(9) زاد البصيرة في شهر الله


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-08

النسخة: 2016


الكاتب

المركز الإسلامي للتبليغ

مؤسسة إسلامية، تعنى بالتبليغ المسجدي والعام، ورعاية شؤون أئمة المساجد والمبلغين.


المقدمة

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وأشرف الصلاة وأزكى السلام على رسول الرحمة محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.

يعود إلينا رمضان من جديد شهراً مباركاً، ووافداً كريماً، وزائراً حبيباً، تهفو له أفئدة المؤمنين، وتحنّ له أرواح المتّقين، وتقرّ به أعين الصالحين لما يحمل من العطايا الإيمانية والهبات الإلهيّة.

إنه أفضل الشهور، يزفّ لنا بشائر الرحمة ويقيم لنا أفراح الإيمان ويشرح الصدور بالطمأنينة واليقين، ويقضي على روح اليأس والإحباط، ويحررالإنسان من سلطان الأهواء والشهوات، ويفتح له باب التوبة على مصراعيه بما تهبّ فيه من نسمات الإيمان وتتنزَّل فيه من البركات ففيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفّد الشياطين، وينادي مُنادٍ: أبشِروا عِبادي! فَقَد وَهَبتُ لَكُم ذُنوبَكُمُ السّالِفَةَ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 ونحن في المركز الإسلامي للتبليغ تعوّدنا معكم على استقبال هذا الشهر المبارك والكريم بعملٍ ثفافيّ تبليغيّ نحرص من خلاله على مواكبة العمل التبليغيّ لا سيّما عمل أئمّة المساجد من خلال إصدار متن تبليغيّ يندرج تحت "سلسلة زاد المبلّغ" التي تعنى بتقديم مادة ثقافية وتبليغية موجّهة لعموم الناس إنطلاقاً من دراسات ميدانية واستطلاع لآراء الناس حول أهمّ المسائل الثقافية الملحّة والهامّة التي ينبغي إعطاؤها أولوية تبليغية في هذه المرحلة بما يساهم بمحاكاة الناس بأهمّ المشكلات الثقافية والتربوية في هذا الشهر.


وهذا الكتاب في الواقع يُسهم في الاستفادة أكثر من بركات هذا الشهر ولتحقيق أهدافه وفق برنامج ثقافيّ تبليغيّ يختار الموضوعات بدقّة، ويعالج عناوينها الفرعية وفق الابتلاءات والأزمات الراهنة. 

وكنّا قد اعتمدنا سابقاً تقسيم الكتاب إلى مجموعة من الأبواب لمعالجة الموضوعات على طريقة الرزم بدلاً من 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

2

المقدمة

 تناولها بشكل متجزِّىء، وقد أثبتت هذه الطريقة نجاحها وفائدتها، ولذلك حرصنا على إدراج المحاضرات في هذا الكتاب على نفس الطريقة والتي جاءت مقسَّمةً على خمسة أبواب موزّعة على الشكل التالي: 

الباب الأوّل: حقيقة الإيمان
الباب الثاني: مفهوم السعادة
الباب الثالث: الحجاب والستر
الباب الرابع: مشاكل الشباب
الباب الخامس: مناسبات الشهر

وفي الختام نسأل الله أن يتقبل أعمال الجميع بأحسن القبول ويجعل ثوابها في ميزان أعمالنا يوم القيامة، وأن يحظى هذا الإصدار بقبول الإخوة المبلّغين وكلّنا حرص على أهمية تقديم أيّ ملاحظة تساهم في إنجاح هذه الخطوة أكثر وتفعيلها بشكل يساهم في تطوير هذا الإصدار وتوسعة دائرة الإستفادة منه شاكرين للجميع تعاونهم وتجاوبهم.

المركز الإسلامي للتبليغ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

3

المحور الأول: حقائق الإيمان

 المحور الأول


حقائق الإيمان
 
 
حقيقة الإيمان
الإيمان في بعده العبادي
الإيمان في بعده النفسي
الإيمان في بعده الاجتماعي
الإيمان في بعده الأخلاقي
الإيمان فرع الولاية
بركات الإيمان في الدنيا والآخرة (1)
بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
11

4

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 
 
تصدير الموضوع: 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدقه الأعمال"1.
 
الهدف: 
بيان الضوابط والمعايير الشرعية التي يتشكل منها تعريف الإيمان على حقيقته.



1 ميزان الحكمة، ج1، ص191.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

5

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 المقدَّمة

من الأمور التي كثيراً ما نتسامح بها في حياتنا اليومية، إطلاق عنوان المؤمنين وأهل الإيمان على الكثيرين ممن لو عرضتهم على المعايير الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في موضوع الإيمان لوجدت بوناً شاسعاً ومساحةً كبيرةً ما زالت تفصلهم عن الفوز بهذا اللقب، وسلَّماً طويلاً يجب ارتقاؤه حتى نصل إلى المقام الذي نستحق فيه هذا العنوان، والحقيقة التي لا بد من قولها، أنّ هذا الاستخدام الجزاف لهذا العنوان من شأنه أن يشوّه صورة الإيمان ويجعلها فاقدة للجاذبية والمحبوبية عند الناس، ويستسهل الكثيرين ممن يملكون أطماعاً خاصة ارتداء هذا اللباس والتنكر به زيفاً وزوراً للوصول إلى مصالحهم وأطماعهم، ومن هنا كان من الضروري أن نقف على حقيقة الإيمان من كافة جوانبه حتى لا نسيء استخدام عنوان هو من أشرف العناوين، فنفسد من حيث لا نعلم أو من حيث نتوهَّم أننا نُحسن صنعاً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

6

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 تصدير الموضوع

ومن خلال الحديث المرويّ عن الإمام الرضا عليه السلام: "الإيمان عقد بالقلب، ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح"1 نرى أنّ هناك ثلاث ضوابط أساسية لا بد من تحققها حتى يصدق عنوان الإيمان على أي إنسان وهي: 
1- الاعتقاد القلبي.
2- الإقرار بالقول.
3- العمل بالجوارح لما اعتقده القلب وأقرّ به اللسان.
 
وهذه الأركان الثلاثة ليست أموراً بسيطة بل هي أمور محددة بمواصفات خاصة، وأنّ الخدش بأيّ واحدةٍ منها يخدش في انطباق مفهوم الإيمان على المرء، ومن هنا كان لا بد من الوقوف بتأنٍّ عند كلّ واحدة منها لبيان المراد منها بشكلٍ دقيق.



1 ميزان الحكمة، ج1، ص191.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

7

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 أولاً: الاعتقاد القلبي: وهو أعلى درجات الاعتقاد أي ما كانت فيه المفاهيم واضحة لا لبس فيها ونقية لا تشوبها أيُّ شائبة، راسخة في النفس، يقدر المرء على الاستدلال عليها والاحتجاج لها وإقناع الآخرين بصحتها، فهي تشكّل القاعدة القوية والمنطلق الواعي لكافة سلوكيات المرء، فهو بذلك ليس مقلداً أو تابعاً أو يسير على خطى غيره، بل له رأيه ونوره الخاص الذي يُضيء له الطريق فيسلكه، وهذا ما عبّر عنه عن الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "لو أنّ العباد وصفوا الحقّ وعملوا به ولم تعقد قلوبهم على أنه الحق ما انتفعوا"1.

 
ثانياً: الإقرار بالقول: والمراد بالقول هنا ما كان فيه اللسان ترجمان القلب ومرآته العاكسة لما رسخ فيه، وليس مجرد لقلقة اللسان التي تصدر عن كثيرٍ من الناس، ولو اطلعت على قلوبهم لرأيت أن ما سكن فيها يخالف تماماً ما ظهر على ألسنتهم.
 
ولذلك كان الإيمان بتعبير القرآن نوعين: مستقرّاً 



1 البحار: 69-18، باب 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

8

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 ومستودعاً، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾1.

 
وفي التفسير عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ "أمّا المستقرّ الذي يثبت على الإيمان، والمستودع المعار"2.
 
وعن الإمام علي عليه السلام: "فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقرّاً في القلوب، ومنه ما يكون عواري بين القلوب والصدور (إلى أجل معلوم)، فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حدُّ البراءة"3.
 
وعنه عليه السلام: "من كان فعله لقوله موافقاً فأثبت له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لِقوله موافقاً فإنما ذلك مستودع"4.
 
ثالثاً: العمل بالجوارح لما اعتقده القلب وأقرّ به اللسان: أي التصديق العملي والسلوكي، ولعلَّ المراد منه هنا هو الإظهار والإشهار، فإنّ الإنسان بطبيعته إذا اعتقد أمراً أعلنه ودافع عنه، 



1 سورة الأنعام، الآية 98.
2 بحارالانوار، ج66، ص 222.
3 المصدر نفسه، ج66، ص 227.
4 شرح أصول الكافي، ج10، ص 140.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

9

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 فالمؤمن الذي لا يطابق فعلُه قولَه مشكوك في إيمانه، وفي بعض الروايات تحذير من التسامح في إطلاق لفظ الإيمان على من لا يقرن إيمانه بالعمل، فعن الإمام الصادق  عليه السلام: "ملعون ملعون من قال: الإيمان قول بلا عمل"1.

 
وهذا أمرٌ واضح فالإيمان ما لم يقترن بالعمل الصالح كما تؤكِّد الآيات القرآنية على ﴿آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ بقي مستتراً في جوف الإنسان، لا يطَّلع عليه سوى الله في حين أراد الله لهذا الدين أن تبنى به الحياة ويرتفع صوته فوق كلّ الأصوات ويعلو صرحه على كلّ الصروح.
 
والعمل هو تجلٍّ لحقيقة الإيمان كما هو العنصر المزكِّي والمثبِّت له، فإنّ سلوك المرء إذا طابق ما اعتقد به فإنه يزيده رسوخاً في القلب، فالإنسان الذي يعوّد نفسه الصدق عملياً ويلتزم الصلاة في أول وقتها بالفعل فإنّ ذلك مدعاةٌ لأن يكون راسخاً فيه لا تزلزله التحديات مهما عظمت ولا يحيد عن ذلك مهما أغرته الدنيا بغرورها، ويؤيد هذا المعنى ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل والعمل منه"2.



1 وسائل الشيعة، ج16، ص 280.
2 الكافي، ج2، ص 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

10

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 تأثير المعصية على الإيمان

والإنسان مهما عَظم إيمانه سيبقى في معرض الذنب والمعصية بشكلٍ عامّ، فالمعصومون وحدهم من لا يعصون الله ما أمرهم ومن سواهم ليس كذلك، وبالتالي فإن هذه الحالة الإيمانية معرضة دائماً للإهتزاز وإحداث الفجوات فيها، ولذلك فتح الله أبواباً من التوبة والاستغفار والندم والكفارة وسواها لترميم هذه العلاقة بل حتى لبنائها من جديد فيما لو اقتضى الأمر ذلك.
 
وقد تناولت النصوص مسألة عصيان المؤمن وهل أنّ ذلك انهيارٌ لدينه وإيمانه؟ أو هو تعثّر يمكن جبرانه، ونحن هنا نورد بعض ما ورد في هذا المجال: فعن الإمام الكاظم عليه السلام - وقد سئل عن الكبائر هل تُخرج من الإيمان؟: "نعم، وما دون الكبائر"، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن"1.



1 الكافي، ج2، ص285.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

11

المحاضرة الأولى: حقيقة الإيمان

 ومثله عن الإمام الباقر عليه السلام - وقد سئل عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان -: هو قوله عز وجل: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ ذلك الذي فارقه"1.

 
وعن الإمام الصادق عليه السلام في توضيحه لروح الإيمان وقد سأله زرارة عن قول النبي: "لا يزني الزاني وهو مؤمن، قال: حتى ينزع عنه روح الإيمان. قال: قلت: ينزع عنه روح الإيمان؟ قال: (قلت:) فحدِّثني عن روح الإيمان. قال: هو شيء، ثم قال: احذر أن تفهمه، أما رأيت الإنسان يهمّ بالشيء فيعرض بنفسه الشيء يزجره عن ذلك وينهاه؟ قلت: نعم، قال: هو ذاك2.
 
فصفاء الإيمان لا يتناسب مع ارتكاب المعصية ولذلك فهو ينسلخ عنه لحظة الخطيئة، فحذار كثرة المعاصي والاستغراق في شؤون الدنيا لأنّ ذلك مما ينزع عنه روح الإيمان شيئاً فشيئاً وهو يحسب نفسه من أهل الطاعة.



1 شرح أصول الكافي، ج9، ص 266.
2 شرح أصول الكافي، ج9، ص 262.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

12

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 
تصدير الموضوع: 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أسبغ وضوءه وأحسن صلاته وأدى زكاة ماله وخزن لسانه وكفَّ غضبه واستغفر لذنبه وأدّى النصيحة لأهل بيت رسوله فقد استكمل حقائق الاِيمان وأبواب الجنة مفتحة له"1.
 
الهدف: 
 بيان الموقع المهم والمقام الرفيع الذي تشغله العبادة في بناء الشخصية الإيمانية.



1 ثواب الاعمال، ص 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

13

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 المقدَّمة

تُعد العبادة جزءاً أساسيّاً من نظام الإسلام، فهي التي تجعل التصور الإسلامي للوجود حيّاً في النفوس لجهة نقل هذا التصور من حيز الفكر المجرد إلى حيز التطبيق، ومن منظومة الأوامر والنواهي إلى رحاب العقل والقلب والوجدان. فضلا عن أنها الوسيلة الناجعة التي تنقل الإنسان من حال العلم والاقتناع العقلي بوجود الله تعالى، إلى مقام الإحساس والشعور بإشراقه وهيمنته وعلمه سبحانه ﴿خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾1، وبحتمية لقائه والوقوف بين يديه والعرض عليه للحساب يوم الدين: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾2.
 
تتوسَّط العبادات في الإسلام المقام الذي يقع بين كلٍّ من: العقيدة من جهة، والمعاملات من جهة أخرى. ومردّ ذلك أن العقيدة الصحيحة هي أساس العبادات، كما أن الأخلاقيات والسلوكيات العملية لا يستقيم أمرها إلا بعد 



1 سورة غافر، الآية: 20.
2 سورة الشعراء، الآيتان: 88 – 89.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

14

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 تمام كلّ من: العقيدة والعبادة معاً. ومن هنا تبرز وسطية العبادة وأهميتها لجهة أنها الوسيلة الأكيدة لإحداث الوعي بالشريعة وصاحبها من جهة، وربط الدين بالدنيا من جهة أخرى. فبينما تربط العقيدة الإنسان بخالقه متجاوزاً بذلك روابطه الأخرى: الشخصية القريبة، والغيرية البعيدة، تربط العبادة صاحبها برباط آخر: بحياته وواقعه، بإنسانيته وغايته، بمبدأ وجوده ومنتهاه.

  
غاية العبادات
من المستحيل عقلاً في حقّ الخالق، عزَّ وجلَّ، أن يكون قد فرض علينا عبادة خالية من المعنى، فارغة من الحكمة، وهو الذي زوّدنا بعقول لإدراك الغايات البعيدة وفهم الأهداف القريبة، فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾1، ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ 



1 سورة الأنبياء، الآية: 10.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

15

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾1، ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾2.... إلى غير ذلك من الآيات.

 
وإذا كان ذلك مستحيلاً وأن الله تعالى لم يسخّر لنا هذه العبادات لنؤديها كحركاتٍ طقسية بعيداً عن المعنى والجوهر والحكمة من ورائها، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، فإن النصوص تؤكِّد أن هذه الحكمة هي تزكية النفوس وتنقية باطن الإنسان وسريرته والوصول به إلى مقام القلب السليم الذي لا ينفع المرء سواه يوم القيامة، وهذا ما دلت عليه النصوص صريحاً بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأنّ الصوم تثبيتٌ للإخلاص والحج تشييدٌ للدين، ومنها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر الصلاة: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم.. فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا"3، حيث وصفها بأنها بمثابة الطهر والغسل المعنوي مما ران على المصلي من لمم وذنوب قبلها.



1 سورة النور، الآية: 61.
2 سورة يونس، الآية: 24.
3 عوالي اللئالي، ج1، ص110.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

16

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 العبادة وموقع الإنسان في الوجود

كما أنّ العبادة في الإسلام لا تنفكُّ تذكِّر المسلم بموقعه الحقيقي من الوجود، وبخلافته في الأرض. وآية ذلك أن الله، عزَّ وجلَّ، قرن في كتابه الكريم الإيمان والعمل الصالح بالتمكين في الأرض، فقال سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾1، ثم جعل غاية هذا التمكين أن تقرّ له البشرية بالعبودية وأن تؤدي هذه العبادة بتمام الإخلاص له دون سواه، ولذلك تُكمل الآية بقوله ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾2، وأن الخروج عن دائرة العبادة التي تمثل حقيقة موقع الإنسان القائم على محورية الله في هذا الوجود، وأن الخروج عن هذا الموقع هو خروج إلى الكفر والفسق، فقال تعالى ﴿وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾3.
 
وهذا ما نفهمه من حوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حارثة عندما لقي 



1 سورة النور، الآية: 55.
2 سورة النور، الآية: 55.
3 سورة النور، الآية: 55.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

17

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً حارثة... فقال له: "كيف أصبحت يا حارثة"؟ قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقّاً، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري"1، فامتدحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن حقيقة الإيمان هو انتقالك من البعد النظري إلى البعد التطبيقي، وما قام به حارثة من سهره ليلاً وصومه نهاراً خير تجلٍّ لهذا الإيمان.

 
مقام العبادة 
والعبادة هي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، والمراد هنا أنها غاية المخلوق لا غاية الخالق كما توهم البعض حيث عبَّرت الآية القرآنية الكريمة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾2، هذه الغاية التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا 



1 المحاسن، ج1، ص 247.
2 سورة الذاريات، الآية: 56.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

18

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾1، وهذه الغاية أرادها الله تجديداً للعهد معه وخروج الإنسان عن مختلف الدوائر الضيقة التي يعيش فيها ويستغرق في تفاصيلها كدوائر الأسرة والعمل والعائلة والوطن إلى الدائرة الأوسع والأشمل التي تربطه بالكون والوجود، فيشعر بضعفه أمام قوة الخالق وافتقاره إليه وخضوعه له وصولاً إلى شعوره بدوره باستخلافه له على الأرض، وهذا الشعور لا يمكن أن يعيشه في الدوائر الضيقة ولأن الارتباط بالغايات البعيدة يوصلك إلى الكمال دون الدوائر الضيقة التي تحجبك عنه.

 
وهذا معنى الرواية المروية عن الإمام الرضا عليه السلام عندما سُئل أنه لماذا تعبَّد اللهُ الناسَ (أي لماذا أمرهم بالعبادة، فقال  عليه السلام: "لئلا يكونوا ناسين لذكره"2، فالمطلوب هو هذا الارتباط الدائم وتلقيّ الفيض النوراني الإلهي باستمرار، لأن هذا الإتصال يبعث القوة والتجدد في الإيمان ويزيده ويُضاعفه كما عبّر تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ 



1 سورة الأحزاب، الآية: 72.
2 الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج1، ص 293.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

19

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾1، ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾2، ومن جهةٍ أخرى كي لا تتسلل الغفلة إلى قلوبنا فنخرج عن دائرة الاتصال، وهذا معنى الاستثناء الإلهي من قول إبليس: ﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾3، فإن الاتصال الدائم بمصدر الرحمة والنور يحجب سلطة الشيطان عن الإنسان.

 
ومن هنا نفهم تركيز بعض الآيات القرآنية على بعض التفاصيل في العبادات، فهي لا تريد أن تربط المرء بالعنوان الأوسع فقط حتى إذا أتعبته بعض التفاصيل استوحش منها، بل تريد أن تجعله في ارتباط دائم ليعيش كافة تفاصيل العبادة 



1 سورة الأنفال، الآيتان: 2 - 3.
2 سورة التوبة, الآية: 124.
3 سورة الحجر، الآيات: 39 - 43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

20

المحاضرة الثانية: الإيمان في بُعده العبادي

 على أنها ثواب وحسنات. ولعلّ من أبرز الآيات القرآنية التي تبين هذا المعنى بوضوح تام ما قاله، سبحانه وتعالى، في معرض حديثه عن المجاهدين في سبيله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾1.

 
وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾2.



1 سورة التوبة، الآيتان: 120 - 121.
2 سورة الأنفال، الآية: 74.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

21

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾1.
 
الهدف: 
بيان أهمّ المعايير النفسية لحقيقة الإيمان والتي يمكن للمرء الحكم من خلالها على ذاته.



1 سورة النساء، الآية: 65.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

22

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 المقدمة

لا شكَّ أنّ الالتزام بالأحكام الشرعية والتكاليف الإلهية على مختلف أنواعها يترك آثاراً على المستوى النفسي للإنسان من راحة أو إنزعاج، ومن سرور أو شقاء، ومن حماسٍ أو إحباط وسواها من الأحاسيس التي تنتاب المرء حال قيامه بواجباته الدينية، سواء التشريعية منها كالصلاة والصوم، أو الأخلاقية كالصدق والأمانة والوفاء بالعهود، أو المعاملات كالوفاء بالعقود ومراعاة الضوابط الشرعية وغيرها، ولهذه الأحاسيس دور مهم حيال تقييم شدة إيمان المرء وصلابته أو ضعف هذا الإيمان وتزلزله، ولذلك نرى أنّ هذا الجانب النفسي للإيمان من الأمور التي تناولها القرآن الكريم وأكّدت عليها النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، بل لعلّ هذا الجانب من أهمّ الجوانب المعيارية التي يمكن للإنسان الرجوع إليها لاستبيان استقرار إيمانه أو تزلزله.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

23

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 من خلال الآية المتقدمة يمكن الوقوف عند ثلاث حالات على المستوى النفسي يمكن للمرء مراقبة ذاته ليرى مدى تحققها عنده، وهل إنها تنطبق عليه أم لا؟ وبالتالي فهل هو ممن استكمل حقيقة الإيمان على المستوى النفسي؟

 
بل إنّ الآية تنفي الإيمان عن أولئك الذين لا تتوفر فيهم هذه الحالات الثلاث؛ ولذلك عبّر الله بقوله ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، ثم تلاها بقوله (حتى) حتى يحفز أهل الإيمان على السعي للوصول إليها.
 
وأمّا هذه الحالات الثلاث فهي: 
الأولى: الاحتكام إلى الشرع المقدَّس: وهو الظاهر من قوله تعالى ﴿حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾. إنّ الاحتكام إلى الشرع المقدس دون سواه يعني الإيمان أنّ الله هو الحاكم المطلق هو الضارّ والنافع وأن لا شيء في الوجود أعلى شأناً من سلطة الله، ويعني أيضاً الإيمان بأنّ ما عند الله خير وأبقى، ولذلك ترى المؤمن يتعالى عن كافَّة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

24

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 انتماءاته من الأنا والمصلحة والقبيلة والمنطقة والقرابة والرحمية لحساب الانتماء للشريعة الغرّاء، وهذا من أهمّ مظاهر قوة الاِيمان الراسخ في أعماق النفس المؤمنة.

 
وهذا ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام بقوله: "لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله سبحانه أوثق منه بما في يده"1، أي النظر إلى الأمور من خلال قناعته بأنّ ما عند الله هو لمصلحته أكثر مما يتصوره من مصلحةٍ لنفسه.
 
وأبرز ما تتجلى هذه الحقيقة في ميدان النزاعات والخلافات على الحقوق والواجبات والشجارات التي تنشأ بسبب التعديات والتجاوزات بين الناس، والتي يعتبر التعامل مع هذه الأمور أهمّ معيار من معايير هذا الإيمان، وهذا معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ من حقيقة الاِيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك"2.
 
الثانية: عدم الشعور بالحرج من الحكم الشرعي: وهوالظاهر من قوله تعالى ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا 



1 ميزان الحكمة، ج1، ص193.
2 ميزان الحكمة، ج1، ص192.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

25

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 قَضَيْتَ﴾، أي ما هو الشعور النفسي الذي يتلقى به المؤمن الحكم الشرعي سواء وقع لمصلحته أو لا، وما هي ردة فعله الأولى والمباشرة على ذلك بغضّ النظر عن التزامه به ورضوخه له؛ لأنّ الإنسان قد يلتزم بالحكم الشرعي لكن يبقى في النفس شعور بالإنزعاج والتململ.

 
والآية إذ ساقت حقيقة الإيمان لتبيِّنه خلال النزاعات والشجارات لأنّ الإنسان في هذه الحالة يعيش تحدياً كبيراً بين التزامه بدينه أو انتصاره للأنا والذات، وكثيرون هم الذين يعتبرون أنفسهم من أهل الإيمان حتى إذا خيّرهم التحدي بين الحكم الشرعي والأنا أو وشخصه في عيون الآخرين فإنه يسقط ويقف خلف متراس الأنا يدافع عنها بدون أن يدرك أنّ هذا الشعور هو شعور شيطاني، وأنّ الشعور الإيماني الحقيقي هو ما عبّر عنه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنَّ لكلِّ شيء حقيقةً وما بلغ عبد حقيقة الاِيمان حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه"1.



1 ميزان الحكمة، ج1، ص192.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

26

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 ثالثاً: التسليم المطلق للشرع والرِّضا بقضائه: وهو الظاهر من قوله تعالى (ويسلّموا تسليما)، وهو أعلى درجات الرضا والتقبُّل، بل يستبطن السعادة بالحكم والميل إلى تنفيذه عند أهل الإيمان الذين فاضت قلوبهم بحبّ الله، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنتم؟ قالوا: نحن مؤمنون قال صلى الله عليه وآله وسلم: فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والتفويض إلى الله تعالى، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فإن كنتم صادقين فلاتبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون"1.

 
وهذه المؤشّرات التي قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم تؤشر إلى مسألة غاية في الأهمية وهي أنّ الثقة المطلقة والتسليم المطلق يعني أن لا يركن المرء إلى الدنيا إلا بمقدار حاجته، وإلا كان ذلك خروجاً عن مطلق التسليم وتمام الرضا.



1 المصدر نفسه.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

27

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 فالرِّضا بقضاء الله والتسليم لأمره من أعلى مظاهر الإيمان، وهما من أبرز الخصال التي يتصف بها الأنبياء، ومن يتمسَّك بها يرتقِ إلى قمة الهرم الإيماني ويكون قد حصل على لباب العلم وجوهر الحكمة.

 
وفي هذا الصدد قيل لأبي عبد الله عليه السلام: بأيّ شيء يعلم المؤمن أنّه مؤمن؟ قال عليه السلام: "بالتسليم لله والرِّضا بما ورد عليه من سرور أو سخط"1.
 
ومثله ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يكمل عبد الإيمان بالله حتى يكون فيه خمس خصال: التوكل على الله، والتفويض إلى الله، والتسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله، والصبر على بلاء الله. إنه من أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان"2.
 
وفي النهاية لا بد من القول إنّ هذه الشرائط الثلاث إنما هي مؤشرات الإيمان على المستوى النفسي، لكن يبقى أنها ينبغي أن تدفع المؤمن للعمل وفق هذه الحالات، ولذلك نقرأ 



1 ميزان الحكمة، ج1، ص211.
2 كنز العمال، ج1، ص 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

28

المحاضرة الثالثة: الإيمان في بُعده النفسي

 في بعض النصوص أن الإنسان المؤمن من جملة المؤشرات النفسية التي يراقبها في ذاته حالتا الخوف والرجاء، أي خوفه من تقصيره ورجائه قبول أعماله، فحالة الخوف والرجاء عند أهل الإيمان تحفزه للسعي الدؤوب للعمل الصالح وفعل الخيرات ليؤدي عمله بشكلٍ أفضل يحرز فيه أسمى الدرجات وأرفع المقامات.

 
وبالخلاصة فإنّ حقيقة الإيمان في الجانب النفسي تتجلّى عندما يكون المؤمن في حالة نفسية بين الخوف والرجاء عاملاً وفق مقتضياتهما. فعن إمامنا الصادق عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو"1.



1 الكافي، ج2، ص 71.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38
 

29

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 
 
تصدير الموضوع: 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يحبَّ للناس ما يحب لنفسه من الخير"1.
 
الهدف: 
شرح بعض الجوانب الاجتماعية التي ينبغي أن تتجلى في شخصية الإنسان المؤمن.



1 ميزان الحكمة، ج1، ص 192.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

30

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 المقدَّمة 

من أهمّ المظاهر التي تميز مقام الإيمان من سواه من المقامات الأخرى اقترانه بالعمل والسلوك سيَّما على المستوى الاجتماعي وما يرتبط بالشأن العامّ؛ لأن الإيمان ليس حالة إنزوائية يعتزل فيها المؤمن بنفسه عن سواه من الناس، أو مجرد طقوس وعبادات يؤديها المرء بينه وبين ربه، بل على العكس تماماً فالمؤمن يشعر في أعماقه أنه جزء من هذا المجتمع ومسؤول عن كافّة الأحداث التي تجري حواله، ينفعل بها ويؤثِّر فيها ويتخذ الموقف المناسب بشأنها ناصحاً ومسدِّداً وناهياً ومعترضاً وموجِّهاً وسوى ذلك من الحالات التي تجعل منه شخصيةً جاذبة ومؤثِّرة وفاعلة تترك آثارها البيضاء في كل مكان تحلُّ فيه وفي كلّ زمانٍ تمرُّ به.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

31

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 الخير في البعد الاجتماعي للإيمان: وحقيقة الاِيمان تظهر في المواقف الاجتماعية التي تعنى بطبيعة وفطرية التعامل مع الناس ومداراتهم، والتي تُظهر مكنون العبادة التي يمارسها المؤمن والتي ينشد منها إصلاح نفسه وسريرته، ولذلك يعبّر القرآن الكريم بقوله ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾1، قالخير لا يرتبط بمطلق النجوى بل بخصوص النجوى التي تنقِّي قلب المؤمن وتدفعه نحو العمل الصالح فيتحسَّس ألم الفقير فيعينه بصدقة، أو يستفزه منكَرٌ ما فيواجهه بمعروف، أو يؤلمه خصام بين الناس فيسعى لجبره واصلاحه.

 
فالمؤمن يتحلّى بالصفات الحميدة التي تجعل منه إنساناً قريباً وودوداً ومحباً للآخر منفتحاً على التعاون والتكافل والعمل الصالح الذي يهمّ الجميع، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير في من لايألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس"2.



1 سورة النساء، الآية: 116.
2 كنز العمال، المتقي الهندي، ج1، ص142.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

32

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 رضا الله وكمال الدين وغفران الذنوب في البعد الاجتماعي: 

عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال علي بن الحسين عليهما السلام: "أربع من كن فيه كمل إسلامه ومحصت عنه ذنوبه، ولقي ربه عزَّ وجلَّ وهو عنه راضٍ: من وفى لله عزَّ وجلَّ بما يجعل على نفسه للناس، وصدق لسانه مع الناس، واستحيى من كلّ قبيح عند الله وعند الناس، وحُسن خُلُقه مع أهله". وهذه المسائل الأربع التي اعتبر الحديث الشريف أن من اجتمعت فيه كمل اسلامه ونال مرتبة رضا الله تعالى ترتبط بالبعد الاجتماعي الذي يعنى بطبيعة العلاقة بالناس.

