف بين العرق والوراثة1. ومعنى العرق معروف، وهو أيضاً في اللغة أصل كلّ شيء وما يقوم عليه2، ودسّاس من الدسّ أي أدخل الشيء في الشيء بخفاء، ومفاد الحديث أنّ هناك خصائص معيّنة تنتقل بالنسب من الأصل وتدخل إلى الفرع.

 
رأي العلماء المسلمين في قانون الوراثة ذهنيّاً ونفسيّاً وسلوكيّاً
لكن يبقى السؤال: هل تشمل الوراثة انتقال الخصائص غير الجسمانية إلى الذرّية، كالخصائص الذهنية والصفات النفسية... إلخ؟ وعلى فرض انتقالها هل يُمكن للإنسان بإرادته الحرّة واختياره نقض قانون الوراثة الطبيعيّ؟
 
نُشير في البداية إلى مقدّمة منهجية في هذا السياق، وهي أنّ العلاقة بين جسد الإنسان وروحه هي علاقة الاتّحاد التفاعليّ، بمعنى أنّ روح الإنسان تؤثّر في بدنه، والخصائص البدنية للإنسان تؤثّر في روحه، وهذا يعني أنّ الإنسان الذي تكون له خصائص وصفات جسمانية معيّنة ستؤثّر على صفاته الذهنية والنفسية، فمثلاً إنّ بعض الغدد إذا أفرزت كمّية أكثر من المعتاد يؤدّي ذلك إلى سرعة الغضب عند الإنسان، وإذا أفرزت بكمّية أقلّ من المعدل الطبيعيّ يُلاحظ على الإنسان الارتخاء.
 
ويكشف لنا التطوّر العلميّ يوماً بعد يوم إمكانية السيطرة على مثل هذه الحالات في مرحلة ما من حياة الإنسان، فمثلاً إنّ مرض phenylketonuria الذي تنتج عنه أعراض التخلّف العقلي، هو قابل للتوارث، ولكن إذا تمّ اكتشاف المرض عن طريق الفحوصات المطلوبة في وقت مبكر كأن يكون قبل دخول الطفل في الشهر الثالث من عمره مثلاً، فإنّه يُمكن تجنّب تلك الأعراض بدرجة كبيرة، من خلال تجنّب تناول الأطعمة التي تحتوي على بروتينات خاصة تزيد من تراكم المادة الضارّة، والمتسبّبة في إحداث المرض نتيجة تأثيرها على خلايا المخ. وقد أظهرت متابعة العديد من الحالات نجاحاً كبيراً، وتقدّماً ملحوظاً في النموّ العقليّ، حتّى يكاد يصبح الطفل طبيعياً في سنّ الخامسة من عمره تقريباً3.



1 فلسفي، محمد تقي، الطفل بين الوراثة والتربية، ج1، ص61. والجواهري، حسن، بحوث في الفقه المعاصر، ج3، ص162.
2 تاج العروس، ج13، ص324.
3 يراجع: عبد القوي، سامي، علم النفس البيولوجي، الفصل الخامس، مكتبة النهضة المصرية، 1997م.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
286

235

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 ونضرب مثالاً آخر في هذا السياق، وهو مرض ويلسون Wilson’s disease، وهو أحد الأمراض الوراثية العائد إلى اضطراب في التمثيل الغذائيّ للنحاس، بحيث يؤدّي تراكم النواتج الضارة للنحاس إلى تلف خلايا الجهاز العصبيّ، وأصبح من الممكن التحكّم بهذا المرض من خلال تناول عقار البنيسيلامين penicillamine.

 
وهناك أمثلة كثيرة لا تُحصى في العلاقة بين تصرّفات الإنسان وسلوكه وبين حالته الجسدية، وبعض هذه الخصائص الجسدية تنتقل إليه بالوراثة، وهذا ممّا لا شك فيه1.
 
وبالعودة إلى السؤال، صرّح العديد من العلماء المسلمين بهذا الخصوص بالإيجاب، معتبراً أنّ هناك خصائص ذهنية كالذكاء أو التبلّد والحمق...، ونفسية كالكرم والشجاعة وسوء الخلق...، تنتقل من الأصل إلى الفرع بالوراثة2. يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: "إنّ الآباء والأمّهات ينقلون قسماً من صفاتهم الجسمية والروحية إلى أبنائهم حسب قانون الوراثة الطبيعيّ"3.
 
ويقول الشيخ جعفر السبحاني: "إنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يُشبه الأب أو العم، أو الأُم أو الخال... وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية"4.
 
وواحدة من استدلالاتهم على ذلك نفس العبارة السابقة: "العرق دسّاس" أو "العرق نزاع"، مع إضافة روايات أخرى في هذا المجال، منها: عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تزوّجوا في الحجز الصالح، فإنّ العرق دسّاس"5، والحجز هو الأصل والمنبت6, وبقرينة العرق دسّاس لا يكون



1 يراجع: النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص206-207.
2 يراجع مثلاً: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص126. والسبحاني، جعفر، أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، ص115. والأبطحي، علي، الإمام الحسين في أحاديث الفريقين من الولادة إلى ما بعد الشهادة، ج2، ص5. والفياض، محمد إسحاق، منهاج الصالحين، ج3، ص41. والشيرازي، محمد الحسيني، الفقه البيئة، ص16. وعون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ج10، ص359.
3 الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص126.
4 السبحاني، جعفر، عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص33.
5 مكارم الأخلاق، ص197.
6 لسان العرب، ج5، ص332.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
287

 


236

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 المقصود بالحجز الصالح الصلاح بلحاظ البيئة، بل بلحاظ الوراثة، وهذا يعني أنّ الطفل يحمل من خصائص أمّه وأبيه الذهنية والنفسية والأخلاقية.

 
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "انظر في أيّ شيء تضع ولدك فإنّ العرق دسّاس"1. وقد عقّب الإمام الخمينيّ قدس سره على هذا الحديث بقوله: "والمراد من الدسّاس أنّ أخلاق الآباء تصل إلى الأبناء"2، مضيفاً في هذا السياق الحديث الوارد عن الإمام عليه عليه السلام: "حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق"3.
 
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهنّ"4. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "استجيدوا الخال فإنّ العرق دسّاس"5. 
 
وعنه: "اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين"6. وذلك لأنّ الولد يكسب من صفات أخواله وأخلاقهم بالوراثة. قال العلامة محمد باقر المجلسي معلِّقاً: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحد الضجيعين"،  لعلّ المراد بيان مدخلية الخال في مشابهة الولد في أخلاقه، فكأنّ الخال ضجيع الرجل لمدخليّته فيما تولد منه عند المضاجعة من الولد..."7.
 
ومن الأدلّة على ذلك أيضاً، ما روي أنّ الإمام علياً عليه السلام حين قال لأخيه عقيل وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: "انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوّجها، فتلد لي غلاماً فارساً. فقال له عقيل: تزوّج أم البنين الكلابية، فإنّهليس في العرب أشجع من آبائها. فتزوّجها الإمام علي"8، فأنجبت له أبا الفضل العبّاس الذي دافع عن أخيه الحسين عليه السلام في كربلاء بشجاعة حتى استشهد دونه.
 
وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... ولا تُساكنوا الخوز، ولا تزوّجوا 



1 الهندي، علي المتقي، كنز العمال، ج15، ص855.
2 السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر والقدر تقريراً لمحاضرات الإمام الخميني قدس سره، ص120.
3 عيون الحكم والمواعظ، ص228.
4 الجامع الصغير، ج1، ص503، ح3269.
5 ابن الأثير، المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج2، ص117.
6 الكافي، ج5، ص332.
7 المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج20، ص22.
8 ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص357. والأمين، محسن، أعيان الشيعة، ج7، ص429.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
288

 


237

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 إليهم، فإنّ لهم عرقاً يدعوهم إلى غير الوفاء"1.

 
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "لا تناكحوا الزنج والخزر، فإنّ لهم أرحاماً تدلّ على غير الوفاء"2.
 
وقد ذهب بعضهم أبعد من ذلك في قانون الوراثة، فمثلاً يرى الشيخ باقر شريف القرشي أنّ قانون الوراثة يشمل نقل الكفر والإلحاد من الآباء إلى الأبناء، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾3، حيث يقول: "فالآية دلّت بوضوح على انتقال الكفر والإلحاد بالوراثة من الآباء إلى الأبناء"4.
 
تحديد الموقف من المسألة
لا ريب في أنّ لبعض الخصائص البدنية والأمراض الجسمية دوراً في الحالات الذهنية والصفات النفسية للإنسان كما أثبتت الأبحاث التجريبية والعلمية. وتقدّمت بعض الأمثلة سابقاً. 
 
وانتقال تلك الخصائص والأمراض الجسمية بالوراثة للأبناء سيلعب دوراً في منحهم الحالات الناتجة عنها تبعاً لها.
 
كما أنّه لا ريب في أنّ صفات الآباء والأمّهات تلعب دوراً مؤثّراً في تكوين استعدادات خاصّة عند الطفل تجعله أقرب إلى بعض الصفات منها إلى صفات أخرى5. وهذا واضح في الروايات، وسيظهر خلال مسار الدروس اللاحقة. فإذا كان المقصود بمؤثّرية قانون الوراثة في الخصائص الذهنية والصفات النفسية والروحية للطفل هو إيجاد مثل هذه الأرضية الخاصة التي تجعل الطفل أكثر استعداداً للسير في اتّجاه معيّن فهو أمر مسلّم، ولكن إن كان المقصود هو انتقال الخصائص والصفات نفسها أي الكرم والشجاعة مثلاً بالوراثة من الآباء والأمهات إلى شخصية الطفل، فهذا ممّا يُمكن المناقشة فيه من جهة أنّ الطفل



1 علل الشرائع، ج2، ص393.
2 الكليني، الكافي، ج5، ص352.
3 سورة نوح، الآيتان 26-27.
4 القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين بن علي، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، ط1، 1398هـ- 1974م، ج1، ص43.
5 يراجع: لب الأثر في الجبر والقدر، ص114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
289

238

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 يولد خالي النفس من كلّ معرفة أو ملكة أخلاقية أو مهارية سلوكية، ثم يبدأ باكتساب المعارف بالتدريج، فما يكون مجهّزاً به بأصل الخلقة هو الاستعداد والقابلية دون نفس المعارف، وبذلك تخرج المعرفة، أمّا الملكات النفسانية الأخلاقية - والأثر المطلوب الناتج عنها - فهي عبارة عن كيفيات وصفات بطيئة الزوال تحصل نتيجة الممارسة المتراكمة لها حتى ترسخ في النفس، فيصدر عنها الفعل مناسباً لها، فتحتاج إلى الدربة والعادة والبيئة الحاضنة لنموّها، فالموروث هو الاستعداد الخاص دون نفس الصفات بما هي صفات، والاستعداد الخاص الموروث لا ينمو تلقائياً بل يتفتّح بالتربية والبيئة الحاضنة.

 
لذا يعتقد بعض العلماء بعدم وجود دليل على انتقال الصفات المكتسبة من الآباء والأمّهات إلى الأبناء، بل قام الدليلُ على العدم، يقول السيد محمد باقر الصدر في هذا السياق: "إنّ الصفات المكتسبة لا توّرث"1.
 
ولتوضيح هذه النقطة لا بد من بعض التفصيل، فبعد اتفاق العلماء البيولوجيين على أنّ الصفات غير المكتسبة تنتقل بالوراثة، وقع الخلاف بينهم في أنّ الصفات المكتسبة هل تورّث أم لا؟ 
 
وقد أجاب البعض أمثال جان بابست لامارك أنّ الصفات الجسمانية التي تحصل أثناء فترة حياة الكائن الحيّ تنتقل إلى نسله بالوارثة، وكذلك هو رأي تشارلز داروين. ولكن أبحاث علم الوراثة الحديث ترفض هذه النظرية. إلا أنّه ليست هذه النقطة هي موضع البحث، بل هي هل تنتقل الصفات الذهنية والخصائص النفسية المكتسبة بالإرادة من قِبَل الآباء والأمّهات إلى الأبناء؟
 
في الحقيقة، لا يوجد أيّ دليل علميّ تجريبيّ ولا وحيانيّ (قرآنيّ - روائيّ) على الانتقال الوراثيّ للخصائص النفسية المكتسبة بالإرادة من الآباء والأمّهات إلى الأبناء كما هي أي كصفات محصّلة بالاختيار، كما يدّعي بعض علماء النفس والاجتماع والأخلاق من أنّ الطفل يولد مجهّزاً بمجموعة صفات ناشئة من الوراثة كالخوف المفرط أو الميل إلى الاعتداء تعجز كلّ وسائل التربية والبيئة عن تغييرها، وكذلك الدليل التجريبيّ والوحيانيّ يُناقض الرأي المقابل الذي يعتقد أنّه لا دور للوارثة في بناء هويّة الطفل أبداً، وأنّه صنيعة التربية فقط.



1 فلسفتنا، ص312-315.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
290

239

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 لكلٍّ من الوراثة والبيئة دورها

أمام هذين الرأيين، يُمكن أن نختار رأياً ثالثاً وسطياً، يُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه منهما ومن البيئة، فالوراثة لها دور واضح كما ورد في الأحاديث السابقة، والبيئة لها دور أيضاً، وكذلك التربية 
 
لها دور، مضافاً إلى دور الإرادة الحرّة للإنسان نفسه، فإنْ كان المقصود بانتقال الصفات من الآباء إلى الأبناء، هو انتقال الصفات التي حصّلها الآباء بالإرادة الحرّة والاكتساب إلى الأبناء كما هي فهو أمر لا شاهد عليه، وإنْ كان المراد أنّ خصائص الأب أو الأم توجِد استعداداً خاصّاً وقابلية معيّنة عند الطفل للنمو تجعله يسير باتّجاه ما يُشابه الأب أو الأم فهو أمر تؤكّده النصوص الروائية المتقدّمة. مع الإشارة إلى أمرين مهمّين، وهما: أنّ الموروث أي الاستعداد الخاص لا ينمو تلقائياً بل يتفتّح بالتربية والبيئة الحاضنة، أولاً. وثانياً، إذا كانت الفطرة التوحيدية السليمة التي هي من أشدّ الاستعدادات الخاصة التي جُبلت عليها نفس الطفل قابلة لأن تُدفن وتُدس بسبب مؤثّرات التربية والبيئة وطبيعة الاستجابة الشخصية، فبالأولوية القطعية يكون هذا هو حال الاستعدادات الوراثية.
 
بين الوراثة والبيئة والتربية
وبهذا يتّضح أنّه يُمكن توجيه شخصيّة الطفل باتّجاه مغاير لما هو مكوّن عليه من استعداد خاصّ منقول إليه بالوراثة.
 
ولكن، كما وجد في البيئة اتّجاه حتميّ، كذلك نُلاحظ في الوراثة وجود اتّجاه حتميّ، إلى درجة اعتبر بعض العلماء مثلاً أنّ الخصائص العقلية للطفل مثل الذكاء تعود إلى عوامل وراثية في الأغلب1، كما في دراسة هرندون Herndon)) سنة1954م، حيث أثبت أنّ دور الوراثة في تحديد الذكاء يتراوح بين (50 %-75 %)، وكذلك دراسة بيركز (Berkes)، ودراسة آثر جنسن (Jensen) الذي يعتبر أن حوالي (80 %) من الاختلافات بين الناس في الذكاء يُمكن تفسيرها بالفروق الوراثية المباشرة بين هؤلاء الناس.
 
وقد اتّضحت مناقشة هذا الرأي ممّا تقدّم سابقاً في نقد نظرية العامل الواحد في تفسير



1 أنظر: ناصف، مصطفى، الوراثة والإنسان أساسيات الوراثة البشرية والطبية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 100، ص135.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
291

240

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 خصائص وصفات الطفل، لأنّ هناك مجموعة عوامل وعناصر تتداخل وتتفاعل فيما بينها لتُشكّل هوية الطفل، منها البيئة - وقد أُجري العديد من التجارب المعاكسة في هذا المجال، كالأبحاث التي أجراها جيزل ولورد والدراسة التي قام بها كيفر حول تأثير البيئة في الذكاء1-، وأهمّها التربية، فضلاً عن التفاعلات الداخلية لنفس المتربّي كعنصر إضافيّ إلى عاملي التربية والبيئة، "فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين، وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتّقين الأخيار، ناقضين قانون الوراثة بإرادتهم واختيارهم"2.

 
هل كلّ الاستعدادات الموروثة قابلة للتغيير؟
يُمكن تقسيم الاستعدادات الموروثة إلى قسمين:
أولاً: استعدادات لها طبيعة بيولوجية إمّا محضة وإمّا تنعكس على الخصائص الذهنية كقلة الذكاء أو البلادة والحمق أو التخلّف العقليّ... كما تقدّم في بعض الأمثلة. واتّضح أنّه كلّما تقدّم التطوّر العلميّ عند الإنسان كان لديه قدرة أكبر على التحكّم بها. ولكن يبقى الكلام في عدم وفرة هذه الفرص عملياً بنحو يستطيعه كلّ الناس وفي أيّ دولة كانت، لذا ستبقى هذه الاستعدادات غير قابلة للتغيير.
 
ثانياً: استعدادات قابلة للتغيير والتعديل، بسهولة أو بصعوبة.
 
يقول الشيخ جعفر السبحاني في هذا السياق-بغض النظر عن المناقشة في بعضّ الأمثلة التي ذكرها -: "... أمّا الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة، ولكن لا يعلم حدودها سعة وضيقاً، فلا شك أنّ الأولاد يرثون الصفات الخلقية والروحية على وجه الإجمال، ولكن ما يتركه الآباء والأمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يفرض على الأولاد فرضاً لا يُمكن إزالته مثل الحمق، والبلادة، والعقل والذكاء، والجبن والشجاعة وغير ذلك ممّا لا يُمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية والإصلاحية.
 
الثاني: ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية والاقتضاء، وبصورة تأثير العلّة الناقصة، 



1 يراجع: فؤاد البهي السيد، الذكاء، ص 30-36. ومرسي، شفيق علاونة، سيكولوجية التطور الإنساني من الطفولة إلى الرشد، ص 190. وكمال إبراهيم، البيئة والوراثة وأثرها في الانحرافات النفسية والسلوكية، ص 223-252.
2 الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج4، ص396.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
292

241

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 فيُمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية والطرق العلمية وذلك كالأمراض الموروثة كالسلّ وغيره، ومثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان والتمرّد فإنّه يُمكن إزالتها برفع مستوى فكر الإنسان وعقليّته، وإيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء والأمّهات مصيراً لازماً وقضاء حتماً، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإنسان واختياره وسائر العوامل التربوية المغيّرة لأرضية الوراثة"1.

 
فقابلية صفة ما للتوارث، ويطلق عليه بالمصطلح العلميّ Heritability، لا تعني عدم قابلية التغيّر، بل الصفات الوراثية لديها القابلية للتغيّر، ويصطلح عليه Variability.



1 السبحاني، جعفر، الإلهيات، ج1، ص662.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
293

242

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 المفاهيم الرئيسة

- الوراثة في اللغة العربية عبارة عن انتقال شيء جزءاً أو كلّاً من شخص أو موضوع إلى آخر مادّياً أو معنوياً. والمدلول الاصطلاحيّ للكلمة لا يختلف في المضمون عن المعنى اللغويّ.

- أصبح موضوع الوراثة اليوم محوراً مستقلّاً لعلم خاصّ من فروع علم الأحياء أطلق عليه وليام باتسون مصطلح: "علم الوراثة" Genetics.

- من المسائل الثابتة في البحث البيولوجيّ، أنّ الإنسان يُورّث الخصائص الجسمانية لذرّيته، ولذلك ورد الحثّ على حسن اختيار الزوجة من هذه الجهة.

- يكشف التطوّر العلميّ يوماً بعد يوم عن إمكانية السيطرة على الأمراض الوراثية التي تؤثّر على شخصية الطفل في أبعادها الذهنية والنفسية والبدنية.

- إنّ الطفل يرث استعدادات وقابليات ذهنية وإدراكية ونفسية وسلوكية خاصّة من الآباء والأمّهات الذين ينقلون قسماً من صفاتهم الجسمية والروحية إلى أبنائهم حسب قانون الوراثة الطبيعيّ. وهذا ما يؤكّده العديد من الروايات، مثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"العرق دسّاس" أو "العرق نزاع".

- يدّعي بعض علماء النفس والاجتماع والأخلاق أنّ الطفل يولد مجهّزاً بمجموعة صفات ناشئة من الوراثة كالخوف المفرط أو الميل إلى الاعتداء تعجز كلّ وسائل التربية والبيئة عن تغييرها. وفي مقابل هذا الرأي مذهب آخر يعتقد أنّه لا دور للوارثة في بناء هويّة الطفل أبداً، وأنّه صنيعة التربية. وأمام هذين الرأيين يمكن أن نختار رأياً ثالثاً، يُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه منهما ومن البيئة، فالوراثة لها دور، والبيئة لها دور، والتربية لها دور.

- إنّ القابليات والاستعدادات الخاصّة المنقولة إلى الطفل بالوراثة لا تنمو تلقائياً بل تتفتّح أو تذبل حسب التربية والبيئة الحاضنة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
294

243

الدرس الثامن عشر: تأثير الوراثة على هويّة الطفل

 أسئلة الدرس

1- ما هو قانون الوراثة الطبيعيّ؟ وكيف يلعب دوراً في تكوين خصائص جسمية معيّنة للطفل؟

2- هل يلعب قانون الوراثة دوراً في رسم الخصائص الجسمية للطفل فقط أم يؤثّر على الجوانب الذهنية والنفسية من شخصيّة الطفل؟ وكيف؟

3- اذكر بعض النصوص الروائية التي استُدِلّ بها على تأثير قانون الوراثة على هويّة الطفل، وبيّن كيفية استفادة هذا المعنى منها.

4- هل توافق من يقول بأنّ كلّ ما يملكه الإنسان من خصائص تنتقل إليه بالوراثة، وأنّ الصفات الوراثية غير قابلة للتغيّر والتعديل؟ ولماذا؟

5- هناك من يعتبر أنّ الطفل وليد التربية ولا تلعب الوراثة أيّ دور في بناء ملامح شخصيّته، كيف تُجيب عليه؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
295

244

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يُدرك أنّ لمرحلة اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر ما قبل الزواج دوراً مؤثّراً في هويّة الطفل مستقبلاً.
2- يعرف أهمّية الموازنة عند الاختيار بين مواصفات الزوج/ الأب أو الزوجة/ الأم.
3- يُحدّد معايير اختيار الفتاة للزواج.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
299

245

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 تمهيد

ذكرنا سابقاً أنّه من جملة المراحل التمهيدية التي تلعب دوراً مهمّاً في تربية الطفل حسن اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر، وذلك لعدّة أسباب، عالجنا بعضها في درس تأثير الوراثة على الطفل، ودرس تأثير البيئة الأسرية على الطفل، وسنُسلّط الضوء على بعضها الآخر في دروس أخرى كدرس التربية بالقدوة والنموذج السلوكيّ، حيث إنّ طبيعة شخصية المربّي (الأب/ الأم) لها تأثير خاصّ على تشكيل هويّة الطفل، وكل ذلك يقتضي توفّر صفات وخصائص معيّنة في كلٍّ من الزوجين قبل الإنجاب وحينه وبعده، خصوصاً قبل الزواج، لأنّ الصفات والخصائص الذاتية لمن سيكون زوجاً أو زوجة غير منفصلة عن التراث والامتداد التاريخيّ الشخصيّ للحياة التي عاشها كلٌّ منهما. فليست لحظة ميلاد خصائص ومميّزات هويّتهما الشخصية هي عقد النكاح، بل سار كلٌّ منهما على طريق طويل حتّى وصل إلى نقطة ما هو عليه لحظة الزواج. وقد لعبت في تشكيلها وصناعتها، عوامل كثيرة، منها: ذاتية تتعلّق بهما كسلوكات وخبرات ومعارف وأخلاق، ومنها موضوعية خارجية كالأسرة من أب وأم وإخوة وأقارب، الأصدقاء والزملاء، المحيط المهني، التنشئة المدرسية والجامعية، التربية الكشفية، والدروس الدينية في المساجد، وغيرها من الوسائط، وكلّ هذا المسار لهوية الأب والأم سيعكس نفسه على صناعة هويّة الطفل.

والروايات التي تتحدّث عن مواصفات من يُراد أن يكون زوجاً أو أباً أو تكون زوجة وأمّاً كثيرة، وهي ممّا ينبغي أن يسعى إليه كلّ شاب وفتاة، ليتمّ التحلّي والتلبّس بها من أجل أن يكون زوجاً صالحاً وأباً ومربّياً وتكون هي زوجة صالحة وأمّاً ومربّية صالحة. فهذه المواصفات برنامج عمل ينبغي السير عليه في بناء شخصيّتيهما للوصول إلى كمال الزوجية والأبوّة والأمومة، وبذلك توجد بيئة داخلية وبيئة خارجية حاضنة لتربية الطفل بنحو إيجابيّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
301

246

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 ولا شكّ، في أنّ الطفل الذي سينمو في بيئة تتحلّى بهذه المواصفات التي سنذكُرها سيكون بطبيعة الحال - غالباً - طفلاً مؤمناً متديّناً مهذّباً صالحاً...

 
منهج الإسلام في التربية
يقول الإمام الخميني قدس سره: "... هل تجدون في كلّ العالم منهجاً مثل الإسلام يهتمّ بأمر تربية الإنسان حتّى قبل زواج والديه فيُحدّد آداباً للزواج؟! جميع المناهج الأخرى في العالم تهتم بأمر الإنسان الذي يتحرّك وسط المجتمع، أمّا الإسلام فهو يُحدّد لكلٍّ من والديه قبل زواجهما الشروط التي يجب توفّرها في الطرف الآخر، والسبب هو أنّ هذين الزوجين هما منشأ ظهور فرد واحد أو مجموعة من الأفراد، والإسلام يريد أن يكونوا من الصالحين في المجتمع، ولتحقيق ذلك يُحدّد المواصفات اللازمة في الزوجة والزوج، والأعمال والأخلاق التي ينبغي توفّرها فيهما، وطبيعة الوسط العائليّ الذي تربّيا فيه، ثم يُحدّد كيفية تعاملهما بعد الزواج، وآداب الحمل وما بعده، وآداب الولادة، ثم حضانة الطفل، والهدف من كلّ هذه الآداب هو أن تكون ثمرة هذا الزواج موجوداً صالحاً للمجتمع"1.
 
وهنا يأتي السؤال ما هي المعايير والمقاييس التي ينبغي لكلٍّ من الزوجين اعتمادها في اختيار الآخر؟ وما الذي قدَّمته النصوص الإسلامية في هذا الميدان؟
 
إنّ استقراء النصوص يجعلنا نخرج بنتيجة مفادها الجواب بالإثبات على وجود أطروحة متكاملة حول المعايير التي ينبغي اعتمادها في عملية اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر. وقبل بيان المعايير نُشير إلى نقطتين رئيستين:
1- الأولى: أنّ البحث تارة يكون عن الصفات التي ينبغي أن تتوفّر في كلّ منهما بعنوان الزوج/ الزوجة، وأخرى بعنوان الأب/ الأم.
 
2- الثانية: أنّ البحث عن الجهة الثانية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأولى، لأنّ الطفل ناشئ عن الزوجين، وسيعيش معهما في ذات البيئة التي يُمارسان فيها دورهما كزوج/ زوجة، وسينفعل عن أسلوب عيشهما، ويتأثّر بطريقة حياتهما الزوجية.



1 الكوثر، مجموعة من خطابات الإمام الخميني التي تتضمّن تسجيلاً لوقائع الثورة الإسلامية خلال الأعوام 1962م-1978م-، ج3، ص341.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
302

247

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 وبهذا الاعتبار، ينبغي عند الاختيار، الموازنة بين الجهتين، أي أن لا يكون كلٌّ منهما أنانياً فينظر إلى الصفات التي تُشكّل محور سعادة له كزوج/ زوجة في بيت الأسرة، بل أن ينظر إلى ما هي الصفات التي تعتبر محورية في الأبوة والأمومة أيضاً. وقد أشارت الروايات إلى عملية الموازنة هذه.

 
الموازنة في الاختيار بين الجهتين: باعتبار الزوجية وباعتبار الأمومة
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير نساء ركبن الرحال1: نساء قريش، أحناهنّ على ولد، وخيرهنّ لزوج"2.
 
- وعن أبي بصير، عن أحدهما - الإمام الباقر أو الصادق - عليهما السلام، قال: "... قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ركب الإبل مثل نساء قريش، أحناهنّ على ولد، ولا أرعى على زوج في ذات يديه"3.
 
- وعن الحارث الأعور، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير نسائكم: نساء قريش، ألطفهنّ بأزواجهنّ، وأرحمهنّ بأولادهنّ..."4.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "خير نسائكم نساء قريش، أعطفهنّ على زوج، وأحناهنّ على ولد"5.
 
فالروح المقاصدية لهذه الروايات، توضح - مع سريانها على الزوج أيضاً لوحدة المناط بمناسبة الحكم والموضوع - أنّه ينبغي اختيار من تتوفّر فيها/ فيه من مواصفات الزوجية والوالدية معاً بشكل متوازن. وخصوصية المورد لا تُخصّص عموم الوارد، فإنّ المورد وإن كان هو نساء قريش، إلا أنّ مدحهم ووصفهم بالخيرية ليس من جهة قرشيّتهم حتى يكون مقتضي المدح مقتصراً عليهم بهذا العنوان فلا يشمل غيرهم، بل سبب المدح هو الموازنة



1 الرحال: جمع رحل، وهو مركب البعير. ولعله كناية عن إذهاب العروس إلى بيت زوجها بناءً على عادة العرب من إجلاس العروس على الإبل المرحل عند ذهابها إلى بيت زوجها.
2 الكافي، ج5، ص326.
3 م.ن، ص327.
4 م.ن.
5 المغربي، النعمان بن محمد، دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل البيت عليهم السلام، ج2، ص195، ح712.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
303

 


248

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 بين اللطف بالزوج والرحمة بالأولاد، وكلّ من تحقّقت فيها هاتان الصفتان فهي مشمولة لعموم خير النساء، فذكر نساء قريش من باب ذكر المصداق البارز.

 
فالمرأة قد تكون مثلاً من حيث الزوجية تهتمّ بنوع الطعام الذي يُحبّه زوجها، والتجمّل والتزيّن له، والترفيه عن نفسها معه، وبناء علاقات اجتماعية مشتركة... إلخ، لكن زوجيّتها تكون على حساب أمومتها، فتهمل الاهتمام اللازم باحتياجات أطفالها كنوعية طعامهم وتنظيفهم والترفيه عنهم وتدريسهم والاستماع إلى مشكلاتهم ومشاركتهم في همومهم ومشاعرهم... إلخ، أو العكس، وقد يكون الزوج مثلاً كادّاً في سبيل أطفاله منفقاً موسّعاً عليهم بنمط حياة تلبّي احتياجاتهم الاقتصادية، مرفّهاً عنهم، مستمعاً لمشكلاتهم مشاركاً لهم في حلولها...، لكنّه يُهمل زوجته ولا يُعطيها من نفسه ووقته واهتمامه، فيُضحّي بزوجيّته لأجل أبوّته، ممّا ينعكس أيضاً على طريقة تعامل الأم مع الأطفال سلباً. فلعنصر التوازن بين الجهتين أهمّية خاصة، فينبغي مراعاته عند الاختيار1.
 
حسن اختيار الأم من حقوق الطفل
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حقّ الولد على والده إذا كان ذكراً أن يستفره أمّه2،... وإن كانت أنثى أن يستفره أمّها..."3.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "تجب للولد على والده ثلاث خصال: اختياره لوالدته..."4.
 
يتّضح من هذين الحديثين أنّ من جملة حقوق الولد على والده حسن اختيار الفتاة التي ستكون أمّاً لأبنائه.
 
الحثّ على الاختيار باعتبار الوالديّة
أمّا الروايات التي حثّت الإنسان على الاختيار بلحاظ جهة الوالدية أي بالنظر إلى مراعاة أنّ المرأة التي سيتمّ اختيارها ستكون أمّاً في المستقبل لأولاده فكثيرة، نذكر منها:



1 أنظر: عجمي، سامر، حياتنا الجنسية كيف نعيشها؟ ص174.
2 يستفره: أي يستكرم، والاستكرام طلب الشيء الكريم، فيكون معنى أن يستفره أمّه أي أن يطلبها من أصل كريم. يراجع: القاموس المحيط، ج4، ص289 وص170.
3 الكافي، ج6، ص49.
4 تحف العقول، ص355.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
304

249

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 - عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين"1.

 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ العرق دسّاس"2.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "اختاروا لنطفكم المواضع الصالحة"3.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيَّروا لنطفكم، لا تضعوها إلّا في الأكفاء"4.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهنّ"5.
 
فهذه الروايات فيها دلالة واضحة من حيث تعليل حسن الاختيار للزوجة بالأطفال من جهة التعبير "لنطفكم".
 
الحثّ على الاختيار باعتبار الزوجية
وكذلك الأمر بالنسبة للروايات التي حفّزت الإنسان على اختيار الزوجة الصالحة لأنّها ستكون شريكة للإنسان في شؤون حياته، والشراكة تقتضي أن ينظر الإنسان إلى الشخص الذي سيعيش معه ويضع حياته بين يديه.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنكحوا الأكفاء، وانكحوا فيهم، واختاروا لنطفكم"6.
 
- وعن إبراهيم الكرخي، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: "إنّ صاحبتي7 هلكت، وكانت لي موافقة، وقد هممت أن أتزوّج".
 
فقال لي: "انظر أين تضع نفسك، ومن تُشركه في مالك، وتُطلعه على دينك وسرِّك..."8.



1 الكليني، الكافي، ج5، ص332. وتهذيب الأحكام، ج7، ص402، ح1603.
2 السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى، ج2، ص559.
3 الدارقطني، علي بن عمر، سنن الدارقطني، ج3، ص206، ح3744.
4 الدارقطني، ن.م، ح3746.
5 ابن عساكر، علي بن الحسن، ج52، ص362. السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، ج1، ص503.
6 م.ن.
7 صاحبتي: بمعنى زوجتي.
8 الكليني، الكافي، ج5، ص323.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
305

250

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 - وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّما المرأة قلادة، فانظر إلى ما تتقلّده"1.

 
- وعن الإمام الرضا، عن أبيه الكاظم، عن أبيه الصادق، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما النكاح رقّ، فإذا أنكح أحدكم وليدة فقد أرقّها، فلينظر أحدكم لمن يرقّ كريمته"2.
 
ما هي المواصفات التي ينبغي توفّرها في الأنثى؟
انطلاقاً من كون الحالة المتعارفة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أنّ الذكر هو الذي يبحث عن أنثى، ويتقدّم لخطبتها، وأنّ الأنثى هي العنصر المبحوث عنه في إرادة بناء بيت الزوجية، نُقدّم الحديث عن الأنثى ونُثنّي بالحديث عن الذكر لكونه العنصر الطالب في عملية تكوين الأسرة.
 
والصفات التي سنذكرها ينبغي أن تُشكّل منظومة القيم الحاكمة في البيئة الأسرية التي يعيش وينشأ فيها الطفل كي تزرع وتنمو في هويّته.
 
ونُلفت النظر، إلى أنّ بعض المواصفات المذكورة وردت في الروايات كمعايير للاختيار قبل الزواج، وبعضها كمواصفات ينبغي أن تتحلّى بها الزوجة في بيت الزوجية، ولكن بسبب ما أشرنا إليه من أنّ الصفات النفسية والخصائص الذاتية لا تولد في الإنسان لحظة زواجه ستكون هذه الصفات من معايير الاختيار أيضاً.
 
ونُنبّه أيضاً، إلى أنّ بعض الروايات قد تضمّن أكثر من صفة، فعنوان الفقرة قد يكون أخصّ من المعنون.
 
وهذه المواصفات أيضاً، على أنواع، منها ما يتعلّق بالجانب البدنيّ والجسديّ، أو الجانب الذهنيّ والعقلي، أو الجانب الوجدانيّ والقلبيّ، أو الجانب السلوكيّ والمهارات، أو الجانب البيئيّ - الاجتماعيّ.



1 الكليني، الكافي، ج5، ص332.
2 الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، ص519، مج18، ح1145/47.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
306

251

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 أولاً: أتزوّج الفتاة المؤمنة المتديِّنة

أوّل صفة ينبغي للإنسان أن يأخذها بعين الاعتبار عند الاختيار هي الإيمان والتديّن، بأن تكون المرأة التي يريد أن يرتبط بها بعلاقة الزوجية تعيش الإيمان في حياتها، ولذا نُلاحظ أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يسأل عن الزواج يوجّه الشخص تجاه المرأة ذات الدين.
 
- عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "أتى رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يستأمره في النكاح. فقال له رسول الله: انكح، وعليك بذات الدين، تربت يداك"1.
 
- عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بذات الدين"2.
 
ثانياً: أتزوّج الفتاة العاقلة
بالإضافة إلى عنصري الإيمان والتديّن، هناك جملة عناصر إضافية لا بد من أن تتوفّر في المرأة التي ينبغي اختيارها للزواج، منها عنصر العقل، والأدب، ولعلّ هذه الصفات من الملكات الملازمة للإيمان والتديّن بمعناهما الأعمّ.
 
- عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال: "خير الجواري ما كان لك فيها هوى، وكان لها عقل وأدب، فلست تحتاج إلى أن تأمر ولا تنهى..."3.
 
ثالثاً: أتزوّج الفتاة التي تتحلّى بحسن الخلق والأدب
- في تتمّة حديث سابق (عن إبراهيم الكرخي)، عن أبي عبد الله عليه السلام: "... فإن كُنتَ لا بد فاعلاً، فبكراً، تُنسب إلى الخير، وإلى حسن الخلق..."4.
 
رابعاً: أتزوّج المرأة العفيفة
عن جابر بن عبدالله ، قال: كُنّا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: "إنّ خير نسائكم: الولود، الودود، العفيفة..."5.



1 الكافي، ج5، ص333.
2 تهذيب الأحكام، ج7، ص399، ح1592.
3 الكافي، ج5، ص323.
4 م.ن، ص323.
5 م.ن، ص324.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
307

252

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 - وعن أبي إبراهيم عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا إلى آل فلان فإنّهم عفّوا فعفّت نساؤهم، ولا تزوّجوا إلى آل فلان فإنّهم بغوا فبغت نساؤهم..."1.

 
خامساً: أتزوّج الفتاة التي أحبّ ويهواها القلب
إنّ النظرة القيمية الإسلامية عندما توجِّه الإنسان نحو اعتماد الإيمان والتديّن وحسن الخلق والأدب والعفّة كمعايير للاختيار لا تعني في ذلك الحصر، بمعنى أنّها لا تحصر الاختيار على أساس هذه المعايير فقط، بل تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الأخرى من حياة الإنسان، فالإنسان أيضاً مخلوق مشحون بالعاطفة والمشاعر القلبية، والاختيار على أساس الإيمان لا يُلغي حضور الاختيار على أساس الحب والهوى والعشق، فإنّ التعاليم الإسلامية أنزلت بنحو تتوافق وكيفية الخلقة التي ابتدعتها يد الله تعالى في جبلّة الإنسان، والله يعلم أنّ هذا الإنسان مجبول ومفطور على الحبّ والميل القلبيّ تجاه الجنس الآخر ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾2، والله تعالى هو الذي جعل هذه المودّة بين الجنسين من الآيات الدالة على صفاته عزّ وجلّ: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾3. وقد أكّدت الروايات على الاختيار على أساس الحبّ والهوى.
 
عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قُلتُ له: "إنّي أُريد أن أتزوّج امرأة، وإنّ أبويّ أرادا غيرها".
 
قال عليه السلام: "تزوّج التي هويت، ودع التي يهوى أبواك"4.
 
وسيأتي في الحديث التّالي ما يدلّ على ذلك.
 
سادساً: أتزوّج الحسناء الجميلة الوسيمة
إنّ اعتبار الإيمان والتديّن والأدب وحسن الخلق والعفة معايير في حسن اختيار الزوجة، لا يُلغي أيضاً الاختيار على أساس الجمال والوسامة، فإنّ الميل إلى الجمال 



1 الكافي، ص554.
2 سورة الملك، الآية 14.
3 سورة الروم، الآية 21.
4 الكافي، ج5، ص401.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
308

253

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 عنصر فطريّ في أصل تكوين الإنسان، والدين يُلبّي صوت الفطرة ولا يتحرّك مع الإنسان بخلاف مقتضى نداء الفطرة، لذا اعتبرت الروايات أنّ الزوجة الجميلة الوسيمة تمنح حياة الإنسان السعادة.

 
- عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من سعادة المرء المسلم: أن يُشبهه ولده، والمرأة الجملاء1 ذات دين..."2.
 
فهذه الرواية تُفيد التوازن والجمع بين الجمال والدين.
 
- وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: "تنكح المرأة لميسمها3"4، أي جمالها ووسامتها.
 
لكن، على أن لا يكون الجمال والوسامة، العنصر الوحيد الذي يتمّ الإقدام على خطبة الفتاة لأجله، لما ورد في النصوص من النهي عن ذلك، وبيان الأثر السلبيّ للاختيار على أساس أحادية هذا المعيار أي الجمال (أو المال).
 
