الأسوة الحسنة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2017-10

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى اله الطيبين الطاهرين.

جعل الله تعالى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدوة وأسوة للناس جميعاً، وفرض عليهم أن يقتدوا به وأن يتبعوه في كل شي‏ء حتى في جزئيات أفعالهم فقال تعالى : ﴿ لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ﴾.
وذلك لما تمثّله شخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من نموذج حقيقي للإنسان الكامل الذي اجتمعت في شخصيته كل الصفات والخصائص والقيم الإنسانية والإلهية. فهو الفقيه العالم، والمجاهد العارف، والتقي العابد، والمعصوم الكامل، بل أكمل الخلق وأفضلهم وأعظمهم على الإطلاق، لا ترى في أعماله أي خلل أو ضعف، ولا في تصرفاته وسلوكه أي تشتت أو تناقض. وقد اتسع قلبه لألام الناس ومشكلاتهم، فجاهد في الله حق جهاده، ووقف بحزم وثبات وقوة في وجه القوى الجاهلية، الوثنية، من أجل العدالة والحرية والمحبة والرحمة، ومن أجل مستقبل أفضل لجميع الناس.

ولذلك أيضاً فقد حظيت شخصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك حياته وسيرته باهتمام التاريخ والمؤرخين والباحثين، وأُلفت حول شخصيته وسيرته العطرة مئات بل آلاف الكتب والدراسات ولا نعلم سيرة رجل قد نُقّحت وحُققت ومُحصت بالحجم الذي تم لسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الكتاب "الأسوة الحسنة" هو محاولة متواضعة لفهم بعض أبعاد هذه الشخصية الإلهية لعلّها تكون لنا منارة تهدينا في دروب ومسالك هذه الحياة الوعرة.


والحمدلله ربّ العالمين


1

مدخل إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 الحمد لله ربّ العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله وحبيبه وصفيِّه وحافظ سرّه ومبلِّغ رسالاته، سيِّدنا ونبيِّنا ومولانا أبي القاسم محمّدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ﴾1.

إنّ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المباركة هي أحد منابع المعرفة التي ينبغي على كلّ مسلم أن يستقي منها لاستكمال صلاحه وتصحيح نظره. وقبل الدخول في الموضوع، لا بدَّ من إيراد مقدّمة قصيرة أذكّركم بها، وهي أنَّ واحدة من نعم الله علينا – نحن المسلمين-، ومفخرة من مفاخرنا على أتباع الأديان الأُخرى، هي أنَّ قدرًا كبيرًا من أقوال الرسول وأحاديثه المتواترة والموثوق بها ما زالت مصونة ومتداولة بيننا، وهذا ما لا يستطيع أن يدّعيه أتباع الأديان الأُخرى؛ إذ ليس بإمكانهم أن يقولوا إنّ العبارة الفلانيّة-مثلًا-هي ما قاله موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام فعلًا. صحيح أنَّ بين أيدينا الكثير ممَّا ينسب إليهما، ولكن لا أحد يستطيع أن يقطع بذلك.

والأمر الآخر هو أنَّ حياة نبيّنا واضحة ومدعومة بالأسناد الموثّقة، حتّى أنَّها في دقائقها وجزئيّاتها ليست خافية علينا، ولا يعترينا الشكّ في صحتها، وهذا ما لا يَصدُقُ على أيّ نبيّ آخر. إنّنا نعرف سنة ولادته، بل يوم ولادته، وفي أيّ يوم من أيّام الأسبوع

1- سورة الاحزاب، الاية21 .

 

11


2

مدخل إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 كان ذلك، ونعرف فترة رضاعته والزمن الذي أمضاه في الصحراء، وفترة ما قبل بلوغه، وكذلك الأسفار التي قام بها إلى خارج الجزيرة، والأعمال التي قام بها قبل أن يُبعث نبيًّا، وفي أيّ سنّ تزوّج، وما رزق به من الأولاد، وأعمارهم وتواريخ وفَياتهم، وأمثال ذلك، حتّى يصل إلى مرحلة البعثة والنبوّة، وهي مرحلة أجلى وأوضح؛ لأنّها كانت حدثًا ضخمًا سُجّلت بكلّ دقائقها: مَن أوّل من آمن به، ومن كان الثاني، ومن كان الثالث، ومتى آمن فلان، وما هي الأحاديث التي جرت بينه وبين الآخرين، وما كانت أعماله، وكيف كانت سيرته؟... كلّ ذلك واضح في أدقّ تفاصيله.

أمّا النبيّ عيسى عليه السلام، وهو أقرب الأنبياء العظام وأصحاب الشرائع إلينا، فإنَّه لولا تأييد القرآن له، ولولا اعتقاد المسلمين بصدق ما جاء عنه في القرآن، وأنّه نبيّ إلهيّ حقيقي، لما كان بالإمكان معرفته وإثبات وجوده في العالم. إنَّ المسيحيّين أنفسهم يعتقدون أنَّ تاريخ ميلاد المسيح تاريخ موضوع، وأنّ القول بأنّه قد مرَّت الآن 1975 سنة على ميلاده لا دليل عليه، وليس في التاريخ ما يثبته، بل قد يكون ميلاد المسيح حدث قبل ذلك بثلاث مئة سنة، أو بعد ذلك بمئتي سنة أو ثلاثمئة سنة، ولكنّنا إذا قلنا إنّه قد مضى على هجرة نبيّنا 1395 سنة قمريّة، أو 1954 سنة شمسيّة، فإنَّ ذلك لا يعتريه أدنى شكّ. هنالك بعض المسيحيّين، وأعني بهم المسيحيّين الجغرافيّين– لا المسيحيّين المؤمنين– يُنكرون أصلًا إن كان أحد في العالم باسم المسيح، ويقولون: إنّ حكاية المسيح أسطورة مصطنعة، فهؤلاء يشكّون حتّى في وجود المسيح أصلًا. بديهي أنَّ هذه المزاعم مردودة في نظرنا، لأنّ القرآن أكّد وجود عيسى عليه السلام، ولمّا كنَّا نؤمن بالقرآن، فلا يمكن أن نشكّ بأنَّ عيسى عليه السلام كان نبيًّا من أنبياء الله المرسلين.

إنَّ مسائل من قبيل: من هم حواريّو عيسى، ومتى ظهر الإنجيل بصورة كتاب، وكم إنجيلًا هناك؟ تعتبر مسائل غامضة عند المسيحيّين. أمّا نحن المسلمين، فإنَّ مصادر أقوال نبّينا ومصادر سيرته بيّنة لا يعتريها أيّ غموض أو إبهام، ويمكن الاعتماد عليها اعتمادًا قطعيًّا، لا ظنّيًّا.

12


3

مدخل إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 إنَّ ما يلزمنا أن نستفيده من حياة نبّينا هو ما في أحاديثه وما في سيرته كليهما؛ أي إنَّ أقواله وأفعاله ينبغي أن تكون هادية لنا في مسيرتنا وسندًا لنا نعتمده ونتّكئ عليه.

في البدء، سوف أتكلّم عن الأقوال النبويّة الشريفة، ومن ثَمَّ أتناول أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم بالدرس والتعليق.

أهمّ ما يتعلّق بأقوال العظماء وأحاديثهم هو أنّها تتضمّن أُمورًا دقيقة مطلوب من الأفراد إدراكها، وعلى الأخصّ، أقوال نبيّنا الكريم التي قال عنها: "لقد أُعطيتُ جوامع الكلم"2، أي إنَّ الله قد وهبني القدرة على أن أضع في مقولة قصيرة علمًا من العلوم. وقد أظهر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في أفعاله أيضًا.

كان الجميع يسمعون كلام الرسول الكريم، ولكن، هل كان الجميع قادرين على الوصول إلى أعماق كلامه كما ينبغي؟ لا، أبدًا. ولعلَّ خمسة وتسعين بالمئة من السامعين، أو حتّى أكثر من ذلك، لم يكونوا يبلغون مداها. إنَّ النبي نفسه قد تنبّأ بذلك فقال في الحديث المعروف الذي ذكرته الكتب المعتبرة، مثل "الكافي" و"تحف العقول" ونقله الرواة الشيعة والسُّنَّة: "نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها، وبلَّغها من لم يسمعها"1.

ثمّ أضاف صلى الله عليه وآله وسلم: "فرُبَّ حامل فقهٍ غير فقيهٍ، وربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه"2.

ففي "رُبَّ" هذه إشارة إلى المستقبل الذي يكون وسيلة إيصال الحديث إليه هو هذا الشخص الذي قد يحمل قولًا عميق المغزى، ولكنّه نفسه ليس بمستوى العمق

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان، 1403 - 1983م، ط 2،ج2، ص148.
2- الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، طهران، نشر دار الكتب الإسلامية، 1407هـ.، ط 4، ج1،ص403.

 

13


4

مدخل إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 الذي ينطوي عليه ذلك الكلام. وقد تجد أُناسًا يحفظون تلك الأقوال الفقهيّة1 التي لا يستطيعون بأنفسهم بلوغ أغوارها، فينقلونها إلى أُناس آخرين أدقّ منهم فهمًا وأعمق إدراكًا، فيكون هؤلاء أقدر على أن يستخلصوا من تلك الأقوال معاني وأسرارًا لم يكن يفهمها الناقل. ولهذا نلاحظ أنَّ أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تكتشف فيها– كلّ حين– أعماقًا أُخرى، ولا أقول تزداد عمقًا.

 

لقد تحدّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن موضوعات شتّى، كالأخلاق، والفقه، والزهد، والمعارف، والفلسفة. إنَّ تاريخ العلوم الإسلاميّة يكشف بجلاء أنَّ التوصّل إلى المعاني العميقة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. إنَّ علماء القرن الأوّل والثاني لم يبلغوا مبلغ علماء القرن الثالث في الوصول إلى أعماق أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلماء القرن الثالث كانوا أقلّ وصولًا من علماء القرن الرابع، وهكذا.. وها هنا موطن إعجاز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

بديهي– كما تعلمون–أنَّ أوصياء النبيّ الكريم-الأئمّة الأطهار عليهم السلام-لا يختلف حالهم، وكلامهم عن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنَّما ينسحب قولنا على الأفراد العاديّين، لا على الأئمّة المعصومين.

فإذا أخذنا فقهنا كمثال، نرى أنَّ الشيخ مرتضى الأنصاري– الذي جاء متأخّرًا بعد الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والشيخ الصدوق بتسع مئة سنة– أقدر منهم على شرح أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتفسيرها.

ولا يسعنا هنا إلّا إبداء الأسف؛ لكوننا– ونحن أُمَّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم –لا يستطيع أحدنا أن يذكر أربعة أحاديث أو خمسة من الأحاديث الشريفة، حتّى بنصّها دون شرحها وتفسيرها، ولا نحن قادرون أيضًا على ذكر بضع حوادث من سيرة النبيّ الكريم.

إنَّ أحد كتَّاب إيران المعروفين، والذي لم يكن في أوائل أمره يدين بأيّ دين،

1- الفقه هو الفهم العميق، إلَّا أنَّ المقصود هنا هو العبارة ذات المعنى العميق. والفرق بين التفقّه والفهم، هو أنَّ الفهم مطلق معرفة الشيء، ولكنّ التفقّه هو الفهم العميق. وعندما يطلق التفقّه على الكلام يكون المقصود هو الكلام ذو المعنى العميق.

14

  

 


5

مدخل إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 ولكنَّه– على أثر قراءته لبعض كتبي التي نشرتها– اتّصل بي وأظهر بعض الميل نحو أفكاري، وقد قال لي يومًا: إنّه يقوم بترجمة كتاب في حكمة الأديان، أي الحكمة الموجودة في كلّ دين من الأديان، ولكنّه عندما يصل إلى النبيّ الكريم لا يذكر سوى بضع كلمات قصار... ولمّا كانت ترجمته ترجمة حرّة فقد ارتأى أن يزيد من تلك الكلمات، وقال إنّه قرّر أن يزيد مئة آية من القرآن، ومئة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومئة كلمة من كلمات الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، مستعينًا بترجمة القرآن وكتاب نهج البلاغة؛ ولكنَّه فيما يتعلّق بالأحاديث الشريفة لم يعثر على ترجمة فارسيّة، فطلب منِّي أنْ أختار مئة حديث شريف وأترجمها له، لكي يصوغها هو بحسب أسلوبه ويدرجها في الكتاب. فأدرجها في ترجمته لكتاب "حكمة الأديان". التقيت به بعد ذلك بزمن فسألني: أحقًّا كانت تلك الأقوال ممَّا قاله نبيّنا؟ والله ما كنت أدري ذلك! مع العلم أنَّ هذا الرجل من كبار أدبائنا، وممَّن له وزنه في المحافل الأدبيّة الخارجيّة، وعندما يدور الكلام حول أدباء من الدرجة الأولى فلا بدَّ أن يكون هو من بينهم. كان حسب قوله، من السادة الذين ينتمون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبًا، وقد قضى حياته بين الكتب، ولكنَّه مع ذلك، لم يصل إلى علمه أنَّ لنبيّنا أقوالًا مثل تلك. وأردف قائلًا: إنَّني الآن أرى أنَّ أقوال نبيّ الإسلام تفضل على أقوال الأنبياء الآخرين، وهي أعمق كثيرًا وأغنى بالمعاني.

فلماذا نكون– نحن المسلمين– مقصِّرين إلى هذا الحدّ، بحيث أنَّ أحد أدبائنا–وهو مقصِّر أيضًا بالطبع–لا يدري أنَّ لنبيّنا أقوالًا حكيمة!

خطر لي قبل سنوات أن أضعَ كتابًا عن سيرة نبيّنا الكريم بهذا الأسلوب الذي سأصفه، فجمعت الكثير من الملاحظات والمذكّرات، لكنَّني كنت كلَّما توغّلت أكثر وجدتني أخوض بحرًا أعمق وأعمق، إلَّا أنَّني لم أترك الأمر على الرغم من إدراكي بأنَّي لا أستطيع أن أزعم أنَّني قادر على كتابة السيرة النبويّة؛ ولكنَّني تمسّكت بالقول المأثور: "ما لا يُدرك جلُّه لا يُترك كلُّه"، وقلت: سأكتب في ذلك، وليأتِ بعدي الآخرون

15

  


6

مدخل إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 ليكتبوا أفضل وأكمل. فكلَّما تعمّق الإنسان في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجدها ما تزال أعمق، كما هي الحال مع أقواله. إنَّ أفعاله من الدقّة بحيث يمكن وضع القوانين على هدي تفاصيلها. إنَّ عملًا بسيطًا من أعماله إنَّما هو مصباح أو شعلة من نور كاشف ينير الطريق أمام المرء لمسافات بعيدة.

16


7

حياة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله

 ﴿ لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ﴾1.

اليوم يصادف ذكرى ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك ذكرى ميلاد الإمام السادس، الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فهو إذًا يوم مضاعف في أعياد المسلمين، لأنَّ فيه عيدين في يوم واحد إذ تقع فيه الولادتان العظيمتان.

وبهذه المناسبة، ليس بالوسع إلَّا توجيه النقد إلى أنفسنا؛ فعلى الرغم من أنَّ هذا اليوم هو يوم ولادة نبيّنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وولادة إمامنا الصادق عليه السلام، فإنَّ المشاعر التي نبرزها في هذا اليوم، لا تضاهي ما يبرزه المسيحيّون بمناسبة عيد ميلاد المسيح عليه السلام، (بل ولا تتناسب معه).

تعلمون أنَّ المسيحيّين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح عليه السلام لعدّة أيّام احتفالًا رسميًّا، بحيث أنَّ آثار ذلك تظهر بيننا نحن المسلمين.


ولكنّ الانتقاد الذي لا يسعني إلّا أن أوجّهه إلى أنفسنا، هو أنَّ ذكرى ميلاد الرسول تأتي وتروح دون أن يحسّ الكثيرون منَّا أنَّ هذه الذكرى قد مرَّت بهم أصلًا. ولولا العطلة الرسميّة-تعطيل البنوك والدوائر الرسميّة، وخروج الموظّفين-لما ظهر لهذا العيد أقلّ أثر في المجتمع. هذا، على الرغم من أنَّه عيد مضاعف بالنسبة إلينا، فلماذا كان الأمر هكذا؟ لا أعلم!

1- سورة التوبة، الآية 128.

 

17

  


8

حياة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله

 في نيّتي أنّ أقدّم بحثًا موجزًا عن تاريخ حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضمن الحدود التي تنفع الطلّاب الشباب، وكذلك الطلّاب الذين ليست لديهم معلومات وافية حول ذلك، ثمّ أخصّص كلامي ببعض من أقوال الرسول الكريم، وبتفسير بعضها.

يتّفق الشيعة والسُّنَّة على أنَّ ولادة نبيّ الإسلام كانت في شهر ربيع الأوّل، في الثاني عشر منه حسب أقوال أكثريّة أهل السُّنَّة، وفي السابع عشر منه حسب رأي الشيعة، باستثناء الشيخ الكليني، صاحب كتاب الكافي، الذي يرى أنَّ اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل هو يوم ميلاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

في أيّ فصل ولد رسول الله؟ في فصل الربيع. فقد جاء في بعض الكتب أنَّه ولد في فصل الربيع. وقد أجرى بعض العلماء حساباتهم ليعرفوا في أيّ من أيّام السنة الشمسيّة كانت ولادته، فكانت النتيجة: إنّ اليوم الثاني عشر من ربيع الثاني من تلك السنة قد صادف اليوم العشرين من نيسان وإنَّ السابع عشر من ربيع الأوّل يصادف اليوم الخامس والعشرين منه.

وفي أيّ يوم من أيّام الأسبوع كانت ولادته؟ يرى الشيعة أنَّه ولد في يوم الجمعة، بينما أكثر أهل السُّنَّة يقولون: إنَّ ولادته كانت في يوم الإثنين.

وفي أيّ ساعة من ساعات اليوم كانت ولادته؟ لعلَّ من المتّفق عليه أنَّ ولادته كانت بعد طلوع الفجر، وبين الطلوعين.

إنَّ تاريخ حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تاريخ عجيب. أبوه هو عبد الله بن عبد المطلب، ذلك الفتى المبرّز اللّامع في كلّ أرجاء مكّة– بصرف النظر عن حكاية محاولة ذبحه إيفاءً بنذر وغير ذلك– فقد كان وسيمًا، مديد القامة، مؤدّبًا، صاحب كياسة وتعقّل، تتمنّاه فتيات مكّة زوجًا، لكنَّه يتزوّج آمنة بنت وهب ذات صلة القربى بقبيلته، ويعزم على السفر إلى الشام، ولمّا يمضي على زفافه أكثر من أربعين يومًا، في سفرة تجارة على ما يظهر. وفي العودة يعرّج على المدينة، حيث أقرباء أمّه، فيتوفّاه الله هناك،

18


9

حياة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله

 وما يزال النبيّ الكريم في بطن أمّه. فيولد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يتيمًا، ليس له من حنان الأب نصيب.

كان من المتعارف عند العرب أن يعهدوا بأبنائهم إلى المراضع في البوادي، وإذ تأتي حليمة السعديّة من البادية إلى مكّة، يُعهد إليها بإرضاع محمّد. ولهذه المرضعة وزوجها حكايات مسهبة عن هذا الرضيع، وكيف أنَّه بحلوله في بيتهما حلَّت معه البركة عليهما من السماء والأرض. ويظلّ الطفل أربع سنوات بعيدًا عن أمّه وجدّه وقومه في مكّة، يعيش في البادية مع البدو وعند مرضعته.

بعد ذلك يسترجعونه من المرضعة إلى حضن أُمّه الحنون، تلك الأُمّ التي فازت بزوج مثالي هو عبد الله الذي افتخرت به يوم تزوّجته على بنات مكّة، ولكنَّها تفقده وما يزال ابنه جنينًا في بطنها. فإذا كان هذا مبلغ حبّها وتعلّقها بزوجها الراحل، فلا شكّ أنَّ ابنها سيكون هو الذكرى العظيمة لذاك الزوج الحبيب، وترى فيه كلّ آمالها التي علّقتها على أبيه من قبل. وما دامت آمنة قد عزفت عن الزواج بعد عبد الله، فإنّ عبد المطلب، جدّ محمّد، يتكفّل به وبأمّه معًا.

وتطلب آمنة الإذن يومًا من عبد المطلب لتزور أقاربها في المدينة مع ولدها، وتتحرّك القافلة بهما مع وصيفتها أُمّ أيمن. وهذه هي السفرة الأولى التي يقوم بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وهو في الخامسة من عمره. وعند العودة من المدينة إلى مكّة، تمرض آمنة في منزل يقال له (الأبواء)–وهو ما يزال باقيًا لحدِّ الآن–فتضعف عن الحركة ويتوفّاها الله. ويشهد الطفل وفاة أُمّه في الطريق، حيث يتمّ دفنها، ويعود إلى مكّة مع أُمّ أيمن، تلك المرأة الوفيّة التي غدت بعد ذلك حرّة، ولكنّها ظلّت في خدمة رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلى أن ماتت، حتّى أنَّ الرواية المعروفة التي ترويها السيّدة زينب عليها السلام تسندها إلى أُمّ أيمن هذه.

