الوحدة الإسلامية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2016-11

النسخة: 2016


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على نبي الرحمة ورسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله وصحبه المنتجبين، أما بعد ...
 
لقد حرص الإسلام في نظرته إلى الإنسانية على إرساء قواعد الوحدة بين أفراد الإنسانية جمعاء، فلا مائز لا من حيث الأجناس، ولا من حيث الألوان، أو الأقاليم، بين أفراد البشرية، فالجميع من نفْسٍ واحدة، وطينة واحدة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾1.
 
وحتى الاختلاف الشكلي أو الظاهري الموجود لجهة اللون أو اللغة ونحوها فهو آية من آيات الله لها حكمتها وفلسفتها الخاصة، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾2.
 
ولهذا يمكن القول إن الفرقة القسرية التي تفرضها طبيعة الأرض والمساحات أو المسافات، لا تلغي أو تحرف مبدأ التلاقي الإنساني بين جميع بني البشر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾3. 
 
فمبدأ التعارف القرآني هذا يلغي المسافات ويقرّب القلوب، ويفرض على الجميع نوعاً من الإلفة والمحبة والتعاون والإيثار وهي أهم ركائز الوحدة المرجوّة.



1 سورة النساء، الآية1.
2 سورة الروم، الآية 22.
3 سورة الحجرات،الآية 13.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 ولقد اعتبر القرآن الكريم أنّ مبدأ الوحدة من الثوابت والأصول التي ينبغي أن يحكم الأصول العقائدية والفكرية للبشر، وترتكز عليه منظومة الأخلاق والقيم التي تشكّل الرابط الأقوى بين المجتمعات الإنسانية.

 
ولهذا تعتبر عالميّة الدين الإسلامي وخلوده، وعدم اختصاصه وتحديده بقوم أو منطقة معيّنة، أو تقيده بزمن محدود من ضروريات هذا الدين الإلهي، ويتضّح هذا الأمر لكل من يلقي نظرة -ولو عابرة- على القرآن الذي يخاطب الناس جميعاً في الكثير من الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾1، ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾2، ﴿الْعَالَمِينَ﴾3، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾4
 
فلقد صرّح القرآن الإنسانية أمة واحدة، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾5 و﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾6
 
هذا كلّه إلى جانب وحدة الإله، والنبي المرسَل صلى الله عليه وآله وسلم، والكتاب المنزَل، بل وحدة الأصول وفروع الشريعة الغرّاء، والتي لا تحتاج إلى مزيد استدلال وبحث بعد وضوحها وبداهتها...
 
فما هي الوحدة المرجوّة: 
إذا كان الدين الإسلامّي قد حرص على الوحدة الإنسانية، فضلاً عن الوحدة الإسلامية بين أبناء هذا الدين، الذي اهتم بتفاصيل العلاقة بين أفراده فضلاً عنه كلّياتها وأصولها، والتي تضمَّن - لو أُتّبعت حياةً سعيدةً وهادئةً لكل البشر، بل لكل المخلوقات الحية على سطح المعمورة.
 
فأيّ وحدة تلك التي ينبغي أن تحكم علاقة المسلمين ببعضهم، وترسم معالم العلاقة مع الآخر؟

هنا يمكن القول، وبسهولة إنّ مختلف عناوين وأشكال وصور الوحدة القائمة على المجاملات - التي لا تتعدّى حدود الألفاظ والشكليات - لا يمكن لها أن تحقّق أدنى غاياتها، ولو 



1 سورة البقرة، الآية 21.
2 سورة الأعراف، الآية 26.
3 سورة الحمد، الآية 2.
4 سورة التوبة، الآية 33.
5 سورة سبأ، الآية 28.
6 سورة الأعراف،الآية 158.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
8

2

المقدمة

 كانت بأفضل صورها وأجملها وأرقاها، وليس هي التي يطمح إليها المسلمون الحريصون على قدسيّة الإسلام ومصالح بنيه وحفظ توابته العقائدية والفكرية، ولهذا فإنّ الوحدة المرجوّة هي تلك الوحدة المرتكزة على الأصول الوحدوية للبشر التي ذكرها القرآن الكريم، إضافة للأصول والفروع التي ابتنيت عليها الشريعة الإسلامية، وكُلّفِ بها أبناؤها وغيرهم، والتي من المفترض أن تقضي على ظاهرة التفرقة والتباين والتكفير ونحوها، وتلقي كل المعيقات المصطنعة أو المدسوسة أو المنحرفة التي تمنع تلاقي المسلمين ووحدتهم.


ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ المسلمين لا يعانون مشكلةً أو خللاً في الأسس النظرية للوحدة...، بل إنّ أهم ما تحتاجه وحدة المسلمين إضافة لإزالة القلق من الآخرة، هو التوافق على منهج علمي جادٍ وجريء ومشترك لقراءة وبحث المبادئ والأصول التي وقع الاختلاف عليها، تمهيداً لنشوء نوع من التكاون المنهجي والمعرفي الذي إن توافق المسلمون على قبوله، وتحكيمه، لتمكّنا من حل نصف المشكلة، ويبقى القسم الآخر منها على عاتق العلماء والقادة المدعوين لإغلاق كياناتهم المذهبية الضّيقة لحساب كيان الإسلام الكبير، واتخاذ القرارات الجريئة بإعلان الموافقة على مبدأ الوحدة والسعي العلمي لمأسستها وتحويلها إلى عنوان كبير للتلاقي والدفاع عن المسلمين، وحماية الإسلام ومقدّساته.

حَوْلَ هذه الوحدة الإسلامية في فكر رائدها الإمام الخمينيّ قدس سره، نتحدّث في فصول هذا الكتاب، سائلين الله تعالى أن يوفّقنا للعمل في خدمة دينه ووحدة أمّته، إنّه سميع الدعاء قريب مجيب.

والحمد لله ربّ العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
 
 
 
 
 
 
 
9

3

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 مدخل

قلّما نطالع في الكتب السياسيّة المتداولة بحثاً يتناول موضوع الوحدة والألفة بين أفراد الشعب في بلد ما أو بين أعضاء مدرسة فكريّة أو دين ما، بوصفه مبدأً أساسيّاً وبنيويّاً، إلّا أنّ العناوين والشعارات الأخرى التي تنادي بها المدارس السياسيّة مرتبطة بنحو أو بآخر، بموضوع الوحدة. وهكذا، فإنّ المدارس السياسيّة التي تنادي مثلاً بالقوميّة العربيّة، أو الوحدة الإسلامية1، أو النظريّة الأممية2، أو بعض المدارس الشمولية مثل الماركسيّة وغيرها، كلّها تدعو إلى الوحدة والتضامن من زاوية معيّنة. وعلى الرّغم من أنّ بعض تلك الدّعوات كانت تنادي بتوحيد أفراد الشعب في بلد معيّن أو منطقة معيّنة أو أبناء اللغة الواحدة أو المدرسة الفكريّة الواحدة، فاختلفت آراؤهم، إلّا أنّهم اتفقوا جميعاً على نمط من الوحدة والسعي لتحقيقها.
 
وقد تجلّت المطالبة بالوحدة بين المسلمين، وتبلورت الدّعوة إلى توحيدهم في القرون الحديثة في المساعي والجهود الحثيثة التي بذلها الشيخ جمال الدين الأسدآبادي (الأفغانيّ) (1254 - 1314هـ/ 1838 - 1896م)، ومن ثمّ الجهود التي قدّمها في هذا المجال الشيخ محمّد عبده3، الشيخ عبد الرحمن الكواكبيّ4، محمد إقبال5 وغيرهم. وقد تزامنت تلك الجهود بعد نفوذ الاستعمار إلى جسد الإمبراطوريّة العثمانيّة وزوال حاضرة البلدان الإسلاميّة وتحوّلها إلى دُويلات صغيرة منفصلة عن بعضها. وفي الحقيقة، بعدما ذاقت الدول الإسلاميّة 



1 أو الاتّحاد الإسلاميّ بان إسلاميسم  صلى الله عليه وآله وسلمanIslamism-: الدّعوة إلى توحيد البلدان الإسلاميّة. المترجم -.
2 Internationalism =-: سياسة التعاون بين الدول وبخاصّة في الحقليْن السياسيّ والاقتصاديّ. المترجم -.
3  1849 - 1905م -. المترجم -.
4  عبد الرحمن الكواكبيّ 1849 - 1902-: صحافيّ وأديب سوريّ، أنشأ جريدة الشهباء-، واشتهر بتحرّره ودعوته إلى النهضة والإصلاح فاضطهده العثمانيّون ممّا اضطرّه إلى الهجرة إلى مصر، من كتبه "أُمّ القرى" و"طبائع الاستبداد". المترجم -.
5 محمد إقبال 1876 - 1938م -: أشهر الشعراء والفلاسفة والمفكّرين المسلمين في الهند. دعا إلى إنشاء الباكستان والاستقلال عن الهند. له مؤلّفات ودواوين بالفارسيّة والأردو. المترجم-.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
13

 


4

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 لأوّل مرّة طعم الانفصال المرّ، بادر المصلِحون والمفكّرون المسلمون إلى إحياء فكرة توحيد تلك الشعوب والعودة إلى الأمّة الإسلاميّة الموحَّدة.


وبالنظر إلى الفروق والاختلافات الموجودة بين المذاهب الإسلاميّة آنذاك، والتي كانت بدورها تمثّل عاملاً رئيساً في بروز الاختلافات السياسيّة العميقة، انصبّت الجهود على إيجاد الوحدة عبر أُسلوبين اثنيّن، هما: قيام بعض الجماعات بالدّعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، حيث اقتربت الحوزات العلميّة الشيعية وجامعة الأزهر بشكل عامّ من الوحدة الإسلاميّة، وذلك في ضوء مكانتهما المرموقة في العالم الإسلاميّ، في حين اتّجهت جماعات أخرى إلى خلق الوحدة السياسيّة والاهتمام بقدرات المسلمين الخلّاقة، وذلك عبر نبذ الخلافات المذهبيّة والطائفيّة والتخفيف من حدّتها.

ولم يتمكّن سوى القليل من المفكّرين المعروفين الذين طرحوا فكرة الوحدة بين المجتمعات الإسلاميّة، من الوصول إلى بعض الأهداف التي نادوا بها (مثل آية الله البروجردي)، إلّا أنّ جهودهم تلك، وللأسف الشديد، ظلّت تراوح مكانها في العديد من المراحل التاريخيّة وذلك بسبب وجود بعض العناصر المتعصّبة في كلا الجانبيْن، ناهيك عن ممارسات الاستعمار المستمرّة في إذكاء نار الفتنة، والخلافات المذهبيّة بين المسلمين.

الإمام الخميني من أعظم المنادين بالوحدة
ويُعتبر الإمام الخمينيّ قدس سره أحدَ أعظم المنادين بالوحدة الإسلاميّة في العصر الحديث، إذ لم يقتصر إنجازه على طرح فكرة الوحدة بين المجتمعات والمذاهب الإسلاميّة فحسب، بل كان يحمل رؤية عميقة حول موضوع (الوحدة) في المجالات الداخليّة والخارجيّة المختلفة، مشيراً إليها في الكثير من المناسبات.

ولعلّ تصريحاته بشأن الدعوة إلى الوحدة تفوق كثيراً ما قاله حول أيّ موضوع مهمّ في الفكر السياسيّ، وتتجلّى هذه الحقيقة من خلال إلقاء نظرة سريعة على مجلّدات "صحيفة النور" التي تمثّل السفر الكامل الذي يجمع أحاديثه السياسيّة والاجتماعيّة.

ومن خلال تحليله العوامل التي أدّت إلى انتصار الثورة الإسلاميّة، أشار الإمام قدس سره إلى
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
14

5

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 عامل الوحدة باعتباره أحد أهمّ تلك العوامل التي عجّلت بذلك الحدث العظيم، وقد وصف الوحدة في بعض أحاديثه بأنّها (رمز النصر).

 
ولنقرأ جانباً من كلمات الإمام وتوجيهاته، يقول قدس سره: "لا بدّ لنا من المحافظة على وحدة الكلمة والاتّكال على القرآن الكريم باعتبارهما رمز النصر والانطلاق والتقدّم نحو الأمام لإرساء أُسس الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران"1.
 
وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة أشار إلى رمز الانتصار هذا، حيث قال سماحته:
"إذا استطعنا المحافظة على وحدة الكلمة هذه وعلى ميزة الإسلام الذي ينطوي على كلّ المعاني، فإنّنا سنظلّ منتصرين حتى النهاية، وإذا أخلّ أولئك بتعهّدهم أو دبّ الضّعف والوهن فينا - لا سمح الله - ولم نقف نحن ولا الشعب في وجههم، أو ظننّا أنّنا قد انتصرنا وانتهى الأمر ووجد الضعف والعجز طريقهما إلينا، فإنّني أخشى عندذاك من عودة الأمور - لا سمح الله - إلى ما كانت عليه ولكن بلبوس جديد. أمّا إذا قاومنا وصمدنا وحافظنا على قدرتنا التي نمتلك الآن، وهي قدرة الشعب على وحدة الكلمة، فسننتصر جميعنا"2.
 
هذا، وقد اعتبر الإمام الخمينيّ أنّ الوحدة كانت، وما تزال العلّة (المُحْدِثة) و(المُبْقِية) للنظام الإسلاميّ، وأنّ الإسلام والوحدة هما الضمانة الأكيدة لاستمرار المسلمين وبقائهم يقول سماحته: "إذا أراد المسلمون استعادة عزّتهم وعظمتهم في صدر الإسلام فعليهم التمسّك بالإسلام وبوحدة الكلمة، إنّ الالتزام بمحور الإسلام هو الذي أوجد كلّ تلك القدرة والشجاعة العجيبة"3.
 
فقد بذل الإمام الخمينيّ جهوداً جبارة من أجل إعادة اللحمة إلى الصف الإسلاميّ، وبالنّظر إلى شموليّة الطرح الذي قدّمه في هذا المجال، فإنّ آراءه الوحدويّة تشكّل مدخلاً مهمّاً من أجل استيعاب فكره السياسيّ، وذلك بسبب المكانة العظيمة التي يحتلّها موضوع الوحدة في فكره.



1 صحيفة النور، ج 22، ص 201.
2 م.ن، ج 5، ص 260.
3 م.ن، ج 8، ص 235، بتصرّف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

 


6

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 مكانة الوحدة في الفكر السياسيّ للإمام الخمينيّ

اهتمّ سماحة الإمام على مدى مراحل حياته السياسيّة والدينيّة بموضوع الوحدة، ولم يكن هاجس الوحدة يؤرّق ضميره في الفترة التي سبقت انتصار الثورة الإسلاميّة وحسب عندما كان العدوّ المشترك يهدّد طبقات المجتمع كافّة، بل إنّه استمرّ في التأكيد على أهميّة هذا الموضوع حتى بعد انتصار الثورة مبيّناً أنّ عامل الوحدة يمثّل العلّة (المُحدثة) و(المبقية) للثورة الإسلاميّة كما مرّ.
 
الدعوة إلى الوحدة
ما أكثر ما سُمِعَت عبارات الدعوة إلى الوحدة على لسان الإمام قدس سره، ولطالما حثّ مختلف طبقات الشعب ومسؤولي الدولة والحكومة والقوّات المسلّحة وغيرها على اتّباع نهج الوحدة، وكان يستند في دعوته هذه أحياناً إلى الآيات القرآنية ومقتضيات الدين. ومن كلامه حول الوحدة نستعرض ما يلي: "لعلّكم تعلمون بأنّ الإيمان والمؤمنين هما اللذان أوصلا هذه النهضة وهذه الثورة إلى مشارف النصر كما صرّح بذلك القرآن الكريم، فقد كانوا جميعاً إخواناً ولم يفرّقهم شيء أبداً... ولعلّكم تعلمون كذلك بأنّ بلادنا بحاجة اليوم إلى قوّات مسلّحة متحدّة مع بعضها، وإذا لم يكن هناك أيّ تفاهم أو تعاون بين اللّجان الأمنيّة وبين فالق الحرس - لا سمح الله - فلن تصلوا قطّ إلى هدفكم الذي هو الإسلام، فلا يقولنّ أحدكم: أنا من اللجان واللّجان هي الأفضل، ويقول رجل الحرس الشيء نفسه. فقط فكّروا في أن تؤدّوا واجباتكم بروح أخويّة، واعملوا طبقاً للمبدأ القرآني القائل بأنّ المؤمنين إخوة، كونوا رفاقاً متحابّين، وأحِبّوا بعضكم بعضاً وتمنَّوا الخير للجميع، وانبذوا الأفكار والخواطر النفسيّة التي تسوّل للبعض الفصل بين الحرس واللّجان. هذا هو رمز نجاح المجتمع"1.
 
والواقع أنّ الإمام كان يدعو إلى الرجوع إلى الوحدة والاتّحاد كلما شعر ببروز خلاف في مكان ما، وخلال سنوات الحرب بين القوى الداخلية. وذلك بسبب تداخل المهمّات القتاليّة، وكانت تنتشر على أثر ذلك الكثير من الشائعات والشكاوى، كان الإمام يسارع إلى دعوة جميع الأطراف للالتزام بالوحدة ونبذ الخلافات.



1  صحيفة النور، ج 7، ص 40.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
16

7

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 بعد انتصار الثورة الإسلاميّة وانفتاح المناخ السياسيّ في إيران على مصراعيه، وتراخي قبضة الحكومة في السيطرة على جميع أمور البلاد آنذاك، أُتيحت الفرصة لتأسيس العديد من الأحزاب والصحف المختلفة، ومنها الأحزاب التي كانت تعمل لتحقيق أهدافها ومآربها تحت أغطية ومسمّيات متنوّعة. ومن جهة أخرى بدأت قوى الثورة وعناصرها تشعر تدريجيّاً بعدم أولويّة عامل الوحدة بعدما اطمأنّت إلى الانتصار والنّجاح، فأدّى ذلك إلى إثارة الخلافات الداخلية، وراح كلّ فرد أو مؤسّسة تُملي وجهة نظرها على الآخرين ضمن دائرة نفوذها وسلطانه.

 
وما كان من الإمام إلّا أن انبرى للتصدّي لتلك التصرّفات، حيث كان ينبّه إلى تربّص الأعداء في الداخل والخارج ومحاولاتهم إثارة الفتن والقلاقل، فقد صرّح في هذا الشأن قائلاً: "إنّ بلادنا تخطو أولى خطواتها نحو العمل والبناء. وقد تحقّقت والحمد لله كلّ المقوّمات اللّازمة لتأسيس الحكومة، ومع ذلك فإنّنا ما زلنا في أوّل الطريق. ويتميّز العمل في هذه الفترة الحرجة بميزة فريدة قد لا تتوفّر بعد هذا. إنّ بلادنا تشهد هجمة شرسة من الداخل والخارج، فهناك من يثيرون الفتن والقلاقل في الداخل بأقلامهم ومجلاتهم وخطبائهم وعملائهم، لتعمّ البلوى في كل مكان، فتثار المشاكل وتنتشر الفوضى. أمّا في الخارج فتعمل القوى الكبرى على تصدير المشاكل والكوارث إلينا، فإذا أردنا تحقيق النصر لبلادنا وللإسلام، فينبغي أن لا نضع العراقيل والعقبات في طريق بعضنا. علينا أن نكون جميعاً صوتاً واحداً1.
 
الواجب الشرعيّ والحفاظ على الوحدة
بما أنّ العمل السياسيّ يمثّل أساساً مسؤوليّة شرعيّة من وجهة نظر الإمام التكليفيّة، فإنّ الكثير من الأمور الخاصّة بالمشاركة السياسيّة، كالمشاركة في العملية الانتخابية أو تأييد النظام (الحاكم) من خلال التجمّعات والمؤتمرات والمسيرات وغيرها، إنّ هذه الأمور ربّما تُعتبر حقّاً من حقوق الشعب من وجهة نظر المفكّر السياسيّ، إلّا أنّها تمثّل برأي الإمام تكليفاً وواجباً ينبغي للفرد القيام به.



1 صحيفة النور، ج 12، ص 117.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17

8

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وما من أحد ينكر تأكيدات سماحته على عواقب إهمال عامل الوحدة والاتّحاد والألفة بين أفراد المجتمع، إذ كان يعتبر إضعاف الوحدة والمساس بمقوّماتها يعادل (كبائر الذنوب)، ويُعدّ (جريمة كبرى)، وهي تعابير قلّما تُستخدم حتى في الحالات التي يتمّ فيها مخالفة الأحكام الشرعيّة الابتدائيّة كما هو واضح.

