الآداب المعنوية للصلاة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2017-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق


0

بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى آله الطاهرين عليهم السلام، وبعد...

إنّ الانجذاب نحو العرفان والمعنويّات يُعتبر أحد النزعات الفطرية في الإنسان التي لا يُمكن تجاهلها أو التساهل إزاءها. وما أكثر الذين دخلوا قديماً وحديثاً في هذا الوادي! متعطّشين للمعنويّات، ولكنّهم هلكوا فيه، أو احتاروا في النهاية بسبب اتّباع بعض المفاهيم والسلوكيات العرفانيّة الخاطئة.

والإمام الخميني، الذي يُعدّ بحقّ مجدّداً للإسلام المحمديّ الأصيل بكلّ تعاليمه السامية في هذا العصر، قد أزال الشبهات النظرية والعملية عن العرفان، بالاستفادة من القرآن الكريم ومن معارف مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

فأحيا الإمام قدس سره العرفان الإسلامي الأصيل بكلّ أبعاده، وكان رائداً في تنقيح هذه الحقيقة السامية من جميع الانحرافات التي لحقت بها طوال التاريخ، وقام بإظهار وجه العرفان الحقيقي المشرق، معلناً بشكل واضح وصريح أنّ العرفان الإسلامي الأصيل لا ينسجم على الإطلاق مع الانعزال واللامبالاة، بل لا ينفصل أبداً عن العبادة والشريعة، ولا عن القرآن والسنّة الشريفة، ولا عن السياسة والجهاد.

ولقد أحيا الإمام العرفان الأصيل بكلّ أبعاده التي تمسّ حقيقة الدِّين، أيضاً بكلّ أبعاده. فجذب إليه قلوب الكثيرين وربّى من خلال هذا العرفان رجالاً ونساءً كانوا مستعدّين للتضحية بكلّ ما يملكون في سبيل الدِّين والمجتمع البشري الفاضل والقيم الإنسانية السامية.
 
 
 
 
17

1

0

وإنّ تعريف الشباب، الباحث عن الحقيقة اليوم، بهذا العرفان الأصيل، خطوة ضرورية في طريق تحقيق الحضارة الإسلامية الكبرى، فهم نواة المجتمع وباكورة مستقبله.

في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل النّاس من عشق العبادة، فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدّنيا، على عُسْرٍ أم على يُسْرٍ"1. ونحن لو نظرنا إلى الإمام الخميني قدس سره لرأيناه مصداقاً حقيقيّاً لمن أحبّ العبادة وعشقها، وعانقها من شبابه، وحتى شيخوخته، فلم يفتر عنها لحظة، ولم يخمد توهّجها في نفسه يوماً، بل كانت تسمو به، وتقرّبه أكثر فأكثر من المحبوب الأوحد للأنبياء والأولياء والكمّل.

وأحد مظاهر تعبُّد الإمام قدس سره واهتمامه الشديد بالعبادة، تجلّى وظهر في حرصه الشديد على القرآن والصلاة والدعاء، وتمسُّكه بها، وملازمته لها، وتأكيده الشديد عليها، لما لها من معانٍ عميقة تربط الإنسان قلبيّاً ومعنويّاً بالله تعالى، لتغدو هذه العبادات وسائل عروج الروح نحو الله بشكل أقوى وأسرع.

ومن أهمّ آثار العبادة نشوء العُلقة المعنوية بين العابد والمعبود، هذه الرابطة القلبيّة التي يُمكنها، فيما لو قُدّر لها الثبات والتكامل، أن تُفني أفعال العابد وصفاته وحتى ذاته في المعبود، فتغدو أفعاله أفعال الحقّ، وقدرته قدرة الحقّ، وصفاته صفات الحقّ تعالى... فعندما يفنى وجود الإنسان كلّه في الله تعالى يُصبح المتصرّف في مملكة وجود الإنسان هو الله، وهؤلاء هم أولياء الله عزّ وجلّ، كما ورد في الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله عزّ وجلّ: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إلَيّ عبد بشي‏ء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنّافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الّذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإِن سألني أعطيته"2. وهذا هو باختصار إمامنا الخميني، قدّس الله نفسه الزكية!

يصف لنا الإمام الخامنئي دام ظله فناء الإمام الخميني قدس سره، فيقول: "إنّ الإمام الخميني الراحل قدس سره، اكتسب كلّ هذه الصفات من جرّاء التقوى والتمسّك بالدِّين والامتثال لأمر
 
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص83.
 2- م.ن، ص352.
 
