أخلاقنا الإسلامية


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2017-11

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين، وبعد...

حينما أشرقت شمس الإسلام على العالم، يوم كانت المجتمعات البشرية تتعذّب وهي مكبّلة بقيود الجهل والاضطراب والفوضى، يوم كانت الرذائل الأخلاقية تسود تلك المجتمعات بدلاً من الفضائل، يوم لم تكن البشرية في أرجاء العالم كلّها لتتمتّع بأيّ مظهرٍ من مظاهر حياةٍ تليق بإنسانية الإنسان فيما بين مجتمعاتها، التي كانت تسودها الاضطرابات والمصاعب، ويخيّم عليها ظلام دامس لا يُطاق. 

في مثل تلك الفترة التي فقدت الحياةُ فيها كلّ مظاهر الاستقرار والهدوء والراحة، كانت الحاجة ملحّةً إلى ظهور مُصلحٍ وقائدٍ قويّ يحمل رسالة ذات مسؤولية عالميةٍ، لإنقاذ هذه البشرية المتهاوية الضعيفة، فكان أن بُعث رسولُ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم يحمل رسالةً تحيط بجميع شؤون الحياة البشرية بكلّ أبعادها وجوانبها وخصائصها المختلفة. كانت رسالته سماوية خالدة، لم تغفل عن ذكر كلّ ما من شأنه أن يبني الإنسان بناءً صالحاً. وقد أعلن القرآن الكريم غايتها التربوية الأساسية في وصفه لنبيّ الإسلام، بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم﴾1.

وقد اهتمّ القرآن الكريم بالأخلاق ومكارمها، وذمّ مساوئها في آياته المتكرّرة وسوره المتتالية، حيث بلغ مجموع الآيات التي تحدّثت عن الأخلاق، صراحة أو إشارة، أمراً أو نهياً، ما يقرب من ربع العدد الإجماليّ لآيات القرآن الكريم، وهذا يدلّ على أهميّة العنصر 
 

1- سورة القلم، الآية 4.
 
 
 
9

1

المقدمة

 الأخلاقيّ في الشريعة الإسلامية. 


لذا، نجد أنّ هذا العنصر له دور أصيل في جميع ما أسّسه الشارع في أصوله التشريعية والتهذيبية. فإنّ القوانين والسنن التي سنّها الشارعُ وإن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، وأحكام الجزاء وإن كانت بالغة في شدّتها، لا تجري على رسلها في المجتمع، ولا تسدّ باب الخلاف وطريق التخلّف، إلا بأخلاق فاضلة إنسانية، تقطع دابر الظلم والفساد، كملكة اتّباع الحق واحترام الإنسانية والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها. وبالجملة السنن والقوانين لا تأمن التخلّف إلّا إذا تأسّست على أخلاق كريمة إنسانية واستظهرت بها. ومن هنا تبرز أهمّية الأخلاق في استقرار حياة البشر وفي جعلها أكثر سعادة وأكثر سمواً. 

هذا الكتاب، "أخلاقنا الإسلامية"، يعالج في مجموعة من الدروس الهادفة جانباً هامّاً من الصفات الأخلاقية التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان المسلم في حياته الفردية والعملية، ابتداءً من النية، وصولاً إلى مجموعة من المفاهيم الأخلاقية والتربوية الهامة، وذلك بلغة سهلة خالية من التعقيد اللفظيّ والمعنويّ.

والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
 
 
 
 
10

2

الدرس الأول: النية والإخلاص

  أهداف الدرس


على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفسّر أهمية النيّة ومكانتها في العبادات.
2- يبيّن ماهية الإخلاص وموقعيّته في العبادة.
3- يشرح كيفية تحصيل الإخلاص في العبادة وآثاره المختلفة.
 
 
 
 
 
11

3

الدرس الأول: النية والإخلاص

 ما هي النيّة؟

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾1.

النيّة: "هي التصميم والعزم على الإتيان بأمر وإجماع النفس على فعله بعد تصوّره والتصديق بفائدته"2. "والنيّة حالة نفسانية وجدانية يعبّر عنها بالهمّة والعزم والإرادة والقصد"3.

ولا يمكن أن يخلو عمل اختياريّ لإنسانٍ من نيةٍ بأيّ حالٍ من الأحوال، فلو أراد شخصٌ ما الإتيان بأمرٍ اختياريٍّ بلا نيّة لما استطاع ذلك مهما حاول.

أهمّية النيّة وموقعيّتها في الإسلام
وللنية في الإسلام دورٌ مهمٌّ في إعطاء الفعل والموقف الإنسانيّ قيمته الحقيقية، كما لها دورٌ في تقييم الفاعل أي تحديد قيمته وموقعه أو رتبته الحقيقية. فالإسلام لم يعط الفعل العباديّ ولا الفاعل قيمةً ولا أهمّيةً مجرّدة عن النية والقصد وبمعزلٍ عنهما, بل إنّ الفعل العباديّ في نظر الإسلام هو جهدٌ إنسانيّ تحدّد قيمته النيّة والقصد، لأنّ مدار الأعمال على النيّات فهي التي تعطي العمل قيمته الواقعية.

وبما أنّ النية تعبيرٌ عن الموقف الداخليّ، وعن التوجّه الذاتيّ، والحقيقة الباطنة للإنسان التي هي روح الفعل الحقيقية، لذلك فإنّ النية تعتبر أداة كشفٍ عن حقيقة الباطن الإنسانيّ. تلك الحقيقة التي ليس بإمكان الفعل أن يكشفها لأنّ الفعل يمكن أن يخضع لعملية تزوير مقصودة من قبل الانسان، وذلك أنّه صياغةٌ لجهدٍ ظاهر، يمكن أن يخرجه الفرد بشكلٍ لا
 

1- سورة الشعراء، الآيتان 88-89.
2- راجع: الإمام الخميني، روح الله الموسوي، الآداب المعنوية للصلاة، ترجمة السيد عباس نور الدين، بيروت، مركز باء للدراسات، 2009م، ط 1، الباب الثالث، الفصل الأول: في حقيقة النية في العبادات، ص 167.
3- م. ن.
 
 
 
13

4

الدرس الأول: النية والإخلاص

 يتطابق بالضرورة مع حقيقته الداخلية ومحتواه الباطن.


ومن أجل إيضاح الفكرة أكثر نقول إنّنا نرى الكثير من الناس يبذل المال، ويبدي حسن الخلق، ويصلّي ويصوم. ونحن نشاهد تلك الصور الظاهرة للأفعال متساوية في الظاهر عند جميع الممارسين لها، فنحسبها سواء، ولكن لتقييمها في نظر الإسلام وسيلة أخرى، ولوزنها ميزان آخر، وهو النية. 

فالأعمال الّتي تكون على هيئة واحدة في الظّاهر، مثل الذّهاب للجهاد، لا تكون كلها متساوية في النية والدافع. فيمكن أن يكون الباعث لهذا العمل كسب الغنائم أو الاستعلاء على النّاس والتفاخر بالبطولات، أو قد يكون دافِعُهُ نصرة الحقّ ودفع الظّلم وإطفاء نار الفِتن وأمثال ذلك.

فالذّهاب لِلحرب، واحدٌ في الشّكل والظّاهر، ولكن شتّان بين النّوايا السّليمة، وبين النّوايا المغرضة.

ولأجل ذلك، أتت الأوامر بإصلاح النيّة، وتنقيتها من الشّوائب، قبل السّلوك في أيّ طريق. وما السّالك في خطّ الله، والكمال المعنويّ بِمُستثنى عن ذلك، فهل أنّ هدفه من سلوك سبيل التهذيب والرياضة، هو التّكامل المعنويّ، والوصال الحقيقيّ، أم أنّه يريد كسب عنصر القّوة في عالم النفس، والتّسلّط على ما وراء الطّبيعة، ليشار إليه بِالبَنان؟!

وما ورد في الحديث الشريف عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنّما الأَعمالُ بالنِّيَّاتِ ولكل امرئ ما نوى"1 إشارةٌ لهذا المعنى، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "إنّ الرجلين من أمّتي يقومان في الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد وإنّ ما بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض"2.
 

1- الشيخ الحر العاملي، محمد بن حسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، 1409هـ.، ط 1، ج1، ص49.
2- العلامة المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت، نشر دار إحياء التراث العربي، 1403هـ.، ط 2، ج81، ص249.
 
 
 
14

5

الدرس الأول: النية والإخلاص

 النيّة وآثارها

إنّ العبادة ليست عبارة عن الطقوس البدنية، بل حقيقة العبادة وقوامها بلحاظ الحالة النفسية والنية القلبية، فالعبرة بالقلب والباطن لا بالقالب والظاهر "فحقيقة العبادة هي التسليم للحقّ قلباً، فمن لم يسلم له قلباً فهو عاص بحقيقة وجوده، ولا تفيد الأعمال الصادرة منه التي هي بصورة البرّ والتقوى، لأنها حينئذ ليست إلّا مجرّد الصورة بلا روح العبودية"1.

وهذه النية لها آثار كثيرة وخطيرة بينتها روايات أهل البيت عليهم السلام. ومن هذه الروايات ننقل الآتي: 
1- النيّة أساس العمل: 
عَنْ أبي عَبْدِاللهِ عليه السلام في قَوْلِ الله تَعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾2 قَالَ: "لَيْسَ يَعْنِي أَكْثَرَ عَمَلاً ولَكِنْ أَصْوَبَكُمْ عَمَلاً وإِنَّمَا الإِصَابَةُ خَشْيَةُ الله والنِّيَّةُ الصَّادِقَةُ والْحَسَنَةُ3 - ثُمَّ قَالَ - الإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى يَخْلُصَ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ والْعَمَلُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا تُرِيدُ أَنْ يَحْمَدَكَ عَلَيْه أَحَدٌ إِلَّا الله عَزَّ وجَلَّ والنِّيَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ أَلَا وإِنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْعَمَلُ ثُمَّ تَلَا قَوْلَه عَزَّ وجَلَّ: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾4 يَعْنِي عَلَى نِيَّتِه"5.

في هذه الرواية نقاط متعدّدة جديرة بالاهتمام نجملها بالآتي: 
• إنّ العمل الصادر من الإنسان حسنه قد يتحقّق بكثرة العمل تارة وبإصابته أخرى.

• فسر الإمام ﴿أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ بخلوصه لا بكثرته.

• اعتبر الإمام أنّ العمل الأصوب أي الأخلص يوجب القرب منه تعالى وله درجات متفاوتة يتفاوت القرب بحسبها.

• حصر الإمام الإصابة في أمرين وهما: "خَشْيَةُ الله والنِّيَّةُ الصَّادِقَةُ والْحَسَنَةُ".
 

1- الشيخ الكربلائي، جواد بن عباس، الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، مراجعة محسن الأسدي، لا.م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1428هـ - 2007م، ط 1، ج5، ص 459.
2- سورة الملك، الآية 2.
3- في بعض النسخ (والخشية).
4- سورة الإسراء، الآية 84.
5- الكليني، محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، طهران، نشر دار الكتب الإسلامية، 1407هـ.، ط 4، ج2، ص 16، باب الإخلاص، ح4.
 
 
 
15

 


6

الدرس الأول: النية والإخلاص

 • العمل لا يتحصّل ولا يتقوّم بدون نية صادقة حسنة، وينيغي حفظه عن ارتكاب الحرام، وإنّما يحصل ذلك بملكة الخشية والخوف من الله سبحانه.


• إصابة العمل وخلوصه ليس بمجرّد وقوعه كذلك بل باعتبار بقائه واستمراره ما دام العمر.

• إنّ الرياء كما يتحقّق في أوّل العبادة ووسطها كذلك يتحقّق بعد الفراغ منها إلى آخر العمر فيجعل ما فعل لله خالصاً في حكم ما فعل لغيره ولذا كان الإبقاء أشدّ لأنّه يحتاج إلى مراقبة النفس والمحافظة على العمل من البطلان في زمان أطول من زمان وقوعه1.

• وفسّر الإمام العمل الخالص أنّه الذّي لا تريد أن يحمدك عليه أحد حين العمل وبعده إلاّ الله تعالى2.

2- النية باب سعة الرزق: 
هناك روايات رويت بلفظ "من حسنت نيته" ورتبت على "حسن النية" كذلك آثاراً دنيوية وآخروية، ومن هذه الروايات الآتي: 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "ومَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُه زِيدَ فِي رِزْقِه"3.

وعنه عليه السلام: "ومن حسنت نيته زيد في عمره"4.

وعن الإمام علي عليه السلام: "من حسنت نيته كثرت مثوبته وطابت عيشته ووجبت مودته"5.

واعلم أنّ الدليل على جواز الزيادة في الأرزاق، هو الدليل على جواز الزيادة في الأعمار، لأنّ الله تعالى إذا زاد في عمر عبده، وجب أن يرزقه ما يغتذي به6.
 

1- ينظر: المازندراني، محمد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، مع تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعراني طهران، المكتبة الإسلامية، 1424هــ، ط 1، ج9، ص 298.بتصرف -.
2- المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 8، ص 49 - 52.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 105.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص 408.
5- الليثي الواسطي، علي بن محمد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق وتصحيح حسين الحسني البيرجندي‏، قم، نشر دار الحديث، 1418هـ.، ط 1، ص 465.
6- الديلمي، حسن بن محمد، أعلام الدين في صفات المؤمنين‏، تحقيق وتصحيح مؤسسة آل البيت عليهم السلام‏، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام‏، 1408 هـ، ط 1، ص 161.
 
 
 
16

7

الدرس الأول: النية والإخلاص

 ومعنى "من حسنت نيته" أي عزمه على الطاعات أو على إيصال النفع إلى العباد أو سريرته في معاملة الخلق بأن يكون ناصحاً لهم غير مبطن لهم غشاً وعداوة وخديعة، أو في معاملة الله أيضاً بأن يكون مخلصاً ولا يكون مرائياً ولا يكون عازماً على المعاصي ومبطناً خلاف ما يظهر من مخافة الله عزّ وجلّ1.


3. النية طريق المثوبة الأخروية: 
ومن الآثار الأخروية للنية ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"2.

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهعليه السلام قَالَ: "إِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ خُلِّدُوا فِيهَا أَنْ يَعْصُوا الله أَبَداً وإِنَّمَا خُلِّدَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ لأَنَّ نِيَّاتِهِمْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَوْ بَقُوا فِيهَا أَنْ يُطِيعُوا الله أَبَداً فَبِالنِّيَّاتِ خُلِّدَ هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ ثُمَّ تَلَا قَوْلَه تَعَالَى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾3 قَالَ عَلَى نِيَّتِه"4.

4- العون على قدر النية: 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّما قدّر الله عون العباد على قدر نيّاتهم فمن صحّت نيّته تمَّ عون الله له، ومن قصرت نيّته قصر عنه العون بقدر الذي قصّر5.

وهذه الرواية دقيقة وعميقة جداً فقد ربط الإمام بين المقادير الإلهية وصحّة النية، أي أنّ إبرام المقادير الإلهية والقضاء المحتوم يتوقّف على شاكلة نية الإنسان وحجم تلك النية بحسب حجم همّته، فإنّ العزائم الإلهية تأتي على قدر همم الرجال وهذا الترابط بين الفعل النفسانيّ للإنسان وهو نيته مع الفعل الآلهيّ يشير إليه الحديث النبويّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تفاءلوا بالخير تجدوه"6.
 

1- ينظر: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 8.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، باب الغزو مع الناس إذا خيف على الإسلام، ح1، ص 20.
3- سورة الاسراء، الآية 84.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، باب النية، ح 5، ص 85.
5- المفيد، محمد بن محمد، الأمالي، تحقيق وتصحيح حسين أستاد ولي وعلي أكبر غفاري، قم، نشر مؤتمر الشيخ المفيد، 1413هـ، ط 1، المجلس السابع، ح11، ص 66.
6- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، قم، دار الحديث، لا.ت، ط 1، ج3، الفأل، ص 2353.
 
 
 
17

8

الدرس الأول: النية والإخلاص

 فبصنع الانسان لنيته وبحسن نيته تصطنع له المقادير، فنية كلّ شخص حظه من قدره1.


وفي نهج البلاغة في وصية الإمام عليّ لابنه الإمام الحسن عليهما السلام قال "فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ"2. ومعنى ذلك أنّ الاستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإنّ اللفظ ربّما لا يطابق المعنى المطلوب كلّ المطابقة3.

عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله تعالى يدخل بحسن النّية وصالح السريرة من يشاء من عباده الجنة"4.

من خلال الروايات المتقدّمة تبيّن أنّ للنية آثاراً متعدّدة بعضها دنيويّ كزيادة الرزق، وزيادة العمر وغير ذلك، وبعضها أخرويّ. وقد جاء بعض هذه الآثار بعناوين كلية "يَحْشُرُ النَّاسَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ"5، "الخلود في الجنة والنار بسبب النية"، وبعض الروايات بين أهمية النية من خلال صوغ قانون عام في غاية الأهمية وهو "أنّ المقادير الإلهية تتنزّل بمقدار النية".

ما هو الإخلاص؟ ومن هو المخلص؟
النية هي ميزان قبول الأعمال. والمعيار في قبولها هو كونها خالصة لله. فما معنى أن تكون النية خالصةً لله تعالى؟ وما هو الإخلاص؟ وما هي حقيقته؟

الإخلاص لله هو غاية الدين كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الإخلاص غاية الدين"6، وهو أفضل العبادات، بل هو روح العبودية لله وجوهرها، كما أخبر عن ذلك إمامنا الصادق عليه السلام: "أفضل العبادة الإخلاص"7.
 

1- ينظر: النيات والخواطر، الشيخ محمد السند، ص 15-16.بتصرف -.
2- السيد الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، قم، دار الهجرة، 1414هـ.، ط 1، ص 399، الخطبة 31، من وصية له عليه السلام للحسن بن علي عليه السلام كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين.
3- العلامة الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1417هـ.، ط 5، ج 2، ص 37.
4- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 143.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص 20.
6- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 19.
7- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص245.
 
 
 
18

9

الدرس الأول: النية والإخلاص

 الإخلاص في العمل هو تنزيه العمل أن يكون لغير الله فيه نصيب. وفي الحديث الوارد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إن لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، وَما بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِخلاصِ حَتّى لا يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى شَيء مِنْ عَمَل لله"1. فحقيقة الإخلاص تخليص نيّة الإنسان وعمله من شائبة غير الله تعالى. وهو لا يتحقّق إلا عند من كان محبّاً لله عزّ وجلّ بحيث لا يبقى لحبّ الدنيا وحبّ النفس والتعلّق بشهواتها وملذّاتها وسمعتها وجاهها ومناصبها في قلبه قرار. 


فالمخلص هو الذي لا يطلب من وراء أيّ عملٍ يقوم به سوى الله تعالى، ولا يكون له مقصدٌ أو دافعٌ سوى رضاه، والتقرّب إليه، ونيل الزّلفى لديه. بحيث تكون نيّته متوجّهةً دائماً إلى الله، فلا تطلب إلّا رضاه ووجهه الكريم، حبّاً به، وطمعاً في فضله وإحسانه، لأنّ العمل الخالص هو الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحدٌ سوى الله تعالى.

إنّ أعمال الناس مرهونة بالنيّات كما أسلفنا. وإذا لم تكن النوايا خالصةً، فهذا يعني أنّه يشوبها الشّرك والله تعالى لا يغفر أن يشرك به: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾2، لأن الشّرك ظلمٌ عظيمٌ ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾3، والله تعالى لم يأمر إلّا بالإخلاص كما في قوله: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾4، وهو بالأصل لا يقبل إلّا ما كان له خالصاً، كما في الحديث القدسيّ المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال الله عزَ وجلّ: أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً"5. فما لم يكن العمل مقبولاً عند الله فلا قيمة له على الإطلاق.

وعليه نخلص من كلّ ما سبق إلى أنّ الإخلاص أساس الدين ودعامته التي يرتكز عليها في عمليّة بناء الإنسان على خطّ الإيمان بالله والتوجّه الدائم إليه وتوحيده. كما أنّه رأس الفضائل، والمناط في قبول الأعمال وصحّتها، فلا قيمة لعملٍ لا إخلاص معه، كما ورد
 

1- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص 304.
2- سورة النساء، الآية 116.
3- سورة لقمان، الآية 13.
4- سورة البينة، الآية 5.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص295.
 
 
 
 
19

10

الدرس الأول: النية والإخلاص

 عن مولى الموحّدين الإمام علي عليه السلام: "من لم يصحب الإخلاص عمله لم يقبل"1. وقال عليه السلام في شأن المخلصين: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ولم يحزن صدره بما أعطي غيره"2.


آثار الإخلاص
للإخلاص آثارٌ وخصائص عديدةٌ وردت في النصوص والروايات الشريفة، لا يتمتّع بها إلّا المخلصون والمنقطعون إلى الله تعالى بنيّاتهم وأعمالهم، أمّا الآخرون فمحرومون من هذه النِّعم والكرامات السَّنيّة. وفيما يلي نذكر بعضا منها: 
أولاً: عدم تسلّط الشيطان على الإنسان المخلص، بحيث لا يعود للشيطان قدرة على إغوائه. لأنّ الله تعالى حاضرٌ دائماً في حياته، فهو لا يرى غيره، ولا يفكّر إلّا فيه، ونيّته دائماً متوجّهة إليه، فلا يكون للشيطان إليه سبيل: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾3. والمخلَص هو الذي خلّصه الله تعالى من دنس الخطايا والذنوب، واختاره بعد أن رأى فيه صدق النيّة وإخلاصها. "أَخْلَصَ للهِ الدِّينَ: أَمْحَضَهُ وتَرَكَ الرِّياءَ فِيهِ، فهُوَ عَبْدٌ مُخْلِصٌ ومُخْلَصٌ، وهو مَجَازٌ، وفي البَصَائِرِ: حَقِيقَةُ الإِخْلاصِ: التَّبَرِّي منِ دُونِ الله تَعَالَى، وقُرِئَ: ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾4 بِكَسْرِ الَّلامِ وفتْحِها، قال الزَّجّاجُ: المُخْلَص: الَّذِي جَعَلَه الله مُخْتاراً خَالِصاً من الدَّنَسِ، والمُخْلِصُ: الَّذِي وَحَّدَ الله تعالى خَالِصاً. وأَخْلَصَ الرَّجُلُ السَّمْنَ: أَخَذَ خُلاصَتَهُ، نَقَلَه الفَرّاءُ"5 وهو أمر اختياريّ يمكن لكل إنسان أن ينال نصيباً وحظاً منه بحسب سعيه واجتهاده. فإذا تدرّج الإنسان في مراتب الصدق والإخلاص اصطفاه الله واجتباه لنفسه فكان من المخلَصين، ولكن تبقى المراتب العالية للإخلاص والاجتباء مختصّة بأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام.
 

1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 464.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص16.
3- سورة ص، الآيتان 82-83.
4- سورة ص، الآية 83.
5- الحسيني الزبيدي، محمد مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الفكر، 1414هـ - 1994م، ط 1، ج9، ص274.
 
 
 
20

 


11

الدرس الأول: النية والإخلاص

 ويقول العلّامة الطباطبائي في تفسير الآية: "وقد سمّاهم الله سبحانه عباد الله المخلصين فأثبت لهم عبودية نفسه. والعبد هو الذي لا يملك لنفسه شيئاً من إرادة ولا عمل فهؤلاء لا يريدون إلّا ما أراده الله ولا يعملون إلّا له. ثم أثبت لهم أنهم مخلصون بفتح اللام أي إنّ الله تعالى أخلصهم لنفسه فلا يشاركه فيهم أحد فلا تعلّق لهم بشي‏ء غيره تعالى من زينة الحياة الدنيا ولا من نعم العقبى وليس في قلوبهم إلّا الله سبحانه"1.


ثانياً: الإنسان المخلص مُعفى من الحساب في يوم الحشر وعند الوقوف في عرصات يوم القيامة. فقد أشار القرآن الكريم إلى وجود فئة من الناس تأمن صعقة يوم القيامة وفزعه: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ﴾2، وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾3، فإذا ضممنا هذه الآية إلى الأولى يتّضح أنّ هذه الطائفة من النّاس هي عباد الله المخلصين، لأنه ليس لهؤلاء أعمال توجب حضورهم في عرصات يوم القيامة، فهم قد قتلوا النفس الأمّارة بالسوء في ساحات جهاد النفس وترويضها بالمراقبة والعبادة والأعمال الصالحة، وتمّ لهم حسابهم خلال فترة جهادهم لعدوّهم الباطنيّ والظاهريّ في الحياة الدنيا. 

ثالثاً: كلّ ما يُعطى الإنسان في يوم القيامة من ثوابٍ وأجرٍ فهو مقابل ما عمله في الحياة الدنيا إلّا طائفة المخلَصين من الناس، فإنّ الكرامة الإلهيّة لهم تتعدّى حدود الأجر على العمل كما أخبر تعالى بذلك في كتابه الكريم حيث قال: ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾4. فعباد الله المخلَصين لن يكون جزاؤهم بحسب أعمالهم، بل الله المنّان سوف يعطيهم بفضله وكرمه. فهم لا ينالون الجزاء مقابل العمل وإنّما ينالون من الكرامات الإلهيّة وفق إرادته تعالى ومشيئته وفيض كرمه وسعة عطائه الذي لا حدّ له.
 

1- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج17، ص136.
2- سورة الزمر، الآية 68.
3- سورة الصافات، الآيتان 127- 128.
4- سورة الصافات، الآيات 39-41.
 
 
 
21

12

الدرس الأول: النية والإخلاص

 رابعاً: إنّ لهؤلاء المقام المنيع والمنصب الرّفيع والمرتبة العظيمة التي يستطيعون فيها أداء الحمد والشّكر والثناء للذّات المقدّسة كما هو لائقٌ بها. قال عزّ من قائل ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾1. وهذه غاية كمال المخلوق. فهذه الآية وصفت المخلصين بأنّهم الوحيدون الذين يصحّ منهم وصف الذات الإلهيّة المقدّسة، مما يدلّ على عمق معرفتهم بالله سبحانه وتعالى، فلم يكن في وصفهم لله تعالى أيّ إشكال بخلاف سائر الناس.


خامساً: من يخلص لله يرزقه الله العلم والحكمة كما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من أخلص العبادة لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"2. فالمداومة على الإخلاص تورث الإنسان العلم الإلهيّ الّذي ليس فوقه أيّ علم.

سادساً: من يخلص لله تعالى في النيّة والعمل يرزقه الله تعالى البصيرة في دينه، فلا تلتبس عليه الأمور، ولا يقع في مضلّات الفتن، ويصبح عارفاً بطريقه جيّداً وموقناً بما يفعله. فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "عند تحقّق الإخلاص تستنير البصائر"3.

سابعاً: نجاح الأعمال، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "فِي إخلاصِ النيّاتِ نَجاحُ الأمورِ"4. وقال عليه السلام أيضاً: "لَو خَلُصَتِ النِّيَّاتُ لَزَكَتِ الأَعمالُ"5.

كيف يتحقّق الإخلاص؟
يتحقّق الإخلاص من خلال إزالة المانع الذي يحول دون تحقّقه. وهذا المانع هو هوى النفس. فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "كيف يستطيع الإخلاص من يغلبه الهوى؟"6.
 

1- سورة الصافات، الآيتان 159-160.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج53، ص326.
3- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 338.
4- م.ن، ص 354.
5- م.ن، ص 415.
6- التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح مصطفى درايتي، ‏إيران، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1407 هـ، ط 1، ص 306.
 
 
 
22

13

الدرس الأول: النية والإخلاص

 والهوى هو حبّ النفس واتّباع الأوامر الصادرة منها، وهو ما يُعتبر شركاً، لأنّ المُطاع فيه هو نفس الإنسان وليس الحقّ عزّ وجلّ. إنّ اتّباع الهوى يؤدّي بالإنسان إلى الضّلال عن سبيل الله عزّ وجلّ وصراطه المستقيم، ذلك أنّ سبيله تعالى مرهونٌ بأمرين هما التوحيد والطاعة، وقد قال عزّ من قائلٍ: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾1. وللأسف فإنّنا في كثيرٍ من الموارد نجعل أهواءنا مكان الله تعالى، وننصاع لميولنا النفسيّة بدل الانصياع لأحكام الشّرع. 


من هنا يقول الحقّ تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾2، فإن حبّ النفس يؤدّي إلى طاعتها واتّباع أوامرها، واتّباع أوامرها يعني أنّ المُطاع ليس الله تعالى، ممّا يكون سبباً في وقوع الإنسان في المعصية والمخالفة لأوامر الحق عزّ وجلّ، وبالتالي البعد عن الله والحرمان من الهداية.


وهناك أمرٌ آخر يساعد أيضاً على تحقّق الإخلاص وهو اليقين. لأنّ الإخلاص لله هو وليد الإيمان واليقين العميق بالمعارف الإلهيّة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الإخلاص ثمرة اليقين"3. فلكي يغدو الإنسان مخلصاً يجب أن يكون صاحب يقينٍ على مستوى التوحيد، ومؤمناً بأنه لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وأنّ كلّ شيء في هذا العالم يبدأ من الله ويعود إليه, ليكون من: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾4.

والخطوة الأولى نحو اليقين الصحيح تكمن بالعلم والمعرفة بأسس هذا الدين ومبادئه ومعارفه الإلهية، ومن دون هذه المعرفة يبقى يقين الإنسان ضعيفاً ومتزلزلاً، وبالتالي محروماً من فضيلة الإخلاص. عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "أوّل الدين معرفته وكمال معرفته، التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له"5.
 

1- سورة ص، الآية 26. 
2- سورة النازعات، الآيتان 40-41.
3- التميمي الآمدي، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 23.
4- سورة البقرة، الآية 156.
5 السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 39، الخطبة 1.
23

 


14

الدرس الأول: النية والإخلاص

 المفاهيم الرئيسة


1- الفعل العباديّ في نظر الإسلام هو جهدٌ إنسانيّ تُحدّد قيمته النية والقصد، لأنّ مدار الأعمال على النيات فهي التي تعطي العمل قيمته الواقعية.

2- إنّ الأجر والثواب لا يوزنان عند الله تعالى وفق المقدار المؤدّى من الأفعال، ولكن بقدر إخلاص النيّة في هذا الفعل، وبمدى تطابقه مع إرادة الله سبحانه.

3- الإخلاص في العمل هو تنزيه العمل أن يكون لغير الله فيه نصيب. وهو غاية الدين وهو روح العبودية لله وجوهرها. وحقيقة الإخلاص تخليص نيّة الإنسان وعمله من شائبة غير الله تعالى. والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحدٌ سوى الله تعالى.

4- الله تعالى قد اختار لنفسه الدين الخالص حيث قال: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾، فإذا كان لشيءٍ من الأهواء النفسيّة والحظوظ الدنيويّة دخلٌ في الدين فلا يكون خالصاً، وما كانت فيه شائبة الغيريّة والنفسانيّة فهو خارج عن حدود دين الحقّ.

5- للإخلاص آثار وخصائص عديدة على المخلص: عدم تسلّط الشيطان, إعفاؤه من الحساب يوم القيامة، نيل الكرامات الإلهيّة, يصحّ منه وصف الذات الإلهيّة المقدّسة، يرزق العلم والحكمة والبصيرة في دينه, نجاح الأعمال.

6- يتحقّق الإخلاص من خلال إزالة المانع الذي يحول دون تحقّقه، وهذا المانع هو هوى النفس. وأيضاً من خلال اليقين، لأن الإخلاص لله هو وليد الإيمان واليقين العميق بالمعارف الإلهيّة.

الخطوة الأولى نحو اليقين الصحيح تكمن بالعلم والمعرفة بأسس هذا الدين ومبادئه ومعارفه الإلهية، ومن دون هذه المعرفة يبقى يقين الإنسان ضعيفاً ومتزلزلاً.
 
 
 
 
 
 
24

15

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى حقيقة الصّبر وأهم مراتبه.
2- يبيّن آثار الصّبر ونتائجه.
3- يشرح كيفيّة الوصول إلى مقام الصّابرين.
 
 
 
 
25

16

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 معنى الصّبر

الصّبر هو: "كفُّ النفس عن الجزع عند حلول مكروه"، وقيل إنّه: "امتناع النفس عن الشكوى على الجزع المستور". والمراد من الشكوى هنا الشكوى إلى المخلوق، وأمّا الشكوى عند الخالق المتعالي وإظهار الجّزع والفزع أمام قدسيّته فلا تتنافى مع الصّبر. كما اشتكى النبيّ أيوب عليه السلام عند الحقّ سبحانه قائلاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾1 رغم أنَّ الله تعالى أثنى عليه بقوله ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾2. وقال النبيّ يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ﴾3 مع أنّه كان مع الصّابرين. بل إنّ ترك الشكوى إلى الحقّ المتعالي إظهارٌ للجلادة وللدعوى. 

ويبدو من تراجم حياة الأنبياء العظام والأئمة المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين - أنّهم على الرغم من أنّ مقاماتهم كانت أرفع من مقام الصّبر ومقام الرضا والتسليم، إلَّا أنهم لم يمتنعوا عن الدعاء والتضرّع والعجز أمام المعبود. وكانوا يطلبون حاجاتهم من الحقّ سبحانه. وهذا لا يكون مغايراً للمقامات الروحية، بل إن تذكّر الحقّ جلّ وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذلّ أمام عظمة الكمال المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين. وعلى أيّ حال فالحقيقة أنَّ الصّبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن.
 
 

1- سورة ص، الآية 41.
2- سورة ص، الآية 44.
3- سورة يوسف، الآية 86.
 
 
 
27

17

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 مراتب الصبر

مراتب الصّبر كثيرة، نذكر هنا بعض المراتب التي تطابق الحديث النبويّ الشريف: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصّبر ثلاثة: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. ومن صبر على الطاعة، كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش. ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"1.

ونعلم من هذا الحديث الشريف ثلاث درجات للصبر، وهي مبادئ الصّبر: 
المرتبة الأولى: الصّبر على البليّات والمصائب
وذلك بأن يكون الإنسان في هذا النوع من الواردات متملّكاّ نفسه، فلا يجزع ولا يشكو عند الخلق. أمّا الجزع والشكاية عند الخالق فهي ليست نقصاً. وإن كانت عيباً عند أهل المعرفة، لأنّه تجلّد وتصلّب، وفي مذهب العشق والمحبة يعتبر التجلّد عيباً كبيراً، لأنّ المطلوب هو فقط إظهار العجز والفقر، والتجلّد هو الغرور وإظهار الوجود، وهذا عند أهل المعرفة من أكبر الجنايات. وللصّبر في المصيبات ثلاثمائة درجة من الثواب ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. 

المرتبة الثانية: الصّبر على الطاعة
وذلك بأن يكون الإنسان في طاعة الحقّ تعالى متمالكاً لنفسه، فلا تأخذ النفس الأمّارة بالسوء الزّمام من يد الإنسان ويطلق لها العنان. وإطلاق العنان بشكلٍ عام يكون في مقامين، والصّبر في أحدهما أصعب كثيراً منه في الآخر: 
المقام الأوّل: وهو الذي يكون الصّبر فيه سهلاً، وهو الصّبر عن إطلاق العنان للنّفس في ترك الطاعات. والصّبر في هذه المرحلة عبارة عن مقاومة النفس الأمّارة والشيطان، والإتيان بالوظائف الإلهية بحدودها الشرعيّة وآدابها القلبية، وهذا من المصاعب.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 91.
 
 
 
 
28

18

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 المقام الثاني: والصّبر فيه يكون أصعب، وهو منع إطلاق العنان للنفس بعد الإتيان بالعمل والطاعات، وهو حبس النفس بعد القيام بآداب العمل وشرائطه الظاهرة والباطنة لكي لا تبتلى بالعجب والكبر وغيرهما. وربما يدعو الشيطان والنفس الأمّارة الإنسان إلى الأعمال الصالحة، والأخلاق الحميدة والتبعيّة للشريعة المطهّرة لسنواتٍ طويلة رجاء أن يبتلى بالإعجاب وحب النفس فيسقط رغم جميع مشقّاته ورياضاته.


المرتبة الثالثة: الصّبر عن المعصية
بمعنى أنّ الإنسان يصبر في مجاهدة نفسه وجنود إبليس، وبواسطة الاستقامة والمثابرة يتغلّب عليهم. ولهذه الدرجة مقاماتٌ وحقائق ولطائف كثيرة، والصّبر في كل درجةٍ منها أصعب وأدقّ من الصّبر على الطاعات. بل إنّ الموفّق في الصّبر في هذه المرتبة يسهل عليه الصّبر على الطاعات. 

آثار الصّبر ونتائجه
للصّبر نتائج كثيرةٌ أهمها: 
1- ترويض النفس وتربيتها: 
فالإنسان إذا صبر حيناً من الوقت على المفاجآت المزعجة ونوائب الدهر، وعلى مشاقّ العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذّات النفسيّة امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتحمّل الصّعاب مهما كانت شديدة ومؤلمة، اعتادت النفس شيئاً فشيئاً وتروّضت، وتخلّت عن التمرّد، وتذلّلت صعوبة تحمّل المشاق عليها، وحصلت للنفس ملكةٌ راسخة نورانية، بها يتجاوز الإنسان مقام الصّبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة. بل إنّ الصّبر على المعصية يبعث على تقوى النفس، والصّبر على الطاعة يسبّب الاستيناس بالحق عزّ وجلّ، والصّبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الإلهيّ. وكل ذلك من المقامات الشامخة لأهل الإيمان، بل لأهل العرفان.

يقول المحقّق الخبير نصير الدين الطوسي: "الصّبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه. وهو يمنع الباطن عن الاضطراب، واللسان عن الشّكاية، والأعضاء عن الحركات
 
 
 
 
29

19

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 غير المعتادة"1. وعلى العكس، فإنّ الإنسان غير الصابر، قلبه مضطرب، وباطنه موحش، ونفسه قلقة ومهزوزة. وهذا بنفسه بليّةٌ فوق جميع البلايا، ومصيبةٌ من أعظم المصائب التي تحلّ بالإنسان وتسلب منه الراحة والقرار. وأمّا بالصّبر فتخفّ الرزيّة، ويتغلّب القلب على النّوائب والبلايا، وتنتصر إرادة الإنسان على المصائب. ولذا نجد الإنسان غير الصّابر يشكو عند من هو أهلٌ للشكاية، ومن ليس بأهلٍ للشكاية، وهذا الأمر بالإضافة إلى أنّه يؤدّي إلى الفضيحة لدى الناس، والاشتهار بالضعف بينهم، وعدم الجلادة، فإنه سيسقطه من أعين الناس ويحطّ من كرامته لدى ملائكة الله، وأمام جلال القدس الربوبيّ.


2- تثبيت الإيمان في النفس: 
ورد في الأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة ثناءٌ بليغٌ على الصّبر. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصّبر ذهب الإيمان"2.

وعن الإمام السّجاد عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: "الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبرَ له"3. إنّ الصّبر مفتاح أبواب السعادات، وباعثٌ للنجاة من المهالك، بل إنّ الصّبر يهوّن المصائب، ويخفّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح. وأمّا الفزع والجزع فبالإضافة إلى أنَّهما عيبٌ، وكاشفان عن الضعف في النفس، فإنّهما يجعلان الإنسان مضطرباً، والإرادة ضعيفةً والعقل موهوناً. 

إنّ العبد الذي لا يتحمّل مصيبةً واحدةً نازلةً عليه من الحقّ المتعالي والحبيب المطلق، والذي إذا واجه بليّةً واحدةً رفع صوته بالشّكوى من وليّ نعمه أمام المخلوق رغم نزول البركات عليه وتلقّيه آلاف آلاف آلاف النّعم، مثل هذا العبد أيّ إيمانٍ له؟ وأيّ تسليمٍ له أمام المقام القدسيّ للحقّ؟ فيصحّ أن يقال إذاً: إنّ من لا صبر له لا إيمان له. لو كنت مؤمناً بالحضرة الربوبية، ورأيت أنّ مجاري الأمور بيد قدرته الكاملة، وأنّه لا يكون لأحدٍ يدٌ في الحوادث والأمور لما اشتكيت من حوادث الأيّام والبليّات أمام غير الحقّ تعالى، بل لاستقبلتها بكل
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 68.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 87.
3- م.ن، ص 89.
 
 
 
30

20

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 حفاوةٍ وتكريم، وشكرت نعم الحقّ سبحانه. فكلّ الاضطرابات النفسية والشكاوى اللسانية والحركات غير اللائقة وغير المعتادة للأعضاء، تشهد بأنّنا لسنا من ذوي الإيمان.

 


فما دامت النّعمة موفورة، شكرنا ربنا شكراً ظاهرياً لا لبّ له، بل يكون لأجل طمع الزيادة، وحينما تواجهنا مصيبةٌ واحدةٌ أو يحلّ بنا ألمٌ ومرضٌ، اشتكينا من الحقّ تعالى لدى الناس وغمزنا فيه، واعترضنا عليه، وأبدينا الشكوى أمام كلّ من هو أهل، ومن ليس بأهل. وتتحوّل الشكاوى والجزع والفزع الحاصل في النفس، إلى بذور البغض تجاه الحقّ والقضاء الإلهيّ، ثمّ ينمو شيئاً فشيئاً، ويشتدّ حتّى يتحوّل إلى ملكة، بل لا سمح الله، تتحوّل الصورة الداخلية للذات إلى صورة البغض لقضاء الحقّ، والعداء للذات المقدّسة.

فالجزع والفزع لا يجديان نفعاً، بل لهما أضرارٌ مخيفة، ومهالك تنسف الإيمان. وأمّا الصّبر والجلادة فلهما الثواب الجزيل، والأجر الجميل، والصورة البهيّة البرزخية الشريفة، كما ورد في الحديث الشريف: "... الصّبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصّبر تؤجروا"1

فعاقبة الصّبر هي الخير في هذه الدنيا، كما يستفاد من التمثيل بالنبيّ يوسف عليه السلام، ويبعث على الأجر والثواب في يوم الآخرة. وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من ابتلي من المؤمنين ببلاءٍ فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد"2. ووردت أحاديث كثيرة في هذا المضمار. وأمّا أنّ للصّبر صورةً بهيةً برزخية، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مطلّ عليه، ويتنحّى الصّبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصّبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه"3.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 89.
2- م.ن، ص 92.
3- م.ن، ص 90.
 
 
 
 
31

21

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 كيفيّة التحقّق بمقام الصّبر

إنّ من النتائج الكبيرة والثمار العظيمة لتحرّر الإنسان من عبودية النفس، الصّبر في البلايا والنوائب. فالإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقّه وعبوديته وذلّته بقدر مقهوريّته لتلك السلطة الحاكمة عليه. ومعنى العبودية لشخصٍ هو الخضوع التّام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات المقهور للنفس الأمّارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلّما أوحت هذه السلطات بشيءٍ أطاعها الإنسان وخضع لها منتهى الخضوع، حتى يغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة. ويبلغ به الأمر إلى مستوى يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقيّ.

وفي هذه الحالة تزول عن نفسه العزّة والكرامة والحرية، ويحلّ محلها الذلّ والهوان والعبودية، ويخضع لأهل الدنيا، وينحني قلبه أمامهم وأمام ذوي الجاه والحشمة، ولأجل بلوغ شهواته النفسية يتحمّل الذلّ والمنّة، ولأجل الترفيه عن البطن والفرج يستسيغ الهوان، ولا يتضايق من اقتراف ما يخالف الشرف والفتوّة، عندما يكون أسيراً لهوى النفس والشهوة.

وينقلب إلى أداةٍ طيّعة أمام كل صالحٍ وطالح، ويقبل امتنان كلّ وضيعٍ عنده لمجرّد احتمال نيل ما يبتغيه حتّى إذا كان ذلك الشخص أحطّ وأتفه إنسان. إنّ عبيد الدنيا وعبيد الرغبات الذاتية، والذين وضعوا رسن عبودية الميول النفسية في رقابهم، يعبدون كلّ من يعلمون أنّ لديه الدنيا أو يحتملون أنّه من أهل الدنيا، ويخضعون له، وإذا تحدّثوا عن التعفّف وكبر النفس، كان حديثهم تدليساً محضاً، وإنّ أعمالهم وأقوالهم تكذب حديثهم عن عفّة النفس ومناعتها.

إنّ هذا الأسر والرّق للشهوات وأهواء النفس، من الأمور التي تجعل الإنسان دائماً في المذلّة والعذاب والنصب. ويجب على الإنسان ذي النبل والكرامة أن يلتجئ إلى كلّ وسيلةٍ لتطهير نفسه منها. ويتمّ التطّهر من هذه القذارات والتحرّر من كلّ خسّةٍ وهوانٍ بمعالجة النفس، وهي لا تكون إلَّا بواسطة العلم والعمل النافع.

أمّا العمل: فيكون بالرياضة الشرعية وبمخالفة النفس فترةً يتمّ فيها صرف النفس عن حبّها المفرط للدنيا والشهوات والأهواء حتّى تتعوّد هذه النفس على الخيرات والكمالات..
 
 
 
 
 
32

22

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 أمّا العلم: فيتمّ بتلقين النفس وإبلاغ القلب بأنّ الناس الآخرين يضاهونه في الفقر والضعف والحاجة والعجز، وأنّهم يشبهونه أيضاً في الاحتياج إلى الغنيّ المطلق القادر على جميع الأمور الجزئية والكليّة. وأنّهم غير قادرين على إنجاز حاجة أحدٍ أبداً، وأنّهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم ويخشع القلب أمامهم. وإنّ القادر الذي منحهم العزّة والشرف والمال والوجاهة قادرٌ على أن يمنح الجميع.


ومن العار حقيقةً على الإنسان أن يتذلّل وينحطّ في سبيل بطنه وشهوته ويتحمّل الامتنان من مخلوقٍ فقيرٍ ذليلٍ لا حول له ولا علم ولا وعي. إذا أردت أيّها الإنسان أن تقبل المنّة فلتكن من الغنيّ المطلق وخالق السموات والأرض، فإنّك إذا وجّهت وجهك إلى الذات المقدسة، وخشع في محضره قلبك، تحرّرت من العالمين1، وخلعت من رقبتك طوق العبودية للمخلوق لأنّ العبودية لله وحده لا شريك له.
 

1- أي كل ما سوى الله عزّ وجل.
 
 
 
33

23

الدرس الثاني: الصبر والثبات

 المفاهيم الرئيسة


1- الصّبر قوةٌ معنوية تمنع النفس عن الشكوى والجزع والاعتراض عند حلول مكروهٍ ما. 

2- للصّبر ثلاث مراتب: صبرٌ على المصيبة، وصبرٌ على المعصية، وصبرٌ على الطاعة.

3- أهمّية الصّبر تكمن في أنّه أهمّ وسيلة لترويض النفس وتربيتها حتّى تتدرّج في مراتب الكمال الإنسانيّ، لأنّه لن يصل الإنسان إلى أيّ مقامٍ معنوي إلَّا من خلال الصّبر وقوة التحمّل.

4- الطريق العمليّ للصّبر يتمثّل من خلال أمرين: العبودية لله والتسليم لأمره، وتهذيب النفس.

5- للصّبر نتائج كثيرةٌ أهمها: ترويض النفس وتربيتها, وتثبيت الإيمان في النفس.

6- إنّ من النتائج الكبيرة والثمار العظيمة لتحرّر الإنسان من عبودية النفس، الصّبر في البلايا والنوائب.
 
 
 
 
34

24

الدرس الثالث: الصدق

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح مفهوم الصدق ومحوريّته في الصفات الأخلاقية القرآنية.
2- يبيّن أقسام الصدق وأنواعه.
3- يتعرّف إلى صفات وعلامات الصادقين في القرآن وعلاماتهم.
 
 
 
 
 
 
35

25

الدرس الثالث: الصدق

 مفهوم الصدق 

إذا كان الكذب هو الإخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه، فإنّ الصدق هو ضدّه1، وهو مطابقة القول للواقع الذي هو عليه. وهو أشرف الصفات المرضية، ورئيس الفضائل النفسية، وما ورد في مدحه وعظم فائدته من الآيات والأخبار مما لا يمكن إحصاؤه. قال الله سبحانه: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾2.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تقبّلوا إليّ بست خصال أتقبّل لكم بالجنّة: إذا حدّثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفّوا أيديكم وألسنتكم"3.

أهميّة الصدق
إنّ من ضرورات الحياة الاجتماعيّة ومقوّماتها الأصيلة شيوع التفاهم والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد، ليتمكّنوا من النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، لينعموا بحياة هانئة وكريمة، ملؤها المودة والسلام. وهذا لا يتحقّق إلّا بالتفاهم والتعاون الوثيق وتبادل الثقة والائتمان بين الأفراد. ومن البديهيّ أن اللّسان هو أحد أهمّ أدوات التفاهم والتواصل بين البشر، والترجمان العمليّ لأفكارهم وما يدور في خلدهم، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع والأفراد. وعلى صدق اللّسان وكذبه تبنى سعادة المجتمع وشقاؤه، فإن كان اللّسان صادق القول، وأميناً في الشَّهادة والنقل، كان عاملاً مهماً في إرساء السَّلام
 

 
 
 
 
 
37

 


26

الدرس الثالث: الصدق

 في المجتمع، وزيادة أواصر التفاهم والتعاضد بين أفراده، وكان رائد خير ورسول محبة بين البشر. وأمّا إن كان متّصفاً بالخداع والتزوير، والخيانة والكذب، غدا رائد شرّ، ومدعاة للتباغض بين أفراد المجتمع، وسبباً لخرابه وفساده. لذا كان الصِّدق من ضرورات الحياة الاجتماعية والفردية لما له من انعكاسات مباشرة على كلّ منها، فهو نظام عقد المجتمع السعيد والمسالم، ودليل استقامة أفراده والمؤكد على صحّة وقوّة إيمانهم. لذا كان التأكيد والحثّ الشديد في الآيات والروايات عليه لأنّه باختصار العمود الفقريّ لمجتمع معافىً وسليمٍ من الأحقاد والتنازع.


من الروايات الشريفة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال في وصيته للإمام عليّعليه السلام: "أوصيك يا عليّ في نفسك بخصال اللهمّ أَعنه الأولى الصِّدق ولا يخرج من فيك كذبة أبداً"1.

وجاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: فقال يا رسول الله ما عمل أَهل الجنّة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الصِّدق، إذا صدق العبد برَّ وإذا برَّ آمن وإذا آمن دخل الجنّة"2.

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَيّ الأخلاقِ أَفضل قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الجود والصدق"3.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أَربع من كنَّ فيه كمل إيمانه وإنْ كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك. قال, وهو الصِّدق وأَداء الأمانة والحياء وحسن الخلقِ"4.

وعنه عليه السلام أيضاً قال: "من صدق لسانه زكا عمله"5.

مقام الصدق والصادقين في القرآن
الصدق في القرآن الكريم من المفاهيم المحورية في المنظومة القيمية التربوية. وقد حثّ القرآن الكريم على هذه القيمة الرفيعة بأساليب متعدّدة وطرق مختلفة، واستهدفها
 

1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص 164.
2- الديلمي، الحسن بن محمد، إرشاد القلوب إلى الصواب، قم، انتشارات الشريف الرضي، 1412هـ، ط 1، ج 1، ص 185.
3- الميرزا النوري، حسين بن محمد تقي‏، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل‏، قم، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، 1408ه‏ـ، ط 1، ج15، ص258.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص99 - 100.
5- م.ن، ص 104.
 
 
 
38

 


27

الدرس الثالث: الصدق

 

في مناسبات متنوّعة ومتعدّدة. وسنبيّن بعض هذا المقام للصدق والصادقين ضمن الجدول الآتي:

 

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا1

إنّ السبب الحقيقيّ للمجازاة الإلهية لهولاء الرجال هي صدقهم على عهدهمبأن لا يفرّوا إذا لاقوا العدو. فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، والباء للسببية أي ليجزى المؤمنين الذين صدقوا عهدهم بسبب صدقهم في أقوالهم وأحوالهم, ومعاملتهم مع الله، واستواء ظاهرهم وباطنهم.

﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ2

والمراد بهذا الصدق من الصادقين هو صدقهم في الدنيا. وقوله: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ فهو بيان لجزاء صدقهم عند الله. فالصادقون في الدنيا في قولهم وفعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنّات الموعودة وهم الراضون المرضيون الفائز ونبعظيم الفوز. على أنّ الصدق في القول يستلزم الصدق فيالفعل - بمعنى الصراحة وتنزه العمل عن سمة النفاق - فينتهي بهإلى الصلاح.

﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ3

﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ سابقة ومنزلة رفيعة. سمّيت قدماً لأنّ السبق والسعي بها،كما سمّيت النعمة يداً، لأنّها تعطى باليد. وإضافتها إلى الصدق لتحقّقها، والتنبيه على أنّهم إنّما ينالونها بصدق القول والنيّة.

 

والمراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة كما يشير إليه قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ4 فإن الإيمان لمّا استتبع الزلفى والمنزلة عند الله كان الصدق في الإيمان يستتبع الصدق في المنزلة التي يستتبعها فلهم منزلة الصدق كماأنّ لهم إيمان الصدق.

 

 

1- سورة الأحزاب، الآيتان 23-24.

2- سورة المائدة، الآية 119.

3- سورة يونس، الآية 2.

4- سورة الرحمن، الآية55.

 

 

 

 

39

 


28

الدرس الثالث: الصدق

 

﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا1، وقال تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ2

 

لسان الصدق: الكلمات والخطابات الَّتي تطابق الحقّ من تعليمات إلهيّة وأحكام حقّة ومعارف دينيّة تبقى إلى آخر الأزمنة، ويستفيد منها المتأخّرون فيما بعد. فأنبياء الله وأولياؤه متّصفون دائماً بلسان الصدق، ومتكلَّمون بالحقّ ولا ينطقون إلَّا حقّاً وصدقاً.

﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا3

فالأنبياء عليهم السلام يطلبون من الله بإلحاح أن يكون دخولهم وخروجهم فيكلّ أمر منعوتاً بالصدق دائماً، وجارياً على الحقيقة من غيرأن يخالف ظاهره باطنه أو يضادّ بعض أجزائه بعضاً. كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله وهو يريد بقلبه أن يسود على الناس، أو أن يخلص في بعض دعوته لله ويشرك في بعضها غيره والعياذ بالله. لذا دعاؤهم دائماً أن يوفّقهم الله ليكونوا من الصادقين حقاً ظاهراً وباطناً.


أقسام الصدق

للصدق أقسام متعدّدة منها: 

1- الصدق مع الله: 

قال تعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾4، وقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾5.

 

الآية الأولى تقول إنّ هولاء لو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الايمان، أو لو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم ﴿لَكَانَ﴾ الصدق ﴿خَيْرًا لَّهُمْ﴾ في دينهم ودنياهم من نفاقهم6.

 


1- سورة مريم، الآية 50.

2- سورة الشعراء، الآية 84.

3- سورة الإسراء، الآية 80.

4- سورة محمد، الآية 21.

5- سورة الحشر، الآية 8.

6- الملا فتح الله الكاشاني، زبدة التفاسير، ج6، ص 359.

 

 

40

 

29

الدرس الثالث: الصدق

 والآية الثانية تقول إنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادّعاءات، بل هم رجال حقّ وجهاد، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرة. وفي مرحلة أخرى يصفهم سبحانه بالصدق. ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع، إلا أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الأمور: بالإيمان، وفي محبة الرسول، وفي التزامهم بمبدأ الحق1.


2- الصدق في الأحوال، في النيات: 
وهذا يستلزم أن تكون بواعث الأعمال والأقوال كلّها لله عزّ وجلّ، وأن يكون ظاهر العبد معبراً عن باطنه. فالصدق في الأحوال يقتضي الإخلاص، وهو تمحيص النية وتخليصها لله، بألّا يكون للإنسان هدف من وراء طاعته وعبادته إلّا رضا الله والتقرب إليه. قال الله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾2.

3- الصدق في الأقوال: 
الصدق في القول هو الإخبار عن الأشياء على ما هي عليه. وهو يستوجب على المؤمن أن يحفظ لسانه فلا يتكلّم إلا بصدق ولا ينطق إلّا بحق، فأحسن الكلام ما صدق فيه قائله، وانتفع به سامعه. كما ورد عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قَالَ: "ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّه والْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ"3

4- الصدق في الأعمال: 
يتحقّق الصدق في العمل من خلال ثلاث علامات هي: 
أ- مطابقة ظاهر العمل باطنه، من استواء السريرة والعلانية، فيكون الباطن مثل الظاهر، أو خيرًا منه، فتكون الأعمال الصالحة الظاهرة التي يقوم بها المسلم ترجمة صادقة لما هو مستقرّ في باطنه. بمعنى آخر تكون سريرته وعلانيته واحدة.

ب- إتقان العمل الصالح الذي يقوم به المؤمن، من خلال أداء الأعمال والحقوق كاملة مُوَفّرة، فلا يبخس ولا يغشّ ولا يخادع ولا يظلم.
 

1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ج18، ص 192.
2- سورة البينة، الآية 5.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 667، باب حق الجوار، ح6.
 
41

30

الدرس الثالث: الصدق

 ج- أن يكون العمل طاعة لله ولأوامره ونواهيه، من خلال الأخذ بكتابه مقتدياً بسنّة رسوله ونهج أهل بيته.


5- الصدق في العزم: 
والمقصود بالصدق في العزم أن يكون جازماً وعازماً على الخير دوماً وثابتاً عليه. فإذا عزم على أمر ما كأن يتصدّق إذا خلّصه الله تعالى من بلية ابتلي بها، فإن كان في باطنه جازماً على هذا العزم، ومصمماً على العمل بمقتضاه كان عزمه صادقاً، وكتب في الصادقين. وأمّا لو تغلبت عليه نفسه ولم يفِ بما عزم عليه لم يكن صادقاً ولا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾1.

علامات الصادقين
لقد بيّن القرآن في تضاعيف آياته الكريمة علامات الصادقين في العديد من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾2.

وفيما يلي نعدّد العلامات الستّ الأساسية التي ذكرتها الآية الكريمة وهي: 
العلامة الأولى: الإيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإلهيّ، والنبيين الدعاة إلى هذا المنهج.

العلامة الثانية: الإنفاق بعد الإيمان، وهو قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾.

العلامة الثالثة: إقامة الصلاة. وهي قوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلاَةَ﴾.

العلامة الرابعة: أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.
 

1- سورة الأحزاب، الآية 23.
2- سورة البقرة، الآية 177.
 
 
 
42

31

الدرس الثالث: الصدق

 العلامة الخامسة: الوفاء بالعهد: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعية. وترك الوفاء بالعهد من الذنوب التي تزلزل الثقة وتوهن عرى العلاقات الاجتماعية، من هنا وجب على المسلم أن يلتزم بثلاثة أمور تجاه المسلم والكافر، وإزاء البرّ والفاجر، وهي: الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، واحترام الوالدين.


العلامة السادسة: الصبر: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ﴾.

ثمّ تؤكّد الآية على أهمية الأسس الستة وعلى عظمة من يتحلّى بها، فتقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

الملفت للنظر أنّ الصفات الستّ المذكورة تشمل الأصول الاعتقادية والأخلاقية والمناهج العملية. فتضمّنت الآية كلّ أسس العقيدة، وكذلك أشارت إلى الإنفاق والصلاة والزكاة بين المناهج العملية، وهي أسس ارتباط المخلوق بالخالق، والمخلوق بالمخلوق. وفي الحقل الأخلاقيّ ركزت الآية على الوفاء بالعهد، وعلى الصبر والاستقامة والثبات، وهي أساس كلّ الصفات الأخلاقية السامية1، لتختم الآية مؤكّدة أنّ هذه هي صفات الصادقين.
 

1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص 499-500.
 
 
 
43

32

الدرس الثالث: الصدق

 المفاهيم الرئيسة


1- الصدق هو مطابقة القول للواقع الذي هو عليه. وهو أشرف الصفات المرضية، ورئيس الفضائل النفسية، وما ورد في مدحه وعظم فائدته من الآيات والأخبار مما لا يمكن إحصاؤه. قال الله سبحانه: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾1.

2- اللّسان هو أحد أهمّ أدوات التفاهم والتواصل بين البشر، والترجمان العمليّ لأفكارهم وما يدور في خلدهم، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع والأفراد. وعلى صدق اللّسان وكذبه تبنى سعادة المجتمع وشقاؤه, فهو العمود الفقريّ لمجتمع معافىً وسليمٍ من الأحقاد والتنازع.

3- الصدق في القرآن الكريم من المفاهيم المحورية في المنظومة القيمية التربوية. وقد حثّ القرآن الكريم على هذه القيمة الرفيعة بأساليب متعدّدة وطرق مختلفة، واستهدفها في مناسبات متنوّعة ومتعدّدة.

4- للصدق أقسام متعدّدة منها: الصدق مع الله, الصدق في الأحوال، في النيات, الصدق في الأقوال, الصدق في الأعمال, الصدق في العزم.

5- لقد بيّن القرآن علامات الصادقين في العديد من الآيات القرآنية وهي: الإيمان بالمبدأ، والمعاد، والملائكة المأمورين من قبل الله، والمنهج الإلهيّ، والنبيين, الإنفاق, إقامة الصلاة, أداء الزكاة والحقوق المالية الواجبة, الوفاء بالعهد, والصبر.
 

1- سورة التوبة، الآية 119.
 
 
44

33

الدرس الرابع: كتمان السر

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح أهمّية كتمان السرّ وآثاره على الفرد والمجتمع. 
2- يشخّص بدقّة أحكام إفشاء السرّ وموارده.
3- يتعرّف إلى الدوافع النفسية والاجتماعية لإفشاء السرّ ويعمل على معالجتها.
 
 
 
 
 
45

34

الدرس الرابع: كتمان السر

 تمهيد

إنّ صيانة السرّ والمبالغة في كتمانه هي فضيلة من أسمى الفضائل وخصلة من أكرم الخصال وخلّة من خلال المروءة، وآية من آي الشرف والعقل وسمة من سمات المجد والرشد. فما هو معنى كتمان السرّ؟ وما حكم إفشائه؟ وغيرها من الأسئلة التي نحاول الإجابة عنها في هذا الدرس.

معنى كتمان السرّ
السِّرِّ لُغَةً: مَا يُكْتَمُ فِي النَّفْسِ، وَالْجَمْعُ أَسْرَارٌ وَسَرَائِرُ. وَأَسَرَّ الشَّيْءَ: كَتَمَهُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ مِنَ الأْضْدَادِ1. قَال الرَّاغِبُ: الإْسْرَارُ خِلاَفُ الإْعْلاَنِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الأْعْيَانِ وَالْمَعَانِي2. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللّغَوِيِّ3

وكتمان السرّ: هو أن يضبط الكلام من الإنسان عن إظهار ما يضمره ممّا يضرّ به إظهاره وإبداؤه قبل وقته. فهو الصبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره. 

السرّ في القرآن الكريم
المتتبّع لآيات القرآن يجد أن كلمة السرّ ومشتقاتها قد وردت ثلاثين مرّة في أربع وعشرين سورة4.
 

1- راجع: الزبيدي، تاج العروس، ج6، ص 511، سرر.
2- الراغب الأصفهاني، حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، بيروت، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، 1412هـ.، ط 1، ص 404، سرر.
3- راجع: الموسوعة الفقهية الميسرة، الشيخ محمد علي الأنصاري، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1422هـ، ط 1، ج4، ص 288.
4- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص 428.
 
 
 
 
47

35

الدرس الرابع: كتمان السر

 وأبان القرآن أنّ السرّ ضدّ العلانية، يقول تعالى: ﴿أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾1. والسرّ خلاف الجهر ﴿وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا﴾2، ﴿وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾3.


والكتمان هو السرّ وخلاف الجهر والإفشاء، ففي الآية ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾4, ويقول تعالى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾5.

وهناك آيات كثيرة حثّت على حفظ السرّ وآيات أخرى تحدّثت عن أنبياء وأولياء حفظوا أسرارهم فكانت لهم النجاة في الدنيا قبل الآخرة, نالوا خير الدنيا والآخرة. فعندما أسرَّت أمّ النبيّ موسى عليه السلام أمر ولادة نبي الله عليه السلام, وكتمت سرَّ ولادته, وألقته في اليم: 
﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾6، كان الجزاء الإلهيّ: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾7. وحين قصَّ نبيّ الله يوسف عليه السلام رؤياه على أبيه النبيّ يعقوب عليه السلام, أوصاه بحفظ السر وألاَّ يقصص على إخوته ما رآه: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾8 حَفِظَ نبيّ الله عليه السلام السرّ وعمل بالوصية وكان الجزاء الإلهيّ: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾9,﴿وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾10.
 

1- سورة البقرة، الآية 77.
2- سورة النحل، الآية 75.
3- سورة الأنعام، الآية 3.
4- سورة البقرة، الآية 33.
5- سورة الأنبياء، الآية 110.
6- سورة القصص, الآية 10.
7- سورة القصص, الآية 13.
8- سورة يوسف, الآية 5.
9- سورة يوسف, الآية 56. 
10- سورة يوسف, الآية 57.
 
 
 
 
48

 


36

الدرس الرابع: كتمان السر

 وهذا ممّا يدلّ على ما لحفظ الأسرار من فوائد عظيمة. هذا فضلاً عن الآيات الكثيرة التي تأمر الإنسان بعدم الإكثار من الكلام، وتبيّن أنّ الإنسان محاسب على كلّ كلمة يقولها، ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾1.


موارد الكتمان
توجد موارد كثيرة لكتمان السرّ، منها ما يتعلّق بالجانب الشخصيّ والعائليّ، ومنها ما يرتبط بالجانب السياسيّ والاقتصاديّ، ومنها ما يرتبط بالجانب الأمنيّ والعسكريّ، والجانب الدينيّ: 
1- الجانب الشخصيّ والعائليّ: ففيما يرجع إلى حياة الانسان اليومية والعائلية، والتي تبقى على حفظ بعض الاسرار الخاصة، والخاضعة للتبدّل والتغيّر، فمن كتم سره أمكنه تجنب الأخطاء. يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾2. ومحصّل معنى الآية الشريفة: وإذ أفضى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض أزواجه حديثاً وأوصاها بكتمانه فلمّا أخبرت به غيرها وأفشت السرَّ خلافاً لما أوصاها به، وأعلم الله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّها نبّأت به غيرها وأفشت السرّ, عرف وأعلم بعضه وأعرض عن بعض آخر، فلمّا خبرها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث قالت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: من أنبأك وأخبرك أنّي نبّأت به غيري وأفشيت السرّ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: نبأني وخبّرني العليم الخبير وهو الله العليم بالسرّ والعلانية الخبير بالسرائر3.

ويتضح لنا من خلال مفهوم الآية أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن إفشاء الاسرار العائلية والشخصيّة, وأمر بحفظها.

2- الجانب السياسيّ والاقتصاديّ: وهو خاص بالعاملين في هذا المجال، وعليهم التحرّز من إفشاء أيّ معلومة يمكن لها أن تضرّ بمصالح المسلمين. وقد ورد في قصة
 

1- سورة ق، الآية 18.
2- سورة التحريم، الآية 3.
3- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن, ج19, ص 331.
 
 
 
49

37

الدرس الرابع: كتمان السر

 نبيّ الله يوسف عليه السلام أنَّه عليه السلام ركّز من بين جميع مناصب الدولة على منصب الإشراف على الخزانة, وذلك لعلمه أنّه إذا نجح في ترتيب اقتصاد مصر، فإنّه يتمكّن من إصلاح كثير من المفاسد الاجتماعية، كما أنّ تنفيذه للعدالة الاقتصادية يؤدّي إلى سيطرته على سائر دوائر الدولة وجعلها تحت إمرته. والنبيّ يوسف عليه السلام أخبر الملك بمؤهّلاته الإداريّة وبأنَّه حفيظ عليم, قال تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾1. وهذه إشارة إلى أهمية عنصر الإدارة إلى جانب عنصر الأمانة, لكونه قرن ال‍ ﴿عَلِيمٌ﴾ مع ال﴿حَفِيظٌ﴾‍. وكثيراً ما نشاهد الأضرار الناتجة عن الخيانة لا تقلّ بل تزيد على الخسائر الناتجة عن سوء الإدارة2. فالأمانة وكتمان الأسرار الإقتصادية, والسياسية, والإداريَّة من أبرز شروط النجاح والظفر.


3- الجانب الأمنيّ والعسكريّ: ولعلّه أكثر الموارد أهمية لكتمان السرّ، لأنّ العدوّ يستفيد من المعلومات المفشاة بسرعة، ويلحق الضرر بالمسلمين. فلا يجوز نقل وبثّ وذكر المعلومات والخطط والأسرار المتعلّقة بالعمل الجهاديّ والعسكريّ والأمنيّ مهما كان نوع وحجم تلك المعلومات، والخطط والأسرار، وعبر أيّ وسيلة كانت ولأيّ شخص كان. ولو أدّى نقل المعلومات إلى أثرٍ ما على المسيرة الجهاديّة أو كان سبباً في استشهاد أو جرح بعض الأشخاص، فإنَّ ذلك يعدّ مشاركةً في إراقة دمائهم3.

ومن جهة ثانية لا يجوز إخفاء المعلومات التي تتعلّق بالعمل الجهاديّ والعسكريّ والأمنيّ عن الجهات المعنيّة سواء طلبت تلك الجهات هذه المعلومات أم لم تطلبها من الذين يمتلكونها، بل يجب على كلّ من توافرت لديه معلومات تتعلّق بالعمل الجهاديّ، وحفظ المسيرة الجهادية أن يبلّغها للجهات المختصّة4.
 

1- سورة يوسف, الآية 55.
2- أنظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 7, ص 242-243. 
3- أنظر: إستفتاءات الامام الخميني, ج3, ص 53, س44.
4- أنظر: الاستفتاء الخطي من الأرشيف رقم 45261.
 
 
50

38

الدرس الرابع: كتمان السر

 معنى إفشاء السرّ

إذا كان الحفاظ على السرّ واجبًا فإن إفشاء السرّ حرام لأنّه يؤدّي إلى ضرر، فإنّ اختيار سرّيته دليل على أن إفشاءه فيه ضرر، والضرر ممنوع شرعًا - كما أن إفشاءه يكون خيانة حيث يكون السرّ أمانة، ويكون غدراً بالعهد وعدم وفاء بالوعد، إذا كان هناك وعد أو عهد بصيانته. 

وبالعنوان العام كلّ سرّ تؤدّي إذاعته أو إفشاؤه إلى مفسدة سواء على المستوى الفرديّ أم الاجتماعيّ، أو العمليّ, فهذا السرّ يجب كتمانه من باب حرمة الإضرار بالنفس أو الآخرين أو إيذائهم فلا يعطى هذا السرّ إلى من يمكن أن تترتّب على إعطائه له محاذير وأضرار. 

ويقابل كتمان السرّ إفشاء السرّ: أي نشره وإظهاره، وهو نقيض الحفظ والكتمان، ويطلق على عملية الإفشاء الإذاعة كما ورد في القرآن والروايات.

وقد ورد في رواية العقل والجهل "والْكِتْمَانُ وضِدُّه الإِفْشَاءُ"1.

إفشاء السرّ من الناحية الفقهية2
يختلف حكم الإفشاء باختلاف متعلّقه, فقد يحرم أو يجب. وفيما يلي نذكر موارد الحرمة والوجوب, والموارد المستثناة من حكم التحريم: 
1- الإفشاء المحرم: 
يحرم الإفشاء في عدة موارد نشير إليها إجمالاً، وهي: 
أ- إفشاء سرّ المؤمن وإذاعته: 
المراد من السرّ في هذه الموارد ما لا يرضى صاحبه بكشفه وإظهاره، سواء كان قولاً، أو فعلاً، أو حالة. وسواء كان السرّ بين اثنين أو أكثر.

ويدخل ضمن هذا الإطار المستشارون بجميع رتبهم وأعمالهم ومن لهم - بحسب مهنتهم - اطّلاع على أسرار الناس المالية والجسمية والروحية، كالعلماء لكثرة رجوع الناس
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 22، كتاب العقل والجهل، ح 14.
2- أنظر: الموسوعة الفقهيّة الميسرة, الشيخ محمد علي الأنصاري, ج 4, ص 288.
 
 
 
 
51

39

الدرس الرابع: كتمان السر

 إليهم وطرح مشاكلهم لهم، والأطباء، والقضاة، وموظفي البنوك ودوائر الأحوال الشخصية، ونحوهم.


وقد ورد النهي الشديد عن إفشاء سرّ المؤمن وإذاعته، وهناك روايات كثيرة في هذا المجال نكتفي بروايتين: 
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "الْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ ولَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُحَدِّثَ بِحَدِيثٍ يَكْتُمُه صَاحِبُه إِلَّا بِإِذْنِه إِلَّا أَنْ يَكُونَ ثِقَةً أَوْ ذِكْراً لَه بِخَيْرٍ"1.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: "يُحْشَرُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ومَا نَدِيَ دَماً فَيُدْفَعُ إِلَيْه شِبْه الْمِحْجَمَةِ2 أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ فَيُقَالُ لَه هَذَا سَهْمُكَ مِنْ دَمِ فُلَانٍ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّكَ قَبَضْتَنِي ومَا سَفَكْتُ دَماً فَيَقُولُ بَلَى سَمِعْتَ مِنْ فُلَانٍ رِوَايَةَ كَذَا وكَذَا فَرَوَيْتَهَا عَلَيْه فَنُقِلَتْ حَتَّى صَارَتْ إِلَى فُلَانٍ الْجَبَّارِ فَقَتَلَه عَلَيْهَا وهَذَا سَهْمُكَ مِنْ دَمِه"3.

ب- إفشاء الفاحشة: 
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾4. إنّ الله جلّ وعزّ لا يحب أن تشيع الفاحشة بحال، سواء أكان المشيع والمذيع فاعلها أم غيره، وسواء أكانت حقاً أم باطلاً. وإشاعة الفاحشة: تعني إفشاؤها.

فقد ورد النهي عن إشاعة الفحشاء وتفسيرها بإفشاء السر في روايات عديدة، فمنها: ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا رَأَتْه عَيْنَاه وسَمِعَتْه أُذُنَاه فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾5.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 660، باب المجالس بالأمانة، ح3.
2- "ما ندى دما" في بعض النسخ مكتوب بالياء وفى بعضها بالألف وكأن الثاني تصحيف ولعله "ندى" بكسر الدال مخففا و"دما" اما تمييز أو منصوب بنزع الخافض، أي ما ابتل بدم وهو مجاز شائع بين العرب والعجم.قال في النهاية: فيه من لقي الله ولم ينتد من الدم الحرام بشيء دخل الجنة أي لم يصب منه شيئاً ولم ينله منه شيء كأنه نالته نداوة الدم وبلله، يقال: ما نديني من فلان شيء أكرهه ولا نديت كفى له بشيء وقال الجوهري: المنديات: المخزيات يقال: ما نديت بشيء نكرهه. وقال الراغب: ما نديت بشيء من فلان أي ما نلت منه ندى ومنديات الكلم, المخزيات التي تفرق. أقول: يمكن أن يقرأ على بناء التفعيل فيكون "دما" منصوبا بنزع الحافض. والمحجمة: قارورة الحجام.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 370، باب الإذاعة، ح3.
4- سورة النور، الآية 19.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 357، باب الغيبة والبهت، ح2.
 
