بحوث أخلاقية من الأربعون حديثًا


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

الفهرس

5

المقدمة

7

الدرس الاول: الأخلاق

11

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

19

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

29

الدرس الرابع: التفكر

39

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

51

الدرس السادس: إتباع الهوى

63

الدرس السابع: حب الدنيا

73

الدرس الثامن: العجب -1

83

الدرس التاسع: العجب -2

93

الدرس العاشر: الرياء -1

103

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

113

 

5


1

الفهرس

 

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

123

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

133

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

143

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

151

الدرس السادس عشر: الغضب -1

161

الدرس السابع عشر: الغضب -2

169

الدرس الثامن عشر: العصبية

179

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

189

الدرس العشرون: الغيبة -2

199

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

209

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

219

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

231

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

241

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

251

الدرس السادس والعشرون: التوكل

261

الدرس السابع والعشرون: الصبر

271

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

279

الدرس التاسع والعشرون: العبادة -2

287

الدرس الثلاثون: التقوى

295


6


2

المقدمة

 المقدمة


الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على النبيّ الأكرم محمّد المصطفى وآله الطيّبين الطاهرين.
إنّ هذا الكتاب الّذي بين يديك هو دروس أخلاقية أُخذت من كتاب "الأربعون حديثاً" للإمام الخميني قدس سره.

لماذا هذا الكتاب؟
قد يتردّد هذا السؤال في وجدان عشّاق الإمام الخميني قدس سره: أليس الأفضل أن نبقى مع كتاب "الأربعون حديثاً"؟ ولماذا نتصرّف فيه ولا نتركه لندرسه كما خطّته أنامل الإمام قدس سره؟
نحن أيضاً معهم نعشق أن نُطالع كتاب الإمام قدس سره نفسه بكلّ ما فيه، حتّى النقطة والفاصلة، بل يا ليتنا نملك النسخة الّتي خطّتها أنامله الشريفة!

ولكن هذا لم يمنعنا من طباعة هذا الكتاب الّذي بين يديك، لأنّ كتاب "الأربعون حديثاً" هو كتاب كما يظهر من اسمه اهتمّ بشرح أربعين رواية منتخبة قام الإمام الخميني قدس سره بانتقائها وشرحها. فالغرض هو شرح أحاديث بما تتضمّن وهذا يلزم منه عدّة أمور:
 
 
7

3

المقدمة

 1- لم يقتصر كتاب "الأربعون حديثاً" على الأخلاق، فحسب بل فيه العقائد والمفاهيم وغيرها من الأمور... وهذا سيسبِّب مشكلة للطالب الّذي يدرس الأخلاق وللأستاذ كذلك. حيث سيضطّر إلى اقتطاف الأخلاقيات والإعراض عن غيرها.

2- لم يلحظ الإمام قدس سره ترتيب المطالب الأخلاقية بشكل تدريجي كما تتطلّبه الكتب التدريسية، إذ لم يكن هدفه أن يكون الكتاب للتدريس، فقد تجد حديثاً حول تفصيلات أخلاقية يسبق حديثاً حول كلّياتها الأساسية، وهذا سيجبر الأستاذ ومعه الطالب على التقديم والتأخير في الدروس ممّا سيزيد الطالب إرباكاً.
3- في كثير من الحالات كان الإمام قدس سره يطنب في الكلام من بعض الجهات بشكل مناسب لغرضه قدس سره من كتابه ويناسب المطالعة أيضاً، ولكنّه لا يناسب المتن الدراسي بالهيئة المطلوبة فيه.

هذا بالإضافة إلى أمور أخرى قد تلحظ باعتبار أنّ هذا الكتاب لم يكتب كمتن تدريسي.

ما هي مميّزات هذا الكتاب؟
إنّ هذا الكتاب الموجود بين يديك أراد أن يُقدّم كلام الإمام الخميني قدس سره في كتابه "الأربعون حديثاً" بشكل متن تدريسي يمكن للطالب أن يتناوله دون إرباك، ويسهّل مهمّة الأستاذ، ومن هنا يمتاز الكتاب بما يلي:
1- إن هذا الكتاب ينقل كلمات الإمام الخميني قدس سره في كتاب "الأربعون حديثاً"، وبالتالي فهو ليس شيئاً جديداً مغايراً له، وبعبارة أخرى هو ليس ترك وهجر لكتاب "الأربعون حديثاً" بل على العكس هو تقديم وتفعيل لهذا الكتاب بشكل يتناسب مع التدريس.
 
 
8

4

المقدمة

 2- تمّ عرض الأمور الأخلاقية الواردة في "الأربعون حديثاً" دون غيرها وبالتالي رفع مشكلة تعدُّد العلوم الّذي كان يفرض حذفاً وتقطيعاً في الكتاب.

3- تمّ عرض الأفكار بشكل تدريجي يبدأ بالكلّيات الأخلاقية ثمّ بما يصطلح عليه بمرحلة التخلية ثمّ التحلية.
4- تمّ ربط الأفكار وعرضها بشكل سلس يسهل على الطالب تناوله.
5- رغم تبسيط أسلوب العرض فقد حافظنا في هذا الكتاب على مصطلحات الإمام معتمدين على شرح الأستاذ لها.
6- وقد قمنا بوضع أهداف تعليمية لكلّ درس بما يساعد الأستاذ والطالب لإدراك الهدف والمراد من كلّ درس.
7- كما وضعنا خلاصة في آخر كلّ درس تعين الطالب في تذكر المعلومات الأساس.

خطوة لا بدّ منها:
بعد الّذي عرضناه، وجدنا أنّه ووفاءً منّا لنهج الإمام قدس سره من اللازم علينا أن نقوم بهذه الخطوة حتّى تُصبح الأخلاق الّتي عرضها الإمام قدس سره في كتابه بمتناول الطلّاب بأسلوب بسيط وممنهج وسهل، وهو أقلّ أمر يمكن أن يُقدّمه من يحمل في قلبه همّ فكر الإمام الخميني قدس سره وإيصاله لشباب المجتمع من إخوة وأخوات.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبّل عملنا هذا ويفيد به كلّ عاشق لنهج الإمام الخميني قدس سره. والحمد لله ربّ العالمين.

مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
9

5

الدرس الاول: الأخلاق

  الدرس الأول: الأخلاق
 
أهداف الدرس
1- أن يدرك الطالب أهميّة الأخلاق في الحياة.
2- أن يتعرّف إلى حقيقة الأخلاق.
3- أن يدرك إمكانيّة تغيير الأخلاق الإنسانيّة.
 
 
11

6

الدرس الاول: الأخلاق

 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما بُعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق"1.


أهميّة الأخلاق:
أبدت الأخبار الشريفة اهتماماً بالغاً بمكارم الأخلاق أكثر من أيّ شي‏ء آخر باستثناء المعارف الإلهيّة. ويُستفاد من الحديث السابق أنّ الغاية من بعث الأنبياء عليهم السلام، سيّما خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، هو إتمام مكارم الأخلاق.

فأهمّية الفضائل الخُلُقية أكبر من قدرتنا على شرحها وبسط الحديث فيها، ولكن نكتفي بالإشارة إلى أنّ أساس الحياة الأبدية الأخروية، ورأس مال العيش في تلك النشأة، الخُلُق الفاضل والاتصاف بمكارم الأخلاق، وإنّ الجنّة الممنوحة للإنسان من جرّاء خُلُقه الكريم المسمّاة بجنّة الصفات أفضل بكثير من جنّة الأعمال الجسمانية، فيها ما طاب ولذّ بشكل أفضل وأحسن من النعم المادّية الجسمانية، كما وأنّ فيها ظلمات وأهوال نتيجة الأخلاق السيّئة للإنسان أسوأ من أيّ عذاب أليم.
________________________________________
1- البيان، ج10، ص 333.
 
 
13

7

الدرس الاول: الأخلاق

 ولنذكر بعض الأحاديث الشريفة في هذا المضمار:


- حسن الخُلُق واحدة من مكارم الأخلاق: عن الإمام الصادق عليه السلام:
"إنّ الله خصّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله وارغبوا إليه في الزيادة منها. فذكرها عشرةً: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخُلُق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروة"2.

- محبة الله: وعنه عليه السلام:
"عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ الله عز وجل يُحبّها وإيّاكم ومذامّ الأفعال فإنّ الله يُبغضها (إلى أن قال) وعليكم بحسن الخُلُق فإنّه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم"3.

- كمال الإيمان: عن الإمام الباقر عليه السلام:
"إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً"4.

- أثره في قبول التوبة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"أبى الله عز وجل لصاحب الخُلُق السيّئ بالتوبة، قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: لأنّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه"5.

- أثره في الدنيا: عن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام:
"البرّ وحسن الخُلُق يُعمِّران الديار ويزيدان في الأعمار"6.

- أثره في الآخرة: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
"أكثر ما تلج به أمّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخُلُق"7.
________________________________________
2- وسائل الشيعة،ج11،ص39.
3- وسائل الشيعة، ج15،ص200.
4- الكافي،ج2،ص99.
5- ـ الكافي،ج2،ص321.
6-  الكافي،ج2،ص100.
7- الكافي،ج2،ص100.
 
 
14

8

الدرس الاول: الأخلاق

 ما هي الأخلاق؟

الخُلُق هو عبارة عن حالة نفسية، تدفع الإنسان نحو العمل من دون تروّي وتفكُّر. فمثلاً إنّ الّذي يتمتّع بالسخاء، يدفعه خُلُقه هذا إلى الجود والإنفاق من دون حاجة إلى تنظيم مقدمات وترتيب مرجّحات. وكأنّ هذا الخُلُق غدا من الأمور الطبيعية للإنسان مثل النظر والسمع. وكذلك النفس العفيفة الّتي أصبحت العفّة خُلُقاً لها وجزءاً طبيعياً لها.

فإذا بلغ الخُلُق مستوى الأفعال الطبيعية في الإنسان، وغدا من قبيل القوى والوسائل، وظهرت سلطنة الحقّ وقهره، صار زواله صعباً ونادراً.

وما دامت النفس لم تبلغ هذا المستوى من التجذُّر الخُلُقي بواسطة التفكُّر والتدبّر والترويض، لم يكن لها أخلاق وكمال، ويُخشى أن تغلب عليها العادات والخُلُق السيّئ.

نشير إلى أنّ علماء الأخلاق أرجعوا كافّة الفضائل النفسية إلى أمور أربعة هي:
1- الحكمة: حيث اعتبروا الحكمة فضيلة للنفس العاقلة الّتي تُميّز الإنسان عن غيره.
2- الشجاعة: وهي من فضائل النفس الغضبية.
3- العفّة: وهي من فضائل النفس الشهوية.
4- العدالة: وهي ترعى الفضائل الثلاثة.

فجميع الفضائل الأخلاقية تندرج تحت هذه الأمور الأربعة، وترجع إليها.

مصدر إلهام الخُلُق:
هناك عدّة أمور توحي للإنسان بهذه الحالات والأخلاق النفسية، منها:
ما ذكره علماء الأخلاق من أنّ هذه الأخلاق النفسية قد تكون في طبيعة 
 
 
15

9

الدرس الاول: الأخلاق

 الإنسان وفطرته، ومرتبطة بمزاج الإنسان من دون فرق بين ما هو خير وسعادة أو شرّ وشقاء. ونحن نرى بعض الناس منذ نعومة أظافرهم يرغبون في الخير، وبعضهم ينزع نحو الشرّ. وأنّ بعضهم يُثار بأدنى شي‏ء، ويستوحش من عمل بسيط، ويخاف من أقلّ سبب، وبعض يكون على عكس ذلك.


وبعض هذه الأخلاق النفسانية قد تحصل من خلال العِشرة والتأثُّر بالمحيط، أو من خلال العادات الّتي يكتسبها الإنسان بشكل أو بآخر.

وقد تحصل نتيجة التفكُّر والتروي حتّى يبلغ مستوى الحالة المتأصّلة في نفسه.

إمكانية تغيير الأخلاق:
عندما نقول إنّ الأخلاق النفسية طبيعية وفطرية، لا نقصد أنّها ذاتية وغير خاضعة للتغيير. بل إنّ جميع المَلكات والأخلاق النفسيّة قابلة للتبدُّل والتحوّل، ما دامت النفس تعيش في هذا العالمَ، عالَم التغيُّر والتبدُّل، وتخضع للزمان والتجدُّد، وتملك القابلية والاستعداد. بلّ يستطيع الإنسان أن يُغيّر خُلُقه النفسي ويحوّله إلى أضداده.

ويدلّنا على ذلك بالإضافة إلى البراهين العقلية والتجارب المحسوسة دعوة الأنبياء والشرائع الحقّة الناس للتخلُّق بالصفات الحميدة، والابتعاد عمّا يُقابلها من الخُلُق السيّئ، فلو لم يكن ممكناً لما كان هناك معنى لهذه الدعوة.

يستطيع الإنسان ما دام حيّاً أن يُنقذ نفسه من هذه الظلمات ويبلغ بها عالَم الأنوار. نعم هو قادر على بلوغ ذلك، لكن لا مع هذه البرودة والخمود والفتور والإهمال الّذي أصابنا، حيث نرى جميعاً أنّنا منذ أيّام الطفولة ننمو على الخُلُق الذميم والسلوك المنحرف، الّذي اقترفناه من جرّاء هذه الحالات السيّئة من العِشرة اللامسؤولة، والاختلاط غير اللائق، وبدل إزالتها نُحافظ عليها، بل
 
 
16

10

الدرس الاول: الأخلاق

 نُضيف إليها في كلّ يوم جريرة أخرى، وكأنّنا لا نعتقد بوجود عالَم آخر ونشأة باقية أخرى.


إنّ الأنبياء قد وضعوا بين أيدينا طرق السعادة، ثمّ قام العلماء والحكماء بتفسير أحاديثهم لنا، ولكنّنا امتنعنا عن الاستيعاب، فنحن المقصِّرون كما ورد في بعض الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإن لم تفعل فلا تلومنّ إلا نفسك"8.



خلاصة الدّرس
 
ـ اهتمّ الإسلام العزيز بمكارم الأخلاق، فعليها يتوقّف مصير الإنسان في الآخرة.
ـ هناك روايات كثيرة حثّت ومدحت مكارم الأخلاق، منها ما أوقف محبّة الله عليها، ومنها قاس كمال الإيمان عليها، ومنها ما جعل التوبة موقوفة عليها، ومنها ما جعل التوفيق الدنيوي والأخروي عليها.
ـ علماء الأخلاق أرجعوا كافة الفضائل النفسية إلى أمور أربعة: الحكمة، الشجاعة، العفّة، العدالة.
ـ هناك عدّة أمور تُلهم الإنسان مكارم الأخلاق: الفطرة، المحيط، التفكُّر والتروّي.
ـ يستطيع الإنسان أن يغيّر خُلُقه النفسي ويحوّله إلى أضداده، ويدلّ على ذلك أوامر الأنبياء والشرائع بالأخلاق الحسنة، فلو لم يمكن التغيير لكانت أوامرهم عبثيّة. 
____________________________________
8- الكافي، ج 8، ص 79.
 
 
17

11

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 أهداف الدرس

1- أن يفرّق الطالب بين عالم الملك وعالم الملكوت.
2- أن يتعرّف على المراحل الثلاث في جهاد النفس.
3- أن يشعر بأهميّة البدء بعملية تهذيب النفس.
 
 
19

12

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 عن أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية، فلما رجعوا قال:


"مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس"1.

الإنسان، هذا المخلوق العجيب الّذي صنعه الله تعالى بيده وحسده إبليس لما أولاه الله تعالى من نعمه، يبهر العقول بما لديه من صفات وخصائص وإمكانات جعلها الله تعالى ليتحمّل الأمانة الإلهية ويتمكّن من الوصول إلى الأهداف الّتي خلق لأجلها.

تقسيم نشأة الإنسان إلى عالمي الملك والملكوت:
وهذا الإنسان له نشأتان وعالمان:
أ- نشأة ظاهرية ملكية دنيوية هي بدنه.
ب- نشأة غيبية باطنية ملكوتية تكون من عالم آخر وهي الروح الّتي هي من عالم الغيب والملكوت ليست أمراً جامداً وخامداً في هذه الدنيا، فلها
________________________________________
1- الكافي، ج 5، ص 17.
 
 
21

13

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 مراتب ودرجات ومقامات، قد ترتقي النفس فيها حتّى تصبح طاهرة نقية خالصة لله تعالى سعيدة تحشر مع الأنبياء والأولياء والصالحين، وقد تنحدر حتّى تصل إلى الجهل والظلام والشقاء فتحشر في زمرة الشياطين. فالإنسان هو ساحة صراع ونزاع مستمر بين معسكرين يريد أحدهما الانحطاط بالنفس إلى الظلام السفلي ويريد الآخر رفعها إلى الأنوار العلوية والسعادة الأبدية.


وفي هذا الصراع يظهر دور النفس الّتي عليها أن تأخذ زمام المبادرة في هذه الساحة الدقيقة، لتحقِّق الجهاد الأكبر وتنتصر... فكيف يمكنها أن تقوم بهذا الدور؟

حتّى يحصل التوفيق في جهاد النفس لا بدّ من التعرُّف على أمرين أساسين:
1- نفس الإنسان بما عندها من عالمي الملك والملكوت وأوجه سعادتها وتعاستها.
2- كيفية مجاهدة هذه النفس.

مقام الملك:
تدور أعمال الإنسان في مقام المُلك والظاهر على الأمور المادية السبعة وهي "الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل".

وهذه الأمور السبعة تتجاذبها جنود الرحمان وزمر الشيطان، من خلال قوى الوهم من جهة والعقل والشرع من جهة أخرى، فإن غلب الوهم تسلّط الشيطان وجنوده على هذه المرتبة وصارت ظلمانية، وإن غلب العقل والشرع تسلّطت جنود الرحمان وهجرتها جنود الشيطان وصارت نورانية. وعلى النفس أن تجاهد حتّى تطرد جنود الشيطان وتجعل هذا المقام بأبعاده السبعة مؤتمرة بأمر الخالق تعالى.
 
 
22

14

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 كيف يكون جهاد النفس في هذه المرتبة؟

إنّ جهاد النفس في هذه المرتبة له مراحله الّتي يمرّ بها:

المرحلة الأولى التفكُّر:
إنّ أوّل شرط من شروط مجاهدة النفس والسير باتّجاه الحقّ تعالى هو التفكُّر. والتفكُّر هو أن يترك الإنسان شيئاً من وقته ليجلس مع نفسه ويخاطبها خطاباً وجدانياً، وينبهها إلى المولى الكريم الّذي خلقه في هذه الدنيا ووفّر له كلّ أسباب الراحة ووهبه جسماً صحيحاً وقوى سليمة لها إمكانات ومنافع وآثار تحيّر العقول وتبهر الأنظار، هذا الإله الّذي رعاه وهيّأ له ووسّع عليه وأعطاه وأنعم عليه وشمله بعطفه ورحمته وأرسل له الأنبياء وأنزل إليه الكتب والرسالات وأرشده ودعاه إلى الهدى وعرّفه طريق السعادة... هذا المولى ماذا يستحقّ منّا؟

وكيف يكون تعاطينا مع هذه النعم؟ هل أنّ وجود جميع هذه النعم هو فقط لإشباع الشهوات والانغماس في حياة حيوانية لا يتميّز فيها الإنسان عن الحيوانات؟! أم أنّ هناك هدفاً وغاية أخرى؟.

هل أنّ الأنبياء الكرام والأولياء العظام والحكماء الكبار وعلماء كلّ أمة، كانوا أعداءً للإنسانية عندما حذّروا الناس من الانغماس في الشهوات الحيوانية والغرق في هذه الدنيا البالية؟ هل أنّهم كانوا لا يعرفون هدف الإنسان وطريقه ومسيرته فضلّوا كما ضللنا نحن المساكين المنغمسين في الشهوات؟!

لو وقف الإنسان مع نفسه وقفة صدق ولو للحظة واحدة لعرف أنّ الهدف من هذه النعم هو شي‏ء آخر، وأنّ الهدف من هذا الخُلُق أسمى وأعظم وأنّ هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحد ذاتها، وأنّ على الإنسان العاقل أن يُفكِّر 
 
 
23

15

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 بنفسه وأن يترحّم على حاله ويشفق على نفسه المسكينة ويخاطبها قائلاً: أيتها النفس الشقية الّتي قضيت سني عمرك الطويلة في الشهوات، ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة واستحي من مالك الملك واتجهي نحو الهدف الأساس وسيري نحو حياة الخلد والسعادة السرمدية، ولا تخسري تلك السعادة بسبب شهوات أيام قليلة فانية زائفة، تأمّلي في أحوال أهل الدنيا من السابقين واللاحقين، لم يحصلوا على الراحة ولا استقرّت أمورهم على ما يحبّون، كم أنّ متاعبهم وآلامهم أكبر وأعظم من راحتهم وهنائهم!


هذا الصديق الّذي يأتي ليدعوك إلى الشهوات، ويقول: يجب تلبية الحياة المادّية وعدم تفويتها، هذا الصديق الّذي يأتي بصورة إنسان ولكنّه جند من جنود الشيطان وأعوانه، إذا تأمّلت في حاله واستنطقته، هل ستجده راضٍ عن ظروفه مسروراً بحياته، أم أنّه مبتلٍ ويريد أن يبلي مسكيناً آخر؟!

إذاً فأدع ربّك بعجز وتضرّع واسأله أن يعينك على أداء واجباتك الّتي ينبغي أن تكون أساس العلاقة فيما بينك وبين الله سبحانه وتعالى، ليأخذ بيدك بعد ذلك ويرفعك إلى منزلة أرفع من منازل المجاهدة.

المرحلة الثانية العزم:
بعد التفكُّر والخطاب الوجداني الّذي يقوم به الإنسان تأتي مرحلة العزم، والمقصود من العزم أن يوطِّن الإنسان نفسه على ترك المعاصي وأداء الواجبات، ويتّخذ قراراً حازماً بذلك، وبالإضافة إليه يتدارك ما فاته في أيام حياته، فيقضي ما ترك ويردّ حقوق الناس ويدفع المظالم وينهي كلّ أثر للمعاصي الّتي ارتكبها ويجبر كلّ نقص في الواجبات الّتي تخلّف عنها وتركها، فيصبح ظاهره ظاهر الإنسان الشرعي الّذي يُنظِّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشرع.

ملاحظة وتنبيه: أوّل خطوة في السلوك في المعارف الإلهية هي الالتزام 
 
 
24

16

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 بأحكام الشريعة، ولا يمكن للإنسان أن يحصل على الأخلاق الحسنة إلا من خلال ذلك، ولا يتصوّر أحد أنّه يمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة وتتكشّف له الأنوار الإلهية من خلال الالتزام بطريق آخر وترك هذا الطريق، وبعد ظهور المعارف والأنوار الإلهية في القلب لا بدّ من الاستمرار في التأدُّب بالآداب الشرعية الظاهرية أيضاً.


كيف تحصل على العزم؟
إنّ التجرّؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً العزم، فيفقد هذا الجوهر الثمين، يقول أستاذ الإمام(رضوان الله عليه): "إن أكثر ما يسبب فقد الإنسان العزم والإرادة هو الاستماع للغناء".

عليك إذاً أن تهجر المعاصي وتهاجر إلى الحقّ تعالى، وتحافظ على الظاهر الإنساني الشرعي واسلك سبيل الأنبياء والصالحين، واطلب من الله تعالى في الخلوات أن يوفّقك لذلك ويعصمك من المزالق فيمكن للإنسان أن يسقط في لحظة واحدة فيعجز عن إنقاذ نفسه ويكون الهلاك! واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته عليهم السلام ليتمّ التوفيق.

المرحلة الثالثة المشارطة والمراقبة والمحاسبة:
وهي من الأمور الضرورية للمجاهد، وهي أمور ثلاثة:

الأول - المشارطة: وتكون في أوّل اليوم حيث يخاطب الإنسان نفسه ويشارطها على أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل يخالف أوامر الله تعالى، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه.

وترك ما يخالف أوامر الله لمدّة يوم واحد هو أمر يسير وسهل للغاية، ويمكن للإنسان بكلّ سهولة أن يلتزم به، فاعزم وشارط وجرّب وانظر كيف أنّ الأمر
 
 
25

17

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 سهل يسير، وقد يوسوس لك الشيطان ليٌصعِّب عليك الأمور ويصوّر الأمر وكأنّه صعب عسير، ولكنّه وهم عليك أن تخرجه من قلبك، جرّب ليوم واحد تعرف سهولته.


الثاني - المراقبة: بعد المشارطة يأتي دور المراقبة، فيبقى طوال اليوم متنبّهاً لتطبيق المشارطة، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت، فإذا حدّثتك نفسك بارتكاب المعاصي فاعلم أنّه وسوسة الشيطان الّذي يحاول استدراجك للمعصية فالعنه واستعذ بالله من شرّه، وتذكّر شرطك لهذا اليوم وخاطب نفسك: "إنّي اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم وهو يوم واحد بأيّ عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طوال عمري، فقد أنعم علي بالصحة والسلامة والأمن وتلطّف بألطاف أخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقّ واحدة منها، أفلا أفي بشرط بسيط كهذا؟!

الثالث - المحاسبة: إذا جاء الليل فقد حان وقت المحاسبة، فعليك أن تحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله ولم تخن وليّ نعمتك في هذا العهد البسيط؟ إذا كنت قد وفّيت حقّاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وسيكون عمل الغد أيسر وأسهل عليك من سابقه فواظب عليه فترة حتّى يتحوّل إلى عادة مطبوعة في نفسك تقوم بها بشكل تلقائي وبكلّ سهولة. وستحسّ حينها باللذّة والأنس بطاعة الله تعالى وترك معاصيه رغم أنّ هذا العالَم ليس عالَم الجزاء...

وإذا وجدت لا سمح الله في أثناء المحاسبة تهاوناً وفتوراً تجاه ما اشترطت 
 
 
26

18

الدرس الثاني: جهاد النفس-منزلة المُلك

 على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وثابر على ذلك واصبر حتّى يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة ويوصلك إلى صراط الإنسانية المستقيم.



 


خلاصة الدّرس
ـ الإنسان له نشأتان، نشأة ظاهرية ملكية هي بدنه، ونشأة باطنية ملكوتية وهي روحه.
ـ تدور أعمال الإنسان في مقام الظاهر على الأمور الماديّة السبعة: الأذن، العين، اللسان، البطن، الفرج، اليد، الرجل. وعلى الإنسان أن يُغلِّب العقل والشرع في هذه الأبعاد السبعة حتى يكتسب النور فيها.
ـ إنّ جهاد النفس في مقام الظاهر له مراحله: التفكُّر، العزم، المشارطة والمراقبة والمحاسبة.
ـ إنّ التجرؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجيّاً العزم والإرادة، وخاصة استماع الأغاني.
 
 
27

19

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى قواه الباطنية.
2- أن يتعرّف إلى كيفية السيطرة على الخيال.
3- أن يدرك ضرورة معالجة المفاسد الأخلاقية.
 
 
29

20

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

 تمهيد


إنّ الكلام في هذا القسم (الملكوت)أهمّ من القسم السابق (المُلك) وجنود النفس فيه أكثر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم، والغلبة والانتصار فيها أشدّ وأهمّ، بل إنّ الانتصار في ذاك المقام يتبع الانتصار في هذا المقام ومرتبط به، ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات.

ويجب الالتفات إلى أنّ هزيمة الجنود الرحمانية في هذا المقام ربما يسفر عن الهلاك الدائم للإنسان بشكل يستحيل معه الرجوع والتصحيح، وينظر إليه أرحم الراحمين بعين الغضب والسخط، ويحرم شفاعة الشافعين، بل يصبح شفعاؤه خصماؤه! وويل لمن كان شفيعه خصمه!.

إنّ الجنّة وجهنّم الّتي ورد وصفها في القرآن الكريم، المقصود منها غالباً جزاء الأعمال فالنار هي نار الأعمال والجنّة هي جنّتها، ولكن الجزاء لا يختص بالأعمال فقط بل هو يشمل الأخلاق الّتي يتخلّق بها الإنسان أيضاً، وهذه لها جنّتها ونارها الخاصّة بها وهي أهمّ وأكبر من السابقة! وهناك إشارات خفية 
 
 
31

21

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

 في النصوص لهذه الجنان والنيران، بالإضافة إلى ذلك هناك جنّة اللقاء ونار الفراق الّتي ورد الإشارة إليها في النصوص أيضاً.


وما قالوه بشأن جنّة الأخلاق الحسنة وجهنّم الأخلاق الرذيلة، أمور عظيمة ومصائب جمّة لا يطيق الإنسان حتّى سماعها!

القوى الباطنية ومظهر الإنسان في الآخرة
إنّ قوى باطن النفس ثلاث وهي: "الوهمية والغضبية والشهوانية"، ولكلّ واحدة من هذه القوى الثلاث منافع كثيرة من أجل حفظ النوع والشخص وإعمار الدنيا والآخرة، فهذه القوى الثلاث هي منبع جميع الملكات الحسنة، ولكن يجب التنبّه إلى أنّها منبع جميع الملكات السيّئة أيضاً. وبناء على هذه القوى الثلاث تتحدّد شخصية الإنسان وهويّته الباطنية.

إنّ للإنسان صورة ملكية دنيوية ظاهرية خُلُقه الله تعالى عليها، فجعله على أحسن صورة، جيدة، جميلة المنظر تبارك الله أحسن الخالقين، وبالإضافة إلى هذه الصورة الظاهرية هناك صورة أخرى للإنسان هي الصورة الملكوتية الغيبية الباطنية الّتي تأخذ هيئتها بحسب الأخلاق والملكات الّتي يتلبّس بها الإنسان، وهذه الصورة الباطنية هي الّتي يظهر بها الإنسان بعد الموت سواء في البرزخ أو القيامة فإذا كانت خلقة الإنسان في الباطن والملكة والسريرة إنسانية، تكون صورته حينها إنسانية أيضاً، وأمّا إذا كانت غير إنسانية فستكون صورته غير إنسانية أيضاً. ولكلّ واحدة من هذه القوى الباطنية الثلاث صورة خاصّة إذا لم يتحكّم بها الإنسان، فإذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة صارت صورته صورة بهيمية، وإذا غلبت ملكة الغضب صار بصورة الحيوان المفترس، وإذا غلب الوهم صارت صورته صورة أحد الشياطين حسب ما يتناسب وتلك الصورة. ومن الممكن أحياناً أن تتركّب الصورة الباطنية من ملكتين أو عدّة
 
 
32

22

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

  ملكات، فتتشكّل له صورة غريبة مخيفة ليس لها مثيل في هذا العالَم. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ بعض الناس يحشرون يوم القيامة على صورة تحسن عندها صورة القردة1.


ويمكن أن يكون له أكثر من صورة وهيئة سيّئة، فليس بالضرورة في ذلك العالَم أن يكون للإنسان صورة واحدة كما كان في هذا العالَم بل يمكن أن تتعدّد صوره هناك.

قد يتساءل بعض الناس هنا: أنّ الإنسان قد تتغيّر أخلاقه في حياته فيمكن أن يصبح الصالح طالحاً والطالح صالحاً فأيّ صورة سيظهر بها في الآخرة منهما؟

والجواب عن ذلك أنّ صورته الّتي سيظهر بها في الآخرة هي الصورة الّتي تتناسب مع صفاته لحظة وفاته وتركه لهذه الدنيا وانتقاله لذلك العالَم، فكما تكون صورته الباطنية في تلك اللحظة ينتقل إلى البرزخ بتلك الصورة، نسأل الله تعالى حسن العاقبة.

المطلوب هو السيطرة لا الإفناء
تساؤل: ما دام الوهم والغضب والشهوة، يمكن أن توصل الإنسان إلى الغضب الإلهي وتظهره في الآخرة بمظهر البهيمة والعياذ بالله، فهل المطلوب القضاء على الوهم والغضب والشهوة؟

جواب: ليس المطلوب ذلك أبداً، لأنّ هذه القوى الثلاث يمكن أن تكون من الجنود الرحمانية وتؤدّي إلى سعادة الإنسان وتوفيقه إذا سلّمها للعقل السليم وجعلها ضمن إرشادات الأنبياء العظام، وليس خافياً على أحد أنّ
 
 
33

23

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

  الأنبياء العظام عليهم السلام لم يكبتوا الشهوة والغضب والوهم بصورة مطلقة، ولم يطلب ذلك داعية على الإطلاق، وإنّما قالوا: يجب السيطرة عليها حتّى تؤدّي واجبها في ظلّ ميزان العقل وحكم الشرع. فالمطلوب هو السيطرة عليها والاستفادة منها دون إفساح المجال لها للتجاوز والإسراف والظلم. فهذه القوى لو تُركت وشأنها ستحاول أن تحصل على ما تريد ولو عن طريق الفساد والفوضى. فالنفس البهيمية المنغمسة في الشهوة الجامحة تريد أن تُحقّق هدفها ومقصودها ولو من خلال الزنا بالمحصنات في الكعبة والعياذ بالله، والنفس الغضوب تريد أن تُنجز ما تريد حتّى ولو استلزم ذلك قتل الأنبياء والأولياء، والنفس ذات الوهم الشيطاني تريد أن تؤدّي عملها حتّى لو استلزم ذلك الفساد في الأرض.


الأنبياء عليهم السلام إنّما جاءوا بالشرائع وأُنزلت عليهم الكتب السماوية من أجل الحيلولة دون الانفلات والإفراط في الطبائع، وإخضاع النفس الإنسانية وترويضها وتأديبها.

الخيال والسيطرة عليه
الخيال هو كالطائر الّذي يطير يميناً ويساراً وينتقل من شجرة إلى أخرى، وهو قادر على دفع الإنسان نحو الشقاء والفساد، وهو وسيلة من وسائل الشيطان الّتي يتسلّط من خلالها على الإنسان فيكبّله بواسطة الخيال ويدفع به نحو الشقاء.

والإنسان المجاهد الّذي نهض لتهذيب نفسه وإصلاحها عليه أن يُمسك بهذا الطائر ويُسيطر عليه ولا يسمح له بالطيران إلى أيّ موطن يريد، بل عليه أن يمنعه من التحليق في الخيالات الفاسدة والباطلة والمعاصي والشيطنة وأن يوجّه خياله دائماً نحو الأمور الشريفة.
 
 
34

24

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

 كيف يمكن السيطرة على الخيال؟

قد يظنّ الإنسان أنّ السيطرة على الخيال أمر صعب جدّاً لأنّ الخيال أشبه ما يكون بالزئبق الّذي يفرّ من الإنسان كلّما حاول أن يمسكه، ويأتي الشيطان ليهوّل على الإنسان ويُعظِّم له الأمور ليشعر الإنسان بالعجز أمام الخيال فيستسلم ويسقط أمامه. والحقيقة إنّ السيطرة على الخيال أمر يسير مع المراقبة والحذر.

يمكن أن يصعب على الإنسان السيطرة على خياله دفعة واحدة، ولكن لا يصعب عليه السيطرة التدريجية، فيبدأ بالسيطرة على جزء من الخيال ويراقب نفسه ويتنبه جيّداً. فمتى ما أراد خيالك أنّ يتوجّه إلى أمر وضيع فاصرفه نحو أمور أخرى مباحة أو محبّبة إلى الله تعالى، فإذا حصلت على نتيجة فاشكر الله تعالى على هذه النعمة وهذا التوفيق وأكمل السيطرة على هذا الخيال بهذا الأسلوب التدريجي لعلّك تهتدي إلى صراط الإنسانية المستقيم ويسهل عليك مهمّة السلوك إليه سبحانه وتعالى. فالخيال هو من أهمّ المواقع الشيطانية الّتي يتترّس بها إبليس وجنوده فإذا سقط هذا الدرع وهذا المتراس فتأمّل خيراً.

معالجة المفاسد الأخلاقية
فيا عزيزي! إنّ الوقوف منذ البداية دون تسرّب المفاسد الأخلاقية أو العملية إلى مملكة ظاهرك وباطنك، أيسر بكثير من إخراجها بعد توغّلها، لأنّ ذلك يتطلّب الكثير من العناء والجهد. وإذا تسرّبت، فإنّك كلّما أخّرت التصدّي لإخراجها، ازداد الجهد المطلوب منك وضعفت قواك الداخلية.

يقول شيخنا الجليل والعارف الكبير الشاه آبادي (روحي فداه): إنّ الإنسان في عزّ شبابه وقوّة فتوّته يكون أقدر على الوقوف بوجه المفاسد الأخلاقية، وأفضل في أداء واجبه الإنساني. فلا تتركوا هذه القوى تضيع من أيديكم،
 
 
35

25

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

  ويستولي عليكم ضعف الشيخوخة، وعندئذٍ يصعب عليكم التوفيق في مساعيكم، وحتّى لو أنّكم وفّقتم، فإنّ ذلك الإصلاح سوف يتطلّب منكم الكثير من المشقّة والتعب.


وعليه، إذا فكّر الإنسان العاقل في المفاسد ووجد أنّه غير داخل فيها، فإنّه يستطيع أن يمنع نفسه من التلوّث بها، وإذا وجد نفسه ـ لا سمح الله ـ مبتلاةً بها، فخير له أن يُسرع في إصلاح نفسه قبل أن تتجذّر تلك المفاسد فيه، وإذا كانت ـ لا سمح الله ـ قد تجذّرت فيه فعليه أن يبذل كلّ جهد مستطاع في سبيل اقتلاع تلك الجذور لئلّا يصل إلى مرحلة اللاعودة في البرزخ والآخرة.

كيف تعالج نفسك؟
أفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، هو أن تأخذ كلّ واحدة من الصفات القبيحة والميول الفاسدة الّتي تراها في نفسك، فتجمع همّتك وتعزم على مخالفتها وتعمل عكس ما ترجوه وتطلبه، وبالتدريج يحصل ترويض هذه النفس وكسر شوكة هذه الميول والسيطرة عليها.

ولا تنسى التوكل على الله تعالى وطلب التوفيق منه لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شك في أنّ هذا الخُلُق القبيح سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من هذا الخندق وتحلّ محلّهم الجنود الرحمانية.

فمثلاً من الأخلاق الذميمة الّتي تسبّب هلاك الإنسان، وتوجب ضغطة القبر، وتعذّب الإنسان في كلا الدارين، سوء الخلق مع أهل الدار والجيران والزملاء في العمل أو أهل السوق والمحلّة، وهو وليد الغضب والشهوة. فإذا كان الإنسان المجاهد يفكّر في السمو، عليه أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكّر سوء عاقبة هذا الخُلُق ونتيجته القبيحة.

أو إذا كنت من أهل الجدل والمراء، فاعمل فترة بخلاف النفس، فإذا دخلت 
 
 
36

26

الدرس الثالث: جهاد النفس-منزلة الملكوت

 في نقاش مع أحد الأشخاص، ورأيت أنّه يقول الحقّ، فاعترف بخطئك، والمأمول أن تزول هذه الرذيلة في زمن قصير.


وعندما يكتمل جهاد النفس في هذا المقام (مقام الباطن) ويتوفق الإنسان إلى إخراج جنود إبليس من مملكة الباطن، وتصبح مملكته مسكناً لملائكة الله، فحينئذ يصبح السلوك إلى الله يسيراً، ويفتح له طريقاً إلى المعارف الإلهية ـ وهي غاية خلق الجنّ والإنس.




خلاصة الدرس
ـ القوى الباطنية في الإنسان هي: الوهمية، الغضبية، الشهوانية.
ـ تتشكّل صورة الإنسان الأخروية حسب غلبة إحدى القوى السالفة عليه، فإذا غلبت مثلاً القوّة الغضبية عليه حشر بصورة الحيوان المفترس، وإذا غلبت عليه القوّة الوهمية حشر بصورة الشياطين، وهكذا.
ـ المطلوب السيطرة على القوى الباطنية لا الإفناء والإلغاء، والسيطرة تكون بتحكيم الشرع والعقل.
ـ يمكن السيطرة على الخيال، والسيطرة عليه مهمٌّ جدّاً في طريق صلاح الباطن.
ـ معالجة المفاسد الخلقية في بداية الأمر وقبل تجذّرها أهون وأفعل.
ـ يمكن علاج النفس بالعزم وبالتدريج، وأن تأخذ كلّ صفة فاسدة وتخالفها، ولا تنسى التوكّل على الله وطلب التوفيق منه.
 
 
37

27

الدرس الرابع: التفكر

 أهداف الدرس

1- أن يدرك الطالب أهميّة التفكُّر.
2- أن يُعدّد مراتب التفكُّر.
3- أن يتعرّف إلى أهمّ آثار التفكُّر.
 
 
39

28

الدرس الرابع: التفكر

 عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: نَبَّهْ بَالتَفَكُّرِ قَلْبَكَ وَجافِ عَنِ اللَّيْلِ جَنْبَكَ وَاتَّقِ اللهَ رَبَّكَ"1.


في بيان فضيلة التفكُّر
اعلم أنّ للتفكُّر فضائل كثيرة. فالتفكُّر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم، وهو مقدّمة لازمة وحتمية للسلوك الإنساني، وله في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تعظيم بليغ وتمجيد كامل، كما أنّ تاركه معيّر ومذموم. وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "أفْضَلُ الْعِبَادَةِ إدمانُ التَّفَكّرِ فِي الله وَفِي قُدْرَتِهِ"2، وفي حديث آخر: "تَفَكُّر سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيامِ لَيْلَةٍ".

وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ". وفي حديث غيره: "إِنَّ تَفَكُّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةٍ"3، وفي رواية: "سَبْعِينَ سَنَةٍ"4، وعن بعض علماء الفقه والحديث: "أَلْفَ سَنَةٍ" وعلى كلّ حال، إنّ للتفكُّر درجات ومراتب، ولكلّ مرتبة نتيجة أو نتائج، وسوف نتناول بعضها.
________________________________________
1- الكافي، ج2، ص45.
2- م.ن.
3- بحار الأنوار، ج68، ص327.
4- م.ن، ج66، ص293.
 
 
41

29

الدرس الرابع: التفكر

 الأوّل: التفكُّر في الحقّ تعالى

أوّل مراتب التفكُّر هو التفكُّر في الحقّ تعالى وأسمائه وصفاته وكمالاته. ونتيجة ذلك هو العلم بوجوده وبأنواع تجلّياته. وهذا أفضل مراتب التفكُّر، وأعلى مراتب العلوم، وأتقن مراتب البرهان. إذ إنّ الانتباه إلى ذات العلّة، والتفكُّر في السبب المطلق، يدفع بالإنسان إلى العلم به وبالمسبَّبات والمعلومات. 

الثاني التفكُّر في المصنوع
ومن مراتب التفكُّر، التفكُّر في روائع الصنع وإتقانه ودقائق الخلق، بما يتناسب وقدرة الإنسان من طاقة للتفكُّر. ونتيجة هذا التفكُّر هي معرفة المبدأ الكامل والصانع الحكيم.

وملخّص الكلام، أنّ التفكُّر في لطائف الصنعة ودقائقها وفي إتقان نظام الخليقة، من العلوم النافعة، ومن أفضل الأعمال القلبية، وخير من جميع العبادات، لأنّ نتيجته أشرف نتيجة. 

وعلى أيّ حال إنّ الإطلاع على لطائف الصنعة وأسرار الخليقة بحسب الحقيقة والواقع لم يتيسّر للبشر، حتى الآن. إنّ أساس الخليقة ونظامها يكون من الدقّة والاستحكام ومن الجمال والكمال في مستوى لو أنّ الإنسان أمعن النظر في أيّ كائن مهما كان حقيراً، مستخدِماً كلّ علومه الّتي اكتسبها خلال قرون، لما استطاع أن يطّلع على نسبة واحد بالألف، من ذلك، فكيف له أن يتمكّن من إدراك النظام الكلّي الجميل، ساعياً عن طريق الأفكار البشرية الجزئية الناقصة، لفهم بدائعه ودقائقه. إنّنا سنلفت انتباهك إلى إحدى دقائق الخلق ممّا هو قريب بعض الشيء من الأفهام ويعدّ من المحسوسات.

أيها العزيز، انظر وتأمّل في العلاقة الّتي بين هذه الشمس والأرض. وفي 
 
 
42

30

الدرس الرابع: التفكر

 المسافة المعيّنة بين الأرض والشمس، وحركة الأرض حول نفسها وحول الشمس. تلك الحركة الّتي تكون على مدار محدّد فيحصل منها الليل والنهار والفصول. فما أتقنه من صنع وما أكملها من حكمة؟ ولولا هذا التنظيم، أي لو كانت الشمس أقرب أو أبعد، لما تكوّن في الأرض ـ في الحالة الأولى من الحرّ، وفي الحالة الثانية من البرد ـ معدن، ونبات، وحيوان. وكذلك لو توقّفت الأرض عن الحركة، على ما هي عليه من البعد عن الشمس لما كان الليل أو النهار، ولا كانت الفصول، ولما تكوّنت الأرض نهائياً أو القسم الأكبر منها.


ولكن لِمَ ابتعدنا كلّ هذا البعد؟ فليفكّر المرء في خلقه هو، على قدر طاقته وسعة علمه: أوّلاً في الحواس الظاهرة الّتي صنعت وفق المدركات والمحسوسات، إذ إنّ لكلّ مجموعة من المدركات، الّتي توجد في هذا العالَم، قوّة مدركة بأدقّ ما تكون من الدقّة والترتيب المحيّرين للعقول.

