مقدمة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الإمام الخامنئي دام ظله:
"... قبل سنواتٍ، راجت كتبٌ تتحدّث عن القادة الّذين شاركوا في الحرب، فأنا من المتابعين لهذه العناوين أشتريها وأقرؤها، وهي روايات صادقة ومؤثّرة... يشاهد فيها الإنسان تلك الشخصيّات البارزة الّتي كانت تأتي إلى الجبهة بزيّ المهنة كالشهيد برونسي الّذي كان عامل بناء. كيف يمكن للإنسان التعرّف إلى مثل هذه الأمور الجميلة في شخصيّات كهذه، شخصيّة الشّهيد همّت أو الشّهيد خرازي، أو مَنْ هم على قيد الحياة الآن.
نعم، أيُّ معانٍ أبلغ وأعمق من الشّعور بالتضحيّة والإيثار والمليئة بالعِبَر لشابّ يبلغ من العمر 18 ربيعًا، يترك حياة الرفاه والراحة، ويأتي إلى الأهواز، ويَرِد ساحة الحرب ويُضحّي بنفسه بطريقة مدهشة. إنّ الكثير من هؤلاء الشّباب ذهبوا إلى الميدان بعد أن سمعوا النّصح من أمثالي، ولقد كنتُ أحدّث نفسي وأقول: أين نحن من هؤلاء! فإنّ المرء ليعجز عن الاقتراب من ساحة هؤلاء..."1.
تكفي إشارة الإمام الخامنئي تعريفًا بالشهداء، وخاصّة القادة منهم، لنتعرّف أكثر إلى سيرتهم ونكتب عنهم، ونقرأ روايات رفاقهم وأصحابهم.
ضمن سلسلة سادة القافلة التي تصدر تباعًا، يَسُرُّ مركز المعارف للترجمة أن يقدّم للقرّاء الأعزّاء هذه الباقة المختارة من حياة قائد قدوة،
1- من كلمة للإمام الخامنئي في لقائه جمعاً من المخرجين والعاملين في حقل السينما والتلفزيون بتاريخ 13/6/2006م.
7
1
مقدمة
أصبح معشوقَ الجميع، وكما يقول الحاج قاسم سليماني: "..فإنّ الشهيد همّت ليس قدوةً ومحبوبًا من قِبَل شباب طهران فحسب. هو محبوبٌ في كلّ البلاد، ومشهور (...)"1.
فالشّهيد همّت وأمثاله مدرسةٌ، دروسُها سلوك وعمل، تجلّت في طاعة الإمام وعشقه، والتواضع للمجاهدين ومحبّتهم، وشدّة البأس والشجاعة في الميدان والقيادة والتدبير. مدرسةٌ حقّقت انتصارات، وخرّجت قادة ونخبة وشهداء، دروسٌ زرعت بذور الهمّة في الشباب من جيل الى جيل، وما زالت.
نشكر كلٌ من ساهم في إنجاز هذا العمل:
في الترجمة الحاجة "إيمان صالح".
في التحرير الأخت "حنان الساحلي".
في التدقيق اللّغوي الأستاذ "عدنان حمود".
إضافة إلى الأخت "فاطمة خميس" التي ساهمت في إعداد قسم من المادّة.
وقد استفدنا في إعداد نصوص الكتاب من ثلاثة مصادر: كتاب همت "روايت فتح"، "طنين همت"، "براي خدا مخلص بود". قد صدرت الكثير من الكتب حول الشهيد همت، وقد جمعت آثاره وكلماته وصدرت في كتاب بعنوان "به روايت همت".
مركز المعارف للتّرجمة
1- كتاب "الحاج قاسم"، جولة في ذكريات الحاج قاسم سليماني، يصدر قريبًا عن دار المعارف الإسلامية الثقافية.
8
2
هو المحبوب
شقّت الحافلة البالية حرّ الأديم، وخاضت عُباب الصحراء تحت قيظ السماء ناحية "كربلاء".
كادت آلامُ حملِها وهواجسُ موتِ جنينها تُزهق روحها طوال الطّريق، وعلى أعتاب كربلاء استوت رحلة الحافلة المضنية. كم تملّكها القبض عندما أنبأها الطبيب بموت جنينها!
حبست عن زوجها جزعها، وهامت إلى حيث يزول نصَب كلّ ترحال، وانكفأت في إحدى زوايا الحرم تردّد حتى انقطاع النفس: "اللّهم إليك صمدتُ من أرضي، فارحم تقلّبي على قبر الحسين عليه السلام".
استفاقت المرأة على بسط رؤيا ما زال عبقها يتضوّع في المكان، فداها المهج والأرواح، إنّها السيّدة الزهراء عليها السلام قد ردّت إليها "محمد إبراهيم".
تهلّل وجهها فرحًا وقرّت عينها، إذ أحيا إذن الله جنينها بحرمة الحسين عليه السلام.
مذّاك صار لمحمّد إبراهيم قلبٌ من عقيق حسينيّ يسكب في أفئدة التعبويّين زمزمة "حيّ على الجهاد"، فيستحيلون تجّارًا أحرارًا في المنظومة الخمينيّة، يقارعون أزلام صدّام، وطواغيت الأرض مقارعة العابسيّين.
مذّاك صار لمحمد إبراهيم عينان من ياقوت فاطميّ تزهران في
9
3
هو المحبوب
جوف الليالي أدبًا وخشيةً في محضر اللّه. آثر العبادة على غفلة الوسادة، وبات كرحّالة يحمل داره المتنقّلة -سيارته- ومتاعه القليل إلى كلّ دساكر الجهاد. لم يُطق العيش في زمن لا يكون الإمام فيه موجودًا، فسعى إلى الشهادة بكلّ جوارحه حتى تلقّاها بحظّ عظيم في "جزر مجنون"، فاتحًا لنا خيبر وقلاع قلوبنا من جديد. همّت! نَمْ قرير العين، لن يخفت طنينك في ضمائرنا...
المحرّر.
10
4
بطاقة تعريف
محل وتاريخ الولادة: ٣/٤/١٩٥٦م شهرضا1.
تاريخ ومكان الشهادة: ١٢/٣/١٩٨٤م جزيرة مجنون.
اللّقب: حاج همّت.
المهنة والعمل: أستاذ مادة التاريخ.
مدة الخدمة: ٥ سنوات.
المسؤوليّة: قائد الفرقة ٢٧ محمد رسول اللّه.
العمليات: "الفتح المبين" – "بيت المقدس" – "رمضان" – "خيبر".
زوجته: جيلا بديهيان.
الأبناء: "محمّد مهدي" – "مصطفى".
كان قبل الثّورة من الناشطين ضدّ حكومة الشاه المخلوع، وبعد انتصارها جاء في مأموريّة قصيرة إلى سوريا لمواجهة الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، ثمّ عاد إلى إيران، لإكمال درب محفوف بألوان الجهاد والقيادة الفعّالة، في جبهة الحرب المفروضة على إيران.
مما قيل بحقه:
"لن أدع صوت الحاج همّت يخفت في وجداني أبدًا.
قائد خيبر ذاك.. فتح قلاع قلوبنا أيضًا!"
الشهيد السيّد مرتضى آويني
1- شه رضا مخفف شاه رضا وهي مدينة في محافظة أصفهان.
11
5
بطاقة تعريف
كلمة واحدة : تعال!
إنّ من خصائص حربنا هي أنّها وضعت كلّ أنواع عدم التكافؤ جانبًا، وشهدت الابتكارات والإبداعات في ساحة الدفاع المقدّس. ما كان يميّزنا عن الجيوش الكلاسيكيّة في العالم هو كلمةٍ واحدة، فلو أردنا أن نميّز ما بين الحاج أحمد متوسليّان والحاج همّت وقادة فرق الشهداء وبين القادة الكلاسيكيّين لجيوش العالم، فإنّه، بالإضافة إلى القضايا المعنويّة والسلوكيّة، كان هناك كلمة نعبّر عنها بـ"تعال" و"اذهب"، أي إنّ قادتنا كانوا يقفون في ساحة المعركة ويتقدّمون ويقولون "تعالَ".
فلو لم تكن هذه الرياديّة والوقوف في الخطوط الأماميّة لما حدث مثل هذا الأمر. فعندما يقول القائد: تعال، سيكون دور هذا القائد مثل ملكة النحل التي يجتمع كلّ النحل حولها.
وفي يومنا هذا، فإنّ الشهيد همّت ليس قدوةً ومحبوبًا من قبل شباب طهران فحسب. هو محبوبٌ في كلّ البلاد ومشهورٌ (...).
(من كلمة للحاج قاسم سليماني في ذكرى الشهداء القادة لفرقة "27 محمد رسول الله" 2013)
12
6
فعل صاحب الأرض
ولادة محمّد إبراهيم1
ساءت حال أمّ إبراهيم كثيرًا، كان الطريق طويلًا شاقًّا ومليئًا بالحفر والتعرّجات.
انطلقنا صباح يوم الخميس لنصل عصرًا إلى كربلاء. لم تستطع النزول من الحافلة، فقد اشتدّ ألم ظهرها وسقطت أرضًا، سألنا هذا وذاك فأرشدونا إلى بروفيسور عراقي، قال بعد معاينتها: "لقد توقّف نبض الجنين في بطنها، لا شكّ بذلك".
أعطاها حبّة دواء وحقنة، وقال: "إن لم يسقط الجنين حتى الصباح، أحضروها كي نُجريَ لها عملية إجهاض". وأوصى بأن لا تقوم بأيّ جهد.
عُدْنا بالعربة إلى منزلنا الكائن قُبالة حرم سيّد الشهداء عليه السلام، ما إنْ وقعت عينا زوجتي على قبّة الحرم حتى شرعت بالبكاء: "لقد قطعت مئات الكيلومترات كي أزور سيّدي وإمامي، لا أن أقبع في زاوية البيت، أو أُضيّع وقتي في المستشفى".
مهما حاولت إقناعها أنّ حالتها حرجة وعليها الاستراحة، لم أُفلح.
فأُجبرتُ على اصطحابها إلى الحرم. بقينا هناك حتّى منتصف الليّل.
1- ذكرى والد الشهيد علي أكبر همّت. قلت للمجنون ابق حيا، كتاب همت، روايت فتح.
13
7
فعل صاحب الأرض
وراحت غيوم القلق تحوم حولي، فلم أدرِ ماذا قُلتُ في دعائي وصلاتي. كنتُ بين الحين والآخر أنظر إلى الباب، أنتظر قدومها من ناحية قسم النساء. جاءت أخيرًا وقالت: "انهض لنذهب".
سألتُها: "كيف أصبحتِ؟"
قالت: "أفضل".
ذهبنا إلى المنزل. أصابتني الدهشة إذ أتينا بها إلى الحرم محمولة على بطّانيّة، وها هي الآن تعود سيرًا على قدميها!
سألتُها: "أترغبين بتناول الطعام؟"
قالت: "لا، أُريد أن أنام".
نامت ونمِتُ أنا أيضًا. بعد وقتٍ قصير، استيقظتُ على صوت بكاء. نهضتُ وإذ بها جالسة في مكانها تبكي.
سألتُها: "ماذا حدث؟ هل تشعرين بالألم ثانية؟"
أومأتْ برأسها فقط، وبصعوبة بالغة من شدّة البكاء، قالت: "لا".
أحضرتُ لها كوبَ ماء فشربَتْه، لكنّها لم تستطع التوقّف عن البكاء أبدًا. قلقتُ عليها وعلى الطفل الّذي أفقدنا الطبيب الأمل برؤيته. كنتُ قلقًا عليها أكثر، حاولتُ جاهدًا أن أُهدّئ من روعها، فقلتُ لها: "لا تشعرين بالألم ولا تتكلّمين، إذًا..".
قالت: "شاهدتُ رؤيا".
رأت في نومها أنّ سيّدة عربية - من سيّدات الحرم - ترتدي السواد ممشوقة القامة، جاءت وأعطتها طفلًا وقالت لها: "خذي هذا الطفل واذهبي إلى قبر إبراهيم".
14
8
فعل صاحب الأرض
أخذتْ زوجتي الطفل من يد السيّدة واستيقظتْ من النوم تبكي بحرارة.
جلستْ والدتي قربها تواسيها وتقول لها: "ليرتح بالك، طفلك بخير وعافية".
قلتُ: "لكن ألم تسمعي ما قاله الطبيب".
- دعك من الأطبّاء، فهم يقولون الكثير، هذا الحلم فأل حسن.
- لقد درسوا وتخصّصوا عدّة سنوات ليتمكّنوا من تشخيص الأمراض والحالات جيّدًا.
- حتّى لو درسوا أضعاف هذه السنين فلن يُدركوا كلّ الأمور.
لم أفهم قصدها، ورحتُ أُكرّر أنّ الطبيب يعرف شيئًا، وإلّا لما قال هذا الكلام، ووالدتي ما فتئت تُردّد: "الطفل بخير وسترون".
وراحتْ والدتي تُفسّر الرؤيا: "بحسب المنام الّذي رأته كنّتي، سيرزقكم اللّه حجّ بيته الحرام"، وأضافتْ: "بالتأكيد ستُطلقون على الطفل اسم إبراهيم".
انقضى الليل. في الصباح، ذهبنا إلى الطبيب - البروفيسور نفسه - ما إنْ انتهى من المعاينة حتى بُهت وجحظت عيناه، وهو يُحدّق بنا من دون أن يتفوّ بكلمة.
سألتُه: "ماذا حدث؟"
لم يفهم سؤالي، وكُنّا قد اصطحبنا معنا "علي بور" خادم العتبة الحسينيّة المقدّسة، مترجماً. لم يُصدّق الطبيب أنّ الطفل بخير: "هذا شيء لا يُصدّق، أيّ طبيب زرتم الليلة الماضية؟"
قلتُ: لم نذهب إلى أيّ طبيب آخر، بل ذهبنا إلى المنزل.
15
9
فعل صاحب الأرض
- تقصد أنّها لم تتناول أيّ دواء أو تتلقَّ أيّ علاج؟ ألم تذهبوا إلى مستشفى أو عيادة ما؟!
- لا
- "هذا غير معقول، فالأمّ والطفل كانا معرّضَيْن للخطر".
ثم سأل علي بور: "مَنْ الذي قام بهذا؟"
أجاب علي بور: "إنّه فعل صاحب الأرض هنا!"
التفتْ إليّ علي بور وسألني: "ألم تذهبوا إلى الحرم؟"
قلتُ: "بلى"
ضحك وقال: "هذا كرم مولانا إذًا!"
ما إنْ سمع الطبيب بذلك حتى أعاد إلينا ما أخذه من مال للمعاينة والعلاج، وأعطانا وصفة لعدد من الأدوية المقوّية، وقال: "اعتنوا بهما جيّدًا، لقد اجتازا مرحلة الخطر".
بقينا أربعة أشهر في كربلاء، وعدنا أوائل شهر شباط إلى مدينة "شهرضا". ولد الطفل في الثاني من شهر نيسان، وأسميناه، بحسب المنام الذي رأته أمّه وما قالته السيّدة الكريمة الّتي نعتقد أنّها الزهراء عليها السلام، "محمّد إبراهيم".
كلّ الأبناء سواسية عند الإنسان، لكنّ عينيّ هذا الطفل كانتا تدفعانني للتحديق بهما كلّ صباح قبل خروجي إلى العمل، فيسعد بذلك كلّ نهاري.
عندما أتمَّ عامه الثّاني، انطلق لسانه فكان عذب الحديث، حلو اللكنة.لم يكن يخرج من المنزل، وكان يفرّغ كلّ طاقاته داخل البيت،
16
10
فعل صاحب الأرض
ويقضي أكثر أوقاته مع الأوراق والأقلام، كان هكذا منذ أن بلغ الثالثة أو الرابعة من العمر.
أذكر أنّه عندما كان في عامه الثالث، كان يبكي بشدّة ويقول لأمّه: "قولي لأبي أن يأخذني إلى مجالس العزاء".
يشهد اللّه، كنتُ أحمله على كتفي وآخذه إلى المجالس الحسينيّة، فيُشارك مدّة يومين أو ثلاثة بمراسم اللطم.
في الرابعة أو الخامسة من العمر، كان يأتي حافي القدمَيْن إلى المجالس. كنتُ أقول له: "ستتأذّى قدماك يا فتى، دعك من هذه التصرّفات".
فيُجيب: "أُريد اللّطم على صدري من أجل الإمام الحسين عليه السلام، ومن الأفضل أن أكون حافيًا".
كان أوّل الوافدين إلى المراسم، وآخر المغادرين. كان يُحبّ الاستماع إلى التعزية كثيرًا. وفي آخر رسالة له كتب: "سلامي الحارّ لوالدي وأرجو أن تذهب إلى المجالس الحسينيّة واللّطم نيابة عنّي".
ما زلتُ أحتفظ برسالته تلك.
أرسلناه إلى المدرسة في السادسة من العمر تقريبًا، كان يحمل الكتاب والقلم والأوراق دائمًا، وكانت علاماته المدرسيّة ممتازة، ولطالما حَظِي بتشجيع أساتذته.
تعلّم الصلاة من خلال تقليده لحركات أمّه وهي تُصلّي. عندما بلغ العاشرة من العمر، طلب منّي السماح له بالعمل، فقلتُ: "حسنًا، اذهب للعمل في دكّان بيع الأقمشة".
17
11
فعل صاحب الأرض
قال: "لا، لا أُحبّ العمل هناك، أُريد الذهاب لتعلّم عمل حقيقي ومناسب. فذهب للعمل في مصنع ‘المنّ والسلوى`. كان يعمل في التغليف والتعليب، ويتقاضى ‘7 قِران`1. بالطبع، كان يتشاقى في بعض الأحيان، حيث كان يُغلّف الحلويات ويضع حبّة أو حبّتين في فمه".
لا أنسى عندما ذهب إلى صاحب المعمل السيّد حسن يوسف وقال له: "خذ هذا المال وسامحني"، فقال له حسن يوسف: "ما هذا الكلام، صحة وعافية يا حَمَلي الوديع!". ثمّ أعطاه حبّتين من المنّ والسلوى، لكنّ إبراهيم رفضهما وقال: "لقد جئتُ فقط كي تُسامحني".
كُنّا نعمل في الزراعة، وعَمَلُنا كثير، فكان يأتي ويُساعدنا في قطف العنب وجمع العلف من دون أن نطلب منه - أنا وإخوته - ذلك. تميّز عمله بالدقّة والإتقان في كلّ شيء.
كانت لدينا شجرة "درّاق" في إحدى نواحي مدينة "شهرضا"، جاء إبراهيم يومًا وقال: "أبي"
- نعم
- هل تُعطيني شجرة الدرّاق تلك؟
- ماذا تُريد أن تفعل بها؟
1- قِران عملة قديمة أقل من الريال الإيراني.
18
- أُريد أن أُتاجر بها وسوف أُعطيك الأرباح.
فكّرتُ قليلًا وقلتُ: "هي لك".
غمرته الفرحة وأسرع نحوها، حاملاً بيده سلّة ليضع فيها الثمار
12
فعل صاحب الأرض
ويأخذها إلى السوق ليبيعها. جمع 17 سلّة، سعة كلّ واحدة 20 كيلوغرامًا.
أخذها إلى "حسين تشي"، وباعه كلّ سلّة بثلاثة آلاف وعشرة شاهي1.
عندما عاد سألتُه: "حسنًا، قمحة أم شعيرة؟!"
ضحك وقال: "لقد حقّقنا اليوم أرباحًا كثيرة".
كان في يده الكثير من النقود، هذا ما كان يظنّه، ويقول: "نقود كثيرة جدًا"، حوالي 7 أو 8 تومانات.
- أتريد أن أُعطيك إيّاها كلّها؟
- لا
- وماذا عن أرباحك وحقّك؟
- هي لك. فأنت لديك حياتك واحتياجاتك يا بنيّ.
في قلب الثورة، هذا هو إمامي
في الحادية عشرة من العمر، كان يذهب إلى المكتبة لقراءة الكتب والقرآن الكريم، كان هذا ديدنه على الدوام، يتنقّل ما بين المدرسة والمنزل، حتى بلغ الخامسة عشرة. حينها لم يكن بعدُ من أخبارٍ عن قدوم الإمام ورحيل الشاه.
كان يذهب إلى الحيّ ويقول للأولاد إنّ الشاه سيّئ، ويُعدّد لهم سيئاته. وهكذا جمع حوله مئة أو مئة وخمسين من أترابه تقريبًا. لم
1- شاهي عملة إيرانية قديمة كانت متداولة زمن الشاه.
19
13
فعل صاحب الأرض
يرهب الموت، ولم يُعرْ اهتمامًا لوجود "السافاك"1 أو حرس المدينة، السجن أو الاختطاف. كان يعقد الاجتماعات في المنزل ويُخطّط للقضاء على الشاه، ودأب على هذا المنوال منذ أن بلغ 20 عامًا من العمر.
قبل حوالي 3 سنوات من انتصار الثّورة، عرض التلفزيون الكويتي لقطات عن الإمام قدس سره. فرح إبراهيم كثيرًا وقال: "هذا هو إمامي".
راح يقفز في مكانه ويقول: "يا إلهي سيعود الإمام غدًا!"
كان يُردّد: "سيحدث هذا وهذا"، لكن الإمام لم يعد، بل سافر إلى "باريس".
لم يقتصر نشاطه على هذا فحسب، بل كان يُحضِر البيانات وأشرطة التسجيل (الكاسيت) في الأكياس إلى المنزل. في إحدى المرّات، حمل ثلاثة أكياس كبيرة جدًّا أثقلت كتفيه، فتدلّت إلى أن وصلت إلى حدّ قدميه، وكان إبراهيم ضعيف البنية.
في منتصف إحدى اللّيالي، سُمع صوت طرق هادئ على الباب، كان الطارق إبراهيم. طرق الباب بهدوء شديد كي لا أسمع أنا. ذهبتْ أمّه وفتحت الباب.
- سألتُها: "من كان؟"
- قالت: "إبراهيم".
دخل مضطربًا إلى المنزل.
1- السافاك: الجهاز الأمني لنظام الشاه.
20
14
فعل صاحب الأرض
سألتُه: "ماذا حدث؟"
- السافاك يُلاحقونني.
- يا جدّتي الزهراء. هل رأوك تدخل؟
- لا، لا أظنّ ذلك.
ظنّ أنّه تمكّن من الهرب منهم وقال: "إنّهم يبحثون على بعد زقاقَيْن من هنا".
وضعت السلّم على جدار الفناء ونظرتُ إلى الزقاق، رأيتهم يجولون بحثًا عنه في الزقاق. نزلتُ السلّم وقلتُ لإبراهيم: "لم تُعرّض نفسك فحسب، بل عرّضتنا جميعًا للخطر".
قال: "ما العمل الآن؟"
قلتُ: والله لا أعلم.
كان إبراهيم قد شارك في التظاهرات مع حوالي 30 شابًا من أبناء الحيّ. كانوا يذهبون إلى وسط المدينة ويُردّدون الشعارات في شوارعها.
بالطبع، كانت الشرطة تُلاحقهم وتُطلق النار باتجاههم. كانوا يبحثون عن إبراهيم، واستطاعوا في إحدى المرّات اقتفاء أثره، صوّبوا بنادقهم، لكنّ الرصاصة أصابت رفيقه "غضنفري نامي" الّذي كان يقف بجانبه. عندما عاد إلى المنزل سألتُه: "ما بك، ولمَ أنت متجهّم"؟، فلم يُجب.
خنقته العبرة وأجهش بالبكاء.
قال: "أرادوا قتلي، لكنّ الرصاصة أصابت "غضنفري". يا إلهي ما العمل؟!"
21
15
فعل صاحب الأرض
حاولتُ أن أخفّف عنه وقلتُ له: "هذا ما قسمه اللّه له. فلا تلم نفسك".
كان غضنفري أول شهيد في مدينة "شهرضا".
غداة ذلك اليوم، ذهبنا لتشييع الشّهيد. حَضَرَ ما يُقارب 30 ألف مشيّعٍ في المكان الّذي أصبح فيما بعد "مزار الشهداء".
ما إنْ وصلنا إلى ساحة النصب، حتى أشار إبراهيم إلى تمثال الشّاه، وقال لرفاقه: "علينا إنزاله من هناك". كان أوّل من تسلّقه، وقال بصوت عالٍ: "لم يعد هنا مكانه، اهتفوا يا علي ولننكّسه".
لم يستطيعوا، فذهبوا وأحضروا بعض الأدوات، ثم قطّعوه وربطوه بالدّراجات الناريّة وجرّوه في شوارع المدينة، ووصل بهم الأمر ذلك اليوم لأن يتموضعوا قبالة مركز حرس المدينة. كاد أن يُصاب بالرّصاص ثانية، لكنّ هذه المرّة أيضًا أُصيب شخص آخر في بطنه على ما أظن.
كان إبراهيم سريع البديهة والحركة أيضًا.
أذكر أنّه في يوم واحد بدّل خمسة معاطف كي لا يتمكّنوا من التّعرف إليه، فقد كانوا يُلاحقونه في كلّ مكان.
جاء يومًا وقال: "نريد الذهاب إلى ثانوية "سبهر"1".
هناك، كتب نصّاً من 13 بندًا، وطلب أن يتطوع أحدهم للصعود أعلى السيارة ويقرؤها على الملأ، ولمّا لم يجرؤ أحدٌ على ذلك، قال: "سأقوم بذلك بنفسي".
1- سبهر: sepehr.
22
16
فعل صاحب الأرض
صعد السيّارة، قرأ المطالب، وما كاد أن يُنهي كلامه حتى أطلقوا نحوه القنابل المسيِّلة للدموع. لقد كنتُ هناك، شعرتُ بحرقة في عينيّ ولم أعد أستطيع رؤية شيء. كان إبراهيم أخفَّ حركة منّي، وما إنْ رآهم يُطلقون النّار عليه حتى لاذ بالفرار. ورحتُ أبحثُ عنه، شعرتُ بالقلق، وانتابتني أفكار مخيفة. لكنّه كان في المنزل!
عدتُ إلى المنزل، وأنا لا أكاد أرى طريقي جرّاء سيلان الدموع، لأجده سالمًا معافى.
قلتُ له: "يا لك من شقيّ، ألم تُفكّر أنّي سأقلق عليك، وأخاف أن أفقدك؟!"
ذهب لخدمة العلم في طهران، ثم تمّ نقله إلى أصفهان، ليخدم في وحدة المدفعيّة. ولأنّه نشيط ونبيه، عيّنه "العميد ناجي"1 مسؤولًا عن المطبخ، لكنّه أيضًا كان يُساعد في التنظيف.
حلّ شهر رمضان، فقال للجنود: "سأعدّ السّحور للصائمين"، وطلب من الطبّاخ أن يطهوَ طعام الغداء ليلًا.
وهذا ما حدث، فكان الصائمون يأتون اثنين اثنين ليأخذوا طعامهم.
في اليوم السابع، وشى به أحدهم عند "ناجي" الّذي استدعى إبراهيم وقال له: "سمعتُ أنّك تُقدّم السّحور للجنود؟".
- لم يُخبروك الحقيقة يا سيّدي.
1- ناجي: قائد وحدة المدفعية في الجيش الإيراني زمن الشاه.
23
17
فعل صاحب الأرض
- ماذا لو كان مصدر الخبر موثوقًا؟
- أنا أقوم بواجبي فحسب، وأُقدّم الطعام للجنود في الوقت المحدّد.
فكّر ناجي قليلًا وطلب من إبراهيم أن يجمع الجنود في الطابور.
وقف الجنود في الطابور. أمر "ناجي" بإحضار حوالي 20 سطل ماء مع كوب، وأمر جميع الجنود بشرب الماء وإلّا فإنّ العقاب الشديد بانتظارهم.
وهكذا أجبر الجميع على شرب الماء في منتصف النهار!
قال إبراهيم: "لقد انزعجت كثيرًا، إذ كان عدد الجنود الصائمين أربعمئة تقريبًا".
بعدها وضعوا إبراهيم في السجن الانفرادي مدّة 24 ساعة.
وهناك دعا إبراهيم ربّه في السجن: "اللّهمّ أنت تعلم إنّما فعلتُ ذلك لأجلك".
لم يتمّ توقيفه كثيرًا، وخطرتْ في باله فكرة للانتقام، إذ اعتاد "ناجي" تفقّد المطبخ كلّ ليلة. قام إبراهيم بتنظيف أرض المطبخ ومسحها بالزيت. لم يتفقّد "ناجي" المطبخ ليلتها، لكن في الليلة التالية، حلّ عليه عذاب السماء فما إنْ خطا خطوة في المطبخ، حتى زلّت قدمه وسقط أرضًا. كُسرت ساق ناجي، فحملوه بسيارة الإسعاف إلى المستشفى.
قال إبراهيم: "إنّما فعلت ذلك لأجل الإخوة، إذ اقتربت ليلة 19 ولم نعد نستطيع تحمّل البقاء مفطرين في تلك اللّيالي". ثم ضحك وقال: "لقد قضت الخطّة على الرأس الكبير، ولن نراه قبل نهاية الشهر الفضيل".
24
18
فعل صاحب الأرض
في ذلك العام، تمكّن الجنود من إتمام صيامهم وسحورهم براحة بال.
طلب الشهادة ، ميزاب الرحمة
بعد انتصار الثّورة، جاء إلى المنزل وأخذ بساطًا، فراشيْن وكرسيَيْن.
سألته: "إلى أين تأخذهم؟"
قال: "تقرّر تشكيل الحرس، أو شيء من هذا القبيل، في مركز حرس المدينة (7و8 و10)، وكان معه أخوه ‘ولّي الله` أيضًا".
لقد أصبحا من الحرس بين ليلة وضحاها!
بعد شهرين من تشكيل الحرس، بدأ الصّراع مع مزارعي ومهرّبي الخشخاش. لقد جمعوا حوالي 20 طنًا من زهرة الخشخاش. في إحدى المرّات كان إبراهيم يتعقّب أحد المهرّبين الفارّين، أعتقد أنّ اسمه كان "الآغولي" من مدينة "باغ شهر"، لكنّ سيارته انحرفت عن الطريق. عندما وجدوه كان فاقد الوعي، فأخذوه إلى المستشفى، وبقي على تلك الحال يومًا كاملًا، مرّ علينا وكأنّه مئة عام.
كان الجميع يقولون: "نتمنّى من اللّه أن لا يكون قد أُصيب بارتجاج في الدماغ".
الحمد للّه مرّ الأمر بسلام. أرسلوه إلى المنزل وهو مضمّد الرأس مع توصية بعدم الحركة.
لكن كيف لإبراهيم أن يهدأ؟ حتى إنّه لم يعد يقنع أو يقبل البقاء في مدينة "شهرضا"، فخاطبنا قائلاً: "إنّها مدينة صغيرة، ولا شيء فيها
25
19
فعل صاحب الأرض
سوى ملاحقة المهرّبين، لكن إن ذهبت إلى مكان أكبر فسوف..".
ذهب إلى "بافه"، وأصبح معاونَ الحاج "أحمد متوسّليان"، كما ذهب إلى "مكة المكرّمة" أيضًا، وما زلنا نحتفظ بصوره. بعد عودته من الحج، قال: "وقفت تحت ميزاب الرحمة الذهبي، وسألت اللّه الشهادة فقط، لا الأسر ولا الجرح".
انزعجتْ والدته من كلامه كثيرًا، وقالتْ له: "ما هذا الكلام يا بُني؟ أنت تدافع عن الوطن والشعب، فلِمَ تريد أن نفقدكم جميعًا؟"
قال: "لا أستطيع ولا أريد، بل لن أتحمّل الأسر والجراح، الأمر ليس بيدي يا أمّاه!"
عندما عاد من "مكّة"، جاء لزيارته حوالي 50 من أصدقائه، استشهد قرابة 20 منهم فيما بعد. عندما أرادوا المغادرة منعهم إبراهيم وقال لهم: "إلى أين؟ لن أسمح لكم بالذهاب قبل تناول العشاء".
- الوقت غير مناسب، ليكن ذلك فيما بعد.
- لا أبدًا، بل الليلة.
- شرط أن لا تقدم الأرز المطهو.
- لكن لا يمكن أن نأكل الخبز فحسب!
- لم نقل الخبز فقط، بل اذهب وأحضر خروفًا لتحضّر منه مرق اللّحم.
هذا ما فعلناه، طهونا لحم الخروف بعد أن قطّعناه، لقد طهونا مرق لحمٍ لذيذًا جدًّا.
قال الجميع إنّ هذا أطيب وأشهى وألذّ مرق لحم تذوّقوه في حياتهم.
26
20
فعل صاحب الأرض
راحوا يتناولون مرق اللّحم ويتسامرون ويتمازحون، فهذا يقول لرفيقه متى ستستشهد؟ أو سوف أستشهد قبلك، ومن قبيل هذا الكلام.
سنخطب له عروسًا
أصررنا عليه عدّة مرّات أن نُزوّجه، إلى أن قال لا مانع لديه. لم نكن نعتقد أنّه سيسمح لنا حتى بالتحدّث بهذا الشأن، فرحنا كثيرًا وسألناه: "حسنًا ومن تُريدنا أن نخطب لك؟".
سكت ولم يُجب.
قالت له أمّه: "قل مَن التي تريدها يا بنيّ؟"
- أريد زوجة تستطيع العيش معي في السيّارة.
- ماذا تقصد في السيّارة؟
- أي أن أجلس أنا خلف المقود وهي في المقعد الخلفي، هذا كلّ ما في الأمر.
قالتْ أمّه: "أي العيش في منزل نقّال!"
فقلتُ له: "لا يصحّ هذا، فأيّ فتاة سترضى العيش في ظروف كهذه؟"
قال إبراهيم: "هذا ما أُريده، هذا شرطي للزواج".
اعتقدتُ أنّ السبب الرئيس لذلك أنّه لا يملك منزلًا، وبالتعاون مع أخيه "وليّ الله" جهّزنا له منزلًا. لكنّه بقي مصمّمًا على كلامه!
فقلتُ له: "سأقترح عليك أمرًا".
- وما هو؟
27
21
فعل صاحب الأرض
- سنخطب لك زوجة من هنا، ونسكنها هذا المنزل، فتهتمّ أنت بأعمالك، وتأتي إليها كلّما سنحت لك الفرصة.
- لا بل يجب أن تواكبني خطوة بخطوة.
لم نستطع أن نخطب له فتاة من شهرضا، لم يرغب بذلك. ذهب إلى "بافه" ووجد زوجة مناسبة له هناك، جاء وقال: "لقد وجدتُ ضالّتي، ما رأيكم أن نذهب لخطبتها؟"
قلتُ له: "بهذه البساطة؟!"
قال: "لا، لم يكن الأمر سهلًا، لقد سلخت جلدي قبل أن تقول نعم!، لكنّ الحصول على موافقتها يستحقّ كلّ هذا العناء".
قلتُ: "وهل وافقتْ على الحياة في سيارة؟"
ضحك وقال: "حتى إنّها مستعدّة للذهاب معي إلى فلسطين"1.
قلتُ: "مبارك إذًا".
لن أُطيل عليكم الحديث، ذهبنا إلى السيّد روحاني من أجل عقد القِران بمهر وقدره 300 ألف تومان.
في اليوم التّالي، ذهبنا إلى مكتب الزواج في "شهرضا"، وعدنا ليلًا إلى المنزل.
طال بكاؤه حتّى الصباح، تناول طعام الفطور بعينين حمراوين لكثرة
1- كانت قضية فلسطين والكيان الصهيوني الغاصب حاضرة في وجدان شباب الحرس وأبناء الثورة، على الرغم من كل المشاق والآلام والاضطرابات التي سبّبها لهم أعداء الإمام والثورة، من إثارة القلاقل في المحافظات المختلطة والمناطق الحدودية، إلى دعم الحركات الانفصالية التي باعت نفسها للشيطان الأكبر، إلى بثّ العملاء وإحداث الانفجارات، ولم يكن آخرها الحرب الهمجيّة المفروضة التي شنّوها بواسطة نظام صدام.
28
22
فعل صاحب الأرض
البكاء. وفي اليوم التّالي اتصلوا به وأخبروه أنّ العراقيين بدأوا الهجوم، وأنّ عليه الذهاب إلى الجبهة.
