المسيح في ليلة القدر


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2017-11

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطاهرين عليهم السلام، وعلى جميع أنبياء الله تعالى والمرسلين، والشهداء والمجاهدين في سبيل الله، وبعد.

تتميّز الثورة الإسلاميّة في إيران بالعديد من الخصائص والميزات، نكتفي بذكر أمرين منه، وهما:
أولاً: القيادة العلميّة الحكيمة والشجاعة: فلا يخفى على أحد في هذا العالم أثر قيادة الإمام الخميني قدس سره في استنهاض كلّ شرائح الشعب على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وقوميّاتهم، وذلك من خلال التواصل الصادق والخطاب الإسلاميّ الأصيل معهم. وعلى المنهج والقيم والثوابت نفسها حفظ الإمام الخامنئي دام ظله نهج الإمام، وأكمل درب الثورة في بناء الدولة الإسلاميّة العزيزة والقادرة، بل والمتفوِّقة علماً وتقدّماً وحضارة.

ثانياً: الاعتماد على الشعب: فالثورة الإسلاميّة في إيران هي من الثورات الفريدة في هذا العالم، لأنّها استندت في قيامها ونهضتها وانتصارها ونظامها السياسي إلى وعي الشعب وقوّته وعزّته.

وها هي قوافل الشهداء التي قدّمها أبناء الشعب الإيرانيّ في بدايات الثورة الإسلاميّة، وبعد الانتصار في الحرب المفروضة على إيران، دليلٌ على الحضور الحيويّ والفعّال لهذا الشعب في الثورة وبناء الدولة. وما يُميّز شهداء الثورة الإسلاميّة في المرحلتَيْن، هو أنّك ترى جميع النّاس على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم وأديانهم يواجهون الظّلم والظّالمين...، ويؤثرون العزّة والكرامة على الحياة الذليلة.
 
 
 
 
9

1

المقدمة

 ولهذا، نجد أنّ الشهادة وتقديم القرابين على مذبح العزّة كانت سمةً تميّزت بها جميع شرائح المجتمع الإيرانيّ. 


وهذا الكتاب "المسيح في ليلة القدر" هو عيّنة من تضحيات هذا الشّعب، إذ يصوّر العلاقة الوجدانيّة الوثيقة بين قائد الثورة وعوائل الشهداء المسيحيّين في إيران.

فالكتاب من النتاجات المُهمّة لمؤسسة "صهبا"، والذي يهتمّ بالتعريف بجوانب من البرامج النورانيّة المتواصلة للإمام القائد الخامنئي، أي حضوره في منازل الشهداء. وهو برنامج بدأ سنة 1984م في أصعب فترة من أيام الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة، وما زال مستمرًّا حتى اليوم، وفي كلّ مورد من موارده لفتات لطيفة ودروس قيّمة وعبر للناس.

"المسيح في ليلة القدر" هو عنوان الكتاب الثّاني من "سلسلة الشمس في مهبط ملائكة الله" الّتي أصدرتها مؤسسة "صهبا". فمن بين اللقاءات العديدة لقائد الثورة مع عوائل الشهداء تمتاز لقاءاته مع عوائل الشهداء المسيحيّين بجاذبيّة خاصّة وخصوصيّات مميّزة، فلقد زار سماحته منذ سنة أربع وثمانين ميلادية وإلى الآن منازل ثمانٍ وعشرين أسرة شهيد مسيحيّة، وقد استمرّ على هذا المنوال في فترة رئاسته للجمهورية، ولا يزال في مرحلة قيادة الثورة.

في الختام، لا بدّ من توجيه الشكر إلى كلّ من ساهم في نقل هذا الكتاب إلى العربيّة، ولا سيّما فريق الترجمة، ونخصّ بالذكر الأخت عزة فرحات، والأخت إيمان صالح، وفريق التصحيح اللّغوي والتحرير ولا سيّما الأستاذ عدنان حمود، ومركز المعارف للترجمة والتعريب الّذي كان له الجهد الأكبر على مستوى الترجمة وإدارة هذه العمليّة، والتقويم العلمي للترجمة1.

والحمد للّه ربّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
 

1- تمّ في عمليّة ترجمة أسماء العلم استبدال بعض الحروف الفارسيّة بما يُقابلها من الحروف العربية كالآتي: پ=ب / چ=تش / ژ=ج گ=ج وأحياناً: غ أو ك/ و=ف.
 
 
 
 
10

2

إشارة (مؤسسة صهبا)

 الستارة الأولى

حينما آمن شمعون سمّاه نبيّ الله عيسى عليه السلام "بطرس"، أي الصخرة. لكنّ أحداً في ذلك اليوم لم يُدرك معنى تلك التسمية، حتى شمعون نفسه. مرّت شهور وبلغ بطرس أشدّ بين يديّ أستاذه. وفي أحد الأيام وفي محضر الحواريّين الأحد عشر، قال له النبيّ عيسى عليه السلام: "وأنا أقول لك أيضاً: أنت بطرس، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليهاـ وسأُعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكلّ ما تربطه على الأرض سيكون مربوطاً في السماوات، وكلّ ما تحلّه على الأرض سيكون محلولاً في السماوات".

لم تطل فترة حضور عيسى المسيح عليه السلام ورسالته الأرضيّة أكثر من ثلاث سنوات تقريبًا. وحينما عرج إلى السماء، صار بطرس خليفة النبيّ ووصيّه الّذي سيُكمل طريقه وينشر دين الله رغم وجود الأعداء القساة المعاندين. وكان كهنة أورشليم اليهود الغارقون في حبّ الدنيا والجاه قد اطمأنّوا إلى أنّهم قد صلبوا عيسى النبيّ وأردوه بذلك النحو المفجع قتيلاً أمام تلامذته وأتباعه، وما عاد خطر هذا الدين الجديد يُهدِّد مكانتهم ومقامهم بين بني إسرائيل. لكنّ الأمور كانت تسير باتجاه آخر.

كان الحواريّون الّذين رأوا نبيّ اللّه عيسى، مجدّدًا بعد عروجه إلى السماء، وتيقّنوا من أنّه حيّ، قد ازدادوا عزمًا وإرادة للتبليغ والمواجهة، وهذا ما أثار غيظ الكهنة. فكان بطرس، بلا خوف، يقف في صحن معبد أورشليم ويُحدّث الناس عن عيسى وعدم موته. وكان الجنود يأتون على الأثر لتفريق الناس وإخراج بطرس وبقيّة الحواريّين من المعبد بالضرب
 
 
 
 
11

3

إشارة (مؤسسة صهبا)

والشتم. لكن سرعان ما كان يجد أحد الحواريّين زاوية أخرى قد احتشد فيها جمع من الناس فيُحدّثهم. لقد تمكّن بطرس بفضل إيمانه العظيم والعناية الإلهية أن يُشفيَ، كما أستاذه، مأيوس منهم ومشلولين منذ الولادة، وقد أدّى ذلك إلى أن يكثر انجذاب الناس إليه ويزداد في النتيجة إيمانهم بالمسيح.

وحيث إنّه لم تكن للكهنة طاقة تحمّل هذا الوضع، فقد ضيّقوا على الحواريّين ومن آمن بهم كثيراً. وكان أوّل حواريّ يستشهد هو القدّيس إسطفان. لقد حاكمه الكهنة في محكمة شكليّة وحكموا عليه بالرجم، ثمّ نفّذوا هذا الحكم الجائر به في منتهى القسوة. الشهيد التّالي من الحواريّين كان يعقوب أخا يوحنا. فقد كان هيرودوس قد عُيّن حديثاً حاكمًا لأورشليم من قِبَل ملك الروم، وكان يريد أن يستجلب قلوب الكهنة اليهود إليه، ولهذا فقد شرع بإلقاء القبض على المسيحيّين وتعذيبهم وأذيّتهم. ولكي يقضيَ على تيّار التبليغ للنبيّ عيسى عليه السلام فقد اعتقل الحواريّ يعقوب وأمر بقطع رأسه. كان هذا بعد انقضاء أحد عشر عامًا على عروج المسيح.

كان هدفه التّالي جناب بطرس. ألقى هيرودوس القبض على بطرس، وأعلن أنه سيُنفّذ فيه حكم الإعدام غداة أحد الأعياد اليهوديّة. وفي ليلة العيد، أقام المسيحيّون عدّة مجالس مخفيّة للدعاء لنجاة بطرس. وأوعز هيرودوس إلى ستة عشر حارساً بمراقبة بطرس في السجن حتّى يحين موعد إعدامه.

وانقضى يوم العيد، وكان المقرّر أن يُعدم "بطرس" في صباح اليوم التّالي. كان عددٌ من الرجال والنّساء المسيحيّين قد تجمّعوا في منزل "أم مرقس"، أحد الحواريّين، يدعون "لبطرس" حين علا صوت طرق الباب. بدايةً، خاف الجميع من افتضاح أمرهم. ساد الصمت وتوجّهت الأعين نحو باب المنزل. تقدّمت فتاة اسمها "رُدا" ووقفت خلف الباب وسألت: "من الطّارق؟"

فأجاب الطّارق بهدوء: "افتحي الباب يا ابنتي".

جمدت "رُدا" في مكانها، فلقد كان الصوت مألوفاً لديها. ورويدًا رويدًا، تهلّل وجهها المستغرب وانفرجت أساريرها وقالت بصوتٍ عالٍ: "بطرس، إنّه بطرس". قالوا: "وهل جننتِ يا بنيّة؟!" لكنّها ما فتئت تصرّ على رأيها وطرق الباب مستمرٌّ حتّى قام جمعٌ منهم نحو الباب.
 
 
 
12

4

إشارة (مؤسسة صهبا)

 لقد احتاروا أمام إصرار "رُدا" في أمر "بطرس"، فكيف يكون هو الطارق وهو ما يزال في سجن "هيرودوس"! لقد كسر القلوب الراجية قول أحدهم: "لقد قتلوا بطرس حتماً وهذه روحه قد أتتنا". وحتّى عندما فتحوا الباب وشاهدوا صباحة وجه "بطرس" ظنّوا أنّها روحه، إلى أن دخل بطرس المنزل وأخبرهم بما جرى: "كنتُ نائمًا في السّجن، ويداي مغلولتان بالأصفاد إلى أرض الزنزانة، وكان يحرسني عن جانبيّ جنديّان، ويقف عدّة آخرون خلف باب السّجن المقفل. فجأة شعرتُ أنّ شخصاً يربّت على كتفي. فتحتُ عينيّ وإذ بملاكَيْن سماويَيْن يقفان فوق رأسي. قالا: "قم!"، وحين وقفت فُكّت الأغلال من يديّ. قالا: "تعال معنا". كان الحرّاس نائمين وكلّما وصلنا نحن إلى بابٍ انفتح من تلقاء نفسه حتّى صرنا خارج القصر. وهناك تركني الملاكان فأدركت أنّني لم أكن أحلم، وأنّ ملاكَيْ الرحمة هذَيْن قد أنقذاني فعلاً"1.


ضجّ السّجن وعلت الجلبة فيه صباحًا. ومهما أقسم الحرّاس بأنّ بطرس قد اختفى فجأة، لم يُصدّقهم أحد. وفي الآخر، حكم "هيرودوس" على الستة عشر حارساً بالإعدام، ولم يقدِرْ بعدها أن يبقى في أورشليم فغادر.

وشيئاً فشيئاً، انطلق الحواريّون في أسفارهم التبليغيّة لإيصال رسالة عيسى إلى اليهود وغير اليهود. وكانت أكثر تلك الأسفار ضمن حدود حكومة الرّوم القديمة، وتجري بنحو سرّي2.

 من ناحية، كان ملوك الرّوم على علاقة بالكهنة وأثرياء اليهود، ولأجلهم لم يريدوا أن تلقى المسيحيّة رواجها بين اليهود، ومن ناحية أخرى كانوا متخوّفين من انتشار الإيمان بهذا الدين الجديد - الّذي خرج عن نطاق مناطق اليهود - بين الناس في أوروبا. ذلك أنّ كلّ دين توحيديّ ومطالِب بالعدالة سيهزَّ أسس حكومة الظالمين.

في إحدى هذه السفرات التبليغيّة، ألقى الجنود الرومان القبض على القدّيس "بطرس"، وأخذوه هذه المرّة إلى العاصمة. وفي بلاط نيرون، ملك الرّومان آنذاك، وبحضوره، نفّذوا حكم الإعدام "ببطرس". لقد صُلب القديس "بطرس" في سنة ست وأربعين ميلادية، أي
 

1- العهد الجديد، عهد الرسل، الفصل 12.
2- قدم أحد الحواريّين إلى فلاة إيران, سافر القديس ثاديوس لعدّة سنوات في بلاد ما بين النهرين وشمالها، حتّى وصل إلى أرمينيا اليوم، وبلّغ دين الحق لذلك الزمان، حتّى قبض عليه الحكّام الظالمون واستشهد على أيديهم وتمّ دفنه في قرية بالقرب من تشالدران في محافظة آذربيجان الغربية. وفي سنة 301 ميلادية، تجمّع أولئك الذين اعتنقوا المسيحيّة بفضل دعوته في أرمينيا الّتي كانت ميول ملكها آنذاك مسيحية.
 
 
 
13

5

إشارة (مؤسسة صهبا)

 بعد إحدى وثلاثين سنة من عروج عيسى المسيح، وارتفع شهيدًا1.


مضت عدّة قرون على شهادة بطرس، وفي إحدى معارك المسلمين مع الرّوم، كانت ابنة أحد ملوك الرّوم الشرقيّة واسمها "مليكة" وأمّها إحدى أحفاد القديس "بطرس"، قد وقعت أسيرة في أيدي المسلمين، وحُملت إلى بغداد. وهناك أحضر الإمام الهادي عليه السلام، عاشر الأئمة المعصومين عند الشيعة، هذه السيّدة الكريمة إلى منزله وزوّجها من ابنه. وبعد شهادة الإمام الهادي، تسلّم ابنه، الإمام الحسن العسكري عليه السلام، الإمامة. وأثمر زواجه من "مليكة"- الّتي بات اسمها في ذلك البيت نرجس - مولودًا ذكراً يعتقد الشيعة أنّه الإمام الثاني عشر وآخر خلفاء نبي الإسلام.

هذا المولود المبارك هو نفسه الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، منجي البشريّة، الّذي سيظهر في آخر الزمان ليُقيم دولة التوحيد والعدل في العالم أجمع، ويقضي على جذور الظّلم والكفر. ونحن نؤمن أنّ نبيّ الله عيسى سيظهر مع الإمام المهدي، وسيكون مرافقًا له في هذا القيام. وبحسب بعض الروايات، سيُقتل الدجّال، العدوّ الأساس لهذا القيام، على يد السيّد المسيح.

الستارة الثّانية
تمضي السنة الخامسة على بعثة نبيّ الإسلام، ويزداد كلّ يوم التضييق والأذى والحصار والتعذيب والقتل على الجمع القليل من المسلمين العزّل. فيصدر الأمر بالهجرة، ولكن إلى أين؟
أمرهم الرّسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذهاب إلى الحبشة، ففيها ملكٌ عادلٌ لا يَظلم. وترأّسهم، بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، "جعفر بن أبي طالب"، أخو الإمام علي عليه السلام، مع أنّه كان في أمان بسبب مكانة أبيه في مكّة.
 

1- بحسب ما يُنقل عن الإمام الخامس من أهل بيت النبوة، الإمام محمد الباقر عليه السلام أنّه في ستّ ليال، لم يرفع عن وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دم عبيط، اللّيلة التي قُتل فيها هارون أخو موسى عليه السلام والليلة الّتي قُتل فيها يوشع بن نون واللّيلة التي رفع فيها عيسى بن مريم إلى السماء، واللّيلة التي قُتل فيها شمعون بن حمون بطرس-، وكذلك كانت اللّيلتان اللّتان قُتل فيهما علي بن أبي طالب والحسين بن علي عليهما السلام. كامل الزيارات/ باب ما استدلّ به على قتل الحسين بن علي عليهما السلام في البلاد-.
 
 
 
14

6

إشارة (مؤسسة صهبا)

 كان أهل الحبشة من أتباع دين عيسى عليه السلام، وسُمّوا في ذلك الزمان بالنصارى. وكان ملكهم النجاشيّ شخصًا متديّنًا، وكانت تعاليم عيسى عليه السلام قد علّمته أن يكون عادلًا، وأن لا يظلم، وأن يُلجِئ كلّ بريء يلتجئ إليه.


كان المسلمون المهاجرون الّذين لم يبلغ عددهم المئة شخص، قد وصلوا فرادى وجماعات خفيةً إلى ساحل البحر الأحمر، ومن هناك ركبوا سفينة إلى الحبشة. وكما كان قد أخبرهم النبيّ فقد قبلهم النجاشيّ في الحبشة، وأجاز لهم العيش وممارسة معتقداتهم الدينيّة بحرّية.

كانت أوضاع المسلمين المهاجرين جيّدة إلى أن حضر إلى الحبشة "عمرو بن العاص" مبعوثاً من قِبَل رؤساء قريش بهدف استرجاعهم. وبما أنّه كان معروفًا بالخداع والمكر، فقد ابتدأ بتوزيع الهدايا والرشى على حاشية الملك ومستشاريه فوقفوا في صفّه. وبعد ذلك، حضر إلى مجلس النجاشي فتملّقه أيّما تملّق، وقدّم بين يديه هدايا قريش النفيسة، ثمّ شرع بالافتراء على المسلمين المهاجرين قائلاً: "إنّهم شبّان عصاة معاندون قد انقلبوا على دين آبائهم وأصرّوا على جهالتهم. وأشراف قريش يطلبون منك بكلّ احترام وتعظيم أن تُعيد هؤلاء المخرّبين إلى الحجاز"1. وسرعان ما أعرب المستشارون المرتَشون عن تأييده حتّى يقبل النجاشي بإخراج المسلمين.

لكنّ الأمر لم ينطلِ على النجاشي وقال: "طالما أنّ ذنبهم لم يثبت لديّ فهم في أمان. أحضروهم!" ولأنّ "عمرو بن العاص" كان يعلم طبيعة المسلمين، كان يريد أن يتمّ مَهمّته في المواجهة الأولى نفسها، فقال للنجاشي إنّ هؤلاء الفتية متكبّرون لدرجة أنّهم لا يركعون أمام الملك.

دخل جعفر وعدّة آخرون من المسلمين، وألقوا السلام من دون أن يركعوا. فاستشاطت حاشية الملك غضبًا، واستنكروا عدم ركوعهم أمام الملك. فقال جعفر: "لقد أمرنا نبيّنا أن لا نركع إلا للّه الواحد، وقال لنا إنّ تحيَّة أهل الجنّة هي السلام، ولهذا نحن قُلنا السلام عليكم". ارتسمت على شفتَيْ النجاشي ابتسامة إثر جواب جعفر، وسأله عن الإسلام،
 

1- تاريخ نبي الإسلام، آية الله عباس صفائي الحائري، المجلد الأول.
 
 
 
 
15

7

إشارة (مؤسسة صهبا)

 فراح جعفر يُحدّثه عن أوضاع الجاهليّة الّتي كانوا فيها، عن عبادة الأصنام، وأكل الميتة، والظلم، والقتل، وقطع الرحم، ووأد البنات، وإساءة الجوار، و... . إلى أن بعث إلينا رسولاً منّا، فدعانا إلى أن نعبد الله ونعدل ونرحم، ونصل أرحامنا، ولا نقول الزور، ولا نأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والزكاة و...، والنجاشي يزداد تأثّراً مع كلّ كلمة، حتّى سأل جعفرًا: "هل تحفظ شيئاً ممّا جاء به نبيّكم؟". وبكلّ ذكاء تلا عليه جعفر بصوت جميل آياتٍ من "سورة مريم" تحكي عن ولادة "المسيح عليه السلام" وطهارة "مريم" وافتراءات اليهود عليها. سالت دموع النجاشي على خدَّيْه، وكذا بكى العلماء المسيحيّون الحاضرون في المجلس، وقال النجاشي: "لا شكّ أنّ ما نزل على نبيّكم وما نزل على المسيح هو من منبع واحد". وکان "عمرو بن العاص" ما زال يمتلك سهمًا واحدًا في جعبته، فتوجّه إلى النجاشي بكلّ كياسة قائلاً: "هؤلاء ينكرون أنّ عيسى هو ابن اللّه". امتعض الكهنة والعلماء الحاضرون وأعلنوا انزعاجهم. وقلق النجاشي، ثم رمق "جعفراً" بنظرة متسائلة عن رأيه فيما قيل. فبيّن "جعفر" بكلّ شجاعة وصدق الاعتقاد الإسلاميّ قائلاً: "هو عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه ألقاها إلى مريم"1


وفيما ارتفعت همسات الكهنة كانت علامات الرضى بادية على النجاشيّ وقال: "هذا هو الاعتقاد السليم".

كانت نتيجة هذه المحادثات أن أخرج النجاشيّ "عمرو بن العاص" بخفّي حنين من بلاطه، وقال: "لو أنّكم أعطيتموني جبلاً من الذّهب على أن أُسلّمكم هؤلاء الفتية ما فعلت. إنّهم في أماني ما شاؤوا"2.

الستارة الثّالثة
يوم الجمعة التاسع عشر من شهر كانون الثاني من العام 1979م.
 

1- تاريخ نبي الإسلام، آية الله عباس صفائي الحائري، المجلد الأول.
2- كانت هذه أول حلقة في سلسلة صداقات المسلمين والمسيحييّن في صدر الإسلام، والّتي استمرّت إلى ما بعد الهجرة وإرساء دعائم قوة الإسلام في الحجاز، حتّى إنّه ورد في القرآن الكريم إشارات إلى هذه العلاقة الميمونة بين النصارى والمسلمين حيث يقول: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ سورة المائدة، الآية82-.
 
 
 
16

8

إشارة (مؤسسة صهبا)

 مضى أربعون يومًا على عاشوراء الحسين عليه السلام، وحانت الأربعينيّة، لكنّ أربعينيّة تلك السنة كانت تختلف عن غيرها من السنوات. لقد مضى عامٌ وعشرة أيام كاملة، والناس يُحيون تباعاً أربعينيّاتٍ للشهداء، ويُقدّمون المزيد في سبيل انتصار الثورة، ليحيوا بعد أربعين يومًا أربعينيّة جديدة في مكانٍ مختلف. في تبريز من أجل قم، وفي يزد والأهواز وجهرم من أجل تبريز، وفي عشرين مدينة لأجل يزد والأهواز وجهرم. واستمرّت هذه الأربعينيّات حتّى الثامن من أيلول يوم مذبحة أهالي طهران، وأُقيمت أربعينيّة شهداء طهران في كرمان وهكذا.


في النهاية أثمرت هذه الدماء. في بداية الأمر فرّ الشاه، قبل أربعينيّة الإمام الحسين عليه السلام تلك بثلاثة أيام. لقد كانت الأجواء في ذلك اليوم مختلفة في كلّ الأماكن، حتّى أجواء كنيسة القديس سركيس في شارع كريم خان في طهران. كان أشخاصٌ عدّة مشغولين بكتابة اللّافتات باللّغتَيْن الأرمنيّة والفارسيّة. كانوا كلّما أنجزوا لافتة يأتون بها إلى الأسقف ليطّلع عليها ويُبدي موافقته. وكان نصّ اللّافتة الأولى: "نُطالب بالاستقلال والحرّية لكلّ أرض وشعب إيران"، ونصّ التي تليها: "ليبقَ تضامن شعب إيران صامداً في وجه إمبرياليّة الغرب والشرق". 

لقد تولّدت هذه الحماسة من تجرُّع غُصَص السّنوات جرّاء ذلّة النظام الملكي وتبعيّته لطغاة العالم وظلمه وعنصريّته مقابل أفراد شعبه من دون تمييز بين مسلم ومسيحيّ. وها قد وقف عالم دين متواضع ومخلص في وجه هذا النظام وكلّ من يحميه من القوى الكبرى، وصار قائدًا للثورة. قبل ثلاثة أو أربعة أيام من ذكرى الأربعين، كان الإمام قدس سره قد أصدر بيانًا من محلّ نفيه في فرنسا، جعل الجميع ينزلون إلى الميدان:

بسم الله الرحمن الرحيم

"هاهي ذكرى أربعين سيّد المظلومين والشهداء - صلوات الله وسلامه عليه - قد حلّت. لقد مرّت على شعبنا الواعي أربعينيّاتٌ مليئة بالعِبَر، فنحن كُنّا نواجه في هذه السنين أكثر من خمسين سنة من الحكم الملكي الغاصب للأسرة البهلويّة، مع ما رافقه من مصائب وتخلّف ثقافيّ مدمّر للبيوت والعائلات. إنّها خمسون سنة مُرّة ومؤلمة للغاية، وهاتان السنتان الأخيرتان اللّتان حرّكتا شعبنا الشجاع لمواجهة الاستبداد والاستعمار هما الأمرّ والأكثر إيلاماً.
 
 
 
 
17

9

إشارة (مؤسسة صهبا)

 لقد صادفت في هذه السنة أربعينيّة إمام الأمّة مع أربعينيّات أتباعه وشيعته، وكأنّ دماء شهدائنا امتدادٌ لدماء شهداء كربلاء الطاهرة، والأربعينيّة الأخيرة لإخوتنا صدى لأربعينيّة أولئك الأبطال. فلقد قضت دماؤهم الطاهرة على حكومة يزيد الطاغوتيّة، وأطاحت الدّماء الطاهرة لهؤلاء بالملكية الطاغوتية. إنّ أربعينيّة هذه السنة استثنائية ونموذجية، وإقامة المسيرات والتظاهرات الحاشدة في هذه الأربعينية واجبٌ شرعيٌّ ووطنيّ.


إنّ شعبنا العظيم بمسيراته وتظاهراته في أرجاء إيران كافة يدفن هذا النظام، ويعلن اعتراضه على مجلس الشورى الملكي غير القانوني، ويُعلن دعمه الوثيق مراراً وتكراراً لـ "الجمهوريّة الإسلاميّة""1.

لقد استحال كلّ زقاق سيلاً من الناس الغاضبين والعازمين الّذين يلتحمون في الشارع ويهتفون، ويُشكّلون صفعة في وجه هذا النظام الّذي أمر الإمام بتدميره ودفنه.

في يوم الأربعين، كانت مجموعة من المحتجّين الذين ترتفع أصوات هتافاتهم أينما وصلوا فتأتي بقية الناس لاستقبالهم، وكان الشبّان المسيحيّون المتعاطفون يهتفون بالشعارات بحماسة وهم يحملون اللّافتات المناهضة للحكومة. كانوا يرفعون بالإضافة إلى شعار "الموت للشاه" شعارًا آخر ألهب الاحتجاجات:
"مذهبنا أرمني             قائدنا الخميني"
 

1- صحيفة الإمام، المجلد 5.
 
 
 
18

 


10

إشارة (مؤسسة صهبا)

 خلال فترة وجود الإمام في فرنسا، كان الصحافيّون وعامّة الناس والإيرانيّون القاطنون في أوروبا يأتون كلّ يوم لرؤية الإمام والاستماع إلى تصريحاته. وفي أحد الأيام، جاء أربعة طلّاب جامعيّين إيرانيّّين أرمن إلى محلّ الإقامة المؤقّتة للإمام في قرية "نوفل لو شاتو". 


كان الصحافيّون قد اجتمعوا وبدؤوا بطرح أسئلتهم، ومن بين تلك الأسئلة طرح أحد الطلّاب الأرمن الأربعة سؤالاً حول مصير الأرمن المسيحيّين في إيران فيما لو انتصرت الثورة وتَشكَّل النظام الإسلاميّ. لقد كانت نظرة الإمام الرحيمة خيرَ جواب، وأوضح الإمام: "الأرمن في إيران لهم تاريخ، ولطالما كان وضعهم كبقيّة الناس الذين استقرّوا في إيران، وهم يشتغلون بالزراعة والتكسّب والعمل. وهم سيتمتّعون بجميع الحرّيات ويتمّ التعامل معهم بعدالة تامّة"1.

وفي قرية "نوفل لو شاتو" نفسها، تلقّى المسيحيّون في يوم الميلاد ورودًا من الإمام. كان الإمام قد سأل عمّا يهديه الناس عادة في تلك المنطقة، وقد أجابوه "الورد".

في نهاية الأمر، وبعد خمسة عشر عامًا، عاد الإمام الخميني إلى إيران في الثاني عشر من شهر بهمن سنة 1357 هجريّة شمسيّة، الموافق للأوّل من شباط عام 1979 م، ليتمّ إنجاز الخطوة النهائية في إزالة نظام الطاغوت بحضور قائد الثورة. 

كانت تحضيرات أعظم استقبال جماهيري في التاريخ على قدمٍ وساق. فإضافة إلى الملايين من عامّة الناس الّذين غصّت بهم شوارع طهران وهم ينتظرون استقبال الإمام ولقاءه، كان قد اجتمع في مبنى مطار مهرآباد جمع من رؤساء وممثّلي التيّارات والجماعات المختلفة لاستقبال الإمام والترحيب به. وكان السيّد "الخامنئي" ضمن فريق منسقّية استقبال الإمام مسؤولًا عن اللّجنة الإعلامية، وقد طلب منه الشهيد "مطهّري" أن يُلقيَ خطابًا في مراسم الاستقبال2

وما إنْ حطّت الطائرة حتّى شخصت العيون نحو باب الدخول، وراحت تنتظر. وكان من بين
 

1- صحيفة الإمام، المجلد 5، ص243، نشر وتحقيق وطبع مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، ط1، 1430هـ.
2- كان من المقرّر بدايةً أن يصل الإمام إلى إيران يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول. وكان في انتظاره مئات الآلاف في روضة جنّة الزهراء. وكانت جميع التحضيرات معدّة لوصول الإمام وإلقائه خطاباً، لكنّ جيش الشاه وبأمر من بختيار حاصر مطار مهرآباد. في بادئ الأمر، خاطب الشهيد بهشتي الجماهير الغاضبة ثمّ كتب السيّد الخامنئي بياناً وألقاه بنفسه على مسامع الناس. وقد طلب في هذا البيان من الناس أن يستمرّوا بالتظاهر والاحتجاج حتى اليوم التّالي، وهذه التظاهرات نفسها هي الّتي فتحت طريق عودة الإمام. مختارات من الكتاب الشريف "شرح الاسم" لهداية الله بهبودي-.
 
 
 
 
19

11

إشارة (مؤسسة صهبا)

 المستقبلين، غير بعيد عن السيّد الخامنئي بأكثر من فاصلة متر واحد، عدّة رجال دين مسيحيّين. كان حضورهم وبلباسهم الكنسي يختصر كلّ مشاعر مسيحيّي إيران تجاه الإمام الخميني.


مضى على انتصار الثورة خمسة عشر يومًا والإمام لا يزال في المدرسة العلويّة في طهران. كان الناس من مختلف الفئات والتيّارات يأتون لرؤية الإمام، ويعلنون ولاءهم للثورة. في ذلك اليوم، كان السيّد "آرداك مانوكيان"، أسقف الأرمن، يرافقه مجلس البطاركة الأرمن، في ضيافة الإمام لدقائق عدّة.
 
 
 
 
20

12

إشارة (مؤسسة صهبا)

 تحدّث الإمام إلى هؤلاء الضيوف قائلاً: "آمل أن تكون هذه النهضة فاتحة خير لجميع الأديان والأقليّات الدينيّة الّتي تعيش في إيران. إنّنا نعلم أنّ جميع الفئات في إيران، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، قد عاشت في عناء وظلم في عهد حكومة هذا الشاه وأبيه. ونحن نعلم أنّ الاسلام يتعامل دومًا باحترام مع الأقليّات‏ الدينيّة. إنّنا نؤمن باحترام الأقليّات الدينيّة، فهؤلاء من أبناء شعبنا ومن مواطنينا، وإنّني آمل أن تكون حكومة العدل‏ الإسلاميّ مفيدة جدّاً لهم، وأن يعيشوا هنا في كنف الإسلام مرفّهين أحراراً، وبشكل صحيح"1.


الستارة الرابعة
فيما كانت الأمور تسير على أحسن ما يُرام باتجاه تشكيل نظام عالميّ جديد قائم على أساس استكبار وهيمنة القوى العظمى، حدثت واقعة عطّلت كلّ المعادلات، وقلبت حسابات القوى العظمى رأسًا على عقب. ففي البلد الذي كانت تحكمه أطوع الحكومات وأكثرها تبعيّة، قامت ثورة على خلاف كلّ التوقّعات والحسابات. وفي عصر تُصوّر فيه أنّ الأديان قد انكفأت وباتت معزولة عن المشهد السياسيّ وشؤون الحكم، انتصرت ثورة دينيّة لتؤسّس لحكومة دينية. وفي زمن بات الجميع فيه وكأنّه مضطّر للارتباط بقوّة عظمى ليُحافظ على وجوده وقوّته، آتت ثورة ترفع شعار الاستقلال عن الشرق والغرب أُكُلها، فتَشكّل نظام ليس مستقلًّا عنهم فحسب، لا بل يواجههم وينقض مشروعيّتهم. لقد كانت هذه الثورة والنظام المنبثق عنها خطيرة على القوى العظمى إلى درجة أنّها وبشكل غير محسوس وحّدتهم بهدف إزالة خطرها. ولمّا لم تُجدِ الانقلابات والاغتيالات وإثارة الفوضى ومحاولات النفوذ نفعاً، لم يكن بدٌّ من العمل العسكري للقضاء على هذه الحكومة الوليدة واقتلاعها من الجذور. وكان منفّذ هذا الهجوم حاضراً ومستعدًّا، الانتهازي والتابع وقاسي القلب المدعوّ صدّام، الذي كان قد تولّى حديثاً حكومة العراق.

بدأت الحرب المفروضة على إيران. وكانت الأوضاع الداخليّة والعسكريّة، والّتي أنقذت للتو من براثن الشاه تتطلّب من الشعب موقفاً حاسماً. فما لم يُشمّر عن ساعد الهمّة ويصمد في وجه الغزو فإنّه سيذوق طعم الهزيمة النكراء وتذهب إنجازاته أدراج الرياح. وقد ثبت الشعب ودافع عن معتقده ووطنه وصمد في مواجهة كلّ القوى.
 

1- صحيفة الإمام، المجلد6، ص15ن5.
 
 
 
 
21

13

إشارة (مؤسسة صهبا)

 ومن الطبيعي، عندما يتمّ توريط دولة بحرب طويلة وواسعة الانتشار، أن يصير لزاماً على الشباب المشاركة والقتال. لكنّ الذّي يختلف بين الحروب والدول هو نظرة الشباب إلى قتالهم ونظرة عوائلهم وردّ فعلهم تجاه هذا القتال ونتائجه. وإنّ لسان حال العوائل الّتي قدّمت فلذات أكبادها في ميدان القتال لهو خير كاشف عن نظرة الشعب إلى تلك الحرب. ها هنا تمتاز الحرب القِيَمية عن حرب الأنانيات، وتفترق الشهادة عن مجرّد الموت في المعركة. ولقد تكشّف هذا المشهد مرارًا وتكرارًا في إيران خلال حرب السنوات الثماني المفروضة عليها، وبأعظم صورة وأجمل شكل، في عوائل الشهداء المقاوِمة والصبورة.


ويزداد الأمر تعقّداً وجاذبية عندما يكون الشهيد من الأقليّات الدينيّة. حينها تصبح المقاومة والصبر من أسرة مسيحيّة استشهد ولدها جديرة بالمشاهدة. 

لقد قدّم الأرمن في سبيل وطنهم طوال سنوات الدّفاع المقدّس ثمانية وأربعين شهيدًا، ومئة وخمسة جرحى وخمسة وثلاثين أسيرًا. وإلى جانب هؤلاء الشباب العسكريّين، استشهد قرابة الثلاثين بين امرأة ورجل وطفل من الأرمن جرّاء القصف الوحشي المدفعي والصاروخي. وكذلك كانت الحال بالنسبة للمسيحيّين الآشوريّين، حيث قدّموا أكثر من ثلاثين شهيداً خلال الحرب المفروضة. لقد استشعروا بوجدانهم الحيّ مظلوميّة إيران وحقّانيّتها في هذه الحرب غير المتكافئة، فانبروا بدافع إنسانيّتهم للدفاع عن المظلومين. ولقد أدركوا أنّهم جزء من هذا الشعب، وأنّ الحرب قضيّة وطنيّة، فسارعوا للمشاركة فيها بكامل وجودهم. وكان الشاهد الأرقى على هذا الوفاء والإخلاص هو الشهداء أنفسهم
 
 
 
 
22

14

إشارة (مؤسسة صهبا)

 وعائلاتهم، وإن كانت الحماية والإغاثة المستمرّة التي قدّمها الأرمن طوال سنوات الحرب الثماني هي شاهدًا آخر على هذا الوفاء.


فمنذ الأشهر الأولى على اندلاع الحرب، تمّ تشكيل منسّقيّة دعم للجبهة في مجلس البطاركة الأرمني. 

وقد بدأت المنسّقيّة عملها بالبيان التّالي:
"يا إخواننا في الدّين، كما تعلمون، فإنّ إيراننا العزيزة في حرب، حرب فُرِضت على بلدنا، وقد انخرط في هذه الأيام البالغة الحساسيّة جميع الإيرانيّين، وبمنتهى الإخلاص في الدفاع المقدّس عن الوطن. ونحن أيضًا كما كلّ إيرانيّ، علينا واجبات وينبغي أن
 
 
 
 
 
23

15

إشارة (مؤسسة صهبا)

 نُشارك بفعاليّة في أمر الدفاع المقدّس عن كامل الأراضي الإيرانيّة. من هنا، وبوعينا لهذه المسؤولية تقرّر أن نؤدّي واجبنا وندفع حصّتنا من المشاركة في هذه القضية المقدّسة بتقديم الدّعم المالي.


ونحن واثقون أنّ إخوتنا في الدين، وكما هو ديدنهم، لن يتوانوا عن تقديم يد العون والدّعم في المجالات كافّة للمجاهدين الّذين يُقاتلون في سبيل الدفاع عن أمن إيران وحفظ كلّ أراضيها".
 
 
 
 
24

16

إشارة (مؤسسة صهبا)

 وعلى الأثر، توالى إرسال المساعدات الماليّة وقوافل المساعدات العينيّة من منسّقية الدّعم إلى الجبهة. ولطالما اشتهر الأرمن بمهارتهم وخبرتهم في الأعمال الفنّية وخاصّة تلك المتعلّقة بالسيّارات، وأدّت هذه الخبرة إلى أن تنطلق فرق الفنّيين الماهرين الأرمن إلى الجبهات لتقديم الخدمة حيث يلزم، وتبقى على خطوط القتال لشهور وسنوات، فتذلّل بمهارتها وخبرتها عقبات كثيرة طوال سنوات الحرب.


الستارة الخامسة
كان مشهداً جميلًا: عالم دين أرمني يجلس إلى جانب عالم دين سيّد مسلم. أحدهما كان أسقف الأرمن في طهران، والآخر كان رئيس جمهورية إيران الإسلاميّة. كان السيّد "آرداك مانوكيان" والسيّد "الخامنئي" قد جلسا جلسة ودّية وراحا يتبادلان أطراف الحديث بمودّة. كان الأسقف قد أحضر كشفاً بالمساعدات الأرمنيّة للجبهة، يرمز إلى اهتمام هذه الفئة من الشعب بالحرب ومجرياتها. وكان رئيس الجمهورية يشدّ على يد الأسقف بدفء:
لقد جلستُ اليوم بجوار قائد دينيّ مسيحيّ وليس بيننا أيّ نحو من الاختلاف. أنا مسلم وأنت عالم دين مسيحي وكلانا يسير على درب واحد ولأجل هدف واحد. أنا لا أنسى مطلقًا عندما كنتُ في الأهواز، أتحدّث في الخنادق مع الجنود وأستفسر عن أوضاعهم عندما نظر إليّ أحدهم وقال: أنا أرمني. لقد غمرني الشعور بالبهجة والسرور من قتال هذا الأرمني جنباً إلى جنب المسلمين. كانت مشاعر الأخوّة والمودّة سائدة، بحيث إنّه لم يشعر بتاتًا أنّه يُقاتل بين كلّ هؤلاء المسلمين. والآخرون أيضًا لم يكونوا يعرفون أنّ رفيقهم في الجهاد هو أرمني. كلاهما كان يُقاتل لأجل هدف واحد.

في تلك الأيام الصعبة، سنة إحدى وثمانين ميلادية، بدرت حركة قيّمة من قِبَل جمع من الشعب يختلفون في عقيدتهم عن سائر الناس، لكنّهم لم يكونوا مستعدّين للسكوت حيال الظلم والاعتداءات الّتي تُرتكب بحقّ وطنهم، ولم يرضوا أن يبقوا متفرّجين. في الأيام الأولى للسنة الميلادية الجديدة من العام 1982م قرّر المسيحيّون، وبسبب جرائم صدّام الكثيرة واحترامًا لآلاف العوائل الّتي قدّمت الشهداء والجرحى، أن لا يحتفلوا بعيد رأس السنة. وكان آية الله الخامنئي أول من لاحظ هذه الحركة لمسيحيّي إيران، ولهذا فقد كرّمهم في بيانه الخاص ببداية السنة الميلادية:
 
 
 
 
25

17

إشارة (مؤسسة صهبا)

 بسم الله الرحمن الرحيم


أبارك لإخوتنا المواطنين المسيحيّين، ولكلّ الأتباع الحقيقيّين للسيّد المسيح في أرجاء العالم بداية السنة الميلاديّة الجديدة، والّتي تحمل ذكرى الولادة المباركة لحضرة نبي الله العظيم عيسى المسيح ابن مريم، وأرجو بالاستمداد من تلك الروح والكلمة الإلهيّة أن يكونوا مشمولين وجميع طلّاب الحقّ والفضيلة بالنجاة والسعادة.

تطلّ علينا السنة الميلاديّة الجديدة في وقت بات فيه ملايين الناس المتعطّشين للعدالة والحقّ والسلام والمحبّة، والمتجرّعين لغصّة فقدان هذه القيم في أنحاء العالم كافّة، يتوقون إلى المستقبل المشرق، وينتظرون - على أمل تحقّق الوعود الّتي جاء بها السيّد المسيح وجميع حاملي لواء الحقّ والعدالة - تشكّل النظام الإلهي في بلادهم. وقد أشعل العراق في وطننا العزيز إيران، حيث باتت بشائر الوعود الإلهيّة مشهودة أكثر من أيّ
 
 
 
 
26

18

إشارة (مؤسسة صهبا)

 مكان آخر، وبإيعاز من قوى الهيمنة المستبدّة، نار الحرب المفروضة على حدود هذا الوطن الإسلاميّ. لقد قدّم الكثير من المواطنين، ومن جملتهم المسيحيّون، في السنّة الماضية أغلى أعزّائهم فداءً للوطن، وحفظًا لإنجازات الثورة الإسلاميّة الرائعة. وإنّ امتزاج هذه الدماء الّتي تغلي على الحدود الملحميّة لوطننا العزيز قد وطّد أواصر الصلة الممتدّة إلى مئات السنين بين المسلمين والمسيحيّين وجعلها أكثر رسوخًا.


لقد امتنع اليوم جمع من إخواننا المواطنين المسيحيّين المتديّنين عن إقامة مراسم الاحتفال بعيد رأس السنة الميلاديّة الجديدة ليُعربوا من خلال احترامهم للعوائل التي ضحّت بفلذات أكبادها عن ارتباطهم واتّحادهم مع سائر أبناء وطنهم. وأنا باسم شعب إيران أُعرب عن شكري وتقديري لهذه الخطوة المتعاطفة. وأسأل اللّه سبحانه وتعالى أن يكون هذا العام الجديد، وفي ظلّ الحكومة الإسلاميّة وحاكميّة القرآن، عام توفيق وسعادة للمسيحيّين والبشريّة جمعاء.

السيّد علي الخامنئي
رئيس جمهورية إيران الإسلاميّة
01/01/1982

في الأيّام والشهور الأولى للحرب، كان السيّد الخامنئي مع الدكتور شمران قد استجازا الإمام الخميني قدس سره في الذهاب إلى الجبهة. لكن هذه الفترة لم تطل، فبعد إصابة السيّد الخامنئي دام ظله في محاولة اغتياله، وعلى أثر انتخابه رئيساً للجمهوريّة سنة إحدى وثمانين ميلاديّة، لم يُعطِ الإمام إجازة للسيّد الخامنئي حتّى للذهاب من أجل افتتاح مشاريع عمرانيّة للمحافظات على الحدود مع العراق، ناهيك عن الذهاب إلى مناطق الجبهة العسكريّة.

ولقد استمرّ هذا المنع من قِبَل الإمام قدس سره إلى وقت إعلان القبول بالقرار الدولي ليتمكّن السيّد الخامنئي دام ظله في آخر شهر من الحرب والغزو الجديد لصدّام أن يغتسل مجدّدًا غسل الشهادة، ويرتدي لباس العسكر ويذهب إلى الجبهة. وما بين هذَيْن الحضورَيْن، كان جنديّ الإمام المخلص والجريح، يُقاوم في جبهة خلف الجبهة. فلقد كان الحفاظ على إيمان الشعب راسخاً، وإبقاء مقاومته منيعةً أهمّ متراس خلف الجبهة العسكريّة.
 
 
 
 
 
27

19

إشارة (مؤسسة صهبا)

 يبدأ آية الله الخامنئي سنة أربع وثمانين ميلادية ببرنامج زيارة منازل الشهداء. وفي السنة نفسها، في الأيام الأولى لحلول السنة الميلاديّة، ينزل ضيفًا على عائلتَيْ شهيدَيْن مسيحيَّيْن، عائلة الشهيد آفديان وعائلة الشهيد آفانسيان. ويستمر هذا البرنامج. 


ينقسم مسيحيّو إيران في الأساس إلى أرمن وآشوريّين. وقد قدّم كلا المذهبَيْن شهداء في سبيل الوطن. زار الإمام الخامنئي في بعض السنوات منازل الأرمن وزار منازل الآشوريّين أحيانًا أخرى، جالسهم وسمع من أمّهاتهم وآبائهم آهات القلب وأحاديث الرّوح، وقدّم لهم تعازيه، ودعا لهم. تحدّث مع كبارهم عن ذكرياتهم وقضاياهم المسيحيّة، واستفسر من الشبّان عن دراستهم وأعمالهم، وأوصاهم بالاستفادة من فرصة الشباب وحسن استثمارها. كان حضور الإمام الخامنئي دام ظله في بيوتهم مسألة غير قابلة للتصديق أصلاً، فكيف إذا وصل الأمر إلى الجلسات الحميمة والأحاديث الودّية وشرب الشاي معاً.

وأمّا هذا الكتاب
بعناية اللّه وتوفيقه، انطلقت في مركز "صهبا" حركة مباركة للتعريف بجوانب من البرامج النورانيّة المتواصلة للإمام القائد "الخامنئي"، أي حضوره في منازل الشهداء. وهو برنامج بدأ سنة 1984م في أصعب فترة من أيام الحرب المفروضة، وما زال مستمرًّا حتّى اليوم. وفي كلّ مورد من موارده لفتات لطيفة ودروس قيّمة وعِبَر للناس.

وقع الاختيار على عنوان "الشمس في مهبط ملائكة اللّه" ليكون اسمًا لسلسلة الكتب
 
 
 
28

20

إشارة (مؤسسة صهبا)

 الّتي تتناول هذا الموضوع، وهو مختارات من كلام الإمام القائد بخصوص هذه المنازل. وقد تمّ نشر الكتاب الأول في هذه السلسلة تحت عنوان "ضيافة من الجنّة"، وهو يروي أحداث زيارة القائد إلى منزل عوائل خمسة شهداء في ليلة واحدة في مشهد المقدّسة.


"المسيح في ليلة القدر" هو عنوان الكتاب الثاني من السلسلة نفسها. فمن بين اللقاءات العديدة لقائد الثورة مع عوائل الشهداء، تمتاز لقاءاته مع عوائل الشهداء المسيحيّين بجاذبية خاصّة وخصوصيّات مميَّزة، الأمر الّذي شجّعنا أن نرويَ أحداث تلك اللّقاءات بتمامها في كتاب واحد.

لقد زار سماحته منذ سنة أربع وثمانين ميلادية وإلى الآن منازلَ ثمانٍ وعشرين أسرة شهيد مسيحيّة، وقد استمرّ على هذا المنوال في فترة رئاسته للجمهوريّة، ولا يزال في مرحلة قيادة الثورة.

ويُعدّ كتاب كهذا إحدى الثمرات الصغيرة لأكثر من ثلاثين سنة من الجهد والحبّ والدقّة في العمل لمعاونيّة العلاقات العامّة في مكتب قائد الثورة المعظّم.

لقد تولّدت "العلاقات العامّة" على أثر عناية القائد والتزامه المباشر بمتابعة الرسائل والاستماع إلى شؤون الناس وشجونهم، والّذي كان يجري مباشرة وبلا واسطة في مكان إقامة صلاة الجمعة في طهران، فقد كان الإمام الخامنئي لسنوات إمام جمعة طهران المحبوب. ثمّ استمرّ الأمر في فترة تشرّف رئاسة الجمهورية باعتلائه منصبها سنة إحدى وثمانين ميلاديّة تحت عنوان "مكتب العلاقات العامّة لرئاسة الجمهورية". وبعد رحيل الإمام "الخميني" قدس سره، ونيله توفيق القيادة وولاية الأمر، تشكّلت "معاونيّة العلاقات العامّة في مكتب قائد الثورة". 

لقد نمت "العلاقات العامّة" بفضل الجهود والمساعي الفرديّة لأحد التلاميذ القدماء والأمناء لدى القائد، والّذي ما زال إلى اليوم مفعماً بالعزيمة والتفاؤل. وانتقشت بالعمل الدؤوب للأعضاء المعدودين في "العلاقات العامّة" صور خالدة عن الخدمة ومحبّة الناس على لوحة الثورة الإسلاميّة لتكون مصداقًا لكلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: "يا مالك... واجعل لذوي الحاجات منك قسمًا تفرّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسًا عامًّا فتتواضع فيه للّه الّذي خلقك، وتُقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك،
 
 
 
29

21

إشارة (مؤسسة صهبا)

 حتى يُكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غير موطن: "لن تُقدّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع"1.


إنّ كلّ ما يُستخلَص من الوثائق والمشاهدات والمسموعات يحكي عن أمرٍ وهو: أنّ اهتمام "العلاقات العامّة" والتزامها ودقّتها يتضاعف فيما يرتبط بمحضر الشهداء وعوائلهم. ومنذ سنة أربع وثمانين ميلادية، حين بدأ الإمام الخامنئي دام ظله ببرنامج زيارة منازل الشهداء، وفيما عدا المسائل المرتبطة بالحماية والأمن، فإنّ كلّ ما يتعلّق بهذه اللّقاءات من تخطيط ومتابعة وتوثيق وأرشفة وحفظ، كان على عهدة مكتب العلاقات العامّة. إنّ استمرار تنظيم هذه العمليّة والتصوير المميّز لهذه اللّقاءات لهو دليل على العمل المتقن والمخلص للقِوى العاملة في هذا المكتب. وبحمد الله، فإنّ الوثائق المتنوّعة والعديدة لهذه اللّقاءات من بدايتها وإلى اليوم قد تمّ حفظها. آلاف الصور والوثائق المكتوبة، مئات الدقائق من التسجيلات الصوتية والأفلام، تمّ تسجيلها بحسب التواريخ المختلفة، وهي موجودة اليوم منظّمة ومصنَّفة في مكتب العلاقات العامّة. وغير خافٍ أنّه كان هناك ولا يزال خلف هذه الأرشفة الدقيقة للوثائق دافع إلهي أعلى من مجرّد التكليف الإداري والعمل الوظيفي. وإنّ غاية إخلاص الإخوة في مكتب العلاقات العامّة تتّضح ها هنا، حيث إنّهم بكلّ عظمة وسخاء أجازوا لمجموعة من عموم الناس أن يستفيدوا من هذه الوثائق القيّمة.

وفي كلّ مرّة نال مركز "صهبا" توفيق الحضور بين يديّ مسؤول العلاقات العامّة ولقائه بهدف الإرشاد والتوجيه، فإنّه لم يجنِ حتّى اليوم سوى زاد المعنويّة والبصيرة والسعي الدؤوب من أجل إعلاء كلمة الإسلام وخدمة المجتمع الإسلاميّ والأمّة الصانعة للشهداء.

رحمة الله ورضوانه على الذين يُقصّرون لنا المسافة بين الأمّة والولي.

ورحمة الله على تلك القوى المخلِصة الّتي حملت أرواحها على الأكفّ في سبيل حماية وليّ الأمر منذ الماضي وإلى اليوم، وقد وفّرت برحابة صدر، رغم المَشَقّة، مقدّمات وظروف تواصل الناس، ومن جملتهم عوائل الشهداء، مع قائد الثورة عن قرب في عين تكريسها
 

1- الشريف الرضي،نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ص 439، تحقيق الدكتور صبحي الصالح، ط1، 1967م..
 
 
 
 
30

22

إشارة (مؤسسة صهبا)

 منتهى الجهد والدقّة والحساسيّة في حماية القائد من الأخطار والتهديدات. رزقهم الله أجر مجاهدي صدر الإسلام.


يُلاحَظ في منزل كلّ عائلة شهيد أثرٌ لحضور مؤسّسة الشهيد وشؤون الجرحى. لقد حمل هؤلاء على عاتقهم مسؤوليّة جسيمة ومقدّسة، وهي متابعة شؤون عوائل الشهداء. فزادهم الله توفيقًا، ورزقنا جميعًا توفيق المساهمة في تكريم عوائل الشهداء.

لقد سعينا في رواية وقائع هذه اللّقاءات أن نستفيد إضافة إلى الوثائق المحفوظة، من محاورة أكثر هذه العوائل حتى نحصل على المعلومات الضرورية حول الشهيد ولقاء القائد بأسرته. وبحمد الله، فقد استقبلتنا معظم هذه الأسر بترحيب وحفاوة، وحدّثتنا بحرارة قلب عن شهدائها وذلك اللّقاء.

وقبل حوالي ثلاث سنوات من إصدار هذا الكتاب، أي في العام 2011 ميلادية، لفتنا اسم أحد جهات الاتصال مع "صهبا"، والذي كان قد اشترى عناوين عدّة من منشوراتنا. كان اسمه "هاملت طومانيان". والواضح من الاسم أنّ صاحبه أرمني. وعليه فلم يكن شراؤه لكتب من "صهبا" - ليس فيها إلا بيانات القائد وخطاباته - مسألة بسيطة. تواصلْنا معه، وقد شكلّ هذا الاتصال نفسه أرضيّة صداقة مع السيّد "هاملت طومانيان"، أحد محبّي القائد المؤمنين به والمتابعين لكلامه. لقد تبيّن أنّ السيّد هاملت، ابن الثمانية والثلاثين عامًا، يقرأ كتب "صهبا" ويُروّج لها بين أصدقائه المسلمين والمسيحيّين وحتى بين تلامذته، وهو يُتابع بدقّة أخبار قائد الثورة وبياناته. لقد استمرّت هذه الصداقة إلى الوقت الّذي بدأ فيه العمل على ملف هذا الكتاب، فصار السيّد هاملت مرشدنا ومستشارنا، وصلة وصلنا بمجتمع المسيحيّين وبالخصوص الأرمن. لقد تحمّل عناء التنسيق لأكثر المقابلات، وكان مرافقَنا فيها، وقد تلطّف أيضاً وكتب بقلمه هو رواية أحد اللّقاءات. إنّنا في غاية الامتنان لما قدّمه لنا السيّد هاملت طومانيان من مساعدات، وأملنا أن تستمرّ هذه الصداقة والعلاقة القلبيّة الحميمة.

ولإضفاء مزيد من الجاذبية على الروايات، جرى السعي للاستفادة من رواة متنوّعين، والعمل قدر المستطاع لجعل الرواية بمثابة قصّة. طبعًا، تأليف قصّة من الروايات ليس بمعنى إطلاق عنان الخيال للتصرّف بها، فالوقائع والأحداث الأساسيّة التي وردت في الروايات جميعها واقعيّة ومستقاة من المقابلات والوثائق. إنّ الإشارة إلى هذه الملاحظة،
 
 
 
 
31

23

إشارة (مؤسسة صهبا)

 هي أكثر وجوبًا من ناحية، أنّه - وللأسف - في إحدى المرّات وقبل عدّة سنوات، انتشرت وبشكل واسع رواية عن لقاء قائد الثورة بعائلة شهيد أرمني في الفضاء المجازي، وكانت في مجملها وليدة الخيال، بل إنّ اسم الشهيد الّذي ذُكر فيها لم يكن حقيقيَّا أصلًا. إنّ وثاقة نصّ هذا الكتاب فيما يتعلّق ببيانات سماحة القائد هي مئة في المئة. لقد دُوّنِت بياناته عن طريق التسجيل الصوتي للّقاءات وجاءت باللون الأزرق في متن الكتاب.


وردت الروايات في الكتاب بترتيب تاريخ استشهاد الشهداء المسيحيّين، وعليه يُصبح واضحًا أنّ هؤلاء الأعزّاء قد قدّموا الشهداء من أوّل سنة في الحرب حتّى آخرها. ولهذا السبب تاريخ اللقاءات متغيّر، فبعضها جرى في عهد رئاسة سماحة السيّد "الخامنئي" للجمهورية، وبعضها في مرحلة القيادة.

ومع الأسف، في بعض الموارد من اللّقاءات، كانت المستندات ناقصة ومثلًا الصوت أو صورة اللّقاء غير موجودة. تمّت الاستفادة في رواية هذه اللّقاءات تحديدًا من المقابلة مع عائلة الشهيد. في بعض الموارد أيضًا لم نحصل على عنوان عائلة الشهيد ولم يكن هناك من مجال لإجراء المقابلة. ونحن نأمل مع صدور الطبعة الأولى لهذا الكتاب أن نتمكّن في المراحل الآتية من جبران هذه النقائص قدر المستطاع. 

ورد في نهاية الكتاب، وبعد الروايات، قسمًا الملحقات والضمائم. الملحقات وقد خصّصناه للصُوَر، وقد أُشير إليها في تكميل الموضوعات في متن روايات الكتاب. الضمائم أيضًا تشمل الأسماء والصور والمعلومات المختصرة المرتبطة بالشهداء الأرمن والآشوريّين. وأكثر هؤلاء الشهداء هم جنود ضحّوا بأنفسهم من أجل الدّفاع عن وطنهم وشرفهم، ومن تبقّى هم شهداء مظلومون استشهدوا إمّا خلال نضالات الثورة الإسلاميّة، أو في العمليّات الإرهابيّة للمنافقين والاشتباكات الّتي جرت معهم في الشوارع أو على أثر القصف المدفعي والصاروخي الظالم للمدن أثناء الحرب المفروضة. 

ونحن نشكر إخوتنا المواطنين الأرمن الأعزّاء الّذين كانوا صلة وصلنا بالعوائل المحترمة للشهداء الأرمن: السيّد آفانس كاراپتيان (أخو الشهيد فيجن کارابتيان)، السيّد فاروج يسائيان (أخو الشهيد يسائيان)، السيّدة المحترمة روبينا مدديان (زوجة الجريح الشهيد نوريك محمودي)، السيّد رازميك طوروسيان (ابن خال الشهيد طوروسيان)، السيّد الدكتور فاروجان بابوميان (ابن الشهيد
 
 
 
 
32

24

إشارة (مؤسسة صهبا)

 بابوميان)، السيّد وارطان داووديان (مسؤول الجرحى في مجلس البطاركة)، السيّد مِنوا نرسسيان (ابن أخي الشهيد نرسسيان)، والسيّدة المحترمة آرييلا كاراپتيان (ابنة أخي الشهيد کاراپتيان وابنة أخت الشهيد داووديان).


كذلك نشكر إخوتنا المواطنين الآشوريين الأعزّاء الّذين كانوا صلة وصلنا بالعوائل المحتَرمة للشهداء الآشوريّين: السيّد يونان بِت كُليا (نائب الآشوريين المحترم في مجلس الشورى الإسلاميّ)، والسيّدة المحترمة نانسي آلدو (مسؤولة مكتبه)، السيّد پيتر لازار (ابن خال الشهيد أردوشاهي)، جانب الكاهن المقدس نيا (كاهن الكنيسة الإنجيلية الآشورية في طهران)، ووالدة الشهيد جان جورج جان دافيد المحترمة.

