الإسلام والحياة


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 المقدمة


الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد.

ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: ﴿لَا يُقْبَلُ‏ عَمَلٌ‏ إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ وَلَا مَعْرِفَةَ إِلَّا بِعَمَلٍ وَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْعَمَلِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَلَا عَمَلَ لَهُ1.

في هذا الحديث إشارة واضحة إلى اقتران العلم بالعمل. فالعلم أساس العمل، ورسوخ العلم في النفس وثباته موقوف أيضاً على العمل. فلا قيمة لعمل أساسه الجهل، ولا اعتبار لعلم غير مقرون بالعمل؛ لأنّه سرعان ما سوف يتلاشى ويرحل، كما في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: "العلم مقرون إلى العمل فمن علم عمل ومن عمل علم والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه"2.


إذن هناك علاقة وثيقة ورابطة أكيدة بين المعرفة الإنسانية والسلوك الإنساني. فلا العلم يستقيم من دون العمل والمعرفة، ولا العلم يقوى في النفس ويبقى من دون العمل بمقتضى هذا العلم. من هنا كانت الدعوى دائماً إلى إرفاد السلوك الإنساني بالمعرفة الصحيحة التي تعد ضمانة العمل الصالح، والإبقاء على العمل والثبات عليه؛ لأنّه كما في الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لإبقاء على العمل أشدّ من العمل"3.
 

1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، نشر مؤسسة الوفاء ـ بيروت، دار احياء التراث، ط2، 1983م، كتاب العلم، باب فرض العلم، ج75، ص174.
2 الشيخ الكليني، الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري ـ طهران، دار الكتب الإسلامية، مطبعة حيدري، 1356هـ.ش، ط2، ج1، ص44.
3 م.ن، ج 2، ص 296.
 
 
 
 
11

1

مقدمة

 وأمّا على صعيد متطلّبات العصر، فإنّ المغالطة فيها تكمن في رؤية الزمن أنّه قادرٌ على أن يبلى كلّ شيء بما فيها الحقائق الكونية الثابتة، في حين أنّ الّذي يبلى ويتجدد في الزمن هو المادّة والتركيبات الماديّة مثل: الجماد، النبات، الحيوان والإنسان. وهذه كلّها محكومة بالفناء والزوال، أمّا الحقائق الكونيّة فهي ثابتة لا تتغيّر.


ونحن كمسلمين نعتنق الدين الإسلامي الحنيف، إذا أردنا أن نؤسّس سلوكاً عمليّاً صحيحاً مبني على الأسس الإسلامية السليمة، علينا بداية أن نتعرّف إلى الإسلام بكل أبعاده، ونفهمه فهماً واقعيّاً منسجماً مع منظومته ورسالته التي يحملها إلى البشرية. فالمعرفة بالإسلام وتعاليمه وأحكامه ينبغي أن تسبق عملية تطبيقه، لكي نضمن التطبيق الأمثل والأكمل لأحكامه، فيغدو الدين هو الحاكم المرجعية للمجتمع، وأتباعه قدوة يحتذى بهم أينما حلّوا. وهذا الكتاب هو محاولة على طريق التعرّف إلى الإسلام من خلال بعض جوانبه العقائدية والفكرية والإنسانية.


والحمد لله ربّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
 
 
 
 
 
12

2

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 الإسلام والعلم1


هيكليّة البحث حول الإسلام والعلم
موضوعنا هو الإسلام والعلم. وبعبارة أُخرى، هو البحث في نظرة الإسلام إلى العلم. كما كان بحثنا السّابق يدور حول نظرة الإسلام إلى الدنيا والحياة والنزعات الطبيعيّة. فهل الدّين والعلم يتّفقان أم يختلفان، كيف ينظر الدّين إلى العلم؟ كيف ينظر العلم إلى الدّين؟ إنّه لبحث طويل كُتبت فيه كتب قيّمة عديدة.

هناك طبقتان من النّاس تسعيان إلى إظهار أنّ الدّين والعلم متخالفان:
الأولى: هي الطّبقة المتظاهرة بالتديّن ولكنّها تتميّز بالجهل، تعيش على الجهل المتفشّي في الناس وتستفيد منه. إنّ هذه الطبقة، لكي تُبقي الناس في الجهالة، وتسدل باسم الدّين ستارًا على مثالبها هي، وتُحارب بسلاح الدّين العلماء لتُخرّجهم من ميدان المنافسة، كانت تُخيف النّاس من العلم بحجّة أنّه يتنافى مع الدّين.
 

1 الشهيد مطهري {، مرتضى، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن، دار الإرشاد، الطبعة الأولى، بيروت، 2009م ، ص534.
 
 
 
 
 
15

3

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 الثانية: هي الطبقة المثقّفة المتعلّمة، ولكنّها ضربت بالمبادىء الإنسانيّة والأخلاقيّة عرض الحائط. ولكي تُبرِّر هذه الطبقة لامبالاتها وأعمالها المنكرة، تتذرّع بالعلم، وتدّعي أنّه لا يأتلف مع الدّين.


وهنالك طبعًا الطّبقة الثالثة - وهي دائمًا موجودة - لها حظٌّ من كلٍّ من العلم والدّين، ولم يُخالجها قطّ إحساس بأيّ تناقض أو تنافٍ بينهما، ولقد سعت هذه الطّبقة إلى إزالة الظّلم والغبار الّذي أثارته الطّبقتان المذكورتان لدقّ إسفين بين هذَيْن الناموسَيْن المقدّسَيْن.
إنّ بحثنا في الإسلام والدّين يُمكن أن يجري من جانبَيْن اثنَيْن؛ الجانب الاجتماعي، والجانب الدِّيني. فمن حيث الجانب الاجتماعي، يتوجّب علينا أن نبحث فيما إذا كان العلم والدّين ينسجمان معًا أو لا ينسجمان. هل يستطيع النّاس أن يكونوا مسلمين بالمعنى الحقيقيّ؛ أي أن يؤمنوا بأُصول الإسلام ومبادئه، ويعملوا وفق تعاليمه، وأن يكونوا علماء في الوقت نفسه؟ أم هل عليهم أن يختاروا واحدًا منهما؟ فإذا بُحِث الأمر على هذا النحو، أفلا نكون متسائلين عن رأي الإسلام في العلم، وعن رأي العلم في الإسلام؟ وكيف هو الإسلام كدين؟ هل يستطيع اجتماعيًّا احتواء الاثنَيْن؟ أم أنّه يجب أن يتغاضى عن أحدهما؟

الجانب الآخر هو أن نتعرّف إلى نظرة الإسلام إلى العلم، ونظرة العلم إلى الإسلام. وهذا، بالبداهة، ينقسم إلى قسمَيْن: الأوّل هو معرفة وصايا الإسلام وتعاليمه بشأن العلم. هل يقول إنّ علينا أن نتجنّب العلم جهد طاقتنا؟ وهل يرى في العلم خطرًا ومنافسًا له في وجوده؟ أم أنّه على العكس من ذلك، يُرحّب بالعلم بكلّ اطمئنان وشجاعة، ويوصي به ويحثّ عليه؟ ثمّ علينا أن نعرف رأي العلم في الإسلام. لقد مضى على ظهور الإسلام ونزول القرآن أربعة عشر قرنًا، وخلال هذه القرون الأربعة عشر كان العلم يتطوّر ويتقدّم ويتكامل، وعلى الأخصّ في القرون الأربعة الأخيرة، إذ كان تقدُّم
 
 
 
 
 
 
 
16

4

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 العلم بصورة قفزات واسعة. والآن، فلنرَ هذا العلم بعد كلّ تطوّره ونجاحه، واضطراد تكامله، ما رأيه في العقائد والمعارف الإسلاميّة، وفي تعاليم الإسلام الاجتماعيّة والأخلاقيّة العمليّة؟ تُرى هل يعترف بهذه أم لا يعترف؟ وهل رفع من شأنها أم أنزله؟


إنّ كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة سيكون موضوع بحث، إلّا أنّ بحثنا هذا سيتناول قسمًا واحدًا منها، وهو ما يتعلّق بنظرة الإسلام إلى العلم.

الإسلام يوصي بالعلم
ليس هناك أدنى شكٍّ في كون الإسلام يؤكّد على العلم ويوصي به، بحيث إنّنا قد لا نجد موضوعًا أوصى به الإسلام وأكّده أكثر من طلب العلم.

في أقدم الكتب الإسلاميّة المدوّنة نجد أنّ الحثّ على طلب العلم يأتي كفريضة، مثل الفرائض الأُخرى؛ كالصلاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثمّ إضافة إلى الآيات القرآنيّة الكريمة، نجد أنّ أهمّ وصيّة يوصي بها الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسم في سبيل العلم هو الخبر الثابتة صحّته لدى جميع المسلمين، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسم: "طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم"1. فطلب العلم واجب على جميع المسلمين، ولا يختصّ بطبقة دون أُخرى، ولا بجنس دون آخر. كلّ من كان مسلمًا يتوجّب عليه أن يواصل طلب العلم.

وقال صلى الله عليه وآله وسم أيضًا: "اطلُبوا العِلم ولَو بالصِّين"2، أي إنّ العلم لا يختصّ بمكان معيّن، فحيثما يوجد علم عليك بالسّفر لطلبه.
 

1 الكليني،الشيخ محمد بن يعقوب، الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية، مطبعة الحيدري، 1365هـ/ش، ط2، ح1، ج7، ص30.
2 فتال النيشابوري، محمد بن أحمد، روضة الواعظين وبصيرة المتعظين، نشر منشورات الرضي، إيران، قم، الطبعة الأولى، 1417هـ ، ج1، ص11.
 
 
 
 
 
 
17

5

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 وقال صلى الله عليه وآله وسم أيضًا: "كَلِمة الحِكْمة ضالّةُ المؤمن فحيث وجدَها فهو أحقُّ بها"1، أي إنّ المؤمن لا يهتمّ بمن يتلقّى عنه العلم، أهو مسلم أم كافر، كمثل الّذي يجد ماله المفقود عند أحدهم، فلا يسأل عمَّن يكون، بل يأخذ منه ماله دون تردُّد. كذلك المؤمن، فهو يعتبر العلم ملكه، فيأخذه حيثما وجده، والإمام علي عليه السلام يوضح هذا الأمر بقوله: "الحِكمةُ ضالَّة المؤمن فاطلُبوها ولو عندَ المُشركِ تكونوا أحقّ بها وأهلَهَا"2.


فطلب العلم فريضة لا يقف في وجهه متعلِّم ولا معلِّم، ولا زمان ولا مكان أبدًا. وهذه أرفع توصية يُمكن أن يوصي بها وأسماها.

ما العلم الّذي يقصده الإسلام؟
إنّ هنالك كلمة لا بدّ أن تُقال وهي: ما العلم الّذي يقصده الإسلام؟ فقد يقول قائل إنّ المقصود من كلّ هذا الكلام عن العلم هو علم الدّين نفسه، أي إنّ الناس مطلوب منهم أن يطلبوا معرفة دينهم. فإذا كان العلم عند الإسلام هو علم الدّين، فإنّه يكون قد أوصى بنفسه، ولم يقل شيئًا عن العلم الّذي هو الاطّلاع على حقائق الكائنات ومعرفة أُمور العالم، وبذلك تبقى المشكلة كما هي، وذلك لأنّ أيّ مذهب من المذاهب، مهما يكن عداؤه للعلم والمعرفة، ويقف معارضًا كلّ اطّلاع وتقدّم فكريّ، فإنّه لا يُمكن أن يُخالف الاطّلاع على ذاته، بل يقول: تعرّفوا إليّ ولا تتعرّفوا إلى غيري. وعليه، إذا كان مقصد الإسلام بالعلم هو العلم بالدّين فحسب، عندئذٍ يكون توجّه الإسلام نحو العلم صفرًا، وتكون نظرته إلى العلم سلبيّة. كما توجد لدينا قرائن عدّة تدلّ جميعها على أنّ نظرة الإسلام لا تنحصر بالعلوم الدينيّة. وهذه القرائن هي:
 

1 الشهيد الثاني، زين الدين بن علي، منية المريد، تحقيق وتصحيح رضا مختاري، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1409هـ ، ص173.
2 الطوسي، محمد بن الحسن، الأمالي، نشر دار الثقافة، قم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص675.
 
 
 
 
 
 
18

6

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 نظرة الإسلام للعلم

إنّ العارف بالإسلام ومنطقه لا يُمكن أن يقول إنّ نظرة الإسلام إلى العلم تنحصر بالعلوم الدينيّة فقط. إنّ هذا الاحتمال قد ينسجم مع أسلوب عمل المسلمين في القرون المتأخّرة، فقد ضيّقوا من دائرة العلم والمعرفة وحدَّدوها. وإلّا فإنّ قوله: "العلم ضالّة المؤمن"1، عليه أن يأخذه حيثما وجده ولو عند المشرك، يُصبح لا معنى له إذا كان المقصود بالعلم هو الدّين. فأيّ دين هذا الّذي يأخذه المؤمن من المشرك؟ وكذلك الحديث "اطلبوا العلم ولو بالصين"2، فقد جيء بالصين بحسبان أنّها أبعد مكان معروف في العالم يومئذٍ، أو أنّها كانت معروفة بأنّها مركز من مراكز العلم والصناعة في العالم، ولكنّ الصين لم تكن قديمًا ولا حديثًا مركزًا من مراكز العلوم الدينيّة.

بصرف النظر عن كلّ هذه، فإنّ أحاديث الرسول الكريم تُحدِّد المقصود بالعلم وتُفسِّره، ولكن ليس بالتخصيص والنصّ على العلم الفلانيّ والفلانيّ، وإنّما بعنوان العلم النافع، العلم الّذي تنفع معرفته وعدم المعرفة به تضرّ. فكلّ علم يتضمّن فائدة وأثرًا يقبل بهما الإسلام، ويعدّهما مفيدَيْن ونافعَيْن، يكون ذلك العلم مقبولًا عند الإسلام ويكون طلبه فريضة.

إذًا، ليس من الصعب أن نتحقّق من الأمر. يتوجّب علينا أن نرى ما الّذي يراه الإسلام نفعًا، وما الّذي يراه ضررًا. إنّ كلّ علم يؤيّد منظورًا فرديًّا أو اجتماعيًّا إسلاميًّا، وعدم الأخذ به يُسبّب انكسار ذلك المنظور، فذلك علم يوصي به الإسلام. وكلّ علم لا يؤثّر في المنظورات الإسلاميّة، لا يكون للإسلام نظر خاصّ فيه. وكلّ علم يؤثّر تأثيرًا سيّئًا، يُخالفه الإسلام.
 

1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج1، ص169.
2 الحر العاملي، وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيتعليهم السلام لاحياء التراث، ط2، 1414ه، مطبعة مهر - قم، باب عدم جواز القضاء والافتاء بغير علم، ح20، ج27، ص27.
 
 
 
 
19

7

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 سيرة المسلمين

إنّنا من الشيعة، ونعترف بأنّ الأئمّة الأطهار عليهم السلام أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسم، وأنّ سيرهم وأقوالهم سنّة لنا.

ومن المعلوم أنّ المسلمين في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثّاني الهجري قد تعرّفوا إلى علوم الدّنيا عن طريق ترجمتها عن اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة، ونعلم من ناحية أُخرى، أنّ الأئمّة لم يتوانوا في توجيه النقد إلى أفعال الخلفاء، إذ إنّ كتبنا مليئة بهذه الانتقادات. فلو كانت نظرة الإسلام إلى العلوم نظرة سلبيّة معارضة، ولو كان الإسلام يرى في العلوم وسائل لتخريب الدّين وهدمه، لما توانى الأئمّة الأطهار في انتقاد عمل الخلفاء الّذين أوصوا بترجمة تلك العلوم، وأنشؤوا لذلك الدواوين وعيّنوا المترجمين والناقلين والناسخين؛ لترجمة أنواع الكتب في الفلك، والمنطق، والفلسفة، والطب، والحيوان، والأدب والتاريخ. لقد سبق لهم أن انتقدوا كثيرًا أعمال الخلفاء، فلو لم يرتضوا عملهم هذا لكان أجدر بالانتقاد لأنّه أعظم تأثيرًا وأبعد أثرًا، ولقالوا: "حسبنا كتاب الله"، ولكنّ شيئًا من هذا لم يحدث، ولم نعثر طوال المئة والستين سنة الّتي مضت على ذلك على أيّ أثر لانتقاده.

منطق القرآن الكريم
إنّ منطق القرآن بشأن العلم منطقٌ عامّ لا تخصيص فيه، فالقرآن يصف العلم بأنّه نور، والجهل بأنّه ظلام، وهو يرى النّور خيرًا من الظلام.

ولكنّ القرآن يطرح عددًا من المواضيع، ويطلب صراحة من الناس التأمُّل فيها. وما هذه المواضيع سوى تلك العلوم الّتي نُطلق عليها اليوم أسماء العلوم الطبيعيّة، والرياضيّة، والحياتيّة، والتاريخيّة وغيرها. فالآية تقول: ﴿ إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِوَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ 
 
 
 
 
 
20

8

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ 1، أي إنّ لكلّ من هذه الظواهر قوانين وأنظمة تُقرّبكم معرفتها من وحدانيّة الله.


فالقرآن يوصي النّاس صراحة بدراسة هذه الأمور؛ لأنّ دراستها تؤدّي إلى دراسة الفلك والنجوم، الأرض والبحار، والكائنات الجويّة، والحيوان وغيرها. وهذا واضح في الآية الثانية من سورة الجاثية، والآية 25 من سورة فاطر، وآيات أُخر.