والأمور المعنوية، الّتي لا تدرك بالحواس الظاهرة، تدرك على ضوء الحواس الباطنية. دع عنك علم الروح والقوى الروحية للنفس، ممّا تقصر مدارك الإِنسان عن فهمها، واتّجه بنظرك إلى علم الأبدان وتشريحها وبنائها الطبيعي، وخصائص كلّ عضو من الأعضاء الظاهرية والباطنية. انظر ما أغرب هذا النظام وما أعجب هذا الترتيب؟! على الرغم من أنّ علم البشر لم يبلغ حتّى الآن، ولن يبلغ حتّى بعد مائة قرن، إلى معرفة واحد بالألف منه، حسب الاعتراف الصريح بأفصح لسان من جميع العلماء بعجزهم، مع أنّ جسم الإنسان بالنسبة إلى كائنات الأرض الأخرى، لا يزيد على مجرّد ذرّة تافهة، وأنّ الأرض وجميع كائناتها، لا تعدل شيئاً إزاء المنظومة الشمسية، وأنّ كلّ منظومتنا الشمسية لا وزن لها إزاء المنظومات الشمسية الأخرى، وأنّ كلّ هذه المنظومات، الكبيرة منها والصغيرة، مبنية وفق ترتيب منظّم، ونظام مرتّب، بحيث إنّ أيّ نقد لا 
 
 
43

31

الدرس الرابع: التفكر

 يمكن أن يوجّه إلى أتفه ذرّة فيها، وأنّ عقول البشر كافة عاجزة عن فهم دقيقة من دقائقها. فهل بعد هذا التفكُّر يحتاج عقلك إلى دليل آخر ليذعن بأنّ كائناً عالماً، حكيماً، لا يشبه الكائنات الأخرى، هو الّذي أوجد هذه الكائنات بكلّ حكمة ونظام وترتيب وإتقان؟ ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾5


إنّ كلّ هذا الخلق المتقن الّذي يعجز عقل الإنسان عن فهمه، لم يظهر عبثاً وتلقائياً! فلتعمَ عين القلب الّتي لا ترى الله، ولا تشاهد جمال جميله في هذه المخلوقات! وليمحق الّذي يبقى في الشكّ والتردّد بعد كلّ هذه الآيات والآثار؟ ولكن ما الّذي يستطيع هذا الإنسان المسكين عمله بالأوهام؟ لو أنّك عرضت مسبحتك وزعمت أنّ حبّاتها قد انتظمت تلقائياً من دون أن ينظِّمها منظِّم، لاستهزأت بك البشرية. والأدهى من ذلك أنّك لو أخرجت ساعتك من جيبك وزعمت نفس الزعم أيضاً بالنسبة إليها، ألا يخرجونك من زمرة العقلاء؟ وألا يرميك كلّ عقلاء العالم بالجنون؟ فإذا وُصِفَ الّذي يُخْرِجُ نظام هذه الساعة من قاعدة العلّة والمعلول، بأنّه مجنون ويجب أن يحرم من حقوق العقلاء فما الوصف المناسب الّذي يجب أن يوصف به من يزعم أنّ نظام هذا العالَم، لا بل هذا الإنسان ونظام روحه وجسمه قد ظهر تلقائياً؟ هل يجب إبقاؤه في زمرة العقلاء؟ ترى أيّ بله أشدّ من هذا؟. ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾6.

الثالث: التفكُّر في أحوال النفس
من درجات التفكُّر التفكُّر في أحوال النفس وهو يؤدّي إلى نتائج كثيرة ومعارف عديدة. وإنّنا سنلقي نظرة على نتيجتين اثنتين: الأولى: العلم بيوم المعاد. والثانية: العلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، أي النبوة العامة، والشرائع الحقّة.
________________________________________
5- سورة إبراهيم، الآية: 10.
6- سورة عبس، الآية: 17.
 
 
44

32

الدرس الرابع: التفكر

 الأولى: العلم بيوم المعاد

إنّ من حالات النفس هو تجرّدها، وهي حالة لم يُولِ الحكماء العظام أهمية لأية مسألة حكمية فلسفية أخرى مثلما أَوْلُوا هذه المسألة وأثبتوها بالأدلّة والبراهين. ولكنّنا لسنا الآن في صدد إثبات تجرُّد النفس بصورة مفصّلة، وإنّما نكتفي ببعض الأدلّة الّتي لا تستعصي مبادئها على الفهم، للوصول إلى المقصود.

1- يجمع الأطباء وعلماء الأبدان، وفي ظلّ التجارب، على أنّ جميع أعضاء الجسم، من أمِّ الدماغ الّتي هي مركز الإدراكات ومحلّ ظهور قوى النفس، وحتّى آخر أجزائه الصلبة، تبدأ، من سنِّ الخامسة والثلاثين، أو الثلاثين فما فوق، بالانحدار نحو الانحطاط والنقصان، والاقتراب من الضعف والانحلال. ولقد جرّبنا بأنفسنا أيضاً كيف يبدو الضعف في القوى كلّها. ولكن في هذه الفترة نفسها، أي من سنّ الثلاثين أو الأربعين فما فوق، تزداد القوى الروحية والإدراكات العقلية كمالاً ورقياً وسداداً. ويتّضح من هذا أنّ القوى العقلية ليست جسمانية، إذ لو كانت جسمانية لانحدرت، مثل سائر قوى الجسم، نحو الضعف والوهن. كما لا يمكن القول بأنّ القوى العقلية تزداد قوّة بكثرة أعمال القوّة الفكرية وحصول التجربة، إذ إنّ القوى الجسمانية ينتابها التعب والانحلال، لا القوة والكمال، نتيجة لكثرة العمل وبذل الجهد. وهذا بذاته دليل على أنّ القوى العقلية ليست جسمية ولا من آثار الجسم. 

2- إنّ خصائص النفس وآثارها وأفعالها على النقيض من خصائص الأجسام وآثارها وأفعالها بصورة مطلقة. وهذا دليل على أنّ النفس ليست جسماً. فمثلاً، نحن نعلم أنّ الجسم لا يتقبّل بالضرورة سوى صورة واحدة، وإذا 
 
 
45

33

الدرس الرابع: التفكر

 أريد إعطاؤه صورة أخرى كان لا بُدَّ للصورة الأولى أن تفارقه لكي يمكنه تقبل الصورة الثانية. فإذا رسمت مثلاً، صورة على صفحة الورق، لا يمكن رسم صورة أخرى مكانها إلّا إذا أزيلت الصورة الأولى تماماً. وهذا الحكم يجري في جميع الأجسام بالضرورة العقلية.


أمّا النفس فتختلف تماماً، ففي الوقت الّذي تكون هناك صورة مرسومة فيها، يمكن رسم صورة أخرى مضادة لها من دون زوال الصورة الأولى.

3- إنّ الجسم ترتسم فيه الصور المتناهية. أما في النفس فترتسم الصور غير المتناهية. ولهذا فهي تحكم على الأمور غير المتناهية.
إذاً، يتبيّن أنّ النفس تضاد جميع الأجسام في خصائصها وآثارها وأفعالها. أي أنّ النفس مجرّدة وليست من سنخ الأجسام والجسمانيات، والمجرّدات لا تفسد. وذلك لأنّ الفساد لا يكون من دون مادّة قابلة للفساد، والمجرّدات منزّهة عن مادّة قابلة للفساد. إذ إنّ ذلك من لوازم الأجسام. إذاً، لا تفسد النفس. ومن هنا يستنتج أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن وبمفارقتها له، بل تبقى في عالم آخر، ولا تفنى. وهذا هو المعاد الروحي للنفوس والأرواح قبل يوم القيامة إلى أن يشاء الله لها أن تعود إلى الأبدان.

الثانية: العلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب( النبوة العامة)
لا بُدَّ أن نعرف أنّ للنفوس صحّة ومرضاً، وصلاحاً وفساداً، وسعادة وشقاء، وأنّ إدراك طرقها ودقائق مصالحها ومفاسدها لا يتسنّى لأحد سوى ذات الله المقدسة. لذلك ففي النظام الأتم ـ الّذي هو أحسن نظام، وقد تبيّن من قبل أن منظِّمة حكيم على الإطلاق ومحيط بكلّ شيء ـ لا يمكن أن يهمل بيان طرق السعادة والشقاء، والطرق الهادية إلى الصلاح والفساد، وطرق علاج النفوس، إذ إنّ مثل هذا الإهمال يقتضي النقص في
 
 
46

34

الدرس الرابع: التفكر

 العلم أو النقص في القدرة، أو الظلم والبخل من دون سبب.


ولقد تبيّن أنّ ذات الله المقدّسة منزّهة عن كلّ ذلك، فهو الكامل على الإِطلاق والمفيض على الإطلاق، وأنّ إهمال بيان الطرق الموصلة إلى السعادة والشقاء يعدّ خللاً كبيراً في الحكمة، ويبعث على الفساد والاختلال في النظام والحكم. إذاً، أصبح من اللازم بيان طرق السعادة والهداية في النظام الأتم.

وقد حصلت من هذا نتيجتان واضحتان:
الأولى: هي أنّ الشريعة ـ وهي الوصفة الخاصّة بإصلاح الأمراض النفسية ـ لا توجد إلاّ عند ذات الحقّ المقدّس.
الثانية: هي أنّ الله تعالى يعلنها ـ الشريعة ـ حتماً. ومعلوم أنّ مثل هذا الهدف العظيم، وهذا العلم الكامل الدقيق الّذي يعجز عن إدراكه أعقل العقلاء ولا يقع لأحد إلّا عن طريق الوحي والإِلهام. أيّ يجب أن يكون تعليمه من جانب الحق تعالى. وبديهي، أنّ جميع أفراد البشر ليسوا خليقين بمثل هذه الهبة، وليست لهم القابلية والقدرة على القيام بمثل هذه المهمّة. ولكن يظهر خلال بضعة قرون من يكون جديراً بالاضطلاع بمثل هذا الواجب وتحقيق مثل هذا الهدف العظيم، فيبعثه الحقّ تعالى ليبيّن للناس الطريق إلى السعادة والطريق إلى الشقاء، ليعلم الناس كيف يصلحون أنفسهم. وهذه هي النبوة العامة.

تتميم(النبوة الخاصة)
وهو أنّنا وبعد أن علمنا ضرورة وجود شريعة إلهية لبني البشر، ولزوم رجوعنا إلى الشرائع السائدة بين الناس، وهي على الأغلب الشرائع الإِلهية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإِسلام، نرى بأنّ الشريعة الإسلامية هي أكمل من الشرائع الأخرى في أبعادها الثلاثة، الّتي هي أساس الشرائع ومدار التشريع،
 
 
47

35

الدرس الرابع: التفكر

  أحدها ما يعود إلى العقائد الحقّة، والمعارف الإِلهية وتوصيف الحقّ وتنزيهه، وكيفية ذلك. والعلم بالملائكة وتوصيف الأنبياء عليهم السلام وتنزيههم، ممّا هو أصل الشريعة وأساسها. وثانيها ما يعود إلى الخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة وإصلاح النفس. وثالثها هو جانب الأعمال الفردية والاجتماعية والسياسية والمدنية وغير ذلك ـ بل إنّ كلّ ناظر منصف وغير مغرض في هدفه يدرك أنّ الإِسلام أرقى من أن يقارن بدين آخر، وأنّ الحياة البشرية لم تشهد قانوناً ولا شريعة بهذا الإتقان بحيث تكون تامة وكاملة في جميع مراحل الحياتين الدنيوية والأخروية. وهذا بذاته خير دليل على أحقية الإسلام وصدقه.


وعليه، وبعد إثبات النبوّة العامّة، وأنّ الله قد شرّع لبني البشر شريعة، وبيّن لهم طريق الهداية، ووضعهم ضمن إطار نظم ونظام، لم يعد إثبات أحقية الدِّين الإسلامي بحاجة إلى مقدّمات أبداً، سوى التمعُّن فيه ومقارنته بسائر الأديان والشرائع في جميع المراحل الّتي يمكن تصوّرها، ابتداء من حاجة الإِنسان إلى الملكات الحقّة والمعارف النفسانية، وحتى بلوغ الواجبات النوعية الفردية والاجتماعية. وهذا معنى من معاني الحديث الشريف: "الإِسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى عليه"7 إذ كلّما ازداد العقل البشري تقدُّماً وتطوّراً في مدركاته وتمعّناً في حجج الإسلام وبراهينه، ازداد خضوعاً لنور هدايته، فلا تظهر حجّة ودليل في العالم ضدّ الإسلام إلّا وينتصر عليه.

والمستخلَص من أدلتنا على إثبات نبوّة خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلم هو أنّه لمَّا كان إتقان خلق الكائنات وحسن تربيتها وتنظيمها دليلاً يهدينا إلى الاعتراف بوجود الخالق والمنظِّم الّذي يحيط علمه بكلّ الدقائق واللطائف والجلائل، كذلك يهدينا إتقان أحكام شريعة وحسن نظامها وتربيتها الكامل 
________________________________________
7- وسائل الشيعة، ج17، ص376.
 
 
48

36

الدرس الرابع: التفكر

 وكونها تتكفل بكلّ الحاجات المعنوية والمادية، الدنيوية والأخروية، الفردية والاجتماعية، إلى أنّ مشرّعها ومنظّمها عالم محيط بجميع حاجات العائلة البشرية. وكما أنّ العقل يهدينا إلى أنّ عقل ذلك الإنسان، الّذي كتب تاريخه جميع المؤرّخين من مختلف الأمم قائلين إنّه كان أمّياً وعاش في محيط خال من الكمالات والمعارف، لا يمكن أن يكون قادراً على وضع مثل هذا الترتيب الكامل والنظام التام بنفسه. كذلك ندرك بالضرورة أنّ هذه الشريعة قد شرعت في الغيب وفيما وراء الطبيعة، ونزلت عن طريق الوحي والإلهام على ذلك الإنسان العظيم. والحمد لله على وضوح الحجّة.

 

49


37

الدرس الرابع: التفكر

 خلاصة الدّرس

ـ للتفكُّر فضائل كثيرة، فهو مفتاح أبواب المعارف، وهو مقدّمة لازمة للسلوك الإنساني، وله في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تعظيم بليغ.
ـ للتفكُّر مراتب: التفكُّر في الحقّ تعالى، التفكُّر في المصنوع، التفكُّر في أحوال النفس.
ـ التفكُّر في أحوال النفس له نتائج كثيرة، منها: العلم بيوم المعاد، العلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
 
 
50

38

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 أهداف الدرس

1- أن يدرك الطالب ضرورة أن يكون المؤمن بين الخوف والرجاء.
2- أن يعدِّد مراتب الخوف.
3- أن يدرك الوسيلة الّتي تجعله في حالة تعادل الخوف والرجاء.
 
 
51

39

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام:

"كان فيها (وصية لقمان) الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجل خيفة لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك. ثمّ قال: كان أبي يقول: إنّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا"1.

نظرتا الإنسان المؤمن:
إنّ للمؤمن العارف بالحقائق نظرتين:
الأولى: نظرته إلى نفسه من حيث نقصانه وضعفه وافتقاره واحتياجه الأزلي والأبدي، وأنّه لا يملك بذاته شيئاً على الإطلاق، بل إثبات النقص له هو قصور في التعبير لأنّ إثبات النقص يقتضي ثبوت الذّات في مرتبة سابقة، وهذا غير دقيق لأنّه فقير بذاته أيضاً، و ليس له اكتفاء من جهتها لنثبت لها شيئاً!
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 67.
 
 
53

40

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 وهو من خلال هذه النظرة سيعلم بأن ليس له شي‏ء من ذاته، فلا العبادات ولا الطاعات ولا العلوم ولا المعارف كانت منطلقة من ذاتيّاته! فلا يبقى مكان للعجب، بل سيقف مطأطئَ الرأس خجلاً وذلاً وخوفاً! فهذه العبادة ممّن ولمن؟ إنّ كلّ جميل يعود إليه تعالى: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾2.


الثانية: نظرته إلى كمال الله تعالى، وبسط رحمته، وسعة لطفه وعنايته. فهو يرى أنّ الله تعالى أنعم عليه بهذه النعم المتنوّعة مبتدأة لا يسبقها سؤال، رغم عدم علم الإنسان بقيمتها وعدم استعداده وتهيئته للاستفادة منها! وأنّ الله قد فتح أبواب لطفه وعفوه على العباد دون استحقاق منهم.

هذا الملك الّذي لا تضره معصية من عصاه ولا تنقص من خزائنه شيئاً، ولا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تزيد خزائنه شيئاً!

فإذا جثونا عند أعتاب رحمته وعنايته، لوجب أن نقول: اللهمّ إنّك إذ ألبستنا لباس الوجود، ووهبتنا كلّ أسباب الحياة والرفاه بما يفوق إدراك المدركين، وأريتنا طرق الهداية، وأسبغت علينا من نعمك، إنّما كان ذلك لمصلحتنا لننعم بأفضالك ونعمك. وها نحن قد وفدنا إلى دار كرامتك، وعلى أعتاب سلطنتك، مثقلين بذنوب الثقلين، مع أنّ ذنوب المذنبين لم تنقص من خزائن رحمتك، ولم تخلّ خطاياهم بمملكتك. فماذا أنت صانع بقبضة تراب لا تساوي شيئاً عند أعتاب عظمتك سوى أن تشملها برحمتك وعنايتك؟ أيمكن أن نأمل غير الرحمة من لطفك؟!
________________________________________
2- سورة النساء، الآية: 79.
 
 
54

41

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 على الإنسان أن يتردّد بين هاتين النظرتين. فلا يغمض عينيه عمّا فيه من نقص وقصور في القيام بواجب العبودية، ولا هو ينسى سعة رحمة الحقّ جلّ جلاله وعنايته وشمولها.


مراتب الخوف وأسبابه:
للخوف مراتب ودرجات متعدِّدة، منها:
1- العامّة: حيث إنّهم يخافون من العذاب والألم والعقاب في الآخرة نتيجة ذنوبهم.
2- خوف الخاصّة: حيث إنّهم يخافون من العتاب الإلهي لهم بسبب تقصيراتهم في جنب الله.
3- خوف أخصّ الخاصّة: حيث إنّهم يخافون من طروء الحجب الّتي تحجب القلوب عن الله تعالى، فأشدّ ما يخافونه البعد والفراق.

وهناك عوامل تساعد على رفع غفلة الإنسان وحصول هذه المراتب عنده على اختلافها، منها:
التفكُّر في شدّة بأس الله تعالى وأنّه شديد العقاب، وملاحظة دقّة الطريق المستقيم، وأخطار الدنيا وما فيها ومتاعب البرزخ ومصاعبه، ووقفة يوم الحساب والميزان، وعذاب الآخرة!

الاعتراف بالقصور عن عبادة الله تعالى حقّ عبادته، لأنّ العبادة هي الثناء على مقام ذات الله المقدّسة، وثناء كلّ شخص لا يمكن إلّا مع معرفة الشخص ومزاياه بشكل كامل، ويد العباد قاصرة عن عزّ جلال معرفته، فهم بالتالي غير قادرين على ثنائه حقّ الثناء، كما اعترف بذلك أشرف البشرية وأعرف الكائنات
 
 
55

42

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

  بمقام الربوبية: "ما عبدناك حقّ عبادتك، وما عرفناك حقّ معرفتك"3.


ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "أنت كما أثنيت على نفسك"4.

العبادة باب من أبواب الرحمة الإلهية:
ذكرنا أنّ العباد قاصرين عن الثناء على الله تعالى وعن عبادة ذاته المقدّسة. ومن دون معرفة الحقّ سبحانه وعبوديته لا يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكمالية والمدارج الأخروية، كما هو ثابت في محلّه (وإن كان عامّة الناس غافلين عن ذلك، ويحسبون المدارج الأخروية تأتي جزافاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) ولمّا كان الأمر كذلك فتح الله تعالى بلطفه الشامل ورحمته الواسعة باباً من الرحمة والرعاية بالعباد عن طريق تعليمات الوحي الغيبية وبواسطة الأنبياء، وهو باب العبادة والمعرفة، فعلّم العباد طرق عبادته وفتح لهم سبيلاً إلى المعارف لكي يخفّفوا من نقائصهم قدر الإمكان ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة ويهتدوا بأشعة نور العبودية للوصول إلى عالم كرامة الحقّ، وإلى الروح والريحان وجنّات النعيم، بل إلى رضوان الله الأكبر.

ففتح باب العبادة والعبودية من النعم الكبرى الّتي تدين لها الكائنات كافة، دون أن تستطيع الوفاء بحقّ الشكر، بل إنّ كلّ شكر هو فتح باب كرامة لا تقدر على شكره أيضاً، فإذا علم الإنسان ذلك وأطّلع قلبه عليه علم تقصيره. وحتّى لو تقدّم إلى أعتاب الله جلّ جلاله بعبادة الجنّ والإنس والملائكة المقرّبين لكان مع ذلك خائفاً ومقصِّراً.

فعلام تعتمد أيُّها الإنسان المسكين؟ أعندك متّكأ تتّكئ عليه؟ أتثق بعملك وتطمئنّ إليه؟ إذا كان كذلك فالويل لك من غفلتك هذه! وإذا كان اعتمادك على 
________________________________________
3- حار الأنوار، ج 68، ص 23
 
 
56

43

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 فضل الحقّ وسعة رحمته وشمول عنايته، فقد اعتمدت على أمر وثيق، ولجأت إلى ملجأ حصين، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:


"قال الله تبارك وتعالى: لا يتّكل العاملون لي على أعمالهم الّتي يعملونها لثوابي، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم ـ أعمارهم ـ في عبادتي كانوا مقصِّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا فإنّ رحمتي عند ذلك تُدركهم ومنّي يبلغهم رضواني ومغفرتي تلبسهم عفوي فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم وبذلك تسمّيت"5.

الرجاء وسعة رحمة الله تعالى
جاء في الأحاديث أنّ الحقّ تعالى يبسط يوم القيامة بساط رحمته بصورة يطمع حتّى الشيطان بالمغفرة منه. وأنّ الحقّ سبحانه لم ينظر إلى هذا العالَم منذ تكوينه وخُلُقه نظرة لطف كما ورد في الرواية، وأنّه سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذا العالَم رحمته إلّا بمقدار ذرّة بالنسبة إلى العوالم الأخرى، هذه الذرّة قد بعثت على إحاطة النعم الإلهية بالجميع من جميع جوانبهم! فكيف إذاً بنعمه سبحانه في عالم هو عالم كرامته ودار ضيافته وموضع رحمته حيث يبسط رحيميته ورحمانيته؟! إذاً فأكمل حسن ظنّك وثق بفضله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا6 ولولا شمولك برحمته الواسعة لما كنت قد خلقت، فكل مخلوق مرحوم ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ7.
________________________________________
5- بحار الأنوار، ج 68، ص 151.
6- سورة الزمر، الآية: 53.
7- سورة الأعراف، الآية: 156.
 
 
57

44

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 الفرق بين الرجاء والغرور

يمكن للإنسان أن يشتبه فيقع في الغرور وهو يظنّ نفسه من أهل الرجاء، ويمكن التمييز بين الحالتين من خلال أمرين:
1- المصدر والأساس في تكوّن هذه الحالة:
إن كانت هذه الحالة نتيجة ووليدة الاعتقاد الراسخ بسعة رحمة الله وعظمته في قلب الإنسان حتّى تعلّق بهذه الصفات، وأشرقت عليه هذه الحالة فهو الرجاء.
وإن كانت وليدة التهاون في أوامر الله تعالى والاسترخاء وقلّة المبالاة، فهذا غرور ليس من الرجاء بشي‏ء.

2- الآثار المترتبة على هذه الحالة:
إنّ القلب الّذي يعرف الله تعالى حتّى وصل إلى مرتبة الرجاء سيكون محاطاً برحمة ذاته المقدّسة وبعطاياه، وبالتّالي ستراه يقوم بحقّ العبودية والطاعة، لأنّ العبادة والطاعة من الأمور الفطرية الّتي سيقوم بها القلب السليم بلا شكّ، وفي نفس الوقت ستجد نفسك غير معتمد على أعمالك تلك بل لا تعتبر هذه الأعمال شيئاً يستحقّ الذكر، وإنّما كنت تعتمد على رحمة الله تعالى وفضله وعطائه، فأنت من أهل الرجاء. فاشكر الله تعالى على ذلك.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ﴾8.
- وأما من يعمل المعاصي ويتّكل على أعماله لا سمح الله فهو الغرور! وقد سأل أحدهم أبا عبد الله عليه السلام عن قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقال عليه السلام:
________________________________________
8- سورة البقرة، الآية: 218.
 
 
58

45

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 "هؤلاء قوم يترجّحون في الأماني. كذبوا ليسوا براجين، إنّ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شي‏ءٍ هرب منه"9.


وفي رواية أخرى عنه عليه السلام:
"لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو"10.
إنّ مثل من لا يعمل وينتظر رحمة ربه ويرجو رضوانه مثل من يرجو المسبَّب دون أن يعدّ الأسباب، كالفلّاح الّذي ينتظر الزرع من دون أن يبذر الأرض أو يهتمّ بإصلاحها وإروائها، إنّ مثل هذا الانتظار لا يمكن تسميته رجاء، بل هو حماقة وبله!

سبب تعادل الخوف والرجاء:
ورد في الأحاديث الشريفة أنّه لا بدّ من تعادل الخوف والرجاء "لو وزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا"، فالإنسان عندما يُدرك قصوره في النهوض بالعبودية ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة يُصاب بالخوف، وعندما يجد ذنوبه ويرى بعينه كيف أنّ هناك بعض الأشخاص الذين كانت بدايتهم حسنة ثمّ انقلبوا وكانت عاقبة أمرهم الموت دون إيمان أو عمل صالح! سيصاب بالهلع، وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:
"المؤمن بين مخافتين ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك فهو لا يصبح إلّا خائفاً ولا يصلحه إلّا الخوف"11.
________________________________________
9- الكافي، ج 2، ص 68.
10- م.ن، ج 2، ص 71.
11- م.ن، ج 2، ص 71.
 
 
59

46

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 ولكنّه في المقابل يرى الحقّ تعالى في منتهى العظمة والجلال وسعة الرحمة والعطاء.


وحيث إنّ الله تعالى حاضر في قلب المؤمن بجميع صفاته حيث تتجلّى أسماء الجلال والجمال في قلب العارف بصورة متعادلة، لا يترجّح كلّ من الخوف والرجاء على الأخر.

وهناك من اعتبر أنّ الخوف أنفع للإنسان في حال صحته وسلامته وعافيته حتّى يجهد نفسه بالعمل الصالح، وعند ظهور علامات الموت فالرجاء أفضل حتّى يلاقي الإنسان الحقّ المتعالي على أفضل حال يُحبّه عليها تعالى.

لكن هذا الكلام لا يتطابق مع الروايات المذكورة، ثمّ إنّ الخوف من الحقّ سبحانه محبوب لديه ولا يتنافى مع الرجاء المؤكّد، فوجود الخوف لا ينافي كون الإنسان في أفضل حال يُحبّها الله تعالى بل يؤكّد محبوبية الله تعالى له.

وهناك من ذكر أنّ وجود الخوف والرجاء في قلب واحد من شؤون الدنيا، فالخوف يفيد المؤمن في الدنيا لأنّه يحثّه على العمل فيحرص على فعل العبادات وترك المعاصي، وأمّا في الآخرة فلا يبقى دور للخوف بالنسبة له وإنّما سيبقى الرجاء في قلبه لأنّ الرجاء هو كمال معنوي على كلّ حال، ولأنّ العبد كلّما نال رحمة الله أكثر كلّما زاد طمعه نحو فضل الحقّ المتعالي أكثر لأنّ خزائن رحمته لا تنتهي.

يقول العلّامة المجلسي قدس سره: "والحقّ أنّ العبد ما دام في دار التكليف لا بدّ له من الخوف والرجاء، وبعد مشاهدة أمور الآخرة يغلب عليه أحدهما لا محالة بحسب ما يُشاهده من أحوالها"12.

هذا الكلام لو سلّمنا بصحّته فهو يختصّ بطبقة المتوسّطين حيث يكون 
________________________________________
12- بحار الأنوار، ج 67، ص 355.
 
 
60

47

الدرس الخامس: الخوف والرجاء

 خوفهم ورجاؤهم عائدَين إلى الثواب والعقاب، وأمّا الخواصّ والأولياء فأمرهم مختلف، لأنّ الخوف والرجاء ناجمان عن مشاهدة عظمة وجلال وتجلّي أسماء اللطف والجمال، والحاصلان في القلب، لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة، ولا يترجّح أحدهما على الأخر بل إنّ أثار الجلال والعظمة وتجلّيات الجمال واللطف في عالَم الآخرة أكثر، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحقّ من اللذائذ الروحانية، وهو بهذا المعنى من الكمالات النفسية.







خلاصة الدّرس
ـ على الإنسان المؤمن أن يتردّد بين نظرتين، فلا يغمض عينيه عمّا فيه من نقص وقصور في القيام بواجب العبودية (الخوف)، ولا هو ينسى سعة رحمة الله تعالى (الرجاء).
ـ للخوف مراتب: خوف العامّة، والخاصّة، وأخصّ الخاصة.
ـ هناك عوامل تساعد على حصول هذه المراتب، منها: التفكُّر في شدّة بأس الله وعقابه، والاعتراف بالقصور عن عبادة الله حقّ عبادته.
ـ العبادة باب من أبواب رحمة الله تعالى، وهي نعمة كبرى ينبغي شكرها بل شكر الشكر، فالإنسان مهما عبد الله تعالى يبقى قاصراً مقصِّراً عن بلوغ مدحة الله سبحانه.
ـ ينبغي التفريق بين الرجاء والغرور، فالرجاء يكون مع العمل، والغرور مع التهاون واقتراف المعاصي.
ـ إنّ سبب تعادل الخوف والرجاء في الإنسان المؤمن، هو رؤية نفسه في منتهى النقص والقصور، ورؤية الحقّ تعالى في منتهى العظمة والجلال، فيعيش العبد بين هاتين النظرتين في حال متوازية بين الخوف والرجاء.
 
 
61

48

الدرس السادس: إتباع الهوى

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى خطورة اتّباع هوى النفس.
2- أن يدرك مراتب هوى النفس.
3- أن يتبيّن أسباب الغفلة.
 
 
63

49

الدرس السادس: إتباع الهوى

 عن أمير المؤمنين عليه السلام:

"إنّما أخاف عليكم اثنتين: إتباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ وأمّا طول الأمل فإنّه ينسي الآخرة"1.

طبيعة الإنسان في ولادته ونموّه:
إنّ النفس الإنسانية رغم كونها مفطورة على التوحيد والعقائد الحقّة، إلّا أنّها في نفس الوقت منذ ولادتها وخروجها إلى هذا العالَم تنمو معها الميول النفسية والشهوات الحيوانية، فالإنسان منذ ظهوره وبعد مروره بمراحل عدّة لا يعدو أن يكون حيواناً ضعيفاً لا يمتاز عن سائر الحيوانات إلّا بقابلياته الإنسانية، وهذا الأمر يشمل نوع الإنسان بشكل عام وإن كان يُستثنى منه بعض الأفراد الذين شملهم اللطف والعناية الإلهية الخاصّة وكان عليهم حافظ قدسي، ولكنّه استثناء نادر جدّاً.

فالإنسان عند دخوله هذا العالَم تكون الصفات الحيوانية هي الفعّالة فيه، فلا معيار له سوى شريعة الحيوانات الّتي تديرها الشهوة والغضب. وبالإضافة إلى
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 335.
 
 
65

50

الدرس السادس: إتباع الهوى

  هاتين القوّتين نجد عند الإنسان صفات أخرى لم تكن ممكنة عند الحيوانات، وهي مثل الكذب والخديعة والنفاق والنميمة وسائر الصفات الشيطانية الأخرى الّتي يجمعها كلمة "هوى النفس" والّتي يلجأ إليها الإنسان ليدبّر أمور هاتين القوّتين، وهو بهذه القوى الثلاث (الغضب والشهوة وهوى النفس) يخطو ويتقدّم وينمو، وتنمو معه هذه القوى الثلاث وتتقدّم وتتعاظم، وإذا لم تقع تحت تأثير المربّي والمعلِّم، فإنّه يصبح عند الرشد والبلوغ حيواناً عجيباً يسبق حتّى الحيوانات والشياطين، ويكون أقوى وأكمل في مقام الحيوانية والصفات الشيطانية من الجميع! وستنطفئ فيه جميع الأنوار الفطرية وبالتّالي فلن يصل لشيء من المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة.


مثل هذا الإنسان لن يستطيع أن يولد ولادة ثانية إنسانية، وإذا انتقل من هذا الدار على مثل حالته فلن يرى نفسه في تلك الدار (دار كشف السرائر) إلّا حيواناً أو شيطاناً!

وتكون هذه نتيجة التبعية الكاملة لأهواء النفس.
ومن هنا يتّضح أنّ ميزان البعد عن الحقّ هو اتباع هوى النفس، وبمقدار التبعية يحصل البعد.

أمّا لو استطاع الإنسان أن يجعل مملكة نفسه متأثّرة بتربية تعاليم الأنبياء والعلماء والمرشدين لاستسلم شيئاً فشيئاً لهذه التربية ولتفعّلت قواه الإنسانية الّتي كانت مطمورة في نفسه، فتظهر آثارها وتصبح هي الفلك الّذي يدور حوله كلّ ما في مملكة النفس بحيث يجعل شيطان نفسه يؤمن على يديه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ شيطاني آمن بيدي"2 فتستسلم حيوانيته لإنسانيته
________________________________________
2- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 97. ونصُّ الحديث هو هذا: ما منكم أحد إلّا وله شيطان، فقيل له:وأنت يا رسول الله؟فقال:وأنا، ولكن أعانني الله عليه فأسلم".
 
 
66

51

الدرس السادس: إتباع الهوى

 وتصبح مطية مروضة على طريق عالَم الكمال والرقي وبراقاً يرتاد السماء نحو الآخرة. فكما أنّ ميزان منع الحقّ اتّباع الهوى، فكذلك ميزان اجتذاب الحقّ وسيادته هو متابعة الشرع والعقل، وبين هذين المقياسين منازل ومقامات غير متناهية.


قبح اتّباع الهوى:
يقول الله تعالى في قبح اتّباع النفس وأهوائها:

 

﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ3.

 

﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ4.

وجاء في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام:
"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله عزّ وجل: وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلّا شتتّ عليه أمره ولبّست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أوته منها إلّا ما قدّرت له، وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا استحفظته ملائكتي كفّلت السموات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة"5.

وعن الإمام الصادق عليه السلام:
"احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شي‏ء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم"6.
________________________________________
3- سورة ص، الآية: 26.
4- سورة القصص، الآية: 50.
5- الكافي، ج 2، ص 335.
6- م.ن، ج 2، ص 335.
 
 
67

 


52

الدرس السادس: إتباع الهوى

 إنّ رغبات النفس وأمالها لا تنتهي، فإذا اتبعها الإنسان بخطوة واحدة، فستستدرجه للثانية ثمّ الثالثة وهكذا... فبفتحك باباً واحداً لهوى نفسك فإنّك ستصل إلى فتح كلّ الأبواب وستُبتلى بآلاف المهالك، حتّى تنغلق جميع طرق الحقّ بوجهك لا سمح الله وهو أكثر ما يخشاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.


فإذا كنت على صلة برسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم ومن محبّي أمير المؤمنين عليه السلام وأولادهما الطاهرين عليهم السلام فاسعَ لكي تزيل عن قلوبهم المباركة القلق والاضطراب، وقد جاء في القران الكريم في سورة هود:

 

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ...7.

وفي الحديث أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"شيّبتني سورة هود" لمكان هذه الآية8.

وقد قال أحد العرفاء: "هذا على الرغم من أنّ هذه الآية قد جاءت في سورة الشورى أيضاً، ولكن من دون ﴿وَمَن تَابَ مَعَكَ إلّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خصّ سورة هود بالذكر! والسبب في ذلك أنّ الله تعالى طلب منه استقامة الأمّة أيضاً، فكان يخشى أن لا يتحقّق ذلك الطلب، وإلّا فإنّه بذاته كان مستقيماً اشدّ استقامة وهو مثال العدل والاستقامة".

فاعمل على أن لا تُخجل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقبيح عملك وسوء فعلك، كالولد المفسد الّذي يُخجل أباه أمام الناس ويطأطأ رأسه أمامهم! وقد ورد في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وعلي أبوا هذه الأمّة"9.
________________________________________
7- سورة هود، الآية: 112.
8- علم اليقين، ج 2، ص 971.
9- بحار الأنوار، ج 36، ص 11.
 
 
68

53

الدرس السادس: إتباع الهوى

 فأيّها الإنسان الغافل أهكذا تُكافئ من أحسن إليك وهكذا تصون أياديهم البيضاء نحوك؟ وقد تحمّلوا أشدّ المصائب وأفظع القتل وأقسى السبي لنسائهم وأطفالهم من أجل إرشادك ونجاتك! اخجل من نفسك واتركهم يعانون من الظلم الّذي تحمّلوه من أعداء الدِّين من دون أن تُضيف على ظلامتهم ظلامة أخرى، لأنّ الظلم من المحبّ أشدّ ألماً وأكثر قبحاً.


تعدُّد هوى النفس:
إنّ أهواء النفس متعدِّدة ومتنوِّعة بحسب ما تتعلّق به هذه الأهواء، وكلّ نوع منها له مراتبه أيضاً، الّتي قد تكون خفية في بعض الأحيان إلى درجة أنّ الإنسان لا يلاحظها ويغفل عنها. وهذه المراتب:
1- أصحاب الأهواء الباطلة الذين يعبدون الذهب وغيرها كما يخبر الله تعالى عنهم: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾10.
2- أصحاب الأهواء والأباطيل الشيطانية في عقائدهم وأخلاقهم الفاسدة، فهم يحتجبون عنه سبحانه بصورة أخرى.
3- أصحاب المعاصي الكبيرة والصغيرة والموبقات والمهلكات يبتعدون عن سبيل الحقّ بصورة ثالثة.
4- أهل الأهواء في الرغبات النفسية المباحة مع الانشغال والانهماك فيها يتخلّفون عن سبيل الحقّ بصورة رابعة.
5- أهل المناسك والطاعات الظاهرية الذين يعبدون من أجل عمران الآخرة وتلبية الشهوات النفسية، ومن أجل البلوغ إلى الدرجات العلى، أو الخشية
________________________________________
10- سورة الجاثية، الآية: 23.
 
 
69

54

الدرس السادس: إتباع الهوى

  من العذاب الأليم والنجاة من الدركات السفلى يحتجبون عن الحقّ وسبيله بصورة خامسة.

6- أصحاب تهذيب النفس وترويضها لإظهار قدرتها في التحلّي بالصفات الكمالية، فيُفصلون عن الحقّ ولقائه بشكل آخر.
7- مقامات العارفين الذين لا يهمهم سوى لقاء الحقّ والوصول إلى مقام القرب، يحتجبون عن الحقّ وتجلّياته الخاصّة بنوع سابع, لأنّ التلوّن وآثار وجوده الخاصّ لا يزال عندهم موجوداً.
وهناك مراتب فوق تلك أيضاً، فعلى أصحاب هذه المراتب أن يراقبوا حالهم بدقّة، وأن يطهّروا أنفسهم من الأهواء لئلّا يتخلّفوا عن طريق الله تعالى ولا يضلّوا عن صراط الحقيقة المستقيم، حتّى تظلّ أبواب الرحمة مفتوحة عليهم، مهما كانت مقاماتهم ومراتبهم، والله وليّ الهداية.

طول الأمل ينسي الآخرة:
إنّ اليقظة هي أوّل منزل من منازل الإنسانية كما يقول كبار أهل السلوك في بيانهم لمنازل السالكين ، فعلى الإنسان أن يلتفت إلى أنّه مسافر، والمسافر لا بدّ له من المسير، وأنّ له هدفاً يجب الحركة نحوه، وأنّ الوصول ممكن، وما لم يلتفت إلى هذه الأمور فلن يكون له عزم وإرادة.

إنّ من أهمّ أسباب عدم اليقظة هو أن يظنّ الإنسان أنّ هناك متّسع من الوقت للبدء بالسير، وأنّه إذا لم يبدأ اليوم فسيبدأ غداً.

إنّ طول الأمل هذا والظنّ بطول البقاء والرجاء بسعة الوقت والأمل بالدنيا، يمنع الإنسان من التفكير في المقصد الأساسي الّذي هو الآخرة، ويبعث الإنسان على نسيانه وعدم التزوّد لهذا السفر، ومن لم يتهيّأ لهذا السفر الطويل المحفوف 
 
 
70

55

الدرس السادس: إتباع الهوى

 بالمخاطر ولم يعدّ العدّة - مع ضيق الوقت - سيتعثّر ويسقط أثناء الطريق ويهلك دون أن يهتدي إلى سبيل.


إنّ أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة ليس لها موعد معيّن، فقد يكون الوقت ضيّقاً جدّاً، فتفوتك الفرصة. إنّ الإنسان لا يعلم متى يُقرع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً.

فيا أيُّها القلب الغافل! انهض من نومك وأعدّ عدّتك للسفر "فقد نودي فيكم بالرحيل"11، وعمّال عزرائيل منهمكون في العمل ويمكن في كلّ لحظة أن يسوقوك سوقاً إلى العالَم الأخر، ولا تزال غارقاً في الجهل والغفلة!

"اللهمّ إنّي أسألك التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار السرور والاستعداد للموت قبل حلول الفوت"12.



 خلاصة الدرس
ـ إنّ الإنسان رغم كونه مفطوراً على التوحيد والعقائد الحقّة، إلاّ أنّه منذ ولادته تكون الصفات الحيوانية فعّالة فيه عبر قوّتي الشهوة والغضب بالإضافة إلى هوى النفس الّذي يدبِّر أمور هاتين القوّتين.
ـ لا بدّ من إخضاع القوى الثلاث (الشهوة ـ الغضب ـ هوى النفس) للعقل والشريعة حتى تستسلم حيوانيته لإنسانيته.
ـ قد ورد الكثير في الشريعة الإسلامية في قبح اتباع هوى النفس، ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "احذروا أهواءكم كما 
_____________________________________
11- نهج البلاغة، خطبة 204.
12- مفاتيح الجنان، دعاء ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.
 
 
71

56

الدرس السادس: إتباع الهوى

 تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم...".

ـ ينبغي عدم فتح الباب لهوى النفس من الخطوة الأولى وإلّا استدرجك هواك إلى خطوات أخرى.

ـ لهوى النفس مراتب، منها: أصحاب الأهواء الباطلة، أصحاب المعاصي، أصحاب الأهواء في الرغبات المباحة، أهل المناسك والطاعات الظاهرية، أصحاب تهذيب النفس، مقامات العارفين.
ـ اليقظة هي أوّل منزل من منازل الإنسانية، ومن أسباب عدم اليقظة طول الأمل.
 
 
72

57

الدرس السابع: حب الدنيا

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الدنيا المذمومة.
2- أن يدرك عوامل ازدياد حبّ الدنيا.
3- أن يتبيّن مفاسد حبّ الدنيا.
 
 
73

58

الدرس السابع: حب الدنيا

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همّه، جعل الله الفقر بين عينيه وشتّت أمره ولم ينل من الدنيا إلّا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همّه، جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره"1.

معنى الدنيا:
إنّ للدنيا معانٍ عديدة ومختلفة تستعمل فيها عادة، وليس المهمّ بحث تلك المعاني والتعرّف عليها الآن، وإنّما المهمّ معرفة الدنيا المضرّة الّتي يجب على الإنسان أن يحذرها ويبتعد عنها. هناك عدّة تفسيرات وآراء في معنى الدنيا هذه، منها:
1- الدنيا هي مجموع الأمور الّتي تُبعد عن الله سبحانه وتعالى كالأعمال المبتدعة والأعمال الريائية، حتّى وإن كانت مع الترهُّب وأنواع المشقّة، فإنّها من الدنيا لأنها ممّا يبعد عن الله، وبعكسها الآخرة الّتي هي كلّ الأمور الّتي تُقرِّب من الله سبحانه وتعالى، كالتجارات والصناعات والزراعات
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 309.
 
 
75

59

الدرس السابع: حب الدنيا

 الّتي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال امتثالاً لأمر الله تعالى، وصرفها في وجوه البرّ وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال، وأمثال ذلك، فإنّ هذه كلّها من أعمال الآخرة وإن كانت عامّة الناس يعدّونها من الدنيا.

2- الدنيا والآخرة عبارة عن حالتين من أحوال القلب، فالقريب الداني يُسمّى الدنيا، وهو ما كان قبل الموت فيشمل كلّ ما فيه نصيب وغرض وشهوة ولذّة في العاجل قبل الوفاة، والمتأخّر يُسمّى آخرة، وهو كلّ ما بعد الموت.
3- ما رجّحه الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه، حيث ذكر أنّ الدنيا تُطلق على نشأة الوجود النازلة، والّتي هي دار تصرّم وتغيُّر ومجاز، وهو ما يُسمّى بمقام الظهور والملك والشهود، والآخرة تطلق على النشأة الصاعدة الّتي تسمى "المقام الباطني والملكوت الغيبي". ورغم كون هذه المرتبة النازلة الدنيوية فيها الكثير من الثغرات والنواقص وتُعتبر أسفل مراتب الوجود، إلّا أنّها مهد تربية النفوس القدسية، ودار تحصيل المقامات العالية ومزرعة الآخرة فهي المغنم الأفضل عند الأولياء.

ما هو المذموم من الدنيا:
إنّ ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث عن ذمِّ الدنيا، لا يكون عائداً في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب بها ومحبّتها.

إذاً فنحن أمام نوعين من الدنيا:
1- دنيا ممدوحة ومحبّبة والمقصود منها الحصول في هذه النشأة وهي دار
 
 
76

60

الدرس السابع: حب الدنيا

  التربية ودار التحصيل، ومكان التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة، ممّا لا يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى هذه الدُّنيا، كما جاء في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام:

"إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله. اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنّة..."2.

وقد قال تعالى عنها في القرآن الكريم ﴿وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾3 فقد ورد في تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّها الدنيا.

2- دنيا مذمومة والمقصود بها دنيا الإنسان نفسه حيث يتعلّق بها ويُحبّها حتّى تُصبح منشأ كلّ المفاسد والخطايا النفسية والعملية. وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "رأس كلّ خطيئة حبّ الدنيا"4.

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام:
"ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راعٍ هذا في أوّلها وهذا في آخرها بأسرع فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن"5.

وكلّما زاد تعلُّق القلب بها كلّما اشتدّ الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة وبين القلب والحقّ سبحانه وتعالى، وقد جاء في الأحاديث أنّ لله سبعين ألف حجاب
________________________________________
2- نهج البلاغة، الحكمة رقم 131.
3- سورة النمل، الآية: 30.
4- الكافي، ج 2، ص 315.
5- الكافي، ج 2، ص 315.
 
 
77

61

الدرس السابع: حب الدنيا

 من النور والظلمة، ولعلّ المقصود من حجب الظلمة6 هو هذه الميول والتعلُّقات القلبية نحو الدنيا، فكلّما كان التعلق بالدنيا أقوى كان عدد الحجب أكبر، وكلّما كان أشدّ كانت الحجب أغلظ واختراقها أصعب.


سبب ازدياد حبّ الدنيا:
إنّنا نجد أنّ الإنسان بشكل عام يُحبُّ هذه الدنيا ويتعلّق بها إلى درجة قد يصعب عليه فراقها وتركها إلى الآخرة، وهناك عدّة عوامل تتسبّب بهذا الحبّ والتعلُّق وزيادته عند الإنسان بشكل تدريجي، ويمكن اختصار هذه العوامل بما يلي:

1- إنّ الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي أمُّه، فهو ابن هذا الماء والتراب، فحبُّ هذه الدنيا سيكون مغروساً بقلبه منذ نشوئه ونموه، وكلّما كبر في العمر، كبر هذا الحبّ في قلبه ونما.

2- إنّ الله تعالى قد وهب الإنسان قوى شهوانية ووسائل تلذُّذ ضرورية للحفاظ على ذاته ونوعه، والغافل قد يرى الدنيا دار اللذّات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك اللذّات، حتّى لو اقتنع عقلياً بوجود عالماً أخروياً من خلال الأدلة العقلية أو إخبار الأنبياء، فإنّ قلبه سيبقى غافلاً عن كيفية عالم الآخرة وحالاته وكمالاته، فلن يتقبّله هذا القلب ولن يصل إلى مرتبة الاطمئنان، ولهذا يزداد حبُّه وتعلُّقه بهذه الدنيا.