 
 
52

40

الدرس الرابع: كتمان السر

 2- ما يستثنى من حرمة الإفشاء: 

استثنى الفقهاء من حرمة إفشاء السرّ عدّة موارد، يجمعها أن تكون مصلحة الإفشاء في ذلك المورد أعظم من مصلحة الستر وعدم الإفشاء، ومن تلك الموارد: 
أ- الحكم والشهادة والإفتاء: يجوز إفشاء السرّ - إذا كان لازماً - عند الحاكم سواء كان الفاشي هو صاحب الدعوى أو الشاهد. بل يجب على الشاهد الإفشاء لو توقّفت الشهادة والحكم عليه، كما لو رأى الجاني حين جنايته سراً، أو أقرّ المديون بدينه عنده سراً. وكذا لو استلزم الاستفتاء ذكر شخص مع ما يختصّ به من صفة أو حالة.

ب- جرح الشهود: يجوز إفشاء ما يوجب فسق الشاهد عند الحاكم، لكي لا يحكم طبقاً لشهادة فاسدة، بل يجب لو طلب منه ذلك، لأنه من أداء الشهادة، وهي واجبة كما تقدّم.

ج- نصح المستشير: نصح المستشير واجب، فإذا استلزم ذلك إفشاء السرّ جاز، بل وجب، كما إذا أراد شخص أن يتزوج بامرأة فاستشار من يعلم بخصائصها الروحية والجسمية والاعتقادية، فأبرز المشير من خصائصها ما كان خفياً على المستشير.

د- إبطال البدع والأباطيل: إذا توقّف إبطال بدعة على إفشاء أسرار مبتدعها للناس، لكي يبتعدوا عنه ولا يضلوا بسببه جاز، بل وجب.

3. الإفشاء الواجب:
إنّما يجب إفشاء السرّ إذا كانت مصلحة الإفشاء أكثر من مصلحة الستر، كبعض الحالات التي ذكرناها في مستثنيات حرمة الإفشاء، مثل الشهادة والاستشارة وإبطال بدعة المبتدع, ونحوها مما لا يمكن حصره فعلاً. 

دوافع إفشاء السرّ
لماذا نفشي الأسرار؟ وما هي الدوافع والأسباب وراء ذلك؟
1- العُجب والفخر والزهو وذلك بإظهار علمه بشيء لا يعلمه غيره.

2- من طبيعة الإِنسان حبُّه إتيان ما مُنع منه، فإنّ المحظور يُغري بارتكابه إن لم تكن هناك عصمة من خُلق أو دين.
 
 
 
 
53

41

الدرس الرابع: كتمان السر

 3- النكاية أو التشهير، فإنّ إفشاء السرّ يؤذي صاحب السرّ إيذاء شديداً. والسرّ سلاح خطير قد يستعمل في الشرّ إن لم يكن هناك خلق أو دين. ونرى ذلك حين عداوة الأصدقاء أو عندما يطلق الرجل زوجته فتفشي الأسرار نكاية وحقدًا.


4- الاستفادة من هذه الأسرار التي عرفها فهي معلومات يمكن له أن ينتهزها فرصة ويستعملها في خير يفيده.

5- الخيانة، فإفشاء الأسرار والمعلومات السريّة إلى العدوّ من باب الخيانة وبيع النفس لأعداء الأمَّة.

فوائد كتمان السرّ
لكتمان السرّ فوائد عديدة تربوية وعملية نشير إلى بعضها: 
1- تحقيق النصر: 
إن كتمان السرّ عامل مهم في تحقيق النصر، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "الظَّفَرُ بِالْحَزْمِ والْحَزْمُ بِإِجَالَةِ الرَّأْيِ والرَّأْيُ بِتَحْصِينِ الأَسْرَارِ"1. معنى الحزم لغةً: ضبط الرّجل أمره وأخذه بالثقة، والمقصود من الإجالة: الإدارة.

وقد بيّن عليه السلام في هذا الحديث سبيل الظّفر بالمقاصد في ميادين النضال والمبارزة سواء كانت في المعارك واقعةً بين خصمين مع السّلاح والعتاد، أو في ميادين الحرب الباردة.
وأفاد عليه السلام أنّ مبدأ الظفر الأصليّ هو كتمان الأسرار وضبطها وحفظها من مظانّ تطلع الخصم، وإجالة الرأي إشارة إلى طرح البرامج وإقامة الإجتماعات للتشاور في شتّى جوانب النضال, فباجالة هؤلاء الرّجال آراءهم في شتّى نواحي المبارزة والقتال يتحصّل الحزم والنّظر الصّائب في العواقب، ويتمّ تنظيم الأمور بحيث تصل إلى المطلوب، وتتحقق الأهداف2.
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 477، حكمة رقم 48.
2- أنظر: الهاشمي الخوئي، الميرزا حبيب الله‏، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة وتكملة منهاج البراعة، ترجمة حسن حسن زاده الآملي، ومحمد باقر كمرئي، تحقيق وتصحيح إبراهيم‏ ميانجي، طهران، ‏المكتبة الإسلامية، 1400هـ، ط 4، ج 21, ص 87-88.
 
 
 
54

 


42

الدرس الرابع: كتمان السر

 2- الحفاظ على التوازن المعنويّ للمجتمع: 

لإنّ إفشاء الأسرار قد يؤدّي إلى إيجاد حالات من البلبلة في المجتمع. يقول تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾1.

وتشير هذه الآية إلى حركة منحرفة من حركات المنافقين أو ضعاف الإيمان، تتمثّل في سعيهم إلى تلقّف أيّ نبأ عن انتصار المسلمين أو هزيمتهم، وبثّه بين الناس في كلّ مكان، دون التحقيق والتدقيق في أصل هذا النبأ أو التأكّد من مصدره، وكان الكثير من هذه الأنباء لا يتعدّى الإشاعة قد عَمَد أعداء المسلمين إلى بثّها، لتحقيق أهدافهم الدنيئة, وليسيئوا إلى معنويات المسلمين ويضروا بهم, بينما كان من واجب هؤلاء أن يوصلوا هذه الأخبار إلى قادتهم المحيطين بالأمور, القادرين على أن يوضّحوا للناس ما كان حقيقياً منها وما كان إشاعة فارغة. وهم النبيّصلى الله عليه وآله وسلم, وخلفاؤه من أئمّة أهل البيت عليهم السلامبالدّرجة الأولى, ويأتي من بعدهم العلماء المتخصّصون في هذه المسائل2.

3- نجاح الأمور: 
أمرت الروايات بالكتمان في قضاء الحاجات فكيف إذا كان ما نكتمه من الأسرار فالأمر فيه أولى وآكد، فعن الإمام عليعليه السلام قال: "اَنْجَحُ الْاُمُورِ مَا اَحَاطَ بِهِ الْكتْماَنُ"3. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "استعينوا على أموركم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود"4. فالكتمان ضرورة, وواجب في كثير من الأحيان من الزاوية الشرعية لحفظ كرامة الآخرين.. وضرورة للحفاظ على النفس.. وضرورة للحفاظ على الآخرين.. وضرورة لنجاح الكثير من المشاريع التي يجب إن لا تسلّط عليها الأضواء, والملاحقات من قبل الآخرين، وتدخّلاتهم السلبية, وفضول الكثير من الناس.. وفي جلّ الناس شيء من الفضول...5.
 
 

1- سورة النساء، الآية 83.
2- أنظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏3, ص 348. 
3- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 123.
4- ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قم، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، 1404هـ.، ط 2، ص 48.
5- ينظر: الشيخ حسن معن، النظرات حول الإعداد الروحي، لا.م، لا.ن، لا.ت، لا.ط، ص 250.
 
 
 
55

43

الدرس الرابع: كتمان السر

 4- توثيق الصلة بالإخوان: 

كتمان السرّ يوثق صلة الإنسان بأخيه حين يحفظ أسراره، وحيث يثق الإنسان بأنّ صاحبه يحفظ أسراره يمهّد ذلك له استشاره فيما لا يحبّ أن يطلع عليه الناس.

عواقب إفشاء السرّ
إنّ انتشار السرّ فيه مخاطر عديدة منها: 
1- إفشاء السرّ قد يؤدّي إلى القتل: 
فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾1.

فَقالَ: "أَمَا والله مَا قَتَلُوهُمْ بِأَسْيَافِهِمْ ولَكِنْ أَذَاعُوا سِرَّهُمْ وأَفْشَوْا عَلَيْهِمْ فَقُتِلُوا"2.

2- الذلّ في الدنيا وعدم النور في الآخرة: 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "...يَا مُعَلَّى مَنْ أَذَاعَ أَمْرَنَا ولَمْ يَكْتُمْه أَذَلَّه الله بِه فِي الدُّنْيَا ونَزَعَ النُّورَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْه فِي الآخِرَةِ وجَعَلَه ظُلْمَةً تَقُودُه إِلَى النَّارِ..."3. وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "مَا قَتَلَنَا مَنْ أَذَاعَ حَدِيثَنَا قَتْلَ خَطَأٍ ولَكِنْ قَتَلَنَا قَتْلَ عَمْدٍ"4.

3- إيذاء الآخرين: 
إفشاء السرّ يؤدّي إلى إيذاء وإهانة بحقّ الأصدقاء أو غيرهم من المسلمين، وهو من رذائل قوة الغضب إن كان منشأه العداوة، ومن رذائل قوة الشهوة إن كان منشأه تصوّر نفع ماليّ، أو مجرّد اهتزاز النفس بذلك لخباثتها5.
 

1- سورة آل عمران، الآية 112.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 371، باب الإذاعة، ح7.
3- م.ن، ص 224، باب الكتمان، ح8.
4- م.ن، ص 370، باب الإذاعة، ح4.
5- النراقي، ملا محمد مهدي، جامع السعادات، تحقيق وتعليق السيد محمد كلانتر، تقديم الشيخ محمد رضا المظفر، النجف الأشرف، دار النعمان للطباعة والنشر، لا.ت، لا.ط، ج 2، ص 210.
 
 
 
56

 


44

الدرس الرابع: كتمان السر

 4- إفشاء السرّ ضرر في كثير من المجالات: 

إفشاء السر موجب للضغينة، موقع في الحرج، مفرق بين الأحبة، مخرّب للأسرة، مسبّب اضطراب الأمن، ممكِّن للعدو من النيل من الإِنسان أو الجماعة، فقد يكون عند الإِنسان ثروة لو عرف الغير سرها لأغرت اللصوص أو أكثرت الحساد عليه، وقد يكون مشروع علمي لو اطّلع الغير عليه لسبقه إليه أو تخطيط حربيّ لو عرفه العدوّ لأفاد منه.

نصائح لمعالجة إفشاء السرّ
يمكن القول إنّ إفشاء السرّ يكون إمّا لطبيعة في النفس، وإمّا لإرادة الشرّ للغير، أو حبّ الخير للنفس.

وعلى الإنسان المؤمن أن يقوم بتربية نفسه على الخير والبعد عن الظُّلم في إفشاء الأسرار وحتى يعوِّد المرء نفسه على حفظ السر عليه: 
أولاً: مراقبة الله وهو موقن بأنّه سبحانه مطّلع على كلّ خافية فلا يعصيه بإفشاء سرّ استؤمن عليه.

ثانيًا: حبّ الخير لكلّ مسلم ومعرفة أنّ هناك ضررًا قد يقع على صاحب السرّ إذا أظهره.

ثالثًا: استشعار الضرر الذي يقع على المسلم من جراء إفشاء سره فلربما لحقه أذى عظيمٌ من جراء إفشاء سره فقد تكون زوجة تطلّق أو موظفًا ينال منه أو قريبًا يهجر أو صديقًا فتنقطع المودة.

رابعًا: إن إفشاء السرّ مظلمة لأخيك يجدها يوم القيامة ويحاجُّك بها عند الله.

خامسًا: من صفات الأخوة المحافظة على العهد والوعد وعدم إفشاء ما يسمع من أخيه المسلم.

سادسًا: إنّك بإفشاء السرّ تفقد نعمة عظيمة وهي نعمة مشاورة الناس لك واختيارهم إياك وثقتهم فيك!.
 
 
 
 
57

45

الدرس الرابع: كتمان السر

 المفاهيم الرئيسة


1- السِّرِّ لُغَةً: مَا يُكْتَمُ فِي النَّفْسِ، وَالْجَمْعُ أَسْرَارٌ وَسَرَائِرُ. وَأَسَرَّ الشَّيْءَ: كَتَمَهُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ مِنَ الأْضْدَادِ1. قَال الرَّاغِبُ: الإْسْرَارُ خِلاَفُ الإْعْلاَنِ، وَيُسْتَعْمَل فِي الأْعْيَانِ وَالْمَعَانِي2. وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُغَوِيِّ3

2- إنَّ المتتبّع لآيات القرآن يجد أن كلمة السرّ ومشتقاتها قد وردت ثلاثين مرّة في أربع وعشرين سورة4.

3- توجد موارد كثيرة لكتمان السرّ، منها ما يتعلّق بالجانب الشخصيّ والعائليّ، ومنها ما يرتبط بالجانب السياسيّ والاقتصاديّ، ومنها ما يرتبط بالجانب الأمنيّ والعسكريّ، والجانب الدينيّ.

4- يقابل كتمان السرّ نشره وإظهاره، وهو نقيض الحفظ والكتمان، ويطلق على عملية الإفشاء الإذاعة كما ورد في القرآن والروايات. وقد ورد في رواية العقل والجهل "والْكِتْمَانُ وضِدُّه الإِفْشَاءُ"5.

5- يختلف حكم الإفشاء باختلاف متعلّقه, فقد يحرم أو يجب.

6- يحرم الإفشاء في عدة موارد نشير إليها إجمالاً، وهي: إفشاء سرّ المؤمن وإذاعته,إفشاء الفاحشة.

7- ما يستثنى من حرمة الإفشاء: الحكم والشهادة والإفتاء, جرح الشهود, نصح المستشير, إبطال البدع والأباطيل.

8- من دوافع إفشاء السرّ: العُجب والفخر ,النكاية أو التشهير,الخيانة.

9- لكتمان السرّ فوائد عديدة تربوية وعملية هي: تحقيق النصر, الحفاظ على التوازن المعنويّ للمجتمع, نجاح الأمور.توثيق الصلة بالإخوان.

10- إنّ انتشار السرّ فيه مخاطر عديدة منها أنَّ إفشاء السرّ قد يؤدّي إلى القتل والذلّ في الدنيا وعدم النور في الآخرة, كما أنَّه يُعدُّ إيذاء الآخرين, وضرر في كثير من المجالات.
 

1- راجع: الزبيدي، تاج العروس، ج6، ص 511، سرر.
2- الراغب الأصفهاني، حسين بن محمد، مفردات ألفاظ القرآن، بيروت، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، 1412هـ.، ط 1، ص 404، سرر.
3- راجع: الموسوعة الفقهية الميسرة، الشيخ محمد علي الأنصاري، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1422هـ، ط 1، ج4، ص 288.
4- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي، ص 428.
5- الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 22، كتاب العقل والجهل، ح 14.
 
 
 
 
 
59

46

الدرس الخامس: الأمانة

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستنتج مقام الأمانة ومحوريّتها في القرآن.
2- يستدلّ على أنّ الأمانة وصدق الحديث هما الأساس في بناء الشخصية الإيمانية.
3- يتعرّف إلى خطورة الخيانة وآثارها في الدنيا والآخرة.
4- يستنتج آثار خيانة بيت المال من كلام الإمام عليّ عليه السلام.
 
 
 
 
59

47

الدرس الخامس: الأمانة

 تمهيد

(الأمانة) من أهمّ الفضائل الأخلاقية والقيم الإسلامية والإنسانية والتي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وقد أولاها علماء الأخلاق أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصية، وعلى العكس من ذلك (الخيانة) التي تعدّ من الذنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقية في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي.

تعريف الأمانة لغةً واصطلاحاً
الأمانة لغةً: الأمن والسكون ورفع الخوف والوحشة والاضطراب1.

الأمانة اصطلاحاً: هي كلّ حقّ لزمك أداؤه وحفظه2.

وقيل هي: التعفّف عمّا يتصرّف الإنسان فيه من مال وغيره، وما يوثّق به عليه من الأعراض والحرم مع القدرة عليه، وردّ ما يستودع إلى مودعه3.

الأمانة في القرآن
هناك آيات متعدّدة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة ولزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي, ومن هذه الموارد نذكر: 
1- وجوب مراعاة وحفظ الامانة بصورة مطلقة: 
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾4.
 

1- الشيخ حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج1، ص 150.
2- المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، تصحيح أحمد عبد السلام، بيروت، دار الكتب العلمية، 1415هـ - 1994م، ط 1، ج1، ص 288.
3- تهذيب الأخلاق، الجاحظ، ص 24.
4- سورة المؤمنون، الآية 8، سورة المعارج، الآية32.
 
 
 
 
61

48

الدرس الخامس: الأمانة

 إنّ (الأمانات) الواردة في هذه الآية ذكرت بصورة الجمع، وهي إشارة إلى أنّ الأمانة لها أنواع وأشكال مختلفة. والكثير من المفسّرين ذكروا أنّ مفهوم الأمانة في هذه الآية لا يقتصر على الأمانة المالية بل يشمل الأمانات المعنوية كالقرآن الكريم والدين الإلهي والعبادات والوظائف الشرعية، وكذلك النعم الإلهية المختلفة على الإنسان في حركة الحياة المادية والمعنوية.


2- خيانة أمانة النفس خيانةٌ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: 
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾1.

الآية كما هو واضح تنهى عن ثلاثة أشياء مخاطبة المؤمنين في هذا النهي وهي: خيانة الله، خيانة الرسول، خيانة أمانات الناس. 

الخيانة هي نقض الأمانة التي هي حفظ الأمن لحق من الحقوق بعهد أو وصية ونحو ذلك. قال الراغب: الخِيَانَة والنّفاق واحد، إلا أنّ الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنّفاق يقال اعتباراً بالدّين، ثم يتداخلان، فالخيانة: مخالفة الحقّ بنقض العهد في السّرّ. ونقيض الخيانة: الأمانة، يقال: خُنْتُ فلاناً، وخنت أمانة فلان، وعلى ذلك قوله: ﴿لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ﴾2.

فقوله: ﴿لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ﴾ نهي عن خيانة أمانة الله ورسوله وهي بعينها خيانة لأمانة المؤمنين أنفسهم، فإن من الأمانة ما هو أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده، ومنها ما هو أمانة الرسول كسيرته الحسنة، ومنها ما هو أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم أو اسرارهم، ومنها ما يشترك فيه الله ورسوله والمؤمنون، وهي الأمور التي أمر بها الله سبحانه وأجراها الرسول وينتفع بها الناس ويقوم بها صلب مجتمعهم كالأسرار السياسية والمقاصد الحربية التي تضيع بإفشائها آمال الدين وتضلّ بإذاعتها مساعي الحكومة الإسلامية فيبطل به حقّ الله ورسوله ويعود ضرره إلى عامة المؤمنين.
 

1- سورة الأنفال، الآية 27.
2- الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 305، مادة "خون".
 
 
 
62

49

الدرس الخامس: الأمانة

 فهذا النوع من الأمانة خيانته خيانة لله ورسوله وللمؤمنين. فالخائن بهذه الخيانة يخون الله والرسول وهو يعلم أنّ هذه الأمانة التي يخونها أمانة لنفسه ولسائر إخوانه المؤمنين، وهو يخون أمانة نفسه. فالمراد بقوله: ﴿وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي وتخونوا في ضمن خيانة الله والرسول أماناتكم، والحال إنّكم تعلمون أنّها أمانات أنفسكم ومع هذا تخونونها. وأيّ عاقل يقدم على خيانة أمانة نفسه والإضرار بما لا يعود إلّا إلى شخصه في نهاية المطاف؟1.


3- الأمانة هي الولاية الالهية: 
قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾2.

الأمانة كما قلنا هي أن يودع شيء ما عند الغير ليحتفظ به ثمّ يردّه إلى المودع عند مطالبته به. والآية الكريمة تشير إلى شيء ما ائتمن الله تعالى الإنسان عليه ليحافظ على سلامته واستقامته ثمّ يردّه إليه سبحانه كما أودعه.

ويستفاد من قوله: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾3 الخ، أنّه أمر يترتّب على حمله الإيمان وعلى عدم حمله النفاق والشرك. فينقسم حاملوه باختلاف كيفية حملهم إلى منافق ومشرك ومؤمن.

فالأمانة المذكورة في الآية الكريمة لا محالة مرتبطة بالدين الحقّ الذي يحصل التلبّس به وعدم التلبّس به إمّا النفاق والشرك أو الإيمان. ولهذا فسرّ بعض المفسرين الأمانة في الآية الكريمة بالولاية الإلهية، أي الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر، التي عرضها الله على عباده فانقسم الناس في حفظ هذه الأمانة وعدمها إلى مؤمن ومشرك ومنافق.

4- تحقيق العدالة من مصاديق الامانة: 
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ
 

1- راجع: العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج9، ص 55.
2- سورة الأحزاب، الآية 72.
3- سورة الأحزاب، الآية 73.
 
 
 
63

50

الدرس الخامس: الأمانة

 بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾1.


إن هذين القانونين المهمين (حفظ الأمانة، والعدالة في الحكم والحكومة) يمثّلان قاعدة المجتمع الإنسانيّ السليم، ولا يستقيم أمر مجتمع، سواء كان مادياً أو إلهياً من دون تنفيذ وإجراء هذين الأصلين.

يمكن القول إنّ الحكم بالعدل من مصاديق الأمانة، لأنّ الأمانة بمفهومها العامّ تشمل جميع المقامات والمناصب الاجتماعية التي تعتبر أمانات إلهية، وكذلك أمانات بشرية من قبل الناس بيد أصحاب المناصب هذه.

الأمانة وصدق الحديث
عند مراجعة الروايات الشريفة نجدها ركّزت على أمرين هما: 
1- صدق الحديث.
2- وأداء الأمانة.

إنّ هاتين الصفتين هما رأس المال الأساس للحياة الاجتماعية، إذ العلاقات الاجتماعية تقوم على أساس الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع. وهناك تلازم بين هاتين الصفتين لأنّ الصدق ليس شيئاً سوى الأمانة في القول، والأمانة ليست شيئاً سوى الصدق في العمل. 

عن أبي عَبْدِ الله عليه السلام قال: "لَا تَنْظُرُوا إِلَى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وسُجُودِه فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ اعْتَادَه فَلَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ لِذَلِكَ ولَكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ حَدِيثِه وأَدَاءِ أَمَانَتِه"2. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ ولَا بِصِيَامِهِمْ فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ"3.

الأمانة والخيانة في بيت المال
عندما نتحدّث عن الأمانة ينصرف الذهن إلى الأمانة المالية ويقابلها الخيانة المالية. ولكن عند مراجعة الآيات والروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام نجد أنّ الأمانة
 
 

1- سورة النساء، الآية 58.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 105، باب الصدق وأداء الأمانة، ح12.
3- م.ن، ج2، ص 104، ح 2.
 
 
 
 
64

51

الدرس الخامس: الأمانة

 لها مفهوم واسع جدّاً بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربانيّة على الإنسان.


ويستفاد من بعض الأحاديث أنّ الصلاة والزكاة والحجّ هي أمانات وودائع إلهيّة. وكذلك الزوجة أيضاً أمانة إلهيّة، والعمل أمانة أيضا كما روي عن الإمام عليّعليه السلام أنّه قال: "وإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ ولَكِنَّه فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ"1.

فإنّ الأمانة والخيانة لا تختصّان بعمل معيّن ومصداق خاصّ ومحدود، لأنّ النتائج المترتّبة على هاتين الصفتين لا تتحدّد بالأمانة والخيانة المالية. ولكن سنقصر الكلام على الخيانة المالية لبيت المال.

إنّ مقتضى الأمانة المالية العفّة عمّا ليس للإنسان به حقّ من المال، وتأدية ما عليه من حقّ لذويه، وتأدية ما تحت يده منه لأصحاب الحقّ فيه. ولا فرق في ذلك بين الأموال الشخصية أو ما يرجع إلى بيت المال من قبيل أموال المؤسسات أو ما يرجع إلى أموال العمل، بل الأمر قد يكون في هذه الأمور أخطر باعتبار أنّ السرقة من بيت المال أثرها على كلّ المسلمين. فإذا كانت السرقة من المسلم لها كلّ هذا التشديد من قبيل قطع يد السارق في حال تحقّقت السرقة بمعناها الشرعيّ ومع ملاحظة كلّ الشروط التي ذكرت في إقامة الحدّ على السارق فما بالك بسرقة بيت مال المسلمين؟ وفي السياق ذكرت الرواية أنَّ عَقِيلاً‏ قَدِمَ عَلَى أَخِيهِ‏ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَعليه السلام‏ بِالْكُوفَةِ يَسْتَرْفِدُهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ عَطَاءَهُ فَقَالَ عَقِيلٌ‏: إِنَّمَا أُرِيدُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَلَمَّا صَلَّى عَلِيٌّ عليه السلام الْجُمُعَةَ قَالَ لَهُ: "يَا عَقِيلُ‏ مَا تَقُولُ فِي مَنْ خَانَ هَؤُلَاءِ أَجْمَعِينَ"؟ قَالَ: بِئْسَ الرَّجُلُ قَالَ: "فَإِنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَخُونَهُمْ وَأُعْطِيَكَ"2.