ونتقدّم بالشكر من المؤسّسات الّتي ساعدتنا في طيّ طريقنا هذا: جريدة آليك، مركز وثائق مؤسّسة الشهيد، مركز العلاقات والمراجعات في مؤسّسة الشهيد، المقرّ الإعلامي لشهداء الجيش (العميد الركن مجيد شيخان)، بلديّة المنطقة الثانية في طهران، موقع ساجد الإلكتروني (السيّد حسين الثالثي)، ومجمع الآشوريّين في أروميه وريفها (السيّدة المحترمة دانيال).

ونشكر الله أن وفّقنا للعيش في هذا الجوّ المبارك، الّذي صار مقدّسًا بفضل أنفاس الشهداء وعطر الولاية، ونسأله أن يُديم علينا هذا التوفيق والسداد.

مؤسسة صهبا
كانون الأول 2014م
 
 
 
 
33

25

لرواية الأولى: بشارة العودة

 الرواية الأولى: بشارة العودة - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد جالوست بابوميان في تاريخ 28/12/1989م.


الشهيد جالوست بابوميان


شهيد القصف الجويّ على الأهواز


تاريخ الاستشهاد: 09/10/1980م
 
 
 
 
 
38

26

لرواية الأولى: بشارة العودة

 يودّع جالوست زملاءه ويخرج من الغرفة حاملًا بيده ملفات عدّة، تحوي وثائق مُهمّة لشركة النفط. لقد خيّم الهدوء في مبنى الشركة بعدما أصبح خالياً بالكامل. الكثيرون، وخاصّة القوى غير المحلّية، غادروا الأهواز، لقد فرّوا في الواقع. 


قبل أكثر من ثلاثين سنة، كان جالوست قد بدأ عمله في قسم الكمبيوتر التابع لشركة النفط، وخلال أحداث الثورة والإضرابات كان في الطليعة. والآن، في هذه الأوضاع الحرجة للبلاد، فإنّ خبرته باتت ضروريّة لإدارة الشركة ومواصلة تدفّق النفط في الأنابيب. هو نفسُه لم يكن قادرًا على المغادرة، رغم شدّة شوقه لوالدته العجوز وزوجته، وبالأكثر لابنه وابنته، فاروجان وتالين. لقد مرّ على ذهابهم عشرون يومًا. فمنذ أن اندلعت الحرب، أرسل عائلته إلى منزل أخيه في طهران وبقي هو في الأهواز. عندما هاتفهم البارحة ليلًا، أصرّت عليه أمّه من بين الجميع أن يعود إلى طهران:

بنيّ حبيبي جالوست! غداً أو بعد غد سيستولي العراقيّون على الأهواز، وليس معلوماً حينها أيّ بلاء سينزلونه عليك. هؤلاء ليسوا كمسلمي إيران، اليوم كانت تقول جارتنا زهراء: "إنّ هؤلاء هم أنفسهم الّذين قتلوا الإمام الحسين عليه السلام وحضرة أبي الفضل". ولدي، بما أنّك لستَ عسكريًّا ارجع إلى طهران.

وبما أنّها أمّه فقد قال: "على عيني، سآتي خلال هذه الأيّام القليلة". وكان صادقًا فيما يقول، فقد كان من المقرّر أن يوصل وثيقة مُهِمّة إلى طهران بالقطار. لكن كان عليه العودة بسرعة. ولم تكن والدته تعلم أنّ ابنها قد قرّر الذهاب في الأسبوع التّالي إلى عبادان لعدّة أيّام. فقد اشتعلت النيران في مصفاة النفط، وكان عليه أن يواصل عمله. لقد سكّن قلب والدته، لكن كان عليه بعد حديثه مع ولدَيْه أن يُسكّن قلبه هو. كان فاروجان في العاشرة من عمره وتالين في السادسة، وكم كان لسانها عذباً، لقد تعلّمت للتوّ الفارسيّة من التلفاز وباتت تخلطها بالأرمنيّة! بعد الاتصال الهاتفي، توجّه نحو صورة ولدَيْه وراح يتأمّلهما.
 
 
 
 
39

27

لرواية الأولى: بشارة العودة

 كان يذرف الدموع والبسمة مرتسمة على شفتَيْه، وهو ينظر إلى صورة ولدَيْه. ظلّ على هذه الحال حتى الساعة التّاسعة ليلاً، حين شاهد نشرة أخبار يوم الثامن من شهر تشرين الأول عام 1980م، اليوم السابع عشر للحرب من على شاشة التلفاز. لقد غلب غضبه وقلقه على شوقه حين شاهد النّار والدخان يتصاعدان من أبراج المصفاة، وعقد العزم على البقاء والمساعدة في مواصلة إنتاج النفط.


كانوا قد أوقفوا تحديد ساعات العمل. خرج من الشركة وتوجّه مباشرةً إلى سكّة الحديد في ا?هواز، ركن سيارته في الموقف، وقد عزم على تركها هناك، إلى حين عودته فيكون رجوعه أسهل. كانت المحطّة مزدحمة بأصناف الناس، متضرّرين من الحرب، ومحزونين قد حملوا صررهم على أكتافهم يريدون مغادرة مدينتهم، وعسكريين وقوى شعبية قد أتت لأجل القتال. لم يكن قد وصل إلى باب القطار حين علت في البداية صفّارات الإنذار، ثم دويّ المقاتلات العراقيّة في أجواء الفضاء1.
 

1- كانت الأهواز منذ اليوم الأول لبدء الحرب، أي 22 أيلول 1980م، تُقصف بشكل مستمرّ جويّاً وبالصواريخ؛ بحيث إنّ كثيراً من سكّان الأهواز المدنيّين قد غادروها بعد مدّة شهر، وأصبحت المدينة أشبه بالمنطقة العسكريّة.
 
 
 
40

28

لرواية الأولى: بشارة العودة

 عبرت المقاتلة الحربيّة بسرعة عالية، وعلى ارتفاع منخفض، أجواء المدينة، ثمّ قامت بدورة في الفضا،ء وعادت هذه المرّة من علوٍّ مرتفع، ومن دون أن يتصدّى لها أيّ مضادّ للطيران. كان جالوست يُحدّق في السماء حين رأى عدّة نقاطاً سوداءَ تنفصل عن الطائرة وتتساقط بسرعة نحو الأرض. لقد انفجرت أول قنبلة أمام المحطّة، ثمّ الثّانية والثّالثة، لم يعد جالوست قادراً على الحراك، صار يُراقب فقط اقتراب الانفجارات. وكان آخر مشهد ارتسم أمام ناظرَيْه هو صورة فاروجان وتالين وزوجته هاسميك.


راح الناس المذهولون والمعفَّرون بالتراب يركضون باتجاه المحطّة. واستعرت ألسنة النيران في القطار الّذي كان مقرّراً أن يتوجّه إلى طهران، وبات مبنى المحطّة نصف مدمّر.

كان جالوست قد سقط في ساحة المحطّة الخارجيّة. عندما مرّ أوّل شخص بقربه رأى وجهه والقسم العلوي من جسده قد احترق. انتابه الخوف، فهو لم يكن قد رأى مشاهد كهذه من قبل. لم يكن يريد أن يُصدّق أنّ جالوست قد استشهد. جلس بقربه.

- ? تقلق يا حاج! ا?ن نوصلك إلى المستشفى، وإن شاء الله تتحسّن حالتك. أنا قاسم، ما اسمك أنت؟ هل تسمعني؟

لم يرد جالوست جواباً، كان دمه قد لطّخ المكان بالأحمر القاني. راح قاسم يبحث في جيوب جالوست عساه يجد بطاقة أو شيئاً ما يُرشده إلى هويّته. الصليب حول رقبة
 
 
 
41

29

لرواية الأولى: بشارة العودة

 جالوست كان أول ما ?مس يد قاسم. ثمّ وجد بطاقة في جيب قميصه.


- آه! أنت مسيحي سيّد جالوست!

وصرخ: لعنة الله عليك يا صدّام!1.

كان فاروجان وعمّه ينتظران قطار الأهواز في محطّة سكّة الحديد في طهران، لكن أيّ خبر لم يصل. وحينما تحرَّوْا علموا أنّ سكّة حديد ا?هواز قد تمّ قصفها وأنّ القطار لن يأتيَ. لم يخطر ببال فاروجان ابن العشر سنوات أنّه لن يرى والده مرّة أخرى. انتظرا في المحطّة ساعات عدّة أخرى عسى أن يصلهم خبر جديد لكنَّ شيئاً لم يتغيّر. رجعا إلى المنزل وراح الجميع ينتظر جالوست ليتصل بنفسه.

أظلم الليل والهاتف لم يرن بعد. لقد غلب النعاس على الأم وولدَيْها فناموا على الأرائك وهم منتظرون في إحدى الغرف. وفجأةً استفاق الجميع على صراخ الوالدة. لقد رأت هاسميك مناماً مزعجاً: أقلعت بالقرب منها طائرة حربية كان دويّها مرعباً وكانت هي تحتضن أطفالها بشدّة، كانوا جميعًا يرتجفون. كان وجه هاسميك يتصبّب عرقاً وأنفاسها لا تهدأ. انتاب فاروجان وتالين الخوف جرّاء فزع أمّهما فتشبّث كلّ واحد بيد الآخر.

حضرت الجدّة وزوجة العم وقد جلبتا معهما ماءً محلّى بالسكّر. حاولتا أن تهدّئا من روع هاسميك الّتي ما فتئت تُردّد: لقد رأيت منامًا مزعجاً، كان وقعه سيّئًا في قلبي.

كانت الساعة تُشير إلى الواحدة والنصف بعد منتصف اللّيل. لقد استيقظ الجميع بعد ذلك الكابوس، ولم تمضِ لحظاتٌ قليلة حتى رنّ جرس الهاتف.

وضعت هاسميك يدها على قلبها، وأسندت رأسها إلى الجدار. رفع العمّ سمّاعة الهاتف، وبعد كلمتَيْن أو ثلاث علا صوت النحيب.

ظلّت هاسميك مصدومة حتّى الصباح، وكانت طوال الوقت تُردّد اسم زوجها,
 

1- الديكتاتور العراقي المجرم الّذي كان يحكم العراق من سنة 1979 حتى 2003 ميلاديّة. حرب السنوات الثماني ضدّ إيران والهجوم على الكويت وحرب الخليج الفارسي، والقمع الوحشي للمنتفضين داخل العراق، كانت أكبر جرائمه الّتي خلّفت عدّة ملايين من القتلى والجرحى. في نهاية المطاف، صار صدّام محلّ غضب أسياده الغربيّين، وخلال هجوم أمريكا وبريطانيا على العراق، ترك الحكومة وبقي متخفيّاً لأكثر من تسعة أشهر إلى أن تمّ اعتقاله من داخل حفرة تحت الأرض وبحالة يُرثى لها . حُكم صدّام بالإعدام بعد عدّة جلسات من محاكمته مقابل جرم واحد فقط من آلاف الجرائم الّتي ارتكبها، وفي شهر أيلول 2006 عُلّق على حبل المشنقة.
 
 
 
42

30

لرواية الأولى: بشارة العودة

 جالوست، جالوست، جالوست. جالوست باللغة الأرمنيّة تعني بشارة العودة؛ لكنّ "بشارة العودة" لم يعد.


* * *

كان لزاماً عليّ أن أصبح للأطفال أمّاً وأباً. كان الأمر صعباً، لكن ما جعلني أصمد هو تصميمي على تربية الأو?د تربية صحيحة. وكان هناك أيضاً الدعم الّذي حظيتُ به من والدة جالوست وإخوته. كانوا دائماً حاضرين لتقديم يد العون، وقد تكفّلوا الأولاد.

بدأنا في تلك السنة تقليداً جديداً في العائلة، وكانت أمّ جالوست تُشاركنا به، حيث كُنّا نذهب معًا للاحتفال بعيد الميلاد عند قبر ولدها الشهيد. بقينا على هذه الحال تسع سنوات متتالية، وفي السنة التاسعة انتقلت هي إلى جوار ولدها. لم يكن قد بقي على عيد الميلاد إلا عدّة أسابيع حين رحلت أمّ جالوست عن الدّنيا، وسكن أنين قلبها بمجاورة ابنها.

إنّها أيام عيد سنة تسع وثمانين. وعلى الرغم من مضيّ سبعة أشهر على رحيل الإمام الخميني، لكنّ أجواء الحزن كانت لا تزال تُخيّم على إيران. نحن المسيحيّين، لم نكن نُصدّق أنّه يرحل عن هذه الدنيا. كان قلبي يحترق على أولئك الشبّان المجاهدين الّذين عادوا للتوّ من الجبهة. وبعيداً عن هذا، كُنّا نحن في حداد على والدة جالوست أيضاً، ولم يكن عندنا عيد.

صباح الخميس أعلموني أنّ أحد مسؤولي الدولة سيقوم بزيارتنا اللّيلة لعدّة دقائق فيما لو كُنّا في المنزل، وأنا رحّبت. بعد ذلك، أخبرت أخا جالوست وزوج أختي وطلبت منهما أن يحضرا إلى منزلنا. لم يستسغ أيٌّ من فاروجان وتالين خبر زيارة الضيف أبداً، فقد كانت أيّام امتحانات، ولديهما الكثير من الدرس والمذاكرة.

كانت تالين في المرحلة الثانوية وفاروجان طالب جامعي في اختصاص الطبّ. كانا يعلمان أنّني شديدة الحساسيّة بشأن دراستهما ولم يكن شيء ليدخل السرور إلى قلبي بإزاء محبّتهما إلا تفوّقهما في الدراسة.

لمّا علمت بخبر قبول فاروجان في اختصاص الطب زال عن كاهلي تماماً تعب سنوات من العمل والعيش من دون جالوست. يومها سارعت إلى زيارة ضريحه وباركت له قبول فاروجان في الطب. لقد تمّ قبول فاروجان ضمن حصّة أولاد الشهداء في هذا الاختصاص،
 
 
 
 
43

31

لرواية الأولى: بشارة العودة

 وهو يصرّ على التصريح بهذا الأمر أينما حلّ، يفتخر ويقول إنّ والدي قد استشهد ولم تُفرّق الجمهورية الإسلاميّة بيني وبين ابن الشهيد المسلم!.


كانت تالين منذ الظهيرة قد ذهبت إلى منزل صديقتها ليدرسا معاً، وانتظر فاروجان حتى بُعيد المغرب بقليل عسى أن يأتي الضيوف، لكنّه من بعدها ذهب إلى السكن الجامعي ليستعدّ لامتحان الميكروبيولوجي في الغد. يقول إنّه صعبٌ جدّاً. وبعد ثلاث ساعات على الغروب، يصل ضيفنا. تُصيبنا حال من الذهول والدهشة أنا وأخو جالوست وزوج أختي، ونفقد القدرة على القيام بأيّ شيء. 

كُنّا قد سمعنا قبل سنوات عدّة أنّ رئيس الجمهوريّة قد زار منازل عدّة شهداء مسيحيّين بشكل فجائيّ. وقد خطر على بالي للحظة أنّ رئيس الجمهورية الجديد قد يحلّ اللّيلة ضيفاً علينا. 

لكنّ الضيف كان رئيس الجمهوريّة السابق نفسه، والّذي أصبح بعد عدّة أشهر من رحيل الإمام الخميني هو القائد!.

أشعر بالحزن الشديد لعدم وجود الأولاد في المنزل. لو أنّهم فقط قد أعطونا احتمالًا ولو واحدًا في المئة من سيكون ضيفنا لكان من المستحيل أن يذهبا. الآن كم ستكون حسرتهما كبيرة عندما يعودان إلى المنزل.

يُسلّم علينا السيّد الخامنئي ويسألنا عن أحوالنا، ثمّ يسير برفقة شقيق جالوست وزوج أختي وعدّة أشخاص أتوا معه للجلوس على الكنبات.
 
 
 
 
44

32

لرواية الأولى: بشارة العودة

 لم يكن لأيٍّ منّا طاقة على الكلام. بعد السلام والسؤال عن الأحوال، بدأ هو بنفسه بالتحدّث إلينا. 


- هذا السيّد هو والد الشهيد؟

كان يشير إلى صورة لجالوست على الحائط، ولعلّه ظنّ أنّ الصورة لوالد الشهيد؛ لأنّ أكثر الشهداء الأرمن كانوا جنوداً شبابًا.

أجيب بهدوء: هذه صورة الشهيد نفسه.

- حقّاً! هل هذا السيّد هو الذي استشهد؟

- نعم.

- وحضرتكِ زوجته؟

- نعم.

كنتُ أذوب خجلاً، فحتّى اليوم لم أكن قد تحدّثتُ إلى أيّ عالم دين مسلم. والآن قد جلس أمامي أكبر مقام روحانيّ في البلاد، وها هو يتحدّث إليّ. وقفتُ أريد الذهاب إلى المطبخ لتحضير الضيافة لكن "السيّد"1 لم يسمح: تفضّلي، اجلسي هنا.

- شكرًا.

وأجلس على الكنبة المخصّصة لشخص واحد على يمينه. يتملّكني شعور عجيب، يغمرني السّرور والخجل والفخر في آنٍ واحد، وأتمنّى لو أنّ جالوست كان يرى هذا المشهد. وهو يراه حتماً:

- أحوالكم جيّدة أيتها السيّدة؟

- الشكر لكم.

- أين استُشهد الشهيد؟

- في الأهواز.

- متى؟

- في التاسع من شهر تشرين الأوّل. الأسبوع الثالث للحرب.

- كان يعمل هناك؟

- نعم.
 

1- الإمام الخامنئي؛ وبالفارسية يقولون له "الحاج آقا" وهو تعبير فيه تودّد واحترام.
 
 
 
45

33

لرواية الأولى: بشارة العودة

 أحبّ كثيراً أن أحكي عن جالوست وعمله ومعنويّاته، لكن لا طاقة لي أبداً. ليت نبضات قلبي هذا تهدأ قليلاً. يسأل "السيّد" عن صلة الشخصَيْن الجالسَيْن إلى جانبه بنا، يقول أحدهما: أنا أخو الشهيد، ويقول الآخر: أنا عديله.


- تغمّده الله برحمته وبارك لكم عيد السنة الجديدة هذه وعيد ميلاد حضرة السيّد المسيح عليه السلام. 

- نشكره جميعنا.

- ماذا كان يعمل زوجك أيّتها السيّدة؟

- كان يعمل في شركة النفط وقد استشهد على أثر القصف الجويّ. 

يسأل عن عمل أخي الشهيد وعديله أيضاً، ويقول لي: أنتِ ولا بدّ ربّة منزل. ثم يسأل عن الأولاد، ويشتعل قلبي من جديد. أقول إنّ أحدهما طالب جامعي والآخر لا يزال تلميذاً. يُسرّ السيّد كثيراً لأنّ الأولاد من طلّاب العلم. أرمق صورة جالوست بطرفي وأرسم ابتسامة.

- بنتَيْن أم صبيَّيْن؟1.

- صبيّ وبنت.

- أليسوا هنا؟

- لقد انتظر ولدي حتّى الساعة السابعة ثمّ ذهب بعدها. لم يكن يعلم أنّكم أنتم ستحضرون. لم يقولوا لنا.

- أجل لم يكن المفروض أن يُقال. 

ترتسم الابتسامة على شفتَيَّ. معه حقّ! لو أخبرونا من هو ضيفنا المنتظَر لكان الآن كلّ أصدقائنا وعائلتنا ونصف المحلّة في المنزل ههنا. أُوضّح له أنّ كلَيْهما لديه امتحانات يوم السبت وقد ذهبا ليدرسا مع زملائهما.

- ماذا يدرس ولدك؟

- الطبّ.

- إن شاء الله يكون موفّقاً في درسه وعمله ويكون طبيباً صالحاً.

- شكراً لكم.
 

1- ليس في اللغة الفارسية مذكّر ومؤنّث، فالضمير المعبّر عن كليهما واحد.
 
 
 
 
46

34

لرواية الأولى: بشارة العودة

 - ابنتكم أيضاً تدرس؟


- نعم. ما زالت تلميذة في المدرسة.

يجول السيّد بنظره في أنحاء المنزل، وكأنّ شيئاً ناقصاً فيه ثم يقول:

- لا أرى أيّ إشارة أو علامة على العيد. ألا تحتفلون؟

يُجيب أخو جالوست بأنّه لا عيد لدينا لأنّ والدتنا قد توفّيت.

- حقّاً! تغمّدها الله وجميع أمواتكم برحمته. آجركم الله أنتم أيضًا.

أذهب إلى المطبخ حتّى أصبّ الشاي فأسمع السيّد يتحدّث مع السادة الآخرين حول مراسم العيد والمسائل المتعلّقة بالأرمن وكنائسهم وممثّليهم في المجلس. ومن الواضح أنّ السيّد بنفسه يُحرّك المجلس ويُعطيه دفأه، ولو كانت المسألة على عهدتنا لكان المجلس بارداً جامداً، ولما تحدّث أحد. بعد عدّة لحظات، أُنصتُ جيّداً حتّى أسمع الحوار. معلومات السيّد القائد حولنا هي أكثر من معلومات بعض الأرمن أنفسهم!.

أخرج من المطبخ بصينيّة الشاي، فيتصدّى أحد مرافقي السيّد ويأخذها من يديّ ويُضيّف الجميع، وأنا بدوري أذهب لأجلب صورة أخرى لجالوست من الغرفة، وأضعها في يد السيّد الخامنئي. يبدو في هذه الصورة جميلاً جدّاً ومبتسمًا.

- سيّد. هذه صورة أخرى لشهيدنا.

- آها! هذه صورته. ماذا كان اسمه؟

- جالوست بابوميان.
 
 
 
47

35

لرواية الأولى: بشارة العودة

 - كم كان عمره؟


- ثماني وأربعين سنة. الواقع أنّه كان يعمل في شركة النفط منذ سنّ الرابعة عشر. تاريخ خدمته يمتدّ إلى ثلاث وثلاثين سنة. 

أقول هذا وتخنقني الغصّة. لا أُريدهم أن يروا دموعي. أذهب مرّة ثانية إلى المطبخ بحجّة الضيافة، وهناك أسمح لعينيّ أن تذرفا ما شاءتا من الدّمع. 

يستمرّ الحديث في تلك الغرفة حول أسقف الأرمن واختلاف المراسم والشعائر بين الأرمن والآشوريّين. أنتظر قليلاً حتّى أهدأ وأعود. لكنّ السيّد يسبقني بطلبه أن أرجع.

- حسناً. لتأتِ هذه السيّدة وتجلس. نحن نُريد أن نُغادر. وهي تذهب بشكل متكرّر. قولوا لها إنّنا على وشك المغادرة.

سريعاً ألملم نفسي وأذهب إلى غرفة الاستقبال. لقد تناولوا الشاي مع قطع الحلوى. أهمّ بإحضار الفاكهة لكنّه يُشير بيده إليّ أن أجلس.
 
- تفضّلي اجلسي. نحن لا نُريد ضيافة. كان الهدف أن نجلس معكم للحظات ونُقدّم لكم العزاء؛ لأنّكم قدّمتم زوجكم في سبيل هذا البلد وتحقيق أهدافه. يتحتّم علينا أن نُقدّم العزاء لكم. هذا اللّقاء كان لأجل هذا المقصد، فلا تُكلّفوا أنفسكم عناء الضيافة.

ينتابنا أنا وأخو الشهيد الخجل من هذا التواضع وعدم التكلّف الّذي يتّصف به السيّد الخامنئي، ونشكره بدورنا.

كان الحديث قد وصل خلال غيابي إلى الكنائس في إيران. ويستذكر السيّد الخامنئي إحدى ذكرياته عن ذهابه إلى كنيسة في منطقة جلفا في أصفهان. ذكرى وجدتُها جميلة جدّاً، بحيث قلتُ في نفسي ما أجمل أن تُكتَب هذه الخاطرة باللّغة الفارسيّة والأرمنيّة وتُعلّق في تلك الكنيسة نفسها. 

- لقد ذهبتُ من قبل إلى كنيسة الأرمن في جلفا. كان ذلك في بداية مجيئي إلى مدينة قم سنة ثمان وخمسين1. ذهبنا إلى أصفهان، وزرنا جلفا ومررنا على كنيستَيْن هناك.
 

1- بدأ الإمام القائد بدراساته الحوزويّة في مكان ولادته أي مدينة مشهد المقدّسة. ثمّ في سنّ الثامنة عشرة، سافر إلى النجف الأشرف في العراق لأجل الزيارة ومواصلة الدراسة الحوزويّة، ولكنّه عاد إلى مشهد بعد شهرين فقط بسبب عدم موافقة والده. وفي عمر التاسعة عشرة، سنة ثمانٍ وخمسين، سافر إلى مدينة قم المقدّسة وتفرّغ فيها للدراسة لمدّة ستّ سنوات. بعد هذه المرحلة، أُصيب والده بمشاكل في عينيه ما اضطرّ آية الله الخامنئي لترك الميزات الخاصة للدراسة في قم والعودة إلى مشهد للاعتناء بوالده ورعايته.
 
 
 
 
48

36

لرواية الأولى: بشارة العودة

 إحدى تلك الكنيستَيْن كانت كبيرة جدّاً وجميلة جدّاً، وكان ناقوسها يقع في وسط القاعة الأساسيّة فيها. والكنيسة الأخرى كانت أصغر، وصادف أن كان فيها مراسم تشييع جنازة. كنتُ قد ذهبتُ إلى هناك مع صديقَيْن من طلبة العلوم الدينيّة وقد شاركنا في تلك المراسم. 


عندما وصلنا كان خادم الكنيسة موجوداً، فسألناه عن إمكانيّة أن ندخل، وقد أجاب بأنّه لا إشكال في ذلك. كُنّا ثلاثة أشخاص معمّمين، وقد شاركنا في مراسم التشييع تلك. يعني لم يكن أصلاً يُحتمل أن يُشتبه بنا أنّنا أرمن. ولقد تعامل معنا الأرمنيّون بشكل ودود. ذهبنا إلى هناك وجلسنا في الكنيسة، وشاهدنا تلك المراسم من بداياتها حتى آخرها تقريبًا. يوجد كنائس كثيرة في تلك المنطقة.

يوضح أخو جالوست بأنّه يوجد اثنتا عشرة كنيسة هناك، وأنّ التي زارها السيّد القائد هي الكنيسة المركزية في تلك المنطقة.

- حسناً أيّتها السيّدة، أسأل الله أن يُلهمكم الصبر ويمنّ عليكم بالأجر، ويوفّقكم لتربية ولدَيْك تربية صالحة، وتنشئتهما ليصيرا منتجَيْن وصالحَيْن، بحيث يتمكنان بمحبّتهما لك وخدمتهما لهذا البلد أن يملآ فراغ أبيهما. موفقون إن شاء الله.

يستقرّ دعاء السيّد الخامنئي عميقًا في قلبي وأردّد بلسان القلب من بعده، آمين.

يقف "السيّد" ويودّعنا. كان بسيطاً وغير متكلّف إلى درجة أنّ كلّ مشاعر الرّهبة والخجل وأمثالها قد خرجت من قلبي، وها هو الآن قد هدأ واستقرّ. كنتُ أُحبّ أن تستمرّ هذه الاستضافة وأن أجلس إلى السيّد القائد أُحدّثه عن أخلاق جالوست وضميره الحيّ وعن شبه فاروجان به، لكنّ الفرصة لم تسنح، فها هو السيّد الخامنئي يُغادر. أشكره وأنا على باب المنزل مرّات عدّة باللّغتَيْن الفارسيّة والأرمنيّة. أُريد أن أُرافقه إلى الزقاق، لكنّ مرافقيه يقولون لا تُتعبي نفسك، فبهذه الطريقة نخرج من دون إحداث جلبة ومن دون لفت نظر.
 
تمرّ دقائق في صمت تام، لم يكن أيٌّ منّا يُصدّق أنّه ومنذ دقائق كان قائد إيران يجلس ههنا إلى جانبنا، يشرب الشاي ويتحدّث.

لشدّة سروري أحمل صورة جالوست الصغيرة وأجلس على الكنبة أتأمّلها. لقد بقيتُ وحدي الآن أُفكّر فيما أقول حين يعود الأولاد.
 
 
 
 
49

37

لرواية الأولى: بشارة العودة

 عاد فاروجان إلى المنزل حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً. قلتُ: عافاك الله أيّها الدكتور. هل تعلم ما الّذي فاتك الليلة؟


- هل حدث شيء؟ 

- ألم أقل إنّنا نتوقّع ضيوفًا؟

- حسناً لم يكن بيدي حيلة. لدينا امتحان. إذاً من كان هؤلاء الضيوف؟

- لن تُصدّق. لقد أتى السيّد الخامنئي إلى منزلنا! كم تحسّرتُ على عدم وجودك. لا أتصوّر أنّه ستسنح فرصة ثانية لترى "السيّد" عن قرب!.

ينظر إليّ مذهولًا. أظنّ أنّ كلّ ما درسه قد طار من ذهنه. ومن دون أن ينبس ببنت شفة يقترب ويُعانقني.

دكتور واروجان بابوميان، ابن شهيد – 2014
 
 
 
50

38

الرواية الثّانية: العيادة

 الرواية الثّانية: العيادة  - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد يِرمي يعقوب في تاريخ 27/02/2002م


 الشهيد يرمي يعقوب


شهيد القصف الجوي على الأهواز


تاريخ الاستشهاد 09/10/1980م
 
 
 
 
52

39

الرواية الثّانية: العيادة

 "أبي... أبي... أبي... أبي العزيز والحنون والمضحّي. يا من شاعت أوصاف فضائلك في كلّ مكان، وذاعت محامدك على كلّ لسان.


ألا تُريد الآن أن تأتي لرؤية ابنتك، ابنتك آخر العنقود الّتي سقطت وشُلّت، ألا تريد أن تسأل عن حالها وتهدّئ من روعها؟ أبي هل تسمعني؟ هل أنت معي؟ أو أنّك بتّ صورة في إطار تنظر إلى أدمع ابنتك فحسب؟".

* * *

أنتِ تلميذة أفضل جامعة في إيران في اختصاص الهندسة المعماريّة. لقد تجاوزتِ للتوّ سنّ العشرين وأصبحتِ في سنّ الشباب، وقد أصابتك هذه الحادثة المشؤومة. لقد شُلّ نصفك الأيمن تماماً، بحيث إنّك لا تشعرين أنّ لديك يداً أو رجلاً يُمنى، حتى عندما يخزّونك بالإبرة لا تشعرين بوخزها. لماذا وقع هذا الحادث في أفضل وأحلى أيام عمرك؟ لا تعلمين؟ لا أحد يعلم، حتى الأطبّاء المتخصّصون؟.

لقد قال أخوك الأكبر "رام ايل" حين اتّصل بأمّك من الخارج: إنّ هذه البنت قد جرى لها ما جرى من شدّة التفكير بأبيها. لقد فهمتِ هذا عندما أنصتِّ إلى مكالمة والدتك. ولم يكن هذا قولاً جُزافاً، فلقد قال الأطبّاء إنّ المشاكل العصبيّة والآلام الروحيّة الشديدة فقط يُمكن أن تولّد هذا النوع من الحوادث. لكن حسناً، وهل يُمكن أن لا تفكّري بأبيك؟! بأبٍ لا يزال اسمه منذ إحدى وعشرين سنة وإلى الآن، يسطع بعنوان الشهيد كالنجم بين جميع الآشوريّين.

لقد أدرك كلّ أفراد العائلة أنّك بُتِّ مريضة وصاروا يأتون لزيارتك، لكن لا مزاج لديك لمقابلة أحد. أنت تُحبّين أن يأتي لزيارتك شخص واحد فقط. هو دون سواه. بالأحرى، أنت لا تُحبّين أن يأتي للقائك، تتمنّين لو يأتي! قلبك الموجع يتمنّى أن يأتي هذا الرجل لرؤيتك، تُسلّمين عليه ويردّ طيب سلامك. ثمّ يسأل عن أحوالك ويُكلّمك، وينقل لك شيئاً
 
 
 
 
53

40

الرواية الثّانية: العيادة

 من ذكرياته، ويُسكّن قلبك. ولقد أخبرتِ والدتك بأمنيتك هذه، لكنّها طلبت أن لا تُحدّثي بهذا الكلام لأنّه لا يحصل!.


لقد جلستِ على الكرسيّ المتحرِّك، ووضعتِ صورة أبيك على حضنك، تتذمّرين من غيابه. في هذه الأيام الّتي بتِّ فيها على الكرسي المتحرِّك صار قلبك أكثر شوقاً لأبيك. 

"أبي... أبي... أبي... قبل ليالٍ عدّة عندما كانت أيام محرّم، تعلّمت شعراً أُردّده كثيراً في هذه الأيام. كنتُ مع والدتي نمرّ في الشارع حين وصل إلى مسامعي صوت بكاء ورثاء. لقد كان مجلس عزاء، طلبت من والدتي أن تقف قليلاً حتى أستمع إلى صوت الخطيب، كان رجلاً يُلقي شعراً عن لسان رقيّة ابنة الإمام الحسين. وفي قصيدته بيت من الشعر، لمّا سمعته أجهشت بالبكاء: ذَهَبْتَ ولم تتساءل نفسك، ألا تريد ابنتك أباً؟!

الآن، أبي العزيز والحنون والمضحّي، ابنتك الصغيرة أيضاً تقول لك ذلك: ذهبت ولم تتساءل نفسك، ألا تحتاج ابنتك إلى أبٍ؟".

* * *

كان عمرك شهرَيْن عندما استشهد أبوك، كنت أنت وأمّك وأختك وأخوك في طهران، وكان أبوك وحده في الأهواز. كانت الأيام الأولى للحرب وقد غرقت الأهواز بوابل القصف الشديد للمعتدين العراقيّين. كان مهندس كهرباء ومسؤول مديريّة الكهرباء في كلّ الأهواز. في تلك الأيام، كان معظم العمّال قد تركوا محالّ عملهم، لكنّ والدك لم يفعل. كان يقول إنّ الناس بحاجة إلى وجوده أكثر في هذه الأوضاع. وقد بقي في الأهواز. كان كلّ يوم يذهب إلى مكان عمله عند الساعة السابعة صباحاً. ومع أنّه كان المدير المسؤول، إلا أنّه كان يُشمّر عن كمّيه ويُباشر بإنجاز الأعمال بنفسه حتى الثانية عشرة ليلاً. لم يكن لديه فرصة للمجيء إلى طهران لرؤيتك أنت التي ولدتِ للتوّ. كان فقط قد طلب من والدتك أن تُسمّيك رودرينه وكان اسمه يِرمي. والدك ولد في اروميه، ويرِمي باللغة الآذريّة تعني "عشرون"!.

يوم الخميس في التاسع من شهر تشرين الأول سنة ثمانين، كان والدك بالقرب من مكان عمله عندما راحت المقاتلات العراقيّة تصبّ قذائفها على رؤوس الناس كما يُنثر السكّر والحلوى على رأسَيْ العروسَيْن. يتمدّد والدك على الأرض على أمل أن ينجو، لكنّ إحدى القذائف سقطت بالقرب منه، فأُصيب بعشرات الشظايا في أحد طرفَيْ بدنه. ولما أوصلوه إلى
 
 
 
 
54

41

الرواية الثّانية: العيادة

 المستشفى كان لا يزال حيّاً وواعياً. لقد أتى لمعاينته الدكتور علوي صديقه الحميم، وبسرعة أمر الدكتور بتجهيز غرفة العمليات لإجراء عملية جراحية له، لكن قبل العمل الجراحي استجمع والدك كلّ قواه وقال جملة واحدة للدكتور علوي: "انتبه لأولادي وقل لهم إنّني أُحبّهم كثيراً".


كانت هذه آخر جملة قالها والدك في هذه الدنيا. 

أول وآخر مرّة رأيتِ فيها هذا الرجل لم تكوني قد أتممتِ بعد التاسعة من عمرك. كانت ليلة عيد الميلاد، وكان قد أتى ليُبارك لكم حلول العيد، ويسأل عن أحوالكم ويسمع عن والدك ويتحدّث إليكم. عندما أتى كنت أنت وأمّك وحدكما في المنزل، فقط أنتما الاثنتان. رامونا ورام ايل لم يكونا في المنزل. أنت لا تذكرين أين كانا ولماذا لم يكونا. لطالما كنتِ قد رأيتِ وجه الرجل في التلفاز، فذلك الرجل الذي أتى إلى منزلك كان رئيس جمهورية إيران، السيّد الخامنئي.

لا تذكرين شيئاً من ذلك اللّقاء. فقط تذكرين أنّك ذهبتِ وألصقتِ نفسك به، وهو أيضاً مسح بيده على شعرك مسحة أبويّة واحتضنك. لقد جلبوا لك صورتَيْن عن ذلك اللقاء، صورتَيْن كلّما نظرتِ إليهما تعود بك الذكرى إلى تلك الليلة. كان الرجل يمسح على رأسك وكأنّه أبوك.
 
 
 
 
 
55

42

الرواية الثّانية: العيادة

 ومهما كانت أمّك تقول: يا ابنتي! إنّه قائد بلدنا ولا وقت لديه ليأتي للقائك.، لم تكوني لتقتنعي. لقد ضغطتِ عليها إلى درجة أنّها رضخت وقبلت أن تُهاتف مكتبه وتنقل بكلّ خجل وحياء طلبك. 


وتمضي أسابيعٌ عدّة، ولا يلوح في الأفق خبر. ومهما تؤكّد أمّك أنّه لا ينبغي أن تتوقّعي مجيئه، ما من فائدة. لقد وقع في قلبك أنّه سيأتي لرؤيتك في إحدى هذه اللّيالي الشتويّة الطويلة ويسأل عن حالك. 

صباح اليوم، اتصلوا هاتفيّاً بوالدتك وسألوا عن حالك وأحوالك، وتُجيبهم أمّك، ويطلبون الإذن بالمجيء اللّيلة ليروك عن قرب. تُفكّرين بينك وبين نفسك أنّ هذا الاتصال حتماً من قِبَل "السيّد"، وأنّهم يطلبون رؤيتك لينقلوا له حالك. بقيتِ إلى الليل على الكرسي المتحرّك تدورين في الغرفة ولا يقرّ لك قرار. ومع أنّك كنتِ تعلمين أنّ الّذين سيأتون هم ممثّلو القائد، ولكن لم يُطاوعك قلبك. لقد قلبتِ خزانة ملابسك رأساً على عقب لترتدي الثوب الأنسب وتضعي منديلاً جميلاً على رأسك. وضاقت أمّك ذرعاً بتصرّفاتك. هي لا تعلم ماذا تفعل بأمنيتك هذه. لقد اغرورقت عيناها بالدموع، وارتفعت يداها إلى السماء أنْ إلهي، هذه المكسورة القلب ابنتي، لا تُخيّبها!. 

صوتُ الجرس يُسمع، وبعد فتح باب المنزل يدخل عدّة أشخاص ويبدؤون بالسؤال عن
 
 
 
 
56

43

الرواية الثّانية: العيادة

 أحوالك. تمضي عدّة دقائق على مجيئهم، وفجأة يصدر عن جهاز اللّاسلكي مع أحدهم صوت ما. يختلي في زاوية ويتحدّث بهدوء عبر اللّاسلكي ثمّ يعود ويقول: "لم يكن القرار أن نُقدّم تقريراً حول وضعك للقائد، دقيقة أو دقيقتان، ويحضر شخصيّاً إلى هنا وترينه عن قرب..


لم تعودي تسمعين صوت الرجل. مضطرب قلبك من شدّة الفرح، والشوق أغرق عينَيْك بالدموع. تُحدّقين في صورة أبيك: "بابا عزيزي، شكراً لأنّك تُفكّر في ابنتك".

قبل أن يدخل السيّد الخامنئي إلى المنزل، تأتي "رامونا" أختك الكبرى، المعالِجة الفيزيائيّة، تضمّك بقوّة وتطبع قبلات عدّة على وجهك. عندما زاركم السيّد الخامنئي أول مرّة لم تكن هي في المنزل. وطوال هذه السنوات لطالما كانت تتحسّر على تلك اللّيلة. كانت تعلم أنّه لم يكن أمامها فرصة ثانية لرؤية الإمام الخامنئي عن قرب، وفي منزلكم أيضاً!.

كانت تقول لك دوماً: "هنيئاً لك، كنت موجودة تلك اللّيلة وجلستِ إلى جوار "السيّد"". كنتِ تظنّين أنّها تُجاملك بقولها فهي لم تكن حزينة إلى هذا الحدّ من عدم حضورها. لكنّك الآن تعرفين من حالها أنّها كانت صادقة، حقّاً كم كانت تتحسّر وكم كانت حزينة على حرمانها من ذلك اللّقاء. رامونا اللّيلة وبعد ثلاثة عشر عاماً على ذلك اللّقاء، وبفضل أمنيتك أنت سوف ترى السيّد الخامنئي عن قرب.
 
 
 
 
57

44

الرواية الثّانية: العيادة

 أوضاع والدتك تستحقّ المشاهدة أيضاً. هي لم تكن لتُصدّق أبداً أن يُخصّص السيّد الخامنئي وقتاً للّقاء بك. قائد الثورة في لقاء مع عائلة آشوريّة؟! وللمرّة الثانية أيضاً! أمرٌ لا يُصدّق أبداً. لقد وضعت صليب عقدها مقابل شفتَيْها وراحت تُناجي، تشكر مريم المقدّسة على عنايتها. 


وعمّتك حاضرة أيضاً في هذا المجلس. لقد وصلت قبل عدّة ساعات من همدان. أتت لتراك فكان هذا اللّقاء من نصيبها.

كانت حال كلّ فرد من أفراد هذه الأسرة جديرة بالمشاهدة لحظة دخول السيّد الخامنئي إلى المنزل. وضعت أمّك يدها على صدرها وقد اغرورقت عيناها بالدموع. ألصقت عمّتك يدَيْها ببدنها وطأطأت رأسها احتراماً. وأنت، بمساعدة يدَيّ كرسيّك المتحرّك، بذلتِ كامل الجهد لتقفي وطبعتِ بسمة عريضة على وجهك.

- السلام عليكم. 

تقول أمّك بصوت متهدّج: إنّها منّة كبرى علينا أن شرّفتمونا. 

يدور القائد بناظرَيْه ويراكِ واقفة أمامه احتراماً، يتقدّم نحوك. هذه أول مرّة تقومين فيها عن الكرسي المتحرّك في هذَيْن الأسبوعَيْن وتقفين.
 
 
 
 
58

45

الرواية الثّانية: العيادة

 - حسناً، هذه هي الابنة المريضة؟ 


تؤيّد والدتك حدس القائد وتُسلّمين أنت عليه.

للحظات طوال، يُديم النظر إليك بوقار وحنان والبسمة لا تُفارق شفتَيْه. أنت أيضاً تنظرين إليه، بكامل الامتنان، وبعد تأمّل طويل يسأل:

- أصبحتِ أفضل إن شاء الله؟

تهزّين رأسك علامة الرضى وتقولين: نعم، أنا بخير . 

- الحمد لله، آمل أن تكوني دائماً بخير.

" أبي... أبي... أبي... أنت لا تعلم ما الّذي انتابني عندما سألني عن أحوالي، وكأنّني بتُّ أسعد بنات الدنيا. بابا حبيبي! ليتك كنتَ معي ورأيت.. ولعلّك كنتَ معي وترى". 

يسأل السيّد الخامنئي أيضاً عن حال أختك، ثمّ يدخل غرفة الضيافة. تجلس والدتك بالقرب منه، وتطلبين من أختك أن تجلب الكرسي المتحرّك إلى حيث تكونين وجهاً لوجه أمامه. 

- قُلنا نأتي للقائكم. نزوركم ونعود كريمتكم. أسأل الله أن يمنّ عليكم بالأجر والصبر والتحمّل وقوّة القلب.

بعد هذه الكلمات، يسأل السيّد الخامنئي والدتك عنك، وكيف جرى ما جرى لك
 
 
 
 
59

46

الرواية الثّانية: العيادة

 هكذا فجأة. وتشرح أمّك للقائد، وتنصتين مطأطئة رأسك بهدوء وحياء إلى حوارهما. 


تُعدّ أمّك من ممرّضات الدرجة الأولى القديمات. لقد رآها والدك أصلاً في المستشفى أوّل مرّة، ووقع حبّها في صميم قلبه. وصار عاشقاً لها بكلّ وجوده؛ عاشق السيّدة الممرّضة المحترمة "روني بُت أوشانا".

لم تترك أمّك التمريض حتّى بعد شهادة أبيك، ورغم مشاكل الحياة وصعوباتها، ظلّت في فترة الحرب، ولمدّة ثمانية أعوام ممرّضة للمصابين المحتاجين إلى العناية الفائقة في مستشفى الإمام الخميني. وبعد الحرب أيضًا اشتغلتْ بتدريس التمريض والرعاية الصحية لتضع تجاربها وخبرتها التمريضيّة الممتدّة عبر السنوات في خدمة الشباب الجامعي.

تُنهي والدتك شرحها، فيدعو لك السيّد الخامنئي ويحكي عن صعوبات الحياة: 
- أسأل الله أن يمنّ عليكم بالشفاء الكامل، ويُبعد عنكم الغمّ والاضطراب. طبعًا صعوبات الحياة هذه هي اختبار للإنسان. والاختبارات الإلهيّة، كما الاختبارات الدنيويّة، ليست من أجل أن يفهم الإنسان شيئًا ويعرفه فحسب. الاختبارات الدنيوية هي على هذا النحو. يمتحنون الإنسان في الصف من أجل أن يعرفوا إنْ كان قد درس بشكل جيّد أم لا. ولكن في الاختبارات الإلهيّة توجد أيضًا هذه الفائدة، وهي أنّ الإنسان يعرف نفسه أكثر، ويقف بشكل أفضل على مدى صلابة جوهره الوجودي، ويفهم كم هناك في داخله من استعداد واستحكام وقوّة قلب. هذه الاختبارات هي مثل المسابقات الرياضيّة. المسابقات الرياضية هي اختبار وهي رياضة أيضًا، أي أنّكم في الاختبار الإلهي إذا صبرتم ولم تفقدوا أملكم بالله، فستتقدّمون خطوة نحو الأمام، وتقتربون خطوة نحو الدرجات الإلهيّة والمعنويّة. هذه هي ميزة اختبارات الله تعالى.

وبالطبع، تحصل للبعض مثل هذه الحوادث لكنّهم لا يعتبرون منها ولا تقترب قلوبهم من الله، ولا يعزمون على أن يُسالموا الله ولو مقدارًا قليلًا. العناء الّذي يتحمّله هؤلاء لا يختلف عن العناء الذي يتحمّله الشخص المؤمن، لكن ذلك الشخص المؤمن لديه أوّلاً وسيلة هدوء وتسكين، وثانيًا تصير هذه الحادثة المرّة بنفسها بالنسبة إليه فرصة، سلّماً للارتقاء. وأمّا غير المؤمن فلا، إنّه يُعاني الألم ويتحمّل العناء، لكن من دون أن ينال شيئًا في المقابل. 

هذه الحوادث تُصيب الجميع. تُصيب كلًّا بنحو. لقد أصابت ابنتك بنحو، وتُصيب
 
 
 
 
60

47

الرواية الثّانية: العيادة

 الآخرين بنحو آخر. من الممكن أن لا يكون للبعض مشكلة جسمانية، لكن يكون لديهم ابتلاءات وعقبات ومشكلات قلبية وروحية وعصبية، تدفع أحيانًا بعضهم للانتحار! وتدفع البعض الآخر نحو الانزواء والاضطراب المطلق. مثل هذه الأمور أصعب. عندما تنظرين إلى حياة الناس ترَيْن كلّ فرد مبتلًى بأمر بنحو ما. البعض لديه هذه الابتلاءات الجسمانية، مبتلون في أوليات حياتهم، مثلاً لديه مرض ولا يملك وسيلة للعلاج، لديه مرض وليس عنده دواء، لديه مرض وليس لديه ممرّض رحيم.

عندما يقول السيّد الخامنئي هناك مرضى ليس لديهم ممرّض رحيم يشير إلى أمّك بيده، فيشعر قلبك بالدلال لكونك تحظين بأمٍّ مثلها. أنت بالطبع قد افتخرتِ بأمّك دائمًا وفي كلّ مكان. ولكن بسبب ثناء القائد على حسناتها تفتخرين الآن بها بطريقة أخرى، وتفرحين لوجودها معك.

بعد ذلك، يتوجّه السيّد الخامنئي بالخطاب إليكِ. ويتحدّث عن لقائك الأوّل به؛ في عيد الميلاد سنة ثمانٍ وثمانين. 

- كنت قد جئت مرّة إلى هنا من قبل، فهل تذكرين ذلك الوقت؟ 

وهل من الممكن ألا تتذكّري! ذلك اليوم ومع أنّك لا تذكرين شيئًا من أحاديثه، كان أحد أفضل أيّام حياتك. تظهرين أنّك تذكرين جيّدًا بقول "بلى بلى" وهزّ الرأس.
 
 
 
 
 
61

48

الرواية الثّانية: العيادة

 - كم كان عمركِ حينها؟


بعد تلك الحادثة الشبيهة بالسكتة، لم يُصبح طرفك الأيمن مشلولًا فحسب، بل لسانك أيضًا. لم تكوني قادرة على تلفّظ الكلمات بشكل جيّد. أمّك فقط كانت تفهم جميع كلماتك بشكل جيّد جدّاً.

تُجيبين السيّد الخامنئي: "ثمانية أعوام، تسعة أعوام"، وخوفاً من أن لا يفهم جيّدًا ما تقولين تشيرين بيدك إلى مقدار طولك في تلك الأعوام.

يهزّ برأسه وينظر إليك بابتسامة أبويّة. 

- بلى بالطبع، الوقت يمرّ كالبرق. لقد مضى على تلك السنة التي جئنا فيها ثلاثة عشر عامًا. 

السيّد الخامنئي يقظٌ جيّدًا. يعلم أنّه إنْ تحدّث معك أنت فقط فمن الممكن أن ينزعج بقيّة الحاضرين فيُحدّثهم. أولاً يتحدّث مع أختك قليلاً بشأن الأعمال الّتي تقوم بها. ثمّ بعد ذلك يتحدّث مع العمّة حول آشوريّي همدان. 

لقد حدّقتِ النظر في الطفل الصغير الّذي جلس متربّعًا بشكل هادئ ومؤدّب فوق الكنبة، بالقرب من أختك. إنّه حفيد السيّد الخامنئي! إنّ حضور ومرافقة هذا الصبي لجدّ هو بالنسبة إليك أمر حلو ولافت. تقولين في نفسك: "هنيئاً له؛ أيّ جدٍّ لديه!"
 
 
 
 
62

49

الرواية الثّانية: العيادة

 يسأل السيّد الخامنئي أمّك عن الذهاب إلى الكنيسة، وعن مذهب الآشوريّين وعددهم في طهران. ويتوجّه إليك بالكلام ثانية. 


- هل تشعرين بالألم يا ابنتي؟!

تبتسمين وكأنّكِ تريدين أن تخرجي أباً من اضطرابه لحال ولده فتقولين: كلا لا أتألّم.

- إذاً قد تعلّمت السير بالاعتماد على العصا وأمثالها؟

تهزّين رأسك وأكتافك كعلامة تأسّف وتعبير عن العجز. وتقول أمّك لأنّ يدك مشلولة وعاجزة عن الإمساك بالعصا لا تستطيعين أن تمشي.

- ها! إذاً يدك اليمنى تعاني من مشكلة تمامًا مثل يدي اليمنى. 

يرفع السيّد يده اليمنى ويريك إيّاها ويبتسم. 

قبل الآن لم تكوني تعلمين أنّ يده اليمنى متضرّرة. عندما تنظرين بدقّة إلى يده ترَيْن أنّ يده من المعصم إلى أسفلها قطعة واحدة لا شعور فيها ولا حركة. أصابع اليد اليمنى ثابتة، تُحبّين أن تعرفي حكاية هذه المشكلة، متى، كيف، وأين حدث هذا!

- عندما أُصيبت يدي بالشلل جرّاء حادثة الاغتيال1، بَقِيَتْ هذه اليد لمدّة لا تتحرّك أبدًا، وورمت. لاحقًا لاحظتُ بالتدريج أنّها تتحرّك قليلًا من الكتف. طلب منّي الطبيب بأن أُحرّك يديّ بشكل طبيعي عندما أمشي. وأنا فعلت ما طلبه. فزاد نطاق الحركة أكثر. بعد ذلك رأيتُ بالتدريج أنّني أستطيع أن أطويَ يدي من المفصل. في تلك الفترة رزقنا الله ابنة كانت متعلّقة بي بشكل كبير. وكثيراً ما كانت تأتي إليّ في مكتب رئاسة الجمهوريّة وأنا كنتُ أحضنها. شيئًا فشيئًا رأيت أنّني أستطيع أن أحضنها بهذه اليد أيضاً. وقد رآني طبيبي يوماً أحتضنها بهذه اليد فشجّعني كثيراً، وقال هذه الطفلة ستكون سبباً في تحسّن يدك. عندما تحتضن هذه الطفلة بدافع المحبّة سيؤدّي ذلك إلى أن تتحمّل وزنها. وهذا ما حصل بالفعل. كنتُ أحتضنها وآتي بها وأحملها فقويت يدي هذه شيئًا فشيئًا. حالياً الأصابع وكذلك من المعصم وإلى الأسفل هي ليست يداً، إنّها صورة يد، لأنّها – تقريباً -
 

1- في 6/ تير/1360 1981 ميلاديًّا، كان لآية الله الخامنئي جلسة سؤال وجواب في مسجد أبي ذر في طهران. بعد دقيقة من بدء البرنامج، انفجرت قنبلة كانت قد وضعت داخل مسجّلة أمامه. قام بهذا العمل جماعة الفرقان الإرهابيّة. بعد مرور الساعات الأولى على الانفجار، كانت حاله وخيمة جدًّا. وكان الأطبّاء قليلي الأمل من نجاته. ولكن بإرادة الله ودعاء الإمام الخميني والناس ارتفع الخطر وبقي فقط ضعف في حركة يده اليمنى.
 
 
63

50

الرواية الثّانية: العيادة

 لا تؤدّي لنا أيّ عمل. تقوم فقط ببعض الأعمال. لكن في النهاية اليد هي اليد. وأنت تستطيعين أن تُحسّني وضع يدك بواسطة التمرين والمثابرة . 


مع بداية كلام السيّد، عندما فهمتِ أنّهم قد حاولوا اغتياله، وأنّ يده مصابة اغتمّ قلبكِ كثيراً. طأطأتِ رأسك طوال حديثه وكنتِ تنظرين إلى نقطة في السجّادة. مجدّدًا، يسألك السيّد الخامنئي، ومن أجل أن يطمئنّ على سلامة حالكِ، عمّا إذا كنتِ تتألّمين. هذه المرّة تُشيرين إلى كتفك الأيمن وتقولين بأنّكِ تتألّمين قليلًا من هذه الناحية فيدعو لك ثمّ يحكي عن آلام يده المصابة:
- أنا أيضًا كنتُ أعاني من آلام شديدة، لسنوات عدّة كانت لديّ آلام شديدة جدًّا. في النهاية يجب أن تَعْلَمي أنّ للجميع آلامَهم. إن شاء الله يتعافى هذا الألم الموجود وتستردّين سلامتك.

ينشغل السيّد الخامنئي بشرب الشاي وأنت تسترقين النظر بطرفك إلى كيفية شربه. كانت رامونا قد أحضرته بينما كان هو يتحدّث.

بعد تناول الشاي، ينتقل إلى الكلام عن خالك المرحوم "سركن بت أوشانا" الّذي كان طبيبًا جرّاحًا ماهرًا جدًّا ومشهورًا. كان رجلًا شريفًا إلى الحدّ الذي دفع بالآشوريّين بعد الثورة
 
 
 
 
64

51

الرواية الثّانية: العيادة

 أن ينتخبوه ممثّلًا لهم في مجلس الشورى ومجلس خبراء الدستور1 حيث حصل على تسعة وتسعين فاصل تسعة في المئة من الأصوات. يتوجّه السيّد الخامنئي بالسؤال إلى أمّك:


- السيّد بت اوشانا الّذي كان في المجلس.....

تقاطع أمّك كلامه وتقول بسرعة مسرورة بأنّ السيّد لم ينسَ خالك: "كان أخي". 

- كان في المجلس منذ الدورة الأولى. وكان أيضًا في مجلس الخبراء. كان رجلاً نجيباً ومحترماً جدًّا. كنتُ أعرفه. 

حسناً، كان قصدنا أن نبرز مشاعرنا ومحبّتنا لعائلة الشهيد، لكم، وخصوصاً هذه المرّة كان توجّهنا أساساً هو زيارة ابنتنا هذه الّتي علمنا أنّها مريضة. نسأل الله تعالى أن يُخفّف من آلامكم وأن يمنحكم يومًا بعد يوم توكّلاً وقوّة قلب واعتماداً على النفس أكثر حتى تستطيعوا أن تتحمّلوا عبء الحياة هذه بسهولة إن شاء الله وتمضوا للأمام. وإذا أردتم منّا عملاً ما فالإخوة موجودون. إذا احتجتم إلينا وكان هناك عمل يُمكننا القيام به فنحن بالخدمة.
 

1- هو مجلس تمّ تشكيله عن طريق الانتخابات الشعبية في شهر آب من عام 79م. وكانت وظيفته إعداد متن دستور جمهوريّة إيران الإسلاميّة. كان في هذا المجلس اثنان وسبعون عضواً، وكان للأقلّيات الدينية حضور ومشاركة فيه. بعد الإقرار النهائي للدستور في هذا المجلس، وبحصوله على الأصوات في الاستفتاء الشعبي، تمّ توقيعه من الإمام وأصبح نظام جمهورية إيران الإسلاميّة بشكل رسمي.
 
 
 
 
65

52

الرواية الثّانية: العيادة

 يتّضح من هذه الجمل أنّ موعد مغادرة السيّد الخامنئي قد حان. تطلب أمّك المساعدة بإرسالك إلى خارج إيران، فيقول السيّد الخامنئي بعد التعريف بتجهيزات واحد أو اثنَيْن من المستشفيات داخل البلد أنّه إن لم تُحلّ المشكلة في هذَيْن المستشفيَيْن فلا مانع من مغادرتك إلى الخارج.


* * *

غادر السيّد الخامنئي وأنتِ تُنازعكِ حالة ما بين الفرح والحزن. الفرح من أنّه، وعلى الرغم من عظم شأنه، قد جاء للقائك وتحدّث معك بشكل مفصّل، وصرّح بأنّه قد جاء لأجل عيادتك؛ الفرح من أنّ لخاطرك كل هذا التقدير لدى قائد بلدك، والفرح لأنّ أمّك وأختك وعمّتك مسرورات أيضاً بهذا اللّقاء. والحزن من مغادرته، لأنّك تعلمين أنّه من الآن فصاعداً سيشتاق قلبك له أكثر من ذي قبل، هو الّذي شعرتِ بأن رأفته كرأفة أبيك تماماً كما الآن؛ حيث لم تمضِ أكثر من نصف ساعة على ذهابه وقد توقّدت نار شوقك إليه.
 
 
 
 
 
66

53

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 الرواية الثّالثة: أول شهيد - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله إلى منزل الشهيد زوريك مراديان في تاريخ 17/02/2011م.


 

الشهيد زوريك مراديان


مكان الاستشهاد: پيرانشهر، آذربيجان الغربية


تاريخ الاستشهاد: 11/10/1980م.
 
 
 
 
 
68

54

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 لم يكن زوجي ليسأل أبداً ما إذا كان المولود الجديد ذكراً أم أنثى، لم يسأل ولو مرّة واحدة. كان يقول دائماً الطفل هديّة من عند الله سواءً كان صبيّاً أم بنتاً، لا فرق. ولكن حسناً أنا كنتُ أحبُّ أن يكون لديّ صبيّ كما لديّ بنت. وكما يقولون فالتشكيل حلو، وأنا أحببت أن أكون أمّاً للصنفَيْن. 


لم يحصل هذا الأمر حتى سنة 1960م، فقبل ذلك الوقت كان الله قد رزقنا بثلاث بنات، جميعهنّ بصحّة وعافية، وكلّ واحدة منهنّ أجمل من أختها. وفي النهاية، حقّق الله تعالى أمنية قلبي بالولد الرابع، ورزقنيه صبيّاً جميلاً كأخواته. أسميناه زوريك. وبعد زوريك رزقنا الله أيضاً ببنت أخرى ليكتمل شمل عائلتنا الدافئ.