3- إنّ حبَّ البقاء فطري في الإنسان، فهو بفطرته يكره الزوال والفناء، وهو وإن آمن عقله بأنّ هذه الدنيا دار فناء ودار ممرّ، وأنّ الآخرة هي دار البقاء، فمادام هذا الإيمان لم يصل إلى القلب ليصل القلب إلى مرحلة الاطمئنان، سيبقى يتعاطى مع الموت وكأنّه فناء 
________________________________________
6- بحار الأنوار، ج 55، ص 45. ونصّه هكذا: "إنّ لله تبارك وتعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة".
 
 
78

62

الدرس السابع: حب الدنيا

 وزوال وسيميل بفطرته إلى الدنيا والبقاء فيها.

فلو أدركت القلوب أنّ هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنّها دار الفناء والزوال، وأنّها دار النقص، وأنّ العوالم الأخرى الّتي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنّها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حبّ تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا، واشتاقت للتخلُّص من هذا السجن المظلم. كما كان يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
"والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"7.

ذلك لأنّه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثر على مجاورة رحمة الله المتعالي شيئاً أبداً.
إنّ أكثر أنين الأولياء إنّما هو من ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنّهم لا يحجبهم حجاب ملكي أو ملكوتي، وقد اجتازوا جحيم الطبيعة الّذي كان خامداً غير مستعر، لكن وجودهم في هذه الطبيعة يعتبر تلذّذاً قسرياً طبيعياً حتّى وإن كان بأقل قدر ممكن ويعدّ ذلك حجاباً، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لَيُران على قلبي، وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة"8.
ولعلّ خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا التوجه القسري نحو الحاجات الطبيعية الاضطرارية إلى القمح وسائر الأمور الطبيعية، وهذه خطيئة بالنسبة لأولياء الله والمنجذبين إليه.

تأثير المكتسبات الدنيوية على القلب:
إنّ كلّ ما يكسبه الإنسان ويناله في هذه الدنيا يترك أثراً طبيعياً في القلب، 
________________________________________
7- نهج البلاغة، الخطبة، 5.
8- مستدرك الوسائل، ج 50، ص 320.
 
 
79

63

الدرس السابع: حب الدنيا

 وهو السبب في تعلُّقه بالدنيا، وكلّما ازداد التلذُّذ بالدنيا اشتدّ تأثُّر القلب وتعلُّقه بها وحبُّه لها إلى أن يتّجه القلب كلّياً نحو الدنيا وزخارفها. إنّ جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحبّ. وقد جاء في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام: "مثل الدنيا كمثل ماء البحر كلّما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتّى يقتله"9.


ولنلفت إلى بعض النماذج من مفاسد حبّ الدنيا:
1- من المفاسد الكبيرة لحبّ الدُّنيا كما كان يقول أحد العرفاء أنّه حين ينطبع حبّ الدنيا على صفحة قلب الإنسان، ويشتدّ الأنس بها، ينكشف له عند الموت أنّ الحقّ المتعالي يفصل بينه وبين محبوبه ويُفرِّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على وليّ نعمته! فعلى الإنسان أن يستيقظ ويتنبّه للحفاظ على قلبه.
2- من المفاسد أيضاً أنّ الإنسان يصل إلى حالة الخوف من الموت، نتيجة تعلُّق قلبه بالدنيا، فهو يخاف ترك محبوبه! وهذا يختلف عن الخوف الناشئ من المآل ومصير الإنسان في الآخرة فهو من صفات المؤمنين.
3- على فرض أنّ هذا الإنسان لم يرتكب شيئاً من المعاصي وهو افتراض بعيد جدّاً، بل ومستحيل عادة فإنّ التعلُّق بالدنيا نفسه معصية.
4- من المفاسد أنّ حبّ الدنيا يمنع الإنسان من العبادات والمناسك والرياضات الروحية ويقوّي جانب الطبيعة فيه بحيث يجعلها تعصي الروح وتتمرّد عليها وتُضعف عزم الإنسان وإرادته فيضيع أثر وسرّ العبادات
________________________________________
9- الكافي، ج 2، ص 136.
 
 
80

64

الدرس السابع: حب الدنيا

  ألا وهو انقياد القوى الطبيعية للروح والجسم للإرادة، وأنّ يصبح ملك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت بحيث يقوم بما يريد.

فحبّ الدنيا إذاً، ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبدي، وهو أصل البلايا والسيئات الباطنية والظاهرية. وقد نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الدرهم والدينار أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم"10.



خلاصة الدّرس
ـ للدنيا معانٍ، منها: الدنيا هي مجموع الأمور الّتي تُبعد عن الله تعالى وإن كانت بصورة العبادات، الدنيا هي حالة من أحوال القلوب فيشمل كلّ ما فيه نصيب ولذّة قريبة دانية وهو ما قبل الموت، الدنيا تطلق على نشأة الوجود النازلة.
ـ المذموم من الدنيا ليس نوعها أو كثرتها بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب بها ومحبّتها، حتى تصبح منشأ كلّ المفاسد والخطايا.
ـ هناك عدّة عوامل لازدياد حبّ الدنيا، منها: كون الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، كون الإنسان غافلاً عن عالم الآخرة ويعتبر الدنيا هي دار اللذّات ويرى الموت قاطعاً لتلك اللذّات، كون حبّ البقاء أمر فطري وباعتبار أنّ الإيمان بالآخرة لم يصل إلى القلب سيبقى يتعاطى مع الموت أنّه فناء.
ـ من مفاسد حبّ الدنيا: السخط على الله تعالى حين الموت، الخوف المذموم من الموت، التعلُّق بالدنيا نفسه معصية، المنع عن الاستفادة من العبادات والرياضات الروحية.

________________________________________
10- الكافي، ج 2، ص 316.
 
 
81

65

الدرس الثامن: العجب -1

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب على معنى العجب.
2- أن يتعرّف على درجات العجب.
3- أن يتعرّف إلى مراتب العجب.
 
 
83

66

الدرس الثامن: العجب -1

 ﴿أأَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ1.


عن أبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام:
"العجب درجات منها أن يُزيّن للعبد سوءُ عمله فيراه حسناً فيُعجبه ويحسب أنّه يُحسن صنعاً، ومنها أن يؤمن العبد بربِّه فيمنّ على الله عزّ وجل ولله عليه فيه المنّ"2.

ما معنى العجب؟
العجب كما عرّفه العلماء هو: "تعظيم العمل الصالح واستكثاره والسرور والابتهاج به والتغنُّج والدلال من خلاله، واعتبار الإنسان نفسه غير مقصِّر".
فالعجب في نظرهم يتألّف من هذه العناصر مجتمعة، ولتوضيحه أكثر يقول الشيخ بهاء الدِّين العاملي قدس سره: "لا ريب في أنّ من عمل أعمالاً صالحة من 
________________________________________
1- سورة فاطر، الآية: 8.
2- الكافي، ج 2، ص 313.
 
 
85

67

الدرس الثامن: العجب -1

 صيام الأيّام وقيام الليالي، وأمثال ذلك يحصل لنفسه ابتهاج. فإن كان من حيث كونها عطيّة من الله له، ونعمة منه تعالى عليه، وكان مع ذلك خائفاً من نقصها، شفيقاً من زوالها، طالباً من الله الازدياد منها، لم يكن ذلك الابتهاج عجباً. وإن كان من حيث كونها صفته وقائمة به ومضافة إليه، فاستعظمها وركن إليها، ورأى نفسه خارجاً عن حدِّ التقصير، وصار كأنّه يمنُّ على الله سبحانه بسببها فذلك هو العجب"3.


فنستطيع أن نقول: إنّ العجب عندهم يتألّف من هذه العناصر الخمسة: عمل، صالح، سرور، تغنُّج ودلال، استكثار وإحساس بإيفاء الحقّ والخروج عن التقصير.

وما ذكروه رضوان الله تعالى عليهم صحيح، مع بعض الشرح والتعديل، فيجب اعتبار العمل يشمل العمل الظاهري والباطني، يعني يشمل عمل البدن وتوجهات القلب، ولا يشترط في العمل أن يكون صالحاً بل يمكن أن يصاب الإنسان بالعجب من خلال عمله الشنيع أيضاً كما هو واضح في الرواية الّتي نقلناها عن الإمام الكاظم عليه السلام ، فهو يعجب بخصاله وصفاته سواء كانت صالحة أم طالحة.

درجات العجب:
إنّ للعجب كما وردت الإشارة إليه في الحديث الشريف درجات ثلاث:
الدرجة الأولى: على مستوى العقائد والمعارف، فقد يصاب الإنسان بالعجب بالإيمان والمعارف الحقّة ويقابله العجب بالكفر والشرك والعقائد الباطلة.
________________________________________
3- بحار الأنوار، ج69، ص 306.
 
 
86

68

الدرس الثامن: العجب -1

 الدرجة الثانية: العجب بالملكات الفاضلة والصفات الحميدة ويقابله العجب بسيئات الأخلاق وباطل الملكات.

الدرجة الثالثة: العجب بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة ويقابلها العجب بالأعمال القبيحة والأفعال السيّئة.

مراتب العجب:
إنّ لكلّ واحدة من درجات العجب الأنفة الذكر مراتب، وهذه المراتب بعضها واضح وبيّن يمكن للإنسان الإطّلاع عليها بأقلّ تنبُّه والتفات وبعضها الأخر دقيق للغاية وخفيّ لا يستطيع أن يدركه الإنسان ما لم يفتّش ويدقّق بصورة صحيحة، وهذه المراتب يختلف تأثيرها بطبيعة الحال من حيث شدّتها وصعوبتها وكثرة تدميرها وتخريبها:

المرتبة الأولى: وهي أشدّ المراتب وأهلكها، حيث يكون العجب في قلب الإنسان شديداً إلى درجة أنّه يمنّ بإيمانه وصفاته الحميدة على وليّ نعمته ومالك الملوك، فيتخيّل أنّ الساحة الإلهية قد اتّسعت بسبب إيمانه! أو أنّ دين الله قد اكتسب رونقاً بذلك وأنّه بإرشاده وهدايته أو بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وإقامة الحدود أو بمحرابه ومنبره قد أضفى على دين الله بهاءً جديداً. أو أنّه بحضور جماعة المسلمين وإقامة مجالس العزاء قد أضفى على الدِّين جلالاً. لذلك يمنُّ على الله وعلى سيّد المظلومين وعلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان لا يظهر هذه الحالة وإنّما يبطنها في قلبه. وتتبع هذه الحالة المنّة على عباد الله في الأمور الدينية، كالّذي يمنُّ على الضعفاء والفقراء بإعطائهم الصدقات الواجبة والمستحبّة ومساعدتهم، وأحياناً تكون هذه المنّة خافية حتّى على الإنسان نفسه!
 
 
87

69

الدرس الثامن: العجب -1

 المرتبة الثانية: وهي أن يصل فيه العجب إلى درجة التغنُّج والتدلُّل على الله تعالى، وهذا غير المنّة، فإنّ صاحب هذا المقام يرى نفسه محبوباً لله تعالى، ويرى نفسه في سلك المقرّبين والسابقين، وإذا ذكر أولياء الله والمحبّين والسالكين المجذوبين إليه اعتقد في قلبه أنّه منهم، وقد يُظهر التواضع رياء وقلبه على خلاف ذلك، أو ينفي عن نفسه هذا المقام ليثبته لنفسه لأنّ التواضع من مستلزمات هذا المقام. وإذا ما ابتلاه الله تعالى ببلاء راح يعلن أنّ "البلاء للولاء".


المرتبة الثالثة: أن يرى العبد نفسه دائناً لله تعالى، وأنّه بذلك يكون مستحقّاً للثواب حتّى لو عامله الله تعالى بعدله، ويرى واجباً على الله تعالى أن يجعله عزيزاً في الدنيا ومن أصحاب المقامات في الآخرة، وإذا أصابه بلاء وصادفه ما لا يرغب فإنّه يعترض على الله في قلبه ويتعجّب من ابتلاء المؤمن ورزق المنافق، ويغضب في باطنه على الله تبارك وتعالى وتقديره، ولكنّه يظهر الرضا في الظاهر، ويسلّي نفسه عندما يسمع أنّ المؤمن مبتلى وهو غافل عن أنّ الكثير من المنافقين يُصيبهم البلاء أيضاً وليس كلّ مبتلٍ مؤمناً.

المرتبة الرابعة: أن يرى الإنسان نفسه متميّزاً عن سائر الناس وأفضل منهم في الإيمان، وأفضل من المؤمنين بكمال الإيمان، وبالصفات الحسنة عن غير المتّصفين بها، وبفعل الواجب وترك الحرام عمّن لا يفعل، وكذلك بالنسبة لفعل المستحبّات، فيثق بنفسه وبأعماله ويرى سائر الخُلُق ناقصين وينظر إليهم بعين الاحتقار ويطعن بهم بقلبه أو لسانه ويعيبهم ويبعد كلّاً منهم بصورة ما عن ساحة رحمة الله، ويجعل الرحمة خالصة له ولأمثاله.
 
 
88

70

الدرس الثامن: العجب -1

 هذه علامات العجب الّتي قد يغفل الإنسان عنها، وهناك مراتب أخرى له أدقّ من ذلك.


دقة حيل الشيطان:
إنّ الشيطان وكذلك النفس الأمّارة عندما يتعامل مع الإنسان يتعامل معه عن تخطيط ودراسة، فهو لا يطلب من الإنسان المتّقي الوقوع في الآثام العظيمة بداية كالقتل والسرقة والزنا...، وكذلك في العجب فهو لن يطلب من الإنسان بداية المنّ على الله بهذه الأعمال، أو أن يحسب نفسه في زمرة المحبوبين المقرّبين، وإنّما يبدأ الأمر بالخطوة الأولى ليشقّ طريقه نحو القلب ويستولي عليه بشكل تدريجي.

فتجده يؤكّد عليك الالتزام بظواهر المستحبّات والأذكار والأوراد، بل يدفعك نحو الحرص الشديد عليها حتّى تظنّ بنفسك خيراً، وفي الوقت نفسه تجده يركّز في قلبك قبح معصية معيّنة موجودة عند بعض أهل المعاصي غير موجودة عندك، ويضعها تحت المجهر ويضخّمها حتّى يصبح فاعلها أقبح من إبليس في نظرك، ثمّ يبدأ يوحي لك بأنّك أفضل من مرتكب المعصية هذا بحكم العقل والشرع، وأنّك طاهر بري‏ء من المعاصي وأنّك من أهل النجاة حتماً بحكم أعمالك الصالحة، فينتج عن هذا الإيحاء أمران كلاهما من المهلكات:
1- سوء الظن بعباد الله.
2- العجب بالنفس.
هذا في المرحلة الأولى، ثمّ بشكل تدريجي ينتقل إلى المراحل الأخرى حتّى يصل في النهاية إلى مرحلة يمنّ فيها على وليّ نعمته بإيمانه وأعماله ويصل إلى أسفل الدرجات!
 
 
89

71

الدرس الثامن: العجب -1

 رد حيل الشيطان:

في هذه الحالة يجب أن يخاطب الإنسان نفسه والشيطان ليقول: إنّ هذه المعصية الّتي وقع بها فلان هي أقلّ قبحاً من العجب الّذي وقعت فيه أنا، وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام:
"إنّ الله علم أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلى مؤمناً بذنب أبداً"4.

ولعلّ سوء ظنّي بهذا الإنسان سيوصلني إلى سوء العاقبة فأكون من أهل النار! ويكون له أعمال صالحة لها نور ترفع ظلمات معصيته تلك فيكون من أهل الجنّة.
و كان أحد العارفين (أستاذ الإمام) يقول: "لا تعيبوا على أحد حتّى في قلوبكم، وإن كان كافراً، فلعلّ نور فطرته يهديه، ويقودكم تقبيحكم ولومكم هذا إلى سوء العاقبة".
وكان يقول: "لا تلعنوا الكفّار الذين لا يُعلم بأنّهم رحلوا عن هذا العالَم وهم في حال الكفر، فلعلّهم اهتدوا في أثناء الرحيل".

عجب أهل الفساد بفسادهم:
إنّ أهل الكفر والنفاق وأهل الأخلاق السيّئة والصفات الرديئة وأهل المعاصي والفساد قد يصلون أحياناً إلى درجة الإعجاب بزندقتهم وأخلاقهم السيّئة وموبقات أعمالهم! ويُسرّون بها، ويرون أنفسهم من أصحاب الحرية الخارجة عن التقليد والمحرّرة من التعقيد، والبعيدة عن الخرافات، فيتصوّرون أنّ الإيمان بالله والتديُّن من ضعف العقل وصغره، والأخلاق
________________________________________
4- الكافي، ج2، ص313.
 
 
90

72

الدرس الثامن: العجب -1

  الحسنة والصفات الفاضلة من ضعف النفس والمسكنة، والأعمال الحسنة والعبادات من ضعف الإدراك.


هؤلاء قد استولت الصفات القبيحة على قلوبهم حتّى استأنسوا بها وتصوّروها كمالاً، وهذه الحالة هي الّتي أشار إليها الحديث الشريف: "العجب درجات، منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً فيعجبه ويحسب أنّه يحسن صنعاً".

إشارة إلى قوله تعالى:

 

﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا5.

وهناك عدّة آيات في القرآن الكريم تشير إلى هذه الحالة مثل قوله تعالى:

 

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا6.

هؤلاء هم أكثر الناس مسكنة وأسوأ الخلائق حظّاً وأولئك يعجز أطباء النفوس عن علاجهم ولا تؤثِّر فيهم الدعوة والنصيحة بل قد تعطي أحياناً نتيجة عكسية.

إنّ النفس والشيطان يهوّنان المعاصي في عين الإنسان حتّى إذا وقع في معصية استدرجاه إلى أخرى حتّى يصل إلى درجة الاستهانة بالشريعة والقانون الإلهي وتوصله يداه إلى الزندقة والكفر والإعجاب بهما!

عن الإمام الصادق عليه السلام: "يدخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق فيخرجان من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق وذلك أنّه يدخل
________________________________________
5- سورة فاطر، الآية: 8.
6- سورة الكهف، الآيات: 103 - 105.
 
 
91

73

الدرس الثامن: العجب -1

  العابد المسجد وهو مدلٌّ بعبادته وفكرته في ذلك ويكون فكرة الفاسق في التندُّم على فسقه فيستغفر الله من ذنوبه"7






خلاصة الدرس
ـ للعجب درجات ثلاث: في العقائد والمعارف سواء منها الحقّة أو الباطلة، في الأخلاق والصفات الحميدة أو السيّئة، في الأعمال الحسنة أو القبيحة.
ـ إن لكل واحدة من درجات العجب مراتب: 
1 ـ المنّة على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأئمة عليهم السلام وعلى الناس.
2 ـ التدلُّل على الله فيرى نفسه محبوباً لله وأنّه في سلك المقرّبين.
3ـ يرى نفسه دائناً لله وأنّه بأفعاله يكون مستحقّاً للثواب.
4 ـ يرى أنّه هو أفضل من سائر الناس إيماناً وعملاً وإخلاصاً.
ـ ينبغي الانتباه إلى حيل الشيطان فهو يأتي بوساوسه تدريجيّاً حتّى يوقع الإنسان في العجب المهلك.
________________________________________
7- علل الشرائع، الشيخ الصدوق،ج2،ص354.
 
 
92

74

الدرس التاسع: العجب -2

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى مفاسد العجب.
2- أن يدرك أساس العجب.
3- أن يستشعر أنّ الناس مقصِّرون مع الله تعالى.
 
 
93

75

الدرس التاسع: العجب -2

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"إنّ الله علم أنّ الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلى مؤمناً بذنب أبداً"1.

آثار ومفاسد العجب:
إنّ العجب من الموبقات والمهلكات وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"من دخله العجب هلك"2.

وقال الله تعالى لداود:
"يا داود بشِّر المذنبين وأنذر الصدِّيقين، قال: يا ربّ كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدِّيقين قال: يا داود بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصدِّيقين ألّا يعجبوا بأعمالهم فإنّه ليس عبد أنصبه للحساب إلّا هلك"3.
________________________________________
1- جامع السعادات، الشيخ محمّد مهدي النراقي، ج 1، ص 285.
2- بحار الأنوار، ج 96، ص 309.
3- الكافي، ج 2، ص 315.
 
 
95

76

الدرس التاسع: العجب -2

 أعوذ بالله تعالى من المناقشة في الحساب الّتي تُهلك الصديقين ومن هو أعظم منهم.

 

وصورة هذا العجب في البرزخ وما بعد الموت تكون موحشة ومرعبة جدّاً لا نظير لها في الهول، وأوضح ما يشير إلى ذلك قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأمير المؤمنين عليه السلام: "ولا وحدة أوحش من العجب"4.

وللعجب آثار ومفاسد تتبعه، يقع الإنسان بها إذا أصيب بالعجب، نذكر بعضها:
1- إحباط الأعمال: إنّ العجب يُحبط إيمان الإنسان وأعماله ويفسدها، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الشيطان يقول:
"إذا ظفرت بابن آدم في ثلاث فلا يهمّني عمله بعد ذلك لأنّه لن يُقبل منه: إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، وتسرّب إليه العجب"5.

2- يستحوذ عليه الشيطان ويصبح فريسة سهلة أمامه: وقد ورد أنّه سأل موسى بن عمران على نبيّنا وآله وعليه السلام الشيطان:
"أخبرني بالذنب الّذي إذا ارتكبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه"6.

3- استصغار الذنوب: بل إنّ صاحب العجب يظنّ أنّ نفسه زكية طاهرة فلا ينهض لإصلاح نفسه، ولا يخطر على باله أبداً أن يُطهّرها من المعاصي 
________________________________________
4- بحار الأنوار، ج 68، ص 231.
5- بحار الأنوار، ج 69، ص 315. ونصّه هكذا: "إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل فإنه غير مقبول منه، إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، ودخله العجب".
6- بحار الأنوار، ج 13، ص 350. ونصّه هكذا: "أخبرني بالذنب الّذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: ذلك إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في نفسه ذنبه...".


96

77

الدرس التاسع: العجب -2

 لأنّ ستار العجب وحجابه الغليظ يحول بينه وبين أن يرى عيوبه، وهكذا سيُبتلى الإنسان بأنواع النواقص دون أن يكون قادراً على معرفتها وإصلاحها، ممّا سيوصله إلى الهلاك الأبدي.


4- اعتماد الإنسان على أعماله: وهذا ما يصبح سبباً في أن يحسب الإنسان نفسه في غنى عن الحقّ تعالى، ولا يرى لله تعالى فضلاً عليه! ويرى بحسب عقله الصغير أنّ الحقّ تعالى ملزم بأن يعطيه الأجر والثواب، ويتوهّم أنّه لو عومل بالعدل أيضاً لاستحقّ الثواب.

5- احتقار عباد الله: فيحسب أعمال الناس لا شي‏ء وإن كانت أفضل من أعماله ويُسيء الظن بعباد الله ويرى نفسه أرفع منهم جميعاً.

6- يدفع الإنسان إلى الرياء: لأنّ الإنسان إذا استصغر أعماله ووجد أخلاقه فاسدة وإيمانه لا يستحقّ الذكر، لا يطرح بضاعته تلك ولا يتظاهر بها، فإنّ البضاعة الفاسدة غير صالحة للعرض، ولكنّه إذا رأى نفسه كاملاً وأعماله جيّدة، فإنّه يندفع إلى التظاهر والرياء ويعرض نفسه على الناس.

7- يوصل الإنسان إلى التكبُّر: وهو رذيلة مهلكة سيأتي الكلام عنها مفصّلاً فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فالعجب هو شجرة خبيثة تُنتج الكثير من الكبائر والموبقات، فمن المحتّم أن يعتبر الإنسان نفسه ملزماً بالنهوض لإصلاح النفس، وتطهيرها من هذه الرذيلة واستئصال جذورها من باطن النفس لئلّا ينتقل لا سمح الله إلى العالَم الأخر وهو بهذه الصفة فيكون حال أهل الكبائر أفضل من حاله، فيغمرهم الله برحمته الواسعة بسبب ندمهم أو بسبب ما كان لديهم من رجاء بفضل الله تعالى، وأمّا هذا المسكين الّذي حسب نفسه غنيّاً عن الله تعالى، فسيرى العدل الإلهي إذا
 
 
97

 


78

الدرس التاسع: العجب -2

  تجلّى ولم تشمله الرحمة الإلهية، سيرى حساباً عسيراً وسيخضع لميزان العدل، فيعلم أنّه لم يقم بأيّ عبادة لله تعالى وأنّ كلّ أعماله وإيمانه باطل وتافه، بل وأنّ تلك الأعمال والعبادات نفسها هي سبب الهلاك وبذرة العذاب الأليم ورأس مال الخلود في الجحيم.


عندما يعلن رسول الله محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً:
"ما عرفناك حقّ معرفتك وما عبدناك حقّ عبادتك"7.

 
أساس العجب حب النفس:
الإنسان مفطور على حبِّ الذّات، وبسبب هذا الحبّ يرى الإنسان أعماله الصغيرة كبيرة، ويرى نفسه من الصالحين ومن خاصّة الله، ومستحقّاً للمدح والثناء على تلك الأعمال الزهيدة والتافهة، وفي بعض الأحيان تلوح لنظره قبائح أعماله حسنة، فيما لا يعير أعمال غيره ممّن هم أفضل منه أيّ أهمّية، بل يصف أعمال الصالحين بالقبح.

وبسبب حبّه لنفسه هذا يرى أنّ الله مدين له وأنّه يستوجب منه الرحمة - بسبب تلك الأعمال الزهيدة المصحوبة بآلاف الشوائب المبعدة عن الله تعالى-، فجميع الأخطاء والمعاصي الإنسانية والرذائل الأخلاقية أساسها حبُّ النفس.
________________________________________
7- تفسير أبي السعود، أبي السعود، ج 3، ص 161.
8- سورة النساء، الآية: 79.
 
 
98

79

الدرس التاسع: العجب -2

 ولكنّنا إذا أبعدنا تأثير حبّ النفس هذا ونظرنا بعين الإنصاف إلى هذه الأعمال لنرى هل أنّنا نستحق عليها المدح والثواب والرحمة أم أنّنا جديرون باللوم والعقاب والنقمة، فماذا سنرى؟


لمن العبادات؟
إذا أردتم أن تعرفوا قيمة أعمالكم فلتطرحوا على أنفسكم السؤال التالي:
لو فرضنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخبركم أنّكم إذا عبدتم الله طوال عمركم وأطعتم أوامره وتركتم شهوات النفس ورغباتها، أو فعلتم عكس ذلك فتركتم العبادة وعملتم خلاف أوامره وغرقتم في الشهوات ورغبات النفس طوال حياتكم، أخبركم أنّه في كلتا الحالتين لن تختلف درجاتكم في الجنّة، فلا فرق من هذه الجهة بين أن تصلّوا أو تزنوا، ولكن من جهة أخرى يكون رضا الله تعالى في عبادته والثناء عليه وحمده والابتعاد عن الشهوات والرغبات مع عدم الثواب على ذلك فهل كنتم تصبحون من أهل المعصية أم من أهل الطاعة؟ هل كنتم تتركون الشهوات من أجل رضا الله والتقرُّب إليه والرغبة فيه؟ هل كنتم من المتوسّلين إليه بالمستحبّات والجمعة والجماعات؟ أم أنّكم كنتم ستغرقون في الشهوات وتلازمون اللهو واللعب والملاهي...؟ إنّني أعلن عن نفسي وعمّن هم على شاكلتي بأنّا كنّا نُصبح من أهل المعصية ونترك الطاعات ونعمل بالشهوات!

قيمة هذه العبادات:
إنّ جميع أعمالنا هي من أجل اللذّات ومن أجل الاهتمام بالبطن والفرج، إنّنا عبّاد البطن والشهوة، ونترك لذّة صغيرة للذّة كبيرة وأعظم، إنّ صلاتنا الّتي هي معراج المؤمن نؤدّيها قربة لنساء الجنّة ولا علاقة لها بالتقرُّب إلى الله!
 
 
99

80

الدرس التاسع: العجب -2

 إنّ جميع عباداتنا هذه هي من كبائر الذنوب عند أولياء الله الصالحين العارفين له تعالى.


أيُّها العزيز إنّ الصلاة الّتي تكون لأجل امرأة، سواء كانت في الدنيا أم في الجنّة، لا تكون لله تعالى، فلماذا تتدلّل إلى هذا الحدّ وتنظر إلى عباد الله بعين الاحتقار وتحسب نفسك من خواصّ الله تعالى!

الثواب تفضُّل لا استحقاق:
اعمل الأعمال الّتي أُمرت بها واعلم أنّها ليست لأجل الله، واعلم أنّ الله يدخلك الجنّة بتفضّله ورحمته.
إنّ الله تعالى خفَّف عن عباده لضعفهم بالتجاوز عن دوافعهم تلك الّتي تُعتبر نوعاً من الشرك، وطواه بغفرانه وأسدل عليه وستره برحمته، فحاذِر من تمزّق ستار الرحمة هذا بالعجب، فإذا حصل لا سمح الله أن انطوت صفحتك هذه ورحلت من الدنيا وجاءت صفحة العدل فإنّ عفونة عباداتنا عندئذٍ لن تقلّ عن عفونة المعاصي والموبقات الّتي يرتكبها أهل المعصية، وقد أسلفنا الحديث القدسي:
"يا داود بشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين. قال: كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟ قال: يا داود بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإنّه ليس عبد أُنصبه للحساب إلّا هلك"9.

لأنّه مستحقّ للعذاب وفق العدالة. فإنّ ثواب عبادات العبد لا تعادل شكر واحدة من نعمائه.فإذا كان هذا حال الصدّيقين وهم المطهّرون من الذنب والمعصية! فماذا نقول نحن؟هذا كلّه إذا كان عملنا خالصاً من الرياء الدنيوي والمعاصي والموبقات، وقلّما تخلو الأعمال وتخلص من الرياء والنفاق!
________________________________________
9- الكافي، ج 2، ص 315.
 
 
100

81

الدرس التاسع: العجب -2

 عبادتك تستوجب التوبة لا العجب!


بعد كلّ ما ذكرناه، عليك أن تتوب من تلك الأكاذيب الّتي قلتها في حضرة الله تعالى، وممّا نسبته إلى نفسك دون دليل. ألا ترى أنّ عليك أن تتوب من قولك وأنت تقف أمام الله قبل الدخول في الصلاة ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ10، وكذلك قولك: ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ11، فهل وجوهكم متوجّهة إلى فاطر السماوات والأرض؟ هل أنتم خالصون من الشرك؟ هل صلاتكم وعباداتكم وحياتكم ومماتكم لله؟

ثمّ بعد ذلك عندما تقولون ﴿الْحَمْدُ للّه فهل أنتم حقّاً تقرّون أنّ المحامد كلّها لله؟ أم أنّكم تقرّون بالحمد لعباده بل ولأعدائه؟، أليس قولكم ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ هو كذب أيضاً، لأنّكم في الوقت نفسه تقرّون بالربوبية لغيره تعالى في هذا العالَم؟ أفلا يحتاج ذلك للتوبة والخجل؟

وحينما تقول ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فهل تراك تعبد الله أم تعبد بطنك وفرجك؟ هل أنت تطلب الله أو الحور العين؟ هل تطلب العون من الله فقط؟ إنّ الشيء الّذي نغفل عنه في الأعمال هو الله تعالى.

ثمّ عندما تذهب إلى بيت الله تعالى فهل أنت تقصد الله تعالى صاحب الدار وقلبك مترنّم بقول الشاعر:
وما حبّ الديار شغفن قلبي     ولكن حبّ من سكن الديار

أباحث أنت عن الله؟ طالباً لآثار جماله وجلاله؟ ألأجل سيّد المظلومين تقيم العزاء؟ ألأجله؟ تلطم على رأسك وصدرك أم لأجل الوصول إلى آمالك وأمانيك؟ 
________________________________________
10- سورة الأنعام، الآية: 79.
11- سورة الأنعام، الآية: 162.
 
 
101

82

الدرس التاسع: العجب -2

 أهي بطنك الّتي تدفعك لإقامة مجالس العزاء، وشهوة الظهور هي الّتي تدفعك للذهاب إلى صلاة الجماعة، وهوى النفس هو الّذي يجرّك للمناسك والعبادة؟.


فيا أيُّها الأخ، كن حذراً تجاه مكائد الشيطان واعلم أنّه لن يدعك تؤدّي عملاً واحداً بإخلاص، وحتّى هذه الأعمال غير الخالصة الّتي يتقبّلها الله بفضله لا يدعك الشيطان تصل من خلالها إلى الأهداف المقصودة منها، فيعمل على إحباطها وتخسر حتّى هذا النفع بسبب العجب والتدلُّل في غير موقعه! وحتّى أنّك لن تصل إلى الجنّة وحور العين، بل تخلد في العذاب ويشملك الغضب الإلهي كذلك.







خلاصة الدرس
ـ للعجب آثار ومفاسد، منها: إحباط العمل، استحواذ الشيطان، استصغار الذنوب، اعتماد الإنسان على أعماله، احتقار عباد الله، الرياء، التكبُّر.
ـ إنّ أساس العجب حبّ النفس.
ـ لو تأمّلنا بكثير من عبادات الناس لوجدناها يشوبها التقصير والشرك والكذب، لذلك إنّ الله تعالى يتفضَّل على الناس بأن يُثيبهم وهم لا يستحقّون ذلك، فإنّ ثواب عبادات الناس لا تعادل شكر واحدة من نعمائه تعالى.
إن عبادات الناس بما يكتنفها من شرك وكذب تستوجب التوبة لا العجب.
 
 
102

83

الدرس العاشر: الرياء -1

 أهداف الدرس:

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الرياء وأقسامه.
2- أن يدرك الفرق بين العلم والإيمان.
3- أن يتعرف إلى كيفية استئصال جذور الرياء.
 
 
103

84

الدرس العاشر: الرياء -1

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ وجل: اجعلوها في سجّين، إنّه ليس إياي أراد بها"1.

معنى الرياء:
الرياء هو إظهار وإبراز شي‏ء من الأعمال الصالحة أو الصفات الحميدة أو العقائد الحقّة، للناس لأجل الحصول على منزلة في قلوبهم والاشتهار بينهم بالصلاح والاستقامة والتديّن، من دون أن تكون هناك نيّة إلهية صحيحة.

فالرياء بناء على هذا التعريف يكون في أمور ثلاثة: العقائد الحقّة، والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة.

ويكون الرياء في هذه الأمور الثلاثة من جهتين:
الأولى: إظهار العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة من أجل الحصول على منزلة في القلوب.
________________________________________
1- الكافي،ج2،ص294.
 
 
105

85

الدرس العاشر: الرياء -1

 الثانية: يُبعد عن نفسه العقائد الباطلة والأخلاق السيّئة والأعمال القبيحة لنفس الهدف.


وسنتعرّض لهذه الأمور بشي‏ء من التفصيل:

أولاً: الرياء في أصول العقائد
إنّ الرياء في أصول العقائد والمعارف الإلهية أشدّ من جميع أنواع الرياء عذاباً وأسوأها عاقبة، وظلمته أشدّ من ظلمات جميع أنواع الرياء.

والمرائي إن كان في واقعه لا يعتقد بالأمر الّذي يظهره فهو من المنافقين، ونتيجة ذلك ستكون الخلود في النار والهلاك الأبدي والعذاب أشدّ العذاب.

وأمّا إن كان يعتقد بما يظهره، ولكنّه يظهره من أجل الحصول على منزلة قي قلوب الناس، فهو وإن لم يكن منافقاً إلّا أنّ رياءه يؤدّي إلى زوال نور الإيمان من قلبه ودخول ظلمة الكفر، وفعله هذا من الشرك الخفي، لأنّ هذه المعارف الإلهية لم تكن خالصة لله بل حوّلها المرائي إلى الناس، وهكذا وبشكل تدريجي سيصبح قلبه مختصّاً بغير الله تعالى، فيخرج من هذه الدنيا بدون إيمان حقيقي، وقد جاء في الحديث الشريف: "كلّ رياء شرك"2.

وعن أبي عبد الله عليه السلام:
"قال الله عزّ وجل: أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً"3.

الفرق بين العلم والإيمان:
قد يحصل للإنسان علم بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الثبوتية
________________________________________
2- الكافي،ج2،ص293.
3- الكافي،ج2،ص295.
 
 
106

86

الدرس العاشر: الرياء -1

والجلالية السلبية، وكذلك يعلم بالملائكة والرسل والكتب ويوم القيامة. ولكنّه في نفس الوقت ليس بمؤمناً!، وما أكثر هذا النوع من الناس.


ويمكننا أن نُمثّل بالشيطان، فهو رغم علمه بجميع هذه الأمور بقدر علمنا، ولكنّه كافر غير مؤمن.

والسبب في ذلك أنّ الإيمان عمل قلبي، يتضمّن التقبُّل والاستسلام والخضوع والاعتراف. فقد يحصل للإنسان علم في العقل بكلّ هذه المعاني دون أن يخضع ويستسلم لها في قلبه. ولنضرب مثالاً محسوساً لذلك:


أنتم قد أدركتم بعقولكم أنّ الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً، وأنّ جميع الأموات في العالَم ليس لهم حسّ ولا حركة بقدر ذبابة، وأنّ جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته، ولكن حيث إنّ القلب لم يتقبّل هذا الأمر ولم يُسلِّم أمره

للعقل فإنّكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع ميت!


وأمّا إذا سلّم القلب أمره للعقل وتقبّل هذا الحكم منه، فلن يكون في هذا العمل أيّ المبيت مع الميت أيّ إشكال بالنسبة إليكم، كما أنّه وبعد عدّة مرّات من الإقدام يصبح القلب مسلّماً، فلن يبقى عنده بعدها خوف من الميت.


ومن الممكن أن يبرهن إنسان بالدليل العقلي على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد وباقي العقائد الحقّة، ولكن ذلك لا يسمّى إيماناً، ولا يجعل الإنسان مؤمناً، فلعلّه من جملة الكفّار أو المنافقين أو المشركين. فاليوم العيون مغشّاة، والبصيرة الملكوتية غير موجودة، والعين الملكية لا تدرك ولكن عند كشف السرائر وظهور السلطة الإلهية الحقّة، وخراب الطبيعة وانجلاء الحقيقة، سيعرف ويلتفت بأنّ الكثيرين لم يكونوا مؤمنين بالله حقّاً، وأنّ حكم العقل لم يكن مرتبطاً بالإيمان، فما لم تكتب عبارة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمناً بوحدانية الله تعالى.

 
107

87

الدرس العاشر: الرياء -1

 وعندما ترد هذه العبارة النورانية إلى القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحقّ تعالى، فيُسلِّم أن لا مؤثّر في الوجود إلّا الله تعالى ولا ملك سواه، ولا يتوقّع من شخص آخر جاهاً ولا تنزيهاً، ولا يبحث عن المنزلة والشهرة عند الآخرين. وبالتّالي فلن يكون القلب مرائياً ولا مخادعاً.


فإذا رأيتم رياء في قلوبكم فاعلموا أنّ قلوبكم لم تسلِّم للعقل وأنّ الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنّكم تحسبون في قلوبكم شخصاً آخر هو المؤثِّر في هذا العالَم غير الحقّ تعالى فتكونون في زمرة المنافقين أو المشركين أو الكفّار.

يبقى أن نشير إلى أنّ نور الإيمان إذا قوي حصل الاطمئنان في القلب، فالاطمئنان ليس هو العلم وإنما هو كمال الإيمان.

كيف نستأصل جذور الرياء:
نذكر هنا أمراً نأمل أن يكون مؤثِّراً في علاج هذا المرض القلبي، وهذا الأمر قد أشارت إليه آيات من القرآن الكريم والعديد من الروايات ودلّت عليه الأدلّة العقلية واكتشفته القلوب البصيرة العارفة بالله تعالى، وهو:
إنّ قدرة الله تعالى محيطة بجميع الموجودات وسلطانه مبسوط على جميع الكائنات وقيمومته جارية على جميع المخلوقات، وقلوب الناس ليست مستثناة من ذلك، فالله تعالى هو القيّم والمسلّط والمحيط بقلوب الناس جميعاً.

ومادام تعالى هو القيّم على قلوب الناس فلا يمكن للإنسان التصرُّف بها والتأثير فيها إلّا بإذن الله تعالى، بل إنّ الإنسان غير قادر على التصرُّف حتّى بقلبه هو بدون إذاً من الله تعالى، وبهذا المعنى وردت كلمات إشارة وكناية وصراحة في القران الكريم وفي أخبار أهل البيت عليهم السلام.

إذاً، فرياؤك وتملُّقك، إذا كانا لأجل جذب قلوب العباد ولفت نظرهم 
 
 
108

88

الدرس العاشر: الرياء -1

 والحصول على المنزلة والتقدير في القلوب والاشتهار بالصلاح، فإنّ ذلك خارج عن تصرُّفك تماماً وهو تحت تصرُّف الله تعالى، فهو إله القلوب وصاحبها الّذي يوجّهها نحو من يشاء، بل من الممكن أن تحصل على نتيجة عكسية! وقد رأينا الكثير من الأشخاص المتملّقين والمنافقين كيف افتضح أمرهم وبان زيفهم وحصلوا على عكس ما أرادوا الحصول عليه في نهاية الأمر!


وفي رواية عن أبي عبد الله عليه السلام يشرح قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾4.

قال عليه السلام:
"الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله، إنّما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الّذي أشرك بعبادة ربّه. ثمّ قال: ما من عبد أسرّ خيراً فذهبت الأيّام أبداً حتّى يظهر الله له خيراً، وما من عبد أسرّ شرّاً فذهبت الأيّام أبداً حتّى يظهر الله له شرّاً"5.

إذاً أيها العزيز، اطلب السمعة والذكر الحسن من الله، والتمس قلوب الناس
من مالك القلوب، اعمل لله وحده وستجد أنّ الله تعالى بالإضافة إلى الكرامات والنعم الأخروية سيتفضّل عليك في هذا العالَم أيضاً بكرامات عديدة، فيجعلك محبوباً ويعظّم مكانتك في القلوب ويجعلك مرفوع الرأس وجيهاً في كلتا الدارين.

ثمّ لو فرضنا أنّك حصلت على قلوب الناس من خلال التملُّق والرياء، فماذا ستجني من حبّ الناس الضعاف لك، وما فائدة هذه الشهرة وهذا الصيت؟ وهم لا يملكون شيئاً من دون الله!
________________________________________
4- سورة الكهف،الآية:110
5- .بحار الأنوار، ج 69، ص 282.
 
 
109

89

الدرس العاشر: الرياء -1

 ثمّ لو فرضنا أنّ هناك فائدة من ذلك، فما هو مقدار هذه الفائدة وما هي قيمتها؟ إنّما هي فائدة تافهة ولأيّام معدودة، ومن الممكن أن يوصل الإنسان إلى الشرك والنفاق والكفر لا سمح الله وإن لم يفتضح في هذا العالَم فسيفتضح في ذلك العالَم في محضر العدل الربّاني عند عباد الله الصالحين وأنبيائه العظام وملائكته المقرّبين ويهان ويصبح مسكيناً ذليلاً، إنّها فضيحة وأيّ فضيحة؟! إنّه اليوم الّذي يقول فيه الكافر ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾! فمقابل هذه المحبّة البسيطة وعديمة الفائدة بين العباد، خسرت تلك الكرامات وفقدت رضا الله وعرّضت نفسك لغضبه تعالى.


وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام:
"قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به فإذا صعد بحسناته يقول الله عزّ وجل: اجعلوها في سجّين، إنّه ليس إيّاي أراد بها"6.

الله أعلم كيف ستكون صورة تلك الأعمال في سجّين!





 خلاصة الدرس
ـ الرياء هو إبراز شيء من الأعمال الصالحة أو الأخلاق الحسنة أو العقائد الحقّة، بهدف نيل منزلة وشهرة في قلوب الناس. ويكون الرياء أيضاً بأن يُبعد عن نفسه الأعمال أو الأخلاق أو العقائد الفاسدة لنفس الهدف المذكور.
ـ إنّ الرياء في أصول العقائد أشدّ من جميع أنواع الرياء عذاباً وظلمة.

________________________________________
6- الكافي،ج2،ص294.
 
 
110

90

الدرس العاشر: الرياء -1

 ـ هناك فرق بين العلم والإيمان، فالعلم مكانه العقل، والإيمان مكانه القلب، ولن يؤثِّر العلم أثره إن لم ينزل إلى القلب.

ـ يمكن استئصال جذور الرياء بأن تعلم أنّ الله تعالى هو مالك القلوب فلا يمكن للإنسان التصرّف فيها إلّا بإذن الله، ورياؤك قد يؤدّي إلى نتيجة عكسية، حيث ينفر منك الناس. ثم فكِّر أنّه ما فائدة أن تجلب قلوب الناس الضعاف إليك. ثم من الممكن أن تصل بريائك إلى الشرك والنفاق والكفر فتفتضح في الدنيا قبل الآخرة.
 
 
111

91

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى الرياء في الأخلاق والمناسك.
2- أن يدرك علامات المرائي.
3- أن يتبيّن مراتب الناس من حيث إخلاصهم.
 
 
113

92

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

 في الحديث القدسي:

"يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي"1.

تحدّثنا في الدرس السابق عن الرياء في العقائد، ونكمل في هذا الدرس الحديث عن بقية أنواع الرياء.

ثانياً: الرياء في الصفات الحميدة والأخلاق الحسنة:
الرياء في هذا الأمر وإن لم يكن بخطورة الرياء في أصول العقائد، إلّا أنّه قد يفضي إلى الكفر أيضاً ويوصل إليه، وبالتّالي ستكون نتيجته بخطورة نتيجة الرياء في أصول الاعتقاد.

لقد أوضحنا فيما سبق أنّ الناس وإن كانوا جميعاً لهم صورة إنسانية ظاهرية في هذه الدنيا إلّا أنّهم في عالم الملكوت ستظهر صورهم الحقيقية وقد تكون غير إنسانية، وهذه الصور تابعة لقلوبهم وصفاتهم الّتي يتّصفون بها، فالملكات الفاضلة ستشكِّل للإنسان صورته الإنسانية عندما يحشر معها، ما لم تتصرّف النفس الأمارة بالسوء فيها. فمرحلة القلب والصفات والملكات القلبية مهمّة جدّاً.
________________________________________
1- الكافي،ج2،ص294.
 
 
115

93

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

 وما يهمنا أن نركزّ عليه الآن هو أنّ الإنسان قادر على ترويض نفسه وإلباس قلبه أيّ ثوب أراد سواء كان ثوب الصفات الفاضلة أو ثوب الصفات الرذيلة، ويمكن أن يروّض نفسه برياضة شرعية صحيحة أو رياضة باطلة زائفة.