انقضت خمسون عامًا على ذلك، وكان العام الثالث للهجرة عندما مرَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

19

  


10

حياة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله

 بمدفن أُمّه في (الأبواء)، فترجل واتّجه إلى ناحيته دون أن يكلّم أحدًا، فتبعه بعضهم حتّى وصل إلى مكان بعينه، فجلس يقرأ الدُّعاء والفاتحة، وغاص في تفكير عميق محدقًا بنظره إلى نقطة معينة، ثمّ انحدرت دموعه الكريمة على خدّيه وهو ما يزال يقرأ. فسُئل: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: ها هنا قبر أُمِّي حيث دفنتها قبل خمسين سنة.

أمّا عبد المطّلب فقد أصبح محمّد–بعد موت أُمّه–شغله الشاغل، وبخاصّة بعد وفاة عبد الله، وكان يقول لأبنائه: إنَّ محمّدًا يختلف عن غيره اختلافًا كبيرًا، وإنَّ له لمستقبلًا لا تعلمونه. وقبيل موته أحضر ولده الأكبر أبا طالب، الذي كانت له مكانة مرموقة في مكّة، وخاطبه قائلًا: إنَّني لا أخشى الموت، إلَّا أنَّني قلق على أمر واحد، وهو مصير هذا الطفل، فلمن أعهد به؟ أتتقبّله أنت وتكفله عنّي؟ فأجابه بالإيجاب وتعهّد له بذلك، ووفى بوعده. ومنذ ذلك اليوم أصبح أبو طالب–والد عليّ–الكفيل بتربية محمّد وتنشئته.

20

 


11

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 لقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسفرتين فقط إلى خارج الحجاز، كلاهما كانتا قبل أن يبعث رسولًا، وكانتا إلى الشام. كانت الأولى هو في الثانية عشرة من عمره مع عمّه أبي طالب، وكانت الثانية وهو في الخامسة والعشرين في رحلة يقوم فيها على تجارة أرملة اسمها خديجة، تكبره بخمس عشرة سنة، تزوّجها فيما بعد.

أمّا في داخل الحجاز ونجد، فقد سافر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة أيضًا، منها سفرته إلى الطائف، وإلى خيبر التي تبعد ستّين فرسخًا إلى الشمال من مكّة، وإلى تبوك القريبة من الحدود السوريّة وتبعد حوالي مئة فرسخ عن المدينة.

أمّا بعد البعثة فلم يخرج من جزيرة العرب أبدًا.

إنَّنا لا نعرف له شغلًا غير الرعي والتجارة. كثير من الأنبياء كانوا يقومون برعي الأغنام قبل أن يبعثوا لحمل الرسالة (ترى ما هو السرّ الإلهيّ في ذلك؟). فكما أنَّ موسى عليه السلام كان يقوم بأعمال الرعي، كذلك فعل نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم بما لا شكّ فيه. فقد كان يخرج بالغنم إلى حيث ترعى في الصحراء، ثمّ يعود بها مساءً.

وقد اشتغل بالتجارة أيضًا، على الرغم من أنَّ سفرته التجاريّة كانت الأولى من نوعها (لأنَّ سابقتها كانت وهو في الثانية عشرة من عمره) إلَّا أنَّه قام بها بمهارة فائقة أثارت إعجاب الجميع.

ما هو تاريخ النبيّ الكريم؟ لقد كان تاريخ حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تاريخًا واضحًا مشهودًا، بخلاف جميع الأنبياء الآخرين، وإنَّ من سوابقه البارزة المعروفة أنَّه كان أُمّيًّا لم يدخل

21

  


12

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 مدرسة ولم يعرف القراءة والكتابة، وهذا ما يشير إليه القرآن أيضًا؛ فقد كان أكثر الناس يومئذٍ أُمّيّين.

ومن مميّزاته الخاصّة الأُخرى أنَّه خلال سنواته الأربعين قبل البعثة لم يسجد لصنمٍ قط، على الرغم من أنّه كان يعيش في ذلك المحيط الذي لم يكن يُعبد فيه غير الأصنام. لقد كان هناك آخرون أيضًا–ممّن تحرّزوا من السجود للأصنام، وهم الأحناف؛ إلَّا أنَّ هؤلاء تنبّهوا إلى خطئهم ذاك في الكبر، لا منذ الصغر، وقد اختار بعضهم المسيحيّة. أمّا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فلم يسجد لصنم قطّ منذ طفولته حتّى النهاية، إذ لو كان قد أظهر أقلّ خضوع لأيّ صنم قبل بعثته لعيّروه بذلك بعد اضطلاعه بمحاربة عبادة الأصنام. كما أنَّه لم يشترك خلال صباه وشبابه في أيّ لهو أو لعب ممَّا كانت تعجّ به مكّة يومذاك.

فقد كانت لمكّة ميزتان:
الأولى: أنَّها كانت مركز الأصنام التي يعبدها العرب.

والثانية: أنَّها كانت مركزًا تجاريًّا رئيسًا يقطنها سراة القوم وأثرياء العرب وأصحاب العبيد والإماء والجواري.

كانت بيوت مكّة منقسمة إلى بيوت شمال المدينة وبيوت الجنوب، وكان سراة الناس يسكنون الشمال، وغيرهم يسكنون الجنوب.

بيوت الشمال كانت دائمًا مشغولة بالطرب والرقص والغناء وشرب الخمر، إلّا أنَّ نبيّ الإسلام لم يحضر قطّ في حياته أيًّا من أمثال هذه المجالس، فلم يتلّوث بأدرانها.

عُرف محمّد–قبل الرسالة–بالصدق والأمانة والعفّة والعقل، فلقّبوه بمحمّد الأمين، وكانوا يثقون بصدقه وأمانته كلّ الثقة، كما كانوا يسترشدون به في كثير من أُمورهم. فكان الصدق والأمانة والحكمة من الصفات التي اشتُهر بها محمّد قبل البعثة، بحيث أنَّه عندما أراد إبلاغهم رسالة الله، سألهم أوّلًا إن كانوا يعهدون فيه مقالة كذب، فقالوا 

22

  


13

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 جميعًا: لا، أبدًا، فأنت الصادق الأمين.

إنَّ ممَّا يدلُّ على حكمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّه عندما هدمت جدران الكعبة لإعادة بنائها رُفع الحجر الأسود من مكانه، وعندما أرادوا إعادته إلى مكانه، اختلفت القبائل فيما بينها حول من يرفع الحجر إلى مكانه، وكاد الأمر أن يصل إلى الاقتتال، فجاء محمّد وفضّ النزاع، كما هو معروف في القصّة المشهورة.

والظاهرة الأُخرى التي كانت قد حدثت له قبل البعثة هي ظاهرة الإحساس بالتأييدات الإلهيَّة. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة إلى تلك الظواهر التي كانت تحدث له في صباه، وكان يقول إنَّه لم يكن يشترك مع الصبيان، حيث كان يشعر أحيانًا أحسّ كأنَّ قوّة غيبيّة تعينه على أموره.

وقد جاء عن الإمام الباقر عليه السلام وفي نهج البلاغة ما يؤيّد هذا: "ولقد قرَنَ الله به منذ كان يتيمًا أعظمَ ملك من ملائكته، يسلكُ به طريق المكارم ومكارم أخلاق العالم"1.

إنّ الفترة التي قضاها النبيّ قبل بعثته كانت فترة إعداد لتلقّي الوحي والإلهام الإلهي، فكان يرى أحلامًا جليّة واضحة وكأنَّه يراها في فلق الصبح، بخلاف بعض الأحلام التي يراها المرء رؤية غامضة مشوّشة، أو قد تكون واضحة ولكنّ تعبيرها لا يكون صادقًا؛ فهناك أحلام جليّة وواضحة وليس فيها تشوّش ولا ارتباك ويكون تعبيرها واضحًا وجليًّا أيضًا.

من حوادث ما قبل بعثة الرسول هو ما قلناه عن الرحلتين اللّتين قام بهما إلى خارج الحجار قبل أن يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.

كان النبيّ فقيرًا لا يملك شيئًا، أي أنَّه لم يكن من أصحاب رؤوس الأموال، وكان يتيمًا فقيرًا وحيدًا. بل كان يتيم الأبوين، وكان يشتغل ليعيش، وكان وحيدًا، وهي

1 السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، قم، دار الهجرة، 1414هـ.، ط 1،ص300.

 

23

  


14

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 الوحدة الروحية، التي كان قد وصل إليها على أثر تفكّره وبلوغه أُفقًا فكريًّا لم يعد يأتلف مع الأُفق الفكري لدى الآخرين المحيطين به، فكان أشبه بالغريب بينهم. إنَّ الوحدة الروحيّة أفظع بكثير من الوحدة الجسميّة. وهذا المثل الذي أضربه قد يقصّر عن الوصول إلى المعنى المقصود، ولكنَّه يوضح الحالة. تصوّر رجلًا عالمًا فاضلًا شديد الإيمان بين أُناس جهلاء لا إيمان لهم، حتّى على فرض أنَّ أولئك هم أبواه وإخوته وأقرباؤه ومعارفه. إنَّ رجلًا كهذا يحسّ بالوحدة، أي إنَّ الرابطة الجسميّة لا تستطيع أن تقرب بعضهم من بعض. فهذا يعيش في دنيا روحيّة، وأولئك يعيشون في دنيا أُخرى. ولقد قيل: إذا كان الجاهل يرهب العالِم، فالعالِم ينفر من الجاهل أضعافًا.

لذلك فقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحيدًا بين قومه، إذ لم يكن بينهم من يصحّ أن يكون له رفيق فكر. وفي الثلاثين من عمره، بعد أن يتزوّج خديجة ويؤلّف معها عائلة، يأخذ طفلًا في الثانية من عمره من أبيه وهو عليّ بن أبي طالب، ويأتي به إلى بيته. وحتّى بعثته، التي تزيل عنه الوحدة بالاستئناس بالوحي، لا يكون له أنيس سوى هذا الطفل الذي يبلغ عندئذٍ حوالي الثانية عشرة من عمره. أي إنَّ من بين أهل مكّة جميعًا لم يكن أليَق من عليّ بن أبي طالب بأن يكون رفيقًا روحيًا له.

في الخامسة والعشرين تخطبه خديجة لنفسها بطريق غير مباشر. بديهي أنَّ الرجل هو الذي يخطب، ولكنّ هذه المرأة التي شغفت بمكارم هذا الفتى، تحرّك عليه من يحرّضه على طلب يدها فيقول لهم: أنا فقير لا أملك شيئًا. فيقال له: ألَّا يشغل باله بهذه الأُمور، ويفهمونه بأنَّ خديجة التي طلب يدها أشراف مكّة وكبارها فرفضتهم تريده هو. وتتمّ الخطبة ويتمّ الزواج.

من العجب أنّه بعد أن يصبح زوجًا لامرأة تشتغل بالتجارة، يترك هو التجارة حتّى تبدأ مرحلة الانزواء والاختلاء بالنفس، مرحلة التحنّف والتعبّد. وقبل بلوغ هذه المرحلة يزداد شعورًا بالوحدة وباتّساع الفاصل بينه وبين قومه، ويحسّ أنَّ مكّة

24


15

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 ومجتمع مكّة يأكلان في روحه، فينطلق مبتعدًا عن مكّة ومجتمعها إلى حيث الجبال المحيطة بمكّة، ويغرق في التفكير والتأمُّل، والله وحده العالم يومئذٍ بالحالات التي يمرُّ بها. وفي هذه الأوقات لا يكون معه أحد من البشر سوى ذاك الطفل، عليّ.

وفي شهر رمضان يختار أحد الجبال التي تقع في الشمال الشرقي من مكّة، وهو جبل منفصل عن سلسلة جبال مكّة، مخروطي الشكل، كان اسمه (جبل حِراء) -وهو اليوم (جبل النُّور) -فيتّخذ منه مكانًا يختلي فيه بنفسه. ولعلَّ الكثيرين منكم ممَّن تشرف بحجّ بيت الله قد تشرّف أيضًا بزيارة جبل النور وغار حراء. لقد وفقني الله لهذا الشرف مرّتين، ومن أمنيّاتي أن يتكرّر لي هذا التوفيق مرّات عديدة. إنَّ الوصول من سفح الجبل إلى قمّته يستغرق ما لا يقلّ عن الساعة للإنسان العادي، ويستغرق النزول ثلاثة أرباع الساعة.
عند حلول شهر رمضان يترك محمّد مكّة، ويبتعد حتّى عن خديجة، ويتزوّد بشيء من الماء والخبز ويتوجّه إلى غار حراء. ويبدو أنَّ خديجة كانت ترسل في كلّ بضعة أيّام من يأخذ له بعض الماء والخبز، فيقضي الشهر كلّه وحيدًا في خلوته، إلَّا عندما كان يحضر عليّ أيضًا. ولعلَّه كان دائمًا موجودًا معه، ولكنّني لست متأكّدًا من ذلك. غير أنَّ الذي لا شكّ فيه أنَّه كان معه يوم نزول الوحي عليه، إذ يقول عليّ عليه السلام: "ولقد جاورت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحراء حين نزول الوحي".

لم يكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يغادر مكانه في الجبل، حيث كان يعبد ربّه، أمّا كيف كان يفكر وكيف كان تعشُّقُه لله، وما هي العوالم التي كان يطويها هناك؟ فتلك أُمور لا نستطيع تصوّرها. وعليّ عليه السلام طفل لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره يوم ينزل الوحي على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمالذي يطوي عالمًا آخر طيًّا. ولو كان آلاف من أمثالنا هناك، لما أحسّوا بشيء غريب يجري حولهم، ولكنّ عليًّا أحسّ بكثير من الاختلافات والعوالم التي كان الرسول يمرُّ بها، فهو يقول: "لقد سمعت الشيطان حين نزول الوحي" وكالتلميذ الذي

25


16

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 يقصّ على أستاذه حالاته الروحيّة قصَّ عليه ما سمع عند نزول الوحي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ولكنَّك لست بنبيّ"1.

كان هذا بيانًا موجزًا لحياة النبيّ قبل البعثة ممَّا رأيت ضرورة في تبيانه.

هنا أورد لكم بعضًا من أقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنَّها بذاتها معجزة وعلى الأخصّ إذا أخذنا سيرة حياته التي ذكرتها بنظر الاعتبار. فهو الطفل الذي شاء القدر أن يجعله يتيم الأب وهو في بطن أُمّه، ويتيم الأُمّ وهو في الخامسة، ويقضي فترة الرضاعة في البادية، وترعرع في مكّة؛ أرض الأُمِّيّة والجهل، فلم يرَ مربّيًا ولا معلّمًا. سفراته محدودة لم تتجاوز سفرتين قصيرتين إلى خارج جزيرة العرب. لم يلتق طيلة حياته بفيلسوف ولا حكيم ولا عالِم، ومع ذلك فالقرآن يجري على لسانه وينزل على قلبه. ثمّ هو نفسه يتفوّه بأقوال تكون على مبلغ من الحكمة لا تبلغ شأوها أقوال أحكم الحكماء.

ففيما يتعلق بالمساواة بين أفراد البشر مثلا، أثّمة كلام أرفع من هذا؟!: "الناس كأسنان المشط سواء"2! فلنتصوّر المشط يومذاك، فكلّ سنّ من أسنانه شبيهة بالأُخرى – من جميع الوجوه – وكلّهن متساويات. أهناك، بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، من قال مثل هذه المقولة في المساواة في هذا العصر؟!

وفي حجَّة الوداع ينادي: "أيُّها النَّاسُ. إنَّ ربَّكُمْ واحِدٌ، وإنَّ أباكُمْ واحدٌ، كُلَّكُمْ لآدم وآدم مِنْ تُرابٍ. لا فَضْلَ لعَربيٍّ على عجميٍّ إلَّا بالتَّقْوى."3.

فلا مكان لمن يفخر بعنصره، أو بمركزه، أو بقوميّته.. جميع الناس من تراب، ولا فضل لتراب على تراب، وإنما يكون الفضل للميزات المعنويّة والروحيّة–التَّقوى-. إنَّ معيار الفضل هو التقوى ليس غير.

1- نهج البلاغة، ص301.
2- من لا يحضره الفقيه، ج4، ص379.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج73،ص350.

 

26


17

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 وهذا حديث نبويّ أنقله لكم من (الكافي). يقول: "ثلاثٌ لا يَغْلُ عليْهنَّ قلْبُ امْرئٍ مُسلِمٍ: إخْلاصُ العَمَلِ للهِ والنَّصِيحةُ لأئمَّةِ المُسْلِمينَ واللّزُومُ لجَماعَتِهِمْ"1.

وكثيرًا ما طرقت أسماعنا أقوال الرسول: "كُلُّكُم راعٍ وكُلَّكُم مسؤولٌ عنْ رعيَّتهِ"2، "المُسلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانهِ وَيَدِهِ"3.

هذه هي سيرته وهذا هو فعلها وأثرها. يقول بعض أصحابه: كنَّا معه في إحدى الرحلات، فنزلنا لتهيئة الطعام، فتبرّع أحدنا بذبح شاة، وقال آخر: إنَّه يسلخها، وقال ثالث: إنَّه يطبخها، وهكذا. وقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أجمع الحطب. فيعرض عليه أصحابه أنَّهم يكفونه ذاك العناء، فيجيبهم: أعلم هذا منكم، غير "إنَّ الله يكْرَهُ مِنْ عَبْدِهِ أنْ يَراهُ مُتَمَيِّزًا بَيْنَ أصْحَابِهِ"4 فما أعمق دلالة هذه الحكاية! إنَّ تفسير هذه القصّة بِلُغة العصر–هو أنَّها تشيد بالاعتماد على النفس في قبال الاعتماد على الآخرين–تفسير صحيح... بالطبع لا، في قبال الاعتماد على الله. إنَّ الاعتماد على النفس أمر صحيح تمامًا، وهو يعني عدم الاعتماد على الآخرين، بل قيام المرء بإنجاز ما يستطيع بنفسه بغير طلب المساعدة من أحد. فما أرفع هذه التربية! وما يعنيه قوله: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

ينقل أصحابه أيضًا (وهذا أيضًا ممَّا يذكره المرحوم الشيخ عبّاس القمّي، وآخرون): نزلنا منزلًا في إحدى رحلاتنا، وتفرّق جمعنا يتهيّأون للوضوء والصلاة. ولاحظنا أنَّ رسول الله عند ترجّله أخذ يسير باتّجاه معيّن، ولكنَّه ما إن ابتعد مسافة حتّى رجع. فيظنّ الأصحاب أنَّه صرف نظره عن المكوث في ذلك المنزل، فانتظروا أن يصدر أمره بالرحيل. ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول شيئًا إلى أن يصل إلى راحلته فيفك حملها وينزله

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج1،ص403.
2- العلامة المجلسي، بحار الانوار،ج72،ص38.
3- نهج البلاغة، ص242.
4- المقريزي، إمتاع الأسماع، تحقيق وتعليق: محمد عبد الحميد النميسي، منشورات محمد علي بيضون ، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، 1420 - 1999م، ط 1،ج2،ص188.

 

27 

  


18

حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة

 عنها ويعقلها، ثمّ يعود ليستأنف طريقه ذاك. فعجب الأصحاب لفعلته، وقالوا: لو نادى علينا من مكانه لقمنا عنه بذلك، وسألوه عمَّا منعه من أن يطلب من أحدهم أن يعقل له بعيره، إذ إنَّ قيامه بذلك كان مدعاة فخره. انظروا كيف يكون الجواب في محلّه وذا معنى رفيع، قال الرسول ما مضمونه:

"لا يَسْتَعِنْ أحدُكُمْ بِغَيْره ولوْ بِقَضْمَةٍ مِنْ سِواكٍ". فما تستطيع أن تعمله بنفسك اعمله بنفسك. إنَّه لا يقول: لا تستعن بأحد حتّى فيما لا تقدر عليه بنفسك، فهاهنا يكون موضع الاستعانة بالآخرين.

لو أنَّ أحدًا وفّقه الله لجمع كلام رسول الله من بطون الكتب المعتبرة، وكذلك وفّقه لكتابة سيرة الرسول الكريم بأسلوب تحليلي مستندًا إلى المصادر الموثوق بها، عندئذٍ سيتّضح أنَّ العالم لم يشهد شخصيّة كشخصيّة رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. إنَّ كلّ وجود النبيّ الكريم إعجاز، لا قرآنه فحسب.

وسوف أختم كلمتي باسمك العظيم الأعظم يا الله. اللَّهمّ نوِّر قلوبنا بنور الإيمان.

اللَّهمَّ الق بأنوار معرفتك ومحبّتك في قلوبنا، واجعلنا ممَّن يعرفون ذاتك المقدَّسة. اللَّهمَّ ألقِ في قلوبنا محبّة رسولك العظيم، وعرِّفنا سيرته وسيرة الأئمّة الأطهار. اللَّهمَّ اجعلنا ممَّن يُقدِّرون الإسلام والقرآن والعلماء الأعلام. اللَّهمَّ اشمل أمواتنا بعنايتك ورحمتك. اللَّهمَّ عجِّل فرج صاحب الزمان.

