زاد عاشوراء للمحاضر الحسيني 1439 هـ


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2017-10

النسخة: 0


الكاتب

معهد سيد الشهداء

هو مؤسسة ثقافية متخصصة تعنى بشؤون النهضة الحسينية ونشرها، وإعداد قدرات خطباء المنبر الحسيني وتنميتها، معتمدة على كفاءات علمائية وخبرات فنية وإدارية... المرتكزة على الأسس الصحيحة المستقاة من ينبوع الإسلام المحمدي الأصيل.


المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين عليهم السلام، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وبعد...


ثورة الإمام الحسين عليه السلام نموذج من الثورات الفريدة في تاريخ البشرية، في أهدافها، ومبادئها، ونتائجها، وقادتها، وشهدائها...، ولهذا فقد أرسى دم الإمام الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه في يوم عاشوراء مبادئ مواجهة الظلم والظالمين لكلّ الأمم والأجيال مهما غلت التضحيات، وقلّ العدد والعُدّة والعَتاد، وهذا ما جعل كلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء. وإنّ الإصلاح الذي أعلنه الإمام الحسين عليه السلام واعتبره شعاراً وهدفاً لها وافتداه بدمه الزكيّ، يعني حفظ الدين، واستمرار نهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام، وقد أشار إليه عليه السلام في سياق وصيّته لأخيه محمد بن الحنفيّة، بقوله: "... وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا، أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين"1، فإنّ الإصلاح المقصود هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كلّ جوانب الدين والحياة، وقد تحقّق ذلك من خلال النهضة العظيمة التي قام بها عليه السلام فكانت الهداية لهم دينيّاً ومعنويّاً وإنسانيّاً وأُخرويّاً بشهادته وبركات دمه الطاهر، وتلك النهضة التي عليها تربّت أجيال من الأمّة، فكان الإمام الخمينيّ، وكانت الثورة الإسلاميّة، وكانت المقاومة الإسلاميّة في لبنان على هذا النهج والمبدأ.

ولهذا لا يقتصر إحياؤها على إقامة المراسم، ومجالس الحزن واللطم، أو بعض الأنشطة العامّة، فلا بدّ لتحقّقه من الاعتقاد والالتزام بمجموعة من المبادئ التي تعزّز البنية الإيمانيّة والعقائديّة للإنسان المسلم، وهو ما يتطلّب الاستفادة الصحيحة والكاملة من إحياء عاشوراء، من النواحي الوجدانيّة والمعرفيّة والثقافيّة.

وهذا الكتاب "زاد عاشوراء" خير مساعد للخطيب والمحاضر الحسينيّ، بما يتضمّنه من مضامين لمحاضرات ودروس ومواعظ غنيّة بشواهدها، وغالباً ما تلامس احتياجات الناس، وتراعي المستوى العامّ عندهم، وقد تضمّن عشرين محاضرة ليستفاد منها في تنوّع المحاضرات وعدم الوقوع في التكرار.

والحمد لله ربّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق

السياسات والتوجيهات العامّة للخطاب العاشورائيّ
أولاً: السياسات العامّة:
١- تأكيد أهميّة الجانب المعنويّ الذي يحقّقه الارتباط بالله تعالى والتوكّل عليه، وأهميّة هذا الجانب في استنزال المدد الإلهيّ للنصر على الأعداء ولو قلَّ المؤمنون وكثر أعداؤهم.

٢- ربط الناس بالتّكليف الإلهيّ على قاعدة كونه الموجِّه لموقف الفرد والأمّة.

٣- توجيه الناس نحو العمل للآخرة، لضمان استمرار الحياة بسعادة باقية. وإبراز دور الشهادة في تحقيق ذلك.

٤- غرس روح التضحية في أبناء الأمّة لكون معركة الحقّ ضدّ الباطل، لا بدّ لها من تضحيات، وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الدليل الواضح على ذلك.

٥- الإرشاد إلى دور الولاية في توجيه الأمّة وترشيدها، وإلى أنّ وحدة الوليّ والقائد هي الضمان لوحدة الأمّة وعزِّها.

٦- تأكيد ضرورة وحدة المسلمين صفّاً واحداً أمام أعدائهم.

٧- تحديد طواغيت العصر ويزيديّيه المتمثّلين اليوم في الدرجة الأولى بأمريكا وإسرائيل، والتطرّق إلى الممارسات الإرهابيّة التي يمارسها هؤلاء الطواغيت ضدّ مسلمي العالم ومستضعفيه.

٨- بيان تكليف الأمّة في نصرة المظلومين.

٩- التشديد على ضرورة الثبات في معركة الحقّ ضدّ الباطل، ودورها في تحقيق النصر الإلهيّ.

١٠- إبراز التشابه بين ثورة الإمام الحسين عليه السلام ومعركتنا ضدّ الباطل، سواء على مستوى الأهداف وممارسات الأعداء، أو على مستوى مشاركة الشرائح المتنوّعة في المجتمع لنصرة الحقّ (من شبّان، وشيوخ، ونساء، وأطفال، وطبقات اجتماعيّة متفاوتة).

١١- اللفت إلى ضرورة التكافل الاجتماعيّ في الأمّة بما يؤمِّن القوّة الداخليّة للمجتمع في معركته ضدّ الباطل.

١٢- تقوية علاقة الناس بصاحب العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف وبيان مسؤوليّتهم في التمهيد لظهوره المبارك، واستعدادهم لاستمرار التضحية بين يديه.

ثانياً: التوجيهات العامّة
نقتبس من كلام الإمام الخمينيّ قدس سره بعض التوجيهات المهمّة للمحاضرين والخطباء الحسينيّين، وهي:
١- دعا الإمام الخميني قدس سره إلى تفعيل مجالس الإنشاد للشعر الحسينيّ والاستماع إليها، حيث قال: "فلْتُقم مجالس ذكرى سيّد المظلومين والأحرار بجلال أكثر وحضور أكثر فهي مجالس غلبة قوى العقل على الجهل، والعدل على الظلم، والأمانة على الخيانة، وحكومة الإسلام على حكومة الطاغوت".

٢- واعتبر أنّ البكاء في ثقافة عاشوراء سلاح جاهز على الدوام يمكن رفعه عند الحاجة بوجه الظالمين. والدموع هي لغة القلب، والبكاء هو صرخة عصر المظلوميّة. قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ البكاء على الشهيد إحياء للثورة، وإحياء لمفهوم أنّ فئة قليلة تقف بوجه إمبراطور كبير... إنّهم يخشون هذا البكاء، لأنّ البكاء على المظلوم صرخة بوجه الظالم ولترتفع راياتُ عاشوراء المدمَّاة أكثرَ فأكثر معلنةً حلول يوم انتقام المظلوم من الظالم".

٣- وفي توجيهه المباشر للخطباء الحسينين، قال الإمام الخمينيّ قدس سره:
- إنّ على الخطباء أن يقرأوا المراثي حتّى آخر الخطبة، ولا يختصروها بل ليتحدّثوا كثيراً عن مصائب أهل البيت عليهم السلام.

- ليهتمّ خطباء المنابر، ويسعوا إلى دفع الناس نحو القضايا الإسلاميّة وإعطائهم التوجيهات اللازمة في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة.

- يجب التذكير بالمصائب والمظالم التي يرتكبها الظالمون في كلّ عصر ومصر.

- أوّل شي‏ء يجب أن تهتمّوا به هو رسالة الثورة في المصيبة، وفي المدح وفي الأخلاقيّات والوعظ.

وعن كيفيّة إقامة مراسم العزاء يتحدّث الإمام الخميني قدس سره قائلاً:

باعتقادي أنّ هذه المجالس يجب أن تتميّز بثلاثة أمور:
١- تكريس محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم في القلو؛ لأنّ الارتباط العاطفيّ ارتباط قيِّم ووثيق.

٢- إعطاء صورة واضحة عن أصل قضيّة عاشوراء، وإظهارها للناس من الناحية الثقافيّة والعقائديّة والنفسيّة والاجتماعيّة.

٣- تكريس المعرفة الدينيّة والإيمان الدينيّ. والاعتماد على آية شريفة أو حديث شريف صحيح السند، أو رواية تاريخيّة ذات عبرة، على أيّ منبر صعدتم وأيّ حديث تحدّثتم، بيّنوا للناس يزيد هذا العصر وشمر هذا العصر ومستعمري هذا العصر.

وكذا نجد في بعض كلمات الإمام الخامنئيّ دام ظله الكثير من التوجيهات المتعلّقة بالمضمون الفكريّ للمجالس، حيث يقول:
١- من الخطأ أن يواظب المرء في مجلس العزاء أو في الهيئة المقيمة للعزاء، على أن لا يدخل في مواضيع الإسلام السياسيّ. ولا يعني هذا الكلام أنّه كلّما وقعت حادثة سياسيّة وجب أن نتكلّم فيها في مجالس العزاء.

٢- إنّ فكر الثورة والفكر الإسلاميّ، والخطّ المبارك الذي أرساه الإمام (رضوان الله تعالى عليه) في هذا البلد، وتركه لنا هو ما ينبغي أن يكون حاضرًا في إحياء هذه المراسم.

٣- إنّ أكثر من يليق به القيام بإحياء عزاء سيّد الشهداء، هم هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء المحاربون (المقاتلون).. هؤلاء الشّباب، وعليكم أنتم أن تعرفوا قدر هذا الأمر، وأن تعملوا على توجيهه، اعملوا على التوجيه.

٤- الالتفات إلى أنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت لتأدية واجب عظيم وهو إعادة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ إلى الخطّ الصحيح أو الثورة ضدّ الانحرافات الخطيرة في المجتمع الإسلاميّ، وهذا الواجب يتوجّه إلى كلّ فرد من المسلمين عبر التاريخ، وهو أنّه على كلّ مسلم لزوم الثورة حال رؤية تفشّي الفساد في جذور المجتمع الإسلاميّ .

٥- الالتفات إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام أحيا بثورته خطّ جدّه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ونهجه، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "حسينٌ منِّي وأنا من حسين".

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 


1- المقرّم، السيد عبد الرزاق، مقتل الحسين عليه السلام، منشورات الشريف الرضي، لا.ت، لا.ط، ص١٥٦.

 

 


1

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 الهدف:

التعرّف إلى مفهوم إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام من خلال ثوابت الثورة الحسينيّة، وإقامة مجالس العزاء.

تصدير الموضوع:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام لفضيل: "تجلسون وتتحدّثون؟ قال نعم جعلت فداك، قال عليه السلام: تلك المجالس أُحبّها، - فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا يا فضيل"1.

1- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، مصادقة الإخوان، اشراف: السيد على الخراساني الكاظمي، مكتبة الإمام صاحب الزمان العامة، لا.ت، لا.ط، ص٣٢.
17

  


2

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 ١- مفهوم إحياء الأمر

لا يقتصر مفهوم إحياء الأمر على إقامة المراسم، ومجالس الفرح والحزن، أو بعض الأنشطة العامّة، فلا بدّ لتحقّقه من الاعتقاد والالتزام بمجموعة من المبادئ، تبدأ بمعرفة أهل البيت عليهم السلام والعقيدة الصحيحة بهم عليهم السلام، والإيمان الواعي بنهجهم ومبادئهم، وذلك لأنّ معرفة أهل البيت عليهم السلام وولايتهم والإيمان بهم، وأنّهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطهّرون، وولاة الأمر وخلفاؤه على العباد، والبلاد، أساس البنية الإيمانيّة والعقائديّة للإنسان المسلم، وقد حثّت الروايات على معرفتهم، وحذّرت من عدم معرفتهم، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من منَّ الله عليه بمَعرِفةِ أهلِ بيتي وولايتهم فقد جمع الله له الخيرَ كله"1.

وقال سلمان الفارسيّ: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فلمّا نظر إليّ قال: "يا سلمان، إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً ولا رسولاً إلّا جعل له اثني عشر نقيبا"... قُلتُ: يا رسول الله، بأبي أنتَ وأمي، ما لمن عرف هؤلاء؟ فقال: "يا سَلمانُ، من عرَفَهم حقّ معرفتهم واقتدى بهم، فوالى وليَّهم وتبَرّأ من عدُوّهم فهُو والله مِنّا، يردُ حيثُ نرد، ويسكُن حيثُ نسكن"2.

2- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسسة البعثة، قم، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، ١٤١٧ه، ط١، ص٥٦١.
3- الحسين بن حمدان الخصيبي، الهداية الكبرى، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، ١٤١١ - ١٩٩١م، ط٤، ص٣٧٥.

18

  


3

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 ٢- محرّم شهر الحزن والمصائب

محرّم اسم الشهر الأوّل من السنة الهجريّة، وسمّي هذا الشهر محرّماً لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يُحرّمون الحرب فيه أيّام الجاهليّة، وقد جعل أول يوم منه بداية السنة الهجريّة4 لكنّ بني أميّة لم يحفظوا لهذا الشهر حرمته فأراقوا دم سيّد الشهداء عليه السلام وأهل بيته من بني هاشم، وأصحابه الخلّص، وإلى هذا أشار الإمام الرضا عليه السلام بقوله: "إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون القتال فيه، فاستُحِلّت فيه دماؤنا وهُتِكت فيه حرمتنا، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم يُترَك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمة في أمرنا"1.

قال السيد الحميري:
في حرام من الشهور أحلّت حرمة الله والحرام حـرام2

٣- كيف نحيي الأمر في محرّم؟
يعيد شهر محرّم إلى الأذهان ذكريات واقعة الطفّ، فصار حلوله يخيّم على القلوب بالحزن، ويدفع محبّي الحسين عليه السلام إلى تغطية جدران

1- ابن شهر آشوب، مشير الدين أبو عبد الله محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، ١٣٧٦ه - ١٩٥٦م، لا.ط، ج٣، ص٢٣٨.
2- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق،ج٣، ص٢٣٩.

19

  


4

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 مجالسهم ومحافلهم باللون الأسود منذ يومه الأوّل، وإقامة مجالس العزاء حزناً على مصيبته. فيطغى طابع الحزن والبكاء على جميع البلدان والمدن الشيعيّة، وتذرف الدموع حزناً على شهداء كربلاء.

ولهذا يستعدّ الموالون والمحبّون في أقطار العالم لاستقبال هذا الشهر الحزين بمصيبة الحسين وزينب عليهما السلام، وبقيّة الأهل والأصحاب، انسجاماً مع الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً..."1، ويتجلّى ذلك في العديد من المظاهر مثل:
أ- إقامة المآتم، وإظهار الحزن على الحسين عليه السلام:
تمثّل أيام عاشوراء بالنسبة للشيعة فصلاً من البكاء والعزاء على سيد الشهداء عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وهي بالنسبة لأعداء أهل البيت أيّام فرح وسرور. وقد كان لأهل الشام ولأهل العراق في هذا المجال منهجان مختلفان، وصفهما السيّد الرضي في بعض أشعاره بالقول:
كانت مآتم بالعراق تعدُّها أموية بالشام من أعياده2

وورد عن الإمامِ الرضا عليه السلام: "كان أبي عليه السلام إذا دخلَ شهرُ محرَّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلبُ عليه حتّى تمضي عشرةُ أيامٍ، فإذا كان يومُ العاشر ِكان ذلك اليومُ يومَ مصيبتِه وحزنهِ وبكائهِ"3.

7- الطبرسي، الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، ١٤٠٨ه - ١٩٨٧م، ط١،ج١٠، ص٣١٨.
8- ابن شهر اشوب، المناقب، مصدر سابق، ج٣، ص٢٦٨.
9- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص١٩١.

20

  


5

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 وقد ورد بشأن إقامة المآتم على الحسين العديد من الروايات والإشارات، منها ما أورده العلامة المجلسيّ في البحار: "وأقيمت عليك المآتم في أعلى علّيّين"1، ولما بلغ أمّ سلمة نبأ مقتل الحسين عليه السلام ونظرت إلى التراب الذي عندها في القارورة ووجدته قد تحوّل إلى دم عبيط، جعلت ذلك اليوم يوم مأتم على الحسين عليه السلام2.

ب- تهيئة النفوس للبكاء والتباكي على الحسين عليه السلام:
للبكاء على مصيبة أبي عبد الله ثواب كبير، وقد بكى الملائكة والأنبياء عليهم السلام، والأرض، والسماء، والحيوانات، والصحراء، والبحر على تلك المصيبة، كما ورد في الروايات والأخبار3.

فالبكاء على مصيبة سيّد الشهداء تجديد للبيعة مع عاشوراء وثقافة الشهادة، واستمداد الطاقة الفكريّة والروحيّة من هذه المدرسة. والبكاء يعكس الارتباط القلبيّ بأهل البيت وسيّد الشهداء، وسكب الدموع هو نوع من إقرار العهد وتصديق على ميثاق المودّة مع سيّد الشهداء. وقد حثَّ الأئمة الأطهار على البكاء على مظلوميّة أهل البيت، واعتبروا شهادة الدموع كدليل على صدق المحبّة. عن الإمام الصادق عليه السلام: "من ذُكرنا عنده ففاضت

1- المجلسي، العلامة محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان ـ بيروت، ١٤٠٣هـ ـ ١٩٨٣م، ط٢، ج٩٨، ص٢٤١.
2- المفيد، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، لبنان - بيروت، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، ١٤١٤ه - ١٩٩٣م، ط٢، ج٢، ص١٣٠.
3- ابن قولويه، أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي، كامل الزيارات، تحقيق الشيخ جواد القيومي، قم، مؤسسة نشر الفقاهة، ١٤١٧ه، ط١، ص١٦٥.

21

  


6

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر"1.

وعن الإمام الرضا عليه السلام لريّان بن شبيب في حديث طويل: "يا ابن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابكِ للحسين بن عليّ بن أبي طالب فإنّه ذبح كما ذبح الكبش"2.

وفي حديث آخر: "... فعلى مثل الحسين عليه السلام فليبكِ الباكون. فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام"3.

وقال الإمام الحسين عليه السلام: "أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلّا استعبر"4.

والبكاء في ثقافة عاشوراء سلاح جاهز على الدوام، يمكن رفعه عند الحاجة بوجه الظالمين. الدموع هي لغة القلب، والبكاء هو صرخة عصر المظلوميّة. ورسالة الدموع تنطوي أيضاً على حراسة دم الشهيد. قال الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ البكاء على الشهيد إحياء للثورة، وإحياء لمفهوم أنّ فئة قليلة تقف بوجه إمبراطور كبير... إنّهم يخشون هذا البكاء، لأنّ البكاء على المظلوم صرخة بوجه الظالم، ولترتفع راياتُ عاشوراء المدمَّاة أكثرَ فأكثر معلنةً حلول يوم انتقام المظلوم من الظالم"5.

13- ابن قولويه، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص٢٠٧.
14- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص١٩٢.
15- ابن شهر اشوب، المناقب، مصدر سابق، ج٣، ص٢٣٩.
16- ابن قولويه، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص٢٠٧.
17- الإمام الخميني، صحيفة النور، ج١٠، ص٣١.

22


7

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 ج- تعزية المؤمنين:

عن الإمام أبي جعفرٍ عليه السلام: "...... ثمّ ليندبِ الحسين ويبكِهِ"، وكان يأمرُ مَنْ في دارِهِ ممّن لا يتقيه بالبكاءِ عليه...، ولْيُعَزِّ بعضُهم بعضاً بمصابِهِم بالحسينِ عليه السلام، قلتُ: وكيفَ يُعزّي بعضُنا بعضاً؟ قال: تقول: "عظَّمَ الله أجورَنا بمصابِنا بالحسينِ عليه السلام، وجعلنا منالطالبين بثأرِه مع وليِّه الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف من آلِ محمد"1.

وتعزيةُ المؤمنين بعضُهم بعضاً بمصابِ الإمام الحسين عليه السلام فيها صورةٌ من صورِ التبليغِ عن رسالةِ شهرِ محرَّم الذي عبّر عنه الإمامُ الخمينيّ قدس سره بأنّه: "شهرُ انتصارِ الدمِ على السيفِ، شهرٌ تمّكن فيه الحقُّ من دحضِ الباطلِ ودمغِ جبهةِ الظالمين والحكوماتِ الشيطانيّة بختمِ البُطلان. شهرٌ علَّم الأجيالَ ـ على مرِّ التاريخ ـ طريقَ الانتصار على الرماحِ، شهرٌ سُجّلتْ فيه هزيمةُ القوى الكبرى أمامَ كلمة الحقّ. شهرٌ علَّمنا فيه إمامُ المسلمين طريقَ مواجهةِ الظالمين على مدى التاريخ".

د- الاستعداد للّطم وإنشاد الشعرِ الحسينيّ واستماعِهِ:
عنِ الإمام الصادق عليه السلام "من أنشدَ في الحسين عليه السلام بيتاً من الشعرِ فبكى وأبكى عشرة فلهُ ولهم الجنّة"3. وجرت العادة أن يكون

1- الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، لبنان - بيروت، مؤسسة فقه الشيعة، ١٤١١ه - ١٩٩١م، ط١، ص٧٧٢.
2- صحيفة الإمام، ج٥، ص٥٠.
3- ابن قولويه، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص٢٠٨.

23


8

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 إنشاد الشعر الحسينيّ واستماعه في مجالس عاشوراء التي دعا الإمام الخمينيّ قدس سره إلى تفعيلها بقوله: "إنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يصرّون على عقد الاجتماعات والمجالس الحسينيّة ويؤكّدون ذلك، والبكاء على ظلامة الحسين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام، لأنّ ذلك يحفظ كيان المذهب الشيعيّ. ولا تظنّوا أنّنا نحوّل هذه المواكب الحسينيّة التي تنطلق يوم عاشوراء، وتجوب الشوارع والأزقّة لا تظنّوا أنّنانريد أن نحوّلها إلى مسيرات، إنّها في الحقيقة، مسيرات تحمل بعداً سياسيّاً. لذلك يجب الاهتمام بها أكثر من السابق، فسرّ انتصارنا إنّما هو هذه المواكب الحسينيّة، وهذا البكاء واللطم والعزاء. فيجب أن تقام مجالس العزاء في جميع أنحاء البلاد، وعلينا جميعاً أن نعزّي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن نبكي على ظلامة أهل بيته عليهم السلام ولا سيّما الحسين سيّد الشهداء عليه السلام"1.

٤- إحياء الأمر في مدرسة الحسين عليه السلام
لا يمكن أن يتحقّق إحياء أمر قضية أبي عبد الله عليه السلام إلّا بإحياء ثوابت ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وبثّ الروح الحسينيّة في الأمّة على امتداد الزمان والمكان، فكلّ يوم عاشوراء وكلّ أرض كربلاء، ومن هذه الثوابت:
أ- الشهادة سعادة وحياة: قال عليه السلام: "لا أرى الموت إلاّ سعادةً والحياة مع الظالمين إلاّ برماً"2.

1- صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج١١، ص٩٠.
2- ابن طاووس، السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى الحسني الحسيني، اللهوف في قتلى الطفوف،أنوار الهدى إيران ـ قم، ١٤١٧هـ، ط١، ص٤٨.

24


9

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 بهذه الصورة الرائعة سنّ الإمام الحسين عليه السلام سنّة الإباء لكلّ من يدين بقيم السماء وينتمي إليها ويدافع عنها بمواجهة الظلم والظالمين.

 

ب- عدم الركون للظلم والظالمين: قال المؤرّخون: إنّ يزيد كتب فور موت أبيه إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وكان والياً على المدينة من قِبَل معاوية ـ أن يأخذ على الحسين بالبيعة له ولا يرخّص له في التأخّر عن ذلك.

فأجابه الإمام الحسين عليه السلام بصراحة قائلاً: "إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة"1.

ج- العزّة أوّلاً: قال عليه السلام: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حميّة ونفوس أبيّة لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام..."2.

1- السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص١٧.
2- الشيخ الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج، تعليق وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان، النجف الأشرف، دار النعمان للطباعة والنشر، ١٣٨٦ه - ١٩٦٦م، لا.ط، ج٢، ص٢٤.
25

 


10

المحاضرة الأولى: إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام آداب محرّم

 د- الإصلاح منهجنا: إنّ الإصلاح الذي أعلنه الإمام الحسين عليه السلام في سياق وصيّته لأخيه محمد بن الحنفية يعني الثورة الدائمة على الفساد والانحراف أينما كان، قال عليه السلام: ".. وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين"1.

1- أحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح، علي شيري ماجستر في التاريخ الإسلامي-، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، ١٤١١، ط١، ج٥، ص٢١.
26

  


11

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 الهدف:

إيضاح نظرة الإسلام إلى الظلم، وموقفه من الظالمين، ومظاهر الظلم في الحياة العامّة والاجتماعيّة.

تصدير الموضوع:
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلّا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلّا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلّا خذله الله في الدنيا والآخرة"1.

1- الحرّ العاملي، الشيخ محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، ١٤١٤ه، ط٢، ج١٢، ص٢٩٢.
27


12

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 تمهيد

الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء: وضع الشيء في غير موضعه المختّصّ به، إمّا بنقصان أو بزيادة، وإمّا بعدول عن وقته أو مكانه.. والظلم يقال في مجاوزة الحقّ الذي يجري مجرى نقطة في الدائرة ويقال فيما يكثر وفيما يقلّ من التجاوز1.

١- قبح الظلم عند البشر
تشهد دراسة التاريخ البشريّ بأنّ الإنسان مهما كان دينه ومسلكه وانتماؤه، وأينما حلّ في بقاع الأرض، يُدرك بنفسه قُبح الظلم وحُسن العدل، كما يُدرك بنفسه حسن الوفاء بالعهد وقبح نقضه، وحُسن معونةِ المظلومين ونصرتهم، وقُبح إعانه الظالمين ونصرتهم.

ولهذا فإنّ الخروج على هذه القاعدة من قبل المتكبّرين في الماضي والحاضر، وظلم الشعوب وسلب مقدّراتها وعدم إعطائها ما تستحقّه هو من أجلى مصاديق الظلم والتكبّر والتعالي، بخاصّة أن أساس الظلم نابع إمّا من جهل الفاعل بقبح الظلم، أو كونه سفيهاً غير حكيم فهو يمارس الظلم مع علمه بقبحه وبرغم قدرته على القيام بالعدل، أو من احتياجه للظلم لحفظ مصالحه ومشاريعه وإن كان على حساب حقّ الناس وكرامتهم.

1- الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، طليعة النور، لا.م، ١٤٢٧ه، ط٢، ص٥٣٧.
28

  


13

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 ٢- وجوب نصرة المظلوم في الإسلام

جاء الإسلام والناس متفرّقون شيعًا وأحزابًا وقبائل، فجمع الله به الناس، وألَّف به بين قلوبهم: قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾3.

وقد ربَّى الإسلام أبناءه على استشعار أنّهم أفراد في مجموعة وأنّهم أجزاء من هذه الجماعة الكبيرة، فالمسلم بشعوره أنّه جزء من الجماعة يحبّ للأجزاء الأخرى مثل ما يحبّ لنفسه. فإنّ انتماء المسلم للجماعة يترتّب عليه حقوق وواجبات، ومن أعظمها واجب التناصر بين المسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله عزّ وجلّ: "وعزّتي وجلالي لأنتقمّنّ من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمّنّ ممّن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم ينصره"2. وقد أوصى الإمام علي عليه السلام ولديه الحسن والحسين عليه السلام بقوله: "وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عَوْناً"3.

ودعا الإمام الصادق عليه السلام إلى الالتصاق والاندكاك بجماعة المسلمين فقال: "من فارق جماعة المسلمين قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"4 .

1- سورة آل عمران، الآية ١٠٣.
2- الشيخ محمد الريشهري، ميزان الحكمة، تحقيق ونشر دار الحديث، لا.م، لا.ت، ط١، ج٢، ص١٧٧٤.
3- الرضي، السيد أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام-، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، ١٣٨٧ه - ١٩٦٧م، ط١، ص٤٢١.
4- الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، ١٣٦٣ش، ط٥، ج١، ص٤٠٥.

29

  


14

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 ٣- مظاهر الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 

جعل الإسلام كلّ مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعيّة، يمارس دوره الاجتماعيّ من موقعه، ولتنظيم الحياة الاجتماعيّة شرّع العديد من التشريعات التي تحفظ حقوق الفرد والمجتمع في آن واحد، وبمراعاتها تتحقّق السعادة لجميع الناس، والخروج على هذا النظام الاجتماعيّ يعني ظلم الآخرين وإيقاع الظلم عليهم، ونحن لتتضّح الصورة أكثر، سنطرح مصاديق الظلم الاجتماعيّ بملاحظة التشريعات الاجتماعيّة.

أ- حرمة الظلم: إنّ حرمة ظلم النفس أو الآخرين من الواضحات في الدين الإسلاميّ، بل من واجبات كلّ مسلم تجاه أخيه المسلم تقديم العون له متى احتاج إليه، ودفع الظلم عنه إن كان مظلومًا، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشحذ همم المسلمين ويحثّهم على نصرة المظلوم مبيّنًا أنّ الجزاء سيكون من جنس العمل: "ما من امرئ يخذل ٱمرأ مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه عرضه إلّا خذله الله عزّ وجلّ في موطن يحب فيه نصرته وما من ٱمرئ ينصر ٱمرأ مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلّا نصره الله في موطن يحبّ فيه نصرته"1.

ب- النهي عن كلّ ما يفسد الأواصر الاجتماعيّة: نهى القرآن الكريم عن الاعتداء على الآخرين، بالظلم أو القتل أو غصب الأموال والممتلكات والاعتداء على الأعراض: ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾2.

 

1- أحمد بن حنبل، المسند مسند أحمد -، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج٤، ص٣٠.
2- سورة المائدة، الآية ٨٧.

 

30

  

 


15

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 وحصر التعاون بالبرّ ونهى عن الإثم والعدوان، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾1.

ج- النهي عن السخرية واللمز: قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾2.

 

د- النهي عن هتك حرمات البيوت: وحرّم دخول بيوت الآخرين دون إذن منهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾3.


هـ حرّمة الظنّ الآثم والتجسّس على الناس: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾4.

 

و- حرمة إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلاميّ: قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾5.


1- سورة المائدة، الآية ٢.
2- سورة الحجرات، الآية ١١ .
3- سورة النور، الآية ٢٧.
4- سورة الحجرات، الآية ١٢ .
5- سورة النور، الآية ١٩.
 

31


16

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

وهكذا يوفِّر القرآن في هذه اللائحة الطويلة والعريضة، ما يضمن توفير الحصانة للمجتمع البشريّ، وهو يضع النظام الدقيق والشامل، من أحكام، وقيم أخلاقية، ليكون الأمان والتآلف والتعايش والتكافل معالم أصيلة في الحياة الاجتماعيّة.

٤- الظلم في الحياة الاجتماعيّة بين الأسر والأرحام
أكثر ما يتجلّى الظلم الاجتماعيّ في هذه الدائرة في ظلم الأزواج لزوجاتهم، وفي ظلم الأبناء لأبويهم، وفي ظلم الأرحام بعضهم لبعض.