لم يكن سائقه "حسين جهانيان" موجودًا، إذ توفّي والده وذهب لتشييع جنازته، كما لم يجد سائقًا آخر، أشهد اللّه أنّي رأيته يقطع فناء المنزل جيئة وذهابًا بعينين دامعتين. استمرّ الأمر حوالي الساعتين قبل أن يجد سائقًا آخر، كاد ينفجر من الغيظ وهو يُردّد: "لِمَ لا أجد مَن يوصلني؟!".
قلّما تواجد في المنزل، كُنّا نراه مرّة كل 6 أو 7 أشهر.
وعندما يأتي، ينكبّ على رسم الخرائط، ما تزال خرائطه هنا. كان يُدقّق بالحدود العراقيّة أو بمنطقة عمله عدّة مرّات، وعندما أرى أنّ النعاس قد أنهكه، أقول له: "اذهب للنوم، بنيّ ستعمى عيناك وأنت تُحدّق لساعات في هذه الخرائط". كان يُجيب: "ليس بالأمر المهمّ، العمل أهمّ من بصري".
29
23
قلت للمجنون ابقَ حيّاً
قلت للمجنون ابقَ حيّاً1
ولادة مصطفى2
في الشتاء، قبيل عمليات خيبر، كنّا في إسلام آباد غرب البلاد، يومها قال لي الطبيب: "سيولد الطفل بعد أسبوعَيْن أو ثلاثة أسابيع أخرى على الأرجح".
كنّا ننتظر ولادة مصطفى، وكان مهدي كثير الحركة وإبراهيم ليس معنا. بعد عدّة أيّام، أتى من طهران. كانت عيناه الحمراوان والمتعبتان تظهران بوضوح أنّه لم ينم منذ ليالٍ عدّة. لم يدعني أنهض من مكاني. أخذ بيدي وأجلسني على الأرض، وقال: "الليلة دوري كي أعوّض بعضًا من تقصيري".
قلتُ: "ولكنّك، بعد كلّ هذا الغياب، لا بدّ أنّك متعبٌ ومنهكٌ".
لم يدعني أُكمل كلامي. ذهب وأعدّ المائدة بنفسه، ثمّ سكب الطعام وأحضره. أطعم مهدي بكلّ هدوء وأناة، ثمّ جمع الأواني، أعدّ الشاي وناولني القدح قائلًا: "تفضّلي". بعدها، عاد ليتحدّث مع الجنين ويُناغيه: "يا بابا! إن كنت صبيًّا صالحًا، فعليك أن تسمع كلام أبيك. تفضّل وأقدم علينا هذه اللّيلة. اعلَم أنّ أباك مشغولٌ كثيرًا، وإن لم تأتِ
1- عنوان سلسلة مذكرات حول الشهداء القادة بلسان زوجاتهم، مجنون تلميح الى مجنون ليلى. كتاب همت، روايت فتح.
2- رواية زوجة الشهيد جيلا بديهيان. مصطفى ابن الشهيد همت.
31
24
قلت للمجنون ابقَ حيّاً
الآن، سوف يبقى طوال الوقت في الجبهة قلقًا عليكَ وعلى أمّك. هيّا كن شهمًا وأطع أباك!".
لم يقل كن طفلًا صالحًا، بل قال كن صبيًّا صالحًا، وكأنّه كان يعلم من قبل ما جنس الجنين. لكن ما لبث أن تراجع عن كلامه بسرعة وقال: "لا يا بنيّ، بابا إبراهيم منهكٌ جدًا فهو لم ينم منذ عدّة أيّام. حسنًا! ليكن في الغد. لدينا متّسعٌ من الوقت".
ثمّ وضع رأسه على الوسادة، ضحكتُ وقلتُ له: "في النهاية احسم أمر هذا الطفل، هل سيولد اللّيلة أم لا؟"
حدّق في عينيّ، ثمّ قال لمصطفى الجنين: "حسنًا، قبلت، ليس هناك ليلة أفضل من هذه اللّيلة".
فجأةً، وثب من مكانه قائلًا: "كيف غاب عن ذهني أنّ هذه اللّيلة هي ليلة ميلاد الإمام الحسن العسكري عليه السلام. وهل هناك ليلة أفضل منها؟".
ثمّ انتصب آمرًا كالقائد وقال: "ليكن مجيئك هذه اللّيلة. مفهوم؟"
ضحكت من تصرّفاته وقلتُ: "ما هذا الكلام يا إبراهيم. اللّيلة؟ وهل يمكن ذلك؟".
بعد قليل، ساءت حالتي، واعترى الخوف إبراهيم. لكنّه تابع مزاحه: "يا لهذا الصبي! لا ينبغي أن نمزح معه...".
ما إنْ اشتدّ ألم المخاض حتى صار يدور حولي، لا يعرف ماذا يفعل. أظنّه لطم رأسه. كان يعتقد أنّي لم أره. تمتم بصوت مرتجف: "يا إلهي، أُقسم أنّي كنتُ أمزح!".
32
25
قلت للمجنون ابقَ حيّاً
وعندما سألني: "هل يعني هذا أنّ وقته قد حان؟"، اغرورقت عيناه بالدّموع.
أجبتُ: "نعم".
أُسقط من يده ولم يستطع حبس بكائه. ارتدى قميصه من دون أن يعقد أزراره بشكل منتظم لفرط اضطرابه وعجلته. قال إنّه سيذهب إلى الحاج، أي جارنا الحاج "اثري نجاد"، لم يدعه إبراهيم يفتح فاه بكلمة أو يُطيل الحديث معه، بل بادره قائلًا: "عزيزي يا حاج! جُعلت فداك، تعال وخذ ابننا مهدي كي نذهب إلى المستشفى!".
وهكذا نقلني إلى المستشفى. أراد الدخول معي لكنّهم منعوه، إذ يُمنع دخول الرجال إلى قسم النساء.
- لا تقلقي، سأعود فورًا.
عاد إلى المنزل، وأحضر معه السيّدة عباديان. أراد أن يدخل ليراني، فمنعوه مجدّدًا.
أخبرتني السيّدة عباديان أنّه كان يبكي طوال الطريق. فهو لم يستطع إخفاء بكائه أمامها، أو لم يشأ ذلك. وقال لها: "سوف أُعطيك قرآنًا، خذيه واجلسي عند رأسها واقرئي عدّة آيات منه لعلّ ألمها..".
أخبرتني أنّها كادت تنفجر من الضحك لقوله هذا، وأنّها كادت تقول له: "وهل ستموت جيلا حتى أجلس عند رأسها وأقرأ القرآن؟!" لكنّها خجلت أن تقول له ذلك.
بعد إجراء الفحوصات، طلبوا منّي البقاء اللّيلة في المستشفى. وكان إبراهيم باستمرار يسأل عن وضعي. ما إنْ علم بذلك حتّى قال: "لتبقَ إذًا وسوف أذهب إلى المنزل".
33
26
قلت للمجنون ابقَ حيّاً
قلتُ في نفسي: "من رأى كلّ تلك الدموع وكلّ ذلك البكاء، لا يصدّق سرعة انصرافه، بل لنقل فراره".
في الحقيقة، إنّه من شدّة البكاء لم يستطع أو لم يرد البقاء في المستشفى، فولّى مدبرًا! لقد ذهب! ولم يعلم بردّي حيث قلتُ: "لن أبقى . لا أُريد البقاء في هذا المستشفى القذر بعيدًا عن إبراهيم".
سألوني: "لماذا؟ ربما الطفل...".
قلتُ: "لو تقرّر أن يأتي لأتى. لا أستطيع، بل لا أريد. دعوني أذهب.
لم يأذنوا لي بالخروج، فالأمر خطر عليّ وعلى الطفل كما قالوا. لم أشأ التفوّه بكلام ينبغي أن يبقى في قلبي، أو قوله لإبراهيم فقط. لكنّي تفوّهت به في النهاية: ‘قولوا له إن لم يأتِ ليأخذني من هنا، فسوف أنهض وأذهب إليه بنفسي`".
عندها جاء، قلتُ له: "ألا ترى هذا المستشفى؟ لن أبقى هنا!"
جاءت إحدى الممرّضات وأعادتني إلى مكاني وقالت لإبراهيم: "إنّ حالتها سيّئة ويجب أن تبقى".
قال إبراهيم: "لا تريد البقاء هنا، ولا يُمكن إجبارها على ذلك. سوف آخذها بنفسي إلى باختران الآن".
قالت الممرّضة: "كما ترغب".
تابع إبراهيم قائلًا: "أُحبّ أن آخذها إلى مكانٍ تلد فيه طفلها وهي مرتاحة".
فأجابته الممرّضة: "حسنًا، خذها ولكن إذا هلك كلاهما لا يحقّ لك المجيء إلى هنا وإثارة الصخب والجلبة".
34
27
قلت للمجنون ابقَ حيّاً
كنتُ أُهمّ بمغادرة المستشفى، وإذ بحالتي تسوء أكثر. فعدتُ إلى الداخل ووُلد مصطفى.
بعد ذلك، طلبوا منّي البقاء، لكني أبَيْتُ. عدنا إلى المنزل، مدّ سجّادة الصلاة، وصلّى ركعتَيْ الشكر، ثمّ جاء إلى الطفلَيْن. كنتُ أسمع صوت بكائه من الغرفة مناديًا الله ويقول: "الحمد لله". أمضى اليوم التّالي إلى جانبنا، إذ لم يكن هناك من يُساعدني . كان يُطعم الأطفال بنفسه. يُعطي مصطفى الماء والسُّكّر والحليب لمهدي. كان الطبيب قد طلب عدم إعطاء أيّ شيءٍ للطفل، لكن إبراهيم لم يتحمّل بكاءه وجوعه فأعطاه الحليب. لا أنسى تلك الليلة أبدًا. كنتُ أُحدّق به فقط. قلتُ له فيما بعد: "لو تعلم كم كنت أستاء منك تلك الأيّام".
35
28
اللّقاء الأوّل
اللّقاء الأوّل1
أظنّ أنّه كان شهر "حزيران" من العام 1980م.
في اليوم الأوّل، ما إنْ وصلنا متعبين منهكين، حتى أُخبرنا أنّ مسؤول العلاقات العامّة للحرس الثوري في "بافه" يطلب من جميع الإخوة والأخوات الموفَدين إلى الجبهة حضور جلسة بعد الصلاة.
في تلك الأيّام، كانوا يُنادونه "الأخ إبراهيم".
رأيته بقميصه المرقّط وسرواله الكرديّ وحذائه القماشيّ ولحيته المرخاة أكثر من الحدّ، فظننتُ أنّه من الأكراد المحليّين. لو كنتُ أعلم أنّه سيُسمِعني بعد دقائق عدّة من التعرّف إليه كلامًا مهينًا، أو أنّي سأكرهه، لما قلتُ لصديقتي أبدًا: "يبدو أنّه يوجد بين الأكراد ...".
قالت: "لا هو ليس كرديًا، بل من أصفهان، من ‘شهرضا`2، وكنّا زملاء في نفس الصف في دار المعلّمين".
في ذلك اليوم، جاء مطأطئ الرأس، تكلّم بلحن هادئ، ممزوج ببعض الجديّة: "إنّ وضع المنطقة حسّاس وأهلها من الإخوة السنّة، ولا يحقّ لنا بسلوكنا وأفعالنا أن نوقع خلافًا بين السنّة والشيعة".
1- مذكرات زوجة الشهيد جيلا بديهيان.
2- شه رضا مخفف شاه رضا وهي مدينة في محافظة أصفهان.
37
29
اللّقاء الأوّل
وأردف قائلًا: لذا لا يجب أن نتكلّم فيما بيننا - نحن الإخوة والأخوات - أيّ كلامٍ حول الإمام علي عليه السلام.
وافقه الجميع بصمتهم، ثمّ قال: "لدينا ضيف أيضًا".
كان ضيفنا عالم دينٍ من أهل السنّة. وهكذا طُرحت بعض الأمور وحصل نقاش، لم أستطع هضم بعضها، فاشتركتُ في الحديث، وعبّرتُ عن رأيي، لكنّ الغضب بدا واضحًا على إبراهيم، ولم يكن لديه خيار إلّا الردّ عليّ، وأنا أيضًا كنتُ أعتقد أنّه يجب أن لا أتراجع. وصل بنا النقاش حدًّا اضطررت معه لإثبات كلامي أن أُقسِم، وبمن أقسم؟ بالإمام علي عليه السلام. عندها نهض ضيفنا من مكانه منزعجًا وغادر. كان إبراهيم يغلي غضبًا من الدّاخل. لم يستطع ضبط نفسه، وأظنّه صرخ قائلًا: "وهل كنتُ أقرأ سورة يس في أذنك إلى الآن؟1 ما هذه الطريقة التي تتحدّثين بها مع الضيف؟".
أنا أيضًا كنتُ ضيفة، هو لا يعلم أنّ أسرتي غير راضية عن مجيئي إلى هنا. وأكثر من عارضني في ذلك هو أبي الموظّف في الجيش، والّذي لا يتوافق تفكيره وتفكيرنا أساسًا. كما لم يكن يعلم أنّنا ضللنا الطريق أثناء مجيئنا وأنّنا متعبون، ولا يمكن لبعض الخبز واللّبن الذي تناولناه أن يُزيلا تعبنا. لم يكن يعلم أنّني تُبت وحتى أنّني كتبتُ وصيّتي، أو أنّي اغتسلتُ غسل الشهادة، أو كم أنّي دعوتُ وتلوتُ القرآن في الطريق لدرجة أنّي أصبحتُ مطمئنّة أنّ هذا سفر آخرتي، وأنّه ما إنْ تطأ قدماي
1- "ياسين تو خر كوش خواندن": هو مصطلح يقال لمن لا يفقه ما حدثته به ولا يلتزم بما طلبته منه.
38
30
اللّقاء الأوّل
أرض كردستان سوف أُرزق الشهادة، ويعيدون جنازتي في الغد.لم يكن يعلم أنّي لم أستطع النوم ثانيةً واحدة من فرط شوقي للشهادة. لم يكن يعلم أنّي وضعتُ روحي على كفّي وجئتُ إلى هنا، وبعد كلّ هذا يُعطي الحقّ لنفسه بأن يصرخ بي أمام الجميع، ويُقرّعني بسورة يس. كنتُ أمتلك الجرأة لأردّ عليه، إذ كان عندي الكثير من الكلام، ولم أكن خائفة أصلًا، ولكن لم أفعل، لم أستطع ولم أشأ. اكتفيتُ فقط بالنهوض من مكاني وذهبتُ إلى زاويةٍ وبكيتُ.
أحيانًا، تَحْدُثُ أمورٌ في مصير الإنسان لا تُكشف حكمتها إلّا فيما بعد. لقد تعلّمت منذ ذلك اليوم أن لا أخلق لنفسي المتاعب جرّاء أمور كهذه. فتصوّروا فتاةً تولد في نجف آباد- أصفهان، وتعيش لسنواتٍ في طهران والأهواز وتبريز وهمدان وأماكن عديدة أخرى في مختلف مناطق إيران بسبب طبيعة عمل والدها، ثمّ تعود إلى نجف آباد وتحصل على شهادتَيْن مدرسيتَيْن في الرياضيات والعلوم التجريبية، ثم تُقبل في نفس السنة في جامعة أصفهان في اختصاص الكيمياء، السنة نفسها الّتي شهدت ذروة أنشطة المجموعات والتيّارات السياسية المختلفة، وقد تابعتها تلك الفتاة كلّها، وكانت تشتاق إلى كلام الدكتور شريعتي والآخرين، ثمّ تُدرك مرحلة الثورة بمظاهراتها وترى الفتن في كل مكان فلا تجلس مكتوفة اليدَيْن. حتى بعد الثورة الثقافية وتعطيل الجامعات، إذ بها تظهر فجأة في كردستان وبافه.
في تلك اللّحظة، لم أكن أستطيع إدراك تلك الأمور، ولم أمتلك القدرة على نسيانها. لم أنسَ أنّني بعد الثورة لم أجلس هادئة بلا عمل،
39
31
اللّقاء الأوّل
حتى إنّي زرت قرى "كهكيلوية وبوير أحمد". أظنّ كان ذلك في زمن أحد الاستفتاءات (لتغيير نظام الحكم). لقد شاهدتُ العديد من المشاهد ولأناسٍ كُثر، بدءًا من تلك المرأة التي كانت قد احترقت بالماء المغلي فوضعت المراهم على حروقها، وجاءت لتشارك وتضع صوتها في صندوق الاقتراع الذي حملناه إليها. أو تلك المرأة التي كانت تعيش عند سفح الجبل ولا تملك غير التنّور مكانًا لاستراحتها ونومها. أو الكثير من الأمور الأخرى التي كانت تدفعني لأكون مع الثورة عقلًا ووجدانًا.
كانت الحرب المفروضة قد بدأت، ولم أستطع تجاهلها،كما كانت أيام الثورة الثقافية، فذهبنا أيضًا إلى مخيّم مكتب "التحكيم" للمسائل والقضايا الإسلامية. ما زلتُ أذكر أنّي كتبتُ بخوف في دفتر يوميّاتي: "أشعر أنّ هذه الحرب ستُحدّد مصيري، وأنّها ستؤدّي دورًا مهمًّا في حياتي". طبعًا، كنتُ أنظر نظرة تفاؤليّة، لكنّي كنتُ متأكّدة من أنّي سوف أُلاقي مشاق وصعوباتٍ جمّة. كما كنتُ متأكّدة من أنّ هذه الحرب سوف تتصل ببلادٍ إسلامية أخرى كالجزائر ومصر وفلسطين وستبعث على.. ماذا أقول؟ في السنة اللاحقة، أظنّ أنّ الجامعة مجدّدًا قد أعدّت لنا مخيّمًا من قِبل قسم استقطاب الأفراد، وتقرّر أن نذهب إلى مختلف المناطق للتعاون مع جهاد البناء والأقسام الثقافية في الحرس الثوري. كنّا من مختلف الشرائح، بدءًا من طلّاب جامعات إلى معلّمين وحتى تلامذة تتراوح أعمارهم بين خمس عشرة وستّ عشرة سنة. أرسلونا إلى منطقة كردستان. شعر السائق بالنعاس، فضلّ الطريق ووصلنا إلى كرمانشاه. قالوا لنا إنّه يجب إخلاء القوّات. كانت الفوضى تعمّ
40
32
اللّقاء الأوّل
مدينتي "سنندج"، و"بافه" قد تحرّرت مؤخّرًا على يد الدّكتور شمران، لكنّ الأوضاع كانت مضطربة والأخوات في المجموعة يصرخن: "نريد الذهاب إلى سنندج".
لم أتفوّ بأيّ كلمة وقلتُ في نفسي: "ليس من شأن الشهيد أن يختار مسيره بنفسه".
كنتُ في تلك الأيام متحمّسة جدًا، ولكن بعد ذلك، بعد التعرّف إلى إبراهيم، ثبت لي أنّ الشهادة هي اختيارٌ من عند الله، ولن يوفّق إليها كلّ من أتى أو ادّعى وتقدّم. يُفكّر الإنسان أحيانًا بآخرته بشكلٍ بسيط!
سألوني: "إلى أيّ مكانٍ ترغبين الذهاب؟".
فأجبتُ: "أيّ مكانٍ لم يذهب إليه أحد".
أرسلوني إلى "بافه" برفقة ستة إخوة وأخت واحدة (معلّمة وعدد من الطلّاب). كانت قلوبنا في كردستان، إلى أن جاء إبراهيم وكسر لي غروري بتلك الطريقة، وأسال عَبراتي. هناك قرّرت سريعًا العودة إلى أصفهان. ولكن لم يكن ذلك ممكنًا ولم أستطع. لم أكن أملك الجرأة على ذلك، بل إنّ غروري ما كان ليسمح لي أن أجرؤ على ذلك، فصبرتُ. لقد جئتُ كي أبقى وأُقاتل. لكنّ الشيء الوحيد الذي لم أتوقّعه هو أن أبدأ حربًا، حين وصولي، مع من هم في جانبنا، ورحتُ أُسلّي نفسي بالأعمال التي جئت من أجلها.
لقد أرسلونا إلى كردستان باسم القوّات الثقافيّة والفنّية، كي نُشكّل للناس صفوفًا لتعليم الخياطة والتطريز وتلاوة القرآن ومحو الأمّية. كان مسؤول الحرس الثوري في المنطقة ناصر كاظمي. يبدو أنّه كان متعارفًا، أو أصبح متعارفًا
41
33
اللّقاء الأوّل
أنّه بعد كلّ عملية تطهير عسكرية، يُحضرون أمثالنا لنكون إلى جانب الناس. كان الشرخ بين الناس كبيرًا جدًّا، ومجيئنا إلى هنا، أصبح نوعًا من تهذيب النفس وبنائها. وأين ذلك؟ في المبنى الذي حرّره الدكتور شمران مؤخّرًا وهو غير آمن أساسًا. ضمّ المبنى ممرًّا تتوزّع الغرف على جانبيه. ولم يكن لديه سور خارجي، من جهة يطلّ على الشارع، ومن الجهة الأخرى على حديقةٍ. فيما بعد شيّدوا سورًا حوله، وبنوا مكتبة هناك أيضًا.
قبل عدّة أيام، قال أحد الإخوة الّذين كانوا معنا: "لا أدري كيف تجرّأنا وأحضرنا أخواتنا إلى مكان قد تحرّر حديثًا ويبدو أنّه أخطر من مناطق المعارك نفسها".
كانت مجموعة أخرى قد جاءت قبلنا إلى هنا. قالوا لنا إنّه كان من بين الأخوات، أخت تُدعى "مستجابي" فعّالة ونشطة جدًّا لدرجة أنّهم كانوا يبحثون عنها في كلّ الحافلات الصغيرة والكبيرة المتّجهة نحو كرمانشاه. وقد أخبرتني بنفسها فيما بعد: "كلّ الذين عملت معهم وقعوا أسرى بيد الديمقراطيين"1.
وقد عثروا على جثثهم يوم وصولنا. في ذلك اليوم، أجرى إبراهيم مقابلة نارية نُشرت في مجلة الحرس. كانت الطرق قد زُرعت بالألغام والكمائن الكثيرة، وعدد الشهداء كبيرًا. انعدم الأمن والأمان في كافّة المدن والقرى المحيطة، كما لم تكن "بافه" آمنة أبدًا.
1- حزب العمال الديمقراطي المعارض للثورة والمدعوم من المخابرات الأجنبية.
42
34
اللّقاء الأوّل
كان الشوق إلى أصفهان قد أفقدني صوابي، لكن لا سبيل للذهاب. لم أكن أتوقّع أبدًا أن يأتي يوم يقول لي إبراهيم: "بعد تلك الجلسة وبعد ذلك الشجار، أيقنتُ أنّه يجب أن أطلب يدك، وأن لا أفقدك أبدًا".
أو أن أصل إلى مرحلةٍ أُقرّر فيها أنّه يجب أن لا أكسر قلبه، فلا أُجيب لا بالنفي ولا بالإيجاب، وكلّ ما أُفكّر به أن أقول له: "أنت مدينٌ لي باعتذارٍ إلى آخر عمرك، لإهانتك لي يا إبراهيم".
لحسن حظّي بدأت الصفوف وانشغلت بالعمل. كان الإقبال على الصفوف كبيرًا إلى حدٍّ اتصل ناصر كاظمي بأخته طالبًا منها المجيء إلى هنا. كانت غرفة أخوات القسم الثقافي بجانب غرفة أخوات قسم الإسعاف الطبي. عندما كان يصل الطعام، أو تصل منشورات خاصّة أو خبر، يجب أن يعلم به جميعنا، فإنّ إبراهيم هو الشخص الوحيد الذي كان يحرص على أن نكون أول من يتناول الطعام أو يقرأ ويسمع الأخبار. لكنّ إبراهيم ما كان يقترب من باب الغرفة عندما أكون بمفردي، وفي أغلب الأحيان كنتُ أتواجد بمفردي في الغرفة. ولأنّ صفوفي كانت في مدينة "بافه". لم أكن أسمح لنفسي بالذهاب لأحضر الطعام أو أيّ شيءٍ آخر، كما إنّه لا أحد سوى إبراهيم كان يهتم إن كان لدينا طعام أم لا، أو نعاني من مشكلةٍ ما.
في إحدى المرّات، طال غياب رفيقاتي في المناطق المحيطة، بقيتُ مدة ثلاثة أيام أتناول الخبز اليابس، إلى أن عادتْ إحداهنّ (أخت ناصر كاظمي) وعلمتْ بحالي، فذهبتْ إلى مبنى القيادة وأحضرتْ لي الطعام. أكلتُ واستعدتُ بعضًا من عافيتي. ولكنّ عدم مجيء إبراهيم،
43
35
اللّقاء الأوّل
وعدم إحضاره للطعام، تحوّل إلى غصّةٍ بالنسبة إليّ، غصّة لم أستطع فهمها. شكّل مجيئه وعدمه عذابًا بالنسبة إليّ. ولكن بأيّ ثمنٍ؟ مقابل حياتي؟ وسبّب لي إشكالية كبيرة. وقد أخبرته بذلك لاحقًا.
قال: "كنتُ أخشى الاقتراب من باب الغرفة فأراكِ. أتُدركين ما معنى كنتُ أخاف؟"
- لا، إذ كدت أموت من الجوع.
- كنتُ أُرجّح عندما تكونين وحدك في تلك الغرفة أن لا أقترب منها.
أنا أيضًا لم أكن أريد رؤيته. لكن ذلك لم يكن ممكنًا. كان ذلك يحدث رغمًا عنّا. عند منتصف الليالي، عندما كانت فتيات المنطقة من أهل السنّة يأتين إلى غرفتنا، أو عندما أذهب للوضوء والصلاة، فإنّ الغرفة الوحيدة التي كنتُ أراها مُضاءة هي غرفة إبراهيم. في وقت السحر وعند انبلاج الفجر، كان الوحيد الذي يكنس الباحة، ويرشّ الماء، ومن ثم يُحضّر طعام الفطور، يؤذّن، أو يُطلق صيحة الإيقاظ، مع العلم أنّه كان مسؤول المجموعة ويمكنه أن يطلب من شخصٍ آخر القيام بهذه الأعمال. على الرغم من ذلك، بدا لي إبراهيم في تلك الأيام شخصًا صارمًا حادّ الطباع. وهو أيضًا كان يراني على هذا النحو.
لاحقًا قال لي: "لم أكن أتصوّر أصلًا أن تكوني هادئة إلى هذا الحدّ".
ما زلتُ أذكر أنّي قلتُ له: "أيّ شخصٍ آخر كان سيسعى لإصلاح ما فات. أما أنت فقد خرّبت الأمر أكثر وزدته سوءاً".
وذكّرتُه بتلك الليلة حين جاء وأنّبني.
كُنّا قد وصلنا متأخّرين ومنهكين جدًّا من القرى النائية. دخلنا إلى
44
36
اللّقاء الأوّل
غرفتنا، فرأينا أنّ هناك أختَيْن قد أُضيفتا إلى جمعنا. توقّعنا أن تكونا عنصرَيْن جديدَيْن. فتاتان تبلغان من العمر الخامسة عشرة أو السادسة عشرة. لكنّهما كانتا تقومان بأفعال، وتتفوّهان بكلامٍ لا يليق بهما وبنا وبالمكان الّذي نحن فيه. لم أكن أعرف ما الذي عليّ فعله. كنتُ أظنّ أنّه يجب استيعابهما. ولكن ليس لدرجة الرضا بذلك. جلستُ في زاويةٍ مقطّبة الحاجبين، ولم أنظر إليهما بشكل مباشر، إلّا أنّني ركّزتُ انتباهي عليهما. لفتتني الحليّ والأساور الكثيرة في أيديهما، كما رأيتُ في حقيبتَيْهما آلة تصوير فيديو وآلة تصوير فوتوغرافية وما شابه، ولا بدّ أنّها أشياء غالية الثمن، كذلك شاهدتُ معهما نقودًا تعود لزمن الشاه قد خرجت من التداول في ذلك الوقت. فساورني الشكّ بشأنهما، لكنّي لم أُظهر أيّ ردّ فعلٍ تجاههما وتظاهرتُ باللامبالاة. وهكذا، حتى سقطت ورقةٌ من يد إحداهما على الأرض. همَمْت بالتقاط الورقة لأُعطيها إيّاها باحترام، وإذ بها تسحبها منّي وتُمزّقها، كما ابتلعتْ عدّة قطعٍ منها. استطعتُ سحب قطعة صغيرة من بين يديها وخرجت من الغرفة. طلبتُ من أحدهم أن يذهب ويُخبر الأخ همّت وأعطيتُه الورقة كي يُريه إيّاها، وقلتُ له: "قل له من هما هاتان الفتاتان اللّتان أُرسلتا إلى غرفتنا والشبهة تحوم حولهما؟".
بعدها أرسل يطلبني. قال لاهثًا: "لماذا لا تُراقبن غرفتكن؟ من هما هاتان الفتاتان، جاءتا إلى غرفتكن وأقامتا معكن؟".
قلتُ بنبرة مرتفعة: "أنا من عليه أن يسألك هذا السؤال وليس أنت، أولست مسؤول هذا المبنى؟"
45
37
اللّقاء الأوّل
- عذرٌ أقبح من ذنب.
- أصلًا لم نكن هنا كي نعرف من هما وماذا تفعلان؟ كنّا حينها في القرى المجاورة.
- كان يجب أن تُدركن منذ تلك اللحظة أنّهما مندسّتان.
- ومن أين لنا أن نعرف، مع كلّ ذلك الإرهاق والتعب؟
أجاب بحدّة: "لا بدّ أنّها خطّة تفخيخ. كان يجب أن تفهمن ذلك!"
لم أُردف شيئًا، فقط استدرتُ لأعود، فقال: "يجب أن تُراقبنهما حتى الصباح!"
فالتفتُّ إليه غاضبةً وقلتُ: "لا أستطيع".
استشاط غضبًا وقال: "هذا أمرٌ".
- أمر؟
- من المستغرب أن تقولي هذا!
- كلا، ليس غريبًا!
- أولم تأتي إلى هنا كي...
- سوف أقول لك بشفافية ومن دون لفّ ودوران: لا تتجرّأ أيّ واحدة منّا أن تبقى معهما!
تناهى إلى سمعي رنّة ضحكةٍ في صوته حين قال: "أنتِ والخوف؟!"
- لا أستطيع ولا أُريد أن أبقى معهما في غرفةٍ واحدة.
- آها! هكذا إذًا. ليس مجرّد خوفٍ فحسب.
وتابع متمتمًا: "لعلّه التعب".
- هل أستطيع الذهاب الآن؟
46
38
اللّقاء الأوّل
- كلّا!
لم أكن أعرف ماذا يجول في خاطره. كنتُ غاضبة، وازددتُ غضبًا عندما صرخ بي مجدّدًا. كنتُ أعتقد أنّه يريد إرسالي مع أسلحةٍ لأُراقبهما، ولكن لم يحصل ذلك، بل استدعى كلّ الأخوات وجمعهنّ في الغرفة المشرفة على المبنى وقال: "هكذا سأكون مرتاح البال أكثر".
وحدّثتُ نفسي قائلةً: "وأنا أكثر".
ذهبتُ وخلدتُ إلى النوم، لكن أيقظني صوت نقر إصبع على نافذة الغرفة. كانت الساعة حوالي الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل والجميع نيام، فلم يسمع أحدٌ الصوت سواي. شعرتُ بالخوف. سمعتُ الصوت ثانيةً. قمتُ من مكاني وتقدّمتُ بحذر إلى النافذة، فرأيتُ إبراهيم واقفًا حاملًا السلاح بيده، والقلق بادٍ عليه. ظننتُ أنّه لم يستطع النوم وها قد جاء ليحرسنا بنفسه، حتى لا نتعرّض لهجوم ليلي من مجموعةٍ ما.
قال: "لقد توجّهتْ الآن إحدى الأخوات إلى هناك، نحو الأسفل. رأيتُها بنفسي".
كان يشير نحو المرحاض حيث كان يقع بجانب البستان وهو مكانٌ مترامي الأطراف وخطر، خاصةً بالنسبة إليّ.
قال: "أيمكنك الذهاب لاستكشاف ما إن كانت من صفوفنا أم لا؟".
انجلى لحن الغضب عن صوته. ربما لهذا السبب لم أرفض طلبه. ذهبتُ حيث أشار، توغّلتُ في قلب الظلمة، إلى نهاية البساتين في تلك الأنحاء. ظننتُ أنّ إبراهيم يسير خلفي كي لا أشعر بالخوف، لكنّه لم يأتِ بل كنتُ وحدي.
47
39
اللّقاء الأوّل
على كلّ حال، ذهبتُ ووجدتُ أنّها من مجموعتنا. تنفسّتُ الصعداء وعدتُ أدراجي. لم أتكلّم مع إبراهيم، حتى أنّي لم أقل له: "لا تقلق".
توجّهتُ بصمت وهدوء نحو الغرفة وخلدتُ إلى النوم. في الصباح علم الجميع بما جرى، وبعد التحقيق عُلم أنّ عملًا إرهابيًّا كان من المقرّر القيام به هنا، إلا أنّه تم إفشاله.
لم نكن نرى بعضنا كثيرًا، يعني أنّني قلّما كنتُ ألتقي إبراهيم. في الصباحات وبعد أن يُنجز أعماله، كان يذهب مع قوّات أخرى لتطهير المناطق المجاورة. لقد أصبح عنصرًا في القوّات العسكريّة بسرعة.
بقيتْ الأوضاع على حالها إلى أن مرضتُ بالحصبة، كحال الكثيرين، بسبب تلوّث المنطقة. لكنّ حالتي كانت أشدّ سوءًا من غيري، لدرجة أنّي أُصبت بالإغماء. خاف الجميع عليّ، وخاصةً إبراهيم فقد كان أكثرهم قلقًا.
قال الطبيب: "إذا لم تتحسّن حالها، يجب نقلها بسرعة إلى طهران أو أصفهان. فبقاؤها هنا سيُعرّض حياتها للخطر".
كنتُ لوحدي في المستشفى. طبعًا كانت صديقاتي يأتين لعيادتي. لكن لم يكن ذلك ليُخرجني من وحدتي. في تلك الأيام، كنتُ أتوقّع أن يزورني أيّ شخصٍ ما عدا إبراهيم. لكنّه جاء مرّتين، وقد جاء وحده. لم يدخل إلى غرفتي أبدًا، بل كان يأتي بثيابه الكردية مغبرًا من رأسه إلى أخمص قدميه، يقف بجانب الباب ويشرع بالتحدّث معي. لم يكن كلامًا خاصًّا، بل أشبه بتقديم تقرير. فيذكر لي كم عنصرًا قُتل، وكم فردًا أسرنا، وما هي الأماكن التي حُرّرت، وما شابه، وبعد أن يُنهي حديثه يعود أدراجه.
كان ذلك يُضحكني من أعماق قلبي.
48
40
اللّقاء الأوّل
فيما بعد قلتُ له: "وهل كنتُ قائدك حتى تأتي سريعًا وتُعطيني تقريرًا حول ما كان يجري؟".
ذات يوم، أرسل مَن يسألني عن الخاتم الموجود في إصبعي. انزعجت كيف يأتي شاب يسألني عن سبب وضع خاتم من العقيق في إصبعي. عاملته بطريقة قاسية جدًّا. إذ لم أكن أسمح لأيّ رجلٍ أن ينقل كلامًا منه أو إليه. حتى عندما تزوّج أحد أصدقائه هناك، وجاءت زوجته إليّ، لم أُجبها إلّا بكلمةٍ واحدة: "لا".
في تلك الأيام، كنتُ أكثر حماسة من إبراهيم. كنتُ أعتقد أنّ كلّ من يُشجّعني على الزواج فقد أهانني وأهان أفكاري، وأُرجّح البقاء في تلك المنطقة الخطرة والاستشهاد على البقاء في هذه الدنيا والزواج. كان جوابي لكلّ من يُفاتحني بهذا الأمر كلمة "لا" فحسب.
أتعبني هذا الموضوع. فجأةً، في أحد صباحات أيام شهر رمضان، شهر أيلول من نفس العام، بعد الصلاة، حملتُ حقيبتي وذهبتُ إلى محطّة باصات كرمانشاه لأركب حافلةً متّجهةً إلى أصفهان.
أردتُ أن أنسى الكثير من الأمور. وهكذا اطمأنَنْت إلى أنّي لن أراه إلى آخر عمري. وهذا ما كاد أن يحصل فعلًا. إلى أن اتصلوا يومًا من جامعة أصفهان وقالوا لي إنّ المجموعة التي كانت معي في كردستان قد جاءت إلى أصفهان، ويريدون رؤيتي، خاصةً مسؤول مجموعتنا، من قسم استقطاب قوّات "بافه".