 
وفي ذلك يقول الإمام قدس سره: "... وإذا صادف أن حدث مثل هذا الشيء في وقت ما، فإنّ ذلك يُعدّ جريمة، إنّ هذه المسألة (إضعاف أركان النظام ونشر الفُرقة) تمثّل اليوم جريمة كبرى"1.
 
وخلال لقائه بالمحافظين في السنوات الأخيرة من الحرب المفروضة، أشار إلى الآراء المختلفة والتعليقات المتعدّدة التي كانت تُثار حول تلك الحرب، بقوله: "يجب على السادة المحافظين تعزيز الوحدة بينهم من جهة، وبينهم وبين أفراد الشعب من جهة أخرى، لأنّ كلّ ما نمتلكه هو ببركة الله ورعايته لهذا الشعب... لا بدّ لكم من التمسّك بالوحدة كي تظلّوا مصانين. إنّ الهدف من الدّسائس هو نشر بذور الفرقة والتشتّت، واعلموا أنّ كلمة واحدة تتسبّب في شقّ وحدة الصفّ تُعتبر (إثماً كبيراً) وقد لا يغفر الله تبارك وتعالى لصاحبها، سواء أكانت تلك الكلمة صادرة عن أعدائنا أم عن أصدقائنا، أو من الذين يدّعون القداسة، أو من الذين لا يدّعون ذلك. إنّ صدور كلمة واحدة مثيرة للاختلاف والفرقة تعدّ كفراً، لا سيّما في مثل هذه الظروف التي تُهدِّد كيانَ الإسلام. إنّ هذا العمل هو إثم لا يمكن الصّفح عنه بسهولة"2.
 
ولا ريب في أنّ المزايا التي كان يتحلّى بها الإمام الخمينيّ وخاصّة أنّه كان مرجعاً دينيّاً قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، هي التي جعلت عموم أفراد الشعب المسلم يتقبّلون بسهولة إعلانه لـ(حكم الشريعة) في مثل هذه المسائل. ولعلّ ذلك كان السبّب الرئيس الذي دفع بالكثير من المسؤولين العسكريّين والرسميّين في ذلك الوقت (1987م) إلى الصمت، وعدم إبراز آرائهم المتمثّلة في القبول بدعوات وقف القتال، والتحذير من مغبّة الاستمرار في التقدّم في أراضي العدوّ.



1 صحيفة النور، ج 12، ص 118.
2 م.ن، ج 20، ص 84.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18

 


9

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ التكليف الإلهيّ والشرعيّ يتمثّل في فعل المكلّف، ولذلك فإنّ الإمام لم يعتبر التوافق الفكريّ والقبول الضمنيّ أمرين متعلّقين بالتكليف الشرعيّ، ولم يرَ في مجرّد الاختلاف في وجهات النظر "إثماً" أو "معصية" على الإطلاق، إلّا أنّ الحرام في نظره كان b الخلاف والتصريح بما يثير الفرقة، وكلماته التالية تبيّن بوضوح هذا المعنى الذي أشرنا إليه: "بالطبع، نحن لا نستطيع تجنّب ما يدور في خلجات أنفسنا بشكل مطلق، فليست لنا مثل هذه القدرة، لكنّنا نمتلك القدرة على التحكّم بأنفسنا وعدم إظهار ما نضمر في ضمائرنا. ربما لا نستطيع تجنّب معارضة شخص داخل قلوبنا، لكنّنا نمتلك القدرة بطبيعة الحال على عدم إظهار تلك المعارضة في العمل. إنّنا اليوم مكلّفون شرعاً وهو تكليف إلهيّ بأنّنا حتى لو كنّا لا نودّ بعضنا فلا بدّ لنا من التصرّف والعمل خلاف ما نضمر أنفسنا في الفعل والذّكر والتبليغ. وهذا شيء يمكن لأيّ إنسان أن يفعله. فالإنسان يمتلك القدرة على الفعل والعمل ولذلك فإنّ الله (سبحانه) سيؤاخذه على الفعل"1.

 
"وهناك روايات كثيرة أشارت بشكل مفصّل إلى النقطة التي ذهب إليها الإسلام في كلامه، وهي روايات دلّت على عدم مؤاخذة الإنسان ومعاقبته على نيّته وقصده وما يضمره في قلبه، بل على ما يقوم به من الأعمال ويؤدّيه من الأفعال"2.
 
الوحدة رمز انتصار الثورة واستمرارها
عند تحليله العوامل الأساس التي عجّلت في انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، يشير سماحة الإمام إلى عامليّن رئيسيّيْن من تلك العوامل، هما: أوّلاً: الإسلام، وثانياً: الوحدة والتضامن بين طبقات الشعب جميعاً. فقد كان يعتبر عامل (الوحدة والألفة) مفتاح النّجاح والتوفيق. وفي ظروف الحرب الصعبة التي عصفت بالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، كان يطرح المشاكل العديدة التي تعترض النظام ونقاط الضعف التي يعاني منها في تلك الظروف، 



1 صحيفة النور، ج 20، ص 73 - 74.
2 انظر على سبيل المثال: وسائل الشيعة، ج 11، باب ممّا عُفيّ عنه، ص 295، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: وُضِعَ عن أمّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، وما استُكرِهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق، والحسد ما لم تظهر بلسانٍ أو يد".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
19

 


10

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 بيد أنّه لم يكن يشعر إطلاقاً بأيّ قلق بسبب الحملات العسكريّة أو الحظر الاقتصاديّ الذي كان يفرضه العدوّ الخارجي، بل كان قلقة الشديد ينصبّ على احتمال بروز الشقاق والخلاف في صفوف الأمّة والمسؤولين في النظام الإسلاميّ. كان سماحته يشير إلى الوحدة وهدفها باعتبارهما مفتاحي النصر والنجاح، معنى ذلك أنّ الوحدة لا تمثّل مجرّد تكتيك لتحقيق النصر بل هي تُهيّئ الأرضيّة المناسبة للنصر، أمّا ما بعد ذلك فهو وجوب ترسيخ ذلك النصر وتعميقه والسعي إلى المحافظة عليه. في ذلك يقول سماحته: "إنّ الطموح الأعظم بعد النصر هو تثبيت أركان الوحدة"1.

 
مفهوم الوحدة من وجهة نظر الإمام الخمينيّ
والآن، هل كان الإمام يفكّر في الوحدة الأيديولوجية ويطالب أتباعه وأبناء شعبه بالاتّحاد على أُسس إيديولوجيّة ثابتة، أم أنّ الوحدة الإستراتيجية كانت هدفه الأساس، أو ربما لم يفكّر سوى بالوحدة التكتيكيّة؟ وهل ثبت على رأيه منذ ما قبل انتصار الثورة وحتى آخر تصريح سياسيّ له في حياته، أم أنّ آراءه تغيّرت بحسب الأوضاع والظروف؟
 
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإمام الخمينيّ كان صاحب مدرسة وفكر أسّس على قواعدها بنيان حكومته التي ناضل من أجل إقامتها. وكما هو واضح إنّ النظام العَقَديّ أو الإيديولوجيّ لا يتحمّل وجود أيّ عقيدة سوى العقيدة الحاكمة، بل إنّ هذا النوع من الأنظمة لا يؤمن بأيّة حقيقة سوى حقيقة العقيدة المصطفاة، أمّا غاية مطلوبه فهي تطبيق الدين في المجالات والميادين المختلفة في المجتمع. ولكن مع هذا، فإنّ الواقعية التي وسمت العقيدة الدينيّة وشخصية الإمام كانت العامل الرئيس وراء توافره على الوحدة المطلقة والأيديولوجية. وقد اعترف سماحته شخصيّاً بوجود الاختلافات في الآراء والعقائد السياسيّة وحتى في الفروع الأيديولوجية. وفي هذا يقول: "إنّ كتب الفقهاء المسلمين الأجلّاء مليئة بالاختلافات في وجهات النظر والآراء والأساليب والتصوّرات في العديد من المجالات العسكريّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والعباديّة 



1 صحيفة النور، ج 11، ص 50، بتصرّف.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20

11

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وغيرها... ولا بدّ من أن يكون باب الاجتهاد مفتوحاً على مصراعيه في الحكومة الإسلاميّة، بل إنّ طبيعة الثورة والنظام تقتضي على الدوام استعراض وطرح الآراء الفقهيّة الاجتهاديّ بحريّة على الأصعدة كافة، حتى وإن كانت متعارضة ومتضادّة مع بعضها، وليس بإمكان أحد منع ذلك أو من حقّه الوقوف بوجهه"1.

 
كما نرى في عبارة الإمام الأخيرة، فإنّ الاختلاف في وجهات النظر والآراء العقائدية والنظريّة هو (حقّ) من وجهة نظره، ولذلك فإنّ الآخرين مكلّفون باحترام هذا الحقّ، وليس لهم أن يقفوا في وجهه على المستوى العلمي. لكنّ الأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ، بل هو أبعد من ذلك، فإذا حاول شخص منع الآخرين من طرح معتقداتهم وهدر حقوقهم فإنّه لن يكون بإمكانه فعل ذلك إطلاقاً حيث يؤكّد الإمام قائلاً: "وليس بإمكان أحد منع ذلك".
 
والدليل على هذا الواقع هو أنّه على الرغم من المحاولات التي بذلها المعسكر الشرقيّ لترسيخ الوحدة الإيديولوجيّة والثبات عليها، إلّا أنّ تلك الوحدة لم تتحقّق بشكل عمليّ وحقيقيّ في أيّ وقت من الأوقات، بل كانت تتولّد وتنشأ أفكار جديدة ورُؤى معارضة طيلة قرن كامل منذ ظهور الشيوعيّة وحتى أُفولها وسقوطها. ولعلّ أكبر شاهد على الحقيقة المذكورة هي فترة تدهور وانهيار النظريّة الشيوعيّة على يد مؤسّسيها ومفكّريها الذين أوجدوها.
 
وفي إشارة إلى تعذّر تحقيق الوحدة الفكرية أو توجيه المعتقدات المتعارضة نحو مسير واحد بالإكراه أو بفرض التعليمات وغير ذلك، يقول القرآن الكريم بصراحة: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾2. أمّا العلّامة الطباطبائي فيعلّق في تفسيره هذا الجزء من الآية الشريفة المذكورة بقوله: "لا إكراه في الدين، نفي الدين الإجباريّ, لأنّ الدين هو سلسلة من المعارف العلميّة التي تتبعها أخرى عمليّة يجمعها أنّها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأمور القلبيّة التي لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنّ الإكراه إنّما يؤثِّر في الأعمال الظاهريّة والأفعال والحركات البدنيّة الماديّة"3.



1 صحيفة النور، ج 21، ص 46 - 47.
2 سورة البقرة، الآية 256.
3 العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 341 - 243.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21

12

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وبعد ذلك يشير العلّامة الطباطبائيّ إلى احتمال وجود الحكم (الإنشائيّ) و(الإخباريّ) في الآية المذكورة والنتائج المتشابهة لهما1. واستناداً إلى هذه الآية الشريفة، فإنّ القرآن الكريم يأمر النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم بالامتناع عن محاولته هداية من يعرضون عن الإيمان، وأن لا يكترث بهم أو يشعر بالأسى نتيجة لأعمالهم، ممّا يُعتبر تأكيداً على وجود الاختلاف في التفكير والتباين في الآراء حتى في ما يتعلّق بموضوع التوحيد وأصول الدين وغير ذلك، يقول عزّ من قائل لنبيّه الكريم  صلى الله عليه وآله وسلم.

 
﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾2.
 
وعلى الرغم من أنّ سماحة الإمام كان يستند أحياناً إلى الوحدة التكتيكيّة، ويستند إليها في ظروف معيّنة كورقة رابحة للنّيل من العدوّ المشترك والانتصار عليه، إلّا أنّه، بطبيعة الحال، لم يكن مراده من الوحدة ينحصر في هذا النمط.
 
في الظروف الحسّاسة التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية وحتى بعد انتصارها، لم يترك الإمام أيّ جهد في إلقاء الخُطب والتصريحات كلّما شعر بظهور الخلافات الكبيرة بين صفوف المجاهدين والمناضلين، وخاصّة رجال الحوزة الدينيّة وطلبة الجامعات، سعياً منه لإزالة تلك الخلافات واستئصالها بشكل حازم، ليحثّهم على مواجهة عدوّهم المشترك، بقوله: "كلّكم يحمل الهمّ نفسه، كلكم مبتلى بالبلاء والكارثة نفسها، كلّكم واقعون تحت نَير ذلك البلاء، إنّه بلاء مشترك، فكلّنا إذاً مبتلون بالبلاء نفسه. ليس هذا بلاءً مقتصراً على رجال الدين أو الأحزاب السياسيّة أو طلاب الجامعات... عليكم جميعاً - يا أبناء إيران - أن توحّدوا كلمتكم ومسيركم"3.



1 حيث يقول العلّامة الطباطبائيّ: "وأمّا الاعتقاد القلبيّ فله علل وأسباب أخرى قلبيّة من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أن ينتج الجهل علماً أو تُولّد المقدّمات غير العلميّة تصديقاً علميّاً، فقوله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ﴾، إن كان قضيّة إخباريّة حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينيّاً بنفي الإكراه على الدين والاعتقاد، وإن كان حكماً إنشائيّاً تشريعيّاً - كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: ﴿قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ ِۚ﴾ - كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهيٌ متكّئ على حقيقة تكوينيّة، وهي التي مرّ بيانها أنّ الإكراه إنّما يمل ويؤثّر في مرحلة الأفعال البدنيّة دون الاعتقادات القلبيّة".. المترجم -.
2 سورة الكهف، الآية 6.
3 صحيفة النور، ج 2، ص 60.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22

13

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وفي مناسبة أخرى عندما كانت المواجهة بين أفراد الشعب المسلم من جهة وبين القوى العظمى والشاه من جهة أخرى على أشدّها، كان الإمام يقول: "الآن، وبعد أن تجمّعت كلّ حشود المسلمين في إيران لمواجهة القوى العظمى... فإنّ زرع الخلافات وبثّ الفُرقة بيننا يعتبر جريمة بحقّ الإسلام، هذه خيانة لشعب بأكمله أن نقوم بوأد هذه النهضة التي قامت في إيران تحت وطأة خلافاتنا"1.

 
وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة، كان الإمام يشير إلى مشكلة واحدة تواجه الأمّة، وهي الحرب المفروضة (آنذاك) ومواجهة القوى العظمى، وكان يحاول من خلال ذلك الحيلولة دون حدوث ثغرة في صفوف الشعب، وجعل تلك الصفوف كالبنيان المرصوص في مقابل العدوّ المشترك.
 
ولعلّ أكثر ما كان يؤرّق باله هو الوحدة الاستراتيجيّة (في مقابل الوحدتين الأيديولوجيا والتكتيكيّة)، ويتّضح هذا الأمر بجلاء في بعض المواقف والظروف، ففي ما يتعلّق بالوحدة مع أهل السنّة، فإنّ الإمام لم يأخذ بعين الاعتبار سوى "وحدة النهج" و"وحدة العمل" والاتّحاد الطويل الأمد وفقاً للمعتقدات "المشتركة" بالطّبع وليس كلّ العقائد. ويمكننا التعبير عن هذا النوع من الوحدة بـ (الوحدة المطلوبة).
 
أمّا أحد أهمّ التصريحات التي أدلى بها الإمام حول موضوع الوحدة المطلوبة والخلاف المقبول على مرأى ومسمع من رجال السياسة في المجتمع، فكان الجواب الذي بعث به إلى أحد العاملين في مكتبه. وأُطلق على الجواب المذكور حينه عنوان (توصيات حول تدعيم الأخوّة)2.
 
الأصول التي تجمع بين المتّحدين
ويُستفاد من الجواب المذكور أنّه على الرغم من إيمان الإمام بالأصول الأساسيّة التي تجمع بين المتّحدين والمتآلفين، واعتقاده بأنّ مجرّد وجود عدوّ مشترك أو أهداف تكتيكيّة قصيرة الأمد أو عدم وجودها لا يمثّل قاعدة صحيحة للوحدة أو الاتّحاد، فإنّه لم يكن يؤمن 



1 م.ن، ج 2، ص 251.
2 بالفارسيّة رهنمودهايى در تحكيم برادرى-. المترجم -.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23

14

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 بوجود وحدة شاملة تشمل جميع الجوانب والزوايا والتفاصيل العقائدية أو العلميّة، بل وكان يعتبر ذلك أمراً بعيد المنال تماماً.

 
ويمكن اعتبار ما ورد في التصريح المذكور منسجماً مع الوحدة الاستراتيجيّة أكثر من غيره، حيث قال سماحته في تلك الرسالة:
المهمّ هو معرفة الحكومة والمجتمع بشكل صحيح ودقيق لكي يستطيع النظام الإسلاميّ على أساس ذلك وضع البرامج والخطط التي تصبّ في مصلحة المسلمين وذلك من خلال الإعلان عن ضرورة وجود الوحدة في الأسلوب والعمل1.
 
ولا تقتصر الوحدة المطلوبة بالطّبع على وحدة المنهج في العمل وعدم السماح للخلافات العمليّة بالظهور في المجتمع، بل إنّ ذلك مطلوب ولازم أيضاً في العقيدة بشكل مشترك ومنسجم. فعلى سبيل المثال، إذا كانت هناك جماعتان سياسيّتان في المجتمع الإسلاميّ، وكانت إحداهما لا تستند إلى الدين أو العقائد الدينيّة في الأساس (معنى أنّها كانت ملحدة) بينما كانت الأخرى مسلمة وموحّدة، ففي هذه الحالة ليس بإمكان وحدة الأهداف النضاليّة والوحدة العمليّة أن تعمل على توحيدهما على أرض الواقع، بل إنّ حصول الوحدة الواقعيّة بين هاتين الجماعتين هو أمر لا معنى له، وفي حال افترضنا وجود أيّ نوع من الوحدة بينهما فإنّ تلك الوحدة غالباً ما تكون وحدة تكتيكيّة، بينما يظلّ تحقيق الوحدة الإستراتيجيّة بينهما أمراً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.
 
ولهذا السبب فإنّ الإمام لم يمدّ يوماً يد الأخوّة إلى الذين كانوا يحملون أفكاراً معادية للدين أو كانوا رسميّاً (شيوعيّين)، بل ولم يعتبرهم إخوة النضال أو المقاومة.
 
لنقف قليلاً عند هذين السؤالين اللذين طُرحا على الإمام قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بشهور قليلة2:
سؤال: سماحة آية الله! هل تُبدون أيّة رغبة أو أهميّة للتعاون مع العناصر الماركسيّة؟ وهل هناك أيّ انسجام أو تطابق بين أهداف حركتكم والماركسيّين؟ وهل أنتم قلقون بشأن أطماع الاتحاد السوفياتيّ في إيران؟



1 صحيفة النور، ج 21، ص 47.
2 انظر كتاب: "بيان الثورة في مرآة الإعلام - الأحاديث والبيانات الصحفيّة للإمام الخمينيّ"، إعداد وتنظيم رسول سعاد تمند، تعريب عباس صافي، سلسلة الفكر الإيرانيّ المعاصر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، ج 1، ص 281. المترجم -.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24

15

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 الجواب: "إنّ أهدافنا تختلف عن أهداف أولئك، فنحن نستند إلى الإسلام ونرتكز على التوحيد، وأولئك يعارضون كلا الأمرين. وأحكامنا هي أحكام إسلاميّة بينما لا يعترف أولئك بالإسلام. لذلك، فلسنا فقط لا نميل إليهم بل وكذلك لا نرغب في التعاون معهم ولن نفعل..1.

 
في ضوء هذا الكلام الصريح، يبدو أنّ أحد مستلزمات الوحدة والتضامن الاجتماعيّ والسياسيّ هو الاتّحاد على الأقلّ في (عقيدة التوحيد) والأهداف (الإسلاميّة)".
 
ومن خلال تقسيم الخلافات النظريّة إلى (خلافات عقائديّة ومبدئيّة) و(خلافات سياسيّة وفرعيّة)، اعتبر الإمام شخصيّاً أنّ خلافات النوع الثاني غير مضرّة بالوحدة والتضامن في المجتمع بل اعتبرها سبباً للتطوّر والنموّ والشموخ، ولم يُبدِ قلقه بشأن ذلك إطلاقاً.
 