28 

  


19

صفات النبي الكريم

 ولد النبيّ الكريم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي خُتمت به النبوَّة، سنة 570 ميلاديّة، وبُعث بالنبوَّة في سنّ الأربعين، فدعا الناس إلى الإسلام في مكّة ثلاث عشرة سنة، وتحمّل الصعاب والمشكلات الكثيرة، وربّى خلال هذه المدّة جماعة من الصفوة، ثمّ هاجر بعد ذلك إلى المدينة، فجعلها مقرًّا ومركزًا، ودعا وبلّغ بحرّيّة في المدينة عشر سنين، وحارب مردة العرب وقهرهم جميعًا. وأسلم جميع سكان الجزيرة العربيّة بعد عشر سنين، وقد نزلت عليه آيات القرآن نجومًا خلال ثلاث وعشرين سنة. وقد أبدى المسلمون حبًّا عجيبًا للقرآن الكريم وشخصيّة الرسول الأعظم. توفّي النبيّ الكريم في السنة الحادية عشرة الهجريّة، أي السنة الحادية عشرة من هجرته من مكّة إلى المدينة وهي السنة الثالثة والعشرون من نبوَّته، والثالثة والستّون من عمره، تاركًا مجتمعًا جديدًا مليئًا بالنشاط الروحي، مؤمنًا بفكرة بنَّاءة ويشعر بمسؤوليّة عالميّة.

إنَّ ما كان يهب لهذا المجتمع الجديد الروح والوحدة والنشاط شيئان: القرآن الكريم الذي كان يتلى دائمًا ويُستلهم منه، والآخر شخصيّة الرسول الكريم العظيمة المتنفّذة التي تشغل الأفكار بنفسها وتجذبها. وسنبحث قليلًا حول شخصيّة الرسول الكريم.


دور الطفولة
مات والد النبي محمّدصلى الله عليه وآله وسلم في المدينة في سفر تجارة إلى الشام، ومحمّد في رحم أُمّه، وتعهّد جدّه عبد المطلب بكفالته، وكانت آثار العظمة وخرق العادة تظهر على

29


20

صفات النبي الكريم

 وجهه ومن سلوكه وقوله منذ الطفولة. وقد أدرك عبد المطّلب بفراسته أنَّ لحفيده مستقبلًا زاهرًا.

وكان النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في الثامنة من عمره عندما قضى جدّه عبد المطلب وتكفّله عمّه الكبير أبو طالب وفقًا لوصيّة جدّه. وكان أبو طالب يستغرب أيضًا من سلوك هذا الطفل الذي لم يشبه سائر الأطفال.

ولم يشاهد النبي محمّدصلى الله عليه وآله وسلم أبدًا كسائر الأطفال الذين في عمره، كأن يحرص على الطعام أو يبدي له رغبة، فكان يكتفي بطعام قليل، ويمتنع من الزيادة، خلافًا للأطفال الذين في سنّه، وخلافًا للعادة والتربية في ذلك العصر. وكان يمشّط شعره، ويحافظ على نظافة رأسه ووجهه دائمًا.

أراد أبو طالب من النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم أن ينزع ثيابه بحضرته ويذهب إلى فراشه، فتلقّى هذا الأمر منه بكراهية، ولمّا كان لا يرغب في التمرّد على عمّه قال له: أدر بوجهك لأتمكّن من نزع ثوبي، فتعجّب أبو طالب من كلام الطفل هذا، لأنَّ العرب في ذلك العصر كانوا–حتّى كبارهم–لا يتمنّعون عن هذا الفعل. يقول أبو طالب: "لم أسمع منه كذبة أبدًا، ولم أر منه عملًا منافيًا أو ضحكًا تافهًا، ولم يرغب في ألعاب الأطفال، وكان يحبّ الوحدة والخلوة، وكان متواضعًا في كلِّ حال".


الأمانة
قام النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بسفرة تجاريّة إلى الشام من قبل خديجة التي أصبحت زوجته، وذلك قبل بعثته، واتّضح في تلك السفرة أكثر من ذي قبل قابليّته وأمانته واستقامته، وكان مشهورًا بالاستقامة بين الناس إلى درجة بحيث لُقّب بـ"محمَّد الأمين"، وكان الناس يسلّمونه الأمانات بيده. ولذا أبقى عليًّا عليه السلام بعد هجرته إلى المدينة أيّامًا ليؤدِّي الأمانات إلى أهلها.

30


21

صفات النبي الكريم

 مكافحة الظلم

تحالف النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في العصر الجاهلي مع الجماعة الذين كانوا يتألّمون من الظلم أيضًا، للدفاع عن المظلومين والوقوف بوجه الظالمين، وقد عقد هذا الحلف في دار عبد الله بن جدعان وهو من شخصيّات مكّة البارزين، وسمّي ب"حلف الفضول".


الأخلاق العائليّة
كان النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم شفيقًا في عائلته، فلم يُبد عنفًا بالنسبة إلى أزواجه أبدًا، وكان هذا مخالفًا لأعراف المكّيّين، فكان يوصي بحسن المعاشرة مع النساء لأنه لكلّ الناس خصال حسنة وسيِّئة، وعلى الرجل ألّا يرى جوانب زوجته السيِّئة فقط ويتركها، لأنَّه إذا انزعج من إحدى خصالها فسيرضى عن خصيلة أُخرى وعليه أن يحسب الخصلتين.

كان عطوفًا جدًّا على أولاده وأسباطه، يحسن إليهم ويُجلسهم في حجره، ويركبهم على عاتقه، يُقبِّلهم، وكلّ هذه الأُمور كانت مخالفة للأخلاق والطباع السائدة في ذلك العصر، وكان ذات يوم يُقبِّل سبطه الحسن المجتبى عليه السلام بحضور أحد الأشراف، فقال ذلك الرجل: لي ولدان لم أقبِّل أحدهما حتّى الآن فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من لا يَرحم لا يُرحم"1.

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعطف على أولاد المسلمين فيُجلسهم على فخذه ويمسح بيده اللطيفة على رؤوسهم، وكانت الأُمّهات يُقدِّمن أطفالهن الصغار ليدعو لهم أحيانًا، وكان يُتّفق أن يبول بعض الأطفال على ثوبه فكانت الأُمَّهات يخجلن ويتألَّمن، ويحاولن منع استمرار بول الطفل، فكان يمنعهنّ بشدَّة.

1 العلامة المجلسي، بحار الانوار،ج43، ص283.

 

31

  


22

صفات النبي الكريم

 مع الأرقّاء

كان رؤوفًا جدًّا بالأرقّاء، ويقول للناس: هؤلاء إخوانكم أطعموهم ممَّا تأكلون، وألبسوهم ممَّا تلبسون، ولا تحمّلوهم ما لا طاقة لهم به، وساعدوهم في أعمالهم1. وكان يقول: لا تخاطبوهم باسم (الرقّ) أو العبد لأنَّنا جميعًا عبيد الله، والمالك الحقيقي هو الله، بل نادوهم باسم (الفتى) أو (الفتاة). وقد هيّأ الإسلام كلّ الفرص والتسهيلات الممكنة لتحرير الأرقّاء والتي تنتهي بتحريرهم نهائيًّا، وكان يعتبر (النخاسة) أسوأ الحرف والمهن، وكان يقول: "إنَّ أقبح الناس عند الله النخّاسون".

النّظافة والطِّيب
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحبّ النظافة والطيب جدًّا، ويمارس ذلك، ويأمر به الآخرين، ويؤكّد على أتباعه وأنصاره أن يُنظِّفوا أجسامهم وبيوتهم ويُعطِّروها، لا سيَّما في يوم الجمعةِ، وكان يُحرِّضهم على الغُسل والطيب لكيلا تُشمّ منهم رائحة نتنة عندما يحضرون لصلاة الجمعة.


المعاشرة والمواجهة
كان في معاشرته مع الناس عطوفًا هشًّا بشًّا، ويسبق في السلام على الجميع حتّى على الأرقّاء والأطفال، ولم يمدّ رجله بحضور أيّ شخص، ولم يتّكئ بحضور أحد، وكان يجلس على ركبته (كجلسة الصلاة) غالبًا، وكان يجلس في المجلس كالحلقة، لكيلا يكون للمجلس صدر ومدخل، ويكون للجميع موضع متساوٍ. وكان يتفقّد أصحابه، فإن لم ير أحدًا منهم لثلاثة أيّام، فإنّه يطلب أخباره، فإذا كان مريضًا يعوده، وإذا كان مبتلًى يساعده، ولم ينظر في المجلس إلى شخص معيّن فقط، ولم يخاطب شخصًا

1- لم يذكر المؤلّف الشهيد (قده) المصادر لتثبّت النصّ نفسه، ولذا فإنَّما نترجم ما يثبته المؤلّف بالفارسية. المترجم.

 

32

  


23

صفات النبي الكريم

 واحدًا، بل كان يوزِّع نظراته بين الحاضرين، وكان يكره الجلوس بينما يخدمه الآخرون، فكان يقوم ويشارك في الأعمال.


اللين في الشِّدَّة
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سمحًا عفوًّا مع لين الجانب في القضايا الشخصيّة وما يتعلّق به، وكان عفوه وسماحته التاريخيّة العظيمة أحد عوامل تقدُّمه، ولكنَّه في القضايا الأُصوليّة العامّة كان يُظهر حزمه وصلابته وشدّته في إطار القانون، ولم يَرَ السماح هناك.

وقد غضّ النظر–بعد فتح مكّة وانتصاره على قريش–عن كل سيِّئات قريش بالنسبة إليه خلال عشرين سنة، وعفا عن قريش جميعًا حتّى أنّه قبل توبة قاتل عمِّه الحبيب حمزة. وفي فتح مكّة، عندما سرقت امرأة من بني مخزوم وثبتت جريمتها، وكان أهلها من أشراف قريش، وكانوا يرون تنفيذ الحدّ عليها إهانة لهم، وحاولوا كثيرًا ليصرفوا رسول الله عن تنفيذ الحدّ، وأثاروا بعض الصحابة للشفاعة، لكنّ رسول الله احمرّ وجهه من الغضب ورفض أن يعطّل حكم الله من أجل أشخاص، لأن الإمم السالفة إنما انقرضت لأنَّها كانت تميّز في تنفيذ أحكام الله. فكانوا يعفون عن الأقوياء إذا ارتكبوا جريمة، ويعاقبون الضعفاء إذا ارتكبوها.


العبادة
كان النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعبّد لله بعض الليل وتارة نصفه أو ثلثه، وتارة ثلثيه، مع أنَّه كان يقضي كلّ نهاره في السعي لا سيَّما أيّام مكوثه في المدينة، ولم يحدّ من وقت عبادته. وكان يجد راحته وهدوءه التامّ في عبادة الله ومناجاته ومناداته، ولم تكن عبادته طمعًا في الجنَّة أو خشية من النار، بل كانت على أساس الحمد والحبّ. وقالت له إحدى زوجاته ذات يوم: لماذا تعبد الله إلى هذا الحدّ وقد غفر الله لك؟

33


24

صفات النبي الكريم

 فأجابها: أفلا أكون عبدًا شكورا1.

وكان النبيّ يصوم كثيرًا بالإضافة إلى شهر رمضان وبعض شهر شعبان، فكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكان لا يُفرش له فراش أبدًا في العشر الأواخر من شهر رمضان، ويعتكف في المسجد ويتعبّد، ولكنّه كان يقول للآخرين يكفي أن تصوموا ثلاثة أيّام من كلّ شهر، واعبدوا الله على قدر إمكانكم، ولا تحمّلوا أنفسكم ما لا طاقة لها به، فإنَّ له أثرًا عكسيًّا، وكان يخالف الرهبانيّة والانعزال وترك الأهل والعيال، فأصبح بعض الأصحاب القائمين بذلك موضع ملامة وتقريع. وكان يطيل عبادته في حال الانفراد، وكان ينشغل بالتهجّد لساعات عديدة، ولكنَّه يختصر ذلك في الجماعة ويرعى حال أضعف المأمومين، ويوصي بذلك.


الزهد والبساطة
كان الزهد والبساطة من مبادئ حياة النبي محمدصلى الله عليه وآله وسلم، يتناول الطعام البسيط، ويلبس الثياب البسيطة، ويتحرّك ببساطة، ويفرش تحته حصيرًا غالبًا، وكان يجلس على الأرض، ويحلب المعزى بيده، ويركب على غير سرج أو جلال، وكان طعامه غالبًا خبر الشعير والتمر، ويرقع ثوبه وخفّه بيده، وكان مع بساطته لا يؤيّد فلسفة الفقر، ويعتبر الثروة واجبة لمصلحة المجتمع ويصرفها في الطرق المشروعة، ويقول: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، وقال: "نعم العون على تقوى الله الغنى"2.


الإرادة والاستقامة
كان النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا مثيل له في إرادته واستقامته، وقد سرت هذه الخصلة منه إلى أصحابه، وإنَّ دورة بعثته الثلاث والعشرين سنة كانت كلّها درس إرادة واستقامة.

1- الشيخ الطوسي، الامالي، ص404.
2- الشيخ الكليني، الكافي،ج5،ص71.

 

34

  


25

صفات النبي الكريم

 وكان في تاريخ حياته قد مرَّ بظروف تُخيّب الآمال من جميع النواحي، وفي عدَّة مرَّات، ولكنَّه لم يُفكّر بالفشل بتاتًا، ولم يتزلزل إيمانه بالنجاح لحظة واحدة.

 


القيادة والإرادة والمشورة
لم يستبد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برأيه مع العلم بأنَّ أمره كان نافذًا فورًا بين الصحابة، وكرّروا القول بأنَّنا لمّا كنَّا نؤمن بك إيمانًا قاطعًا فلو أنّك تأمرنا بأن نرمي أنفسنا في البحر أو النار لفعلنا. وكان يستشير أصحابه في القضايا التي لم يأتِ بها حكم من قبل الله، ويحترم آراءهم، وكان يرفع من معنويّاتهم عن هذا الطريق. وقد وضع في بدر موضوع الإقدام على الحرب وتعيين الموضع، وكيفيّة معاملة أسرى الحرب موضع التشاور، وكذلك في أُحد في موضوع جعل المدينة مقرًّا للحرب أو خارجها، وشاور أصحابه في غزوة الأحزاب وتبوك أيضًا.

وكان لين النبيّ وعطفه، وعفوه وسماحته، واستغفاره لأصحابه، وتألّمه من أجل غفران ذنوب أُمَّته، وكذلك اعتبار أصحابه وأنصاره في الحسبان، واستشارتهم ورفع معنويّاتهم، من أسباب نفوذه وتغلغل حبّه العظيم في قلوب جميع أصحابه.

ويشير القرآن الكريم إلى هذه الناحية فيقول: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ 1.


النظم والانضباط
كان النظم والانتظام يسود أعمال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قام بتقسيم أوقاته، وأوصى بذلك، وكان أصحابه يطبّقون الانتظام والانضباط تمامًا بإشرافه ورعايته. وكان يرى

1- سورة آل عمران، الآية 159.
 
35

 


26

صفات النبي الكريم

 من الواجب ألّا يُصرّح ببعض القرارات، لكيلا يطّلع عليها العدوّ، وكان أصحابه ينفّذون قراراته من دون كمّ وكيف. فمثلًا كان يأمر بالتأهُّب للتحرُّك غدًا، فكان الجميع يسيرون معه نحو الجهة المقرّرة دون أن يعلموا بالمقصد النهائي، وكانوا في اللحظات الأخيرة يطّلعون على ذلك، وكان تارة يأمر جماعة بالتحرُّك إلى جهة ويُسلِّم قائدهم رسالة مغلقة ويقول له: افتحها عندما تصل إلى النقطة الفلانيّة بعد عدَّة أيّام ونفِّذ ما فيها. وكانوا يعملون بذلك، وقبل وصولهم إلى النقطة المعيّنة لم يكونوا يعرفون أين هو المقصد النهائي، ولأيّ أمر يتوجّهون، وبهذا التدبير لم يستطع الأعداء وجواسيسهم الاطّلاع على الأمر، فكان يفاجئهم أحيانًا.


استيعاب الانتقاد وكراهية التملُّق والمدح
كان النبيّ محمدصلى الله عليه وآله وسلم يواجه أحيانًا اعتراض بعض الأصحاب، ولكنَّه يجلب رضاهم وموافقتهم لما يقرّره هو من دون أن يُغلظ القول معهم، وكان يبرأ من سماع المدح والتملُّق ويقول: احثوا التراب في وجوه المدّاحين1، وكان يحبّ الإتقان في العمل ويرغب في أن ينجز العمل متقنًا إلى درجة بحيث عندما توفّي صاحبه المخلص (سعد بن معاذ) ووضعه أصحابه في القبر، نظم الأحجار أو اللّبنات بيده وأحكم وضعها وهو يقول ما مضمونه: أنا أعلم بأنّه لن يمرّ وقت طويل عليها إلَّا وتتهدّم، ولكنّ "إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"2.

1- الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، دفتر انتشارات اسلامى وابسته به جامعه مدرسين حوزه علميه قم، لا.ت، ط 2،ج5،ص285.
2- جلال الدين السيوطي، الجامع الصغير، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، 1401 - 1981م، ط 1،ج1،ص285.

 

36

  


27

صفات النبي الكريم

 مكافحة نقاط الضعف

لم يستغلّ النبيّ محمدصلى الله عليه وآله وسلم نقاط ضعف الناس وجهلهم، بل بالعكس، فكان يكافحها ويوقف الناس على جهلهم؛ فعندما توفّي ابنه إبراهيم الذي كان يبلغ من العمر ثمانية عشر شهرًا، وكان من الصدف أن انكسفت الشمس في ذلك اليوم، فقال الناس: إنَّ سبب كسوف الشمس المصيبة التي وقعت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يسكت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمام خيال الناس الباطل هذا، ولم يستغلّ نقطة الضعف هذه، بل صعد المنبر وأنكر أن يكون الكسوف سببه وفاة ابنه.


شروط القيادة
إنَّ شروط القيادة: من التمييز، والحزم، وعدم التردّد، والشهامة، والإقدام، وعدم الخوف من العواقب المحتملة، والتنبّؤ والنظر في العواقب، واستيعاب الانتقاد، ومعرفة الأشخاص وقدراتهم، والتفويض والاختيار حسب القدرات، واللّين في القضايا الشخصيّة، والصلابة في الموضوعات الأُصوليّة، ورفع معنويّات الأصحاب، وقدرات التفكير لديهم، وتربية قابليّاتهم العقليّة والعاطفيّة والعمليّة، وتجنُّب الاستبداد والطاعة العمياء، والتواضع، والبساطة والقناعة، والوقار والرزانة، والرغبة الملحّة في المؤسّسات والتشكيلات من أجل تنظيم القوى الإنسانيّة... كلّ ذلك كان متوافرًا فيه إلى حدّ الكمال، وكان يقول: "إذا كنتم ثلاثة في السّفر فأمّروا أحدكم"1.

وقد نظّم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تشكيلات خاصّة له في المدينة، منها أنَّه أوجد جماعة من الكتّاب، وكان لكلّ فئة منهم عمل خاصّ؛ فكان بعضهم كتّابًا للوحي يكتبون القرآن، وآخرون يتصدّون للرسائل الخاصّة، ويسجّل بعضهم عقود الناس ومعاملاتهم، ويكتب آخرون دواوين الصدقات والزكاة، ويتكفّل بعضهم بالاتّفاقيّات والمواثيق. وقد جاء

1- الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت، دار الكتاب العربي، لا.ت، لا.ط، ج6، ص107.

 

37


28

صفات النبي الكريم

 كلّ ذلك في الكتب التاريخيّة مثل (تاريخ اليعقوبي) و(التنبيه والإشراف) للمسعودي و(معجم البلدان) للبلاذري و(الطبقات) لابن سعد.


أسلوب التبليغ
كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سمحًا في تبليغ الإسلام لا متشدّدًا، وكان يعتمد غالبًا على التبشير والترغيب أكثر منه على التخويف والتهديد؛ فقد أمَرَ أحد أصحابه عندما أرسله إلى اليمن للتبليغ قائلًا: "يسِّر ولا تعسِّر، وبشِّر ولا تنفِّر". وكان النبيّ نشطًا متحرِّكًا في عمل تبليغ الإسلام، فسافر إلى الطائف، وكان يدور أيّام الحجّ بين القبائل ويبلّغ، وأرسل عليًّا عليه السلام مرَّة ومعاذ بن جبل مرَّة أُخرى إلى اليمن من أجل التبليغ، وأرسل مصعب بن عمير إلى المدينة–قبل أن يهاجر إليها–من أجل تبليغ أهل المدينة، وأرسل جماعة من أصحابه إلى الحبشة يبلّغون الإسلام ويفسحون في المجال لإسلام (النجاشي) ملك الحبشة، ونصف أهالي الحبشة، وكتب في السنة السادسة الهجريّة رسائل إلى الرؤساء والملوك في العالَم، وأعلن لهم عن نبوَّته ورسالته. وقد بقي من هذه الرسائل حوالي مئة رسالة كان قد كتبها لشخصيّات مختلفة.


التشجيع على العلم
كان النبيّ محمدصلى الله عليه وآله وسلم يشجّع على طلب العلم وتعلُّم القراءة والكتابة، وحرَّض أطفال أصحابه على التعلُّم، وأمر بعض أصحابه أن يتعلّموا اللغة السريانيّة، وكان يقول: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم"1. وقد أدَّى هذا التشجيع والتحريض على طلب العلم إلى أن يطلب المسلمون العلم بهمّة وسرعة فائقة في كلّ أنحاء العالَم، وحصلوا على الآثار العلميّة أينما وجدوها، وترجموها، وحقّقوا فيها. وبالإضافة إلى أنَّهم أصبحوا حلقة وصل عن هذا الطريق بين المدنيّات القديمة كاليونانيّة والروميّة والإيرانيّة والمصريّة 

1- الشيخ الكليني، الكافي،ج1، ص30.