قلتُ في نفسي: "سيكون هذا تجديدًا للقاء الأصدقاء والسؤال عن أحوالهم". ذهبتُ ويا ليتني لم أذهب! إذ كان الأمر برمّته من تدبير
49
41
اللّقاء الأوّل
إبراهيم كي يجرّني إلى المنطقة بحجّة تجديد اللّقاء والعمل الجديد في جهاد البناء، لم يكتفِ بهذا فحسب، بل ظهر فجأةً وسط حديثي ليقول: "سلام".
كنتُ أتمزّق غيظًا، عندما أدركت أنّه من تدبيره.
أجبتُ على معلّقاته المطوّلة بـ: "لا!".
وأورد على مدى ساعة كاملة كلّ ما لديه من أسباب وذرائع، وكذا فعلت أنا. تحدّثت عن الجهاد والشهادة وأنّها هدفي ومرادي.
جاشت مشاعره وقال: "أتعتقدين أنّني متعصّب متشدّد؟"
لم أنبس ببنت شفة.
قال: "أنا لا أريد أن تكون زوجتي ربّة منزل مطلقًا".
بقيتُ ساكتة.
تابع: "أنا أُريدها أن تكون فدائية تحمل البندقية وتُجاهد معي جنبًا إلى جنب".
لم أُجب.
قال: "أنا موافق على جميع شروطك وأعني ما أقول، موافق عليها كلّها".
لم أُعقّب.
قال: "ثقي أنّك بقربي ستتمكّنين من القيام بعملك براحة أكبر، وأعدك بتقديم المساعدة والعون".
حافظتُ على صمتي.
بعدها، بكثير من الاحترام، قلتُ: "أنا أساسًا لا أنوي الزواج".
50
42
اللّقاء الأوّل
كانت تلك المرّة الأولى الّتي يتقدّم فيها لطلب يدي وجهًا لوجه، بينما أنا مع ما لديّ من شجاعة، لم أجرؤ أن أقول له إنّني أخاف منه، أو إنّني أرتجف حينما أسمع صوته، أو أن أقول له إنّ من يخاف شخصًا لن يستطيع أن يرتبط به عاطفيًّا فكيف بالزواج؟!
انتهى كلّ شيء بصمت وسكوت!
بعد سنة، في العام 1981م، أرادت إحدى صديقاتي في أصفهان الذهاب إلى "بافه".
- كيف يُمكنني الذهاب إلى هناك؟
- هناك أخ اسمه "همّت"، أعتقد أنّه ما زال هناك، اتّصلي به عند وصولك وسوف يحلّ جميع العقبات، سواء لناحية السكن أو العمل.
أكّدت عليها أن لا تذكرني أمامه بتاتًا، ولم تفعل.
لكن إبراهيم تفطّن وسألها: "هل مُعرّفتك هي الأخت "بديهيان؟!"
فأجابتْ: "أجل ومن أخبرك بذلك؟!"
اتصل "إبراهيم" بمنزلنا وقال: "سمعت أنك ستأتين إلى ‘بافه`، وعندما تأخرتِ قلت لا سمح الله من الممكن أنّه.."
- لا! من قال إنّني أريد الذهاب إلى هناك؟
- اتصلت صديقتك وأخبرتني ذلك.
- كلّا. هناك سوء فهم. أنا لم أُقرّر الذهاب، ولو أردت ذلك، فلن أذهب إلى هناك أبدًا.
كان قلبي هناك، كم وددتُ العودة وتقديم المساعدة، لكن لم أقدر، والسبب "إبراهيم"، كما أنّني لا أجد صديقة لتُرافقني.
51
43
اللّقاء الأوّل
في أحد اجتماعات المعلّمين، تعرّفَتْ إليّ إحدى الصديقات المشاركات في الاجتماع، تقدّمتْ منّي وسألتني عن سبب عدم ذهابي إلى "بافه" حتى الآن.
فأخبرتُها، وسألتُ إن كانت ستُرافقني إذا ذهبت إلى هناك، فقالتْ إنّها ستحاول.
وفعلًا، قالتْ لوالدتها إنّها تريد الذهاب إلى "كردستان"، فظنّت الأم أنّها تريد الذهاب إلى مدينة "شهر كُرد" فأذِنتْ لها بذلك، خاصة عندما علمت بأنّني سأُرافقها، وقالتْ: "هذا أفضل، سأكون مرتاحة البال".
استخرتُ على الذهاب إلى مناطق عديدة غير "كردستان" إلا أنّ جواب الاستخارة كان نهيًا، فقلتُ لصديقتي سنذهب إلى أيّ مكان في "كردستان" غير "بافه!"
كنتُ أعلم أنّ إبراهيم أصبح قائد الحرس الثوري في "بافه". فأخبرتُها بالأمر وبأشياء أخرى وأكّدت عليها الذهاب إلى "سقز".
- وهل الأمر مهم بالنسبة إليك إلى هذه الدرجة؟
- نعم، وأكثر من مهم!
لم أُعطها الفرصة لتقول شيئًا آخر، لا بالابتسام ولا الهمز واللّمز.
قلتُ لها: "عندما نصل إلى مديريّة التربية والتعليم في ‘كرمانشاه` ويسألوننا عن المكان الذي نريد الانتقال إليه، قولي ‘سقز`، فقط ‘سقز`! لا تنسي ذلك".
وصلنا إلى كرمانشاه وكان المطر يهطل بغزارة. اشترينا حذاءَيْن شتويين
52
44
اللّقاء الأوّل
من البائع الجوّال وتوجّهنا إلى المديرية. سألَنا الموظّف: "حسنًا، وإلى أين تُريدان الذهاب؟"
فأجابت صديقتي مباشرة: "بافه"، فقط "بافه!"
عُقد لساني ولم أستطع أن أقول شيئًا لا لصديقتي ولا للموظّف الذي كان يكتب التصريح. أعطانا التصريح وقال: "انتبها لنفسَيْكما جيّدًا".
عصر ذلك اليوم، انطلقنا بحافلة الرّكاب الصغيرة (ميني باص) إلى "بافه". بقيتُ مذهولة ولم أنبس ببنت شفة، كلّ ما استطعت قوله لصديقتي: "ألم أوضح لك الأمر، وطلبتُ منك أن لا تقولي ‘بافه؟` ألم أشرح لك ظروفي الخاصّة كي تعرفي سبب إصراري للذهاب إلى ‘سقز؟` ما الّذي أصابك حتّى تقولي ‘بافه؟`" راحت تبكي وتُقسم قائلة: "صدّقيني لا أدري ما الّذي ألمّ بي حتى قلتُ ‘بافه!`".
سألتني فيما بعد: "لكن لِم لم تقاطعيني وتقولي "سقز" بدل "بافه؟!".
طوال الطريق، في ذلك الطقس الماطر والغروب الذي ينازع لحظاته الأخيرة مستسلمًا لعتمة اللّيل وظلمته، رحتُ أبكي من دون أن أُدرك السبب.
وصلنا عند الساعة العاشرة ليلًا إلى "بافه". لم يكن إبراهيم هناك، أخبرونا أنّه ذهب إلى الحجّ.
أوصى قبل ذهابه بإعطائنا الغرفة الفلانيّة في حال وصولنا. لكنّهم أعطوها لغيرنا، لمن كانوا ينتظرون وصولهم ولسنا نحن بالطّبع. لم يكن لديهم أماكن شاغرة، فاضطرّوا لإعطائنا غرفة الإدارة، وهي غرفة إبراهيم.
53
45
اللّقاء الأوّل
بقينا في الغرفة أيامًا عدّة. ومن ثمّ عملنا في إحدى المدارس، فأصبحتُ معلّمة الأنشطة والاجتماع. أخبرونا أنّ إبراهيم قد رجع من مكّة المكرمة وأصبحوا يُنادونه الآن "الحاج همّت". لم أُبالِ بذلك، بل كنتُ أهتمّ أكثر لأخبار العملّيات والمعارك، وقمتُ بتقديم اقتراح لمدير المدرسة بدعوة أحد المسؤولين للتحدّث إلى الطلّاب في المناسبة التي كنّا في صددها1.
وافق المدير على الفور وقال: "إنّه اقتراح جيّد وأعرِف الشخص المناسب لذلك".
سألتُه: "ومن يكون؟"
قال: "قائد الحرس الثّوري في ‘بافه`، الأخ ‘همّت`".
اعترضتُ قائلة: "لا، لا! فهو مشغول جدًّا. أعرف ذلك. أعتقد أنّ قائم مقام ‘بافه` سيكون مناسبًا أكثر، أجل بالتّأكيد سيكون أفضل".
سألني: "لكن ما الفرق؟"
تلعثمت: "الفرق؟ بالتأكيد هناك فرق، علينا الذهاب إلى شخص لا نسمع منه كلمة ‘لا`، فقائد الحرس غارقٌ في العمل حتى أُذنيه، لقد كنتُ هناك وأعرف ذلك، القائم مقام أفضل...".
قال: "حسنًا كما تشائين"
تنفّست الصعداء، ونظّمنا إقامة الحفل بالتنسيق مع قائم مقام "بافه".
قبل ساعة من بدء المراسم، رنّ جرس الهاتف وأخبرونا أنّ صحّة
1- لم أعد أذكر ماذا كانت المناسبة -.
54
46
اللّقاء الأوّل
القائم مقام قد تدهورت، واعتذر عن القدوم والمشاركة في المراسم.
وبسرعة، اتّصل المدير بإبراهيم، من دون أن يستشيرني بالأمر. وبالطبع وافق! لم أشأ أن يعرف أنّني في "بافه" لذا تواريت عن الأنظار في المكتبة الكائنة في الطابق السفلي للمدرسة (القبو). لم أرغب في رؤيته كي لا يفتح سيرة الخطوبة مجدّدًا.
أرسل مدير المدرسة في أثري مرّات عدّة: "سيصل ضيفنا الآن ويجب أن تكوني في المكتب لاستقباله".
وكذا جاء حارس المدرسة مرّات عدّة إليّ ليقول: "الأخ همّت سيأتي". يا إلهي لم يكن يجيد الفارسيّة وبدل أن يقول أتى، قال سيأتي!
أثار تردّده إلى القبو حفيظتي، فصعدتُ إلى مكتب المدير لأُخبره بشكل قاطع أنّني مشغولة ولا أستطيع الحضور، أو أنّني لن آتيَ، أو أساسًا لا أُريد الحضور، تفاجأتُ بوجود إبراهيم في المكتب حليق الرأس، نحيلًا، لوّحتْ وجهه الشّمس، وبابتسامة لم يعد يُخفيها. نهض وألقى التحية والسّلام ثمّ قال: "أهلًا وسهلًا بك في منزلك "بافه".
في اليوم التّالي، جاء لخطبتي ثانية مرسلًا زوجة أحد أصدقائه. عندما شعرتْ أنّها ستفشل في مَهمّتها قالت لإتمام حجّتها عليّ: "يجب أن لا أُخفي عليك أمرًا".
قلتُ: "وما هو؟"
قالت: "كثُرٌ هم الّذين أقسموا أنّ الحاج سيستشهد، فهو ليس ممّن سيبقون".
ثم أردفتْ: "والآن مع كلّ ما سمعتيه، هل تُصرّين على عدم التحدّث إليه؟"
55
47
اللّقاء الأوّل
لم تكن تعلم أيّ الأمور حدّثتُ بها صديقتي الّتي رفضت خطبة أحد المجاهدين واستُشهدِ بعد يومَيْن! والآن أقف موقفها. أنا على مفترق طرق، ماذا أقول لإبراهيم؟! كما لم تكن تعلم أنّني رأيت إبراهيم في المنام مرّات عدّة.
رأيتُه وقد تسلّق قمّة مرتفعة، يبني لي فوقها منزلًا أبيض. لم تكن تعلم أنّي رأيتُني أدخل مبنى من ثلاثة طوابق، وأصعد إلى الطابق الثالث، رأيت إبراهيم يجلس في غرفة أُحيطت بسيّدات منقّبات يرتدين السواد.
فقلتُ له: "ما الذي تفعله هنا يا أخ همّت؟"
قال: "كان ‘الأخ همّت` اسمي في ذلك العالم، أمّا هنا فاسمي "عبد الحسين شاه زيد"".
لم أُخبر أحدًا عن ذلك المنام في تلك الأيام، ولا حتى إبراهيم نفسه1.
الاستخارة والخطبة
لم تزدني تلك الرؤى إلا اضطرابًا. عدتُ إلى أصفهان، إلى السيّد الحاج "صديقين" للاستخارة. وكانت الآية 13 من سورة الكهف: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾.
1- فيما بعد، بعد أن استشهد، ذهبت إلى أحد السادة ليفسّر لي رؤياي تلك. لم يقل شيئًا أو أنه لم يشأ قول شيء.
حينها قلت له: "لقد استشهد إبراهيم، لا تقلق، فأخبرني عن تفسيره الآن". لم أخبره من أكون ولا من هو ولا العلاقة التي تجمعنا.
قال: "عبد الحسين شاه زيد: يعني أنه يستشهد مثل الإمام الحسين عليه السلام، ومقامه مثل "زيد" قائد جيش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
بالفعل هذا ما كان. استشهد إبراهيم في جزر "مجنون" مقطوع الرأس، وكان حينها قائد فرقة "الرسول27".
56
48
اللّقاء الأوّل
كتب السيّد في نهاية الاستخارة: "جيّدة جدًّا. سوف تُعانين الكثير من المصائب في الأمر الّذي أنت مُقدمة عليه، لكنّك ستفوزين في ختامه"1.
احترتُ ماذا أقول وأفعل. تعبتُ من ذلك الوضع وشعرتُ بالوهن. نويتُ العبادة والصوم مدّة أربعين يومًا.
قلتُ في نفسي بعد انقضاء مدّة الأربعين يومًا سأقبل بأيّ شخص يأتي لخطبتي ولن أُسمعه "لائي" أبدًا.
في اللّيلة التاسعة والثلاثين، عاد إبراهيم لخطبتي، كان على علم بجواب الاستخارة. جاء ليسمع كلمة "نعم"، لكنّها كانت بداية الطريق.
قلتُ سأدع المجاملة جانبًا وأدخل في صلب الموضوع، وهكذا كان.
الكثير من العائلات، ومهما كانت ادّعاءاتها وحرصها على الثورة، لم تكن لترضى بتزويج بناتها لعناصر حرس الثّورة، بالأخص عائلتي. إنّ لعائلتي أفكارها الخاصّة، ولن ترضى بهذا الأمر بسهولة وبساطة. عليك إقناعهم أولًا بهذا الزواج، وإنّني لن أرضى بالحصول على مهر.
أجابني: "لا وقت لديّ لمثل هذه الأمور".
1- بعد الزواج، عندما كان إبراهيم يغيب لفترات طويلة، كنت أقول: "حقيقة لقد كانت استخارة صائبة، لست معي وعليّ أن أتحمل فراقك، أواجه المصاعب وحدي، ألتاع شوقًا إليك، يبدو في النهاية أنّ عليّ...".
كنت أضحك. وكان يحدّق بي من دون أن ينبس ببنت شفة.
كان يتوقع الفراق الدائم، وكنت قد وطّنت نفسي على الغياب المتقطّع، الأيام والأسابيع والأشهر، ظننت أنّنا سنعيش في النهاية حياةً مشتركة.
57
49
اللّقاء الأوّل
أغاظني كلامه فقلتُ: "إن لم يكن لديك وقت لتتحدّث إلى أبي وأمّي لإقناعهما بهذا الزواج، فلِمَ تسعى إليه أساسًا؟ لنُنهِ هذا الأمر عند هذا الحدّ، وليذهب كلٌّ في سبيله".
نهضتُ لأُغادر الغرفة بسرعة، عندما قال: "قلتُ لا وقت لدي، لكنّني لم أقل إنّني لم أتوكّل على الله، أنت لم تدعيني أكمل كلامي".
ثم تمنّى عليّ أن أجلس، فجلست.
قال: "لقد عقد قراننا منذ زمن".
لم أفهم ما قاله، وحسبته قلّة احترام أيضًا.
قال: "عندما كنتُ في الحج، وأثناء الطواف حول بيت الله الحرام، لم أر أحدًا غيرك بقربي. كم لعنت نفسي هناك لأنّني لم أستطع لجم النفس الأمّارة بالسوء وأتفرّغ للعبادة. لكن عندما رجعت ورأيتك في ‘بافه`، قلتُ في نفسي لقد قُسم لي أن...".
نظر إليّ...
قلتُ: "لن أتراجع عن كلامي، عليك إقناع أهلي، لن أتراجع عن رأيي!"
بعد مرور شهر، ذهب إلى منزلنا. كان ذلك بعد خوضه معارك ضارية، استشهد خلالها عدد من أبناء أصفهان. جاء في سيارة إسعاف منهك القوى مغبرًّا ومدمى، جاء لخطبة من لم تكن في المنزل. جاء لخطبة من كانت في "بافه".
أخبره أهلي أنّ لهذه الفتاة خطّابًا كُثرًا، لكنّها لم ترضَ حتى بالخروج من الغرفة للتحدّث إليهم ورؤيتهم. والجواب، لا ندري ما نقول!
58
50
اللّقاء الأوّل
ردّ إبراهيم: "ربما كان جوابها هذه المرّة غير تلك المرّات".
- لكنّها غير موجودة.
- أهلها موجودون، وموافقتكم مهمّة جدًا بالنسبة إليّ.
- لكنّها صاحبة الشأن وليس نحن حتى نُعطي رأينا.
"ربّها عظيم، وكذلك ربّي".
حدّثتني أمّي: "لا أدري لِم تعاطفنا معه، لم نُعاند، أو حتّى نرفض". كنتُ أُريد أن أقول له: "نحن أساسًا لا نُزوّج ابنتنا لمن هو في الحرس الثّوري، حقيقةً لا أدري لِم لَمْ أفعل، ربما هذا ما قسمه اللّه لك".
أعتقد كان ذلك قبل يوم من مراسم عقد القِران، حين سألني إبراهيم: "هل ترضين بالعيش معي إن أُسرتُ أو جُرحت؟".
أجبتُه: "لم أعرف في هذه الأيام سوى أنّ شعار الحرس يجب أن يكون مدمى".
رمقني بصمت، فقلتُ له: "سأبقى معك حتى استشهادك، أترى؟ أنا أيضًا أعرف معنى التوكّل!"
لم يكن هنالك أيّ مراسم. فقط أنا وهو وأفراد عائلتَيْنا. اشترَيْنا خاتم الزواج1، فهو لا يُحبّ الذهب والبلاتين (الذهب الأبيض) وهذه الأمور، ليس إنّه لا يُحبّها فحسب، بل إنّه يراعي الأمور الشرعيّة أيضًا.
قال: "إذا سمحتم سأختار خاتمًا من العقيق فحسب".
كان بمئة وخمسين تومانًا فقط.
1- من العادات في إيران أن تشتري العروس خاتم الزواج للعريس.
59
51
اللّقاء الأوّل
قال أبي حينها: "لقد ذهبتِ بماء وجهنا"
قلتُ: "لماذا؟ ما الّذي جرى؟"
قال: "ومتى جرت العادة أن يتمّ شراء خاتم عقيق فقط للعريس؟ سيهزؤون بنا!"
اتصل إبراهيم بالمنزل، اعتذرتْ الوالدة وأعطتْ السّماعة لوالدي.
قال له والدي: "اذهب واشترِ خاتم زواج لائقًا ثمّ تعال إلينا".
قال إبراهيم: "خاتم العقيق هذا كثير عليّ، ادعوا الله أن يوفّقني لأؤدّي واجباتي تجاه حياتنا المشتركة وأكون مستحقًّا لهذا الخاتم. وسأدع الباقي لكرمكم وما يراه الله ويُدبّره لنا".
كان إبراهيم ملتزمًا بوضع الخاتم ولم يخلعه من إصبعه أبدًا. حتّى عندما تهشّم خلال عمليات "خرّمشهر"، اشترى خاتمًا آخر مشابهًا له، وضعه في إصبعه وأراني إيّاه.
ضحكتُ وسألتُه: "لمَ كلّ هذا الإصرار والتقيّد به؟"
قال: "الخاتم هو ظلّ رجلٍ أو امرأة في حياة مشتركة، وأُحبّ أن يُرافقني ظلّك على الدوام. دائمًا ما يُذكّرني هذا الخاتم بك، في أوج وحدتي. وكم أحتاج لأن أتذكّرك، أتُدركين معنى أن يكون الإنسان محتاجًا؟!"
بعد ذلك، جاء الحديث عن شراء جهاز العروس، وقد أخبرني: "في كلّ مرّة كنتِ ترفضين شراء هذا وذاك أو تراعين ظروفي المادّية عند اختيار الأشياء، كنت أحمد الله وأقول في نفسي، إنّها هي من كنتُ أبحث عنها طوال تلك السنين".
60
52
اللّقاء الأوّل
كان الزيّ المعروف والمنتشر في تلك الأيام الثّوب الطويل (سارافان)، بينما الآن أصبح الزيّ الشرعي (مانتو). ارتديت ثوبًا كُحلي اللّون مع حذاء من الصناعة الوطنية، ومنديلًا أسود.
جاءتْ زوجة أخيه وأعطتني منديلها ذا اللّون الأصفر الضارب إلى البنّي الفاتح، ذلك لكراهة الأسود في مثل هذه المناسبات.
عقد القران
ذهب إبراهيم لإحضار والدته من "شهرضا"، اتّصل بالمنزل وسأل عن أحوالي وإذا كان ينقصني شيء ما.
قلتُ: "كلا. لكن تذكّر أنّه عليكَ أن تحضر بزيّ الحرس الثوري إلى مراسم العقد".
ضحك وقال: "وهل كان من المقرّر أن أرتدي غيره؟"
جاء بالزيّ المقرّر، لكن بدا من وسعه أنّه ليس له. سألتُه لمن هذه البزّة الفضفاضة؟ أجابني أنّ بزّته قديمة جدًّا، وأنّه استعار هذه من أخيه.
كان صادق القول وأنا ما زلتُ أحتفظ بها للذكرى.
وضع أطراف سرواله تحت الحذاء العسكري (البوتين) الذي مسحه جيّدًا، فبدا متأهّبًا وكأنّه يريد التوجّه إلى الجبهة.
جرى عقد قِراننا في 12 كانون الثاني من العام 1982م، الموافق لـ 17 ربيع الأوّل، ذكرى ولادة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. ومن أجل عقد القران ذهبنا إلى منزل السيّد "روحاني" الذي أصبح إمام جمعة أصفهان فيما بعد.
61
53
اللّقاء الأوّل
كنتُ قد أصررت على عقد القران عند الإمام الخميني قدس سره، كان هذا طلبي ورجائي الوحيد لإبراهيم.
قال: "لن أتوانى عن تحقيق أيّ أمر تطلبينه، لكن أرجوك لا تطلبي أن نهدر لحظة من عمر رجل لديه مهام أعظم وأهمّ بكثير من عقد قراننا، بمَ سأُجيب يوم القيامة عن صنيعي هذا؟ وكيف لي أن أعبر الصراط؟!".
أصرّ والدي على المهر ولم يكن لشيء أن يُثنيه عن رأيه.
قلتُ لإبراهيم: "ألم يكن من المقرّر أن تتحدّث مع والدي بهذا الشأن؟"
قال: "من المعيب أن يأتي أحدهم ويقول لوالد العروس: ‘أجل، أنا أريد ابنتكم لكن من دون مهر`، لِم تطلبين منّي فعل ذلك؟!"
قال إبراهيم لوالدي: "لقد وجدت شريكة حياتي يا سيّد ‘بديهيان` ولن أخسرها بسبب الأمور المادّية. أنا موافق على المهر الذي تُعيّنه وسأُوقّع عليه".
نظر إليّ والدي مليًا وإلى إبراهيم وإلى الجميع وطال سكوته.
قال إبراهيم: "أنا أقول هذا بكلّ وجودي وكياني ووعيي كن واثقًا".
قال والدي: "ليكن ما تشاءان، لن أُصرّ على أيّ شيء".
عُيّن المهر وجرى عقد القران
طلبتْ والدة إبراهيم من والدي السماح بذهابي إلى منزلهم: "هما يريدان الذهاب إلى كردستان، فاسمح أن تأتيَ ابنتكم إلى منزلنا الليلة".
سمح والدي بذلك، وذهبنا جميعًا إلى منزلهم. لو تعلمون أيّ حال
62
54
اللّقاء الأوّل
كان عليه إبراهيم تلك اللّيلة! كان يقرأ اللطميّات ويبكي بحرارة. يُردّد لطمية "كربلا يا كربلا"، يتلو القرآن، بل كان يتلو سورة يس فقط، يقرؤها بصوت شجيٌ عجيب، وبشكل جعلني أغبطه عليه. اعتدتُ أن لا أعتبره زوجًا لي، اعتدتُ أن أعتبره منافسًا في إحدى المسابقات، وفي النهاية تخطّاني وفاز.
مع انبلاج الصّبح، عاد ليقرأ اللطميّات: "عطشٌ لماء الفرات، أيّها الموت رويدك".
لم يكن أحد يعلم، أو يتوقّع، أنّه بعد سنوات عدّة في جزيرة مجنون، بالقرب من ماء الفرات، ستقطع شظية كبيرة رأس إبراهيم وتفصله عن جسده، ليبقى الجسد ثلاثة أيام بلا اسم أو هوية إلى أن...لندع هذا.
عند الصباح وبعد الصلاة سألني: "إلى أين ترغبين الذهاب اليوم؟"
قلتُ من دون تفكير أو تردّد: "إلى مزار الشهداء".
منذ ذلك الحين كان يترك لي اتخاذ القرارات، ولأنّه قال الحمد لله سألته: "لماذا؟"
قال: "كنتُ أخشى أن تقولي غير هذا".
انطلقنا في الصباح الباكر نحو مزار الشهداء، حيث رقد هو فيما بعد، جلس عند ضريح أحد رفاقه الشهيد "رضا قانع"، أنهكه البكاء، وراح يُحدّثني عن جميع رفاقه الشهداء، كيف وأين استشهدوا.
بعد ذلك ذهبنا إلى قم، ولم تستغرق زيارتنا في قم أكثر من نصف ساعة، انطلقنا بعدها نحو طهران.
قلتُ له: "أرغب الليلة بالذهاب إلى منزل إحدى الصديقات. هل من مشكلة في ذلك؟"
63
55
اللّقاء الأوّل
أيّ شخص آخر كان ليرفض طلبي هذا ويقول "لا".
لكنّه لم يقل ذلك، بل وافق على طلبي بطيب خاطر. في الصباح، وفي الساعة المقرّرة، جاء يصطحبني لننطلق معًا نحو كردستان، "بافة" بالتحديد.
كان الوقت متأخّرًا، والمطر يهطل، كان إبراهيم طوال الطريق من "كرمانشاه" إلى "بافه"، ينزل من السيارة عند كل متراس فيتحدّث إلى الإخوة المرابطين فيه، ويستمع إلى شكواهم. كان الإخوة يستقبلونه كمن التقوا أباهم بعد طول غياب، يُحدِّثونه عن شوقهم له ويشكون تسرّب الماء إلى متاريسهم و...
عندما عاد إلى السيارة، بدا قلقًا مضطربًا. حتى إنّه قال: "من الأفضل أن نُسرع". وصلنا إلى "بافه" وذهبنا إلى ذات الغرفة التي قضيتُ فيها وصديقتي بضع ليال، تركني هناك وذهب إلى مقرّ الحرس الثوري من أجل متابعة شكاوى الإخوة المقاتلين.
عاد ظهر اليوم التّالي وقال: "سيُقام اليوم مؤتمر قيادة الحرس، وعليّ الذهاب بسرعة إلى طهران، هل تسمحين بذلك؟".
ذهب وعاد بعد عشرة أيام. هناك في كردستان لم نعش حياة مشتركة أبدًا. لم تسنح الفرصة لذلك أساسًا.
تقوى العين
خلال السنتين والشهرين من زواجنا، كان يزداد إعجابي به يومًا بعد يوم. صحيح أنّي كنتُ أعده إنسانًا قاسيًا وأمتعض منه، لكنّ المدّة القصيرة
64
56
اللّقاء الأوّل
الّتي قضيناها معًا وبشكل متقطّع، أثبتتْ لي كم أنّ إبراهيم مختلف جدًّا عن الأخ "همّت" الذي عرفته وخشيته، بل إنّه يختلف عن جميع من عرفتهم. حتى إنّ المشاعر والعواطف قد تغيّرت. ربما ذلك من معجزات عقد القران الإسلامي الذي ينشر المحبّة في القلوب عند انعقاده.
... إبراهيم ذاك الذي كان يسير مغمض العينَيْن، فنتحدث نحن الفتيات عن تقوى عينيه، وصل الأمر لأن أقول له: "ستستشهد بسبب هاتَيْن العينَيْن!".
سألني: "لماذا؟"
قلت: "لأنّ الله أعطاهما جمالًا وكمالًا".
حقًا كان لإبراهيم عينان جميلتان، وكان يعلم هذا.
ربما لأجل ذلك لم يدعهما تستقرّان وتهدآن، فكانتا حمراويَنْ، إمّا من الدعاء والتهجد، أو من التعب في الجبهة وقلّة النوم. كنت أقول له: "أنا على يقين أنّ هاتَيْن الجوهرتَيْن سوف تعيدانك إلى حضرة الخالق". وهذا ما كان.
الكثير من الفتيات الصغيرات كنّ يسألنني: "ماذا يفعل الأخ "همّت" ليسير مغمض العينين ولا يسقط أرضًا؟!".
نسيت أن أسأله، ربما هذا أحد الأسئلة التي علقت في ذهني وسوف أسأله إياه في ذلك العالم. برأيي إنّه لأمرٌ قيّم جدًّا أن يؤدّي إنسانٌ حقّ عضو من أعضاء جسده بهذا الشكل من التّقى. لقد فتحت "بافه" عينيّ على أشياء كثيرة خاصّة وجوه إبراهيم المختلفة والمتعدّدة، على الأخص المحبّة التي لم يكن يُشاطر بها أحدًا غيري.
65
57
اللّقاء الأوّل
عمليّات الفتح المبين
أذكر عندما ذهب في إحدى المرّات إلى مرتفعات "شمشير" من أجل تطهير المنطقة، حيث كنت قد عاودتُ العمل معلّمةً لمادة التربية والاجتماع، وذهبتُ من أجل المشاركة في مؤتمر لمعلّمي التربية في "كرمانشاه". عندما عاد إبراهيم إلى المدينة ولم يجدني، حصل على عنوان إقامة المؤتمر وجاء إلى هناك، ما إنْ وقعت عيناي عليه حتى أجهشتُ بالبكاء.
سألني: "ماذا حدث؟ لمَ كلّ هذا البكاء؟"
أردتُ أن أبوح له لكنّني لم أقدر، لم أقدر حتى على النطق بكلمة واحدة، عندما هدأتُ أخبرتُه: "كنتُ أراك في المنام طوال هذه اللّيالي".
قال: "وما كانت تلك المنامات؟ خيرًا إن شاء الله!"
قلتُ: "رأيت في المنام صحراء مظلمة وكوخًا، كنتُ أنا في جانب منه وأنت في الجانب الآخر، ومهما حاولت أن أُناديك و أقول ‘يا حسين يا حسين` لم أستطع. رحتُ أُفكّر في النوم واليقظة، أنّك لن تعود حيًّا من هذه العمليّات".
في تلك الليلة، حصلتُ على الإذن بالانصراف من مسؤول المؤتمر ومسؤول المبنى الذي نحن فيه، فاصطحبني إلى منزل عمّه.
قال: "جئتُ لأقول لك إنْ وفّقني الله فسأذهبُ للمشاركة في العمليّات في جنوب البلاد".
قلتُ: "وبعد؟"
66
58
اللّقاء الأوّل
ضحك
ضحك أكثر وقال: "أتعدينني أنّك لن تنزعجي من الكلام الذي سأقوله لك الآن؟"
قلتُ: "أعدُك"
نظر إليّ في صمت وقال: "سامحيني"
- بشرط أن آتي معك.
- إلى أين؟
- إلى الجنوب، إلى أيّ مكان تذهب إليه.
- لا يمكن، الأمر صعب، صعب جدًّا.
كان يعلم أنّهم في صدد عمليّات واسعة وصعبة للغاية. عمليّات "الفتح المبين"، وكانت "دزفول" غير آمنة.
قلتُ: "لا بُدّ أن آتي معك".
كان لديّ سبب خاص.
قال: "لا، لن أرضى أن تأتي أبدًا".
انقضى فصل الشتاء ومرضتُ. كنتُ قد صمتُ ثلاثة أيام، صلّيت صلاة جعفر الطيّار ودعوتُ بألوان الدعاء والتوسّل. بعدها، أرسل إبراهيم أحد الإخوة ليأخذني إلى "دزفول".
ما إنْ وصلتُ حتى رأيته على قارعة الطريق حيث تواعد مع صديقه، وكان يحمل السبحة بيده. ركض عندما رآني، فترجّل أصدقاؤه من السيارة بينما بقيتُ أنا.
عندما وصل إبراهيم قرب السيارة، نظر إليّ وقال: "هذه المرّة الأولى التي أعرف فيها معنى الانتظار، حقًّا كم هو صعب ومرّ!".
67
59
اللّقاء الأوّل
- هل أدركت الآن كم أعاني؟!
- أجل وأدركت أمرًا آخر.
- وما هو؟
- كم أنّني غريب ووحيد من دونك.
صار يعرف كيف يحسب لي ألف حساب، لم أتفوه بأيّ كلمة، قلتُ في نفسي أعرف كيف ألوي ذراعك أيضًا. تركته يعتقد أن لا كلام لديّ لأقوله. ربما هذا ما جعله يتركني ساعة يشاء ويذهب، لأنّه مطمئن البال من ناحيتي. كنتُ كلّما ضاقت الأرض بي، أبكي عندما أرى إبراهيم فحسب. لا عتاب ولا شكوى، فقط بكاء. يستمّر بكائي نصف ساعة أحيانًا ليعود ويسألني: "ما بك يا جيلا!"
فأقول له: "لا شيء، اشتقتُ إليك فحسب".
أو يقول: "هل أنت منزعجة لأنّني أذهب إلى الجبهة؟"
فأُجيبه: "كلا.. كلا. تجاهلْ بكائي ولا تنزعج من دموعي، إنّما أشتاقُ لك لأنّك مقاتل، ولولا ذلك لما اشتقتُ إليك أبدًا".
قلتُ له مرارًا: "إنّ ذهابك هو ما يجعلني مضطربة".
لم أدعه يُدرك ما يجول في خاطري أبدًا. وأكثر من هذا لم أدعه يعلم ماذا حلّ بي في "دزفول". لا أُحبّ أن أُفكّر أو أتذكّر الأسابيع الثلاثة التي قضيتها هناك، لقد مرّت عليّ أصعب الأوقات. لكن ماذا أقول عن تلك الأيام؟ ربما كان أسوأ مكان أقمنا فيه. لم يجد إبراهيم مكانًا أو أثاثًا ووسائل مناسبة للحياة، لذا أقمنا في منزل أحد أصدقائه، كان مسؤولًا في التعبئة أو اللّجان لم أعد أذكر. في زمن الحرب، كان من الصعب
68
60
اللّقاء الأوّل
جدًّا أن يُدبّر الإنسان أمور حياته ومعاشه، فكنتُ أشعر أنّني عبءٌ على أصحاب الدار.
في إحدى المرّات، عندما جاء إبراهيم، قلتُ له: "أنا معذّبة هنا".
قال: "اصبري ربما تمكّنتُ من إيجاد المكان المناسب".
سألتُه: "وإنْ لم تجد؟"
قال: "عودي إلى أصفهان، وهكذا أطمئنّ لسلامتك بدل بقائك هنا تحت القصف".
الذهاب؟ أبدًا! لا أستطيع. عليّ البقاء قرب إبراهيم، هذا ما اخترتُه بنفسي. بحثتُ عن حلول. وفي أحد الأيام، ذهبتُ إلى الطابق العلوي للمنزل، وجدتُ غرفة على السطح خُصّصت لتربية الدجاج. فكّرتُ أنّه إنْ نظّفتُها فسوف تصلح للسكن المؤقّت إلى أن يجد إبراهيم حلًّا أفضل.