وفي الرسالة المذكورة (الرسالة التي تضمّنت توصيات حول تدعيم الأخوّة)، وعبر حديثه عن الموضوعات الفقهيّة والسياسيّة التي تقبل البحث والمراجعة واختلاف الرأي (كموضوع بحث حدود صلاحيّات الحاكم الإسلاميّ، ودور المرأة في المجتمع الإسلاميّ، وحدود الحرية الفرديّة والاجتماعيّة وغير ذلك)، كتب سماحته يقول: "عليكم أن تعلموا أنّه إذا اقتصرت الخلافات والمواقف على القضايا المذكورة فلا خوف على الثورة أبداً. أمّا إذا كانت الخلافات مبدئية فإنّ من شأن ذلك إضعاف النظام. أمّا هذه المسألة القائمة بين الأفراد والأجنحة الموجودة فهي مسألة واضحة، وحتى إذا كان هناك أيّ خلاف يتعلّق بالثورة بين هؤلاء فإنّه خلاف سياسيّ بحث على الرغم من الأوصاف العقائدية التي قد تُطلق عليه، وذلك لأنّ الجميع متفقون على المبادئ ولهذا أويّدهم. إنّ هؤلاء أوفياء ومخلصون للإسلام والقرآن والثورة وهم حريصون على بلادهم وشعبهم، وكلّ منهم يطرح نظريّة أو برنامجاً من أجل إعلاء كلمة الإسلام وخدمة المسلمين، ويظنّ أنّ ذلك يقود إلى النجاح والتوفيق. إنّ الأغلبيّة الساحقة في هذين التيّارين تطمح إلى أن يكون بلدهم مستقلاً، وكلاهما يسعيان إلى تخليص الناس من شرّ وهيمنة الطفليّين سواء منهم المرتبطون بالحكومة والسوق والشارع"2.



1 صحيفة النور، ج 4، ص 37.
2 م.ن، ج 21، ص 47.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25

16

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 أهميّة كلام الإمام هذا يكمن في أنّه يرسم الحدّ الفاصل بين الخلاف المسموح والخلاف المرفوض، ويقدّم صورة للوحدة المثاليّة التي يطمح إلى تحقيقها، وكما يتبيّن من هذا الكلام فإنّ الخلافات إمّا أن تكون "عقائديّة" أو "سياسيّة". يتعلّق المفهوم العقائدي الذي يقابله المفهوم السياسيّ في الكلام المذكور، وبالنّظر إلى الشواهد الموجودة، يتعلّق بالأصول العامة للدين مثل التوحيد والنبوّة والمعاد والإمامة، لذلك فإن اختلاف الفقهاء ليس اختلافاً "عقائدياً" إطلاقاً، كما أشار إلى ذلك الإمام. لكن، وبعد ملاحظة أمثلة الأصول المشتركة بين تلكما الفئتين في كلامه، يتّضح لنا أنّ ما قصده من العقيدة والمبادئ هو أبعد من مبادئ أو أصول العقائد الدينيّة، بل قصد "الإيمان بالثورة الإسلامية" و"النظرة إلى الدين والكفر والرأسماليّة، النظرة إلى الامبرياليّة وإلى الولايات المتحدة الأميركيّة" ...إلخ. نعم، هذه هي الأصول المشتركة التي قصدها سماحة الإمام والموجودة في كلا الجناحين السياسيّين اللذين حكما في عامي (1987) و (1988)، بصرف النظر عمّا إذا كانت آراء ذينك الفريقين في الواقع منسجمة ومشتركة إزاء ما أشار إليها على أنّها أصول مشتركة، أو ما إذا كان بعضها مدار جدل وتراشق بالاتّهامات أحياناً. ويشير ذكر الأمثلة أعلاه إلى أنّ الوحدة المطلوبة تستلزم كذلك مواكبة من جميع الأطراف في "الخطوط العامّة للآراء والأفكار السياسيّة" وأساساً فإنّ الخلافات السياسيّة - كما أشار الإمام في تحليله للخلاف القائم بين الفريقين المذكورين - هي خلافات في طبيعة أساليب التعاطي مع مختلف القضايا والأنماط التنفيذيّة لتحقيق الأهداف.

 
ويقول الإمام: إذاً، خلاف على أيّ شيء؟ خلاف على أيّ السبل التي تنتهي بنا إلى كلّ هذه الأهداف1.
 
ويشير النهج العملي للإمام في الوحدة والتآلف مع الجماعات المختلفة أو المذاهب الإسلاميّة المتعدّدة، وحتى مع مراجع التقليد الذين كان لهم حضور في الساحة، يشير هذا النهج إلى أنّ سماحته كان يعتبر أصول الدين دعامة من دعائم الوحدة، بيد أنّه كان يضع في 



1 صحيفة النور، ج 21، ص 48.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
26

17

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 حساباته المبادئ والأصول الأخرى الداخلة ضمن دائرة الخطوط العامّة للرؤى السياسيّة في الإسلام الثوريّ.


باختصار، فإنّ الوحدة المطلوبة التي كان الإمام الخمينيّ يدعو إليها هي وحدة تامّة في العمل والتنسيق في الأداء داخل المؤسّسات، وبين شخصيّات النظام كافّة، والوحدة الفكريّة في الأصول العامّة للإسلام والثورة، وأمّا الخلاف بشأن أساليب وآليات تطبيق الأصول العامّة أو في التفاصيل الأخرى فهو خلاف لا يفسد في الود قضية ولا يضرّ إطلاقاً بالوحدة المطلوبة. ومن خلال توصياته للمسؤولين في النظام، كان سماحته يدعوهم إلى التزام الصمت والتضامن والتآخي والتباحث في أساليب التطبيق من أجل الوصول إلى هذه الوحدة المطلوبة. ولا شكّ في أنّ ثمار هذا النوع من الوحدة كانت تتمثّل في تآلف الجماعات الإسلاميّة من خلال الإعلان عن مرشّحها المشترك لانتخابات المجلس. وعندما كان يبرز أيّ خلاف بينه وبين مراجع التقليد أو المعارضين السياسيّين الآخرين، فإنّ فرص تحقيق الوحدة الائتلافيّة كانت تتضاءل، وعندها، كان يفضّل المكاشفة الصريحة أو الاختلاء بنفسه والابتعاد عن مسرح الحدث. ويرجع السبب في عدم تشكيل تلك الجلسات وخاصّة في السنوات الأخيرة إلى عدّة عوامل أهمّها، في الحقيقة، المآسي والآلام التي كانت تخيّم على المجتمع، وخاصّة على الحوزات العلميّة والمراجع.

حدود الوحدة من وجهة نظر الإمام الخمينيّ
من المهمّ القول إنّ الوحدة المنشودة، من وجهة نظر الإمام، هي وحدة المسلمين أو المستضعفين لتحقيق الأهداف الدينيّة العامّة والوصول إلى الكمال والارتقاء المنشودين، وهذه الوحدة حدودها واسعة ومتراقية الأطراف، ومطروحة في مجالات متعدّدة ومختلفة.

وقد كان هاجس الإمام قبل انتصار الثورة الوحدة بين العناصر الثقافية والدينيّة في البلاد أوّلاً وقبل كلّ شيء، فقد عمل بذكائه المتميّز على التقريب بين شريحة علماء الدين والجامعيّين ما أمكنه ذلك، مؤكّداً على حاجة كلّ منهما للآخر، ومنبّهاً كلّ طرف إلى أخطائه وزلاته بأسلوب ليّن ومتسامح، فكانت شخصيّته موضع احترام وقبول معظم علماء الدين والجامعين. في هذا يقول سماحته: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27

18

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 "لقد بذلنا كلٍّ ما في وسعنا خلال السنوات الماضية للتقريب بين الجامعات والملالي ومدارس العلوم القديمة وطلبتها، وكذلك قرّبنا بين البازار وهاتين الطبقتين، وألّفنا بين هذه الجبهات المختلفة، وقرّبنا فيما بينها، وكنّا نوصي دائماً بوحدة الكلمة لكي تتمكّنوا من تحقيق ما تريدون"1.

 
ثم يشير إلى اختصاص كل من الحوزة والجامعة، معتبراً أنّ هؤلاء مختصّون بقضايا الإسلام، وأولئك مختصّون في شؤون البلاد بالقضايا السياسيّة، وهذا يعني أنّ وجود كلّ منهما ضروريّ لتحقيق النصر الآتي.
 
لقد بنى الإمام آماله على وحدة هاتين الشريحتين معتبراً هذه الوحدة حجر الزاوية في المسيرة النضاليّة، إذ أنّهما - من خلال هذه الوحدة - يشكّلان عاملين رئيسين في إفشال مخطّطات القوى العظمى. وفي تحليله لنتائج الثورة الإسلاميّة، يقول: "لو لم تكن نتيجة هذه الثورة إلّا هذه الوحدة بين طبقة المثقّفين وبين رجال الدين لكفى بها ونعمت"2.
 
وفي أحد تصريحاته المفصّلة حول هاتين الشريحتين الاجتماعيّتين المذكورتين، يقول الإمام: "بعد انتهاء الحرب سنبدأ بالحوزات العلميّة والجامعات التي تمثّل في الواقع القلب النابض للشعب، نحن نعلم بأنّ هذين المركزين الهامّين هما في الحقيقة غُصنان في شجرة طيّبة واحدة، وساعدان لرجل الدين الذي إذا أراد أن يقوم بالإصلاح ويعمل بواجبه والتزاماته الدينيّة، وأن يضع الجميع يدهم بيد بعض ويقفوا صفّاً واحداً لخدمة الحقّ والخَلق، فإنّهم سيأخذون بهذا الشعب إلى ذرى الكمال المنشود في كلا بُعديه المعنويّ والماديّ، ويحافظون على حريّة البلاد واستقلالها"3.
 
بطبيعة الحال، هناك الكثير ممّا يمكن الحديث عنه في مجال الوحدة بين علماء الدين والجامعيّين، وبصرف النظر عن محاولات المستعمر الذي بذل مساعي كبيرة من أجل الوصول إلى أهدافه عبر زرع بذور الخلاف والاختلاف بين هاتين الشريحتين العلميّتين. 



1 صحيفة النور، ج 4، ص 92.
2 م.ن، ج 5، ص 22.
3 م.ن، ج 19، ص 104.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
28

19

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 ولهذا فقد وظّف الإمام الخمينيّ جزءاً مهمّاً من حملته الدعويّة والتبليغيّة لترسيخ دعائم الوحدة بين طبقات المجتمع الإيرانيّ، والتأكيد على المحور الإسلاميّ الذي يجمع حوله أفراد الشعب الإيرانيّ.

 
وكانت الوحدة بين الحكومة والشعب واتّحاد الأجنحة المتعدّدة داخل الدولة مع بعضها، وكذلك وحدة الأهداف والاتّجاهات والتيارات السياسيّة والأحزاب وانضواؤها تحت راية الإسلام وحزبه الأوحد، كل هذه الأمور وغيرها شكّلت عناصر أخرى في الوحدة التي كان سماحة الإمام يرفع شعارها خلال السنوات التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران. وأمّا على الصعيد الخارجيّ فقد كانت الوحدة بين مسلمي العالم وبين مستضعفيه حلمه القديم، والذي ظلّ يؤكّد عليه قبل الثورة وبعد انتصارها.
 
جوهر الوحدة ونطاقها
إنّ مشروع الوحدة لا يمكنه أن يتضمّن مبادئ واحدة ومتساوية. ويبدو أنّ الإمام كان ينظر إلى مبدأ الوحدة في الظروف المختلفة وفقاً لأُسس واهتمامات خاصّة.
 
ففي مراحل معيّنة من عمر الثورة الإسلاميّة عندما ركبت قوميات متعدّدة في إيران موجة العصيان، وأوقدت نيران الفتنة آنذاك مثل الأكراد واللورستانيّين1 والبلوش2 والتّركمان (في الشمال)، وأصرّت على الحصول على الحكم الذاتيّ، وأرادت أن توجّه ضربة قاسية إلى الثورة الإسلاميّة ونظام الجمهوريّة الإسلاميّة الفتيّ، في تلك المراحل طرح الإمام مشروع "الوحدة القومية"، أيّ أنّه كان يعترف بالتعدّدية القومية ضمن إطار "الوحدة القومية". بطبيعة الحال إنّ الإسلام، على الأغلب، هو العامل الأصليّ وراء هذه الوحدة، من وجهة نظر سماحته، وليس "القوميّة الإيرانيّة"، ولأنّ الأكثرية الساحقة من الشعب الإيرانيّ تدين بالإسلام، فقد قدّم الإسلام على مسألة القوميّة الإيرانيّة.
 
وكان هذا النمط من الوحدة هو النموذج المفضّل في العديد من البلدان التي تستبطن 




1 وهم أبناء محافظة لورستان - الواقعة غرب إيران ومركزها خرّم آباد -. المترجم -.
2  أبناء إقليم بلوشستان - شرقيّ إيران ومركزه زاهدان -. المترجم -.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
29

20

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 مشكلة التعدّد القوميّ، على سبيل المثال، كان (جواهر لال نهرو)1 يدافع عن قيام هذا النموذج الوحدويّ في بلده الهند، الذي يجمع طيفاً واسعاً من القوميّات والأديان. كما عانى الاتّحاد السوفياتي (سابقاً) والمارشال (جوزيف بروس تيتو) في يوغسلافيا السابقة من هذه المشكلة فوجدا في فكرة الوحدة القوميّة حلّاً مقبولاً لمعالجة هذه المشكلة.

 
في ما يتعلّق بالأحزاب والقوى السياسيّة، فقد دفعت الخلافات التي كانت قائمة بين طبقة بعض رجال الدّين والشريحة الجامعية، بالإمام إلى تبنّي شعار الأخوّة والوحدة، حيث طرح هذه الفكرة من أجل التقريب بين وجهات النظر السياسيّة، وتصحيح أفكار ومعتقدات مختلف طبقات المجتمع إزاء بعضها. ولا ننسى أنّ هذا النّمط من الوحدة كان مطروحاً ضمن المبادئ الرئيسة للثورة الفرنسيّة، حيث كانت الدعوة إلى رفع شعار الأخوّة والهويّة القوميّة عنوان رسالتها الإنسانيّة.
 
وقد طرح الإمام شعار الوحدة الدينيّة والإسلاميّة على صعيد الأقطار الإسلاميّة و"الأمّة الإسلاميّة"، بل وذهب إلى أبعد من ذلك عندما طرح شعار "المستضعفين والمظلومين في الأرض". 
 
وبالنّظر إلى التعدّد المذهبيّ الموجود داخل الأمّة الإسلاميّة فإنّ الدعوة التي أطلقها الإمام أو الفقهاء الآخرون الذين سبقوه إلى الوحدة، ليس المقصود منها وحدة العقائد والمذاهب، بل إنّ الهاجس الرئيس الذي كان يؤرّق سماحته في هذا المجال هو "الوحدة السياسيّة للأمّة الإسلاميّة" في إطار التمسّك بالثوابت والأصول الدينيّة العامّة.
 
العلاقة بين مبدأ الوحدة والمبادئ السياسيّة الأخرى
إذا اعتبرنا الوحدة بمثابة الانصهار "المطلق" والانخراط التامّ لجميع طبقات المجتمع والأحزاب في الأهداف الرئيسة وأُسس النظام الإسلاميّ وخططه وبرامجه، فإنّ ذلك سيعني صراحة تعارض وحدة المجتمع مع حريّة المعتقد والعمل والرأي و(تعدّد) الأحزاب.



1  1889 - 1964-: سياسيّ هنديّ من موسّسي استقلال الهند الحديثة. كان تلميذاً للمهاتما غاندي وساعده الأيمن في بناء الدولة الجديدة. أصبح رئيساً للوزراء 1947 - 1964 - ومن زعماء العالم الثالث وأحد مؤسّسي حركة عدم الانحياز. المترجم -.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30

21

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وهذه حقيقة يمكن ملاحظتها في الأنظمة السياسيّة الأخرى حيث يتعارض تعدّد الأحزاب مع الوحدة الوطنيّة، ولهذا عارض البعض سياسة تعدّد الأحزاب في بلادهم، مثل الجنرال (شارل ديغول)1.

 
وكذلك فعلت الفاشيّة والشيوعيّة حيث إنّها لم تكن ترخّص لمبدأ تعدّد الأحزاب لئلّا يحول ذلك دون الوصول إلى أهدافها وضياع الوحدة الوطنية.
 
وقد كتب أحد المفكّرين المعاصرين حول ذلك يقول: "في ما عدا الأنظمة السياسيّة التي تتبع سياسة الحزب الواحد، نجد في أغلب البلدان ذات التعدّدية الحزبيّة حدوث صراع بين عدّة أحزاب للوصول إلى سدّة الحكم. وخلال هذا الصراع على السلطة يسعى كلّ حزب من تلك الأحزاب إلى استقطاب أكبر عدد من الموالين والأعضاء، وبالتالي فإنّ سياسة تعدّد الأحزاب تتعارض والوحدة الوطنيّة"2.
 
وكان سماحة الإمام الخمينيّ أيضاً يرى - في تلك المرحلة - في مبدأ تعدّد الأحزاب عائقاً أمام وحدة الأمّة الإسلاميّة، وفي ذلك يقول: "يسعى هؤلاء ومعهم القوى العظمى وأعداؤنا الآن إلى استغلالكم، نعم استغلالكم من خلال الإيقاع بينكم. من هؤلاء؟ هؤلاء الجبهة الوطنية. من هؤلاء؟ هؤلاء هم (حزب) حركة الحريّة. من هؤلاء؟ هؤلاء شباب الحزب الفلانيّ. من هؤلاء؟ هؤلاء الجماعة الفلانية. جماعات متعدّدة ومختلفة، كلّ منها يكذّب الآخر ويفنّده. كلّ جناح عدوّ للجناح الآخر... وهكذا. هل تعلمون مقدار الضرّر الذي تتسبّبون به للإسلام؟ هل تعلمون مقدار الضرر الذي تسبّبونه لوطنكم وأيّة خدمة تقدّمونها لأميركا..."3 ؟
 
بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، وفي الموضوع نفسه، تحدّث الإمام عن تعارض وجود الأحزاب مع مبدإ تحقيق الوحدة، حيث قال:



1 1890 - 1970-: جنرال فرنسيّ تزعّم قوّات بلاده قوّات فرنسا الحرّة - خلال الحرب العالمية الثانية. أصبح رئيساً للجمهورية 1959 - 1969م -. منير البعلبكي، قاموس "المورد"، "معجم الأعلام"، طبعة 1998م. المترجم -.
2 عبد الحميد أبو الحمد، مباني السياسة "مبادئ السياسة"، ص 438.
3  صحيفة النور، الطبعة الجديدة المنقّحة والمزيدة، ج 4، ص 91 - 92.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
31

22

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 "لقد حان الوقت لكي نتخلّى عن جميع خلافاتنا وأن نسعى في القضايا التي تدفع باتجاه الحفاظ على وحدتنا ومصالح بلادنا. لا ينبغي لأحد اليوم أن يقول: أنا أنتمي إلى الحزب الفلاني, ويقول الآخر: أنا من الحزب الفلاني، ليس هناك من داعٍ لظهور كل هذا العدد من الأحزاب، ليس من حاجة إلى مئتي حزب ولا إلى كلّ هذه الجماعات. لا بدّ للجميع أن يتّحدوا ويكونوا يداً واحدة من أجل إنقاذ البلاد التي يريد الجميع العيش في أحضانه.."1.

 
لا شكّ في أنّ ثمّة غموضاً يشوب مسألة استيعاب الموقف الصريح لسماحته في رفض الأحزاب وتعدّدها أو قبولها، وحثّه على عدم التوسّع في إيجاد التشكّلات الحزبية، مع عدم أخذه بعين الاعتبار الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والقاعدة الحزبيّة وأهداف الأحزاب التي كانت قائمة في الفترة التي صرّح فيها برأيه هذا.
 
لقد اعتبر الإمام أنّ الأحزاب التي كانت تسعى إلى الحركة ضدَّ مسيرة الأهداف الإسلاميّة وعلماء الدين هي أحزاب تتّبع (أجندة) وأهدافاً استعماريّة، وأنّ هدفها غير المعلن هو "خدمة الاستعمار".
 