أمَّا مَنْ وفى لله عزَّ وجلَّ بما يجعل على نفسه للناس، فالمؤمن يرى علاقته بالناس انعكاساً لعلاقته بالله ومرآة لها فهو يتقرّب الى الله بالوفاء بالعقود التي أبرمها مع الآخرين سواء كانت تجارية أو شخصية أو مالية أو عائلية أو سوى ذلك.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: "المؤمنون في تبارِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى تداعى له سائره بالسهر والحمى".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

33

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على مَنْ سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يُقتَل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده".


وأمّا صدق لسانه مع الناس فعنوان واسع تندرج تحته عدة صفات خُلُقية حميدة، فالمؤمن لا يظلم الناس بقول ولا يغتابهم ولا يغشّهم ولا يتهمهم ولا يكذب عليهم ولا يقول ما ليس فيهم، فصدق اللسان خلقٌ رفيع قد يرقى ليكون في مقدمة الصفات الأخلاقية ليكون عنوان المؤمن وهويته التي بها يُعرف.

وأما استحياءُ الإنسان من كل قبيح عند الله وعند الناس فلِما هو معلوم أن الحياء شعبة من الإيمان، ومَنْ لا حياء له لا إيمان له، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، والحياء شعبة من الإيمان. وأمّا حُسْنُ خُلُقه مع أهله فإشارة إلى مسألة مهمة وهي أنّ أهل المرء هم تحت رعايته وقدرته، والمرء بشكلٍ عامّ قادر على ظلمهم والتعامل معهم بخشونة 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

34

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 وقسوة وأن يتخذ فيهم القرار الذي يشاء، فعندما يعاملهم بأخلاقٍ حسنة فمعنى ذلك أنّ الخُلُق الحسن ملكة راسخة في نفسه بغضّ النظر عن الطرف الآخر سواء كان تحت سلطته وقدرته أم لا.

 
ومن الأمثلة الأخرى في هذا المجال قول الرسول الاَكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من الاِيمان: الاِنفاق من الاِقتار، وبذل السلام للعالم، والانصاف من نفسك"1.
 
فالإيمان يتجلى عندما ينفق المرء على ذوي الفاقة على رغم حاجته وعوزه، أو أن ينصف الناس من نفسه فيؤدي للآخرين حقوقهم المادية والمعنوية ولو على حساب نفسه، وينشر التراحم والتوادد في المجتمع من خلال إفشائه للسلام، كلُّ ذلك ليؤكد الدور الاجتماعي الكبير الذي رسمته الشريعة الغرّاء للشخصية الإيمانية.
 
ترك البعد الاجتماعي خروج من الإيمان
وتماماً كما أنّ للمؤمن شخصيته الاجتماعية التي تربطه



1 ميزان الحكمة، ج1، ص 192.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

35

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 ببقيَّة إخوانه ومطلق الناس بروابط قوية فإنّ النصوص الشريفة حذّرت من الابتعاد عن الناس أو ممارسة أي فعل من شأنه أن يترك آثاره السيئة على تماسك المجتمع وصلابته. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يواخي الرجل على دينه فيحصي عليه عثراته وزلاته ليعنفه (ليعيره - خ ل) بها يوما. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه الكلمة فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم".

 
الإمام الصادق عليه السلام: "لا يكون (المؤمن) مؤمنا أبداً حتى يكون لأخيه مثل الجسد، إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه"1.
 
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، ينصحه إذا غاب عنه، ويميط عنه ما يكره إذا شهد"2
 
عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا"3.



1 ميزان الحكمة، ج1، ص193.
2 ميزان الحكمة، ج1، ص 48. 
3 المصدر نفسه، ج1، ص 208.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

36

المحاضرة الرابعة: الإيمان في بُعده الاجتماعي

 الإمام الرضا عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى تكون فيه ثلاث خصال: سُنَّةٌ من ربه، وسنَّة من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسنَّة من وليه  عليه السلام: فأمّا السنَّة من ربه فكتمان السرّ، وأمّا السنَّة من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فمداراة الناس، وأما السنة من وليه عليه السلام فالصبر في البأساء والضراء"1




1 بحار الأنوار، ج64، ص281.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

37

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي
 
 
تصدير الموضوع: 
 سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال: "أحسنهم خُلُقاً"1.
 
الهدف: 
تقديم بعض النماذج الأخلاقية التي يقتضيها الإيمان وبعض الرذائل التي تتنافى مع الإيمان من خلال النصوص الشريفة.



1 شرح نهج البلاغة، ج11، ص 218.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
47

38

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

 المقدَّمة: 

تعتبر الأخلاق الفاضلة هي النتيجة والغاية القصوى التي ننشدها من اجتماع الاعتقاد القلبي الصادق والقيام بالتشريعات الواردة في الشريعة السمحاء على أكمل وجه. وهذا يعني أنّ أيّ خلل على مستوى الأخلاق والسلوك لا يمكن تصحيحه دون الرجوع إلى الجذور الفكرية والمعتقدات الإيمانية وكيفية القيام بالواجبات الدينية، وهذا ما نراه ونقرأه في كتب الأخلاق عند الحديث عن علاج الرذائل والصفات السيئة، ولا يخفى أنّ بعض هذه الصفات نراها منتشرةً بين أهل الإيمان كالغشّ والغيبة والنميمة والكذب مع أن ذلك يتنافى منافاة كلية مع المعايير التي وضعتها الشريعة للشخصية الإيمانية.

ولا شكَّ أنّ هناك غزواً ثقافياً أعمى يعمل ليل نهار مستخدماً كلّ الوسائل المتاحة لا سيما شبكات التواصل الاجتماعي والوسائل الإعلامية المختلفة ليزرع في النفوس لا سيما النفوس الشابة قيماً جديدة وأخلاقاً غريبة لا تمتُّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
48

39

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

 إلى الشريعة بِصِلة. والأكثر إيلاماً في هذا الجانب تقديم البعض ممن سحرتهم الحضارة الغربية ووقعوا في شباكها أو ممن باعوا أنفسهم وقيمهم للآخرين لهذه القيم على أنها قيم إسلامية وهم يمارسونها ويدعون الناس إلى ممارستها بشكلٍ علنيّ.

 
الإيمان ومكارم الأخلاق    
اقتضاء الإيمان للعدل: قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾1.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث خصال مَنْ كُنَّ فيه استكمل خصال الإيمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا غضب لم يخرجه الغضب من الحق، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس له"2.



1 سورة المائدة، الآية: 8.
2 بحار الأنوار، ج64، ص 301.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

40

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

 الإيمان واحترام الغير: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾1.

 
اقتضاء الإيمان للصدق: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾2.
 
اقتضاء الإيمان للحياء: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياءُ شعبة من الإيمان3. وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"4.
 
اقتضـاء الإيمان للكرم: فعن الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"5.
 
اقتضـاء الإيمان للحبّ: قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"6.



1 ‏سورة النور، الآية: 27.
2 سورة التوبة، الآية: 119.‏
3 كنز العمال، ج1، ص 64.
4 الغدير، ج2، ص 174.
5 الكافي، ج2، ص 667.
6 كنزالعمال، ج9، ص 114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

41

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

 اقتضـاء الإيمان للصبر والشكر: قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن, إن أصابته سرّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له"1.

 
الثاني: منافاة الأخلاق السيئة للإيمان الكامل: 
ومن أمثلة ذلك: 
منافاة السخرية والاستهزاء للإيمان: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾2.
 
منافاة سوء الظن والتجسس والغيبة للإيمان: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.3



1 مستدرك الوسائل، ج2، ص 426.
2 ‏سورة الحجرات، الآية: 11.
3 سورة الحجرات، الآية: 12.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

42

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

 منافاة الكذب للإيمان: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يجد عبدٌ طعم الإيمان حتى يترك الكذب هزله وجده"1.

 
منافاة إيذاء الجار للإيمان: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره"2.
 
الإيمان والورع عن المعاصي: عن الإمام الصادق عليه السلام: "وقد سئل عمّا الذي يثبت الإيمان في العبد: قال: الذي يثبته فيه الورع، والذي يخرجه منه الطمع"3.
 
منافاة الإيمان لحبّ الشهوات: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان أكثر همه نيل الشهوات نزع من قلبه حلاوة الإيمان"4.
 
اقتضاء الإيمان للزهد في الدنيا: عن الإمام الصادق  عليه السلام: "حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا"5.



1 شرح اصول الكافي، ج9، ص 401.
2 كنز العمال،ج9،ص49.
3 ميزان الحكمة، ج1، ص 200. 
4 ميزان الحكمة، ج1، ص 201.
5 ميزان الحكمة،ج1،ص 201.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

43

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

 منافاة الإيمان للخيانة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾1.

 
منافاة الإيمان لولاية الكافرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ﴾2.
 
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾3.
 
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء﴾4.
 
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾5.
 
منافاة الإيمان للبخل: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يجتمع الشحّ والإيمان في قلب عبد أبداً"6.
 
وفي الختام نورد حديثيين جامعين عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام يجمع فيه بعض اللَّفتات الخلقية والسلوكية 



1 سورة الأنفال، الآية: 27.
2 سورة التوبة، الآية: 23.
3 سورة الممتحنة، الآية: 1.
4 سورة المائدة، الآية: 57.
5 سورة النساء، الآية: 144.
6 كنزالعمال،ج3، ص 453.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

 


44

المحاضرة الخامسة: الإيمان في بُعده الأخلاقي

 لأهل الإيمان فيقول: "المؤمن بِشْرُه في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلُّ شيء نَفْساً، يكره الرفعة، ويشنأ السمعة، طويل غمُّه، بعيد همُّه، كثير صمته، مشغول وقته، شَكور، صَبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلته، سهل الخليقة، ليِّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد"1.

 
وعنه عليه السلام: "المؤمن وقور عند الهزاهز، ثبوت عند المكاره، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للأصدقاء، الناس منه في راحة، ونفسه في تعب"2.



1 شرح أصول الكافي، ج9، ص137.
2 ميزان الحكمة، ج1، ص206.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

45

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 
 
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾1.
 
الهدف: 
توضيح طبيعة العلاقة القائمة بين مفهومي الإيمان والولاية وبيان بركات هذه النعمة الإلهية.



1 سورة محمد، الآية: 33.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

46

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 المقدَّمة

من الحقائق الضرورية التي يجب الاعتقاد بها أن الاستقامة على الولاية والتمسك بحبلها المتين وعروتها الوثقى هما الحصانة الناجعة في ثبات المرء على خط الإيمان في وجه مختلف التحديات والابتلاءات والشبهات المختلفة التي تواجه الإنسان خلال مسيرة حياته، فالإنسان مهما عظم تدينه وتفقهه في الدين يقف أمام الكثير من المسائل سيما الهامة منها كالسياسية والأجواء الملبّدة بالفتن حائراً متردداً لا يستطيع اتخاذ القرار المناسب من الاقتحام أو التوقف أو الامتناع، كما أنه يعترض سبيله كثير من الموضوعات التي يعجز عن الاستدلال عليها وبيان وجوبها أو حرمتها ما لم يبقَ مستنداً إلى هذا الفيض الإلهي والمقام النوراني للولاية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

47

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 حقيقة الولاية

والولاية تعني اصطلاحاً: إتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت  عليهم السلام والاقتداء بهم في شتى مجالات الحياة لا سيما السياسية وبالتالي مناصرتهم على أعدائهم الذين يتربصون الشر بهم وبرسالتهم، فنكون كما ورد في الزيارات وليٌ لمن والاهم وعدوٌ لمن عاداهم وسلمٌ لمن سالمهم وحرب ٌ لمن حاربهم، فعن أبي عبدالله عليه السلام: "إنّا لا نعدُّ الرجل مؤمناً حتى يكون بجميع أمرنا متّبعاً مريداً"1.
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني جئتك أبايعك على الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبايعك على أن تقتل أباك؟ قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا والله لا نأمركم بقتل آبائكم، ولكن الآن علمت منك حقيقة الإيمان، وأنك لن تتخذ من دون الله وليجة"2.



1 الكافي، ج2، ص 78.
2 بحار الأنوار، ج65، ص 281.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
57

48

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 والرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يمتحن ولاء هذا الرجل في أعلى درجاته، وهو الولاء السياسي حتى ولو على حساب أقرب الناس إليه، بل على حساب الشخص الذي فرض الله علينا برّه واحترامه وعدم الإساءة إليه، وبذلك تيقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الرجل لا يتخذ ولياً دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: حتى يكون الموت أحبَّ إليه من الحياة، والفقر أحبَّ إليه من الغنى، والمرض أحب إليه من الصحة. قلنا: ومن يكون كذلك؟! قال: كلكم. ثم قال: أيما أحبُّ إلى أحدكم يموت في حبِّنا أو يعيش في بغضنا؟ فقلت: نموت والله في حبِّكم... قال: وكذلك الفقر...، قلت: إي والله"1.
 
ولا شكّ أنّ هذه الابتلاءات غالباً ما تصيب الأمة في ظروف الحرب والمواجهة والتحديات السياسية الكبرى التي يعمد أئمة الجور إلى الضغط على أهل الإيمان بكافة الوسائل



1 الكافي، ج8، ص 253.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
58

49

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 الهمجية لإبعادهم عن الولاية الحقة والأئمة المفترضي الطاعة.

 
والإيمان الحقيقي بولايتهم يعني الإيمانَ بأنهم نورٌ واحد لا يتعدد ولا ينقسم ولا يتجزأ، فهم النور وما سواهم ظلمات، فكلهم في المقام سواء، وأن الطعن بأحدهم طعنٌ بجميعهم، وعدم التولي لأحدهم براءة منهم جميعهم، والتوقف عند أحدهم يعني زوال تمام النعمة عنه فعن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّه لا يجد عبد حقيقة الاِيمان حتى يعلم أنّ ما لآخرنا لأوّلنا"1.
 
بركات الولاية وحب أهل البيت عليهم السلام
من الطبيعي ألا تتسع المجلدات الكبرى لإحصاء بركات الولاية على الناس، لكن لجأنا هنا ومراعاةً للإختصار إلى اختيار بعض النصوص التي تحدثت عن عناوين عامة لهذه البركات والتي تنطوي تحتها الكثير من البركات الأخرى.
 
قال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾2.



1 الاختصاص ص 268.
2 سورة الجن، الآية: 16.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

50

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 وفي التفسير عن الإمام الباقر عليه السلام: "لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب أمير المؤمنين والأوصياء من ولده وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأشربنا قلوبهم الإيمان".

 
ومن الواضح في هذا الحديث أن الإيمان فرع الولاية ومن الخطأ إطلاق لفظ الإيمان على من لم تستقم ولايته لأهل بيت العصمة عليهم السلام.
 
وقال تعالى: ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾1.
 
وفي التفسير عن الإمام الكاظم عليه السلام: "الهدى الولاية....... فمن آمن بولاية مولاه فلا يخاف بخساً ولا رهقا". أي لا يخاف ظلماً ولا هضما، وهذه من البركات التي وعدنا الله بها في الدنيا والآخرة.
 
الولاية أوثق عرى الإيمان
وفي الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل أصحابه: "أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الصلاة، 



1  سورة الجن، الآية: 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

51

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 وقال بعضهم: الزكاة،... فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لكلِّ ما قلتم فضل وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله، وتولي أولياء الله والتبري من أعداء الله"1.

 
ومثلها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أوثق عرى الإيمان: الولاية في الله، والحب في الله، والبغض في الله"2.
 
وهذا يعني أن الإيمان لا تنعقد عروته وتشتد إلا بولاية أهل البيت عليهم السلام وما سوى ذلك وهم إيمان وجهلٌ بحقيقة الإيمان التي هي من أكبر النعم الإلهية على البشر لو كانوا يعلمون.
 
كثيرة هي الرايات التي رفعت راية حب علي عليه السلام بما يمثل من منهج وخط سياسي وعلامة إيمان، أفلا يعني ذلك أن من لا يحبه بعيدٌ كل البعد عن أهل الإيمان، وإلا ما معنى أن لولاك يا علي لما عُرِف المؤمنون بعدي، فعن زر بن حبيش قال: رأيت أمير المؤمنين عليه السلام على المنبر فسمعته يقول: "والذي فلق الحبة وبرء النسمة، أنه لعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلي أنه لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق"3



1 المحاسن، ج1، ص 165.
2 الكافي، ج2، ص 126.
3 الأمالي، 178.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

52

المحاضرة السادسة: الإيمان فرع الولاية

 وفي الختام نتبرك بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الاِيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزفُّ إلى الجنة كما تُزَفُّ العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حبّ آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً على عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة"1




1 بحار الأنوار ج7، ص 222.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

53

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى : ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾1.
 
الهدف: 
بيان موجز لأنواع البركات الدنيوية التي يتمتع بها أهل الإيمان من خلال الآيات القرآنية.



1 سورة إبراهيم، الآيتان: 24 – 25.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

54

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 المقدمة 

لا شكَّ أنّ ارتباط المرء بربه من خلال الإيمان به وبرسله وكتبه وملائكته يجعله في كنف الرعاية الإلهية والرحمة الواسعة ومشمولاً بأنواعٍ مختلفة من النعم والبركات التي وعد الله أهل الإيمان بها في القرآن الكريم، فإنّ العبد كلما اقترب من ربه خطوة اقترب الله منه ميلاً وأغدق عليه العطاء والجزاء بأحسن مما عمل وأكثر مما صنع، فالإيمان في جوهره تجارة رابحة مع الله ورهانٌ عليه على كافة صروف الدهر، ومن هنا كان الإيمان مفتاحاً يفتح به المرء أبواب السماء من الخير والبركات ويُغلق به عن نفسه ألوان الشقاء وأشكال العذاب سواء في الدنيا أو الآخرة، فهو الشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كلَّ حينٍ بإذن ربها وتظلِّل أهلها بالراحة والطمأنينة وتكشف عنهم ما يخافون ويحذرون، فالإيمان ليس سوى انتماء الإنسان لربه وهو أرقى ما يفعله المرء في حياته.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

55

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 المتتبِّع لآيات القرآن الكريم يجد أن الله تعالى يحدثنا عن نعمٍ وبركات كثيرة ميّز بها أهل الطاعة والإيمان، ويمكن تقسيمها إلى قسمين: "بركات الإيمان في الدنيا، وبركات الإيمان في الآخرة".

 
بركات الإيمان في الحياة الدنيا: 
1- الهداية للحقّ: قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾1، بمعنى أن الله يحيط عباده المؤمنين بالتوفيق الدائم وينير لهم طريق الهداية إذا التبست عليهم الأمور، فهو يهدي قلوبهم الزائغة إلى الصواب والرشد، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2



1 سورة الحج، الآية: 54.‏
2 ‏سورة التغابن، الآية: 11.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

56

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 2-الحياة الطيبة: قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾1، وهذه سُنّةٌ إلهية ووعد إلهي لأهل الإيمان في الدنيا من النساء والرجال، والمراد بالحياة الطيبة هنا ليس وفرة الرزق وإنما أنس الوصال مع الله تعالى.

 
3- الولاية: قال تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ﴾2.
 
ومنه قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾3.
 
4- الرزق الطيِّب: قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾4، أي أنزلنا عليهم قطر السماء وأنبتنا لهم نبات الأرض فالإيمان سببٌ من الأسباب التي تفتح خزائن الله سواء المادية منها أو المعنوية.



1 ‏سورة النحل، الآية: 97.
2 ‏سورة البقرة، الآية: 257.
3 ‏سورة محمد، الآية: 11.
4 ‏سورة الأعراف، الآية: 96.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

57

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 5- العزة: قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾1، فالعزة كبرياء الله وحده يفيض بها على عباده الذين اتقوا، فخصّهم بها لما خصّوه بالعبادة دون سواه، وأيُّ مقام أسمى وأرفع من أن يعيش المرء عزيزاً ويموت عزيزاً؟

 
6- النصر على الأعداء، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾2، فالله سبحانه ناصر من ينصره،بل يستحيل على الكرم المطلق أن يخذل عباده، ومن كان الله ناصره فلن تجد له غالباً يغلبُه.
 
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾3، وهذه الآية واضحة الدلالة بأنّ النصر ليس في الآخرة بفوز المؤمنين بالجنة دون سواهم، بل إنّ الله تعالى يمنّ النصر على المؤمنين في الحياة الدنيا.



1 ‏سورة المنافقون، الآية: 8. 
2 ‏سورة الروم، الآية: 47.
3 سورة غافر، الآية: 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

58

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾1، وفي التفسير أنّ الانتصار لله معناه أن يبذل المرء قصارى جهده ويستنفد كافة وسائله في سبيل الله دون أي توانٍ أو تراخٍ أو تسويف أو إهمال أو خوف، فإذا رأى اللهُ تعالى عبده وقد وضع كافة أموره بين يدي الله تعالى أغدق الله عليه العطاء ومنّ عليه بالنصر والغلبة.

 
7- الدفاع عنهم: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾2، فيصرف عنهم كيد الأعداء ويفضح كيدهم ومؤامراتهم ويكشف حقيقتهم ويُسهّل لهم ما فيه خيرهم وصلاحهم وينشر فضائلهم.
 
8- عدم تسليط الكافرين: قال تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾3, فالله في كل التشريعات التي وصلتنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار حرّم أي ولاء أو ود أو مداهنة أو إعانة أو أي شكلٍ من أشكال تقوية الكافرين وتقوية شوكتهم.



1 ‏سورة محمد، الآية: 7.
2 ‏سورة الحج، الآية: 38.
3 سورة النساء، الآية: 141.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
68

59

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 9- التمكين والاستخلاف في الأرض: قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾1، وهذه الآية المباركة تعدّ المؤمنين بثلاثة أمور وهي: 

أ- وراثة الأرض بمعنى إقامة خلافة الله على الأرض.
 
ب- تمكين الدين الإسلامي في الأرض لأنه الدين الذي ارتضاه الله حيث دلّت الآية على أنّ الله رضي للناس الإسلام ديناً.
 
ج- تبديل المناخ العامّ من مناخِ خوفٍ وعدم استقرار الى مناخٍ آمن. 
 
قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾2، وفي هذه الآية أضاف التأييد وسعة الرزق الحلال، ولا يخفى أنّ الأمن والرزق هما أفضل البركات الدنيوية التي منّ الله تعالى على أهل الإيمان.



1 ‏سورة النور، الآية: 55.
2 سورة الأنفال، الآية: 26.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
69

60

المحاضرة السابعة: بركات الايمان في الدنيا والآخرة (1)

 10- الثبات عند المحن والشدائد: قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾1، فالمؤمن يرى أنّ الله لا يصدر عنه إلا الخير ويؤمن بأنّ ما يريده الله إنما هو لخيره ومصلحته، وما يمنعه عنه إنما يمنعه درءاً لفسادٍ يعرفه دون سواه، ولذلك تراه ثابتاً عند المحن راسخاً بإيمانه مسلّماً لإرادة ربه. 




1 ‏سورة التوبة، الآية: 51.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
70

61

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾1.
 
الهدف: 
بيان أهم البركات الأخروية التي وعد الله بها المؤمنين في القرآن الكريم.



1 سورة الأعراف، الآية: 42.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

62

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 المقدَّمة

كما أنّ للإيمان بركاته في الدنيا فإن هناك الكثير من البركات الوافرة للإيمان في الآخرة والتي يغدقها الله تعالى على أهل الإيمان، فهي حقهم وجزاؤهم عن أعمالهم، ولذا خصّهم الله تعالى بها دون سواهم من الناس، ولا يخفى أن بركات الآخرة أرفع مقاماً وأشد قوةً وحضوراً وديمومةً، وهي أشد حاجةً للإنسان المؤمن يوم لا يشفع له إلا إيمانه ولا ينفعه إلا يقينه ولا يُذلل له عقبات الآخرة عند نزع الروح والقبر والميزان والصراط والحساب والحشر والأهوال المختلفة إلا عمله وإخلاصه وسلامة قلبه، ويمكن الإشارة إليها بالأمور التالية: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

63

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 1- الخاتمة الحسنة: قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾1، فالخاتمة الحسنة هي التحدي الأكبر لأهل الإيمان في وجه مختلف التحديات التي يواجهها في مسيرته الإيمانية، والتي يُراهن فيها إبليس عن زحزحته عن هذا الصراط، فيمنّ الله تعالى عليهم باستقبال الملائكة لهم وبالسلام الذي لطالما حلموا به.

 
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾2.



1 سورة النحل: 32.
2 سورة فصلت، الآيتان: 30-31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

64

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 2- تثبيت القول: قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾1، وفي بعض التفاسير أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحقّ فالله يثبت المؤمن حين يقال له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد  صلى الله عليه وآله وسلم.

 
والمراد في الباء في قوله (بالقول الثابت) هو أن الله تعالى إنما يثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول، وذلك لأنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى، فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل، فالمداومة على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها.



1 سورة إبراهيم، الآية: 27.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

65

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 3- الأمن من الفزع الأكبر: قال تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾1. وفي الفزع الأكبر أقوال: قيل هو النفخة الأخيرة، وقيل إنه الموت، وقيل هو إطباق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، لأنه ليس هناك أكبر من هذا الفزع، وعلى أي حال فأهل الإيمان يلفّهم السكون والطمأنينة يوم يُرعبُ الناسَ الفزعُ الأكبر.

 
4- الخلود في الجنة: قال تعالى عن المؤمنين: ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2، فالحديث هنا حديث عن الخلود الذي ليس بعده أيّ فوزٍ أو كرامة.
 
5- الحساب اليسير: قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾3، (وسوف) من الله واجب لا يقبل الشك، وإنما يريد ترقيق الكلام. والحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله، 



1 ‏سورة الأنبياء، الآية: 103.
2 سورة المؤمنون، الآيتان: 10 - 11.‏
3 ‏سورة الانشقاق، الآيات: 7 - 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

66

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 ويعرف أن الطاعة منها هذه، والمعصية هذه، ثم يثاب على الطاعة ويتجاوز عن المعصية، فهذا هو الحساب اليسير لأنه لا شدة على صاحبه ولا مناقشة، ولا يقال له: لمَ فعلت هذا؟ ولا يطالب بالعذر فيه ولا بالحجة عليه. فإنه متى طولب بذلك لم يجد عذراً ولا حجة فيفتضح، ثم إنه عند هذا الحساب اليسير يرجع إلى أهله مسروراً فائزاً بالثواب آمناً من العذاب، والمراد من أهله أهل الجنة من الحور العين أو من زوجاته وذرياته إذا كانوا مؤمنين.

 
وأمّا قوله (يحاسب) فهو أن الله يحاسب غيره بينه وبينه والدليل على أنه تعالى خصّ الكفار بأنه لا يكلمهم، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين والعبد يكلمه فكانت المكالمة محاسبة.
 
6- النجاة من النار: قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾1، وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا)



1 سورة مريم، الآية: 72.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

67

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 فدل ذلك على أنّ كافة الناس سَتَرِدْ النار لكن الله ينجي المؤمنين المتقين ويذر أهل الظلم والكفر جاثين في النار.

 
7- النور الذي يكشف الطريق الموصلة إلى الجنة: قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1، وفي التفسير أن النور الحقيقي هو الله تعالى، وأن نور العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أن معرفة الله هي النور في القيامة فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا، وعليه فإن مراتب هذه الأنوار مختلفة - كما في الروايات - فمنهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، ومنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من لا يضيء له نور إلا موضع قدميه، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه، وإنما قال: ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كماأن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم، ووراء ظهورهم.



1 ‏سورة الحديد، الآية: 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

68

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 8- استقبال الملائكة بحفاوة: قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾1، ولا شك أن يوم الحساب يوم قلق واضطراب وانتظار، فالله يرفع عن المؤمنين غمّهم من خلال ما أعدّ لهم من حفاوة الاستقبال والنعيم والترحيب.

 
وقال تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾2.
 
10- ألوان مختلفة من النعيم في الجنة.
 
1- من الأزواج المطهرة: قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾3.
 
2- الرضوان والنعيم المقيم: قال الله تعالى: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾4



1 سورة الزمر، الآية: 73.
2 سورة الرعد، الآيتان: 23 – 24.
3 ‏سورة البقرة، الآية: 25.
4 سورة التوبة، الآية: 21.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

69

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 3- المساكن الطيبة: قال تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1.

 
4- ينزع الله الغِلَّ من صدورهم: قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾2.
 
5- النظر إلى وجه الله: قال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾3.
 
6- يُحلَّوْنَ أساورَ من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق: قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا﴾4.
 
7- الرزق المعلوم: قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾5.



1 سورة الصف، الآية: 12. 
2 سورة الأعراف، الآية: 43.
3 سورة يونس، الآية: 26.
4 سورة الكهف، الآية: 31.
5 سورة الصافات، الآيات: 41 - 43.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

70

المحاضرة الثامنة: بركات الإيمان في الحياة الآخرة (2)

 8- الظلال والعيون والفواكه الشهية: قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾1.

 
قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾2.



1 سورة المرسلات، الآيات: 41 ـ 43. 
2 ‏سورة السجدة، الآية: 17.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
80

71

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾1.
 
الهدف: 
 بيان بعض الجوانب الأساسية التي ينبغي التركيز عليها للفوز بسعادة الدنيا والآخرة.



1 سور طه، الآية: 124.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
83

72

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 المقدَّمة 

اهتمَّ الإنسان بالبحث عن مفهوم السعادة قديماً وحديثاً، وتعدَّدت المناهج العلمية التي تناولت هذا المفهوم وفق الحضارات التي انتمت إليها واختلفت معايير السعادة وأركانها من مدرسةٍ إلى أخرى، والكل يحاول أن يثبت أحقية نظريته، وذلك لأن السعادة حاجة فطرية ما من إنسان على وجه الأرض إلا وهو يبحث من أعماقه عنها، وإن كان الجميع متفقاً على أن السعادة في تعريفها العامّ هي شعور داخلي يشعر به الإنسان بين جوانبه يتمثل في سكينة النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وراحة الضمير والبال والإحساس بالمتعة والراحة نتيجة لاستقامة السلوك الظاهري والباطني المدفوع بقوة الإيمان والمعتقد الذي يؤمن به. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
84

73

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 الإسلام يحقق السعادة الأبدية للإنسان: 

لقد جاء الإسلام بنظام شامل فوضع للإنسان من القواعد والنظم ما يرتب له حياته الدنيوية والأخروية وبذلك ضمن للإنسان ما يحقق له جميع مصالحه الدنيوية والأخروية، فقد جاء الإسلام ليضع الشرائع التي توفر للإنسان سعادته وراحته وخيره كما ورد في بعض الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال "جئتكم بخير الدنيا والآخرة"1، فالسعادة في المنظور الإسلامي تشمل مرحلتين: 
أولاً: السعادة الدنيوية: فقد شرَّع الإسلام من الأحكام ووضَّح من الضوابط ما يكفل للإنسان سعادته في الحياة الدنيا. حتى ولو كانت هذه الحياة الدنيا في الفهم الديني ليست سوى سبيل ومعبر إلى الآخرة،، وأنّ الحياة الحقيقية التي يجب أن يسعى لها الإنسان هي حياة الآخرة، قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ 



1 كنز العمال، ج13، ص 114.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
85

74

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 حَيَاةً طَيِّبَةً﴾1، وقال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾2، وقال تعالى: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾3

 
ثانياً: السعادة الأخروية: وهذه هي السعادة الدائمة الخالدة، وهي مرحلة الجزاء والنتيجة المترتبة على صلاح المرء في حياته الدنيا، قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾4، وقال تعالى: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾5.
 