ونسأل هنا هذا السؤال:
ما هو المعيار الّذي نميّز من خلاله الرياضة الصحيحة الشرعية عن الرياضة الباطلة الزائفة؟
والجواب: عن هذا السؤال سهل وبسيط، يتلخّص بكلمة "خطى النفس وخطى الحقّ" فالإنسان الّذي يتحرّك بخطى النفس وكانت رياضته من أجل الحصول على قوى النفس وقدرتها وتسلُّطها، فرياضته هذه باطلة وسلوكه سيوصله إلى سوء العاقبة، ومن أمثال هؤلاء تظهر الدعاوى الباطلة عادة.

أمّا إذا كان تحرُّك السالك بخطى الحقّ وكان باحثاً عن الله تعالى، فإنّ رياضته هذه حقّة وشرعية وسيأخذ الله تعالى بيده ويهديه كما تنصّ على ذلك الآية الشريفة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...2وستكون نتيجة عمله السعادة فتسقط عنه الأنا ويزول عنه الغرور والعجب.

ومن المعلوم أنّ خطوات الشخص الّذي يعرض أخلاقه الحسنة وملكاته الفاضلة على الناس ليلفت أنظارهم إليه هي خطوات النفس، وهو بالتّالي أناني معجب بنفسه وعابد لها. فإذا فتحت العيون البرزخية لترون أنفسكم سترون صورة غير إنسانية وإنّما هي صورة أحد الشياطين مثلاً.

وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى:
"لا تسعني أرضي ولا سمائي، بل يسعني قلب عبدي المؤمن"3.
________________________________________
2- سورة العنكبوت، الآية: 69.
3- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج4، ص7.
 
 
116

94

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

 فليس هناك موجود يكون آية جمال المحبوب سوى قلب المؤمن، فالمتصرِّف في قلب المؤمن هو الله تعالى لا النفس، والمؤثِّر في وجوده هو المحبوب، فلا يكون قلب المؤمن متمرّداً ولا تائهاً "قلب المؤمن بين إصبعي الرحمن يقلّبه كيف يشاء"4.


خلق الله الإنسان لنفسه سبحانه:
في الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي"5.

فالله تعالى اتخذ من قلبك منزلاً له، فأنت وقلبك من النواميس والحرمات الإلهية، والله تعالى غيور، فلا تهتك حرمته وناموسه إلى هذا الحدّ، ولا تدع الأيادي تمتد إلى حرمه وناموسه. احذر غيرة الله وإلا فضحك في هذا العالَم بصورة لا تستطيع إصلاحها مهما حاولت.

أتهتك في قلبك وفي محضر الملائكة والأنبياء العظام ستر الناموس الإلهي وتقدّم الأخلاق الفاضلة الّتي تخلّق بها الأولياء إلى الحقّ إلى غير الحقّ؟ وتمنح قلبك لخصم الحقّ؟

كن حذراً من الحقّ تعالى فإنّه لن يكتفي بهتكك في الآخرة وفضحك أمام الأنبياء العظام والملائكة المقرّبين بل سيفضحك في هذا العالَم أيضاً ويبتليك بفضيحة لا يمكن تلافيها!

إنّ الحقّ تعالى ستّار ولكنّه غيور أيضاً، إنّه أرحم الراحمين ولكنّه أشدّ المعاقبين أيضاً، يستر ما لم تتجاوز الحدّ، فقد يؤدّي عملك إلى تغليب الغيرة على الستر.
________________________________________
4- انظر: بحار الأنوار، ج 55، ص 39.
5- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الإحسائي، ج4، ص7.
 
 
117

95

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

فعد إلى الله فإنّه رحيم وهو يبحث عن ذريعة لإفاضة الرحمة عليك، وإذا توجّهت إليه فإنّه يستر بغفرانه معاصيك وعيوبك الماضية ويجعلك صاحب فضيلة ويظهر فيك الأخلاق الكريمة ويجعلك مرآة لصفاته تعالى.

فيا أيُّها العزيز، أنت أعرف بنفسك فاختر إمّا هذا وإمّا ذاك، فالله غنيّ عنّا وعن كلّ المخلوقات إنّه غنيّ عن إخلاصنا وإخلاص كلّ الموجودات.

ثالثاً: الرياء في المناسك والعبادات:
إنّ هذا النوع من الرياء هو الأكثر وجوداً والأوسع شيوعاً بين عامّة الناس، لأنّ الناس ليسوا من أهل النوعين الأوّلين عموماً حتّى يدخل الشيطان من تلك الأبواب، ولكن بما أنّ معظم الناس متعبّدين وهم من أهل العبادات والمناسك الظاهرية، فيحاول أن يتلاعب الشيطان بهم من خلال هذا الأمر. كما أنّ مكائد النفس في هذه المرحلة أكثر.
فعلى الذين يملكون هذا الجانب فقط، ولا زاد لهم سوى زاد الأعمال، عليهم أن يكونوا حذرين كلّ الحذر لئلّا يفقدوا لا سمح الله زادهم ويضيعوا طريقهم ويصبحوا من أهل جهنّم.

الرياء أمر دقيق وخفي:
كثيراً ما يكون الشخص المرائي غافلاً عن كون الرياء قد تسرّب إلى أعماله واستولى عليها، والسبب في ذلك يعود إلى أمرين:
الأوّل: إنّ مكائد الشيطان والنفس الأمّارة من الدقّة والخفاء، وصراط الإنسانية من الرهافة والظلمة إلى درجة لا يتنبّه الإنسان إلى ما هو فيه إن لم يكن حذراً جدّاً.
 
 
118

96

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

 الثاني: لمّا كان الإنسان مجبولاً على حبّ النفس فإنّ حجاب حبّ النفس يستر عنه معايب نفسه.


ولنذكر مثالاً على ذلك:
إنّ طلب العلم ودراسة العلوم الدِّينية هي من الطاعات والعبادات المهمّة، ولكن يمكن أن يتسلّل الشيطان من خلال ذلك، فتجد الإنسان يرغب أن يتفرّد في استيعاب معضلة علمية وحلّها لدى محضر العلماء والرؤساء والفضلاء ويبتهج أكثر كلّما كان توضيحه للمسألة العلمية أحسن، ولفت انتباه الحاضرين أكثر، وتراه يحبّ أن ينتصر على من يناظره. إنّه يشعر بنوع من التفوّق العلمي، وإذا اقترن ذلك بتأييد شخصية علمية لكان نور على نور!

إنّ هذا المسكين غافل عن أنّه أحرز هنا موقعاً لدى الفضلاء والعلماء ولكنّه سقط من عين ربّهم وملكهم، وأنّ مصير عمله أصبح بأمر الحقّ المتعالي في سجّين.

هذا الرياء الّذي قد يمتزج بمعاصي أخرى أيضاً كفضح المؤمن وإيذائه وإذلاله، وأحياناً التجرّؤ على المؤمن وهتكه، وكلّ واحدة من هذه الأمور كافية لإدخال مرتكبها إلى جهنّم.

فإذا اكتشفت أنّك وقعت في الرياء تأتي النفس الأمارة لتلقي شبّاك كيدها فتقول: إنّ هدفي هو إعلان الحكم الشرعي وإظهار كلمة الحقّ وهو من أفضل الطاعات، وليس المقصود إظهار العلم وحبّ الظهور.

ولتبطل كيد نفسك اسألها:
لو كان زميلي المساوي لي في الدرجة العلمية هو الّذي قال ذلك الحكم الشرعي وهو الّذي حلّ تلك المعضلة العلمية وكنتِ أنتِ المغلوبة هنا، أكان
 
 
119

97

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

 على حدِّ سواء عندكِ؟ إذاً فاعلموا أنّكم مراؤون وأنّ عملكم في سجّين بحسب الرواية.

وهكذا سائر أعمالنا، فهي تحت تصرُّف الشيطان الملعون الّذي ينزل في كلّ قلب كدر ملوّث، ويحرق الأعمال الظاهرة والباطنة ويجعلنا من أهل النار عن طريق الأعمال الحسنة.

من علامات الرياء:
عن الإمام علي عليه السلام: "ثلاث علامات للمرائي: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يحمد في جميع أموره"6.

إنّ الرياء هو سيّئة خفيّة تغيب حتّى عن الإنسان نفسه، فيكون باطنه من أهل الرياء وهو يتوهّم عمله خالصاً، ولهذا ذكروا للرياء علامات، وبواسطة العلامة يعرف الإنسان سريرته فيبادر لعلاجها.

والعلامة الّتي ذكرتها الرواية أنّ الإنسان يشاهد في نفسه عزوفاً عن العبادات عندما يكون لوحده، وإذا اشتغل بالعبادات في تلك الحالة يحسّ بالكلفة أو تكون مجرّد عادة من دون توجُّه وإقبال، ولكن عندما يحضر في المساجد والمجامع وفي الأماكن العامة يؤدّي تلك العبادة وظاهره ملي‏ء بالنشاط والسرور وحضور القلب ويميل إلى إطالة الركوع والسجود ويؤدّي المستحبّات أيضاً بشكل حسن...

على الإنسان أن يسأل نفسه عن سبب هذا التفاوت بين الحالتين؟ ربما تأتي النفس الأمّارة لتزيّن له وتموّه عليه قائلة: يشتدّ النشاط في المسجد وفي 
________________________________________
6- علم اليقين، ج1، ص 381.
 
 
120

98

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

 الجماعة لأنّها أكثر استحباباً وأعظم ثواباً فبسبب شدّة الاستحباب وعظم الثواب يزداد اهتمامك بها. أو تقول لك نفسك: يستحبّ أداء العمل أمام الناس بصورة حسنة لكي يقتدي بك الآخرون ويرغبون بالدِّين! وهكذا تخدع النفس هذا الإنسان المسكين لتبعده عن المبادرة إلى العلاج.


فيمكن للإنسان أن يسأل نفسه: إنّ الإتيان بالمستحبّات في الخلوات مستحبٌّ فلماذا ترغب النفس بأدائها في العلن؟ لماذا تراه في ليالي القدر بين جموع الناس يبكي ويخشع ويصلّي مائة ركعة ويقرأ دعاء الجوشن وأجزاء من القرآن المجيد دون أن يتلكّأ أو يحسّ بالتعب؟ ولماذا يرغب بمدح الناس على كلّ عمل يعمله؟ فتجد أذنه متوجّهة إلى ألسن الناس وقلبه عندهم، علّه يسمع كلمة: ما أشدّ تديُّن والتزام هذا الإنسان! إذا كان الله تعالى هو الهدف فما هذا الميل المفرط نحو الناس؟ انتبه فإنّ هذا الميل ليس بعيداً عن الرياء الخبيث، فاسعَ ما استطعت إلى إصلاح نفسك من أمثال تلك الميول ما دام الإصلاح ممكناً.

اختلاف مراتب الناس:
إنّ لكلّ واحدة من الصفات الّتي يتّصف بها الإنسان سواء كانت حسنة أو سيّئة درجات ومراتب وكذلك الرياء فله درجاته ومراتبه، ويختلف قبحها من شخص لآخر، فلربّ مرتبة تُعتبر نقصاً عند أولياء الله تعالى والعرفاء بالله لا تعتبر نقصاً عند غيرهم بل قد تكون بمعنى من المعاني كمالاً بالنسبة إليهم وهكذا تكون حسنات فئة سيّئات لفئة أخرى.

فالإخلاص في جميع مراتب الرياء هو من مختصّات أولياء الله، والآخرون لا يشاركوهم في هذه المرتبة، واتّصاف الناس بدرجة من الإخلاص ليس نقصاً لهم بحسب المقام الّذي هم فيه، ولا يضرّ بإيمانهم وإخلاصهم، فمثلاً تميل نفوس عامّة الناس بحسب الغريزة والفطرة إلى أن تظهر خيراتها أمام الناس
 
 
121

99

الدرس الحادي عشر: الرياء -2

  وإن لم يقصدوا أن يظهروها، ولكن نفوسهم مفطورة على هذا الميل. وهذا ليس موجباً لبطلان العمل أو الشرك أو النفاق أو الكفر، وإن كانت هذه الحالة نفسها نقص عند الولي وشرك ونفاق بالنسبة للعارف بالله. ومرتبة الإخلاص في جميع المراتب والتنزّه عن جميع أنواع الشرك هو أوّل مرتبة ومقام من مقامات الأولياء.





خلاصة الدرس
ـ الرياء في الأخلاق الحسنة قد تكون نتيجته بخطورة الرياء في العقائد.
ـ يمكن للإنسان ترويض نفسه بالرياضة الشرعية الّتي تكون على خطى الحقّ، لا بالرياضة الباطلة الّتي تكون على خطى النفس.
ـ الله خلق الإنسان لنفسه فلا ينبغي أن يعمل لغيره سبحانه.
ـ الرياء في المناسك والعبادات هو الأكثر شيوعاً بين عامّة الناس، لأنّ الناس ليسوا من أهل النوعين الأوّلين (العقائد ـ الأخلاق).
ـ الرياء أمره دقيق وخفي قد لا يلتفت إليه الإنسان، وذلك لأمرين: 1ـ مكائد الشيطان والنفس الأمارة ورهافة صراط الإنسانية. 2ـ حبّ النفس.
ـ من علامات الرياء أنّ المرائي ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويحبّ أن يُحمد في جميع أموره.
ـ تختلف مراتب الناس من حيث إخلاصهم، فقد يكون بعض الناس مخلصين في مرتبتهم ولكن عند العرفاء فيه رياء. فحسنات فئة سيئات لفئة أخرى.
 
 
122

100

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الكبر ودرجاته.
2- أن يتعرّف إلى الفرق بين الكبر والإباء.
3- أن يدرك السبب الأساس للكبر.
4- أن يتبيّن بعض نماذج المتكبّرين.
 
 
123

101

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

 بالسند المتصل عن حكيم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أدنى الإلحاد، فقال:"الكِبر أدناه"1.


ما هو الكِبر؟
الكبر هو عبارة عن حالة نفسية تجعل الإنسان يترفّع ويتعالى على الآخرين، وتصرُّفات الإنسان هي الّتي تدلّ على وجود مثل هذه الحالة عنده.

والكبر هو من آثار العجب وتوابعه، والفرق بينهما أنّ العجب هو الإعجاب بالذّات، بينما الكِبر هو التعالي والتعاظم على الناس. فعندما يتوهّم الإنسان أنّه يمتلك أيّ صفة من صفات الكمال ستنتابه حالة هي مزيج من السرور والتمنُّن وغيرها، وهذه هي صفة العجب، ثمّ يرى أنّ الآخرين لا يملكون هذه الصفة الّتي يتوهّمها في نفسه، فينتابه شعور آخر هو تصوّر التفوّق والتقدّم، وهذا يؤدّي به إلى التعاظم والترفّع، وهذه هي صفة الكِبر.
________________________________________
1- الكافي، ج2، ص309.
 
 
125

102

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

 درجات الكبر من جهة الموضوع:

إنّ للكبر درجات تشبه الدرجات الّتي ذكرناها في العجب، وهي ستّة:
1-الكبر بسبب الإيمان والعقائد الحقّة، ويقابله الكبر بسبب الكفر والعقائد الباطلة.
2-الكبر بسبب التوجهات الفاضلة والصفات الحميدة، ويقابله الكبر بسبب الأخلاق الرذيلة والتوجهات القبيحة.
3-الكبر بسبب العبادات والأعمال الصالحة، ويقابله الكبر بسبب المعاصي والأعمال السيّئة.
وهذه الدرجات يمكن أن تكون وليدة مثيلتها من درجات العجب أو وليدة سبب آخر سوف تأتي الإشارة إليه.
وهناك درجات أخرى للكبر غير هذه تكون بسبب أمور خارجية كالحسب والنسب والمال والجاه والرئاسة وغيرها.

درجات الكبر من جهة الواقع عليه:
إنّ للكبر من هذه الحيثية درجات أيضاً:
1- التكبُّر على الله تعالى، وهذه الدرجة أقبح الدرجات وأشدّها هلكة، وكما يمكن أن تجدها بين أهل الكفر والجحود ومدّعي الألوهية، كذلك يمكن أن تراها بين أهل الدِّين. وهذا التكبُّر هو منتهى الجهل، جهل بالممكن الفقير والمحتاج، وجهل بمقام واجب الوجود الغني والمعطي.
2- التكبُّر على الأنبياء والرسل والأولياء صلوات الله عليهم. وكثيراً ما كان يحصل في زمن الأنبياء، قال تعالى على لسانهم: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا2.
________________________________________
2- سورة المؤمنون، الآية: 47.
 
 
126

103

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

 وقال تعالى على لسان آخرين: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾3.

وفي صدر الإسلام وقع الكثير من التكبُّر على أولياء الله، وفي هذا الزمان أيضاً نجد نماذج منه في بعض المحسوبين على الإسلام.
3- التكبُّر على أوامر الله تعالى، وهذا يرجع بحقيقته إلى التكبُّر على الله، وهو يظهر في بعض العاصين، كأن يمتنع أحدهم عن الحجّ لأنّه لا يستسيغ مناسكه من إحرام وغيره، أو يترك الصلاة لأنّ السجود لا يليق بمقامه، وربما يظهر مثل هذا الكبر عند أهل النسك والعبادة وأهل العلم والتديُّن، كأن يترك الآذان تكبُّراً، أو لا يتقبّل الكلام الحقّ إذا جاء ممّن هو مثله أو دونه منزلة.
فقد يسمع الإنسان قولاً من زميل له فيردّه بشدّة ويطعن في قائله، ولكنّه إذا سمع ذلك القول نفسه من كبير في الدِّين أو الدنيا قَبِله4.
ومن هذا التكبُّر أيضاً من يترك تدريس علم أو كتاب باعتباره لا يليق به، أو يرفض تدريس أشخاص لا مركزية لهم. أو لأنّ عددهم قليل...حتّى وإن علم أنّ في مثل تلك الجماعة رضا الحقّ تعالى.
4- التكبُّر على عباد الله تعالى، وهذا أيضاً يرجع بحسب نظر أهل المعرفة إلى التكبُّر على الله، وأقبحه التكبُّر على العلماء بالله، ومفاسد التكبُّر عليهم أكثر وأخطر من أيّ شي‏ء آخر. ويدخل في هذا التكبُّر أيضاً رفض مجالسة الفقراء، والتقدُّم في المجالس والمحافل وفي المشي والسلوك.
وهذا النوع من التكبُّر شائع بين الناس وشامل لجميع الطبقات، من أشراف
________________________________________
3- سورة الزخرف، الآية: 31.
4- إن ترك القبول له ناحيتان: أحدهما تكبُّر على أوامر الله، وثانيهما تكبُّر على عباد الله تعالى.
 
 
127

104

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

 وأعيان وعلماء ومحدّثين وأغنياء بل حتّى الفقراء والمعوزين، إلّا من حفظ الله وسلّمه من ذلك.


دقة الطريق:
هناك فرق واضح بين التواضع الحسن والتملُّق القبيح، وبين الإباء الحسن والتكبُّر القبيح، ولكن في بعض الأحيان قد يصبح التمييز بين هذه الأمور على درجة كبيرة من الصعوبة على الإنسان فتختلط عليه هذه الأمور فيظنّ التملُّق تواضعاً والتكبُّر إباءً أو العكس. فلا بدّ للإنسان أن يتعوّذ بالله ليهديه إلى طريق الهداية، وإذا تصدّى الإنسان لإصلاح نفسه وتحرّك نحو الهدف الصحيح، فإنّ الله تعالى سوف يشمله برحمته الواسعة وييسّر له سبيل الهداية.

السبب الأساسي للتكبر:
هناك عدّة عوامل ومبرّرات على المستوى العلمي أو العملي أو غيرهما - قد تدفع الإنسان إلى التكبُّر، ولكنّها كلّها ترجع إلى شي‏ء واحد يمكن اعتباره السبب الحقيقي للتكبُّر، وهو: توهُّم الإنسان الكمال في نفسه ممّا يبعث على العجب الممزوج بحبّ الذات، فيحجب كمال الآخرين ويراهم أدنى منه، ويترفّع عليهم قلبياً أو ظاهرياً.
وقد يحدث أحياناً أنّ صاحب الأخلاق الفاسدة والأعمال القبيحة يتكبّر على غيره، ظانّاً أنّ ما فيه ضرب من الكمال!
وآثار هذه الحالة قد تظهر في سلوك الإنسان بشكل واضح.

نماذج من آثار التكبُّر:
ولنستعرض بعض نماذج التكبُّر لما فيها من فائدة عملية في معرفة هذا المرض والاحتراز عنه:
قد يتصوّر الإنسان نفسه من خواصّ الله المقرّبين وعباده المخلصين
 
 
128

105

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

  فيترفّع على الآخرين ويتعاظم عليهم. ويرى أنّ الحكماء والفلاسفة سطحيين وأنّ الفقهاء والمحدّثين لا يتجاوزون الظاهر في نظراتهم، وأنّ سائر الناس كالبهائم. فينظر إلى عباد الله بعين التحقير والازدراء، ويبدأ هذا المسكين بالكلام عن حبّ الله وعشقه والفناء فيه... مع أنّ المعارف الإلهية تقضي حسن الظنّ بالكائنات، فلو كان قد تذوّق حلاوة المعرفة بالله لما تكبّر على خلقه! لكن الحقيقة أنّ هذه المعارف لم تدخل قلبه، وأنّ هذا المسكين لم يبلغ حتّى مقام الإيمان ولكنّه يتشدّق بأنّه من خواصّ الله!


﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾5.

إنّ الكبر منتشر بين علماء سائر العلوم الأخرى، في الطبّ والرياضيات والطبيعة، وكذلك أصحاب الصناعات الهامّة، فكلٌّ منهم يحسب أنّ ما عنده وحده هو العلم وما عند غيره ليس بعلم، فيتكبّر على الناس بباطنه وظاهره.

هناك من أهل النسك والعبادة من يتكبّر على الناس أيضاً، ولا يعتبر الناس حتّى العلماء من أهل النجاة، فإذا ذكر العلم قال: ما فائدة العلم بلا عمل؟ العمل هو الأساس، فينظر بعين الاحتقار إلى جميع الطبقات، مع أنّه لو كان من
________________________________________
5- سورة لقمان، الآية: 18. 
 
129

106

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

  أهل الإخلاص والعبادة ينبغي لعمله أن يصلحه. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي معراج المؤمن، فصلاته تلك الّتي لم تنهه عن المنكر والّتي تقرّبه من الشيطان والتكبُّر الّذي هو من خواصّ الشيطان، ليست بصلاة، لأنّ الصلاة لا تستدعي ذلك.


الّذي يملك الحسب والنسب يتكبّر على من لا يملكهما، وقد يتكبّر صاحب الجمال على فاقده أو إذا كان كثير الأتباع والأنصار أو له تلامذة كثيرون وأمثال ذلك، فإنّه يتعالى ويتكبّر على الّذي ليس له مثله. بل كما ذكرنا قد يحصل أحياناً أن يتكبّر صاحب الأخلاق الفاسدة والأعمال القبيحة على غيره ظنّاً منه أنّ هذه القبائح هي كمالات.

يقول أحد المحقّقين: "إنّ أدنى درجة الكبر في العالِم هي أن يُدير وجهه عن الناس كأنّه يُعرض عنهم، وفي العابد هي أن يعبس في وجوه الناس ويقطّب جبينه كأنّه يتجنّبهم أو أنّه غاضب عليهم، غافلاً عن أنّ الورع ليس في تقطيب الجبين ولا في عبوس ملامح الوجه ولا في البعد عن الناس والإعراض عنهم، ولا في ليّ الجِيد وطأطأة الرأس ولملمة الأذيال، بل الورع يكون في القلب"، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ها هنا التقوى" وأشار إلى صدره6.

قد تخفى الآثار:
إنّ المتكبّر قد يمتنع أحياناً لسبب ما من إظهار التكبُّر علانية، فلا يُظهر أيّ أثر لذلك التكبُّر إلّا أنّ هذه الشجرة الخبيثة تمدّ جذورها في قلبه، ولا بدّ من ظهور آثاره في الأوقات الحرجة عندما يخرج عن طوره الطبيعي بسبب الانفعال والغضب وغيره فإذا به تظهر عليه علامات التكبُّر، فيباهي الآخرين بما عنده من علم أو عمل أو أيّ شي‏ء آخر ويفاخرهم به.
________________________________________
6- بحار الأنوار، ج 70، ص 198 ـ 199.
 
 
130

107

الدرس الثاني عشر: الكبر -1

 خلاصة الدرس

الكبر هو التعالي، والتعاظم على الناس، وهو من آثار العجب الّذي هو الإعجاب بالذّات.
ـ للكبر درجات من حيث الموضوع: الكبر بسبب العقائد حقّة أم باطلة، الكبر بسبب الأخلاق حسنة أم سيّئة، الكبر بسبب الأعمال صالحة أم سيّئة، بسبب أمور خارجية كالحسب والنسب والمال والجاه والرئاسة وغيرها.
ـ للكبر درجات من حيث الواقع عليه: الكبر على الله سبحانه، الكبر على الأنبياء والأولياء، الكبر على أوامر الله تعالى، الكبر على عباد الله.
ـ الفرق بين الكبر والإباء، والتواضع والتملُّق، قد يختلط على بعض الناس التمييز بينها.
ـ السبب الأساس للكبر هو العجب.
ـ أعطينا نماذج من آثار التكبُّر، ممّن يعتقد نفسه من خواصّ الله، ومن الفلاسفة وكافّة العلماء، ومن أهل النسك والعبادة.
ـ قد تخفى آثار التكبُّر ولكنّها تظهر في الأوقات الحرجة كالغضب.
 
 
131

108

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

 من العظام، لأنّ قوة الإدراك والإحساس فيه أكبر.

إنّ ارتباط النفس بالجسد في هذه الدنيا ضعيف وناقص، ففي هذا العالَم يستعصي على النفس أن تظهر فيه بكامل قواها، وأمّا الآخرة فهي عالَم ظهور النفس، ويكون ارتباطها بالجسد هناك أتمّ مراتب النسبة والارتباط كما هو ثابت في محلّه.

إنّ نار هذه الدنيا نار باردة عرضية تحتاج لمادّة تقوم بها ومشوبة بمواد خارجية غير خالصة. أمّا نار جهنّم فنار خالصة لا تشوبها شائبة، قائمة بذاتها ذو إرادة تحرق بإدراك وإرادة وتشدِّد العذاب بقدر الإمكان والقران الكريم والأخبار الشريفة مليئة بوصفها.

خامساً: إنّ مدى ارتباط الحرارة المحرقة بالجسم وتمكّنها منه له تأثيره في تخفيف العذاب و تشديده. فإذا كانت النار قريبة من اليد كان الإحتراق أخفّ ممّا إذا التصقت النار باليد.
إنّ ارتباط نار جهنّم والتصاقها بالجسم لا شبيه له في هذا العالَم، ولو تجمّعت جميع نيران العالَم وأحاطت بإنسان لما أحاطت بغير سطح جسمه. أمّا نار جهنّم، فتحيط بالظاهر والباطن، إنّها تحرق القلب والروح والقوى، وتتّحد بها بنحو لا نظير له في هذا العالَم.

فيتبيّن ممّا ذكر أن هذا العالَم لا تتوافر فيه وسائل العذاب بأيّ شكل من الأشكال، فلا أجسامه جديرة بالتقبُّل، ولا مصادره الحرارية تامّة القوّة، ولا الإدراك تام. إنّ النار الّتي تستطيع أن تحرق جهنّم بنفس منها لا يمكن أن 
 
 
139

109

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

أهداف الدرس
1- أن يتعرّف الطالب إلى مفاسد الكبر.
2- أن يدرك ما يساعد على الكبر.
3- أن يتعرّف إلى الأمور الّتي تساعد في علاج التكبُّر.
 
 
133

110

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"ما من عبد إلّا وفي رأسه حكمة ومَلك يمسكها فإذا تكبّر قال له: اتّضع وضعك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس. وإذا تواضع رفعه الله عزّ وجل. ثمّ قال: انتعش نعشك الله، فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس"1.

في مفاسد الكبر:
إنّ لهذه الصفة القبيحة بحدّ ذاتها مفاسد كثيرة، وهذه المفاسد تتمخّض عنها مفاسد أخرى كثيرة. ونشير هنا إلى بعض تلك المفاسد:
ـ إنّ هذه الرذيلة تحول دون وصول الإنسان إلى الكمالات الظاهرية والباطينة، فهي تقف وسط الطريق لتقطع طريق الإنسان وتمنعه من الوصول إلى الكمالات الأخرى، وهي بالتّالي تمنعه من الاستفادة والاستمتاع بالحظوظ والنعم الإلهية الدنيوية والأخروية. إنّ الكبر من أخلاق الشيطان الخاصّة، فقد تكبّر على أبيك آدم فطُرد من حضرة
________________________________________
1- الكافي، ج2، ص312.
 
 
135

111

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

  الله، وأنت أيضاً مطرود لأنّك تتكبّر على كلّ الآدميين من أبناء آدم.


ـ تتسبّب في انبعاث الحقد والعداوة في نفوس الناس بدل الرحمة، والمجتمع الّذي يحكمه الحقد والعداوة سيقع في مفاسد أكثر من أن تحصى.

ـ تحطّ من قدر الإنسان في أعين الخُلُق وتجعله تافهاً، فيبادره الناس بالمعاملة بالمثل تحقيراً له واستهانة به. كما جاء في الرواية السابقة عن الإمام الصادق عليه السلام: "فلا يزال أعظم الناس في نفسه وأصغر الناس في أعين الناس"2.

إذا تكبّرت على الناس لم تنل منهم شيئاً من الاحترام. بل لو استطاعوا أن يذلّوك لأذلّوك ولم يكترثوا بك، وإن لم يستطيعوا إذلالك، لكنت وضيعاً في قلوبهم وذليلاً في أعينهم ولا مقام لك عندهم. افتح قلوب الناس بالتواضع إذا أقبلت عليك القلوب ظهرت أثارها عليك وإن أدبرت تكون أثارها على خلاف ما تحبّ وترغب.

ـ إنّ هذه الرذيلة ستتسبّب بالذلّ والمسكنة في الآخرة أيضاً، فكما أنّك احتقرت الناس في هذا العالَم وترفّعت على عباد الله وتظاهرت أمامهم بالعظمة والجلال والعزّة، كذلك تكون صورة هذا التكبّر في الآخرة الهوان. عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ المتكبّرين يُجعلون في صور الذرّ يتوطّاهم الناس حتّى يفرغ الله من الحساب"3.

وجاء في وصايا الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: "إيّاكم والعظمة والكبر، فإنّ الكبر رداء الله عزّ وجل فمن نازع الله
________________________________________
2- الكافي، ج2، ص312.
3- م.ن.
 
 
136

112

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

رداءه قصمه الله وأذلّه يوم القيامة".4


ولا أعرف إذا أذلّ الله تعالى شخصاً ماذا يصنع به؟ وبماذا يبتليه؟ لأنّ أمور الآخرة تختلف عن أمور الدنيا كثيراً فإنّ الذلّ في الآخرة يختلف عن الذلّ في الدنيا، وكرامتها أسمى من تصوّرنا.

 

ـ بالإضافة إلى كلّ ما سبق لن يرى الجنّة من كان في قلبه كبراً، كما روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:

"لن يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر"5.

ـ وستكون عاقبة أمره إلى النار، ففي الحديث عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام:

"الكبر مطايا النار"6.


وفي رواية أخرى عنه عليه السلام:

"العزّ رداء الله، والكبر إزاره، فمن تناول شيئاً منه أكبّه الله في جهنّم"7.


وما أدراك ما جهنّم الّتي أعدّها الله للمتكبّرين. فهي غير جهنّم الّتي أُعدّت لسائر الناس، ويكفي أن نورد هنا الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:

"إنّ في جهنّم لوادياً للمتكبّرين يُقال له (سقر)، شكى إلى الله عزّ وجل شدّة حرّه وسأله أن يأذن له أن يتنفّس فتنفّس فأحرق جهنّم"8.


أعوذ بالله من مكان تحترق جهنّم بتنفّسه.


________________________________________

4- وسائل الشيعة، ج11، ص300.

5- م.ن، ج11، ص299.

6- م.ن، ج11، ص301، 

7- م.ن، ج11، ص298. 

8- م.ن، ج11، ص299.

 
 
137

113

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

 التفاوت بين عذاب الدنيا والآخرة:

إنّنا لا نستطيع أن نُدرك شدّة حرارة نار الآخرة في هذا العالَم، إذ إنّ أسباب شدّة العذاب وضعفه تختلف بين الدنيا والآخرة من جهات خمس:
أوّلاً: تتبع قوّة الإدراك وضعفه إذ كلّما كان الإدراك أتمّ وأنقى كان إدراك الألم والعذاب أكثر. وجميع إدراكاتنا في هذه الدنيا ناقصة وضعيفة ومحجوبة بحجب كثيرة، إنّ أعيننا لا ترى اليوم الملائكة ولا جهنّم وآذاننا لا تسمع الأصوات العجيبة والغريبة الّتي تصدر من البرزخ وأصحابه ومن القيامة وأهلها، وحواسنا لا تحسّ بحرارة ذلك المكان. كلّ ذلك لأنّها ناقصة، إنّ الآيات والأخبار الواردة عن أهل البيت صلوات الله عليهم تؤكّد على هذا الأمر تلويحاً وتصريحاً.

ثانياً: تعتمد على اختلاف الأجسام في تقبّل الحرارة ومكوثها في النار، فالذهب والحديد مثلاً يتقبّلان الحرارة أكثر من الرصاص والقصدير، وهذان يتقبّلانها أكثر من الخشب والفحم، وهذان أكثر من الجلد واللحم.

إنّ جسم الإنسان في هذا العالَم لا يتحمّل الحرارة فإنّه إن بقي ساعة واحدة في نار هذه الدنيا الّتي تعتبر باردة بالقياس إلى نار الآخرة لاستحال إلى رماد، وبالتّالي لن يبقى في العذاب، بينما الله القادر يجعل الجسم قابلاً للبقاء في نار جهنّم دون أن يذوب ليذوق العذاب، هذه النار الّتي شهد جبرائيل بأنّه لو جيء بحلقة واحدة من سلاسل جهنّم الّتي طول الواحدة منها سبعون ذراعاً إلى هذه الدنيا لأذابت جميع الجبال من شدّة حرارتها.

ثالثاً: إنّ مستوى ارتباط قوّة الإدراك بالموضع المتعرِّض للحرارة له أثر كبير في شدّة العذاب وضعفه، فالمخّ مثلاً سيكون تأثُّره بالحرارة أشدّ 
 
 
138

114

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

 نتصوّرها ولا أن ندركها، إلّا إذا كنّا لا سمح الله من المتكبّرين، انتقلنا من هذا العالَم إلى الآخرة قبل أن نُطهِّر أنفسنا من هذا الخُلق القبيح، فإنّنا سنراها حينئذٍ رأي العين  ﴿فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾9.


العوامل المساعدة على التكبُّر:
هناك عدّة عوامل توصل الإنسان إلى التكبُّر، فمن هذه العوامل:
1- الجهل وصغر العقل، حيث تشتبه الأمور عليه فيرى النقص كمالاً.
2- ضعف القابلية وعدم الاستعداد للاستفادة من العطاءات الإلهية، وتلقّيها بالشكل الخاطئ.
3- ضعة نفس الإنسان وضعفها، الّتي تدفع الإنسان لإظهار التكبُّر والعلو لتخبّئ ضعفها خلفه، فيمكن أن يتكبّر الفقير على الغني والجاهل على العالِم، فكما كان العجب مدخلاً للتكبُّر فالحسد أيضاً يمكن أن يكون مدخلاً له.
4- قلّة الصبر، الّذي يتسبّب بوقوع الإنسان بردّات الفعل غير الملائمة عند الابتلاء والامتحان.
وسينتج عن ذلك كلّه ضيق أفق، ما أن يجد في نفسه خصلة مميّزة حتّى يتصوّر لها مقاماً ومركزاً خاصّاً، ولكنّه لو نظر بعين العدل والإنصاف إلى كلّ أمر يتقنه وكلّ خصلة يتميّز بها لأدرك أنّ ما تصوّره كمالاً يفتخر به ويتكبّر بسببه، إمّا أنّه ليس كمالاً أصلاً، وإمّا أنّه إذا كان كمالاً فإنّه لا يكاد يساوي شيئاً إزاء كمالات الآخرين. فهو كمن صفع وجهه ليحسب الناس احمرار وجهه نتيجة النشاط والحيوية، وكما قيل "استسمن ذا ورم".
________________________________________
9- سورة النحل، الآية: 29.
 
 
140

115

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

 كيف نعالج الكبر:

هناك عدّة أمور يمكن اعتبارها كعوامل تساعد على علاج النفس:
- إنّ التفكُّر فيما ذكرنا من مفاسد الكبر وخطورته وعاقبة المتكبّرين، كافٍ لإيقاظ النفس وتنبيهها وإبعادها عن هذه الصفات الرذيلة.

- عليك أن تمسح عن نفسك عار الجهل والانحطاط، وتتّصف بصفات الأنبياء وتبتعد عن صفات الشيطان، وتعلم أنّ التكبُّر ليس كمالاً، فهذا النبيُّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان علمه من الوحي الإلهي، والّذي وضع جميع العادات الجاهلية تحت قدميه ونسخ جميع الكتب واختتم النبوّة، كان يكره أن يقوم له أصحابه احتراماً وإذا دخل مجلس لم يتصدّر، ويتناول الطعام جالساً على الأرض قائلاً: "إنّني عبد آكل مثل العبيد وأجلس مجلس العبيد"10، كان يعطي الفقراء بكلتا يديه ويشترك في أعمال المنزل ويحتلب الأغنام ويرقّع ثيابه ويخصف نعله بيده... مع أنّه بالإضافة إلى مقامه المعنوي كان في أكمل حالات الرئاسة الظاهرية.

مع شي‏ء من المثابرة سيكون طريق إصلاح نفسك إذا عزمت أمراً سهلاً، ولو اتّصفت بهمّة الرجال وحرّية الفكر عن الأهواء وعلوّ النظر، فلن تصادفك أيّ مخاطر.

- اعمل على خلاف هوى نفسك، فإذا رغبت نفسك بأن تتصدّر المجلس متقدّماً على أقرانك فخالفها واعمل عكس ما ترغب فيه، وإذا كنت تأنف عن مجالسة الفقراء والمساكين فمرّغ أنفها في التراب وجالسهم وآكلهم ورافقهم في السفر ومازحهم، قد تقول لك النفس: "إنّ لك مقاماً ومنزلة وعليك أن تُحافظ عليها من أجل ترويج الشريعة، ومجالستك الفقراء تذهب بمنزلتك، والمزاح مع من هو دونك يقلِّل من هيبتك، فلا تقدر أن تؤدّي واجبك الشرعي على أكمل وجه"، اعلم أنّ هذه كلّها من مكائد
________________________________________
10- انظر: مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص 12.
 
 
141

116

الدرس الثالث عشر: الكبر -2

  الشيطان والنفس الأمارة، فلم تكن تلك سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو من حيث المركز والرئاسة أرفع منك. بل سيرة فقهائنا ومراجعنا العظام أيضاً كانت قائمة على التواضع رغم ما لهم من مركز، كالفقيه الشيخ عبد الكريم الحائري صاحب السيرة العجيبة، حيث كان يرافق الخدم في السفر ويؤاكلهم ويفترش الأرض ويمازح صغار الطلبة وأواخر حياته كان يخرج بعد المغرب يتمشّى في الشارع وقد لفّ رأسه بقطعة قماش بسيطة منتعلاً حذاءاً بسيطاً من دون اهتمام بالمظهر. وكان هذا يزيد من وقعه في القلوب من دون أن تصاب هيبته بأيّ اهتزاز أو وهن.






خلاصة الدّرس
ـ من مفاسد الكبر: أنّ هذه الرذيلة تحول دون وصول الإنسان إلى الكمالات الظاهرية والباطنية، وتبعث على الحقد والعداوة بين الناس، وتحطّ من قدر المتكبِّر في أعين الخلق، وتتسبّب بالذلّ والمسكنة وحرمانه من الجنّة وعاقبة أمره إلى النار في الآخرة.
ـ هناك تفاوت بين شدّة عذاب الدنيا والآخرة من جهات خمسة: 1 ـ من حيث قوّة الإدراك وضعفه. 2 ـ من حيث اختلاف الأجسام في تقبّل الحرارة ومكوثها في النار. 3 ـ من حيث مستوى ارتباط قوّة الإدراك بالموضع المتعرّض للحرارة. 4 ـ من حيث قوّة نفس النار. 5 ـ من حيث مدى ارتباط الحرارة المحرقة بالجسم.
ـ هناك عدّة عوامل تساعد على التكبُّر، منها: الجهل وصغر العقل، ضعة النفس، قلّة الصبر.
ـ من الأمور الّتي تساعد في علاج التكبُّر: عليك أن تعلم أنّ التكبُّر ليس كمالاً، وأن تأخذ رسول الله أسوة فمع ما كان له من مقام كان المتواضع، وعليك أن تعمل عمل المتواضعين مخالفاً هوى نفسك.
 
 
142

117

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الحسد ويفرِّق بينه وبين الغبطة.
2- أن يتعرّف إلى أسباب الحسد.
3- أن يدرك مفاسد الحسد.
 
 
143

118

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عزّ وجل لموسى بن عمران: يا ابن عمران لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك, فإنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الّذي قسمت بين عبادي ومن يك ذلك فلست منه وليس منّي"1.

معنى الحسد:
الحسد حالة نفسية يتمنّى صاحبها سلب الكمال والنعمة الّتي يتصوّرهما عند الآخرين. سواء كان عنده مثلها أو لا, وسواء أرادها لنفسه أم لم يردها.
وإنّما ذكرنا أنّها نعمة "يتصوّرها" عند الآخرين؛ لأنّ الإنسان كثيراً ما يقع في الوهم ويظنّ النقمة نعمة والنقصان كمال. وكثيراً ما يتمنّى أمراً يظنّه نعمة وهو نقمة ويطلب أمراً يظنّه كمال وهو نقص. بل إنّ بعض الخصل تعدّ نقصاً للإنسان وكمالاً للحيوان ويكون الحاسد في مرتبة الحيوانية فيراها كمالاً ويتمنّى زوالها, كفتك الدماء مثلاً الّذي يعتبره بعض الناس موهبة عظيمة! فإذا شاهدوا 
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 307.
 
 
145

119

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

 من هو كذلك حسدوه. أو قد يحسبون بذاءة اللسان من الكمالات فيحسدون صاحبها!

إذاً فالّذي يرى في الآخرين نعمة، حقيقة كانت أو موهومة, ويتمنّى زوالها، يعد حاسداً.

الفرق بين الحسد والغبطة:
الحسد هو ما ذكرناه من تمنّي زوال النعم المتصوّرة عند الآخرين، وهو غير الغبطة، لأنّ الغبطة هي أن يتمنّى الإنسان الحصول على هذه النعم الّتي رآها عند الغير ولكنّه لا يتمنّى زوالها عن الآخرين. فمجرّد تمنّي الحصول على النعم لا يعتبر حسداً، ما لم يتضمّن تمنّي زوال النعم عن الغير.

ما هي أسباب الحسد:
ذكر العلّامة المجلسي قدّس سرّه أسباب الحسد في سبعة أمور:
الأول - العداوة.
الثاني ـ التعزُّز: فهو يعتقد أنّ الآخرين سيتكبّرون عليه من خلال النعم المتوفّرة عندهم، وهو لا يطيق ذلك لعزّة نفسه.

الثالث ـ الكبر: فهو بطبيعته يتكبّر على الناس.وحصول النعم عند غيره سيحدّ من تكبُّره عليهم.
الرابع ـ التعجُّب: فيتعجّب من فوز هؤلاء الناس بمثل هذه النعم الّتي يعتبرها عظيمة كما أخبر تعالى عن الأمم الماضية ﴿مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾2، فتعجّبوا أن فاز الأنبياء برتبة الرسالة والوحي والقرب مع أنّهم بشر مثلهم فحسدوهم.
________________________________________
2- سورة يس، الآية: 15.
 
 
146

120

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

 الخامس ـ الخوف: فوجود النعم بيد غيره سيجعله خائفاً على طموحاته الخاصّة من هذا الشخص الّذي قد يزاحمه بسبب ما بيده من نعم.

السادس ـ حبُّ الرئاسة: هذه الرئاسة الّتي تنبني على امتيازات ونعم تتحقّق عنده دون غيره.

السابع ـ خبث الطينة: فلا يكون هناك سبب من هذه الأسباب، ولكن لخبث النفس وشحّها بالخير لعباد الله.
ما ذكره العلّامة المجلسي صحيح ولكن كلّه يرجع إلى سبب واحد هو الأساس لكلّ حسد يمكن أن يقع فيه الإنسان، وهو "رؤية ذلّ النفس" فإنّ الإنسان عندما يلاحظ وجود الكمال في غيره تنتابه حالة من الذلّ والانكسار، وسينتج عن هذه الحالة الحسد حتماً إذا لم يكن قد أدّب الإنسان نفسه أو لم يكن هناك موانع أخرى.

مفاسد الحسد:
إنّ الحسد بنفسه بصرف النظر عن آثاره ومفاسده الأخرى هو أحد الأمراض القلبية المهلكة، فكيف إذا لاحظنا آثاره ومفاسده الأخرى!
فهناك الكثير من الأمراض القلبية الأخرى الّتي تنتج عنه كالكبر وإحباط الأعمال، وكلّ واحد منها تكفي لهلاك الإنسان.

وسنكتفي من المفاسد بذكر ما نقل عن الصادق المصدّق عليه السلام: "آفة الدِّين الحسد والعجب والفخر"3.
وفي رواية عن أبي جعفر عليه السلام: "إنّ الرجل ليأتي بأيّ بادرة فيكفر، وإنّ الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب"4.
________________________________________
3- الكافي، ج 2، ص 307.
4- م.ن، ج 2، ص 306.
 
 
147

121

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

 إنّ الإيمان هو نور إلهي إذا دخل قلب الإنسان جعله مكان تجليات وفيض الحقّ جلّ جلاله، كما جاء في الأحاديث القدسية: "لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن"5.


فهذا النور الإلهي الّذي يجعل القلب أوسع الموجودات تأتي رذيلة الحسد لتجعل مكان الوسعة ضيقاً ومكان النور ظلاماً. ويؤثّر ذلك على كلّ كيان الإنسان باطنه وظاهره، فتصيب القلب بالحزن والكدر. والصدر بالاختناق والضيق، والوجه بالعبوس والغضب. وكلّما اشتدّت ازداد ضعف الإيمان حتّى تصل إلى مرحلة تطفئ نور الإيمان وتميت قلب الإنسان، وسنذكر نبذة عن هذه المفاسد:

ـ لقد جاء في مضمون الحديث الشريف:
"إنّ المؤمن لا يتمنّى السوء للمؤمنين، بل هم أعزّاء عنده. والحسود بعكس ذلك".