- عن أبي جعفر عليه السلام، قال: حدّثني جابر بن عبد الله: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من تزوّج امرأة لمالها وكله الله إليه، ومن تزوّجها لجمالها رأى فيها ما يكره، ومن تزوّجها لدينها جمع الله له ذلك"5.
 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "من تزوّج امرأة لا يتزوّجها إلا لجمالها لم ير فيها ما يُحبّ، ومن تزوّجها لمالها لا يتزوّجها إلّا له وكله الله إليه، فعليكم بذات الدين"6.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو لمالها، وكل إلى ذلك، وإذا تزوّجها لدينها رزقه الله الجمال والمال"7.



1 الجملاء: على وزن فعلاء، بمعنى: المرأة الجميلة الحسناء.
2 قرب الأسناد، ص77، ح248.
3 الميسم: على وزن مفعل، من الوسامة بمعنى: الجمال. يقال : وسمت المرأة وسامة، وإنّها ذات ميسم وجمال.
4 الرضي، المجازات النبوية، تحقيق طه محمد الزيني، منشورات مكتبة بصيرتي، قم، ص54.
5 المصدر نفسه، ح1596.
6 تهذيب الأحكام، ج7، ص399، ح1592.
7 الكليني، الكافي، ج5، ص333.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
309

254

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 سابعاً: أتزوّج المرأة الولود

تقدّمت الروايات حول ذلك في الدرس الثامن: الحثّ على إنجاب الأطفال.
 
من هي المرأة التي لا أتزوّجها؟
هذا فيما يتعلّق بالجانب الإيجابيّ من الصفات التي ينبغي الاختيار على أساسها، وهناك صفات سلبية قد تتلبّس بها المرأة تعتبر عناصر مانعة عن اختيارها، وهي في الإجمال كلّ صفة تكون ضدّاً وتقع على الطرف المقابل للصفات المتقدّمة. وقد ذكر بعض الروايات هذه الصفات بالتعيين، وهي:
 
- لا أتزوّج المرأة الحمقاء
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاكم وتزويج الحمقاء، فإنّ صحبتها بلاء، وولدها ضياع"1.
 
الحمق هو ضعف العقل ونقصانه، وهي صفة مقابلة للمعيار الثاني المتقدّم.
 
- لا أتزوّج المرأة من منبت السوء
سبق البحث في بعض الدروس السابقة عن تأثير البيئة على تنمية استعدادات خاصة لدى الطفل في الجانبين السلبيّ أو الإيجابيّ، ولبيئة الزوجة/ الأم دور مهمّ في رسم بعض معالم شخصية الطفل. ومن هذا الباب حثّت الروايات على أن يكون أحد المعايير التي ينبغي مراعاتها عند اختيار الزوجة أن لا تكون من بيئة غير صالحة.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً، فقال: "أيّها الناس، إيّاكم وخضراء الدِّمن2. قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدِّمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء"3.



1 الكليني، الكافي، ج5، ص354.
2 الدمن: جمع دمنة، وهي ما تدمنه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها أي تلبّده في مرابضها فربما نبت فيها النبات الحسن النضير.
3 الكليني، الكافي، ج5، ص332.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
310

255

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 - لا أتزوّج المرأة من أجل الفخر والرياء والسمعة

إنّ العلاقة الزوجية لا تقوم كبعض العلاقات الأخرى على ذهنية المنافع الشخصية والمصالح التجارية، لأنّه يُراد بالأسرة وبيت الزوجية أن يكون بيئة صالحة لتنمية استعدادات الإنسان في تحقيق الهدف من وجوده الذي هو القرب من الله تعالى، وهذا الهدف لا يتحقّق إلا في ضوء المعايير التي تقدّمت سابقاً، من الإيمان والتديّن والعفّة وحسن الخلق والأدب والعقل و...، وبناءً عليه، من تزوّج من أجل الفخر والرياء والعصبية وغيرها من المعايير السالبة لن يعيش حياته إلّا على شاكلة هذه الصفات السلبية لأنّ كلّ إناء ينضح بما فيه.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: "ومن نكح امرأة حلالاً بمال حلال، غير أنّه أراد بها فخراً أو رياء، لم يزده الله بذلك إلا ذلّاً وهواناً، وأقامه الله بقدر ما استمتع منها على شفير جهنّم، ثم يهوى فيها سبعين خريفاً"1.
 
- وبالتّالي كما اتّضح من بعض الروايات المتقدّمة أيضاً ينبغي للإنسان أن لا يتزوّج المرأة لجمالها فقط.
 
- ولا يتزوّج المرأة لمالها فقط.



1 ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص282.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
311

256

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 المفاهيم الرئيسة

- إن طبيعة شخصية المربّي (الأب/ الأم) لها تأثير خاص على تشكيل هويّة الطفل، وكلّ ذلك يقتضي توفّر صفات وخصائص معيّنة في كلٍّ من الزوجين قبل الإنجاب وحينه وبعده.
 
- الروايات التي تتحدّث عن مواصفات من يُراد أن يكون زوجاً أو أباً أو تكون زوجة وأمّاً كثيرة، وهي ممّا ينبغي أن يسعى إليه كلّ شاب وفتاة، ليتمّ التحلّي والتلبّس بها من أجل أن يكون زوجاً صالحاً وأباً ومربّياً وتكون هي زوجة صالحة وأمّاً ومربّية صالحة.
 
- ينبغي الموازنة في اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر بين جهة الزوجية من جهة وجهة الأمومة والأبوّة من جهة أخرى، وقد أشارت الروايات إلى هذا المعنى، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير نسائكم: نساء قريش، ألطفهنّ بأزواجهنّ، وأرحمهنّبأولادهنّ...".
 
- لقد حثّت الروايات على حسن اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر لما له من انعكاس على حسن تربية الأطفال وبناء شخصيّتهم، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنكحوا الأكفاء، وانكحوا فيهم، واختاروا لنطفكم". وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما النكاح رقّ، فإذا أنكحأحدكم وليدة فقد أرقّها، فلينظر أحدكم لمن يرقّ كريمته".
 
- إنّ المواصفات التي وردت في الروايات كمعايير للاختيار على أنواع، تتعلّق بالجانب البدنيّ والجسديّ، الجانب الذهنيّ والعقليّ، الجانب الوجدانيّ والقلبيّ، والجانب السلوكيّ والمهارات، والجانب البيئيّ-الاجتماعيّ...، نذكر بعض صفات المرأة باختصار: التديّن والإيمان، الحبّ والهوى، العقل، الأدب، حسن الخلق، نسب الخير، البيئة الصالحة، الحسن والجمال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
312

257

الدرس التاسع عشر: حسن اختيار الأب / الأم (1)

 أسئلة الدرس

1- هل تعتبر أنّ تربية النفس على التلبّس بصفات الأمومة أو الأبوّة تحصل بعد الزواج أم قبل الزواج؟ علّل ذلك.

2- ما هي أهمّية الموازنة عند اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر بين صفات الزوجية وصفات الأمومة أو الأبوّة؟

3- اذكر عشر صفات تُعتبر معايير لاختيار الفتاة كزوجة وأم.

4- ما هو دور وتأثير تلك الصفات والمعايير على تربية الطفل في الأسرة؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
313

258

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف معايير اختيار الفتاة للرجل من أجل الزواج.
2- يعرف معايير رفض الفتاة لمن يتقدّم لخطبتها.
3- يُحدّد صفات التحلّي والتخلّي للزوج في الحياة الأسرية.
4- يشخّص الخصائص التي يجب أن تتمتّع بها المرأة في بيت الزوجية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
315

259

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 تمهيد

تحدّثنا في الدرس السابق عن المعايير التي ينبغي أن يعتمدها الرجل عند إقدامه على اختيار المرأة التي يريد الارتباط بها بعلاقة زوجية، وفي هذا الدرس سنسلِّط الضوء على المعايير التي ينبغي أن تستند إليها المرأة في حسن اختيارها للزوج الذي تريد أن تبني معه حياتها الأسرية برباط مقدّس، كما سنتعرض لذكر المواصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها أو يتخلّى عنها كلٌّ من الزوجين في بيت الأسرة، لما لذلك من دور إيجابيّ أو سلبيّ مباشر في عملية تربية الطفل وتشكيل هويته باتّجاه السير نحو كمال طبيعته أو النقص.

معايير اختيار الزوج (الصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها الزوج)
هناك معايير مشتركة بين الجنسين ينبغي أن تعتمد في حسن الاختيار للزوجية والوالدية، أهمّها: الإيمان والتديّن، وحسن الخلق، والأدب، والعفّة، والعقل... إلخ، لأنّ الشابّ أو الرجل الذي لا يتحلّى بهذه الصفات لن يكون زوجاً صالحاً وبالتّالي لن يكون أباً صالحاً، لذا ينبغي لكلّ فتاة أن تنظر إلى أنّ نجاح حياتها الزوجية متوقّف على توفّر تلك الصفات في الشابّ أو الرجل الذي تريد أن تتزوّج به، وما لم تكن هذه الصفات متوفّرة عليها أن تُجيب بالرفض على من يتقدّم إليها طالباً يدها، وإلا إذا لم يكن اختيارها على أساس هذه الصفات فلا تلقي بالعتاب على أحد، بل لتعذل نفسها قبل أن تلوم أحداً غيرها، وقد أوضح بعض الروايات هذه المعايير، منها:
- أختار الإنسان المؤمن المتديّن (الكفاءة الإيمانية)

- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "... فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، فمن نُزوِّج؟

فقال: الأكفاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
317

260

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 فقال: ومن الأكفاء؟

 
فقال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض، المؤمنون بعضهم أكفاء بعض"1.
 
- أختار الإنسان المتديّن حسن الأخلاق
 
- كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر عليه السلام في أمر بناته، وأنّه لا يجد أحداً مثله.
 
فكتب إليه أبو جعفر عليه السلام: "فهمت ما ذكرت من أمر بناتك، وأنّك لا تجد أحداً مثلك، فلا تنظر في ذلك رحمك الله، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"2.
 
- عن إبراهيم بن محمد الهمداني، قال: كتبتُ إلى أبي جعفر عليه السلام في التزويج.
 
فأتاني كتابه بخطّه: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"3.
 
- وبناءً عليه: لا أتزوّج سيّئ الخلق
 
- عن الحسين بن بشار الواسطي، قال: كتبتُ إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام: "إنّ لي قرابة قد خطب إليّ وفي خلقه سوء؟
 
قال: لا تزوّجه إن كان سيّئ الخلق"4.
 
- وبناءً عليه أيضاً: لا أنظر إلى النسب
- عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جاءكم من ترضون خُلقه ودينه فزوِّجوه.
 
قُلتُ: يا رسول الله، وإن كان دنيّاً في نسبه؟
 
قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"5.



1 الكافي، ج5، ص337.
2 م.ن.
3 م.ن.
4 م.ن، ص563.
5 تهذيب الأحكام، ج7، ص394.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
318

261

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 - أتزوّج الإنسان الأمين

الأمانة قيمة تُركّز عليها النصوص الإسلامية كثيراً، منها: عن الإمام علي عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحجّ والمعروف، وطنطنتهم بالليل، انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"1.
 
- وتتأكّد في الزواج
 
- عن الحسين بن بشار الواسطي، قال: كتبتُ إلى أبي جعفر عليه السلام أسأله عن النكاح.
 
فكتب إليّ: "من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته فزوِّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"2.
 
ومن الأمانة أن يحفظ الزوج أسرار زوجته، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر سرّها"3.
 
- أتزوّج الإنسان العفيف
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "الكفؤ أن يكون عفيفاً وعنده يسار"4.
 
- أتزوّج ممّن تتوفّر لديه الإمكانية الاقتصادية المطلوبة للزواج.
 
- أتزوّج التقيّ، النقيّ، السمح الكفّين، البارّ بوالديه...
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ألا أُخبركم بخيار رجالكم"؟
قُلنا: بلى يا رسول الله.
 
قال: "إنّ من خير رجالكم: التقيّ، النقيّ، السمح الكفين، النقيّ الطرفين، البرّ بوالديه، ولا يلجئ عياله إلى غيره"5.
 
- أتزوّج الرجل الذي عنده غيرة
ليس المقصود بالغيرة الحالة الأنانية من الغرام التي تؤدّي إلى الشعور بالتملّك للكائن المحبوب، بل "الغيرة هي الحمية والأنفة والنخوة والحشمة، فالغيرة هي عبارة عن حماية 



1 الصدوق، الأمالي، ص379.
2 الكليني، الكافي، ج5، ص347.
3 سنن أبي داود، ج2، ص450.
4 معاني الأخبار، ص239.
5 الكليني، الكافي، ج2، ص57.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
320

262

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 من ينبغي حمايته والدفاع عنه، والسعي في محافظة ما يلزم محافظته، والغيرة من نتائج الشجاعة وكبر النفس وقوّتها، وهي من شرائف الملكات، وبها تتحقّق الرجولية"1.

 
والغيرة من الأخلاق الإلهية، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّ الله تبارك وتعالى غيور، يُحبّ كلّ غيور، ولغيرته حرّم الفواحش ظاهرها وباطنها"2.
 
ولذا، على المرأة أنّ تعلم أن الرجل أو الشابّ الذي يرضى أن تكون غير محجّبة أو تتبرّج وتتزيّن أو تُصافح الرجال... إلخ من المظاهر السلوكية في حياتها، لا يتحلّى بالغيرة، وبالتّالي لن يكون بهذا اللحاظ زوجاً وأباً صالحاً للحفاظ على عرضه، وعليها أن تأبى أن يكون زوجاً لها، وهذا ما أكّدته الروايات بشكل واضح.
 
عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "إنّ المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلّفها وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة، وسعة بتقدير، وغيرة بتحصّن"3.
 
- لا أتزوّج الرجل الفاحش، البهّات المفتري...
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ألا أُخبركم بشرّ رجالكم"؟
 
فقُلنا: بلى.
 
فقال: "إنّ من شرّ رجالكم: البهّات4، الفاحش، الآكل وحده، المانع رفده5، الضارب أهله وعبده، البخيل، الملجئ عياله إلى غيره، العاق بوالديه"6.
 
- وعن شهاب بن عبد ربّه، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام، ما حقّ المرأة على زوجها؟ قال عليه السلام: "يسدّ جوعتها، ويستر عورتها، ولا يُقبّح لها وجهاً"7.
 
من الواضح أنّ مثل هذا الرجل سيحوّل الحياة الأسرية إلى سجن وجحيم، ولن تنعم المرأة والأطفال فيه بالراحة والسكينة والطمأنينة، لأنّ البيت الذي تعيش فيه صفات السبّ 



1 عجمي، سامر، حياتنا الجنسية كيف نعيشها، ص412.
2 الكافي، ج5، 535.
3 تحف العقول، ص322.
4 لبهات : الذي يبهت غيره أي يقذفه بالباطل ويفتري عليه الكذب.
5 المانع رفده: أي عطائه وصلته وعونه.
6 تهذيب الأحكام، ج7، ص400.
7 تهذيب الأحكام، المصدر نفسه، ص457.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
321

263

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 والشتم والضرب والعنف والافتراء والكذب لن يُشكّل إلا بيئة لصناعة شخصية سالبة عند الأطفال.

 
وأسوأ من هذا الرجل شارب الخمر، لأنّ شارب الخمر لا يرتدع عن قبيح، ولذا نهت الروايات عن تزويج شارب الخمر.
 
- لا أتزوّج شارب خمر
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من شرب الخمر بعد ما حرّمها الله على لساني فليس بأهل أن يُزوّج إذا خطب"1.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "من زوّج كريمته من شارب خمر فقد قطع رحمها"2.
 
خاتمة في بيان صفات الزوجين والوالدين الصالحين
هذا كلّه فيما يتعلّق بالمعايير التي ينبغي أن يضعها الإنسان نصب عينيه قبل الإقدام على طلب يد الفتاة للزواج، أو قبل قبول الفتاة بالشاب المتقدّم لخطبتها. وهناك جملة صفات لا بدّ من أن تتوفّر في الزوجة والأم الصالحة في بيت الزوجية، أو الزوج والأب الصالح، ولكون هذه الصفات لا تولد مع المرأة أو الرجل بنحو تلقائيّ كما أشرنا، لا بدّ من أن يعتبر الإنسان الملكات والصفات التي تتلبّس بها المرأة أو الرجل قبل الزواج مؤشّرات وعلامات إلى نمط حياتهما وتصرّفاتهما بعد الزواج، ونعرض هذه الصفات لهدفين: الأول: أن تكون بوصلة موجّهة لحسن اختيار الزوجة / الزوج من جهة، والثاني: أن تكون برنامج عمل للمرأة أو الرجل من أجل أن يكونا زوجين ووالدين صالحين في بيت الأسرة.
 
صفات الزوجة الصالحة
- المرأة تحفظ زوجها في نفسه وماله إن غاب عنها
- عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "ما أفاد عبد فائدة خيراً من زوجة صالحة، إذا رآها سرّته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها ومالها"3.
 
- المرأة ترعى زوجها وتظهر العشق له



1 تهذيب الأحكام، ج7، ص348.
2 م.ن، ص399.
3 م.ن، ص327.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
322

264

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 - عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا غنى بالزوجة فيما بينها وبين زوجها الموافق لها عن ثلاث خِصال:

1- صيانةُ نفسِها عن كلّ دَنَس1، حتى يطمئنّ قلبُه إلى الثقةِ بها في حال المحبوب والمكروه.
 
2- وحياطتُه2، ليكون ذلك عاطفاً عليها عند زَلَّة3 تكون منها.
 
3- وإظهارُ العشقِ له بالخِلابَة4، والهيئة الحسنة لها في عينه"5.
 
- المرأة تطيع زوجها وتسرّه
- عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من القسم المصلح للمرء المسلم أن تكون له امرأة، إذا نظر إليها سرّته، وإن غاب عنها حفظته، وإن أمرها أطاعته"6.
 
- تعاون زوجها على أمر الدين والدنيا والآخرة
- عن الإمام الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهما السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أُعطي أربع خصال في الدنيا، فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة، وفاز بحظّه منهما:... وزوجة صالحة تُعينه على أمر الدنيا والآخرة"7.



1 الدنس هنا: هو الوسخ ونحوه حتى في الأخلاق، في مقابل الطهارة، فيقال مثلاً فلان طاهر، ولا يقصد به الطهارة المادية الجسدية بل الطهارة المعنوية أي ليس بصاحب دنس في الأخلاق، وصيانة النفس هنا بمعنى أن تصون المرأة نفسها عن كل فعل مشين وعمل قبيح يتنافى مع طهارة الحياة الزوجية في أحب بناء إلى الله.
2 وحياطته : الحياطة : الحفظ والرعاية والتعهد، ويقال فلان حاط فلان إذا حفظه وصانه ودافع عنه وعمل على تحقيق مصالحه.
3 زلة : الزلة تأتي بمعنى الخطيئة أي الذنب، وبمعنى الخطأ.
4 الخلابة : يقال خَلَبَتْ المرأةُ قلبَ الرجل أي أخذته، والخِلابة أن تخْلُب المرأة قلب الرجل بالقول اللطيف، فتستطيع المرأة أن تجعل قلب الرجل يميل نحوها بالكلام الحسن اللطيف.
5 تحف العقول، ص356.
6 الكليني، الكافي، ج5، ص327.
7 الطوسي، الأمالي، ص577، مج24، ح1190/4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
323

265

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 - تخدم زوجها وتهتمّ بشؤون المنزل

 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "وأيّما امرأة خدمت زوجها سـبعة أيام، أغلق الله عنها سبعة أبواب النار، وفتح لها ثمانية أبواب الجنّة تدخل من أيّها شاءت"1.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما من امرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلّا كان خيراً لها من عبادة سنة، صيام نهارها وقيام ليلها، ويبني الله لها بكلّ شربة تسقي زوجها مدينة في الجنّة، وغفر لها ستّين خطيئة"2.
 
- تتبرّج وتتزيّن وتتجمّل لزوجها فقط
 
- عن جابر بن عبد الله، قال: كُنّا عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: "إنّ خير نسائكم: الولود، الودود، العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها، الحصان على غيره، التي تسمع قوله، وتُطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما يريدمنها، ولم تبذل كتبذل الرجل"3.
 
- تحسن الطبيخ وصنع الطعام
 
- تحسن الإدارة الاقتصادية للمنزل
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير نسائكم الطيبة الطعام، الطيبة الريح، التي إن أنفقت أنفقت بمعروف، وإن أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك عامل من عمّال الله، وعامل الله لا يخيب"4.
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "خير نسائكم الطيبة الريح، الطيبة الطبيخ، التي إذا أنفقت أنفقت بمعروف، وإذا أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك عامل من عمّال الله، وعامل الله لا يخيب ولا يندم"5.



1 وسائل الشيعة، ج20، ص172.
2 م.ن، الحديث الثالث.
3 الكليني، الكافي، ج5، ص324.
4 م.ن، ص325.
5 م.ن، ص325.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
324

266

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 - الزوجة تُرضي زوجها ولا تُغضبه

 
- عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "خير نسائكم الخمس.
 
قيل: وما الخمس؟
 
قال: الهيّنة، الليّنة، المؤاتية، التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتّى يرضى، وإذا غاب عنها زوجها حفظته في غيبته، فتلك عامل من عمّال الله، وعامل الله لا يخيب"1.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "خير نسائكم: التي إنْ غَضِبَتْ أو أُغضِبتْ، قالت لزوجها: يدي في يدك، لا أكتحل بغمض حتى ترضى عنّي"2.
 
- الزوجة تهتمّ لهموم زوجها
 
- الزوجة تودّع وتستقبل زوجها عند الباب
- جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنّ لي زوجة إذا دخلت تلقّتني، وإذا خرجت شيّعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت لي: ما يهمّك؟! إن كُنتَ تهتمّ لرزقك، فقد تكفّل لك به غيرك، وإن كُنتَ تهتم بأمر آخرتك، فزادك الله همّاً.
 
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لله عمّالاً، وهذه من عمّاله، لها نصف أجر الشهيد"3.
 
- المرأة تحفظ أسرار الزوجية
- عن الإمام الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... أن تُحدّث المرأة المرأة بما تخلو به مع زوجها"4.
 
- المرأة لا ينبغي أن تكون
سيّئة، عاصية، حقوداً، متبرّجة، لا تقبل عذر زوجها، ولا تغفر ذنبه، مستهزئة، شتّامة، مُغضِبة، مؤذية، قليلة الحياء... إلخ.



1 الكليني، الكافي، ج5، ص325.
2 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص389، ح4366.
3 م.ن، ص389.
4 م.ن، ج4، ص6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
325

267

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أغلب الأعداء للمؤمن زوجة السوء"1.

 
- وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أُخبركم بشرار نسائكم: الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم، الحقود، التي لا تتورّع من قبيح، المتبرّجة إذا غاب عنها بعلها، الحصان معه إذا حضر، لا تسمع قوله، ولا تُطيع أمره، وإذا خلا بها بعلها تمنّعت منه كما تمنع الصعبة عند ركوبها، ولا تقبل منه عذراً، ولا تغفر له ذنباً"2.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "وأيّما امرأة هزأت من زوجها لم تزل في لعنة الله وملائكته ورسله أجمعين، حتى إذا نزل بها ملك الموت قال لها: أبشري بالنار، وإذا كان يوم القيامة قيل لها: ادخلي النار مع الداخلين"3.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "شرّ نسائكم الجفة الفرتع الباقوق الفحّاش4"5.
 
- وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل الله صلاتها، ولا حسنة من عملها حتى تُعينه وتُرضيه، وإن صامت الدهر، وقامت، وأعتقت الرقاب، وأنفقت الأموال في سبيل الله، وكانت أول من ترد النار".
 
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: "وعلى الرجل مثل ذلك الوزر"6.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّما امرأة آذت زوجها بلسانها لم يقبل الله عزّ وجلّ منها صرفًا ولا عدلاً ولا حسنةً من عملها حتى تُرضيه، وإن صامت نهارها، وقامت ليلها، وأعتقت الرقاب، وحملت على جياد الخيل في سبيل الله، وكانت في أول من يردالنار. كذلك الرجل إذا كان لها ظالماً"7.
 
- وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "ألا وأيّما امرأة لم تُرفق بزوجها، وحملته على



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص390.
2 م.ن، ص325.
3 م.ن، ص287.
4 الجفة: قليلة الحياء، والفرتع: العابسة، الباقوق: كثيرة الكلام.
5 بحار الأنوار، ج100، ص240.
6 وسائل الشيعة، ج20، ص163.
7 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
326

268

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 ما لا يقدر عليه وما لا يُطيق، لم يقبل الله منها حسنة، وتلقى الله عزّ وجلّ وهو عليها غضبان"1.

 
 
- وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمّه، وسعيدة سعيدة امرأة تُكرم زوجها ولا تُؤذيه وتُطيعه في جميع أحواله"2.
 
صفات الزوج الصالح
أمّا المواصفات التي ينبغي أن تتوفّر في الزوج والأب الصالح فقد عرضتها الروايات ضمن النقاط التالية:
- الرجل يصون زوجته ويحفظها
- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّما المرأة لعبة من اتّخذها فلا يُضيّعها"3.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما المرأة لعبة، فمن اتّخذها فليصنها"4.
 
- الرجل يُكرم زوجته
- عن الإمام علي عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلّا كريم، وما أهانهنّ إلّا لئيم"5.
 
- الرجل يعيش الموافقة والمواءمة مع زوجته
- عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "لا غنى بالزوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته وهي: الموافقة ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها وهواها، وحسن خلقه معها، واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها، وتوسعته عليها".
- الرجل يُسامح زوجته



1 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص16.
2 الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد، ج1، ص63.
3 الكليني، الكافي، ج5، ص510.
4 مكارم الأخلاق، ص 218.
5 الكليني، الكافي، ج 4، ص12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
327

269

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن حقّ الزوج على المرأة، فخبّرها، ثم قالت فما حقّها عليه؟ قال: يكسوها من العري، ويُطعمها من الجوع، وإن أذنبت غفر لها"1.

 
- عن إسحاق بن عمار، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: ما حقّ المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسناً؟
 
قال: "يُشبعها، ويكسوها، وإن جهلت غفر لها".
 
- الزوج يصبر على سوء أخلاق زوجته
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا ومن صبر على خلق امرأة سيّئة الخلق واحتسب في ذلك الأجر أعطاه الله ثواب الشاكرين"2.
 
- الرجل يتّقي الله في زوجته
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "اتّقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة، فإنّ خياركم خياركم لأهله"3.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "اتّقوا الله في الضعيفين - يعني بذلك اليتيم والنساء -"4.
 
- الرجل يُحسن إلى زوجته ويُداريها
 
- في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لولده محمد ابن الحنفية قال: "إنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارها على كلّ حال، وأحسن الصحبة لها ليصفو عيشك"5.



1 تاريخ مدينة دمشق، ج13، ص313.
2 تحف العقول، ص323.
3 الكليني، الكافي، ج5، ص511.
4 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص16.
5 قرب الإسناد، ص92.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
328

270

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 - وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته، فإنّ الله عزّ وجلّ قد ملّكه ناصيتها وجعله القيّم عليها"1.

 
- الرجل يخدم زوجته
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إذا سقى الرجل امرأته الماء أُجِر"2.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إنّ الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى في - أي فم - امرأته"3.
 
- الرجل لا يضرب زوجته أو يضرّ بها
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ومن أضرّ بامرأة حتى تفتدي منه نفسها، لم يرضَ الله تعالى له بعقوبة دون النار، لأنّ الله يغضب للمرأة كما يغضب لليتيم"4.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "فأيّ رجل لطم امرأته لطمة، أمر الله عزّ وجلّ مالك خازن النيران فيلطمه على حُرّ وجهه سبعين لطمة في نار جهنّم"5.
 
- الرجل ينبغي أن يكون كريماً، يُنفق على زوجته ويوسّع على عياله
- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ملعون ملعون من ألقى كَلَّه على الناس، ملعون ملعون من ضيّع من يعول"6.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص392.
2 م.ن، ص556.
3 من لا يحضره الفقيه، ص444.
4 كنز العمال، ج16، ص275، ح44435.
5 المحجة البيضاء، ج3، ص70.
6 ثواب الأعمال، ص 285.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
329

271

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 المفاهيم الرئيسة

- ينبغي لكلّ فتاة أن تنظر إلى أنّ نجاح حياتها الزوجية متوقّف على توفّر بعض الصفات في الشاب أو الرجل الذي تريد أن تتزوّج به، وما لم تكن هذه الصفات متوفّرة عليها أن تُجيب بالرفض على من يتقدّم إليها طالباً يدها.

- قد أوضح بعض الروايات هذه المواصفات، منها: الكفاءة الإيمانية، التديّن، الأمانة، العفة، اليسار، الكرم، الغيرة، حسن الخلق، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".

- ينبغي للمرأة أن لا تختار الإنسان الذي يكون بخيلاً فاحشاً، وسيئ الخلق، فعن الإمام الرضا قال لبعض أصحابه: "لا تزوّجه إن كان سيّئ الخلق"، وكذلك أن لا تتزوج شارب الخمر، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من شرب الخمر بعد ما حرّمهاالله على لساني فليس بأهل أن يُزوّج إذا خطب".

- هناك جملة صفات لا بد من أن تتوفّر في الزوجة والأم الصالحة في بيت الزوجية، ينبغي أن تكون برنامج عمل للمرأة من أجل أن تكون زوجة وأمّاً صالحة في بيت الأسرة، هي: حفظ زوجها في نفسه وماله إذا غاب عنها، إظهار العشق للزوج قولاً وعملاً، النظافة، التبرج والتزين والتجمل للزوج فقط دون غيره، طاعة الزوج، المعاونة لزوجها على أمر دينه ودنياه، خدمة الزوج، الاهتمام بشؤون المنزل، حسن الطبيخ وصناعة الطعام، حسن التدبير والإدارة للموارد الاقتصادية للأسرة، إرضاء الزوج وعدم إغضابه، تودّع زوجها وتستقبله عند باب المنزل، تحفظ أسرار زوجها... إلخ.

- المواصفات التي ينبغي أن تتوفّر في الزوج والأب الصالح عرضتها الروايات ضمن النقاط التالية: الكرم والتوسعة على الزوجة في المعيشة، صيانة الزوجة وحفظها، إكرام الزوجة والإحسان إليها، الموافقة والمواءمة مع الزوجة، مداراة الزوجة، الغفران والمسامحة لها عند الخطأ والجهل، الصبر على سوء خلق الزوجة...
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
330

272

الدرس العشرون: حسن اختيار الأب/ الأم (2)

 أسئلة الدرس

1- صنّف الصفات الواردة في الدرس على أساس أبعاد شخصية الإنسان ونشاطاته الحياتية، أي ما يتعلّق بالجانب البدنيّ والجسديّ، الجانب الذهنيّ والعقليّ، الجانب الوجدانيّ والقلبيّ، الجانب السلوكيّ والمهارات، والجانب البيئيّ-الاجتماعيّ.

2- اذكر عشر صفات تُعتبر معايير لاختيار الشاب كزوج وأب.

2- ما هو دور وتأثير تلك الصفات والمعايير على تربية الطفل في الأسرة؟

3- ما الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الزوج في بيت الأسرة؟ وما هو الدور الذي تلعبه في تربية الطفل؟

4- ما هي الخصائص التي يجب أن تتصف بها الزوجة؟ وكيف تنعكس على هوية الطفل؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
331

273

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أنّ من حقّ الطفل طيب وطهارة المولد عن علاقة شرعية.
2- يعرف الآثار السلبية للزنا في تكوين هوية الطفل.
3- يعرف أنّ من حقّ الطفل تكوّن نطفته من غذاء حلال وكسب حلال.
4- يعرض آداب الحياة الجنسية قبل الجماع المؤثّرة في الطفل، ويبيِّن أدلّة ذلك من النصوص الدينية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
332

274

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 تمهيد

ذكرنا في الدرس الخامس أنّ واحدة من المحطّات التي تقع على طريق تربية الطفل ويكون لها دور في تكوين استعدادات خاصّة وصفات معيّنة في هويّته هي: مرحلة العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. فمراعاة آداب هذه المرحلة أو عدمها ينعكس على هويّة الطفل. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا السياق: "إنّ لمراعاة آداب النكاح والجماع والحمل ورعاية شرائط الرضاع وسلامة مزاج الزوج والزوجة وصفاء روحهما، تأثيراً خاصاً في صفاء النفس (نفس الطفل) وكدرها"1.
 
والعلاقة الجنسية المذكورة على نحوين:
الأول: علاقة شرعية ناشئة من عقد زواج قانونيّ (شرعيّ).
والثاني: علاقة غير شرعية، أي الزنا غالباً.
 
مع الإشارة إلى أنّ الولد قد يتولّد عن غير العلاقة الجنسية كما في بعض حالات التلقيح الصناعيّ.
 
حقّ الطفل في طيب الولادة
وقع البحث بين الفقهاء في أنّه ما هو موضوع الأحكام الشرعية في الأسرة من النفقة والتوارث و...، هل هو الطفل البيولوجيّ الطبيعيّ، أي المتولّد من علاقة جنسية بين الرجل والمرأة بغضّ النظر عن شرعيّتها، أم هو الطفل المتولّد في ظلّ بيت يقوم على علاقة شرعية وغير منفية في نظر الشرع؟ والجواب التفصيليّ عن هذا السؤال له جنبة فقهية تُخرجنا عن



1 لب الأثر في الجبر والقدر، ص115.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
333

275

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 دائرة البحث التربويّ. لكن نُشير باختصار إلى أنّ الفقهاء أجمعوا على وجود أحكام معيّنة منفية تعبّداً عن ابن الزنا في الأسرة، منها: نفي التوارث المتبادل، فلا ولد الزنا يرث أبويه، ولا هما يرثانه... ووقع النقاش بينهم بالنسبة لمسائل أخرى، كوجوب النفقة عليه أو عدمها.

 
وقد ذكرنا في درس الولاية التربوية أنّ الأب بالاصطلاح الشرعيّ هو الذي يتولّد منه الطفل بسبب شرعيّ، وإلّا لم تصدق الأبوّة شرعاً، ولذا ذكر بعض الفقهاء أنّ "الولاية بالقرابة، ثابتة للأب والجد له من النسب شرعاً، فلا ولاية للأب رضاعاً، ولا لمن أولده سفاحاً"1.
 
وبناءً عليه، إنّ من أهمّ وأولى حقوق الطفل على الأب أو الأم أن يكون متولّداً من علاقة جنسية شرعية بين زوجين، أطلقت عليها الروايات لفظ "طيب الولادة"، ويطلق عليها الفقهاء اصطلاح "طهارة المولد"، وهما تعبيران لطيفان للدلالة على المطلوب، لأنّ عدم طيب الولادة يخلق استعداداً خاصّاً معاكساً للطهارة المعنوية في نفس المولود، لما ذكرناه سابقاً من أنّ للخطوات المادّية والروحية والذهنية السابقة على الحمل والمقارنة له دوراً في تكوين استعدادات خاصة إيجاباً أو سلباً، ونشوء الجنين من مادّة ونطفة مزروعة في الرحم بسبب علاقة جنسية محرّمة تنزع روح الإيمان من الزاني حسب التعبير الروائيّ2، بالإضافة إلى الحالات النفسية المرافقة التي تعيشها الأم طيلة فترة الحمل من خوف وقلق واضطرابات ورفض للجنين وكراهة له... إلخ3، يجعل استعداداته الخاصة سلبية، لذا نرى في بعض الروايات التعبير بأنّه من إحدى علامات ولد الزنا أنّه يحنّ إلى الحرام، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "إنّ لولد الزنا علامات... وثانيهما: أنّه يحّن إلى الحرام الذي خُلق منه..."4. وهذا الحنين هو الميل والاستعداد الخاص في كيفية الخلقة الذي تحمله المادة النطفية المقارنة لحالة معنوية شيطانية يتكوّن على إثرها الجنين، ونجده 



1 بحر العلوم، محمد، بلغة الفقيه، مصدر سابق، ص266.
2 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان". الكافي، ج2، ص280. وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إن للقلب أذنين، فإذا هم العبد بذنب، قال له روح الإيمان: لا تفعل، وقال له الشيطان: افعل. وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان". الكافي، ج2، ص267. وهناك العديد من الروايات بهذا المضمون.
3 للتفصيل يراجع: الطفل بين الوراثة والتربية، ج1، ص131-142.
4 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص417.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
334

276

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 تشبيهاً لذلك في كلام عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "واعلم أنّ لكلّ عمل نباتاً.وكلّ نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة. فما طاب سقيه طاب غرسه وحلّت ثمرته، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرّت ثمرته"1.

 
آثار الزنا في الروايات
لذا نرى التشدّد في روايات أهل البيت بالنسبة للآثار والنتائج اللاحقة بولد الزنا2، منها ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا خير في ولد الزنا، ولا في بشره، ولا في شعره، ولا في لحمه، ولا في دمه، ولا في شيء منه"3.
 
هذا، بالإضافة إلى العديد من النتائج السلبية التي تلحق ولد الزنا من الناحية الفقهية بناءً على روايات عديدة، منها: عدم قبول شهادته، عدم صحّة إمامته للصلاة، عدم مشروعيّة تولّيه للقضاء، عدم جواز إعطائه من الزكاة حال صغره4... إلخ.
 
وأحد أسباب وعلل هذا التشدّد الكبير هو ترهيب الناس عن الاقتراب حتّى على مستوى التفكير من هذه الفاحشة الكبيرة، وترغيبهم بإنجاب الأطفال من طريق طاهر طيّب نجيب في حضن بيت الزوجية. وفي هذا السياق، ورد مدح الأم العفيفة الطاهرة، لأنّها هي البيئة التربوية الأولى التي يترعرع الطفل فيها حملاً ورضاعاً وحضانة و...، عن الإمام الصادق عليه السلام في سياق الحديث عن طيب الولادة، قال: "طوبى لمن كانت أمّه عفيفة"5، التي هي أحد معايير الاختيار كما تقدّم في الدرس السابق، فإنّ عفّة الأم أثناء حملها ورضاعها وحضانتها... ستنعكس على عفّة وطهارة الطفل.
 
ونُشير على نحو الجملة المعترضة في هذا السياق، إلى ما قد تفعله بعض النساء حيث تحمل من غير زوجها بفعل الخيانة ثم تلصق الطفل بزوجها، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا أُخبركم بكبر الزنا؟ قالوا: بلى.



1 نهج البلاغة، ج2، ص45.
2 إن موضوع ولد الزنا جدير بالبحث وتسليط الضوء عليه من الناحيتن العقائدية والفقهية، لمعالجة الكثير من الإشكالات التي تطرح حول المسألة. ويراجع حول هذا الموضوع: الصدر، محمد، ما وراء الفقه، ج6، ص 231- 249.
3 الكليني، الكافي، ج5، ص356.
4 تحرير الوسيلة، ج1، ص339.
5 علل الشرائع، ج2، ص564.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
335

277

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 قال:هي امرأة توطئ فراش زوجها، فتأتي بولد من غيره، فتلزمه زوجها، فتلك التي لا يُكلّمها الله، ولا ينظر إليها يوم القيامة، ولا يُزكّيها، ولها عذاب أليم"1. أعاذنا الله تعالى من الفاحشة.

 
وعلى كلّ حال، هذه الاستعدادات السلبية في الطفل المتولّد من الزنا، تُحمّل الوالدين مسؤولية تربوية أكبر وتُلقي على عاتقهما أمانة أخطر، لعلّهما يتداركان المفاعيل السلبية للخطيئة والخطأ، من خلال الاهتمام والرعاية الإيمانية الزائدة، وتنمية الملكات الأخلاقية بنحو أشدّ في نفوس طفلهما، كي يتمكّن ذلك الطفل من مقاومة تلك الاستعدادات السلبية ويُحوّلها من تهديدات إلى فرص، مواجهاً بذلك الأخطار التي قد تعترضه لشقّ طريقه في الحياة نحو السعادة والكمال.
 
الطهارة المعنوية للنطفة
أنبت الله تعالى الإنسان من الأرض إنباتاً، وأنشأه من ترابها، هذا التراب الذي يتحوّل إلى مواد غذائية، وهي تتحوّل إلى نطفة في صلب الرجل2، ثم تمرّ النطفة بعد وضعها في رحم الأم بأطوار عديدة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾3.
 
وكلّما كانت المادّة الحاملة لاستعداد أن تكون جنيناً أطهر وأطيب، كلّما كانت الاستعدادات التي سيتولّد الطفل مزوّداً بها أطهر وأصفى وقابلة للهداية والصلاح بنحو أشدّ. وكلّما كانت النطفة نجسة معنوياً كان الاستعداد أكدر والميل إلى الحرام أوسع. وهذا هو مقتضى قانون التسانخ والتشاكل بين الفاعل والقابل.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا السياق: "إنّ مادة المنيّ الذي هو أثر القوّة المولدة عبارة عن الأغذية، بعد عمل القوى أعمالها وعبورها عن الهضم...، ولكن الأغذية مختلفة 



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص573.
2 يراجع: اليزدي، محمد تقي مصباح، معارف القرآن، ج3، ص30.
3 سورة المؤمنون، الآيات 12-14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
336

278

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 غاية الاختلاف في الصفاء والكدر واللطافة والكثافة وبتبعه يختلف المنيّ... فلو كانت النطفة حصيلة الأغذية اللطيفة، يكون استعدادها لقبول الصور مغايراً لاستعداد النطفة الحاصلة من الأغذية الكثيفة، ومهما تصاعد اختلاف الأغذية تصاعد الاختلاف في المنيّ صفاء وكدراً أيضاً. وقد مضى أنّ الإفاضة حسب قابلية المواد... وهكذا المواد المكوِّنة للنطفة والظروف المحيطة بها لها تأثير في صفاء نفس الإنسان... وذلك لأنّ النفس المفاضة على المادّة المستعدّة النورانية، طاهرة وسعيدة منذ أول أمرها لعدم تدنُّسها من ناحية العوامل المدنِّسة كالآباء والأجداد وغيرهما، ولكن النفس المفاضة على المواد الكثيفة دنسة ونجسة وشقيّة منذ بدوها وأوّل نشوئها لكن لا طهارة النطفة موجبة إلى الخيرات والسعادات، ولا قذارة المادة وكثافتها موجبة لاختيار الشرور والشقاء، بل كلّ يحنّ إلى ما يُناسبه من الخيرات والشرور، ولكن الميل شيء والإلجاء شيء آخر"1.