 
 
18
 

2

0

الله، وقد بيّن شخصيّاً هذا المعنى في طيّات كلامه، مشيراً إلى أنّ كلّ ما هو موجود إنّما هو من الله، وكنتيجةٍ للذوبان في الإرادة الإلهية، وأنّ الله هو الذي نصر الثورة، وهو الذي حرّر خرّمشهر، وهو الذي ألّف بين قلوب أبناء الشعب. فكان ينظر إلى كلّ شيء من وجهة نظر إلهية، وفي مقابل ذلك فتح الله أمامه أبواب رحمته"1.

فالعبادة الخالصة لله مقدّمة للفناء فيه تعالى، والفناء في الله مقدّمة لرؤية وجهه الكريم الذي عَنَت له جميع الوجوه، وخشعت له جميع الأصوات، فلم يبقَ في محضره أحد إلا كبّره وسبّحه وقدّسه. واستشعاراً منّا لدور العبادة ومركزيّتها في العلاقة الباطنية والظاهرية بين الخالق والمخلوق، وانطلاقاً من محورية الصلاة في المنظومة العبادية التي تصل عالم الإمكان بعالم الوجوب، كان لا من بدّ من الوقوف عند مدرسة الإمام العبادية الباطنية التي تجلّت في كتابه الموسوم بـ "الآداب المعنوية للصلاة"، من أجل استخراج كنوزه الدفينة واستنباط أصوله البنّاءة، لتكون مدرسة في صناعة الإنسان الكامل وبوّابة عروجه إلى الخالق. وكان الهدف الأساس من هذا الكتاب السعي إلى تحويل كتاب الآداب المعنوية للصلاة إلى متن تدريسي يُستفاد منه في الحقول والمجالات الدراسية والتعليمية كلّها.
 
وبذلك، نكون قد وضعنا حجراً في طريق بناء صرح الإمام الخميني قدس سره العلمي والفكري، من أجل صناعة أجيال تعي فكره المعنوي، وتطّلع على أصول مدرسته السلوكية والعرفانية. وإنّ مركز نون للتأليف والترجمة، إذ يقدّم لأساتذتنا الكرام وطلّابنا الأعزّاء مثل هذا المتن التعليمي، على أمل أن يساهم بقوّة في تفعيل تناول الموضوعات الأخلاقية والعرفانية بشكل أصيل ومنهجي، وهو يرحّب بكلّ ملاحظة أو انتقاد يتقدّم بهذا العمل نحو المزيد من الدقّة والعلمية والروح التعليمية.


والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة
 
 

1- الإمام الخامنئي دام ظله من كلمة ألقاها في 19 صفر 1420هـ.
 
 
 
19
 

 


3

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن أهميّة الحضور القلبيّ وتأثيره على سلوك الإنسان.
2- يشرح كيفيّة حصول التوجّه القلبي, ويتعرّف إلى الحجاب الأساس أمام تحصيله.
3- يبيّن الآثار المختلفة للتوجّه القلبيّ.
 
 
 
21
 

4

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

التمهيد
إنّ الحياة الحقيقيّة التي خُلق الإنسان لأجلها، إنّما تتجلّى في الحياة المعنويّة أو القلبيّة. وجميع الأعمال الصّالحة والعبادات تُوجِّه الإنسان لكي يكتشف هذه الحياة، ثمّ يعيشها بكلّ وجوده. وبداية هذه الحياة هي في توجّه القلب نحو حقائق الوجود. ولأنّ الحياة كلّها من الله وبالله، ولأنّ كلّ الجمال من الله وإلى الله، فإنّ الحياة المعنويّة تتحقّق في ظلّ التوجّه إلى الله عزّ وجلّ. وبالتأكيد، إنّ الله ليس مجرّد كلمة نتوجّه إليها بخيالاتنا، بل إنّه الحقيقة المطلقة التي تجمع عالم المعاني التي لا نهاية لها، عالم الكمال المطلق.
 
أهميّة التوجّه القلبيّ
ما من إنسان إلّا ويعيش في كلّ حالاته وأوقاته توجّهًا قلبيًّا. ومن بين جميع الناس يتميّز السالك إلى الله بأنّه يجعل الحقيقة هدف توجّهاته وأحواله القلبيّة، ويعتبر اجتناب الوهم والباطل أمرًا أساسيًّا في حياته. وبهذه الطريقة يتّصل قلبه بمصدر الكمال.
 