 

38

  


29

صفات النبي الكريم

 والهنديّة وغيرها، وبين المدنيّات الأوروبّيّة الحديثة؛ فقد أبدعوا أحد أروع المدنيّات والثقافات في تاريخ البشريّة، والتي عُرفت باسم المدنيّة والثقافة الإسلاميّة.

وكان طبع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخلقه مثل كلامه ودينه جامعًا وشاملًا، ولم يذكر التاريخ نظيرًا لشخصيّته بحيث يكون في حدّ الكمال في جميع جوانبه الإنسانيّة، فقد كان الإنسان الكامل حقًّا.

39

  


30

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 

أقال تعالى في كتابه الكريم:
﴿ مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ ﴾1.

هنا تتّضح معالم المجتمع الإسلامي، والقضيّة الأُولى المذكورة هي صحبة الرسول والإيمان به. والقضيّة الثانية هي الشدّة على الكفّار، أي القوّة أمام الأجنبي. وإذًا هؤلاء المتنسّكون الثاوون في المساجد، يكفي جندي واحد ليسوق ألفًا منهم بلا أن ينبس أحدٌ منهم ببنت شفة، هؤلاء ليسوا مسلمين.

الشدّة على العدوّ
إحدى الصفات التي يجب أن يتّصف بها المسلم، وهي الصفة الأولى التي يذكرها له القرآن هي الشدّة والقوّة والصلابة مع العدوّ؛ فالإسلام لا يحبّ المؤمن الضعيف.

﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِين﴾2.

الإسلام دين لا ضعف فيه. يذكر ويل ديورانت في كتابه "قصَّة الحضارة":


 

1 سورة الفتح، الآية 29.
2 سورة آل عمران، الآية 139.

41

  

 


31

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 "لم يدعُ دين أتباعه إلى القوّة كالإسلام". فالمسكنة، وثني الرقبة، وإسالة اللّعاب من جانب الفم، وانهدال الثوب، والثياب القذرة، وخطّ الأرجل بالأرض، وأذيال العباءة تكنس الأرض، هذه مظاهر معادية للإسلام. والتأوّهُ والتوجّع منافٍ للإسلام: ﴿ وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ ﴾1. إنّ الله منحك القوّة والقدرة والصحّة والسلامة، وجعلك قادرًا على أن تمشي منتصب القامة، فلماذا تحني ظهرك بلا سبب، وما دمت قادرًا على رفع رأسك فلماذا تلوي رقبتك، ولماذا تتأوّه؟

التأوّه يعني أنّك تعاني من ألم، وما دام الله قد عافاك من الألم، فلماذا تتأوّه؟ هذا كفر بالنعمة!

هل كان عليّ عليه السلام يمشي كما نمشي أنا وأنت، وهل كان يجرّ أذيال عباءته وراءه ويترنّح في مشيته؟ هذه الأفعال ليست من الإسلام في شيء.

المسلمون يجب أن يكونوا أشدّاء على الكفّار كالحديد، وكسَدِّ الإسكندر.

المودّة فيما بينهم
ولكن كيف تكون علاقتهم فيما بينهم وبين إخوانهم المسلمين؟ ﴿ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ ﴾. ولكن حينما ننظر إلى هؤلاء المتنسّكين لا نجد فيهم شيئًا من هذه الصفة؛ فلا مودّة ولا رحمة تجاه الآخرين فوجوههم عابسة دائمًا، فلا يتفاعلون مع أحد، ولا يخالطون أحدًا، ولا يضحكون مع أحد، ولا يبتسمون مع أحد، وكأنّ لهم المنَّة على كلّ البشر. هؤلاء ليسوا مسلمين، هؤلاء لصقوا أنفسهم بالإسلام.

هذه هي الصفة الثانية، ألا تكفي هذه الشدّة على الكفّار والرحمة مع المسلمين، ألا تكفي هذه ليكون المرء مسلمًا؟ كلّا.

1- سورة الضحى، الآية 11.

 

42

  


32

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 الركوع والسجود لله

﴿ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ ﴾1.

في نفس الوقت الذي يكون فيه هذا الشخص شديدًا على الكفّار ورحيمًا مع المسلمين، تراه في محراب الصلاة راكعًا ساجدًا ﴿ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ ﴾، يدعو ربّه لينال رضاه. نحن طبعًا لا نريد القول بوجود فرق بين الدعاء والعبادة؛ فالدعاء عبادة، والعبادة دعاء، ولكن أحيانًا يكون العمل دعاءً صرفًا؛ أي أنّ العبادة تكون دعاءً فقط، وأحيانًا أخرى يمتزج في العبادة الدعاء وغيره. وهناك عبادة أخرى ليست دعاء أساسًا كالصلاة مثلًا.

﴿ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ﴾، أي أنّ المرء يعبد الله حتّى تتّضح آثار العبادة وآثار التقوى على وجناته وعلى وجهه، وكلّ من ينظر إليه يستشعر في وجهه معرفة الله وذكر الله، ومن يقع بصره عليه، يذكر الله.

جاء في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الحواريّين سألوا عيسى بن مريم عليه السلام: "يا روح الله من نجالس؟" فقال: "من يذكّركم الله رؤيتُه ويزيد في علمِكم منطقُه ويرغّبكم في الخير عملُه".

ثمّ جاءت تتمّة الآية: ﴿ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡ‍َٔهُۥ فَ‍َٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ ﴾2.

ورد ذكر هذه الصفة لهم في التوراة؛ فقالت عنهم أنّه ستأتي مثل هذه الأمّة، وفي الإنجيل مثل لهم بهذه الصفات. هذه الأمّة تنمو بهذه الصورة التي أدهشت المتخصّصين في دراسة الإنسان؛ يا لها من أمّة سامية، ويا لها من أمّة تسير نحو المجد والرفعة، أمّة أبناؤها أشدّاء على الكفّار ورحماء بينهم، وركّعًا وسجّدًا، ويبتغون فضلًا

1- سورة الفتح، الآية 29.
2- سورة الفتح، الآية 29.

 

43

  


33

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 من الله ورضوانًا، فمن الطبيعيّ جدًّا أن تكون أمّة سامية.

ولكن لماذا يا ترى نعيش نحن المسلمون في هذه الحالة من الانحطاط، ولماذا نعاني من هذه الرزايا والمصائب، وأيّ من هذه الصفات متوفّرة فينا، وما هي الغاية المنشودة منّا؟1.

العبادة والتحرّر
جاء في نصّ القرآن الكريم أنّ أحد الأهداف التي بُعث من أجلها الأنبياء هو تحرير بني الإنسان اجتماعيًّا، واستنقاذهم من العبوديّة لأحدهم الآخر2.

وإحدى الملاحم التي ينفرد بها القرآن الكريم هي قضيّة الحرّيّة الاجتماعيّة.

لا أتصوّر وجود جملة عميقة ونابضة بالفاعليّة أكثر من الجملة الواردة في القرآن الكريم في هذا الصدد، ولا يمكن العثور-لا في القرن الثامن عشر ولا في القرن التاسع عشر ولا في القرن العشرين، أي القرون التي رفع فيها الفلاسفة شعار تحرير الإنسان، وصارت هذه الكلمة متداولة على الألسن أكثر من اللازم، وغدت شعارًا يتغنّى به الجميع-على جملة أكثر بلاغًا ممّا ورد في القرآن، وهو قوله تعالى:

﴿ قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ ﴾3.

وفي ظلّ هذه الدعوة تنعدم جميع الفوارق وتزول أسباب التفاضل، ويُلغى نظام السادة والعبيد، ولا يحقّ لأحد استغلال الآخر ولا استعباده4.

1- مقالات إسلاميّة، ص60 – 64.
2- مقالات إسلاميّة، ص12.
3- سورة آل عمران، الآية 64.
4- مقالات إسلاميّة، ص13.

 

44

  


34

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 العبادة نزوع إلى الداخل وإلى الخارج

الإنسان الكامل الذي يطمح إليه الإسلام، هو إنسان ذو طبيعة شموليّة، لديه نزوع إلى داخل ذاته وذو نزعة اجتماعيّة من جهة أُخرى، أي أنّه لا يتّصف بالانطوائيّة على الذات. وإذا كان يغور في ذاته ليلًا وينسى الدنيا وما فيها، فهو يعيش نهارًا في خضمّ المجتمع، كما ورد الوصف بشأن أصحاب الإمام الحجّة-عجّل الله فرجه-الذين هم مثال للإنسان الكامل، فقيل فيهم أنّهم "رهبان باللّيل، ليوث بالنهار".

والقرآن الكريم أيضًا ينطق بوصف ينطبق عليهم وعلى غيرهم وهو قوله: ﴿ ٱلتَّٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّٰٓئِحُونَ ٱلرَّٰكِعُونَ ٱلسَّٰجِدُونَ ﴾1، وهذه كلّها صفات للجانب الداخلي فيهم، ثمّ يقول بعد ذلك مباشرة: ﴿ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ ﴾2 أي دخل في الحال إلى الجانب الاجتماعيّ فيهم؛ أي أنّهم المصلحون في مجتمعهم3.

يتحدّث القرآن بشكل شموليّ، في وقتٍ كان مجتمعنا مصابًا بمرض وهو أنّه كان يرى التديّن ينحصر في العبادة، ولكن أيّ عبادة؟! كان ملاك التديّن فيه كثرة الذهاب إلى المسجد وكثرة الدعاء. لقد تحوّلت هذه الظاهرة إلى مرض؛ ولكن ظهرت إلى جانبها أيضًا وبشكل تدريجيّ أعراض مرض آخر، وهو أنّ بعض الناس أصبح لديه اهتمام بالجانب الاجتماعي للإسلام، مع إهمال تدريجيّ للجانب المعنويّ فيه، وهذا أيضًا مرض آخر.

ولو أنّ مجتمعنا ركّز على هذا الجانب ونسي الجانب الآخر فهو أيضًا مجتمع منحرف بنفس القدر الذي كان فيه المجتمع السابق منحرفًا. كان المجتمع الذي بناه رسول الله مجتمعًا متّزنًا، وحينما يطالع المرء التاريخ يجد أنّ أفراد ذلك المجتمع لا

1- سورة التوبة، الآية 112.
2- سورة التوبة، الآية 112.
3- إنسان الكامل، ص187.

 

45

  


35

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 نظير لهم في كلّ العالم، وأولئك الذين قدموا لمحاربة الفرس والروم، كان أحدهم "قائمًا باللّيل وصائمًا بالنهار"، وفي الوقت ذاته "ضاربًا بالسيف". ولو كان أحدهم يكتفي بالقيام ليلًا والصيام نهارًا، لما كان مسلمًا، أو إذا كان يضرب بالسيف بلا أيّ مزايا أخرى فهو إنسان يسير وراء أطماعه، وإنّما قيمة مثل هذا الإنسان في شموليّته. ونحن يجب أن لا ننسى أنّ هذه الخاصّيّة الشموليّة التي يتميّز بها الإسلام، تُعزى إلى أنَّه–أي الإسلام–مثله مثل أي مركّب آخر، إذا فقدت أجزاؤه اتّزانها يتلاشى وجوده. أنتم تلاحظون بناء جسم الإنسان مثلًا، حيث يحتاج لعناصر كثيرة لأجل ديمومته، فإذا ما ازداد بعضها أو نقص عن الحدّ الطبيعي، يفقد سلامته1.

العبادة والعزلة
ذكر الشاعر سعدي الشيرازي في كتابه "روضة الورد" قصّة مفادها:

رأيت شيخًا عاكفًا في غارِ ناءٍ به عن صحبة الأشرار

فقلت قُم واذهب لبعض المُدْنِ تُلقِ عن القلب هموم الحُزنِ2

أنّ عابدًا لاذ بغار في جبل يعبد فيه ربّه، فلقيه سعدي فقال له: لماذا لا تأتي إلى المدينة لمخالطة الناس؟ فتذرّع بعذر، ويبدو أنّ سكوت سعدي عنه دليل على اقتناعه بذلك العذر. يقول:

فقال كم حوراء فيها ذات دَلْ تزلق رجل الفيل منها بالوحَلْ

أي أنّ الوجوه الجميلة في المدينة كثيرة، وإذا وقع بصري عليها لا أستطيع ضبط نفسي، ولهذا لجأت إلى هذا الغار لصيانة نفسي. يا له من كمال مدهش! يحبس الإنسان نفسه في غار ليبلغ مرحلة الكمال! هذا ليس كمالًا يا شيخ سعدي! لقد نقل

1- التعليم والتربية، ص344.
2- روضة الورد: الباب الرابع، الحكاية 18 (الترجمة العربيّة).

 

46

  


36

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 لك القرآن أحسن القصص، وهي قصّة يوسف التي ذكر فيها ﴿ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ ﴾1، أي أنّ القرآن يأمرك أنت أيضًا بأن تكون كيوسف. لقد توفّرت له جميع المستلزمات والظروف لارتكاب المعصية، وحتّى أنّ سبل الفرار أغلقت أمامه، لكنّه في الوقت ذاته حفظ عفّته، وفتح الأبواب التي أغلقت عليه2.

العبادة والمتصدّون لزمام الحكم
قال تعالى في كتابه الكريم:
﴿ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾3.

يصف القرآن الناس الذين يساعدهم الله للدفاع عن أنفسهم، ويصف الناس الذين يتسنّى لهم إقامة الحكومة بالوصف التالي: ﴿ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ ﴾ وجعلنا بيدهم السلطة، ماذا يفعلون: ﴿أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ ﴾.

فالصلاة رمز للعلاقة السليمة مع الله، والزكاة ترمز للتعاون والتكافل الصحيح بين العباد، والذين يعبدون الله بإخلاص ويساعدون بعضهم الآخر: ﴿وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ﴾ 4 5.

العبادة والزواج
للزواج قدسيّة في الإسلام من عدّة أوجه عمليّة (خلافًا للديانة المسيحيّة الكنسيّة التي تقدّس الإعراض عن الزواج، بينما الإسلام يقدّس الزواج). ولكن لماذا يقدّس الإسلام الزواج؟

1- سورة يوسف، الآية 90.
2- الإنسان الكامل، ص133.
3- سورة الحجّ، الآية 40.
4- سورة الحجّ، الآية 41.
5- كتاب الجهاد، ص21.
  

 

47

  


37

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 أحد أسباب هذه القدسيّة يعود إلى ما ينطوي عليه الزواج من أبعاد تربويّة لروح الإنسان؛ فهناك نضوج ونوع من الكمال لا يتحقّق للإنسان إلّا بالزواج.

فلو أنّ رجلًا لم يتزوّج حتّى آخر حياته، أو امرأة لم تتزوّج حتّى آخر حياتها، تبقى روحه أو روحها ذات طبيعة فجّة، حتّى وإن بقي يرتاض طوال حياته، وحتّى لو أنهى عمره بالصلاة، وحتّى وإن صام كلّ دهره، وحتّى لو أفنى عمره بالمراقبة وبمجاهدة النفس؛ وسبب ذلك يعود إلى عدم الزواج. وقد سنّ الإسلام الزواج لكلٍّ من الرجل والمرأة انطلاقًا من تأثيره في تربية الروح الإنسانيّة وصقلها. والعوامل المؤثّرة في تربية الإنسان لكلّ واحد منها له تأثيره في موضعه، ولا يمكنه أن يحلّ محلّ العوامل الأخرى1.

العبادة وتجسيد الوحدة
تلك الحقيقة التي هي ملك للجميع، ولا تختصّ بأحد دون غيره، هي الله تعالى، الذي خلق الخلق وإليه معاده. تعالوا لنمضيَ إليه جميعًا ﴿ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا ﴾2.

ثمّ يقول: ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ﴾3، أي لا يكون بعضنا خادمًا والآخر سيّدًا، وأن تزول أسباب التسلّط والعبوديّة من بيننا، ولا تبقى هناك موجبات للعالي وللداني، ولكن بشرط أن تبدأ المسيرة من هناك، من قوله تعالى: ﴿ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ﴾. ها هو القرآن ينادي بشعار "نحن" ويتحدّث على الدوام بصيغة الجماعة.

1- مقالات إسلاميّة، ص234.
2- سورة ال عمران ، الاية64.
3- سورة آل عمران، الآية 64.

48

  


38

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 ففي الصلاة، بعد أن نحمد الله ونثني عليه ﴿ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ﴾1، فأنا حتّى وإن كنت أصلّي منفردًا وأريد القول: اللَّهمَّ إنّي أعبدك واستعين بك، أقولها بصيغة جماعة المتكلّمين، وبهذه الصورة ختام الصلاة أيضًا فنقول: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"2.

العبادة والتعاون
إحدى الفضائل المؤكّدة التي يقرّها الإسلام ويعتبرها فضيلة إنسانيّة هي خدمة خلق الله. وهذا الجانب أوصى به الرسول كثيرًا وحثَّ عليه القرآن بالقول:

﴿ لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾3.

ولكن تجد إنسانًا مثل سعدي–طبعًا سعدي لم يكن عمليًّا على هذه الشاكلة وإنَّما هذا لسان الشعراء–ينطلق مرّة واحدة قائلًا: "ليست العبادة إلّا خدمة الخلق" ولا شيء آخر سواها.

الذين يتفوّهون بهذا الكلام يستهدفون سلب فضيلة العبادة، ونفي فضيلة الزهد، وإنكار فضيلة العلم، وفضيلة الجهاد، وكلّ الفضائل السامية الأخرى التي أقرّها الإسلام للإنسان، فيقولون: أتعلمون ماذا تعني الإنسانيّة؟ تعني خدمة عباد الله، بخاصّة أنّ بعض المثقّفين اليوم يتصوّرون أنّهم بهذا المنطق حقّقوا إنجازًا رائعًا، وصاروا يسمّون هذا المنطق السامي نزعة إنسانيّة.

1- سورة الحمد، الآية 2.
2- الإنسان الكامل، ص321.
3- سورة البقرة، الآية 177.

 

49

  


39

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

  ولكن ماذا تعني النزعة الإنسانيّة؟ يقال إنّها تعني خدمة خلق الله، ونحن نخدم خلق الله، ونقول بوجوب خدمتهم؛ ولكن ماذا عن خلق الله ذاتهم؟ إذا افترضنا أنّنا أشبعنا بطون خلق الله وكسونا أجسادهم، فنحن إنّما نكون قد خدمنا حيوانًا. فإذًا نحن لم نعترف لهم بقيمة أسمى من هذه، وجعلنا القيم كلّها محصورة في إطار خدمة خلق الله، وليس في ذاتنا قيمة أعلى منها، ولا في ذات الآخرين قيمة أسمى منها؛ حينها يكون خلق الله مجموعة من الأغنام أو الخيل، ونكون نحن قد أشبعنا بطون عدد من الحيوانات وكسونا أجسادها.

طبعًا إذا أشبع الإنسان بطن حيوانٍ يكون قد قدّم خدمة، ولكن هل الحدّ الأعلى للإنسان يبيح بقاءه في حدود الحيوانيّة؟

العلاقة بين ذكر الله وخدمة العباد:
ذكر الله سبب لتقوية قلب الإنسان وخاصّة في الظروف العسيرة، وذكر الله يجعل المرء يستمدّ العون من قدرة الله، ويبعث في نفسه العزم والقوَّة.

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ 1. الصلاة تعني ذكر الله، والقرآن يقول استمدّوا العون من الصلاة.

أتذكّر قبل سنوات أنّ شخصًا كان في ما مضى في الحوزة العلميّة، ثمّ تركها وجاء إلى طهران وانضمّ إلى عصابة أحمد كسروي (وهي عصابة كانت تتنكّر للدِّين)، وألّف كتابًا يدحض فيه المذهب الشيعيّ وقد كتبت ردًّا عليه. ومن جملة ما سخر منه هذا الشخص هو ذكر الله، إذ قال هل أنّ رجلًا يحرس بيوت الناس في كبد اللّيل خير وأرضى لله أم شخص يجلس في موضع ما ويحرّك شفتيه ويقول أنا أذكر الله؟

ردّ عليه أحد العلماء بالقول: هذه القضيّة لها شقّ ثالث وهو أنّ هذا الحارس في الوقت الذي يحمل فيه بندقيّته ويجوب الشوارع، يذكر الله أيضًا.

1- سورة البقرة، الآية 153.

 

 
50


  


40

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 فالإسلام لا يأمرك إمّا أن تكون حارسًا وإمّا أن تذكر الله، ولا يخيّرك بين أن تكون طيّارًا أو تذكر الله، ولا يفرض عليك إمّا أن تكون ملّاحًا في سفينة وإمّا أن تذكر الله، بل يقول: اذكر الله مع كلّ عمل تمارسه، وحينها تؤدّي عملك بشكل أفضل، ويكون اندفاعك للعمل أشدّ. القرآن لا يأمر الإنسان بالجلوس في حجرة وإغلاق الأبواب على نفسه، والإمساك بمسبحة ذات ألف حبَّة وذكر الله1.