قبل ذلك الوقت، لم أكن لأعرف كم كانت سعادة زوجي واهان بولادة زوريك، فأنا لم أكن أرى فرقاً في حنانه ومحبّته لزوريك بالمقارنة مع أخواته قبله. لقد فهمت عمق محبّته لزوريك بعد شهادته، فقد أُصيب زوجي على الأثر بسكتة دماغيّة أبقته لمدّة ستة عشر عاماً طريح الفراش.

كنّا أنا وأخواته الأربع نُحبّ زوريك كثيراً، كثيراً جدّاً. كان الصبيّ الوحيد في الأسرة، وقد تعلّقنا به بكلّ ما فيه. كان ولداً مجتهداً وذكياً. وكان التلميذ الأول في صفّه في كلّ مراحله الدراسيّة، حتّى عندما قدّم الامتحان الرسمي (الكونكور)، استطاع أن يُحصّل منحة للدراسة في الخارج لكنّه لم يُسافر. قال: "أنا لا أترك إيران أبداً، أُحبّ أن أخدم تراب وطني وأن أرتدي لباس الجنديّة"، قُلتُ: "وهل سأدعك تذهب إلى الجندية، وأنت ولدي الوحيد!"، لكن رغم كلّ شيء، استطاع أن يُهدّئ من روعي ويُحصّل رضاي ويذهب إلى الخدمة العسكرية.
 
 
 
 
69

55

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 قرّر أن يلتحق بالخدمة العسكرية سنة 1979م، وقد أمضى ثلاثة أشهر، هي مدّة الدورة التدريبيّة في مدينة شاهرود. بعد الأشهر التدريبيّة الثلاثة تلك، اتّصل بنا هاتفيّاً وأخبرنا أنّ خدمته العسكريّة ستكون في أُروميه. فعقدنا العزم على الذهاب إلى أُروميه بالقطار. 


كان ذهابنا إلى أُروميه قبيل عيد الفصح بأيّام قليلة، ذهبنا جميعاً، أنا وأبوه وأخواته، محمّلين بالمكسّرات والفواكه والبيض الملوّن وأشياء أخرى. لقد أردنا أن نحتفل بعيد الفصح المبارك عند زوريك. كانوا في حال استنفار فلم نستطع البقاء عنده طويلاً، وقفلنا عائدين. بعد أيّام عدّة على عودتنا، وصلتنا رسالة من زوريك تقول: "والدتي الحبيبة! سلمت يداك. لقد أكل جميع أصدقائي من الأشياء التي أعطيتنيها، حتّى البيض الملوّن! وهم يشكرونك جميعاً على ما بذلتِ من جهد وتعب".

بعد أُروميه، انتقل زوريك إلى معسكر پيرانشهر1، المدينة التي تقع تمامًا على الحدود الإيرانيّة - العراقيّة. ولأنّ والده كان ينقل حمولات إلى تلك الأطراف، كان كثيراً ما يذهب لزيارته ويُجدّد لقاءاته به. وهو كان يُخبرنا أيضاً في أوقات مأذونيّاته كم أنّه محبوب لدى أصدقائه وما أكثر مودّتهم له.
 

1- من المدن الحدوديّة التي يقطنها الأكراد في محافظة آذربيجان الغربيّة. كان معسكر هذه المدينة من أهمّ مراكز جيش الجمهوريّة الإسلاميّة خلال الحرب المفروضة، وكان له دور في كثير من العمليّات العسكريّة.
 
 
 
 
70

56

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 كان قد مضى على خدمته في الجندية تسعة شهور عندما نشبت الحرب. حين شنّ البعثيّون1 هجومهم على إيران، ساورني إحساس قويّ بأنّ ابني سيستشهد. لا أعلم لماذا. ربما لأنّني كنتُ أعلم كم أنّه ولد غيور وشجاع. وبعد خمسة عشر يوماً على بداية الحرب، رأيتُ في المنام أنّه قد أُصيب بطلقٍ ناريّ في ركبته، وفيما رحتُ أصرخ، وضع يده على ركبته وقال: "أمّاه لا تقلقي، لم يحصل شيء". استيقظتُ من النوم مذعورة وكلّي خوفٌ من أن تُفسَّر تلك الرؤيا.


كنتُ قد خرجت من المنزل لشراء بعض الأغراض حين شاهدت من بعيد جنديّاً باللّباس العسكريّ. كان يتحدّث مع عدّة أشخاص من جيراننا المسلمين. تذكرتُ زوريك ودعوت الله في قلبي أن يحفظ هؤلاء الجنود لآبائهم وأمّهاتهم. وحينما رآني الجيران أشاروا إليّ، فتقدّم الجندي نحوي وقال: "السلام عليكم. عفواً، حضرتك والدة زوريك مراديان؟". انتابني السرور، وقد نسيتُ منام البارحة كلّياً. ظننتُ أنّه صديق زوريك
 

1- تمّ تشكيل حزب البعث في بعض الدول العربيّة، ومن جملتها العراق، مثلما تمّ تشكيل حزب رستاخيز (القيامة) في إيران، في عشرة الخمسينيّات (1950 ميلادية) بتأثير وإيعاز من أمريكا وبريطانيا تحت شعارات القومية والشعبوية لمواجهة التيّارات الدينيّة والتوجّهات الإسلاميّة في هذه البلاد. وقد استطاع هذا الحزب أن يتسلّم مقاليد الحكم في العراق بانقلاب عسكري.
 
 
 
71

57

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 وقد أتاني منه برسالة أو خبر أو أيّ شيء آخر. أجبته بسرور وفخر: "نعم ولدي، أنا أمّه. هل أنت صديقه؟". حينما رأى الجندي حالة السرور والرضى التي كنتُ فيها، كظم غصّته وطأطأ رأسه، ووضع الورقة التي كانت في يده اليمنى، في يده اليسرى، ثم قال بصوت مرتجف: "عفواً يا أمّاه. هل والده موجود؟" قال كلمته هذه وانقلبت الدنيا فوق رأسي. تذكرتُ للتوّ منام البارحة، وفهمتُ أنّ هذا الجندي قد أتاني بخبر شهادة زوريك. صرختُ صرخةً من أعماق قلبي وسقطتُ توّاً وسط الزقاق على الأرض.


كان قد مضى تسعة عشر يوماً فقط على الحرب حينما صرنا أنا وزوجي، والدَيْ أوّل جندي أرمني شهيد في الحرب المفروضة.

كانت شهامة زوريك في جبهة الحرب وشهادته، غير متوقّعة بالنسبة للكثيرين، سواء أهالي محلّتنا الّذين كانوا بمعظمهم مسلمين أو الأرمن أنفسهم. لقد أُقيمت الكثير من المجالس المهيبة احتفاءً بزوريك بدءاً من الكنائس المختلفة في البلد حتى مساجد منطقة "حشمتية" في طهران حيث كُنّا نُقيم. رفقاؤه في الجبهة الّذين أتوا للمشاركة في مراسم عزائه، كانوا جميعاً يثنون على أخلاقه الحسنة ووجهه البشوش ولطفه ومحبّته، ويقولون إنّه لم يكن ممكنًا أبداً أن تُفارق البسمة وجه زوريك. لقد كان بابتسامته الطاهرة يمُدّ رفقاءه في الجبهة بالمعنويات.

كُنّا عائدين إلى المنزل بعد مراسم عزائه حين وجدتُ أنّ البريد قد جلب لنا رسالة من
 
 
 
72

58

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 زوريك. كان زوريك قد كتب هذه الرسالة وأرسلها لنا قبل يومٍ من شهادته. طمأنني في الرسالة إلى أنّه بخير وعافية، وأوصاني أن لا أقلق عليه ولا أحزن، ووعدني حين يُتمّ خدمته العسكريّة ويعود أن يفتح محلّاً تجارياً ويُريح والده من عناء الذهاب إلى العمل، وأن يشتري لنا منزلاً أكبر وأشياءً كثيرة من هذا القبيل، كان دائماً يبثّ الأمل والبهجة فينا.


حلّ علينا قائده العسكريّ ضيفاً للتعزية بعد مضي عدّة أسابيع على شهادته. ولأنّ پيرانشهر كانت منطقة باردة جدّاً، كنتُ قد بدأت من بداية خدمة زوريك العسكريّة بحياكة شال من الصوف وزوجيّ جوارب وقبّعة له. لقد قدّمت ما حكته إلى قائده العسكريّ حين أتى. سألني: "ماذا أفعل بهذه الأشياء يا أمّاه؟" فأجبت: "قدّمها لأحد الجنود، فهم جميعاً بمثابة زوريك عندي". 

لم يتحمّل زوجي فراق ابنه الوحيد، وبعد عدّة أيّام من شهادته أُصيب بسكتةٍ دماغية وصار طريح الفراش في المستشفى. وبعد أن عاد من المستشفى لم يستطع كذلك مزاولة عمله. بقي هو حبيس المنزل وبقيتُ أنا أسيرة وسط نار فراق ولدي الوحيد وحزن مرض زوجي وهواجس تربية بناتي ومسؤوليّة تكاليف المعيشة ونفقاتها.

لقد أرادوا بعد شهادة زوريك أن يُسمّوا الزقاق الّذي نعيش فيه باسمه، لكنّ والده لم يقبل. قال: "لا طاقة لي أن أرى اسم زوريك أمام ناظرَيّ كلّما مررت من الزقاق". بعد أربعين يوماً من شهادة زوريك، استشهد صديقه المسلم محمد كرامي، فأسموا الزقاق باسم الشهيد كرامي.

طوال الستة عشر عاماً الّتي عاش فيها زوجي بعد زوريك، وكنتُ أثناءها ممرّضته، أتاه زوريك في المنام عدّة مرّات. في المرّة الأخيرة، سأله زوريك في المنام: "يا أبتِ، لماذا تقف هنا؟"، فأجابه والده: "وأين ينبغي أن أقف؟"، قال زوريك: "تعالَ إليّ، ألا ترى أيّ حديقة كبيرة قد اشتريت، انظر أيّ أشجار من التفّاح الأحمر فيها".

وتوفّي زوجي. بعد وفاته أُصيبت إحدى بناتي بمرض ال-أم أس، وبقيتُ أنا لسنوات أرعاها وأُمرّضها. كنتُ أشعر أنّ الله يمتحنني بتلك الصعوبات. 

لقد مرّت إلى الآن ثلاثون سنة على شهادة زوريك وها أنا قد جهزّتُ أغراض الضيافة وجلست على الكنبة أستعيد تلك الذكريات. أتساءل كيف انقضت تلك السنوات الثلاثون
 
 
 
 
73

59

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 بصعوباتها وشدائدها الّتي لا تُحتمَل. كنتُ في قلبي شاكرة للّه كثيراً لأنّه قبل أن يُنزل بنا تلك الشدائد كان قد وهبني قدرة تحمّلها. 


لقلبي اللّيلة جناحان يُحلّق بهما من الفرح. أشعر بسعادة لم يسبق لي أن عشتها من قبل. فبعد شهادة زوريك، لم يكن شيء ليُدخل السرور على قلبي سوى زواج بناتي وولادة أحفادي. لكن اللّيلة، ولأنّ "السيّد" سيحلّ ضيفاً علينا، فإنّ شعوراً بالسعادة يتملّكني بكلّ وجودي. كنتُ قد سمعتُ وقرأتُ من هنا وهناك أخباراً عن زيارته بعضاً من عوائل الشهداء الأرمن، لكنّني في الواقع لم أكن لأُصدّق أنّه سيأتي يوماً لزيارتي أنا، خاصّة في زمن لم يكن فيه قائد الثورة في إيران فحسب، بل كان قائد المسلمين الأحرار في العالم، وعليه أن يُتابع آلاف الأعمال المُهمّة والأساسية كلّ يوم. حقيقةً، لم أكن لأظنّ أنّه يتحمّل عناء المجيء ليُشرّفنا في منزلنا.

تأتي ابنتي وتُخبرني أنّ السيّد الخامنئي قد وصل إلى أوّل الزقاق. أقف وأُعيد ترتيب طاولة الضيافة المرتّبة أصلاً. ثم أجرّ أطرافي إلى باب المنزل، لأكون أول شخص يستقبله ويتأهّل به. ويدخل السيّد الخامنئي بوجهه البشوش دوماً. يسألنا بكلّ دفء ومحبّة، أنا وابنتي وصهري، عن أحوالنا.
 
 
 
 
74

60

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 - أنت والدة الشهيد؟


- نعم.

- كيف حالك؟

- بخير. الحمد لله. سلامتنا من سلامتكم.

- عشتِ، دمتِ.

- العفو منكم. تفضّلوا. أهلاً وسهلاً.

- أسأل الله أن يتغمّد شهيدكم برحمته.

- شكراً لكم. سلمتم.

يجلس السيّد الخامنئي على الكنبة المخصّصة لشخص واحد، ونجلس أنا وابنتي وصهري إلى جانبه على الكنبات الأخرى.

وكأنّه يعرف ما مُنيتُ به من ابتلاءات: 

- أسأل اللّه أن يمنّ عليكم بالأجر والصبر، لقد سمعت أنّكم تحمّلتم صعوبات كثيرة.

نفسي تُنازعني أن أتحدّث قليلاً عن زوريك العزيز للسيّد القائد:

- شهيدنا هو أوّل شهيد أرمني، لقد كان وحيداً.
 
 
 
 
75

61

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 - صبيّ واحد فقط؟


- نعم. لديّ أربع بنات وابن واحد.

- حقّاً! سمعتُ أنّه قد استشهد في الأيّام الأولى للحرب.

- صحيح. لم يكن قد مضى على بداية الحرب إلاّ تسعة عشر يوماً حين استشهد في پيرانشهر.

أكتم غصّتي وأُطأطئ رأسي. إنّ حرقة شهادة زوريك لم تُفارقني لحظة، بحيث إنّني منذ ثلاثين سنة وإلى الآن لم أستطع أن أعدّ أيّ طعام كان يُحبّه هو. لا تزال حرارة شهادته حارقة حتّى اليوم وكأنّه استشهد توّاً. يرتجف قلبي وتخنقني الغصّة كلّما تحدّث أحدهم معي عن زوريك. إنّ حرارة فقدان الابن بالنسبة إلى الأم لا تبرد أبداً، خاصّة إذا كان ولدها الشاب الراحل هو ابنها الوحيد أيضاً.

يظلّ "السيّد" ساكتاً للحظات حتى أستعيد رباطة جأشي. ثم يقول مشفقاً:
- أجركم إن شاء الله محفوظ عند الله تعالى أيّتها السيّدة.

أتنهّد وأحاول أن أشكره من دون أن يرتجف صوتي:
- شكراً جزيلاً لكم.

يُشير السيّد القائد إلى الصورة المعلّقة على الجدار ويسأل:
- هذه صورته أليس كذلك؟

- نعم. نعم.

يبدأ السيّد القائد بالحديث عن إحدى ذكرياته خلال مواجهات الثورة، في تلك الفترة الّتي كان فيها سجيناً في سجن قزل قلعه، وقد تعرّف هناك إلى شاب أرمني اسمه آفانسيان. يروي السيّد القائد تلك الخاطرة حتّى يصل به الحديث إلى القول إنّ آفانسيان صار مؤسّساً لمجالس العزاء في السجن.

أقول: في النهاية كلّنا إيرانيّون، ليس هناك فرق. أنا نفسي أذهب أيضاً إلى المسجد كلّ سنة وأُقدّم النذور للإمام الحسين. ليس هناك فرق.

- كلا. فبمعزل عن كون الشخص إيرانيّاً، هناك شيء آخر. فمسيحيّو إيران علاقتهم جيّدة
 
 
 
 
76

62

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 جدّاً بالإمام الحسين وبأمير المؤمنين، وهذا الأمر يعود إلى جنبة أخرى غير جنبة كونهم إيرانيّين. فالبعض رغم كونهم إيرانيّين إلاّ أنّهم لا يعتقدون أبداً بهذه الأمور ولا يهتمّون بها، ولكنّ المسيحيّين عندنا ليسوا كذلك. 


تُشارك في الحديث ابنتي الّتي تجلس إلى جانبي، وكانت لا تزال مستمعة وتقول للسيد القائد: للأرمن تاريخ قديم جدّاً في إيران، لقد بات لدينا أنسٌ بالإمام الحسين.

يهزّ القائد رأسه مؤيّداً كلام ابنتي ويقول:
- نعم. لديهم أنس بتلك القضايا المتعلّقة بالمسلمين والشيعة.

ثم يسأل "السيّد" عن بناتي: هذه السيّدة هي ابنتك. صحيح؟ والسيّد الجالس هو صهرك؟

- نعم.

- حسناً. أين هُنّ بناتك الأُخريَات؟

- ماذا أقول. إحداهنّ تسكن نارمك، والأخرى أُصيبت بمرض الـ"أم أس" منذ عشر سنوات، فأرسلناها إلى الخارج للعلاج.

- شفاها الله.

- شكراً جزيلاً.

لقد غادرتنا منذ عدّة سنوات. في الواقع، اثنتان منهنّ فقط هنا. أحد أحفادي وهو ابن الصهر هذا، ذهب لخدمة الجندية.

يتوجّه "السيّد" إلى صهري الّذي كان قد أحضر الشاي فيما كان يروي لنا خاطرة السجن. فيسأله: ابنكم جندي؟

- نعم. لقد أتمّ دورة التجنيد مؤخّرًا.

- أنتم ما هو عملكم؟

- أنا مهندسٌ استشاريٌّ في مشاريع مصفاة النفط والغاز والبتروكيمياء، وكما يقول أحد المهندسين، نحن نذهب إلى الصحراء نُعمّرها ونعود. لقد عملت في مصفاة بندر عباس وفي أصفهان والأهواز وعَبادان، وكذلك في مصفاة خانكيران.
 
 
 
 
77

63

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 - جيّد جدّاً. مصفاة نفط، صحيح؟


- نعم. نفط وغاز وبتروكيمياء.

- غاز أيضاً؟

- نعم. 

- في خانكيران يوجد مصفاة للغاز؟

- نعم. لقد عملت بحدود خمس وثلاثين سنة ثمّ تقاعدت. لقد مضى الآن حوالي أربعين سنة على انخراطي في هذا العمل.

وفيما يتحدّث السيّد القائد مع صهري، نستغرق أنا وابنتي في مشاهدته، وكأنّنا إلى الآن لم نُصدّق أنّه قد شرّفنا في منزلنا، وأنّه يتحدّث إلينا بهذا المقدار من اللّطف والمحبّة، فيُخبرنا عن ذكرياته ويُدفئ قلوبنا.

- حسنًا. كلّما أحسنتم العمل ازداد أجركم. اعملوا بدقّة وبقوّة، حاولوا أن تكونوا متقنين لعملكم. بحمد اللّه نحن اليوم نُعدُّ في مرحلة متقدّمة جدًّا في ما يتعلق بأعمال مصافي النفط، لدينا مصافٍ جديدة ويجري العمل على التطوير أيضاً. وإنّه لأمرٌ مُهمّ جدًّا أنّ بلدنا قد استغنى عن استيراد البنزين. نحن الآن نُنتج بنزينًا أكثر من حاجة البلد في الداخل. وهذا إنجاز مهمّ جدًّا. قبل عدّة سنوات كُنّا نستورد كلّ هذا البنزين. كُنّا نستورد بمليارات الدولارات، نُنفق مليارَيْن، ثلاثة مليارات وستة مليارات دولار، لأجل استيراد البنزين. الآن صرنا قادرين على التصدير.

بالطبع، صدّروا مقداراً بشكل رمزي، ولكن إن شاء الله يتطوّر هذا المسعى بشكل أسرع. وهذا عملكم أنتم. هكذا ينعكس عملكم هذا في داخل البلد وخارجه. ولهذا العمل مردود ونفع مادّي بالنسبة للبلد أيضاً وهو واضحٌ جدًّا، وبرأيي هناك ما هو أهمّ من الربح المادّي وهو المردود المعنويّ والسمعة الحسنة دوليّاً. بالنسبة إلينا، من المعيب جدًّا أن تضطر دولة منتجة للنفط إلى استيراد حاجتها من البنزين. وأنا بالطبع كنتُ أوصي الحكومات المتعاقبة دائماً، أن اهتمُّوا بأمر المصافي، ابنوا المصافي الجديدة. كانوا يتذرّعون بأنّها مُكلفِة وليست بمقدورنا. ولكنّ هذه الحكومة والحمد للّه بذلت الجهد والهمّة وعملت
 
 
 
78

64

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 على بناء المصافي بشكل جدّي، أعني مصافي النفط إذ كانت مصافي الغاز بوضع جيّد وكانوا يبنونها.


- يجري العمل على هذه المشاريع على قدمٍ وساق، وهناك مشاريع كثيرة في عسلوية.

أُقدّم للسيّد القائد قليلاً من التّمر في صحن وبعض الحلوى وأقول: "هذه الحلوى هي حلوى خاصّة بالأرمن اسمها "نازك". لم أكن أعرف أنّكم ستُشرّفوننا بهذه الزيارة وإلّا لكنتُ أعددت طعام العشاء".

يقول: "هذا يكفي"، ويشرب شايه مع الحلوى ثمّ يتحدّث إليّ قائلاً:
- هل تعملين أيضاً يا سيّدة؟

- كلا، أنا ربّة منزل، أعمل في المنزل فقط.

- والمرحوم زوجك؟

- زوجي كان سائقَ مقطوراتٍ في الصحراء، وحين استشهد ولدي لم يعد قادراً على العمل. لقد أُصيب بسكتة دماغيّة. وصار طريح الفراش لستة عشر عاماً. كان وقع استشهاد ولده عليه ثقيلاً جدًّا. لقد كنتُ أرعاه طوال الستة عشر عاماً حتى وافته المنيّة. وبعد وفاة زوجي، مرضتْ ابنتي، أُصيبت بمرض "أم أس"، بقيتُ لمدّة عشرة أعوام أعتني بها وأرعاها.

- عجباً! من الواضح أنّكم قد عانيتم كثيراً. حسناً، شدائد الدنيا هذه ستعوّض جميعها عند اللّه. المعيار عندنا هو هذا؛ فكلّما عانى الإنسان هنا وامتحن، يُعوّضه الله حتماً بعطاء في المقابل.

- كلُّ ما يريده الله فهو خير. ولن يحصل خلافه. نحن أيضاً ينبغي أن نكون شاكرين، ونحن كذلك.

الجميع مسرورون جدًّا بحضور السيّد الخامنئي. وفي أغلب لحظات هذا اللّقاء لم تُفارقْنا البسمة أبداً، كما إنّها لم تُفارق شفتَيْه هو أيضاً. أتحسّر على غياب بناتي الثلاث عن هذا اللّقاء، وحرمانهنّ من توفيق رؤية القائد عن قرب.

- حسناً يا سيّدة، أنا في غاية السرور بسبب رؤيتكم ورؤية الأقارب المحترمين. وأُقدّم لكم هذه الهدية التذكاريّة، كذكرى، فالقيمة المادّية ليست منظورة.
 
 
 
 
79

65

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 لا أعرف كيف وبأيّ لسان ينبغي أن أشكره. ابنتي وصهري، حالهما كحالي أيضاً. لقد بدأْنا ثلاثتنا بشكره بكلّ ما نمتلك من عبارات.


يقول صهري بعد الشكر والامتنان: "لقد غمرتمونا بلطفكم وشرّفتمونا رغم مشاغلكم وأعمالكم الكثيرة". ويُجيب "السيّد" بلحن خالٍ من المجاملة:
- اعلموا أنّ هذه الزيارات هي جزءٌ من أعمالنا الحسنة. 

وبالفعل، كم أنّ تشريفه لنا بزيارته كان عملاً رائعاً. فالسّعادة الّتي غمرتني أنا شخصيًّا جرّاء اللّقاء به حقيقةً لا يُمكن أن توصف. 

- وفّقكم الله وأيّدكم وأطال في أعماركم وحفظكم بحفظه سبحانه.

تخنقني الغصّة مجدّداً. هذه المرّة، غصّةٌ من نوع آخر، غصّة شوق. في الحقيقة، لا أُحبّ أن يُغادرنا "السيّد"، ولكن ما باليد حيلة. أمشي خلفه حتّى أُرافقه في طريق مغادرته. ولكنّ المرافقين الّذين معه لا يسمحون لي. يقولون إنّ السيّد لا يرضى بأن أُتعب نفسي. أقول لا أقلّه اسمحوا لي أن أنظر إليه عبر النافذة وهو يُغادر، فيسمحون بذلك. واللّافت أنّ أيّاً من جيراننا سواء سكّان الطبقة العليا أو الطبقة السفلى لم ينتبه إلى حضور الإمام الخامنئي في منزلنا.
 
 
 
 
80

66

الرواية الثّالثة: أول شهيد

 أعلمُ أنّ الفرصة لرؤيته عن قرب قد لا تسنح مرّة أخرى. تنهمر دموعي وأنا أُراقب خروجه، وأدعو له بالسلامة وطول العمر, أينما كان، إلهي احفظه!

***
 

والدة الشهيد زوريك مراديان - 2014
 
 
 
 
 
81

67

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد بايلاک آفيديان في تاريخ 29/12/1984م.



الشهيد پايلاك آفيديان

مكان الاستشهاد: ديزفول، خوزستان

تاريخ الاستشهاد: 15/10/1980م
 
 
 
 
84

68

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 أنا أخو بايلاک الأكبر. نحن تسعة إخوة وأخوات. وبايلاک كان ترتيبه الثّالث بعد أختي وبعدي. جميعنا قد وُلِدْنا في مدينة فريدون في أصفهان، وهناك كُنّا نعيش. تزوّجت أختنا الكبرى قُبَيْل الثورة بعدّة سنوات وجاءت إلى طهران. بعدها أتيتُ أنا إلى طهران، وبعدي بسنتَيْن أو ثلاث، انتقلت العائلة كلّها إلى طهران.


كان أبي فلّاحًا في مدينة فريدون. وعندما جاء إلى طهران عمل في مصنع للّحوم. وكما كان بايلاک عوناً لوالدي في أصفهان، كذلك كان حينما جئنا إلى طهران. سارع في البحث عن عمل واشتغل في مطعم من الدرجة الأولى. كانت علاقاته العامّة جيّدة جدًّا، وبالإضافة إلى اللّغتَيْن الأرمنيّة والفارسيّة كان يُجيد الإنكليزيّة أيضًا. في الأيام الأولى لوصولنا إلى طهران، تسجّل في مؤسسة لتعليم اللغات.

كان بايلاک جميل الوجه، أنيقاً وذا بنية جسديّة قويّة، كما يظهر في هذه الصورة الّتي تجمعني به، وقد أُخِذت قبل أن يلتحق بالخدمة العسكريّة. إنّ الّذي يرتدي المعطف الجينز هو أنا، والذي فرّق شعره من الوسط هو "بايلاک".
 
 
 
85

69

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 كان إجمالًا، فتًى ذا استعدادات عالية. في المطعم، كان يملأ أوقات فراغه بالعزف على بيانو المطعم. خلال عدّة أشهر بات عزفه على البيانو متقناً، ومن دون أن يتعلّم على يديّ أستاذ. كلّ من كان يراه يظنّ أنّه قد كبر على عزف البيانو منذ نعومة أظفاره.


كان بايلاک، حقًّا وإنصافًا، شابًّا ودودًا جدًّا ومحبًّا جدًّا. لم يكن أحد يُحبّ أبي وأمّي مثله. وعندما استشهد لم يستطع أيّ شخص أن يملأ فراغ محبّته. كلّ الراتب الّذي كان يتقاضاه من المطعم كان يصرفه على البيت والأسرة. لم يكن يحتفظ بشيء منه لنفسه أبدًا. كان كذلك سنداً لأبي في المصروف، ويشتري الهدايا لأمّي وأخواتي وإخوتي. كان مصدر بهجة قلوبهم وفرحتها.

في ربيع تلك السنة الّتي استشهد. فيها، أيْ في سنة ثمانين، أهدى أمّي ذهباً بمناسبة عيد الفصح. وبعد شهادته وضعت أمّي قسيمة شراء ذلك الذهب في ألبومها. كانت كُلّما وصلت أثناء تصفّح الألبوم إلى قسيمة الشراء تلك، تجهش بالبكاء وتقول: "فدتك نفسي يا أمّاه، كُنتَ تُفكّر فقط بإسعاد الآخرين".
 
 
 
86

70

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 هل سمعتم قولهم: "مهما قلت عن فلان فهو قليل؟" أنا نفسي كنتُ أظنّ أنّ هذا الكلام ليس إلّا مجاملة! ولكن حين أتكلّم عن بايلاک أعلم واقعًا أنّ كلّ ما أقوله عنه قليل في حقّه.


كان بايلاک رياضيًّا، ويُمارس رياضة الـ "زور خانه"1. وإذا ما راح يُحرّك الهراوات كان الفتية الأصغر سنّاً يتعبون من تعداد مرّات رفعه وتحريكه لها قبل أن يتوقّف هو. لم تكن قدرته البدنيّة محلًّا لنقاش. لقد اشتهر بأنّ أحداً لا يُمكنه أن يلوي ذراعه. كانت عضلاته مقسّمة ومفتولة لكثرة ممارسته للرياضة. 

لمّا قرّر الذهاب إلى خدمة الجنديّة، أصابنا الحزن جميعًا. كلّنا ما عدا الوالد. لقد ذبح الوالد خروفاً أضحية على شرف ذهاب بايلاک إلى الجنديّة. كان إلى هذا الحدّ فرحاً من بلوغ ابنه الرجولة. وقد أخبره أنّه بمجرّد أن يُنهي خدمته العسكريّة سيُشمّر عن ساعدَيْ الخدمة من أجل تزويجه. 

بدأت خدمته العسكريّة، ولم تكن الحرب قد نشبت بعد. كان تدريبه في مدينة بيرجند، وبعدها انتقل إلى مدينة مشهد. بعد مضي عدّة أشهر، بدأت الحرب فعزم على الذهاب إلى دزفول. كانوا قد جاؤوا إلى بايلاک وقالوا له: "تعال لنفرّ وننجوَ بأنفسنا! فإن لم نَلُذْ بالفرار لن نبقى أحياء".

تلك الفترة كانت فترة رئاسة بني صدر للجمهوريّة. وكان بنو صدر في الوقت عينه رئيسًا للجمهورية وقائداً عامّاً للقوّات المسلّحة. وأنتم تعلمون حتمًا أنّ أوضاع المقاتلين في الجبهة خلال تلك الأشهر، بسبب نمط تفكير بني صدر وإدارته، لم تكن بالنحو المطلوب. 

ورغم هذا كلّه، لم يقبل بايلاک أن يفرّ، بل كان يدفع الفارّين للانصراف عن قراراتهم. كان شجاعًا جدًّا، مقدامًا لا يخاف. أُقسم بالله إنّه لم يكن في هذا الفتى أيّ خوف. كان يتكلّم مع رفاقه بشكل حاسم وراسخ، فيطرد الخوف من قلوبهم.

هو نفسه كان يُخبرنا أيّام إجازته: "قلت لهم: إنّ الموت أفضل بألف مرّة من العيش بهذا الهوان والذلّ. إذا كان لا بدّ من الموت في يوم من الأيّام، فأيّ موت أفضل من أن نُقتل دفاعاً عن ترابنا ومالنا وعرضنا".
 

1- زور خانه أو "بيت القوّة" هي رياضة فتوة تقليدية قديمة جدًّا في إيران، فيها من استعراض القوّة ورفع الأثقال وما يُشبه المصارعة الكثير، ولها أدوات خاصّة تستخدم عند ممارستها كالهراوات والأقواس والأحجار. (المترجم)
 
 
 
87

71

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 إحدى مميّزاته أيضًا هي أنّه حيثما كان في جماعة، فإنّ إدارة تلك الجماعة كانت تقع بطريقة تلقائية على عاتقه، من دون حتى أن يريد هو ذلك أو يلتفت إليه. وكأنّه قد صُنع لأجل القيادة وإعطاء الأوامر. بالطبع لم يكن في وجوده أبداً أيّ ميل للقيادة وتولّي الأمور. في الأيّام الأولى للحرب، اقترحوا عليه أن يخدم في الجيش وينضم إلى قوّات النخبة، لكنّه لم يقبل.


من ميزات بايلاک الأخرى التي يحتمل أن تكون لافتة لكم هي أنّ بايلاک كان من أهل المطالعة. كان قارئاً نهم، بدءًا من كتب التاريخ ووصولًا إلى القصص والروايات. حتى في المعسكر والمخيّم والجبهة، لم يتوقّف عن قراءة الكتب.

لا أعلم بالدقّة ماذا كان عمله في فترة الخدمة العسكريّة. لدينا صور لبايلاک في كلّ الحالات: من إطلاق النار بالمسدس والـ ج3 والآر بي جي والرشاش، وصولًا إلى قيادة الدبّابة وغيرها! سواء في حرّ الصيف أو في ثلج وبرد الشتاء. عندما كُنّا نسأله عن دوره في الجبهة لم يكن يقدّم لنا جوابًا وافيًا. كان يقول افترضوا أنّني أكنس هناك! ما الذي يُغيّره نوع عملي في الجبهة؟

كان ينشط كثيرًا كلّما حانت ذكرى إبادة الأرمن في تركيا. يُعِدُّ الإعلانات، ويكتب اللّافتات، ويُسيّر المظاهرات ويلتقط الصور.
 
لطالما كان يُثني على العلاقة الحسنة بين مسلمي إيران والأرمن، مكرِّراً أنّ عددًا كبيرًا
 
 
 
 
 
88

72

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 من الأرمن بعد الترحيل الإجباري لهم من قبل الشيوعيّين قد هاجروا إلى إيران وتركيا، فأين المعاملة الوحشيّة للأتراك من المعاملة الحسنة للإيرانيّين. لقد دمّر الأتراك الآثار التاريخيّة للأرمن، فيما أعاد الإيرانيّون ترميمها. 


كان يجمع الصور والملصقات والمنشورات حول المظاهرات كلّ سنة في ألبومه ويحتفظ بها. في المرّة الأخيرة التي عاد فيها بمأذونيّة، كان موعد مأذونيّته، قد تأخّر قليلًا عمّا كانت عليه العادة. كان قد نظّم أوقات مأذونيّاته بحيث يستطيع أن يكون يوم 24 نيسان، يوم المراسم السنويّة لتلك المذبحة، في طهران. هذه الصورة هي صورة آخر صفحة في ألبومه حول مراسم المظاهرات.
 
 
 
 
89

73

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 لا يُمكن أن أنسى يومَيْن من حياتي. الأول هو اليوم الّذي ذهبتُ فيه للتعرّف إلى بايلاک في برّاد المستشفى. والآخر هو اليوم الّذي حلّ علينا فيه السيّد الخامنئي ضيفًا.


في ذلك اليوم الذي جاؤوا فيه بخبر شهادة بايلاک كنتُ في البيت، وكان أبي وجدّي موجودَيْن أيضًا. جاءنا جنديّ وطلب منّا الذهاب إلى مركز الطبّ الشرعي للتعرّف إلى الجثمان. ذهبنا ثلاثتنا إلى هناك. وقد عمّ المركز هرجٌ ومرج. الجميع منشغلٌ بالبكاء والنحيب. أخذونا إلى قسم من البرّاد، كانت فيه أجساد ثلاثة شهداء أرمن. الجثمان الأول كان لشهيد لم يكونوا قد أخبروا أسرته بشهادته بعد، العسكريّ الّذي كان قد ذهب ليُبلّغ الأمر شاهدَ حفلَ زواج أخي الشهيد فلم يُطاوعه قلبه أن يحوّل العرس إلى مأتم. الجثمان الثاني كان لزوريك مراديان، والثالث كان لبايلاک. وكان جثمانه حقّاً. كانت الرحمة لا تزال تتوهّج في وجهه، كتفه الأيسر ممزّق تمامًا فوق قلبه، و... فلندع ذلك. بايلاک وزوريك كانا في عداد الشهداء الأرمن الأُوَل.


كان زوريك مراديان قد استشهد في الحادي عشر من شهر تشرين الأول لسنة ثمانين، واستشهد بايلاک بعد أربعة أيام من ذلك التاريخ أي في الخامس عشر من شهر تشرين الأول. لكنّهم جلبوا جثمانَيْ الشهيدَيْن معًا إلى طهران. بايلاک كان قد استُشْهِد في دزفول1، وزوريك في مدينة بيرانشهر.
 

1- من أقدم مدن إيران وخوزستان، والّتي بسبب تحمّلها لأشد القصف الصاروخي للعدو وتقديمها لألفَيْن وستمئة شهيد أثناء الحرب المفروضة قد تحوّلت إلى أحد رموز المقاومة.
 
 
 
 
90

74

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 كان جدّنا لأمّنا قسّيساً، القسّ "آشام آراكليان". هذه صورة بايلاک بجانب جدّي وجدّتي لأمّي. يجب أن تُسامحَني لأنّني أُريك كلّ هذه الصور. أخي بايلاک كان رقيقاً وجذّاباً إلى الحدّ الّذي يشفق المرء معه أن لا يَبْرِز صوره هنا وهناك. وهو كان يعرف أنّه كذلك. كان يُمازحني أحيانًا عند أخذ الصور ويقول: "مسرور أنت لأنّ لديك أخاً جذّاباً بهذا الشكل ها!".


كنتُ أتحدّث عن جدّي عندما وصل بنا الكلام إلى هنا، كان جدّي القس آراكليان معروفًا جدًّا، جميع الأرمن كانوا يعرفونه. عند دفن بايلاک، اقترح أن ندفنه في قطعة أرض منفصلة، وأن نُخصّص في المقبرة مكاناً لدفن الشهداء، بقعة باسم "ناهاتاك". نحن في اللّغة الأرمنيةّ نذكر الشهيد بعنوان ناهاتاك. الآن إذا ذهبت إلى مقبرة الأرمن تجد بقعة خاصّة بالشهداء، وقد وَضَعوا في وسط تلك البقعة نصباً كتبوا عليه أسماء الشهداء. كان وجود هذه البقعة بفضل اقتراح جدّنا, وكأنّه كان يعرف غيرة الأرمن وحماستهم، ويعلم بأنّ عدد الشهداء الأرمن سيكون كثيرًا إلى الحدّ الذي يتطلّب بقعة مستقلّة. 

اللّيلة الأخرى التي لا تذهب من خاطري أبداً هي تلك اللّيلة حين شرّفنا السيّد الخامنئي في منزلنا. ومهما كان مرّاً ومظلماً وثقيلاً ذلك اليوم الّذي ذهبنا فيه إلى الطبّ الشرعي للتعرّف إلى جثمان بايلاک، فإنّ تلك اللّيلة الّتي زارنا فيها السيّد الخامنئي عن قرب في منزلنا كانت
 
 
 
 
91

75

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 عذبة ومضيئة للغاية. لقد كانت ليلةٌ لا تُنسى. في الواقع، لقد تعرّفت في تلك الليلة إلى سيّد خامنئي آخر، فهذا السيّد الخامنئي يفصله عن ذاك الّذي كنتُ أعرفه ألف سنة ضوئية. لا بمعنى أن تُفكّر أنّه قبل اللقاء كان في ذهني ملاحظة سلبيّة عنه. كلّا، أبدًا. فقط، وبحقّ، لم أكن أُصدّق أن يكون إلى هذا الحدّ رحيمًا وطيّباً ودافئًا ولطيفًا وحميمًا ومحبّباً. أصلاً، أين تلك الصلابة والقوّة التي كنتُ أُشاهدها فيه عبر التلفاز، وأين تلك الرأفة والحنان والمحبّة التي رأيتها منه في تلك اللّيلة. لم أكن أستطيع أن أجمع تلك الصفات بعضها مع بعض.

في ذلك اليوم، اتصلتْ أمّي وقالت: "إنّه من المقرّر أن يأتينا ضيف. عدْ إلى المنزل فورًا من عملك". كنتُ حينها خاطباً. بعد العمل ذهبت إلى منزل خطيبتي ونسيت توصية أمّي. وبينما كنتُ هناك وسألني والدا خطيبتي عن أحوال والدَيّ تذكّرت في تلك اللحظة توصية أمّي. اعتذرت وعدت إلى منزلنا. كان ذلك سنة أربع وثمانين بعد أربع سنوات على شهادة بايلاک، وفي أوج أيّام الحرب المفروضة.

عندما وصلت أمام منزلنا، رأيت شخصَيْن مجهولَيْن يقفان أمام الباب. وبعد سين وجيم منهما دخلت إلى المنزل. وفي منتهى الدهشة والحيرة، رأيتُ رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي في منزلنا يتحدّث بحرارة مع أبي وأمّي.

عندما دخلت وسلّمت عرّفني أبي بالأخ الكبير للشهيد والابن الأكبر للأسرة. وقف السيّد احترامًا لي وسلّم عليّ بحرارة وحميميّة. 

كانت تلك الليلة ليلة حافلة بالذكريات، ليس بالنسبة لي فحسب، بل لأبي وأمّي ولكلّ
 
 
 
92

76

الرواية الرابعة: بقعة ناهاتاك

 فردٍ من أخواتي وإخوتي الذين كانوا حاضرين في تلك الجلسة. لقد تحدّث "السيّد" مع كلّ واحد منّا وسألنا عن أحوالنا، حتى إنّه سأل أخواتي وإخوتي الّذين يتابعون دراستهم عن الصفوف الّتي هم فيها، وعن أوضاع دروسهم وأمثال هذه الأمور. أنت لا تعرف أيّ حالة يبعثها في الإنسان اللّقاء الحضوري والخصوصي مع السيّد الخامنئي. أذكر أنّني ذهبت وجلبت شهادة بايلاک، وتحدّثنا معه بالتفصيل عن بايلاک. وهو كذلك تحدّث كثيراً عن عظمة عمل بايلاک، والشباب من أمثاله، وأثنى على أبي وأمّي وقدّر عطاءاتهما.

الآن صورة بايلاک هي زينة منزلنا، صورة تختلف عن بقية الصور.
 

صورة وكأنّ فيها روحًا تسري، ترى وتسمع وتتحدّث معك في الخلوة، صورة هي مشكى ضيم أكثر منها صورة على جدار. صورة سعت أن تملأ لي فراغ مكان أخي الغالي، ولكن.

عائلة أخي الشهيد آوديان المحترمة 09/2014م.
 
 
 
 
 
93

77

الرواية الخامسة: رازميك

 الرواية الخامسة: رازميك - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد رازميك داووديان في تاريخ 25/12/1997م


 

الشهيد رازميك داووديان 

مكان الاستشهاد: عَبَدان، خوزستان
 
تاريخ الاستشهاد: 17/05/1981م
 
 
 
 
98

78

الرواية الخامسة: رازميك

 منذ سنوات الطفولة، وحتّى هذا اليوم الّذي أصبح فيه عندي طفل بعمر الرابعة، كنتُ وما زلتُ ألتفتُ إلى ثقل نظرات النّاس. أستشعرُ جيّدًا نظرات النّاس، وأزن نظراتهم الرحيمة والغضوبة والحقودة. 


والآن، أيضًا في غسق هذا الليل، أستشعر بشكل قويّ وزن النظرة المشبوهة لهذا الرجل الشابّ! تشغلني نظرته حتّى أصل إلى منزل والد زوجتي. وحين أصل إلى باب المنزل، أرى رجلًا آخر يُشبه بشكل كبير ذاك الرجل في أول الزقاق واقفًا أمام الباب. 

أقف، أُسلّم عليه وأسأل: "عفوًا هل تُريدون شيئًا حتّى وقفتم هنا؟ أتحتاجون إلى مساعدة؟"

يقول: "أنتم من أهل هذا المنزل؟"

- نعم.

- يعني حضرتكم من آل داووديان؟

- داووديان عائلة زوجتي وهنا منزل والدها،(عمّي).

يفتح لي باب المنزل ويقول: "لا تؤاخذني، تفضّل إلى الداخل".

- ولكنّك لم تُعرّفني بنفسك!

- نحن ضيوف عمّك. تفضّلوا إلى الداخل لو سمحتم.

- إذا كُنتَ ضيفًا فلماذا أنت واقف هنا؟ 

- تفضّل إلى الداخل وستعرف بنفسك. 

أدخل إلى المنزل: "ما هذا الضيف العجيب والغريب! حسناً لو كان ضيفًا لماذا يقف كالحرّاس أمام الباب؟

وفيما أصعد الدرج وأصل إلى الطابق الثاني، أرى رجلًا آخر يقف أمام الباب. لا بدّ أنّه ضيف أيضاً! أُسلّم وأسأل بتهكّم: "هل يُمكنني الدخول؟"
 
 
 
 
 
99

79

الرواية الخامسة: رازميك

 - ألكم شأن في هذا المنزل؟


- نعم لديّ شأن في هذا المنزل.

- حضرتكم السيّد داووديان؟

- كلّا، أنا صهر السيّد داووديان!

- نعم نعم! عفوًا. تفضّلوا إلى الداخل.

أدخل إلى المنزل لأرى ثلاثة رجال غرباء في الداخل، وزوجتي هايكانوش واقفة إلى جانب والدها.

تمشي هايكانوش صوبي، تُلقي السلام وتُرحّب بي.

- ما الخبر؟ ألدينا ضيوف؟

وقبل أن تُجيب هايكانوش يُعرّفني والدها من على بعد مترَيْن أو ثلاثة بصوت عال إلى أولئك الرجال الغرباء: هذا هو صهري آفانِس!

ثمّ ينظر إليّ: آفانِس! السادة قد أتوا ليطرحوا عدّة أسئلة حول رازميك. 

وبمجرّد أن يأتي على اسم رازميك، وفي لحظة واحدة، تتداعى في ذهني كلّ تلك الأحداث الغريبة الّتي صادفتُها منذ عدّة دقائق: النظرات المشبوهة، الحرّاس، الأسئلة والأجوبة. 

فجأة، تلمع في ذهني المسألة، وبلا وعي کما النيام، أتقدّم خطوات عدّة نحو الضيوف. يُسلّمون، لكنّني بدل أن أردّ السلام، أسأل: "هل من المقرّر أن يُشرّفنا السيّد الخامنئي؟!"

سقى الله تلك الليلة! كم كانت استثنائيّة. في تلك اللّيلة التي مرّ عليها حتى الآن خمس سنوات لم أكن قد تزوّجت بعد أو حتى تعرّفت إلى هايكانوش. كانت سنة اثنتَيْن وتسعين، قبل خمس سنوات. كان من المقرّر أن يأتَينا ضيف، وقد اتصلوا بأخي الأكبر وسألوا إن كان من المتيسّر استقبالهم لمدّة نصف ساعة لأجل المباركة بعيد الميلاد. أذكر عندما أتوا، في البداية رحنا نُفكّر لماذا يتصرّف هؤلاء الضيوف بغرابة، ولكن فيما بعد عندما حضر السيّد الخامنئي فهمنا ما كان يجري1.
 

1- المقصود هنا هو لقاء الإمام الخامنئي بعائلة الشهيد كارابتيان في سنة 1993م، والّذي قد ذكرت تفاصيله في الرواية السادسة عشرة من هذا الكتاب. أخو الشهيد كارابتيان هو صهر عائلة الشهيد داووديان.
 
 
 
100

80

الرواية الخامسة: رازميك

 أوضّح لفريق الحماية كيف فهمت أنّ الضيف الأساسي لهذه الليلة هو السيّد الخامنئي. وهم في المقابل لا يُخفون الأمر، كانوا يريدون أن يُبيّنوا لنا أصل القضيّة قبل مجيء السيّد بلحظات فقط، ولكن الآن، وبسبب تجربتي السابقة انكشف الأمر قبل الوقت المحدّد.


حالما يعلم والدا هايكانوش بأنّ السيّد الخامنئي سيكون زائرهم اللّيلة، يُسرعان إلى باب الباحة الخارجيّة للمنزل لاستقباله واصطحابه من هناك إلى الداخل. يُصرّ فريق الحماية أن ينتظرا داخل المنزل لكنّهما يرفضان.

وأُرافق أنا عمّي وزوجته. وبعد دقيقة انتظار أو دقيقتَيْن داخل الباحة الخارجية للمنزل، يُفتح الباب ويدخل سماحته. يُسلّم علينا جميعًا سلامًا حارًّا، ثم يطلب من أبي هايكانوش وأمّها أن يتقدّماه في المسير، لكنّهما يرفضان، فيبدأ السيّد بصعود الدرج ونحن خلفه حتّى نصل إلى داخل المنزل. وهناك أمام المدخل، يُلقي التحية على هايكانوش ويسألها والبسمة تعلو وجهه عن أحوالها. تُرحّب هايكانوش به بدورها، وتتمنّى عليه أن يتفضّل للجلوس على الكنبات في غرفة الاستقبال. قبل أن يجلس ينظر السيّد الخامنئي إلى والد ووالدة الشهيد قائلًا: "تفضّلا اجلسا هنا بجانبي"، ويفعلان.

يُبارك لنا السيّد الخامنئي عيد الميلاد، ويسأل عن رازميك وتاريخ ومكان استشهاده، وكيفية وصول خبر شهادته إلى العائلة. ويشرح والد رازميك ونوضّح أنا وهايكانوش كلّما خانت الوالد الذاكرة.

تغمّده الله برحمته، لقد عقد رازميك العزم على الذهاب إلى الجبهة من بداية الحرب. وكان أكثر وجوده في الجبهة في مدينتَيْ عَبادان وخرّمشهر1. كان جنديًا في المشاة، وفي أواخر شهر أيار سنة إحدى وثمانين، وخلال المواجهات المباشرة مع الجيش العراقيّ، يُصاب رازميك برصاصات في كتفه وصدره، ويرتفع شهيدًا.
 

1- مدينتان استراتيجيّتان على الحدود بين إيران والعراق يصل بينهما جسر. استطاعت القوّات الشعبيّة في بداية الحرب ومن دون سلاح أن تُدافع لمدّة أربعين يومًا عن خرّمشهر، لكن الخيانات والقصور الداخلي أدّيا إلى سقوط هذه المدينة. ومن بعدها تمّت محاصرة عبادان أهمّ مدينة نفطيّة في البلاد من قِبَل الأعداء، لكن بفضل المقاومة الشرسة للشعب والمقاتلين لم يتمّ احتلالها في أيّ وقت. وكان فشل حصار عبدان هو أول انتصار كبير للمقاتلين الإيرانيّّين. وبعد عدّة شهور في 24 أيار من العام 1982م وفي عمليّات "إلى بيت المقدس" وكما قال الإمام الخميني: "حرّر الله خرمشهر". 
 
 
 
 
101

81

الرواية الخامسة: رازميك

 كان رازميك ناشطًا فعّالًا في ما يتعلّق بنضالات الثورة. في تلك الأيام التي آلت إلى الثورة الإسلاميّة، لم يكن يعرف ليلًا من نهار. كان في حراك دائم لأجل تنظيم المظاهرات المناهضة للنظام البهلويّ. وبعد انتصار الثورة صار عضوًا في لجان محلّة "مجيديّة" في طهران، وکان لمدّة خمسة عشر شهرًا بتمامها في لجنة الحرس الثوري. 


في أوّل مرّة ذهب فيها للالتحاق بالعسكر، قالوا له: "اذهب الآن وعُدْ بعد أربعة شهور، إذ لم يحن وقت خدمتك بعد". لكنّ رازميك أصرّ أن يذهب إلى الجبهة بأسرع وقت ممكن، وشرح لهم أنّه لا طاقة لديه للصبر مدّة أربعة شهور. ولمّا رأوا شدّة إصراره على الذهاب وافقوا وتقرّر ذهابه في غد ذلك اليوم. طوال سنة كاملة بضعة شهور، لم يستأذن رازميك من خدمته العسكريّة إلّا ثلاث مرّات. وكان في كلّ مرّة منها يتعجّل العودة إلى الجبهة في وقت أبكر بأيّام عدّة من موعد رجوعه. كان يقول: "قلبي يغلي ولا طاقة لي على الابتعاد عن الجبهة. العدوّ رابض على ترابنا ومن الخيانة أن ينأى المرء بنفسه ويُلقي عن كاهله ثقل المسؤوليّة". 

كانت آخر مأذونيّة له في شهر نيسان من سنة 1981م. وقد أذنوا له أن يأتي إلى طهران للاحتفال بعيد الفصح مع عائلته، وكان قد وصل إلى طهران قبل العيد بأيام عدّة . لكنّه وقبل حلول العيد عاد إلى الجبهة، ومن هناك أرسل تبريكاته إلى أفراد عائلته ضمن رسالةٍ
 
 
 
 
102

82

الرواية الخامسة: رازميك

 كانت الأخيرة: 

"أبي وأمّي العزيزَيْن، كيف حالكما؟ بعد السلام أتمنّى أن تكونوا جميعاً بخير، وأن لا يجد الحزن إلى حياتكم سبيلًا. إذا كنتم تريدون الاطمئنان عنّي فأنا في الواقع حيٌّ أُرزق، وأعيش على أمل اللّقاء بكم مرّة أخرى.

والدي الحبيب، أُبارك لك حلول عيد الفصح، ولكلّ العائلة الكريمة. وأتمنّى أن تكون الآن وفي المستقبل موفّقًا ومنتصِرًا. أبي الحبيب، لقد مضى على مجيئنا إلى عبادان عدّة أيام. الطقس هنا حارٌّ ومؤذٍ قليلًا. لكن مهما ساءت أحوالنا، فإنّها تمضي ويُمكن تجاوزها؛ لأنّ هؤلاء الناس وهذا الشعب المحروم هو في أمسّ الحاجة إلينا. 

والدتي الحبيبة، كيف حالك؟ لا تقلقي عليّ فأنا بصّحة وعافية، على أمل اللّقاء بك واحتضانك مجدّداً لأشعر أنّني أسعد إنسان في الدنيا.

والدي الحبيب، أَوصل سلامي إلى إخوتي: هروس، ناريمان، جانيك، هراند، آندره. أرجو أن يستمتعوا بهذا العيد كثيراً. أُبارك لهم من جهتي، وأتمنّى أن يهتمّ آندره وهراند بدراستهما، فشهر حزيران على الأبواب وينبغي أن يبذلا أقصى ما في وسعهما لينالا التوفيق. نحن، في النهاية، نُقاتل هنا حتى يتمكّنوا هم من مواصلة الدراسة، ويكونوا قوّة إنسانية فعّالة لهذا البلد. 
أرسلْ سلامي أيضًا إلى أختي الحنونة روزيك، وإلى أختي الغالية هايكانوش. أتمنّى أن تهتمّي بدراستك وتنالي التوفيق. أوصلوا سلامي إلى جميع الأقارب والرفاق".

أحيّي جميع أقاربي ورفاقي
مكان حسين خالٍ في هذا اللّقاء. كان حسين لا يزال صغيراً عندما استشهد رازميك. لقد استشهد أبوه في الأيّام الأولى للحرب، وكان رازميك يحضره دائماً إلى منزلنا ويلعب معه. في إحدى المرّات، سأله أخوه الكبير: "لماذا تجلب هذا الصبيّ إلى منزلنا بهذا القدر؟"، أجاب رازميك: "ليس لديه أب واليتمُ صعب جدًّا وثقيل". والآن، ورغم مرور خمس عشرة سنة على شهادة رازميك، ما زال حسين المسلم، والّذي بات متزوّجاً ولديه
 
 
 
103

83

الرواية الخامسة: رازميك

 أولاد يأتي إلى المنزل ليزور والدة رازميك. ليته هو أيضًا كان هنا، وتكلّم عن قرب مع السيّد الخامنئي عن رازميك. 


تقف هايكانوش وتضع بين يديّ السيّد الخامنئي ألبوماً كانت قد أعدّته هي بمنتهى الدقّة والإتقان حول رازميك. يتأثّر "السيّد" من سماع أخبار رازميك، ومن طريقة استشهاده، ويبدأ بتصفّح الألبوم.

توجد في هذا الألبوم، بالإضافة إلى صور رازميك في مختلف مراحل حياته، وصيّته ومدوّناته. كانت هايكانوش أيضًا قد جمعت قصاصات الجرائد الّتي كتبت حول شهادته ووضعتها في الألبوم بشكل مرتّب. 

يطول نظر "السيّد" ومطالعته للألبوم لعدّة دقائق. لديه إلى هذا الحدّ الجَلَد على مشاهدة صور الألبوم صفحة صفحة والتمعّن في قصاصاته، وكأنّما هو منشغل بقراءة مواضيع غاية في الأهمّية. يطول وقوفه أكثر عند صفحة وضعت فيها وصيّة رازميك. من الواضح أنّه يقرؤها كلمة كلمة بمنتهى الدقّة:
"إخوتي المواطنون الأعزّاء، لقد قدّمتُ نفسي فداءً لحرّية الوطن. الأصدقاء الأعزّاء، لا تحزنوا لشهادتي فأنا ومنذ الأيّام الأولى للثورة جعلت هدفي تقديم نفسي لأجل الوطن والحرّية. وقد نلتُ هذا الفخر وأنا أرتدي اللّباس العسكريّ عسى أن يُذكر اسمي إلى جانب أسماء عاشقي الوطن. إنّني أنتظر من جميع الإيرانيّّين الشجعان والأرمن المؤمنين والوطنيّين الشرفاء أن يسيروا على دربي لأجل حرّية الوطن".
 
 
 
 
104

84

الرواية الخامسة: رازميك

 يهزّ السيّد الخامنئي رأسه عدّة مرّات على إثر مشاهدة الألبوم وقراءة الوصيّة. ثم يُكرّر بلحن الثناء والإعجاب اسم رازميك عدّة مرّات، "رازميك... رازميك". 


نوضح أنا وهايكانوش معاً معنى اسم رازميك، أقول: كلمة رازميك تعني رجل الحرب.

تُصحّح لي هَايكانوش: معنى الشهيد والشجاعة.

أقول: القتال.

تقول هايكانوش: المقاتل.

ويجول القائد الخامنئي بنظره بيني وبين هايكانوش فيما نوضّح، فيؤيّد رأي "المقاتل" ويقول: إذاً للاسم مع اللّغة الفارسية جذر مشترك.
 
 
 
 
105

85

الرواية الخامسة: رازميك

 لقد ذكر "السيّد" ملاحظة بسيطة ولافتة، لم أكن قد دقّقتُ فيها من قبل: رازميك بالأرمنيّة ورزمنده بالفارسيّة، كلاهما يتشكّلان من أصل ثلاثي واحد هو "رزم"، بمعنى القتال فجذرهما واحد. 


يصل الكلام إلى هنا، فيسألني "السيّد" ويسأل هايكانوش عن اللّغة الأرمنيّة والخطّ الأرمنيّ، عن مقدار معرفتنا بهما، وعن عدد حروف اللّغة الأرمنيّة وأمثال هذه الأمور. وعندما أوضّح أنّ ألف باء الأرمنيّة تتألّف من ثمانية وثلاثين حرفاً، وأُبيّن اختلافها عن الألف باء الفارسيّة، يقول إنّ الحروف الإضافيّة في الألف باء الأرمنيّة موجودةٌ أيضاً في بعض اللّهجات القومية الإيرانيّة. مثلاً، في اللّهجة الأصفهانيّة والآذريّة والبهبهانيّة، ويُقدّم عدّة شواهد مثالاً.

تقول هيكانوش باستغراب: "كثيرٌ من الأمور الّتي تدلي بها لا يعلمها أحد أيّها السيّد الخامنئي".

وبينما يجري تقديم الشاي، أتذكّر لقاء القائد الخامنئي في منزلنا، حيث كانت أمّي قد أعدّت بدل الشاي العادي، شاياً بالقرفة. في ذلك اللّقاء، ورغم أنّ تناول القرفة لم يكن مفيداً بحسب الظاهر بالنسبة إلى السيّد، لكنّه شربه بكامل الرضى. وأتذكّر حينما علم أهل المحلّة والأصدقاء والمعارف والعائلة أنّ القائد قد جاء إلى منزلنا، كم تحسّروا على أنفسهم لعدم لقائه. أذكر أن أكثرهم كان لديه سؤال مشترك: "هل أكل السيّد الخامنئي في منزلكم شيئاً؟".

يتناول "السيّد" الشاي ويسأل عن وظيفة والد رازميك وعن وظيفتي. يوضح الوالد أنّه كان طبّاخاً:
- كنتُ طبّاخاً في الكنيسة الإيطاليّة شارع فرنسا.

- طعامكم يختلف عن الطعام الإيرانيّ أم أنّه واحد؟

- لا، لا يوجد فرق، نفس الطعام.

- تطبخون حساء الخضار بالشعيريّة (الآش) والأرزّ باللّحم على الطريقة الإيرانيّة؟

- نعم نأكل هذه الأطعمة.