إنّ القرآن كتاب بدأ أول نزوله بالكلام على "القراءة" و"العلم" و"الكتابة"، فكان مبدأ وحيه توجيه إلى هذه الأمور: ﴿ ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ * ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ * ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ 2.

التوحيد والعلم
الإسلام دين يبدأ بالتّوحيد، والتّوحيد قضيّة عقلانيّة لا يجوز فيها التقليد والتسليم التعبّدي، بل لا بدّ فيه من التعقّل والاستدلال والتفلسف.

ولو كان الإسلام قد ابتدأ بالثنائيّة أو التثليث لما استطاع إطلاق الحرّية في هذا البحث، وما كان له إلّا أن يُعلن عنه بوصفها منطقة محرّمة ممنوعة. ولكنّه إذ بدأ بالتوحيد، فقد أعلنه منطقة مفتوحة، بل واجبه الارتياد، ومدخل المنطقة، في نظر القرآن، هو الكائنات برمّتها، وبطاقة الدخول هي العلم والتعلّم، ووسيلة التنقّل في هذه المنطقة هي قوّة الفكر والاستدلال المنطقي. هذه هي المواضيع الّتي يوصي القرآن بدراستها. أمّا كون المسلمين لم يولوها اهتمامًا بقدر اهتمامهم بمواضيع أُخرى لم يوص القرآن بها، فذلك أمر آخر، وله أسبابه الّتي لا مجال هنا لبحثها.
 

1سورة البقرة، الآية 164.
2سورة العلق، الآيات 1 - 4.
 
 
 
 
21

9

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 خلاصة ونتيجة

كلّ هذه قرائن تدلّ جميعها على أنّ نظرة الإسلام لا تنحصر بالعلوم الدينيّة. لقد دار نقاش طويل قديمًا حول ما يقصده الإسلام بالعلم الّذي يرى التزوّد به واجبًا وفريضة. وراحت كلّ مجموعة تُحاول تطبيق ذلك على ذلك الفرع من العلوم الّذي تُمثّله هي. فكان علماء الكلام يقولون: إنّ المقصود هو علم الكلام، وقال المفسّرون: إنّه يقصد علم التفسير، والمحدّثون قالوا: إنّه علم الحديث. وقال الفقهاء: إنّه الفقه، وأنّ على كلّ امرىء إمّا أن يكون فقيهًا أو مقلّدًا لفقيه. وقال الأخلاقيّون: إنّه علم الأخلاق والاطّلاع على المنجيات والمهلكات. وقال الصوفيّون: المقصود هو علم السَّير والسلوك والتوحيد العملي. وينقل الغزالي في هذا الشأن عشرين قولًا غير أنّ المحقّقين يقولون: إنّ المقصود ليس أيًّا من هذه العلوم على وجه التخصيص، إذ لو كان المقصود علمًا معيّنًا لذكره رسول الله وعيّنه بالاسم، إنّما المقصود هو كلّ علم نافع يُفيد الناس.

هل العلم وسيلة أم غاية؟
إنّ الالتفات إلى نقطة معيّنة تحلّ لنا المسألة؛ بحيث نستطيع أن نُدرك منظور الإسلام، وذلك بمعرفة ما إذا كان الإسلام ينظر إلى العلم كهدف أو كوسيلة.

لا شكّ أنّ بعض العلوم هدف بذاته؛ كالمعارف الربوبية، ومعرفة الله وما يتعلّق بذلك؛ كمعرفة النفس والمعاد. فإذا تجاوزنا هذه، تكون العلوم الأُخرى وسائل لا أهدافًا. أي إنّ ضرورة علم ما وفائدته لا تتحدّد بمقدار أهمّيته كوسيلة لتحقيق عمل أو وظيفة، فكلّ العلوم الدينيّة باستثناء المعارف الإلهيّة؛ كعلم الأخلاق، والفقه والحديث، تدخل في ذلك المعنى، أي إنّها كلّها وسائل، وليست أهدافًا، ناهيك عن العلوم الأدبيّة والمنطق الّتي تُدَرَّس في المدارس الدينيّة كمقدّمات.
 
 
 
 
 
 
 
22

10

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 ولهذا يرى الفقهاء في اصطلاحهم أنّ وجوب العلم وجوب مقدّمي، أي إنّ وجوبه متأتٍ من كونه يُعدّ المرء ويُهيّئه للقيام بعمل ما متّفق مع منظور الإسلام، حتى أنّ تعلّم المسائل العلميّة في الأحكام، ومسائل الصلاة، والصوم، والخمس، والزكاة، والحج والطّهارة، ممّا هو مذكور في الرسائل العمليّة، ليس إلّا لكي يكون الإنسان متهيّئًا لأداء وظيفة أُخرى أداءً صحيحًا. فالمستطيع الّذي ينوي الحج يجب أن يتعلّم ما يتعلّق بأحكامه لكي يكون مستعدًّا لأداء مناسك الحج على وجهها الصحيح.



وبعد أن نُدرك هذا علينا أن نُدرك أمرًا آخر، وهو: أيّ دين هو الإسلام؟ ما أهدافه؟ ما المجتمع الّذي يُريده؟ ما مدى اتّساع المنظورات الإسلاميّة؟ هل اكتفى الإسلام بهذا العدد من المسائل العباديّة والأخلاقيّة؟ أم أنّ تعاليم هذا الدّين قد اتّسعت لتشمل كلّ شؤون حياة البشر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وإنّ له في ذلك أهدافًا يبغي تحقيقها؟ هل الإسلام يُريد المجتمع مستقلًّا، أم لا يعنيه إنْ كان مستعمَرًا محكومًا؟ ما من شكٍّ في أنّ الإسلام يُريد مجتمعًا مستقلًّا، حرًّا، عزيزًا شامخ الرأس ومستغنيًا عن الآخرين.

وثمّة أمر ثالث لا بدّ من معرفته والاطّلاع عليه، وهو أنّ العالَم اليوم يدور على العلم، وإنّ مفتاح كلّ شيء هو العلم والمعرفة الفنّيّة، وإنّنا بغير العلم لا نستطيع خلق مجتمع غنيّ، ومستقلّ، وقويّ، وحرّ وعزيز. وهذا يؤدّي بنا إلى الاستنتاج بأنّ من الواجب والمفروض على المسلمين في كلّ زمان، وعلى الأخصّ في زماننا هذا، أن يتعلّموا ويُتقنوا كلّ علم من العلوم الّتي تكون وسيلة للوصول إلى الأهداف السامية المذكورة.

وعلى هذا الأساس، نستطيع اعتبار جميع العلوم النافعة علومًا دينيّة، كما نستطيع أن نعرف أيّ العلوم من الواجبات الكفائيّة وأيّ العلوم من الواجبات العينيّة، وكذلك
 
 
 
 
 
 
 
 
23

11

الفصل الأوّل: الإسلام والعلم

 نستطيع أن نعرف أنّ علمًا من العلوم يُمكن أن يكون في وقت ما من أوجب الواجبات، ولا يكون كذلك في وقت آخر. وهذا بالطبع يتعلّق بميزان ذكاء الأشخاص الّذين يكونون من المجتهدين في كلّ زمان، ويستنبطون الأحكام لذلك الزمان.

 

 

 

24


12

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 مقولة الحريّة 1



أهداف الملتقى الاستراتيجي للفكر2
إنّ للجمهوريّة الإسلاميّة أهداف أساسيّة عدّة من وراء إقامة ملتقيات الأفكار الاستراتيجيّة، والّتي لا ينبغي لنا أن ننساها أو ندعها تغيب عن أعيننا. أحدها أنّ البلد بحاجة ماسّة، في مجال المقولات المتعلّقة بالبنية التحتيّة إلى الفكر والتفكير. يوجد الكثير من المقولات الأساسيّة، وها نحن نلتقي لبحث المقولة الرابعة1، ونرى أنّنا بحاجة إلى التفكير بشأنها ونُعمل الفكر حولها. أنا العبد، وفي لقاء شهر رمضان في هذه الحسينيّة، مع مجموعة من الجامعيّين - لا أذكر ما إذا كانوا أساتذة أو طلبة - أشرت إلى كلام أحد الحاضرين، وإلى الكلمات الّتي أُلقيت في العام السابق لذلك
 
 

1 كلمة الإمام السيد علي الخامنئي(دام ظله) في الملتقى الرابع للأفكار الاستراتيجية بتاريخ 13/11/2012م.
2 يقوم ملتقى الأفكار الاستراتيجيّة ببحث مجموعةٍ من المقولات الفكريّة، وقد عُقِدت سابقًا ثلاث جلسات ٍ بُحث فيها العناوين الآتية:
أ- النموذج الإيراني الإسلامي للتقدّم.
ب- العدالة.
ج- المرأة والأسرة.
وقد انعقد الملتقى الرابع لبحث مقولة "الحريّة".
 
 
 
 
 
 
 
25

13

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 اللقاء، حيث كان قد وُجّه إليّ أنّه منذ سنوات سنوات وأنتم تتحدّثون عن قضيّة العلم والتفتّح العلميّ، قوموا بالتركيز على الفكر. لقد فكّرت في ذلك، ووجدتُ أنّ هذا الكلام مهمٌّ جدًّا. حسنٌ، وهنا قلنا فلنتحرّك نحو التفكير بالفكر، وتفعيل الأفكار. بالطبع، إنّ لهذه القضيّة ظروفها ومجالاتها وإمكاناتها، ونحن نمتلك بعضًا منها، ونفتقد لبعضها، ويمكننا أن نحصّل بعضها الآخر. إنّ هذا من التحدّيات الأساسيّة لأيّ شعب. إنّ شعبًا مثل شعبنا لا يبقى في مكانه كالمستنقع، بل يتحرّك بشكل دائم كنهرٍ جارٍ. فنحن هكذا، في حالٍ دائمٍ من الجريان والتقدّم. يوجد تصادم ومواجهة مع الموانع لكنّ التقدّم لا يتوقّف. نحن شعبٌ هو هكذا، لذا نحتاج أن نفكّر بهذه القضيّة. وعليه، فإنّ الحاجة الماسّة إلى الفكر في بلدنا، وخصوصًا في المقولات المتعلّقة بالبنية التحتيّة، يُعدّ من أهداف هذه اللّقاءات.


هناك هدفٌ آخر، وهو أهميّة التواصل المباشر مع النخب. يمكنني أن آخذ كتابكم وأقرأه، ولكن هذا يختلف عن استماعي لحديثكم منكم مباشرةً، وإن كان بصورةٍ مختصرة. وإنّ هذا الحكم يصدق على جميع الحاضرين الّذين شرّفونا هنا. فليستمعوا إلى كلمات وأحاديث بعضهم بعضًا من دون واسطة، هذه قضيّة مُهمّة أيضًا.

إيجاد الأرضيّة العلميّة
النقطة الثالثة - وهي في غاية الأهميّة - ترتبط بإيجاد الأرضيّة العلميّة لتحصيل الأجوبة على الأسئلة المُهمّة في المقولات البنيويّة والتأسيسيّة. ومثلما أشار بعض أعزّائنا، فإنّنا نواجه أسئلةً، وعلينا أن نجد لها الأجوبة. هذه الأسئلة ليست مثيرة للشكوك، أو مبيّنة للشبهات والعقد الذهنيّة فحسب، وإنّما تطرح قضايا أساسيّة لحياتنا الاجتماعيّة. وبادّعائنا، إنّنا جمهوريّة إسلاميّة ونظام إسلامي، تُعدّ هذه طروحات لقضايا أساسيّة. فيجب أن تُطرح ويجب أن يجاب عنها. فهل حُلّت هذه القضيّة؟ وهل لها جوابٌ واضحٌ أم لا؟ إنّنا بحاجة في هذا المجال إلى العمل، فهذا من أهداف هذا اللّقاء.
 
 
 
 
26

14

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 بالطبع، لم تكن أيّ من هذه اللّقاءات، وهذا اللّقاء الّذي نقيمه هذه اللّيلة، واللّقاءات الثلاثة السابقة، بهدف الحسم والكلام الأخير، فلا أنتم تطرحون آخر الكلام، ولا - أنا العبد - أطرح آخر الكلام، بل إنّنا هنا نقوم بتهيئة الأرضيّة. إنّنا نريد لهذه الحركة أن تنطلق، ومثل هذا الجريان يُعدّ بمثابة عين فوّارة انبجست هنا من أجل أن تجري سيّالةً فيما بعد. إنّ العمل الأساس يجب أن يبدأ بعد هذا اللّقاء، وهو بالطبع ما يحصل على أيدي المحقّقين والأساتذة ذوي الاندفاع والفكر الثاقب، سواء أكان في الحوزة أم في الجامعة. حسنٌ، لقد تمّ إنجاز أعمال بعد اللّقاء الأوّل، والّذي كان حول النموذج الإيراني الإسلامي للتقدّم - لقد بيّن جناب الدكتور "واعظ زاده" ذلك - فهناك أعمالٌ جيّدة قد أُنجزت وهي أعمال أساسيّة. واللّقاء اللّاحق كان حول العدالة، وقد أودع بيد ذاك المركز أيضًا. اللّقاء الثالث كان حول الأسرة. وقد جرى القيام بأعمال مُهمّة في هذا المجال، سواء أكان في المركز نفسه أم في بعض المؤسّسات التحقيقيّة والمراكز البحثيّة. لقد كان من مطالبي - أنا العبد - أن لا يكون هناك جدولٌ لهذا العمل. فنحن منذ البداية، لم نرغب بأن يكون هناك جدول لهذا العمل. نحن نريد أن يُنجز العمل، فيتّضح الجدول. وقد قلت مؤخّرًا للأعزّاء إنّه من أجل أن يتحقّق مبدأ الجريان والاستمرار في الخارج، وخصوصًا بالنسبة إلى مقولة تتّصف بالتّحدّي كالحريّة، طلبنا من السادة أن يتّبعوا سياسة إعلاميّة منظّمة من أجل أن يتمكّن أصحاب الرأي، والمهتمّون، وبعض الأشخاص الّذين قد يصابون بنوع من الخمود أحيانًا في هذه المجالات، أو يكونون باحثين عن أيّ ذريعة للاندفاع في هذا العمل، أن يتمكّنوا من الاستفادة من لقائنا في هذه اللّيلة ويدخلوا في هذا الخضم. لكن من غير المقرّر عندنا أن تكون "الإعلاميّات" بالمعنى المتعارف.


قضيّة الحريّة
في ما يتعلّق بموضوع لقائنا اللّيلة - أي قضيّة الحريّة - فهناك نقاط عدّة. إنّ الكلمات الّتي ألقاها أعزّاؤنا هي كلماتٌ ممتازة. في الواقع، إنّ المرء عندما يستمع
 
 
 
 
 
27

15

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 - وأنا العبد أُعدّ مستمعًا جيّدًا وأنصت بالدّقة إلى الكلمات - يستفيد. ولقد استفدنا واقعًا من جميع الكلمات الّتي ألقاها الأعزّاء - من بعضها أكثر ومن بعضها الآخر أقلّ - وهناك نقاطٌ ملفتة. وبالتّأكيد، أقول هذا من دون مجاملة. ولقد فهمنا أيضًا من مجموع كلمات السّادة كم أنّنا نعاني من فراغٍ في هذا المجال. فكلماتكم وأبحاثكم أكّدت على ما كنت - أنا العبد - أحمله من تصوّر، حيث أدركنا كم أنّنا نعاني من نقصٍ في هذه القضيّة. وسوف أشير هنا إلى ما نعانيه من نقص.


مسار الحريّة عند الغربيّين
حسنٌ، الحقيقة هي أنّ بحث الحريّة، بين الغربيّين وفي هذه القرون الثّلاثة أو الأربعة المصاحبة لعصر النهضة وما بعده، قد شهد تفتّحًا وتبرعمًا لا نظير له. والقليل من الموضوعات، كقضيّة الحريّة في الغرب، سواء أكان في مجال العلوم الفلسفيّة أم في مجال العلوم الاجتماعيّة، أم في مجال الفنّ والأدب، قد طرح في هذه القرون الأربعة، ولهذا علّةٌ وسببٌ أساسيّ عامّ، وتوجد له أسبابٌ محيطة أيضًا. العلّة العامّة هي أنّ الأبحاث البنيويّة الأصوليّة من أجل أن تنطلق تحتاج إلى حادثة باعثة، أي إنّه في الأغلب يكون هناك إعصارٌ يحرّك هذه الأبحاث الأساسيّة. فالأبحاث العميقة والمُهمّة، والّتي لديها طابع التحدّي حول هذه المقولات الأساسيّة، لا تنطلق في الأوضاع العاديّة. ينبغي أن تقع حادثة ما لتشكّل أرضيّة لها. كنّا قد ذكرنا أنّ هذا إشارة إلى العامل الأساسيّ - ونحن هنا نذكر هذا العامل الأساسيّ - وتوجد أيضًا عوامل جانبيّة. تلك الواقعة كانت واقعة عصر النهضة بالدرجة الأولى.