مقام السعادة في القرآن الكريم
ربط القرآن الكريم بين مفهوم السعادة وما يقابله من الشقاء وبين الخلود في الجنة أو الخلود في النار، فالسعيد خالدٌ في الجنة والشقيّ خالدٌ في النار إذ قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ 



1 سورة النحل، الآية: 97.
2 سورة القصص، الآية: 77.
3 سورة التوبة، الآية: 38.
4 سورة النحل، الآية: 32. 
5 سورة النحل، الآية: 30.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
86

75

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾1.

 
وهذا الربط لا يتحدث عن بعض أشكال العذاب للشقي أو بعض ألوان النعيم للسعيد وإنما يتحدث عن الخلود الأبدي لكلٍّ منهما، فالسعيد هو الإنسان الذي صفت سريرته فاستحق هذا الخلود بينما الشقي هو الذي أظلمت نفسه فاستحق الخلود في النار. 
 
وقد تناول القرآن الكريم بعض أهم الجوانب التي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، فعلى سبيل المثال: 
1- البعد الروحي للسعادة: قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾2



1 سورة هود، الآيات: 105 ـ 108.
2 سورة طه، الآية: 130.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
87

76

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 فالله سبحانه يرشد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمرين أساسيين وهما الصبر على أقوال الناس وافتراءاتهم والتسبيح بحمد لله تعالى في الأوقات المحددة في الآية، وجعل الله تعالى غاية هذين الأمرين بلوغ مرتبة الرضا عند العبد، فقال تعالى (لعلك ترضى)، ولم يقل: لعلي أرضى.

 
وبين الرضا النفسي والسعادة علاقة خاصة، فالرضا أصل السعادة وركنها الأساسي وتدور السعادة معه وتنتفي بانتفائه وتزداد وتنقص بزيادته ونقصانه، فأعلى درجات السعادة أن ترضى بما منّ الله عليك وما حققت وبما أوتيت وبما ابتليت به، ولذلك حينما تحدث الله على نعمه على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾1، وهولم يقل فتسعد مع أن المعنى كذلك.
 
وفي الحديث عن علي عليه السلام: "سعادة المرء القناعة والرضا"2.



1 سورة الضحى، الآية: 5.
2 عيون الحكم والمواعظ، ص284.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
88

77

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 فحقيقة الرضا كما أن تقول لله تعالى يا رب "إن أعطيتني قبلت وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت وإن دعوتني أجبت".

 
2- البعد الاجتماعي للسعادة: قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾1، ففي هذه الآية نجد سلوكاً قرآنياً لطبيعة التواصل الاجتماعي مع الناس والذي يفضي إلى الراحة النفسية والسعادة التي يحلم بها الكثيرون على المستوى الاجتماعي، فقوله تعالى (خذ العفو) إشارة إلى أن يتخذ المؤمن العفو رسالةً وقراراً دائماً في حياته، وما ذلك إلا لأن العفو عن الناس يزيد مشاعر الحبّ والألفة ويقوّي أواصر العلاقات الاجتماعية بين الناس، وأما قوله ( وأمر بالعرف) فإشارة إلى هوية المؤمن الذي جعل من المعروف قضيةً له فحملها ليمارس بها دوره في الحياة وهي بدورها تعطيه الأهمية والمكانة، والأمر بالعرف يستبطن أنّ المعروف متجلّ في شخصية 



1 سورة الأعراف، الآية: 199.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
89

78

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 الفرد المؤمن فترضى عن نفسك، وأما قوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾1، فلأن الإعراض عن الجاهلين لا يُسقطك عن مقامك بين الكرام إلى حضيض الجهل والرذيلة، وهذه من أهمّ الأسباب الاجتماعية المسببة للسعادة.

 
3- البعد المادي للسعادة: إنّ السعادة في المنظور الإسلامي لا تعني إغفال الجانب المادي بالمطلق فالأسباب المادية من عناصر السعادة، نعم لا ترقى الأسباب المادية إلى مقام الأسباب الروحية للسعادة إلا أنها لها تأثيرها المحدود ودرجتها الثانية بعد السعادة المعنوية. 
 
وقد تناولت النصوص الشرعية ما يفيد ذلك ومنها: 
قال الله تعالى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾2.
 
 وقال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾3.



1 سورة الأعراف، الآية: 199.
2 سورة النحل، 5 - 6.
3 سورة الأعراف، الآية: 33.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
90

79

المحاضرة الأولى: أبعاد السعادة في القرآن الكريم

 وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده، والمرأة الجميلة ذات الدِّين، والمركب الهني، والمسكن الواسع"1.

 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ثلاثة من السعادة: الزوجة المؤاتية، والولد البار، والرزق، يرزق معيشة يغدو على صلاحها ويروح على عياله"2.
 
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "من سعادة المرء أن يكون متجره في بلاده، ويكون خلطاؤه صالحين، ويكون له ولد يستعين به"3.
 
وفي حديثٍ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين فيه أهم أسباب السعادة المادية والدنيوية فيقول صلى الله عليه وآله وسلم: "من بات آمناً فى سربه معافى فى بدنه، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها"4 فيلخص أسباب السعادة بثلاثة أمور أساسية وهي الأمن الجماعي والصحة الجسدية ووفرة الرزق.



1 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج73، ص 149.
2 بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج100، ص 6.
3 وسائل الشيعة، ج12، ص 179.
4 مصباح الشريعة، ص 115.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
91

80

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾1
 
الهدف: 
بيان بعض أهمّ الأسباب التي تجلب السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة.



1 سورة هود، الآية: 105.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
93

81

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 المقدَّمة

في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه السلاميبين فيه أن تمام سعادة الإنسان في أمورٍ أربعة: 
أ- النية: أي أن يقصد المرء العمل الصالح ويسعى له سعيه.
 
ب- القدرة: أن يكون هذا الأمر في مقدوره فيما لو سعى له، فلا يكون خارج قدرته واستطاعته.
 
ج- التوفيق: أي أن يطلب من الله العون والمساعدة لأداء هذا العمل، فلا تُنجز الأعمال إلا بتسديده وتوفيقه، عنه عليه السلام: التوفيق من السعادة، والخذلان من الشقاوة قد ورد عن الإمام علي، عنه عليه السلام: "التوفيق من السعادة، والخذلان من الشقاوة"1.
 
د- الموضع المناسب لهذا العمل: أي أن يجد المصداق الذي به يكتمل العمل الصالح، فلو أراد الصدقة مثلاً فلا بد أن يصيب الفرد المستحق لها.
 
وهذه الأركان الأربعة يلخصها الإمام الصادق بقوله: "ما



1 ميزان الحكمة، ج2، ص 1304.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
94

82

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 كل من نوى شيئاً قدر عليه، ولا كل من قدر على شيء وفق له، ولا كل من وفق أصاب موضعاً له، فإذا اجتمعت النية والقدرة والتوفيق والإصابة فهنالك تمت السعادة"1.

 
1- الاتعاظ بالغير: عن الإمام علي عليه السلام: "السعيد من وُعظ بغيره واتعظ"2، فالمتعظ بغيره يوفّر على نفسه التجارب ومشقتها، فالعاقل يتعظ بكل الناس فهو يتعظ بالصادق ليحذو حذوه، ويتعظ بما يجري على الكاذب فيبتعد عن الكذب.
 
2- إخلاص الطاعة: عن الإمام علي عليه السلام: "السعيد من أخلص الطاعة"3، فهو في الدنيا مستمسك بأسباب الكمال كلها متوكل على الله وحده لا شريك له، فيرى كل ما في هذا الوجود صغيراً بين يدي من أخلص له الطاعة.
 
3- الاستهانة بالمفقود: عن الإمام علي عليه السلام: "السعيد من 



1 المصدر نفسه، ج2، ص 1306.
2  تحف العقول، ص 111.
3 عيون الحكم والمواعظ، ص 47.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
95

83

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 استهان بالمفقود"1، أي لا يأسف على ما فاته من مصلحةٍ أو مكسب، لأن نظره إلى الأمور لا بلحاظ التعلق بها وإنما بلحاظ ما يراه الله له من مصلحة.

 
فالشيطان يمنيك بالمفقود، لتكره الموجود، ولكن الإنسان يظل باحثاً عن هذا المفقود حتى إذا ما امتلكه تحول إلى شقاء موجود.
 
4- كسب العلم: الإمام الصادق عليه السلام: "لا ينبغي لمن لم يكن عالما أن يعد سعيدا"2، فالجهل يجلد صاحبه كل يوم ويضعه بين الناس وأمام الله، فالجهل عدو قاتل يضلك ولا يهديك ويُبعدك عن الله ولا يُقرّبك ولم يكن شيءٌ أشدَّ على الأنبياء عبر التاريخ مثل الأمم الجاهلة، بينما ترى العالِمَ مستأنساً بعلمه ولو كان في هذه الدنيا وحيداً.
 
5- التزود للآخرة: الإمام علي عليه السلام: "فاتقوا الله - عباد الله - تقية ذي لُبٍّ شَغَلَ التفكر قلبه"3... قد عبر معبر العاجلة حميداً، وقدم زاد الآجلة سعيداً، فمن أجمل اللحظات



1 ميزان الحكمة، ج2، ص 1303.‏
2 المصدر نفسه.‏
3 ميزان الحكمة، ج2، ص 1303.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
96

84

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 التي يعيشها الإنسان هي اللحطات التي يبني بها آخرته من خلال العمل الصالح والطاعات والقربات التي يؤديها.

 
6- العمل بالعلم: عن الإمام علي عليه السلام: "اعملوا بالعلم تسعدوا"1، لأن من عمل بعلمه كان منسجماً مع نفسه، ويرى علمه حجةً عليه أمام الناس في الدنيا وأمام الله يوم القيامة فيبادر إلى العمل حتى يرفع حجة العلم عنه فيكون بذلك أسعد الناس لأن سعادته لأمرين: الأول علمه والثاني عمله بهذا العلم.
 
وعن الإمام علي عليه السلام: "إن أحببت أن تكون أسعد الناس بما علمت فاعمل"2.
 
7-تجنب البطالة والتراخي: فعن علي عليه السلام: "هيهات من نيل السعادة السكون إلى الهوينا والبطالة"3، فالبطالة مرض قاتل، فهو مضيعة للوقت فلا يشعر المرء بوجوده وإنتاجيته ومقامه الذي جعله الله فيه، فلا ينظر الله إليه، وهذا معنى ما ورد في الدعاء أن الإنسان إذا آلف مجالس البطالين



1  المصدر نفسه.‏
2 م.ن.
3 غرر الحكم: 2479.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
97

85

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 خذله الله، ومثله التسوبف فهو من أشر ما قد يصيب المرء، وأشد سهام إبليس الذي يوهمك بالانتصار عليه وأنه لم يستطع أن يثنيك عن عملك الصالح فيلجأ إلى التسويف والمماطلة حتى يبعدك شيئاً فشيئاً عن هذه الطاعة.

 
8- مجالسة العلماء: عن الامام علي عليه السلام: "جالس العلماء تسعد"1، ففي مجالستهم إنارة للعقول وتربية للنفوس وكَسْبٌ للثواب وتعميم للفضل والمعرفة وحضور الملائكة ورضا الله وإحياءٌ لأمر أهل بيت العصمة وامتثالٌ لأوامرهم، فخير المجالس مجالس العلم وهل هناك سعادة داخلية يشعر بها الإنسان بعد سعادة المرء بالتعلم؟
 
9- الإيمان: عن الامام علي عليه السلام: "بالإيمان يُرتقَى إلى ذروة السعادة ونهاية الحبور"2، فالإيمان حبلٌ ممدود بين الإنسان وربه يعصمُه من خلاله عن المعاصي ويدفعه إلى الطاعات وعلى عدم التسويف.
 
وعنه عليه السلام: "عصم السعداء بالإيمان"، وخذل الأشقياء



1 ميزان الحكمة، ج1، ص 402.
2 ميزان الحكمة، ج2، ص 1303.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
98

86

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 بالعصيان من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان، إذ وضح لهم منار الحق وسبيل الهدى1.

 
عن الإمام علي عليه السلام: "لا يسعد امرؤٌ إلا بطاعة الله سبحانه، ولا يشقى امرؤٌ إلا بمعصية الله"2.
 
وعنه عليه السلام - من كتاب له إلى الأشتر -: أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها3.
 
10- الثبات على الولاية: وبها يكتمل الإيمان وتستحكم عروته الوثقى فتنير له الطريق حيث لا رأي فوق رأي الولاية فتفيض عليه أنواع النعم الإلهية، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: "إن السعيد حق السعيد من أحبك وأطاعك"4.
 
وعن الإمام علي عليه السلام: "أسعد الناس من عرف فضلنا، وتقرب إلى الله بنا، وأخلص حبنا، وعمل بما إليه ندبنا، وانتهى 



1 المصدر نفسه.‏
2 م.ن.‏
3 م.ن.‏
4 م.ن.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
99

87

المحاضرة الثانية: أسباب السعادة (1)

 عما عنه نهينا، فذاك منا وهو في دار المقامة معنا"1، وهنا عدة مسائل يجمعها عنوان الولاء فمعرفة مقام ومنزلة أهل البيت  عليهم السلام والتقرّب إلى الله بمحبتهم وطاعتهم.

 
11- محاسبة النفس: عن الإمام علي عليه السلام: "من حاسب نفسه سعد"2، لأن من يحاسب نفسه يعمل على إصلاحها فيتخلص من شوائب من علق بها من رذائل وسيئات ويعمل على الرقي بالجانب الإيجابي فيها، وكلما كان الإنسان أكثر محاسبةً لنفسه كلما كان أكثر سعادةً، لأن أيامه لا تبقى متساوية فيومه أفضل من أمسه، وغده أفضل من يومه وهكذا، وهذا عين السعادة.
 
12- تزكية النفس: عن الإمام علي عليه السلام: "من أجهد نفسه في إصلاحها سعد"، من أهمل نفسه في لذاتها شقي وبعد3، وهل بعد قول الله تعالى وكل ما أقسم به في سورة الشمس شكٌ بأن الفلاح والفوز مرهونٌ بتزكية النفس كما أن الخسران المبين مرهونٌ بتركها بلا تزكية؟



1 غرر الحكم: 2990.
2 ميزان الحكمة، ج1، ص 620.
3 المصدر نفسه.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
100

88

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 
 
تصدير الموضوع: 
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور"1.
 
الهدف: 
استكمال بعض الأمور التي تعتبر أسباباً مباشرة لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.



1 موسوعة أحاديث أهل البيت، ج6، ص91.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
101

89

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 المقدَّمة

يُروى أنّ حكيماً سأله بعض تلامذته أن يحدّثهم عن السعادة، فطلب منهم أن يحضر كل واحدٍ منهم بالوناً ويكتب اسمه عليه ويملأه هواءً، وقال لهم لنفرض أن هذا البالون هو بالون السعادة، ثم طلب منهم أن يجعلوا هذه البالونات في غرفة ففعلوا، عندئذٍ قال لهم: فلينشد كلٌ منكم سعادته (أي ادخلوا الغرفة وليجلب كل واحد منكم البالون الذي كتب اسمه عليه)، فدخل التلاميذ إلى الغرفة مجتمعين وإذا بالبالونات تتطاير من بين أيديهم وهم يتعثرون بعضهم ببعض، ولم يفلح أحد من العثور على بالونه الخاص ويأتي به، فأمرهم الحكيم بالخروج ثم طلب منهم أن يدخلوا ثانيةً وليأخذ كل واحد البالون الذي يكون قريباً منه ويعطيه لصاحبه، هنا كان الأمر سهلاً وسرعان ما أخذوا جميعها وراحوا يتبادلونها فيما بينهم حتى حصل كلٌ منهم على بالونه الخاص، وهنا قال لهم الحكيم: اعلموا أنّ المرء إذا طلب سعادته لنفسه فإنه لا يصل إليها وإنما إذا طلبها عن طريق إسعاد الآخرين ظفر بها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
102

90

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 13- الرؤية التوحيدية: أي أن يرى الله في كل ما يأتيه من سرّاء أو ضرّاء، فعن الإمام علي عليه السلام: "ثلاث من حافظ عليها سعد: إذا ظهرت عليك نعمة فاحمد الله، وإذا أبطأ عنك الرزق فاستغفر الله، وإذا أصابتك شدة فأكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"1، فالسعادة هنا في اللجوء إلى من بيده الملك وملكوت كل شيء، فلا تبطره نعمة ولا تعميه قلة الرزق ولا تحبطه المصائب، ولذلك ربط الحديث ثلاثاً بثلاث، ربط النعمة بالحمد وربط قلة الرزق بالإستغفار وربط الشدّة بالحمدلة والحوقلة.

 
14- عدم الكراهية والبغض: عن الإمام علي عليه السلام: "خلوُّ الصدر من الغِلّ والحسد من سعادة العبد"2، فلا يخفى أنّ الرذائل الخُلُقية تتعب صاحبها فمن أساء الظنّ بالناس مثلاً بقي متحيراً متردداً في التعامل معهم، ومن امتلأ قلبه 



1 ميزان الحكمة، ج2، ص 1303.‏
2 ميزان الحكمة، ج2، ص 1304.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
103

91

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 حسداً وغلاً ساءت معاملته مع الآخرين، ولذلك كانت أنفُس المؤمنين في الجنة خالية من هذه الأمراض كما بيَّن اللهُ تعالى ذلك بقوله: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾1.

 
15- الكرم والجود: عن الإمام علي عليه السلام: "السخاء إحدى السعادتين"2، لأن الكريم شخص يتحسَّس آلام الناس ويشعر بمعاناتهم، كما أنه يمتلك ثقافة أنّ الله ابتلاه بهذا المال ليرى كيف يخلفه فيه، وهو يتوسم الأجر والثواب من خلاله يقضي به حوائج الناس ويرفع عن نفسه بعض ما أظلمها، فالكرم صفةٌ حميدة تنطوي تحتها خصال كمالية كبرى من شأنها أن يشعر صاحبها بنعيم ما هو عليه.
 
16- كتمان الأسرار: عن الإمام علي عليه السلام: "الكتمان طرف من السعادة"3، فمَنْ كانت أسراره أو حتى أموره الخاصة ليست بين جنبيه وحده اضطرب باله وخشي سوء التفسير



1 سورة الأعراف، الآية: 43.
2 ميزان الحكمة، ج2، ص 1304.‏
3 المصدر نفسه.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
104

92

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 أو سوء النشر وبات مرهوناً لاحتمالات الآخرين وأمزجتهم، بل بات جزء من حياته بيد غيره فتُسلب بذلك راحته وسعادته ويبقى مشوّشاً في أفكاره، بينما ترى الكتوم بعيداً عن هذه الأوهام مرتاح البال في كافة شؤونه ولا يرتهن إلا لعقله وقراره.

 
17- دوام العبادة: عن الإمام علي عليه السلام: "دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة"1، لأنّ دوامها دليل الأنس بين الله وعبده، الإنسان إذا استأنس بأمر لا يقلع عنه لأن به سعادته، وبالتالي فمن يترك العبادة والطاعة هو من لم يتذوق حلاوة الإيمان والارتباط بالله تعالى، ومن هنا كان الأنبياء والأولياء كثيري التعبد مواظبين على المستحبّات والفرائض إلى الحدّ الذي تراهم يتعاملون معه كالواجبات، وهذا ليس إلا للذة الأنس التي يعيشونها من خلال العبادة.
 
18- فعل الخيرات والعمل الصالح: عن الإمام علي عليه السلام: "درك السعادة بمبادرة الخيرات والأعمال الزاكيات"2،



1 ميزان الحكمة، ج2، ص 1305.
2 المصدر نفسه.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
105

93

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 والمبادرة هنا تعني أنّ من يشعر بالسعادة يسعى لنشر السعادة في المجتمع ويسعده أن يرى الآخر سعيداً فيبادر إلى ما يسعد الآخرين من خلال فعل الخيرات التي يحتاجها الناس والعمل الصالح الذي ينفع المجتمع فيُصبحون بذلك أكثر سعادةً.

 
19- حسن العاقبة: عن الإمام علي عليه السلام: "إنّ حقيقة السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة، وإن حقيقة الشقاء أن يختم للمرء عمله بالشقاء"1، فحسن العاقبة ميزان الآخرة، فويلٌ للذين حسنت أعمالهم في الدار الدنيا وكانوا من عداد المؤمنين والمجاهدين ثم غرّتهم الأماني وغرّتهم الدنيا بمناصبها وأموالها فباعوا ضمائرهم للأعداء وانقلبوا على أهلهم وذويهم، بل وعلى إمامهم وسيدهم، فهؤلاء أتعس الناس في الدنيا بما آلوا إليه وأشقاهم في الآخرة بما يعاقبون به.



1 ميزان الحكمة، ج2، ص 1305.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
106

94

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 20- ترك الدنيا والعمل للآخرة: عن الإمام علي عليه السلام: "أسعد الناس من ترك لذة فانية للذة باقية"1، فإن من جعل أكبر همّه الله عاش لذة الثواب والحسنات التي يزرعُها ليوم الحصاد الأكبر.

 
وعنه عليه السلام: "أسعد الناس بالدنيا التارك لها، وأسعدهم بالآخرة العامل لها"2.
 
21- معاشرة كرام الناس: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أسعد الناس من خالط كرام الناس"3، فمن خالط صغار الناس عاش سفاسف الأمور، وأمضى حياته في القيل والقال، وأمّا من خالط كرام الناس عاش عظائم الأمور وكبارها وأمضى حياته حاملاً للقضايا الكبرى، والإنسان في هذه الحياة الدنيا هو خلاصة ما يحمل وما يعطي من أولويات وكيف يرتبها وينظمها في حياته.



1 ميزان الحكمة، ج2، ص 1305.‏
2  م.ن.‏
3 المصدر نفسه.‏
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
107

95

المحاضرة الثالثة: أسباب السعادة (2)

 22- الزهد في أمور الدنيا: عن الإمام علي عليه السلام: "أعظم الناس سعادة أكثرهم زهادة"1، وكأنَّ الزهد زاد السعادة تزيد بزيادته وتنقصه بنقصانه، وهل بعد الزهد بما يعني عدم تعلُّق القلب بكثرات الحياة الدنيا سعادة، فإن المشكلة كل المشكلة التي يعيشها المرء في حياته هي أزمة تعلق قلبه بمشتهيات الدنيا، وأما إذا زهد فيها فإنه يدخل إلى السعادة من أوسع أبوابها.

 
23- ذكر الله: ولقد صرّح القرآن بذلك قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾2، والإعراض هنا يعني الانشغال بغيره، فهو لما تعلق قلبه بأمور الدنيا شغلته عن ذكر الله فلم يعد ذلك أولويةً في حياته فأعرض عنه.
 
قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾3.



1 م.ن، ج2، ص 1306.
2 سورة طه، الآيتان: 123 – 124.
3 سورة الرعد، الآية: 28.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
108

96

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 
 
تصدير الموضوع: 
 قال تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾1.
 
الهدف: 
 بيان أهمّ الأركان التي ينبغي توفُّرُها في المجتمع الاسلامي لينعم أفراده بالسعادة.



1 سورة آل عمران، الآية: 110.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
109

97

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 المقدَّمة 

من الطبيعي عند الحديث عن مجتمعٍ سعيد أن نتحدث عن جملة من المعايير التي ترتبط بالشأن العامّ والتي تترك أثارها على الفرد والمجتمع، وما تعيشه الكثير من المجتمعات اليوم من تخبط واضطراب بات أشبه بحال المريض المحتضر الذي لا يقوى على رد الحياة إليه، وما لم نتعرّف على أسباب ووسائل وآليات سعادة المجتمع فإننا لن نتمكن من رفع هذه الحالة المرضية إلى حالة صحية، وستظل الدنيا تتخبط في دياجير وظلمات ومشاكل أسوأ من المشاكل التي كانت الدنيا تتخبط فيها أيام الجاهلية الأولى قبل ظهور الإسلام، وها نحن اليوم أمام جاهلية ثانية في كثيرٍ من عناوينها الكبرى والصغرى أسوأ من الجاهلية الأولى حيث تفشت أوبئة الأنانية، والأثرة، والتفاوت الطبقي، وتوارث الحكم عند بعض العائلات والتعصب للغة والقرابة والنسب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
110

98

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 عالج الإسلام مسألة سعادة المجتمع من جذورها وأرسى الأسس الكفيلة لسعادة الإنسان وعمارة الأرض ووضع الحلول المناسبة لأي شكلٍ من أشكال التعدي على هذه الأسس، بل وقدّم النموذج العملي في هذا المجال، هذا النموذج الذي ما زالت أنواره ساطعةً إلى يومنا هذا، وما زالت البشرية تكدح في سبيل الوصول إلى شاطئ السعادة الذي أرشدنا إليه الاسلام عبر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيت العصمة عليه السلام منذ عشرات السنين.


وفي هذا المجال يمكن الوقوف على الأسس التالية: 
1- مبدأ الإيمان: فالمجتمع السليم هو المجتمع الذي يؤمن بمحورية الله في هذا الوجود ويبني عقيدته على هذا الأساس، فهو المجتمع المؤمن بالله ورسله وأنبيائه وكتبه واليوم الآخر، ولأن الكفر بهذه الأصول الإيمانية يجعل الإنسان لا يقدس شيئاً سوى مصالحه الخاصة ولو على حساب الآخرين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
111

99

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 2- العبودية لله تعالى: قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾1، فالعبادة ليست سلوكاً فردياً وارتباطاً خاصّاً بالله تبارك وتعالى، بل هو سلوك عام تقوم به الأمة ويتجلى في سلوكها وأفعالها، ولذلك اعتبره الله تعالى نتيجةً أولى لمجرد التمكين في الأرض فقال ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾2، أي انتقلوا بعبادتهم من المقام الفردي الى المقام العام الذي يرتبط بالمجتمع والأمة.

 
3- طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام: بمعنى أداء البيعة للإمام الذي يمثل استمرارية خطّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رأس السلطة والحاكم الذي يجب الولاء له، والذي يدور حساب الناس يوم القيامة مداره، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾3، بل إن حقيقة طاعة الله تعالى والرسول إنما تتجلى بطاعة الإمام 



1 سورة الأنبياء، الآية: 92.
2 سورة الحج، الآية: 41.
3 سورة النساء، الآية: 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
112

100

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 المفترض الطاعة في زمانك وعصرك، ولهذا قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾1، وليس بنبيهم.

 
4- مبدأ الأخوة: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾2، بأن يحب كل فرد لغيره ما يحب لنفسه ويُراعي الجميع كافة الحقوق والواجبات التي نصّت عليها الشريعة بين بعضهم البعض، والشريعة اعتبرت أنّ التهاون بحقوق الأخوة تهاون في الدين، ولذلك جاء الإصلاح في الآية المتقدمة متفرعاً على الأخوة وكأنه أراد أن يقول إنّ هذه الحقوق إذا أصابها أي خلل فعلى الجميع تدارك ذلك من خلال الإصلاح ليبقى المجتمع مجتمعاً متماسكاً وقوياً.
 
5- أصالة التعاون: قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾3، فلا يخفى أن الكثير من القضايا الكبرى من البر والعمل الصالح لا يقوى فرد على 



1 سورة الإسراء، الآية: 71.
2 سورة الحجرات، الآية: 10.
3 سورة المائدة، الآية: 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
113

101

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 إنجازها والقيام بها، فدعت الشريعة إلى ضرورة التعاون بين أفراد المجتمع لإنجاز مثل هذه القضايا من خلال المؤسَّسات المدنية والجمعيات الأهلية وما شابه.

 
6- مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وعدم التراخي في هذا المبدأ الذي حذّرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مغبة عدم الالتزام به، ولكي تتشكل الأمة الواحدة التي ذكرها الله تعالى في قوله ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾1.
 
7 - أصالة المساواة: ويكون الجميع فيه أخوة متساوين أمام القانون، فلا يوجد من هو فوق القانون مهما علا شأنه، فإن المجتمع الذي يُحاسب فيه الضعيف دون القوي مجتمع يُعلّم أبناءه أن يكونوا ذئاباً ضارية، والمجتمع الذي يُحاسب فئة دون فئة وقوماً دون قوم هو مجتمع جاهلي.
 
8- أصالة المسؤولية والجزاء: وذلك بأن يتحمل الإنسان مسؤولية أفكاره وأعماله وأقواله، وبكلمةٍ أوضح تفعيل



1 سورة آل عمران، الآية: 110.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
114

102

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 قانون الثواب والعقاب وذلك بأن يجازي كل إنسان بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر وله أجره بدون استغلال إنسان لإنسان آخر.


9- أصالة العدالة: فإن لكلٍّ حقه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحقوقه الأخرى، فهذه الحقوق ليست حكراً على فئةٍ أو عائلة أو أصحاب النفوذ والمال أو الذين باعوا أنفسهم لمن هم خارج حدود الوطن.

10- أصالة احترام الإنسان في كل شؤونه: والمراد هنا حرمة الإنسان الذي كرّمه الله عن سائر المخلوقات والكائنات، وسخّر له كل ما في الوجود بغض النظر عن دينه أو قناعاته أو تفكيره، فله الحق في ممارسة شعائره الدينية والعقائدية، والإنسان له حرمته وله حقوقه المدنية من التعلم والطبابة والعمل والضمانات الاجتماعية التي يكتسبها بمجرد الإنسانية.

11- أصالة الفضيلة: أي التخلق بالأخلاق الحسنه فكراً وقولاً 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
115

103

المحاضرة الرابعة: أسس السعادة في المجتمع الإسلامي

 وعملاً. قال سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾1، ولذلك شددت الشريعة على مكارم الأخلاق وصلة الرحم والأخلاق الأسرية والتكافل الاجتماعي والتعاون وسواها من الأفعال الأخلاقية التي تسمو بالمجتمع إلى مصآفّ المجتمعات الراقية.

 
وبكلمةٍ أخيرة إنّ الاسلام أمرنا أن نصل من قطعنا وأن نحبَّ من كرهنا وأن نحترم من يضمر لنا السوء وأن نتودد إلى الجميع باسم الأخوة لا باسم الحسابات والأرصدة المالية وأن نحسن الظن بالناس ختى يحسنوا الظن بنا وأن نتعاون بدل الأنانية وأن نحمل بعضنا البعض على الصحة ولا نشكك بالآخرين ولا نفسد حياتنا باتهام بعضنا البعض أو بتعيير بعضنا البعض أو باستغابة أحدنا للآخر، فإن المجتمعات قيم ومبادئ قبل أي شيء آخر ومهما علا شأن أي مجتمع من المجتمعات فإنه ما لم تبقى الأخلاق والقيم الإنسانية رائدة فلن يُكتب لهذا المجتمع البقاء والإستمرار.



1 سورة الشعراء، الآية: 89.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
116

104

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾1.
 
الهدف: 
بيان بعض جوانب الرؤية الاسلامية التي جعلت الحجاب أمراً واجباً على المرأة.