 
أثر نوع الغذاء على الطفل
وعلى ضوء هذه القاعدة نفهم العلّة من الروايات الكثيرة الواردة في أنّ نطفة سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام انعقدت من ثمر جاء به جبرائيل من الجنّة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، منها: ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا عرج بي إلى السماء أخذ بيديجبرئيل، فأدخلني الجنّة، فناولني من رطبها فأكلته، فتحوّل ذلك نطفة في صلبي، فلّما أُهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، وكلّما اشتقتُ إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي فاطمة"2.
 
وبناءً عليه، ينبغي للأب أن يلتفت إلى أمرين:
الأول: أن يكون نفس الغذاء الذي تتكوّن منه النطفة غذاءً حلالاً طاهراً، فلا يكون ممّا حرّم الله تعالى.
والثاني: أن يكون هذا الغذاء الحلال الطاهر من مال حلال، ومن كسب وعمل طيّب.
 
وعلى الأم أن تتنبّه إلى عدم التغذّي على الحرام طيلة فترة الحمل والرضاع فإنّ لذلك 



1 لب الأثر في الجبر والقدر، ص119.
2 التوحيد، ص118.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
337

279

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 أثره على تكوين هوية الطفل كما سيأتي في الدروس اللاحقة.

 

 
وفي نفس السياق، نُشير إلى أنّ تكوّن النطفة من مواد غذائية معيّنة له دور في تكوين الهوية البدنية للإنسان، وقد تعرّضت الروايات لهذا البعد، كما أشبعت البحوث الطبّية الكلام فيه.
 
وممّا جاء في الروايات: عن الإمام الصادق عليه السلام: "عليك بالهندباء،فإنّه يزيد في الماء ويُحسّن الولد"1.
 
وعن الخراساني - الإمام الرضا عليه السلام -، قال: "أكل الرّمان الحلو يزيد في ماء الرجل ويُحسّن الولد"2.
 
وعن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال: "كسر رسول الله سفرجلة، وأطعم جعفر بن أبي طالب، وقال له: كُلْ، فإنه يصفّي اللون ويُحسّن الولد"3.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من أكل سفرجلة على الريق طاب ماؤه، وحسن ولده"4.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام لمّا نظر إلى غلام جميل، قال: "ينبغي أن يكون أبو هذا الغلام أكل السفرجل"5.
 
آداب المعاشرة الجنسية بين الزوجين
كل سلوك بشريّ، فعلاً كان أم تركاً، وحركة كان أم سكوناً، له موقف تشريعيّ أو آداب معيّنة حدّدها الإسلام كضوابط للسلوك، بنحو يعتبر الالتزام العمليّ بها علامة محدّدة للهوية الإيمانية في الانتماء إلى الإسلام ثقافياً وحضارياً. والجنس سلوك إنسانيّ لا يخرج عن هذه القاعدة العامة.
 
ومن هنا حدّد الإسلام بضع آداب للعلاقة الخاصّة بين الزوجين، وهي على ثلاثة أنواع:
- آداب ما قبل الجماع.
 
- آداب حين الجماع.



1 الكافي، ج6، ص363.
2 م.ن، ص355.
3 المحاسن، ص549.
4 الكافي، ج6، ص357.
5 م.ن، ص22.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
338

280

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 - آداب ما بعد الجماع.

 
- وسنقتصر في الدرس على ذكر الآداب التي لها علاقة مباشرة بتربية الطفل1.
 
آداب ما قبل الجماع
تمرّ العلاقة الخاصّة بين الزوجين بعدّة مراحل، منها مرحلة التهيّؤ والاستعداد بالطهارة الجسدية والنفسية والروحية قبل الجماع، كالوضوء، وذكر الله تعالى، والدعاء، والصلاة، حيث يريد الإسلام من الإنسان أن يعيش الوصال الروحيّ الدائم مع الله تعالى في جميع حالاته، لأنّ هذا الوصال الروحيّ الإيمانيّ بالله تعالى ينعكس ثماراً طيّبة على حياته بكافة ألوانها، ومنها الحياة الجنسية. ولبعض خطوات هذه المرحلة تأثير على تنمية استعدادات خاصة سلباً أو إيجاباً عند الطفل، فبعض الخطوات هي شروط معدّة للسلامة الجسدية والأخلاقية والعقلية للطفل، أو موانع عنها، فذكر الله تعالى والدعاء قبل الجماع مثلاً يحميان الطفل من أن يكون للشيطان فيه شراكة ونصيب،...إلخ، وهذا ما أوضحته الروايات بشكل ظاهر، نذكر منها:
1- الوضوء
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا حملت امرأتك فلا تُجامعها إلا وأنت على وضوء، فإنّه-إن لم تُجامعها على وضوء - إن قضى بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد"2.
 
قال الفاضل الهنديّ: "يُستحبّ الوضوء لأمور... منها: جماع الحامل..."3.
 
إذاً يتأكّد الوضوء فيما إذا أراد الزوج أن يُجامع زوجته الحامل من أجل الولد، وإلّا انعكس ذلك على الطفل بحيث يكون أعمى القلب وبخيل اليد.



1 يراجع حول هذه الآداب بالتفصيل كتاب: عجمي، سامر، حياتنا الجنسية كيف نعيشها؟ وقد استفدنا ما سنعرضه في هذا الدرس من هذا الكتاب، مع الإشارة إلى أننا لن نسلط الضوء في هذا الدرس إلا على خصوص ما توضح الروايات علاقته المباشرة بصناعة شخصية الطفل.
2 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص553.
3 كشف اللثام،ج1، ص124. وراجع الحدائق الناضرة، ج2، ص140.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
339

281

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 2- الغسل بعد الجماع

عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: "الجماع بعد الجماع من غير أن يكون بينهما غسل يورث للولد الجنون"1.
 
الواضح من هذه الرواية وغيرها أنّ من أراد معاودة جماع زوجته عليه أن يغتسل من جنابته حتى يدفع الأثر السلبي عن طفله، فهذا الحكم إرشاد إلى أثر وضعيّ متعلّق بالولد، وليس على سبيل الكراهة الشرعية. قال العلّامة الحلّي: "أمّا تكرير الجماع من غير اغتسال فلا يُكره"2.
 
3- الغسل بعد الاحتلام
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "يُكره أن يغشى الرجل المرأة وقد احتلم حتى يغتسل من احتلامه الذي رأى، فإن فعل وخرج الولد مجنوناً فلا يلومنّ إلا نفسـه"3.
 
فمن استيقظ من نومه وقد أجنب بالاحتلام وأراد مجامعة زوجته فليغتسل من احتلامه قبل المجامعة. يقول العلّامة الحلّي: "ذكر أصحابنا أنّه يُكره للمحتلم الجماع قبل الغسل"4.
 
4- ذكر الله
عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "إذا أتى أحدكم أهله فليذكر الله، فإنَّ من لم يذكر الله عند الجماع وكان منه ولد كان ذلك شرك شيطان..."5.
 
ويتحقّق ذكر الله تعالى بقول بسم الله الرحمن الرحيم أي بالتسمية، فيُمكن الجمع بين التسمية وذكر الله ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان ذكر الله تعالى أعمّ من التسمية فكما يتحقّق بالتسمية يتحقّق بغيرها من أنواع الذكر.



1 جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص201.
2 الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب في تحقيق المذهب، ج2، ص230.
3 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص 404-405.
4 منتهى المطلب، ج2، ص230.
5 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص405.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
340

282

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 5- الدعاء

- عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إذا أراد أحدكم مجامعة زوجته فليقل: (اللهم إنّي استحللت فرجها بأمرك، وقبلتها بأمانتك، فإنْ قضيت لي منها ولداً فاجعله ذكراً سوياً، ولا تجعل للشيطان فيه نصيباً ولا شريكاً)"1.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا جامع أحدكم فليقل: (بسم الله وبالله، اللهم جنّبني الشيطان، وجنّب الشيطان ما رزقتني).
 
قال عليه السلام: فإنْ قضى الله بينهما ولد لا يضرّه الشيطان بشيء أبداً"2.
 
- وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "إذا أردت الجماع فقل: (اللهم ارزقني ولداً، واجعله تقياً زكياً، ليس في خَلْقه زيادة ولا نقصان، واجعل عاقبته إلى خير)"3.
 
- وعن عبد الرحمن بن كثير، قال: كُنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام جالساً فذكر شرك الشيطان، فعظّمه حتّى أفزعني، قُلتُ: جُعلتُ فداك فما المخرج من ذلك؟
 
فقال عليه السلام: "إذا أردت الجماع فقل: (بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو بديع السموات والأرض، اللهم إنْ قضيت منّي في هذه الليلة خليفة فلا تجعل للشيطان فيه شركاً ولا نصيباً ولا حظّاً، واجعله مؤمناً مخلصاً مصفّى من الشيطان ورجزه جلّ ثناؤك)"4.
 
ما هو شرك الشيطان؟
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا﴾5.
 
تُوضح هذه الآية القرآنية الكريمة أنّ الشيطان الرجيم له شراكة مع الإنسان في أولاده وأمواله، فضلاً عن غيرها من شؤون حياته. وهذه الشراكة التي يبنيها الشيطان مع الإنسان



1 الخصال، ص637، ح400.
2 الكليني، الكافي، ج5، ص503.
3 تهذيب الأحكام، ج7، ص411، ح1641.
4 الكليني، الكافي، ج5، ح4.
5 سورة الإسراء، الآية 64.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
341

283

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 ليست اضطرارية قهرية، بل هي في الحقيقة اختيارية واقعة تحت الإرادة الحرّة للإنسان. نعم، قد لا يلتفت الإنسان إلى اختياريّتها نتيجة الغفلة عن الالتزام بالتعاليم الإيمانية التي حدّدها الدين الإسلاميّ كموجّهات للسلوك البشري، فالشيطان هو عدوّ للإنسان، والإنسان مأمور من قِبَل الله تعالى أن يتّخذ الشيطان عدوّاً، وللشيطان أساليب كثيرة في تحقيق تلك الشراكة مع الإنسان فيما يتعلّق بأولاده، واحدة منها الشراكة المتعلّقة بنمط الحياة الجنسية المتولّد منها الطفل، فهل هي حياة جنسية تنطلق من الروحية الإيمانية المشحونة بذكر الله تعالى والاتّصال به وتذكّره، أم من نسيان الله تعالى والغفلة عنه؟ فإن كانت منطلقة من الحالة الأولى فحينها لا سبيل للشيطان لمشاركة الإنسان في أولاده، وإن كانت منطلقة من الحالة الثانية، فإنّ الباب مفتوح أمام الشيطان للدخول إلى ساحة الشراكة مع الإنسان، فالإنسان باختياره يفتح باب الشراكة في وجه الشيطان أو يُغلقه، وذلك من خلال الالتزام أو عدم الالتزام بالتعاليم الدينية، ومن هذا الباب نُفسّر ما ورد في بعض الروايات، منها:

 
عن أبي بصير، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "يا أبا محمد إذا أتيت أهلك فأيّ شيء تقول؟
 
قال: قُلتُ: جُعلتُ فداك وأطيق أن أقول شيئاً؟
 
قال عليه السلام: "بلى، قل: (اللهم بكلماتك استحللت فرجها، وبأمانتك أخذتها، فإنْ قضيت في رحمها شيئاً فاجعله تقياً زكياً، ولا تجعل للشيطان فيه شركاً)".
 
قال: قُلتُ: جُعلتُ فداك ويكون فيه شرك للشيطان؟
 
قال عليه السلام: "نعم، أما تسمع قول الله عزّ وجلّ في كتابه: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ...﴾"1.



1 الكليني، الكافي،ج 4، ح5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
342

284

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ واحدة من المحطّات التي تقع على طريق تربية الطفل ويكون لها دور في تكوين استعدادات خاصة وصفات معيّنة في هويّته هي: مرحلة العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة. فمراعاة آداب هذه المرحلة أو عدمها ينعكس على هويّة الطفل.

- إنّ العلاقة الجنسية المذكورة على نحوين: الأول: علاقة شرعية ناشئة من عقد زواج قانونيّ. والثاني: علاقة غير شرعية، أي الزنا غالباً. ومن أهمّ وأولى حقوق الطفل على الأب أو الأم أن يكون متولّداً من علاقة جنسية شرعية بين زوجين، أطلقت عليها الروايات لفظ "طيب الولادة"، ويُطلق عليها الفقهاء اصطلاح "طهارة المولد".

- أنبت الله تعالى الإنسان من الأرض إنباتاً، وأنشأه من ترابها، الذي يتحوّل إلى مواد غذائية، وهي تتحوّل إلى نطفة في صلب الرجل، ثم تمرّ النطفة بعد وضعها في رحم الأم بأطوار عديدة، وكلّما كانت المادة الحاملة لاستعداد أن تكون جنيناً أطهر وأطيب، كلّما كانت الاستعدادات التي سيتولّد الطفل مزوّداً بها أطهر وأصفى وقابلة للهداية والصلاح بنحو أشدّ، وكلّما كانت النطفة نجسة معنوياً كان الاستعداد أكدر والميل إلى الحرام أوسع، وهذا هو مقتضى قانون التسانخ والتشاكل بين الفاعل والقابل.

- ينبغي على للأب أن يلتفت إلى أمرين: الأول: أن يكون نفس الغذاء الذي تتكوّن منه النطفة غذاءً حلالاً طاهراً، والثاني: أن يكون هذا الغذاء الحلال الطاهر من مال حلال، ومن كسب وعمل طيّب.

- إنّ تكوّن النطفة من موادّ غذائية معيّنة له دور في تكوين الهويّة البدنية للطفل. فعن الإمام الصادق عليه السلام لمّا نظر إلى غلام جميل، قال: "ينبغي أن يكون أبو هذا الغلام أكل السفرجل".

- يُمكن استخراج العديد من آداب المعاشرة الجنسية بين الزوجين ممّا له علاقة بتشكيل هويّة الطفل. وهذه الآداب على أنواع، منها: آداب ما قبل الجماع، وهي: الوضوء، ذكر الله، الدعاء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
343

285

الدرس الحادي والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل (1)

 أسئلة الدرس

1- لماذا اعتبر الإسلام أنّ من أهم حقوق الطفل على والديه طهارة المولد؟

2- هل لطبيعة الغذاء الذي يأكله الأب فتتشكّل منه النطفة التي تقع على صراط تكوين الجنين أي دور بالنسبة للطفل؟

3- هل يلعب بعض الأغذية دوراً في منح الطفل خصائص معيّنة؟ اذكر شاهدين من الروايات على ذلك.

4- ماذا ينبغي للزوجين أن يفعلا قبل المعاشرة الزوجية بما يؤثّر إيجاباً على الطفل؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
344

286

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2)
(آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف الآداب الجنسية عند الجماع المؤثِّرة في تكوين هوية الطفل.
2- يعرض النصوص الروائية الدالة على آداب الحياة الجنسية بين الزوجين.
3- يعرف الأوقات التي يكون للعلاقة الجنسية فيها تأثير على هوية الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
345

287

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 تمهيد

بعد أن انتهينا في الدرس السابق من الحديث عن القسم الأول من آداب الجماع، ندخل في الكلام عن القسم الثاني من آدابه، وهي الآداب التي ينبغي التقيّد بها حين الجماع وأثناء العملية الجنسية لما لها من دور خاص أيضاً في رسم بعض ملامح شخصية الطفل.
 
آداب حين الجماع
وهذه الآداب هي:
1- المجامعة بقلب ساكن وعروق هادئة
عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "من سعادة المرء المسلم أن يُشبهه ولده"1. إنّ الإنسان عندما ينظر إلى طفله ويرى فيه شبهه يشعر بسعادة لا توصف، بل أن يكون الولد شبيهاً لوالده من نعم الله تعالى على الإنسان، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "من نعمة الله على الرجل أن يُشبهه ولده"2
 
والوصول إلى هذه النتيجة على ما يُفيده بعض الروايات يُمكن أن يقع تحت اختيار الإنسان، وذلك بأن يُقدم على حالة المجامعة لزوجته بقلب ساكن مطمئن وحالة جسدية غير مضطربة 
وقلقة.
 
عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، قال: "وأمّا ما ذكرت من أمر المولود الذي يُشبه أعمامه وأخواله فإنّ الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن وعروق هادئة وبدن غير مضطرب فاستكنّت تلك النطفة في جوف الرحم خرج الولد يُشبه أباه وأمّه،وإنْ هو أتاها بقلب غير ساكن وعروق غير هادئة وبدن مضطرّب اضطربت النطفة فوقعت حال



1 قرب الإسناد، ص77.
2 الكليني، الكافي، ج6، ص4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
347

288

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 اضطرابها على بعض العروق فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه، وإن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولدأخواله..."1.

 
2- الكلام عند الجماع
إنّ الكلام اللطيف الشاعريّ الجميل بين الزوجين من المقدّمات التحضيرية للعملية الجنسية، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا يقعنّ أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة، ليكن بينهما رسول. قيل: وما الرسول؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: القبلة والكلام"2.

 
هذا، ولكن عند التقاء الختانين ينبغي للزوجين عدم الإكثار من الكلام، وعليهما أن يقلّا الكلام، بل من الأفضل في هذه الحالة بالتحديد عند إرادة الولد أن لا يتكلّما أصلاً كما يظهر ذلك جلياً من الروايات، وهذا الإرشاد إلى عدم الكلام له علاقة بالطفل، حيث إنّ الكلام عند الجماع يورث الخرس في الطفل.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تتكلّم عند الجماع كثيراً، فإنّه إن قضى بينكما ولد لا يؤمن أن يكون أخرس"3.
 
- وعن الإمام الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: "... ونهى- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُكثر الكلام عند المجامعة. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: يكون منه خرس الولد"4.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: حدّثني أبي، عن جدّي، عن آبائه عليهم السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام علّم أصحابه في مجلس واحد أربع مائة باب ممّا يصلح للمسلم في دينه ودنياه... وممّا قاله عليه السلام: "إذا أتى أحدكم زوجته فليقلّ الكلام فإنّ الكلام عند ذلك يورث الخرس"5.



1 عيون أخبار الرضا، ج1، ص69.
2 الكاشاني، الفيض، المحجة البيضاء، ج3، ص110.
3 علل الشرائع، ج2، ص 515، الباب 789، علل نوادر النكاح، ح5.
4 الأمالي، الصدوق، ص 510.
5 الخصال، حديث أربعمائة، ص 637.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
348

289

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 - وعن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تبارك وتعالى كره لكم-أيتها الأمة- أربعاً وعشرين خصلة ونهاكم عنها:... وكره الكلام عند الجماع. وقال: يورث الخرس"1.

 
- وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: "اتّقوا الكلام عند التقاء الختانين، فإنّه يورث الخرس"2.
 
3- النظر إلى فرج الزوجة عند الجماع
من الطبيعي في سياق العلاقة الخاصة أن ينظر كلٌّ من الزوجين إلى جميع أعضاء بدن الآخر، ومنها الأعضاء الجنسية، وهذا الفعل من الأمور الجائزة في التشريع الإسلاميّ، عن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: أينظر الرجل إلى فرج امرأته وهو يُجامعها؟ فقال الصادق عليه السلام: "لا بأس"3.
 
قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "يجوز لكلٍّ من الزوجين النظر إلى عورة الآخر"4. ولكن، رغم حلّية هذا العمل، ذهب مشهور الفقهاء استناداً إلى بعض الروايات إلى كراهة النظر إلى فرج المرأة أثناء الجماع، فالنظر عندهم إلى فرج المرأة حين الجماع جائز مكروه. قال ابن فهد الحلّي: "المشهور بين علمائنا كراهية النظر إلى الفرج حالة الجماع"5.
 
- وعن سماعة، قال: سألته6 عن الرجل ينظر في فرج المرأة وهو يُجامعها؟ قال عليه السلام: "لا بأس به، إلا أنه يُورث العمى في الولد"7.



1 الأمالي، الصدوق، ص378.
2 الكليني، الكافي، ج5، ص498.
3 م.ن، ص497.
4 زبدة الأحكام، ص8.
5 المهذب البارع، ج3، ص307.
6 سألته: ضمير الهاء يعود على الإمام عليه السلام، أي سألت الإمام، والإمام هو إما جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أو ولده موسى الكاظم عليه السلام، وذلك لأن سماعة هو سَمَاعة بن مِهْران الذي يروي عن الإمام الصادق والإمام الكاظم عليهما السلام.
7 تهذيب الأحكام، ج7، ص414.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
349

 


290

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 نُلاحظ أنّ الروايات كرهت النظر إلى فرج المرأة بسبب أثر تكوينيّ من حيث إنّه يورث العمى في الولد.

 
وأيضاً من الآداب التي ينبغي مراعاتها حين الجماع لما لها من دور خاص في تربية الطفل:
4- عدم الجماع من قيام
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا تُجامع امرأتك من قيام، فإنّ ذلك من فعل الحمير، وإن قضى بينكما ولد كان بوّالاً في الفراش كالحمير تبول في كلّ مكان"1.
 
5- عدم المجامعة بشهوة امرأة أخرى
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تُجامع امرأتك بشهوة امرأة غيرك، فإنّي أخشى إن قضى بينكما ولد أن يكون مخنّثاً مؤنّثاً مُخَبَّلاً2"3.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا تُجامع أهلك على شهوة أختها، فإن قضى بينكما ولد يكون عشاراً4 أو عوناً للظالم، ويكون هلاك فئام5 من الناس على يديه"6.
 
6- عدم المجامعة تحت شجرة مثمرة
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا تُجامع امرأتك تحت شجرة مثمرة، فإنّه إن قضى بينكما ولد يكون جلّاداً أو قتّالاً أو عريفاً"7.
 
7- عدم المجامعة في وجه الشمس
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا تُجامع امرأتك في وجه الشمس وشعاعها8، إلا أن يرخى ستر فيستركما، فإنّه إن قضى بينكما ولد لا يزال في بؤس وفقر حتى يموت"9.



1 من لا يحضره الفقيه، كتاب الطلاق، باب النوادر، ح4901.
2 مخبلاً: إما من الخَبْل: فساد في القوائم والأطراف حتى لا يدري كيف يمشي. وإما من الخَبَل: بمعنى الجنون.
3 من لا يحضره الفقيه، م. س.
4 عشّاراً: العشّار هو قابض العُشْر، أي الذي يأخذ عشر أموال الناس غصباً، مثل أن يقوم بقطع الطريق على الناس فيأخذ من أموالهم مقدار العشر مقابل أن يتركهم وشأنهم.
5 فِئام: الفئام من الناس هو الجماعة الكثيرة.
6 علل الشرائع، ب289، ح5.
7 من لا يحضره الفقيه، كتاب الطلاق باب النوادر، ح4901.
8 في الاختصاص، للشيخ المفيد، ص133: "في وجه الشمس وتلألئها" أي إشراقها واستنارتها ولمعانها.
9 من لا يحضره الفقيه، م.س.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
350

291

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 مواقيت المعاشرة الجنسية المؤثّرة في هويّة الطفل

لا ريب في أنّ العلاقة الخاصّة بين الزوجين ظرفها زمن استدعاء الرغبة والشوق، ولكن مع ذلك هناك بعض الأوقات التي حدّدتها الشريعة كظرف لا ينبغي الجماع فيه، - سواء أكان بلحاظ نفس الوقت أو بلحاظ ما يُقارن الزمن من خصوصيات- وهذا الظرف على نحوين:
1- أوقات يحرم جماع الزوجة فيها.
2- أوقات يكره مجامعة الزوجة فيها.
 
ولكلٍّ من الظرفين تأثير خاصّ على تربية الطفل كما تُفيده الروايات بشكل واضح.
 
حرمة مجامعة المرأة الحائض وأثر ذلك على الطفل
من الأوقات التي اعتبرتها الشريعة ظرفاً يحرم فيه مجامعة المرأة بلحاظ الفعل، هو أن تكون المرأة في العادة الشهرية، وفضلاً عن حرمة هذا الفعل له تأثير خاصّ على الطفل.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "من جامع امرأته وهي حائض فخرج الولد مجذوماً أو أبرص فلا يلومنّ إلا نفسه"1.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال لأمير المؤمنين عليه السلام: "يا عليّ، وكره الله عزّ وجلّ لأمّتي... وكره2 أن يغشى الرجل امرأته وهي حائض فإن فعل وخرج الولد مجذوماً أو به برص فلا يلومنّ إلا نفسه3"4.
 
- وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال لعذافر الصيرفيّ: "ترى هؤلاء المشوّهين خلقهم؟
 
قُلتُ - أي عذافر -: نعم.



1 من لا يحضره الفقيه، ج1، ص96.
2 كره: في المقام بمعنى حرم. يراجع: المباني في شرح العروة الوثقى، كتاب النكاح، موسوعة الإمام الخوئي، ج1، ص261.
3 فهذه الرواية والتي تليها تتحدث عن الآثار الوضعية التكوينية لمن يأتي زوجته في الحيض، فالحفاظ على الصحة النفسية والجسدية لأطفالنا تقتضي التقيد بالأحكام الشرعية لأنه لا يترتب عليها فقط أثر شرعي أو عقاب أخروي بل أثر تكويني أيضاً.
4 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص357.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
351

292

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 قال عليه السلام: "هؤلاء الذين أباؤهم يأتون نساءهم في الطمث"1.

 
يتّضح في المحصّلة، أنّ لنمط الحياة الجنسية بين الزوجين دوراً ما في تشكيل هويّة الطفل بمواصفات خاصة.
 
أوقات كراهة مجامعة الزوج لزوجته
ما تقدّم الحديث عنه في الفقرة السابقة عن الحرمة لم يكن بلحاظ نفس الوقت بل باعتبار ما يُقارنه من العادة الشهرية، وهناك أوقات يُكره مجامعة الزوجة فيها مع ما له من دور في تربية الطفل، وهي إمّا بلحاظ نفس الزمن، أو بلحاظ ما يُقارنه من الأفعال والخصوصيات كالسفر وغيره.
 
جدول الأوقات المستحبّة للجماع2

أوقات مختلفة

البرج

اليوم

الليلة

الشهر

آخر الليل

القمر في برج الحمل

يوم الخميس خصوصاً عند زوال الشمس

ليلة الاثنين

تشرين1

 

الدلو

يوم الجمعة خصوصاً بعد العصر

ليلة الثلثاء

كانون2

 

الثور

 

ليلة الخميس

شباط

 

الثور

 

أول ليلة من شهر رمضان

 

 

الثور

 

ليلة الجمعة خصوصاً بعد العشاء الآخرة

 

 

جدول الأوقات المكروهة للجماع

 

 

أوقات مختلفة

اليوم

الليلة

الشهر

بعد الظهر من كل يوم

أول كل شهر هجري

ليلة الفطر

آب

بين الأذان والإقامة

وسط كل شهر هجري

ليلة الأضحى

تشرين2

 

 



1 الكليني، الكافي، ج5، ص539.
2 ننبه الأستاذ والطالب إلى أن الترتيب في الجدول غير مرتبط بعضه بالبعض الآخر، بمعنى أن الليلة في المربع الأول مثلاً التي هي ليلة الأثنين غير معطوفة على شهر تشرين الأول، وكذا اليوم وغيره، بل المقصود كل ليلة اثنين من أي شهر كان... إلخ. ويراجع حول روايات الجدول: حياتنا الجنسية كيف نعيشها، مصدر سابق، ص483 وما بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
352

293

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 

أوقات مختلفة

اليوم

الليلة

الشهر

أول ساعة من الليل

آخر كل شهر هجري

ليلة النصف من شعبان

 

ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس

يوم كسوف الشمس

ليلة الخروج في سفر

 

من مغيب الشمس إلى مغيب الشفق

يوم يكون فيه الزلزلة

ليلة انخساف القمر

 

حين تصفر الشمس

النصف من الشهر الهجري

الليلة التي فيها الريح السوداء، والحمراء، والصفراء

 

حين تطلع الشمس وهي صفراء

 

الليلة التي يكون فيها زلزلة

 

الخروج في سفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن

 

ليلة النصف من الشهر الهجري

 

 

 

آخر ثلاث ليالٍ من الشهر الهجري

 

 

 

أول ليلة من الهلال
(إلا في شهر رمضان)

 

 

 

ليلة الأربعاء (للدخلة)

 

 

 

ليلة القدوم من السفر

 

النصوص الروائية الدالّة على الأوقات المكروهة

- عن أبي سعيد الخدريّ قال: أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال:...
 
"يا عليّ، لا تُجامع امرأتك في أول الشهر، ووسطه، وآخره، فإنّ الجنون والجُذام1 والخَبْل يُسرع إليها وإلى ولدها.
 
"يا عليّ، لا تُجامع امرأتك بعد الظهر، فإنّه إن قَضَى بينكما ولد في ذلك الوقت يكون أحول، والشيطان يفرح بالحول في الإنسان...
 
"يا عليّ، لا تُجامع امرأتك في ليلة الفطر، فإنّه إن قضى بينكما ولد لم يكن ذلك الولد إلّا كثير الشرّ.



1 الجُذَام: مرض جلدي كريه، يؤدي إلى تناثر اللحم وتساقطه من شدة التقيح. وأصله من الجَذْم أي القطع.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
353

294

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 "يا عليّ، لا تُجامع امرأتك في ليلة الأضحى، فإنّه إن قضى بينكما ولد يكون ذا ستة أصابع أو أربعة..."

 
يا عليّ، لا تُجامع امرأتك بين الأذان والإقامة، فإنّه إن قضى بينكما ولد يكون حريصاً على إهراق الدماء...
 
"يا عليّ، لا تُجامع أهلك في ليلة النصف من شعبان، فإنّه إن قضى بينكما ولد يكون مشوّهاً ذا شامة1 في شعره ووجهه.
 
"يا عليّ، لا تُجامع أهلك في آخر الشهر إذا بقي منه يومان، فإنّه إن قضى بينكما ولد يكون عَشَّاراً، أو عوناً للظالم، ويكون هلاك فِئام2 من الناس على يديه...
 
"يا عليّ، إذا خرجت في سفر فلا تُجامع أهلك تلك الليلة، فإنّه إن قضى بينكما ولد ينفق ماله في غير حق. وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾3.
 
"يا عليّ، لا تُجامع أهلك إذا خرجت إلى سفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليهنّ، فإنّه إن قضى بينكما ولد يكون عوناً لكلّ ظالم.
 
"يا عليّ، وعليك بالجماع ليلة الاثنين، فإنّه إن قضى بينكما ولد يكون حافظاً لكتاب الله، راضياً بما قسم الله عزّ وجلّ له.
 
"يا علي، إنْ جامعت أهلك في ليلة الثلاثاء فقضى بينكما ولد فإنّه يُرزق الشهادة بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يُعذّبه الله مع المشركين، ويكون طيّب النكهة من الفم، رحيم القلب، سخيّ اليد، طاهر اللسان من الغيبة والكذب والبُهْتان4.
 
"يا عليّ، وإنْ جامعت أهلك ليلة الخميس فقضى بينكما ولد يكون حاكماً من الحكّام أو عالماً من العلماء.
 
"يا عليّ، وإنْ جامعتها يوم الخميس عند زوال الشمس عن كبد السماء فقضى بينكما ولد فإنّ الشيطان لا يقربه حتّى يشيب ويكون فهماً، ويرزقه الله عزّ وجلّ السلامة في الدين والدنيا.



1 شامة: علامة في البدن وأثر أسود في الجسم.
2 الفئام من الناس: الجماعة الكثيرة.
3 سورة الإسراء، الآية 27.
4  البهتان: هو القول في الشخص بما ليس فيه، فهو التجني والافتراء على الإنسان البريء واتهامه بما لم يفعله كاتهامه بالكذب أو الغش أو سوء الخلق أو السرقة إلخ. في مقابل الغيبة التي هي القول في الشخص بما هو فيه من عيب قد ستره الله عزّ وجلّ عليه. عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه... والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه". الكليني، الكافي، ج2، باب الغيبة والبهت، ح7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
354

295

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 "يا عليّ، وإنْ جامعتها ليلة الجمعة وكان بينكما ولد فإنّه يكون خطيباً (قوالاً) مفوّهاً.

"وإنْ جامعتها يوم الجمعة بعد العصر فقضى بينكما ولد فإنّه يكون معروفاً، مشهوراً، عالماً.
"وإنْ جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة فإنّه يُرتجى أن يكون لك ولد من الأبدال1 إن شاء الله تعالى.
"يا عليّ، لا تُجامع أهلك في أول ساعة من الليل، فإنّه إنْ قضى بينكما ولد لا يؤمن أن يكون ساحراً مؤثراً للدنيا على الآخرة.
 
"يا عليّ، احفظ وصيّتي هذه كما حفظتها عن أخي جبريل"2.
 
- وعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليتَوَقَّ أوّل الأهلّة، وأنصاف الشهور، فإنّ الشيطان يطلب الولد في هذين الوقتين، والشياطين يطلبون الشرك فيهما فيجيئون ويحبلون"3.
 
- وسُئِل الإمام الباقر عليه السلام: هل يكره الجماع في وقت من الأوقات وإن كان حلالاً؟
 
قال عليه السلام: "نعم، ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
 
ومن مغيب الشمس إلى مغيب الشفق.
 
وفي اليوم الذي تنكسف فيه الشمس.
 
وفي الليلة التي ينخسف فيها القمر.
 
وفي الليلة وفي اليوم اللذين يكون فيهما الريح السوداء، والريح الحمراء، والريح الصفراء.
 
واليوم والليلة اللذين يكون فيهما الزلزلة.
 
ولقد بات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند بعض أزواجه في ليلة انكسف فيها القمر فلم يكن منه في تلك الليلة ما كان يكون منه في غيرها حتّى أصبح.
 
فقالت له: يا رسول الله، أَلِبُغْضٍ كان منك في هذه الليلة؟



1 الأبدال: "قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر". مجمع البحرين، ج1، ص165.
2 من لا يحضره الفقيه، ح 4899. والأمالي، الصدوق، ص663. وعلل الشرائع، ج2، ص515.
3 الخصال، ص637.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
355

296

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا، ولكن هذه الآية ظهرت في هذه الليلة فكرهت أن أتلذّذ وألهو فيها، وقد عيّر الله أقواماً فقال عزّ وجلّ في كتابه: ﴿وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ﴾1.

 
ثم قال أبو جعفر عليه السلام: وأيم الله2، لا يُجامع أحد في هذه الأوقات التي نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها وقد انتهى إليه الخبر فيُرزق ولداً فيرى في ولده ذلك ما يحبّ"3.
 
- وسُئل ولده الإمام أبي عبد الله عليه السلام: أيكره الجماع في ساعة من الساعات؟
 
فقال عليه السلام: "نعم، يُكره في الليلة التي ينكسف فيها القمر.
 
واليوم الذي تنكسف فيه الشمس.
وفيما بين غروب الشمس إلى أن يغيب الشفق.
ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
وفي الريح السوداء والحمراء والصفراء، والزلزلة.
 
ولقد بات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند بعض النساء فانكسف القمر في تلك الليلة، فلم يكن منه فيها شيء.
 
فقالت له زوجته: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي كلّ هذا ألبغض؟
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك هذا الحادث في السماء، فكرهت أن أتلذّذ فأدخل في شيء ولقد عَيّرَ الله قوماً فقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾.
 
وأيم الله لا يُجامع في هذه الساعات التي وَصَفْتُ فيُرزَق من جِماعهِ ولداً وقد سمع بهذا الحديث فيرى ما يُحبُّ"4.
 
- وعن عبد الرحمن بن سالم قال: قُلتُ لأبي جعفر عليه السلام: لم تكرهون الجماع عند مستهلّ الهلال وفي النصف من الشهر؟



1 سورة الطور، الآيتان 44-45.
2 وأيم الله: نوع من القسم بالله عزّ وجلّ. أصل وأيم: وأيمن الله كلمة موضوعة للقسم، وهو من اليمين الذي هو القسم، فإذا لقيته الألف واللام سقطت النون، أما إذا لم تلقه الألف واللام فلا تسقط النون فتقول: وأيمن ربك.
3 الكليني، الكافي، ج5، ص498.
4  تهذيب الأحكام، ج7، ص411، ح1642.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
356

297

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 قال عليه السلام: "لأنّ المصروع أكثر ما يُصرع في هذين الوقتين.

 
قُلتُ: قد عرفت مستهلّ الهلال، فما بال النصف من الشهر؟
 
قال عليه السلام: "إنّ الهلال يتحوّل من حالة إلى حالة يأخذ في النقصان، فإنْ فعل ذلك ثم رُزق ولداً كان مقلّاً فقيراً ضئيلاً مُمْتَحَناً"1.
 
- وعن ولده الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا تُجامع في أوّل الشهر، ولا في وسطه، ولا في آخره، فإنه من فعل ذلك فليسلم لسقط الولد، فإن أتمّ أوشك أن يكون مجنوناً، ألا ترى أنّ المجنون أكثر ما يصرع في أول الشهر ووسطه وآخره؟"2.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إيّاك والجماع في الليلة التي يهلّ فيها الهلال، فإنّك إن فعلت ثم رُزقت ولداً كان مخبوطاً"3.



1 ابنا بسطام النيسابوريان، أبو عتاب عبد الله بن سابور الزيات والحسين، طب الأئمة، ص132.
2 من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ح4408.
3 طب الأئمة، ص131.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
357

298

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 المفاهيم الرئيسة

- يُمكن استخراج العديد من آداب المعاشرة الجنسية بين الزوجين ممّا له علاقة بتشكيل هويّة الطفل. وهذه الآداب على أنواع، منها ما تقدّم في الدرس السابق: آداب ما قبل الجماع، وهي: الوضوء، ذكر الله، الدعاء، أمّا الآداب التي ينبغي التقيّد بها حين الجماع فهي: عدم الجماع عند الاختضاب، المجامعة بقلب ساكن وعروق هادئة، عدم الجماع من قيام، عدم المجامعة بشهوة امرأة أخرى، عدم المجامعة تحت شجرة مثمرة أو في وجه الشمس أو على سقوف البنيان، وعدم الكلام عند الجماع...

- إنّ الكلام اللطيف الشاعريّ الجميل بين الزوجين من المقدّمات التحضيرية للعملية الجنسية، ولكن عند التقاء الختانين ينبغي للزوجين اتّقاء الكلام وعدم الإكثار منه، لما له من دور سلبيّ على شخصية الطفل، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تتكلّم عندالجماع كثيراً، فإنه إن قضى بينكما ولد لا يؤمن أن يكون أخرس".

- من الطبيعيّ في سياق العلاقة الخاصة أن ينظر كلٌّ من الزوجين إلى جميع أعضاء بدن الآخر، ومنها الأعضاء الجنسية، وهذا الفعل من الأمور الجائزة في التشريع الإسلاميّ، ولكن، 
رغم حلّية هذا العمل، ذهب مشهور الفقهاء إلى كراهة النظر إلى فرج المرأة أثناء الجماع، لما له من دور سلبيّ على تكوين الطفل، فعن الإمام عليه السلام: "أنه يُورث العمى في الولد".

- العلاقة الخاصّة بين الزوجين ظرفها زمن استدعاء الرغبة والشوق، ولكن مع ذلك هناك بعض الأوقات التي حدّدتها الشريعة كظرف لا ينبغي الجماع فيه،-سواء أكان بلحاظ نفس الوقت أو بلحاظ ما يُقارن الزمن من خصوصيات- وهذا الظرف على نحوين: أوقات يحرم جماع الزوجة فيها، وأوقات يكره مجامعة الزوجة فيها. ولكلٍّ من الظرفين تأثير خاصّ على تربية الطفل كما تُفيده الروايات بشكل واضح.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
358

299

الدرس الثاني والعشرون: تأثير العلاقة الجنسية على هوية الطفل(2) (آداب العلاقة الجنسية حين الجماع)

 أسئلة الدرس

1- ما هي الآداب التي ينبغي أن يتحلّى بها الزوجان أثناء المعاشرة الزوجية؟ وكيف تؤثّر هذه الآداب على بناء شخصية الطفل؟ اعرض دليلين نقليين.

2- لماذا حذّرت النصوص الروائية الزوجين من الكلام أثناء المعاشرة الجنسية؟

3- هل لأوقات المعاشرة الزوجية أيّ تأثير على الطفل؟ اشرح ذلك من خلال عرض بعض الأدلة الروائية.