ـ المؤمن لا يغلبه حبّ الدنيا. والحسود إنّما هو مبتلى بشدّة حبّه للدنيا.
ـ المؤمن لا يداخله خوف ولا حزن إلّا من بارئ الخُلُق تعالى, أمّا الحسود فخوفه وحزنه يدوران حول المحسود.

ـ المؤمن طلق المحيّا، وبشراه في وجهه. والحسود مقطّب الجبين عبوس الوجه.
ـ المؤمن متواضع والحسود متكبّر في معظم الحالات.

ـ من المفاسد الكبيرة الّتي لا تنفكّ عن الحسد أنّ المؤمن يحسن الظنّ بالله تعالى. وهو راض بقسمه الّذي يقسمه بين عباده. أمّا الحسود فساخط 
________________________________________
5- عوالي اللئالي، ج 4، ص 7.
 
 
148

122

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

 على الله تعالى وليّ نعمته، يشيح بوجهه عن تقديراته.

فالحسد إذاً هو آفة الإيمان الّتي تأكله كما تأكل النار الحطب!

عقاب الحسد:
إنّ انشغالنا في هذه الدنيا قد أعمى أعيننا وأصمّ آذاننا فلا ندري أنّنا غاضبون تجاه خالق الخُلُق معرضون عنه, ولا نعلم هذا الغضب والإعراض بأيّ صورة سيظهر لنا في مسكننا الدائم في تلك الدار! إنّ ضيق القلب وكدره الّذي سبّبه الحسد سيتسبّب بضيق القبر وظلمته! فإنّ ضيق القبر أو اتساعه منوط بضيق الصدر أو انشراحه كما ذكر العلماء.

فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج في جنازة سعد وقد شيّعه سبعون ألف ملك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه إلى السماء ثمّ قال: مثل سعد يضمّ؟ قال: قلت جعلت فداك أنّا نحدّث إنّه كان يستخف بالبول. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "معاذ الله، إنما كان من زعارة في خُلُقه على أهله"6.

إنّ الضيق والضغط والكدر والظلام الّذي يحصل في القلب بسبب الحسد قلّما يوجد في خلق فاسد آخر. فصاحب هذا الخُلُق يعيش في الدنيا معذّباً مبتلى ويكون له في القبر ضيق وظلمة.

أمّا في الآخرة فسيحشر مسكيناً متألّماً، يكفي الحديث القدسي المروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من يك كذلك فلست منه وليس منّي"، ولا نفهم ماذا يحمل لنا تبرّؤ الحقّ تعالى منّا وإعراضه عنّا من مصائب. إنّ من يخرج عن ولاية الله ويُطرد من ظلّ رحمته لن يكون له أمل في النجاة، ولن تشمله شفاعة الشافعين ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ7 من سيتقدّم ليشفع لمن سخط 
________________________________________
6- الكافي، ج 3، ص 236.
7- سورة البقرة، الآية: 255.
 
 
149

 


123

الدرس الرابع عشر: الحسد-1

عليه الله وخرج من حصن ولايته ! لم يزل الأنبياء والأولياء يصرخون في آذاننا ليوقظونا من النوم ولكنّنا نزداد غفلة وشقاء يوماً بعد يوم!



خلاصة الدرس

ـ الحسد حالة نفسية يتمنّى صاحبها سلب النعمة ـ حقيقية كانت أم موهومة ـ عن الآخرين.

ـ الغبطة تختلف عن الحسد في أنّ الإنسان يتمنّى النعمة الّتي عند الآخرين دون أن يتمنّى سلبها عنهم.

ـ ذكر العلّامة المجلسي أسباباً سبعة للحسد: العداوة، التعزّز، الكبر، التعجُّب، الخوف، حبّ الرئاسة، خبث الطينة. ما ذكره العلّامة المجلسي صحيح ولكن كلّه يرجع إلى سبب واحد وهو الأساس لكلّ حسد وهو "رؤية ذلّ النفس".

ـ مع أنّ الحسد هو بنفسه من الأمراض القلبية المهلكة إلّا أنّ له مفاسد عديدة، منها: الكبر، إحباط الأعمال، ذهاب الإيمان، غلبة حبّ الدنيا، الوقوع في الخوف والحزن، عبوس الوجه، السخط على الله تعالى وعدم الرضا بقسمه.

ـ إنّ الحسود سيكون عقابه ضيق قبره وظلمته وفي الآخرة حرمانه وألمه.

 
 
150

124

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى جذور الحسد.
2- أن يتعرّف إلى علاج الحسد.
 
 
151

125

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عزّ وجل لموسى بن عمران: يا ابن عمران لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك ولا تتبعه نفسك, فإنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الّذي قسمت بين عبادي ومن يك ذلك فلست منه وليس منّي"1.

هل يحقّق الحسود أهدافه؟
يجب أن تعلم أنّ حسدك لا يضرّ المحسود، فلن تزول عنه النعمة لمجرّد أنّك تحسده، بل على العكس تماماً سيستفيد نتيجة حسدك في الدنيا والآخرة.
سيستفيد في الدنيا لأنّك عدوّه وحاسده، فشقاؤك وحزنك سيعدّ نفعاً له، فعذابك وأنت عدوّه هو نعمة بالنسبة إليه، وإذا التفتّ إلى هذا الموضوع سيزداد عذابك وتألّمك وفي ذلك نعمة جديدة له أيضاً وهكذا...وعليه فإنّك ستكون دائماً في عذاب وشقاء وتعاسة وغمّ، وهو في نعمة وسرور وانبساط.

وسيستفيد في الآخرة أيضاً، خصوصاً إذا كان الحسد قد دفع بك إلى الغيبة
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 307.
 
 
153

126

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

  والافتراء وسائر الرذائل، ممّا يستوجب أخذ حسناتك وإعطائها له، فتصبح أنت مفلساً في الآخرة، ويزداد هو نعمة وعظمة.


لو أنّك فكّرت في هذه الأمور وعرفت عاقبة الحسد لأقدمت على تطهير نفسك من هذه الرذيلة وأنقذت نفسك من هذه الهلكة. وما دام الإنسان في هذا العالَم فهو قادر على الإصلاح فلا تجعلك نفسك تيأس من الإصلاح وبادر إليه فهو أسهل ممّا تُصوِّره لك هذه النفس الأمارة.

أسرع إلى الإصلاح فإنّ المنع من تسرُّب الأخلاق الفاسدة إلى نفسك أيسر من إخراجها منها، وإذا تسرّبت فإنّك كلّما أخّرت التصدّي لإخراجها ازدادت جذورها وازداد الجهد المطلوب منك للتطهير وضعفت قواك الداخلية، وعلى كلّ حال فعليك أن تبذل كلّ جهد لاقتلاع تلك الجذور قبل أن تصل إلى مرحلة اللاعودة في البرزخ والآخرة.

إنّ الصفات النفسية والأخلاقية في ذلك العالَم تكون قوية إلى درجة أنّ زوالها إمّا أن يكون غير ممكن على الإطلاق، فيكون صاحبها مخلّداً في النار، وإمّا إذا أمكن إزالتها بالمشاق والضغوطات والنيران فإنّ ذلك قد يحدث ولكن بعد قرون حسابُها إلهيٌّ لا كحسابنا نحن!

فما دمت قادراً على الإصلاح في شهر أو سنة مع القليل من التعب الدنيوي لا تهمله وتؤجِّله لكيلا يوردك موارد الهلاك.

جذور الحسد:
ذكرنا فيما سبق من دروس أنّ العلم محلّه العقل، وأمّا الإيمان فمحلّه القلب، وجميع المفاسد الأخلاقية والعملية سببها أنّ العلم الّذي أدركه العقل عن طريق الدليل والبرهان والأخبار لم يتجاوزه ليصل إلى القلب، فبقي القلب غافلاً عن الإيمان لا يعرف عنه شيئاً:
 
 
154

127

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

 الحسود لا يؤمن بالحكمة الإلهية:

ومن بين المعارف الّتي يعتقد بها الحكماء والمتكلّمون وعامّة الناس الّذين يتّبعون الشرائع هو أنّ ما كتبه الحكيم المطلق جلّت قدرته، من الوجود والكمال وبسط النعمة وتقسيم الآجال والأرزاق جاء على خير تقدير وأجمل نظام. وهو يناسب تماماً المصالح التامة ويعطي نظاماً مثالياً كاملاً. وكلُّ فرد منهم يعبّر عن هذه الحقيقة بتعبيراته الخاصّة.

فالعارف يقول: ظلّ الجميل جميل على الإطلاق.
والفيلسوف يقول: إنّ هذا الوجود خال من النقص والشرور، وما نتصوّر نحن أنّه شرّ هو في الحقيقة طريق يوصل الكائنات إلى الكمالات المناسبة لها.

والمتكلّم وأهل الشرائع يقولون: أفعال الحكيم لا تكون إلّا حكيمة وصالحة،
والعقول المحدودة هي العاجزة والقاصرة عن إدراك المصلحة والحكمة.

وكلّ واحد منهم يستدلّ بالأدلّة والبراهين الّتي تتناسب مع مدى سعة عقله وعلمه.
ولكن بما أنّ الأمر لم يتعدّ الأقوال والعقول إلى القلوب، فإنّ ألسنة الاعتراض على الله تعالى تبقى مطلقة وهذا القلب الّذي لم يخالطه الإيمان بعد سيفنّد البرهان ويكذّب اللسان. وعلى هذا الأساس تكون المفاسد الأخلاقية.

إنّ الّذي يحسد الناس ويحقد في قلبه على أصحاب النعم ويتمنّى زوال النعمة عنهم، مشكلته الأساسية أنّه لم يصل إلى مرحلة الإيمان بأنّ الله يفعل الأصلح للعباد.

الحسود لا يؤمن بالعدل الإلهي:
إنّ من الفطرة الإلهية الكامنة في أعماق البشر حبّ العدل والرضى به، 
 
 
155

128

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

 وكراهة الظلم وعدم الاستسلام له، فالقلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة وينفر بالفطرة من الجور، فإذا سخط على النعمة وأعرض عن القسمة فذلك لأنّه لا يرى ذلك عدلاً، بل يراه والعياذ بالله جوراً، مع أنّك في أصول العقائد تقول إنّ الله عادل. إنّ الحسد يناقض الإيمان بالعدل، فلو كنت ترى الله عادلاً لرأيت تقسيمه عادلاً أيضاً.


ما هو العلاج العملي للحسد:
حتّى تستطيع أن تواجه هذه الرذيلة وتعالج هذا المرض الّذي ابتليت به، عليك أن لا تجاري هذه النفس ولا تتبع خطواتها، من إظهار البغض للمحسود، إنّ نفسك تدعوك لإيذائه واعتباره عدوّاً وتكشف لك عن مساوئه ومفاسده وتركّز عليها.

يجب أن تقوم بعكس ذلك تماماً لكسر هذه النفس، فتُظهر المحبّة له وتترحّم عليه وتجلّه وتحترمه، واحمل لسانك على أن يذكر محاسنه، واعرض أعماله الصالحة على نفسك وعلى الآخرين، وتذكّر صفاته الجميلة.

صحيح أنّ هذا السلوك سيكون تكلُّفاً في بادئ الأمر ومن باب المجاز لا الحقيقة، ولكن بشكل تدريجي ستقترب نفسك من الحقيقة ويخفّ تكلُّفك شيئاً فشيئاً وترجع نفسك إلى حاله الطبيعي وتحقّق هدفك في إصلاح النفس وإزالة هذه المنقصة والرذيلة.

وليعلم أنّه إذا اتّخذ طريق المحبّة فإنّه سرعان ما يكون موفّقاً لأنّ نور المحبّة قاهر للظلمة ومزيل للكدر.

قل لنفسك: على الأقل إنّ هذا الإنسان عبد من عباد الله، ولعلّ الله نظر إليه نظرة لطف فأنعم عليه بما أنعم، فخصّه دون غيره بها.
 
 
156

129

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

 خصوصاً إذا كان المحسود من رجال العلم والدِّين، وكان محسوداً على علمه ودينه، فإنّ هذا الحسد يكون أقبح، ومعاداة أمثال هؤلاء أسوء عاقبة، ولا بدّ من تفهيم النفس أنّ هؤلاء هم من عباد الله المخلصين الّذي شملهم توفيق منه ووهبهم هذه النعم العظيمة، فهم أهل للمحبّة والاحترام والخضوع لهم. فإذا رأى نفسه على خلاف ذلك فعليه أن يعلم أنّ الشقاء قد اكتنفه من كلّ جانب وأنّ الظلام قد أحاط بباطنه، فعليه أن يبادر إلى إصلاح نفسه.


الحسد الّذي لم يظهر:
ورد في بعض الأحاديث الشريفة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما مضمونه:
"إنّ الله رفع عن أمّتي تسع... ومنها الحسد إذا لم يظهر من خلال يده أو لسانه"2.

قد يتصوّر بعضهم في بداية الأمر أنّه لا مشكلة ولا عيب من الحسد الّذي لم يترتّب عليه آثار عملية تظهر من خلال يد الإنسان أو لسانه، ولكن هذا التصوّر خاطئ.

لربّما يرفع هذا الحديث العقاب المباشر على هذا الشعور، ولكنّه لا يرفع آثار هذا الشعور داخل الإنسان، تلك الآثار الخطيرة جدّاً الّتي تحدّثت عنها الروايات. فيكفي أنّ الحسد نار تحرق الإيمان، وأنّ الله تعالى بريء من الحسود وأنّه مطرود من حضرته، وغيرها من المفاسد الّتي ذكرناها قبل ذلك.

فيجب أن لا يحول مثل هذا الحديث الشريف دون المساعي الجادّة لقلع هذه الشجرة الخبيثة من النفس، ولا يمنع المبادرة لتطهير الروح من نيرانها، هذه النيران الّتي ستقضي عليه، لأنّه يندر أن تدخل هذه الرذيلة المفسدة إلى نفس 
________________________________________
2- الكافي، ج 2، ص 463.
 
 
157

130

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

 إنسان ولا تتسبّب بالمفاسد المختلفة، أو أن تدخل ولا يظهر لها أثر باليد أو اللسان، ويبقى الإنسان محافظاً على إيمانه.


فهذا الحديث يذكر أنّه لم ينجُ أحد من الحسد في الباطن، والميزان فقط في استعماله أو عدم استعماله. فلربّما يظنّ بعض الناس أنّه لا مشكلة من وجوده في الباطن. ولكن هذا الفهم غير صحيح.

وهذا الحديث المقصود منه أحد الأمور التالية:
- إمّا أن يكون من باب المبالغة في التعبير ليشير إلى كثرة المبتلين بهذا المرض.
- أو من باب الكناية دون أن يكون المقصود مضمون الكلام بذاته.
- أو أنّه أعطى للحسد معنى أوسع يشمل الغبطة أيضاً.
- أو أنّه يقصد بالحسد تمنّي زوال بعض النعم المستعملة لدى الكفّار في ترويج مذهبهم الباطل.
إنّ الأنبياء والأولياء مطهّرون من الحسد بمعناه الحقيقي. والقلب الملوّث بالمساوئ الأخلاقية والقذارات الباطنية لا يمكن أن يكون محلّ الوحي والإلهام. فلا بدّ أنّ يُفسّر هذا الحديث بحسب ما ذكر أو بتفسير آخر، أو يردّ علمه إلى قائله صلوات الله عليه.
 
 
158

131

الدرس الخامس عشر: الحسد-2

 خلاصة الدرس

ـ إنّ الحسود لا يضرّ المحسود بل سيفيده في الدنيا والآخرة.
ـ من جذور الحسد: أنّ الحسود لا يؤمن بالحكمة الإلهية، وأنّه لا يؤمن بالعدل الإلهي، وإن آمن بذلك عقلاً فإنّ قلبه لم يؤمن.
ـ من العلاجات العملية للحسد: أن تظهر المحبّة للمحسود وتجلّه وترحمه، وأن تحمل لسانك على ذكر محامده، وتذكر صفاته الحسنة واعرضها على الآخرين.
ـ إنّ حديث: "إنّ الله رفع عن أمّتي تسع... ومنها الحسد إذا لم يظهر من خلال يده أو لسانه..." لربّما يرفع العقاب المباشر على الحسد إن لم يظهر، ولكنّه لا يرفع الآثار المدمِّرة للحسد. وممكن تأويله بمعانٍ أخرى.
 
 
159

132

الدرس السادس عشر: الغضب -1

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الغضب المذموم ومفاسده.
2- أن يتعرّف إلى فوائد القوّة الغضبية.
3- أن يدرك الأمور العملية الّتي تساعد على إيقاظ القوّة الغضبية.
 
 
161

133

الدرس السادس عشر: الغضب -1

 عن الإمام الصادق عليه السلام: "الغضب مفتاح كلّ شر"1.


خطورة الغضب:
ينقل أنّ سقراطيس كان يقول: "إنّي للسفينة إذا عصفت بها الرياح وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج الّتي فيها الجبال، أرجى منّي للغضبان الملتهب، وذلك أنّ السفينة في تلك الحال يلطف لها الملّاحون ويخلّصونها بضروب الحيل، أمّا النفس إذا استشاطت غضباً فليس يرجى لها حيلة البتّة، وذلك أنّ كلّ ما رُقي به الغضب من التضرُّع والموعظة والخضوع يصير بمنزلة الجزل من الحطب يوهجه ويزيده استعاراً".

والغضب ليس شرّاً دائماً، وإنّما له فوائد في مكانه الصحيح ويصبح قبيحاً مع الإفراط ووضعه في غير محلّه.

فوائد القوّة الغضبية:
قد يتصوّر بعض الناس أنّ قتل غريزة الغضب بالكامل وإخماد أنفاسها يعدّ
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 303.
 
 
163

134

الدرس السادس عشر: الغضب -1

  من الكمالات والمعارج النفسية، وهم بذلك يرتكبون خطيئة عظيمة، فإنّ هذه الغريزة من النعم الإلهية العظيمة الّتي ينبغي حفظها وشكر الباري عليها، إنّ التفريط والنقص من حال الاعتدال يعدّ من مثالب الأخلاق المذمومة ومن نقائص الكمالات الّتي يترتّب عليها الكثير من المفاسد والعيوب. وسنشير هنا إلى بعض فوائد هذه القوّة:


- إنّ وجود هذه الغريزة الشريفة في الإنسان وكذلك في الحيوان تدفعه للدفاع عن نفسه من هجمات الطبيعة، ولولاها لآل أمره إلى الزوال والاضمحلال.
- إنّ القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والتعزيرات والجهاد ضدّ الأعداء ودفع المؤذيات والمضرّات عن الفرد والمجتمع لا يكون إلّا في ظلّ القوّة الغضبية الشريفة وتحت لوائها.

- لولا هذه القوّة لما استطاع الإنسان أن يصل إلى الكثير من مراتب تطوّره وكمالاته ولابتلي بكثير من العيوب والمفاسد كالخوف والضعف والخمود والتكاسل والطمع وقلّة الصبر وعدم الثبات وتحمّل الظلم وقبول الرذائل والاستسلام لما يصيبه وانعدام الغيرة وخور العزيمة... والله تعالى يصف المؤمنين بقوله:

 

﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ2.
فهذه الغريزة في بني آدم هي رأسمال الحياة الملكية والملكوتية، ومفتاح الخيرات والبركات، لذلك سعى الحكماء إلى معالجة خمود هذه الغريزة وركودها.
________________________________________
2- سورة الفتح، الآية: 29.
 
 
164

135

الدرس السادس عشر: الغضب -1

 كيف نوقظ هذه الغريزة الشريفة؟

إنّ غريزة الغضب موجودة لدى كلّ إنسان ومودعة في باطنه، ولكنّها في بعضهم خامدة منكمشة، كالنار تحت الرماد، فالواجب على من يلحظ في نفسه حال الخمول والضعف وانعدام الغيرة أن يعالج الحالة بضدّها ويخرج نفسه ممّا هي فيه إلى حال من الاعتدال، وهناك معالجات علمية وعملية لإيقاظها و تحريكها: مثل الإقدام على الأمور العظيمة المخيفة، والذهاب إلى ميادين الحرب، والجهاد ضدّ أعداء الله.

الإفراط في الغضب قبيح:
كما كان التفريط ونقص الاعتدال من الصفات المذمومة الّتي تؤدّي إلى كثير من المفاسد الّتي ذكرنا بعضها، كذلك الإفراط وتجاوز حدّ الاعتدال، فهو أيضاً من الصفات المذمومة الّتي تقود إلى مفاسد كثيرة، وقد ورد في الحديث الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام:
"الغضب يُفسد الإيمان كما يفسد الخلّ العسل"3.

فقد يصل الغضب بالإنسان إلى حدّ الارتداد عن دين الله وإطفاء نور الإيمان بحيث إنّ ظلام الغضب وناره تحرق العقائد الحقّة، فيصل إلى الهلاك الأبدي، ثمّ ينتبه على نفسه بعد فوات الأوان وحين لا ينفع الندم، ولذلك يمكن أن توصف هذه السجيّة بأنّها أمّ الأمراض النفسية ومفتاح كلّ شرّ، على المستويين، الخُلُقي والعملي:
أمّا المفاسد الأخلاقية الّتي تتبع الغضب فهي: الحقد على عباد الله، وقد ينتهي به الأمر إلى الحقد على الأنبياء والأولياء، بل وحتّى على ذات الله المقدّسة
________________________________________
3- الكافي، ج 2، ص 302.
 
 
165

136

الدرس السادس عشر: الغضب -1

  وليّ النعم!. وكذلك الحسد الّذي سبق الحديث عن مفاسده وشروره. وغيرها من المفاسد.


وأما مفاسد الغضب المؤثرة في الأعمال فإنها ليست بمحصورة، فلعله يتفوّه بما فيه الارتداد، أو سبّ الأنبياء والأولياء والعياذ بالله وهتك الحرمات الإلهية، وخرق النواميس المقدّسة، وقتل الأنفس الزكية، والافتراء على العوائل المحترمة والتسبب لها بالعار والذلّ، ويقضي على النظام العائلي بكشف الأسرار وهتك الأستار، وغيرها من المفاسد الّتي لا تُحصى، لقد وقعت أفظع الفتن، وارتكبت أفجع الأعمال بسبب الغضب واشتعال ناره الحارقة.

عقاب الغضب في الآخرة:
ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام:
"إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم"4.

ونار الغضب هذه الّتي هي جمرة الشيطان في هذه الدنيا، يمكن أن تكون صورتها في الآخرة صورة نار الغضب الإلهي الّذي يحرق الإنسان، كما ورد في رواية عنه عليه السلام:
"مكتوب في التوراة فيما ناجى الله عزّ وجل به موسى: يا موسى أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه، أكفّ عنك غضبي"5.

ولا شكّ في أنّه ليست هناك نار أشدّ من نار غضب الله عذاباً. وقد جاء في كتب الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام:
"قال الحواريّون لعيسى عليه السلام: أيّ الأشياء أشدّ؟ قال: أشدّ الأشياء غضب 
________________________________________
4- الكافي، ج 2، ص 304.
5- م.ن، ج 2، ص 303.
 
 
166

137

الدرس السادس عشر: الغضب -1

 الله عزّ وجل، قالوا: بِمَ نتّقي غضب الله عليه السلام قال: بأن لا تغضبوا"6.


إنّ غضب الإنسان في هذه الدنيا يأخذ صورة غضب الله تعالى في الآخرة، وكما أنّ الغضب يظهر من القلب، فلعلّ نار الغضب الإلهي الّذي منطلقه القلب، تنبعث من داخل القلب أيضاً، وتسري إلى الظاهر، وتخرج ألسنة نيرانها المؤلمة من الأعضاء الظاهرية مثل العين والأذن واللسان وغيرها، ثمّ هذه الأعضاء نفسها ستكون أبواباً تتفتح على جهنّم فتحيط نار جهنّم بظاهر جسد الإنسان لتتّجه إلى الباطن، فيقع الإنسان في العذاب والشدّة بين جهنّمين: أحدهما يبرز من باطن القلب ليسري في عالَم الجسد، وثانيهما صورة قبائح الأعمال وتجسّم الأعمال حيث تتصاعد نيرانها من الظاهر إلى الباطن، والله سبحانه وتعالى يعلم مدى هذا الضغط! إنّه غير الاحتراق وغير الانصهار، فالإحاطة في الآخرة تختلف عن الإحاطة الّتي نتصوّرها، لأنّ الإحاطة الّتي نتصوّرها تحيط بالظاهر، وأمّا الإحاطة في الآخرة فتكون بالظاهر والباطن.

وإذا صارت صفة الغضب راسخة في نفس الإنسان - لا سمح الله - كانت المصيبة أعظم وأصبحت صورة الإنسان في البرزخ ويوم القيامة صورة الوحوش والسباع، السباع الّتي لا شبيه لها في هذه الدنيا، لأنّ سبعية الإنسان لا يمكن مقارنتها بسبعية أيّ حيوان.

وقد وصفهم الله تعالى بقوله:

 

﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا7.

ووصف قلوبهم فقال:

 

﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً8.
________________________________________
6- وسائل الشيعة، ج 11، ص 289.
7- سورة الفرقان، الآية: 44.
8- سورة البقرة، الآية: 74.
 
 
167

138

الدرس السادس عشر: الغضب -1

 هذا كلّه إذا لم يستتبع الغضب معاصٍ أخرى، بل بقي ناراً داخلية مظلمة تتّقد في الباطن ليفسد دخانها الأسود نور الإيمان ويطفئه. وعندما تستعر نار الغضب فمن البعيد أن لا يرتكب معاصٍ وموبقات ومهلكات أخرى كأن يسبّ الأنبياء والمقدسات والعياذ بالله أو يقتل نفساً بريئة مظلومة أو يهتك الحرمات فيخسر الدنيا والآخرة، كما جاء في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام: "أيّ شيءٍ أشدّ من الغضبِ؟! إنّ الرجل ليغضب فيقتل النفس الّتي حرّم الله ويقذف المحصنة"9.




خلاصة الدرس
ـ كما أنّ الإفراط في الغضب مذموم كذلك التفريط فيه، فللقوّة الغضبية فوائد، منها: دفاع الإنسان عن نفسه، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى، وإزالة الخوف والضعف والخمود والتكاسل إلى غير ذلك من الفوائد.
ـ من الأمور العملية الّتي تساعد على إيقاظ القوّة الغضبية الخامدة: الإقدام على الأمور العظيمة، والذهاب إلى ميادين الحرب والجهاد.
ـ الإفراط في الغضب قبيح، ومن مفاسده الأخلاقية: الحسد، وأمّا مفاسده العملية فكثيرة، منها: السبّ، وهتك الحرمات، وقتل الأنفس الزكية، وإيقاع الفتن.
ـ عقاب الغضب في الآخرة غضب الله، ويحشر الغاضب على صورة الوحوش.
________________________________________
9- الكافي، ج 2، ص 303.
 
 
168

139

الدرس السابع عشر: الغضب -2

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى كيفيّة علاج الغضب.
2- أن يتعرّف إلى جذور الغضب.
3- أن يُفرِّق بين الغضب والشجاعة.
 
 
169

140

الدرس السابع عشر: الغضب -2

 عن الإمام أبي جعفر عليه السلام:

"إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك"1.

إخماد سعير الغضب:
ينبغي على الإنسان كظم الغيظ وإخماد سعير الغضب، فإنّه من جوامع الكلم ودائرة تمركز الحسنات ومجمع الكرامات، كما جاء في الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام:
"أتى رسول الله رجلٌ بدوي، فقال: إنّي أسكن البادية فعلّمني جوامع الكلام، فقال: آمرك أن لا تغضب. فأعاد عليه الأعرابي المسألة ثلاث مرّات حتّى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شي‏ء بعد هذا، ما أمرني رسول الله إلّا بالخير. قال عليه السلام: "وكان أبي يقول: أيّ شي‏ء أشدّ من الغضب؟ إنّ
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 304 ـ 305.
 
 
171

141

الدرس السابع عشر: الغضب -2

  الرجل ليغضب فيقتل النفس الّتي حرّم الله ويقذف المحصنة"2.


بعد أن يدرك الإنسان، في حال تعقُّله وسكون نفسه وخمود غضبه، المفاسد الناجمة عن الغضب، والمصالح الناجمة عن كظم الغيظ، يلزم أن يحتّم على نفسه أن يُطفئ هذا اللهيب الحارق وهذه النار المشتعلة في قلبه، ليغسل قلبه من الظلام والكدر، ويعيد إليه صفاءه ونقاءه.

وهذا الأمر ممكن حتماً بشيء من مخالفة النفس والعمل ضدّ هواها، وبقليل من النصح والإرشاد والتدبُّر في عواقب الأمور.

كيف تعالج نفسك؟
إنّ علاج الغضب المشتعل يكون من جهتين: علمية وعملية.
العلاج العلمي: وهو أن يتفكّر الإنسان في تلك الأمور الّتي ذكرت في الدرس السابق.
العلاج العملي: وأهمُّه صرف النفس عن الغضب عند أوّل ظهوره. فإنّ الغضب أشبه بالنار الّتي تزداد شيئاً فشيئاً، وتشتدّ حتّى يتعالى لهيبها وترتفع حرارتها ويفلت من سيطرة الإنسان، وهكذا الغضب سيتطوّر حتّى يخمد نور العقل والإيمان ويُطفئ سراج الهداية فيُصبح الإنسان ذليلاً مسكيناً.

فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعال الغضب ويرتفع سعيره، ويبادر إلى إطفاء هذه النار، وهناك عدّة أساليب لإطفاء هذه النار:
منها: أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى وهناك من يرى وجوب ذكر الله في حال الغضب أو بأمور أخرى تقطع تفاعله الزائد مع الموضوع الّذي أثاره وتبعده عن الغضب.
________________________________________
2- الكافي، ج 2، ص 303.
 
 
172

142

الدرس السابع عشر: الغضب -2

 ومنها: أن يغادر المكان الّذي ثار فيه غضبه.

ومنها: أن يُغيّر من وضعه، فإن كان جالساً فلينهض واقفاً، وإذا كان واقفاً فليجلس.
ومنها: وهو خاصٌّ بالغضب على ذي رحم، فإن أحسّ بالغضب فليدنُ منه ويمسّه، لأنّ الرحم إذا مسّت سكنت، كما في الرواية.

وهناك عدّة روايات أشارت إلى هذه الأساليب، منها رواية عن أبي جعفر عليه السلام:
"إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض فإنّ رجز الشيطان يذهب عنه عند ذلك"3.

وفي رواية أخرى عن ميسر قال: ذُكر الغضب عند أبي جعفر الباقر عليه السلام فقال:
"إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدخل النار، فأيّما رجل غضب على قوم وهو قائم فليجلس من فوره ذلك، فإنّه سيذهب عنه رجز الشيطان وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليدن منه فليمسّه، فإنّ الرحم إذا مسّت سكنت"4.

إنّ كبح جماح الغضب في بداية ظهوره أمر سهل ولا يحتاج للعناء والتعب، وإذا أوقفه الإنسان في هذه المرحلة ومنعه من التفاعل، فسيفيده هذا في أمرين:
________________________________________
3- الكافي، ج 2، ص 304.
4- م.ن، ج 2، ص 302.
 
 
173

143

الدرس السابع عشر: الغضب -2

1- يهدّئ النفس ويقلّل من اشتعال الغضب.

2- سيروّض النفس ويؤدّي إلى معالجتها الجذرية، وسيصل بالتالي إلى حالة الاعتدال والتوازن.

كيف تعالج غيرك؟
إذا أردت أن تعالج غضب غيرك فعليك عند ظهور علامات الغضب الأولى أن تعالجه بإحدى الطرق العلمية والعملية المذكورة، ولكن إذا اشتدت حاله واشتعل غضبه، فإنّ النصائح تنتج عكس المطلوب، ولذلك يكون علاجه وهو في هذه الحال صعباً.

هناك علاج قد يفيد في حالة اشتعال الغضب واشتداده، وهو تخويفه من قبل شخص يهابه ويخشاه، فإنّ الغاضب إنّما يغضب عندما يرى نفسه أقوى ممّن يغضب عليه، أو يرى أنّه - على الأقل - يتساوى معه في القوّة. أمّا الذين يرى أنّهم أقوى منه فلا يظهر الغضب أمامهم، بل تكون الفورة والاشتعال في باطنه ويبقى محبوساً في داخله ويولد الحزن في قلبه. فالعلاج في مرحلة الانفعال الشديد سيكون على جانب كبير من الصعوبة، نعوذ بالله منه.

اقتلاع أسباب الغضب:
من أهمّ سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له. وقد ذكروا أسباباً كثيرة للغضب مثل: العجب والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها ممّا يطيل البحث الدخول في تفاصيلها، ولكن أكثرها تنطوي بشكل مباشر أو غير مباشر تحت عنوانين أساسين هما:

1- حبّ الذّات: ويتفرّع عنه حبّ المال والجاه والنفوذ والتسلُّط. فمن كانت فيه هذه الأنواع من الحبّ، اهتمّ بهذه الأمور كثيراً، وكان لها في قلبه 
 
 
174

144

الدرس السابع عشر: الغضب -2

 مكان رفيع. فإذا واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحسّ أنّ هناك من ينافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع ويمسك بزمامه مع سائر الرذائل الناجمة عن حبّ الذّات، وحاد بأعماله عن جادّة الشريعة والعقل.


وأمّا إذا لم يكن شديد التعلُّق والاهتمام بهذه الأمور، فإنّ هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حبّ الجاه والمقام وتفرُّعاتها تمنع النفس من أن تخطو خطوات تخالف العدالة والرويّة.

إنّ الإنسان البسيط وغير المتكلّف يتحمّل المنغّصات ولا تتقطّع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أمّا إذا اقتلع جذور حبّ الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحلّ محلّها الفضائل الأخلاقية السامية.

2- الجهل والاشتباه في فهم الكمال: فقد يظنّ الإنسان بسبب جهله وقلّة معرفته أنّ الغضب وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، فيحسب الغضب من الفضائل، ويراه بعض الجهّال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على نفسه في أنّه فعل كذا وكذا، ويحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة! هذه الشجاعة الّتي تكون من أعظم صفات المؤمنين، وأشرف الصفات الحسنة.

فإذا تعلّم الإنسان وعرف أنّ الغضب ليس شجاعة، عرف أنّه نقص وليس كمالاً، وينبغي التخلّص من هذا العيب والابتعاد عنه، لا التباهي به.

الفرق بين الغضب والشجاعة:
هناك فرق كبير جدّاً بين الغضب والشجاعة، إن من جهة المنشأ والأسباب أو من جهة الآثار والنتائج:
 
 
175

145

الدرس السابع عشر: الغضب -2

 فعلى مستوى المنشأ والأسباب: إنّ مبدأ الشجاعة هو قوّة النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلّة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلّباتها.


أمّا الغضب فناشئ عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلّة الإيمان، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الروح، وعن حبّ الدنيا والاهتمام بها، والتخوّف من فقدان اللذائذ البشرية.

لذلك تجد هذه الرذيلة مستحكمة في المرضى أكثر ممّا هي في الأصحّاء، وفي الصغار أكثر ممّا هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر ممّا هي في الشبّان.

ومن كانت فيه رذائل أخلاقية أسرع إلى الغضب ممّن فيهم فضائل أخلاقية، إذ يكون البخيل أسرع في الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر.

فالشجاعة إذاً على عكس الغضب تماماً من جهة المنشأ والأسباب.

وعلى مستوى الآثار والنتائج: فالغاضب وهو في حال ثورة غضبه، يكون أشبه بالمجنون الّذي فقد عنان عقله، ويصبح مثل الحيوان المفترس الّذي لا تهمّه عواقب الأمور، فيهجم دون تروّ أو احتكام إلى العقل، فيسلك سلوكاً قبيحاً، يفقد سيطرته على لسانه ويده وسائر أعضائه، وتلتوي شفتاه في هيئة قبيحة بحيث إنّه لو أُعطي مرآة لخَجِل من صورته الّتي يراها فيها.

إنّ بعض أصحاب هذه الرذيلة يغضبون لأتفه الأمور، يغضبون حتّى على الحيوانات والجمادات، ويلعنون حتّى الريح والأرض والبرد والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت على خلاف رغباتهم.

أمّا الشجاع فهو بخلاف ذلك تماماً، فأعماله لا تكون إلّا عن روية ووفق ميزان العقل وطمأنينة النفس. يغضب في محلّ الغضب، ويحلم في محلّ الحلم، لا تهزّه الأمور التافهة ولا تغضبه، وإذا غضب، غضب بمقدار، وينتقم بعقل، ويعرف كيف ينتقم ومتى وممّن، وكيف يعفو ومتى وممّن، وفي حال 
 
 
176

146

الدرس السابع عشر: الغضب -2

 غضبه لا يفقد زمام نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء، ولا بالأعمال القبيحة، ويزن كلّ أعماله بميزان الشرع والعقل والعدل والإنصاف، ويخطو خطوات لا يندم عليها بعد ذلك.


فعلى الإنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلُق الّذي يتّصف به الأنبياء والأولياء والمؤمنون، ويعدّ من الكمالات النفسية، وبين الخُلُق الآخر الّذي هو من النقائص والصفات الشيطانية ومن وسوسة الخنّاس.




خلاصة الدرس
ـ ينبغي على الإنسان بعد أن يعرف مفاسد الغضب أن يكظم غيظه ويعالج غضبه.
ـ إنّ علاج الغضب من جهتين: علمية وعملية، العلاج العلمي: بان يتفكّر الإنسان بمفاسد الغضب وخطورته. العلاج العملي: صرف النفس عن الغضب في أوّل ظهوره، أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى، أن يغادر المكان الّذي ثار فيه غضبه، أن يغيّر من وضعه، أن يمسّ ذوي رحمه.

ـ أمّا علاج غضب الغير، فعليك أن تبادر عند ظهور علامات الغضب الأولى أن تعالجه بإحدى الطرق العلمية أو العملية المذكورة؛ وإذا لم تفد هذه الطرق لاشتداد حالة الغضب عنده فخوّفه ممّن هو أقوى منه.

ـ من أهمّ سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة أسبابه المثيرة، وقد ذكروا أسباباً كثيرة، منها: العجب والزهو والكبر والمراء والعناد والمزاح وغيرها، ولكن أكثرها تنطوي تحت عنوانين أساسين هما: حبّ الدنيا، الجهل والاشتباه في فهم الكمال.

ـ هناك فرق بين الغضب والشجاعة من حيث الأسباب والنتائج، أمّا من حيث
 
 
177

147

الدرس السابع عشر: الغضب -2

 الأسباب: فأسباب الشجاعة قوّة النفس والطمأنينة والاعتدال وقلّة المبالاة بحبّ الدنيا، وأسباب الغضب نقائض ذلك. أمّا من حيث النتائج: فالشجاع أعماله وفق ميزان والشرع بخلاف الغاضب فإنّه أشبه بالمجنون لا تهمّه عواقب الأمور.

 

178


148

الدرس الثامن عشر: العصبية

 أهداف الدرس:

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى العصبية المذمومة.
2- أن يتعرّف إلى معنى العصبية الممدوحة.
3- أن يدرك عاقبة المتعصِّب في الآخرة.
 
 
179

149

الدرس الثامن عشر: العصبية

 عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان في قلبه حبّة من خردل1 من عصبية، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"2.

ما هي العصبية؟
العصبي: هو الّذي يُعِين قومه على الظلم ويغضب لعصبته ويحامي عنهم.
والعصبية: هي واحدة من سجايا النفس وصفاتها وميولاتها، ويكون أثرها الدفاع عن الأقرباء وحمايتهم، بل وجميع المرتبطين به بشكل من الأشكال، بما في ذلك الارتباط الديني أو المذهبي أو المسلكي، والارتباط بالوطن وترابه، والارتباط بالأستاذ والمعلّم أو بالتلاميذ، وما إلى ذلك.

والعصبية من الأخلاق الفاسدة والسجايا غير الحميدة، وهي مذمومة وقبيحة، حتّى لو كانت في طريق الحقّ، أو من أجل أمر ديني، ما دامت لا 
________________________________________
1- الخردل: نبات معروف له خواص كثيرة، ويصنع منه الشمع.
2- الكافي، ج 2، ص 301.
 
 
181

150

الدرس الثامن عشر: العصبية

 تستهدف إلّا تفوّقه وتفوّق مسلكه ومسلك عصبته، وما دام هدفه ليس الدفاع عن الحقّ وإظهار الحقيقة.


وأمّا إظهار الحقّ والحقيقة وإثبات الأمور الصحيحة والترويج لها وحمايتها والدفاع عنها، فإمّا أنّه لا يمكن تسميته بالتعصُّب أصلاً أو إذا سمّيناه تعصُّباً فهو ليس من التعصُّب القبيح. فالمرء إذا تعصّب لأقربائه أو أحبّته ودافع عنهم، فما كان بقصد إظهار الحقّ ودحض الباطل فهو تعصُّب محمود ودفاع عن الحقّ والحقيقة، ويعدّ من أفضل الكمالات الإنسانية، ومن خُلُق الأنبياء والأولياء.

وأمّا إذا تحرّك بدافع قوميّته وعصبيّته بحيث أخذ يدافع عن قومه وأحبّته في باطلهم وسايرهم فيه ودافع عنهم، فهذا شخص تجلّت فيه سجيّة العصبيّة الخبيثة، وصار في زمرة أعراب الجاهلية الذين كانوا يعيشون في البوادي قبل الإسلام. بل إنّ هذه الصفة توجد في معظم أهل البوادي كما ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"إنّ الله سبحانه يُعذّب طوائف ستّة بأمور ستّة: أهل البوادي بالعصبيّة وأهل القرى بالكبر والأمراء بالظلم، والفقهاء بالحسد، والتجّار بالخيانة، وأهل الرساتيق بالجهل"3.

المتعصّب يخرج من ربقة الإيمان:
يستفاد من الأحاديث الشريفة أنّ العصبيّة من المهلكات، تتسبّب بسوء العاقبة والخروج من عصمة الإيمان.
جاء في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام:
"من تعصّب أو تُعُصّب له فقد خُلِع رِبْقُ الإيمان من عنقه"4.
________________________________________
3- الخصال، ج 1، ص 325.
4- الكافي، ج 2، ص 307.
 
 
182

151

الدرس الثامن عشر: العصبية

 أي أنّ المتعصِّب بتعصّبه يكون قد خرج من إيمانه، وأمّا المتعصَّب له، فبما أنّه قد رضي بعمل المتعصِّب، يصبح شريكاً له في العقاب. كما جاء في الحديث الشريف:

"الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كلّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل به وإثم الرضا به"5 

وعن الإمام الصادق عليه السلام:
"من تعصّب عصّبه الله بعصابة من النار"6.

وعنه عليه السلام:
"لم يدخل الجنّة حمية غير حمية حمزة بن عبد المطلب وذلك حين أسلم غضباً للنبي"7.

وقصّة إسلام حمزة بن عبد المطلب وردت بعبارات مختلفة، وليس هدفنا بحثها الآن.

إنّ الإيمان هو من الخِلع الغيبية الإلهية، الّتي يمنّ بها الله تعالى على المخلصين من عباده، والعصبيّة تتنافى مع الإخلاص فهي تدوس الحقائق وتخالف الصدق والاستقامة.

إنّ القلب إذا غطّاه صدأ حبّ الذّات والأرحام والتعصُّب القومي الجاهلي، فلن يبقى فيه مكان لنور الإيمان، ولا موضع للاختلاء مع الله ذي الجلال تعالى. فالمؤمن هو الملتزم بقواعد الدِّين والعقل، ولا يتحرّك إلّا بأمر من العقل والشرع، فلا يهتزّ موقفه بأيّ عادة من العادات السقيمة أو خلق من الأخلاق 
________________________________________
5- نهج البلاغة، الحكمة، 154.
6- الكافي، ج 2، ص 308.
7- م.ن، ج 2، ص 308.
 
 
183

152

الدرس الثامن عشر: العصبية

 السيّئة. إن الّذي يدّعي الإسلام والإيمان هو الّذي يستسلم للحقائق ويخضع لها، ويرى أهدافه فانية في أهداف وليّ نعمته ويضحّي بنفسه وإرادته في سبيل إرادة مولاه الحقيقي. فإذا تعارضت العصبيّة الإسلامية عنده مع العصبية الجاهلية، قدّم الإسلام وحبّ الحقيقة.


العصبيّة الحقيقية:
إنّ جميع الارتباطات والعلاقات والعصبيّات زائلة، إلّا العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتلك هي العصبيّة الحقيقية الّتي هي أمر غير قابل للزوال، وهو أوثق من كلّ ارتباط وأقوى من كلّ حسب وأسمى من كلّ نسب.

وفي الحديث الشريف أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"كلّ حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا حسبي ونسبي"8.

فإنّ حسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحاني وباق، وبعيد عن جميع العصبيّات الجاهلية، إنّ نسبه علاقة إلهية لا تظهر على كمال حقيقتها إلّا في ذلك العالَم، حيث يكون ظهوره أكثر وكماله أوضح.

إنّ العلائق الجسمانية الملكية القائمة على العادات البشرية تتقطّع بأتفه الأسباب، وليس لأيّ منها في ذلك العالَم نفع ولا قيمة. إلّا تلك العلائق الّتي تتوثّق في نظام ملكوتي إلهي تحت ظلّ ميزان القواعد الشرعية والعقلية الّتي لا انفصام لها.

الصورة الملكوتية للعصبيّة:
إنّ المعيار في صورة الإنسان الملكوتية الّتي ستظهر في البرزخ والقيامة هو الملكات وقوّتها. فذلك العالَم هو محلّ ظهور سلطان النفس الّذي لا 
________________________________________
8- بحار الأنوار، ج 6، ص 319.
 
 
184

153

الدرس الثامن عشر: العصبية

 يعصي له الجسم أمراً. فقد يحشر الإنسان في ذلك العالَم على صورة حيوان أو شيطان.


وقد ذكرنا الحديث:
"من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبيّة بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية".

إنّ الإنسان الّذي فيه هذه الرذيلة، لعلّه عندما ينتقل إلى العالَم الآخر يرى نفسه من أعراب الجاهلية من غير إيمان بالله تعالى ولا بالنبوّة والرسالة. ويرى أنّه في الصورة الّتي يحشر بها أولئك الأعراب، حتّى أنّه ينسى ما كان يعتنقه في الدنيا من عقائد حقّة، كما جاء في الحديث عن أهل جهنّم ينسون اسم رسول الله، ولا يستطيعون أن يعرفوا أنفسهم إلّا عندما يشاء الحقّ سبحانه أن ينجيهم.

وبما أنّ العصبيّة من سجايا الشيطان، كما ورد في بعض الأحاديث، فلعلّ أعراب الجاهلية وأصحاب العصبيّة يحشرون يوم القيامة على هيئة الشياطين. في الصحيح عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام:
"إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم وكان في علم الله أنّه ليس منهم فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب. فقال خلقتني من نار وخلقته من طين"9.