1 سورة النساء، الآيتان: 13 ـ 14.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
119

105

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 المقدَّمة

إنّ النظرة الدقيقة لقضية الحجاب والسفور بشكلٍ عامّ لا يمكن الحكم عليها إلا بعد الاطلاع الكامل على النظرة الدينية والنظرة الغربية بشكلٍ دقيق ومفصَّل لنرى أيّ الفكرتين أولى بالتبني، وبالتالي أيّ الفكرتين فيها صلاح الفرد والمجتمع، لأنّ هذه القضية ترتبط بأصل علاقة الرجل بالمرأة وترتبط بدور كلٍّ من الرجل والمرأة في الحياة وكيفية التكامل بينهما، لما هو واضح أنهما وإن اشتركا في الإنسانية إلا أنهما على المستوى الجسدي والفسيولوجي والعواطف والأحاسيس يتباينان تبايناً كبيراً، وبالتالي لا بد من فهم المعنى الحقيقي للحجاب أولاً؟ وما هي فوائده العامة والخاصة على مستوى الفرد والمجتمع؟ وما هي الأخطار التي يدرأها؟ وهل هو مجرد زي من الأزياء كما يحاول البعض الترويج له أم هو رسالة حياة وإيمان بدورٍ تاريخي ومفصلي للمرأة؟ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
120

106

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 معنى الحجاب

لا شكّ أنّ الحجاب كسواه من الأمور التشريعية التي شرّعها الإسلام له معنىً ظاهري يبينه علم الفقه وله أبعاد باطنية تُدرّس في علم التربية والأخلاق، فالمعنى الحقيقي والباطني للحجاب في الإسلام يتعدى حدود الظاهر الذي يشير إلى ضرورة ستر المرأة لجسدها وأن لا يظهر منه سوى وجهها ويديها، فالحجاب في الإسلام هو وعاء العفة والطهارة ولباس التقوى والدرع الحصينة الذي يبعد المرأة عن مواطن الشبهات والتهم.

الخلفية الفكرية لفرض الحجاب
من هنا فإنّ دعوة الإسلام إلى الحجاب هي في حقيقتها سترُ جانب المفاتن والمحاسن في المرأة وإقصاؤه عن أيّ تعاملٍ معها ليبقى حقيقة التعامل معها قائمة على البعد العلمي والعقلي والكفاءة والتجربة تماماً كما الرجل، وبكلمةٍ أوضح أن تبقى المرأة كإنسان قبل أن تكون أي شيءٍ آخر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
121

107

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 فالحجاب دعوة إلى حفظ كرامة المرأة واحترام إنسانيتها، وإنّ أزمة السفور في هذا المضمار سيِّما إطلاقه بدون أي قيد أو ضابطة فتح أمام المتاجرين بالبشر فرصة الاستهانة بكرامة المرأة واستثمار جسدها من حيث أرادت أم لم ترد، ففتحوا لذلك الشركات وصرفوا مليارات من الأموال على جسد المرأة وتزيينه، بل والأخطر من ذلك أنّه راجت بعض الثقافات في الآونة الأخيرة لتربط بين قيمة المرأة وجسدها متغافلين عن أي بعد آخر لها، بل لا نبالغ إذا قلنا إننا اليوم أمام عملية وأدٍ للمرأة قد لا تقلُّ بشاعة عن عمليات الوأد التي كانت تمارس في الجاهلية، لكنْ مع فارق، وهو أنّ الوأد الجاهلي كانت تدفن فيه المرأة ويوضع بذلك حداً لحياتها، أمّا الوأد المعاصر فتدفن فيه كرامة المرأة مع بقائها على قيد الحياة ولا أدري أيّهما أفظع جريمةً بحق المرأة.


والحجاب في عمقه هو إقصاء الجانب الفتنوي في المجتمع من كلا طرفيه أي الرجل والمرأة لأنّ الإسلام أراد ألا تفتتن المرأة بغيرها وألا يفتتن غيرها بها كما بيّنت ذلك
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
122

108

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 آية غضّ البصر في القرآن الكريم حيث قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾1، ومن الواضح أنّ الآية تشير الى إبعاد الجانب الفتنوي عندهما كسبيل لتزكية النفوس وطهارتها.

 
إنّ الحجاب ليس سجناً للمرأة تُسجن فيه طاقاتها وقدراتها وليس قبراً تُدفن فيه إمكاناتها كما يحلو للبعض أن يُصوّره، بل هو في حقيقته ستر ما من شأنه أن يُبعد المرأة عن مسارها الذي رسمه الله لها لتُطلق العنان للقيام بواجباتها الاجتماعية والسياسية والتربوية بعيداً عن جاذبية الجسد ونظرات التلذذ والريبة والتغني بمفاتنها والتغزل بمحاسنها... فالمراد من الحجاب تأكيدُ إنسانيتها من خلال الحجاب، ليتعامل معها في المجتمع باعتبارها إنساناً، بحيث تخرج إلى المجتمع كإنسان، وتحترم كإنسان، وتنال الوظيفة بجدارتها لا بمفاتن الأنثى لديها، ولتحظى بمكانتها من خلال عقلها وكفاءتها ودورها الفاعل لا بما تملكه من عناصر الإغراء في جسدها



1 سورة النور، الآيتان: 30 ـ 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
123

109

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 ولا بمفاتنها التي تبرز بها إلى الشارع أو السوق، أو تطلُّ بها من خلال شاشات التلفزة.


الحجاب وتوفير الأمن الأخلاقي
والحجاب عاملٌ واقعي من عوامل تحقيق الأمن الأخلاقي بين الناس بمعنى درأ خطر فوضى العلاقات غير المشروعة، فروح الإنسان مؤهّلة للإثارة بشكل كبير. ومن الخطأ أنْ نظنَّ أنّ قابليّة الروح الإنسانيّة على الإثارة محدودة بحدٍّ خاصّ، تهدأ بعد تجاوزه. فكما أنّ البشر ـ أعمّ من الرجل والمرأة ـ لا يشبعون من الثروة والجاه، كذلك الأمر بالنسبة للعلاقة الخاصة بينهما، فالطلب اللامحدود لا يمكن تلبيته سواء أردنا أم لم نُرد، وهو توأم مع لون من الإحساس بالحرمان، وعدم نيل الأماني بدوره يؤدّي إلى اضطرابات وأمراض نفسيّة.

والإسلام إذ أدرك ضرورة إشباع هذه الحاجات وتلبية هذه الرغبات أراد لها أن تستقيم في القنوات المحددة لها بعيداً عن العشوائية والفوضى، ففتح لإشباع هذه الغريزة بابَ الزواج الشرعي وأطلق العلاقة بينهما دون قيد وأكَّد عليه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
124

110

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 وعالج قضايا الأسرة بالشكل الذي لا يسقط فيه أحد طرفيه في محرمات الزنا والشذوذ الجنسي كما هو الحال في بعض المجتمعات الأخرى، ومن هنا كان التشدد في موضوع الاستقرار الأخلاقي من خلال تحريم أسبابه كالسفور والخلوة والتزيّن والتبرج وما شابه.

 
وقد ورد في الحديث عن السيد المسيح عليه السلام: "إنّ موسى نبي الله عليه السلام أمركم أن لا تزنوا وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا فضلا عن أن تزنوا"1.
 
 وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "النظرة سهم من سهام إبليس مسموم فكم من نظرة أورثت حسرة طويلة"2.
 
وتتحدّث روايات أخرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل البيت عليهم السلام عن أنّ لكلِّ جارحةٍ حظاً من الزنا "فزنا العينين النظر وزنا الفم القبلة وزنا اليدين اللمس"3.



1 وسائل الشيعة، ج20، ص319.
2 المصدر نفسه، ج20، ص191.
3 المصدر نفسه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
125

111

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 الحجاب درع المرأة 

 إنّ من لوازم الحجاب والستر عند المرأة أنها تأمر المجتمع أن يتعامل معها وفق هذه الثقافة التي يعرف الجميع قواعدها ومعادلاتها سواء الملتزم بها أم غيره فالمرأة المحجبة تقول للمجتمع بلباسها لا بصوتها إني أرفض التحرش وأحرِّم نظرات السوء والريبة ولا أقبل بأي اختلاط غير مشروع وإني لست جسداً يُفتتن الناظر بمحاسنه ولا أوافق على العلاقات غير المشروعة والأحاديث المبتذلة، فهي بذلك تملك حماية إضافية أمام الآخرين لا تملكها المرأة السافرة.

وهنا أنا لا أنكر أن المرأة السافرة تستطيع أن توضح للمجتمع بلسانها وسلوكها ما تبينه المحجبة بلباسها كما لا أنكر أنّ سوء التطبيق عند بعض المحجبات يُسقط الحجاب عن دوره في حماية المرأة إلا أننا لا نتحدث هنا عن التطبيق الخاطئ وإنما نتحدث عن رادعية الحجاب عن الاستغلال السيِّئ وحاجته لجهد إضافي تبذله المرأة المحجبة حتى تقع فريسة الطامعين، فيما الأصل في السفور هو عدم الرادعية وحاجته إلى جهود 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
126

112

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 إضافية لحماية المرأة قد لا ترقى إلى مستوى رادعية الحجاب وتوفيره الحماية لها. 


الحجاب وبثُّ ثقافة الإسلام في المجتمع
إنّ المرأة المحجبة وبما تقوم به من دورٍ كبير على مختلف الأصعدة التربوية والسياسية والاجتماعية وسواها تثبت للعالم بأسره أنّ الحجاب ليس حاجزاً عن قيام المرأة بواجباتها وليس عبئاً ترزح المرأة تحت وطأته، بل بإمكانها أن يكون لها الدور والدور الريادي في كثير من الساحات، وقد قرأنا في التاريخ القديم عن نساء محجبات صمدن أمام أبشع الجرائم السياسية وفي التاريخ الحديث المصاديق التي أبهرت العالم عن دور المرأة في التغيير لا سيِّما في إيران ولبنان وبعض ساحات المواجهة في الحروب الناعمة والصلبة.

إنّ الله يجزل الثواب والحسنات على المرأة المحجبة ما دامت ترتدي حجابها أمام الناظر الأجنبي، فتبقى في حال أداء التكليف ونيل الحسنات في كلّ خطوةٍ تخطوها حتى رجوعها إلى منزلها لأنها تقدم بذلك القدوة والنموذج الذي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
127

113

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 ينبغي الاقتداء به، فمثلها مثل الجريح الذي يُثاب ليل نهار ما دام متأثراً بجراحه وكذلك المرأة فهي تؤجر على كل خطوة تخطوها محجبةً وتحفّها ملائكة الرحمة حتى تنزع حجابها. 


الحجاب وحماية الحياة الزوجية والأسرية
 لا شكّ أن أجواء السفور في المجتمع ستساهم في تزايد عنصر الإثارة التي تدفع الرجل إلى التعلق بنساء أخريات يرى فيهن بعض الجوانب التي لم يعد يراها في زوجته ممّا يعطل حميمية العلاقة مع زوجته ويصرفها الى جهاتٍ أخرى تستهويه أكثر كما أنه يفتح الباب أمام فرص جديدة من التودد الذي بات معطلاً بينها وبين زوجها مما يجرّها شيئاً فشيئاً نحو أجواء الثقة والودّ الوهمية الجديدة، وهذا من شأنه أن يُضعف العلاقة بينهما فتنعدم الثقة بالآخر لتحلّ مكانها الأنانية فتظهر المشاكل الزوجية سريعاً وتتبعها المشاكل الأسرية مما يوصل الأمور أحياناً إلى الطلاق الشرعي أو بالحد الأدنى إلى طلاق توافقي مع بقائهما تحت سقفٍ واحد، وما أكثره في زماننا الحاضر. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
128

114

المحاضرة الأولى: فلسفة الحجاب في الاسلام

 وهذا الأمر يزداد تفاقماً كلما ازدادت حدة السفور، فمن الطبيعي أن تكون الأسرة في المجتمع المتفلت والمتهتك والذي لا يُراعي أيّ لون من ألوان الضوابط أكثر انهياراً ودماراً، وهذا ما تشهده المجتمعات الأخرى التي باتت تتفلَّت من أصل فكرة بناء الأسرة لكونها تجربةً غير نافعة، وفي الواقع أن بناء الأسرة أمرٌ ضروري ويجب إصلاح المجتمع لأجله، لأن الأسرة في المجتمع المتهتك كمن يُلقي بجواهره في المستنقعات الآسنة. 


 وهذا كله من الطبيعي أن يُخفف الحجاب من حدته، لأنه لا يشكّل مفتاحاً نحو الإثارة وبالتالي نحو العلاقات غير المشروعة بل يحافظ على الإثارة ضمن قنواتها المحددة فيساهم بذلك في تقوية الروابط الأسرية ويُعزِّز احترامها بين الطرفين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
129

115

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 
 
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾.
 
الهدف: 
الإجابة عن بعض الشبهات المعاصرة المطروحة في محاربة موضوع الحجاب والستر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
131

116

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 المقدَّمة

في إطار الحملة على موضوع الستر والحجاب الذي تفرضه الشريعة الإسلامية على المرأة المسلمة والتي تلاقي - مع الأسف - تجاوباً في بعض مجتمعاتنا الإسلامية حتى بات إنحسار الحجاب وحلول السفور أو السفور المقنع الذي لا يفي بغرض الستر الشرعي ظاهرةً من جملة الظواهر التي يجب الوقوف عندها والإجابة عن الأسئلة والاستفهامات والاستنكارات التي يطرحها البعض في وجه قضية الحجاب، وخطورة هذه الظاهرة لا تكمن في كونها تمثّل مساراً انحدارياً للحجاب في مجتمعاتنا ما يشكّل ابتعاداً وانحرافاً سلوكياً عن تعاليم الدين، بل تكمن الخطورة في كون هذه الشبهات المطروحة تسلخ الحجاب عن تعاليم الشريعة الغرّاء وتنزع عنه صفة التكليف وتعتبره في أحسن حالاته زياً كبقية الأزياء، وفي أسوأ حالاته مظهراً من مظاهر التخلُّف والبعد عن الفهم الحقيقي للدين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
132

117

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 ومن المهمّ أولاً طرح بعض الشبهات والأسئلة التي يطرحها بعض المعارضين للحجاب والستر سيِّما المطروحة في الآونة الأخيرة والتي يعمل بعض القرآنيين الجدد ومدعي الحداثة والتنور على الترويج لها.


السؤال الأول: لماذا فرض الله الحجاب على المرأة؟

السؤال الثاني: أليس الحجاب في أصله التاريخي مجرد عادة من العادات العربية وليس تكليفاً دينياً؟

السؤال الثالث: ولماذا هو فرض على المرأة فقط دون الرجل؟ 

السؤال الرابع: ماذا لو كان لباس الرجل مورداً للإثارة، ألا ينبغي أن يُفرض عليه الحجاب كحال المرأة؟

السؤال الخامس: لماذا يجب على المرأة أن تقيّد نفسها بالحجاب كي لا يطمع فيها الرجل؟ أليس المفروض أن يكون القيد على الرجل في المورد الذي يخصه؟

ألاّ يمثل الحجاب اضطهاداً للمرأة، وتقييداً لحريتها؟
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
133

118

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 ألا يدخل الحجاب في إطار ممارسة المرأة لحريتها الشخصية التي لها أن ترتديه ولها أن تمتنع؟ وبالتالي فإن فرضه تجاوزٌ صريح لحريتها وبالتالي امتهاناً لكرامتها.


وفي مقاربة قضية الحجاب لا بد من التمهيد بجملة من المقدمات قبل الوصول إلى الإجابة عن هذه الأسئلة المتقدمة: 
أولاً: لماذا اعتبرتم أنّ الحجاب يحتاج إلى دليل دون السفور مع أنهما سواء في المرأة؟ وبالتالي لنا أن نسأل ما هو دليلكم على السفور؟ ولماذا علينا أن نتقبله مع اعتقادنا أنه يشكل امتهاناً لكرامة المرأة كما ترون أنتم أنّ ستر المرأة امتهانٌ لها؟ ولا يُقال في ذلك إنّ الله خلق المرأة بلا حجاب لأن الله خلق الخلق كله رجالاً ونساءً عراة لا يسترهم ساتر.

ثانياً: إنّ الشرع المقدس حدّد ما ينبغي للمرأة ستره وما يجوز إبرازه، فطرْحُه لقضية الحجاب كان وفق ضوابط وقيود محددة، أما أنتم فلنا أن نسألكم ما هي الحدود التي يُسمح فيها للمرأة بإبراز مفاتنها؟ وأنتم تعلمون أنّ هذا السؤال لا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
134

119

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 إجابة له في حضارتكم المزعوعة وكلٌ يعمل على هواه، فأجزتم المرأة حرية إبراز مفاتنها حتى التعري الكامل بل هناك ما هو أسوأ من التعري، وهذا يُخالف كافة الحدود التي يؤمن بها العقل.


ثالثاً: لماذا يحق لكم أن تحاججونا باسم الحضارة الغربية واعتبارها ميزاناً ومقياساً وأيُّ فعل يُخالفها يجب تقديم تبريراته ومسوّغاته، فيسأل البعض ما هو دليلكم على الحجاب فانظروا إلى الحضارة الغربية لا تلتزم به، وليس لنا الحق أن نحاججكم باسم الحضارة الإسلامية واعتبارها الميزان والمقياس، ولنا أن نسألكم ما هو دليلكم على السفور فيما الحضارة الإسلامية تمنعه وترفضه، فنخن نعتقد أن ما سوى الحضارة الإسلامية يحتاج لدليل وبرهان، لماذا تعتبرون أن ما طرحه فلاسفتكم على صواب ولا يحق لنا أن ندّعي أن ما طرحه الأنبياء والرسل على صواب؟ علماً أن الله لم يأمر عباده بأمر إلا وفيه مصلحتهم ولم ينهَهُم عن أمرٍ إلا وفيه مفسدتهم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
135

120

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 المعيار في موضوع الستر

والمعيار الذي ينبغي التوافق عليه كونه ينسجم مع مبدأ كافة الحضارات على اختلافها هو مصلحة المجتمع والناس كافةً سواء الذكور أو الإناث، فهل المصلحة العامة تقضي بالسفور أو بالستر، بعيداً عن عدد المحجبات وعدد السافرات في العالم وبعيداً عن مواقعهم في الحياة؟ بل ينبغي بحث المسألة بعيداً عن الواقع ثم مقاربة الواقع بعد تحديد النظرة الصحيحة لهذه المسألة، وأما مقاربة الموضوع تحت تاثبرات الواقع وضغطه فلن يكون نقاشاً حيادياً، بل لا شك أنّ تأثيرات الواقع سيترك آثاره على النقاش ويجرنا الى تنازلات شخصية وتسويات فردية لا تمت إلى البحث العلمي بِصِلة.

وفي الردّ على السؤال الأول نقول إنّ كلاً من الرجل والمرأة هو إنسانٌ قبل أن يكون رجلاً أو إمرأة، ولا بد من التعامل مع أيّ منهما بما لا يخلّ بإنسانيته، فالإسلام احترم إنسانية المرأة وصانها إذ فرض عليها أن لا تكون نهماً لعيون الرجال وغرائزهم التي لا يحدها حدّ، وقد صدق من قال إنه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
136

121

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 لو علمت المرأة بأي عين ينظر الرجل إليها لغطت جسدها بدرعٍ من حديد.


ونحن لا نتحدث في هذا المقام عن العفة والطهارة الباطنية إذ الجميع متفق على كونها أساساً في المرأة، لكن نسأل هل كرامة المرأة وحرمتها أن تتحول إلى لذة جسدية فحسب وأن يتعامل معها الإعلام كسلعة يُرّوج بها طلباً للربح السريع والوفير؟!

 إنّ المرأة بأصل تركيبتها التي خلقها الله عليها وبطبيعتها الأنثوية هي مورد إثارة بكامل جسدها ومفاتنها وهو ما ليس متحققاً في الرجل الذي ينبغي أن يخالف طبيعته الذكورية حتى يكون مورد إثارة، ومن هنا وجب على المرأة أن تُراعي ستر جسدها ولم يوجب على الرجل ذلك، نعم حرّم الشرع المقدس على الرجل أي نوع من أنواع الإثارة للمرأة واستشكل الفقهاء في لباسه وحركاته وتصرفاته التي من شأنها أن تثير المرأة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
137

122

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 أمّا علّة اختصاص حكم الستر في الإسلام بالنساء فهو أنّ الميل نحو التجمُّل أمر خاصّ بالنساء. فالرجل ينشد جسد المرأة بقلبه وهي تنشد قلبه بجسدها، ومن هنا ينشأ ميل المرأة نحو الظهور الأنيق جرّاء نزوعها لصيد قلوب الرجال.


فالمرأة بحكم طبيعتها الخاصّة تُريد أنْ تجلب قلب الرجل وتجعله أسيراً للارتباط بها. لذا فإنّ التبرُّج والتزين سلوكان خاصّان بالنساء، وحكم الستر مقرّر لهنّ.

وفي الرد على السؤال الخامس نقول إن المرأة بما تشكل من عنصر إثارة وجب عليها الستر، ومن الطبيعي أن يكون العلاج متجهاً للمرأة بما تشكل من سببٍ مباشر لا أن يكون العلاج متجهاً للرجل الذي هو الجهة المنفعلة والنتيجة بل والضحية أحياناً، بل أكثر من ذلك إن الله خلق المرأة وأرادها عنصر إثارة بكامل جسدها ومفاتنها لكن ضمن قنوات شرعية محددة في الشرع وليس بشكلٍ مباح أمام كلّ الناظرين.

أمّا فيما يرتبط بمسألة مخالفة الحجاب للحرية الشخصية وأنّ حقها في الحجاب والسفور سواء فنقول إن هذا الأمر وإن
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
138

123

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 يكن من الأمور التي لا تسلّمون بها، إلا أنّ مسألة الحجاب أمر مرتبط بالمصلحة العامّة وبصلاح المجتمع وهو ليس أمراً شخصياً فهو ليس ارتياداً لقهوة حتى تختار ما ينسجم مع مزاجك، وليس شراءً لسيارة حتى تختار ما يحلو لك، بل هو مسألة عامة لها علاقة بفساد المجتمع وصلاحه، هذا المجتمع الذي تحكمه جملة من الأخلاقيات التي لا يسمح الشرع بتجاوزها، وليس من حرية المرأة أن تقدم على إفساد المجتمع تحت شعار الحرية الشخصية، ولذا لا بد أن تُمَارِسَ المرأة - كما الرجل - حريتها في إطار هذا المناخ الاجتماعي، أمّا الحرية المطلقة والمجردة عن كل قيد، فهذه أقرب إلى التفلت منها إلى مفهوم الحرية.


 وهنا نؤكد ما قلناه سابقاً أنكم لماذا ترفضون أن تخرج المرأة عارية إلى الشارع، أوليس كون ذلك يخدش الحياء العامّ ويثير غرائز المجتمع بشكلٍ مضطرب؟ إن نفس هذا المبدأ يدعونا إلى المزيد من الستر درءاً لأي سلوكيات مضطربة في المجتمع، وهذا من جملة ما يعاني منه الغرب حقيقةً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
139

124

المحاضرة الثانية: شبهات وردود حول موضوع الحجاب والستر

 وبكلمةٍ مختصرة إنّ الحرية الشخصية للمرأة تقف عند حد التعدي على حريات الآخرين وتهدد أمنهم الأخلاقي والروحي والمعنوي.

 

 

 

 

 

 

 

140


125

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾1.
 
الهدف: 
 بيان بعض الأدلة الشرعية من الكتاب والسنّة حول موضوع وجوب الحجاب.



1 سورة الأحزاب، الآية: 59.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
141

126

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 المقدَّمة: 

لعلّ إحدى أخطر المسائل التي تهدد الحجاب وتدعو إلى التفلُّت من قيوده ضعف الاعتقاد بوجوبه الناشئ من عدم الثقافة الدينية القوية لمبدأ الحجاب، والتي تعجز عن الصمود في وجه أعاصير الغزو الثقافي وسمومه القاتلة التي ينفذ فيها من بعض فجوات هذا الاعتقاد المزلزل ليحدث فيه فجوات سرعان ما تهدد هذه الثقافة وتعمل على تقويضها، لذا فإنّ من أهمّ المسائل التي يجب العمل عليها هي تقوية الثقافة الدينية بموضوع الحجاب وأدلته الشرعية سواء القرآنية منها أو المرويَّة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام وحتى العقلية وما يدخل في إطار التجربة والإحصاء والمعلومات وغيرها من الأدلة الوجدانية والعرفية التي تؤكد ضرورة الستر، وهذا كله ينبغي أن تحيط به الأخت المحجبة حتى يكون التزامها بالحجاب التزاماً راسخاً بل وشعاراً ورمزاً يقتدى به.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
142

127

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 وفي مقام الاستدلال على وجوب الستر وفق الموازين الشرعية يمكن الوقوف على جملة من الأدلة الواردة في الكتاب والسنّة.

 
أولاً: من القرآن: 
اشتمل القرآن الكريم على عدة آيات تدلّ على وجوب الحجاب نذكر بعضها: 
1- قوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾1
 
وموضع الاستدلال في هذه الآية هو فقرتان: 
الأولى: قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، فإنّ في تفسير الزينة التي نهى الله عن إبدائها رأيين: 



1 سورة النور، الآية: 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
143

128

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 الرأي الأول: أي مواضع الزينة، فتكون دلالة الآية على لزوم ستر مفاتن الجسد واضحة ومُبَاشِرَة، وهذا التفسير توحي به بعض الروايات كرواية الفضيل، قال سألت أبا عبد الله  عليه السلام عن الذراعين من المرأة، أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾، قال: نعم، وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين".

 
ومن الواضح أن الإمام يشير إلى المواضع التي يجب سترها عندما قال "ما دون الخمار"، يعني ما يستره الخمار من الرأس والرقبة، وكذلك قوله: "ما دون السوارين" أي ما دون الكفين، فتشمل الساعدين والعضدين.
 
الرأي الثاني: أن يُراد بالزينة الزينة الخارجيّة المعروفة التي تضعها النسوة على أجسادهن، والنهي عن إظهار الزينة ملازم للنهي عن إظهار مواضعها، لأنّ كشف الزينة متلازم مع كشف مواضعها، ولعلّ هذا الرأي بعيد للزوم أن يقول الله تعالى حينئذٍ (إلا ما أظهرن منها)، وليس ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
144

129

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 الثانية: قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، فإنّ الخُمُرَ جمع خمار، وهي أغطية الرأس، والجيوب هي فتحة القميص، والمراد بها أعلى الصدر.

 
ومن الواضح أنّ هذه الآية لا تتحدث عن وجوب الحجاب بل تعتبره أمراً مفروغاً منه بل تأمر بمراعاة بعض الضوابط - ولعلها من الأمور التي كانت منتشرة في تلك الآونة - فتأمر النساء بإلقائه على الجيوب، ما يعني أنّها تفرض الخمار موجوداً.
 
ثالثاً: إن الآيات القرآنية تعالج ما قد تتعرض له المرأة المحجبة أو يعلّمها بعض الأصول والقواعد التي تجب مراعاتها حفظاً لمقام الحجاب في العفَّة والطهارة فضلاً عن الستر، وذلك يتضح من خلال التأمل في جملة من الآيات القرآنية، من قبيل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾1 فإن كانت المرأة مأمورة شرعاً أن تراعي الاتزان والعفة في أسلوب وكيفية تخاطبها مع الرجال الأجانب



1 سورة الأحزاب، الآية: 32.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
145

130

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 فكيف سيسمح الشرع الحنيف بكشف مفاتنها التي هي أشد وقعاً في إغراء الرجال وإثارتهم من مجرد الكلمات؟

 
والخضوع بالقول يتضمن عدة أشكال من لحن القول أو التغنج بالكلام أو إطالة الكلام من غير طائل والتي يُفهم منها الرغبة في الحديث أو تمرير بعض الكلمات ذات المعاني المتعدِّدة أو بعض النكات أو الإبتسامات اللافتة أو القهقهة وغيرها من الأمور التي تدعو الرجل إلى الطمع بهذه المرأة.
 
ونحوه في الدلالة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾1، فإذا كان ضرب الأرجل بالأرض بما يعني من حركة غير مباشرة تهدف إلى لَفْتِ نظر الرجال وإثارتهم محرماً، والحركة غير المباشرة هنا مؤداها أن الرجل إذا سمع صوت الخلخال أو أي زينةٍ أخرى قد يتبادر إلى ذهنه صورةً ما تُشكِّل عنده نوعاً من الإثارة الخيالية، أفلا يعني هذا بالضرورة أن الحركة المباشرة التي تستهدف الإثارة أمر محرّم شرعاً.



1 سورة النور، الآية: 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
146

131

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 ونحوه أيضاً قوله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾1، فهذه الآية رخّصت للنساء اللّاتي لا يرجون نكاحاً، وهنّ اللواتي بلغن سناً لا يرغب بهن الرجال ولا يرغبن بالرجال التخفيف من الثياب، وهذا معناه أنّ النساء اللّاتي لا زِلْنَ في سنٍ يَرْغَبُ بهن الرجال ويرغبن في الرجال لا يجوز لهن التكشف أمام الرجال الأجانب، إلا ما خرج بالدليل من الوجه والكفين.

 
ثانياً: من السنَّة: 
ولا يخفى أنّ الروايات الواردة من طرق السنَّة والشيعة تدلُّ بوضوح على أنّ وجوب الستر هو أمرٌ مفروغ منه، وإنّما محط النظر- في تلك الروايات - هو في التفاصيل، كتغطية الوجه وعدمها، وقبل أن نشير إلى بعض هذه الروايات لا بد أن ننبّه إلى مسألة مهمة تتصل بتصحيح خللٍ منهجي، يتصل بمرجعية السنُّة النبوية الشريفة في عملية إثبات الأحكام الشرعية.
 
وأمّا الروايات الدالة على وجوب الستر والحجاب، فهي 



1 سورة النور، الآية: 60.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

132

المحاضرة الثالثة: أدلة وجوب الحجاب

 كثيرة ومستفيضة، وبعضها يدلُّ على هذا الحكم بالصراحة، وبعضها بالملازمة، ولا شكَّ في حصول الوثوق بصدور مضمون هذه الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين  عليهم السلام.

 
ومن هذه الروايات: صحيحة مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر وسئل عما تظهره المرأة من زينتها؟ قال: "الوجه والكفين"1.
 
إلى غير ذلك من الروايات المستفيضة التي تحرم النظر والمصافحة والسفور واللمس، والتي بات اليوم على مجتمعاتنا إعادة قراءة هذه الروايات بتأنٍ وتمعن بعيداً عن ضغوط الحياة، ولتتخذ نساؤنا اليوم من السيدة زينب بنت علي عليه السلام قدوتها في الحياة، وهل كل ما جرى ويجري علينا اليوم من تحديات وضغوطات يُعادل قطرة من بحر التحديات التي خاضته زينب  عليه السلام في وجه الطغمة الحاكمة آنذاك؟!



1 فروع الكافي، ج5، حديث 3و4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
148

133

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء﴾1.
 
الهدف: 
بيان بعض المفاهيم الخاطئة التي يتم بثها حول موضوع المرأة والجمال.