4- كيف تؤثّر العلاقة الجنسية بين الزوجين أثناء العادة الشهرية على هوية الطفل؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
359

300

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

 
1- يُدرك أنّ المرحلة الجنينية لها تأثيرها المباشر على تشكيل هويّة الطفل.
2- يعتقد بحقّ الجنين في الحياة.
3- يُدرك لزوم العمل على تأمين البيئة الداخلية والخارجية للنموّ الصالح والسليم للجنين.
4- يعرف تأثير المصادر الغذائية للأم على نموّ الجنين، ويعرض أدلّة ذلك من النصوص الدينية.
2- يعتقد بحقّ الجنين في الحياة.
3- يُدرك لزوم العمل على تأمين البيئة الداخلية والخارجية للنموّ الصالح والسليم للجنين.
4- يعرف تأثير المصادر الغذائية للأم على نموّ الجنين، ويعرض أدلّة ذلك من النصوص الدينية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
361

301

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 تمهيد

يقول تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾1، ويقول تعالى: ﴿إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾2. إنّ رحم الأم هو البيئة الأولى التي يبدأ فيها الطفل بشقّ طريقه نحو نور الحياة، حيث يقضي في بطن أمّه تسعة أشهر (40 أسبوعاً / 280 يوماً)، تكون فيها وعاء يتغذّى منه3، تعيش فيها الأم لذّة ممزوجة بألم، وسعادة مخلوطة بالمشقّة والثقل والجهد والعناء والتعب، يقول تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾4, ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾5، ومع أنّ شكر الوالدين كليهما وطاعتهما وبرّهما واجبة، إلا أنّ هذه الآلام والمشقّات التي تمرّ فيها الأم في فترة الحمل والوضع والرضاع والحضانة و...، هي التي جعلت لها الأحقية على الأب في البرّ6.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: يا رسول الله ما حقّ الوالد؟ قال: "أن تُطيعه ما عاش". قيل: وما حقّ الوالدة؟ فقال: "هيهات هيهات، لو أنّه عدد رمل عالج، وقطر المطر أيام الدنيا، قام بين يديها، ما عدل ذلك يوم حملته في بطنها"7.



1 سورة الزمر، الآية 6.
2 سورة النجم، الآية 32.
3 يراجع: مستدرك الوسائل، ج15، ص180، ح17932.
4 سورة الأحقاف، الآية 15.
5 سورة لقمان، الآية 14.
6 يراجع: الكافي، ج2، ص162. ويراجع: الصدوق، الأمالي، ص602. ومشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص278.
7 عوالي اللألي، ج1، ص269.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
363

302

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 لعل هذه الرواية وغيرها1 تكون منبِّهاً للوالدين إلى وجوب برّهما بوالديهما، لما لذلك من انعكاس على تربية الطفل وبرّ أولادهما بهما، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "برّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم"2.

 
ومن أهمّ خصائص التربية أن يُعين الأهل أولادهم على برّهم، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله من أعان ولده على برّه"3.
 
مراحل الجنين في القرآن الكريم
قال عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾4.
 
تفيد الآية الكريمة أنّ مراحل الحمل أو حالات الجنين في الرحم هي:
1- طور النطفة.
2- العلقة.
3- المضغة.
4- العظام.
5- كسو العظام لحماً.
6- إنشاؤه خلقاً آخر. (ولوج الروح فيهـ).
 
ومن الواضح أنّ القرآن لم يوقّت كلّ مرحلة من هذه المراحل المترتّبة بوقت معيّن، ولكن أشار بعض الروايات إلى ذلك5.



1 ويراجع رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام، حق الأم: من لا يحضره الفقيه، ج2، ص622. والأمالي، ص454.
2 الكافي، ج5، ص554.
3 تهذيب الأحكام، ج8، ص113.
4 سورة المؤمنون، الآيات 12-14.
5 يراجع ما روي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، الكافي، ج6، ص15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
364

303

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 حقّ الجنين في الحياة

إنّ أهمّ حقّ من حقوق الجنين في رحم أمّه على الإطلاق هو حقّه في الحياة وحفظ بقائه، من خلال:
أولاً: عدم الإجهاض العمديّ، أو فعل ما يؤدّي إلى الإجهاض.
وثانياً: تهيئة كلّ عوامل جعل الجنين قادراً على النموّ السليم، وعدم حرمانه من أسباب ذلك.
 
حرمة الإجهاض
ممّا يؤسف له، أنه شاعت في عصرنا الحاضر ظاهرة إسقاط الأجنّة أو ما يُعرف بـ: "الإجهاض". ورغم قدم مسألة إسقاط الجنين إلا أنّها تنشّطت وزادت في هذا العصر لأسباب ومبرّرات وعوامل مساعدة عديدة ذُكرت في محلّها. والبحث عن الإجهاض له دائرة فقهية واسعة خارجة عن مباحث الكتاب1، نتعرّض له بشكل مختصر جدّاً في عدّة نقاط إجمالية:
- تعريف الإجهاض، هو عبارة عن "إلقاء حمل ناقص الخلق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها"2. أي سواء قامت المرأة الحامل بإجهاض نفسها عبر تناول دواء معيّن، أو قام غيرها كالطبيب مثلاً بذلك عبر عملية معيّنة.
 
- الحكم التكليفيّ للإجهاض هو الحرمة، فلا يجوز إجهاض الجنين مطلقاً في أيّ مرحلة من المراحل التي ذكرناها سابقاً، حتّى لو كان نطفة مستقرّة في الرحم، أو حتّى لو كان الحمل من علاقة غير مشروعة. يقول الإمام الخامنئي دام ظله: "لا يجوز إسقاط النطفة بعد استقرارها في الرحم، ولا إسقاط الجنين في شيء من مراحله اللاحقة"3. وهذا التحريم للإجهاض هو احترام ما بعده احترام لحقّ الإنسان في الحياة في أول مراتب نشوئه4.



1 يراجع: السبزواري، عبد الأعلى، مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، ج29، الفصل الثامن، ص319 وما بعد. والمحسني، محمد آصف، الفقه والمسائل الطبية، ص28 وما بعد.
2 المحسني، محمد آصف، الفقه والمسائل الطبية، ص58.
3 يراجع: أجوبة الاستفتاءات، ج2، فصل إسقاط الجنين. والاقتباس من: ص66، مسألة: 183.
4 بحوث في الفقه المعاصر، ج6، ص392.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
365

304

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 عن إسحاق بن عمار، قال: قُلتُ لأبي الحسن عليه السلام: المرأة تخاف الحبل، فتشرب الدواء، فتلقي ما في بطنها.

 
قال عليه السلام:"لا".
 
فقلتُ: إنّما هو نطفة.
 
فقال عليه السلام: "إنّ أول ما يخلق نطفة"1.
 
- الحكم الوضعيّ لإجهاض الجنين هو وجوب دفع الدية، حسب المرحلة العمرية للجنين. عن الإمام الصادق عليه السلام: "في النطفة عشرون ديناراً، وفي العلقة أربعون ديناراً، وفي المضغة ستون ديناراً، وفي العظم ثمانون ديناراً، فإذا كسي اللحم فمائةدينار، ثمَّ هي ديته حتّى يستهلّ، فإذا استهلّ فالدية كاملة"2.
 
حقّ الجنين في البيئة الداخلية والخارجية الصالحة والسليمة
الأم هي البيئة التربوية الأولى التي تبدأ فيها معالم هويّة الجنين بالتشكّل إمّا نحو السعادة أو نحو الشقاء، وهو أحد المعاني المحتملة3 للحديث المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشقيّ من شقي في بطن أمّه، والسعيد من سعد في بطن أمّه"4. فالحالات الذهنية والنفسية والروحية والعاطفية والبدنية الإيجابية أو السلبية التي تعيشها الأم الحامل من فرح أو حزن وكآبة، ومن راحة نفسية واستقرار وثبات انفعاليّ أو ضغوط وصدمات، ومن استرخاء وحبّ وشعور بالرضا والأمان أو خوف وقلق وغضب وغيرة وحسد... ومن تفكير إيجابيّ وروح معنوية عالية وتفاؤل وترديد عبارات مثل أنا أُحبّ طفلي أنا سعيدة بطفلي أو من تفكير سلبيّ وروح معنوية ضعيفة وتشاؤم... ستنعكس على جنينها بنحو أو بآخر، وكذلك الوضع الصحّيّ والغذائيّ الذي تعيشه الأم بدنياً سينعكس على تكوين الجنين على مختلف المستويات، فقد يكون لدى الأم نقص في بعض ما يحتاجه الطفل من الفيتامينات مثلاً، أو قد تتناول الأم من الأطعمة والأشربة والأدوية وغيرها ما قد يؤدّي إلى تشوّهات خلقية في 



1 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص171.
2 الكافي، ج7، ص345.
3 يراجع: السبحاني، الإلهيات، ج1، ص716. ومظاهري، حسين، تربية الطفل في الرؤية الإسلامية، الفصل الخامس.
4 عوالي اللألي، ج1، ص35.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
366

305

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 الجنين أو إلى الإجهاض أو بطء النمو... إلخ، وهذا يؤكّد أهمّية أن تعمل الأم على إجراء كلّ الفحوصات اللازمة التي تُعرّفها إلى ما ينبغي الإقدام عليه أو الإحجام عنه، وأن تكون على بصيرة بما يؤثّر في النمو الصالح للجنين، وأن تُدرّب نفسها وتُعوّد ذاتها على أن تعيش الطاقة الإيجابية على مختلف المستويات الذهنية والنفسية والبدنية، كما أنّ على المحيطين بها خصوصاً الزوج/ الأب، أن يؤمّنوا البيئة الخارجية الحاضنة للنموّ الصالح للجنين من خلال تجهيز كلّ وسائل راحة الأم على مختلف المستويات، لأنّ لكلّ ذلك دوراً حسّاساً في تشكيل هويّة الجنين.

 
تقول د. فاطمة الكتّاني في هذا المجال: "... يرتبط الجنين خلال مراحل نموّه بالأم ارتباطاً وثيقاً فسيولوجياً ونفسياً. فسيولوجياً لأنّ الدورة الدموية لكلٍّ من الجنين والأم متّصلة، فكأنّه عضو من أعضائها يعتمد عليها في التغذية. ويرتبط بها نفسيّاً لأنّ مشاعر الأم وأحاسيسها وانفعالاتها تؤثّر على الجنين فيتفاعل معها...
 
ومع تطوّر وسائل مراقبة الأجنّة تمكّن الباحثون من متابعة سلوكيات الأجنّة ومن مشاهدة حركاتها وردود أفعالها للمؤثّرات الخارجية. فتبيّن أنّ هناك علاقة بين الاضطراب الانفعاليّ للأم قبل الولادة وصحّة المولود وسلوكه، فمثلاً: اكتئاب الأم في فترة الحمل يؤثّر على الجنين سلباً، فقد يُصاب بعد ميلاده بمشاكل فقدان الشهية وقلّة النوم وارتفاع في هرمونات التوتّر.
 
من أكثر الأمور أهمّية تقبّل الأم الحامل للجنين، فتقبّلها له وسعادتها بالحمل ينعكس إيجاباً على صحّة المولود وسلامته، بينما الحمل المرفوض في الغالب يؤدّي إلى ميلاد طفل مضطرّب نفسياً. ويلعب دعم الزوج ومساندته دوراً أساسياً في مدى تقبّل الزوجة للحمل..."1.
 
إذاً هناك العديد من العوامل المتعلّقة بالبيئة الداخلية والخارجية التي تلعب دوراً إيجابياً أو سلبياً على هويّة الجنين، منها ما يتعلّق بالحالات الذهنية والروحية والأخلاقية للأم الحامل الإيجابية والسلبية، ومنها ما يتعلّق برفض أو قبول أو تردّد الأم تجاه الحمل، ومنها التوافق بين الزوجين ودعم الزوج أو الخلافات الزوجية وتخلّي الزوج عن مساندة



1 الكتاني، فاطمة، مرحلة ما قبل الميلاد: مرحلة الجنين، مقال منشور على موقع مجلة طبيب دوت كوم، على الرابط التالي: http://www.tbeeb.net/mag/754.htm.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
367

306

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 زوجته، ومنها حسن أو سوء التغذية، ومنها التدخين والكحول والمخدّرات وتناول الأدوية، ومنها ممارسة الرياضة أو عدمها، ومنها تجنّب الضوضاء والتلوّث البيئيّ، ومنها التحدّث مع الجنين ليأنس بصوت أمّه أو أبيه... إلخ.

 
ومن الأمور المهمّة التي يُمكن أن تلعب دوراً إيجابياً عند الأم الحامل في منحها طاقة إيجابية وشحنة إيمانية من جهة، وتجعلها تقاوم المشاعر السلبية من جهة ثانية، هي أن تكون على بصيرة من الأجر الذي كتبه الله تعالى لها أثناء فترة الحمل، فتعيش مع حملها بروحية إيمانية معنوية عالية منفتحة على السماء. خصوصاً، أنّه أحياناً تحصل عملية الحمل من دون سابق تصميم، مع عدم رغبة الأم في الحمل، فتعيش حالة نفسية سلبية تتردّد فيها بين الإجهاض وإتمام الحمل، أو تشعر بالتوتّر والضغط النفسيّ المستمرّ، أو تحسّ بكراهة ونفور من الجنين، أو تتمنّى موته... إلخ.
 
أجر الأم الحامل
- عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:... إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم القائم المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا تدري ما هو لعظمه..."1.
 
- وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة اسمها حولاء، قال: "يا حولاء، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً ورسولاً ومبشّراً ونذيراً، ما من امرأة تحمل من زوجها ولداً إلّا كانت في ظلّ الله عزّ وجلّ حتى يُصيبها طلق. يكون لها بكل طلقة عتق رقبة مؤمنة... "2.
 
- وعن زيد بن عليّ، عن آبائه، عن عليّ عليهم السلام، قال: "ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد، فقالت امرأة لرسول الله: يا رسول الله، فما للنساء من هذا شيء؟
 
فقال: بلى، للمرأة ما بين حملها إلى وضعها إلى فطامها من الأجر كالمرابط في سبيل الله، فإنْ هلكت فيما بين ذلك كان لها مثل منزلة الشهيد"3.



1 الصدوق، الأمالي، ص497.
2 مستدرك الوسائل، ج14، ص245.
3 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص561.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
368

307

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 وانطلاقاً ممّا تقدّم في الفقرات السابقة، يتّضح أنّه من أهمّ حقوق الجنين على أبويه:

1- ضمان السلامة البدنية والصحّية، من خلال إجراء الأم للفحوصات اللازمة لها قبل الحمل وبعده لمعرفة ما هي الأدوية أو الأغذية التي إذا تناولتها تُفيد الجنين أو قد تؤذيه، ومعرفة ما هي المواد التي تنقصها ويحتاجها الجنين في سلامة نموّه لتستعيض عنها من خلال الأدوية أو الأغذية المطلوبة، وأيضاً إجراء الفحوصات اللازمة للجنين نفسه كلّ فترة للاطمئنان على صحّته وسلامته لجهة أنّه ينمو نموّاً صالحاً، وما يُمكن عمله وتداركه في هذا المجال، وباختصار على الأم الحفاظ على سلامتها البدنية والصحّية من أجل الحفاظ على الجنين كذلك.
 
2- ضمان السلامة الذهنية والنفسية والروحية بتهيئة البيئة الحاضنة لنموّ الجنين نموّاً صالحاً داخلياً وخارجياً، ونعني بالبيئة الداخلية الأم، من حيث حالاتها الذهنية والنفسية والروحية...، فإنّ كلّ تعب أو إرهاق أو قلق أو اضطراب أو حزن أو فرح أو سعادة أو إيمان أو معصية أو... إلخ سينعكس سلباً أو إيجاباً على ذات الجنين، ويترك بصمته على هويّته، فعلى الأم والحال هذه أن تُحافظ قدر الإمكان على طاقة إيجابية وروحية إيمانية، وأن تفعل الواجبات وتترك المحرّمات وتبتعد عن الذنوب لأنّها ستنعكس على جنينها.
 
ونقصد بالبيئة الخارجية، الحيّز الجغرافيّ الذي توجد فيه الأم الحامل، فإنّ البيئة الخارجية تنعكس أيضاً على الجنين بنفس الطريقة التي تنعكس فيها على الطفل على ما تقدّم سابقاً، مع اختلاف في الشدّة والضعف، فإنّ الأصوات الحسنة أو المزعجة مثلاً تؤثّر على الجنين سلباً أو إيجاباً... إلخ. وفي هذا السياق، نُشير إلى أنّه على الأب أن لا يفعل ما يؤدّي بزوجته الحامل إلى القلق والخوف والاضطراب والحزن...، وأن يُهيّئ لها كلّ أسباب راحتها وسعادتها وفرحها وسكينتها ومودّتها وطمأنينتها.
 
ونُلفت عناية الأم والأسرة والأقارب والأصدقاء... إلى مسألة خطيرة رائجة اليوم تؤثّر على السلامة الصحية للجنين وهي تدخين الأم الحامل أو من يُحيط بها للسجائر والنرجيلة، فإنّ من الحقوق الصحّية للجنين عدم تدخين الأم أو المحيطين بها (حتّى التدخين السلبيّ)1.



1 ويُطلق عليه اسم negative smoking، أو الدخان غير المباشر secondhand smoke - SHS- أو دخان التبغ البيئي environmental tobacco smoke - ETS-.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
369

308

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 غذاء الأم في النصوص الروائية

بقدر ما يكون غذاء الأم صحّيّاً بقدر ما تكون صحّة الجنين أفضل، لأنّ الجنين يأخذ غذاءه من أمّه، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "سأل سلمان - رحمة الله عليه - علياً - صلوات الله عليه - عن رزق الولد في بطن أمّه، فقال عليه السلام: إنّ الله تبارك وتعالى حبسعليه الحيضة فجعلها رزقه في بطن أمّه"1.
 
وسأل الإمام الصادق عليه السلام في سياق حوار له مع أبي حنيفة: "لم لا تحيض المرأة إذا حبلت"؟ قال أبو حنيفة: لا أدري، قال عليه السلام: "حبس الله الدم فجعله غذاء للولد"2.
 
كما أنّ للطعام والشراب الذي تتناوله الأم من حيث الحلّية والحرمة، ومن حيث الكسب الحلال أو الحرام، دوراً رئيساً في تشكيل هويّة الطفل، فإنّ من حقوق الجنين أن لا ينمو لحمه وعظمه ودمه و... على غذاء أصله من السحت والمال الحرام.
 
ونذكر بعض الأغذية التي جاء ذكرها في الروايات ممّا تلعب دوراً في تشكيل هويّة الطفل باتّجاه أو آخر، مع الإشارة إلى أنّ تقدّم الأبحاث العلمية في مجال الغذاء يُفيد الأم في تحديد ما هي الأطعمة والأشربة التي تُساعد على نمو الجنين بشكل صالح ذهنياً وصحياً وفيزيولوجياً وعقلياً و...
 
اللبان
- عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أطعموا حبالاكم اللبان3، فإنّ الصبي إذا غذي في بطن أمه باللبان اشتدّ قلبه، وزيد في عقله، فإنْ يكُ ذكراً كان شجاعاً..."4.



1 من لا يحضره الفقيه، ج1، ص91. وعلل الشرائع، ج1، ص292. ويراجع: المفضل بن عمر، التوحيد، ص13.
2 ابن شهر آشوب، محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص377.
3 اللبان: هو صمغ شجرة الكندر أو اللبان، له استخدامات عديدة في طب الأعشاب، وقد أشارت الروايات إلى العديد من فوائده الصحية، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لعلي عليه السلام، قال: "يا علي: ثلاثة يزدن في الحفظ، ويذهبن البلغم: اللبان، والسواك، وقراءةالقرآن". من لا يحضره الفقيه، ج4، ص365.
4 الكافي، ج6، ص23.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
370

309

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 - وعن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "أطعموا حبالاكم ذكر اللبان فإنْ يكُ في بطنها غلام خرج ذكيّ القلب عالماً شجاعاً..."1.

 
السفرجل
- عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رائحة الأنبياء رائحة السفرجل، ورائحة الحور العين رائحة الآس، ورائحة الملائكة رائحة الورود، ورائحة ابنتي فاطمة الزهراء رائحة السفرجلوالآس والورد، ولا بعث الله نبياً ولا وصياً إلا وجد منه رائحة السفرجل، فكلوها وأطعموا حبالاكم يحسن أولادكم"2.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال: "كلوا السفرجل... وأطعموه حبالاكم، فإنّه يُحسّن أخلاق أولادكم"3.
 
الرطب والتمر
- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "اطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإنّ ولدها يكون حليماً نقياً"4.
 
البطيخ
- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما من امرأة حاملة أكلت البطيخ إلّا يكون مولودها حسن الوجه والخلق"5.
 
الألبان
- وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اسقوا نساءكم الحوامل الألبان، فإنّها تزيد في عقل الصبيّ"6.



1 الكافي، ج6، ص 23.
2 بحار الأنوار، ج63، ص177.
3 مكارم الأخلاق، ص172.
4 مكارم الأخلاق، ص169. والحديث يحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد به آخر شهر من فترة الحمل القريب من وضع الولد، والثاني: الشهر الذي تلد فيه أي من حين بدء الولادة إلى مدة شهر. ويراجع: الخصال، ص637.
5 مستغفري، أبو العباس، طب النبي، ص30.
6 م.ن، ص25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
371

 


310

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 السويق

عن بكر بن محمد قال: "كنتُ عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام، فقال له: يولد لنا المولود فيكون فيه البله والضعف، فقال: ما يمنعك من السويق1، اشربه، وأمر أهلك به، فإنّه ينبت اللحم ويشدّ العظم، ولا يولد لكم إلا القويّ"2.
 
حقّ الجنين في الاسم الحسن
إنّ من المتعارف عليه عادة اختيار الاسم قبل الولادة، فنادراً ما لا يتمّ اختيار اسم المولود قبل ولادته بعد جولة مع لائحة طويلة من الأسماء، ولكن ما لا يتمّ الالتفات إليه عادة هو أنّ اختيار الاسم الذي يُراد تسمية الطفل به ينبغي أن يحصل باعتبار ما هو كائن فعلاً، لا باعتبار ما سيكون، حيث يُفيد بعض النصوص الروائية استحباب تسمية الجنين في بطن أمّه، فزمان بدء تسمية الولد ينطلق من المرحلة الجنينية وليس حين خروجه من بطن أمّه.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "حدّثني أبي، عن جدّي، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا، فإن لم تدروا أذكر أم أنثى فسمّوهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى..."3.
 
وانطلاقاً من هذه الرواية وغيرها ممّا سيأتي في الفقرة التالية، استفاد بعض الفقهاء استحباب تسمية الطفل قبل الولادة4.
 
تسمية الجنين باسم محمّد أو عليّ
ذكر العديد من الروايات5 أنّ تسمية الجنين (أو نيّة ذلك) في رحم أمّه باسم محمّد أو عليّ يجعله يولد ذكراً، وقد صنّفها بعض الفقهاء في جملة الأدلّة على استحباب تسمية 



1 السويق: عبارة عن نوع من الطعام الذي يصنع من دقيق القمح أو الشعير أو العدس، وتصنع منه الشوربة، أو يطبخ بإضافة اللحم والمرق...إلخ من الكيفيات. وقد أخبر العديد من الروايات عن فضل السويق وآثاره المفيدة على الإنسان، يراجع: الكافي، كتاب الأطعمة، باب الأسوقة، ج6، ص306 وما بعد.
2 طب الأئمة، ص67. والحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج3، ص198.
3 الكافي، ج6، ص18.
4 الحدائق الناضرة، ج25، ص40. ويراجع: جواهر الكلام، ج31، ص255. ويراجع: جامع المدارك، ج4، ص461.
5 الكافي، ج6، ص12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
372

311

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 الجنين. منها ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: "من كان له حمل، فنوى أنيُسمّيه محمداً أو علياً، ولد له غلام"1.

 
استحباب تسمية السقط
في الحالة الطبيعية الاعتيادية تتمّ مدّة الحمل بمشيئة الله، كما قال تعالى: ﴿وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾2، ولكن أحياناً قد لا تتمّ مسيرة الحمل بنجاح، وتُسقط المرأة جنينها إمّا اختياراً، وهذا يُنافي حقّ الطفل في الحياة كما ذكرنا، وإمّا اضطراراً لأسباب قهرية خارجة عن اختيار الأم وإرادتها الحرّة، وفي الحالين معاً، من المستحبّات في الشريعة أيضاً تسمية السقط، و"هو كلّ ولد يسقط من بطن أمّه قبل تمامه وكماله"3.
 
فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سمّوا أسقاطكم، فإنّ الناس إذا دعوا يوم القيامة بأسمائهم، تعلّق الأسقاط بآبائهم، فيقولون: لِمَ لَمْ تسمّونا؟!
 
قال: فقالوا: يا رسول الله، هذا من عرفنا أنه ذكر سمّيناه باسم الذكور، ومن عرفنا أنّها أنثى سمّيناها باسم الإناث، أرأيت من لم يستبن خلقه كيف نُسمّيه؟
 
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "بالأسماء المشتركة..."4 ، أي الأسماء التي تكون للذكر والأنثى5.
 
وانطلاقاً من هذه الرواية وغيرها، قال الفقهاء باستحباب تسمية الطفل قبل الولادة6.



1 الكافي، ج6، ص12.
2 سورة الحج، الآية 5.
3 العاملي، زين الدين علي بن أحمد، المعروف بالشهيد الثاني، مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة والأولاد، ص32.
4 الحميري، قرب الإسناد، ص160، ح584.
5 يراجع: ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في المصدر نفسه.
6 الحدائق الناضرة، ج25، ص40. ويراجع: جواهر الكلام، ج31، ص255. ويراجع: جامع المدارك، ج4، ص461.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
373

312

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ الجنين له حقوق على والديه، ومن أهمّ حقوق الجنين في رحم أمّه على الإطلاق هو حقّه في الحياة وحفظ بقائه، من خلال: أولاً: عدم الإجهاض العمديّ، أو فعل ما يؤدّي إلى الإجهاض. وثانياً: تهيئة كلّ عوامل جعل الجنين قادراً على النموّ السليم، وعدم حرمانه من أسباب ذلك.

- الأم هي البيئة التربوية الأولى التي تبدأ فيها معالم هويّة الجنين بالتشكُّل إمّا نحو السعادة أو نحو الشقاء، فالحالات الذهنية والنفسية والروحية والعاطفية والبدنية الإيجابية أو السلبية التي تعيشها الأم الحامل من فرح أو حزن وكآبة، ومن راحة نفسية واستقرار وثبات انفعاليّ أو ضغوط وصدمات، ومن استرخاء وحبّ وشعور بالرضا والأمان أو خوف وقلق وغضب وغيرة وحسد...

- الوضع الصحّي والغذائيّ الذي تعيشه الأم بدنياً سينعكس على تكوين الجنين على مختلف المستويات، فقد يكون لدى الأم نقص في بعض ما يحتاجه الطفل من الفيتامينات مثلاً، أو قد تتناول الأم من الأطعمة والأشربة والأدوية وغيرها ما قد يؤدّي إلى تشوّهات خلقية في الجنين أو إلى الإجهاض أو بطء النمو... إلخ، وهذا يؤكّد أهمّية أن تعمل الأم على إجراء كلّ الفحوصات اللازمة التي تُعرّفها على ما ينبغي الإقدام عليه أو الإحجام عنه.

- إنّ للطعام والشراب الذي تتناوله الأم من حيث الحلّية والحرمة، ومن حيث الكسب الحلال أو الحرام، دوراً رئيساً في تشكيل هويّة الطفل، فإنّ من حقوق الجنين على الأب أن لا ينمو لحمه وعظمه ودمه و... على غذاء أصله من السحت والمال الحرام.

- جاء في الروايات ذكر بعض الأغذية التي تلعب دوراً في تشكيل هويّة الطفل باتّجاه أو آخر، مع الإشارة إلى أنّ تقدّم الأبحاث العلمية في مجال الغذاء لا ريب يُفيد الأمّ في تحديد ما هي الأطعمة والأشربة التي تُساعد على نموّ الجنين بشكل صالح ذهنياً وصحّياً وفيزيولوجياً وعقلياً و...

- تفيد النصوص الروائية استحباب تسمية الجنين في بطن أمّه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا، فإن لم تدروا أذكر أم أنثى فسمّوهم بالأسماء التي تكون للذكر والأنثى...".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
374

313

الدرس الثالث والعشرون: تأثير المرحلة الجنينية على هويّة الطفل

 أسئلة الدرس

1- ما هي الأسباب التي يتمسّك بها بعض النساء من أجل القيام بعملية الإجهاض؟ وكيف تُناقش هذه الأسباب؟

2- ما هو أهمّ حقّ للجنين على والديه؟ ولماذا؟

3- تُعتبر الأم البيئة التربوية الأولى التي تبدأ فيها معالم شخصية الطفل بدنياً ونفسياً وذهنياً بالتشكُّل، بيّن ذلك من خلال الشواهد والأدلّة.

4- هل توافق على أنّ من واجبات الأب تأمين البيئة الصالحة والحاضنة لراحة الأم وسعادتها من أجل نمو الجنين نمواً صالحاً؟

5- ما هو دور الغذاء في عملية نموّ الجنين نمواً صالحاً؟ اذكر بعض الشواهد الروائية على ذلك.

6- اذكر شاهداً على استحباب تسمية الجنين في بطن أمه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
375

314

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود

(الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أهمّية وخصوصية الالتزام بمراسم يوم ولادة الطفل.
2- يعرض خطوات يوم الولادة بالتدريج.
3- يُدرك أهمّية شكر الله تعالى وحمده على نعمة المولود في حفظ المولود ورعايته.
4- يُدرك أهمّية الأذان والإقامة في أذن المولود على الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
379

315

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 تمهيد

من مميّزات المنهج التربويّ الإسلاميّ عدم وجود فترة مهلة أو مرحلة إهمال في عملية تربية الطفل الفعلي الوجود، فمنذ اللحظة الأولى التي يخرج فيها من ظلمات بطن أمّه1 إلى نور عالم الحياة، يكون موضوعاً ومتعلَّقاً للعملية التربوية، والمائز في هذه المرحلة عمّا سبقها أنّه أصبح طفلاً فعليّ الوجود، وأمّا قبل ذلك فقد كان مشروع طفل إن صحّ التعبير.
 
والسؤال الرئيس الذي يطرح نفسه هنا: ما هي الخطوات التربوية التي ينبغي لوليّ أمر التربية القيام بها تجاه الطفل حديث العهد بالولادة؟ وما هي حقوقه الأولى على وليّه الذي أُلزم في عنقه مسؤولية رعايته وتربيته؟
 
والجواب عن هذا السؤال، أي عن الحقوق الأولى للمولود الجديد، هي ما ستكون محاور البحث في دروس هذا الفصل.
 
حقوق وآداب استقبال الطفل
أولاً: استقبال المولود بالفرح والسرور
من الحقوق الأولى للطفل على الوالدين استقباله بحضن مليء بالطاقة الإيجابية، وبمناخ يسوده التفاؤل وتشعّ فيه كيمياء الفرح والسرور، لأنّ المولود الجديد هو بشارة جميلة لوالديه.
 
وهذا المصطلح: "البشارة"، استعمله القرآن الكريم في العديد من الموارد للتعبير عن الإخبار بالمولود.



1 قال تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾, سورة الزمر، الآية 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
381

316

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 - قال تعالى بحقّ نبيّ الله إبراهيم بالنسبة لإسماعيل عليهما السلام: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾1. وقال: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ﴾2.

 
- وقال تعالى بحقّ سارة زوجة النبي إبراهيم: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ﴾3.
 
- وقال تعالى: ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى﴾4.
 
- وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾5.
 
والبشارة مشتقّة من: البِشر، وهو الخبر السّار الذي يبسط بشرة وجه المخبَر به ويدخل السرور على قلبه6.
 
قال الراغب الأصفهانيّ: "أبشرت الرجلَ وبشَّرته وبشَرته: أخبرته بسارٍّ بَسَطَ بشرة الوجه، وذلك أنّ النفس إذا سُرّت انتشر الدّم فيها انتشار الماء في الشجر"7.
 
ولأنّ الولد بشارة، ينبغي للوالدين التعامل معه ضمن هذه الدائرة، فيتمّ تلقّي خبر ولادة المولود الجديد بالفرح والسرور وانبساط الوجه.
 
وقد أدّبنا الإسلام أيضاً، بأنّ حالة الفرح والبشر هذه، ينبغي أن لا تخضع لسياسة الكيل بمكيالين أو لازدواجية المعايير من حيث الجنوسة في المولود، أي إذا كان المولود طفلاً ذكراً نستقبله بالأفراح والزغاريد والورود، وإذا كان طفلة أنثى نعيش العادات والتقاليد الجاهلية في استقبالها بالغمّ والحزن والكآبة.



1 سورة الصافات، الآية 101.
2 سورة الصافات، الآية 112.
3 سورة هود، الآية 71.
4 سورة مريم، الآية 7.
5 سورة آل عمران، الآية 45.
6 اختار بعض العلماء أن أصل البشارة بحسب الوضع ليس فيه الفرح بحسب المعنى اللغوي، بل إن البشر هو مطلق الخبر الأعم من كونه ساراً أو محزناً، لأنه كما يوجب السرورُ تغييرَ البشرة، كذلك الحزنُ يوجب تغييرها، فلفظ البشارة حقيقة في القسمين معاً، وإنما أصبح يتبادر منه لدى العرف العام خصوص الخبر السار من باب غلبة الاستعمال. يراجع: الخميني، مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج5، ص8.
7 مفردات ألفاظ القرآن، ص72، مادة: بشر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
382

317

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 فقد بُشّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابنة، فنظر في وجوه أصحابه، فرأى الكراهة فيهم، فقال: "ما لكم! ريحانة أشمّها، ورزقها على الله"1.

 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "كان رسول الله إذا بُشّر بجارية، قال: ريحانة، ورزقها على الله عزّ وجلّ"2.
 
- عن حمزة بن حمران، قال: "أتى رجل وهو عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأُخبر بمولود أصابه، فتغيّر وجه الرجل.
 
فقال له النبيّ: ما لك؟
 
فقال: خير.
 
فقال: قل.
 
قال: خرجت والمرأة تمخض، فأخبرت أنّها ولدت جارية.
 
فقال له النبيّ: الأرض تقلّها، والسماء تظلّها، والله يرزقها، وهي ريحانة تشمّها"3.
 
- عن الجارود بن المنذر، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "بلغني أنه وُلِدَ لك ابنة فتسخطها! وما عليك منها، ريحانة تشمّها، وقد كُفيت رزقها.
 
وقد كان رسول الله أبَ بنات"4.
 
يقول الفيض الكاشاني: "وحقُّ المولود أن يُفرَح به... ولا يغتمّ بالأنثى، لأنّ الصلاح مستور، بل يزداد فرحاً مخالفة للجاهلية"5.
 
ثانياً: شكر الله تعالى وحمده على نعمة المولود
لا ريب في أنّ شكر الله وحمده تعالى حسن على كلّ حال6. ويتأكّد ويتجدّد الحمد والشكر عند كلّ نعمة متجدّدة. ومن أبرز نعم الله تعالى على الإنسان المولود7. فالطفل هبة الله8،



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص481.
2 الراوندي، فضل الله بن علي، النوادر، ص96.
3 الكافي، م.س، ح6.
4 الكافي، م.س، ح9.
5 الفيض الكاشاني، محسن، النخبة في الحكمة العملية والأحكام الشرعية، ص232.
6 الكافي، ج2، ص97.
7 عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "البنات حسنات، والبنون نعمة..." الكافي، ج6، ص6، باب فضل البنات ح7.
8 قال تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ﴾ سورة الشورى، الآية 49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
383

318

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 فيكون من حقّ الله عزّ وجلّ شكره على نعمة الطفل وحمده على المولود. فقد "كان - الإمام زين العابدين - علي بن الحسين إذا بشّر بولد لم يسأل أذكر هو أم أنثى، حتى يقول: أسويٌّ؟ فإذا كان سويّاً، قال: الحمد لله الذي لم يخلق منّي شيئاً مشوّهاً"1.

 
- وعن أبي بصير قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: "هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكراً؟
 
قال: نعم.
 
قلت: ما هو؟
 
قال: يحمد الله على كلّ نعمة عليه في أهل ومال..."2.
 
- وعن عمر بن يزيد، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: إنّي سألت الله عزّ وجلّ أن يرزقني مالاً، فرزقني. وإنّي سألت الله أن يرزقني ولداً، فرزقني ولداً. وسألته أن يرزقني داراً، فرزقني. وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً3؟!
 
فقال عليه السلام: "أما - والله - مع الحمد، فلا"4.
 
وبشكر الله تعالى على نعمة المولود تحفظ هذه النعمة وتدوم وتكون بأمان ويدفع عنها الضرر والمكروه، كما يُفيده العديد من الآيات والروايات5.
 
ومن أبرز صور شكر الله تعالى على نعمة المولود أن يكون المولود طريقاً يسلكه الأب أو الأم إلى الله تعالى، فلا يعصي أحدهما الخالق لإرضاء الطفل بسبب شدّة حبّه له6، فيكسب 



1 الكافي، ج6، ص21.
2 م.ن، ج2، ص96. 
3 سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الاستدراج، فقال: "هو العبد يُذنب الذنب، فيُملي له، ويُجدّد له عندها النعمة، فتُلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرج من حيث لا يعلم". الكافي، ج2، ص452.
4 م.ن، ص97.
5 قال تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ سورة إبراهيم، الآية 7. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أُعطي الشكر أُعطي الزيادة". الكافي، ج2، ص65. وعنه عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ أنعم على قوم بالمواهب، فلم يشكروا، فصارت عليهم وبالاً". تهذيب الأحكام،ج6، ص377، ح1101.
6 قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾. سورة التوبة، الآية 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
384

319

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 من المال الحرام بذريعة أنه يريد أن يُنفق على أطفاله ويُلبّي احتياجاتهم، ويتخلّف عن الجهاد بحجّة أنّه مشتاق إلى أطفاله... إلخ.

 
﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
 
وهذا ما يفيده قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾1.
 
يقول العلّامة الطباطبائيّ في تفسير الآية: "... ﴿لَئِنْ آتَيْتَنَا﴾ ورزقتنا ولداً ﴿صَالِحاً﴾ يصلح للحياة والبقاء، بكونه إنساناً سويّاً تامّ الأعضاء، غير ذي عاهة وآفّة...، ﴿لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لك بإظهار نعمتك، والانقطاع إليك في أمره، لا نميل إلى سبب دونك، ولا نتعلّق بشيء سواك. ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً﴾ كما سألاه، وجعله إنساناً سوياً صالحاً للبقاء، وقرّت به أعينهما ﴿جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَ﴾ من الولد الصالح، حيث بعثتهما المحبّة والشفقة عليه أن يتعلّقا بكلّ سبب سواه - تعالى -، ويخضعا لكلّ شيء دونه، مع أنّهما كانا قد اشترطا له أن يكونا شاكرين له، غير كافرين لنعمته وربوبيته، فنقضا عهدهما وشرطهما. وهكذا عامّة الإنسان إلا من رحمه الله، مهتمّون بنقض مواثيقهم وخلف وعدهم، وعدم الوفاء بعهدهم مع الله..."2.
 
ثالثاً: التهنئة بالمولود
إنّ البحث عن التهنئة بالمولود يتناسب مع سنن ومراسم اليوم السابع من ولادة الطفل، لكونها من السنن المستحبة في ذلك اليوم. عن الحسين بن خالد، قال: سألتُ أبا الحسن الرضا عن التهنئة بالولد، متى هي؟
 
قال عليه السلام: "إنّه لمّا ولد الحسن بن عليّ هبط جبرئيل على رسول الله بالتهنئة في اليوم السابع..."3.



1 سورة الأعراف، الآية 189.
2 الميزان في تفسير القرآن، ج8، ص374-375.
3 الكافي، ج6، ص33-34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
385

320

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 وإن كان استحباب التهنئة على ما يظهر من بعض الروايات مأخوذاً على نحو العموم الزمانيّ أيضاً، أي أنّه غير مقيّد بزمان خاصّ بحيث تُستحبّ التهنئة بالمولود منذ لحظة ولادته، فيكون ذكرها في سنن اليوم السابع من باب أفضل أجزاء زمان التهنئة الموافقة لطقوس أسبوع الطفل.

 
وعلى كلّ حال، لكون مسألة التهنئة تُسلّط الضوء على مسألة شكر الله تعالى على نعمة المولود عطفناها هنا على البحث السابق معالجين لها بنحو نستغني فيه عن البحث عنها عند البحث عن سنن اليوم السابع.
 
فمن الأدلّة التي يُمكن التمسّك بها على محبوبية الشكر فيما يتعلّق بعنوان المولود، هو ما أدّبنا به أهل البيت عليهم السلام في كيفية التهنئة بالمولود، التي تدعو الوالد إلى شكر الله تعالى على هذه الهبة الإلهية.
 
- فقد هنّأ بحضرة أمير المؤمنين علي عليه السلام رجلٌ رجلاً بغلام وُلِد له، فقال له: ليهنئك الفارس.
فقال عليه السلام: "لا تقل ذلك، ولكن قل: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ أشدّه1، ورُزقت برّه"2.
 
- وقال أبو العبّاس المبرّد3: يروى عن عليّ بن أبي طالب أنه افتقد عبد الله بن العباس رحمه الله في وقت صلاة الظهر، فقال لأصحابه: "ما بال أبي العباس لم يحضر"؟
 
فقالوا: ولد له مولود.
 
فلمّا صلّى علي عليه السلام، قال: "امضوا بنا إليه".
 
فأتاه، فهنّأه، فقال: "شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب..."4.
 
- وعن أبي برزة الأسلمي، قال: ولد للحسن بن علي عليهما السلام مولود، فأتته قريش فقالوا: يُهنئك الفارس.