أ- ظلم الأزواج لزوجاتهم: ويكون بالإيذاء بالكلام الجارح والإهانة والضرب المُبرّح، ومنع النفقة الواجبة، وعدم إعطائها لحقوقها الواجبة في الإسلام. ومن الواضح أنه يجب على الزوج مراعاة زوجته بمعاشرتها بالمعروف قال الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾1. ومن مصاديق العشرة بالمعروف حسن الصحبة، قال الإمام عليُّ بن أبي طالب عليه السلام في وصيّته لمحمد بن الحنفية: "إنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارها على كلِّحال، وأحسن الصحبة لها، ليصفو عيشك"2.

ومن حقّها أن يتعامل زوجها معها بحسن الخلق، وهو أحد العوامل التي تُعمّق المودّة والرحمة والحبّ داخل الأُسرة، قال الإمام عليّ بن

1- سورة النساء، الآية ١٩.
12- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، لا.ت، ط٢، ج٣، ص٥٥٦.

32

  


17

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 الحسين عليه السلام: "لا غنى بالزوج عن ثلاثة أشياء فيما بينه وبين زوجته، وهي: الموافقة، ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها وهواها، وحسن خُلقه معها واستعماله استمالة قلبها بالهيئة الحسنة في عينها، وتوسعته عليها..."1.

والنهي عن استخدام القسوة مع المرأة، وجعل من حقّ الزوجة عدم ضربها والصياح في وجهها، ففي جوابه عن سؤال خولة بنت الأسود حول حقّ المرأة قال: "حقّك عليه أن يطعمك ممّا يأكل، ويكسوك ممّا يلبس، ولا يلطم ولا يصيح في وجهك"2.

ب. ظلم الوالدين: ويكون بعقّهما بأيّ كيفيّة أو سلوك حتّى بالنظر إليهما بمقت، وقد حدّد القرآن صراحة كيفيّة التعامل معهما في الآيات ٢٣- ٢٤ من سورة الإسراء حيث قال تعالى:
- ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.

- ﴿وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾.

- ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾.

- ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾.

- ﴿وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾.

- ﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾3.

1- الحراني، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، ١٤٠٤ه - ١٣٦٣ش، ط٢، ص٣٢٣.
2- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، منشورات الشريف الرضي، إيران، ١٣٩٢ - ١٩٧٢م، ط٦، ص٢١٨.
3- سورة الإسراء، الآيتان ٢٣ ـ ٢٤.

 

33

  


18

المحاضرة الثانية: الظلم في الحياة الاجتماعيّة

 ج- ظلم الأرحام: ويكون بقطع الصلة معهم أو أكل حقوقهم بغير حقّ، خلافاً لما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الرحم معلّقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافىء، ولكنّ الواصل من الذي إذا انقطعت رحمه وصلها"1.

 

وقال أبو ذرّ الغِفاريّ رضي الله عنه: "أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أصل رحمي وإن أدبَرَت"2.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "صِلُوا أرحامكم وإن قطعوكم"3.

الآثار الايجابيّة لمراعاة حقوق المجتمع
تحدّثت الروايات الكثيرة عن ثواب من راعى حقوق أفراد المجتمع منها:
أ- الدفاع عن الأعراض: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ردّ عن عرض أخيه المسلم وجبت له الجنة البتّة"4.

ب- الإيثار والكرم: وروي عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: "من أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم، ومن كسا مؤمناً كساه الله من الثياب الخضر"5.

 

1- أحمد بن حنبل، المسند مسند أحمد -، مصدر سابق ج٢، ص١٦٤.
2- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، ١٤٠٣ه - ١٣٦٢ش، لا.ط، ص٣٤٥.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ط٢، ج٧٤، ص٩٢.
4- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، ثواب الأعمال، تقديم السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، ١٣٦٨ ش، ط٢، ص١٤٥.
5- المصدر نفسه، ص١٣٦.
 

 

34

  

 


19

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 الهدف:

بيان أهمّيّة التعاطف والمواساة مع أهل الحاجة.

تصدير الموضوع:
شرح هذه الخطبة الشريفة بشكل موجز، ومحاولة استخراج أهمّ المفاهيم التي عرضتها، والإضاءة على بعض الجوانب الهامّة من مضامينها.

روي أنّه صلوات الله عليه لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: "رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته..."1.

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 367.
37

  


20

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 تمهيد

روي أنّه صلوات الله عليه لمّا عزم على الخروج إلى العراق، قام خطيباً فقال: "الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. خُطّ الموت على ولد آدم مَخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً. لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويُوفّينا أجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلاً فينا مهجته، ومُوطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله"1.

شرح الخطبة
١- الموت
"خُطّ الموت على وُلد آدم، مخطّ القلادة على جيد الفتاة"، في هذه الفقرة نقف عند مفهومين أساسيّين:
الأول: حتميّة الموت: فالموت كما تشير الآيات والروايات ويشهد به الإنسان أنّه حقّ، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾2, فقد خطّ على ابن

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 367.
2- سورة آل عمران، الآية 185.

38


21

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 فالقرآن الكريم ذكر الموت والقتل والتوفّي والرجوع والمجيء إليه، ولكنْ أشارت بعض الآيات إلى التعبير عن الانتقال إلى الآخرة بلقاء الله.

وهو معنى عميق في دلالته، حيث يستبطن روحيّة عالية ونظرة عرفانيّة خاصّة ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان الذي يريد الخروج مع الحسين عليه السلام.

إنّه ليس كأيّ موت طبيعيّ تنتهي به هذه الحياة الدنيا، بل هو طلب للقاء خاصّ وحياة خاصّة، ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ﴾1, يأتي بعد علاقة خاصّة مع الله يشتري بها من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة، ثمّ سعي وجهاد ودماء، فلقاء مع المحبوب، يكون المؤمنون فيه ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾2.

وقد عبّر عن سعادته عليه السلام بهذا اللقاء بقوله يوم عاشوراء: فليرغب المؤمن في لقاء ربّه، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برما.
كما تزيّن له صلوات الله عليه عندما لطّخ شيبته المقدّسة قائلاً: "هكذا ألقى الله وألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوب بدمي"، السلام على الشيب الخضيب.

٣- الإعلان عن الشهادة ومكانها
"وخير لي مصرع أنا لاقيه":
المصرع اسم مكان، أي مكان القتل والشهادة، وهو يدلّ على أنّ هذا

1- سورة آل عمران، الآية 169.
2- سورة آل عمران، الآية 170.

40

  


22

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 المكان ممّا اختاره الله تعالى له، ويدلّ على شرف هذه التربة وقداستها.

 

ثمّ بيّن مسألة شهادته وقتله وما يجري عليه في تلك الأرض، "كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات"، والعسلان: جمع عاسل وهو الذئب أو خصوص العاديّ منه، شبّه أعداءه بالذئاب لما فيها من شدّة الغضب وقلّة الترحّم على الفريسة.

"بين النواويس وكربلاء"، النواويس: جمع ناووس، وهو مقبرة النصارى، وقيل: إنها كانت قرية عظيمة حيث الآن مقبرة الحرّ بن يزيد.

"فيملأن مني أكراشاً جوفاً"، الكرش من الحيوان بمنزلة المعدة من الإنسان، والجوف بالضمّ جمع أجوف، أي متّسعة وعميقة. يريد أنّهم يملأون بطونهم على وسعها، كناية عن إمعانهم في قتله وسفك دمه.

"وأجربة سَغْباً"، الأجربة جمع جراب، والسغب بالفتح فالسكون جمع ساغب بمعنى جائع.

وبذلك يكون قد دلّ على موضع قتله وأعلمهم بشهادته.

٤- حتميّة الشهادة
"لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم"، فقد قدّر الله للإمام الشهادة إن هو اختارها وسار في طريقها، فقد قال "فإن الله قد شاء أن يراك قتيلاً"1، "وإن لك في الجنّة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة"2.

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 364.
2- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 217.
 
41

  

 


23

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 ٥- الرضا بالقضاء

"رضا الله رضانا أهل البيت"، وهذه الجملة تحتمل معنيين كلاهما صحيح:
الأول: إنّنا نرضى أهل البيت إذا رضي الله سبحانه.

والثاني: إنّ الله يرضى لرضانا، فلنيل رضاه سبحانه لا بدّ من تحصيل رضانا، فيكون على غرار ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصِدّيقة الزهراء عليها السلام: "إنّ الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك"1.

ومقام الرضا من مقامات المؤمنين حيث علموا بأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء وهو محيط بكلّ شيء ولكنّه لا يفعل إلّا ما هو أصلح لهم، وإن لم يعلموا وجه الحكمة أو المصلحة، لذلك لا يعترضون ولا يسخطون، وقد ورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عزّ وجلّ"2.

وفي بعض الروايات أنّ سورة الفجر هي سورة للحسين عليه السلام، ولعلّه لما فيها من قوله سبحانه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾3, فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "اقرأوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة للحسين بن علي عليهما السلام، من قرأها كان مع الحسين عليه السلام يوم القيامة في درجته من الجنّة، إنّ الله عزيز حكيم"4.

 


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 30، ص 347.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 60.
3- سورة الفجر، الآيتان 27- 28.
4- البحراني، السيد هاشم الحسيني، البرهان في تفسير القرآن، قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسسة البعثة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ج 5، ص 649.

42


24

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 ٦- الصبر على البلاء

 

"نصبر على بلائه"، الصبر يلازم الرضا، فمن رضي بما قضاه الله له لا بدّ من أن يكون صابراً، فعن أبي حمزة الثُماليّ، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: "الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحبّ أو كره، لم يقض الله عزّ وجلّ له فيما أحبّ أو كره إلّا ما هو خير له"1.

والصبر على درجات، ومنه الصبر على البلاء، وهو من شروط الإمامة كما قال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا﴾2, ولذا فهي تتطلّب أعلى درجات الصبر على البلاء والزهد في الدنيا، ففي دعاء الندبة: "اللهمّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنيّة...".

"ويوفّينا أجور الصابرين"، وأقلّ ما ورد فيه قوله سبحانه: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾3, وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾4.

 

 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 60.
2- سورة السجدة، الآية 24.
3- سورة آل عمران، الآية 146.
4- سورة الزمر، الآية 10.

 

 

 

43

 


25

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 "لن تشذّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمته"، اللحمة: قرابة النسب1، فهم لن ينفردوا أو يتفرّقوا أو يبتعدوا عنه، "وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده"، وحظيرة القدس أي الجنّة أو مطلق عالم الآخرة، والحظيرة من الحظر بمعنى المنع، وهي في الأصل: موضع يحاط عليه من قصب ونحوه ليأوي إليه الغنم.

٧- شرط الخروج معه عليه السلام
"من كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله"، وفي هذا المقطع الأخير بيّن الإمام شرطاً هاماً من شرائط الخروج معه، وهو أن يبذل مهجته، والمهجة هي دم القلب، وأن يكون موطناً على لقاء الله نفسه، ما يعني أن يكون قد تخلّى عن أيّ علاقة تربطه بالدنيا، فعليه أن يترك كلّ شيء.

وإذا نظرنا إلى الذين وفقوا للخروج معه ونالوا شرف القتل بين يديه، كانوا يتحلّون بهذه الخصلة، ومن بينهم الحرّ بن يزيد الرياحيّ، وزهير بن القين البجليّ، وغيرهم من الأصحاب:
فنجد قول زهير بن القين مخاطباً له عليه السلام: ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيه مخلّدين، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.

1- الخليل الفراهيدي، أبو عبد الرحمن بن أحمد، العين، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة، إيران - قم، 1409ه، ط2، ج 3، ص 246.

 

44


26

المحاضرة الأولى: خطبة الإمام الحسين عليه السلام في مكة

 وقول هلال بن نافع البجليّ: والله ما كرهنا لقاء ربنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

وبرير بن خضير: والله يا بن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك فتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة1.

وحينما قال لهم: إنّكم تقتلون غداً كلّكم، ولا يفلت منكم رجل، قالوا: الحمد لله الذي شرّفنا بالقتل معك2.

كما أنّنا إذا لاحظنا من حرم من هذه الفوز وهذه السعادة فقد كان قلبه ما زال متعلقاً بالدنيا ولم يقطع تلك الرابطة معها، كعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، وقد صرح للإمام حين دعاه لنصرته بالقول: نفسي لا تسمح بالموت!3.

1- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 44، ص 381.
2- المصدر نفسه، ج 44، ص 397.
3- الشيخ عبد الله الحسن، ليلة عاشوراء في الحديث والأدب، نشر المؤلف، لا.م، 1418ه، ط1، ص177.

 

45

  


27

المحاضرة الثانية: فلسفة تحريم المُسكِرات والمُخدِّرات

 الهدف:

التعرّف إلى فلسفة تحريم الخمر والمخدّرات، وآثارهما السلبيّة.

تصدير الموضوع:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾1.

1- سورة المائدة، الآيتان 90-91.
47

  


28

المحاضرة الثانية: فلسفة تحريم المُسكِرات والمُخدِّرات

 1- ضرورة حرمة الخمر وكلّ مُسكِر

لقد وقف الإسلام موقفا حازماً من الخمر وشربه وبيعه وغرسه وعصره وحمله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ ... رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ...﴾ وعن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم "من شرب الخمر بعد ما حرّمها الله على لساني فليس بأهلٍ أن يُزوَّج إذ خطب، ولا يشفع إذا شفع، ولا يُصدّق إذا حدّث، ولا يُؤتمن على أمانة"1. بل لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخمر وشاربها والعامل فيها، فجاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم في رواية معتبرة: "لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها، وشاريها، وساقيها، وبايعها، وشاربها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه"2. وقد عدّ الفقهاء الخمر من الأعيان النجسة فقالوا: الخمر، وما يلحق بها كلّ مُسكِر مائع بالأصالة من النجاسات، وأمّا الجامد كالحشيشة - وإن غلى وصار مائعاً بالعرض - فهو طاهر لكنّ الجميع حرام بلا إشكال. وحرّموا أيضاً بيع العنب أو التمر ليعمل خمراً.. وكذا تُحرّم ولا تصحّ إجارة المساكن لتباع فيها الخمرة أو تُحرز فيها، أو يعمل فيها شيء من المحرّمات، وكذا تُحرّم ولا تصحّ إجارة السفن أو الدوابّ أو غيرها لحمل الخمر، والأجرة في ذلك محرّمة، بل حرّموا الأكل من مائدة يشرب عليها الخمر أو المُسكِر، بل يُحرّم الجلوس عليها.

ولمّا كان الأصل في حرمة الخمر هو الإسكار، فكلّ الفصائل المُسكِرة

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج6، ص396
2- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4،ص4.

 

48

  


29

المحاضرة الثانية: فلسفة تحريم المُسكِرات والمُخدِّرات

 المحرّمات التي تضمن سلامة المجتمع وحصانته. وهو ما جاء في القرآن الكريم في عدّة آيات، قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾1.

 

وفي آية أخرى قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾2.

وفي مورد أخرى قال الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾3. فالواضح أنّ الله تعالى قد أوضح المفاسد والآثار السلبيّة الناشئة عن الخمر، حتّى اعتبره رجساً من عمل الشيطان، وأمر بالاجتنابه. وجاء في العديد من الروايات الواردة في باب تحريم كلّ مُسكِر غير الخمر، ومنها صحيحة فضيل حيث ذكر فيها "وحرّم الله الخمرة بعينها، وحرّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المُسكِر من كلّ شراب فأجاز الله له ذلك"4 إذن فتحريم الخمر صادر عن الله تعالى، وتحريم بقية المسكرات صدر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم5 وهناك بعض الروايات تصرّح كلّها بأنّ تحريم غير الخمر كان من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

 

1- سورة البقرة، الآية 219.
2- سورة المائدة، الآية 91.
3- سورة المائدة، الآية 90.
4- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 266.
5- الفيض الكاشاني، المولى محمد محسن، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسيني الأصفهاني، مكتبة الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام العامة، إيران - أصفهان، 1406ه، ط1، ج2، ص142.

 

 

 

50

 


30

المحاضرة الثانية: فلسفة تحريم المُسكِرات والمُخدِّرات

 البهيميّة، حيث تؤدّي بالإنسان إلى تحقير النفس فيصبح دنيئاً مهاناً لا يغار على محارمه ولا على عرضه، وتفسد مزاجه ويسوء خلقه.

- سوء المعاملة للأسرة والأقارب فيسود التوتّر والشقاق، وتنتشر الخلافات بين أفرادها.

- امتداد هذا التأثير إلى خارج نطاق الأسرة، حيث الجيران والأصدقاء.

- تفشّي الجرائم الأخلاقيّة والعادات السلبيّة، فمدمن المخدِّرات لا يأبه بالانحراف إلى بؤرة الرذيلة والزنا، ومن صفاته الرئيسة الكذب والكسل والغشّ والإهمال.

5- الحكم الشرعيّ للمخدِّرات
أجمع علماء المسلمين من جميع المذاهب على تحريم المخدِّرات التي تؤدّي إلى الأضرار في دين المرء وعقله وطبعه، فقد حرّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسكر من كلّ شراب كما جاء في العديد من الروايات، وقد نهى الدين الإسلاميّ عن كلّ ما يؤدّي إلى الإضرار بالنفس، أو بالآخرين.

وأفتى فقهاء المسلمين بالحرمة بالاتفاق، وممّا جاء عنهم:
- يُحرّم تعاطي كلّ ما يضرّ بالبدن والعقل حرمة شديدة كالأفيون والحشيش والكوكايين وجميع أنواع المخدِّرات الضارّة والسموم1.

- أورد الفقهاء في رسائلهم العمليّة فتاوى جامعة في حرمة الخمر

1- الجزيري، الغروي، مازح، الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت عليهم السلام، دار الثقلين، لبنان - بيروت، 1419ه - 1998م، ط1، ج2، ص19.

 

52

  


31

المحاضرة الثانية: فلسفة تحريم المُسكِرات والمُخدِّرات

 والمخدِّرات هذه خلاصتها: يُحرّم استعمال المخدِّرات مع ما يترتب عليه من الضرر البليغ، سواء من جهة إدمانها، أو من جهة أخرى، بل الأحوط لزوماً اجتنابها مطلقاً، إلّا في حالات الضرورة الطبيّة ونحوها، فتستعمل بمقدار ما تدعو إليه الضرورة.

6- العلاج: قُوا أنفسكم وأهليكم النار
يخاطب القرآن الكريم جميع المؤمنين، ويرسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والأسرة بشكل عامّ، فهو يقول أولاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾1, وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الاستسلام للشهوات والأهواء، وحفظ العائلة من الانحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كلّ رذيلة ونقص. وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهيّ منذ اللحظات الأولى لبناء العائلة، أي منذ أولى مقدّمات الزواج، ثمّ مع أوّل لحظة لولادة الأولاد، ويراعى ويلاحظ بدقّة حتّى النهاية. فإنّ حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن والمأكل، بل الأهمّ تربية نفوسهم وتغذيتها بالأصول والتعاليم الإسلاميّة وتنشئتها نشأة تربويّة صحيحة.

10- سورة التحريم، الآية 7.

 

53


32

المحاضرة الثانية: فلسفة تحريم المُسكِرات والمُخدِّرات

 والتعبير ب‍ "قُوا" إشارةٌ إلى أنّ ترك الأطفال والزوجات دون أيّة متابعة أو إرشاد سيؤدّي إلى هلاكهم ودخولهم النار شئنا أم أبينا. لذا عليكم أن تقوهم وتُحذّروهم من ذلك "الوقود" وهو المادة القابلة للاشتعال مثل (الحطب) وهو بمعنى المعطي لشرارة النار كالكبريت - مثلاً - فإنّ العرب يطلقون عليه (الزناد). وبناء على هذا فإنّ نار جهنّم ليس كنيران هذا العالم، لأنّها تشتعل من داخل البشر أنفسهم ومن داخل الصخور وليس من صخور الكبريت وحسب التي أشار إليها بعض المفسّرين. فإنّ لفظ الآية مطلقاً يشمل جميع أنواع الصخور1.

1- الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط،ج18، ص454.

 

 
54

  


33

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 الهدف:

التعرّف إلى أثر نداء الإمام الحسين عليه السلام في الثبات والنصرة في عاشوراء.

تصدير الموضوع:
روي عن الإمام الحسين عليه السلام: "فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً"1.

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق،ج2، ص91.
58


34

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 تمهيد

 

إنّ الأُمة التي تجزع من الموت لا تحوج الطغاة والجبابرة إلى جهد كبير لتطويعها، وترويضها، وتعبيدها لإرادتهم وسلطانهم، فتتحوّل حياتها إلى نوع من التبعيّة والانقياد للطاغوت، وبالتدرّج يفقدون الوعي والفطرة ومقوّمات الحياة الكريمة، وهذه صورة من الحياة. والأُمّة التي تمتلك القدرة على تحدّي الموت ولا تجزع منه، وتملك القدرة على تجاوز الموت لا يمكن ترويضها وتذليلها لإرادة الطغاة والجبابرة، ولا يمكن مصادرة إرادتها ومقاومتها.

1- أثر نداء الإمام الحسين عليه السلام في تثبيت الأصحاب
إنّ عاشوراء حدث متميّز من بين الأحداث الكبيرة في التاريخ من ناحية النظرة إلى الموت والاعتقاد به وبما يترتّب عليه، فقد أعلن الإمام الحسين عليه السلام عند مغادرته الحجاز إلى العراق: أنّه سوف يلقى مصرعه في هذه الرحلة كما قال عليه السلام: "وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفَلوات بين النواويس وكربلاء"1. ونعى نفسه إلى الناس، وطلب منهم أن يبذلوا مهجهم في هذا السبيل، ويوطّنوا معه أنفسهم للقاء الله: "من كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا"2.

1- ابن نما الحلي، ذوب النضار، فارس حسون كريم، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، شوال المكرم 1416، ط1، ص30.
2- ابن نما الحلي، مثير الأحزان، المطبعة الحيدرية - النجف الأشرف، 1369 - 1950م، لا.ط، ص29.
59

  

 


35

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 وبدأ خطابه هذا بتقديم صورة زاهية جميلة للموت، تمهيداً لهذه الدعوة، فقال عليه السلام: "خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة"1.

 

وعلى امتداد الطريق إلى كربلاء كان الإمام الحسين عليه السلام يصارح الناس ويصارح أصحابه أنّهم سائرون إلى الموت الذي لا بدّ منه، ولم يكن يشكّ في ذلك لدى أصحاب الحسين عليه السلام، وكانوا على يقين من هذا الأمر، ما بعده يقين.

وكان عذر منَ يتخلّف عن نصرة الحسين عليه السلام - إلى الحسين عليه السلام -: أنّ نفسه لا تطيب بالموت، وإذا كان الجزع من الموت يضعف الإنسان فهو لا محالة يفقده القدرة على اتّخاذ الموقف العمليّ في القضايا الصعبة، وإن كان قلبه مع الحقّ.

وقيمة الإنسان في ساحة المواجهة والصراع ليس في النيّة وعقد القلب فقط، إنّما في الموقف، وقد كان كثير من المسلمين في عصر الإمام الحسين عليه السلام لا يرتضون أعمال يزيد، وبني أميّة عامّة، ويكرهونهم أشدّ الكره ويمقتون حكومة الطلقاء في الشام، ولكنّ الإمام الحسين عليه السلام حوّل هذه الكراهية وهذا الرفض إلى موقف عمليّ، وهذه هي قيمة عمل الإمام الحسين عليه السلام.

فإنّ الموقف هو التجسيد العمليّ للرأي والانتماء، وإخراج الرأي، والانتماء، والولاء، والبراءة من داخل النفس إلى ساحة المواجهة والصراع.

1- ابن نما الحلي، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص29.
59

 


36

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 إذاً، فالرفض والكراهية التي يضمرها الإنسان في نفسه لا يغيّر شيئاً من واقع الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، ولا يحرّك الناس، وإنّما الموقف هو الذي يحرّك الناس، ويحدث التغيير السياسيّ والاجتماعيّ.

2- سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم
وهذا هو المفهوم الذي يطرحه الإمام الحسين عليه السلام على جند ابن زياد في كربلاء يوم عاشوراء: "سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم"1.

إنّ هذا السيف الذي يذكره الإمام هو القوّة والسلطان. والإسلام هو الذي أعطاهم هذا السلطان. لقد كان العرب أُمّة ضعيفة معزولة في الصحراء، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام من عند الله، فأقام منهم قوّة كبيرة على وجه الأرض، لتفتح مشارق الأرض ومغاربها، وتسقط عروش الطغاة والجبابرة، وتحرّر الشعوب المستضعفة، وتطلق عباد الله من عقال الأسر والاستضعاف والعبوديّة، وتوجّههم من عبوديّة الإنسان إلى عبوديّة الواحد القهّار. لقد قلّدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه القوّة في أيمانهم.

وقد كانت هذه القوة الهائلة المعجزة من صنائع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفضل الله تعالى في هذه الأُمّة.

وهذا هو المقصود بهذه الكلمة الدقيقة المعبّرة عن عمق المأساة (سيفاً لنا في أيمانكم)، وكان حريّاً بهم أن يسلّوا هذا السيف في وجه أعداء الله ورسوله وأعداء الناس، فوضع الناس هذا السيف في أهل بيت رسول

1- ابن نما الحلي، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص40.
60

  


37

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 الله وخلفائه، وكان حريّاً بهم أن يوظّفوا هذا السيف لقتال أئمة الظلم والشرك، في حكومة الطلقاء في الشام، فوظّف الناس هذا السيف لقتال أئمة التوحيد، والعدل، وفي نصرة أئمّة الشرك والجور.

وهذا هو التشخيص الدقيق الذي قدّمه الفرزدق عن أهل الكوفة عندما سأله الإمام الحسين عليه السلام عمّا وراءه فقال: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"1، فإنّ أهل الكوفة كانوا في الأغلب علويّين، وقلوب العلويّين كانت مع الحسين، ولكنّ سيوفهم انقلبت عليه عليه السلام، وكثير من الذين خرجوا في جيش ابن زياد لقتال الإمام الحسين، كانوا يحبّون الحسين عليه السلام، وكانوا من الذين كتبوا إليه يطلبون منه أن يأتيهم.

وإذا غابت عن الفرزدق مرحلة التخاذل في نصرة العدو والدفاع عنه فإنّ القرآن يسجّلها بوضوح: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾2.

ومن مصاديق الآية الكريمة أن يحمل الإنسان المؤمن السيف على الله ورسوله وأوليائه، ويقاتلهم في الدفاع عن الطاغوت، فإذا فعل ذلك فإنّ الله تعالى يسلب عنه التصديق والإيمان والوعي والرأي، فيكذّب بآيات الله، وإذا كذّب بآيات الله ورسوله وأوليائه... عاداهم وأبغضهم، فهذا هو التخاذل الكامل في ثلاث مراحل.

6- محمد بن جرير الطبري، دلائل الإمامة، قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، 1413، ط1، ص183.
7- سورة الروم، الآية 10.
 

61

  


38

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 ثبات الأصحاب وتلبية النداء

جمع الإمام الحسين عليه السلام أصحابه قرب المساء. قال علي بن الحسين زينُ العابدين عليه السلام: "فدنوتَ منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي يقول لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء.

... أما بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أَذِنْتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم مني ذمام. هذا الليل قد غشيكم فاتّخِذوه جملاً"1.

فقد أجاز الإمام الحسين عليه السلام أصحابه، وأعطاهم الرخصة بالذهاب ليلة العاشر من المحرّم، كما أنّه طلب منهم أن يأخذوا أهل بيته معهم، فكان جوابهم خير دليلٍ على ثباتهم وولائهم المطلق للإمام عليه السلام، فقد خاطبهم عليه السلام قائلاً: "إنّ هؤلاء يريدونني دونكم، ولو قتلوني لم يُقبِلوا إليكم، فالنجاة النجاة، وأنتم في حلّ، فإنّكم إن أصبحتم معي قُتلتم كلكم". فقالوا: لا نخذلك، ولا نختار العيش بعدك2.

وخير شاهد ودليل على هذه الميزة والصفة، ما حصل ليلة العاشر من

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص91.
2- قطب الدين الراوندي، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الخرائج والجرائح، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بإشراف السيد محمد باقر الموحد الأبطحي، مؤسسة الإمام المهدي، إيران - قم، 1409ه، ط1،ج1، ص254.

62

  


39

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 محرّم، مع حبيب بن مظاهر وباقي الأصحاب أمام مخيّم عقيلة الهاشميين السيدة زينب عليها السلام، حيث نادى حبيب أصحابه، عندما علِم من نافع بن هلال بأنّ السيدة زينب عليها السلام وباقي النساء في حال وجلٍ ورعب: يا أصحاب الحميّة، وليوث الكريهة، هذا نافع بن هلال يخبرني الساعة بكذا وكذا، فأخبروني عن نيّاتكم. فجرَّدوا صوارمهم، ورموا عمائمهم، وقالوا: أما والله يا بن مظاهر، لئن زحف القوم إلينا لنحصدنّ رؤوسهم، ولنلحقهم بأشياخهم، ولنحفظنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عترته وذريته.فقال لهم حبيب: معي معي.

 

فقام يخبط الأرض بهم، وهم يعْدُون خلفه، حتّى وقف بين أطناب الخيم، ونادى: السلام عليكم يا ساداتنا، السلام عليكم يا معشر حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا يغمدوها إلّا في رقاب من يبتغي السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها إلّا في صدور من يفرّق بين ناديكم"1.

1- الإمام الحسين عليه السلام يشهد لأصحابه بالثبات
ويكفي في الدلالة على هذه الميزة ما قاله الإمام الحسين عليه السلام لأخته الحوراء زينب عليها السلام، التي سألته قائلةً: "يا بن أمّي، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخاف أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة"،

1- شرف الدين، السيد عبد الحسين، المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، مراجعة وتحقيق محمود بدري، مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران - قم، 1421ه، ط1، ص233.
63

  

 


40

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 فبكى الحسين عليه السلام، وقال: "أما والله لقد بلوتهم، فما رأيت فيهم إلّا الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استئناس الطفل بلبن أمّه"1.

2- التجسيد العملي للثبات في مواقف الأصحاب
لقد أثبت أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء صدقهم من خلال دمائهم وأرواحهم التي رخصت أمام إمام زمانهم، وتشهد لهم تلك البقعة التي ارتوت من دمائهم:
أ- موقف مسلم بن عوسجة:
قام إليه مسلم بن عوسجة، فقال: "أنخلي عنك، ولَمَّا نُعذِرْ إلى الله سبحانه في أداء حقِّك؟! أَمَا والله حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة. والله، لا نُخْلِيْكَ حتّى يعلمَ الله أنْ قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك. والله، لو علمت أنّي أُقتل ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة! ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا"2.