وفي حديثه عليه السلام إلى بعض عمّاله ممّن سرق أموال النّاس قال عليه السلام: "فَاتَّقِ الله وارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ - فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي الله مِنْكَ - لأُعْذِرَنَّ إِلَى الله فِيكَ - ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِه أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ"3.

وسنشير إلى هذا الموضوع الحسّاس ضمن العناوين الآتية.
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 366، الكتاب الخامس.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار, ج 34, ص 292.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 413، الكتاب 41.
 
 
 
65

52

الدرس الخامس: الأمانة

 قواعد التصرّف في بيت المال

1- يمنع التصرّف الشخصيّ مطلقاً من بيت المال وأموال العمل: 
لأنّ الأموال العامة هي ملك للأمة وبالتالي لا يوجد فيها أي ملك شخصي لأحد حتّى للخليفة وحاكم المسلمين وبناءً على ذلك لا يحقّ التصرّف الشخصيّ ببيت المال تحت أيّ عنوان من العناوين، فالمناصب الاعتبارية كالرئاسة والإدارة وما شابه ذلك والعلاقات النسبية، والأعراق، والمناطقية وما شابه ذلك من العناوين لا يبرر للقيّم على بيت المال أن لا يعدل في توزيع الحقوق، أو أن يجتهد في كيفية التصرّف فيها بما يخالف القواعد الشرعية والأنظمة.

2- إتلاف بيت المال موجب للضمان: 
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا منع ولا إسراف ولا بخل ولا اتلاف"1. فاتلاف بيت المال موجب للكثير من الآثار السلبية، كالإثم واستحقاق العقوبة. هذا من ناحية الحكم التكليفيّ. كما أنّ المتلف عليه الضمان، أي عليه إعادة أو تعويض إمّا قيمة ما أتلفه أو ما يماثله، بحسب ما ذكر تفصيلاً في كتب الفقه.

يقول الفقهاء بحسب قاعدة الإتلاف إنّه (من أتلف مال غيره فهو له ضامن). ومرادهم من ذلك أنّ من يُتلف مالاً يعود لجهة أو أحد من الناس دون إذن من صاحبه أو من الشارع تشتغل ذمّته بعوضه2.
 
3- يمنع الإسراف من بيت المال: 
روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: "فَدَعِ الإِسْرَافَ مُقْتَصِداً، واذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً، وأَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ، وقَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ"3. فالإسراف وهو الخروج عن حدّ الاعتدال أمر مذموم شرعاً وعقلاً ويوقع في الكثير من المفاسد الشخصية والاجتماعية. لذا وجب على القيّمين على الشأن الماليّ أن يتصدّوا لهذه الآفّة فلا يسرفوا


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، محمد بن زين الدين، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، تحقيق وتصحيح مجتبى العراقي، قم، دار سيد الشهداء للنشر، 1405هـ.، ط 1، ج 1، ص 296، ح 198.
2- ينظر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام، 1423هـ - 2002م، ط 1، ص 234 وما بعدها.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 377، الكتاب رقم 21.
 
 
 
 
66
 

53

الدرس الخامس: الأمانة

 ولا يبذروا في الأموال العامة لأنّها ودائع أودعها الله بين أيديهم كأمانة، والتعدّي فيها خيانة بل من أشدّ أنواع الخيانة سوءا.


آثار خيانة بيت المال
من الواضح أنّ لكل معصية أثراً تتركه على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ. وخيانة بيت المال بالإضافة إلى كونه معصية كبيرة على المستوى التشريعيّ لها آثار على الأفراد الذين قاموا بهذا العمل وآثار على المجتمع.

ومن الآثار السلبية لخيانة بيت المال حسب كلام الإمام عليّ عليه السلام ما يلي: 
1- الخزي في الدنيا: 
قال الإمام عليّ عليه السلام: "ومَنِ اسْتَهَانَ بِالأَمَانَةِ ورَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ، ولَمْ يُنَزِّه نَفْسَه ودِينَه عَنْهَا، فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِه الذُّلَّ والْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا، وهُوَ فِي الآخِرَةِ أَذَلُّ وأَخْزَى، وإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ"1.

2. الإهانة والذلّ أمام الله تعالى: 
قال عليه السلام: "لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ الله، أَلَا وإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّه تَبْذِيرٌ وإِسْرَافٌ، وهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَه فِي الدُّنْيَا، ويَضَعُه فِي الآخِرَةِ، ويُكْرِمُه فِي النَّاسِ ويُهِينُه عِنْدَ الله..."2.

أي لو كان المال لي وأنا أفرّقه بينهم لسوّيت, فكيف وإنّما هو مال الله وفيئه ! ثمّ ذكر أنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير وإسراف، وقد نهى الله عنه، وأنه يرفع صاحبه عند الناس، ويضعه عند الله، وأنّه لم يسلك أحد هذا المسلك إلّا حرمه الله ودّ الذين يتحبّب إليهم بالمال، ولو احتاج إليهم يوماً عند عثرة يعثرها لم يجدهم.

3- سلب الثقة بالعاملين في بيت المال: 
لقد وبّخ الإمام عليّ عليه السلام أحد عمّاله الذي أوكل إليه الأمانة المالية ولكنه خان الأمانة وفرّط فيها، فاستوجب سلب الثقة به وعدم الاعتماد عليه في أمر لم يراعه حقّ رعايته، ولم
 

1- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 383، الكتاب رقم 26.
2- م.ن، ص 183، الخطبة رقم 126.
 
 
 
67

54

الدرس الخامس: الأمانة

 يعطه حقّه، فأرسل إليه الإمام عليه السلام رسالة يوبّخه فيها ويطلب عودته ويعفيه من مهامه. قال عليه السلام: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وتَسْلُكُ سَبِيلَهُ فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً ولَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً1 تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ ولَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِكَ وشِسْعُ2 نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ ومَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِه ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِه أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَه قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ الله"3.


4- سلب العز في الدنيا والآخرة: 
يحذّر الإمام عليّ أحدٍ عماله من خيانة بين مال المسلمين ويهدّده بالعقوبة إن اتركب هذا الفعل القبيح. ويورد عليه السلام أمورا ثلاثة ستكون عاقبته فيما لو تجرّأ على مال المسلمين. قالعليه السلام: "وإِنِّي أُقْسِمُ بِالله قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ، ثَقِيلَ الظَّهْرِ، ضَئِيلَ الأَمْرِ"4

فالإمام يحذّر عامله على بيت المال من سلبه ثلاثة كمالات: 
الأول: نقصان ماله وقلَّته. 
الثاني: نقصان جاهه. وكنّى عنه بقوله عليه السلام: "ضئيل الأمر". 
الثالث: ثقل ظهره بالأوزار والتبعات5.

5- إقامة الحدّ: 
من يتعدّى على مال المسلمين ولا يتورّع عن أخذ ما يحرم عليه أخذه من بيت المال، فإنّ إقامة الحدّ الشرعي عليه واجب. قال الإمام عليّ عليه السلام: "فَاتَّقِ الله وارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي الله مِنْكَ، لأُعْذِرَنَّ إِلَى الله فِيكَ، ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِه أَحَداً، إِلَّا دَخَلَ النَّارَ"6.
 

1- العتاد: العدّة.
2- الشسع: سير بين الإصبعين في النعل العربي.
3- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 461-462، الكتاب رقم 71.
4- م.ن، ص 377، الكتاب رقم 20.
5- ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، الحوزة العلمية - قم - إيران، مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي، 1362ش، ط 1، ج4، ص 399-400.
6- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 413-414، الكتاب رقم 41.
 
 
 
68

55

الدرس الخامس: الأمانة

 المفاهيم الرئيسة


1- الأمانة لغةً: الأمن والسكون ورفع الخوف والوحشة والاضطراب1. واصطلاحاً: هي كلّ حقّ لزمك أداؤه وحفظه2.

2- هناك آيات متعدّدة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة ولزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي.

- الأمانة هي الولاية الالهية: قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾3.

3- عند مراجعة الروايات الشريفة نجدها ركّزت على أمرين هما: صدق الحديث, وأداء الأمانة.

4- عندما نتحدّث عن الأمانة ينصرف الذهن إلى الأمانة المالية ويقابلها الخيانة المالية. ولكن عند مراجعة الآيات والروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام نجد أنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربانيّة على الإنسان.

5- من قواعد التصرّف في بيت المال: منع التصرّف الشخصيّ مطلقاً من بيت المال وأموال العمل, ومنع الإسراف من بيت المال, كما أنَّ إتلاف بيت المال موجب للضمان.

6- من آثار خيانة بيت المال: الخزي في الدنيا الإهانة, والذلّ أمام الله تعالى, وسلب الثقة بالعاملين في بيت المال, وسلب العز في الدنيا والآخرة.
 

1- الشيخ حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج1، ص 150.
2- المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، تصحيح أحمد عبد السلام، بيروت، دار الكتب العلمية، 1415هـ - 1994م، ط 1، ج1، ص 288.
3- سورة الأحزاب، الآية 72.
 
 
 
69

56

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن
1- يتعرّف إلى معنى الإيثار وأنواعه المتعدّدة من خلال القرآن والروايات.
2- يستنتج من خلال تعريف الإيثار آدابه وأصوله.
3- يتعرَّف إلى أسباب الإيثار وأهميّته على النفس والمجتمع.
 
 
 
 
71

57

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 تمهيد

الإيثار من محاسن الأخلاق الإسلامية، وهو مرتبة راقية من مراتب البذل، ومنزلة عظيمة من منازل العطاء. ويعدّ الإيثار أحد أبرز الفضائل والقيم الإنسانية حيث وصفته الروايات بأوصاف كريمة من قبيل أنّه أعلى مكارم الأخلاق: "الإيثار أعلى المكارم"1، وأعلى الإحسان: "الإيثار أشرف الإحسان"2، وأعلى مراتب الإيمان: "الإيثار أعلى الإيمان"3، وأفضل عبادةٍ: "الإيثار أفضل عبادة وأجلّ سيادة"4، و"أعلى مراتب الكرم الإيثار"5 وهكذا.

تعريف الإيثار
الإيثار لغة: الإيثار من آثر يؤثر إيثاراً بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص. فالإيثار مصدر من الجذر "أثر" بمعنى تقديم الشيء6.

الإيثار اصطلاحاً: الإيثار أن يقدّم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة7.

جاء استعمال لفظ الإيثار ومشتقّاته في النصوص الإسلامية بمعنيين متضادّين، إذ يُستعمل تارة بمعنى التقديم الإيجابيّ الذي يعدّ بدوره من أعظم القيم الأخلاقية وأسماها،
 

1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 19.
2- م.ن، ص 33.
3- م.ن، ص 51.
4- م.ن، ص 29.
5- م.ن، ص 118.
6- راجع: أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، لا.م، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404هـ، لا.ط، ج1، ص 53.
7- كتاب التعريفات، الشريف الجرجاني، باب الألف، ص 40.
 
 
 
73

58

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 كما في قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾1. كما يستعمل بمعنى التقديم السلبيّ كما يقول تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾2.


ومن هنا يفهم أنّه ليس مطلق التقديم هو ما يحقّق الإيثار المطلوب في الآيات والروايات لأنّ التقديم في غير محلّه لا يعتبر ذا قيمة أخلاقية، بل لا بدّ من أن يكون تقديم الشيء بحقّه. كما ورد في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أصل الإِيثارِ تَقديمُ الشَّيءِ بِحَقِّهِ"3. فأصل الإيثار هو تقديم الآخر أو الغير على النفس ولكن بشرط أن يكون هذا التقديم في طريق الحقّ لا الباطل وإلّا يصبح من الإيثار السلبيّ.

أنواع الإيثار
يمكن تقسيم الإيثار بلحاظ متعلّقه إلى قسمين: 
1- إيثار متعلّق بالخالق: 
وهو أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدراً. وهو إيثار رضا الله تعالى على رضى غيره وإيثار حبّه على حبّ غيره وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه وإيثار الذلّ له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملّق على بذل ذلك لغيره. ولهذا النوع من الإيثار دلائل وعلامات دالة عليه وهي: 
أ. أن يفعل المرء كلّ ما يحبّه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبه الله مكروهاً إلى نفسه، ثقيلاً عليه. كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾4

ب. أن يترك ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبّباً إليه، تشتهيه نفسه، وترغب فيه، وأن يكون حبّ الله هو الأساس عنده في علاقاته مع الآخرين، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾5.
 

1- سورة الحشر، الآية 9.
2- سورة الأعلى، الآيتان 16-17.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 147.
4- سورة آل عمران، الآية 31.
5- سورة البقرة، الآية 165.
 
 
 
74

59

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 2- إيثار متعلّق بالخلق: 

إنّ الإيثار كما تقدّم قيمة أخلاقية ومرتبة راقية من البذل، كذلك هو مذهب أخلاقيّ يرى أنّ الأفراد لديهم التزام أخلاقيّ لمساعدة الآخرين أو خدمتهم أو نفعهم، إذا لزم الأمر، في التضحية بالمصلحة الذاتية. 

مصاديق الإيثار المتعلّق بالخلق
الإيثار المتعلّق بالخلق له صور ومصاديق متعدّدة أهمّها: 
1- الإيثار في المال: 
قال أبو عبد الله عليه السلام: "امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِلَى أَسْرَارِنَا كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا عَنْ عَدُوِّنَا، وَإِلَى أَمْوَالِهِمْ كَيْفَ مُوَاسَاتُهُمْ لِإِخْوَانِهِمْ فِيهَا"1.

إنّ موادّ الامتحان التي حدّدها الإمام عليه السلام لشيعته ثلاث: 
المادة الأولى: المحافظة على أوقات الصلاة.
المادة الثانية: حفظ الأسرار.
المادة الثالثة: المواساة بالأموال.

إنّ هذه المادة الثالثة في الامتحان تعني كيفية تعامل الشيعة مع أخوانهم المحتاجين. هل يشاركونهم ويقاسمونهم أموالهم؟ هل يفتحون قلوبهم وأيديهم للمحتاجين؟ إنّ هذا ما أراده الإمام بالمواساة في المال. فهل يستطيع الإنسان أن يضع ماله وممتلكاته في تصرّف إخوانه حتّى يستوفوا منها حاجتهم؟ هل تحبّ لأخيك ما تحبّه لنفسك؟ وعليه إنّ من صفات الشيعة مواساة الآخرين بأموالهم.

2- الإيثار في النفس: 
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾2.
 

1- الحميري القمي، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، قم، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1413هـ. ط1، ص 78، ح 253. 
2- سورة البقرة، الآية 207.
 
 
 
75

60

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 إذا تأملنا في الآيات التي سبقت هذه الآية الشريفة وهي من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾1 إلى الآية مورد البحث يظهر لنا حُسن التقابل بين رجلين أحدهما مفسد ومضمر للنفاق إلى آخر أوصافه، والآخر هو أهل الإيثار بالنفس. وقد ورد في الروايات أنّ هذا الرجل هو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. ومن هذه الروايات ما نُقل عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمّا قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ فإنّها أنزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام حين بذل نفسه لله ولرسوله ليلة اضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا طلبته كفّار قريش2.


وخلاصة التفسير أنّ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ﴾، بيان أنّ هناك رجلاً معتزاً بإثمه معجباً بنفسه متظاهراً بالإصلاح مضمراً للنفاق3، لا يعود منه إلى حال الدين والإنسانية إلّا الفساد والهلاك. يقابله قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ﴾، وهو بيان أن هناك رجلاً آخر باع نفسه لله سبحانه لا يريد إلّا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له إلّا بربّه ولا ابتغاء له إلّا مرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين والدنيا، ويحيا به الحقّ، ويطيب به عيش الإنسانية.

وبذلك يظهر ارتباط ذيل الآية بصدرها أي قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾، بقوله ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ﴾، فإنّ وجود إنسان هذه صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إذ لولا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والإفساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقرّ من بناء الصلاح والرشاد لبنة على لبنة.

لكنّ الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحقّ ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح أوليائه كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾4، وقال تعالى:
 

1- سورة البقرة، الآية 204.
2- العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1422هـ. ط 1، ج1، ص 101، ح 292.
3- ورد أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة وذلك حسب روايات العامة، وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت أنها من الآيات النازلة في أعدائهم.
4- سورة البقرة، الآية 251.
 
 
 
76

61

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾1، وقال تعالى: ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾2. فالفساد الطارىء على الدين والدنيا ممّن اتّبع هواه وغرائزه، لا يمكن سدّ ثلمته إلّا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممّن باع نفسه لله سبحانه، ولا هوى له ولا هم إلّا في ربه، وإصلاح الأرض ومن عليها. فمن أبرز مصاديق الإيثار بالنفس الجهاد في سبيل الله, وما يتبع ذلك من تعريض النفس إلى مخاطرٍ عدة كالإصابة في أرض المعركة, فضلاً عن الوقوع في الأسر, وصولاً إلى القتل في سبيل الله. فأمثال هؤلاء يؤثرون بأنفسهم ويقدّمون أسمى وأرقى مصاديق الإيثار في دفاعهم عن بيضة الإسلام. 


وقد وصف الله تعالى أولئك المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله وما ينالونه عند الله من الكرامة والفضل فقال: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾3، إلى غير ذلك من الآيات4.

3- الإيثار في الدعاء: 
أي تقديم الآخرين على أنفسنا كما هو منهج أهل البيت عليهم السلام فقد كانوا يؤثرون الآخرين على أنفسهم.

فقد كانَت السيدة الزهراء عليها السلام إذا دَعَت تَدعو لِلمُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ ولا تَدعو لِنَفسِها، فقد ورد عن الإمام الحسن عليه السلام قال: "رأيت أمّي فاطمه عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصّبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدّعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء فقلت لها: يا أمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدّار"5.
 

1- سورة الحج، الآية 40.
2- سورة الأنعام، الآية 89.
3- سورة التوبة، الآية 111.
4- ينظر: العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص 98- 99. بتصرف -.
5- الصدوق، محمد بن علي‏ بن بابويه، علل الشرائع‏، قم، نشر مكتبة داوري‏، 1427 هـ.، ط 1‏، ج1، ص 182، الباب 145 العلة التي من اجلها كانت فاطمة عليها السلام تدعو لغيرها ولا تدعو لنفسها، ح1.
 
 
 
77

62

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 أسباب الإيثار

هناك أسباب تعين على الإيثار منها: 
1- تعظيم الحقوق: فالإنسان إذا عظمت الحقوق عنده، قام بواجبها ورعاها حقّ رعايتها واستعظم إضاعتها، وعلم أنّه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدّها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطاً لأدائها.

2- مقت الشحّ: فإنّه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار، فإنّه يرى أنّه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلّا بالإيثار.

الرغبة في مكارم الأخلاق: وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره، لأنّ الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق1. عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "الإيثار أعلى المكارم"2، وقال عليه السلام: "لا تكمل المكارم إلّا بالعفاف والإيثار"3.

يمكن اعتبار هذه الأسباب المتقدمة مبادئ للإيثار بمعنى أنّ هناك شيئاً أساساً تتولّد منه هذه الأمور المتقدّمة. وعند مراجعة الروايات نجد أنّ الأساس الوحيد الذي يولّد هذه الخصلة الأخلاقية الحميدة هو الإيمان، فكلّما كان إيمان الإنسان أقوى وأرسخ وأثبت في النفس كلّما كانت أعماله أصلح، والعكس صحيح، أي كلّما كان إيمانه بالله تعالى أضعف كانت أعماله ضعيفة وهزيلة بمقدار ضعف إيمانه. فالسعادة الحقيقة للإنسان تبتني على الإيمان بالله تعالى. وإنّ الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة لا بدّ أن تكون ناشئة من الإيمان. ومن دون هذا الإيمان لا أثر للأعمال في الآخرة على الإطلاق، وإن كان لها أثر في الدنيا. 

فعن الإمام الإمام الصادق عليه السلام - في وصف الكاملين من المؤمنين -: "هم البررة بالإخوان في حال العسر واليسر, المؤثرون على أنفسهم في حال العسر كذلك وصفهم الله فقال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾4 5.
 

1- ينظر: مدارج السالكين، ابن القيم, ج3، ص 303 - 304.
2- التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيد مهدي رجائي‏، قم‏، نشر دار الكتاب الإسلامي‏، 1410هـ، ط 2، ص54.
3- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 781.
4- سورة الحشر، الآية9.
5- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 64، ص 351.
 
 
 
78

63

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 3- السعي نحو الكمال: فقد روي أنّ سائلاً قال للإمام الصادق عليه السلام إنّنا نخشى أن لا نكون مؤمنين، فقال عليه السلام: "ولمَ ذاك؟" فقال السائل: وذلك أنّا لا نجد فينا من يكون أخوه عنده آثر من درهمه وديناره، ونجد الدينار والدرهم آثر عندنا من أخ قد جمع بيننا وبينه موالاة أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عليه السلام: "كلّا، إنّكم مؤمنون ولكن لا تكملون إيمانكم حتّى يخرج قائمنا، فعندها يجمع الله أحلامكم فتكونون مؤمنين كاملين، ولو لم يكن في الأرض مؤمنون كاملون، إذاً لرفعنا الله إليه، وأنكرتم الأرض وأنكرتم السماء. والذي نفسي بيده، إن في الأرض في أطرافها مؤمنين، ما قدر الدنيا كلّها عندهم يعدل جناح بعوضة" - إلى أن قال عليه السلام - "هم البررة بالإخوان في حال اليسر والعسر، والمؤثرون على أنفسهم في حال العسر، كذلك وصفهم الله فقال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾" - إلى أن قال - "حليتهم طول السكوت بكتمان السرّ، والصلاة، والزكاة, والحجّ، والصوم، والمواساة للإخوان في حال اليسر والعسر"1.


ثمرة الإيثار
الإيثار صفة تدفع الإنسان إلى معالجة الأنانية النفسية عنده، وإلى القضاء بشكل تدريجيّ على صفة الاستئثار التي تضرّ بالبنية الاجتماعية، وتدمّر وحدته وانسجامه. فكلّما شاعت صفة الإيثار ضعفت بمقدار ذلك صفة الاستئثار.

لذا يهدف الإسلام من وراء إشاعة ثقافة الإيثار والمواساة للآخرين إلى التخفيف أو القضاء على ثقافة الاستئثار والأثرة التي هي وليدة الفكر الماديّ الذي لا يؤمن بالغيب والماورائيات، بخلاف الإيمان بالله الذي يرتكز على عالم ما وراء المادة والغيب. والقرآن الكريم أعطى قاعدة لبيان فائدة الإيثار وهي أنّ تربية النفس على خلق الإيثار تعني أن يبني الإنسان ذاته ويُحسن لنفسه ويُؤمّن مصالحه الحقيقية الدائمة كما قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾2. إنّ اللام في ﴿لِأَنفُسِكُمْ﴾ و﴿فَلَهَا﴾ هي للاختصاص،
 

1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج7، ص313-314.
2- سورة الإسراء، الآية 7.
 
 
79

64

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 أي إنّ من إحسانكم وإساءتكم مختصّ بأنفسكم دون أن يلحق غيركم، وهي سنّة الله الجارية أنّ العمل يعود أثره وتبعته إلى صاحبه إن خيراً وإن شراً1. لقد أوجز القرآن الكريم الآثار والثمرات الفردية والاجتماعية للإيثار بقوله ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾2، أي الَّذي يصان عن الشحّ المكنون في نفسه فهو المفلح.


وهذه الصفة إذا رسخت وثبتت في القلب وغلبت على الأهواء والغرائز، فإنّها ستحصّن النفس وتحول دون وقوعها في الكثير من الموبقات والآثام3.

آداب الإيثار
تقدّم أنّ أصل الإيثار هو: "تقديم الشيء بحقّه". وهذا التعريف يستبطن جميع مبادئ آداب الإيثار. ومن هذه الآداب: 
1- الإخلاص: 
الأدب الأوّل الذي يؤطّر الإيثار هو الإخلاص، فمع غياب الإخلاص عن هذه الممارسة لا يتحقّق مفهوم "تقديم الآخر". فلو وهب الإنسان إنساناً آخر شيئاً هو بحاجة إليه لكن بدافع غير إلهيّ فسيكون في الواقع كمن قدّم ذلك الشيء إلى نفسه، إذ هو في حقيقة الأمر قد استجاب إلى دافعه النفسيّ، وإنّ أنانيته هي التي دفعت به إلى هذه الممارسة، وهي الحافز الكامن وراءه. 

2- الحبّ: 
تقدّم في بعض التعاريف أنّ الإيثار بمعنى أن يقدّم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوّة. وهذا يعني أنّ هناك حبّاً وعلاقة لما تؤثر به الآخر. ولذا يتمثّل الأدب الثاني للإيثار بوجود حبّ يشدّ إلى ما يؤثر به، وإلّا فمع غياب هذه الصلة لا معنى لـ "تقديم الآخرين" ولن يتحقّق هذا المعنى في واقع هذه الممارسة. والدافع لهذا الحبّ وسببه هو لله تعالى. فعندما يكون الله تعالى هو المحور والأصل في كلّ معاملة تصبح منطلقات
 

1- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج13، ص 40.
2- سورة الحشر، الآية 9.
3- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، الشيخ حسن المصطفوي، ج6، ص 22. بتصرف -.
 