1 سورة القصص، الآية: 25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
149

134

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

المقدَّمة
من المفاهيم الخاطئة التي يحاول البعض التشويش بها داخل مجتمعاتنا الإسلامية وتقديمها كقيمة اجتماعية أنّ جمال المرأة رهنٌ بجمال جسدها وأنّ المرأة إذا أرادت الظهور بشكلٍ جميل فعليها الاهتمام بجمال جسدها اهتماماً بالغاً، وقدّم لهذه الفكرة كمّاً كبيراً من أدوات الزينة والملابس والأزياء والاكسسوارات وسواها من أجل صرف المرأة عن أيّ قيمة أخرى ترتبط بجمالها الروحي والأبعاد المعنوية لها، وهذا من أخطر ما قد يصيب المجتمع، لأنّ اقتناع المرأة بهذه القيمة سيجعلها تتخلى عن قيمها الحقيقية والمعايير الحقيقية للجمال، علماً أنّ جمال الجسد لا يجذب إلا جسد الرجل وهو جذب آني عابر يرتبط باللحظة، وأما الجمال الحقيقي للمرأة فهو الجمال الروحي والمعنوي الذي يجذب عقل الرجل وقلبه وبالتالي فهو جذبّ له بقاؤه واستمراره. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

135

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 قراءة قرآنية حول الموضوع

من المهمّ أن نَلفت النظر بدايةً إلى أنه عندما تتحدث الشريعة الإسلامية عن حرمة الزينة وخروج المرأة متزينة خارج بيتها إنما هو في الواقع عن حرمة ربط جمال المرأة بزينتها، لأنّ الزينة تعني جمال الجسد ولا تعني جمال المرأة، وما أراده الإسلام هو إبراز جمال المرأة في جانبه الإنساني لا في جانب الشكل والظاهر.

وفي قصة ابنتَيْ نبي الله شعيب عليه السلام حين ورد موسى عليه السلام الماء وكانتا تريدان السقاية ثم دعوته من قبل أبيهما إلى البيت فوائد كثيرة فيما يرتبط بجمال المرأة وتربيتها واختلاطها بالرجال وحدود التواصل معها وسوى ذلك مما يمكن تلخيصه بالأمور التالية: 
أولاً: في القرآن الكريم يصف الله جمال المرأة عندما يحدّثنا عن ابنة نبي الله شعيب التي أرسلها والدها لتدعو نبي الله موسى عليه السلام إلى لقاء أبيها، فهل حدّث القرآن عن 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
151

136

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 طولها وشكلها وأناقتها ولباسها وكل ما له علاقة بجمال الجسد، بالعكس تماماً فالقرآن الكريم ربط بين جمالها وعفتها وطهارتها إذ قال تعالى ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء﴾1.

 
وهذا الوصف وصف لجمالها لا وصفٌ لمشيتها، وإلا لقال تعالى (تمشي بحياء)، فهو أراد أن يقول إنّ الحياء علاها وظهر عليها بكامل وجودها لا بخصوص مشيتها، وإلا فإن كلمة (جاءته) تغني عن كلمة (تمشي) في اللغة، لكنَّ ما أراده الله أن يُعلّمنا إياه هو كيف يكون جمال المرأة من الناحية المضمونية، أي أن الحياء تجلى ليس في مشيتها فحسب بل في تمام مجيئها.
 
ثانياً: وهنا فائدة تربوية مهمة تظهر من مناخ الآيات وهي ضرورة متابعة أمور الفتيات في البيت، لأن نبيَّ الله شعيباً لما رجعت ابنتاه سريعاً سألهما عن سبب ذلك فأجابتاه بما جرى معهما وأن رجلاً سقى لهما، وهذا يعني ضرورة



1 سورة القصص، الآية: 25.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
152

137

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 متابعة أدق التفاصيل في حياة الفتاة من الناحية التربوية.


ثالثاً: هي رسولة أبيها وليست متحدثةً معه من تلقاء نفسها، ولو لم يكن الأمر كذلك لدعته حين سقى لهما وليس بعد رجوعها إلى بيت أبيها.

رابعاً: إن الدعوة محددة وليست دعوة مطلقة، فهي دعوة خاصة ليجزيه أجر السقاية.

خامساً: إنّ العبارة تؤكد بوضوح أن هذه المرأة لم تتحدث مع نبي الله موسى عمَّا يزيد عن المعنى الذي أرادت إيصاله، فهي لم تدخل معه بأحاديث جانبية ومقدمات واستطرادات حول الموضوع.

سادساً: إنّ هذه القيود المتقدمة تكشف عن أن الأصل في الدين ليس تواصل المرأة مع الرجل، وإنما التواصل هنا تمّ لعذر وهو أن أباها رجلٌ عجوز ولا يستطيع المجيء بنفسه، وبالتالي فإن هذا التواصل كان استثنائياً وليس عادياً.

سابعاً: ما ورد في التفاسير أن موسى عليه السلام قال لها أن يمشي أمامها وتمشي خلفه عند ذهابهما الى بيت أبيها حتى لا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
153

138

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 يضطر الى النظر إليها باستمرار، بل أكثر من ذلك فإنه قال لها إذا أخطأ الطريق أن تلقي بحصاة نحو الاتجاه الصحيح ولا تكلمه لعدم الاضطرار إلى ذلك ما دام هناك إمكانية الاستدلال على الطريق دون اللجوء إلى الحديث لما هو واضح أن صوت المرأة كلباسها شكلٌ من أشكال الفتنة والريبة.

 
وفي الآيات المتقدمة ما يعزز ذلك حيث قال تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ﴾1.
 
ثامناً: إن هاتين المرأتين اتخذتا مكاناً دون القوم تنتظران أنْ ينتهي الناس من سقاية أغنامهم حتى يتسنى لهما الاقتراب من الماء، وهذا يعني أنهما لم يقتربا من الماء حرصاً على عدم الاختلاط بالرجال، ولو اقتربتا لكان بإمكانهما السقاية لكنهما قالتا ﴿لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ أي لا نسقي



1 سورة القصص، الآيتان: 23 – 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
154

139

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 حتى ينتهي الجمع من السقاية فنسقي لغنمنا، ولعل موسى أكبر فيهما ذلك فقام وسقى لهما. 

 
تاسعاً: من الواضح أن البيئة التي كان يعيش فيها نبي الله شعيب عليه السلام كانت بيئة ضاغطة لما هو معلوم أنّ موضوع السقاية هو موضوع يومي وهاتان الفتاتان عليهما الانتظار يومياً حتى يصدر الرعاء ولم يفكر أحد من الناس أن يُخفف عنهما هذا الجهد احتراماً لأبيهما النبي عليه السلام أو على الأقل احتراماً لكبر سنّه، مما يكشف أن القيم كذلك كانت مفقودة، وما تصدِّي نبي الله موسى لهذا الأمر إلا دليل على ذلك، ومع ذلك فإن هذه البيئة الضاغطة لم تجعل أيّاً من هاتين الفتاتين ترضخ لهذا الواقع لتتنازل عن شيءٍ من القيم والمبادئ التي تقتنع بها.
 
عاشراً: ما يؤكد أنّ الجمال الذي يجعل الرجل يفكر بالزواج هو الجمال الروحي أولاً قول نبي الله شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾، لأن كلتيهما تتمتعان بهذا الجمال الروحي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
155

140

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 وبالتالي فكلتاهما جديرتان بالزواج من نبي الله موسى عليه السلام، يبقى وإن كان هناك حق في اختيار إحداهما إلا أن الجدارة مرهونة بالجمال الروحي أولاً وكأنه يريد أن يقول له "إختر أي واحدةٍ منهما فكلتاهما جديرتان بهذا الزواج"، وأما الجمال الجسدي والظاهري فلم ينكر الاسلام دوره في الرغبة الجسدية عند الرجل إلا أنه يقع في المرتبة الثانية.


أحد عشر: إنّ ما يزيد في عفّة المرأة وعدم لجوئها لإبراز جسدها سعي الأهل لتزويجها خلافاً لبعض من يتوهم أنّ ذلك ممّا يُرخصّ الفتاة وأنهم يجعلونها في معرض الطلب، وأنّ على الشاب أن يبذل الغالي والنفيس ويسعى بكل ما أوتي من قوة ليفوز بها، والحال أن ذلك لا يساهم في بقاء الفتاة متجلببةً بجلباب العفة والطهارة في نفس الزوج، بل إنّ سعي الأهل لزواجها ممّن هو جديرٌ بها عامل مساهم في حفاظ الفتاة على قيمتها المعنوية وعدم اللجوء إلى الوسائل الرخيصة اصطياداً للرجل.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
156

141

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 ولا يخفى أن الظاهر من كلام النبي شعيب عليه السلام أنّ حديثه مع النبي موسى عليه السلام كان بحضور الفتاتين لما هو واضح من الفرق بين ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ﴾ وهو معنى تام يحسن السكوت عليه، وبين قوله (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) والذي يظهر منه حضور الفتاتين لأن كلمة (هاتين) تستعمل للحاضر لا للغائب، وهذا لا يخدش في الحياء لأن الكلام منصرف إلى المجال الذي ارتضاه الله وليس إلى أي ساحةٍ محرمةٍ أخرى.

 
إثنا عشر: إن مما يزيد في الجمال الروحي للفتاة ابتعادها عن الجوانب الشخصية في الحديث فهاتان الفتاتان لم يُعرّفا عن نفسيهما بأنهما إبنتا النبي شعيب عليه السلام، أو يحدثانه عن حال اضطهاد الناس لهما وأنهم لا يسمحون لهما بالسقي حتى ينتهوا جميعاً، بل هما لم تطلبا المساعدة من موسى عليه السلام، لما هو واضح من قولهما ﴿لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ إنهما اتخذتا قرار الانتظار حتى يفرغ الجميع حرصاً على عدم مخالطة القوم، بل إنّ جلّ ما قالتاه إنّ أباهما شيخٌ كبير وهذه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
157

142

المحاضرة الرابعة: المرأة والجمال في التصوُّر الإسلامي

 إشارة تحمل شيئاً من تبرير خروجهما لهذه المهمة كونهما فتاتين ملتزمتين، فهما تجيبان عن سؤال افتراضي قد يُشكك بعفتهما لوجودهما عند تلك البئر من أجل السقاية.

 

 

 

 

 

 

158


143

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾1.
 
الهدف: 
بيان بعض الأسباب الواقعية التي ساهمت في انتشار بعض أشكال الستر غير الشرعي.



1 سورة النور، الآيتان: 30 ـ 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
159

144

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 المقدَّمة

إنّ أهم سؤال يواجهه الطرف الآخر المصرّ على ترويج ثقافة السفور هو لماذا كل هذا الإصرار على إبراز مفاتن المرأة والمتاجرة بجسدها وتسليع المرأة بأبشع أشكال الفجور؟ لماذا كل هذه البرامج التي لا تُظهر من المرأة إلا جمال جسدها؟ ولماذا كل هذه الدعايات التي تصرّون على وجود عنصر المرأة الفاتنة فيها حتى ولو كان موضوعها أجنبياً عن موضوع المرأة؟ ولماذا كل هذه الأفلام المنتشرة في العالم والتي تحاولون الرفع من شأن هذه الأفلام بتضمينها مشاهد مثيرة وأحياناً إباحية؟ ولماذا ولماذا......... ألستم أنتم من جعلتم المرأة ضحية وسلعة، ألستم أنتم من تعاطيتم مع المرأة بطريقة استهلاكية؟ ألستم أنتم من هدرتم كرامتها على حساب امتلاء جيوبكم وأرصدتكم؟ ألستم أنتم من عطلتم الجوانب العلمية والمعنوية والأخلاقية للمرأة حتى جعلتموها جسداً بلا روح؟ ثم رفعتم بعد ذلك شعارات الحرية للمرأة تضليلاً وزوراً وأنتم أكثر الناس إجراماً بحقها بل أنتم قاتِلوها واقعاً وحقيقةً. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
160

145

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 وممّا لاشكّ فيه أنّ أسباب الانحراف عن الضوابط الشرعية كثيرة ومتعددة وتختلف باختلاف البيئة والظروف والبلاد وحتى الأشخاص، لكن ما يهمنا هنا هو تسليط الضوء على بعض هذه الأسباب العامّة والتي تمسُّ مجتمعاتنا الإسلامية. 


1- ضعف الحصانة الإيمانية والثقافية سيِّما ما يرتبط بموضوع الحجاب: وأعني هنا عدم التركيز على الأبعاد الثقافية والمعنوية والروحية وغيرها عند المرأة المحجبة، فليس المطلوب أن نلزم بناتنا بارتداء الحجاب دون أن نشرح لهنَّ معنى الحجاب وأبعاده وأهدافه، أو نقدم لهنَّ أدلة ضعيفة شآبه بضرورة مراعاة البيئة والمناخ الذي نعيش فيه، وحتى لا نكون عرضة لاستفهامات الآخرين واستنكاراتهم وما شابه من الأمور التي تُبقي الحجاب أمراً متزلزلاً في النفوس قد يُنزع مع أوّل ريحٍ ثقافية. 

2- التأثر بالثقافات الدخيلة على مجتمعاتنا: فلا شكّ أنّ السفور جزء من ثقافة يُروّج لها داخل المجتمع المسلم تحت 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
161

146

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 عناوين تبهر المرأة وتجذبها كموضوع الحرية والمساواة وتقديم النماذج اللافتة في عالم الغرب لزحزحة المرأة المسلمة عن قيمها وتراثها وعادات المجتمع الإسلامي وعن وصايا الرسول الأكرم والأئمة الأطهار عليه السلام. 


3- التعلُّق بآيات وأحاديث العفو والرحمة والتوبة دون سواها من الآيات والأحاديث: وهذا من الأمور الخطيرة لأنه لا تبرر فيه المرأة لنفسها عدم سترها بالشكل الشرعي فحسب بل تُرّوج لثقافة دينية هي في الواقع لا علاقة لها بجوهر الدين، فكيف يُعقل أن يأمر الإسلام بواجبٍ ما ويفرضه ثم بعد ذلك يتسامح مع المتجاوزين عنه، بل إنّ في ذلك تدميراً للمبادئ والأصول من جذورها. 

4- ارتياد المرأة أماكن التجمُّعات العامة لغير حاجة كالأسواق والمقاهي العامة: وهذه من الظواهر التي انتشرت في الآونة الأخيرة حيث بات الخروج إلى السوق لا للتسوق والجلوس في الأماكن العامة يُشكل ضرورة حياتية وعملاً مفروضاً يجب الالتزام به، وهذا يُخالف المناخ العامّ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
162

147

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 للشريعة الذي أوصى بعدم خروج المرأة إلى الأماكن العامة إلا لضرورة.

 
5- هَوَسُ الاهتمام بمجلات الأزياء والموضة: والسؤال هنا: هل واقعاً هذه المجلات بما تختزنه بريئةٌ من الترويج لثقافة معينة؟ وهل هذه الشركات العالمية التي تنفق مليارات الدولارات على هذه الأزياء وهي تبتغي الربح لا تُروّج في الوقت ذاته لمفاهيم جديدة عن مفهومي الحجاب والستر؟ ألسنا في معرض التأثر شيئاً فشيئاً بهذه الثقافات الغريبة حين نجد في أنفسنا هوساً لاقتناء هذه المجلات.
 
6- عدم تحمُّل أولياء الأمر أو الأزواج لمسؤولياتهم، فلا تجد المرأة من أحدهم نصحاً أو إرشاداً أو اعتراضاً على ما ترتديه: ولو كان هذا الأمر سهلاً ومن الأمور التي يمكن التهاون فيها فلماذا أمرنا به الله بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾، واللافتُ هنا أن الخطاب موجّه للمؤمنين وذلك لأنّ الحفاظ على إيمانهم في وجه التحديات المستمرة يحتاج لهذا النوع من التنبيه والتحذير المستمر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
163

148

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 7- سوء عشرة بعض الأزواج لزوجاتهم أو هجرانهم لهنّ: فالبيت هو الحضن الدافئ الذي يجب أن ينعم الجميع فيه بالراحة، كما نهت الشريعة الرجل أن يكون أهله أشقى الناس به، فعندما تكون هذه البيئة والحاضنة مما يجلب التعاسة والشقاء للمرأة فمن المتوقع أن يكون ذلك سبباً لخروج المرأة عن الضوابط الشرعية إلى مكانٍ تنشد فيه راحتها وسعادتها.


8- مصاحبة رفيقات السوء: وأعني هنا الصديقات اللاتي لا تجمعنا معهنَّ ثقافة مشتركة وليس هناك مساحة واحدة حول الكثير من المفاهيم الدينية والمجتمعية، وتشتدُّ هذه المسألة في النساء اللواتي لا يملكن إيماناً قوياً واعتقاداً راسخاً بحيث يكون احتمال التأثير فيهنَّ احتمالاً كبيراً، نعم لا مانع من انفتاح الطبقة الراسخة في الاعتقاد والايمان على أي امرأة أخرى من أجل هدايتها وإقناعها بالمفاهيم الدينية والإيمان بالشرع الحنيف.

9- التشجيع والثناء من بعض من لا خلاق لهم: حيث يلجأ
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
164

149

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 بعض النسوة إلى التغرير بالمرأة من خلال مدحها والثناء عليها وأنها جميلة وحرام عليها أن تستر جسدها وأن الإيمان بالقلب وليس بالأفعال وسوى ذلك من العبارات المعسولة التي قد تؤثر في بعض ضعاف الإيمان فتنسلخ عن مبادئها لحساب ضغوصات الواقع الاجتماعية والحياتية.

 
10- إعطاء مساحة كبيرة من الوقت للأمور الدنيوية: وهذا مما يسبِّب الغفلة وما ينتج منها من طول الأمل ونسيان الموت والاستخفاف بالأمور التي تربط المرأة بالآخرة مما يُفقد المرأة حصانتها تباعاً. وهنا أشير إلى مسألة مهمة وهي أنّ الأمور الدنيوية اليوم باتت من الكثرة بحيث تستهلك وقت الإنسان وزيادة وتحجب عنه أنوار الآخرة إذا استسلم لإغراءاتها.
 
11- عدم الاهتمام بالعبادات لا سيِّما المستحبَّات: والمراد هنا أنّ هناك فارقاً بين مؤمن جعل الآخرة أكبر همّه وبين آخر جعل الدنيا أكبر همّه، والقرآن الكريم صريح بقوله ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، فهو يُحدثك عن أمرٍ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
165

150

المحاضرة الخامسة: أسباب الاستخفاف ببعض الأحكام الشرعية عند النساء

 وكأنك قد نسيته أو تكاد فيقول لك إنه لا ينبغي لك أن تنساه بالمطلق، واليوم نحن بأمسّ الحاجة إلى إحياء المجالس الحسينية والمناسبات الدينية والأعمال الصالحة والإستعانة بالنذورات المستحبة المأثورة عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقراءة الأدعية والزيارات وغيرها من المستحبات التي تزخر بها كتب الأدعية والزيارات لتكون جزءاً من حياتنا اليومية.


12- الغيرة والمقارنة ببعض النساء الأخريات: وهذه المسألة من المسائل القاتلة في حياة الإنسان عامةً والمرأة خاصةً، فالمرأة التي تقضي وقتها تقارن منزلها بمنزل الآخرين وأثاثها بأثاثهم وحديقتها بحديقتهم ولباسها بلباسهم ونمط حياتها بنمط حياتهم وسوى ذلك سوف تؤجِّج عندها لهيب الحسد والمنافسة غير المشروعة والغرق في ظلمات الدنيا وغرورها، وهذا يُفقدها دورها ورسالتها وأجمل قيمها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
166

151

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 
 
تصدير الموضوع: 
﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1.
 
الهدف: 
 بيان بعض أشكال المحرَّمات الرائجة اليوم للمرأة والتحذير من فتنة السقوط فيها. 



1 سورة النور، الآية: 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
167

152

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 المقدَّمة

لا شكَّ أنّ محافظة المرأة على حجابها وسترها الشرعي من أكبر التحدِّيات التي تعيشها سيَّما في الوقت الراهن الذي كثرت فيه التحدِّيات المتنوعة التي تريد حرف المرأة عن المدار الذي رسمته لها الشريعة الاسلامية الغرّاء وحصَّنتها به، وقد استنفر أعداء الأمة لهذه الغاية آلاف المؤسَّسات الإعلامية والثقافية والتجارية لخرق جدار الضوابط الشرعية والنيل من حصانتها الإلهية ووفق مخططات مدروسة تهدف بعد بضع سنين الى تحويل الحجاب إلى زيٍّ كبقية الأزياء فاقداً لروحيته متنكراً لخلفيته الفكرية والثقافية لا يرمز إلى عقيدة وليس له أي دلالة وبالتالي يسهل القضاء على حجابها وسترها.
  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
168

153

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 إلا أنه وبعيداً عن مختلف الإغراءات الهادفة والتي تغزو بلادنا تحت عناوين لافتة وجاذبة وبرَّاقة فمن المفيد التعرُّض لبعض هذه المفردات التي قد يُخيَّل للبعض أنها مطابقة للموازين الشرعية إلا أنها في الواقع بعيدة كلَّ البعد عنها، ونحن هنا سنقدِّم بعض النماذج التي جمعناها من وسط المجتمع والتي راجت مؤخَّراً عند بعض الفتيات الملتزمات حتى باتت غير مستهجنة.


ويمكن تقسيم هذه الموارد إلى ثلاثة أقسام أساسية: 
1- ما يرتبط باللباس.
2- ما يرتبط بالزينة.
3- ما يرتبط بالتواصل.

أولاً: ما يرتبط باللباس
وقبل الدخول في تفاصيل المخالفات الرائجة اليوم لا بد من التذكير بالأمور التالية: 
أولاً: إنّ الحجاب الشرعي وفقاً لفتاوى كافَّة المراجع والفقهاء 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
169

154

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 هو اللباس الذي يستر بدن المرأة.


ثانياً: إنّ حجاب الموضة أو الحجاب غير الشرعي يشكّل تشويهاً لصورة الحجاب وطعناً في جذوره الفكرية.

ثالثاً: إنّ الحجاب هو مسؤولية شرعية، وهو المظهر والشكل الذي يجب أن تنطوي تحته أخلاقية العفاف وسلوكيات الطهارة، وهذا ركن أساسي في مفهوم الحجاب تؤديه المرأة المرتدية للحجاب وإلا فإنّها إنْ لم تتخلّق بأخلاق الحجاب، وهي بذلك تسيء إلى عموم المحجبات.

رابعاً: إنّ شرعيّة الحجاب لا علاقة لها بالتسميات، فهناك أزياءٌ غير شرعية بتسميات شرعية، ولذا علينا أن لا نقع أسرى المصطلحات والتسميات اللفظية. فغالباً ما يسيطر على قضية الأزياء ومصمِّمي الأزياءِ العقلُ الاستهلاكي الذي يستنزف أموال الناس، بحيث إنّ المرأة لا تكاد ترتدي الثوب مرة أو مرتين حتى تتخلى عنه لصالح الموضة الجديدة، وهذا إسراف بيّن وتسليع للمرأة..
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
170

155

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 1- لبس الثياب الفضفاضة المطرزة.

 
2- لبس الثياب الفضفاضة ذات الألوان اللَّافتة: والإسلام اعتمد في ذلك ضابطة أساسية وهي أن لا يكون اللون لافتاً بمعنى أن يكون عنواناً للإثارة والريبة عند الناظر.
 
3- لبس الألبسة القصيرة والضيقة: فالستر ليس أمراً خاصاً بالرأس في المفهوم الإسلامي كما يحاول البعض الترويج له، بل له علاقة بتمام البدن، فلا شكَّ أنّ ما ترتديه بعض النساء من ألبسة ضيقة مضافاً إلى حجاب الرأس يخالف الضوابط الشرعية. 
 
4- لبس الحجاب الذي لا يستر تمام الشعر: بحيث يظهر بعضه أو يظهر أعلى الصدر: وحرمة ذلك واضحة للمخالفة الصريحة لقوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾1
 
5- عدم لبس الجوارب عند الخروج أو لبس الجوارب الشفافة.



1 سورة النور، الآية: 31.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
171

156

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 6- حجاب الموضة أو "السفور المقنع": وهي ظاهرة انتشرت في مجتمعاتنا الإسلامية، حيث تسعى بعض الفتيات إلى ارتداء حجاب هو في الحقيقة أقربُ إلى السفور منه إلى الحجاب، أو قُلْ هو حجاب مخفف يكاد أن يُلامس السفور أو سفوراً مقنَّعاً، وهو حجاب تجمع فيه المحجبة برأيها بين الضغوطات الحياتية والواقعية التي تعيشها وبين قناعتها الفكرية بالحجاب وتربيتها على ذلك، فلا تنجرف مع الضغوطات فتذهب الى إشهار السفور، والتحرُّر الكامل من الحجاب،، ولا تتخلى - برأيها - عن قناعتها الفكرية وتربيتها الدينية.


يبقى أن نشير إلى مسألة وهي أنّ الضوابط الشرعية للباس لا تعني بأيّ شكلٍ من الأشكال جمود اللباس الشرعي على زيٍّ محدد، بل يمكن التنويع بكل تفاصيله سواء لجهة الشكل أو اللون أو نوع القماش أو مُراعاةً لسن الفتاة وشكلها وسوى ذلك لكنْ بما يتلاءم مع الضوابط الشرعية ولا يُخرجه عن الهدف الذي يُرجى منه.

7- لبس الكعب العالي والأحزمة التي تتوسَّط البدن وتفصِّلُه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
172

157

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 ثانياً: ما يرتبط بالزينة 

1- وضع الصباغ (طلاء الأظافر) وبعض الاكسسوارات كالرموش والأظافر الاصطناعية.

2- لبس النظارات الشمسية بقصد الزينة.

3- التبرج أمام النساء غير المؤتمنات: وذلك كالحضور في الأعراس.

4- ظهور ما زاد عن الكفين أثناء بعض المعاملات في الأسواق.

5- إبراز مفاتن الجسد أمام النساء: وهذا ما يحصل أحياناً في المسابح أو سهرات الأعراس الخاصة بالنساء.

6- إظهار لبس الخاتم.

7- خروج المرأة متعطرة ومتزينة.

8- استعمال أدوات التجميل: كأنواع البودرة المُلوّنة للبشرة وكحل العينين ووضع بعض الألوان على الشفاه، نعم لا يرى الفقهاء مانعاً في استخدام بعض المرطِّب للبشرة التي لا تستوعبُه البشرة ولا يبقى منه أيُّ أثر ظاهر.

9- تطويل الأظافر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
173

158

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 10- لبس العدسات اللاصقة بقصد الزينة.


11- إجراء بعض العمليات التجميلية غير الضرورية.

ثالثاً: ما يرتبط بالمعاملات
والمراد هنا ضرورة التنبه إلى مخاطر هذه التصرفات والتي قد يكون بعضها ليس محرماً، كما قد يكون البعض الآخر مرده إلى سرية المرأة وباطنها، وإن كان التأمل في المناخ العامّ لنصوص الشريعة الإسلامية يرى أن هذه السلوكيات من الأمور التي ينبغي الحذر منها واجتنابها.

1- التحدُّث بشكل غير لائق مع أصحاب المحالّ.

2- المزاح أو التحدث بنكات مضحكة مع غير المحارم.

3- مصافحة غير المحارم.
4- المراسلة يبن الشباب والشابّات.

5- المكالمات الهاتفية بين الشباب والفتيات.

6- جلوس المرأة مع الأقارب غير المحارم كصهرها أو أخ زوجها.

7- الخلوة مع غير المحارم: ولا نقول هنا بالحرمة بل لا شك 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
174

159

المحاضرة السادسة: أحكام بعض أشكال المخالفات الرائجة

 أن هذه الخلوة سواء في السيارة أو المصعد أو غير ذلك هو دخول إلى ساحة فتنة قد تقع وقد لا تقع، إلا أنّ الحصانة الروحية تقتضي عدم استسهال ذلك وتكراره كي لا يشكل مقدمة للوقوع في الخطأ.


8- الجلوس في الأماكن العامّة وتدخين النرجيلة.

9- المزاح والتحدث ببعض النكات المضحكة مع الآخرين.

10- ركوب الدراجة النارية أو الهوائية.

11- مضغ اللبان ( العلكة ) أمام الناس.

12- الصراخ والصوت العالي والصوت الملحن: وهذه من الأمور التي يجب على الفتاة المحجبة تفاديها حتى لو كان ذلك في قراءة القرآن أو مجالس العزاء الخاصة بالنساء والتي قد يصل الصوت فيها إلى مسامع الرجال.

13- القهقهة أمام الناس: وهو أمر واضح الدلالة على كونه شبهة ومحلّ ريبة وفتنة للرجال.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
175

160

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة



تصدير الموضوع: 
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "كيف بكم إذا فسد نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟! فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟! قال: نعم وشرّ من ذلك! كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟! قيل: يا رسول الله ويكون ذلك؟! قال: نعم وشرّ من ذلك! كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟!

الهدف: 
تبيان بعض الأمور العلاجية المساهمة في تعزيز ثقافة الحجاب والحد من انتشار السفور.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
177

161

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 المقدَّمة

لا شكّ أنّ مِن أهمّ أولويات العمل الديني اليوم معالجة القضايا التي تعتبر أكثر ألماً ووجعاً على المستوى الاجتماعي والأخلاقي العامّ، وضرورة المعالجة لقضية السفور والسفور المقنَّع وغيرهما من أشكال الإنحراف عن الضوابط الشرعية للحجاب لا تعني التشكيك بسريرة المرأة السافرة والطعن في عفتها من الناحية الفردية والجانب الشخصي للقضية، بل تشكل معالجةً لبعض الأبعاد العامة والمجتمعية للسفور ومساهمتة في الانحدار على المستوى الإيماني للمجتمع من والدفاع عن الحجاب الذي اعتبره الشرع رمزاً لكرامة المرأة، وبالتالي ضرورة تضافر الجهود واستثمار كافة الوسائل المتاحة للإنتصار لهذه القضية الدينية التي ترتبط بالشأن العامّ.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
178

162

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 1- التوعية الدينية: وذلك من خلال الانتصار للحجاب بالكلمة وبالقصة وبالموقف بوسائل الإعلام، وأن نشجِّع المحجبات ونعزز من ثقتهنّ بأنفسهنّ وحجابهنّ كي لا يشعرن أنّ الحجاب بالنسبة إليهن هو عبء أو تكليف يمتثلنه بدون وعي أو رغماً عن إرادتهنّ، وأن نكثِّف من الندوات حول فلسفة الحجاب وهدفه، وأن نكرم المحجبة، وأن نعوّد بناتنا على الحجاب منذ الصغر، وأن نعتبر أن الحجاب هو قضية إسلامية، وأنّ حماية هذا الرمز وهذا الواجب الشرعي هو من مسؤولياتنا.


نحن اليوم بأمس الحاجة لإعادة بناء العلاقة الروحية من جديد من خلال الرجوع إلى كتب الأدعية والزيارات وإقامة العلاقة القوية مع أئمة أهل البيت وضرورة قراءة القرآن والتركيز على الصوم المستحبّ ونوافل الصلاة والاهتمام بالأذكار والأوراد وسواها من الأمور التي تشكّل حماية لإيماننا وسياجاً لواجباتنا وحصانةً للقيم والمبادئ التي نؤمن بها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
179

163

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 2- تعزيز القيم الأخلاقية: كالحياء والعفة والغيرة التي توازن بين البعد الروحي والمعنوي للحجاب والبعد الظاهري له بحيث تكون المرأة المحجبة هي المظهر الأكمل لعنصر المرأة، وهنا أشير باختصار إلى بعض النصوص التي تحدثت عن هذه الموارد: 

أ- الغيرة: في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى غيور يحبُّ كلَّ غيور ولغيرته حرّم الفواحش ظاهرها وباطنها".
 