- وحيث إنّك خبير في الطبخ، فلا بدّ أنّك تساعد السيّدة في المطبخ، أليس كذلك؟

نضحك جميعنا من ملاطفة السيّد الخامنئي، وتقول هايكانوش:
 
 
 
106

86

الرواية الخامسة: رازميك

 - نعم يا سيّد، يُساعد كثيراً.


يبتسم القائد بوجه والدي مؤيّدًا ومشجّعًا ويهزّ رأسه. وحتّى يستزيد من تأييد "السيّد" يقول الوالد:
- أولادي أيضاً تعلّموا فنّ الطبخ مؤخّراً.

- حسناً. لا بدّ أنهم قد تعلّموه من والدتهم!

ومجدّداً يضحك الجميع.

عندما يخطر ببالي أنّ اللّقاء سيُختَتم، يزداد حديثُ "السيّد" حلاوةً وتشويقًا:
- هل تذهبون بشكل دائمٍ إلى الكنيسة؟

يُجيب الوالد: يوميَنْ أسبوعياً. ثمّ يسألني ويسأل هايكانوش: وأنتم الشباب هل تذهبون؟

أقول: أيّام السبت هناك مراسم، يعني نذهب كلّ ليلة أحد.

- هل يوجد كنيسة في الجوار؟

- نعم، إلى الأسفل قليلاً.

- كم كنيسة أرمنيّة يوجد في طهران؟

أعتقد يوجد خمس عشرة.
 
 
 
 
107

87

الرواية الخامسة: رازميك

 - هل يأتي السيّد آرداك مانوكيان1 أيضاً؟ أين يُلقي موعظته؟


أهزّ برأسي وأقول: "نعم، نعم، يأتي بالطبع، يحضر أكثر في كنيسة شارع فيلّا".

يتحدّث السيّد الخامنئي عن تاريخ معرفته بالأسقف الأعظم مانوكيان:
- سنة إحدى وثمانين، في أوائل أيّام رئاستي للجمهوريّة، أتى للقائنا. هو من لبنان، جاء إلى إيران، وصار رئيساً للأرمن والأسقف الأعظم للكنائس الإيرانيّة. أتى لزيارتنا عندما كنتُ رئيساً للجمهوريّة وتعارفنا.

يسأل "السيّد" عن ابنتي الّتي لها أربع سنوات من العمر، وقد استشهد عمّها وخالها كذلك، عن آريللا المشغولة باللّعب. يسأل جدّة آريللا الّتي تجلس إلى جانبها:
هل هذه البنت الصغيرة ابنتك أو ابنة ابنتك؟

تشير الوالدة إلى هايكانوش وتقول: ابنة ابنتي.

يقول "السيّد": تعالَيْ إلى هنا أيّتها الصغيرة؟ ما اسمك يا سيّدة؟
 

1- المرحوم السيّد آرداك مانوكيان، كان قبل 37 سنة، منذ عام 1961م الأسقف الأعظم للكنيسة الأرمنية في طهران. توفّي عام 1999م
 
 
108

88

الرواية الخامسة: رازميك

 تجلس آريللا في حضنه، يمسح على شعرها بيده ويُناغيها ويطبع قبلة على رأسها ووجهها. 

أقول: اسمها آريللا.

تقول هايكانوش الّتي أدركت محبّة "السيّد" للّغة الأرمنيّة: سيّد، أريللا تعني اللّبوة.

ويُقرّر السيّد الخامنئي الّذي جعل ليلة عيدنا ليلة لا تُنسى، أنّه حان وقت الذهاب.

- حسناً، هدفنا كان أن نُبارك لكم هذا العيد أنتم وهذه السيّدة وهذه الأسرة الكريمة، وأن نُعزَّيكم ونُبارك لكم أيضاً ولو بعد خمس عشرة سنة على شهادة ولدكم. إن شاء الله أنتم موفّقون دائماً.

أنا وهايكانوش والوالد والوالدة، كلٌّ منّا يتشكّر "السيّد" بجملة. يقف السيّد الخامنئي، وبابتسامته اللّطيفة، يُقدّم لوالدة الشهيد هديّة ويقول: "وهذه هديّتنا لجنابك أيّتها السيّدة".

تقول الوالدة: "شكراً جزيلاً. أتعبتم أنفسكم. أشكركم".

"وفّقكم الله وأيّدكم وأسأله أن يحفظ باقي أبنائكم".

السيّد توماس داووديان والد الشهيد والسيّدة هايكانوش داووديان أخت الشهيد 06/2014م.
 
 
 
 
 
109

89

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيدَيْن هايقان وادموند موسِسيان ومنزل الشهيد جاجيك طومانيان في تاريخ 01/01/1999م.


الشهيد هايقان موسسيان
شهيد الإرهاب في طهران
تاريخ الاستشهاد: 03/09/1981م.

الشهيد ادموند موسسيان
شهيد الإرهاب في طهران
تاريخ الاستشهاد في: 13/06/1981م.

الشهيد جاجيك طومانيان
مكان الاستشهاد: مريوان، كردستان
تاريخ الاستشهاد: 15/08/1987م.
 
 
 
 
112

90

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ *  سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾1

الشتاء قارس والثلج والجليد يُغطّيان الطرقات، لكنّ دفء شهر رمضان قد بلغ أوجه. لقد انقضت ليلتا التاسع عشر والواحد والعشرين من هذا الشهر، أيْ اللّيلتان اللّتان يُحتمل أن تكون ليلة القدر إحداهما. وها هي اللّيلة الثالثة والعشرون؛ الليلة التي يُرجّح أن تكون هي ليلة القدر أكثر من اللّيلتَيْن السابقتَيْن، ولذلك فهي بالنسبة إلى كلّ مسلم أهمّ ليلة في السنة.

أهمّ شهر في السنة هو شهر رمضان، وأهمّ ليلة في شهر رمضان هي ليلة القدر؛ ليلة نزل فيها القرآن على قلب النبي. ليلةٌ بتعبير القرآن هي أفضل من ألف شهر. ليلةٌ يُكتب فيها مصير السّنة القادمة بتمامه للنّاس. ولو أنّ مؤمناً علم قدر هذه اللّيلة لأمكنه من خلال الدّعاء والمناجاة والطلب من اللّه أن يؤثّر في هذا المصير. إنّه أمر أولياء الله أن يبقى المؤمنون في هذه اللّيلة مستيقظين، ويحيوها بذكر الله والعبادة والدعاء.

يُخيّم على هذه اللّيالي أيضاً شيء من الحزن والعزاء. فهذه هي اللّيلة الخامسة الّتي نذرف فيها الدمع على أمير المؤمنين علي عليه السلام لمصيبة ضربة رأسه الشريف وشهادته. 

لطالما شغلتني في ليالي القدر هذه الفكرة، وهي أنّه ما الّذي يدعو به ويطلبه جناب السيّد في هذه اللّيلة. وحيث إنّني أعمل في مكتبه، وأرى وأسمع وأقرأ قسماً من القضايا المتعلّقة به، يقلّ صبري في ليالي القدر، وتكون جعبتي مملوءة بالحاجات. وفي ظلّ هذه الأوضاع الحسّاسة في البلد وفي العالم، وحيث إنّه لم يبقَ من ليالي القدر إلاّ ليلة واحدة، كان ينبغي أن يُقدّر وقت هذه اللّيلة لحظة بلحظة. الغفلة ممنوعة ولو بأدنى مقدار.
 

1- سورة القدر.
 
 
 
 
113

91

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 لقد عقدت الأمل على هذه اللّيلة، ووضعتُ برنامجاً وجدولة زمنيةً لإحيائها. ورغم أنّ ليالي الشتاء طويلة، وحتى لو أحيينا هذه اللّيلة من بعد الإفطار حتّى الصباح بالمناجاة والدّعاء إلى الله لما اكتفيَنْا. والحال أنّ تمضية اللّيلة بطلب الحاجات من الله فقط هي خلاف الأدب. ينبغي القيام بالأعمال المأثورة الموصى بها. ليلة القدر هي ليلة القرآن، فإنْ لم يتيسّر ختمه كاملاً، فأقلّه ينبغي أن نقرأ عشرة أجزاء منه. وهي ليلة المناجاة، ليلة أبي حمزة والجوشن الكبير ودعاء المجير وعشرات الأدعية المأثورة الأخرى التي أوصى بها علماؤنا. إنّها ليلة الصلاة وليلة البكاء على مظلوميّة علي عليه السلام ووحدته. 


أُفكّر مجدّداً بأنّني أنا اللّاشيء، لديّ كلّ هذه الحاجات في هذه اللّيلة وأضع لنفسي برنامجاً، فكيف بقائدنا الّذي تشغله كلّ تلك الهواجس والهموم بشأن الثورة والبلد وعالم الإسلام، ما هي الشرائط التي يُراعيها في هذه الليلة؟ هو الذي عليه أن يعبر بسلامةٍ بهذه السفينة وسط هذا الطوفان والفتن الكبرى والصغرى، كيف يكون حاله وما هو البرنامج الذي وضعه لليلته هذه؟ أيّ دعاء وأيّ صلاة؟ ومن بين كلّ الأعمال والعبادات الخاصّة بهذه اللّيلة، أيّ عمل قد وجده هو المقرّب إلى اللّه أكثر؟ 

جلستُ على سجّادة الصلاة في الغرفة الأكثر هدوءاً في المنزل، وقبل البدء بالأعمال رُحت أُفكّر في عظمة ليلة القدر، وعظمة ليلة قدر القائد. وفجأة، رنّ جرس الهاتف؛ إنّه من المكتب. يقولون إنّ لدينا برنامج زيارة منازل عوائل الشهداء هذه اللّيلة. 

عجيب! اللّيلة! اللّيلة التي ينبغي أن نمضيَها في العبادة! ألا يُمكن أن يؤجّلوا هذا البرنامج إلى ليلة أخرى، ليلة الغد مثلاً. هل حقّاً ينبغي أن نذهب في هذه اللّيلة الثالثة والعشرين التي هي أهمّ ليالي السنة!

بحزنٍ واغتمام من ضياع هذه الفرصة، أجرّ خُطاي بتثاقل إلى المكتب. أتوجّه لجلب مصاحف للعوائل الّتي سنزورها. يقولون لا حاجة لذلك. أتعجّب، في هذه الليلة يضع الجميع القرآن على رؤوسهم، أليس من الواجب أن نحمل معنا المصاحف إلى عوائل الشهداء! يقولون إنّ العوائل الّتي سنزورها الليلة أرمنيّة. عجيب! لم أكن ملتفتاً أبداً إلى أنّ القائد وفي هذه الأيام من شهر كانون الثاني، والتي هي أيام السنة الجديدة الميلاديّة، يزور عادةً منازل الشهداء المسيحيّين.
 
 
 
 
 
114

92

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 تسير سيّارتنا خلف سيّارة السيّد الخامنئي، وتمرّ أمام ناظري مشاهد العزاء في المدينة وأرى الناس يتوجّهون إلى المساجد فيزداد حزني وغمّي. في هذه الليلة، المسلمون في حزن وعزاء على أمير المؤمنين عليه السلام، ونحن علينا أن نذهب إلى بيوتٍ تحتفل بالعيد وتُقيم الأفراح. علينا أن نذهب لنُبارك لهم ونُشاركهم عيدهم. وأنا في خضمّ هذه الأفكار نتوقّف. وحينما أرى القائد وأُسلّم عليه، تتنحّى كلّ هذه الأفكار في ذهني جانباً. لقد هيمنت أجواء حضوره وملأت فراغ قلبي.


بعد كلّ تلك السنوات من مرافقته، منذ أيّام ما قبل الثورة وإلى اليوم، لم تكن رؤية هذا الوجه بالنسبة إليّ عاديّة أو متكرّرة. في كلّ مرّة يرتجف قلبي وأشعر بالخشوع عند رؤيته. 

نسير خلف خطى السيّد القائد وهو يصعد درج أحد المنازل، مبنى مؤلّف من طبقتين، ومنزل عائلة الشهيد في الطبقة الثانيّة. نلتفتُ إلى وجود شهيدَيْن في هذه الأسرة، أبٌ وابن. وكلاهما قد سقط شهيداً في الهجمات المسلّحة للمنافقين في شوارع طهران.

يقف أمامنا شابٌّ في الثالثة والعشرين، لا بدّ أنّه ابن الشهيد وأخو الشهيد. يُجيب بدهشةٍ وذهول على سلام السيّد ويُصافحه بشدّة.

ندخل المنزل لنرى سيّدةً في الستينيّات من عمرها، ترتسم على وجهها ابتسامة عريضة لرؤية القائد. تُرحّب زوجة ووالدة الشهيد بالقائد عدّة مرّات وبارتباك: "أهلاً وسهلاً بكم. يا ألف أهلاً وسهلاً". وتُرشد القائد إلى غرفة الاستقبال. 

لا يزال الشاب مذهولاً ووالدته في حبور. وجه الشاب تعلوه الدهشة وعدم التصديق، ووجه الأم تغمره السعادة والرحمة. تُرافق والدة الشهيد السيّد الخامنئي إلى غرفة الاستقبال، لكنّ الشاب لا يزال واقفاً عند مدخل البيت مأخوذاً بمشاهدة القائد. ينظر إليه وكأنّه لا يراه. كأنّما يتأرجح جيئةً وذهاباً. أُمسك بيده فيعود إلى نفسه، أقول: "هيّا لندخل، فالقائد في الانتظار". 

وكأنّه عاد إلى رشده للتوّ.

- أجل، أجل، هيّا. القائد... القائد جاء إلى منزلنا. نعم! لنذهب!

في غرفة الاستقبال، يجلس القائد على إحدى الكنبات وتجلس والدة الشهيد على كنبةٍ إلى يساره، وابن الشهيد على كنبةٍ إلى يمينه، وقد وُضعت أمام الكنبات طاولةٌ رُتِّبَتْ عليها صورتان للشهيدَيْن موسسيان.
 
 
 
115

93

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 من الواضح أنّ الصبي الشاب مضطّربٌ جدًّا. لعلّ السبب هو عمره، أو لعلّها سنوات اليُتم الّتي عاشها. بمجرّد أن يجلس القائد وتقع عيناه على الصور أمامه يقول:

- حسناً. عرّفونا إلى أصحاب هذه الصور. 

يهمّ بالقيام لالتقاط الصور، فيُبادر ابن الشهيد بسرعة إلى حمل الصور عن الطاولة وتقديمها إليه.

أوّل صورة هي صورة لأب العائلة، يتأمّل القائد الصورة ويقول لوالدة الشهيد:
- هل استشهد هو أولاً أو ابنكم؟

- ابني أولاً.

يضع "السيّد" صورة الوالد هايقان موسسيان جانباً، ويحمل صورة الابن الشهيد إدموند موسسيان. 

في لقاءاته مع عوائل الشهداء، ينظر سماحة القائد إلى صورة الشهيد وكأنّه يعرفه من قبل. هذا العمل البسيط نفسه، أيْ مشاهدة صورة الشهيد، هو بمثابة مواساة لعائلته الّتي تتحسّر لرؤيته، ولا تستطيع النظر إليه إلاّ عبر الصورة.
 
 
 
116

94

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - أين استشهد يا سيّدة؟

لقد استشهد ولدي في الشارع وزوجي في الزقاق الّذي نعيش فيه.

يتكرّر صوت الوالدة المتهدّج في أذني: "ولدي في الشارع وزوجي في الزقاق". 

يضع القائد الصورة على الطاولة ويتناول مجدّداً صورة الأب، وينظر إليها ويقول: "أسأل الله أن يمنّ عليكم بالأجر والصبر. ماذا كان عمله؟"

- كان يعمل في وكالة لتأجير السيّارات. 

كانت زوجة الشهيد قد اتّصلت بزوجها لتُخبره أنّهم قد اكتشفوا وكراً للجواسيس1 في الزقاق، وأنّ الزقاق لا أمن فيه، فإمّا أن لا يرجع إلى المنزل، أو فليأتِ من دون السيّارة. لكنّها قد تأخّرت في الاتصال قليلاً، فعندما رنّ جرس الهاتف، كان زوجها قد غادر الوكالة وتوجّه نحو منزله. لقد خرجت مرّات عديدة من شدّة القلق إلى الخارج، ولكنّ الحراس كانوا يُجبرونها على العودة إلى الداخل. فالقرار بمداهمة وكر الجواسيس كان قد اتُّخذ، وقد أخبروها أنّه من الممكن أن تحصل مواجهة في أيّ لحظة. كانت تنتظر زوجها خلف باب
 

1- اصطلاحًا في الفارسية "خانه تيمي" وهو يطلق على البيوت أو التجمّعات الّتي كانت الحركات المعارضة والمحاربة للثورة كالمنافقين تلتقي فيها كمقرّات آمنة (المترجم).
 
 
 
117

95

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 المنزل حين بدأت المواجهة وعلا صوت الرصاص في المحلّة. بعد عشر أو خمس عشرة دقيقة، وحين سكت صوت الرصاص، خرجت من المنزل، شاهدت سيّارة زوجها وسط الزقاق وزوجها خلف مقود السيّارة غارقًا في دمه.

يُشير القائد برأسه إلى صورة ابنها الشهيد ويسأل:
- هو بالتأكيد كان يُتابع دراسته، أليس كذلك؟

تغلبها الغصّة، فحرارة فقدان الابن بعد مضي سبعة عشر عاماً لا تزال كما كانت عند أوّل فقده. تقول والدة الشهيد المحزونة بصوت مرتجف ينمّ عن الشوق:
- نعم، كان طالباً في السنة الثّانويّة الثّالثة، كان من المقرّر أن ينال شهادة الثّانويّة. 

يُهدّئ القائد بطيبةٍ قلب الوالدة الموجع بهذه الكلمات:
- أسأل الله أن يجعل هذه المصائب الّتي نزلت بكم وسيلة للقرب المعنويّ، ويُهدّئ من روع قلوبكم. إن شاء الله تكون سبباً ليمتلئ قلبكم بالنور الإلهي والرحمة الإلهيّة.

تُجيب والدة الشهيد بصوت يعلوه الأسى: صعبٌ جدًّا. صعب جدًّا.

- حسناً. هذه الحوادث تصنع الإنسان. نعم! هي صعبة جدًّا، خاصّة أنّه لا فاصل كبيرًا بين الحادثتَيْن.

- نعم صحيح. ثلاثة شهور. في فترة أقل من ثلاثة شهور استشهد كلاهما.

- صعبٌ جدًّا. يُمكنني أن أشعر أيّ مشقّات قد تحمّلتِ وعانيتِ، وأيّ صعوبات واجهتِ في تربية أولادك.

يُعلم من النظر إلى وجه والدة الشهيد كم أنّها عانت طوال هذه السنوات وكم هرمت. لقد خسرت هذه الأم في أقلّ من ثلاثة أشهر كلّ سند وملجأ ومعين.

شهداء هذا البيت هم شهداء الإرهاب ولهم مظلوميّة خاصّة. فشهيد الإرهاب قد تمّ قتله بأخسّ صورة خالية من المروءة، وحتى إنّه لم يملك فرصة الدفاع عن نفسه.

وكم هو باعث على السخرية أن نرى مدّعي حقوق الإنسان الكاذبين في منظمة الأمم المتحدة ينادون من جانب بحرّية الأديان وحقوق الأقليّات، ونراهم من جانب آخر يحتضنون الإرهابيّين الذين يرتكبون هذه الجرائم داخل البلد. حقًّا كم إنّ وقاحة هذه المنظّمات لا حدّ لها ولا مقدار. فلا مظلوميّة شهداء الإرهاب لها حدّ، ولا وقاحة مدّعي حقوق الإنسان لها
 
 
 
118

96

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 حدّ. إنّ عدد سبعة عشر ألف شهيد إرهاب يهزّ كل وجدان حيّ ويُثير فيه الحزن والغضب، لكنّ مدّعي حقوق الإنسان قلقون من أجل حرّية قتلة هؤلاء السبعة عشر ألف شهيد.

وحتى يُبدّل أجواء الجلسة، يفتح "السيّد" حديثًا مع ابن الشهيد.
- حسناً. ماذا تعمل أنت؟
الشابّ الذي لا يزال إلى الآن مدهوشاً ومحتاراً وغارقًا في أفكاره، ينتفض من مكانه: نعم؟

يُعيد السيّد طرح سؤاله بنحو ألطف من قبل:
- أنت ماذا تعمل؟

يحلحل الصبي أصابع يديه ويُحرّك كفَّيْه على بعضيهما لعلّه يُخفّف من اضطرابه قليلاً:
- أنهيتُ المرحلة المتوسّطة ونزلت إلى سوق العمل.

ينظر إليه السيّد القائد نظرة أبويّة ويسأله بشفقة: لماذا لم تُكمل دراستك؟
- كانت هناك مشكلات!

- هل كنتم محتاجين إلى العمل؟

- نعم. 

يبدو أنّ اضطراب الشابّ بات أقلّ ممّا كان عليه من قبل. يظهر هذا جليّاً من خلال نظراته
 
 
 
119

97

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 المُحِبّة إلى القائد. فهو الآن يُطيل النظر إليه أكثر من قبل.


والقائد الّذي لم تختفِ البسمة عن وجهه من بداية اللّقاء، يهزّ رأسه ويقول: حسناً. لا إشكال في هذا أيضاً. فالعمل أمر جيّد. الهدف من الدراسة والتعلّم هو أيضاً العمل، ولكن لو كان الإنسان قادراً على الدراسة وتحصيل العلم لكان أفضل بكثير. 

ثمّ يميل القائد برأسه نحو الوالدة ويسأل: ألديك هذا الابن فقط سيّدتي؟

- كان لديّ ثلاثة صبية. أحدهم هذا الذي استشهد ولديّ الآن صبيّان. تزوّج ابني الأكبر وانفصل عنّا في مكان سكنه. بقي يسكن معنا حتّى السنة الماضية، ولكنّ حفيدي قد كبر وبات منزلنا ضيّقاً علينا جميعاً. الآن أنا وولدي نعيش في هذا المنزل.

عندما تتحدّث والدة الشهيد عن صغر حجم المنزل، أنظر بشكل تلقائي إلى الأرجاء. البيت صغير ولكنّه شرِحٌ. وحين يصل الكلام إلى ضيق المكان وهذه الأمور يُسارع القائد بالسؤال:
- ألا تتواصل مؤسّسة الشهيد معكم؟

- أجل يفعلون. أنا أتلقّى حقوقي من مؤسّسة الشهيد.

- هل تعملين أيّتها السيّدة؟

- لا. فقط ربّة منزل. أنا مريضة أعصاب ومريضة قلب ولا أستطيع العمل.

- هل تتلقّين العلاج؟

- أجل لديّ طبيب. طبيب أعصاب وطبيب قلب. أتناول هذه الأدوية حتى أتمكّن من إدارة شؤوني. 

- شفاكِ الله وعافاكِ.

أجواء المنزل هي أجواء عيد الميلاد. في زاوية غرفة الاستقبال طاولة قد وُضِعَتْ عليها أطباق من المكسّرات والحلوى والشوكولا والفواكه المجفّفة. وخلف الكنبة الّتي جلس عليها السيّد هناك رفٌّ صغير قد زُيّن بمختلف وسائل التزيين، ووضع عليه عدّة صور وبطاقات صغيرة خاصّة بعيد الميلاد. وقد زيّنوا شجيرة سرو صغيرة بالمصابيح.

- أسأل الله أن يكون عيد ميلاد حضرة السيّد المسيح مباركاً عليكم. وكأنّكم تحتفلون بعيد الميلاد في هذه الأيّام من السنة. أنا أعلم أنّ عيد الميلاد عند الأرمن يأتي بعد شهر كانون الثاني بخلاف الكثير من الكاثوليك والمذاهب الأخرى الّذين يحتفلون بعيد الميلاد قبل بدء
 
 
 
120

98

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 شهر كانون الثاني. في تلك السنوات التي أصدرتُ فيها بياناً - لم يكن بيانًا سنويًا بل في بعض السنوات- كنتُ أوقّت إصداره بحيث يكون البيان مناسباً لعيد هؤلاء وعيد أولئك. أريد أن أُراعي مناسبة إخوتنا المواطنين الأرمن في هذه المسألة.


تتعجّب الوالدة من اطّلاع القائد في هذا المجال، وتهزّ رأسها مؤيّدة كلامه. أُدقّق النظر في وجه ابن الشهيد، لقد زال اضطرابه واستُبدل بالهدوء والمحبّة. ينظر القائد إلى أمّ الشهيد ويشير إلى الابن الشابّ ويسأل: كم كان عمره عند استشهاد والده؟

- كان ابن ثلاث سنوات. الآن عمره ثلاث وعشرون سنة.

مزار الشهداء هايقان وادموند موسسيان 
في المكان المخصّص للشهداء في مدافن الأرمن

ينظر القائد إلى الشاب ويسأل: هل تذكر؟

يرفع الشاب كتفه عالياً ليشير إلى أنّه لا يذكر من الأمر شيئاً.

- بكم سنة يكبرك أخوك؟

- عمره تسع وثلاثون سنة.
 
 
 
121

99

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - هل تقوم أنت بأعمال فنّية ومن هذا القبيل؟


- أعمل في الميكانيك.

ينظر القائد إلى يديّ الشاب الخشنتَيْن والقاسيتَيْن. يدان تدلّان على أنّ صاحبهما لا بدّ وأن يكون عاملاً مجدّاً.

- أجل. فالأرمن روّاد الأعمال الميكانيكيّة والأمر واضح من يديك أيضاً؛ يديّ عاملٍ فعّال ونشيط!

ترتسم على وجه الشاب ابتسامة الراضي، ويقع كلام القائد موقعه في قلب الوالدة.

- هل أنت ماهر في عملك؟

- نعم.

- هل أنت معلّم في ورشتك أم أنّك متدرّب؟

- أنا عامل متدرّب.

- هل راتبك جيّد؟

- ثمانية آلاف تومان أسبوعياً.

- ثمانية آلاف تومان. قليل! ثمانية آلاف أسبوعيًا يعني: اثنان وثلاثون ألف تومان في الشهر!

يهزّ السيّد رأسه وكأنّه يزن أمراً في ذهنه، ثمّ يسأل: وهل أجرة أمثالك حالياً هي نفس أجرتك أنت؟

- أنا متمرّن منذ أربع سنوات.

- بالتأكيد لم يكن بهذا القدر في البداية، لا بدّ أنّ أجرتك ازدادت؟

- نعم، صحيح. كانت ألفَيْن وخمسمائة تومان أسبوعياً.

- وهل تُحسب الأجرة أسبوعياً؟

يهزّ الشاب رأسه إيجاباً، تأكيداً منه على كلام القائد.

ينظر القائد إلينا ويسألنا باستغراب: لم تكن العادة هكذا. لماذا بشكل أسبوعيّ؟! عادة تُحسب الأجرة بشكل شهري، أو كلّ أسبوعَيْن. ربّ عملكم أرمني أيضاً؟

- نعم.
 
 
 
122

100

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - حسناً. جيّد جدًّا. أسأل الله أن تتمكّن من أن تتطوّر وتُتقن حرفتك وتتحسّن أوضاعك نحو الأفضل.


حين تشعر الأم أنّ كلمات القائد تصل إلى ختامها تقول: "هل أصبّ لكم الشاي؟"

يقبل السيّد عرض الضيافة: لا مشكلة. اجلبوا الشاي.

ثمّ يُكمل مجدّداً حديثه مع ابن الشهيد: وكأنّك لم تتزوّج إلى الآن.

- ما زال الوقت باكراً.

- باكراً أو أنّك غير قادر؟

- غير قادر وأيضاً باكراً.

- في أيّ عمر يتقدّم الأرمن عادة للزواج؟

يُجيب الشاب بداية: "ثلاثة وعشرين، أربعة وعشرين"، ثمّ يكمل كلامه ممازحاً: "إذا استطاعوا".

يُحدّق القائد في وجه الشاب ويبتسم.
 
 
 
 
123

101

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 في العادة، القائد حسّاس بشأن كيفية تمضية أبناء الشهداء لمرحلة الشباب ومتابعتهم للدراسة. ويجد لزاماً عليه أن يوصي هذا الشاب بروح أبويّة بضرورة استثمار أهم رأسمال بين يدَيْه وهو نعمة شبابه:

- لم يتأخّر الوقت بعد على دراستك. فبمجرّد أن تسنح الفرصة تابع. ينبغي أن تعرفوا أهميّة عمر الشباب. البعض يُضيّعون سنوات شبابهم في اللّذائذ الآنيّة وهي ليست شيئاً حتّى يُصرف لأجلها عمر الشباب الثمين. ينبغي أن يصرف الإنسان سنوات شبابه فيما له قيمة ويبقى. 

أثناء حديث السيّد مع الشابّ، تُحضّر الأمّ الشاي والحلوى بطعم الزعفران. يتناول منها السيّد ويشكرها. 

- هل تذهب إلى الكنيسة؟

- أيّام الأحد.

- هل تذهب باستمرار؟

- كلا.

فيتوجّه القائد بالسؤال إلى أم الشهيد: "وأنتم؟"

- بلى.

- إلى أيّ كنيسة تذهبين؟

- الكنيسة نفسها الموجودة في شارع فيلا.

يهزّ القائد رأسه ويسأل الشاب عن أحوال السيّد مانوكيان الأسقف الأكبر للأرمن. فالكنيسة الّتي ذكرتها الوالدة هي الكنيسة المركزية، ولا بدّ أنّ جناب الأسقف موجود في هذه الكنيسة.

إنّها ليلة سعيدة بالنسبة إلى هذه العائلة، فالقائد مسرور والوالدة والابن يبتسمان له بحياء ومحبّة. أنظر إلى الساعة، لقد طالت مدّة هذا اللّقاء قليلاً عمّا هي العادة في لقاءات مماثلة.
 
 
 
 
124

102

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 تُحضر والدة الشهيد لقائد الثورة الشاي والحلوى، وتُخبره قليلاً عن مشاكلها، عن قلّة الحقوق الشهريّة التي تصلها من مؤسّسة الشهيد، عن قِدم المنزل وصغر حجمه. عندما تتحدّث عن المنزل، يجول القائد بنظره في أرجاء البيت، ويتفحّص بدقّةٍ كلّ زاوية فيه، ثمّ بابتسامة وشيء من الممازحة يقول: ليس سيّئاً. موقعه أيضاً جيّد. مناسب أيضاً لشخصَيْن، وهو بيت قديم غير سيّئ بالنسبة إليكما. 


وبلا فاصلة، ينظر إلينا ويقول: أنتم تابعوا المسألة وابحثوا. كلّ ما يُمكن تقديمه من مساعدة قدّموه. 

أُسجّل توصية القائد كي لا أنساها.

يتوقّف الكلام، وينشغل القائد بشرب الشاي والسؤال عن الحلوى الموضوعة على الطاولة:

- هذه الحلوى من صنع يدَيْك أم أنّكِ اشتريتها.

تُطأطئ الوالدة رأسها وبابتسامة خجولة تقول: اشتريتها من الخارج. طعمها لذيذ.

يتناول السيّد قطعة ويأكلها مع الشاي.

في ختام الزيارة يرجع القائد إلى ابن الشهيد حتّى يلتصق به تقريبًا ويسأله عن اسمه الأول. وبعد أن يسمع الجواب، يهزّ برأسه ويُكرّر اسم الشاب مرّات عدّة وكأنّه يقول ما أجمل
 
 
 
125

103

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 هذا الاسم: السيّد آرمن موسسيان. 


ثمّ وبوقفة منحنية، وبكلتا يديه يُقدّم لابن وأخي الشهيد، ولأمّه هدية ويقول:
- تفضّلا، هذه بعنوان عيديّة.

تشكر الأم والابن السيّد القائد على الهديّة، وعلى تشريفه منزلهما وإدخال السرور إلى قلبَيْهما.

* * *

من شارع الشهيد نجاة الله، نتوجّه إلى شارع خرّمشهر. في المنزل الثاني تأتي لاستقبال السيّد القائد والترحيب به سيّدتان، تقريباً في الستين وفي الأربعين من العمر؛ أمّ الشهيد وأخته. وكما اللقاء السابق، يوجد في هذا المنزل كذلك غرفة استقبال وطقم من الكنبات. يدخل السيّد القائد غرفة الاستقبال، وتتبعه والدة الشهيد وأخته. لا يجلس السيّد حتّى يعلم أولاً أين ستجلس والدة الشهيد: "أنت أين ستجلسين؟"

تقول والدة الشهيد الّتي تكبر القائد بسنوات عدّة: "أريد أن أجلس إلى جانبك".

يبتسم القائد ويُرحّب بكلام الأم: "نعم. اجلسي. اجلسي ها هنا".

لعلّ جلوس القائد بجانب والدة الشهيد المسيحيّ من أجمل لحظات هذه الأم المحزونة. 

يجلس الثلاثة على كنبة هلاليّة الشكل، تسع لخمسة أو ستّة أشخاص. يجلس القائد على زاوية منها، وتجلس الأم وأخت الشهيد على الزاوية الأخرى. 

مباشرةً بعد الجلوس، تقوم أخت الشهيد وتُحضر صورة أخيها الشهيد وتُقدّمها للقائد قائلة: "هذا أخي".

يسند القائد عصاه على الكنبة ويحمل الصورة، ثمّ يشير إلى الوالدة ويقول للسيّدة الأخرى:
- أنت ابنة السيّدة؟

- نعم.
 
 
 
 
126

104

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 يتأمّل القائد في الصورة بدقّة وتوضّح أخت الشهيد: استشهد في الخامس عشر من شهر آب سنة سبع وثمانين في مريوان1.


- مريوان؟ كان جنديّاً؟

- نعم.

- أسأل الله أن يوفّيكَم أجوركم ويُسعد قلوبكم. وإن شاء الله يمنّ عليكم بدل المشقّات التي تحمّلتموها في هذه الحادثة بأفضل أجر.

على طاولة صغيرة مقابل القائد توجد صورة أخرى. تقوم أخت الشهيد وتُشير إليها، ثمّ تخنقها العبرة وهي تُعرّف صاحبها:
- هذا أيضاً أخي الآخر الّذي توفّي بالضبط بعد سنة من شهادة أخي الأول. كان قد ذهب في مَهمّة إلى مشهد من قِبَل الشركة الّتي يعمل فيها، وفي طريق عودته كان مسرعاً للمشاركة في
 

1- مدينة يقطنها الأكراد في محافظة كردستان في غرب البلاد، تقع في شمالها وغربها على الحدود مع العراق. قبل أن تبدأ الحرب هاجم أعداء الثورة هذه المدينة ولم يُفَكّ الحصار عن معسکر مريوان إلا بحضور الشهيد شمران والشهيد فلاحي. ومع بداية الحرب واتحاد القوى البعثية مع أعداء الثورة، كانت مريوان مسرحاً لمواجهات القوى الإيرانيّة مع العدوّ. كان رئيس الأركان الخالد الحاج أحمد متوسّليان أول قائد للحرس في مريوان يستطيع بمساعدة القوى الثورية الكردية أن يرفع خطر أعداء الثورة.
 
 
 
 
127

105

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 مراسم عزاء الذكرى السنوية الأولى لأخيه الشهيد، فتوفّي في حادث تصادم سيارته.


يُعطي القائد صورة الشهيد إلى أخته ويتناول صورة أخيه:
- يا لها من حادثة مؤلمة! هل كان أكبر سنّاً من الشهيد؟

بهذا السؤال تغلبها العبرة، وتنهمر دموعها بصمت على وجهها المتعب وتجلس: "نعم، كان أكبر سنّاً".

والدة الشهيد جالسة كمن يحمل على كاهله آلاف جبال الغمّ والهمّ، تستمع إلى كلام ابنتها بهدوء وانكسار وحزن، وتهزّ رأسها مؤيّدةً. ومع كلّ ذلك كانت باسمة الثغر، فمن الواضح أنّ هذا اللقاء قد أدخل السرور على قلبها.

- نعم، فعلاً حادثة مؤلمة جدًّا. والوالد؟

تُجيب الابنة بصوت مرتجف: والدي قد توفّي أيضاً.

فيسأل القائد بتأسّف: "متى؟"

- قبل خمس سنين.

- هل كان الوالد حيّاً عندما توفّي أخوك بحادث السيّارة؟

- نعم نعم، كان حيّاً. بعد موت ابنه الثاني ساءت حالته وأصابه المرض في قلبه، ورقد في المستشفى مرّات عدّة ومن بعدها توفّي.

- أسأل الله أن يُعطيَكما ويُعطي المرحوم وهذا الشهيد أعظم الأجور بأفضل وجه. هذه الحوادث الحياتيّة المؤلمة لها آثار معنوية، وهي تستنزل الرحمة الإلهيّة. ليس هناك مرارة في الحياة الدنيا إلا ويُعطي الله مقابلها حلاوةً وسرورًا. هذا مقتضى العدل الإلهي، أن يكون مقابل كلّ مشقّة يُعانيها الإنسان في الدنيا أجر وعوض. إن لم يكن الإنسان قد أوجدها بنفسه على نفسه، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيُعطيه عليها الأجر. وفي بعض الموارد، حتى تلك الصعوبات التي يكون الإنسان قد جلبها على نفسه، فإنّ الله سبحانه وتعالى وبمقتضى كرمه ورحمته يُعطي الأجر عليها أيضاً. هذه سُنّة إلهية. آمل أن تكونا أنتما مشمولتَيْن بهذا اللّطف الإلهي إن شاء الله.

ينظر القائد إلى أمّ الشهيد ويقول: "حسناً، أولادك الآخرون؟"

- ليس لديّ ولد آخر. ما عدا هذه البنت.
 
 
 
128

106

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - إذاً، كانا فقط هذَيْن الابنَيْن اللّذَيْن قد رحلا؟


- نعم.
ترتسم معالم الحزن في عينيّ السيّد النافذتَيْن. يرمي بنظره إلى الصورتَيْن أمامه ويأخذ نفساً عميقاً، ثمّ يرفع رأسه ويتطلّع إلى الجدار. يسود الصمت للحظة وأنا أُفكّر في كلام القائد: "الله سبحانه وتعالى سيوفّيكم أجركم بكرمه".
 
في هذا اللّقاء، كان ممثّل الأرمن في مجلس الشورى الإسلاميّ حاضراً أيضًا، السيّد وارطان وارطانيان. لا أدري إن كان قد صادف حضوره اللّيلة هنا أم أنّ أحداً أطلعه قبل موعد الزيارة عليها. والظاهر أنّه منذ أن سمع بزيارات قائد الثورة لعوائل الشهداء الأرمن بات يسعى إلى عدم تفويت هذا الأمر المُهمّ. كنتُ قد سمعتُ أنّ السيّد وارطانيان، من تلك النخبة المحبوبة والمعروفة بين مسيحيّي إيران. 

يبدأ وارطانيان الّذي كان يجلس إلى يسار القائد بالحديث عن الأنشطة الثقافيّة لأخت الشهيد في نادي آرارات.

إنّها فعّالة ونشيطة جدًّا في الخدمات العامّة وفي نادي آرارات، وهي تمضي وقتاً هناك.

يهزّ القائد رأسه تأييداً ويقول: "إذاً أنتم ناشطون في آرارات أيضاً".

ثم ينظر إلى أخت الشهيد ويسأل: أنتم ما هي وظيفتكم؟ ماذا تعملون؟
 
 
 
129

107

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - أعمل في شركة، أنا مسؤولة قسم الكمبيوتر. لكنّ شركتنا الآن قد سرّحت عددًا من الأيدي العاملة ولقد أبقوني بالطبع.


- لماذا؟

- إنّهم لا يعملون في الواقع.

- لماذا تُقلّل شركتك من عدد العاملين فيها؟ بسبب الوضع الاقتصادي؟

- نعم. لمدّة خمس أو ست سنوات كانت تصنع شركتنا الثلج. ثمّ ظهرت صعوبات ومشاكل في تأمين المواد الأوّلية فأُغلق هذا القسم. الآن، قلّلوا من عدد العاملين حتى يتمكّنوا إن شاء الله من أن ينطلقوا انطلاقة فعّالة مجدّداً. 

يرفع السيّد رأسه إلى سقف الغرفة، ويتأمّل قليلاً. تستغلّ أخت الشهيد هذا الصمت، وتُقدّم توضيحات حول المنزل:
- هذا المنزل الّذي نسكن نحن فيه، قدّمه لنا مجلس الكنيسة الأرمني، وهم يأخذون منّا إيجاراً جزئياً. حالياً نحن موجودون، ولدينا عمل، وهذا المنزل موجود إلى أن يشاء الله ونرى ماذا يحصل.

يدعو السيّد القائد لأجل أسرة الشهيد هذه الّتي تتميّز بهذا القدر من عزّة النفس: "إن شاء الله تؤول أموركم إلى أحسن وجه وأيسر سبيل وتزول كلّ هواجسكم ومشكلاتكم".

ومع تأمّلٍ يقول لنا، نحن الفريق المرافق له: "حسنٌ جداً، حسنٌ جداً. كم هو جميل أنّنا أتَيْنا الليلة إلى هذه السيّدة وسألناها عن أحوالها وأحوال هذه العائلة". 

للحظةٍ أعود بفكري إلى ما كنتُ عليه قبل ساعتَيْن وإلى خصوصيّة هذه اللّيلة؛ ليلة القدر، أفضل ليالي السنة، والّتي ينبغي أن تُحيا بأفضل الأعمال. والقائد يقول كم هو جميل أنّنا أتيَنْا في هذه اللّيلة نسأل عن أحوال هذه الأسرة.

تنبري والدة الشهيد وأخته بمنتهى العاطفة والوجد والشغف لتشكرا ضيفهما:
- يا حاج آقا، لقد أدخلتم السرور على قلوبنا كثيراً، وأتعبتم أنفسكم كثيرًا.

- لا. هذا واجبي. في النهاية، فأيّام عيد الميلاد هذه هي فرصة مناسبة ليلتقي المرء بإخوته المسيحيّين في المدينة وفي الوطن في أجواء حلوة.

عندما يصل الكلام إلى ذكر عيد الميلاد، تقول والدة الشهيد كلاماً يحرق قلبي:
 
 
 
130

108

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - من شعائر عيد الميلاد عندنا شراء شجرة سروٍ وتزيينها في المنزل، ولكن بعد وفاة ولديّ لم أضع شجرة الميلاد منذ عشرة أو أحد عشر عاماً.

أتطلّعُ حولي في الغرفة. صحيح، لا يوجد شجرة ميلاد. أُفكّر في نفسي، لقد قامت هذه الوالدة بما قامت به والدة الشهيد الّتي ما عادت تمدّ بعد شهادة ابنها سفرة الـ "هفت سين" في عيد النيروز، ولا تشتري السمك الأحمر1.

يتوقّف السيّد عن الكلام قليلاً ثمّ يقول مع ابتسامة ملؤها الرّحمة: دعي الأمور تمضي. وأريحي نفسك فهم الآن مشمولون بالرحمة الإلهيّة، خاصّة الابن الذي توفّي في الجبهة لأجل الدفاع عن وطنه وعن مقدّساته. ليس أمراً عاديّاً، نحن نُعبّر عن ذلك بالشهادة، وبالطبع فهذا التعبير موجود أيضاً في الأديان الأخرى.

بعد هذه الكلمات، يُسلّي القائد القلب الموجع لهذه الأم والأخت بهذا الكلام الدافئ:
 

1- من مراسم الاحتفال في عيد النوروز، عيد رأس السنة الهجريّة الشمسيّة (والذي يصادف يوم 21 آذار من كل عام)، أن تمدّ كلّ أسرة "سفره هفت سين" أي مائدة السينات السبع، وهي عبارة عن سبعة أصناف من الطعام تبدأ جميعها بحرف السين، ويكون إلى جانبها سمكة حمراء اللون في حوض ماء صغير للبركة. (المترجم). 
 
 
 
131

109

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 "إنّني أُعبّر عن شعوري بالارتباط والعلاقة العاطفيّة والقلبية معكم". فيُداخلهما السرور بصورة فائقة.


ثمّ يبدأ بالسؤال عن أحوال السيّد ورطانيان.

- حسناً. أنتم الآن في المجلس. صحيح؟

- في خدمتكم. جنابكم قد قُلتم إنّكم تتعرّفون عن قرب إلى عوائل الشهداء الأرمن.

- نعم. منذ سنوات. لعلّه منذ خمس عشرة أو ستّ عشرة سنة. وفي أغلب السنوات في أيّام عيد الميلاد هذه. أحياناً أذهب إلى بيت أرمني وأحياناً إلى بيت آشوري، هذه العلاقات صارت جزءًا من برنامج مكتبنا. نزور في بعض السنوات المسيحيّين الأرمن ونزور في بعض السنوات المسيحيّين الآشوريّين. هؤلاء الأصدقاء المسيحيّون الّذين التقيتُ بهم عن قرب ودخلت منازلهم، لم يتعدّوا هاتين الطائفتَيْن. 

بعد هذا الكلام، يسأل عن أحوال أسقف الأرمن في إيران: كيف حال السيّد آرداك مانوكيان؟

تكرار اسم أسقف الأرمن في كلا اللقاءَيْن، علامة على الاحترام الذي يقرّه الإسلام لكبار شخصيات الأديان الأخرى، ونماذجه كثيرةٌ عبر التاريخ. 

يُخبر وارطانيان القائد عن إخلاص وتفاني مانوكيان، وأنّه في المراسم المختلفة التي يُقيمونها يدعو للقائد دومًا. ثم يستجيز وارطانيان القائد أن ينشر خبر تشريفه لهذا البيت الأرمني في الجريدة الّتي ينشرونها باللّغة الأرمنيّة:
إذا أحببتم ذلك، فنحن هنا ضيوفكم ومجلسنا هو مجلسكم.

تقول أخت الشهيد بشكل متردّد، بعد ذكر موضوع الضيافة: "إلى الآن لم نُضيّفكم، هل تشربون الشاي؟"

يوافق السيّد، فتنسحب هي وتدخل إلى المطبخ. 

وبذهاب أخت الشهيد، ينظر القائد بدقّة لثوانٍ عدّة، إلى الجدار المقابل. فعلى الجدار صورة كبيرة معلّقة في آخر غرفة الاستقبال. تجذب انتباهه فيسأل: صورة من هذه؟

- صورة الشهيد.

- عجيب! ما أجمل هذه الصورة. صورة أم رسمة؟

- رسمة.
 
 
 
132

110

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - ما أجمل هذا الرسم.


ينظر جيّداً إلى اللّوحة. وهي فعلاً رسم جميل جدًّا. لقد رسموا الشهيد وكأنّه يُحدّق في المكان الذي يجلس فيه القائد تمامًا. ويتأمّل الجميع رسمة الشهيد، حتّى والدته. 

يقول وارطانيان إنّ رسّام هذه اللوحة هو من فنّاني نادي آرارات، ثم يوضّح أمورًا عدّة حول النادي. وأثناء الحديث، تُحضر أخت الشهيد الشاي في فناجين جميلة. وتقوم أمّ الشهيد لتضع الشاي على الطاولة أمام القائد بنفسها. يشكرها وينظر إلى فنجان الشاي:
- فناجينكم جميلة، لافتة للنظر. يُحبّ المرء أن يشرب الشاي فيها.
 
 
 
133

111

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 أنظر إلى أخت الشهيد، لقد أزهرت وجنتاها وغمرتها فرحة عارمة من كلام القائد. لا بدّ أنّها هي الّتي اشترت تلك الفناجين حتّى فرحت إلى هذه الدرجة. وتقول أمّ الشهيد: سأُحضرُ الحلوى.

يقول لها القائد: لا تُتعبي نفسك. أشرب الشاي مع السكر.

لكنّ أمّ الشهيد تذهب وتُحضر الحلوى، فيشرب القائد الشاي مع الحلوى.

كان القائد يشرب الشاي عندما تجدّد شعور السعادة العارمة في قلب أمّ الشهيد فقالت مرّة ثانية: أنا سعيدة جدًّا بتشريفكم. أشعر بسعادة لا توصف. 

- إن شاء الله تكونين دوماً في سعادة.

يبدأ السيّد وارطانيان بالحديث عن جريدة آليك، ويُقدّم للقائد آخر عدد صادر منها.

ثمّ يوضح له أنّ آليك هي الجريدة الوحيدة الّتي تصدر باللّغة الأرمنيّة في إيران وهي ثاني أقدم جريدة في إيران بعد جريدة اطّلاعات. يقول وارطانيان إنّ عمر الجريدة قد ناهز السبعين عاماً، وهي تُصدَّر من إيران إلى أربعين دولة في العالم. آليك تعني "الموج"
 
 
 
 
134

112

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 في اللّغة الفارسيّة. ثمّ يُعطي نسخة من الجريدة للسيّد. يحملها السيّد ويتصفّحها بشكل تفصيلي ودقيق، ثمّ يسأل: ألا يوجد فيها قسم فارسي؟


- نحن نفتخر أنّ كثيرًا من كتبنا باللغة الفارسية. حتى معظم أخبار الجريدة هي من مصادر فارسية. لكن لأنّ معظم مطالبها لا تتعلّق بغير الأرمن لا يوجد قسم فارسي فيها1

يضحك القائد ويقول ممازحاً: قلتُ هذا كي لا ينسى الأرمن اللّغة الفارسيّة!

يضحك الجميع، ويغمر النشاط والبهجة فضاء المنزل. 

ويبدأ السيّد وارطانيان بشرح عن اللّغة الأرمنيّة، فيردف السيّد القائد قائلاً:
- الحروف الأرمنيّة في الأصل هي حروف آرامية، وهي تتشابه كثيراً مع الحروف الآراميّة والسريانيّة. اللغة الآرامية هي نفسها اللّغة التي كانت رائجة بمنطقة آشور وكلده، أي في الجنوب والشمال.

وتظهر علامات التعجّب على وارطانيان من سعة اطلاع القائد. فأن يكون لديه معلومات عن الحروف الآراميّة والسريانية ليس أمراً عادياً، ولا شكّ أنّ قسماً من خبراء الأدب وأساتذة الشعر ليس لديهم هذا الكم من المعلومات حول اللّغة، فكيف بغيرهم. 

يقول وارطانيان: من المعلوم أنّ السيّد المسيح كان يتحدّث باللّغة الآراميّة.

ولدى سماع القائد لهذه الجملة، يمسح على محاسنه ويُفكّر.

- صحيح، بلى. لو فرضنا أنّه لم يكن يتحدّث اللّغة الآراميّة، فأيّ لغة كان سيتكلّم. اللّغة في ذلك الوقت كانت آرامية، فلا بدّ أن يكون الأمر كذلك. في تلك المنطقة، منطقة بيت المقدس وأورشليم، من الطبيعي أن يتحدّثوا بتلك اللّغة.

ما إن يصل الكلام إلى هذه النقطة يُشير السيّد وارطانيان إلى صورة معلّقة على الحائط على يسار القائد. والصورة هي عبارة عن رسم لكنيسة كبيرة.

- اثنان من الحواريّين أتوا إلى إيران، ومزار أحدهم في كنيسة "دير تداوس" هذه.
 
 

1- في الوقت الحالي تحوي جريدة آليك أربع صفحات باللّغة الفارسيّة. 
 
 
 
135

113

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - حقّاً! كنيسة "قره كليسا"1 المعروفة؟!

يقف وارطانيان وابتسامته تحكي عن غاية سروره، ينتزع الصورة عن الحائط ويضعها بين يدي القائد:
- هذه الكنيسة هي بمنزلة الفاتيكان بالنسبة للأرمن في كلّ أنحاء العالم. في الحقيقة، فإن الفاتيكان أيضاً هو مزار لحواريّ آخر من الحواريّين.

يسأل القائد عن اسم الحواريّ المدفون في كنيسة "قره كنيسه".
 

1- "قره کليسا" كما هي معروفة باللغة الفارسيّة، اسم قرية في منطقة تشالدران الريفيّة بالقرب من مدينة ماكو في محافظة آذربيجان الغربية في إيران. ويبدو أنّ اسم القرية ناشئ من قربها من كنيسة "قره كليسا" أو دير القدّيس تداوس، وهو دير أرمني قديم يقع في المنطقة هناك. والقدّيس تداوس هو أحد حواريي السيّد المسيح. قام بالتبشير في أرمينيا ولوحق حتى استشهد في إيران عام 65 ميلاديًّا بحسب بعض المؤرّخين. ويُقال إنّ الدير المكرّس له بُني عام 68 ميلاديًّا. ولم يبق من البناء الأصلي للدير إلا القليل اليوم، فقد تعرّض عبر الأزمنة لعمليات تخريب وتدمير من قِبَل الأعداء السياسيّين تارة وجرّاء العوامل الطبيعية تارة أخرى. تمّ تجديد الدير وترميمه أول مرّة في زمن حكومة هولاكو بهمّة الخواجة نصير الدين الطوسي، ثم خضع لعملية ترميم شاملة وإضافات جديدة عام 1319 ميلاديًا، ساهم فيها الأمير القاجاري عباس ميرزا. و"كليسا"بالفارسية تعني الكنيسة، و"قره" أو "كارا" -كما هي معروفة عند البعض "كارا كليسا"- فارسية أصلها آذري وتعني بأحد معانيها الكبير أو النفيس وكذلك تعني السواد. ويُقال إنّ الكنيسة باتت معروفة بهذا الاسم، إمّا لأنّها كبيرة جدًّا بحيث يُمكن رؤيتها من مسافة بعيدة، لضخامة المبنى الذي يتميّز بقبّتين مضلّعتين تتوّجان بسقف مخروطي الشكل، وإمّا لأنّها عند الترميم أُعيد بناؤها بالحجارة البركانية السوداء. وهي مهجورة من الرهبان اليوم، وإن كانت تُعتبر مزاراً دينياً وسياحياً مهمّاً يزوره الآلاف سنوياً وخصوصاً الأرمن الإيرانيّين. (المترجم).
 
 
 
136

114

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - تداوس. من الحواريّين الأحد عشر للسيّد المسيح، اثنان منهم استشهدا في إيران. نراهما أيضاً في الرسم المعروف بالعشاء الأخير لدافنشي.


- هل يوجد ذكر في الإنجيل عن هذَيْن الحواريَّيْن؟

- بلى، بلى، لدينا ذكر لهما في الإنجيل.

- ما الاسم الأرمني لهذه الكنيسة؟

- القدّيس تداوس.

يُكرّر القائد الاسم الأرمني مرّات عدّة:
- تداوس، القدّيس تداوس؛ سمعتُ أنه يُزار كلّ عام.

- صحيح. وإن شاء الله إذا افتتح مطار مدينة مرند، يزداد عدد الزوّار.

يحمل القائد الجريدة مرّة ثانية:
- هذه جريدة مميّزة وإن كُنّا لا نفهم لغتها.

يطوي القائد الصحيفة، فتأخذها والدة الشهيد منه. يسأل القائد وارطانيان إذا كان للأرمن شاعرٌ معروف أم لا، فيتحدّث عن شاعر اسمه "رافي" مولود في سلماس يُعدّ أفضل كاتب أرمني خلال المئة عام الأخيرة. وأثناء الجواب عن هذا السؤال يعود الكلام إلى الكنيسة، فيحكي وارطانيان عن احترام الشيعة للمسيحيّين ويقول:
 
 
 
137

115

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 - هذه الكنيسة أكبر شاهد على احترام الشيعة للمسيحيّين. فالّذي حرس دير تداوس وحافظ عليه هو مسلمو إيران. نحن نذهب إلى هناك مرّة واحدة في السنة لا أكثر من أجل الزيارة. ولكنّ الإيرانيّين على طوال القرون المتمادية قد حفظوا هذه الكنيسة، ومن المُهمّ واللّافت أن تعرفوا أنّه بامتداد شعاع عدّة مئات من الكيلومترات حول هذه الكنيسة، لا يعيش حتى أرمني واحد.


أنظرُ مرّة أخرى بسعادة إلى رسم الدير، ويُعجبني مدى معرفة وارطانيان بنحو تعامل المسلمين مع الكنيسة، كنيستهم الأرمنيّة.

يوجد في إيران بإزاء كلّ خمسمائة أرمني كنيسة واحدة، وفي هذه النسبة دلالة على احترامنا لهم. والسيّد القائد يُبيّن منشأ احترام المسلمين للمسيحيّين ببيان جميل، يقول بكلام هو في عين اختصاره مفعم بالمعاني والعمق حول علاقة الإسلام بالمسيحيّة:
- وفق عقيدة المسلمين، فالسيّد المسيح والسيّدة مريم والحواريّون والمؤمنون الّذين قد جاهدوا في ذلك الزمان، هم في مقام عالٍ جدًّا جدًّا. انظروا بأيّ كلام يتحدّث القرآن الكريم عن السيّد المسيح والسيّدة مريم1. وأولئك الّذين آمنوا بدين الحقّ الوحيد في ذلك الزمان، وضحّوا في سبيله واستشهدوا، هم جميعاً جزء من الشهداء العظام الّذين هم وفق عقيدة المسلمين في أعلى عليّين من درجات الجنّة. أي إنّ الأشخاص من قبيل شهيد هذه العائلة والشهداء العظام المسيحيّين المعروفين، هؤلاء هم قدّيسونا نحن أيضاً، وفق العقيدة الإسلاميّة هم واقعاً قدّيسون. أحياناً يكون هناك دينان يريدان أن يتعايشا ويبنيا علاقة مع بعضهما، فيُقال أن احترموا معتقداتنا فنحترم معتقداتكم. مرّة يكون الأمر هكذا، ومرّة أخرى لا. أحد هذَيْن الدينَيْن يكون جزءًا من الدين الآخر. وفيما يتعلّق بالمسيحيّة هكذا هي المسألة، فالاعتقاد بالسيّد المسيح والاعتقاد بالسيّدة مريم عليهما السلام، والاعتقاد بالمؤمنين بهما، وعلى رأسهم الحواريّون، الّذين ورد ذكرهم في القرآن مرّات عديدة، طبعاً لم يرد ذكرهم بالأسماء، لكن بعنوان الحواريّين أكثر من مرّة. هذه المعتقدات هي جزء من ديننا. ليست إضافة على ديننا، هي جزء من هذا الدين. ولذلك هم مورد تكريم وتجليل
 

1- جاءت تتمة هذه الإشارة وبالاستفادة من خطابات الإمام القائد في الملحق الثالث للكتاب تحت عنوان "السيّدة مريم المقدّسة في القرآن".
 
 
 
138

116

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 واحترام المسلمين جميعاً1.


ثمّ يذكر القائد ملاحظة تاريخية حول سبب اختلاف الأناجيل الأربعة وهي معلومة تبدو أنّها جديدة حتى على وارطانيان:
- الآن يعرضون في التلفاز مسلسلاً اسمه أصحاب الكهف، يحكي هذا المسلسل عن عذابات وآلام وشهادات المسيحيّين الّتي مرّت بها المسيحيّة في القرنَيْن الثاني والثالث. وهذه الحادثة "حادثة أصحاب الكهف"، هي الّتي جعلت امبراطور الروم يختار المسيحيّة دينًا بعد أن كان اليهود، ولسنوات متمادية، قد مارسوا أقصى المواجهات والمجابهات مع المسيحيّة. كانت المسيحيّة ديناً مغموراً، ديناً سريّاً لعشرات السنين، ولعلّه يقرب من مئة عام ونيّف، ظلّت المسيحية ديناً مخفيّاً، لم يكن أحد يمتلك الجرأة أن يقيم محفلاً علنيّاً أو أن يظهر المراسم المسيحيّة، أو أن يُمارس الشعائر الدينيّة المسيحيّة بشكل علنيّ، كلّ شيء كان يجري في الخفاء. وهذا قد أدّى بنحو ما إلى اختلاف نسخ الإنجيل. في الواقع، هناك نسخ من الإنجيل، إنجيل يوحنا، إنجيل متى، إنجيل لوقا، هذه نسخ مختلفة والرّوايات في هذه الأناجيل مختلفة، والسبب هو هذا، أنّ المسيحية كانت ديناً سرّياً، لم يكن المسيحيّون قادرين على التواصل مع بعضهم، لم يكن هناك من مجال لتطبيق مرويّات كل منهم مع الآخر، ولذلك كانوا يستفيدون ممّا حفظوه كلٌّ على حدة.