وحول ذلك يقول سماحته: "لا أستبعد وجود أيادٍ وفئات سياسيّة في إيران تعمل ضمن نشاطات معادية للإسلام والدين، تحت مسمّيات وعناوين مختلفة، وقد زرعها الأجانب في بلادنا من أجل إضعاف الإسلام ومذهب التشيّع المقدّس والمكانة الرفيعة لرجال الدين"2.
 
ومن المهم القول هنا، إنّنا كما وافقنا على كون الوحدة مفهوماً مركَّباً، فإنّ نشاط الأحزاب هو كذلك أيضاً. فلو افترضنا وجود أحزاب تعمل على صيانة "المبادئ" و"الأُسس القانونيّة والدينيّة" إلّا أنّها تختلف في ما بينها في المناهج والأساليب والتطبيقات وغيرها، ويدّعي كلّ منها توافره على نهج خاص يضمن الوصول إلى الأهداف العامّة المشتركة، ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار التعدّديّة الحزبيّة مضرّة بالوحدة الوطنيّة، بل إنها تمثّل ضرورة من ضرورات تحقيق الوحدة المنشودة كذلك، وذلك لأنّ هذه الوحدة ليست وحدة مطلقة بل هي وحدة 



1 صحيفة النور، ج 11، ص 90.
2 م.ن، ج 1، ص 382.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32

23

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 في الأصول والمبادئ العامّة والأهداف الرئيسة. وربما يمكن القول إنّ الجناحين اللذين لم يكن وجودهما بحسب رأي الإمام يتعارض مع مبادئ الوحدة، وكانا يمارسان نشاطاتهما إلى جانب المؤسّسات المختلفة الأخرى داخل النظام، هذان الجناحان كانا في الحقيقة حزبين يتحرّكان باتّجاه تحقيق الوحدة المطلوبة - برأي الإمام - على الرغم من عدم امتلاكهما صفة الحزب رسميّاً.

 
ولكن، إذا كانت هنالك اختلافات ومبدئيّة بين الأحزاب، فحينئذٍ لا يمكن اعتبار نشاطاتها منسجمة مع الوحدة الوطنيّة والوحدة الدينيّة المطلوبة.
 
والسؤال المطروح هنا، إذا كانت مبادئ بعض الأحزاب تتضمّن اختلافات جوهريّة فهل يجوز منع تلك الأحزاب من ممارسة نشاطاتها بغية الحفاظ على الوحدة؟ أم أنّ ذلك يُعتبر أقلّ ثمن يجب دفعه من أجل الوصول إلى (الحريّة)؟
 
يبدو أنّ الشرط (المطلوب) لشرعية ممارسة الأحزاب لنشاطاتها السياسيّة ليس التوافق التامّ على "أُسس الفكر السياسيّ" بالمعنى الذي أشار إليه الإمام، فالأحزاب في حال توافر فيها (الحدّ الأدنى) لبعض المعايير، كالحفاظ على سيادة البلاد، وعدم ارتكاب جريمة الخيانة للوطن والحركة ضمن إطار الدستور... وما شابه ذلك، إذا توافرت على هذه الشروط، فلا شكّ في أنّ نشاطاتها ستحمل صفة المشروعيّة. هذا الرأي يمثّل وجهة نظر الإمام الخمينيّ أيضاً وذلك بالنّظر إلى أسلوب المواجهة الذي اتّبعه مع عدد محدود من الأحزاب التي كانت تمارس نشاطاتها خلال فترة تولّيه قيادة البلاد.
 
وإذا استطلعنا رأي القرآن الكريم في هذه المسألة، فهو يعتبر منشأ الخلاف والفرقة هو في تعدّد الأحزاب بالمفهوم المتعارض مع مصلحة الإسلام والبلاد والعباد، ولهذا فإنّ هذه الحالة تبقى بشكل عام غير مرغوب فيها، إلّا أنّه (القرآن الكريم) في المقابل أثنى على "حزب الله". وكما هو ملاحظ فإنّ الآيات الشريفة لا تطرح موضوع وجود عدّة أحزاب تعمل بمجموعها في سبيل إحقاق الحقّ وتحت اتجاهات وتيارات فرعيّة مختلفة.
 
ومهما يكن من أمر فعندما يكون الدستور أو أيّ مبدأ محدَّد آخر - وضعيّ أو شرعيّ - هو محور الوحدة في أيّ مجتمع، فإنّ تعدّد الأحزاب لا يمكنه أن يتعارض مع الوحدة الوطنيّة،
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

24

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 خاصّة إذا كانت تلك الأحزاب تمارس نشاطاتها ضمن إطار القانون أو الشريعة.

 
إنّنا إذا لم نعتبر جوهر الوحدة هو وجود حقيقة أسمى اكتشفها الحاكم، ففي هذه الحالة ستكون تلك الأحزاب التي تحظى بحقوق متساوية وتُعتبر مسؤولة أمامها، تجسيداً لإرادة الشعب والفئات السياسيّة.
 
في هذه الحالة ستكون المنافسة الحزبيّة غير مضرّة بوحدة المجتمع، بل ستشكّل عاملاً مساعداً على نموّه وتطوّره وتهيئته من أجل صيانة الحسّ القوميّ وذلك من خلال التزام الأحزاب المسؤوليّة إزاء الدستور.
 
ولهذا فإنّ ما أراد الإمام توجيه الانتباه إليه هو التاريخ غير المشرّف لبعض الأحزاب الإيرانيّة في القرن الأخير، وخاصّة خلال العقود التي عاصرها سماحته، الأمر الذي خلق لديه شعوراً بعدم الارتياح، وقد انعكس ذلك بوضوح على موافقته على تشكيل الحزب الجمهوريّ الإسلاميّ  - كما بيّن ذلك أيضاً قادة الحزب المذكور - وعلى الرغم من مرور عدّة سنوات على ممارسة ذلك الحزب لنشاطاته، أبدى الإمام ارتياحه البالغ لاستقالة المسؤولين فيه، حتى انتهى به المطاف إلى الموافقة على حلّه1.
 
وحدة الأراضي وسلامتها
أحد الأصول العامة المتّفق عليها في السياسة الخارجيّة لجميع دول العالم هو القبول بمبدأ حاكميّة البلد، والذي يعني احترام حدود أيّ بلد، وأنّ لكلّ حكومة الحقّ في ممارسة حاكميّتها ضمن حدود ذلك البلد. ويمكن للوحدة أن تشمل معاني عدّة في البُعد الخارجيّ، فوحدة الأمّة الإسلاميّة قد تعني تشكيل مجموعة واحدة كاملة من الأقطار والبلدان الإسلاميّة تمتلك حكومة وحدوداً واحدة، وهذا المفهوم، بطبيعة الحال، قد يتعارض مع استقلال كلّ بلد من تلك البلدان.
 
وفي ضوء الحقائق الموجودة في المجتمعات الراهنة فإنّ الإمام لم يطرح يوماً فكرة الوحدة التي تعني إلغاء الحدود الجغرافيّة الحاليّة، إذ إنّ غاية ما كان يصبو إليه هو تحقيق التضامن 



1 صحيفة النور، ج 20، ص 93.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
33

25

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 خاصّة إذا كانت تلك الأحزاب تمارس نشاطاتها ضمن إطار القانون أو الشريعة.

 
إنّنا إذا لم نعتبر جوهر الوحدة هو وجود حقيقة أسمى اكتشفها الحاكم، ففي هذه الحالة ستكون تلك الأحزاب التي تحظى بحقوق متساوية وتُعتبر مسؤولة أمامها، تجسيداً لإرادة الشعب والفئات السياسيّة.
 
في هذه الحالة ستكون المنافسة الحزبيّة غير مضرّة بوحدة المجتمع، بل ستشكّل عاملاً مساعداً على نموّه وتطوّره وتهيئته من أجل صيانة الحسّ القوميّ وذلك من خلال التزام الأحزاب المسؤوليّة إزاء الدستور.
 
ولهذا فإنّ ما أراد الإمام توجيه الانتباه إليه هو التاريخ غير المشرّف لبعض الأحزاب الإيرانيّة في القرن الأخير، وخاصّة خلال العقود التي عاصرها سماحته، الأمر الذي خلق لديه شعوراً بعدم الارتياح، وقد انعكس ذلك بوضوح على موافقته على تشكيل الحزب الجمهوريّ الإسلاميّ  - كما بيّن ذلك أيضاً قادة الحزب المذكور - وعلى الرغم من مرور عدّة سنوات على ممارسة ذلك الحزب لنشاطاته، أبدى الإمام ارتياحه البالغ لاستقالة المسؤولين فيه، حتى انتهى به المطاف إلى الموافقة على حلّه1.
 
وحدة الأراضي وسلامتها
أحد الأصول العامة المتّفق عليها في السياسة الخارجيّة لجميع دول العالم هو القبول بمبدأ حاكميّة البلد، والذي يعني احترام حدود أيّ بلد، وأنّ لكلّ حكومة الحقّ في ممارسة حاكميّتها ضمن حدود ذلك البلد. ويمكن للوحدة أن تشمل معاني عدّة في البُعد الخارجيّ، فوحدة الأمّة الإسلاميّة قد تعني تشكيل مجموعة واحدة كاملة من الأقطار والبلدان الإسلاميّة تمتلك حكومة وحدوداً واحدة، وهذا المفهوم، بطبيعة الحال، قد يتعارض مع استقلال كلّ بلد من تلك البلدان.
 
وفي ضوء الحقائق الموجودة في المجتمعات الراهنة فإنّ الإمام لم يطرح يوماً فكرة الوحدة التي تعني إلغاء الحدود الجغرافيّة الحاليّة، إذ إنّ غاية ما كان يصبو إليه هو تحقيق التضامن 



1 صحيفة النور، ج 20، ص 93.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34

26

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 العاطفيّ والسياسيّ ووحدة الصف تجاه المواقف العالميّة... إلخ وفي ذلك يقول: "على البلدان الإسلاميّة أن تكون بمثابة دولة واحدة تمتلك مجتمعاً واحداً وعلماً واحداً وكتاباً واحداً ونبيّاً واحداً. على هؤلاء أن يكونوا متّحدين على الدوام وأن تربط بينهم علاقات شاملة، فإذا تحقّق هذا الهدف وهو أن تتّحد الأقطار الإسلاميّة في جميع الجوانب، نأمل أن تستطيع التغلّب على مشاكلها"1.

 
وفي حديث آخر صريح لسماحته يشير إلى وحدة القلوب مع بقاء الحدود الجغرافيّة بقوله: "يجب أن تكون القلوب مجتمعة مع بقاء الحدود. فإذا اتّحد المسلمون مع بعضهم بقلوبهم وحافظوا على حدودهم فإنّهم سيصبحون أمّة كبيرة"2.
 
محور الوحدة في نظر الإمام الخمينيّ
إنّ الإسلام لا يعترف بأيّ محور للوحدة سوى محور العقيدة والدين، وذلك خلافاً لما تتبنّاه معظم دول العالم في العصر الحديث من محاور للوحدة (مثل الشعب أو البلد وبشكل عام كلّ ما يندرج تحت عنوان "القوميّة Nationalism")، وكذلك خلافاً للمحاور الأخرى كمحور اللغة والعنصر والقبيلة والمنطقة، وهي محاور لها أتباعها والمنادون بها في هذا العالم، والحركات التي قامت خلال القرن الأخير مثل القوميّة التركيّة (pan - Turkism) والقوميّة العربيّة (pan - Arabism) والحركتين الصّهيونيّة والنّازيّة وغيرها، بكلّ ما كانت تتضمّنه من قيم إيجابيّة وسلبيّة بحسب كلّ حركة من هذه الحركات، وفي هذا الشأن يقول سماحة الإمام: "الوحدة هي تلك التي يدعو إليها القرآن الكريم وهي نفسها التي حمل لواءها الأئمة الأطهار عليهم السلام وكانوا يدعون المسلمين إليها. وفي الواقع إنّ الدعوة إلى الإسلام تعني الدعوة إلى الوحدة أي أن يجتمع الجميع تحت راية الإسلام وكلمته. لكن وكما تعلمون لم يسمحوا لهذه الوحدة بأن ترى النور"3.



1 صحيفة النور، ج 6، ص 125 - 126.
2 م.ن، ج 10، ص 223.
3 م.ن، ج 16، ص 54.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
35

27

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وفي كلمته التي وجّهها إلى الدول الإسلاميّة، أشار سماحته إلى الاعتصام بحبل الله والدين الإسلاميّ باعتباره محور الوحدة، مشيراً كذلك إلى التأثيرات الإيجابيّة والبركات التي تحملها تلك الوحدة أشار إلى ذلك بقوله: لو اتّحدت هذه الأقطار الإسلاميّة التي تملك كلّ شيء مع بعضها البعض فلن تكون بحاجة إلى أي شيء أو بلد أو قوّة تحت راية ذلك الاتّحاد، بل إنّ الآخرين سيحتاجون إلى هذه البلدان. لو حافظ المسلمون وحكوماتهم الإسلاميّة على الأواصر الأخويّة التي أمر بها الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم لما تعرّضت (أفغانستان) ولا فلسطين ولا البلدان الأخرى إلى الاعتداء والهجوم. ولو اتّحدت أيادي وقلوب المسلمين حول كلمة واحدة فما حاجتنا إلى أن نمدّ أيدينا إلى أميركا أو الاتّحاد السوفياتي؟ إنّ الإسلام يطالبكم بالوحدة والاعتصام بحبل الله. فلماذا لا تعتصمون بحبل الله بدلاً من أن يتعلّق كلّ منكم بأذيال الغرب أو الشرق1.

 
ما تمّ عرضه حتى الآن عبارة عن تصريحات الإمام وأحاديثه في المناسبات المختلفة، وقد وردت الوحدة في بعض عباراته بمعنى الانسجام والتمسّك بالدّين والاعتصام بالعقيدة الأرقى، في حين ركّز في عبارته الأخيرة على أنّ الوحدة قائمة على أساس عقد اجتماعيّ ونبذ الخلافات والسعي إلى التركيز عليها في اتّخاذ القرار والعمل.
 
وبشكل عام فإنّه في الحالات أو الظروف التي كان الإمام يطالب فيها الآخرين بالوحدة بينهم، كالوحدة بين القوميّات والدول وكذلك الوحدة بين الأحزاب السياسيّة، كان الهدف هو التقريب بين الجماعات استناداً إلى العقد الاجتماعيّ وقبول الرأي الآخر، لكن حقيقة دعوته الإمام إلى الوحدة في الحالات الأخرى كانت، في الواقع، الدعوة إلى الاعتصام بحبل الدين القويم الذي كان هو يؤمن به. وقد أدّت هذه المسألة إلى أن يفسّر البعض خطأً أنّ الوحدة التي يدعو إليها هي تلك القائمة على مبدأ "الجميع معي" بدلاً من "الجميع مع بعضهم".
 
وعلى أيّ حال، فإنّ محور الوحدة المعلن من قبل الإمام يمثّل المبادئ المهمة أو العامّة نسبيّاً في الدين والحكومة الإسلاميّة، ولعلّ في هذه الرؤية تفسيراً لعزوفه عن مبدأ الوحدة 



1 صحيفة النور، ج 15، ص 271 - 272.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36

28

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 مع الماركسيّين أو القوميّين أو الليبراليّين، فهو بدلاً من أن يُطلق شعار الوحدة مع هذه الفئات، كان يطالبها بالرجوع إلى أحضان الشعب - ذلك الشعب الذي آمن بما كان يؤمن به سماحته - وتصحيح مسارها المنحرف نحو جادّة الصواب، جادّة الإسلام.

 
يقول سماحة الإمام الخمينيّ في أوّل رسالة سياسيّة مدوّنة له: "إنّ الأنانيّة وعدم الانتفاض في سبيل الله عاملان جرّا علينا كلّ تلك الويلات وأوصلانا إلى هذا اليوم الأسود، وهما اللذان أطمعا فينا العالم كلّه، ودفعت البلدان الإسلاميّة إلى الوقوع تحت سيطرة الآخرين... فالنهضة من أجل المصالح الشخصيّة هي التي أماتت الوحدة والأخوّة بين الشعوب المسلمة وهي التي أزالت روح المساواة بينهم"1.
 
وفي موضع آخر يشير سماحته إلى الشيطان باعتباره عاملاً آخر من عوامل الاختلاف والفُرقة، فيعلنها صراحة:
"عندما يصدر الاختلاف عن أيّ شخص أو على لسان أيّ مخلوق فإنّما يصدر ذلك على لسان الشيطان نفسه، سواء أكان رجل الدين هو الناطق بذلك الاختلاف أم شخصاً مقدّساً، أو أحد المصلّين، أو أيّ لسان آخر، واعلموا أنّ هذا إنّما هو لسان الشيطان، وقد لا يكون المتحدّث أحياناً واعياً لهذا الأمر، بل واقعاً تحت تأثير الشيطان أو لسانه وهو الذي يدفعه إلى القيام بتلك الأفعال2.
 
وقد أشار الإمام كذلك إلى أُولى السُّور وأُولى الآيات الشريفة التي نزلت على النبيّ الكريم  صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة، ومنها الآية الشريفة: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى *  أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾3، موضّحاً أنّ الاختلاف إنّما هو بسبب طغيان الإنسان، ويضيف سماحته قائلاً: جميع الاختلافات الموجودة سببها أنّ الأساس لم تتمّ تزكيته وتنقيته بعد، فالغاية من البعثة هي تزكية الناس لكي يتمكّنوا من خلالها تعلّم الحكمة والقرآن الكريم والكتاب، فعندما تتمّ تزكيتهم فلن يكون هناك أيّ إمكان للطغيان4.



1 صحيفة النور، ج 1، ص 3.
2 م.ن، ج 20، ص 12 - 13.
3 سورة العلق، الآيتان 6 - 7.
4 صحيفة النور، ج 14، ص 251 - 256.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
37

29

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 ويبدو أنّ كلام الإمام هذا لا يمثّل مجرّد خطاب وحسب وذلك لأنّ "الأخطاء" و"الاجتهادات المختلفة" هي من جملة العوامل الجوهريّة التي تتسبّب في بروز الاختلافات. فمثلاً النزاع بين المدرستين "الأخبارية" و"الأُصوليّة" الذي أُثير في القرون السابقة إنّما هو نزاع يستند في جوهره إلى تعدّد الاجتهادات قبل استناده إلى الأهواء والميول، وقد كان لهذه المسألة دور كبير في الاختلافات التي برزت في وجهات النظر بين أنصار للثورة. فالإمام الخمينيّ كان يعزو معظم تلك الاختلافات إلى أهواء النفس، وربما كان هدفه من هذا هو الوصول إلى الوحدة ما أمكن ذلك، وعلى الرغم من أنّه كان يعتبر السبب في بعض الاختلافات هو الاجتهادات والأخطاء الشخصيّة لكنّه لم يرَ أيّ دور فعّال لذلك النوع من الاختلافات في الظروف الاجتماعيّة الخاصّة التي كانت سائدة آنذاك.

 
العوامل الاجتماعيّة
بصرف النظر عن العوامل النفسيّة والشخصيّة التي تتسبّب في الفُرقة، هناك عوامل اجتماعية أيضاً قد تترك تأثيرها في هذا المجال.
 
فالقرآن الكريم مثلاً يرى أنّ "ولاية" الحكّام الظالمين هي السبّب في تشتيت المجتمع وتفرّقه، ويقول القرآن في (فِرعون) ونهجه في الحكم يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾1.
 
وفي آيات شريفة أخرى يدعو القرآن الكريم المسلمين إلى طاعة الله سبحانه ورسوله  صلى الله عليه وآله وسلم وأُولي الأمر، وإلى التمسُّك بالوحدة عند بروز أيّ خلاف بينهم، وإرجاع الأمور إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم اللّجوء إلى قصور الطغاة والجبّارين.
 
وقد أشار الإمام مراراً وتكراراً إلى المؤامرات الشيطانيّة التي تهدف إلى بثّ الفرقة والشّقاق داخل الأمّة الإسلاميّة، وكان يرى أنّ الفُرقة إنّما تصبّ في مصلحة الإمبرياليّين حيث شاهد بأمّ عينيه سعي هؤلاء إلى إيجاد الخلافات بين الجماعات الإسلاميّة، وكان يؤكّد على ضرورة حرمان القوى العظمى من الوصول إلى تلك الأهداف المشؤومة.