قمتُ بتنظيف أرضها من قذارات وفضلات الدجاج باستخدام السكين. عندما جاء إبراهيم ورأى ما فعلتُه، أحضر دثارًا كان في سيارته وثبّته على الجدار كستارة، وكان بحوزته ألف تومان أعطاني إيّاها فاشتريت صحنَيْن، ملعقتَيْن، وقصعتَيْن صغيرتَيْن مع مائدة صغيرة، كما أحضر إبراهيم بطانية من بطانيات الحرس كانت في سيارته. لم نكن نملك حتى موقدًا نفطيًا للطبخ، فلم نتناول طعامًا مطهوًا طوال تلك المدّة.
هكذا كانت بداية حياتنا.
أُصبتُ بالتهاب رئوي، بسبب رائحة الدجاج الذي كان يُشاطرنا المكان، وبسبب السّعال الدائم لم أستطع الاستراحة والنوم. كنتُ أرشّ
69
61
اللّقاء الأوّل
ماء الورد باستمرار، إلا أنّه لم يقضِ على رائحة الروث، وكان الدجاج في زاوية الغرفة يرتعب من سعالي كثيرًا. مع اقتراب موعد العمليّات، نقل صاحب المنزل عائلته خارج المدينة، وهكذا فعل جميع الأهالي. بقيتُ في ذلك المنزل الكبير وحدي. كنتُ في مقتبل العمر - 23 عامًا - غريبة في هذه المدينة، ولم أكن ممّن يجولون في الأزقّة والشوارع للتعرّف إليها. كنّا في فصل الشتاء وجميع النوافذ الزجاجية محطّمة، وإبراهيم لا يأتي إلا مرّة كلّ ثلاثة أيام. كان المنزل يقع في شارع "آفرينش" حيث تركّز القصف الصاروخي الصدّامي.
شيئًا فشيئًا صرتُ أكثر جُبنًا، وكرهت نفسي لهذا. ما إنْ أسمع صوتًا حتى أنصت جيّدًا وأحاول تتبّع الصوت، قرع الباب.
فسألتُ بهلع: "من؟"
جاء صوته: "هذا أنا".
كان إبراهيم. وكأنّ الدنيا كلّها قد أُعطِيَت لي. فتحتُ الباب بسرعة كي أراه وأفرح لوجوده معي هذه اللّيلة، وأنام قريرة العين حتّى الصباح. لكن لم أجد إبراهيم عند الباب، لقد وقف قرب الجدار في الظل.
سألتُه: "لِم تقف عندك؟"
- سلام!
- وعليك السلام، ألا تريد الدخول؟
- أنا خجلٌ.
- لماذا؟
وقف تحت عمود الإنارة في الزقاق، فرأيتُه ملطّخًا بالوحول من رأسه
70
62
اللّقاء الأوّل
حتّى أخمص قدمَيْه. أضحكني شعوره بالخجل لأنّه جاء على هذه الحال!
قلتُ له: هيّا ادخل.
كان يوجد حمّام، لكن لم نستطع تسخين المياه. لم يقدر إبراهيم على الجلوس بهذا الوضع، أو لم يشأ ذلك، قال: "سأستحمّ بالمياه الباردة".
قلتُ: ماذا عن التهابات الجيوب الأنفية؟
وكانت حادّة عنده!
قال: "سأعود بسرعة".
طال الوقت، شعرتُ بالقلق وظننتُ أنّ أنفاسه تقطّعت من شدّة البرد. طرقتُ باب الحمّام، لم يُجب. طرقته ثانية، ثم فتحته، فرأيت مياهًا موحلة تسيل على الأرض نحو المجاري.
قال: "تريدين رؤية المياه الموحلة، فأشعر بخجل أكبر؟!"
ستقتلنا دموعك
لقد رأيتُ رجالًا كُثرًا، أزواج صديقاتي، وآخرين كانوا يعيشون بشيء من الراحة والرفاهية، لكنّهم يمنّون ذلك على أبنائهم وزوجاتهم. لكن إبراهيم، وعلى الرغم من كلّ هذه المرارة والمعاناة التي تخوّله المنّ عليّ، كأن يقول إنّه يتحمّل كلّ هذه المشاقّ من أجلي ومن أجل الأولاد، لكنّه كان على الدوام يعود إلى المنزل خجلًا. كان يواجه الصعاب والمشاكل كي يؤمّن لنا حياة حرّة كريمة. حدث مرّات عدّة أن مرضنا، فجاء إبراهيم وجلس عند رؤوسنا يبكي وينوح "لِم أُصبتم بالمرض؟". ويُحمّل نفسه المسؤولية، لأنّه - على حدّ قوله - لم يكن موجودًا فنتمكّن من الذهاب إلى الطبيب.
71
63
اللّقاء الأوّل
كان يبكي بشكل يُثير ضحكي بعض الأحيان.
كنتُ أقول له: "إنْ لم نَمَتْ بسبب المرض، فستقتلنا دموعك!"
- لماذا؟
- لأنّك تبكي بشكل تُشعرنا بالخجل من البقاء على قيد الحياة.
اقترب موعد العمليّات، فقال إبراهيم: "عليك العودة إلى أصفهان، لم تعد دزفول آمنة".
- لن أتركك وحدك.
نظر إليّ وقال: "أنا أيضًا لا أُريدك أن تذهبي، لكن هذه العمليّات مختلفة عن غيرها".
شرح لي أهمّية هذه العمليّات، ووضّح لي المحاور وقال: "لهذه العمليّات حالتان، إمّا أن نتمكّن من تحرير المحاور المحدّدة لنا، وإمّا لا نستطيع. إذا تمكّنا من ذلك فالمدينة ستبقى آمنة، لكن إن لم نتمكّن من ذلك فستسقط هذه التلال بيد الأعداء، وقد يُدمّرون مدينة دزفول عن بكرة أبيها".
قلتُ: "سأبقى كالآخرين وأفعل ما يفعلونه".
- لا، ليس هذا فحسب، فالأهالي هنا إذا ما شعروا بالخطر الدّاهم، سينقلون عائلاتهم خارج المدينة، لكن مع مَنْ ستغادرين إن لم أكن موجودًا؟ كما ينبغي عليك ومن أجل الإسلام الذهاب إلى أصفهان.
نظرتُ إليه، وسألتُه: "إنّني لا أفهم ما الرابط بين ذهابي ومصلحة الإسلام؟!"
72
64
اللّقاء الأوّل
تابع: "إن بقيتِ هنا، سأبقى قلقًا عليك وأُفكّر بك وأنا في الخطوط الأماميّة للجبهة".
نظرتُ إليه بتعجّب أكبر.
غداة يوم عودتي إلى أصفهان، لم أكن أملك قرشًا واحدًا للسفر. وخجلتُ أن أُخبر إبراهيم بالأمر، فقلتُ له: "هل تملك بعض ‘الفكة`"1.
- لأجل سيارة الأجرة؟
قال: "فكة؟ اصبري قليلًا".
وضع يده في جيوبه وبحث فيها كلّها. هو أيضًا لم يكن يملك المال.
نظر إليّ وخجل أن يقول لا.
قلتُ: "أملك قطعًا نقدية كبيرة، كنتُ أريد بعض الفكة فحسب، لكن لا بأس إن لم تكن تملكها، سأصرفها.
- لا، اصبري.
أعتقد أنّه لم يشأ، في بداية حياتنا المشتركة، أن يقول لا أملك النقود. نظر من حوله بقلق وبحث عن شخص ما. كان خجلًا، وقال: ‘أُريد التحدّث إلى أحد هؤلاء الإخوة في أمر عاجل. انتظري هنا ريثما أعود`".
تركني وذهب إلى صديقه. رأيتهما يضعان يدَيْهما بيديّ بعض. عاد بعد قليل وقال: "كان يجب أن أراه قبل ذهابه إلى الجبهة، فمن الممكن أن لا أراه ثانية".2
1- القطع النقدية الصغيرة.
2- كان إبراهيم قد كتب في دفتر ملاحظاته، اقترضت من فلان في اليوم الفلاني كذا تومان! كي يتذكر أن يعيدها إليه فيما بعد.
73
65
اللّقاء الأوّل
وضع يده في جيبه وأخرج النقود.
قلتُ له: "لديّ المال، كنتُ أحتاج الفكّة فحسب".
قال: "لا من الأفضل أن تكون معك".
كان في جيبه ألف تومان، لا أقول إنّني انتزعتها من يده، لكن في الحقيقة لم أُجامل وأرفضها خوفًا من أن يُغيّر رأيه. أخذ خمسمئة تومان وأعطاني الباقي، فانطلقت. بكيت طوال الطريق حتى وصلتُ إلى أصفهان لاعتقادي أنّني لن أراه بعدها.
لكنّه عاد بعد حوالي شهر من انتهاء العمليّات. كنّا قد افترقنا في 7 آذار وجاء في 7 نيسان إلى منزل والدتي للقائي.
مع الإخوة في الخنادق
طوال حياتنا المشتركة، مرّ علينا ثلاثة أعياد نوروز1. في الواقع، لم نقضِ أيّ ليلة من ليالي السنة الجديدة معًا. في العيد الثالث، قبل حلول آخر سنة من سنيّ عمره، قلتُ له: "لنمضِ هذا العيد معًا".
قال: "لو تعلمين كم شخصًا هنا لم يروا عائلاتهم منذ أشهر عدّة. الكثيرون مثلي ومثلك يودّون البقاء قرب بعضهم ولا يستطيعون. لم تتفوّهي بهذا الكلام من قبل!"
- فقط لساعات عدّة. إلى أن يحلّ العام الجديد فقط، ألا تستطيع البقاء؟
- ولا حتّى دقيقة.
1- رأس السنة الهجرية الشمسية.
74
66
اللّقاء الأوّل
- إذًا مثل كلّ مرّة!
- لا توسوسي لي يا "جيلا"، دعيني أذهب، من دون أن أشعر بعذاب الضمير، دعيني ومثل كلّ مرّة أقضي المناسبة إلى جانب الإخوة في الدشم والمتاريس، هذا أفضل للجميع وأكثر راحة.
- ليس لأجلي، حقيقةً ليس لأجلي.
- أعلم، لكن أرجوك ابقي كما عهدتُك، قويّة وصبورة و ....
قاطعتُه: "ومنتظرة!"
قال: "الانتظار أجمل، لأنّه حديث قلبي عندما أكون في المتراس وعند رأس السنة، حيث تتمثّلين وحدك أمام ناظري".
لم أذهب إلى المنطقة، لأنّ ولادة مهدي كانت قريبة جدًّا.
في الصباح، الموعد المقرّر لولادة مهدي، اتّصل إبراهيم بمنزل أخته، إذ لم يكن في منزلهم هاتف. كان واضحًا من طريقة كلامه أنّه مضطرب. أصرّت والدته أن أُخبره بقرب موعد الولادة.
قلتُ: "لا، لن أدعه يقطع كلّ هذه الطريق، وإذا لم يولد الطفل، فسيعود أدراجه والقلق ينهشه".
كانت والدته تُصرّ وأنا أقول: "لا، يجب أن لا يعلم بذلك"، وكأنّما إبراهيم أحسّ بما يدور، فكان يُردّد: "هل أطمئنّ أنّك بخير! أنّك بخير والطفل؟".
قلتُ: "كن مطمئنّ البال، كلّ شيء يسير على ما يرام".
وُلد مهدي عصر ذلك اليوم، في 22 من شهر محرّم الحرام.
استغرق إخبار إبراهيم بالأمر ثلاثة أيام. في اليوم الرابع عند الساعة
75
67
اللّقاء الأوّل
الثالثة فجرًا، عاد إبراهيم من المنطقة. وبدل أن يطمئنّ عن حال الطفل، جاء إليّ يسأل عن أحوالي ويسألني إن كنتُ بحاجة إلى شيءٍ ما: "هل أنت بخير يا جيلا؟ أتحتاجين إلى أيّ شيءٍ كي أذهب وأُحضره لك؟".
- الآن؟!
- أجل! إن كنت تحتاجين أيّ شيء فسأذهب وأُحضره في الحال.
- ألن تسأل عن الطفل؟
- ليس قبل أن أطمئنّ عليك.
كان يضع شالًا أسود اللون حول عنقه1.
بدت نظراته القلقة وعيناه اللّتان تفيضان بالحنان كالعادة، وشعره المبعثر على جبينه أكثر جمالًا. لم أره بهذا الجمال من قبل كما رأيته ذلك اليوم، وتهت في سحر جماله. جهّزت له أمّه مكانًا للنوم لكنّه قال: "لا حاجة لذلك، أرغب بعد طول غياب أن أبقى اللّيلة قرب زوجتي وطفلي".
جلس بالقرب منّي ومن مهدي وقد غالبه النعاس، فنام بعد نصف ساعة. ولم أكن لأرتوي من النظر إليه وإلى نومه الهادئ الهانئ.
في الصباح، أشعل إبراهيم مدفأة نفطية صغيرة في إحدى الغرف، وحمل مهدي وقال تعالي أنت أيضًا. دخلنا إلى الغرفة وجلسنا.
قال: "أريد أن أؤذّن في أذنَيْ مهدي".
قلتُ: "لقد فعل والدك ذلك وأعتقد أن لا حاجة لتكراره".
قال: "لدي الكثير لأقوله لطفلي، لابني. ربما لن تسنح فرصة ثانية
1- هو الشال نفسه الذي يضعه مهدي، هذه الأيام، بمناسبة محرّم الحرام.
76
68
اللّقاء الأوّل
لذلك. أُريد أن أُحدّثه بكلّ ما يجول في خاطري الآن".
أدنى رأسه من أذن الطفل، أذّن فيها، ثم حمله وبدأ يتحدّث إليه وكأنّه شخصٌ بالغٌ، حدّثه بداية عن اسمه وسبب اختياره له، وأنّه يتمنّى أن يكون في ركب إمام زمانه. تحدّث إلى مهدي عدّة دقائق، والغريب أنّ مهدي لم يتحرّك أو يتململ وكأنّه يُصغي، حتى عندما تساقطت دموع إبراهيم المنهمرة على وجهه بقي هادئًا.
بقيتُ أشتاق إلى تلك اللّحظات بعد استشهاد إبراهيم، كانت أجمل لحظات حياتي.
سأقلق عليكما
في ذلك اليوم، بقي إبراهيم معنا خمس عشرة ساعة فقط، اعتدت أن لا أراه، أو قلّما كنتُ أراه. كان كلّما جاء ليرانا إمّا في منزل والدته أو منزل والدتي أنا.
مرّة واحدة فقط استطاع البقاء خمسة أيام، ذهب خلالها إلى "شهرضا" لعمل إداريّ. لم تكن حياتنا عاديّة طبيعيّة، ولم يحدث أن تناولنا ثلاث وجبات طعام في اليوم الواحد معًا.
لم أستطع تحمّل العيش بعيدًا عنه. قلتُ له: "أُريد الذهاب حيث أنت".
قال: "لن أوافق، سأبقى قلقًا عليكما باستمرار".
أصبحت هذه الجملة: "سأقلق عليكما" محطّ كلامه.
لكنّني لم أتراجع وقلتُ له بحزم: "سأتنازل عن حقّي، لكنّني لن أتنازل عن حقّ ابني، اللّه وحده يعلم إلى متى ستكون بيننا، وحتى ذلك الوقت
77
69
اللّقاء الأوّل
أريد لظلّك أن يفيء علينا وأن تمسح بيد محبّتك على رأس ولدنا".
سكت وقال: "أُقسم بالله إنّني أريد هذا، لكن...".
قلتُ: "لا أُريد سماع لكن وإذا وأمّا بعد اليوم، ولن أتراجع عن قراري".
ذهب وعاد قبل أن يصبح عمر "مهدي" أربعين يومًا، واصطحبنا معه إلى "أنديمشك" في جنوب البلاد.
قال: "وجدتُ أحد المباني المناسبة وسوف آخذكما إلى هناك".
لكنّه أخذنا مباشرة إلى منزل عمّه، وهو رجل نجيب وعطوف، أبدًا لن أنسى محبّته ولطفه، ولطالما كنّا مدينين له. لكنّني أيضًا لم أنس أنّه وبعد طول انتظار رُزق بطفل، وأكره أن أصبح عالة عليه أو أثقل على أحدٍ في بداية حياتنا.
بعد مدّة، عندما عاد إبراهيم، لم أتحدّث إليه مهما حاول ملاطفتي وممازحتي، بل قطّبتُ حاجبيّ وشغلتُ نفسي بأعمال المنزل.
سألني: "ما الأمر؟"
كنتُ أعلم أنّني إذا تفوّهت بكلمة فسوف تسيل دموعي، لذا أطبقت فمي، ولم أنظر ناحيته حتّى. شعر بحالتي، وخرج من المنزل وعاد بعد ساعتَيْن مع شاحنة "بيك أب" فارغة، وقال: "سنذهب حيث تريدين".
كدتُ أطير من الفرح، وضعنا أغراضنا ومتاعنا القليل في السيارة التي بقي أكثر من نصفها فارغًا، وانطلقنا نحو "أنديمشك"، حيث الفيلات التابعة لمستشفى "الشهيد كلانتري"، والتي بُنيت للفرنسيين زمن الشاه. كان المنزل نظيفًا ومرتّبًا.
78
70
اللّقاء الأوّل
قال إبراهيم: "انظري يا جيلا، مفتاح هذا المنزل معي منذ أكثر من شهر، لكن كنت أُفضِّل أن يأتي إليه مَنْ هم بحاجة إليه أكثر منك ومن مهدي. فقد كنت تستطيعين البقاء في منزل عمّي مدّة أطول!".
- إلامَ ترمي؟
- دفعتني للقيام بما لا أرغب به.
- ماذا تعني؟
- قُضي الأمر. ربما هذا أفضل، الله وحده يعلم!
على حدّ تعبير أحد أصدقائه، كان إبراهيم يُريد تقاسم الجنّة مع الآخرين أيضًا، ويجدر القول، إنّه لم يكن يُطيق رؤية أحدٍ يدخل جهنّم. أذكر عندما كنتُ أتباحثُ وأتجادل مع بعض الأقارب والأشخاص ممّن يعارضون خطّنا ونهجنا، سواء قبل أو بعد الزواج، كان إبراهيم يقول لي: "علينا التحدّث إلى الآخرين بمنطق".
- لكنّهم يسخرون منّا دومًا!
- تقع علينا مسؤولية تجاه هؤلاء المنحرفين عن مسير الحقّ، ولا يحقّ لنا مجافاتهم والنزاع معهم، إذ من الممكن أن يكون لنا دور في التسبّب بانحرافهم.
- لكن أين أنت ليكون لك دورٌ؟ حتّى أنا لا أراك!
- ليس مُهمّاً أن أكون موجودًا، فربّما يكون سلوكي، أو إهمالي، وسوء تعاطيّ مع الأمور وتقصيري، قد أدّى إلى...
كنت أقاطع كلامه دومًا عندما يريد أن يُحمّل نفسه أوزار أفعال الآخرين، وأقول: "هم من عليهم تحمّل المسؤولية لأنّهم مقصّرون، وليس
79
71
اللّقاء الأوّل
أنت الذي لم تُقصّر في أيّ شيء ولا مع أيّ أحد".
هو أيضًا قاطعني قائلًا: "إلّا معكما".
لسنا وحدنا فحسب، هنالك الكثيرون ممّن يتوقّعون وجوده بينهم ومعهم، هذا ما أدركته متأخّرًا جدًّا.
يقع منزلنا في مكانٍ بعيد عن "أنديمشك"، على طرف صحرائها، ولم يسمح إبراهيم أن يمدّوا لنا أسلاك الهاتف، فكنتُ أُعاني من الوحدة.
معشوق التعبويّين
في أحد الأيام جاء إبراهيم عند المغيب، أصررتُ عليه بأن يبقى لكنّه رفض وقال إنّ لديه الكثير من الأعمال وعليه العودة إلى المنطقة.
جاؤوا من حراسة المجمع السكني ليُخبروه أنّهم اتصلوا به ويريدونه في الجبهة لأمر ضروري.
نهض، ارتدى ملابسه وذهب. نسي الدفتر الذي لطالما حمله تحت إبطه إلى أيّ مكان ذهب. كنتُ متفرّغة وفضوليّة أيضًا! حملته وفتحته، كان يضمّ عدّة رسائل من التعبويّين قد أرسلوها إليه من الفرقة والجبهة.
كتب أحدهم: "يا حاج، سوف أعترض سبيلك عند عبور الصّراط، فأنت تظلمني، منذ ثلاثة شهور وأنا في الدشمة أنتظر لأكحل عينيّ برؤية وجهك، في حين أنت ...".
عاد إبراهيم، قلتُ له: "ألم يكونوا يريدونك لأمر ضروري؟ حسنًا اذهب! اذهب لترى ما يريدون".
- لقد ذهبت ألم تري ذلك؟
- هيّا اذهب، ربما احتاجوك ثانية.
80
72
اللّقاء الأوّل
- كانوا من الإخوة في الفرقة وأخبرتهم بأنّني لن آتي اللّيلة.
- كلا! هيّا اذهب، كنتُ أمزح فأنا لست وحيدة الليلة. من الأفضل أن تذهب فالإخوة ينتظرونك.
ضحك وقال: "ما الذي تقولينه يا ‘جيلا`؟ ما الذي أصابك؟"
- قلتُ لك اذهب الآن.
- في النهاية، هل أذهب أم أبقى؟
وقعت عيناه على الدفتر، فهم الأمر وسألني: "هل قرأت الرسائل؟"
قلتُ: "آها".
قال ممتعضًا: "هذه أسراري وأسرار الإخوة، ولا أحبّ أن تطّلعي عليها".
طال سكوته ثم قال: "لا تظنّي أنّني أليق بما كتبوا، ما هو سوى عذاب إلهي، ولطف ومحبّة الإخوة، لا بدّ وأنّني اقترفت ذنبًا عظيمًا حتى أتعذّب بمحبّة ولطف كلّ فردٍ منهم".
بعدها بكى وقال: "وإلّا فمن أنا كي يُرسلوا إليّ هذه الرسائل؟!"
كان يعتقد أنّه مقصّر مع التعبويين، أو حتى مع خالقه. لكنّ هذا مغايرٌ تمامًا لما كان يقوله الآخرون، خاصّة عائلة "عباس فراميني" الّتي كانت تعيش معنا، وقد استشهد زوجها فيما بعد، لقد قصّت عليّ زوجته أمورًا أجهلها عن إبراهيم.
عندما أخبرته بما حدّثتني به، انزعج كثيرًا وقال: "لا تلتفتي إلى ما يقوله الآخرون عنّي بل احكمي عليّ بما أفعله وترينه منّي في حياتنا الخاصّة".
81
73
اللّقاء الأوّل
قلتُ: "لكن هذا لم أسمعه من شخص أو اثنين فقط، كلّ من التقيه يقول الكلام نفسه".
قال: "هذا من لطفهم وتسامحهم!"
كان الوقت عصرًا، حدّق مليًّا في عينيّ، لدرجة سالت معها دموع كِلينا، وبكينا بصمت حتى حلول الظلام.
قال: "أنت لم ترَي يا ‘جيلا` كيف يحفر فتى في الخامسة عشرة من العمر قبرًا، يتمدّد فيه، يتوسّل ألوان الدعاء ويتوب إلى اللّه بعيون باكية، وإذا ما كتب رسالة لقائده، أو انتظر قدومه، أو أنّه ما فتئ يلفظ اسمه، فذلك من كرمه ولطفه. أنا أقلّ بكثير من أن يُقال بحقّي هذا الكلام، صدّقيني يا جيلا؟"
بالطبع لم أُصدّقه، لأنّني لمست كلّ هذا في إبراهيم عن كثب، ولم أشأ أن أخسر أو أبتعد عن كلّ هذا. لكنّ الوحدة لم تدعني وشأني وكذا العقارب...
عقارب ولصّ
قضيتُ على أول عقرب في فراش مهدي، ولم يُغادرني الذعر والأرق ليال عدّة.
كوّمت جميع الأدثرة على السرير، جلست فوقها ورحت أراقب العقارب وهي تمشي بحرّية على الجدران وفي كلّ مكان. انتشرت العقارب في كلّ المكان، وقتلتُ حينها ما يقارب 25 عقربًا. لم ينتهِ الأمر هنا، فبعد حوالي سبعة أو ثمانية أيّام جاء أحدهم طارقًا الباب.
لم يكن إبراهيم، فأنا أعلم أنّه يأتي عادة عند الثانية أو الثالثة بعد
82
74
اللّقاء الأوّل
منتصف الليل. وضعت عباءتي على رأسي (الشادور) وسألت: "من الطارق؟"
لم يُجبني أحد!
كرّرت السؤال ثانية، فلم أسمع جواباً!
فجأة رأيت ظلّ رجل يعتمر قبّعة ويحمل بيده شيئًا يشبه الغليون. كان المنزل مجهّزًا بأبواب جرّارة من الألمونيوم والزجاج. لم يكن هذا ظلّ إبراهيم. مهما سألت من هناك؟ لم يُجب. تسارعت دقّات قلبي، وشعرتُ بدوار شديد، ثم سقطت مغشيّة على الأرض. بعد 10 أو 20 دقيقة استعدت وعيي، فوجدت أنّ الظلّ مازال في مكانه. نزعت المفتاح من قفل الباب، ثم شرعت بالصلاة والدعاء.
أخطأت كثيرًا أثناء الصلاة، والتفتُّ إلى أنّني لم أقرأ سورة الحمد. كاد قلبي ينخلع. وصل إبراهيم عند الساعة التاسعة ليلًا على غير عادته. سألني: "لم وجهك مصفرًّا؟ ماذا حدث يا جيلا؟ هل أنت منزعجة منّي؟"
قلتُ: "لص، جاء لص!"
حاولت جاهدة أن أبقى متماسكة، وأن لا أرتجف وأبكي، فما استطعت.
ضحك وقال: "لا شيء يُخيف، يا عزيزتي بالتأكيد هو الحارس".
انفعلتُ وقلتُ: "وهل يحمل الحارس الغليون؟"
- ربما كان شيئًا آخر اعتقدت أنت بأنّه غليون.
- لم يكن الحارس.
فأصرّ على أنّه هو.
قلتُ له: "ألم يكن لمبنى الحزب الجمهوري حارس حين فجّروه؟"
83
75
اللّقاء الأوّل
قال: "ليس هذا بمبنى حزب الجمهورية، ولا عائلتي من ‘آل بهشتي`".
ذهبتُ لأُحضر طعامًا، جاء ووقف بباب المطبخ. تابعت كلامي وقدّمت مختلف الأدلّة على أنّ المكان لم يعد آمنًا، التفتُّ فلم أجده. ارتعبت إلى درجة تقطّعت فيها أنفاسي وصرخت: "إبراهيم!".
ضحك وقال: "زوجتي والخوف؟!"
واستمرّ بالضحك.
أردتُ أن أرمي الصينية وسط الغرفة كي يتوقّف عن الضحك، لكن لم أستطع.
قلتُ له: "هلّا شربت الشاي الآن؟"
لم أستطع البقاء في المنزل بعد تلك الحادثة. ذهبتُ إلى منزل صديقتي الكائن في الجوار، كنتُ أقضي اللّيل في منزل عائلة الدكتور "توانا" وأعود إلى منزلنا صباحًا.
في أحد الأيام، وبينما كنتُ أرجع مع إحدى الأخوات في الحرس الثوري، إلى المنزل، التفتت إليّ وسألتني: "أليس هذا الأخ همّت الذي يخرج من منزلكم؟".
نظرت بدقّة فوجدت رجلًا يرتدي بدلة جينز ويخرج من منزلنا، ذهبت إليه وسألته: "ماذا تفعل هنا؟"
قال: "أعتذر يا سيّدة، لم أعلم أنّ أحدًا يسكن هنا، في الحقيقة كنّا في السابق نقوم ببعض الأعمال والتصليحات في هذه المباني، ولكن بعد أن غادر الجميع ونظرًا إلى الأعطال الموجودة في الأقفال فإنّنا نأتي
84
76
اللّقاء الأوّل
إلى هنا أحيانًا بغرض الاستحمام، أُقسم إنّني لم أعلم بوجود أحد هنا، سوف أصلح لكم هذه الأقفال كي لا يُزعجكم أحد مرّة أخرى".
قام بتصليح الأبواب وذهب، كما ذهبتْ صديقتي. وضّبتُ أغراض الطفل، أقفلتُ الأبواب وذهبتُ إلى منزل الدكتور "توانا". أصبحتُ أخاف من البقاء حتى عند الغروب، ما إن يميل لون السماء إلى الأحمر الأرجواني حتى أُغادر المنزل.
في أحد الأيام قالت زوجة الدكتور "توانا": "هل ترافقينني لتلقيح الأطفال؟"
رافقتها...
عند عودتنا، دخلت المنزل لأُنظّفه وأُرتّبه فوجدت أحد الأبواب مفتوحًا، وقد بُعثرت الأغراض في الغرفة، فلم أطق البقاء في المنزل على الإطلاق.
قال إبراهيم: "هذا الوضع غير صحيح!"
ذهب وجاء بسيّدة لتبقى معي، جرت الأمور على ما يرام في الأيام الأولى، لكنّها لم تعد تأتي، حتى لو جاءت كانت تأتي ليلة أو ليلتين وتُغادر وأبقى وحيدة مرّة أخرى.
ناهيك عن القصف والقذائف. كان منزلنا عرضةً لرصاص العدو. وكانت العقارب تخرج من القناة الموجودة خلف المنزل وتنتشر في كلّ مكان.
حدّثت نفسي وخالقي: "ما الذي أفعله هنا، في هذه الوحدة وتحت القصف وهجوم العقارب؟".
85
77
اللّقاء الأوّل
جاء فصل الربيع، سمعتُ أخبارًا حول افتتاح الجامعات مجدّدًا.
عادت الجامعات والكليّات - خاصة قسم اختصاصي أنا - للعمل.
تحجّجت بالعقارب قلتُ: "أريد الذهاب من هنا".
- لن أسمح لك هذه المرّة بالذهاب!
- لماذا؟
- يجب أن تبقي معي لتُرافقيني.
- إلى أين؟
- إلى لبنان، فلسطين، نريد الذهاب لتحرير القدس وعليك أنت ومهدي أن تكونا معي هناك، أبعدي فكرة الجامعة عن رأسك!
- لن أُطيل الغياب، لم يبقَ سوى عدد قليل من المواد، وأحصل على الشهادة.
كنتُ كلّما أصررت واجهني بالرفض.
قلتُ له مرغمة: "سمعتُ أنّ العقارب تصبح أكثر سمنة في فصل الربيع!"
حدّق بي وبمهدي، صمت طويلًا ثم قال: "تريدين أن ترحلي وتتركيني وحيدًا؟"
ضحكتُ وقلتُ: "لا، ليس الأمر كما تظنّ، هي مواد عدّة أُنهيها وأُشارك في الامتحانات النهائية، ثم تأتي وتصحبني إلى الكتيبة، موافق؟"
وعقارب في الجامعة
هربت من عقارب الطبيعة لأعلق بين عقارب من نوع آخر. وجدتُ الأشخاص الذين رافقتهم قبل الثورة الثقافية، والذين كانوا يدّعون التديّن
86
78
اللّقاء الأوّل
والروح الثورية، قد أصبحوا أكثر سمنة، النساء خلعن الشادور وارتدَيْن الملابس العادية، كما ارتدى الشباب البزّات (المتأنّقة)، وجلسوا على مقاعد الدراسة متفاخرين يمنّون على غيرهم بإنجازاتهم غير المرئية! كان إبراهيم يتراءى لي بعينيه الحمراوين ورأسه ووجهه المعفّر بالتراب. كنتُ أقيس وزنه كلّما عاد من العمليّات، فأجد أنّ وزنه قد نقص عدّة كيلوغرامات، خاصة بعد عمليّات خرّمشهر حيث نقص وزنه حوالي 15 كيلو غرامًا. وقد حمله أصدقاؤه من تحت إبطَيْه وأحضراه في منتصف الليل إلى أصفهان.
كان قلبي يحترق لِما يجري، لم أستطع تحمّل الكثير من الأمور، لذا كنتُ أترك الصفّ قبل انتهاء الحصّة لأعود إلى المنزل، حتى أنّ أحد أساتذتي اعترض على عدم حضوري لصفّه وأهانني عندما ذهبتُ لأحصل منه على نماذج لأسئلة الامتحان وقال: "خسئتِ، كيف لطالبة لم تُشارك في الحضور أن تأتي لتحصل على نماذج الأسئلة؟".
لم أعد أُطيق، رجعتُ إلى المنزل، والعجيب أن يتّصل إبراهيم في تلك اللحظات، لقد خارت قواي وأصبحتُ حسّاسة لأدنى كلمة وسريعة الانفعال.
رحتُ أبكي وأقول له: "عليك المجيء إلى المنزل حالًا".
سألني: "لكن ما الذي يحدث؟"
لم أستطع الكلام، فقط بكيتُ وبكيتُ، من دون كلام، من دون عتاب أو شرح.
عاد بسرعة والقلق ينهشه نهشًا وقال: "لمَ أصبحتِ حسّاسة إلى هذا
87
79
اللّقاء الأوّل
الحدّ، تسيل دموعك بسرعة؟!"
قالت له أميّ: "تريد أن تُكمل الجامعة".
ضحك إبراهيم وقال: "لا أعترض على دراستها، لكنّها هي من لا تستطيع تحمّل البعاد عنّي!"
قالت أمّي: "لا تقل هذا بالله عليك يا سيّد ‘همّت`، بل أصررتُ عليها لتُكمل دراستها وتحصل على الإجازة الجامعية".
أجابها: "أنا موافق. لكن أترك القرار لها، ولتفعل ما تشاء".
أخبرتني أمّي في إحدى المرّات: "في المرّة السابقة عندما أصررتُ عليه ليدعكِ تُكملين دراستكِ قال لي: ‘وهل تُريدينني أن أُصبح فريسة للطرقات في ذهابي وإيّابي؟` ‘سألَته عمّا جرى؟` فقال إنّه في المرّتين التي جاء فيهما لرؤيتك، وقع له حادث على الطريق وانحرفت السيارة، ولولا عناية الله لأصبح في عداد الموتى، وطلب منّي أن لا أُخبرك بالأمر حتى تُنهي دراستك، ثم يأتي ويصحبك معه إلى المنطقة".
عرفت قدره
هذه المرّة عندما أذهب معه، سأعرف قدره أكثر فأكثر. أنهيتُ امتحانات آخر الفصل في 9 تموز من العام 1983م. عندما خرجتُ من الجامعة ألفيتُ إبراهيم ينتظرني قرب سيارة "تويوتا لاند كروزر" والبسمة تعلو محيّاه. لن تعرف قدر الأخيار الطيّبين إلا عندما تبتعد عنهم وتصادف الكثير من الأمور والأشخاص الذين يُخبرونك عنهم حتى تعرفهم عن كثب.
واليوم، بتّ أعرف قدره أكثر من أيّ وقت مضى.
ركبنا السيارة وانطلقنا نحو "إسلام آباد الغرب". هناك، لم أدعه يتحدّث
88
80
اللّقاء الأوّل
عن الشهادة، كنتُ أعتقد بما أنّني عرفته حقّ المعرفة وعرفتُ من هو وإلى أيّ منزلة قد وصل، حينها لا يحقّ له أن يتركني وحدي ويرحل. عرف أنّه لا يحقّ له أن يُحدّثني عن الشهادة والرحيل، فلم يعد يجرؤ على ذلك.
كنتُ متيقّنة أنّ كلّ ذلك الدعاء، الصلاة، التوسّل، والقسم بكلّ المقدّسات، لن يسمحوا بأن أخسر إبراهيم. لكنّني لم أُدرك أو لم أشأ أن أُدرك أنّ دعاء إبراهيم سيُستجاب قبل دعائي ويتفوَّق عليَّ. ربما رأيتم تناقضًا في كلامي، لماذا قلتُ في البداية إنّني أعلم أنّه سيرحل، والآن أقول أعلم أنّه لن يرحل؟ لأنّني مع كلّ ما عانيتُه من مصاعب، حرمان، خوف وحتى يأس، كنتُ أُعدّ نفسي أسعد امرأة في العالم. هذه المرأة إلى جانب هذا الرجل، وعندما ينطق بهذه الكلمات عليها أن تقول له: "لن تستشهد!".