لقد هزّت حادثة أصحاب الكهف هذه إمبراطور الروم من الأعماق، وأدّت إلى أن يصير إمبراطور قسطنطين نفسه مسيحيّاً، لقد رأى كيف أنّ الحجّة تمّت عليه. بالطبع، الأشخاص الذين قاموا بأبحاثٍ تفصيليّة وجزئيّة حول تاريخ المسيحيّة يقولون إنّ إيمانه لم يكن إيماناً عميقاً ومخلصاً، كان من مصلحته أن يتحوّل إلى مسيحيّ، رأى أنّ المسيحية قد راجت ونمت في داخل البلاد إلى الحدّ الذي لو أراد أن يواجهها سيُقضى على الامبراطوريّة. ولذلك قرّر أن يصير هو مسيحيّاً. وفي الحقيقة، من هناك انطلقت المسيحيّة من الشرق إلى الغرب، في حين أنّ ولادة المسيحيّة كانت في الشرق، في منطقتنا هذه نفسها، بيت المقدس نفسه الذي كان مكان ولادة السيّد المسيح والسيّدة
 

1- جاءت تتمة هذه الإشارة وبالاستفادة من كتابات الإمام القائد في الملحق الثاني للكتاب تحت عنوان "الأديان الإلهية".
 
 
 
139

117

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

  مريم والنبيّ زكريا ويحيى عليهم السلام. ففي النهاية، المنطقة، منطقة الشرق الأوسط لا علاقة لها بأوروبا ومنطقة الغرب، لكن في الواقع عندما تحوّل الروم إلى المسيحيّة، قاموا بنوع من الاحتكار وادّعوا أنّ المسيحيّة ترتبط بهم. اليوم في العالم، كل من هو مسيحي يظن أن مسيحيّته قد أتت من أوروبا، في حين أنّ أوروبا نفسها قد أخذت المسيحية منّا، من الشرقيّين أخذوا المسيحية.


يُتابع القائد بيان العلاقة الجيّدة بين الإسلام والمسيحيّة من خلال العلاقة الحميمة بين المسلمين والأرمن في إيران:
- اليوم نحن موجودون وأنتم موجودون ونعيش حياة ودودة ومتراحمة.

وفي الواقع، لطالما كانت العلاقة بين الشيعة والأرمن في إيران علاقة محبّة وصداقة وحميميّة. الأرمن هم الأقلّية المحبوبة في مجتمعنا، المعروفون بالصدق والأمانة واللطف والنشاط.
هذا اللّقاء كما اللّقاء الذي سبقه، طال أكثر من اللّقاءات المعتادة، ولا نرى ذرّة من المجافاة أو التّعب على وجه القائد، ولو كان الأمر لي لما أحببت أن تبلغ ليلة القدر هذه سَحَرها. 
يجلس القائد متوجّهاً إلى أمّ الشهيد وأخته ويدعو لهما:
- أسأل الله أن يُسعد قلبَيْكما. وأن يكون أثر هذه الهموم الكبيرة الّتي عانيتما منها هو إيجاد النورانيّة فيكما، لأنّ هذه الأحزان والضغوط المعنويّة توجِد في الإنسان النورانيّة وتستجلب الرحمة الإلهيّة، ونحن ينبغي أن نكون من الّذين يقبلون رحمة الله.

بعد هذه الكلمات، يُقدّم السيّد القائد هديّتَيْن إلى والدة وأخت الشهيد. ويقول:
- وهذا أيضاً تذكار منّا لكما.

- ممنونين، شكراً جزيلاً.

- من الناحية المادّية، هي ليست من مقامكم، لكنّ المسألة رمزيّة، بعنوان تذكار، هدية معنويّة.
- أتعبتم أنفسكم كثيراً، ممنونين لكم بوسع الدنيا.

- موفقين إن شاء الله.
 
 
 
 
140

118

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 تقول أخت الشهيد:

- سررنا كثيراً بتشريفكم. أصلاً، ما زلنا غير مصدّقين.

وتقول أمّ الشهيد:
- أنا في غاية السرور للقائي بكم. أنا كلّما ذهبت إلى الكنيسة أدعو لك، بالسلامة والعمر الطويل.

- شكراً جزيلاً. أنا سعيد أنّني استطعت أن أُدخل السرور على قلبيكما. لهذا جئت.

- في الحقيقة، لقد قرّت أعيننا وسعد قلبنا بتشريفكم.

- الشكر لله.

يختتم السيّد وارطانيان الكلام بقوله: عندما سألت والدة الشهيد قبل تشريفكم، عمّا تريد أن تطلبه من حضرة القائد المعظّم، فقالت طلبي الوحيد هو هذا....

ويسكت السيّد وارطانيان ويشير إلى أمّ الشهيد ويقول لها: قولي بنفسك!

تضع والدة الشهيد بكلّ أدب يدها على صدرها، وباليد الثانية تمسح دموعها:
- نحن لا نريد شيئاً، أنا وابنتي ليس لدينا طفلٌ صغير. إذا كان لا بدّ من مساعدة تُقدّمونها نتمنّى عليكم أن تُقدّموها للشهداء الّذين عندهم أولاد. أنا أكون في غاية الرضى لو تُقدّمون
 
 
 
141

119

الرواية السّادسة: المسيح في ليلة القدر

 مساعدتكم لأولئك الشهداء. 


يتملّكني واقعاً شعور بالخضوع لا يوصف أمام والدة الشهيد هذه. أمّهات الشهداء هنَّ من أكثر نعم الله المستورة مجهولية.

- أسأل الله أن يمنّ عليكم بالتوفيق، ويوفّقنا لأن نعرف تكليفنا ونعمل به. 

وبقوله: "إن شاء الله موفقون"، يقف القائد ويودّع عائلة الشهيد جاجيك طومانيان.

* * *

حيثما نمرّ، بجوار كلّ مسجد وحسينيّة، تتعالى الأصوات بدعاء الجوشن: "سبحانك يا لا إله إلاّ أنت الغوث الغوث خلّصنا من النار يا رب". وأنطلق الآن مرّة أخرى من المكتب باتجاه البيت لأُتابع أعمال ليلة القدر، لكنّي الآن في وضع مختلف كلّياً عن الساعات التي سبقت. لقد تبدّل الشعور بتضييع الفرصة في ليلة القدر إلى شعور بالخفّة والحلاوة بعد عمل أتصوّر أنّني لم أقم بأفضل منه في جميع ليالي القدر طوال عمري.

حقيقةً، أيّ عمل يفوق هذا العمل فضيلة وقيمة؟! في وقت جيّش العدوّ فيه كلّ قواه لأجل القضاء على الإسلام الأصيل، تُشكّل كلّ عائلة من عوائل الشهداء جبهة فولاذيّة في وجه جميع هجمات العدوّ. لقد ربّوا شباباً وضعوا أرواحهم على الأكفّ وصمدوا وثبتوا وآثروا بأنفسهم من أجل الدفاع عن إيران العزيزة. هؤلاء الذين لا تقلّ قيمة صبرهم ومقاومتهم عن الشهادة، هؤلاء الذين تعبوا وتحمّلوا الملامة لكنّهم لم ينكسروا ولم ينهزموا. يريد العدوّ أن يهدم هذا السدّ القيّم ليتمكّن فيما بعد من السيطرة على هذه الخنادق واحداً تلو الآخر. 

في هذه الأوضاع، وجد قائدنا الحكيم وبالإلهام الإلهي، وبالاستمداد من التعاليم العلويّة وبفراسته، أنّ أفضل أعمال ليلة القدر لسنته هذه هو إدخال السرور على قلوب أولئك الّذين وإن لم يكونوا أتباعاً لديننا، ولكنّ الدم الطاهر لأبنائهم، وصبر أمّهاتهم، قد ساهم في رفعة وعزّة وحرّية هذا الشعب.

لطالما كنت أفكّر في ليالي القدر في نوع العمل والعبادة الّتي يكون لها الأثر الأكبر في رسم مصير أمّتنا وثورتنا في العام المقبل. أعتقد الآن أنّ ابتسامة الرضى على وجه والدة الشهيد طومانيان ودعاءها هو أحد أكثر أعمال ليلة القدر تأثيراً.
 
 
 
 
142

120

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد إميل آرجرون آزوريان في تاريخ 27/12/2005م


الشهيد إميل آرجرون آزوريان


محل الاستشهاد: تشزابه، خوزستان


تاريخ الشهادة: 26/02/1983م
 
 
 
 
 
148

121

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 تتّصل ابنتي بي هاتفيّاً وتقول: "بابا، قم وتعالَ إلى البيت بسرعة".

- وهل حصل شيء؟

- لا. لكن لدينا ضيوف.

- حسناً، وليكن. ما علاقتي أنا؟ إذا كنت وحدك فليأتِ الأولاد وزوجاتهم.

- لقد جاؤوا، ميشل وكذلك سرجي. لكن أنت أيضاً يجب أن تأتي. إنّهم قادمون لأجل إميل، وقد ذهبت أمّه اليوم صباحاً إلى تبريز، وينبغي أن يكون هناك شخصٌ كبير موجوداً.

- حسناً يا ابنتي. ساعتان وأكون عندكم.

- لا. ينبغي أن تأتي الآن. باتوا على وشك الوصول.

- حسنٌ جداً.

إميل هو اسم صهري. استشهد قبل ثلاثة وعشرين عاماً في الجبهة. كان قد مضى حينها على زواجه من ابنتي سبع سنوات، وكانا قد رزقا بصبيَّيْن. كُنتُ أُحبّه كثيراً لأنّه كان رجلاً، وكان إنساناً. وبسبب رجولته ومروءته صار شهيداً أيضاً. كان يمتلك شاحنةً، ذهب وسجّل اسمه ليذهب إلى الجبهة من قِبَل الجهاد (مؤسسة جهاد البناء)، بشكل تطوّعي. قالوا إنّ المجاهدين لديهم نقصٌ في المؤونة ويعيشون ضائقة. وسألوه إن كان باستطاعته أن يأتي بحمولة من المؤونة موجودة في مشهد وينقلها إلى الجبهة في الجنوب. قبِل، مع أنّه كان باستطاعته أن يرفض، لكنّه قال: "يجب أن أذهب، أنا أيضاً لديّ تكليف، هؤلاء المجاهدون يُقاتلون من أجلنا". ذهب في نهاية الأمر، وكان نصيبه أن يرتفع شهيداً في منطقة تشنانه.
 
 
 
 
149

122

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 قالوا إنّ الطيران العراقي بدأ يقصف المنطقة والشوارع الرئيسة، فيترجّل إميل ومساعده، وهو شاب من نيشابور من الشاحنة، ويذهبان ليلتجئا خلف تلّةٍ. لكنّ المنطقة تكون مزروعة بالألغام، ويدوس كلٌّ منهما على لغم فيستشهدان.


جاء لأجل تشييعه عدّة أشخاص من شباب مؤسّسة جهاد البناء، ثمّ أقاموا هم مراسم عزائه وأسبوعه في كنيسة المجيديّة. 

في تلك الأيام، جاءت سيّدةٌ أرمنية إلى منزل إميل، رأت السواد وصورة إميل مرفوعة. سألت وقد حبست دمعتها ما الذي حصل؟ قُلنا لقد استشهد. جلست في أرضها وراحت تذرف الدمع. سألتها ابنتي أنت من أين تعرفين إميل؟ قالت: "لقد توفّي زوجي، وأُعاني أنا وأطفالي من ضائقةٍ ماليّة. وكان السيّد إميل يُخصّص لنا كلّ شهر مقدارًا من الأرز والزيت والسمن والمؤونة". لم تكن ابنتي على علم بهذا الأمر أصلاً، لكنّها قالت لها لا تقلقي، بدءًا من الشهر القادم، تعالي لتأخذي مؤونتك كما هي العادة.

كان لإميل ارتباط خاص بالإمام الحسين وحضرة أبي الفضل، وكان كلّ سنةٍ ينذر أن يُساعد الهيئة المسؤولة عن مراسم العزاء يومَيْ تاسوعاء وعاشوراء. في السنة الّتي استشهد فيها، جاءت مجموعة من الشباب اللطّيمة من قِبَل جهاد البناء وذهبوا إلى منزله يومَيْ تاسوعاء وعاشوراء وأقاموا هناك مجلس عزاء.
 
 
 
150

123

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 منزله قريب، وفيما كنتُ أمشي لأصل إلى الضيوف تمرّ في ذهني ذكريات. أصل إلى منزل ابنتي لأرى شخصاً يقف على باب المنزل ويُحدّق بي. داخل البيت أيضاً هناك شخصان آخران، أتعجّب! إذا كان هؤلاء هم الضيوف فلماذا لا يجلسون في الداخل. يُلاحظ حفيدي الأكبر ميشل استغرابي، فيقول: الضيف لم يصل بعد.


- إذاً من هم هؤلاء؟ 

- تفضّل إلى الداخل يا جدّي. نحن أيضاً قد فهمنا للتو. ويبدو أنّ السيّد الخامنئي هو الضيف.

- هل أنت متأكّد؟

- هكذا قال هؤلاء السادة.

أذهب إلى جانب أحدهم وأسأله هل صحيح أنّ السيّد الخامنئي سيأتي. يُجيبني باحترام: أجل يا جدّاه. سيصل حالاً.

أضطرب قليلاً، فحتى الآن لم أتحدّث عن قرب مع شخصيّة حكوميّة. والآن سيحلّ علينا دفعة واحدة أعلى منصب في البلاد، ضيف العيد. من جهةٍ، أنا في غاية السرور والسعادة لأنّني أُحبّ السيّد الخامنئي كثيراً. وكذلك أحببت الإمام، من قِبَل الثورة! لأنّ الإمام كان رجلاً شهماً بحقّ. 

لديّ صفة، وهي أنّني أُبغض المتغطرسين، وأُحبّ كلّ من يقف في وجههم. أحياناً يقف رجل في وجه المتغطرس في الحيّ، وهذا يُثير إعجابي. وأحياناً يقف رجل في وجه طواغيت العالم، وهذا منتهى العظمة والشهامة! لقد كان الإمام هكذا، والآن أيضاً "السيّد" الخامنئي هو هكذا. في زمن الإمام، كان الطواغيت اثنَيْن، أمريكا والاتحاد السوفياتي، وقد زال أحدهما، وإن شاء الله يزول الآخر. 

أذهبُ في أثر ابنتي الّتي تُجهّز الشاي والحلوى في المطبخ. هي أيضاً مفعمة بالشهامة. لقد مضى ثلاثة وعشرون عاماً على شهادة زوجها، وطوال هذه السنوات قد وقفت بثبات وربّت أبناءها خير تربية.

أُقبّل وجهها وأقول، رحم الله إيميل، ليته كان موجوداً ويرى هذا العزّ والافتخار الذي أنت عليه. تخنقها الغصّة، وحتى لا أرى دموعها - الّتي تعرف أنّني لا أستطيع تحمّلها - تُغيّر
 
 
 
 
151

124

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 الموضوع. تُريني طبق الحلوى وتسأل: "هل بات جيّداً؟".


يأتي سرجي ويُناديني. الظاهر أنّ ضيفنا العزيز قد وصل.

أُريد أن أذهب إلى الزقاق لاستقباله لكنّهم يقولون ههنا حسن، والأفضل أن لا يزدحم الزقاق. بما أنّني لم أره فأنا غير مصدّق. أجل إنّه هو. لقد جاء السيّد الخامنئي حقّاً إلى منزل ابنتي. يسلّمُ أولاً علينا جميعاً، وهو لم يتجاوز باب المنزل بعد. أردّ السلام عليه، فيُعيد في غاية اللّطف سلامه عليّ مرّة أخرى.

أتقدّم نحوه، يُصافح باليد اليسرى، أقول له: أهلاً وسهلاً وألف مرحباً، تفضّلوا. ومن بعدي يأتي ميشل وكذلك سرجي ويُرحّبون به.
 
 
 
 
152

125

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 أحد السادة الذين كانوا قد أتوا باكراً، يقول للسيّد القائد إنّ هذَيْن الشخصَيْن هما ابنا الشهيد. يبتسم لهما "السيّد" ابتسامة عذبة ملؤها المحبّة. ثمّ يُسلّم على ابنتي ويسأل عن أحوالها بالتفصيل. 


يجلس "السيّد" على كنبة مخصّصة لشخصَيْن، وأنا أجلس بسرعة على كرسيّ بجانبه لأكون قريباً جدًّا. أُفكّر أنّه لا ينبغي لأحدٍ بالتأكيد أن يجلس على الكنبة بجانبه. وفي أبعد الاحتمالات ربما يأتي أحد مرافقيه ليجلس إلى جواره. لكنّ "السيّد" يطلب من ميشل ابن الشهيد الأكبر، أن يأتي ويجلس إلى جواره على نفس الكنبة. هنيئاً له! أيّ مكان قد جلس فيه! لم أكن قد رأيت إلى الآن، حتّى في التلفاز، شخصاً يجلس إلى جوار السيّد بهذا القدر من الحميمية والراحة، لدرجة أنّ القائد كان يضع يده على ركبة ميشل عندما يتحدّث معه!

بعد أن يجلس يعود السيّد مجدّداً ليسأل عن أحوالنا وأوضاعنا، وقرابة بعضنا من بعض. وأنا أُعرّف ابنتي وولدَيْها فرداً فرداً وأقول إنّني والد زوجة الشهيد.

توضّح ابنتي أنّ والدة الشهيد لم تكن تعرف أنّه سيُشرّفنا، وأنّها قد ذهبت صباح اليوم إلى منزل ابنتها في تبريز. والواضح أنّ الابنَيْن كانا يُحبّان أن تكون جدّتهما موجودة. يقول أحدهم: "لم تكن تعلم"، ويقول الآخر: "لو أنّها كانت موجودة لفرحت كثيراً".
 
 
 
 
153

126

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 - أوصلوا لها سلامنا.


ولأنّني الأكبر، يبدأ حديثه معي. الابتسامة لا تُفارق وجه القائد لحظة واحدة:

- أسأل الله أن يجعل حياتكم مملوءة بالسعادة ويأجركم إن شاء الله، ويحفظ لكم هذه السيّدة وهذَيْن السيّدَيْن.

دمتم وسلمتم. أرجو أن يبقى ظلّكم فوق رؤوسنا دائماً. هذا هو دعاؤنا دوماً.

- إن شاء الله دمتم موفّقين.

يلتفت القائد بوجهه صوب ميشل ويتحدّث معه:

- أنت ماذا تعمل يا ولدي العزيز؟

- لديّ دكّان.

- لماذا لا تدرس؟

- درسنا ثمّ نزلنا إلى سوق العمل.

- ماذا درستم؟

- إدارة تسويقيّة.
 
 
 
154

127

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 - جيّد. نلتم شهادة الليسانس. صحيح؟


- لم أكن قد أنهيت الليسانس حينما بدأت بالعمل، كانت تكاليف الدراسة مرتفعة قليلاً.

- دكان ماذا لديكم؟

- دكان بيع المواد البروتينيّة. 

بعد ميشل يصل الدور إلى سرجي. 

- وماذا عنكم يا عزيزي؟

- أعمل مع أخي. لقد نلت شهادة الديبلوم في الكومبيوتر. 

- هل تواصل دراستك؟

- لم تكن من نصيبنا. 

تتدخّل ابنتي في الحوار وتقول إنّ ولدَيْها قد تزوّجا كليهما. 

- أين عائلتاهما؟

- لا يعيشون هنا.

- أنت تعيشين هنا؟ 

- نعم. 

- إذاً هم ضيوف اللّيلة؟ 

- نعم، أتوا إلى منزل والدتهم.

يقول ميشل: "لو كانت زوجتانا هنا لفرحتا كثيرًا بلقائكم. خسارة". 

- موفقون إن شاء الله. 

- سلمتم.

- هل أنجبتم أولادًا؟ 

- ليس بعد.

يشعر الشابّان بالخجل ويبتسمان ويضحك الكبار جميعهم. لقد زال ذلك الاضطراب الأول الّذي أصابنا كلّنا، وها نحن جالسون بكلّ راحة مع السيّد الخامنئي نتحدّث معه. 

- جيّد جدًّا، جيّد جدًّا. أنا أوافق بالتأكيد على زواج الشباب المبكر. إنّه عمل حسن جدًّا.

ونؤيّد أنا وابنتي ونقول إنّهم بهذه الطريقة ينخرطون في الحياة بشكل أسرع.
 
 
 
 
155

128

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 - نعم يخوضون غمار حياتهم، يستقرّون ويصبحون منتجين وينشغلون بشؤون حياتهم. 


بعد هذه الدردشة الحميمة يُشير السيّد إلى صورة إميل الموضوعة أمامه ويسأل ابنتي: كم كان عمره عندما استشهد؟

- ثلاثون عاماً، كان قد مضى سبعة أعوام على زواجنا.

- عجبًا، في أيّ سنة؟ 

- سنة اثنتين وثمانين في منطقة تشزابه1 في عمليات والفجر التمهيديّة. 

- والفجر التمهيدية، كان في الجيش؟ 

- كلا، ذهب من قِبَل جهاد البناء.

1- يُعدّ مضيق تشزابه (چزابه بالفارسيّة) من المناطق الاستراتيجيّة على الحدود بين إيران والعراق، وهو يقع في محافظة خوزستان قرب مدينة بُستان. كان هذا المضيق من المعابر الأساسيّة في هجوم الجيش البعثي العراقي على إيران في بداية الحرب. وبسبب أهميته الفائقة عسكريًا، وقعت معارك عدة بين القوات الإيرانيّة والقوات البعثيّة في عمليات عدّة من قبيل عمليات طريق القدس، أمير المؤمنين، "والفجر6". 
 
 
156

129

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

بالنسبة إلينا جميعًا، فإنّ القصّة هنا تبلغ أوجها، ويُدلي كلٌّ منّا بدلوه حول الشهيد. 

أنا: ذهب بشاحنة للمواد الغذائية، قال يجب عليّ إيصال هذه المؤونة إلى الجبهة حتى لا يبقى المجاهدون جوعى. 

سرجي: كان لدينا شاحنة. في ذلك الوقت تطوّع وقرّر الذهاب من طرف جهاد البناء إلى الجبهة لإيصال المساعدات، حتى إنّه في إحدى المرّات اضطّر إلى حفر خندق هناك. لقد بقي في الجبهة مدّة من الزمن. 

ابنتي: كان قد ذهب لأجل إيصال المساعدات. 

- عجبًا، المظلوم! أسأل الله أن يوفيه أجره، ويمنّ عليكم بالأجر أنتم أيضًا، والسيّدة خصوصًا التي تحمّلت المشقّات وبين يدَيْها ولدان. 

- أنا الآن مرتاحة. صحيح أنّ الأولاد لم يكملوا دراستهم ولكنّهم في الواقع أولاد صالحون.

- أجل هم كذلك. 

- وهذا كافٍ بالنسبة إليّ.

- الحمد للّه، لقد ربيتِ أبناءك تربية جيّدة. وحينما تربّين الأبناء تربية صالحة ستقطفين أنت الثمرة وتلتذين به، يكونون أولاداً صالحين ومستقيمين.

- صحيح. كان مع زوجي أيضًا مساعد يُرافقه، قال له دعني أنا أذهب، كان سائقًا من نيشابور، ولكنّ زوجي لم يقبل، قال له دمي ليس أغلى من دمك، لا يُمكنني أن أسمح لك بالذهاب وحدك، ذهبا معاً واستشهدا معًا.

- نعم، في تلك السنة، سنة ثمانين أو إحدى وثمانين كان لدينا جماعة من الأرمن قد جاؤوا إلى الجبهة من أجل إنجاز الأعمال الميكانيكيّة وأمثالها. 

- لقد ذهبوا من قِبَل الكنيسة.

- نعم، كانوا يريدون أن يُقدّموا المساعدة. أنا طبعاً لديّ تاريخ قديم مع الأرمن.

أُفكّر أيّ تاريخ يمكن أن يكون للسيّد معنا؟ 

- سنة ثلاث وستين ميلادية كنتُ سجينًا في سجن (قزل قلعه)1، هذا السجن نفسه
 

1- كان الإمام الخامنئي وبسبب مواجهاته الثوريّة في زمن الطاغوت قد تمّ اعتقاله ستّ مرّات من سنة 1963 ميلادية إلى سنة 1974، وتمّ سجنه واستجوابه وتعذيبه في سجون متعدّدة في مشهد وطهران. ولأنّ فترات السجن لم تأت بنتيجة، تمّ نفيه في سنة 1977 ميلادية إلى إيرانشهر في جنوب شرق سيستان وبلوشستان وبعدها إلى جيرفت كرمان.
 
 
 
157

130

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 الموجود حالياً، كان من السجون المخيفة جدًّا لنظام الشاه البائد. كان فيه قسمان: قسمٌ انفرادي حيث كنّا نحن في هذا القسم، وقسمٌ عامٌّ جماعيّ. كانت الزنازين في الانفرادي منفصلة. وفي إحدى هذه الزنازين كان هناك شاب، آفانسيان، جاجيك. جاجيك آفانسيان كان عضوًا في حزب "توده". بالطبع، لم أكن في ذاك الوقت أعرف هذا الحزب. علمت أنّه شيوعي، أما أنّه كان في توده وعضواً في حزب فلم أكن أعلم ذلك. في هذا القسم الذي كُنّا فيه، كانت تفصلني عنه زنزانتان أو ثلاث، وكان هناك عدّة أشخاص آخرين. كان في القسم الانفرادي ثلاث وعشرون زنزانة. وقد توطّدت صداقتنا بالتدريج. في ليالي رمضان، كان يجتمع أفراد عدّة من العرب، عرب خوزستان، والّذين كانت زنزاناتهم منفصلة، وسط رواق السجن، ويفترشون بطّانية لأجل إحياء مراسم اللّيالي وقراءة العزاء وأمثال هذه الأمور. كان عرض الرواق ضيّقًا، متر ونصف أو مترَيْن، وكانت الزنازين على جانبيه. كانوا يطلبون منّي أن أخطب فيهم، وبما أنّني عالم دين فقد كنتُ أذهب وأخطب فيهم. كنتُ أتحدّث عن أمير المؤمنين وما شابه.


كان عند آفانسيان كرسيّ قابل للطيّ والجمع، وكان هو يخرج من زنزانته ويضع كرسيّه في مكان ليس ببعيد ويجلس ليستمع. أعجبه كلامنا. ومرّة بعد مرة انجذب إلى كلامي. في ذلك الوقت، كانت إقامة المراسم في السجن تحتاج إلى ميزانية، شاي وسكر وأمثال هذه المصاريف، بحيث إنّ شخصًا كان يلتزم بتأمين هذه الاحتياجات على نفقته كلّ ليلة. جاء آفانسيان وقال ليكن تأمين المصاريف لإحدى اللّيالي على عهدتي. أنا مسيحيّ لكن أُريد أن أُساهم. وأنا قُلتُ لا مشكلة. في تلك اللّيلة قُلنا إنّ نفقة هذا المجلس على السيّد آفانسيان. وكان هو قد قرّب كرسيّه أكثر. كنّا نحن نجلس على الأرض وهو على كرسيّه. ومضت تلك اللّيلة وما إن انتهى المجلس حتى قال لي: "أيّها السيّد غداً أيضًا أكون أنا المُنفق".

صرنا أصدقاء، كان من الشيوعيين، ولكنّه كان شابًّا غاية في الأدب واللطف، وكان صديقًا حميمًا لي. كنّا في الأيام الّتي يسمحون لنا فيها بالخروج إلى الهواء الطلق، وكانت قليلة جدًّا، نذهب معًا كي نُمارس الرياضة. كان يعرف اللّغة الإنكليزيّة بشكّل جيّد، وكان يُريد أن يُعلّمني ما تيسّر منها.
 
 
 
 
158

131

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 المقصد أنّنا صرنا رفقاء، وقد حُكِمَ عليه هو فيما بعد بالسجن سنوات عدّة.


حين خرجت من السجن سألتُه: "ألك حاجة أقضيها لك خارج السجن؟", دلّني بالتقريب على عنوان منزله، أعتقد في شارع شميران، وقال: إذا أحببت أن تزور الأهل وتسأل عن أحوالهم. وأنا ذهبت فعلاً وبعد البحث والسؤال والتنقيب وجدت المنزل. كان شقّة في مبنى. صعدت الدرج ووصلت إلى باب المنزل. أتت سيّدة أرمنيّة وفتحت لي الباب. كان لديها أطفال عدّة. قُلتُ لها كنتُ في السجن مع آفانسيان وكُنّا قريبَيْن، وقد جئت لأُطمئنكم أنّه بخير، وإن كان يلزمكم أيّ عون أو مساعدة فقط قولوا لي ويُمكنني أن أكون بخدمتكم. لكن زوجته تعاملت معي بفتور شديد.

يضحك "السيّد" نفسه على ما جرى!:
- رجل دين أتى إلى منزلنا! سجين وسياسيّ وما شابه! لم تستسغ السيّدة هذا الأمر، ولم تفسح لنا مجالًا فقالت لا، لا نُريد شيئًا.

بعد حوالي أسبوعَيْن أو ثلاثة- حيث ذهبت إلى مشهد خلال هذه المدّة وعدت - قصدت سجن قزل قلعه ثانية بهدف الزيارة. كنتُ قد اشتريت للأصدقاء هناك حاجيات عدّة، فواكه وحلويات وبسكويت وأمثال هذه الأمور. التقيت بهم. سمحوا لهم بملاقاتنا خارجًا، ولكن عندما كنتُ أنا في السجن لم يكن مسموحًا لي أن ألتقي بأحد. 

بعد الثورة، خرجت يوماً من المنزل قاصدًا مكانًا لقضاء عمل واجب. رأيت رجلًا مسنًّا قد أتى إلى باب المنزل، المنزل نفسه الموجود في شارع إيران، كانت قد مرّت سنوات، من سنة ثلاث وستين حتى تسع وسبعين، ستة عشر عامًا. لم أعرفه، قال أنا جاجيك آفانسيان!.

كنّا جميعًا في غاية الأنس ونحن نستمع إلى هذه الخاطرة. كان الأولاد مستغرقين في النظر إلى "السيّد" والاستماع إليه. لقد نسينا أصلاً أنّه قد جاءنا ضيف وينبغي أن نُقدّم الضيافة! تقوم ابنتي وتذهب إلى المطبخ. يسأل السيّد عن أسماء الأبناء، يتبيّن أنّ لديه فيما يتعلّق باسم ميشل معلومات لافتة:
- ميشل، ميكائيل، ميخائيل، في كلّ لغة يلفظ الاسم بنحو. يقولون ميكائيل في لهجة، ومايكل في مكان آخر. في إيطاليا يقال ميكِلّا، الفرنسيون يقولون ميشل مثلكم أنتم. 

ثمّ فيما يتعلق باسمي "إبراهيم" ذكر أيضاً أنه قد يلفظ إبراهام و... .
 
 
 
 
159

132

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 وتأتي ابنتي بصينيّة الشاي. يأخذ سرجي الصينيّة من يد والدته وينتظر حتّى يضع ميشل صحناً لكوب الشاي للسيّد. يطلب السيّد فنجانًا صغيراً إنْ كان متوافرًا. أشعر بالسعادة تغمرني، فقائد البلاد يتصرّف بهذا القدر من التلقائيّة وعدم التكلّف. تذهب ابنتي وتُحضر فنجانًا، ويُقدّم له سرجي الحلويات بالقشطة فيقول القائد إنّه يشرب الشاي مع مكعّبات السكّر.

 
وبينما الأولاد مشغولون بالضيافة، أغتنم الفرصة كي أُحدّث القائد حديث القلب: قدمكم التي حلّت في هذا المنزل هي قدم خير وبركة. أتمنّى أن يبقى صمودكم وعزّكم، وأنتم صامدون وأعزّاء.

عشتم. ودمتم في حفظ الله جميعًا إن شاء الله. أسعد الله قلوبكم دومًا.

لا تزال ابنتي واقفة تجلب صحون وأدوات الضيافة. و"السيّد" يريد منها الجلوس، يشير إلى مرافقيه ويقول: الشباب يُقدّمون الضيافة. 

أنظر إلى مرافقيه، أغلبيتهم ما زالوا شبابًا وتطغى البساطة على هيئتهم وهندامهم. أقول للسيّد نِعم الشباب هم! ما شاء الله وكأنّهم أسرة واحدة.

ينظر المرافقون إلى السيّد القائد ويبتسمون. تقع عيناي على الشابّ المصوِّر بينهم فأقول: 
خذ لنا صورة جميلة، كي نقول بدورنا إنّ لدينا صورة مع السيّد.

يُجهّز الكاميرا، ينظر القائد باتجاه الكاميرا ويبتسم لأجل الصورة، ثمّ يطلب من المصوّر إعطاءنا الصورة بعد تظهيرها لنحتفظ بها كتذكار.
 
 
 
160

133

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 يتكلّم القائد مع الأولاد حول العمل في الدّكان. يقول ميشل عملنا صعب نوعًا ما. وأقول: حسناً يجب أن تتعبوا كما يتعب جدّكم.


يقول ميشل: بعد استشهاد والدنا تحمّل جدّي جميع أعباء أسرتنا.

أقول: لأنّكم أولاد صالحون لم يكن هنالك من عبء أو مشقّة. يا سيّد! إنّهم أولاد صالحون، هذا قول الناس عنهم أيضًا. وهم بصحّة وعافية. وهذا بالنسبة إليّ نعمة كبرى.

- الحمد لله، إن شاء الله يحفظهم لك.

يسأل السيّد بشأن الذهاب إلى الكنيسة فيُجيبه الأولاد أنّهم من روّادها وأنّهم يذهبون إليها كلّ أسبوع. 

يشرب السيّد مقدارًا من الشاي مع مكعّبات السكّر ثمّ ينظر مجدّدًا وللحظات عدّة إلى صورة إميل.

- الإحساس الّذي يجعل ذلك الشاب يترك منزله وجوار زوجته الشابّة وولدَيْه الاثنَيْن ويرسله إلى الجبهة هو إحساس راقٍ جدًّا. هذا الشعور وهذه الروحية، التي ينبغي أن نحترمها جميعًا ونُقدّسها، هي في غاية الأهمّية والقيمة. ونحن مسؤولون أمام أمثال هذه الشخصيّات. 

ميشل: الإنسان الذي ولد في هذا البلد وكبر فيه يصير لزاماً عليه أن يحفظ بدمه أرضه وعرضه.

- حسنًا! قول هذه الأمور سهل والعمل بها صعب. أولئك الذين يعملون هم في الواقع شخصيات عظيمة. قد يوجد شاب ليس لديه الكثير من المعلومات، ولكنّه يمتلك هذا العزم وهذه الروحية وهذه القدرة على التخلّي، وهذا ما لا تجده في أيّ إنسان. 

زوجة الشهيد: صدّقوا، في الليلة التي أراد فيها أن يذهب تحدّثنا معًا، قال: أنا أعلم أنّني بكلّ الأحوال، سواء بقنبلة يدويّة أو برصاصة أو بشيء آخر، سوف أُصاب. قُلتُ له: إذاً لا تذهب. إذا كُنتَ تعلم أنّ شيئًا كهذا سيحصل، أُقسم عليك بالله أن لا تذهب. قال: لا أستطيع، يجب أن أذهب". وكتب وصيّته ومضى. 

تكبت دموعها، ويصمت الجميع للحظات عدّة. أكثر الأنظار متوجّهة إلى صورة الشهيد. في نهاية المطاف، يُغيّر السيّد الأجواء بنفسه، وكأنّما بات هو صاحب المنزل، يحثّنا نحن
 
 
 
 
161

134

الرواية السّابعة: المتطوّع للجهاد

 ومرافقيه على شرب الشاي قائلًا: الشاي لذيذ جدًّا. 


يتناول من أحد مرافقيه هديّتَيَن، يُقدّم إحداهما إلى ابنتي ويطلب إيصال الأخرى إلى والدة الشهيد المسافرة.

أشكره وأقول: قدومك هو بنفسه أكبر هديّة.

يقول: إنّها ليست ذات شأن، تذكار من قِبَلنا لجناب السيّدة. ويقف لأجل أن يودّع. 

لم يخرج من المنزل بعد، وأشعر بالشوق إليه. لقد تضاعفت في هذه الدقائق القليلة محبّتي وتعلّقي بالسيّد القائد مرّات عدّة، وأشعر أنّني كما أحببت الإمام أُحبّه أيضاً.

زوجة وأخت الشهيد اميل ارجرون ازوريان
 
 
 
 
162

135

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد فازجن آفانسيان في تاريخ 01/01/1985م


 

الشهيد فازجن آفانسيان

مكان الاستشهاد: دهلران، ايلام

تاريخ الاستشهاد: 1983م
 
 
 
 
164

136

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 في اللّيالي كُنتُ أرى فازجن في المنام، وفي النهارات كُنتُ أبحث عنه. لم أكن لسبعة أيّام بلياليها في وضعٍ طبيعي. كُنتُ مشوّش الذّهن ولا أدري ما الّذي يجري من حولي. لقد صدمني آغاجل صدمة جعلتني أتخبّط كالموج. آغاجل هو ابن عمّي وفازجن هو أخي الأصغر. كان الوقت ظهراً، وكُنتُ أُصلح سيّارةً في الورشة، عندما جاءني آغاجل وقال: تعال معي، أُريد أن أشتري عدّة أدوات لسيّارتي، وأنا لست خبيراً بها.


أودعتُ الورشة بعهدة أحد العمّال، وركبت سيارة آغاجل بلباس العمل. كنّا مشغولين بالحديث خلال الطريق حينما رأيت آغاجل يركن سيّارته أمام مركز الطبّ القانوني، قال: "تعال لندخل، عدّة دقائق فقط، أُريد أن أرى أحد رفقائي، ندخل ثمّ نُكمل مشوارنا". قلتُ: "لباسي ليس مناسباً، سأنتظرك في السيّارة". قال: "ليس هناك مشكلة، تعال معي، ينبغي أن ترى هذا الرفيق حتماً".

بعد إصراره رافقتُه مكرهاً، لكن عندما دخلنا كان المكان مزدحماً إلى درجة أنّ أحداً لم يلتفت إلى ملابسي. دخلنا إلى البرّاد، وهناك ذهب آغاجل ليتحدّث لدقائق عدّة مع شخص ما، ثم ذهبا معًا باتجاه أحد البرّادات المخصّصة لحفظ الموتى. وقد أشار إليّ آغاجل لأتبعه. تبعته.

أخذنا صديق آغاجل، وباتّباع الإرشادات الموجودة على الورقة الّتي كان يحملها بيده، إلى جوار برّاد مؤلّف من ثلاث طبقات. ثمّ راح يفتح كلّ طبقة إثر الأخرى ليُرينا الأجساد الّتي بداخلها. لم أستطع أن أفهم ما الذي يجري وما هي القضيّة! فقط عندما رأيتُ وجه ذلك الجسد في الطبقة الوسطى، فهمتُ المسألة. لقد كان وجه أخي فازجن. عندما رأيت فازجن في ذلك الوضع، اسودّت عيناي، ووقعتُ على الأرض.
 
 
 
 
165

137

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 لقد أدّت طريقة آغاجل في إخباري، إلى أن أفقد توازني العقلي لسبعة أيام. لقد أصبح أخي العزيز شهيداً وأنا مجنوناً. 


لم تكن طريقة إخبار والدي أحسن حالاً. كان من عادة والدي أن يجلس يوميّاً على كرسيّه أمام باب المنزل، يتحدّث مع جيرانه وأصدقائه. وفي اليوم نفسه الّذي أُعلمتُ فيه بخبر شهادة فازجن، كان شخص آخر قد ذهب إلى منزلنا ليُخبر أبي أو أمّي بالأمر.

كان والدي يجلس وحده أمام باب المنزل ظهر ذلك اليوم. يجيء ذلك السيّد باحثاً عن المنزل رقم ثمانية. يقول له والدي: إنّه ههن، تفضّل.

- أنتم أصحاب هذا البيت؟

- نعم. تفضّل. في خدمتكم.

- هل تعرف فازجن؟

- نعم أعرفه. إنّه جندي.

- ما هي علاقتك به؟

- تفضّل يا سيّد، ماذا تأمرون؟ لماذا تُحقّق بهذا الشكل؟

- يجب أن أعلم ما هي علاقتك بفازجن؟

- افترض أنّني من أقربائه.

- لقد استشهد فازجن منذ يومَيْن وقد وضعوا جثمانه في برّاد الطبّ القانوني. لو سمحت أعلم عائلته، أباه، أمّه، كي يذهبوا ويستلموا جثّته.

أصابت والدي وهو في مكانه على الكرسي، سكتة خفيفة، وبعدها بقي حتى آخر عمره طريح الفراش وأسير المنزل. 

كان قد بقي على خدمة فازجن العسكريّة اثنان وعشرون يوماً فقط حين استشهد. كان في الحادية والعشرين من العمر. ومع أنّه كان لوالدي خمسة أبناء وابنتان، لكنّ خبر شهادة فازجن كان ثقيلاً عليه وكأنّما كان هو ولده الوحيد في هذه الدنيا.
 
 
 
 
166

138

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 كان فازجن أصغرنا في العائلة، أصغرنا وأعزّنا وألطفنا.


بعد الدفن ومراسم عزاء اليوم الثالث والسابع، لم تبقَ لي طاقة على البقاء في المنزل. اشتريتُ بطاقة سفر إلى خرّم آباد لأذهب من هناك إلى المنطقة التي استشهد فيها فازجن. قصدت ثكنة الجيش في خرّم آباد. وهناك، عندما فهموا ماهيّة المسألة وسبب مجيئي، خصّصوا لي سيّارة عسكرية (جيپ) وجندياً يوصلني إلى المنطقة. أثناء الطريق، حاولوا أن يقصفوا السيّارة مرّات عدّة، لكنّهم لم يستطيعوا أن يُصيبوها، ووصلنا بالسلامة إلى مكان استشهاد فازجن، قاعدة في منطقة "أربعين كلم دهلران". أول مكان قصدته كان غرفة قائد فازجن، القائد الذي لطالما تكلّم عنه فازجن خلال مأذونيّاته.

عندما دخلتُ غرفته، كان جالساً على كرسيّه خلف المكتب. وعندما علم أنني أخو فازجن، أجهش بالبكاء. وبمجرّد أن تحرّك من خلف مكتبه باتجاهي، رأيت أنّه يجلس على كرسي متحرّك، وأنّ كلتا رجليه قد بُترتا من الركبة إلى الأسفل. اقترب منّي وراح يُحدّثني عن فازجن. كان يبكي ويحكي، وكُنتُ صامتاً وأسمع.
 
 
 
 
167

139

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 - لقد كان تفاني فازجن مدهشاً، وكأنّما روح هذا الصبي كانت منفصلةً عن جسده، وكأنّه قد اتّصل بمكان لم يكن على هذه الأرض، لم يكن هناك من معنى للنوم والتعب والجوع في قاموسه. كان يعمل بهمّة خمسة رجال، لم يكن يهدأ. كان من عادتي أن أكون آخر من ينام، لكن كلّ مرّة أردت فيها أن أنام، كُنتُ أرى فازجن في خيمة الاتصالات، منهمكاً في إجراء إصلاحات لجهازَيْ اللّاسلكي والهاتف. وعندما كُنتُ أستيقظ صباحاً كُنتُ أراه أيضاً قد استيقظ قبل الجميع وقد انهمك في عمله. بفضل وجود فازجن وخدماته ليل نهار، لم تواجه فرقتنا أيّ مشكلة أو انقطاع في الاتصالات. أنت لا تعرف كم أنّ سلامة الاتصالات ودوام جريانها مهمّ وحيويّ في الحرب. إنّها بمنزلة العكّاز بالنسبة إلى شخص لا يستطيع أن يخطو من دونه خطوة واحدة.


بقي لمدّة نصف ساعة يُحدّثني عن فازجن ويبكي. ثمّ فتح درج مكتبه وأعطاني دفتر مأذونيّات فازجن. وقال: "كلّما اشتقت إليه، أفتح هذا الدفتر وأتحدّث معه".

وجدتُ أيضاً ثلاثة من أصدقاء فازجن الحميمين، تحدّثت مع كلّ واحد منهم. لم يستطيعوا أن يكبتوا دموعهم أمامي، وكأنّ أخاهم قد استشهد.
 
 
 
 
168

140

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 مهما حاولت لم أستطع أن أتقبّل شهادة فازجن. لكن بعد أن قصدت منطقته العسكريّة وتحدّثتُ مع قائده ورفاقه في العسكر، هدأت روحي واستقرّت نفسي وسلّمتُ لأمر شهادته. 


بعد سنة من شهادة فازجن، وفي أيّام عيد الميلاد، فيما كنتُ عائداً من عملي إلى المنزل، شاهدتُ شابَّيْن يجولان حول منزلنا. وبمجرّد أن أردتُ فتح باب المنزل، تقدّما نحوي: عفواً، ماذا تريد؟ 

فغرتُ فمي متعجّباً، وقلتُ في نفسي: "بدل أن أسألهما أنا هذا السؤال، هما يسألانني!". قُلتُ: ههنا منزلنا. اعتذرا وقالا: "تفضّل إلى الداخل". في داخل المنزل رأيتُ شخصَيْن آخرَيْن منشغلَيْن بالحديث مع أبي وأمي. لم أكن قد ألقيتُ السلام بعد حين رنّ جرس المنزل. عدتُ لأفتح الباب وجمدتُ في مكاني. السيّد رئيس الجمهورية، "السيّد" الخامنئي، كان خلف الباب. أسرعتْ أمّي وكذلك إخوتي إلى قربي، وراح الجميع يُرحّبون برئيس الجمهورية. قبل دقائق عدّة من دخول السيّد الخامنئي، كان مرافقوه قد أخبروا أبي وأمّي وإخوتي أنّه آتٍ لزيارتنا.

كان ذلك اللقاء بالنسبة إلينا عجيباً جدًّا، لأنّنا حتى ذلك اليوم لم نكن قد سمعنا أبداً أنّه يزور عوائل الشهداء الأرمن. في السنة الّتي تلت، وفي السنوات بعدها، صرنا نسمع ونقرأ في الجريدة المخصّصة للأرمن عن زياراته لعوائل شهداء الأرمن. لكن في تلك السنة، ولأنّها كانت المرّة الأولى الّتي يحدث فيها مثل هذا الأمر، كان بالنسبة إلينا حدثاً عجيباً جدًّا. بعد ذلك اللّقاء، كُنّا كلّما أخبرنا أحدهم بزيارة السيّد رئيس الجمهورية لمنزلنا لم يكن ليُصدّق.

خلاصة الأمر، أنّه شرّفنا في بيتنا وكان ضيفنا لقرابة الساعة. لم يستطع والدي الّذي كان طريح الفراش بعد شهادة فازجن، أن يجلس على الكنبة. والسيّد بدوره أراد احتراماً لوالدي أن يجلس على الأرض، ولكنّه عدل عن رأيه عندما علم أنّ الوالد سينزعج كثيراً. وبإصرار من الوالد، جلس على الكنبة وتحدّث معنا بمنتهى الدفء والحميمّية. في ذلك اليوم، بالإضافة إلى أفراد عائلتي، كان في المنزل اثنان من أولاد عمّي وأشخاص عدّة من أولاد إخوتي. 

كانت ليلة عيد الميلاد، وكان قد جاء ليُبارك لأمّي وأبي بالعيد. سأل السيّد الخامنئي أولاً عن أحوال والدي ووالدتي، وعن تاريخ إصابة والدي بمرضه، وعن طبيبه المعالج
 
 
 
169

141

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 ومشكلات علاجه وأمثال هذه الأسئلة، ثمّ وصل به الكلام إلى فازجن والسؤال عنه. نقل كلٌّ من أبي وأمّي وأختي وإخوتي للسيّد خاطرة له عن فازجن، عن تفوّقه أيّام الدراسة وعن شغفه الاستثنائي والعلمي بالصناعات الحرفيّة وعن كيفيّة استشهاده وتشييع جثمانه المهيب في طهران.

كان السيّد الخامنئي قد أعلن لوالدي عن استعداده لتقديم أيّ خدمة أو مساعدة، وكان والدي قد أوضح له أثناء شكره على اهتمامه ومحبّته أنّ كلّ شيء، وللّه الحمد، يسير على ما يرام وليس هناك من حاجة تُذكر: "لقد أعطاني الله خمسة أبناء، قدّمتُ أحدهم فداءً في سبيله. يُقلقني فقط أن يكون المقاتلون في عجز أو حاجة إلى شيء لا سمح اللّه". 

قدّم رئيس الجمهورية تعازيه بشهادة فازجن للجميع. وبارك لنا عيد الميلاد، وحدّثنا عن السيّد المسيح والحواريّين وشهداء صدر المسيحيّة ومقامهم عند الله. كلامٌ لم أكن أنا نفسي، حتّى ذلك اليوم قد سمعتُ معظمه، وكان سماعه من لسان القائد له حلاوة مضاعفة. لقد قال: إنّ الشهداء المسيحيّين في حربنا هم أيضاً كشهداء صدر المسيحيّة وكحواريّي عيسى عليه السلام.
 
 
 
 
170

142

الرواية الثّامنة: سليل الحواريّين

 بعد ذلك، قدّم بتواضع هديةً لأبي وأمّي وطلب الإذن بالمغادرة.


عندما قام عن الكنبة، حاول أبي رغم عجزه أن يقوم من مكانه، ولكنّ السيّد لم يسمح له. جلس هو إلى جواره على الأرض وسلّم عليه مودّعاً. 

طلب منّا الحرس المرافقون ألّا نُرافقه إلى الزقاق وأن نبقى في المنزل، حتى لا يحصل ازدحام في الخارج. لقد زارنا رئيس جمهورية بلدنا في منزلنا، وغادرنا بلا أيّ ضجيج أو صخب، حتى إنّ جيراننا لم يلتفتوا إلى ما جرى.

لا أذكر إن كنتُ قد نمتُ في تلك اللّيلة العذبة والمغمورة بالذكريات، فقد بقينا جميعاً حتى ساعة متأخّرة نتحدّث عن لطفه ومحبّته وصفائه وبساطته. ولم يكن الهاتف ليهدأ للحظة واحدة. كان الإخوة والأخوات وأولاد العمومة وأبناء الإخوة، الخلاصة، كلّ شخص موجود في المنزل، كان يُهاتف من يعرفه ويُخبره عن مجيء رئيس الجمهوريّة إلى منزلنا.

غداة ذلك اليوم، منذ الصباح الباكر وحتى منتصف اللّيل، كان منزلنا مسرحاً للضيوف. جميع أهل محلّتنا والأصدقاء والمعارف والعائلة الّذين عرفوا أنّ ضيفنا لليلة الماضية كان رئيس الجمهورية، جاؤوا ليستخبروا عن مجريات ذلك اللّقاء. ففي النهاية وحتى ذلك الزمان، لم يكن لرئيس جمهوريّة إيران سابقة أصلاً بزيارة منزل للأرمن.

كان منزلنا هو الأول.
 
 
 
 
171

143

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد إديك نِرسيسيان في تاريخ 26/12/1985م.



الشهيد إديك نرسيسيان

محل الاستشهاد: سربل ذهاب، كرمانشاه

تاريخ الاستشهاد: 27/ 09/ 1983م
 
 
 
 
174

144

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 لقد مضت ساعتان أو ثلاث على الغروب، لكن ما زال هناك متّسع من الوقت حتّى يحين موعد إطفاء المصابيح في مكتب رئيس الجمهوريّة.


برنامج هذه الساعة هو اجتماع مع عدد من المسؤولين الاقتصاديّين كان قد حُدّد من قبل ليوم الأربعاء 27/12/1985م. ليس اجتماعًا مكتظّاً، إنّهم أربعة أو خمسة أشخاص، مثل كثيرين، لا يُقدّرون أبداً قيمة وقت رئيس الجمهوريّة. لقد جاؤوا لأجل الشكوى، لأجل التبرير لأنفسهم والتحدّث عن الآثار المدّمرة للآخرين. والسيّد الخامنئي مع اطّلاعه الكامل على المشكلة ودور هؤلاء السادة فيها، يسعى كما في أكثر الموارد المتعلّقة بالحكومة والوزراء إلى تقليل الخلافات والتشجيع على السَّيْر قُدُماً في سبيل حلّ مشكلات الناس؛ الناس الّذين هم في قلبه حقّاً، والذين يُفضّل الجلوس معهم على الحضور في اجتماعات ليس لبعضها أدنى أثر. 

تلفاز الـ"21" إنشاً ماركة "بارس" بالهيكل والأرجل الخشبية مضاءٌ في زاوية غرفة الاجتماعات. ومع أنّ صوته قد كُتم، لكنّ رئيس الجمهوريّة ينظر إلى الشاشة بين الفينة والأخرى. يجري عرض برنامج حول عوائل شهداء الدّفاع المقدّس، أي حول أحبّ الموضوعات إلى السيّد الخامنئي. وما يلفته أكثر أنّ عائلة الشهيد هذه لا تبدو عائلة مسلمة. ليته كان من الممكن أن يستمرّ هذا الاجتماع بالاستماع لدقائق إلى كلمات أمّ الشهيد هذه، ولكن لا تجري الأمور هكذا وينتهي البرنامج.

ورغم ذلك، فالسيّد الخامنئي مسرور، لأنّه غداً ليلاً وطبق توصياته، وكما العام الماضي في أيّام رأس السنة الميلادية، سيزور عدداً من عوائل الشهداء المسيحيّين.

كان ماركار وأمّه وأبوه قد جلسوا أمام شاشة التلفاز بانتظار عرض مقابلتهم. اتّصل ماركار بأختَيْه هيلدا وأوفيليا، وأخيه ألبرت، ليُشاهدوا البرنامج أيضاً، وكذلك اتّصل بكلّ العائلة والمعارف. خلاصة الأمر، كلّ أرمن حيّ "التسليحات"، ولعلّه كلّ أهالي طهران، كانوا
 
 
 
 
175

145

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 ينتظرون البارحة مشاهدة عرض المقابلة، فماركار هو كابتن فريق آرارات لكرة القدم، والكلّ يعرفونه. 


قبل أربعة أيّام، كانوا قد جاؤوا وأجروا مقابلة حول الشهيد إديك نرسيسيان، مع أمّ الشهيد وأخته وأخيه. وليلة البارحة كان زمان عرضها. لكنّ أسوأ حادثةٍ يُمكن أن تقع وقعت، انقطعت الكهرباء. 

كان انقطاع الكهرباء أمراً عاديّاً جدًّا، ويحدث كلّ يوم، لكن في تلك اللّيلة وقبل عرض البرنامج تماماً أدّى انقطاعها إلى الاستياء الشديد عند عائلة الشهيد، وبالخصوص والدته. لقد تضايقت كثيراً. الجميع شاهد البرنامج ما عداهم. الجميع رأوا كيف تحدّثت أمّ الشهيد عن شهادة ابنها إديك بتلك القوّة والروحية، وقالت: "كان هذا واجبنا، أن نفدي بلدنا، ونُقدّم شهيداً، ونحن نفتخر بذلك". 

منذ ليلة البارحة، وفور انتهاء عرض البرنامج، بدأت الاتصالات الهاتفية تنهال، كانوا يتّصلون ويثنون على المقابلة، يقولون لا فُضَّ فوكِ، بوركتِ، يا لهذا الكلام الذي سمعناه منكِ! حتى إنّ مدرّب وأعضاء فريق آرارات لكرة القدم، وكذلك قسّ الكنيسة المحليّة وممثّل الأرمن في المجلس، قد اتّصلوا جميعهم أيضاً وشكروا والدة الشهيد على تلك المقابلة الرائعة. واليوم أيضاً، ما زالت الاتصالات الهاتفيّة متواصلة، كثير من أهل الحي، حتى المسلمون منهم، يأتون إلى باب البيت ويتحدّثون مع والدة الشهيد.

من بين هؤلاء المعارف، أتى عدّة أشخاص غرباء، ظاهرهم يوحي بأنّهم من التعبئة. يُفكّر ماركار في نفسه أنّهم حتماً من أهل المنطقة وقد جاؤوا كما البقيّة ليُقدّموا شكرهم على مقابلة اللّيلة الماضية. يتقدّم نحو الباب، ويُسلّم الضيوف عليه لكنّهم لا يأتون على ذكر البرنامج والمقابلة.

- هل والد ووالدة الشهيد موجودان في المنزل اللّيلة؟

- نعم. لماذا؟

- الموضوع ليس خاصّاً، يودّ بعض المسؤولين القدوم لزيارة عائلة الشهيد. 

الأمر طبيعي جدًّا. يقول ماركار في نفسه، إنّهم بالتأكيد من مؤسسة الشهيد أو أمثالها، ومجيئهم هو بسبب مقابلة ليلة أمس.
 
 
 
 
176

146

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 بعد الغروب بساعة تقريبًا يدقّ باب المنزل، ويدخل أولئك الرجال مع عدّة أشخاص آخرين. يستقبلهم ماركار الّذي ظنّ أنّ هؤلاء السادة هم الضيوف ويقول تفضّلوا إلى الداخل، تفضّلوا بالجلوس. ولكنّ الضيوف يقولون إنّ الضيف الأساسي لم يصل بعد. إنّه في الطريق. ثمّ شيئاً فشيئاً وبالتدريج يوضّحون أنّ رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي سيأتي. 


عائلة الشهيد أصلاً لا تُصدّق. لقد أُصيبت والدة الشهيد بالصدمة، تجول بسرعة في المنزل حتى تُرتّب كلّ شيء. تضع الفاكهة والحلوى على طاولة الطعام الكبيرة الّتي ملأت ردهة المنزل، وتُرتّب الكراسي حولها. يقول السادة: لا تُتعبي نفسك أيّتها الوالدة. هذه الأعمال ليست لازمة. لكنّ والدة الشهيد لا تهدأ. يُحضر الضيوف معهم باقة ورد وصورة للإمام الخميني فيأخذها ماركار ويضعها على منضدة في نهاية الردهة. 

يعلو صوت طرق الباب مجدّداً، وعندما يدخل السيّد الخامنئي إلى المنزل يثبت لهم أنّ رئيس الجمهوريّة فعلاً هو ضيفهم. هم متأكّدون أنّ حضوره بسبب تلك المقابلة. 

يجلس السيّد الخامنئي على رأس الطاولة، ويجلس ماركار ووالد الشهيد إلى يساره، وإلى يمينه مرافقوه. بين مرافقيه ثلاثة شباب يشبهون بعضهم البعض، ومن الواضح أنّهم إخوة. ولا تعرف أسرة الشهيد من هم، ولا ترى السؤال عنهم لائقًا.
 
 
 
 
177

147

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 تشعر والدة الشهيد بالخجل من الاقتراب، لقد وقفت أمام باب المطبخ، لكنّ السيّد الخامنئي عندما يراها يسأل:

- هل هذه أمّ الشهيد؟

يتعجّب ماركار، ألم يُشاهدها البارحة في التلفاز، ولكنّه يُجيب على أيّ حال: نعم.

يُسلّم السيّد الخامنئي على الوالدة ويقول:
- كيف حالكم؟ إن شاء الله بخير؟ تفضّلوا اجلسوا هنا.

تأتي الوالدة لتجلس إلى جانب زوجها وتقول: مجيئكم عزيز علينا.

في أكثر منازل الشهداء يجلس السيّد الخامنئي على الأرض. قلّة منهم تتمتّع بوضع أحسن وفي منازلهم كنبات. لكن في معظم منازل الأرمن، تُعدّ طاولة الطعام من الضروريّات، حتّى أولئك المستضعفون منهم والّذين لا يمتلكون كنبات، تكون الطاولة وكراسيها موجودة في منازلهم. وهذا الأمر يُعطي شكلاً جديداً لجلسات السيّد الخامنئي مع عوائل الشهداء.

إنّها أيام عيد المسيحيّين، ورئيس جمهوريّة إيران الإسلاميّة قد جاء إلى منزل أسرة شهيد مسيحي للمعايدة.

- إن شاء الله تكون هذه الأيام مباركة عليكم ويكون شهيدكم العزيز الّذي استشهد في سبيل بلده ووطنه سبب رفعتكم في الدنيا والآخرة، وقرّة عين لكم، ومصدر سرور لقلوبكم. نحن شركاؤكم في هذا المصاب، ونعتبر الشهيد أحد أبنائنا. أهذه صورة الشهيد؟

يُشير السيّد إلى صورة صغيرة على الطاولة. يقف ماركار أخو الشهيد ويُقدّم للسيّد الخامنئي صورة إديك باللّباس العسكري. ينظر السيّد إلى الصورة بمحبّة واهتمام. 

- متى استشهد؟

ماركار: في السابع والعشرين من شهر أيلول سنة 1983م.

- هل كان في الجيش؟

الأم: نعم. كان رقيباً في منطقة "سربل ذهاب"1 وأطرافها.
 

1- من المدن الحدوديّة في محافظة كرمانشاه التي تعرّضت في بداية الحرب إلى هجوم البعثيّين ويوجد فيها معسكر أبو ذر التابع للجيش.
 