ويقدّم الإسلام من خلال نظامه العباديّ فرصة عظيمة لتحقيق هذا التوجّه. ففي كلّ عبادة هناك أسرار وحقائق، إذا توجّه القلب إليها اكتسبت روحًا وحقّقت آثارها وأعطت ثمارها. من هذه الحقائق، التوجّه القلبيّ نحو عزّ الربوبيّة وذلّ العبوديّة.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "من الآداب القلبيّة في العبادات والوظائف الباطنيّة لسالك طريق الآخرة التوجّه إلى عزّ الربوبيّة وذلّ العبوديّة، وهو بالنسبة للسّالك من منازل السلوك المهمّة، بحيث تكون قوّة سلوك أيّ إنسان بحسب قوّة هذا التوجّه والنظر، بل الكمال والنقص في الإنسانيّة يكون تابعًا لنقصانه وكماله"1.



1- الإمام الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ترجمة السيّد عبّاس نورالدّين، لبنان، بيت الكاتب للطباعة والنشر، 2009 م، ط 1، ص 22. وطُبع الكتاب طبعة لبنانية أخرى تحت عنوان: الآداب المعنوية للصلاة، لكن لمترجم آخر.
 
 
23
 

5

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

والواضح من نصوص الإمام قدس سره أنّه قد جعل قوّة السّلوك تابعة لقوّة التوجّه القلبيّ نحو هذه الحقيقة، التي هي أساس معرفة الإنسان بربّه وبنفسه. إنّها حقيقة الربوبيّة التي يكتشفها الإنسان في ظلّ معرفة نفسه بحقيقة العبوديّة. فعندما تحضر هذه المعرفة في النفس ويتوجّه إليها القلب، فإنّ قوّة السلوك واندفاع السالك في سيره إلى الغاية المنشودة سيتحدّد تبعًا لمستوى هذا التوجّه ودرجته، لهذا يقول الإمام قدس سره: "وكلّما قوي هذا النظر زادت روحانيّته في العبادة، وكانت روح العبادة أقوى"1.
 
إلامَ نتوجّه بقلوبنا؟
تُختصر المعارف النافعة والحقائق الكبرى في جملة واحدة، وهي "من عرف نفسه، فقد عرف ربَّه"2، أو "اعرف نفسك، تعرف ربّك"، لهذا فإنّ معرفة الوجود، كما هو حقّه، تكمن في معرفة الإنسان لنفسه، إنّه خلاصة الأكوان، وفيه انطوى العالم الأكبر. ولا يمكن للإنسان أن يعرف العالم على حقيقته ما لم يعرف حقيقة نفسه التي هي عين الفقر والعجز والذلّة والربط بالله تعالى، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فإِنَّ الْجَاهِلَ‏ بِقَدْرِ نَفْسِهِ، يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَل‏"3. ولا يمكن معرفة أيّ شيء معرفة واقعيّة إلّا بمعرفة سببه وعلّته، ولهذا قيل في الحكمة: "ذوات الأسباب لا تُعرف إلا بأسبابها". ولهذا، فإنّ علامة معرفة الإنسان بنفسه، التي تؤدّي إلى أن يرى الأشياء كما هي، أن يعرف ربّه، لأنّه تعالى سبب كلّ شيء وأصله وعلّته، والله تعالى هو الغنيّ المطلق ذو العزّة اللامتناهية. فمن شهد فقر الممكنات وغنى الواجب، أدرك أصل جميع الحقائق!
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، فما فُقِد في العبوديّة وُجِد في الربوبيّة، وما خَفِي من الربوبيّة أُصيب في العبوديّة"4. فمن سعى بخطوة العبوديّة ووسم ناصيته بسمة ذلّها سيجد سبيل الوصول إلى عزّ الربوبيّة، وطريق الوصول 
 
 
 

1- الإمام الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 23.
2- الإمام الصادق، جعفر بن محمد عليهما السلام منسوب-، مصباح الشريعة، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1400 هـ، ط 1، ص 13.
3- السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، قم، دار الهجرة، 1414هـ.، ط 1، من عهد له إلى الأشتر النخعي، ص 437.
4- الامام جعفر الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، ص 453.
 
 
24
 

6

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

إلى الحقائق الربوبيّة هو السير في مدارج العبوديَّة، فما فقد من الإنّيّة والأنانيّة في عبوديّته يجده في ظّل حمى الربوبيّة، حتى يصل إلى مقام يكون الحقّ تعالى سمعه وبصره ويده ورجله، كما ورد في الحديث الصحيح المشهور عند الفريقين"1.
 
