المقدمة
المقدمة
السياسات العامّة للخطاب العاشورائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين لا سيّما بقيّة الله في الأرضين أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك.
السادة الأفاضل محاضري وخطباء المنبر الحسينيّ دمتم موفّقين.
ما أحوجنا ونحن نستجلي مواقف كربلاء ونسبر أعماق أسرارها، ونضيء شعلاً من قبس أنوارها، نستهدي فيها نور الفتح والفوز، لتكون كربلاء مدرسة نابضة حيّة مستمرّة تلهم الأجيال في كلّ العصور درس الإيمان والثبات المنتصر على ظلامة العدوّ وجوره، لأنّ حركة الإمام عليه السلام حركة تكامل وصلاح، وتحمل ديموميّة حيّة مرتبطة بالتكامل والسعادة الإلهيّة.
ولا غرابة إذا قال في حقّه من لم يَفُه إلّا حقّاً ولم ينطق إلّا وحياً "حسينٌ منّي وأنا من حسين"، لتخلد في أفق الوجود حقيقة مشرقة أنّ الإسلام محمّديّ الوجود حسينيّ البقاء.
لقد أروى سيّد الشهداء شجرة الإسلام العطشى بدمائه الزكيّة، ووهبها حشاشة نفسه، ومنحها مُهجة قلبه، فأينعت وأثمرت لتكون أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء.
5
1
المقدمة
ولأنّ الإمام عليه السلام هو الجاذب للناس بدافع الفطرة وشكر المنعم، كان هذا الكتاب الماثل بين يديك أخي المبلّغ عوناً لك في الليالي العاشورائية، تعيد فارّاً هنا وترشد هارباّ هناك، وتهدي ضالّاً هنا وتزيل شاكّاً هناك، وتزيد إيمان رجل هنا وتصبّر امرأة هناك، وتشدّ إلى النور شابّاً وترفع للدرجات فتاة... لنحقّق بعضاً مِنْ... "خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس" أو نبذة من "طلب الإصلاح في أمّة رسول الله".
ونطرح هنا بعض السياسات لهذا الخطاب العاشورائيّ التعبويّ المطلوب:
1- التأكيد على أهميّة الجانب المعنويّ الذي يحقّقه الارتباط بالله تعالى والتوكّل عليه، وأهميّة هذا الجانب في استنزال المدد والنّصر الإلهيّ ولو قلَّ المؤمنون وكثر أعداؤهم.
2- ربط الناس بالتّكليف الإلهيّ على قاعدة كونه الموجِّه لموقف الفرد والأمّة.
3- توجيه الناس نحو العمل للآخرة، لضمان استمرار الحياة بسعادة باقية. وإبراز دور الشهادة في تحقيق ذلك.
4- غرس روح التضحية في أبناء الأمّة لكون معركة الحقّ ضدّ الباطل لا بدّ لها من تضحيات، وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الدليل الواضح على ذلك.
5- الإرشاد إلى دور الولاية في توجيه الأمّة وترشيدها. وأنّ وحدة الوليّ والقائد هي الضمان لوحدة الأمّة وعزِّها.
6
2
المقدمة
6- تأكيد ضرورة وحدة المسلمين صفّاً واحداً أمام أعدائهم.
7- تحديد طواغيت العصر ويزيديّيه المتمثّلين اليوم في الدرجة الأولى بأمريكا وإسرائيل والتطرّق إلى الممارسات الإرهابيّة التي يمارسها هؤلاء الطواغيت ضدّ مسلمي ومستضعفي العالم.
8- بيان تكليف الأمّة في نصرة المظلومين.
9- التشديد على ضرورة الثبات في معركة الحقّ ضدّ الباطل ودورها في تحقيق النصر الإلهيّ.
10- إبراز التشابه بين ثورة الإمام الحسين عليه السلام ومعركتنا ضدّ الباطل، سواء على مستوى أهداف وممارسات الأعداء، أو على مستوى مشاركة الشرائح المتنوّعة من المجتمع لنصرة الحقّ (شبّان، شيوخ، نساء، أطفال، طبقات اجتماعيّة متفاوتة).
11- الإلفات إلى ضرورة التكافل الاجتماعيّ في الأمّة بما يؤمِّن القوّة الداخليّة للمجتمع في معركته ضدّ الباطل.
12. تقوية علاقة الناس بصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف وتبيان مسؤوليّتهم في التمهيد لظهوره المبارك، واستعدادهم لاستمرار التضحية بين يديه.
والحمد لله ربّ العالمين
معهد سيّد الشهداء عليه السلام
للمنبر الحسينيّ
7
3
المقدمة
توجيهات الإمام الخمينيّ قدس سره للمحاضرين والخطباء الحسينيّين
1- إنّ على الخطباء أن يقرأوا المراثي حتّى آخر الخطبة، ولا يختصروها بل ليتحدّثوا كثيراً عن مصائب أهل البيتعليهم السلام.
2- ليهتمّ خطباء المنابر ويسعوا إلى دفع الناس نحو القضايا الإسلاميّة وإعطائهم التوجيهات اللازمة في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة.
3- يجب التذكير بالمصائب والمظالم التي يرتكبها الظالمون في كلّ عصر ومصر.
توجيهات الإمام للمحاضرين والخطباء الحسينيّين
أوّل شيء يجب أن تهتمّوا به هو رسالة الثورة في المصيبة وفي المدح وفي الأخلاقيّات والوعظ.
كيف يجب أن تقام مراسم العزاء؟
إنّه سؤال موجَّه إلى جميع من يشعر بالمسؤوليّة في هذه القضيّة، وباعتقادي أنّ هذه المجالس يجب أن تتميّز بثلاثة أمور:
9
4
المقدمة
1- تكريس محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم في القلوب، لأنّ الارتباط العاطفيّ ارتباط قيِّم ووثيق.
2- إعطاء صورة واضحة عن أصل قضيّة عاشوراء، وتبيانها للناس من الناحية الثقافيّة والعقائديّة والنفسيّة والاجتماعيّة.
3- تكريس المعرفة الدينيّة والإيمان الدينيّ. والاعتماد على آية شريفة أو حديث شريف صحيح السند أو رواية تاريخيّة ذات عبرة.
على أيّ منبر صعدتم وأيّ حديث تحدّثتم، بيّنوا للناس يزيد هذا العصر وشمر هذا العصر ومستعمري هذا العصر.
10
5
المقدمة
مقتطفات من كلام الإمام القائد السيّد عليّ الحسينيّ الخامنئيّ دام ظله
الدقّة في المواضيع وتجنّب الشبهات
... مسألة إعداد الطاقات الصاعدة من الخطباء وقرّاء العزاء وحفظهم من الوقوع في الأخطاء أو الاشتباهات...أمرٌ مهمّ جدًّا.
وهذه - في الواقع - أحد مشاكلنا، فعندما تسوء سمعة المدّاحين1، فإنّ سوء السمعة لا يختصّ بهم، هم وغيرهم.
وقد يصدر كلام غير مناسب في بعض الموارد، لبعض من يرتقي المنابر بهذه المناسبة، من قرّاء العزاء والمدّاحين والخطباء وأمثالهم.
مرّةً، أكون جالسًا أنا وأنت، فأتكلّم بكلام غير مناسب، بكلام غلط2، فهذا ليس بشيء، أن يجلس شخصان يتحدّثان، وأمّا أن يكون عدد المجتمعين ألفًا أو عشرة آلاف، وقد يصل العدد إلى خمسين ألف مستمع، وقد يكون المجتمعون عدّة ملايين لسهولة الانتشار (ووسائل الاتصال).. هنا ينبغي أن يُدرَس الكلام بدقّة، لجهة تأثير الكلام الخاطئ وغير المناسب في أذهان المخاطَبين.
بعضهم يأخذ هذا الكلام الخاطئ، فيتلقّى معرفةً خاطئة. وبعضهم
1 المدّاح: مصطلح رائج في إيران، يُطلق على قرّاء العزاء والمُنشدين للأشعار، في المدح والعزاء أيضًا.
2 يبدو حسب سياق الكلام أنّ المقصود: الكلام غير الدقيق أو غير المثبت في المتون الدينيّة.
11
6
المقدمة
يستنكر هذا النحو من الكلام، ما يوجب إخراجهم من دينهم (تكفيرهم)، ويقع الخلاف بين أناس وآخرين حول هذا الكلام.
لاحظوا! إنّ الفساد يرد من عدّة جهات، بسبب ذلك الكلام الخاطئ والصادر عن شخصٍ واحد.
الكلام الصحيح والبيان الفني اللائق
وكنّا نرى - قديمًا وليس اليوم، أتحدّث عن زمن الطفولة - عندما كنّا نذهب للاستماع إلى مجالس العزاء، وكان القارئ يقرأ مجالس العزاء وفيها من الأخطاء ما هو واضح للعيان.. وفيها ما يخالف الواقع، ولكنّه كان يقرأ هذه الموارد، وذلك لأجل أن يجتمع إليه أربعة أشخاص فيحرق قلوبهم ويبكون. فهل يصحّ ذلك وبأيّة طريقة كانت؟!. اعملوا على بيان الحادثة.. اعملوا بأسلوب فنّي على البيان، ليتشوّق الناس ويتغيّروا، ولكن لا يصحّ أن تقولوا ما يخالف الواقع.
واليوم كذلك أنا أستمع.. يصعد خطيب أو مدّاح ومن فوق المنبر يخاطب أمير المؤمنين بقوله: سيّدي! إنّ كلّ ما لديك هو من الإمام الحسين!. فكّروا في هذا الكلام!. ما هذا الكلام؟! وما هذا الهراء؟! أن يتكلّم أحد مع أمير المؤمنين بهذا النحو من الكلام.
إنّ ما لدى الإمام الحسين هو من عند أمير المؤمنين، وما لدى الإمام الحسين هو من عند النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله. لمَ لا يفهمون هذه المعاني ولا يدركون هذه المسائل؟! وفوق ذلك، يدّعون ويزعمون أنّهم يقولون كلّ ما يخطر ببالهم هكذا! أعتقد أنّ علينا أن نستعظم هذه الأمور ونشعر بخطرها...
12
7
المقدمة
مجالس العزاء ليست علمانيّة
...أن يواظب المرء في مجلس العزاء أو في الهيئة المقيمة للعزاء، على أن لا يدخل في مواضيع الإسلام السياسيّ هذا خطأ. ولا يعني هذا الكلام أنّه كلّما وقعت حادثة سياسيّة في البلد وجب أن نتكلّم فيها - وبنزعة معيّنة1 - في مجالس العزاء، وقد يتمّ ذلك أحيانًا مرافقًا لأمورٍ أخرى. كلّا. إلّا أنّ فكر الثورة والفكر الإسلاميّ، والخطّ المبارك الذي أرساه الإمام (رضوان الله تعالى عليه) في هذا البلد، وتركه لنا هو ما ينبغي أن يكون حاضرًا في هذه المجموعات وأمثالها.
كرّروا هذه المعارف لتصبح ملكة في الأذهان!
وعلى كلّ حال فالعمل عملٌ كبير، ومهمّ. وفي الواقع، إنّ أكثر من يليق به القيام بإحياء عزاء سيّد الشهداء، هم هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء المحاربون (المقاتلون).. هؤلاء الشّباب، وعليكم أنتم أن تعرفوا قدر هذا الأمر، وأن تعملوا على توجيهه، اعملوا على التوجيه.
يمكن أن يتحوّل هذا الأمر إلى نبعٍ من الضياء والنور، يشعّ في الأذهان وفي الأفكار، وفي قلوب المخاطَبين (المستمعين)، ما يساعد على رفع مستواهم على صعيد المعارف الإسلاميّة والمعارف الدينيّة.
كم هو جميل أن يتمّ الاهتمام بمسألة القرآن في هذه الهيئات (المجالس): قراءة القرآن والمعارف القرآنيّة! وكم هو جميل أن تشتمل
1 وفق رؤية تيّارٍ ما.
13
8
المقدمة
هذه القراءات (مجالس اللّطم والعزاء) على مضامين إسلاميّة، ومضامين ثوريّة، ومضامين قرآنيّة!
...أحيانًا، تشتمل هذه الأمور التي يكرّرها المدّاحون وقرّاء العزاء والرواديد، وهم يلطمون الصدور وبلسان النوح والأشعار، على قضيّة معاصرة، أو على مسألة ثوريّة أو مسألة إسلاميّة أو معرفة قرآنيّة، وعندما يكرّرها تصبح ملكة في ذهنه، هذا عمل ذو قيمة، وهو عمل لا يقدر عليه سواكم.
بمعنى أنّه لا تقدر أيّة وسيلة إعلاميّة على أن تقدّم المعارف الإلهيّة هكذا، فتجعلها في الجسم والروح والفكر والإحساس والعقل وما شابه، ولذا فإنّ هذا العمل عملٌمهمّ جدًّا وعظيم.
وأسأل الله تعالى أن يوفّقكم ويثيبكم، وأن تسيروا بهذا العمل إلى الأمام وعلى أحسن وجه ممكن.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
14
9
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
الهدف:
بيان الأهداف من إحياء النهضة الحسينيّة على مرّ التاريخ.
تصدير الموضوع:
"والله لا أفارق الطريق الأعظم حتّى يقضي الله ما هو قاض".
الإمام الحسين عليه السلام.
17
10
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
مقدّمة:
الارتباط بين أهداف الإحياء الحسينيّ والثورة الحسينيّة نفسها ارتباط وثيق، وكذلك الارتباط بين الأعمال المسنونة كالبكاء والتباكي والزيارات القريبة والبعيدة من ضريح الإمام الحسين عليه السلام، وبين الأهداف هو ارتباط من قبيل المقدّمة الموصلة إلى النتيجة.
إنّ التعاقب لإرسال الرسل والأنبياء عليهم السلام تأريخيّاً لأمرين هما:
- التصديق بالرسالة السابقة
- والتبشير بالنبوّة اللاحقة.
هذه النبوّة المصدّقة والمبشّرة لها دور مهمّ و رئيسيّ هو إصلاح الفساد الذي عاثه ويعيثه الصناديد من خصوم الأنبياء وأعداء الرسالات. وبعبارة أخرى فإنّ التهديدات التي تواجه نهج الهداية الإلهيّة للإنسان على طول التاريخ مواجهة من قبل الأنبياء عليهم السلامومن آمن بهم، إذاً فهم ضمانة لعدم الانحراف في خطّ الرسالات، ويعملون على إصلاح الفساد اللاحق بهذا الخطّ.
وبما أنّ النبيّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء وأنّه لا نبيَّ بعده فضمانة الخطّ من الانحراف والعامل الاساسيّ في إصلاح الفساد - اللاحق به - عبر الأوصياء لرسوله صلوات الله عليهم، وأعظم عمليّة إصلاح قد جرت على يدي الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ويعود ذلك إلى أنّ أخطر عمليّة فساد وإفساد وانحراف أصاب الخطّ وأتباعه في ذلك الظرف،
18
11
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
ولا بدّ من كون مواجهة الفساد والانحراف بحجمها وزيادة لتأمين الضمانة وتحقيق سلامة خطّ الرسالة، وربما يقال بأنّ حجم التضحيات التي تُقدّم من قبل الرساليّين يكشف لنا عن حجم التهديدات والانحراف، وهذا هو الواقع الذي عاش فيه الإمام الحسين عليه السلام، وأمّا في فترة الغيبة الكبرى التي تعيش فيه الأمّة التي لم تلحق بنبيّها وغاب عنها إمامها، والحال أنّ الفساد منتشر وأنّ التهديد بالانحراف قائم فيأتي السؤال: ماهي العوامل التي تضمن سلامة النهج من الانحراف وتعمل على إزالة الفساد ومواجهة التهديدات؟
فيأتي الحديث حينها عن السيرة المباركة للإمام الحسين عليه السلام والدور الفعّال والمؤثّر لهذه السيرة في حفظ النهج وتشكيل أهمّ العوامل في ضمانته من الانحراف. والدليل عليه من الواقع العمليّ ما عبّر عنه الإمام المقدّس روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره وبعد الإنجاز الضخم الذي قام به، فيقول: إنّ كلّ ما عندنا من عاشوراء.
محاور الموضوع:
لا بدّ من حرارة مؤجّجة في النّفوس:
إنّ عامل الزمان كفيل بتبديل ثقافة البشر من حالة إلى أخرى وكذلك يساهم في عمليّة النسيان ومحو الذاكرة للنّاس، ولتحصين العقول والنّفوس من العامل المذكور فلا بدّ من وجود قضيّة تكون مصدراً للحرارة لا
19
12
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
تبرد أبداً، وبالتالي ترفض النّفوس الخنوع والتكاسل والتردّد وتبقى روح الإقدام والتضحية متوهّجة، وهنا ندرك أنّ القضيّة الوحيدة التي هي إكسير النّفوس والأرواح والعقول هي قضيّة التضحيات الحسينيّة، وقد عبّر عن هذه الحقيقة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حينما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لقتل الحسين عليه السلام حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبدا".
الإحياء الحسينيّ إصلاح لخطّ النبوّة:
روي عن الحسن البصريّ أنّه قال: "أربع خصال كنّ في معاوية، ولو لم تكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمّة بالسيف حتّى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه سكّيراً، خمّيراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجراً وأصحاب حجر فيا ويلاً له من حجر! ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر"1. فأخطر عمليّة ارتداد بدأت في عهد معاوية، وأكبر عمليّة تضليل إعلاميّ وحرب نفسيّة نجد بدايتها حينما تربّع معاوية على كرسي الخلافة الإسلاميّة وتجسّدت بسبِّ أمير المؤمنين عليه السلام على منابر المسلمين واستمرت لتسعٍ وستّين سنة وحين آل الأمر إلى يزيد إذ أوكلت إليه المهمّة الكبرى وهي تشويه صورة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عقول المسلمين وإزالة حبّه من قلوبهم ونفوسهم فينقل في التاريخ أنّه حصل لقاء بين المغيرة بن شعبة الذي تولّى إمارة
1 الكامل في التاريخ، ج 3، ص 487.
20
13
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
تبرد أبداً، وبالتالي ترفض النّفوس الخنوع والتكاسل والتردّد وتبقى روح الإقدام والتضحية متوهّجة، وهنا ندرك أنّ القضيّة الوحيدة التي هي إكسير النّفوس والأرواح والعقول هي قضيّة التضحيات الحسينيّة، وقد عبّر عن هذه الحقيقة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، حينما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لقتل الحسين عليه السلام حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبدا".
الإحياء الحسينيّ إصلاح لخطّ النبوّة:
روي عن الحسن البصريّ أنّه قال: "أربع خصال كنّ في معاوية، ولو لم تكن فيه إلّا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمّة بالسيف حتّى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه سكّيراً، خمّيراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادّعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجراً وأصحاب حجر فيا ويلاً له من حجر! ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر"1. فأخطر عمليّة ارتداد بدأت في عهد معاوية، وأكبر عمليّة تضليل إعلاميّ وحرب نفسيّة نجد بدايتها حينما تربّع معاوية على كرسي الخلافة الإسلاميّة وتجسّدت بسبِّ أمير المؤمنين عليه السلام على منابر المسلمين واستمرت لتسعٍ وستّين سنة وحين آل الأمر إلى يزيد إذ أوكلت إليه المهمّة الكبرى وهي تشويه صورة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في عقول المسلمين وإزالة حبّه من قلوبهم ونفوسهم فينقل في التاريخ أنّه حصل لقاء بين المغيرة بن شعبة الذي تولّى إمارة
1 الكامل في التاريخ، ج 3، ص 487.
20
14
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
الكوفة وبين معاوية بعد شهادة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام فقال المغيرة له: لقد ظفرت يا معاوية ببني هاشم وآلَ الملك إليك، وأخذهما الحديث زهو الانتصار...رفع المؤذّن صوته بلا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثار معاوية مغضباً وضرب صدر المغيرة وقال له: يا مغيرة أنت تسخر منّي، هذا المُلك الذي لا يُبلى، (اللّات والعزّى) سأعمل على محو هذا الاسم، ثمّ أوكل المهمّة الى ولده يزيد، ولذا نجد هذا الأخير قام وعلى مدار ثلاث سنوات متوالية حيث إنّه بادئ الأمر قتل الحسين عليه السلام ثمّ حرق المدينة المنوّرة واستباحها لجيشه ثمّ عمد الى قصف الكعبة الشريفة بالمناجيق.
وقد عبّر عن حقيقة التهديد وخطورة الانحراف ما نقل عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة: والله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّ رجلاً ينكح الأمّهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر، ويدع الصلاة... والله لو لم يكن معي أحد من النّاس لأبليت الله فيه بلاءً حسناً1.
فإنّ قيام الإمام الحسين عليه السلام بثورته والتضحيات العظيمة التي قدّمها إنّما كانت للوقوف أمام هذه الحركة الأمويّة الارتداديّة، وقد عبّر عن هذه الحقيقة حينما قال: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم".
من جملة الأهداف الكبرى لإحياء القضيّة الحسينيّة هو الحفاظ على
1 طبقات ابن سعد، ج5، ص65؛ سير أعلام النبلاء،ج 3،ص 50؛ العلايلي، ص 63.
21
15
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
حركة الاصلاح في أمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن القول إنّ الإحياء العاشورائيّ هو صرخة مستمرّة وجهد دائم ومتواصل لعمليّة الاصلاح لكلّ فساد وتقويم لكلّ اعوجاج يصيب أمّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حتّى ينتهي الأمر إلى صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
- ضرورة تلازم الدمعة والفكرة:
إنّ الدموع التي تذرفها العيون على الحسين عليه السلام ومصابه لهي تعبير صادق عن عاطفة حارّة متوهّجة في النّفوس ومتّقدة في القلوب، إذ من دون توهّج العواطف والمشاعر تنطفئ قضايا كبيرة ومصيرية. وفي هذا السياق تأتي دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - بعد شهادة الحمزة بن عبد المطّلب - النساء إلى إقامة مجالس البكاء والحزن عليه فكيف إذا كانت الحادثة هي قتل الامام الحسين عليه السلام مظلوماً غريباً عطشان؟! ومنه يتبيّن لنا فلسفة بكاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ولده وهو في أيّامه الأولى وكذلك نفهم تقديم جبرائيل التعزية للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بولده الحسين عليه السلام حين ولادته، وهكذا فإنّنا نفقه ما ورد عنهم من التأكيد على البكاء أو حتّى التباكي الذي يحطّ الذنوب العظام كما عن الإمام الرضا عليه السلام: "على مثل الحسين فليبك الباكون".
وأمّا الفكرة التي تزيل الشكّ والشبهة عن العقول وتبيّن حقيقة الوقائع والكرامات وتدخلها الى دائرة الامكان كالقضيّة التي نقلها المؤرّخون في كتبهم وهي: مكث النّاس شهرين، بعد عاشوراء، كأنّما تلطّخ الحوائط بالدّماء، ساعة تطلع الشمس حتّى ترتفع"1.
1 تاريخ الطبري،ج 5،ص 455؛ الكامل في التاريخ، ج4،ص80.
22
16
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
فالتلازم بين الوعي والاحاطة بالقضيّة الحسينيّة من جهة وتأجيج نيران الأحاسيس والعواطف من جهة أخرى ضمان لديمومة حركة الأمّة وللبذل والعطاء من دون حساب مطلقاً، والشاهد الحيّ على ذلك اليوم هو المقاومة وتضحياتها ووعي أبنائها حيث إنّ هذا التلازم قد تجسد واقعاً ملموساً إذ إنّ شرارة المقاومة في الجنوب ضدّ إسرائيل انطلقت من ساحة سيّد الشهداء عام (1983م) يوم العاشر من المحرّم...حيث يحتفي أبناء الجنوب بذكرى استشهاد الامام الحسين عليه السلام ففي هذا اليوم المفعم بحرارة الإيمان ومحبّة الحسين عليه السلام تفجّر غضب هؤلاء الشباب الحسينيّ حينما لمحوا حافلات العدوّ الصهيونيّ تشقّ صفوف المحتفلين فلم يتمالكوا من أن ينثالوا عليها بسيوفهم وأضرموا النّار بحافلاته، وامتدّ الغضب إلى الجماهير المحتشدة وكان يوماً مشهوداً سجّل عبر هذه الوثبة الحسينيّة الجريئة من إباء أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام شرارة المقاومة ضدّ العدوّ الصهيونيّ الغاشم، وأضفى عليها هذا اليوم العظيم البركة فراحت تتنامى وتتصاعد حتّى كتب النصر المؤزّر، ومن اللافت للنظر وكريم الصدف أنّ هذا النصر المبين جاء يوم أربعين الإمام الحسين عليه السلام عام 2000 م فكانت البداية والنهاية محاطة ببركة وعناية الإمام الحسين عليه السلام1.
1 مجلّة المنبر الحسينيّ، العدد الثاني-محرم 1422- آذار 2001.
23
17
المحاضرة الأولى: أهداف الإحياء الحسينيّ
التفاعل بين النهضة الحسينيّة وإحيائها:
الإمام الحسين عليه السلام وهو في طريقه من مكّة إلى كربلاء قال بعض أهل بيته: لو تنكبت الطريق كما فعل ابن الزبير، قال: "والله لا أفارق الطريق الأعظم، حتّى يقضي الله ما هو قاض". هذا الطريق الأعظم هو منهج الأنبياء والرسل من لدن آدم حتّى خاتمهم صلى الله عليه وآله وسلم ومحالّ من مثل الحسين عليه السلام أن يتنكّب عنه أو يحيد، فهو الوارث لهم وهو الضامن لسلامته حتّى تقوم الساعة، وبما أنّ ثمن الحفاظ عليه هو دماؤه الزاكية جاد بها طوعاً ثمّ استحال دمه نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة في حركة دائمة مستمرّة لصون منجزات كربلاء وتحصين الأحكام من الضياع، وهكذا فإنّه يتولّد من نهضته الشريفة ومن إحيائها من قبل محبّيه ما كان يؤدّيه الأنبياء من دور جسيم ومهمّة عظيمة إلّا وهو أداء الرسالة الإلهيّة إلى أقوامهم ثمّ الحفاظ عليها من الانحراف أو الفساد.
24
18
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
الهدف:
بيان ضرورة معرفة الله لحصول الخوف للعبد في الدنيا حتّى يدرك الأمن يوم الأهوال.
تصدير الموضوع:
"وعزّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين".
25
19
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
مقدّمة:
عندما يبلغ الإنسان سنّ التكليف ويوكّل الله به ملكين في الليل وآخرين في النهار ويشرعان بإحصاء الأعمال له أو عليه فإنّ بعض النّاس يقضون حياتهم باللهو واللعب ويغفلون عما يراد بهم ثمّ ينتقلون من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة كانتقالهم من عالم الأرحام إلى عالم الدنيا، هؤلاء الخائبون الذين أنساهم الله أنفسهم كما نسوا الله يوم العمل وهؤلاء الخائفون الخاسرون الذين خسروا أنفسهم لتركهم التجارة في دار الكسب فطال عليهم الأمد، ففي الآخرة خائفون لأنّهم في الأولى كانوا آمنين، فخوفهم خوف الذلّ والمهانة لا خوف الخشية والمهابة، وأمنهم أمن النائمين السامدين لا أمن الراجين العاملين، والبعض الآخر اتّخذ لنفسه "الخوف شعاراً والحزن دثارا1، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة2، لقد وفقوا للاستعانة على بعد المسافة بطول المخافة"3، فقد بلغوا رأس الحكمة لمعرفتهم أنّها لا تكمن إلّا في الخوف من الله تعالى، فحينما يأوون إلى فُرشُهم فهم على حذر، وإذا استيقظوا فهم على وجل، وكلّ ذلك لأنّهم عرفوا الله حقّاً، فالخوف من الله بقدر معرفته والخشية منه تعالى بمقدار علمه، هنيئاً لهم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾4، "وطوبى لنفس أدَّت إلى
1 بحار الأنوار، ج 7، ص 382.
2 من كلام لأمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتّقين.
3 بحار الأنوار، ج 77، ص 44.
4 سورة السجدة، الآية: 16.
26
20
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
ربّها فرضها... وهجرت في الليل غُمْضَها... افترشت أرضها وتوسّدت كفّها في معشرٍ أسهر عيونهم خوفُ معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهم"1.
محاور الموضوع
من عَرَفَ الله خَافَ الله:
كلّما ازداد الإنسان معرفة بربّه كلّما ازداد حبّاً له وخوفاً منه، ويكفي من معرفته الحدّ الأدنى كأنْ يعرف بأنّه هو خالقه وبارئه ومصوّره، منه المبدأ واليه المعاد، ويحصي عليه عمله في دار الدنيا بعد أن جعلها دار عمل، ثمّ يحشره إليه ويسأله عن كلّ كبيرة وصغيرة ثمّ يثيبه على ما صلح من أعماله، ويعاقبه على ما اقترفت يداه من الإثم والمعاصي، وهكذا فكلّ من كان بالله أكثر معرفة كان من الله أكثر مخافة2. وجاء في حكمة آل داوود: "يابن آدم، أصبح قلبك قاسياً وأنت لعظمة? ناسياً، فلو كنت بالله عالماً وبعظمته عارفاً لم تزل منه خائفا..."3.
ففي كثير من الحالات يترك المرء عملاً لوجود ناظر ينظر إليه ويهجر فعلاً لاحتمال وجود من يطّلع عليه أيكون الله سبحانه وتعالى أهون الناظرين إليه وأخفّ المُطَّلعين عليه؟ وهكذا لو خافَ تعجيل العقوبة وتسريع الحساب أيكون من المبادرين إلى ارتكاب الذنب واقتراف المعصية؟ بالتأكيد لا،
1 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج3، ص 75.
2 بحار الأنوار، ج70، ص 373.
3 المصدر نفسه، ص382.
27
21
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
إذن فليعلم أنّه كما يستحي من وجود ناظر إليه فليستحِ من وجود خالقه، وكما يخاف من العقوبة المعجَّلة فليخف من العقوبة المؤجّلة لأنّ كلَّ أجلٍ سيصبح عاجلاً، فما أجمل ما صوّره لنا الإمام السجّاد عليه السلام كما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي حيث يقول عليه السلام: "واعف عن توبيخي بكرم وجهك فلو اطّلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفتُ تعجيل العقوبة لاجتنبته لا لأنّك أهون الناظرين إليّ وأخفّ المطّلعين عليّ".
المؤمن يعمل بين مخافتين:
إذا وصل الإنسان في سيره إلى منتصف الطريق فيجب أن ينظر فيما مضى من الأَجَل، وليتأمّل فيما احْتَطَبَهُ على ظهره، وكيف يخفّف الأثقال ويفكّ الأغلال، وفيما يأتي من الأجل وما بقي له من العمر وليتدبَّر فيما يكتسبه أَلَهُ أم عليه؟ فهو على كلّ حال ما بعد الدنيا من مُسْتَعَتب وقد ورد في ذلك عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "ألا وإنّ المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، الشيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فوالله الذي نفس محمّد بيده ما بعد الدنيا من مُسْتَعْتَب وما بعدها من دار إلّا الجنّة والنّار"1.
1 بحار الأنوار، ج70، ص 382.
28
22
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
المؤمن يشعر بالتقصير دائماً:
أخطر المسالك وأعظم المهالك فيما لو اتّكل العبد على عمله ووثق به بل على المؤمن أن يشعر نفسه بالتقصير ويصبح وجلاً ويمسي خائفاً، وإلّا لوقع في الغرور، ودخله العُجب، وهو من أوثق فرص الشيطان ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين، وليكن كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ المؤمن لا يصبح إلّا خائفاً وإن كان مُحسناً، ولا يُمسي إلّا خائفاً وإن كان مُحسناً"1. بل عليه أن يعمل وَيَجدّ ويجتهد ثمّ يأمل الجود الإلهيّ في الفوز برضوانه ويتّكل في النجاة من عقابه على فضله كما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي: "لست اتّكل في النّجاة من عقابك على أعمالنا بل بفضلك علينا لأنّك أهل التقوى وأهل المغفرة"، وممّا جاء في مناجاة الخائفين لمولانا الإمام زين العابدين عليه السلام: "الهي أجرنا من أليم غضبك وعظم سخطك يا حنّان يا منّان... نجِّني برحمتك منعذاب النّار وفضيحة العار إذا امتاز الأخيار من الأشرار وحالت الأحوال وهالت الأهوال وقرب المحسنون وبعد المسيئون، ووفّيت كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".
سيماء الخائفين:
عندما يدخل الخوف قلب امرئ يجعله في حيرة من أمره ويذهله عن كامل شؤونه، يلوذ ممّا يخاف منه بالفرار ولم يعقب، ويلوذ بمن يأمنه ملتجئا من دون استئذان، وهذه هي حالة كلّ خائف مرعوب أو راج
1 بحار الأنوار، ج70، ص 382.
29
23
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
مرهوب فكيف إذا كان خائفاً من ربّه أو فارّاً من ذنبه فالأحرى به أن يفرَّ إلى ملجأ ويأوي إلى مأمنٍ، وتظهر علامات لا يقدر على إخفائها:
منها: ما يبدو على جسمه كالنّحول والوهن من شدّة المرض، وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف المتّقين حيث قال: "قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون ومن أعمالهم مشفقون"1.
ومنها: ما يصيب قلوبهم بالانكسار من خشية الله كما جاء عنه عليه السلام أيضاً حيث قال: "إنّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشية? فاستكفوا عن المنطق وإنّهم لعظماء عقلاء أَلِبَّاء نبلاء، يسبقون إليه بالأعمال الزاكية، لا يتكثّرون له الكثير ولا يرضون له القليل، ويرون أنفسهم أنّهم شرار، وإنّهم الأكياس الأبرار"2.
ومنها: صفات يتحلّى بها، كطرد حبّ الشرف والذكر المُبْعِدَين عن الخوف من المولى تعالى، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ حبّ الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب"3.
ومنها: ما ينعكس على سلوكه ككفّ الأذى ووقوع الظلم على الآخرين
1 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص 162.
2 بحار الأنوار، ج69، ص 286.
3 الكافي، ج2، ص 69.
30
24
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
كما في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: "من خاف ربّه كفّ ظلمه"1.
أنواع الخوف:
يعتبر الخوف من الكيفيّات النفسانيّة ومن المفاهيم المشكّكة فتختلف شدّة وضعفاً بحسب الحالة التي يكون عليها الخائف وقد ذكر له أنواع خمسة: خوف وخشية ووجل ورهبة وهيبة، فالخوف للعاصين، والخشية للعالمين، والوجل للمخبتين، والرهبة للعابدين، والهيبة للعارفين، أمّا الخوف فلأجل الذنوب قال الله عزَّ وجلّ: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾، والخشية لأجل المعرفة قال الله عزَّ وجلّ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾، وأمّا الوجل فلأجل ترك الخدمة قال الله عزَّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، والرهبة لرؤية التقصير قال الله عزَّ وجل: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾، والهيبة لأجل شهادة الحقّ عند كشف الأسرار أسرار العارفين قال الله عزَّ وجلّ: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ﴾2.
1 تفسير نور الثقلين، ج2، ص 69.
2 الخصال، ج1، ص 282؛ بحار الأنوار، ج70، ص381.
31
25
المحاضرة الثانية: الخوف من الله وتجنّب مَعْصِيَتِه
آثار الخوف:
إنّ لكلّ شيء أثراً وأثر الذنوب سجن النّفس من الذنوب فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الخوف سجن النّفس من الذنوب ورادعها عن المعاصي"1. وقال عليه السلام: "نعم الحاجز عن المعاصي الخوف"2.
1 غرر الحكم.
2 المصدر نفسه.
32
26
المحاضرة الثالثة: التكافل الاجتماعيّ
المحاضرة الثالثة: التكافل الاجتماعيّ
الهدف:
بيان أهمّيّة التعاطف والمواساة مع أهل الحاجة.
تصدير الموضوع:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "ويحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمؤاساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض..."1.
1 الكافي، ج2، ص175.
33
27
المحاضرة الثالثة: التكافل الاجتماعيّ
مقدّمة:
لقد اهتمّ الإسلام كثيراً بتربية الإنسان فكريّاً وعمليّاً على توثيق عرى التواصل بين عباده وبيَّن منظومة من العلاقات الاجتماعيّة بين أفراد الإنسان تقوم على أساس التراحم والتعاطف حتّى يكونوا كما أمرهم الله سبحانه وتعالى عزَّ وجلّ: ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ وهناك الكثير من التشريعات يُلحظ فيها حيثيّة مساعدة الآخرين كالخمس والزكاة والصدقة والهديّة والهبة وغير ذلك، وبعد تعزيز روح المحبّة والتعاطف بينهم فلا يصدر عنهم إلّا صنع المعروف مع الآخرين ولم تستقرّ أنفسهم إلّا ببذل ما خوّلهم الله من قوّة أو نعمة لمن احتاج إليهما من أهل الفقر والمسكنة. وهؤلاء بدورهم سوف يلاقون أهل الخير إلى منتصف الطريق على المستوى الروحيّ والنفسيّ إذ يبادلونهم المحبّة والاحترام، ثمّ يرفعون أيديهم إلى الله تعالى بالدعاء لهم والابتهال ببقاء النعمة وطول العمر ليدوم وصول الخير إليهم منهم، وما أحسن تلك النفوس التي نمت فيها ملكات التراحم والتعاطف والمحبة والاحترام، فإنّها غاية من الغايات التي استهدفها الإسلام. وعلى الإنسان أن ينظر في أسس علاقته مع الآخرين، هل إنّها تقوم على أنّ الله له فضله على الآخرين؟ أم أنّ هؤلاء هم عيال الله وهم سبيل للوصول إلى ساحة قربه وعليه إيصال النفع إليهم، كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾ "أي نفَّاعاً"1، وعنه عليه السلام قال الله تعالى في حديث قدسيّ: "الخلق عيالي فأحبّهم إليّ ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم"2.