 
 
 
178

148

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 لم يجلس ماركار بعد. يذهب ويجلب لوحة أخرى كانت معلّقة على الجدار المقابل للسيّد. 


- هذه أيضاً قد وصلتنا من قِبَلكم.

- أها. نعم.

إنّها شهادة تقدير مختومة بإمضاء رئيس الجمهورية تمّ إهداؤها إلى أُسر شهداء الجيش.

- مأجورين إن شاء الله. 

هرم الوالد قد أسكته. يتّضح من وجهه أنّه قد عانى الأمرّين في حياته. رأسه مطأطئٌ في الأغلب وقليلاً ما يتكلّم. يسعى القائد أن يستنطقه بالسؤال، لكنّ الأمّ والأخ يُجيبان في الأغلب.

- كم ولد لديكم؟

الوالد: أربعة.

- أسأل الله أن يحفظ لكم البقيّة.

الأم: كان لدينا خمسة والآن صاروا أربعة. صبيّان وبنتان، وابن استشهد. 

- حسناً. الشهيد حيّ.
 
 
 
 
179

149

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 الأب: نعم، نعم.


الأم: فقد استشهد في سبيل الوطن.

- أسأل الله أن يتقبّل منكم ويمنّ عليكم بالتوفيق.

يتوجّه السيّد مجدّداً إلى الوالد ويسأله عن عمله. يُجيبه بصوت ضعيف أنّه يعمل في معمل للّحوم المعلّبة. حتّى هذه الجملة نفسها قولها صعب عليه، ويبدأ بالسعال. توضّح الأم الّتي ظنّت أنّ أحداً لم يفهم كلام زوجها وتقول إنّه عامل في معمل.

- هذا السيّد هو ولدكم أيضاً؟

تُجيب الأمّ بلهجتها الأرمنيّة الثقيّلة: هذا أحد ولديَّ. الثاني ليس في المنزل. لم يكن يعلم أنّ جنابكم العالي ستُشرّفوننا.

- حسناً. أوصلوا سلامنا إليه.

- دمتم سالمين.

يسأل القائد والدة الشهيد: ألم يكن ولدكم متزوّجًا؟

كُنّا قد خطبنا له. ولكن لم يكن قد تزوّج بعد.

- استشهد في سومار أو أين قُلتم؟

يُجيب الأخ: "سربل ذهاب"، كان مهندس كاسحات ألغام.

- كاسحات ألغام؟

- نعم. كان معاوناً لقائده. وبسبب الخبرة التي أظهرها كان قائده قد قرّر أن يُدخله في سلك الموظّفين العسكريّين حالما ينهي خدمة الجنديّة.

يقول القائد وهو ينظر إلى صورة الشهيد بحزن ومحبّة: رحمه الله!

ثم يُكمل بصلابة:
- في النهاية، هذه التضحيات هي التي تحفظ البلاد والشعوب وتحفظ عزّتها. والأفضل دائماً هم الذين يُضحّون حتى تتمكّن الشعوب من العيش بأمن وسلام. دائماً المسألة هكذا. انظروا أنتم، شهداء المسيحيّة في بداية المسيحيّة هم كشهدائكم - هم شهداؤنا أيضاً بالتأكيد، ليسوا شهداءكم أنتم بشكل خاص لأنّ عيسى المسيح هو نبيّنا أيضاً وليس نبيّ المسيحيّين فقط، نحن أيضاً نعتبر هذا الإنسان نبياً - أولئك الشهداء الذين استشهدوا في
 
 
 
 
180

150

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 بداية المسيحيّة لو لم يُقدّموا هذه التضحيات لما كان اليوم للمسيح وللإنجيل وللتعاليم المسيحيّة أي خبر أو ذكرى. لقد ضحّوا هم، والمسيحية اليوم حيّة بفضلهم.


هذا التعبير والتشبيه وهذه الأخبار عن بداية المسيحيّة كانت جديدةً بالنسبة إلى أكثر أفراد العائلة وقد أثارت تعجّبهم. تقول والدة الشهيد الّتي استذوقت كلام القائد: ما من شيء في هذه الدنيا يُمكن أن نصل إليه من دون تضحية. لا شيء أبداً.

- أحسنتِ. أحسنتِ.

يقف أخو الشهيد مجدّداً، ويجلب مجلّةً من طرف الطاولة ويُقدّمها للقائد ويقول: هذه المجلّة قد طبعت سيرة حياة الشهيد.

- حقّاً، مجلّة ماذا؟

- مجلّة العائلة. هذه أيضاً صور الشهداء.

يتصفّح القائد المجلّة ويقول: جيّد جدًّا. هذه المقابلة مع هذه السيّدة؟

- مع والدتي ومعي ومع أختي.

يسرّ القائد بشكل واضح من الروحية العالية التي تتمتّع بها والدة الشهيد الأرمني. ويقول لها: معنوياتك جيّدة جدًّا والحمد لله. هذه الروحية كما تعلمين هي فخر لنا. معنويات كهذه هي أساس رفعتنا.
 
 
 
 
181

151

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 الأم: هذا واجبي الإنساني.


- ونحن نفتخر أيضاً أنّنا نعيش بين أناس مثلكم وأنّنا موجودون في زمانكم. المسؤوليّة على أكتافنا تثقل بسبب العظمة الّتي تُظهرونها. وفّقكم الله وحفظكم دوماً.

تستغرق العائلة في أجواء هذا الحوار اللّطيف وفي جمالية حضور ضيفهم إلى درجة أنّهم نسوا تقديم الضيافة، فيتناول السيّد الخامنئي بنفسه قطعة حلوى ويقول:
- نحن نأكل من هذه الحلوى ونذهب.

يقول ماركار بخجل: العفو منكم". ويُضيف: سيّد. أنتم مدعوون إلى العشاء.

- يجب أن نذهب. ينبغي أن نقصد أمكنة أخرى.

يستشعر أخو الشهيد أنّ اللقاء قد أوشك على الانتهاء لكنّ سؤالاً او اثنَيْن لا يزالان يُحيّرانه، وبسبب حميميّة الضيف فإنّ خجله من طرحهما قد زال الآن.

ينظر إلى الشباب الثلاثة الذين يجلسون مقابله ويسأل:

- سيّد. هؤلاء أولادكم؟

يُجيب السيّد وهو يشير إلى جميع مرافقيه:
- بعضهم أولادي وبعضهم أصدقائي.
 

- أيهم أولادك؟

- هؤلاء الثلاثة. ثلاثتهم أبنائي.
 
 
 
 
182

152

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 يُردّد جميع أفراد العائلة: حفظهم الله لك.


ينظر الجميع الآن، مدهوشين، إلى هؤلاء الفتية الثلاثة الذين طأطؤوا رؤوسهم خجلاً. لقد جلسوا بالترتيب من الصغير إلى الأكبر، السيّد ميثم جلس قرب الوالد، ومن بعده السيّد مسعود ثمّ السيّد مجتبى. هذه البساطة والحميميّة وحضور رئيس جمهوريّة إيران الإسلاميّة برفقة أبنائه الثلاثة إلى منزل عائلة أرمنيّة من دون أيّ تشكيلات وتشريفات وتكلّف، كلّ هذا هو واقعاً أمرٌ عجيب وعذب بالنسبة إليهم. 

بساطة لباس ومظهر هؤلاء الفتية ملحوظة إلى درجة أنّ أحداً لن يُصدّق لو رآهم في ظروف أخرى أنّهم أولاد أعلى مقام تنفيذيّ في البلاد.

كان السيّد الخامنئي يُحضر معه أولاده منذ طفولتهم إلى لقاءات العوائل البسيطة والمؤمنة والمضحيّة للشهداء1.

في النهاية يفقد أخو الشهيد قدرته على الصبر ويطرح بنفسه موضوع برنامج المقابلة التلفزيونيّة في اللّيلة الماضية. هو متأكّدٌ أنّ رئيس الجمهورية قد جاء إلى منزلهم بسببها، وانطلاقاً من هذا الافتراض يبدأ كلامه بالحديث عن انقطاع الكهرباء ليلة الأمس. 

لقد كان من سوء حظّنا أن انقطعت الكهرباء عندنا البارحة، ولم نتمكّن من مشاهدة المقابلة. لقد شاهدها جميع أقاربنا ومعارفنا إلاّ نحن.

يتذكّر السيّد الخامنئي صورة البرنامج الّذي كان يُشاهده من دون صوت البارحة. يقول
 

1- واليوم أيضاً يعيش الأبناء المحترمون لقائد الثورة المفدّى في أبسط معايير العيش سواء المادّية منها أو المرتبطة بالمناصب والمسؤوليات. يعيشون بين الناس بالحدّ الأدنى من دون أن يعرفهم الناس في المجتمع أو أن يلفتوا هم نظر الناس إليهم من خلال المواكب الفخمة والتشريفات الّتي لا داعي لها. أربعة شباب وابنتان، قد نشؤوا جميعاً على هذا النحو وهكذا يعيشون. في سنوات الحرب كان السيّد مصطفى، ابنه الأكبر، حاضراً مع التعبويين في الجبهة منذ السنوات الأولى. وابنه الثاني السيّد مجتبى التحق أيضًا بصفوف القتال في الجبهة عندما بلغ السنّ القانوني، حتى إنّهما في إحدى العمليات قبيل انتهاء الحرب كانا في الصفوف الأمامية وقد شارفا كلاهما على الاستشهاد في حين لم يكن يعلم هويّتهما إلا قادتهم العسكريّون. في الوقت الحالي الأبناء الأربعة هم علماء دين ويعملون في مجال التدريس والبحث والتحقيق والأنشطة الثقافية. وصهراهما يُدرّسان أيضاً في الساحات الجامعية والثقافية. إنّ تربية وشخصية أبناء رئيس جمهورية إيران والذي صار فيما بعد قائدًا لهذا النظام، ونمط عيش زوجته الكريمة لهي حكاية جديدة للعالم والتاريخ، تُثبت أنّ بمقدور الإنسان ولو كانت سلطته تامّة على الموارد ويتمتّع بالرعاية القصوى أن لا يعتدي أو يحيد عن الحقّ والعدل وأن يعيش الكفاف فقط. وهذا الذي يُباهي به دين الإسلام وتفتخر به دولة إيران وهي تُفاخر كذلك أيضاً بقائد وأسرة وأبناء كهؤلاء. 
 
 
 
 
183

153

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

  "السيّد" "شمقدري"1، وهو من أصدقاء القائد القديمين وكان جالساً إلى جانبه، وقد شاهد المقابلة: لقد كانت مقابلة جيّدة جدًّا.


يُشير السيّد الخامنئي إلى والدة الشهيد ويسأل: البارحة؟ كانت هذه السيّدة؟

يُجيب أخو الشهيد باستغراب: نعم!

- حقّاً! لقد رأيتكم البارحة؛ كُنتِ تلبسين النظّارات.

الأم: أجل، أجل.

- كنت في اجتماع ليلة أمس، وأثناءه كنتُ أُشاهد التلفاز، لكن من دون سماع الصوت. إذاً كانت المقابلة هنا.

كلام القائد هذا يُثبت لأخي الشهيد أمراً واحداً؛ وهو أنّ ضيفهم اللّيلة لم يأت بسبب مشاهدته المقابلة، فهو لم يكن يعلم حتى الآن أنّ هذه العائلة هي التي أُجريت المقابلة معها في اللّيلة الماضية. وهذا الأمر بحدّ ذاته غير قابل للتصديق بالنسبة إليه. يوضّح: نعم. لقد أجروا مقابلة معي ومع والدتي ومع أختي. ولكن نحن لم نُشاهدها.

يقول السيّد لأحد مرافقيه: أنتم تواصلوا مع العلاقات العامّة خاصّتنا واسألوا. انظروا إن كانت هذه المقابلة المصوّرة موجودة أم لا. إن وجد الفيلم أرسلوه إلى هنا ليشاهدوه، أعطوه لهم. سجّل عندك حتّى لا تنسى.

يقول أخو الشهيد: أنتم فقط اتصلوا وقولوا لي أين، وأنا آتي بنفسي لأستلم الفيلم. أنتم لا تُتعبوا أنفسكم. 

وبينما يتناول قطعة حلوى يُشير السيّد الخامنئي إلى الجميع حتّى صاحب المنزل نفسه، أن: تفضّلوا، ألا تأكلون الحلوى؟! 

وينشغل الجميع.
 

1- كان الحاج علي شمقدري ومنذ الستينيّات وفي مرحلة الشباب ملازماً لمنبر آية الله الخامنئي في مشهد، ومرافقًا له في جميع نشاطاته الثوريّة. وعندما تمّ نفي السيّد الخامنئي من قِبَل النظام البهلوي إلى إيرانشهر تحمّل السيّد شمقدري الصعوبات الكثيرة ليذهب إلى إيرانشهر ويقابل سماحته، ولهذا السبب أيضاً تمّ اعتقاله من قِبَل السافاك.
بعد الثورة، جاء الحاج شمقدري مرافقًا للسيّد الخامنئي إلى طهران وفي فترة رئاسته للجمهورية كان هو من أصدقائه المقرّبين وأمين سرّه. الحاج شمقدري أب لشهيد وأخ لشهيد أيضًا. استشهد أخوه في مواجهات الثورة واستشهد ابنه في الحرب المفروضة.
 
 
 
 
184

154

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 - ماذا كان اسم ولدكم؟


ماركار: إديك. كان في دراسته التلميذ المتفوّق دائماً. كان في سنته الجامعية الثّانية.



الأم: كان متفوّقاً أينما حلّ وفي كلّ شؤون حياته. سيّد، لديّ خمسة أبناء ولكن هذا الولد غيرهم. كان فريداً، أصلاً كان وحيد عائلته.

- نعم. كان مميّزاً. حسناً أنت قدّمت الأفضل. أفضل الإيثار هو أن يُقدّم الإنسان أفضل ما عنده.

الأم: ،كان هذا واجبي الإنساني، وكان نصيبي أن أُقدّم شهيداً.

- إن شاء الله سيُعطيكِ الله أفضل الأجر. لا ينبغي الاستخفاف بالأجر الإلهي. 

يقول ماركار الذي بات متأكّداً الآن أنّ ضيفه لم يستمع إلى برنامج الأمس: إنّ معنويات والدتي عالية جدًّا.

- الحمد لله.

- في ذلك الوقت الذي استشهد فيه أخي، استشهد معه أيضاً أحد زملائه في المعسكر، كان اسمه فيّاض واثقي. والدتي، وقبل أن تذهب لزيارة ضريح أخي، ذهبت أولاً إلى منزل فيّاض واثقي، باركت لهم بشهادته وعَزّتهم، ثمّ من بعدها ذهبت لزيارة مرقد أخي.

- مدهش!
 
 
 
 
185

155

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 - أنا أعرف القليل من الأمّهات اللّواتي يمتزن بهذا القدر من الصمود. 


- نعم. هذا بيّنٌ. 

- وأنا أفتخر أنّ لديّ مثل هذه الأم. 

- الحمد لله.

الأم: كان واجبي الإنساني.

- دمتِ سالمة إن شاء الله.

ماركار: لقد تحمّلتم عناء المجيء. كنّا في غاية الشوق إلى زيارتكم وإلى رؤيتكم عن قرب.

- الحمد لله أن وفّقنا لرؤية هذه الأسرة الصالحة والشجاعة والقوية عن قرب أيضاً. أنا لم أكن أعلم أنّ هذه السيّدة التي كانت تُعرض مقابلتها على التلفاز ليلة البارحة هي الّتي سنزورها الليلة. والآن قد جرت الأمور على هذا النحو صدفة. 

يقول "السيّد" شمقدري بسرور للقائد: من الأمور الّتي قالتها هذه السيّدة البارحة: "لا تظنّ أنّنا نقول هذا الكلام لأنّ أحداً يجري معنا مقابلة. نحن نقول هذا الكلام في كلّ مكان"، كان كلاماً رائعاً جدًّا. 

بعد كلام السيّد شمقدري، يُحضر أخو الشهيد صوراً صغيرة للسيّد الخامنئي عن مراسم إحياء ذكرى شهادة الشهيد، ويوضّح بعض الأمور حولها. ثمّ يقول: في ذلك الزمان الذي أعلن فيه الإمام الثورة الثقافيّة، كان أخي طالباً جامعياً، ثمّ بعد مدّة سنتَيْن بدأ بالتدريس في ثانوية سوغومونيان، كان معلّم رياضيات ورياضة أيضاً. ثمّ ذهب من بعدها إلى الخدمة العسكرية. 

- أمرٌ لافتٌ. نعم لقد كان عنصراً فاعلاً، إنصافاً ومن جميع الجهات. لقد كان مجاهداً على جميع الجبهات.

- كان يلعب كرة الطائرة. وكان كابتن نادي آرارات. جميع أفراد العائلة رياضيّون. أنا أيضاً ألعب كرة القدم. وأنا كابتن نادي آرارات. أخي الآخر كذلك. ثلاثتنا نُمارس الرياضة منذ الطفولة. 

- جيّد جدًّا. 

يتناول السيّد الخامنئي عصاه من على الطاولة:
- حسناً، ينبغي أن أستأذن. لقد سُررتُ كثيراً بلقائكم ولقاء هذه السيّدة ولقاء هذه العائلة، ستترك هذه الزيارة الكثير من الذكريات الحسنة في خاطري. إنّ مشاهدة هذه
 
 
 
 
186

156

الرواية التّاسعة: اللّقاء العائليّ

 المعنويات وزيارتكم لهي من أجمل الخواطر. موفّقون دائماً إن شاء الله.


يقف الجميع لأجل التوديع. تقول الأم التي غمرتها مشاعر الغبطة والسعادة: إنّه لمن دواعي افتخارنا وسرورنا أنّكم تفضّلتم علينا بهذا اللقاء.

- أيّدكم الله. أُقدّم لكم هذا التذكار، لكم وللسيّدة. 

يُقدّم لكلٍّ من الأب والأم مسكوكة ذهبية: هذه مسكوكة الشهيد، سُكَّت باسم الشهداء.

يستلم الوالد والوالدة هدّيتهما ويشكران السيّد.

- في أمان الله. أيّتها السيّدة دمتِ في حفظ الله ورعايته.

من اليمين: السيّد هاملت تومانيان، السيّد ماركار نرسسيان، ابن الشهيد وزوجته المحترمة 06/2014م.
 
 
 
 
 
187

157

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 الرواية العاشرة: مفقود الأثر - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد جوني بت اوشانا في تاريخ 01/01/1987م.


 الشهيد جوني بُت أوشانا

مكان الاستشهاد: هور الهويزه، خوزستان

تاريخ الاستشهاد: 14/03/1985م
 
 
 
 
192

158

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 توقظني أمّي من نومي بصوتها المتهدّج من دون أن تلتفت. إنّها تحكي على الهاتف. أُنصتُ بهدوء لأعرف ما الخبر. يتّضح من كلامها أنّها تُخابر أختها، الخالة سوري. فوالدتي تتكلّم براحةٍ مع الخالة سوري فقط، وتبثّ لها شجونها. تحكي الآن معها عن منام شاهدته ليلة الأمس. لقد رأت في منامها أنّ جوني قد عاد.


جوني هو أخي الأكبر. أنا نيلسون، وأخي الآخر اسمه جونسون. كلانا أصغر من جوني. ولدينا أخ آخر اسمه تشارلي هو أكبر من جوني. كُنّا أربعة إخوةٍ أنا أصغرهم. والآن قد مضت سنةٌ على غياب جوني عنّا وبقينا ثلاثة إخوة.

في العادة، لا تُخبر والدتي مناماتها لأحد. لكنّها مؤخّراً صارت تحكي أحياناً لخالتي سوري عن هذه المنامات، فخالتي قد فقدت زوجها منذ عدّة أشهر على أثر تصادم سيّارة، ومنذ تلك الحادثة ووالدتي تتّصل بها يوميّاً من دون استثناء. ومن الطبيعي والحال هذه، أن لا تُمسك أمّي عن الكلام وتُخبر الخالة بمناماتها. 

لقد استشهد جوني السنة الماضية في الجبهة في مكان اسمه هور الهويزة، ولم يكن قد بقي على إتمامه خدمته العسكريّة إلاّ شهران. لكنّهم لم يحضروا لنا جثمانه، قالوا إنّه استشهد ولم يجدوا له جثماناً. صار مفقود الأثر. 

منذ السنة الماضية حين وصلنا ذلك الخبر، وأمّي تنتظر دائماً وعينها على الباب. لكن طوال هذه السنة لم يصلنا أيّ خبر عن عودة أخي جوني. والآن قد رأت أمّي في منامها أنّ جوني قد عاد. لم تكن حتى الآن قد شاهدت مناماً كهذا. كانت تراه في المنام، لكن لم تره قد عاد من قبل. ولهذا فقد استبشرت خيراً واستشعرت أنّ خبراً ما سيأتينا حتماً. 

قلبي فارغ ولا قدرة لي على الهدوء أو الاستقرار. أعيش تخبّطاً في داخلي. والدتي الّتي لم تعلم أنّني عرفتُ بمنامها اللّيلة الماضية، تتعجّب من سلوكي. وكذلك يتعجّب والدي وإخوتي. اليوم هو يوم الجمعة والجميع في المنزل. عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر،
 
 
 
 
193

159

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 يدقّ جرس المنزل. أركضُ باتجاه باب الباحة. أفتح الباب لأرى أنّه ما من خبر عن جوني، فخلف الباب تقف الخالة سوري.


عند الساعة الثانية عشرة، يأتي شخصان آخران ويدقّان جرس المنزل، لكن لا علاقة لأيٍّ منهما بجوني. الساعة الثانية عشرة والنصف ظهراً يدقّ جرس المنزل مرّة أخرى. يقول جونسون: "افتح الباب، هيّا، طِر وافتح الباب"، ويضحك عليّ! ترمقه والدتي بنظرة عبوس حتّى يدعني وشأني. أقول: "بل افتح الباب بنفسك! أصلاً ما شأني أنا!" وأذهب مغتاظاً إلى إحدى الغرف. أسمع صوت الجرس مرّة أخرى، ومن خلف نافذة الغرفة أنظر إلى الخارج لأستطلع ما يجري. لقد وقف جونسون مع شخص لا يُمكنني أن أراه من النافذة، وراحا يتحدّثان. يطول حديثهما دقائق عدّة. أُفكّر أنّه أحد أصدقائه، لكنّني لست متأكّداً. لعلّ الّذي يتحدّث معه هو شخصٌ له علاقة ما بجوني. وأنا في خضمّ أفكاري يغلق جونسون الباب. يحمل في يده مغلّف رسالة. يرفع يده عالياً ويُنادي بشكل متقطّع وهو في باحة المنزل: ما..ما...ماما.... جا...جا... جوني...جوني!

تأخذ والدتي المغلّف، تضعه على قلبها وتبكي. لقد تمّ تفسير منامها ليلة البارحة. لقد أحضر أحد رفقاء جوني الآشوريّين في الجبهة هذه الرسالة إلينا. كان جوني قبل يوم من شهادته قد أعطاه هذا المغلّف وقال له: هذه وصيّتي؛ أوصلها إلى عائلتي. ولكنّ رفيقه كان قد جُرح ولم يستطع أن يوصل لنا الرسالة إلا اليوم.

أجواء المنزل عابقة بعطر أخي جوني ورائحته. وكأنّه قد رجع بالفعل!

نجتمع كلّنا داخل الغرفة. الوالد، الوالدة، الخالة سوري، تشارلي، جونسون وأنا.

تقول الخالة: "لا أحد فيكم حالته طبيعية، دعوني أنا أقرأ الرسالة". 

تُعطي والدتي الرسالة للخالة. تفتح خالتي المغلّف من زاويته بهدوء وتخرج منه عدّة أوراق.

ألصق نفسي بالخالة حتى أرى المكتوب فيها.

تتنحنح الخالة وتبدأ بقراءة الرسالة:
"بسم الله، 
عائلتي الأعزّ من روحي،
 
 
 
 
194

160

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 سلام،

أرجو أن تكونوا عندما تصل إلى أيديكم هذه الأوراق في خيرٍ وعافية، تنعمون إلى جوار بعضكم البعض بتلك الحياة الرغيدة والسعيدة الّتي لطالما كانت متحقّقة في رأيي، وأن تكونوا مشمولين بعناية الله الواحد وعناية السيّد المسيح وحضرة السيّدة مريم الّذين هم وحدهم حماة المسيحيّين وبالخصوص عائلتنا.

أكتب لكم هذه السطور في لحظات ما قبل الانطلاق باتّجاه العدوّ المعتدي لأجل استعادة حقّنا وتراب أرضنا وبلدنا. وأعتذر عن سوء خطّي فأنا جالسٌ داخل حفرة صغيرة مع رفيق آخر قد لذنا بها من قصف الطائرات الحربيّة العراقيّة. أحببتُ أن أكتب إليكم كلمات عدّة حتّى لا أذهب إلى ديار المعبود وفي قلبي كلام لم أقله".

يعلو صوت بكاء والدتي، وتبدأ بالنحيب. تتوقّف الخالة لحظات عدّة عن قراءة الرسالة ريثما تهدأ أمّي. أغلق عيني وأفكّر في حالة أخي جوني عند كتابة الرسالة: شخصان في داخل حفرة صغيرة، تُحلّق فوقهما المقاتلات العراقيّة. أفتح عينيّ مجدّداً على صوت الخالة وأتأمّل في خطّ جوني.

"أبي العزيز والغالي".
 
 
 
 
195

161

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 أنظر إلى أبي وقد اغرورقت عيناه بالدموع.


"أبي العزيز والغالي، الّذي سعى دائماً وأبداً أن يؤمّن لنا الحياة الكريمة الرغيدة، أشكرك على كلّ ما بذلت وأطلب العذر منك على كلّ طلب أو إلحاح كان قد صدر منّي في بعض الأوقات. كلّ ما صدر منّي كان عن جهالة وقلّة بصيرة وإلاّ لم يكن مقصودي أبداً، وليته خرس لساني عن أذيّتك والإساءة إليك. أتمنّى لك وأنا في مكاني هذا التوفيق في أعمالك وشغلك لأجل عيش أفضل ورفاهية للمنزل والأسرة التي ترعاها".

يمدّ الوالد يده ليحمل صورة صغيرة كانت موضوعة على الرفّ، ويتأمّل فيها خلف ستار من الدموع. يتأمّل في صورة لجوني وله ولجونسون.

"وأمّا الوالدة العزيزة، لا أعرف ماذا أكتب لك، صدّقي أنّني كنتُ دائماً وأبداً أسعى أن أُظهر تقديري لأتعابك وجهودك، ليس أنت فقط بل والدي أيضاً، ولكن لم أُفلح. لم تدعني هذه الحرب اللعينة. والدتي الحبيبة في هذه اللّحظات قلبي في غاية الشوق إليك".

صوت بكاء أمّي لا ينقطع. خالتي نفسها عندما وصلت إلى هذه الجملة، خنقتها العبرة ولم تستطع أن تستمرّ بالقراءة. تسكت قليلاً، تمسح دموعها بكمّها ثم تُكمل القراءة من جديد:
"والدتي الحبيبة، في هذه اللّحظة قلبي في غاية الشوق إليك، ففيما أنا جالس على
 
 
 
 
196

162

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 هذا التراب تمرّ أمام ناظري صورتك تأتين فوق رأسي لتُدفئيني وقد حرّمت النوم على نفسك من أجلي.


ليتك في هذه اللحظات كُنتِ هنا، حتى أُمسك بيدَيْك الطاهرتَيْن والحنونتَيْن وأنثر عليهما القبلات. اسعي أكثر من قبل أن تظهري المحبّة لوالدي، وأن لا تغفلي عنه لحظة واحدة، ففي لحظات الهرم والكبر، سيكون والدي العطوف والرؤوف هو صاحبك ورفيقك الوحيد".

تتوقّف الخالة سوري للحظات عن قراءة الرسالة وتنظر إلى تشارلي. يختنق تشارلي بغصّته ويُطأطئ رأسه، من الواضح أنّ قلبه يحترق شوقاً إلى أخيه الأصغر.

"أخي المحترم تشارلي. 

"أخي، لم تأتِ اللّحظة الّتي نجلس فيها إلى جوار بعضنا ونحتفل بنهاية خدمتك. أتمنّى أن تفرح أنت عوضاً عنّي، وكن مطمئناً أنّ فرحك هو فرحي وسعادتك هي سعادتي. حبيبي تشارلي، لي عندك حاجة. وكلامي هذا موجّه إلى جميع أفراد عائلتي. 

"أتمنّى عليك أن تُعطّر كل زاوية في منزلنا بعطر السعادة والفرح. قم الآن وقبّل وجه أمّي. وعِدني أن تكون بارّاً بها على الدوام. في هذه اللّحظات التي أخطّ فيها هذه السطور، أخالك في حضن والدتي. هذه كانت أمنية أخ أصغر منك. أرجو لك السعادة والتوفيق".

تشارلي الّذي كان قد جلس إلى جوار أمّي، بدل أن يُقبّل وجهها، يأخذ يدها ويُقبّلها، والوالدة كذلك تأخذه في حضنها وتُقبّل رأسه ووجهه. 

"أخي العزيز جونسون. وددت أن أقول لك شيئاً وهو أن تحرص أكثر من قبل على سماع كلام أبينا وأمّنا. من الأفضل في جميع أعمالك، أن يكون معك من هو أكبر منك، تستنصحه وتُحدّثه بشأن أيّ عمل تنوي القيام به. وكن على يقين بأنّه لا يوجد أفضل من الأب والأم والأخ ناصحاً للإنسان. أستودعك الله وأتمنّى أن تتمكّن من إتمام وإتقان كلّ عمل تبدأ به في حياتك. إنّ التجوال في الشوارع لا يفيد الإنسان بشيء أبداً".

أُفكّرُ في أنّ جوني، في حالته تلك راح يُفكّر بي أيضاً؛ وأرى الخالة قد استدارت ونظرت إليّ.

"أخي الأصغر والعزيز والجميل نيلسون".
 
 
 
 
197

163

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 أرغب بالصراخ والوثوب عالياً. آخ... ذكره الله بكل الخير. لطالما كان يُناديني كما ناداني في الرسالة بصوتٍ محبّ. "أخي الأصغر والعزيز والجميل نيلسون".


"أيّها المشغول دوماً! أنت أيضاً اهتمّ بدراستك. لا تدع الوالدة والوالد يُذكّرانك دوماً بما ينبغي أن تقوم به. لقد صرت شابّاً ويُمكنك أن تُدرك ما الّذي يجب عليك فعله. لا سمح الله، لا تُؤذِ أو تُسبّب الإزعاج لأبيك وأمّك وإخوتك. أينما ذهبت أطلع العائلة على مكان توجّهك". 

أُردّد في قلبي كلام أخي جملة جملة وأعده بأنّني سأعمل بكلّ ما أراد.

"إخوتي الأعزّاء، هل تعلمون بماذا أُفكّر؟ لقد كُنتُ أتمنّى كثيراً أن أرى زوجاتكنّ؛ خاصّةً زوجة تشارلي، لكنّ الفرصة لم تسنح. فإذا كان ممكناً اذكروني ولو مرّة عند زواجكم وكونوا مطمئنين أنّني أُفكّر بكم دائماً".

"الخالة العزيزة سوري،
عندما تصل الخالة سوري إلى ذكر اسمها تضع الرسالة على صدرها وتقول: "فدتك نفسي يا خالتي، أن ذكرتني".

"خالتي العزيزة سوري، 
"لقد فقدتِ عزيزاً آخر من أعزّائك، لكن لا تيأسي، هكذا هي الحياة. تطلّعي إلى الأمام وكوني في استبشار لحياة أفضل. كلّ من غادرك، يُفكّر بك بالتأكيد.

أوصي عائلتي أن يهتمّوا بخالتنا العزيزة هذه، في جميع حاجاتها وشؤونها وأن يكونوا لها يد العون والسند.

أطلب العذر من جميع معارفنا، من جميع الأقرباء والعائلة، أعمّ من الأخوال وزوجات الأخوال وأولاد الأخوال، والأعمام طبعًا، وأولاد الأعمام، على أنّني كُنتُ قد أثقلت عليهم أكثر من الحدّ المطلوب، كذلك الأمر من عمّاتي العزيزات. إذا كُنتُ قد قمت بعملٍ ما آذاهم جرّاء جهلي فأطلب العفو منكم. جدّي وجدّتي، أستودعكما الله العزيز، أوصلوا سلامي أيضاً إلى جميع الأصدقاء خاصّة أبريم، ويوسف وعائلتَيْهما".

تضع الخالة إصبعها تحت الكلمات وهي تقرأ الرسالة حتى لا تضيع بين السطور. وأنا أتبع إصبعها بعيني، لقد وصلنا إلى آخر الرسالة، بقي فقط سطران.
 
 
 
 
198

164

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 "وأنا على يقين أنّ روحي من هذه اللّحظة وما بعدها ستكون في سعادة وقرينة النعمة، وذلك بدعائكم أنتم. فقط أرجو منكم أن لا تحزنوا وتتأسّفوا وتبكوا كثيراً؛ لأنّه لا قدرة لي على الوفاء بقيمة محبّتكم".


ابنكم مع خالص تقديري
12/03/1985

أشعر مع هذه الرسالة أنّ حبّي لأخي جوني قد تضاعف مئات المرّات. أقف لأجلب صورته الموضوعة على الرف وأمطرها بالقبلات، وأهمس في أذنه: أُحبّك كثيراً يا أخي جوني!

* * *

إنّه فصل الشتاء والجو باردٌ بارد. النوم تحت "الكرسي"1 في هذا الصقيع الشتوي لذيذ جدًّا. تشارلي الّذي نام في الطرف المقابل تماماً من "الكرسي" يوقظني بركلات من قدمه على قدمي، ويُخرّب حلاوة نومي قائلاً:
 

1- "كرسي" أو المنضدة هي وسيلة تدفئة تقليديّة، يستخدمها أهالي القرى الباردة في إيران وأفغانستان في الشتاء. وهي عبارة عن طاولة خشبية بمساحة متر مربع أو أكثر وارتفاع ثلاثة أشبار أو أكثر، تُغطّى بلحاف كبير من مقاس 4x4 او 7x7 متر حتى لا يخرج الدفء الحاصل من الموقد الموضوع تحت الطاولة ولا يضيع هدراً. ثمذ يوضع على اللحاف شرشف مزين يوضع عليه الشاي وباقي مستلزمات السهرة العائلية. ويجلس أفراد الأسرة حول الكرسي من الأطراف الأربعة فيمدّدون أرجلهم ويتغطّون بأطراف اللحاف الكبير. وفي أيام الشتاء القارس ينام أفراد الأسرة حوله أيضاً. (المعرب).
 
 
 
199

165

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 - نيلسون، طرقٌ على الباب، قم وافتح.


أفتح عينيّ الزائغتَيْن وأقوم من تحت "الكرسيّ". إنّها الساعة التاسعة والنصف صباحاً، والوالدة ليست في المنزل. لعلّها قد ذهبت لشراء الخبز للفطور. أقوم من مكاني وأفتح الباب. يُسلّم عليّ رجلٌ شابٌّ وممتلئ، أتثاءب وأردّ السلام.

- معذرةً أيّها الصغير، وكأنّي أيقظتك من نومك. هل هذا منزل الشهيد جوني بت أوشانا؟ 

لشدّة النعاس، أهزّ رأسي إيجاباً من دون أن أتكلّم. يخطر في بالي للحظةٍ أنه قد يكون أتانا بخبر عن جثمان أخي جوني ويطير النعاس من عينيّ.

أقول بانفعال: نعم، ههنا. أنا أخوه. هل من خبر؟ هل وجدتموه؟

- كلا وللأسف. لقد أردنا اللّيلة أن نأتي للقائكم في المنزل وأردتُ أن أتأكّد إن كان الوالد والوالدة موجودَيْن أم لا.

تزول حماستي وأقول:
- والدي ليس في المنزل، إنّه في سفر. أمّا والدتي وأخي الأكبر فموجودان.

- إذاً سوف نثقل عليكم اللّيلة لمدّة نصف ساعة.

يقول هذا ويُسلّم ويذهب.

حينما رنّ جرس المنزل كان الجوّ في الغرفة دافئاً. تجول والدتي بنظرها على الغرفة لتتأكّد أنّ كلّ شيء مرتّب وفي محلّه. ثم تقول لي: نيلسون حبيبي، اذهب وافتح الباب ماما.

الرجل نفسه الّذي أتى صباحاً ومعه عدّة أشخاص آخرين، جاؤوا محمّلين بالورد والحلوى. يدخلون إلى المنزل ويُسلّمون على والدتي وتشارلي ويعتذرون عن مزاحمتهم ليلة عيد الميلاد. ووالدتي كما هي عادتها تستقبل ضيوفها بحميميّة ودفء وتشكرهم على تحمّلهم عناء المجيء إلى منزلنا.

يجلس الضيوف وينظرون إلى باب المنزل وجدرانه. تمرّ دقائق عدّة. وفيما كانت والدتي تُحضر الشاي، يقول أحدهم: المعذرة إنّنا صامتون قليلاً، ففي النهاية ضيفكم الأساسي ليس نحن. الضيف الأساسي يصل بعد دقيقة أو دقيقتَيْن. تقول والدتي بكلّ بساطة: "لا مشكلة، أيضاً مجيئه يُشرّفنا، ننتظر مجيئه.
 
 
 
 
200

166

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 في هذه اللحظة، يرنّ جرس المنزل. أقف لأذهب وأفتح الباب فيُمسك ذلك السيّد بيدي ويقول: لديّ كلام معك اجلس، صديقي يفتح الباب.


أجلس لأسمع كلامه. يقول: ضيفكم الأساسي الليلة هو السيّد رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي.

حينما تسمع أمّي اسم السيّد الخامنئي تقف بارتباك وتذهب باتجاه الباب ونركض نحن خلفها. تلتقي والدتي بـالسيّد الخامنئي أسفل الدرج. تُسلّم عليه وتُقبّل يده من فوق عباءته، وأنا وتشارلي أيضاً، نُسلّم عليه عند مدخل المنزل ونتمنّى عليه الدخول. نجلس أنا وتشارلي والوالدة و"السيّد" على طاولة السفرة، ويبدأ هو بالتحيّة وتلطيف الأجواء. يسأل والدتي فيما بعد عن سبب تقبيلها ليده، فتُجيبه: سيّد، نحن في الكنيسة نُقبّل يد القسّ وأنتم أيضاً بالنسبة إليّ مثل القس، ولهذا السبب طلبت إجازتكم بتقبيل يدكم.

ينظر "السيّد" إلى الصور على الرفوف في الغرفة ويُشير إلى إحداها، ويسأل: هل هذه صورة الشهيد؟

أقوم مسرعاً وأجلب صورة جوني الموضوعة على الرف وأضعها في يد "السيّد". يتأمّل الصورة وتبدأ والدتي بالتعريف بجوني: 
- عندما أقول إنّ جوني كان الأفضل يقولون إنّ هذا كلام الأم، ولكنّي أقول للجميع، هذا لا علاقة له بكوني والدته، كان جوني من بين كلّ أفراد العائلة فريداً بلحاظ إيمانه وأخلاقه
 
 
 
 
201

167

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 ودرسه، كان معروفاً بذلك، لم يكن يترك كنيسته. كان ملتزماً بالعبادة بالكنيسة كلّ أسبوع.


مكان الوالد وجونسون خالٍ في المنزل. الوالد سائق شاحنة وقد أخذ ليلة البارحة حمولة إلى كرمان. وفي أسرع تقدير يصل إلى المنزل بعد الغد صباحاً. جونسون أيضاً، قد سافر قبل شهرَيْن إلى ألمانيا لأجل الدراسة. ليس هنا الآن ليُمتّع ناظرَيْه برؤية السيّد الخامنئي عن قرب. 

بعد تطييب خاطر والدتي والتحدّث عن مقام الشهداء العالي عند الله، يتحدّث "السيّد" معي ومع تشارلي. يسألنا ما إذا كُنّا مشغولَيْن بالدراسة أو العمل. وتغمر السعادة أمّي من وجود "السيّد" في منزلنا.

يقف تشارلي ويذهب ليحضر الشاي. كانت أمّي قد أعدّت لأجل أيّام العيد بعض الحلوى وقد وضعت طبقَيْن من هذه الحلوى على الطاولة. عندما تُقدّم أمّي الحلوى إلى "السيّد"، يأخذ بغاية اللّطف قطعة ويُقدّمها لنا، ثم يأخذ قطعة لنفسه ويأكلها. حلاوة هذه الحلوى تسند القلب.

منذ بداية هذه الزيارة شغل بالي صبي صغير كان قد جلس بجانبي مقابل "السيّد" تماماً. كان عمره تقريباً عشر سنوات. وكما هو شكل تلاميذ هذه الأيام، كان قد قصّر شعر رأسه بالماكينة، فأدّى ذلك إلى أن تبرز جاذبية وجهه أكثر. وعندما ألتفتُ من يكون هذا السيّد تزداد حماستي! إنّه ابن "السيّد" الخامنئي! لو أنّ شخصاً في الشارع أشار إليه وقال لي هذا الصبي هو ابن رئيس جمهورية إيران لما كان بالإمكان أن أُصدّقه. وهل من الممكن ذلك؟ بهذا اللّباس وهذا المظهر البسيط جدًّا؟ أصلاً لا يُمكن أن يُصدّق أن يكون ابن وزير
 
 
 
 
202

168

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 أو حتى ابن محام، فكيف بابن رئيس الجمهورية! باتت الآن كلّ حواسي متوجّهةٌ إليه، وأرمقه بعيني. يا ليتني كنتُ أستطيع أن أُمسك بيده وآخذه إلى الزقاق. أجول به في جميع المحال التي يرتادها الأطفال وأقول انظروا! هذا ابن السيّد الخامنئي. نعم، ابن رئيس الجمهورية، لقد جاؤوا إلى منزلنا، والآن والده "السيّد" نفسه موجود داخل بيتنا الصغير.


تمّر الدقائق بسرعة وأنا غارق في هذا التفكير، ويهمّ الضيوف الأعزّاء بالمغادرة. ينقبض قلبي من انتهاء هذه الزيارة العذبة.

قبل أن يودّعنا السيّد الخامنئي، يسأل إن كُنّا بحاجة لأيّ شيء، أيّ خدمة أو حاجة أو طلب.
 
تقول والدتي وتشارلي إنّ أمورنا حسنة، و"طلبنا الوحيد هو من الله فقط؛ أن يحفظكم سالمين". يأخذ "السيّد" من أحد مرافقيه رقم هاتف مكتبه ويُعطيه لوالدتي ويقول: "في أيّ وقت إن احتجتم إلى أيّ شيء لا تتردّدوا". 

ثم يُقدّم هديّة لوالدتي ويستجيزها بالانصراف. 

تغرق أمّي في خجلها:
- ما هذا الكلام يا سيّد. نحن رهن إشارتكم أنتم، دمتم في حفظ الله ورعايته. لقد مننتم علينا كثيراً أن شرّفتمونا في منزلنا. رفعتم رؤوسنا وأدخلتم السعادة على قلوبنا. 

يردّ عليها "السيّد" أنّه لم يفعل شيئاً، فقط قد قام بواجبه. ومن دون أيّ ضجيج أو جلبة يركب السيّارة ويذهب. بعد عدّة دقائق على ذهاب "السيّد" يتدافع الجيران إلى داخل المنزل. لا أعلم من أين عرفوا، ولكنّ جميع أهل المحلّة باتوا يعرفون أنّ رئيس الجمهورية قد زارنا في منزلنا.
 
 
 
 
203

169

الرواية العاشرة: مفقود الأثر

 يسألون ويستفسرون، كلّ منهم مشغول بمعرفة أمرٍ ما؛ على أيّ كرسي جلس "السيّد"؟ وماذا قال؟ وما الذي أكله في منزلكم؟ وماذا قُلنا نحن؟ وماذا طلبنا؟ وماذا جرى؟


كُنتُ أُريد أن أروي قصّة ما جرى في المدرسة صباح الغد أمام كلّ الطلّاب، ولكنّ زملاء عدّة مثل بقيّة أهل المحلّة قد أتوا إلى منزلنا، وسألوني أيضاً عن مجريات هذه الزيارة. وكانوا بعد جوابي عن كلّ سؤالٍ يقولون: هنيئاً لك يا نيلسون! ليتنا كُنّا مكانك.

قصّة مجيء ابن "السيّد" لم آتِ على ذكرها أبداً، وأدعها للغد لأُخبر الجميع عنها في المدرسة.


السيّد نيلسون بت أوشانا، أخو الشهيد 10-2014 م
 
 
 
 
204

170

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد جوزيف شاهنيان في تاريخ 26/12/1985م.


الشهيد جوزيف شاهنيان

مكان الاستشهاد: محطة الحسينية - خوزستان

تاريخ الاستشهاد: 16/09/1985م
 
 
 
 
206

171

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 كان مسرح "وحدت" قد استضاف الشاه وفرح (زوجته) ورئيس الوزراء أمير عباس هويدا. بالطبع في تلك الأيّام، كان اسمه مسرح "رودكي". لا أذكر أيّ حفل موسيقيّ تحديداً، ولكنّني أذكر أنّ هؤلاء الثلاثة كانوا قد جاؤوا إلى المسرح لحضور حفل موسيقيّ. 


لججتُ على مسؤول المراسم كثيراً لألتقي بالسيّد رئيس الوزراء، لكنّني مهما أصرَرْت لم يقبل. وفجأة خطر ببالي أن أقول إنّني أرمنيّ، لعلّ الأمور تتحلحل. "سيّد سينائي أنا أرمنيّ، والظاهر أنّك لا تعرف مدى اهتمام رئيس الوزراء بالأرمن"، اختلقت كلامي! فهويدا لم يكن يهتمّ من بين جميع الفرق والتيّارات والمذاهب والفئات إلاّ بالبهائيّين. ظنّ سينائي مسؤول المراسم أنّني صادق فيما أقول وأنّ هويدا مهتمّ بالأرمن بشكل جدّيّ. واتفقنا على أن أنتظر في زاوية، فإذا ما تمّت مراسم الحفل يُشير لي سينائي لأتوجّه إلى هويدا وأُعبّر له عن مودّتي وإخلاصي.

انتهت المراسم. وفيما انشغل الجميع بالتعبير عن ابتهاجهم وسرورهم ذهب سينائي إلى هويدا وأخبره بالأمر. رحّب هويدا بسرور! فأشار إليّ سينائي أن أتقدّم. ذهبت. ومن دون أن أُلقي السلام، مدّ هويدا يده ليُصافحني. رأيتُ أنّه من سوء الأدب أن لا أردّ مصافحته. مددت يدي للمصافحة وضغطت قليلاً على يده. ثم حدّقت في عينَيْه وقلتُ:
- "أنا وبالنيابة عن جميع الأرمن أطلب منك أن تُحسن معاملتك مع الشعب وأن تسمع صوتهم. انزع قفازك الحديدي من يدك واهتم بمطالب الشعب. لن تصل بحكومة الشرطة وحكومة الرعب وحكومة التعذيب إلى تحقيق أيّ هدف، وسيأتي يوم تدفع فيه ملايين الدولارات لتُنقذ نفسك، ولكنّك لن تُوفّق لذلك! كن مستعداً لذلك اليوم"!. 

وحتى يُظهر أنّه متنوّر ويتقبّل الرأي المخالف، وقف وأنصت إلى كلامي. لكن عندما أنهيت كلامي سحب يده من يدي وقال: "خسارة أنّك أرمني! ولو لم تكن لرأيت أيّ مصيبة سوداء كُنتُ جعلتهم يُنزلون على رأسك هنا فتعرف من يحكم هذا البلد!
 
 
 
207

172

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 ثم نظر إلى سينائي وقال: "اسحبوه من ذنبه وارموه خارجاً"!


لماذا أنا الأرمنيّ مخالفٌ لنظام الشاه؟ لألف سبب وسبب. في الأساس، المواجهة مع الشاه ليس فيها أرمنيّ وغير أرمنيّ. مثلاً قولوا لي هل ترتبط أهمية استقلال البلد بمذهب الناس ودينهم؟ أحد تلك الأسباب الألف للنضال ضدّ الشاه هي مسألة استقلال البلد نفسها. كان الشاه قد صار مطيّةً للبريطانيين وعبداً للأمريكيين. كان قد صار وبشكل رسمي لعبة تُحرّكها يد الأجانب! وكان الشاه ولسوء الحظ يؤمن بهذه التبعية بكلّ وجوده. أنتم بالتأكيد قد قرأتم التاريخ. لقد أتى الأجانب بمحمد رضا بهلوي إلى الحكم، مرّة فعلها البريطانيون تلبية لرغبة رضا خان ومرّة الأمريكيون في أحداث انقلاب التاسع عشر من آب. ولهذا السبب، كان الشاه يعتبر نفسه مَديناً للأجانب ومكلّفاً بإطاعتهم. تخيّلوا كيف أنّ هذا الشخص يقتل تحت التعذيب كلّ هؤلاء الشباب الذين هم بعمر الورود حتى لا يتهدّد أمن الأجانب!

لقد كان وضع البلد مؤسفاً إلى هذا الحدّ الذي صارت فيه قيمة مَلِكه مساوية لكلب أمريكي. لا أعلم إنْ كُنتم قد سمعتم خطاب الإمام الخميني حول اتفاقية حصانة الأجانب (الکاپيتولاسيون)؟! لقد سمعتُ هذا الخطاب أيّام النضال إلى درجةٍ أنّني حفظت معظم فقراته عن ظهر قلب: "لو أنّ خادماً أمريكياً أو طبّاخاً أمريكياً اغتال مرجعكم في وسط السوق، فإنّ المحاكم الإيرانيّة لا حقّ لها في محاكمته، أمّا لو دهس شاه إيران كلباً أمريكياً فإنّه سيُستجوب ويُحقّق معه فوراً!".

لو أردتُ أن أُخبركم عن مفاسد النظام البهلوي لاستطردتُ وانحرفتُ عن موضوع البحث. لديّ كلام كثير في هذا المضمار، لو أكتبه فسيملأ سبعين مجلّداً! أيّ أعمال لم يقم بها الشاه في ذلك الزمان كي يستميل الشباب ويُبقيهم بعيدين عن السياسة: بدءاً من تأسيس المقاهي والملاهي الليلّية والنوادي ومراكز الفساد وبيوت القمار والخمّارات، إلى صفوف تعليم الرقص المختلط وآلاف المصائب والسموم!.

فلندع ذلك الآن! ذلك اليوم، رموني خارج مسرح وحدت. وانقضى الأمر! بالنسبة إليّ، كان واضحاً كضوء الشمس أنّ أمثال هويدا سيؤولون إلى مثل هذه الحال. لقد حفظتُ تاريخ الثورة الفرنسيّة، ودرست انتفاضة سبارتكوس وكلّ ثورات العالم ضدّ الظلم والجور.

في الأيّام الأولى بعد الثورة، عندما سمعتُ أنّ هويدا قابع في سجن آفين. ذهبت إلى الحاج محمود طالقاني وطلبت منه أن يكتب لي تصريحاً يُمكنني من لقاء هويدا. كتب وذهبت. ناديته في زنزانته، فجاء قبالتي. قلتُ له: هل تعرفني؟ أنا ذلك الشاب الأرمنيّ نفسه الذي قُلتَ له في مسرح وحدت ذلك اليوم: "خسارة أنّك أرمني"! ألم أقل لك إنّك ستُنفق ملايين الدولارات يوماً ما لتُنقذ نفسك ولن تستطيع؟!.
 
 
 
208

173

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 آه، صحيح. تسألون من أين لي أن أعرف السيّد محمود طالقاني؟ حسناً، أنا من مناضلي الصفّ الأول! ليس فقط طالقاني، لقد كُنتُ أعرف باهنر ومفتّح ورفسنجاني وبازركان وسعيدي وغفّاري وربّاني الشيرازي وخلخالي و... والجميع، من كلّ فرقة وتيّار. كُنتُ مع جميعهم في وقتٍ ما رفيق أسر. لقد اعتُقلتُ ثماني مرّات. وكُنتُ قد انتخبت لنفسي اسماً مستعاراً حتى لا يعرف أحدٌ أنّني أرمني. استبدلتُ نوريك ديركوركيان باسم نور الله ثابت إيماني!


هل أُحدّثكم عن السيّد الخامنئي. ورغم أنّه كان في مشهد إجمالاً لكن جرت حادثة جعلتني أتعرّف إليه هو أيضاً. لقد رافقته مدّةً في الأسر في سجن قزل قلعه في طهران. ما زلت أذكر، كان قد استغرب كثيراً كوني أنا الأرمنيّ محبّاً للأدب الفارسي. في الواقع هو نفسه كان محبّاً جدًّا للأدب والشعر وأمثال هذه الأمور، لا أعلم إن كُنتم على اطّلاع أم لا! وأنا أيضاً، كُنتُ محبّاً للأدب إلى درجة أنّني كُنتُ متيّماً بمنصور الحلّاج، وعاشقاً لـ "إيرج ميرزا". لا تسيئوا الظنّ بي لحبّي لإيرج ميرزا. فقد تعلّقت به لأنّه في عين كونه أميراً كان صاحب خطٍّ فكريٍّ خاص. لم يكن نديماً للأرستقراطيين، وكان يخجل أن يقول إنّه أرستقراطي. كان يُعجبني لهذا السبب، لا بسبب أراجيفه وشطحاته اللّاذعة التي اشتُهر بها! كان ديوان شمس بحوزتي دائماً وكُنتُ أقرأ فيه. أحد التذكارات الوحيدة التي أحملها من فترة النضال هو ديوان شمس الذي ما زال معي إلى الآن.

لقد استغرب السيّد الخامنئي كثيراً كوني محبّاً للأدب. ومن الخصوصيّات الأخلاقيّة البارزة للسيّد الخامنئي في السجن التي لفتت نظري كثيراً، هي سلوكه الموحّد مع الجميع في السجن. 

لم يكن يهتمّ أنّ هذا يساري وهذا يميني. لقد كان جوّ السجنّ قمعيّاً بحيث إنّه كان يستلزم اتحاداً ما في المقابل، وكان هو محور ذلك الاتحاد دوماً. لم يكن يسمح
 
 
 
 
209

174

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 للاختلاف بين التيّارات السياسية المختلفة أن يتجذّر. 


لقد رأيتُ الإمام الخميني أيضاً مرّة عن قرب. في النهاية، لم يكن هناك شخص في خطّ المقاومة لا يتمنّى أن يرى الإمام، حتى أنا الأرمنيّ. كان ذلك في سنة تسعة وسبعين في الأيام التي سبقت العيد، وكان الإمام قد استقرّ في المدرسة العلوية. تمنّيتُ على أحد الإخوة أن أرى سماحته. قُلتُ له: إن لم يكن الأمر ممكناً عن قرب، أقلّه أراه من مسافة غير بعيدة. لمّا رأيته ارتجف كلّ جسمي من هيبته. لم أكن أبداً قد رأيتُ أيّ إنسان في حياتي بمثل مهابة الإمام الخميني.

كان معي أيضاً مصحف شريف باللغة الأرمنية! طباعة 1909 ميلاديًّا. ولا زال معي إلى الآن. كان هذا القرآن رفيقي دوماً، وكُنتُ أدرسه حتّى أفهم دين الإسلام بشكل أفضل. بعد الثورة ظنّ أصدقائي أنّني صرت مسلماً حتى عقدت قراني عند الأسقف مانوكيان في كنيسة كريم خان. عندما أخبرتهم عن المصحف لم يُصدّقوا بوجود نسخة من القرآن الكريم باللّغة الأرمنيّة. كانوا يقولون ليس أنّنا لم نرَ مصحفاً باللغة الأرمنية من قبل، بل إنّنا لم نسمع حتى بوجود نسخة مترجمة بالكامل.

عندما استشهد جوزيف أخو زوجتي في الجبهة نقلوا خبر شهادته لي أولاً قبل الجميع. قالوا في بادئ الأمر إنّه مصاب، وطلبوا منّي أن أذهب للقائه في مستشفى في الأهواز.
 
 
 
 
210

175

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 كُنتُ قد هيّأتُ مقدّمات السفر إلى الأهواز وصرتُ جاهزاً للانطلاق حين اتصلوا بي وقالوا إنّهم أحضروه إلى طهران، إلى معراج الشهداء1. ظننتُ أنّ معراج الشهداء هو اسم مستشفى، أخذتُ العنوان واشتريتُ باقة ورد وبعض الحلوى ومعلّبات الفاكهة استعداداً للقاء. لكن ما إن وصلتُ طالعني برّاد حفظ الموتى، وعلمتُ أنّه قد استشهد. 


كان لافتاً بالنسبة إليّ تاريخ شهادة جوزيف. لقد استشهد في اليوم السادس عشر من أيلول، وهو تاريخ زواجي من أخته، وأيضاً تاريخ وفاة أحد إخوتي. كان جوزيف من لاعبي كرة القدم المحترفين، وكان يلعب في فريق "مسيس". لقد نال شهادة دبلوم مهني في الميكانيك. وكان متخصّصاً في إصلاح آلات النسيج، ولم يكن في كلّ إيران إلا قلّة فقط لديهم هذا الاختصاص.

وماذا أقول عن اللقاء؟!

حسناً. كان اللّقاء سنة خمسة وثمانين. في ذلك الوقت كان رئيساً للجمهوريّة، اتصل بي والد زوجتي يومها وقال إنّ لدينا ضيوفاً الليلة، تعال إلى منزلنا. والد ووالدة زوجتي لا يستطيعان التحدّث بطلاقة باللّغة الفارسيّة، وكلّما أتاهم ضيف غير أرمنيّ، يطلبان منّي المجيء، لأنّني متمكّن من الفارسية أكثر من الأرمنية!

ذهبتُ إلى منزلهم عصراً. في البداية جاء شخصان أو ثلاثة، محمّلين بالورد والحلوى ثمّ راحوا يتحقّقون من المسائل الأمنيّة. في النهاية ونتيجة تجاربي السابقة في حرب العصابات، فهمت سريعاً ماذا كان يجري. كنتُ متأكّداً أنّ أحد المسؤولين ذوي المناصب العليا سيأتي. من جهة أخرى، كُنتُ قد سمعتُ من أصدقائي الأرمن أنّ السيّد الخامنئي قد زار بيوت بعض الشهداء الأرمن. تحاذقت وقُلتُ لأحد هؤلاء السادة، وكان واضحاً أنّه مسؤولهم: جنابكم! هل المقرّر أن يأتي رئيس الجمهورية؟ انتفض من مكانه. لقد فزع من كيفية معرفتي ومن انكشاف الأمر. قُلتُ: لا تقلق! أنا سأبقى جالساً ههنا، لن أتكلّم مع أحد ولن أتصل بأحد ولن أقوم بأيّ عمل. سنجلس بانتظار تشريف سماحته!
 

1- معراج الشهداء هو مكان للحفظ المؤقّت لأجساد الشهداء المطهّرة في المدن ومن جملتها طهران. تُنقل الأجساد من مناطق الجبهة المختلفة إلى هذا المكان حتى تأتي عوائل الشهداء وتتعرّف على أجساد أبنائها وتشرع في مقدّمات الدفن.
 
 
211

176

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 ذهبتُ بعد ذلك إلى عمّي وزوجته وأخبرتهما بالأمر. لم يُصدّقا، خاصّة والد زوجتي الّذي كان يُحبّ السيّد الخامنئي كثيراً. نبّهتُ عمّي إلى مسألة إصابة اليد اليمنى للسيّد الخامنئي حتى لا يغلبه الشوق فيضغط عليها بشدّة عند مصافحته!


عندما حضر سماحته جلسنا جميعنا حول طاولة الطعام، تماماً كمثل أعضاء الأسرة الواحدة. كانت جلسة في غاية القرب والحميميّة.

في ذلك اليوم كُنتُ قد ارتديتُ ملابس من الشاموا الأحمر والأسود، وكان "السيّد" قد ارتدى جبّةً رمادية وعباءة سوداء، كان أنيقاً! أذكر في السجن أيضاً حينما كُنّا نراه أنه كان دائماً نظيف الهندام ومرتّباً. 

بعد السلام والسؤال عن الأحوال، تلاقت نظرتانا. وكأنّما كان يريد أن يتذكّرني لكنّ ذاكرته لم تُسعفه. قُلتُ عساه يتذكّر:
- سيّد، هل تذكر سجن قزل قلعه في طهران، سنة ثلاث وستين أو أربع وستين، داخل الباحة، بعد ظهر تلك الأيام، تحت شجرة الصفصاف تلك حيث كُنتَ تأتي لتسألني عن اللّغة الإنكليزيّة؟! أنا نوريك! نوريك الأرمنيّ! نور الله!