إنّ العلاقة الدلاليّة بين عزّ الربوبيّة وذلّ العبوديّة هي أعمق من الدلالة التضمّنيّة أو الالتزاميّة، إنّها دلالة لا توجد إلّا في عالم الحقائق الكبرى، والتي يُعبَّر عنها بالحقيقة والرقيقة2.
 
وكأنّ شهود الإنسان للحقيقة لا يتطلّب منه أكثر من النظر مجدّدًا إليها حتى يدركَ رقيقتها. فمن شهد ربوبيّة الحقّ لكلّ العوالم كيف لا يمكن أن يراها جميعًا في عين العبوديّة والفقر والتعلّق؟!
 
ويقول الإمام قدس سره: "وهذان المقامان، أعني مقام عزّ الربوبية الذي هو الحقيقة ومقام ذلّ العبودية الذي هو رقيقته، مرموزان في جميع العبادات، وبالأخصّ في الصلاة التي لها مقام الجامعيّة، ومنزلتها بين العبادات منزلة الإنسان الكامل ومنزلة الاسم الأعظم، بل هي عينه"3.
 
وأمّا الحديث حول انطواء الصّلاة على مقام الجامعيّة وعلى الاسم الأعظم، وكونها عينه، فسوف يأتي مفصّلًا إن شاء الله تعالى.
 
وإذا كانت منزلة الاسم الأعظم بين الأسماء الحسنى هي منزلة الجامعيّة، حيث انطوت فيه جميع الأسماء والكمالات، فإنّ الصّلاة قد جمعت كافّة المعاني الجليلة والآثار الجميلة التي أودعها الله في العبادات ونشرها فيها.
 
فلو كان في الصيام درجات وأسرار، ولو كان في الحجّ حكم ومعانٍ وأسرار، ولو كان في الجهاد فوائد وحظوظ معنويّة، وهكذا في كلّ عبادة، فإنّ الصلاة قد جمعت كلّ ما في هذه العبادات.

 

1- الإمام الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 23.
2- يقول العرفاء: "لكلّ حقيقة رقيقة"، أي لكلِّ حقيقة نبعها ومددها، فالنبع الذي يمدّها هو الرقيقة، فالمصباح مثلاً حقيقة، ومدده أو نبعه هو الطاقة الكهربائيّة.
3- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 24.
 
 
 
25
 

7

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

ولهذا، لا يمكن مقارنة أيّ فريضة بالصلاة، فهي التي إن قُبِلت قُبِل ما سواها من الطاعات، وهي التي جعلها الله قائدة للأعمال.
 
فمن عرف هذه الحقيقة أدرك أنّ صلاته هي الميزان الحقّ لسلوكه وأعماله. فإذا أراد أن يعلم رضا الله عنه في جهاده أو مساعيه، فعليه أن ينظر إلى صلاته في روحانيّتها والأنس بها وإقبال القلب عليها.
 
إنّ الله إذا قَبِل من عبده عملًا أورثه فيضًا، فيه من المعاني الجميلة ما لا يتناهى. والصلاة هي المحلّ الذي يستشعر فيه الإنسان هذا الفيض الجميل.
 
مانع التوجّه إلى عزّ الربوبيّة
هناك أمور تمنع الإنسان من التوجّه إلى حقيقة الربوبيّة، وأهمّ هذه الأمور وأساسها هو الإنّيّة التي ينشأ منها الأنانية. أمّا الإنّيّة فهي عبارة عن رؤية النفس مستقلّة في وجودها وبقائها، واعتبارها مصدر كمالاتها. وينشأ من هذه الإنّيّة حبّ النفس أو الأنانيّة، لأنّ الإنسان عاشق للكمال، وعندما يظنّ أنّ وجوده منشأ للآثار ومنبع للكمال، فسوف يحبّ وجوده ويتعلّق به، غافلًا عن حقيقة فقره واحتياجه في أصل وجوده. ومن كان كذلك، يستحيل أن يكون منشأً لأيِّ أثر على نحو الاستقلال، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.
 
وبسبب هذا الحبّ، يتعلّق القلب بالوهم بدل الحقيقة، ويفقد التوجّه إلى المنشأ الواقعيّ للكمال، فيبتعد عن المقام الربوبيّ المقدّس.
 