1 بحار الأنوار، ج75، ص 24.
2 ميزان الحكمة، ج2، ص 196؛ بحار الأنوار، ج74، ص 336.
34
28
المحاضرة الثالثة: التكافل الاجتماعيّ
الآمنون يوم القيامة:
إنّ لكلّ عمل يقوم الإنسان في دار الدنيا فسوف يجده حاضراً يوم القيامة ثمّ يجزى به من دون فرق بين عمل أدَّاه الإنسان في محراب العبادة وبين عمل قدّمه في ساحة عباده، ومن هنا فقد فاز البعض حينما هيّأ لنفسه الأمان والسرور يوم القيامة هو كنتيجة لما زرعه في الدنيا من سرور أدخله إلى قلوب المحزونين أو لسعيه في قضاء حوائج المحتاجين، ولقد فاز هؤلاء بنعمتين عظيمتين واحدة في الدنيا حينما نسبهم الله تعالى لذاته المقدّسة وأخرى حينما آمنهم يوم الفزع الأكبر ودلّ على ذلك ما جاء عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: "إنّ لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة ومن أدخل على مؤمن سروراً فرَّح الله قلبه يوم القيامة"1.
إيّاك وعذر الطالب
من الجدير ذكره أنّه يجب أن يلتفت الإنسان إلى نقطة مهمّة جدّاً في مقام التعاطي مع الآخرين من أنّ اعتذار المقتدر عن بذل خدمته لمن قدر عليها فقد حجب عن نفسه الرحمة الإلهيّة في الدنيا وسلّط
1 الكافي، ج2، ص197.
35
29
المحاضرة الثالثة: التكافل الاجتماعيّ
عليها من يفزعها في عالم البرزخ، وذلك لأنّ عذره الطالب يفوت على نفسه الخير الكثير، ومن الضروريّ أن يحاط الإنسان علماً بأنّ مجيء صاحب الحاجة سببٌ لسوق الرحمة الإلهيّة إليه فلينظر إلى كيفيّة تلقّيه للرحمة ولا يتمّ ذلك إلّا بارجاع صاحب الحاجة بقضاء حاجته، ويشهد لذلك ما جاء في الأخبار أنّه من وضع الصدقة في يد الفقير فقد وقعت في يد الله قبل أن تقع في يده، ولذا يستحبّ له أن يقبّل المتصدِّق يد نفسه لملامستها يد الله تعالى، فعن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال: "من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هو رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله تعالى، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذّباً، فأعذره الطالب كان أسوأ حالا"1.
أحبّ إليّ من عشر حجج
قد يبذل المرء كثيراً من المال ويجهد نفسه في طريق الحجّ وقد يكون في هذا إرضاءٌ لنفسه لرغبته في سياحة الحجّ وقد يكون فيه إرضاء لربّه التزاماً باستحباب الحجّ وإقامة على سنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ولكن بامكانه أن يبذل مالاً أقلّ ويتخلّص من عناء السفر الطويل ويعوّض على نفسه بكثرة النّماء في المال وأضعاف مضاعفة للأجر والثواب بأن يتولّى عيلولة أهل بين من
1 ميزان الحكمة،ج2، ص197.
36
30
المحاضرة الثالثة: التكافل الاجتماعيّ
المسلمين، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "لئن أعول أهل بين من المسلمين، أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم فأكفّ وجوههم عن النّاس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة مثلها ومثلها حتّى بلغ عشراً"1.
فلا تطلب حاجتك من شرار الخلق
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فليس من أحد إلّا وهو محتاج إلى النّاس"2.
وبناءً عليه فلا يستطيع أحد أن يكمل حياته أو يتمّ أعماله من دون حاجته إلى النّاس أو حاجة النّاس إليه، ولكن المهمّ اختيار من يريد الاعتماد عليه والرجوع إليه، وليس من الصلاح الاعتماد على أيّ فرد والرجوع إلى أيٍّ كان، إذ قد يترتّب بالاعتماد على البعض من المفاسد ما لم يحتمل، ولكان في تحمّل الضير الذي كان فيه أقلّ مرارة من الضيم الذي أصابه من خلال الرجوع إلى ذلك البعض الذين هم شرار الخلق فعن مولانا زين العابدين أنّ رجلاً قال بحضرته: اللهمّ أغنني عن خلقك. فقال عليه السلام: "ليس هكذا، إنّما النّاس بالنّاس ولكن قل: اللهمّ أغنني عن شرار خلقك"3.
ولا تطلبها ممّن لم يكن له وكان
ومن جملة الأشخاص الذين لا ينبغي لك أن تمدّ يدك إليهم ليقضوا حاجتك
1 ميزان الحكمة، ج2، ص 196.
2 تنبيه الخواطر، ص32.
3 تحف العقول، ص 278.
37
31
المحاضرة الثالثة: التكافل الاجتماعيّ
حديث النعمة وقد جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "تدخل يدك في فم التنين إلى المرفق خير لك من طلب الحوائج إلى من لم يكن له وكان"1.
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّما مثل الحاجة إلى من أصاب ماله حديثاً كمثل الدرهم في فم الأفعى أنت إليه محوج وأنت منها على خطر"2.
نعم فاطلبها
وإذا كان لا بدّ لك من أفراد ترفع حاجتك إليهم فلا ترفعها إلّا لواحد من ثلاثة إمّا صاحب دِين أو صاحب مروءة أو صاحب حسب، فعن مولانا الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال: "لا ترفع حاجتك إلّا إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دِين أو مروة أو حسب، فأمّا ذو الدِّين فيصون دينه، وأمّا ذو المروة فإنّه يستحي لمروته، وأمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك".
1 بحار الأنوار، ج 78، ص 248 .
2 بحار الأنوار، ج78، ص 174.
38
32
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
الهدف:
بيان عمق وحقيقة العلاقة بين الشهيد وأهله في الدنيا والآخرة.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: لسنا نادمين على أنّ الشهادة أصبحت نصيباً لأعزّتنا، فهذا نهج مرضٍ لشيعة أمير المؤمنين.
مقدّمة:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام مخاطباً النّاس وهو في مقام الترغيب في الجهاد والشهادة: "أيّها النّاس، إنّ الموت لا يفوته المقيم ولا يعجزه
41
33
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص، من لم يُقتل مات، إنّ أفضل الموت القتل"1.
ولا بأس بالإشارة إلى نقاط عدّة نبني عليها علاقة الشهيد بأهله.
النقطة الأولى
الشيء الذي يجب أن يبقى حاضراً في أنفسنا وأن نستحضره دائماً في مرحلة الوعي التامّ أمر الانتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة إذ ليس هناك يقين لا شكّ معه كاليقين بالموت الذي لا يداخله أو يزاوله الشكّ ولذا فلا محيد عن الموت ولا محيص.
النقطة الثانية
تحديد الأجل ليس بيد الإنسان إذ لا يمكننا أن نحدّد وقت الرحيل إلى عالم الآخرة، بل هو بيد الله سبحانه وتعالى. نعم ما يقع تحت اختيارنا ونعمل إرادتنا فيه هو السعي لاختيار أفضل أسباب الموت، وهو القتل في سبيل الله.
النقطة الثالثة
هذا السعي يتجلّى في أمرين، بأن نحبّ الشهادة ونعشقها، ومن ثَمَّ نسعى لتحصيلها، وإن لم نُقتل في الميدان إلّا أنّه قد نبلغ بها منازل الشهداء، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"2.
1 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1، ص 306.
2 صحيح مسلم، ج3، ص 1517.
42
34
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
النقطة الرابعة
عندما ينفر المجاهد في سبيل الله إنّما ينفر للدفاع إمّا عن دين الله سبحانه وتعالى، وإمّا عن وجود النّاس واستقرارهم وإمّا عن الأرض والعرض، أو غير ذلك من الأسباب الموجبة للخروج، إذن هناك جامع مشترك بينها وهو الدفاع عن الإنسان مُعتقداتِه متعلّقاته. وهنا فإنّ النّاس يعتبرون أنّ من يدفع عنهم المخاطر والتهديدات ويعمل للحفاظ عليهم له مكانة مقدّسة في قلوبهم وتحفر أسماؤهم في وجدانهم. وهذا بحدِّ ذاته تخليد للمجاهدين والشهداء ويدخلون ذاكرة التاريخ في الدنيا من بوّابة تخليد أسمائهم في ذاكرة النّاس ووجدانهم.
النقطة الخامسة
من يعش في هذه الدنيا مهاناً ذليلًا فلا يشعر بقيمة حياته ولا يستقيم معاشه، لأنّ الموت بعزّة خير من حياة المذلّة وهذا ما تعلّمناه من مدرسة أمير المؤمنين ومن مدرسة كربلاء، وهو منسجم مع طبيعة الإنسان الحرّ والشريف، وقد أشار إلى هذه الحقيقة أمير المؤمنين عليه السلام وهو يذمُّ أصحابه على تكاسلهم قائلاً لهم: "... ماذا تنتظرون بنصركم، والجهاد على حقّكم؟! الموت خيرٌ من الذلّ في هذه الدنيا لعزّ الحقّ"1.
وممّا قاله سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام حتّى غدا واحدًا من العناوين والشعارات التي يرفعها أحرار العالم ما جرى بينه وبين الحرّ بن
1 شرح نهج الباغة، ابن أبي الحديد، ج6، ص 90.
43
35
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
يزيد الرياحيّ حينما عارض مسيره إلى كربلاء، وقد دار حوار طويل بينهما حتّى قال له الحُرُّ: قد أمرنا إذا نحن لقيناك ألَّا نفارقك حتّى نقدمك على عبيد الله بن زياد، وقد قابله الإمام الحسين عليه السلام بالموقف الذي ينمّ عن العزّة والكرامة وقال للحرّ: "الموت أدنى إليك من ذلك"، ثمّ قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون... ألا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما"1.
وباعتبار أنّ الشهداء أورثوا أمّتهم وأهاليهم العزّة وهذا معناه بناء حياة حقيقيّة وطيّبة لهم لا موت فيها، فكانت علاقة النّاس والأهل بشهدائهم هي علاقة بمصدر الحياة ومنبع العزّة، ولذا فهم مخلَّدون بمحبّة النّاس جيلًا بعد جيل وإن طالت السنون والأيّام، ولذا نجد في كلّ مجتمع وفي كلّ دولة أنَّهم يفتخرون بشهدائهم ويعملون على صنع ما يخلِّد أمجادهم وتضحياتهم.
البداية بداية فخر واعتزاز:
ونريد بالبداية هنا أي منذ تكوينه في عالمي الأصلاب والأرحام يقول? سبحانه وتعالى في محكم آياته عن واحدة من محطّات مسيرة الإنسانيّة التكوينيّة وهي محطّة الصلب والترائب حيث يقول: ﴿خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ
1 تاريخ الطبري، ج4، ص 305؛ اللهوف في قتلى الطفوف، ص 340؛ تحف العقول، ص 176.
44
36
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
* يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾1.
ومن ثَمَّ ينتقل إلى عالم الأرحام وما نريد قوله أنّ الشهيد بما يحمل من نور للشهادة وحيث كان يتقلّب في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء، فهو مبعث للشعور بالفخر والاعتزاز لما كانوا عليه من مصاحبة هذه الأنوار لهم وهذا من مواطن المدح والثناء كما نجد ذلك حينما نقف لزيارة سيّد الشهداء فنقول: "وأشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة". وهذا الشعور بالفخر والعزّة يصيب إخوته وأخواته بأنّهم كانوا أيضاً في عالمين قد سكنهما أخوهم الشهيد. إذن البداية هي بداية عزّة وفخر وشموخ.
الشهيد مع أهله في الدنيا
لو كان يعلم الأهل منذ البداية أنّ مولودهم الجديد هو شهيد في المستقبل لتعاملوا معه بطريقة أخرى وبأسلوب مختلف. ولكن تعلّقت المشيئة الإلهيّة أن يخفي ذلك على النّاس لحكمة هو أعلم بها. ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ لكلّ شهيد صفات يتحلّى بها أو كان يقوم ببعض الأعمال التي تترك أثرها في نفوس المحبّين والمتعلّقين، يستحضرونها في كلّ وقت وعند كلّ مناسبة، وهذا ما نقرأه أو نسمعه عن كلّ شهيد تقريباً، حتّى إنّ البعض منهم - وهم على قيد الحياة - إنّما نقرأ فيهم ملامح الشهادة لما
1 سورة الطارق، الآية 6-7.
45
37
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
يصدر عنهم من تصرّفات وأقوال يغمر الآخرين بعطفه وحنانه ولاستقامته في شخصيّته وسلوكه، سواء على مستوى العبادة كمواظبته على الصلوات في أوقاتها، أو الحضور في المسجد بصورة دائمة أو غالباً أو مواظبته على التهجّد ليلاً واهتمامه بقراءة القرآن والأدعية والمناجاة، أو على مستوى المعاملات من صدقه وأداء الأمانة أو اهتمامه في خدمة الآخرين وحرصه على التخفيف من معاناتهم وآلامهم، فكلّ هذه المناقبيّات العالية تجعل إحساسًا ينتاب الآخرين، بأنّه مشروع شهيد.
نبأ الشهادة من مواطن البشرى أم الصبر؟
لو أُخبر الإنسان بأنّه مكتوب له الشهادة فهل يعتبر هذا من مواطن الصبر أو من مواطن البشرى؟ وهكذا أيضاً عندما يشاع خبر استشهاده، فمن أي المواطن هو؟
في مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام هو من مواطن البشرى لا الصبر، ويدلُّ عليه ما جرى معه حينما أخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الشهادة من خلفه، فبعد معركة أُحد وما أصاب جسمه من جراحات بلغت نيِّفًا وسبعين جراحة مضافًا إلى كسر يده اليمنى وما رافق ذلك من أجواء نفسيّة متعبة، توجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال: "يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أُحد حيث استُشهد من استُشهد من المسلمين وحيدت عنّي الشهادة فشقّ ذلك عليَّ فقلت لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟ فقال لي: إنّ ذلك لكذلك فكيف صبرك إذاً؟ فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من
46
38
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر"1.
هذه هي الثقافة التي تعلّمها شهداؤنا وعوائل شهدائنا من مدرسة عليّ عليه السلام هي أنّ الشهادة من مواطن البشرى والشكر لأنّه رحل إلى الحياة الباقية وورَّثهم العزّة والشرف كما يستبشرون حينما يتلقّون نبأ ولادته، وإن كان في المقارنة بين بشرى الولادة والشهادة مسامحة إذ الولادة وإن تحمّل البشرى للأهل إلّا أنّها مجبولة بشيء من الخوف والقلق عليه وأين هي من بشرى الحياة الخالدة وحياة الروح والريحان والمكلّلة بغار التضحية والإيثار؟
إلى طالبي الشهادة:
يا طالب الشهادة، أترغب بالفوز في صدق تجارتك مع الله سبحانه وتعالى؟ وترغب أن تكون في صفوف شهداء كربلاء مع سيّدهم سيّد الشهداء؟ وترغب في ملاقاة أمير المؤمنين عليه السلام؟ وهل أنت بحقّ مشتاق لرؤية عليّ عليه السلام؟ إذا كُنْتَ صادقاً فاعلم أنّ إمامك ومولاك عليّ هو أشوق للقائك. وهو الذي يصف طالبي الشهادة بقوله: "مَنْ رائحٌ إلى الله كالظمآن يريد الماء، الجنّة تحت أطراف العوالي، اليوم تبلى الأخبار، والله لأنا أشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم"2.
1 بحار الأنوار، ج32، ص 2401.
2 بحار الأنوار، ج71، ص 69.
47
39
المحاضرة الأولى: علاقة الشهيد بأهله في الدنيا والآخرة
علاقة الشهيد بأهله في الآخرة
إنّ تلقى الشهداء لأهلهم يوم القيامة لهو خير من الدنيا وما فيها، إذ بعد السفر الطويل وتحمّل عنائه ومشقّته وما يحمل من خوف ورهبة، وبعد أن نفدَ الزاد من الراحلة وانقطع في بلد الغربة، وهو على هذه الحالة، يلتفت يمنة ويسرةً لعلّ نظره يقع على من يتكلّم لغته ليمدّ إليه يد العون والمساعدة حتّى ينقل إلى أهله مسروراً ويصل إلى وطنه محبوراً. فإذا هو على هذه الحالة وجاء من يعرفه ويمكن الاعتماد عليه ليكون سببًا لراحته، وهذا حالُ الشهداء يوم القيامة حينما يأتون إلى أهليهم ومعارفهم ليأخذوا بأيديهم إلى حيث الراحة والخلود، لأنّ الشهداء قد أعطوا مقامًا محمودًا وهو الشفاعة لهم. ويدلُّ عليه ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يشفعون إلى الله فيشفّعهم: الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشهداء"1.
وعنه أيضاً: "... ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفًا من أهل بيته وجيرته حتّى إنّ الجارين يختصمان أيّهما أقرب"2.
خاتمة
يقول الإمام الخيمنيّ قدس سره لسنا نادمين على ما أريق من دماء شبابنا الزكيّة في طريق الإسلام. لسنا نادمين على أنّ الشهادة أصبحت نصيباً لأعزّتنا، فهذا نهج مرضٍ لشيعة أمير المؤمنين عليه السلام منذ صدر الإسلام وحتّى الآن.
1 مستدرك الوسائل، ج11، ص 20.
2 بحار الأنوار، ج97، ص 14.
48
40
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
الهدف:
بيان ضرورة توثيق وشائج العلاقات الاجتماعيّة ولكن ضمن حدودها الشرعيّة والعرفيّة.
تصدير الموضوع:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنسك النّاس نسكاً أنصحهم جيباً وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين"1.
1 وسائل الشيعة، ج16، باب 21، ح1.
49
41
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
مقدّمة:
قد أشار القرآن الكريم في الآية الواحدة والسبعين من سورة التوبة إلى أجمل صورة لطبيعة العلاقات الاجتماعيّة لا سيّما بين المؤمنين حيث قال سبحانه: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾1 حيث إنّها تضمّنت مجموعة من آداب العلاقات الاجتماعيّة وغيرها كالحفاظ على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحفاظ على الأمور العباديّة، كعلاقة الفرد بربّه، ومن جملة العلاقات الاجتماعيّة ما له بُعد اقتصادي قوامهُ الزكاة مضافاً إلى سنخ علاقة تقتضي قوّة المجتمع وتماسكه من خلال الطاعة لله وللقائد الشرعيّ المتمثّل بخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وبالتالي فإنّ الحفاظ على هذه العلاقات المتنوّعة يستدعي استمطار الرحمة الإلهيّة.
ولم يكتف الإسلام ببيان الخطوط العريضة لمبادئ العلاقات الاجتماعيّة، بل تعدّاها إلى الحديث عن تفاصيل وجزيئات الأجزاء ومن جهة أخرى فإنّ الأحكام ذات الطابع العباديّ لها بُعد إجتماعيّ، فمثلًا هناك فرق بين الحضور في صلاة الجماعة والإتيان بها فرادى، والحجّ - كما نرى - تُقضى مناسكه مع المسلمين، وبعض مناسكه لوحظ فيها
1 التوبة: 71
50
42
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
الأغيار كالأصناف التي تُستفاد من الأضحية، وهكذا الجهاد وبقيّة الأمور العباديّة.
ومن جهة ثالثة لقد أهتمّ الإسلام بتوطيد العلاقات الاجتماعيّة بالقول والفعل حتّى على مستوى لحظ العين وقسمات الوجه وبالبسمة؛ عن الإمام عليّ عليه السلام: "قولوا للنّاس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم"1.
تنفيس الكربات وادخال السرور:
إنّ العلاقات الاجتماعيّة إذا كانت تقوم على المظاهر الخارجيّة وتكتفي بالأمور الشكليّة من دون النفوذ إلى الداخل والتأثير الإيجابيّ في الباطن، فإنّها لا تحظى بدخولها إلى ساحة المفاهيم القيميّة فضلًا عمَّا إذا اختلفت حالتا العلاقات بين الظاهر والباطن، بمعنى أنّ تقديم يد المساعدة إلى الفقراء هو حسن، بحسب الظاهر، إلّا أنّه لو تبعتها المنّة فتدخل الأذيّة إلى الباطن، وقد نهى القرآن عن إبطال الصدقات بالمنِّ والأذى، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى
1 الكافي، ج2، ص 132،ح10.
51
43
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾1.
فأيّة قيمة أخلاقيّة تمثّل هذه المساعدة؟ وبالمقابل قد لا يتمكّن الإنسان من مساعدة الآخرين ماديًّا إلّا أنّه تمكّن من التخفيف عنهم بالكلمة الطيّبة فأزال من نفوسهم ألم الحاجة، فإنّ هذا لم يسعهم بأمواله، إلّا أنّه قد وسعهم بأخلاقه وهذا له من القيم الأخلاقيّة ربّما يفوق ما يقدّمه من مساعدات ماليّة، يقول الله تعالى: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾2 ومن هنا ندرك أنّ الثواب الجزيل لأولئك الذين تمكّنوا من النفوذ إلى داخل القلوب المكروبة فنفّسوا كربتهم وأحلّوا مكانها الفرح والسرور وهاك بعضاً منها:
الأولى: ما رواه الشيخ الصدوق في المقنع عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "من أدخل على مؤمن سروراً فقد أدخله على الله"3.
وكذلك روى الشيخ الكليني باسناده عن مسمع أبي سيّار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "من نفَّس عن مؤمن كربة نفَّس? عنه كرب الآخرة وخرج من قبره وهو ثلج الفؤاد"4.
وروى الصدوق في العيون والمعاني عن الإمام الرضا عليه السلام، عن أبيه عن الصادق عليه السلام: "أنّ الله تعالى أوحى إلى داوود عليه السلام أنّ العبد من
1 البقرة: 264
2 البقرة: 263
3 وسائل الشيعة، ج16، ص 356، باب 24، ح 19.
4 الكافي، ج2 ، ص 159.ح3.
52
44
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
عبادي ليأتيني بالحسنة فأدخله الجنّة. قال: يا ربّ، وما تلك الحسنة؟ قال: يفِّرج عن المؤمن كربه ولو بتمرة"1.
أذيّة الآخرين:
ممّا لا شكّ فيه أنّ أذيّة الآخرين فعل محرّم ويعدّ مرتكبها من مرتكبي الكبائر، ويدلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾.
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "... و من آذى مؤمناً فقد آذى الله عزَّ وجلّ في عرشه والله ينتقم ممّن ظلمه"2.
درجات الأذيّة:
إنّ الأذيّة هي حركة انفعاليّة في نفس الذي لحقت به الأذيّة، وهي تختلف شدّة وضعفاً بحسبها، علماً أنّها كلّها تدخل تحت عنوان الإثم المبين ولكن لا بأس ببيان درجاتها:
الأولى: النظر إلى المؤمن لإخافته وهي أضعف الشرور. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من نظر إلى مؤمن نظرةً يخيفه بها أخافه الله تعالى يوم لا ظلّ إلّا ظلّه"3.
الثانية: إدخال الحزن إلى قلبه.
1 عيون أخبار الرضا، ج1، ص 313؛ معاني الأخبار، ج1، ص 374.
2 المقنع، ص 7.
3 بحار الأنوار، ج75، ص 150.
53
45
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحزن مؤمناً ثمّ أعطاه الدنيا لم يكن ذلك كفّارته ولم يؤجر عليه"1.
الثالثة: إهانة المؤمن
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قدسيّ: "من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي"2.
والجدير ذكره أنّ إهانة الآخرين تكشف عن مذلّة المهين، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أذلّ النّاس من أهان النّاس"3.
ترويع الآخرين:
إنّ أيّ عمل يقوم به المرء يثير الرعب في قلوب الآخرين فهو لا يقلّ خطورة وآثاراً عن الأذيّة، بل هو من أبرز مصاديق الأذيّة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لا يحلُّ لمسلم أن يروِّع مؤمناً"4.
أمير المؤمنين مدرسة في الأمن الاجتماعيّ:
جاء في الكتاب تحت رقم 25 من نهج البلاغة إلى عمّاله الذين يعملون على جباية الضرائب ويجمعون الزكوات: "انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تُرَوِّعنَّ مسلماً ولا تجتازنَّ عليه كارهاً، ولا تأخذنَّ منه أكثر من حقّ الله في ماله، فإذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم ثمّ امض إليهم بالسكينة والوقار
1 بحار الأنوار، ج75، ص 150.
2 بحار الأنوار، ج77، ص 193.
3 بحار الأنوار، ج78، ص 192.
4 بحار الأنوار، ج 75، ص 148.
54
46
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
حتّى تقوم بينهم فتسلِّم عليهم، ولا تُخْرِجْ بالتحيّة لهم ثمّ تقول: عباد الله أرسلني إليكم وليّ الله وخليفته لآخذ منكم حقّ الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حقّ فتؤدُّوه إلى وليّه، فإن قال قائل: لا. فلا تراجعه"1.
أمام هذا كلّه هل يبقى أي مسوغ لكلّ الأعمال التي يقوم بها بعض الأفراد ممّا يكون سبباً إمّا للترويع أو الأذيّة أو الإزعاج من قبيل إطلاق الرصاص بمناسبة أو بغير مناسبة، وهذا بغضّ النظر عن الإسراف والتبذير فإنّه في المرحلة الأولى يثير الخوف ويدخل الروع إلى قلوب الآخرين، لأنّ مطلق النّار لا يراعي المكان والزمان وحالات النّاس لعلَّ بعضهم مريض أو نائم أو أنّه يثير الذعر في قلوب الأطفال والنساء، وتشتدّ فيما لو حصل ذلك ليلاً وأمّا في المرحلة الأخيرة فلعلّها أصابت أحداً فأدّت إلى إعاقته أو قتله فما هو جوابه يوم القيامة؟ علماً أنّه يتوجّب عليه رعايته الإستشفائيّة أو يسلّم الدية لورثته، ولعلّه يقتصّ منه في بعض الصور.
من صور الإزعاج:
ومن جملة الأمور المؤذية أو المزعجة للآخرين إطلاق العنان للسيّارات في الطرقات والأزقّة المزدحمة من دون مراعاة السرعة، أو إطلاق أبواقها ليلاً أو نهاراً أو رفع صوت مسجِّلها بحيث يزعج المارّة وغيرهم. ومنها أيضاً التجمّع في الساحات والمقاهي ليلاً حتّى ساعات
1 نهج البلاغة، كتاب 25.
55
47
المحاضرة الثانية: حدود العلاقات الإجتماعية
متأخّرة من الليل من دون مراعاة القاطنين بالقرب منها، فلعلّ منهم من خلد إلى النوم، ومنهم أراد الإستراحة من عناء التعب الماضي، وكذلك إقامة الموالد والحفلات الليليّة الصاخبة.
ومنها: إقامة الحفلات في وسط الطرقات العامّة أو على قارعتها بحيث تعيق حركة النّاس وتسبّب في الإزدحام الخانق أو كما يعمد البعض إلى حفر الطرقات العامّة دون وضع علامات ترشد المارّة والسائقين، إلى غير ذلك من الأعمال التي يأتي بها البعض من دون مراعاة لمشاعر الآخرين واحترام حرّيّتهم.
نموذج من كربلاء:
ما بين شراف وذي حسم - وهما منزلتان تقعان في طريق الإمام الحسين عليه السلام، من مكّة إلى كربلاء - قد التقى بالحرّ بن يزيد الرياحيّ ومعه ألف فارس من جيش عبيد الله بن زياد، وقد صرّح للإمام في بعض المواطن أنّه إذا لقيناك لا نفارقك حتّى نقدّمك على عبيد الله بن زياد، وبعد رفض الإمام بقوله: "الموت أدنى إليك من ذلك"، وهكذا مضت عدّة أيّام على الفريقين وهما يقطعان الطريق إلى أن نزل الإمام الحسين كربلاء ولمّا اتّخذ الحُرُّ القرارَ بالإلتحاق بجيش الإمام عليه السلام وبعد أن ضرب فرسه ردَّد هذه الكلمات: اللهمّ إليك أنيب فتب عليَّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك1.
1 أمالي الصدوق، ص 223.
56
48
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
الهدف:
بيان ضرورة أداء الحقّ لصاحبه وعدم الاستخفاف به.
تصدير الموضوع:
تعن الإمام عليّ عليه السلام: "من يمطل على ذي حقّ حقّه وهو يقدر على أداء حقّه فعليه كلّ خطيئة عشار".
57
49
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
مقدّمة:
كلّ إنسان حينما يبلغ سنّ التكليف وعندما يبدأ القلم بتسجيل الحسنات والسيّئات وإحصاء كلّ شيء من قول وفعل، فعليه أن يراقب تصرّفاته وأعماله من عبادات ومعاملات، وعليه أيضاً مراعاة الحقوق والواجبات اتجاه الآخرين، وليعلم أنّه من قصّر في حقّ الله تعالى ثمّ تاب إليه توبة نصوحاً لوجد الله توّاباً رحيماً، أمّا من قصّر في حقوق البشر فإنّه لو تاب إلى الله فلا يتوب عليه حتّى يرضى صاحب الحقّ أو يسامح بحقّه، ومن هنا فما أكثر الذين يتعلّقون بالآخرين يوم القيامة يريدون أن ينتزعوا منهم حقوقهم التي سُلبت منهم في دار الدنيا، فعلى سبيل المثال: الديون الماليّة نلاحظ المتشاكسين فيها أكثر من المتراضين، والذين يستخفّون بالوفاء بها أكثر من المبادرين لإيفاء الديون المترتّبة عليهم، وكم عدد الذين يموتون من دون أن يوصوا، روى معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله إنّه ذكر لنا أنّ رجلاً من الأنصار مات وعليه ديناران ديناً فلم يصلِّ عليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: "صلّوا على صاحبكم حتّى ضمنها عنه بعض قرابته؟" فقال أبو عبد الله عليه السلام: "ذلك الحقّ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما فعل ذلك ليتعظوا وليردّ بعضهم على بعض ولئلّا يستخفّوا بالدَّين..."1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "من يمطل على ذي حقّ حقّه وهو يقدر على أداء حقّه فعليه كلّ يوم خطيئة عشار"2.
1 وسائل الشيعة،ج13، ص79، باب2.
2 بحار الأنوار، ج103، ص146، باب3.
58
50
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
ولأجل ما ذكر كان التشدّد في الشرع بما يتعلّق بحقوق الآخرين وعدم التساهل ولعلّه يعتقد البعض بأنّ التساهل بحقوق بعض أقاربه كالزوجة والأولاد والوالدين لا يضرّه وهي أدنى من حقوق الآخرين، فالحقّ هو الحقّ سواء كان قريباً أم بعيداً. وسنتناول حقوق وواجبات بعض الأصناف لبيان الحقّ فيها.
حقوق وواجبات الأولاد:
فكما أنّ الوالد يعتقد بأنّ له واجبات وحقوقاً على ولده فعليه أن يعلم بأنّ لولَدِه عليه أمثالها، وإن كانت حقوق الوالدين أعظم فعلى الوالد أن يقوم بخطوتين:
الأولى: التعرّف على حقوق وواجبات ولده عليه.
الثانية: أن يقوم بأدائها إليه.
أمّا بالنسبة إلا الخطوة الأولى يمكن أن نستخلص جلّ الحقوق من مجموعة الروايات الواردة في المقام وهي:
1- أن يحسّن اسمه.
2- أن يحسّن أدبه.
3- أن يعلّمه الكتابة.
4- أن يعلّمه القرآن الكريم.
59
51
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
ولأجل ما ذكر كان التشدّد في الشرع بما يتعلّق بحقوق الآخرين وعدم التساهل ولعلّه يعتقد البعض بأنّ التساهل بحقوق بعض أقاربه كالزوجة والأولاد والوالدين لا يضرّه وهي أدنى من حقوق الآخرين، فالحقّ هو الحقّ سواء كان قريباً أم بعيداً. وسنتناول حقوق وواجبات بعض الأصناف لبيان الحقّ فيها.
حقوق وواجبات الأولاد:
فكما أنّ الوالد يعتقد بأنّ له واجبات وحقوقاً على ولده فعليه أن يعلم بأنّ لولَدِه عليه أمثالها، وإن كانت حقوق الوالدين أعظم فعلى الوالد أن يقوم بخطوتين:
الأولى: التعرّف على حقوق وواجبات ولده عليه.
الثانية: أن يقوم بأدائها إليه.
أمّا بالنسبة إلا الخطوة الأولى يمكن أن نستخلص جلّ الحقوق من مجموعة الروايات الواردة في المقام وهي:
1- أن يحسّن اسمه.
2- أن يحسّن أدبه.
3- أن يعلّمه الكتابة.
4- أن يعلّمه القرآن الكريم.
59
52
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
5- أن يعلّمه السباحة والرماية.
6- أن يضعه موضعاً حسناً.
7- أن يطعمه الطعام الحلال.
8- أن يزوّجه إذا بلغ.
ويدلّ ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "حقّ الولد على والده أن يعلّمه الكتابة، والسباحة، والرماية، وأن لا يرزقه إلّا طيبا"1.
وكذلك ماجاء في نهج البلاغة فقال: "حقّ الولد على الوالد أن يحسّن اسمه ويحسّن أدبه ويعلّمه القرآن"2 .
وكذلك ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من طريق العامّة فقال: "من بلغ ولده النّكاح وعنده ما ينكحه فلم ينكحه ثمّ أحدث حدثاً فالإثم عليه"3.
وكما نلاحظ إنّ أكثر الحقوق المتوجّبة على الوالد تحتاج إلى نفقات ماليّة فلا يجوز للوالد أن يحبس عن ولده ما يستوجب من نفقات، عليه أيضاً أن لا يستخفّ بحقّه ليحرص على ماله بحجّة عدم ضرورة ذلك، فأكثر الأولاد الذين قصّر في حقّهم من قبل آبائهم غاضبون أو عاتبون، وهنا نقول كلمة واحدة رحم الله والداً أعان ولده على برّه، وكما قال الإمام الصادق عليه السلام: "برّ الرجل بولده برّه بوالديه"4.
1 كنز العمّال،ح 45340.
2 نهج البلاغة، الحكمة 399.
3 كنز العمّال، 45337.
4 بحار الأنوار، ج 104،ص 93؛ من لا يحضره الفقيه، ج3، ص311.
60
53
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
حبس الحقوق والنفقات عن الزوجة:
هنا لا بد من بيان حقوقها المتوجّبة على الزوج لنعرف أنّ ما حبسه عن زوجته أهو من الحقوق ومن ضمن النفقات الواجبة أم لا؟ والحديث هنا خاصّ بالحقوق الماليّة فقط وهي على النحو التالي:
- النفقة. - المهر.
وتتضمّن النفقة المطعم والملبس والمسكن، وأمّا المطعم والملبس، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حقّ المرأة على زوجها يسدّ جوعتها وأن يستر عورتها..."1.
والجدير ذكره إنّ هذه النفقات لم تعد في الشرع أحكاماً فحسب بل من الحقوق بالمعنى الخاصّ، بمعنى أنّ ما كان حكماً فلو تركه المكلّف فلا يجب قضاؤه ومن هذا القبيل نفقات الوالدين والأولاد، وأمّا ما كان حقّاً فلو تركه وجب قضاؤه وأداء ما عليه ولا تبرأ الذّمّة بمضي عامل الزمن ومن هذا القبيل نفقات الزوجة.
وأمّا خصوص المهر: فمن أكثر الحقوق التي يستخفّ بها الرجال هو مهور أزواجهن، فإن أمسكها فلا يؤدّيها المعجّل وإن أراد تسريحها فلا يطلّقها حتّى تتنازل عن حقّها المؤجّل وهو أشبه بالإكراه، وهنا يجب على الزوج أن يؤدّي الصداق إليها إلّا ما طابت نفسها عنه وتركته له حيث قال تعالى: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾2.
1 بحار الأنوار، ج103، ص254.
2 سورة النساء،الآية: 4.
61
54
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
ومع عدم تنازلها عن حقّها أو عن شيء منه فعليه أن يؤدّيها حقّها ولا يحلّ له مهرها بنصّ القرآن حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1 وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "إنّ الله غافر كلّ ذنب إلّا رجل اغتصب...أو مهر امرأة"2.
حبس حقوق الأجير:
لا يؤجر الإنسان نفسه للآخرين إلّا نتيجة الحاجة التي يواجهها وإلّا فلا يرضى الإنسان أن يسلّط الآخرين على نفسه أو عمله، ومن هنا فينبغي على المستأجر أن يقدّر ويخدم الأجير بمعنى أن يعلم جيّداً أنّ هذا الذي يريد أن يدفع إليه شيئاً من ماله فقد سخّر قدرته وإمكاناته له ووضع نفسه بتصرّفاته، فعليه أن يُشعر العامل بالمحافظة على عزّة نفسه وأنّه أحرص عليها من المال البخس الذي سيدفعه إليه لقاء عمله.
وأمّا بالنسبة لحقوقه:
فعلى المستأجر أن يقوم بالإجراءات التالية:
أوّلاً: أن يعلّمه بالأجرة.
ثانياً: أن يؤدّي الأجرة المتّفق عليها سابقاً وإيّاه وظلم الأجير أجره.
ثالثاً: من الآداب أن يؤدّي الحقّ قبل أن يجفّ عرقه.
1 سورة البقرة، الآية:229.
2 مستدرك الوسائل، ج2، ص508.
62
55
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
ويدلّ على الأوّل: ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن أجيراً حتّى يعلم ما أجره..."1.
ويدلّ على الثاني: فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله وحرم عليه الجنّة، وإنّ ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام"2.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فأتاه رجل من بجيلة يكنّى أبا خديجة قال: يا أمير المؤمنين أعندك سرّ من سرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحدّثنا به؟ قال نعم: يا قنبر ايتني بالكتابة... مكتوب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم أن لعنة الله وملائكته والنّاس أجمعين على من انتمى إلى غير مواليه...ولعنة الله وملائكته والنّاس أجمعين على من ظلم أجيراً أجره"3.