النهضة على صعيد مجموع الدول الأوروبيّة، بدءًا من إيطاليا الّتي كانت هي المنشأ، وبعدها إنكلترا وفرنسا ومناطق أخرى. ثمّ بعد ذلك، كانت قضيّة الثّورة الصناعيّة الّتي حدثت في أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر في إنكلترا. لقد كانت الثّورة الصّناعيّة بحدّ ذاتها أشبه بالانفجار الّذي يفرض على البشر أن يفكّروا، وعلى العلماء
 
 
 
 
 
 
28

16

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 أن يبحثوا. بعدها، وفي منتصف القرن الثامن عشر، تحقّقت مقدّمات الثّورة الفرنسيّة الكبرى - الّتي كانت أرضيّة اجتماعيّة لتحقّق ثورة عظيمة - في منطقةٍ لم يكن فيها مثل تلك الثّورات. بالطّبع، كان لها نظيرٌ في إنكلترا قبل مئة أو مئتي عام بنحوٍ مقتضب، إلّا أنّه غير قابل للمقارنة مع ما حدث في الثّورة الفرنسيّة.


كانت مقدّمات الثّورة الفرنسيّة عبارة عن الإرهاصات الّتي تتحرّك تحت الرماد، ذاك الشيء الّذي يكون موجودًا تحت سطح المجتمع ويرصده المفكّرون. لم تستفد وقائع وأحداث المجتمع الفرنسيّ من أفكار أمثال "مونتسكيو" أو "روسّو"، كما استفاد هؤلاء من وقائع هذا المجتمع في عمليّة استنباط الأفكار. وكلّ من ينظر، سيلحظ هذا الأمر. أنتم تعلمون أنّ "مونتسكيو" كان خارج فرنسا من الأساس، كان هناك وقائع، وقبل أن يحصل الانفجار الكبير في العام 17899م. حسنًا، لقد كان انفجارًا عظيمًا، ولَكَم تسبّب بالخراب والخسائر. تحت سطح المجتمع والمدينة والبلد، كان هناك الكثير من الحوادث الّتي تشير إلى وجود مثل هذا الّتيار.

في ما يخصّ الحريّة، طرحوا قضيّة العقل. كلّا، أقول لكم إنّه ربّما كان هناك أربعة مثقّفين في الثّورة الفرنسيّة يتحدّثون بهذه الطريقة، أمّا في ميدان العمل وعلى الأرض فما لم يكن يُطرح هو قضيّة العقل والعقلانيّة والتوجّه إلى العقل. كلّا، لم يكن هناك سوى قضيّة الحريّة، وتحديدًا التحرّر من قيد الملكيّة والحكومة المستبدّة المهيمنة لقرون عدّة، أي حكومة الأسرة البوربونيّة 1 الّتي كانت مهيمنة على جميع أركان حياة الناس. لم يكن الأمر منحصرًا بجهاز البلاط فحسب، بل كان كلّ واحد من أشراف ونبلاء فرنسا ملكًا. وما سمعتموه عن سجن الباستيل وسجنائه لم يقتصر على أيّام عدّة، بل لعلّه بقي على حاله لقرون عدّة، أي إنّ الوضع كان مزريًا. حسنًا، لقد كان هناك أشخاصٌ أصحاب فكر مثل "فولتير"، و"مونتسكيو"، و"روسّو" يشاهدون هذه  
 

1 إحدى أهم السلالات الّتي حكمت في أوروبا، وينتمي إليها حاليًّا ملكا إسبانيا والسويد، وأول حاكم من هذه العائلة كان فيليب الخامس (1746م)، حاكم إسبانيا (1700م - 1746م).
 
 
 
 
29

17

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 الأحوال، وكان لديهم الاستعداد للتفكّر والتأمّل، ووصلوا إلى هذه الحالات وتحدّثوا، إلّا أنّه لم يكن لكلماتهم أيّ وقع على صعيد وقائع المجتمع، وفي مجال العمل داخل فرنسا من الأساس.


حسنًا، انظروا، وستجدون أنّ أيًّا من الخطب الّتي كانت تُلقى من الخطباء الكبار – كـ"ميرابو" وغيره - لم تكن ناظرة إلى كلمات "مونتسكيو" و"فولتير" وأمثالهما، بل كانت كلّها ناظرة إلى فساد الجهاز الحاكم واستبداده وأمثال ذلك، هذه هي واقعيّة الثورة الفرنسيّة.

الثّورة الفرنسيّة وفجائع الأباطرة
إنّ الثورة الفرنسيّة الكبرى كانت، بأحد المعاني، ثورة فاشلة، فلم تمضِ على الثورة إحدى عشرة أو اثنتا عشرة سنة، حتّى جاء إمبراطورٌ مقتدر كـ"نابليون" ليصبح ملكًا مطلق الصلاحيّات لم يتمتّع بسلطته حتّى الملوك الّذين كانوا قبل "لويس السادس عشر" المقتول في الثّورة. عندما أراد "نابليون" أن يتوّج نفسه ملكًا، جاؤوا بالبابا لكي يضع التاج على رأسه، لكنّ "نابليون" لم يسمح للبابا بذلك، بل أخذ منه التاج ووضعه على رأسه بنفسه. وهنا، نضع هذه الأمور كلّها بين قوسَيْن. بالمقارنة مع ثورتنا، لا بأس أن يُتوجّه إلى هذه النقطة: إنّ ما لم يسمح بوقوع مثل هذه الأحداث والفجائع ولو بنحو قليل، ولو بنسبة ضئيلة في ثورتنا، هو وجود الإمام الخميني، ذاك القائد المتّبَع والنافذ والمُطاع عند الكلّ، هو الّذي لم يسمح بذلك، وإلّا فثقوا تمامًا أنّه لو لم تقع تلك الأحداث، لحدث ما يشبهها هنا. ففي المدّة الفاصلة ما بين الثّورة وظهور نابليون وإمساكه بالسلطة - تلك السنوات الاثنتا عشرة - جاءت ثلاث جماعات على رأس الحكم، وكانت كلّ جماعة تأتي إلى الحكم تبيد الجماعة السابقة وتصفّيها، ثمّ تأتي الجماعة اللّاحقة وتفعل فعلتها نفسها مع من سبقها. وكانت النتيجة أن رزح الناس تحت حياة التّعاسة والشّقاء والفوضى، هكذا كانت الثورة الفرنسيّة الكبرى. وبالنسبة
 
 
 
 
 
30

18

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 إلى ثورة أكتوبر الرّوسيّة، كان الوضع مشابهًا من جهات عدّة - أي إنّها كانت تشبه الثّورة الفرنسيّة الكبرى - غاية الأمر إنّه في "ثورة أكتوبر" وُجد وضعٌ خاص وعوامل مختلفة أخرى كانت توجّه الناس بشكل ما وتسيطر عليهم، لا بأس أن يتمّ الالتفات إليها.


وفي المحافل الّتي كنت - أنا العبد - أحضر فيها، سواء أكان في المحافل التاريخيّة أم في المحافل الجامعيّة لم أكن أرى، وللأسف، توجّهًا إلى هذه القضايا الموجودة في هذه الثّورات.

بالطبع، أنتم تعلمون أنّه قد وقعت ثورات عدّة في فرنسا. الثّورة الفرنسيّة الكبرى وقعت في نهاية القرن الثّامن عشر، وبعدها بنحو أربعين سنة حدثت ثورة أخرى، وكذلك بعدها بعشرين سنة وقعت ثورة أخرى وكانت ثورة شيوعيّة. فأوّل ثورة شيوعيّة في العالم حدثت في فرنسا، حيث تمّ تشكيل الكيانات الاشتراكيّة.

بناءً عليه، إنّ عوامل نموّ هذه الحركة الفكريّة كانت على الشكل الآتي: بالدرجة الأولى، كان عصر النّهضة. بالتأكيد، إنّ واقعة عصر النّهضة لم تكن واقعة دفعيّة، لقد وقعت أحداثٌ كثيرة على مدى مئتَيْ سنة من بدايات عصر النّهضة، وإحداها كانت قضيّة الثّورة الصّناعيّة، ومنها أيضًا قضيّة الثورة الفرنسيّة الكبرى. كلّ هذه أدّت إلى طرح قضيّة الحريّة، ولهذا تمّ العمل عليها. كتب الكثير من الفلاسفة آلاف الأبحاث والمقالات والكتب، وكُتبت مئات التّصانيف في باب الحريّة في جميع هذه البلدان الغربيّة. بعدها، انتقل هذا الفكر إلى أميركا وهناك أيضًا عملوا على المنوال نفسه.

الحركة الدستوريّة
بالنسبة إلينا، فإلى ما قبل المشروطة (الحركة الدستوريّة)، لم تكن لدينا تلك الوضعية من قبيل إيجاد تيّار فكريّ حتّى ننشغل بالتفكّر بمقولة كالحريّة. وكانت المشروطة فرصةً ممتازة، حيث مثّلت حادثة كبرى ترتبط مباشرةً بقضيّة الحريّة. لهذا، 
 
 
 
 
 
31

19

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 شكّلت فرصة مناسبة لتحريك واستثارة هذا الحوض الرّاكد لفكرنا العلميّ، سواء أكان في الحوزات الدينيّة أم في غيرها. إعصارٌ ينبعث وتُنجز الأعمال، وهذا ما فعلته.


ثمّ طُرحت الأفكار المتعلّقة بالحريّة، غاية الأمر أنّها كانت تعتريها نقيصة كُبرى لم تسمح لنا بأن نتحرّك على الطريق الصحيحة لهذا الفكر أو نتقدّم عليها. وتلك النقيصة هي عبارة عن نفوذ الأفكار الغربيّة تدريجيًا إلى داخل أذهان مجموعة من المثقّفين، قبل سنوات عدّة من المشروطة - لعلّه لعقدَيْن أو ثلاثة قبلها - بواسطة العناصر الأرستقراطيّة، والأمراء وعمّال البلاط. نحن عندما نقول مثقّفين، كان ذلك في العصر الأوّلي مساويًا للأرستقراطيّة، أي إنّه لم يكن لدينا مثقّف غير أرستقراطي. فالمثقّفون عندنا كانوا بالدّرجة الأولى من رجال البلاط والتّابعين والمريدين لهم، فهؤلاء كانوا قد ارتبطوا منذ البداية بالفكر الغربيّ في مجال الحريّة.

لهذا، عندما تتناولون مقولة الحريّة في المشروطة - وهي مقولةٌ حافلةٌ بالصّخب والضّجيج - ترون تلك النّزعة المعاديّة للكنيسة في الغرب كشاخص مهمّ للحريّة، بيد أنّها طُرحت هنا تحت عنوان المسجد وعالم الدّين والدّين. حسنًا، هذا كان قياسًا مع الفارق، فنزعة عصر النّهضة، في الأساس، كانت نزعة معادية للدّين وللكنيسة، لهذا تأسّست وأقيمت على قاعدة النّزعة الإنسانيّة "الهيومانيزم".

وبعدها قامت جميع الحركات الغربيّة على أساس هذه النّزعة الإنسانيّة، واستمرّت إلى يومنا هذا على هذا المنوال. ومع كلّ الاختلافات الّتي طرأت، كان الأساس هو النّزعة الإنسانيّة، أي كان الأساس هو الكفر والشرك - ولو وُجد مجال لاحقًا فسوف أشير إلى هذا - وهذا الأساس بعينه هو الّذي وفد إلى بلادنا. أنتم تلاحظون أنّه عندما كان كتّاب المقالات من المثقّفين، والسياسيّين، ومن أضرابهم، حتّى ذاك المعمّم الّذي لبس لبوس المثقّفين، عندما كانوا يكتبون مقالة أو كتابًً بشأن المشروطة كانوا يكرّرون عين الكلمات الغربيّة ولا أكثر. لهذا لم يكن هناك أيّ نوع من التجدّد والتوليد (الخلّاقيّة).
 
 
 
 
 
 
32

20

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 استيراد المنظومات الفكريّة

لاحظوا، هذا من خصائص الفكر المقلّد. فأنتم عندما تأخذون هذه الوصفة من طرفٍ ما من أجل أن تقرؤوها وتعملوا بها، عندها لن يكون هناك أيّ معنىً للتجدّد والتوليد. فلو أنّكم أخذتم منه العلم أو الدّافع أو الفكر أو المُثل، وأنزلتموها إلى ميدان العمل والتطبيق، سيكون هناك توليد (خلّاقيّة). لكنّ هذا لم يحصل، لهذا لم يتحقّق التوليد فيما بعد. ولهذا، لم يطرأ أيّ كلامٍ جديد أو مُثل جديدة، أو أي منظومة فكريّة جديدة في مجال العمل المرتبط بالحرّيّة، كما في تلك المنظومات الفكريّة التابعة للغرب.

الكثير من أصحاب الفكر في الغرب لديهم منظومة فكريّة بخصوص الحريّة. فقد كان لكلّ من الأعمال النقديّة الّتي دارت حول اللّيبراليّة القديمة، وتلك الّتي أُوردت على النّسخ الجديدة للّيبراليّة واللّيبراليّة الديمقراطيّة، وعلى تلك الأشياء ما بعد اللّيبراليّة، الّتي تعود مثلًا إلى القرن السابع عشر أو السادس عشر، كان لكلٍّ منها منظومتها الفكريّة، لها بداية ونهاية، وتجيب عن أسئلة كثيرة. ونحن لم نوجد حبّة واحدة منها في بلدنا، مع أنّ مصادرنا كثيرة، فنحن لسنا فقراء بالمصادر - كما أشار الأعزّاء - أي إنّنا في الواقع نستطيع أن نؤمّن مجموعة فكريّة مدوّنة، ومنظومة فكريّة كاملة في مجال الحريّة، تجيب عن جميع الأسئلة الدّقيقة والعريضة للحريّة. بالطّبع، هذا ليس عملًا سهلًا، فهو يحتاج إلى همّة. نحن لم نقم بهذا العمل. ففي الوقت الّذي نمتلك مصادر، قمنا باستيراد منظوماتهم الفكريّة، وهنا كان لكلّ واحد روابطه. فبعضهم كانت لديه روابط مع النّمسا، فيأتي بكلام العالم النمساويّ، وآخر لديه معرفة باللّغة الفرنسيّة فإنّه يأخذ من فرنسا، وآخر مع إنكلترا أو ألمانيا فيقلّد بحسب اللّغة الإنكليزيّة أو ما جاء باللّغة الألمانيّة، فصار الأمر تقليدًا. والمعارضون الّذين عدّوا معارضين للحريّة، لمّا وجدوا هذه الكلمات معادية للدّين والمسائل الدينيّة قاموا بمواجهتها، وفي الواقع، دخلوا في هذه المعمعة نفسها، فكلٌّ من هاتَيْن الفئتَيْن علق في هذه القناة الضيّقة.
 
 
 
 
 
33

21

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 لدينا اليوم نقصٌ وثغرات وتصدّعات كثيرة. ومع أنّنا نمتلك المصادر، فليس لدينا منظومة فكريّة. وفي اجتماعنا اليوم، برأيي، إنّ الدكتور "بزرغر" - ما لم أكن مخطئًا - هو العزيز الوحيد الّذي عرض منظومةً. من الممكن أن تروا في أنّ تلك المنظومة ناقصة، فلا اعتراض، لكن علينا أن نتّجه نحو بناء المنظومة، أي أن نضع القطع المختلفة لهذه الأحجية في مكانها، ونصنع لوحةً كاملة، فنحن بحاجة إلى هذا الأمر. ومثل هذا العمل ليس عمل ذرّة أو ذرّتَيْن، أو جلسة أو جلستَيْن، إنّه عملٌ جمعيّ ويحتاج إلى تسلّط ضروريّ، سواء أكان على المصادر الإسلاميّة أم على المصادر الغربيّة، وسوف أذكر هذا أيضًا.


موضوع الحريّة
أذكر هنا نقطتَيْن أو ثلاثًا. المسألة الأولى تتعلّق بتبيان الموضوع. انظروا، لقد أشار الأعزّاء هنا إلى الحريّة المعنويّة بذاك المعنى الّذي جاء في بعض رواياتنا، والّتي كان قد أشار إليها بعض مفكّرينا؛ كالمرحوم الشهيد "مطهّري"، وهي أعلى أنواع الفضائل الإنسانيّة - فلا شكّ في هذا - غاية الأمر أنّها ليست محل بحثنا. ففي الأساس، إنّ بحثنا ليس بشأن الحريّة المعنويّة الّتي تعني السلوك إلى الله، والقرب من الله، والسير في وادي التوحيد، والّذي كان من نتاجاته أمثال "الملّا حسين قلّيالهمداني"1، أو المرحوم "السيّد ميرزا القاضي" أو المرحوم "العلّامة الطبطبائي"2، وإنّما بحثنا يتعلّق
 

1 هو العارف الجليل الشيخ حسين بن قلّي الهمداني، ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري. ولد في العام 1239هـ. في قرية "شوند" من قرى مدينة همدان. قال السيد محسن الأمين في كتابه "أعيان الشيعة": "كان فقيهًا أصوليًا متكلمًا أخلاقيًا إلهيًا من الحكماء العارفين السالكين..."، توفي في الثامن والعشرين من شعبان سنة 1311هـ.، ودفن في الصحن الحسيني في كربلاء المقدسة.
2 هو العلامة محمد حسين الطبطبائي، يرجع نسبه إلى الإمام الحسن بن علي عليه السلام. ولد في التاسع والعشرين من ذي الحجة 1321هـ (1904م) في مدينة تبريز في إيران. نشأ وترعرع في أسرةٍ عريقة بالعلم والثقافة، درس على أيدي أكابر العلماء، كان فيلسوفًا وحكيمًا، وكان أستاذًا موهوبًا، كرّس معظم حياته لتعليم المعارف الإسلامية الحقّة، تخرج من تحت يده العلماء والأساتذة والمفكرون، منهم الشهيد الشيخ وطهري، والشهيد السيد مصطفى الخميني، والسيد موسى الصدر. كتب في مجال الفلسفة والتفسير وتاريخ الشيعة، ومن أبرز كتبه وأهم أعماله "الميزان في تفسير القرآن" في عشرين مجلدًا. توفي العلامة { في الثامن والعشرين من محرم الحرام سنة1402هـ. (1981م) ودفن بجوار مرقد السيدة المعصومة عليها السلام.
 