إنّ عبارة "ولَمَّا نُعذِرْ إلى الله سبحانه في أداء حقِّك" فيها دلالة واضحة على إيمان مسلم بن عوسجة، واعتقاده بالسلسلة الهرميّة للولاية. فهو، بتعبيره

1- السيد شرف الدين، المجالس الفاخرة، مصدر سابق، ص233.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، المصدر السابق، ج2، ص92.

64

  


41

المحاضرة الأولى: تلبية النداء (صناعة الموقف مع الحق)

 هذا، يدلّ على معرفته التامّة بأنّ طاعة الوليّ هي طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ يجسّد هذه المعرفة والوعي بالتسليم المطلق عندما يصوّر فرضيّة قتله وحرقه وأنّه لو فعلوا هذا به سبعين مرّة لمَا فارق الحسين عليه السلام.

ب- موقف زهير بن القين:
قام زهير بن القين البجليّ رحمة الله عليه فقال: "والله، لوددتُ أنّي قُتِلت ثمّ نُشِرت ثمّ قُتِلت، حتّى أقتل هكذا ألفَ مرّة، وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك"1.

ج- موقف القاسم:
القاسم بن الحسن المجتبى بن أمير المؤمنين عليهم السلام، غلام لم يبلغ الحلم، كان على علمٍ بشهادته يوم العاشر من المحرّم، وجوابه لعمّه ليلة العاشر يدلّ على الوعي والإدراك والولاء المطلق، عندما سأله أبو عبد الله عليه السلام عن طعم الموت:
قال له القاسم بن الحسن: وأنا فيمن يقتل؟

فأشفق عليه، فقال له: "يا بنيّ، كيف الموت عندك؟!".

قال: يا عمّ، أحلى من العسل.

فقال: "إي والله، فداك عمّك! إنّك لأحد من يقتل من الرجال معي، بعد أن تبلو ببلاء عظيم، وابني عبد الله"2.

1- الشيخ المفيد، الارشاد، مصدر سابق، ج2، ص92.
2- السيد هاشم البحراني، مدينة المعاجز، تحقيق الشيخ عزة الله المولائي الهمداني، مؤسسة المعارف الإسلامية، إيران - قم، 1413ه، ط1، ج4، ص215.

65


42

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 الهدف:

التعرّف إلى أهمّيّة الالتزام بالأحكام الشرعيّة، وضرورة التفقّه في الدين.

تصدير الموضوع:
روى أبو حمزة الثّماليّ عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "خَطبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي حجّةِ الوَداعِ، فقالَ: يا أيُّهَا النّاسُ، واللهِ ما مِن شيءٍ يُقرِّبُكُمْ مِن الجنَّةِ ويُباعِدُكُمْ مِن النّارِ إلّا وقَد أمرتُكُمْ بِهِ، وما مِن شيءٍ يُقرِّبُكُمْ مِن النّارِ ويُباعِدُكُمْ مِن الجنَّةِ إلّا وقَد نَهيتُكُمْ عَنهُ"1.

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص74.
 
 

67


43

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 تمهيد

إنّ تعاليم ديننا الحنيف وأحكامه الشرعيّة برمّتها، تتمحور حول بيان السُّبل المثلى التي تصقل شخصيّة العبد وتُنمّي قدراته لبلوغ أسمى درجات الكمال الحقيقيّ. فالواجبات والمستحبّات جميعها تأخذ بيده لتحقيق هذا الهدف السامي بلطفٍ من الله تعالى حيث جعلها أُسُساً لبناء شخصيّته وترسيخ دعائم المجتمع، وصيّرها حصناً حصيناً يصدّ هجمات إبليس وجنوده ويكبح جموح النفس ونزواتها.

1- هدف تشريع الأحكام
إنّ الله تعالى خلق العبد بجسمٍ ماديٍّ وروحٍ مقدّسةٍ، وأسكنه الأرض حتّى يتهيّأ لحياته الأبديّة، فزرع في نفسه الرغبة في السَّير نحو العُلا وبلوغ السعادة المنشودة عن طريق التقرّب إليه بالأعمال الحميدة التي هي جسرٌ من عالم المادّة إلى عالم الرُّوح، وهذا هو طريق ذات الشوكة الذي يُكابد فيه السالك ما يُكابد. قال عزّ وجلّ في كتابه المجيد: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾1.

واستناداً إلى التجربة وحُكم العقل، هناك شرطان أساسيّان لا بدّ من تحقّقهما لقطع أيّ طريقٍ وبلوغ نهايته، وهما:
أ- وجود المقتضي، أي توفّر الوسيلة أو الوسائل التي تيسّر سلوكه. وبالتأكيد كلّما كانت هذه الوسيلة أقوى وأصلح وأكثر

1- سورة الانشقاق، الآية 6.
68

  


44

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 انسجاماً مع طبع الإنسان، فإنّ السفر سيكون أسهل وأسرع وأكثر راحةً.

ب- ارتفاع المانع، أي رفع كلّ ما من شأنه عرقلة سلوكه، أو إعاقته ومنعه عنه.

لذا، فما هي الوسائل اللازمة لسلوك الإنسان أهمّ سبيلٍ في حياته على الإطلاق، ابتداءً من عالم المادّة وصولاً إلى عالم الروح والقرب الإلهيّ الذي هو الهدف والمقصود؟ وما هي الموانع التي تعترض هذا الطريق وتحول بين العبد وبين تحقيق هدفه الأسمى؟

إنّ ديننا الإسلاميّ الحنيف دين هداية الإنسان، وجميع تعاليمه وأحكامه تنصبّ في إعانته على تحقيق هذا الهدف. ولهذا، نجد الكثيرين يتساءلون بالكثير من الأسئلة عن كيفيّة الوصول وتحقيق الهداية، فماذا وفّر للإنسان من وسائل تيسّر سفره المضني هذا وتهديه إلى أقرب الطُّرق وأسرعها لبلوغ غايته المنشودة؟ وماذا أعدّ له من حلولٍ لمواجهة قطّاع الطُّرق وإزالة عقبات السَّفر؟ هذه أهمّ الاستفسارات التي يواجهها كلّ إنسان يبحث عن نقطة انطلاقٍ لتهذيب نفسه وبناء مجتمعه ولا يرجو من حياته إلّا أن تكون مقدّمةً للفوز بنعيم الآخرة.

وللإجابة عمّا ذُكر نقول: لا بدّ لنا من الإقرار بأنّ جميع تعاليم الشريعة الإسلاميّة وأحكامها أنعم الله تعالى بها على عباده لتُيسّر له سلوك السَّبيل الصحيح وبلوغ أهدافه المنشودة الذي ينعم فيه بالسعادة الأزليّة. والركن

69


45

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 الأساسيّ الذي يحقّق الثواب، ويضمن الجزاء الأكمل لكلّ عبادةٍ أو عمل هو تحقّق نيّة القربة طلباً لرضى الله تعالى، حيث يجب على العبد أن يستفيد من أحكام الله وتشريعاته لكسب درجات العُلا عند معبوده الأوحد.

2- آثار اتّباع الأحكام الشرعيّة
إذن، السَّبيل الوحيد لبلوغ السعادة الأُخرويّة والخلاص من مستنقع الدّنيا هو الأوامر والنّواهي التي جاءنا بها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم في شريعته السمحاء، حيث بيّنها في الحديث التالي:
روى أبو حمزة الثّمالي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "خَطبَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي حجّةِ الوَداعِ فقالَ: يا أيُّهَا النّاسُ، واللهِ ما مِن شيءٍ يُقرِّبُكُمْ مِن الجنَّةِ ويُباعِدُكُمْ مِن النّارِ إلّا وقَد أمرتُكُمْ بِهِ، وما مِن شيءٍ يُقرِّبُكُمْ مِن النّارِ ويُباعِدُكُمْ مِن الجنَّةِ إلّا وقَد نَهيتُكُمْ عَنهُ"1.

أمّا إبليس وجنوده فيتربّصون بابن آدم الحيَل ويتّبعون شتّى الوسائل لقطع الطريق عليه ومحاصرته، إذ يوسوسون له بارتكاب الذّنب ويحرّضونه على معصية خالقه. والقرآن الكريم بدَوره قد فضح هذه الدّسائس وحذّر الإنسان من الوقوع في مهالك فِتنة هؤلاء الفسقة ومكائدهم. ففي سورة الأعراف أخبرنا الله عزّ وجلّ أنّ إبليس بعد أن طُرد من حضرة القُدس عندما امتنع عن السجود لآدم، توعّد ذريّته قائلاً: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص74.

 

70


46

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾1.

 

والحقيقة أنّ التّكاليف الشرعيّة، ولا سيّما العبادات، لا تقرّب العبد من ربّه وتقوده إلى الكمال وحسب، بل تُفسد مخطّطات إبليس وتُحبط مساعيه الدنيئة وتعين العبد على الغلبة على نفسه وتكبح أطماعها الدنيويّة. فاستعانة المسلم بالواجبات والمستحبّات هي السَّبيل الوحيد لكسر شوكة الشياطين وظفره في صراعه المرير مع ملذّات الدنيا الزائلة في جهاده الأكبر، فقد خاطب تعالى عبادَه المؤمنين قائلاً: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾2.

وطبعاً، فإنّ الاستعانة بالأحكام الشرعيّة لبلوغ درجة الكمال تتطلّب الخضوع لذات الله تعالى وعبادته بخشوعٍ، ولكن للأسف الشديد فإنّ جميع المسلمين لا يمتلكون هذه القدرة، حيث قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾3. وأكّد تعالى شأنه دَور الصّلاة الهامّ في هذا المضمار بقوله: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾4.

 

 

1- سورة الأعراف، الآيتان 16 ـ 17.
2- سورة البقرة، الآيتان 152 ـ 153.
3- سورة البقرة، الآية 45.
4- سورة العنكبوت، الآية 45.

 

 

 

71

  

 


47

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 يقول العلّامة محمّد حسين الطباطبائيّ رحمه الله في تفسير هذه الآية المباركة: "الصَّلاةُ عمَلٌ عِباديٌّ يُورِثُ إقامتُهُ صفةً روحيّةً في الإنسانِ تكونُ رادعةً لهُ عن الفحشاءِ والمنكرِ، فتتنزّهُ النفسُ عن الفحشاءِ والمنكرِ وتتطهّرُ عن قذارةِ الذُّنوبِ والآثامِ. فالمرادُ بهِ التوسُّلُ إلى ملَكَةِ الارتِداعِ الّتي هِي مِن آثارِ طبيعةِ الصّلاةِ بنحوِ الاقتضاءِ، لا أنَّها أثرُ بعضِ أفرادِ طبيعةِ الصّلاةِ، ولا أنّها أثرُ الاشتغالِ بالصّلاةِ ما دامَ مُشتغلاً بِها، ولا أنّ المرادَ هُو التوسُّلُ إلى تلقِّي نَهي الصّلاةِ فَحسبُ من غيرِ نظرٍ إلى الانتهاءِ عن نَهيها كأنّهُ قيل: أقِم الصّلاةَ لتَسمعَ نَهيها، ولا أنّ المرادَ أقِم الصّلاةَ لينهاكَ الذِّكرُ الّذي تشتملُ عليهِ عن الفَحشاءِ والمنكرِ. فالحقُّ فِي الجوابِ أنّ الرّدعَ أثرُ طبيعةِ الصّلاةِ الّتي هِي تَوجُّهٌ خاصٌّ عباديٌّ إلى اللهِ سبحانَهُ، وهو بنحو الاقتضاءِ دونَ الاستيجابِ والعلّيةِ التامّةِ، فربّما تخلفُ عن أثرِها لمقارنةِ بعضِ الموانعِ الّتي تُضعفُ الذِّكرَ وتقرّبهُ من الغفلةِ والانصرافِ عن حاقِّ الذّكرِ، فكُلّما قَويَ الذّكرُ وكملَ الحضورُ والخشوعُ وتمحّضَ الإخلاصُ، زادَ أثرُ الرّدعِ عن الفحشاءِ والمنكرِ وكلّما ضعُفَ، ضعُفَ الأثرُ"1.

 

وكذا إنفاق المال في سبيل الله تعالى مقدّمةٌ لرقيّ الإنسان وبلوغه السعادة المنشودة، لما في ذلك من تنفيسٍ عن المكروبين وقضاءٍ لحوائجهم، وكذلك دَوره التربويّ في المجتمع، فقد قال عزّ وجلّ: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾2.

1- السيد الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران ـ قم، 1417هـ، ط5، ج16، ص135.
2- سورة آل عمران، الآية 92.
 
72

  

 


48

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 أمّا الأحاديث المرويّة عن المعصومين عليهم السلام التي تدور حول الآثار التربويّة للتكاليف والأحكام الشرعيّة وتأثيرها الكبير في الفرد والمجتمع فهي كثيرةٌ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اعمَلْ بِفرائضِ اللهِ، تَكُنْ أَتقَى النّاسِ"1.

عن الإمام عليّ عليه السلام: "الصَّلاةُ حِصنٌ مِن سَطَواتِ الشَّيطانِ"2.

وعن السيّدة فاطمة الزّهراء عليها السلام: "فرَضَ اللهُ الصِّيامَ تثبيتَاً للإخلاصِ"3.

3. استفسارٌ هامّ وجوابٌ
بما أنّ أداء الواجبات والتكاليف الشرعيّة يُهذّب شخصيّة الإنسان ويصونه من ارتكاب المحرّمات، فكيف يرتكب بعض الناس المعاصي والآثام برغم التزامهم بأداء فرائضهم الدينيّة، كالصلاة والصيام والحجّ؟! لماذا لا تحول أعمالهم العباديّة دون انحرافهم؟!

وفي الجواب نقول:
أوّلاً: إنّ الملتزمين بأداء فرائضهم الدينيّة، طبعاً، أقلّ ارتكاباً للمعاصي من غير المتديّنين الذين لا يُعيرون أهميّةً لما كُلّفوا به من واجباتٍ، ولا سيّما أنّهم أقلّ ارتكاباً لكبائر الذّنوب والآثام التي تفتك بالفرد وتزلزل أركان المجتمع. ففي شهر رمضان المبارك على سبيل المثال، فإنّ غالبيّة المسلمين منهمكون في العبادة وأعمال الخير والمعروف،

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص82.
2- علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، دار الحديث، لا.ت، لا.ط، ص66.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص466.

 

73

  


49

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 الأمر الذي يجعل نسبة المعاصي في المجتمع تصل إلى أدنى حدٍّ لها طوال العام، لذا يمكننا القول إنّ العمل بظاهر أحكام الشريعة والتقيّد بأداء الواجبات له أثرٌ نسبيٌّ لا يمكن إنكاره.

يقول الإمام الخميني قدس سره بهذا الصدد: "تابعوا ملفّات الْجُناة والمحكومين في دور القضاء والمحاكم، هل ستجدون ملفّاً لشخصٍ ملتزمٍ بصلاته؟! فكلّ ما ستجدونه هناك لتاركي الصّلاة. الصّلاة دعامة الشعب ... الهدف هو تطبيق الإسلام، وبالإسلام يصلح الإنسان، الصلاة مصنع لبناء الإنسان وتهذيبه، الصلاة المتكاملة تُنقذ الأُمّة من الفحشاء والمنكر. فالّذين يرتادون مراكز الفساد هم تاركو الصّلاة، وأمّا المصلّون في المساجد فهم مستعدّون لتقديم الخدمة لمجتمعهم"1.

ثانياً: إنّ التكاليف الشرعيّة بذاتها تقتضي ابتعاد الإنسان عن ارتكاب الذّنوب، وبإمكانها أن تصونه من الانحراف، ولكنّ بعض الناس لم يلتزموا بروح العبادة وحقيقتها وآدابها الظاهرية والقلبية التي تُزكّي النفس، فتقيّدوا بظاهرها وحسب.

فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا صَلاةَ لِمَن لَم يُطِعْ الصّلاةَ، وطاعةُ الصّلاةِ أنْ تَنهَى عَن الفحشاءِ والمنكرِ"2.

1- الإمام الخميني، صحيفة النور (باللغة الفارسية)، ج12، ص148.
2- الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه.ق - 1995م، ط1، ج8، ص29.

 

74


50

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 ورُوي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "مَن أحبَّ أنْ يعلَمَ أَقُبِلَتْ صلاتُهُ أم لَم تُقبَلْ، فَلْينظُرْ هَل مَنعَتهُ صلاتُهُ عَن الفحشاءِ والمنكرِ، فبِقَدرِ ما مَنَعتهُ قُبِلتْ منهُ"1.

ونظراً لأهميّة الواجبات الدينيّة ودَورها في عروج الإنسان إلى حضرة القُدس، نلاحظ أنّ أوّل خطوةٍ لإبليس عدوّ الإنسان اللّدود هي صدّه عن أدائها. أمّا إذا فشل هذا الملعون في إغواء العبد بتركها، فإنّه يسعى للتقليل من تأثيرها في نفسه ويوسوس له كي يقع في فخّ الرياء والغفلة عن الحقيقة، وبالتالي ستفقد العبادة جانبها التربويّ الذي يعينه على تزكية نفسه. وعندما يفشل عدوّ الله في محاولته الثانية هذه، فإنّه يلجأ إلى شتّى الحيَل والمكائد ليُفسد ما أسلف العبد من أعمالٍ صالحةٍ.

4- أرقى درجات الالتزام (التفقّه في الدين)
التفقّه في الدين من المسائل الأساسيّة والمحاور الحيويّة التي تمثّل جزءاً مهمّاً من حياة الإنسان المسلم وتلازمه منذ أن يلتفت إلى نفسه ويُميّز ما هو؟ وما مصيره؟ وما هي تكاليفه؟ وماذا عليه أن يفعل؟ ولكون هذا المحور أساسيّاً فإنّ البحث يستدعي تسليط الضوء على ما جاء في الشريعة الغرّاء من تأكيد له، وضرورة كون المسلم متفقّهاً في دينه، باحثاً عن تكليفه.

1- الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان، مصدر سابق، ج8، ص29.
75

  


51

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 فقد وردت في القرآن الكريم آيات عديدة أشارت إلى ضرورة التعلّم والتعقّل والتفقّه، لعلّ من أوضحها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾1.

وأفاد جملة من المفسّرين وأهل اللغة - أنّ الآية المباركة تفيد الحثّ والتحضيض وأنّه ينبغي أن يُفعل ذلك.

وأمّا الروايات فهي أوضح دلالة وأشدّ توكيداً على ذلك: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ: "تَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَإِنَّه مَنْ لَمْ يَتَفَقَّه مِنْكُمْ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَعْرَابِيٌّ، إِنَّ اللَّه يَقُولُ فِي كِتَابِه": ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾2.

وفي الحديث يُبيّن لنا الإمام الصادق عليه السلام حقيقة وهي أنّنا علينا أن نتفقّه في الدين وإلاّ فسوف نقع في دائرة الأعراب فنكون من الجاهلين بالدين والغافلين عن أحكامه.

وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة"3.

ومنها ما ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ (الراوي): قَالَ لَه رَجُلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ رَجُلٌ عَرَفَ هَذَا الأَمْرَ لَزِمَ بَيْتَه ولَمْ يَتَعَرَّفْ إلَى أَحَدٍ مِنْ

1- سورة التوبة، الآية 122.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص31.
3- المصدر نفسه، ج1، ص32.

 

76

  


52

المحاضرة الثانية: الالتزام بالأحكام الشَّرعيَّة والتفقّه في الدين

 إِخْوَانِه؟ قَالَ: فَقَالَ: "كَيْفَ يَتَفَقَّه هَذَا فِي دِينِه"1.

وفي هذا التساؤل من الإمام عليه السلام إشارة إلى عدم اكتفاء الإنسان بنفسه، وأنّه لا بدّ له من المتابعة والتفقّه على يد شخصٍ آخر، ولعلّ أهمّ دلالة في الرواية هذه - وهو ما نودّ الإشارة إليه - هو أنّ الإنسان لا يكفيه معرفة أحقيّة اتّباع أهل البيت عليهم السلام، وإنّما لا بدّ له من التفقّه في الدين، وأنّ عليه أن يبحث عمّن لديه معرفة وتفقّه في الدين لكي يأخذ عنه، وهذا أمر مطلوب سواء كان ذلك في الأزمنة المتقدّمة أو المتأخرة.

وهنا لا نغفل عن أن نقول: إنّ ذلك هو الطريق إلى مشاركة الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في كربلاء، فأصحاب الإمام الحسين عليه السلام فئة من الناس التزموا بجميع أحكام الدين، وكان متفقّهين دينهم، ومن أتباع أهل البيت عليهم السلام، وتمسّكوا بنهج الإمام الحسين عليه السلام لأنّه طريق الهداية والصلاح والخير، فلكي نكون من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام علينا أن نتّبع نهجه وفكره وعقيدته وسلوكه.

1- المصدر نفسه، ج1، ص31.
77

  


53

المحاضرة الأولى: أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء

 الهدف:

الإطلالة على دور أولاد الإمام الحسن عليه السلام وجهادهم وتضحياتهم بين يدي الإمام الحسين عليه السلام، والتعرّف إلى من استشهد منهم ومن بقي.

تصدير الموضوع:
ورد في زيارة الناحية المقدّسة: "السلام على القاسم بن الحسن بن عليّ، المضروب هامته، المسلوب لامته..."1.

1- ابن المشهدي، الشيخ أبو عبد الله محمد بن جعفر بن علي المشهدي الحائري، المزار الكبير، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، إيران - قم، نشر القيوم، 1419ه، ط1، ص490.

 

81


54

المحاضرة الأولى: أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء

 2- عائلة الإمام الحسن في عُهدة الإمام الحسين عليه السلام

 

جاء في وصيّة الإمام الحسن عليه السلام لأخيه الإمام الحسين عليه السلام: "..فإنّي أوصيك يا حسين بمن خلّفت من أهلي وولدي وأهل بيتك، أن تصفح عن مسيئهم، وتقبل من محسنهم، وتكون لهم خلفاً ووالداً.."1.

وهذا يعني أنّ هذه العائلة بنسائها وأولادها كانت بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام في عُهدة الإمام الحسين عليه السلام، وعاشت في كنفه وتحت رعايته ووصايته.

3- عدد أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء
تشير المصادر المعتبرة إلى أنّ الحاضرين من أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء، كانوا خمسة أشخاص، ثلاثة منهم استشهدوا وهم: القاسم، وعبد الله الأكبر، وعبد الله الأصغر، وشخصان نجيا من بينهم وهما: عمرو بن الحسن، والحسن بن الحسن المعروف بالحسن المُثنّى.

وقد ورد في زيارة الناحية المقدّسة ذكر هؤلاء الشهداء الثلاثة، ووقع التسليم عليهم، ما يُؤكّد صحة عدد المستشهدين في كربلاء من أولاد الإمام الحسن عليه السلام، كما سيأتي.

2- الطوسي، الشيخ محمد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414ه، ط1، ص 160.
83

 


55

المحاضرة الأولى: أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء

 4- من هم هؤلاء الأولاد؟

أ- عبد الله الأكبر: وهو المكنّى بأبي بكر، كما ذكر ابن عنبة في عمدة الطالب1.

وأمّه أم ولد، وهو زوج السيدة سكينة عليها السلام، استشهد ولم يبنِ بها2.

برز إلى الميدان يوم عاشوراء بين يدي عمّه الإمام الحسين عليه السلام، وكان يرتجز بقوله:
إن تُنكروني فأنا ابن حيدره ضرغام آجام وليث قسوره
على الأعادي مثل ريح صرصره أكيلكم بالسيف كيل السندره

وقاتل حتى قتله عبد الله بن عقبة الغنوي3.

وفي زيارة الناحية المقدّسة: "السلام على أبي بكر بن الحسن الزكيّ الوليّ، المَرميّ بالسهم الرديّ، لعن الله قاتله عبد الله بن عقبة الغنوي"4.

ب- عبد الله الأصغر: وهو من أطفال كربلاء، الذين قتلوا في كربلاء، وكان عمره حوالَى أحد عشر عاماً، ويذكر الرواة أنّه: لمّا أحاط القوم بالحسين عليه السلام، خرج إليهم عبد الله بن الحسن بن عليّ عليهما السلام -

1- ابن عنبة، أحمد بن علي الحسيني، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، تصحيح محمد حسن آل الطالقاني، النجف الأشرف، منشورات المطبعة الحيدرية، 1380ه- 1961م، ط2، ص 68.
2- أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، دار إحياء التراث العربي، لا.ت، لا.ط، ج 16، ص 368.
3- بحر العلوم، السيد محمد تقي بحر العلوم، مقتل الحسين عليه السلام، دار المرتضى، بيروت ـ لبنان، 2006، ط1، هامش ص 378- 379.
4- ابن المشهدي، المزار، مصدر سابق، ص489.

84

  


56

المحاضرة الأولى: أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء

 وهو غلام لم يراهق - من عند النساء يشدّ حتّى وقف إلى جنب الحسين فلحقته زينب بنت علي عليهما السلام لتحبسه، فقال لها الحسين: "أحبسيه يا أختي"، فأبى وامتنع عليها امتناعاً شديداً، وقال: والله لا أفارق عمّي. وأهوى أبجر بن كعب إلى الحسين عليه السلام بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمّي؟! فضربه أبجر بالسيف فاتّقاها الغلام بيده فأطنّها1 إلى الجلدة فإذا يده معلّقة، ونادى الغلام:يا أمتاه! فأخذه الحسين عليه السلام فضمّه إليه وقال: "يا بن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإنّ الله يلحقك بآبائك الصالحين"2.

 

قال في اللهوف: فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمّه الحسين عليه السلام3.

السلام على عبد الله بن الحسن بن عليّ الزكيّ، لعن الله قاتله وراميه حرملة بن كاهل الأسديّ4.

ج- القاسم بن الحسن بن عليّ عليهم السلام، وهو أشهر من أن يعرف، وقصّته معروفة، لكن نكتفي بما ورد في حقّه في زيارة الناحية المقدّسة: "السلام على القاسم بن الحسن بن عليّ، المضروب

 

 

1- فقطعها.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج 2، ص 110.
3- السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص72.
4- ابن المشهدي، المزار، مصدر السابق، ص490.

 

 

 

85

  

 


57

المحاضرة الأولى: أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء

 هامته، المسلوب لامته، حين نادى الحسين عمّه فجلى عليه عمّه كالصقر، وهو يفحص برجله التراب، والحسين يقول: بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك، ثمّ قال: عزَّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك وأنت قتيل جديل فلا ينفعك، هذا والله يوم كثر واتره، وقلّ ناصره، جعلني الله معكما يوم جمعكما، وبوّأني مُبوّأكما، ولعن الله قاتلك عمر بن سعد بن نفيل الأزدي، وأصلاه جحيماً، وأعدّ له عذاباً أليماً"1.

د. عمرو بن الحسن بن عليّ، وكان في كربلاء لكنّ القوم استصغروه فتركوه2، فهو من الناجين الذين كانوا مع الأسارى والأطفال في موكب السبي.

ومن المواقف التي تروى له، ما جرى معه في مجلس يزيد، حيث قالوا: إنّ يزيد كان لا يتغدّى ولا يتعشّى إلّا دعا عليّ بن الحسين إليه، فدعاه ذات يوم ودعا عمرو بن الحسن بن علي وهو غلام صغير، فقال لعمرو بن الحسن: أتقاتل هذا الفتى يعني خالداً ابنه؟ قال: لا، ولكن أعطني سكيناً وأعطه سكيناً، ثمّ أقاتله، فقام يزيد وأخذ خالداً فضمّه إليه ثمّ قال: شنشنة أعرفها من أخزم هل تلد الحيّة إلّا حيّة3.

1- ابن المشهدي، المزار، مصدر سابق، ص 490.
2- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، مراجعة وتصميم وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان ـ بيروت، 1403هـ ـ 1983م، ج 4، ص 359.
3- المصدر نفسه، ج 4، ص 353.

 

86

  


58

المحاضرة الأولى: أولاد الإمام الحسن عليه السلام في كربلاء

 هـ، الحسن بن الحسن بن عليّ، وهو المعروف بالحسن المثنّى، وكان قد جاء إلى عمّه الحسين عليه السلام وسأله أن يزوّجه إحدى ابنتيه، فقال له الحسين: "اختر يا بني أحبّهما إليك"، فاستحيا الحسن ولم يحَرّ جواباً. فقال له الحسين عليه السلام: "فإنّي قد اخترت لك ابنتي فاطمة، فهي أكثرهما شبهاً بأمّي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1

وكان قد قاتل بين يدي عمّه الحسين عليه السلام حتّى ارتُثّ وجرح ووقع صريعاً، فلمّا قُتِل الحسين وأُسِر الباقون من أهله، جاءه أسماء بن خارجة فانتزعه من بين الأسرى وقال: والله لا يوصل إلى ابن خولة أبداً، فقال عمر بن سعد: دعوا لأبي حسان ابن أخته2. وفي نصّ آخر أنّه كان قد أثخن بالجراح، فلمّا أرادوا أخذ الرؤوس وجدوا به رمقاً، فقال أسماء بن خارجة الفزاريّ: دعوه لي، فإنْ وهبه الأمير عبيد الله بن زياد لي وإلّا رأى رأيه فيه. فتركوه له فحمله إلى الكوفة، وحكوا ذلك لعبيد الله بن زياد، فقال: دعوا لأبي حسان بن أخته. وعالجه أسماء حتّى برئ ثمّ لحق بالمدينة3. وقد ذكروا أنّه أصيب بثمانية عشر جراحة وقطعت يده4.

1- الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، ص 122.
2- المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج 2، ص 25.
3- ابن عنبية، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، مصدر سابق، ص 100.
4- المقرم، مقتل الحسين عليه السلام، مصدر سابق، ص275.

 

87

  


59

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 الهدف:

التعرّف إلى أخلاقيّات الحياة الزوجيّة في الإسلام.

تصدير الموضوع:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم غـداً في القيامـة حتّى إنّ السقط ليجيء محبنطئاً على باب الجنـة فيقال له أدخل الجنّة فيقول: لا حتّى يدخل أبواي الجنّة قبلي"1.

1- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج20 ص14. وفيه (إنّ السقط يجيء محبنطياً) بالياء والصحيح بالهمز .

 

89


60

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 تمهيد

"النكاح والتزاوج من السنن الاجتماعيّة التي لم تزل دائرةً في المجتمعات الإنسانيّة أيّ مجتمع كان على تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، وهو في نفسه دليل على كونه سنّة فطريّة. على أنّ أقوى الدليل على ذلك كون الذكر والأنثى مجهّزين بحسب البنية الجسمانيّة بوسائل التناسل والتوالد..."1.

1- أهمّيّة الزواج في الإسلام
يُفهم من الروايات الكثيرة التي تحثّ على الزواج في السنة المطهّرة حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام على إرساء قواعد نظام الزواج وأسسه في الإسلام، وبالإمكان تصنيف هذه الروايات إلى طوائف:
الأولى: الزواج سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
- عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "تزوّجوا فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما كان يقول: من كان يحبّ أن يتّبع سنّتي فليتزوّج فإنّ من سنّتي التزويج واطلبوا الولد فإنّي أكاثر بكم الأمم غداً"2.