ويدلّ على الثالث: عن شعيب قال: تكارينا لأبي عبد الله عليه السلام قوماً يعملون في بستان له وكان أجلهم إلى العصر، فلمّا فرغوا قال لمعتّب: "أعطهم أجورهم قبل أن يجفّ عرقهم"4.
خاتمة:
قال الإمام الرضا عليه السلام: "اعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثمّ زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلّا ظنّ إنّك قد
1 وسائل الشيعة،ج3، ص245.
2 بحار الأنوار، ج103، ص166.
3 مستدرك الوسائل، ج2، ص508.
4 مستدرك الوسائل، ج13، ص246.
63
56
المحاضرة الثالثة: حبس الحقوق والنفقات "الزوجة والأولاد والعمال"
نقصته أجرته وإذا قاطعته ثمّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّة عرف ذلك، ورأى أنّك زدته"1.
1 مستدرك الوسائل، ج13، ص245.
64
57
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
الهدف:
بيان خطورة أمر السلطة والرئاسة وأنّ الإنسان على مفترق السعادة والشقاء.
تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "آفة العلماء حبّ الرياسة"1.
وعنه عليه السلام: "من بذل معروفه استحقَّ الرياسة"2.
1 غرر الحكم.
2 غرر الحكم.
67
58
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
مقدّمة:
الرياسة عطب وطلبُها ذنب، ولا أضرَّ بدين المسلم من الشغف بها، وهي من أهمِّ منافذ الشيطان إلى داخل الإنسان للإستحواذ عليه: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾1.
وهي عنده من أفضل الوسائل لتزيين عمل المرء ليتخذها ذريعة لسفك الدماء وتدمير البلاد والإفساد في الأرض، ومنها فهمت الملائكة ما يجري على أبناء آدم بعد أن أخبرها الله سبحانه تعالى بأنّه سيجعل خليفة في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾2.
ومقابل ذلك كلّه يمكن القول بأنّ حفظ النظام العامّ للنّاس لا يستقيم من دون سلطة وخدمتهم لا تتمّ من غير رياسة، وسوقهم نحو طاعة? يفتقر إلى المنصب، وأمام هذا التناقض بحسب الظاهر يجعل الإنسان في حالة تردّد وشكّ حول مسألة الرئاسة والسلطة. ففي الحقيقة هذا الأمر يحتاج إلى النظر حول الدافع للوصول إليها، هل يتمّ التعاطي معها على أنّها وسيلة لتحقيق الأهداف القريبة والمتوسّطة والبعيدة أم هي مطلوبة على نحو الغاية وأنّها هدف؟
1 سورة الأعراف، الآيتان 20 21.
2 سورة البقرة، الآية 30.
68
59
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
محاور الموضوع
الرئاسة وسيلة أم غاية
إنّ الصراع المستمر والدامي أحياناً بين نهجين منذ آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة هو صراع في جوهره بين الأهداف والغايات كالصراع بين آدم وإبليس وبين إبراهيم والنمرود وبين موسى وفرعون وما تناسل بينهم وما بعدهم إلى ما شاء الله، فإبراهيم عليه السلام لديه دور ومهمّة وله منصب وله هدف، والنمرود له رئاسة وسلطة وأيضاً له هدف، وهكذا بين موسى عليه السلام وفرعون، إلّا أنّ الفارق الجوهريّ بين النهجين هو أنّ منصب الأنبياء والأولياء هو منصب إلهيّ أعطي لأنبيائه كوسيلة وطريقة للتوصّل إلى الأهداف الإلهيّة المرسومة لسعادة البشر، وعبّر عن هذه الحقيقة ما جاء على لسان سليمان عليه السلام: ﴿فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾1 وعلى الضفّة الأخرى نقرأ في تاريخ الجبابرة أنّ المنصب بالنسبة لهم هو هدف بحدّ ذاته ويدافعون عنه مسخِّرين كلّ ما لديهم من قوّة وإمكانات،إذ يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾2
1 سورة النمل، الآية 36.
2 سورة القصص، الآية 4.
69
60
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
فالسلطة عند فرعون هدف وقد عمل على تسخير كلّ الطاقات والإمكانات للحفاظ عليها وإزالة كلّ الموانع وقضى على كلّ ما يحتمل كونه مصدر تهديد له ولسلطته.
ومن النماذج أيضاً ما جرى مع ملكة سبأ، حيث يصوّر لنا القرآن الكريم ما كانت عليه من ملك ورئاسة فيقول: ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾1, وبحسب الظاهر كانَ لها سلطة إداريّة كما أشار إليه القرآن الكريم: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾2 وكانت أيضاً صاحبة رأي وقدرة على المحاورة. فيقول القرآن: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾3.
خلاصة القول: إذا كانَ المرء يسعى حثيثاً للوصول إلى الرئاسة وهي تشكّل بالنسبة له هدفاً مستقلاًّ برأسه فهذه رياسة فاسدة وقبيحة، وأمّا إنْ كان السعي لحفظ النظام العامّ وخدمة النّاس ولكي يتمّ التوصّل إلى هذه الأهداف إنّما يكون بوساطة الرئاسة فحينئذٍ تكون الرئاسة صالحة وممدوحة.
آفات الرياسة
بما أنّ الرياسة أمر ما خطير فلا بأس بالإشارة إلى بعض الآفات المتعلّقة بها.
1 سورة النمل، الآية 23.
2 سورة النمل، الآية 32.
3 سورة النمل، الآية 34.
70
61
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
الأولى: السعي للحصول عليها وطلبها
إنّ مجرّد سعي الإنسان مهرولاً خلف الرياسة أمر مذموم حتّى ولو كانت بنظره مقدّمة لتحقيق أهداف ممدوحة، وذلك لأنّ من يطلب الرياسة لنفسه لتحقيق تلك الأهداف لا يخلو من شوائب خطيرة من غرور بنفسه وعجب وعدم الثقة بقدرات الآخرين، وأمّا من طلبها لذاتها فلا شيء أضرَّ بدينه من هذا.
فقد ورد عن الإمام أبي الحسن عليه السلام وقد ذكر في محضره رجل وأنّه كان يحبّ الرئاسة، فقال: "ما ذئبان ضاريان في غنم وقد تفرَّقَ رعاؤها بأضرَّ في دين المسلم من طلب الرياسة"1.
وعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال: "إيّاكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسّون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلّا هلك وأهلَك"2.
الثانية: حُبُّ الرياسة
لو تعلَّق الإنسان بالمنصب وأحبّه وأحبّ أن يحترمه النّاس لمنصبه، وأيضاً لو كان يغبط الآخرين على ما هم عليه من مناصب فهو عاجز الرأي وليس من أهل الخوف والرهبة من الله تعالى، وليتبوّأ مقعده من النّار، والمراد من الغبطة هنا بأن يتمنّى ويحبّ المنصب لنفسه.
لقد حكى لنا القرآن الكريم قصّة قارون الذي أعطاه الله من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوّة. فلمّا خرج على النّاس في زينته فغبطه
1 بحار الأنوار، ج73، ص 145.
2 بحار الأنوار، ج 73، ص 152.
71
62
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
أهل الدنيا وقالوا: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾1 ويدلّ عليه ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام فقال: "إنّ شراركم من أحبّ أن يوطأ عقِبهُ، إنّه لا بدّ من كذَّاب أو عاجز الرأي"2.
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من أحبّ أن يتمثّل له الرجال قياماً فليتبوّأ مقعده من النّار"3.
وعن الإمام الصادق عليه السلام "إنَّ حُبَّ الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب"4.
وَطْءُ الأعقاب: مريدو الرياسة صنفان: صنف يحبّ أن توطأ أعقابهم وصنف يحبّ أن يطأ أعقاب آخرين وكلاهما لا خير فيهما، فالصنف الأوّل قد أشرنا إليهم بأنّهم كذّابون أو عاجزو الرأي. وأمّا الصنف الثاني فهُم أسوأ حالاً، فعن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد الله: "إيّاك الرياسة وإيّاك أن تطأ أعقاب الرجال"، قال: قلت جُعلت فداك، أمّا الرئاسة فقد عرفتها وأمّا أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلّا ممّا وطئت أعقاب الرجال؟! فقال لي: "ليس حيث تذهب، إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال"5.
1 سورة القصص، الآية 79.
2 بحار الأنوار، ج73، ص 152.
3 بحار الأنوار، ج 77، ص 901.
4 بحار الأنوار، ج77، ص 359.
5 بحار الأنوار، ج 73، ص 150.
72
63
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
الثالثة: الخضوع للمنصب
ثمّة بعضٌ يخضعون للمقام منذ البدء، فهذا البعض من أولئك الأفراد الذين تحدّثنا عنهم وثمّة آخرون يخضعون له بعد تبوّئهم كرسي الرئاسة، وفي الحقيقة لا فرق بين الصنفين طالما أنّ ذلك يكشف عن ضعف نفوسهم وعن عبوديّتهم ورقّهم للمنصب، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: ثمّة أشخاص يتغيّرون بمجرّد أن يستلموا زعامة قرية بسبب ضعف نفوسهم، فيخضعون لتأثير ذلك المقام الذي وصلوا إليه1. وقال: الذي يتأثّر بالمقام ليس بسبب أنّه صاحب منصب، بل من باب أنّه إنسان ضعيف فيسيطر عليه المنصب ويقوم عندئذٍ باتباعه2. وما تجدر الإشارة إليه وبحسب رؤية الإمام المقدّس فإنّ الآثار السلبيّة المترتّبة على الخضوع للسلطة تتجاوز هؤلاء الأشخاص أنفسهم إلى كلّ التفاصيل ذات الصلة بما هو تحت إدارته.
الرابعة: استغلال المنصب
من الخيانة الكبرى استغلال المنصب بعد تنصيبه كمن استغلّ مقدّرات معيّنة للوصول إلى المنصب أو استغلّها، وعليه فكلّ من يستغلّ موقعه ومنصبه لمآرب خاصّة ولإشباع أهوائه ولم يهتمّ بأداء المهمّة فقد أساء لنفسه بحرمانه من الطاعة وخان الأمانة؛ يقول الإمام الخمينيّ قده: فاحذروا ولا تستغلّوا دماء هؤلاء من أجل الوصول إلى منصب، ولا تكونوا ولا سمح الله تريدون من الآخرين تقديم دمائهم لتعلوا مناصبكم أنتم3.
1 الكلمات القصار، ص271.
2 الكلمات القصار، ص271.
3 المصدر نفسه، ص272.
73
64
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
الخامسة: الإستعلاء
يقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾1.
من يعتبر أنّ المنصب سبب لرفعة شأنه فهو مريض ومصاب بعقدة النقص ومن كان هكذا فلا المنصب يليق به ولا هو يستحقّ أن يكون في ذاك المنصب. يقول الإمام المقدّس وفي مناسبات متعدّدة يتحدّث فيها عن منصب رئاسة الجمهوريّة والوزراء والنوّاب بقوله: علينا أن نقرأ الفاتحة على الحكومة والشعب في ذلك اليوم الذي تهتمّ فيه حكومتنا بالقصور. وقال: ذلك اليوم الذي يترك فيه رئيس جمهوريّتنا لا سمح الله.. طبيعة سكنة الأكواخ ويتوجّه نحو طبيعة سكنة القصور ذلك اليوم هو يوم انحطاطه ومن يرتبط به2. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "آفة الرياسة الفخر"3.
السادسة: ضيق الصدر
الرياسة مهما كان شأنها ودورها فإنّ صاحبها يجب أن يتحلّى بسعة الصدر، وإلّا سيُتعب من يعمل معه وينفضُّ كلّ من حوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾4.
1 سورة القصص، الآية 83.
2 الكلمات القصار، ص273.
3 غرر الحكم.
4 سورة آل عمران، الآية 159.
74
65
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "آلة الرياسة سعة الصدر"1.
إيجابيّات الرياسة:
فإنّ النقيض ما تمّت الإشارة إليه مِن إيجابيّات الرياسة. ونزيدها وضوحاً ضمن النقاط التالية:
أوّلا: أن تكون للآخرة وليس للدنيا
جاء في الرواية أنّه كتب في الزبور: "ليست الرياسة رئاسة الملك وإنّما الرئاسة رئاسة الآخرة"2.
ثانيا: النصيحة
فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "طلبت الرياسة فوجدتها في النصيحة لعباد الله"3.
ثالثا: أن لا يكون من أصحاب السوابق
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يطمعْن المعاقب على الذنب الصغير في السؤدد"4.
رابعا: أن يكون باذلاً للمعروف
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "من بذل معروفه، استحقَّ الرياسة"5.
1 غرر الحكم.
2 بحار الأنوار، ج14، ص 47.
3 مستدرك الوسائل، ج2، ص 357.
4 بحار الأنوار، ج75، ص 272.
5 غرر الحكم.
75
66
المحاضرة الأولى: السلطة والرئاسة إيجابيّاتها وسلبيّاتها
خامسا: أن يتحلّى بصفة التواضع
فعن الإمام عليّ عليه السلام: "من أحبّ رفعة الدنيا والآخرة فليمقت في الدنيا الرفعة"1.
ويقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "الذين ترعرعوا بين أوساط هذا المجتمع، وأحسّوا الفقر ولمسوه وذاقوه، فإنّهم قادرون على الاهتمام بالفقراء فلنبذل سعينا كي تبقى هذه الحالة محفوظة فينا جميعاً"2.
سادساً: الإهتمام بالبعد الإنسانيّ أوّلاً
يقول الإمام قدس سره: "علينا أن نربّي الإنسان، فالإسلام يريد بناء الإنسان"3.
1 غرر الحكم.
2 الكلمات القصار، ص274.
3 الكلمات القصار، ص274.
76
67
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
الهدف:
التعرّف على أسباب الانحراف السلوكيّ وسُبل معالجته.
تصدير الموضوع:
رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الارتقاء إلى الفضائل صعب منجي، والانحطاط إلى الرذائل سهل مُردي"1.
1 ميزان الحكمة، ج3، ص 2432.
77
68
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
مقدّمة
رُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1. إنّ الغاية من التكليف الإلهيّ وبعثه الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين للنّاس هي تحقيق الكمال الروحيّ والنفسيّ للإنسان، وإنشاء المجتمع الإسلاميّ الفاضل, الذي تتوازن فيه علاقات أفراده وتتكامل، ولم تكتف الشريعة بهذه الإرشادات فحسب بل إنّها صبغت الفرائض بصبغة ذات أبعاد روحيّة لتنعكس في حياة الإنسان كلّها، فالصلاة مثلاً، إضافة إلى كونها فريضة إلهيّة، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإنّها تربّي المصلّي على الممارسات الأخلاقيّة الإيجابيّة والمثلى ما يحصّنه من الوقوع في الذنوب.
محاور الموضوع
أسباب انحراف الإنسان ووقوعه في المعاصي
السؤال المهمّ هنا: لماذا ينحرف الإنسان عن رسالة السماء في سلوكه مع أنّه يحافظ على اعتقاده بالدّين؟ والجواب باختصار: هناك أسباب كلّيّة تؤثّر سلباً على سلوك الإنسان، ويتفرّع عنها الكثير من الجزئيّات، منها:
السبب الأوّل: ضعف الإيمان
إنّ أهمّ سبب من أسباب الوقوع في المعاصي هو ضعف الرادع الدينيّ
1 بحار الأنوار، ج16، ص21.
78
69
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
عند الإنسان، أو ما تحدّثت عنه الروايات بعنوان "ضعف الإيمان"، فنحن نشاهد في مجتمعنا كثيراً من النّاس يشكون من قسوة قلوبهم، ومن قلّة خشوعهم في صلاتهم، ونرى من سلوكيّات بعضهم غلبة حرصهم على الدنيا ويأسهم وقنوطهم وحزنهم في الظروف والمصائب القاسية، بالإضافة إلى الأنانيّة والغرور والتعصُّب، إلى غيرها من الأمراض المتعدّدة والتي ترجع إلى سبب واحد وهو ضعف الإيمان، الذي يزداد ويشتدّ بالطاعات وينقص ويضعف بالمعاصي، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾1.
وهناك أسباب متعدّدة لضعف الإيمان نشير إلى أهمّها:
1- غلبة الهوى وطول الأمل: فغلبة الهوى تجعل الإنسان يميل إلى الشهوات، وطول الأمل ينسيه الآخرة ويجذبه للدنيا.
2- ارتكاب الكبائر والفواحش.
3- ارتياد أماكن المعصية.
4- ترك تعاهد القرآن والذهاب إلى المساجد والأماكن المقدَّسة.
5- ترك مجالسة العلماء وأهل العبادة.
1 سورة التوبة، الآية:124- 125.
79
70
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
السبب الثاني: سيطرة القوى والغرائز
خلق الله مجموعة من الغرائز والقوى في الإنسان بما ينسجم مع تكوينه كالقوّة الشهويّة والقوّة الغضبيّة والقوّة الوهميّة، ولكن إن لم يعرفها ولم يسعَ إلى توجيهها ستؤدّي به لا محالة إلى هلاكه الحتميّ ووقوعه في المعاصي. وإنّ هذه القوى الباطنيّة المودعة في الإنسان قد تؤثّر سلباً أو إيجاباً في سلوكه وعلاقته بالله تعالى، فالإنسان في حركته التصاعديّة العقليّة قد يصل إلى درجة أعلى من الملائكة إذا ابتعد عن الذنب بإرادته واختياره وتحكيمه لعقله وسيطرته على غرائزه، وقد يصل في حركته التنازليّة من خلال اتباعه للشهوات إلى درجة يصبح فيها كالأنعام بل أضلّ سبيلاً، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام "إنّ الله خصّ الملك بالعقل دون الشهوة والغضب. وخصَّ الحيوانات بهما دونه، وشرّف الإنسان بإعطاء الجميع، فإن انقادت شهوته وغضبه لعقله صار أفضل من الملائكة لوصوله إلى هذه المرتبة مع وجود المنازع والملائكة ليس لهم مزاحم..."1.
السبب الثالث: جلساء السوء
من الأمور الخطيرة التي توقع الإنسان بالمعصية هي مصاحبة الأشرار (جلساء السوء) لأنّهم يزيّنون لصاحبهم ويجعلونه مثلهم. فالإنسان يتأثّر بمن يصاحب والصديق يترك تأثيراته السلبيّة والإيجابيّة بشكل لا شعوريّ في صديقه، ما يجعل مسألة الصداقة ذات ارتباط وعلاقة قويّة بمصير الإنسان
1 جامع السعادات، النراقي،ج1، ص56.
80
71
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
في كثير من المجالات. ولمصاحبة ومجالسة أصحاب السوء مضارٌّ كثيرة نذكر منها:
- إنّه قد يشكّك بعقائدك الحقّة ويصرفك عنها إلى العقائد المنحرفة.
- يدعو جليسه إلى مماثلته في الوقوع في المحرّمات والمنكرات، والمرء بطبعه يتأثّر بالعادات السلوكيّة لجليسه وبأخلاقه.
- إنّ مجالستهم فيها هدر ومضيعة للوقت الذي يحاسَب عليه يوم القيامة.
السبب الرابع: ضعف قوّة عفّة النّفس
تقع "العفَّة" في النقطة المقابلة لـ "شهوة البطن والفرج" وهي عبارة عن حصول حالة للنفس تمتنع بها من غلبة الشهوة، وتحفظها من الميول والشهوات النفسانيّة، وقد ذكر علماء الأخلاق في تعريف العفّة أنّها الحدّ الوسط بين الشهوة والخمود. ولا يمكن لأيّ شخص أن يسير نحو الكمال من دون التحلّي بها ونجد في حياتنا الدنيويّة أنّ كرامة الإنسان وشخصيّته وسمعته رهينة بالتحلّي بهذه الفضيلة الأخلاقيّة1، عن الإمام عليّ عليه السلام "أفضل العبادة العفاف"2، وعنه عليه السلام: في وصيته لمحمد بن أبي بكر لما ولاه مصر: "يا محمد بن أبي بكر، أعلم أن أفضل العفة الورع في دين الله والعمل بطاعته..."3. وهي أفضل شيمة، وعنه عليه السلام: "العفّة أفضل الفتوّة"، وأفضل شيمة، والعفاف زينة الفقر، وعنه عليه السلام: "زكاة الجمال العفاف"4.
1 الأخلاق في القرآن الكريم، آية الله ناصر مكارم الشيرازي،ج1، ص 102.
2 الكافي، ج 2، ص379.
3 بحار الأنوار، ج 77، ص 390.
4 غرر الحكم، الحكمة: 729- 730.
81
72
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
وأكثر ما يؤدّي إلى الابتذال وضعف العفّة أو عدم وجود العفاف هو:
- وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة وما تقدّمه من سموم عبر شاشاتها ووسائلها المختلفة.
- حملات الإفساد الموجّهة للمرأة، وتزيين الفاحشة لها، وذلك بالدعوة للتبرّج والسفور، وترك الحجاب.
- تأخّر الزواج عند الشباب، وذلك بسبب صعوبة المعيشة وارتفاع المهور.
سُبل التوجيه والعلاج
هنالك العديد من الوسائل والأساليب التي تساهم في تعزيز قوّة الإلتزام بالسلوك السويّ المنسجم مع أحكام الشريعة الإسلاميّة منها:
الأوّل: مخالفة الأهواء والمحاسبة، والنقد الذاتيّ
إنّ كلّ إنسان له أهواؤه - قلَّت أو كثرت - وهي تتعلّق بالمال، الأكل والشرب، الجاه والمركز، التحكّم والسيطرة على الآخرين... والمهمّة الملِحّة هنا، هي إضعاف تأثير هذه الأهواء في السلوك، والتحكّم فيها، وعدم السماح لها بالسيطرة على النّفس، وهذا ما ينتج من مجموعة عوامل من أهمّها مخالفة الهوى. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾1.
1 سورة النازعات، الآية: 40-41.
82
73
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
الثاني: قراءة القرآن بتدبّر
والقرآن يمثّل كلمات الله التي تتضمّن المبادئ العالية لتربية الإنسان وارتباطه بالله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾1.
الثالث: ممارسة الشعائر الإسلاميّة
فإنّها بمثابة الغذاء للمؤمن الذي ينمّي لديه قوّة الإيمان بالله ويصعد بوجوده نحو الكمال الإلهيّ، ومن مصاديق الشعائر الإسلاميّة: الصلاة، الصوم، الإنفاق، الحجّ، قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾2.
الرابع: الذكر
ويتمثّل بأنواع الدعاء وبألفاظ التهليل والتكبير والتسبيح والتمجيد، قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾3. وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا﴾4, وعن الإمام الصادق عليه السلام: "...من أشدّ ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيراً".
الخامس: تذكّر الموت
وحساب القبر والمراحل التي سوف يواجهها الإنسان في الحياة الآخرة،
1 سورة الإسراء، الآية: 9.
2 سورة فاطر، الآية: 10.
3 سورة الرعد، الآية: 28.
4 سورة آل عمران، الآية: 41.
83
74
المحاضرة الثانية: الجَفَافُ الرُّوحيّ، وفُتُور الإيمان، وَسُبُل مُعَالَجَتِه
وما أعدّ الله للمطيعين من نعيم وما أوعد به العاصين من عذاب، وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام في كتابه إلى محمّد بن أبي بكر بقوله: "وكفى بالموت واعظاً" وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: "أكثروا ذكر الموت، فإنّه هادم اللذّات..."1.
1 وسائل الشيعة،ج 2، باب استحباب كثرة ذكر الموت.
84
75
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
الهدف:
بيان موارد ما ينبغي النظر إليه وإيجابيّة الغضّ، وبيان تذوُّق حلاوة العبادة بالغضّ.
تصدير الموضوع:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "فإنّ البصر لا يُغضُّ عن محارم الله إلّا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال".
85
76
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
مقدّمة:
العين هي إحدى الحواس الخمس وقد خلقها الله سبحانه وتعالى ليتمكّن الإنسان من التمييز والتفريق بين الألوان، وهي إحدى منافذ النّفس إلى الطبيعة و"العين جاسوس القلب وبريد العقل"1، وما تراه العين يُحفظ في القلب حتّى قيل: "القلب مصحف البصر"2، فلا ينبغي أن نغمض العين عن كلّ شيء لأنّ ذلك يفوّت علينا الكثير من كسب العلوم وتحصيل المعارف، ولا يجوز أن نطلق العنان لأبصارنا لأنّه سيؤدّي إلى الوقوع في المحذورات، وينبّت في القلب الفسق ويولّد الغفلة والتخبُّط في المحظورات، لأنّ العين إذا أبصرت الشهوة عمي القلب عن العاقبة: "والعين أقلُّ شيء في الجسد شكراً"3، وحدّ الاعتدال في استعمال العين أنّ المرء إن نظر فليكن في نظره عبرة وإن غضَّ طرفه فليكن غضُّه لا عن غفلة، ولا يكون فاقد البصر أقدر من واجده، فكم من أشخاص يأتون بالعجائب وهم فاقدون لأبصارهم! وكم من أفراد كثرت حسراتهم وطال ندمهم ولهم أعين كبيرة! لأنّ العبرة في أنّ القلب يبصر الأشياء بعد بصر العين، أم هو مكتوب في عداد الغامضين، وحينها يصدق على صاحبها أنّه من أولئك الذين لهم أعين لا يبصرون بها فهم كالأنعام، ولا يستوي من يبصر ولا عين له، ومن لا يبصر مع أنّ له عيناً، وكيف كان فالحديث
1 بحار الأنوار، ج 104، ص41.
2 نهج البلاغة، الحكمة 409.
3 بحار الأنوار، ج 49، ص27, تفسير العيّاشي،ج 2، ص115.
86
77
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
عن النظر والبصر وعن الغضّ والإغماض هو حديث متشعّب وطويل وسنجعله في جهتين:
الأولى: النظر
والثانية: الغضّ.
محاور الموضوع
الجهة الأولى: النظر للاعتبار
ولنبدأ حديثنا في هذه الجهة عن حقّ البصر على صاحبه، فيكفينا في ذلك ما عن مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام حيث قال: "وأمّا حقّ البصر، فغضُّه عمَّا لا يحلُّ لك، والبصر باب الاعتبار"1، بهذا البيان قننّ لنا الإمام عليه السلام الأبصار والغضّ وحدّدهما.
أ- أطلاق النظر: فلا يصلح للإنسان أن يطلق النظر، ومن الفساد غضُّه دائماً، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "من أطلق ناظره اتعب حاضره، من تتابعت لحظاته دامت حسراته"2، وقال: "من أطلق طَرْفَه كثر أسفُه"3.
ب- النظر إلى المحذورات: حينما نقول لا يصلح النظر إلّا إلى البعض
1 رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام.
2 بحار الأنوار،ج 104، ص 38.
3 بحار الأنوار، ج 77، ص 286.
87
78
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
فعلينا أن ننظر في البعض الذي يصلح إليه النظر جاء في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس في البدن شيء أقلّ شكراً من العين فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله عزَّ وجلّ"1، وأمّا ما لا يصلح النظر إليه بصورة كلّيّة فهي المحذورات، وقد جاء في ذلك عن النبيّ عيسى عليه السلام: "إيّاكم والنظر إلى المحذورات فإنّها بذار الشهوات ونبات الفسق"2، وأيضاً هو مضمون وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله بن جندب إنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه: "إيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"3.
ج- نظر ليس له ثمر: قد يلتزم الإنسان بعمليّة التقنين في النظر وكذلك فقد لا ينظر إلى المحذورات فيأتي السؤال هنا: "فهل ذلك كافٍ لإعطاء النظر حقّه أم لا"؟ فالجواب هو وإن كانت تلك الخطوات رئيسيّة وفي غاية الأهمّيّة إلّا أنّها غير كافية فالإمام زين العابدين عليه السلام عندما قال بأنّ البصر باب الاعتبار، فالكثير الكثير قد لا ينظر إلى كلّ شيء أو إلى بعض المحرّمات ولكن إذا نظر إلى الأشياء فهو مصحوب بالغفلة وعدم الاعتبار،
1 بحار الأنوار ج 104، ص 36.
2 المصدر نفسه، ص 42.
3 المصدر نفسه، ج 78، ص284.
88
79
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
فيكون النظر لهواً، وهو نوع من عمى العين حكماً، ويشهد له قول أمير المؤمنين عليه السلام: "كلّ نظر ليس فيه اعتبار فلهو"1، وفي حديث آخر "إنّ المؤمن إذا نظر اعتبر"2.
د- قد يكون النظر عبادة: من الفيوضات الإلهيّة على العبد أن جعل أبواب تعبّده مشرعة أمام القاصدين ولم يجعل لها حدّاً لكي يصل إليه الراغبون، ومن جملة تلك الأبواب النظر إلى بعض الأشياء كالنظر إلى العالِم وإلى الوالدين برأفة وفي المصحف وإلى ما يذكِّر الإنسان بربّه وبآخرته. وقد ورد في ذلك عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "النظر إلى العالم عبادة، والنظر إلى الإمام المقسط عبادة والنظر إلى الوالدين برأفة عبادة والنظر إلى الأخ تودّه في الله عزَّ وجلّ عباده"3، وقد زاد في رواية أخرى "وزاد في المصحف وفي البحر"4.
الجهة الثانية: غضّ البصر علامة الأمانة
عبادة الله سبحانه وتعالى لم تتوقّف على الفعل وتحريك العضلات، فقد تتحقّق من خلال الترك والكفّ عن الفعل ومن جملة هذه المفردات غضُّ البصر، وترك النظر وقد صرح القرآن الكريم بذلك في قوله سبحانه
1 بحار الأنوار ج 78، ص 62.
2 المصدر نفسه، ص50.
3 المصدر نفسه، ج 74، ص 73.
4 المصدر نفسه، ج 10، ص 368.
89
80
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
وتعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾1، فالنظر إلى ما لا يحلُّ النظر إليه فهو زنا العين كزنا الفرج، ولذا فالغضُّ من سمات الأمين، ويدلّ عليه ما رواه صفوان عن الإمام الرضا عليه السلام في قول الله عزَّ وجلّ: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾. فقال لها شعيب: أمّا قوّته فقد عرفته بسقي الدلّو وحده فبمَ عرفتِ أمانته؟ فقالت: إنّه قال لي: "تأخّري ودلّيني على الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء... فهذه أمانته"2. ولقد اعتبرت الشريعة الغرّاء أنّ الصورة البرزخيّة لامتلاء العين بالحرام في الدنيا هي امتلاؤها بالنّار يوم القيامة، كما هو مضمون الحديث3 عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فلسفة وجوب الغضّ:
من خلال بعض الآثار الفاسدة المترتّبة على النظر ندرك الآثار الإيجابيّة على ترك النظر وممّا يزيد الأمر وضوحاً ما جاء في بعض الأخبار المتضمّنة لبيان العلّة أو جزء منها أو الحكمة من غضّ البصر "لما فيه النظر من تهيّيج الرجال وما يدعو التهّييج إليه من الفساد والدخول فيما لا يحلّ ولا يحمل"4، والذي يُستفاد من هذه الروايات أنّ القاعدة الكلّيّة في
1 سورة النور، الآية: 30.
2 بحار الأنوار، ج13، ص 29.
3 وسائل الشيعة، ج14، ص142.
4 عيون أخبار الرضا، ج 2، ص96؛ علل الشرائع، ص565، بحار الأنوار، ج104، ص34.
90
81
المحاضرة الثالثة: النظرة نافذة للحرام
كلّ نظر يترتّب عليه الفساد على الفرد أو المجتمع، فيكون النظر حراماً، وغضّ البصر واجباً.
خـاتمة:
حلاوة العبادة بغضّ النظر:
لقد سئل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام بِمَ يُستعان على غضّ البصر؟ فقال: "بالخمود تحت سلطان المطَّلع على سترك"1 وقد اعتبر أيضاً أنّه: "ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغضّ البصر. لا يغضّ عن محارم الله إلّا وقد سبق إلى قلبه مشاهد العظمة والجلال"2.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها لله عزّ وجلّ لا لغيره أعقبه الله إيماناً يجد طعمه"3.
وفي رواية أخرى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيها: "من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه"4.
جعلنا الله وإيّاكم من الممهّدين لظهور صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، أرواحنا فداه.
1 بحار الأنوار،ج 104،ص41.
2 بحار الأنوار، ج 104،ص41.
3 من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص11.
4 الترغيب، ج3، ص34، ورواه الطبراني والحاكم.
91
82
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
الهدف:
بيان خطورة أن يقدم الإنسان على قتل نفس بغير حقٍّ.
تصدير الموضوع:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لزوال الدنيا جميعاً أهون على الله من دمٍ سُفِكَ بغير حقٍّ"1.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يغرَّنَّكم رحب الذِّراعين بالدم فإنّ له عند الله قاتلًا لا يموت". قالوا: يا رسول الله، وما قاتل لا يموت؟ فقال: "النّار"2.
1 الترغيب والترهيب، ج 3، ص 293، رواه البيهقي وقريب منه مع اختلاف يسير عند مسلم والترمذي.
2 وسائل الشيعة، ج19، ص 4.
95
83
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
مقدّمة:
الأحكام الشرعيّة الصادرة متفاوتة من حيث الشدّة والضعف، وهي مختلفة باختلاف موضوعاتها، ولذا نجد أنّ الإسلام قد احتاط في بعضها كالفروج والدماء، ومعنى الاحتياط في الأوّل هو التشدّد في أحكام العلاقات الجنسيّة وذلك لمنع التناسل من طريق الحرام أو الشبهة، وذلك لأنّ المولود من طريق الحرام سوف تترتّب عليه أحكام شرعيّة خاصّة علماً أنّ كلّ ما حصل فهو خارج إرادته وليس له مدخليّة في ذلك، ومع هذا فلا يمكن إصلاحه تكوينيًّا، وأيضاً لا يجوز قتله تحت أي عنوان فالآثار المتأخّرة سببها الخطأ المتقدّم ولكيلا نصل إلى المتأخّر احتاطت الشريعة في المتقدّم.
وأمّا بالنسبة للاحتياط في الدماء بمعنى أنّ الإسلام قد أصدر مجموعة من الأحكام يتشكّل منها منظومة من القوانين ذات الطابع التشريعيّ وهي على مرحلتين. ففي الأولى منها هي تلك الأحكام التي تقف حائلاً أمام كلّ من يوسوس له شيطانه للإقدام على القتل، وهي التي تحذّره من العواقب التي تنتظر القتلة والمجرمين سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وفي المرحلة الثانية هي الأحكام التي تقع عقيب حصول الجريمة لترشد إلى سبل كيفيّة المعالجة حتّى لا يعالج القتل بالقتل. وأمّا حكمة الاحتياط في الدماء فلعلّه لأجل أنّ النّفس إذا أزهقت فلا تعالج بإرجاع الروح إلى الجسد ولذا شُرعت أحكام تجبر هنا النقص ولتمنع الفساد الذي ربّما يحصل بسبب القتل وحتّى لا يستسهل النّاس القتل.
96
84
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
أنواع القتل:
تارة يقدم الإنسان على قتل نفسه وهو المعبّر عنه بالانتحار، وأخرى يقدم على قتل الغير، وهذا بدوره ينقسم إلى نوعين فقد يكون القتل أصاب امرأً في عالم الدنيا وقد يكون أصاب من هو في عالم الأرحام.
أمّا قتل الإنسان نفسه عمداً فممَّا لا شكّ فيه هو عمل حرام وجريمة كأيّة جريمة قتل موصوفة، وباعتبار أنّه قاتل حقيقيّ فسوف يحاسب على أنّه قاتل، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من قتل نفسه متعمّداً فهو في نار جهنّم خالداً فيها"1.
نعم باعتبار أنّه لم يبق على قيد الحياة فتسقط الأحكام المعيّنة في خصوص دار الدنيا المتوجبّة على القاتل من القصاص وتسقط الدية عنه وأيضاً الكفّارة الواجبة في بعض الصور لعدم إمكانيّة أن يؤخذ منه شيء، ولا تخرج من تركته وأمّا محاسبته وحسابه يوم القيامة فذاك إلى الله سبحانه وتعالى.
وأمّا النوع الآخر من القتل، وهو قتل الأغيار، فلو أقدم على قتل الجنين في بطن أمّه فتارة يكون الجنين قبل أن تنفخ فيه الروح وأخرى بعد نفخ الروح فيه، ففي الأولى فعليه الكفّارة المقرّرة بحسب المراحل
1 وسائل الشيعة، ج19، ص 13.
97
85
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
المذكورة في الكتب الفقهيّة، وأمّا في الثانية فهو قاتل للنفس المحترمة ويترتّب على ذلك دفع الدية كاملة.
قلب العبد قبل القتل:
طالما لم يرتكب العبد جريمة قتل في دار الدنيا فيبقى في فسحة من دينه ويبقى قلبه يقبل الرغبة والرهبة إلى أن يصبح قاتلاً فينكس قلبه ويخسر دينه، وجزاؤه بنصّ القرآن الكريم هو جهنّم، إذ هناك موازاة بين بقاء الروح في الجسد وسلامة دين الإنسان، فإذا أزهق الروح فقد نكس قلبه ويدلّ عليه ما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"1.
وممّا روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "لا يزال قلب العبد يقبل الرغبة والرهبة حتّى يسفك الدم الحرام، فإذا سفكه نكس قلبه..."2.
أوّل عمليّة قتل:
يحدّثنا القرآن الكريم أنّ أوّل عمليّة قتل حصلت عندما أقدم قابيل على قتل أخيه هابيل بسبب الحسد والغيرة، وقد أشار إلى هذا الموضوع بقوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
1 كنز العمّال، ح39907.
2 كنز العمّال، ح39951.