1 سورة القصص، الآية 4.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
38

30

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 من جهة أخرى، كان الإمام يعتقد بوجود عامل خارجيّ آخر يلعب دوراً رئيساً في إيجاد تلك الخلافات ألا وهو تخلّف المجتمع وافتقاده إلى الحدّ الأدنى من الوعي. وكان يحمل على بعض الأصدقاء الجهلة الذين كانوا منشغلين في الاختلافات الداخلية أيّام الحكم الشاهنشاهي الظالم. يقول الإمام: "إنّ انغماس البعض في الاختلافات وتفرُّقهم وتشتّتهم أمر يدعو إلى الأسف خاصّة في هذه الظروف التي أصبحت فيها أصول الأحكام أُلعوبة في أيدي الغرباء وعملائهم، وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على تخلّف المجتمع وعدم بلوغه الوعي المطلوب"1.

 
عوامل خلق الوحدة وفق التصوّر الإسلامي 
لا شكّ في أنّ خلق الوحدة وسَوْق المجتمع نحوها يستلزمان وجود ظروف ومقدّمات يتعذّر الحديث عن الوحدة في غيابها. ويقسّم إميل دوركهايم2 مبادئ الاتّحاد أو التضامن إلى أربعة أنواع. وفي ما يلي شرح موجز لتلك الأنواع الأربعة:
1- حاجة أفراد المجتمع إلى بعضهم
عندما يكون أفراد المجتمع الواحد بحاجة إلى بعضهم، يمكن اعتبارهم متّحدين ومتضامنين، ولكن عندما تغيب تلك الحاجة فمن الطبيعيّ أن لا يكون هناك أيّ سبب يدعوهم إلى الوحدة أو الاندماج, لذلك، فإنّ أوّل المبادئ يتمثّل في إحساس أفراد المجتمع بالحاجة إلى بعضهم. ولا يتحقّق الشعور بالحاجة إلّا من خلال تقسيم العمل. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ دوركهايم يعتبر أنّ محور النشاطات الاقتصادية موجود في الرأسماليّة والمصلحة الشخصيّة والاشتراكيّة والخدمة الاجتماعيّة.



1 صحيفة النور، ج 22، ص 107.
2 1917 - 1858EmileDurlheim- فيلسوف: وعالم اجتماع فرنسي، يُعتبر أحد مؤسّسي علم الاجتماع الحديث، وقد وضع لهذا العلم منهجيّة مستقلّة تقوم على النظرية والتجريب في آن واحد. من أبرز آثاره "في تقسيم العمل الاجتماعي" Deladivisiondutravailsocial عام 1893-، و"قواعد المنهج السوسيولوجي" LesReglesdelamethodsociologique عام 1895-. المترجم-.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
39

31

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 2- الانسجام والتنسيق

يحتاج الاتّحاد والتضامن إلى نوع من الانسجام والتنسيق، مثل الانسجام اللّغويّ والدينيّ، والانسجام في العادات والنظم القِيَميّة... وغير ذلك.
 
وإنّ ظروف الوحدة تكون مهيّأة أكثر بين إخوة النضال والسلاح الذين تكون طريقهم ممهّدة وأهدافهم واحدة.
 
3- التقوى
من الواضح أنّ التصوّر الدينيّ يركّز على إزالة العوائق أو عوامل الفُرقة التي تعترض سبيل الوحدة، أكثر من أيّ شيء آخر. فعندما نقول بأنّ الشيطان والنزوات النفسيّة هي التي تتسبّب في إيجاد الخلافات فهذا يعني أنّه يتوجّب علينا أوّلاً تجنّب تلك النّزوات وطرد الشيطان لكي نُهيّئ الأرضيّة المناسبة لإقامة الوحدة. ولذلك نجد القرآن الكريم يدعو الناس إلى الالتزام بالتقوى إلى جانب الاعتصام بحبل الله تعالى، فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ *وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾1.
 
والملاحظة المثيرة هي أنّ الحدّ الأقصى المطلوب للتقوى ههنا هو تقوى الله سبحانه، ذلك أنّ هذه الدرجة العليا من التقوى تفتح الباب أمام الاعتصام بحبل الله.
 
وكان الإمام الخمينيّ أيضاً يؤكّد في كلّ مناسبة على هذا العامل، وقد مرّ علينا قبل هذا كيف أنّ سماحته كان يشير إلى الشيطان (الرّجيم) باعتباره المسبّب لكلّ الخلافات، وفي المقابل اعتبر أنّ جميع الأنبياء المرسلين من لدن الله تعالى كانوا متّحدين ومنسجمين مع بعضهم البعض، بقوله: لو جُمعَ الأنبياء كُلّهم في مكان واحد فلن يحدث أيّ خلاف بينهم على الإطلاق2.



1 سورة آل عمران، الآيتان 102 - 103.
2 صحيفة النور، ج 20، ص 70.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
40

32

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 4- الحكم الإسلاميّ

أمّا الطريق الآخر الذي يمكن سلوكه للوصول إلى الوحدة فهو طريق تطبيق الولاية الإلهيّة في المجتمع. فلكي يتمّ إحباط جميع المؤامرات التي يدبّرها الأعداء داخل البلاد الإسلاميّة، وإرغام الشياطين الإنس على الكفّ عن ممارسة مثل هذه الدّسائس، فإنّ السبيل الوحيد هو مواجهة أولئك الأعداء ونبذهم وإقصائهم عن المجتمع الإسلاميّ.
 
وللإمام الخمينيّ إشارات واضحة إلى ضرورة تأسيس الحكومة الإسلاميّة وهو ما أوردناه في الفصل الأوّل من هذا الكتاب.
 
5- الهدف المشترَك
لطالما أكّد سماحة الإمام على وحدة الهدف وضرورة أن تكون جميع الأعمال خالصة لله تعالى ومن أجل تحقيق وحدة المجتمع الإسلاميّ، حيث قال: "إذا كانت أعمالنا جميعاً خالصة لله وفي سبيله فلن يكون هناك أيّ اختلاف". كما نُقل عن سماحته قوله: "إذا كنّا نسعى - لا سمح الله - إلى تحقيق أهداف مادّية ونهتمّ بالدنيا وملذّاتها وننسى الله - سبحانه وتعالى - فإنّ الخلاف بيننا سيقع لا محالة. إنّ الذين يهتمّون بالدنيا أكثر من أيّ شيء آخر لا يمكن أن تخلو حياتهم من الخلافات، لأنّ كلّ واحد منهم يطلب لنفسه. وأمّا الذين لا يوجد أيّ خلاف بينهم فهم أولئك الذين لا يهتمّون بالدنيا بل بالقِيَم، هؤلاء لا يقع الخلاف بينهم أبداً. لو جُمعَ الأنبياء والأولياء كُلّهم في مكان واحد فإنّه لن يحصل بينهم أيّ خلاف على الإطلاق ولو على كلمة واحدة، ولكن إذا كان هناك رئيسان في قبيلة واحدة أو قرية واحدة لوقع بينهما الخلاف. ولو كان هناك رجلا دين (رجلان متّقيان حقّاً) فلا يمكن أن يقع بينهما الخلاف وإن وُجِدَ مثلهما مئة رجل دين... وإذا أراد رجال السياسة في أيّ بلد العمل في سبيل الله فلن تجد بينهم أي خلاف أبداً، ولكن عليهم أن يحذروا بأنّهم ليسوا مأمونين من أن يخدعهم إبليس فيضمّهم إلى جماعته ويسلكوا طريقته... فإذا دخلت الأهواء النفسيّة أدّى ذلك إلى ظهور الخلافات"1.



1 صحيفة النور، ج 20، ص 70.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
41

33

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وفي موضع آخر كذلك يقول سماحته: عندما يريد الجميع أن يكونوا في خدمة الإسلام فلن يقع أيّ خلاف أبداً1.

 
6- إقامة القسط والعدالة الإسلاميّة
لا شكّ في أنّ العدالة الاجتماعيّة تُعتبر أحد الشروط الرئيسة في إيجاد الوحدة. وإذا كان أفراد المجتمع ينقسمون إلى طبقتين من وجهة نظر الحاكم، "طبقة المحرومين" و"طبقة المرحومين" فمن الطبيعي كذلك أن تكون أواصر الوحدة بين أفرادها قويّة ومحكمة، وذلك لأنّ كلّ واحد منهم يرى مصلحته في تلك الوحدة، في حين لا يمكن أن يكون هناك أي نوع من أنواع التضامن أو التآلف بين الطبقة المحرومة والمظلومة وبين الحكومة والموالين لها والمقرّبين منها.
 
إنّ تأكيد القرآن الكريم بشكل متواصل على تطبيق العدالة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والقضائيّة وغيرها يدلّ على أنّ من شأن هذا الأمر أن يهيّئ الأرضية المناسبة لإقامة الوحدة.
 
ومن الواضح أنّ تطبيق العدالة سيفصل مسير الطامعين و"القاسطين" عن المسير الذي يسلكه المجتمع الإسلاميّ والأمّة الإسلاميّة جمعاء، كما حدث مع نهج العدالة الذي طبّقه الإمام علي عليه السلام أيّام خلافته فدفع الكثيرين إلى اللّجوء البلاط الأمويّ والارتماء في أحضان الخلفاء. غير أنّ في المقارنة بين أن تكون الوحدة على أساس منح الامتيازات غير العادلة للحصول على تأييد وإطراء الأقليّة من جهة، وبين أن تكون تلك الوحدة قائمة على تطبيق العدالة وإرضاء السّواد الأعظم من المحرومين من الناس من جهة أخرى، لا شكّ في أنّ الخيار الثاني سيكون هو المرجّح.
 
وتشير سيرة الإمام الخمينيّ إلى ذلك بشكل واضح، إذ لم يقتصر على عدم الحياد عن خطّ العدالة قيد أنملة من أجل الحفاظ على الوحدة الإسلاميّة وحسب، بل كان سماحته يطبّق نهج العدالة الاجتماعيّة حتى مسؤولي النظام والمؤسّسات العسكريّة وجهاز الحرس الثوريّ إضافة إلى الأحزاب السياسيّة والأجنحة المنضوية تحت لواء النظام (والتي كانت جميعها من 



1 صحيفة النور، ج 20، ص 12.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
42

34

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 وجهة نظره تمتلك مقوّمات التضامن والانسجام والاتّحاد حول محور الإسلام).

 
وإذا ألقينا نظرة على بعض رسائل الإمام، سيتضح لنا هذا الأمر بشكل جليّ. ففي رسالة بعث بها سماحته إلى أحد أفراد أسرته ويمتدح فيها أفراداً من جناحين سياسيين مخالفين، ويشير فيها إلى حُسن نيّة كلا الطرفين والأهداف والمعتقدات المشتركة التي تجمع بينهما، حيث يقول: "إذا كانت الخلافات مبدئيّة فإنّ من شأن ذلك أن يُضعف النظام. لكنّ المسألة هنا واضحة، فالخلاف القائم بين الأفراد والأجنحة الإسلاميّة الموجودة، إن كان هنالك خلاف أصلاً، هو سياسي بحت، وإن كان يُغلَّف بغلاف عقديّ، فهؤلاء جميعاً مخلصون للإسلام والقرآن والثورة، ولهذا أؤيّدهم"1.
 
الوسائل الكفيلة بإيجاد الوحدة
لا بدّ للدولة والقوى الحاكمة في المجتمع الإسلاميّ الذين يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن إقامة دعائم الوحدة داخل البلاد وخارجها، لا بدّ لهم من الاستعانة ببعض الوسائل اللّازمة من أجل الوصول إلى هدفهم. وإذا سلّمنا بأنّ أُسس إيجاد الوحدة هي تلك التي أشرنا إليها آنفاً فمّما لا شكّ فيه أنّ العوامل والسُّبُل التالية ستكون مؤثّرة في إيجاد تلك الوحدة.
 
1- القانون والنظام
عندما تتّضح الأهداف المشتركة لأفراد المجتمع الإسلاميّ وتتبلور فإنّ أوّل عامل يمكنه أن يؤثّر باتّجاه خلق الوحدة هو القانون. فالقوانين والأنظمة تُعتبر ضروريّة للحفاظ على تضامن ووحدة المجتمع وإن كان محدوداً، بل وحتى داخل المجلس باعتباره صورة مصغّرة لذلك المجتمع. لهذا، وعلى الرغم من أنّ القوانين الإسلاميّة قد بيّنت الأُطُر العامّة والحقوق الاجتماعيّة المختلفة، فإنّه لا غنىً عن وجود المجالس التشريعيّة الخاصّة بسنّ القوانين وكذلك المجالس والمؤسّسات الدوليّة الإسلاميّة وضرورتها للحفاظ على الوحدة.



1 صحيفة النور، ج 21، ص 47.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
43

35

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 ولعلّ هذه النقطة المهمّة تمثّل أحد الأسباب التي دفعت الإمام إلى التأكيد على استحداث المؤسّسات القانونيّة الشعبيّة في الأيام القليلة التي سبقت انتصار الثورة على النظام الشاهنساهيّ. فعندما يتمّ وضع القوانين من قبل ممثّلي الأحزاب وطبقات المجتمع المختلفة فإنّ ذلك يُهيّئ أرضيّة مناسبة ومهمّة لخلق التضامن والائتلاف بين تلك الطبقات والأحزاب.

 
2- الوعي والتعليم والتّذكير
أمّا مهمّة إزالة العائق الثاني من طريق الوحدة، والمتمثّلة في جهل الأفراد وعدم امتلاكهم الوعي الكافي، فتقع على عاتق الحكومة الإسلاميّة. وغنيّ عن القول إنّ أفراد المجتمع الذين لا يدركون حاجاتهم المتبادلة في ما بينهم، هم في الواقع غافلون من عدوّهم المشترك، وعندما يكونون عاجزين عن التمييز بين محاسن الوحدة وأضرار الاختلاف نتيجة افتقارهم للتطوّر الاجتماعيّ والوعي اللازم لذلك، فمن الطبيعيّ أن لا يكونوا قادرين على تحديد طريق الوحدة. ومن هنا، فباستطاعة الحكومة الاستعانة بكلّ الوسائل الضروريّة الخاصّة بنشر الوعي والإرشاد.
 
ولا شكّ في أنّ الإمام الخمينيّ ظلّ يؤكّد على أهميّة هذه المسألة مشيراً إلى النتائج الطيّبة للوحدة والعواقب السيّئة للفُرقة والاختلاف، ومذكّراً الجميع بالهدف المشترك والعدوّ المشترك لهم. ولطالما نبّه البلدان الإسلاميّة إلى الآثار الإيجابيّة التي تجنيها من الوحدة والتضامن، معتبراً أنّ قوّة تلك الأقطار تكفي لاستعادة أرض (فلسطين) وأنّ بإمكانها الاستغناء عن أيّة قوّة أخرى في العالم ومنها الولايات المتحدة الأميركيّة إذا ما اتّحدت وأصبحت قوّة رادعة واحدة1. وكان يشير إلى العديد من الشواهد التاريخيّة للوحدة وآثارها الطيّبة كانتصار (خالد بن الوليد) على جيوش الرّوم2.
 
ولا تقف تعاليم ووصايا الإمام عند الآثار الماديّة للوحدة والاختلاف، بل تعدّتها إلى التذكير والاهتمام بالآثار المعنويّة التي تكمن في حثّ المجتمع على التحرّك نحو الوحدة، وفي إشارة له إلى رواية "يد الله مع الجماعة" قال: 



1 صحيفة النور، ج 15، ص 272.
2 م.ن، ج 6، ص 49.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
44

36

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 فلنسعَ لإبقاء يد الرحمة الإلهيّة على رؤوسنا من خلال الحفاظ على الوحدة إذ إنّ يد الرحمة تلك ستُرفع مع ظهور الاختلافات بيننا1.

 
وقد نوّه سماحته كذلك إلى تطبيق الأحكام الشرعيّة مبيّناً أنّ الخلاف وعدم الاتّحاد يمثّلان معصية2.
 
3- التباحث والمصالحة
بعد قضية اكتساب الوعي اللازم بشأن القانون، فإنّ الوسيلة الأخرى التي يمكن أن تؤثّر في طريق إيجاد الوحدة هي التصرّف أو التعامل الخاصّ مع كلّ مسألة موضع الاختلاف. وهنا، يمكن للحكومة مثلاً دعوة المعارضين والتباحث معهم بشأن عوامل الاختلاف وسُبُل إزالتها. وكان الإمام الخمينيّ يقوم بإرسال أحد ممثّليه من أجل التباحث والمصالحة ورفع الخلافات التي كانت تظهر في حياته. ومن أهمّ الأمثلة على ذلك إرساله ممثّلاً عنه إلى الجلسة التي كانت قد عقدتها اللجنة المكوّنة من ثلاثة أشخاص لمناقشة وبحث الخلافات التي برزت بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وذلك عام (1980م). وعلى الرغم من أنّ اللجنة المذكورة لم تستطع التوصّل إلى النتيجة المرجوّة بسبب الاعتراضات الواهية لرئيس الجمهورية آنذاك (أبي الحسن بني صدر) إلّا أنّ ذلك يشير بوضوح إلى السيرة التي كان الإمام ينتهجها إزاء تلك الأمور.
 
وقد بيّن سماحته كذلك شروط التباحث، مطالباً ممثّلي الشعب بطرح المسائل ومناقشتها على أُسس أخويّة، واتّباع حسن النيّة في ذلك بدلاً من المنازعة والتخاصم، بقوله: إذا كانت هناك أيّة اختلافات بيننا على صعيد الأسلوب أو الرؤية فعلينا الجلوس والتحدّث في أجواء هادئة لمناقشة القضايا من خلال التفاهم لا بالمواجهة والتخندُق ضدّ بعضنا البعض، فيقف أحدنا في طرف مع جماعته ومناصريه. ويقف الآخر في الطرف المقابل وسط مواليه وأتباعه، ويسعى كلّ منهما إلى إضعاف الآخر بالنتيجة إضعاف البلد الإسلاميّ3.



1 راجع: صحيفة النور، ج 7، ص 66 - 67.
2 م.ن، ج 20، ص 74.
3 م.ن، ج 14، ص 38.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
45

37

الفصل الأول: الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع

 4- التخلّي عن الذاتية

كان الإمام الخمينيّ يُعير جُلّ اهتمامه ويبذل قصارى جهده للمحافظة على الوحدة وهو أمرٌ تجلّى بشكل واضح في سيرته ونهجه العملي، حتى أنّه كان يتنازل عن حقّه في سبيل الوصول إلى الوحدة. ولعلّ عبارته التالية تمثّل خير دليل على ذلك: إنّني أُعلنها بوضوح أنّه إذا قام أحدهم بسبّي وشتمي أو مزّق صُوري، فليس من حقّ أحد التعرّض له. يُحرم التعرّض لأيّ شخص يقوم بسبّي أو شتمي أو تمزيق صورتي أو ضربي، أو أيّ عمل يقوم به (ضدّي)، لا يحقّ لأيّ كان التعرّض لذلك الشخص وإحداث صراع أو فتنة أو عصيان في هذا الوقت العصيب الذي نعيش فيه وهذه المصيبة الكبرى التي نمرّ بها.
 
خاتمة
في ضوء ما تقدّم حتى الآن، تتّضح الزوايا في رأي الإمام حول الوحدة. لكنّ السؤال الرئيسيّ الذي يطرح نفسه هو: هل كانت الوحدة في رأيه تمثّل فكرة ثابتة وراسخة، أم أنّها خضعت للتغيير والتطوّر طيلة حياته السياسيّة؟
 
الأمر المؤكّد هو أنّ جوهر رؤية الإمام حول وحدة العالم الإسلاميّ والأُمّة الإسلاميّة بل وحول الوحدة والتضامن بين مستضعفي العالم لم يشهد أيّ تغيير أو تحوّل. فقد كان سماحته، ومنذ انطلاق النهضة الإسلاميّة، أحد المدافعين عن الوحدة السياسية للعالم الإسلامي في مقابل الكفر في العالم وخاصّة إسرائيل، غير أنّ تلك الوحدة لم تعنِ بالنسبة إليه على الإطلاق التخلّي عن أصول المذهب.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
46

38

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 مدخل

من الأمور التي كثر الحديث عنها في أيّامنا، مسألة الوحدة الإسلامية، والتي تغصّ المنابر الإعلامية والثقافية بالدعوة لها ومحاولة تثبيتها في فكر الناس، وتجسيدها عملاً بين المسلمين.
 