 
 
 
34

22

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 بالحريّات الاجتماعيّة والسياسيّة، والحريّات الفرديّة والاجتماعيّة، فالقضيّة اليوم في العالم هي هذه.


حسنًا جدًّا، من الممكن أن يكون لدينا مئة مسألةٍ أخرى لا يعرف الغرب عنها شيئًا -مثل ذاك السلوك المعنويّ وأمثاله- فلنبحث ذلك في محلّه. ما نحن بصدده الآن هو الحريّة بهذا المعنى المتداول والرّائج في المحافل الجامعيّة والسياسيّة والثقافيّة لعالم اليوم الّتي تبحث بشأن الحريّة. نحن نريد أن نبحث فيما يرتبط بهذا "الجانب". إنّ الحريّة المعنويّة بذاك المعنى المتعلّق بالسلوك إلى الله، والقرب من الله، والنّظر إلى الله، وحبّ الله وأمثاله سيكون موضوعًا آخرًا في محلّه. هناك حرّيّة أخرى يمكن عدّها بأحد المعاني حريّة معنويّة وهي التحرّر من مخالب العوامل الدّاخليّة المانعة من عملنا الحرّ في المجتمع، أو مانعة من فكرنا الحرّ في المجتمع، كالخوف من الموت والخوف من الجوع، والخوف من الفقر. وقد أشير في القرآن إلى هذه المخاوف: ﴿ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ1، ﴿ فَلَا تَخَافُوهُمۡ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ 2، وفي خطابه النبيّ: ﴿ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ ﴾.3 أو الخوف من سلب الامتيازات، فافرضوا أنّ لنا في هذا الجهاز امتيازًا معيّنًا، فإنّنا لو قلنا كلامًا وأعملنا مثل هذه الحريّة وأمرنا بالمعروف فإنّنا نسقط. أو الطّمع الّذي يؤدّي إلى أن لا أذكر عيبكم، وأن لا أتعامل معكم بحريّة - أنتم أصحاب القدرة والسّلطة - لأجل أنّني طامعٌ بكم. أو الحسد أو العصبيّات الخاطئة، والّتي لا محلّ لها، أو التحجّر، فإنّ هذه كلّها أنواعٌ من الموانع الدّاخليّة، والّتي يُعدّ التحرّر منها حريّة معنويّة. لهذا، لدينا اصطلاحان بشأن الحريّة المعنويّة: أحدهما ذاك الاصطلاح الأوّل الّذي هو عبارة عن العروج إلى الله، والقرب منه وحبّ الله وأمثاله. وهذا لا يدخل في بحثنا أساسًا، فله 
 

1 سورة المائدة، الآية44.
2 سورة آل عمران، الآية 175.
3 سورة الأحزاب، الآية 37.
 
 
 
35

23

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 مقولة أخرى. والآخر هو الحريّة المعنويّة بمعنى التحرّر من القيود والأغلال الدّاخليّة الّتي تمنعني من الذهاب إلى الجهاد، ومن الذهاب إلى المواجهة، ومن أن أتكلّم بصراحة، ومن أن أعلن مواقفي علانيّةً، وتجعلني أبتلى بالنّفاق وأكون ذا وجهَيْن. فقضية مواجهة موانع الحريّة قابلة لأن تُطرح للبحث.


نطاق الحريّة في الإسلام
النقطة اللّاحقة هي أنّنا نريد أن نتعرّف إلى رأي الإسلام، نحن الّذين لا نجامل أحدًا. لو أردنا تتبّع الآراء غير الإسلاميّة - كل ما تنضجه أذهاننا وتنشئه - فإنّنا سنُبتلى بتلك الاضطرابات الّتي ابتُلي بها المفكرّون الغربيّون في المجالات المختلفة، سواء أكانت في الفلسفة، أم في الأدب والفنّ، أم في المسائل الاجتماعيّة، أي بالآراء المتضاربة والمتنوّعة والمتضادّة، والّتي لا يكون لها في الأغلب استمرار وامتدادٌ عمليَّيْن. كلاّ، إننا نسعى للتعرّف إلى رأي الإسلام وموقفه.

فانظروا، إنّنا نصنع لأنفسنا في بحث الحريّة أوّل نطاق1، فما هو هذا النّطاق؟ إنّه عبارة عن أنّنا نريد رأي الإسلام، فنحدّ أنفسنا بنظر الإسلام والإطار الإسلامي، هذا هو أوّل نطاق. ففي بحث الحريّة، لا نخشى النّطاق؛ لأنّه عندما يُقال الحريّة فإنّها في معناها الأوّليّ - الّذي هو بالحمل الأوّلي الذاتي - التحرّر، وأيّ شيء يكون له أدنى منافاة مع هذا التحرّر يصبح ثقيلًا على ذاك الّذي يريد أن يبحث بشأن الحريّة، فيسعى نحو الاستثناء، والقاعدة هي عبارة عن التحرّر المطلق. إنّه يسعى نحو هذا الّذي يُعبّر عنه "إلّا ما خرج بالدليل"، فيقول: حسنًا، في هذه المجالات لا توجد حريّة، وفي تلك المجالات لا توجد حريّة، وإذا تجاوزنا هذه المجالات توجد حريّة. هذا هو الخطأ الّذي يمكن أن يقع فيه الإنسان في تعامله مع بحث الحريّة. وأنا أقول إنّ الأمر ليس كذلك، فمنذ البداية لا توجد فرضيّة مسبقة تريد
 

1 النطاق بمعنى الإطار والحد، وقد استخدم القائد كلمة " محدوديت" أي القيد والحد.
 
 
 
 
36

24

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 أن تمنحنا الحريّة المطلقة؛ حيث سأذكر هنا ما هو منشأ الحريّة في الإسلام من الأساس، فليس لدينا منذ البداية مثل هذا الفرض المسبق بأنّ الحريّة المطلقة هي حقّ الإنسان، ومرتبطة به، وأنّها قيمة له. وهنا ننظر لنرى ما هي هذه الاستثناءات، فأيّ منها تحت عنوان "ما خرج بالدّليل". كلّا، القضيّة ليست كذلك، إنّنا لا نخشى التحديد والنّطاق، فمثلما قلت إنّ أوّل نطاقٍ وضعناه بشأن أبحاث الحريّة في الإسلام هو أن نقول في"الإسلام"، أي إنّنا نضع لها منذ البداية إطارًا ونحدّد لها نطاقًا من الخطوة الأولى. فما هي الحريّة في الإسلام؟ وما هو معناها؟ فمثل هذا صار نطاقًا. كلّا، إنّ بحثنا في الأساس هو هذا.


في الآية المعروفة من سورة الأعراف المباركة يقول الله تعالى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ1. إنّ هذه أوضح آية في القرآن حول الحريّة، حيث تضع الإصر. والإصر هو تلك الحبال الّتي تُربط بها الخيمة من أجل أن لا تطيح بها الرّياح، وهي الّتي تُربط بإحكام بالأرض، ولكنّه أخلد إلى الأرض، هذا هو الإخلاد إلى الأرض. فأواصرنا هي تلك الأمور الّتي تربطنا بالأرض وتمنعنا من التحليق. والغلّ هو تلك السلسلة المعدنيّة الّتي جاء النبيّ من أجل رفعها. في هذه الآية، وقبل أن يقول: ﴿ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ﴾، يقول: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ  2، فماذا يعني الحلال والحرام؟ الحلال والحرام يعني وضع الحدود والمنع، وهما متلازمان مع الممنوعيّة. فمن الأساس، لا ينبغي أن نأبى وجود الحدود والمنع في أذهاننا أثناء البحث حول الحريّة.
 

1 سورة الأعراف، الآية 157.
2 سورة الأعراف، الآية 157.
 
 
 
 
 
37

25

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 الحريّة في منطق الغرب

قال بعض السّادة بوجود اختلافات جوهريّة بين الإسلام والغرب في النّظر إلى الحرّية ونظرية الحريّة. ففي الغرب، طُرحت اللّيبراليّة بالخصوص، وبالطبع توجد مذاهب أخرى، لكنّها جميعًا مشتركة مع هذه الجّهة. أجل، صحيحٌ أنّ هذه الاختلافات الّتي ذكرها السّادة موجودة، لكنّ الاختلاف الأهم هو أنّ منشأ الحريّة في اللّيبراليّة تحت عنوان الحقّ أو القيمة هو عبارة عن النّزعة الإنسانية؛ لأنّ محور عالم الوجود والاختيار في عالم الكون هو هذا الإنسان، وذلك لا يكون ذا معنى من دون الاختيار، لهذا يجب أن يكون حاصلًا على الاختيار والحريّة. وبالطبع، إنّ هذا الاختيار غير الاختيار في "الجبر والاختيار". لقد طرح بعض السّادة "الجبر والاختيار". إنّ بحث الاختيار في "الجبر والاختيار" هو أنّ الإنسان لديه قدرة الاختيار - القدرة الذاتيّة والطبيعيّة - لكن هنا إنّ الحديث عن الاختيار يقول حقّ الاختيار، فلا يوجد تلازم قطعيّ بين القدرة على الاختيار وحقّه. بالطبع، يمكن أن نفرض مجموعة من اللّوازم، لكن ليس معلومًا أنّها ستكون مقنعة هكذا. لهذا، فإنّ ما يقولونه هو هذا، إنّهم يقولون إنّ الإنسان هو المحور، أي أنّ ربّ عالم الوجود في الواقع هو الإنسان، ولا يمكن أن يكون موجودًا من دون قدرة الاختيار والإرادة؛ أي إنّه من دون إعمال الإرادة - والّتي هي المعنى الآخر للحريّة - لا يمكننا أن نفرض أنّ الإنسان هو صاحب الاختيار في عالم الوجود. هذا هو أساس بحث الحريّة، وهذا هو مبنى الفكر الإنسانيّ بشأن الحريّة "الهيومانيزم".

الحريّة في منطق الإسلام
في الإسلام، القضيّة منفصلة تمامًا عن هذا الأمر. ففي الإسلام، المبنى الأساسيّ للإنسان هو التوحيد. بالطبع، لقد ذكر الأعزّاء بعض الموارد الأخرى أيضًا - وهي أيضًا صحيحة، لكنّ النقطة المركزية هي التوحيد. والتوحيد ليس منحصرًا بالاعتقاد بالله، 
 
 
 
 
38

26

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 بل هو عبارة عن الاعتقاد بالله والكفر بالطاغوت، والعبودية لله وعدم العبودية لغير الله، حيث يقول تعالى: ﴿ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ 1؛ لا يقول ولا نشرك به أحدًا. بالطبع، هناك موردٌ جاء فيه كلمة أحدًا، لكنّه هنا بمعنىً أعمّ، حيث يقول لا نشرك به شيئًا، فلا نجعل أيّ شيء شريكًا لله، أي إنّكم إذا اتّبعتم العادات دون دليل فهذا خلاف التوحيد، وإذا اتّبعتم البشر يكون كذلك، وهكذا في مورد الأنظمة الاجتماعيّة - فكل ما لا ينتهي إلى الإرادة الإلهية - يكون في الواقع شركًا بالله. والتوحيد هو عبارة عن الإعراض عن هذا الشرك: ﴿ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ 2، فيوجد الكفر بالطاغوت وبعده الإيمان بالله. حسنًا، هذا معناه تلك الحريّة، فأنتم أحرارٌ من جميع القيود، غير العبودية لله.


أنا العبد، وقبل سنوات في صلاة الجمعة في طهران، تحدّثتُ عن بحث الحريّة في عشر أو خمس عشرة جلسة، وقد أشرت هناك إلى مسألة وقلت: "نحن في الإسلام نعدّ أنفسنا عبيدًا لله، لكن في بعض الأديان الناس هم أبناء الله. قلت ذاك مجاملة، إنّهم أبناء الله وعبيدٌ لآلاف البشر، عبيدٌ لآلاف الأشياء والأشخاص! الإسلام لا يقول هذا، بل يقول كن ابنًا لمن تشاء، ولكن كن عبدًا لله فقط. لا ينبغي أن تكون عبدًا لغير الله. فأساس المعارف الإسلاميّة في مورد الحرية ناظرٌ إلى هذه النقطة".

هذه اللّماظة لأهلها
ذاك الحديث المنقول عن أمير المؤمنين، وبالظاهر عن الإمام السجّاد عليه السلام، يقول: "ألا حرٌّ يدع هذه اللُّماظة لأهلها"3، هذه هي الحريّة ـ ألا يوجد حرٌّ يترك هذا المتاع الحقير. اللُماظة هي سوائل الأنف أو تلك الّتي تخرج من فم الحيوان الوضيع،
 

1 سورة آل عمران، الآية 64.
2 سورة البقرة، الآية 256.
3 الشريف الرضي، نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام، تحقيق صبحي الصالح، ط1، 1967م، ص556.
 
 
 
 
39

27

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 ليتركها لأهلها؟ إلى هنا لا يُفهم شيء. من الواضح أنّ الحرّ هو الّذي يترك هذا الأمر لأهله ولا يسعى نحوه. فيقول بعد ذلك: "فليس لأنفسكم ثمنٌ إلّا الجنة فلا تبيعوها بغيرها"1. من المعلوم أنّهم يريدون أن يجعلوا لتلك اللّماظة قيمة وثمنًا، أي إنّهم كانوا يقدّمون تلك اللُّماظة ليبادلوا بها أنفسهم ووجودهم وهويّتهم وشخصيّتهم، فالقضيّة أنّ هناك معاملة تجري وهو ينهى عنها. فإذا أردتم أن تقوموا بهذه المعاملة، فلماذا تبيعون أنفسكم لقاء هذه اللُّماظة؟ بل اجعلوا ذلك فقط مقابل الجنّة والعبوديّة لله. لهذا، فإنّ النقطة المركزيّة هي هذه. بالطبع، توجد نقطة مركزية أخرى هي عبارة عن الكرامة الإنسانيّة، والّتي تشير إليها "وليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة"، حيث ندخل الآن في هذا البحث.


مصادرنا سبقت الأوروبيّين
توجد نقطةٌ أخرى وهي أنّنا في تمسّكنا بالمصادر الإسلاميّة مثلما أشار بعض السّادة توجد مصادر قرآنيّة وغير قرآنيّة، وحديثية كثيرة وكثيرة، حيث كنت، أنا العبد، قد وجدتُ فرصة ومجالًا للبحث في تلك السلسلة من الخطب في ذلك الوقت، ووجدت عدّة من تلك المصادر، وقرأتها في صلاة الجمعة تلك. لا ينبغي أن نكون بصدد هذا الأمر فقط وهو أن نثبت أنّه لم يكن الغرب ولا أوروبّا من أهدانا بحث الحريّة؛ لأنّه في بعض الأحيان نستخدم هذا مقابل من يقول: لماذا إنّ بعض المتغرّبين يقولون إنّ هذه المفاهيم قد علّمنا إيّاها الأوروبيّون؟ كلّا، إنّ عظماء الإسلام قد ذكروا ذلك قبل ظهور هذه الأبحاث في أوروبّا بقرون. حسنًا جدًّا، هذه فائدة، لكنّ الأمر لا ينبغي أن يكون هكذا فقط. يجب علينا أن نرجع إلى المصادر كي نتمكّن من استنباط تلك المنظومة الفكريّة المتعلّقة بالحريّة من مجموع تلك المصادر.
 

1 نهج البلاغة، ص556.
 
 
 
40

28

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 زوايا البحث في الحريّة

النقطة الأخرى هي أنّه يمكننا أن نبحث بشأن الحريّة من أربع زوايا نظر: إحداها من منظار الحقّ بالاصطلاح القرآنيّ، لا بالاصطلاح الفقهيّ والحقوقيّ. وسوف أشير إلى هذا بشكل مختصر موضّحًا. وإحداها من منظار الحقّ بالاصطلاح الفقهيّ والحقوقيّ، الحقّ والملك، والحقّ في قبال الملك، وإحداها من منظار التكليف، وإحداها أيضًا من منظار النظام القيميّ.

الحقّ بالاصطلاح القرآنيّ
برأيي، البحث الأوّل هو الأهم، أي أن نعمل على الحرّية من منظار الحقّ بالاصطلاح القرآنيّ. فالحقّ في الاصطلاح القرآنيّ، والّذي لعلّه تكرّر في القرآن كمصطلح الحقّ، أو عبارة الحقّ أكثر من مئتَيْ مرّة، وهو أمرٌ عجيبٌ جدًّا. والحقّ في القرآن له معنىً عميق ووسيع، حيث إنّه يمكن بشكل مختصر ومجمل التعبير عنه بكلمتَيْن بمعنى سطحيّ، وبمعنى جهاز منظّم وهادف. فالله تعالى في آيات عديدة من القرآن يقول إنّ كلّ عالم الوجود قد خُلق على أساس الحقّ: ﴿ مَا خَلَقۡنَٰهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ ﴾1، ﴿ وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ ﴾2؛ أي إنّ نظام أو جهاز عالم الوجود، وجهاز الخلقة - من جملتها وجود الإنسان الطبيعيّ بمعزلٍ عن قضيّة الاختيار والإرادة في الإنسان - هو جهازٌ مصنوعٌ ومُعدّ، ومترابط ومتّصل ببعضه بعضًا، وله نظامٌ وهدف. فيما بعد، يبيّن هذه المسألة نفسها بشأن التشريع - لقد أشرت في مورد التكوين إلى بعض الآيات - وفي مورد التشريع يقول: ﴿ نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّۗ ﴾3، ﴿ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ
 

1 سورة الدخان، الآية 39.
2 سورة الجاثية، الآية 22.
3 سورة البقرة، الآية 176.
 