98
86
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ﴾1.
يمكن الاستفادة من الأمور التالية:
أوّلاً: أنّ الحاجز الأساسيّ عن الإقدام على عمليّة القتل هو الخوف من الله سبحانة وتعالى، ولذا فإنّ زوال الخوف من النّفوس يسهِّل على البعض إزهاق النفوس بغير حقّ.
ثانياً: يضاف إلى الإثم الذي يتحمّله القاتل بسبب القتل إثم المقتول وذنوبه، وقد دلَّ عليه ما رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "من قتل مؤمناً متعمّداً أثبت الله على قاتله جميع الذنوب وبرئ المقتول منها، وذلك قوله عزَّ وجلّ مستشهداً بالآية المذكورة"2.
ثالثاً: إنّ القتل العمديّ بغير صورة حقّ فجزاؤه جهنّم ويدلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾3.
رابعاً: إنّ بعض الملكات الخبيثة التي تبتلى بها النّفس تكون سبباً مساعداً على ارتكاب الجريمة وسفك الدماء.
1 سورة المائدة، الآيات 27 – 29.
2 وسائل الشيعة، ج19، ص 7.
3 سورةالنساء، الآية 93.
99
87
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
فكأنّما قتل النّاس جميعاً:
النّفس إن كانت محقونة الدم فهي ممّا حرّم الله تعالى ولذا نهى عن قتلها، وهنا لو تجاوز أحد حدود ما حرّم الله تعالى وأقدم على إزهاق الروح وسفك دمها من دون حقّ فهو عمل حرام يؤدّي إلى الفساد في الأرض لكونه يجرُؤ على الجريمة، ولذا نزل منزلة من قتل النّاس جميعاً، وهنا قد سأل حمران بن أعين الإمام الباقر عليه السلام عن معنى فكأنّما قتل النّاس جميعاً، فإنّما قتل واحداً؟ فقال عليه السلام: "يوضع في موضع من جهنّم إليه منتهى شدّة عذاب أهلها، ولو قتل النّاس جميعاً إنّما كان يدخل ذلك المكان"، قلت فإن قتل آخر؟ فقال: "يُضاعَف عليه"1.
ويؤيّد ذلك ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَزوالُ الدنيا جميعاً أهون على الله من دمٍ سُفِكَ بغير حقّ"2.
أوّل قضيّة يُحكَم بها:
الأحكام الصادرة عن المحكمة الإلهيّة العادلة يوم القيامة تختلف باختلاف الجنايات والجنح والمخالفات في دار الدنيا وأمّا جدولة الموضوعات للمحاكمة إنّما هي خاضعة للمهمّ والأهمّ، وباعتبار أنّ الموضوع الأوّل الذي يحضر بين يدي الله تعالى هو الدماء فهذا يكشف كشفاً مبيناً عن عظمة الذنب المرتكَب وخطورة الجناية المفتعلة بما لها علاقة بالدماء.
1 فروع الكافي، ج7، ص 271.
2 الترغيب والترهيب، ج3، ص 293.
100
88
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
فقد ورد في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أوّل ما يحاكم الله فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف ابنَيْ آدم فيفصل بينهما، ثمّ الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتّى لا يبقىمنهم أحد، ثمّ النّاس بعد ذلك حتّى يأتي المقتول بقاتله فيتشخّب في دمه وجهه فيقول: هذا قتلني، فيقول: أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم الله حديثًا"1.
من أعان على القتل:
قد يكون الإنسان قاتلاً وإن لم يباشر عمليّة القتل، كما لو أعان غيره على قتل الغير فيما لو أرشده إلى مكان المقتول أو قدّم له معلومات تسهِّل الوصول إليه، أو أثار مشاعر البعض فتحرّك وقتل أحدًا، إلى غير ذلك من الأسباب الغير مباشرة لعمليّة القتل، فهذا له محجمة من دم المقتول، ويدلّ عليه ما جاء في الروايات: "من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيام مكتوبًا بين عينية آيس من رحمة الله"2 وأيضاً: "إنّ الرجل لَيُدفع عن باب الجنّة أن ينظر إليها بمحجمة من دم يُريقه من مسلم بغير حقّ"3.
أعظم القتل:
لقد تبيّن أنّ سفك الدم الحرام هو من أعظم الذنوب، وهو أوّل ما يحضر للمحاكمة بين يدي الله تعالى، ولكنَّ أعظم شيء في القتل هو قتل
1 وسائل الشيعة، ج19، ص 4 وأيضاً ورد في مجموعة كتب من الصحاح وغيرها عند السنّة باختلاف يسير.
2 كنز العمّال، ح 39895.
3 كنز العمّال، ح39912.
101
89
المحاضرة الأولى: حرمة الدم في الإسلام
المؤمن لأجل إيمانه، فهذا له العقوبات التالية:
• جزاؤه جهنّم.
• مخلَّد فيها.
• الله غاضب عليه.
• ملعون.
• له عذاب عظيم.
وهذه العقوبات الخمس قد ترجمتها الآية 93 من سورة النساء، ويضاف إليه، فلا يوفّق للتوبة في دار الدنيا، ويدلّ ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سُئل عن المؤمن يقتل مؤمناً متعمّداً، هل له توبة؟ فقال: "إنّ كان قتله لإيمانه فلا توبة له.."1.
1 وسائل الشيعة.
102
90
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
الهدف:
بيان ضرورة التنبّه والحذر عند كلّ كلمة يريد الإنسانُ التفوّه بها إذ لعلّ كلمة واحدة تكبّه على منخاره في نار جهنّم.
تصدير الموضوع:
"وهانت عليه نفسه من أمَّر عليها لسانه..."1.
1 نهج البلاغة.
103
91
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
مقدّمة:
الكذب نقيض الصدق، ويقال رجل كاذب وكذَّاب وتكذاب وكذوب، وعرَّفه العلاّمة المجلسيّ بأنّه الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، سواء طابق الإعتقاد أم لا، على المشهور، وقيل: الصدق مطابقة الإعتقاد، والكذب خلافه وقيل الصدق مطابقة الواقع والإعتقاد معاً والكذب خلافه1. وباعتبار أنّ الكلام هو الذي يتّصف بالصدق والكذب ومن الطبيعيّ أنّ آلته اللسان، وهنا تارة ننسب الكذب إلى الكلام فنقول كلام كاذب وأخرى نصف به اللسان وثالثة نصف الشخص فنقول رجل كاذب أو كذَّاب، المهمّ أنّ الوصف للناطق أو المنطق أو المنطوق به ولكن مع هذا نجد أنّ القرآن الكريم استعمله في غير ذلك من الأمور الصامتة أي التي ليس لها اقتضاء النطق كالدم على قميص يوسف عليه السلام، قال صاحب الميزان قدس سره: أضيف الدم إلى المصدر، أي قال بدم كذب وأريد به الفاعل للمبالغة أنّ بدم كاذب وبيِّن الكذب. وفي الآية إشعار بأنّ القميص وعليه دم كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإنّ من افتَرسَته السباع وأكلته لم تترك له قميصاً سالماً غير ممزّق، ولا يخلو الحديث الكاذب والأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه وتناقض بين أطرافه أو هناك شواهد من أوضاع وأحوال خارجيّة تحفّ به وتنادي بالصدق وتكشف القناع عن قبيح سريرته وباطنه وإن حسنت صورته.
1 بحار الأنوار، ج 72، ص 233.
104
92
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
وما يهمّنا الحديث عنه هو ما يكون له اقتضاء النطق. وبالتتبّع للروايات وجدنا أنّ المصدر (الكذب) ومشتقّاته قد استُعملت كثيراً بسبب كثرة الروايات المتضمّنة من جهة لهذا المفهوم ومن جهة أخرى بسبب التشديد في أمر الكذب وثالثة بسبب العمل على معالجته وإزالته من النفوس وتنقية الكلام منه.
وبما أنّ اللسان هو آلة النطق فقد يتّصف بالصدق صدقاً وقد يكون بالكذب، وهنا سوف نسلّط الضوء على اللسان ثمّ نصرف الكلام حول الكذب ومتعلّقاته.
احفظ لسانك. كيف؟؟
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصني، قال: "احفظ لسانك"، قال يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصني قال صلى الله عليه وآله وسلم: "احفظ لسانك، ويحك وهل يكبُّ النّاس على مناخرهم في النّار إلّا حصائد ألسنتهم"1.
أمام هذه الوصيّة الشريفة على الإنسان أن يجعل الضوابط التالية لحفظ لسانه:
الأوّل: أن يجعله لسان صدق
فإنّ اللسان كذلك يمنح صاحبه السمعة الطيّبة والذكر الحسن، ويدلّ عليه ما جاء في القرآن الكريم في سياق بيان عطاياه ومننه لأنبيائه ورسله فقال:
1 الكافي، ج2، ص 115.
105
93
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾1 ويؤيّده كلام أمير المؤمنين وهو يمتدح صاحب اللسان الصالح: "ألا وإنّ اللسان الصالح يجعله الله تعالى للمرء في النّاس خير له من المال يورثه من لا يحمده"2.
الثاني: أن يجعله لساناً واحداً
من الضروريّ عندما يحدّث الإنسان عن شيء أو يتحدّث بأمر فليكن الحديث مطابقاً للواقع لأنّه ربّما تحدّث في زمان آخر أو مكان آخر عن نفس الموضوع وأمام بعض من حدّثهم فيختلف كلاماه فيفتضح أمامهم، والطريق الأسلم أنّه إذا أراد الحديث فليكن كلامه كلاماً واحداً وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين بقوله: "واجعلوا اللسان واحداً.... فإنّ هذا اللسان جَموح بصاحبه"3.
الثالث: أن يجعله في خزانته
كثيراً ما يحرص المرء على ماله ويأبى أن يختزن جواهره إلّا في مكانها المعدّ لها حفظاً من أن تقع تحت أعين الحسّاد. فضلاً عن وقوعها تحت أيدي السارقين. وأيضاً تجده يحمي نفسه من الخطر ويقي جسده من الحرّ والقرّ ولم يفرِّط بأيّ شيء من حواسِّه نعم عندما يصل الأمر إلى اللسان فيفلت له عقاله ليتفوّه بما يشاء كيف يشاء ومتى يشاء، وكأنّ ذلك كلّه مباح له أو مأذون له وكأنّه سوف لن يترك أي آثار لعدم ترتّب
1 سورة مريم، الآية 50.
2 نهج البلاغة، خطبة 120.
3 نهج البلاغة، خطبة 176.
106
94
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
الآثار أو مأمون من تعقّب السؤال، يقول الإمام عليّ عليه السلام: "وليخزن الرجل لسانه... والله ماأرى عبداً يتّقي تقوى تنفعه حتّى يخزن لسانه... فمن استطاع منكم أن يلقى الله تعالى وهو نقيّ الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من أعراضهم فليفعل"1.
الرابع: أن يجعله وراء قلبه
إنّ النسبة بين الأمام والوراء هو نسبة التضايف كما قرّر في محلّه، فإذا كان الشيء وراء فطبيعيّ أن يكون ما يقابله أمامه والعكس صحيح، وهنا لو قارنّا بين اللسان والقلب بلحاظ الوراء والأمام لكان القلب وراء اللسان تكوينيّاً وأمّا الروايات فأرشدت، ولأمر ضروريّ يتعلّق بحفظ الإنسان من فلتان لسانه، إلى عكس ذلك، بمعنى أنّه إذا أراد الكلام فلا يتكلّم إلّا بعد التفكير والتأمّل والتدبّر فيما يترتّب على كلامه من آثار، فإن كانت مفيدة فليتكلّم وإلّا فليصمت، ومن هنا جعل ميزاناً للتفريق بين العاقل والأحمق وإليه أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "إنّ لسان المؤمن وراء قلبه وإنّ قلب المنافق وراء لسانه، لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شرّاً واراه. وإنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه2.
1 نهج البلاغة، خطبة 176.
2 نهج البلاغة، خطبة 176.
107
95
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
وقال عليه السلام: "قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه"1.
إحذر! اللسان بضعة من الإنسان
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا وإنّ اللسان بضعة من الإنسان"، فينبغي له أن يحذر الأمور التالية:
أوّلاً: هفوات اللسان، بأن يتحدّث بما لا نفع في الكلام أو ينطق هزراً، أو يتلفّظ بما خالف الواقع أو الإعتقاد، أو تقرّب باللسان وخالفه الجنان، إلى غير ذلك من السقطات والهفوات. فممّا ناجى به الإمام عليّ عليه السلام ربّه بقوله: "اللهمّ اغفر لي ما تقرّبت به إليك بلساني ثمّ خالفه قلبي، اللهمّ اغفر... وسقطات الألفاظ... وهفوات اللسان"2.
ثانياً: أن يصبح لسانك سبعاً، إن لم يحكم لسان الإنسان العقل بحيث إنّه لم يفكّر في كلّ كلمة يراد التفوّه بها وأيضاً لم يراع الضوابط الشرعيّة لصار هذا اللسان كالسبع الضاري المؤذي لغيره وربّما ترتدّ الأذيّة عليه أحياناً، وما أجمل هذا التصوير على لسان الإمام عليّ عليه السلام من تنزيل اللسان الذي خلّى عنه صاحبه منزلة السبع فقال: "اللسان سبع إن خلّى عنه عقر"3.
ثالثاً: أن يخالف لسانك جنانك، إذا خالف الكلام المنطوق به لما اعتقد به في قلبه عُدَّ في مصاف الكذّابين، وهذه المخالفة هي طبع المنافقين حيث إنّهم يظهرون شيئاً ويبطنون خلافه. ودلّ عليه ما جاء في كتاب
1 قصار الحكم.
2 نهج البلاغة، من دعائه 78.
3 نهج البلاغة، قصار الحكم.
108
96
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
أمير المؤمنين إلى محمّد بين أبي بكر حين ولّاه مصر: "... ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجَنان عالم اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون"1.
رابعاً: أن تقول بلسانك ولم تفعله بجوارحك، ربّما يجمع المرء علوماً غزيرة ولكن لم تخضع جوارحه لها، كأنّه لم يستفد من علومه ومعارفه التي حصَّلها فهو كالماشي على غير هدى أو كمن يحمل مصباحاً بيده ثمّ أطفأه ولم يكد يرى موضع قدميه فسرعان ما يهلك أو يتردّى. ومن الحكم المضيئة ما قاله أمير المؤمنين في هذا المجال: "أوضعُ العلم ما وقف على اللسان وأرفعُه ما ظهر في الجوارح والأركان"2.
خامساً: أن تؤمر على نفسك لسانك، من جعل الأمارة للسانه على نفسه بأن يصبح اللسان هو وجه النّفس ومقدّمها وأميرها فقد عرّضها للإهانة والمذلّة، لأنّ المفروض أن يكون أميرها وقائدها هو قلب الإنسان وعقله ودينه، فمن تركها إلى اللسان فَقَدَ مروءته وعرَّضها لإستخفاف النّاس به والتطاول عليه بالجرأة والسخرية. وأروع ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام ما يخصّ المقام: "وهانت عليه نفسه من أمَّر عليها لسانه"3.
هذه إشارات ولطائف تتعلّق بأمر اللسان، وما لم يذكر فهو أضعاف
1 نهج البلاغة، من كتاب له إلى محمّد بن أبي بكر.
2 نهج البلاغة، قصار الحكم.
3 نهج البلاغة، قصار الحكم.
109
97
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
ممّا ذكر ومن المعروف أنّ جارحة اللسان هي أخطر الجوارح إذا طابت طاب الإنسان وإن خبثت خبث الإنسان، ومن مصاديق خبثه: الفتنة بين النّاس، والنميمة، والغيبة، والسبّ والشتم والأذيّة، والكذب، وكلّها من الذنوب الكبيرة التي تُدخل صاحبها نار جهنّم والعياذ بالله.
110
98
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
الهدف:
التعرّف على القيمة الحقيقيّة للجهاد في سبيل الله.
تصدير الموضوع:
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى أعزّ أمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها"1.
1 بحار الأنوار، ج 100، ص 9.
111
99
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
مقدَّمة:
إنّ المشروع الإلهيّ لا بدّ من أن يصل إلى هدفه في آخر المطاف، بالرغم من كلّ الموانع والعوائق التي تقف أمامه؛ ولذا فإنّ خيارات المواجهة التي يمتلكها هذا المشروع لهي متنوّعة ومتعدّدة تتناسب مع كلّ واحدة من التهديدات التي تحاول إعاقة حركته أو حرفه عن مساره.
فإنّ دين التوحيد الذي يعتمد الأسلوب الناعم من خلال الحوار ولغة العقل والمنطق كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾1.
وهو الذي يقول: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾2.
وهو الذي قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾3.
وهو أيضاً يستعمل الأسلوب الصلب والخطاب القاسي إذا اقتضى الأمر، كما قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ
1 سورة آل عمران، الآية64.
2 سورة النحل، الآية 125.
3 سورة الفرقان، الآية 63.
112
100
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾1.
التنوّع في الأساليب
هذه الأساليب المتنوّعة هي الكفيلة بإعطاء القوّة وإضفاء العزّة لهذا الدّين الإلهيّ المقدّس، ليكمل مسيرته التكامليّة، وأمّا ركائز هذه الأساليب فهي ما تمّ تزويد الأنبياء به لتعزيز حركتهم من بيّنات وكتب وموازين وحديد، وهذا التنوّع والغنى في مصادر القوّة يساهم مساهمة فعّالة ومؤثّرة في استمراريّة المشروع الإلهيّ على مبدأي القوّة والعزّة. وأمّا اختيار الأسلوب الأنجع فإنّما هو بيد الأنبياء والأولياء، ويختلف باختلاف الظروف وأنماط التحدّيات وحجم التهديدات. وقد جُمعت هذه المصادر في آية واحدة من القرآن الكريم وهو قوله تعالى:﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾2.
وهنا كما نرى فإنّ، الحديد يشكّل مصدرين للقوّة، مصدراً للقوّة الاقتصاديّة وهي المنافع للنّاس، ومصدرًا للقوّة العسكريّة والمعبّر عنها بالبأس الشديد والذي يستعمل في الجهاد الأصغر في سبيل الله.
1 سورة التوبة، الآية 73.
2 سورة الحديد، الآية 25.
113
101
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
خصائص الجهاد:
إنّ للجهاد خصائص متعدّدة يجمعها تحصين الرسالة السماويّة ومنعتها، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ الرؤوس الجامدة تعالجَ بالفؤوس الحادّة، كما فعل نبي الله إبراهيم عليه السلام حينما أحدث صدمة في مملكة النمرود بإقدامه على تكسير أصنامهم بفأسه التي ترمز إلى قوّته، وكما تلقّفت عصا موسى إفك فرعون وسحرته، وهكذا فعل عليّ ابن أبي طالب في رقاب المشركين والكفّار والمنافقين. وبنفس هذه الروح الجهاديّة التي كان يحملها الإمام الحسين عليه السلام تمكّن من تحصين رسالة جدّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ أزال بدمه الزاكي صنميّة ووثنيّة بني أميّة من عالم الوجود.
وبناءً عليه فإنّ أي مجتمع من المجتمعات إذا أراد حماية وجوده وتحصين كيانه فلا بدّ له من أن يتّخذ الجهاد سبيلاً لذلك. وإلى ذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام في ديباجة خطبة الجهاد حيث قال: "وهو (الجهاد) لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجُنته الوثيقة"، إلى تلك الخصائص يُضاف أشياء أخرى ترتبط بعزّة الأمّة وكرامتها والشعور بالحياة الحقيقيّة. ولذا فلو خُيِّر الأُباة بين حياة ذليلة وموت عزيز فلما تعدّوا العزّة إلى شيء آخر، وبعدها لم يفكّروا أنّه هو الموت أو الحياة, ولأجل ذلك رفع سيّد الشهداء شعاره في مسيرته الكربلائيّة: "الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النّار"1، وممّا يزيد الأمر وضوحًا ما جاء على لسان الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ
1 تفسير نور الثقلين، ج1، ص408.
114
102
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدّين والأجر فيه عظيم مع العزّة والمنعة، وهو الكرّة، فيه الحسنات والبشرى بالجنّة بعد الشهادة"1.
النفير والتحريض
لقد شاع مصطلحا النفير والتحريض في القرآن الكريم وقد استعملهما في الجهاد في سبيل الله تعالى. وبما أنّ طبيعة العمل الجهاديّ تتطلَّب جهوزيّة دائمة وحضورًا سريعًا في الميدان حال توجيه الأمر للمجاهدين نلاحظ أنّ الخطاب القرآنيّ ينسجم تمامًا مع متطلّبات المعركة حتّى على مستوى اختيار الألفاظ واستعمال المصطلحات، ومنها مصطلح النفر فإنّ معناه الحضور السريع في ساحة الميدان والخروج للجهاد في سبيل الله تعالى بشتّى الوسائل والصور، فمنها النفير خفافًا وثقالًا كما في قوله تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾2 ومنها النفر بثبات أو جميعاً كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا﴾3.
وأمّا الذين يتخلّون عن الجهاد ولم ينفروا لأي سبب من الأسباب ومن دون عذر فهؤلاء سوف يعرّضون أنفسهم للمذلّة في الدنيا والآخرة، وسوف يؤدّي ذلك إلى تغيير هذا المجتمع المتثاقل إلى الأرض. وقد أشار الكتاب العزيز إليه بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ
1 وسائل الشيعة، ج15، ص 94.
2 سورة التوبة، الآية: 41.
3 سورة النساء، الآية 71.
115
103
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾1.
ثمّ قال في آية أخرى: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾2.
وأمّا التحريض فهو التحفيز وقال الجوهري، فإنّ التحريض على القتال هو الحثّ والإحماء عليه، وقد أشار إليه الكتاب العزيز كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾3.
ومن مصاديق التحريض ما فعله أمير المؤمنين في صفّين فقال: "لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تُكادون ولا تكيدون، وتُنقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون"4. وقال في موطن آخر: "ضاربوا عن دينكم بالظُّبَي، وصِلوا السيوف بالخطى، وانتصروا بالله تظفروا وتُنصروا"5.
المرابطة والحراسة:
إنّ تواجد المجاهدين في الثغور لتوفير الأمن والأمان للبلاد وتأمين الحماية للنّاس لهو عمل عظيم وله من الآثار الدنيويّة والأخرويّة الكبيرة،
1 سورة التوبة، الآية 38.
2 سورة التوبة، الآية 39.
3 سورة الأنفال، الآية 65.
4 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص 189.
5 غرر الحكم.
116
104
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لأن أحرس ثلاث ليال مرابطًا من وراء بيضة المسلمين أَحَبُّ إليَّ من أن تصيبني ليلة القدر في أحد المسجدين المدينة أو بيت المقدس"1.
وَوَجْهُ ذلك أنّ من تصيبه ليلة القدر أصاب رضًا لنفسه، بينما من يهيِّء أجواء الأمان ففيه رضاً لغيره، ولا بأس بالإشارة إلى شيء من الثواب المترتّب عليهما:
منها: ما له علاقة بصلاة المرابط، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ صلاة المرابط تعدل خمسمائة صلاة"2.
ومنها: أفضل من الصيام والقيام: فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "رباط يوم خير من صيام شهر وقيامه"3.
وعنه أيضاً: "حرس ليلة في سبيل الله عزَّ وجلّ أفضل من ألف ليلة يُقام ليلها ويصام نهارها"4.
وأمّا الآثار الأخرويّة: العين الساهرة في سبيل الله التي تبثّ الطمأنينة في نفوس الآخرين فيأوون إلى فرشهم ويرقدون في نوم عميق هي عين آمنة يوم القيامة، فلا يمسّها العذاب، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عينان لا تمسُّهما النّار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله"5.
1 كنز العمّال، ج 10744.
2 كنز العمّال، ج10714.
3 كنز العمّال، 10510.
4 كنز العمّال، ح10730.
5 التاج، ج4، ص 336.
117
105
المحاضرة الثالثة: قيمة الجهاد
ومن بركات الحراسة والمرابطة على الإنسان أنّ ما ينجزه منهما وحتّى لو انتهى عمله فسوف يستمرّ إلى يوم القيامة ولا ينقطع الثواب بالفراغ من العمل، فقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ عمل منقطع عن صاحبه إذا مات إلّا المرابط في سبيل الله فإنّه ينمى له عمله ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة"1.
ترك الجهاد:
هو أسرع شيء إلى إذلال الأمّة بسبب تخلّيها عن الجهاد، ويُضاف إلى محقّ الدّين والضرب على القلوب بالأسداد، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلًّا في نفسه وفقرًا في معيشته ومحقًا في دينه"2.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء، ودُيِّثَ بالصِّغار والقماءة وضُرِب على قلبه بالأسداد وأديل الحقّ منه بتضييع الجهاد"3.
1 كنز العمّال، ح 10611.
2 بحار الأنوار، ج100، ص 9.
3 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج2، ص 72.
118
106
الليلة الخامسة
المحاضرة الأولى: دور الأهل في الحثّ على الجهاد والشهادة
الهدف:
بيان أهمّيّة الدور الكبير الذي يقوم به الأهل في تفعيل وتأثير العمل الجهادي.
تصدير الموضوع:
"اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبداً".
121
107
الليلة الخامسة
مقدّمة:
من جملة عناصر القوّة للمجاهدين، بل من أهمّها في سبيل مقارعة الطواغيت وتحطيم عروشهم وإلحاقهم بمتاحف التاريخ، البيئةُ الحاضنة لهم والمتمثّلة بالآباء والأمّهات والإخوة والأخوات والزوجات وبقيّة الأرحام والجيران وأهل البلدة والمنطقة ومن ثّمَّ كلّ المجتمع.
محاور الموضوع
ومن أهمّ ميّزات هذه البيئة الأمور التالية:
أوّلاً: تعتبر هذه البيئة من أهمّ عوامل الإستقطاب والتوجيه وتنمية الروح الجهاديّة.
ثانياً: تعتبر عنصرًا مؤثرًا على مستوى الدعم المعنويّ والتحفيز للإستمرار في نهج الجهاد.
ثالثاً: من أهمّ الوسائل الإعلاميّة والتبليغيّة لنشر روح المقاومة في نفوس الآخرين.
رابعاً: إنّ المواقف المتقدّمة جدّاً والتي تنمُّ عن مدى التحلِّي بالبصيرة لعوائل الشهداء والجرحى، فلها من التأثير الإيجابيّ في المحيط بها.
خامساً: إنّ لإظهار الإفتخار والإعتزاز بأولادهم الشهداء أو الجرحى أو المجاهدين الأثر الكبير في نفوس النّاس.
سادساً: إنّ وجود البيئة الحاضنة للمجاهدين تشكّل العروق المتجذّرة
122
108
الليلة الخامسة
للمشروع الجهاديّ بحيث يصعب على أعدائهم النيل منهم فضلًا عن اجتثاثهم والقضاء عليهم.
صور من التاريخ:
حين الحديث عن الفئات المتصارعة على طول التاريخ، من الصعب جدّاً أن لا ترى وجوداً لأحد من أفراد الأسرة مشاركًا في عمليّة الصراع ابتداءً من آدم عليه السلام وإلى عصر الظهور بل إلى يوم القيامة.
ها هي أوّل مواجهة بين خصمين وهما إبليس من جهة وآدم عليه السلام وحواء من جهة ثانية، ولها حضورها في الميدان والمواجهة: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾1، وهذه أيضاً مريم عليها السلام في مواجهة رجالات الهيكل من بني إسرائيل تقاوم وتدافع عن مولودها ضمن الدفاع عن مشروع الرسالة الإلهيّة: ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾2 وما بينهما هناك أسماء لنساء ورجال دوَّن التاريخ لهم في سجلّاتهم مواقف رائعة انتصاراً لرسالة السماء.
1 سورة البقرة، الآية 36.
2 سورة مريم، الآيات 27 – 29.
123
109
الليلة الخامسة
ومن الصور لمواقف أسريّة في جبهة الحقّ ضدّ الباطل في زمان خاتم النبيّين، هي تلك الصور التي تحكي لنا مؤازرة ابن عمّه عليّ ابن أبي طالب وزوجته خديجة بنت خويلد وزيد بن حارثة إذ هم النواة الأولى في مجاهدة ومواجهة الأعداء.
اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت:
بعد أن انتقلت الدعوة من المرحلة السريّة إلى المرحلة العلنيّة كانت المؤازرة والتأييد من بعض رجالات عشيرته التي دعاها الرسول إلى لقاء ليصدع بالأمر، وقد أسفر عنه إعلان أبي طالب عن نصرة أبن أخيه، وقد صرّح في مواقف أخرى مخاطبًا إبن أخيه بقوله: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا.
وهذا الموقف العظيم من أبي طالب أضحى شعارًا لكلّ الأحرار وأصحاب العزيمة أن يقولوا للمجاهدين هكذا، اذهبوا وقولوا ما أحببتم، وأيّ شيء يقال في حقّ أبي طالب من مدح وثناء فهو قليل على مستوى البصيرة والإرادة والثبات في الموقف. كما يحكي لنا التاريخ واحدة أخرى من مواقفه الفولاذيّة عندما جاءته قريش مرّة أخرى تفاوضه في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرضت عليه مبادرة مفادها: أن تعطيه أجمل فتيان مكّة بدل ابن أخيه فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي فرّق جماعة قومك وسفَّه أحلامهم فنقتله، فإنّما هو رجل
124
110
الليلة الخامسة
برجل. فردّهم أبو طالب مستاءً من هذه المساومة الظالمة فقال: هذا والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم إبني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم بن عدي بن نوفل: والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فأجابه أبو طالب قائلًا: والله ما أنصفوني، ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ فاصنع ما بدا لك.
وعلى أثر كلّ المحاولات القرشيّة للقضاء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سارع أبو طالب لاتخاذ تدابير وقائيّة لضمان سلامة ابن أخيه واستمراره في نشر رسالته، فدعا بني هاشم وبني عبد المطلب لمنع رسول الله وحفظه والقيام دونه، فاستجابوا له سوى أبي لهب1.
وهكذا نقرأ في التاريخ مواقف الأسر والأهل، إمّا في المشاركة العمليّة في الدفاع كما حصل مع أسرة ياسر بن عمّار رضوان الله عليه، أو من خلال دعم أبنائهم معنويًّا للإنخراط في جبهة الحقّ ضدَّ الباطل، كما يحصل للكثير من المضَحّين والمخلصين.
محطّات مشرقة ومواقف مضيئة:
من أبرز الشخصيّات التي تمثّل دور الأسرة على مستوى الحضور في ميادين الجهاد مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام حيث إنّها قضت عمرها المبارك من اللحظات الأولى إلى تاريخ شهادتها ما بين مشاركة في جهاد
1 تاريخ الطبري، ج2، ص 409- 410.
125
111
الليلة الخامسة
تبليغ الرسالة مع أبيها صلى الله عليه وآله وسلم حتّى نالت أعظم وسام في تاريخ البشريّة، ألا وهو وسام أمّ أبيها، إلى دفاعها حتّى الشهادة بالنّفس عن حريم الإمامة والولاية. ويضاف إلى سجلّها الجهاديّ المقدّس ما زرعته في قلبي ولديها من الثقة والمعنويّات والثبات, ويتجلّى ذلك من خلال الوصايا التي أسرّت ببعضها إلى ابنتها السيّدة زينب عليها السلام فيما يتعلّق بواقعة كربلاء، وما كشفت عنه السيّدة زينب عليها السلام عن أمانة في ساحة كربلاء حينما رأت أخاها وحيدًا فريدًا من شمِّ صدره وتقبيل نحره كانت قد حملتها واحتفظت بها لفترة زمنيّة طويلة. فما هذا إلّا رسالة دعم وحضور معنويّ وميدانيّ في كربلاء للشهيدة الصدِّيقة مع ولدها الإمام الحسين عليه السلام.
والشيء ذاته نقرأه في كلّ المواقف الكلّيّة والتفصيليّة التي سطّرتها السيّدة زينب عليها السلام، وأهمّها تقديم الفرس لأخيها وتجهيزه وتوديعه، وأيضًا الدفاع حتّى الشهادة حينما كانت تلقي بنفسها على ابن أخيها الإمام زين العابدين وتكرّر منها في ثلاثة مواطن للدفاع عن الإمامة والولاية المتجسّدتين فيه.
هذا هو شعب إيران:
منذ اللحظات الأولى لإنطلاق شرارة الثورة المباركة في إيران ولحدّ اليوم، وقد مضى عليها منذ بدايتها ما يزيد على نصف قرن ولا زال الشعب الإيرانيّ رجالًا ونساءً وكباراً وصغاراً يحفّز بعضه بعضاً داخل الأسرة وخارجها، ولا زال على وتيرة متصاعدة حتّى تحوّلت من ثورة إلى دولة ثمّ
126
112
الليلة الخامسة
إلى دولة نامية، هذا هو واقع الشعب المسلم في إيران، وقد عبّر عن هذه الحقيقة الإمام الخمينيّ قدس سره ووليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ دام ظله، ومن جملة كلماته قوله: وأنا العبد أرى من الضروريّ أن أجدّد - ولو كرّرته مئة مرّة لما كان كثيراً - شكري لشعب إيران على هذه المشاركة المهابة والمليئة بالعزّة فأمام هذه المشاعر والعواطف والبصيرة لا يملك المرء إلّا أن يعظِّم ويقدِّر عالياً. هذا هو شعب إيران.
وفي كلمة أخرى من نداء لملتقى سبعة آلاف شهيدة إيرانيّة فقال: فالنسوة الإيرانيّات الشجاعات في الثورة والدفاع المقدّس قدّمن نموذجًا ثالثًا جديدًا المرأة اللاشرقيّة واللاغربيّة.
ها هم أشرف النّاس:
فيما خصَّ شعب المقاومة في بلدنا، ومنذ الإنطلاقة الأولى ولحدّ الآن وأيضًا بوتيرة تصاعديّة، نجد الحضور الفعّال على مستوى التحفيز والتشجيع والتنافس في كلّ الأنشطة التي تساهم في دفع الحركة الجهاديّة نحو الإمام ولم ينته ولم يفتَّ من عضده عدّة حروب تعرّض لها لا سيّما في حرب تموز 2006 أو في المرحلة الحسّاسة. فإنّ هذا الشعب يواجه بصبر وثبات وإقدام وبصيرة، وما الإنتصارات التي تتحقّق على أيدي المجاهدين إلّا وقد ساهم الكثير من الآباء والأمّهات والإخوة والأخوات مساهمة ماديّة ومعنويّة، ولا فرق قبل الشهادة والجراح أم بعدها، ولذا استحقّ هذا الشعب لقب أشرف النّاسِ.
127
113
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
الهدف:
بيان أنّ الكذب مُسقط للمرء عند الله تعالى وعند النّاس وعند نفسه.
تصدير الموضوع:
"لا خير في علم الكذّابين"1.
1 غرر الحكم.
129
114
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
مقدّمة:
الكذّاب هو من خالف قوله الواقع أو اعتقاده، وكلّنا يعلم أنّه ربّما ينكشف كذبه بالإطلاع على الواقع أو يظهر على فلتات لسانه ما أضمره وفي أكثر الأحيان يعلم الكذّاب بعلم النّاس بكذبه وهو دائماً يعلم بكذب نفسه ومع هذا فلا يردع نفسه عن الكذب، وهنا يتساءل المرء عن الربح الذي يجنيه الكذّاب من كذبه؟ وما العلّة التي تجعله كذّاباً؟ ففي الجواب أنّ الشعور بحقارة النّفس يجعل صاحبه يسد هذا الشعور ويغطي ذلك النقص بالتعمية على الآخرين فتجعل منه كذّاباً وربّما يعتقد أنّه حينما يحاول أن يصنع لنفسه عرشاً في مخيّلات الآخرين أنّه يكسبه الإحترام والتقدير وكلّ ذلك منشأه ذلّة نفسه ومهانتها، ويدلّ عليه ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "لا يكذب الكاذب إلّا من مهانة نفسه"1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "الكاذب مهان ذليل"2.
وقال: "الكاذب على شفا مهواة ومهانة"3.
1 بحار الأنوار، ج 77، ص 217.
2 غرر الحكم.
3 غرر الحكم.
130
115
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
الكذب مفتاح الآثام:
الكذّاب بيده مفتاح كلّ الآثام صغيرها وكبيرها، وهو طريق يوصل صاحبه إلى الفجور ومن أراد المعالجة للتخلّص من الموبقات فعليه أن يبدأ بالتخلّي عن ملكة الكذب، فعن الإمام العسكريّ عليه السلام قال: "جعلت الخبائث كلّها في بيت وجعل مفتاحه الكذب"1.
والوجه في ذلك هو أنّ الكذّاب له قابليّة أن يرتكب أي ذنب، وبالفعل قد يرتكب بعض الكبائر وهو في قرارة نفسه وفي مرحلة نصف اللاوعي يعتبر أنّه بإمكانه تغطيتها وتعميتها على النّاس بالكذب، وبما أنّ حبل الكذب قصير فما يلبث وأن يفتضح أمام الآخرين ويشير إلى هذا المعنى ما جاء في الرواية أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا يا رسول الله أستسرَّ بخلال أربع، الزنا وشرب الخمر والسرق والكذب فأيتهن شئت تركتها لك!! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "دع الكذب"، فلما ولَّى همَّ بالزنا، فقال: يسألني فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت، ثم همَّ بالسرق، ثمّ بشرب الخمر، ففكّر في مثل ذلك، فرجع إليه فقال قد أخذت عليّ السبيل كلّه، فقد تركتهن أجمع2.
1 بحار الأنوار، ج 78، ص 377.
2 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج6، ص 357.
131
116
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
الإيمان والكذب:
المؤمن لا يكذب والكذّاب لا يكون مؤمناً حينما يكذب، فلا يقال مؤمن كذّاب فإذا ثبت إيمانه لا يمكن أن يكذب وإن ثبت كذبه انتفى عنه صفة الإيمان، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يُطبع المؤمن على الخلال كلّها إلّا الخيانة والكذب"1.