ب- العفة: ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "خير نسائكم العفيفة"1.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً "إن سعادة المرء الزوجة الصالحة"2.
 
ج- الحياء: ففي الحديث عن الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"3.



1 وسائل الشيعة، ج20، ص30.
2 ميزان الحكمة، ج2، ص1187.
3 الكافي، ج2، ص106.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
180

164

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 وفي حديث آخر "الحياء والإيمان مقرونان في قرن فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه"1.

 
3- تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وذلك بأن انتصارنا وانحيازنا للحجاب ورفضنا للسفور، فإن عدم اعتراضنا على السفور تشجيع لهنَّ على ذلك وتوهين للمحجبة على التزامها، وهذا ما أشار إليه الحديث السابق الذي أراد النبي الأكرم أن يقول لنا إياكم أن تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسوأ من ذلك أن إياكم أن تأمروا بالمنكر وتنهونا عن المعروف، وأسوأ منه أن تروا المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
 
نعم إنّ هذا المبدأ ينبغي أن يكون وفق الأساليب المحببة والجاذبة من الأسوة والرفق واللين ومراعاة الظروف والأشخاص والانفتاح على الجميع وتعريفهم بِقيم الدين وأخلاقه السامية وتقديم النماذج الكبرى في تاريخنا الاسلامي الماضي والحاضر.



1  الوافي، ج4، ص435.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
181

165

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 إنّ من أكبر الأخطاء التي تفشّت في بيئتنا الإسلامية اليوم أننا أصبحنا نعتبر الكثير من المنكرات التي يمارسها البعض جزءاً من حريتهم الشخصية وليس لنا أن نستنكر عليهم ذلك، بل وفتحنا على هؤلاء وفق منظومة المصالح والمنافع الحيويَّة حتى باتت العلاقة بِهم جزءاً من حياتنا اليومية، بل لا أبالغ إذا قلت إنّ البعض منا وبدل أن يترك بصمة تأثير في تلك المجتمعات فإنه ترك بصمة تغيير في سلوكه وتصرفاته بل وفي قناعاته واعتقاداته.


4- توفير البيئة الإيمانية: فالبيئة عنصر مهمّ في مجال التأثير والإنفعال به خاصة للناشئة والذين هم في فترة المراهقة والإنتقال من مرحلة عمرية إلى مرحلة أخرى. وكلّما ازدادت مساحة السفور أكثر كلما ازدادت نسبة انتشاره شيئاً فشيئاً، لأنّ مساحة بيئته تزداد وتكبر، ومن هنا وجب تحمُّل مسؤولياتنا بجدية عالية ومراقبة البيئة الخاصة بأهلنا وعيالنا من خلال إبعادهنّ عن أجواء الاختلاط ومراقبة الصديقات واختيارهنّ بدقة والاطلاع على الأنشطة التي يقمن بها في البيت أو المدرسة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
182

166

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 5- تحمُّل الأهل لمسؤولياتهم الدينية: من ضرورة المراقبة الدائمة لحجاب البنات وتصويب سلوكيَّاتهنَّ والتنبيه الإيجابي الدائم بمعنى بيان الجهات الإيجابية للستر والنواحي السلبية لأي تجاوز للحدّ الشرعي، وتأمين القصص والمجلات المفيدة والمتابعة الحثيثة في المدرسة والبيت، وتوفير الفصل بين غرف البنات وغرف الشباب في المنزل والاطلاع على الأشخاص الذين يتمّ التواصل معهم خاصة مع سهولة التواصل اليوم وتوفير مئات البرامج السريعة التي تمنحك سرعة التواصل مع من تشاء في كافة أنحاء العالم كالفيس بوك والتويتر والأنستغرام وسواها من البرامج والتي لا يخفى على ذي لُبّ أنّ هذه البرامج كلّها تحت النظر والمراقبة، وتجعل أسرارنا وأسرار أولادنا وبيوتنا في جعبة الآخرين قبل أن نطلع عليها بأنفسنا، وتقصِّي كافّة أسرارهنّ والتعامل معهنّ بمحبة ورفق ولين إلى غير ذلك من المسؤوليات الملقاة على كاهل الأبوين فيما يرتبط بالتربية الدينية وصلاح أبنائهم.

 

 

 

 

 

 

183


167

المحاضرة السابعة: ضرورة العلاج والمواجهة

 6- تحمُّل الأزواج لمسؤولياتهم: وذلك من قبيل توفير الأمن الأخلاقي داخل الأسرة ضرورة المعاملة بالحسنى كما ورد في مضامين الأحاديث ألا يكون أهلك أشقى الناس بك وملء الفراغات بالأمور المفيدة وعدم إفساح المجال من تلف الوقت على شبكات الانترنت والواتس أب والفيس بوك خشية الإنجراف وراء الفضاء الافتراضي المسموم والابتعاد عن العالم الواقعي، وضرورة معالجة كافة الأمور العالقة بين الزوجين بالكلمة الطيبة وديمومة التودد وتبادل المشاعر الجميلة حتى يبقى الجو الأسري بحراً كبيراً إذا تسلل إليه أي أمر غريب عنه وعن ثقافته فإن الأمواج العاتية سرعان ما تواجهه وتقذف به الى الشاطئ البعيد وتلقيه خارجاً.

 

 

 

 

 

 

184


168

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾1.
 
الهدف: 
بيان القواعد العامة لبناء قضية الانتماء عند الشباب.



1 سورة الكهف، الآية: 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
187

169

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 المقدمة 

يعتبر الانتماء من أهم العناصر التي تساهم في بناء شخصية الإنسان بشكلٍ عامّ وللشباب بشكلٍ أخصّ لطبيعة هذه المرحلة العمرية، وهي القاعدة الأساسية التي يجب ترسيخها حتى يمكن أن يُنطلَق منها للبناء عليها والسير نحو الأمام قُدُماً، ومن دون الانتماء يبقى الشابُّ بكافَّة وجوده يعيش على هوامش الجماعات الأخرى، واليوم إحدى أكبر المشاكل التي يعاني منها شباب اليوم هي الهوية المضطربة أو المتزلزلة في مقابل الهويات المتعددة التي يرى نماذجها العملية والتي يتأثر ببعض أفكارها، فيحاول أن يصوغ منها هويةً تناسبه، أو أنه يرى فيها ذاته وكماله بل وشخصيته المستقبلية. وهذا الانتماء لا يوجد عند المرء وليد لحظة، بل هو نتيجة تراكم جهود ضخمة، وهو بحاجة إلى توجيهٍ مستمر ومراقبة دائمة وتصويب من أهل العلم والمعرفة حتى يبقى انتماءً سليماً لا لبس فيه.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
188

170

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 لا شكّ أنّ الانتماء حاجة فطرية عند الإنسان وخاصةً الشباب الذي يرى ضرورة انتمائه إلى جماعة يكون جزءاً منها وتعبر عن حاجاته وطموحاته وتنسجم مع خصوصيات عصره على مستوى العلوم والمعارف من جهة وعلى مستوى التحديات المختلفة وسبل مواجهتها من جهةٍ ثانية.

 
ومن هنا فإنّ هناك قاعدتين أساسيتين يجب البدء منهما والبناء عليهما قبل الحديث عن أيّ بناء على مستوى الأبعاد المختلفة، لأنه ما لم تكن قاعدة البناء قاعدة صلبة ومحكمة فإنّ البناء عليها سيكون بناءً على الرمل، وبالتالي فإنه مهدَّد بالسقوط والإنهيار، وهاتان القاعدتان هما: 
1- تعميق الانتماء.
2- تعزيز الانتماء.
 
أولاً: تعميق الانتماء 
وفي مقام الحديث عن هذا الجانب يمكن العمل على النقاط الثلاث التالية:
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
189

171

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 1- تقوية الرؤية التوحيدية: بمعنى تعزيز حضور الله في حياة الشباب وما يترك ذلك من أثر في سلامة عقيدته وتحصينه في وجه التحدِّيات، فلا يكون هذا الحضور حضوراً شكلياً، بل حضور يبعثُ الروح في نفسه فيحمل هذه الرؤية كرؤية ثورية يتمرد من خلالها على الواقع السيِّئ ويعمل لإصلاحه، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾1

 
وهذه الرؤية تتطلَّب التركيز على القرآن والمفاهيم القرآنية والتعمُّق بسيرة الأنبياء والأولياء لفهمها بطريقة واعية كمنهج ديني إيماني في مواجهة شتى أنواع الشرك ومشاريع الاستكبار وأن لا يكون هذا الحضور حضوراً باعثاً على الحياد والإنطواء.
 
2- تمتين وترسيخ القضية: فللشباب دور هامّ في انتمائهم إلى الحق في هذا الصراع الانساني والحضاري والتاريخي، فهم ليسوا فئةً حيادية أو غير مبالية، وليسوا فئة متلقية وغير فاعلة



1 الأنبياء، 58-60.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
190

172

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 أوغير منتجة، بل هم العمدة وعليهم الرهان بعد الله، ولأن الانتماء حاجة فطرية فيجب المبادرة إلى ترسيخ الوعي عندهم بالقضايا الساخنة على امتداد العالم وتقوية بصيرتهم بما يجري حولنا، ولأنّ هذه الفئة يراهن عليها الجميع كان من الضروريّ العمل عليها قبل أن يسبقنا إليهم غيرنا ويصوغ لهم انتماءات وهمية ومُثُلاً عليا صناعية لا تمت إلى العقيدة والأخلاق بِصِلة.


3- تمتين الانتماء للمشروع: أي أنه بعد وضوح القضية يجب أن تتبنى فئة الشباب المشروع التغييري بكافة أبعاده الثقافية والفكرية والعسكرية لما يشكل ذلك من بعد ديني وإنساني، وأن تكون في صلبه فهم ضباط الحرب الناعمة وقادة الحرب العسكرية والسد المنيع في وجه الحرب النفسية والحرب الإعلامية، سيما وقد شهدت ساحتنا تجارب رائدة على مستوى التغيير والمقاومة وكان عنصر الشباب هو العنصر الحاسم والأساسي فيها.

ولا يخفى أنّ الانخراط بهذا المشروع يعني استنفار هذه
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
191

173

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 الشريحة على العلم والمعرفة والإيمان والأخلاق والهوية وبناء المجتمع وسد ثغراته وتحمل المسؤوليات الجسام من أجل النهوض بالمجتمع نحو الكمال والرقيّ وتوفير أسباب السعادة له.


ثانياً: تعزيز الانتماء 
والمراد هنا أنه لا بد من تشخيص المشكلة التي يواجهها الشباب بشكلٍ مباشر، والسؤال المركزي هنا هو: لماذا نرى شبابنا اليوم منتمياً ومفاخراً بهويته ثم لا يكون سلوكه وأولوياته مُتطابقةً مع هذه الهوية؟ أين الخلل القائم بين النظرية والتطبيق؟ وهل هذه المشكلة ثقافية أم تربوية أم بنيوية؟ وهل إنّ شبابنا جُرفوا في الغزو الثقافي والحرب الناعمة التي يشنها الغرب بأقذر أسلحتها وأخذت منهم هذه المفاهيم المسممة مأخذها فبات الشابُّ عندنا تتنازعهُ أشكال متناقضة من الثقافات، فعقله في مكان، وقلبه وعواطفه في مكانٍ آخر وعاداته وسلوكياته في مكان ثالث.

وفي التشخيص الدقيق لهذه المشكلة نرى أنّ هناك فجوة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
192

174

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 كبيرة في بناء الشخصية الشبابية تجعلنا نميل بشكلٍ قويّ إلى أنّ طبيعة المشكلة هي مشكلة سلوكية.


وإذا كانت المشكلة كذلك فلا بد من التوجُّه نحو مسارين أساسيين: 
الأول: تحديد المواصفات المعيارية التي تمكننا من تحديد الخلل، ثم نحدد المطلوب، ثم نعمل على العلاج لردم الهوة بين ما هو قائم وما هو مطلوب.

ومن الطبيعي أن لا يكون العمل عشوائياً على مختلف الصفات رغم أهمية أيّ صفة كمالية في بناء الشخصية، بل المطلوب العمل على خصوص الصفات الأساسية والتي هي محلّ حاجة وابتلاء.

ويمكن تقسيم هذه الصفات إلى قسمين: ما يرتبط بالمعرفية وما يرتبط بالنمطية والسلوك. 

أما المعرفية فتشمل المعرفة الفقهية والمعرفة المفاهيمية والاطلاع على الثقافة العامة والوعي الاجتماعي والمعرفة العلمية الأكاديمية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
193

175

المحاضرة الأولى: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (1)

 وأمّا النمطية السلوكية فتعني تقوية البعد الإنساني، فتشمل الأخلاق الاجتماعية من قبيل الأخلاق في الأسرة والعمل، كما تشمل مكارم الأخلاق كالوفاء بالعهود والصدق والصراحة والشفافية والقناعة والعفة والإنفتاح على الآخر والسلامة البدنية واحترام الوقت.


الثاني: تحديد أهم الاستراتيجيات لاجتياز هذه المراحل نحو الهدف المطلوب ومن ثَمَّ البدء بالعلاج: ونعني بها مختلف أبعاد الشخصية الشبابية التي يجب العمل عليها والتي تُشكل بمجموعها نموذج الشخصية الشبابية الإيمانية المنشودة، وهذا المحور ما سنبينه بالتفصيل في المحاضرة القادمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
194

176

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 
 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾1.
 
الهدف: 
بيان أهم أبعاد الشخصية الإيمانية للشباب التي ينبغي التركيز عليها.



1 سورة سبأ، الآية: 46.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
195

177

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 المقدَّمة

لا يخفى أنّ التعامل مع شريحة الشباب سواء الذكور أو الإناث يجب أن يخضع لدراسات علمية معمَّقة ودقيقة ومعرفة تفصيلية بكافّة أبعاد وجوانب هذه الشخصية، وأنَّ أيَّ سلوك تجاههم له آثاره التي قد تستمرّ لفترات طويلة، بمعنى أنّ الجهة التي يجب أن تعمل على إدارة هذا الأمر والأخذ بيد الشباب إلى شواطىء الأمن والأمان والإبداع يجب أن تكون فئة واعية فاهمة لطبيعة وتركيبة هذه الشريحة المحددة من الناحية العمرية مخافة أن نفسد حيث نريد الإصلاح ونشوّه حيث نريد الترميم وندمر ونحن نتوهَّم أننا نبني في الطريق الصحيح. 

فالمسؤولية كبيرة وجسيمة ولها تبعاتها في الدنيا على مستوى بناء هذه الشخصية وما نجنيه في الآخرة على مستوى الأجر والثواب إن أحسنّا العمل وأتقنّاه أو نحصد سيئات ما اقترفت أيدينا إن أسأنا التعامل مع هذه الأمانة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
196

178

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 التعليم والتدريب 

ضرورة ترسيخ الأهمية الكبرى التي تحتلُّها قضية التعليم بمختلف أشكاله، فالتعليم يمثِّل الركيزة الأساسية لإعداد وتأهيل الشباب بشكل عامّ، وبالتالي فإنّ التخلُّف والتبعية رهينتا الجهل، والواقع العالمي يشهد اليوم بهذه الحقيقة الدامغة، فالعلم يساهم في: 
1- بناء قدراتهم العقلية والذهنية والنفسية.
2- غرس القيم والثقافة والمعتقدات.
3- يُكسب الشباب المهارات والقدرات والخبرات العلمية والمهنية والحياتية التي تمكنهم من بناء شخصياتهم الفردية والجماعية.
4- يُساهمُ في حلّ مشاكلهم الاجتماعية على وجه الخصوص.
5- يُعِدُّهم للعمل والإنتاج وبناء حضارة مجتمعهم الذي ينعمون فيه بالحياة الكريمة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
197

179

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 الثقافة والمعرفة

تعتبر الثقافة الدينية والعامة من أهمّ مؤشّرات الوعي والبصيرة لدى فئة الشباب لا سيما ما يرتبط بالأمور الحياتية المعاصرة، فالثقافة في عصرنا الحاضر أمرٌ واجب على شريحة الشباب لأنها المساحة الابتلائية الكبرى التي تُبث فيها الشبهات والإشكالات.

ومن هنا فإنه من الضروري التركيز على قراءة المقالات المفيدة والكتب النافعة ومطالعة كافة الكتابات العلمية المعاصرة لا سيما في المجالات المؤثرة في تغيير الواقع والإجابة عن التحديات الثقافية التي يشنّها الأعداء، واعتبار المطالعة مكوّناً أساسيّاً من مكونات الثقافة عند الشباب، وإيلاء الاطلاع على الثقافة الغربية اهتماماً خاصاً وفهمها بكافة تفاصيلها وبيان أفخاخها ومخاطرها وضرورة التمييز بين المنظومة العلمية والسلوكية لحضارتنا الإسلامية والحضارة الغربية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
198

180

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 العلماء والمساجد

تعتبر الثقافة المسجدية الثقافة الأكثر أصالةً والأقوى في عالم التربية وبناء الشخصية الإيمانية عند الناس لا سيما عند شريحة الشباب لأنها تربط هذه الشريحة بطائفة العلماء والمبلّغين الذين يمتلكون هذه العلوم والمعارف الضرورية، ومن هنا لا بد من التركيز على محورية المسجد في حياة الشباب وبناء العلاقة الخاصة بين الشاب من جهة والعالِم والمسجد من جهةٍ أخرى.

كما أنه من المهمّ أن تُقام الحلقات الفقهية وجلسات الوعظ والسهرات العلمية الثقافية في المساجد والمنازل وإشراك الشباب في التحضير لهذه البرامج وتصنيفهم ضمن لجان تهتمّ بالعمل المسجدي والشأن العامّ، وإقامة الجلسات الحوارية مع الشباب والتركيز على الموضوعات الحساسة والإبتلائية والاهتمام بالأسلوب والعرض واحترام الرأي الآخر وعدم التعصب أو الإساءة حفظاً لنجاح هذه البرامج واستمراريتها بشكلٍ دوري.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
199

181

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 المدوّنات السلوكية

ولا نبالغ إذا قلنا إنّ المشكلة السلوكية عند الشباب أصبحت ظاهرة متفشية لا تقتصر على أفراد وإلا لما كانت مشكلة أصلاً، وإنّ الهوة القائمة بين النظرية والتطبيق تحتاج لمعالجة واعية تُعمّق النظرية من جانب تجنباً للسطحية الهشة وتجذب الشباب نحو التطبيق من جانبٍ آخر من خلال النماذج السلوكية العالية المرتكزة على سيرة العلماء وقصص الشهداء وروايات المجاهدين.

والمدوّنات السلوكية مظهر من مظاهر الحضارة والرقي في أي مجتمع وعامل الجذب الأساسي وأقوى نقاط القوة في أي مجتمع، ومن الضروري قراءة هذه المدونات بطريقة معمّقة ومتصلة ببعضها البعض لا على شكل مفاهيم مجردة ومبعثرة لا تُشكّل أي حافز نحوها.

وهذه المدونات السلوكية يمكن أن تنقسم إلى قسمين: 
- قسم عامّ يشمل كافة الشباب من إخوة وأخوات
- قسم خاصّ وهذا القسم ينقسم إلى نوعين نوع خاصّ بالأخوة ونوع خاصّ بالأخوات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
200

182

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 سلامة البدن

1- اعتبار سلامة البدن وعافيته مقدمة ضرورية لكل غاية جليلة سواء على مستوى خدمة الناس أو الدفاع عنهم أو المشاركة بالأنشطة والأعمال التطوعية.

2- ضرورة توسيع المتنفَّسات الشبابية لا سيما الرياضية والترفيهية وتنويع وتحديث نشاطاتها، ومن المفيد هنا بناء القرى الرياضية لأنواع الرياضة المختلفة مثل تسلق الجبال، وألعاب القوى والقفز بالمظلات… الـخ.

البناء الروحي
ويكتسب هذا المحور أهمية خاصة على صعيد بناء الشخصية الإيمانية للشباب لما للمعنويات وعلو الهمة والعزيمة والشجاعة والتضحية والتفاني والإيثار من دور فاعل في توازن الشخصية الإيمانية وبلورة مفهوم العطاء عند الشباب من خلال النماذج المؤثرة لا سيما كربلاء وسيرة الأئمّة الأطهار.

إنّ الرفاه المادي والعيش الرغيد والإنفاق بلا حساب 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
201

183

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 ليست من الأمور التي ينبغي أن يجعلها الشاب أكبر همه، بل المطلوب تأمين العيش الكريم في هذه الحياة الدنيا والإنصراف نحو تحمُّل المسؤوليات الجسام التي يبني الشاب من خلالها آخرته.


إنّ كثيراً من الأمراض التي يعاني منها شباب اليوم من التوتر والقلق والسهر غير المجدي وعدم التوازن والميل نحو العنف والأذى والتفاخر بالمظاهر كلّها من الأمور التي يمكن التخلُّص منها من خلال بناء جادّ للبعد الروحي والمعنوي في حياة الشباب. 

إنّ هذه الأمراض وغيرها ليست سوى نتيجة طبيعية للإنبهار بثقافة الغرب الذي يبثُّ المفاهيم البراقة في مجتمعنا مما يجذب الشباب نحوها لكن سرعان ما يتبين بطلانها وهشاشة القواعد التي بُني عليه هذا البناء فينهار عند أول استحقاق ليبقى صاحبه فريسة الضياع والتوتُّر كما سرعان ما يُصاب الشباب بردات فعل قاسية قد تؤدي بحياته أو إصابته بأمراض مستعصية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
202

184

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 التطوع والخدمة العامة

والمراد بهذا المحور هو تنمية روح المسؤولية لدى الشباب والمبادرة الى فعل الخير والعمل الصالح وتفجير الطاقة الشبابية في الأمور النافعة والمفيدة للمجتمع، وأنّ صلاح المجتمع ليس حكراً على فئة دون أخرى، بل يجب على الجميع تحمُّل هذه المسؤولية ومواجهة التحدِّيات الصعبة وإنجاز القضايا الكبرى بدون انتظار أي أجرة أو بدل، وإنما العمل بروحية التقرب إلى الله والنجاة يوم القيامة. قال تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾1.
 
المقاومة
وتعتبر اليوم أهمّ مشروع شبابي وأرفع قضية حاضرة تحقق الذات والانتماء وتنتج التفاعل والشراكة في صناعة المستقبل الفكري والسياسي والاجتماعي للأمة.



1 سورة الإنسان، الآيتان: 8 ـ 9.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
203

185

المحاضرة الثانية: الشباب ومشكلة الانتماء والهوية (2)

 والمقاومة ليست حكراً على حمل السلاح بل يتعدى مفهوم المقاومة ذلك ليشمل كافّة جوانب العلم والثقافة وخدمة الناس وبذل الوقت والمال والجهد.

 
والمقاومة في المفهوم الإسلامي تكتسب صفة الجذب بما تختزن من مفاهيم رائدة على المستوى الأخلاقي والروحي للمجاهدين والشهداء بشكل أساسي قبل الحديث عن الكمالات الأخرى من عدّة وعتاد وعديد وتحقيق انتصارات، بل يجب تكريم هؤلاء الشباب الذين كتبوا بدمائهم سبيل التحرر والانعتاق من تسلُّط الأعداء. قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾1.



1 سورة الأنفال، الآية: 60.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
204

186

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 
 
تصدير الموضوع: 
عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، فقال رجل: أيعدلان؟ قال: نعم"1.
 
الهدف: 
عرض لبعض أوجه التعامل مع أزمة الفقر من الناحية الدينية وبعض سبل علاجاتها.



1  كنز العمال - ج6، ص493.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
205

187

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 المقدَّمة 

يُعَدُّ الفقر مشكلة اجتماعية بل ومن أهم وأخطر المشكلات التي تؤثر في كافة مناحي الحياة وتزداد خطورتها يوماً بعد يوم على فئة الشباب من الجنسين، سيما التي تعاني من البطالة في الغالب بحيث تترك آثاراً سلبية في نفسيات الشباب وتحرمهم من العيش الكريم وبالأخصّ في صفوف الخريجين من المعاهد والجامعات وتجعلهم يلجأون إلى اتباع طرق غير سوية في العيش تضر بهم وبالمجتمع، ولا يخفى ما لتأثير صلاح أو فساد هذه الشريحة على صلاح المجتمع وفساده، ونحن اليوم بأمس الحاجة من أي وقت سابق في عصر العولمة وانفتاح العالم على بعضه البعض إلى درأ أخطار هذه التقنية التي تدخل إلى بيت كل شاب وتبرمجه وفق مشاريع الغير وتبعده عن الخطّ الذي أراده الله له. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
206

188

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 نظرة الإسلام إلى الفقر

إنّ المتتبِّع للروايات التي تحدثت عن الفقر يرى أنها على طائفتين: منها ما مدح الفقر وأعلى شأنه ومنها ما ذمّه وحضّ من قيمته.
 
أمّا روايات مدح الفقر فأشارت بالمضمون إلى أنّ الفقر فخر رسول الله وزين عند الله يوم القيامة وهو مخزون عند الله بمنزلة الشهادة يؤتيه الله من يشاء والفقراء أصدقاء الله والفقر راحة وأنّ من أحب السلامة فليؤثر الفقر، وفي روايةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لما سئل عن الفقر قال: "خزانة من خزائن الله"، قيل - ثانياً -: يا رسول الله ما الفقر؟ فقال: "كرامة من الله"، قيل - ثالثا -: ما الفقر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "شيء لا يعطيه الله إلا نبيّاً مرسلاً أو مؤمناً كريماً على الله تعالى"1.
 
وأمّا روايات ذم الفقر فاعتبرته الموت الأكبر وسواد الوجه في الدارين ومن قواصم الظهر وهو مذلة للنفس، مدهشة



1 ميزان الحكمة، ج3، ص2443.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
207

189

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 للعقل، جالب للهموم والقبر خير منه.

 
وعن الإمام علي عليه السلام - لابنه الحسن عليه السلام -: "لا تلم إنساناً يطلب قوته، فمن عدم قوته كثرت خطاياه، يا بني! الفقير حقير لا يُسمع كلامه، ولا يُعرف مقامه، لو كان الفقير صادقاً يسمونه كاذباً، ولو كان زاهداً يسمونه جاهلاً. يا بني ! من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله، والرقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه، فنعوذ بالله من الفقر"1.
 
وفي مقام الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات قال العلماء: الفقرُ يستعمل على أربعة أوجه: 
الأول: وجود الحاجة الضرورية، وذلك عامٌّ للإنسان ما دام في دار الدنيا بل عامٌّ للموجودات كلّها، وعلى هذا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾2، وهذا الفقر بحسب وجود الإنسان وليس المشار إليه بالروايات.



1 ميزان الحكمة، ج3، ص2441.
2 سورة فاطر، الآية: 15.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
208

190

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 والثاني: عدم المقتنيات، وهو المذكور في قوله: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ﴾ – إلى قوله - ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ﴾1، ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾2. وهذا النوع من الفقر ليس ممدوحاً أو مذموماً بالأصل بل بحسب تعامل المرء معه، فإنْ صَبَرَ كان ممدوحاً وإنْ لم يصبر كان مذموماً كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا معشر الفقراء! أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا"3.

 
الثالث: فقر النفس، وهو الشر المعني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "كاد الفقر أن يكون كفرا"4، وهو المقابل بقوله: "الغنى غنى النفس"، والمعني بقولهم: "من عُدِمَ القناعة لم يفده المال غنى". وهذا الفقر هو الفقر المذموم في النصوص.
 
الرابع: الفقر إلى الله المشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهمَّ أغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك"، وإياه قصد 



1 سورة البقرة، الآية: 273.
2 سورة التوبة، الآية: 60.
3 المحجة البيضاء، ج7، ص330.
4 ميزان الحكمة، ج3، ص2441.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
209

191

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 بقوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾1، وهو الفقر الممدوح في الروايات.

 
وفي الحقيقة أن الفقير هو مَنْ لم يقدِّم من ماله شيئاً يحتسبه عند الله، فإنّ الغنى والفقر بعد العرض على الله فلا فقر بعد الجنة، ولا غنى بعد النار.
 
في مقام العلاج
إنّ عدم الاهتمام والتجاهل عن تنامي بعض المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والتي أخذت بالتوسع والانتشار مستهدفاً آثارها السلبية المجتمع بشكل عام والشباب على وجه الخصوص سوف يؤدي إلى استفحال وتعقد هذه المشاكل بحيث يصعب بعد ذلك السيطرة عليها ومعالجتها. ولننظر إلى المنحرفين من الأسر الفقيرة ومحدودة الدخل وهم يشكلون نسبة كبيرة من الشباب، فإذا استمر هذا الوضع على ما هو عليه فإنه سوف يدفع كثيراً منهم إلى اتباع طرق غير سوية في الحياة تضر بهم وبالمجتمع.



1 سورة القصص، الآية: 24.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
210

192

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 1- البعد الديني لأزمة الفقر: لا شكّ أنه وكما أشارت الروايات إلى ضرورة حسن التدبير والاقتصاد وعدم التشبه بإنفاق أصحاب الأموال، وما ورد من أنّ البر وصدقة السر وصلة الرحم وثقافة الاحتساب عند الله ومقاومة الشهوات تسهِّل الفقر وتنفيه، فعن النبي عنه صلى الله عليه وآله وسلم وقد سأله الفقراء: هل لنا أجر إذ نرى الفواكه في السوق فنشتهيها وليس معنا، نشتري به؟ قال: وهل الأجر إلا في ذلك1؟

 
إلا أن ذلك يبقى على المستوى الفردي، وأما على المستوى العامّ فنشير إلى عدة أمور معروفة لكن على سبيل التذكير. 
 
2- تحمل الأغنياء لمسؤولياتهم: فقد أوجب الله للفقراء حقاً في أموال الإغنياء، بل وابتلاهم بالمال ليرى إن كانوا سيؤدون حق الفقراء أو سيكون مالهم وبالاً عليهم يوم القيامة، فقد روي: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله.



1 كنز العمال: 16657.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
211

193

المحاضرة الثالثة: مشكلة الفقر والبطالة

 3- تحمل المسؤولين لمسؤولياتهم: من خلال خفض نسبة البطالة بين الشباب وتوفير فرص العمل بما يتلاءم والشهادات التي يحملونها واتخاذ بعض التدابير التي تخفف عنهم أعباء الإنفاق وتوفير بعض المستلزمات الضرورية لهم من قبيل الضمانات الصحية والتربوية إلى غير ذلك، فقد روي عن علي عليه السلام: "بؤسى لمن خصمه عند الله الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل".

 
ورُوي عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "اتخذوا عند الفقراء أيادي، فإن لهم دولة يوم القيامة"1.
 
4- إنشاء المؤسَّسات الشبابية: التي تسهّل أمور التعليم والتدريب المهني والفني وسحب القروض وتنمية الكفاءات واكتشاف المواهب وإيجاد البرامج البديلة من البرامج التي تساهم في انحرافهم وسلوكهم سبل التيه والابتعاد عن الله.



1 ميزان الحكمة، ج3، ص2445.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
212

194

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 
 
تصدير الموضوع: 
قال تعالى: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾1.
 
الهدف: 
تسليط الضوء على بعض الإشكالات التي تعرقل قضية الزواج عند الشباب واقتراح بعض الحلول.