ومن المناسب في هذا التمهيد أن نذكر الجذر الإسلاميّ لهذه الفكرة، فالفكرة أساساً لم تكن منطلقة من فكرِ شخصيّ واجتهاد واستنساب يُظنُّ فيه المصلحة الخاصّة لفرد ما أو مجموعة ما، بل إنّ أساسها وجذرها الحقيقيّ من قلب الشريعة الإسلامية، وهذا ما يميّزها بأمور: 
1- أنّها فكرة أصيلة بحدّ ذاتها وثقافة من قلب الإسلام، ولم تستورد إليه ولم تخترع لظروف سياسية أو مرحلية.
2- تمتلك هذه المسألة بعداً ثقافياً يجعلها فكرة قابلة للإقناع، لأنها تعني كلَّ مسلم، وكل ذي ثقافة إسلامية أصيلة. 
3- أنها مسألة قابلة للدوام بسبب كونها أصيلة، بخلاف الثقافات التي لا تعتمد على أساس ثابت. ولهذا فإنّ الوحدة الإسلامية يمكن أن تكون حلاً لمشاكل المسلمين في جميع العصور. 

وفي الوقت الذي كانت فيه الأمة الإسلامية في حالة من الاحتضار على كلّ مستوياتها، قامت ثورة مباركة، قام بها شعب أعزل بقيادة العالم الزاهد الشجاع القائد السيد روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره في إيران، والتي كانت مرتعاً للمخابرات الأجنبية ولا سيّما الأمريكية والصهيونية، وأرضاً مسلوبة الخيرات مسخّرة لتنفيذ المآرب الكبرى لقوى الاستكبار العالميّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
49

39

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 وأذنابه من الحكام الذين باعوا ضمائرهم وشعوبهم ليصبحوا مجرّد أداة بيد أسيادهم الإمبرياليين الطامعين بالسيطرة على مقدّرات العالم.


قيام هذه الثورة المباركة أحبط الكثير من المؤامرات، وأهمّها التي كانت تحاك لتوسعة الشقاق في الأمة الواحدة، فلطالما كانت التفرقة بين مذاهب الأمّة من الأساليب الدنيئة التي ينتهجها العدوّ الطامع في السيطرة على الأمم الأخرى. فقاعدة فرّق تسد تاريخياً لم يخل عهد ولا زمان من رموز انتهجتها كأسلوب تتوصّل به إلى الهيمنة في بعض الأحيان، ولاستتباب الهيمنة في موارد أخرى، فإنّ السيطرة على أمة ممزّقة، ومتكالبة على أطرافها غافلة عما يحاك لها أمرٌ في غاية السهولة، ولا تكلف العدوّ إلا عناء جني الثمار بعد أن أنضجتها الخلافات والنزاعات. 

ولوعي الإمام الخمينيّ قدس سره في تلك الفترة لخطورة الأمر على الأمة، فقد ركّز في الكثير من توجيهاته وخطاباته على مسألة الوحدة الإسلامية، ولم يألُ جهداً في تذكير الأمة دائماً بخطر الاختلاف والتشرذم وهذا ما سنحاول الإضاءة على أبعاده حيث يصحّ القول بحقّ إنّ أفضل من دعا إلى الوحدة وكرسها عملا ً في حياته وأورثها للأجيال هو الإمام الخمينيّ. وهذا ما سيتبيّن لنا خلال هذا الكتاب. 

الوحدة الإسلامية في الكتاب والسنّة
سوف نتناول هنا بعض ما ورد في الكتاب الكريم، وما ورد عن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام في ما يخصّ الوحدة الإسلامية، وهي تدلّ تلقائياً على مدى أهمية هذه المفردة الإسلامية العامة التي لها التأثير الكبير في تشكيل كيان الأمة ومنعتها.

أ- الوحدة الإسلامية في القرآن الكريم
كما نعلم فإنّ القرآن الكريم قد أورد المبادئ الأساسية التي ينبغي للأمة الإسلامية الالتزام بها حتى تصل إلى الهدف النهائيّ لها ألا وهو علوّ كلمتها بين الأمم. ولذلك نجد بعض الآيات القرآنية التي تدعو وتأمر باتّحاد الكلمة واتحاد موقف المسلمين، لتصبح أشد قوة وأصلب منعةً، حيث يقول الله تعالى: 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
50

40

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾1.

 
إنّ الآية الشريفة تتحدّث بوضوح عن التوحّد ونبذ الاختلاف بين المسلمين، حيث تدعوهم للاعتصام؛ أي التمسّك جميعاً بحبل الله. والاعتصام يكون طلباً للعصمة، وهي الحفاظ والغطاء، وهذا يعني أنّ في ترك هذا الاعتصام الهلاك الحتميّ، وهذا ما يكون من خلال التفرّق والاختلاف على الأمور الصغيرة.
 
كما أنّ الله سبحانه وتعالى يمتنّ علينا بنعمة الإسلام، هذا الدين الذي يجمعنا جميعاً على كل اختلافاتنا في دائرة واحدة، بعد أن كانت تفرّقنا القوميات والعشائر والمناطق والشعب. فحين هدى الله تعالى الناس برسوله الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم، أخرجهم من ظلام هذه القواقع الفارغة إلى رحابة الإسلام دين الإنسانية والرحمة والسلام، وهذا من أكبرِ نعم الله تعالى علينا. 
 
وكذلك نجد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تتحدّث عن الوحدة وتحذّر من الاختلاف. وسنستعرض بعضها، فمنها قول الله تعالى: 
﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2.
 
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾3.
 
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾4.
 
﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾5.



1 سورة آل عمران، الآية 103.
2 سورة الأنفال، الآية 46.
3 سورة الحجرات، الآية 10.
4 سورة آل عمران، الآية 104.
5 سورة آل عمران، الآية 105.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
51

41

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾1.

 
﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾2.
 
ومن هنا فإنّ الإمام الخمينيّ قدس سره لطالما أكّد على أهمّية وعي الأساس الدينيّ والقرآنيّ للوحدة. وممّا قاله في هذا الإطار: "القرآن وضع عقد الأخوّة بين جميع المسلمين. وإنّني آمل أن يكون جميع إخواننا في أطراف إيران سواء الأخوة أهل السنة أو إخواننا أهل التشيّع، وجميع أبناء هذا الشعب من الأقليات الدينية متّحدين فيما بينهم، ويتعاملون كالأخوة، حتّى تتقدّم البلاد، وتطبق فيها أحكام الإسلام، ويتحقّق رفاه جميع المسلمين وجميع الذين يسكنون في هذا البلد الإسلاميّ. وأنا آمل أن لا تتصوّر الشعوب الإسلامية أنّنا في زاوية وأنّهم في زاوية أخرى، فالقرآن اعتبركم إخوة جميعاً، ووضع عقد الأخوّة بينكم، فالمؤمن والمسلم الذي يتواجد في آخر نقطة من العالم وذلك المؤمن والمسلم الذي يتواجد في أول نقطة من العالم وبينهما ما بين المشرق والمغرب هما أخوان ولا يفصلهما شيء عن بعضهما بعضاً. ويجب أن يكونا أخَوَين كما يحكم الإسلام بذلك ولا يتفرّقا، وأن يعتبرا مصالحهما هي مصالح الإسلام ومصالح جميع الشعوب، وأن يعتبر كل شعب أنّ مصلحة الشعب الآخر هي مصلحته أيضاً، وأن يكون المؤمنون أينما كانوا أخوة فيما بينهم ويتعاملوا بأخوّة، وأن يعتبروا اعتداء أي ظالم على دولة إسلامية اعتداءً عليهم. وإنّني آمل، ومن خلال النظر لهذا الحكم الإسلاميّ الذي يعتبر جميع الناس، جميع المسلمين، أخوة فيما بينهم، أن تسيطر هذه الدول على مصالحها، وأن تنتصر جميع الدول الإسلامية على القوى العظمى، ويوفّقوا لتطبيق الأحكام الإسلامية حتى النهاية"3.
 
ولطالما حذَّر الإمام ممّا حذر منه القرآن الكريم وهو التنازع والتناحر حيث يقول قدس سره: "اليوم على الجميع أن يتّحدوا مع بعضهم بعضاً، وأن لا يتنازعوا بموجب تعليمات الإسلام 



1 سورة الأنعام، الآية 159.
2 سورة المؤمنون، الآية 52.
3 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، طهران- إيران، 2006م، ط2، ص 432.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
52

42

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 والقرآن الكريم. فالتنازع ممنوع حسب أوامر القرآن مهما كان نوعه. وإذا تنازعوا فإنّه يؤدّي إلى الفشل، وتذهب ريحهم، سواء الأشخاص أو الشعوب. وهذه أوامر الله. إنّ الذين يدعون الإسلام، ويسعون من أجل زرع الفرقة والتنازع لم يجدوا ذلك الإسلام الذي كتابه القرآن، وقبلته الكعبة، ولم يؤمنوا بالإسلام. إنّ الذين آمنوا بالإسلام إنّما هم الذين يقبلون القرآن ومحتوى القرآن الذي يقول ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾1 فيلتزمون بكلّ ما تقتضيه الأخوّة. تقتضي الأخوة أن يتأثر جميع الإخوان أينما كانوا إذا ألمّت بكم مشكلة، وأن يفرحوا جميعاً لفرحكم"2

 
ب-  الوحدة الإسلامية في السنّة الشريفة
تضافرت الروايات الشريفة التي تحذِّر من الخلاف والفرقة من خلال التأكيد على منع الأساليب التي تؤدّي إليها. وسنذكر بعضاً من هذه الأساليب التي نهت عنها الروايات: 
 
1- التكفير:
التكفير من أخطر الأمور التي يمكن تصوّرها في هذا المجال، فهو الحائط والسد الكبير الذي يطيح بالحوار الهادف للوصول إلى الحق، ويحلّ مكانه إخراج من الدين وقطع للتواصل. ومن الروايات التي نهت عن التكفير ما روي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فهو كقتله"3
 
ويروي بلال الحبشي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بلال نادِ في الناس من قال لا إله إلا الله قبل موته بسنة دخل الجنة أو شهر أو جمعة أو يوم أو ساعة"4
 
وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "المرء مع من أحب، ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة"5.



1 سورة الحجرات، الآية 10.
2 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 435.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص209.
4 المتقي الهندي، كنز العمال، ج1، ص64.
5 علي بن يونس العاملي، الصراط المستقيم، ج1، ص 199.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
53

43

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 2- التقاتل: 

التقاتل فيما بين المسلمين هو الذروة التي ينتظرها كل شامت أو مقتنص للنيل من الأمة والدين، وهذا ما حذّرت منه الروايات أيضاً، فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ ممّا أتخوّف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان رداؤه الإسلام اعتراه إلى ما شاء الله، انسلخ منه ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك، قال: قلت: يا نبيّ الله، أيهما أولى بالشرك المرميّ أم الرامي؟ قال: بل الرامي"1
 
وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال في إحدى خطبه في الحج: "إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم"2
 
وهكذا كان إمامنا الراحل قدس سره على منهاج نبيه الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم يحذِّر دائماً من هذه الأساليب التي تزرع الشقاق بين أبناء الأمة الواحدة. وما أبلغ قوله حين يقول قدس سره: "من أيّ لسان انطلق الاختلاف، فإن ذلك اللسان لسان شيطان"3.
 
ومن أقواله  صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً:
ـ "الفرقة من الشيطان، والاتحاد ووحدة الكلمة من الرحمن"4
 
ـ "أعزائي... اجتنبوا الاختلاف فإنّه من إلهام إبليس"5
 
ـ "إذا واجهنا بعضنا بعضاً فإنّنا لن نجني شيئاً سوى استغلال الآخرين لوضعنا"6
 
ـ "إذا كنا مختلفين في الأسلوب أو الرأي، فعلينا أن نجلس لنتحاور ونطرح مشاكلنا ونحلّها في جوّ هادئ"7.



1 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم تفسير ابن كثير-، تقديم: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، لا.مط، لا.ط، 1412 - 1992م، ج 2، ص 276.
2 أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 1،ص 290.
3 الكلمات القصار، مواعظ وحكم من كلام الإمام الخميني قدس سره، ص 140، إصدار جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
4 م.ن، ص 140.
5 م.ن، ص 140.
6 م.ن، ص 140.
7 م.ن، ص 141.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
54

44

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 مخاطر التفرقة

لو دقّقنا النظر فيما يجلبه التفرّق من المخاطر على الأمة لألفيت كل أفراد الأمة يتحملون المسؤولية في الحفاظ على توحّدها وعدم حصول النزاعات فيها. فالمشكلة الأساسية هي في عدم الوعي لدى الكثيرين أنّ هذه الاختلافات لا تستدعي نزاعاً ولا ملاحاة بين أفرادها، ولا يصل الأمر حتى للتكفير والإخراج من الدين. وهذا الأمر يعتبر سهل العلاج نسبة إلى غيره من المخاطر، فالخطورة الكبرى متمثّلة في الرؤوس الكبيرة المسيطرة على مراكز المسؤولية في بعض بلداننا الإسلامية، فرغم أنّهم واعون كل الوعي لهذه المؤامرة الكبرى التي تحاك لهم في الليل والنهار، فإنّهم لا يهبّون لمقارعة هذا المشروع الخطر على حاضرهم ومستقبلهم، ويخلص الإمام قدس سره في نهاية المطاف إلى تشخيص مكامن الخطر على الأمة في مشكلتين أساسيتين. 
 
يقول قدس سره: "إنّنا نعلم، وكذلك المسلمون، بل المهم أنّ الحكومات الإسلامية تعلم أيضاً، أنّ ما لحق ويلحق بنا ناتج عن مشكلتين: 
الأولى:
هي المشكلة بين الدول ذاتها، حيث لم تتمكّن حتى الآن ومع الأسف من حلها، وهي مشكلة الاختلاف فيما بينهم. ويعلمون أنّ سبب جميع مصائب المسلمين هو هذه الاختلافات، ونحن تحدّثنا عن هذا الموضوع منذ ما يقرب من عشرين سنة، وقلنا وكتبنا ودعونا قادة هذه الدول للاتحاد، ولكن مع الأسف لم يحصل شيء حتى الآن. 
 
والمشكلة الثانية:
هي مشكلة الحكومات مع شعوبها، فنرى أنّ الحكومات تعاملت معها بحيث إنّ الشعوب لم تعد سنداً للحكومات، وبسبب عدم التفاهم بين الطرفين فإنّ الشعوب لا تساهم في حلِّ المشاكل التي تواجه الحكومات، والتي يجب رفعها بيد الشعوب، فتقف الشعوب موقف اللامبالاة، هذا إنْ لم تزد في مشاكل الدول"1



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 431-432.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
55

45

الفصل الثاني: أهميّة الوحدة

 ولو تم تجاوز هاتين المشكلتين، وكانت كلمة الشعوب والحكّام سواء في مواجهة المؤامرات التي تحاك للأمة لأفضى الأمر إلى عزة الأمة وانتصارها. يقول قدس سره: "لو أن الشعوب الإسلامية وحكومات البلدان الإسلامية بكل ما تمتلكه من إمكانات إنسانية وذخائر حياتية ضرورية للمقتدرين تتخذ منهم موقفاً من موضع القوة، وتتجنب الخوف من ضجيج وجعجعة أصحاب القصور، وتبتعد عن التأثر بأكاذيب وسائل الإعلام المؤيدة الأجيرة للمتجبّرين، وترفع صوتها بوجه أولئك (الطواغيت) اتكالاً على قدرة الله اللامتناهية وشكراً لنعمه المغدقة عليهم، وتهدّدهم بإغلاق حدودها بوجههم وقطع مساعداتها النفطية وغير النفطية عنهم، (لو فعلت ذلك) فما من شك أنّ هؤلاء (المتجبرين) سيستسلمون لهذه القدرة التي لا نقدرها حقّ قدرها".


وفي نهاية المطاف وبعد معرفتنا لمخاطر التفرّق والتشتّت فلا بدّ من أن ننطلق لنسلط الضوء على مكامن القوة في الأمة لكي نسعى للتمسّك بها صوناً لها من الوصول إلى الوقت الذي لا يمكن التدارك فيه حيث لا يبقى لنا من قوتنا أي شيء لندافع به عن أنفسنا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
56

46

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 مدخل

تتّفق المذاهب الإسلامية جميعاً حول الكثير من المسائل. وما يجمعها أكثر مما يفرِّقها. ولو أرادت الاجتماع حول ما يجمع لوجدت نفسها أقوى الأمم على الإطلاق. إلا أنّ إثارة نقاط الخلاف فيما بينها هو العمل الأكبر الذي تقوم به القوى المستكبرة والمستعمرة، وتسخّر له الكثير من الوسائل الدعائية والإعلامية، والأبواق والأقلام المأجورة. فلماذا نترك هذا الكمّ الهائل من عناصر الوحدة والاعتصام، ونتلهّى بتفاصيلنا الصغيرة؟ فبدلاً من أن نكون الأمة الأكثر تماسكاً، وإذ بنا نصير بسبب هذا الاختلاف أمماً متفرقة متصارعة فيما بينها. 
 
يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ الذين يدّعون الإسلام، ويسعون من أجل زرع الفرقة والتنازع لم يجدوا ذلك الإسلام الذي كتابه القرآن، وقبلته الكعبة، ولم يؤمنوا بالإسلام. إنّ الذين آمنوا بالإسلام إنما هم الذين يقبلون القرآن ومحتوى القرآن الذي يقول ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾1 فيلتزمون بكل ما تقتضيه الأخوّة. تقتضي الأخوّة أن يتأثر جميع الإخوان أينما كانوا إذا ألمّت بكم مشكلة، وأن يفرحوا جميعاً لفرحكم"2.
 
وسائل الإعلام والترويج للخلاف 
ويقول حول وسائل الإعلام التي تروّج للمسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية:  "إنهم يحاولون عبثاً زرع الفرقة. إنّ المسلمين إخوة فيما بينهم ولا يتفرّقون من خلال الأعلام السيّئ لبعض العناصر الفاسدة. أصل هذه المسألة وهي الشيعة والسنّة، أنّ السنّة



1 سورة الحجرات، الآية 10.
2 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 435.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
59

47

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 في طرف والشيعة في طرف آخر، قد وقعت بسبب الجهل والإعلام الذي يمارسه الأجانب، مثلما نلاحظ بين الشيعة أنفسهم وجود أشخاص مختلفين فيما بينهم، يحارب أحدهم الآخر، ووقوف طائفة ضد أخرى بين نفس الإخوة أهل السنة". 

 
جميع طوائف المسلمين تواجه اليوم قوى شيطانية تريد اقتلاع جذور الإسلام. 
 
هذه القوى التي أدركت أن الشيء الذي يهددها هو الإسلام، وأن الشيء الذي يهددها هو وحدة الشعوب الإسلامية.
 
على جميع المسلمين في كل بلدان العالم أن يتحدوا اليوم فيما بينهم، لا أن تقف طائفة هنا وتطرح نفسها، وتقف طائفة أخرى في مكان آخر وتطرح نفسها أيضا"1
 
مقوِّمات الوحدة الإسلامية
سنتحدث عن بعض مكامن الوحدة التي يمكن للمسلمين استغلالها بشكل كبير, ليرتقوا معاً إلى المكان الذي أرادهم الله تعالى أن يكونوا فيه، أهمها: 
1- الحجّ والوحدة الإسلامية: 
يقول قدس سره: "الحجّ هو تنظيم وتدريب وتأسيس لهذه الحياة التوحيدية. والحجّ هو ميدان تجلّي عظمة طاقات المسلمين واختبار قواهم المادية والمعنوية. 
 
الحجّ كالقرآن، ينتفع منه الجميع. ولكن العلماء والمتبحّرين والعارفين بآلام الأمّة الإسلامية، إذا فتحوا قلوبهم لبحر معارفه، ولم يرهبوا الغوص والتعمق في أحكامه وسياساته الاجتماعية، فسيصطادون من أصداف هذا البحر جواهر الهداية والوعي والحكمة والرشاد والتحرّر، ولارتووا من زلال الحكمة والمعرفة إلى الأبد"2.
 