يقول الإمام الخميني قدس سره: "كلّما كان النظر إلى الإنّيّة والأنانيّة ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالبًا، كان بعيدًا عن كمال الإنسانيّة ومهجورًا من مقام القرب الربوبيّ"1.
 
ويقابل هذه النظرة الخاطئة رؤية النفس ـ بل جميع الكائنات ـ مستظلّة لا مستقلّة، أي قائمة بالله. وعلامة الخروج من الإنّيّة، التي هي الحجاب الأكبر والصنم الأعظم وأصل جميع الحجب، أن يرى السالك نفسه وكلّ ما حوله عين الربط والتعلّق بالله، ويراها فقيرة، بل عين الافتقار إلى الله عزّ وجلّ.



1- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 22.
 
 
 
26
 
 

8

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

لا سير وسلوك مع الإنّيّة
بناءً على ما تقدّم، يبدأ السلوك الحقيقيّ عندما يسافر السالك من بيت النفس ويخرج من التعلّق بذاته وإنّيّته. ولهذا، فإنّ السلوك قبل هذه المرحلة لا يُعدّ سلوكًا إلى الله، بل يُطلق عنوان السلوك عليه على نحو المسامحة. فما دام في الإنسان بقايا من التعلّق بنفسه، وكانت دوافعه في السير المعنويّ والمجاهدة النفسيّة هي تحصيل حظوظ النفس، فهو ليس بسالك ولا مجاهد.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وإنّ حجاب رؤية النفس وعبادتها لَأضخم الحجب وأظلمها، وخرق هذا الحجاب أصعب من خرق جميع الحجب التي يُعدّ خرقها مقدّمة له، بل إنّ مفتاح مفاتيح الغيب والشهادة وباب أبواب العروج إلى كمال الروحانيّة هو خرق هذا الحجاب والخروج من هذا المنزل هو أوّل شرط للسّلوك إلى الله، بل هو الميزان في حقّانيّة الرياضة وبطلانها"1.
 
ويقول الإمام قدس سره: "فكلّ سالك يسلك بقَدَم الأنانيّة ورؤية النفس ويطوي منازل السلوك في حجاب الإنّيّة وحبّ النفس تكون رياضته باطلة، ولا يكون سلوكه إلى الله"2.
 
فالسلوك يكون بالتوجّه إلى الكمال الواقعيّ، وما دام السعي إلى النفس فهو سير إلى الوهم، لأنّ النفس لا يمكن أن تكون منشأ الكمال، وهي في عين الفقر.
 
أعظم ثمار التوجّه إلى عزّ الربوبيّة
ليس المانع من وصول الإنسان إلى الربّ وتحقّقه بحقائق القرب إلا نظره لنفسه وتعلّقه بذاته. وعندما يتحرّر السالك من هذين القيدين ويفكّ هذين الغلّين، يتّصل ببحر الكمال المطلق، وتجري في نفسه كلّ معانيه. وهو ما أشار إليه حديث قرب النوافل3 الذي روته فرق المسلمين من السنّة والشيعة.


1- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 22.
2- م. ن. ص 22.
3- النوافل: هي الأعمال المستحبة التي لم يلزم بها الشارع المكلّف بل ترك له الخيار باتيانها مع وعده بالثواب الجزيل عليها.
 
 
 
27
 

 


9

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

فلا ينال مقام قرب الربوبيّة إلا بقَدم العبوديّة. وإذا أراد الله لعبده مقام قربه خلع عليه من خِلع الكرامة، وألبسة الكمال ما يليق بهذا القرب، لأنّ الله تعالى لا يرضى من الكمال إلا كماله.
 
يقول الإمام الخمينيّ قد سره: "فإذا أسقط العبد تصرّفاته، وسلّم مملكة وجوده كلّها إلى الحقّ، وخلّى بين البيت وصاحبه، وفني في عزّ الربوبية، فحينئذٍ يكون المتصرّف في الدار صاحبها، فتصير تدبيراته تدبيرات إلهيّة، فيكون بصره بصراً إلهيًّا، وينظر ببصر الحقّ، ويكون سمعه سمعاً إلهيّاً فيسمع بسمع الحقّ. وبمقدار ما تزداد ربوبيّة النفس ويكون عزّها غاية في نظره، ينقص من عزّ الربوبية، لأنّ هذين متقابلان "الدنيا والآخرة ضرّتان"1"2.
 