 
 
 
41

29

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۖ 1، و﴿ لَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلۡحَقِّۖ 2. فهذا الحقّ وذاك الحقّ، هذا في عالم التكوين وذاك في عالم التشريع. ويعني ذلك أنّ عالم التشريع متطابق مئة في المئة مع عالم التكوين بحسب الحكمة الإلهيّة. ويمكن لإرادة الإنسان أن تخرّب بعض زواياه؛ لأنّه متطابق مع عالم التكوين. والجهة هي جهة الحقّ؛ أي إنّ كلّ ما ينبغي أن يكون، تقتضيه الحكمة الإلهية. لهذا، فإنّ تلك الحركة العامّة والكلّية ستتغلّب في النهاية على جميع هذه الأعمال الجزئيّة الّتي تتعدّى هذه الطريق وتتخلّى عنا وتنحرف. لكن، من الممكن أن تحصل أنواعٌ من المخالفات، هذا هو عالم التكوين وهذا هو عالم التشريع. ومن موادّ هذا العالم إرادة الإنسان، ومن موادّ هذا التشريع حريّة الإنسان، فهذا هو الحقّ إذًا. وبهذه النّظرة، نتطلّع إلى قضية الحريّة وهي حريّة الحقّ مقابل الباطل.


الحقّ بالاصطلاح الحقوقيّ
بمنظارٍ آخر يكون بلحاظ الحقّ بالاصطلاح الحقوقيّ، حيث قلنا إنّه يُعطى قدرة المطالبة - أي لديه خصوصيّة تمكنّه أن يطالب بشيءٍ - وهو أمرٌ يختلف مع بحث الاختيار في حقّ الاختيار في "الجبر والاختيار".

ومنها قضيّة التكليف حيث ينبغي أن ننظر إلى الحرّية من منظار تكليفٍ ما. فليس من الصحيح أن نقول: حسنًا جدًّا، إنّ الحريّة أمرٌ جيّد، لكنّني لا أريد هذا الشيء الجيّد. كلّا، لا يصحّ ذلك، يجب على الإنسان أن يسعى إلى الحرّيّة، سواء أكانت حريّته أم حرّيّة الآخرين. فلا ينبغي أن يسمح لأحدٍ أن يبقى في الاستضعاف والمذلّة والمحكوميّة.
 
 

1 سورة البقرة، الآية 119.
2 سورة الأعراف، الآية 43.
 
 
 
 
42

30

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا"1. ويقول القرآن أيضًا: ﴿ وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ 2؛ أي إنّكم مكلّفون بتحقيق حريّة الآخرين ولو بالقتال، حيث إنّ هذا أيضًا يرتبط بأبحاثٍ متنوّعة.


النقطة الرابعة هي القيم؛ حيث إنّ هذا الأمر بحسب نظام القيم الإسلاميّة يُعدّ من عناصر الدّرجة الأولى. بالطبع، هو تلك الحرية الموجودة.

حسنًا، سوف أختم كلامي حول مقارنة ما عندنا مع الآراء الغربية، نحن الّذين نريد أن نبحث بشأن قضية الحريّة ونحقّق ونتقدّم، فهذه نقطة أساسيّة. إنّ الأبحاث الّتي قام بها السّادة والسيّدات كلّها تشير إلى وجود هوّة عميقة بين نظرة الإسلام ونظرة الغرب، وهذا أمرٌ صحيح. هذا هو الأمر. إنّ المنشأ الأساس - كما ذكرنا - هو أنّ ملاك الحريّة ومعيارها هناك هو بحث سيادة الإنسان، وهنا بحث سيادة الربّ، العبوديّة لله والتوحيد الإلهي، وهذا محفوظٌ في مكانه. تارة ننظر إلى الآراء الغربيّة، ونرى أنّها لا تمتلك إنتاجات جيّدة وواقع القضيّة هو هذا ليس غير. وهنا، كلّ هؤلاء المفكّرين البارزين والعظماء كانوا قد تحدّثوا حول الحرّية وبحثوا، فأين هم الآن؟ أين هو عالم الغرب بلحاظ العمل والسّلوك، بلحاظ تلك الأمور الّتي ذكروها وأرادوها؟ وتلك الأطر الّتي تمّت رعايتها وملاحظتها فليس لها وجود. لو فرضنا أنّ ما نراه اليوم في واقع الغرب هو ترجمة عمليّة لها تمامًا (أي لتلك الأطر)، فإنّ وضعهم عندئذٍ سيكون سيّئًا جدًّا، وذلك لأنّ حال الغرب اليوم بلحاظ الحريّة هي حالٌ مؤسفة وسيّئة، أي إنّه لا يمكن أن تستحقّ أي دفاع.

الحريّة الاقتصاديّة
نجد الحرّية الاقتصاديّة اليوم في الغرب على تلك الشاكلة الّتي أشار إليها السّادة. في الدائرة الاقتصاديّة: توارث المناصب الاقتصاديّة بواسطة أشخاص معدودين. فلو
 

1 نهج البلاغة، رسالة31.
2 سورة النساء، الآية 75.
 
 
 
 
43

31

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 استطاع أيّ إنسانٍ أن يوصل نفسه بالاحتيال أو التزوير أو أيّ شكل آخر، إلى ملعب المتسلّطين الاقتصاديّين، فإنّ كلّ شيء يصبح له. بالطبع، لا ينظرون في أميركا إلى السوابق الأرستقراطيّة، خلافًا لأوروبا والتقاليد الأوروبيّة، حيث تولي هذه القضايا مقدارًا من الأهميّة، وكان ذلك في الماضي أكثر، واليوم قد تضاءل. في أميركا، لا يوجد مثل هذه السوابق الأرستقراطيّة والأسريّة وأمثالها. فهناك يمكن لأيّ شخصٍ - ولو كان حمّالًا - أن يستفيد من منصبٍ ما، وأن يوصل نفسه إلى تلك النقطة العالية للرأسماليّة، ويصبح في مصافّ الرأسماليّين، ويتمتّع بالامتيازات الّتي هي من مختصّاتهم. في ذاك الميثاق الّذي أعدّه الأميركيّون، إنّ أحد الكبار والروّاد وبناة أميركا اليوم - الّذي عاش قبل قرنَيْن، ولا أذكره الآن، وعلى وجه التقريب بعد الثّورة الفرنسية الكبرى بمدّة قليلة، حيث وقعت تلك الأحداث في أميركا وتشكّلت تلك الدّولة - يقول إنّ إدارة أميركا يجب أن تكون بأيدي أولئك الّذين يتمتّعون بثروتها. إنّ هذا أصلٌ عام ولا يستنكفون عنه أبدًا. فثروة البلاد بيد هذه الجماعة، ويجب عليهم أن يديروا البلاد بأنفسهم، وهي النقطة المقابلة تمامًا لما أراده أخونا العزيز أن يحصل من خلال الجمعيات التعاونيّة الّتي يحقّ فيها للجميع أن تكون لهم الإدارة ولو بحصّة ما. حسنًا، هذه هي حريّتهم الاقتصاديّة.

 


الحريّة السياسيّة
في المجال السياسيّ، أنتم ترون لعبة التنافس هذه بين الحزبَيْن، اللّذَيْن يحتكران الساحة السياسيّة من خلالها، ولا شك بأنّ عدد الأشخاص الّذين يتّبعون هذَيْن الحزبَيْن هو أقلَ بكثير من 1%. أساسًا، إنّ هذه الأحزاب ليس لها امتداد حقيقيّ وواقعيّ في عمق المجتمع، فهي في الواقع ملاعب لتجمّع جماعة. أولئك الّذين يأتون ويصوّتون، فإمّا أنّهم يقعون تحت خدع الشّعارات، أو تحت تأثير سلطة الإعلام الّتي هي في الغرب غنيّة جدًّا ومتطوّرة، وخصوصًا في أميركا الّتي هي بلحاظ القدرات الإعلاميّة
 
 
 
 
 
44

32

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 وقلب الوقائع متقدّمة علينا، بمسافة هي ما بين الأرض والسماء. فهم يقلبون الأسود إلى أبيض والأبيض إلى أسود، فقد أصبحوا متطوّرين وفعّالين في هذه المجالات بشكل خارق، وهم يقودون الناس بمثل هذه الوسائل.


الحريّة في القضايا الأخلاقيّة
في مجال القضايا الأخلاقيّة، ها هي قضيّة الشذوذ الجنسيّ الّتي ذكرتها أختنا العزيزة، فتلك المفاسد موجودة. لا شكّ أنّه توجد بعض القيود إلى الآن، وهذه القيود كما يستشرف الإنسان ستزول بسرعة أيضًا، أي في منطقهم لا ينبغي أن يكون هناك أيّ مانع من الزّواج من المحارم، والزنا بالمحارم. فلو كان على سبيل الفرض، الملاك وجواز الشذوذ الجنسي والحياة المشتركة من دون زواج هو ميل الإنسان. حسنًا، فلو أنّ شخصًا رغب على سبيل الفرض بأن يفجر بأحد محارمه، فلماذا ينبغي أن يكون هناك مانع؟ فبذاك المنطق لا يوجد مثل هذا المانع. وبحسب القاعدة هذه سوف تزول هذه الموانع وسوف تُسحب منهم.

بناءً عليه، إنّ وقائع المجتمع الغربي سيّئة جدًا ومرّة وبشعة، وبعضها يبعث على النّفور، فلا وجود للعدالة ولا لأيّ شيء من هذا القبيل، بل هناك التمييز العنصري والاستبداد. وفي مجال القضايا العالميّة هناك إشعال للحروب. فإنّهم، ومن أجل أن تحصل مصانع الأسلحة على المال، وأن لا يفلس ذلك المصنع، يشعلون الحروب بين شعبَيْن! يأتون إلى بلدان الخليج الفارسي ويخوّفونها من إيران، ومن الجمهوريّة الإسلاميّة من أجل أن يبيعوها الفانتوم والميراج، ومثل هذه الأعمال يقومون بها على نحو دائم.

أمّا تعاملهم مع المقولات الشريفة - كحقوق الإنسان والسيادة الشعبية - فإنّه تعاملٌ انتقائيّ. إنّ تعاملهم سيّئٌ جدًا وغير أخلاقيّ مع هذه المقولات. لهذا، فإنّ حال
 
 
 
 
 
45

33

الفصل الثّاني: مقولة الحريّة

 الوقائع الحاليّة للحياة في الغرب، ذاك الغرب الّذي تحدّث فلاسفته بهذا المقدار عن الحريّة فيه، هي حالٌ سيّئٌة في الواقع.


إنّ المرء عندما ينظر إلى هذه النّظريّات يرفضها فيما بعد، هذا هو نحوٌ من النّظر. أنا العبد، أعتقد أنّه لا ينبغي اعتماد هذا النظر بشكل مطلق. أجل، إنّ هذه الوقائع، وإلى حدٍّ كبير، تشير إلى أنّ أولئك المفكّرين الّذين ابتعدوا عن الله، واستغنوا عن هدايته، واعتمدوا فقط على أنفسهم، ابتلوا بالضلالة، وأضلّوا أنفسهم وقومهم، وجعلوا أنفسهم جهنّميّين وكذلك أقوامهم، فلا شكّ في ذلك. وفي غاية الأمر، إنّني أفكّر بهذه الطريقة، إنّ مراجعتنا لآراء المفكّرين الغربيّين وتضارب الآراء الموجودة عندهم، ومع هذه الريادة في المجال المتعلّق بتنظيم الأفكار وسبك المنظومات وترتيب الموضوعات، سيكون مفيدًا لمفكّرينا، بشرطٍ واحد وهو عدم التقليد؛ لأنّ التقليد هو ضدّ الحريّة. لا ينبغي أن يحصل التقليد، لكنّ نوعَ عملهم يمكن أن يكون مساعدًا لكم.
 
 
 
 
 
46

34

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 حرّية التفكير والمعتقد



أنواع الحرّية
هناك نوعان من الحريّة بالنسبة إلى الإنسان: إحداهما الحريّة الإنسانيّة، والأخرى الحريّة البهيميّة (الحيوانيّة)؛ أي حريّة الشهوات، حريّة الأهواء والرّغبات النفسيّة.

ولو أردنا أن نبحث على لسان القدماء، لعبَّرنا عن الحريّة من النوع الثّاني بحريّة القوّة الغضبيّة والقوة الشهويّة.

إنّ الّذين يبحثون عن الحريّة، لا يهدفون منها الحريّة الحيوانيّة، بل يعدّونها تلك الحقيقة المقدّسة الّتي تُسمّى بالحريّة الإنسانيّة.

الإنسان يمتلك قابليّات أسمى وأعلى من القابليّات الحيوانيّة. هذه القابليّات إمّا أنّها من النّوع العاطفي والرغبات، والميول الإنسانيّة العالية، وإمّا أنّها من نوع الإدراكات والتفكيرات، وهذه القابليّات الممتازة هي منشأ الحريّات المُتسامية.
 
 
 
 
 
47

35

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 الفرق بين حريّة التفكير وحريّة العقيدة

هناك اختلاف بين حريّة التفكير وحريّة العقيدة. إنّ حرية التفكير ناشئة عن القابليّة الإنسانيّة للإنسان، والّتي يستطيع بها أن يُفكّر في المسائل المختلفة، وهذه القابليّة البشريّة يجب أن تكون حرَّةً طليقة؛ لأنّ تقدُّم وتكامل البشر رهنٌ بهذه الحريّة، غير أنّ حريّة العقيدة لها خصائص أُخرى. إنّ منشأ كثيرٍ من العقائد المتداولة هو سلسلة من العادات والتقاليد والعصبيّات، ولا توجد هداية ولا حلّ في هذا النوع من العقيدة، بل على العكس من ذلك، فإنّها تُعدّ قسمًا من الانغلاق الفكري؛ أي إنّ فكر الإنسان في هذه الحال بدلًا من أنْ يكون فعّالًا متفتِّحًا، فإنّه يكون منغلقًا مسدودًا، وعند ذاك فإنّ قوّة التفكير المقدّسة - بسبب هذا الانغلاق والانعقاد - تصبح أسيرةً سجينةً في دخيلة الإنسان.

إنّ حريّة العقيدة بالمعنى الأخير، لم تكن مفيدةً فحسب، بل إنّها تسبّب آثارًا ضارّةً جدًّا، للفرد والمجتمع.

هل يجب أن نقول بالنسبة إلى الإنسان الّذي يعبد صخرةً: إنّه قد فكّر ووصل إلى هذا المستوى بصورةٍ صحيحة؟ وبدليلٍ أنّ العقيدة محترمة أيضًا؟ فلذلك يجب أن نحترم عقيدته، ولا نمنعه من عبادة الصنم، أي إنّنا نعمل ما عمله النبيّ إبراهيم خليل الله.

إنّ الناس في زمان النبي إبراهيم عليه السلام كانوا جميعًا عبدة أصنام، ذلك أنّه في أحد الأعياد الوطنيّة، حيث كان الناس كلّهم في خارج المدينة، لم يخرج إبراهيم معهم، بل اغتنم الفرصة وأخذ فأسه وذهب إلى الأصنام وحطّمها جميعًا، إلّا الصنم الأكبر فإنّه لم يحطّمه، بل علّق الفأس في رقبته، واستهدف من ذلك: أنّ كلَّ من يذهب لزيارة الأصنام سوف يتصوّر أنّ الآلهة تحاربت مع بعضها، وكانت النتيجة أنّ الصنم الأكبر لمّا كان يتمتّع بقوّة أكبر، فإنّه كسّر وحطّم سائر الأصنام، وبقي بمفرده. وبالتالي، يتّضح 
 
 
 
 
 
 
48

36

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 للناس - بحكم الفطرة - أنّ الأصنام لا تستطيع أن تتحرّك من أماكنها، وهذا التفكير يدعوهم إلى التذكّر والتعقّل.


عندما رجع الناس ورؤوا ذلك الوضع، غضبوا واغتاظوا، وأخذوا يبحثون عن الفاعل، وبينما هم يبحثون، تذكّروا أنّ هناك فتىً في المدينة، يستنكر هذه الأعمال.

يستخدم القرآن في هذا المجال أُسلوبًا لطيفًا جدًّا، إذ يقول: ﴿ فَرَجَعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ1؛ أي إنّ هذا الاحتجاج أصبح سببًا في أن يُراجعوا أنفسهم.

إنّ النفس الحقيقيّة للإنسان في نظر القرآن هي العقل والتفكُّر الخالص والمنطق الصحيح. يقول القرآن إنّ هؤلاء قد انفصلوا عن أنفسهم، وصار هذا التذكُّر سببًا لكي يجدوا أنفسهم، ويعودوا إليها مرّة أخرى.