1 "بلغ أشده": جملة دعائية للمولود في أن يبلغ كماله.
2 نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، رقم: 354.
3 أبو العباس محمد بن يزيد الثمالي الأزدي، ولد سنة 210، وتوفي سنة 285. من كبار علماء اللغة والنحو، كان شيعياً.
4 الكامل في اللغة والأدب، باب أخبار عبد الله بن العباس وابنه، ص 331. وقد رواه ابن أبي الحديد عن أبي العباس المبرد في شرح نهج البلاغة، ج7، ص148.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
386

321

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 فقال عليه السلام: "وما هذا من الكلام؟! قولوا: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ الله به أشدّه، ورزقك برّه"1.

 
- وبإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "هنّأ رجلٌ رجلاً أصاب ابناً، فقال: يُهنئك الفارس.
 
فقال له الحسن عليه السلام: "ما علمك يكون فارساً أو راجلاً"؟
 
قال: "جُعلت فداك فما أقول"؟
 
قال: "تقول: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، وبلغ أشدّه، ورزقك برّه"2.
 
- وبإسناده عن الحسين عن مرازم، عن أخيه، قال: قال رجل لأبي عبد الله: ولد لي غلام.
 
فقال عليه السلام: "رزقك الله شكر الواهب، وبارك لك في الموهوب، وبلغ أشدّه، ورزقك الله برّه"3.
 
وعبارة: "شكرت الواهب"، في الروايات السابقة، جملة خبرية صورياً، وإنشائية مضمونياً، فهي: إمّا جملة دعائية، تُفيد معنى الدعاء، أي: رزقك الله شكر الواهب، كما هو في الحديث الأخير. وإمّا جملة طلبية، تُفيد البعث والتحريك نحو الشكر، بمعنى: اشكر الواهب تعالى الذي وهب لك هذا الطفل4.
 
وعلى المعنيين معاً، تُفيد الجملة تفرّع وجوب الشكر على الهبة الإلهية.
 
قال ابن ميثم البحراني تعليقاً على الحديث الأول الوارد في نهج البلاغة: "وهذا إرشاد منه عليه السلام للتهنئة بالولد، فيها أربع فوايد:
 
أحدها: تذكير الوالد بشكر الله وإلفاته إليه.



1 الكافي، ج6، ص17، باب التهنئة بالمولود، ح2. وفي تحف العقول، ص235: "رزق-الحسن عليه السلام- غلاماً، فأتته قريش تُهنّيه، فقالوا: يُهنيك الفارس. فقال عليه السلام: أيّ شيء هذا القول؟! ولعلّه يكون راجلاً. فقال له جابر: كيف نقول يا ابن رسول الله؟ فقال عليه السلام: إذا ولد لأحدكم غلام، فأتيتموه، فقولوا له: شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، بلغ الله به أشدّه، ورزقك برّه".
2 الكافي، ج6، ص17.
3 م.ن، باب التهنئة بالمولود، ح1.
4 يراجع: بحار الانوار، ج34، ص309.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
387

322

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 والثانية: استنزال البركة منه بالدعاء فيما وهب له.

 
الثالثة: الدعاء للموهوب بالبقاء وبلوغ الأشدّ وهو كمال القوّة لغاية الانتفاع به.
 
الرابعة: الدعاء بثمرته والانتفاع به وهي أن يرزقه برّه ونفعه"1.
 
رابعاً: غسل المولود
من المتعارف عليه اليوم في المستشفيات عند ولادة الطفل غَسله (أي تنظيفه أو تطهيره) من الآثار التي يخرج ملطّخاً بها من رحم أمّه كالدم وغيره من السوائل، بل بعض المستشفيات يقوم بغُسل الطفل (أي ليس مجرد التنظيف والتطهير بل تغسله كغسل الجمعة مثلاً).
 
فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو الحكم التكليفيّ لغَسل أو غُسل الطفل في الشريعة الإسلامية؟
 
في الجواب عن هذا السؤال يوجد رأيان عند الفقهاء:
الرأي الأول: القول بالاستحباب، وهو المشهور.
الرأي الثاني: القول بالوجوب، وهو نادر.
 
قال العلامة الحلّي: "اختلفوا في غسل المولود، فالأشهر استحبابه... وقال بعض علمائنا بوجوبه"2.
 
خامساً: لفُّ المولود بخرقة بيضاء
عن الإمام الرضا قال: "حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثنا أبي جعفر بن محمد، قال: حدّثنا أبي محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين قال: حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعمية، قالت: "... لمّا ولدت - فاطمةُ - الحسنَ، جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ياأسماء، هاتي ابني. قالت: فدفعته إليه في خرقة صفراء، فرمى بها. وقال: ألم أعهد إليكنّ أن لا تلفّوا المولود في خرقة صفراء؟! ودعا بخرقة بيضاء، فلفّه فيها..."3.



1 البحراني، ميثم بن علي، شرح نهج البلاغة،ج5، ص416.
2 تذكرة الفقهاء، ج2، ص144. ويراجع: منتهى المطلب، ج1، ص131.
3 الطوسي، الأمالي، ص367، المجلس 13: ح32/ ح781. ورواه ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب، ج3، ص189.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
388

 


323

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 وفي ولادة الإمام الحسين عليه السلام فإنّ أسماء لم تُكرّر لفّ المولود بخرقة صفراء، حيث قالت في تتمة الرواية السابقة: "... فلما ولدت فاطمة الحسين نفستها به، فجاءني النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هلمّي ابني يا أسماء، فدفعته إليه في خرقة بيضاء..."1.

 
وبناءً على هذه الرواية ذكر بعض الفقهاء أنّه يُستحبّ لفّ المولود في خرقة بيضاء.
 
قال الشيخ الجواهريّ: "(و) أمّا (الندب) فقد ذكر المصنّف منه (ستة)، وإن كان المستفاد من النصوص أزيد من ذلك، كاللف بخرقة بيضاء، بل كراهة الصفراء..."2.
 
فيُمكن استفادة هذا المعنى، تأسّياً بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن والحسين يوم ولادتهما عليهما السلام.
 
سادساً وسابعاً: الأذان والإقامة في أُذني المولود
إنّ من المراسم المستحبّة بحقّ الطفل يوم ولادته الأذان في أُذنه اليمنى، والإقامة في أُذنه اليسرى3، وهما - الأذان والإقامة - موضوعان منفصلان عن بعضهما البعض، فكلّ عنوان منهما مستحبّ بنفسه4 بحقّ الطفل، أي مأخوذان على نحو تعدّد المطلوب لا وحدة المطلوب، ولكن لكون الروايات قرنت بينهما، نُسلّط الضوء عليهما معاً في مبحث واحد.
 
النصوص الروائية الدالّة على استحباب الأذان والإقامة
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ولد له مولود، فليؤذّن في أُذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليقم في أُذنه اليسرى، فإنّها عصمة من الشيطان الرجيم"5.
 
- وعن أبي يحيى الرازيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إذا ولد لكم المولود أي شيء تصنعون به"؟
 
قُلتُ: لا أدري ما يُصنع به.



1 الطوسي، الأمالي، ص367، المجلس 13: ح32/ ح781. ورواه ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب، ج3، ص189.
2 جواهر الكلام، ج31، ص251.
3 الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج5، ص441.
4 جواهر الكلام، ج31، ص251.
5 الكافي، ج6، ص25. وفي رواية أخرى إضافة: "فإنها عصمة من الشيطان والإفزاع له". مستدرك الوسائل، ج4، ص62.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
389

324

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 قال:... "وأذّن في أُذنه اليمنى، وأقم في اليسرى، يفعل ذلك به قبل أن تقطع سرّته، فإنّه لا يفزع1 أبداً، ولا تُصيبه أمّ الصبيان2"3.

 
الأذان والإقامة سنّة فعلية للنبيّ وأهل البيت
- عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن علي بن الحسين، عن أسماء بنت عميس، عن فاطمة عليهم السلام، قالت: "لمّا حملت بالحسن وولدته، جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا أسماء، هلُمّي ابني، فدفعته إليه في خرقة صفراء فرمى بها النبيّ. وأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام فيأُذنه اليسرى...
 
قالت أسماء: فلمّا كان بعد حول ولد الحسين، جاءني، وقال: يا أسماء هلُمّي بابني، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى..."4.
 
- وعن علي بن ميثم، عن أبيه، قال: سمعتُ أمّي تقول: سمعتُ نجمة أم الرضا عليه السلام تقول: "لمّا حملت بابني عليّ، لم أشعر بثقل الحمل...، فلمّا وضعته... دخل إليّ أبوه موسى بن جعفر عليه السلام، فناولته إيّاه في خرقة بيضاء، فأذّن في أُذنه الأيمن، وأقام فيالأيسر، ودعا بماء الفرات فحنّكه به، ثم ردّه إليّ، فقال: خذيه فإنّه بقية الله تعالى في أرضه"5.
 
ثامناً: تحنيك الطفل
"التحنيك"، لغة مشتقّة من الحَنَك، والحنك: هو أعلى نقطة في الفم من الداخل. وقال الشهيد الثاني في تعريفه: "المراد بالتحنيك إدخال ذلك إلى حنكه وهو أعلى داخل الفم"6.
 
فالمراد بالتحنيك في المقام: إدخال المادّة التي يُراد التحنيك بها إلى أعلى داخل الفم، فإنْ كانت مادّة سائلة كالماء والعسل فالتحنيك يكون عبارة عن إدخال تلك المادّة إلى أعلى



1 الفزع: الخوف.
2 أم الصبيان: ريح تعرض للأطفال.
3 الكافي، المصدر السابق، ح1.
4 الطوسي، الأمالي، ص367.
5 عيون أخبار الرضا، ج2، ص30.
6 مسالك الأفهام، ج8، ص395. وشرح اللمعة، ج5، ص442.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
390

325

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 داخل الفم، وإن كانت المادّة صلبة كالتمر مثلاً فالتحنيك يتمّ مثلاً من خلال مضغ التمرة وجعل جزء بسيط منها على أصبع السبابة، ويتمّ تدليك أعلى داخل فم الطفل بها.

 
والتحنيك بهذا المعنى، من السنن المستحبّة في الشريعة الإسلامية1، ويكون إمّا بماء الفرات، أو تربة الحسين، أو العسل، أو التمر، أو ماء السماء.
 
النصوص الروائية في التحنيك
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "حنّكوا أولادكم بالتمر، هكذا فعل النبيّ بالحسن والحسين"2.
 
- وعن أبي جعفر عليه السلام: "حنّكوا أولادكم بماء الفرات، وبتربة قبر الحسين عليه السلام، فإن لم يكن فبماء السماء"3.
 
- وفي حديث سابق عن نجمة أم الرضا عليه السلام: "لمّا وضعت ابني علياً، دخل إليّ أبوه موسى بن جعفر عليه السلام، فناولته إيّاه في خرقة بيضاء، فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات، فحنّكه به، ثم ردّه إليّ، وقال: خُذيه، فإنّه بقيّة الله في أرضه"4.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "حنّكوا أولادكم بتربة الحسين عليه السلام، فإنّها أمان"5.



1 كشف اللثام، ج7، ص526.
2 الكافي، ج6، ص24.
3 م.ن.
4 عيون أخبار الرضا، ج2، ص30.
5 كامل الزيارات، ص466، ح 708. والطوسي، محمد بن الحسن، مصباح المتهجد، ص732.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
391

326

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 المفاهيم الرئيسة

- من الحقوق الأولى للطفل على الوالدين استقباله بمناخ يسوده التفاؤل وتشعّ فيه كيمياء الفرح والسرور، لأنّ المولود الجديد هو بشارة جميلة لوالديه.

- مصطلح: "البشارة"، استعمله القرآن الكريم في العديد من الموارد للتعبير عن الإخبار بالمولود. والبشارة مشتقّة من: البِشر، وهو الخبر السّار الذي يبسط بشرة وجه المخبَر به ويدخل السرور على قلبه.

- ينبغي أن لا تخضع بشارة استقبال المولود لسياسة الكيل بمكيالين فإذا كان المولود طفلاً ذكراً نستقبله بالأفراح والزغاريد والورود، وإذا كان طفلة أنثى نعيش العادات والتقاليد الجاهلية في استقبالها بالغمّ والحزن والكآبة.

- لا ريب في أنّ شكر الله وحمده تعالى حسن على كلّ حال. ويتأكّد ويتجدّد الحمد والشكر عند كلّ نعمة متجدّدة. ومن أبرز نعم الله تعالى على الإنسان المولود. ولشكر الله تعالى على هذه النعمة تأثير إيجابيّ خاصّ على الطفل نفسه.

- من السنن المستحبّة عند الولادة التهنئة بالمولود والدعاء له.

- من السنن المستحبّة عند ولادة الطفل غسله كغسل الجمعة وتنظيفه من الآثار التي يخرج ملطّخاً بها من رحم أمّه كالدم وغيره من السوائل.

- ذكر بعض الفقهاء أنّه من المستحبّات عند ولادة الطفل لفّه بخرقة بيضاء تأسّياً بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة للحسنين عليهما السلام.

- من المراسم المستحبة بحقّ الطفل يوم ولادته الأذان في أُذنه اليمنى، والإقامة في أُذنه اليسرى.

- من السنن المستحبّة عند ولادة الطفل التحنيك، وهو عبارة عن إدخال المادّة التي يُراد التحنيك بها إلى أعلى داخل الفم وتدليكه بها، ويكون إمّا: بماء الفرات أو تربة الحسين أو العسل أو التمر أو ماء السماء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
392

327

الدرس الرابع والعشرون: حقوق وآداب استقبال المولود (الفرح، الشكر، التهنئة، الغسل، اللفّ بخرقة بيضاء، الأذان والإقامة، التحنيك)

 أسئلة الدرس

1- ما هي أهمّية استقبال الطفل بمناخ من التفاؤل والفرح والسرور؟ وكيف يؤثّر ذلك إيجاباً على شخصية الطفل؟

2- هل تعتقد أنّ ظاهرة التمييز في استقبال المولود من حيث الذكورة والأنوثة ما زالت شائعة في مجتمعاتنا؟

3- كيف يُمكن أن يؤدّي الإنسان شكر الله تعالى بالنسبة لنعمة الطفل المولود؟ وهل لشكر الله تعالى على هذه الهبة آثار خاصة على الطفل؟ كيف ذلك؟

4- عدِّد السنن المستحبّة عند ولادة الطفل.

5- ما هي أهمّية الأذان والإقامة في أذن المولود عند ولادته؟

6- ما هو التحنيك؟ وبماذا يتمّ تحنيك المولود؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
393

328

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه 

- أسبوع المولود - (1)


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أهمّية وخصوصية اليوم السابع من ولادة الطفل.
2- يفهم معنى العقيقة، وتحديد آراء الفقهاء في حكمها.
3- يعرف الأهمّية البالغة للعقيقة بالنسبة لحياة الطفل، ويعرض أدلّة ذلك من خلال الروايات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
395

329

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 خصوصية اليوم السابع لولادة الطفل

أسبوع المولود، أو اليوم السابع من ميلاده، له خصوصية واضحة في منهج أهل البيت عليهم السلام فيما يتعلّق بالتعامل مع الطفل أو الطفلة. ولا بدّ من إحياء هذه السنّة النبوية القولية والفعلية مع المولود في مجتمعاتنا الإسلامية، والعمل على نفخ روح الحياة فيها من جديد، بمعنى أن يكون أسبوع المولود محطّة مميّزة لها أهمّية خاصّة في حياته. ويُمكن العمل في الوقت الحاضر من خلال التقنيات الحديثة على توثيقها لتبقى في دفتر الذكريات التي يُزوَّد بها المولود عندما يكبر، فإنّها لحظة تُفرحه وتُدخل السرور على قلبه.

ففي هذه المحطّة شرّع الإسلام جملة من السنن والشعائر المستحبّة، وهي:
1- تسمية المولود - تكرار تسميته أو تثبيت الاسم -.
2- حلق شعره.
3- مسح رأسه بالطيب-خلوق، زعفران-.
4- وزن الشعر والتصدّق بوزنه فضّة أو ذهباً.
5- العقيقة عنه (الذبح+ الدعاء عند الذبح+ تقسيم الذبيحة...).
6- توزيع اللحم على المؤمنين+ إهداء اللحم إلى الجيران+ إعطاء القابلة حصّتها.
7- الوليمة والدعوة إلى الطعام لجماعة من المؤمنين.
8- الدعاء للمولود.
9- ثقب أذن المولود.
10- الختان والتطهير.
11- التهنئة به.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
397

330

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 وستظهر هذه الآداب في النصوص التي سنذكرها خلال الدروس الآتية، ونذكر بعضها في الفقرة التالية.

 
النصوص الروائية في خصوصية اليوم السابع
ونعرض بعض النصوص الروائية الجامعة لسنن يوم أسبوع المولود، وسيظهر بعضها الآخر خلال المباحث اللاحقة:
- عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "سبع خصال في الصبيّ إذا ولد من السنة، أولاهنّ: يُسمَّى. والثانية: يُحلق رأسه. والثالثة: يُتصدّق بوزن شعره ورقاً أو ذهباً إنْ قدر عليه. والرابعة: يُعقّ عنه. والخامسة: يُلطّخ رأسه بالزعفران. والسادسة:يُطهّر بالختان. والسابعة: يُطعم الجيران من عقيقته"1.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "الصبيّ يُعقّ عنه، ويُحلق رأسه وهو ابن سبعة أيام، ويُوزن شعره ويُتصدّق عنه بوزن شعره ذهباً أو فضّة، ويُطعم القابلة الرجل والورك. وقال: العقيقة بدنة أو شاة"2.
 
- وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام: في المولود؟
 
قال: "يُسمّى في اليوم السابع، ويُعقّ عنه، ويُحلق رأسه، ويُتصدّق بوزن شعره فضّة، ويُبعث إلى القابلة بالرجل مع الورك، ويُطعم منه، ويُتصدّق"3.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "إذا ولد لك غلام أو جارية، فعقّ عنه يوم السابع شاة أو جزوراً، وكل منها، وأطعم، وسمِّ، واحلق رأسه يوم السابع، وتصدّق بوزن شعره ذهباً أو فضة، وأعط القابلة طائفة من ذلك، فأيّ ذلك فعلت فقد أجزأك"4.
 
- وعنه عليه السلام قال: "المولود إذا ولد، عقّ عنه، وحلق رأسه، وتصدّق بوزن شعره ورقاً، وأُهدي إلى القابلة الرجل والورك، ويُدعى نفر من المسلمين فيأكلون، ويدعون 



1 مكارم الأخلاق، ص228.
2 الكافي، ج6، ص28.
3 م. ن، ص29.
4 م. ن، ص28.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
398

331

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 للغلام، ويُسمّى، يوم السابع"1.

 
- وعنه عليه السلام، قال: "عقّ عنه، واحلق رأسه، يوم السابع، وتصدّق بوزن شعره فضة، واقطع العقيقة جذاوى2 واطبخها، وادع عليها رهطاً من المسلمين"3.
 
أولاً: العقيقة
ذكرنا في المباحث الأولى من الكتاب أنّ من مسؤوليات وليّ الطفل حفظه ورعايته وحسن ولايته والوقاية له والدفع عنه، في مختلف الجوانب وعلى كافّة المستويات، ومنها سلامة الطفل الجسدية. ومن السنن التي تصبّ نتيجتها في مصلحة المولود خصوصاً على المستوى الجسديّ ما يُسمّى بـ: "العقيقة"4، فالعقيقة هي وقاية وأمان للطفل، وحرز له من الأمراض والآفات التي قد تُصيبه أو تعترض حياته، وحماية له من كل سوء وشرّ، وتخسأ عنه الشيطان، ويظهر ذلك بشكل واضح في الروايات المذكورة في الدرس وكذلك في الأذكار التي تُتلى عند العقيقة، منها قول الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "تقول على العقيقة إذا عققت: بسم الله، وبالله، اللهمّ عقيقة عن فلان، لحمها بلحمه، ودمها بدمه، وعظمها بعظمه، اللهمّ اجعله وقاء لآلمحمّد صلّى الله عليه وعليهم"5.
 
وفي رواية مشابهة عنه عليه السلام، زاد فيها: "... وشعرها بشعره، وجلدها بجلده، اللهمّ اجعله وقاء لفلان بن فلان"6. وبهذا المعنى روايات عديدة أخرى7.



1 الكافي، ص28.
2 جذاوى: جمع جذوة، وهي القطعة. وفي التهذيب، والوافي: "الجداول". الجدول: العضو.
3 م.ن، ص27.
4 حلية المتقين، ص 209.
5 الكافي، ج6، ص30.
6 م.ن.
7 يراجع: الكافي، ج6، ص30-31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
399

332

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 العقيقة لغة واصطلاحاً

أصل العقيقة في اللغة من العَقّ، أي الشقّ والقطع1.
 
والعقيقة اصطلاحاً: عبارة عن ذبح أحد الأنعام الأربعة2 عن المولود (طفل/ طفلة)، في اليوم السابع من ولادته.
 
وتُسمّى الذبيحة: عقيقة، لأنّها تُذبح، فيُشقّ حلقومها ومريئها وودجاها قطعاً3.
 
ما هو الحكم التكليفيّ للعقيقة؟
اختلف الفقهاء في الحكم التكليفيّ للعقيقة على قولين:
القول الأول: أنّ العقيقة فريضة واجبة.
القول الثاني: أنّ العقيقة سنّة مستحبّة4.
الرأي الأول: وجوب العقيقة
ذهب السيد المرتضى وابن الجنيد والفاضل الآبي وغيرهم إلى أنّ الحكم التكليفيّ للعقيقة هو الوجوب. واستدلّوا على ذلك بدليلين:
1- الدليل الأول: الكتاب.
2- الدليل الثاني: السنّة.
 
الدليل الأول في نصّ السيد المرتضى
قال السيد المرتضى: "وممّا ظنّ انفراد الإمامية به، القول: بوجوب العقيقة...، دليلنا ... أنّ العقيقة نسك وقربة بلا خلاف، وإيصال منفعة إلى المساكين، وتدخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾5، ... وظاهر الأمر في الشريعة يقتضي الوجوب..."6.



1 معجم مقاييس اللغة، ج4، ص3.
2 الضأن - المعز - البقر- الإبل -.
3 مجمع البحرين، ج5، ص215. والحدائق الناضرة، ج25، ص56.
4 يراجع: المجلسي، محمد باقر، ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، ج12، ص417. الحدائق الناضرة، ج25، ص57.
5 سورة الحج، الآية 77. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
6 الانتصار، ص406-407.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
400

333

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 الدليل الثاني: السنّة

يقول الفاضل الآبي بعد نقله لقول المرتضى السابق بالوجوب: "وهو - أي الوجوب - أنسب عندي، نظراً إلى ظاهر روايات كثيرة..."1 ، نعرض منها طائفتين.
 
1- الطائفة الأولى: النصوص الآمرة بالعقيقة
وهي كثيرة، نكتفي بعرض نموذج منها: عن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "عقّوا عن أولادكم يوم السابع..."2.
 
ووجه الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات، أنّها تأمر بالعقيقة: "عقّوا"، والأمر ظاهر في الوجوب، والظهور حجّة شرعاً.
 
2- الطائفة الثانية: النصوص المصرِّحة بنحو مباشر بوجوب العقيقة
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألتُه عن العقيقة أواجبة هي؟
 
قال عليه السلام: "نعم، واجبة"3.
 
ووجه الاستدلال بهذه الطائفة: هو التصريح بكون العقيقة واجبة، والظاهر أنّ المراد بالوجوب في هذه الروايات هو المعنى الاصطلاحيّ المعروف عند الفقهاء، أي ما ينبغي فعله بنحو يستحقّ تاركه العقاب من الشارع.
 
الرأي الثاني: استحباب العقيقة
أما الرأي الثاني: فهو إثبات الاستحباب للعقيقة، ونفي الوجوب عنها. يقول الشيخ الطوسيّ: "العقيقة سنّة مؤكّدة، وليست بواجبة... دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم"4.
 
ويقع البحث في الرأي الثاني من جهتين:
الجهة الأولى: بنائية، حول الأدلّة التي استدلّ بها القائلون باستحباب العقيقة، وهي على نوعين:
الدليل الأول: الإجماع.                     الدليل الثاني: السنّة.



1 الفاضل الآبي، علي الحسن بن أبي طالب، كشف الرموز في شرح المختصر النافع، ج2، ص197.
2 الخصال، ص619.
3 الكافي، ج6، ص25.
4 الخلاف، ص67، مسألة:29. ويراجع: المبسوط، ج1، ص394.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
401

334

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 الجهة الثانية: نقدية، أي نقد الأدلّة التي استدلّ بها أصحاب الرأي الأوّل القائلين بالوجوب.

 
ونبدأ البحث من الجهة الثانية، وبها تظهر بشكل تلقائيّ الجهة الأولى. وقد ناقش أصحاب الرأي الثاني أدلّة الوجوب بأنواعها.
 
مناقشة دليل الآية
أمّا الآية، فإنّها لا تدلّ على وجوب العقيقة بعنوانها، وإنّما بتوسّط كون العقيقة خيراً، هذا أولاً، وثانياً: بحمل الأمر في ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ على الوجوب، وبعبارة أخرى: من خلال تركيب قياس منطقيّ مفاده: افعلوا الخير ظاهر في الوجوب، والعقيقة خير، فيجب فعل العقيقة.
 
والمناقشة في الآية من جهات نذكر واحدة منها فقط: وهي عدم التسليم بكون افعلوا في هذه الآية ظاهرة في الوجوب، بل في مطلق الطلب والحثّ على فعل الخير الأعمّ من الواجب، وإلا استلزم تخصيص الأكثر وهو قبيح، لأنّ أفراد الخير المستحبّ أغلب وجوداً من الخير الواجب، فلو صحّ هذا الاستدلال لوجب فعل كلّ ما يصدق عليه أنّه خير في الشريعة، وهذا ظاهر البطلان، فهناك الكثير من الأمور التي هي خير، كالصدقة، صلاة الليل، زيارة المريض، وتشييع الشهيد...، وكلّها مستحبّة ليست واجبة1.
 
مناقشة دليل النصوص الروائية
ناقش القائلون بالاستحباب في الروايات من حيث المتن دون السند، لأنّ فيها ما هو معتبر.
 
فيما يتعلق بأدلّة الطائفة الأولى - وكذلك يشمل بنحو ما الطائفة الثانية -، وهي الأمر بالعقيقة، والأمر ظاهر في الوجوب، نوقشت بأنّها احتوت على موضوعات غير واجبة بالاتّفاق، ممّا يدلّ على أنّ الأمر فيها ليس للوجوب، وإنّما لتأكّد الاستحباب، فمثلاً في تتمّة رواية الإمام عليّ عليه السلام: "عقّوا عن أولادكم يوم السابع، وتصدّقوا إذا حلقتموهم بزنة



1 كشف اللثام، ج7، ص529.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
402

335

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 شعورهم فضّة على مسلم"1.

 
وكذلك الأمر في باقي الروايات2. فعدّ العقيقة في الأخبار واقترانها في السياق بالموضوعات المتّفق على استحبابها من سنن يوم السابع يُعتبر قرينة على أنّها ليست في مقام بيان وجوب العقيقة، وإنّما يُستفاد منها كون العقيقة في مثل تلك الأمور في الاستحباب3.
 
أمّا الطائفة الثانية، فإنّ مفردة الوجوب في النصوص الروائية من المشتركات والألفاظ المتشابهة4، بمعنى أنّه يُمكن أن تحمل على الوجوب بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء اليوم، أو على تأكّد الاستحباب5، وذلك بحسب القرائن السياقية في النصّ، كما اتّضح ذلك من البحث في الطائفة السابقة، وأيضاً عند البحث في غسل المولود6. وقد ذكروا العديد من القرائن الأخرى على استفادة الاستحباب7.
 
العقيقة عن الإمامين الحسنين عليهما السلام
إنّ من منهاج النبيّ وأهل البيت عليهم السلام أنّهم يفعلون ما يقولون، ويقولون ما يفعلون، فلا يأمرون بشيء إلّا ويأتون بأحسنه، ولا ينهون عن شيء ويأتون مثله. وفي هذا السياق، كما كانت العقيقة من السنّة القولية لرسول الله وأهل البيت، حيث حثّوا عليها المؤمنين والمسلمين، كذلك كانت من السنّة الفعلية في حياتهم في خطّ علاقتهم مع أطفالهم، فقد عقّ النبي عن الحسن والحسين عليهما السلام، ورسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم قدوة لنا، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾8، والتأسّي بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي أن يعقّ أحدنا عن أبنائه وبناته لما في العقيقة من مصلحة للطفل نفسه.



1 الخصال، ص619.
2 يراجع: الكافي، ج6، ص27. عيون أخبار الرضا، ج2، ص132.
3 يراجع : الحدائق الناضرة، ج25، ص57. تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة كتاب النكاح-، ص536.
4 رياض المسائل، ج 10، ص 508.
5 يراجع: مسالك الأفهام، ج8، ص408.
6 مختلف الشيعة، ج7، ص304.
7 يراجع: جواهر الكلام، ج31، ص267. وفقه الصادق، ج22، ص276 وما بعد.
8 سورة الأحزاب، الآية 21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
403

336

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 عن عاصم الكوزي، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يذكر عن أبيه: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عقّ عن الحسن بكبش، وعن الحسين بكبش..."1.

 
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "سمّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسناً وحسيناً يوم سابعهما، وعقّ عنهما شاة شاة..."2.
 
العقيقة عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه السلام
وكذلك عقّ الإمام أبو محمد العسكريّ عليه السلام عن ولده الإمام القائم المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
- عن محمّد بن إبراهيم الكوفي: "إنّ أبا محمّد عليه السلام بعث إلى بعض من سمّاه لي، بشاة مذبوحة. وقال: هذه من عقيقة ابني محمّد"3.
 
- وعن البشار بن إبراهيم بن إدريس صاحب نفقة أبي محمّد عليه السلام، قال: وجّه إليّ مولاي أبو محمّد كبشين، وقال: "عقّهما عن ابني الحسن، وكل، وأطعم إخوانك".
 
ففعلت. ثم لقيته بعد ذلك، فقال: "المولود الذي ولد لي مات.
 
ثم وجّه لي بأربعة أكبش، وكتب إليّ: "بسم الله الرحمن الرحيم، عقّ هذه الأربعة أكبش عن مولاك، وكل، هنّأك الله". ففعلت. ولقيته بعد ذلك، فقال لي: "إنّما استأثر الله بابني الحسن وموسى لولادة محمد مهديّ هذه الأمّة والفرج الأعظم"4.
 
هل يتميّز الطفل عن الطفلة في العقيقة أم يتساويان؟
 
في مسألة مساواة الطفل والطفلة بالنسبة للعقيقة رأيان عند الفقهاء:
الرأي الأول: مساواة العقيقة للمولود، لا مساواة المولود في العقيقة، بمعنى إن كان المولود ذكراً يُعقّ عنه بذكر، وإن كان المولود أنثى يُعقّ عنه بأنثى5.



1 الكافي، ج6، ص33.
2 م.ن.
3 كمال الدين وتمام النعمة، ص432.
4 الخصيبي، الحسين بن حمدان، الهداية الكبرى، ص358. ويراجع: أحاديث الشيعة، ج21، ص369.
5 يراجع: الطوسي، الخلاف، ص68، مسألة:30. ويراجع: أبو الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه، تحقيق رضا أستادي، مكتبة أمير المؤمنين علي، أصفهان، ص314.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
404

337

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 ويُستفاد هذا المعنى ممّا رواه محمد بن مارد، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألته عن العقيقة. فقال عليه السلام: "شاة، أو بقرة، أو بدنة، ثم يُسمّي، ويحلق رأس المولود يوم السابع، ويتصدّق بوزن شعره ذهباً أو فضّة، فإنْ كان ذكراً عقَّ عنه ذكراً، وإن كانأنثى عقَّ عنها أنثى"1.

 
الرأي الثاني: مساواة المولود في العقيقة، فسواء أكان المولود ذكراً أم أنثى فإنّ العقيقة هي نفسها، من دون تمايز من حيث الجنوسة2.
 
- عن سماعة، قال: سألتُه عن العقيقة، فقال عليه السلام: "في الذكر والأنثى سواء"3.
 
- وعن ابن مسكان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألتُه عن العقيقة، فقال: "عقيقة الغلام والجارية كبش كبش"4.
 
استحباب تعدّد العقيقة في المولود الواحد، وفي المواليد المتعدّدة
ذكر الفقهاء بناءً لبعض الروايات، أنّه يُستحبّ تعدّد العقيقة للمولود الواحد، كما اتّضح ذلك في بعض الروايات السابقة، فقد عقّ الإمام العسكريّ عن الإمام المهديّ بكبشين وفي بعضها بأربعة.
 
وفي رواية عن أبي هارون مولى آل جعدة، قال: كُنتُ جليساً لأبي عبد الله عليه السلام بالمدينة، ففقدني أياماً ثم إنّي جئت إليه، فقال لي: "لم أرك منذ أيام يا أبا هارون"، فقُلتُ: ولد لي غلام... ثم قال لي: "عققت عنه"؟ قال: فأمسكت. قال: وقد رآني حيث أمسكت ظنّ أنّي لم أفعل. فقال: "يا مصادف، ادنُ منّي"، فوالله ما علمت ما قال له، إلا أنّي ظننتُ أنّه قد أمر لي بشيء، فذهبت لأقوم. فقال لي: "كما أنت يا أبا هارون". فجاءني مصادف بثلاثة دنانير، فوضعها في يدي. فقال: "يا أبا هارون،اذهب، فاشتر كبشين، واستسمنهما، واذبحهما، وكل، وأطعم"5.
 
كما أنّه يُستحبّ تعدّد العقيقة بتعدّد المواليد، بمعنى أنّه من ولد له توأمان، يُستحبّ أن يعقّ عن كلّ واحد منهما بعقيقة مستقلّة، لا أن يجمع عنهما بعقيقة واحدة.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص487، ح4715.
2 الفيض الكاشاني، محمد محسن، مفاتيح الشرائع، ج2، ص367. الحدائق الناضرة، ج25، ص58.
3 الكافي، ج6، ص26.
4 م.ن.
5 الكافي، ج6، ص40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
405

 


338

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 عن محمد بن مسلم، قال: "ولد لأبي جعفر عليه السلام غلامان جميعاً، فأمر زيد بن علي أن يشتري له جزورين1 للعقيقة..."2.

 
فيظهر من الرواية الأولى أنّ الإمام الصادق عليه السلام قد أعطى أبا هارون مالاً ليشتري كبشين من أجل أن يعقّ بهما أبو هارون عن طفله الذي ولد له، حيث تُفيد هذه الرواية استحباب تعدّد العقيقة عن المولود الواحد.
 
وفي الرواية الثانية، أمر الإمام الباقر عليه السلام زيداً أن يعق ذبيحتين عن ولديه، وهذا يدلّ على استحباب تعدد العقيقة بتعدد المواليد أيضاً.
 
متى العقيقة؟
اتّضح من بعض الروايات السابقة أنّ وقت العقيقة هو اليوم السابع من ولادة الطفل أو ما يُسمّى: أسبوع المولود. ولا خلاف بين الفقهاء في كون وقت العقيقة هو اليوم السابع3.
 
من يعقّ عن الطفل؟
إنّ المخاطَب بالأصالة في العقيقة هو وليّ الطفل، أي الأب، كما اتّضح من الروايات السابقة، "عقّوا عن أولادكم"، "عُقّ عنه"...، ولكن مع ذلك، يصحّ أن يعقّ عن المولود غير الأب، كما أنّه ليس من الضروريّ أنْ يعقّ الوالد بمعنى أن يذبح الشاة بنفسه، بل قد يوكّل ذلك إلى الجزّار أو أيّ شخص قادر على الذبح.
 
هل العقيقة على الوليّ الموسر فقط أم تشمل المعسر؟
قال الشيخ الطوسيّ: "ومن لا يقدر عليها فلا شيء عليه، فإنْ قدر فيما بعد قضاها"4.
 
وقال العلّامة الحلّي: "ولو عجز الأب أخّرها إلى المكنة"5.



1 الجزور: يقال لما يذبح من الشاء وللبعير إذا حان له أن يذبح.
2 الكافي، ج6، ص25.
3 الخلاف، ص69، مسألة:31. ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، ج12، ص417.
4 المبسوط، ج1، ص395. الطوسي، محمد بن الحسن، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، ص501.
5 تحرير الأحكام، ج4، ص7.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
406

339

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 وذلك استناداً إلى النصوص الروائية الدالّة على ذلك:

- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "العقيقة لازمة لمن كان غنيّاً، ومن كان فقيراً إذا أيسر فعل، فإن لم يقدر على ذلك، فليس عليه شيء، وإن لم يعقّ عنه حتى ضحّى عنه، فقد أجزأته الأضحية، وكل مولود مرتهن بعقيقته"1.
 
- وعن إسحاق بن عمار، قال: "سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن العقيقة على الموسر والمعسر؟
 
فقال عليه السلام: "ليس على من لا يجد شيء"2.
 
فقولا الإمام الصادق وولده الإمام الكاظم عليهما السلام يدلّان بوضوح على أن من شرائط وجوب أو تأكّد استحباب العقيقة هو اليسر الماليّ، بأن يكون الأب معه من المال ما يُمكّنه من العقّ عن طفله، أما إذا كان الأب موسراً فلا شيء عليه كما عبّرت الروايتان، نعم، بعض الروايات الأخرى التي أشارت إلى أنّ الطفل والمولود مرهون بعقيقته تدلّ على أنّه يُمكن العقّ عن الطفل متى تمكّن الأب من ذلك، بل يبقى الإنسان البالغ رهناً بعقيقته حتّى يعقّ عن نفسه إذا لم يستطع وليّه.
 
ماذا لو أخّر الوليّ عن السابع؟
لذا، لو أخّر وليّ الطفل العقيقة عن اليوم السابع، إمّا اختياراً، وإمّا اضطّراراً لعدم المال، فيُمكنه أن يأتي بها فيما بعد حتّى بعنوان الاستحباب. قال العلّامة الحلّي: "لا يسقط استحبابها بالتأخير لعذر وغيره"3.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص486، ح4714.
2 الكافي، ج6، ص27.
3 قواعد الأحكام، ج3، ص98.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
407

340

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 المفاهيم الرئيسة

- أسبوع المولود، أو اليوم السابع من ميلاده، له خصوصية واضحة في منهج أهل البيت فيما يتعلّق بالتعامل مع الطفل أو الطفلة. ونغتنم هذه الفرصة، للدعوة إلى تجديد إحياء هذه السنّة النبوية القولية والفعلية مع المولود في مجتمعاتنا الإسلامية.

- من السنن التي تصبّ نتيجتها في مصلحة المولود خصوصاً على المستوى الجسديّ ما يُسمّى بـ: "العقيقة". والعقيقة اصطلاحاً: عبارة عن ذبح أحد الأنعام الأربعة عن المولود (طفل/ طفلة)، في اليوم السابع من ولادته. وقد وقع الاختلاف بين الفقهاء في وجوبها أو استحبابها، وذهب المشهور إلى الاستحباب المؤكّد.

- استدلّ القائلون بوجوب العقيقة بعدّة روايات منها: عن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "عقّوا عن أولادكم يوم السابع...". و"عقّوا"، فعل أمر، والأمر ظاهر في الوجوب، والظهور حجّة شرعاً. ومنها: الروايات التي صرّحت بوجوب العقيقة مباشرة، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سألتُه عن العقيقة أواجبة هي؟ قال عليه السلام: "نعم، واجبة".

- ردّ القائلون بالاستحباب على القائلين بالوجوب بالنسبة للعقيقة، بأنّ الروايات التي استُدلّ بها على الوجوب احتوت على موضوعات غير واجبة، ممّا يدلّ على أنّ الأمر فيها ليس للوجوب، وإنّما لتأكّد الاستحباب.

- كما كانت العقيقة من السنّة القولية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، حيث حثّوا عليها المؤمنين والمسلمين، كذلك كانت من السنّة الفعلية في حياتهم في خطّ علاقتهم مع أطفالهم، فقد عقّ النبيّ عن الحسن والحسين عليهما السلام. وكذلك عقّ الإمام حسن العسكريّ عليه السلام عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

- يُستحبّ ذكر اسم المولود واسم أبيه عند ذبح العقيقة والدعاء بالمأثور.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
408

341

الدرس الخامس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (1)

 أسئلة الدرس

1- ما هي أهمّية إحياء أسبوع الطفل؟ وهل أكّدت الروايات على ذلك؟

2- ما هي السنن المستحبّة في أسبوع الطفل؟ عدِّدها بالتفصيل.

3- اذكر بعض النصوص الروائية التي بيّنت طبيعة إجراءات وسنن أسبوع الطفل.

4- ما هي العقيقة؟ ولماذا تتميّز بأهمّية خاصّة في حياة الطفل؟

5- ذكر الفقهاء رأيين حول العقيقة (الوجوب والاستحباب) أعرض أدلّة الرأي الأول، وناقشها من وجهة نظر أصحاب الرأي الثاني.