 
 
80

65

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 الأعمال وغايتها إلهية. ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾1.


3- تقديم الأقرباء: 
من الآداب الاُخرى للإيثار تقديم أولي الأرحام والأقرباء بشكل عامّ، كما قال تعالى: ﴿وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾2. ومن هنا يجب على الإنسان النهوض بنفقتهم شرعاً ويتحتّم عليه تأمين احتياجاتهم الحيويّة، فلا يتحقّق الإيثار مع احتياج الأرحام والأقارب من حوله. ويمكن فهم ذلك من قيد "بحقّه" في التعريف المتقدّم للإيثار، ذلك أنّ تقديم الآخرين على "الأرحام والأقرباء" لا يصحّ عقلاً ولا شرعاً.

4- تقديم أهل الإيمان: 
من الآداب الأُخرى للإيثار تقديم أهل الإيمان. ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "عامِل سائِرَ النّاسِ بِالإِنصافِ، وعامِلِ المُؤمِنينَ بِالإِيثارِ"3

5- تقديم الأحوج: 
يدخل هذا الأدب كذلك في مقوّمات الإيثار، وإلّا فإنّ تأمين الاحتياجات الثانوية للآخرين على حساب التضحية بالاحتياجات الأساسية للمؤثِر نفسه والتفريط بها لا يعدّ حقّا ولا يندرج في عداد القيم. من هنا جاء عن الإمام عليّ عليه السلام في ظلّ آية الإيثار: "لا تَستَأثِر عَلَيهِ بِما هُوَ أحوَجُ إلَيهِ مِنكَ"4.
 

1- سورة الشعراء، الآية 109.
2- سورة الاحزاب، الآية 6.
3- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 467.
4- الكوفي الأهوازي، حسين بن سعيد، المؤمن، قم‏، مؤسسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، 1404 هـ، لا.ط، ص 45، ح 104.
 
 
 
81

66

الدرس السادس: التضحية الإيثار

 المفاهيم الرئيسة


1- الإيثار لغة: الإيثار من آثر يؤثر إيثاراً بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص. فالإيثار مصدر من الجذر "أثر" بمعنى تقديم الشيء.

2- الإيثار اصطلاحاً: الإيثار أن يقدّم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة.

3- يمكن تقسيم الإيثار بلحاظ متعلّقه إلى قسمين: إيثار متعلّق بالخالق, إيثار متعلّق بالخلق.

4- الإيثار المتعلّق بالخلق له صور ومصاديق متعدّدة أهمّها: الإيثار في المال, الإيثار في النفس, الإيثار في الدعاء.

5- هناك أسباب تعين على الإيثار منها: تعظيم الحقوق, مقت الشحّ, السعي نحو الكمال.

6- الإيثار صفة تدفع الإنسان إلى معالجة الأنانية النفسية عنده، وإلى القضاء بشكل تدريجيّ على صفة الاستئثار التي تضرّ بالبنية الاجتماعية، وتدمّر وحدته وانسجامه. فكلّما شاعت صفة الإيثار ضعفت بمقدار ذلك صفة الاستئثار. 

7- إنّ أصل الإيثار هو: "تقديم الشيء بحقّه". وهذا التعريف يستبطن جميع مبادئ آداب الإيثار. ومن هذه الآداب: الإخلاص, الحبّ, تقديم الأقرباء, تقديم أهل الإيمان, وتقديم الأحوج.
 
 
 
 
82

67

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الشائعة وأهمّ الأمور التي تقوم عليها. 
2- يعدّد أنواع الشائعات ويبيّن خطورتها على الفرد والمجتمع.
3- يشرح منهج القرآن في التعاطي مع الشائعات.
 
 
 
83

68

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 تمهيد

الشائعات الكاذبة من أخطر الرذائل التي متى فشت في أمّة من الأمم‏، اضطربت أحوالها‏، وضعفت الثقة بين أبنائها‏، وانتشر فيهم سوء الظنّ المبنيّ على الأوهام لا على الحقائق.

وإنّ أكثر الناس عُرضةً للشائعات الكاذبة‏، هم الرسل الكرام‏، والمصلحون المخلصون‏، والأتقياء الأصفياء الأخيار‏، وهذا ثابت منذ فجر الإنسانية‏، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها‏.

ما هي الشائعة؟
1- الشائعة في اللغة: 
إشاعة: خبرٌ مكذوبٌ غير موثوق فيه وغير مؤكَّد، ينتشر بين النَّاس1. أو خَبَرٌ لاَ أَسَاسَ لَهُ مِنَ الصِّحَّةِ ذَائِعٌ بَيْنَ النَّاسِ. والإِشاعَةُ: كلّ خبرٍ ينتشر بين الناس غير مثبَتٍ منه. ويطلق الشِّيَاعُ على ما تُشَبُّ به النار من الوقود الخفيف2.

2- الشائعة في الاصطلاح: 
الشائعة اصطلاحاً تعني الخبر المشاع والمنتشر بين الناس، ويحتمل الصدق أو الكذب3. أو بتعبير آخر هي نشر الأخبار التي ينبغي سترها لشين الناس4. وهي نوع من
 

1- معجم اللغة العربية المعاصرة، الدكتور أحمد مختار عبد الحميد عمر، ج2، ش ي ع، ص 1257.
2- المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ج1، الإشاعة، ص 503.
3- المصطلحات، إعداد مركز المعجم الفقهي، الإشاعة، ص 326.
4- معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، محمود عبد الرحمن عبد المنعم، ج1، الإشاعة، ص 184.
 
 
 
85

69

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 النبأ الهادف الذي يكون مصدره مَجْهُولاً، وهي سريعة الانتشار، ذات طابع استفزازيّ أو هادئ حسب طبيعة ذلك النبأ.


كيف تتحقّق الإشاعة؟
لقد ابتليت المجتمعات البشرية وعانت الكثير من المصائب والنكبات الرهبية، بسبب بروز ظاهرة اختلاق الإشاعة ونشرها بين الأفراد حيث كانت تؤثّر تأثيراً سلبياً كبيراً على معنويات أفراد المجتمع، وتضعف فيهم الروح الاجتماعية وروح التفاهم والتعاون بين أبناء المجتمع الواحد. وتبدأ الإشاعة بأن يختلق منافقٌ كذبةً، ثمّ ينشرها بين أفراد مغرضين أو بسطاء، ليقوموا بدورهم بالترويج لها بين أبناء المجتمع دون التحقيق فيها. ومن أهمّ الأمور التي تؤدّي إلى تحقّق الإشاعة: 
1- وجود قضية تدور حولها الإشاعة.
2- صياغة الإشاعة بطريقة متقنة، حتّى يؤدي ذلك إلى اعتقادها.
3- وجود الوسط المساعد لنقل الإشاعة.
4- التركيز على هدف معين دون التشعب إلى جزئيات متعددة.
5- اختيار الزمن المناسب لنشر الإشاعة.
6- اختيار المكان المناسب لبثّ الإشاعة.
7- عدم توثيق مصدر الإشاعة.
8- وجود هدف معين من صياغة الإشاعة.
9- اختيار الأسلوب الهادف لصياغة ونشر الإشاعة على حسب الموضوع، فإذا كان الموضوع يحتاج إلى عبارات هادئة لينة، اختيرت الألفاظ الملائمة التي تتّسم بالسكينة، وإن كان الموضوع يحتاج إلى الاستفزاز والثورة، اختيرت الأساليب المناسبة التي تنضح بالقوة والاشمئزاز.
10- جهل المجتمع الذي تنتشر فيه الإشاعة.
11- انعدام المعلومات والمفاهيم عن الموضوع المُشَاعِ.
 
 
 
 
86

70

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 فإذا وُجِدَتْ هذه الأمور، فإنّ خطر الشائعة سيسري بين الأفراد والجماعات في جميع المجتمعات الإنسانية، وعلى مختلف الأزمنة، ومختلف الأمكنة.


أنواع الشائعات
تختلف أنواع الشائعات وذلك حسب اختلافها في الهدف والزمان، والمصدر، والآثار المترتّبة عليها، وغير ذلك. ونشير إلى أهمّ أنواع هذه الشائعات: 
1- شائعات الخوف: 
يستهدف هذا النوع من الشائعات إثارة القلق والرعب في نفوس البشر، وتعتبر من أنواع الشائعات المروّعة والمخيفة، فقد تمسّ أَحْدَاثًا كالكوارث، أو أَشْخَاصًا، أو بأمور الحرب والسلّم وغيرها من الأمور. قال تعالى في كتابه: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾1. وذكر العلّامة الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية أنَّ كلمة (النَّاس) وردت مرّتين في الآية, وأنَّ دلالتها في المورد الأوَّل مختلف عنها في الثاني، فالمقصود في موردها الثاني هو العدوّ الذي كان يجمع الجموع، وأمَّا الأوَّل فالنّاس في الآية هم الخاذلون المثبّطون الذين كانوا يقولون ما يقولون ويبثون الشائعات، ليخيفوا المؤمنين فيمنعونهم عن الخروج إلى قتال المشركين2.

2- شائعات الكراهية: 
وتهدف إلى زرع بذور العداوة والفتنة والفرقة والبغضاء والحقد وغيرها من العوامل التي تسبّب الكراهية والتباعد بين البشر. كأن تُطْلَقُ شائعة تهدف إلى بذر بذور الفتن بين شعبين كالعرب والفرس، أو بين الطوائف الدينية كالمسلمين والأقباط أو مذهبية كالسنّة والشيعة. والمقصود هو بثّ الكراهية الدينية والتحريض على العنف. وذلك من خلال إشاعة الشائعات الكاذبة بغية تفكيك بيئة المجتمع الذي تستهدفه الشائعة بنارها وسمومها الملهكة، لتضرب وحدته ونسيجه الاجتماعيّ.
 

1- سورة آل عمران، الآية 173.
2- أنظر: العلامة الطباطبائي، الميزان فى تفسير القرآن, ج‏4, ص 64.
 
 
 
87

71

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 3- الشائعات السياسيّة: 

تتمثّل بنشر معلومات سياسيّة كاذبة, تهدف إلى زعزعة الحكم وإحداث خلل في المنظومة السياسيّة للمجتمع ومن دوافعها الانتقام، وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات السياسية الكبيرة, وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية. ومهما اختلفت الدوافع في بثّ هذه الشائعات الكاذبة فالنتيجة النهائية هي تدمير المجتمعات‏.

4- الشائعات الأمنية والعسكرية: 
إنّ اختلاق ونشر هذا النوع من الشائعات يودّي إلى سيطرة القلق والاضطراب والإخلال بالأمن وانعدام الثقة، وهذه من أهمّ ما ترمي إليه الحرب النفسيّة للأعداء بغية إثارة البلبلة ونشر الفزع، ليتسنّى لهم التّغلّب العسكريّ والسياسيّ لاحقاً. فعندما يعجز العدوّ عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة، يقوم بنشر الشائعات، لبثّ الرعب والقلق في الناس، ليشغلهم بأنفسهم، وليحرفهم عن أهمّ قضاياهم حساسية، وليتسنّى له التمكّن منهم في كلّ مجال.

5- الشائعات المتعلّقة بالأعراض: 
وهي الشائعات الأكثر خطورة على المجتمع لأنّها تمسُّ أعراض المؤمنين, ويؤدّي نشرها إلى هتك كرامة الانسان والانتقاص منها والإساءة إلى سمعته بين أبناء مجتمعه, وفي بعض الأحيان قد تتسبّب هذه الشائعات بقتل نفسٍ بغير ذنب.

وقد نهت الشريعة الإسلاميّة عن الخوض في الأعراض, بل نهت عن إشاعة الفاحشة حتّى مع وقوعها وتوعّدت بالعذاب الأليم لمرتكبي هذا الذنب. وقد جاء في حديث عن محمد بن الفضيل عن الإمام موسى بن جعفرعليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك الرجل من إخواني بلغني عنه الشي‏ء الذي أكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال الإمام عليه السلام لي: "يا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسّامة، وقال لك قول فصدقه وكذبهم، ولا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾1"2.
 

1- سورة النور، الآية 19.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج 8، ص 147.
 
 
 
88

72

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 آثار الشائعات على الفرد والمجتمع

إنّ كثيراً من الأحداث المؤلمة والصراعات المدمّرة التي تقع في عالمنا المعاصر، وما وقع في التاريخ الإسلامي من قتل وسفك دماء ونهب وتدمير، كان قسم مهم منه بسبب الإشاعات والأكاذيب التي كان يروّجها العملاء والمندسّون والمنافقون في المجتمع الإيمانيّ، بُغية تفكيكه وهدم عُراه وتقويض أركانه.

لذا وجب الحذر لأنّنا نعيش في مجتمع اختلطت فيه الموازين، ويصعب فيه التميز بين الحقّ والباطل، فقد ننخدع ببريق بعض الشخصيات ونأخذ بكلامه ونبني عليه تصرّفات ومواقف معينة ثمّ يتبيّن لنا الخلل الكبير الذي وقعنا فيه بسبب هذا الإنسان أو المحطة الإعلامية الفلانية، لأنّه كان ظاهره وديعاً ولكن حقيقته كانت تخبئ إنسانا كالثعلب في روغانه، والعقرب في لدغاتها. لذا المطلوب دائما التثبّت ثم التثبّت ثمّ التثبّت... 

فالشائعة التي هي الأقوال والأخبار التي يَتناقلُها الناس، والقَصص التي يَروونها، دون التثبُّت مِن صحَّتها، أو التحقُّق مِن صِدقِها، يمكن أن يكون منشأها شخص، أو جريدة، أو مَجلَّة، أو إذاعة، أو تلفاز، أو رسالة خطِّية، أو شَريط مُسجَّل وغيرها، وغالباً ما تكون لها آثار مؤذية وأضرار سلبية، فهي تؤثّر مباشرة على سَعادة الفرد والأسرة والمجتمع وعلى أمنِها النفسيّ. فكم من أسر تفكَّكتْ مِن جرَّاء هذه الإشاعات، وكم مِن بيوت هدِّمت، وكم من أموال ضيِّعت، وأطفال شُرِّدت، كلّ ذلك بسبب شائعة مغرضة من مُنافقٍ أو كذَّاب. 

وقد بيّن الله تعالى في القرآن الكريم أسس ومعاييرَ إقامة المجتمع. ومِن أهمّ هذه الأُسس والمعايير أن تَسُود روح الحبِّ والأُخوَّة والسلام بين أفراد المجتمَع الواحد، فـ "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ‏ هُوَ عَيْنُهُ وَمِرْآتُهُ وَدَلِيلُهُ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَخْدَعُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَكْذِبُهُ وَلَا يَغْتَابُهُ"1 كما قال الإمام الصادق عليه السلام، و"المؤمن للمؤمن كالبُنيان، يشدُّ بعضه بعضًا"2. هذه هي الروح التي أراد الله تعالى أن يبثَّها بين أبناء الأمة ويحثّ على اتّباعها. أمّا أن تتأسّس العلاقات بين الأفراد على الفُرقة والتنازُع والاختِلاف والإفساد بين الناس، فهذا ما حاربه الإسلام. والإشاعة سبب رئيس لبثِّ هذه الأخلاق المذمومة التي نهى عنها الإسلام. وقد
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 166.
2- الإمام أحمد بن حنبل، مسند أحمد، بيروت - لبنان، دار صادر، لا.ت، لا.ط، ج4، ص 404.
 
 
 
89

73

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 حدّد الله تعالى في القرآن الكريم منظومة ردعية متكاملة لمحاربة الشائعات تبدأ بالتربية النفسية للأفراد، إلى العلاجات الوقائية والردعية في مواجهة هذه الأخبار كما سنبين.


منهجية القرآن في التعاطي مع الشائعات
يقول الله تعالى في كتابه الكريم مبيناً خطورة الشائعة: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾1.

تبيّن الآية الكريمة كيف ابتلي جماعة بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم، فتقول ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ أي تذكروا كيف رحبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾.

وتشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال: 
الأول: تقبّل الشائعة: استقبالها وتناقلها.

الثاني: نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.

الثالث: استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للّهو وقضاء الوقت، في وقت تمسّ فيه كيان المجتمع الإسلامي وشرفه، إضافة إلى مساسها بشرف بعض المسلمين.

وممّا يلفت النظر أنّ الآية استعملت تعبير ﴿بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ تارة وتارة أخرى تعبير ﴿بِأَفْوَاهِكُم﴾ على الرغم من أن جميع الكلام يصدر عن طريق الفم واللسان. وهو إشارة إلى أنّكم لم تطلبوا الدليل على الكلام الذي تقبّلتموه، ولا تملكون دليلاً يسوّغ لكم نشره. والأمر الوحيد الذي كان بأيديكم هو لقلقة لسانكم وحركات أفواهكم2.

والقرآن الكريم قد رسم لنا منهجاً واضحاً وفريداً في التعامل مع مرض الشائعات يتمثّل في جملة من الآداب عند وجود الإشاعة. وعندما نستقرئ آيات القرآن التي تحدّثت عن المواجهة الإعلامية، وأسلوب التعامل مع الدعاية المضادة والشائعات، نجد القرآن قد ركّز على أساليب أساسية عديدة، منطلقاً من أسس نفسيّة وموضوعيّة بالغة الأهميّة، لتكوين الدوافع وكسب الاستجابة والمواقف. وأهم هذه الأسس والآداب هي:
 

1- سورة النور، الآية 15.
2- ينظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج11، ص 42- 47.
 
 
 
 
90

74

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 الأساس الأول: التثبّت والتبيّن عند سماع الأخبار

استخدم القرآن الكريم ثلاث مفردات وهي: (اليقظة والتبيّن والحذر)، والمطلوب من المجتمع الإسلاميّ أن يتّسم بهذه المفردات الثلاثة، وهذا هو ما يعبّر عنه بمصطلح اليوم بـ (الوعي). وعندها يمكن أن نصف هذه الأُمّة أو تلك الجماعة بالأُمّة أو الجماعة الواعية، والعكس صحيح.

ويتمثّل بثّ الوعي في المجتمع الإسلاميّ من خلال الإجراءات العلمية والعملية الآتية: 
1- التبيّن: 
أرسى القرآن قاعدة منهجية أساسية في التعاطي مع الأخبار وهي التبيّن، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾1. تتحدّث هذه الآية عن أهمّ مسألة مؤثّرة في بنية المجتمع وهي تلقّي الأفراد للأنباء والأخبار وتناقلها فيما بينهم. وتؤكّد الآية الكريمة على ضرورة أخذ الأنباء من مصادرها الموثوق بها. وأمّا إذا كانت ممّن اشتهر وعرف بالفسق والكذب والنفاق، أو لم تكن ممّن يوثق به، فلا يمكن الركون إليه والأخذ منه. لذا ينبغي الاستقصاء عند نقل الخبر والتدقيق في مصدره, وإمكانيَّة نقله أو لا.

ومعنى التبيّن، يبدو أنّه يشمل كلّ أسلوب يؤدّي إلى حالة الوضوح عند الإنسان. ومن الأمور التي تعين على هذا الأدب التروّي وعدم العجلة في نقل الأخبار. وبعبارة أوضح ينبغي عدم العجلة والتسرّع في نقل الأخبار، لخطورة ما يمكن أن تحدثه كلمة واحدة غير صحيحة في العقول والنفوس. لذا عند نقلنا للأخبار علينا التبيّن جيّداً.

2- عدم إفشاء أسرار المؤمنين: 
اهتمّ القرآن الكريم بالمحافظة على أسرار المؤمنين وعدم إفشائها للعدوّ. وقد تقدّم بحث ذلك في كتمان السرّ.

3- اليقظة والحذر: 
في كتاب الله العزيز العديد من الآيات التي تحذّر المسلمين من المكائد والمخطّطات
 

1 - سورة الحجرات، الآية 6.
 
 
 
91

75

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 التي يحيكها الأعداء لهم، وضرورة التنبّه واليقظة دائماً من نواياهم وأهدافهم. ومن هذه التحذيرات تلك التي أطلقها القرآن الكريم بحقّ اليهود على وجه الخصوص كما في قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾1. وغيرها من الآيات في هذا المجال.


كما يحذّر القرآن الكريم المسلمين في موضع آخر من عدم طاعة الله ورسوله فيقول: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾2.

وينتقل الخطاب القرآنيّ إلى موضع آخر، لكي يحذّر المؤمنين من عدوّ يقبع داخل بيوتهم، ولربّما لم يلتفتوا إلى خطره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾3

ويذهب الخطاب القرآنيّ إلى أبعد مدياته في التحذير من العدوّ المستتر الذي يتغلغل في صفوف الجماعة المسلمة، وتتكفّل سورة (المنافقون) بفضح هؤلاء وتعريتهم والتحذير منهم4.

الأساس الثاني: الفضح
وهذه النقطة حسّاسة جداً. وقد تعرّض لها القرآن كإحدى الطرق لمواجهة أصحاب الشائعات، فقد لعب المنافقون دوراً رئيساً وبارزاً في نشر الشائعات داخل المجتمع الإسلاميّ، وذلك بُغية ضعضعة الصفّ الإسلاميّ الواحد، وقد قاموا بنشر الشائعات الكاذبة في حقّ الدعوة وفي حقّ الرسول ومن أجل إضعاف هذه الفئة. وقد لجأ القرآن الكريم إلى فضحهم وتعريتهم أمام المجتمع الإسلاميّ وذلك من خلال بيان منهجهم، وطريق تفكيرهم، وسماتهم التي يتميّزون بها، ممّا يجعلهم فئة مفضوحة للمجتمع الإسلاميّ، وهو ما يجعل المجتمع يتجنّبهم ويفكّر ألف مرّة قبل تصديقهم أو نقل أيّ معلومة صادرة عنهم. بل الأصل في مثل هؤلاء هو التكذيب وعكس ذلك يحتاج إلى دليل. هذا بعكس التعاطي مع المسلم فإنّ الأصل فيه هو حسن الظنّ وأصالة الصدق وعكس ذلك يحتاج إلى دليل.
 

1- سورة المائدة، الآية 82.
2- سورة المائدة، الآية 92.
3- سورة التغابن، الآية 14.
4- ينظر: سورة المنافقون، الآية 1-4.
 
 
 
92

76

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 قال تعالى في كشف هؤلاء وفضحهم: ﴿يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ  * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾1.


الأساس الثالث: التفنيد والتحصين (الإعلام المضادّ)
في الوقت الذي بيّن القرآن الكريم سمات المنافقين من أجل الحذر منهم، بيّن لنا ضرورة القيام بأمرين من أجل مواجهة الشائعات هما: 
أولاً: كشف زيف الإشاعة والدعاية المضادّة ضدّها، وذلك من خلال بيان الكذب والتناقض فيها، لإسقاط فاعليتها، وتوجيه ردّ الفعل ضدّ مروّجيها.

ثانياً: تحصين المجتمع، من خلال رفع منسوب الوعي فيه. فالتوعية أمر أساس في المجتمع، وخصوصاً في مقاومة الإشاعة وتفنيدها بالاستناد إلى الحجج والبراهين المنطقية، والحقائق الواقعية التي تحصِّن الناس ضدّ سموم الشائعات، التي يروِّجها الأعداء والمرجفون.

قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾2.

الأساس الرابع: التسقيط 
ومن الأساليب التي استخدمها القرآن أسلوب تسقيط الطرف الآخر وإشعاره بتفاهة شخصيته ومواقفه، ليكوّن الهزيمة في أعماقه النفسية، ويسلب منه الروح المعنوية والقدرة على المواجهة، بتوجيه الخطاب إليه، كطرف هزيل، يوضع موضع الاستهزاء والسخرية. ونلاحظ هذا الأسلوب عندما يتحدّث القرآن عن المكذّبين وأعداء الدعوة الإسلامية، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ
 

1- سورة البقرة، الآيات 9 - 13.
2- سورة آل عمران، الآيات 99 - 101.
 
 
 
93

77

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾1، إلى آخر الآيات الكريمة.


الأساس الخامس: الإهمال وعدم الاعتناء
ومن الأساليب التي دعا لها القرآن أسلوب الإهمال وعدم الاعتناء بالخصم، بشرط أن يكون هو الطريق الموصول إلى الهدف وهو تضعيف الطرف الآخر وعدم فعالية إشاعته. وذلك عندما يكون الإهمال، وعدم الدخول في حرب كلامية هو الأسلوب الأفضل للموقف والقضية.

كقوله تعالى في الآيات الآتية: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾2، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾3، ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾4.

الأساس السادس: الاستمالة 
ومن الأساليب التي دعا لها القرآن أسلوب الإحسان والكلام اللين مع الآخرين، لأنّ هذه الطريقة تعتبر من الطرق المهمة والمؤثّرة في الآخرين، وقد استخدمها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام مع أعدائهم وذلك من خلال توجيه الخطاب الليّن والكلمة الجذّابة للآخرين، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾5، وقوله: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾6.
 

1- ينظر: سورة التوبة، الآيتان 46 - 47.
2- سورة المؤمنون، الآية 3.
3- سورة الفرقان، الآية 63.
4- سورة القصص، الآية 55.
5- سورة فصلت، الآية 34.
6- سورة النحل، الآية 125.
 