العبادة ومواساة المحرومين
ثمّة سُنَّة مشتركة بارزة عند جميع الأئمّة عليهم السلام بوضوح؛ أحدها الاعتقاد بالله وخشيته وعبادته. فالاعتقاد بالله سمة بارزة في حياتهم، وخشية الله تدفعهم في مواطن كثيرة إلى البكاء والخوف والتضرّع وكأنّهم يرونه، ويرون القيامة والعذاب، والجنّة والنار. جاء في وصف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنّه كان: "حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة"2، فإذا لم يكن هناك تفاعل في داخل الإنسان، فهو لا يبكي.

والسُّنَّة الثانية التي كانت بارزة في حياة جميع ذرّية عليّ عليه السلام من الأئمّة المعصومين هي مواساة الفقراء والمساكين والمحرومين؛ إذًا إنّ للإنسان عندهم قيمة ثمينة. ولو طالعنا تاريخ كلّ واحد من الأئمّة نجد الاهتمام بشؤون الضعفاء من جملة اهتماماتهم، وكانوا يتولّون هذه المهمّة بأنفسهم ولا يوكلون من يؤدّي هذه المهمّة نيابة عنهم3.

1- التعرّف على القرآن: ص92.
2- الشيخ عباس القمي، منتهى الآمال، ج2، ص222.
3- في رحاب الأئمّة الأطهار، ص183.

 

51

  


41

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 العبادة والاهتمام بالجار

يروي الإمام الحسن عليه السلام أنَّه حينما كان صغيرًا سهر ذات ليلة يستمع لأمّه الزهراء عليها السلام وهي تصلّي صلاة الليل. وبعد الانتهاء من الصلاة أخذت تدعو للمسلمين بأسمائهم الواحد بعد الآخر؛ فأردت أن أرى كيف تدعو لنفسها، ولكنّي دهشت حينما رأيت أنّها لم تدع لنفسها.

وفي اليوم التالي سألتها: لماذا دعوتِ للجميع ولكنّك لم تدعي لنفسك؟

قالت: "يا بُنيّ، الجار ثمّ الدار"1.

العبادة والتسامح
هناك قصّة حول مالك الأشتر لا بدّ أن الجميع قد سمعها.

كان مالك الأشتر رجلًا قويّ البنية، وكان ذات يوم مارًّا في سوق الكوفة، وكان هناك رجل جالس في الطريق وهو لا يعرف مالكًا، فلما مرَّ بقربه رماه ببندقةٍ، فلم يلتفت إليه ومضى في سبيله، وبعد أن ذهب جاء شخص آخر إلى هذا الرجل وقال له: أتعرف هذا الرجل الذي سخرت منه وأهنته برمي البندقة على وجهه؟

قال: لا، ومن هو؟

قال: هذا مالك الأشتر أمير الجند، وقائد جيش عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

فقال الرجل: لألحق به وأعتذر منه قبل أن يتّخذ أيّ إجراء ضدّي.

فسار الرجل وراءه فرآه قد دخل المسجد وبدأ يصلّي، فانتظره إلى أن فرغ من صلاته فجاءه وسلّم عليه وقال له معتذرًا: أنا الذي أسأت إليك الأدب قبل قليل، وإنّني ما كنت أعرفك.

1- بيرامون انقلاب إسلامي، 62.

 

52

  


42

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 فقال له مالك: والله ما دخلت المسجد إلّا لأصلّي ركعتين، وأسأل الله لك المغفرة والهداية1.

العبادة والجهاد
يتناول القرآن ذكر الفلسفة العامّة للجهاد. والقرآن يثير الدهشة حقًّا في بيانه للحقائق وذكره للقضايا وكأنّه يواجه بها الأسئلة والاعتراضات التي يُثيرها المسيحيّون حوله قائلين كيف يجيز القرآن–وهو كتاب سماويّ–القتال؟ بينما يُفترض به أن يدعو إلى السلام والوئام والعبادة.

فيردّ القرآن على هذا الاعتراض بالقول: لا، لأنّه إذا هجم طرفٌ على طرف آخر ولم يُجابه من قِبل هذا الطرف، فسوف تتعرّض جميع مراكز العبادة للزوال.

﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ ﴾2.

ثمّ إنّ القرآن بعد ذلك وعد عباد الله بالنُّصرة: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾3؛4.

العابد وأمنيّة الجهاد
هناك قصّة معروفة عن أحد أكابر علماء الشيعة رواها لي أحد علماء قمّ، وهي أنّ المرحوم الفيض الكاشاني كان يقول: من المستبعد أن يكون الإمام الحسين عليه السلام قد قال في أصحابه: "لا أعلم أصحابًا خيرًا من أصحابي"، وأنا لا أصدّق أنَّه قال شيئًا من هذا الكلام.

1- فلسفة الأخلاق، ص24.
2- سورة الحجّ، الآية 49.
3- سورة الحجّ، الآية 40.
4- كتاب الجهاد، ص20.

 

 
53


43

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 قيل له: ولماذا؟ قال: وما الذي فعلوه حتّى يقول عنهم هذا الكلام؟ فالذين قتلوا الحسين كانوا أناسًا في غاية الرذيلة، والذين نصروه لم ينجزوا عملًا ذا بالٍ. أيّ مسلم لو كان مكانهم وقيل له إنّ سبط الرسول وإمام الزمان قد تفرّد به القوم لوقف إلى جانبه.

وفي ذات ليلة رأى في المنام وكأنّه في صحراء كربلاء وكأنّ الإمام الحسين عليه السلام ومعه 72 رجلًا يقف في جهة، وفي الجهة الأُخرى يقف الجيش المعادي وعدده 30 ألفًا، وتراءى له أنّ الوقت ظهرًا وأنّهم يريدون إقامة الصلاة، وأنّ الإمام الحسين قد أمر هذا الشخص نفسه أن يتقدّم ويقف أمامه ريثما يؤدّي صلاته (مثل فعل سعيد بن عبد الله الحنفي ورجل آخر حينما جعلا من نفسيهما درعًا واقيًا للحسين حين صلّى ظهر يوم عاشوراء).

وكانت السهام تأتي من قِبل العدوّ، وتقدّمَ هذا الرجل ووقف ليقي الحسين منها. وما أن رأى سهمًا قادمًا من جهة العدوّ حتّى انحنى، فرأى فجأة أنّه أصاب الإمام، فقال وهو في المنام: أستغفر الله ربّي وأتوب إليك، يا له من فعل قبيح هذا الذي ارتكبتُه، هذه المرَّة لن أفعل ذلك. وجاءه سهم في المرّة الثانية فانحنى أيضًا، وكذلك في المرّة الثالثة وتكرّر هذا الموقف عدّة مرّات، ورأى الرجل أنّه ينحني لا إراديًّا في كلّ مرّة. وحينها قال له الإمام:

"إنّي لا أعلم أصحابًا خيرًا ولا أفضل من أصحابي". ومعنى هذا هل ظننت يا رجل كلّ من قرأ كتابًا يصير مجاهدًا؟! والحقيقة أنّ "من لم يغزُ ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق".

هناك قصّة في المثنوي تنطبق على هذا الحديث يقول فيها: كان هناك رجل زاهد عابد يؤدّي جميع ما عليه من المستحبّات والواجبات، وذات يوم حدّث نفسه قائلًا: إنّني أدّيت جميع ما يوجب الثواب، إلّا الجهاد؛ فقد صلّيت كثيرًا، وصمت كثيرًا، وزكّيت، وحججت، ولكنّي لم أجاهد.

فذهب وطلب من المجاهدين آنذاك–في أيّام الصليبيّين–أنّه حان وقت الجهاد وأن يخبروه لينال ثواب الجهاد، فوعدوه أن يخبروه بذلك. وفي أحد الأيام جاؤوا وقالوا

54

  


44

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 لهذا الرجل الذي لم يُجرِّب الجهاد يومًا في حياته: هيّا أيّها الزاهد لنذهب للجهاد، وجاؤوه بفرس وانطلقوا سائرين.

وفي أحد الأيّام كانوا جالسين في خيمة إذ سمعوا الأبواق قد عُزفت معلنة بدء الهجوم، فهبّ من لهم تجربة بالجهاد ووثبوا على خيلهم بخفّة وأغاروا على العدوّ، أمّا هذا الزاهد فقام وارتدى ثيابه وحمل قوسه وكنانته وتناول سيفه وأعدّ حصانه على مهل فاستغرق منه هذا العمل وقتًا طويلًا، وإذا برفاقه قد عادوا. فسألهم الزاهد عمّا حصل، فقصّوا عليه أنّهم ذهبوا وقاتلوا وأنّ العدوّ كان قد أغار من الموضع الفلانيّ فتصدّوا له وقتلوا منهم وهُزِم الباقون وما إلى ذلك ثمّ عادوا.

فقال الزاهد: يا له من موقف مثير، ولكن ماذا عنّي؟ قالوا له: إنّك لم تتحرّك بسرعة. قال: إذًا حُرمت من نيل ثواب الجهاد! فقال أحد المقاتلين: اعلم أنّنا أسرنا أحد جنود العدوّ وهو رجل خبيث قتل الكثير من المسلمين، وهو الآن مكتوف اليدين في هذه الخيمة ويجب أن يُقتل، وإذا كنت تريد أن تنال ثواب الجهاد فاذهب واضرب عنقه.

تقدّم إليه الزاهد، ولمّا رآه ذلك الرجل وكان قويّ البنية غليظ الساعدين، حملقَ بالزاهد وزأر عليه وصاح: لأيّ شيء جئت؟ وما أن قال هذا الكلام حتّى أُغمي على الزاهد. فقام إليه الرجل–وكانت يداه مغلولتان–وانحنى على رقبته وأخذ يعضّه وأوشك أن يقطع وريده بأسنانه. ولمّا رأى المجاهدون أنّ صاحبهم قد تأخّر ذهبوا لاستطلاع الأمر، فوجدوا الزاهد مغمًى عليه والكافر على وشكّ أن يقطع وريده فأخذوه وضربوا عنقه، ورشّوا الماء على وجه الزاهد فعاد إلى وعيه، فسألوه عمَّا جرى، فقال له: والله لا أدري، ما إن دنوت منه حتّى زأر عليَّ ولم أفهم ما حصل بعد ذلك. أجل، هذا هو معنى: "من لم يغزُ ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق".

نحن نؤدّي عبادات جوفاء، أو ضحلة المغزى؛ عبادتنا وصلاتنا ودعاؤنا، وذكرنا وقراءتنا للقرآن وصيامنا عبادات خالية من الروح وظاهرها ضئيل أيضًا، وتؤدّي في الغالب إلى خلق الغرور في أنفسنا فنشعر على أثرها بأنّنا أفضل من جميع بني آدم!

55


  


45

صفات أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وآله وسلم

 مثل هذا المسلم، مسلم زائف، وكما وصفه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه إذا مات يموت وهو على شعبة من النفاق"1.

العبادة والكتابات الأدبيّة الإسلاميّة
كما نعلم فإنّ أحد أوجه السموّ الأدبيّ الإسلاميّ–سواء العربيّ أم الفارسيّ–هو أدب الدعاء، والأفكار الدقيقة والشفّافة التي ينطوي عليها ممّا يثير العجب ويبعث على الاستحسان.

وعند مقارنة أدب الدعاء في الإسلام مع ما كان سائدًا قبله من أدب عاطفيّ إلهيّ يمكننا الوقوف على مدى عظمة تلك النهضة، بل الثورة التي أحدثها الإسلام في الأفكار، وكانت على درجة عالية من العمق والشمول والرقَّة. لقد صنع الإسلام من أولئك الناس الذين كانوا يعبدون الأوثان أو الإنسان أو النيران أو الثيران–ويتضرّعون بسبب قصر أفكارهم لما يصنعونه بأيديهم–أو يعتبرون الأب والابن شيئًا واحدًا، أو يصنعون لـ "أهورامزدا" (إله الخير في الديانة الزرادشتيّة) صنمًا يضعونه في كلّ مكان ويعبدونه ويسجدون له، صنع الإسلام من أولئك أُناسًا تستوعب عقولهم أدقّ الأفكار وألطفها وأسمى المعاني وأرقاها.

فما الذي حدث وقاد إلى تغيير الأفكار والعقول والسموّ بها إلى الذرى، وأدّى إلى قلب المقاييس والقيم؟

المعلّقات السبع ونهج البلاغة نتاجان لعهدين متقاربين بين الجاهليّة والإسلام، وكلٌّ منهما مثل أعلى في الفصاحة والبلاغة بلغة عصره ومصره. أمّا من ناحية المضمون فهيهات هيهات! وشتَّان ما بين الثرى والثريّا! فكلّ ما في الأوّل لا يتعدّى أوصاف الخيول والرماح والجِمال والجَمال والمَدح والذمّ والهوى والغرام والغزل و...، أمّا الثاني فزاخر بأسمى المفاهيم الإنسانيّة وأعلاها وأزكاها وأطيبها وأنماها2.

1- التعرّف على القرآن، ص177.
2- في رحاب نهج البلاغة، ص74.

 

56

  


46

الوحي والنبوّة

 إنّ الاعتقاد بالوحي والنبوّة يصدر عن نوع من النظرة للعالَم والإنسان، أي إنَّه أصل الهداية العامّة في جميع أنحاء الوجود، وإنَّ أصل الهداية العامّة يلازم النظرة التوحيديّة الإسلاميّة للعالَم. ولذا فإنّ أصل النبوّة يلازم هذه النظرة للعالَم. وإنَّ الله تعالى بحكم كونه واجب الوجود بالذّات، وأنَّ واجب الوجود بالذّات واجب من جميع الجهات، فهو الفيّاض على الإطلاق، ويتفضّل على كلّ نوع من أنواع الموجودات في الحدّ الممكن واللائق لذلك الموجود، ويهدي الموجودات إلى سبيل كمالها. وتشمل هذه الهداية جميع الموجودات من أصغر ذرة إلى أكبر كوكب، ومن أحقر الموجودات التي لا روح لها إلى أسمى الكائنات الحيّة التي نعرفها، أي الإنسان؛ ولهذا فقد استخدم القرآن كلمة "الوحي" في مورد هداية الإنسان، وهداية الجمادات والنباتات والحيوانات.

لا يوجد أيّ موجود في هذا العالم ثابت وعلى وتيرة واحدة، وهو في حالة تغيير مستمرّ للمكان والمنزل، ويجري باتّجاه مقصد ما.

ومن ناحية أُخرى، تشير جميع العلامات إلى وجود نوع من "الرغبة" و"الجاذبيّة" في كلّ موجود باتّجاه المقصد الذي يجري نحوه، أي إنَّ الموجودات تنجذب باتّجاه مقاصدها بقوَّة خفيّة موجودة في باطنها. وهذه القوّة هي التي يعبّر عنها بـ "الهداية الإلهيّة". يعبّر القرآن الكريم على لسان النبيّ موسى الذي قال لفرعون زمانه: ﴿ رَبُّنَا

57

  


47

الوحي والنبوّة

 ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾1.

إنَّ عالَمنا عالَم ذو هدف، أي إنّ في باطن الموجود توجد جاذبة نحو هدفه الكمالي، ووجود الهدف هو "الهداية الإلهيّة".

وقد تكرّرت كلمة "الوحي" في القرآن الكريم، ويدلُّ شكل استعمال هذه الكلمة وموارد استعمالها المختلفة على أنَّ القرآن لا يقصرها على الإنسان، بل يعتبرها جارية وسارية في جميع الأشياء وعلى الأقلّ في الكائنات الحيّة؛ ولذا يعبَّر بالوحي في مورد النّحل. والشيء الموجود هو اختلاف درجات الهداية بحسب تكامل الموجودات.

إنَّ أرقى درجات الوحي هي التي تكون للأنبياء. ويكون هذا الوحي على أساس حاجة نوع البشر إلى الهداية الإلهيّة، وإلى الذين يهدون البشر إلى مقصود ما وراء أُفق المحسوسات والمادّيّات، ومن جهة أُخرى يسدّ حاجة البشر في الحياة الاجتماعيّة التي تحتاج دائمًا إلى القانون الذي له ضمان إلهيّ.

والأنبياء هم كجهاز اللاقطة الذي وضع في هيكل البشريّة، وهم أشخاص مصطفون لهم صلاحيّة التقاط هذا النوع من الوحي من عالم الغيب. ولا يعلم هذه الصلاحيّة إلّا الله. يقول القرآن الكريم: ﴿ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ ﴾2. ومهما كانت ظاهرة الوحي خارجة عن نطاق إحساس أفراد البشر وتجربتهم بصورة مباشرة، لكن من الممكن معرفة هذه القوّة عن طريق آثارها، كالكثير من القوى الأُخرى. ويترك الوحي الإلهي أثرًا عظيمًا وعميقًا على شخصيّة حامل الوحي أي شخص النبيّ، ويجعله "مبعوثًا" في الحقيقة، أي يثير قواه ويحدث فيه تطوّرًا عظيمًا وعميقًا، ويتمّ هذا التطوّر باتّجاه خير البشرية ونموّها وصلاحها، ويعمل بنظرة واقعيّة، ويهب له جزمًا وتصميمًا منقطع النظير. ولم يشر التاريخ أبدًا إلى جزم كجزم الأنبياء والأشخاص الذين أثيروا بواسطتهم.

1- سورة طه، الآية 50.
2- سورة الأنعام، الآية 124.

 

58

  


48

الوحي والنبوّة

 مختصّات الأنبياء

إنَّ للأنبياء الإلهيّين-الذين يتّصلون بأصل الوجود ومبدئه عن طريق الوحي-امتيازات ومختصّات نشير إليها:

1. الإعجاز:
يتمتّع كلّ نبيّ يُبعث من قبل الله بقوّة وقدرة خارقة، ويُظهر بتلك القوّة الخارقة أثرًا أو آثارًا فوق قدرة البشر، والتي تشير إلى تمتّعه بتلك الطاقة الخارقة، وتشهد على صدق دعوته وسماويّة كلامه.

ويدعو القرآن الكريم الآثار الخارقة التي يبديها الأنبياء بإذن الله للدّلالة على صدق أقوالهم بـ"آية" أي العلامة والدليل، ويسمّيها المتكلّمون الإسلاميّون "معجزة" لأنَّ هذه العلامات تُظهر عجز سائر الأفراد وضعفهم. وينقل القرآن الكريم أنَّ الناس في كلّ زمان كانوا يطلبون من الأنبياء "آية" و"معجزة" وكان الأنبياء يجيبون على هذا الطلب المعقول المنطقي بصورة إيجابيّة، لأنَّ الطلب كان يتقدّم من قبل أُناس يبحثون عن الحقيقة. ومن دون ذلك لا يتسنّى لهم معرفة نبوَّة ذلك النبيّ. ولكن إذا كان طلب المعجزات يظهر لغرض آخر سوى البحث عن الحقيقة بحيث يقال: إذا قمت بالعمل الفلاني فإنَّنا نقبل دعوتك، فإنَّ الأنبياء كانوا يستنكفون عن ذلك. ويذكر القرآن الكريم للأنبياء معاجز كثيرة من إحياء الميت وشفاء المريض الذي لا علاج له، إلى التكلّم في المهد، وتبديل العصا بالأفعى، والإخبار بالغيب والمستقبل.

2. العصمة:
إنَّ من جملة مختصّات الأنبياء هي العصمة، والعصمة تعني الصيانة من الذنب والخطأ؛ أي إنَّ الأنبياء لا يقعون تحت تأثير أهوائهم النفسيّة، ولا يرتكبون ذنبًا، ولا

59

  


49

الوحي والنبوّة

 إيخطؤون في أعمالهم. وتجنّبهم هذا للأخطاء والذُّنوب يضفي عليهم أسمى مرتبة من قابليّة الاعتماد. فكيف تكون هذه الصيانة، هل أنَّها بحيث عندما يريدون أن يرتكبوا ذنبًا يأتي مأمور غيبي ويمنعهم من ذلك كالأب الذي يمنع ولده من الانزلاق (في المعاصي)؟ أو بهذه الصورة، وهي أنَّ جبلّة الأنبياء وطينتهم هي بصورة بحيث لا يتمكّن منها الخطأ والاشتباه، كما أنَّ المَلَك لا يزني لأنَّه خال من الشهوة الجنسيّة، أو أنَّ الآلة الحاسبة لا تخطئ لأنَّها لا ذهن فيها؟

إنَّ عدم ارتكاب الأنبياء للذُّنوب وعدم اشتباههم معلولٌ لنوع من نظرتهم ودرجة يقينهم وإيمانهم. وبالطبع، فإنَّ هذا الشقّ وحده هو الصحيح. ونذكر كلًّا من هاتين الصيانتين على حدة:

أمّا الصيانة عن الذنب: فإنَّ الإنسان موجود مختار، ويختار أعماله على أساس المنافع والمضارّ والمصالح والمفاسد التي يُميّزها، لذا فإنَّ للتمييز الدور المهمّ في اختيار الأفعال. ومن المستحيل أن يختار الإنسان شيئًا عديم الفائدة، أو أنَّه ضارٌّ من جهة أُخرى بناءً على تمييزه؛ فمثلًا، إنَّ الإنسان العاقل الذي يهوى الحياة لا يرمي نفسه من الجبل عالِمًا، ولا يتجرّع السمّ القاتل.