فاعلم أنّ هذه الخصلة الخبيثة من الشيطان، وإنّها من مغالطات ذلك الملعون ومعاييره الباطلة. إنّه يغالط عن طريق هذا الحجاب السميك الّذي يخفي عن النظر كلّ الحقائق، بل يُظهر رذائل النفس كلّها محاسن، وجميع 
________________________________________
9- أصول الكافي، ج2، ص308.
 
 
185

154

الدرس الثامن عشر: العصبية

 محاسن الآخرين رذائل، والّذي يرى الحقائق مقلوبة بهذا الشكل فلن تكون عاقبة أمره إلى خير.


عصبيّات المتعلِّمين:
من جملة العصبيّات الجاهلية هو العناد في القضايا العلمية، والدفاع عن كلمة سبق أن صدرت منه أو من معلِّمه، دون النظر إلى إحقاق الحقّ وإبطال الباطل. وهذا النوع من التعصُّب أقبح من كثير من التعصُّبات الأخرى من جوانب عدّة:
فمن جانب المتعصِّب نفسه، فمن المفترض بأهل العلم أن يكونوا هم المربّين لأبناء البشر، فإذا اتّصف العالِم لا قدّر الله بالعصبيّة الجاهلية، كانت الحجّة عليه أتمّ وعقابه أشدّ، لأنّه يعرف وخامة الأمور وعواقب فساد الأخلاق. ثمّ إذا كان يتظاهر بالصلاح وباطنه يحمل العصبيّة، يكون في زمرة أهل الرياء والنفاق، وقد أشار تعالى إلى أمثال هؤلاء في القران الكريم: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ10.

ومن جانب العلم، إنّ هذه العصبيّة خيانة للعلم وتجاهل لحقّه، إذ إنّ من يتحمّل هذا العلم فعليه أن يراعي حقّه عليه وحرمته.

ومن جانب المتعصَّب له، أيّ الأستاذ والشيخ، فإنّ هذا التعصُّب يوجب العقوق له، وذلك لأنّ المشايخ العظام والأساطين الكرام نضّر الله وجوههم يميلون إلى جانب الحقّ، ويهربون من الباطل، ويسخطون على من يتذرّع بالتعصُّب لقتل الحقّ وترويج الباطل. ولا شكّ في أنّ العقوق الروحي أشدّ من العقوق الجسمي، وحقّ الأبوّة الروحية أسمى من حقّ الأبوّة الجسمية.
________________________________________
10- سورة الجمعة، الآية: 5.
 
 
186

155

الدرس الثامن عشر: العصبية

 خلاصة الدّرس

- العصبية من الأخلاق الفاسدة وهي تعني أن يُعين وينصر كلّ ما يمتّ إليه بصلة على الظلم والباطل لا على طريق الحقّ.
ـ إنّ المتعصِّب والمتعصَّب له عاقبتهما الخروج من الإيمان.
ـ العصبيّة الحقيقية الممدوحة هي العصبية لله الحقّ ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ـ إنّ المتعصِّب سيحشر مع أعراب الجاهلية ولعلّ هؤلاء سيحشرون على صورة الشياطين لأنّ العصبيّة من سجايا الشياطين.
ـ من جملة العصبيّات الجاهلية هو العناد في القضايا العلمية، والدفاع عن كلمة سبق أن صدرت منه أو من معلِّمه، دون النظر إلى إحقاق الحقّ وإبطال الباطل.
 
 
187

156

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الغيبة.
2- أن يتعرّف إلى خطورة الغيبة.
3- أن يدرك عقوبة الغيبة في الآخرة.
 
 
189

157

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال:

"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه"1.

ما هي الغيبة؟
المستفاد من الروايات أن الغيبة هي: "ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقصاناً في العرف، بقصد الانتقاص والذمّ".

ففي رواية عن أبي ذرّ رضوان الله تعالى عليه:
"قلت: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ذِكرك أخاك بما هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهتّه"2.

وورد في الحديث النبويّ الشريف:
"هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذِكرك أخاك بما يكره..."3.
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 356.
2- وسائل الشيعة، ج 8، ص 598.
3- المحجة البضاء، ج 5، ص 256.
 
 
191

158

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 والمقصود من الأخ هو الأخ في الإيمان لا النسب، و"ما يكره" تعبير عن كلّ ما فيه نقص عرفاً.


وما ذُكر في التعريف "بقصد الانتقاص والذمّ" مستفاد من مضمون الرواية وإن لم تذكر ذلك بشكل صريح، ففي بداية رواية أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
"والغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها، ثمّ قال:... وأكل لحمه من معاصي الله" فلا يسمّى أنّه أكل لحمه إلّا إن قصد الانتقاص، أمّا لو قصد الشفقة مثلاً فليست هي أكل للحمه ولا يحتاج إلى طلب المغفرة وهي بالتّالي ليست غيبة. ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ إشاعة الفاحشة محرّمة حتّى وإن لم تكن غيبة.

وليس شرطاً أن تكون الغيبة باللسان، فيمكن أن تشمل ذكر عيبه من خلال الكتابة أو الإشارة أو غيرها من وسائل التعبير، ما دام ذاكراً للعيوب قاصداً للانتقاص، وهو واضح في رواية عائشة قالت: "دخلت علينا امرأة فلمّا ولّت أومأتُ بيدي أنّها قصيرة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم اغتبتيها"4.

صورة الغيبة الحقيقية:
إنّ حرمة الغيبة تعدّ من بديهيات الفقه، وهي من المعاصي الكبيرة والموبقات المهلكة. إنّ لهذه الخطيئة الكبيرة في عالَم الغيب وراء حجاب الملكوت، صورة قبيحة وبشعة تفضح الإنسان في الملأ الأعلى أمام الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين. هذه الصورة البشعة الّتي أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله:

 

﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ5.

إنّ لأعمالنا صوراً وأشكالاً تناسبها ستظهر بتلك الصور والأشكال لتعود إلينا في العالَم الآخر، والمغتاب يُضاهي الكلاب الجارحة في افتراسه لأعراض
________________________________________
4- جامع السعادات، ج 2، ص 294.
5- سورة الحجرات، الآية: 12.
 
 
192

159

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

  الناس ولحومهم، وسيظهر بهذه الصورة كلب ينهش لحم ميت في نار جهنّم.


وفي رواية أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا رجم الرجل في الزنا، قال رجل لصاحبه:
"هذا أُقعِص كما يُقعَص الكلب، فمرّ النبيّ معهما بجيفة، فقال: إنهشا منها، فقالا: يا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال: ما أصبتما من أخيكما انتن من هذه"6.

إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد شاهد بما لديه من قوّة نور البصيرة النبوية الغيبية عمل المغتابين وعرف أنّ جيفة الغيبة أشدّ نتانة من جيفة الميتة، والصورة الحقيقية للغيبة أشدّ قبحاً وفظاعة من صورة الميتة المتفسّخة.

وفي رواية أخرى أنّ المغتاب يُأكل من لحمه يوم القيامة فعن أمير المؤمنين عليه السلام:
"اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار، ثمّ قال: يا نوف كذب من زعم أنّه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة"7.

ومعنى الروايتين أنّ المغتاب سيصاب بأمرين في جهنّم:
فمن جهة يكون على صورة الكلب فيأكل الجيفة، ومن جهة أخرى يكون على صورة الميتة تأكله كلاب جهنّم أيضاً، وفي عالَم الآخرة يمكن أن يكون للموجود أكثر من صورة وشكل كما هو محقّق في محلّه.

خطورة الغيبة:
الروايات في خطورة الغيبة أكثر من مجال هذه الصفحات، وسنقتصر على ذكر بعضها:
________________________________________
6- المحجة البيضاء، ج 5، ص 253.
7- وسائل الشيعة، ج 8، ص 600.
 
 
193

160

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 الخروج من ولاية الله:

عن الإمام الصادق عليه السلام:
"ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية الله تعالى داخل في ولاية الشيطان"8.

إنّ من يخرج من ولاية الله تعالى ويدخل في ولاية الشيطان، لا يمكن أن يكون من أهل النجاة والإيمان.
إنّ من يؤمن بالله ويصدّق بيوم الجزاء ويعتقد أنّ أعماله ستطارده يوم القيامة وتحشر معه، لا يقترف موبقة كبيرة، تقوده إلى شرّ المصائب الّتي هي نار جهنّم.

فالمغتاب آمن بلسانه ولكنّه لم يُخلص في قلبه كما هو مستفاد من رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم..."9.

أربى الربا:
وفي رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّه خطب يوماً فقال:
"... وإنّ أربى الربا عرض الرجل المسلم"10.
________________________________________
8- بحار الأنوار، ج 72، ص 248.
9- الكافي، ج 2، ص 352.
10- المحجة البيضاء، ج 5، ص 253.
 
 
194

161

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 أدنى الكفر:

عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
"أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة، يحفظها عليه يريد أن يفضحه بها أولئك لا خلاق لهم"11.

مشكلته مع الناس:
إنّ هذه المعصية أشدّ من كافّة المعاصي، وآثارها أخطر من آثار الذنوب الأخرى، لأنّها بالإضافة لكونها تجاوزاً لحدود الله تعالى، تمسّ حقوق الناس أيضاً. ولا يغفر الله للمغتاب حتّى يرضى صاحب الغيبة. فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأبي ذرّ:
"... والغيبة لا تغفر حتّى يغفرها صاحبها"12.

فلو مات الإنسان وعليه حقوق للناس، فأمره صعب جدّاً، لأنّ علاقة الإنسان في حقوق الله تكون مع الكريم الرحيم الّذي لا يتطرّق إلى ساحته القدسية شي‏ء من البغض والضغينة والعداوة والتشفّي، ولكنّه في حقوق العباد قد يرتبط بإنسان فيه تلك الصفات الفاسدة ولا يتجاوز عنه بسرعة أو لا يرضى عنه نهائياً.

عقوبة الغيبة:
وأمّا عقوبة الغيبة، فبالإضافة إلى صورته الّتي سيكون عليها في ذلك العالَم والّتي أشرنا إليها فيما سبق، يكفي أن نقرأ الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:
"لمّا أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يا ربّ ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمّد، من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرع (شي‏ء) إلى نصرة أوليائي"13.
________________________________________
11- بحار الأنوار، ج 75، ص 276.
12- وسائل الشيعة، ج 8، ص 598.
13- الكافي، ج 2، ص 352.
 
 
195

162

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 فمن عقاب المغتاب:

فضحه في الآخرة قبل وضعه في النار:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"... ومن مشى في عيب أخيه وكشف عورته كانت أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنّم وكشف الله عورته على رؤوس الخلائق"14.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:
"من اغتاب امرءً مسلماً... وجاء يوم القيامة يفوح من فيه رائحة أنتن من الجيفة يتأذّى به أهل الموقف فإن مات قبل أن يتوب مات مستحلّاً لما حرّم الله عزّ وجل"15.

فضحه في البرزخ:
فقد روي أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان حال المغتاب في البرزخ الرواية التالية:
"مررت ليلة أسري بي على قومٍ يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبرائيل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم"16.

فضحه في الدنيا:
إنّ بعض مراتب الغيبة يدفع بصاحبها على الفضيحة في هذا العالَم أيضاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
________________________________________
14- بحار الأنوار، ج 73، ص 367.
15- م.ن، ج 73، ص 334.
16- المحجة البيضاء، ج 5، ص 251.
 
 
196

163

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تذمّوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنّ من تتبّع عوراتهم تتبّع الله عورته ومن تتبّع الله عورته يفضحه ولو في بيته"17.


إنّ الله تعالى غيور على المؤمنين، فهتك سترهم وكشف عوراتهم هتكاً لناموس إلهي وكرامته. فلو تجاوز الإنسان الحدود باستهتاره، وهتك حرمات الله، رفع عنه لطفه وعنايته وستره وفضحه في هذا العالَم أمام الناس قبل أن يفضحه في الآخرة أمام الملائكة والأنبياء والأولياء عليهم السلام؟.

إحباط أعماله ومحو حسناته:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:
"ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد"18.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:
"يؤتى بأحدٍ يوم القيامة يُوقف بين يدي الربّ عزّ وجل ويُدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته فيه، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي (فإنّي) لا أرى فيه حسناتي. فيقال له: إنّ ربّك لا يضلّ ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس. ثمّ يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه، فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي فإنّي ما عملت هذه الطاعات. فيقال له: إنّ فلاناً اغتابك فدفع حسناته إليك"19.

هذه بعض الأخبار المأثورة في خصوص الغيبة. في حين أنّ عناوين أخرى من المعاصي المذكورة في الروايات تنطبق على الغيبة أيضاً وتشملها، فتتبعها 
________________________________________
17- الكافي، ج 2، ص 354.
18- المحجة البيضاء، ج 5، ص 251.
19- بحار الأنوار، ج 72، ص 259.
 
 
197

164

الدرس التاسع عشر: الغيبة -1

 تلك الآثام أيضاً مثل: إهانة المؤمن وإذلاله واحتقاره وتعييره وإحصاء عثراته والطعن فيه. وكلّ من هذه الأمور سبب مستقلّ لهلاك الإنسان.





خلاصة الدرس
ـ الغيبة هي ذكر الإنسان حال غيبته بما يكره نسبته إليه - ممّا هو موجود فيه - ممّا يعدّ نقصاناً في العرف، بقصد الانتقاص والذمّ. أمّا إذا كان ما ذُكر غير موجود فيه فهو بهتان.
ـ صورة المغتاب في جهنّم إمّا أنّه على صورة الكلب فيأكل الجيفة أو أنّه تأكله الكلاب أو بصور أخرى قبيحة.
ـ من وجوه خطورة الغيبة: الخروج عن ولاية الله، أربى الربا، أدنى الكفر، وأنّها لا تغفر إن لم يسامحك المغتاب.
ـ من عقوبة المغتاب فضلاً عمّا مرّ: فضحه في الآخرة على رؤوس الخلائق، فضحه في البرزخ، فضحه في الدنيا، إحباط أعماله ومحو حسناته.
 
 
198

165

الدرس العشرون: الغيبة -2

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى مفاسد الغيبة الاجتماعية.
2- أن يتعرّف إلى كيفية علاج الغيبة.
3- أن يحتاط في الموارد الجائزة من الغيبة.
 
 
199

166

الدرس العشرون: الغيبة -2

 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

"إنّ الجلوس في المسجد انتظار الصلاةِ عبادة ما لم يُحدِث. قيل: يا رسول الله وما يُحدِث؟ قال: الاغتياب"1.

المفاسد الاجتماعية للغيبة:
إنّ الغيبة بفسادها هي أقبح وأعظم من كثير من المعاصي، لأنّها بالإضافة لكلّ ما ذكرناه من كونها مفسدة للإيمان والأخلاق والظاهر والباطن وتتسبّب بفضيحة الإنسان في الدنيا والآخرة... هي بالإضافة إلى كلّ ذلك تشتمل على مفاسد اجتماعية أيضاً ولها تأثير سلبي جدّاً على المجتمع، ولنعرف ذلك علينا أن نطّلع على المجتمع المثالي الّذي يريده لنا الله سبحانه وتعالى.

إنّ من شروط تحقُّق المجتمع الصالح، توحيد الكلمة وتوحيد العقيدة والاتّفاق في الأمور الهامّة، والحدّ من ظلم الجائرين الباعث على فساد البشر ودمار القيم الفاضلة.
وهذا الأمر لا يتحقّق إلّا في ظلّ وحدة النفوس واتّحاد الهمم والتآلف 
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 357.
 
 
201

167

الدرس العشرون: الغيبة -2

 والتآخي والصداقة القلبية والصفاء الباطني والظاهري. بحيث يصبح المجتمع كأنّه شخص واحد، والأفراد فيه بمنزلة الأعضاء والأجزاء لهذا الجسد. وتسير كلّ الجهود والمساعي باتّجاه الهدف الإلهي الكبير، وهذه الحالة لو ظهرت في طائفة أو جماعة من الناس لتغلّبوا على جميع الطوائف والأمم كما يتّضح عند دراسة التاريخ والفتوحات الإسلامية العظيمة. فعندما تمتّع المسلمون بشي‏ء من الوحدة واقترنت مساعيهم بشي‏ء من خلوص النية، استطاعوا أن يحقّقوا في فترة قصيرة إنجازات عظيمة هزموا الجبابرة وانتصروا على الجيوش.


لذلك نجد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أجرى عقد الأخوّة في الأيّام الأولى بين المسلمين، فسادت الأخوّة كما تفيد الآية الكريمة:

 

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ2.

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يقول لأصحابه:
"إتّقوا الله وكونوا إخوة بررة في الله متواصلين متراحمين. تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا أمرنا وأحيوه"3.

وعنه عليه السلام:
"يحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتّى تكونوا كما أمركم الله عزّ وجل "رحماء بينهم..."4.
________________________________________
2- سورة الحجرات، الآية: 10.
3- الكافي، ج 2، ص 175.
4- م.ن، ج 2، ص 175.
 
 
202

168

الدرس العشرون: الغيبة -2

 وعنه عليه السلام:

"تواصلوا وتبارّوا وتراحموا وكونوا إخوة بررة كما أمركم الله عزّ وجل"5.

ومن الطبيعي أنّ ما يناقض هذه الأخوّة ويدفع نحو التمزُّق يُعتبر مناقضاً لأهداف الشريعة ومبغوضاً عند الله تعالى. والغيبة إذا أُشيعت فهي سبب للضغينة والحسد والعداوة والبغض وترسيخ جذور الفساد في المجتمع وضعضعة وحدة المجتمع وتضامنه، وفي النهاية لن تورث المجتمع إلّا القبائح والفساد، فهي على طرف النقيض من التآلف والتآخي وسبب لقطع بركات تلك الحالة الّتي أسّسها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من بداية الإسلام.

التوبة والاستدراك:
يجب على كلّ مسلم غيور ملتزم، لصيانة نفسه من الفساد وللمحافظة على المجتمع الإسلامي ووحدته ولتحكيم عقد الأخوّة، أن يبتعد عن هذه الرذيلة، ويتوب إلى الله تعالى من هذا العمل البغيض، ويستدرك هذه الغيبة ليتخلّص من آثارها السيّئة.

عليه أن يسترضي من اغتابه إن كان الاسترضاء ممكناً ولم يلزم منه أيّ محذور، ولم يكن يفضي إلى مشكلة بينه وبين هذا الإنسان، فيستحلّه ويطلب منه المسامحة، ولكن لربّما الاسترضاء في بعض الحالات يزيد الأمور سوءاً ويتسبّب بمشاكل جديدة، تزيد حالة التشنُّج والتفرقة، ففي مثل هذه الحالة يترك الاسترضاء وطلب الحلّية والمسامحة، ويستعيض عنه بالاستغفار للإنسان الّذي اغتابه، فيكون طلب المغفرة له من الله تعالى بمثابة الكفّارة على الغيبة الّتي ارتكبتها بحقّه.
________________________________________
5- الكافي، ج 2، ص 175.
 
 
203

169

الدرس العشرون: الغيبة -2

 ثمّ عليه أن ينعش من جديد في قلبه جذور الصداقة والاتّحاد، حتّى يُصبح من الأعضاء الصالحين في المجتمع.


كيف نعالج هذه الموبقة:
إنّ معالجة هذه الخطيئة العظيمة وغيرها من الخطايا تكون من جهتين:

العلم النافع، والعمل.
العلم النافع: أن يُفكِّر الإنسان في الآثار المفيدة الّتي تترتّب على معالجة هذه الموبقة، ويقارنها بالمضاعفات السيّئة والآثار الشنيعة الّتي تترتّب على الغيبة، فيعرض كلا الأمرين على العقل ويستهديه لما فيه الحسن والخير والصلاح.

لا يمكن للإنسان أن يُعادي نفسه ويتسبّب لنفسه بالضرر من خلال ارتكاب المعاصي، ولكن يقترفها بسبب جهله وغفلته عن أسبابها ونتائجها. وتوهّمه حصوله على الفوائد والمنافع إذا ارتكبها. كإرضاء رغباته وتضييع الوقت واللهو وإشفاء الغيظ ممّن يحسده...

فعليك أن تقف عند آثار الغيبة الشنيعة الّتي ذكرنا قسماً منها فيما سبق، وتأخذ كلّ ذلك بعين الاعتبار لتقارن بين حسنات الكفّ عن الغيبة وسيّئات الانهماك بها. إنّ هذا التفكُّر سيوصلك إلى نتائج طيّبة.

إنّ من آثارها الشنيعة في هذا العالَم غير ما ذُكر سقوط الإنسان من أعين الناس، وفقدان الثقة به. فإنّ طبائع الناس مجبولة على حبّ الكمال والجمال والحسن، والنفور من كلّ نقص وقبح وانحطاط. فالناس يميّزون ويفرّقون بين من يتجنّب هتك أستار الناس وكشف أعراضهم وأسرارهم، وبين غيره، بل حتّى الّذي يقوم بالغيبة يجد في قرارة نفسه أنّ من يتجنّب الغيبة أفضل منه وأكمل.
 
 
204

170

الدرس العشرون: الغيبة -2

 ومن المحتمل أن تؤدّي الغيبة إلى سوء العاقبة، لأنّها إن ترسّخت في النفس تركت آثاراً سيّئة كالضغينة والعداوة تجاه المستغَاب، وهذه الصفات ستزداد بشكل تدريجي، حتّى إذا دنا أجله وانكشفت عنه الحجب ورأى المقامات الشامخة للذين اغتابهم، قد تتوجّه كراهته للحقّ تعالى، لأنّ الإنسان بطبيعته يُعادي محبّ عدوّه، ويبغض محبّ مبغضه. فيخرج من الدنيا وهو كاره للحقّ والملائكة ويمنى بالخذلان الأبدي والشقاء الدائم.


فعليك إذاً أن تصادق عباد الله الذين تشملهم رحمة الله ونعمه، ويتزيّنون بالإسلام والإيمان ولتحبّهم في قلبك، وإيّاك أن تُعادي محبوب الحقّ تعالى. لأنّه تعالى يُعادي أعداء أحبّته، وسيُبعدك عن ساحة رحمته. خصوصاً إذا عرفت أنّ عباد الله المخلصين مجهولون بين سائر عباده، ومن الممكن أن يعود عداؤك لمؤمن وهتك حرمته وكشف عورته إلى هتك حرمة الله تعالى ومعاداته! "ويل لمن شفعاؤه خصماؤه".

فهذه الربع ساعة من الثرثرة واللغو في الحديث لأجل تحقيق رغبة وهمية هل تستحقّ أن تُعاني لأجلها تلك الآلاف من سنين المعاناة على الأقل ، أو ربما الخلود المؤبّد في النار.
وتأمّل في الروايات الّتي تخبرك بأنّ حسناتك ستنتقل إلى ذاك الشخص الّذي تستغيبه، وسيّئاته ستنتقل إليك، فأنت في الحقيقة عاديت نفسك بالاستغابة بدل أن تُعاديه، وأضرّيت بنفسك بدل أن تضرّه.

وأمّا من الناحية العملية: فلا بدّ من كفّ النفس عن هذه المعصية ولو لبعض الوقت ولفترة محدّدة تجدّدها بعد ذلك، مهما كان صعباً، ولجم اللسان، والمراقبة الكاملة للنفس، ومعاهدة النفس بعدم اقتراف هذه الخطيئة، ومراقبتها والحفاظ عليها ومحاسبتها، وتستطيع إصلاح نفسك
 
 
205

171

الدرس العشرون: الغيبة -2

  بفترة قصيرة، حتّى تصل لمرحلة تحسّ فيها بالتنفُّر من الغيبة بطبيعتك، بل تحسّ بأنّ راحة النفس ومتعتها بترك الغيبة.


الأفضل ترك الموارد الجائزة للغيبة
هناك بعض الحالات الّتي استثناها الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم من حرمة الغيبة واعتبروا أنّ الغيبة فيها غير محرّمة تبلغ في بعض كلماتهم عشرة حالات.

وهذه الموارد بعضها يجوز فيها الغيبة وبعضها يجب. ولسنا بصدد عرض هذه الموارد لأنّه بحث فقهي، وما يجب أن نلتفت إليه هنا أنّ مكائد النفس دقيقة وخفيّة فيمكن أن تخدع الإنسان عن طريق الشرع وتوقعه في الهلكة، فتأخذ هذه الموارد الّتي يجوز فيها الغيبة كغطاء وتبرير للوقوع في الحرام، فيسمح لنفسه بالبحث عن عيوب الناس وإشاعتها في المجتمع. فعلينا أن نتحرّك في هذا الموضوع بغاية الدقّة، ولا ننخدع عن طريق الشرع.

ففي الحالات الّتي يجب فيها الغيبة كغيبة الإنسان المتجاهر بالفسق إذا توقّف ردعه على استغابته، فاستغابته هنا واجبة من باب النهي عن المنكر. فلا بدّ من ارتكابها، ولكن يجب أن يتأمّل الإنسان بأنّ الدافع النفسي لغيبته هو النهي عن المنكر، أم أنّه أهواء شيطانية ورغبة نفسية بسبب عداوته وحبّ التشفّي منه؟ فإن كان الهدف هو النهي عن المنكر والدافع الإلهي فعمله من العبادات، وكانت غيبته إحساناً وإنعاماً على المغتَاب وإن لم يعرف ذلك. ولكن إذا كان الدافع هو الأهواء الفاسدة فلا بدّ من تخليص النيّة عن هذه الشوائب والإخلاص لله سبحانه وتعالى.

وأمّا في الحالات الّتي تجوز فيها الغيبة ولا تجب، فالأفضل أن لا يرتكبها أساساً، حتّى لا تكون عناوين الجواز مجرّد تبرير للوقوع في الغيبة من جهة، 
 
 
206

172

الدرس العشرون: الغيبة -2

 وحتى لا تتعوّد نفسه على الغيبة من جهة أخرى حتّى في الموارد الجائزة ، فإنّ تعويد النفس على الغيبة في الموارد الجائزة يضرّ بها، ويجعلها تميل نحو الشرور والقبائح، ومن المحتمل أن ينجرّ بشكل تدريجي إلى الوقوع في الغيبة في الحالات المحرّمة أيضاً.


الاستماع للغيبة حرام:
كما أنّ الاستغابة حرام فكذلك الاستماع للغيبة حرام، وهو من الكبائر أيضاً، ويظهر من بعض الروايات أنّ حكم الاستماع كحكم الاستغابة حتّى في مثل التسامح من المغتَاب.
فعن الإمام عليّ عليه السلام:"السامع أحد المغتابين"6.

بل يظهر من الروايات وجوب ردّ الغيبة، وهو غير النهي عن الغيبة، والمقصود منه الانتصار للغائب بما يناسب. ففي وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام:
"يا عليّ من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة"7.
________________________________________
6- وسائل الشيعة، ج 8، ص 600.
7- م.ن، ج8، ص606.
 
 
207

173

الدرس العشرون: الغيبة -2

 خلاصة الدرس

ـ من مفاسد الغيبة: المفاسد الاجتماعية حيث إنّ الغيبة تناقض الأخوّة والوحدة وتشيع الحسد والعداوة والبغض.
ـ على من وقع في موبقة الغيبة أن يتوب إلى الله تعالى وذلك بالمسامحة من المغتاب إن أمكن وإلّا فليستغفر له الله سبحانه.

ـ علاج الغيبة من جهتين: علمية وعملية 
أمّا العلميّة: فأن يعلم ويفكّر في مفاسد الغيبة وآثارها الشنيعة ويقابلها بالآثار المفيدة الّتي تترتّب على معالجة هذه الموبقة.
أمّا العمليّة: فلا بدّ من كفّ النفس عن هذه المعصية ولو لفترة محدّدة تجدّدها، وعليك أن تراقب نفسك ولسانك وتحاسبهما.
ـ الأفضل ترك الموارد الجائزة للغيبة حتى لا تتعوّد النفس على الغيبة، أمّا إذا كانت الغيبة واجبة كما إذا ردعت عن المنكر فليلتفت الإنسان إلى نيّته فلا تكون للتشفّي.
ـ كما أنّ الاغتياب حرام كذلك سماع الغيبة.
 
 
208

174

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى أنواع النفاق.
2- أن يتعرّف إلى مراتب النفاق.
3- أن يدرك عواقب النفاق.
4- أن يتعرّف إلى علاج النفاق.
 
 
209

175

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"من لقي المسلمين بوجهين ولسانين، جاء يوم القيامة وله لسانان من نار"1.

النفاق العملي والقولي:
لقاء المسلمين بوجهين هو أن يبدي المرء ظاهر حاله وصورته الخارجية لهم على خلاف ما تكون في باطنه وسريرته، كأن يبدي أنّه من أهل المودّة والمحبّة لهم وأنّه مخلص حميم، بينما يكون في الباطن على خلاف ذلك، فيتعامل بالصدق والمحبّة في حضورهم ولا يكون كذلك لدى غيابهم. وهو ما يسمّى "النفاق العملي".

وأمّا ذو اللسانين فهو أن يُثني على كلّ من يلقى من المسلمين ويمتدحه ويتملّق له، ولكنّه في غيابه يعمد إلى تكذيبه وإلى استغابته، وهو ما يسمّى "النفاق القولي".
والنفاق هو من الرذائل النفسية والصفات القلبية الخبيثة الّتي تنجم عنها آثار كثيرة يكون منها هذان الأثران المذكوران.
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 343.
 
 
211

176

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 مراتب النفاق:

إنّ النفاق هو من صفات الشيطان الملعون كما أشار تعالى:﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ2.

وللنفاق مراتب مختلفة: فله مراتب من حيث القوّة والضعف، وإذا لم يتصدَّ لها الإنسان مالت إلى الاشتداد، ودرجات اشتداد الرذائل كدرجات اشتداد الفضائل غير متناهية ولا تقف عند حدّ، حتّى يصل الأمر بتلك الرذيلة الّتي تابعها أن تتّخذ الصورة الجوهرية للنفس وفصلها الأخير، وتصبح مملكة الإنسان، ظاهرها وباطنها تحت سيطرة تلك الرذيلة، فلا يلتقي شخصاً إلّا عامله معاملة ذي الوجهين وذي اللسانين، دون أن يخطر له شيء إلّا منافعه الخاصّة وأنانيّته وعبادته لذاته، وحيث إنّ النفاق صفة شيطانية كما جاء في القران الكريم ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، صارت صورة النفس النهائية صورة للشيطان وسيكون مصيره أن يحشر مع الشياطين.

وله مراتب من جهة موضوعه الّذي تعلّق به، فقد يكون النفاق في دين الله، وقد يكون في السجايا الحسنة والفضائل الأخلاقية، وقد يكون في الأعمال الصالحة والمناسك الإلهية، وقد يكون في الأمور العادية والمتعارف عليها.

وله مراتب من جهة من نتعامل معه بالنفاق، فقد ينافق المرء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو مع أئمة الهدى عليهم السلام، أو مع أولياء الله والعلماء والمؤمنين، وقد يكون شاملاً لجميع المسلمين وسائر خلق الله من الأمم الأخرى.
ومن الطبيعي أنّ قبح النفاق يختلف شدّته بين هذه الدرجات.
________________________________________
2- سورة الأعراف، الآية: 21.
 
 
212

177

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 عاقبة النفاق:

إنّ النفاق والاتّصاف بذي الوجهين هي في نفسها من الصفات القبيحة الّتي لا يتّصف بها إنسان شريف، بل إنّ المتّصف بها يُعتبر خارجاً عن مجتمع الإنسانية، بل هو لا يشبه الحيوان أيضاً. وهذه الصفة تبعث على الذلّ والفضيحة في الدنيا أمام الأصحاب والأقران، وتورث الذلّ والعذاب الأليم في الآخرة، كما ورد في الرواية السابقة، وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجي‏ء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدّامه يلتهبان ناراً حتّى يلهبا جسده، ثمّ يقال هذا الّذي كان في الدنيا ذا وجهين ولسانين يُعرف بذلك يوم القيامة"3.

ويكون مشمولاً بالآية الشريفة:﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ4.

والنفاق بالإضافة إلى ذلك تتبعه مفاسد أخرى كثيرة، مثل الفتنة الّتي ينصّ القرآن الكريم أنّه ﴿أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل5، والنميمة الّتي يقول عنها الإمام الباقر عليه السلام: "محرّمة الجنّة على القتّاتين المشّائين بالنميمة"6، والغيبة الّتي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّها أشدّ من الزنا"7، وإيذاء المؤمن وسبّه وكشف الستر عنه وإفشاء سرّه، وغيرها ممّا يعدّ كلّ واحد منها سبباً كافياً لهلاك الإنسان.

________________________________________
3- بحار الأنوار، ج 7، ص 218.
4- سورة الرعد، الآية: 25.
5- سورة البقرة، الآية: 191.
6- الكافي، ج 2، ص 369.
7- بحار الأنوار، ج 74، ص 89.
 
 
213

178

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 بل هناك بعض المحرّمات الّتي تعتبر نفاقاً بنفسها، وهي: الغمز واللمز والكنايات الّتي يطلقها بعضهم على بعضهم الآخر، على الرغم من إظهار المحبّة والصداقة الحميمة.

فعليك أن تحذر وتراقب سلوكك وأعمالك، فإنّ مكائد النفس والأساليب الشيطانية الماكرة خفيّة جدّاً، قلّ من استطاع الإفلات منها.

معالجة النفاق:
هناك طريقان لعلاج هذه الخطيئة الكبيرة:
الأوّل: التفكير في عاقبة النفاق والمفاسد الّتي تنتج عنه، فإنّ الإنسان إذا عرفه الناس منافقاً سقط من أعينهم، وفقد كرامته بين أصحابه، فيُبعد عن مجالسهم ويتخلّف عن محافل أنسهم، ويقصر عن اكتساب الكمالات وبلوغ المقاصد. فعلى صاحب الضمير الحيّ أن يطهّر نفسه من هذا العار الملطِّخ للشرف، لكيلا يُبتلى بالذلّ. وكذلك في عالَم الآخرة عالَم كشف الأسرار. فهناك سيُحشر مشوّه الخلقة بلسانين من نار، ويُعذّب مع المنافقين والشياطين.

من عرف هذه النتيجة يجب أن يجتنب هذه الصفة ويسلك في المعالجة العملية.

الثاني: الأسلوب العملي لعلاج النفس، فإنّه قد ثبت عبر التجربة والبراهين، أنّ النفس في هذه الدنيا تتفاعل مع ما يصدر عنها من أفعال وأقوال، صالحة أو طالحة، وكلّ ذلك يترك أثره فيها، فإنّ كان العمل صالحاً كان أثره نورانياً كمالياً، وإن لم يكن صالحاً كان أثره مظلماً انتقاصياً، حتّى يصبح القلب كلّه نيّراً أو مظلماً، منخرطاً في سلك السعداء أو الأشقياء، فما دام الإنسان في هذه الدنيا فهو رهين عمله: 
 
 
214

179

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8.


ويتحقّق العلاج العملي بأن يراقب حركاته وسكناته بكلّ دقّة لفترة من الوقت، ويعمد إلى العمل بما يخالف رغبات النفس وتمنّياتها، ويجاهد في جعل أعماله وأقواله في الظاهر والباطن واحدة، ويبتعد عن التظاهر والتدليس في حياته العملية.

ويطلب من الله تعالى خلال ذلك التوفيق، والعون، فإنّ فضل الله تعالى على الناس ورحمته بهم لا نهاية لها، فيشمل برحمته كلّ من خطا نحو الإصلاح، ويمدّ يد الرحمة لإنقاذه.
فإذا ثابر على ذلك بعض الوقت، كان له أن يرجو لنفسه الصفاء والانعتاق من النفاق وحالة ذي الوجهين.

النفاق مع الله تعالى:
إنّ من مراتب النفاق وذي اللسانين والوجهين النفاق مع الله تعالى، والتوجّه إلى مالك الملوك ووليّ النعم بوجهين، وصفة التلوّن هذه تكون بحيث نقضي عمرنا ونحن نظهر التمسّك بكلمة التوحيد، وندّعي الإسلام والإيمان، بل المحبّة والمحبوبية، وغير ذلك من الادعاءات على قدر ما نشتهي ونحبّ. فإذا كان هذا الظاهر مطابقاً للباطن، واتّفق العلن مع السرّ، فهنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم، وإن كان من الذين لا يوافق ظاهره باطنه، فليعلم أنّه من المنافقين وذوي الوجهين واللسانين، وعليه أن يبادر إلى علاج نفسه قبل فوات الأوان. وعندئذٍ لن تنفعنا نداءاتنا ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ فإنّنا سنجاب بـ "كلا".
________________________________________
8- سورة الزلزلة، الآيتان: 7 8.
 
 
215

 


180

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 يا من تتظاهر بالإسلام، لقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه"9.


فلماذا نبذل كلّ جهدنا لأذيّة ضعاف الناس دون أن يوقفنا شي‏ء عن ظلمهم والإجحاف بحقّهم؟ ومن لم تطله يدنا، نتناوله باللسان لنجرح به في حضوره أو غيابه، فنهتك أسرارهم ونكشف عن مكنوناتهم، ونغتابهم ونلصق التهم بهم، إذاً فادّعاؤنا نحن الذين لا يسلم المسلمون من أيدينا وألسنتنا للإسلام، مخالف للحقيقة.

يا من تدّعي الإيمان وخضوع القلب في حضرة الله ذي الجلال، إذا كنت تؤمن بكلمة التوحيد ولا يعبد قلبك غير الواحد ولا يطلب غيره، ولا ترى الألوهية تستحقّ إلّا لذاته المقدسة، وإذا كان ظاهرك وباطنك يتّفقان فيما تدّعي، فلماذا نجدك وقد خضع قلبك لأهل الدنيا كلّ هذا الخضوع؟ لماذا تعبدهم؟ أليس هذا لأنّك ترى أنّ لهم تأثيراً في العالَم وأنّ إرادتهم هي النافذة، وترى أنّ المال والقوّة هما الطاقة المؤثّرة والفاعلة؟ وأنّ ما لا ترى مؤثّراً وفاعلاً في هذا العالَم هو إرادة الحقّ؟ فتخضع لجميع الأسباب الطبيعية وتغفل عن المؤثّر الحقيقي وعن مسبّب جميع الأسباب، ومع كلّ ذلك تدّعي الإيمان بكلمة التوحيد؟ إذاً فأنت أيضاً خارج عن زمرة المؤمنين، وداخل في زمرة المنافقين ومحشور مع أصحاب اللسانين.
________________________________________
9- الكافي، ج 2، ص 230.
 
 
216

181

الدرس الواحد والعشرون: النفاق

 خلاصة الدرس

ـ النفاق نوعان عملي وقولي، العملي: لقاء المسلمين بوجهين فيتعامل بالصدق والمحبّة في حضورهم ولا يكون كذلك لدى غيابهم. والقولي: فهو أن يثني على من يلقى من المسلمين في حضوره، ولكنّه في غيابه يعمد إلى ذمّه وغيبته. وباختصار النفاق: هو أن يبطن غير ما يظهر.
ـ للنفاق مراتب من جهة موضوعه الّذي تعلّق به، فقد يكون النفاق في دين الله أو في الفضائل أو في الأعمال الصالحة والمناسك أو في الأمور العاديّة. ومن جهة من يتعامل معه، فقد ينافق المرء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو مع الأئمة أو مع أولياء الله والعلماء والمؤمنين أو مع المسلمين أو مع سائر الخلق.
ـ من عواقب النفاق: أنّه يبعث على الذلّ والفضيحة في الدنيا، والذلّ والعذاب الأليم في الآخرة، وله بالإضافة إلى ذلك مفاسد أخرى كثيرة، كالفتنة والنميمة والغيبة وإيذاء المؤمن.
ـ لعلاج النفاق طريقان، علمي وعملي، العلمي: أن يتفكّر الإنسان في مفاسد النفاق وعاقبته دنيا وآخرة. العملي: بأن يراقب حركاته وسكناته ويعمد إلى مخالفة رغبات نفسه ويبتعد عن التظاهر ويطلب من الله التوفيق في توحيد ظاهره وباطنه.
ـ قد يكون النفاق مع الله تعالى خفي، فعلى الإنسان الحذر، فأذيّة المسلمين نفاق مع الله، والخضوع لغير الله نفاق مع الله.
 
 
217

182

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى التوبة.
2- أن يتعرّف إلى أركان التوبة.
3- أن يتعرّف إلى شروط قبول التوبة.
4- أن يتعرّف إلى شروط كمال التوبة.
 
 
219

183

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 عن معاوية بن وهب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

 

"إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ثمّ يوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب. فيلقى الله حين يلقاه وليس شي‏ء يشهد عليه بشي‏ء من الذنوب"1.

تعريف التوبة:
التوبة من الأمور المهمّة والصعبة، وهي عبارة عن الرجوع من وحول المادّة وظلمانيّتها إلى نور النفس وروحانيّتها الّتي كانت قد حجبتها الذنوب وغطّتها غشاوة من المعاصي.
توضيحه: عندما يولد الإنسان تكون نفسه خالية من كلّ أنواع الكمال والجمال والنور والبهجة، كما أنّها خالية من أضدّاد هذه الصفات المذكورة الأربعة فكأنّها صفحة نقية خالية لم يُكتب فيها شي‏ء ولكنّها مستعدّة لنيل أيّ
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 430.
 
 
221

184

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 صفة من الصفات فيمكن أن يملأ الإنسان هذه الصفحة بما يشاء، صفات رفيعة أو وضيعة.


ولكن فطرة الإنسان الّتي ترسم توجّهه الأوّلي عُجنت على الاستقامة ولها نورها الذّاتي، وعندما يبدأ الإنسان بارتكاب المعاصي والسيّئات يبدأ الظلام والسواد بالظهور في صفحة القلب هذه، فكلّما ازدادت الذنوب والمعاصي كلّما اتّسعت رقعة السواد والظلام إلى أن تحتلّ القلب كلّه وتنطفئ نور الفطرة الّتي أودعها الله تعالى فيه ويبلغ مرتبة الشقاء الأبدي.
ولكن إذا استيقظ الإنسان قبل مرحلة الشقاء الأبديّ ثمّ اجتاز منزل اليقظة ودخل على منزل التوبة مستوفياً شروطها الّتي سيأتي ذكرها فسيزول هذا الظلام من نفسه وسيعود إلى نور الفطرة.

أركان التوبة:
هناك أركان وشرائط لا يمكن أن تكون توبة الإنسان صحيحة ومقبولة إذا لم تتوفّر فيها هذه الشروط والأركان، وسنذكر هنا أهمّها:
1- الشعور بالندم القلبي على ما ارتكبه من ذنوب ومعاصي، وعلى تقصيره في أداء التكاليف الشرعية، ويعمل على تقوية الندامة في قلبه ويضرم النار فيه على غرار ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ2 فتحترق بنار الندامة هذه جميع المعاصي وتزول كدورة القلب وصدؤه. وليعلم أنّه إن لم يحرق قلبه بنار الندم الّتي هي باب من أبواب الجنّة، فعليه أن يستقبل في ذلك العالَم النار العاتية حيث ستفتح في وجهه أبواب جهنّم!.
2- العزم على عدم العودة إلى الذنوب نهائياً.
________________________________________
2- سورة الهمزة، الآية: 6.
 
 
222

 


185

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 تذكير النفس:

لتحقيق هذين الركنين يجب على الإنسان أن يتذكر دائماً تأثير معاصيه في روحه، وقد ذكرت الروايات أنّ المعصية تحدث نقطة سوداء في قلب الإنسان وتأخذ هذه النقطة بالتوسّع وتغطية القلب حتّى يصل إلى مرحلة الشقاوة الأبدية الّتي لا رجعة فيها!

وتذكّر عواقب المعاصي في عالم البرزخ ويوم القيامة كما ورد في الروايات الشرعية والأدلة العقلية، فإنّ للمعاصي في عالم البرزخ والقيامة صوراً تتناسب معها، تملك الإرادة والشعور، ويكون شغلها الشاغل تعذيب الإنسان المذنب والإساءة إليه! بل إنّ نار جهنّم أيضاً تحرق الإنسان وتعذّبه عن شعور وإرادة ووعي! ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ3. فإذا استطاع من خلال ذلك تحقيق ركني التوبة هذين يتيسّر أمر سلوكه طريق الآخرة، وتغمره التوفيقات الإلهية ليصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ4، ومصداقاً لرواية الإمام الصادق عليه السلام الّتي ذكرناها في بداية الدرس.

شروط التوبة:
بالإضافة إلى الأركان الّتي ذكرناها فهناك شروط يجب أن تتحقّق حتّى تُقبل التوبة عند الله تعالى، وهناك شرطان أساسيان لقبول التوبة، وقد جمعها أمير المؤمنين وملك الكلام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في كلمته المروية عنه في نهج البلاغة:
________________________________________
3- سورة الهمزة، الآيتان: 6 ـ 7.
4- سورة البقرة، الآية: 222.
 
 
223

186

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 فقد روي في نهج البلاغة أنّ قائلاً قال بحضرته عليه السلام: أستغفر الله، فقال له:

"ثكلتك أمّك أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيين وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها الندم على ما مضى، الثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة. الرابع أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها. والخامس أن تعمد إلى اللحم الّذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول أستغفر الله"5.

فبالإضافة إلى ركني التوبة اللذين مرّ ذكرهما يشتمل هذه الحديث على شرطي القبول أيضاً وهما:
1- إرجاع الحقوق لأهلها، فعلى الإنسان التائب أن يردّ كلّ ما أخذه من الناس من دون حقّ، وعليه أن لا يتوانى في ردّها أو طلب السماح منهم، وليعلم أنّ أصحاب الحقوق سيطالبونه بها يوم القيامة ولا وسيلة له لأدائها هناك سوى أن يتحمّل ذنوب الآخرين ويدفع إليهم أعماله الحسنة!
2- تأدية حقوق الخالق سبحانه وتعالى، فيقضي ما فاته من الفرائض الإلهية ويؤدّي ما لم يفت وقته بعد.

سهولة التوبة لولا الوسوسة:
وعليك أن لا تيأس من رحمة الله ولطفه ولا تسمح للشيطان والنفس الأمّارة بالهيمنة والوسوسة في قلبك، فيصوّران التوبة أمراً شاقّاً وصعباً ويصرفانك 
________________________________________
5- نهج البلاغة، قصار الحكم، 417.
 
 
224

187

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 عنها، حتّى وإن كانت الذنوب والتقصيرات كثيرة وجسيمة، فإنّ الله تعالى يُسهّل عليك الطريق، ويأخذ بيدك إن بدأت السير ولو كانت بدايتك بخطوات قليلة حسب استطاعتك، واعلم أنّ اليأس من رحمة الله تعالى من أعظم الذنوب.