1 سورة النساء، الآية: 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
213

195

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 المقدَّمة

تعتبر مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج من أخطر المشاكل التي يعاني منها الشباب حيث نجد اتجاهاً نحو المغالاة في المهور والمبالغة في تكاليف الزواج من حيث اشتراط وجود بيت أو شقة وفْقَ مواصفات محددة فضلاً عن إقامة الاحتفالات والولائم وشراء الحليّ من الذهب والمجوهرات والأثاث اللازم والراتب الوفير، وكل ذلك يجب على الشاب توفيره قبل التفكير بالزواج.

وتكتسب مشكلة غلاء المهور أهمية كبيرة نظراً لارتباطها العضوي بالزواج الذي هدفه المحافظة على النوع البشري، عن طريق إنجاب الأولاد وتكوين الأسرة، وبناء المجتمع الذي هو الوسيلة الوحيدة لإشباع حاجات الإنسان العضوية، كالجنس والأمومة والأمن والحياة والاطمئنان والحماسة والانتماء والتقدير والاحترام.

وقد أكد علماء الاجتماع على ضرورة إشباع هذه الحاجات وعلى أنّ الحرمان من تخفيفها يؤدي الى الكبت والصراع 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
214

196

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 ثم الاضطراب النفسي عند الأفراد، وتنعكس هذه الظاهرة على الشباب بالذات كونهم في بداية حياتهم ومستقبلهم وتطلعاتهم لتكوين أسرة وأولاد، ولكن ما يبدد أحلامهم وتطلعاتهم هو عامل المفاجأة عند بداية الخطوة الأولى في تقرير المصير الذي يريده الشباب في عقد الزواج وبدء حساباته بعد افتتاح الخبر وتقديم عريضة التكاليف لما يطلبه أهل العروس من مطاليب، وما هو سائد في المجتمع من أعراف وتقاليد يجب عليه الالتزام بها رغم أنفه وما تستجد ويدخل على المجتمع من إنفاق استهلاكي ترهق ميزانية العريس لسنوات إن لم يقترض من كل صديق وقريب ومعروف، ويقف الشاب هنا بين ثلاث خيارات إما أن يواصل مشوار حلمه أو الابتعاد أو الأحجام عن الزواج إلى فرصة أخرى أو إلى الأبد وهذا ما يضر بالمجتمع، علما ًأن تكاليف حفلة عرس لأحد الميسورين كفيلة بتزويج عشرات المعوزين. 

 

 

 

 

 

 

 

215


197

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 محاور الموضوع:

المهر من الأمور التي فرضها الإسلام للمرأة على الرجل فرضاً حتمياً لها حق التصرف فيه بحرية كاملة ولم يشترط الإسلام حدّاً أعلى أو أدنى للمهر فقد طلب رجل من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوجه المرأة التي وهبت نفسها للرسول الكريم إذا لم يكن له حاجة بها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه"؟ قال ما عندي إلا إزاري هذا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ان أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً فقال: إلتمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً فقال صلى الله عليه وآله وسلم هل معك من القرآن شيء؟ قال نعم سورة كذا وسورة كذا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد زوَّجتكما بما معك من القرآن".

موقف الإسلام من المغالاة في المهور وتكاليف الزواج
لقد حرَّم الإسلام المغالاة في المهور والإسراف في تكليف الزواج كونها من الأمور التي يترتب عليها كثير من الفاسد للمجتمع وذمَّ غلاء المهر معتبراً أنّ ذلك من عوامل
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
216

198

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 عرقلة التزويج، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أمّا شؤم المرأة فكثرة مهرها وعقوق زوجها"1.

 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل نساء أمتي أصبحهنَّ وجهاً وأقلهنَّ مهراً"2.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "خير الصُّداق أيسره"3.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صُداقها، وتيسير رحمها"4.
 
فإذا اشترط الزيادة شرطاً لإتمام العقد وأصرّ على الامتناع عُدَّ عاضلاً.
 
الأسباب التي أدت إلى المغالاة في المهور وتكاليف الزواج
يمكن إرجاع الأسباب إلى جملة من النواحي التالية: 
1- الجهل بالأمور الدينية المتعلقة بأحكام الزواج وشروطه، وعدم الاقتداء برسول الله وسنته الحسنة بتزويج بناته وفقراء المسلمين.



1 الأمالي، الشيخ الصدوق، ص311.
2 الوافي، ج21، ص62.
3 ميزان الحكمة، ج3، ص1182.
4 ميزان الحكمة، ج3، ص1182.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
217

199

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 2- قصور عملية الإرشاد الديني والخطب الهادفة الى معالجة مشاكل المجتمع وعلى الأخص مشاكل الشباب وبالذات مشكلة الزواج وتكاليفه.


3- قُصور دور الوسائل الإعلامية في هذا النحو.

4- عدم الأخذ برأي المرأة المخطوبة في تحديد المهر وتكاليف الزواج فعادةً ما يستأثر ولي الأمر برأيه.

5- عدم الأخذ بتشريع يحد من هذه الظاهرة يلتزم به الجميع.

6- التأثر بالمفاهيم الترفيهية الاستهلاكية واعتبار الإسراف والمبالغة في التكاليف نوعاً من الوجاهة الاجتماعية.

7- جهل أولياء الأمور بحيث يعتبرون بناتهم سلعة للبيع بأغلى الأثمان.

8- العامل الاقتصادي الناتج عن العمل التجاري والصناعي والزراعي فكلَّما كانت الأسر أكثر ثراء وأكثر دخلاً كلَّما أدى إلى مزيدٍ من المغالاة والبذخ في التكاليف ومحاولة الآخرين تقليدهم.

9- الأمية بكل مستوياتها وأشكالها وتساهل المجتمع وقواه القادرة على التغيير في هذه المشكلة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
218

200

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 الآثار السلبية لمشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج 

أصبحت مشكلة تؤرِّق المجتمع متأثراً في قواه الفاعلة وهم الشباب طاقة الأمة ومستقبلها، فقد حُوّلت المرأة إلى سلعة تباع وتشترى ولكن في سوق الزواج وخاصة حينما يتم التساوم على المهر والشرط (غالٍ ورخيص) وحين يُفهم المهر على أنه ثمن للاستمتاع بالمرأة واستخدامها كيدٍ عاملة داخل البيت وخارجه والآلاف من الدولارات وغيرها من المظاهر المكلفة التي تؤدي إلى تأثيرات سلبية يمكن حصرها بصورة موجزة كما يلي: 
1- إحجام أو تأخر سنّ الزواج لكلّ من الشاب والشابة ودخولهم في مرحلة العنوسة.

2- عدم الاستقرار النفسي للشباب.

3- عدم الاستقرار الاجتماعي الناتج من حرمان تكوين الأسرة.

4- سلوك بعض الشباب سلوكاً انحرافيّاً مثل سرقة أو اختلاس أو نصب من أجل توفير المبالغ اللازمة أحياناً.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
219

201

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 5- عدم الاستقرار الوظيفي للشباب، فهناك شباب من الجنسين يرغبون في الزواج ولهم نفس القدر من المال ولكن الآباء وخاصة والد الفتاة أو أمها يقفون حائلاً أمام ذلك بطلباتهم التي لا تنتهي عند سقف محدد.


6- سلوك انحرافي في إشباع الغريزة الجنسية بأشكال محرمة.

7- قد يؤدي غلاء المهور إلى الزواج من أجنبيات وخاصة عند المغتربين في الخارج من الطلاب وغيرهم.

8- من أجل توفير مؤونة الزواج قد يضطر الشباب إلى ترك الدراسة والبحث عن العمل أو الهجرة خارج الوطن.

9- تؤثّر تكاليف الزواج في شيوع مظاهر الاستهلاك الترفي الذي يعزز من الفوارق بين الأغنياء والمقتدرين والفقراء.

10- تؤدي تكاليف الزواج المرتفعة في التعرض إلى القروض والاستدانة من الآخرين ودخولهم في مشاكل وهموم لا تنتهي بسرعة.

11- تسود في بعض مجتمعاتنا ظاهرة إطلاق النار التي تزيد من التكاليف وتزيد من الآثار السلبية التي قد لا تُحمد عقباها وكلها مظاهر مكلفة وتفاخر مظهري زائف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
220

202

المحاضرة الرابعة: مشكلة غلاء المهور وارتفاع تكاليف الزواج

 الحلول والمقترحات للحدّ من ظاهرة المغالاة في المهور وارتفاع تكاليف الزواج

1-الاهتمام بدراسة الظاهرة بشكل عامّ دراسة ميدانية علمية.

2- ترسيخ القيم الدينية في المجتمع وتقديم النماذج القدوة من خلال المسؤولين والشخصيات الهامة وقادة المسيرة لذلك والتركيز على الأعراف والتقاليد الحسنة.

3-التوعية الدينية المستمرة وعبر الوسائل الإعلامية بمختلف المنابر والمناسبات بخطورة هذه الظاهرة.

4- ضرورة تحسين الأوضاع المعيشية لذوي الدخول المحدودة من الفئات الفقيرة وغير القادرة على الزواج.

5- محاربة العادات السيئة التي تؤدي إلى زيادة تكاليف الزواج.

6- تشجيع الأعراس الجماعية لتسهيل تكاليف الزواج ودعمها بشتىّ الطرق.

7- تعليم الفتاه وتوعيتها بحقوقها الشرعية ومحاربة ظاهرة تعسف وليّها في تزويجها أو تطليقها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
221

203

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 
 
تصدير الموضوع: 
قال الله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى﴾1.
 
الهدف: 
بيان بعض العقبات التي تمنع الانسان من الاستفادة في شهر رمضان والحثّ على الخلاص منها.



1 سورة النجم، الآيات: 39 ـ 41.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
225

204

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 مقدَّمة: 

إنّ الإسلام يحثُّ الإنسان على اغتنام عمره وانتهاز الفرص التي يتيحها الله تعالى في العمر، بل يشجع على أن لا تتوقف قدما الإنسان عن السعي والسير في طريق السموّ والتكامل، بل يلفتنا القرآن الكريم إلى كون الجمود وعدم العمل هو بعينه تراجع، وهذا ما توضحه سورة العصر التي تقول: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ محدِّدةً سبل تلاقي الخسران بالقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾1 كما جاء في السنَّة الشريفة ما يؤكد مضمون سورة العصر إذ جاء الحديث الشريف ليقول: "من تساوى يوماه فهو مغبون"2.
 
فالإسلام يحثّنا ويحفّزنا على مواصلة التقدم والتطور، والسعي الدائم إلى التغيُّر الإيجابي باتجاه الأفضل والأحسن والأكمل، ويعتبر القرآن الكريم أنّ مسيرة التكامل مكتوبة على الإنسان مع الجهد والتعب والكد حتى يلقى الله تعالى: 



1 سورة العصر، الآية: 3.
2 أعيان الشيعة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
226

205

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾1.

 
فعلى الإنسان أن يعلم أنّ تكامله منوط بالجدِّ والإجتهاد وعدم التواني والضعف وعدم التراخي، على أن يكون سيره باتجاه كماله ورقيِّه في ضوء ما رسمته له يد العناية الإلهية من أهداف وأدوار ووظائف، تعود نتيجتها وثمرتها على الإنسان نفسه في عاجل الدنيا والآجل حيث يُجزاه الجزاءَ الأوفى.
 
ومن الفرص التي أتاحها المولى تعالى للإنسان لتضاعف سيره نحو كماله ورقيِّه شهر رمضان حيث قدَّرت يد العناية الإلهية أن تجعله موسماً يتلقَّى فيه الإنسان شحنةً ملكوتية داعمة لمسيرته من حيث تَضاعُفُ الآثار المترتبة على سعيه وعمله، تنقله بخطوات عملاقة من الحضيض إلى قمم الكمال الإنساني.
 
عقبات في طريق التكامل: 
على الإنسان المؤمن خصوصاً أن يلتفت إلى أنه رغم أنّ الله أعاننا في شهر رمضان لنتزود منه للآخرة ما ينجينا ومن



1 سورة الإنشقاق، الآية: 6.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
227

206

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 منازل القرب منه والأمن يدنينا، وبالرغم من تصفيد الشياطين وغلّها وحبسها عن الوسوسة في الصدور، إلا أنّ الواقع يشهد أنه ثمة عقبات تعترض طريق الإنسان نحو الكمال المنشود، وتعوق خطاه في مسالك التقدم والتطور، بل تعرقل مسيره وربما تشلُّ حركته ولا إخالُ أننا نحتاج إلى كثير جهد وتأمل لنرى ذلك في واقعنا وحياتنا.


فما هي أهمُّ الأمراض الموهنة لعزمنا، والمعوقة لخطونا وكيف يمكن علاجها؟

وعلى سبيل الإختصار نعرض لبعض هذه العقبات فيما يلي: 
1- الإستسلام لليأس: 
بمعنى أن يفقد الإنسان الأمل بإمكانية التغيُّر والتحسُّن، فيشعر بأنه مقهور أمام ضعف إرادته، وعيوب نفسه، وما يواجهه من عقبات ومشاقَّ في مسيره نحو التكامل، ذلك أنه من الطبيعي ولكون الإنسان في ظرف هو الدنيا وما يجاهده هو النفس وميولها والشياطين ووسوساتها أن يكون سلاح
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
228

207

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 الشيطان الأفعل هو تيئيس الإنسان من إمكانية النجاح في تربية وتزكية النفس، وسلاحه في ذلك أمران ميل النفس إلى الراحة وأنسها بما تعوَّدت عليه، وكذلك الآلام والمصاعب التي يصادفها الإنسان في طريق تكامله والتي أخبرنا الله مسبَّقاً عنها بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾1.

 
وهذا من الإعداد النفسي للإنسان باخباره عن صعوبة الولوج إلى ميدان التغيير على أنه ثمة مساعدات أخرى منها غلّ الشياطين في الشهر الشريف، أضف إلى الترغيب فيه خصوصاً في شهر رمضان من خلال مضاعفة الأجر فيه، "إنّ شهر رمضان شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات ويرفع فيه الدرجات"2.
 
وثانياً: من خلال تسهيل وتهوين مشاقِّ العبادة وخصوصاً الصوم في شهر رمضان حيث قال عن مدة الصوم إنها: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ﴾3 ليلتفت من يرى المشقَّة والصعوبة



1 سورة الإنشقاق، الآية: 6.
2 الأمالي، ص109.
3 سورة البقرة، الآية: 184.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
229

208

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 في عبادات الشهر الشريف أن عليه أن يذهب للمقايسة بين هذه المشاقِّ والصعوبات وبين قِصَرِ المدة من جهة وعظيم الأثر والجوائز المترتبة عليه، فالإلتفات إلى هذه المقايسة يهوِّن المشاقَّ والصعوبات ويوجد دافعاً للعمل، فضلاً عن أنّ مضاعفة آثار الأعمال ونتائجها تُخرِجُ الإنسان من اليأس في إمكان تدارك التقصير ومعالجة ما فرَّط به واقترفه من آثام، فيغدو الشهر باباً يحصِّل الإنسان فيه صكَّ أمان من عواقب ما أسلف من آثام لكونه شهر التوبة، ولكونه تدريباً على تقوية الإرادة. فشهر رمضان يوفِّر الشعور لدى الإنسان بإمكانية التغيير ويشحذ الهمَّة للعمل فلا يتراجع أمام عقبات ومشاقِّ طريق التقدُّم والتطوُّر.


2ـ الغرور: 
إنّ الإنسان قد يكون متخلفاً وفي زمرة المتخلفين، ويبقى كذلك ردحاً طويلاً من الزمن مأخوذاً بكل ما يلقيه في جُبِّ الغفلة ويُعمي بصيرته ويعطِّل قواه العاقلة عن رؤية حقيقة واقعه، بل قد يحسب نفسه في الطريق الصحيح فلا يفكر
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
230

209

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 بأن يصوِّب مسيرته في حياته. وقد أوضح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بعض هذه الآفات والأمراض حيث قال: "سُكْرُ الغفلة والغرور أبعد إفاقةً من سُكر الخمور"1.

 
ذلك أنّ المغرور إنسان يتجمد على ما هو عليه من حال وواقع فلا يسعى للإصلاح إن كان على خطأ ولا للإستزادة إن كان على الجادة، ولذا فهو حقيقة وواقعاً فقير مسكين كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "المغرو في الدنيا مسكين"2.
 
فالغرور مرض خطير يشلُّ طاقات الإنسان ويسوِّغ له جموده وتأخره ويغلق أمام بصيرته نوافذ الإشراف على آفاق التطور والتقدم والتغيير، فالغرور يقتل الشعور بالحاجة إلى التحسن والتطور.
 
ولذا نرى أنّ الإسلام جاء ليحثَّ على اغتنام فرصة الشهر الشريف إذ يفرض على المسلم سلوكيات تخرجه عن ما تعوده في حياته في غيره من الشهور، كما يحثّ على أن لا يقتصر هذا التغيير على الإمساك عن الطعام والشراب، بل 



1 ميزان الحكمة، للريشهري، ج2، ص1222.
2 بحار الأنوار، ج69، ص319.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
231

210

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 جاءت خطبة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لتقول للمسلمين إنّ على المسلم أن يضع خطة وخريطة ويرسم برنامجاً ليستفيد من شهر رمضان وبينت الكثير من خطوات ومراحل هذا البرنامج، العبادية، والإجتماعية، والمعرفية.


خاتمة: حذارِ من التغيُّر السلبي: 
ومن الأمراض التي نجدها في زماننا الحاضر هو هذا الإنحراف الممنهج في التعامل مع شهر نزول الوحي، وشهر ليالي القدر، وربيع العبادة ليغدو شهر الكسل، وشهر النوم، وشهر المسلسلات والحفلات حفلات الطرب والرقص... والإختلاط السلبي... ولا أقلها من كونه عند البعض شهر شهوة البطن بالتفنن بألوان الطعام والمأكل والمشرب وغير ذلك مما لا تتسع له الصفحات هذه.

فبدل أن يكون شهر رمضان شهر النهوض والثورة على الواقع المنحرف يغدو شهراً للثورة ضد التغيير الإيجابي، شهراً يسير فيه الإنسان عكس طريق التكامل والرقي، فالإسلام يريد شهر رمضان شهراً ينتصر فيه الإنسان لبعده الملكوتي وجنبته
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
232

211

المحاضرة الأولى: شهر النهضة الروحية

 الروحية فيما البعض يجعله شهراً للإنغماس في وهاد البهيمية والحيوانية والمادية، ولعلَّه لذلك لَفَتَ الله إلى مناسبة الصوم بكونه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾1.

 
والروايات ذكرت أنه فيه أنزلت الكتب السماوية الأخرى، القصد منه لفت نظر الناس والمسلمين خاصة إلى ملاءمته للبعد الروحي وهو الفترة المناسبة ليقوم الإنسان بالعناية ببعده الروحي بعد أن انكبَّ طيلة أحد عشر شهراً على البعد الحيواني، في الأغلب فهو شهر اختاره الله لإنزال رحمته وجعله ربيعاً للعبادة وموسماً للقرب منه، وهو شهر السياحة بالروح وعلى دابة الجسد في ميادين القرب منه تعالى.



1 سورة البقرة، الآية: 185.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
233

212

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 
 
تصدير: 
عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "مات أبو طالب بن عبد المطَّلب مسلماً مؤمناً"1.
 
الهدف: 
 بيان مظلومية أبي طالب (رض) وحقيقة إيمانه، وأهداف النيل منه (رض).



1 الغدير، ج7، ص390.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
234

213

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 مقدَّمة: 

إنّ من يطّلع على تاريخ المسلمين، وبالخصوص على سيرة وحياة الإمام علي عليه السلام وسواء في حياته أو ما حصل بعد شهادته، لا شك سيرى تلك المظلومية التي لحقت بهذه الشخصية المباركة والشريفة والسامية، عليّ عليه السلام بطل الإسلام وفدائيُّه الأول بل فدائيُّه الأكبر، الذي ملئت كتب الحديث والتاريخ بمناقبه ومواقفه، عليّ عليه السلام هذا لما جَبُنَ الرجال عن منازلته في سوح النزال والقتال وفي ميادين العلم والتقى، شُنَّت على شخصه ومقامه ومناقبه وتراثه غارات الألسن والأقلام يدفعها الحسد، حتى إنّ القوم وصلوا في حربهم عليه عليه السلام إلى النيل من أبيه أبي طالب سيد قريش ومؤمنها وسيد البطحاء. وأشدُّها ادعاؤهم أنه مات على الكفر واخترعوا لذلك أحاديث ونسبوا نزول آيات من القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كفره (رضوان الله عليه) بل في بقائه على الكفر وعدم تأثره بالهداية المحمدية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
235

214

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 كمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾1 ليصبح بذلك أبو طالب مظلوماً كإبنه الذي ما فتئ مظلوماً إلى يومنا هذا وليزداد علي عليه السلام مظلومية إضافة إلى مظلوميته وهو الذي جاء في زيارته يوم المبعث الشريف وصفه بأنه "معجزة رسالته" أي رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 
إثباتات إيمان أبي طالب عليه السلام: 
في هذه العجالة لن نذكر كل ما يثبت إيمان أبي طالب عليه السلام ولكن سنذكر بعضها إذ إنَّ في البعض كفاية "﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾2 فمن هذه الأدلة والإثباتات: 
1ـ أقوال أبي طالب عليه السلام: 
فقد نقل الحاكم النيسابوري له شعراً يقول فيه: 
لِيْعْلَمْ خيارُ الناسِ أنّ محمَّداً         وزيرٌ لموسى والمسيحِ ابنِ مريمْ
أتانا بَهدْيٍ مثلَ ما أتيا بِهِ             فكلٌّ بأمرِ اللهِ يَهْدي ويعتصِمْ



1 سورة القصص، الآية: 56.
2 سورة ق، الآية: 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
236

215

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 ومنها قوله عليه السلام: 

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمداً       رسولاً كموسى خُطَّ في أولِ الكُتْبِ
 
وعن ما تنبئ عنه اشعار أبي طالب من إيمانه يقول العلامة ابن شهر آشوب المازندراني في كتابه متشابه القرآن عند قوله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾1.
 
"إن أشعار أبي طالب الدالة على إيمان تزيد على ثلاثة آلاف بيت يكاشف فيها من يكاشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويصحح نبوته"2.
 
يقول ابن أبي الحديد: "فكل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر، لأنه إن لم يكن آحادها متواترة فمجموعها يدلُّ على أمر واحد مشترك وهو تصديق محمد صلى الله عليه وآله وسلم"3.
 
2ـ مواقفه وتضحياته: 
من غير الخفي شدَّةُ مناصرة أبي طالب عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحمُّلِهِ في سبيل ذلك المشاقَّ والمصاعب



1 سورة الحج، الآية: 40.
2 إيمان أبي طالب، الأميني، ص18.
3 الغدير، الأميني، ج7، ص340.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
237

216

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 والآلام، فقد ضحى بمكانته وزعامته ووجاهته في قريش حتى تجرأت على حصاره مع الهاشميين في الشِّعْبِ المسمَّى باسمه. ومن تلك المواقف أنه عليه السلام افتقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فاستدعى فتيان بني هاشم وبني عبد المطلب وأمر أن يأخذ كلٌّ منهم في يده حديدةً أو سيفاً، ثم يقف عند أحد زعماء قريش، فإن رجع أبو طالب ومعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنَّ الأمر على خير، وإن رجع وحده، بادر كلُّ هاشميّ إلى ضرب رجل قريشي.


والسؤال البسيط الذي يتبادر إلى أي إنسان عندما يرى كلَّ ما فعله أبو طالب لحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحمايته ولضمان سلامته وما كابده جراء ذلك من معاناة ومشاق: لماذا لم يكن مرفوقاً ولو بجملة لومٍ وعتاب لإبن أخيه طالما أنه لا يوافقه على دينه ودعوته؟ هذا إذا تجاوزنا القول إنه لو كان كافراً فلماذا يتحمل كل ذلك؟ بل على العكس فإن أبا طالب كان يشجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإقدام في بثّ دعوته واعداً له بالنصرة والمؤازرة والحماية. فمن ذلك قوله شعراً: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
238

217

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 واللهِ لن يَصِلُوا إليك بجمعهم  

فاصدع بأمرِكَ ما عليك غضاضةٌ 
ودَعَوْتَني وعلمتُ أنك ناصحي 
ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمدٍ 
حتى أُوسَّدَ في الترابِ دفينَا
وابشر بذاك وقرّ منك عيوناً
ولقد دعوتَ وكنتَ ثمَّ أميناً
من خيرِ أديانِ البريةِ دينَا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
239

218

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 بل إنّ أبا طالب عليه السلام منذ أوائل البعثة آمن به إيمان الموعود به، المنتظر له، ولقد روي أنه في بداية الدعوة فاتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّه العباس باظهار الأمر، فاقترح عليه العباس أن يأتيا أبا طالب ويخبراه، فلما سمع أبو طالب ذلك قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اخرج ابن أبي، فإنك الرفيع كعباً، والمنيع حزباً والأعلى أبا... ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً، ولقد قال: إنّ مِنْ صُلْبي لنبياً لوددتُ أني أدركتُ ذلك الزمانَ فآمنتُ به، فمَنْ أدركَهُ من وُلَدي فليؤمن به"1.




1 إيمان أبي طالب، الشيخ الأميني.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
240

219

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 3ـ عدم تشنيع الأعداء: 

لقد ابتُلي الإمام علي عليه السلام بعداوات كثيرة لا سيما في فترة حكومته عليه السلام ومن هؤلاء وعلى رأسهم معاوية وبنو أمية وحزبهم وكذلك الزبيريون ومن كان لهم عوناً وحلفاً، فلم ينقل لنا أهل السير أنّ هؤلاء في مواجهتهم وعداوتهم لعلي عليه السلام كانوا يشنّعون عليه بكفر أبيه أبي طالب وهم الذين كانوا أحرص شيء على الإنتقاص منه عليه السلام ومحاولة النيل منه ومن قداسته، ولذا نرى عالماً كسبط ابن الجوزي يستدل على إيمان أبي طالب (رض) بأنه لو كان أبو الإمام علي عليه السلام كافراً لكان شنع عليه معاوية وحزبه، والزبيريون وأعوانهم وسائر أعدائه عليه السلام مع أنه عليه السلام كان يذمهم ويزري عليهم بكفر الآباء والأمهات ورذالة النسب1.
 
منها ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام لمعاوية في رسالة طويلة منها: "ليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق"2.



1 راجع أبو طالب مؤمن قريش (ط سنة 1398هـ)، ص272 و273 عن تذكرة الخواص.
2 الإمامة والسياسة، ج1، ص118، والغدير، ج3، ص254.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
241

220

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 خاتمة: 

بعد كل ما تقدم لا بد من القول إنه إن أردنا أن نكون منصفين فعلينا أن نحتكم في مسألة إيمان أبي طالب عليه السلام إلى النبي وإلى أهل البيت عليهم السلام فهم أهل بيت النبوة وهم أدرى بالذي فيه، فمما جاء عنهم عليه السلام في إيمان أبي طالب عليه السلام أنّ أبا طالب من الأوصياء، وكذلك أنّ نوره يطغى في يوم القيامة على كل نور ما عدا نور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة والسيدة فاطمة الزهراء عليه السلام1.
 
فضلاً عن أن الأحاديث الدالة على إيمان أبي طالب(رض) الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام أكثر من أن تحصيها وتحصرها هذه العجالة، وللتأكيد على ذلك فإنّ بعض العلماء عمد إلى جمع هذه الأحاديث في كتب مفردة ولكننا نذكر البعض منها فمنها: 
1ـ روي عن ابن عباس قال: قال الإمام علي عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم "إنك لتحبُّ عقيلاً! قال: إي والله إني لأحبه حبين، حباً 



1 الغدير، ج7، ص387.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
242

221

المحاضرة الثالثة: المظلومية المتوارثة

 له، وحباً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبة ولدك"1.

 
2ـ روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزَّ وجلَّ قال له على لسان جبرائيل: حرمت النار على صلب أنزلك، وبطنٍ حملك، وحِجْرٍ كفلك"2.
 
أمّا الصُّلب فعبد الله، وأمّا البطن فآمنة، وأمَّا الحِجُر فعمّه، يعني أبا طالب عليه السلام وفاطمة بنت أسد وَرَدَ بمعناه غير ذلك مع اختلاف يسير.
 
ومن الشهادات بإيمانه عليه السلام ذهاب مجموعة من أهل السنة إلى القول بإيمانه، بل القوا في ذلك الكتب والبحوث.
 
وأخيراً نقول إنّ البعض أراد أن يوجه سهامه المسمومة إلى صدر علي عليه السلام فلم يجد غرضاً يرميه بتلك السهام غير أبي طالب رضوان الله تعالى وسلامه عليه.



1 البحار، ج22، ص288.
2 أصول الكافي، ج1، ص371.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
243

222

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 
 
تصدير: 
 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة"1.
 
الهدف: 
 بيان شيءٍ من أخلاق الإمام الحسين عليه السلام والدعوة إلى الاقتداء به.



1 الفوائد الطوسية.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
255

223

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 مقدَّمة: 

إنّ علاقة بعضنا بالأئمة عليهم السلام تقتصر على معرفتهم معرفة تأريخية، لا ترقى إلى معرفتهم معرفة تُحقِّقُ التأثر العقلي والقلبي، بحيث تصبح هذه المعرفة مقدمة موصلة إلى محبتهم، والتأثر بهم والإقتداء بهم والإستقامة على نهجهم، والإرتباط العاطفي بهم. فالمطلوب أن نترقى بمعرفتنا بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً إلى مستوى الإنسجام في الشكل والفعل والمضامين لنصبح في درجة: "شيعتنا منا خُلقوا من فاضل طينتنا يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا"1.
 
فبعضنا باقتصاره على الإطلاع التأريخي يظلم نفسه بحرمانها من بركات تلك الشخصيات النورانية ويُبقي بين النور وظلمات النفس والعالم جدراناً أسمكُها جدارُ الجهل، وهم في وجودهم نور وكما جاء في الزيارة الجامعة "كلامكم نور".



1 مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة، ج4، ص144.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
256

224

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 فالذي يَقْصُرُ العلاقة على الجانب التأريخي يَحُدُّ من إشراقة النور المحمدي في نواحي وجوده فلا تصل إلى عقله ولا إلى قلبه ولا تنعكس في سلوكه.


وبهذا البيان يتضح أنّ من يجعل جُلَّ معرفته بآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلبة في وعاء التأريخ وأحداثه يكون قد بخَّس حقَّهم وظَلَمَهُم... ومن أشد المظلومين بهذه الظلامة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام.

ولذا فمن حُسْنِ العلاقة بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجعل المناسبات الخاصة مناسبة نتعرف بها على أبعاد شخصياتهم وبعض أخلاقياتهم وسلوكهم وليكون ذلك داعياً إلى تعظيم مقامهم في النفوس ثم اتباعهم والإقتداء بهم. وتعالَ لنستعرض شيئاً من مفردات من أخلاق وسلوك الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: 
1ـ يتعلم ويحمل العلم إلى طالبيه: 
من تفاصيل حياته أنه عليه السلام وقد كان عمره لا يتجاوز السنين السبع، يزاود مجلس جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً في مسجده الشريف، ويسمع ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم ويخبر به مما يجيء
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
257

225

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 به الوحي فيحفظ ذلك كله، ليأتي إلى بيت الإمامة العظمى، ليلقى أمه فيحدثها بما حفظه، وكم كان الإمام علي عليه السلام يدهش لعلم فاطمة عليه السلام بالتنزيل فيسألها عن ذلك فيأتيه جوابها عليه السلام: "من ولدك الحسن".