وجاء في رواية أخرى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "كثرة الكذب تمحو الإيمان"2.
فكما أنّ طبع المؤمن لا ينسجم مع الكذب فكذلك لا ينسجم مع الخيانة وكأنّهما من سنخيّة واحدة، فعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "الكذب خيانة"3، وقد روى الحسن بن محبوب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام يكون المؤمن بخيلا؟ قال: "نعم"، قلت يكون كذّاباً؟! قال: "لا، ولا خائناً"، ثمّ قال: "يجبل المؤمن على كلّ طبيعة إلّا الخيانة والكذب"4. وأمّا بيان وحدة الطبيعة بينهما ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "كبرت خيانة أن تحدّث أخاك حديثاً هو لك مصدّق وأنت به كاذب"5.
1 الترغيب والترهيب، ج3، ص 595.
2 بحار الأنوار، ج72، ص 259.
3 بحار الأنوار، ج 72، ص 261.
4 بحار الأنوار، ج 75، ص 172.
5 تنبيه الخواطر، ص 92.
132
117
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
الكذبة نتنة الرائحة:
إنّ لكلِّ عمل صورة برزخيّة، فلا يراها الإنسان في عالم الدنيا. نعم عندما تبلى السرائر فسوف يرى كلّ إنسان ببصره الحديديّ الصور الحقيقيّة لكلّ صفة كان يحملها ولكلّ عمل فعله في الدنيا، من جملة ذلك أنّ الكذبة ذات رائحة نتنة لا يحتملها أيّ ملك من الملائكة، فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من طريق الفريقين: "إذا كذب العبد كذبة تباعد الملك منه مسيرة ميل من نتن ما جاء به"1.
الكذب في النّار
لقد أشرنا آنفاً إلى أنّ الكذب مفتاح الشرور والآثام، ومن ارتكبها فسوف يكون مصيره نار جهنّم وينبّه على ذلك ما جاءت به الأخبار من أنّ الكذب يهدي إلى الفجور والفجور في النّار، منها ما جاء في كتب الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إيّاكم والكذب فإنّه مع الفجور وهما في النّار"2، وكذلك جاء في الرواية بأنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما عمل النّار؟! قال: "الكذب، إذا كذب العبد فجر وإذا فجر كفر وإذا كفر دخل النّار"3.
1 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج6، ص 357.
2 تنبيه الخواطر، ص 92.
3 الترغيب والترهيب، ج3، ص 592.
133
118
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
لا تمكّن الغواة من سمعك:
فكما أنّ الكذب حرام فإنّ الإستماع إلى الكذب منهيّ عنه أيضاً، فإنّ الله سبحانه وتعالى كما عاب على الكذّابين أيضاً عاب على من يستمع إلى الكذب حيث قال ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾1 وأيضاً سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن القُصَّاصِ: أيَحِلُّ الإستماع لهم؟ فقال: "لا"، وقال عليه السلام: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس"2.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تمكِّن الغواة من سمعك"3.
أدنى الكذب وأقبحه:
الكذب مفهوم مشكّك، يختلف شدّة وضعفاً كالظلمة فهي واحدة، نعم قد تشتدّ على المرء إلى درجة لا يعودُ يرى أمامه. أو تكون ضعيفة بإمكانه أن يرى الحقائق أشباحاً ولذا لا يوجد عندنا كذبة صغيرة وكبيرة بل الموجود كذبة قد تضعف وقد تشتدّ، فإنّ أدناه نوع من الفحش وضرب دناءة، كما في الحديث عن مولى المتّقين عليه السلام حيث قال: "تحفّظوا من
1 سورة المائدة، الآية 41.
2 بحار الأنوار، ج72، ص264.
3 نهج البلاغة، كتاب 10.
134
119
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
الكذب، فإنّه من أدنى الأخلاق قدراً وهو نوع من الفحش، وضرب من الدناءة"1.
وأمّا أقبحه فحينما يصبح شديداً ليصل إلى مرحلة الإفك والإفتراء، لا سيّما إذا كان الإفتراء على الله سبحانه وتعالى، وقد أشار القرآن الكريم في مجموعة من آياته الشريفة إلى هذا النوع من الكذب كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾2 وهذا التصرّف القبيح تمّ التعبير عنه في الآيات بصفة الإستفهام الإنكاريّ بقوله كما في هذه الآية ومن أظلم؟ وما يكونون عليه يوم القيامة هو اسوداد وجوههم كما في قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾3.
ومن هنا ذكر الفقهاء أنّ الكذب على الله سبحانه وتعالى يكون حراماً وهو سبب لإفطار الصائم وكذلك الإفتراء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام فهو حرام ويؤدّي إلى الإفطار. ولعظمة الكذب عليهم يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فوالله لأن أخرَّ من السماء أو يخطفني الطير أحبّ
1 بحار الأنوار، ج78، ص 64.
2 سورة الأنعام، الآية 93.
3 سورة الزمر، الآية 60.
135
120
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
إلي من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1.
وممّا جاء في وصايا الإمام السجّاد عليه السلام لولده: "اتقوا الكذب في الصغير والكبير... فإنّ الرجل إذا كذب في الصغيرة أجترأ على الكبيرة"2.
اتقوا الكذب جِدَّه وهزله:
لا فرق في قبح الكذب وفجوره سواء كان المرء في حالة الجدّ أم في حالة الهزل، والغاية لا تبرّر الوسيلة الفاسدة كالكذب، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لا يصلح من الكذب جدُّ ولا هزلٌ ولا أن يعد أحدكم صَبيَّه ثمّ لا يفي له"3. وكذلك جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوعيد عليه في كلا حالتيه حيث قال: "ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له"4.
لا تحدِّث بكلّ ما سمعت:
من الأمور ذات الصلة بالكذب وينبغي للمؤمن أن يلتفت إليها هو أن يحدِّث الآخرين بكلّ شيء يسمعه من الآخرين، وهذا الفعل نُزِّل منزلة الكذب حتّى ولو كان صادقاً في نقل ما سمعه، ويدلّ عليه ما جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحارث الهمدانيّ فقال: "... ولا تحدّث
1 وسائل الشيعة، ج11، ص 102.
2 بحار الأنوار، ح72، ص 235.
3 بحار الأنوار، ج72، ص 259.
4 تنبيه الخواص، ص 92.
136
121
المحاضرة الثانية: اللسان وحرمة الكذب
النّاس بكلّ ما سمعت به، فكفى بذلك كذباً"1.
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "حسبك من الكذب أن تحدّث بكلّ ما سمعت"2.
ومن أراد أن يحدّث ببعض ما سمع فليكن ممّن سمعه من الثقات، كما عن عليّ عليه السلام: "لا تحدّث عن غير ثقة فتكون كذّاباً"3.
والجدير ذكره أنّ الكذّاب قد يصدق حيناً ولكنّه لكذبه لا خير في علمه كما جاء عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا خير في علم الكذّابين"4.
آثار الكذب
هذه الآثار هي مفاد الآيات والروايات،منها الكذّاب لا يهتدي، وهو منافق وخائن ومهان في الدنيا ومعذّب في النّار، ووجهه أسود ويذهب بهاؤه ويفسد الإيمان، وفساد كلّ شيء وعار ولا مروءة له ومتّهم والميت خير منه وحميته ضعيفة وينقص الرزق ويورث الفقر وغيرها.
1 نهج البلاغة، كتاب 69.
2 تنبيه الخواص، ص362
3 بحار الأنوار، ج78، ص 10.
4 غرر الحكم.
137
122
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
الهدف:
بيان مقام المجاهدين عند الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة.
تصدير الموضوع:
"إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يومًا واحداً خير له من عبادة أربعين سنة"1.
1 مستدرك الوسائل، ج2، ص 245.
139
123
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
مقدّمة:
لكلّ إنسان أجل هو بالغه من دون أن يزيد فيه أو ينقص منه، وإذا جاء الموت فليس بإمكاننا ولا بإرادتنا أن نؤخّره ساعة أو نقدّمه، وكلّ هذا بيد الله سبحانه وتعالى ولا خيار لنا في هذا الإنقياد، نعم ما يقع تحت إرادتنا وما هو محكوم لإختيارنا هو أن نختار طريق الجهاد وأن نكون في صفوف المجاهدين بعد توطين أنفسنا على التحمّل والعناء في سبيل ذلك. وأيضًا نحن الذين نختار حياة الدعة ونفضّل حياة القعود على الجهاد، ولكن هيهات هيهات بين جسد يلامسه ثوب ناعم وبين بدن يشدّ عليه درع صلب، وأيضًا بين رأس يتوسّد وسادة صُنعت منه الرياش وبين من اتخذ التراب وسادة لنومه. ولا تستوي أكفٌّ تقبض على قائمة سيفها ولا عين ترمي ببصرها أقصى القوم مرابطة وحارسة، وبين أخرى تمسك بنرجيلة، أو عين تتنقل من شاشة إلى أخرى، وليعلم بأنّ الله تعالى يقول: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾1 ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فطوبى للمجاهدين"2، وليعلم أيضاً أنّ: "السيوف هي مقاليد الجنّة"3 لا شيء آخر، "وإنّ الغبار الذي يصيب المجاهدين في الدنيا لا يجتمع مع دخان جهنّم"4.
1 سورة النساء، الآية 95.
2 شرح نهج البلاغة، ج3، ص184.
3 مستدرك الوسائل، ج2، ص 243.
4 مستدرك الوسائل، ج2، ص 143.
140
124
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
محاور الموضوع
أشباه الرجال:
من النعوت التي أطلقها أمير المؤمنين على فئة من الرجال الذين خلعوا درع الجهاد وآثروا الحياة السوداء (الذليلة) على الموت الأحمر (الشهادة) صفة أشباه الرجال لتخاذلهم و تواكلهم أمر الدفاع عن بلدهم وأعراضهم، ولم ينل أحدًا من المهاجمين كَلْمٌ ولا أُريق لهم دم بقوله: "يا أشباه الرجال ولا رجال حلوم الأطفال وعقول رباب الحجال"1، وقال عليه السلام عن الجبان: "لا يحلّ له أن يغزو لأنّ الجبان ينهزم سريعاً"2.
أوّل من قاتل ورفع راية:
إنّ شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يُعتبر أوّل من قام وحارب في مواجهة الروم كما جاء في الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "إنّ أوّل من قاتل في سبيل الله إبراهيم الخليل حيث أسرت الروم لوطا فنفر إبراهيم عليه السلام واستنقذه من أيديهم"3.
وكذلك يعتبر أوّل من عمل الرايات للتمييز بين المعسكر من جهة ولتحديد القادة من جهة أخرى في كلّ معسكر ويدلّ قول أمير
1 نهج البلاغة، خطبة الجهاد.
2 ميزان الحكمة، ج1، ص 446.
3 مستدرك الوسائل، ج2، ص 242، والوسائل، ج11، ص110.
141
125
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
المؤمنين عليه السلام حيث قال: "أوّل من جاهد في سبيل الله ابراهيم عليه السلام أغارت الروم على ناحية فيها لوط عليه السلام فأسروه فبلغ ذلك ابراهيم فنفر واستنقذه من أيديهم وهو أوّل من عمل الرايات"1.
خير النّاس:
أفضل النّاس وأخيارهم هم الذين اتخذهم الله قوّة ووسيلة لإعلاء كلمته وتأييداً لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وهذا من أرفع الأوسمة التي يتشرّف المجاهدون بحملها على جباههم وصدورهم، ومن جميل ما ذكر في القرآن قوله تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾2 حيث جعل التأييد بالمؤمنين رديفًا للنصر الإلهيّ وفي أخرى هو يخاطب نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾3.
هذا في جبهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمّا في الجبهة الأخرى فقد أضاف القرآن الكريم لهم الأوسمة تلو الأوسمة حيث اعتبر أعدادهم واستعدادهم سببًا لإدخال الرهبة والرعب إلى قلوب أعداء الله وأعدائهم كما عبّر عن ذلك بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ
1 مستدرك الوسائل، ج2، ص 266.
2 سورة الأنفال، الآية 62.
3 سورة الأنفال، الآية 64.
142
126
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾1 وبالفعل يستحقّ المجاهدون مقام خير النّاس وأفضلهم كما أشار إلى ذلك رسول الله بقوله: "خير النّاس رجل حبس نفسه في سبيل الله يجاهد أعداءه يلتمس الموت أو القتل في مصافّه"2، وميزان المفاضلة بين العباد إنّما هو بلحاظ ثقل الأعمال، وبناءً عليه كانت ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين، ويدلّ عليه ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أعمال العباد كلّهم عند المجاهدين في سبيل الله إلّا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر"3.
المجاهد وإحدى الحسنيين:
طالما أنّ المجاهد في سبيل الله قرّر في الخطوة الأولى أن يتاجر مع الله سبحانه وتعالى فممَّا لا شكّ فيه أنّ هذا القرار بحدّ ذاته هو الربح الأوّل والربح الأخير لا سيّما بعد موافقة المشتري على إتمام الصفقة، إذ المشتري هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي سوف يُنقد الحقّ، وهو الذي يقبض المعوَّض، وبيده سوف يسلّم العِوض، وقد جعل الوثيقة عن هذه الصفة في القرآن والإنجيل والتوراة ولا توجد صفة أكثر ربحاً من هذه التجارة حيث يقول? تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
1 سورة الأنفال، الآية 60.
2 مستدرك الوسائل، ج2، ص 244.
3 كنز العمّال، ح 10681.
143
127
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1 وكذلك يشهد له ما رواه الإمام الباقر عليه السلام حيث قال: "أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد، قال: فجاهد في سبيل الله، فإنّك إن تُقتل كنت حيّاً عند الله ترزق، وإن متَّ فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت خرجت من الذنوب"2، حتّى إنّ الصلاة التي يؤدّيها الرجل متقلّدًا سلاحه تختلف عن المجرّد من سلاحه، وسواء كان ذلك بلحاظ الأمور العلويّة أو بلحاظ مضاعفة أجر الصلاة، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزَّ وجلّ يباهي بالمتقلّد بسيفه في سبيل الله وملائكته وهم يصلّون عليه ما دام متقلّده"3، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الرجل متقلّداً بسيفه تفضل على صلاته غير متقلّد بسبعمائة ضعف"4.
المجاهدون والملائكة بين ساحتي الجهاد والقيامة:
كما تُفتح السماء للمجاهدين في دار الدنيا فإنّ كلّ شيء طلق لهم يوم القيامة، ولهم بابهم وسبيلهم وصراطهم وهو الثمن الذي سيقبضونه عوضًا عن أرواحهم التي باعوها لله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث عن
1 سورة التوبة، الآية 111.
2 تفسير نور الثقلين، ج1، ص 409.
3 كنز العمّال، ح 10787.
4 كنز العمّال، ح 10791.
144
128
المحاضرة الثالثة: مقام المجاهدين
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "للجنّة باب يقال له: باب المجاهدين يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهو متقلّدون سيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحِّب بهم..."1.
وهنا نلاحظ أنّ الملائكة تنتظرهم للترحيب بقدومهم والمجاهدون يستعرضون الملائكة المنتظمة في صفوفها، وهناك ساحة أخرى يلتقي فيها المجاهدون والملائكة إنّما هي ساحة الجهاد في دار الدنيا، كما جاء في قوله تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾2.
إذ لديهم وظيفتان: الأولى تثبيت المجاهدين في المعركة، والثانية الضرب فوق الأعناق والأيدي3.
1 بحار الأنوار، ج100، ص 9.
2 سورة الأنفال، الآية12.
3 سورة الأنفال، الآية: 12.
145
129
المحاضرة الأولى: صفات أصحاب البصيرة في القرآن والحديث
المحاضرة الأولى: صفات أصحاب البصيرة في القرآن والحديث
الهدف:
أن ينظر الإنسان إلى المواقف التي يتّخذها أن تكون عن تفكُّر وتدبُّر.
تصدير الموضوع:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا يزيده سرعة السير من الطريق إلّا بُعدا"1.
1 تحرير الأحكام، الحلّي، ج 1، ص33.
149
130
المحاضرة الأولى: صفات أصحاب البصيرة في القرآن والحديث
مقدّمة:
البصيرة هي البينة والدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به، والبصائر جمعها1. وقيل: البصيرة للقلب كالبصر للعين2 فالبصيرة نور القلب به يَستبصر، كما أنّ البصر نور العين الذي به تُبصر، ومن المجاز: البصيرة: البيان، والحجّة الواضحة، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في عدّة آيات شريفة بمعنى الحجج الباهرة على وحدانيّة الله سبحانه وتعالى وانتفاء الشريك عنه، وهي ضدّ العمى، والنسبة بينهما نسبة العدم والملكة يوجدان فيمن له قابليّة الإبصار.
وقد جُمِعَا قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾. وقد وصفت البصائر (الآيات والحجج) بالهدى والرحمة والغاية منها الهداية والإرشاد والتذكرة للنّاس وهم على خيرة من أمرهم إن شاءوا أبصروا بها وإن شاءوا عموا عنها غير أنّه الأبصار لأنفسهم والعمى عليها، ولطالما أنّ المنتفع بها هم المؤمنون وباعتبار أخذهم بالبصائر وسلوك سبيلها فهم أصحاب بصيرة كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾3. وكزيادة في البيان ما جاء في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام: "في قوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم
1 مجمع البيان، ج7، ص154.
2 تفسير الميزان، ج7، ص302.
3 سورة يوسف، الآية: 108.
150
131
المحاضرة الأولى: صفات أصحاب البصيرة في القرآن والحديث
بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾. ليس يعني من البصر بعينه، ومن عمي فعليها ليس يعني عمى العيون إنّما عنى إحاطة الوهم"1.
أصحاب البصيرة هم أصحاب القلوب الواعية:
البصيرة بما أنّها من الكيفيّات النفسانيّة فموطنها ليس الحواسّ الظاهريّة وإنّما القلب، ومن هنا تحدّد لنا بوصلة اتجاه الإنسان إمّا نحو الارتقاء حتّى يعرج إلى مصافّ الملائكة وإمّا يلِج في ظلمات التيه الطينيّ فيغدو أضلَّ من الأنعام. ويكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾2. وبناءً عليه فمن يملك قلباً واعياً فهو صاحب بصيرة، وكلّما كان المرء أكثر إدراكاً لتفاصيل الأشياء ولتفاصيل التفاصيل كانت البصيرة أكثر انبساطاً في نفسه وقلبه.
البصيرة بين الفكر والعلم
البصيرة ثمرة التفكّر، فمن يسمع الأشياء من حوله، ويبصر ما حوله، وهكذا كلّ ما يأتي إلى النفس من منافذها وهي الحواسّ، ثمّ يتأمّل ويتدبّر ويفكّر فيها، ثمّ يخلص إلى ما يوافق حكم العقل والشرع فيكون بصيراً،
1 الكافي ج - ص.
2 سورة الحج، الآية: 101.
151
132
المحاضرة الأولى: صفات أصحاب البصيرة في القرآن والحديث
وبذلك يحصل له اليقين الكاشف بحقائق الأمور، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في الآية الشريفة: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾. ومن السنّة الشريفة ما جاء في كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "من اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم ومن فهم علم"1. وفي موضع آخر قال عليه السلام: "فإنّما البصير من سمع فتفكّر ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر ثمّ سلك جدداً واضحاً يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي"2.
فقد البصر والبصيرة:
مَنْ فقد بصره لا يخرج عن حدّ الإنسانيّة، بل هناك من فقد بصره إلّا أنّه يملك من العلوم والمعارف ما يبهر العقول، وأمّا فاقد البصيرة فهو أعمى القلب وبه يخرج من حيّز الإنسانيّة حتّى لو تمتّع بقوّة البصر، وبعبارة أخرى فمن كان لهم أعين ولكن لا يعتبرون بما يرونه، ولهم آذان ولكن ترفض كلمة الحقّ، ولهم قلوب لا تنقاد إلى الحقيقة، فليست موجودة حكماً وقد اصطلح عليهم القرآن الكريم: ﴿أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾. ويدلّ عليه ما جاء في مجموعة من الأخبار منها: "نظر البصر لا يجدي إذا عمي البصير"3. وجاء على لسان أمير المؤمنين عليه السلام: "ليست الرؤية مع
1 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 4، ص47.
2 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج9، ص158.
3 ميزان الحكمة،ج 1، ص422.
152
133
المحاضرة الأولى: صفات أصحاب البصيرة في القرآن والحديث
الأبصار، فقد تكذب العيون أهلها ولا يغشّ العقل من استنصحه"1. وفي بعض الروايات: "ليس الأعمى من يعمى بصره، إنّما الأعمى من تعمى بصيرته"2.
البصير حقّاً:
يجب أن يكون الإنسان المؤمن صاحب بصيرة في كلّ شؤون الحياة فلا يقنع نفسه بأنّه صاحب بصيرة في الأمور الاعتقاديّة كقضيّة التوحيد والنبوّة والإمامة وغير ذلك، فهذه قضايا أضحت من الأمور البديهيّة عند الإنسان المؤمن، وهكذا بالنسبة لكلّ المسائل الواضحة التي لا تحتاج إلى المزيد من التأمّل والتفكير والتدبّر. ربّما يقال بأنّ البصير هو ذلك المرء الذي يواجه أموراً غامضة، ثمّ يعمل على إزالة الشبهات من أمامه وينفذ بالاعتماد على الحجج والأدلّة إلى النتيجة الصحيحة والسليمة، وهذا ليس له ميدان محدّد وحقل معيّن، بل يجري في الأمور الاجتماعيّة والسياسيّة والعسكريّة والأمنيّة والإداريّة وحتّى في الشؤون الأسريّة. ويدلّ عليه ما جاء عن مولانا عليّ عليه السلام حيث قال: "إنّي والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاع الأرض كلّها ما باليت ولا استوحشت، وإنّي من ظلالهم (ضلالهم) الذي هم فيه، والهدى الذي أنا عليه، لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربّي، وإنّي إلى لقاء الله وحسن ثوابه لمنتظر راج"3.
1 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 19، ص173.
2 كنز العمّال، ج122، ص 213.
3 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج3، ص120.
153
134
المحاضرة الأولى: صفات أصحاب البصيرة في القرآن والحديث
أفضل أصحاب البصائر
أفضل أصحاب البصائر من تبصّر عيوب نفسه ومن وعى التذكير وقبِلَه بعد أن سمعه. فعن مولانا الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾1، "هو أعلم بنفسه"2.
وعنهم عليهم السلام: "أبصر النّاس من أبصر عيوبه وأقلع ذنوبه"3. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "ألا إنّ أبصر الأبصار ما نفد فيّ الخير طرفه، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التذكير وقبِلَه"4.
خاتمة:
إنّ إحدى أهمّ صفات أصحاب القائم - أرواحنا فداه - أنّهم أهل البصائر كأصحاب الحسين عليه السلام في كربلاء ويدلّ عليه ما جاء في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام فقال: "قوم لم يمنّوا على الله بالصبر، ولم يستعصموا بذلَ أنفسهم في الحقّ، حتّى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء، حملوا بصائرهم على أسيافهم ودانوا لربّهم بأمر عظيم"5.
1 سورة القيامة، الآية: 14.
2 عوالي اللئالي، الاحسائي، ج3، ص 82.
3 ميزان الحكمة،ج، ص 423.
4 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد،ج3، ص82.
5 ينابيع المودّة، القندوزي، ص437.
154
135
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
الهدف:
أهمّيّة نموّ ملكة القناعة في النّفس لبلوغ درجة الغنى.
تصدير الموضوع:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "طلبت الغنى فما وجدته إلّا بالقناعة عليكم بالقناعة تستغنوا"1، وعن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يسلك طريق القناعة إلّا رجلان: إمّا متعبّد يريد أجر الآخرة أو كريم متنزّه عن لئام النّاس"2.
1 بحار الأنوار، ج 69، ص 399.
2 بحار الأنوار، ج 78، ص 349.
155
136
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
مقدّمة:
الفَقْرُ والفُقْر ضدّ الغنى مثل الضعف والضُعف وعن الليث: الفُقْر لغة رديئة، وعن ابن سيده: وقدْرُ ذلك أن يكون له ما يكفي عياله، وعن ابن السكّيت: الفقير الذي له بُلْغة من العيش، وقال ابن عرفة: الفقير عند العرب المحتاج، قال الله تعالى: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ﴾ أي المحتاجون.
والغنى ضدّ الفقر، هذا لغويّاً وأمّا شرعاً، فالفقير هو الذي لا يملك قوت سنته، وأمّا الغني فهو ما زاد عنده عن قوت سنته.
وإنّما تحدّثنا عن الفقر والغنى ولكن باعتبار أنّهما نتيجتان طبيعيّتان للقناعة تمّ التعرّض لهما، وهنا فإنّ كلّ من رضي بما قسم الله له من الرزق فهو قنوع ويكتفي به من دون أن يلتفت إلى ما في أيدي النّاس فضلاً عن أن يمدّ يده إليهم فإنّ هذا وأمثاله وإن كان فقيراً بالمعنى الشرعيّ أي لا يمتلك قوت سنته إلّا أنّه غنيّ بالمعنى الأخلاقيّ أي يحافظ على عزّة نفسه ولا يستذلّها بالإنقياد إلى الآخرين. ومقابل ذلك فقد نجد أنّ الكثير من أصحاب الثروات الطائلة فإنّهم لا يقفون عند حد لإشباع غريزة حبّ المال عندهم، وهم أحرص النّاس على جمعه، فهؤلاء وإن كانوا أغنياء بالمصطلح الشرعيّ إلّا أنّهم فقراء أخلاقيّاً لأنّ الواحد منهم نفسُه منهومة لا تشبع، ولذا تجده أحياناً يعرّض نفسه للمذلّة مقابل أن يحصل على دراهم معدودة وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ الفقير فقيران والغني غنيان، فقير لا يملك مالاً وفقير هو مملوك للمال الذي يمتلكه، وغنيّ يملك مالاً وغنيّ لا
156
137
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
يملكه المال لقنوعه بما قسم الله، وأحياناً يصبح مِلكاً وهو صاحب كنوز، بينما أولئك أرقّاء لا يأتون بخير أينما كان توجههم.
وعلى هذا المعنى تضافرت الروايات الكثيرة منها: "كفى بالقناعة ملكاً"1 "القناعة تغني"2، "القناعة غنيّة"3، "القانع غني وإن جاع وعرى"4، "لا كنز أغنى من القناعة"5، "من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى النّاس"6.
محاور الموضوع
الحياة الطيّبة:
كلّ إنسان يسعى إلى حياة طيّبة يسعد فيها، ولكن المشكلة التي تواجه الكثيرين في تشخيص هذه الحياة أن يعتبر البعض أنّها تتحقّق بجمع المال وكثرته، بخلاف آخرين، فقد يعتبرونها تكمن في القناعة، ومن النماذج التي نجدها في القرآن الكريم حينما خرج قارون في زينته على النّاس فقد انقسموا إلى فئتين وهما: الفئة التي تريد الحياة الدنيا والفئة التي أوتيت العلم، فالفئة الأولى قالت: ﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ
1 نهج البلاغة، قصار الحكم، 229.
2 غرر الحكم.
3 بحار الأنوار، ج78، ص 10.
4 غرر الحكم.
5 بحار الأنوار، ج69، ص 399.
6 بحار الأنوار، ج77، ص 45.
157
138
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
عَظِيمٍ﴾. وأمّا الفئة الثانية فقالت: ﴿وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾1.
وأمَّا حقيقة الحياة الطيّبة وجوهرها فهما القناعة، ويدلّ عليه ما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سئل عن قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾2 فقال: "هي القناعة"، ومن هنا فإنّ طالبي المال لا يجدون طعم الحياة الطيّبة.
كيف نربّي أنفسنا على القناعة؟
القناعة صفة نفسانيّة تتحصَّل في النّفس وتنمو إلى أن تصبح ملكة راسخة، وهي تفتقر إلى مجاهدة النّفس كأيّ صفة أخلاقيّة يرغب الإنسان بالتحلّي بها، ولكي يحصل الإنسان عليها فلا بدّ من إزالة صفات بالترويض والتهذيب، والذي يحول دون تحلِّي النفس بها الطمعُ والحرصُ وعدم العفّة، وطبيعة الإنسان إذا ازداد طمعه بالاستكثار من جمع المال أو حرصه على ماله من النفاذ أو لم ينزه نفسه عن المذلّة بمدّ يده إلى الآخرين فحينئذٍ تكون جميع السبل مقفلة أمام حلول القناعة في النّفس، ولذا لا بدّ وأن يبدأ المرء بإزالة هاتيك الصفات أوّلاً، وإلى ذلك أشار الإمام الباقر عليه السلام بقوله: "أنزل ساحة القناعة باتقاء الحرص
1 سورة القصص، الآية: 79 80.
2 سورة النحل، الآية 97.
158
139
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة"1. وعن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لن توجد القناعة حتّى يفقد الحرص"2، وهنا توجد مجموعة من الوصايا التي تفضَّل بها الإئمّة عليهم السلام في مقام تربية النّفس على صفة القناعة، فقد ورد أنّ رجلًا شكا إلى أبي عبد الله عليه السلام أنّه يطلب فيصيب ولا يقنع، وتنازعه نفسه إلى ما هو أكثر منه وقال: علّمني شيئًا أنتفع به، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "إن كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك فكلُّ ما فيها لا يغنيك"3.
وأمّا كيف يغنى بما يكفيه، فمثال ذلك ما رواه الإمام الباقر عليه السلام قال: "أكل عليّ من دَقَل (اردأ التمور) ثمّ شرب عليه الماء، ثمّ ضرب على بطنه وقال: من أدخله بطنه النّار فأبعده الله"4.
وممّا يساهم في بناء ملكة القناعة في النّفس أن يتخلّى عن أمرين:
الأوّل: لا ينظر إلى ما عند الغير.
الثاني: لا يتمنّى ما لم ينله.
وإليهما أشارت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام فقال: "اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر إلى ما عند غيرك ولا تَتَمَنَّ ما لست نائله، فإنّه من قنع شبع ومن لم يقنع لم يشبع وخذ حظّك من آخرتك"5.
1 بحار الأنوار، ج78، ص 163.
2 غرر الحكم.
3 الكافي، ج2، ص 139.
4 كنز العمّال، ح 8741.
5 الكافي ج8، ص 243.
159
140
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
القناعة باليسير تغنيه عن الكثير
هذه معادلة طبيعيّة بين القناعة والغنى كما أشرنا إليها آنفاً والذي يجدر الإشارة إليه أن من يقنعه اليسير فإنّه يستغني عن الكثير وأمّا من لم يقنعه اليسير فلا ينفعه الكثير، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من لم يقنعه اليسير لم ينفعه الكثير"1، وفي مورد آخر قال: "من كان بيسير الدنيا لا يقنع، لم يغنه من كثيرها ما يجمع"2. إذن المعيار الأساسيّ للحياة السعيدة الكفاف والإكتفاء برزقه المقسوم وإلّا فلو اجتمع عليه مال الدنيا فلا يكفيه ولا يكفّ نفسه عن النظر إلى ما عند الآخرين، فهذا أمير المؤمنين عليه السلاميخاطب ابن آدم بقوله كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "ابن آدم إن كنت تريد من الدنيا ما يكفيك فإنّ أيسر ما فيها يكفيك، وإن كنت إنّما تريد ما لا يكفيك فإنّ كلّ ما فيها لا يكفيك"3.
ثمرة القناعة وآثارها
ممّا لا شكّ فيه أنّ للقناعة ثماراً وآثاراً عظيمة على باطن القانع وظاهره وفي دنياه وآخرته:
فمن الآثار الباطنيّة: النزاهة والعفاف، فعن أمير المؤمنين قال: "من قنعت نفسه أعانته على النزاهة والعفاف"4، ومنها عزّة النّفس فعنه عليه السلام: "من عزّ الأنفس لزوم القناعة"5.
1 بحار الأنوار، ج 78، ص 71.
2 غرر الحكم.
3 الكافي، ج2، ص 138، ح6.
4 غرر الحكم.
5 غرر الحكم.
160
141
المحاضرة الثانية: ثقافة القناعة
ومنها العزوف عن الطلب، فعنه عليه السلام: "ثمرة القناعة الإجمال في المكتسب والعزوف عن الطلب"1.
ومنها: راحة الأبدان وإزالة الغمّ من النّفس، فعن الإمام الحسين عليه السلام قال: "القنوع راحة الأبدان"2، "من قنع لم يغتمّ"3.
وأمَّا عن آثارها في الدّين والدنيا: فيقول أمير المؤمنين عليه السلام: "اقنعوا بالقليل من دنياكم لسلامة دينكم فإنّ المؤمن البلغة اليسيرة من الدنيا تقنعه"4.
وأيضاً: فإنّ العيش الهانئ في الدنيا لا يتمّ إلّا بالقناعة؛ فعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "أنعم النّاس عيشاً من منحه الله سبحانه القناعة وأصلح له زوجه"5.
وقال: "القناعة أهنأ عيش"6، وأمَّا عن ثمارها في الآخرة فيقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أقنع بما أوتيته يخفّ عليك الحساب"7.
1 غرر الحكم.
2 بحار الأنوار، ج78، ص 128.
3 غرر الحكم.
4 غرر الحكم.
5 غرر الحكم.
6 غرر الحكم.
7 بحار الأنوار، ج77، ص 187.
161
142
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
الهدف:
بيان أهمّيّة بذل المال لتجهيز المجاهدين وبيان حرمة أذيّتهم.
تصدير الموضوع:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من جهزَّ غازياً بسلك أو إبرة غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر"1.
1 مستدرك الوسائل، ج2، ص 245.
163
143
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
مقدّمة:
إنّ الدفاع عن الإسلام والوقوف في وجه الأعداء يقتضي توفّر الإمكانيّات التي تمكّن الجند من تحقيق النصر، وأمّا تحديدها فهو محكوم لمقتضيات المعركة بعد دراسة لطبيعتها ولمعرفة احتياجاتها، فمنها حاجات ثابتة في كلّ معركة، من تأمين الجند والسلاح والمال. وهناك حاجات متغيّرة تتعلّق بظروف كلّ معركة من حيث عدد أفراد الجند في المعسكر المقابل، ونوعيّة السلاح والعتاد الحربيّ، ومستوى التهديدات، إلى غير ذلك من التفاصيل التي لا بدّ من دراستها والإطلاع عليها لسدّ الثغرات تلافياً لما قد يشكّل مفاجأة في الميدان فيغيّر مسار الحرب ويؤثّر في النتائج.
ومن الأمور التي تجدر الإشارة إليها فكما أنّ أية معركة تتطلّب ما تقدّم، فهناك متطلّبات أخرى ينبغي العمل على توفيرها لما بعد المعركة كتقديم العلاج للجرحى. وربّما يستدعي رعاية مستدامة في حال وجود إعاقة دائمة، وكذلك احتضان عوائل شهدائهم وتأمين الحياة الكريمة لهم، وقد تحتاج هذه المسائل إلى أموال طائلة تزيد كثيراً على ما تحتاج إليه أي معركة على المستوى الميدانيّ. والخلاصة: فإنّ المال يشكّل أحد الأركان الأساسيّة لأيّ حرب مهما كانت ظروفها وطبيعتها ويمكن توزيعه على ثلاث مراحل:
الأولى: ما قبل المعركة، حيث ينفق على تجهيز المجاهدين من سلاح
164
144
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
وعتاد وأمتعة وما يقدّم لهم من أموال نقديّة في أيديهم لتأمين عوائلهم وأسرهم كما عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "والمجاهد في سبيل الله إن جُهِّز بمال غيره فله فضل الجهاد ولمن جهّزه فضل النفقة في سبيل الله وكلاهما فضل والجود بالنّفس أفضل في سبيل الله من الجود بالمال"1.
الثاني: أثناء المعركة لتوفير مقدار من المال كاحتياط لمواجهة أي طارئ يحدث أثناء نشوب المعركة.
نشوب المعركة:
الثالث: توفير مقدار من المال ربّما يزيد على ما ينفق على المعركة ومقدّماتها، وهذا خاصّ بالجرحى وعوائل الشهداء ولإصلاح البيوت والمزروعات وغيرها ممّا لحق بها الفساد من جرّاء المعركة. ولأجل هذه الأمور وغيرها ربّما نجد أنّ القرآن الكريم قد قرن في أكثر الأحيان حين الحديث عن الجهاد بين الجهاد بالنّفس والمال، ومن الملاحظ أنّ الآيات الشريفة تارة قدّمت الجهاد بالمال على الجهاد بالنّفس وأخرى بالعكس، وعلى سبيل المثال، فمن النحو الأوّل قوله تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾2
1 مستدرك الوسائل، ج2، ص 245.
2 التوبة: 41.
165
145
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
ومن النحو الثاني قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1 ومن المؤكّد أنّ التقديم والتأخير لحكمة، ولعلّ الحكمة في ذلك إمّا بلحاظ أنّ الحاجة للمال أكثر من غيرها فقدّمها، وإمّا بلحاظ ما ذكرناه سابقاً من أنّ طبيعة أيّ معركة تحتاج إلى المال في بدايتها وبعدها وأثناءها فكان التقديم والتأخير لأجل ذلك. وربما خفي علينا وجه الحكمة والله العالم.
المال قيام وقوّة:
جاء في القرآن الكريم على ذكره باعتباره يشكّل مقوّماً أساسيّاً للبشريّة وحصره في أمرين الأوّل الكعبة الشريفة إذ تعدّ المناط الرئيسيّ لإصلاح أمورهم الدينيّة والدنيويّة لما تُهَيِّئُه من جوِّ الأمن والأمان للنّاس. وقد أشار إلى هذه الحقيقة قول الله تعالى: ﴿جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2 والأمر الآخر الأموال إذ يعدّ هو الآخر قوام حياة النّاس ومناط معاشهم، وتمّت الإشارة إليه في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ
1 سورة التوبة، الآية 111.