الثانية: كمال العبادة في الزواج:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولـه: "من تزوّج أحرز نصف دينه". وفي خبر آخر: "فليتّق الله في النصف الآخر أو الباقي"3. وعن الإمام

1- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج4، ص313.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج100 ص218.
3- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه،مصدر سابق، ج 3 ص 38317.

 

90

  


61

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 الباقر عليه السلام قال: "ركعتان يصلّيهما متزوّج أفضل من سبعين ركعة يصلّيهما أعزب"1.

الثالثة: الزواج يجلب الرزق:
- روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء ظنّه بالله عزّ وجلّ، إنّ الله عـزّ وجلّ يقول ﴿إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾2"3.

- وعن أبي عبد الله عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اتّخذوا الأهل فإنّه أرزق لكم"4.

2- التربية على الصبر في الإسلام
يمثّل الصبر والحلم الدرع المثاليّة لصدّ مشاكل الأسرة والحياة الزوجيّة ومعالجته، فإذا جزع الزوجان عند أوّل مشكلة تطرأ فسيكون الخلاف الأسريّ أمراً لا مفرّ منه. والصبر بوصفه سمة نفسانيّة يستطيع أن يردع الأزمات، وقد اعتبرته النصوص الإسلاميّة جزءاً لا يتجزّأ من الإيمان: "فإنّ الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد.."5. وإنّ الفرد الذي لا يتمتّع برباطة الجأش ليس إلّا عبئاً علي الآخرين فضلاً عن أنّه يُعلّق علامة استفهام كبيرة

1- المصدر نفسه، ج3، ص 384.
2- سورة النور، الآية 32.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 331.
4- المصدر نفسه، ج5، ص329.
5- السيد الرضي، نهج البلاغة، مصدر سابق، الحكمة 82، ص482.

 

91

  


62

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

  علي صدق إيمانه: "فإنّه لا دين لمن لا صبر له"1. وفيما يتعلّق بمسائل الأسرة قد يتطلّب تحقيق الأهداف المنشودة وقتاً طويلاً فإذا لم يتحلّ الأعضاء بالصبر اللازم وأظهروا بالمقابل تسرُّعاً واستعجالاً فسيقعون في الارتباك والتخبُّط وبالتالي يزيدون من صعوبة الموقف وهذا يكون حائلاً كبيراً أمام ما يرومونه2 فيما لو تحلّوا بالصبر سيبلغون مقاصدهم عاجلاً أو آجلاً. ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "لا يُعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان"3، و"استشعروا الصبر فإنّه أدعى إلى النصر"4.

3- الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة
يتجلّى الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة كسلوك عمليّ في الحياة الزوجيّة من خلال الأصل التربويّ الهامّ الذي جاء في القرآن الكريم وهو معاشرة المرأة بالمعروف، ويتجلّى من خلال عدد كبير من المفاهيم الأخلاقيّة والتربية السلوكيّة للزوجين، منها:
أ- العِشرة الحسنة: إنّ الحياة الزوجيّة السليمة هي الحياة التي يعيش فيها الزوجان بتناغم وتفاهم كبيرين، والعنوان الأبرز لهما

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج48، ص92.
2- "من صبر خفّت محنته وهانت مصيبته" و "إذا صبرت للمحنة فللت حدّها" مصطفي درايتي، معجم ألفاظ غرر الحكم، ص577،فاصبر مغموماً أو متّ متأسفا" نهج البلاغة، الخطبة 217 و"إنّ للنكبات غايات لا بدّ أن ينتهي إليها... فإنّ إعمال الحيلة فيها عند إقبالها زائد في مكروهها" المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص95.
3- نهج البلاغة، مصدر سابق، الحكمة 153،ص499.
4- المصدر نفسه، الخطبة 26، ص68.

 

92


63

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 هو: ألّا يسيء أحدهما للآخر، بل يحرصان على أن يكون الإحسان والمعروف هما الأصل الحاكم على سير الحياة الزوجيّة بينهما، قال الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾1. وروي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي"2. بل ورد في الروايات أن مداراة المرأة وحسن صحبتها في التعامل قولاً وفعلاً، يؤدّي إلى صفاء الحياة والعلاقة المتبادلة، وذلك لأنّ التعامل الإيجابيّ من الرجل سيولِّد احتراماً متبادلاً من قبل المرأة تجاهه. جاء في وصية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمحمد بن الحنفية: "إنَّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارِها على كلِّ حال، وأحسن الصحبة لها، فيصفو عيشك"3.

ب- الإكرام والرحمة: من أدنى حقوق الزوجة على زوجها إكرامها، والرفق بها، وإحاطتها بالرحمة، والمؤانسة. عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: "وأمّا حقُّ رعيّتك بملك النكاح، فأن تعلم أنّ الله جعلها سكناً ومستراحاً وأُنساً وواقية، وكذلك كلّ واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه، ويعلم أنّ ذلك نعمة

1- سورة النساء، الآية 19.
2- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص443.
3- المصدر نفسه، ج4، ص393.

 

93


64

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 منه عليه، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها، وإن كان حقّك عليها أغلظ، وطاعتك بها ألزم في ما أحبّت وكرهت ما لم تكن معصية، فإنّ لها حقّ الرحمة، والمؤانسة، وموضع السكونإليها قضاء اللذة التي لا بدّ من قضائها"1.

ج- عدم استخدام القسوة: نهى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عن استخدام القسوة مع المرأة، وجعل من حقّ الزوجة عدم ضربها والصياح في وجهها، ففي جوابه عن سؤال خولة بنت الأسود عن حقّ المرأة، قال: "حقّكِ عليه أن يُطعمك ممّا يأكل، ويكسوك ممّا يلبس، ولا يلطم، ولا يصيح في وجهك"2. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "خير الرجال من أُمّتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحنّون عليهم، ولا يظلمونهم"3.

د- عدم الضرب: ورد عن جابر بن عبد الله الانصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا أخبركم بشرّ رجالكم؟ فقلنا: بلى فقال: إنّ مـن شرّ رجالكم: البهّات، البخيل، الفاحش، الآكل وحده، المانع رفده، الضـارب أهـله..." 4. وعن شهاب بن عبد ربّه قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: ما حقّ المرأة على زوجها؟ قال:

17- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص188.
18- المصدر نفسه، ص218.
19- المصدر نفسه، ص 216-217.
20- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج20، ص 34.

 

94


65

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 "يسدّ جوعتها ويستر عورتها ولا يُقبّح لها وجهاً فإذا فعل ذلك فقد والله أدّى حقّها"1.

هـ إطاعة الزوجة لزوجها: تجب طاعةُ الزوجِ في غير معصية. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من القِسمِ المصلح للمرء المسلم أن يكون له المرأة، إذا نَظَرَ إليها سَرَّتْهُ، وإذا غَابَ عنها حَفِظَتْهُ، وإذا أَمَرَها أَطاعَتْهُ"2.

و- مراعاة إمكانيّات الشريك: على الزوجة أن تراعي إمكانيّات الزوج في النفقة وغيرها، فلا تكلّف الزوج ما لا يطيقه من أمر النفقة، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أيّما امرأة أدخلت على زوجها في أمر النفقة وكلّفته ما لا يطيق، لا يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً إلاّ أن تتوب وترجع وتطلب منه طاقته"3.

ونِعمَ الواعظ في ذلك ما ورد في سيرة الزهراءعليها السلام سيدة نساء العالمين، ففي الخبر عن أبي سعيد الخدريّ، قال: أصبح عليّ بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ساغباً، فقال: "يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه؟ قالت: لا والذي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء أَطعمنا مذ يومين إلّا شيء كنت أؤثرك به على نفسي وعلى ابنيَّ هذين الحسن والحسين، فقال علي عليه السلام: فاطمة: ألا كنت

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 511.
2- المصدر نفسه، ج 5، ص 327.
3- الطبرسي، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص202.

 

95


66

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 أعلمتني فأبغيكم شيئاً؟ فقالت: يا أبا الحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن أكلّفك ما لا تقدرعليه"1.

ز- الصبر على أذى الزوج وغيرته: ينبغي للزوجة أن تصبر على أذى الزوج، فلا تقابل الأذى بالأذى والإساءة بالإساءة، قال الإمام الباقر عليه السلام: "وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته"2.

ح- لا تغضب زوجها: روي عن الرسـول صلى الله عليه وآله وسلم: "ويـل لامرأة أغضبت زوجها، وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها"3. وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ثلاثة لا يرفع لهم عمل: عبد آبق، وامرأة زوجها عليها ساخط..."4. فمن حقّ الزوج على زوجته أن تتجنّب كلّ شيء يؤدّي إلى سخطه وإثارته وغضبه وتنكّد عيشته واستقراره.

4- أصالة علاقة المودّة والمحبّة
ينبغي أن تسود الحياةَ الزوجيّة روح المودّة والمحبَّة والصَّفاء، لأنَّ الحياةَ الخالية من الحبّ لا معنى لها. والمودَّة من وجهة القرآن، هي الحبّ الفعّال لا ذلك الحبّ الذي يطفو على السطح كالزَبَد. فالحبّ المنشود هو الحبّ الذي يضرب بجذوره في الأعماق، والذي يظهر من القلب إلى الحياة بواسطة الأعمال. وإنّ الإسلام يُوجب أن نبرز عواطفنا تجاه من نُحبّهم، وهو أمرّ تتجلّى ضرورته في الحياة الزوجيّة، فالمرأة، كما يؤكِّد

24- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج43، ص59.
25- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 9.
26- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج100، ص146.
27- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 507.

 

96


67

المحاضرة الثانية: الصبر وسعة الصدر في الحياة الزوجيّة

 الحديث الشريف لا تنسى كلمة الحبّ التي ينطقها زوجها أبداً، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قول الرجل للمرأة: إنّي أحبّك لا يذهب من قلبها أبداً"1.

يقول السيد الطباطبائيّ قدس سره في تفسيره الميزان في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾2, "المودّة، كأنّها الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل، فنسبة المودّة إلى الحبّ، كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثُّرٍ نفسانيٍّ عن العظمة والكبرياء (..) ومن أَجَلِّ موارد المودّة والرحمة: المجتمع المنزليّ، فإنّ الزوجين يتلازمان بالمودّة والمحبّة..."3.

ومن آثار علاقة المودّة والرحمة، هدوء الأعصاب وسكن النفس وطمأنينة للروح وراحة للجسد. وهي رابطة تؤدّي إلى تماسك الأسرة وتقوية بنائها واستمرار كيانها الموّحد. والمودّة والرحمة تؤدّيان إلى الاحترام المتبادل والتعاون الواقعيّ في حلّ جميع المشاكل الطارئة على الأسرة. وهي ضرورية للتوازن الانفعاليّ عند الطفل، فإنّ: "اطمئنان الطفل الشخصيّ والأساسيّ يحتاج دائماً إلى تماسك العلاقة بين الوالدين ويحتاج إلى انسجام الاثنين في مواجهة مسؤوليّات الحياة"4.

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 569. الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج20، ص23.
2- سورة الروم، الآية 21.
3- العلامة الطبطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج16، ص166.
4- الدكتور سپوق، مشاكل الآباء في تربية الأبناء، المؤسسة العربية للدراسة والنشر، لا.م، 1980ه، ط3، ص 44.

 

97


68

المحاضرة الأولى: عاشوراء في ضوء فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله

 الهدف:

التعرّف إلى سبب ثورة الإمام الحسين عليه السلام وهدفه، وأصول إحياء عاشوراء في فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله.

تصدير الموضوع:
روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهليّة يحرّمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا وهُتِكت فيه حرمتنا وسُبِي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرِمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمة في أمرنا. لا إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذلّ عزيزنا، بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فلْيبكِ الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام"1.

1- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 190.
101

  


69

المحاضرة الأولى: عاشوراء في ضوء فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله

 الحسين عليه السلام مستعدّاً لذلك، لكي يعود المجتمع كما كان عليه في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام، وإمّا الوصول إلى الشّهادة وهو عليه السلام كان مُستعدًّا لها أيضاً2.

 

2- عاشوراء في ضوء فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله
يركّز الإمام الخامنئيّ دام ظله في العديد من الأمور والثوابت العاشورائيّة التي ينبغي الاهتمام بها، وملاحظتها بشكل دائم، ومنها:

أ- محرّم شهر العاطفة والحزن:
للعاطفة - كما يذكر الإمام الخامنئيّ - دورٌ مميزٌ في واقعة كربلاء وفي استمرارها، أدّى إلى إيجاد برزخٍ بين النهضة الحسينيّة والشيعيّة من جهة وبين النهضات الأخرى من جهة ثانية، فواقعة كربلاء ليست قضية جافّة ومقتصرة على الاستدلال المنطقيّ فحسب، بل قضيّة اتّحد فيها الحبّ والعاطفة والشفقة والبكاء.

إنَّ الجانب العاطفيّ جانب مهمّ، ولهذا أمرنا بالبكاء والتباكي، وتفصيل جوانب الفاجعة، فلقد كانت زينب الكبرى عليها السلام تخطب في الكوفة والشام خطباً منطقيّة، إلّا أنّها في الوقت نفسه تقيم مآتم العزاء، وقد كان الإمام السجاد عليه السلام بتلك القوّة والصلابة ينزل

1- راجع: الإمام الخامنئي، إنسان بعمر 250 سنة، إعداد لجنة التأليف في مركز المعارف للتأليف والتحقيق، دار المعارف الإسلاميّة الثقافية، لبنان - بيروت، 2015م، ط2، ص 202-204. من خطاب لسماحته بمناسبة عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام، بحضور جموع من المصلين، بتاريخ 10 محرم الحرام 1416 ه.
105

  

 


70

المحاضرة الأولى: عاشوراء في ضوء فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله

 كالصاعقة على رؤوس بني أميّة عندما يصعد المنبر، إلّا أنّه كان يعقد مجالس العزاء في الوقت نفسه.

ب- أهميّة إحياء عاشوراء:
لقد تحدّث الإمام الخامنئيّ دام ظله في أكثر من مناسبة شارحاً خصائص عاشوراء وضرورة الاهتمام بإحيائها: قائلاً: "إنّ مراسم عزاء الإمام الحسين عليه السلام وفضل إحياء ذكرى عاشوراء، من أهمّ ما يميّز الشيعة عن سائر إخوتهم المسلمين، فمنذ أن أصبحت ذكرى مصيبة الإمام الحسين عليه السلام سنّة يعمل بها، تفجّرت فيوض ومعنويّات في قلوب محبّي أهل البيت عليهم السلام وأذهانهم، وما زالت تتفجّر إلى يومنا هذا وستبقى كذلك بفعل ذكرى عاشوراء. فإحياء هذه الذكرى هو في الحقيقة عمل ذو فضل عظيم، ومن هنا كانت مسألة البكاء والإبكاء على مصاب الحسين عليه السلام سائدة حتى زمن أئمتنا عليهم السلام، وينبغي أن لا يفكّر أحد بعدم جدوى البكاء، في زمن الفكر والمنطق والاستدلال، فهذا فكر خاطئ، لأنّ لكلّ شيء مكانه، ولكلّ سهمه في بناء شخصية الإنسان، العاطفة من جهة والمنطق والاستدلال من جهة أخرى، أمور كثيرة لا تحلّ إلّا عن طريق العاطفة والمحبّة، ولن يؤثر فيها المنطق والاستدلال1.

ج- الإسهام في حبّ أهل البيت عليهم السلام: ينبغي - كما يذكر الإمام الخامنئيّ دام ظله - أن تسهم هذه المجالس في زيادة حبّ آل

1- من خطاب لسماحته لدى استقباله العلماء والفضلاء وطلبة محافظة كهكيلويه وبوير أحمد في مصلّى مدينة ياسوج بتاريخ 29 ذي الحجة 1414ه.
106

  


71

المحاضرة الأولى: عاشوراء في ضوء فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله

 البيت في قلوب الناس، لأنّ الرابطة العاطفيّة رابطة ذات قيمة عظيمة، عليكم أن تعملوا ما من شأنه أن يزيد من حبّ الناس المشاركين للحسين بن عليّ عليه السلام وآل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومصادر المعرفة الإلهيّة، وإذا ما قمتم في هذه المجالس، لا قدر الله، بما من شأنه عدم تقريب المستمع عاطفيّاً من أهل البيت عليهم السلام، أو قمتم بما من شأنه إبعاده عنهم لا سمح الله، وانزجاره ممّا يسمع، يعني نقلتم الواقعة بشكل يبعد المستمع عاطفياً عن أهل البيت عليهم السلام، عندها ستفقد مجالس العزاء أحد أكبر فائدة قامت من أجلها، بل ستصبح أحياناً مضرّة، عليكم أن تعلموا ما ستفعلونه، أنتم القائمين على المجالس والخطباء فيها، اعرفوا كيف تزيدون من عواطف الناس تجاه الحسين بن علي عليه السلام وأهل بيت النبوة1.

د- إيضاح مبادئ الثورة الحسينيّة: يجب - كما يؤكّد الإمام الخامنئيّ دام ظله - أن تتوضّح مبادئ قيام عاشوراء للناس، فيجب أن لا نأتي إلى مجالس الحسين بن عليّ عليه السلام ونرتقي المنابر ونخطب ويخرج - وهو من أهل الفكر والتأمل وما أكثرهم في مجتمعنا اليوم من شباب وشيوخ ونساء ورجال -، هذا المستمع وهو يتساءل: لم جئتُ إلى هنا وعلام ذرفت الدموع؟ ما القضية؟ لماذا يجب البكاء على الحسين عليه السلام؟

1- من خطاب لسماحته لدى استقباله العلماء والفضلاء وطلبة محافظة كهكيلويه وبوير أحمد في مصلّى مدينة ياسوج بتاريخ 29 ذي الحجة 1414ه.
107

  


72

المحاضرة الأولى: عاشوراء في ضوء فكر الإمام الخامنئيّ دام ظله

 لماذا قدم الحسين إلى كربلاء لتحصل واقعة عاشوراء؟ يجب أن تجيبوا عن هذه الأسئلة قبل أن تتبادر لأحد، يجب أن تتوضّح مبادئ واقعة كربلاء1.

هـ المحافظة على مجالس العزاء التقليديّة: يحرص الإمام الخامنئي دام ظله على المحافظة على مجالس العزاء التقليديّة وإثارة عواطف الناس اتّجاه الحسين عليه السلام وأهل بيت النبوّة عليهم السلام، فيقول: هناك أمور تقرّب الناس من الله ومن الدين، مجالس العزاء التقليديّة هذه تقرّب الناس من الدين، وهذا ما أوصى به الإمام الراحل، إنّ الجلوس في المجالس والاستماع إلى العزاء والبكاء واللطم على الرؤوس والصدور والخروج في مواكب العزاء، كلّ ذلك يثير عواطف الناس تجاه أهل بيت النبوة عليهم السلام وهذا أمر عظيم2.

ويقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ هذه المواكب الحسينيّة التي تتحرّك وتنشط في الأيّام العشرة الأُولى من شهر محرّم في كلّ عام هي كماء المطر الذي يجري على الأرض فيطهّرها وينظّفها ويزيل الأوساخ والأقذار كافّة منها، وهكذا تلك المواكب، فهي تطهّر بيئتنا الاجتماعيّة من كلّ الوساوس والشبهات والتلقينات الفاسدة التي يبثّها الأعداء، وتضفي عليها روحاً جديدة عابقةً بالعشق لله تعالى والإيمان به3.

1- من خطاب لسماحته لدى استقباله العلماء والفضلاء وطلبة محافظة كهكيلويه وبوير أحمد في مصلّى مدينة ياسوج بتاريخ 29 ذي الحجة 1414ه.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
 

108

  


73

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 الهدف:

بيان فضيلة الجهاد ومقام المجاهدين والجرحى في سبيل الله.

تصدير الموضوع:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المجاهدون في سبيل الله قُوّادُ أهل الجنة"1.

1- الطبرسي، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج11، ص18.
109


74

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 تمهيد

عرّف الفقهاء الجهاد بأنّه: "بذل النفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام، وإقامة شعائر الإيمان"1.

وحدّد الإمام الخامنئيّ (دام ظله) معنى الجهاد ومعياريّته، حيث قال: "الجهاد هو كل كفاح من أجل تحقيق هدف سامٍ مقدّس. والملاك في صدق الجهاد هو أن تكون هذه الحركة موجّهة، وتواجه عقبات تنصبّ الهمم على رفعها. فهذا هو الكفاح. والجهاد هو مثل هذا الكفاح الذي إذا كان ذا منحى وهدف إلهي فسيكتسب بذلك طابعاً قدسي"2.

1- فضل الجهاد
عندما نتفحّص آيات القرآن الكريم نجد أنّه قلّما نزلت آيات بشأن فرعٍ من فروع الدين الإسلامي كما هو الحال بشأن الجهاد، نكتفي بذكر نماذج منها، حيث يَعُدُّ الله نفسه مشتري أرواح المؤمنين المجاهدين، وأموالهم، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾3.

1- النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، تحقيق وتعليق الشيخ عباس القوچاني، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1365ش، ط2، ج21، ص3.
2- الجهاد من وجهة نظر الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله. نقلاً عن: WWW.KHAMENEI.IR
3- سورة التوبة، الآية 111.

110

  


75

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 كما أشار تعالى إلى أنّهم أحباؤه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾1.

- وقد وعدهم بأجر عظيم: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾2, واعتبرهم الفائزين في هذا العالم وبشّرهم برحمة منه ورضوان، وجنّات تجري من تحتها الأنهار، وخصّهم بها دون العالمين: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾3.

وأمّا السنّة الشريفة فقد تحدّثت عن فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله بشكل مسهب، ونقتصر في ذلك على بعض النماذج المهمّة والحساسة، فقد روي أنّ أبا ذرّ الغفاري سأل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله. قال: قلتُ: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: من عُقِرَ جواده وأُهريقَ دمُه في سبيل الله"4.

1- سورة الصف، الآية 4.
2- سورة النساء، الآية 74.
3- سورة التوبة، الآيتان 20-21.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج97، ص11.

111

  


76

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 2- الجهاد تكليف شرعيّ

بعد الإذن بالجهاد، أصبح الجهاد واجباً وتكليفاً إلهيّاً على كلّ مؤمن مستطيع ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.

فقوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾، أشارة إلى أنّه حكم وتشريع إلهيّ حتميّ ومقطوع، وهو فرض على كافّة المؤمنين، لكون الخطاب متوجّهاً إليهم جميعاً، إلّا لمن كان معذوراً. وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين، لكون القتال مستلزماً لإفناء النفوس، وتعب الأبدان، وتلف الأموال، وذهاب الأمن والراحة والرفاهيّة، ولاقترانها بأنواع المشقّات والمصائب، وغير ذلك ممّا تستكرهه النفس الإنسانيّة وتجده شاقّاً ومتعباً.

ولسائلٍ أن يسأل، أنّه إذا كان الجهاد أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام الإلهيّة، فكيف أصبح مكروهاً في طبع الإنسان؟! مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة أمور فطريّة وتتوافق مع الفطرة، فالمفروض من الأمور التي تتوافق مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة.

في البداية، يجب أن نعرف أنّ الأمور الفطريّة إنّما تنسجم وتتوافق مع طبع الإنسان فيما لو اقترنت بالمعرفة. فالإنسان، صحيح أنّه يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته، ولكن هذا يتحقّق في الموارد التي يعرف

1- سورة البقرة، الآية 216.
 
 

112

  


77

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 الإنسان فيها مصاديق النفع والضرر. أمّا لو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق، ولم يميّز بين الموارد النافعة والضّارة، فمن الواضح في هذه الحالة أنّ فطرته، وبسبب هذا الاشتباه، سوف تكره الأمر النافع، والعكس صحيح أيضاً.

3- ضرورة الإعداد والاستعداد
إذا كان الجهاد في سبيل الله واجباً، فالإعداد له والاستعداد سيكون بطبيعة الحال أوجب، لأنّ أدنى تقصير فيه سينعكس سلباً على مسار الحرب وأدائها ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾1.

تشير الآية الكريمة إلى أصل مهمّ جدّاً، على المسلمين التمسّك به في كلّ عصر ومصر، وهو لزوم الاستعداد العسكريّ لمواجهة الأعداء، بمعنى أنْ لا ينتظروا هجوم العدوّ حتى يستعدّوا لمواجهته، بل يجب أن يكون لديهم القدرة والاستعداد والقوّة اللازمة لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة، لما لها من تأثير فعّال ومباشر في ردعهم. والقوّة لا تختصّ فقط بالتجهيز الحربيّ والأسلحة الحديثة، بل تتّسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي لها أثر في الانتصار على الأعداء، سواء من الناحية المادّيّة أو الناحية المعنويّة. فإعداد الجند وتهيئة السلاح والأجهزة الحربيّة وبناء معسكرات التدريب ووسائل الدفاع المختلفة، والدعم الماليّ اللازم لها، كلّها أمور

1- سورة الأنفال، الآية 60.
 
 

113

  


78

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 أساسيّة ومطلوبة، ولكن تبقى من دون الاستعداد المعنويّ والإيماني جسداً بلا روح، وبناءً بلا أسس ثابتة. فالإعداد العسكريّ ينبغي أن يوازيه الإعداد المعنويّ والإيماني، وإلّا فإنّ حظوظ الثبات في أرض المعركة سوف تكون ضئيلة، وسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تشهد على هذا الأمر. أمّا الهدف من هذا الإعداد، فليس قتل الناس والاعتداء على حقوق الآخرين، بل إنّ الهدف هو إرهاب العدوّ حتّى يخاف، فلا يفكّر بالاعتداء على المسلمين، لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحقّ، ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادئ الإنسانيّة، ولا يفهمون غير منطق القوّة، فإذا كان المسلمون ضعافاً، فسوف يفرض عليهم الأعداء كلّ ما يريدونه. أمّا إذا كان لديهم القوّة الكافية، فإنّ أعداء الحقّ والإنسانيّة سوف يشعرون بالخوف، ولن يفكّروا بالتجاوز والعدوان.

4- الجهاد الحقّ مقرون بالإمدادات الغيبيّة
جاء في معجم مقاييس اللغة أنّ لفظ "غلب" يدلّ على قوّة وقهر وشدّة... قال الله تعالى: ﴿وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾2,1. وفي لسان العرب لابن منظور: غلب وتغلّب، بمعنى المنعة والاستيلاء والقهر4. والمعنى واضح لغةً واصطلاحًا، وهو واحد فيهما، ولا يحتاج إلى مزيد بيان.

1- سورة الروم، الآية 3.
2- ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ج 4، ص 388، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، 1404، مكتبة الإعلام الإسلامي.
3- ابن منظور، العلامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الإفريقي المصري، لسان العرب، إيران قم، نشر أدب الحوزة، 1405هـ، لا.ط، ج 1، ص 650.
 
114

79

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 جاءت مادة "غلب" في الذكر الحكيم في مواضع كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾1، بمعنى إنّ الضلال حصل بسبب تغلّب الشهوات واللذّات والمغريات، فكانت الغلبة للقوى الغرائزيّة عند الإنسان، فأعقبته الشقاء.

 

﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾2، فالمراد أنّ النصر والهزيمة ليسا خاضعين للقلّة والكثرة، بل الإيمان بالله والتخطيط والأخذ بأسباب القوّة، مضافًا إلى الشعور بالحاجة الدائمة إليه، ما يجعل من القلّة هذه منتصرة على الكثرة الفاقدة لذلك.

﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾3.

﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾4, أي الذين اتّخذوا قرار بناء مسجد عليهم يذكر بالله دائماً ولاستلهام الإعجاز الإلهيّ من خلال قصّتهم.

﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ﴾5, غُلِبَ السحرة وبان زيغهم وألاعيبهم عند ظهور الحقّ الذي جاء على يد النبي موسى عليه السلام، وزهق باطلهم، وصاروا صاغرين أذلّاء.

1- سورة المؤمنون، الآية 106.
2- سورة البقرة، الآية 249.
3- سورة الروم، الآيتان 2 – 3.
4- سورة الكهف، الآية 21.
5- سورة الأعراف، الآية 119.
115

  

 


80

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 وقوله تعالى: ﴿لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾1.

وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾2.

وقوله تعالى: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾3.

وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾4.

وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾5.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "نحن وشيعتنا حزب الله، وحزب الله هم الغالبون"6.

والفلاح يقترن دائماً بالنصر والغلبة عند المؤمنين، حيث ينصرهم الله بتأييده وجنوده، كما سوف نبيّن، إن شاء الله تعالى.

5- مقام المجاهدين
يتمتعُ المجاهدونَ بمنزلة خاصّة في الجنّة، مثلما أشار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنّ لهم باباً من أبواب النعيم يدخلون منه وحدهم، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "للجنّة باب يُقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه، فإذا هو مفتوح، وهم متقلّدون بسيوفهم، والجمع في الموقف، والملائكة ترحّب بهم"7.

1- سورة المجادلة، الآية 21.
2- سورة الشعراء، الآية 44.
3- سورة آل عمران، الآية 160.
4- سورة المائدة، الآية 56.
5- سورة المائدة، الآية 56.
6- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 4، ص 25.
7- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص2.

 

116


81

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 فكما يكون المجاهدون سبّاقين في الدنيا، كذلك يكونون في الدار الآخرة وبيتِ الضيافة الإلهية طلائعَ الداخلين، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المجاهدون في سبيل الله قُوّادُ أهل الجنة"1.

6- مقامُ الجرحى
لقد وقع جرحى الجهاد محلاً للثناء والإجلال في بعضِ الروايات، وذلك بغض النظر عمّا ينالونه كمجاهدين من الوصول إلى مقام الجهاد المعنوي الشامخ، وما يتمتعون به من أجرٍ وثوابٍ.

وإضافة إلى ما ينكشفُ لنا من حقيقة أجر الجرحى في هذه الروايات، يتّضح لنا أيضاً عظمة مقامهم ورفعته، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من جُرِحَ في سبيل الله جاء يوم القيامة ريحه كريح المسك ولونه لون الزعفران، عليه طابع الشهداء، ومن سأل الله الشهادة مخلصاً أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه"2.

- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ جبرائيل أخبرني بأمر قرَّت به عيني وفرح به قلبي. قال: يا محمد، من غزا غزوة في سبيل الله من أمّتك فما أصابته قطرة من السماء أو صداع إلاّ كانت له شهادة يوم القيامة"3.

1- الطبرسي، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج11، ص18.2
2- المتقي الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني - تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409ه - 1989م، لا.ط، ج4، ص 408.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج97، ص8.