 
ويُروى أنّ علياً عليه السلام تخفّى ذات يوم في الدار، فدخل الحسن عليه السلام بعدما سمع الوحي، فأراد أن يلقيه إليها، فأرتج (أي اضطرب) فعجبت أمه من ذلك فقال عليه السلام: "لا تَعجبي يا أماه، قلَّ بياني وكلَّ لساني، لعلّ سيداً يرعاني"1 فخرج الإمام علي عليه السلام فقبلّه.
 
2ـ سيِّد أهل الجنة يتواضع: 
إنّ بعضّ الناس يترأس ويسود على مجموعة من الناس بغض النظر عن شرفهم وضعتهم، فيأخذه الكبر وينسى أصله، فيما كان الحسن سيِّداً لأشرف الناس وفي عالم لا يزول وبالتالي لا تزول سيادته له وكان المخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصادق الأمين حيث أنبأ عن وحي الله "أن الحسن



1 الأنوار البهية، ص88.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
258

226

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة"1 وكان عند الحسن عليه السلام أكثر من سبب ليشمخ بأنفه ويترفع عن الناس فالجَدُّ والأب والأم يضاف ذلك إلى علمه وما حباه الله من عزة وهيبة ومع ذلك فإنه يُروَى في تواضعه أنه عليه السلام مرَّ ذات يوم على فقراء جالسين على الأرض، يلتقطون كسيرات من الخبز، فدعوه وقالوا: "هلم يا ابن رسول الله وتغدَّ معنا، فنزل الإمام عليه السلام وجلس معهم وتناول شيئاً من كسيراتهم، ثم دعاهم إلى بيته فأطعمهم وكساهم وأعطاهم ما أغناهم".

 
3ـ من آيات حِلمه عليه السلام: 
يُروى أنّ رجلاً شامياً كان ذات مرة في المدينة فرأى الحسن عليه السلام بجماله وهيبته فدخل حبّه في قلبه وأعجب به فسأل فقيل إنه الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام فخرج من صدره ما تربى عليه من بُغضٍ وحقدٍ لعليّ عليه السلام وولده وقال: هذا بن أبي تراب!
 
متعجباً، ثم أطلق للسانه العنان سبّاً وشتماً على



1 أعيان الشيعة، ج1، ص580.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
259

227

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 الإمام عليه السلام فلما فرغ الشامي من نوبة حقده أقبل الإمام الحسن عليه السلام عليه وضحك فقال: أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبهت، لو سألتنا أعطيناك ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كانت لك حاجة قضيناها لك! فلو حركت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك لأن لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً. فلما سمع الرجل الشامي كلامه بكى ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾1 وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، وحوَّل رحله إليه وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم عليه السلام"2.

 
4ـ مقابلته للجميل: 
إنّ من أخلاق المؤمنين أن يجسدوا ما جاء منها في كتاب الله، ويترجموه في سلوكهم وأفعالهم، فالله عزَّ وجلَّ قد أقرّ 



1 سورة الأنعام، الآية: 124.
2 بحار الأنوار، ج، ص43، ص344.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
260

228

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 قاعدة تقول: "وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان"1.

 
بل ندب إلى ما هو أفضل من مقابلهَ الحسنة بأحسن منها بل حتى مقابلة الإساءة بالتجاوز عنها بل ردها بالإحسان، ومما يُروى من سموّ نفس الإمام الحسن عليه السلام ورفيع ورهافة مشاعره الإنسانية أنه قد جاءته جارية فحيته بطاقة ريحان (لعلها باقة ورد) فكان منه عليه السلام أن رد هذه التحية الرقيقة منها بأن بادرها قائلاً: "أنت حرة لوجه الله" فقيل له في ذلك فقال عليه السلام: "أدَّبنا الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾2 وكان أحسن منها اعتاقها"3.
 
خاتمة: أعبد أهل زمانه
انظر فيما سلف كيف جسّد الإمام الحسن عليه السلام أخلاق القرآن، ليصبح كما قيل في جده "كان خُلُقُه القرآن"وإذا عرَّجنا على علاقته بربه نجده في أسمى مراتب العبودية له والخشية منه وقد شهد له بعض من عايشه أنه كان أعبد أهل



1 سورة الرحمن، الآية: 60.
2 سورة النساء، الآية: 86.
3 مناقب آل أبي طالب، ج3، ص183.
4 مرآة العقول، ج3، ص236.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
261

229

المحاضرة الرابعة: من شذا خُلُق الحسن عليه السلام

 زمانه، فكان إذا حجَّ حجَّ ماشياً وربما مشى حافياً، وقيل إنه حجّ خمساً وعشرين حجّة ماشياً والنجائب تقاد بين يديه، وكان إذا قام إلى الصلاة ترتعد فرائصه، وكان لا يقرأ من كتاب الله عزَّ وجلَّ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ إلا قال: لبيك اللّهم لبيك، وأخيراً ما أحسن أن نحوِّل علاقتنا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام إلى نمط من العلائق ينمِّي عقولنا ويزكِّي نفوسنا، ويصحِّح العلاقات بيننا، لنجعل سيرتهم بساتين فوّاحة بعبيرها تملأ وجودنا وأجواءنا بعطرها القدسي. أوليس الحسن عليه السلام ريحانة من رياحين بستان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن روض علي وفاطمة عليهما السلام؟!

 
والحمد لله ربِّ العالمين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
262

230

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 
 
تصدير الموضوع: 
جاء في وصية الإمام علي عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام ما ضربه ابن ملجم (لعنه الله):  "أوصيكما بتقوى الله وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا نأسفا على شيء منها زوى عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"1.
 
الهدف: 
بيان أهمية وصية الإمام علي عليه السلام بالتقوى وكيف نحصل على هذه المَلَكَة.



1  نهج البلاغة، ص 421.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
263

231

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 مقدَّمة: 

إنّ هذه الوصية من أنفس وصايا الإمام علي عليه السلام وأهمها لأنها جاءت في أواخر عمره الشريف وبعيد تلقيه ضربة ابن ملجم اللعين واليقين برحيله عن العالم ولذا فمن المقطوع به أنه سيجعل فيها عصارة الوصايا وأولاها وأهمها، وهو عليه السلام إذ يبدأ بالوصية لولديه إلا أنه يعود فيصمم الوصايا ابتداء من قوله "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي" بما يلي هذه العبارة، ولقد أفردها فاصلاً بين مقدمة الوصية وبين ما بعدها لنلتفت إلى ذلك ونعتني به.

وحيث إننا لا نستطيع التعرض لكافة الوصايا الواردة نقف عند بعضها على أننا نؤكد على أنّ الوصية جاءت من جهةٍ شديدةَ التركيز والإنضغاط لكنها جاءت كذلك شاملة لمختلف جوانب الحياة، ولكي لا نطيل نستلُّ من هذه الوصية مفردةً ممَّا أوصى به عليه السلام وهي التقوى: 
1ـ التقوى معناها ومَنْ هم أهلُها؟
إن تقوى الله وصية أولياء الله من رسل وأنبياء وأئمة وهي 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
264

232

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 وصية الله كذلك في كتابه حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ﴾1.

 
سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير التقوى فقال عليه السلام: "أن لا يَفقِدَكَ الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك"2.
 
بمعنى أنّ التقوى هي الإنضباط في ضوء الشريعة في كافة جوانب الحياة، ويأتي في بيان ميادينها ما يلي: 
1ـ ترك المعاصي: 
عن الإمام علي عليه السلام: "المتقى من اتقى الذنوب"3.
 
2ـ المناعة النفسية: 
عن الإمام علي عليه السلام: "رأس التقوى ترك الشهوات"4.
 
وذلك يكون بتحصيل القوة النفسية أمام الشهوات، بمعنى امتلاك المناعة أمام أعزاء الشهوات وعدم التأثر بها، وهذا ما تلفت إليه الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "من ملك شهوته كان تقياً"5.



1 سورة النساء، الآية: 131.
2 ميزان الحكمة، ج2، ص2638.
3 ميزان الحكمة، ج2، ص2638.
4 المصدر نفسه، ج2، ص2638.
5 المصدر نفسه، ج2، ص2638.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
265

233

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 وبعبارة أخرى أن يتحرَّر الإنسان وبتحرير إرادته وسطوات الشهوات ومن يزينها. ويأتي في قمة الأمور المساعدة على تحصيل التقوى وزرعها وتنميتها صوم شهر رمضان إذ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾1.

 
كيف تحصل التقوى: 
1 ـ الوعي: 
إنّ جهل الإنسان بنفسه، وبمحيطه، وبزمانه وأهل زمانه، وجهله بالدين ومعالمه وأحكامه، وكذلك الضعف في الثقافة الإسلامية من أهمّ الأمور التي تسبِّب انحراف الإنسان بل ضياعه، ونحن نرى ما فعلت وسائل الإتصال الحديثة بالبشرية جمعاء وما تفعله بشبابنا وشاباتنا ومجتمعاتنا، فإنّ السير الأعمى بدون وعي وبصيرة وراء كلّ أمر متطور وحديث، والإصغاء إلى كلّ متحدث، والركون إلى كلّ خبر وكلّ وسيلة



1 سورة البقرة، الآية: 183.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
266

234

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 نشر للأخبار، تهشم إرادة الإنسان وتحرف سلوكه وتلبس عليه الأمور، بل تربي فيه سلوكيات وعادات، ولا أقلّ من بناء إلفة نفسية وحالة أنس بالمحرّمات، فعلينا أن نتعلم أحكام ديننا ونرفع مستوى معرفتنا بعقيدتنا لنحصن أنفسنا وأهلينا من السموم التي يلقيها الأبالسة في كلّ وسيلة متاحة لهم لينشروا الضلالة والضياع والإنحراف، وقد جاء ما يؤكد على ذلك من ما رُوي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "تمام التقوى أن تتعلم ما جهلت وتعمل بما علمت"1.

 
لذلك ينبغي لنا مجالسة أهل العلم والتقوى ونعود عند كل شبهة إلى مفكري الإسلام وعلمائه ونرتاد مناهل العلم من كتب ومواقع على شبكات التواصل موثوقة ومأمونة فهناك نجد ما يقينا ويحمينا من الأخطار، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لكل شيء معدن ومعدن التقوى قلوب العارفين"2.
 
فأهل الوعي والمعرفة والعلماء الربانيون هم المعين الذي منه نستقي ما نتحصن به من آفات وأمراض أهل الإنحراف والزيغ.



1 ميزان الحكمة، ج4، ص3638.
2 المصدر نفسه، ج4، ص 3636.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
267

235

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 2ـ المنبت الصالح

والمقصود به المنبت الذي يتربى فيه الإنسان، والمجتمع الذي يحيا فيه والأقارب والأصدقاء والرفقة التي يعاشرها.
 
فلو عاش الإنسان في أجواء فاسدة وأجواء يسودها الإنحراف والضلال فسوف يكون شديد القرب من الإنحراف والفساد والضلال كما قال نوح عليه السلام: ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾1.
 
وأمّا إن عاش الإنسان في أجواء من الصلاح والتقى والهدى فإن ذلك يصبح عاملاً مشجعاً على التقوى والصلاح وعلى العمل الإيجابي والصالح، وفي الغالب ينشأ الإنسان على التقى ولن يصعب عليه أن يصبح تقياً ورعاً، كما ربما يُستفاد من قصة مريم عليه السلام: ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾2.
 
إلا أنه لا بدَّ من لَفْتِ النظر إلى أنه ليس بالضرورة أنّ كلّ من نشأ وتربى وترعرع في أجواء فاسدة لا يصبح تقياً، وكذا 



1 سورة نوح، الآية: 27.
2 سورة آل عمران، الآية: 37.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
268

236

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 ليس كل من تربّى في أجواء الصلاح يصبح تقياً ويكفينا شواهد التاريخ وكذلك القرآن.

 
إلا أن ما نلفت إليه هو أنّ المحيط الصالح يشكِّل عنصراً مساعداً على سلوك طريق الصلاح والتحلّي بالتقوى بينما المحيط الفاسد يشكِّل عنصراً معوقاً يثبط ويثقل خَطْوَ الإنسان في طريق التقوى.
 
3ـ البناء الروحي والقيمي: 
إنّ من آثار المنبت الصالح والبيئة الصالحة والرفقة الصالحة تثبيت القيم الحقة، إذ ينشأ الإنسان على تمجيدها ومدح حامليها والمتحلّين بها، فتشكل في الوعي وفي اللاوعي مطمحاً تصبو إليه نفوس الناشئين في هذا المحيط. وهذا معنى من معاني المنبت الحسن، لكن ثمة أمر آخر وهو أن التقوى كقوة نفسية وإرادة وعزيمة باطنية تحتاج إلى مقويات ومغذيات تمدها بأسباب الرسوخ في النفس والإرتقاء في سماء الإنسانية لتزهر وتثمر عملاً وصلاحاً ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
269

237

المحاضرة الخامسة: التقوى وصية الإمام علي عليه السلام

 فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾1.

 
فمن يريد أن يكون تقياً عليه أن لا يتهاون في مدّ هذه الملكة بما ينمِّيها ويقويها من برامج روحية، كقراءة القرآن والتدبر فيه، وقراءة الأدعية والصلاة وخصوصاً النوافل وبشكل آكد صلاة الليل التي أمر الله بها رسوله وجعلها مقوياً له لتحمل القول الثقيل في سورة المزمل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾2.
 
ومن المساعدات والمقويات الروحية للتقوى ومثبتاتها في النفوس الصوم الواجب منه والمستحبّ، وهذا ما نجده إذا ما تفيأنا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾3.



1 سورة إبراهيم، الآيتان: 24 ـ 25.
2 سورة المزمل، الآيات: 1 ـ 6.
3 سورة البقرة، الآية: 183.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
270

238

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 
 
تصدير الموضوع: 
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾1.
 
الهدف: 
بيان مقام ومنزلة ليلة القدر.



1 سورة القدر، الآيتان: 1 ـ 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
271

239

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 مقدَّمة: 

الإنسان موجود زماني، بمعنى أنه في وجوده في الدنيا محكوم بالزمن، من حيثيات مختلفة لها علاقة بولادته وعمره، وعلمه وعمله، وفي علاقاته الإنسانية، وحتى في عباداته وعلاقاته بخالقه، فالصلاة بالنسبة للإنسان: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾1.
 
والحج: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾2.
 
وكذلك الصوم: ﴿عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا...﴾3 إلى أن يقول تعالى: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن...﴾4 ليقضي إلى القول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾5. والقاعدة هي ربط التشريعات العبادية الأساسية وحتى نظم العلاقات الإنسانية بالزمن: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾6.



1 سورة النساء، الآية: 103.
2 سورة البقرة، الآية: 197.
3 سورة البقرة، الآية: 183.
4 سورة البقرة، الآية: 184.
5 سورة البقرة، الآية: 185.
6 سورة البقرة، الآية: 189.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
272

240

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 إلّا أنّ الزمن من حيث وحداته صغُرت أو كبُرت لا تختلف عن بعضها فالساعة هي الساعة واليوم هو اليوم والسنة هي السنة والقرن هو القرن، إلّا أنّ الزمن قد يكتسب قيمة وأهمية إذا كان وعاءً لحدث ما، ويأخذ من الحدث وقعاً في النفوس من حيث التفاؤل والتشاؤم ومن حيث القداسة والبركة، ولكن لما كانت الحكمة الإلهية كاشفة أحياناً عن خاصية ما في مكان ما أو زمن ما فإنّ اختيار المولى لزمنٍ لأجل عبادة وطاعة ما، يكشف ربما عن خصوصية ما للزمن والمكان، فيغدو اختيار شهر رمضان لنزول القرآن ثُمَّ اختياره لفريضة الصيام كاشفاً عن إرادة إلهية أملَتها الحكمة والربوبية والكرم واللطف الإلهي، ولعلَّ ما جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديث أهل البيت عليهم السلام عن مضاعفة آثار الأعمال إمّا لخصوصية جعلها الله في الزمن، أو تكريماً من الله لنزول القرآن في ذلك الزمن. وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن عظمة وقيمة ليلة القدر، فما هي عظمتها وكيف تتجلى؟

 

 

 

 

 

 

 

273


241

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 عظمة ليلة القدر: 

1ـ زمن نزول أكمل الكتب على قلب خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم. 
 
2ـ العمل فيها خير من عمر كامل: 
وقد عبر عنها بقوله تعالى من قائل: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾1.
 
وهذا معناه أنّ بركة العمل فيها تعادل العمل في ألف شهر ثمرة ونتيجة في الآخرة وكذلك على النفس من حيث تكميلها وتزكيتها، وبها يظهر التدارك الإلهي لتقصير العباد بأن يتيح لهم أن يستثمروا ليلة واحدة في طاعته وعبادته يعوِّضون بذلك كلَّ ما فاتهم حتى لو كان عمراً كاملاً يعادل ألف شهر أي ما يقارب ثمانين سنة.
 
3ـ ليلة تنزل الملائكة والروح:
حيث ورد أنّ الأرض تزدحم بأفواج الملائكة والروح وهذه الليلة هي الوحيدة التي أخبر تعالى عن تنزّل الملائكة والروح فيها بما رمز إلى الرحمة والخير والبركة واللطف وقضاء الحوائج وتدبير شؤون المؤمنين والمخلوقات.
 
وأيضاً يرمز إلى مقام الولاية حيث تتنزل على الوليّ لتنقل إليه أخبار السماء في القابل من الأيام كما كانت تتنزل على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهي في تنزلها دليل على وجود حجة الله وبقية الله في أرضه.
 
4ـ وهي ليلة السلام: 
حيث قال تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾2 ولعلّ ذلك من بركات تنزل الملائكة والروح، فهي ليلة سلام وطمأنينة حيث يكون الإنسان ضيف الله عابداً لله، يدعوه والملائكة حيث قيل إنّ السلام هو سلام الملائكة على الداعين، وقيل كذلك إنها ليلة تبادل السلام بين الملائكة إذ يسلّم فوج صاعد على آخر نازل.
 
5 ـ هي ليلة التقدير: 
وهي ليلة وضع المخطَّط الإلهي لحياة الإنسان سواء كان 



1 سورة القدر، الآية: 3.
2 سورة القدر، الآية: 5.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
274

242

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 فرداً أو جماعة، بل حتى لجماعة الإنسان كلها، بما في تقديره تعالى من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وصحة ومرض، حيث أشار تعالى إلى أنّ التقدير فيها يشمل كل جليل وكل حقير: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾1.

 
لماذا التقدير في ليلة القدر؟
الحقيقة أنه كون ليل القدر هي ليلة نزول القرآن فهي ليلة سعد الإنسانية، فإكراماً لهذا الحديث وبياناً لفضله وبركته على الإنسانية جعل الله فيها التقدير للعباد. هذا من جهة ومن جهة ثانية أنه تعالى وهو اللطيف والربُّ الرحيم جعل ليلة تقدير الأمور في العشر الأواخر من أشرف الأشهر حيث يكون الإنسان قد بدت عليه آثار الصوم طاعة لله تعالى، فمن لطفه تعالى ورحمته كذلك أن يجعل ليلة تقدير الأعمار والأرزاق والأقوات والأحداث في الليلة التي يكون العبد فيها منشغلاً بعبادته تعالى تالياً لكتابه ساجداً وراكعاً مسبِّحاً وذاكراً يلهج بالدعاء بما علَّمه إياه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى فكأنّ الله لا



1 سورة الدخان، الآية: 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
275

243

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 يريد أن يضع مخطَّط عمر الإنسان في أزمنة الغفلة والمعصية حيث يكون الإنسان معرِّضاً نفسه للسخط الإلهي ولا أقل من الإهمال الإلهي وحيث لا تتدخل الملائكة لتتوسَّط للعبد عند الله ليزيد من رأفته وحلمه وكرمه.

 
خاتمة: كن مستعداً لليلة القدر: 
من ألطاف الله تعالى الزائدة أن أخفى ليلة القدر بين ليال ثلاث، ولعلَّ الحكمة أن لا يفوت الإنسان إحداها، وهذا ما ربما نتفيأ به ظل الرواية التالية التي رواها زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "التقدير في ليل تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين"1.
 
فلا من الإستعداد لِلَيْلة القدر بأمور منها: 
1ـ معرفة حقِّها وقيمتها وعظمتها.
 
2ـ الإستعداد النفسي والروحي لليلة القدر بإزالة موانع التوفيق، وأهمّ مزيل لموانع التوفيق في العمر فضلاً عن ليلة القدر التوبة وردّ المظالم والحقوق لأصحابها.



1 روضة المتقين.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
276

244

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 3ـ إخلاص النية في العبادة فيها لله تعالى.

 
4ـ الإجتهاد في العبادة والتفرغ للعبادة فيها حتى آخرها، فقد روي أن الزهراء عليه السلام كانت لا تدع أهل بيتها ينامون ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان وكانت تعالجهم بقلة الطعام وتتأهب لها من النهار حيث كانت تأمرهم بالنوم نهاراً وكانت تقول عليه السلام: "محروم من حُرِمَ خيرَها"1.
 
5ـ طرد الكسل والتواني والإقبال على الطاعات بنشاط وبهجة.
 
أخيراً: لا بد من الإشارة والتنويه إلى أنّ على الإنسان أن لا يكون أنانياً فيقتصر بدعائه على نفسه وعياله وأقربائه، بل ليعمم الدعاء إلى أوسع دائرة، بل عليه أنّ عليه الهمّ العامّ وليتذكر المجاهدين والمقاومين والقادة والأمة جمعاً كما علمنا أئمتنا عليهم السلام في شهر رمضان في تعقيب كل صلاة: "اللّهُمَّ أَغْنِ كُلَّ فَقِيرٍ، اللّهُمَّ أشْبِعْ كُلَّ جائِعٍ، اللّهُمَّ اكْسُ كُلَّ عُرْيانٍ، اللّهُمَّ اقْضِ دَيْنَ كُلِّ مَدِينٍ، اللّهُمَّ فَرِّجْ عَنْْ كُلِّ مَكْروَبٍ، اللّهُمَّ رُدَّ كُلَّ 



1 مسند الإمام علي عليه السلام، ص409.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
277

 


245

المحاضرة السادسة: ليلة بعمر

 غَرِيبٍ، اللّهُمَّ فُكَّ كُلَّ أَسِيرٍ، اللّهُمَّ أَصْلِحْ كُلَّ فاسِدٍ مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، اللّهُمَّ اشْفِ كُلَّ مَرِيضٍ، اللَّهُمَّ سُدَّ فَقْرَنا بِغِناكَ، اللّهُمَّ غَيِّرْ سُوءَ حالِنا بِحُسْنِ حالِكَ، اللّهُمَّ اقْضِ عَنّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنِا مِنَ الفَقْرِ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ قَدْيرٌ".

 
ولنتذكّر وليَّ الأمر في دعائنا كما علَّمنا أئمتنا عليهم السلام أن نكرر فيها الدعاء له بدعاء: "اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ الحُجَّةِ بْنِ الحَسَنِ صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلى آبائِه فِي هذِهِ السّاعَةِ وَفِي كُلِّ ساعةٍ وَلِيّاً وَحافِظاً وَقائِداً وَناصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيْها طَوِيلاً".
 
 
والحمد لله ربِّ العالمين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
278

246

المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 
 
تصدير الموضوع: 
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إنما هو عيد لمن قَبِلَ الله صيامه..."1.
 
الهدف: 
 بيان سرّ كون الفطر عيداً، إضافة إلى بيان بعض آدابه.



1 نهج البلاغة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
279

247

المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 مقدَّمة: 

في القرآن ذُكر العيد في قصة نزول المائدة على النبي عيسى عليه السلام والحواريين ليكون يوم نزولها عيداً لأتباعه حيث قال تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾1 فطلبُ الحواريين من عيسى عليه السلام كان لطعام للأبدان من جهة يشبعون بها جوع أجسادهم، ويترتب على ذلك أمران الأول اطمئنان قلوبهم واليقين بصدق عيسى عليه السلام في كل ما جاءهم به. حيث ورد في القرآن حكاية عن قولهم: ﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾2.
 
وذكروا أخيراً أنّ ذلك أيضاً ليكونوا شهوداً على المعجزة هذه وليخبروا بها الناس شاهدين على صدقها، وبذلك تقوى حجتهم أمام الناس، فتخليد ذكرى نزول المائدة كان بجعلها عيداً يُعاد تذكُّره كلَّ ما جاء زمان حدوثها.



1 سورة المائدة، الآية: 114.
2 سورة المائدة، الآية: 113.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
280

 


248

المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 فإذا كان نزول مأدبة الأجساد عيداً لأمة عيسى فإنّ نزول مأدبة الأرواح والعقول والنفوس من السماء ألا يجدر أن تكون عيداً؟ أعني نزول القرآن الكريم.


لماذا يكون يوم الفطر عيداً؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال نجيب إضافة إلى كونه مترتباً على شهر نزول مأدبة الله العظمى وهو القرآن الكريم وكونه ذكراً لله تطمئنُّ به القلوب، وكوننا شهوداً على إعجازه فَلَنا أن نقول: 
بالإضافة إلى كلّ ما ذُكِرَ ما يلي: 
1ـ يوم رفع حظر المفطرات: 
فإن كان شهر رمضان شهراً فيه تُحرم فيه الكثير من المباحات، فإنّ يوم الفطر هو يوم رفع هذا الحظر، وفي هذا لَفْتٌ إلى نعمة الله على الإنسان ومَنِّه العظيم عليه، إذ كان له تعالى أن يجعل هذا الحظر طوال أيام العمر، إلا أنه جعل له أمداً وهو هلال شهر شوّال فكان الهلال بشارة على رفع الحظر وعودة الإباحة، وبالتالي فالعيد هنا هو عبادة شكر لله تعالى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
281

249

المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 2ـ يوم نجاح الإنسان في التكليف: 

عندما نسمع قول أمير المؤمنين عليه السلام: "كلُّ يوم لا يُعصَى الله فيه فهو عيد"1 نفهم أنّ نجاح الإنسان في عدم معصية الله والبقاء في سلك طاعته هو يوم عيد يَسُرُّ الإنسان لتوفيقه في أداء ما كلّفه الله به، وعليه فإنّ الفهم الصحيح للعيد يبتني على اعتباره معياراً لسموّ الإنسان ورقيه من وجهة نظر إيمانية، أي تطوره أخلاقياً وعقائدياً وانضباطاً واستقامة على جادة الشرع الحنيف، وما يترتب على هذا النجاح مِن جوائز إلهية ولذا كان يوم الفطر يوم الجائزة والفائزون يفرحون بجوائزهم.
 
3ـ يوم الإنتصار: 
فعيد الأضحى مثلاً يأتي بعد رجم رمز الشيطان، وبعد الإلتزام بمجموعة أمور تزيد في انضباطه، وهو اليوم الذي نجح فيه النبي إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام وهذا بنفسه يرمز إلى انتصار الإنسان لربه على نفسه إلى درجة تقديم ولده ونفسه إلى ربه عند أمره.



1 نهج البلاغة، ص100.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
282

250

المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 فعيد الفطر يوم انتصار الإنسان على عدوه الشيطان بالتزامه حرمان نفسه من الشهوات وهو انتصار الإنسان على نفسه بتقديم شهواتها فداءً على مذبح الأمر الإلهي والذي تجلَّى بطاعته في تركها شهراً كاملاً. وفي هذا السياق يُفهَم قول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه".


يوم الفرح الهادف: 
فالعيد عند المجتمعات البشرية وفي عاداتها وتقاليدها مواسمُ اجتماعية، وجاء الإسلام ليقرر جعل الفطر يوم عيد له السمة العامة للأعياد من فرح وسرور وبشرى، فالإسلام يريد للإنسان المسلم ولمجتمع المسلمين أن تسوده الفرحة والسرور وأن يعيش الفرد والجماعة المسلمة العواطف والأحاسيس، لكن أراد أن يكون ذلك للتوفيق للطاعة وأن يكون بطريقة محللة، لا أن يكون باعث البهجة والسرور ارتكاب المحرَّمات ولا أن تكون الفرحة والسرور متمظهرة بارتكاب المحرَّمات واقتراف الموبقات.

ومن العادات المسيئة للأعياد الإسلامية ما يحدث من
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
283

251

المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 إطلاق نار ومفرقعات وغير ذلك من مظاهر الأذية والمعصية.

 
فالإسلام يريد للإنسان أن يفرح لكن أن لا يخرج بفرحه عن حدّ الطاعة، وأن يكون فرحه هادفاً بتعزيز العلاقات الإنسانية من تزاور وإشاعة السلام والتبريكات وصلة الأرحام.
 
5ـ يوم تعميم الفرح: 
إن أهمّ وأسوأ وأخطر أمراض الإنسان هو الأنانية وحبّ الذات بحيث يستغرق الإنسان في نفسه في همومها وأفراحها وأتراحها ولا يلتفت إلى غيره، وجاء شهر رمضان ليكون وسيلة لإيقاظ المشاركة الشعورية من الأغنياء للفقراء "ليجد الغني حِسَّ الجوع فيرحم الفقير"1.
 
وكذلك في يوم العيد يربي الإسلام بنيه على عدم احتكار الفرح وقَصْرِه على أنفسهم والأقربين بل المطلوب السعي لتعميم الفرح، ومن هذا المورد جاءت زكاة الفطرة لتكون وسيلة يُدخِلُ بها الإسلامُ الفرحةَ إلى القلوب المحزونة بسبب الفقر والعوز، لعلّ بذلك يُلبِسُ الفقير أبناءه جديد الثياب ويتحفهم بلذيذ الطعام.



1 الوافي، ج11، ص34.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
284

252

المحاضرة السابعة: لماذا كان الفطر عيداً

 خاتمة: العيد لتغيير السلوك

لقد شرَّع الإسلام مجموعة من الآداب المختصة بالأعياد وحوَّلها من كونها آداباً إلى مراسم عبادية ومنها السلام، سلام المؤمن على أخيه تعزيزاً لحالة الودّ بينهما، ولو كان ثمة ما يعكر صفو العلاقة فإنّ المبادرة إلى السلام وتسابقهما على المبادرة إلى السلام مع البشاشة تساهم في تصفية ما يمكن أن يكون عكَّر صفوَه الشيطانُ من مشاعر ودِّ وإخاء، وإذا أضفنا إلى السلام والبشاشة المصافحة فإن ذلك آكد في إزالة شحناء الصدور...

وكذلك ثمة أمرٌ يلفت النظر وهو استحباب أن يذهب الإنسان إلى مكان إقامة صلاة العيد من طريق ويعود من آخر ربما ليلتقي بأكبر عدد من الناس ويتبادل معهم السلام والتبريكات.

على أنه لا بد من الإشارة إلى أنه في قنوت صلاة العيد ربط للإنسان بذوي النعمة عليه ابتداء بالله ثم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الأعظم ثم بالأئمة عليهم السلام وهذا أيضاً ما يرمز إليه استحباب زيارة الإمام الحسين عليه السلام في كل عيد وكذلك دعاء الندبة.

والحمد لله ربّ العالمين
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
285

253
(9) زاد البصيرة في شهر الله