لقد تذكّر، قام من مكانه ليُحيّيني مجدّداً. توجّهت أنا إليه فاحتضنني كمثل صديق قديم.

كُنتُ في ذلك اللّقاء ألعب دور المترجم. والد زوجتي ووالدتها يفهمان اللّغة الفارسيّة
 
 
 
 
 
212

177

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 بالطبع، لكنّهما لا يستطيعان التحدّث براحة وطلاقة. كُنتُ أُترجم للسيّد كلامهم. وبالتأكيد فإنّ أوّل ما قاله السيّد الخامنئي لعمّي وزوجته هو ضرورة أن يسعيا للتحدّث أكثر باللّغة الفارسيّة حتى تصير سهلة يسيرة عليهما.


في بداية اللقاء طلب السيّد الخامنئي صورة جوزيف، وراح يتأمّل في صوره. كان ينظر بدقّة متناهية إلى وجه الشهيد وكأنّه يرى في ذلك الوجه شيئاً لم نكن نحن نراه.

ثم سأل والداه عنه. تحدّثتْ أمّ الشهيد عن ابنها الكبير جوزيف:
- كُنتُ عاملة في مدرسة. وكلّما كنتُ أعود من عملي إلى المنزل، أرى أنّ كلّ أعمال المنزل قد أُنجزت ولم يبقَ شيء لأقوم به. كان جوزيف يُنجز كلّ الأعمال، حتّى أعمال الخياطة كان يُنجزها هذا الصبي. لا أذكر أصلاً أنّه قد خاصم أحداً يوماً ما. كان إلى هذه الدرجة لطيفاً ومحبّاً. أخوه جريك مشلولٌ من ناحية القدمَيْن. كان جوزيف يقوم بكلّ ما يحتاجه جريك من رعاية واهتمام. عندما أراد الذهاب إلى الجبهة أوّل مرّة، استيقظ في الصباح الباكر ولم يوقظ أحداً منّا. لم يكن يريد أن نتأثّر عند وداعه. 

سأل "السيّد" عن كيفية معرفة الأم بشهادة ابنها فنقلت له مناماً كانت رأته قبل شهادته:
- قبل عدّة ليالٍ من ذهابنا إلى "معراج الشهداء" ومعرفتنا باستشهاده، رأيتُ في المنام أنّ شخصاً يُريد أن يدخل منزلنا بالقوّة. تصدّيتُ له ومنعته. لكنّ ذلك الشخص نفسه
 
 
 
213

178

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 ذهب وأحضر خشبة طويلة جدّاً، وبتلك الخشبة ضرب مصباح بيتنا وأطفأه. وفي الواقع، بعد جوزيف أُطفئ مصباح بيتنا.


دعا السيّد الخامنئي لوالدة الشهيد كثيراً. وسأل الله أن يُسكّن قلبها ويُسعده دوماً. ثمّ توجّه بالحديث إلى والد جوزيف وصار يسأله عن ولده الشهيد.

- كان الأول في الرماية دائماً. كان رامياً ماهراً بامتياز، لو لم يستشهد في القصف لكان بعيداً جدّاً أن يُستشهد في هجوم وأمثاله. كثير من رفقائه وقادته كانوا يقولون إنّ هذا الصبي رامٍ محترف. لم تكن رمياته لتُخطئ أبداً. كانت دوماً تستقرّ في الهدف تماماً. آخر مرّة أتى فيها خلال مأذونيّة، كان يُردّد أنّه يُحبّ أن يصير شهيدَاً. قلتُ له: "ما هذا الكلام؟" قال: "أبتاه! أنا جنديّ الإمام الخمينيّ! واحد من جيش العشرين مليونًا الذي تحدّث عنه الإمام". ذهب ولم يعد.

وأنا أيضاً حدّثتُ السيّد الخامنئي عن تشييع جثمان جوزيف:
- كانت أيام عاشوراء. لقد أُقيم له تشييعٌ حاشدٌ لا تُرى له بداية ولا نهاية. كان الجميع يرتدون ثياباً سوداء، وراحوا تحت تابوت جوزيف يلطمون صدورهم ورؤوسهم ويبكون مردّدين حسين، حسين. لقد تحوّلت الجنازة إلى ثورة يا سيّد! صدّق أنّ الأرض كانت تهتزّ تحت أقدامنا. 

سأل "السيّد" أيضاً عن أحوال جريك، عن سبب مرضه وتحوّله إلى الكرسي المتحرّك. وجريك أيضاً تحدّث عن أخيه، وأخبر "السيّد" بمناماته أيضاً:
- كان لطيفاً جدّاً، في غاية اللّطف. أنا أُحبّ كرة القدم كثيراً، ولكن بسبب ما أُعانيه من شلل في قدمَيَّ، لا أستطيع الوقوف فكيف باللّعب. لقد اشترى جوزيف لأجلي مرمى أهداف صغير، وكُنّا نلعب معاً داخل المنزل كرة القدم من جلوس. بعد شهادته، كنتُ أرى جوزيف دائماً في المنام. وفي آخر مرّة، منذ عدّة أيّام سبقت، رأيتُه في المنام جالساً في مكان جميل جدّاً، كثيف الخضرة وكثير الورود، شعرت بالغيرة والحزن! وعندما رأى حزني طلب منّي أن لا أقلق، وأخبرني أنّه سيأتي ليأخذني إليه. 

في ذلك الوقت لم يكن وضع منزل عائلة الشهيد جيّداً، كان طابقاً سفلّياً يُشبه القبو. وكان مستأجراً أيضاً. عندما سأل "السيّد" عن أوضاع المنزل وأوضحتُ له أنّ البيت
 
 
 
 
214

179

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 مستأجرٌ، طالب مكتب العلاقات العامّة بالمتابعة لمساعدة والد الشهيد في تأمين منزل صغير مناسب في نفس محلّ إقامتهم. 


عند انتهاء اللقاء ودّع "السيّد" جريك قبل الجميع وبتودّد استثنائي، ثمّ أهدى والد الشهيد جوزيف ووالدته مسكوكتَيْن ذهبيتَيْن وختم بالسلام وذهب!

أجل، ما زلتُ أذكر هذه الأمور. غداة تلك اللّيلة، عندما أخبرنا الجيران وأهل المحلّة عن زيارة رئيس الجمهوريّة إلى منزلنا، تقريباً لم يُصدّق أحد! والحقّ معهم في الواقع. فليس مبالغة أن نقول إنّ "السيّد" الخامنئي كان أهمّ وأرفع شخصيّة في البلاد بعد الإمام الخميني. بعد عدّة أيام حينما أرسلوا لنا صور اللّقاء، أطلعناهم على الصور. كان صعباً بالنسبة إليهم أيضاً أن يُصدّقوا أنّ "السيّد" قد جاء إلى منزلنا من دون أيّ مراسم.

***

أحمد اللّه، والد الشهيد ووالدته بخير. بالطبع يُعانيان من بعض الأمراض لكنّ أحوالهما جيّدة. في السنوات الّتي تلت ذلك اللقاء أجرت مجموعة من النشرات والمجلّات المختلفة مقابلات مع والدَيّ الشهيد عدّة مرّات، وكلّما كان يأتي ذكر لقاء السيّد الخامنئي في
 
 
 
 
215

180

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 منزلهما كان والدا جوزيف يقولان: إنّه خلّد بحضوره ليلةً لا تُنسى في حياتنا، إلى درجة أنّنا حتى اليوم نستأنس بتذكّر بهجة وسرور ذلك اللقاء.


والدا الشهيد شاهينيان

السيّد نوريك ديركوركيان، صهر عائلة الشهيد شاهينيان 06/2014م.
 
 
 
 
216

181

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد وارطان آغاخانيان في تاريخ 26/12/1985م.



الشهيد وارطان آغاخانيان
مكان الاستشهاد: جزيرة مجنون – العراق
تاريخ الاستشهاد: 09/12/1985م
 
 
 
 
218

182

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 اللّيلة هي ليلة العيد، ليلة ميلاد السيّد المسيح. والمقرّر أن نذهب أولاً لمعايدة بيت العم غبريال. ريثما أجهزّ ذهب إدموند لشراء بعض الحلويات. أُفتّش بين ملابسي على لباس داكن اللّون، ثوبٍ رصاصيّ وحجاب أسود. صحيح أنّ الليلة هي ليلة العيد، ولكنّ العم غبريال وزوجته وأرتوش في حالة حداد، حداد على ابنهم وارطان. وليس من المناسب أن نذهب إلى منزلهم بلباس فاتح اللّون أو مفرح.


لقد تأخّر إدموند ولا أثرَ له. لا بدّ أنّ محلّ الحلواني يزدحم بالزبائن في ليلة العيد، وحتى يصل الدور إلى إدموند سيطول الوقت. فيما أنتظر أحمل دفتراً كنتُ قد كتبتُ عليه مختارات من الأشعار الفارسيّة وأُطالع تلك الأبيات. إنّها باقةٌ من أشعار سعدي وحافظ ومولوي وصائب. 

أنا أَنْظُم الشعر باللّغة الأرمنيّة وأعشق أشعار عظماء الشعر الفارسيّ، خاصّةً أشعار هؤلاء الثلاثة، أي سعدي وحافظ وصائب. لقد أحكموا نظم أهمّ المضامين في أشعارهم، بحيث إنّ أيّ شاعر في أيّ مكان من هذا العالم يهيم بقراءة هذه الأشعار.

يرنّ جرس المنزل، فأُغلق دفتري الصغير، ثمّ أُطفئ الأنوار وأخرج من البيت. إدموند منتظر خلف المقود، وأركب السيارة.

- لنذهب!

- عفواً لأنّني تأخّرتُ قليلاً. كان محلّ الحلويات مزدحماً وفي طريق عودتي حصل تصادم بين سيارتَيْن فازدحم السَّير أيضاً.

- لا مشكلة. لم يتأخّر الوقت كثيراً بعد.

منزل العمّ قريبٌ من منزلنا، ولا تستغرق الطريق أكثر من عشر دقائق. بينما يقود السيّارة بيده اليمنى، يتناول إدموند مجلّة من المقعد الخلفي ويضعها في يدي:
- صحيح، نسيتُ أن أُخبرك، لقد طبعت مجلّة "بروين" مقالتك. اتّصلوا اليوم صباحاً
 
 
 
219

183

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 بالدّكان وقالوا إنّ مقالتك قد تمّ طبعها في العدد الجديد المنتشر. 


أبحث عن مقالة "حافظ والمسيح" في جدول المحتويات. أجدها في الصفحة الثالثة والثلاثين. أبدأ بقراءة المقالة وكأنّني لست أنا من كتبتُها. لا أنتبه إلّا وقد وصلنا إلى منزل العمّ.

بيت العمّ غبريال يعجّ بالناس. أكثر أفراد العائلة قد اجتمعوا هنا، جميعهم ما عدا ابن عمّي الشاب "وارطان". صوره بالطبع قد ملأت الجدران والأبواب لكن هو نفسه، لا، ليس موجوداً. 

لقد محا الغمّ والحزن لون عيد الميلاد عن المنزل، وحوّله إلى مأتم. عينا زوجة عمّي محمرّتان ومنتفختان من كثرة البكاء، وصوتها قد بُحّ واختفى من كثرة النحيب والأنين. العمّ غبريال ليس بأحسن حالاً منها. تُرى بوضوح في خطوط وجهه الحزينة، الحسرة على عدم وجود وارطان. لقد هرم هذان الزوجان في هذه الخمسة عشر يوماً المنصرمة بمقدار خمس عشرة سنة. 

كان وارطان من أولئك الشبّان الطيّبين المسالمين. وكان قد ترك دراسته والتزم بالعمل. لم أفهم أساساً لماذا ترك الدراسة، فقد كان تلميذاً مجتهداً وكانت علاماته جميعها بين السبع عشرة والثماني عشرة. لكنّه فجأة ولا أعلم ما الّذي حصل، قرّر ترك المدرسة والتزم بالعمل في الحلاقة. حينما بلغ الثامنة عشرة ذهب بكامل الرغبة والشوق ليلتحق بالخدمة العسكريّة. 

ومهما حاول رفاقه أن يثنوه عن ذلك قائلين: "يا وارطان! لا تذهب! ليس الأمر مزاحاً! إنّها الحرب! قتلٌ ودمّ!" لم يكن لينصت إليهم، من دون أيّ يوم تأخير، انطلق إلى خدمته. 

ليس في منزل العمّ غبريال أثر لشجرة الميلاد أو الورود أو الحلوى، ليس فيه إلا دمعة العين وحرقة الكبد. 

تحلّقنا مع نساء العائلة حول زوجة عمّي ورحنا نُهدّئ من روعها، لكنّها كانت مستغرقة في حدادها، وكأنّها في منام طويل لا تقدر أن تصحو منه. والحقّ معها في الواقع، فريحانة عمرها الّتي لم تُزهر بعد ولم تذق طعم الحياة، قد قُطِفَت قبل أوانها، وباتت تحت التّراب عن عمر تسعة عشر ربيعًا. قلبي أنا، ابنة عمّه، قد انفطر عند سماع خبر وارطان، فكيف بحال أمّه، زوجة عمّي.
 
 
 
220

184

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 يرنّ جرس المنزل، وبعد لحظات يعود ابن عمّي الّذي فتح الباب مع شابَّيْن غريبَيْن غير أرمنيَّيْن أيضاً؛ ممّن يدخلون بقول "يا الله". والظاهر أنّه كان من المقرّر سلفاً أن تأتي جماعة اللّيلة لإجراء مقابلة وتقرير حول الشهيد مع العمّ غبريال وزوجته. لا أدري بهذه الحال، وفي هذا اليوم بالذّات، كيف سيتمكّن عمّي وزوجة عمي من الحديث! بأيّ قلبٍ وبأيّ لسان! فليكن ما يكون. لم يمض على شهادة وارطان إلا أسبوعان فقط، وحرارة فقدانه لم تبرد بعد.


سلوك الشابَّيْن الغريبَيْن ليس عاديّاً. يظهر من تصرّفاتهما الاضطراب والقلق، وكأنّهما لم يتوقّعا وجود هذا الجمع من الضيوف في المنزل. أحد الشابَّيْن، وكأنّما يريد أن يُفشي سرّاً للعمّ غبريال، يخلو به في زاوية من الغرفة ويتمتم له بأشياء. من بعيد، أُدقّق في الحوار الجاري بين العمّ وذلك الرجل الشابّ، وأرى أنّ لون وجه عمّي قد تغيّر من سماع كلماته، وكأنّ الشاب فعلاً قد أفشى له سرّاً. 

بعد سماع كلماته، يأتي العمّ ناحيتنا مسرعاً ويقول: هناك ضيف مهمّ سيأتي إلى منزلنا الآن، أنا سأقف لاستقباله أمام الباب وأنتم حضّروا الضيافة!

تتّسع حدقتاي من شدّة التعجّب! مَنْ هو هذا الضيف المهمّ الذي قلب حال العمّ فوقف على أهبّة الاستعداد أمام باب البيت لاستقباله؟! فضولي لا يُمهلني لرؤية الضيف بأمّ عيني فأسأل
 
 
 
221

185

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 مباشرة: عمّي! من هو هذا الضيف المهمّ؟


- السيّد رئيس الجمهوريّة!

السيّد رئيس الجمهورية؟! عمّي الآن قد ذهب لاستقبال رئيس الجمهوريّة؟! هو هو نفسه، الرئيس، السيّد الخامنئي؟! وما هي المناسبة الّتي استدعت رئيس الجمهوريّة أن يأتيَ في هذا الوقت من اللّيل إلى منزل العمّ غبريال؟ في هذه الأوضاع الّتي تعيشها البلاد؟ لا بدّ أنّ العمّ قد اشتبه أو لعلّني أنا اشتبهتُ في السّماع. لا أعلم، لعلّهم قادمون لإجراء مقابلة تلفزيونيّة أو ما شابه. لكن، إن كانوا قد أتوا لأجل إجراء مقابلة عاديّة فلماذا اضطرب العمّ إلى هذا الحدّ وانقلبت حاله؟!

يا إلهي! إنّه أمر لا يُصدّق! هذا الشخص الّذي دخل من الباب وراح يُسلّم علينا فرداً فرداً ويسأل عن الأحوال، هذا الّذي بارك لنا حلول عيد ميلاد السيّد المسيح، هذا الذي جلس خلف طاولة الضيافة وراح يتأمّل بصورة وارطان، هو نفسه رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي!

يتأمّل السيّد الخامنئي في صورة وارطان ويُحدّق العمّ وزوجته وجميعنا فيه هو. عجباً كم أنّ وجهه عن قربٍ مضيءٌ ويجذب الأنظار!
 
 
 
222

186

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 بعدما اكتفى قلبه من التأمّل في صورة وارطان، بدأ السيّد الخامنئي حديثه بهذه الكلمات.


- إن شاء الله يكون هذا الشهيد العزيز مصدر فخركم أنتم وكلّ عائلتكم. كما هو مصدر فخر لنا نحن. إن شاء الله تقرّ أعينكم أنتم وهذه السيّدة وسائر أفراد عائلتكم الكريمة ويمنّ الله عليكم بسرور القلب ويُعطيكم الأجر الكثير. نحن نفتخر بكم وبهذا الشاب وبأمثاله الّذين دافعوا عن وطنهم وعن استقلالهم وعن بلدهم وعن بيوتهم.

في ذاکرتي عدّة خواطر بارزة جدّاً عن السيّد الخامنئي. إحداها ترتبط بالأشهر القليلة الفائتة حين حصل الانفجار في صلاة جمعة طهران. لقد تابعت مشاهد الحادثة على شاشة التلفاز، وقد طغى عليّ الشعور بالزهو لأنّ لدينا رئيس جمهوريّة شجاعًا كهذا!

في ذلك اليوم، كان هو إمام صلاة الجمعة وكان يخطب في الناس. عندما انفجرت القنبلة وصل ضغط انفجارها وحرارتها إلى منبر الصّلاة نفسه. كان حشد الناس قد هاج واضطرب وكاد جمع الصلاة يتضعضع، حين علا فجأة صوت المكبّر معلناً أنّ "رئيس جمهورية إيران الإسلاميّة سوف يواصل خطبته". 

لا يعلم إلاّ الله ما انتابني من سرور وفخر جرّاء تلك الشجاعة التي أظهرها السيّد الخامنئي في عزمه على مواصلة خطبته في تلك الأوضاع. لقد واصل كلامه بوجهٍ مغموم
 
 
 
223

187

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 ولكن بكلام راسخٍ وثابت. وعندما شاهد الناس قوّته وصلابته هدؤوا وتلملموا وكأنّ الانفجار لم يحصل بالقرب منهم قبل قليل!


يسأل السيّد الخامنئي عن تاريخ وكيفيّة استشهاد وارطان، ويوضح العم غبريال:
- منذ خمسة عشر يوماً، استشهد في جزيرة مجنون1 على أثر إصابته بشظية قذيفة. أحضروا جثمانه بسرعة.

بعد ذلك يُثني السيّد الخامنئي على العمّ وزوجته لشجاعتهما وقوّتهما وتربيتهما لابن شجاع مثلهما كوارطان:
- هؤلاء الأبناء، هؤلاء الشباب، هؤلاء الرجال العظماء باتوا أساس استقلال بلدنا. ولو أنّهم لم يكونوا موجودين لما أمكن أن يُحفظ استقلال البلد وعمرانه وعزّته. إنّ حقّ هؤلاء على الناس عظيمٌ جدّاً، ليس فقط على جيل اليوم، بل لهم حقّ كبيرٌ على تاريخنا أيضاً. وليس هم فقط، أنتم الآباء والأمّهات أيضاً لكم حقٌّ مماثل. الشهداء هم الخطّ الأماميّ وأنتم الخطّ الخلفيّ الداعم. أنتم وهذه السيّدة لو لم تمتلكوا القوّة والشجاعة والصبر والتحمّل، لو كنتم ضعفاء لما أمكن أن توجد مثل هذه القدرة في هؤلاء الشباب، إنّها قوّتكم الّتي أمدّتهم بالقدرة وعظمتكم الّتي دفعتهم إلى الميدان. وبناءً عليه، فحقّكم في أعناق هذا الشعب وهذا البلد، حقّ عظيم جدّاً.

كلّما مرّ على حضور السيّد الخامنئي وقتٌ أكثر، تبدّلت أجواء الغمّ والحزن في المنزل. وكلّما تحدّث أكثر ارتاح وجه العمّ وزوجته وازداد إشراقًا. 

يقول "السيّد" لزوجة عمّي:
- أُحبّ كثيراً أن أسمع منكم عن شعوركم وعن كيفيّة إطلاعكم على خبر شهادة ولدكم العزيز.

تحاول زوجة عمّي أن تنطق، لكنّ الغصّة تخنقها وتمنعها الدموع في عينَيْها.
 

1- جزيرة عند ملتقى نهرَيْ دجلة والفرات بالقرب من البصرة في العراق. تمّ الاستيلاء على هذه الجزيرة في فترة الحرب من قِبَل القوّات الإيرانيّة خلال عمليّات خيبر، وقد سعى الجيش العراقي لاستعادتها بكلّ ما أمكنه حتى باستخدام الأسلحة الكيميائيّة. استشهد في هذه الجزيرة عدّة قادة كبار من الحرس الثوري الإسلاميّ أمثال الحاج محمد إبراهيم همت قائد فرقة طهران وحميد باكري قائد فرقة تبريز.
 
224

188

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 عندما أرجعوا جثمان وارطان من الجبهة تمكّنت امرأة عمّي أن تنظر إلى وجهه للحظة. وكأنّها كلّما أرادت أن تتحدّث عنه تستذكر تلك اللحظة حينما وقفت أمام جثمانه و... .


يرى السيّد الخامنئي زوجة عمّي في هذه الحالة فيُغيّر موضوع الكلام، ويسأل عمّي عن شغله وعن عدد أولاده.

- عندي ثلاثة أولاد آخرين، ابنتان وصبي.

- أسأل الله أن يحفظ لك أبناءك الثلاثة الباقين بسلامة وعزّة، إن شاء الله يوفّقون في كلّ حياتهم.

يُشير السيّد الخامنئي إلى جمعنا نحن الواقفين حولهم لنستمع إليهم، ويقول بكلّ لطف:
- أيّتها السيّدات لماذا أنتنّ واقفات، تفضّلن اجلسن.

عندما أُقارن هذا السلوك المحبّب من السيّد الخامنئي بتلك الخطابات الحاسمة، لا أفهم أنّ شجاعته وصلابته وقوته هي حقيقةٌ1 لها رقيقةٌ عبارة عن المحبة والرحمة واللّطف بلا حدود.
ثم يسأل: لا بدّ أنّكم من الأقارب؟

يُبادر زوجي إدموند للجواب: نعم، سيّد!

- حسناً فعلتم أن لم تَدَعوهم في وحدتهم.
 

1- بمعنى أنّ هذه الحقيقة تُخفي في باطنها الرحمة والمحبّة.
 
 
 
225

189

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 - إنّه تكليفنا يا سيّد. هذا أقلّ ما يُمكن أن نقوم به.


- نعم. فعلاً هذا تكليف، خاصّة في هذه الأيّام التي هي أيام عيد وسنة جديدة. بالتأكيد هذا العمل أكثر ضرورة وأوجب.

يُكمل السيّد الخامنئي كلامه العذب والجذّاب والمحبّب حول علاقة المسلمين ومحبّتهم لحضرة النبيّ عيسى والشهداء المسيحيّين في صدر المسيحية. كلامه بالنسبة إليّ كان جديداً ولافتاً جدّاً، وصادراً أيضاً على لسان عالم الدِّين ورئيس جمهورية بلدي. 

- هذا العمل الّذي يقوم به اليوم شهداؤكم يُعادل ذلك العمل الّذي قام به شهداء المسيحيّة في الصدر الأول للمسيحيّة. شهداء المسيحيّة هم شهداؤنا أيضاً؛ ليسوا خاصّين بكم فقط. عيسى المسيح هو نبيّنا أيضاً، المسلمون يعترفون بعيسى ويقبلون به نبيّاً. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدّث حول عيسى، ونحن نعتبره نبيّ الله المقرّب. لقد واجه شهداء صدر المسيحيّة كفر ذلك الزمان، رغم الضغوط الّتي مارسها عليهم أباطرة الروم عبدة الأصنام واليهود المتسلّطون على منطقة بيت المقدس وبلاد الشام وما حولها. وقد قاوم شهداء المسيحيّة كلّ هذه المحن. في ذلك اليوم لم يكن المسيحيّون قادرين على إبراز عقائدهم، وبقيت الأناجيل حتى مئة وخمسين سنة تقريباً تنتقل من صدر إلى صدر. لم يكن أحدٌ يمتلك جرأة كتابتها أو حمل نسخة مكتوبة منها. كانوا مضطّرين خوفاً من اليهود والمشركين أن يقرؤوا آيات الإنجيل في الأقبية والأماكن المخفيّة، وقد قُتل منهم عددٌ كثير، رجال ونساء وحتّى أطفال. 

كان الجنود الروم يأتون إلى القِلاع والقرى، يقتحمون البيوت ويقتلون النساء والأطفال. مارسوا الوحشيّة إلى هذا الحدّ، ولكنّ المسيحيّين قاوموا. وكانت النتيجة أنّكم أنتم بعد ألفَيْ سنة مسيحيّون! لقد مرّ ألفا سنة على ذلك الزمان وما زال المسيحيّون موجودين إلى اليوم. عالم المسيحيّة اليوم هو بهذا الوسع وبهذا الانتشار بسبب تلك التضحيات. ولو لم تكن تلك التضحيات لما بقيت المسيحيّة إلى هذا العصر. واليوم أيضاً، تستطيع هذه التضحيات التي يُقدّمها شعبنا أن تُبقي هذه الثورة حيّة وتحفظ عزّة بلدنا. ولهذا، فهؤلاء الشهداء لهم قيمة عظيمة، ونحن نفتخر بكم، بهذه السيّدة، بهؤلاء الأبناء، أنتم مصدر فخرنا.
 
 
 
 
226

190

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 عندما يُقرّر السيّد الخامنئي المغادرة، يكون جوّ الحزن قد اختفى من المنزل، ولا أثر للغم والغصّة على الوجوه. وعند التوديع ينظر في وجه عمّي وزوجته ويقول:

- اسمحا لي أن أُقدّم لكما هذا التذكار لحفظ ذكرى الشهداء.

يُقدّم تذكاراً لعمّي الذي كان قد جلس إلى جانبه أوّلاً: تفضّلوا.

ثم تذكاراً آخر يُقدّمه لزوجة عمّي: هذا أيضاً لكم أيّتها السيّدة.

ثم يُسلّم علينا جميعاً بدفءٍ وحميمية ويُغادر!

لقد طار النوم من عيني كطائر حلّق بعيداً. ومع أنّ الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، لكن لا قدرة لي على النوم، أروح وأجيء في الغرفة من دون قصد وبلا توقّف. لا تزول من أمام ناظري مشاهد ما جرى منذ عدّة ساعات في منزل العمّ غبريال. 

عجيبة كانت تلك الليلة! أساساً لم أكن لأُصدّق أنّ رئيس الجمهورية... 

بمجرّد أن ودّعنا "السيّد" الخامنئي وغادر، وبشكل تلقائي بدأتُ أُردّد بيت شعر لحافظ، بيتاً جميلاً من الشعر يُشبه كثيراً حادثة الليلة؛ وكأنّ حافظاً قد كتب هذا البيت خصّيصاً لأجل زيارة رئيس الجمهورية لمنزل عمّي غبريال الليلة! وذلك البيت هو: 
ثقل الغمّ الذي قد أضنى قلوبنا          بعث الله إليه نَفَس عيسى فبدّله

أفتح الدفتر الذي يحوي مختاراتي الشعرية وأُقلّب أوراقه حتى أصل إلى صفحة بيضاء. أحمل قلمي وأبدأ بملء تمام الصفحة بذلك البيت الشعري نفسه. وكلّما كتبتُه أكثر، وقرأته أكثر، ازددتُ له عشقاً...
 
 
 
 
227

191

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 أنت أتيت وانطلقت قصة المشاعر

نما لفينيق1 القلب من نار عشقك ريش جديد
لم نعد نشكو من الألم ونار الفراق
بمجيئك باتت ليلة يلدا2 هذه سَحَراً
الأمّ وإن كانت هرمت بانتظار ابنها
والأب وإن خنقته غصّة الحزن
فإنّ ابتسامتك الدافئة قد أنست الغمّ
وحلّت شمس وجهك الوضّاء مكان القمر
ثقل الغمّ الذي قد أضنى قلوبنا
بعث اللّه إليه نَفَس عيسى فبدّله
 
 

1- طائر الفينيق أو ققنوس، طائر أسطوري كثير الألوان والألحان، يعيش ألف عام وعند اقتراب وفاته يجمع حطباً كثيرًا ويجلس فوقه ويبدأ بالنواح حتى تشتعل النار بالحطب فيحترق ويتولّد من رماده طائر جديد. 
2- ليلة يلدا هي أطول ليالي السنة (ليلة 21 كانون الأول من كل سنة) وهي كناية عن الانتظار الطويل. وتحوّلها إلى سحر كناية عن قرب انتهائها لقرب السحر من وقت الفجر.
 
 
 
 
228

192

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد ريتشارد إبراهيم بتاريخ 01\01\1987م



الشهيد ريتشارد إبراهيم
تاريخ الشهادة: 18\08\1986م
 
 
 
 
232

193

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 هذه الأمّ، الّتي كانت طوال عشرين عامًا كالجبل قويّة وصلبة ولم تتزلزل، ها هي الآن تشكو لي همّها أنا ابنتها الوحيدة.


هل تَرَيْن يا ابنتي! في الأشهر الخمسة هذه، بقيت حسرة في قلبي، ولو لمرّة واحدة، فقط مرّة واحدة حين أذهب إلى زيارة قبر ريتشارد، أن أري باقة ورد أو شيئاً ما، يدلّ على أنّ والدك قد جاء إلى قبر أخيك، قبر ابنه، ولكن....

تأوّهت أمّي من كلّ قلبها، واختنقت بعبرتها. سكتت كي لا يختلط كلامها بدموعها. اقتربت منها والتصقت بها. لو أنّها تبكي وتنزل دموعها، سيتحسّن حالها. سيخفّ همّها ويزول، لكن 
وككلّ الأوقات تكدّس الحزن فوق الحزن وتسكت. 

منذ عشرين عامًا، كُنّا عائلة من خمسة أفراد نعيش في "أرومية": أخي الكبير روبرت، أنا -الابنة الوحيدة للعائلة-، أخي الصغير ريتشارد، أمّي وأبي. 

كان كلّ شيء يبدو جيّدًا وعلي ما يرام، إلى أن، ومن دون أيّ سبب واضح، تركنا أبي وذهب للبدء بحياة جديدة. حين اختار أبي زوجة أخرى وذهب من دون رجعة، كان عمر أخي ريتشارد ثلاثة أشهر، فقط ثلاثة أشهر. 

ذهب أبي وبقيت أمّي. بقيت غريبة لوحدها تواجه المصاعب والمشاكل. لا بيت، لا مال، حتّي لا طعام! لا شيء لا شيء!

كان يجب عليها أن تُربّي أبناءها الثلاثة وحدها من دون معين وبيدَيْن فارغتَيْن. 

قبّلتُ يدَيْها الباردتَيْن وقلتُ لها: ماما، لقد كُنتِ في الخارج، وتغلغل إليك البرد، ما رأيك بفنجان شاي؟ هزّت رأسها، كعلامة رضى وأغمضت جفنَيْها وكأنّها تقول: أجل يا ابنتي. 

كُنتُ في المطبخ منشغلة بإحضار كوب الشاي عندما نادتني أمّي وهي تقول: لكن أين روبرت وآليم؟
 
 
 
233

194

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 آليم هو ابني، عمره أربع سنوات. أجبتها وأنا أدخل الغرفة: لقد ذهبا لشراء الحلوي من طرف الشارع.


- حلوي!؟ لا بد أنه سيشتري للضيوف...

قطعت كلامها بتعجّب: وهل من المتوقّع أن يزورنا أحد؟ اعتقدت أنّ الحلوي لعيد الميلاد.

تناولت أمّي مكعّب سكّر، قرّبت الفنجان وشربت القليل من الشاي. 

- أيّ عيد يا ابنتي، نحن ما زلنا في الحداد. ليس الحداد علي ريتشارد وحسب، بل علي كلّ الشباب الذين استشهدوا أمثال ريتشارد. 

قطع جرس الباب كلام أمّي. فتحت الباب، إنّهما روبرت وآليم. ما إن رأي آليم أمّي، حتي صرخ من الفرح وركض ليرمي نفسه في حضنها ويقول لها بلهجته الطفولية المحبّبة: "مبارك 
عيدك يا مادام"! احتضنت أمّي آليم وشدّته إليها وكأنّها لم تره منذ سنوات وسنوات! بعد رحيل ريتشارد، صارت تُحبّ آليم بطريقة مختلفة. 

كُنتُ أُريد أن أسأل روبرت عن الضيوف: "لم تقل لي إنّنا ننتظر ضيوفًا؟!" ولكن فجأة ارتفعت صفّارات الإنذار من الراديو: "إنّ ما تسمعونه الآن هو إعلان خطر، إنّها الوضعيّة الحمراء وهذا يعني أنّ غارات جويّة ستحصل. أسرعوا قدر الإمكان إلى الملاجئ".

أطفأ روبرت أضواء البيت بسرعة. وكان هناك مجموعة من الناس يوصون بصوت عال بالإسراع في إطفاء أضواء البيوت التي لم تُطفأ حتى تلك اللّحظة. يقولون إنّ عدم إطفاء الأضواء يعني أنّ الطائرات العراقيّة ستقصف المكان من دون شك! سيتأكّدون أنّ مدنيّين يعيشون في المكان.

كانت أمّي منشغلة باللّعب مع آليم، فجلست بالقرب من روبرت: لم تقل إنّه سيزورنا ضيوف!.

- لا شيء مُهِمًّا يا أختي، من المفترض أن يأتي واحد أو اثنان من أصدقاء ريتشارد لزيارتنا. واحد أو اثنان من مئات الشباب الّذين كانوا في تشييعه. 

في الحقيقة، أنا أنزعج من مجيء الضيوف، ليس لأنّني أكره الضيوف والضيافة، بل لأنّني كنت أشعر بالخجل. فكيف نستقبل ضيوفًا في منزل كائن في طابق سفليّ (تحت الأرض)
 
 
 
 
234

195

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 تفوح رائحة الرطوبة فيه؟ عدا عن كون الضيوف غير أشوريّين ومن رفاق ريتشارد.


ما إنْ رأي روبرت عقدة حاجبيَّ حتي قال لي: "أختي الصغيرة! لا تنزعجي، ليس من المفترض أن يأتي رئيس الجمهورية!".

بالطبع مع وضع صفّارات الإنذار هذا، ارتاح بالي لناحية مجيء الضيوف. لأنّ أحدًا لن يُخاطر لأجل زيارة في مثل هذه الظروف.

كان قد مضي علي إعلان الوضع الأبيض (انتهاء حالة الخطر) حوالي الساعة، حين دقّ جرس الباب. روبرت الّذي كان قد نسي ضيوفنا، قفز من مكانه.

- أمّي ! أختي! إنّهم هم! رفاق ريتشارد. 

وضعت وشاح الرأس وتوجّهت إلى المطبخ. عرفت من أصوات الضيوف أنّهم شابّان اثنان. قلقت من شيطنة آليم، وألّا يسمح لجدّته وخاله بالكلام مع الضيوف. فدخلت إلى الغرفة بعد دقائق وسلّمت عليهما. من دون أن ينظرا إلى وجهي وقفا باحترام لي وسلّما عليّ. اعتذرا علي إزعاجنا ليلة العيد. أخذت آليم من حضن أمّي وكُنتُ أُريد الدخول إلى المطبخ عندما دقّ جرس الباب مرّة ثانية. 

وقفت هناك في وسط الغرفة لأري مَنْ القادم الآن. سمعت صوت روبرت المتقطّع وهو يقول: "تـ..تـ...تفضّلوا". تسمّرت عيناي وأنا أسمع صوت روبرت المتلعثم. نظرت إلى الباب لأري ما القصّة، لماذا تفاجأ روبرت وتلعثم هكذا؟! فرأيت أولًا عصا سوداء وبعدها... ماذا؟ رأيت أوّلًا عصا سوداء ثم السيّد علي الخامنئي!؟ هل ما أراه صحيحًا؟ هل هو السيّد علي الخامنئي رئيس الجمهوريّة نفسه؟

كالمصعوقة بالكهرباء، تجمّدت في مكاني. فأنا لا أستطيع بهذه البساطة أن أُصدّق أنّ رئيس الجمهوريّة قد دخل إلى بيتنا الصغير جدًّا! وفي ليلة، لم يمض ساعة أو ساعتان علي إعلام خطر الغارات الجويّة. لقد حرتُ فعلًا! نظرت إلى روبرت، هو أيضًا كان مثلي مندهشًا مذهولًا. 

في داخلي، كُنتُ أصرخ بوجه روبرت: "أختي الصغيرة! لا تنزعجي، ليس من المفترض أن يأتي رئيس الجمهورية"!

قبل أن يجلس رئيس الجمهوريّة، سلّم علينا نحن الأربعة، حتي آليم. "لا أدري لماذا
 
 
 
 
235

196

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 لم أكن أشعر بالانزعاج من حضور السيّد علي الخامنئي. أنا الّتي أخجل دائمًا من حضور الضيوف وخاصّة الغرباء منهم، وألجأ إلى المطبخ كي لا أراهم، ها أنا أجلس في الغرفة من دون أيّ خجل". 


ما إنْ جلس السيّد الخامنئي علي الكرسيّ، حتي أشار إلى لوحة ريتشارد المرسومة وسأل أمّي:
- أهذه صورة الشهيد؟

- نعم لقد رسمها أحد أصدقائه. 

هزّ رئيس الجمهورية رأسه كإشارة رضى. وظلّ ينظر إلى صورة ريتشارد يتأمّلها.

بعد لحظات من مشاهدة اللّوحة، سأل أمّي:
- أنت والدة الشهيد؟

- نعم! أنا أمّه.

ثم نظر إليّ.

- وأنت يا سيّدة؟

رفعت رأسي وقلتُ بافتخار خاص: أنا أخته!

كانت لهجة جوابي بالنسبة إليّ عجيبة أيضًا. فلم أكن يومًا، أشعر بالافتخار كوني أخت ريتشارد كما الآن!

كان روبرت يجلس في زاوية الغرفة وخارج مجال رؤية السيّد، وإلا لسأله عن قرابته بالشهيد. 

نظرت إلى روبرت. كان لا يزال مذهولًا، ينظر إلى نقطة ما علي الحائط وكأنّه حلّق في آفاق بعيدة، لا أدري، من الممكن أن يكون قد أحيا ريتشارد في ذهنه وها هو يجول معه علي الذكريات. إنّ هَيْن الشقيقَيْن وعلي الرغم من السنوات الستّ التي تفصل بينهما في العمر، إلّا أنّهما كانا قريبين جدًّا أحدهما من الآخر. كلّما ذهبا، كانا معًا، وكلّما أراد أحدهما القيام بعمل ما، كانا يقومان به معًا.

بحركة من يدي، ناديته! أشرت له بحركة من رأسي وأفهمته أنّ الطاولة فارغة، فإمّا أن يحمل آليم من حضني أو أن يحضر هو الضيافة.
 
 
 
 
236

197

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 سأل السيّد الخامنئي والدتي عن تاريخ شهادة ريتشارد:

- حسناً متي استشهد ابنك؟

- في الثامن عشر من شهر آب.

- الثامن عشر من شهر آب من العام (1986)؟

- نعم.

- يا للعجب! لقد استشهد حديثًا!

حين لاحظت أمّي أنّ السيّد الخامنئي يتكلّم من دون تكلّف وبراحة، بدأت تبثّه همومها.

- لقد كُنتُ أتكلّم مع الإخوة. السبت عيد الميلاد، أوّل عيد له. كُنتُ أتوقّع من أصدقائه كما حضروا بمناسبة أربعينه وأثناء المناسبات المتعدّدة وشرّفونا، أن يحضروا في عيده. من المؤسّسة ومن وزارة الدفاع وغيرهم. لأنّه عيده الأول.

بكلّ حنان وأبوّة، اعتذر السيّد الخامنئي من أمّي علي خطأ لم يرتكبه. يا للعجب! أن يكون الإنسان رئيسًا للجمهورية ويكون بسيطًا ومتواضعًا وترابيًّا إلى هذا الحد. 

- لا بد وأنّه لا علم لهم بالأمر، قد لا يعلمون. حسنًا، الآن أرجو منك أن تتقبّلي اعتذاري بالنيابة عنهم.
 
 
 
 
237

198

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 انزعجت أمّي من اعتذار السيّد الخامنئي:

- أنت قائدنا وعزيزنا، أشكرك علي لطفك، أنا ممنونة لك. أعتذر علي عتبي. نحن الأمّهات، بعد أن نفقد عزيزًا لنا، في مصائب كهذه نحتاج لأحد كي يواسينا، وهذا ما نأنس به.

عند هذه النقطة من الأخذ والردّ، دخل روبرت مع صينيّة الشاي. قدّمت أمّي أخي روبرت إلى السيّد.

- هو الأخ الكبير للشهيد.

نظر السيّد الخامنئي إلى روبرت بطوله الفارع، ابتسم له وسلّم عليه. ثمّ التفت إلى أمّي قائلًا: ليحفظ الله هذا الابن وهذه الفتاة وأبناءهما لك. ليُبارك لكم عيدكم وسنتكم الجديدة. إن شاء الله تكون هذه السنة سنة خير وبركة.

تقطع أمّي كلام السيّد الخامنئي معتذرة لتقول له إنّنا لم نُعيّد هذه السنة، ولا عيد عندنا:
- أعتذر كثيرًا منكم سيّدي رئيس الجمهوريّة! نحن كمسيحيّين نعتقد أنّه ما دام هناك حرب، ما دام هناك دمار، ما دام هناك قتل ودماء، لا يُمكن أن يتجلّي عيد الميلاد. فالعيد هو ذلك اليوم الذي تجتمع فيه العائلات بعضها مع بعض، من دون خوف، من دون ألم، من دون انتظار للأحبّة، من دون ارتداء الأسود، من دون قلق علي المدن والمناطق السكنيّة، عندها يكون العيد. 

نحن نحتفل دائمًا بعيد ميلاد المسيح ونفرح بولادته. ولكن عندما يكون أصدقاؤنا كلّهم فرحين ومسرورين. فما أكثر أصدقاءنا الّذين يتعرّضون لقصف صدّام؟ حتي إنّ البعض قد هاجر بعد أن فقد أملاكه وهدمت بيوته. بالطبع، نحن نُعيّد ولكن ليس عيدًا حقيقيًّا. فقط نتلقّي التهاني بالعيد ونُزيّن شجرة ونُرسل هدايا للأصدقاء كي لا تفرح قلوب الأعداء بأنّنا نتعذّب.

حين كانت أمّي تتكلّم، كانت ابتسامة الرضى واللّطف تعلو وجه السيّد الخامنئي، وكان يسمع ما تقوله بكلّ دقّة، وكأنّه لا يريد التحدّث، فقط يريد أن يسمع أمّي، وظهر هذا الأمر في تعقيبه على كلامها.
 
 
 
 
238

199

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 - حسناً، أشكرك علي الكلام الناضج الّذي تفضلتِ به. أنت سيّدة مثقّفة ومفكّرة وهذا أمر يُفرحنا كثيرًا أن تكون عائلات الشهداء والأمّهات المفجوعات بهذا المستوي العالي من الثقافة. 


إنّ ما تفضّلتم به يا سيّدة صحيح جدًّا وقيّم. ولكن، إن كانت ولادة السيّد المسيح أم كانت الأعياد الدينيّة الأخري، أعياد أيّ دين كان، فهي مناسبات لإفراح القلوب ولا إشكال بذلك.

إنّ هذه الأحداث تحصل دائمً، فقدان الأعزّاء، حرقة فقد الابن، حرقة فقد الأخ، هذه حوادث يومية نراها دائمًا، هذه أحداث لم تخل حياة البشر منها أبدًا. يجب أن نبحث عن أسباب وعن 
حجج كي نُزيل غبار هذه الحوادث عن قلوبنا لنكمل بعدها الحياة العادية، الحياة المليئة بالنشاط، الحياة المليئة بالأمل. يجب أن نبحث عن حجج كي يستطيع أهل هؤلاء الأعزّاء أن يسلكوا السبيل التي يُحبّون والّتي يريدون. لذلك، حتي لو لم يكن العيد عيدًا- فالعيد الحقيقي كما قُلتم أنتم حيث لا ألم، لا غمّ، لا حرب، لا دمار، لا تعكير للهدوء، هذا هو العيد الحقيقي - ولكن من الجيّد أن تكون هذه الأعياد وذكري العظماء، وسيلة للفرح والسرور. أنا سعيد أنّني جئت إلى بيتكم الليلة. 

علي الرغم من افتقاد حضور ريتشارد في هذا المجلس الدافئ والحميم، لكن ذكراه حاضرة. سأل السيّد الخامنئي عنه وبدأت أمّي بالشرح له:
- كان ابني مؤمنًا جدًّا. يشهد أهل الحيّ جميعًا. طيلة حياته لم يرفع رأسه ولو مرّة لينظر إلى وجه امرأة. لا أعرف كيف كان هذا الصبيّ! عندما ذهبنا لتوديعه حين توجّه إلى قاعدة التدريب في كرمان، قُلتُ لأخته وأخيه في طريق عودتنا إلى البيت، إنّ أخاكم طيّب لدرجة أنّه لن يعود سالمًا من هذه
 
 
 
 
239

200

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 الحرب. لقد أُلهمتُ أنّ ابني سيستشهد. يعني كان واضحًا من حركاته، من سلوكيّاته، من حالاته، من سرعته للعودة إلى الجبهة. في المرّة الأخيرة عندما جاء في مأذونيّة، أصررت عليه أن يبقي ليوم آخر. لم تكن أخته في طهران وكانت ستأتي في اليوم اللّاحق. قُلتُ له ابقَ لليلة واحدة فقط، آخر الأمر يُمكن أن نحضر ورقة من الطبيب أنّك مريض مثلًا. قال لي: "أمّي، نعمل أنا وصديقي في تفكيك الألغام، فإن بقيت وتأخّرت سيُصبح ضغط العمل علي جنديّ واحد، وأنت لا ترضين بذلك يا أمّي". أُقسم بروحه، لقد أصرّ عليّ لدرجة أعطيته الإذن بالذهاب، لم يبقَ ليلة واحدة! من الواضح أنّه سيستشهد.


إنّ ما تقوله أمّي عن ريتشارد أنّه "كان واضحًا من سلوكه أنّه سيستشهد"، قد سمعته مرارًا من رفاقه في مراسم دفنه. كانوا يقولون: "كان ريتشارد يعمل لدرجة كُنّا نشعر أنّ التعب لا 
يعرف طريقًا إليه، الله يشهد. كان يعمل من الساعة الخامسة صباحًا حتي الثانية عشرة ليلًا. وفي الفترة الأخيرة، عمل أيضًا سائق شاحنة لرش القطران علي الطرقات كي لا يستطيع 
الأعداء التعرّف إلي تحرّكات سياراتنا من الغبار الّذي ينبعث أثناء حركتها. كان هذا عمل ريتشارد في الأشهر الأخيرة. كان يبذل جهدًا غير عاديّ في هذا العمل. في الحقيقة، سجّل 
ريتشارد رقمًا قياسيًّا لم يسبقه إليه أحد في كلّ الحرب وهو رشّ ثلاثة وخمسين ألف ليتر من المازوت علي الطرقات، خلال أسبوع واحد. عندما كُنّا نقول له: ريتشارد استرح قليلًا. كان يقول: ما دام هذا العدو المتصهين حيًّا يتنفّس، لا يُمكنني أن أستنشق الهواء، فكيف بي أستريح؟".
 
 
 
 
240

201

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 قال لنا رفيق له: استشهد صديق لنا في الأراضي العراقيّة ولم نتمكّن من استرجاع جثمانه. تسلّل ريتشارد في اللّيل، من دون إخبار القائد، إلى منطقة الأعداء، وأحضر جثّة حسين. فيما بعد عندما وبّخه القائد بسبب ما فعل قال له ريتشارد: أنا جاهز لأيّ عقاب ولكن عليك أن تعرف أنّني لا أرضي أبدًا أن تبقي أجساد شهدائنا الأطهار في أرض البعثيّين، لأنّ أمّهات الشهداء ينتظرن أبناءهنّ.


تحدّث أحد جيراننا أيضًا في مراسم دفن ريتشارد، عبر مكبّر الصوت وقال وهو يحمل صورة كبيرة لريتشارد: قبل عشرة أيام من شهادته أحضر لي هذه الصورة وقال: "أنا ذاهب وذهابي هذا لن يطول أكثر من عشرة أيام إلى أن أستشهد. نحن ليس لدينا أحد، لذا أرجو أن تهتمّ بأمّي وأن تعتبرها أختًا لك".

اللّيلة التي سبقت شهادته، اتصل ريتشارد بأمّي هاتفيًّا، وقال لها: "أمّي! إنّني أدين لتقي بخمسين تومانًا، لو سمحتِ أوفيه حقّه". تقي هو صاحب محل البقالة في الحي. سألته أمّي: "ألا تريد أن تأتيَ أنت؟". أجاب ريتشارد: "قد يطول الوقت قبل عودتي. و"تقي لديه عائلة. هو بحاجة إلى المال. "حين استشهد ريتشارد كان عمره عشرين عامًا".

- هو لم يكن متزوّجًا؟ 

- لا يا سيّد، كان عازبًا.

بعد ذلك، بدأ السيّد الخامنئي يتبادل الحديث مع روبرت الّذي جلس بالقرب منّي.

- حسنًا! يا بنيّ! أنت أكبر من الشهيد سنًّا؟
 
 
 
241

202

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 غيّر روبرت من جلسته وجلس علي ركبتَيْه أمام السيّد الخامنئي، وأجابه: نعم.


- ماذا تعمل الآن؟

- سيّدي إنّني أعمل في الخراطة. شاركت في امتحان الكمبيوتر منذ عدّة أيام في إحدى الشركات، ونجحت. أرسلت ملفّاتي وشهاداتي لنري ما الذي سيحصل.

- ما هي شهاداتك العلمية؟

- الشهادة الثانوية يا سيدي.

- لماذا لم تكمل دراستك؟

- والله، كان يجب أن أُنفق علي العائلة. وها أنا الآن في الخامسة والعشرين.

حين وصل الحديث إلى هنا، سأل السيّد عن عمل أمّي وعن أبي.

- وأنت يا سيّدة تعملين أيضًا؟

- لا أعمل بشكل فعلي خارج المنزل بل أقوم بأعمال الحياكة وتعليم الخياطة والتطريز. هكذا ربّيت ثلاثة أطفال بالقيام بأعمال كهذه.

- والدهم متوفّي؟

- ليته كان كذلك يا سيّد! لقد انفصل عنّا وغادرنا منذ عشرين عامًا. خلال هذه السنوات العشرين، لم يزر هذا الأب أبناءه ولا مرّة واحدة ليري أين يعيشون وفي أيّ ظروف يكبرون. حتي عندما استشهد ريتشارد، علي الرغم من أنّه يسكن في هذا الحيّ المجاور، لم يحضر إلى هنا! لقد ذهبت اليوم لزيارة قبر ريتشارد، كي أُبارك له العيد. أذهب كلّ أسبوع إلى قبره، وككلّ الأمّهات، أشعر بالهدوء والسكينة هناك. ولكن لم يُصادف ولو مرّة واحدة أن وجدت وردة إضافية تدلّ على أنّ أباه قد جاء لزيارته. لا! لم يحدث ذلك أبدًا. عشرون سنة لم يسأل عن أحوالنا أبدًا. منذ إحدى عشرة سنة ونحن نسكن في هذا المنزل تحت الأرض حيث شرفتمونا الآن.

سكتت أمّي لحظات. ومسحت دمعة بطرف منديلها ثمّ غيّرت الموضوع. يبدو أنّها لم تكن تريد أن تُحزن قلب السيّد الخامنئي بسرد المآسي التي عاشتها خلال عشرين عامًا.

- من الجميل أن تعرف أيّها السيّد، حين أراد ريتشارد أن يذهب إلى الجبهة، كان أخوه الأكبر في الخدمة العسكريّة. كان يوم ذهاب ريتشارد في التاسع من شهر آذار. لو قام بتأجيل ذهابه شهرًا واحدًا لالتقي بأخيه ولقضى عيد النوروز وعيد الفصح معنا. قُلتُ له:
 
 
 
 
242

203

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 ريتشارد، ابقَ حتى الثامن من شهر نيسان ثمّ اذهب، اقضِ عيد النوروز معنا ثمّ عيد الفصح، والتقِ بأخيك الّذي لم يأتِ منذ سنتَيْن، ثمّ اذهب بعدها. فإذا ذهبت سأبقي وحدي طيلة هذا الشهر – إذ كانت ابنتي قد تزوّجت-، فقال: يا أمّي! سيأتي الكثير من الأعياد التي سنلتقي خلالها. في الواقع، هناك واجب واحد يجب أن أقوم به، وحتي لو بقيت وحدك هذا الشهر، لا مشكلة، فالمقاتلون وحدهم في الجبهات، قال هذا وذهب. عندما كان ريتشارد ذاهبًا في القطار، كان أخوه الكبير في انديمشك وقد أنهى فترة خدمته، فلم يلتقيا.


نظرت إلى وجه السيّد الخامنئي كانت نظرته عابقة بالرضى والدّعم والتشجيع. فبدأ بمدح أمّي والدعاء لها:
- أنت أمٌّ شجاعة وصابرة يا سيّدة. ليُعطِك الله الأجر، وليعوّضك بدل هذا الحزن الثقيل الذي عانيتِه وتحمّلتِه في سبيل الأهداف والمثل المقدّسة، حياة مليئة بالسعادة.

تحمّستُ كي أتكلّم أنا أيضًا مع رئيس جمهوريّة بلدن، إنّه رئيس جمهوريّة حنون لدرجة لا يُمكن لكلام أن يصف حنانه الأبويّ. 

- يا سيّدي! لقد ربّتنا أمّي رغم الكثير من الفاقة والمشكلات والحرمان. ما زلتُ أذكر أنّ ريتشارد لطالما تمنّي أن يكون لديه ساعة يد إلكترونية ثمنها مئة وخمسون تومانًا. استطاعت أمّي بكثير من الجهد أن تجمع ثمن الساعة. في المرّة الأخيرة التي جاء في مأذونية، أعطته أمّي المال كي يشتري الساعة الّتي يُحبّها، وكانت فرحته لا توصف، لأنّ أمّي كانت تعرف أنّه لن يعود، أرادت بالحدّ الأدنى أن تُحقّق له هذه الأمنية. عندما اشترى الساعة أحضرها وطلب منها أن تضعها له في يده. وضعت أمّي الساعة في يده، قبّلته وقالت: إن شاء الله سأضع الساعة في عرسك. لكن هذا الأمر لم يتحقّق فقد استشهد بعد ثلاثة عشر يومًا.

واسانا السيّد الخامنئي بجمل لطيفة ثمّ سأل أمّي: كم كان عمره حين استشهد؟

أجابت أمّي: هو من مواليد 1965م. كان عمره حين استشهد عشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيّام.

تعجّب السيّد كثيرًا: يا للعجب من هذه الدقّة! هذه أيضًا من ميزات الأمّهات.
 
 
 
243

204

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 - يا سيّد! إنّ الرجال كثيرو الادّعاء، يقولون إنّهم يتعبون كثيرًا. لكنّ البلايا تنزل على رأس الأمّهات.


ضحك السيّد الخامنئي من جملة أمّي الأخيرة. فضحكنا جميعًا، حتى أمّي ضحكت أيضًا. حاولت بعدها أن توضح قصدها للسيّد الخامنئي.

- أعتذر يا سيّدي منكم. احترامكم واجب. اعذرني على قلّة أدبي في كلامي. ليس صحيحًا مدح الإنسان لنفسه. لكنّني ربّيت ابنَيْن اثنَيْن ولم تصدف مرّة ورآهما أحد متروكين في الشارع. 

كانا يخرجان من البيت في الصباح إلى المدرسة ويرجعان في السابعة مساء. كانا يذهبان إلى المدرسة ومن بعدها إلى العمل وسيرجعان من العمل إلى البيت. لكنّ الرجال يدّعون أنّهم 
هم من ربّوا شبابًا محترمين.

السيّد الخامنئي الذي كان يشرب الشاي، أنهى فنجانه وعلّق على كلام أمّي:
- لا شكّ أبدًا بتأثير الأمّ على أخلاق وطباع ابنها. فالأم تؤثّر على خصوصيّات السلوك والأخلاق لدى أبنائها. والخصال الذاتيّة التي تظهر لدى الأطفال هي مئة في المئة من تأثيرات الأم. كذلك الأمر في الجوانب التربويّة المتعدّدة. وخاصة أنت وهؤلاء الأطفال، حيث كنت بالنسبة إليهم الأمّ والأب معًا. 

لطالما سمعت أمّي هذه الجملة: "كنتِ بالنسبة إليهم الأمّ والأب معاً"، لكنّ سماعها من القائد ترك أثرًا كبيرًا في نفسها!

فتحت أمّي وعاء ذكرياتها ولم تتوقّف عن الحديث معه. كان السيّد أيضًا يسمع ويسمع كلام أمّي من دون أن يشعر ولو بذرّة تعب أو أن يستعجل الذهاب. 

- كنتُ دائمًا أريد أن يكون أبنائي مفيدين، وكلّما أرى مجرمًا إلى جانبه رجل شرطة كنتُ أقول: ريتشارد! ما أحسن أن يكون الإنسان هذا الشرطي وليس هذا المجرم. كنتُ أقول: هذا يضرّ المجتمع وهذا ينفعه، أيّهما الأفضل؟

لقد كنتُ حسّاسة دائمًا لكلّ الأمور التي نراها في الشارع. 

- أجل! بالطبع. إنّ فكركِ النيّر وشخصيّتكِ - وأنتِ سيّدة صاحبة شخصيّة - هو ما أثّر إيجابيًّا في تربية أبنائك. بالطبع هو كذلك.

إنّ التفات السيّد الخامنئي لابني آليم هو ما جعل هذه اللّيلة أكثر حلاوة من السكّر بالنسبة إليّ.

- هذا الصغير هو ابنكِ؟
 
 
 
 
244

205

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 - نعم.


- ما اسمه؟

- آليم!

كرّر السيّد اسم آليم مرّات عديدة على لسانه ثمّ ناداه:
- تعال يا صغيري.

كان آليم يحمل بيده اليمنى قنينة الحليب يشرب منها بين اللّحظة واللّحظة. أمسك السيّد الخامنئي اليد اليسرى لآليم ونظر إلينا.

- هل يتعلّم هؤلاء الأطفال اللّغة الفارسيّة في البيت أم في الخارج؟

قالت أمّي: يتعلّمون بسرعة من التلفاز. بالإضافة إلى هذا، لقد تعلّم هذا الطفل التركيّة حديثًا.

تعجّب السيّد لهذا الأمر:
- وهل تُجيدون التركيّة؟

- نعم! فحين أُريد أن أقول لأمّه شيئًا ولا أُريده أن يفهم، أتكلّم التركيّة، ولشدّة ما ركّز على ما نقوله، تعلّمها.
 
 
 
 
245

206

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 احتضن السيّد آليم وقبّله قُبلاً على رأسه ووجهه.


بعد لحظات، قال السيّد هذه الجمل ووقف ليودّعنا:
- حسنًا! يكفي لهذا اليوم، لقد أردنا أن نلتقي بكم وأن نُعبّر عن حبّنا واحترامنا لعائلة الشهيد، بالإضافة إلى إظهار احترامنا لمقامه. آمل أن يكون لهذا اللقاء أثر ولو قليلًا في تسكين آلامكم ومعاناتكم. 

ردّدت أمّي ثلاث مرّات متتالية: "بالطبع هو كذلك".

أنا وروبرت أيضًا، شكرنا بدورنا السيّد الخامنئي.