 

117

  


82

المحاضرة الثانية: السبيل إلى الله (الجهاد والمجاهدون والجرحى)

 ومن البديهي أنّه إذا كان لوجع الرأس في ساحة الجهاد مثل هذا الأجر، فالإصابة بالجروح أو تقديم عضو من أعضاء البدن هو حتماً أعظم أجراً وأرفع شأناً، يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ جهودكم وأجوركم محفوظة عند الله سبحانه وتعالى، وهي في تزايد إن شاء الله يوماً بعد يوم، لأن أمركم لم ينقضِ بالمرة، وهذا الابتلاء والامتحان محفوف بكم بالتدريج، على خلاف ما مرّ على الشهداء، لأن الشهيد يُصاب بقذيفة أو رصاصة ويحلّق إلى حيث الجنان وينتهي أمره، بيد أنكم في كل يوم وساعة تمرّ تقاسون الألم والمعاناة، مع أنكم راضون محتسبون في هذه المعاناة، والله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبكم من صبر، إلا أنّ لصبركم هذا أجراً مضاعفاً في كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم، ولهذا، فإنّ قولنا أجر الجرحى في تزايد يوماً بعد آخر، قولٌ دقيق. وكل ساعة تمرّ من أعماركم، يتضاعف أجركم فيها بذلك المقدار. وقد ورد في الروايات أن من تصدق بشيء - كدرهم مثلاً أو مال قليل - في سبيل الله، أعاده الله عليه يوم القيامة مثل جبل أحد، وهذا هو حال عملكم، فقد بذلتم عضواً من أعضائكم، وتقبّلتم حرماناً، وهو بالطبع عمل عظيم وهام جداً وله أجر كبير، غير أن هذا الأجر في تصاعد وتزايد مستمر، فكونوا لله شاكرين على ازدياد الأجر"1.

 

1- من كلام الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله في لقائه عدداً من جرحى الحرب المفروضة وعوائلهم، بتاريخ 20ـ 9 2015م.
 
118

  

 


83

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 الهدف:

 

التعرّف إلى أخلاق سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام في لمواجهة والحروب.

تصدير الموضوع:
عن الإمام الحسين عليه السلام: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"1.

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص98.
121

 


84

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 تمهيد

إنّ سيرة الإمام الحسين عليه السلام الأخلاقيّة في الحرب مستنبطة من منظومة الأخلاق الإسلاميّة التي تربّى ونشأ عليها على يد جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبيه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فالإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام تأدّب بآداب النبوّة وحمل روح أخلاق جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في الحرب والسلم.

1- أخلاق الصراع السياسيّ عند الإمام الحسين مع الخصم
في نهضة الحسين ومنذ الوهلة الأولى بعد هلاك معاوية سنة (60/679 م) طالبه والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بمبايعة يزيد، فرفض الإمام عليه السلام هذا العرض، ولكنّ أبا عبد الله الحسين عليه السلام بيّن سبب الرفض، إذ قال: "... ويزيد رجل فاسق، شارب للخمر قاتل للنفس المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"1.

والإمام الحسين عليه السلام في هذا الدرس العمليّ الأخلاقيّ يعلِّم الناس جميعاً أن يكونوا أحراراً، ويرفضوا الذلّ والمهانه، لأنّ الإنسان العزيز، لا يمكن أن يخضع لإنسان وضيعاً، كان ملحداً، فاسقاً، فاجراً إلى غير ذلك من الصفات التي كان يتّصف بها يزيد الأمويّ وقد عبر عن ذلك في قوله: "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد"2.

1- السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص17.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص98.

122

  


85

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 2- أخلاق الإمام الحسين عليه السلام في الحرب

تمهيد خروج الإمام عليه السلام لتلبية نداء الأمّة:
كانت الرسائل المتتالية التي تضمّ بين طيّاتها (الاستغاثة، والنجدة من حكم يزيد مع المواثيق والعهود والبيعة) الواردة إلى الإمام وهو في مكّة تطالبه بأن يقوم بالثورة ويقبل عليهم، وهي تقدّر بالآلاف، وقد ورد في بعضها ما نصّه: - "أمَّا بعد فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فأقدم على جند لك مجنّدة والسلام عليك"1.

وبعد هذه الرسائل لا يوجد أمام الإمام الحسين عليه السلام المسؤول عن الأمّة، إلّا الاستجابة والإقبال عليهم، وهذا التحرّك بحدّ ذاته نابع من القواعد الأخلاقيّة في الإسلام، فقد قال أبو عبد الله عليه السلام في حديثه مع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ: بعد أن حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: "أيّها الناس إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم"2.

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص38.
2- الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج4، ص303.
 

123

  


86

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 أ- عدم البدء بالقتال:

كان شعار الإمام الحسين عليه السلام: "أني أكره أنْ أبدأهم بقتال"1.

والحوادث التي لم يبدأ الإمام فيها القتال في خروجه إلى أرض كربلاء المقدّسة وواقعة الطفّ كثيرة منها: 
- اللقاء مع الحرّ وجيشه في الصحراء: عندما قدم الحرّ بن بن يزيد الرياحيّ بألف فارس قد أنهكهم العطش في حرّ الظهيرة قبل صلاة الظهر بوقت قريب. وما أن التقى الحسين عليه السلام وأصحابه الحرّ بن يزيد التميميّ حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليه السلام، فقال زهير بن القين للإمام: يا بن رسول الله أن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، لكنّ الإمام الحسين عليه السلام رفض2.

وقال عليه السلام لفتيانه: "اِسقوا القوم واروهم من الماء، ورشِّفوا الخيل ترشيفاً"، فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى رووهم، وأقبلوا يملأون القصاع والأتوار والطِّساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه، وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها. ولما حضر وقت الصلاة قال الحسين عليه السلام للحرّ:

6- عمر بن أحمد العقيلي الحلبي (ابن العديم)، بغية الطلب في تاريخ حلب، حققه وقدم له: الدكتور سهيل زكار، مؤسسة البلاغ، لبنان - بيروت، 1408 - 1988 دمشق، لا.ط، ج6، ص2625.
7- الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج4، ص309.

 

124

  


87

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 أتريد أنْ تصلي بأصحابك؟ فقال الحرّ: لا، بل تصلّي ونصلّي بصلاتك1.

وهكذا نلاحظ الفرق في الأخلاق، فالعدوّ يمنع الماء ويخون، والإمام عليه السلام يسقي أعداءه الماء، ويرشف خيلهم، وينصحهم بعد أن أكمل الصلاة وفرغ منها قائلاً عليه السلام: بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبيّ محمّد: "أيّها النّاس إنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان، وإنْ أبَيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم، انصرفتُ عنكم"2.

- في اليوم التاسع من محرّم: في يوم التاسع من محرّم أقبل شمر بن ذي الجوشن على معسكر الإمام الحسين عليه السلام وكان من أخوال أخوة الحسين أبناء أمّ البنين، فنادى: أين بنو أختنا؟ فاستنكروا الردّ عليه، فالتفت إليهم الإمام الحسين عليه السلام، وقال: أجيبوه، وإن كان فاسقاً فأنّه من أخوالكم. فأقبلوا يسألونه حاجته، فقال: أنتم يا بني أختي آمنون. لكنّهم رفضوا أمانه3.

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص79.
2- المصدر نفسه، ج2، ص79.
3- أحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح، تحقيق: علي شيري، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان بيروت، 1411، 
 

125

  


88

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 ويلاحظ في هذه الحادثة تفعيل مسألة أخلاقيّة مهمّة جدّاً هي عدم استغلال هذه المحاورة من أجل البدء بالقتال أو الغدر بالعدوّ وقتله، فالحسين عليه السلام وقبل الحرب كان يعلِّم أصحابه وأنصاره على مبدأ (رفض الغدر بالعدو)، وقد كان بمقدور الإمام عليه السلامأن يمنع أبناء أمّ البنين، أو يوصيهم بقتل شمر أثناء اللقاء والحديث، لكنّه عليه السلامتأبى أخلاقه هذه التصرّفات حتّى في المواقف الصعبة.

 

- في صبيحة العاشر من محرّم عندما أراد مسلم بن عوسجة رمي العدوّ: عندما أقبل معسكر يزيد وجيشه يجولون حول خيام الحسين، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان ألقي فيه.وعندما نادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين أتعجّلت، بالنار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسين عليه السلام: من هذا كأنّه شمر بن ذي الجوشن؟ فقالوا: نعم. فقال له: يا بن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا.

في هذه الحادثة أراد مسلم بن عوسجة وهو من معسكر الإمام الحسين عليه السلام أن يرمي شمراً بسهم، فقال مسلم للإمام: دعني حتّى أرميه فإنّ الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارين، وقد أمكن الله منه. قال له الحسين عليه السلام: لا ترمه، فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال1.

 

1- ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، مصدر سابق، ج6، ص2625.

 

 

126

  

 


89

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 أخلاق الإمام عليه السلام مع أصحابه وأهل بيته في الحرب

 

تبرز الأخلاق الحقيقيّة عند القائد في المواقف الصعبة والحسّاسة، والإمام عليه السلام بسبب سموّ أخلاقه ورفعتها لم يبخل على أهل بيته وأصحابه بالخطاب بل تكرّر الخطاب مرّات عديدة من خروجه المدينة إلى كربلاء قبل مقتله بليلة واحدة حتى صباح العاشر من محرّم.

فعندما سار الإمام من المدينة قال عليه السلام لأصحابه: "ما أراني إلاّ مقتولاً، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني، وأشدّها عليَّ كلب أبقع"1.

وهنا يكشف أبو عبد الله عليه السلامعن المصير المحتوم الذي ينتظره، فيمهِّد لخطابه القادم مع أصحابه، حيث خيّرهم أكثر من مرّة بين اللحاق به أو التخلّي عنه، وكان ذلك قريب المساء، إذ جمع أهل بيته وأصحابه، فخطب قائلاً: "اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، ولَم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً. وقد أخبرني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنّي سأُساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء، وفيها اُستشهد. وقد قرب الموعد. ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإنّي قد أذِنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. وهذا

 

1- ابن قولويه، كامل الزيارات، مصدر سابق، ص157.

 

 

127

  

 


90

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري"1.

 

3- بعض المرافقين لمعسكره عليه السلام في ليلة التاسع
طلب منه عليه السلام بعض الأشخاص أن ينصرفوا فأذن لهم، وكان من بينهم الطُرّماح، حيث قال للإمام: أنا لديّ مِيرة، لأهلي بالغذاء والطعام، فأذن لي حتّى أوصِل لهم مِيرتهم وأعود إليك، فأذن له الإمام عليه السلام، فذهب الطُرّماح ولم يعد إلّا بعد استشهاد الإمام عليه السلام وأصحابه2.

4- أخلاق الإمام عليه السلام مع الجنود في معسكره
أ- أصغر جنديّ في معسكر الإمام الحسين عليه السلام هو عمر بن جناده، فقد كان غلاماً يبلغ من العمر الحادية عشرة، عندما أقبل يطلب الرخصة من أبي عبد الله الحسين عليه السلام لينزل إلى المعركة، التفت إليه الإمام الحسين، وقال: هذا غلام قتل أباه في الحملة الأولى ولعلّ أمّه تكره ذلك، وإذا بالغلام يتقدّم إلى الحسين عليه السلام ودموعه تسيل على خدّيه، والسيف الذي يحمله لعلّه أطول من قامته، فيقول: إنّ أمّي أمرتني3.

 

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص91.
2- الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج4، ص307.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص27.
 

 

128

  

 


91

المحاضرة الأولى: أخلاقيّات الحرب والقتال في كربلاء

 ب- الغلام التركيّ لمّا نظر إليه الإمام الحسين عليه السلام وقال له: أنت في حلّ اِذهب وانجُ بنفسك. فقال الغلام: سيدي يا أبا عبد الله، هذه لحظة السعادة ساعة الفوز كيف أفوّتها على نفسي. وهذا الغلام لم يكن له أقارب ومعارف، بل كان غريباً، وخرج الغلام إلى المعركة، فاستشهد، فأقبل الإمام الحسين عليه السلام نحو الغلام، وميّزه وانحنى عليه ووضع خدّه على خدّه، فقد كان الغلام فيه رمق من الحياة، ففتح عينيه ورأى الحسين واضعاً خدّه على خدّه، فابتسم وطارت نفسه فرحاً وسروراً، وقال: من مثلي وابن رسول الله واضع خدّه على خدّي1.

1- السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، تحقيق وتخريج حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج3، ص303.

 

129

  


92

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 الهدف:

التعرّف إلى مفهوم التسامح وقيمته في الإسلام، وأثره في استقرار المجتمع.

تصدير الموضوع:
قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾1.

1- سورة آل عمران، الآيتان 133 134.

 

131

  


93

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 تمهيد

يعتبر التّسامح أحد المبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة، وما نعنيه هنا هو مبدأ التّسامح الإنساني والأخلاقي، كما أنّ التّسامح في دين الإسلام يعني نسيان الماضي المؤلم بكامل إرادتنا، وهو أيضاً التخلّي عن رغبتنا في إيذاء الآخرين لأيّ سببٍ قد حدث في الماضي، وهو رغبة قويّة في أن نفتح أعيننا لرؤية مزايا النّاس بدلاً من أن نحكم عليهم ونحاكمهم أو ندين أحداً منهم. والتسامح أيضاً أن تفتح قلبك، وأن لا يكون هناك شعور بالغضب ولا لوجود المشاعر السلبية لأيّ شخصٍ أمامك. وبالتسامح تستطيع أن تعلم أنّ جميع البشر يخطئون، ولا بأس بأن يخطئ الإنسان.

1- مفهوم التسامح
التَّسامح في لغة العرب من الفعل سَمَحَ به ويسمح به أي جاد به وكَرُمَ به، وسَمَحَ له أي أعطاه ومنحه، ومن مشتقّاتها أيضًا المسامحة أي المساهلة والمياسرة في الأمر، أمّا التَّسامح في الاصطلاح فهو فعل قُدرةٍ بحيث يستر المرء القادر الفعل القبيح أو الكلام المسيء الذي صدر بحقّه ممّن هو تحت قدرته وسطوته، فيكون الصَّفح والتَّسامح من منطلق القوة والاقتدار على المسيء المُذنِب. وفي عُرف النَّاس هو الصَّفح والعفو والمسامحة ممّن يمتلك القُدرة على الانتقام وانتزاع الحقّ باليد من الأقلّ منه والذي تسبّب له بالأذى أو الضرر وأقدره الله عليه.

132

  


94

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 2- سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه في التسامح

 

لقد حثّنا الإسلام دين السماحة والرحمة على التحلّي بالأخلاق، والقيم الحميدة، ومن بينها العفو والتسامح، وقد جاءت الكثير من الآيات القرآنيّة، قال الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾1, وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.

ولهذا فالتَّسامح من الخِصال الجليلة، ومن صفات الأنبياء والعظماء عبر التَّاريخ وعلى رأس هؤلاء النَّبي محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي سامح كفَّار قريش عندما دخل مكّة فاتحًا على جميع ما فعلوه به وبأصحابه من صنوف العذاب والنَّكال، فقال: اذهبوا فأنتم الطُّلقاء3، فبذلك يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والدين الإسلاميّ قد سبقا جميع المؤتمرات والمواثيق التي صدرت حول معنى التسامح، وأهمّيّته في التعايش وكسب القلوب.

وقدّ وجّه الله تعالى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نحو قيمة التَّسامح في أكثر من موضعٍ في القرآن، فهو قدوة المسلمين واتّباعه أمرٌ واجبٌ يُثاب المسلم عليه ومنها، قال تعالى: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾4, ففي

 

 

1- سورة فصلت، الآية 34.
2- سورة النور، الآية 22.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 513.
4- سورة الزخرف، الآية 89.

 

 

 

133

  

 


95

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 هذه الآية الكريمة خِطاب للنَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمّته من بعده بوجوب الصَّفح وترك المؤاخذة والانتقام، وقد قرنت الآية الكريمة ما بين الصَّفح والتسامح والسَّلام. وفي السِّيرة العَطرة للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم العديد من المواقف التي تسامح فيها النَّبي وعفا عمّن ظلمه وأخرجه من دياره ووصفه بالجنون وقتل أتباعه. وعلى هذا، فقد امتدح الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله عزَّ من قائل: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾1, كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض"2، وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "مداراة الناس نصف الإيمان والرفق بهم نصف العيش"3.

إلى ذلك، فإنّ رسول الإسلام، لم يواجه عنف الآخرين بالعنف، فلما أظهر صلى الله عليه وآله وسلم دعوته الشريفة في مكّة، اصطدم بجدار صُلب من القسوة والعنف، تمثّل في قريش، التي لم تترك وسيلة من وسائل التعذيب والإهانة والافتراء، إلّا واستخدموها ضدّه، وفي المقابل كان دعاؤه: "اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون"4.

1- سورة آل عمران، الآية 159.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 117.
3- المصدر نفسه، ج2، ص 117.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص 167.

 

134

  


96

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 وروى عبد الله بن مسعود: إنّي رأيت رجالاً من قريش يضربون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أدموا وجهه الشريف، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.

3- البرنامج العمليّ في كيفيّة التسامح
من جملة ما أوصى به الإمام جعفر بن مُحمد الصادق عليه السلام صاحبه عبد الله بن جندب أن قال له: "يا بن جندب، صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلّم على من سبّك، وأنصف من خاصمك، واعف عمّن ظلمك كما أنّك تُحبّ أن يُعفَى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك، ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ قطره ينزل على الصالحين والخاطئين"1، ولا بدّ لنا من توضيح هذا البرنامج العمليّ الذي رسمه الإمام الصادق عليه السلام:

أ- صِل من قطعك:
إنّ تهذيب المسلمين وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى كان همّ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام. فكانوا يبذلون قصارى جهدهم في تعليم أهل الإسلام أحكامه الشرعيّة، وتلقينهم المعارف المحمّدية، وكانوا يُعرّفون المسلم المؤمن ما له وما عليه كي يبقى في ساحة رحمة الله تعالى، وألّا يخرج منها إلى ساحة الشيطان. وهذا الإمام الصادق عليه السلام يوجّه كلّ مسلم، فيقول له بقول مطلق: "صِل من قطعك"2، مع أنّ الذي يتبادر إلى أذهان أكثر الناس أنّ الصلة تكون تلقائياً لمن وصلك، وتكون أيضاً للأرحام لأنّها تُزكّي الأعمال وتُنمّي الأموال وتدفع البلوى وتُيسّر الحساب وتُنسئ في الأجل.

1- الحراني، تحف العقول، مصدر سابق،ص305،
2- المصدر نفسه.

 

135

  


97

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 وعن أبي حمزة الثماليّ، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: سمعته يقول: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثمّ يُنادي منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كُنّا نصل من قطعنا ونُعطي من حرمنا ونعفو عمّن ظلمنا، قال: فقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة"1.

ب- وأحسن إلى من أساء إليك:
إنّ من أسباب السعادة أن تعفو عمّن ظلمك، وتُعطي من حرمك، وتُحسن إلى من أساء إليك، فإنّ العفو والصفح يُنقّي القلب من الغيظ والحقد والعداوة، كذلك الصفح والتجاوز يُطهّر القلب، ويجلب له السعادة والمسرّات، فلا يُسَرّ الإنسان وقلبه ممتلئ غيظاً وحقداً، والله تعالى يقول في مُحكم كتابه: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾2. فتأمّل كيف أعطاهم شرف النسبة إليه سبحانه مثلما قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾3. فإذا جاءك إنسان، فقال لك: فلان قد أساء إليك ويقول فيك كذا وكذا، فهناك حسن، وهناك أحسن، ولم يقل الله: قولوا حسنى، بل أمر: بأنْ يقولوا التي هي أحسن "أفعل التفضيل"، وهذا ممّا

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص108، والحسين بن سعيد الكوفي، الزهد، تحقيق ميرزا غلام رضا عرفانيان، لا.ن، لا.م، 1399ه، لا.ط، ص93.
2- سورة الإسراء، الآية 53.
3- سورة الفرقان، الآية 63.

 

136

  


98

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 يدلّ على أنّ عباد الله حقّاً لا يُبادلون الإساءة بالإساءة، مع أنّ الحقّ لك إذا أساء غيرك، أن تردّ الإساءة بالإساءة، ولكنّ الأحسن أنْ تردّ الإساءة بالإحسان: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾1.

ج- وسلّم على من سبّك:
الإمام الصادق عليه السلام عندما أوصى بهذه الوصيّة المباركة "وسلّم على من سبّك" فإنّه كان وما زال يريد منّا أن نكون من عباد الله السالكين مسالك الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولأنّ تبادل السباب ونشوب الخلاف غير المحمود يؤدّي إلى انتشار العداوة بين أهل الإسلام بذلك أخبرنا النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عنه حفيده الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام حين قال: إنّ رجلاً من بني تميم أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال له: "لا تسبّوا الناس، فتكتسبوا العداوة بينهم"2، وكي لا يحصل ذلك وَجَّهَنا الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "وسلّم على من سبّك" لنكون من العاملين بقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾3.

د- واعف عمّن ظلمك:
لا شكّ في أنّ من صبر على الأذى وعفى عمّن ظلمه يكون قد فعل

1- سورة فصلت، الآية 34.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص360.
3- سورة فصلت، الآية 34.

 

137

  


99

المحاضرة الثانية: ثقافة التسامح في الإسلام

 أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، وله عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل، لا ريب في ذلك والله تعالى يقول: ﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾1 أليس لك في هذا عوض؟ فانظر في كتاب الله تعالى وتأمّل الأجر الذي أعدّه الله للمتّقين، فضلاً عن أنّ عفو المظلوم مريحٌ لقلبه في هذه الحياة الدنيا، والله تعالى يقول: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾2, وقد عبّر مولانا الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عن العفو بتعبيرٍ يُبيّن فيه أنّ العفو والصفح لهما المقام الأسنى بين الفضائل الأخلاقيّة، فقال عليه السلام: "العفو تاج المكارم"3، والتاج كما هو معلوم علامة العظمة والعزّة، وهو زينة الملوك حيث يوضع على أشرف موضع من بدن الإنسان وهو الرأس.

1- سورة الشورى، الآية 43.
2- التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيد مهدي رجائي‏، نشر دار الكتاب الإسلامي‏، إيران- قم‏، 1410ه‏، ط2، ص36، والليثي الواسطي، الشيخ كافي الدين أبو الحسن علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، إيران - قم، 1418ه، ط1، ص19.

138

  


100

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 الهدف:

بيان أهمّيّة الدور الكبير الذي يقوم به الأهل في تفعيل وتأثير العمل الجهادي.

تصدير الموضوع:
بيان جوانب التضحية والفداء في سيرة أبي الفضل العباس، ومقامه عند أهل البيت عليهم السلام.
أحقّ الناس أن يُبكَي عليه فتى أبكى الحسين بكربلاء
أخوه وابن والده علي أبو الفضل المضرّج بالدماء
ومن واساه لا يثنيه شيء وجادله على عطش بماء1.

1- أبي الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، تقديم أشراف: كاظم المظفر، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها النجف الأشرف، 1385 1965م، ط2، ص55.

 

141

  


101

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 تمهيد

 

أبو الفضل العباس بن الإمام عليّ عليه السلام نموذج رائع وفريد من أبناء الإمام عليّ بن أبي طالبعليه السلام، ولقد حاز أبو الفضل العبّاس قصب السبق في الفضائل ومكارم الأخلاق، فضلاً عن الشجاعة والعلم والإخلاص.

1- لمحة في سيرته العطرة
أ- نسبه:
هو من صميم الأسرة العلويّة، والدوحة الهاشميّة، فقد أخذ أبو الفضل العباس بأطراف رداء المجد من أبيه الإمام عليّ بن أبي طالب، ومن جهة الأمّ فهي السيدة فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية، وأبوها حزام من أعمدة الشرف عند العرب، في الجاهلية والإسلام1، وكانت ولادته في سنة (26 ه‍ـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان2.

ب- نشأته:
نشأ أبو الفضل العباس عليه السلام في ظلال أبيه، فغذّاه بعلومه وتقواه، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه، وأنموذجاً لمثله، كما غرست أمّه السيدة فاطمة في نفسه، جميع صفات

 

 

1- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص56.
2- الشيخ علي النمازي الشاهرودي، مستدركات علم رجال الحديث، تحقيق ابن المؤلف، لا.م، لا.ن، 1412ه، ط1، ج4، ص350.

 

 

 

142

  

 


102

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 الفضيلة والكمال، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.

ولازم أبو الفضل أخويه السبطين الحسن والحسين عليهما السلام، فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة، وأسس الآداب الرفيعة، وقد لازم بصورة خاصّة أخاه الإمام الحسين عليه السلام، فكان لا يفارقه في حلّه وترحاله، وقد تأثّر بسلوكه، وانطبعت في قرارة نفسه مثله الكريمة وسجاياه الحميدة، حتّى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتّجاهاته، وقد أخلص له الإمام الحسين كأعظم ما يكون الإخلاص، وقدّمه على جميع أهل بيته لِمَا رأى منه من الودّ الصادق له حتّى فداه بنفسه.

ت- ألقابه
إنّ الألقاب التي تضفى على الشخص تحكي صفاته النفسيّة الحسنة، وقد أُضفيت على أبي الفضل عليه السلام عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسيّة الطيّبة، وما اتّصف به من مكارم الأخلاق منها:

- قمر بني هاشم:
كان العباس عليه السلام في روعة بهائه، وجميل صورته آية من آيات الجمال، ولذلك لقب بقمر بني هاشم1.

1- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، ص56.
143

  


103

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 - السقاء:

 

وهو من أجلّ ألقابه، وأحبّها إليه، أمّا السبب في إمضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية الإمام الحسينعليه السلام، فإنّه لما عطش الإمام الحسين عليه السلام، وقد منعوه الماء، وأخذ العباس قربة ومضى نحو الماء، وجلب الماء للإمام عليه السلام1، وسمّي بذلك أيضاً لسقايته عطاشى أهل البيت عليهم السلام حينما فرض ابن مرجانة الحصار على الماء، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

- بطل العلقمي:
أما العلقميّ فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس عليه السلام، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد شباب أهل الجنة، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار، وبطولته النادرة أن يجندل الأبطال، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ، ويبلُغ ذلك النهر، وقد قام بذلك عدّة مرّات، وفي المرّة الأخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لقب ببطل العلقميّ، وهو القائل:
لا أرهب الموت إذ الموت رقى حتى أواري في المصاليت لقا

 

1- القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، السيد محمد الحسيني الجلالي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1414، ط2، ج3، ص182.

 

 

144

  

 


104

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 نفسي لنفس المصطفى الطهر وقا إني أنا العباس أغدو بالسقا1.

- حامل اللواء:
ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) لواء الإمام الحسينعليه السلام، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه، وذلك لما تتوافر فيه من القابليات العسكريّة، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش2.

- كبش الكتيبة:
وهو من الألقاب الكريمة التي يختصّ بها القائد الأعلى في الجيش، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبيره، وقوّة بأسه، وقد أضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ عن معسكر الإمام الحسين عليه السلام، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل3.

- باب الحوائج:
وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً، وانتشاراً بين الناس، فقد آمنوا وأيقنوا أنّه

1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص256.
2- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، ص56.
3- لجنة الحديث في معهد باقر العلوم عليه السلام، موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، دار المعروف للطباعة والنشر، 1416 - 1995م، ط3، ص362.

 

145

  


105

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 ما قصده ذو حاجة بِنيّة خالصة إلّا قضى الله حاجته، وما قصده مكروب إلّا كشف الله ما ألم به من محن الأيام، وكوارث الزمان.

 

2- مكانته ورفعة مقامه
إنّ لأبي الفضل العباس مكانة عظيمة عند أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد أفصحوا عنها في العديد من الكلمات والزيارات المأثورة عنهم، وفيما يلي بعض هذه الكلمات المعبّرة عن تلك المكانة العظيمة، وهي:

أ- الإمام زين العابدين:
أمّا الإمام زين العابدين عليه السلام فهو من المؤسّسين للتقوى والفضيلة في الإسلام، وكان هذا الإمام العظيم يترحّم - دوماً - على عمّه العباس ويذكر بمزيد من الإجلال والإكبار تضحياته الهائلة لأخيه الحسين وكان ممّا قاله في حقّه هذه الكلمات القيمة: "رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قطعت يداه، فأبدله الله عزّ وجلّ بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة"1.

ب. الإمام الصادق:
كان الإمام الصادق عليه السلام هو العقل المبدع والمفكّر في الإسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العباس، ويثني ثناء عاطراً

 

1- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص548.

 

 

146

  

 


106

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 وندياً على مواقفه البطوليّة يوم الطفّ، وكان ممّا قاله في حقّه: "كان عمّنا العباس نافذ البصيرة صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأبلى بلاءً حسنا ومضى شهيداً"1، وفي كلمات الإمام الصادقعليه السلام مقامات عظيمة لأبي الفضل العباس، وهي:

- نَفاذ البصيرة:
أمّا نَفاذُ البصيرة، فإنّه مُنبعث من سداد الرأي، وأصالة الفكر، ولا يّتصف بها إلّا من صفت ذاته، وخلصت سريرته، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أيّ سلطان عليه، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل. فقد كان من نفاذ بصيرته.

- الصلابة في الإيمان:
والظاهرة الأخرى من صفات أبي الفضل عليه السلام هي الصلابة في الإيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الأجر عند الله.

- الجهاد والشهادة مع الحسين:
وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس عليه السلام أشاد بها الإمام الصادق عليه السلام وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيد شباب أهل الجنّة، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب

1- أبو نصر البخاري، سر السلسلة العلوية، تقديم وتعليق: السيد محمد صادق بحر العلوم، انتشارات شريف الرضي، 1413 - 1371 ش، ط1، ص89.

 

147

  


107

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.

ج- الإمام الحجّة:
وأثنى الإمام المصلح العظيم بقية الله في الأرض قائم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس عليه السلام جاء فيها: "السلام على أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد، وحكيم بن الطفيل الطائي..."1.

وقد ضمّ ديوان بطولات العبّاس ومواقفه الكريمة الشجاعة في واقعة كربلاء صفحات كثيرة مضيئة لكنّ أكثرها إضاءة وشهرة مواساته لأخيه الحسين بنفسه. إذ أبى أن يذوق الماء، وقد كان واقفا في لجّته وكَبِدُه تتلظّى من العطش، لأنّ الإمام الحسين عليه السلام وعياله عطاشى لم يذوقوا قطرة منه منذ أيام.

3- مواقف أبي الفضل العبّاس
لقد كان لأبي الفضل العبّاس مواقف عديدة في كربلاء تكشف عن إيمانه وثباته، ورسوخ عقيدته، وهذه المواقف العديدة هي مبادئ أسياسيّة في حياة الإنسان الجهاديّة، إذا وقف بين يدي الأعداء واعظاً ومحارباً، ومن جملة تلك المواقف:

1- ابن طاووس، السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد الحسني الحسيني، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، قم‏، مكتب الإعلام الإسلامي، 1414ه، ط1، ج3، ص74.