 
 
94

78

الدرس السابع: الشائعات وآثارها السلبية

 المفاهيم الرئيسة


1- الشائعة لغةً: إشاعة خبرٌ مكذوبٌ غير موثوق فيه وغير مؤكَّد، ينتشر بين النَّاس1. والشائعة اصطلاحاً تعني الخبر المشاع والمنتشر بين الناس، ويحتمل الصدق أو الكذب2.

2- من أهمّ الأمور التي تؤدّي إلى تحقّق الإشاعة: وجود قضية تدور حولها الإشاعة, صياغةالإشاعة بطريقة متقنة، وجود الوسط المساعد لنقل الإشاعة, التركيز على هدف معين, اختيار الزمن والمكان المناسب لبثّ الإشاعة, عدم توثيق مصدر الإشاعة. وجود هدف معين من صياغة الإشاعة, اختيار الأسلوب الهادف لصياغة ونشر الإشاعة على حسب الموضوع. 

3- تختلف أنواع الشائعات وذلك حسب اختلافها في الهدف والزمان، والمصدر، والآثار المترتّبة عليها، وغير ذلك. ونشير إلى أهمّ أنواع هذه الشائعات: شائعات الخوف, شائعات الكراهية, الشائعات السياسيّة الشائعات الأمنية والعسكرية الشائعات المتعلّقة بالأعراض.

4- إنّ كثيراً من الأحداث المؤلمة والصراعات المدمّرة التي تقع في عالمنا المعاصر، وما وقع في التاريخ الإسلامي من قتل وسفك دماء ونهب وتدمير، كان قسم مهم منه بسبب الإشاعات والأكاذيب التي كان يروّجها العملاء والمندسّون والمنافقون في المجتمع الإيمانيّ، بُغية تفكيكه وهدم عُراه وتقويض أركانه.

5- إنَّ القرآن الكريم قد رسم لنا منهجاً واضحاً وفريداً في التعامل مع مرض الشائعات يتمثّل في جملة من الآداب عند وجود الإشاعة, أهمها: التثبّت والتبيّن عند سماع الأخبار, وفضح أصحاب الشائعات, وكشف زيف الإشاعة والدعاية المضادّة ضدّها، وذلك من خلال بيان الكذب والتناقض فيها، لإسقاط فاعليتها، وتوجيه ردّ الفعل ضدّ مروّجيها, والعمل على تحصين المجتمع، من خلال رفع منسوب الوعي فيه.

6- من الأساليب التي دعا لها القرآن أسلوب الإحسان والكلام اللين مع الآخرين، لأنّ هذه الطريقة تعتبر من الطرق المهمة والمؤثّرة في الآخرين، وقد استخدمها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام مع أعدائهم وذلك من خلال توجيه الخطاب الليّن والكلمة الجذّابة للآخرين.
 
 

1- معجم اللغة العربية المعاصرة، الدكتور أحمد مختار عبد الحميد عمر، ج2، ش ي ع، ص 1257.
2- المصطلحات، إعداد مركز المعجم الفقهي، الإشاعة، ص 326.
 
 
 
95

79

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الهوى المذموم. 
2- يتعرّف إلى الهوى المذموم في الآيات والروايات. 
3- يتعرّف إلى مجامع الهوى الخمسة في القرآن.
4- يتعرّف إلى معنى طول الأمل.
 
 
 
 
97

80

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 تمهيد

يحذّرنا الله تعالى في كتابه الكريم من الدنيا ومن عواقب التعلّق بها فيقول: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ * وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾1. فكلّ من يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة عاقبته ستكون سيئة إلى حدّ دخول نار جهنّم. وفي المقابل من يؤثر الآخرة على الدنيا، وعلامته محاربة الهوى والنفس الأمّارة، فإنّ مأواه الجنّة.

كما وقد حذّر الإمام عليّ عليه السلام من مخاطر اتّباع الهوى والنفس الأمّارة ومن طول الأمل في الدنيا لكونهما من أعظم الموبقات وأشدّ المهلكات فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ"2.

من الآية الكريمة والرواية الشريفة يمكن أن نفهم مخاطر هذه الآفّة، فمن يتجاوز الحدّ الذي حدّه الله ولا يتورّع عن ارتكب المعاصي، مفضّلاً بذلك الدنيا على الآخرة، فإنّ النار منـزله ومأواه. وأمّا من خاف الله تعالى والتزم بما يجب عليه فعله أو تركه بحسب القوانين والتشريعات الإلهية، ونهى نفسه عن الحرام الذي تهواه وتشتهيه فإنّ الجنّة مقرّه ومثواه. ولكونهما من أعظم المهلكات حذّر منهما الإمام عليّ عليه السلام، فخطرهما مؤكّد وأثرهما السلبيّ مباشر على سلوك الإنسان وقربه من الله تعالى.
 

1- سورة النازعات، الآيات 37 - 41.
2- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 72، الخطبة رقم 28.
 
 
 
99

81

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 معنى اتّباع الهوى

"الهوى" في اللغة "حبّ الشيء" و"اشتهاؤه" من دون فرق في أن يكون المتعلّق أمراً حسناً ممدوحاً، أو قبيحاً مذموماً. وهوى النفس هو حبّ النفس والتعلّق بها، وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت هذه الأوامر خيراً أم شرّاً. واتّباع أوامر النفس يعدّ شركاً بالله لأنّ المطاع في هذه الحالة هو أوامر النفس وليس أوامر الله تعالى. 

فالأمر الصادر عن النَّفس إن كان خيراً ولم يكن في طاعة الله ولأهداف إلهية فهو مخالف لإرادة الله تعالى وبالتالي باطل، وإن كان شراً فهو صادر عن النَّفس الأمّارة بالسوء التي تأمر الإنسان بالسوء دائماً وتدفعه إلى معصية الربّ ومخالفة أمره. 

الهوى المذموم في الآيات والروايات
حذّرنا الله تعالى من اتّباع الهوى في كثير من آيات القرآن. وقد وردت هذه الآيات بصيغ مختلفة فتحدّث عن هذه الحقيقة وأشار إلى أن المتّبع لهواه في الحقيقة عابد لغير الله وهذا الغير هو النفس أو ما يعبّر عنه بالـ (الأنا)، قال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾1. ففي الآية إشارة واضحة إلى أنّ الإنسان يمكن أن يهبط إلى الحدّ الذي تصبح فيه نفسه هي المعبودة والمطاعة وليس الحقّ عزَّ وجلَّ. ومن الآيات أيضاً قوله تعالى ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾2، ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾3، ﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾4، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾5.

والمشكلة الكبرى في هذه التبعية للنفس تكمن في أنّها تضلّ الإنسان عن جادّة الحقّ والصِّراط المستقيم، كما قال عزَّ اسمه: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾6.
 

1- سورة الجاثية، الآية 23.
2- سورة الأعراف، الآية 176.
3- سورة الكهف، الآية 28.
4- سورة طه، الآية 16.
5- سورة القصص، الآية 50.
6- سورة الأنعام، الآية 119.
 
 
 
100

82

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 لذا كان أمر الله وحكمه واضحاً وصريحاً بضرورة تجنّب هوى النَّفس وطاعتها، لأنّها لن تورث الإنسان إلّا العذاب والضلال: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾1. والمؤمنُ الصَّادق يكفيه أن يعرف الأضرار والمساوئ الناجمة عن اتّباع الهوى وحبّ النَّفس، وما وعد الله به الذين يخافونه في الغيب من الجنان، حتّى يقلع عنه: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾2.


مجامع الهوى خمسة
وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجده ذكر أنّ مجامع الهوى خمسة أمور جمعها قوله سبحانه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾3.

ومجامع الهوى حسب الآية على الشكل الآتي: 
1- اللعب: وهو عمل منظوم لغرض خياليّ كلعب الأطفال.
2- اللهو: وهو ما يشغل الانسان عمّا يهمّه.
3- الزينة: يراد بها ما يُتزيّن به وهي ضمّ شيء مرغوب فيه إلى شيء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال.
4- التفاخر: المباهاة بالأنساب والأحساب.
5- التكاثر: في الأموال والأولاد4.

وبيان هذه المراحل على الشكل الآتي: 
مرحلة الطفولة: والحياة في هذه المرحلة عادة مقترنة بحالة من الغفلة والجهل واللعب.

مرحلة المراهقة: حيث يأخذ اللهو مكان اللعب. وفي هذه المرحلة يكون الإنسان لاهثاً
 

1- سورة ص، الآية 26.
2- سورة النازعات، الآيتان 40 - 41.
3- سورة الحديد، الآية 20.
4- ينظر: العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج19، ص 164.بتصرف -.
 
 
 
101

83

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 وراء الوسائل والأمور التي تلهيه وتبعده عن الأعمال الجدّية.


مرحلة الشباب: وهي مرحلة الحيوية والعشق وحبّ الزينة.

مرحلة الكهولة: وإذا ما تجاوز الإنسان مرحلة الشباب فإنّه يصل إلى المرحلة الرابعة حيث تتولّد في نفسه دوافع العلوّ والتفاخر.

مرحلة ما بعد الكهولة: وأخيراً يصل إلى المرحلة الخامسة حيث يفكّر فيها بزيادة المال والأولاد وما إلى ذلك1.

والأمور التي تحصل منها هذه الخمسة، سبعة جمعها قوله سبحانه: 
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾2. وقد ردّ القرآن الكلّ إلى واحد فقال: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾3.

أمّا الروايات الواردة في ذمّ اتّباع الهوى فكثيرة، منها ما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "والشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاه وغُرُورِه... ومُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلإِيمَانِ ومَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ..."4.

وعنه عليه السلام "عِبَادَ الله لَا تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ ولَا تَنْقَادُوا لأَهْوَائِكُمْ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهَذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِه مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ.."5.

وقد حذّر الإمام عليّ عليه السلام من أوّل الهوى وبداياته: "إيّاكم وتمكّن الهوى منكم، فإنّ أوّله فتنة وآخره محنة"6، وعنه عليه السلام: "إيّاكم وغلبة الشهوات على قلوبكم، فإنّ بدايتها ملكة، ونهايتها هلكة"7، وعنه عليه السلام: "أوّل الشهوة طرب، وآخرها عطب"8.
 

1- ينظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج18، ص 56. بتصرف -.
2- سورة آل عمران، الآية 14.
3- سورة النازعات، الآيتان 40-41.
4- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 117، الخطبة رقم 86.
5- م.ن، ص 152، الخطبة رقم 105.
6- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 101.
7- م.ن، ص 101.
8- م.ن، ص 112.
 
 
 
102

84

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 آثار اتّباع هوى النَّفس

1- ضعف الإيمان بالآخرة: اتّباع الهوى يمكن أن يحول بين الإنسان والإيمان الصحيح بالآخرة: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾1.

2- الضلال: اتّباع الهوى يورث الضلالة، فهو يخرج الإنسان عن طريق الله: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾2.

3- انتفاء العدالة: اتّباع الهوى مانع من العدل والإنصاف: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ﴾3.

4- فسادُ الكون: إنّ نظام السماء والأرض خاضع لإرادة حكيمة وعادلة، فلو دار حول محور أهواء النّاس وشهواتهم لعمّ الفساد كلّ ساحة الوجود: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾4.

5- أساس الغفلة: اتّباع الهوى يحجب عن سبيل الحقّ ويورث الغفلة: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾5.

6- فساد العقل: اتّباع الهوى يفسد العقل ويضعه ويمنعه من التَّمييز بين الحقّ والباطل: فعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "طاعة الهوى تفسد العقل"6

7- أساس المحن: اتّباع الهوى سبب أساسيّ للمحن والبلاءات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة، كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "الهوى أُسُّ المحن"7.
 

1- سورة طه، الآيتان 15-16.
2- سورة القصص، الآية 50.
3- سورة النساء، الآية 135.
4- سورة المؤمنون، الآية 71.
5- سورة الكهف، الآية 28.
6- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 434.
7- م.ن، ص 56.
 
 
 
103

 


85

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 علاج اتّباع الهوى

إذا عرفنا أنّ اتّباع الهوى يكون باتّباع أوامر النَّفس دون الله والانصياع التامّ لتلبية رغباتها، فإنّ العلاج الأساس يكون بمخالفة هذه الأوامر النابعة من النَّفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشّريعة في كافة شؤون حياتنا لأنّه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾1، بالإضافة إلى تقوية رادع الإيمان والتقوى في النَّفس. فمن يشعر بوجود الله دائماً في حياته ويراه حاضراً وناظراً إلى سلوكيّاته وأفعاله، ويرى محكمة العدل الإلهيّة يوم القيامة بعين البصيرة لا يمكن أن يتجرّأ على كسر طوق الحدود الإلهيّة ويتجاوز التشريعات الدينية ويتلوّث بمفاسد الشَّهوات والرذائل. فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "خالف نفسك تستَقِمْ، وخالط العلماء تعْلم"2. فمخالفة النَّفس وإشغالها دائماً بالطاعات والواجبات الشرعيّة بحيث لا يعود لها منفذٌ للجري وراء تلبية الأهواء والشَّهوات، هي السبيل الوحيد للتكامل والرقيّ الإنسانيّ، كما أنَّ معاشرة الصالحين وترك صحبة رفاق السوء لها الأثر الأكبر في توجيه الإنسان نحو معالي الأخلاق وعدم التلوّث في مستنقع الرَّذائل. 

معنى طول الأمل
المراد بالأمل تعلّق النفس بحصول محبوب في المستقبل، ويرادفه الطمع والرجاء، إلاّ أنّ الأمل كثيراً ما يستعمل فيما يستبعد حصوله، والطمع فيما قرب حصوله، والرجاء بين الأمل والطمع. وطول الأمل عبارة عن توقّع أمور دنيويّة يستدعي حصولها مهلة في الأجل وفسحة من الزمان المستقبل.

طول الأمل المذموم
الأمل في نفسه ليس مذموماً بل ورد في بعض الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "الأمل رحمةٌ لأمّتي، ولولا الأمل ما رَضَعَت والدةٌ ولدَها، ولا غَرَس غارس شجراً"3.

أمّا طول الأمل المذموم فهو ما أشار إليه الإمام عليّ عليه السلام في الحديث بقوله: "وأمّا
 

1- سورة المائدة، الآية 44.
2- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 364.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج74، ص 173.
 
 
 
104

86

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 طول الأمل فيُنسي الآخرة"، لأنّ طول الأمل عبارة عن توقّع أمور محبوبة دنيويّة، فهو يوجب دوام ملاحظتها، ودوام ملاحظتها مستلزم لإعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة، وما يمكن أن يعقب هذا الإعراض من نسيان كامل لها بعد حين.


والسبب الأساس لطول الأمل هو حبّ الدنيا. فإنّ الإنسان إذا أنس بالدنيا ولذّاتها ثقل عليه مفارقتها وأحبّ دوامها، فلا يتفكّر في الموت الذي هو سبب مفارقتها. فإنّ من أحبّ شيئاً كره الفكر فيما يُزيله ويُبطله، فلا تزال نفسه تتمنّى البقاء في الدنيا وتقدّر حصول ما تحتاج إليه من أهل ومال وأدوات وأسباب، ويصير فكره مستغرقاً في ذلك، فلا يخطر الموت ولا الآخرة بباله.

وإن خطر بخاطره الموت والتوبة والإقبال على الأعمال الأخرويّة أخّر ذلك من يوم إلى يوم، ومن شهر إلى شهر، ومن عام إلى عام، وقال: إلى أن أكتهل وتزول سنّ الشباب، فإذا اكتهل قال: إلى أن أصير شيخاً، فإذا شاخ قال: إلى أن أتمّ هذه الدار وأزوّج ولدي فلاناً، وإلى أن أعود من هذا السفر، وهكذا يسوّف التوبة، كلّما فرغ من شغل عرض له شغل آخر ـ بل أشغال ـ حتّى يختطفه الموت وهو غافل عنه غير مستعدّ له مستغرق القلب في أمور الدنيا، فتطول في الآخرة حسرته، وتكثر ندامته، وذلك هو الخسران المبين1. جاء فيما ناجى الله تعالى النبيّ موسى عليه السلام: "يا موسى، لا تُطوِّلْ في الدنيا أمَلَك فيقسو قلبُك، والقاسي القلبْ منّي بعيد"2

ولمعرفة خطورة طول الأمل على الآخرة لا بدّ أن نلتفت إلى الحديث المرويّ عن الإمام الكاظم عليه السلام الذي يقول فيه: "اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً"3. وهذا الحديث هو عنوان المؤمن الفطن حقّاً، يعمل لإصلاح الدنيا، عمل من يرى أنّ الدنيا أبديّة دائمة، فيعبّد الأرض، ويشقّ الأنهار، ويزرع الفيافي، ويعمّر البلاد، وما إلى ذلك من زينة الحياة الدنيا، وبهجة الحضارة البشرية... هذا من جانب، ومن جانب
 

1- ينظر: حبيب الله الهاشمي الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج4، ص 202.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 329، باب القسوة، ح1.
3- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، من لا يحضره الفقيه‏، تحقيق وتصحيح علي أكبر غفاري، قم‏، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم‏، 1413 هـ‏، ط 2، ج3، ص 156، ح 3569.
 
 
 
105

87

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 آخر يعمل للآخرة، كأنه يموت غداً، فيصلّي لربه الفرائض، ويؤدّي الصدقة الواجبة، ويحجّ البيت إن استطاع إليه سبيلاً، ويــصوم الصوم الواجب، ويأمر بالمعروف ويتحلّى بالفضيلة، ويجتنب المحــرّمات والمآثم، حتّى لا يبالي أمات غداً أو بعد ألف سنة.


وهكذا إنسان هو الجامع بين خير الدنيا وخير الآخرة. أمّا الذي يؤخّر أمر الآخرة كأنّه يعيش أبداً، ويقدّم أمر الدنيا فهو الذي له (أمل خاطئ)، ومثل هذا الأمل مذموم مُهلك. إنّه يعتقد بقاءه مدّة متمادية، فيهيّئ لنفسه لوازم لهذه المدة من مال ودار وأثاث ورياش، ثمّ لا يلتفت إلى الآخرة، يرجئ الحجّ ويؤخّر الخمس، ولا يخرج عن المظالم، ولا يبادر لقضاء ما فاته من صلاة وصيام وهكذا فجأة يأتيه الموت.

كلام الإمام الخميني حول طول الأمل
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "يجب أن نعرف أنّ من أهمّ أسباب عدم التيقّظ الذي يؤدّي إلى نسيان المقصد ونسيان لزوم المسير، وإلى إماتة العزم والإرادة، هو أن يظنّ الإنسان أنّ في الوقت متّسعاً للبدء بالسير، وأنّه إذا لم يبدأ بالتحرّك نحو المقصد اليوم، فسوف يبدأه غداً، وإذا لم يكن في هذا الشهر، فسيكون في الشهر المقبل. فإنّ طول الأمل هذا وامتداد الرجاء، وظنّ طول البقاء، والأمل في الحياة والرجاء سعة الوقت، يمنع الإنسان من التفكير في المقصد الأساسيّ الذي هو الآخرة. ومن لزوم السير نحوه ومن لزوم اتّخاذ الصديق وتهيئة الزاد للطريق، ويبعث الإنسان على نسيان الآخرة ومحو المقصد من فكره - ولا قدّر الله ، إذا أصيب الإنسان بنسيان للهدف المنشود في رحلة بعيدة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع ضيق الوقت، وعدم توفّر العُدَّة والعدد رغم ضرورتهما في السفر، فإنّه من الواضح لا يفكر في الزاد والراحلة، ولوازم السفر، وعندما يحين وقت السفر يشعر بالتعاسة، ويتعثّر ويسقط في أثناء الطريق، ويهلك دون أن يهتدي إلى سبيل.

اعلم إذاً، أيّها العزيز، أنّ أمامك رحلة خطرة لا مناص لك منها، وأن ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصالح. وهي رحلة ليس لها موعد معيّن، فقد يكون الوقت ضيقاً جداً، فتفوتك الفرصة. إنّ الإنسان لا يعلم متّى يقرع ناقوس الرحيل للانطلاق فوراً. إنّ طول الأمل المعشّش عندي وعندك الناجم من حبّ النفس ومكائد الشيطان الملعون
 
 
 
 
106

88

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 ومغرياته، تمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطريق، فلا نسعى لإزالتها بالتوبة والإنابة والرجوع إلى طريق الله، ولا نعمل عل تهيئة زاد وراحلة، حتّى إذا ما أزف الوعد الموعود اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا راحلة، ومن دون العمل الصالح، والعلم النافع، اللذين تدور عليهما مؤونة ذلك العالم، ولم نهيّئ لأنفسنا شيئاً منهما. حتّى لو كنّا قد عملنا عملاً صالحاً، فإنه لم يكن خالصاً بل مشوب بالغشّ، ومع آلاف من موانع القبول. وإذا كنّا قد نلنا بعض العلم، فقد كان علماً بلا نتيجة وهذا العلم إمّا أنْ يكون لغواً وباطلاً، وإمّا أنّه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ولو كان ذلك العلم والعمل صالحين، لكان لهما تأثير حتميّ وواضح فينا نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالاً، ولغيّرا من أخلاقنا وحالاتنا. فما الذي حصل حتى كان لعملنا وعلمنا مدة أربعين أو خمسين سنة تأثير معكوس بحيث أصبحت قلوبنا أصلب من الصخر القاسي؟ ما الذي جنيناه من الصلاة التي هي معراج المؤمنين؟ أين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم؟ لو أنّنا أجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال ـ لا سمح الله لكان علينا أن نتحمل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق، ممّا لا يمكن إزالته!"1.


1- ينظر: الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، حديث إتباع الهوى وطول الأمل.

 

107


89

الدرس الثامن: اتّباع الهوى وطول الأمل

 المفاهيم الرئيسة


1- "الهوى" في اللغة "حبّ الشيء" و"اشتهاؤه" من دون فرق في أن يكون المتعلّق أمراً حسناً ممدوحاً، أو قبيحاً مذموماً. وهوى النفس هو حبّ النفس والتعلّق بها، وميل الإنسان إلى اتّباع الأوامر الصادرة عنها سواء كانت هذه الأوامر خيراً أم شرّاً. واتّباع أوامر النفس يعدّ شركاً بالله لأنّ المطاع في هذه الحالة هو أوامر النفس وليس أوامر الله تعالى. 

2- مجامع الهوى هي: اللعب, التكاثر, الزينة, التفاخر, اللهو.

3- من آثار اتّباع هوى النَّفس: ضعف الإيمان بالآخرة, الضلال, انتفاء العدالة, فسادُ الكون, وفساد العقل, والوقوع في الغفلة, وا لمحن والبلاءات.

4. إنّ العلاج الأساس يكون بمخالفة هذه الأوامر النابعة من النَّفس والاحتكام عوضاً عنها إلى أحكام الشّريعة في كافة شؤون حياتنا لأنّه ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ?، بالإضافة إلى تقوية رادع الإيمان والتقوى في النَّفس.

5- المراد بالأمل تعلّق النفس بحصول محبوب في المستقبل، ويرادفه الطمع والرجاء, وطول الأمل عبارة عن توقّع أمور دنيويّة يستدعي حصولها مهلة في الأجل وفسحة من الزمان المستقبل.

6- الأمل في نفسه ليس مذموماً بل ورد في بعض الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "الأمل رحمةٌ لأمّتي، ولولا الأمل ما رَضَعَت والدةٌ ولدَها، ولا غَرَس غارس شجراً".أمّا طول الأمل المذموم فهو ما أشار إليه الإمام عليّ عليه السلام في الحديث بقوله: "وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة".
 
 
 
 
108

90

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى المعنى المُراد من الشهوات.
2- يعرف نظرة الإسلام إلى الشهوات. 
3- يدرك أسباب الانجرار وراء الشهوات.
4- يتعرّف إلى طرق تربية الشهوات وترشيدها.
 
 
 
 
109

91

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 ما المقصود من الشهوات؟

الشهوة لغة رغبة النفس واشتياقها إلى شيْء: "شَهِيَ الشيءَ وشَهاه يَشْهاه شَهْوَةً واشْتَهاه وتَشَهّاه: أَحَبَّه ورَغِب فيه"1

والمعنى الاصطلاحيّ للشهوات لا يختصّ بالشهوة الجنسيّة بل يشمل كافة الميول واللذات والرغبات النفسيّة, كحبّ المال, والذهب, والفضّة, والطعام, والشراب, والنوم والراحة... والقرآن الكريم نراه قد استعمل "الشهوة" بالمعنى العامّ, وهو ميل النفس والسعي إلى إشباع ذلك الميل. وجمع في آية واحدة أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء، والبنين، والأموال المكدّسة، والخيل، والأرض المخصّبة، والأنعام،... كما في قوله، سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾2.

من هنا فإنَّ المعنى المراد من الشهوة أعمّ من طلب اللذة الجنسيّة, وهو يشمل الميول الأخرى للنفس, كشهوة البطن, والمال,.. كما أشارت الآية الكريمة السابقة وعدّدت ستة من متاع الدنيا وهي: المرأة، والولد، والمال، والخيول الأصيلة، والمواشي والإبل، والزراعة، وهي أركان الحياة المادّية.
 

 1- أنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم‏، لسان العرب‏، تحقيق وتصحيح جمال الدين الميردامادي، ‏بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- دار صادر، 1414هـ، ط 3، ج 14, ص 445.
2- سورة آل عمران، الآية 14.
 