2 سورة المائدة، الآية 97.
166
146
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا﴾1 وعندما ننفق جزءا من الأموال للمجهود العسكريّ إنّما هو إنفاق لما يكون فيه قوّة للجند وقيام للنّاس؛ ويدلّ على ذلك ما جاء في كلام أمير المؤمنين في عهده لمالك الأشتر حيث قال له: "ثمّ لا قوام للجنود إلّا بما يُخرج الله لهم من الخراج الذي يقوَوْنَ به علىجهاد عدوّهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم"2. تبيّن لنا من خلال هذه الفقرة أنّ للمال مهامَّ ثلاثاً على مستوى المعركة:
• يعتبر أحد مصادر القوّة التي يُستند إليها لمجاهدة الأعداء.
• يُعتمد على المال فيما يصلح شؤونهم الدينيّة والدنيويّة.
• يُعينهم على قضاء حوائجهم الأسريّة والحياتيّة، ولذا نجد الدول في عصرنا الحاضر تخصّص أكبر جزء من مدخولها القومي لصالح وزارة الدفاع من أجل التسليح والتدريب والتجهيز.
وينبغي الإلتفات إلى قضيّة في غاية الأهمّيّة على مستوى الدعم المالي للمجاهدين، أنّه في ما يقدّم لهم أحياناً هو قليل بالحسابات الماديّة، بل ربّما قد لا يحتاجون إليه، ولكن قيمته معنويّة لما له من آثار طيّبة وكثيرة في نفوس المجاهدين بما يكشف عن عمق التضامن معهم والشعور بمسؤوليّاتهم اتجاههم. فعلى سبيل المثال لو أرسل النّاس إلى حيث
1 سورة النساء، الآية 5.
2 نهج البلاغة، عهده إلى مالك الأشتر.
167
147
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
يرابطون أو يواجهون بعض وجبات الإفطار، أو قدَّموا الطعام الطازج، أو العمل على تنظيف ثيابهم، إلى غير ذلك من الأعمال الصغيرة التي تساهم في ارتفاع معنويّاتهم أمام أعدائهم.
دعم المجاهدين بوسائل مختلفة:
ليس لدعم المجاهدين لون واحد، بل هناك سبل متعدّدة يمكن التعويل عليها لتقديم الإعانة للمقاتلين. وأمّا ذروة الدعم وسنامه فهو الحضور معهم ثمّ يأتي في المرحلة الثانية دعمهم بالمال، ثمّ يتلوها الدعم الإعلاميّ، ثمّ الدعم بالدعاء لهم بالحفظ والنصر والظفر.
الجهاد الإعلاميّ كان سابقاً يعتمد بالدرجة الأولى على اللسان، أمّا اليوم فيضاف إليه ما يتلقّاه المتلقّي مشاهدة وسماعاً وقراءةً، ويدلّ عليه ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من بلّغ رسالة غازٍ كان كمن أعتق رقبة وهو شريكه في ثواب غزوته"1.
وأمّا مادّة وموضوع هذا النوع من الجهاد فممّا يؤدّي إلى الحفاظ على معنويّات المجاهدين وما يعزّز صمود النّاس الذين يقيمون خلف خطوط الجبهة، ولا بدّ من الحديث أيضاً عن دور الأمّة في احتضان المجاهدين وتقديم الدعم لهم، وبيان أهمّيّة الجهاد ومقام المجاهدين عند الله سبحانه وتعالى، إلى غير ذلك ممّا يدخل في ثقافة الجهاد عندهم ويحوّلهم إلى أصحاب بصيرة. ويدلّ على هذا اللون من الجهاد كلام أمير المؤمنين:
1 وسائل الشيعة، ج11، ص 14.
168
148
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
"جاهدوا في سبيل الله ... فإن لم تقدروا فجاهدوا بألسنتكم"1.
وأمّا الجهاد بالقلب بمعنى أن يكون الإنسان محبًّا للمجاهدين ولجهادهم ويفرح لنصرهم ويحزن لإنكسارهم وفشلهم ويدلّ عليه ما جاء على لسان أمير المؤمنين عليه السلام عقيب حرب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال له عليه السلام: "أَهَوى أخيك معنا؟" فقال: نعم، قال: "فقد شهدنا، ولقد شهدنا! في عسكرنا هذا أقوامٌ في أصلابِ الرجالِ وأرحامِ النساءِ، سَيَرْعَفُ بهم الزمانُ ويقوى بهم الإيمان"2.
ومن مصاديق الجهاد بالقلب أن يرى جهاد المجاهدين معروفاً فيأمر به وأن يرى ما عليه أعداء الله منكراً فينهى عنه ويدلّ عليه قول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "إنّ أوّل ما تقلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم ثمّ بألسنتكم ثمّ بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً، قُلب، فجعل أعلاه أسفله"3.
وأيضاً من مصاديقه الدعاء لهم وتثبيت أقدامهم وتسديد ضرباتهم وإنزال النصر عليهم.
كفّ الأذى عن المجاهدين وعن عوائلهم:
إنّ فلسفة تشريع الجهاد هي الدفاع عن دين الله سبحانه وتعالى وعن
1 بحار الأنوار، ج 100، ص 49.
2 نهج البلاغة، خطبة 12.
3 بحار الأنوار، ج100، ص 89.
169
149
المحاضرة الثالثة: تجهيز المجاهد وحرمة أذيّته
عزّة الأمّة وكرامتها، فأيّة أذيّة تصيب مجاهداً ولو بغيبته فقد تضعف من قوّته، وبالتالي ربّما يؤدّي ذلك إلى فشل تحقيق أهداف المعركة ويعزّز من قوّة شوكة أعداء الله تعالى، ولأجل الحفاظ على منجزاتهم وتحصيناً لمشروعهم كان الله تعالى كفيلاً بحمايته والدفاع عنه, فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من اغتاب غازياً أو آذاه أو خلفه في أهل بخلافة سوء نُصِبَ له يوم القيامة علم فيستفرغ بحسناته ويركس في النّار"1.
1 بحار الأنوار، ج100، ص75.
170
150
المحاضرة الأولى: ثورة القيم في عصر الظهور
المحاضرة الأولى: ثورة القيم في عصر الظهور
الهدف:
بيان طغيان الظلم والفساد في الأرض في كلّ نواحي المجتمع وبيان أنّ النهـج المـقـاوم حصن القيّم وسور المبادئ.
تصدير الموضوع:
"فعندها يذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء لما يرى من المنكر".
173
151
المحاضرة الأولى: ثورة القيم في عصر الظهور
مقدّمة:
ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه في أنّ ثورة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، هي ثورة القيم وإعادة الأمور إلى نصابها من تقويم الاعوجاج في العقائد إلى إصلاح ما فسد من أخلاق البشر، ومن القضاء على البدع إلى سوق العباد نحو الكمال الإنسانيّ. وليس هذا فحسب، بل تشمل عنايته وبركاته الأمور التكوينيّة ككمال العقول ومجاورة الحمل للذئب، ومن هنا تفتح الأبواب على الحديث عن أنّ المذكورات هي جميعها مصاديق للقسط وإقرار لطبيعة العدل الإلهيّ الجاري على يديه المباركتين، وبناءً عليه فليس المراد من العدل: العدل السياسيّ والاجتماعيّ فحسب، بل يشمل كلّ زاوية من زوايا الحياة البشريّة والكونيّة والتشريعيّة والتكوينيّة. فكما أنّ انحراف السلطان ظلم، واستقامته عدل، وكما أنّ حكم القضاة بغير الحقّ جور ونقيضه قسط، فكذلك من باب الجري والتطبيق يمكن القول بأنّ التفكّك الاجتماعيّ والتحلّل الأخلاقيّ وتهديم الأسرة جور وظلم.
فنقائضها قسط وعدل، وهذا يسوقنا إلى الفهم الدقيق لمعنى امتلاء الأرض بالجور والظلم قبل ظهوره الشريف ولم يعد هناك فرق بين استبداد الظلَمة وعتوِّ الدول المستكبرة، وبين تخلّي الأمّة عن مبادئها وهجران الأفراد للقيم. وبعد التسليم بهذه المقدّمة فحري بنا أن ننتفض لنقوم بثورة قيميّة في عصر الغيبة الكبرى لنحافظ على مبادئنا وقيمنا ونتحلّى بمكارم الأخلاق ونستقيم كما أُمرنا حتّى لا نكون من المساهمين
174
152
المحاضرة الأولى: ثورة القيم في عصر الظهور
في نشر الفساد، ولكيلا نلتقي مع الجبابرة والظلمة في ملء الأرض بالظلم والطغيان. وسأسلط الضوء على بعض عناصر الجور والظلم الاجتماعي.
محاور الموضوع
الجانب الأوّل: العلاقات الاجتماعيّة
يجب أن تقوم العلاقات الاجتماعيّة على أساس يبنى عليه رحمة الكبير والقوي للصغير والضعيف وبالمقابل يبادلانهما بالاحترام والتقدير، وسيؤدّي هذا بالطبع إلى رعاية حقوق القاصرين والمستضعفين، وبالتالي لا يبقى أيّ مورد لتهديد الآخرين في أنفسهم وممتلكاتهم، هذا بخلاف ما لو كانت العلاقات الاجتماعيّة تقوم على أساس التنافس الماديّ والتزاحم الجسمانيّ فتؤدّي بالعنصر البشريّ إلى التمايز الطبقيّ، وتكون السيطرة للأقوى وبذلك تنسلخ البشريّة من إنسانيّتها وينتشر البغض والحسد والكراهية. وحينها يفقد المجتمع قيمه وأخلاقه، فقد ورد عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "وذلك عندما تصير الدنيا هرجاً ومرجاً ويغار بعضهم على بعض فلا الكبير يرحم الصغير ولا القوي يرحم الضعيف فحينئذٍ يأذن الله له بالخروج"1، وفي رواية عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فعندما يأتي قوم من المشرق وقوم من المغرب فالويل لضعفاء أمّتي منهم
1 بحار الأنوار، ج52، ص380.
175
153
المحاضرة الأولى: ثورة القيم في عصر الظهور
والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيراً ولا يوقّرون كبيراً، لايتجافون عن شيء، جثثهم جثث الآدميين وقلوبهم قلوب الشياطين"1.
الجانب الثاني: العلاقات الإسلاميّة الأسريّة
الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فإذا تصدّعت انهار المجتمع بالكامل، وتتعرّض الأسرة في هذه الفترة إلى تحوّلات عجيبة بسبب عدم التزامها بالقيم، من قبيل ظلم الزوج لحقوق زوجته، أو عدم رعاية الزوجة لحقوق زوجها وهكذا لو أضحى الولد عاقّاً لوالديه وتخلّى الوالدان عن مسؤولّيتهما في تربية الأبناء، ويدلّ عليه ما عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يكثر الطلاق والفراق والشكّ والنفاق...ويكثر أولاد الزنا"2. ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "ورأيت العقوق قد ظهر واستخفّ بالوالدين...ورأيت الأرحام قد تقطّعت"3.
الجانب الثالث: تبدّل القيم
من الخطورة بمكان أن يرى المرء القبيح فيرتكبه وينظر إلى الحسن فيتركه، وأخطر منه أن يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً، وأخطر من كلّ ذلك أن يأمر بالقبيح وينهى عن الحسن، وعندما يؤول الأمر بالمجتمع إلى أن يعطف الهدى على الهوى لا العكس، وكذلك يعطفون القرآن على الرأي وليس العكس وهكذا
1 مستدرك الوسائل، ج11، ص374.
2 مستدرك الوسائل، ج11، ص374.
3 بحار الأنوار، ج52، ص265.
176
154
المحاضرة الأولى: ثورة القيم في عصر الظهور
يفضي إلى إحياء البدعة وموت السنّة، وقد أشير إلى ذلك في مجموعة من الراويات، منها عن الإمام العسكريّ عليه السلام وهو يخاطب أبا هشام الجعفريّ فيقول له: "يا أبا هشام، سيأتي زمان على النّاس وجوههم ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة منكدرة، السنّة فيهم بدعة والبدعة فيهم سنّة"1.
الجانب الرابع: قيمهم ثرواتهم
إذا أصبحت القيمة لأصحاب رؤوس الأموال والكلمة للمال، فتُماث الإنسانيّة كما يُماث الملح في الماء وهذا ما يحصل في زماننا وقد أشير إليه في العديد من الأخبار والراويات فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "... والميل مع الأهواء، وتعظيم المال وبيع الدّين بالدنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الملح في الماء"2.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ورأيت صاحب المال أعزّ من المؤمن"3 - وعنه أيضاً: "ورأيت النّاس همّهم بطونهم وفروجهم، لايبالون بما أكلوا وبما نكحوا ورأيت الدنيا مقبلة عليهم"4.
الجانب الخامس: تضيع العبادات
إذا لم تنه الصلاة عن الفحشاء والمنكر فهي ليست بصلاة، وإذا أكل الإنسان الربا، ترك الزكاة، فتنقطع العلائق بين العبد وربّه بل أمسى له إلهٌ أخر يعبده ألا وهو هواه، وهذا ما يمكن رؤيته في عصر الغيبة
1 إكليل الممنهج في تحقيق المطلب، الكرباسي، ص128.
2 مستدرك الوسائل، ج11، ص327.
3 منتخب الأثر، ص429.
4 بحار الأنوار، ج52، ص260.
177
155
المحاضرة الأولى: ثورة القيم في عصر الظهور
الكبرى، وإليه يشير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما روي عنه: "من اشتراط الساعة إضاعة الصلوات، وإتّباع الشهوات والميل مع الأهواء...وأداء الزكاة عليهم أشدّ التعب عليهم خسراناً ومغرماً عظيماً"1، وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يبقى من الإيمان إلّا اسمه ولا من الإسلام إلّا رسمه ولا من القرآن إلّا درسه مساجدهم معمورة من البناء وقلوبهم خراب عن الهدى"2.
الجانب السادس: جهاد المجتمع
إذا تخلّى كلّ رائد من روّاد المجتمع عن دوره وعن الصفات الواجب التحلّي بها هذا ينم عن التحوّلات الكبرى في القيم الأخلاقيّة، وربّما يحصل قبيل الظهور.
خاتمة: نـور الله فـي الأرض
ما ذكر ما هو إلّا غيض من فيض ما تناولته الراويات والأخبار، ولذا فالمؤمن القابض على دينه كالقابض على الجمر، وهكذا فإنّ قلبه يذوب في جوفه كما يذوب الملح في الماء، ففي هذا الزمن لو تصوّرناه خالياً من هذا النهج المحمّديّ الأصيل الذي شيّد بنيانه الإمام الخمينيّ العظيم لما بقي بقيّة في الأرض إلّا وعمّها الجور والظلم، ولذا فَيُعَّدُ هذا المشروع من أشرف الحصون للمحافظة على القيم الإنسانيّة والمبادئ الإلهيّة، ولا غروّ في كونه كسفينة نوح على سطح الطوفان الذي غمر الأرض وكالنور في الظلمات وميزان العدل أيّام الجور والظلم.
1 مستدرك الوسائل، ج11، ص372.
2 بحار الأنوار، ج22، ص453.
178
156
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
الهدف:
بيان أهمّيّة امتلاك المجاهد للوعي والبصيرة.
تصدير الموضوع:
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله كتبَ القتل على قومٍ والموت على آخرين... فطوبَى للمجاهدين في سبيلِه والمقتولين في طاعتِه"1.
1 بحار الأنوار، ج32، ص203.
179
157
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
مقدّمة:
أهمّيّة الوعي والبصيرة: من وجهة نظر الإسلام يجب على المجاهد المسلم إضافةً إلى التأهيل والخبرة العسكريّة والصفات المعنويّة والأخلاقيّة اللازمة، أن يتمتّع ببصيرة صائبة تمكّنه من اتخاذ القرارات الصائبة، والتعامل مع أمور الجهاد والحياة بحكمة ورويّة. عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطبة يبيّن فيها حال المجاهدين الأوائل زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حملوا بصائرهم على أسيافهم ودانوا لربّهم بأمر واعظهم"1.
وفيما يلي أهمّ مظاهر البصيرة والوعي المطلوبة عند المجاهدين:
الإيمان بالله تعالى سرّ القوّة والثبات
إنّ المجاهدَ الذي ينظر إلى هذا العالم بعين مخلوقٍ يعترف ويُقرّ بوجود الخالقٍ، لا يربط ظهور العالم بلطفه وفيضه فحسب، بل يعتبر أنّ ديمومة الوجود والحياة مرتبطة به تعالى في امتداد الزمن لحظة بلحظة أيضاً، لأنّه الخالق ولا يوجد منبع للقدرة والكمال في العالم سواه، ولا معتمَد غيرُهُ، وهو الذي وصفَ نفسه بأنّه ناصرُ المؤمنين والمجاهدين في سبيله، وفي آنٍ هو عدوُّ الظالمين ...إلخ.
وبناءً على هذه العقيدة لا يسعى هذا المجاهد وراء الأهداف الماديّة
1 نهج البلاغة، خطبة 150.
180
158
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
الرخيصة، ولا يحول شيء من مغريات الدنيا دون عشق الوصال إلى المحبوب، وتكون تطلّعاته دوماً منحصرة في سبيل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾1.
ومثل هذا المجاهد قد رضي بقضاء الله وقدره لأنّه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأمله الوحيد في مصاعب الحرب وشدائدها هو الله الذي كتب على نفسه الرحمة، وعليه يتوكّل وهو نعم المولى ونعم النصير، فلا يستمدّ العون من غيره، ويعتقد أنّ كل ما يظهر في ساحة الوجود ليس سوى إرادة المولى تبارك وتعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾2.
وعليه فإنّ بصيرة هؤلاء المجاهدين قد أوصلتهم إلى مرحلة لا يُبتلون معها بالغرور والعجب والمفاسد الأخلاقيّة، لأنّهم يرون كلَّ الأسباب والمسبّبات في العالم تحت نظر الحقّ وسلطته، ويعتقدون بأنّ جميع الأمور هي بيد? تعالى، وأنّهم ليسوا سوى وسائط قبلها الله برحمته، فإن هزموا العدوّ في الحرب، كانوا مجرّد عباد منفّذين لإرادته: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾3.
1 سورة النساء، الآية: 76.
2 سورة التوبة، الآية:51.
3 سورة الأنفال، الآية: 17.
181
159
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
النظرة الصحيحة إلى الموت والشهادة
إنّ المجاهد المؤمن الذي ينظر إلى هذا العالم وعالم الآخرة في ضوء العقيدة الإلهيّة، ويرى أنّ الموت ما هو إلّا جسر العبور من الدّار المحدودة الفانية إلى دار رحمة الله الخالدة، فهو ليس فقط لا يخشى الموت، وإنّما يسرع إلى استقباله إذا ما تتطلّب الواجب منه ذلك.
إنّ المجاهدين المؤمنين بخطّ الشهادة قد أعدّوا أنفسهم لأيّ نوع من أنواع الموت الذي قُدِّرَ لهم، وعلى رضاً من أنفسهم، وعشقهم أن يكون خروجهم من هذا العالم عن طريق الشهادة، وأن تختم حياتهم في هذا العالم بهذا الشرف العظيم. والإمام عليّ عليه السلام نفسه كان يَعدُّ الأيّام شوقاً إلى هذه الأمنية، حيث يقول: "إنّ أكرمَ الموتِ القتلُ، والذي نفسُ ابن أبي طالب بيده لألفُ ضربة بالسيف أهونُ عليَّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله"1.
وفي آخر عهده لمالك الأشتر، يتمنّى من الله لنفسهِ ولصاحبه الوفيّ أن يرزقهما الشهادة في سبيله، فيقول: "وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قُدرته على إعطاء كلّ رغبة... وأن يختمَ لي ولك بالسعادة والشهادة"2.
وإنّ التسابق إلى الشهادة بين جُندِ صدر الإسلام المضحّين، وكذلك بين أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ومجاهدي الإسلام خلال الحرب
1 نهج البلاغة، الخطبة 122.
2 نهج البلاغة، الرسالة 53.
182
160
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة المباركة، كان ناشئاً من إدراك هذه الحقيقة، التي استلهموها من آيات القرآن الكريم وسيرة المعصومين عليهم السلام، حيث كانوا يعلمون أنَّ الشَّهادة هي أفضلُ أنواع الموت بين يدي الله تبارك وتعالى.
إنّ أفضل صورة على الإطلاق تبيّن حقيقة نظرة المؤمن إلى الشَّهادة، هو حديث السيّدة زينب الكبرى عليها السلام في مجلس ابن زياد لعنه الله، عندما سألها قائلاً: كيف رأيتِ فعلَ الله بأخيك وأهل بيتك؟ فأجابته: "ما رأيت إلّا جميلاً"1.
ومعنى كلمتها المباركة هو: أنّ شهادة جميع الشهداء في كربلاء، وسبيَ النساء والأطفال، وكلّ مشاهد المأساة هي جميعاً من وجهة نظر السيّدة زينب عليها السلام، أمورٌ جميلة لأنّها من أروع آيات التضحية والفداء والإيثار على أعتاب الرضا الإلهيّ، ويجب على كلّ مؤمن تصادفُه أن يستقبلها ويتقبّلها بصدر واسع، ويراها حسنة وجميلة.
عدم الخوف من قوّة العدوّ
إنّ قوّة العدوّ المادّيّة وعديده وعدّته من العوامل التي قد تقود أحياناً إلى الرهبة والخوف، والمؤدّي أحياناً إلى الهزيمة والفشل، وهذا ما يحاول العدوّ تحقيقه والوصول إليه في دعايته الإعلاميّة وحربه النفسيّة ضدّ المجاهدين.
1 بحار الأنوار، ج45، ص116.
183
161
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
ولكن عندما نعود إلى تاريخ الإسلام نجد بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل نجد بأنّهم قد غيّروا المعادلة المذكورة، بوعيهم وبصيرتهم وصبرهم وتحمّلهم، فلو رجعنا إلى عديد جيش الإسلام الأوّل في معاركه، فسنجد أنّ التوازن العدديّ مفقود: ففي معركة بدر كان عدد جيش المسلمين 313 رجلاً مقابل 950 مشركاً على سبيل المثال، ولكن الأمر كان: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾1. وفي معركة الخندق كان المشركون على بعض التقديرات أكثر من عشرة آلاف مقاتل، والمسلمون لم يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف2. لكن المسلمين الأوائل لم يهابوا كثرة الأعداء ولم يخشوا قوّتهم على الإطلاق، بل زادهم الأمر بأساً وتوكّلاً على الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾3.
معرفة حقيقة النصر
في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾4، دلالة واضحة على أنّ تحقّق النصر الإلهيّ شرطه الأوّل والأساسيّ هو نصرة دين الله من خلال العمل الصالح والطاعة والالتزام
1 سورة الأنفال، الآية: 65.
2 بحار الأنوار، ج20، ص228.
3 سورة آل عمران، الآية: 173.
4 سورة محمّد، الآية:7.
184
162
المحاضرة الثانية: الوعي والبصيرة في الجهاد
بالتكاليف الشرعيّة التي يحدّدها الله أو وليّه في الأرض بجدٍّ وإخلاص وتفانٍ، والنتيجة: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾1.
إنّ المجاهدَ المؤمنَ يرى أنّ المبدأ الأساسيّ والأصل الحاكم في المسيرة الجهاديّة هو الطاعة والعبوديّة لله سبحانه التي تتجلّى من خلال ثقافة وروحيّة أداء التكليف الشرعيّ، سواء وصل إلى النتيجة الظاهريّة لجهاده أم لا. لأنّ النصر الحقيقيّ يكمن في الالتزام بالتكليف الشرعيّ وبلوغ رضا الله جلّ شأنه، وعلى أيّ حال كان، لأنَّه امتحان لله لنا في عبوديّتنا الخالصة له من دون أيّ شائبة حتّى ولو كانت على نحو الاغترار بالنصر الماديّ على العدوّ. وفي المقابل، لو قصّر المجاهد في أداء تكليفه وبلوغ رضا الله سبحانه، فإنّه يعتبرُ نفسه مهزوماً حتّى لو تمكّن من الانتصار على العدوّ في الظاهر.
وعليه، لا معنى للهزيمة بالنسبة للمجاهد، المطمئنّ إلى وعد الله بالنصر وبعلوّ شأنه وأصحابه بفضل من الله وقوةّ. كما أشار القرآن المجيد إلى هذا الوعد بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾2، وهذا العلوّ متحقّق حتماً في كلا الحالين - النصر أو الشهادة - والغلبة دوماً هي للمؤمنين على الكافرين ما دامت الطريق تعبّد بمرضاة الله وألطافه.
1 سورة آل عمران، الآية: 160.
2 سورة آل عمران، الآية: 139.
185
163
المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار
المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار
الهدف:
إيضاح فكرة البرزخ وتبيان معالم أهمّ محطّات الإنسان بعد الموت
تصدير الموضوع:
﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾1، ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام في تفسيرها، قال: "هو القبر، وإنّ لهم فيه لمعيشة ضنكاً، والله إنّ القبر لروضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران"2.
1 سورة المؤمنون، الآية:100.
2 بحار الأنوار، ج 78، ص 148.
187
164
المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار
قال الإمام الصادق عليه السلام: "البرزخ القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة"1.
مقدّمة
إنّ البرزخ أوّل طلائع الجزاء الأوفى والثواب الأكبر التي ستلاقي المؤمن جزاء أعماله الإيمانيّة، وما سوف يلاقيه الفاسق والكافر من عذابات القبر من الضغطة والوحشة والحساب والظلمة وجزاء أعماله السيّئة التي كانت تملأ حياته وساعته.
البرزخ تبعات حصاد زرع الدنيا، عذاب القبر مرحلة من مراحل البرزخ وهو العالم الذي سيدخله الإنسان لينال جزاء تبعات أعماله، لأنّ للحسنات التي فعل جزاء وثواباً وللسيّئات التي ارتكب عقاباً على فعلها، هذا موكول ليوم الجزاء الأوفى وهو القيامة، وأمّا قبلها لا حساب ولا جنّة ولا نار، إنّما ينال المؤمن في البرزخ حصّة من نعيم يوم القيامة، وذلك بسبب تبعات أعمال الخير التي ارتكب، والكافر أو الفاسق كذلك ينال حصّة من جزاء تبعات أعماله السيّئة، قال تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾2
1 تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 553.
2 سورة السجدة، الآية:21.
188
165
المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار
ضغطة القبر وصعوبتها، إنّ الأمور بعد الحياة الدنيا وفي البرزخ ستكون أموراً معنويّة أي لم يعد للجسد الدنيويّ من دور يتحسّس به الألم أو الوجع، بل ينصبّ كلّ ما سوف يلاقيه الإنسان في البرزخ على الروح والجسد الآخر الذي سيناسب ذاك العالم، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا يأتي على الميِّت ساعة أشدّ من أوّل ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين يقرأ فيهما فاتحة الكتاب مرّة وآية الكرسي مرّة، وقل هو الله أحد مرّتين، وفي الثانية فاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرّات ويسلِّم ويقول: اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وابعث ثوابها إلى قبر ذلك الميت فلان بن فلان، فيبعث الله مِن ساعته ألف ملك إلى قبره مع كلّ ملك ثوب وحلّة ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور، ويعطى المصلّي بعدد ما طلعت عليه الشمس حسنات ويرفع له أربعون درجة"1.
وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ للقبر ضغطةً لو كان أحد ناجيًا منها لنجا سعدُ بن معاذ"2.
عذاب القبر وشدّته، كما ذكرت فإنّ عذاب القبر هو بسبب تبعات أعمالنا في الدنيا، فمثلاً المؤمن فإنّه يفرح في البرزخ ويتنعّم، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم
1 بحار الأنوار، ج 88، ص 219.
2 صحيح الجامع، 2180.
189
166
المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار
قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي قَبْرِهِ لَفِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ،وَيُرْحَبُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَتَدْرُونَ فِيمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾1، أَتَدْرُونَ مَا الْمَعِيشَةُ الضَّنْكَةُ"؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: "عَذَابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينًا، أَتَدْرُونَ مَا التِّنِّينُ؟ سَبْعُونَ حَيَّةً، لِكُلِّ حَيَّةٍ سَبْعُ رُؤوسٍ يِلْسَعُونَهُ، وَيَخْدِشُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"2.
وحشة القبر، إنّ وحشة القبر نسبية وكما أنها وحشة للبعض فهي أنس للبعض الآخر، وذلك بحسب الأعمال التي أتى بها في الدنيا, لأنّ ما يلاقيه في القبر إنّما هو تبعات الأعمال الدنيويّة فحسب. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا وضع الميت في قبره مثل له شخص فقال له: يا هذا كنّا ثلاثة، كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّفوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك، أما إنّي كنت أهون الثلاثة عليك"3. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقيس بن عاصم وهو يعظه: "إنّه لا بدّ لك يا قيس، من قرين يُدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلّا معك، ولا تبعث إلّا معه، ولا تسأل إلّا عنه، ولا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إن صلح آنست به، وإن فسد لا تستوحش إلّا منه، وهو فعلك"4.
1 سورة طه، الآية:124.
2 صحيح ابن حبّان، كتاب الجنائز.
3 بحار الأنوار، ج 6، ص 265.
4 بحار الأنوار، ج77، ص 175.
190
167
المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار
أعمال خير ندفع بها عن أنفسنا صعوبات القبر، وهذه الأعمال إمّا أن نقوم بها نحن قبل موتنا، أو تُفعل لنا بعد موتنا.
أمّا الأولى: فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ستّ خصال ينتفع بها المؤمن من بعد موته: ولد صالح يستغفر له، ومصحف يقرأ فيه، وقليب1 يحفره، وغرس يغرسه، وصدقة ماء يجريه، وسنّة حسنة يؤخذ بها بعده"2.
والثانية: فعل الغير لك، كما ورد أنّ عيسى بن مريم مرَّ بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمّ مرَّ به من قابل فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: يا ربّ، مررت بهذا القبر عام أوّل فكان صاحبه يُعذَّب، ثمّ مررت به العام فإذا هو ليس يُعذَّب، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا روح الله، إنّه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه3. وكذا ورد: مرَّ النبيّ بقبر دُفن فيه بالأمس إنسان وأهله يبكون، فقال: "لركعتان خفيفتان ممّا تحتقرون أحبّ إلى صاحب هذا القبر من دنياكم كلّها"4، وهناك أمور كثيرة ذكرت في مظانّها فلتراجع.
لو عرفنا الأسباب لسَهُل علينا كسب الثواب، أسباب عذاب القبر وما يلاقيه المرء في القبر كما وردت تتلخّص في ثمانية: هجران القرآن الكريم،
1 القليب، البئر في تلك الأيام وفي عصرنا هو سبيل الماء.
2 بحار الأنوار، ج 6، ص 294.
3 بحار الأنوار، ج 6، ص 220.
4 ميزان الحكمة، ج 8، ص 13.
191
168
المحاضرة الثالثة: البرزخ روضة المؤمن قبل الجنّة وحفرة الكافر قبل النّار
عدم التنزّه من البول، الغيبة، النميمة، الربا، الرياء، عقوق الوالدين، سوء الخُلُق.
أرواح المؤمنين في البرزخ: تتلاقى وتتنعّم وتتزاور، كما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام عند ذكر أرواح المؤمنين، فقال: "يلتقون"، قلت: يلتقون؟ فقال: "نعم، ويتساءلون ويتعارفون حتّى إذا رأيته قلت: فلان"1، وعنه عليه السلام: "أرواح المؤمنين في حجرات في الجنّة، يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويتزاورون فيها، يقولون: ربّنا، أقم لنا الساعة لتنجز لنا ما وعدتنا"2.
1 المحاسن، ج1، ص 285.
2 المحاسن، ج1، ص 561.
192
169
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
الهدف:
بيان الدور العائلي الرساليّ في ضوء القرآن الكريم ومفاهيم كربلاء.
تصدير الموضوع:
"لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتّى يدخلهم الجنّة".
الإمام الصادق عليه السلام1.
1 مستدرك الوسائل، ج12، ص 201.
195
170
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
مقدّمة:
في زماننا الحاضر يواجه مجتمعنا مجموعةَ مخاطر، فمن جهة يرزح جزء منه تحت الإحتلال العسكريّ، ومن جهة أخرى يواجه حرباً ناعمة تستهدف ثقافته لتغيير هويّته ولحرف سلوكه، وهي حرب أخطر من الأولى، لأنّها تسلّط الأعداء على النّفوس وتمكّنهم من العقول ممّا يسهّل عليهم الهيمنة التامّة على الثروات والقابليّات، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الثقافة التي رسم خطوطها الأجانب وأملوها على شعبنا لهي أخطر من سلاح الجبابرة لأنّها تقدّم للأمّة شباباً يملكون قابليّة الاستعمار، ومن المعلوم أنّ المجتمع إذا فُرِّغ من داخله فيسهل سقوطه"، مضافاً إلى أنّ هذا النوع من الحروب يصيب كلّ شرائح المجتمع، يبدأ بالفرد ثمّ يعمد إلى الأسرة فيفكّكها بالكامل وبسقوطها يسقط المجتمع فهو كمثل البنيان الذي يؤتى من قواعده فيخرّ السقف على ساكنيه، ولذا فإنّ الحفاظ على تماسك المجتمع يبدأ بتحصين الأسرة تحصيناً يمتنع على الآخرين خرقه والنفوذ إليه ولا سبيل لتحصينها إلّا من خلال المحافظة على أصالتها وأصالة ثقافتها.
196
171
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
الأسرة في القرآن:
للتربية القرآنيّة بُعدان، بُعدٌ يتعلَّق بالفرد، والآخر يتعلَّق بالمجتمع، فالقرآن يستهدف من خلال ذلك تنشئة الأفراد على ثقافة الاهتمام بالمجتمع والمحافظة على مقدّراته، لا ثقافة الإنطواء على الذات لكيلا ينغمس في الأنانيّة ولا يغرق في مصالحه الشخصيّة، ومن جملة اهتمامات القرآن التربية الأسريّة إذ جعل لها حيّزاً كبيراً في آياته الشريفة ممّا يكشف عن ضرورة بناء الأسرة بناءً مستقيماً.
نمـــاذج قرآنيّـــة:1
الأبناء مع الآباء:
لقد ركّز القرآن الكريم على وجوب طاعة الأولاد لآبائهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف عند اختلاف العقيدة ووجوب برِّهما وحرمة عقوقهما وضرورة الإحسان إليهما: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾1, ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾2.
1 سورة الإسراء، الآية: 23.
2 سورة الإسراء، الآية24.
197
172
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
نمـــاذج قرآنيّـــة: 2
الأباء مع الآبناء:
يعتبر الأبناء مصدراً لسعادة الآباء وإحدى وسائل بقاء ذكرهم في الدنيا وربّما كانوا سبيلاً لنفعهم بعد مماتهم، ولذا فينبغي على الآباء أن يُنشِّئوا أبناءهم نشأة تعينهم على برّهم وعدم عقوقهم، وأن لا يقتلوهم صغاراً ولا كباراً ولأيّ سبب، ولا خشية من إملاق وقد نهى عنه القرآن الكريم صراحة حيث قال: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ﴾1،﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا﴾2 وقد جاء في وصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: "يا عليّ، لعنَ? والديْن حمّلا ولدهما على عقوقهما، يا عليّ، يلزم من عقوق ولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما، يا عليّ، رحم? والدين حملا ولدهما على برِّهما"3.
نمـــاذج قرآنيـّــة: 3
الأزواج مع بعضهم:
عمد القرآن الكريم إلى توجيه الراغبين في الزواج توجيهاً سليماً من لحظة انتقاء الذكر للأنثى واختيار الأنثى للذكر، ويجب أن يكون الزوج هو الحضن الذي يترعرع فيه الأولاد، ولهذا كان التركيز على اختيار الزوج للزوجة،
1 سورة الأنعام، الآية:151.
2 سورة الإسراء، الآية31.
3 وسائل الشيعة، ج21، ص289.
198
173
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
وكذلك اختيار الزوجة للزوج، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1 وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم"2. ولقد تعرّض القرآن الكريم لتنظيم العلاقة والحفاظ على الحدّ الأدنى فيما بين الزوجين ولتقوم على أساس المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان حيث قال: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾3.
نمـــاذج قرآنيــّـة:4
الأسرة مع محيطها:
لم يقتصر الإسلام في تعاليمه وإرشاداته للأسرة على تمتين أواصر العلاقة وتقوية وشائج التواصل داخلها فقط، بل ربّى الأسرة على تنظيم علاقتها بمن حولها من النّاس، وكيفيّة تعاملها مع الأحداث والأحوال الطارئة على جميع النّاس.
نمــــــاذج في العلاقـــــة:
إختيار الأصدقاء:
باعتبار أنّ صديق السوء يفسد الأخلاق ويصدّه عن سواء السبيل، وعلى عكس الصديق الحسن فإنّه ينفعه في دينه ويحفظه في غيبته، أكَّد
1 سورة النور، الآية: 32.
2 كنز العمّال، ح 44556.
3 سورة البقرة، الآية:229.
199
174
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
الإسلام على اختيار الثاني وهجران الأوّل، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "انظر الى كلّ من لا يفيدك منفعةً في دينك فلا تعتدّن به، ولا ترغبن في صحبته، فإنّ كلّ ما سوى الله تبارك وتعالى مضمحلّ وخيم عاقبته"1.
الإقتداء بالقدوة الصالحة:
أكّد الإسلام على ضرورة اتخاذ القدوة الحسنة واختيار المثل العليا للفرد والجماعة، وقال الله تعالى في محكم آياته: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾2 - وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه"3.