عليها أن تقول له لأنّك أبي وأمّي وكلّ ما أملك في هذه الدنيا، عليها أن تقول: "كيف يرضى الله أن يأخذك منّي؟"
لستُ وحدي من عانى المشاقّ. تصوّروا أن يولد ابني الثاني مصطفى تحت القصف في "إسلام آباد" كردستان. إبراهيم لم يكن معنا حينها، والرضيع بحاجة للرعاية والاهتمام. فمهدي الذي بلغ عامه الأول، كان كثير الحركة، ولم يكن ليهدأ تحت القصف المستمرّ. كان عليّ الفرار والذهاب إلى مكانٍ آمنٍ مناسب لامرأة وحيدة مع طفلين، ناهيك عن أنّني لم أستطع تأمين الحليب لهما، فضرب الجوع مهدي، حيث كنتُ لأيام عدّة أُطعمه خلاصة الحمص واللوبياء المسلوقة. لم يكن أزواجنا معنا ليهيّئوا لنا المواد الغذائية. كنتُ أنا وعدّة نساء فقط في ثكنة "الله
89
81
اللّقاء الأوّل
أكبر" في إسلام آباد وحدنا بلا كلأ.
انتظرنا سيارة الحليب التي تأخّرت طويلًا. علمنا فيما بعد أنّ السيارة تعرّضت لحادث، ونفد الحليب في المدينة كلّها، كان الأطفال الرضّع يتضوّرون جوعًا ويضجّون بالبكاء، تصوّروا، كيف يُمكن تحمّل كلّ هذه المصائب!
لن أنسى مطلقًا أنّه لا ينفكّ يُفكّر بي أينما حلّ، حتى أنّه في إحدى المرّات اتصل بي من الخطوط الأمامية (أعتقد خلال عمليّات الفتح المبين)، اتصل بي في أصفهان يسأل عن أحوالي، كان صوته متقطّعًا. فيما بعد، أخبرني أنّه اتصل من الخطّ الأمامي.
قال: "اتصلت كي لا تقلقي عليّ".
كان يتّصل يومًا بعد يوم، ويقول بسرعة خاطفة: "أنا بخير، لا تقلقي في أمان الله".
وإذا لم تسنح له الفرصة للاتصال، كان يوكل ذلك لأصدقائه، فيطلب منهم الاتصال بي ليُطمئنوني عن أحواله: "أخبِروا زوجتي أنّني بخير، وسأعود إلى المنزل بعد يومَيْن أو ثلاثة".
كانوا يوصلون رسالته، ولا يلبث أن يتّصل بنفسه، ليس بعد أيامٍ عدّة، بل بعد عدّة ساعات، ويقول: "أنا الآن في ‘باختران`، وسوف آتي"
سألتُه: "إلى أين؟"
- إلى المنزل!
- لكن ألم تقل لأصدقائك...
- دعك الآن من كلمة أمّا ولكن، أنا قادم، إلى اللّقاء.
90
82
اللّقاء الأوّل
وما كان الأمر ليتوقّف عند هذا الحدّ، بل كان يتّصل من أيّ مكان يصل إليه:
- أنا الآن في طهران.
- أنا الآن في قم.
- أنا الآن في أصفهان.
أخبرني أحد أصدقائه أنّ إطار سيارتهم قد ثُقب، واستغرق نصف ساعة تقريبًا لتبديله. بدت ملامح القلق على وجه الحاج، وكأنه خجل من التفوّ بما يجول في خاطره، لكنّه قال ولأوّل مرّة: "أسرعوا!"، فأسرعنا. وسمعناه لأوّل مرّة يقول أسرع أكثر، فقلتُ له: "لكنّك لطالما..."
قال: "لا أريدهم أن يقلقوا عليّ، هذا كلّ ما في الأمر".
لم تُفارق البسمة وجهه
وأنا - هل تُصدّقون؟! - لم يحدث أن تركته يقرع الجرس، كنتُ أفتح الباب حتى قبل أن يلمس الجرس لأرى ابتسامته التي لم تُفارق وجهه يومًا، والتي لم يدعني أعرف ماذا يُخفي وراءها أبدًا. لم يدعني يومًا أعرف إذا ما انتصروا في المعارك أم هُزموا، فما إنْ يصل إلى المنزل حتى يستلم مهمّة الاعتناء بالطفلَيْن، فيقوم بنفسه بتغيير ملابسهما وتحضير الحليب وإطعامهما، ولم يسمح لي بالقيام بأيّ عمل.
قلتُ له في إحدى المرّات: "أنت تتحمّل مشاقّ كثيرة هناك، فكيف أُجيز لنفسي أن أتركك تعمل هنا أيضًا، وكيف لي أن أسمح لك بالعمل هنا أيضًا؟".
91
83
اللّقاء الأوّل
أجابني وهو يحمل الطفل والعرق يتصبّب من جبينه: "عليّ أن أفيك وهذَيْن الطفلَيْن البريئَيْن شيئًا من حقّكم، فأنا مدينٌ لك بالكثير".
- وكأنّني لست زوجتك وربّة منزلك، أنا أقوم بواجبي ليس إلّا.
- سأرحل قبل نهاية الحرب يا "جيلا"، لكن ثقي أنّي لو بقيتُ حيًّا، فسوف ترين كيف سأعوّضك كلّ تعب هذه الأيّام والليالي.
كان ينهرني في بعض الأحيان إذا ما نهضتُ للقيام بعمل ما.
ويقول: "أنت اجلسي فقط، اجلسي وسأقوم بالأعمال بنفسي".
كان يغسل الملابس، ويضعها على الجدران والأبواب لتجفّ، ثمّ يجمعها ويوضّبها في أماكنها. كان يُحضّر المائدة بنفسه، ثم يجمعها ويقوم بحوالي تسعين في المئة من أعمال المنزل ويهتمّ كثيرًا بتغذيتنا.
في أحد الأيّام، نفد اللحم وكنتُ في آخر أيام الحمل، كما كان مهدي بحاجة للتغذية الجيّدة، لكنّني خجلتُ أن أطلب من إبراهيم شراء ما أحتاجه، ولم أكن أطلب منه سوى شراء الحليب والأدوية لمهدي، وكان هو كلّما عاد إلى المنزل يتفحّص الثلّاجة ليرى إنْ كان ينقصنا شيء أم لا. هذه المرّة أيضًا فعل الأمر ذاته فوجد اللّحم في الثلّاجة، لكنّه لم يكن لحمًا، بل باذنجانًا مقليًا مثلّجًا، وعندما عاد في المرة التالية وجد اللحم ذاته ما زال في الثلّاجة، فاعتقد أنّني أقتصد فلا أطهوه.
غضب وقال: "إذا لم تُفكّري بنفسك وصحّتك، ففكّري على الأقل بالأطفال!".
ثمّ أخرج الباذنجان، الذي اعتقد أنّه لحم، رماه في سطل النفايات وقال: "لقد تلف هذا بالتأكيد، سأذهب وأُحضر اللّحم الطازج".
92
84
اللّقاء الأوّل
عندما عاد، كان الثلج قد ذاب، فأدرك حينها أنّه لم يكن سوى باذنجان، أنّبني يومها بشدّة.
كان دائماً يقول: "لن يُسامحني اللّه".
لكن في ذلك اليوم قال: "لن يسامحك ولن يُسامحني".
"ما ذنب هذَيْن الطفلَيْن، حتى يُعانيا من سوء التغذية بسببي وسببك، يا من تقتصدين مراعاةً لحالتي؟!"
لم يكن يملك المال، ولم يكن يحصل على راتبه من الحرس، بل فقط من دائرة التربية والتعليم، فهو أساسًا لم يكن عنصرًا في الحرس، بل كان يتولّى مهمّة هناك. وبقي حتى استشهاده موظّفًا في دائرة التربية والتعليم، لكنّه أيضًا لم يكن يجد الفرصة ليذهب ويحصل على راتبه من المصرف، وربما كانت تطول المدّة عدّة أشهر، لذا فمن الطبيعي أن لا يملك المال الكافي، وخاصة أنّه يرفض استلام أيّ راتب من الحرس الثوري، إذ لم يشأ أخذ أيّ شيء من بيت المال.
كان يقول دائمًا، هناك من هم أسوأ حالًا وأشدّ حاجة منّي ومنك، وإن وُجدت الإمكانات فهم أكثر استحقاقًا منّا".
كان يُردّد على مسامعي باستمرار: "الإخوة الآخرون لا يجدون فرصة لتفقّد عائلاتهم بقدر ما أفعل أنا".
وأيضًا: "لدينا إخوة لم يروا عائلاتهم منذ أكثر من 11 شهرًا".
كان إبراهيم يحرص على شراء ملابس زهيدة الثمن.
فأسأله: "لماذا؟"
أعلم! أعلم أنّه قائد فرقة، وأنّ عيون قادة الألوية، الكتائب والسرايا، تُراقبه وتُراقب عائلته، ماذا يرتدون وماذا يأكلون وماذا يقولون!
93
85
اللّقاء الأوّل
كان يقول: "على زوجتي أن تكون قدوة. احذري أن ترتدي ثوبًا يكون أفضل من أزهد وأسوأ ثوب في الحيّ".
امتلك العديد من قاطني المنازل هنا السجّاد والتلفاز ووسائل الرفاهية، لكن حُرمنا منها نحن. لم نكن نملك سوى بساطٍ نجلس عليه، وما زلتُ أحتفظ به وأستخدمه حاليًا في المطبخ كي لا أنسى ما مرّ علينا أنا وابنيّ في تلك المرحلة.
كان يُشدّد عليّ دائمًا: "لا أُحبّ أن تُجالسي من لم يذوقوا طعم المعاناة".
ويقول: "إذا كُنتِ تريدين أن أكون راضيًا عنك فحاولي مجالسة الفقراء".
كما أنّه طلب منّي أن أذهب، ومن دون أن يشعر أحد، لأُساعد في حلّ الخلافات بين رفاقه وزوجاتهم أو أُخبره عنها فيحاول هو حلّها بنفسه.
واجهتني مشكلة بين زوج وزوجته. لم أستطع حلّها، فأخبرتُ إبراهيم بالأمر.
خنقته العبرة وقال: "اذهبي وقولي لها أن تصبر لشهرين أو ثلاثة، فقط لشهرين أو ثلاثة بعدها".
لم يكن بعدها إلا أن استشهد في عمليّات خيبر.
آهٍ منك يا خيبر!
كنّا حينها في "إسلام آباد"، وكنتُ كلّما قضيتُ معه وقتًا أكبر، أعرف قدره أكثر. لن أنسى أبدًا تلك الليلة التي جاءنا فيها ضيوف. كنتُ منهمكة بإعداد الطعام عندما اجتاحني اضطراب عجيب.
94
86
اللّقاء الأوّل
طلبتُ من ضيفتنا أن تستلم الطهو عنّي، وانشغلتُ بالصلاة والدعاء لسلامة إبراهيم، كنتُ أدعو الله باكية أن يُعيده إليّ سالماً فأُكحّل عينيّ برؤيته. عندما عاد إبراهيم أخبرتُه بما شعرتُ وما كان منّي. فتغيّر لونه وبُهت، صمت وهزّ برأسه.
سألتُه: "ماذا حدث؟"
قال: "في تلك اللحظة بالذّات، كنّا نريد عبور جادّة كان العدوّ قد زرعها بالألغام. فمرّ أحد فصائلهم من هناك، لو تأخّروا وسبقناهم في العبور بضع دقائق فحسب، أتعلمين ماذا كان سيحدث يا جيلا؟"
ضحكتُ ولم أقل شيئًا.
ضحك هو أيضًا وقال: "أنت تحولين بيني وبين الشهادة، فكّي أسري يا جيلا!"
لم أستطع، لم أستطع أن أخسر إنسانًا أو أدعو له بالشهادة، وهو الّذي عندما أصابتني الحمّى أنا وطفلي، جلس طوال الليل يضع الخرق المبلّلة بالماء على جبهتَيْنا لتخفيض الحرارة، ويواسينا باكيًا: "لتفتك بي كلّ الآلام والأوجاع دونكما".
ثم يقول: "الحمد لله أنّني لن أعيش أحزان فراقكم".
كنتُ أستاء من كلامه وأحسبه أنانية منه، لكنّني اكتشفتُ فيما بعد أنّ كلامه كان من "باب التذاكي" وليشري آلامنا بروحه ويرحل.
كان يُراعي أحوالي ولا يدعني أوضّب حقيبته. بالنهاية سنحت لي الفرصة مرّةً ووضّبتها. كانت تلك المرّة الأولى والأخيرة. وضعتُ فيها كتاب الدعاء، المكسّرات (عندما استلمت الحقيبة بعد استشهاده لم
95
87
اللّقاء الأوّل
يكن الكيس البلاستيكي الذي يحتوي على المكسّرات قد فُتح بعد)، وزوجاً من الجوارب الّتي اشتريتها له، والذي أعجبه كثيرًا.
قلتُ له: "هل أشتري لك زوجين أو ثلاثة أيضًا؟"
قال: "ليس قبل أن يهترئ هذا (لقد دفن فيه)".
وضعتُ جميع أغراضه في الحقيبة، أقفلتُ السّحاب وناولتُه إيّاها، طأطأ رأسه وقال: "عديني أن لا تنزعجي يا ‘جيلا`".
- ولِمَ أنزعج؟!
- من الممكن أن لا تريني بهذه السرعة.
- وإلى متى؟
- إلى ما بعد العمليّات.
ما إنْ ذهب إبراهيم حتى بدؤوا ترميم الأبنية المدمّرة هنا، ومن بينها منزلنا الذي لا يتجاوز الغرفتَيْن، المرحاض والحمّام، ولا يوازي حجم قاعة من منازل هذه الأيّام. جمعت الأثاث في غرفة واحدة ريثما ينتهون من أعمال الترميم. وانتقلتُ للعيش في منزل السيّد "عباديان" الّذي استشهد فيما بعد أيضًا.
رأيت فراقنا
عاد إبراهيم ولم يتأخّر كثيرًا.
في الطريق أخبرته عن سبب بقائي في منزل السيّد عباديان، وسألته لمَ يُرمّمون المنازل ولمَ أحضروا البنّاء وكلّ شيء قد انقلب رأسًا على عقب.
بدا كأنّه لم يسمعني، فقد كان مستغرقًا بالتفكير. وضع المفتاح في القفل، وما إنْ فتح الباب حتى تفاجأ بالوضع وسأل: "ما الذي يحدث هنا؟".
96
88
اللّقاء الأوّل
قلتُ له: "وكأنّني كنتُ أقصّ عليك حكاية "ليلى والمجنون" في الطريق!"
كنّا في فصل الشتاء، في 18 شباط من العام 1984م، لم يكن المنزل مجهّزًا بوسائل مناسبة للعيش فيه. جاءت زوجة السيّد "عباس كريمي"1.
وأصرّت علينا للذهاب ليلًا إلى منزلهم، لكنّ إبراهيم رفض ذلك وقال: "أرغب بالبقاء في منزلنا اللّيلة".
لم ولن أنسى ذلك اليوم أبدًا. ما إنْ أضاء إبراهيم المصباح الكهربائي ورأيت وجهه حتى تملّكني الذهول، كانت التجاعيد حول عينيه كثيرة، وكذا على جبينه، خنقتني العبرة، بكيتُ وقلتُ له: "ما الّذي أصابك خلال الأيام التي غبتَ فيها عن المنزل؟"
قال: "لا تقولي شيئًا ولا تسألي عن شيء".
قلتُ: "أكاد أموت! ما هذه التجاعيد حول عينيك وجبينك؟"
من كان يراه لا يُصدّق أنّ عمره 28 سنة، بل يخاله أصغر من ذلك وكأنه في 22. لكن تلك الليلة، بدا وكأنّه أصبح كهلًا.
أدرك قلقي وما أنا فيه فقال: "لو تعلمين كيف جئتُ اللّيلة؟"
ابتسم وهمس: "في الخفاء!"
ثم ضحك وقال: "لو يعلم فلان أنّني هربت فسوف..."
ثمّ مرّر بيده على عنقه كمن يحمل سكّينًا: "فسوف يقطع رأسي".
كان يقول دومًا: "الشيء الوحيد الذي يقف حائلًا دون استشهادي،
1- عباس كريمي: بطل كتاب "هاجر تنتظر".
97
89
اللّقاء الأوّل
هو تعلّقي بكم. بالتأكيد ما إن تُحلّ أموري معكم فلن أبقى"، أو كان يقول: "من الممكن أن يصل الكثيرون لمرحلة الرحيل والتحليق، لكن لن يرحلوا ما لم يريدوا ذلك بشدّة ويسعوا إليه".
في تلك الليلة، كان إبراهيم مختلفًا عمّا عهدته فيه في الأيام واللّيالي واللّحظات الخوالي. لم أعد أذكر تمامًا، ربما في تلك الليلة أو في الليالي القليلة الماضية، كان الطفلان مضطربَيْن لا يهدآن، وقد تمكّنتُ بعد جهدٍ جهيد من جعلهما ينامان. قال إبراهيم: "تعالي واجلسي، فأنا أُريد التحدّث إليك"!
جلستُ.
- أتدرين ماذا رأيتُ الآن؟
- لا؟
- رأيتُ فراقنا.
- ضحكتُ وقلتُ له: "ها أنت تتحدّث كالأطفال المدلّلين ثانية".
- لا بل أتكلّم بجدّية، اقرئي التاريخ، لم يشأ الله أن يجتمع العاشقان الحقيقيّان معًا!
لم يُصغِ قلبي لكلامه، مع أنّني أؤمن به، لم أُبالِ وقلتُ: "وكأنّنا ليلى والمجنون؟ أو فيس ورامين؟1".
احتدّ كلامه وقال: "كلّما أردتُ التحدّث إليك بجدّية، قاطعتني وشرعتِ بالمزاح، يا إلهي! فأنا الليلة أُريد التحدّث إليك بجدّية".
1- ويس = vaice فيس ورامين عاشقان ذكرا في الشاهنامة.
98
90
اللّقاء الأوّل
- حسنًا قل ما عندك!
- أنا أخجل منك حقًّا يا "جيلا"، فقد قضيتِ معظم حياتنا المشتركة إمّا في منزل والدك أو في منزل والدي. ولا أُريد أن تبقي في ترحال دائم بعد رحيلي، لذا طلبتُ من أخي أن يُجهّز لكم البيت في مدينة "شهرضا"، وأن يكسو أرضه بالموكيت، ويُطلي جدرانه، ويُنظّفه كي تعيشي فيه أنت والطفلان براحة".
- ألم تكن تطلب منّي ترك الجامعة كي نذهب إلى لبنان؟ فما الّذي تغيّر الآن؟ ولِم تقول لي هذا الكلام؟!
انتبه لنفسه وهو يتحدّث عن الفراق والرحيل فقال: "قلتُ هذا من أجل المستقبل، وإلّا فإنّني باقٍ لمدّة طويلة!"
ضحك، في الحقيقة أجبر نفسه على الضحك، ثم تذرّع بالتعب وخلد للنوم.
في الصباح، كان من المقرّر أن يأتي السائق ليأخذه إلى الجبهة، لكنّه تأخّر ووصل بعد ساعتَيْن من الوقت المقرّر، وقال: "لقد تعطّلت السيارة ويجب أخذها إلى المرآب لإصلاحها".
غضب إبراهيم وقال بنبرة حادّة: "يا أخي، ألا تدري أنّ الإخوة المساكين ينتظرونني هناك؟ ألا تدري أنّه يجب أن لا أدعهم ينتظرونني طويلًا؟ يا إلهي ما العمل الآن؟"
لم يستطع في الأيام الأخيرة السيطرة على نفسه، كان عصبيّ المزاج! بينما كدتُ أنا أن أطير من الفرح بتعطّل السيارة ممّا يعني الاستئثار بإبراهيم لساعتَيْن إضافيّتَيْن. عدنا إلى الغرفة، واتّكأنا على الفرش
99
91
اللّقاء الأوّل
والأدثرة التي جمعتها في زاوية الغرفة. أخذ مهدي وعلى غير عادته، يدور حول والده، بينما كان في السابق ولندرة ما يراه يهرب منه ويبكي يريد البقاء معي، حتى لم يكن يسمح له أن يضمّه ويُلاعبه.
في إحدى المرّات ولشدّة ما بكى، اعتقد إبراهيم أن عقربًا أو حشرة لدغته، فنزع ملابسه بحثًا عنها، لكن كلّ ما في الأمر أنّه كان يريد العودة إلى حضني.
فقال إبراهيم حينها: "لا تغترّي كثيرًا، اللّعنة على ‘صدّام` الّذي تسبّب بابتعادنا عن أولادنا، فلم يعودوا يعرفوننا".
لكن في ذلك الصباح، حمل مهدي إبريق الشاي الصغير وراح يتودّد لأبيه ويقول "بابا بابا"، ويضحك له ضحكات تُذيب القلب. لكنّ إبراهيم لم يره، ولم يشعر بوجوده! بل كان منطويًا على نفسه. كان مهدي حينها في عامه الأوّل تقريبًا، بينما بلغ مصطفى الشهر ونصف الشهر.
حاولتُ السيطرة على أعصابي كثيرًا. لكنّي فشلتُ، قلتُ له بنبرة غاضبة: "يا لك من والدٍ عديم العاطفة يا إبراهيم. من اللّيلة الماضية لم تعرني اهتمامًا ولم أعترض، لكن ما بالك لا تهتم لأطفالك؟!"
لم يُجبني، وأشاح بوجهه عنّي.
غضبتُ أكثر، فنهضتُ وجلستُ قبالته، أردتُ أن أقول شيئًا لكنّني رأيتُ الدموع قد بلّلتْ وجهه.
قلتُ: "دعك منّي، لكن ما ذنب هذَيْن الطفلَيْن حتّى..."
بدا جليًّا أنّه لم يعد يُطيق الحياة، وكذا تعلّقه بنا، فلم يتصرّف كما
100
92
اللّقاء الأوّل
في السابق، حيث كان يهتم بنا ويتودّد إلينا طوال مدّة بقائه في المنزل، وكان يتحدّث إلينا ويضحك. لكنّه تلك اللّيلة جاء لينسلخ عنّا فيرتاح باله من أنّه على استعداد تامّ للرّحيل!
رقم 14 وثلاث نقاط
بدأت أصداء العمليّات وأبواق المعارك في جزر مجنون تصدح عبر المذياع، فقلتُ في نفسي: ربما لم يكن مزاح "ليلى والمجنون" من دون سبب، فيذهب إبراهيم إلى جزيرة مجنون وأبقى هنا وحدي؟
تذكّرت اللّائحة الّتي أحضرها إبراهيم معه تلك المرّة، قال لي حينها إنّ هؤلاء جميعهم قد استشهدوا إلّا شخصًا واحدًا.
قال: "كانت وجوه هؤلاء توحي أنّهم على استعداد للرحيل في العمليّات القادمة" كان يقصد عمليّات خيبر في جزر مجنون.
كان عددهم 13 شخصًا. كتب إبراهيم رقم 14 آخر اللّائحة وترك أمامه ثلاث نقاط.
سألته: "من هو رقم 14؟"
قال مبتسمًا: "لا أدري؟"
لم أشأ حينها أن أُخمّن من هو الرقم 14، وماذا تعني النقاط الثلاث أو هذه الابتسامة. بعد ذلك أيقنتُ أنّه جاء لينسلخ عنّا، ذلك أنّه لم يعقد رباط حذائه العسكري القديم والمهترئ في السيارة كعادته، بل فعل ذلك أمام الباب وبهدوء تامّ، ثمّ نهض وحمل مهدي بين ذراعَيْه ومشينا معًا نحو منزل السيّدة "عباديان" ليوصيها بالاهتمام بنا وباستضافتنا عندها.
101
93
اللّقاء الأوّل
كان يضحك في الطريق ويقول لمهدي: "بُني، أنت تسمن ويثقل وزنك يومًا بعد يوم، ألا تُفكّر كيف ستتمكّن أمّك من تربيتك؟!"
كان يقول: "أمّك" ولم يقل نحن أو أنا!
ثم تابع: "لا تسمن كثيرًا فتُثقل على والدتك، مفهوم؟!".
عندما قرع الباب، فتحته السيّدة "عباديان"، شكرها ودعا الله لها كثيرًا على ما تُقدّمه من عون ورعاية لنا، خاصّة مصطفى الّذي وُلد في منزلها، وعلى كلّ الأرق والمصاعب التي تتحمّلها للعناية بنا في غيابه. كان يريد أن يُسوّي حساباته معها من خلال تقديم الشكر الجزيل والاعتذار إليها.
ثم قال لي: "سامحيني يا جيلا"، بعدها ضحك ورحل.
لم أتبعه، بل وقفتُ مكاني أُراقبه، كيف كان يسير منتصب القامة مرفوع الرأس، وقد بدا أطول قدًا من السابق. راقبتُ رحيله وكيف أنّي أخسره!
ما أبهى قامته بالزيّ الأخضر. اشتقتُ إليه من اللّحظة ذاتها، كنتُ أُريد أن أركض نحوه، لكن لم أقدر ولم أتزحزح من مكاني، بل لم أشأ ذلك، وقلتُ لنفسي: "سيعود ثانية كوني واثقة... لن أودّعه كي يعود، يعود سريعًا".
انتظرتُ كثيرًا كي أسمع صوت محرّك السيارة، لكن عبثًا! وطال الأمر أكثر من 20 دقيقة، فقلتُ للسيّدة "عباديان" سأذهب وأرى ما الأمر؟
ما إنْ نهضتُ حتى سمعتُ صوتها. فتحت الباب، فلسعت وجهي الرياح الباردة.
102
94
اللّقاء الأوّل
انطلقتْ السيارة، فاغرورقتْ عيناي بالدّموع. كنتُ أواسي نفسي وأقول: "سيعود، مثل كلّ مرّة سيعود، سأُصلّي وأدعو وأتوسّل كثيرًا، لدرجة أنّه لن يجرؤَ معها على أن يرحل ويتركنا".
كانت العمليّات الوحيدة التي لم يُصرّ فيها إبراهيم على عودتي إلى أصفهان، وعلى غير عادته، هي عمليّات "خيبر".
اشتدّ القصف وطال المنازل المحيطة بنا هذه المرّة. كان الجميع يتّصلون للاطمئنان إلى عائلاتهم إلا إبراهيم. انزعجتُ وشعرتُ بالحرج خاصّة أمام باقي السيّدات اللّواتي يتّصل بهنّ أزواجهنّ باستمرار، لكنّ إبراهيم لم يتكبّد عناء الاتصال ولو لمرّة واحدة.
عندما اتصل في إحدى المرّات قلتُ له معاتبة: "على الأقلّ اتصل ولو لمرّة واحدة واسأل إذا كنّا ما نزال على قيد الحياة أم لا، ألا يهمّك أن تعرف مصيرنا تحت هذا القصف؟!".
قال: "لن يُصيبكم أيّ مكروه، لأنّه من المقرّر أن أسبقكم في الرحيل".
أُشهد الله أنّه قال هذه الجملة.
قال: "ألم أُخبرك عدّة مرّات أنّني سألتُ الله أن لا يريني بكم مكروهًا؟!"
قلتُ: "وماذا عنّي؟ ماذا عنّا نحن؟"
اشتدّ القصف لدرجة جعلتْ أبي يأتي بسيارته إلى "إسلام آباد". اتصلتُ بإبراهيم وقلتُ له إنّ والدي جاء ليصحبنا معه فهل تأذن بذلك؟
- الأمر بيدك، تصرّفي كما تُحبّين.
103
95
اللّقاء الأوّل
- ألن تأتي إلى المنزل؟
- لا.
- لو تعلم كم أصبح منزلنا جميلًا، نظيفًا، تعال وألقِ نظرة عليه ثمّ عُد للجبهة.
- لا أستطيع.
- بالله عليك تعال لمرّة واحدة فقط فأراك!
- لا أستطيع، أُقسم بالله لا أستطيع.
لم أوافق على الرحيل مع والدي ولم أرفض أيضًا.
غضب والدي وقال: "لا يحقّ لك البقاء هنا".
- لكنّ إبراهيم وحيدٌ هنا.
- أنت لست زوجة فلان فقط، أنت ابنتي، وأقلق عليك وعلى الطفلَيْن، كما إنّ إبراهيم سيكون مرتاحًا لسلامتكم.
- لا يصحّ أن أنتقل إلى مكان آمن وهو... .
- ألم تقولي لنفسك ومع الأخبار التي يبثّها المذياع ليل نهار، أيّ حال صرنا فيه أنا ووالدتك عند سماعها؟!
ارتجف صوته وقال: "ماذا عسانا أن نفعل إنْ أصابك مكروه؟!"
قلتُ: "حاضر!"
وانطلقنا نحو أصفهان.
شارف شهر شباط على نهايته، وكنتُ أتلهّف لرؤية أو سماع صوت إبراهيم وأعدّ الثواني للّقاء.
كان يتّصل مرّة كلّ يومين، وكان آخر اتصال له الساعة الرابعة والنصف
104
96
اللّقاء الأوّل
عصر اليوم السادس من شهر آذار، ردّد عدّة مرّات: "لقد اشتقتُ لك كثيرًا".
وقال: "أُريد أن أراك".
- هل تأتي؟
- إذا استطعت سآتي يومًا واحدًا لأراكم وأعود إلى المنطقة بسرعة، وإلا فسأُرسل من يأتي في إثركم.
صمت قليلًا وقال: "هل تأتين إلى الأهواز إنْ أرسلتُ لك من يُقلّك؟".
- وهل يحتاج الأمر إلى سؤال؟!
- ألا يشقّ عليك ذلك مع طفلَيْن صغيرَيْن؟
- تستحقّ رؤيتك أكثر من ذلك بكثير.
مرّ أسبوع كامل من دون إشارة منه أو اتصال. جهّزت نفسي ووضّبتُ المنزل استعدادًا لاستقباله وقمتُ بالعديد من الأعمال الأخرى.
الرحيل
في إحدى الليالي، في منتصف اللّيل تقريبًا، شعرتُ بهبوب عاصفة.
قلتُ لأختي الصغرى: "يبدو أنّ عاصفة هوجاء ستهبّ علينا".
ردّتْ عليّ أختي: "حتّى النسيم لم يهبّ بعد فكيف بالعاصفة!"
عدتُ للنوم، واستيقظتُ مجدّدًا وأجهشتُ بالبكاء.
- ما بكِ الليلة؟
- أشعر بالفزع.
- مِمّ؟
105
97
اللّقاء الأوّل
- من اللّيلة الأولى في القبر.
- ما هذا الكلام الغريب الذي تتفوّهين به اللّيلة؟
في الليلة التالية، رأيت نفسي في المنام واقفةً أمام المرآة، وعلى فرقي شعري شعرتان سميكتان قد ابيضّتا من الشيب. عرفتُ تأويل هذا المنام لاحقًا، وذلك عندما جاءنا خبر استشهاد أخي ذي 17 ربيعًا في محور "طلاية"، في اليوم الثالث لاستشهاد إبراهيم.
استيقظتُ في الصباح، حملتُ الطفلَيْن وانطلقتُ لأمر ما. ذهبتُ مع الطفلَيْن وأختي في الحافلة الصغيرة (ميني باص) إلى منزل خالتي في "نجف آباد". كانت الساعة الثانية عشرة ومذياع الحافلة يُطلق دقّات نشرة الظهيرة. لدى سماعي الخبر، انخلع قلبي من مكانه، تردّدت وقلتُ في نفسي لا بدّ وأنّني أخطأتُ السمع!
كنتُ أخدع نفسي: "وهل يمكن ذلك؟!"
ضحكتُ وقلتُ: "لقد قال لي إنّه سيعود، لقد وعدني".
لم أذكر متى وعدني بذلك. كانت أختي تنظر إليّ بكثير من الدهشة!
قالت: "هل سمعت الخبر؟"
انهار كلّ شيء من حولي عندما أدركتُ أنّ أختي سمعت الخبر، وقلتُ لها: "وهل سمعت...؟"
قالت: "نعم".
قلتُ: "اسم من ذكروا؟ بالله عليك أخبريني الحقيقة!"
وكأنّني كنتُ أرجوها أن لا تقول الحقيقة أبدًا!
قالت: "إبراهيم"
106
98
اللّقاء الأوّل
قلتُ: "هل أنت متأكّدة؟"
قالت: "أجل لقد قالوا قائد فرقة ‘حضرة الرسول`، أوَليس إبراهيم..."
لم أعر اهتمامًا لماء وجهي، ورحتُ أصرخ من أعماق أعماقي، من دون الالتفات إلى الرّكاب الذين لا يدرون شيئًا ممّا حدث! شعرتُ بثقل في رأسي إثر الصراخ المتواصل.
بدأ مصطفى بالبكاء، ذهبتُ إلى السائق وطلبتُ منه التوقّف: "قف، هيّا قف هنا أريد النزول، ألا تسمع؟ قلتُ لك قف هنا!"
لم يتوقّف. كان والدي قد أوصاه أن يُقلّنا إلى الشارع الفلاني والمنزل الفلاني، كما لم يكن من مكان مناسب للتوقّف وسط الصحراء.
بدأ الركاب يتساءلون: "ما الخطب؟".
لم ألتفت لارتفاع صوتي وماء وجهي أو أيّ شيء آخر.
كنتُ أبكي وأقول: "لقد استشهد زوجي، ألم تسمعوا ذلك؟ اطلبوا من السائق أن يتوقّف".
توقّفتْ الحافلة ونزلتُ منها لأركب حافلة أخرى وأعود أدراجي.
لم يسمحوا لي برؤيته. كنتُ أشعر بالغربة في مدينة "شهرضا" بين عائلة إبراهيم. إلى أن وافقوا في النهاية وسمحوا لي برؤيته.
وكم عانيتُ للوصول إليه. ذهبتُ إلى مقرّ الحرس الثوري، إلى أحد البرّادات، حيث توجد قاعة مليئة بالأبواب الجرّارة، فتوقفت قرب أحدها، فتحوا البرّاد وسحبوا أحد أدراجه ببطء شديد، لأرى إبراهيم. لم يكن ذلك إبراهيم الذي اعتدتُ أن أراه، إذ لا أثر لعينيه الجميلتَيْن ولا لابتسامته الرائعة. بل لا أثر لرأسه على الإطلاق!
107
99
اللّقاء الأوّل
كنتُ فيما مضى أقول له ممازحة: "إنْ رحلت دوني، سأقطع أُذنيك وأضعها في كفّك (كناية عن العقاب)".
كم استأتُ حينها!
قلتُ له: "ما الذي دهاك يا إبراهيم؟ كيف طاوعك قلبك على الرحيل من دون رؤيتنا؟ أيعقل أن آتيَ إلى هذا المكان ولا أرى عينيك الجميلتين ولا ابتسامتك ولا وجهك المعفّر بالتراب دومًا، ولا أسمع صوتك وكلامك؟"
ما إنْ رأيتُ جواربه التي اشتريتُها له، حتى بدأتُ بالصراخ. بكيتُ كثيرًا حتى أُصبتُ بحالة عجيبة ولم أعد بعدها أشعر بقدميّ! ورآني الجميع أبحث عنهما، حتى إنّني قلتُ: "أين قدماي؟ لِمَ لا أستطيع السير؟"
ألا تُصدّقون؟ شعرتُ أنّني بلا قدمَيْن، ولأيّ شيء تنفعانني، ما الفرق سواء أكان لدي قدمان أم لا؟
أخبروني أنّ والدة إبراهيم كانت قلقة على يد إبراهيم التي أُصيبت في عمليّات "والفجر4" وقُطع فيها ظُفره. وقالوا إنّها كانت تريد معرفة ما إن كان قد تعافى إصبعه أم لا!
كنتُ أذكر ظفره، ولم أشأ النظر إليه، أعني أنّني لم أملك الجرأة على النظر إلى ذلك الظفر المنزوع كي لا أتأكّد تمامًا أنّني أقف أمام جثّة إبراهيم.
أردتُ خداع نفسي لإيهامها أنّ هذه الجثّة التي لا رأس لها قد لا تكون لإبراهيم، وحينها سيُمكنني انتظار عودته مجدّدًا. لكنّي كنتُ كالقابض على الماء، إنّها جثّة إبراهيم!
108
100
اللّقاء الأوّل
توالتْ الأيّام، كنتُ كمن أصابه مسٌّ من الجنون. كان كلّ من يراني يُدرك أنّني لستُ على ما يرام. ظننتُ أنّه لن تبقى منّي عين تطرف إلى الأربعين. كنتُ أُقسم عليه وأرجوه وألطم رأسي طالبة منه أن يأخذني إليه. وعندما أرى أنّني ما زلتُ على قيد الحياة، كنتُ أقول له: "سأُريق ماء وجهك لأنّك رحلت ولم تأخذني معك، يا عديم الوفاء!"