6- أعرض بعض النماذج العملية على العقيقة من حياة النبيّ وأهل البيت.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
409

342

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2)

(الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف برنامج شعائر يوم أسبوع الطفل، وعرض أدلّة ذلك من النصوص الدينية.
2- أن يعرف أهمّية الإطعام والوليمة عند ولادة الطفل وعند تطهيره.
3- أن يعرف أهمّية حلق شعر المولود والتصدّق بوزنه فضّة أو ذهباً وتطييب رأسه.
4- يعرف حكم الختان في الفقه التربويّ الإسلاميّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
411

343

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 تابع:

ثانياً: الإطعام
ذبح العقيقة ليس لأجل الذبح فقط، بل للإطعام، لأنّ الله تعالى يحب إطعام الطعام، كما أكّد على ذلك العديد من الروايات، منها:
- عن عبد الله بن بكير، قال: "كُنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام، فجاءه رسول عمّه عبد الله بن عليّ، فقال له: يقول لك عمّك: إنّا طلبنا العقيقة فلم نجدها، فما ترى نتصدّق بثمنها؟
 
فقال عليه السلام: "لا، إنّ الله يُحبّ إطعام الطعام وإراقة الدماء"1.
 
- وعن محمد بن مسلم، قال: "ولد لأبي جعفر عليه السلام غلامان جميعاً، فأمر زيد بن علي أن يشتري له جزورين للعقيقة، وكان زمن غلاء، فاشترى له واحدة، وعسرت عليه الأخرى. فقال لأبي جعفر عليه السلام: قد عسرت عليّ الأخرى فتصدّق بثمنها؟
 
فقال عليه السلام: "لا، اطلبها حتّى تقدر عليها، فإنّ الله عزّ وجلّ يُحبّ إهراق الدماء وإطعام الطعام"2.
 
وفي إطعام العقيقة حسب استقراء الروايات عدّة مجالات:
1- أن يأكل منها أهل بيت الطفل أنفسهم (يراجع حول هذه النقطة ملحق الدرس).
2- أن يُهدى منها إلى الجيران.



1 الكافي، ج6، ص25.
2 م.ن.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
413

344

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 3- أن يُوزّع لحمها نيئاً أو مطبوخاً على المحتاجين والفقراء من المؤمنين من أهل الولاية.

 
4- أن تُطبخ ويُدعى إليها كوليمة بعض المؤمنين.
 
وفي كلّ ذلك روايات، منها:
- عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "... ويُطعم منه عشرة من المسلمين فإن زادوا فهو أفضل وتأكل منه"1.
 
- عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام: "... واقطع العقيقة جذاوى2، واطبخها وادع عليها رهطاً من المسلمين"3.
 
- وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام: "... ويبعث إلى القابلة بالرجل مع الورك، ويطعم منه ويتصدّق"4.
 
- وعن أبي خديجة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "... وتُجعل أعضاء ثم يطبخها ويُقسّمها ولا يُعطيها إلا لأهل الولاية"5.
 
- وعن يحيى بن أبي العلاء، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "سمّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسناً وحسيناً عليهما السلام يوم سابعهما، وعقّ عنهما شاة شاة وبعثوا برجل شاة إلى القابلة ونظروا ما غيره فأكلوا منه وأهدوا إلى الجيران..."6.
 
- وعنه عليه السلام: "... والسابعة: يطعم الجيران من عقيقته"7.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام: "وأُهدي إلى القابلة الرجل والورك، ويُدعى نفر من المسلمين فيأكلون ويدعون للغلام"8.



1 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص486.
2 جذاوى: قطع.
3 الكافي، ج6، ص27.
4 م.ن، ص29.
5 م.ن، ص32.
6 م.ن، ص33.
7 مكارم الأخلاق، ص271.
8 الكافي، ج6، ص28.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
414

345

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 ويتلخّص من جميع هذه الروايات أنّ الإنسان بالمشيئة والخيار في أنْ يفعل أيّاً من هذه الخيارات بعد ذبح العقيقة. ويجوز الجمع بين كلّ هذه الأمور، بين توزيع اللحم نيّئاً، أو طبخها وتوزيع  الطعام، أو الدعوة إليها وليمة في المنزل مثلاً. ولا يُشترط في الذين يطعمون من العقيقة أن يكونوا فقراء وإن كان الأفضل ذلك1.

 
عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه سُئِل عن العقيقة إذا ذُبحت هل يكسر عظمها؟ قال: "نعم، يُكسر عظمها، ويُقطع لحمها، ويُصنع بها بعد الذبح ما شئت"2.
 
إطعام الإمام الصادق عند ولادة الإمام الكاظم ثلاثة أيام
الإطعام عند الولادة من سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام عندما يولد لهم طفل، فقد أطعم الإمام الصادق عليه السلام الناسَ ثلاثة أيام متتالية عندما ولد الكاظم عليه السلام.
 
فعن منهال القصّاب، قال: "خرجت من مكّة وأُريد المدينة، فمررت بالأبواء، وقد ولد لأبي عبد الله عليه السلام موسى عليه السلام، فسبقته إلى المدينة، ودخل بعدي بيوم، فأطعم الناس ثلاثاً، فكُنتُ آكل فيمن يأكل، فما آكل شيئاً إلى الغد حتّى أعود فآكل، فمكثت بذلك ثلاثاً أطعم حتّى أرتفق ثم لا أطعم شيئاً إلى الغد"3.
 
الإطعام عند ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
وكذلك عندما ولد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وزّع الإمام العسكريّ عليه السلام الخبز واللحم على الناس، وهذان مؤشّران إلى استحباب الإطعام عند الولادة.
 
عن أبي جعفر العمريّ، قال: لمّا ولد السيد عليه السلام قال أبو محمد عليه السلام: "ابعثوا إلى أبي عمرو" (عثمان بن سعيد)، فبعث إليه، فصار إليه، فقال له: "اشترِ عشرة آلاف رطل خبز، وعشرة آلاف رطل لحم، وفرّقه - أَحسَبُه قال: على بني هاشم -، وعقّ عنهبكذا وكذا شاة"4.



1 حلية المتقين، ص211.
2 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص487.
3 المحاسن، ج2، ص418.
4 كمال الدين وتمام النعمة، ص413.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
415

346

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 ثالثاً: الوليمة

اتضح مما تقدّم استحباب الوليمة أيضاً، والوليمة غير الإطعام، فإنّ الإطعام أعمّ من الوليمة1، وقد أكّدت الروايات على خصوصية الوليمة عند ولادة الطفل وعند ختانه، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الوليمة في أربع: العرس،والخرس وهو المولود يعقّ عنه ويُطعم، والأعذار وهو ختان الغلام، والإياب وهو الرجل يدعو إخوانه إذا آب من غيبته"2.
 
الدعاء للغلام عند الوليمة
من الأفعال المرغوب فيها الدعاء للمولود، وقد مرّ سابقاً ما يُشير إلى ذلك في رواية أبي عبد الله عليه السلام، حيث قال: "ويُدعى نفر من المسلمين فيأكلون ويدعون للغلام".
 
يبقى أن نُشير إلى عدّة مسائل على صلة بالموضوع.
 
رابعاً: حلق شعر المولود
من جملة السنن المستحبّة يوم أسبوع المولود حلق شعر الطفل أو الطفلة، فقد أمر بذلك رسول الله وأهل البيت عليهم السلام، وأكّدوا على ذلك في العديد من النصوص الواردة عنهم. كما أنّ الحلق للمولود هو من السنن الفعلية لأهل البيت عليهم السلام، فعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّ فاطمة عليها السلام حلقت ابنيها، وتصدّقت بوزن شعرهما فضّة"3.
 
وفي هذا السياق، نعرض بعض الروايات الدالّة على ذلك:
- عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "احلقوا شعر الذكر والأنثى يوم السابع، وتصدّقوا بوزنه"4.
 
- وعن علي بن جعفر، عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: سألتُه عن العقيقة عن الغلام والجارية، ما هي؟ قال: "سواء كبش كبش، ويحلق رأسه في السابع،



1 يراجع: تحرير الأحكام، ج3، ص583.
2 الكافي، ج6، ص282.
3 م.ن، ص26.
4 مستدرك الوسائل، ج15، ص146، ح17809.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
416

347

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 ويتصدّق بوزنه ذهباً أو فضة، فإن لم يجد رفع الشعر، أو عرف وزنه، فإذا أيسر تصدّق بوزنه"1.

 
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "... فلمّا ولدت فاطمة الحسين عليهما السلام فكان يوم السابع، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحلق رأسه، وتصدّق بوزن شعره فضّة..."2.
 
ولو مضى يوم السابع سقط الاستحباب3. عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن عليه السلامقال: سألتُه عن مولود يحلق رأسه بعد يوم السابع؟ فقال: "إذا مضى سبعة أيام فليس عليه حلق"4.
 
العلّة في حلق شعر الرأس
سُئِل الإمام الصادق عليه السلام: ما العلّة في حلق شعر رأس المولود ؟ قال: "تطهيره من شعر الرحم"5.
 
زمن الحلق وكيفيته
يظهر من بعض الروايات أنّ الحلق يقع قبل العقيقة، بأن يبدأ الإنسان بالحلق ثم يعقّ عن مولوده، كما في الرواية الأولى المتقدّمة عن الإمام الصادق، ولرواية ثانية عنه عليه السلام قال: "تبدأ بمنى بالذبح قبل الحلق وفي العقيقة بالحلق قبل الذبح"6.
 
وبناءً على هذه الروايات، قال المحقّق الحلّي: "ويُستحبّ حلق رأسه يوم السابع مقدَّماً على العقيقة"7. وقال ابن إدريس الحلّي: "وفي العقيقة - يبدأ - بالحلق قبل الذبح"8.
 
والمقصود حلق جميع شعر الرأس، لا الحلق من مكان دون مكان، كأن يحلق الجانب الأيسر ويترك الجانب الأيمن، أو غير ذلك من الأشكال.



1 قرب الأسناد، ص297، ح1170.
2 الصدوق، الأمالي، ص143.
3 نهاية المرام، ج1، ص450. ويراجع: كفاية الأحكام، ج2، ص284.
4 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص489، ح 4729.
5 م.ن.
6 الكافي، ج4، ص498.
7 المختصر النافع، ص193. الحلي، جعفر بن الحسن، شرائع الإسلام، ج2، ص565.
8 المبسوط، ج1، ص374. ويراجع: السرائر، ج1، ص599.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
417

348

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

قال المحقّق الحلّي: "ويُكره أن يحلق من رأسه موضع، ويترك موضعاً، وهي القنازع"1. وذلك استناداً إلى ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين: "لا تحلقوا للصبيان القزع، والقزع أن يحلق موضعاً ويدع موضعاً"2.

 
خامساً: التصدّق بوزن الشعر فضّة أو ذهباً
اتضح ممّا سبق أن الشعر المحلوق يجمع ثم يوزن ثم يتمّ التصدّق بمقدار وزنه فضّة أو ذهباً.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "عقّوا عن أولادكم يوم السابع، وتصدّقوا إذا حلقتموهم بزنة شعورهم فضّة على مسلم، كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن والحسين وسائر ولده"3.
 
سادساً: طلي الرأس بالطيب (خلوق، زعفران...)
من جملة السنن المستحبّة أيضاً يوم أسبوع الطفل هو أن يُطلى رأسه ويُدهن بالطيب، والوارد في الروايات: الخلوق، والزعفران، والظاهر أنّهما من باب المصداق دون الحصر.
 
- عن عليّ بن موسى الرضا، - عن آبائه -، عن الإمام عليّ بن الحسين عليهم السلام، عن أسماء بنت عميس في ولادة الحسن والحسين عليهما السلام قالت: "... فلمّا كان يوم سابعه (أي الحسن عليه السلام) عقّ النبي عنه بكبشين أملحين وأعطى القابلة فخذاً وديناراً، ثم حلق رأسه،وتصدّق بوزن الشعر ورقاً، وطلى رأسه بالخلوق4، ثم قال: يا أسماء الدم فعل الجاهلية. قالت أسماء: فلمّا كان بعد حول ولد الحسين عليه السلام... فلمّا كان يوم سابعه عقّ عنه النبيّ بكبشين أملحين وأعطى القابلة فخذاً وديناراً، ثم حلق رأسه، وتصدّقبوزن الشعر ورقاً، وطلى رأسه بالخلوق، فقال: يا أسماء الدم فعل الجاهلية"5.
 
- وتقدّم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "... والخامسة: يُلطّخ رأسه بالزعفران..."6.



1 شرائع الإسلام، ج2، ص565.
2 الكافي، ج6، ص40.
3 الخصال، ص619.
4 الخلوق: نوع من الطيب.
5 عيون أخبار الرضا، ج2، ص29.
6 مكارم الأخلاق، ص228.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
418

349

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 وقد كان عرب الجاهلية أو بعض العرب يُلطّخون رأس المولود بالدم، وقد نهى الإسلام عن ذلك، قال الشيخ الطوسي: "ولا يُلطّخ رأس الصبيّ بدم العقيقة. وبه قال جميع الفقهاء"1. وقد ورد في الروايات عن معاوية بن وهب، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "عقّت فاطمة عن ابنيها، وحلقت رؤوسهما في اليوم السابع، وتصدّقت بوزن الشعر ورقاً (فضّة)". وقال: "كان ناس يُلطّخون رأس الصبيّ في دم العقيقة. وكان أبي يقول: ذلك شرك"2.

 
سابعاً: الختان
الختن في أصل اللغة هو القطع. والختان في الاصطلاح عبارة عن قطع الغلفة أي الجلدة التي تستر الحشفة، بحيث تنكشف ويظهر منها ما كان مستوراً3.
 
والختان على ما ورد في النصوص الروائية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام من: "الفطرة"4، و"الحنيفية"5، و"السنّة"6... وقد فعله رسول الله بحقّ الحسنين، عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه عليهما السلام، قال: "سمّى رسولُ الله الحسنَ والحسينَ لسبعة أيام، وعقّ عنهما لسبع، وختنهما لسبع..."7.
 
النصوص الروائية في الحثّ على الختان
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طهِّروا أولادكم يوم السابع، فإنّه أطيب وأطهر، وأسرع لنبات اللحم. وإنّ الأرض تنجس من بول الأغلف أربعين صباحاً8"9.



1 الخلاف، ص69، مسألة:31.
2 الكافي، ج6، ص33.
3 يراجع: المبسوط في فقه الإمامية، ج8، ص67.
4 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "الختان الفطرة". دعائم الإسلام، ج1، ص124. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "خمس من الفطرة :... والاختتان". الخصال، ص310.
5 عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "من الحنيفية الختان". الكافي، ج6، ص36.
6 وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "من سنن المرسلين الاستنجاء، والختان". تهذيب الأحكام، ج7، ص445.
7 قرب الأسناد، ص122.
8 في بعض الروايات: "أربعين يوماً".
9 الكافي، ج6، ص34. وهناك العديد من الأحاديث بهذا المضمون عن النبي وأهل البيت صلوات الله عليهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
419

350

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 - عن الإمام عليّ عليه السلام: "اختنوا أولادكم يوم السابع، لا يمنعكم حرٌّ ولا برد، فإنّه طهور للجسد. وإنّ الأرض لتضجّ إلى الله من بول الأغلف"1.

 
وقت الختان
من الواضح في النصوص الروائية أنّ الزمان الأفضل للتطهير والختان للمولود "اليوم السابع"، مع جواز التقديم أو التأخير.
 
عن عليّ بن يقطين، قال: "سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن ختان الصبيّ لسبعة أيام، من السنّة هو، أو يؤخّر فأيّهما أفضل؟
 
قال عليه السلام: "لسبعة أيام من السُّنة، وإن أخّر فلا بأس"2.
 
استحباب الدعاء عند الختان أو بعده
يُستحبّ أن يدعو الإنسان عند ختان الطفل ببعض الأدعية التي ذُكرت في كتب الروايات، منها ما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام، في الصبيّ إذا خُتن، قال: يقول: "اللهمّ هذه سنّتك وسنّة نبيّك صلواتك عليه وآله، واتباع منّا لك ولنبيّك بمشيتك و بإرادتك وقضائك لأمرٍ أنت أردته وقضاءٍ حتمته وأمرٍ أنفذته فأذقته حرّ الحديد في ختانه وحجامته لأمرٍ أنت أعرف به منّي، اللهمّ فطهّره من الذنوب، وزد في عمره، وادفع الآفات عن بدنه، والأوجاع عن جسمه، وزده من الغنى، وادفع عنه الفقر، فإنّك تعلم ولا نعلم". وقال أبو عبد الله عليه السلام: "أيّ رجل لم يقلها عند ختان ولده فليقلها عليه من قبل أن يحتلم، فإن قالها كُفي حرّ الحديد من قتل أو غيره"3.
 
الحكم التكليفيّ للختان
لا إشكال في أنّ قلم التكليف مرفوع عن الطفل كما ذكرنا في مقدّمات الكتاب، لذا لا يكون الحكم التكليفي للختان متوجّهاً إلى الطفل غير المميّز4، فإنّ الطفل ليس موضوعاً للخطاب الإلزاميّ من المشرِّع.


 

1الخصال، ص636.
2 الكافي، ج6، ص36.
3 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص489.
4 التقييد بغير المميز، لنخرج الطفل المميز بناء على مشروعية عباداته وأنه يكتب له الحسنات إذا فعل ما هو مستحب وواجب في الشريعة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
420

351

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 وجوب الختان نفسيّ لا شرطيّ

ذهب مشهور الفقهاء إلى أنّ الختان واجب بعنوانه بغضّ النظر عن أيّ واجب آخر1، لا أنّه يجب لما يعتبر الختان شرطاً فيه كالطواف أو غيره من العبادات مثلاً، ولذا يُعتبر المكلّف فاسقاً وتسقط عدالته بتركه الختان عمداً. وإن كان يظهر من بعض عبارات الفقهاء أنّه واجب شرطيّ، بمعنى "أنّ الختان شرط في صحّة الصلاة ونحوها من العبادات، فلا يجب إلّا مع وجوب المشروط"2.
 
الحكم الوضعيّ للختان
يُعتبر الختان شرطاً في صحة بعض العبادات والوظائف العبادية، نذكر على سبيل المثال نموذجين ممّا ذكره العلّامة الحلّي، قال:
- "الختان شرط في الطواف للرجل دون المرأة"3.
- "الختان شرط في الإمام..."4.
 
توجّه الخطاب إلى الوليّ بحقّ طفله
والسؤال الذي يُطرح هنا: هل يجب على الوليّ أن يختن طفله قبل البلوغ أم لا يجب عليه ذلك بل يُستحبّ فقط5؟
في الجواب عن هذا السؤال نجد رأيين عند الفقهاء:
الرأي الأوّل: يجب على الوليّ أن يختن الطفل6.
الرأي الثاني: لا يجب على الوليّ ذلك7.
 
وقبل التعرّض إلى كلا الرأيين، نتوقّف عند بيان محلّ النزاع.
 
لا إشكال عند أحد من الفقهاء في كون الختان واجباً على البالغ، وأنّه أمر مستحبّ يوم السابع من ولادة الطفل كما اتّضح، إلا أنّ موضع النزاع هو في أنّ أوّل وقت وجوبه هل هو على



1 جواهر الكلام، ج31، ص260. قال: "ذلك لأن الختان واجب في نفسه بالضرورة من المذهب والدين...".
2 مسالك الأفهام، ج8، ص404.
3 تحرير الأحكام، ج1، ص581.
4 نهاية الأحكام، ج2، ص143.
5 يراجع: فقه الصادق، ج 22، ص281-285.
6 تحرير الأحكام، ج4، ص8.
7 المهذّب، ج2، ص261.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
421

352

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 الوليّ قبل تكليف الصبيّ، بحيث إذا بلغ الصبيّ يكون قد اختتن قبله ولو بقليل، أم لا يجب إلّا بعد البلوغ كغيره من التكاليف المتعلّقة بالمكلَّف1؟

 
وهل يستمرّ هذا العمل مستحبّاً على نحو العموم الزمانيّ في كلّ مرحلة الطفولة بالنسبة للوليّ، أم يُصبح في لحظة ما واجباً عليه مع تضيّق الوقت بالنسبة لزمان البلوغ؟
 
وبعبارة أخرى: لو ترك الوليّ فعل المستحبّ، ولم يختن طفله إلى ما قبيل البلوغ، هل يجب عليه في هذا الظرف أن يختن ولده أم لا؟
 
وفي الجواب عن هذا السؤال، يرى أصحاب الرأي الأوّل أنّ أصل تطهير الطفل واجب على الوليّ بغضّ النظر عن زمان حصوله قبل البلوغ، فهو مستحبّ بمعنى أنّه كذلك في بعض أجزاء الوقت أي اليوم السابع، لا أنّه كذلك في جميع أجزاء الوقت على نحو العموم الزمانيّ، وعليه فلو تضيّق الوقت ما بين الطفولة والبلوغ إلى زمان لا يسع التطهير، يجب على الوليّ ختان الصبيّ2. ومستند ذلك إطلاق الروايات المتضمّنة لأمر الولي بذلك3.
 
وفي الرأي الثاني يقول الشهيد الثاني: "لو سلّم أنّه واجب لنفسه فمتعلّقه المكلّف، والأصل براءة ذمّة الوليّ من فعله، والأمر قبل البلوغ محمول على الاستحباب، لأنّ في بعض الأخبار أنّه من السنّة مقروناً بثقب الأذن المتعيّن حمله على الاستحباب، وإن كانت السنّة في نفسها أعمّ من الواجب"4.
 
الوليمة عند الختان
تقدّم شرح معنى الوليمة، وهي كلّ إطعام بسبب حادث سارّ، وتُستحبّ في عدّة مواضع، منها عند الختان، كما اتّضح سابقاً، والملفت في هذا السياق ما ورد في النهي عن إجابة الدعوة إلى الوليمة في خفض الجواري، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أجبفي الوليمة والختان ولا تجب في خفض الجواري"5.



1 يراجع: مسالك الأفهام، ج8، ص402.
2 يراجع: مسالك الأفهام، مصدر سابق.
3 نهاية المرام، ج1، ص453.
4 مسالك الأفهام، مصدر سابق.
5 الكافي، ج6، ص275.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
422

353

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 المفاهيم الرئيسة

- من جملة السنن المستحبّة يوم السابع من ولادة الطفل الإطعام، فإنّ ذبح العقيقة ليس لأجل الذبح فقط بل للإطعام، فالله تعالى يُحبّ إطعام الطعام، فعن عبد الله بن بكير، قال: كُنتُ عند أبي عبد الله عليه السلام، فجاءه رسول عمّه عبد الله بن عليّ، فقال له: يقول لك عمّك: إنّا طلبنا العقيقة فلم نجدها، فما ترى نتصدّق بثمنها؟ فقال عليه السلام: "لا، إنّ الله يُحبّ إطعام الطعام وإراقة الدماء".

- يُطعَم من العقيقة الأقارب، والجيران، والمحتاجون والفقراء من أهل الولاية، ويتمّ توزيع لحمها نيئاً أو مطبوخاً.

- يُستحبّ إقامة الوليمة أيضاً في اليوم السابع وعند الختان.

- من جملة السنن المستحبّة يوم أسبوع المولود حلق شعر الطفل أو الطفلة، وقد سُئِل الإمام الصادق عليه السلام: ما العلّة في حلق شعر رأس المولود ؟ قال: "تطهيره من شعر الرحم". 

والمقصود حلق جميع شعر الرأس، وليس الحلق من مكان دون مكان.

- يجمع الشعر المحلوق ثم يوزن ويتصدّق بمقدار وزنه فضّة أو ذهباً.

- من المستحبّات طلي رأس الطفل بالطيب، فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحسن والحسين، وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "... والخامسة: يُلطّخ رأسه بالزعفران...".

- من جملة المستحبّات أيضاً الختان، وهو عبارة عن قطع الغلفة أي الجلدة التي تستر الحشفة، بحيث تنكشف ويظهر منها ما كان مستوراً. والختان على ما ورد في النصوص الروائية عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام من: "الفطرة"، و"الحنيفية"، و"السنّة"...

- يُستحبّ الدعاء عند الختان بالمأثور.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
423

354

الدرس السادس والعشرون: حقّ الطفل في شعائر أسبوعه - أسبوع المولود - (2) (الوليمة والإطعام، حلق شعر المولود، التصدّق بوزنه، تطييب رأسه، ختانه)

 أسئلة الدرس

1- هل يكفي التصدّق بثمن العقيقة؟ إذا كان الجواب بالنفي اذكر شاهداً من الروايات.

2- من ينبغي إطعامه من العقيقة؟ وهل الوليمة مستحبّة بمناسبة ولادة الطفل وختانه؟ اذكر دليلاً.

3- من جملة السنن المستحبّة يوم أسبوع المولود حلق شعر الطفل، بيّن خطوات هذا العمل بالتفصيل مع ذكر الأدلّة الروائية.

4- هل ثقب أُذن المولود من المستحبّات أم المكروهات؟

5- ما هو الختان؟ وهل هو واجب على الوليّ تجاه الطفل أم مستحبّ؟

6- ما هي أهمّية الدعاء عند الختان بالنسبة للطفل؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
424

355

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)



أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفهم الارتباط الخاصّ بين الاسم والمعاني الإيجابية والسلبية له لغةً وعرفاً وعلى مستوى الشخصيات المسمّاة به.
2- يعرف أنّ من حقّ الطفل على والديه اختيار الاسم الحسن له.
3- يعرض النصوص التي تحثّ على حسن اختيار اسم المولود.
4- يعرف توقيت بدء محبوبيّة تسمية المولود.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
425

356

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 تمهيد

حرصاً على عدم انتشار الظاهرة السلبية التي بدأت تشقّ طريقها في وسط المجتمع الإسلاميّ حول إطلاق أسماء غربية أو أجنبية على الأبناء والبنات، تأثّراً بالثقافة الغربية وتقليداً لها، خصوصاً أسماء المشاهير من الشخصيات، ولكون الأسماء تُشكّل عنصراً من عناصر الهويّة الحضارية لأيّ أمّة، يُصبح الحديث عن معايير اختيار اسم الطفل من القضايا المهمّة على المستوى التربويّ التي تقتضي التوقّف عندها بشكل تفصيليّ.
 
تحديد المعنى المراد من الاسم
التسمية عبارة عن عملية وضع الاسم بإزاء المسمّى وجعله مقابله، أي اطلاق اسم معيّن محدّد - كـ: محمد للذكور، وفاطمة للإناث- على المولود الجديد.
 
والاسم من الناحية اللغوية، إمّا مشتق من السِّمة، بمعنى: العلامة، كما هو مذهب الكوفيّين، لأنّ الاسم علامة تدلّ على صاحبه وتميّزه عن غيره، وإمّا من السِّموّ بمعنى: الرفعة والعلوّ، كما هو مذهب البصريين، وذلك لأنّ المرتفع أمر ظاهر بارز، فيكون الاسم مظهِراً ومبرِزاً لصاحبه1.
 
وقد جمع الشاعر بينهما في قوله:
لعمرِك ما الأسماء إلّا علامة منار          ومن خير المنار ارتفاعها
 
وتجمع كلمة اسم على: أسماء، وأسامٍ، وأسماوات.
 
والاسم في علم النحو هو اللفظ الدال على معنى مجرّد عن الزمان.



1 يراجع: الخميني، مصطفى، تفسير القرآن الكريم، ج1، ص69 وما بعد.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
427

357

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 والمقصود بالبحث هنا، ليس الاسم بالمعنى الأعمّ - اللغويّ أو النحويّ -، فإنّهما أشمل وأوسع من موضع البحث، بل المراد الاسم بالمعنى الأخصّ، أي "اسم العَلَم"، وهو اللفظ الدّال على ذات مشخّصة معيّنة. وفائدته: تعريف الذوات، وبيان الفرق بين الأشخاص، فبالاسم يتميّز الفرد عن غيره.


وتنشأ العلاقة الخاصة بين الاسم (جميل) مثلاً وبين المسمّى (ذات الطفل) من خلال الوضع والجعل والاعتبار، بحيث إنّه كلّما أُريد التعبير عن الشخص الخارجيّ والدلالة عليه أو مناداته استعمل اسم: "جميل"، بحيث يفهم السامع العالِم بهذا الوضع أنّ المقصود هو فلان، وينتقل ذهنه من اللفظ والاسم إلى الطفل الموضوع له هذا الاسم، فإنّ الأب مثلاً إذا أراد أن يُنادي طفله البكر الذي سمّاه "جميل" لا يستحضر لفظ "حسن" (اسم ابنه الثاني مثلاً)، بل يقول: يا جميل، وفي المقابل إنّ الذي يُجيب عليه ليس حسناً، بل جميل نفسه، رغم أنّ جميل وحسن بمعنى واحد، وهذا نتيجة القانون التكوينيّ في ذهن الإنسان، الذي يعمل على فهم التلازمات والارتباطات بين الأشياء، ومنها الأسماء والمسمّيات، فيتولّد من اقتران لفظ "جميل" بذاته الخارجية (المسمّى) علاقة أكيدة مخصوصة بين الاسم والمسمّى، بحيث بمجرّد سماع اسمه يتبادر إلى أذهاننا مفهوم ومعنى "جميل" الدّالّ على تلك الذّات الخارجية والشخص الخاص المعيّن.

ارتباط الاسم بالتضمّنات الإيجابية والسلبية
اتّضح ممّا سبق، أنّ أسماء الأعلام لا يتبادر بالأصالة منها معانيها المستعملة فيها بالوضع، وذلك لأنّ معتبرها لم يستعملها فيما وضعه أهل اللغة لها من المعاني والمفهومات، إلا أنّه رغم ذلك، تنبغي الإشارة إلى نقطة مهمّة تُعتبر الغرض من هذه المقدّمة، وهي أنّه لا يُمكن نزع الأسماء وخلعها بالكلّية - إيجاباً أو سلباً - عن أمرين:
الأول: ثوب معانيها اللغوية المركوزة في المعجم الذهنيّ لأهل اللغة، فهي تحضر أحياناً مفهوماتها اللغوية في ذهن الإنسان، وذلك نتيجة الأنس الحاصل عادة بين الألفاظ والمعاني، خصوصاً أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى، تُصبح ذات رابطة سببية، ممّا يؤدّي لا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
428

358

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 أقلّ إلى حالة من التداعي الذهنيّ والاقتران بين الاسم وبين المعنى اللغويّ له إمّا مباشرة وإمّا بالواسطة، كاسم نمر أو أسد، أو اسم وردة أو قمر...


الثاني: ثوب بعض الشخصيّات التاريخية والمشهورة، حيث إنّ التشابه في الأسماء يأخذ الذهن إلى دائرة التشابه في المعاني بين الشخصيّات، وذلك نتيجة تلك الرابطة التي ذكرناها سابقاً، خصوصاً في بعض الأسماء التي لها خصوصية وحيثيّة معيّنة، فعندما يُطلق اسم: "يزيد" مثلاً، يستحضر الذهن قاتل الإمام الحسين عليه السلام، للعلاقة الترابطية بين لفظ يزيد وبين قاتل الحسين عليه السلام، وهكذا الأمر في أسماء شخصيّات وأعلام تاريخية ومعاصرة عديدة...

وإذا أخذنا بعين الاعتبار هاتين النقطتين، بالإضافة إلى نقطة ثالثة، وهي أنّ الألفاظ في اللغات بحسب طبيعة تركيبها اللغويّ ومخارج حروفها ليست متشابهة، بل هناك ألفاظ ثقيلة على النطق والسمع، وأخرى خفيفة، وهناك ألفاظ حسنة ومأنوسة وعذبة وموسيقية ومألوفة، وأخرى قبيحة ومستوحشة وغريبة وشاذّة ومنفّرة، وهكذا، يُصبح من الضروريّ اختيار الاسم الحسن من جهتين:
1- من حيث اللفظ والتركيب بين الحروف، بأن لا يكون لفظاً غريباً معقّداً موحشاً...
2- من حيث المعنى، بأن تكون له تضمّنات إيجابية، ولا يحمل إشارات إلى معانٍ سلبية.

خصوصاً أن اسم العلم بالنسبة إلى الذّات الدّال عليها، ليس حالة مؤقّتة لها تاريخ تنتهي عنده صلاحية الاسم، بل الاسم مرافق وصديق ملاصق لصاحبه منذ ولادته وبدء تسميته به إلى يوم القيامة حيث يُنادَى الناس بأسمائهم، لذا من المرغوب فيه والمحبوب في الرؤية التربوية الإسلامية أن يورث المربّي الطفلَ اسماً حسناً لائقاً، يزرع في نفس الطفل والولد الإحساس الجميل. فكم من الأسماء أورثت أصحابها حالة من ضعف الثقة بالنفس، الخجل والحياء، الانزعاج والتوتّر والاضطراب، والنفور والبغض،... إلخ، وأثارت لهم المشكلات في حياتهم الشخصية والعائلية وبيئتهم المدرسية والمهنية و...

وكذلك العكس، كم من الأسماء كان لها أثر إيجابيّ على الإنسان المسمّى بها. وكلّ ذلك قد يكون نتيجة لحظة اتّخاذ قرار لا يتجاوز بضع ثوانٍ عملياً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
429

359

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 الأسماء في الشريعة الإسلاميّة

ورد التأكيد والحثّ في الرؤية التربوية الإسلامية على استحسان الأسماء. واعتبرت الشريعة الإسلامية أنّ من حقوق الطفل على وليّه اختيار الاسم الحسن له، لما لذلك من دور إيجابيّ في تربية الطفل ورسم ملامح شخصيّته.
 
- النصوص الواردة في الحثّ على اختيار الاسم الحسن للطفل/ الطفلة
- عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أول ما ينحل به1 أحدكم ولده: الاسم الحسن، فليحسن أحدُكم اسم ولده"2.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: استحسنوا أسماءكم، فإنّكم تدعون بها يوم القيامة، قم يا فلان بن فلان إلى نورك، وقم يا فلان بن فلان لا نور لك"3.
 
- وعن أبي الحسن الأول - الكاظم - عليه السلام قال: "أول ما يبرّ الرجلُ ولدَه أن يُسمّيه باسم حسن، فليحسن أحدُكم اسم ولده"4.
 
- النصوص الواردة في كون الاسم الحسن من حقوق الطفل
- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حقُّ الولد على والده، إذا كان ذكراً: أن يستفره أمّه5، ويستحسن اسمه...
 
"وإذا كانت أنثى: أن يستفره أمّها، ويستحسن اسمها..."6.
 
- وعن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه، عن جدّه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنّه قال له: "يا عليّ، أوصيك بوصية فاحفظها فلا تزال بخير ما حفظت وصيّتي:... يا عليّ: حقّ الولد على والده أن يُحسن اسمه..."7.



1 ينحل: أي يهدي ويعطي.
2 الرواندي، النوادر، ص96. ومستدرك الوسائل، ج15، ص127.
3 الكافي، ج6، ص19.
4 م.ن، ص18.
5 أن يستفره أمه: أي يستكرم أمه، بمعنى أن يختارها كريمة الأصل، وقيل: بمعنى أن يكرم أمه.
6 الكافي، ج6، ص49.
7 من لا يحضره الفقيه، ج4، ص372، ح5762.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
430

360

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 - وعن أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام، قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله، ما حقّ ابني هذا؟

 
قال صلى الله عليه وآله وسلم: تُحسن اسمه..."1.
 
- وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "... حقّ الولد على الوالد أن يُحسن اسمه..."2.
 
التسمية من حقّ الأب
إنّ الأصل في الحياة الأسرية هو الوصول إلى الاتّفاق مهما أمكن من خلال اتّباع أسلوب الحوار. وقد يقع الاختلاف في وجهات النظر بين الزوج والزوجة في العديد من الأمور، ومنها مسألة التسمية، فمن هو المرجع لفضّ مادّة النزاع في مسألة التسمية ؟ فلو أراد الزوج أن يُسمّي طفله باسم معيّن، وأرادت الأم اسماً آخر، فرأي من يُقدّم؟
 
إن الجواب عن هذا السؤال يتّضح ممّا بُحث في درس الولاية التربوية الأبوية على الطفل، إذ انطلاقاً من عموم هذه الولاية تكون التسمية من حقّ الأب. وقد أجاب بعض الفقهاء عن هذا السؤال عينه بقوله: "للوالد أن يُسمّي ولده ما شاء من الأسماء الحسنة، وخير الأسماء ما حُمّد وعُبّد، والإعراض عن مقترحات الآخرين"3.
 
فالتسمية من حقّ الأب كونه هو الوليّ الشرعيّ للطفل.
 
متى تبدأ محبوبية تسمية الطفل؟
من الطبيعيّ أن يتوجّه السؤال التالي من قِبَل الوالدين: إذا كان اختيار الاسم الحسن من حقوق الطفل، فمتى يبدأ وقت محبوبية التسمية؟ فهل يبدأ من حين خروج الطفل من بطن أمّه، أم قبل ذلك أي حال كون الطفل جنيناً؟ وهل لو لم يُقدّر الله تعالى تمامية أشهر الحمل وأجهضت المرأة حملها يُستحبّ تسمية السقط، أم التسمية مختصّة بالمولود الحيّ؟
 
لقد أجابت النصوص الروائية عن جملة هذه الأسئلة، فأوضحت أنّ وقت بدء تسمية الولد من حين المرحلة الجنينية كما اتّضح في الدرس الثالث والعشرين، وإن لم يُسمَّ الجنين حين



1 الكافي، ج6، ص48.
2 نهج البلاغة، الحكمة 399.
3 إرشاد السائل، ص187.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
431

361

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 الحمل به يُسمّى حين ولادته، وإن لم يُسمَّ حين ولادته يُسمّى في اليوم السابع من ولادته.

 
وفي كلٍّ من هذه الأزمنة نصوص دالة عليها، سنعرضها في الفقرات اللاحقة، ثم نُبيّن في خاتمة الفصل كيفية الجمع بينها، لأنّه قد يظهر التعارض بين بعضها البعض.
 
طوائف روايات التسمية
في الحقيقة، إنّ الروايات في بدء التسمية على أربع طوائف عند الاستقراء:
الطائفة الأولى من الأخبار: تضمّنت استحباب التسمية من غير توقيت بزمان محدّد.
الطائفة الثانية: حثّت على تسمية الأولاد قبل الولادة.
الطائفة الثالثة: يُستفاد منها التسمية حين الولادة.
الطائفة الرابعة: يُستفاد منها الحثّ على التسمية في اليوم السابع من ولادة الطفل1.
 
وسنعرض هذه الطوائف بالترتيب الهندسيّ وبالتدريج، ونبدأ من استحباب تسمية الجنين في رحم أمّه.
 
الأولى: استحباب تسمية الجنين في رحم أمّه. تقدّم الحديث عنها.
 
الثانية: النصوص الروائية في تسمية الولد حين الولادة
 
- عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، قال: "لمّا ولدت فاطمةُ صلّى الله عليها الحسنَ عليه السلام، قالت لعليّ: سمِّه.
 
فقال: ما كُنتُ لأسبق باسمه رسول الله.
 
فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ... ثمّ قال لعليّ عليه السلام: هل سمّيته؟
 
فقال: ما كُنتُ لأسبقك باسمه.
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وما كُنتُ لأسبق باسمه ربّي عزّ وجلّ.
 
فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل: أنّه ولد لمحمد ابن، فاهبط، فاقرئه السلام، وَهَنِّه، وقل له: إنّ علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمِّه باسم ابن هارون.



1 يراجع: كفاية الأحكام، ج2، ص284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
432

362

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 فهبط جبرئيل، فهنّاه من الله تعالى، ثم قال: إنّ الله جلّ جلاله يأمرك أن تُسمّيه باسم ابن هارون.

 
قال صلى الله عليه وآله وسلم: وما كان اسمه؟
 
قال: شبّر.
 
قال: لساني عربيّ.
 
قال: سمِّه الحسن. فسمّاه الحسن.
 
فلمّا ولد الحسين عليه السلام، أوحى الله تعالى إلى جبرئيل عليه السلام: أنّه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط إليه، فهنّه، وقل له: إنّ علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمِّه باسم ابن هارون.
 
فهبط جبرئيل عليه السلام، فهنّاه من الله تعالى ثم قال إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تُسمّيه باسم ابن هارون.
 
فقال: وما كان اسمه؟
 
قال: شبيراً.
 
قال: لساني عربيّ.
 
قال: سمّه الحسين"1.
 
- ومرّ في درس سابق أنّه لمّا ولد لعبد الله بن عباس مولود، أخذه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وحنّكه، ودعا له، ثم رده إليه. وقال: "خذ إليك أبا الأملاك2، قد سمّيته علياً، وكنّيته أبا الحسن"3.
 
- وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "... إنّ أحبَّ أن يُسمّيه من يومه، فَعَل"4.



1 الصدوق، عل الشرائع، ج1، ص137- 138، باب 116، ح5.
2 "أبا الأملاك": إشارة منه عليه السلام إلى أنه سيكون من نسل عبد الله بن العباس ملوك الدولة العباسية، وهذه من جملة معجزاته عليه السلام في الإخبار بالغيب.
3 المبرد، الكامل في اللغة والأدب، باب أخبار عبد الله بن العباس وابنه، ص 331.
4 الكافي، ج6، ص24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
433

363

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 النصوص الروائية في تسمية الولد في اليوم السابع من ولادته

- عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "إذا كان يوم السابع، وقد ولد لأحدكم غلام أو جارية، فليعقّ عنه كبشاً... وسمّوه يوم السابع"1.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "الغلام رهن بسابعه، بكبش، يُسمّى فيه، ويعقّ عنه"2.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "... والعقيقة للولد الذكر والأنثى يوم السابع، ويُسمّى الولد يوم السابع..."3.
 
- وعنه عليه السلام: "يُسمّى المولود يوم سابعه"4.
 
- وعنه عليه السلام: "إذا ولد لك غلام أو جارية، فعقّ عنه يوم السابع... وأطعم، وسمِّ..."5.
 
وبناءً على هذه الروايات وغيرها العديدة قال بعض الفقهاء بأنّ أفضلية التسمية للمولود هي في اليوم السابع6.
 