العبوديّة المطلقة من أعلى مراتب الكمال
شرف الإنسان أن يتّصل بالله وأن يرتبط به. ولا رابطة بين الخالق والمخلوق سوى رابطة العبوديّة، فهو المالك لنا ونحن عبيده المملوكون. وكلّ رابطة أخرى، إن لم تنبع من حالة العبوديّة، فهي قطيعة وليست رابطة. وفي ظلّ هذا الاتّصال ينال المرء كلّ كمال ويبلغ ما فوق منتهاه، ولا كمال في الحقيقة إلا بعد العبوديّة.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وليُعلم أنّ العبوديّة المطلقة من أعلى مراتب الكمال وأرفع مقامات الإنسانيّة، وليس لأحد فيها نصيب بالأصالة سوى الأكمل من خلق الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولأولياء الله الكمّل بالتبعيّة. وأمّا بقيّة العباد، فهم في طريق العبادة عُرج، وعبادتهم وعبوديّتهم عليلة. ولا يُنال المعراج الحقيقيّ المطلق إلا بقدَم العبوديّة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾3، فقد أسرى الله سبحانه بتلك الذات المقدّسة إلى معراج القرب والوصول بقدَم العبوديّة والجذبة الربوبيّة"4.



1- ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله‏، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمد أبو الفضل إبراهيم، قم‏، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي‏، 1404هـ‏، ط 1‏، ج 19، ص 292.
2- الخميني، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص23.
3- سورة الإسراء، الآية 1.
4- الخمينيّ، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 24.
 
 
28
 

10

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

فكلّما ازداد العبد قربًا وازداد كمالًا، ازداد إحساسه بفقره ولا شيئيّته، لا كما يتصوّر الجاهل بأنّ وصول الإنسان إلى الكمال المطلق يعني استغناءه عن ربّه وصيرورته إلهًا وربًّا! ففي عين الاتّصال ببحر الكمال المطلق، هناك الفقر المطلق وهو العبوديّة المطلقة أيضًا.
 
والإنسان الكامل الذي وصل إلى الكمال المطلق، لا يغفل قلبه عن حالة الشعور بحقيقة فقره وعجزه وجهله. وما يشعر به من كمال فليس إلّا من قوّة شعوره بذاك الاتّصال.
 
وإذا كان السجود قمّة الاعتراف بالذلّ، فإنّه أبرز حالة من أحوال الاتّصال بالله تعالى، لأنّ الساجد هو أقرب ما يكون إلى الله تعالى. وفي ظلّ السجود وبواسطته تُخرق الحجب السبعة، بشرط المعيّة مع الإنسان الكامل والهادي إلى الله تعالى، ولهذا يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وفي التشهّد الصلاتيّ الذي هو رجوع من الفناء المطلق الذي يحصل للمصلّي في السجدة، نجد التوجّه إلى العبوديّة أيضاً قبل التوجّه إلى الرسالة. ويمكن أيضًا أن يكون إشارة إلى أن ّمقام الرسالة هو نتيجة لجوهرة العبوديّة"1.


1- الخمينيّ، روح الله الموسوي، معراج السالكين، ص 24.
 
 
 
29
 
 

11

الدرس الأول: الحياة المعنويّة في ظلّ التوجّهات القلبيّة

المفاهيم الرئيسة
 
1- التوجّه القلبيّ أساس سلوك طريق الله.

2- التوجّه القلبيّ ينبغي أن يكون إلى عزّ الربوبيّة وذلّ العبوديّة.

3- رؤية النّفس وحبّها هما المانع الأكبر في التوجّه القلبيّ.

4- جميع الحجب تنبع من حجاب الإنّيّة والأنانيّة.

5- إذا كان الدّافع تحصيل حظوظ النّفس فلا يكون السّفر إلى الله.

6- العبوديّة مقدّمة للوصول إلى حصن الرّبوبيّة.

7- في ظلّ حِمى الرّبوبيّة يتّصل السالك بالكمال المطلق.

8- كلّما خطى السّالك نحو العبوديّة ارتقى نحو القرب.

9- العبوديّة أعلى صفة تُعطى للأولياء.
 
 
 
 
 
 
30


 
 

12

الدرس الثاني: عبور المراتب والمقامات إلى الغاية

أهداف الدرس
 
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى المراتب الأساسية الأربع التي يقطعها السّالك للوصول إلى الحقيقة.
2- يبيّن علامات هذه المراتب, ومخاطرها, ودورها في سلوك الانسان.
3- يوضّح معنى الاستدراج, ويبيّن كيفيّة الاحتراز من الوقوع فيه.
 
 
 
31
 

13
الآداب المعنوية للصلاة