 

148

  


108

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 أ- الثبات حتّى الشهادة:

ثبت أبو الفضل العبّاس وإخوته في ساحات الجهاد أيّما موقف مع الإمام الحسينعليه السلام، فهم من الذين جاءهم الأمان لترك الإمام الحسين عليه السلام وحده، وكان هذا من أساليب عمر بن سعد لتفتيت جيش الإمام الحسين عليه السلام، إلّا أنّه فشل في ذلك، فإيمان أصحاب الإمام وثباتهم يفوق تصوّر ابن سعد، وفي محاولة منه، فقد أرسل شمراً لإعطاء الأمان للعباس وإخوته، حتّى وقف على أصحاب الحسين عليه السلام فقال: أين بنو أختنا1؟ فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو عليّ بن أبي طالب عليهم السلام فقالوا: "ما تريد؟" فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فقالت له الفتية: "لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمّننا وابن رسول الله لا أمان له؟!"2.

ب- الطاعة والولاء لقيادة الإمام الحسين عليه السلام:
ففي اليوم التاسع من المحرّم جاء رسول عمر بن سعد إلى الإمام الحسين عليه السلام، فنهض العبّاس، وقال: "يا أخي أتاك القوم"، فنهض الإمام الحسين عليه السلام ثمّ قال: "يا عباس، اركب - بنفسي أنت يا أخي - حتّى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم". فأتاهم العباس، فقال لهم العباس: "ما بدا لكم وما تريدون؟".

1- وذلك لأن أم البنين بنت حزام أم عباس وعثمان وجعفر وعبد الله كانت كلابية وشمر ابن ذي الجوشن كلابي ولذا أخذ من ابن زياد أمانا لبنيها.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص89.

 

149

  


109

المحاضرة الأولى: العباس بن علي عطاء وإيثار

 قالوا: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم، قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم، فوقفوا وقالوا: اِلقَه فأعلمه، ثمّ ?لقنا بما يقول لك. فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين عليه السلام يخبره الخبر.

فقال الإمام الحسين عليه السلام: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى الغدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه والدعاء والاستغفار".

فمضى العباس إلى القوم ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرف1.

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص90.

 

150

  


110

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 الهدف:

بيان أنّ الكذب مُسقط للمرء عند الله تعالى وعند النّاس وعند نفسه.

تصدير الموضوع:
التعريف بقيمة الشباب المؤمن ودوره في المجتمع، وكيفيّة المحافظة عليه من الفساد والانحراف.

يقول الله سبحانه تعالى في محكم كتابه: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾1.

1- سورة الكهف، الآيتان 103 104.

 

151

  


111

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 تمهيد

إنّ للعمر قيمةً لا تُقدَّر بثمن على الإطلاق، فالعمر يتصرّم مع مرور الأيّام، وينبغي للإنسان المؤمن أن يستغلّ هذا الوقت المتاح له في الدنيا، كي ينعم بنعيم الآخرة، فيمرّ الإنسان بمرحلة الطفولة التي يقضي عمره فيها باللعب والمرح، ثمّ تأتي عليه مرحلة الشباب وهي مرحلة الجِدّ والعمل والنشاط والعطاء، ثمّ تأتي عليه مرحلة الشيخوخة، وهي مرحلة الهرم والعجز عن أداء الأمور بجميع حدودها، فمرحلة الشباب هي المرحلة الأساسيّة والوحيدة التي يتمكّن فيها الإنسان من العطاء والنشاط، فينبغي أن تستغلّ هذه بشكل كبير، وهذا ما دعا إليه الدين الحنيف في منظومته الفكريّة والثقافيّة.

1- معنى الشباب سبيل العطاء والبذل
فُسِّرت "الفتوّة" في الثقافة الدينيّة، بشكل من أشكال البذل والعطاء، الإحسان للآخرين، البشاشة، العفاف وصون النفس، تجنّب أذيّة الآخرين، والابتعاد عن الدناءة والحقارة، روي عن أبي قتادة القُميّ، قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام إذ تذاكروا عنده الفتوّة، فقال: "كلا، إنّما الفتوّة طعام موضوع، ونائل مبذول، وبشر مقبول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف، وأمّا تلك فشطارة وفسوق"1.

1- الشيخ الطوسي، الأمالي، مصدر سابق، ص301.
152

  


112

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 قال أمير المؤمنين عليه السلام: "نظام الفتوّة احتمال عثرات الإخوان، وحسن تعهّد الجيران"1.

وقد أطلق القرآن الكريم على الشباب الموحِّدين الذين فرّوا في عهد دقيانوس من الظلم والشرك ولجأوا إلى الغار (أصحاب الكهف) عبارة "فتية" (أهل مروءة وشهامة).

2- أهمّيّة مرحلة الشباب
يعتبر الإسلام أنّ مرحلة الشباب هي من المراحل المهمّة والحسّاسة في حياة الإنسان المؤمن، ولذا اعتبر بحسب القرآن الكريم مرحلة القوة والثبات في مقابل مراحل الضعف في حياة الإنسان، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾2.

فمرحلة الشباب مرحلة القوّة والشجاعة والثبات التي تقع بين مرحلة الطفولة وهي مرحلة ضعف، ومرحلة الشيخوخة وهي مرحلة ضعف أيضاً، ولا يمكن أن نفهم هذه المرحلة إلّا بضرورة التركيز فيها وتنميتها وتهذيبها، بل حفظها من الانحراف على غير الطريق الذي رسمه الله سبحانه وتعالى، وهذا كله يكشف عن أهمّيّة مرحلة الشباب وخطورتها في حياة الإنسان المؤمن.

1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص499.
2- سورة الروم، الآية 54.

 

153

  


113

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 ومن جهة أخرى أنّ الروايات أكّدت وبشكل قويّ هذه المرحلة، حيث اعتبرتها المرحلة التي يجب على الإنسان أن يغتنمها بالخير والعمل الصالح، وترك المفاسد والمحرّمات، فقد جاء في وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ أنّه قال: "شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"1.

وكذلك من جهة ثانية اعتبرتها المرحلة الوحيدة التي يسأل عنها الإنسان، ويحاسب عليها بشكل تفصيليّ، وهذا كلّه يكشف عن خطورة هذه المرحلة وحساسيّتها في حياة الإنسان الشاب المؤمن، وهذا ما حدثت به رقيّة حفيدة الإمام الكاظم عليه السلام عن أبيها عن الإمام الكاظم عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزول قدَمَا عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت"2.

3- الاستفادة القصوى سبيل النجاة
أشار القرآن المجيد في سورة النحل إلى ضرورة الاستفادة القصوى من العمر، وأنّ العمر يضيع من يدي الإنسان بسرعة، بل قد تصل فيه المرحلة إلى الخسارة الكبرى، قال تعالى: ﴿وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ

1- قطب الدين الراوندي، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الدعوات (سلوة الحزين)، مدرسة الإمام المهدي عليه السلام، مدرسة الإمام المهدي عليه السلام - قم، 1407ه، ط1، ص113.
2- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص93.

 

154

  


114

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾1.

والأرذل اسم تفضيل من الرذالة وهى الرداءة والرذل الدون والرديء والمراد بأرذل العمر بقرينة قوله لكي لا يعلم سنّ الشيخوخة والهرم التي فيها انحطاط قُوى الشعور والإدراك وهى تختلف باختلاف الأمزجة وتبتدئ على الأغلب من الخمس والسبعين2. ولذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ من جاوز السبعين حيّاً فهو "أسير الله في الأرض"3.

فالآية تريد القول بأنّ هذه القدرة والقوة اللتين عندكم لو لم تكونا على سبيل "العارية" لما أُخِذتا منكم بهذه البساطة. اعلموا أنّ فوقكم قدرة أخرى قادرة على كلّ شيء، فقبل أن تصلوا إلى تلك المرحلة خلِّصوا أنفسكم، وقبل أن يتحوّل هذا النشاط والجمال إلى موت وذبول. اجمعوا الورد من هذا الروض، وتزوّدوا بالزاد من هذه الدنيا لطريق الآخرة البعيد، لأنّه لم يمكنكم أداء أيّ عمل ذي قيمة في وقت الشيب والضعف والمرض4. ولذا فإنّ من ضمن ما أوصى به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذرّ أنّه قال: "شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"5.

1- سورة النحل، الآية 70.
2- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، قم، مصدر سابق، ج12، ص294.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص108.
4- الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج14، ص228.
5- قطب الدين الراوندي، الدعوات، مصدر سابق، ص113.

 

155

  


115

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 4- أين نُفني أعمارنا؟

 

أهمّ ما في الدِّين هو أنّه يعطينا، حتّى في أشدّ الظروف والأوضاع الصعبة، الطمأنينة وهدوء النفس والاستقرار والسكينة والأمل والرجاء. ولا يوجد شيء في هذا الوجود يمكنه أن يمنح الإنسان هذا المستوى في مواجهة المشاكل والصعوبات والمآسي والأحزان غير الدين.

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾1. أيّاً تكن المأساة والأحزان والمعاناة الّتي تعيشها بسبب ظروف شخصيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو أمنيّة أو تهديدات أو جوع أو فقر، وغير ذلك.. عندما تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، عندما تذكر الله سبحانه وتعالى وتعود إلى الله عزّ وجلّ، عندما تجلس بين يدي الله سبحانه وتعالى لمناجاته ولدعائه، يمكنك أن تشكو له كلّ آلامك ومعاناتك وصعوباتك وأحزانك ومآسيك. وهنا، أنت لا تتكلّم مع فقير مثلك، حين تقول له أنا فقير، فيجيبك: أنا فقير مثلك،.. أنت لا تشكو إلى مثيل لك ولا حتّى إلى قادر أو غنيّ محدود القدرة ومحدود الغنى، أنت تشكو إلى الله سبحانه وتعالى، وتتحدّث مع الله سبحانه وتعالى، وتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى الغنيّ القادر العالم الّذي يعلم ما في أنفسنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، والقادر الكريم، لأنّه يوجد قادر من الممكن ألّا يساعدك، والغنيّ الجواد، لأنّه ممكن أن يكون هناك غنيّ ولا يمدّ لك يد العون.

1- سورة الرعد، الآية 28.
156

  

 


116

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾1.

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لا تعجزوا عن الدعاء، فإنّه لم يهلك مع الدعاء أحد. وليسأل أحدكم ربّه، حتّى يسأله شسعَ نعله إذا انقطع. واسألوا الله من فضله فإنّه يحبّ أن يُسأل. وما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رَحِم إلّا أعطاه الله تعالى بها إحدى ثلاث: "إمّا أن يعجّل له دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة، وإمّا أن يكفّ عنه من الشرّ مثلها، قالوا: يا رسول الله إذن نكثر، قال: الله أكثر"2.

أنت تتكلّم مع من بيده ملكوت السماوات والأرض، تناجيه وتلجأ إليه. هذا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، أُولى نتائجه السريعة الهدوء والطمأنينة والسكينة. مهما فتّشتم في علم النفس التربويّ والاجتماعيّ ولدى أطبّاء النفس وغيرهم فلن تجدوا هذا العلاج عند أحد، ولكنّكم ستجدون العلاج عند محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي آيات الله الّتي أنزلت على قلبه الشريف، وفي الآيات الكريمة: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾3، كيف نواجه هذا النقص وهذا البلاء وهذه المحنة في الأموال، في الأنفس، في الثروات؟!

1- سورة البقرة، الآية 186.
2- قطب الدين الراوندي، الدعوات (سلوة الحزين)، مصدر سابق، ص19.
3- سورة البقرة، الآيتان 155 156.

 

157

  


117

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 "إنّا لله" ليست مجرّد كلمة تقال، "إنّا لله" تعني نحن مُلك له، ونحن عبيده، نواصينا بيده، يفعل بنا ما يشاء. "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" فعندما نكون عبيداً له، نرضى بما يرضاه لنا، نرضى ونهدأ ونطلب منه أن يُعيننا، وأن يدفع عنّا البلاء، وأن يرفع عنّا الامتحان، وأن يُعطينا الصبر والثبات والنجاح والنصر والعزّة. "وإنّا إليه راجعون" عبارة تقول لنا إنّ هذه الحياة الّتي نعيشها هي حياة محدودة، وبالتالي، لا تستحقّ أن تضيّع آخرتك من أجل بعض المحن وبعض الصعوبات وبعض الأحزان في الدنيا، فترتكب المعاصي والذنوب وتفرّ من الشيطان.‏

وروي أنّ الإمام الرضا عليه السلام قال: 1
نعى نفسي إلى نفسي المشيب وعند الشيب يتّعظ اللبيب
فقد ولّى الشباب إلى مداه فلست أرى مواضعه يؤب
سأبكيه وأندبه طويلاً وأدعوه إليّ عسى يُجيب
فإن يكن الشباب مضى حبيباً فإنّ الشيب أيضاً لي حبيب
سأصحبه بتقوى الله حتّى يفرق بيننا الأجل القريب.

5- الدواء في بيوت الله
يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾2، المساجد، هذه المؤسّسات العباديّة الإيمانيّة التربويّة هي شفاء للناس وهي حاجة روحيّة ونفسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة، هي حاجة جهاديّة وسياسيّة

1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، مصدر سابق، ج2، ص191.
2- سورة الأعراف، الآية 31.

 

158

  


118

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 الأخطار إذا تحمّلنا المسؤوليّة وكنّا أصحاب الوعي وأصحاب الأمل، وكنّا أوّلاً وآخراً من اللاجئين إلى الله، مستعيذين به في مواجهة الشيطان، مستعينين به على مواجهة التحدّيات، قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾1.

شباب عاشوراء عطاء حتّى الشهادة
لقد قدّم الشباب في عاشوراء دوراً رائداً في بيان المعنى الحقيقيّ للشباب المسلم المقاوم، وقد حفلت أحداث عاشوراء بالعديد من الشباب المجاهدين الشهداء، فهذا عليّ الأكبر، وذاك القاسم بن الإمام الحسن عليه السلام الذي خرج مقاتلاً بين يدي الإمام الحسين عليه السلام، وكان شابّاً في مقتبل العمر، جميل المنظر، وجهه شقة قمر، قدّم نفسه في سبيل الله2.

وذاك عمر بن جنادة الأنصاري، الذي قتل أبوه في المعركة وكانت أمّه حاضرة في المعركة، فقالت له أمّه: اخرج يا بني وقاتل بين يدي ابن رسول الله! فخرج فقال الحسين: هذا شاب قتل أبوه ولعلّ أمّه تكره خروجه فقال الشاب: أمّي أمرتني بذلك، فبرز وهو يقول:3
أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير

1- سورة الذاريات، الآية 50.
2- القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، السيد محمد الحسيني الجلالي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1414، ط2، ج3، ص179.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص27.

160

  


119

المحاضرة الثانية: الشباب عماد المجتمع الصالح

 عليّ وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير؟

له طلعة مثل شمس الضحى له غرّة مثل بدر منير

فهذه مواقف بطوليّة للشباب يوم عاشوراء، فالشابّ العاشورائيّ هو الذي يقضي ليله ونهاره في سبيل الله، ويقدّم دمه في سبيل الله، فتكون حياته لله، ووقته لله، ودراسته لله، وعمله لله، وحياته لله، أي وجوده كلّه لله سبحانه وتعالى.

161

  


120

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 الهدف:

 

التعرّف إلى دور النساء في كربلاء وبعض المواقف الولائية من جهادهن.

تصدير الموضوع:
قال الله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾1.

1- سورة التحريم، الآية 11.
165

 


121

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 تمهيد

إنّ الإمام الحسين عليه السلام أخذ النساء معه كي يؤدّين أدواراً مهمّة لنصرة الثورة أو إنّ أدوار النساء كانت ضمن البرنامج التخطيطيّ لقائد الثورة الذي لم يكن يفكّر بأنه سينُهي المواجهة بعدم مبايعته ليزيد، من ثمّ باستشهاده، بل لا بدّ من توجيه الأمّة إلى قيم جديدة وتربويّات مطلوبة.

ولم يكن لهذه المهمّة الصعبة من يؤدّيها سوى هؤلاء النساء وعلى رأسهنّ السيدة زينب عليها السلام. وهذا يشير إلى ثقته الكاملة بأُخته وبأنّ هؤلاء النساء هنّ ممّن يُعتمَد عليهنّ وهنّ قادرات على أداء التكاليف المطلوبة.

وسيبقى هؤلاء النساء رمزاً للبشريّة جمعاء، وخصوصاً للمرأة التي تبحث في كلّ عصر عن نماذج يُقتدى بها، وتسير في هداها.

1- الحضور العامّ للمرأة في النزاعات
إنّ وجود المرأة في مناطق النـزاعات غالباً ما يكون عامل تحريك للرأي العامّ وعامل تعريف بجرائم العدوّ، ولهذا نجد أنّ الإعلام إذا ما أراد أن يظهر بطش الحاكم وطغيانه فإنّه يعرض صوراً لنساء معذّبات أو مقتولات أو أطفالاً يبكون ويستصرخون ويصرخون.. هي صورٌ من الممكن أن تهزّ الضمير الاجتماعيّ وتحدث فيه حركة باتّجاه المطلوب، بمعنى أنّ وجود المرأة في النـزاعات المسلّحة والحروب غالباً ما يكون عاملاً لكشف وحشيّة العدوّ ومجازره وبشاعته ولنا أن نستعرض في ذاكرتنا ما كان

166

  


122

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 يُبَثّ من صور عن المعارك التي شهدها القرن المنصرم وبداياته والتي يستعمل فيها "مونتاجاً" خاصّاً لعرض بكاء الأمّهات وذهول الزوجات وأنين البنات. ولهذا اهتزّت الكوفة لمّا جاء ركب الحسين عليه السلام وارتجّت لمرأى الأطفال الذين ترتعد فرائصهم واصفرّت وجوههم، وماجت للحرائر المُخدَّرات اللواتي ارتسم الحزن على وجوههنّ وبان ثقل الدموع في مآقيهنّ وازداد الآلم حينما جادت عليهنّ الكوفيّات بالإزر والمقانع وضجّ الناس بالبكاء والعويل حينما أزيح الستار عن القناع الأمويّ، فهؤلاء لسن سبايا الخوارج والديلم كما قال ابن زياد إنّما هنّ سبايا آل البيت عليهم السلام!

2- حضور المرأة في كربلاء

إنّ واقعة الطفوف كانت بحاجة إلى حضور المرأة كي تنجح الثورة، وبحاجة إلى حضور نسائيّ متميّز لا يجزي عنه الرجل أبداً. فمن المعلوم أنّ الإمام لو اصطحب الكثير من الرجال فلن يقوموا بالدور الذي ستقوم به النساء، وبهذا جاء حمل النساء كدلالة على تخطيط مستقبليّ للثورة فيما يمكن أن تؤدّيه النساء من أدوار تدور ضمن مصلحة الإسلام الكبرى والإيمان بمبادئ الإمام في الإصلاح والتغيير، فهو إذاً اجتياز للدائرة المحدّدة التي تشمل حياة المرأة الخاصّة، ولكنّها لا تلغي شخصيّة المرأة نفسها أو أهدافها الممتدّة في الحياة أو مسؤوليّاتها العديدة.


 

وكان الحضور النسائيّ متميّزاً في نساء عرفن بالعلم والمعرفة والبلاغة


 

167


  

123

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 والفصاحة والصبر الجميل إلى غير ذلك، وبذلك نجح الإمام وأنصاره في تضحيته كما نجحت المرأة "زينب عليها السلام" في التبليغ والإعلام الموجّه، ولم تكن الأدوار التقليديّة للنساء كالأمومة والزوجيّة عائقاً أمام تحقيق نجاح أوسع ضمن دائرة الأهداف العامّة بل كانت هذه الأدوار سبباً لإضفاء مزيد من الحزن والتفجّع على ما جرى في الطفوف، فهؤلاء النساء قدّمنَ الغالي والنفيس بل ضحّين بالولد والأخ والزوج لنصرة الثورة في زمن تقاعس فيه الأشاوس من الرجال عن نصرة الإمام الذي كانوا يسمعون استغاثته!. وبهذا تحوّلت الأدوار التقليديّة التي تضجر منها المرأة المعاصرة إلى أدوار رساليّة ومحطّات انطلاق لرسم هُويّة ثائرة للمرأة المسلمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكان مجموع هؤلاء النساء إضافة إلى الأطفال يؤلّف قافلة سبايا أهل البيت، الذين فرّوا بعد مقتل الحسين وهجوم الأعداء على الخيام، ثمّ قبض عليهم وسيقوا في قافلة السبايا إلى الكوفة ومنها إلى الشام.

وإذا نظرنا إلى خلفيّة أولئك الطاهرات اللاتي جئن إلى أرض المعركة نلاحظ أنّ فيهنّ الأمّ والجدّة، والأخت والشقيقة، والعمّة والخالة، والابنة والحفيدة، والزوجة، ويجب التمعّن بأنّ لكلّ منهنّ مهمّة ربّما تختلف تماماً عن مهمّة ألأخرى، ولكنْ يجمعهنّ الإيمان بأرقى مفاهيمه الإنسانيّة التي جاء بها الإسلام ولخّصها في شخص الإمام الحسين عليه السلام وأهدافه.

168

  


124

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 3- مواقف بطوليّة للمرأة في كربلاء

أ- السيدة زينب بنت عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) والمواقف الصُلبة:
المرأة التي أبت إلّا المشاركة في النهضة، تلك الزوجة الوفيّة، وألأمّ الحنون، والعمّة العطوف، والخالة الرؤوف، والأخت المسؤولة التي كانت قدوة لا للنساء فحسب بل للرجال أيضاً، أخذت على عاتقها أدواراً مختلفة يصعب على المرء حصرها، ولكن سنشير إلى جانبٍ منها ألا وهو تفعيل ألأهداف التي من أجلها نهض الإمام الحسين عليه السلام وتكريسها وذلك بعد شهادته عليه السلام، وإن شئت فقل تكميل ذلك الدور واستمراريّته فقد وقع على عاتقها، ولا يمكن نسيان هذا الدور الفاعل، ولولا جهودها لما أثمرت تلك النهضة المباركة بهذا الشكل الذي أثمر، وقد أبت السيدة زينب إلّا أن تشارك شقيقها الحسين عليه السلام، فقد ذكر المؤرّخون أنّ ابن عباس جاء إلى الحسين عليه السلام ناصحاً ومودعاً وهو بأرض الحجاز ليثنيه عن السفر إلى العراق، ولكنّه وجد نفسه أمام إصرار الإمام عليه السلام الذي لا محيص عنه فطلب منه عليه السلام أن لا يأخذ معه النساء قائلاً: جعلت فداك يا حسين، إن كان لا بدّ من السير إلى الكوفة فلا تسِرْ بأهلك ونسائك، فسمعته السيدة زينب عليها السلام فانبرت تخاطبه: يا ابن عباس تشير على سّيدنا وشيخنا أن يخلّفنا ها هنا ويمضي وحده؟ لا والله بل نحيا معه ونموت معه وهل أبقى الزمان لنا غيره1.

2- راجع: البحراني، السيد هاشم الحسيني، مدينة المعاجز، تحقيق الشيخ عزة الله المولائي الهمداني، مؤسسة المعارف الإسلاميّة، إيران - قم، 1413ه، ط1، ج3، ص485.

 

169

  


125

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 ب- بحرية بنت مسعود الخزرجيّة وتجهيز ابنها للشهادة:

المرأة التي تجهّز ابنها للشهادة، كانت بحرية وهي ممّن حضرن كربلاء مع زوجها جنادة بن كعب الخزرجيّ فخرج الزوج وقاتل قتال الأبطال بين يدي أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ولما لم تمتلك بحرية وسيلة أخرى للدفاع عن الحقّ المتمثل بالحسين عليه السلام جاءت إلى ابنها عمر، الذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره، فألبسته لامة الحرب وقلّدته السيف، وتحدّثت معه بأمر القتال بين يدي أبي عبد الله، والنواميس التي يدافع عنها، وحثّته على ذلك وقالت فيما قالته: أُخرج يا بني وانصر الحسين عليه السلام وقاتل بين يدي ابن رسول الله فلمّا جهّزته خرج ووقف أمام الحسين عليه السلام يستأذنه للقتال، فلم يأذن له فأعاد عليه ألاستئذان، فقال الحسين عليه السلام: "إنّ هذا غلام قتل أبوه في المعركة، ولعلّ أمّه تكره ذلك" فقال عمر: "يا بن رسول الله إنّ أمّي هي التي أمرتني وقد قلّدتني هذا السيف وألبستني لامة الحرب" وعندها سمح له الحسين عليه السلام فذهب إلى ميدان القتال وهو ينشد ما يختلج بقلبه قائلاً من المتقارب:
أميري حسين ونعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير
علي وفاطمة والداه فهل تعلمون له من نظير
له طلعة مثل شمس الضحى له غرّة مثل بدر المنير

170

  


126

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 فقاتل حتّى قتل وقطع رأسه فرمي به إلى جهة الحسين عليه السلام، فأخذته أمّه وضربت به رجلا أو رجلين فقتلتهما، وخفّ إليها الحسين عليه السلام فأرجعها إلى الخيمة1. فمن يا ترى يمتلك قلباً مفعماً بالإيمان والشجاعة!.

ج- دلهم بنت عمرو الكوفيّة والتشجيع على الولاء والقتال:
المرأة التي وضعت زوجها على الطريق، لم يكن زوجها زهير بن القين البجليّ من الموالين لأهل البيت عليهم السلام بل كان على الخطّ النقيض لخطّ أهل البيت (عليهم السلام) ولكنّ الطريق جمع بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام وهما في طريقهما إلى الكوفة، وما كانت إلّا ساعة فإذا برسول الحسين عليه السلام على باب خيمة زهير يقول: إنّ أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه فساد صمت رهيب في مجلس زهير، حيث كان يكره زهير وقومه مسايرة الحسين عليه السلام وهو في الطريق فكيف بهم ورسول الحسين يدعوهم للقياه، وفي هذه اللحظة مزّقت دلهم تلك المرأة الحكيمة والمؤمنة، أجواء الصمت والذهول، والتفتت إلى زوجها مفجّرة بكلماتها بركاناً من الدرن الذي خيّم على القلوب وقالت: يا زهير أيبعث إليك ابن رسول ألله ثمّ لا تأتيه، سبحان الله، لو تأتيه فسمعت كلامه، ثمّ انصرفت، فما كان من زهير إلّا أن قرّر الذهاب إلى أبي عبدالله عليه السلام والاستماع إليه، وفجأة وجد زهير نفسه في مجلس الحسين عليه السلام حيث حملته رجلاه إليه،

171

  


127

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 ولمّا حاوره الحسين عليه السلام وبيّن أهداف نهضته، أنقلب زهير واتّخذ قراراً حاسماً، وصمّم على الالتحاق بركب ريحانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فعاد إلى قومه مستبشراً قد أسفر وجهه والتفت إلى زوجته ليطلّقها ويلحقها بأهلها، لا كرهاً بها بل حباً لها، مُوطّناً نفسه على الشهادة، فبشّرها بقراره الشجاع، والتحاقه بركب الحقّ فقامت إليه زوجته تودّعه باكية لتقول له بكلّ ثبات: خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين1. وهكذا ودّع زهير كلّ متاع الدنيا ليقول للحسين عليه السلام: "والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا مخلّدين إلّا أنّ فراقها في نصرتك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها... أما والله لوددت أنّي قتلت ثمّ نشرت ثمّ قتلت حتّى أقتل هكذا ألف قتلة وأنّ الله يدفع بذاك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك..."، طلّق زهير زوجته والدنيا، وطلّقت زوجته حلاوة الدنيا وبهجتها وأذعنت لقرار زوجها خوفاً من أن يتردّد عن الشهادة، فمن يا تُرى كان وراء تحوّل زهير!2.

د- نوار بنت مالك الحضرميّة وإنكار الظلمة:
المرأة التي رفضت بعلها، فقد انتُدِبَ الخوليّ بن يزيد الأصبحيّ ليحمل رأس الحسين عليه السلام إلى الطاغية عبيد ألله بن زياد، وكان عَجِلاً من

1- راجع: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص253. والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 27.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص73.

172
 

128

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 أمره للوصول إلى دار الإمارة لينال الجائزة إلّا أنّه وصلها متأخّراً حيث خيّم الظلام وأغلقت الكوفة أبوابها فاضطرّ إلى المضي إلى داره ليستريح ليلته ويعود في الصباح الباكر، ولمّا دخل بيته سألته زوجته نوار عمّا يخبّئه في التنور، فقال لها بعد حوار طويل: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين عليه السلام معك في الدار. فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله، لا والله لا يجمع رأسي ورأسك في بيت أبداً، ثمّ أضافت قائلة: اِرجع، وأخذت عموداً وأوجعته ضرباً، وقالت: والله ما أنا لك بزوجة، ولا أنت لي ببعل5.

وهكذا فارقته لتُعلّم الآخرين درساً في التعامل مع الظالمين وإن كان الظالم وليَّ نعمتهم، وفعلاً ?تّبعتها ضرّتها عيوف الأسديّة حيث هي الأخرى رفضت الخوليّ فبات بلا مأوى، فمن يا تُرى استنكر فَعلة الظالمين!.

هـ- مارية بنت منقذ العبدي وحماية المجاهدين:
المرأة التي موّلت الثائرين، كانت مارية أرملة استشهد زوجها في معركة الجمل نصرةً لأمير المؤمنين عليه السلام ومع هذا فقد كانت موالية للحقّ دون أيّ ملل أو تعب، وكانت تحوز مكانة مرموقة في المجتمع البصريّ وتمتلك أموالاً طائلة، ولما بدأ الصراع العلويّ الأمويّ وأصبح على أشدّه فتحت بيتها للزعماء الموالين للبيت العلويّ ليكون نادياً فكرياً يناقش فيه الزعماء قضايا الأمّة، ومركز اتّصال وتواصل لدعم المعارضة، فقد قال الطبريّ:

173

  


129

المحاضرة الأولى: نساء عاشوراء قدوة وأسوة

 "اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يُقال لها مارية ابنة سعد أو منقذ أيّاماً، وكانت تشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه"1.

1- راجع: البلاذري، أنساب الأشراف، مصدر سابق، ج3، ص206.

 

174

  


130

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 الهدف:

التعرّف إلى فلسفة الحجاب وآثاره الفرديّة والاجتماعيّة على المرأة والمجتمع.

تصدير الموضوع:
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾1.

1- سورة الأحزاب، الآية 59. 

 

175

  


131

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 تمهيد

 

إنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي أعطى المرأة حقوقاً ومزايا تنسجم مع دورها كأنثى (ابنة، أخت، زوجة) لم يعطها من قبله ولا من بعده تشريع أو نظام أيّاً كان هذا التشريع أو النظام. فمهما بلغت معرفة المخلوق فهي ناقصة أمام علم الخالق الذي جعل الرجل والمرأة من نفس واحدة وميّزهما بخصائص - لا تُعدّ نقصاً في جانب دون جانب - يترتّب عليها واجبات والتزامات ليست من باب المفاضلة ولكنّها من قبيل الشيء يتمم بعضه ويحتاج إليه، وفي ذلك حكمة من الله سبحانه وتعالى لإعمار هذا الكون، وإذا كان هناك مجال للتفضيل فقد بينه الإسلام في القرآن الكريم في كثير من آياته.