والآن، كيف نفسّر عمل إبراهيم؟ هل إنّ عمل إبراهيم عليه السلام كان خلافًا لحريّة العقيدة - بمعناها الشائع الّذي يقول: "إنّ كلّ إنسان يجب أن يكون حرًّا في عقيدته" - أم كان في خدمة حريّة العقيدة بمعناها الواقعي؟

إذا كان إبراهيم يقول: إنّ ملايينًا من البشر يُقدّسون هذه الأصنام، فيجب عليَّ أن أحترمها أيضًا؛ أي إنّه كان يبرز العقيدة الرائجة نفسها الآن بكثرة2؛ فهل سيكون هذا عملًا صحيحًا صائبًا ومتكاملا؟ا يعتقد الإسلام أنّ هذا العمل إغراءٌ بالجهل وليس خدمةً للحريّة.
وفي تاريخ الإسلام، نلاحظ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسم عَمِل في فتح مكّة عملًا مشابهًا تمامًا لما عمله إبراهيم عليه السلام؛ إنّه حطّم الأصنام بعذرِ حريّة العقيدة3؛ لأنّه رأى أنّ هذه الأصنام عوامل لتقييد أفكار الناس. وقد كانت أفكار البشر مئات الأعوام أسيرة
 

1 سورة الأنبياء، الآية 64.
2 أي إنّه يقنع بكلِّ تبرير يُقال في حقّ العقائد المتداولة؛ لأنّها شائعة فقط، حتّى ولو كانت خاطئة ومدسوسةً؛ وأنّ الخروج عليها، هو مساسٌ واعتداءٌ على حريّة السائرين عليها.
3 المقصود لما يُفهم من سياق النصّ، وواقع القضية التاريخي؛ هو أنّ الخليل عليه السلام، استخدم نفس السلاح الّذي يقول به قومه، من وجوب احترام حريّة العقيدة.
 
 
 
 
49

 


37

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 هذه الأصنام الخشبيّة والمعدنيّة. ولذلك، فإنّ أوّل عملٍ أقدم عليه الرسول بعد فتح مكّة كان تحطيم هذه الأصنام، وتحرير الناس تحريرًا حقيقيًّا.


والآن، لو قارنّا بين السلوك وأسلوب العمل هذا، وبين سلوك وأسلوب عمل ملكة بريطانيا عندما ذهبت في زيارة إلى الهند، كان ضمن برنامج سفرها زيارة أحد معابد الأوثان. وهناك، عندما كان الناس أنفسهم يريدون الدخول إلى ساحة المعبد، كانوا يخلعون أحذيتهم احترامًا للمعبد، ولكنّ الملكة أرادت أن تبرز احترامًا وإجلالًا أكثر، فخلعت حذاءها قبل الوصول إلى الساحة، ثمّ دخلت في أدبٍ كامل - أكثر من الجميع - ووقفت بخضوع أمام الأصنام. يقول بعض البسطاء لتفسير هذا الموقف: "انظروا إلى ممثّلة شعبٍ متقدِّم كيف تحترم عقائد الناس!"، وهم غافلون عن أنّ هذا من حِيَل الاستعمار؛ الاستعمار الّذي يعرف أنّ معابد الأصنام هذه هي الّتي قيّدت وأسرت الشعب الهنديّ وأخضعتهم للمستعمرين. هذه الاحترامات المزيّفة ليست خدمةً للحريّة، وليست احترامًا للعقيدة، إنّها خدمة للاستعمار، فإذا ما تحرّر الشعب الهندي من هذه الخرافات، فإنّه سوف لن يخضع للإنكليز مرّةً أخرى.

لا حدود لحريّة التفكير
لنعُد ثانيةً إلى موضوع حريّة التفكير، وكما قلتُ يجب أن لا نخلط بينها وبين حريّة انغلاق الأفكار. كلُّ مبدأ يعتقد ويُؤمن ويعتمد على أيديولوجيّته وعقيدته، فإنّه لا بُدّ أن يُدافع عن حريّة التفكّر والتدبّر. وعلى العكس من ذلك، فكلُّ مبدأ لا يؤمن ولا يعتمد على نفسه، فإنّه يمنحه حريّة التفكير.

إنّني أُعلن أنّ في الجمهوريّة الإسلاميّة، أنّه لا يوجد تحديد ولا تقييد للأفكار أبدًا، ولا يمكن أن نسمع في ظلِّها خبرًا عن حصر الأفكار. يجب أن يكون الجميع أحرارًا؛ ليعرضوا نتيجة أفكارهم وتفكّراتهم الأصليّة، ولا بدّ أن أُذكِّر بأنّ هذا الأمر يختلف 
 
 
 
 
 
50

38

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 بالطبع عن المؤامرات والنوايا السيّئة، فإنّ التآمر محظور، ولا مانع من عرض الأفكار الأصليّة.


حريّة التفكّر والتآمر
تحدَّثتُ مع بعض الشباب الشيوعيّين، كانوا يقولون: ما هو النقص والعيب في الشعار الّذي يقول: "وحدةٌ، نضالٌ، حريّة؟"1؛ وما رأيكم في ذلك؟ فأجبتهم: "لا عيب في هذا الشعار".

قالوا: إذًا، فليكن هذا شعارًا مشتركًا لنا ولكم. عند ذلك سألتهم: أنتم الّذين تقولون: الوحدةُ، النضالُ. مَنْ تُناضلون؟ وماذا تريدون من هذا النضال؟ أوليس هدفكم من النِّضال محاربة النظام، إضافةً إلى محاربة المذهب2؟ أولستم تعرضون شعاركم بأسلوب غامض وبعبارةٍ مبهمة، حتّى تصنّفوا الناس المعتقدين بالمذهب تحت هذا اللّواء وتقوموا بإغفالهم تدريجيًّا؟

إنّني مستعد لأكرّر هذا الشعار، ولكنّي أُعلن مقدَّمًا أنّ غرضي من النضال هو نضال ضدّ الإمبرياليّة والشيوعيّة.

أقولّها بكلِّ صراحةٍ، ولا أخشى أحدًا: تعالوا نتكلّمُ بصراحة، أنتم لا تؤمنون بالإمام الخميني، وعندما تتحدّثون مع بعضكم تقولون: نحن نسير مع هذا الرجل حتّى مرحلة الانتصار، ثمّ نحاربه. لماذا ترفعون صوَرَه في تظاهراتكم؟ لمَ تكذبون؟ إنّه ينادي بالجمهوريّة الإسلاميّة بكلِّ صراحة، فلماذا لا تصرّحون بما تبتغون؟

إنّ حريّة إظهار العقيدة تعني التصريح بما تفكّرون وبما تعتقدون به حقيقةً، ولكنّكم تريدون أن تخدعونا تحت عنوان حريّة العقيدة.
 

1 كان هذا شعار الشيوعيين في سنة 1978م في إيران، أي في الأشهر الّتي سبقت انتصار الثورة الإسلامية.
2 فيما يبدو، مرادُهُ: أنّهم يظهرون محاربة النظام، ويخفون محاربة المذهب.
 
 
 
 
 
51

39

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 إنّ الّذي تؤمنون به هو ‘لينين’. إذًا، أحضروا صورة ‘لينين’ في تظاهراتكم، وإنّي أتساءل: لماذا ترفعون صورة قائدنا؟ عندما تأخذون معكم صورة الإمام، فإنّكم تريدون أن تقولوا للناس: إنّنا نسير على نهج الإمام، في الوقت الّذي تضمرون السير في سبيل آخر، فلمّ هذا الكذب؟ ولمّ هذا التحايل؟


علينا أن لا نخلِطَ بين حريّة الفكر، وبين حريّة الإغفال، وحريّة النفاق، وحريّة التآمر.

وكما أنّنا نصارحكم ونقول لكم: إنّ نظام الحكم الّذي نبتغيه يختلف عن نظام الحكم عندكم، وإنّ نظامنا الاقتصاديّ والفكريّ والعقائديّ وتصوُّرنا عن الحياة يختلف عن اقتصادكم وأسلوب تفكيركم وعقيدتكم وتصوّركم عن الحياة، فصارِحونا أنتم أيضًا في أقوالكم. نحن نتحدّث بصراحة، ليسلك من يريد سبيلنا، ومن لا يريد يسلك سبيلًا آخر.

وأنتم لماذا لا تنطقون بصراحة ومن دون رياء؟ لماذا تقولون: لنجتمع معًا تحت شعار الحريّة؟ مع أنّكم تقصدون من الحريّة في الدرجة الأولى: التحرّر من الدين، وأمّا نحنُ فنقصد من الحريّة التحرر من جميع أنواع الضغط، ومنها الضغط الشيوعيّ. إذًا، فإنّ الحرية الّتي تريدونها، تتفاوت عن الحريّة الّتي نطلبها.

إنّني أُعلن لجميع هؤلاء الأصدقاء غير المسلمين عن حريّة التفكير في الإسلام. نعم، فكّروا كيفما تشاؤون، وأظهروا عقائدكم مثلما تريدون، واكتبوا ما تشاؤون، فلا خطَر في ذلك، بشرط أن تُعلنوا أفكاركم الحقيقيّة.

نُلاحظ أحيانًا بعض الكتابات الّتي تدعو إلى الماركسية، تدعو لها تحت ستارٍ إسلاميّ، وهذه خيانة عظمى.

حصلتُ قبل فترة على كُتيّباتٍ حول تفسير القرآن، وأنا لا أعرف - إلى الآن - هل إنّ هؤلاء الكتّاب والمؤلّفين مخدوعون حقًّا، أم إنّهم يتعمّدون إغفال الناس؟ إنّني 
 
 
 
 
 
52

40

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 أحتملُ - بالطبع - أنّ هؤلاء مجذوبون إلى المواضيع الشيوعيّة؛ حيث إنّني كلّما قرأت في كتبهم رأيتهم يفسِّرون آيات القرآن كلّها، وفقًا لمعتقداتهم الماركسيّة.


وعلى سبيل المثال، يقول القرآن: ﴿ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ﴾1، ويقول هؤلاء في تفسيرهم: الغرضُ من الغيب هو الغيب الثوريّ، فالثورة لها مرحلتان: مرحلة الغيب الخَفَاء، ومرحلة الشّهادة. فما دام النظام الإمبرياليّ الحاكم باقيًا، لا بدّ أن تأخذ الثّورة مرحلة الاستتار أو الغيب، وعندما يتغيّر النظام تبدأ مرحلة الشهادة أو ظهور الثّورة.

فمثلًا، نحن في العام الماضي، كنّا في مرحلة غيبة الثّورة، وهذا العام نحن في مرحلة شهادة الثورة (الشهادة بمعنى التبيين).

وهنا نسألهم: لماذا تستندون إلى القرآن؟ انطقوا بحقيقة كلامكم. وفي هذا المقام لا يستطيع أحدٌ أن يقول: يجب عليكم أن تسكتوا ولا تعترضوا استنادًا إلى حريّة المعتقد؛ لأنّ هذا لا يرتبط بحريّة العقيدة، بل إنّهم اتّخذوا الكتاب المقدّس للمسلمين (القرآن) آلةً ووسيلة.
إنّ هذا الأمر هو إغفال وتحايل ومؤامرة، والتحايل يعني الخيانة بالنسبة إلى الآخرين؛ أي إنّهم اتّخذوا حريّة الآخرين وكرامتهم، وسيلةً لتحقيق أغراضهم، ولا يمكن السكوت أمام هذا العمل.

القرآن كتاب سماويّ، إنّه الوحي المجسَّم، كلُّ من يدّعي أنّه لا تُوجد مُعجزة في هذا الكتاب السماويّ، فأعتقد أنّه إمّا جاهل ولا يفهم شيئًا، أم أنّه يكذب وليس بمسلم.

وردت معجزات كثيرة في القرآن، ولا نستطيع أن نبحث هذا الموضوع بالتفصيل في هذا الكتاب.
.

1 سورة البقرة، الآية 3.
 
 
 
 
53

41

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 ومن المسائل المعروضة في القرآن: قصة أصحاب الفيل1. فممّا أشار إليه القرآن، وممّا نستفيد من كتب التاريخ، أنّ الحبشيين (بقيادة أبرهة) هجموا على مكّة لتدمير الكعبة، هذا المعبد الإبراهيميّ، ثمّ ينقل القرآن كيف أنّ الله تعالى أرسل عليهم طيورًا، طارت - فيما يُنقل - من ساحل البحر الأحمر، وأنّ كُلًّا منها كان يحمل في منقاره حجارةً من سجّيل2. والقرآن يُسمّي هذه الطيور بالأبابيل3. لقد ألقت هذه الطيور سجّيلها على رؤوس الجنود الحبشيّين، وسقط الجنود جميعًا على الأرض، مَثَلهُم مَثَل محصول القمح الّذي يهجم عليه الجراد، ولا نعلم بعد ذلك تفاصيل الأمر، فهل إنّ الجنود أُصيبوا بالجِّدري أم بمرضٍ آخر؟ لا نعلمُ ذلك.


لقد كان زمنُ نزول الفيل بعد أربعين عامًا من حدوث هذه الواقعة في مكّة، ولذلك فإنّ كثيرًا من النّاس الّذين شهدوا الواقعة كانوا موجودين أثناء نزول هذه السورة أيضًا. وبالطبع، لو كانت وقائع هذه الحادثة، خلافًا لما يُورده القرآن، فإنّ أكثر هؤلاء الشهود الّذين كانوا أعداء الرسول، كانوا يتّهمونه بالكذب، وبالتّالي يسقط حديثه عن الحسبان.

وعند تفسير هذه السورة، يكتبون في كُتَيّباتهم: أنّه في ولادة الرسول، كانت تعيش في مكّة جماعة من الثّوار الّذين كانوا في حال نضال دائمٍ مع الاستعمار العالميّ، وبعد أن كشفهم الاستعمار العالميّ، وأراد القضاء عليهم، هجمَ على مكّة، وعندئذٍ هجم أعضاء هذه المجموعة عليهم مثل الطيور، وقضوا على جنود الاستعمار.

ثمّ يضيف كاتب التفسير: ولا يهمُّنا إن كان هذا الموضوع، لم يُسجَّل في أيّ تاريخ، 
 

1 في سورة الفيل الّتي آياتها: ﴿ أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ ١ أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٖ ٢ وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ ٣ تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ﴾.
2 قال الطريحي: سجين وسجّيل: الصلب من الحجارة الشديدة؛ وقيل: حجارة مِن طينٍ طُبِخَت بنارِ جَهَنم، مكتوبٌ فيها أسماء القوم (مجمع البحرين،ج 5، ص393).
3 الأبابيل كما في الآية الكريمة: أي جماعاتٍ في تفرقة: أي حلقة حلقة...؛ وينظر: الطريحي، مجمع البحرين: ج5، ص303.
 
 
 
 
54

42

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 فنحن لا نستطيع أن نغيِّر رأينا بسبب عدم تسجيل هذا الموضوع بهذه الطريقة في أيّ مكان! واضح أنّ هذا الاستنتاج من القرآن غير صحيح أبدًا.


إنّي أنصح هؤلاء الإخوان وأعِظهم: أنّكم لو اطّلعتم على بعض الأشخاص الّذين يحتاطون كثيرًا في تفسير الآيات، حتّى يصل الأمر بهم إلى درجة الوسوسة - وإنّني بالطبع لا أُوافق على ذلك - لوجدتم كيف أنّهم لا يريدون أن يكتبوا ما يشاؤون باسم القرآن. وفي مقابل هذه المجموعة، يجب أنْ لا نأخذ طريق الإفراط.

قول الإسلامُ: إنّ العالمَ كلَّه، بما فيه من قوانين، وما فيه من أجزاء، ابتداءً من الصخرة إلى الريح والطير والسمك، وكلّ شيء، الكلُّ مسخَّرون لإرادة الحقّ، ويعدّون من جنود الله.

يكفي أنْ تتعلّق إرادة الحقّ، فتخرج الرياح بصورة جيشٍ أو... إنّ ذرات الأرض والسماء كُلّها جنود الله. إذا أراد الله أن يُغيِّر أوضاع العالم، فإنّه يغيّرها كيفما شاء.

إلّا أنّ أصحاب هذه الأفكار - مع الأسف - لا يريدون أن يخضعوا لهذه الحقائق. فهم يقولون: بما أنّ للمادّة والمادّيات استقرار ذاتي، إذًا لا يُمكن أن تخرج من مسيرها، ولذلك فإنّهم يأتون ويفسّرون القرآن بهذا النوع من التفسير (التفسير الماديّ).

إنّني أُعلن بصراحة خطورة نشر مثل هذه الأفكار، والّتي لا تخدم الإسلام، بل إنّها تخدم الاستعمار. وللاستمرار في البحث، لا بدَّ أنْ أُوضِّح شيئًا عن الحكومة الإسلاميّة في إيران؛ فكما قال قائدنا وإمامنا أكثر من مرّة: إنّ الأحزاب حُرّة في ظلِّ الحكومة الإسلاميّة، فكلُّ حزب حتّى ولو كانت عقائده غير إسلاميّة، فإنّه يستطيع أن يستمرّ عليها بحريّة، ولكنّنا لا نسمح له بالتآمر والتحايل. نحن نرحِّب بالأحزاب والأفراد، متى ما أبرزوا عقائدهم الشخصية بصراحة، ولهم أن يأتوا بمنطقهم لمقابلة منطقنا. ولكنّهم، إذا أرادوا إظهار عقائدهم وأفكارهم تحت لواء الإسلام، فيحقّ لنا أن ندافع عن إسلامنا، ونقول إنّ الإسلام لا يعترف بما يدّعون. يحقّ لنا أن نمنعهم من الاستفادة باسم الإسلام، ولا أظنُّ أنّ مثل هذه الحريّة في البحث، يوجد لها نظير في العالم.
 