شروط كمال التوبة:
إذا تحقّقت الأركان والشروط المتقدّمة فإنّ التوبة ستكون مقبولة بإذن الله تعالى، ولكن مع ذلك هناك شروط يمكن إضافتها إلى التوبة لتوصلها إلى الكمال وتجعلها على أفضل وجه فلكلّ منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف حسب اختلاف قلوبهم وهما شرطان أيضاً، ورد ذكرهما عن الإمام عليّ عليه السلام في الرواية السابقة:

1- محو آثار الذنوب النفسية: إنّ لكلّ معصية ولهو انعكاس وأثر في الروح، فإنّ هذه المتعة الطبيعية الّتي عاشها الإنسان مع المعصية ستبقى تلقي بظلالها على نفسه وروحه وتجذبها إلى المعاصي، وما دامت هذه الظلال عالقة بها فإنّ النفس ترغب إليها، ويعشقها القلب، ويُخشى من لحظة طغيان النفس وتمرّدها على صاحبها والعياذ بالله. وهذه الآثار ستبقى حتّى بعد زوال المعصية، فعلى الإنسان أن يهتمّ بإزالتها أيضاً، فيتدارك أيّ نقص طرأ على نفسه نتيجة حالة اللهو الّتي عاشها مع المعصية، فلا بدّ على السالك لسبيل الآخرة والتائب عن المعاصي أن يذيق الروح ألم الرياضة الروحية ومشقّة العبادة، فإذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة من العبادة، وإذا عاش يوماً واحداً مع اللذائذ المادّية تداركه بالصوم والمستحبّات المناسبة حتّى تطهر النفس من كلّ آثار المعاصي وتبعاتها، فتعود النفس إلى صفائها كما كانت قبل المعصية، وتعود الفطرة إلى روحانيّتها الأصيلة. وتحصل له الطهارة الكاملة.
 
 
225

188

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 فلا بدّ للتائب أن ينتفض ويستأصل تلك الآثار ويقوم بالرياضة الروحية من العبادات والمناسك حتّى تزول معها كلّ تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام.


2- محو آثار الذنوب الجسمية: إنّ بعض الذنوب بالإضافة لآثارها النفسية لها آثار بدنية أيضاً، كأكل المال الحرام الّذي ينبت اللحم من خلاله. إنّ هذه الآثار البدنية الّتي نشأت بفعل الذنوب والمعاصي ينبغي استئصالها أيضاً كما يستأصل الآثار النفسية، وذلك من خلال ممارسة الرياضة الجسمية كالإمساك عن أكل المقوّيات والمنشّطات والصيام المستحب أو الواجب إذا كان في ذمّته صيام واجب، فيذيب اللحوم الّتي نشأت على جسمه من الحرام والمعصية أيّام الخطايا والآثام.
ولا بدّ في غضون اشتغاله بهذه الأمور من التفكُّر والتدبُّر في نتائج المعاصي وشدّة عقاب الحقّ المتعالي ودقّة الميزان وألم البرزخ، وليُشعر قلبه أنّ كلّ ذلك نتيجة الأعمال القبيحة والمخالفة لمالك الملك، لعلّه يحصل له نفور من المعاصي وارتداع نهائي عنها.

ما هو المطلوب في التوبة:
ليس المطلوب في التوبة بدايةً الحصول على مراتب الكمال الّتي ذكرناها، فهي من متمّمات التوبة ولكنّها قد تصعب على بعض الناس، فيظنّ أنّ عملية التوبة أمر شاقّ، فيُعرض عنها ويتركها! أو يقع في موضوع التسويف والتأجيل حتّى يُكتب من الأشقياء!

إنّ كلّ خطوة مهما كانت صغيرة في طريق السلوك إلى الآخرة هي أمر مطلوب ومحبوب عند الله سبحانه وتعالى، وعندما يضع الإنسان قدمه على الطريق فإنّ الله سيأخذ بيده ويسهّل له الأمور بعد ذلك. وقارن الأمور الأخروية بالأمور الدنيوية، فإنّ العقلاء إذا لم يستطيعوا أن يحقّقوا هدفهم الأعلى والأرفع، فهم 
 
 
226

189

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 يطمحون بالحصول على المرتبة الأقلّ ولا يستسلمون أبداً.


وأنت أيضاً إذا لم تستطع أن تحقّق التوبة الكاملة، فلا تعدل عن التوبة ولا تُعرض عنها وحاول أن تُحقّق المستوى المستطاع منها.

إنّ صعوبة الطريق يجب أن لا تمنع الإنسان من السير، فإنّ الهدف مهمّ وعظيم جدّاً، وكلّما عظم الهدف في عين الإنسان سهلت عليه الطريق وهانت في عينه مهما كانت صعبة، وأيّ شي‏ء أعظم من النجاة الأبدية والروح والريحان الدائميان؟ وأيّ بلاء أعظم من الهلاك الدائمي والشقاء السرمدي؟ إنّ هذه التوبة ستنقل الإنسان من الشقاء الأبديّ إلى السعادة المطلقة، فإذا كان الهدف عظيماً إلى هذا المستوى، فلا بأس بالمعاناة والتعب لأيّام قليلة.

الاستغفار:
إنّ طرق باب مغفرة الله تعالى واللجوء إلى صفة الغفّارية في الله تعالى من الأمور الهامّة الّتي يجب أن يُقدم عليها التائب، ويطلب فتح هذا الباب له للحصول على هذا المقام، بلسان مقاله وحاله في السرّ والعلن وفي الخلوات، والطلب منه تعالى بكلّ مذلّة ومسكنة وتضرّع وبكاء أن يستر عليه ذنوبه وآثارها، فإنّ مقام الغفّارية والستّارية للذّات المقدّسة يستدعي ستر العيوب وغفران تبعات الذنوب، فإنّ الصور المعنوية للإنسان أشبه بالولد الّذي يولد له في الدنيا، بل أشدّ التصاقاً به! وحقيقة التوبة والاستغفار بمثابة قطع كلّ صلة مع هذا المولود ونفيه.

إنّ الله سبحانه وتعالى بسبب مغفرته وستره يقطع كلّ صلة بين هذا الوليد المشؤوم وبين الإنسان، ويحجب عن تلك المعصية كلّ المخلوقات الّتي اطّلعت عليه من الملائكة، وكتّاب صحائف المعاصي، والزمان والمكان وأعضاء نفس الإنسان وجوارحه، ويُنسيهم جميعاً تلك المعصية كما أشير إليه في الحديث
 
 
227

190

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

  الشريف "يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب" ويُحتمل أن يكون معنى النسيان هنا هو الوحي لهذه المخلوقات بكتمان المعاصي، والوحي يتحقّق بأحد شكلين: إمّا إصدار الأمر لهذه المخلوقات بعدم الإدلاء بالشهادة، أو رفع الآثار الّتي تركتها المعاصي على الأعضاء والتي بها تتمّ الشهادة التكوينية. فمع عدم التوبة يمكن أن يشهد عليه كلّ عضو بلسان مقاله أو حاله.


جميع الموجودات ذات علم وحياة:
إنّ لكلّ واحد من الموجودات علم وحياة ومعرفة، بل إنّها جميعاً تحظى بالمعرفة لمقام الحقّ المقدّس جلّ وعلا، فإنّ الوحي لبقاع الأرض والأعضاء والجوارح بالكتمان وإطاعتها للأمر الإلهي، وتسبيح الموجودات بأسرها الّذي نصّ عليه القرآن الكريم وأوردته الأحاديث الشريفة كثيراً، كلّ ذلك يدلّ على علم وشعور وحياة الموجودات، بل دليل على الارتباط الخاصّ بين الخالق والمخلوق. ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ6



خلاصة الدرس
ـ التوبة: هي رجوع من وحول المادّة وظلمانيتها إلى نور الفطرة وروحانيّتها.
ـ من أركان التوبة: الشعور بالندم، العزم على عدم العودة.
ـ من شروط قبول التوبة: إرجاع الحقوق لأهلها، أداء الفرائض الإلهيّة المضيّعة.

________________________________________
6- سورة الجمعة، الآية: 1
 
 
228

191

الدرس الثاني والعشرون: التوبة

 ـ لا تترك لوسوسة الشيطان أن تُصعّب عليك التوبة ولا تيأس من رحمة الله تعالى.

ـ من شروط كمال التوبة: محو آثار الذنوب النفسية، محو آثار الذنوب الجسمية.
ـ في بداية طريق التوبة ليس المطلوب مراتب الكمال إذا صعُبت، فكلّ خطوة في طريق التوبة والآخرة هي مطلوبة.
ـ من الأمور الهامّة للتائب اللجوء إلى مقام غفّاريّة الله سبحانه وستّاريّته.
ـ إنّ جميع الموجودات ذات علم وحياة، فليس غريباً على الله تعالى أن يوحي إلى بقاع الأرض والأعضاء والجوارح بالستر على التائب.
 
 
229

192

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى خطورة الشهوات على حريّة الإنسان.
2- أن يدرك كيفية التحرُّر من أسر الشهوات.
3- أن يتعرّف إلى آثار التحرُّر من أسر الشهوات.
 
 
231

193

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 عن الإمام عليّ عليه السلام:

"الحرّ حرّ وإن مسّه الضرّ، والعبد عبد وإن ساعده القدر"1.

الإنسان بفطرته يحبّ الكمال التّام المطلق:
إنّ الله سبحانه وتعالى فطر الإنسان على عشق الكمال التّام المطلق وجبل الذّات الإنسانية على ذلك، وهذا ما يحسّ به كلّ إنسان بوجدانه، فيجد قلبه يتوجّه شطر الجميل على الإطلاق، والكامل من جميع الوجوه.

غير أنّ كلّ امرئ يرى الكمال في شي‏ء ما حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه: فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل الله يرون الكمال في جمال الحقّ، والجمال في كماله سبحانه يقولون:﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ...2.


________________________________________
1- عيون الحكم والمواعظ، عليّ بن محمّد الليثي الواسطي، ص 48.
2- سورة الأنعام، الآية: 79.
 
 
233

 


194

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 ويقولون:"لي مع الله حال"3.

فهم محبّون للارتباط به تعالى، عاشقون لصفاته الجميلة.

وأهل الدنيا عندما توهّموا أنّ الكمال في لذائذ الدنيا، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتّجهوا فطريّاً نحوها. فسعي أهل الدنيا وراءها هو تطبيق خاطئ لفطرتهم، هذه الفطرة وذاك العشق الّذي يربطهم بالكمال المطلق، والّذي يعتبر كلّ ما عداه مجرّد أمر ثانوي، فتعلّق القلب بهذه الأمور الثانوية العرضية هو خطأ في فهم الكمال ومعرفته ليس إلّا.

أسر الشهوة أساس البلاء ومانع الكمال:
إنّ الإنسان مادام يرزح في قيود النفس والشهوات، ومادامت سلاسل الغضب والشهوة الطويلة على رقبته، لا يستطيع أن يبلغ المقامات المعنوية والروحانية، ولا تظهر فيه السلطة الباطنية للنفس، وإرادتها الثابتة، ولا يحصل له مقام استقلال النفس وعزّتها الّذي هو أرقى مقام لكمال الروح، بل إنّ هذا الأسر والرقّ يُقيّده ولا يسمح له بالتمرُّد على النفس في جميع الأحوال.

وإذا قويت هيمنة النفس الأمارة والشيطان في الباطن، وانقادت جميع القوى لهما في العبودية والطاعة وأبدت لهما الخضوع والتسليم التامّين، لما اقتصرتا على المعاصي بل دفعتا الإنسان من المعاصي الصغيرة رويداً رويداً إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى ضعف في العقائد، ثمّ إلى الأفكار المظلمة، ثمّ إلى متاهات الجحود، ثمّ إلى بغض وعداوة الأنبياء والأولياء، وستكون النفس عاجزة أمام كلّ ذلك بسبب حالة الرقّ الّتي تعيشها وعدم قدرتها على مخالفة رغباتها. وستكون عاقبة الأمر وخيمة جدّاً. وستدفع الإنسان إلى أماكن خطيرة ومخيفة.
________________________________________
3- إشارة إلى الحديث المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل". الأنوار القدسية، الشيخ محمّد حسن الأصفهاني، هامش ص 119.
 
 
234

195

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 سر الشهوة مصدر كلّ أسر:

إنّ الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقّه وعبوديته وذلّه بقدر مقهوريّته لتلك السلطات الحاكمة عليه.
ومعنى العبودية لشخص هو الخضوع التّام له وإطاعته، فكلّما توحي هذه السلطات بشي‏ء للإنسان أطاعها بمنتهى الخضوع، ويبلغ الأمر إلى مستوى يفضّل طاعتها عن طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي. فتزول عن نفسه العزّة والكرامة والحرّية، ويحلّ محلّها الذل والهوان والعبودية. فيخضع لأهل الدنيا وينحني أمام ذوي الجاه، ويستسيغ الهوان لأجل الترفيه عن البطن والفرج، كلّ ذلك يحدث منه ما دام أسيراً لهوى النفس والشهوة.

هذا على مستوى المفاسد الدنيوية، وأما في دار الحقّ فكيف ستتجلى صورة هذا الأسر وكيف ستظهر أغلال الشهوات؟ لعل هذه السلسلة الّتي طولها سبعون ذراعاً والّتي أخبر عنها الله تعالى والّتي تكون أصفاداً وأغلالاً لنا في يوم الآخرة هي الصورة الّتي سيظهر بها هذا الأسر والرقّ في ظلّ أوامر القوّة الشهوية والغضبية.

يقول الله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا4.
وفي آية أخرى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ5.

فما يصل إلينا في ذلك العالَم هو صورة أعمالنا.
________________________________________
4- سورة الكهف، الآية: 49.
5- سورة البقرة، الآية: 286.
 
 
235

196

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 فعليك أن تمزِّق سلاسل الشهوة والأهواء المتعرِّجة بعضها على بعض، وتحطّم أصفاد القلوب وتخرج من قيود الأسر ولتكن حرّاً في هذا العالَم لتكون حرّاً في ذلك العالَم.


كيف نتحرّر من أسر الشهوة:
إنّ الإنسان العاقل لا بدّ له من السعي واللجوء إلى كلّ سبيل لإنقاذ نفسه من الأسر، والنهوض أمام النفس الأمارة والشيطان الباطني، ما دامت الفرصة سانحة وقواه الجسدية سليمة، ومادام على قيد الحياة، وقواه لم تتسخّر كلّياً، فليتأمّل في أحوال نفسه وأحوال الماضين ويتمعّن في سوء العاقبة، ويُفهم نفسه أنّ هذه الأيام القليلة تبلى، ويوقظ قلبه ويفهمه الحقيقة التالية المنقولة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث خاطبنا قائلاً: "الدنيا مزرعة الآخرة"6 ، فإذا غشينا الموت وحلّ العالَم الآخر انقطعت أعمالنا وذهبت أمالنا نهائياً.

إنّ معالجة النفس لا تكون إلّا بواسطة أمرين:
العمل: فعليه أن يبادر إلى ترويض نفسه والسيطرة عليها من خلال الالتزام بالشرع المقدّس، ومن خلال مخالفة النفس فترة من الزمن، يتمّ خلالها ردع النفس وترويضها تجاه الحبّ المفرط للدنيا والشهوات والأهواء، حتّى تتعوّد على الخيرات والكمالات.

العلم: يجب تلقين النفس وإبلاغ القلب أنّ جميع الناس محتاجون فقراء ضعاف عاجزون، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً، فكيف يملكون لغيرهم؟! إنّهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم ويخشع القلب أمامهم. هم جميعاً متشابهون في الحاجة إلى الغني المطلق القادر على جميع الأمور.
________________________________________
6- عوالي اللئالي، ج 1، ص 267.
 
 
236

197

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 إنّ القادر الّذي منحهم العزّة والشرف والمال والوجاهة قادر على منح أيّ شخص أراد.


أثر التحرُّر من أسر الشهوة:
من العار حقيقة على الإنسان أن يتذلّل وينحطّ في سبيل بطنه وشهوته، ويتحمّل الامتنان من مخلوق فقير ذليل لا حول له ولا علم ولا وعي.

إذا أردت أيُّها الإنسان أن تقبل المنّة فلتكن من الغني المطلق وخالق السماوات والأرض، فإنّك إذا وجّهت وجهك إلى الذّات المقدّسة، وخشع في محضره قلبك، فسيكون لذلك العديد من الآثار العظمية الّتي نذكر منها:

أ- ستخلع من رقبتك طوق العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وستتحرّر من العالمين.
ب- نتيجة لعبودية الحقّ والانتباه إلى نقطة واحدة مركزية، وإفناء كلّ قوى وسلطات النفس وأهوائها في السلطة الإلهية المطلقة، تنجم حالة في القلب تقهر العوالم الأخرى وتستولي عليها، وتظهر للروح حالة من الشموخ والعظمة تأبى الطاعة إلّا أمام الربّ سبحانه وأمام من تكون طاعتهم طاعة ذات الحقّ المقدّس. ولو فرض أنّه وجرّاء ظروف طارئة محكوماً لأحد، لما تزلزل قلبه منه ولحافظ على حرّية نفسه واستقلالها، كما كان الشأن في النبيّ يوسف ولقمان حيث لم تنعكس سلباً عبوديتهما الظاهرية على حرّية وانطلاقة نفسيهما.

كم من أصحاب القدرة والسلطة الظاهرية لم يستنشقوا نسمة حرّية النفس وقيمتها، فتراهم أذلّاء وعبيداً للنفس وأهوائها، يتزلّفون نحو المخلوق التافه؟!.
 
 
237

198

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 في رواية عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام: "إنّي لآنف أن أطلب الدنيا من خالقها فكيف من مخلوق مثلي"7.


ج- من ثماره أيضاً غنى النفس: إنّ عدم الحاجة هو من حالات الروح، وهو غير مرتبط بأمورٍ مادّية خارج الإنسان. نحن نرى أناساً من أهل الثراء والمال والجاه يتفوّهون بكلمات يندى لها الجبين ولا يقولها المستجدي المتهتّك، إنّه مسكين ضُربت على روحه الذلّة والمسكنة.

إنّ شعب اليهود بالنسبة لعددهم يعتبرون من أغنى شعوب الأرض، ولكنّهم يعيشون طيلة حياتهم في الشقاء والتعاسة والشدّة والهوان، وتبدو على ملامحهم الحاجة والفقر والذلّ والمسكنة، وهذا كلّه سببه الفقر النفسي والذلّ الروحي.

فيما نرى في أصحاب الزهد وذوي الحياة البسيطة أشخاصاً قلوبهم مفعمة بالغنى والكفاف، ويلقون نظرة اللامبالاة على الدنيا وكلّ ما فيها ولا يجدون أحداً أهلاً للاستنجاد به إلّا الحقّ المقدّس المتعالي.

أيُّها العزيز على الرغم من أنّ هذا العالَم ليس بدار الجزاء والمكافأة وإنّما هو سجن المؤمن، فلو تحرّرت من أسر النفس وأصبحت عبداً للحقّ المتعالي وجعلت القلب موحِّداً، وأجليت مرآة روحك من غبار النفاق، وأرسلت قلبك إلى النقطة المركزية للكمال المطلق لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالَم، ولتوسّع قلبك حتّى يُصبح محلّاً لظهور السلطة الإلهية التامّة وهو ما لا تسعه جميع العوالم "لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن"8. ولشعرت غنى واضحاً في النفس، حيث لم تعبأ بكلّ العوالم الغيبية والمادّية، ولأصبحت إرادتك قويّة، وكان يقال في بعض الأشعار الفارسية ما معناه: هل رأيت تحليق الطير؟، انسلخ من أغلال الشهوة حتّى ترى تحليق الإنسان.
________________________________________
7- علل الشرائع، المجلد الأول، باب 165، العلة الّتي من أجلها سمي علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام .
8- عوالي اللئالي، ج 4، ص 7.
 
 
238

199

الدرس الثالث والعشرون: الكمال والحرية

 خلاصة الدرس

ـ الإنسان بفطرته يبحث عن الكمال المطلق، ولكن كلّ امرئ يرى الكمال في شيء ما حسب حاله ومقامه، فأهل الله يتوجّهون إلى الله لأنّهم يرون الكمال فيه، وأهل الدنيا يتوجّهون إليها لأنّهم يتوهّمون الكمال فيها.
ـ ما دام الإنسان خاضعاً لقيود النفس والشهوات فهو لن يستطيع أن يبلغ المقامات المعنوية والروحية. وكلّما قويت قيود الشهوات كلّما دخل الإنسان في متاهات مظلمة، وكلّما أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوات، كان رقّه وذّله بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه، فتزول عن نفسه العزّة والكرامة والحريّة ويحلّ محلّها الذلّ والهوان والعبودية.
ـ التحرُّر من أسر الشهوة يكون بطريقين: علمي وعملي، أمّا العلمي: فبتلقين النفس أنّ جميع الناس محتاجون فقراء ضعاف عاجزون أمام القادر والغني المطلق، فلا ينبغي الخضوع لهم.
أمّا العملي: أن يبادر إلى ترويض نفسه والسيطرة عليها وردعها عن الشهوات وحبّ الدنيا، حتّى تتعوّد على الخيرات والكمالات.
ـ من آثار التحرُّر من أسر الشهوة: تكون عبداً لله وحده وستتحرّر من العالمين، قوّة الروح واستقلالها، غنى النفس.
 
 
239

200

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى أهميّة ذكر الله سبحانه.
2- أن يتعرّف إلى خصائص ذكر الله تعالى.
3- أن يُفرِّق بين التفكُّر والتذكُّر.
4- أن يتعرّف إلى مراتب الذكر.
 
 
241

201

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

 عن الإمام الباقر عليه السلام:

"مكتوب في التوراة الّتي لم تُغيّر أنّ موسى عليه السلام سأل ربّه فقال: يا ربّ، أقريب أنت منّي فأُناجيك، أم بعيد فأُناديك؟ فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى: فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك. فقال: الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابّون فيّ فأُحبّهم فأولئك الذين إذا أردت أن أصيب أهل الأرض بسوءٍ ذكرتهم فدفعت عنهم بهم"1.

إحاطة الله تعالى:
يذكر العلّامة المحقّق المجلسي رضوان الله تعالى عليه في شرح الحديث السابق عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ السبب بالسؤال عن آداب الدعاء هو أنّني إذا نظرت إليك فأنت أقرب من كلّ قريب وإذا نظرت إلى نفسي أجدني في غاية البعد عنك، فلا أدري في دعائي أنظر إلى حالي أو إلى حالك؟2.

ومن المحتمل أنّ النبيّ موسى عليه السلام في الحديث المذكور يعرض عجزه عن
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 496.
2- انظر: مرآة العقول، ج 12، ص122.
 
 
243

 


202

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

  كيفية دعائه لله تعالى فيقول:

"إلهي أنت منزّه من الاتّصاف بالقرب والبعد، فأنا متردّد لا أجد دعاءً يليق بعظمتك وجلالك، فاسمح لي أن أُناديك وعلّمني كيفية ندائك واهدني إلى ما يتناسب ومقام قدسك في هذا المجال".

والسبب في التردُّد أنّ الله تعالى له إحاطة وقيمومية، وسعة وجودية تعمّ جميع دائرة الوجود، وساحته المقدّسة تتنزّه عن القرب والبعد الحسّيين والمعنويين، لأنّ ذلك يستلزم نوعاً من التحديد والتشبيه، والحقّ المتعالي منزّه عن ذلك.

وما ورد في بعض الآيات الشريفة من الكتاب الإلهي الكريم من توصيف الحقّ المتعالي بالقرب هو من باب المجاز والإستعارة.

كقوله تعالى:

 

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾3.
وقوله عزّ من قائل:

 

﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾4.

خصائص ذكر الله تعالى:
يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ لذكر الله تعالى خصائص، أهمّ هذه الخصائص:
- إنّ ذكر العبد لله، يبعث على ذكر الله لعبده وهذا أهمّ الخصائص، وهناك روايات أخرى تشير إلى هذا الأمر، ويقابل هذا الذكر النسيان الّذي قال سبحانه وتعالى عن الناسي في القرآن: 
________________________________________
3- سورة البقرة، الآية: 168.
4- سورة ق، الآية: 16.
 
 
244

 


203

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

 ﴿كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى5.


فكما أنّ نسيان الآيات والعمى الباطني عن رؤية مظاهر جمال الحقّ وجلاله يسبّب العمى في العالَم الآخر، يكون التذكُّر للآيات والأسماء والصفات وتذكُّر الحقّ سبحانه وجماله وجلاله باعثاً على حدّة في البصيرة وإزاحة للحجب بقدر قوّة التذكُّر ونورانيّته.

- ومن خصائص الذكر أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى يرفع لكرامتهم العذاب عن عباده، فما دام الذاكرون أحياء بين العباد لا يُنزل الله سبحانه العذاب على الناس.

الفرق بين مقام التفكُّر والتذكُّر:
التفكُّر هو مرحلة البحث عن المحبوب وطلبه، وأمّا التذكُّر فهو الوصول إلى المطلوب والتعرُّف على الحقّ عز وجل، يقول بعض العرفاء: "التذكُّر فوق التفكُّر فإنّ التفكُّر طلب والتذكُّر وجود"، فمادام الإنسان يطلب ويبحث يكون محجوباً عن مطلوبه وعندما يصل إلى محبوبه يتحرّر من عناء البحث والتفتيش، وبذلك يتّضح أنّ التذكُّر هو من نتائج التفكُّر.

كلّما كان التفكُّر قويّاً وكاملاً، ستكون نتيجته وهي التذكُّر أقوى وأكمل، حتّى يوصل التفكُّر الإنسان إلى التذكُّر التّام للمعبود، وهذا النوع من التفكُّر لا تُقاس فضيلته بأيّ عمل آخر.
صحيح أنّ العبادة أيضاً توصل إلى التذكُّر، ولكنّ التفكُّر يختصر الطريق، ففي الأحاديث الشريفة أنّ تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سنة أو ستين أو حتّى سبعين عاماً. فلعلّ تفكُّر ساعة واحدة يفتح على الإنسان أبواباً من المعارف لا
________________________________________
5- سورة طه، الآية: 126.
 
 
245

 


204

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

  تفتحها عبادة سبعين سنة، أو أنّ في تفكُّر ساعة واحدة تذكُّر للإنسان بالمبدأ سبحانه ما لا يحصل خلال فترة سنين عديدة من العناء والجهد.


التذكُّر ضروريّ لجميع الناس:
إنّ تذكُّر الحبيب سبحانه، والتفكُّر فيه دائماً، يثمر نتائج كثيرة لكافة طبقات الناس.
أمّا أولياء الله تعالى الكاملون، فإنّ تذكُّر الحبيب سبحانه غاية آمالهم، وفي ظلّ التذكُّر يبلغون جمال هذا الحبيب، هنيئاً لهم.

وأمّا عموم الناس والمتوسّطون منهم، فهو أفضل مصلح للأخلاق والسلوك وللظاهر والباطن.
إذا عاش الإنسان مع الحقّ سبحانه في جميع الأحوال، لأحجم عن الأمور الّتي تُسخطه سبحانه، وردع نفسه عن الطغيان. إنّ المشاكل والمصائب الّتي تدفعنا إليها النفس الأمّارة والشيطان الرجيم قد نشأت بسبب الغفلة عن ذكر الله وعذابه وعقابه.

إنّ الغفلة تضاعف كدورة القلب وتمكّن النفس والشيطان من التحكُّم في الإنسان وتُسبِّب زيادة المفاسد على مرّ الأيّام. والتذكُّر للحقّ جلّ شأنه يبعث على صفاء النفس ونقائها، ويُحرّر الإنسان من أغلال الأسر ويُخرج حبّ الدنيا الّذي هو رأس الخطايا ومصدر السيّئات من القلب، ويجعل الهموم همّاً واحداً، والقلب نظيفاً طاهراً جاهزاً لاستقبال صاحبه وهو الحقّ تعالى.

الذكر التّام المحيط بكلّ أطراف مملكة الجسم
إنّ ذكر الحقّ تعالى والتذكُّر لذاته المقدّس من صفات القلب، فالقلب هو الّذي يتذكَّر، فإذا تذكَّر ترتّبت عليه جميع الآثار المذكورة للذكر.
 
 
246

205

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

 ولكن الأفضل أن يعقب الذكر القلبي الذكر اللساني أيضاً. وأفضل وأكمل مراتب الذكر كافة هو الذكر الساري على ظاهر الإنسان وباطنه، سرّه وعلنه، فتكون الصورة الباطنية للقلب والروح صورة تذكُّر المحبوب، وتتفتّح أعضاء الإنسان وجوارحه على الحقّ تعالى. ولو أنّ القلب انفتح حقّاً أمام الذكر، لجرى حكم الذكر في كلّ الظاهر والباطن، ولكانت حركة وسكون العين واللسان واليد والرجل، وأفعال كلّ القوى والجوارح مع ذكر الحقّ، ولم تقم تلك القوى الظاهرية والباطنية بأيّ فعل يخالف الوظائف الشرعية المقرّرة، فتكون حركاتها وسكناتها مبدوّة ومختومة بذكر الحقّ، وتنفذ ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا6 في جميع أطراف جسم الإنسان ليحيط بقواه كلّها الظاهرية والباطنية.


وكلّما حصل انخفاض في هذا المستوى الرفيع، وقلّ نفوذ الذكر، انتقص وبنفس النسبة من كمال الإنسان، وأثّر نقصان كلٍّ من الظاهر والباطن في الآخر.

ذكر الله باللسان:
إنّ ظاهر الإنسان وباطنه وكلّ أعضائه وقواه مترابطة ببعضها البعض، ومن هنا يُعلم أنّ ذكر الحقّ باللسان وإن كان قالباً لا روح فيه هو أمر نافع ومجدٍ أيضاً، لأنّه:
أوّلاً: قام اللسان بوظيفته بواسطة ذكره وإن كان هذا الذكر قالباً لا روح له.
ثانياً: يمكن أن يصير الذكر باللسان سبباً لتفتُّح لسان القلب على الذكر أيضاً بعد فترة من المواظبة والاستمرار عليه بشروطه. فكما أنّ المعلِّم يُكرِّر الكلمة أمام الطفل حتّى ينفتح لسانه عليها ويردِّدها ثمّ إذا نطق
________________________________________
6- سورة هود، الآية: 41.
 
 
247

206

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

  الطفل صار المعلِّم يكرِّر معه فيزول عنه التعب وكأن مدداً يصله من الطفل، كذلك الذاكر يجب أن يُعلِّم قلبه على الذكر، فإذا انفتح القلب على الذكر صار لسان الفم يتبع القلب، وسيزول عناء تكرار الذكر بعد أن استمدّ اللسان من القلب أو من الغيب7.


فضيلة الذكر في الأحاديث:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله عزّ وجل يقول: من شُغِلَ بذكري عن مَسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي من سألني"8.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "...واعلموا أنّ خير أعمالكم "عند مليككم" وأزكاها وأرفعها في درجاتكم وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه وتعالى فإنّه أخبر عن نفسه فقال: "أنا جليس من ذكرني"9.

ومن الواضح أنّ الإنسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة النتائج العظيمة لذكر الله ويرى نفسه بعيداً عنها ويعلم بأنّه قد حُرم من نعم كثيرة ولا يستطيع تداركها تستولي عليه الحسرة والندامة، فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يخلّي مجالسه ومحافله من ذكر الله. ففي الكافي عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "ما من مجلس يجتمع فيه أبرار وفجّار فيقومون على غير ذكر الله عزّ وجل إلّا كان حسرة عليهم يوم القيامة"10.
________________________________________
7- راجع الأحاديث حول هذا الموضوع في الكافي، الجزء الثاني، كتاب الدعاء، باب ما يجب من ذكر الله في كلّ مجلس.
8- الكافي، ج 2، ص 501.
9- عدّة الداعي، ص 187.
10- الكافي، ج 2، ص 496.
 
 
248

207

الدرس الرابع والعشرون: ذكر الله تعالى

 خلاصة الدرس

فسّر العلّامة المجلسي هذه الفقرة من الحديث: "يا ربّ، أقريب أنت منّي فأناجيك، أم بعيد فأناديك؟"، أنّ السبب بالسؤال عن آداب الدعاء هو أنّني إذا نظرت إليك فأنت قريب وإذا نظرت إلى نفسي أجدني في غاية البعد عنك.

ومن المحتمل أنّ النبيّ موسى عليه السلام يعرض عجزه عن كيفية دعائه لله تعالى، والسبب في التردُّد أنّ الله تعالى له إحاطة وقيمومية تعمّ جميع الوجود، وساحته المقدّسة تتنزّه عن القرب والبعد.

ـ من خصائص ذكر الله تعالى: ذكر الله لعبده، وأنّه يرفع العذاب عن عباده لكرامة الذاكرين.
ـ الفرق بين التفكُّر والتذكُّر، أنّ التفكُّر هو مرحلة البحث عن المحبوب، والتذكُّر هو الوصول والتعرُّف على الحقّ عزَّ وجلَّ. صحيح أنّ العبادة توصل إلى التذكُّر إلّا أنّ التفكُّر يختصر الطريق.

ـ إنّ التذكُّر ضروري لجميع الناس، فالكاملون غاية آمالهم تذكُّر الحبيب تعالى، وأمّا عموم الناس فالتذكُّر أفضل مصلح للأخلاق والسلوك والظاهر والباطن.

ـ إنّ تذكُّر الله وذكره من صفات القلب ولكن الأفضل أن يعقب الذكر القلبي الذكر اللساني أيضاً. وأفضل وأكمل مراتب الذكر هو الذكر الساري على ظاهر الإنسان وباطنه.

ـ إنّ ذكر الله باللسان وإن كان قالباً لا روح فيه إلّا أنّه يمكن أن يؤثِّر على القلب مع الوقت.
ـ ورد الكثير من الروايات في فضيلة ذكر الله تعالى، ذكرنا عدداً قليلاً منها.
 
 
249

208

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الشكر وفضيلته.
2- أن يتعرّف إلى أركان الشكر.
3- أن يدرك مراتب الشكر.
 
 
251

209

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

 عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول الله لِمَ تُتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر1، فقال: يا عائشة! ألا أكون عبداً شكوراً؟ قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى"2.

حقيقة الشكر:
الشكر هو عبارة عن تقدير نعمة المنعِم، وتظهر آثار هذا التقدير في القلب بصورة الخضوع والخشوع والمحبّة والخشية وأمثالها، وعلى اللسان بصورة الثناء والمدح والحمد، وفي الأفعال والأعمال بصورة الطاعة واستعمال الجوارح في رضا المنعم.

يقول المحقّق الطوسي قدس سره:
"الشكر أشرف الأعمال وأفضلها، واعلم أنّ الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنيّة وله أركان ثلاثة:
________________________________________
1- إشارة إلى قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) سورة الفتح آية 2.
2- الكافي، ج 2، ص 95.
 
 
253

210

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

 الأوّل: معرفة المنعِم وصفاته اللائقة به، ومعرفة النعمة من حيث إنّها نعمة ولا تتمّ تلك المعرفة إلّا بأن يعرف أنّ النعم كلّها جليّها وخفيّها من الله سبحانه وأنّه المنعِم الحقيقي وأنّ الأوساط كلّهم منقادون لحكمه مسخّرون لأمره.


الثاني: الحال الّتي هي ثمرة تلك المعرفة، وهي الخضوع والتواضع والسرور بالنعم، من حيث إنّها هدية دالّة على عناية المنعِم بك وعلامة ذلك أن لا تفرح من الدنيا إلّا بما يوجب القرب منه.

الثالث: العمل الّذي هو ثمرة تلك الحال فإنّ تلك الحال إذا حصلت في القلب حصل فيه نشاط للعمل الموجب للقرب منه، وهذا العمل يتعلّق بالقلب واللسان والجوارح.

"أمّا عمل القلب فالقصد إلى تعظيمه وتحميده وتمجيده، والتفكُّر في صنائعه وأفعاله وآثار لطفه، والعزم على إيصال الخير والإحسان إلى كافّة خلقه، وأمّا عمل اللسان فإظهار ذلك المقصود بالتحميد والتمجيد والتسبيح والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، وأمّا عمل الجوارح فاستعمال نعمه الظاهرة والباطنة في طاعته وعبادته، والتوقّي من الاستعانة بها في معصيته ومخالفته، كاستعمال العين في مطالعة مصنوعاته، وتلاوة كتابه، وتذكُّر العلوم المأثورة من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وكذا سائر الجوارح"3.

كيف يكون الشكر؟
إنّ شكر نعم الحقّ المتعالي سبحانه، الظاهرية منها والباطنية، من المسؤوليات اللازمة للعبودية، فعلى كلّ شخص أن يشكر ربّه سبحانه.
________________________________________
3- بحار الأنوار، ج 71، ص 22.
 
 
254

211

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

 وعلينا أن نعرف أنّ شكر النعم يكون بحسب مقدرتنا المتيسّرة وهي محدودة، فلا أحد من المخلوقين يستطيع أن يؤدّي حقّ شكره تعالى. والسبب في ذلك أنّ كمال الشكر يتبع كمال التعرُّف على المنعِم وإحسانه، وحيث إنّ أحداً لم يعرفه حقّ معرفته، لم يستطع أحد النهوض بحقّ شكره.


إنّ منتهى ما يصل إليه الإنسان من الشكر هو أن يعرف عجزه عن النهوض بحقّ شكره تعالى، كما أنّ غاية العبودية في معرفة الإنسان بعجزه عن القيام بحقّ العبودية له تعالى. ومن هذا المنطلق اعترف الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالعجز، مع أنّ شخصاً لم يشكر ربّه ولم يعبده بمثل شكر ذلك الوجود المقدّس وعبوديّته.

وبعد أن عرفنا عجزنا، فما هو المتيسّر من الشكر المطلوب؟
يكون العبد شكوراً، إذا علم ارتباط الخلق بالحقّ، وعلم انبساط رحمة الحقّ عليه من أوّل ظهوره إلى ختامه، علم بداية الوجود ونهايته على ما هو عليه. فما دامت حقيقة سريان ألوهية الحقّ لم تنتقش في قلب العبد بعد ولم يؤمن بأنّه لا مؤثِّر في الوجود إلّا الله، ولا تزال غبرة الشرك والشكّ عالقة في قلبه، لا يستطيع أن يؤدّي شكر الحقّ المتعالي بالشكل المطلوب. ومثل هذه المعرفة لا تحصل إلّا للخلّص من أولياء الله الذين كان أشرفهم وأفضلهم الذّات المقدّس خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، كما يقول الحقّ المتعالي: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ4.

إنّ الّذي يعتقد أنّ المخلوقات تُأثِّر بصورة مستقلّة، ولا يُرجع النعم إلى وليّ النعم ومصدرها، يكون كافراً بنعم الحقّ المتعالي، إنّه قد نحت أصناماً وجعل لكلّ واحدٍ منها دوراً مؤثّراً. قد ينسب الأعمال إلى نفسه وقد يتحدّث عن فعالية
________________________________________
4- سورة سبأ، الآية: 13.
 
 
255

212

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

طبائع عالم الكون، ويُجرّد الحقّ عن التصرُّف ويقول إنّ يد الله مغلولة: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ5.


مراتب الشكر:

إنّ شكر العباد للمنعِم تعالى، يختلف مستوياته ومراتبه بين فرد وآخر، وهناك عوامل تؤثِّر في اختلاف المراتب، منها:

- ما ذكرناه فيما سبق من أنّ شكر المنعِم تابع لمعرفته، فكلّما ازداد الإنسان معرفة بالمنعِم ازدادت مرتبة شكره له. فمقدار المعرفة يؤثِّر في مستوى الشكر ودرجته.


- الشكر هو الثناء على النعم، وهو تابع لطبيعة النعمة، فالنعم الظاهرية تختلف مرتبة شكرها عن النعم الباطنية. ومرتبة شكر النعم الّتي من نوع العلوم والمعارف تختلف عن مرتبة شكر النعم الّتي تُعتبر فيضاً إلهياً متجلياً للإنسان، وهكذا كلّما كانت النعم أعمق كلّما اختلفت طبيعة الشكر.


وإذا عرفنا أنّ هذه النعم بجميع مراتبها غير متوفّرة سوى عند القليل من العباد، يتّضح أنّ النهوض بأداء الشكر على جميع المستويات وبأعلى المراتب غير متوفّر سوى للقليل من العباد المخلَصين الذين وصلوا إلى الكمالات الظاهرية والباطنية...


فضيلة الشكر في الروايات:

فلنتمِّم الكلام بذكر بعض أحاديث الشكر:

عن أبي عبد الله عليه السلام:

"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب،

________________________________________

5- سورة المائدة، الآية: 64.

 
256

213

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

 والمعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر. والمعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع"6.


وعنه عليه السلام:
"ثلاث لا يضرّ معهنّ شي‏ءٌ: الدعاء عند الكرب، والاستغفار على الذنوب، والشكر عند النعمة"7.

وعنه عليه السلام:
"إنّ الرجل منكم ليشرب الشربة من الماء فيوجب الله له بها الجنّة. ثمّ قال: إنّه ليأخذ الإناء فيضعه على فيه فيسمّي ثمّ يشرب، فيُنحّيه وهو يشتهيه فيحمد الله، ثمّ يعود فيشرب ثمّ يُنحّيه فيحمد الله، ثمّ يعود فيشرب، ثمّ يُنحّيه فيحمد الله، فيوجب الله عزّ وجل بها له الجنّة"8.

وحمد الله يساوي الشكر، وقد ورد في كثير من الروايات أنّ من قال "الحمد لله"فقد شكر الله. كما روي عن الصادق عليه السلام:
"شكر كلّ نعمة وإن عظمت أن تحمد الله عزّ وجل عليها"9.

عن حمّاد بن عثمان قال:
"خرج أبو عبد الله عليه السلام من المسجد وقد ضاعت دابّته فقال: لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ الله حقّ شكره. قال: فما لبث أن أُتي بها، فقال: الحمد لله. فقال له قائل: "جعلت فداك أليس قلت: لأشكرنّ الله حقّ شكره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: ألم تسمعني قلت: الحمد لله"10.
________________________________________
6- الكافي، ج 2، ص 94.
7- م.ن، ج 2، ص 95.
8- م.ن، ج 2، ص 96 97.
9- م.ن، ج 2، ص 95.
10- م.ن، ج 2، ص 97.
 
 
257

214

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

 يفهم من هذا الحديث أنّ حمد الله سبحانه من أفضل وسائل الشكر باللسان.

إنّ من آثار الشكر، زيادة النعمة ووفورها، كما صرح بذلك الكتاب الكريم: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ11.

فعن الإمام الصادق عليه السلام:
"من أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، يقول الله عزّ وجل ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ12.



خلاصة الدرس
ـ الشكر هو تقدير نعمة المنعِم، وتظهر آثاره في القلب وعلى اللسان وفي الأعمال.
ـ يرى المحقِّق الطوسي أنّ للشكر أركاناً ثلاثة: معرفة المنعم وصفاته اللائقة به، الحال الّتي هي ثمرة تلك المعرفة كالخضوع والتواضع والسرور بالنعم، العمل الّذي هو ثمرة تلك الحال.

ـ الشكر يكون بحسب مقدرتنا، وبما أنّها محدودة فلا أحد يستطيع أن يؤدّي حقّ شكره، إنّ منتهى ما يصل إليه الإنسان من الشكر هو اعترافه بعجزه عن شكره تعالى.
والّذي لا يؤمن بأنّه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله لا يستطيع أن يؤدّي شكر الحقّ المتعالي بالشكل المطلوب. ________________________________________
11- سورة إبراهيم، الآية: 7.
12- الكافي، ج 2، ص 95.
 
 
258

215

الدرس الخامس والعشرون: الشكر

 إنّ الّذي يعتقد أنّ المخلوقات تُأثِّر بصورة مستقلّة، ولا يُرجع النعم إلى وليّ النعم ومصدرها، يكون كافراً بنعم الحقّ المتعالي.


ـ إنّ شكر المنعم له مراتب وذلك بحسب: معرفة المنعم، وطبيعة النعمة من ظاهرية أو باطنية. وإذا كانت جميع النعم غير متوفّرة إلّا للمخلَصين يتّضح أنّ النهوض بأداء الشكر لا يكون إلّا لهم؟
ـ أوردنا بعض الروايات في فضيلة الشكر.
ـ إنّ حمد الله يساوي الشكر، وهو أفضل وسائل الشكر باللسان.
 
 
259
 

216

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى التوكُّل.
2- أن يتعرّف إلى مراتب التوكُّل.
 
 
261

217

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 عن عليّ بن سويد عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، قال: سألته عن قول الله عزّ وجل ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فقال عليه السلام:


"التوكُّل على الله درجات، منها أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه وثق به فيها وفي غيرها"1.

معنى التوكُّل ودرجاته:
التوكُّل في اللغة هو إظهار العجز والاعتماد على طرف آخر، واتّكلت على فلان في أمر: اعتمدته.
وأمّا التوكُّل على الله فله معانٍ متقاربة، ولكن بتعبيرات مختلفة على ألسن العلماء، بحسب المسالك المختلفة، كقولهم "التوكُّل كلة الأمر كلّه إلى مالكه والتعويل على وكالته" و"التوكُّل طرح البدن في العبودية وتعلُّق القلب بالربوبية" و"التوكُّل على الله انقطاع العبد في جميع ما يأمله من المخلوقين".
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 65.
 
 
263

218

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 وهذه المعاني كلُّها متقاربة، ولا حاجة للبحث فيها.

وأمّا درجات التوكُّل فهي مبنيّة على درجة معرفة العباد بربوبيّة الحقّ جلّ جلاله، فلمعرفة درجات التوكُّل لا بدّ من الاطلاع على درجات المعرفة تلك:
الناس في معرفة الربوبية مختلفون ومتباينون إلى حدٍّ كبير، فهناك الموحِّدون وغير الموحِّدين، ولا شغل لنا مع غير الموحِّدين، وأمّا الموحِّدون فهم درجات ومراتب:

المرتبة الأولى: وهم عامّة الموحِّدين الذين يعرفون أنّ الله تعالى هو خالق مبادئ الأمور وأنواع الموجودات وعناصرها.
وصحيح أنّ ألسنة هؤلاء تقول: إنّ مقدِّر الأمور والمتصرِّف في كلّ شيء هو الحقّ تعالى، فما من كائن يكون إلّا بإرادته المقدّسة، ولكن يكون هذا الكلام مجرّد ادعاء على الألسنة، وهم في الحقيقة ليسوا من أهل هذا المقام لا علماً ولا إيمانا ولا قلباً ولا وجداناً.

إنّ هذا الفريق من الناس تجده يتحدّث فيما يتعلّق بالآخرة عن التوكُّل بزهو ومباهاة، فإذا ظهر منهم أيّ تكاسل في العبادات والطاعات بادروا إلى إظهار توكُّلهم على الله وفضله، وكأنّهم يريدون بإظهار التوكُّل هذا تبرير وتوفير كلّ أسباب الكسل والتقصير تجاه الحقّ تعالى. وهذا ليس إلّا بسبب عدم اهتمامهم بالآخرة، وعدم إيمانهم إيماناً حقيقياً بالمعاد وتفاصيله.