1- معنى الحجاب
لغةً: حجب: الحِجابُ: السِّتْرُ. وامرأَة مَحْجُوبةٌ: قد سُتِرَتْ بِسِترٍ1.

الحجاب في الإسلام: حجاب المرأة في الإسلام يعني أنّه يجب على المرأة أن تستر بدنها عدا (الوجه والكفّين) عند وجود رجل أجنبيّ ينظر إليها، وتلحق به أن لا تظهر زينتها أمام الرجال الأجانب.

2- أدلّة الحجاب والستر
يجب على المرأة أن تمنع نظر الأجنبيّ إلى كلّ ما عدا الوجه والكفّين

 

1- ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج1، ص 298، مادة حجب.

 

 

176

  

 


132

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 من بدنها. وهناك أدلّة من الآيات الشريفة وأحاديث المعصومين عليهم السلام تدلّ على ذلك:

 

أ- قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1.

إنّ كلمة "يغضّو" مشتقّة من "غض" من باب "ردّ"، وتعني في الأصل التنقيص، وتطلق غالباً على تخفيض الصوت وتقليل النظر. لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم. بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم. وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تامّ بحيث لا يعرف الإنسان طريقه بمجرّد مشاهدته امرأة ليست من محارمه، فالواجب عليه

1- سورة النور، الآيتان 30 31.

177

  

 


133

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 أن لا يحدّق فيها، بل أن يرمي ببصره إلى الأرض، ويصدق فيه القول أنّه غضّ من نظره وأبعد ذلك المنظر من مخيّلته.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يحدّد الشيء الذي يستوجب غضّ النظر عنه. (أي إنّه حذف متعلّق الفعل) ليكون دليلاً على عموميّته. أي غضّ النظر عن جميع الأشياء التي حرّم الله النظر إليها. ولكنّ سياق الكلام في هذه الآيات، وخاصّة في الآية التالية التي تتحدّث عن قضية الحجاب، يوضّح لنا جيداً أنّها تقصد النظر إلى النساء غير المحارم، ويؤكّد هذا المعنى سبب النزول الذي ذكرناه سابقاً.

ويتّضح لنا ممّا سبق أنّ مفهوم الآية ليس هو حرمة النظر الحادّ إلى النساء غير المحارم، ليتصوّر بعض الناس أنّ النظر الطبيعيّ إلى غير المحارم مسموح به، بل إنّ نظر الإنسان يمتّد إلى حيّز واسع ويشمل دائره واسعة، فإذا وجد امرأة من غير المحارم عليه أن يخرجها عن دائرة نظره، وألّا ينظر إليها، ويواصل السير بعين مفتوحة، وهذا هو مفهوم غضّ النظر1.

وهذه الآية الكريمة تتناول عدّةَ أمور:
- ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يغضّوا من أبصارهم، ومعنى الغضّ في اللغة: الخفض والنقصان من الطرف، وغضّ البصر يعني عدم التحديق والإمعان في الشيء.

1- الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج11، ص75.

 

178

  


134

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 - يجب على الرجال والنساء حفظ الفروج، فالمطلوب الاجتهاد في حفظ العفاف والطهر.

- يجب ستر الزينة، وهناك نوعان من الزينة، خفيّة وظاهرة، والخفيّة هي ما تكون مخفيّة تحت الثياب مستورة عن نظر الناظرين، كالعقد والقراط (الحلق) ولون الشعر والثياب المستورة التي فيها زينة. والظاهرة هي الوجه والكفّان، حيث سُئل الإمام الصادق عليه السلام عمّا تُظهرْ المرأة من زينتها؟ فقال عليه السلام: "الوجه والكفّين"5. وهذا يعني وجوب ستر البدن كلّه باستثناء الوجه والكفّين.

ثم يعقّب تعالى بعد ذلك بقوله: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾. والخُمر: جمع خمار، وهو ثوب تُغطّي به المرأة رأسها ورقبتها، والجيوب جمع جيب وهو من القميص موضع الشقّ الذي ينفتح على المنحر والصدر، ويقال: إنّ النساء في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كنّ يلبسن ثياباً مفتوحة الجيب، وكنّ يلقين الخُمر ويسدلنها خلف رؤوسهنّ فتظهر آذانهنّ وأقراطهنّ ورقابهنّ وشيء من نحورهنّ للناظرين، فأمرت الآية بضرب خمرهنّ على جيوبهنّ، أي يُلقين بما زاد من غطاء الرأس على صدورهنّ حتّى يسترن بذلك آذانهنّ وأقراطهنّ وصدورهنّ.

179

  


135

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 ب - ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾1.

وفي هذه الآية أمر واضح بضرورة إسدال الجلابيب، فما معنى الجلابيب، وكيف يكون الإسدال؟

الجلباب: هو ثوب تشتمل به المرأة فيغطّي جميع بدنها، ويطلق أيضاً على الخمار، والظاهر أنّه استعمل هنا بمعنى الخمار، فإسدالها: ستر الجيوب بها، فهي تشير إلى ما هو مذكور في الآية السابقة. وأضيف إليها هنا: ﴿...ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ...﴾.

والمقصود: أن يعرفن بالستر والصلاح، فلا يتعرّض لهنَّ، لأنَّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرّض لها2.

3- شروط الحجاب والستر الشرعيّ
أ- أن يكون اللباس واسعاً فضفاضاً: أي غير ضيّق حتّى لا يصف شيئاً من جسمها أو يظهر أماكن الفتنة من الجسم.

ب- أن يكون مستوعباً لجميع البدن باستثناء الوجه والكفّين. قال تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾, ألّا يكون الحجاب زينة في نفسه لقوله تعالى ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا

1- سورة الأحزاب، الآية 59.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج22، ص186.

 

180

  


136

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 ظَهَرَ مِنْهَا﴾.

 

ج- أن لا يترتّب على اللباس بعض العناوين الفاسدة: كالتشبّه بالكفّار فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام - عن آبائه عليهم السلام -: "أوحى الله إلى نبيّ من الأنّبياء أنْ قُل لقومك: لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تشاكلوا بما شاكل أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي"1.

ويظهر من الرواية أنّ من تشبّه بقوم وتأثّر بهم بالقليل لم يأمن على نفسه الزيادة في هذا الأمر حتّى يكون منقاداً لكلّ ما يفعلونه أو يأتون به.

تشبّه الرجال بالنساء وبالعكس، عن الإمام الصادق عليه السلام - عن آبائه عليهم السلام -: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، وينهى المرأة عن أن تتشبّه بالرجال في لباسها"2.

ث- ألّا يكون لباس شهرة: وهو اللباس الّذي لا يتوقّع من الشخص أن يرتديه من أجل لونه أو كيفيّة خياطته أو من أجل كونه خلِقا أو غير ذلك، بحيث لو ارتداه على مرأى من الناس ومنظرهم لفت أنظارهم إلى نفسه وأشير إليه بالبنان3.

ولباس الشهرة في المصطلح الفقهيّ هو اللباس الّذي يثير

1- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيد محمد صادق بحر العلوم، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 1385 - 1966م، لا.ط، ج2، ص348.
2- الشيخ الطبرسي، مكارم الأخلاق، مصدر سابق، ص118.
3- السيد الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، دار النبأ للنشر والتوزيع - الكويت، 1415 - 1995م، ط1، س282

 
182

  

 


137

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 الاستهجان والاستقباح عند عامّة الناس في البلد وبتعبير آخر هو اللباس الّذي يعرّض صاحبه للتشهير والتشنيع وحديث الناس.

ج- ويشمل اللباس الّذي يتزيّا فيه الرجل بزي المرأة أو العكس، بحيث يصدق عليه تأنُّث الرجل واسترجال المرأة.

وهو محرّم حيث يعرّض صاحبه إلى الهتك والإذلال، حيث يحرم على المؤمن أن يهتك نفسه وأن يذلّها، ولكن إذا أصبح هذا الزيّ الجديد المتوافر على الشروط الشرعيّة زيّا مألوفاً لا يوجب التشهير والاستقباح والاستهجان خرج عن كونه "لباس شهرة" وخرج عن كونه محرّماً.

4- فلسفة الحجاب في الإسلام
إنّ الحجاب في الإسلام جزء من الأحكام التي ترتبط بنظرة الإسلام إلى المرأة والمجتمع، وبالتالي تشكّل هذه الأحكام مجتمعة رؤية الإسلام إلى المرأة وأدوارها المختلفة في الحياة والمجتمع. وللحجاب – كحكم خاص بالمرأة- بحدّ ذاته فلسفة خاصّة ترتبط بالمرأة والمجتمع، يمكن إيجازها، بالآتي:

أ- حفظ أخلاق المجتمع:
تمتاز كلّ المجتمعات بأنّها تلتزم بمجموعة من المبادئ والقيم الأخلاقيّة التي يتربّى الفرد والمجتمع عليها، وتضمن سلامة المجتمع من الانحراف والتلوّث بالرذيلة والزنا وغيرها من الأمراض الفتّاكة والخطيرة التي تعود

183

  


138

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 بالغالب إلى سيطرة الشهوات على سلوك الكثير من الناس.

وقد وضع الإسلام في تشريعاته أساليب علاجية مباشرة ترتبط بإلزام الفرد بالسلوك المستقيم والسوي، والعمل الصالح في علاقته بالآخرة، حفظاً لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه من الانحراف الأخلاقي فيما يرتبط بالعلاقة بين الجنسين. والحجاب كتشريع يلزم المرأة بالتستر عن غير المحارم يأتي في هذا السياق ولتحقيق هذه الأهداف وغيرها.

ب- الحجاب يحمي المجتمع:
إنّ حماية المجتمع من الانحراف وانتشار الرذيلة، يكون بمعالجة أسبابه الكثيرة والتي يأتي على رأسها كثرة أسباب إثارة الشهوات وتنوّعها في هذا الزمان، وهو ما نراه بوضوح في ظاهرة السفور الفاضح عند العديد من النساء التي انتشرت في الكثير من المجتمعات الإسلامية، ولهذا فإنّ الالتزام بالحجاب والستر يقضي على ظاهرة السفور ويرفع الكثير من الأسباب والمثيرات التي تؤدّي إلى الانحراف، ويُساهم كثيراً في تحقيق هدف حماية المجتمع.

ج- تحقيق الاستقرار النفسي عند المرأة:
الحجاب يحمي المرأة من الاضطراب الذي تعيشه المرأة السافرة باستمرار، نتيجة انهماكها المستمرّ في أمر التبرّج وقلقها الدائم بشأن لباسها وزينتها ومظهرها وكيفيّة استقبال الناس لها، وماذا سيقولون عنها وعن "قصّة" شعرها و"الموديل" الذي اختارته، إنّ هذا الاهتمام سيضْعُفُ

184

  


139

المحاضرة الثانية: الحجاب عفّة وصلاح

 ويخفُّ كثيراً بالنسبة للمرأة المحجّبة، لأنّ طبيعة الحجاب تخفّف عليها الكثير من الأعباء، دون أن نُنكر مشروعيّة أنْ تهتمّ المرأة المحجّبة بمظهرها وأناقتها، لكنّ هذا الاهتمام شيء، وذاك الانهماك لدى المرأة غير المحجّبة شيء آخر.

د- حماية الأسرة:
لا شكّ بأنّ المرأة (كزوجة وأمّ) هي أحد أعمدة بناء الأسرة وحفظها واستقرارها، وأي خللٍ أو انحراف في أحد هذه الأعمدة، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى سقوط الأسرة وضياع أفرادها، ولهذا نجد الآخرين يسخّرون وسائلهم الإعلاميّة وإمكانياتهم لترويج ثقافاتهم المنحلّة، في سبيل إضعاف المجتمع الإسلامي، ويستخدمون لهذه الغاية أكثر العناوين حساسية وهي المرأة.

هـ حماية المرأة نفسها:
الحجاب يحقّق الأمن الأخلاقيّ والسلوكيّ في المجتمع، فهو حماية من إرسال النظر، وحماية للقلب من مرض جموح الشهوة، وكلّ هذه تتحقّق بأن تتحجّب المرأة المسلمة وأن تغطّي محاسنها ومواضع الفتنة فيها، وأن تبقى كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾، لأنّ التبرّج والسفور يعقبه ذلك النظر المحرّم وقد يتلوه ارتكاب الفاحشة، بما فيها الاعتداء على المرأة نفسها، كما تشهد الكثير من الوقائع والدراسات التي توثِّق حالات الاعتداء على المرأة.

185
 


140

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 

 الهدف:

 

التعرّف إلى جوانب تربويّة من حياة الإمام السجّاد عليه السلام للاقتداء والتأسّي.

تصدير الموضوع:
قال الفَرَزدق في قصيدته المشهورة واصفاً الإمام زين العابدين عليه السلام:
هَذا الذي تَعرفُ البطحاءُ وطأته والبيتُ يَعرفُه والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابنُ خَيرِ عبادِ الله كُلِّهمُ هَذا التَّقيُّ النَّقي الطاهرُ العَلَمُ...

187

  

 


141

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 تمهيد

 

كان لعليّ بن الحسين عليه السلام جلالة عجيبة، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه وسؤدده وعلمه وتألّهه وكمال عقله1. ويتّفق المؤرّخون على أنّ الإمام عليه السلام انكبَّ على الشؤون الدينيّة، ورواية الحديث، والتعليم، وأنّه انصرف إلى بثّ العلوم، وتعليم الناس، وتربية المخلصين، وتخريج العلماء والفقهاء، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية2.

1- قدوة العابدين والساجدين
لقد سطعت عبادة الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في حياته لتبرز في ألقابه التي منها "السجّاد" لكثرة سجوده و"ذوالثفنات" التي برزت على جبهته الشريفة و"زين العابدين" لعبادته لله و"سيّد العابدين"، وهو اللقب الذي اختاره له جدّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ: كنتُ جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحسين عليه السلام في حجره وهو يداعبه فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "يا جابر يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيّد العابدين"3.

وجاء في تسميته بذي الثفنات، أنّ الإمام الباقر عليه السلام قال: "كان

 

 

1- الذهبي، سير أعلام النبلاء، إشراف وتخريج شعيب الأرنؤوط، تحقيق حسين الأسد، مؤسسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1413ه - 1993م، ط9،ج4، ص398.
2- السيد محمد رضا الجلالي، جهاد الإمام السجاد عليه السلام، مؤسسة دار الحديث الثقافية، لا.م، 1418ه، ط1، ص79، نقلاً عن معتزلة اليمن ص17- 18.
3- السبحاني، الشيخ جعفر، الأئمة الإثني عشر، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط،ص 104.

 

 

 

188

  

 


142

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 لأبي في موضع سجوده آثار ثابتة وكان يقطعها في كلِّ سنة من طول سجوده وكثرته..."1، ويمكن أن نبيّن بعض مظاهر عبادتهعليه السلام، ومنها:

 

أ- الخوف من الله تعالى: علّمنا الإمام السجّاد عليه السلام كيف نخاف الله في حواره مع طاووس اليمانيّ الذي رآه يطوف من وقت العشاء إلى السحر، ونظر طاووس إلى الإمام عليه السلام فرآه يرمق السماء بطرفه ويقول: "إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرصات القيامة"، ثمّ بكى وأطال الدعاء والبكاء، فدنا منه طاووس وقال له: "ما هذا الجزع والفزع؟! ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا، ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ عليه السلام وأمّك فاطمة الزهراء عليها السلام، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فالتفت إليه الإمام عليه السلام وقال: "هيهات يا طاووس! دع عنّي حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً وخلق النار لمن عصاه، ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾2, والله لا ينفعك غداً إلاّ تقدمة تقدّمها من عمل صالح"3.

 

 

1- ابن شهر آشوب، المناقب، مصدر سابق، ج 4، ص 180 181.
2- سورة المؤمنون، الآية 101.
3- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية (ابطحي)، السيد محمد باقر الموحد الابطحي الإصفهاني، مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام / مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر، إيران - قم، 1411هـ.، ط1، ص 176.

 

 

 

189

  

 


143

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 ب- حاله عند التهيّؤ للصلاة: جاء في مصادر عدة أنه عليه السلام كان إذا توضّأ للصلاة يصفرّ لونه، وكيف لا تبرز معالم العبادة في ألقابه وهو الذي كان إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيب عليه السلام: "أتدرون بين يدي من أقوم!"1.

وكان عليه السلام إذا قام في الصلاة غشي لونه لونٌ آخر وأخذته رعدة بين يدي الله تعالى لم يعد عندها يلتفت إلى ما حوله، لذا حينما وقع حريق في بيته وهو ساجد فرَّ مَن في البيت بينما بقي الإمام عليه السلام ساجداً ولمّا سُئَل في ذلك كان جوابه عليه السلام: "ألهتني عنها النار الكبرى"2.

ج- خشوعه: وعن خشوعه قال أبو عبد الله عليه السلام: "كان أبي يقول: كان عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما إذا قام في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرّك منه شيء إلّا ما حرّكه الريح منه"3.

قال أبو حمزة الثماليّ: رأيت عليّ بن الحسين عليه السلام يصلّي فسقط رداؤه عن أحد منكبه، قال: فلم يُسوِّه حتّى فرغ من صلاته قال: فسألته

1- جعفر عباس الحائري، بلاغة الإمام علي بن الحسين عليه السلام، دار الحديث للطباعة والنشر، لا.م، 1425ه - 1383ش، ط1، ص 199.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 46، ص 80.
3- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص300.

 

190


144

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 عن ذلك. فقال: "ويحك أتدري بين يدي من كنت؟ إن العبد لا يقبل من صلاته إلّا ما أقبل عليه منها بقلبه"1. وعن الإمام الباقر عليه السلام: "كان عليّ بن الحسين يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة، وكانت له خمسمائة نخلة وكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وقيامه في صلاته قيام عبد ذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يصلّي صلاة مودّع يرى أنه لا يصلّي بعدها أبداً"2.

وقال الزهريّ: "كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا قرأ (ملك يوم الدين) يكرِّرها حتّى يكاد أن يموت"3.

د- حجه عليه السلام: جاء في حياة الحيوان للدميريّ قال: "إنّه لمّا حجّ وأراد أن يلبّي أرعد واصفرّ وخرّ مغشياً عليه، فلمّا أفاق سئل عن ذلك، فقال: إنّي لأخشى أن أقول: لبيك، اللهمّ لبيك، فيقول لي: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه، وقالوا: لا بدّ من التلبية، فلمّا لبّى غشي عليه حتّى سقط عن راحلته، وكان يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة، كان كثير الصدقات وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول: "صدقة الليل تطفئ غضب الربّ"4.

1- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص231.
2- ابن شهر آشوب، المناقب، مصدر سابق، ج4، ص150.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج6، ص151.
4- كمال الدين دميري، حياة الحيوان الكبرى، دار الكتب العلمية، لا.م، 1424ه، ط2،ج1، ص139.

 

191

  


145

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 2- قبس من علمه وتعليمه

كانعليه السلام يشجّع كلّ من يأتي إليه طالباً لعلوم آل محمد، ويقول له: "مرحباً بوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ثمّ يقول: "إنّ طالب العلم إذا خرج من منزله لم يضع رجليه على رطب ولا يابس من الأرض إلّا سحبت له إلى الأرضين السابعة"1. ويقول ابن حجر في صواعقه: "زين العابدين هو الذي خلف أباه علماً وزهداً وعبادة"2. وقد تمكّن الإمام زين العابدين من بيان معالم فقه أهل البيت عليهم السلام وإغناء معارفه، حتّى أقرَّ كبار العلماء بأنّه الأفقه من الجميع، قال أبو حازم: "لم أرَ هاشميّاً أفضل من عليّ بن الحسينعليه السلام وما رأيت أحداً كان أفقه منه"3، وقال الشافعيّ: "إنّ عليّ بن الحسين أفقه أهل البيت"4.

ويتّفق المؤرّخون على أنّ الإمام عليه السلام "انكبَّ على الشؤون الدينيّة، ورواية الحديث، والتعليم، وأنّه انصرف إلى بثّ العلوم، وتعليم الناس، وتربية المخلصين، وتخريج العلماء والفقهاء، والإشراف على بناء الكتلة الشيعيّة"5، ولكنّه لم يكن بعيداً عن العمل السياسيّ وإدارة شؤون المجتمع وفق ما تسمح به الظروف المحيطة آنذاك.

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج46، ص 62.
2- أحمد بن حجر الهيتمي المكي، الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة، مصر، 1385ه - 1965م، ط2،ص 200.
3- محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول عليه السلام، ماجد ابن أحمد العطية، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ص 420.
4- السيد محمد رضا الجلالي، جهاد الإمام السجاد عليه السلام، مصدر سابق، ص 114.
5- المصدر نفسه، ص79، نقلاً عن معتزلة اليمن ص17- 18

 

192

  


146

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 3- تعبيره عن حبّه لله تعالى

مفهوم الحبّ يعبّر عن حالة تعلّق خاصّ بين المرء وكماله، والإنسان يعشق الأشياء لأنّه يرى فيها سعادته، عن الإمام الباقرعليه السلام: "يا زياد... ويحك، وهل الدين إلّا الحبّ، ألا ترى إلى قول الله تعالى: "﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ الدين هو الحبّ، والحبّ هو الدين"1.

وفي "مناجاة المحبين" يصف الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام محبّته لله تعالى وإخلاصه له فيقول: "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتِك، فرامَ منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك، فابتغى عنك حولاً..يا منى قلوب المشتاقين... ويا غاية آمال المحبّين...أسألك حُبّك، وحبَّ من يُحبّك، وحبّ كلّ عمل يُوصلني إلى قُربك.. وأن تجعلَ حبّي إياك قائداً إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك... يا أرحم الراحمين.."2.

وللحبّ في القلوب درجات:
أ- الحبّ الضحل والضئيل، لا يكاد يشعر به صاحبه ولا ينفع لبناء علاقة بالله.
ب- الحبّ الذي يملأ القلب ولا يترك مجالاً لشيء آخر..

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج66، ص 238.
2- الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية، مصدر سابق، ص 413.

 

193

  


147

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 ج- الحبّ الذي لا يرتوي معه العبد من ذكر الله ومناجاته، كما مرّ في المناجاة.

4- فلسفة الجهاد في دعاء أهل الثغور
إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام وإن لم تتوافّر له إمكانات التضحية والقتال إلى حدّ الشهادة، كما فعل أبوه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء. لكنّه لم يفقد فرصة المقاومة بالدعاء لأهل الثغور بغضّ النظر عن الدولة القائمة على الظلم، فهو ينظر إلى ثغور المسلمين التي يشكّل حفظها حفظاً للمسلمين وحماية لأنفسهم وأعراضهم، وأموالهم التي يعتقد الإمام أنّها تدخل ضمن واجبات الإمامة ومسؤوليّات الإمام عليه السلام.

لهذا نراه يفتتح هذا الدعاء العظيم بقوله: "اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وحصّن ثغور المسلمين بعزّتك، وأيّد حماتها بقوّتك، وأسبغ عطاياهم من جِدَتك". ثمّ يدعو الله أن يمنحهم القوة بزيادة العدد والعُدّة ما يؤدّي إلى نصرهم، بقوله عليه السلام: "اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وكثّر عِدّتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم،... واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر".

لينتقل بعد ذلك إلى الدعاء لهم بالمعرفة والبصيرة كأهمّ عنصرين يحتاج إليهما المجاهدون، فيقول: "اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وعرّفهم ما يجهلون، وعلّمهم ما لا يعلمون، وبصّرهم ما لا يبصرون"1.

1- الصحيفة السجادية، مصدر سابق، دعاء أهل الثغور.
194

  


148

المحاضرة الأولى: الإمام السجّاد عليه السلام قدوة وأسوة

 لينتقل بعد ذلك إلى تحفيز كلّ أفراد المجتمع على مساعدة المجاهدين وتقديم العون لهم؛ لأنّ عدم قدرة الجميع على الحضور في الثغور لا يعفيهم من واجباتهم، في الدعم والعون والنصرة من بعيد، بالمال والعتاد ومختلف أنواع المساعدة، حتّى الدعاء. فقال عليه السلام: "اللّهمّ وأيّما مسلم خَلَفَ غازياً، أو مرابطاً، في داره، أو تعهّد خالفيه في غيبته، أو أعانه بطائفة من ماله أو أمدّه بعتاد، أو شحذه على جهاد، أو أتبعه في وجهه دعوةً، أو رعى له من ورائه حرمةً، فأجْرِ له مثل أجره، وزناً بوزن، ومثلاً بمثل، وعوّضه من فعله عوضاً حاضراً يتعجّل به نفع ما قدّم، وسرور ما أتى به..."1.

 

1- الصحيفة السجادية، مصدر سابق، الدعاء السابع والعشرون.

195

  

 


149

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 الهدف:

التعرّف إلى أنواع العلائق الاجتماعيّة المتبادلة بين الأهل والأبناء.

تصدير الموضوع:
روي عَنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "رِضَا اللَّهِ مَعَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ‏، وَسَخَطُ اللَّهِ مَعَ سَخَطِ الْوَالِدَيْن‏"1.

1- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين، تقديم السيد محمد مهدي السيد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص368.

 

197

  


150

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 تمهيد

لقد جاء الدين الإسلامي بمنظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، إلى جانب مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الأسس التي تعنى بتربية الإنسان والمجتمع، وتوجيهه نحو قيم الفضيلة، والأخلاق الحسنة وغيرها...، إلّا أنّ بعض هذه العناصر والأسس عامّ ويخاطب الإنسان كفرد، ويهدف إلى صقل شخصيّته، وتربيتها على العلاقة الإيجابيّة والجيّدة مع الله والناس، وهي تساهم بطريقة غير مباشرة في المنظومة التربويّة الضامنة لسلامة الفرد المكوّن للأسرة وصلاحه، وبعضها يرتبط بشكل مباشر بأسس الكيان الأسريّ ومرتكزاته، ويهدف إلى بنائه بناءً صحيحاً، وحفظه من الأخطار والمنزلقات كافّة التي طالما أطاحت بالأفراد والأسر والمجتمعات.

1- الزواج وتشكيل الأسرة
يتجلّى هذا الخطاب الخاصّ والمؤثّر من جهة في تصوير القرآن للرابطة الزوجيّة بين الرجل والمرأة، التي تنشأ منها الأسرة، فقد اعتبر القرآن الكريم أن هذه الرابطة يجب أن تقوم على أمتن العلاقات والقيم الإنسانيّة، من السكينة والودّ والحبّ والرحمة والاحترام، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾1, ومن جهة أخرى في الرابطة التي ينبغي أن تحكم علاقة الوالدين بأولادهما حتّى تكتمل منظومة

1- سورة الروم، الآية 21.
198

  


151

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 الحياة بشقّيها كليهما الزوجيّ والأسريّ ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ﴾1.

فالسكينة الأسريّة التي جعلها الله هدفاً، هي سكينة تقوم على حفظ القيم الخالدة التي جاءتنا وحياً، وليست سكينة تقوم على التراضي المؤقّت أو على أسس غير ربانيّة. وفي الآية الكريمة كلمتان حاكمتان: الخلق والجعل، فشاءت إرادة الله أن يخلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، ونحقّق معاً هذه السكينة، ثم علّمنا المولى أنّ الطريق لتحقيق هذه السكينة يتمثّل في أمرين، هما: المودّة والرّحمة في التعامل بين الزوجين.

فالمودّة هي الباعثة على الارتباط في بداية الأمر، ولكن في النهاية وحين يضعف أحد الزوجين، تأخذ الرحمة دورها2. وهكذا فإنّ الزوجين يتلازمان بالمودّة والرحمة معاً، يرحمان الصغار، ويرفعان ضعفهم ويقضيان حوائجهم، ويقومان بواجب العمل في حفظهم وحراستهم وتغذيتهم وكسوتهم وإيوائهم وتربيتهم، ولولا هذه الرحمة لانقطع النسل، ولم يعش النوع قطّ3.

والتربية وظيفة بنيويّة وتغييريّة، موضوعها الإنسان والمجتمع، يشارك في إيجاد مبانيها وأسسها وترسيخها وترشيدها مجموعة من العناصر والمؤثّرات، ومن أهمّ هذه العناصر الأم، باعتبارها مصدر الحنان والعاطفة، ومركز التوجيه والحرص والعناية بحاجيّات الأبناء كلّها، فبعد أن يولَد الطِّفل، تكون الأمّ أوّل فردٍ من أفراد العائلة يتواصل معه بنحو مباشر، وهذه

1- سورة النساء، الآية 11.
2- الشيرازي،الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج12، ص496.
3- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج16، ص166.

 

199

  


152

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 العلاقة لا تؤثِّر في مجال تلبية احتياجات الطِّفل وحسب، بل تؤثِّر أيضاً في حالاته النفسيّة والعاطفيّة. وبالنتيجة، الأمّ هي قلب المجتمع، ومركز حياته وبقائه، فكما أنّ القلب في الجسم البشريّ مركز حياة، وديمومة بقاء واستمرار، كذلك الأمّ قلب المجتمع، فإذا صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع. فالمرأة تمثّل نصف المجتمع، وتلد وتربّي النصف الآخر منه، فتكون بمثابة المجتمع كلّه ومدرسة تربويّة له، تعكس عنوان حضارته، وعنوان قوّته ومقدار تقدّمه ورفعته، حتّى قيل: وراء كلّ رجل عظيم امرأة، ولا نبالغ إن قلنا أيضاً، إنّ وراء كلّ مجتمع صالح ومتحضّر أمّهاته ونساءه. وبرغم الدور المحوريّ والمهمّ للأمّ في الحياة الأسريّة إلّا أنّها وحدها تبقى عاجزة عن إيجاد الحلول للكثير من القضايا والمشاكل الأسريّة، وغير قادرة بمفردها على إدارة العمليّة التربويّة بكلّ تشعّباتها وتعقيداتها، لذا كانت بحاجة إلى سند يعينها في هذه المهمّة، وهنا يأتي دور ووظيفة الأب. فالأسرة بحاجة إلى منهج تربويّ ينظّم مسيرتها، فيوزّع الأدوار والواجبات ويحدّد المهامّ والاختصاصات للمحافظة على تماسكها المؤثّر في انطلاقة عمليّة التربية الصحيحة للطفل وفق الضوابط الدينيّة والمنطقيّة التي تضمن في نهاية المطاف الوصول إلى الغايات والأهداف الإلهيّة، من خلق الإنسان وتنزّله إلى هذا العالم.