 
 
 
 
55

43

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

لا مثيل للحريّة في الإسلام
متى رأيتم في تاريخ العالم أنّ بلدًا يمتلك جميع أهاليه مشاعر وإحساسات دينيّة، يسمحون لأعداء الدّين إلى حدّ أن يأتوا إلى مسجد النبيّ، أو إلى مكّة، ويتحدّثوا ويبرزوا عقائدهم كيفما يشاؤون، ينكرون الله وينكرون نبوّة النبيّ، ويردّون على الصلاة والحجّ و...، ويقولون إنّهم لا يقبلونها، وفي الوقت نفسه يقابلهم المؤمنون المتديّنون بكلِّ ترحاب واحترام.

نرى نماذج مشرقة كثيرةً من هذا في تاريخ الإسلام، وبمثل هذه الحريّات، تمكّن الإسلام من البقاء. فإذا كانوا في بداية الإسلام يردُّون على من يأتي ويُنكر وجود الله بالضّرب والقتل، فإنّ الإسلام لم يكن ليَبقى حتّى اليوم، لقد بقي الإسلام إلى اليوم، وذلك لأنّه قابلَ الأفكار بكلِّ شجاعةٍ وصراحة.

لقد سمعتم جميعًا قصّة رجلٍ يُدعى "مفضَّل". كان "مفضَّل" هذا من أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام، كان يُصلّي يومًا في مسجد النبي، وفي أثناء الصلاة دخل رجلان ماديَّان (أي منكران لوجود الخالق)، وجلسا قريبًا منه، وبدآ يتكلّمان بصوتٍ عالٍ، بحيث كان يسمعهما.

وفي ضمن حديثهما، جرى البحث حول النبيّ صلى الله عليه وآله وسم، فادّعيا أنّه كان رجلًا عبقريًّا، وأراد أن يخلق تحوّلًا وثورةً في المجتمع، فرأى أنّ أحسن السّبل معتقدًا بالله واليوم الآخر.

فبدأ "مفضَّل" يهاجمهما في لهجة قاسية، فقالا له: "قُلْ لنا: من أيّ الفرق أنت؟ ومَنْ هو إمامك؟ فإنْ كنت من أصحاب الإمام جعفر الصادق، فعليك أن تعلم بأنّنا نتحدّث بهذه الأحاديث في مجلسه، بل ونعرض أحاديثًا بأقسى ممّا سمعت، ولكنه لم يغضب أبدًا، بل يسمع أقوالنا بكلِّ وقارٍ وطُمأنينة، ويردّ في النهاية على جميع أقوالنا بالدلائل والبراهين، ويصحّح أخطاءنا".

بهذا استطاع الإسلام أن يبقى ويدوم، تُرى مَنْ الّذي نقل وعرض أقوال واعتراضات
 
 
 
 
 
 
56

44

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 الماديّين وحافظ عليها؟ وعلى مدى التاريخ الإسلامي؟ هل الماديّون أنفسهم؟ لا، اذهبوا وطالعوا لتروا أنّ علماء الدّين هم الّذين حافظوا على اعتراضات الماديّين؛ أي إنّهم عندما كانوا يعرضون أسئلتهم على علماء الدّين، ويقوم العلماء بالبحث معهم، فإنّ العلماء سجّلوا هذه المباحثات في كتبهم، وبقيت هذه الاعتراضات إلى زماننا هذا بسبب ورودها في كتب علماء الدّين، وإلّا، فإنّ أكثر آثارهم قد اضمحلّت، أو أنّها ليست في متناول اليد.


انظروا على سبيل المثال إلى كتاب "الاحتجاج" للطبرسي 1، أو كتاب "بحار الأنوار"2، لكي تروا مقدار ما عرضاه من اعتراضات وادِّعاءات هذه الفئة.

وفي المستقبل أيضًا، يستطيع الإسلام فقط عن طريق المواجهة الصريحة، والوقوف بشجاعة أمام العقائد والأفكار المختلفة، من الاستمرار في حياته.

إنّني أُحذّر الشباب المعتقدين بالإسلام أن لا يتصوّروا أنّ طريق المحافظة على المعتقدات الإسلاميّة هو بمنع الآخرين من إبراز عقائدهم.

لا نستطيع حراسة الإسلام إلّا عن طريق قوّة واحدة فقط، ألا وهي قوّة العلم، وإعطاء الحريّة للأفكار المخالفة، ومِن ثمّ مواجهتها مواجهةً صريحةً واضحة. لقد كان لثورتنا دويًّا عظيمًا في العالم.

يُقال في العالم اليوم: إنّ التظاهرات الّتي تقع هذه الأيّام في إيران3 لم يسبق لها مثيل في التاريخ.

يا إخواني، إنّني أتساءل: ما هي القوّة الّتي تتمكّن من تحريك وإثارة ثلاثين مليونًا على الأقلّ من شعب عدده خمسة وثلاثون مليون نسمة؟ إنّ الّذين قرؤوا تاريخ
 
 

1 من كبار الفقهاء والمفسّرين توفي سنة 548هـ. وللتوسُّع يراجع معالم العلماء، ص 25، كشكول البحراني، ج1، ص301، إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون،ج1، ص31، معجم المؤلفين،ج 2، ص10، أعيان الشيعة،ج 9، ص99، الذريعة إلى تصانيف الشيعة،ج 1، ص281، وغيرها.
2 كتاب "بحار الأنوار" عبارة عن دائرة معارف إسلامية في 110 مجلدات، للعلّامة محمّد باقر المجلسي، المتوفّى سنة 1111هـ. وللتوسُّع يُراجع: مقدّمة "بحار الأنوار" ج 1، ص 4 - 34؛ بقلم الحجّة: عبد الرحيم الرباني الشيرازي.
3 أيّام الثورة.
 
 
 
 
57

45

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 الثورات في العالم يعرفون أنّه لم تصِلْ أيّة ثورة إلى ما وصلت إليه ثورة إيران، من حيث السعة والشمول.


لاحظوا، إخواننا الطيّارين على سبيل المثال، ربّما كان قليل هم الّذين يتصوّرون مدى قُدرة وقوّة الأحاسيس والعقائد الدينيّة المتفشيّة في صميم وأرواح هذه الطبقة.

إنّهم - وسط دهشة الجميع - يُضرِبون عن العمل، بإيمانٍ وإخلاص، ولم يخضعوا لأيّة قدرة ولا يُرعبهم أيَّ تهديد. ولكن عندما يأتي الإعلان عن قدوم الإمام، يتطوعون لقيادة طائرته.

تخالفهم السلطة وتهدّدهم - كما نقلوا لي بأنفسهم - وتحذِّرهم من مغبّةِ إقدامهم على مثل هذا العمل، مع أنّهم لا يملكون وظيفة ولا منصبًا (بعد أنْ أضربوا عن العمل)، بل وتهديدهم بأنّهم إذا قادوا الطائرة، فإنّ الحكومة سوف تقصفهم بالصواريخ وتقضي عليهم.

غير أنّهم يُجيبون: مع كلِّ ذلك، فإنّنا عازمون على الحركة، واعملوا ما شئتم، عند ذاك تضطرّ السلطة إلى التراجع، وتسمح بفتح خطٍّ واحدٍ من بين جميع الخطوط الجويّة، فيُسمّيه الطيّارون "خطّ الثورة"، ويا له من اسمٍ بديع!

أين هم أولئك الّذين يقولون: إنّ الدّين يخصّ كبار السن، والعجائز وأهالي الجنوب1؟ ألم يُشارك في هذه الثورة القرويُّ والحضريُّ، العامل والفلّاح، الطالب والأستاذ، المحامي والموظّف؟ فما هي القوّة الّتي تستطيع أن تخلُقَ ثورةً كهذه، غير قوّة العقيدة، وبالأحرى عقيدة مثل الإسلام؟

إنّ هذا الأمل يحيا في قلبي تدريجيًّا، وهو أنّ الثورة لن تنحصر في إيران، وأنّها سوف تحتضن سبعمئة مليون مسلمٍ، وسوف يكون الفخر لإيران؛ حيث إنّ الثورة الإسلاميّة بدأت منها لِتعمّ البلاد الإسلاميّة كافّة، ولا شكّ في ذلك.

أخبَروني قبل بضعة أيّام أنّ "كارتر" حذَّر الإمام الخميني من أنّ القوّتَيْن العظيمتَيْن
 

1 أهالي الجنوب، كناية عن الفقراء والمستضعفين حيث إنّ معظم سكانه هم من الفقراء.
 
 
 
 
 
58

46

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 توافقان على حكومة "بختيار". وعليه أن يعرف ذلك، ولكن هذا الرجل العظيم لم يهتم بهذا التهديد أبدًا1.


أنا الّذي درست وتتلمذت في محضر هذا الرجل العظيم، قرابة اثنَيْ عشر عامًا، فإنّني خلال سفري الأخير إلى "باريس" وزيارتي له، أدركت من روحيّته أشياء لم تُزد من إعجابي فحسب، بل زادت من إيماني به أيضًا.
عندما رجعت سألني أصدقائي ماذا شاهدت؟ أجبتهم لمست فيه الإيمان بأربعة:

1. إيمانه بهدفه: إنّه يؤمن بهدفه، بحيث لو اجتمع العالم ما استطاع أنْ يصرفه عنه.

2. إيمانه بسبيله: إنّه يؤمن بالطريق الّتي اختارها، ولا يمكن لإنسان أن يحيده عن سبيلها، ومثلما كان النبيّ يؤمن بهدفه وبطريقه فإنّه كذلك.

3. إيمانه بشعبه: لم أرَ أحدًا قطُّ مثله من بين جميع أصحابي وأصدقائي، مَنْ يؤمن بمعنويّة الشعب الإيراني، ينصحونه أنْ يخفّف قليلًا من مواقفه، قائلين إنّ الشعب بدأ يتراجع تدريجيًّا، وإنّ معنويّاته محطّمة، ولكنه يقول: "لا، ليس الشعب الإيرانيّ" كما تقولون، إنّني أعرفه أحسن منكم"، وها نحن نرى جميعًا صدق كلامه يتّضح يومًا بعد يوم.

4. وأهمّ من ذلك كلّه إيمانه بربّه: كان يقول لي في جلسةٍ: "لا تتصوّر أنّنا نحن الّذين نعمل هكذا (نقوم بالثورة)، إنّني أرى وألمس يد الله بوضوح، إنّ الّذي يشعر بقوّة الله وعنايته ويسير في سبيله، فإنّ الله يُضيف إلى قوّته النصر، تصديقًا لقوله تعالى: ﴿ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ2، وتصديقًا لما يتحدّث به القرآن عن أصحاب الكهف، إذ يقول تعالى: ﴿ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى3، إنّهم قاموا لله، والله يربط على قلوبهم: ﴿ وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ 4.
 

1 آخر رئيس وزراء للشاه هرب في الأيّام الأولى للثورة إلى باريس.
2 سورة محمّد، الآية 7.
3 سورة الكهف، الآية 13.
4 سورة الكهف، الآية 14.
 
 
 
59

47

الفصل الثّالث: حرّية التفكير والمعتقد

 إنّني أرى هذه الهداية والتأييد الإلهيَّيْن بوضوح في هذا الرجل. إنّه قام لله، فمنحه الله تعالى قلبًا قوّيًا، حيث لا يأتيه الخوف، ولا يتزعزع أبدًا.


إنّ الأطبّاء الفرنسيّين الّذين فحصوا - أخيرًا - هذا الشيخ، وقد تعرّض خمسة عشر عامًا - على الأقلّ - للحرب النفسيّة، والتأثُّرات الروحيّة، وفقد أخيرًا ذلك الشابّ الصالح1. إنّهم يعتقدون أنّ الإمام يمتلك قلبًا كقلب شابّ عمره عشرون سنة، إنّه الّذي يسير في سبيل الله، وقد رأى بالتجربة ما وَعَدَنا القرآن2.

لقد وعد القرآن أنّكم إذا قمتم لله وعملتم من أجل الله، فإنّكم ترون وقتئذٍ عناية الله. تحرَّكْ من أجل الله، لترى الله وترى عنايته.

إنّ الإنسان الّذي تحرّك لله، وتوكّل عليه، فإنّه لا يخشى من تهديدات أميركا، حتى ولو أضيفت إليها تهديدات الاتّحاد السوفياتي.

ولأذكر لكم موردًا آخر من مختصّات هذا الرجل العظيم، هذا الرجل الّذي ينشر ويُرسل في النهار تلك البيانات الثائرة اللّاهبة، هو الّذي يُناجي ربّه في الأسحار ساعةً واحدةً على الأقلّ، وتُسكب دموعه بطريقةٍ يصعُب تصديقها. إنّ هذا الرجل هو نموذج حقيقيّ ممّن سار على خُطى الإمام علي عليه السلام.

قيل في الإمام علي عليه السلام إنّه هو الضحَّاك إذا اشتدَّ الضِّراب في ميدان القتال، وهو البكّاء في محراب العبادة بحيث يُغشى عليه من شدّة البكاء3.
 
 

1 نجلّ الإمام الأكبر، آية الله السيد مصطفى الخميني، الّذي تُوفي في النجف الأشرف في عصر الشاه، وبقي سرّ وفاته غامضًا إلى الآن، (المترجم).
2 إنّ الشهيد مطهّري يُريد أن يقول: إنّ القائد الخميني قد وجد بالتجربة أنّ ما كان لله ينمو، وأنّ مَن كان مع الله كان الله معه.
3 الشيخ عباس القمي، الأنوار البهية، تحقيق مؤسسة النشر الاسلامي، ط1، 1417، ص72.
 
 
 
 
60

48

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 الفصل الأوّل

 
العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي1
 
مقدّمة
إنّ ما يقرؤه القارىء المحترم في هذه المقالة ينبغي أن يؤخذ على أنّه مقدّمة للنظرة الإلهيّة والنظرة المادّية للعالَم. أمّا البحث المسهب في هاتَيْن النظرتَيْن فيستوجب كتابًا ضخمًا. إلّا أنّنا نسعى في هذه المقالة أن تكون إطارًا للخطوط العريضة ممّا يُمكن أن يقتضيه بحث هذا الموضوع.
 
ما هو المقصود بالنظرة إلى العالَم؟
قبل أن ندخل في الحديث عن هذَيْن المنظورَيْن للعالَم، يلزمنا أن نعرف ماذا يعني مفهوم "النظرة إلى العالَم".
من البديهي أنّنا ينبغي ألّا نأخذ تعبير "النظر" على أنّه يُرادف "الإحساس بالعالَم". فالنظرة إلى العالَم تعني معرفة العالَم، 
 

1  الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، الفكر الإسلامي وعلوم القرآن الكريم، دار الارشاد، الطبعة الأولى، بيروت، 2009م، ص499.
 
 
 
 
 
 
63

49

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 لا الإحساس به؛ لأنّها ترتبط بمعرفة العالَم وإدراك كنهه، وهي لهذا من خصائص الإنسان، وتتعلّق بقدرة الإنسان على التفكير في الوجود كلّه وتقديره، بخلاف الإحساس بالعالَم الّذي يشترك فيه الإنسان والحيوان.

إنّ الكثير من الحيوانات متقدّمة على الإنسان من حيث الإحساس بالعالَم، سواء أكان ذلك بسبب امتلاكها لحواسٍ يفتقر إليها الإنسان، أم بسبب أنّها تفوق الإنسان في حساسيّة حواسها الّتي تشترك فيها مع الإنسان.
الإحساس بالشيء غير معرفته، فقد نحسّ شيئًا من دون أن نعرفه، وقد نعرف شيئًا بغير أن نحسّه، بل قد نحسّ آثاره وخصائصه.
إنّ اختلاف الإنسان عن الأحياء الأخرى هو أنّ هذا العالم هو ما نحسّه فقط. أمّا الإنسان فإنّه فضلًا عن إحساسه بالعالَم، فإنّه يعرفه ويُفسّره، أو في الأقلّ، يستطيع أن يعرفه ويُفسّره.
إنّ آلافًا من الناس قد يُشاهدون مسرحيّة أو حادثة اجتماعيّة، ويحسّون بها إحساسًا متساويًا، إلّا أنّ القليلين منهم يُفسّرونها ويُحلّلونها ويشرحونها، وقد يختلفون في التفسير والتحليل والشرح.
إذًا، فمعرفة العالَم تعني تفسير العالَم وتحليله، ورسم ملامح الوجود. وبتعبير الفلاسفة، معرفة العالَم هي "صيرورة الإنسان عالَمًا عقليًّا يُضاهي العالَم العيني". وبتعبير بسيط، معرفة العالَم هي الانطباع العام عن عالم الوجود برمّته.
فهل يُمكن معرفة العالَم؟ هل يُمكن تفسير الوجود بكلّيته وكشف ما يجري وفقه من نظام؟ وهل وُهِب الإنسان وسيلة تُمكّنه من هذا العمل المهم؟ ما هي تلك الوسيلة؟ إنّ معرفة العالم أمر غير ممكن أبدًا، وإنّ الإنسان لم يمنح وسيلة ما لذلك، وإنّ ما قيل وسمع بهذا الشأن ليس سوى حلم وخيال، على رأي اللّاأدريّين كما جاء في هذه الرباعية من رباعيّات "الخيام":
 
 
 
 
 
64

50

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 إنَّ الّذين أمسوا محيطًا من الفضل والأدب وبـاتوا في جمع العلوم شمعة للأصحاب

لم يصلوا من طريق هذا اللَّيل الحالك إلى نهار إنَّما حكوا أسطورة وأخلدوا إلى النّوم تلك هي مسائل سوف نبحثها بإيجاز، ولكنّ الّذي لا ريب فيه هو أنّ الإنسان يجد نفسه محتاجًا إلى تفسير الوجود وتحليله؛ وذلك لأنّ الإنسان كائن مفكّر يعي نفسه، و"يختار" مسيرته في الحياة، وهذا ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالانطباع العامّ الّذي يحمله عن الوجود والعالَم والحياة والمبدأ والمنتهى.
إنّ الإنسان لا يهتم بمعرفة الأمور الجزئيّة الّتي تُحيط به ويتعامل معها في حياته اليوميّة، بقدر اهتمامه بمعرفة تفسير عام للوجود، وإنْ يكن بمستوى العامّة.
جميع الأديان والمبادئ والمذاهب والفلسفات الاجتماعيّة لا بدّ أن تتّكئ على نوع من نظرة إلى العالم، إذ إنّ النظرة إلى الوجود تُعدّ المظلّة الفكريّة الّتي يستظلّ بها أيّ مذهب من المذاهب والسلوك الّذي يسلكه. إنّ الأهداف الّتي يعرفها مذهب ما، ويدعو لها، ويُعيّن سبل تحقيقها، والأمور اللّازمة وغير اللّازمة الّتي يوردها، والمسؤوليات الّتي يُقرّرها، والقيم الّتي يقول بها، كلّها تنشأ بالضرورة من المنظور الّذي يحمله عن الوجود، ومن العقائد والآراء الّتي يؤمن بها.
 