إنَّ الأشخاص يختلفون من ناحية الإيمان والانتباه إلى آثار الذّنوب، فكلَّما كان إيمانهم أقوى وانتباههم إلى آثار الذّنوب أكثر كان اجتنابهم عن الذنب أكثر وارتكابهم له أقلّ. وإذا كانت درجة الإيمان تصل إلى حدّ الشهود والعيان إلى الحدّ الذي يتصوّر الإنسان نفسه حين ارتكاب الذنب كالشخص الذي يريد أن يرمي نفسه من الجبل أو أن يتجرّع السمّ القاتل، فاحتمال اختيار الذنب هنا يصل إلى الصفر؛ أي أنَّه لا يتّجه نحو الذنب أبدًا. ومثل هذه الحالة نسمّيها العصمة. إذًا فالعصمة من الذنب ناتجة من كمال الإيمان وصلابة التقوى، ولا ضرورة للإنسان في قوّة خارجة تصدّه عن الذنب جبرًا من أجل وصوله إلى حدّ "الصيانة" و"العصمة" من الذنب، أو أن يكون الشخص

60

  


50

الوحي والنبوّة

 المعصوم بحكم جبلّته وطينته مسلوب القدرة. فإذا كان الإنسان لا يتمكّن من ارتكاب الذنب أو أنّ قوّة تصدّه عن الذنب دائمًا، فعدم ارتكابه الذنب لا يعتبر له كمالًا، لأنَّه يشبه الشخص السجين الذي لا يتمكّن من المخالفة، وعدم مخالفة مثل هذا الشخص لا يمكن أن تضعه في سجلّ الصدق والأمانة.

أمّا الصيانة عن الخطأ: فإنّها وليدة نوع من نظرة الأنبياء أيضًا. فالخطأ يحدث دائمًا من حيث يواجه الإنسان واقعيّة عن طريق الحسّ الباطني أو الخارجي، ويكون لها عدد من الصور الذهنيّة في ذهنه، ويقوم بتحليلها وتركيبها بقوَّة عقله، ويتصرّف فيها بصور مختلفة فيخطئ أحيانًا في مطابقة الصور الذهنيّة مع الواقعيّات الخارجيّة، وفي ترتيب تلك الصور. ولكنْ عندما يواجه الإنسان مباشرة واقعيّات عينيّة عن طريق حسّ خاصّ، وأنَّ إدراك الواقع هو نفس الاتّصال بالواقع، لا صورة ذهنيّة عن الاتّصال بالواقع، فلا معنى للخطأ والاشتباه بعد ذلك.

والأنبياء الإلهيّون لهم اتّصال بواقع الوجود في باطنهم، فلا يفترض الخطأ في نصّ الواقع. فمثلًا، لو وضعنا مئة حبّة من عقد "سبحة" في إناء، ثمّ مئة حبّة أُخرى، ونعيد هذا العمل مئة مرّة، فمن الممكن أن يخطئ ذهننا ويتصوّر أنّ هذا العمل تمَّ لتسع وتسعين مرّة أو مئة مرّة ومرّة، ولكن من المستحيل أن يخطئ الواقع نفسه، وبالنظر إلى كون العمليّة قد تكرّرت مئة مرّة فيكون مجموع الحبّات أكثر أو أقل، فالأشخاص الذين يكونون في نصّ مجرى الواقع من حيث الوعي، ويتّصلون بأصل الوجود وجذره ويكونون وحدة واحدة سيُعصمون من كلّ أنواع الأخطاء ويُصانون.

من هنا يمكن الوصول إلى اختلاف الأنبياء عن العباقرة. فالعباقرة أشخاص يمتلكون طاقة تفكير وتعقّل وتدبير قويّة، أي أنَّهم يتّصلون بالأشياء عن طريق حواسّهم، ويعملون بقوَّة عقلهم المدبّر حول معطيات أذهانهم، ويصلون إلى نتيجة، ويخطؤون أحيانًا. أمّا الأنبياء الإلهيّون فبالإضافة إلى تمتّعهم بقوّة العقل والتفكير

61

  


51

الوحي والنبوّة

 والتدبير الذهني، فهم مجهّزون بقوّة أُخرى باسم "الوحي"، والعباقرة لا يتمتّعون بهذه القوَّة. ولهذا السبب لا يمكن مقايسة الأنبياء بالعباقرة بأيّ وجه، لأنَّ المقايسة تكون صحيحة عندما يكون عمل الطرفين من نوع واحد ومن سنخ واحد، ولكن عندما يكونان نوعين وسنخين فالمقايسة خطأ. فمثلًا، تصحّ المقايسة بين اثنين في القوَّة الباصرة أو السامعة أو التفكير، ولكن لا يصحّ القياس بين قوَّة الباصرة عند شخص وقوّة السامعة عند الآخر، ثمّ نقول: أيّهما أقوى.

إنَّ نبوغ العباقرة له صلة بقوَّة التفكير والتأمُّل البشري، وخارقيّة الأنبياء لها صلة بقوَّة أُخرى تُسمّى "الوحي" والاتّصال بمبدأ الوجود، ولهذا فمن الخطأ القياس بينهما.

3. القيادة:
"إنَّ النبوّة، مع أنّها تبدأ من المسيرة المعنويّة إلى الله، والتقرّب إلى ذاته والانقطاع عن الخلق" (سير من الخلق إلى الحقّ) وهي تستلزم الانصراف من الخارج والاتّجاه إلى الباطن، "لكنَّها تنتهي أخيرًا بالعودة إلى الخلق والخارج لغرض إصلاح الإنسان وهدايته". (سير بالحقّ في الخلق).

ومعنى كلمة "نبيّ" في اللّغة العربيّة تعني المخبر، وكلمة "الرسول" في اللّغة العربيّة تعني "المبعوث".

فالنبيّ يبلّغ رسالة الله إلى خلق الله، ويوقظ طاقاتهم ويوجّهها، ويدعو إلى الله وإلى ما يرضي الله؛ أي يدعو إلى السلام والصفاء والإصلاح وعدم الإيذاء، والتحرّر من غير الله، وإلى الصدق والاستقامة، والحبّ والعدالة، وسائر الأخلاق الحسنة، وينقذ البشريّة من قيد إطاعة هوى النفس وأنواع الأوثان والطواغيت.

يتحدّث "إقبال اللّاهوري حول اختلاف الأنبياء مع سائر الأشخاص الذين لهم سلوك معنويّ إلى الله (العرفاء) ولكنّهم من دون رسالة نبوّة، فيسمّيهم باسم "الرجل الباطني".

62

  


52

الوحي والنبوّة

 "لا يريد الرجل الباطني بعد الراحة والاطمئنان الذي يحصل عليه في (السلوك المعنوي) العودة إلى حياة هذا العالَم، ولكن عندما يعود بناء على الضرورة فإنَّ عودته لا فائدة مهمّة فيها لجميع البشريّة، ولكنّ عودة النبيّ لها جانب إبداعي مثمر، يعود ويدخل في مجرى الزمان لغرض السيطرة على مجرى التاريخ، وليبدع عالَمًا جديدًا من كمال المتطلّبات عن هذا الطريق. والراحة بالنسبة إلى الرجل الباطني هي المرحلة النهائيّة، وبالنسبة إلى النبيّ فإنَّ يقظة قواه العارفة بالنفس هي التي تهزّ العالم، وإنَّ هذه القوى محسوبة ودقيقة إلى حدّ أنَّها تغيّر العالَم البشريّ تمامًا"1.

بناءً على هذا، فإنَّ قيادة الناس، وتنظيم القوى الإنسانيّة، ودفعها للحركة باتّجاه رضا الله وصلاح البشريّة، هي من ملازمات النبوّة التي لا تنفكّ عنها.

4. إخلاص النيّة:
إنَّ الأنبياء–بحكم أنَّ لهم سندًا إلهيًّا-، ولم ينسوا أنَّ على عاتقهم رسالة يؤدّونها من قبل الله، ويقومون بعمله (هو) يخلصون غاية الإخلاص في عملهم، أي إنَّهم لا غاية لهم ولا هدف سوى هداية البشر وهي ما يريدها الله، ولا يريدون "أجرًا" من الناس على إنجاز رسالتهم.

وقد نقل القرآن الكريم في سورة الشعراء أقوال كثيرة من الأنبياء في مجابهة أقوامهم بصورة موجزة. وبالطبع فإنَّ كلّ نبيّ كانت له رسالة خاصّة إلى قومه تتناسب والمشكلة أو المشكلات التي يواجهها في طريقه. ولكنّ إحدى الموضوعات التي تُكرّر في رسالات جميع الأنبياء هي: ﴿وَمَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ﴾2 لذا فإنَّ الإخلاص وعدم الغاية الشخصيّة هما من مميّزات النبوّة، ولهذا السبب فإنَّ رسالة الأنبياء تمتاز دائمًا بطابع "جازم" لا نظير له.

1- "احياى دكر ديني در إسلام" ترجمة: أحمد آرام، ص143.
2- سورة الشعراء، الآية 145.

 

63

  


53

الوحي والنبوّة

 والأنبياء–بحكم أنَّهم يشعرون بأنَّهم "مبعوثون" وأنَّهم لا يخطر ببالهم أدنى شكّ في رسالتهم ووجوبها وفائدتها، يُبلّغون رسالاتهم بجزم قاطع ويدافعون عنها بشكل لا يمكن العثور على مثله.

إنّ موسى بن عمران وأخاه هارون، في الوقت الذي كانا فيه يرتديان الثياب الصوفيّة ويمسكان العصا بأيديهما-وكان كلّ أثاثهما الظاهريّ يقتصر على هذا-دخلا على فرعون ودعَواه، وقالوا له بجزم وحزم: إن لم تقبل دعوتنا فإنَّ زوال حكمك حتميّ، وإن قبلت دعوتنا ودخلت في الطريق الذي نريده فإنَّنا نضمن لك العزّة. فقال فرعون مستغربًا: انظروا إلى هذين اللّذَين يتحدّثان عن ضمان عزّتي إن اتّبعتهما، وإلَّا فزوال حكومتي!1.

والنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سنوات البعثة الأولى-وقد كان المسلمون يتجاوزون عدد أصابع الكّفين-جمعَ بني هاشم في مجلس سجّله التاريخ بـ"يوم الإنذار" وبلّغهم رسالته، وأعلن بجزم وصراحة: بأنَّ الدِّين سوف يسود العالَم، وسعادتكم تكمن في اتّباعكم وقبولكم دعوتي. فكان القول هذا ثقيلًا عليهم ولا يمكن تصديقه، إلى حدّ بحيث كان ينظر بعضهم إلى بعض، وتفرّقوا دون الإجابة عليه.

وعندما بلغ أبا طالب عمَّ النبيّ الكريم قولُ قريشٍ بأنَّنا مستعدّون لنختاره ملكًا علينا، ونزوِّجه أجمل بناتنا، ونجعله أثرى شخص فينا بشرط أن يترك أقواله، قال النبيّ في جوابهم: "والله يا عمّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما فعلت".

نعم، كما أنَّ العصمة من الذنب في قيادة الناس من مستلزمات التسلّح بقوَّة الوحي والاتّصال بالله، فإنَّ الإخلاص والحزم أيضًا من مستلزمات النبوّة.

1- نهج البلاغة، الخطبة 190.
64

  


54

الوحي والنبوّة

 5. البناء:

 

إنّ الأنبياء الذين يُحرّكون الطاقات وينظّمونها، إنّما يفعلون ذلك لبناء الفرد وبناء المجتمع الإنساني؛ وبعبارة أُخرى، بقصد السعادة البشريّة. ومن الممتنع والمستحيل أن يتمّ ذلك لغرض فساد المجتمع الإنساني أو فنائه. وإذا كانت دعوة مدّعي النبوّة تفسد الناس، وتبطل طاقاتهم، وتجرّهم إلى الفحشاء والرذيلة، وفناء المجتمع الإنساني وانحطاطه، فهي الدليل القاطع على أنَّ هذا المدّعي غير صادق في دعوته. و"لإقبال اللّاهوري" هنا قول قيّم أيضًا، يقول: "والطريق الآخر للحكم حول قيمة تجربة دينيّة يقوم بها نبيّ (أي كون رسالته حقيقيّة، واتّصاله الباطني بالله واقعيًّا) هو تجربة أنواع الإنسانيّات التي أوجدها، والاهتمام أيضًا بذلك العالم هو الثقافة والمدنيّة التي نبعت من رسالته"1.

6. النزاع والجهاد:
إنَّ النزاع مع الشرك والخرافات والجهل والتخيّلات والمظالم والجور هو إحدى العلامات الأُخرى لصدق نبوّة مدّعي النبوّة؛ أي من المستحيل أن يُنتخب شخصٌ نبيًّا واقعيًّا من قبل الله ويُشمّ في رسالته رائحة الشرك، أو أنَّه يسارع إلى مساعدة الظالم، أو أنَّه يؤيّد الظلم وعدم العدالة، أو أنَّه يسكت أمام الشرك والجهل والخرافات والمظالم، ولا يشنّ الحرب لمجاهدتها.

إنَّ التوحيد والعقل والعدل من أُصول دعوة جميع الأنبياء، ودعوة بعض الأشخاص الذين يدّعون في هذا السبيل يمكن دراستها ومطالبتها بالدليل والمعجزة؛ أي لو جاء شخص وفي رسالته ما يخالف التوحيد أو يخالف الحكم القطعي المتّفق عليه لدى جميع العقول، أو بما يخالف العدل ويؤيّد الظلم، فإنَّ رسالته لا تستحقّ الدراسة

1- "احياى فكر ديني در إسلام" ص144.

65

  

 


55

الوحي والنبوّة

 وطلب الدليل أيضًا، كأن يرتكب مدّعي النبوّة ذنبًا أو خطأً، أو أنَّه يعجز عن قيادة الناس، وإن كان مصدر عجزه مرضًا جسميًّا، ومرضًا ممقوتًا كالجذام، أو أنَّ دعوته لا تكون في خطّ بناء الناس، فإنَّ رسالته لا تستحقّ مطالبتها بالدليل والمعجزة. وعلى هذا، فإنَّ مثل هؤلاء الأشخاص حتّى لو فُرض (بفرض المستحيل) أنَّهم يأتون بالمعجزة، ويعرضون معاجز كثيرة، فلا يُجوِّز العقل متابعتهم.

7. الجانب البشري:
إنَّ الأنبياء بكلّ جوانبهم الخارقة للعادة-من قبيل المعجزة، والعصمة من الذنب، والعصمة من الخطأ، والقيادة المنقطعة النظير، والبناء الفريد، ونزاعهم المنقطع النظير مع الشرك والخرافات والمظالم-هم من جنس البشر؛ أي إنَّهم يمتلكون كلّ مستلزمات البشريّة، يأكلون وينامون ويمشون ويتوالدون وبالتالي يموتون كالآخرين، وتتوافر فيهم جميع الحاجات المستلزمة للبشريّة. والأنبياء مكلّفون كالآخرين، وتشملهم التكاليف التي يقومون بتبليغها للبشر، والحرام والحلال موجود بالنسبة إليهم أيضًا ويكلّفون أحيانًا بتكاليف أشدّ، كما كان التهجّد في أواخر اللَّيل ونافلة اللَّيل واجبًا على الرسول الكريم.

ولا يستثني الأنبياء أنفسهم من التكاليف أبدًا، ويخافون الله كالآخرين أو أشدّ خوفًا، ويعبدون الله أكثر من الآخرين، ويؤتون الزكاة، ويحسنون لعباد الله، ويسعون من أجل حياتهم وحياة الآخرين، ولا يكونون عالة على الآخرين.

والفرق بين الأنبياء والآخرين هو في موضوع الوحي ومقدّماته ولوازمه فقط. والوحي لا يُخرج الأنبياء من البشريّة، بل يجعلهم نموذجًا للإنسان الكامل وأسوة للآخرين. ولهذا السبب يكونون قادة الآخرين وطلائعهم.

66

  


56

طريقة التبليغ

 ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا ٤٥ وَدَاعِيًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا ﴾1.

"البشير" هو الذي يأتيك بخبر مفرح؛ فمثلًا إذا أردت أن تعهد إلى ابنك كي يقوم بعمل ما، فإنَّك تعالج ذلك بأحد أسلوبين أو بكليهما:

الأسلوب الأوّل: هو أسلوب الترغيب وبعث الأمل فيه؛ فإذا كنت تريد إلحاقه بالمدرسة-مثلًا-فتروح تشرح له فوائد الذهاب إلى المدرسة ونتائجه وآثاره، لكي تثير فيه روح الرغبة في ذلك.

الأسلوب الثاني: هو أنّك تأخذ بشرح العواقب الوخيمة التي سوف تترتّب على عدم ذهابه إلى المدرسة وبقائه أُمّيًّا وكذا وكذا. ولكي يتخلّص ابنك من هذه الحالة يوافق على الذهاب إلى المدرسة. إذًا فأنت إمّا أن تستعمل معه التشويق وتبشّره بما ينتظره فتجذبه من الأمام إلى ما تريد، وإمّا أن تستعمل "الإنذار" والتخويف، بالمعنى الذي ذكرته، وهو إعلان الخطر، أي أنَّك تدفعه من الخلف إلى ما تريد. ولهذا قيل: البشير قائد، والنذير سائق.

أمّا إذا اتّحد الاثنان–القائد والسائق–لتحريك الناس، فالنتيجة تكون أفضل؛ وكلاهما ضروريّان للبشر. أي أنَّ التبشير وحده لا يكفي وإن يكن لازمًا، وكذلك الإنذار، فهو وحده لا يكفي، ولكنّه لازم. وما تعبير "السبع المثاني" الذي يوصف به القرآن إلّا

1- سورة الأحزاب، الآيتان 45 – 46.
67

  


57

طريقة التبليغ

 لكونه في جانب منه يقرن التبشير بالإنذار ويوردهما معًا، إذ من الخطأ أن تعتمد دعوة على التبشير وحده، أو على الإنذار وحده، بل ينبغي الاتّكاء عليهما معًا، على أن يكون ميزان التبشير أثقل، وميزان الإنذار أخفّ، كما يتّضح في القرآن حيث يُقدّم التبشير على الإنذار، فيقول: بَشِيرًا وَنَذِيرًا.

 

هناك واجب آخر هو "التنفير" أي حمل الناس على النفور من شيء ما. فقد يُخطئ المرء أحيانًا ويخلط بين الإنذار والتنفير، ويستعمل أحدهما مكان الآخر. فالإنذار يكون عندما يسوق النذير الناس إلى شيء ما، ولكنّ التنفير هو حمل الناس على الفرار من شيء ما، كما لو كان المرء يحاول أن يسحب حيوانًا لكي يقوده خلفه على الرغم منه، وفجأة يجذب الحيوان رأسه إلى الخلف بقوَّة ويقطع زمامه، ويفرّ هاربًا ممَّن كان يريد سحبه. وهذا هو التنفير.

فبعض الدعوات فضلًا عن كونها ليست سوقيّة، فإنَّها تكون تنفيريّة أيضًا، وهذا أمر نفسانيّ. فإذا عدنا إلى مثال الطالب والمدرسة نفسه، نلاحظ أنَّ الأبوين أو المعلِّم– في كثير من الأحيان-يُنفّرون التلميذ بدلًا من التبشير والإنذار، أي إنَّهم يفعلون ما يثير في نفس الطالب روح التنفّر والنكوص عن المدرسة. ولهذا نجد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يرسل معاذ بن جبل إلى اليمن1 لدعوة الناس إلى الإسلام يوصيه بما يلي: "يَسِّرْ

1- اليمن من المناطق التي دخلت الإسلام بغير حرب. والسبب في إسلام أهل اليمن هو حكاية الرسالة التي بعث بها الرسول الكريم إلى "خسرو برويز" شاه إيران يدعوه فيها إلى الإسلام. لقد كتب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رسائل إلى جميع رؤساء العالم، ومنهم كان خسرو برويز شاه إيران، يبلغهم فيها رسالة الله. فلم يردّ بعضهم على تلك الرسائل، إلَّا أنَّ الكثير منهم أجابوا بإجابات فيها الاحترام والتواضع، بعد أن استقبلوا رسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإجلال والتكريم، وحمّلوهم الهدايا، مع أجوبتهم المؤدّبة.
أمّا الوحيد الذي لم يكن جوابه مؤدّبًا فقد كان خسرو برويز شاه إيران الذي مزَّق رسالة رسول الله. كانت اليمن يومئذٍ تحت حماية الفرس، وكان ملك اليمن من عملائه، لذلك أرسل شاه إيران رسالة إلى ملك اليمن يقول له فيها: لقد ظهر في جزيرة العرب رجل تجرّأ على أن يكتب لي رسالة يدعوني فيها إلى الإسلام، وقد كتب اسمه قبل اسمي (طبيعي أنَّ الرسالة كانت من فلان إلى فلان. ولكنّ هذا كان يريدها أن تكون: إلى فلان من فلان، للدّلالة على أنَّ كاتب الرسالة أدنى مقامًا من المرسل إليه) فابعث فورًا من يستعلم عن هذا الشخص واقبض عليه وارسله إليَّ مكتوفًا حتّى ينال عقابه.
فأرسل ملك اليمن رسولًا يُمثّله مع رسول شاه إيران إلى المدينة لمقابلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قالا له: إنَّ شاه إيران كتب يقول كذا، فما ردّك عليه؟ فطلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منهما البقاء فترة لإعداد الجواب. وعندما عادا إليه، طلب منهما البقاء أيّامًا أُخرى لكي يردّ الجواب. وبعد أيّام جاءا يطلبان الجواب، فاستمهلهما أيّامًا أُخرى، وكذلك فعل عند عودتهما إليه مرّة أُخرى، حتّى أنَّه أبقاهما في المدينة مدّة تقارب الأربعين يومًا. وأخيرًا جاءا إلى النبيّ وقالا: إنَّه لا يستطيع أن يؤخّرهما أكثر من ذلك، فهما قد صمّما على العودة، وأنَّهما يريدان الجواب على رسالة (ربّهما) خسرو برويز. فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ جوابكم هو هذا: البارحة بقر "شيرويه" بطن أبيه، خسرو برويز، وقضى عليه".
عندما رجع هؤلاء إلى (بازان) ملك اليمن، وأخبراه بالخبر، لم يكن خبر مقتل الشاه قد وصل إليه بعد، لأنَّ المسافة بعيدة بين المدائن واليمن، فقال: سبحان الله إذا كان هذا صحيحًا، فإنَّه من علامات ثبوت نبوَّة هذا الرجل. فلننتظر. ولم تمض إلّا أيّام حتّى وصل مبعوث شيرويه بأنَّ خسرو برويز قد قُتل وأنَّه هو شاه إيران، وأنَّ عليك ألّا تتعرّض للشخص الذي يدّعي النبوّة في جزيرة العرب. من هنا بدأ التمهيد لدخول اليمن في الإسلام. ثم إنَّ اليمن كان فيها الكثير من الفرس. ولقد سبق أن قلنا في كتابنا (الخدمات المتقابلة بين الإسلام وإيران) إنَّ إسلام الفرس قد بدأ في اليمن ثمّ انتقل إلى فارس كلّها، وإنَّ الإخلاص الذي أبداه الفرس المقيمون في اليمن لم يُبده غيرهم، وذلك لأنَّ اليمن كانت من مستعمرات فارس، وكان الكثير من الفرس قد سكنوا اليمن، وكان يطلق عليهم اسم (الأحرار) أو (الأبناء)، وقد اختار هؤلاء الإسلام قبل غيرهم.
لقد أصبح نصف أهل اليمن من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولدعوة النصف الآخر إلى الإسلام أرسل رسول الله مرّة معاذ بن جبل، ومرّة أُخرى كانت في حجَّة الوداع، أي قبل شهرين من وفاة الرسول، وذلك عند رجوع عليّ عليه السلام من اليمن والتقى رسول الله في مكّة، فسأله: كيف أحرمت؟ أيْ أيّ حجَّة نويت، حجَّة التمتّع أم حجَّة أُخرى؟ فقال عليّ: في الميقات نويت على نيّة رسول الله، فنيّتي على نيّتك. فقال النبيّ: لقد صحّت نيّتك.