فقدتُ وعيي عدّة مرّات، أنا التي ما خلتُ يومًا أن أُصاب بذلك، أنا يُغمى عليّ؟!
مرّات ومرّات قالوا لي: "أيّ قائد هذا الذي لم يُجرح ولو مرّة واحدة؟!".
وأنا تساءلت عن ذلك أيضًا.
في إحدى المرّات واجهتُه بالأمر: "لا أدري بم أُجيب عن تلك التساؤلات!".
قال: "لماذا؟"
قلتُ: "لأنّني أنا أيضًا أتساءل عن ذلك، لِم لا تُصاب بأيّ جروح؟"
كان إمّا يضحك أو ينشغل بعمل ما فأنسى الأمر أو أتناساه. إلى أن وُلد مصطفى، فأخبرني حينها سرّ ذلك: "طلبتُ في بيت الله الحرام عدّة أمور، أوّلها أنت، ثمّ ابنيَنْ يحملان اسمي، وأن لا أُجرح أو أقع في الأسر وأخيرًا، أن لا أبقى في وطن لا يعيش ولا يتنفّس فيه إمامه".
وهكذا كان.
حياة سماوية سأنتظرك
لطالما ردّدت في أذني طفليّ الصغيرَيْن: "لن يبقى لكما من والدكما هذا سوى الاسم، وسيقع على عاتق والدتكما مشقّة تربيتكما وتنشئتكما".
109
101
اللّقاء الأوّل
كان يقول لي: "لستُ قلقًا على طفليّ، لأنّني أودعتهما في عُهدتك ورعايتك، ولستُ قلقًا على أمّي وأبي، لأنّهما سيعيشان باقي عمرهما معتزّين بشهادتي".
قلتُ له: "ما هذا الكلام الذي تتفوه به، إذا قدّر رحيلك، فسنرحل معًا".
قال: "أنا لا أُجاملك، ستقومين بتربية طفلينا، وكلّي ثقة بأنّك ستبذلين الغالي والرخيص في سبيل ذلك، ولن ينقصهما أيّ شيء لا من الناحية المادية ولا العاطفية بوجودك معهما يا جيلا".
كان يُردّد: "إلهي! إلى من أعهد بزوجتي الشابّة؟!"
اليوم شاهدٌ عليّ، عندما زارني في المنام مع أخيه لم يتقدّم للتحدّث إليّ.
سألتُ أخاه عن السبب، قال: "إنّه خجل منك ولم يجرؤ على التحدّث إليك".
كان يعلم وما زال، أنّني لا أرى حياتنا المشتركة معًا من سنخ الحياة الدنيوية، بل أراها حياةً سماوية، ربما لأجل ذلك كان يُردّد: "طلبتُ من الله أن يهبني إيّاك زوجة في الدنيا والآخرة".
فأقول له: "ماذا لو وجدت من هي أنسب لك منّي وأفضل؟"
فيُجيب: "أعدك، كوني واثقة، سأنتظرك أنت فقط".
وعدكِ الله بزوج صالح، وكلّي ثقة أنّه إبراهيم.
بعد ذلك، بعد أن تذكّرت تلك الأمور، قلّ بكائي. حتى إنّني بعض الأحيان كنتُ أُمازح صديقاتي وأقول: "لقد طلّقت إبراهيم ثلاثًا".
لم أعد أشعر بالحرقة كما في السابق. ربما لهذا قرّرت مع عدد
109
102
اللّقاء الأوّل
من زوجات الشهداء الذهاب للعيش في مدينة قم. كنتُ أُدرّس مادّة الكيمياء هناك وما زلتُ أُدرّسها هنا في أصفهان، ولستُ منزعجة لأنّه في زمن ما، أضحى منزلنا في قم، ملتقى ومأمن عائلات أصدقاء إبراهيم.
في إحدى المرّات، أطلقت مزحة مفادها أنّ "طريق القدس يمرّ من كربلاء وطريق السماء يمرّ من دارنا".
وهكذا تحمّلتُ المشاق، بالطبع كنتُ أنهار في بعض الأحيان. أذكر تلك اللّيلة التي أُصيب فيها أحد الطفلَيْن بالحمّى الشديدة، لم يكن معي أحد ليُساعدني ولم أعرف ما أصنع! تلك اللّيلة، لم يغمض لنا جفن أنا وطفلي. قرابة الفجر وقبل أذان الصبح، بكيتُ وقلتُ لإبراهيم: "يا عديم المروءة، على الأقلّ تعال واحمل الطفل وأسكته قليلًا".
لم أغفُ، أنا متأكّدة أنّي لم أغف، كنتُ في حالة ما بين النوم واليقظة عندما رأيتُ إبراهيم قد جاء وأخذ منّي الطفل، ثم مسح على رأسه ثلاث مرّات وعندما انتبهتُ كان الطفل هادئًا نائمًا.
قلتُ في نفسي: "بالتأكيد هذا من علامات اقتراب موت الطفل".
دبّ الرعب في قلبي، وما إنْ أشرقت الشمس حتى نهضتُ على رجل طائر1.
وأخذتُ الطفل إلى الطبيب الذي أكّد لي أنّه سليم معافى لا يشكو من شيء.
هكذا أشعر بوجوده في بعض الأحيان.
1- أي مضطرب قلق.
111
103
اللّقاء الأوّل
هو معي ومعنا في كلّ مكان، ومتيقّنة من ذلك، خاصة عندما قرأتُ ما كتبه لي آخر مرّة، حين جاء ولم نكن في المنزل:
"سلام إلى زوجتي المؤمنة والحنونة والطيّبة
صحيح أنّ البقاء في المنزل من دونك صعبٌ للغاية، لكنّني بقيتُ فيه اللّيلة كاملة، ودائمًا أراك وأشعر بوجودك معي. ليحفظك الله ويحفظ مهدي، إنّكما كلّ ما أملك بعد الله والإمام. أتمنّى أن تصلا بسلام، اشتريتُ بعض الفاكهة كلوها بالصحّة والعافية. باللّه عليك اهتمي بنفسك، خاصّة بالطفل الّذي في بطنك والجائع دائمًا. نسألكم الدعاء.
إن شاء الله تعالى سآتي إلى منزل أمنياتي بسرعة.
الحاج همّت/ 2 أيلول 1983م".
دوّن هذه الكلمات عندما كنتُ في أصفهان وكنتُ أُصرّ على الذهاب إليه.
كان يقول: "أنتِ الآن لست بوضع يسمح لك بالمجيء، خاصة مع مهدي الشقيّ هذا".
أجبتُه: "لا أُريد أن أسمع شيئًا آخر، أنا قادمة".
وضعتُ سماعة الهاتف في مكانها، ثم ذهبتُ لشراء تذكرة سفر، وضّبت الحقيبة وحملتُ مهدي استعدادًا للذهاب إلى "كرمانشاه" ومن هناك إلى "إسلام آباد".
اتصل قبل ذلك ببرهة قصيرة وقال: "أنا في انتظارك".
- متى وأين؟
- أعذريني لعدم الإجابة.
112
104
اللّقاء الأوّل
- لماذا؟
ضحك وقال: "لا بدّ أنّني مشغول بعمل ما!"
- متى ينتهي هذا العمل فيرتاح بالي؟
- سأنتظركِ.
عندما وصلتُ إلى المنزل، كان نظيفًا ومرتّبًا، وقد نظّف الثلّاجة واشترى كلّ ما يُمكن أن نحتاج إليه حتى اللّحم، كما جهّز اللّحم "الكباب" للشواء، ووزّع أنواع الفاكهة الموسميّة في أطباق "الملامين". ثم وضع صورته أمام باقة الورد والرسالة التي قرأتها لكم.
كان إبراهيم على علم بكثير من الأمور.
قال لي في آخر لقاء لنا: "سأرحل بسرعة وقبل أن يُدرك أحدٌ من هو همّت!".
كان يُردّد دائمًا: "ليس أمامنا سوى الرحيل".
في تلك الأيّام، لم أُقلّب هذا الكلام كثيرًا في رأسي، لا يهمّ سواء أدرك أحد أم لم يدرك من هو إبراهيم، ماذا فعل وأين، أو إلى أيّ مقام وصل أو لم يصل. كلّ ما كان يهمّني هو حلاوة المشاقّ والآلام التي كنتُ أتحمّلها بالقرب منه، وما زلتُ أتحمّلها. هذا ما يهمّني فحسب، ويا له من ألم طيّب بالنسبة إليّ.
113
105
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
عين المجنون بعين سعيد معتمدي1
كان الشهيد "همّت" محطّ انتقاد وتذمّر الآخرين دومًا: "إنّه ليس من الحرس الثوري، فلمَ تعطونه المسؤوليّات؟"
كانت عمليّات "والفجر1".
جاء إليّ وقال: "اذهب لتغتسل ثمّ عد إليّ".
- غسل؟ لماذا؟
- انهض.
- لكن أيّ غسل؟ لأجل ماذا؟ وبأيّ نية؟
- بنيّة الطهارة. هيّا انهض، وكفّ عن السؤال.
ذهبتُ وعدتُ إليه بعد أن اغتسلتُ بسرعة.
قال: "هكذا أفضل".
ثمّ أخرجَ بزّة عسكرية للحرس الثوري وقال: "خذ هذه لك".
قلتُ: "لماذا؟"
قال: "لا أريد أن ينتقدنا أحد".
في تلك الأيام، عندما كنّا في "جوانرود" لم نكن نملك شيئًا. لم نملك حتّى المدفعية، كنّا نمتلك فقط عددًا قليلًا من الهاون ومنصّتَيْ
1- مساعد الشهيد همّت، وأحد أركان قيادة الفرقة. قلت للمجنون ابقَ حيا، كتاب همت، روايت فتح.
115
106
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
كاتيوشا "ميني كاتيوشا" الّتي وصلتنا حديثًا. وبينما كنّا نتحدّث في منطقة "دولوله"1، وصل "جلالي" وقال: "يا حاج!"
أجاب: "نعم عزيزي!"
كان جلالي يتوقّع الحصول على التجهيزات، لكنّه يعلم أنّه توقّعٌ غير مضمون، فهو يُدرك أكثر من الجميع أنّنا لا نملك شيئًا. لم يُفكّر بالنتائج، فقط قال لنا: "لا نار لدينا".
قال الحاج: "حسنًا!"
قال جلالي: "أعلم أنّي سأسمع جوابًا بالنفي، لكن هل يمكن أن تقرضنا إحدى منصّات الميني كاتيوشا؟"
نظر الحاج إليه، فكّر قليلًا ثم ابتسم وقال: "وهل تفي منصّة واحدة بالغرض؟!".
أجاب جلالي: "في الوقت الحاضر أجل، هذا يعني أنّك موافق؟!"
ضحك الحاج همّت وقال: "أجل إنّها لكم، نصفها لنا والنصف الآخر لكم".
كان العراقيون في تلك المرحلة قد تموضعوا في منطقة "بافة ونوسود"، وقد امتلكوا غطاءً ناريًا كثيفًا وواسعًا طاول مدينة بافة ذاتها، فكان علينا الردّ بالمثل، ونستطيع بإمكاناتنا المتواضعة ومنصّتَيْ الميني كاتيوشا فعل الكثير أيضًا.
لكنّ الحاج همّت ما كان ليحتكر شيئًا لنفسه. فأعطى إحدى المنصّتين لجلالي، ولم يندم لذلك أبدًا. في حين كان قادة آخرون
1- دو لوله، أي المضاد الثنائي.
116
107
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
يسعون دائمًا لتأمين احتياجاتهم واحتياجات وحداتهم بالدرجة الأولى وإن فاض عنهم شيء فللآخرين.
كان هذا ديدنه على الدّوام، كذلك الحاج أحمد متوسّليان. فعندما جاءت الأوامر بتشكيل اللّواء والانتقال إلى الجنوب، أبدى الناس انزعاجهم وقالوا: "ربما أدّى انتقالهم إلى فقدان الأمن في المنطقة".
وقال بعضهم الآخر: "قد نفقد الأمن الذّي حصلنا عليه ببذل الأرواح في كلّ من ‘مرايفن1 وبافة` لكنّهما نفّذا الأوامر وشكّلا اللواء".
كان الحاج همّت يهتمّ بالإخوة كثيرًا ويُحبّهم، كان يطلب منهم أن يدوّنوا على ورقة كلّ ملاحظاتهم وانتقاداتهم، أو الإشكالات ونقاط الضعف التي يرونها في العمليّات، ويُسلّموه إيّاها. وكان من جهته يقرأ الأوراق بتمعّن واهتمام بالغَيْن، ويدوّن الملاحظات في دفتره الشهير، وقد خصّص صفحة لكلّ موضوع، وفي كلّ مرّة يجري الكلام عن موضوع ما، كان يفتح الدفتر ويقول: "هذا رأي الإخوة في الموضوع...".
كان يدعم كلامه بآراء وأدلّة عناصره. لذا كانوا يُحبّونه حبًّا جمًّا.
كانوا يستقبلونه بحفاوة لم أرَ لها نظيرًا، فيتهافتون عليه، ويتعلّقون بعنقه ليُقبّلوه، فتترك أصابعهم على عنقه آثارًا زرقاء وسوداء. وقد وصل الأمر لأن نقلق على سلامته، فما أن يُنهي خطابه حتى نُركبه سيارته وننطلق به مبتعدين عن المكان، لكن عبثًا نحاول، إذ كانوا يتعلّقون بالسيّارة ويبقون على تلك الحال مسافة كيلو مترين أو ثلاثة، فيضطر
1- مرايون تكتب وتلفظ Mrayvan
117
108
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
للترجّل وتقبيلهم فردًا فردًا، أو أن يوقع لهم على ما يشاؤون، ثمّ يرسلهم إلى أعمالهم.
شكّل همَّت بنفسه حافزًا للكثيرين الذين تطوّعوا للجبهة وأقدموا على ذلك محبّةً له.
كانوا يعلمون أنّه أينما حلّ إبراهيم همّت يحلّ العمل والاحترام، وما إن تطأ أقدامهم أرض الجبهة حتى يتوجّهوا مباشرة إلى كتيبة "كميل" أو "مالك" أو كتيبة "حمزة". كما كانوا يعلمون أنّه اذا وُجد الطعام فهو للجميع، وكذا أجهزة التدفئة والتبريد. لم يكن لأحد الحقّ باستخدام وسائل التبريد في غرفته، خاصّة في أركان الفرقة ويُشدّد عليهم: "لا يحقّ لكم أن تفعلوا ذلك أبدًا، لأنّ أجهزة التدفئة والتبريد للجميع، ولا رجوع عن هذا القرار".
كان لدينا جهاز تبريد في المستوصفات من أجل المرضى، وكذا في مركز الاتصالات لحاجة الأجهزة لذلك.
بعد عمليّات "والفجر 3"، شارفت مَهمّة الإخوة، التي استمرّت ثلاثة أشهر على الانتهاء، وأضحت عمليّات "والفجر 4" في منطقة "قلاجه" على الأبواب، كنّا بحاجة لجميع تلك العناصر. لكنّ أغلبهم كان قد رتّب أموره بحيث يغادر الجبهة بعد انتهاء الأشهر الثلاثة. جاء قادة الكتائب إلى الحاج "همّت" وقالوا: "يا حاج! الشباب يغادرون، ولم نستطع إقناعهم بالبقاء، فهم لا يصغون إلينا، افعل شيئًا ما!!" ذهب الحاج همّت وتحدّث إليهم، بحديث يُلهب المشاعر، فراحوا يهتفون جميعًا: "لبّيك لبّيك يا قائد الأحرار".
بقي أغلب العناصر فكان العدد أكثر ممّا كنّا نتوقّع أو نريد منهم.
118
109
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
أذكر أنّ بعض الشباب من كتيبة "مالك" وغيرها من الكتائب الأخرى، بقوا لأكثر من 7 أشهر أو أقل من ذلك بقليل.
كذلك حدثت مشكلة مشابهة في عمليّات خيبر، حيث اتّصل أحد قادة الكتائب (السيد دستواره)، وقال إنّ قوّاته قد شاركتْ بعمليّتين أو ثلاث ولم يعد يستطيع السيطرة عليهم: "لا أستطيع إعادة تنظيم التشكيلات، فافعل شيئًا ما يا حاج!".
أجابني الحاج من جزيرة "مجنون": "ابقَ أنت هنا، سأذهب وأعود بعد 24 ساعة".
ذهب إلى منطقة "دو كوهه"، حيث قال كلمته الشهيرة: "إنّ الطريق إلى كربلاء مغمورة بالدّماء".
لنسمع هذه القصّة على لسان الشهيد رمضان: "تحدّث إلينا الحاج همّت بين صلاتَيْ الظهر والعصر، وقرّر الإخوة أن يلحقوا به بعد صلاة العصر. كانوا يركضون في إثره وينادونه في ميدان التدريب الصباحي، ما إن رأى هجوم الإخوة صوبه، حتّى أطلق لقدمَيْه العنان فورًا ودخل مبنى الأركان. أصرّ رجل في الستّين ونيّف من العمر على ملاقاته قائلًا إنّه يريد الحاج همّت في أمر خاص، ويريد أن يُسلّمه شيئًا، فقلتُ له: ‘أعطِني إيّاه وسأوصله له بنفسي`. قال: ‘لا يصحّ ذلك، يجب أن أُسلّمه ذلك الشيء شخصيًّا`. ولأنّه رجل عجوز واجب الاحترام، ذهبت إلى الحاج وحدّثته بأمره، فطلب أن أُدخله إليه. وما إنْ وقعت عينا العجوز على الحاج، حتى هجم عليه وقبّل وجهه. ثم قال: ‘هذا ما كنتُ أُريده، لقد انتظرتُ هذه الفرصة أشهر عدّة، وها قد ارتاح بالي الآن!`".
119
110
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
لم يكن يُفرّق بين أحد، كان يهتم بالجميع من ناحية طعامهم وغذائهم، صحّتهم ونظافة أماكن إقامتهم وكذلك سلامتهم وحياتهم. لم يكن من مَهامّه القيام بعمليّات استطلاع، لكن إن لم يستطلع المنطقة بنفسه، لم يسمح بالقيام بأيّ عمليّة أو مهمّة فيها، حتى لو أدّى ذلك إلى الشجار. كان على تواصل مستمرّ مع الإخوة في استطلاع العمليّات، ويوليهم اهتمامًا كبيرًا ويقضي معهم وقتًا أكبر، خاصّة في المنطقة المُستطلعة. كان يتعرّف بدقّة عالية إلى زواياها وخفاياها، وديانها وتلالها، قنواتها وسواترها فيستطيع القول على سبيل المثال: "عليكم الذهاب من أخدود الكلاشنكوف (كلاش)".
أخذ الإخوة يختارون أسماء الأخاديد والشقوق بما يتناسب مع الأشياء التي يجدونها هناك مثل، "الكلاشينكوف"، "أكياس الخيش"، "قوارير المياه"، "العراقيون" أو أيّ شيء آخر. لن أطيل الحديث. أقول: "لم يكن الحاج ‘همّت` من القادة الذين يدخلون منطقة يجهلونها، بل كان يعرفها من جنوبها إلى غربها، ويتحقّق من جميع الجوانب فيقول بشكل قاطع: ‘المكان غير مناسب للعمليّات حاليًّا`، ويوضح رأيه في ذلك، وكذلك يُقدّم دليله إن قال إنّه مناسب".
كان يُسهّل كلّ الإمكانات من أجل أداء أفضل لعمليّات الاستطلاع. وكانت الوحدات تتبعه إلى العمليّات بثقة واطمئنان كبيرَيْنَ.
في عمليّات خيبر، سيطر الإخوة على أحد المعابر، ولم يستطيعوا اتخاذ قرار بشأنه، إذ تمتدّ القناة مقابله ومن ثمّ حقل ألغام بعرض 1.5 كلم، تليه أسلاك شائكة، ثمّ الكمائن العراقية المحكمة والمتينة.
120
111
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
كان للمعبر منعطف دائري يصل إلى الخط العراقي ويعود. قال قائد كتيبة "المقداد" (الشهيد نوزاد) للحاج همّت: "سيُسبّب هذا المعبر المشاكل للإخوة".
- لا بل سيكون ميسّرًا.
- ماذا لو لم يكن كذلك؟
- هذا المعبر ليس كغيره وأنا واثق من أنّه ميسّر لنا.
- واثق واثق؟
- كن مطمئن البال.
- إذًا، يا علي!
فانطلق مع الإخوة واقتحموا الخط، في حين كان الكثيرون مقتنعين بعدم إمكانية ذلك، وأنّ الإخوة سيفشلون ويُبادون عن بكرة أبيهم. لكنّهم اقتحموا الخطّ، وهم مدينون بذلك للحاج همّت الذي لطالما بثّ فيهم الروحيّة العالية. ما استخفّ الحاج همّت بأرواح الإخوة يومًا ما، بل كان يهتمّ بهم أكثر من نفسه، وكان يوصيهم دائمًا بالانتباه إلى أنفسهم.
أُصبتُ بشظيّة صغيرة في عمليّات خيبر، لم تؤدّ سوى لجرح صغير جدًا نزل منه بضع قطرات من الدم فلم أُعره اهتمامًا، لكنّ الحاج هرع نحوي ليرى ما أصابني.
- لا شيء مجرّد جرح صغير.
- هل أنت بخير؟
- أجل كن مطمئنًّا.
- انتبه لنفسك جيّدًا فعدوّنا مستشرس كثيرًا اليوم.
121
112
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
وبسبب حنوه وعطفه الشديدَيْن،لم نجرؤ على إخباره باستشهاد الأخ "زجاجي".
حملوا إلينا قبل يومَيْن من استشهاد الحاج همّت، نبأ استشهاد الأخ "زجاجي" في عمليّات خيبر نفسها، فقلت للإخوة: "لا تذكروا ذلك أمام الحاج أبدًا". وهكذا حصل، إذ إنّنا لم نُخبره بذلك لفرط حبّه له.
همّت نفسه كان يقول إنّ تنفيذ المهمّة أهمّ من أيّ شيء آخر، وأيضًا: "علينا الحفاظ على الخطّ، وإلا ستتعرّض كامل العمليّات للخطر والفشل".
في أغلب الأوقات، كان يُردّد: "نحن مكلّفون وإذا استشهدنا في سبيل تنفيذ مَهمّتنا فلا بأس!".
أحيانًا، كانوا يقولون له: "لمَ تُطيع القيادة وتُعرّض حياة الإخوة للأخطار؟!".
مرّات ومرّات رأيتُه يذهب إلى مقرّ القيادة فيتجادل ويتشاجر مع القادة، يُقطّب حاجبيه ويقول: "لا، لا يصحّ هذا".
وما كان ليُغادر المقرّ إن لم يقتنع، وإذا اضطر للإذعان وإطاعة الأوامر كان يُحدّث الإخوة عندما يعود وكأنّه مؤيّد للأوامر الصادرة، لكنّ الواقع غير هذا تمامًا، إذ كان يُكلَّف ويضطّر لتنفيذ التكليف.
سمعتهم مرارًا وتكرارًا يقولون: "إنّه يتسلّم المَهام الصعبة"، لم يكن هذا إطراءً أو مديحًا له، بل كان يُخفي في طيّاته نقدًا وتذمّرًا.
وكذلك سمعتُ قائلًا يقول إنّ بعضًا منهم يبحث عن أماكن للحصول فيها على الغنائم، بينما الحاج همّت يبحث عن مكان يُساهم في حلّ معضل
122
113
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
فيه. بالطبع إنّ القتال في الأماكن الصعبة يعني ضغوطًا أكبر، شهداء أكثر، جرحى أكثر وكذلك أسرى أكثر، وهذا ما لم يستطع بعضهم إدراكه، أو لم يشاؤوا إدراكه، لذا عمدوا إلى ملامته والانتقاص من قدره. بينما كان البعض الآخر يبتهج لرؤيته فيقول: "أينما حلّ همّت وجدت العمليّات والمعارك".
لذا كان يتنقّل متخفّيًا، إمّا بالشاحنات الصغيرة "بيك أب"، أو متنكّرًا بكوفية على رأسه، فيرتدي زيّ التعبويّين ويسلك الطرق غير المعهودة. في إحدى المرّات، أُجبرنا على ترك الطريق الرئيسة والذهاب سيرًا على الأقدام في طريقٍ وعرٍ ينتهي بنهر. ولحظّنا العاثر، كان ثلاثة من التعبويّين يسبحون في النهر، ما إنْ رأونا حتى اكتشفوا أمرنا وتحلّقوا حولنا:
قال أحدهم: "لِم لا تعدّ خطّة للسيطرة على هذا التل يا حاج؟!"
كان الجبل الشاهق في نظره تلًّا!
ضحك الحاج همّت وقال: "على عيني".
التفتَ إليّ قائلًا: "انظر لهذا الحظ! جئنا من هذه الطريق كي لا يعلم بوجودنا أحد. وبعد ساعتين سيعرف العالم بأجمعه لِم جئنا إلى هنا وما هدفنا".
لم يكن يحتاط لنفسه فقط، بل كان يتعاطى بنفس الحيطة مع الآخرين.
أذكر عندما زار الأدميرال "صياد شيرازي" المنطقة، وحفاظًا على سرّيتها، أحضره الحاج همّت "بالبيك أب" وبزيّ غير زيّه المعهود، وكذا فعل مع السيّد "محسن رضائي"، ولو تركهم يأتون بسيارة "استيشن" مثلًا، فسيعلم الجميع ما يجري في المنطقة.
123
114
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
ويا للهول! عندما يُحدّد موعد العمليّات، ويبدأ معها إعطاء التوجيهات والتعليمات. حينها يهجر الحاج همّت النوم، ويدع الطعام جانبًا، يرجع إلى الخطوط الخلفيّة ويبدأ بعقد الاجتماعات من الثالثة عصرًا حتى الثالثة فجرًا. كان ينام خلالها نصف ساعة، أو لا ينام على الإطلاق. فيُصلّي ثمّ ننطلق معًا نحو اجتماع آخر. أحيانًا، كان يُنادي الشباب، فردًا فردًا، فيُعطيهم التوجيهات. يأتي العنصر، يحصل على التعليمات ليعود وينام في خيمته، ويأتي آخر: مسؤول الإسعاف، التجهيزات والتموين، التعاون، الإسناد، الإسناد المدفعي وجميع المسؤولين والعناصر. بعد ذلك، ينطلق بسرعة نحو المنطقة. هناك أيضًا لم يكن يقرّ له قرار وأحيانًا لا ينام لثلاث أو أربع ليال.
في اليوم الثالث لعمليّات "خيبر"، كنّا في "طلايه"، حيث ذهبتُ مع كتيبتين إلى الجزيرة ولم أكن مع الحاج. في اليوم الخامس أو السادس عدتُ إلى ساترنا الترابي، حلّ المغيب فذهبتُ إلى "الجيب" حيث وجدُته، قلتُ له أُريدك في أمر.
قال: "اصبر لأُصلّي".
بعد الصلاة، أحضرتُ مصباحًا يدويًّا وخريطة لأُخبره بمجريات الأمور.
ما إن سلّطتُ الضوء على الخريطة وقلتُ: "ذهبت كارور1 من هذه النقطة بالتحديد، والباقي أيضًا.." حتى رأيت رأس الحاج يهوي في كبوة.
1- تلفظ "كارفر".
124
115
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
قلتُ: "هل تسمعني يا حاج؟"
قال: "أجل أكمل"
قلتُ: "كارور ..."
نظرتُ إليه، لكن هذه المرة ثقُل رأسه أكثر وسقط على الخريطة.
قلتُ: "دعك من ذلك، اذهب للنوم وسأُحدّثك غدًا بالأمر".
كان من المقرّر المحافظة على الجزر. ذهبتُ مع الحاج إلى ما يُشبه المقرّ وقد بُني بالقصب والطين. لم يكن بمقدورنا الدخول والجلوس فيه، إذ كان ضيّقًا جدًّا ولم يتّسع لغير السيّد رشيد ولعامل الإشارة لديه، وجلس القادة قرب السور يتحدّثون: أحمد كاظمي، مهدي زين الدين ومهدي باكري.
قال الحاج همّت: "لقد أصبحوا وقحين جدًّا، علينا ضربهم وسحقهم".
ربّتُّ على يد "زين الدين" متهكّمًا: "من يسمع الحاج يظنّ أنّ لديه حوالي 20 كتيبة، أُقسم بحياتي إنّه لا يملك حتى كتيبة واحدة".
قال أحمد كاظمي ممازحًا: "يا سيّد رشيد، سرّح باقي العناصر وسأبقى أنا وإبراهيم ومهدي مع عناصرنا في الجزر لحراستها، وأعدك بأن نُحصّنها أيضًا، موافق؟".
في الحقيقة لم يكن الحاج ممن يمزحون في العمل، هنا حيث أخبرتكم أنّ "دستواره" اتصل بالحاج همّت وأخبره أنّ عناصره متعبون ولم يعد قادرًا على السيطرة عليهم، وطلب منه الذهاب إلى "دو كوهه" ليعيد توزيعهم وهيكلتهم.
125
116
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
وبسبب تلك الظروف الضاغطة، لم تسنح له الفرصة حتى لزيارة زوجته وابنه، كما أنّ ابنه الثاني كان على وشك الولادة. في تلك الأيام، كنّا في "قلاجه" وعائلته في "إسلام آباد"، في أحد بيوت المؤسّسات الحكوميّة. ومهما اتصلوا به ليذهب إليهم لم يفعل، لم يكن يستطيع الذهاب. كان عليه الذهاب إلى طهران للمشاركة في اجتماع مع السيّد "هاشمي". ذهبت في الصباح إلى منزله، طرقتُ الباب ورأيتُ أنّ المنزل يعجّ بالنساء. فعلمتُ أنّ ابنه الثاني قد ولد. لم يكن أمامي إلّا أن أسألهنّ: "لكن أين الحاج؟".
أَجبْنَ: "لقد جاء لكن لا نعلم أين هو".
كان لديه حسّ الدعابة أكثر منّي، لكنّه كان إمّا كثير الانشغال أو في مزاج لا يسمح له بإظهار ذلك أو كلا الأمرَيْن معًا. لكن "رضا دستواره" لم يكن ممّن يتركون المزاح تحت أيّ ظرف من الظروف، كانت خصلته الشقاوة والمزاح وإضحاك الآخرين. أذكر كان لدينا في ثكنة "أبو ذر" خط هاتف مباشر مع القيادة في طهران، كان هذا خط الهاتف الأساس في مركز الاتصالات، ويتفرّع منه خط موصول بهاتف في غرفتنا، كان هاتف غرفتنا بلا قرص أرقام، لذا لم نكن قادرين على الاتصال بأحد بل كُنّا نستخدمه لتلقّي المكالمات فقط.
قال رضا: "سأتصل بأحدهم من هذا الهاتف، ما رأيكم؟"
قلتُ له: "مستحيل أن تقدر على فعل ذلك".
وأكّد ذلك عباس كريمي قائلًا: "مستحيل، لا يُمكنك ذلك".
قال رضا: "بلى يُمكنني ذلك".
1- اسم الجزيرة.
126
117
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
قلتُ له: "كيف؟"
قال: "عندما نرفع السمّاعة نسمع صوت ‘طق`، وبالاستعانة بهذا الصوت يُمكن طلب رقم الهاتف الذي نريد".
كدنا نُصدّق كلامه!
قال رضا: "كل صوت ‘طق` يشير إلى رقم، على سبيل المثال لطلب الرقم 9 علينا أن نطرق على قاعدة السماعة (حيث يُقطع الخط) 9 مرّات".
وقد جرّب ذلك، وقال لعبّاس: "أعطني أيّ رقم هاتف تريد لأطلبه لك".
لم يُصدّقه عباس كريمي، لكن أعطاه رقم منزل أخته في طهران.
بدأ "رضا" بطلب الرقم عبر الطرق على قاعدة السمّاعة، ثمّ أصغى السمع وكأنّه يسمع صوتًا ما، وقال: "ألو.."، ثم ذكر اسم صاحب المنزل وقال: "لحظة لو سمحتم".
أعطى سمّاعة الهاتف لعبّاس كريمي وقال: "الصوت ضعيف جدًّا وعليك أن تصرخ ليسمعوا جيّدًا".
أخذ عبّاس السمّاعة وقال: "ألو!". أخذ بالصراخ لكن ما من جواب.
فقال: "صوته ضعيف جدًّا".
قال رضا: "عليك أن تصرخ أكثر، فالخطوط هنا كلّها هكذا"
فقال عبّاس: "ومن قال ذلك، لقد تحدّثت إلى أختي البارحة وكان الصوت جيّدًا".
قال رضا: "عليك أن تصرخ عاليًا فأختك تنتظرك على الخط!"
127
118
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
صرخ عبّاس ثانية: "ألو"، لكن دون جواب، ثمّ قال لرضا: "هل تهزأ بنا؟".
فقال رضا: "مَنْ؟ أنا؟!"
وانفجر ضاحكًا، وأيّ ضحك. وراح الجميع يضحك معه. ضاق عبّاس بنا ذرعًا وأخذ يتأفّف، في تلك اللحظات رنّ جرس الهاتف، كان قائد قوّات المشاة يُريد الحاج همّت في أمر. رفع رضا السمّاعة وقال: "الاتصال لك يا حاج".
فقال الحاج همّت: "ضع السمّاعة مكانها، فأنا لا عمل لي مع من تتحدّث إليهم".
قال له رضا: "أُقسمُ بحياتي يا حاج، إنّهم من مقرّ النجف".
فقال له الحاج: "حتى لو كانوا من مقرّ ‘كربلاء` لن أتحدّث إليهم، دع السمّاعة من يدك يا ولد!"
فقال رضا: "فلان على الخط، وهو غاضب جدًّا ويقول: قولوا له أُريده في أمر عاجل".
لم يقتنع الحاج همّت، وأردف قائلًا: "لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين".
عندما بهت لون وجه رضا أدركت أنّه يقول الحقيقة، أخذتُ السمّاعة من يده وقلتُ للحاج: "إنّه صادق يا حاج".
فقال الحاج همّت: "حتّى أنت؟ لم أتوقّع منك هذا!".
لم يكن ليأخذ السمّاعة منّي، أقسمتُ عليه ورجوته كثيرًا حتى رضي في النهاية أن يردّ على الهاتف. عندما أيقن أنّنا نقول الحقيقة وضع يده
128
119
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
على السمّاعة ثم قال: "هل أنتم بُكمٌ، لِم لم تخبروني من البداية؟"
كان مرحًا من جهة، ويعمل في الخفاء من جهة أخرى، حتى إنّه كان يُخفي عنّي بعض الأمور. في أحد الأيام جاؤوا واصطحبوا الحاج معهم، وبعد عودته حاولت جاهدًا أن يُخبرني بما حدث، لكن عبثًا حاولت، قال لي فقط: "اذهب وأحضر السيارة لننطلق".
سألتُه: "إلى أين؟"
أجاب: "لا أستطيع أن أُخبرك".
أدركتُ من خلال تكتّمه واصطحابي معه بدل سائقه الخاص، أنّنا بصدد مَهمّة خاصة وسريّة لا يريد لأحد أن يطّلع عليها. كان يُجيد قيادة السيارة، لكنّه كان يدّعي غير ذلك ويذهب دومًا مع سائقه الخاص.
ما إنْ خرج من منطقة "دوكوهه" حتى قلتُ له: "والآن إلى أين نذهب يا حاج؟".
قال: "سأُخبرك في الطريق".
لكنّه كان فقط يقول اذهب يسارًا أو يمينًا، ورحتُ أُشاكسه وأذكر له أسماء المناطق، إلى أن لفظت اسم "طلايه"، فلم يقل شيئًا ولزم الصمت، ما يعني أنّني ربما أصبتُ الهدف. عندما وصلنا إلى مثلث طرق "جُفير"، قال: "والآن إلى أين؟".
قلتُ: "هذه الطريق توصل إلى ‘طلايه` كما قلت".
كان يريد الذهاب إلى مقرّ "نصرت"، وكان عليه الذهاب وحده إلى هناك من أجل التوجيه، ترجّلتُ من السيارة وركب هو خلف المقود
129
120
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
وانطلق. لم تتجاوز سرعة السيارة 20 كلم في الساعة، حين أخرج رأسه من نافذتها وقال: "ستعلم فيما بعد".