الحجّ فريضة إلهية لها أبعاد توحيدية كبيرة، وهي مؤتمر كبير يجمع المسلمين من كل الأقطار. وكما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره، إنّه لا تقدر أي دولة في العالم أن تنظم هكذا مؤتمر حاشد يوحّد بين أصحاب المذاهب المختلفة في مناسك متحدة نحو قبلة



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 434 - 435.
2 م.ن، ص 141.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
60

48

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 واحدة وبيت واحد، في طاعة إله واحد مستنّين بسنّة الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم. يقول قدس سره:  "والآن وبينما يتوجّه مسلمو الدول المختلفة في العالم إلى كعبة الآمال وحج بيت الله الحرام وإقامة هذه الفريضة الإلهية العظيمة والمؤتمر الإسلامي الكبير، في أيام مباركة ومكان مبارك، فإنه يجب على المسلمين المبعوثين من قبل الخالق تعالى أن يستفيدوا من المحتوى السياسي والاجتماعي للحجّ إضافة إلى محتواه العبادي، ولا يكتفوا بالظاهر. فالكل يعلم أن أي مسؤول وأية دولة لا يمكنها إقامة مثل هذا المؤتمر العظيم، وهذه هي أوامر الباري جلّ وعلا التي أدت إلى انعقاد هذا المؤتمر. ومع الأسف فإنّ المسلمين على طول التاريخ لم يتمكنوا من الاستفادة بشكل جيد من هذه القوة السماوية والمؤتمر العظيم لصالح الإسلام والمسلمين"1

 
ولأجل ما في الحج منّ القدرة على التوحيد بين المسلمين فإن علينا أن نسعى بكل طاقاتنا لاستثمار هذه الفرصة التي تمر علينا في كل عام مرة، لتوحيد المسلمين وتحديد الخطر الذي يواجههم جميعاً للتعاضد والتكاتف في مواجهته، يقول قدس سره: "ومن جملة الوظائف في هذا الاجتماع العظيم دعوة الناس والشعوب الإسلامية إلى وحدة الكلمة وإزالة الاختلافات بين طبقات المسلمين. ويجب على الخطباء والكتّاب المساهمة في هذا الأمر المهمّ وبذل الجهد من أجل إيجاد جبهة المستضعفين، فيمكن من خلال وحدة الجبهة، واتحاد الكلمة، وشعار لا إله إلا الله التخلّص من أسر القوى الشيطانية للأجانب والمستعمرين والمستغلين، والتغلّب على المشاكل من خلال الأخوّة الإسلامية"2.
 
كما أنّ الأبعاد السياسية لمناسك الحج لا تكاد تخفى كيف لا وقد سُمّي الحج بالحج السياسي العبادي، وقد كُتب العديد من المؤلّفات التي تعالج الأبعاد السياسية لهذا المؤتمر الإلهي الكبير. 
 
يقول الإمام قدس سره: "وثمّة أبعاد سياسية عديدة في الاجتماعات، والجماعات والجمعة وخاصّة اجتماع الحجّ



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 141-142.
2 م.ن، ص 142.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
61

49

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 الثمين، منها الاطلاع على مشاكل الإسلام والمسلمين الأساسية والسياسية، فيمكن من خلال اجتماع العلماء والمثقفين والمتدينين الزائرين لبيت الله الحرام، طرحها ودراستها وإيجاد الحلول لها، وتقديم تلك الحلول لدى العودة إلى البلدان الإسلامية، في الاجتماعات العامّة، وبذل الجهد لرفعها"1.

 
2- مواجهة العدوّ المشترك للمسلمين والمستضعفين:
لا شك أن وحدة العدو الذي يواجهه المسلمون من أهم المسائل التي تلزمنا بالاتحاد ونفي الاختلاف، فوحدة العدو تطال الأمة المتشرذمة بشكل أفضل كما نراه اليوم في الحروب التي يقوم بها الاستكبار العالمي على البلدان الإسلامية محاولاً الاستفراد بكل بلد منه على حدة ثم ينتقل منه إلى آخر، فإذا اتحدت الأمة وكانت صفاً واحداً شكلت بذلك سداً منيعاً يخلق الرعب في نفوس الأعداء يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾2.
 
وقد أكد الإمام الخميني قدس سره على هذه المسألة في الكثير من الخطابات التي توجّه بها للعالم الإسلامي، يقول قدس سره: "في مرحلة هجوم القوى الكبرى على البلدان الإسلامية مثل (هجوم السوفيت) على أفغانستان وقتل المسلمين الأفغانيين دون رحمة وبوحشية لمعارضتهم تدخل الأجنبي في مقدراتهم، أو أمريكا الضالعة في كلّ فساد، ومع الهجوم الشامل (الذي تشنّه) إسرائيل المجرمة على المسلمين في فلسطين ولبنان العزيز، ومع (تنفيذ) المشروع الإسرائيلي الإجرامي الرامي إلى نقل عاصمتها إلى بيت المقدس وتوسيع جرائمها ومذابحها الوحشية بين المسلمين المشردين من أوطانهم، وفي هذا الوقت الذي يحتاج فيه المسلمون أكثر من أي وقت آخر إلى وحدة الكلمة، عملاء قوى الاستكبار في مركز القوّة في بلاد المسلمين، إلى التفرقة بين المسلمين، ولا يألون جهداً في ارتكاب كلّ جريمة على هذا الطريق، يأمر بها سيّدهم"3



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 142.
2 سورة الصف، الآية 4.
3 نداء الإمام الخميني إلى حجاج بيت الله الحرام 2 ذي الحجة 1400هـ. ق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
62

50

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 وما أكثر النداءات التي وجّهها الإمام الخمينيّ قدس سره إلى المسلمين منبِّهاً إياهم إلى العدو المشترك الذي يواجههم وأنّهم باتحادهم يقفون كسد منيع أمام أطماعه فها هو الإمام يخاطب المسلمين وكأنّه يعيش اليوم فيما بينهم: 

 
"أيّها البحر العظيم من المسلمين! اهدروا، وحطّموا أعداء الإنسانية، فإن اتّجهتم إلى الله والتزمتم بتعاليم السماء فالله تعالى وجنده العظام معكم. إن أهمّ وأمضّ مسألة تعاني منها الشعوب الإسلامية، وغير الإسلامية في البلدان الخاضعة هي مسألة أمريكا. الحكومة الأمريكية باعتبارها (حكومة) أقوى بلد في العالم لا تألو جهداً في ابتلاع المزيد من الذخائر المادية للبلدان الخاضعة. أمريكا العدوّ الأوّل للشعوب المحرومة والمستضعفة في العالم، أمريكا لا تتردّد في ارتكاب أية جريمة من أجل فرض سيطرتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية على العالم الخاضع لها. إنّها تستثمر الشعوب المظلومة في العالم بدعاياتها الواسعة التي تدبلجها الصهيونية العالمية. إنّها ورموزها المشبوهة الخائنة تمصّ دماء الشعوب المقهورة حتى كأن حقّ الحياة خاص بها وبأتباعها.
 
أيّها المسلمون المتضرّعون (إلى الله) جوار بيت الله، ادعوا للصامدين أمام أمريكا وسائر القوى الكبرى"1.
 
ويقول أيضاً في نداءٍ آخر للمسلمين الحجاج: 
"إنّ شرط تحقّق الآمال الفطرية والإنسانية في كل المناسك والمواقف هو اجتماع كل المسلمين في هذه المراحل والمواقف ووحدة كلمة جميع الطوائف الإسلامية دون أن تفرّق بينهم اللغة واللون والقبيلة والطائفة والوطن والعصبيات الجاهلية، وشرط ذلك النهوض المنسجم بوجه العدوّ المشترك.. وهو عدّو الإسلام العزيز، هذا العدوّ تلقّى في عصرنا صفعة من الإسلام، ولذلك يرى الإسلام سداً أمام أطماعه، ويسعى عن طريق بث التفرقة والنفاق لأن يزيل هذا المانع المحسوس من طريقه، ويحرك عملاءه، وعلى رأسهم رجال الدين الحسّاد الدنيويون المتملّقون على أعتاب السلطان، كي ينفّذوا أهدافه في كلّ مكان وفي مختلف الأوقات وخاصّة في موسم الحجّ والاجتماعات المقدّسة. 



1 نداء الإمام الخميني إلى حجاج بيت الله الحرام 2 ذي الحجة 1400هـ. ق.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
63

51

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 على المسلمين المجتمعين في مواقف هذه العبادة الرامية إلى تجميع المسلمين من كلّ أرجاء الأرض ليشهدوا منافع لكلّ المستضعفين في العالم، وأيّ منافع أعظم من قطع يد الطامعين عن البلدان الإسلامية؟ عليهم أن يراقبوا بحذر الأعمال المعادية للإسلام والقرآن الصادرة عن هؤلاء العملاء الخبثاء ورجال الدين المفرّقين، وعليهم أن يطردوا الذين لا يقبلون النصيحة منهم ولا يعيرون أهمّية للإسلام ولمصالح المسلمين، فهؤلاء أفظع من الطواغيت وأخبث منهم"1.

 
3- القرآن الكريم أهم مصادر الوحدة: 
إنّ القرآن الكريم هو من أهم مصادر الوحدة الإسلامية، ذلك لأنه:
أولاً: كتاب المسلمين جميعهم. 
 
وثانياً: هو الجذر الأساس وآياته الكثيرة داعية للوحدة وعدم التنازع والاختلاف.
 
وثالثاً: لم يخاطب مسلماً دون مسلم بل خاطب المسلمين جميعاً على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وقومياتهم وألوانهم.
 
من هنا كانت دعوة الإمام الخمينيّ قدس سره الدائمة للمسلمين لئلّا يهجر القرآن بين ظهرانيهم وكيف لا وهو الذي يصدح بهم ليل نهار ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾2.
 
يقول قدس سره:
"إني أذكِّر الحجّاج المحترمين أن لا يغفلوا في جميع المواقف المعظّمة وطيلة فترة سفرهم إلى مكة المكرمّة والمدينة المنوّرة عن الاستئناس بالقرآن الكريم، هذه الصحيفة الإلهية وكتاب الهداية، لأنّ كلّ ما عند المسلمين وما سيكون، على طول امتداد التاريخ الماضي وكذلك في المستقبل، إنّما هو من بركات هذا الكتاب المقدّس"3.



1 نداء الإمام الخميني إلى حجاج بيت الله الحرام 1 ذي الحجة 1406هـ. ق.
2 سورة الأنبياء، الآية 92.
3 نداء الإمام الخميني إلى حجاج بيت الله الحرام 2 ذي الحجة 1400هـ. ق.، راجع صحيفة الإمام، (ترجمة عربية)، ج‏20، ص 81.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
64

52

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 وفي أحد النداءات التي وجّهها لحجاج بيت الله الحرام قال قدس سره: "ينبغي لحجّاج بيت الله الحرام المحترمين لأي مذهب أو قومية انتموا أن يرضخوا لأحكام القرآن الكريم، ويقفوا في مواجهة سيل الشياطين الذين يريدون اقتلاع الإسلام الذي طهّر الشرق والغرب وعملاءهم الذين لا إرادة لهم، ويمدّوا يد الأخوة الإسلامية لبعضهم البعض وينتبهوا للآيات الكريمة التي تدعوهم إلى الاعتصام بحبل الله، وتنهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وينبغي الاستفادة أكثر عضوياً وسياسياً من هذه الفريضة العبادية السياسية الإسلامية، في تلك الأمكنة الشريفة التي شيّدت بحق لأجل مصالح الموحّدين والمسلمين في العالم، والإلتفات إلى سر التضحية والفداء الإبراهيمي الإسماعيلي، حيث يجب الوقوف في سبيل الله إلى حد التضحية والفداء بأعز وأغلى ثمرة وجوده والدفاع عن الأهداف الإلهية"1.

 
كما أنّ الإمام الخمينيّ قدس سره يعتبر أنّ مشكلة المسلمين الكبرى هي في هجرهم لهذا الكتاب الإلهي العظيم الذي يتضمّن الهداية للبشر جميعاً:  "إنّ مشكلة المسلمين الكبرى تتمثّل في هجرهم القرآن، والانضواء تحت لواء الآخرين"2.
 
ويقول قدس سره: "المهم هو أن يعمل المسلمون بالإسلام والقرآن، فالإسلام ينطوي على كلّ المسائل المرتبطة بحياة البشر في الدنيا والآخرة، وفيه كلّ ما يرتبط بتكامل الإنسان وتربيته وقيمه"3
 
والأخطر من هذا أن يصير القرآن الكريم مستغلاً بشكل سيّئ من قبل أعداء الإسلام. وهذا أخطر ما يمكن أن يتعرّض له القرآن والمسلمون على حد سواء. وهذا ما حدا بإمام الأمة الراحل قدس سره إلى أن يحذّر بشكل متكرر منه إذ يقول: "واأسفاه أنّ القرآن وهو كتاب الهداية لم يعد له من دور سوى في المقابر والمآتم، بسبب الأعداء المتآمرين والجهلة من الأصدقاء. كان الحال كذلك وما زال، فأصبح الكتاب الذي ينبغي أن يكون وسيلة لتوحيد المسلمين والعالمين، ودستوراً لحياتهم، أصبح وسيلة للتفرقة وإثارة الخلاف، أو عُطّل دوره كلياً. 



1 راجع: صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج‏16، ص 385-386.
2 الكلمات القصار، مواعظ وحكم من كلام الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 51.
3 م.ن. ص 50.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
65

53

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 نحن نفخر، ويفخر شعبنا المتمسِّك بالإسلام والقرآن، بأنّنا أتباع مذهب يهدف إلى إنقاذ حقائق القرآن الممتلئة دعوة إلى الوحدة بين المسلمين، بل البشرية من المقابر، باعتبارها أنجع علاج منقذ للإنسان من القيود المكبلة لرجليه ويديه وقلبه وعقله، والسائقة له إلى الفناء والعدم والرق والعبودية للطواغيت"1

 
وإضافة إلى أنّ القرآن مصدر للوحدة وآياته داعية لها فإنّ القرآن فيه من الآيات المنبِّهة للغافلين عن أمور الأمة من قصص حرب النبي مع المشركين وجهاد المؤمنين ما ينبّه المسلمين إلى وجوب النهوض والقيام إلى جبهات الحق. يقول الإمام الخميني قدس سره: "ومن الموضوعات الأخرى التي زخرت بها هذه الصحيفة النورانية، بيان أحوال الكفّار والجاحدين وأعداء الحقِّ والحقيقة والمعاندين للأنبياء والأولياء عليهم السلام، واستعراض عواقب أمورهم وما يتعرّضون له من البوارِ والهلاك، كما في قصّة فرعون وقارون والنمرود وشدّاد وأصحاب الفيل وغيرهم من الكفّار والفجّار، إذ إنّ في كلّ واحدةٍ من تلك القصص مواعظ وحِكماً، بل معارف لأهلها لا تحصى.
 
ويدخل في هذا الباب قصص إبليس الملعون، وكذلك ولعلّه باب مستقلّ غزوات رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، الباب الذي ينطوي على مطالب سامية، أحدها: استعراض أساليب أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم في الجهاد، وذلك بهدف إيقاظ سائر المسلمين من نوم الغفلة وتحريضهم على النهوض والجهاد في سبيل الله‏ وإحياء كلمة الحقّ وإماتة الباطل"2.
 
4- شخصيّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الجامعة:
إنّ رسول الإسلام وخاتم النبيين  صلى الله عليه وآله وسلم شخصيّة تجمع المسلمين بكافة مللهم وأعراقهم، فهو رسولهم جميعاً، وكلّهم متّفقون على أنّه القائد الأوّل والملهم، والقدوة والرجل الإلهيّ الأكمل، وأنّه دعا إلى أن يكون المسلمون يداً واحدة في مواجهة أعدائهم وقوى الشرّ الطامعة. وهذا ما بيّنه الإمام الخمينيّ قدس سره في الكثير من الخطابات: "أراد رسول الإسلام أن يحقّق وحدة الكلمة في كلّ العالم. أراد إخضاع جميع بلدان العالم لكلمة التوحيد. أراد أن يخضع الربع المسكون بكامله لكلمة التوحيد. بيد أن أغراض سلاطين



1 راجع: صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج‏21، ص 357-358.
2 الإمام الخمينيّ، آداب الصلاة، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 273.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
66

54

الفصل الثالث: مقوّمات الوحدة ودعائمها

 تلك الفترة من جهة، وأغراض علماء النصارى واليهود وأمثالهم من جهة أخرى، منعته من تحقيق ذلك، والآن فإنّهم يمنعون ذلك أيضاً...

 
إنّ تكليف رؤساء الإسلام الآن وسلاطين الإسلام ورؤساء الجمهوريات الإسلامية أن يضعوا هذه الاختلافات البسيطة الموسمية جانباً، فلا يوجد عرب وعجم، ولا ترك وفرس، بل هناك الإسلام، كلمة الإسلام. يجب عليهم أن يتبعوا رسول الإسلام في طريقته في المواجهة والصراع، ويكونوا تبعاً للإسلام. إنّهم إذا حافظوا على وحدة كلمتهم، إذا وضعوا هذه الاختلافات الموسمية البسيطة جانباً، إذا كانوا جميعاً يداً واحدة. ويقال إنّ عدد المسلمين 700 مليون نسمة (في تلك الفترة)، لكنّ هذا العدد المتفرّق لا يعادل مليوناً، فلا فائدة في 700 مليون إنسان متفرّق، وغير محافظين على ثغورهم، وبحماية حدودهم، بل لا فائدة في آلاف الملايين المتفرّقة لا تنفع أيضاً، أمّا لو كان 200 مليون من هذا العدد أو 400 مليون متّحدين، ويداً واحدة أخوية المصالح الإسلامية المشتركة بين الجميع، ووحّدوا كلمتهم، فإذا وحّد هؤلاء كلمتهم، فإنّ اليهود لن يعودوا ليطمعوا في فلسطين، فسبب هذه الأمور أنّهم لا يسمحون لكم بالاتحاد"1
 
فدعوة الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم هي دعوة لنا جميعاً لنبذ خلافاتنا. وهل هناك أفضل من كلمة التوحيد التي زرعها في نفوسنا كلمة باقية خالدة لتوحدنا؟
 
5- رسالة علماء الدين ودورهم: 
لم ينتف ذكر أهمية الخطاب الديني لإرساء الوحدة الإسلامية من كلمات الإمام الراحل قدس سره، فهو يعتبر أنّ الدعوة للوحدة هي جزء أساسي من رسالة علماء الدِّين التبليغية.
 
يقول: "يجب أن ينتفض العلماء في سائر أنحاء العالم، وخاصّة علماء ومفكرو الإسلام العظام وأن يكونوا قلباً واحداً وفي اتّجاه واحد في طريق إنقاذ البشرية من سيطرة السلطة الظالمة لهذه الأقلية المحتالة والمتواطئة التي فرضت سلطتها على العالم من خلال مختلف الدسائس والحيل، ويزيلوا ببيانهم وقلمهم وعملهم ذلك الخوف الكاذب المسيطر على المظلومين"2.



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 427-428.
2 م.ن، ص426.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
67

55

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 مدخل

لقد بذل الإمام الخمينيّ قدس سره جهوداً عمليَّة كثيرة وفي شتى الميادين في إرساء ثقافة الوحدة الإسلامية ودعائمها حتى يمكننا أن نقول إنّه رائد الوحدة الإسلامية في القرن العشرين وما تلاه، كيف لا وهو الذي أخرج مفردة الوحدة من جدث الظلام إلى مجامع الأمّة ومسامع المسلمين عامّة، حيث استغل كلّ فرصة لينبّه المسلمين إلى هذا الأمر الذي به خلاصهم من المآسي والنكبات المتلاحقة التي مرّت بهم، لا سيّما النكبة الكبرى عندما سقطت فلسطين بأيدي الصهاينة، والعرب والمسلمون حينها لم يرفَّ لهم جفن حتى ليظن المرء أنّهم لا وجود لهم، يقول قدس سره: "إنّ كثيراً من حكومات البلدان الإسلامية ونتيجة للانهزام النفسي أو لعمالتها تنفذ المخطّطات الخيانية والرغبات المشؤومة الاستعمارية المعادية للإسلام والتي تهدف إلى ترسيخ هذه الأوضاع المأساوية للمجتمع الإسلامي والى تسليط "إسرائيل" على أرواح وأموال وأراضي الأمّة الإسلامية"1.
 
"لو اجتمعت هذه القدرة أي قدرة المائة مليون عربي فإنّ أمريكا لن تستطيع أن تفعل شيئاً"2
 
فما هي الدعائم التي أرساها هذا الإمام العظيم في الأمّة الإسلامية والتي بعثت فيها روح الوحدة وأيقظت الضمائر؟ 



1 القدس في فكر الإمام الخمينيّ قدس سره، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ص 17.
2 صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج‏4، ص 152.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
71

56

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 1- إعلان البراءة من المشركين في الحج

إنّ أهم الخطوات التي قام بها الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا الإطار أنّه أحيا الفريضة الميتة في شعائر الحجّ وهي إعلان البراءة من المشركين وأعداء الله تعالى، ومن ثمّ وجّه أنظار الأمّة نحو فلسطين واعتبرها القضية التي تحتل الأولوية لدى المسلمين جميعاً. ومن أجل هذا جعل لها يوم القدس كمناسبة تعني المسلمين جميعهم. 
 