2- علاقة الآباء بالأبناء
إنّ أهمّ علاقة يمكن إقامتها بين أفراد المجتمع هي علاقة الأبناء مع

200

  


153

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 آبائهم، فهي تعكس تبعيّة وجود الولد لوجود والديه، وهي علاقة قويّة ومتينة، لأنّها تنبع من أسس إنسانيّة رحيميّة برغم اختلاف الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم بغضّ النظر عن الأفكار الغربيّة المنتشرة في هذا العصر حول تلفت الأبناء من قيود الأسرة وهنا لا يمكن اعتبار العلاقة المتبادلة ملاكاً لتقييم السلوك والأفعال المتبادلة بينهم، لأنّ الولد عاجز عن التأثير في والديه، كتأثيرهما في نشوئه، فوجود الولد تابع لوجود والديه في حين لا يتبع وجود الوالدين وجود ولدهما أبداً.

وعليه، لا يمكن تقييم علاقة الولد مع والديه استناداً إلى مبدأ العدل والقسط، لأنّ أساس العدل والقسط قائم على وجود علاقات متبادلة بين فردين أو أكثر، وبالتالي ثبوت حقوق ومسؤوليّات متبادلة بينهما، أينما وجد حقّ ومسؤوليّة متبادلة كان هناك نوع من التأثير والتأثّر المتبادل، وأمّا عن تأثير الوالدين في أبنائهما فممّا لا يمكن حصره، فإنّ شخصيّة الولد تتأثر بشكل مباشر وغير مباشر وراثيّاً واجتماعيّاً، ودينياً واقتصاديّاً وغير ذلك بالوالدين.

3- حقوق الأبناء
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأمّا حقّ ولدك فأن تعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب، والدّلالة على ربّه عزّ وجلّ، والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن

201

  


154

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذور إلى ربّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه، والأخذ له منه ولا قوّة إلّا بالله"1.

ويمكن أن نشرح كلام الإمام زين العابدين عليه السلام من خلال تربية الأبناء، فإنّ تربية الأبناء تتعدّد وتتنوّع بشكل واسع وكبير، وهي تشمل كلّ مجالات الحياة التي يعيش فيها الأبناء، ولذا ينبغي أن تشمل التربية كلّ المجالات، فنربّي أبناءنا تربية دينيّة، وتربية أخلاقيّة، وتربية عاطفيّة، وتربية جنسيّة، وتربية اجتماعيّة، وتربية اقتصاديّة، وغيرها من الأنواع، لكي تصبح شخصيّة الطفل شخصيّة متناسقة ومتكاملة الصورة، وسوف نشير إلى بعض هذه الأنواع على سبيل المثال وإلّا فمجال الحديث في هذه الأنواع كثير جدّاً، وهي:

أولاً: التربية الدينيّة:
يتشارك كلّ من الفتاة والصبيّ في حقّهما بأصل التربية الدينيّة والأخلاقيّة، ولكن بالالتفات إلى أنّ الفتيات يصلن أسرع إلى سنّ التكليف، لذا يتوجّب تعليمهنّ التكاليف الشرعيّة والعباديّة، وحمْلهنّ على أداء هذه التكاليف قبل سنّ التاسعة، حتّى لا يغدو أداء الفرائض الدينيّة أمراً شاقّاً وعسيراً عليهنّ عندما يتكلّفن. ولذا، ورد في الروايات تأكيد ضرورة تعليم الإسلام وأحكامه للأبناء، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به..."2.

 

1- الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص568.
2- المصدر نفسه، ص610.

 

202

  


155

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال بشأن تعليم الأولاد الصلاة: "مرُوا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً..."1.

 

ثانياً: التربية الأخلاقيّة:
ومن الضروريّ أيضاً الاعتناء بالتربية على المستوى الأخلاقيّ، حتّى يكون أداء الأعمال الأخلاقيّة سهلاً، ولكي يخلص الأبناء من الرذائل الأخلاقيّة، ويتحلّون بالأخلاق الحسنة، وينقل القرآن الكريم بعض وصايا لقمان لابنه، وهو يعظه، فيقول له: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير﴾2.

ومن الموارد المهمّة في التربية الأخلاقيّة والقيميّة التربية على الصدق، التضحية، الوفاء، الإيثار، النظافة، حبّ الآخر...هي قيم ينبغي تنشئة الأطفال عليها، فالقيم الحسنة هي الخطاب الجامع بين البشر مهما اختلفوا، وهي النافذة الأهمّ وبوابة العبور نحو التوجيه الدينيّ.

ثالثاً: التربية العاطفيّة:
المقصود بالعاطفة هو الاستعداد والميل الفطريّ الداخليّ الذي يشكّل

 

1- القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، دار المعارف، مصر - القاهرة، 1383ه - 1963م، لا.ط، ج1، ص194.

2- سورة لقمان، الآيات17-19.

 

203

  

 


156

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 دعامة الجانب الوجدانيّ عند الإنسان، وعلى أساس هذا الاستعداد الفطريّ، يستطيع الإنسان أن يُظهر ميوله الباطنيّة، منطلقاً من المحبّة والعطف لأبناء جِلْدَته، ومن خلال هذا الطريق يؤسّس معهم لعلاقةٍ قلبيّة وأنس وأُلفة.

وعن مصاديق التربية العاطفية في السلوك مع الأطفال حدّثنا الإمام الصادقعليه السلام عن أسلوب والده الإمام الباقرعليه السلام في تعامله مع أحد أبنائه فيقول: "والله، إنّي لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخذي، وأكثر له المحبّة، وأكثر له الشكر، وإنّ الحقّ لغيره من ولدي، ولكنْ محافظة عليه منه ومن غيره، لئلّا يصنعوا به ما فُعل بيوسف وإخوته، وما أنزل الله سورة يوسف إلّا أمثالاً لكيلا يحسد بعضنا بعضاً، كما حسد يوسفَ إخوتُه وبغوا عليه فجعلها حجّة ورحمة"1.

4- علاقة الأبناء بالآباء
أ- برّ الوالدين والإحسان إليهما:
اعتبر القرآن حقوق الوالدين ضمن مستوي المسؤوليّات الإلهيّة الكبرى تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾2, والقضاء هنا بمعنى التكليف القطعيّ المنجز والمؤكّد، ثمّ إنّ أعلى تكليف يوجّه إلى الإنسان هو عبادة الله سبحانه وتعالى، والتعبير بـ "قضى"، الذي

1- العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، تحقيق الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلاميّة، إيران - طهران، لا.ت، لا.ط، ج2، ص166.
2- سورة الإسراء، الآية 23.

 

204

  


157

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 لا يضاهيه تعبير آخر يفصح عن هذه الأهمّيّة، وهذا يؤكّد أنّ الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله تعالى، قد وقع موضوعاً للأمر والحكم الإلهيّ.

وفي آية أخرى ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾1,، واعتبر أنّ برّ الوالدين والإحسان إليهما، هو من التشريعات الرئيسة والمهمّة، وهو ما يفسّر اقتران الحكم والأمر بالإحسان إلى الوالدين وشكرهما بتوحيد الله وشكره في الآيتين. بل إنّ رضي الله مرهونٌ برضي الوالدين، وغضبه نابع من استيائهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: "رِضَا اللَّهِ مَعَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ‏، وَسَخَطُ اللَّهِ مَعَ سَخَطِ الْوَالِدَيْن‏"2.

وجاء التخصيص للأمّ فقد اعتبرت بعض الروايات أنّ الإحسان للأمّ يعادل ضعف الإحسان للأب. عن أَبِي جَعْفَرٍعليه السلام أنه قَالَ: "قَالَ مُوسَى عليه السلام: يَا رَبِّ، أَوْصِنِي. قَالَ: أُوصِيكَ (بِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). قَالَ: يَا رَبِّ أَوْصِنِي. قَالَ: أُوصِيكَ بِأُمِّكَ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: يَا رَبِّ، أَوْصِنِي. قَالَ: أُوصِيكَ بِأَبِيكَ، فَكَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ يُقَالُ إِنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيِ‏ الْبِرِّ وَلِلْأَبِ الثُّلُثَ"3.

ب- مراعاة آداب الكلام والمحادثة مع الوالدين:
فيما يتعلّق بالمحادثة مع الوالدين، حيث اشترط الإسلام أن يكون صوت الأبناء منخفضاً وهادئاً ولطيفاً: "ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا

1- سورة لقمان، الآية 14.
2- الفتال النيسابوري، روضة الواعظين، مصدر سابق، ص368.
3- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص601.

 

205

  


158

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 يدك فوق أيديهما ولا تقدم قُدّامهما"1، بعيداً عن أيّ ضجيج أو صراخ، فقد نهى القرآن حتّى عن التفوّه بلفظ "أف" تجاه الوالدين، حيث قال تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾2, وأوجب مخاطبتهما باحترام وتبجيل، فلا يُستحسن مخاطبتهما إلّا بـ "الأب والأمّ". بل اعتبرته الشريعة حقّاً من حقوق الوالدين كما سيأتي.

ج- التواضع للوالدين واحترامهما:
إنّ أهمّ شيء في التعامل غير الكلاميّ هو التحلّي بالتواضع أمام الوالدين، وقد استخدم القرآن استعارة جميلة "للتواضع أمام الوالدين، ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾3.

وعن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما حقّ الوالد على ولده؟ قال: "لا يسمّيه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسبّ له"4.

كما أنّ علي الأبناء - عند محادثتهم للآخرين - أن يذكروا والديهم باحترام متجنّبين المِساس بهم، وأن يغمروهم بالدعاء، وإن لم يكونوا في الدرب الصحيح.

1- الشيخ الكليني،الكافي، مصدر سابق، ج2، ص158.
2- سورة الإسراء، الآية 23.
3- سورة الإسراء، الآية 24.
4- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص159.

 

206

  


159

المحاضرة الثانية: العلاقات المتبادلة بين الأهل والأبناء

 د- النّظر إلى الوالدين بمحبة وعطف:

لا ينبغي للابنة أن ترمق والديها بنظرة حادّة، متحاملة عليهما، وإن كانا فعلاً قد مارسا ظلماً بحقّها، بل لا بدَّ لها من النّظر إليهما بعطف ومحبّة، حيث سيُكتب لها الأجر والثواب وتُفتح لها أبواب الرحمة الإلهيّة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "... لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة ورقة..."1.

ويعدّ تقبيل الوالدين أيضاً عملاً عباديّاً، ثم ليس علي الابن أن يغتاظ من والديه أو يقطع صلته بهما.

و- المسارعة إلى تلبية جميع حوائج الوالدين:
إنّ الوالدين كلّما تقدّما في السن ابتُليا بمشاكل صحيّة عديدة، وبالتّالي يجب مساعدتهما، لذا شدّدت النّصوص الدينيّة علي العناية بهما من قِبَل الأبناء، وأوصت بشكلٍ عامّ: أن يسارع الأبناء في تأمين احتياجات والديهم قبل أن يطلبوا منهم ذلك. عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام إِنَّ أَبِي قَدْ كَبِرَ جِدّاً وَضَعُفَ، فَنَحْنُ نَحْمِلُهُ إِذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ، فَقَالَ: "إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ فَافْعَلْ وَلَقِّمْهُ بِيَدِكَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ لَكَ غَداً"2.

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص158.
2- المصدر نفسه، ج2، ص162.

 

207

  


160

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين عليه السلام والقرآن

 الهدف:

بيان بعض جوانب علاقة الإمام الحسين عليه السلام بالقرآن الكريم، وظهور ذلك في بعض المحطّات في نهضته المباركة.

تصدير الموضوع:
من دعاء الإمام الحسين عليه السلام ليلة العاشر من المحرم: "اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين"1.

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج 2، ص 91.

 

211

  


161

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين عليه السلام والقرآن

 مقدمة

لا شكّ في أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان عِدل القرآن كبقية المعصومين عليهم السلام، فهم أحد الثقلين اللذين أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتمسُّك بهما خشية الوقوع في الضلال بعده. ولذلك فهم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقهم ولا يفارقونه.

فلا بدّ من بيان بعض الجوانب الظاهرة من علاقة سيّد الشهداء عليه السلام بكتابه تعالى وما ظهر منه في مواضع وكلمات عديدة من الاهتمام به.

1- أوصاف الإمام الحسين عليه السلام القرآنيّة
إنّ الإمام الحسين عليه السلام من أهل بيت العصمة، والذي يعدُّ القرآن الناطق، الذي يبيّن مكنونات القرآن الكريم، وخصائصه، ومعاني آياته، فهو العالم به، وبكلّ علومه الشريفة، وبالنظر إلى بعض الروايات والزيارات الواردة حول الإمام الحسين عليه السلام يتّضح أنّها وصفته بأوصاف عديدة لها علاقة بالقرآن الكريم، لتبيّن أنّ الحسينعليه السلام هو عدل القرآن الكريم، وهذه الأوصاف هي:

- العالم بالقرآن: ليلة العاشر من المحرّم: قالعليه السلام: "اللهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقهتنا في الدين"1.

- شريك القرآن: جاء في بعض زياراته عليه السلام: "السلام عليك يا شريك القرآن"2.

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج 2، ص 91.
2- ابن طاووس، السيد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد الحسني الحسيني، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرة في السنة، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، قم‏، مكتب الإعلام الإسلامي، 1414ه، ط1، ج3، ص341.

 

212

  


162

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين عليه السلام والقرآن

 - سند القرآن: في بعض زياراته أيضاً: "كنت للرسول ولداً وللقرآن سنداً"1.

 

- التالي للكتاب حقّ تلاوته: كما في بعض الزيارات أيضاً: "وتلوْتَ الكتاب حقّ تلاوته"2.

2- الإمام الحسين عليه السلام والقرآن الكريم
يتّضح من مجموعة من الروايات وجوه علاقة الإمام عليه السلام بالقرآن الكريم، ودوره في تربية الناس على تعاليمه، نذكر منها:

أ- حبّ تلاوته: ففي ليلة العاشر من المحرّم كان العبّاس بن عليّ عليهما السلام حين أتى الإمام عليه السلام بما عرض عليه عمر بن سعد، قال عليه السلام: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار"3.

ب- الحثّ على قراءته: عن بشر بن غالب الأسديّ، عن الحسين بن عليّ عليهما السلام قال: "مَنْ قَرَأ آيَةً مِنْ كِتابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في صَلاتِهِ قائِماً يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ حَرْف مِئَةُ حَسَنَة، فَإِذا قَرَأَها في غَيْرِ صَلاة كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْف عَشْرَ حَسَنات، وَإِنِ اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ كَتَبَ

 

 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج98، ص339.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص570.
3- الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج 4، ص 316.

 

 

 

213

  

 


163

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين عليه السلام والقرآن

 اللهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْف حَسَنَةً، وَإِنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ لَيْلاً صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلائِكَةُ حَتّى يُصْبِحَ، وَإِنْ خَتَمَهُ نَهاراً صَلَّتْ عَلَيْهِ الْحَفَظَةُ حَتّى يُمْسِيَ، وَكانَتْ لَهُ دَعْوَةٌ مُجابَةٌ، وَكانَ خَيْراً لَهُ مِمّا بَيْنَ السَّماءِ إِلىَ الأْرْضِ. قلت: هذا لمن قرأ القرآن، فمن لم يقرأ؟ قال عليه السلام: يا أَخا بَني أَسَد! إِنَّ اللهَ جَوادٌ ماجِدٌ كَريمٌ، إِذا قَرَأَ ما مَعَهُ أَعْطاهُ اللهُ ذلِكَ"1.

3- آيات تلاها الإمام في نهضته:
كان الإمام الحسين عليه السلام يتلو عدداً من الآيات الكريمة ويجهر بها، حتّى سمعها الكثيرون منه ونقلوها عنه. وقد حصل ذلك في محطّات عديدة ومختلفة منذ لحظة خروجه من المدينة في أواخر رجب سنة 60 للهجرة، حتّى لحظة استشهاده ظهر يوم العاشر من المحرّم سنة 61 للهجرة.

ومن تلك المحطات:

أ- يوم خروجه من المدينة ودخوله مكّة المكرّمة:
ذكر المؤرّخون أنّه لمّا خرج عليه السلام متوجهاً إلى مكّة كان يقرأ قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾2, ولمّا دخل مكّة قرأ قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾3 4.

7- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 611.
8- سورة القصص، الآية 21.
9- سورة القصص، الآية 22.
10- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج 2، ص 35.
  

 

214


164

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين عليه السلام والقرآن

 وفي تلاوة هاتين الآيتين دلالات:

منها: شبه الإمام الحسين عليه السلام بنبيّ الله موسى عليه السلام، وهو وارث موسى كليم الله، فكما أنّ موسى ترك وطنه إلى بلد غريب، هو مدين خدمة للرسالة الإلهيّة، فكذلك الإمام الحسين عليه السلام ترك مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، خدمة للدين والرسالة الإلهيّة.

ومنها: أنّه كان مطلوباً يراد قتله، وكان يخشى القتل قبل تحقيق الهدف، كنبيّ الله موسى عليه السلام، وكان يترقّب الأحداث ويطلبها، والترقّب: طلب ما يكون من المعنى على حفظه للعمل عليه، ومثله التوقّع وهو طلب ما يقع من الأمر متى يكون1، فكان يطلب ما يكون ويتوقّعه.

فلم يكن خوفه على نفسه، يدلّ على أنه لزم الطريق الأعظم، فقال له أهل بيته: لو تنكّبت الطريق الأعظم كما صنع ابن الزبير لئلّا يلحقك الطلب، فقال: "لا والله لا أفارقه حتّى يقضي الله ما هو قاض"2.

ومنها: أنّ حركة الحسين عليه السلام أمام يزيد هي حركة الأنبياء في مواجهة طواغيت زمانهم نفسها، والممثّل لخطّ الأنبياء هو الإمام عليه السلام، ويزيد هو فرعون وطاغوت ذلك الزمان.

ب- في الثعلبيّة في طريقه إلى الكوفة:
في منطقة الثعلبيّة أتاه رجل وسأله عن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو

1- الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج 8، ص 140.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج 2، ص 35.

 

215

  


165

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين عليه السلام والقرآن

 كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾1، فقال عليه السلام: "إمام دعا إلى هدى فأجابوا إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوا إليها، هؤلاء في الجنّة وهؤلاء في النار، وهو قوله تعالى: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾" 2 3

وفي ذلك دلالة على أنّ مصير الإنسان يوم القيامة ونجاته، مرتبط باتّباع إمام الحقّ والهدى.

ج- حين فراق الشهداء:
فكان عليه السلام إذا سمع بشهادة أحد أصحابه أو ودّع أحداً من أصحابه أو سقط أمامه شهيداً يتلو قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾4.

ومن تلك المواضع التي تلا هذه الآية فيها:

- لما جاءه خبر شهادة قيس بن مسهّر الصيداويّ، في طريقه إلى الكوفة، في عذيب الجهانات، تلا هذه الآية وقال: "أللهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك"5.

- وكان كلّ من أراد الخروج إلى القتال ودّع الحسين عليه السلام

1- سورة الإسراء، الآية 71.
2- سورة الشورى، الآية 7.
3- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص217.
4- سورة الأحزاب، الآية 23.
5- الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، ج4، ص306.

 

216

  


166

المحاضرة الأولى: الإمام الحسين عليه السلام والقرآن

 بقوله: السلام عليك يا بن رسول الله، فيجيبه الحسين عليه السلام: "وعليك السلام ونحن خلفك"، ثم يقرأ الآية1.

- ولمّا وقع مسلم بن عوسجة صريعاً وكان به رمق، مشى إليه الحسين عليه السلام ومعه حبيب بن مظاهر، فقال له الحسين عليه السلام: "رحمك الله يا مسلم"، ثم تلا الآية الكريمة2.

د- التذكير بالاصطفاء الإلهيّ:
روي أنّه أقبل رجل من عسكر عمر بن سعد، يقال له محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، فقال: يا حسين بن فاطمة، أيّ حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك؟ فتَلا الحسين عليه السلام هذه الآية: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾, ثمّ قال:" والله إنّ محمداً لمن آل إبراهيم، وإنّ العترة الهادية لمن آل محمد. مَن الرجل؟" فقيل: محمد بن الأشعث بن قيس الكنديّ، فرفع الحسين عليه السلام رأسه إلى السماء، فقال: "اللهمّ أَرِ محمدَ بنَ الأشعث ذُلاً في هذا اليوم، لا تعزّه بعد هذا اليوم أبداً". فعرض له عارض فخرج من العسكر يتبرّز، فسلّط الله عليه عقرباً فلدغته، فمات..3.

1- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 3، ص 350.
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج2، ص103.
3- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 222.

 

217

  


167

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 الهدف:

 

التعرّف إلى مواقف السيدة زينب عليها السلام عقب كربلاء في وجه الطغاة والظالمين والاقتداء بها.

تصدير الموضوع:
ممّا قالته العقيلة عليها السلام في توبيخ يزيد: ".. وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّىَ. أَلاَ فَالعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ.."1.

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 135.

219

  

 


168

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 تمهيد

تحرَّك موكب سبايا أهل البيت عليهم السلام من كربلاء المقدّسة نحو مدينة الكوفة وهو يقطع الصحاري، حاملاً الذكريات الموحشة والمؤلمة لليلة الفراق والوحشة، التي قضوها على مقربة من مصارع الشهداء، في الحادي عشر من المحرّم 61 هـ. وقد حمل جيش عمر بن سعد السبايا على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء، وساقوهم كما يساق سبي الترك والروم في أشدّ المصائب، وتتقدّمهم الرؤوس على الرماح، حتّى دخل الركب الكوفة في اليوم الثاني عشر من المحرَّم 61 هـ1.

1- مواقف السيدة زينب عليها السلام في كربلاء
تعتبر واقعة كربلاء من أهمّ الأحداث التي عصفت بالأمّة الإسلاميّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان للسيدة زينبعليها السلامدور أساسيّ ورئيس في هذه الثورة العظيمة، فهي الشخصيّة الثانية على مسرح الثورة بعد أخيها الحسين عليه السلام، كما أنّها قادت مسيرة الثورة بعد استشهاد أخيها الحسين عليه السلام وأكملت ذلك الدور بكلّ حكمة و جدارة.

وحينما حدثت الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين عليه السلام بعد قتل كلّ رجالات بيتها وأنصارهم خرجت السيدة زينب تعدو نحو ساحة المعركة، تبحث عن جسد أخيها الحسين بين القتلى غير عابئة بالأعداء المدجّجين بالسلاح، فلمّا وقفت على جثمان أخيها الحسين عليه السلام، فالكلّ كان يتصوّر أنّها سوف تموت أو تنهار وتبكي وتصرخ أو يغمى عليها، لكن

1- ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص84.
220


169

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 ما حدث هزّ أعماق الناظرين، فوضعت يدها تحت جسده الطاهر المقطّع وترفعه نحو السماء وهي تدعو بمرارة قائلة: اللهمّ تقبَّلْ مِنّا هذا القربان.

2- خطبة السيدة زينبعليها السلام في الكوفة
لمّا دخل موكب السبايا الكوفة، خرج الناس إلى الشوارع، بين مُتسائل لا يدري لمن السبايا، وبين عارف يُكفكف أدمعاً ويُضمر ندماً.

ثمَّ اتَّجه موكب السبايا نحو قصر الإمارة، مُخترقاً جموع أهل الكوفة، وهم يبكون لما حلَّ بالبيت النبويّ الكريم، قال بشير بن خزيم الأسديّ: ونظرت إلى زينب بنت عليّ يومئذ، ولم أر خفرة والله أنطق منها، كأنّها تفرع من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: "الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاَةُ عَلىَ جَدِّي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الأَخْيَارِ، اَمَّا بَعْدُ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الْخَتْلِ والْغَدْرِ، أَتَبْكُونَ؟! فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ...َأتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! إِيْ وَاللهِ فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا...وَيْلَكُمْ يَا أَهلَ الْكُوفَةِ، أَتَدْرُونَ أَيَّ كَبِدٍ لِرَسُولِ اللهِ فَرَيْتُم؟! وَأيَّ كَرِيمَةٍ لَهُأبْرَرْتُمْ؟! وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ؟! وَأّيَّ حُرْمَةٍ لَهُ انتَهَكْتُمْ؟! لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا صَلعَاءَ عَنْقَاءَ سَوْدَاءَ فَقُمَاءَ...أَفَعَجِبْتُمْ أَنْ مَطَرَتِ السَّمَاءُ دَماً، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزىَ وَأَنْتُمْ لاَ تُنْصَرُونَ.." 1.

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 109.

 

221

  


170

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 3- الحجّة والمنطق في مواجهة ابن زياد

ولمّا روى المجرم الخبيث ابن مرجانة أحقاده من رأس ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التفت إلى عائلة الإمام الحسين فرأى سيّدة منحازة في ناحية من مجلسه، وقد حفّت بها المهابة والجلال، فانبرى ابن مرجانة سائلاً عنها، فقال: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه فانبرت إحدى السيّدات فأجابته: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم.

فثارت حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأجابته بشجاعة أبيها محتقرة له قائلة: "الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وَطَهَّرَنــــَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَـــاجِرُ، وَهُوَ غَيْـــرُنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة"1.

وكذالك عندما خاطبها مستهزئا: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟
فأجابته حفيدة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة: "ما رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيلاً، هؤُلاَءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا بْنَ مَرْجَانَةَ.."2.

ولمّا أدار ابن مرجانة بصره في بقيّة الأسرى من أهل البيت عليهم السلام

 


1- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 117.
2- المصدر نفسه، ج45، ص 116.

 

222

  


171

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 فوقع بصره على الإمام زين العابدين عليه السلام، وقد أنهكته العلّة فسأله: من أنت؟ فقال عليه السلام: "عليّ بن الحسين.." - بعد حوار مع الإمام - فالتفت إلى بعض جلّاديه فقال له: خذ هذا الغلام واضرب عنقه. فانبرت العقيلة عليها السلام بشجاعة لا يرهبها سلطان، فاحتضنت ابن أخيها، وقالت لابن مرجانة: "حسبك يَا بْنَ زِيَادٍ مَا سَفَكْتَ مِن دِمَائِنَا، إِنَّكَ لَمْ تُبْقِ مِنّا أَحَداً، فَإنْ كُنْتَ عَزَمْتَ عَلى قَتْلِهِ فَاقْتُلْني مَعَهُ.."1. ودَهِش الطاغية وانخذل، وقال متعجّباً: دعوه لها، عجباً للرَحِم ودَّت أن تُقتَل معه.

ولمّا أمر ابن مرجانة بحبس مُخدَّرات الرسالة وعقائل الوحي، فأُدخلْنَ في سجن، وقد ضُيِّقَ عليهنّ أشدَّ التضييق، فكان يجري على كلّ واحدة في اليوم رغيفاً واحداً من الخبز، وكانت العقيلة تُؤثِر أطفال أخيها برغيفها وتبقى ممسِكة حتّى بان عليها الضعف، فلم تتمكّن من النهوض وكانت تصلّي من جلوس، وفزع الإمام زين العابدين عليه السلام من حالتها فأخبرته بالأمر.

4- السيدة زينب في مواجهة الطاغية يزيد
وفي اليوم التالي أمر ابن زياد جنده بالتوجّه بسبايا آل البيت عليهم السلام إلى الشام، إلى الطاغية يزيد بن معاوية، وأمر أن يكبّل الإمام زين العابدين عليه السلام بالقيود، وأركب بنات الرسالة الإبل الهزّل تنكيلاً بهنّ، وهناك كان للسيدة زينب عليها السلام العديد من المواقف منها:

1- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 117.

 

223

  


172

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 أ- أمن العدل يا ابن الطلقاء:

لمّا وصلت القافلة إلى الشام في مجلس يزيد وأظهر الطاغية فرحته الكبرى بإبادته لعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ يهزّ أعطافه جذلاً متمنّياً حضور القتلى من أهل بيته ببدر ليريهم كيف أخذ بثأرهم من ذريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وراح يترنّم هذه الأبيات التي مطلعها:
لَيْــــتَ أَشـــــْيَاخِي بِبَدرٍ شَـهِدُو جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِـنْ وَقْعِ الأَسَـلْ

ولمّا سمعت العقيلة هذه الأبيات ألقت خطبتها الشهيرة بفصاحة أبيها عليّ عليه السلام وشجاعته وقد ضمّنتها أعنّف المواقف لفرعون عصره يزيد وممّا قالته عليها السلام:
"أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسُوقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ إلى بلدٍ،.. وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالبَعِيدُ"..

ب- الدعاء على الظالم في محضره: 
فقالت عليها السلام: ..."فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَ ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا"1.

ج- اليقين والتسليم بالحقّ:
فقالت عليها السلام مخاطبة يزيد - مؤكّدة أنّ نهج محمد لن يمحوه أحد

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 134.

 

224


173

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 مهما عظمت التضحيات -: "َكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَ ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا".

د- توبيخ يزيد الظالم في مجلسه:
حيث قالت عليها السلام: ".. وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّى"1.

هـ- الظالم من حزب الشيطان:
فصرّحت عليها السلام قائلة: "أَلاَ فَالعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ.."2.

5- بعض ما يستنتج من خطبة زينب عليها السلام
أ- لقد كشفت الظنّ الزائف ليزيد بل لجميع الطغاة على مرّ التاريخ الذين يحسبون أنّ ما حقّقوه من غلبة على أعدائهم بالظلم والعدوان كرامة وقوة وعظمة، وهو في الحقيقة ضعف وخسارة، لأنّه تجاوز لحدود العقل والشرع والمنطق السليم، واستَشهدَتْ بقوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾3.

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص134.
2- المصدر نفسه، ص135.
3- سورة آل عمران، الآية 178.

 

225

  


174

المحاضرة الثانية: مسيرة السبايا.. والقيادة الزينبيّة للثورة

 ب - كشف عمق الجريمة الأمويّة في هتك حرمات العائلة النبويّة من خلال الاستعراض العامّ لحرائر آل محمد من بلد إلى بلد وهي جريمة لا تدانيها جريمة أخرى وهي سبي بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما لا تعرف له الإنسانيّة مثلاً في سابق عهدها.

ج - أعادت إلى الأذهان أنّ ما أقدم عليه يزيد امتداد لما أقدمت عليه جدّته هند وجدّه أبو سفيان في حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ هذه الجريمة هي امتداد لتلك الجريمة التي أقدمت عليها جدّته حين مضغت كبد حمزة عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

د- أوضحت حقيقة إلهيّة أنَّ كلَّ جريمة أو فعل قبيح يقدم عليه الإنسان إنّما يضُرّ نفسه، ويحرق بها مستقبله ولهذا خاطبت يزيد قائلة عليها السلام: "فوالله ما فَريتَ إلّا جلدَك، ولا حززت إلّا لحمك"1، وإنّ الموت الحقيقيّ قد حلّ بك وبأضرابك وأسلافك، وإنّ الحياة الخالدة قد منحت للذين قتلتهم ومثلت بأجسادهم ورفعت رؤوسهم على الرماح وأكّدت ذلك باستشهادها بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾2.

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص 134.
2- سورة آل عمران، الآية 169.

 

226

  


175
زاد عاشوراء للمحاضر الحسيني 1439 هـ