68

  

 


58

طريقة التبليغ

 وَلَا تُعسِّرْ وبشِّرْ وَلَا تُنَفِّرْ"1.

هذا كلام كبير يستوجب التوضيح. سأروي لكم بهذا الخصوص أمرًا عن رسول الله نفسه، ثمّ أبيّن الروايات الواردة عن الأئمَّة الأطهار في تفسير هذا الكلام وشرحه. إنَّ نفس الإنسان رقيقة وسريعة في إظهار التأثُّر وفي إظهار ردود الفعل، فإذا ضغط الإنسان على روحه ونفسه– بلا أرواح الآخرين– فسيكون ردّ الفعل هو النفور والفرار.

ففي العبادات–مثلًا–يوصي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلًا: اعبدوا بقدر ما في أرواحكم من نشاط للعبادة؛ أي أدّوا العبادات برغبة وميل. أمّا إذا أدّيت العبادات، وأقمت الصلاة، وأدّيت المستحبّات، وقرأت القرآن، وسهرت اللَّيل، حتّى أحسست أنَّ ذلك أصبح يثقل عليك وأنَّك تجد فيه صعوبة، أي أنَّك بدأت تحمل نفسك حملًا على ذلك، فاترك ذلك، ولا تحمل نفسك على العبادة حملًا؛ لأنَّك بالاستمرار على حملها على ذلك تثير فيها بالتدريج حالة من النفور والفرار، حتّى يصل بك الأمر إلى اعتبار التعبُّد كشرب الدواء،

1- سيرة ابن هشام.
69

  


59

طريقة التبليغ

 وعندئذٍ تتولّد في ذهنك فكرة سيِّئة عن العبادات.

هنالك أُمور كثيرة لها تأثير منفِّر، أي أنَّها تنفِّر الناس من الإسلام. فالنظافة في الإسلام سنّة مستحبّة مؤكّدة، والنظافة من الإيمان، ولعلَّ نبيّنا كان أنظف الناس في أيّامه، ولو كان اليوم بيننا لكان أنظف الناس، بلا ريب. من الأشياء التي لم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يفارقها وكان يلتزمها دائمًا هو العطر والتعطُّر، وهو كذلك من المستحبّات.

فإذا كان شخص ما يرتدي ملابس قذرة متّسخة، وتنتشر من جسمه رائحة النتن والعفونة، فإنَّنا قد لا نستطيع أن نتّهمه شرعًا بارتكاب معصية، ولكن فلْنتصوّرْ أنَّ شخصًا قذرًا مثل هذا يقول لشابّ نظيف الملابس والبدن إنَّه جاء يدعوه إلى الإسلام. إنَّ كلام هذا الشخص، حتّى وإن كان من الدّرّ الثمين، لن يكون له أيّ تأثير.

يقول المتكلّمون– وهم على حقّ–إنَّ من شروط النبوَّة هو ألّا تكون في النبيّ صفة تُنفِّر الناس منه، بما في ذلك العاهة الجسميّة، على الرغم من أنَّنا نعلم أنَّ النقص الجسميّ قد لا يصيب الكمال الإنسانيّ بضرر. فإذا جاء رجل أعور، ينظر بجهة واحدة من وجهه، أفيكون ذلك سببًا في نقصه الروحي؟ كلّا، بل قد يصل إلى مقام سلمان الفارسي أو أرفع. ولكن أيمكن لمثل هذا الشخص أن يكون نبيًّا؟ يجيب المتكلّمون عن هذا السؤال بالنفي، ويقولون: لأنّ تلك العاهة تُثير النفور في الناس؛ إنَّه قد لا يكون نقصًا، ولكنّه يثير النفور. لذلك ينبغي أن تتوافر في النبيّ شروط جذّابة، حتّى من الناحية الجسميّة، لكيلا يُسبِّب النفور، وإن لم تُسبّب له نقصًا روحيًّا. إذًا إذا كان ينبغي أن تكون هيئة مبلّغ وداعية لله غير منفّرة، فالأولى ألّا يكون سائر خصائصه من سلوك وتعامل وأقوال منفِّرًا أيضًا.

وكثيرًا ما يكون هذا سببًا لكثير من المشاحنات والمعاتبات. والعتاب قد ينفع أحيانًا في استشارة مشاعر المخاطَب وتحريكه، ولكنْ لذلك أيضًا مكانه وزمانه، وقد يؤدِّي العتاب أحيانًا–كما يقول أبو نواس–إلى عكس المطلوب منه.

على كلِّ حال، ليست هذه قاعدة عامّة؛ ولكن قد يؤدّي العتاب الكثير إلى النفور

70

  


60

طريقة التبليغ

 والانكماش، ومن ذلك الخطأ الذي يقع فيه الآباء أو المعلّمون في تربية الأطفال؛ فهم دائمو التوبيخ للطفل ويلومونه على أتفه الأُمور ويحقّرونه بالكلام: " انظر إلى ابن جارنا كيف هو! إنّه أصغر منك؛ أنت لا خير فيك؛ لم أعد أرجو فيك خيرًا..." ظانّين أنَّهم بذلك يثيرون الغيرة وحبّ المنافسة فيه، مع أنَّ ذلك يثير في الطفل ردّ فعل معاكس، بحيث أنَّه إذا تجاوز اللّوم حدّه أدَّى إلى إيجاد روح الانقباض والانهزام في الطفل، ويصبح مريضًا نفسيًّا، ويستحيل أن يقترب من الأمر الذي كانوا يحرّضونه إليه.

 

لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي معاذ بن جبل وغيره بأن يبشّروا ولا ينفّروا.. ييسّر ولا يعسّر. ولا يكن حديثك كلّه عن المشكلات والصعاب، فإنَّك بذلك تخيف الناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَلَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ أَصُومُ وَأُصَلِّي وَأَلْمِسُ أَهْلِي فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِيَ النِّكَاحُ"1، فهل في الدِّين تسامح؟ نعم، إنَّ الدِّين سمح ومتسامح، ولكن لذلك أُصوله. كيف؟

الشريعة السهلة السمحاء
يقول الدِّين: توضّأ؛ ولكن هذا الدِّين نفسه يقول: إذا كنت مريضًا أو مصابًا بجرح وتخشى الضرر (ولا يقول إن كنت موقنًا من الضرر، ولا إن كان فيه ضرر حتمًا) من الماء، فتيمّم بدل الوضوء. هذا يعني السماحة، يعني الدِّين، فالدِّين ليس خاليًا من التسامح، بل فيه كلّ التسامح.

والصوم، أليس مهمًّا؟ ألا يرتكب ذنبًا عظيمًا من لا يصوم بغير عذر؟ ولكن عندما يحين حينه، يُظهر الدِّين تسامحه؛ فإذا كنت مسافرًا حيث يصعب الصوم، أو إذا كنت مريضًا، يقول الدِّين: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ ﴾2.

 

 

1- الكافي، ج5، ص494.
2- سورة البقرة، الاية185.

 

 

 

71

  

 


61

طريقة التبليغ

 فأنت في هذه الحالات لا تصوم، بل تقضي صيامك في أيّام أخر؛ وحتّى إذا كنت مريضًا ولا تدري إن كان الصوم يضرّك مئة بالمئة، ولكنَّك تخشى إن صُمت أن يشتدّ مرضك، وقد تكون خشيتك هذه قد أثارها منك طبيب فاسق، وثمّة حديث يقول إنَّه ليس من اللازم أن يكون هذا الخوف قد وقع في قلوب الآخرين، ﴿ بَلِ ٱلۡإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ بَصِيرَةٞ ﴾1، أي ليس من اللازم أن يثير فيك هذا الخوفَ شخصٌ آخر، بل إنَّك تخشى اشتداد المرض عليك إن صُمت، فلك ألّا تصوم وأنت في حالتك تلك. وهنالك حالات أُخرى؛ فالمرأة الحامل القريبة من موعد وضعها، والعجوز–رجلًا أو امرأة–حتّى وإن لم يخشيا ضررًا مرَضيًّا، بل لمجرّد احتمال ضعفهما، لهما ألّا يصوما.

كان المرحوم "آية الله الحاجّ الشيخ عبد الكريم الحائري"، أعلى الله مقامه، يصوم على الرغم من كبر سنّه، فقيل له: "لماذا تصوم، مع أنَّك في فتواك وفي رسالتك قد أسقطت الصوم عن العجائز نساءً ورجالًا، فهل تغيّرت فتواك، أم أنَّك لا تعدّ نفسك من العجائز؟" فقال: "لم تتغيّر فتواي، وأنا أعلم أنّني عجوز". فقيل له: "إذًا لماذا تصوم؟" قال: "إنَّه عرْق العامّة الذي ما يزال ينبض فيَّ".

إذًا، فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بُعثت على الشريعة السمحة السهلة. إنَّه دين عمليّ. والحقيقة أنّه دين عمليّ، والحقيقة أنَّ ما يجذب الناس من الخارج إلى هذا الدِّين هو سهولته وسماحته. قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ من يدعو لهذا الدِّين يجب إن يدعو لسماحة هذا الدِّين وسهولته، وعليه أن يفعل ما يُرغِّب الناس في هذا الدِّين.

شروط الدعوة
ومن المسائل الأُخرى في الدعوة للدِّين قول القرآن: ﴿ ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ﴾2.

1- سورة القيامة ،الاية14.
2- سورة الاحزاب، الاية 39.

 

72

  


62

طريقة التبليغ

 هذه آية من الآيات التي تقصم ظهر الدعاة إلى الدِّين والمبلِّغين لرسالات الله.

 

تبيّن الآية أنَّ ثمّة شرطين يجب توافرهما في من يتصدّى للدعوة إلى الدِّين.

الأوَّل: هو أنَّهم يخشون الله؛ فقلوبهم ملأى بالخشية من الله: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ﴾1. ولقد جاء في دعاء كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو به: "اللَّهمَّ اقْسِمْ لَنا مِنْ خَشْيَتِك مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيتِكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبلِّغُنا بِهِ رِضْوَانَكَ، وَمِنَ اليقينِ ما يهُونُ عليْنَا بِهِ مُصِيباتُ الدُّنيا. اللَّهُمَّ أمْتِعْنا بأسْماعِنا وأبْصَارنا وقوَّتنا ما أحيْيتَنا، وَاجْعَلْهَا الوارثَ مِنَّا، واجْعَلْ ثَارَنَا على مَنْ ظَلَمَنا، وانْصُرْنا علَى مَنْ عَادَانَا، ولَا تَجْعَلْ مُصِيبتَنَا فِي دِينِنَا، ولا تَجْعَل الدُّنيا أكْبَر هَمِّنَا ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا تُسلِّط عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا، بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ"2.

هذا دعاء كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤه، فمن شاء فلْيحفظْهُ ويقرأْه، ولْيرجع إلى (مفاتيح الجنان) أو (زاد المعاد) ليرى أعمال ليلة النصف من شعبان، حيث يُقرأ هذا الدُّعاء، كما أنَّه يُقرأ في أوقات أُخرى أيضًا، لأنَّه دعاء جامع لمصالح الإنسان في الدنيا والآخرة.

فالشرط الأوّل: الذي يطلبه القرآن من حامل الدعوة ومبلّغ الرسالة هو خشية الله. إذًا فما هي خشية الله؟ هي أن تكون هيبة الله وعظمته قويّة الحضور في قلبه، بحيث لا يمرُّ بذلك القلب مجرّد تصوّر الإثم إلّا وتكون الخشية من الله هي الرادعة.

والشرط الثاني هو: ﴿ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ ﴾. إنَّ "الخشية" تختلف عن "الخوف". فالخوف هو القلق على العاقبة والمستقبل، والتفكير في نتيجة عمل ما، والتفكير في تدبر ذلك. أمّا الخشية فهي حالة تسلّط الرعب على الإنسان بحيث لا يجرؤ على أمر أو على تنفيذ ما يريد، وهذا يعني أنَّه يفقد شجاعته. فالتفكير في عاقبة أمر ما لتدبيره يختلف عن فقدان الشجاعة.

1- سورة فاطر، الآية 28.
2- العلامة المجلسي، بحار الانوار،ج2،ص63.
73
 
  

 


63

طريقة التبليغ

فالآية تقول إنَّ الذين يدعون إلى الله يجب أن لا تكون فيهم ذرّة من الجرأة على الله، فهم يخشون الله؛ ولكنَّهم إذا واجهوا غير الله يكونون متّصفين بالجرأة ذاتها والشجاعة نفسها، و﴿ وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ ﴾.

إنَّ من الخصائص الأُخرى في سيرة الأنبياء، وعلى الأخصّ في سيرة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم هي هذه الجرأة، وعدم التخاذل، والثبات. وهذه الخصيصة أشدّ ما تكون وضوحًا في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.

كتب أحد الفرنجة كتابًا بعنوان (محمّد، النبيّ الذي تجب معرفته من جديد) فيه كثير من العيوب. ولكنَّني لست الآن بصدد عيوبه. وعلى الرغم من تلك العيوب، فمن الواضح أنَّه قد تعب كثيرًا في تأليفه، وأنَّه قد قرأ تاريخ الإسلام قراءة عميقة؛ بل إنَّه عاش مدّة في الحجاز لكي يطّلع عن كثب على المنطقة الجغرافيّة التي ولد فيها الإسلام. فالكتاب على هذا لا يخلو من نقاط حسنة، فإنَّه يجسّد نقطتين تجسيدًا جيّدًا.

الأولى: حكمة الرسول الكريم وتدبيره، بحيث أنَّ غير المسلم إذا قرأ الكتاب لا يسعه إلّا أن يقرّ بحكمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتدبيره.

والنقطة الثانية التي استطاع هذا الكتاب أن يجسّدها، هي تلك الظروف التي عاش فيها النبيّ الكريم، بحيث أنَّه لو كان أحد غيره مكانه لفقد شجاعته وتخلّى عن مهمّته، ولكنّ نبيّ الإسلام لم يطرأ عليه أيّ تغيير أو تلكّؤ مهما صغر؛ أي إنَّ الحوادث تجري مجرًى بحيث لا يبقى فيها للمسلمين أيّ أمل. في تلك الحالة تنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتراه كالجبل الراسخ ﴿وَلَا يَخۡشَوۡنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَۗ ﴾.

في الحقيقة، لا بدَّ لكم أن تطالعوا تاريخ حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الناحية (وينبغي مطالعتها من جميع النواحي) ليتّضح لكم كيف أنَّه كان يخشى الله، ولا يخشى أحدًا سواه، ولا يقف في طريقه أيّ حساب.

من شروط حمل الدعوة الأُخرى هو ما يذكره القرآن بصيغ مختلفة. فمرّة يقول:

74

  


64

طريقة التبليغ

  

﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴾1، ومرّة أُخرى يقول: ﴿ فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ﴾2.

في القرآن أمران يردان متقاربين "التذكُّر والتفكُّر".

والتفكُّر هو محاولة الكشف عن شيء لا تعرفه، إعمال الفكر للوصول إلى ما لا تعرف. والتذكُّر هو استرجاع ما سبق لك أن عرفته. فما معنى هذا؟

هنالك أمور كثيرة موجودة في فطرة الإنسان، ولكنّ الإنسان غافل عنها، فهو بحاجة إلى التذكير ليتذكّرها.

وبعبارة أُخرى، للبشر حالتان: حالة يكون فيها جاهلًا، وحالة يكون فيها نائمًا؛ فكثيرًا ما يحدث ألّا نكون على علم بما يدور حولنا، فنحن مستيقظون ولكنَّنا لا نعلم. ومرّة أُخرى لا نكون على علم بما يدور حولنا لا لأنَّنا لا نعرف، بل لأنَّنا نائمون فعلًا؛ فالنائم يعرف كثيرًا من الأُمور، ولكنَّه واقع تحت تأثير حالة لا يستطيع معها الاستفادة ممَّا يعرف.

هذا في النوم الحقيقي، إلّا أنَّ للبشر نومًا آخر يطلقون عليه اسم (نوم الغفلة).

فالله تعالى في خطابه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيُّها النبيّ، لا تظنّنّ أنَّك تواجه الجاهل فحسب، بل إنَّك تواجه الغافل أيضًا، فاحمل الجاهل على التفكّر، والغافل على التذكّر. والناس يغفلون أكثر ممّا هم يجهلون. إنَّهم نائمون؛ فأيقظ النّيام، ونبّه الغافلين، فإنَّهم إذا تنبّهوا ساروا، كالقافلة التي أخذت تسير وبقي أحد أفرادها نائمًا فأيقظه، وعندئذٍ سيدرك بنفسه الخطر المحدق به، ولسوف يلتحق بالقافلة بغير حاجة إلى من يدفعه إليها. استنهض مشاعر الناس النائمة، فبعض الإيمان من يقظة المشاعر النائمة. ولذلك لا يوجد في الإسلام إجبار على الإيمان: ﴿ فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ﴾، و﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ﴾3.

1- سورة الذاريات، الآية 55.
2- سورة الغاشية، الآيتان 21 – 22.
3- سورة البقرة، الآية 256.

 

75


65

طريقة التبليغ

 الإكراه على الإيمان

 

إنَّ مسألة ﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ ﴾ قضيّة قائمة بذاتها جديرة بمن يقوم بشرحها شرحًا مفصّلًا. ولعلّني أفعل ذلك في جلسة مقبلة إن شاء الله. أمّا هنا فلا أزيد على بضع كلمات بهذا الشأن. فلماذا ﴿ لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ ﴾ في الإسلام؟

أوّلًا: إنَّ الإيمان ليس ممَّا يمكن فرضه فرضًا. إنَّ ما يريده الأنبياء هو الإيمان، لا الإسلام الظاهري، والإيمان لا يُفرض، لأنَّه اعتقاد وعلاقة وانجذاب، ولا يمكن إيجاد الاعتقاد في شخص ما بالقوَّة. إذا كان شابٌّ لا يحبّ فتاة، والفتاة لا تحبّ الشاب، أيستطيع أبواهما أن يحملاهما على أن يحبّ أحدهما الآخر، كيف يفعلان ذلك، أبالضرب والفلقة؟ أجل، قد يؤدِّي ذلك إلى حملهما على القول بأنَّه يُحبّ أحدهما الآخر، ولكنَّهما يكونان كاذبَين دون أدنى ريب، فحتّى لو كسَّروا كلّ عصي العالَم عليهما لا يمكن إدخال حبّ أحدهما في قلب الآخر، لأنَّه مستحيل بهذه الطريقة، لأنّها طريقة القوَّة والإكراه، بل بـ "الحكمة" و"الموعظة الحسنة" و﴿... وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ ﴾1.