فقد تحوّل الحجّ عبر العصور المتلاحقة ومن خلال سعي الأعداء إلى فريضة عادية لا تحمل في عمقها الأبعاد السياسية التي أرادها الله تعالى ليستفيد منها المسلمون، وقد نجح العدوّ لسنين طويلة في أن ينسي الناس هذه الأبعاد العظيمة لهذه الواقعة الهامّة والاستثنائية من عبادات المسلمين السياسية.
 
أدرك الإمام الخمينيّ قدس سره خطر هذه المسألة فأعاد للحجّ بعده السياسي لا سيّما بإعلانه أنّ البراءة من قوى الكفر العالمية ركن من أركان الحجّ ولا بدّ أن تؤدّى ليكون الحجّ حجّاً حقيقياً. يقول قدس سره: "إنّ إعلان البراءة من المشركين تعتبر من الأركان التوحيدية والواجبات السياسية للحجّ. فحاشا أن يتحقّق إخلاص الموحدين في حبّهم بغير إظهار السخط على المشركين والمخالفين، وأي بيت هو أفضل من الكعبة البيت الآمن والطاهر؟ بيت الناس لنبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان والاستغلال والرق والدناءة اللاإنسانية قولاً وفعلاً، وتحطيم أصنام الآلهة تجديداً لميثاقه ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾1 وذلك إحياءً لذكرى أهم وأكبر حركة سياسية للرسول التي عبّر عنها القرآن بقوله: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾2.
 
ذلك أنّ سنّة الرسول وإعلان البراءة لن يبليا, لأنّ إعلان البراءة لا يقتصر فقط على أيام الحج. إذ على المسلمين أن يملؤوا أجواء العالم بالمحبّة والعشق للباري، وبالبغض والاستياء والرفض لأعداء الله. ويجب ألا يصغوا إلى وسوسة الخنّاسين وشبهات المشككين والجهّال



1 سورة الأعراف، الآية 172.
2 سورة التوبة، الآية 3.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
72

57

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 والمنحرفين وألا يغفلوا لحظة واحدة عن هذا النشيد التوحيدي المقدّس والشامل. 

 
ويعتبر الإمام الخمينيّ قدس سره أن إعلان البراءة من المشركين في هذه الفريضة التي تجمع المسلمين من كلّ أقطار العالم فرصة كبيرة لتفعيل الطاقات الخامدة وتنشيط النفوس الخاملة والناسية لقضاياها الأساسية، والساهية عن عدوها المتربص بها: "إنّنا بإعلاننا البراءة من المشركين كنّا وما نزال مصممين على تحرير الطاقات المتراكمة للعالم الإسلامي، وبإذن الله الكبير وبهمّة أبناء القرآن سيأتي اليوم الذي يتحقّق فيه هذا العمل. وإن شاء الله سيتحقّق أيضاً اليوم الذي يصرخ فيه جميع المسلمين والمتألمين ضد ظالمي العالم ويثبتوا أن القوى العظمى وأذنابهم والنفعيين هم أكثر موجودات العالم بغضاً ولعناً. 
 
إن صرخة براءتنا هي صرخة جميع الذين لم يقدروا على تحمّل تفرعن أمريكا وتواجدها السلطوي ولا يريدون أن تخمد صرخة غضبهم وسخطهم وتذمرهم، وتُخنق في حناجرهم إلى الأبد وعقدوا العزم على العيش حياة حرة كريمة والموت أحراراً وأن يكونوا الصرخة المدوية للأجيال"1
 
ويقول قدس سره: "بينما يتوجّه مسلمو الدول المختلفة في العالم إلى كعبة الآمال وحجّ بيت الله الحرام وإقامة هذه الفريضة الإلهية العظيمة والمؤتمر الإسلامي الكبير، في أيّام مباركة ومكان مبارك، فإنّه يجب على المسلمين المبعوثين من قبل الخالق تعالى أن يستفيدوا من المحتوى السياسي والاجتماعي للحجّ إضافة إلى محتواه العبادي، ولا يكتفوا بالظاهر. فالكلّ يعلم أن أي مسؤول وأية دولة لا يمكنها إقامة مثل هذا المؤتمر العظيم، وهذه هي أوامر الباري جلّ وعلا التي أدّت إلى انعقاد هذا المؤتمر. ومع الأسف فإنّ المسلمين على طول التاريخ لم يتمكّنوا من الاستفادة بشكّل جيّد من هذه القوّة السماوية والمؤتمر العظيم لصالح الإسلام والمسلمين. وثمّة أبعاد سياسية عديدة في الاجتماعات، والجماعات والجمعة وخاصّة اجتماع الحجّ الثمين، منها الاطلاع على مشاكل الإسلام والمسلمين الأساسية والسياسية، فيمكن من 



1 أبعاد الحج في فكر الإمام الخميني قدس سره، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ص 58.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
73

58

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 خلال اجتماع العلماء والمثقفين والمتدينين الزائرين لبيت الله الحرام، طرحها ودراستها وإيجاد الحلول لها، وتقديم تلك الحلول لدى العودة إلى البلدان الإسلامية، في الاجتماعات العامّة، وبذل الجهد لرفعها"1.

 
وما يميّز هذه الفريضة أنّها لا تختصّ بزمن دون آخر، بل هي فريضة للحجّ في كلّ الأزمان، إذ إنّها لن تتوقّف ما دام الحجّ موجوداً وما زالت الفريضة قائمة. يقول قدس سره: "إنّ صرخة البراءة من المشركين لم تختص بزمان خاص. هذا دستور خالد، وإن انقرض المشركون من الحجاز "فنهضة الناس" ليست مختصّة بزمان بل هي دستور كل زمان ومكان. في هذا التجمع البشري العالم تعتبر سنوياً من جملة العبادات المهمة الخالدة إلى الأبد. وهنا تكمن النكتة التي أكّد عليها أئمّة المسلمين عليهم السلام في إقامة مجالس العزاء لسيد المظلومين إلى الأبد وبقاء صرخة مظلوميَّة آل بيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم وظلم بني أميّة عليهم لعنة الله مع أنّهم انقرضوا"2.
 
2- فلسطين القضية المركزيَّة 
وجّه الإمام الخميني قدس سره أنظار المسلمين نحو مشكلةٍ اعتبرها أمّ المشاكل وأمّ القضايا بل القضية المركزية الأهم، ألا وهي القضية الفلسطينية، حيث اعتبر الإمام قدس سره أن هذه القضية ينبغي أن تحتلّ الحيّز الأكبر والمرتبة الأولى من بين قضايا الأمة والشعوب، وكذلك الحكام، مشخصاً داء الأمة الراهن بتجاهل هؤلاء الحكام لهذه القضية وإخراجها من حساباتهم، وإلا فلو كان الحكام والشعوب يعملون جهودهم العادية لحل هذه القضية وإزالة الورم الصهيوني من خاصرة الأمة لأمكنهم ذلك بأقل الإمكانات متى ما توفرت لديهم الإرادة الجديَّة لذلك، يقول قدس سره: "ثمّة موضوع أشعر بأنّه يشكّل لغزاً بالنسبة لي، وهو أن جميع البلدان الإسلامية والشعوب المسلمة تعلم ما هي المشكلة، وتعلم أن يد الأجنبي تريد زرع الفرقة بين صفوفها، وتشاهد أن نصيبها من هذه التفرقة هو الضعف والزوال، وتشاهد أن دولة إسرائيل التافهة تقف بوجه



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 141-142.
2 م.ن، راجع: صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج‏20، ص 82.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
74

59

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 المسلمين. ولو كان المسلمون مجتمعين وألقى كلّ واحد منهم دلْواً من الماء على إسرائيل لقضى عليها السيل، ومع ذلك يقفون أذلاء أمامها. واللغز أنّهم لماذا لا يلجأون إلى العلاج الحتميّ، والذي هو اتحادهم واتفاقهم رغم علمهم بكل ذلك؟! لماذا لا يحبطون تلك المؤامرات التي يضعها المستعمرون من أجل إضعافهم؟! متى ينبغي حلّ هذا اللغز؟! ومن يتمكن من حلّه؟! من المسؤول عن إحباط هذه المؤامرات سوى الحكومات الإسلامية والشعوب المسلمة؟ هذا لغز لو وجدتم جواباً وحلاً فاذكروه لنا"1.

 
"إعلموا (وتعلمون أيضاً) أن الأيدي التي تريد أخذ ثرواتكم منكم ونهبها، ومصادرة كل ما تملكون من خيرات سواء فوق الأرض أو تحتها، أن هذه الأيدي لا تسمح باتّحاد إيران مع العراق، ولا إيران مع مصر، ولا إيران مع تركيا. يريدون ألاّ تتحقق وحدة الكلمة. ولكن هذا ليس تكليفكم. إن مسؤولية الرؤساء أن يجلسوا مع بعضهم بعضاً، ويتفاهموا ويحفظوا حدودهم وثغورهم، ويحافظوا على وحدة الكلمة بوجه العدو الأجنبي الذي يريد إلحاق الضرر بكم. ولو حافظتم على وحدة الكلمة لما أمكن لمجموعة من اليهود اللصوص في فلسطين أن تفرق ملايين المسلمين لمدة أكثر من عشر سنوات، والدول الإسلامية جلست مع بعضها بعضاً تقيم المآتم. لو كان هناك توحيد في الكلمة فكيف يستطيع هؤلاء، هذه العدة من اليهود اللصوص، كيف يستطيعون أن يأخذوا فلسطين منكم، ويخرجوا المسلمين من فلسطين، ولا تستطيعون أن تعملوا شيئاً؟!"2.
 
فالإمام قدس سره ينبهنا إلى أن محاولة تفريق الأمّة إنّما هو بسبب إضعافنا عن مطالبتنا بحقوقنا ولا سيّما حقّ المسلمين في الأراضي المقدّسة في فلسطين. 
 
ثم يخاطب الإمام قدس سره الحكام المسلمين والمتسلطين على ثرواتهم الطائلة، منبهاً لهم إلى الخطوات التي ينبغي اتخاذها في سبيل إرجاع حقوقنا السليبة، فيقول قدس سره:
"هذه الأمور من الواضحات، لكن يجب التذكير. وإن أولئك يعلمون بهذا الأمر أيضاً ولكن عليهم الاجتماع والتفكير ووضع هذه الاختلافات البسيطة جانباً. فالإسلام هو بأيديكم الآن.



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 428.
2 م.ن، ص 429.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
75

60

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 وليعلم رؤساء الإسلام، وسلاطين الإسلام، ورؤساء الجمهورية، والشيوخ، وأصحاب المناصب في الإسلام أن لهذه الرئاسة التي منحها الله تبارك وتعالى لهم مسؤولية. فعندما يصبح الإنسان رئيساً لقوم معينين، ولشعب ما، فإنه مسؤول عن ذلك الشعب وأولئك القوم، ومسؤول عن حياتهم، والحوادث التي تمر عليهم. إنّ الآخرين هم الذين يحتاجون لهؤلاء. إن هذا الأمر من العجائب، ومن العجائب أنّ الثروة بيد الشرق. إنّ ثروة النفط المهمة بيد الشرق وبيد المسلمين والبلدان الإسلامية. وإن سبب تقدّم أي دولة في العالم هو هذه المعادن والثروات. وكان انتصار الدول في الحروب بواسطة النفط. وهذه الثروات كلها بأيديكم! والحمد لله فان العراق يملك النفط، وإيران تملك النفط، والكويت تملك النفط، والحجاز تملك النفط، والنفط بيد المسلمين. ينبغي لأولئك أن يتملّقوا لكم ويقبّلوا أياديكم وأقدامكم، ويشتروا هذه الثروات بأسعار باهظة. يجب عليكم أن لا تتملّقوا لهم، وإن شاء الله لستم كذلك، بل يجب عليهم أن يتملّقوا لكم الآن، فالثروة بأيديكم. ولكن تصرّف المستعمرون بشكل خدعوا فيه بعض البلدان، فتصورت أن الأمر ليس كذلك، بل عليها أن تتملق أيضاً لهم، وأن تجاملهم حتى يأخذوا ثرواتها، وهذا يستلزم الأسف الشديد"1

 
وبغياب وحدة الكلمة، وعدم إيجاد رؤساء الإسلام لوحدة الكلمة بين صفوفهم، وعدم التفكير بمصائب الشعوب المسلمة، وشقاء الإسلام، وشقاء الأحكام الإسلامية، وغربة الإسلام والقرآن الكريم فإنه لا يمكن لهم السيادة. يجب أن تفكروا وتعملوا حتى تسودوا، وسوف تكونون سادة العالم لو علمتم بهذا الموضوع. 
 
فالسيادة ستكون لكم لو عرفتم الإسلام كما هو وعملتم به كما ينبغي (العزة لله ولرسوله وللمؤمنين). 
 
ومن هنا فإن الجمهورية الإسلامية في إيران وبتوجيهات من الإمام الخميني الراحل قدس سره وضعت في قمة سلم أولوياتها دعم القضية الفلسطينية، وإيجاد حالة من الاتحاد بين البلدان الإسلامية. يقول الإمام الخميني قدس سره عن هذا الأمر: 



1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 429-430.


 
 
 
 
 
 
 
 
 
76

61

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 "إنّنا جاهزون في جميع الأحوال للدفاع عن الإسلام والبلدان الإسلامية واستقلالها. إنّ برنامجنا هو برنامج الإسلام، وتحقيق وحدة كلمة المسلمين، واتحاد البلدان الإسلامية، وتحقيق الأخوة مع جميع طوائف المسلمين في كلّ العالم، والاتحاد مع جميع الدول الإسلامية في سائر أنحاء العالم، والوقوف بوجه الصهيونية وإسرائيل، والوقوف بوجه الدول المستعمرة التي تريد نهب ذخائر هذا الشعب الفقير مجاناً وتركه ليعاني من الفقر والبطالة والبؤس. وتتحدث الدول دائماً عن الترقي والتطور الاقتصادي مع وجود هذه الوجوه الصفراء بسبب الجوع والفقر. وإنّنا نشعر بالأسى لهذه الحقائق المرّة، ويشعر علماء الإسلام بالألم بسببها، ولو كان هذا يسمى بالرجعية السوداء، فلنكن رجعيين!"1

 
3- إحياء يوم القدس العالمي إحياء للإسلام
وفي سبيل هذه القضية ولكونها محوريَّةً تهمُّ جميع المسلمين، ويمكن لها أن تساهم بشكل كبير في توحيد المسلمين، كان يوم القدس العالمي وذلك في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك من كل عام. وقد أطلق الإمام قدس سره هذا اليوم بعد أربعة أشهر من قيام الجمهورية الإسلامية أي في تموز من العام 1979م ممّا يؤكّد على مدى حضور هذه القضية وعلى حيّز الأولوية الذي شغلته في فكر الإمام قدس سره. بل ولنا أن نقول إن المحور الأساسي الذي قامت عليه حركته السياسية بدءًا بالثورة وانتهاءً بانتصارها وما بعده كان هو القضية الفلسطينية التي تعتبر القدس ركيزتها الأولى.
 
وقد جاء في نص الإعلان عن يوم القدس: "أدعو جميع مسلمي العالم إلى اعتبار آخر جمعةٍ من شهر رمضان المبارك التي هي من أيام القدر ويمكن أن تكون حاسمة في تعيين مصير الشعب الفلسطيني يوماً للقدس، وأن يعلنوا من خلال مراسم الاتحاد العالمي للمسلمين دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم"2





1 منهجية الثورة الإسلامية، مقتطفات من أفكار وأراء الإمام الخميني قدس سره، ص 430-431.
2 راجع: صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج‏9، ص 212.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
77

62

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 ويعتبر الإمام قدس سره يوم القدس. هو يوم للتعبئة الإسلامية العامّة، فيقول: "لقد كان يوم القدس يوماً إسلامياً، ويوماً للتعبئة الإسلامية العامة"1

 
وأنّه يوم المستضعفين في العالم، فيقول: "آمل أن يكون هذا الأمر مقدمة لتأسيس حزب للمستضعفين في كل أنحاء العالم. وأتمنى أن يظهر حزب باسم المستضعفين في العالم"2.
 
وأنّه يوم الإسلام وحكومته، فيقول: "يوم القدس، ليس فقط يوماً لفلسطين، إنه يوم الإسلام، يوم الحكومة الإسلامية، يوم يجب أن تنشر فيه الجمهورية الإسلامية اللواء في كل أنحاء العالم"3
 
بل ويعتبره يوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يقول: "إنّني اعتبر يوم القدس يوماً للإسلام ويوماً لرسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ويوماً يجب أن نجهّز فيه كل قوانا لإخراج المسلمين من العزلة"4
 
وقد لاقى إعلان الإمام الخميني قدس سره ترحيباً كبيراً في العالم الإسلامي، إذ يحيي المسلمون في كل عام وفي الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك هذا اليوم بمسيرات واحتفالات شعبية في سائر الدول الإسلامية.
 
4- مسؤولية قادة البلدان الإسلامية في سبيل الوحدة:
اعتبر الإمام الخمينيّ قدس سره أن هناك مسؤولية كبرى تلقى على عاتق رؤساء البلدان الإسلامية في سبيل الوصول إلى اتحاد كلمة المسلمين، مشبهاً عصرنا هذا بزمن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "أراد رسول الله أن يحقق وحدة الكلمة في كل العالم، أراد إخضاع جميع بلدان العالم لكلمة التوحيد، وأراد أن يخضع الربع المسكون بكامله لكلمة التوحيد، بيد أن أغراض سلاطين تلك الفترة (......) منعته من نحقيق ذلك، والآن يمنعون ذلك أيضاً، وإن مصائبنا الآن هي بسببهم"5.



1 راجع: صحيفة الإمام (ترجمة عربية)، ج‏9، ص 224.
2 م.ن، ج‏9، ص 224.
3 م.ن، ج‏9، ص 221.
4 م.ن، ج‏9، ص 223.
5 منهجية الثورة، مصدر سابق، ص428.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
78

63

الفصل الرابع: الإمام الخميني وإرساء ثقافة الوحدة ودعائمها

 وقال في إيجاب ذلك على رؤوساء البلدان: "إن تكليف رؤساء الإسلام وسلاطين الإسلام ورؤساء الجمهوريات الإسلامية أن يضعوا هذه الاختلافات البسيطة الموسمية جانبًا، فلا يوجد عرب وعجم، ولا ترك ولا فرس، بل هناك الإسلام، كلمة الإسلام، يجب عليهم أن يتبعوا رسول الإسلام في طريقته في المواجهة والصراع، ويكونوا تبعاً للإسلام"1.

 
خاتمة
إنّ وحدة المسلمين بكافّة شرائحهم، أمر في غاية الأهمية بل هي الأساس في أي تقدم يحرزه المسلمون، وهي الأساس لاسترجاع حقوقهم المهدورة، وهي الحائط المنيع أمام استقواء المتكبّرين عليهم. فمن هذا المنطلق لو التفت المسلمون إلى هذه النصائح الملهمة من هذا الإمام الراحل لوجدوا فيها روح التوحيد والحرص على أمر المسلمين ومقدساتهم. 
 
علينا أن لا نغفل عن القرآن الكريم الذي يصدح بنا ليل نهار في نبذ الخلاف وتوحيد الكلمة والسعي الدائم للمّ الشمل، لكي لا نفشل وتذهب ريحنا. 
 
إن علينا نحن المسلمين في هذه الأيام أن لا ندع أي فرصة تجمع المسلمين على الكلمة السواء تمر من دون استثمار عملي لها ولا سيّما المناسبات التوحيدية كشهر رمضان ويوم القدس، وأسبوع الوحدة الإسلامية في شهر ربيع الأول، وأيام الحج المباركة، وأن لا نغفل عن العدو المتربص بنا الدوائر.
 
نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا للعمل بنهج هذا الإمام الذي أفنى عمره في سبيل توحيد الكلمة وإعلاء راية الإسلام خفاقة على أرجاء المعمورة إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.



1 منهجية الثورة، مصدر سابق، ص428.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
79

64
الوحدة الإسلامية