أعطى السيّد هدية لأمّي وهدية لي أنا.

- هذا تذكار، فقط أُقدّمه كتذكار وهدية عيد.

شكرناه وقالت أمّي: 
أشكرك جزيل الشكر يا سيّد. بمجرّد أنّك تلطّفت علينا ونوّرت كوخنا الحقير هذا، لهو أمر أغلى من أيّ هدية أخرى.

شكر السيّد أمّي مبتسمًا، وودّعنا: 
- وفّقكم الله وأيّدكم وحفظكم.

خرج السيّد الخامنئي، وأنا بشكل لا إرادي تذكّرت شِعرًا كان يُردّده العزيز ريتشارد:
 
 
 
 
246

207

الرواية الثّالثة عشرة: هي الأمّ والأب معًا

 "إنّ الحياة جميلة يا من تُحبّ الجمال

ذوو الفكر الحيّ يصلون إلى الجمال
الحياة البائدة، جميلة لدرجة
نستطيع التضحية بروحنا لأجلها"

المقتنيات الشخصية للشهيد ريتشارد إبراهيم. مكان حفظها:
متحف الشهداء، طهران، شارع الشهيد آية الله طالقاني.

مزار الشهيد ريتشارد إبراهيم في مقبرة الأشوريين في طهران.
 
 
 
 
247

208

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله لعائلة الشهيد يورا سرداريان بتاريخ 12/10/1373ه.ش. 02/01/1995م.


 
الشهيد يورا سرداريان
مكان الشهادة: منطقة الحاج عمران - كردستان
تاريخ الشهادة: 8/6/1365 ه.ش.30/8/1986م
 
 
 
 
250

209

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 حينما عاد رفيقه في مأذونيّة، تعجّب كثيرً، لا أعلام ولا رايات سوداء، ولا أكاليل غار أو مراسم الأعراس الّتي تُقام للشهيد عادة، لا شيء أبدًا! أطلّ فجأة في إحدى اللّيالي وقال: أُريد أن أقابل "وارطان". مع أنّني لست الأخ الأكبر بين إخواني السبعة، إلا أنّني وكما يُقال كنتُ الأكثر لباقة في الحديث والاجتماعيات! خرجت إلى المدخل، رأيت "ويليام" رفيق "يورا". 


أخذتُه بالأحضان.

- يعطيك العافية يا مقاتل! ما زلت حيًّا حتى الآن؟!

لاحظت حيرته، هل يردّ على مزاحي بمزاح ويترك أخباره في صدره، أو يدخل في صلب الموضوع ويُخلّصنا من أسر الإبهام و... .

بعد أخذ وردّ وأحاديث هامشيّة وتقديم وتأخير، أطلق للسانه العنان: 
- الحقيقة.. أعتقد أنّ يورا قد استشهد منذ أسبوعَيْن! ولا أعلم لماذا لم يُخبروكم حتى الآن. أغلب الظنّ أنّ قلادته المعدنيّة لم تكن في عنقه ولم يتمّ التعرّف إليه. إذا ذهبتم أنتم إلى منطقة 
الجبهات، فسينجلي الأمر.

يورا هو الأخ الأصغر في عائلتنا، نحن سبعة شباب وبنتان، شاهين هو الأكبر وأنا بعده. أخبرت شاهين، اتفقنا أن لا نُخبر والدنا بشيء إلى أن نذهب أنا و"شاهين" و"أوهان" و"سرجيك" إلى الجبهة، ونتأكّد من الخبر. لقد كان الوالد يُحبّ يورا بشكل خاص وطالما كان يُكرّر: "لقد وهبني الله يورا كي يكون عصاي التي أتوكّأ عليها في شيخوختي". ليس هذا فحسب، علاوةً على أنّ يورا كان الأجمل بين جميع إخوته، فقد كان كذلك الأحسن خُلقًا وعطفًا وحنانًا. لقد كان يُظهر مودّة ورحمة للوالد والوالدة بشكل عجيب، يجعلهما يخجلان منه بدل أن يخجل هو منهما! لهذا لم نُخبر الوالد واتّجهنا إلى الجبهة بشكل خفيّ وسريع.

طوال المسير، كان قلقنا الأوّل أن يكون جثمان أخينا قد دُفن في تلك المنطقة، فقد
 
 
 
 
251

210

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 مضى أكثر من عشرة أيام على شهادته ولم يأتِ أحد ليُتابع أموره. مجرّد التفكير في تلك الأيام يُحزنني. 


لو تعلمون بأيّ حال كُنّا!

حين وصلنا خبر شهادته، كان بالضبط قد مضى أحد عشر يومًا على شهادته في منطقة الحاج عمران في كردستان، ونحن وصلنا في اليوم الثالث عشر إلى هناك. نعم إنّه هو! إنّه يورا نفسه ممدّدًا في برّاد المستشفى، وغارقًا في سبات عميق. كان رفاقه المقاتلون يقولون: كان يورا نشيطًا جدًّا وحيويًّا، وكأنّ كلمة تعب لا معنى لها في قاموسه. حين رأيت وجهه نائمًا هناك، تذكّرت كلام رفاقه. أحسست بأنّه الآن قد حلّ عليه تعب المعارك فأراح جسده واستراح.

روحي فداءً للإمام الحسين! فبسبب تاسوعاء وعاشوراء لم يتمّ دفن جثمان أخي أو نقله. وهذا ما أتاح لنا الفرصة لنأتي من طهران، نتعرّف إليه ونُعيده معنا.

كان يورا تقنيًّا ماهرًا في لفّ المحوّلات الكهربائيّة. ومع أنّه كان شابًّا فتيًّا، إلّا أنّه فاق جميع العاملين في هذا المجال، فهو منذ صغره، وبالتحديد من أيام الصفّ الثاني المتوسّط قد ملّ الدرس وعشق العمل التقني بكلّ جوارحه، فبرع في لفّ كلّ أنواع المحرِّكات والمحوّلات، من أجهزة التكييف إلى محرّك السيارة. كذلك كان في الجبهة عندما ينتهي من نوبة الحراسة أو مَهامِّه القتالية، وبدل أن يستريح، يذهب فورًا إلى قسم صيانة السيارات لإصلاح ما يُمكن إصلاحه وإبداع ما يمكن إبداعه. 

"وارطوهي":
لأنّني وُلدت بعد "وارطان"، فقد أسماني أهلي "وارطوهي"، وباللّغة الأرمنيّة "وارطوهي" هي مؤنّث "وارطان" مثل "حميدة" و"حميد"!

كان أبي وأمّي فلّاحيّن في "آراك"، يأتيان إلى طهران في الشتاء فقط، ولهذا فقط كنتُ أنا أخت يورا الكبرى وكنتُ أمّه كذلك! كنتُ أرعاه وأُنظفه وأُلاعبه وأُطعمه، كنتُ أُرسله إلى المدرسة. وباختصار، كنتُ أقوم بكلّ مهام تربيته. تميّز "يورا" بخصوصيتَيْن بارزتَيْن: أولً، جماله الباهر، وثانيً، الهدوء والأدب الشديدَيْن، لدرجة أنّ أهل المنطقة لم يكونوا يعرفونه في صغره، وإن شاهدوه أمام المنزل ظنّوه من حيّ آخر.
 
 
 
 
 
252

211

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 حين التحق بالجبهة، كان يُراسلني باستمرار، ويوصيني بالصبر وتحمّل الفراق، وحين كان يأتي في مأذونيّة، يُحدّثني عن أخبار الجبهة. أذكر يومًا حين أخبرني كيف استطاع بذكائه وتدبيره أن يقوم لوحده بأسر مجموعة من الجنود العراقيّين.


كان يقوم بكلّ أعماله بنفسه، لم يكن يسمح لي حتى أن أغسل ملابسه أو أكويها. في رحلته الأخيرة إلى الجبهة، رتّبت له حقيبته بنفسي. حين أحضروا الحقيبة بعد شهادته، لاحظت أنّ الحقيبة على حالها ولم يكن قد فتحها، وبقي كلّ شيء مرتّبًا كما وضعته له.

كذلك كنتُ قد شاهدتُ منامًا في تلك اللّيالي ولعلّه سيكون مدهشًا برأيكم. ترك "يورا" طهران في 28 آب. كان قد اعتاد على الاتصال بنا عند وصوله إلى الجبهة ويُخبرنا هاتفيًا أنّه بخير، لكن في تلك المرّة بقينا ننتظر من دون جدوى. في تلك الفترة، رأيته في المنام واقفًا فوق تلّةٍ مرتفعة، وكان هناك ستارة أمامه، عندما حرّك الهواء الستارة، شاهدت وراءها عددًا من الجنود، كانوا مسرورين وفرحين جدًّا.
 
 
 
 
253

212

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 سألته: "عزيزي "يورا"، ماذا يوجد خلف تلك الستارة؟".


قال: "هناك مقام الشهداء. وأنا أيضًا أُريد أن أذهب خلف الستارة". أظنّ أنّ هذا الحلم كان ليلة شهادته.

"رافيك":
أنهى أربعة منّا - نحن الإخوة السبعة - خدمة العلم زمن الحرب، "هايسينك" وهو أخي الأكبر منّي خدم في الجبهة قبلي. أنا و"ديفيد" كُنّا معًا في الجبهة. لم تكن خدمتنا قد انتهت حين التحق يورا بها. نحن الثلاثة عدنا من الحرب ولكن يورا استشهد.

عام 1994م، أي بعد ثمانية أعوام من شهادة يورا، حدث ذلك:
كانت ليلة عيد الميلاد، وكُنّا ننتظر ضيوفًا. قيل لنا سيأتي من يسألنا عن ذكريات يورا. كُنّا في البيت أنا وأبي وأمّي وثلاثة من إخوتي. جاء الضيوف، جلسوا وسلّموا، لم يسألوا عن يورا. 

مضت دقائق وإذا بهم يُخبرونا فجأة بأنّ قائد الثورة سيأتي الآن إلى منزلكم: آية الله الخامنئي!

كانت دهشة والديَّ العجوزَيْن لا توصف، قامت أمّي -ومع أنّ المنزل نظيف جدًّا - وراحت تُنظّف وتُرتّب بسرعة.
 
 
 
 
254

213

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 لم نكن نُصدّق لا أنا ولا إخوتي! هل يُمكن أن يزورنا السيّد الخامنئي. لا يُمكن! ولكنّه جاء! فلو لم أُشاهده تلك الليلة بعينيّ لما أمكن أن أُصدّق أن يأتي لزيارة عائلة أرمنيّة، لكنّني رأيته.


أذكر جيّدًا. دخل وسلّم، سأل عن أحوالنا، وطلب منّا أن نُريه صورة الشهيد:
- أيٌّ من هذه الصور صور شهيدكم؟

قام أبي وأحضر مجموعة من صور "يورا" ليريها للسيّد، حدّق السيّد بالصور واحدة واحدة، ثم سأل عن مكان وتاريخ شهادته وقدّم لنا العزاء جميعًا فردًا فردًا.

- لكم الأجر جميعًا بهذه الشهادة، لوالد الشهيد ووالدته، الإخوة والأقارب، وأسأله أن يأجركم ويواسي قلوبكم.

إنّ ابنكم الشاب قد قام في سبيل اللّه وفي سبيل الدفاع عن وطنه وشعبه، قاتل وكافح وقُتل، إنّ هذا عظيمٌ جدًّا. هذه هي الشّهادة، الرحيل عن الدنيا بهذا الشكل له قيمة عظيمة، يبعث على الافتخار! فخر له وكذلك لأبيه وأمّه اللَّذَيْن ربّياه صغيرًا، ومن ثمّ قدّماه فداءً للوطن بكلّ كرامة وكرم. إنّه أمر قيّم جدًّ، لولا شباب كهؤلاء ولو لم يكن لدينا عوائل مضحّية كهذه، لما استقلّ الوطن ولما تمتّع بهذه العزّة والعظمة.

لاحظوا اليوم، وانظروا كيف أنّ الشعب الإيرانيّ عزيز في جميع أنحاء الدنيا. إنّ بلدنا عزيز ومرفوع الرأس، نال عزّه على يد هؤلاء الشباب، هم الذين اقتحموا مخاطر الحرب وخاطروا وضحّوا. عندما تنعدم المخاطر وتحضر المغانم، يحضر الجميع في الساحة، أيّام الراحة الكلّ في الميدان. لكن في وقت الخطر وتقديم النفس والفداء، لا ينزل إلى الميدان إلا أهل الاستقامة والإباء، مثل ابنكم الشاب هذا. وهبكم الله الأجر والثواب وأفرح قلوبكم ونوّرها.

ما زلتُ أذكر جيّدًا، في ذلك اللّقاء، تحدّث السيّد الخامنئي مع الجميع فردًا فردًا. سأل كلّ واحد: عن حاله وعمله، وهل هو متزوّج أم لا، وكم لديه من الأولاد، ومن أيّ منطقة أنتم، وهل 
تذهبون إلى الكنيسة أم لا. كان يطرح كلّ هذه الأسئلة بدقّة وانتباه ومحبّة واضحة، ويستمع جيّدًا إلى الأجوبة. هذا التعامل كان لافتًا للنظر وجذّابًا بالنسبة إليّ. يشعر الإنسان أنّ حياته وظروف عمله مهمّة جدًّا بالنسبة إليه.
 
 
 
 
255

214

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 وبالطبع كان حديثه أكثر مع أبي وأمّي:

- حسنًا، ما هي مهنتك يا سيّدي العزيز؟

- كنُّا سابقًا مزارعَيْن، وبعد سنوات عملت في مصنع، والآن متقاعد.
- ومن أيّ منطقة أنتم؟

- نحن من أهل "آراك".

- هل يوجد عدد كبير من الأرمن في "آراك؟".

- هناك حوالي 100 إلى 150 أسرة أرمنية.

- من أيّ منطقة في آراك بالضبط؟

- من منطقة "شازند آراك" حيث يوجد مراكز بتروكيميائيّة ونفط ومصانع.

- وهل السيّدة من هناك أيضًا؟

- نعم، نحن جميعًا من تلك المنطقة.

- حسن جدًّا، لم أكن أعلم أنّ هناك أرمن في آراك، فهم في "أصفهان" و"أرومية" و"تبريز" و"طهران"، لكن لم أكن أعلم أنّ هناك أرمن في آراك.

- نعم هم موجودون.

- جيّد جدًّا. جيّد جدًّا. إن شاء الله حيثما تكونوا تكن حياتكم جيّدة وسعيدة.

كذلك فقد مزح السيّد مزحة بقيت في ذاكرتي. قبل أن يُشرّفنا، كنتُ قد أحضرت للضيوف الذين حضروا قبله شايًا، وتناولنا الشاي نحن وإيّاهم. حسن، كنتُ أظنّ أنّ هؤلاء هم الضيوف. 
حين دخل السيّد، غاب عن بالي أصلًا أن نقوم بالضيافة! خلال اللّقاء، حين كان السيّد يتحدّث مع أمّي، سحب أبي فنجان الشاي بهدوء وقرّبه أمام السيّد. حين أتمّ السيّد كلامه مع أمّي، 
التفت إلى ذلك الفنجان.

ثم قال:
- أولً، إنّ هذا الشاي قد برد، ثانيً، إنّ هذا الشاي ليس لي، أيًّا يكن صاحبه فليشربه! ثالثً، هذا الفنجان كبير، إذا كان عندكم فنجان صغير فصبّوا لنا الشاي فيه، وإن لم يكن عندكم فصبّوا لنا نصف هذا الكبير!
 
 
 
 
256

215

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 كان يتكلّم بكلّ حرارة ومحبّة وحميميّة مع أفراد عائلتنا وكأنّنا من أقاربه وأرحامه. وكأنّه جاء لزيارة أخته ونحن أولادها!


ودار الحديث كذلك حول ذهاب الشباب إلى الكنيسة، كنتُ أتكلّم معه، تحدّث حول الكاهن الجيّد وأوضاع الكنائس بعد الثورة.
 
 
 
257

216

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 - إذا كان كلام ذلك الكاهن الذي يخطب في الكنيسة جيّدًا، فإنّ الشباب سينجذبون ويأتون. ولكن إن لم يكن جيّدًا وكان كلامه مكرّرًا ويتكلّم بكلام لا يفهمه الشباب فبالطبع لن يستطيع جذبهم إليه.


- إنّ كنيستنا هنا، ما شاء الله، قد امتلأت وعمرت بالناس بعد الثورة. يأتي الشباب كثيرًا وأعدادهم تزداد يومًا بعد يوم.

- هذه ميزة الثورة الدينيّة في البلاد. مع أنّ الثورة إسلاميّّة لكنّها تؤثّر إيجابيًّا على العقائد الدينيّة لأتباع كلّ المذاهب. ليس فقط في إيران، بل في كلّ العالم أيضًا. أي إنّ الثورة الإسلاميّة الّتي طرحت سيادة الدين، قد أدّت إلى نظرة جديدة إلى الدين في العالم.

في العام 1980-1981م، حين كُنّا في مجلس شورى الثورة، كانت التحرّكات قد بدأت في بولندا ونهضة "التضامن" وغيرها. في ذلك الزمن، كانوا لا يزالون يعملون في الخفاء ولم يظهروا بعد. كان شعارهم الكنيسة. جماعة "التضامن" كان شعارهم الدفاع عن الكنيسة، وكانوا يعارضون الحكومة. والحكومة بدورها كانت ضدّ الكنيسة، وقد واجهتها لمدّة أربعين سنة، لكن حينها كان جيل جديد قد استلم زمام الأمور. وكان يؤيّد الكنيسة مع أنّه وُلد في زمان الشيوعية.

في ذلك الوقت، طُرحت أفكار وتحاليل متعدّدة في مجلس الثورة. قلتُ لهم أنا عندي تحليل: هذه الأحداث الّتي تجري في مواجهة الشيوعيّة، ترجع في أسبابها إلى ثورتنا بنحو من الأنحاء. 

أي إنّ الحركة الدينيّة والتوجّه الديني وسيادة الدين - وإن كان هنا الإسلام، الأفكار التي حرّكتهم هنا - حرّكتهم هناك أيضًا.

والآن حين تقولون إنّ شبابكم يأتون إلى الكنيسة أكثر من السابق، ينبغي أن يكون هذا الكلام صحيحًا، فالتوجّه صار أكبر. حسنًا، هناك تسالٍ أخرى للشباب، يستطيع أن يذهب إلى حيث يشاء، لكنّ الكنيسة لها جاذبية أخرى مختلفة!

لمّا حان الوداع، أدركنا فورًا كم كان حضوره جميلًا وجذّابًا لن، لأنّنا لم نلتفت أصلًا إلى مضيّ الوقت.
 
 
 
 
258

217

الرواية الرابعة عشرة: الثورة بعثت النشاط في الكنائس

 نهضنا، وكلٌّ يشكر، بعباراته وأسلوبه، السيّد على حضوره. كان أبي الأكثر شكرًا وامتنانًا. حتّى ذلك اليوم لم أكن قد رأيت أبي يتكلّم بهذه الطلاقة وحسن البيان.


- لقد قَدِمتم إلى بيتنا المتواضع، فنوّرتموه بحضوركم. لقد شرّفتمونا ووهبتمونا الفخر والعزّة. حفظكم الله للشعب الإيرانيّ وللوطن وأدام ظلّكم فوق رؤوسنا. أطال الله عمركم.

- كان هدفنا هو أن نُبارك لكم جميعًا، للسيّدة والأبناء، حلول العام الجديد، وكذلك أن نظهر التكريم والإجلال لشهيدكم الشاب العزيز. أردنا بزيارتنا اللّيلة احترام وتعظيم هذا الشهيد.

عند ذهابه، قدّم لوالدتي هدية، وودّعنا في أمان الله:
- وهذه ذكرى منّا للسيّدة. في أمان الله!
 
 
 
 
259

218

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة - رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منازل الشهداء: هراند هاكوبيان، هراند آفانسيان، فيكن كارابتيان بتاريخ 05/01/1993م.



الشهيد فيكن كارابتيان 
مكان الاستشهاد: دهلزان – ايلام
تاريخ الاستشهاد: 26/03/1987م


الشهيد هراند آفانسيان
مكان الاستشهاد: كرمانشاه
تاريخ الاستشهاد: 12/07/1987م

الشهيد هراند هاكوبيان
مكان الاستشهاد: فكة – خوزستان
تاريخ الشهادة: شتاء 1987م
 
 
 
 
264

219

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 في العادة يذهب سماحة السيّد القائد للقاء عوائل الشهداء ليلة الجمعة، أمّا هذه المرّة فالبرنامج مختلف كلّياً، ليلة الثلاثاء في الخامس من شهر كانون الثاني، لا ذكر لأيّ مناسبة من المناسبات في التقويم لهذه اللّيلة ولا لليوم الّذي يليه، لا التاريخ الشمسيّ ولا القمريّ ولا الميلاديّ.


ولكن أراد سماحته أن يضع برنامجاً لهذه الليلة، برنامج لزيارة عوائل شهداء الأرمن، وذلك لمعرفته بعادات وتقاليد مواطنينا الأرمن. فهو يعلم جيّداً أنّ الخامس والعشرين من كانون الأول، أي قبل خمسة أيام من نهاية السنة يُعرف بعيد الميلاد، ويتناقل ذلك في وسائل الإعلام، ولكن ليس عند الأرمن، إذ إنّ معظمهم من البروتستانت، وهم يحتفلون بعيد الميلاد في السادس من شهر كانون الثاني، أي بعد عشرة أيام من عيد الميلاد المعروف. ولكن المسيحيّين الآشوريّين في إيران، وحيث إنّ معظمهم من الكاثوليك، فهم يحتفلون بعيد الميلاد بحسب المعتاد، ميلاد السيّد المسيح عليه السلام نبي المحبّة والأمل، وهو مبارك عند المسلمين كذلك.

اللّيلة هي ليلة السادسة من الشهر الأول لسنة 1993 ميلاديّة، أي ليلة عيد الأرمن، ويريد سماحة السيّد القائد أن يزور ثلاثًا من عائلات شهداء الأرمن، الذين يعيشون في أحياء خاصّة في طهران، وقد نظّم البرنامج ليشمل ثلاث زيارات في منطقة معيّنة.

توجّهت سيّارتان أو ثلاث من مكتب سماحته من دون أيّ ضوضاء أو مرافقة كبيرة باتجاه شارع دماوند في طهران، فلم يغلق أيّ شارع، والأجواء كانت عاديّة.

كانت السيّارة التي تُقلّ السيّد القائد تشقّ طريقها بين مئات السيّارات كأيّ سيارة أخرى، تقف عند الإشارات الحمراء لتصل إلى المكان المقصود.

كان المنزل الأول بيت الشهيد "فيكن كارابتيان"، هناك توقّفت السيّارة ملاصقةً لبيته لينزل منها آية الله السيّد علي الخامنئي دام ظله، ويدخل البيت من دون أن يُلفت الأنظار.

* * *

بدايةً، قدمت أنا وأخي ونحن الأكبر سنّاً في العائلة إلى طهران، وبقيَ والداي وأختي
 
 
 
 
265

220

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 وأخي الأصغر "فيكن" في القرية، ليُكمل "فيكن" دراسته الثانويّة، بعده قدم الجميع إلى طهران، ولم 

يكونوا يرغبون في ذلك، وهم على حقّ في عدم رغبتهم بالمجيء، فقد كانت أيام القرية حقّاً من أفضل مراحل حياتنا.

وهناك قصّة مطوّلة في كيفيّة ذهابنا الى قرية "خاكباد" بعد الحرب العالمية الثّانية، حيث كُنّا العائلة الأرمنية هناك، وكان أبي رحمه الله قد حكاها لي لكنّي نسيت تفاصيلها.

قرية "خاكباد" قرية عامرة تقريباً، تقع قرب خمين والايكودرز، وكان أبي مورد احترام الأهالي، وحتى الآن كلّما زرنا القرية يأتي معظم أهلها لزيارتنا، ويبدأ الجميع بمدح أبي "السيّد آغيك".

كان أبي مختار القرية، والمجبّر الوحيد في المنطقة، يقصده كلّ من جُرح أو كُسرت يده أو رجله من أبناء المناطق المجاورة، فيقوم بمعالجتهم، وهو ماهر في عمله بحيث ذاع صيته في المدن والمناطق البعيدة عن قريتنا، فكان إذا أُصيب شخص بضربة قوية، وخصوصاً إذا كانت في الجمجمة، يقولون له: علاجه لا يكون إلا في "خاكباد" عند السيّد آغيك.

كلّ مريض يدخل بيتنا فهو ضيف، تقوم أمّي بتقديم الضيافة له ولعائلته، وكان البعض منهم عندما يعرف بأنّنا مسيحيّون لا يأكلون من طعامنا شيئاً، ولم تكن أمّي تنزعج من ذلك، بل كانت تذهب لتستعير إبريق وأكواب الشاي والسكّر من بيوت الجيران لتقديم الضيافة لهم، لقد كانت أمّي حقّاً إنسانة عجيبة.

ومع أنّنا العائلة المسيحيّة الوحيدة في القرية المسلمة، إلا أنّ ذلك لم يُشكّل لنا أيّ عائقٍ في الحياة والعيش، وكانت تسود بيننا المودّة والعلاقة الحَسَنة، يُحبّ بعضنا الآخر، والفرق الوحيد 
أنّ رجال القرية يُنادَوْن بالحاج أو الكربلائيّ أو المشهديّ، أمّا أبي فقد كان يُنادى بـ "السيّد آغيك".

كان أبي رجلاً بارزاً، يذهب إلى القرى المجاورة وصولاً إلى خمين، وكانت عائلة الإمام الخميني قدس سره في تلك المنطقة معروفة جدّاً، وكان أبي على علمٍ بقصّة شهادة السيّد مصطفى الخميني والد الإمام. ففي إحدى زياراته لخمين بعد سنوات عدّة من شهادته، التقى والدة الإمام، وكان يمتدح شجاعته أمامنا نحن الأطفال، كان ذلك قبل انتصار الثورة الإسلاميّة بعدّة سنوات. 

هناك الكثير لنتحدّث عنه وعن الحياة في قرية "خاكباد"، ولكن في النهاية، قدمنا إلى طهران في منتصف الحرب، وكان "فيكن" قد بلغ سنّ الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، وكان مزاج أمّي يتعكّر
 
 
 
266

221

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 إذا وصل الكلام للحديث عن الجبهة والتجنيد، وتُصيبها حالة من الانزعاج كأنّها سمعت بخبرٍ سيّئ.


فقد كان "فيكن" عزيزاً على قلب أمّي، وهو في الوقت نفسه شجاع لا يعرف الخوف، وكان دائماً يقول وهو على مقاعد الدراسة: "أُحبّ أن أُصبح جنديّاً وأُقاتل هؤلاء الجبناء".

وعندما قدمنا إلى طهران، حان وقت التحاقه بالخدمة، ولم يستطع أحد أن يمنعه عن ذلك، قامت أختي الكبرى بإخفاء بطاقته الشخصيّة خوفاً عليه من الذهاب، ولكنّه بحث عنها في كلّ المنزل وقلبه رأساً على عقب، وراح يرجو هذا وذاك لنُعطيَه إيّاها. في النهاية، تمكّن من الالتحاق من خلال نسخة مصوّرة عن البطاقة ليُصبح بعد ذلك مجنّداً.

كانت دورته العسكريّة في لويزان في طهران، وبعدها في شتاء العام 1986م، أرسل إلى منطقة شرهاني في إيلام. في تلك الأيام توفّي أبي، وبكثير من المشقّة وصل خبر وفاته إلى " فيكن" الّذي أخذ إجازة وجاء لتشييع الجنازة، والّتي شارك فيها كلّ أهالي "خاكباد" تقريباً، وبعد مراسم التشييع قالت أمّي لـ"فيكن": ابق هنا، يكفيني تحمّل فراق أبيك.

لكنّه لم يقبل وقال لها: يجب أن أذهب، فهم بحاجة إليّ هناك، ليعود أواخر شتاء العام 1985م موعد الإجازة التالية.

كان "فيكي" عندما يأتي نتحلّق حوله ليُحدّثنا عن الجبهة، وهو المرِح المليء بالنشاط،
 
 
 
 
267

222

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 لذلك كان يُحدّثنا عن الجبهة بطريقة تجعلنا نضحك. إلّا حينما يُحدّثنا عن شهادة رفاقه في الجبهة كان يختنق بعبرته ويبدأ بالبكاء. وحينها لم يبقَ لآخر العطلة، فقُلنا له: إنّه العيد الأول بعد وفاة والدك، وعلينا أن نذهب الى "خاكباد"، فقال: لا أستطيع.


كان عيد ميلاده في الثالث من فروردين1، وكان قد بلغ العشرين، ولكنّه لم يُدرك منها إلا أربعة أيام فقط، يومها أخبروني بأنّه أُصيب بشظايا وهو على برج المراقبة، وعليك أن تأتي لتتعرّف إليه. لم أُخبر أحداً بذلك لأنّي لم أُصدّق ذلك، وكنتُ مطمئناً أنَّ هناك خطأ ما، ولكنّه كان هو في البرّاد عندما رأيته، لم يكن يشبه الموتى، لقد كان يرقد بهدوء، عبثاً ناديته .. فيكن.. 

فيكن..! ولكنّه لم يُجب. 

بعد عدّة أشهر من وفاة أبّي، أقعدتْ شهادة "فيكن" أمّي، عندما وصل الخبر إلى "خاكباد" لم يُصدّق النّاس هناك، ولبست القرية لباس العزاء، فقد فقدوا أخاهم! لقد كانت أيّامًا صعبة جدّاً.

عندما تذهب الآن إلى "خاكباد" ستجد صورة كبيرة للشهيد "فيكن كارابتيان" وضعها النّاس من أموالهم الخاصّة عند مدخل القرية.

والدة وأخو الشهيد "فيكن كارابتيان" عند مدخل قرية "خاكباد".
 

1- الشهر الأول من السنة الهجرية الشمسية، موافق لشهري آذار - نيسان.
 
 
 
268

223

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 مرّ حتى الآن خمس سنوات على شهادة "فيكن"، أمّا أمّي فما زالت تُعاني من لوعة الفراق، وكلّما رأت مجنّداً في الشارع يحترق قلبها، وتقول: "اللّهم احفظه لأمّه"، وتنهمر الدّموع من عينَيْها.


إنّها ليلة الميلاد والكلّ مجتمع في بيت أمّي، قدم خالي كذلك، فقد تقرّر أن تجتمع كلّ العائلة لتناول عشاء عيد الميلاد في بيتنا. وفي زحمة التجهيزات، رنّ الهاتف ليُخبرونا أنّ علينا أن نبقى في البيت مساءً، لأنّ أحد المسؤولين يُريد زيارة منزلنا. وعبثاً حاولنا الاعتذار بوجود ضيوف عندنا وتأجيلها لليلة أخرى، إلّا أنّهم قالوا لنا: إنّه لن يمكث أكثر من عدّة دقائق.

أوّل اللّيل، أتى عدّة أشخاص، وبعد استفسارات عدّة قالوا لنا : دقائق ويصل سماحة السيّد القائد.

قُلنا: نعم ؟ قُلتم من سيأتي؟ 

- سماحة قائد الثورة السيّد علي الخامنئي.

- هنا؟ إلى منزلنا؟

- نعم. 

- حسناً. لكن لماذا لم تُخبرونا من قبل؟ لنُجهّز أنفسنا ونُخبر الآخرين؟

- لقد أمر سماحته بعدم إخباركم كي لا نُسبّب لكم الإزعاج. ولا حاجة لفعل أيّ شيء فهو سيصل خلال دقائق.

ذهبتُ مع خالي عند الباب للاستقبال، فدخل "السيّد" برفقة شخص أو شخصَيْن، وقبل أن نستيقظ من هول الدهشة، ألقى علينا التحيّة: "السلام عليكم". ومن حسن الحظ أنّ خالي موجود 
ليُخفّف من شدّة رهبة المفاجأة، فقد كان خالي أستاذاً مثقّفاً، ولبق الكلام.

جلس "السيّد" في غرفة الضيوف، إلى طاولة الطعام، وجلسنا حوله، أنا وأمّي وأخي وأختي وزوجها.

سأل "السيّد" أوّلاً عن صحّة أمّي، كُنّا في القرية نتكلّم اللّغة الفارسيّة، لذلك لم يكن لدينا لهجة أرمنية، بل لهجة أهل المنطقة التي سكنّا فيها. لذلك أجابته: سلّمك الله، سلّمك الله.

كانت صورة "فيكن" على الطاولة مقابله، فرفعها ونظر إليها بدقّة.
 
 
 
269

224

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 - حسناً هذا هو شهيدكم؟


فقُلنا: نعم.

- من والده؟

- توفّي والدنا.

- هذه السيّدة أمّه؟

- نعم.

- جيّد، أين استشهد ومتى؟

كان سمع أمّي ثقيلاً فلم تسمع شيئاً، بل كانت تدعو له :"أعزّكم الله"، لذا أوضحت له عن "فيكن" متى التحق بالخدمة العسكريّة وكيف استشهد في "دهلران"1.

- عظّم الله أجركم، وأسأل الله تعالى أن يكون عيدكم مباركاً.

فتقول أمّي: سلّمك الله، أسعد الله أيامكم. ونحن نشكرك لأنّك تفضّلت علينا وتلطّفت علينا بهذه الزيارة، لقد أقررت أعيننا.

- وفّقنا الله جميعاً لنتمكّن من القيام بواجباتنا. 

وأثناء حديث "السيّد" همس أحد مرافقيه الّذي كان يُصوّر اللقاء في أذني: هل فعلاً أمَّكَ أرمنية؟ فنحن منذ عدّة سنوات نذهب إلى بيوت الأرمن، وكثير منهم لا يتكلّم الفارسية، ولكن أمّكَ 
لديها لهجة فارسية قروية! فهمست في أذنه قائلاً: "لذلك حكاية، وهل هذا سيّئ؟! فهزّ برأسه وقال: لا أبداً، بل رائع جدّاً". 

وبالفعل، فإنّ بساطة أمّي وتواضع "السيّد" وعدم تكلّفه، جعلا المجلس حميماً. 

عندما علمت أنّ أعلى منصب في الدولة سيأتي إلى منزلنا، خفت كثيراً، وانخفض ضغطي، ولكن عندما أتى تصرّف بطريقة لم يُشعرنا أنّ مقاماً عالي، أعلى مقام في الدولة، وأحد أهمّ المناصب الدينيّة والسياسيّة في العالم، ضيف في بيتنا. والآن، لم يَعُدْ عندي أدنى رهبة، تلك الرهبة الّتي تنتابني عادةً عندما أُقابل الكاهن أو الأسقف.

- ابنكم الشاب هذا الّذي دافع عن بيته ووطنه، وهو في غمرة الشباب وقُتل في هذا السبيل، هو فخركم وفخر كلّ من ينتسب إليه، بل هو فخر كلّ أبناء الوطن. هؤلاء الشباب
 

1- من مدن محافظة إيلام الحدودية، وكانت هدفاً دائماً للهجمات الجويّة لنظام البعث العراقي لغناها بالنفط والغاز.
 
 
 
 
270

225

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 هم فخر لوطننا، وعلينا حقّاً أن نفتخر بهم.


لقد أثّر كلامه فينا، حتّى إنّني أحسست أنّ ملامح "فيكن" قد تغيّرت في ذهني.

يسأل "السيّد" عن درجة قرابتنا نحن الإخوة والخال مع الشهيد، عندما عرّفنا عن خالي، بدأ يتكلّم مع "السيّد" براحة.

- لا أعرف حقّاً بأيّ لسان أشكر زيارتكم لنا، لقد أدخلتم السرور على قلوبنا اللّيلة يا سماحة السيّد الخامنئي.

- هذا تكليفنا، تكليفنا أن نُبدي محبّتنا وإخلاصنا لهذه العائلات العزيزة الّتي قدّمت أبناءها في سبيل الوطن، فأنا دائماً أستفيد من فرصة السنة الميلاديّة الجديدة لأتفقّد أبناء وطننا المسيحيّين، ولأُبارك وأُعزّي بشهدائهم، أُبارك لهم العيد وأُبارك لهم الشهادة، وأُعزّيكم بفقد الابن.

تشكر أمّي على طريقتها، أمّا أنا فقد انعقد لساني!

بدأ الكلام عن عيد الميلاد، يقول خالي: نعم، اللّيلة ليلة العيد عندنا، وبالمصادفة عندنا ضيوف، وأردت أن أخرج لتحضير الضيافة وما يلزم للعشاء، ولكنّ الإخوة طلبوا منّا البقاء، ونحن بقينا احتراماً لطلبهم، ولكنّنا لم نكن نعلم، أقصد هم لم يقولوا لنا إنّك سوف تُشرّفنا، ومن دواعي سرورنا أن نكون في مجلسك.

- حسناً، فمن العادات أنّنا عندما نقوم بزيارة الأصدقاء لا نبقى إلا لعدّة دقائق، لإبداء المحبّة، إذ لا يسعنا أن نُطيل المكوث، لنتمكّن من الذهاب إلى أماكن أخرى.

انزعجتُ من كلام خالي، صحيح أنّه لم يكن يقصد، أمّا في الواقع فإنّنا نرغب أن تستمر هذه الجلسة لساعات وأن لا تنتهي. ولا يهمّ إن كان عندنا ضيوف في ليلة العيد أم لا.

لقد حاولتُ أنا وأمّي أن نوصل هذه الفكرة من خلال الشكر وإظهار السعادة.

- بارك الله لكم في هذا العيد، وأسأل الله أن يحلّه عليكم بالسعادة والخير، وأن يدخل السرور إلى قلوبكم، فالأهم هو فرحة القلوب.

فتُجيبه أمّي: أسأل الله أن يوفّق الجميع وأن يُسدّد خطاهم. شكراً جزيلاً.

لقد تلطّفت علينا يا "سيّد".

ثمّ تنهّدت وقالت بلهجتها القروية: حسناً ماذا تصنع الأم العاجزة عن الفرح.
 
 
 
 
271

226

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 - نعم، صحيح، أسأل الله أن يتفضّل عليكم وأن يُجزيَكم خيراً، فإنّ مصائب الدنيا يُقابلها الأجر الإلهيّ.


- شكراً، حفظك الله وأدامك فقد كان من نصيبنا رؤيتك، أطال الله في عمرك.

- نعم، فليحفظ الله شبابكم. فإنّ في هذا البلد كثيرًا من العائلات قدّمت ابنها فداءً، ومنهم من قدّم الاثنين، والثلاثة، والبعض قدّم أربعة.

- أجل، هكذا جارنا السيّد حسيني قدّم اثنين من أبنائه فداءً للوطن، محسن حسيني وقاسم حسيني.

وأمّي صديقة حميمة لأمّ الشهيدَيْن وترافقها دائماً، نشكر الله أنّها ترافقها، فقد حسّنت هذه الرفقة من روحيّتها.

كعادتها، أحضرت أمّي الشاي بالقرفة، جلب أخي الشاي، ودعا الجميع لتناوله، وبعدها أتى بالحلوى، فقال "السيّد" من دون أيّ مجاملة: أنا لا آكل الحلوى، وآخذ مكعّبات السكّر لشرب 
الشاي.

سأل "السيّد" عن أشغالنا، فقال له خالي إنّه أستاذ، ونحن الثلاثة قُلنا إنّنا نعمل معاً في معمل صغير للخراطة وصناعة القوالب الحديديّة، أي أنا وأخي وصهري.

في أثناء الحديث، عندما احتسى السيّد الخامنئي قليلاً من الشاي، سأل: هل تُحضّرون الشاي بالقرفة؟
 
 
 
 
 
272

227

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 اعتقدت أنّ الأمر قد ساء جدّاً، فحتماً لم يُعجب "السيّد"، سألت: ألا يُحبّه؟ فقال: من الممكن أن لا يكون مناسباً له، وإلا فإنّه لا يكره طعمه. فقرّرت في نفسي أنّه في المرّة القادمة. فإنّني 

سأُحضّر له شاياً خالصاً من دون نكهة. ثمّ ضحكت في سرّي لهذه الأفكار.

عندما سألنا سماحته إنْ كُنّا نُعاني من مشكلةٍ ما ليساعدنا في حلّها. قُلنا له: لا مشاكل لدينا، وما نرغب به هو أن يُطيل الله في عمره.

قبل الوداع طرح علينا السؤال عن مشاكلنا مرّة أخرى. فذكرت له بخجل وحياء مشكلة الوكالة. فقد كنتُ أنا وأخي نملك وكالة لسيارات الأجرة وأوقفت بسبب بعض المشاكل ...! فيطلب سماحته من أحد مرافقيه بأن يُتابع هذه المشكلة ويسعى إلى حلّها.

وبعدها أعطى سماحته أمّي هدية كتذكار لليلة العيد الخاصّة هذه، ثمّ ودّعنا وغادر.

بقينا وذكرى عذبة، ظلّت وحتى بعد ساعة صعبة التصديق، لولا التذكار الذي قدّمه "السيّد" لأمّي، لما صدّق الضيوف أيضاً، أنّه قبل ساعة كان قائد البلاد ضيفاً في بيتنا.

* * *

غادر "السيّد" منزل الشهيد كارابيتيان، وركب السيارة، وهنا في هذا الحيّ الذي يعرف الكلّ بعضهم، حتّى السيارات، لذا أحسّ عدد من الأشخاص الموجودين في الزقاق أنّ هؤلاء الغرباء الخارجين من منزل السيّد "كارابتيان" ما هم سوى ضيوف عاديين.

المحطة الثانية كانت قريبة، على مسافة عدّة أزقّة، داخل السيارة، يتحدّث واحد أو اثنان من مرافقي السيّد عن أمّ الشهيد كارابتيان، ولهجتها العذبة، وأنّه لولا الصور والرموز المسيحيّة في المنزل لاعتقدوا أنّهم قد ضلّوا العنوان.

يفصلنا عن مقصدنا عدّة دقائق فحسب، يُعطي مرافقو السيّد القائد بعض المعلومات عن شهيد العائلة التالية، عائلة الشهيد "هراند آفاسيان".

* * *

ربّيت أولادي، من خلال عملي على دواسة البنزين ومنظّم السرعة، في شوارع طهران. كأكثر الأرمن، نشأت منذ حداثة سنّي في أجواء العمل الميكانيكي، لكنّ ولعي للجلوس وراء المقود، غيّر مسار حياتي، فقد كُنت ألتذّ بالقيادة، لدرجة أنّي أصبحت سائق تاكسي، شيء مضحك، ولكن ليس كثيراً. قيادة التاكسي في طهران الّتي يسكنها ما بين عشرة
 
 
 
273

228

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 ملايين إلى اثنَيْ عشر مليون نسمة سنة 1992ميلادية، تختلف كثيراً عنها في العام 1953. ففي ذلك الوقت لم يكن للناس سيارات، وكانت العربات التي تجرّها الخيول ما زالت تجول في طرقات المدينة، فلم يكن هناك معنى لازدحام السير، وكنت ألتذّ بالقيادة وحتى بالتاكسي، أمّا الآن، عندما أعود إلى البيت عند الغروب، أشعر بتعب الروح والجسد.


اليوم لم أذهب للعمل على التاكسي، ففضّلت البقاء في البيت، ومساعدة زوجتي لوسيك في تحضيرات ليلة العيد.

لم يعد لديّ القدرة على العمل كما في السابق، كما لا أُتقن عمل المنزل جيّداً. كثيراً من الأحيان تقول لي لوسيك بين الجدّ والمزاح: غريغور اذهب للعمل على التاكسي، فبقاؤك في البيت، يزيد من عملي!

اسمي غريغور، وهو اسم القدّيس المسيحي الّذي بجهوده أعلن البلاط أرمينيا عام 301 ميلاديًا المسيحيّة الدين الرسمي للبلاد.

نعم، بقيت في البيت للمساعدة، وحسناً فعلت. ففي الصباح اتصل أحدهم، وقال بالفارسية: "هل أنتم اللّيلة في البيت؟ نُريد أن نزوركم لدقائق".

تكلّم بأدب لافت، لذلك ومن دون أن أسأله من أنت، قلتُ: نعم، هي ليلة عيد الميلاد عندنا، ونحن في البيت، ولكن لماذا تُريدون المجيء؟ فقال: "لأجل شهيدكم هراند آفانسيان، ألستم أباه؟" مع سماع اسم هراند، خفق قلبي.
 
 
 
 
274

229

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 قلتُ: نعم، أنا أبوه، تفضّلوا فنحن موجودون.


شكرت الله أنّي بقيت في البيت، فلوسيك لا تتكلّم الفارسية جيّداً. ويُمكن أن لا تتدبّر الأمر. فمن خلال عملي في التاكسي تكلّمت مع الناس إلى درجة أنّي في بعض الأحيان أتكلّم الفارسيّة 
أفضل من الأرمنيّة. 

انشغل فكري بمن سيأتي إلى منزلنا ليلة العيد من أجل هراند؟ تكهّنت في أنّهم سيأتون من قِبَل التلفزيون، لإجراء مقابلة وأشياء من هذا القبيل، ولكن لماذا هذه اللّيلة، ولماذا في اللّيل؟ لم أصل إلى إجابة عن هذه التساؤلات. 

شغلت نفسي بتنظيف اللّوحات والصور، وقمت بوضع صورة هراند وصورة عائلتنا مع الأسقف مانوكيان في الأمام، لتكون أمام مرأى العين، لأجل ضيوف اللّيلة.

قُبَيْل الغروب، جاء أخي إلى البيت. ولم يصل ضيوفنا بعد، عمّ الظلام وكدتُ أفقد الأمل. ولم أدرِ إنْ كانت "لوسيك" أعدّت طعام العشاء أم لا. خفت أن نبدأ بالعشاء ويصل الضيوف! 

والأسوأ من ذلك أنّي لا أعلم من الّذي سيأتي. ولا يُمكن التصرّف مع أيٍّ كان بنفس الأسلوب، الآن وبما أنّهم لم يأتوا، قرّرت أن أصرفهم إن كانوا من قِبَل التلفزيون، وأن أطلب منهم المجيء بعد أيّام عدّة.

ما زلت في هذا التفكير وإذ بالباب يُقرع، لقد جاؤوا أخيراً. أحدهم من تكلّم معي هذا الصباح. وبكامل الأدب والاحترام سألوني عدّة أسئلة، التي كانت بالنسبة إليّ عجيبة. غضبت بعدها قليلاً. وقلتُ لهم: جئتم إلى بيتنا لتتكلّموا بهذه الأمور؟

هدّؤوني بالقول إنّ الضيف الأساسي لم يأتِ بعد، وإنّه في طريقه إلينا. فأُصبت بالدوار. حسناً، لماذا لم تأتوا معاً؟ ولماذا كلّ هذه الأفعال؟

أخذ أحدهم يديّ وقال لي بمحبّة: إنّ ضيفكم هو سماحة السيّد القائد الخامنئي.

- من؟

- السيّد الخامنئي.

- سيأتي شخص من قِبَله؟

- لا، سيصل بنفسه بعد عدّة دقائق إلى منزلكم.
 
 
 
275

230

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 - بالله عليك. هل تقول الحقيقة؟


لا أستطيع أن أُصدّق، وأسأل الشخص الثاني. فيقول: أجل يا والدي الحبيب، ويخرج جهازه اللاسلكي من تحت سترته، ويتّجه نحو الباب وهو يتكلّم به. فيقول صديقه أظن أنّهم أصبحوا قريبين، إذا أردتم أبلغوا زوجتكم.

احترتُ ماذا أقول، فأنا لم أُصدّق بعد. وهل الأمر بهذه البساطة أن يأتي قائد الدولة الإسلاميّة في ليلة عيد الميلاد إلى بيت سائق تاكسي أرمني؟!

قلقت "لوسيك" من علائم الدهشة على وجهي، وحتى لا تعتريها الأفكار السيّئة قُلتُ لها ما قاله هذان الرجلان.

فقالت: هل يستهزئان بنا؟

- لا، فإنّ هيأتهما لا توحي بذلك، فهما مؤدّبان جدّاً، وأحدهما يحمل جهازاً لاسلكيّاً.

- إذاً هما يقولان الصدق. ولكن لماذا بُهِتَ لونك؟ فإنّ مجيئه قرّة لعيوننا، فليأتِ فلا داعي للاضطراب.

كانت "لوسيك" في منتهى الهدوء. فهي هادئة إلى حدّ أنّ هدوءها يؤذيني في بعض الأحيان! أخذت بيدي وقالت: تعرف أنّي لا أتكلّم الفارسية. فلا تذهب بماء وجهي. اشرح وتكلّم بهدوء، وقل كم كان هراند شابّاً رائعاً... .

تتعالى الأصوات أمام الباب، فانقطع حديثنا. وأذهب أنا وأخي للترحيب. الآن أنا مجبر على التصديق، فهذا "السيّد" الخامنئي جاء إلى منزلنا وهو يُسلّم علينا.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام "سيّد" ، أهلاً وسهلاً بكم.

- كيف حالكم؟

- أشكركم، تفضّلوا.

ومن السلام عليكم هذا، ذاب اضطرابي، ولا أدري لمَ ذهب؟ أذَهَبَ من بسمته الجميلة أو من حنانه أو بساطته في التعاطي؟ مهما يكن فإنّ الخوف والارتباك قد خرجا من قلبي وحلّ مكانهما الحبّ والطمأنينة.
 
 
 
 
276

231

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 دخل "السيّد" مع مرافقيه إلى غرفة الضيوف، وجلس إلى طاولة الطعام، فذهبت سريعاً وأحضرت صورة هراند ووضعتها على الطاولة، وبدأت من دون مقدّمة بالحديث عن الصورة، إنّها للشهيد في لباس الجندية. كان قلقي أن تنتهي الجلسة بسرعة، فيرمقني أخي بنظرة يعني بها أن "اصبر حتى يجلس".


حقّاً ما يقول، فكأنّي استيقظت، فأتراجع خطوة إلى الوراء، فأنا لم أقل بعد للسيّد من أنا؟ وبادرني قائلاً : هل أنتم والد الشهيد؟

- نعم.

فيجول في بصره حول الطاولة، وكأنّه يبحث عن شخصٍ ما، ويسأل: أين أمّ الشهيد؟

لم ألتفت أصلاً إلى "لوسيك"، بالتأكيد ذهبت إلى المطبخ فأقول: أمّ الشهيد ستكون في خدمتكم.

- قولوا لها فلتأتِ، فلتأتِ أمّ الشهيد.

ما زلت واقفاً على قدميّ والصورة بيدي، فينظر سماحته إلى الصورة ويطلب منّي الجلوس.

ما يزال السيّد الخامنئي ينتظر أمّ الشهيد حتى تأتي، فكأنّه لن يبدأ الجلسة حتّى تأتي. تأتي "لوسيك"، فأُعرّفها إليه.

- كيف حالكم أيّتها السيّدة؟

- شكراً، سلّمك الله.

- أفرح الله قلبكم، وآجركم باستشهاد ابنكم، كم كان عمره؟

كنتُ قد هيّأت بطاقة هويّته، فوضعتها بجانب سماحة السيّد وقُلتُ: كان عمره اثنتَيْن وعشرين سنة.

فيسحب سماحته الصورة إلى جانبه وينظر إليها بدقّة!

كان مجنّداً، أليس كذلك؟

- نعم.

- عجبًا!
 
 
 
 
277

232

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 كان ينظر إلى صورة "هراند" بحسرة، وكأنّ الشهيد أحد أبنائه، فأُعلّق بقولي: كان بطلاً ومدرِّباً لرياضة الجنباز، عندما كان يأتي للإجازة كان يُحدّثنا أنّه كان يقوم بحركات رياضية في الجبهة للترويح عن رفاقه، فينشر الفرح والضحك بينهم.


يسأل "السيّد": "هل أنتم من عائلة آفانسيان؟" فأؤيّد ذلك، يبدو وكأنّه يسأل عن هذه العائلة لمعرفته بها.

- هذه العائلة عند الأرمن كبيرة ومنتشرة؟

لم أعلم كيف سمع بهذه العائلة من قبل، فأكّدت له أنّها عائلة معروفة وكبيرة، ثم يُجيب عن السؤال الذي كان يُراودني.

- الآن كنتُ أتحدّث مع الإخوة، لقد كان عندي صديق معنا في السجن عام 1963 في "قزل قلعة" كان أرمنياً من عائلة آفانسيان.

فكّرت كثيراً لكنّني لا أعرف شخصاً بهذه المواصفات، من الممكن أنّه اعتقد أنّنا على قرابة مع صديقه الذي كان معه في السجن، لكنّنا لسنا كذلك.

- حسناً، ماذا تعني آفانسيان؟

ليس عندي جواب، فأنا لم أُفكّر حتى الآن بجذور الأسماء الأرمنية.

- حسناً، قُلتم في أيّ سنة استشهد؟
 
 
 
 
 
278

233

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 ما عدت أذكر التاريخ بدقّة، فنظرت إلى لوسيك، فرفعت كتفها إلى الأعلى وقالت بالأرمنيّة: في بداية عمليات القصف الأخيرة، فترجمت هذه الجملة. 


يُقدّم لها سماحته كلمات المواساة فتشكره، وأنا أقول: أخجلتنا بقدومك إلينا .

يُبارك سماحته لنا عيد الميلاد، ويجلب أخي الشاي، ويدعو الجميع لتناوله.

اغتنمت الفرصة لأُحدّث "السيّد" عن بعض مميّزات هراند الأخلاقية الفريدة.

- يا سيّد! بعد شهادة هراند عرفنا أنّه قبل أشهر عدّة من شهادته كان جريحاً، ولكنّه لم يُخبرني ولم يُخبر أمّه بشيء حتى لا نمنعه من الذهاب إلى الجبهة ثانيةً، كان قد أُصيب برصاصة وشظايا في يده اليمنى، ولكنّنا لم نكن نعلم بذلك، حتى إنّهم أعطوه إجازة للعلاج، ولكنّه لم يأخذ الإجازة حتى لا ننتبه لإصابته، وقد علمنا بذلك خلال مراسم تشييعه. 

كان أخوه ميكانيكياً ماهراً، هو خارج البلاد في الوقت الراهن، في كلّ مرّة كان هراند يأتي فيها للإجازة كان يجلب معه قطع غيار خربة، فيتعاون مع أخيه على إصلاحها ومن ثم يُعيدها إلى الجبهة.

أذكر مرّة عندما جاء للإجازة، وكان أخوه الأكبر على مائدة العشاء فقال له: في هذه المرّة عندما تعود إلى الجبهة، حاول أن تتجنّب الخطر! انزعج كثيراً من كلام أخيه وقال: ماذا يعني؟ 

إذ ما الفرق بيني وبين الآخرين. الدفاع عن هذه الأرض واجب على الجميع. 

كان السيّد ينصت إلى كلامي بدقّة وهو يهزّ برأسه ويقول "مدهش"، مثنياً على روحيّة هراند. 

بعد إنهاء كلامي، تكلّم "السيّد" عن الشباب الذين استشهدوا مثل هراند، كلام أفرح قلبي وقلب لوسيك من العمق:
- هؤلاء الشباب الّذين يستشهدون من أجل استقلال الوطن والدفاع عنه، هؤلاء قدرهم عظيم، وعائلاتهم كذلك. إذا لم يذهب هؤلاء الشباب إلى ميادين القتال، ولم يُقدّموا هذه التضحيات فليس معلوماً كيف كان حال الوطن، هؤلاء الشباب هم الذين صنعوا هذه القيم ورفعوا رأس الوطن عالياً وجعلوه عزيزاً، وكلّ واحد منهم له نصيب في استقلال هذا الوطن والدفاع عنه، كلٌّ على قدر جهده ومساهمته، وأنتم بحمد الله، بشهادة أبنائكم لكم سهم ملحوظ.
 
 
 
279

234

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 هل عندكم أبناء آخرون؟


- نعم، أربعة آخرين.

- ذكور أو إناث؟

- اثنان من الذكور، واثنتان من الإناث.

- يعيشون معكم؟

- لا، تزوّجوا.

- ما هو عملكم؟

- سائق تاكسي، يا سيّد.

- جيّد جدّاً، كيف حال قيادة التاكسي في طهران؟

- ازدحام! كما تعلمون، ولكن ماذا نفعل فهو عملنا، إنّها خدمة عامة للمجتمع.

- كما تقولون بالفعل، إنّ القيادة في مثل هذه الشوارع صعبة جدّاً، ازدحام مستمر، ولكن كما يُقال، نعم، إنّها خدمة للعموم، يعني يُمكنك أن تُخلّص شخصاً في مثل هذه الشوارع لهذه المدينة المزدحمة والمكتظّة عندما يركب معك وتوصله إلى مكانه المقصود، هذا مهمّ جدّاً، فإنّه لا معنى للمشي في هذه المدينة الكبيرة. 

- من ثلاث وثلاثين إلى الآن، وأنا أؤدّي الواجب في قيادة التكسي.

- ثلاث وثلاثين سنة؟

- لا، من سنة ثلاث وثلاثين1 إلى الآن.

- عجيب، إنّها لفترة كبيرة، قرابة أربعين سنة، ما يُقارب سبعًا وثلاثين، ثماني وثلاثين سنة، ماذا عن أخيكم؟

- إنّه يعمل في المخرطة.

- فنّي، نعم، الأرمن أكثرهم فنّيون وصناعيون، ومتخصّصون في تصليح المحرّكات.

تقوم زوجتي لتأتيَ بالحلوى، فيلتفت السيّد الخامنئي.

- تفضّلي بالجلوس سيّدتي، لا ضرورة لذلك، لا تُزعجي نفسك.
 

1- سنة 1333 هجريّة شمسيّة تصادف 1954 ميلاديّة .
 
 
 
 
280

235

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 تقول زوجتي: لا إزعاج على الإطلاق! وصوتها ملؤه الحزن والاحترام، الاحترام لشهامة هذا الضيف، والحزن للوقوف على ذكريات "هراند".


يتحدّث معنا "السيّد" الخامنئي فيما يخصّ كنائس طهران والحيّ والكهنة، ويطرح بهذا الشأن عدّة أسئلة، وينسحب الكلام للحديث عن أسقف الأرمن في طهران "السيّد مانوكيان" ويُطلعنا "السيّد" على لقائه مع حضرته في بدايات الثورة.

أقف وأتناول صورة من على المكتبة، وأقول موضحاً بأنّ هذه الصورة مع ذلك الأسقف في عهد النظام السابق، كانت الصورة محطّ إعجاب "السيّد"، وسألني عن كلّ الموجودين فيها.

ثمّ بدأ الحديث معي ومع أخي عن عدد الأرمن في المدن الإيرانيّة المختلفة. خلال حديث أخي، بدأت بالتفكير بيني وبين نفسي وكأنّني أنظر من الخارج إلى المجلس، وأقول في نفسي لو 
أنّني لست موجوداً هنا، فما كُنتُ سأُصدّق! ففي الغد إذا حدّثت زملائي سائقي خطّ تجريش – منعطف شميران، فهل سيُصدّقون؟ طبعاً في الوهلة الأولى سيقولون إنّك تكذب.

- كانت نيّتنا أن نُبارك لكم وللسيّدة زوجتكم حلول العيد، ونُبارك لكم شهادة ابنكم، وأن
 
 
 
 
281

236

الرواية الخامسة عشرة: ليلة الميلاد الأرمنيّة

 نطمئنّ إلى صحّتكم، وأن نُبدي لكم إخلاصنا ومحبّتنا.


أدعو الله من أعماق قلبي أن يُسلّمكم ويحفظكم.

- أنتم شركاء في استقلال الوطن والدفاع عنه، ونحن عندنا واجب اتجاهكم، وهذه نيّتنا لهذه اللّيلة.

- لقد تلطّفتم بنا، حفظ الله شباب الوطن ليتمكّنوا من حفظ الحدود وخدمة الوطن، فيصبح الوطن وردة وروضة بإرادة هؤلاء الأبناء، هؤلاء الشباب، هؤلاء المضحّين، هذه الأرواح التي يُقدّمونها، هذه التضحيات، فالأمل معقود على هذا، لتُبنى إيران ويكون لها هذا العزّ وهذه الكرامة.

- إن شاء الله، إن شاء الله، سيحصل كما تقولون.

يقوم "السيّد" ليذهب، فيُعطي هدية لزوجتي ويقول هذه تذكار اللّيلة لكم، وهي كما هو معلوم لا تعرف اللغة للتحدّث، فيعقد لسانها وتكتفي بالنظر، فأتكلّم بدلاً عنها: أخجلتنا يا سيّد، تلطّفت بنا، أتعبت نفسك، فأسمع الجواب: لا، هذا واجبنا.