منهج الجمع بين طوائف الروايات
ذكرنا فيما سبق وجود أربع طوائف من الروايات حول وقت التسمية. وفي هذه الفقرة سنُسلّط الضوء على كيفية معالجة الفقهاء لما يظهر من تعارض بين الروايات، فحيث إنّ جميع هذه الروايات في مقام البيان للتسمية من جهة الاستحباب، فإنّ الأمر لا يحتاج إلى مؤونة زائدة في الجمع بين الروايات، وذلك لأنّه على كلّ حال، يكون الإنسان في سعة من شأنه وقادراً على الإتيان بها جميعها بنيّة الاستحباب والتأسّي بالنبيّ وأهل البيت عليهم السلام، ومن هنا يُمكن حملها على الإعادة والتكرار، فلا بأس في أن يكون شيء واحد مستحبّاً في



1 الكافي، ج6، ص27.
2 م.ن، ص26.
3 الصدوق، الخصال، ص608.
4 دعائم الإسلام، ج2، ص188.
5 م.ن.
6 المقنع، ص335.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
434

364

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 أزمنة متعدّدة، أو على التخيير بين الأفراد، بمعنى أنّ الإنسان في سعة زمانية من حيث التسمية، فله أن يأتي بها بعنوان المستحبّ في أيّ وقت من الأوقات المذكورة، فهو إنْ سمّى الجنين فقد فعل المستحبّ امتثالاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام: "سمّوا أولادكم قبل أن يولدوا"، وإن لم يُسمّه وأخّر تسميته إلى حين الولادة فعل المستحبّ تأسّياً بفعل رسول الله وأمير المؤمنين ولقول الكاظم عليهم السلام، وإن أخّر إلى اليوم السابع كما في الروايات السابقة فعل المستحبّ، أو يُمكن حملها على الفضل والأفضل في اليوم السابع.

 
خصوصاً أنّ الملفت للنظر هو كون روايات التسمية في اليوم السابع واردة في سياق سنن وأعمال ذلك اليوم مقترنة بالعقيقة والحلق والتصدّق والإطعام وغيرها. وهذا يعني أنّها إمّا من جملة مستحبّات ذلك اليوم لخصوصية معيّنة، فلا يُنافي استحبابها قبل ذلك، خصوصاً إذا كان الإنسان بالخيار في تغيير الاسم، بنحو يكون فيه اليوم السابع هو السقف الزمنيّ الأقصى لاستحباب التسمية وتغيير الاسم إنْ رغب الوالدان في ذلك، فكأنّه فسحة زمنية ليُغيّر الوليّ اسم مولوده أو يثبته، في لحظة شعائرية مباركة1.



1 كشف اللثام، ج7، ص527. الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، ج10، ص281. مسالك الأفهام، ج8، ص398. الحدائق الناضرة، ج25، ص40-42. جواهر الكلام، ج31، ص256.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
435

365

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 المفاهيم الرئيسة

- التسمية عبارة عن عملية وضع الاسم بإزاء المسمّى وجعله مقابله، أي اطلاق اسم معيّن محدّد-كـ: محمد للذكور، وفاطمة للإناث- على المولود الجديد. واسم العلم هو اللفظ الدّال على ذات مشخّصة معيّنة. وأسماء الأعلام لا يتبادر بالأصالة منها معانيها المستعملة فيها بالوضع، وذلك لأنّ معتبرها لم يستعملها فيما وضعه أهل اللغة لها من المعاني والمفهومات، إلا أنّه رغم ذلك، لا يُمكن نزع الأسماء وخلعها بالكلّية عن أمرين: الأول: ثوب معانيها اللغوية المركوزة في المعجم الذهنيّ لأهل اللغة، والثاني: ثوب بعض الشخصيات التاريخية والمشهورة، حيث إنّ التشابه في الأسماء يأخذ الذهن إلى دائرة التشابه في المعاني بين الشخصيات.

- إذا أخذنا بعين الاعتبار النقطتين السابقتين، بالإضافة إلى نقطة ثالثة، وهي أنّ الألفاظ في اللغات بحسب طبيعة تركيبها اللغويّ ومخارج حروفها ليست متشابهة، بل هناك ألفاظ ثقيلة على النطق والسمع، وأخرى خفيفة، وهناك ألفاظ حسنة ومأنوسة وعذبة وموسيقية ومألوفة، وأخرى قبيحة ومستوحشة وغريبة وشاذّة ومنفّرة، وهكذا، يُصبح من الضروريّ اختيار الاسم الحسن من جهتين: 
من حيث اللفظ والتركيب بين الحروف، ومن حيث المعنى، بأن يكون له تضمّنات إيجابية.

- ورد التأكيد والحثّ في الرؤية التربوية الإسلامية على استحسان الأسماء، واعتبرت أنّ من حقوق الطفل على وليّه اختيار الاسم الحسن له، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أول 
ما ينحل به أحدكم ولده: الاسم الحسن، فليحسن أحدُكم اسم ولده". وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "حقّ الولد على والده أن يُحسن اسمه...".

- إنّ الروايات في بدء التسمية على أربع طوائف عند الاستقراء:
الطائفة الأولى من الأخبار: تضمّنت استحباب التسمية من غير توقيت بزمان محدّد.
الثانية: حثّت على تسمية الأولاد قبل الولادة.
الثالثة: يُستفاد منها التسمية حين الولادة.
والرابعة: يُستفاد منها الحثّ على التسمية في اليوم السابع من ولادة الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
436

366

الدرس السابع والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (1)

 أسئلة الدرس

1- هل يُمكن فصل اسم العَلَم عن ثوب معانيه اللغوية؟ اشرح ذلك بالتفصيل.

2- هل يحصل ارتباط خاص في الذهن البشريّ بين أسماء بعض الشخصيات التاريخية وبين الاسم الذي يطلق على المولود؟ ولماذا؟

3- حثّ المنهاج النبويّ على استحسان أسماء الأطفال. اذكر روايتين على ذلك.

4- متى يبدأ استحباب تسمية الطفل؟ عدِّد طوائف الروايات في ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
437

367

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2)

معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف معيار تحديد الأسماء التي يحسن اختيارها للطفل، ويعرض الأدلة الروائية على ذلك.
2- يعرف ميزان تشخيص الأسماء القبيحة, المذموم تسمية الطفل بها، ويبيّن الروايات حول ذلك.
3- يعرف لزوم تغيير الأسماء القبيحة، واستحباب تكنية الطفل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
439

368

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 تمهيد

اتّضح ممّا سبق، أنّ منهج النبيّ وأهل البيت صلوات الله عليهم يحثّ الأولياء على استحسان أسماء أطفالهم، والأسماء الحسنة ذات عرض عريض، فهل أشاروا في نصوصهم إلى معايير تشخيص الأسماء الحسنة؟ وهل ثمة نماذج في الروايات عن الأسماء الحسنة؟

والجواب: نعم، إنّ نصوص أهل البيتعليهم السلام لم تغفل هذا الجانب، فقد ساعدت أولياء أمور الأطفال على اختيار الأسماء الحسنة بالكشف عن بعضها، إمّا على نحو العموم، وإمّا على نحو الخصوص.

النصوص الواردة في الأسماء الحسنة على نحو العموم
يوجد بعض النصوص الروائية التي تعطي الإنسان معايير عامة في تشخيص الأسماء الحسنة التي يستحبّ إطلاقها على الطفل وتسميته بها، وهذه المعايير على ثلاثة أقسام:
الأوّل: أنّه يستحبّ تسمية الطفل بأيّ اسم من أسماء الأنبياء، بمعنى أنّ الروايات أسّست قاعدة عامة في هذا السياق مفادها: كل اسم نبيّ هو صالح لتسمية الطفل به.

الثاني: أنّه يستحبّ تسمية الطفل بأيّ اسم من الأسماء التي تتضمّن العبودية المضافة إلى الله تعالى أو أحد أسمائه الحسنى، بمعنى: كلّ اسم يفيد العبودية لله تعالى يستحبّ تسمية الطفل به.

الثالث: أنّه يستحبّ تسمية الطفل بأيّ اسم من الأسماء التي يتسمّى بها النبيّ وأهل بيته عليهم السلام.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
441

369

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 ونعرض الأدلة على كلّ معيار منها في النصوص التالية:

أسماء الأنبياء عليهم السلام
- عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "إنّ رسول الله قال: ما من أهل بيت فيهم اسم نبيّ إلّا بعث الله عزّ وجلّ إليهم ملكاً يُقدّسهم بالغداة والعشيّ"1.
 
- وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "سمّوا أولادكم أسماء الأنبياء..."2.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان اسم بعض أهل البيت اسم نبيّ لم تزل البركة فيهم"3.
 
أسماء العبودية لله
- وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: "أصدق الأسماء ما سُمّي بالعبودية، وأفضلها أسماء الأنبياء"4.
 
- وفي لفظ آخر: "وخيرها أسماء الأنبياء"5.
 
يظهر بوضوح أنّ أصدق الأسماء ما سُمّي بالعبودية، مثل: عبد الله،... إلخ.
 
وأنّ أفضل الأسماء وخيرها أسماء الأنبياء: آدم، نوح، إدريس، أيوب، إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، موسى، عيسى، سليمان، داود، يونس... إلخ.
 
أسماء أئمّة أهل البيت عليهم السلام
- عن ربعي بن عبد الله، قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: جُعلت فداك، إنّا نُسمّي بأسمائكم وأسماء آبائكم، فينفعنا ذلك؟
 
فقال: "إي والله، وهل الدين إلّا الحبّ؟! قال تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾6"7.



1 الطوسي، الأمالي، ص454، ح1012. ورواه في تاريخ بغداد أو مدينة السلام، البغدادي، أحمد بن علي، ج14، ص244.
2 مكارم الأخلاق، ص220.
3 دعائم الإسلام، ج2، ص188.
4 الكافي، ج6، ص18.
5 معاني الأخبار، ص146.
6 سورة آل عمران، الآية 31.
7 تفسير العياشي، ج1، ص167 - 168.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
442

370

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 النصوص الواردة في الأسماء الحسنة على نحو الخصوص

بالإضافة إلى المعايير العامة التي ذكرتها الروايات والتي يمكن التمسّك بها لاختيار الاسم الحسن للطفل، قدّمت روايات أخرى نماذج مصداقية للمعايير العامة من خلال ذكر أسماء محدودة يستحبّ تسمية الطفل بها لتميّزها وخصوصية فيها، وأفضل هذه الأسماء هو اسم النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أي اسم "محمد". وقد بيّنت الروايات أن تسمية الطفل باسم محمد يترتّب عليه العديد من الآثار الخاصة، مثل: إكرامه، التوسعة له في المجلس، عدم تقبيح وجهه، نجاح المشورة عند حضوره، تقديس المنزل وحلول البركة فيه...
 
ومن جملة الأسماء التي تمّ التأكيد عليها بالخصوص أيضاً للذكور: عليّ، الحسن، الحسين، حمزة، جعفر...
 
ومن أسماء النساء أكّدت الروايات على خصوصية وميزة في اسم "فاطمة"، وسيأتي في بعض الروايات: "أمّا إذا سمّيتها فاطمة، فلا تسبّها، ولا تلعنها، ولا تضربها".
 
خير الأسماء محمد
- عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ولد له ثلاث بنين، ولم يُسمِّ أحدهم محمداً، فقد جفاني"1.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام: أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من ولد له أربعة أولاد، ولم يُسمِّ أحدهم باسمي فقد جفاني"2.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "لا يولد لنا ولد إلا سمّيناه محمداً، فإذا مضى سبعة أيام فإن شئنا غيّرنا، وإن شئنا تركنا"3.
 
ثمرات ونتائج تسمية الطفل باسم محمّد
- عن الرضا عليه السلام، عن آبائه، عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إذا سمّيتم الولد محمداً، فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تُقبّحوا له وجهاً"4.



1 الطوسي، الأمالي، ص682، ح1453.
2 الكافي، ج6، ص19.
3 م.ن، ص18.
4 الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص32، ح29.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
443

371

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 - وبهذا الإسناد، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما من قوم كانت لهم مشورة، فحضر من اسمه محمد، أو أحمد، فأدخلوه في مشورتهم إلَّا كان خيراً لهم"1.

 
- وبهذا الإسناد عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ما من مائدة وضعت، وحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد، إلا قدّس ذلك المنزل في كلّ يوم مرتين"2.
 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "إذا سمّيتم محمداً، فلا تُقبّحوه، ولا تجبهوه3، ولا تضربوه، بورك لِبَيْتٍ فيه محمد، ومجلس فيه محمد، ورفقة فيها محمد"4.
 
- وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تسمّوا أبناءكم محمداً، ثم تلعنونهم"5.
 
- وعن الإمام جعفر الصادق، عن آبائه، عن ابن عباس، قال: "إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: ألا ليقم من اسمه محمد، فليدخل الجنّة، لكرامة سميّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم"6.
 
- وعن أبي هارون مولى آل جعدة قال: كُنتُ جليساً لأبي عبد الله عليه السلام بالمدينة، ففقدني أياماً، ثمَّ إنّي جئت إليه، فقال لي: "م أرك منذ أيام يا أبا هارون".
 
فقُلتُ: ولد لي غلام.
 
فقال: "بارك الله، فما سمّيته"؟
 
قلت: سمّيته محمداً.
 
قال: "فأقبل بخدّه نحو الأرض، وهو يقول: محمد، محمد، محمد، حتى كاد يلصق خدّه بالأرض. ثمَّ قال: بنفسي، وبولدي، وبأهلي، وبأبويّ، وبأهل الأرض كلّهم جميعاً، الفداء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا تسبّه، ولا تضربه، ولا تُسئ إليه. واعلم أنّه ليس في الأرض دار فيها اسم محمد، إلا وهي تقدّس كلّ يوم..."7.


 

1عيون أخبار الرضا، ج1، ص32.
2 م.ن.
3 لا تجبهوه: من جبهه. أي لا تردوه عن حاجته، ولا تستقبلوه بما يكره.
4 مكارم الأخلاق، ص25.
5 مستدرك الوسائل، ج15، ص130.
6 كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج1، ص29. نقله من كتاب اليواقيت لأبي عمر الزاهد.
7 الكافي، ج6، ص39.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
444

372

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 8- عن سليمان الجعفريّ، قال: سمعتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: "لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم: محمد..."1.

 
9- عن الإمام عليّ الرضا عليه السلام، قال: "البيت الذي فيه محمد، يُصبح أهله بخير ويُمسون بخير"2.
 
اسم عليّ
- عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: "من ولد له أربعة، فلم يُسمّ أحدهم باسمي، فقد جفاني"3.
 
- وعن عبد الرحمن بن محمد العرزميّ، قال: "استعمل معاويةُ مروانَ بن الحكم على المدينة، وأمره أن يفرض لشباب قريش4، ففرض لهم.
 
فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: "فأتيته، فقال: ما اسمك؟
 
فقلت: عليّ بن الحسين.
 
فقال: ما اسم أخيك؟
 
فقلت: عليّ.
 
فقال: عليّ، وعليّ؟ ما يريد أبوك أن يدع أحداً من ولده إلا سمّاه عليّاً.
 
ثمَّ فرض لي، فرجعت إلى أبي عليه السلام، فأخبرته.
 
فقال: ويلي على ابن الزرقاء دبّاغة الأدم، لو ولد لي مائة لأحببت أن لا أُسمّي أحداً منهم إلا عليّاً"5.
 
وقد تقدّم ما يدلّ على ذلك في الفقرات السابقة، تحت عنوان: تسمية الجنين باسم محمّد أو عليّ، وسيأتي في بعض الفقرات اللاحقة.



1 الكافي، ج6، ص19.
2 وسائل الشيعة، ج21، ص394، ح27389-.
3 الديلمي، فردوس الأخبار، ج3، ص632، ح5981.
4 يفرض لشباب قريش: أي يجعل لهم فرضاً وعطية.
5 الكافي، ج6، ص19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
445

373

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 اسم حمزة

- عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام، ماذا أُسمّيه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: سمِّه بأحبّ الأسماء إليّ: حمزة"1.
 
اسم فاطمة
- عن السكونيّ، قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، وأنا مغموم مكروب.
 
فقال لي: "يا سكونيّ، ما غمّك"؟
 
فقلت: ولدت لي ابنة...
 
فقال: "ما سمّيتها"؟
 
قُلتُ: فاطمة.
 
قال: "آه آه آه، ثم وضع يده على جبهته... أمّا إذا سمّيتها فاطمة، فلا تسبّها، ولا تلعنها، ولا تضربها"2.
 
أسماء العبودية لله: عبد الرحمن، عبد الله...
- عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره: "ألا إنّ خير الأسماء: عبد الله، وعبد الرحمن..."3.
 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم الأسماء: عبد الله وعبد الرحمن، الأسماء المعبّدة"4.
 
- وعن ابن حميد، "أنّه سأل أبا عبد الله عليه السلام وشاوره في اسم ولده.
 
فقال عليه السلام: "سمّه اسماً من العبودية".
فقال: أي الأسماء هو؟
فقال عليه السلام: "عبد الرحمن"5.



1 الكافي، ج6، ص19.
2 م.ن، ص49.
3 الخصال، ص251.
4 مستدرك الوسائل، ج51، ص128.
5 الكافي، ج6، ص19.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
446

374

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 - عن جعفر بن محمد القلانسيّ، قال: "كتب محمد أخي إلى أبي محمد (العسكريّ) عليه السلام، وامرأته حامل، يسأله الدعاء بخلاصها، وأن يرزقه الله ذكراً، وسأله أن يُسمّيه.

 
فكتب إليه: "ونعم الاسم محمد وعبد الرحمن، فولدت له اثنين توأمين، فسمّى أحدهما محمداً والآخر عبد الرحمن"1.
 
الأسماء غير المحبوبة
اتّضح ممّا تقدّم، أنّه يُستحبّ لوليّ الطفل تسميته بأسماء حسنة. وفي المقابل يُكره تسميته بأسماء غير حسنة. وقد قدّمت الروايات أيضاً معياراً عاماً في بعض الأسماء التي لا يحسن تسمية الطفل بها، وهي أسماء أعداء أهل البيت عليهم السلام، لأنّها تُفرح الشيطان.
 
كما قدّمت الروايات بعض النماذج للأسماء المكروه التسمية بها، نعرضها في الفقرة التالية.
 
عدم التسمية بأسماء أعداء أهل البيت عليهم السلام
عن الإمام الباقر في حديث ذكرناه سابقاً: "... إنّ الشيطان إذا سمع منادياً يُنادي: يا محمد، يا عليّ، ذاب كما يذوب الرصاص. حتّى إذا سمع منادياً باسم عدوّ من أعدائنا، اهتزّ واختال"2.
 
النصوص الواردة في الأسماء المكروهة
- عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا بصحيفة حين حضره الموت يريد أن ينهى عن أسماء يتسمّى بها، فقبض ولم يُسمّها، منها: الحكم، وحكيم، وخالد، ومالك. وذكر أنّها ستة أو سبعة3 ممّا لا يجوز أن يُتسمّى بها"4.



1 حسين بن عبد الوهاب، عيون المعجزات، ص124. وكشف الغمة، ج3، ص214.
2 الكافي، ج6، ص20.
3 الجملة الظاهرة في الترديد والنسيان ليست من كلام الإمام عليه السلام وإنما هي من كلام أحد الرواة.
4 الكافي، ج6، ص20.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
447

375

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 - وعن الإمام جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم الأسماء: عبد الله، وعبد الرحمن، الأسماء المعبّدة.

 
وشرّها: همّام والحارث. وأكره: مبارك، ونافع، وبشر، وميمون، لئلّا يُقال: ثمّ مبارك، ثمّ بشر، ثمّ ميمون. فيقال: لا.
 
ولا تسمّ شهاباً، فإنّ شهاب اسم من أسماء النار. وكره الحاكم ومالكاً"1.
 
- وعن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... ولا تُسمّوا أولادكم: الحكم، ولا أبا الحكم، فإنّ الله هو الحكم"2.
 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: "إنّ أبغض الأسماء إلى الله تعالى: حارث، ومالك، وخالد"3.
 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره: "... وشرّ الأسماء: ضرار، ومرّة، وحرب، وظالم"4.
 
- وعن عليّ بن عطية، قال: "قال أبو عبد الله عليه السلام لعبد الملك بن أعين: كيف سمّيت ابنك ضريساً؟
 
قال: كيف سمّاك أبوك جعفراً؟
 
قال عليه السلام: إنّ جعفراً نهر في الجنّة، وضريس اسم شيطان"5.
 
- وعن أبي جعفر أو أبي عبد الله عليهما السلام6، قال: "هذا محمد أذن لهم في التسمية به، فمن أذن لهم في يس؟! يعني التسمية، وهو اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم"7.



1 مستدرك الوسائل، ج15، ص132.
2 علل الشرائع، ج2، ص583.
3 الكافي، ج6، ص21.
4 الخصال، ص251.
5 الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال، ج1، ص412.
6 الترديد من راوي الحديث.
7 الكافي، ج6، ص20. قال العلامة المجلسي تعليقاً على الحديث: "وأما التسمية بأسماء الملائكة كجبرئيل وميكائيل فلم أجد في كلام أصحابنا شيئاً لا نفياً ولا إثباتاً، واختلف العامة فمنهم من منعه". مرآة العقول، ج21، ص36.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
448

376

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 استحباب تغيير الأسماء القبيحة

قد يُقدِم الإنسان على تسمية طفله باسم غير مطابق للمعايير التي أسّسها النبيّ وأهل بيته عليهم السلام في حسن اختيار تسمية الطفل، إمّا جهلاً، وإمّا تقصيراً، ثم يتنبه من غفلته ويلتفت إلى جهله وتقصيره، فيسأل نفسه: ما العمل؟ والجواب: أنّ حقّ الطفل في الاسم الحسن لا ينتفي بمجرد تسميته باسم قبيح أو غير مطابق للمعايير التي وضعتها الروايات لجودة التسمية، بل حقّ الطفل في الاسم الحسن هو حقّ استمراريّ. وبناء عليه، يستحبّ للإنسان إذا ما كان اسم طفله غير حسن أن يعمد إلى تغييره بنحو يعيد تسميته بأسماء حسنة، وبذلك يكون قد أدّى للطفل أحد حقوقه التي له على والده.
 
- عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه عليهما السلام، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان"1.
 
- وفي خبر طويل في دخول نصرانيّ من ملك الروم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إلى أن قال) فقال: "ما اسمك"؟
 
فقُلتُ: اسمي عبد الشمس.
 
فقال لي: "بدِّل اسمك. فإنّي أُسمّيك عبد الوهّاب"2.
 
- وعن يعقوب السراج، قال: دخلت على أبي عبد الله-الصادق عليه السلام- وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى - الكاظم عليه السلام -، وهو في المهد يسارّه طويلاً، فجلست، حتى فرغ، فقمت إليه، فقال - الصادق عليه السلام -: "ادنُ من مولاك (أي الكاظم) فسلِّم عليه". فدنوت، فسلَّمت، فردّ عليّ بكلام فصيح، ثمّ قال لي: "اذهب، فغيّر اسم ابنتك التي سمّيتها أمس، فإنّه اسم يُبغضه الله".
 
وكانت ولدت لي ابنة وسمّيتها بالحميراء.
 
فقال أبو عبد الله عليه السلام: "انته إلى أمره تُرشد".
 
فغيّرت اسمها"3.



1 قرب الأسناد، ص93.
2 جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص333.
3 الكافي، ج1، ص310.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
449

377

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 واستناداً إلى هذه الروايات، ذهب الفقهاء إلى استحباب تغيير الأسماء القبيحة إلى الأسماء الحسنة1.

 
استحباب التكنية
التكنية عبارة عن إعطاء كنية معيّنة للطفل أو الطفلة، فيُسمّى الطفل بأبي فلان، أو الطفلة بأم فلان. وقد بيّن أهل البيت العلّة في ذلك كما سيظهر من خلال الروايات.
 
النصوص الواردة في استحباب التكنية
- عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "إنّه لمّا ولد الحسن بن علي، هبط جبرئيل على رسول الله، بالتهنئة في اليوم السابع، وأمره أن يُسمّيه ويُكنّيه..."2.
 
- عن معمّر بن خثيم، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: "ما تُكنّى"؟
 
قال: قُلتُ: ما اكتنيت بعد، وما لي ولد، ولا امرأة، ولا جارية.
 
قال عليه السلام: "فما يمنعك من ذلك"؟
 
قال: قُلتُ: حديث بلغنا عن عليّ عليه السلام.
 
قال عليه السلام: "وما هو"؟
 
قلت: بلغنا عن علي عليه السلام قال: "من اكتنى وليس له أهل فهو أبو جعر"3.
 
فقال أبو جعفر عليه السلام: "شوه4، ليس هذا من حديث عليّ عليه السلام، إنّا لنُكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم"5.
 
- وعن جابر، قال: "أراد أبو جعفر عليه السلام الركوب إلى بعض شيعته ليعوده"6. فقال عليه السلام: "يا جابر، الحقني"، فتبعته، فلمّا انتهى إلى باب الدار خرج ابن له صغير، فقال له أبو جعفر عليه السلام: ما اسمك؟



1 الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، ج10، ص276.
2 الكافي، ج6، ص34.
3 الجعر: العذرة اليابسة.
4 شوه: إما أن تقرأ شَوَّه: أي حرّف الحديث من قال كذلك. وإما أن تقرأ: شُوِّه، على تقدير شوه وجه من قال ذلك أي دعاء عليه بمعنى التقبيح، قبح الله وجهه.
5 الكافي، ج6، ص19.
6 يعوده: يزوره في مرضه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
450

378

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 فقال: محمد.

 
قال عليه السلام: "فبما تُكنّى"؟
 
قال: بعلي (أي المقصود: أبو علي، لأنّ الكنية لا تكون إلا مسبوقة بكلمة: أبو كما تقدّم).
 
قال أبو جعفر عليه السلام: "لقد احتظرت من الشيطان احتظاراً شديداً1. إنّ الشيطان إذا سمع منادياً ينادي: يا محمد، يا علي، ذاب كما يذوب الرصاص. حتى إذا سمع منادياً باسم عدوّ من أعدائنا، اهتزّ واختال"2.
 
النصوص الواردة في الكنى المكروهة
- عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي لا أُحلّ لأحد أن يتسمّى باسمي ولا يتكنّى بكنيتي، إلّا مولود لعليّ من غير ابنتي فاطمة، فقد نحلته اسمي وكنيتي، وهومحمد بن علي"3.
 
- وعن محمد ابن الحنفية، عن أبيه علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن ولد لك غلام فسمّه باسمي، وكنّه بكنيتي، وهو رخصة لك دون الناس"4.
 
- وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أربع كنى: عن أبي عيسى، وعن أبي الحكم، وعن أبي مالك، وعن أبي القاسم إذا كان الاسم محمداً"5.



1 احتظرت: جعلت نفسك في حظيرة حجبت بها من الشيطان. والاحتظار: الدخول في الحظيرة للأمن من العدو.
2 الكافي، ج6، ص20.
3 مستدرك الوسائل، ج15، ص133.
4 بحار الأنوار، ج101، ص131. ويراجع: المقريزي، إمتاع الأسماع، ج13، ص187. ذكر عدة روايات بهذا المضمون. وقال ابن أبي الحديد: "أبو هريرة، عنه-أي النبي- عليه السلام:  إنه نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته لأحد، وروى أنه أذن لعلي بن أبي طالب عليه السلام في ذلك، فسمى ابنه محمد ابن الحنفية محمداً، وكناه أبا القاسم". شرح نهج البلاغة، ج19، ص366.
وقال القاضي النعمان بن محمد المغربي: "ومحمد ابن الحنفية الذي قال فيه رسول الله صلوات الله عليه وآله لعلي عليه السلام: إنه سيولد لك غلام بعدي فسمه باسمي، وكنّه بكنيتي، فسمّاه محمّداً، وكنّاه أبا القاسم". شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار، ج2، ص16.
5 الكافي، ج6، ص21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
451

379

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 - وعن زرارة، قال: "سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ رجلاً كان يغشىعلي بن الحسين عليهما السلام، وكان يُكنّى أبا مرة. فكان إذا استأذن عليه يقول: أبو مرّة بالباب.

 
فقال له علي بن الحسين عليهما السلام: بالله، إذا جئت إلى بابنا، فلا تقولنّ: أبو مرة"2.



1 يغشى: أي يأتي. وأبو مرة: كنية إبليس.
2 الكافي، ج6، ص21.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
452

380

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 المفاهيم الرئيسة

- إنّ نصوص أهل البيت ساعدت أولياء أمور الأطفال على اختيار الأسماء الحسنة بالكشف عن بعضها، إمّا على نحو العموم، وإمّا على نحو الخصوص. ومن النصوص الواردة في الأسماء الحسنة على نحو العموم: أسماء الأنبياء، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "سمّوا أولادكم أسماء الأنبياء..."، وأسماء العبودية لله، فعن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "أصدق الأسماء ما سُمّي بالعبودية، وأفضلها أسماء الأنبياء"، وأسماء أئمة أهل البيت.

- أمّا النصوص الواردة في الأسماء الحسنة على نحو الخصوص، فخير الأسماء محمد، وكذلك اسم علي، وحمزة، الحسن، الحسين، جعفر، فاطمة... عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "لا يدخل الفقر بيتاً فيه اسم: محمد، أو أحمد، أو علي، أو الحسن، أوالحسين، أو جعفر، أو طالب، أو عبد الله، أو فاطمة من النساء".

- من خير وأفضل الأسماء أيضاً أسماء العبودية لله: عبد الرحمن، عبد الله...، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم الأسماء: عبد الله وعبد الرحمن، الأسماء المعبدة ".

- يُكره تسمية الطفل بأسماء غير حسنة، كالتسمية باسم أعداء أهل البيت عليهم السلام، عن الإمام الباقر عليه السلام: "... إنّ الشيطان إذا سمع منادياً يُنادي: يا محمد، يا علي، ذاب كما يذوب الرصاص، حتّى إذا سمع منادياً باسم عدوٍّ من أعدائنا، اهتزّ واختال".

- يُستحبّ تغيير الأسماء القبيحة، عن الإمام الباقر عليه السلام: "كان رسول الله يُغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان".

- من المستحبّات تكنية المولود، وهي عبارة عن إعطاء كنية معيّنة للطفل أو الطفلة، فيُسمّى الطفل "أبو فلان"، أو الطفلة بأم فلان، عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "إنّه لمّا ولد الحسن بن علي، هبط جبرئيل على رسول الله، بالتهنئة في اليوم السابع، وأمره أن يُسمّيه ويكنّيه...".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
453

381

الدرس الثامن والعشرون: حقّ الطفل في الاسم الحسن (2) معايير تشخيص الأسماء الحسنة والقبيحة

 أسئلة الدرس

1- ما هي الأسماء التي يُستحبّ تسمية الطفل بها على نحو العموم؟

2- ما هي التي يُكره تسمية الطفل بها على نحو العموم؟

3- عدِّد بعض الأسماء التي يُستحبّ تسمية الطفل بها على نحو الخصوص.

4- لماذا برأيك يُستحبّ تغيير الأسماء القبيحة؟

5- من المستحبّات تكنية المولود، ما معنى التكنية؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
454

382

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل

- المفهوم والأدلة الروائية –


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعتقد أنّ مواصفات وخصائص المرضعة الذهنية والنفسية والبدنية تنتقل إلى الطفل بالرَّضاعة.
2- يُدرك مدى تأثير المصادر الغذائية على لبن الأم والمرضعة، وبالتّالي الطفل.
3- يقدر على تعريف الرضاعة لغة واصطلاحاً.
4- يعرض أدلّة تأثير الرضاعة الطبيعية في تكوين هويّة الطفل من خلال النصوص الدينية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
455

383

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 تعريف الرَّضاعة لغةً

رضِع الطفل رَضاعة أي: "مصّ الثدي وشرب"1. قال أحمد بن فارس: "(رضع) الراء والضاد والعين أصل واحد، وهو: شرب اللبن من الضرع أو الثدي"2.
 
وقال الطبرسيّ: "الرَّضع: مصّ الثدي شرب اللبن منه"3.
 
والواضح من الاستعمال اللغويّ أن مفردة الرّضاعة لا تُطلق على:
1- مطلق المصّ كما ذهب إليه البعض4، لما يظهر من أقوال اللغويين أنّ الرضاع هو المص + الشرب، فالشرب داخل في مفهوم الرضاع. هذا فضلاً عن أنّ مفهوم المصّ نفسه متقوّم بالشرب عند بعض اللغويين، قال الفيروز آبادي: "مصصته: شربته شرباً رقيقاً"5.
 
2- ويتّضح أيضاً بطلان القول بأنّ الرضاع هو مطلق شرب اللبن6، لأنّ الرضاع هو شرب اللبن من الثدي بنحو خاص، ولا يُقال لمن شرب الحليب من غير الثدي أنه ارتضع، وهذا أمر شائع واقع في الناس، حيث يشربون الألبان دائماً ولا يُقال: إنّهم ارتضعوا البهائم7.



1 العين، ج1، ص270.
2 معجم مقاييس اللغة، ج2، ص400.
3 مجمع البيان، ج2، ص111.
4 المصري، ابن نجيم، البحر الرائق، ج3، ص386.
5 القاموس المحيط، ج2، ص318
6 يراجع: البجنوردي، حسن، القواعد الفقهية، ج4، ص321. حيث يظهر منه تبنّي هذا الرأي لغوياً.
7 يراجع: مسالك الأفهام، ج7، ص230.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
457

384

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 الرضاعة في الاصطلاح الشرعيّ

إنّ البحث عن مفردة الرضاع لغةً، لا يُلغي الحاجة إلى البحث عن مفهوم الرضاعة من ناحيتين أخريين: الأولى: الفقهية التشريعية، والثانية: النصوصية.

والبحث عن الناحية الفقهية هو بحث في الناحية النصوصية لأنّه مستنبط منها، لذا ما تنبغي الإشارة إليه هو أنّ البحث عن الرضاع في النصوص يقع في ثلاثة مقامات:
المقام الأول: الرضاع الذي يُشكّل موضوعاً لتعلّق الحكم التكليفيّ (الاستحباب أو الوجوب) به.
المقام الثاني: الرضاع الذي يُشكّل موضوعاً للآثار الوضعية في نشر الحرمة في العلاقات والنكاح.
والمقام الثالث: الرضاع الذي تترتّب عليه الآثار الإيجابية أو السلبية تربوياً وصحيّاً ونفسياً...

ولا ريب في أنّ الرضاع الذي يُشكّل موضوعاً للحرمة الوضعية ومتعلّقاً للحكم التكليفيّ والآثار التربوية ليس هو مطلق الرضاع بالمعنى اللغويّ، لأنّ مفهوم الرضاع لغة يتحقّق بمجرّد مصّ الطفل للثدي ولو مرّة واحدة، كما يتحقّق في الطفل الذي تجاوز عمره السنتين، مع أنّهما ليسا كذلك في الاصطلاح الشرعيّ كما سيتّضح، لذا ينبغي إفراد البحث عن تحديد الرضاع الذي يكون موضوعاً للحكمين الوضعيّ والتكليفيّ والآثار التربوية.

مفهوم الرضاعة في الاصطلاح الفقهيّ
الرضاعة اصطلاحاً في الفقه الجعفريّ عبارة عن: وصول لبن المرأة (الحليب) إلى جوف الطفل من خلال امتصاصه الثدي مباشرة وشربه الحليب منه. وقد تكون تلك المرأة هي الأم، وقد تكون المرضِعة امرأة أخرى غير الأم.

أمّا إيصال اللبن إلى جوف الطفل عن طريق الحلق (أو غيره) من دون مصّ الثدي وشرب اللبن منه، كأن يستخرج الحليب من الثدي مباشرة أو بواسطة آلة معيّنة، ويوضع في قارورة أو غيرها، ثم يتمّ إطعامه للطفل، وهو ما يُسمّى: الوجور، فلا يُطلق عليه اسم الرضاع في الاصطلاح التشريعيّ، بل يشترط "الامتصاص من الثدي، فلو حلب من الثدي ووجر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
458

385

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 في حلقه، أو سعط به لم ينشر - أي الحرمة -"1.

 
مع الإشارة إلى أن بعض فقهاء المذاهب الأخرى قد صرّح بأن الوجور والسعوط وغيرهما يُطلق عليهما اسم الرضاع شرعاً2.
 
الرضاع كموضوع للحكم الوضعيّ
إنّ الرؤية التشريعية الإسلامية تقوم على وجود عدّة أنواع من العلاقات التحريمية بالنسبة لمسألة النكاح والزواج (العلاقة النسبية، المصاهرة، استيفاء العدد في الزوجات، اللعان، الكفر)3 ، ومنها الرضاع الذي يوجب نشر الحرمة ضمن شروط وقيود خاصّة ذكرها الفقهاء، كأن يكون للطفل من العمر دون السنتين، وأن يكون درور لبن المرضعة عن حمل بعقد شرعيّ، وتحقّق المقدار الشرعيّ كمّاً من حيث العدد أو كيفاً من حيث الأثر كإنبات اللحم وشدّ العظم، أو زماناً كإرضاع يوم وليلة.
 
وإذا تحقّقت هذه القيود والشروط، يكون الرضاع موجباً لنشر حرمة النكاح على حدّ ما توجبه العلاقة النسبية، للقاعدة الفقهية الواردة في أحاديث النبيّ وأهل بيته صلّى الله عليهم أجمعين: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"4، فيتساوى الرضاع مع النسب في ثلاثة أمور: التحريم، والمحرمية5، والمصاهرة6. ويفترق عن العلاقة النسبية بأنّ الرضاع لا يثبت به: التوارث، ولا وجوب النفقة، ولا الولاية، ولا تثبت به الحضانة.
 
الرضاع كموضوع للحكم التكليفيّ والآثار التربوية
لا شكّ في أنّ الرضاع الذي هو متعلّق الحكم التكليفيّ أو الآثار التربوية أوسع دائرة من المعنى اللغويّ، كما أنّه أوسع دائرة من المحدّد شرعاً كموضوع للحكم الوضعيّ بنشر الحرمة في النكاح، لأنّ الأثر الوضعيّ للرضاع يتحقّق ولو حصل ليوم وليلة أو بـ 15 رضعة، 



1 المهذب البارع، ج3، ص235.
2 قال ابن نجيم المصري الحنفي: " وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في مدّة الرضاع الآتية، فشمل ما إذا حلبت لبنها في قارورة، فإنّ الحرمة حرمة النكاح- تثبت بإيجار هذا اللبن صبّاً وإن لم يوجد المص... فلا فرق بين المص والصب والسعوط والوجور". البحر الرائق، ج3، ص386.
3 المهذب البارع، ج3، ص231-232.
4 تهذيب الأحكام، ج8، ص244. والكافي، ج5، ص437.
5 فله أن يخلو بأمّه وأخته وبنته من الرضاع، وأن ينظر منهنّ إلى ما ينظر منه من محارمه من النسب.
6 فيحرم منكوحة الأب على الابن من النسب ومن الرضاع كذلك، ويحرم أم الزوجة نسباً وكذا رضاعاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
459

386

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 ولكن ليس هذا هو معنى الرضاع كموضوع للحكم التكليفيّ أو الذي تحثّ النصوص على القيام به بحقّ الطفل، بل النصوص تنظر إلى الرضاع كعلاقة مستمرّة لمدّة يصدق عليها عرفاً هذا المفهوم بما له من الآثار العاطفية والنفسية والصحّية والذهنية وغيرها، والتي حدّدها القرآن الكريم بحولين كاملين1.

 
النظرة الإسلامية إلى أهمّية الرضاعة الطبيعية
نذكر تحت هذا العنوان مجموعة من النصوص الروائية التي تظهر لنا بوضوح مدى تأثير الخصائص الذهنية والنفسية والروحية والبدنية للمرضعة من جهة، وتأثير مصادر تكوين اللبن الحليب في ثدي المرضعة من جهة ثانية، في صناعة هوية الطفل بنحو مُشاكِل لطبيعة المُرضعة حسناً وجمالاً وذكاءً وطهارة روحية... أو قبحاً وحماقة و.... وقد أسّست الروايات قاعدة عامّة في هذا المجال، مفادها: "إنّ اللبن يُعدي، ويُغيّر طباع الطفل"، لذا ورد التأكيد على أنّ من جملة حقوق الطفل حسن اختيار المرضعة له، كما منعت الروايات عن إسناد وظيفة رضاعة الطفل إلى بعض أصناف النساء المتلبّسات بصفات سلبيّة معيّنة، فكيف والحال اليوم إسناد وظيفة الرضاعة إلى قارورة الزجاج والبلاستيك من جهة، وإلى الحليب البقريّ من جهة ثانية؟ فأيّ طباع سينشأ ويشبّ عليها الطفل يا ترى؟!
 
النصوص الروائية في الحثّ على الرضاع
- عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسترضعوا الحمقاء2، فإنّ اللبن يُعدي3، وإنّ الغلام ينزع إلى اللبن يعني إلى الظئر4 في الرعونة5 والحمق"6.



1 البجنوردي، القواعد الفقهية، ج8، ص332.
2 الحمقاء: من الحمق، وهو قلة العقل ونقصانه.
3 يعدي: انتقال ومجاوزة الشيء من صاحبه إلى غيره.
4 الظئر: العطف والقرب، والظئر هي التي ترضع ولد غيرها، وسميت بذلك لأنها تعطف عليه.
5 الرعونة: من الرعن وهو الاضطراب والهوج والاسترخاء والحمق. يقال: امرأة رعناء أي هوجاء.
6 الكافي، ج6، ص43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
460

387

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 - وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لا تسترضعوا الحمقاء، فإنّ اللبن يغلب الطباع. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسترضعوا الحمقاء، فإنّ الولد يشبّ عليه"1.