نشر الإسلام ومنع الفساد:
منع الفساد ونشر الإسلام بين النّاس من الأهداف الكبرى لجعل الخلافة الإلهيّة في الأرض وقد قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾4 وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا ولا تؤمنون حتّى تحابّوا، أَوَ لا أدلّكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"5.
1 بحار الأنوار،ج 71، ص191.
2 سورة الأحزاب، الآية:21.
3 نهج البلاغة ،رسالة الى عثمان بن حنيف.
4 سورة محمّد، الآية 22.
5 مستدرك الوسائل، ج8، ص362.
200
175
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
رفض الظلم ومخاصمة الظالم وإعانة المظلوم:
لا يجوز إعانة الظالم، بل نهىَ العباد عن الرضا بعدل الظالم، يقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾1، وقال الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته لولديه الحسنين عليهما السلام: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"2.
نماذج قرآنيّـة: 5
الأسرة الرساليّة بين الوقاية والتوريث:
الأسرة الرساليّة هي التي تحصّن نفسها من الضلالة والضياع في الدنيا، وكذلك الأسرة التي ترِث عن السلف ما فيه صلاحهم وتورث الخلف ما فيه فلاحهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾3، وقد سأل أبو بصير الإمام الصادق عليه السلام كيف نقي أهلنا؟ أجاب الإمام عليه السلام قال: "تأمرهم بما أمر الله وتنهاهم عمّا نهاهم الله، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك"4.
وأمَّا التوريث فقال الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال المؤمن يورث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتّى يدخلهم الجنّة حتّى لا يفقد فيها منهم صغيراً ولا كبيراً ولا خادماً ولا جاراً"5.
1 سورة هود، الآية: 113.
2 نهج البلاغة، الخطبة47.
3 سورة التحريم، الآية:6.
4 وسائل الشيعة، ج16، ص148.
5 مستدرك الوسائل،ج 12، ص201.
201
176
المحاضرة الأولى: الدور العائليّ الرساليّ في ضوء مفاهيم كربلاء
نماذج قرآنيّـة: 6
على أعتاب كربلاء:
عندما نقف على أعتاب كربلاء ندرك أنّ النماذج الفرديّة والجماعيّة، وخاصّة الأسرة، هي نماذج قرآنيّة، وبعبارة أخرى إذا تعلّمنا من القرآن النماذج الأسريّة فإنّما كان بالأسلوب الصامت، وأمّا من كربلاء فإنّنا نتعلّم النماذج الأسريّة الرساليّة بالأسلوب الناطق، إذ نجد في كربلاء الأب مع ابنه والابن مع أبيه والزوج مع زوجته والزوجة مع زوجها، والأخ مع أخيه والأخت مع أخيها والكبير مع الصغير والصغير مع الكبير والعربيّ مع غيره وغيره معه، ومن أهمّ النماذج ما نقرأه في مسيرة السبي حيث إنّ مصيبة كربلاء تنشطر إلى رزيّتين، الأولى تتمثّل بشهادة الحسين عليه السلام وأصحابه والثانية بسبي النساء وعلى رأسهم عقيلة بني هاشم، فإنّها تمثّل في آن واحد الأمّ الصابرة والأخت المحتسبة والابنة الغريبة والمرؤوسة المطيعة لقائدها والقدوة الجهاديّة المحتسبة، فإنّها المدافعة عن حريم الولاية والكافلة للأيتام والقّيّمة على حركة السبي، والمبلِّغة لرسالات الله، تخشاه ولا تخشى غيره، لقد تحوّلت بحقّ إلى المدرسة للعائلة الرساليّة يقتدي بها النّاس فرادى وجماعات، وما نراه اليوم من الإقدام على التضحية والرضا بالقضاء الإلهيّ عند المجاهدين والجرحى وعوائل الشهداء إنّما يعود الفضل لهذه المدرسة القدوة المتمثّلة بشخص مولاتنا السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام.
202
177
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
الهدف:
بيان العوامل التي تساعد المبتلى على تحقيق المعاناة عنه وانتقاله إلى مرحلة الرضا.
تصدير الموضوع:
﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾1.
1 سورة الحديد، الآية: 22.
203
178
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
مقدّمة:
إنّ المصائب والبلايا التي تصيب العباد منها ما هو نتيجة طبيعيّة لأفعالهم، ومنها ما هو إمتحان وإختبار لرفع درجاتهم، فالأوّل إنّما يكون بسبب ما تقترفه الأيدي وتجترحه الجوارح من سيئات فيصيبهم الله عزَّ وجلّ بألوان المصائب، وقد أشار إليه القرآن: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾1، وكذلك أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "إنّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيّئة بنقص الثمرات، وحبس البركات، وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكّر متذكّر، ويزدجر مزدجر"2، وهذا القسم سيكون خارج البحث، وسيتمّ التركيز على النحو الثاني وهو أنَّ الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء إختباراً من أجل أن يرفع درجته، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "المؤمن يبتلى بكلّ بليّة ويموت بكلّ ميتة إلّا أنّه لا يقتل نفسه"3.
إذن لا بدَّ من المصائب:
التلازم بين إيمان العبد وبلائه تلازم غير منفك، وعليه فليس بمقدوره أن يردّه، بل عليه التكيّف مع البلاء والمصائب, وبعبارة أخرى عليه
1 سورة الروم، الآية: 41.
2 بحار الأنوار، ج9. ص76, نوادر الراوندي، ج1، ص 143.
3 بحار الأنوار، ج 8، ص196.
204
179
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
أن يربّي نفسه على تحمّلها والفحص عن الأمور التي تهوِّن عليه حينما تُصيبه، وأمّا الدليل على الملازمة فمن الكتاب قوله تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾1 ,﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾2, وقوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾3.
وأمّا من السنّة الشريفة ما عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام هل يبتلي الله المؤمن فقال عليه السلام: "وهل يُبتلى إلّا المؤمن؟ حتّى إنّ صاحب ياسين قال: يا ليت قومي يعلمون، كان مكنَّعاً"، قلت: وما المكنّع؟ قال: "كان به جُذام"4.
وبمقتضى الملازمة المذكورة فإذا لم يصب الإنسانَ البلاءُ فلينظر في أعماق نفسه وليتطلّع إلى حقيقة علاقته بالله سبحانه وتعالى، إذ لعلّه لا إيمان له ولربّما هو بعيد عن الله مبغوض عنده، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾5 وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حاجة لله
1 سورة آل عمران، الآية: 179.
2 سورة آل عمران، الآية: 141-142.
3 سورة آل عمران، الآية: 154.
4 بحار الأنوار، ج 67، ص 241 .
5 سورة الزخرف، الآية: 33.
205
180
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب"1. وعن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "إنّي لأكره أن يعافى الرجل في الدنيا ولا يصيبه شيء من المصائب"2، ومن جوامع الكَلِم ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "كفى بالسلامة داءً"3.
ما يُهوِّن عن الإنسان المصائب
1- ما من بليّة إلّا ولله فيها نعمة تحيط بها:
عندما يقف العبد على حقيقة امتحان الله له ويكون على بصيرة من أمره لا يهون عليه تحمل المصائب فحسب بل يصبر وربما يصل الأمر لبعضهم إلى الرضا بما يواجهه من بلاءات ومصائب، يصوَر لنا الشهيد مطهري في كتابه العدل الإلهي بأنَ البلاء الإلهيّ هو لطف الله خفي فهو كحبّة الجوز ظاهره القشور القاسية إلّا أنّه يحتوي على ما فيه فائدة ونفع للإنسان، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام العسكريّ عليه السلام حيث قال: "ما من بليّة إلّا ولله فيها نعمة تحيط بها"4. وبالرجوع إلى الآيات الشريفة في الكتاب الكريم فإنّنا نقف على الكثير من مصاديق اللطف المذكور فعلى سبيل المثال قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ
1 بحار الأنوار، ج67، ص 174.
2 بحار الأنوار، ج 82، ص 176.
3 بحار الأنوار، ج 81، ص174.
4 بحار الأنوار، ج 78، ص 260.
206
181
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾1 ومن السنّة فعن الإمام عليّ عليه السلام: "لتبلبلنّ بلبلة، ولتُغَربلنَّ غربلة، حتّى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقنّ سبّاقون كانوا قصرّوا وليقصرنّ سبّاقون كانوا سبقوا"2، وعنه أيضاً عليه السلام: "ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتكبّر من قلوبهم وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم وليجعل ذلك أبواباً إلى فضله"3.
2- نعمة البلاء ومصيبة الرخاء:
لو آمن العبد بأنّ ما يصيبه من بلاءات وما يحلّ عليه من رزايا ومصائب بأنّها نِعَمٌ إلهيّة وليست نِقماً، وأنّه يستبشر حين يواجه المصيبة ويستوحش عند تأخّرها، لكان ذلك دليلاً على عمق إيمانه بربّه ووفّق للإطلاع على خفايا الأمور، وهنا يقول مولانا الإمام الكاظم عليه السلام: "لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدّوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء"4، ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا رأيت ربّك يوالي عليك البلاء فاشكره، وإذا رأيته يتابع عليك النعم فاحذره"5.
1 سورة الكهف، الآية: 7.
2 بحار الأنوار، ج 5، ص 218 .
3 شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج13، ص 156.
4 بحار الأنوار، ج 67، ص237.
5 غرر الحكم.
207
182
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
3- كرامة الله نهاية بدايتها بلاء:
بلوغ الدرجات العليا لا تحصل سدًى ولا تتحقّق لأحد عبثاً بل لا يبلغها إلّا الصابرون ولا ينال الكرامات الإلهيّة إلّا الفائزون بعد الاختبار والامتحان، فهذا ابراهيم الخليل عليه السلام لم يبلغ درجة الإمامة إلّا بعد إبتلائه بكلمات من ربّه فلمّا أتمهنّ قال له الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾1 وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما كرم عبد على الله إلّا ازداد عليه البلاء"2 وعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "قال ما أثنى الله تعالى عن عبد من عباده من لدن آدم عليه السلام إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلّا بعد ابتلائه ووفاء حقّ العبوديّة فيه، فكرامات الله في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء"3.
4- المؤمن مبتلى على قدر حبّه:
تصف الروايات بأنّ مثل المؤمن كمثل كفّة الميزان، فكلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه. ومعنى ذلك إذا تباطأت عنه النقم فليعلم أنّه قد نقص في دينه وليكن همّنا ملاقاة الله ولا خطيئة علينا ولا نبالي في الدنيا بما يصيبنا، وهكذا فليثبت الإنسان على طاعة ربّه وطاعة أوليائه وليتزوّد من حبّه لهم حتّى ولو تجلبب بالبلاء؛ لأنّ المؤمن يبتلى على قدر حبّه، وإلى ذلك أشارت الروايات فقال مولانا الباقر عليه السلام: "يبتلى المرء على قدر حبّه"4، وهكذا قال عليه السلام لرجل
1 سورة البقرة، الآية: 124.
2 بحار الأنوار، ج 96، ص 28.
3 بحار الأنوار، ج 67، ص231.
4 بحار الأنوار، ج 67، ص 236.
208
183
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
من أصحابه حين قال له والله إنّي لأحبّكم أهل البيت عليه السلام، قال عليه السلام: "فاتخذ البلاء جلباباً، فوالله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيّل في الوادي، وبنا يبدأ البلاء ثمّ بكم، وبنا يبدأ الرخاء ثمّ بكم"1.
5- البلاء والتكامل:
من يتدبّر بما مرّ من آيات وروايات وفيما لم يتمّ ذكره هنا يجد أنّ العبد له طريق تكامليّ إلى الله سبحانه وتعالى وأن لا يبلغ الدرجة العليا بعد ترك السفلى إلّا فوزه بالامتحان، وبناءً عليه فإنّ طريق الكمال مملوء بالبلاءات والمصائب ولذا فكان أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى ذلك بقوله عليه السلام: "إنّ أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الذين يلونهم ثمّ الأمثل فالأمثل"2، وكذلك يدلّ عليه ما جاء في مطلع دعاء الندبة حيث قال: "اللهمّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين أستخلصتهم لنفسك ودينك إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال".
وأمّا بالنسبة للمؤمن فكذلك يجري عليه نفس القانون المذكور وهو أنّه لا يتكامل إلّا بعد ابتلائه وقد أشار إليه الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنّ العبد لتكون له المنزلة من الجنّة فلا يبلغها بشيء من البلاء حتّى يدركه الموت ولم يبلغ تلك الدرجة فيشدّد عليه عند الموت فيبلغها"3.
1 بحار الأنوار، ج 67، ص 238.
2 الكافي، ج 2،ص 252.
3 بحار الأنوار، ج 82، ص 167.
209
184
المحاضرة الثانية: ما يهوّن على الإنسان المصائب
6- التأسّي بما جرى في كربلاء:
من العوامل الأساسيّة التي تساعد المبتلى على تخفيف ما أصابه أن يعيش ما جرى في كربلاء وليتخذ من أسمائها وشخصيّاتها قدوة له وأسوة يقتدي بها، فإنّها تخفّف عن مصائبه وربّما لم يعد يشعر بها لعظمة ما حصل في كربلاء من رزيّة عظمت على أهل السماء قبل أن تتعاظم على أهل الأرض ومن تلك المواطن التي يقف عليها ما جرى على مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام لا سيّما صبره على شماتة الأعداء وهو مكبّل ومقُيّد بسلاسل الحقد والبغض إلّا أنّهم لم يتمكنّوا من إسكاته عن جرائمهم وفضحهم أمام البعيد والقريب من جملة ذلك ما جاء في بعض الأخبار أنّه لما حُمل عليّ بن الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية فأوقف بين يديه، قال له يزيد لعنه الله: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ فقال مولانا عليّ بن الحسين عليه السلام ليست هذه فينا إنّ فينا قول الله عزَّ وجلّ: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾1 وعن الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى وما أصابكم من مصيبة قال عليه السلام: "أرأيت ما أصاب عليّاً وأهل بيته هو بما كسبت أيديهم؟ وهم أهل طهارة معصومون؟! قال .... إنّ الله يخصّ أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب"2.
1 نوادر الراوندي، ج 5، ص247.
2 بحار الأنوار، ج81، ص 180.
210
185
المحاضرة الثالثة: الدنيا مزرعة الآخرة
المحاضرة الثالثة: الدنيا مزرعة الآخرة
الهدف:
توعية النّاس إلى فهم الدنيا وما يُراد منها، والاستفادة منها بقدر ما يتحمّلون.
تصدير الموضوع:
قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾1.
1 سورة سورة الحديد، الآية 20.
211
186
المحاضرة الثالثة: الدنيا مزرعة الآخرة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سأله يزيد بن سلام: لمَ سمّيت الدنيا دنيا؟ قال: "لأنّ الدنيا دنيّة خُلقت من دون الآخرة، ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة".
قال: فأخبرني لِمَ سميت الآخرة آخرة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لأنّها متأخّرة تجيء من بعد الدنيا، لا توصف سنينها، ولاتحصى أيّامها، ولا يموت سكّانها"1.
مقدّمة
من نصائح الإمام عليّ عليه السلام لولده الإمام الحسن عليه السلام: "... واعلم أنّ أمامك عقبةً كؤوداً، المُخِفّ ُفيها أحسن حالاً من المُثقِل، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأنَّ مهبطك بها لا محالة على جنّة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطِّئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب ولا إلى الدنيا منصرف2.
تُختصر الدنيا عند أمير المؤمنين عليه السلام في: "أن تعبد الله بقدر حاجتك إليه، وأن تعصيه بقدر صبرك على النّار، وأن تعمل لدنياك بقدر عمرك فيها، وأن تعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها"3.
محاور الموضوع
الدنيا مزرعة ومال لنشتري به الآخرة، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الدنيا مزرعة الآخرة"4.
1 بحارالأنوار، ج57، ص356، ح2.
2 نهج البلاغة، من وصيّة له عليه السلام 130.
3 تنبيه الخواطر ورّام، ج2، ص37.
4 عوالي اللآلي، ج1، ص267.
212
187
المحاضرة الثالثة: الدنيا مزرعة الآخرة
الدنيا لحظات ودقائق وثوان، وفرصة نستفيد للأخذ منها لا اعطاءها، فالدنيا ساعة فلتكن طاعة وعبادة، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "نِعْمَ العون على الآخرة الدنيا"1.
أعمارنا بقدر أنفاسنا، فكلّما نقص واحد قربنا من نهاية الأجل خطوة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "نفس المرء خطاه إلى أجله"2.
نستفيد من الدنيا قدر حاجاتنا لعدم وجود ما يعمّر فيها ويقاتل من أجله الإنسان، ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّما سمّيت الدنيا دنيا لأنّها أدنى من كلّ شيء، وسمّيت الآخرة آخرة لأنّ فيها الجزاء والثواب"3.
الدنيا دار اختبار وامتحان: قال الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ فيما ناجى الله تعالى به موسى عليه السلام أن قال: إنّ الدّنيا ليست بثواب للمؤمن بعمله ولا نقمة للفاجر بقدر ذنبه، وهي دار الظّالمين إلّا العامل فيها بالخير، فإنّها له نعمت الدّار"4.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "اخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختُبرتم ولغيرها خُلقتم"5.
أقسام النّاس في الدنيا: محبٌّ عاشق لها، ومصاحب على حذر منها، قال الإمام عليّ عليه السلام: "النّاس أبناء الدنيا، ولا يُلام الرجل في حبّ أمّه"6، ولكن صفات محبّ الدنيا أنّه أحبّ الدنيا ونسي الآخرة وهذا مذموم وممنوع،
1 الكافي، ج5، ص 72.
2 نهج البلاغة، حكمة 74.
3 الصحيح من سيرة الإمام عليّ عليه السلام، ج 23، ص 210؛ علل الشرائع، ج2، ص1.
4 بحار الأنوار، ج13، ص 353.
5 بحار الأنوار، ج 78، ص 67.
6 نهج البلاغة، الحكمة 303.
213
188
المحاضرة الثالثة: الدنيا مزرعة الآخرة
ويزيد بعضهم بأن يُعرض عن ذكر الله تعالى، قال تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾1.
وقسم ثالث طامع في رحمة الله، لكنّه لا يبادر إلى التوبة والعودة إلى? تعالى، بل ينغمس في المعاصي ويتمنّى أن يُغفر له ويتأمّل في الوصول إلى الشفاعة، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا﴾2, لكن الله عزَّ وجلَّ لن يغفر لهم, لأنّهم مستهزئون وغير جادّين في العودة إلى الله تعالى؛ لأنّ الدنيا غرّتهم بسوف ووقعوا في شباك إبليس بالتمنّي.
وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد فهم الدنيا ووعاها ونظر في التاريخ وتدبّر آياته وعِبْراته فوصل إلى نتيجة فقال للدنيا: "إليك عنّي يا دنيا، لقد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك...
المعصية في الدنيا منغّصات الآخرة وصعوبة في الحسابات وكلّ محطّات الآخرة.
والدنيا لا أهمّيّة لها سوى أنّها زاد للآخرة، ومصدر طاقة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.
الدنيا للمؤمن فرصة لن تتكرّر وساعة ستذهب ولن تعود فاستفاد ووعى من انتهز كلّ أوقاته فكانت كلّها لله وفي سبيل الله، إذن إذا كانت الدنيا ساعة فلتكن لنا طاعة وعبادة.
1 سورة النجم، الآية:29.
2 سورة الأعراف، الآية:169.
214
189
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
الهدف:
بيان أهمّيّة المناجاة في ميادين الجهاد سواء من المجاهدين أنفسهم لأنفسهم أو من غيرهم لهم.
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، ويدرّ أرزاقكم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "تدعون ربّكم بالليل والنهار فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"1.
1 بحار الأنوار، ج 93، ص 294.
217
190
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
مقدّمة:
الدعاء سلاح الأنبياء وما من مواجهة بينهم وبين أعدائهم إلّا وكانوا يعتمدون على هذا السلاح، والذي يعتبر في حالة الصدّ لأعدائهم أو في حالة الدّفاع عن أنفسهم وعن متعلّقاتهم كالتّرس بالنسبة للمجاهد كما جاء في الحديث عن أمير المؤمنين: "الدعاء ترس المؤمن"1، وكذلك فإنّه "أنفذ من السنان الحديد"2 في حالة الهجوم كما هو مروي عن الإمام الصادق عليه السلام، وبالتالي فإنّه يُحتاج إلى الدعاء في كلّ الأحوال والأزمنة والأمكنة، أي في حالات الرخاء والشدّة والسلم والحرب وفي الليل والنهار، ويعتبر الدعاء أفضل العبادة، "ولو أذن الله للعبد في الدعاء لفتح له باب الرحمة"3 ولهذا لم يتخلّ عنه أحد من الأنبياء والأولياء ولا سيّما في ساحات الحرب، وكلّما كانت المخاطر تشكّل تهديداً أكبر كلّما كانت الحاجة إلى الدعاء أكثر، وهذا ما نقرأه في واقعة كربلاء ولذا نجد أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أكثر من الدعاء عند كلّ واقعة بل ربّما لم نجد ساحة شهدت قتلاً وقتالاً قد اعتمدت على الدعاء كما في ساحة كربلاء، وهو من الوسائل المهمّة ومن نقاط القوّة على مستوى الشحن الروحيّ لأجل الثبات في الميدان، فإنّهم في أمكنةٍ الدعاءُ فيها مستجاب والقلوب تنتابها الرّقّة وهي من شرائط استجابة الدعاء ولربّما يحصل بالدعاء مالم يحصل بأسلوب آخر وطريقة أخرى.
1 الكافي، ج2، ص 468.
2 الكافي، ج2، ص469.
3 تنبيه الخواطر، ص463.
218
191
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
عليكم بسلاح الأنبياء:
كان بامكان الأنبياء عليهم السلام أن يستعملوا الدعاء كسلاح للقضاء على خصومهم المعاندين للحقّ حيث لا تردّ لهم دعوة، إلّا أنّهم أرادوا للأمور أن تجري ضمن المخطّط الإلهيّ المرسوم لها والتي تقوم على قاعدة ربط المسبّبات بأسبابها ومن جهة أخرى فإنّ أبواب المفاضلة تقفل بين العباد إن لم يكن هناك جهاد أصغر ولهدمت الصوامع والبِيَع والمساجد لو لم يكن دفع إلهيّ بين النّاس، ولأجل تلك ولأسباب غيرها قلّما وجدنا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو أمير المؤمنين عليه السلام وبحسب المصادر التاريخيّة أنّهما اعتمدا أسلوب الدعاء للقضاء على أعدائهما في ساحات المعركة، نعم ففي المواطن المفصليّة والحسّاسة جدّاً ركن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء وكأنّه سلاح يتمّ اعتماده في حالتين، الأولى إذا لم يوجد سلاح آخر بموازاته والثانية في القضايا المصيريّة. ومن الموارد التي اعتمد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الدعاء كسلاح في الميدان:
1- الجوشن: بحسب ما أورده الشيخ عبّاس القمّي عن كتابي البلد الأمين ومصباح الكفعميّ عن الإمام السجّاد عليه السلام عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقد هبط جبرائيل به على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بعض غزواته وعليه جوشن ثقيل آلمه فقال: "يا محمّد ربّك يقرئك السلام ويقول لك إخلع هذا الجوشن واقرأ هذا الدعاء فهو أمان لك
219
192
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
ولأهلك"، ثمّ أطال في ذكر فضله، وقد نقل عن العلّامة المجلسيّ من كتابه زاد المعاد أن يتضمّن مئة فصل وفي كلّ فصل يتضمّن عشرة أسماء من أسماء الله الحسنى وأنّ فيه الاسم الأعظم1، وبالفعل فقد اعتمده وقرأه.
2- في معركة الخندق: لحظة توجّه الإمام عليّ عليه السلام إلى منازلة عمرو بن عبد ودٍّ العامريّ.
والجدير ذكره أنّ عليّاً شارك في كلّ الغزوات والحروب والمهمّات العسكريّة التي كُلِّف بها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدا غزوة تبوك لأنّه لم يحصل فيها حرب ومجموعها نيِّف وثمانون مهمّة جهاديّة فلا تخلو واقعة إلّا كان يصدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما يبيّن واحدة من مناقب الإمام عليّ عليه السلام، وأمّا أنّه كان يدعو بصورة علنيّة له كلّما توجّه إلى الميدان فهذا غير واضح بالرّغم من كون بعضها مصدراً للقلق ومثيرة للخوف على شخصيته المباركة كما في معركة خيبر. نعم في واقعة واحدة وجدنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد استعمل هذا السلاح بصورة لافتة وكان كما ذكرنا في معركة الخندق حينما وقف عمرو بن عبد ودٍّ العامريّ والذي يعدّ بألف فارس عربيّ وهو يتحدّى المسلمين جميعاً ممثِّلاً الشرك كلّ الشرك، إذن التحدّي كبير والمعركة فاصلة وجاء في بعض تفاصيلها: وبعد استعراضه لجيش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتبختر أمامهم ويدعوهم إلى المبارزة بلغة الاستهزاء
1 مفاتيح الجنان، ص 129.
220
193
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
والاستصغار والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يخاطبهم قائلاً لهم هل يبارزه أحد؟ فالأنفاس حبست وعيونهم تدور كالمغشيّ عليه، فلم يجبه أحد إلّا عليّ عليه السلام فأجابه إلى ذلك فأجّله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ عاود مخاطبة المسلمين ويدعوهم إلى مبارزة عمرو ولم يجبه أحد إلّا عليّ ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة كان يجلسه وأمّا في الثالثة فقال له: "اجلس يا عليّ، فإنّه عمرو"، فقال عليّ عليه السلام: "وأنا عليّ يا رسول الله"، فأذن له بعد أن عمّمه بعمامته وقلّده بسيفه وألبسه درعه، ولمّا توجّه إلى الميدان رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه وقال: "اللهمّ إنّك أخذت عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا عليّ أخي وابن عمّي فلا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"1.
وهذا المورد مصداق لقول الإمام الرضا عليه السلام: "عليكم بسلاح الأنبياء" قيل وما سلاح الأنبياء؟؟ فقال: "الدعاء"2.
الدعاء لأهل الثغور:
الذين يتوجّهون إلى الله بالدّعاء للمجاهدين إمّا أن يكونوا معهم في الميدان وإمّا أن يكونوا خارجه، فمن النماذج التاريخيّة التي كانت ولا زال صوتها يتردّد مع جريان الأيّام والليالي ما نقرأه في أدعية الإمام السجّاد عليه السلام للمرابطين على الثغور قبال الأعداء حتّى اشتهر من بين أدعيته بدعاء أهل الثغور، والمتأمّل في هذا الدعاء يلاحظ أنّ الإمام بدأ
1 شرخ نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج19، ص61؛ المناقب، الخوارزمي، ص 144 .
2 الكافي، ج2، ص 468.
221
194
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
بالدعاء للمجاهدين المرابطين مستخدماً صفة العزّة كاسم من أسماءالله الحسنى، ثمّ تحوّل إلى أعدائهم يدعو عليهم مستعملاً أبلغ العبارات سواء تتعلّق ببعدهم النفسيّ من التحيّر والرعب، أو بما له علاقة بالبعد الماديّ كقطع المدد ونقص العدد، ثمّ يتوجّه ثانية بالدعاء للمرابطين، ومن يتأمّل في شكل الدعاء يتخيّل صورة كأنّهم يحيطون بالأعداء من كلّ جانب.
في محراب كربلاء:
روي عن أمير المؤمنين أنّه قال: "إنّ لله سبحانه وتعالى سطوات ونقمات فإذا أنزلت بكم فادفعوها بالدعاء فإنّه لا يدفع البلاء إلّا الدعاء"1.
فأيّ قلب كان أرقّ من قلب الإمام الحسين وهو في ساحة الميدان في كربلاء، ومن يقرأ أدعيته الشريفة ويتدبّر في مضامينها بعد إحصائها عدداً يخال نفسه أمام عابد منقطع إلى مولاه في محراب عبادته وربّما يعدّ واحدة من الأبعاد في كربلاء أنّها كانت محراباً للمتعبّدين والمتهجّدين في ليلهم ونهارهم، وكأنّهم ليسوا في مكان قد حاصرهم الأعداء من كلّ جانب وبالامكان أن نصنف أدعية الإمام الحسين عليه السلام ضمن طائفتين، الأولى والتي كان يدعو فيها لأهل بيته وأصحابه، والطائفة الثانية كان يدعو بها على جيش بني أميّة وهي على صنفين منها أدعية عامّة جامعة لكلّ التفصيلات المذكورة منها، حينما برز ولده الشابّ عليّ الأكبر عليه السلام وهو ينظر إليه وقد رفع بشيبته الطاهرة نحو السماء وقال: "اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم،
1 غرر الحكم.
222
195
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
فقد برز إليهم غلام أشبه النّاس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً برسولك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه، اللهمّ فامنعهم بركات الأرض، وإن منعتهم ففرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً واجعلهم طرائق قدداً ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلون".
ثمّ صاح بعمر بن سعد: "ما لك قطع الله رحمك ولا بارك الله في أمرك وسلّط عليك من يذبحك على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1، والمروي أيضاً أنّه دعا عليهم بعد استشهاده وبعد شهادة ابن أخيه القاسم بن الحسن وهكذا بعد شهادة أخيه أبي الفضل العبّاس وبعد ذبح الطفل الرضيع وفي مواطن أخرى ولكن من أهمّ المواطن التي دعا فيها حينما خلت الساحة من كلّ أحد ولم يبق إلّا هو قبال أعدائه فلقد أكثر فيها من الدعاء والمناجاة، وكأنّه وهو على هذه الحالة في دعاء عرفات أو غيرها...
وأمّا في اللحظات الأخيرة وكان به رمق وهو مشغول بالمناجاة لربّه مستهيناً بأعدائه يناجي قائلاً: "اللهمّ متعالي المكان عظيم الجبروت شديد المحال... قريبٌ إذا دعيت ومحيطٌ بما خلقت... أدعوك محتاجاً وأرغب إليك كافياً اللهمّ احكم بيننا وبين قومنا فإنّهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ... فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين"2.
1 كامل الزيارات، ص253، باب 79، رقم 21.
2 مصباح المتهجّد.
223
196
المحاضرة الأولى: الدعاء في ساحات الجهاد
الحسين بين دعائي عرفة وكربلاء:
من يتأمّل جيّداً ويقارن بين دعاء الإمام الحسين عليه السلام في الموطنين يستخلص الأمور التالية: ما انتهى إليه في دعائه في كربلاء قد بدأ به في عرفات بعد التسليم بقضائه حيث قال في دعائه في كربلاء: "صبراً على قضائك يا ربّ"، وأمّا ما شرع به في دعائه في عرفات بقوله: "الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع"، والجدير ذكره أنّ الإمام الحسين من لحظة خروجه من المدينة إلى لحظة الشهادة، كثيراً ما كان تردّد على لسانه الشريف لفظ القضاء الإلهيّ وعن التسليم المطلق لهذا القضاء.
ومن الأمور الظاهرة في الموطنين الرغبة والشوق الكبيران اللذان يغمرانه نحو خالقه، ففي دعاء عرفة يقول: "اللهمّ إنّي أرغب إليك"، وهي في بداية الدعاء، وتكرّرت منه في آخر الدعاء في كربلاء حيث قال: "وأرغب إليك كافياً"، وأيضاً يتجلّى في نفسه المقدّسة التوحيد الربوبيّ الخالص في نفسه حيث قال في دعاء عرفة : "وأشهد بالربوبيّة لك مقرّاً بأنّك ربّي"، وفي دعاء كربلاء لا زال على اعتقاده الجازم بقوله: "ما لي ربّ سواك ولا معبودٌ غيرك"، إلى غير ذلك، وهذا ما جعلنا نقول: إنّ من يسمعه من دعائه ومناجاته في كربلاء يخال الإمامَ وكأنّه في مكان آمن وهو منقطع إلى الله للدعاء والابتهال.
224
197
المحاضرة الثانية: الميزان أمان وأحزان والأمان بثقل الميزان
المحاضرة الثانية: الميزان أمان وأحزان والأمان بثقل الميزان
الهدف:
تربية النّاس على ثقافة الأعمال أنّها تجلب الأمان ليوم القيامة، والأمان بالأوزان.
تصدير الموضوع:
﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ﴾1.
1 سورة الأعراف، الآية:8 و 9.
225
198
المحاضرة الثانية: الميزان أمان وأحزان والأمان بثقل الميزان
سأل زنديق أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن مسائل كثيرة إلى أن قال: أوليس توزن الأعمال؟ قال عليه السلام: "لا، إنّ الأعمال ليست بأجسام، وإنّما هي صفة ما عملوا، وإنّما يحتاج إلى الوزن من جهل عدد الأشياء ولا يعرف ثقلها ولا خفّتها وأنّ الله لايخفى عليه شيء"1.
مقدّمة
علينا العمل من أجل إثقال ميزان أعمالنا، وقيمة المرء ما يحسن من أفعال وخير أعمال، وعلينا أن نفهم أنّ الإنسان سيجازى بأعماله خيرها أو شرّها، ففي الدنيا كانت السمعة الطيّبة مصدرها الطاعات وأعمال الخير، وفي الآخرة فالعمل السيِّئ يورث الآلام والأوجاع، ونزيد عليها أنّ الأعمال نفسها ستوزن، فمن خفَّت موازينه فأمّه هاوية وهي نار حامية، وأمّا من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية قطوفُها دانية .
فوائد فهم أنَّ السيئات تخفِّف ميزاننا والحسنات تثقله، يُجاء بالعبد يوم القيامة فتوضع حسناته في كفّة، وسيئاته في كفّة فترجح السيّئات فتجيئ بطاقة فتقع في كفّة الحسنات فترجح بها فيقول: يا ربّ، ما هذه البطاقة؟ فما من عمل عملته في ليلي أو نهاري إلّا وقد استُقبلت به، قال: هذا ما قيل فيك وأنت منه بريء فينجو بذلك.
1 بحار الأنوار، ج ، ص 248.
226
199
المحاضرة الثانية: الميزان أمان وأحزان والأمان بثقل الميزان
الأعمال التي تثقل الميزان، كثيرة هي الأعمال التي تثقل الميزان فالصلاة على محمّد وآل محمّد أثقل ما يثقل الميزان، وأعمال الخير وحسن الخلق...
المفلس يوم القيامة، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
لحظة اللقاء بين المؤمنين: إنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم...، إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين...، إنّه اليوم الذي يجمع في ساحة القيامة بين رموز الحقِّ وقادته، ورموز الباطل وأنصاره...، إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين...، إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم...، هو يوم التقاء الإنسان والملائكة...، وأخيراً يوم التلاق، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة العدل الإلهيّ1.
العمل القليل وأثره في الميزان: عندما رأى نبيّ الله داود، عليه السلام كفّتي الميزان، قال ربّي، ما يملأ كفّة الميزان؟ قال: "يا داود، تمرة واحدة تثقل ميزان عبدي المؤمن".
1 كتاب الأمثل في تفسير الآية.
227
200
المحاضرة الثانية: الميزان أمان وأحزان والأمان بثقل الميزان
نصيحة: أن لا نترك فعل خير أبداً، طالما نحن قادرون؛ لأنّ الصحف والكتب يوم القيامة ستُنشر وسنُحاسب عليها وسنُعاتب ونُعاقب على ما فيها، فمن كانت صحيفته بيضاء استبشر وفرح ورجع إلى أهله مسروراً، ومن كانت صحيفته سوداء قاتمة عبس وبسر وذهب إلى أهله يتمطّى. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الخير ثقل على أهل الدنيا على قدر ثقله في موازينهم يوم القيامة، وإنّ الشرّ خفَّ على أهل الدنيا على قدر خفّته في موازينهم"1.
1 بحار الأنوار، ج71، ص 215.
228
201
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
الهدف:
بيان أنّ التبعيّة الثقافيّة للآخرين أخطر سلاح لتدمير هويّة أي مجتمع من المجتمعات.
تصدير الموضوع:
﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾1.
1 سورة البقرة، الآية 138.
229
202
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
مقدّمة:
إنّ الله سبحانه وتعالى، فطر الإنسان على توحيده: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ ومن ثمَّ صبغه بصبغته التي هي أفضل الصبغ وهو دين الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾1 هذه الآية جاءت في سياق الردّ على الديانات التي تعدّدت وتفرّقت وتمزّقت باتباعها أهواءها ومشتهياتها ممّا أدّى إلى جوهر دينها فتبدّل وأصبح دينهم خاضعًا للهوى، ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا أن يقدّموه للبشريّة على أنّه هو دين الله تعالى، فجاء الإسلام ووقف في وجوههم وردعهم عن فعلهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾2 ويريد القرآن أن يصوِّب التفكير أوّلًا ثمّ يبيّن المخاطر على مسار الحنيفيّة، ويؤكّد للمسلمين بأنّ دينهم هو الدّين الذي يرتضيه الله سبحانه وتعالى وبأنّ الالتزام بالحنيفيّة هو عين التسليم لربّ العالمين؛ ولذا جاء الردّ على أتباع الديانتين بقوله: ﴿فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾3 وبعدها حسم القرآن مادّة النزاع معهم بقوله: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً﴾.
1 سورة البقرة، الآية 138.
2 سورة البقرة، الآية 135.
3 سورة البقرة، الآية 137.