 
 
111

92

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 نظرة الإسلام إلى الشهوات

إنّ الشهوة لا تشكّل عيباً يُعاب الإنسان به. وذلك أنّ الشهوة هي سنّة خلقية تلازم الإنسان في حياته. إنّما المشكلة تكمن في الانجرار وراء هذه الشهوات، وإخراجها عن حدّ الاعتدال فالاستغراق في شهوات الدنيا، ورغبات النفوس، ودوافع الميول الغرائزية, وعدم التوازن فيها هو الذي يشغل القلب عن التبصّر والاعتبار، ويُشكّل حاجباً على البصيرة الإيمانية، ويدفع بالإنسان إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة، ويحجب عنه ما هو أرفع وأعلى، ويعطّل الحسّ وأدوات الإنسان المعرفيّة، فيحرمه متعة التطلّع إلى ما وراء اللذة القريبة، ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض، الذي عرّفه الله تعالى أنّه خليفة الله في أرضه.

من هنا دعت الشريعة الإسلامية إلى الاعتدال والوسطية في التعامل مع الشهوات، فنهت عن إطلاقها وتحررّها بصورة كاملة, كما منعت كبتها وتدميرها. فالإسلام يدعو إلى ضبط الشهوات وتنظيمها واعتدالها, وإلى تقوية روح التسامي في الإنسان والتطلّع إلى ما هو أعلى.

ونستطيع أن نستخلص نظرة الإسلام إلى الشهوات من خلال النقاط الآتية: 
1- يمتاز الإسلام بمراعاته للشهوات والغرائز البشرية والقبول بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها.

2- حرَّم الإسلامُ الرهبانيةَ، لأنها تخالف التكوين والصناعة الإنسانية، وتصادم السنن الإلهية كسنّة الزواج والتكاثر، وتعطل الحياة البشريّة. ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾1.

3- تتضمّن الآيات القرآنيّة مقابلة متاعَ الدنيا بنعيم الآخرة، بهدف تحقيق التوازن في سلوك الناس حتّى لا يسترسلوا في تناول شهوات الدنيا، ويستغرقوا فيها، فتشغلهم عن ذكر الله والآخرة.

4- إنَّ تعذيبَ الجسد، وتحميلَه ما لا يطيق، ليس من مقاصد الإسلام وأهدافه العليا، ولا من وسائله لبلوغ الكمال الإنسانيّ.
 

 
1- سورة الأعراف، الآية 32.
 
 
 
112

93

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 أسباب الانجرار وراء الشهوات

الإنسان إذا لم يتخلق بالأخلاق الفاضلة فهو خارج عن نطاق الإنسانية وداخل في حدود الحيوانية، وذلك بسبب تسلّط الصفات الحيوانية عليه والاتّباع الأعمى لشهوات البطن والفرج، والغضب والعصبية والانتقام والغدر وغيرها من الصفات السبعية، فيغدو مصداقا لقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾1.

وإذا غلب على الإنسان الجانب البهيميّ فسوف يكون لاهثاً طوال الوقت وراء الشهوات والملذّات الجسدية فيتسافل ليصبح أدنى من الأنعام والحيوانات لتفريطه بنعم الله التي أنعمها عليه والتي تخوّله الوصول إلى أعلى عليين، ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾2.

ومن هنا فإنّ معرفة أسباب الانجرار وراء الشهوات يساعد على تربية الشهوات وعلاجها. ومن هذه الأسباب نذكر الآتي: 
1- ضعف الإيمان: 
إنّ الإيمان بالله عزّ وجلّ هو الضمانة والوقاية من المعصية، فكلّما ضعف إيمان العبد كان أكثر جرأة على محارم الله عزّ وجلّ ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾3.

2- جليس السوء: 
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِه وقَرِينِه"4 ظاهراً وباطناً. أمّا ظاهراً فظاهر لأنّه عند الناس مثلهم, وأمّا باطناً فلأنّ النفس مائلة إلى الشرور فتميل إلى طبع الجليس سريعاً وتسكن إليه فتستعدّ لصدور ما يصدر عنه من الأمور المنكرة, وعلى العكس إذا كان الجليس زاهداً متورعاً عالماً متديناً5.
 

1- سورة الأعراف، الآية 179.
2- سورة الأعراف، الآية 176.
3- سورة مريم، الآية 59.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 375، باب مجالسة أهل المعاصي، ح3.
5- المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 10، ص 33.
 
 
 
113

 


94

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 3- النظر المحرم: 

قال الله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾1.

عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "النَّظَرُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ وكَمْ مِنْ نَظْرَةٍ أَوْرَثَتْ حَسْرَةً طَوِيلَةً"2.

وعن أبي عبد الله عليه السلام: "النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة"3.

فالنظر إلى الأمور المحرّمة التي تثير الشهوة سوف تترك آثاراً سلبية جداً على خيال الإنسان وتفكيره وحتّى تركيزه. وسوف يصبح مرتعا للصور الفاسدة التي ستجرّه حتماً إلى ارتكاب الأعمال القبيحة، فيغرق شيئاً فشيئاً في رمال الذنوب المتحرّكة التي لو لم يبادر لاستنقاذ نفسه منها سوف ترديه في الهلكة وتقوده نحو الهاوية.

4- التفكير بالشهوة: 
التفكير بحدّ ذاته لا محذور فيه بل هو نعمة من الله وأمر ممدوح في الإنسان. لكنّ التفكير إذا كان في أمر محرّم فقد يقود صاحبه إلى فعل الحرام، وهذا هو التفكير المنبوذ. والاستغراق في التفكير الحرام خطير جداً على نفس الإنسان وروحه خصوصاً الشابّ والفتاة. لذا لو خطرت للإنسان خاطرة أو فكرة ما محرّمة فإنّ الواجب عليه أن يقطع التفكير بها مباشرة ويشغل فكره بأمور خيّرة ومفيدة وفيها رضا لله ولرسوله ولإمام زمانه، لأنّهم جميعاً شهود على أعماله ما ظهر منها وما بطن ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾4.
 

 
 
 
 
114

95

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 تربية الشهوات 

على الإنسان المؤمن أن يعمل على تربية نفسه من خلال إخضاعها لحكم الشرع والعقل المنوَّر بنور الشرع، لما لهذه التربية من دور حاسم وفعّال في السيطرة على الشهوات وعدم السماح لها بالتحكّم المطلق بالإنسان. وقد أشارت الآيات والروايات الشريفة إلى ما يمكن أن يقوّي النفس الإنسانية ويعطيها العزيمة والقوى اللازمة لتتمكّن من مواجهة مدّ الشهوة الجارف. وسوف نكتفي بذكر ثلاثة من هذه العناوين وهي: 
1- تعزيز الحكمة والمعرفة: 
الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء. وأشرف العلوم وأحسنها هو علم العقيدة المُعرِّف لأصول الدين, وعلم الأخلاق المعرِّف لمنجيات النفس ومهلكاتها, وعلم الفقه المعرّف لكيفية العبادات والمعاملات. وكلمّا عزّز الإنسان الجوانب المعرفية والعلميّة فيه, كان أكثر تحصّناً أمام الشهوات. من هنا وجب على الإنسان معرفة أسباب الإنجرار وراء الشهوات، حتّى يكون في مأمنٍ منها. عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "كلّما قويت الحكمة ضعفت الشهوة"1. وعنه عليه السلام أيضا أنّه قال: "أغلب الشهوة تكمل لك الحكمة"2.

2- تربية النفس على العفّة: 
من الطرق المعروفة في علاج الأمراض الأخلاقية المواظبة على ضدّها. والنظرية التي تضادّ نظرية الشهوات تماماً هي نظرية العفّة, فعلاج حبّ الشهوات يكمن في تربية هذه الشهوات بطريقة صحيحة من خلال تربية العفّة في نفوس المؤمنين.

والعفّة هي صفة نفسية في الإنسان وتعني صون النفس وتنزيهها عن كلّ أمر دنيّ. والتحلّي بالعفة يرفع من مقام العبد ويحصنّه من الوقوع في المعاصي ومنها الشهوات المحرّمة, عن الإمام علي عليه السلام: "لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ"3. فهذه الرواية تشير إلى أنّ العفّة سبب في ترك المعاصي والقرب من الله تعالى بحيث يصبح سلوكه كله طاعة لله تعالى
 

13- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 395.
14- م.ن، ص 75.
15- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 559، الحكمة 474.
 
 
 
115

96

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 وكأن العفيف ملك من الملائكة، وعنه عليه السلام: "ثمرة العفة الصيانة"1.


ووصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المتقين بأنّ "أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ"2 وذلك لاعتدال قوّتهم الشهوية ووقوعها على الوسط بين رذيلتي الخمود والفجور فلا يعجزون عن الحقّ ولا يميلون إلى الفجور3

وعَنْ مُفَضَّلٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: "إِيَّاكَ والسَّفِلَةَ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ عَفَّ بَطْنُه وفَرْجُه واشْتَدَّ جِهَادُه وعَمِلَ لِخَالِقِه ورَجَا ثَوَابَه وخَافَ عِقَابَه فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ"4

وحسب ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: "المتّقون أنفسهم قانعة وشهواتهم ميتة ووجوههم مستبشرة وقلوبهم محزونة"5، فالعفة تحفظ النفس وتجعل الشهوات في موقع وسطيّ معتدل. من هنا كان لا بدَّ للمؤمن من تربية نفسه على العفّة بكل مواردها، ليصبح مصداق قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾6.

3- التفكّر بعواقب الشهوة المحرّمة: 
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: "تَرْكُ الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ وكَمْ مِنْ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْناً طَوِيلاً"7. والمراد من الحزن في كلام الأمير عليه السلام هو الحزن بعد الموت بمشاهدة سوء العاقبة أبداً، أو قبل الموت أيضاً، فما يتبع الشهوة بعد انقضائها هو الحزن الشديد, وذلك لعلم الإنسان بقبح وظلمة آثارها8. من هنا نجد أنَّ التفكّر بتوابع وعواقب الشهوات المحرّمة يردع الإنسان عن الوقوع في مهالكها, ويجنّبه الحسرة والندم والحزن وغيرها من الآثار الوخيمة.
 

1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 208.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 132، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح15.
3- المازندراني، شرح أصول الكافي, ج 8, ص 366.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 233، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح9.
5- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ, ص 58.
6- سورة البقرة, الآية 273.
7- الشيخ الكليني، الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 451، باب أن ترك الخطيئة أيسر من (طلب) التوبة، ح1.
8- أنظر: شرح أصول الكافي، مولي محمد صالح المازندراني، ج10، ص 200.
 
 
 
 
116

97

الدرس التاسع: تربية الشهوات

 المفاهيم الرئيسة


1- الشهوة لغة رغبة النفس واشتياقها إلى شيْ: شَهِيَ الشيءَ وشَهاه يَشْهاه شَهْوَةً واشْتَهاه وتَشَهّاه: أَحَبَّه ورَغِب فيه1

2- والمعنى الاصطلاحيّ للشهوات لا يختصّ بالشهوة الجنسيّة بل يشمل كافة الميول واللذات والرغبات النفسيّة, كحبّ المال, والذهب, والفضّة, والطعام, والشراب, والنوم والراحة.

3- يمتاز الإسلام بمراعاته للشهوات والغرائز البشرية والقبول بواقعها، ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها.

4- حرَّم الإسلامُ الرهبانيةَ، لأنها تخالف التكوين والصناعة الإنسانية، وتصادم السنن الإلهية كسنّة الزواج والتكاثر، وتعطل الحياة البشريّة. ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾2.

5- تتضمّن الآيات القرآنيّة مقابلة متاعَ الدنيا بنعيم الآخرة، بهدف تحقيق التوازن في سلوك الناس حتّى لا يسترسلوا في تناول شهوات الدنيا، ويستغرقوا فيها، فتشغلهم عن ذكر الله والآخرة.

6- إنَّ تعذيبَ الجسد، وتحميلَه ما لا يطيق، ليس من مقاصد الإسلام وأهدافه العليا، ولا من وسائله لبلوغ الكمال الإنسانيّ.

7- أسباب الانجرار وراء الشهوات: ضعف الإيمان, جليس السوء, النظر المحرم, التفكير بالشهوة.

8- الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء, وكلمّا عزّز الإنسان الجوانب المعرفية والعلميّة فيه, كان أكثر تحصّناً أمام الشهوات.

9- من الطرق المعروفة في علاج الأمراض الأخلاقية المواظبة على ضدّها. والنظرية التي تضادّ نظرية الشهوات تماماً هي نظرية العفّة, فعلاج حبّ الشهوات يكمن في تربية هذه الشهوات بطريقة صحيحة من خلال تربية العفّة في نفوس المؤمنين.
 

1- أنظر: ابن منظور، محمد بن مكرم‏، لسان العرب‏، تحقيق وتصحيح جمال الدين الميردامادي، ‏بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- دار صادر، 1414هـ، ط 3، ج 14, ص 445.
2- سورة الأعراف، الآية 32.
 
 
 
 
117

98

الدرس العاشر: النظم والانضباط

 أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يستدلّ على أنّ الإسلام دينٌ محوره النظام وهو قائم على أساسه.
2- يشرح العلاقة التي تربط الإيمان بالنظام في الإسلام.
3- يتحدّث باختصار عن أهمّ الجوانب التي ينبغي أن يشملها النظام في الحياة.
 
 
 
119

99

الدرس العاشر: النظم والانضباط

 الإسلام دين النظام

إنّ الإسلام يُنظّم الحياة البشريّة في مختلف ميادينها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. وقد بُنِي ديننا كلُّه على النظام، فالنظام هو محور حياة المسلم، بل الكون كلُّه يسير في نظام: البشر، الكائنات، الليل والنهار، السماء، الفلَك... 

خلق الله عزّ وجلّ هذا الكون على أساس منظّم، فوضع كلّ شيء في موضعه، وجعل له مهمّة، عليه أن يؤدّيها في هذه الدنيا، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ *  لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾1، وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾2.

وكذلك نظرة الإسلام للنظام في تعاملات البشر واضحة، فالاستئذان شرط، ومن لا يؤذَن له لا يدخل، وللأكل آدابه، والالتزام بالعهود والعقود شرط، وفي السفر إن خرج اثنان في سفرٍ فليؤمِّرا أحدهما، ووصل النظام إلى ضرورة اختيار اسمٍ صالحٍ للأولاد بمجرَّد ولادتهم، ثمَّ حسن تربيتهم. ووضع الإسلام، كذلك، قواعد في آداب التحيَّة والسلام، وفي
 

1- سورة يس، الآيات 37 - 40.
2- سورة الروم، الآيات 22 - 24.
 
 
 
 
121

100

الدرس العاشر: النظم والانضباط

 الصلاة: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، ولينوا1 بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجاتٍ للشيطان"2


وفي الجهاد: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾3، وغيرها من الموارد. فهذا باختصار هو الإسلام، دين النظم والانتظام، نظام في كلّ شيء، منذ الولادة وحتّى الممات، في الأمور الشخصيّة والمعاملات، وفي تكوين الأرض والسماوات.

النظام قرين التقوى والإيمان
ومن وصيّة للإمام عليّ عليه السلام للحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم (لعنه الله) على رأسه الشريف: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم..."4.

ويحبُّ الله عزّ وجلّ - الذي خلق هذا الكون بهذا النظم العجيب - أن يكون الإنسان منظّماً في حياته الشخصيّة والعامة، وقد بيَّن طريق ذلك في رسالات السماء وبالخصوص دين الإسلام، وأمر برعاية ما بيّنه وأنزله.

وقد أوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانيّة، بأبعادها الفرديّة والاجتماعيّة بهدف تحقيق امتثال التكليف الإلهيّ. ويتجلّى الالتزام بالنظام بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف، التي جاءت لتنظيم الحياة الإنسانيّة وتأمين السعادة للمجتمع البشريّ كلّه، وهو ما أشار إليه الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته لولديه، حيث قرن التقوى - التي تُعبّر عن أعلى مراتب الإيمان والالتزام العمليّ بأحكام الشريعة وقوانينها - بالوصيّة بنظم الأمر، لأنّه لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلّى بالتقوى والإيمان الحقيقيّ دون أن يربّي نفسه على النظام، والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس، وإلّا لابتُلي بالنفاق والكذب، ما يؤدّي إلى ضعف الإيمان والتديُّن، ولا يبقى عندها أيّ قيمة للتقوى والإيمان.
 

1- ومعنى "ولينوا..." إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتّى يدخل في الصف.
2- السجستاني، سليمان بن الأشعث، سنن أبي داود، تحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1410هـ - 1990م، ط 1، ج1، ص157.
3- سورة الصف، الآية 4.
4- السيد الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، ص 421، الخطبة 47.
 
 
 
122

101

الدرس العاشر: النظم والانضباط

 وجوب مراعاة النظام في الفقه الإسلاميّ

أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقرّرات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلاميّة، تجب مراعاتها على كلّ حال1. وليس لأيّ أحد أن يضع في الشوارع والطرقات العامّة ما يضرّ بالمارّة ونحوهم، ولا بدّ من منع ذلك بأيّة وسيلة ممكنة، ولو بتسجيل عقوبة مادّيّة عليه لحفظ المصالح العامّة، وكذا الحال في وضع القذارات فيها، ولا ينبغي لأحد مخالفة النظام، ولا سيّما مع حصول الإضرار بالجار2. ومن الطبيعيّ أنّ المحافظة على أنظمة وقوانين، مثل: شبكات الكهرباء والماء والهاتف العامة، وعلى أنظمة السير والبناء والضمان الصحيّ والبيئة، وغيرها ممّا له جنبة مصلحة وفائدة اجتماعية عامّة، من المصاديق الطبيعيّة، التي تندرج تحت النظام العام الذي أوجب الفقهاء الالتزام به ومراعاته.

النظم في العلاقات الاجتماعيّة
أولى الإسلام الآداب العامّة التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم أهمّيّة قصوى، تبرز في مختلف مرافق الحياة العامّة والاجتماعيّة. فقد جعل الإسلام كلّ مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعيّة، يمارس دوره الاجتماعيّ من موقعه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته"3، ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاهتمام بأمور المسلمين، ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: "من أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم"4.

فالمسلم مسؤول عن إصلاح وتحصين نفسه وأفراد مجتمعه، من خلال الالتزام بالأحكام الشرعيّة الاجتماعيّة المتعلّقة بالأسرة، والأرحام، والجيران والأبناء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على النظام العام، ورعاية حقوق الآخرين، وعدم التهاون والتساهل بها, بالإضافة إلى المساهمة والحضور الاجتماعيّ بحسب المصلحة والوسع. قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾5.
 

1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، الكويت، دار النبأ للنشر والتوزيع، 1415هـ - 1995م، ط 1، ج 2 ص 98.
2- مجمع المسائل, ج1، ص399، م16.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص 38.
4- الشيخ الكليني، الكافي, ج 2, ص 163.
5- سورة الحجرات، الآية 10.
 
 
 
123

102

الدرس العاشر: النظم والانضباط

 النظام في الحياة الفرديّة

تشتمل الحياة الشخصيّة للإنسان على النظافة والصحّة وترتيب اللباس ونظافة الشعر والوجه وغيرها... ونشير بشكل مختصر إلى بعض هذه الموارد: 
1- التجمّل: رُوي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان كلّما أراد الخروج إلى المسجد، أو إلى لقاء أصحابه، ينظر في المرآة ويُرتِّب شعره ويتعطَّر، وكان يقول: "إنّ الله يُحبُّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيَّأ لهم ويتجمَّل"1.

2- النظافة: وممّا أمر به الإسلام أيضاً رعاية النظافة العامّة والشخصيّة, لما في ذلك من مظهر حضاريّ ومدنيّ له العديد من الأبعاد التربوية بين الناس، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله طيّب يُحبُّ الطيّب، نظيف يُحبُّ النظافة"2، وفي كلام آخر له صلى الله عليه وآله وسلم قيّد الدخول إلى الجنّة بالنظافة: "تنظَّفوا بكلِّ ما استطعتم, فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنّة إلّا كلّ نظيف"3، وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "من أخلاق الأنبياء التنظّف"4

3- المظهر الحسن: إنّ تعاليم الإسلام كما أمرتنا برعاية النظافة والتجمّل والتطيّب، أمرتنا أيضاً بأن نراعي المظهر الحسن في الشكل واللباس، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رأى رجلاً شعثاً، قد تفرّق شعره، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره"5. وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال: "من اتّخذ ثوباً فلينظّفه"6، وعن الإمام عليّ عليه السلام حول لبس الحذاء قال: "استجادة الحذاء وقاية للبدن، وعون على الصلاة والطهور"7.
 

1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 5، ص 11.
2- المتقي الهندي، كنز العمال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني، تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، بيروت - لبنان مؤسسة الرسالة، 1409 - 1989م، لا.ط، ج 15، ص 389.
3- م.ن، ج9، ص277.
4- الشيخ الكليني، الكافي, ج 5, ص 567.
5- السجستاني، سنن أبي داود، ج 2، ص 261.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج6، ص441.
7- م.ن، ج6، ص 462.
 
 
 
124

103

الدرس العاشر: النظم والانضباط

 الانضباط في الوقت

إنّ الاستفادة الصحيحة من الوقت هي من أهمِّ الأمور التي توجب نجاح الإنسان في أموره الاجتماعيّة ونجاح علاقاته مع الآخرين، ويكون ذلك عبر قيام الإنسان بتنظيم برنامج شخصيّ له للعمل، وللثقافة وللزيارات. إنّ عدم وجود نظام يسير عليه الإنسان يوجب ضياع الفرص، وأمّا الانضباط والعمل ضمن برنامج معيَّن فهو موجب للاستفادة من طاقة الإنسان واستثمار نتائج عمله. ويأمر الإمام الكاظم عليه السلام الإنسان بتقسيم أوقاته إلى أربعة أقسام، فقد ورد عنه عليه السلام: "اجْتَهِدُوا فِي أَنْ يَكُونَ زَمَانُكُمْ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ سَاعَةً لِمُنَاجَاةِ الله وَسَاعَةً لِأَمْرِ الْمَعَاشِ وَسَاعَةً لِمُعَاشَرَةِ الْإِخْوَانِ وَالثِّقَاتِ الَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ وَيُخْلِصُونَ لَكُمْ فِي الْبَاطِنِ وَسَاعَةً تَخْلُونَ فِيهَا لِلَذَّاتِكُمْ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَبِهَذِهِ السَّاعَةِ تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلَاثَةِ سَاعَاتٍ - لَا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِفَقْرٍ وَلَا بِطُولِ عُمُرٍ فَإِنَّهُ مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ بَخِلَ وَمَنْ حَدَّثَهَا بِطُولِ الْعُمُرِ يَحْرِصُ اجْعَلُوا لِأَنْفُسِكُمْ حَظّاً مِنَ الدُّنْيَا بِإِعْطَائِهَا مَا تَشْتَهِي مِنَ الْحَلَالِ وَمَا لَا يَثْلِمُ الْمُرُوَّةَ وَمَا لَا سَرَفَ فِيهِ وَاسْتَعِينُوا بِذَلِكَ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّهُ رُوِيَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ دُنْيَاهُ لِدِينِهِ أَوْ تَرَكَ دِينَهُ لِدُنْيَاهُ"1.
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 321.
 
 
 
 
125

104

الدرس العاشر: النظم والانضباط

 المفاهيم الرئيسة


1- إنّ الإسلام يُنظّم الحياة البشريّة في مختلف ميادينها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. وقد بُنِي ديننا كلُّه على النظام، فالنظام هو محور حياة المسلم، بل الكون كلُّه يسير في نظام.

2- أوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانيّة، بأبعادها الفرديّة والاجتماعيّة بهدف تحقيق امتثال التكليف الإلهيّ. ويتجلّى الالتزام بالنظام بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف، التي جاءت لتنظيم الحياة الإنسانيّة وتأمين السعادة للمجتمع البشريّ كلّه.

3- أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقرّرات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلاميّة، تجب مراعاتها على كلّ حال1.

4- أولى الإسلام الآداب العامّة التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم أهمّيّة قصوى، تبرز في مختلف مرافق الحياة العامّة والاجتماعيّة.

5- المسلم مسؤول عن إصلاح وتحصين نفسه وأفراد مجتمعه، من خلال الالتزام بالأحكام الشرعيّة الاجتماعيّة المتعلّقة بالأسرة، والأرحام، والجيران والأبناء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على النظام العام، ورعاية حقوق الآخرين، وعدم التهاون والتساهل بها, بالإضافة إلى المساهمة والحضور الاجتماعيّ بحسب المصلحة والوسع. قال تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾2.

6- إنّ الاستفادة الصحيحة من الوقت هي من أهمِّ الأمور التي توجب نجاح الإنسان في أموره الاجتماعيّة ونجاح علاقاته مع الآخرين، ويكون ذلك عبر قيام الإنسان بتنظيم برنامج شخصيّ له للعمل، وللثقافة وللزيارات.
 

1- الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، الكويت، دار النبأ للنشر والتوزيع، 1415هـ - 1995م، ط 1، ج 2 ص 98.
2- سورة الحجرات، الآية 10.
 
 
 
 
126

105
أخلاقنا الإسلامية