ثمّة حديث بوُدِّي أن أقرأه لكم. جاء في الأخبار أنَّ الإمام عليًّا عليه السلام كان على المنبر يومًا، يُكرّر على الناس ما كان دائمًا يُكرّره عليهم، وهو قوله في إحدى خطبه: "سلوني قَبْلَ أنْ تفقِدُوني"2.

وكان يقول إنَّه أعرف بطرائق السَّماء من طرائق الأرض؛ أي أنَّ لكم أن تسألوا عن أيّ أمر يبدو لكم عن السَّماء والأرض.

فقام من زاوية المجلس رجل دلَّت ملابسه وقيافته على أنَّه من يهود العرب، فقال بلهجة خشنة "أيُّها المُدّعي ما لا يعلم..." وراح يستهجن قول الإمام عليّ عليه السلام

 

 

1- سورة النحل ،الاية 125.
2- نهج البلاغة ،ص280.

 

 

 

76

 


66

طريقة التبليغ

 أنَّه يجيب عن كلّ سؤال، وأخذ يؤلم بكلامه، وكأنَّه تجرّأ على ذلك لعلمه أنَّ الإمام لا يمكن أن يردّ عليه بالمثل، فتململ أصحاب الإمام وهمّوا بالاقتصاص منه، إلّا أنَّ الإمام منعهم، وقال لهم: "البطش لا تقوم به حجج الله..." أي إن كان له ما يسأل عنه فليأت ليسأل، فإن اقتنع بالجواب فسيخجل من فعلته، أمّا إذا أردتم أن تقيموا حجَّة من حجج الله بالضرب والشتم، فليس هذا سبيله، بل سبيله اللّين واللّطف، لأنَّ المعني بذلك هو القلب والعقل والروح، فلا مكان للخشونة عندما تكون القضيّة قضيّة دعوة وتبليغ لرسالة الإسلام.

إنَّ الحسين عليه السلام عندما يكون في مواجهة الأعداء يرفع رأسه عاليًا، ولن يكون أحدٌ قادرًا على إنزاله، ولكنَّه عندما يواجه أشخاصًا عليه أن يرشدهم ويهديهم، فإنَّه يغضّ الطَّرْف حتّى عن إهمالهم وعدم اهتمامهم.

يتحرّك زهير بن القين بقافلته من مكّة، وكذلك يتحرّك الحسين عليه السلام، ويسعى زهير ألّا يتلاقى بالحسين عليه السلام، أي إنَّه ينحرف عن الطريق كلَّما أحسَّ أنَّ الحسين قريب من مكانه لكيلا يتواجها، قائلًا: إنَّه لا يريد أن تقع عينه في عين الحسين فيشعر بالحرج. والإمام يعرف ما يدور في خَلَد زهير، ولكنَّه يدرك أنَّ زهيرًا في حالة غفلة، إلَّا أنَّ الحسين يرى أنَّ عليه أن يرشده ويهديه. واتُّفق أن اضطرّ كلاهما للنزول في منزل واحد.

فضرب أبو عبد الله عليه السلام خيامه في طرف، وضرب زهير خيامه في طرف آخ، وأرسل الحسين يستدعي زهيرًا، على الرغم من معرفته أنَّه يتحاشاه. كان زهير وأصحابه قد مدّوا الخوان وجلسوا يتناولون الطعام. وفجأة دخل عليهم رسول الحسين يقول: يا زهير أجب أبا عبد الله. يقول أصحاب زهير: لقد أُسقط ما في يده، ولم يجد ما يصنع في إجابة الحسين بن عليّ ابن بنت رسول الله!

77

  


67

طريقة التبليغ

 كانت لزهير هذا زوجة حصيفة، لمحت رسول الحسين وهو يدخل الخيمة ويطلب زهيرًا لرؤية الحسين، وعلمت أنَّ زهيرًا لم يُحِرْ جوابًا لا بالإيجاب ولا بالنفي. فأثارت هذه الحالة حميّة هذه المرأة المؤمنة، فتقدّمت إلى داخل الخيمة وخاطبت زهيرًا قائلة: ألا تخجل يا زهير، ابن بنت رسول الله يدعوك وأنت تتردَّد في إجابته؟! فنهض زهير فورًا وذهب إلى الحسين عليه السلام.

إنَّنا لا نعرف الكثير ممَّا جرى بينهما، ولكنّ الذي لا شكّ فيه هو أنَّ زهيرًا الذي دخل على الحسين خرج من عنده بروح جديدة. فزهير التعبان الكسلان الذي كان يشعر بالضجر ويتحاشى لقيا الحسين وذهب إليه مقطّبًا عبوسًا، خرج من عند الحسين ضاحك الوجه بشوشًا مسرورًا.

يقول المؤرّخون: إنَّ أبا عبد الله عليه السلام ذكّره بما كان منسيًّا في أعماق روحه؛ أي أنَّه أيقظ نائمًا من رقدته. عندما يكون ثمّة تبشير، أو ثمّة إنذار، ثمّة تذكير وتذكّر ويقظة، وتتحوّل الروح الكئيبة إلى تجسيد النشاط والطاقة. لذلك ما إن رجع إلى خيمته حتّى أمر بشدّ الرحال وأخذ يوصي: أموالي كذا، وأطفالي كذا، وعهد إلى من يوصل زوجته إلى أبيها. كان جليًّا أنَّه يودّعهم في رحلة لا عودة منها.

وقد أدركت زوجته العرّافة هذا قبل غيرها، فجاءت إليه وأمسكت بأذياله وبكت وهي تقول: أرأيت يا زهير كيف أنَّك قد بلغت مقامًا رفيعًا، فقد أدركت أنَّك سوف تذوق الشهادة في ركاب الحسين بن فاطمة، وسيكون شفيعك يوم القيامة، فاحذر يا زهير أن تفعل شيئًا يحول بيني وبينك يوم القيامة.

إنَّ هذا التذكّر وهذه اليقظة أوصلا زهيرًا الكاره لملاقاة الحسين عليه السلام إلى حيث أصبح في صدر أصحاب الحسين، حتّى أنَّ الحسين أعطاه الميمنة يوم العاشر من محرّم. لقد أبدى زهير من كرم المحتد والتفاني ما حدا بالحسين إلى أن يرثيه على رأس من رثى من أصحابه، عندما وقف وحيدًا وهو يرى أصحابه وأهل بيته مجندلين حوله كالأضاحي.

78

  


68

شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقدُّم الإسلام السريع

 ﴿فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ﴾1.

الإسلام يشبه المسيحيّة من حيث خروجه من موطنه وتوسّعه في آفاق جديدة. فقد ظهر في جزيرة العرب، ونراه اليوم له أتباع في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا يمثّلون مختلف عناصر البشر، (...)، وقد يكون عدّ المسيحيين أكثر، إلَّا أنَّ في الإسلام خصوصيّة من حيث التوسّع ليست موجودة في المسيحيّة، وهي سرعة انتشار الإسلام.

لقد كانت المسيحيّة بطيئة في الانتشار بالمقارنة بسرعة انتشار الإسلام، سواء في موطنه جزيرة العرب أو خارج جزيرة العرب في آسيا وأفريقيا أو في مناطق أُخرى. فلا مندوحة من التساؤل: ما الذي جعل الإسلام سريع الانتشار إلى هذا الحدّ؟ حتّى أنَّ بعض الفرنجة قد أشار إلى ذلك، ومنه الشاعر الفرنسي المعروف (لامارتين) الذي قال: إذا أخذنا ثلاثة أُمور بنظر الاعتبار، فلا يبلغ أحد ما بلغه نبيّ المسلمين:

الأوّل: فقدان الوسائل المادّيّة؛ فهذا رجل يظهر ويدّعي دعوة بغير أن تكون له أيّ قدرة أو قوَّة، بل إنَّ أقرب أقربائه يناصبونه العداء. إنَّه يقوم بالدعوة بمفرده، ويبدأ من نفسه وتتبعه زوجته، ويؤمن به طفل يعيش معه في بيته (عليّ بن أبي طالب)، ثمّ يؤمن آخرون بالتدريج، ويظلّ يعاني الصعاب والشدائد.

1- سورة آل عمران، الآية 159.

 

79

  


69

شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقدُّم الإسلام السريع

 الثاني: سرعة الانتشار وعامل الزمن.

الثالث: عظم الهدف.

فلو أخذنا بنظر الاعتبار عظم الهدف، وفقدان الوسائل، وسرعة انتشاره، على الرغم من الافتقار إلى الوسائل لبلوغ الهدف، فيكون قول "لامارتين" صحيحًا في أنَّه ليس لنبيّ المسلمين نظير في العالَم.

أمّا انتشار المسيحيّة وتقدّمها في العالَم فقد حصل في مئات السنين بعد المسيح.

إنَّنا سنبحث علل هذا التقدّم خلال تقدّمنا في الكلام حول السيرة النبويّة.

إنَّ القرآن يبيّن هذا، ويؤيّده التاريخ أيضًا تأييدًا تامًّا، وذلك أنَّ من أسباب التقدّم هو "السيرة النبويّة" وأسلوب حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأخلاقه وسلوكه وطريقة نشره الدعوة. فهذه كلّها كان لها تأثير كبير في نشر الدعوة. بديهيّ أنَّها لم تكن السبب الوحيد، فالقرآن نفسه الذي هو معجزة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان له تأثيره العميق الجاذب المثير، وكان السبب الأوّل في نفوذ الإسلام وانتشاره في كلّ مكان. فإذا تجاوزنا القرآن، يكون العامل الثاني هو سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشخصيّته وخلقه وسلوكه وأسلوب قيادته وإدارته. وحتّى بعد وفاته ظلّت سيرته التي ذكرها التاريخ بعد ذلك دافعًا مهمًّا في سرعة انتشار الإسلام.

﴿ فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ ﴾.

أي أنَّ أخلاقك عامل جذب المسلمين وجلبهم. وهذا يعني أنَّ من شروط الزعيم القائد الذي يدعو الناس إلى الإسلام أن تكون أخلاقه الخاصّة ليّنة عطوفة.

وينبغي أن أوضح هذا الجانب بعض الشيء لكي أكون قد أجبت عن سؤال قد يدور في أذهان بعضهم فيما يتعلّق بأخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فنحن عندما نقول: إنَّ أخلاقه ليّنة عطوفة، إنَّما نقصد أنَّها كذلك في الأُمور الفرديّة والشخصيّة، لا في المسائل المبدئيّة الكلّيّة التي كان فيها أشدّ ما يكون صلابة. فقد يؤذي بعضهم شخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بقولٍ

80


70

شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقدُّم الإسلام السريع

 أو بإهانةٍ أحيانًا، وقد يخالف بعضهم التعاليم الإسلاميّة، بسرقة مثلًا. فما القصد من قولنا: إنَّ النبي كان هيّنًا؟ أيعني ذلك أنَّه إذا شرب أحد الخمر كان النبيّ يغضّ الطّرف عنه، ولا يقيم الحدّ عليه، ولا يعاقبه؟ هذه المخالفة ليست ممَّا يتعلّق بشخص النبيّ نفسه، بل بتعاليم الإسلام، أو إذا سرق أحدهم، فهل كان النبي يتساهل معه ولا يقتصّ منه، أكان الأمر هكذا؟ كلّا، أبدًا؛ ففي الأُمور الشخصيّة والسلوك الفرديّ كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليّنًا متساهلًا، ولكنَّه في الالتزامات والمسؤوليّات الاجتماعيّة كان في منتهى الشدَّة والخشونة.

وإليكم هذا المثال: يزعم أحد اليهود أنَّ النبي مدين له ببعض المال، فيسدّ عليه الطريق مطالبًا إيَّاه بتسديد الدَّين. فيقول له النبي: إنَّ ادعاءك هذا غير صحيح، وإنِّي لست مدينًا لك بشيء، فاتركني أذهب إلى حال سبيلي، ثمّ إنِّي لا أحمل مالًا معي. فيردّ اليهودي: كلّا، لا أدعك تنقل قدمًا عن قدم. كان النبيّ ذاهبًا إلى الصلاة إلّا أنَّ هذا اليهوديّ كان يصرّ على ألّا يدع النبيّ يتحرّك قبل أن يدفع له دَيْنَه. وكلَّما أظهر النبيّ اللّين واللّطف ازداد اليهوديّ فظاظة وخشونة، حتّى يبلغ الأمر بالرجل أن يأخذ بخناق النبيّ ويختطف عباءته من فوق كتفه ويلفّها حول رقبته بشدَّة بحيث يظهر أثرها على رقبته، ويسحبه في الطريق.

وإذ يستبطئ المصلّون قدوم النبيّ، يقومون للبحث عنه، فيرون المشهد المذكور، ويحاولون التدخّل، إلّا أنَّ النبيّ يمنعهم من ذلك، ويزداد في ملاينة اليهوديّ وملاطفته حتّى يحمله على النطق بالشهادتين، ويعترف له بالنبوّة، ويقول: إنَّ تحمُّلك هذا لا يقدر عليه الناس العاديّون، بل هو من شيم الأنبياء.

وثمّة مثال آخر عند دخول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، والظاهر أنَّه كان عند فتح مكّة؛ امرأة من أشراف قريش ترتكب جريمة السرقة، والإسلام يقضي بقطع يد السارق. وقد ثبتت السرقة على المرأة واعترفت هي بها، فكان لا مندوحة من إنزال القصاص بها. وهنا

81


71

شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقدُّم الإسلام السريع

 تبدأ الوساطات بالعمل ويتقدّم الوجهاء بالتوصية والرجاء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألّا يقيم الحدّ عليها، فهي ابنة فلان وهو شخص محترم، وإنَّ إنزال القصاص بابنته سوف يهدر كرامة القبيلة كلّها.

فيردّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهم: لن يكون هذا أبدًا، فكيف يمكن أن أتغاضى عن إقامة حدود الإسلام؟! فلو لم تكن هذه المرأة من النخبة، ولو لم يكن لها قبيلة وعشيرة، لكنتم جميعًا تطالبونني بإنزال القصاص بها، فالفقير الذي قد يسرق لفقره يجب أن ينال العقاب، ولكنّ هذه المرأة ذات الأصل الشريف ينبغي أن تُعفى من العقاب لأنَّ ذلك يهين كرامة أهلها. لا، لا يمكن تعطيل حدود الله!

ورفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوساطات والشفاعات. إنَّه لم يكن يلين مطلقًا في قضايا المبدأ، ولكنَّه على العكس من ذلك كان في منتهى اللّين والتعطّف في القضايا الخاصّة، كثير العفو فيها.

كذلك كان الإمام عليّ عليه السلام، فهو في المسائل المبدئيّة العامّة لم يكن يتقبّل أدنى تراجع عن الحقّ، على العكس منه في المسائل الفرديّة حيث كان متعاطفًا بشوشًا، بخلاف أصحاب التديُّن الظاهريّ الذين يريدون ثمن تديُّنهم من الآخرين، فأنت لا ترى على وجوههم سوى التقطيب والعبوس، وإنَّه ليعسر عليك أن تعثر على البسمة على وجه أحدهم، وكأنَّ من لوازم التقوى والتقدُّس أن يكون المرء عبوسًا قمطريرًا. فلماذا، مع أنَّ "المؤمن بِشره في وجهه وحزنه في قلبه"؟

إنّ على المؤمن أن يخفي كلّ أحزانه، دنيويّة كانت أم أخرويّة، فرديّة أم اجتماعيّة، في قلبه، وأن يواجه الناس بوجه بشوش باسم.

كان عليّ عليه السلام يواجه الناس بوجه بشوش وملامح متفتّحة، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يمازح الناس دون الوصول إلى الباطل؛ مثلما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل إنَّ من المعايب التي ألصقوها بعليّ عليه السلام كخليفة (لأنَّهم لم

82

  


72

شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقدُّم الإسلام السريع

 يستطيعوا أن يلصقوا به عيبًا حقيقيًّا) هو أنَّه ضاحك الوجه ينزع إلى المزاح، وإنَّ من يكون خليفة المسلمين يجب أن يكون عبوس الوجه، مقطّبًا يخافه الناس كلَّما نظروا إليه.

 

فإذا كان هذا المنطق سليمًا فلماذا لم يكن رسول الله كذلك؟ وهو الذي قال فيه الله سبحانه:

﴿ فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ ﴾.

إذًا فالأسلوب المنطقيّ الذي يرتضيه الإسلام للزعامة والقيادة هو اللّين وحسن الخلق، لا العبوس وخشونة الطبع.

كان عليّ عليه السلام في المسائل الخاصّة ليّنًا، حسن الخلق، ضاحكًا، مازحًا، ولكنَّه في المسائل العامّة الكلّيّة المبدئيّة كان جادًّا صلبًا لا ينثني عن الحقّ قيد شعرة.

هذا أخوه عقيل، يأتيه ويطلب منه أن يرى أطفاله وقد اكفهرّت وجوههم من الجوع، وأنَّه مدين وجائع ويريد عونًا منه، فيقول له الإمام: سأعطيك من نصيبي من بيت المال. فيقول عقيل: وكم هو نصيبك حتّى تستطيع أن تعينني منه! قل لهم أن يعطوني من بيت المال.

هنا يأمر الإمام أن يحموا حديدة ويضعوها أمام عقيل. ولمّا كان عقيل كفيفًا فقد ظنّ أنَّه كيس من النقود، ولكنَّه ما إن يمسّها حتّى تحترق أصابعه، ويقول عقيل نفسه: فصدر منِّي خُوار كخُوار الثور من شدّة الألم. وعندئذٍ خاطبه الإمام قائلًا: "ثكلتك أمّك يا عقيل، أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبَّارها لغضبه؟"1. إنَّ عليًا الذي كان بشوشًا مازحًا في الأُمور الخاصّة وليّنًا فيها، نراه بهذه الخشونة والصلابة في أُمور المجتمع المبدئيّة...

 

1- نهج البلاغة، الخطبة 215.

 

 

83

 


73

شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقدُّم الإسلام السريع

 وهكذا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام صُلبين في الأُمور العامّة وليِّنَين في الأُمور الخاصّة. يقول القرآن استمرارًا لتلك الآية: ﴿ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ ﴾1.

إنَّ تعلُّق المسلمين وشغفهم بالنبيّ الكريم كان ناشئًا من كرم أخلاقه الذي لم يكن له مثيل بين المسلمين. وهناك أحاديث، يرويها السُّنَّة والشيعة، أنَّ أمثال هؤلاء الأطفال كانوا أحيانًا يتبوّلون في حضن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك مدعاة لانزعاج آبائهم وأمّهاتهم، فيسرعون لكي يستردّوا أبناءهم، ولكنّ النبيّ كان يمنعهم ويقول ما مضمونه: إنَّهم أطفال، فلا تفعلوا ما يقطع تبوّلهم فيمرضون. وهذا ما أثبته اليوم علم النفس والطبّ الحديث، إذ إنَّ الطفل إذا كان يتبوّل في مكان غير مرغوب فيه فنقل وهو على تلك الحالة إلى مكان آخر، أو صُرخ في وجهه، فإنَّه قد يصاب بأمراض لن تفارقه طوال حياته، لأنَّ الطفل في ذلك الوضع يتعرّض لحالة من الهيجان والضياع، لأنَّه يرى عمله طبيعيًّا، ولكنَّه إذ يواجِه غضب أبويه وانفعالهما تنتابه تلك الحالة النفسيّة من الاضطراب والشعور بالذنب.

فإلى هذا الحدّ كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ليّنًا.

ثمّ نقرأ: ﴿ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ ﴾.

وهذا أيضًا من مظاهر ليونة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحسن أخلاقه، فإنَّ المطلوب منه أن يستشير المسلمين في الأمور. عجبًا، أينبغي على النبيّ أن يستشير؟ إنَّ المرء قد يستشير لحاجته إلى طلب المشورة، ولكنّ النبيّ لا تكون به حاجة إلى المشورة من حيث المبدأ، إلّا أنَّه لكي لا يجعل من عدم المشورة سنّة متّبعة فيأتي كلّ حاكم ويطلب من الناس الطاعة العمياء، كان يشاور الناس. كذلك كان يفعل عليّ عليه السلام؛ إنَّهم لم تكن بهم حاجة إلى المشورة، ولكنَّهم لكي يُعلِّموا الآخرين عليها أوّلًا، ولكي يمنحوا أتباعهم الشخصيّة والمكانة ثانيًا، كانوا يشاورونهم. كيف تُرى يكون شعور

1- سورة ال عمران،الاية 159.

 

84

  


74

شخصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقدُّم الإسلام السريع

 أتباع لا يستشيرهم قائدهم في أُمورهم، حتّى وإن يكن رأيه الخاصّ صحيحًا مائة بالمائة؟ لا شكّ أنَّهم يرون أنفسهم مجرّد أدوات لا غير. ولكنَّهم إذا وجدوا أنفسهم يُسهمون في تسيير الأُمور، وأنَّ لهم رأيًا يؤخذ به، لازدادوا ثقة بأنفسهم وارتفعت مكانتهم في أعينهم، ولأصبحوا خير أتباع.

﴿ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ﴾، ولكن عليك–أيُّها النبيّ–أن لا تجعلك المشورة ذا قلبين كسائر الناس؛ فإذا شاورت واتّخذت القرار، فيجب أن يكون القرار قاطعًا، فالمشورة قبل القرار، والبتّ بعد القرار، والشروع بالعمل بعد الاتّكال على الله. تقدّم وأنت تستعين بالله.

85


75
الأسوة الحسنة