230
203
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
محاور الموضوع
عوامل بناء شخصيّة الإنسان:
إنّ عمليّة التأثّر بالمحيط والتأثير فيه من الأمور الطبيعيّة، وبحسب العادة فإنّه كلّما كان الشيء أكثر فاعليّة كلّما كان أكثر تأثيراً في الأشياء الأخرى، والإنسان خاضع لهذا القانون وليس بمعزل عنه، ومن هنا كان الإرشاد ثمّ كان التأكيد الدائم والمستمر على إختيار العوامل المستقيمة التي تدخل في صياغة شخصيّة الإنسان وبناء معتقداته وثقافته، وعندما يتحدّثون عن تلك العوامل يتمّ التركيز على عوامل ثلاثة:
الأوّل: الوراثة وهو عامل تكوينيّ، هذا وبإمكان الأبوين التحكّم فيه إلى الحدّ الذي يترك بعض البصمات في شخصيّة المولود، وذلك يؤثّر تأثيراً إيجابيّاً في مستوى العقل والقلب والبدن، مثلًا، فإنّ المحافظة على الهدوء النفسيّ والمواظبة على بعض الأعمال العباديّة، وحتّى أنّ تناول بعض الأطعمة والأشربة له أثره على مسار الجنين.
الثاني: البيئة وهي من العوامل الرئيسيّة في صياغة شخصيّة الولد وثقافته، ولذا أكّدت الشريعة على توفير البيئة المناسبة من الفحص عن الرفقة الذين يصاحبهم، إلى المواطن التي يختلف إليها وغيرها ممّا يُعَدُّ من مصاديق البيئة.
الثالث: التربية، وهذا من أكثر العوامل دقّة وحساسيّة في بناء شخصيّة
231
204
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
الفرد لأنّ الإنسان كثيراً ما يتأثّر بالمعلّم والمدرسة وفي أغلب الأحيان ينظر المتعلّم إلى معلّمه نظرة الاحترام ويشكّل له في مسيرته الحياتيّة القدوة، بغضّ النظر عن صلاحه أو فساده، ومن هنا كان التأكيد في الروايات على تحصين الأولاد حتّى لا تسبق إليهم المرجئة وبالتالي تمنعهم من السيطرة على عقولهم وقلوبهم وهذا بعينه لون من ألوان الغزو الثقافيّ.
أسباب التأثّر بثقافة الآخرين:
هناك أسباب تولِّد في نفس الإنسان قبول ثقافة الآخرين، وربّما تؤدّي أحياناً بالبعض إلى الخضوع التامّ لها.
الأوّل: عدم الثقة بالنّفس
عندما يفقد الإنسان الثقة بنفسه ولم يكن صاحب بصيرة ودراية، فيعيش حالة من الشكّ والريب، وربّما بلغت درجة من القلق وعدم الاستقرار، ممّا يدفعه إلى قبول ما عند الآخرين للتخلّص ممّا هو فيه، وهذا يحتاج إلى معالجة نفسانيّة.
الثاني: الجهل بقدرات الإسلام القيميّة والقانونيّة
إنّ جهل الإنسان بقوانين الإسلام الشامخة لا سيّما إذا كان جهله مركّباً أي غير ملتفت إلى جهله، فهذا يدفعه إلى توجيه النقد إلى الإسلام وإلى قوانينه ويدّعي بأنّها أصبحت من الماضي وليس بإمكانه مواكبة العصرنة ممّا يدفعه إلى الاعتقاد بحقّانيّة ثقافة الآخرين تحت ذريعة تأمين الحاجات للفرد
232
205
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
وللمجتمع، وهذا في الحقيقة يحتاج إلى التعلّم لإزاحة الجهل عنه.
الثالث: يجد البعض أنّ الذي يصون مصالحه ويشبع شهواته هو تبعيّته للآخرين وقناعته بما لديهم وعندهم، فهؤلاء أشبه شيء بالهمج الرعاع الذين لم يستضيئوا بنور العلم ولم يركنوا إلى كهف حريز، فهم أتباع كلّ راعٍ وينعقون مع كلّ ناعق.
الرابع: الإنبهار بثقافة الآخرين
عدم الوقوف على حقيقة ما عليه الآخرون يؤدّي إلى عدم القدرة على التمييز بين الجيّد والأجود، أو بين القبيح والحسن، فهو كأعشى البصر لا يرى إلّا أشباحاً تتمايل أمام عينيه فيخيّل له اللاواقع واقعاً، ويترتّب على ذلك الاختيار السيِّء.
نهى القرآن عن التقليد ولو بالكلمة
نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن استخدام لفظة كان يستعملها اليهود كثيراً وأمرهم باستبدال لفظةٍ مرادفة بها. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾1 والسبب في ذلك أنّ اليهود كانوا يستخدمونها عند حديثهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبهذا الاستخدام كانوا يظهرون الأدب في حديثهم إلّا أنّهم يقصدون السبَّ والشتم كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا
1 سورة البقرة، الآية 104.
233
206
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾1 فإذا أراد المسلمون مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا يخاطبونه بنفس العبارة تقليداً لليهود فنزل قوله تعالى ناهياً إيّاهم عن ذلك وأرشدهم إلى كلمة تحمل نفس المعنى وهي انظرنا. وهنا نقول ما بالكم إذا نهى الله سبحانه وتعالى المسلمين عن استخدامهم لفظة كانت شائعة على ألسنة اليهود؟ فهل يرضى لهذا المجتمع الجديد أن يكون تابعاً ومقلّداً في ثقافته وفكره وغير ذلك؟
مع الأخذ بعين الإعتبار أنّ القرآن هو في مقام بناءً هذا المجتمع بناءاً له استقلاليّته التامّة في جميع أبعاده.
الاخضاع الثقافيّ أخطر سلاح
بالمقارنة بين الحرب العسكريّة (الصلبة) والحرب الثقافيّة (الناعمة) فإنّ الحرب الثانية أخطر على كيان المسلمين من الحرب الأولى، والسبب في ذلك هو أنّ الحرب العسكريّة تشنّ لاخضاع مجتمع ما لصالح القوّة المهاجمة للسيطرة على ممتلكاتها وثروتها ومقدّراتها. وقد تتمكّن من السيطرة والاستيلاء على ذلك، إلّا أنّها لن تستطيع إخضاع هذا المجتمع داخليًّا وعلى المستوى النفسيّ لإرادتها. ولطالما هناك رفض نفسيّ للقوّة
1 سورة النساء، الآية 46.
234
207
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
الغازية فهذا يعني أنّ جذوة المقاومة متّقدة وهي قابلة للاشتعال في أيّ لحظة من اللحظات لتتحوّل إلى قوّة تتمكّن من تحرير ذاتها ومن إعادة السيطرة لنفسها على مقدّراتها.
بخلاف الحرب الثقافيّة والغزو الثقافيّ فإنّها تبدأ بعمليّة السيطرة ويتمّ الوصول إلى أهدافها من خلال الاخضاع النفسيّ والداخليّ للغازي، وبذلك يسيطر على الإرادة ومن ثَمَّ يتمكّن من السيطرة على المقدّرات مع كامل التسليم والرضا القلبي والباطني للمستعمر وهذا لا يسهّل له الاستئثار بالأمور الماديّة فحسب بل يفتح له الطريق لتغيير هويّة وتاريخ الفئة المستهدفة ويجعلها تابعة لإرادته طوعاً، وهنا تكمن الخطورة في الغزو الثقافيّ، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في بداية انتصار الثورة المباركة في إيران: إنّ الثقافة التي رسم خطوطها الأجانب وأملوها على شعبنا لهي أخطر من سلاح الجبابرة؛ لأنّها تقدّم إلى الأمّة شباباً يملكون قابليّة الاستعمار.
ما هي القيمة الثقافيّة للمجتمع؟
إنّ الحديث عن ثقافة أي مجتمع هو الحديث عن هويّته بمعناها العامّ الشامل لمعتقداته وفكره وسلوكه، يقول الإمام المقدّس: إنّ ثقافة أي مجتمع إنّما تشكّل هويّة ووجود المجتمع وإنّ الإنحراف الثقافيّ يؤدّي إلى خواء ذلك المجتمع وشعوره بالفراغ، رغم أنّه قد يكون قويّاً ومقتدراً في
235
208
المحاضرة الثالثة: خطورة الغزو الثقافيّ
المجال الإقتصاديّ والسياسيّ والصناعيّ والعسكريّ1.
وأمّا العامل الذي يشكّل الضمانة المطلقة لثقافة المجتمع من التزوير أو التحريف فهو العلماء الربانيّون الذين تعمّقوا في فهم الإسلام الحنيف، والذين يملكون قوّة التأثير في المسلمين، وهذان رصيدان يصنعان من العلماء قوّة ناعمة وبأيديهم أقوى سلاح لتحصين المجتمع من أن يُخرق من قبل الغزاة والمستعمرين الثقافيّين. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: كان هدفهم هو القضاء على الإسلام، وكان الطريق للقضاء على الإسلام هو القضاء على العلماء، فهم كانوا يعلمون أنّه ما دام العلماء موجودين فإنّهم يحفظون الإسلام2.
1 الكلمات القصار، ص 233.
2 الكلمات القصار، ص 233.
236
209
المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟
المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟
الهدف:
بيان أنّ أشرف مراتب العبودية التي بلغها الامام الحسين عليه السلام حين شهادته المباركة.
تصدير الموضوع:
"إلهي ...منك أطلب الوصول إليك"، "إلهي تقدّس رضاك".
239
210
المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟
مقدّمة:
إنّ العبادة ملازمة للمعرفة فكلّما ازداد العبد معرفة بمعبوده كلّما زاد في عبادته حتّى يقترب من حقيقة العبوديّة، وهكذا فكلّما ضعفت معرفته به كلّما فقدت العبادة جوهرها، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام المقدّس روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره فقال "إنّ من أعلى مراتب الخسران والضرر الاقتناع بصورة الصلاة وقشورها والحرمان من بركاتها وكمالاتها الباطنيّة التي توجب السعادات الأبديّة، بل إنّها توجب جوار ربِّ العزّة، ومرقاة العروج إلى مقام الوصول، يوصل إلى المحبوب المطلق الذي هو غاية آمال الأولياء ومنتهى أمنية أصحاب المعرفة وأرباب القلوب، بل قرّة عين سيّد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، فكلّ من تجلَّى التوحيد في نفسه وأزال عنها الأغيار بكلّ المراتب وأقام في العبوديّة تولّى? شؤونه، وقد دلّ على هذه الحقيقة قوله تعالى حيث يقول: ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾1.
العبادة بين معرفتين:
تبيّن آنفاً أنّ جوهر العبادة وحقيقة العبوديّة يفتقران إلى المعرفة، وحينما يقوم في فعليّة التزوّد منها لتمنحه العروج في درجات الكمال ليصل إلى مقام اليقين. وببلوغ تلك المرحلة فقد بلغ درجات الكمال. يقول الله سبحانه
1 سورة الأنعام، الآية:102.
240
211
المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟
وتعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾1 وحينها يصل إلى ما وصل إليه أمير المؤمنين وإمام المتّقين "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"2.
المعرفة الأولى التي تتوقّف عليها العبادة هي المفهوم الذي يدركه عامّة النّاس من الله تعالى، والمعنى الذي يفهمونه عند سماعهم لكلمة الله. ذلك الوجود الخالق للعالم، وبعبارة أخرى فإنّهم يعرفون الله بعنوان كونه خالقاً، وأحياناً يلتفتون إلى معانٍ أخرى من قبيل الربّ والمعبود أي اللائق للعبادة، وبالنظر إلى أنّ أمثال هذه المفاهيم منتزعة من مقام الفعل الإلهيّ، والبعض الآخر منتزع من أفعال المخلوقين كالعبادة، وأمّا المعرفة التي هي ثمرة العبادة فهي المعرفة التي تحكي لنا الذات المقدّسة، وقد استعمل الفلاسفة مصطلح واجب الوجود بمعنى أن يكون وجوده ضروريّاً ويمتنع عليه الزوال مطلقاً.
ومعرفة الله لا تتحقّق إلّا بالتكامل الحقيقيّ للإنسان، وهذا التكامل لا يحصل إلّا في ظلّ القرب الإلهيّ، وببلوغ هذا المقام تبوَّأ مقام اليقين والكشف الذي تحدّث عنه أمير المؤمنين.
وكذلك أشار إلى هذا المقام سيّد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام فعن مولانا الصادق عليه السلام قال "خرج الإمام الحسين على أصحابه وقال: أيّها الناس، إنّ الله جلَّ ذكره ما خلق العباد إلّا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه"3.
1 سورة الحجر، الآية:99.
2 بحار الأنوار، ج 46،ص 135.
3 بحار الأنوار، ج 23، ص 83.
241
212
المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟
المعرفة الفطريّة بالله تعالى:
إنّ معرفة الله فطريّة من طريق العلم الصوريّ، وقد ينال كلّ فرد نصيباً من هذه المعرفة، وبما أنّها قابلة للتقوية بتكامل النفس وتركيز التفات القلب إلى الساحة المقدّسة بوساطة العبادات والأعمال الصالحة، تصل هذه المعرفة عند أولياء إلى درجة من الوضوح بحيث يرون الله أظهر من كلّ شيء، وهو المظهر لكلّ شيء، كما جاء في دعاء مولانا أبي عبد الله الحسين عليه السلام، في يوم عرفة، حيث قال "أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتّى يكون هو المظهر لك"1 فمعرفة الإمام الحسين بالله تعالى هي معرفته الفطريّة اليقينيّة بأنّ كلّ شيء في هذا الوجود مفتقر في أصل وجوده إلى الله، وأنّ ديمومته محتاجة إلى استمرار الفيض الإلهيّ عليه ولولا وجود الله لما وجد شيء، وكلّ شيء في هذا الوجود هو عين الفقر والحاجة وعين الربط والتعلّق بالله سبحانه وتعالى، وقد أشار إلى ذلك بقوله "الهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك"2.
الإمام الحسين بين أنت وأنا:
لا يرى الإمام الحسين عليه السلام في هذا الوجود إلّا الله سبحانه وتعالى، وقد أدرك كنه الربوبيّة في حقيقة العبوديّة، وحينما يقف مناجياً وداعياً فإنّما يناجي من يراه، وطالما أزال من قلبه كلّ شيء إلّا الله، فحينما يتوجّه إليه بقلبه فلا يخاطب سواه، ويظهر على لسانه مردّداً: أنت الذي مننت، أنت
1 من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة.
2 من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة.
242
213
المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟
الذي أنعمت، مكرّراً إيّاها سبعة وعشرين مرّة، وفي كلّ مرّة يعتمد على واحدة من صفاته الحسنى، ثمّ ينتقل إلى فقر ذاته المتقوّمة بغيرها مخاطباً إيّاها بقوله: "أنا يا إلهي المعترف بذنوبي، أنا الذي أخطأت"، وقد كرّرها على مسامعهم وهو يخاطب الله بأسمائه.
الإمام الحسين بين عرفة وكربلاء:
ومن جملة ما عبّر عن حقيقة ما هو عليه في عرفة وكربلاء ما جاء على لسانه الشريف وهو يقول في عرفة حيث إدراك العبد لحقيقة ذلّ عبوديّته فيقول "إلهي ذلّي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبوديّة بين يديك"1.
وأمّا في كربلاء حيث يحتاج إلى التوكّل على الله والثقة به والاعتماد عليه فقال: "اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من كرب يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمَّن سواك، ففرّجته وكشفته، فأنت وليُّ كلِّ نعمة، وصاحب كلِّ حسنة، ومنتهى كلِّ رغبة"2.
1 من دعاء الإمام الحسين عليه السلام في عرفة.
2 بحار الأنوار، ج 45، ص 5.
243
214
المحاضرة الأولى: كيف تحقّقت أسمى معاني العبوديّة للإمام الحسين في الشهادة؟
خذ حتّى ترضى:
من يتأمّل في مناجاته يجد أنّ رغبة المؤمن وعشقه يكمن في الوصول إلى رضا الله والتنعّم بشرف النظر إلى نور جلاله وهذا ما نقرأه في حياته العمليّة حيث يقول عليه السلام: "الهي ... منك أطلب الوصول إليك" ويقول: "إلهي تقدّس رضاك"، ولا يصل إلى هذه المقامات إلّا من أشرقت الأنوار في قلبه حتّى عرف الله وحده وبه يزول الأغيار عنه حتّى لا يحبّ سواه، ولا يلجأ إلى غيره، فيقوم في ظلّه مستأنساً وقد فرّ من عالم الوحشة، هكذا وجد الإمام الحسين عليه السلام أنّ ذروة السعادة حال الانقطاع التامّ الكامل إلى الله وهو ممّا لم يتحقّق إلّا في كربلاء، فلذلك رغب في المزيد من الوقت للصلاة والمناجاة وقراءة القرآن، كما حصل عصر تاسوعاء وليلة ويوم عاشوراء، ولكن ذروة الذروة ممّا كان يطلبه من الله في عرفة هو الوصول إلى رضا الله المقدّس وجده يوم العاشر من محرّم حينما حمل الطفل الرضيع مذبوحاً وهو يقول: "أرضيت يا ربّ خذ حتّى ترضى" هذه اللحظات هي غاية المرام ونهاية المقام وهي لحظة إدراك حقيقة العبوديّة والوصول إلى الربوبيّة، لحظة احتراق جناحي العبد بتوهّج نور المعبود، ولحظة فناء العاشق بحلولها في فناء معشوقها، وهو نتيجة الطاعة والتسليم.
244
215
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
الهدف:
التعرّف على أبعاد ودلالات الدفاع المقدّس عن النفس والعرض، والمال. وفهم غرض الإسلام من تشريع الجهاد وأنّه الدفاع عن البلاد والعباد.
تصدير الموضوع:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "للجنّة باب يقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلّدون بسيوفهم، والجمع في الموقف والملائكة ترحّب بهم"1.
1 وسائل الشيعة، ج١١، ص ٥، الباب الأول من أبواب جهاد العدو، حديث ٢.
245
216
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
1- فطريّة الدفاع عن النّفس
يُعتبر الدفاع عن النّفس وما يتعلّق بها من الأمور الفطريّة المركوزة في طبيعة الإنسان، وقد حكم العقل بحسنه وضرورته، وأقرّه الشرع وأمر المكلّفين به، ورغّب بالثواب على فعله، وتوعّد بالعقاب على تركه، وذلك لما له من أهمّيّة قصوى في سعادة الإنسان ونهوض الأمم واستقرار المجتمعات.
بل إنّ الحيوانات مفطورة على ذلك ومجهّزة بأجهزة الدفاع، فكما أودع الله تعالى في الإنسان شهوة الغذاء لحفظ البدن، كذلك أودع فيه قوّة الغضب أيضاً لينبعث قهراً إلى الدفاع عن نفسه وما يتعلّق به من المال والعرض ونحوه. فالدفاع في نظام الطبيعة أمر طبيعيّ ضروريّ لا محالة، وكما يحتاج الفرد إلى الدفاع عن منافعه ومصالحه، فكذلك الأمّة والمجتمع.
2- وجوب الدفاع عن البلاد الإسلاميّة
يعدُّ وجوب الدفاع عن المسلمين والبلاد الإسلاميّة من ضروريّات الفقه الإسلاميّ، بل يمكن القول بأنّ الدفاع عن النّفس، والمال، والعرض، والوطن، والأرض، والشرف، والأمّة، والاستقلال، والسيادة... مقولة مقدّسة وممدوحة لله، يتّفق عليها البشر كافّة، فلم يحتكر الإسلام أمر الدفاع والمقاومة أمام المعتدين.
ولقد اعتبر القرآن الكريم الحياة البشريّة، وديمومة العقائد الدينيّة والأماكن المقدّسة رهناً لحسّ الدفاع الفطريّ عند بني البشر، فقال الله
246
217
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1.
فلقد منح الله تعالى في هذه الآية إذناً بالحرب والجهاد لأولئك الذين مورست عليهم مظاهر الظلم والجور. وتفيد الروايات بأنّ شأن نزول الآية كان إخراج المسلمين من مدينتهم (مكّة) وديارهم، ومصادرة أموالهم من جانب المشركين، ما يعني أنّ مفهوم المظلوم في الآية شامل لكلّ من يخرج من بلده ويعتدى على ممتلكاته، وعليه فإنّ محاربة العدوّ الغازي والمحتلّ حقّ مشروع للمظلومين.
3- ما هو الجهاد الدفاعيّ؟
هو أحد أقسام الجهاد- كما ذهب أغلب الفقهاء - ويُراد به قتال من دهم المسلمين من الكفّار والمشركين وغيرهم من الأعداء، للدفاع عن حوزة الإسلام وأراضي المسلمين ونفوسهم وأعراضهم وأموالهم وثقافتهم وعناصر قوّتهم...
ولا يعتبر في الجهاد الدفاعيّ إذن الإمام عليه السلام، بل يجب مطلقاً، فالدفاع واجب بضرورة من الفطرة والعقل والشرع، وهو من أوجب الواجبات على جميع المسلمين في قبال هجوم الأجانب والكفّار والتسلّط على بلاد المسلمين وشؤونهم.
1 سورة الحجّ، الآية: ٣٩- ٤٠.
247
218
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
وبما أنّ الدفاع لا يمكن ولا يتحصّل إلّا بإعداد المقدّمات والوسائل والتسلّح بسلاح العصر، والتدرّب عليه، فيجب ذلك لا محالة. ولعلّه لا يتيسّر إلّا بالتشكيل التنظيميّ والعسكريّ المناسب ووجود قيادة جيّدة وحكيمة، لذا وجب عليهم أن يؤمِّروا على أنفسهم قائداً حتّى ينصرهم الله بتأييده ونصره.
محاور الموضوع
نظرة الإمام الخمينيّ قدس سره إلى الدفاع:
لقد كرّر الإمام الخمينيّ قدس سره وفي مناسبات مختلفة ضرورة الدفاع ضدّ أعداء الإسلام والمسلمين، ففي عام 1987 وفي كلمة بجمع من أعضاء شورى حزب الله - لبنان - قال:
"لقد اجتمع الشياطين برمّتهم يريدون وقف تنامي الإسلام، وعلينا أن نعي بأنّ من الضروري أن نبقى على استعداد تامّ بكلّ قوانا وحتّى آخر شخص منّا، ونجاهد في سبيل الله، إنّ الدفاع عن أعراض المسلمين وبلادهم أمر لازم، وعلينا أن نجّهز أنفسنا للأهداف الإلهيّة والدفاع عن المسلمين، ولا سيّما في هذه الأوضاع التي هبّ فيها أبناء فلسطين الإسلاميّة ولبنان - يعني حزب الله - والبلاد المغتصبة يقدّمون أرواحهم ودماءهم صارخين (يا للمسلمين) ويبدون شهامة عظيمة في وجه السفّاكين، إنّ علينا أن نُعين هؤلاء ونبيّن للنّاس أمرهم"1.
1 صحيفة النور، ج ٢٠،ص٤٨٧.
248
219
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
وقد وضع في تحرير الوسيلة في كتاب الأمر بالمعروف فصلاً تحت عنوان "الدفاع"، ذكر فيه ما يمكن أن يتعرّض له المسلمون والبلاد الإسلاميّة من أشكال الهجوم العسكريّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ، والثقافيّ، وحدّد كيفيّة مواجهتها بمختلف أنواع المواجهة والمقاومة والتصدّي.
وأهمّ هذه الأحكام كما وردت في تحرير الوسيلة هي:
- الدفاع عن بلاد المسلمين: لو غشي بلاد المسلمين أو ثغورها عدوّ يُخشى منه على بيضة الإسلام ومجتمعهم يجب عليهم الدفاع عنها بأيّة وسيلة ممكنة من بذل الأموال والنفوس. ولا يشترط ذلك بحضور الإمام عليه السلام وإذنه ولا إذن نائبه الخاصّ أو العامّ، فيجب الدفاع على كلّ مكلَّف بأيّة وسيلة بلا قيد وشرط.
- الدفاع عند الخوف من الاستيلاء السياسيّ والاقتصاديّ: فلو خيف على زيادة الاستيلاء على بلاد المسلمين وتوسعة ذلك وأخذ بلادهم أو أسرهم وجب الدفاع بأيّة وسيلة ممكنة.
وكذا لو خيف على حوزة الإسلام من الاستيلاء السياسيّ والاقتصاديّ المنجرّ إلى أسرهم السياسيّ والاقتصاديّ ووهن الإسلام والمسلمين وضعفهم يجب الدفاع بالوسائل المشابهة والمقاومات المنفيّة، كترك شراء أمتعتهم، وترك استعمالها، وترك المراودة والمعاملة معهم مطلقاً.
- الدفاع خوفاً من الاستعمار: لو كان في المراودات التجاريّة وغيرها
249
220
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
مخافة على حوزة الإسلام وبلاد المسلمين من استيلاء الأجانب عليها سياسيّاً أو غيرها الموجب لاستعمارهم أو استعمار بلادهم، ولو معنويّاً، يجب على كافّة المسلمين التجنّب عنها، وتحرّم تلك المراودات.
ما هو واجب المسلمين تجاه مقدّساتهم:
تشترك الشرائع السماويّة في أصولها ومبانيها، وتتّفق على قداسة هذه الأصول وحرمتها ووجوب الدفاع عنها، وقد أجمع فقهاء الإسلام بالإجمال على وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام، بل إنّ فلسفة تشريع الجهاد في الشريعة الإسلاميّة قائمة على مبدأ الدفاع عن الشريعة وحفظ مقدّساتها وكيانها من كلّ ما يهدّده بالخطر أو التشويه ونحوه، ولهذا:
- يجب على المسلمين أنفسهم المحافظة على كلّ مقدّساتهم بالقول والعمل الدؤوب والدائم، وعدم الإساءة إليها من خلال احترام مقدّسات الآخرين وخصوصيّاتهم.
- يجب مواجهة كلّ من يمس المقدّسات الإسلاميّة أيّاً كان موقعه أو الجهة التي ينتمي إليها ضمن الضوابط الشرعيّة.
- يجب تنويع وسائل المواجهة والردع، من ثقافيّة، إعلاميّة، سياسيّة، قانونيّة، إداريّة، اقتصاديّة، إلى حدّ الجهاد والشهادة.
- يجب تربية مجتمعاتنا على احترام المقدّسات، والسعي الدائم لنقل هذه الثقافة إلى الآخرين.
250
221
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
القوة المعنوية لحضور القادة في سوح الجهاد:
إنّ أهل الإيمان الكامل هم أشجع النّاس وأكملهم شجاعة هو نبيّهم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمّتهم عليهم السلام. وقد عبّر الإمام عليّ عليه السلام عن شجاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقدامه بقوله: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أقربنا إلى العدوّ، وكان من أشدّ النّاس يومئذٍ بأسًا"1.
وقال عليه السلام: "كنّا إذا حمي البأس ولقي القوم القومٍ اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون أحد أدنى إلى القوم منه"2.
ولذا يجب أن لا يغيب عن بال أحد ما لحضور القادة في الميدان مع المجاهدين من الأثر الكبير في المعركة والمجاهدين معاً، ومجريات الأحداث ونتائج المعركة شهادة كانت أو انتصاراً، وما للقيادة الشخصيّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمعارك، ولوجوده الشخصيّ في ميدان الحرب من دلالات تشريعيّة وتربويّة وروحيّة عميقة، رسّخت عبر التاريخ في قلوب المجاهدين والمقاومين، وأصبحت عنصراً فاعلاً في كلّ الانتصارات، ومن هذه المدرسة تخرّج القادة الشهداء والمجاهدون في المقاومة الإسلاميّة في لبنان، فكانت قوّة المقاومة وثباتها، وأصبح دم الشهداء عنصراً حاسماً في النصر.
وهذا ما شاهدناه في مجاهدي المقاومة الإسلاميّة في لبنان حيث
1 كنز العمًال ج١٠، ص٣٩٧؛ مسند أحمد، ج١، ص٨٦.
2 السيرة النبويّة، ابن كثير، ج٢، ص٤٢٥.
251
222
المحاضرة الثانية: الدفاع المقدّس
جسّدت أقدس المعارك من خلال مواجهتها للعدوان الإسرائيليّ والحرب التكفيريّة على المقاومة، و كان السلاح الأقوى في هذه الحرب الإيمان والإرادة والثبات والتوكّل على الله تعالى والطاعة له سبحانه. فالمجاهدون بحقّ كانوا رجال الله، وقد تولّاهم الله بعنايته ورحمته وتوفيقه وتسديده، وقائدهم السيّد الملهم أعاد إلى الأذهان صوت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بقيادته الإلهيّة الحكيمة، وشجاعة عليّ عليه السلام في خيبر، ولهذا أعلن باطمئنان ووثوق انتهاء زمن الهزائم وولادة زمن الانتصارات. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾1.
1 سورة الحجّ، الآية: ٤٠.
252
223
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
الهدف:
بيان خطورة الفساد والإرهاب في الأرض، وبيان مصاديقه والآثار المترتّبة عليه وحكم المفسدين.
تصدير الموضوع:
"ألا وقد أمعنتم في البغي وأفسدتم في الأرض مصارحة لله بالمناصبة ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة"1.
1 نهج البلاغة، خطبة 192، فقرة 27.
253
224
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
مقدّمة:
قبل بيان موقف الإسلام من الإرهاب لا بدّ من بيان معنى الإرهاب وبيان ما يترتّب عليه.
الرهبة: الخوف والفزع وأرهبه ورهَّبه واسترهبه: أخافه وفزَّعه1.
ويلتقي هذا مع معنى الرعب فهو أيضاً الفزع والخوف2.
ومهما كان معنى الإرهاب فإنّه اليوم بالمصطلح السياسيّ واستنادًا إلى الأفعال التي ترتكبها الأنظمة أو المجموعات من قتل وتدمير وتشريد من دون رادع ومحاسبة فهو الفساد في الأرض والإفساد. ومن المعلوم أنّ القيم الإنسانيّة لا يمكن التخلّي عنها حتّى في ساحة المعركة إذ تبقى هناك مجموعة من القيم الأخلاقيّة لا بدّ من المحافظة عليها والتحلّي بها حتّى مع الخصوم والأعداء، وهذا ما قرأناه في ممارسة أمير المؤمنين عليه السلام مع أقرانه من المشركين والكفّار كما فعل مع عمرو بن عبد ودّ العامريّ ومرحب ومن واجهه من جند معاوية في معركة صفّين، إذ لم يقدم على سلب أحد ممّن قتلهم ولم يمثّل بهم، بل هو الذي شرب نصف الكوب من اللبن ثمّ دفع بالنصف الباقي إلى قاتله ابن ملجم، ولم يذكر التاريخ ولو لحادثة واحدة اعتدى فيها جيش المسلمين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أمير المؤمنين عليه السلام، على بيت من بيوت المسلمين أو على مزارعهم أو أتلف
1 لسان العرب، ج5.
2 لسان العرب، ج5.
254
225
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
شيئًا من مزروعاتهم، فضلاً عن انتهاك الحرمات للأنفس والأعراض، نعم من خاف من أعدائه فقد خافه وهو على قيمه وأخلاقه.
وأمّا ما نقرأه قديمًا في تاريخ الطغاة والجبابرة، سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم، فلا فرق في سلوكهم الحربيّ والعدوانيّ على البشريّة جمعاء، إذ لا دين ولا طائفة ولا مذهب للإجرام والفساد واللذين يجمعهما اليوم عنوان الإرهاب، إذ لا فرق بين ما ارتكبه خالد بن الوليد الذي أقدم على قتل مالك بن نويرة ظلمًا، ثمّ دخل بزوجته ليلة قتله أو بين فعل الخوارج من بقرهم لبطون الحوامل المسلمات أو ما فعله أخو غامد عامل معاوية على الأنبار حيث كان يدخل على المسلمة والمعاهدة فينتزع حِجْلها وقُلبها وقلائدها ورُعْثَهَا فما تتمنع منه الّا بالإسترجاع والإسترحام1.
ولا يقدر الإنسان أن يحصي أسماء المفسدين في الأرض فضلاً عن أن يحصي فسادهم وإفسادهم.
محاور الموضوع
الإرهاب يفسد ويسفك
لقد علمت الملائكة أنّ وجود الإنسان في عالم المادة والماديّات والذي يخضع لقانون التزاحم، ستكون نتيجتُه هي الإفساد في الأرض وسفك
1 كلمات من خطبة الجهاد.
255
226
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
الدماء، فيما لو لم يلتزم بالضوابط الإلهيّة، وقرّر التخلّي عن محاسبة الضمير له. وممّا لا شكّ فيه أنّ سفك الدماء هو من أبرز مصاديق الإفساد في الأرض، وإنّما أفرده القرآن بالخصوص لخطورة أن يصل الإنسان إلى مرحلة عدم احترام حياة الآخرين وعدم الإحتراز من سفك دمائهم.
ومن يتدبّر الآيات الشريفة التي تضمّنت مادة الإفساد فقد يجد أنّها غالبًا تتحدّث عن الإفساد في الأرض، وأحيانًا تشير إلى الفساد الذي يصيب البحر مقابل ما يصيب البر، كما في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾1.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾2.
الإرهابيّون هم مفسدون في الأرض
المفسدون في الأرض موجودون بوجود الدنيا، وفي مقابل كلّ دعوة إلهيّة نجد مجموعة من المفسدين ولكن أكثر الآيات المتضمّنة للفساد هي الآيات الواقعة في سياق الحديث عن بني إسرائيل واليهود، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
1 سورة الروم، الآية 41.
2 سورة المؤمنون، الآية 71.
256
227
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾1.
نماذج مفسدة:
كلُّ فئة لا تنقاد إلى طاعة الله سبحانه وتعالى ثمّ عتت عن أمر ربّها وسلكت طريق الفساد في الأرض، لهي فئة ضالّة مضلّة ومفسدة. ومن أبرز النماذج التي بنظر القرآن الكريم وبحسب التتبّع لآياته الشريفة كان فرعون، حتّى إنّ بعض الآيات نعتته بأنّه من المفسدين. وأيضًا فإنّ من النماذج التي أشار إليها في نهج البلاغة هي الفئات الناكثة والقاسطة والمارقة؛ وقد أشار إليها جميعًا في خطبته المعروفة بالشقشقيّة حيث قال: "فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾2"3.
ومن الواضح أنّ الفئة التي تخرج على إمام زمانها الشرعيّ هي عين الفساد في الأرض، ولذا نرى الفئات المذكورة انتقلت إلى المواجهة الدمويّة قبال القيادة الإلهيّة، ولم تتورّع عن الولوغ في دماء المسلمين، حتّى إنّها استعملت أساليب وطرق القتل والتنكيل ما يندى له جبين البشريّة.
1 سورة المائدة، الآية 64.
2 سورة القصص، الآية: 83.
3 خطبة الشقشقيّة.
257
228
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
وقد أشار إليها ثانية في آخر خطبته المشهورة بالقاصعة حيث قال عليه السلام: "ألا وقد قطعتم قيد الإسلام، وعطّلتم حدوده، وأقمتم أحكامه. ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض، فأمّا الناكثون فقد قاتلتُ، وأمّا القاسطون فقد جاهدتُ، وأمّا المارقة فقد دوَّختُ، وأمّا شيطان الردهة فقد كُفيتُهُ بصعقة سمعت له وجبة قلبه ورَجَّة صدره"1.
ومن أوضح نماذج الفساد والإرهاب يزيد بن معاوية وقد أشار إلى هذا النموذج الإمام الحسين عليه السلام في خطبته في "البيضة" وهي ما بين "واقعة" إلى "العذيب" والتي ألقاها على أصحابه وعلى مسمع الحرّ بن يزيد الرياحيّ وجنده، حيث قال بعد الحمد والثناء: "ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله"2.
وأمّا في عصرنا الحاضر فإنّ رأس الإرهاب متمثّل بالكيان الغاصب، وبالقراءة الواعية لتاريخ هذا الكيان فهو تاريخ مملوء بالقتل والتنكيل، بل لا يوجد هناك مجموعة بشريّة لها تاريخ طويل كالمجموعة الصهيونيّة في هذا المضمار. وأمّا المجموعات التكفيريّة فهي الوجه الآخر للصهيونيّة العالميّة، ولكنّها للأسف تظهر بمظهر الإسلام الحنيف.
1 الخطبة القاصعة.
2 تاريخ الطبري، ج4، ص 303.
258
229
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
منع الإفساد في الأرض:
لطالما وُجِدت في الأرض عناصر بشريّة قد اتخذت إلهها هواها، فالإرهاب والفساد موجودان، وإنّ نفس وجود بعض النّاس هو وجود إفساديّ كما قال الإمام الحسين عليه السلام في واحد من أجوبته على رسائل معاوية: "وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها"1.
وأمّا كيف يتمّ منع الفساد في الأرض؟ فلا يتمّ إلّا بمواجهته والعمل على إستئصاله، وأمّا الوقوف أمامه مكتوفي الأيدي أو الهروب من أمامه فهو فساد أكبر، وما دلَّ على ضرورة مواجهته ما أشار إليه القرآن الكريم كما قال تعالى: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾2.
وأيضًا يدلّ عليه ما تمّت الإشارة إليه من مواجهة أمير المؤمنين للفئات الإرهابيّة الباغية، وأيضًا اتخذ الموقف نفسه الإمام الحسين عليه السلام حيث قال: "أيّها النّاس، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطانًا جائراً مستحلًّا لحرم الله ناكثًا لعهد الله مخالفًا لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يُغَيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله"، إلى أن قال عليه السلام: "وأنا أحقّ من غيَّر"3.
1 بحار الأنوار، ج44، ص 212.
2 سورة البقرة،الآية 251.
3 تاريخ الطبري، ج4، ص 303.
259
230
المحاضرة الثالثة: موقف الإسلام من الإرهاب
عاقبة المفسدين:
بعد التأمّل في الآيات الشريفة نجد أنّ الله سبحانه وتعالى لم يمهل المفسدين ليعاقبهم يوم القيامة بل جعل لهم عقوبة معجّلة في دار الدنيا، وكلّ عقوبة تتناسب مع نوع الفساد الذي عثته كلّ طائفة. وأمّا جزاؤهم فقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾1.
1 سورة المائدة، الآية 33.
260
231