وهل بقي من لم يعلم؟! لفتت أصداءُ هذه العمليّات - عمليّات خيبر - العالم وأضحت على كلّ لسان. شاركت فيها كتيبتان من كتائب فرقتنا التي أوكلت إليها مهمّة جديدة بعد انتهاء المعركة.
ذهبتُ إلى "طلايه" وحدي.
قال الحاج: "علينا الانتقال إلى الجزيرة، ومهمّتنا هذه المرة صعبة كثيرًا.
انطلقنا بالقارب نحو الجزيرة، كان يحمل بيده سبحة جميلة حمراء اللّون على الدوام، سقطت السبحة في الماء فظلّ يرمقها حيث سقطت إلى أن توارت عن ناظريه.
قال لي: "خذني إلى المنطقة لتوجيه الإخوة قبل ذهابنا إلى المقرّ".
لم يكن قد توجّه بعد إلى الجزيرة للاطّلاع على زواياها وخفاياها، بعد إعطاء التوجيهات والتعليمات، انتقلنا إلى حيث الإخوة الذين كانوا تحت الخطر. وجدنا أنّهم متعبون جدًّا من الوضع ومن أمور أخرى!
سألهم مستنكرًا: "هل تظنون أنّ دحر هذه الفلول أمرٌ صعبٌ عليكم؟!"
تحدّث إليهم وأسهب، وسكب في أرواحهم حرارة دفعتهم إلى الجهاد مجدّدًا. استلم المهمّة، وتقرّر أن يعود إلى الخطوط الخلفية لمدّة يوم واحدٍ، فيُدلي بتوجيهاته ويُجهّز وحداته ويعود بهم إلى الجزيرة.
ذهبنا جميعًا إلى الضلع (الجانب) الشرقي للجزيرة واستلمنا الخط.
130
121
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
تقرّر إنشاء ساتر ترابي يصل الضلع الشرقي للجزيرة بالضلع المركزي، حيث يتموضع عناصر فرقة "النجف".
كانت عملية إنشاء الساتر تجري ببطء شديد، إذ لم نستطع إحضار الآليّات من الخلف بسبب المساحات المائيّة التي تفصلنا عنها، لذا استخدمنا تلك التي غنمناها من العراقييّن، إلّا أنّنا لم نستطع إنشاء أكثر من 300 إلى 400 م في الليلة. استلمنا الضلع الشرقي والمركزي، فكنتُ أنا والحاج همّت في الضلع المركزي، بينما تولّى "عبّاس كريمي وزجاجي" الضلع الشرقي.
تركّز الهجوم العراقي بالقصف الشديد على الضلع المركزي. أراد العراقيون السيطرة على المكان بأيّ شكل من الأشكال، مع أنّه كان بإمكانهم السيطرة على الجزيرة الجنوبية بيسر وسهولة.
ذهب الحاج همّت إلى المتراس الذي أشرتُ إليه، والّذي حُفر بواسطة الجرّافة ووضع عليه عوارض خشبية. لم يبعد المتراس عن الخط المقدّم أكثر من كيلومتر واحد فقط، وقد تموضع فيه معظم قادة الفرقة، إذ أنّه المتراس الوحيد في المكان. أمّا العراقيون فلم يقوموا بإنشاء أيّ متاريس أو دشم محكمة في المكان. كنتُ في الخط الأمامي وعلى اتصال دائم مع الحاج بواسطة جهاز اللّاسلكي.
بقينا على هذه الحال حتى اليوم الأخير، حين اتصل الحاج وقال: "من المقرّر أن يأتي عناصر فرقة الإمام الحسين عليه السلام ليلًا للمشاركة في المعارك، وما من دليل معهم فهل تبقى لمساعدتهم هناك؟".
131
122
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
قلتُ له: "بالتأكيد".
أردف: "إذًا تعال بعد المغيب إلى المتراس لأُعطيك التعليمات، كما إنّني أريدك في أمر آخر".
قلتُ: "حاضر، إلى أين أنت ذاهب الآن؟"
قال: "سأذهب إلى ‘عبّاس`، يبدو أنّه يواجه بعض المشاكل ولربما استطعت مساعدته".
كان عبّاس في الضلع الشرقي. ذهب الحاج "همّت" إلى "قاسم سليماني" قائد فرقة "ثار الله 41"، فسحب منه عددًا من العناصر ليأتي بهم إلى "عبّاس" في الضلع الشرقي، وانطلق على الدراجة الناريّة.
بعد مدّة، كلّما اتصلت وسألت: "هل عاد الحاج؟"
قالوا: "لا، لم يعد بعد!"
غابت الشمس وحلّ الليل، ولم يعد بعد.
قلتُ في نفسي: "قال لي تعال إلى المتراس، قال تعال ليلًا إلى المتراس، بالتأكيد هو هناك الآن". ذهبت إلى هناك، لكنّني لم أجده.
ذهبتُ بعدها إلى قاسم سليماني وسألتُه عنه، قال، "لا، لم يأتِ".
قلتُ: "لقد أخبرني أنّه سيأتي إلى هنا".
- لقد جاء وذهب إلى مقرّكم في الضلع الشرقي.
- لكنّه أخبرني أنّه سيعود ليلًا إلى هنا.
- سأُعطيك درّاجة نارية لتذهب وتبحث عنه في الضلع الشرقي
- هذا أفضل من الجلوس مكتوفي الأيدي.
ركبتُ الدرّاجة وذهبتُ إلى المقرّ في ذلك الكوخ.
كان عبّاس كريمي وباقي الإخوة هناك يتحدّثون ويضحكون.
132
123
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
سألتُهم: "هل جاء الحاج إلى هنا؟"
أجابوا: "لا"
- لقد جاء بالقوّات لمساندتك!
- لقد حدث هجوم، ولم تعترضنا أيّ مشكلة تُذكر، كما لم يأت الحاج أبدًا.
- لم لا تفهم ما أقول يا عبّاس؟ لقد جاء الحاج إلى هنا!
ساوره شعور بالقلق!
اتصلنا بمقرّ النجف، قالوا: "لا تقلق، طلب السيّد ‘محسن` من الحاج الذهاب إلى الضفّة الأخرى، فذهب".
قلتُ: "هل حقًّا ما تقول؟"
انقطع الاتصال.
قلتُ لعبّاس كريمي: "أغلب الظنّ أنّ الحاج أُصيب بمكروه ما ولا يريدون إخبارنا".
سألني: "كيف لك أن تعلم ذلك؟"
قلتُ: "لم يكن الحاج ليذهب إلى أيّ مكان من دون أن يُخبرني".
لم أستطع البقاء بين الإخوة والتحدّث أكثر من ذلك، ربما أثّر ذلك على معنويّاتهم وأقلقهم. ما أثقلها من ليلة مرّت عليّ وما أطولها، لكنّها انقضتْ وأنا أُفكّر، تُرى أين هو؟ هل جُرح؟ هل استشهد؟ في الصباح ذهب عبّاس إلى مقرّ النجف.
عندما رجع لم ينبس ببنت شفة.
سألتُه عن سبب صمته.
133
124
عين المجنون بعين سعيد معتمدي
قال: "لا أستطيع التحمّل، أخشى أن أنفجر، يجب أن لا يشعر أحد بشيء".
كنتُ أسوأ حالًا منه لكنّني عضضت على نواجذي وقلتُ: "يجب أن يبقى الأمر بيننا. كتمنا الأمر ولم نبح بشيء لأحد".
لم نُعلم أحدًا بشيء.
جاء أحد قادة الكتائب وقال: "يقولون إنّ الحاج استشهد، هل سمعتم بالخبر؟"
قلتُ: "لا، من قال ذلك؟ هذه مجرّد شائعة"، أصررنا أنا وعبّاس على أنّ كلامه شائعة، وأن لا نتحدّث بالأمر أو يُشاع هنا وهناك، إلى أن أُعلن النبأ عن طريق الراديو.
حينها لم يعد من فائدة للإنكار. ولم يعد من حاجة لحبس الدموع، لا أنا ولا عبّاس ولا أيّ أحد آخر أمام قاصمة الظهر هذه!
كلٌّ اختلى في زاوية، بين القصب وراح يُرسل دموعه مدرارًا.
بكت "مجنون"1 كثيرًا ذاك اليوم. اذهبوا واسألوا أيًّا كان إن لم تُصدّقوا!
1- اسم الجزيرة.
134
125
بناء الحسينيّة
بناء الحسينيّة1
اتصل مرّة وقال: "أُريد أن أراكم".
ذهبنا نحن الأربعة إلى "أنديمشك" و"الأهواز"، وصلنا حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل، فاتصلوا به بواسطة اللّاسلكي وأخبروه رمزًا بأنّنا وصلنا، لم يأت حينها، بل جاء عند الصباح، حيث صلّى وشرب فنجانًا من الشاي، ثمّ تناول طعام الفطور وقال: "عليّ الذهاب إلى منطقة ‘دو كوهه`".
قلتُ له: "ألا تريد رؤية ابنك؟"
قال: "لن أتأخّر، كما إنّه ما زال نائمًا"، قلتُ: "سأذهب معك".
خرجنا من المنزل قبل انبلاج الضوء. كان التعبويّون ينزلون من القطارات، ويقفون على التراب ليُصلّوا. ما إنْ رأى إبراهيم هذا حتّى طأطأ رأسه.
عندما ذهبنا إلى المنطقة، سألتُه هناك: "لمَ طأطأتَ رأسك؟".
قال: "لا يصحّ أن يُصلّي الإخوة على الأرض الصلبة والتراب، خاصة بعد أن قطعوا كلّ تلك المسافات ليصلوا إلى هنا".
وقال لعباديان: "احمل رفشًا وتعال".
1- ذكرى من والد الشهيد، قلت للمجنون ابق حيا، كتاب همت، روايت فتح.
135
126
بناء الحسينيّة
- وماذا تريد أن تفعل؟
- أريد بناء حسينيّة هنا.
- حسينيّة؟ هنا؟ وأين المال؟
- لا يهمّني أمر الميزانية، إمّا أن تبنوا الحسينيّة هنا أو أضع صندوقًا وأطلب من كلّ شخص وضع مبلغ تومانَيْن لنجمع المبلغ الكافي للبناء!
- أنت تطلب المستحيل يا حاج!
- نفّذ ما طلبتُه
- سيكون لك ما أردت.
- سأضع أنا حجر الأساس، ويجب أن تُبنى الحسينية خلال 20 يومًا فقط. هل هذا واضح؟ 20 يومًا لا غير.
وهكذا كان. ما تزال الحسينيّة قائمة هناك، وأُطلق عليها اسم "إبراهيم".
بعد ذلك تابعنا تجوالنا. ذهبنا إلى المخزن، فطلب إبراهيم من مسؤوله أن يُرسل 50 زوجًا من الأحذية إلى عناصر التعبئة وحدّد له العنوان.
لكن لو رأيتم حذاءه، لم يصلح حتّى للرمي في النفايات، فقد التصق حوالي كيلوغرامين من الرمال والأتربة في كعبيه، كما إنّه كان ممزّقًا.
أخذتُ زوجًا من الأحذية لإبراهيم.
قال عباديان: "لن ينتعلهما".
136
127
بناء الحسينيّة
وضعتُ الحذاء أمام قدمَيْ إبراهيم وقلتُ له: "هيّا انتعل هذا".
نظر إلى الحذاء، لم ينتعله بل ضحك وقال: "هذا لهم وليس لي" مشيرًا إلى التعبويّين، ثم قال "أستغفر الله، لكن كيف للقائد أن يفعل هذا؟ لو سمحوا لي بالالتحاق بهم لربما انتعلت أحدها".
اعتقدتُ أنّه يمزح في البداية، لكن لم ينتعله مهما حاولت. تركني وذهب لأعماله وعدنا إلى المنزل حوالي الساعة الحادية عشرة. كانت والدته قد أعدّت "الكباب"، قدّمته له لكنّه أخذ يلتهي من دون أن يتناول منه شيئًا، فقالت له والدته: "هيّا كُلْ، لِمَ تلتهي عن تناول طعامك هكذا؟".
أشرتُ للطعام وسألتُه: "لِم لا تأكل؟".
قال: "أتريدني أن آكل "الكباب"، بينما لا يجد التعبويّون حتّى الخبز ليأكلوه! أين العدل والإنصاف في ذلك؟!".
لم يأكله، وذهب ليستريح، ثمّ نهض وغادر المنزل.
ذهبت إلى "أنديمشك" واشتريتُ له زوجًا من الأحذية بمئتَيْن وستين تومانًا، أحضرته إلى المنزل وأعطيتُه إيّاه.
قال: "ضعه في السيارة قرب المقود".
ذهبتُ ووضعته حيث قال.
نهض إبراهيم ليذهب إلى المنطقة وقال: "سأعود ليلًا".
قلتُ له: "سآتي معك".
عبرنا جسر "كرخة" ووصلنا إلى جسر "الصلوات"1.
1- جسر بناه أحد المحسنين كصدقة جارية ولعبوره يصلون على محمد وآل محمد.
137
128
بناء الحسينيّة
جاء أحد القادة وقال لإبراهيم: "هل تريد من يُسافر معك؟"، وأشار إلى أحد التعبويين الّذي كان يقف بجانبه.
قال إبراهيم: "على عيني".
قال له القائد: "انقله إلى جبهته أو مقره".
قال إبراهيم للتعبويّ: "هيّا اركب".
ركب التعبويّ فسأله إبراهيم: "لِم جئتَ إلى المدينة؟".
قال: "لقد تمزّق حذائي، فجئتُ لأشتري زوجًا آخر، إذ تأذّت قدماي كثيرًا".
ناوله إبراهيم الحذاء الّذي اشتريتُه له وقال: "انتعل هذا"، ففعل.
سأله إبراهيم: "هل مقاسه مناسب؟"
أجاب: "أجل، كم هو سعره؟"
قال إبراهيم: "لا حاجة لتعطيني المال، لكن أدعو الله لصاحبه".
قلتُ: "لكن أليس هذا الحذاء !!".
قال إبراهيم: "إنّه للتعبويّين والسلام".
ذهبنا إلى المقر، جلسنا هناك وكان العناصر يأتون واحدًا تلو الآخر يتحدّثون إليه. خرجتُ ورحتُ أنظر إلى العراقيين (في الطرف المقابل)، وعندما اشتدّ الظلام قلتُ له: "هيّا لنذهب، ألم تقل إنّك ستعود ليلًا؟".
قال: "لا يُمكنني العودة، فالعراقيون ينوون مهاجمتنا، اذهب وحدك".
ثم طلب من حسين أن يوصلني إلى المنزل ويعود.
138
129
بناء الحسينيّة
في طريق العودة سقطت قذيفتا هاون بالقرب منّا، لكن مرّ الأمر بسلام. بقينا في المنزل ثلاثة أيّام، لكنّ إبراهيم لم يعد، بل جاء أحدهم وقال: "طلب سيّدي أن أصحبكم لزيارة مقام ‘النبي دانيال` ومن هناك إلى الجبهة".
انطلقنا في الصباح الباكر، أنا ووالدته، زرنا المقام ثمّ أردنا التوجّه إلى الجبهة فلم يسمحوا لنا وقالوا: "ممنوع دخول النساء إلى المنطقة".
عدنا أدراجنا إلى المنزل ولم نلتق بإبراهيم.
لم تطق أمّه صبرًا وقالت: "نحن لم نأتِ إلى هنا لنقيم في المنزل ونعود أدراجنا".
اتصلتُ وأخبرتُه بما قالته أمّه، فقال: "اِعتذرْ لي منها فلم أستطع القدوم، إن شاء الله فيما بعد".
بعد نصف ساعة، جاء لرؤية والدته وعاد أدراجه. اشتريتُ بطاقَتَيْ سفر وعدنا إلى قريتنا.
شهادة إبراهيم
في المرّة الأخيرة وعلى ما أذكر، كان البعثيّون يقصفون "إسلام آباد" بشكل عنيف. اتصل إبراهيم بوالدته وقال لها: "طفلنا الثاني على وشك أن يولد ونحن بحاجة إلى فراشيَنْ، فأرسليهما وإذا كان بإمكانك المجيء أيضًا".
فقالت له والدته: "قدماي لا تُعيناني على السفر، إن استطعتُ فسوف آتي".
139
130
بناء الحسينيّة
لم تذهب، أعني لم تستطع ذلك.
ولد الطفل الثاني، وعلمنا بذلك بعد أيّامٍ عدّة، حين اتّصل وقال: "إنّه صبي وأسميته مصطفى".
باركنا له المولود الجديد.
بعد حوالي 20 يومًا، سمعنا أنّ البعثيين يقصفون "إسلام آباد" بشكل متواصل وعنيف جدًّا، فما كان من والد زوجته إلّا أن ذهب إلى هناك واصطحب معه ابنته وولديها وذهبا إلى أصفهان. أظن أنه بعد 22 يومًا غادرنا إبراهيم في جزر "المجنون". لم أكن أعلم بالأمر. ذهبتُ إلى منزلٍ يُستخدم كحسينية، واختليتُ بنفسي. جاء الحاج حبيب مع صهرنا الحاج منصور وسألاني: "هل استمعتَ إلى أنباء المذياع؟"
قلتُ: "لا، لِمَ تسألان؟"
نظرا أحدهما إلى الآخر.
قلتُ: "ما الأمر؟"
قال حبيب: "أخبرونا أنّ إبراهيم قد جُرح".
شعرتُ باضطراب شديد، حدّقت مليًّا في عينيهما، قلتُ وأنا على تلك الحال: "لا أظنّ".
قال السيّد منصور: "ماذا تعني؟"
قلتُ: "لقد أخبرني إبراهيم أنّه لن يُجرح ولن يُؤسر".
حدّقتُ ثانية في عينيهما علّهما يقولان شيئًا فلم يفعلا.
قلتُ: "لقد استشهد إبراهيم، وجئتما لتُخبراني بالأمر، أليس كذلك؟"
140
131
بناء الحسينيّة
لم ينبسا ببنت شفة. نهضا وانطلقنا.
في الطريق رأيتُ أشخاصًا عدّة يبكون محاولين مواساتي.
انقضى الليل. في الصباح، جاء الحاج "ولي" وقال لأمّه: "لا تقلقي، فهو في المستشفى الآن".
بعد ذلك حدّثنا عن المنام الذي رآه ولم يُطق صبرًا فاعترف أنّ إبراهيم قد استشهد.
قالت الوالدة: "لقد استودعنا اللّه إيّاه وقد استرجع وديعته الآن، رضًى برضاك يا الله".
نزعت سوارها من معصمها وقالت: "خذ هذه من أجل نفقات الدفن".
ذهبنا لرؤية جثمانه، لم أجرؤ على النظر إليه، لدينا صورته، قالوا لنا إنّ قذيفة مدفع قد أصابته فقطعت رأسه ويده اليسرى، وقالوا إنّه استشهد في مكان لم يكن فيه أحد غيره، لقد استشهد وحيدًا.
وقيل أيضًا إنّه كان مع أحد العناصر على درّاجته عندما أصابته قذيفة المدفع وما أمكن التعرّف إلى جثته لولا دفتر مذكّراته (الشهير) في جيبه، أو من خلال سجدة الصلاة والسبحة، لا أدري، كان هناك رأيان.
كان تشييعه مهيبًا، إذ شارك حوالي 700 شخص حتى أنّ بعضهم أتى من كردستان. جاؤوا واستبقيناهم عندنا. أخذناهم إلى المسجد وقدّمنا لهم طعام العشاء، حيث شيّعناه في اليوم التّالي. وكذلك بعد العشاء، قمنا بواجب الضيافة لهم. كان من بينهم أكراد ولم أكن أعرفهم، لكنّ الحاج "ولي" يعرفهم.
141
132
بناء الحسينيّة
ألم تستشهد يا والدي؟
لم أكن على ما يرام، ما إنْ أجلس في مكان، حتى تهبّ ذكريات الماضي، حين كان يتحدّث إليّ، أو يضحك ويتشاقى. أتذكّر الخبز اليابس وولعه بشرب اللّبن. كان لديه وعاء يحتفظ بالخبز الجاف في داخله. كان يطلب من القادمين إليه أن يجلبوا له اللّبن معهم، فكان يصنع من اللّبن المخيض ويضع معه الخبز الجاف ويأكله! سواء كان وحده أم مع أصدقائه. لطالما كان القادة يأتون إليه ليشكوا نقصًا أو مشكلة ما، فكان يطلب منهم تناول الغداء أوّلًا، ثمّ التحدّث بما يُزعجهم. وماذا كان الغداء؟ كان قصعة من اللّبن المخيض مع الخبز الجاف. فكانوا يضحكون إلى أن ينسوا ما كان يُزعجهم.
وأذكر ذلك اليوم الذي رافقتُه فيه إلى المقرّ وكدتُ أن أُصاب بشظيّة حينما حلّقتْ طائرة حربية للعدو وأطلقت شيئًا ما نحونا، كنتُ أنا و"حسين جهانيان" خارجًا.
قال حسين: "أسرع خلف الصخور، وإلّا ستُصيبك الشظايا!"
لجأنا إلى الصخور، فسقط الصاروخ على السيّارة ودمّرها.
كما أصابتْ شظية السيّارة الأخرى المحمّلة بالأسلحة وانفجرت، وأدّت إلى استشهاد أربعة من العناصر.
جاء إبراهيم ناحيتي، وعندما رأى أنّي بخير ولم أُصب بأذى، ضحك وقال: "ألم تستشهد بعد، كنتُ أُفكّر ما العمل وكيف سأُخبر أمّي وأقول لها إنْ لامتني على استشهادك!"
- دع الأمر لي.
142
133
بناء الحسينيّة
ضحك وقال: "كدت تجعلنا من عوائل الشهداء يا والدي العزيز".
- لم يُقسم لي ذلك، في المرّة الأخرى إن شاء الله.
- هيّا لنذهب وأستضيفك على فنجان شاي.
كان يضحك بطريقة تُذيب قلب الإنسان، بينما كانت له في الصلاة حال أخرى من ذرف الدموع، اذهبوا واسألوا عنه، اسألوا من كان ذاك الشاب، ماذا كان يفعل، كيف وأين كان يذرف الدمع؟ فأنا قد هرمت ولم أعد أذكر كلّ الأحداث والأمور.
أقسم عليك1
رافقنا الإخوة إلى الخطّ، إلى نقطة الانطلاق حيث من المقرّر أن يُشاركوا في المعارك القادمة - عمليّات خيبر - كنتُ أتحدّث إليهم عندما رأيتُ الحاج "همّت" قادمًا نحونا، ثمّ وقف ليتحدّث مع الإخوة.
قلتُ في نفسي: "لن يتحمّل البقاء بعيدًا عن العمليّات، في النهاية سيُسبّب لنا الأرق ولنفسه المشاكل".
لم أشح نظري عنه، حتى أثناء المعارك.
كان العراقيّون يصبّون نيرانهم بشكل جنونيّ علينا، خاصة على الخطّ الأمامي. مهما فكّرت بمحاولات لإبعاده، لم أجد لذلك سبيلًا.
ذهبتُ إليه وقلتُ: "يا حاج، أُقسم عليك بمن تحبّ أن تعود إلى الخلف".
- لا يمكن، لا أستطيع.
1- مذكرات الشهيد عباس كريمي: بطل قصة هاجر تنتظر.
143
134
بناء الحسينيّة
- على الأقلّ ادخل الدشمة.
- لا أُريد.
- انظر إلى القصف الأعمى.
- لكنّني لست أعمى ويجب أن أرى وأُعاين كلّ ما يجري، لأعرف إلى أين ستنتهي الأمور.
- لكن هذا عملي وسأنقل لك الأخبار، أنت يجب أن تكون في الأعلى.
- أنا لا أفقه شيئًا عن الأعلى والأسفل!
- أقصد المقرّ.
- مقرّي هنا حيث الإخوة!
لم يُطاوعه قلبه على تركنا، وكان القصف يشتدّ أكثر فأكثر. وأنا حائر لا أدري ما العمل.
توصّل الإخوة إلى حلّ، فأحاطوا به من كلّ صوب مشكّلين درعًا واقية له من الرصاص والشظايا وما شابه.
قلتُ له: "هل أنت راضٍ الآن؟"
حدّق بوجوه الإخوة فردًا فردًا وقال: "أفعالكم هذه تسلبني القدرة على الابتعاد أو الانسلاخ عنكم".
فقلتُ له: "على الأقل حافظ على نفسك لأجلهم".
حدّقَ بعينيّ طويلًا وقال: "حسنًا".
ظننتُ أنّه سيُغادر ففرحتُ، لكنّه ذهب ووقف قرب ناقلة الجند، يُراقب الإخوة ويوجّههم.
144
135
بناء الحسينيّة
فقلتُ لنفسي أو لمن هم حولي: "أفضل من لا شيء".
هذا أمر عسكري1
كانت العمليات "بنجفين" وكنّا نعمل على بناء ساتر ترابي. ملأنا أكياس التراب ووزّعنا المقاتلين، عندما اتّصل أحدهم عبر جهاز اللّاسلكي وقال إنّ الحاج همّت يطلب منّا الذهاب إلى الساتر الّذي بناه "صبوري" في المقدّمة.
أفرغنا الأكياس بسرعة، وذهبنا حيث طلب منّا. بدأنا العمل هناك حتى أنهكنا التعب. أنهيتُ توزيع المقاتلين وقلتُ لهم: "انتبهوا جيّدًا، من المؤكّد أنّ العراقيّين سيُهاجمون هذه النقطة".
اتّصلوا ثانية وقالوا: "انتقلوا إلى الساتر الأمامي الآخر".
قلتُ: "لا نستطيع لقد أنهكنا التعب".
فذهبوا وأخبروا الحاج همّت بالأمر.
اتّصل هذه المرّة بنفسه وقال: "هذا أمر عسكري يا محتشم، اذهبوا إلى الساتر الأمامي هل هذا واضح؟".
ومن يجرؤ على المخالفة؟! قلتُ: "حاضر يا حاج، على عيني، كما تشاء، حتى لو رفض الجميع فسأذهب وحدي أعدك".
خجلتُ أن أطلب من الإخوة المرهَقين المنهَكين مرافقتي، أفرغتُ الأكياس وهممتُ بالذهاب وحدي.
سألني الإخوة: "ماذا تفعل؟".
1- ذكرى من محتشم ، أحد أصدقاء الحاج همت.
145
136
بناء الحسينيّة
قلتُ: "سأذهب إلى الساتر الأمامي، وأهلًا وسهلًا بمن يرغب بمرافقتي".
انطلقتُ، ولم أتوقّع أن يتبعني أحد، لكنّني تفاجأتُ برتلٍ يسير خلفي، ولو أنّهم لم يتبعوني ما كنتُ لألوم أحدًا منهم، فالتعب قد أخذ منهم كلّ مأخذ.
في اليوم التّالي، جاء الحاج همّت لرؤيتنا، ضحك وقال: "مرحبًا، لقد أدهشتموني فعلًا. لم أكن أتوقّع منكم بسبب التعب أن تُجهّزوا متاريس على هذا النحو من التنظيم والمتانة!".
قلتُ: "نحن تلامذتك".
ضحكت كي أرى ضحكته، وكأنّما الجميع كان ينتظر ضحكته فضحكوا معه.
تقاطع الموت، جزر مجنون1
كنّا في كتيبة (410) من فرقة "ثار الله 41"، جهزت أنا والسيّد "حميد مير أفضلي" سريّة وذهبنا إلى المحور حيث الحاج "همّت". كانت العمليّات قد بدأتْ هناك في اللّيلة الماضية والجميع كانوا هناك أيضًا: الحاج "أحمد أميني"، "بايدار" وغيرهما.
بقينا مع "السيّد حميد" مدّة ثلاثة أيّام بلياليها هناك من دون ساتر ترابي.
لم نكن نملك غير مخزنٍ صغير وكنّا في مرمى نيران العدوّ. كان على السيّد حميد أن يقطع مسافة 3 كلم ذهابًا وإيابًا ليرفع من معنويّات
1- رواية أكبر حاج محمدي، قلت للمجنون ابق حيا، كتاب همت، روايت فتح.
146
137
بناء الحسينيّة
المقاتلين، إلى أن جاءتْ الجرّافات التي غنمناها من الأعداء وبدأتْ ببناء الساتر الترابي.
كان العراقيّون يصبّون نيران حقدهم علينا بشكل جنوني ما جعلنا نتسمّر في أماكننا.
لم يكن السيّد حميد ليهتمّ بالقصف ونوع القذائف، بل كان يتنقّل على طول الساتر الترابي وحتى يعمل على الجرّافة بنفسه.
مضى 3 أو 4 أيام على بناء الساتر الترابي. في الصباح حوالي الساعة الثامنة، جاء السيّد حميد والحاج همّت برفقة الحاج قاسم سليماني ورضا عبّاس زاده لمعاينة الخط.
كان السيّد يتنقّل باستمرار بين المقرّ التكتيكي للعمليّات ويعود. كانت له صولات وجولات مع القادة. في ذلك الوقت، لم أكن أعرف الحاج همّت عن كثب، طلب منّي أن أذهب إلى لواء "حبيب بن مظاهر" لإبلاغهم رسالة ما وأعود بسرعة. ما زلتُ أذكر ذلك اليوم جيّدًا. جلس السيّد حميد على درّاجة الحاج همّت. ذهبتُ إلى المهمّة وعدتُ سريعًا كي أتمكّن من التعرّف إلى الحاج همّت، كنتُ قد سمعت عنه الكثير ورغبتُ في لقائه كثيرًا.
عندما عدتُ لم يكن موجودًا. لا هو ولا السيّد. سألتُ عنهما وعن وجهتهما كثيرًا. لكن جاءتْ الإجابات متفاوتة، بعضهم قال: "لا أدري"، وبعضهم الآخر قال: "لقد غادرا قبل وصولك بقليل".
بعد ذلك علمتُ أنّهما توجّها إلى تقاطع "الموت" في جزيرة مجنون، وأنّ القذائف والقنابل قد سقطتْ بالقرب منهما و ... .
بعد مضيّ ساعة من الوقت، وصل الخبر، شعرتُ بانهيار. كان
147
138
بناء الحسينيّة
شخصًا قلّ نظيره في الوجود. لم يكن السيّد حميد عنصرًا عاديًّا كي لا نشعر بفراغ في غيابه، بل كان من عناصر الاستطلاع الذين توغّلوا عميقًا في جبهة الأعداء، وكان يعرف تفاصيل وجزئيّات العمليّات.
حزنتُ كثيرًا، كان ساترنا الترابي قريبًا جدًّا من ساتر الأعداء. ولم نكن نُطلق النار فيتمكّن الأعداء من تحديد امتداد جبهتنا ويتوقّعون وجود عناصر خلف السواتر.
قال رضا عبّاس زاده: "سننتقم للشهيد".
كان يقصد السيّد حميد.
لم يهنأ لي بال حتى اليوم التّالي، لذا ذهبتُ وتموضعتُ على الساتر الترابي، ورحتُ أراقبُ العراقيّين، كانوا يتنقّلون بحرّية من دون خوف أو حذر، وكانت المسافة الفاصلة بيننا قليلة جدًا - 150م كحدٍّ أقصى - أسرعتُ نحو رضا وقلتُ له: "إنّه الوقت المناسب، هيّا انهض".
جاء إلى الساتر الترابي ورأى الأعداء. قال: "جهّز الإخوة في طابور، ورماة الآر بي جي في خطٍّ آخر".
جهّزنا الإخوة، رماة "الآر بي جي"، والرشّاشات ورماة الهاون.
وما إنْ أشرقت الشمس، تموضع الإخوة على الساتر الترابي كي يُشرفوا على المكان بشكل أفضل، كنتُ أُراقب المشهد عبر المنظار، هبّت عاصفة ثأرنا فجعلناهم كعصف مأكول! يومها سقط أكثر من 70 بعثيًّا بين قتيل وجريح.
في ذلك اليوم ثأَرْنا لدماء الشّهيدَيْن "السيد حميد" و"الحاج همّت".
148
139
بناء الحسينيّة
دماثة أخلاقه
رغم تميّز الحاج همّت من الناحية العسكريّة، كان عارفًا حرًّا لا يطلب سوى رضى الله ولا يُشغل تفكيره إلّا به. إحدى أهمّ خصاله الإخلاص في العمل، حيث يقول "الشهيد محلّاتي": "كان إنسانًا يعمل للّه فقط، وفضيلة كلّ إنسان مؤمن أن يتحلّى بخاصيّتَيْن اثنتيَنْ: الإخلاص والعمل".
عدّ نفسه دائمًا خادمًا للتعبويّين، كان يعشقهم وهم كانوا يعشقونه أيضًا. باختصار، لم يكن فقط قائدهم بل كان مرادهم، كان مقاتلًا وحارسًا يعتقد بالولاية ويعتبر اتّباعها واجبًا، وعلى حدّ قول الشهيد عبّاس كريمي: "اعتقد الحاج همّت اعتقادًا كاملًا بالولاية، وكان حاضرًا أن يُقدّم روحه في سبيل ذلك، وكانت وصيّته الدائمة بوجوب إطاعة القائد وتنفيذ أوامره حرفيًّا، فهكذا تتجسّد الولاية".
كان مصداقًا واضحًا للآية الكريمة: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾.
يذكر قائد الحرس رحيم صفوي: "كان الحاج همّت كمالك الأشتر خاضعًا خاشعًا لله، وفي الوقت نفسه، أسدًا زائرًا وسيفًا قاطعًا على الأعداء الكفرة".
كان غالبًا ما يصل إلى البيت بعد منتصف الليل، ويُغادره باكرًا، ورغم تعبه يبقى مستيقظًا ويُطعم الولدَيْن بنفسه وأحيانًا يغسل ثيابهما. في إحدى اللّيالي وصل متأخّرًا جدًّا، وقد أعياني الاهتمام بمصطفى ومهدي طيلة النهار، فمصطفى كان لا يزال رضيعًا ومهدي كان حديث المشي يلحق بي كيفما اتجهت، ولهذا السبب لم أتمكّن من غسل ثيابهما وبقيتُ على هذه الحال حتى وصل الحاج، فهيّأتُ نفسي لغسل
149
140
بناء الحسينيّة
الملابس، لكنّه طلب منّي أن أدع هذه المَهمّة له. رفضتُ ذلك ورجوتُه أن يهتمّ بالطفلَيْن فقط لكنّه لم يقبل، فاضطررت أن أتنحّى عن تأدية المَهمّة.
بعد قليل، ذهب ونام، فاطمئنّ بالي ورحتُ أغسل الملابس. ما هي إلا دقائق حتى طرق الباب، كان الحاج واقفًا وفي يده كوب من عصير البرتقال، ضحك وقال: "بما أنّك تغسلين الملابس، فلتروي عطشك". أخذتُ الكوب وقلتُ له: "اذهب الآن ونَمْ قرير العين".
عندما ذهبتُ، غسلتُ قسمًا من الملابس ونقلتُهم إلى الخارج، وعندما أنهيتُ القسم الآخر رأيتُ الحاج قد نشر الملابس على الحبل.
نبأ شهادة الحاج همّت1
كان اللّيل في أولّه عندما كنتُ أتجاذب أطراف الحديث مع الأخ محسن رضائي2 في ثكنة "النجف الأشرف". وكالعادة، تحدّثنا عن الحرب والدفاع المقدّس وعن بطولة واندفاع أبناء التعبئة والحرس وعشقهم للشهادة. وأقبل حينها الأخ محسن رفيق دوست شاحب الوجه مغتمًّا، تحدّث بطريقة تُثير الأحزان والشجون وكأنّه يُخفي شيئًا لا يريد البوح به، وفجأةً أجهش بالبكاء وقال: "لقد استشهد الحاج همّت ولبّى نداء الباري عزّ وجلّ، لقد قصم ظهرنا بغيابه".
أستطيع أن أتحدّث عن نقطة واحدة ترتبط بالشهيد همّت. لقد كان إنسانًا عاملًا للّه، وفضيلة أي مؤمن هي امتلاكه لخاصّيتَيْن: الإخلاص والعمل. وإذا أردنا تقسيم الأعمال نرى أنّ من كان عمله أكثر إخلاصًا
1- رواية الشهيد حجة الإسلام محلاتي ره- - ممثل الإمام الخميني في الحرس.
2- قائد الحرس الثوري إبان الثورة.