وأمّا فيما يتعلّق بالدنيا والأسباب الظاهرية، فتجدهم لا يتشبّثون إلّا بالأسباب الظاهرية، ولا يعرفون معنى التوكُّل في هذه الأمور، وإذا ما اتفق أحياناً أن توجّهوا إلى الحقّ، كان ذلك من باب التقليد أو من باب الاحتياط باعتبار أنّه لا يضرّ على كلّ حال.

وربّما يحتملون الفائدة فيه أحياناً، وفي مثل هذه الحالة توجد رائحة التوكُّل،
 
 
264

219

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 خاصّة إذا كانت الأمور تعاكسهم، ولكنّهم إذا رأوا الأسباب الظاهرية ملائمة ومطابقة لأهوائهم، غفلوا كلّياً عن الحقّ تعالى وعن تصريفه للأمور.


إنّ العمل والتكسُّب لا ينافي التوكُّل، بل هو ضروري يدلّ عليه البرهان العقلي والدليل النقلي، ولكن الغفلة عن ربوبية الحقّ وتصريفه للأمور واعتبار الأسباب مستقلّة، تنافي التوكُّل.
المرتبة الثانية: هناك فريق آخر من الناس الذين اقتنعت عقولهم إمّا بالبرهان أو بالروايات أنّ الحقّ تعالى هو مقدِّر الأمور ومسبِّب الأسباب ولا حدود لقدرته وتصرُّفه.

وهم متوكِّلون على الله تعالى من خلال عقولهم، فهم يرون أنفسهم من المتوكِّلين ويقيمون الدليل أيضاً على لزوم التوكُّل وقد ثبتت لديهم أركان التوكُّل الأربعة وهي:
1- إنّ الحقّ تعالى عالِم بحاجات العباد.
2- إنّه تعالى قادر على تلبية تلك الحاجات.
3- ليس في ذاته المقدّسة بخل.
4- هو رحيم بالعباد رؤوف بهم.

إذاً يجب التوكُّل على العالِم القدير الكريم الرحيم بالعباد، الّذي لا يفوّت عليهم مصالحهم حتّى وإن لم يميّزوا بين ما ينفعهم ويضرّهم.
هؤلاء لم يتجاوز التوكُّل عندهم العقول إلى القلوب، فلم يبلغوا مرتبة الإيمان، فهم مضطّرون في أمورهم، عقولهم مغلوبة في الصراع مع قلوبهم الّتي تعلّقت بالأسباب والمحجوبة عن تصرُّف الحقّ.

ولعلّ الحديث الّذي أوردناه بداية الدرس يشير إلى هذه المرتبة، حيث نجده أخذ العلم مبدأ ومنطلقاً للتوكُّل "وتعلم أنّ الحكم في ذلك له".
 
 
265

220

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 المرتبة الثالثة: هم الذين توصّلوا بقلوبهم إلى معرفة تصرُّف الحقّ تعالى في الكائنات، فآمنت تلك القلوب بأنّ مقدِّر الأمور والسلطان ومالك الأشياء هو الحقّ تعالى، وسرت أركان التوكُّل من عقولهم إلى قلوبهم.


غير أنّ أصحاب هذه المرتبة أيضاً لهم درجات متفاوتة، تفاوتاً كبيراً، قبل أن يصلوا إلى درجة الاطمئنان الكامل. فإذا وصل إلى تلك الدرجة صار كما وصف أحدهم التوكُّل قائلاً إنّه "طرح البدن في العبودية وتعلُّق القلب بالربوبية".

وهذا كلّه قبل الوصول إلى مرتبة الّذي لا يرى إلّا الله سبحانه وتعالى، فإنّه حينئذٍ يتجاوز مقام التوكُّل.

الفرق بين التوكُّل والرضا:
إنّ مقام الرضا هو أسمى وأرفع من مقام التوكُّل، فإنّ المتوكِّل يطلب الخير والصلاح لنفسه، فله إرادة تتعلّق بتلك الأمور فيوكل الحقّ تعالى بصفته فاعل الخير للحصول على الخير والصلاح. وأمّا الراضي فإنّه قد أفنى إرادته في إرادة الله تعالى فلا يختار لنفسه شيئاً. وقد سُئل أحدهم "ماذا تريد؟" فقال: "أُريد أن لا أُريد"، فمطلوبه هو مقام الرضا.

ملاحظة:
وردت في الرواية الّتي نقلناها عن الإمام الكاظم عليه السلام كلمة الرضا حيث قال عليه السلام:
"فما فعل بك كنت عنه راضياً".

وليس المقصود في تلك الكلمة مقام الرضا الّذي نتحدّث عنه، وإنّما المقصود منها مقام التوكُّل فقط، ولذلك ذكر بعدها "تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً وتعلم أنّ الحكم في ذلك له" حيث ذكر ركنين من أركان التوكُّل الأربعة 
 
 
266

221

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 وهي القدرة والرحمة، ولم يذكر الركنين الآخرين بسبب وضوحهما، ومن خلال الإلفات إلى هذه الأركان يحصل مقام التوكُّل، ولذلك جعل نتيجة كلامه عليه السلام في النهاية "فتوكّل على الله".


الفرق بين التفويض والتوكُّل والثقة:
هناك فرق بين التفويض والتوكُّل والثقة، وكلّ واحد منها يُعتبر موضوعاً منفصلاً.
أمّا الفرق بين التوكُّل والتفويض فقد اعتبر بعض العلماء أنّ الفرق بينهما في عدّة أمور:
1- التفويض أن لا يرى العبد في نفسه حولاً ولا قوّة، ولا يجد أنّ له تصرُّفاً في شيء، ويرى أنّ الحقّ هو المتصرِّف في كلِّ الأمور. وأمّا التوكُّل فهو أن يجعل الحقّ سبحانه قائماً مقامه في التصرُّف واجتلاب الخير والصلاح.
2- التفويض أوسع من التوكُّل، والتوكُّل ليس إلّا شعبة منه، لأنّ التوكُّل يكون في المصالح فقط، والتفويض في الأمور كافة.
3- التوكُّل لا يكون إلّا بعد وقوع سبب يستوجبه، مثل توكُّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الله في أن يحفظهم من المشركين، حينما قيل لهم: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ2.
وأمّا التفويض فيكون قبل وقوع السبب، كما جاء في الدعاء المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهمّ إنّي أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوّضت أمري إليك"3.
________________________________________
2- سورة آل عمران، الآية: 173.
3- من لا يحضره الفقيه، حديث 135.
 
 
267

222

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 ويمكن أن يكون بعد وقوع السبب، مثل تمثيل مؤمن آل فرعون.

هذا ما ذكره العارف المعروف عبد الرزّاق الكاشاني.

ويمكن المناقشة في الفارق الثاني، وهو اعتبار التوكُّل شعبة من التفويض، فلا التوكُّل من التفويض ولا التفويض من التوكُّل.
وكذلك بالنسبة للفارق الثالث، فلا دليل على كون التوكُّل يكون بعد وقوع السبب، فالتوكُّل يصحّ قبل وقوع السبب أيضاً.

ويبقى الفارق الأوّل فقط يُميّز بين التفويض والتوكل.وما ورد في الرواية "فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه" فيمكن القول بأنّه لا توكُّل إلّا مع رؤية تصرُّفه بنفسه، ولهذا يتخذ لنفسه وكيلاً في أمر من أموره الخاصّة به، إلّا أنّ الرسول الأكرم أراد أن يرفع ذلك من مقام التوكُّل إلى مقام التفويض، وليفهمه أنّ الحقّ تعالى لا يقوم مقامه في التصرُّف، بل هو المتصرِّف في ملكه ومملكته.

وأما "الثقة" فهي غير التوكُّل والتفويض، كما يقول بعضهم "الثقة سواد عين التوكُّل ونقطة دائرة التفويض وسويداء قلب التسليم". أي أنّ المقامات الثلاثة لا تحصل من دون ثقة، بل إنّ روح تلك المقامات هي الثقة بالله تعالى، فما لم يثق العبد بالحقّ تعالى لا يمكن أن ينالها.

ومن هنا يظهر السرّ في قول الإمام الكاظم عليه السلام بعد التوكُّل والتفويض: "ثق به فيها وفي غيرها".
 
 
268

223

الدرس السادس والعشرون: التوكل

 خلاصة الدرس

ـ التوكُّل على الله له معانٍ متقاربة على ألسن العلماء، منها: التوكُّل على الله انقطاع العبد في جميع ما يأمله من المخلوقين، منها: التوكُّل كلة الأمر كلّه إلى مالكه والتعويل على وكالته.
ـ إنّ للتوكُّل على الله مراتب حسب درجة معرفة الله تعالى: الأولى: عامّة الموحِّدين، الثانية: المتوكِّلون عن طريق عقولهم، الثالثة: المتوكِّلون عن طريق قلوبهم؛ وأصحاب هذه المرتبة لهم درجات متفاوتة.

ـ مقام الرضا أسمى من مقام التوكُّل، فالمتوكِّل يطلب الخير والصلاح لنفسه وله إرادة تتعلّق بتلك الأمور فيوكِّل الحقّ تعالى بصفته فاعل الخير للحصول على الخير والصلاح. وأمّا الراضي فإنّه قد أفنى إرادته في إرادة الله تعالى فلا يختار لنفسه شيئاً.

ـ الفارق بين التوكُّل والتفويض، أنّ التوكُّل هو أن يجعل الحقّ سبحانه قائماً مقامه في التصرُّف واجتلاب الخير والصلاح، أمّا التفويض هو أن لا يرى العبد في نفسه حولاً ولا قوّة ولا يجد أنّ له تصرُّفاً في شيء ويرى أنّ الحقّ هو المتصرِّف في كلّ الأمور.

وما ذكره بعضهم من فرق من أنّ التفويض أوسع من التوكُّل وأنّ التفويض يكون قبل وقوع السبب ليس صحيحاً.
وأمّا الثقة فهي مقدِّمة للمقامات الثلاثة (الرضا ـ التوكُّل ـ التفويض) فالمقامات الثلاثة لا تحصل من دون الثقة بالله سبحانه. 
 
 
269

224

الدرس السابع والعشرون: الصبر

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى الصبر ومقامه.
2- أن يتعرّف إلى درجات الصبر.
3- أن يدرك نتائج الصبر.
 
 
271

225

الدرس السابع والعشرون: الصبر

 عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

"إنّ الحُرّ حُرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره، وإن أُسر وقُهر، واستُبْدِل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصدّيق الأمين، لم يُضْرِر حرّيته أن استُعبد وقُهر وأُسر، ولم تُضرِره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد إذ كان (له) مالكاً، فأرسله ورحم به أمّةً وكذلك الصبر يُعقبُ خيراً فاصبروا ووطِّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"1.

معنى الصبر:
الصبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن. يقول العارف المعروف كمال الدِّين عبد الرزّاق الكاشاني: "إنّ المقصود من الامتناع عن الشكوى، هو الشكوى إلى المخلوق، وأمّا الشكوى عند الحقّ المتعالي وإظهار الجزع والفزع أمام قدسيّته فلا يتنافى مع الصبر. كما اشتكى النبيّ أيّوب عند الحقّ سبحانه قائلاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴿2، رغم أنّ الله تعالى أثنى
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 89.
2- سورة ص، الآية: 41.
 
 
273

226

الدرس السابع والعشرون: الصبر

 عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ3، وقال النبيّ يعقوب ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ4، مع أنّه كان من الصابرين".


ويبدو من تراجم حياة الأنبياء العظام والأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين رغم أنّ مقاماتهم كانت أرفع من مقام الصبر ومقام الرضا والتسليم،أنّهم لم يمتنعوا عن الدعاء والتضرُّع والعجز أمام المعبود، وكانوا يسألون حاجاتهم من الحقّ سبحانه.

إنّ تذكُّر الحقّ جلّ وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذلّ أمام عظمة الكامل المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين.

مقام الصبر:
إنّ الصبر يُعتبر من مقامات المتوسّطين، لأنّ النفس ما دامت تكره المصائب والبليات، وتجزع منها، فهذا يعني أنّ مقام المعرفة ناقص. كما أنّ مقام الرضا بالقضاء، والابتهاج من إقبال المصائب عليه، مقام أرقى من مقام الصبر، رغم كون مقام الرضا من مقام المتوسّطين أيضاً.

فالإنسان إذا أدرك حقيقة العبادة وآمن بصورها البهية في الآخرة، وكذلك آمن بالصور الموحشة للمعاصي، لما كان للصبر على الطاعة أو عن المعصية معنى. بل الأمر يغدو معكوساً، فترك العبادة عنده أو فعل المعصية هو الأمر المكروه الّذي يتسبّب بجزعه النفسي، جزع أكثر من جزع الصابرين في البليات والمصائب.

وما ورد في أئمة الهدى أو الأنبياء العظام من نعتهم بالصبر، فمن المحتمل أنّه من الصبر على الآلام الجسدية الّتي تحصل حسب طبيعة الإنسان ، أو هو
________________________________________
3- سورة ص، الآية: 44.
4- سورة يوسف، الآية: 86
 
 
274

227

الدرس السابع والعشرون: الصبر

 من الصبر على فراق الأحبّة وهو حينئذٍ من المقامات الكبيرة للمحبّين.


وأمّا الصبر على الطاعات أو عن المعاصي أو المصائب عدا ما ذكرنا من الآلام الجسدية فلا معنى له في حقّهم ولا في حقّ شيعتهم.

درجات الصبر:
إنّ المفهوم من الأحاديث الشريفة أنّ للصبر درجات، ويختلف الأجر والثواب بحسب الدرجة كما في الرواية عن مولى المتّقين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية. فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"5.

ويُفهم من هذا الحديث أنّ الصبر عن المعصية أفضل من كلّ مراتب الصبر حيث تكون درجاته أكثر والفواصل بين درجاته كبيرة جدّاً. ويُفهم أيضاً أنّ مساحة الجنّة أوسع ممّا في أوهامنا نحن المحجوبين والمقيّدين.

ولعلّ ما ورد في تحديد الجنّة من قوله تعالى: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ6 عائد إلى جنّة الأعمال.
وما ورد في الحديث "جنّة الأخلاق"، والمقياس في جنّة الأخلاق، قوّة الإرادة وكمالها، وهي غير محدودة بحدّ.
________________________________________
5- الكافي، ج 2، ص 91.
6- سورة آل عمران، الآية: 133.
 
 
275

228

الدرس السابع والعشرون: الصبر

 نتائج الصبر:

نُقل عن العبد الصالح عليّ بن طاووس قدّس الله نفسه أنّه كان يحتفل في كلّ عام يوم ذكرى بلوغه للتكليف الشرعي، ويتّخذه عيداً وينثر الهدايا على الأصدقاء والأهل، وذلك لما شرّفه الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم بالإذن في فعل العبادات والطاعات. فهل فعل الطاعات يعدّ لهذا الروحاني من الصبر على المكروهات الكامنة في أعماق الإنسان؟ أين نحن من هؤلاء العبّاد المنقادون للحقّ تبارك وتعالى؟

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام:
"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيأتي على الناس زمان لا يُنال فيه المُلك إلّا بالقتل والتجبُّر، ولا الغنى إلّا بالغضب والبخل، ولا المحبّة إلّا باستخراج الدِّين وإتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى وصبر على البِغضة وهو يقدر على المحبة وصبر على الذلّ وهو يقدر على العزّ، أتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً ممّن صدّق بي"7.

إنّ للصبر نتائج كثيرة فهو مفتاح أبواب السعادات، وباعث للنجاة من المهالك، يهوّن المصائب ويخفّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح.

إنّ من نتائج الصبر ترويض النفس وتربيتها،، فإذا صبر الإنسان حيناً من الوقت على مصائب الدهر، وعلى مشاق العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذّات النفسية امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتحمّل الصعاب مهما كانت شديدة، تروّضت النفس شيئاً فشيئاً واعتادت وتخلّت عن طغيانها وتذلّلت الصعاب وحصلت للنفس صفات راسخة نورية، بها يتجاوز 
________________________________________
7- بحار الأنوار، ج67، ص183.
 
 
276

229

الدرس السابع والعشرون: الصبر

 الإنسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة.


ولكلّ درجة من درجات الصبر فائدة خاصّة: فالصبر على المعصية يبعث على تقوى النفس، والصبر على الطاعة يسبّب الاستيناس بالحقّ عز وجل، والصبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الإلهي. وكلّ ذلك من المقامات الشامخة لأهل الإيمان العارفين بالله سبحانه وتعالى.

وللصبر في الآخرة ثواب جزيل وأجر جميل، كما ورد في الحديث:
"وطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".

وورد في الحديث الشريف:
"من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد"8.

ويتجسّد الصبر في الآخرة بصورة بهية شريفة، ففي الرواية عن الصادق عليه السلام:
"إذا دخل المؤمن في قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره والبرّ مطلّ عليه ويتنحّى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم فإن عجزتم منه فأنا دونه"9.

وأما الفزع والجزع فمضافاً إلى أنّه بنفسه عيب، وكاشف عن الضعف في النفس، يجعل الإنسان مضطّرباً والإرادة ضعيفة والعقل موهوناً.
________________________________________
8- الكافي، ج 2، ص 92.
9- م.ن، ج 2، ص 90.
 
 
277

230

الدرس السابع والعشرون: الصبر

 خلاصة الدرس

ـ الصبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن. ولا ينافي مقام الصبر الشكوى إلى الله تعالى.
ـ إنّ الصبر يعتبر من مقامات المتوسّطين وكذلك مقام الرضا وإن كان أرقى مقاماً من الصبر.

ـ ما ورد من مقام صبرالمعصومين عليهم السلام هو صبرهم على الآلام الجسدية أو فقد محبوب لا على الطاعات وعن المعاصي أو المصائب عدا الآلام الجسدية، فلا معنى له في حقِّهم.
ـ درجات الصبر ثلاث: صبر عند المصيبة وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية. والصبر عن المعصية أفضل من كلّ المراتب.

ـ من نتائج الصبر: ترويض النفس وتربيتها ليصل إلى مقامات عالية، وهو مفتاح أبواب السعادات، وباعث للنجاة من المهالك، ويهوّن المصائب ويخفِّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية الروح.

ـ للصبر في الآخرة ثواب جميل وأجر كبير، وأوردنا بعض الروايات في ذلك.
 
 
278

231

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى نظرية تجسّم الأعمال.
2- أن يدرك أهمّية حضور القلب في العبادة.
3- أن يتعرّف إلى ما يبعث على حضور القلب.
 
 
279

232

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"في التوراة مكتوب: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي املأُ قلبك غنى، ولا أكلك إلى طلبك، وعليّ أن أسدّ فاقتك وأملأَ قلبك خوفاً منّي. وإن لا تفرّغ لعبادتي أملأُ قلبك شغلاً بالدنيا ثمّ لا أسدّ فاقتك وأكِلُك إلى طلبك"1.

أسرار العبادة وتجسُّم الأعمال:
إنّ فهم القلب لأهمّية العبادات لا يتيسّر إلّا عند استيعاب أسرارها وحقائقها، ومن الواضح أنّه غير ميسّر بالنسبة لنا، ولكن لنذكر منها بالمقدار الّذي يتناسب مع فهمنا:
إنّ لكلٍّ من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورة ملكوتية باطنية، وأثر في قلب العابد، والصورة الباطنية هي الّتي تعمّر عالم البرزخ والجنّة الجسمانية، فأرض الجنّة خالية من كلّ شي‏ء كما ورد في الحديث، والأذكار والأعمال هي مواد إنشاء وبناء لها. وهناك الكثير من الآيات القرآنية تدلّ على تجسُّم الأعمال، كقوله تعالى:
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 83.
 
 
281

233

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

 ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ2.


وقوله تعالى:

 

﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا3.

والأخبار الدالّة على تجسُّم الأعمال وتلبُّسها بصور غيبية، متعدِّدة، نذكر منها:
عن الإمام الصادق عليه السلام:
"من صلّى المفروضات في أوّل وقتها وأقام حدودها، رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقية تقول: حفظك الله كما حفظتني استودَعَني ملك كريم. ومن صلّاها بعد وقتها من غير علّة ولم يقم حدودها، رفعها الملك سوداء مظلمة وهي تهتف به ضيّعتني ضيّعك الله كما ضيّعتني ولا رعاك الله كما لم ترعني"4.

بل إنّ الأخبار تدلّ على أنّ ذلك العالَم كلّه حياة وعلم:

 

﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ 5 

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام:
"إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه، كلّما يرى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّ وجل، حتّى يقف بين يدي الله عزّ وجل فيُحاسبه
________________________________________
2- سورة الزلزلة، الآية: 87.
3- سورة الكهف، الآية: 49.
4- بحار الأنوار، ج 80، ص 10.
5- سورة العنكبوت، الآية: 64.
 
 
282

234

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

 حساباً يسيراً ويأمر به إلى الجنّة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: يرحمك الله نِعم الخارج، خرجت معي من قبري وما زلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله حتّى رأيت ذلك، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الّذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله عزّ وجل منه لأُبشّرك"6.


فلكلّ عمل مقبول لدى ساحة قدس الحقّ المتعالي صورة بهية حسنة تتناسب معه من الحور أو القصور أو الجنان العالية أو الأنهار الجارية.
وقد ورد في بعض الروايات تجسّد الاعتقادات أيضاً.

العبادة وحضور القلب:
إنّ حضور القلب من الأمور المهمّة في باب العبادات، فهو روح العبادة، والعبادة من دون حضور القلب غير مجدية، ولا تقع مقبولة في ساحة الحقّ المتعالي كما ورد في الروايات الشريفة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام:
"إنّما لك من صلاتك ما أقبلت عليه منها، فإن أوهمها كلّها أو غفل عن آدابها لُفّت فضُرِب بها وجه صاحبها"7.

وفي رواية عن الثمالي قال:
"رأيت عليّ بن الحسين عليهما السلام يصلّي، فسقط رداؤه عن منكبه فلم يسوّه حتّى فرغ من صلاته، قال: فسألته عن ذلك، فقال:... أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا تقبل منه صلاة إلّا ما أقبل عليه منها، فقلت: جعلت فداك هلكنا، قال: كلّا، إنّ الله متمِّم ذلك للمؤمنين بالنوافل"8.
________________________________________
6- الكافي، ج 2، ص 190.
7- م.ن، ج 3، ص 363.
8- وسائل الشيعة، ج 5، ص 478.
 
 
283

235

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

 وما يبعث على حضور القلب أمران:

الأوّل: إفهام القلب أهمّية العبادة:
فإنّ الإنسان إذا اقتنع أنّ العبادة أكثر أهمّية من الأمور الأخرى، بل لا مجال للمقارنة بين العبادة والأمور الأخرى لالتفت إليها أكثر وخصّص لها وقتاً وحافظ على أوقاتها. فالّذي لا يعرف أهمّية الصلاة ويراها أمراً زائداً، سيؤجّل صلاته إلى آخر الوقت، ويأتي بها بكلّ فتور ونقص، وسيكون دائماً أنّ هناك أموراً أهمّ من الصلاة ستأخذ وقته وما شرحناه في تجسّد الأعمال يبيّن أهمّية العبادة إجمالاً.

الثاني: تفريغ الوقت والقلب للعبادة:
تفريغ الوقت: لا بدّ للإنسان المتعبِّد أن يوظِّف وقتاً للعبادة، وأن يحافظ على أوقات الصلاة الّتي هي أهمّ العبادات، وأن يؤدّيها في وقت الفضيلة، ولا يُشغل نفسه في تلك الأوقات بعمل آخر، فكما يُخصِّص وقتاً لكسب المال والجاه والعلم، فكذلك عليه أن يُخصِّص وقتاً للعبادة.

ولو أحسّ بالثقل من أداء الصلاة، ورأى أنّها أمر زائد، فمن الطبيعي أنّه سيؤخّر صلاته إلى آخر الوقت، ويأتي بها بكلّ فتور ونقص. إنّ هناك أموراً أخرى أهمّ منها في نظره، والصلاة تتزاحم مع هذه الأمور الهامّة، فيفضّلها ويقدّمها على الصلاة. فهو في الحقيقة مستخفّ بالصلاة متهاون بها، وقد ورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام:
"لا تتهاون بصلاتك فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال عند موته: ليس منّي من استخفّ بصلاته، ليس منّي من شرب مسكراً، لا يرد عليّ الحوض لا والله"9.
________________________________________
9- الكافي، ج 3، ص 269.
 
 
284

236

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

 وفي رواية أخرى عن الإمام الكاظم عليه السلام:

"لمّا حضرت أبي الوفاة قال لي: يا بنيّ لا ينال شفاعتنا من استخفّ بالصلاة"10.

الله وحده يعلم حجم المصيبة العظمى الناشئة عن الانقطاع عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والخروج من ظلّ رعايته، والله يعلم مستوى الخذلان عندما يمنى الإنسان بالحرمان من شفاعة رسول الله وأهل بيته العظام! لا تظنّ أنّ أحداً يرى رحمة الحقّ سبحانه ووجه الجنّة، من دون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورعايته!.

تفريغ القلب: والأهمّ من تفريغ الوقت، تفريغ القلب، فعلى الإنسان لدى اشتغاله بالعبادة أن يجرّد نفسه من هموم الدنيا ومشاغلها، ويبعد قلبه عن الأوهام المتشتّتة والأمور المختلفة، ويفرّغ فؤاده نهائياً، ويخلّصه بشكل كامل للتوجّه للعبادة والمناجاة مع الحقّ المتعالي.

شقاؤنا أنّنا نترك كلّ أفكارنا وأوهامنا المختلفة إلى وقت العبادة، فإذا كبّرنا تكبيرة الإحرام فكأنّنا فتحنا دفتر حساباتنا الدنيوية ومشاغلنا اليومية لنصرف قلوبنا إلى كلّ تلك الأمور غافلين عن العبادة، ولا نلتفت إلّا وقد انتهينا من الصلاة!

فلنجعل على الأقلّ مناجاتنا مع الحقّ سبحانه بمثابة التحدُّث مع إنسان بسيط من هؤلاء الناس، فكيف أنّك إذا تكلّمت مع صديق، أو حتّى مع شخص غريب، توجّهت إليه بكلّ وجودك وانصرف قلبك عن غيره أثناء التكلُّم معه، فلماذا إذا تكلّمت وناجيت وليّ النعم وربّ العالمين، غفلت عنه إلى غيره، هل أنّ العباد يُقدّرون أكثر من الّذات المقدّس الحقّ؟ أم أنّ التكلّم مع العباد أهمّ من المناجاة مع قاضي الحاجات؟
________________________________________
10- الكافي، ج 3، ص 270.
 
 
285

237

الدرس الثامن والعشرون: العبادة -1

 اشتهر عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّ سهماً أصاب قدمه المبارك، فلم يستطع أن يتحمّل ألم انتزاعه من رجله، فقام وصلّى وفي أثناء اشتغاله بالصلاة، انتُزع السهم ولم ينتبه أصلاً!


إنّ عدم إدراك الألم حين التوجّه إلى شي‏ء ليس من الأمور الغريبة، فإنّ له أمثلة كثيرة في الأمور العادية من حياة الناس. إنّ الإنسان عند هيجان الغضب أو المحبّة يغفل عن كلّ شي‏ء.
يجب على الإنسان أن يلجم خياله ويسيطر عليه بشكل تدريجي، فيراقب نفسه، ويمنع خياله من الإفلات، وبعد فترة سيدجّن الخيال ويهدأ وتزول عنه حالة التشتّت.

عن الإمام الصادق عليه السلام:
"لأُحب للرجل المؤمن منكم إذا قام في صلاة فريضة أن يُقبِل بقلبه إلى الله ولا يُشغل قلبه بأمر الدنيا، فليس من عبد يُقبل بقلبه في صلاته إلى الله تعالى إلّا أقبل الله إليه بوجهه وأقبل بقلوب المؤمنين إليه بالمحبّة بعد حبّ الله إيّاه"11.




خلاصة الدرس
ـ لقد ثبت من خلال ـ الآيات والروايات ـ تجسُّم الأعمال في الآخرة، وللعبادات أيضاً صورتها البهيّة في الآخرة.
ـ إنّ حضور القلب من الأمور المهمّة في باب العبادات، فهو روح العبادة. وما يبعث على حضور القلب أمران: الأوّل: إفهام القلب أهمّية العبادة، الثاني: تفريغ الوقت والقلب للعبادة.

________________________________________
11- وسائل الشيعة، ج 5، ص 475.
 
 
286

238

الدرس التاسع والعشرون: العبادة -2

 الدرس التاسع والعشرون : العبادة -2


1- أن يتعرّف الطالب إلى أهميّة العبادة وتوقيفيّتها..
2- أن يدرك أن حضور القلب في العبادة له مراتب.
3- أن يعرف أنّ التفرُّغ في العبادة يوجب الغنى في القلب. 
 
 
287

239

الدرس التاسع والعشرون: العبادة -2

 في الحديث القدسي:

"إنّ أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري"1.

مراتب حضور القلب:
يقول أهل المعرفة: العبادات بأسرها، ثناء للمعبود، ولكن كلّ منها ثناء للحقّ سبحانه بواسطة نعت من النعوت واسم من الأسماء، إلّا الصلاة فإنّها ثناء للحقّ سبحانه مع جميع الأسماء والصفات.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ ثناء المعبود والخضوع للكامل والجميل والمنعِم والعظيم المطلق، من الفطرة الّتي جُبل عليها جميع الناس، وباعتبار أنّ الثناء متوقِّف على معرفة الذّات والصفات للمنعِم من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ كيفية ارتباط عالَم الغيب بعالَم الشهادة، وعالَم الشهادة بعالَم الغيب غير متيسّر لأيّ شخص إلّا عن طريق الوحي والإلهام الإلهي، صارت العبادات بشكل عام توقيفية، وبيد الحقّ تعالى، ولا يحقّ لأحد أن يُشرِّع من عنده، ويبتدع عبادة على مزاجه، ولا يمكن قياس التواضع والخضوع
________________________________________
1- تفسير الآلوسي، ج 17، ص 212.
 
 
289

240

الدرس التاسع والعشرون: العبادة -2

  المعهود أمام السلاطين والزعماء بما ينبغي أمام عظمة ساحة قدس ربِّ العالمين.


حضور القلب في العبادة:
إنّ حضور القلب في العبادة له مراتب، عمدتها وأساسها مرتبتان اثنتان:
إحداهما: حضور القلب في العبادة إجمالاً: فالإنسان لدى إنجازه لعبادة – مهما كانت هذه العبادة، كالوضوء أو الصلاة أو الصيام أو الحج... - يعرف إجمالاً إنّه يثني على المعبود، رغم عدم معرفته بتفاصيل هذا الثناء، أو أيّ اسم من أسماء الحقّ يدعو. كما لو أنّ شخصاً يُنظِّم قصيدة في مدح أحد ثمّ يُعطيها لطفل ليُلقيها أمام الممدوح، فعندما يقرأ الطفل هذه القصيدة، يعلم إجمالاً أنّه يثني على الممدوح رغم جهله لكيفية ثنائه عليه ولمعاني الكلمات الّتي يتلوها.

ثانيهما: حضور القلب في العبادة بصورة تفصيلية: إنّ المرتبة الكاملة من هذا الحضور القلبي غير متيسّرة إلّا للخلّص من أولياء الله وأهل معرفته. ولكن بعض مراتبها الدانية متيسّرة الحصول للآخرين.

فالمرتبة الأولى: منها هي الالتفات إلى معاني الألفاظ في مثل الصلاة والدعاء.
والمرتبة الثانية: أن يعرف حسب الإمكان أسرار العبادة، ويعلم كيفية ثناء المعبود في كلٍّ من الأوضاع والأحوال.

إنّ أهل المعرفة قد بيّنوا شيئاً قليلاً من أسرار الصلاة والعبادات الأخرى، واستفادوا حسب الإمكان من أخبار المعصومين عليهم السلام.
 
 
290

241

الدرس التاسع والعشرون: العبادة -2

 التفرُّغ في العبادة يوجب الغنى في القلب:

إنّ الغنى هو من الصفات الكمالية للباطن والنفس والذّات، لذلك يعتبر الغنى من الصفات الذّاتية للحقّ تعالى.
إنّ الثروة والأموال لا توجب غنى في النفس، بل نستطيع أن نقول إنّ من لا يملك غنى في النفس يكون حرصه تجاه المال والثراء أكثر، وحاجته أشدّ.

ولمّا لم يكن أحد غنيّاً حقيقياً أمام ساحة الحقّ جلّ جلاله الغنيّ بالذّات، وكانت الموجودات كلّها بجميع مراتبها ودرجاتها، فقيرة ومحتاجة، لهذا كلّما كان تعلُّق القلب إلى غير الحقّ، وتوجُّه الباطن نحو تعمير الملك والدنيا أشدّ، كان الفقر والحاجة أكثر، على جميع المستويات:
أمّا الحاجة القلبية والفقر الروحي، فواضح جدّاً، لأنّ نفس التعلُّق بتلك الأمور والتوجُّه إليها هو فقر.

وأمّا الحاجة الخارجية الّتي تؤكِّد بدورها الفقر القلبي، فهي أيضاً أكثر، لأنّ أحداً لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء وإن ظهروا بمظهر الغنى، ولكن بالتمعُّن يتبيّن أنّ حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم. فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء، ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج.

وسينتج عن ذلك كلّه غبار الذلّ والمسكنة وظلام الهوان والحاجة، وفي الحديث "إن لا تفرغ لعبادتي أملأُ قلبك شغلاً بالدنيا ثمّ لا أسدّ فاقتك وأكلك إلى طلبك".
وعكس ذلك من وضع تحت قدميه التعلُّق بالدنيا، فإنّه سيحوّل وجه قلبه إلى الغني المطلق، ويؤمن أنّ كلّ تلك الموجودات لها فقر ذاتي وحاجة أبدية، لا تملك لنفسها شيئاً.
 
 
291

242

الدرس التاسع والعشرون: العبادة -2

 ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ2.


وهكذا سيزداد غنى كلّما استغنى عن العالمين أكثر، حتّى يبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لملك سليمان قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض عندما توضع بين يديه مفاتيحها.

يقول أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام لابن عباس:
"وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها"3.

عندما يُعطي الإنسان قلبه إلى صاحبه الحقيقي ويُعرض عن غيره ولا يُسلِّم هذا القلب للغاصبين، سيتجلّى فيه صاحبه الغني المطلق، ليدفع هذا القلب نحو الغنى المطلق، فيغرق القلب في بحر العزّة والغنى.

 

﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.

وسيوصد باب الفقر لدى العبد نهائياً ليستغني عن العالمين، كما في الحديث القدسي:
"وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أُحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يُبصر به ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها"4.
وسيكون نتيجة ذلك أيضاً ارتفاع الخوف من جميع الكائنات، ليحلّ الخوف من الحقّ المتعالي محلّه.
________________________________________
2- سورة فاطر، الآية: 15.
3- نهج البلاغة، الخطبة، 224.
4- الكافي، ج 2، ص 352.
 
 
292

243

الدرس التاسع والعشرون: العبادة -2

 خلاصة الدرس

ـ العبادات بأسرها ثناء للمعبود، ولكن كلّ منها ثناء للحق سبحانه بواسطة نعت من النعوت واسم من الأسماء، إلّا الصلاة فإنّها ثناء للحقّ سبحانه مع جميع الأسماء والصفات.
ـ العبادات بشكل عام توقيفيّة لأنّ كيفية ارتباط عالم الشهادة بعالم الغيب غير متيسّر لأيّ شخص إلّا عن طريق الوحي.
ـ حضور القلب في العبادة له مراتب، عمدتها مرتبتان: الأولى: حضور القلب في العبادة إجمالاً، الثانية: حضور القلب في العبادة بصورة تفصيلية. وهذه المرتبة لها مراتب أيضاً.
ـ إنّ التفرُّغ في العبادة يوجب الغنى في القلب، لأنّ الإنسان في العبادة يتعلّق قلبه بالغني المطلق. وكلّما ازداد تعلُّقه بالله كلّما ازداد غنى، وكلّما ازداد تعلُّقه بغير الله ازداد فقراً.
 
 
293

244

الدرس الثلاثون: التقوى

 أهداف الدرس

1- أن يتعرّف الطالب إلى معنى التقوى.
2- أن يدرك مراتب التقوى.
3- أن يدرك خطورة مرض النفس وكيفية علاجه.
 
 
295

245

الدرس الثلاثون: التقوى

 عن الإمام الصادق عليه السلام:

"كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: نبّه بالتفكُّر قلبك، وجافِ عن الليل جنبك، واتّقِ الله ربّك"1.

معنى التقوى:
التقوى في اللغة من الوقاية. والمقصود منها في الأحاديث "وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه"، فهي ليست مجرّد حفظ النفس عن الأمور الّتي نعلم أنّها معصية، بل هي حفظ النفس حفظاً تامّاً عن الوقوع في المحظورات بترك الشبهات.

وقد ورد في الروايات:
"ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم"2، "فمن رتع حول الحِمى أوشك أن يقع فيه"3.
________________________________________
1- الكافي، ج 2، ص 54.
2- م.ن، ج1، ص68.
3- وسائل الشيعة، ج18، ص122.
 
 
297

246

الدرس الثلاثون: التقوى

 التقوى ومراتب الكمال:

إنّ التقوى ليست هي مقاماً من مقامات الكمال، وإنما هي وسيلة لبلوغ تلك المقامات، ولا يمكن بلوغ أيّ مقام بدونها.
فالنفس ما دامت ملوّثة بالمحرّمات، لا تكون داخلة في الإنسانية ولا سالكة في طريقها.

وما دامت تميل إلى الشهوات وتستطيب حلاوتها، لن تصل إلى أوّل مقامات الكمال الإنساني.
وما دام حبّ الدنيا والتعلُّق بها في القلب، فلا يمكن أن يصل إلى مقام المتوسّطين والزاهدين.

وما دام حبُّ الذّات باقياً في دخيلة نفسه، لن ينال مقام المخلصين والمحبّين.
وما دام لم يصل إلى مرحلة "ما رأيت شيئاً إلّا ورأيت الله فيه ومعه وقبله وبعده"4 ولا زالت الكثرة الملكية والملكوتية ظاهرة في قلبه، لن يصل إلى مقام المنجذبين، وهكذا إلى المقامات الأعلى والأشمخ...

فتقوى العامة إذاً تكون من المحرّمات، وتقوى الخاصّة من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حبّ الدنيا، وتقوى المخلصين من حبِّ الذّات، وتقوى المنجذبين من الالتفات لغير الله...
وهذه المراتب لها تفاصيل لن ينال منها أمثالنا سوى الحيرة والضياع في المصطلحات، والبقاء في حجب المفاهيم. فالمهمّ بالنسبة لنا التركيز على تقوى العامة.
________________________________________
4- شرح الأسماء الحسنى، الملا هادي السبزواري، ج 1، ص 190.
 
 
298

247

الدرس الثلاثون: التقوى

 مرض النفس:

اعلم أيُّها العزيز أنّه مثلما يكون لهذا الجسد صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإنّ للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إنّ صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية، وإنّ الأمراض النفسية أشدّ فتكاً آلاف المرّات من الأمراض الجسمية. وذلك لأن هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما أن يحلّ الموت، وتفارق الروح البدن، حتّى تزول جميع الأمراض الجسمية والاختلالات المادّية، ولا يبقى أثر للآلام أو الأسقام في الجسد. ولكنّه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية ـ لا سمح الله ـ فإنّه ما أن تفارق الروح البدن، وتتوجّه إلى ملكوتها الخاص، حتّى تظهر آلامها وأسقامها.

إنّ مَثَل التوجُّه إلى الدنيا والتعلُّق بها، كمثل المخدِّر الّذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه. فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس بالآلام والأسقام الّتي كانت في باطنها، فتظهر مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت الرماد. وتلك الآلام والأسقام إمّا أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإمّا أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ إنّ آخر الدواء الكي. قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ5.

إنّ الأنبياء هم بمنزلة الأطباء المشفقين، الذين جاءوا بكلّ لطف ومحبّة لمعالجة المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد. "إنّنا أطبّاء وتلاميذ الحقّ" وإنّ الأعمال الروحية القلبية والظاهرية
________________________________________
5- سورة التوبة، آية: 35.
 
 
299

 


248

الدرس الثلاثون: التقوى

  والبدنية هي بمثابة الدواء للمرض كما أنّ التقوى، في كلّ مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرّة للأمراض. ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدّل المرض إلى صحّة.


قد يغلب الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسمية حتّى مع عدم الحمية جزئياً. وذلك لأنّ الطبيعة هي نفسها حافظة للصحة ودواء لها. ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب، وذلك لأنّ الطبيعة قد تغلّبت على النفس منذ البداية، فتوجّهت هذه نحو الفساد والانتكاس ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ6، وعليه، فإنّ من يتهاون في الحمية، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتّى تقضي على صحّته قضاء مبرماً.

إذاً، فالإنسان الراغب في صحّة النفس، والمترفِّق بحاله، إذا تنبّه أنّ وسيلة الخلاص من العذاب تنحصر في أمرين: الأوّل: الإتيان بما يُصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر: هو الامتناع عن كلّ ما يضرّها ويؤلمها.

ومن المعلوم أنّ ضرر المحرّمات أكثر تأثيراً في النفس من أيّ شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أنّ الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أيّ شيء، ومقدّمة على كلّ هدف، وممهِّدة للتطوّر إلى ما هو أحسن.

إنّ الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمرّ عبر هاتين المرحلتين، بحيث إنّ من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمّهما هي التقوى من المحرّمات، وإنّ أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدّمة على المرحلة الأولى، إذ يتّضح من الرجوع إلى الأخبار والروايات وخطب "نهج البلاغة" أنّ المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيراً بهذه المرحلة.
________________________________________
6- سورة يوسف: آية 53.
 
 
300

249

الدرس الثلاثون: التقوى

 إذاً، أيُّها العزيز! بعد أن عرفت بأنّ المرحلة مهمّة جدّاً. ثابر عليها بدقّة، فإذا أنت خطوت الخطوة الأولى وكانت صحيحة، وبنيت هذا الأساس قوياً، كان هناك أمل بوصولك إلى مقامات أخرى، وإلّا امتنع الوصول، وصعبت النجاة.


كان شيخنا العارف الجليل يقول: إنّ المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة، من الآية الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ7. إلى آخر السورة المباركة، مع تدبُّر معانيها، في تعقيبات الصلوات، وخصوصاً في أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ البال، مؤثِّرة جدّاً في إصلاح النفس، وفي الوقاية من شرّ النفس والشيطان. وكان يوصي بدوام حال الوضوء، قائلاً: إنّ الوضوء مثل "بزّة جندي". وعلى كلّ حال، عليك أن تطلب من القادر ذي الجلال، من الله المتعال جلّ جلالة، مع التضرُّع والبكاء والالتماس كي يوفقك في هذه المرحلة ويعينك في الحصول على خصلة التقوى.

واعلم، أنّ بدايات الأمر صعبة وشاقّة، ولكن بعد فترة من الاستمرار والمثابرة تتحوّل المشقّة إلى راحة، والعسر إلى يُسر، بل تتبدّل إلى لذّة روحية، خصوصاً، وأنّ أصحاب هذه اللذّة لا يستبدلونها بجميع اللذائذ. ويمكن، إن شاء الله، وبعد المواظبة الشديدة والتقوى التامة، أن تنتقل من هذا المقام إلى مقام تقوى الخاصّة. وهي التقوى الّتي تتلذّذ الروح بها. إذ إنّك بعد أن تذوق طعم اللذّة الروحية تترك شيئاً فشيئاً اللذائذ الجسدية وتتجنبّها. وعندئذٍ يسهل عليك المسير حتّى لا تعود تقيم وزناً للذات الجسدية الزائلة، بل تنفر منها، وتقبّح زخارف الدنيا في عينيك، وتنظر في باطنك فتجد أنّ كلّ لذّة من لذّات هذا العالَم قد أوجدت في النفس أثراً وأبقت في القلوب لطخة سوداء تبعث على شدّة الأنس بهذه الدنيا والتعلُّق بها. وهذه هي نفسها تكون سبب الإخلاد إلى
________________________________________
7- سورة الحشر، آية: 18.
 
 
301

 


250

الدرس الثلاثون: التقوى

  الأرض. وعند سكرات الموت تتبدّل إلى صعوبة ومشقّة ومعاناة. والواقع أنّ صعوبة سكرات الموت وحالة النزع الأخير القاسية ناجمة عن هذه اللذّات وحبّ الدنيا، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا أدرك الإنسان هذا المعنى سقطت لذّات العالَم من عينه كلّياً، ونفر من الدنيا وما فيها من مباهج وزخارف. وهذا هو التقدُّم الثاني إلى المقام الثالث من التقوى.


وبذلك يُصبح سبيل السلوك إلى الله سهلاً ميسوراً، وطريق الإنسانية نيّراً واسعاً، وتصبح خطوته شيئاً فشيئاً خطوة الحقّ، ورياضته رياضة الحقّ، ويتهرّب من النفس وآثارها وأطوارها. إذ يجد في ذاته عشق الحقّ، فلا يعود يقنع بوعود الجنّة والحور العين والقصور، بل يكون مطلوبة ومقصوده أمراً آخر، وينفر من الأنانية وحبّ الذّات.

فيتّقي حبّ النفس ويتّقي ذاته وأنانيته. وهذا مقام على قدر كبير من الشموخ والرفعة، وهو أوّل مراتب هبوب نسيم الولاية، فيدرجه الحقّ المتعال في كنف لطفه ويعينه ويجعله موضع ألطافه الخاصّة.

أما ما يحدث للسالك بعد ذلك فخارج عن قدرة القلم.
 
 
302

251

الدرس الثلاثون: التقوى

 خلاصة الدرس

ـ التقوى: "وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه" فهي ليست مجرّد حفظ النفس عن الأمور التي نعلم أنّها معصية، بل هي حفظ النفس حفظاً تاماً عن الوقوع في المحظورات بترك الشبهات.

ـ التقوى وسيلة لبلوغ مقامات الكمال، ولها مراتب: تقوى العامّة تكون من المحرّمات، وتقوى الخاصّة من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حبّ الدنيا، وتقوى المخلصين من حبّ الذّات، وتقوى المنجذبين من الالتفات لغير الله تعالى.

ـ مرض النفس أشدّ خطورة من مرض الجسد، فمرض الجسد تذهب آلامه بالموت، أمّا مرض النفس فتبقى آلامه إلى ما بعد الموت.

ـ الراغب في صحة نفسه عليه بأمرين:
الأوّل: الإتيان بما يصلح النفس (الواجبات)،
الثاني: الامتناع عن كلّ ما يضرّها (المحرّمات)، إنّ الطريق الوحيد إلى المقامات والكمالات يمرّ عبر هذين الأمرين، وأهمُّهما هي التقوى عن المحرّمات.
 
 
303

252
بحوث أخلاقية من الأربعون حديثًا