 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا تسترضعوا الحمقاء، ولا العمشاء2، فإنّ اللبن يُعدي"3.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا من تُرضع أولادكم، فإنّ الولد يشبّ عليه"4.
 
- وعن الإمام علي عليه السلام، قال: "تخيّروا للرضاع كما تتخيّرون للنكاح، فإنّ الرضاع يُغيّر الطباع5"6.
 
- وعن الإمام علي عليه السلام: "توقّوا على أولادكم لبن البغيّ7 من النساء، والمجنونة، فإنّ اللبن يُعدي"8.
 
- وعن محمد بن مروان، قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: "استرضع لولدك بلبن الحسان، وإيّاك والقباح، فإنّ اللبن قد يُعدي"9.
 
- وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: "عليكم بالوضاء10 من الظؤرة، فإنّ اللبن يُعدي"11.
 
- وعن عبيد الله الحلبي، قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: امرأة ولدت من الزنا أتخذها ظئراً؟



1 الكافي، ج6، ص43.
2 العمشاء: من العمش، وهو ضعف الرؤية والبصر، مع سيلان الدمع من العين في أكثر الأوقات.
3 عيون أخبار الرضا، ج2، ص37.
4 الكافي، ج6، ص44.
5 الطباع: من الطبع، أي السجية التي جبل عليها الإنسان، والمزاج، والخلق سواء أكان سيئاً أم حسناً.
6 قرب الإسناد، ص93.
7 البغي: هنا بمعنى الزانية، قال تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء﴾ سورة النور، الآية 33. البغاء: الزنا.
8 الخصال، ص615.
9 الوضاء: من الوضاءة بمعنى الحسن والنظافة.
10 الوضاء: من الوضاءة بمعنى الحسن والنظافة.
11 الكافي، ج6، ص44.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
461

388

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 قال: "لا تسترضعها ولا ابنتها"1.

 
- وعن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام، قال: سألتُه عن امرأة ولدت من زنا هل يصلح أن يسترضع بلبنها؟
 
قال: "لا يصلح، ولا لبن ابنتها التي ولدت من الزنا"2.
 
وقد أسند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من جملة ما أسند في أسباب فصاحته وبلاغته وحسن بيانه وعذوبة لسانه: الرضاعة، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا أعربكم، أنا قرشيّ واسترضعت في بني سعد بن بكر"3.
 
الاستنتاج
يظهر من الروايات المتقدّمة عدّة أمور:
أولاً: أنّ اللبن ليس مجرّد غذاء وطعام للطفل، بل اللبن هو واسطة لنقل الخصائص الذهنية والنفسية والبدنية من المرضعة إلى الطفل المرتضع، وهذا ما تُفيده العبارات التالية في الروايات، مثل: "إنّ اللبن يُعدي"، "إنّ الغلام ينزع إلى اللبن"، "إنّ اللبن يغلب الطباع"، "إنّ الولد يشبّ عليه"، "إنّ الرضاع يُغيّر الطباع".
 
ثانياً: بناءً على ما تقدّم، ينبغي لوليّ أمر الطفل أن يُحسن اختيار مرضِعة طفله، فإنّ ذلك جزءٌ من مسؤوليّاته التربوية تجاه الطفل، وهذا ما تُفيده عبارات مثل: "تخيّروا للرضاع"، "انظروا من تُرضع أولادكم".
 
ثالثاً: حدّدت الروايات بعض الصفات السلبية التي إن تلبّست بها المرأة تعتبر غير صالحة للاختيار كمرضعة للطفل، وعلى وليّ أمر الطفل حينها أن يعمد إلى وقاية طفله من اللبن الصادر عن امرأة تتلبّس بخصائص سلبية، وهذا ما تُفيده عبارات مثل: "توقّوا على أولادكم لبن البغي"، "لا تسترضعوا الحمقاء"، "إيّاك والقباح"...
 
وفي ذات السياق حثّت الروايات على اختيار استرضاع من تتحلّى بالصفات 



1 الكافي، ج6، ص42.
2 م.ن، ص44.
3 الحميري، عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص107. وروي عنه ص- أنّه قال: "أنا أفصح العرب، بيد أنّي من قريش، ونشأت في بني سعد، وارتضعت من بني زهرة". النووي، يحيى بن شرف، المجموع شرح المهذب، ج18، ص227. ومسالك الأفهام، ج7، ص241.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
462

389

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 والخصائص الموجِبة، مثل: "استرضع لولدك بلبن الحسان"، "عليكم بالوضاء"... وبقرينة المقابلة للصفات السابقة، يكون من الحسن اختيار المرضعة كاملة العقل، والمرضعة العفيفة.

 
واستناداً للروايات المتقدّمة أفتى الفقهاء بحسن اختيار المرضعة ضمن مواصفات خاصة، قال الشهيد الثاني: "يُستحبّ في الاسترضاع اختيار المرضعة العاقلة المسلمة العفيفة الوضيئة الحسنة للرضاع، لأنّ الرضاع مؤثّر في الطباع، والأخلاق، والصورة..."1.
 
الأم أفضل مرضعة لطفلها
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، أنّ جميع الروايات المتقدّمة تحثّ على حسن اختيار المرضعة، والتي هي غير الأم كما يظهر من سياق الروايات، فماذا عن الأم؟
 
في الحقيقة، إنّ الجواب عن هذا السؤال قد بيّنته الآية القرآنية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾2، حيث توجّهت الآية بالخطاب إلى الأمّهات والوالدات - وسيأتي توضيح هذه النقطة بشكل مفصّل -، كما أوضحت الروايات أيضاً بشكل جليّ، أنّه ليس هناك أفضل من الأم للقيام بهذه المسؤولية التربوية الشريفة وتأدية هذه الوظيفة المهمّة في بناء استعدادات خاصّة في شخصيّة الطفل في المرحلة الأولى من طفولته، وعلى الأم أن تعلم أنّه لا يوجد لبن على وجه الأرض خير من لبنها لرضاعة طفلها ونموّه السليم بدنياً ونفسياً وذهنياً.
 
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "ليس للصبيّ3 لبن خير من لبن أمّه"4.
 
- وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما من لبن يرضع به الصبيّ أعظم بركة عليه من لبن أمّه"5.



1 الروضة البهية، ج5، ص165.
2 سورة البقرة، الآية 233.
3 يشمل الطفل والطفلة ولكن عادة ما تستعمل كلمة الصبي في الروايات من باب غلبة الاستعمال الذكوري في اللغة العربية، ولكن يكون المقصود الأعم من الذكر والأنثى، إلا مع وجود قرينة خاصة.
4 عيون أخبار الرضا، ج2، ص38.
5 الكافي، ج6، ص41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
463

390

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 واستناداً لهذه النصوص، ذكر الفقهاء أنّ أفضل لبن هو لبن الأمّ، قال المحقّق الحلّي: "أفضل ما رضع لبن أمّه"1.

 
وتؤكّد هذه الحقيقة التقارير الصحّية والبحوث الطبّية الصادرة عن المنظّمات الدولية، كما سيأتي بيانه في تقرير منظّمة الصحّة العالمية.
 
النصوص الروائية في غذاء المرضعة
قُلنا إنّ الروايات تُفيد أنّ مصادر تكوين اللبن الذي يرتضعه الطفل لها دور مهمّ أيضاً في تنمية وتشكيل استعدادات وخصائص معيّنة في شخصية الطفل كالحلم والنقاء والزكاء والجمال، نعرض بعض هذه الروايات الدالّة على هذه الفكرة.
 
- عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليكن أوّل ما تأكله النفساء الرطب، فإنّ الله قال لمريم: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾2.
 
قيل: يا رسول الله، فإنْ لم يكن أوان الرطب؟
 
قال: "سبع تمرات من تمر المدينة، فإنْ لم يكن فسبع تمرات من تمر أمصاركم، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: وعزّتي وجلالي وعظمتي وارتفاع مكاني لا تأكل نفساء يوم تلد الرطب فيكون غلاماً إلّا كان حليماً، وإنْ كانت جارية كانت حليمة"3.
 
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر، فإنّ ولدها يكون حليماً نقيّاً"4.
 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ولدت المرأة فليكن أوّل ما تأكل الرطبَ، فإنْ لم يكن رطبٌ فتمر، فإنّه لو كان شيء أفضل منه أطعمه الله مريم حين ولدت عيسى"5.



1 وعلّق السيد محمد العاملي على هذه العبارة بقوله: "وذلك لأنه أوفق بمزاجه، وأنسب بطبعه، لتغذيه منه في بطن أمه". نهاية المرام، ج1، ص460.
2 سورة مريم، الآية 25.
3 الكافي، ج6، ص23.
4 مكارم الأخلاق، ص169.
5 م.ن، ص238.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
464

391

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 - وعن الإمام علي عليه السلام، قال: "خير تموركم البرنيّ، فأطعموه نساءكم في نفاسهنّ تخرج أولادُكُم زكِيّاً حَليماً"1.

 
- وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "أطعِموا نِساءَكم التَّمرَ البرنيَّ في نفاسهنّ، تُجَمِّلوا أولادَكُم"2.
 
- وعنه عليه السلام، قال: "أطعموا البرني نساءكم في نفاسهنّ تَحلُم أولادُكُم"3.
 
من الواضح، أنّ لأكل الأم المرضعة التمر والرطب تأثيراً في هويّة الطفل من حيث الحلم والزكاء والجمال. وكذلك للتغذّي بأنواع أخرى من الأطعمة والأشربة هناك آثار معيّنة إيجاباً أو سلباً كشفت عنها الأبحاث العلمية- الطبّية.
 
وعلى كلّ حال، إنّ هذه الآثار الإيجابية أو السلبية للرضاعة على بناء شخصيّة الطفل، تضع الأم أمام تحدّيات ومسؤوليات العمل على تربية نفسها لما لخصائص ذاتها وصفاتها من انعكاس على شخصية الطفل، كما تضعها أمام مسؤولية أن تُحسن اختيار الغذاء الذي يلعب دوراً في التأثير على نموّ استعدادات خاصّة في شخصيّة الطفل.



1 الكافي، ج6، ص22.
2 مكارم الأخلاق، ص169.
3 الكافي، ج6، ص23.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
465

392

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 المفاهيم الرئيسة

- أسّست الروايات قاعدة عامّة مفادها: "أنّ اللبن يُعدي، ويُغيّر طباع الطفل"، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنّ اللبن يُعدي"، وعن الإمام علي عليه السلام، قال: " إنّ الرضاع يُغيّر الطباع".

- بيّنت الروايات أنّه ليس هناك أفضل من الأم في القيام بهذه المسؤولية التربوية الشريفة وتأدية هذه الوظيفة المهمّة في بناء استعدادات خاصّة في شخصية الطفل.

- أكّدت الروايات على أنّ لأكل الأم المرضعة التمر والرطب تأثيراً في هويّة الطفل من حيث الحلم والزكاء والجمال. وهذه الآثار الإيجابية أو السلبية للرضاعة على بناء شخصية الطفل، تضع الأم أمام تحديّات ومسؤوليات العمل على تربية نفسها لما لخصائص ذاتها وصفاتها من انعكاس على شخصية الطفل.

- الرضاعة لغة بمعنى مصّ الثدي وشرب اللبن منه.

- المقام الأول: الرضاع الذي يُشكّل موضوعاً لتعلّق الحكم التكليفيّ (الاستحباب أو الوجوب) به.

- المقام الثاني: الرضاع الذي يُشكّل موضوعاً للآثار الوضعية في نشر الحرمة في العلاقات والنكاح.

- والمقام الثالث: ما هو الرضاع الذي تترتّب عليه الآثار الإيجابية أو السلبية تربوياً.

- الرضاع الذي يُشكّل موضوعاً للحرمة الوضعية عبارة عن وصول لبن المرأة (الحليب) إلى جوف الطفل من خلال امتصاصه الثدي مباشرة وشربه الحليب منه ليوم وليلة أو بـ 15 رضعة... إلخ.

- الرضاع كموضوع للحكم التكليفيّ أو الذي تحثّ النصوص على القيام به بحقّ الطفل ليس كما هو الحال في الرضاع كموضوع للحكم الوضعيّ، بل النصوص تنظر إلى الرضاع كعلاقة مستمرّة لمدّة يصدق عليها عرفاً هذا المفهوم بما له من الآثار العاطفية والنفسية والصحّية والذهنية وغيرها، والتي حدّدها القرآن الكريم بحولين كاملين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
466

393

الدرس التاسع والعشرون: دور الرضاعة الطبيعية في تكوين هوية الطفل - المفهوم والأدلة الروائية –

 أسئلة الدرس

1- اذكر ثلاثة شواهد من النصوص الروائية على أنّ اللبن يُعدي ويُغيّر طباع الطفل.

2- ما هو أفضل لبن (حليب) بالنسبة للطفل؟ وما هي آثار الرضاعة الطبيعية على الطفل؟

3- هل لغذاء الأم أيّ دور وتأثير على شخصية الطفل؟ بيّن ذلك.

4- ما هو الرضاع الذي يُشكّل موضوعاً للحكم الوضعيّ، والرضاع الذي يُشكّل موضوعاً للحكم التكليفيّ والآثار التربوية والصحية؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
467

394

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة




أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف الخصائص الصحية للرضاعة الطبيعية على الأم والطفل.
2- يحدِّد طبيعة الرؤية التربوية القيمية لمسألة الرضاعة الطبيعية.
3- يعرف سلبيّات وخطورة الرضاعة الصناعية.
4- يعرف الحكم الفقهيّ للرضاعة الطبيعية، ويعرض أدلّة الفقهاء حول ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
471

395

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 مشكلة حرمان الطفل من حقّه في الرضاعة الطبيعية

ممّا يؤسف له، أمام هذه النظرة الإسلامية التي تحثّ على الرضاعة الطبيعية وتؤكّد دورها في صناعة هويّة الطفل، أنّنا نعيش في عالمنا المعاصر واحدة من أهمّ المشكلات التربوية بحقّ الطفل، وهي انخفاض معدّل نسبة الرضاعة الطبيعية بشكل ملحوظ، حيث يعمد بعض الأمّهات إلى حرمان طفلها من الرضاعة مطلقاً، في حين أنّ أمّهات أخريات يُرضعن أطفالهنّ فترة زمنية محدودة قد تستمرّ لثلاثة أو ستة أشهر مثلاً، مستبدلين تغذية الطفل من ثدي أمّه مباشرة باستعمال القارورة والحليب الصناعيّ. وأُطلق على هذا الأسلوب اسم: "الرضاعة الصناعية"، من أجل التخفيف من وحشته وسوء وطأته على حياة الطفل، مع كونه لا علاقة له بالرضاعة لا من قريب ولا من بعيد.

وقد أدّت هذه المشكلة إلى مبادرة بعض الأطباء والمستشفيات والجمعيات المهتمّة بحقوق الطفل إلى الشعور بالمسؤولية في القيام بحملات توعية على الآثار الإيجابية للرضاعة الطبيعية، والتحذير من مخاطر ومضارّ الرضاعة الصناعية، لما تُشكّله تغذية الطفل بالقارورة من سلب لحقوقه، لا لحقّ واحد فقط، أي أنّ حرمان الطفل من الرضاعة الطبيعية ليس سلباً للحقّ الصحّيّ للحفاظ على السلامة الجسدية له وخلوّه من الأمراض، لأنّ حقّه فيها يمتدّ إلى خارج الدائرة الصحّية البدنية إلى الصحّة النفسية والنموّ العقليّ والاحتياجات العاطفية للطفل... 

- فالرضاعة تمنح الطفل شحنات عاطفية ووجدانية يحتاجها من حضن أمّه، وتشبع نداءات روحه إلى حنان قلب الأم، وتُعطيه جرعة الشعور بالحبّ والعشق، وتُلبسه ثوب الدفء والسكينة والمودّة والرحمة... إلخ. خصوصاً أنّ الجنين بعد ميلاده يُتابع خبراته التي كوّنها 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
473

396

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 في رحم أمّه، فمثلاً كان يسمع انتظام دقّات قلبها، فإذا حضنته وأرضعته يُشعره ذلك بالأمان والأنس وعدم الغربة والوحشة.

 
- والرضاعة تفتح استعدادات وقابليّات النمو الحسّيّ واالعقليّ للطفل بشكل أوسع.
 
- والرضاعة تصبغ الطفل بثوب المشابهة للمرضِعة، فيكتسب بالرضاعة شحنات من الخصائص الذهنية والحالات النفسية لها... إلى غيرها من الإيجابيات التي أشبع علماء الطبّ والصحّة النفسية وغيرهما الحديث حولها1.
 
ولتمكين الأمّهات من الشروع في الرضاعة الطبيعية والاقتصار عليها لمدّة ستة أشهر توصي منظّمة الصحّة العالمية واليونيسيف بما يلي:
- الشروع في الرضاعة الطبيعية في غضون الساعة الأولى من حياة الطفل.
 
- الاقتصار على الرضاعة الطبيعية، وذلك يعني أنّ الطفل لا يتلقّى إلاّ لبن الأمّ دون أيّة أغذية أو مشروبات إضافية، بما في ذلك الماء.
 
- الرضاعة الطبيعية حسب الطلب، وذلك يعني الاستجابة لطلب الطفل كلّما أبدى رغبة في ذلك، أثناء النهار والليل.
 
- عدم إعطاء القارورات أو المصّاصات أو اللهايات.
 
آثار لبن الأم
لبن الأم هو أوّل غذاء طبيعيّ يتناوله الرضّع، وهو يوفّر كلّ ما يلزم للرضيع من طاقة وعناصر مغذّية في الأشهر الأولى من حياته، كما يستمرّ ذلك اللبن في تغطية نحو نصف احتياجات الطفل التغذوية أو أكثر من ذلك خلال الشطر الثاني من العام الأوّل، ونحو ثلث تلك الاحتياجات خلال العام الثاني من حياته. ويُسهم لبن الأم في النماء الحسّيّ والمعرفيّ وحماية الرضّع من الأمراض المعدية والمزمنة. ويُسهم الاقتصار على الرضاعة الطبيعية



1 ورد في تقرير مهم صادر عن منظّمة الصحّة العالمية واليونيسيف: "قد شهدت العقود الماضية تزايداً مستمراً في البيّنات على المنافع الصحّية للرضاعة الطبيعية والتوصيات بممارستها. ويُمكن لمنظّمة الصحّة العالمية التصريح، بكلّ ثقة الآن، بأنّ الرضاعة الطبيعية تسهم في الحدّ من معدّلات وفيات الأطفال وتُتيح منافع صحّية تدوم حتّى مرحلة الكهولة. ويوصى، على الصعيد السكّاني، بالاقتصار على تلك الرضاعة لتغذية الرضّع في الأشهر الستة الأولى من حياتهم والاستمرار فيها بعد ذلك مع إعطاء الأغذية المكمّلة المناسبة حتّى بلوغ الطفل عامَّين من العمر أو أكثر من ذلك.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
474

397

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 في الحدّ من وفيات الرضّع الناجمة عن أمراض الطفولة الشائعة، مثل الإسهال أو الالتهاب الرئويّ، ويُساعد على الشفاء من الأمراض بسرعة.

 
وتُسهم الرضاعة الطبيعية في تعزيز صحّة الأمّهات وعافيتهنّ، كما تُساعد في تباعد الولادات وتحدّ من مخاطر الإصابة بالسرطان المبيضيّ أو سرطان الثدي، وتزيد من الموارد الأسرية والمجتمعية، كما أنّها من السبل التغذوية المأمونة التي لا تضرّ بالبيئة"1.
 
ورغم كلّ هذه الإيجابيّات المترتّبة على الرضاعة الطبيعية، وكلّ السلبيّات المترتّبة على ما يُسمّى الرضاعة الصناعية، نرى أنّ بعض الأمّهات اليوم بدأت بالتنحّي والإعراض عن إرضاع مولودهنّ، تمسّكاً بعدّة مبرّرات واعتبارات تتردّد على مسامعنا من أفواههنّ، منها:
1- أنّ الرضاعة متعبة ومرهقة لراحة الأم الجسدية والنفسية، لأنّها تقتضي الجلوس ساعات وساعات مع الطفل، والسهر، والاستيقاظ عدّة مرّات من النوم أثناء الليل...
2- أنّها تؤدّي إلى انعكاسات سلبية على المستوى الجماليّ لجسد المرأة.
3- أنّها تؤدّي إلى سمنة المرأة وزيادة وزنها بسبب الرغبة في الطعام وإرادة التغذّي لأجل أن تمدّ الطفل بالغذاء المطلوب.
4- أنّها تمنع المرأة من حرّية الإنتاج الاقتصاديّ، أو ممارسة نشاطها الاجتماعيّ، أو إتمام رحلتها العلمية...
5- أنّ الرضاعة تُضعف العلاقة الحميمة والطيّبة مع زوجها، إذ ستُعطي أغلب وقتها للطفل على حساب الزوج.
 
وغيرها من الأسباب التي تُطرح عادة دفاعاً عن سلوك الامتناع عن الرضاعة، والتي تُقارب أسباب الامتناع عن الإنجاب، وقد ناقشناها سابقاً في الدرسين العاشر والحادي عشر، فلا نُعيد. 
 
وعلى فرض التسليم بكون جملة هذه الأسباب في موضعها، لكن السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه في هذا الموضوع وأشباهه دائماً: ما هو دور الأم في الأسرة بشكل عامّ؟ وما هو دورها بحقّ الطفل بشكل خاص؟



1 يراجع ما ورد عن منظمة الصحة العالمية على الرابط التالي: http://www.who.int/ar

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
475

398

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 لا ريب في أنّ معنى الأمومة متقوّم بتربية الطفل والاهتمام به ورعايته والحفاظ على سلامته الجسدية وصحّته النفسية ونموّه العقليّ و...، بل لذّة الأمومة هي بهذا التعب والسهر والوقت الذي تقضيه مع مولودها. أمّا كون تربيتها للطفل تؤدّي إلى حرمانها من شؤون أخرى في الحياة، فهذه مسألة لا يُمكن لأحد إنكارها بنحو الإجمال، لأنّ طبيعة الحياة الدنيوية هي دار التزاحم والتضادّ، ولا يُمكن لأيّ إنسان أن يُحقّق فيها كلّ شيء بعرض واحد، بل هي دار التجارة بين الخيارات المتزاحمة، بمعنى التخلّي عن أمر مرغوب من أجل مطلوب أسمى منه.

 
الرضاعة برؤية تربوية - قيمية
من النقاط الرئيسة التي تنبغي الإشارة إليها بشدّة فيما يتعلّق بمسألة الرضاعة وغيرها كالحضانة والنفقة و...إلخ، الحديث عن العلاقة بين القانون والأخلاق، حيث لا يُمكن تحقيق النجاح والسعادة في الحياة الأسرية والتربوية والمهنية والاجتماعية... إلخ، بالاستناد فقط إلى ذهنية الوجوب والتحريم في خطّ العلاقة مع الآخرين خصوصاً من يحمل الإنسان في عنقه مسؤولية تربيتهم، لأنّ القواعد المعيارية العامة التي ينبغي أن تُنظّم علاقات أفراد الاجتماع الإنسانيّ فيما بينهم وتوجّه سلوكهم في الحياة لا يُمكن أن تكون خصوص الإلزامات القانونية والمحاكمات الفتوائية، بل ينبغي حضور القيم الأخلاقية والعواطف الإنسانية كعنصر حيويّ في ذلك، فالأخلاق هي روح الفقه وعمقه الباطنيّ، ولو جُرّد القانون عن الأخلاق والعواطف لبقي قشراً بلا لبٍّ، لذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا السياق: "عجبت لرجل يأتيه أخوه المسلم في حاجة، فيمتنع عن قضائها، ولا يرى نفسه للخير أهلاً، فهب أنّه لا ثواب يُرجى، ولا عقاب يُتّقى، أفتزهدون في مكارم الأخلاق؟!"1. وبهذا بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث يقول: "عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ الله بعثني بها"2.
 
لذا يقول السيد الطباطبائي: "لا يسعد القانون إلّا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة،... فالقوانين والسنن وإن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، وأحكام الجزاء وإن كانت بالغة في



1 مستدرك الوسائل، ج12، ص437.
2 الطوسي، الأمالي، ص478.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
476

399

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 شدّتها لا تجري على رسلها في المجتمع ولا تسدّ باب الخلاف وطريق التخلّف إلّا بأخلاق فاضلة إنسانية"1.

 
ونُلفت النظر، إلى أنّنا عندما نقول ينبغي عدم بناء السلوك على الفقه فقط، لا نعني بذلك كما هو واضح ترك الواجب وفعل الحرام-معاذ الله-، لأنّ التعدّي على الحدود الفقهية يُعتبر خروجاً عن أدب العبودية، بل بمعنى تقديم الدافع الأخلاقيّ على الحقّ الفقهيّ القابل للإسقاط عند التزاحم والتعارض، وبمعنى تجاوز الواجب الفقهيّ كمّاً وكيفاً ونوعاً.
 
وانطلاقاً من هذه المسألة في المواءمة بين القانون والأخلاق، ينبغي للزوجين أو أحدهما أن لا يتحاكما في تربية أطفالهما على ضوء العقلية الهندسية القانونية، بل على ضوء روح القيم الأخلاقية وعواطف الطبيعة الإنسانية. فقد يكون فعل ما من الأفعال واجباً بحدٍّ معيّن من الناحية الفقهية التكليفية بحقّ الأب أو الأم تجاه الطفل، أو قد يكون غير مجبر عليه، كما في مسألة الرضاع، فإنّ الأم غير مجبرة عليها، فـ "ليس للرجل أن يجبر زوجته على الرضاع لولدها منه"2، كما نصّت على ذلك الروايات، فعن سليمان بن داود المنقري قال: سُئِل أبو عبد الله عليه السلام عن الرضاع، فقال: "لا تجبر الحرّة على رضاع الولد"3. فهل هذا معناه أن يصدر حينها الفعل عن الأب أو الأم انطلاقاً من ذهنية الوجوب أو عدم الإجبار؟ وهل سلوك الوالدين تجاه الولد ينبغي أن ينطلق من خلفية فتوائية بحتة؟! إنّ أيّ سلوك لا بد أن يصدر عنهما من خلال روح الأبوّة والأمومة، وشحنات العطف والرحمة والحنان، وبطاقة قيمية أخلاقية تُراعي مصلحة الطفل نفسه وإرادة إيصاله إلى كماله اللائق بحاله، بغضّ النظر عن الحكم التكليفيّ الإلزاميّ.



1 الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص170.
2 الخلاف، ج5، ص129.
3 الكافي، ج6، ص41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
477

400

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 أجر وثواب إرضاع الأم لطفلها

وعلى الأم أن تتذكّر في هذا المجال، أنّ كلّ الذرائع التي تتمسّك بها للامتناع عن إرضاع مولودها تصغر أمام عظم أجرها الذي كتبه الله تعالى لها.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ... إذا حملت المرأة كانت بمنزلة الصائم، القائم، المجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، فإذا وضعت كان لها من الأجر ما لا يدري أحد ما هو لعظمه، فإذا أرضعت كان لها بكلّ مصّة كعدل عتق محرّر منولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها، وقال: استأنفي العمل فقد غُفر لك"1.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "... يا حولاء، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً ورسولاً ومبشّراً ونذيراً، ما من امرأة تحمل من زوجها ولداً إلا كانت في ظلّ الله عزّ وجلّ، حتى يُصيبها طلق، يكون لها بكلّ طلقة عتق رقبة مؤمنة، فإذا وضعت حملها وأخذت فيرضاعه، فما يمصّ الولد مصّة من لبن أمّه، إلا كان بين يديها نوراً ساطعاً يوم القيامة، يعجب من رآها من الأوّلين والآخرين، وكُتبت صائمة قائمة، وإن كانت غير مفطرة كتب لها صيام الدهر كلّه وقيامه، فإذا فطمت ولدها قال الحقّ جلّ ذكره: ياأيّتها المرأة، قد غفرت لك ما تقدّم من الذنوب، فاستأنفي العمل"2.
 
لذا، يُعتبر عدم إرضاع الطفل على فرض عدم الوجوب ظلماً بحقّه، وهذا ما أكّدته الروايات الصادرة عن معدن الوحي والتنزيل عليهم السلام، فعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "الرضاع واحد وعشرون شهراً، فما نقص فهو جور على الصبيّ"3. وعلى فرض عدم وجوبه فقهيّاً، يُعتبر واجباً فطرياً وعاطفياً وأخلاقياً وصحّياً وتربوياً لأهمّيته، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: "الفرض في الرضاع أحد وعشرون شهراً، فما نقص عن أحد وعشرين شهراً فقد نقص المرضع، وإن أراد أن يُتمّ الرضاعة فحولين كاملين"4.



1 الصدوق، الأمالي، ص497.
2 جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص242.
3 الكافي، ج6، ص40.
4 تهذيب الأحكام، ج8، ص106.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
478

401

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 هل حقّ الطفل في الرضاعة واجب تكليفاً أم مستحبّ؟

لا إشكال بأنّ إرضاع الطفل من ثدي أمّه من الحقوق الفطرية الطبيعية له، وهو واجب تربويّ وأخلاقيّ وعاطفيّ وصحّي... وموضع السؤال في هذه الفقرة هو من الناحية التشريعية والقانونية: فهل ثمّة تكليف إلزاميّ يتوجّه إلى الأم بوجوب إرضاع الطفل أم أنّ الرضاعة مستحبّ مرخّص في تركه، فالأم بالخيار إن شاءت أرضعته وإن لم تشأ لم تُرضعه؟ وإن لم يكن ثمّة تكليف إلزاميّ بحقّ الأم فهل هناك تكليف إلزاميّ بحقّ وليّ الطفل في تأمين مرضعة له سواء أكانت الأم أم غيرها؟
 
فالبحث حول الحكم التكليفيّ للرضاع يقع في نقطتين:
1- ما هو تكليف الأم بحقّ طفلها؟
2- ما هو تكليف الوليّ (الأب) بحقّ طفله؟
 
وفي الجواب عن النقطة الأولى، يوجد ثلاثة آراء عند الفقهاء:
1- الرأي الأول: وجوب إرضاع الطفل لمدّة سنتين كاملتين.
2- الرأي الثاني: وجوب إرضاع الطفل اللبأ، والاستحباب فيما عدا ذلك.
3- الرأي الثالث: الاستحباب وعدم الوجوب مطلقاً.
 
الرأي الأول: وجوب الإرضاع لمدّة سنتين
استدلّ أصحاب هذا الرأي بعدّة أدلّة:
أ- دليل الكتاب:
يقول الله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾1.
 
حيث استُفيد من الآية الوجوب، ولبيان كيفية استفادة الوجوب من الآية، لا بدّ من التوقّف عند بعض المقدّمات:



1 سورة البقرة، الآية 233.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
479

402

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 1- المقدّمة الأولى: وتُبحث عادة في أصول الفقه1، وهي أنّ الجمل الدالّة على الطلب الوجوبيّ على نحوين:

1- الجملة الإنشائية، التي تنطوي على مادّة فعل الأمر أو صيغة افعل، مثل: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾2، ﴿وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾3، ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾4...
 
2- الجملة الخبرية، مثل: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾5، وغيرها من الجمل التي صورتها صورة الإخبار ولكنّ مضمونها يُستفاد منه الإنشاء والوجوب.
 
ويُقال: "إنّ دلالة الجملة الخبرية على الوجوب آكد، لأنّها في الحقيقة إخبار عن تحقّق الفعل بادّعاء أنّ وقوع الامتثال من المكلَّف مفروغ عنه"6.
 
وجملة: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾، جملة خبرية في مقام الطلب من باب المبالغة، ومعناها: لِترضعْ الأمهاتُ أولادَهنّ، ولذلك هي دالّة على الوجوب.
 
قال الأردبيليّ تعليقاً على الآية: "الظاهر أنّ الإرضاع في الحولين واجب"7.
 
2- المقدّمة الثانية: أنّ فاعل الإرضاع الذي هو المكلَّف المتعلِّق به الوجوب، كما هو واضح في الآية: ﴿وَالْوَالِدَاتُ﴾ أي الأمّهات، فتشمل كلّ أمٍّ على نحو العموم الاستغراقيّ، وغير مختصّة بالمطلّقات، وخروج أمٍّ معيّنةٍ يحتاج إلى دليل، وإلّا بقيت مندرجة تحت عموم الحكم.
 
3- المقدّمة الثالثة: أنّ زمان الوجوب محدّد في الآية بشكل واضح ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، أي سنتين كاملتين بحسب الشهور القمرية. ومبدأ حساب الحول من حين انفصال مجموع



1 يراجع: المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، ج1، ص114. والصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، ص75.
2 سورة البقرة، الآية 43.
3 سورة البقرة، الآية 43.
4 سورة النساء، الآية 43.
5 سورة البقرة، الآية 228.
6 أصول الفقه، المصدر السابق.
7 الأردبيلي، أحمد بن محمد، زبدة البيان في أحكام القرآن، ص556.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
480

403

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 الولد، ولو انكسر الشهر الأول أكمل المنكسر بالعدد من الشهر الخامس والعشرين1.

 
فالآية القرآنية الكريمة، قد غيّت الرضاع بحولين، وفي آية أخرى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾2، أي أنّ فطام الطفل يحصل بعد انقضاء العامين، إلا أنّ الرضاع فوقهما ليس محرّماً3، وقد جوّزه الفقهاء للأخبار، منها ما رواه سعد بن سعد الأشعري عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: "سألتُه عن الصبيّ هل يرضع أكثر من سنتين؟ فقال عليه السلام: عامين. قُلتُ: فإن زاد على سنتين هل على أبويه من ذلك شيء؟ قال: لا"4.
 
وقد احتاط البعض في عدم الزيادة وحمله على الضرورة فقط5. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين، وإن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراض منهما فهو حسن، والفصال الفطام"6.
 
الرأي الثاني: استحباب الإرضاع على الأم
قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "يُستحبّ أن يكون رضاع الصبيّ بلبن أمّه، فإنّه أبرك من غيره، إلا إذا اقتضت بعض الجهات أولوية غيرها من حيث شرافتها وطيب لبنها وخباثة الأم"7.
 
وهو المشهور عند فقهاء الشيعة، أنّ الإرضاع مستحبّ على الأم وليس واجباً، لعدم وجود دليل على الوجوب، أمّا الاستدلال بالآية فقد أجابوا عنه بـوجود آية أخرى يستفاد منها عدم الوجوب، لتعليق الإرضاع فيها على مشيئة الأم8، ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾9، ممّا يعني أنّ "الأمر المستفاد من الجملة الخبرية، محمول على الاستحباب توفيقاً بين الأدلّة"10.



1 يراجع: مسالك الأفهام، ج7، ص235.
2 سورة لقمان، الآية 14.
3 زبدة البيان في أحكام القرآن، ص356.
4 من لا يحضره الفقيه، ج3، ص475.
5 زبدة البيان، ص356.
6 تهذيب الأحكام، ج8، ص106.
7 تحرير الوسيلة، ج2، ص312.
8 مسالك الأفهام، ج8، ص413.
9 سورة الطلاق، الآية 6.
10 نهاية المرام، ج1، ص460.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
481

404

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 مع الإشارة إلى أنّ بعض الفقهاء استفاد أنّ الآية ليست في مقام بيان الحكم التكليفيّ، بل الحكم الوضعيّ، أي يكون معنى الآية: "أنّ الإرضاع في هذه المدّة للأم، بمعنى أنّه حقّها، يجب على الأب تمكينها منه، ولا يجوز الأخذ منها، وإرضاع غيرها، فيكون حينئذ إخباراً عن حقّ الأم الواجب على الأب"1. فالآية تدلّ على أنّ الإرضاع حقّ للأم لا يجوز للأب أن يمنعها عنه.

 
واستفاد بعض الفقهاء أنّ الآية الكريمة في مقام بيان مدّة الرضاع لا أصل الطلب وجوباً أو استحباباً، وعلى فرض التسليم بكونها في مقام الطلب تُحمل على الاستحباب جمعاً بين الأدلّة كما تقدّم2.
 
وجوب إرضاع اللِّباء
اللبأ لغة: "أول حلب عند وضع الملبئ"3. و"أول اللبن في النتاج"4.
 
فاللباء أول ما يحلب من الثدي عند الولادة، وقيل: يكون بعد الولادة إلى ثلاثة أيام.
 
قال الشهيد الأول: "يجب على الأم إرضاع اللباء". وعلّق الشهيد الثاني شارحاً: "بكسر اللام، وهو أول اللبن في النتاج، قاله الجوهريّ، وفي نهاية ابن الأثير: هو أول ما يحلب عند الولادة. ولم أقف على تحديد مقدار ما يجب منه وربما قيّده بعض بثلاثة أيام. وظاهر ما نقلناه عن أهل اللغة أنّه حلبة واحدة. وإنّما وجب عليها ذلك، لأنّ الولد لا يعيش بدونه"5.
 
وقال السيد محمد العاملي: "جزم العلامة في القواعد6 بأنّ الأم تُجبر على إرضاع الولد اللبأ... محتجّاً بأنّ الولد لا يعيش بدونه والوجدان يشهد بخلاف ما ذكره"7.
 
فمن الواضح أنّ هذا الاستدلال ليس في محلّه لما هو ثابت بالتجربة أنّ الولد يعيش بدون اللباء، لذا عبّر الشهيد الثاني: "وهو ممنوع بالوجدان"8، نعم، اللباء من الناحية الطبّية له أثر بالغ على الصحّة البدنية للطفل كما تقدّم في تقرير منظّمة الصحّة العالمية.



1 زبدة البيان، مصدر سابق.
2 فقه الصادق، ج22، ص296.
3 العين، ج8، ص341.
4 الصحاح، ج1، ص70. ومعجم مقاييس اللغة، ج2، ص400.
5 الروضة البهية، ج5، ص452.
6 قواعد الأحكام، ج3، ص101، قال: " أفضل ما يرضع به الولد لبان أمه. وتجبر على إرضاع اللباء، لأن الولد لا يعيش بدونه".
7 نهاية المرام، ج1، ص460.
8 مسالك الأفهام، ج8، ص413.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
482

405

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 المفاهيم الرئيسة

- الرضاعة تمنح الطفل شحنات عاطفية ووجدانية يحتاجها من حضن أمّه، وتُشبع نداءات روحه إلى حنان قلب الأم، خصوصاً أنّ الجنين بعد ميلاده يُتابع خبراته التي كوّنها في رحم أمّه، فمثلاً كان يسمع انتظام دقّات قلبها، فإذا حضنته وأرضعته يشعره ذلك بالأمان والأنس وعدم الغربة والوحشة. والرضاعة تفتح استعدادات وقابليات النمو الحسّي والعقليّ للطفل بشكل أوسع.

- أدّت مشكلة انخفاض معدّل نسبة اعتماد الرضاعة الطبيعية إلى مبادرة بعض الأطباء والمستشفيات والجمعيات المهتمّة بحقوق الطفل إلى الشعور بالمسؤولية في القيام بحملات توعية على الآثار الإيجابية للرضاعة الطبيعية، والتحذير من مخاطر ومضارّ الرضاعة الصناعية، لما تُشكّله تغذية الطفل بالقارورة من سلب لحقوق الطفل.

- ينبغي للزوجين أن لا يتحاكما في تربية أطفالهما على ضوء العقلية الهندسية القانونية، بل على ضوء روح القيم الأخلاقية وعواطف الطبيعة الإنسانية. فقد يكون فعل ما من الأفعال ليس واجباً كما في مسألة الرضاع، ولكن هذا لا يعني أنّه على الأم النظر إلى الحكم التكليفيّ الإلزاميّ فقط، بل ينبغي أن يصدر عنها الرضاع بروح الأمومة وشحنات العطف والرحمة والحنان، وبطاقة قيمية أخلاقية تُراعي مصلحة الطفل نفسه وإرادة إيصاله إلى كماله اللائق بحاله.

- لقد جعل الله تعالى للمرأة المرضعة أجراً كبيراً، عن أبي عبد الله عليه السلام: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "... إذا أرضعت كان لها بكلّ مصّة كعدل عتق محرّر من ولد إسماعيل، فإذا فرغت من رضاعه ضرب ملك كريم على جنبها، وقال: استأنفي العمل فقدغُفر لك".

- اختلف الفقهاء في كون الرضاع واجباً أم مستحبّاً، ويوجد ثلاثة آراء عند الفقهاء:
1- الرأي الأول: وجوب إرضاع الطفل لمدّة سنتين كاملتين.
2- الرأي الثاني: وجوب إرضاع الطفل اللبأ، والاستحباب فيما عدا ذلك.
3- الرأي الثالث: الاستحباب وعدم الوجوب مطلقاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
483

406

الدرس الثلاثون: الرضاعة الطبيعية برؤية قيمية وفقهية وصحيّة

 أسئلة الدرس

1- ما هي مخاطر الرضاعة الصناعية على شخصية الطفل؟

2- تتمسّك بعض الأمّهات بأسباب معيّنة للامتناع عن الرضاع، كيف تُناقش تلك الأسباب؟

3- اذكر رواية تدلّ على عظيم أجر المرأة التي تُرضع طفلها.

4- اختلف الفقهاء حول وجوب الرضاع أو استحبابه إلى ثلاثة آراء، ما هي؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
484

407
المنهج الجديد في تربية الطفل