150
141
بناء الحسينيّة
ومشقّة كان مكرّمًا أكثر عند اللّه. والشهيد همّت حمل على عاتقه أكثر الأعمال صعوبة ومشقّة في الجبهة، كان مؤمنًا مخلصًا، إنّ مثل هؤلاء هم قدوة لنا في الدنيا، وشفعاء لنا إن شاء الله في الآخرة، فليرحمه الله1.
بلسان القائد رحيم صفوي
كان الشهيد همّت سبّاقًا بالإيمان والتقوى، بالشهادة والإيثار، ومتقدّمًا على الجميع بالتضحية والفداء والشجاعة.
لقد كان معلّمًا متبصّرًا وقد نهل من معين معلّمه الكبير الإمام الخميني قدس سره. كان يُدرك جيّدًا فكر ونهج الإمام، وببيان فصيح وعذب عمل على نقله للآخرين، وعلّم أفراد التعبئة والحرس الإخلاص والتواضع بالتطبيق لا بالأقوال.
في آخر أيّام عمليّات خيبر وقبيل استشهاده، شنّ العدوّ هجومًا مضادًّا شتّت قوّاتنا وضعضع صفوفنا، ولكن ما إنْ سمعنا رسالة الإمام الخميني قدس سره: "يجب حفظ مجنون (الفاو)"، حتى انتاب الحاج همّت شعور آخر، وكأنّما بُعِثتْ فيه الحياة من جديد، وكأسد الغاب حطّم اندفاعة العدو وكسر هيبته، ووقف منتصب الهامة في وجه الصدّامييّن.
لقد كان عاشقًا لله مطيعًا لأوامره إطاعةً محضة، حتّى صار كلّ وجوده في طاعة اللّه وقدّم روحه لأجل ذلك.
كان يؤمن بمسألة تنفيذ التكليف وعملية تسلسلها من المراتب الأعلى حتى الأدنى بشدّة، ويعتقد أنّ أيّ أمر - بخصوص حفظ النظام –
1- مجلة “اميد انقلاب” أمل الثورة العدد 148-، طنين همت ص18.
151
142
بناء الحسينيّة
واجب شرعيّ على أيّ مسؤول أو قائد كتيبة. وعلى من هم في المراتب الأدنى تنفيذ التكليف دون تحفّظ.
لقد كان إنسانًا ولائيًّا طاهرًا مخلصًا ومطيعًا لتعليمات الأخ القائد "محسن رضائي"، ويُقدّس تكليفه، ويعدّ تكليف الإمام ويُنفّذه بكلّ أدب وتواضع.
بشكل عام، كان إنسانًا حنونًا عطوفًا، يُليّن الصعاب بيديه، كان يسعى دائمًا قبل بدء العمليّات إلى أن يوجد بنفسه في المنطقة ليتعرّف عن كثب إلى التفاصيل بالكامل.
وخلاصة القول: إنّه ما دامت أمّة حزب الله ثابتة شامخة فإنّها لن تنسى تلك المشقّات والصعاب التي تحمّلها هذا الإنسان العزيز، وذكراه ستبقى خالدة في قلبها ووجدانها وستبقى تعشقه.
"نحن بلا شكٍّ فقدنا إنسانًا كبيرًا وينبغي حتى آخر أيّام عمرنا أن نندبه ونذرف الدّموع ونُقيم له العزاء".
الشهيد همّت كان قائدنا ومولانا، ولساننا قاصر عن الحديث عنه، والتاريخ يعجز عن كتابة وتدوين سجايا هذا القائد العطوف الرحيم.
لقد كان تلميذًا مخلصًا مقلّدًا تابعًا للإمام الخميني قدس سره، حتى قبل الثورة كان مناضلًا، ومنذ بداية انتصار الثورة هجر منطقته نحو الجهاد في كردستان.
إذا أردنا أن نتحدّث حول هذا الإنسان، يتوجب علينا الذهاب إلى منطقة كردستان وبافه ونسأل الشعب المظلوم هناك، من هو الشهيد همّت؟
152
143
بناء الحسينيّة
سمعنا الشهيد مرّات عديدة يقول: "أهل كردستان ظُلموا كثيرًا، هؤلاء طيلة 2500 عام كانوا تحت نير الاستبداد والاستكبار، ونحن يجب أن نُنجيهم من نير العبوديّة والإذلال1".
عندما كُنّا نسأل الحاج همّت عن أهمّ ميزة في حياته كان يُجيب: "حياتي والحرب توأمان، حياة الإنسان كفاحٌ دائمٌ والحرب كفاحٌ أيضًا".
كان دائمًا يؤكّد على القادة الّذين هم تحت إمرته: "اذهبوا واسكنوا قلوب التعبئة". إنّه مصداقٌ بارزٌ لهذه الوصية، كان همّت عاشقًا ولهًا على ارتباط دائم بالمعشوق2.
من ذكريات رفاق الدرب
ينقل أخو الشهيد همّت قائلًا:
"رافقت الحاج همّت في إحدى ليالي عمليّات "مسلم بن عقيل" لزيارة منطقة تمّ تحريرها حديثًا. كنتُ أنا السائق. سرنا حتّى شعرتُ بأنّنا وصلنا إلى منطقة لا يُمكن عبورها، فترجّلنا من السيّارة. حينها أدركنا أنّنا دخلنا حقل ألغام، ما تمّ تطهيره فيه لا يسع سوى لعبور آليّة.
كان الحاج همّت أيضًا قد ذهب من تلك العمليّات ذاتها إلى ارتفاعات منطقة "گيسكه"، وكنتُ بجانبه في نفس المتراس، كنُّا قريبَيْن جدًّا من العدوّ، انشغل الحاج بمراقبة مرتفعات مدينة "مندلي" العراقيّة عبر المنظار بغية استكمال العمليّات، حينها شعر العدوّ بوجودنا فقصف المنطقة بعدّة قذائف هاون، سقطت الأولى على بعد 50 إلى 60 مترًا
1- في إشارة إلى فصائل كردية معادية للثورة.
2- إبراهيم رستمي، طنين همت، حياة القائد محمد إبراهيم همت، ص19.
153
144
بناء الحسينيّة
من المتراس، والثانية على بعد 30 إلى 40 مترًا، واقتربت الثالثة أكثر فربّت الحاج على كتفي وقال: انهض لنذهب فالتالية ستُصيبنا، ونهضنا بسرعة، وما إن ابتعدنا قرابة مئة متر حتى هوت قذيفة على المتراس ودمّرته".
سآكل غدًا
كان قد وصل إلى "دوكوهه" لتوّ، كان الوقت منتصف اللّيل ولدينا جلسة. قال الأخ الّذي يُرافقه: "الحاج لم يتعشّ بعد، فإذا كان لديكم شيء من الطعام ليأكله قبل الجلسة". فأحضرتُ صحنَيْن من الأرز وعُلْبَتَيْ "سمك تونا" ووضعتها أمامهما.
فبدأ الحاج بتناول الطعام وهو يتحدّث. قبل أن يضع أول لقمة في فمه، سألني: "ماذا تناول الشباب". قلتُ: "من هذا الطعام نفسه". سأل: "من هذا الطعام الذي وضعتَه أمامي" أجبتُ: "نعم، من هذا". ثمّ سأل: "هل تناولوا سمك تونا أيضًا". قلتُ: "من المقرّر أن يتناولوه غدًا". ما إنْ تفوّهت بهذه الكلمة، حتى وضع لقمته على المائدة وقال: "فإذًا سآكل التونا غدًا". قلتُ له: "يا حاج! أُقسم بالله غدًا سنُطعم الجميع منها". قال: "أُقسم بالله أنا أيضًا سآكل منها غدًا". كلّما أصررت عليه فلا جدوى، ولم يأكل تلك اللّيلة سوى الأرز.
كان شديد الاحترام والمحبّة للإخوة في الوقت الّذي لم يقبل فيه ولو بمقدار قليل أن يكون طعامه أحسن من طعامهم1.
1- محمد عباديان، براي خدا مخلص بود، ذكريات حول الشهيد همت، ،نشر “يا زهراء، خريف 1392.
154
145
شجاعة الحاج همّت
شجاعة الحاج همّت1
في أحد مواسم الحج، كان الحاج همّت يُخفي في يديه أوراقًا ملفوفة يُحتمل أنّها كانت تحتوي شعارات مسيرة البراءة، حينها تقدّم منه شرطيٌّ سعوديّ وانتشل تلك الأوراق من يديه إلا أنّ ردّ فعل الحاج همّت كان بأنْ ضغط بشدّة على يديّ الشرطي حتى امتقع لون وجهه ففتح يديه مرغمًا، وعندها استعاد الحاج همّت أوراقه. هذا الموقف يُجسّد بعضًا من شجاعته. إنّ ما رأيتُه في حياة الشهيد همّت والحاج أحمد متوسليان والحاج محمود شهبازي أنّهم أحسّوا بتكليفهم منذ البداية، كانوا يُدركون ما يفعلونه جيّدًا، أمّا نحن فانشغلنا بسفاسف الأمور، وهم قد خلعوا أخفاف التصنّع.
يقول الحاج أحمد متوسليان: "كنتُ أحسّ نفسي إنسانًا شجاعًا، لكن الحاج همّت كان أشجع منّا".
في مسيرة البراءة، كان همّت يُخفي في جيبه مجموعة من الصور اللّاصقة للإمام الخميني (ستيكرز)، وكان بين الفينة والأخرى يُخرج واحدة منها فينزع غلافها الصمغي ويدنو من عناصر الشرطة السعوديّين واضعًا يده على رقبة أحدهم معانقًا إيّاه، وفجأة تعلو ضحكات الجموع،
1- عباس برقي، طنين همت، حياة القائد محمد إبراهيم همت، ص138 ...
155
146
شجاعة الحاج همّت
إذ إنّ الحاج كان يراوغ أفراد الشرطة السعوديّة بمعانقتهم حتى يتمكّن بسهولة من لصق صور الإمام على قبّعاتهم من دون أن يعلموا سبب ضحك الناس، وفي ذاك اليوم استطاع الحاج همّت تكرار الأمر نفسه لحوالي 50 إلى 60 شرطيًّا1.
وردة في حضن النسيم
كان هناك متّسعٌ من الوقت حتّى الغروب، والجوّ ما زال مضيئًا، إلا أنّه لم يكن معلومًا لماذا ظلّ العدوّ يرمي القنابل المضيئة في وضح النهار. كانت القنابل تهوي تدريجيًّا إلى الأرض وكأنّها حفنة من أولاد الشيطان استولت على مخازن القذائف المضيئة وراحت تعبث بها في نهار ذلك اليوم.
أقبل أفراد كتيبة "مالك الأشتر" مسرعين، فانتشروا خلف الساتر الترابي وسأل بعضهم: "ماذا نفعل؟" فقال جواد لمنصور: "بما أنّه لا يوجد هنا خندق فلنحفر واحدًا".
أجاب منصور: "لا، لن نبقى طويلًا، بعد غروب الشمس سنتحرّك باتجاه العدوّ".
ردّ عليه جواد: "وهل ينتشر الإخوة هكذا خلف الساتر!! في حال قصفنا العدوّ سنُصاب جميعًا".
فقال منصور: "اسمح لي أن أسأل محمّد رضا".
"سيّد محمّد رضا، كم سنبقى هنا؟ أيحفر الإخوة خندقًا أم لا؟"
1- ابراهيم رستمي، طنين همت، حياة القائد محمد إبراهيم همت، أيضًا: همباي صاعقه .
156
147
شجاعة الحاج همّت
فأجاب: "فليحفر كلّ واحد لنفسه حفرة صغيرة بالقدر الذي يُمكّنه الاحتماء بها. وبعد حلول الظلام نرحل، أخبر الإخوة بأنْ لا يُرهقوا أنفسهم كثيرًا".
كان الحاج عبّاس يروح ويجيء حاملًا بيده جهاز اللّاسلكي، اقترب منه محمّد رضا وقال له: "السلام عليكم، ما الخبر؟" فأجابه: "عليكم السلام، أتيتم باكرًا لقد تأخّرت العمليّات قليلًا، يجب أن نتحرّك عند الساعة الحادية عشرة، ليتكم تأخّرتم! فهذا الساتر قد قصف للّتو وليس لدينا خندق هنا. الوضع خطير، قل لإخوانك أن يحفروا لأنفسهم حفرًا انفرادية".
فسألتُه لماذا تأخّرتْ العمليّات، قال إنّ الإخوة في الفِرَق الأخرى لم يحضروا بعد.
سألتُه: "هل من خبر عن الحاج همّت؟"
فأجاب: "إنّه في الخلف، لقد تقرّر أن يبقى هو في مقرّ التعبئة وأنْ آتي أنا إلى هنا".
شاهد محمد رضا "جيب" القيادة قادمًا نحونا محدثًا من بعيد غبارًا يتطاير في الأرجاء.
فقلتُ: "أأنت مطمئن أنّه في المقر؟"
فأجاب الحاج عبّاس متعجّبًا: "نعم، وهل حدث شيء؟"
قلتُ: "لا لم يحدث شيء، ولكن لا أظن أنّه في المقر، انظر خلفك!"
التفت الحاج عبّاس إلى الخلف، كانت قد دنت السيّارة منّا والحاج همّت بداخلها برفقة عدد من إخوة سلاح الإشارة جالسين في الخلف.
157
148
شجاعة الحاج همّت
فتسمّر الحاج عبّاس في مكانه متفاجئًا، وقد توقّفت بقربه السيّارة، وقبل تبادل السلام مع الحاج همّت قال له: "حاج ماذا تفعل هنا؟ ساعة فقط والمكان هنا يتحوّل إلى جهنّم!! لا خندق عندنا ارجع بسرعة وانسحب".
افترّ ثغر الحاج همّت عن ابتسامة وقال لمحمّد رضا: "انظر، هذا مسؤول وحدة الاستطلاع والعمليّات خاصّتنا، وسط هذه المعمعة يصرخ في وجه قائده؟!"
أجاب الحاج عبّاس بصوت رقيق ملؤه الخجل: "عذرًا حاج، لم أقصد ذلك، ولكن أنا موجود هنا! وحضورك ليس ضروريًّا. عد إلى الثكنة، الوضع هنا خطير".
تبسّم الحاج وقال ممازحًا: "عبّاس! ألحقك الله في ذمّة الشهداء! أيّها العاقل! ألأنّ المكان خطير أذهب أنا وتبقى أنت؟! أنا اليوم من هذا المكان سوف أُدير المجموعات والكتائب".
عندها تدارك محمّد رضا الموقف وقال: "حاج! لقد أعدّوا العدّة الليلة لأجلنا، يُقال إنّ البعرة تدلّ على البعير!
انظر إلى السماء لقد شرعوا منذ الآن، فتخيّل بعد ساعات قليلة ماذا سيفعلون".
قال الحاج: "جيّد، السماء أضحت جميلة، لقد بدأوا منذ الآن بالاحتفال لقدوم كتيبة مالك الأشتر!!"
158
149
شجاعة الحاج همّت
العبادة والمقام المعنوي1
في إحدى ليالي نيسان من العام 1981م، نهضتُ منتصف اللّيل من نومي فسمعتُ صوت أنين آتيًا من غرفة كبيرة خلف غرفتنا، ما إنْ دنوتُ حتى رأيتُ الحاج همّت قابعًا هناك يُناجي ويئنّ، حدّقتُ به أكثر فعرفتُ أنّه يُصلّي صلاة اللّيل بحالة عرفانيّة عجيبة، واقفًا بين يدي اللّه باكيًا مناجيًا، ولعلّ هذا المشهد كان أعجب ما رأيت طيلة حياتي.
من يستمع لخطب الحاج همّت يجده دائمًا يتحدّث عن اللّه والإيمان والصدق والأخوّة، وكان يقول: "إذا عملتم كلّ أعمالكم لوجه الله، حتمًا سترون فيها النصر والتوفيق".
"يجب أن تكون كلّ أعمالنا خالصة لوجه الله".
حربنا وقتالنا في سبيل الله، كلّ ما لدينا لله حتى نومنا ...
وإذا كانت كلّ أعمالنا في سبيل الله سواء قَتلنا أو قُتلنا فإنّنا فائزون.
كُنّا في طليعة الخطوط الأماميّة في الجبهة، وأراد الحاج همّت قيادة العمليّات من الخطّ الأمامي، كان واقفًا فوق الساتر وحوله الإخوة في سلاح الإشارة. كان قد مضى بعض الوقت على بدء الهجوم حين أخذت الأرض تهتزّ من شدّة انفجار القذائف المتساقطة في كلّ مكان وتطايرتْ الشظايا بالقرب منّا. كنتُ أنا منحنيًا، بينما كان الحاج واقفًا بثبات يتحدّث بواسطة اللّاسلكي وللحظة أحسستُ بأنّ شظيّة ستُصيبه فركضتُ مسرعًا وارتميتُ فوقه. لم يقل شيئًا، نهض بهدوء فقط.
1- عباس برقي، طنين همت، ص29.
159
150
شجاعة الحاج همّت
أُصيب الإخوة في الإشارة جميعهم، أمّا هو فظّل واقفًا من دون وجل، ولم يتزحزح أبدًا .
إنّه مصداق لقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: "تزول الجبال ولا تزل".
هذا الإنسان الذي رأيتُه كان قد وصل إلى أعلى المقامات المعنويّة في التوحيد الأفعالي والربوبي، فلم ير مؤثّرًا في هذا الكون سوى الله.
حياة بسيطة
في العام 1981م، رافق الحاج همّت الفرقة 27 إلى سورية وعندما عاد سألتُه: "كيف كان الوضع هناك؟" أجاب: "عندما وصلنا إلى هناك، استقبلنا بحفاوة، ووضعوا لنا مائدة ممّا لذّ وطاب فسألتهم لمَ كل هذا؟!"
قالوا: "ولكنّك قائد ونريد تكريمك والاحتفاء بك".
أجبتهم: "القائد كما قال علي عليه السلام هو ذاك الذي يكتفي بأبسط أمور العيش ويبتعد عن التكلّف، أنتم بهذه الكيفية من المراسم والشكليّات كيف ستُقاتلون إسرائيل؟"
في إحدى المرّات التي أتى بها الحاج همّت برفقة زوجته وابنه إلى شهرضا، قلتُ له: "من غير المناسب أنْ تصطحب زوجتك وابنك معك كيفما ذهبت، على الأقلّ اتخذ لنفسك منزلًا"، فأجاب: "لا تغضب، بيتي معي في صندوق سيّارتي"، فقلتُ: "وكيف ذلك؟" قال: "تعال وانظر"، وحين فتحنا صندوق السيّارة كان يحتوي بعض اللوازم البسيطة (طنجرة، كأس، صحن، وسفرة بلاستيكية صغيرة ..)، وأردف قائلًا: "هذا هو منزلنا، نحن تركنا الدنيا لطالبيها وتركنا البيوت لأصحابها، تركنا كلّ شيء للساعين وراء حطام الدّنيا واكتفينا من الدنيا بهذا القدر".
160
151
شجاعة الحاج همّت
قائد ومثقّف
قبل أن يكون الحاج همّت قائدًا عسكريًّا، يُعدّ مجاهدًا مؤمنًا ذا بصيرة، مقتنعًا بأنّ حربنا حرب ثقافية عقائدية، كان يعتبر التثقيف الديني العقائدي أهمّ من التدريب العسكري.
قبل عمليّات "والفجر4"، عندما كان في الفرقة العسكرية في معسكر الشهيد بروجردي قال لي الحاج همّت: "يا حاج اجمع الإخوة واعقد لهم درسًا ثقافيًّا عقائديًّا، وأضاف: في هذه العمليّات أنا أُرجّح الدروس التثقيفيّة على التدريب العسكري".
والواقع أنّه خلال تلك العمليّات لولا إيمان واعتقاد الإخوة لما استطاعوا الوصول إلى مرتفعات "گانيمانگا" المحصّنة وقد استطعنا أن ننتصر على العدوّ بأيدٍ خالية. في تلك العمليّات، استطاع الإخوة تخطّي الصعاب والأعمال الشاقّة بفضل الروحية العالية التي امتلكوها، فمثلًا كان أكثر الإخوة من أهل صلاة اللّيل.
هذه الخاصّية جلبت النصر والتوفيق واستطعنا تحرير تلك المرتفعات1.
الخطاب الأخير
في اليوم العاشر من عمليّات خيبر، وبأمر من قيادة "مقرّ فتح"، توقّفت العمليّات في محور "طلائية" و"كوشك" وذهب عناصر الفرقة إلى "دوكوهه" لإعادة بنائها وترميمها، وكان همّت لا يزال منشغلًا بعمله في منطقة العمليّات.
1- عباس برقي، طنين همت.
161
152
شجاعة الحاج همّت
كان ظهر يوم 14 اسفند حين خرج من الجزيرة ودخل معسكر "دوكوهه". ذهب "أكبر زجاجي" لاستقباله وقال: "حاج، أنقذنا من هذه المعضلة، لقد تعب الشباب ولم يبقَ لهم رمق ويريدون العودة إلى بيوتهم لأنّ مهمّتهم قد انتهت". انزعج الحاج همّت بعد سماع هذا الخبر. فإذا ما عاد الشباب في إجازاتهم، فلن يبقى للفرقة خطوط خلفية.
قام بجمع العناصر في ميدان المراسم الصباحية في "دوكوهه" وألقى بين صلاتَيْ المغرب والعشاء خطابًا حماسيًّا. قال: "... إنّ كلّ ما لدينا هو من الشهداء، وإنّ هذه الثورة الدمويّة هي من دماء هؤلاء الأعزّاء. لم يستطع أحد في تاريخ الحروب وحين التخطيط للحرب أن يحسم النصر والهزيمة (مسبقًا). حتى النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يحسم نتيجة الحرب قبل شروعها. ولكنّ المهم هو السير في سبيل اللّه، فاللّه تعالى يُقدّر الهزيمة، ويهب النصر، ينبغي أن نتوكّل عليه. صحيح أنّنا ضعفاء في أبداننا، ولكنّ العمليّات ليست بيدنا لتكون صعبة أو سهلة. نحن نرى ظاهر الحرب، ولكنّ أساس حربنا أساس معنويّ. يجب أن نتقدّم في هذه الحرب بدمائنا..."
بعد انتهاء الخطاب الّذي كان في الواقع آخر خطاب للشهيد همّت قبل استشهاده، فإنّ كلّ الذين أرادوا العود إلى مناطقهم، أعلنوا جهوزيّتهم للحضور في ميدان الحرب1.
1 براي خدا مخلص بود، ذكريات حول الشهيد همت، ،نشر “يا زهراء، خريف 1392 .
162
153
باقة من كلمات الشهيد
باقة من كلمات الشهيد1
يقول الشهيد همّت في إحدى كتاباته بعد انتصار الثورة2: "منذ تلك اللّحظة التي شعرتُ بها بتباشير انتصار الثورة وأدركتُ حتميّة قيام الجمهورية الإسلامية مكان الحكومة الشاهنشاهية الظالمة والفاسدة، أقسمتُ لربّي أنْ لا أهدأ أو أستكين في طريق حفظ وحماية الثورة حتى آخر قطرة من دمي، وأن أسعى ليل نهار من دون توقّف لإعلاء كلمة الله ونشر الوعي الإسلامي، ولأجل ذلك حملتُ السلاح وتوجّهتُ إلى جبهات القتال الدامية".
وفي كلمة لوالديه
أبى وأمّي العظيمان والحنونان، من الواضح أنّني أنا أيضًا أُحبّ الحياة مثل الشباب العاديّين، ولكنّ الدنيا لا تستحقّ أن يكون الإنسان فيها مخالفًا لربّه.
وعندما يقول النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنّ الدنيا مزرعة الآخرة، فكيف يُمكن أن أُعرض عن هذه المزرعة المثمرة؟
1- ابراهيم رستمي، طنين همت، حياة القائد محمد إبراهيم همت، ص138.
2- جمعت كلمات وخطابات ودروس وأعمال الشهيد همّت في ما يقارب 900 صفحة في كتاب "به روايت همت"، تدوين وتحقيق: حسين بهزاد، نشر بيست وهفت، بالاستناد إلى أرشيف مؤسسة حفظ ونشر قيم وآثار الدفاع المقدس، فيلق محمد رسول الله، ومركز وثائق ودراسات الدفاع المقدس في الحرس الثوري الإسلامي.
163
154
باقة من كلمات الشهيد
لكن لا أرغب بالتعلّق بهذه الدنيا العابرة والفانية، ولن أدع قلبي ينشغل بها، أنا لن أغفل عن نعم الله اللّامتناهية – جنّات عدن - ولن أنسى دوري الأساس الذي هو إقامة خلافة الله على الأرض.
عن المسؤولية
أنا ألجأ إلى اللّه العزيز المقتدر وأسأله المدد وأستعين به حتى أُنجز المسؤولية التي حملتُها على عاتقي مفتخرًا مرفوع الرأس.
والتوكّل
إخواني الشجعان يا حرّاس الثورة وأبطالها!
اسعوا واجهدوا أن لا تضلّ أنفسكم في ميادين الحرب، تحكّموا جيّدًا بعزيمتكم وروحيّتكم. واجعلوا عقولكم غالبة على مشاعركم وانفعالاتكم وفي تلك اللحظة التي تتساقط فيها قذائف العدوّ فوق رؤوسكم كأمطار الخريف الغزيرة، فقط تذكّروا اللّه وحده والجؤوا إليه وتوكّلوا عليه.
عندما تشتدّ الحرب عليكم اعتقوا أنفسكم من اللّذائذ العابرة في هذه الدنيا الفانية، ووجّهوا قلوبكم نحو الله وكونوا دائمًا متّصلين به.
الجهاد مدرسة الشجاعة
أيّها المجاهدون، أنتم ذوو الأرواح المخلصة الذين تؤدّون أعمالكم بإتقان تحت النيران والقذائف، اعلموا أنّ ساحة الجهاد واسعة غير محدودة، إنّ الفناء في اللّه والوصول إلى رضوانه لا يعرف زمانًا ومكانًا.
أعزّائي، اسعوا واجهدوا حتى تُحقّقوا مشاريعكم الموجبة لرضى ربّ العالمين.
164
155
باقة من كلمات الشهيد
وفي وصفه للشجعان الذين لم يتعرّفوا أبدًا إلى العلوم العسكريّة المتطوّرة، ولم يتخرّجوا من الكلّيات العسكرية، ولكنّهم كانوا في ميدان الحرب رجالًا صنعوا المعجزات:
إنّ المحاربين الشجعان الذين اجترحوا الملاحم في ساحات الحرب، وأظهروا البطولات وأذهلوا العالم وحيّروه، في أيّ الكلّيات العسكرية المتطوّرة قد تدرّبوا وتعلّموا؟!
مَنْ مِن هؤلاء المقاتلين الغيارى قد درس الحرب وفنونها على أيدي الخبراء الأجانب وفي أيّ كلّيات راقية قد تدرّب أو تخرّج؟
مَنْ مِن هؤلاء نمور الصحاري وأسودها قد اطّلع على كتب الحرب وقوانينها؟
أجل، أنا أعلم هؤلاء قادة الطلائع والفرق في أيّ الجامعات قد درسوا وفي صفوف أيّ الأساتذة قد تعلّموا، كيف يُخضعون عدوّهم ويُظهرون بطولاتهم وشجاعتهم.
لقد درسوا في جامعة عقائد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، وتعلّموا الشجاعة من المرتضى داحي باب خيبر.
الشّهيد والشّهادة
عن أهمّية وقيمة الشهادة في لوح التاريخ وعن أثر دم الشّهيد في إيقاظ الأمم يقول الحاج همّت:
الشهادة أجمل وأرفع وأعذب كلام في تاريخ البشرية.
الشهادة أفضل وأوضح معنى للتوحيد، وتاريخ التشيّع هو أفضل مثال على عظمة ورفعة الشهيد.
165
156
باقة من كلمات الشهيد
الشهيد يُهذّب نفسه مرارًا ليعيش حياة كحياة عليّ عليه السلام والالتحاق بالملكوت (المعشوق) كما التحق الحسين عليه السلام بمعشوقه الأوحد.
الشهيد تخلّص أوّلًا من موبقات ورجس الشيطان بعقله وطاعته لله ومن ثم قدّم عنقه على مذبح الشهادة.
كلّ شهيد قادر وحده على إحياء التاريخ.
كلّ شهيد هو نموذج وقدوة وتاريخ لنا.
خطابه للتعبئة
أقول لكم يا أعزّائي بثقة وإيمان عميقَيْن إنّني كنتُ خلال ليالي العمليّات أنظر في الوجوه الجميلة والملكوتية لكثير منكم - أيّها المجاهدون - فأرى فيها سمات الشهادة.
لقد كان نور الشهادة يتلألأ في وجوه أولئك الرجال الأحرار.
أيّها التعبويّون الشرفاء، أنتم تُجسّدون الروحية العالية والرفيعة للإنسان الكامل..
166
157
وصيّة الشّهيد
وصيّة الشّهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
كلّ ما لدينا هو من الشهداء، والثورة ثمرة دماء الشهداء.
بتاريخ 19/10/1980م الساعة العاشرة وعشر دقائق ليلًا، أكتبُ وصيّتي في بضعة أسطر.
في كلّ ليل يسقط نجم إلى الأرض، ومجدّدًا هذه السماء الحزينة تغرق بالنجوم.
أمّي العزيزة! تعلمين أنّي أُحبّك كثيرًا وتعلمين أيضًا كم أنّ ابنك عاشقٌ للشهادة وما مدى عشقه للشهداء.
أمّي! الجهل الحاكم على مجتمعٍ ما يجرّ أفراده إلى الفساد، والحكومات الطاغوتية هي مكمّل لهذا الجهل، وربما تطول القرون حتى يأتي إنسان من سلالة الأطهار لقيادة مجتمع تائه ضعيف. والإمام1 هو خلاصة سلالة المكمّلين لخطّ الإمامة والشهامة والشهادة.
أمّي العزيزة ! ...
كلامه كان ولا يزال يبعث روح الإسلام في صدري ووجداني المهترئ والصدئ.
1- أي الإمام الخميني قدس سره.
167
158
وصيّة الشّهيد
إذا نلتُ شرف الشّهادة، اطلبي من الإمام أن يدعو لي لعلّ الله – بعظمة الإمام – يقبلني رغم سواد وجهي، شهيدًا!
أمّي العزيزة، كنتُ وما زلتُ أنفر من النّاس المتواطئين واللّامبالين. كثرٌ هم أولئك الّذين ليس لديهم معرفة كافية بالإسلام، ولا يعلمون لماذا يعيشون وما هي أهدافهم، ولا يعرفون أصلًا ما يقوله الإسلام.
ليتهم يعودون لأنفسهم!
من ناحيتي أقول للشّباب، عيون الشّهداء تُحدّق بكم فانهضوا وتعرّفوا إلى الإسلام واعرفوا أنفسكم.
أبي وأمّي! أنا أُحبّ الحياة ولكن ليس بالقدر الذي أتلوّث بها وأغفل عن ذاتي وأنسى.
عليٌّ عاش واستشهد، والحسين عاش واستشهد، وأنا عاشق لشهادة الحسين عليه السلام.
النموذج الخالد للإنسان المؤمن هو التخلّص من حبائل الهوى والشهوات وأنا أيضًا أُحبّ هذا النموذج.
الشّهادة في قاموس الإسلام هي أشدّ الأعمال التي تضرب في كيان الظلم والجور والشرك والإلحاد وستبقى تضربه وتاريخ الإسلام أثبت ذلك.
أبي! نحن غدًا ذاهبون لقتال أناس كالكفّار في صدر الإسلام، لا يعرفون لماذا ولأجل أيّ شيء يُقاتلون، أولئك البعثيّين العراقيّين.
انظروا إلى اليوم الذي نعيش فيه وكيف أفسد الاستعمار مجتمعنا، إنّ هؤلاء عقبة كأداء في طريق الثورة وينبغي أن نُزيل هذه العقبة كي نُكمل طريق التكامل.
168
159
وصيّة الشّهيد
أمّي العزيزة! أُقسم بالله إذا بكيتِ لأجلي لن أرضى عنك أبدًا، تأسِّي بزينب واستودعيني عند اللّه.
اللّهمّ ارزقنا توفيق الشهادة في سبيلك.
الإسلام دين النضال والجهاد وهذا طريق يحتاج للإيمان والإيثار والصبر والاستقامة.
أخواتي وإخواني وأبي! اعذروني وأرجو منكم أن تُكملوا طريقي.
والسلام، محمّد إبراهيم همّت
الساعة 12:15 – بافه
غرفة عمليّات الحرس
169
160
الوصيّة الثانية
الوصيّة الثانية
بسم اللّه .. اسم ما بعُدَ عن وجداني أبدًا، ألهج بذكره دومًا، آملًا راجيًا فيه الوصال.
السّلام على الحسين عليه السلام، سيّد الشهداء، أسوة البشريّة وأسطورتها.
أمّي الغالية وزوجتي العطوفة، أبي وإخواني الأعزّاء! سلام اللّه عليكم بأنّكم لم تمنعوني عن سبيل اللّه، كم كنتم صبورين، أنتم تعلمون مدى عشقي وتعلّقي بالشهداء. إنّهم طيور دائمة التحليق نحو الملكوت الأعلى.
هم قدوة وأسوة آمنوا ببذل أنفسهم لأجل نيل مقام القرب الإلهي.
﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾1.
أنا أيضًا ما عدت أطيق أو أحتمل، حائرًا أرى نفسي وقد سُجنتُ وأرغبُ في الخروج من سجني وأسلاكه الشّائكة تمنعني، وأنا متنفّر
1- سورة التوبة، الآية 111.
171
161
الوصيّة الثانية
من مظاهر الدنيا المادّية ومن كلّ ما يُبعدني عن الله (هوى النفس، والشيطان الداخلي وعدم الإخلاص).
خلال الحرب، بدتْ سيماء الشهادة بوضوح على محيّا الإخوة قبل استشهادهم، وكلّ إنسان كان باستطاعته ملاحظة ذلك من البعيد.
أعزّائي! للمرّة الثانية أكتبُ وصيّتي ولكنّي لستُ أهلًا للشهادة، وواضح أنّي ما زلتُ مكبّلًا ملوّثًا لم أصل إلى الخلوص بعد.
منذ بدء الثورة، سرتُ في هذا الخطّ، وبعد انتصار الثورة أيضًا وجدتُ في الحرس ملجأً مؤاتيًا للجهاد، بدايةً في مواجهة أعداء الثّورة في منطقة "شهرضا"، ثمّ المشاركة في خوزستان ومجموعات "خرّمشهر"، بعد ذلك السفر إلى "سيستان وبلوتشستان"، وبعدها الذهاب نحو كردستان، حيث بقيت هناك عامَيْن كاملَيْن وحوالي ستة أشهر في "خوزستان"، كأنّ الحرب عُجنت بي.
لقد لطف اللّه تعالى كثيرًا لغاية الآن بهذا المذنب الغارق بذنبه من ناصيته حتى أخمص قدمَيْه، ووفّقه للجهاد في سبيله.
الآن، أنا أمضي إلى عالم الآخرة إلى وصال المعشوق.
زوجتي إنسانة رائعة، صبورة وعاشقة لزينب عليها السلام، ولأنّها عرفت طريقها جيّدًا، ستكون مسرورة بتربية ابني تربية صحيحة.
إنْ كان طفلي صبيًّا سمّوه مهدي، وإنْ كانت بنتًا سمّوها مريم لأنّ زوجتي يُفرحها هذا الاسم.
الإمام مظهر الصفاء والطهر والخلوص وبحر من العلم، أطيعوا توجيهاته بدقّة شديدة حتّى يرضى الله عنكم، لأنّه هو الوليّ الفقيه،
172
162
الوصيّة الثانية
ومكانته عظيمة عند الله.
كل ما لديّ من مال، أدّوا به عنّي دين فريضة الحج (تدفع لمكتب أركان الحرس في طهران) والباقي تتصرّف به زوجتي كما تُريد.
شعبنا شعب معجزة هذا القرن، وأوصيكم بالسير على خطّ الشهداء والاستعانة باللّه حتى تَصِلوا هذه الثورة بثورة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتابعوا هذا الجهد، وإنّه لمن المحتوم أن يشمل الله المؤمنين بنصره.
أمّي وجميع أفراد عائلتي وزوجتي، إذا جزعتم لمصابي لن أكون راضيًا، استودعوني عند الله وكونوا صبورين أقوياء.
الحقير الحاج همّت
26/2/1361ه.ش - 16/5/1982م
173
163