أنواع معرفة العالَم
إنّ الناس من حيث نظرتهم إلى العالَم مختلفون. فثمّة أفراد لم يرتفعوا عن مستوى الحيوانات، فليست لديهم وجهة نظر عن العالَم، فهم كما يقول القرآن: لم ﴿ يَنظُرُواْ ﴾ إلى العالَم، ولم ﴿ يَتَفَكَّرُواْ ﴾ فيه. أمّا الّذين لديهم بعض وجهة نظر، فهم يختلفون من حيث النظرة. وتكون هذه الاختلافات على نوعَيْن: نوع ينطوي تحت اختلاف المنظور إلى العالَم، ونوع لا ينطوي تحت هذا الاختلاف؛ وذلك لأنّ بعض الاختلافات "كمِّي" وبعضها "كيفيّ".
 
 
 
 
 
65

51

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 والاختلاف الكمّي يعني أنّ فردًا يعرف موجودات أكثر، وآخر أقلّ. فهذا يعرف مثلًا الكائنات غير الحيّة فقط، وغيره يعرف الكائنات الحيّة وغير الحيّة. هذا يعرف أحوال النّجوم، أو خواصّ الأشياء الفيزيائيّة والكيميائيّة أكثر، وغيره يعرفها أقل. إنّ هذه الاختلافات لا تأثير لها في ما يُدّعى "وجهة نظر". أي لا يُمكن القول إنّ الشخص الّذي اجتاز مرحلة أعلى في علم من العلوم يحمل "وجهة نظر" أفضل وأكمل من ذاك الّذي ما زال في مرحلة أدنى من ذلك العلم نفسه؛ لأنّ هذا النوع من المعرفة بالعالَم - وإن ارتبط بـ"الإدراك" في مقابل "الإحساس" لا علاقة له بنظرة الإنسان إلى العالَم، أي بتحليل عالَم الوجود وتفسيره اللَّذَيْن هما أساس عمل الإنسان.

 
فالقول إنّ عدد النجوم يبلغ كذا ألفًا، أو مليونًا أو بليونًا، أو القول إنّ عدد العناصر أربعة أو مئة لا يُغيّر شيئًا من نظرة المرء الكلّية إلى العالَم، وإنْ غيَّر معرفته بجزء منه. وهذا يُشبه قولنا إنّ معلوماتنا عن شخص ما إن كان في الأربعين أو في الستّين، وإن كانت له خمسة أصابع أو ستة في كفّه وقدمَيْه، أو إنْ كان كثير النّوم أو قليله، أو إنْ كانت فصيلة دمه "O" أو "B"، أو إنْ كان ضغطه معتدلًا أو مرتفعًا أو منخفضًا، لا يُمكن أن تُغيّر شيئًا من نظرتنا إلى هذا الشخص وانطباعاتنا عنه أبدًا.
أمّا الاختلاف الكيفيّ الّذي صحّ أن نُسمّيه اختلاف الماهيّة، فيتعلّق بهيئة العالَم الكليّة؛ أي إنّ اختلاف شخصَيْن في معرفتهما للعالَم لا علاقة له بالكمّ، كأن يعرف أحدهما من ظواهر العالَم أكثر ممّا يعرفه الآخر، بل إنّ علاقته بالكيف والماهيّة أقرب. وإنّ منظور العالم والوجود في نظر شخص يختلف عمّا هو في نظر شخص آخر. فمثلًا يرى هذا العالم مجموعة أجزاء متناثرة غير مترابطة، وآخر يراه كالآلة الّتي تترابط كلّ أجزائها فيما بينها، وثالث يراه كائنًا حيًّا تتّصل أجزاؤه اتصالًا عضويًّا بعضها مع بعض. هذا يرى حوادث العالَم سلسلة من المصادفات، ويراها الآخر  
 
 
 
 
 
66

52

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 ناشئة عن نظام العلّة والمعلول. هذا يرى نظام العالَم حكيمًا، والآخر يراه عبثًا فارغًا. هذا يراه نظامًا ثابتًا، ويراه غيره نظامًا متحرّكًا جاريًا. هذا يراه على وتيرة واحدة، والآخر يراه متكاملًا. هذا يراه ناقصًا معيبًا، ويراه الآخر خير نظام أتقنه، وليس في الإمكان أبدع ممّا كان، وغيره يرى إمكان وجود نظام أحسن. يراه أحدهم خيرًا محضًا، ويعتبره الآخر شرًّا محضًا، وثالث يراه مزيجًا من الاثنضيْن. هذا يرى العالَم حيًّا وشاعرًا، ويراه الآخر ميتًا لا يشعر. هذا يراه متناهيًا، وهذا يراه غير متناهٍ. هذا يرى للعالَم أبعادًا ثلاثة، ويرى فيه الآخر أبعادًا أربعة. هذه وأمثالها هي الأمور الأتي تُبدّل منظورنا إلى العالَم، هي وأمثالها الّتي تؤلّف أركان نظرتنا إلى العالَم والوجود.

كذلك الأمر بخصوص معرفتنا لشخص ما: هل هو محبّ للخير أم أنّه معقّد حسود؟ هل هو ذكيّ يُدرك النكتة أم أنّه أحمق أبله؟ ما هي نظرته إلى العالَم والحياة؟ ما هو أسلوبه وطريقته؟ إنّ أمثال هذه الأسئلة الّتي ترتبط "بشخصيّته" لا بشخصه، هي الّتي تؤثّر في نوع نظرتنا إليه؛ أي كونه محبًّا للخير وذكيًّا وحاذقًا، يرسم له صورة معيّنة في نظرنا، ويكون مردود هذا في استجابتنا له مختلفًا عمّا لو تلقّيناه في صورة المعقّد الحقود أو الأحمق الأبله، بخلاف معرفة ضغط دمه أو صنفه، أو إن كان قلبه في الجهة اليسرى المألوفة من صدره، أم أنّه في الجهة اليمنى بصورة شاذّة، أم أنّ له قلبًا واحدًا أو قلبَيْن، فذلك كلّه لا تأثير له في صورة شخصيّّته في نظرتنا، ولا في انعكاسات أفعالنا تجاهه.
هذه هي طريقة العلم، فبمعرفة العلل والمعلولات والأسباب والمسبّبات، وبالاختبار العملي يكتشف العلّة أو الأثر، ومن ثمّ يسعى للوصول إلى علّة تلك العلّة أو معلولها.
 
 
 
 
 
67

53

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 المعرفة العلميّة

بما أنّ العلم يستند إلى التجربة العمليّة، فإنّ له مميّزاته ونواقصه، وهي:
 
أوّلًا: المميّزات
إنّ أهمّ مميّزات المعرفة العلميّة كونها دقيقة وواضحة تتناول الأجزاء. إنّ العلم، بدراسته وفرضيّاته وتجاربه واختباراته، قادرٌ على إعطاء الإنسان آلاف المعلومات عن أصغر ظاهرة من الظواهر الطبيعيّة. إنّه من ورقة نبات صغيرة يصنع كرّاسة من المعرفة، ثمّ إنّه باكتشافه القوانين المتحكِّمة في أيّ كائن، يكشف للإنسان طرق الهيمنة والتسلّط على ذلك الكائن، ويكون بهذا قد أعلى دعائم الصناعة والتكنولوجيا.
 
ثانيًا: النواقص
1 ـ البحث في موضوع خاص:
إنّ العلم، مع أنّه دقيق وواضح، ويمنح الإنسان القدرة والقوّة، فإنّ دائرته ضيّقة، ولا يتجاوز حدود موضوعه الخاصّ. فهو يتقدّم في مجال معرفة العلل والأسباب، أو المعلولات والآثار، ثمّ يصل إلى حيث يقول "لا أدري"، والسبب واضح. فنحن نُريد، مثلًا أن نعرف الحادث "أ" بالطريق العلمي فنبحث عن علّته، أو معلوله، أو ما يربطه بمحيطه، أو تاريخه والتحوّلات الّتي طرأت عليه ونعرفها، ثمّ نفتّش عن علّة العلّة ومعلول المعلول، وعن محيط أوسع وتاريخ أبعد. ولنفرض أنّنا قد بلغنا بكلّ ذلك، بالبحث والافتراض والاختبار، إلى مرحلة وضع القوانين العلميّة، ولكنّنا مع ذلك سنواجه في نهاية المطاف سلسلة لا نهاية لها من العلل والمعلولات اللّامتناهية، وعبر الزمان اللّامتناهي في حجم بحار من المجهولات، تتجسّد كلّها أمامنا. إنّ المعرفة العلميّة أشبه بالكاشف القويّ في ليلة ظلماء، يُضيء دائرة محدودة إضاءة جيّدة،
 
 
 
 
 
68

54

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 بحيث إنّنا نعثر على إبرتنا الضائعة في تلك الدائرة من الضوء السّاطع. إلّا أنّ ما يُضاء أمامنا لا يتعدّى تلك الدائرة المحدودة، وكلّما تقدّمنا وأضأنا الظّلمات المتتالية، وجدنا أمامنا فضاء من المجهول المظلم الّذي لا ينتهي.

إنّ العالَم، في المنظور العلمي، مثل كتاب قديم سقط أوّله وآخره، فلا أوّل له معروف، ولا آخر له معروف، ولا يعرف مؤلِّفه، ولا يُدرى هدفه والغرض منه.
 
2 ـ نظرة جزئيّة:
المنظور العلمي للعالَم منظور جزئي، لا كلّي، وبديهي ألا تُحيط النظرة الجزئيّة إلى العالَم بالمنظور الكلّي للعالَم.
وبما أنّ المنظور العلمي منظور جزئي، لا كلّي، فإنّه غير قادر على توضيح ملامح العالَم كلّها. أمّا محاولة معرفة ملامح العالَم ككلّ استنادًا إلى القياس على الجزء، فتُذكِّرنا بالمحاولة الشعبيّة للتعرّف إلى الفيل، حيث كانوا يتلمّسونه في الظلام الدامس، محاولين تصوّر ماهيّته وشكله ممّا تلمسه أيديهم من جسمه. فالّذي لمست يده أذن الفيل قال إنّ الفيل يُشبه المروحة، والّذي لمس رجله قال إنّه يشبه العمود، والّذي لمس خرطومه قال إنّه أشبه بالميزاب، والّذي بلغت يده ظهره قال إنّه أشبه بسرير النوم.
إنّ الإنسان بحاجة إلى معرفة أكثر من المعرفة الّتي يمنحها العلم، بالمعنى الدقيق للعلم. من ذلك الإجابة عن أسئلة مثل: من أين جاء العالَم وإلى أين يذهب؟ ما وضعنا نحن من العالَم؟ هل تُسيّر العالم قوانين ثابتة لا تتغيّر؟ هل الموجود مآله العدم، والمعدوم ممكن الوجود؟ (بالمفهوم الفلسفي للوجود والعدم). وهل يُمكن إعادة المعدوم إلى الوجود، أم أنّ ذلك مستحيل؟ هل السيادة حقًّا للوحدة أم للكثرة؟ هل ينقسم العالَم إلى ماديّ وغير ماديّ؟ هل يسير العالَم على هدى أم أنّه أعمى ولا هدف له؟ هل علاقة العالم بالإنسان علاقة أخذ وعطاء، يُجزى الإحسان بالإحسان والإساءة بالإساءة، أم أنّ ذلك لا يعنيه في شيء؟ هل الحياة الآخرة بعد هذه فانية أم  
 
 
 
 
69

55

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 خالدة؟ وأمثال هذه المسائل ممّا سبق أن ذكرنا بعضًا آخر منها، وهي مسائل ليست لها ماهيّة علميّة، أي إنّ العلم لا يملك جوابًا عنها، بل يصل إلى حيث يقول "لا أعلم". مع أنّ هذه المسائل هي الّتي تمنح العالَم قيافته وملامحه.

 
3 ـ لا تحدّد السلوك والتوجيه للفرد:
من مساوئ المنظور العلميّ الأُخرى، وهي ناتجة ممّا سبق ذكره، هي أنّه لا يؤثّر في توجيهنا توجيهًا مناسبًا. إنّ المنظور العلمي لا يستطيع أن يُلهمنا السلوك المناسب الّذي يجب أن نختاره. وكذا لا يستطيع أن يُلهمنا السلوك الّذي "يجب" أن نختاره في حياتنا؛ أي إنّ العلم يُطلعنا إلى حدٍّ ما، على ما هو موجود، دون أن يوحي إلينا بما "ينبغي".
يقول "برتراند راسل" في كتابه عن المنظور العلمي: "في معرض بحثنا في تأثير العلم في حياة الإنسان يجب أن تُدرّس ثلاثة مواضيع دراسة مستقلّة ومنفصلة بعضها عن بعض إلى حدٍّ ما: الأوّل ماهيّة المعرفة العلميّة وحدودها، والثّاني القدرة المتزايدة على التصرّف في الطبيعة الناشئة عن تطوّر العلم والتكنولوجيا، والثّالث التطوّرات والتقاليد الاجتماعيّة الّتي أوجدتها بالضرورة المؤسّسات العلميّة الجديدة. لا شكّ أنّ العلم، بصفته معرفة، يُعدّ أساسًا لموضوعَيْن آخرَيْن أيضًا؛ وذلك لأنّ جميع تأثيرات العلم ناشئة عن المعرفة العلميّة. إنّ الإنسان بسبب جهله بالأساليب والوسائل اللّازمة قد فشل في تحقيق آماله، وكلّما اقترب هذا الجهل من الزوال، ازداد الإنسان قربًا من دائرة التكيّف مع محيطه الماديّ ومحيطه الاجتماعي وفق المثال الّذي وضعه لنفسه. وإنّ قدرة العلم الجديدة هذه بالنسبة إلى تعميق إدراك الإنسان مفيدة له، وبالنسبة إلى جهله مضرّة به. وعليه، إذا أُريد للتمدّن العلمي أن يكون تمدُّنًا نافعًا، فلا بدّ من ازدياد الحكمة مع ازدياد العلم".
"إنّ قصدي من الحكمة هو إدراك أهداف الحياة الحقّة، وهذا بذاته لا يأتي به العلم.
 
 
 
 
 
70

56

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 وبناءً على ذلك، ومع أنّ التقدّم العلمي واحد من العناصر اللّازمة للتقدّم البشري، إلّا أنّ هذا لا يضمن إيجاد تقدّم حقيقيّ أبدًا".

خلاصة رأي "راسل" هو أنّ العلم يزيد من هيمنة الإنسان على المحيط الطبيعي والمحيط الاجتماعي؛ بحيث إنّه يستطيع أن يصوغهما كيفما يشاء، إلّا أنّ العلم لن يقدر أن يُلهم الإنسان هدفه الّذي يُناسبه وكيف يطلبه. في الحقيقة، إنّ معرفة العالَم العلميّة لا يُمكن أن تكون "منظورًا للعالَم" بالمعنى الصحيح لهذا المصطلح، أي إنّها لا يُمكن أن تُعيّن للإنسان وظيفته في العالَم، وأن تكون سببًا لخيره وصلاحه. وبعبارة أُخرى، إنّ ما يُطلق عليه اسم النظرة العلميّة للعالَم، ليس بمقدوره أن يُصبح متّكًا عقائديًّا إنسانيًّا واقعيًّا.
 
4 ـ القيمة العلميّة لا النظريّة:
إنّ من مساوىء المعرفة العلميّة الأخرى هي أنّ قيمة المعرفة العلميّة أقرب إلى القيمة العلميّة منها إلى القيمة النظريّة. في حين أنّ ما يُمكن أن يكون صانعًا للمطامح، ومولدًا للإيمان، ومتّكًا عقائديًّا ليس سوى القيمة النظريّة. فالقيمة النظرية تعني قدرة العلم على كشف حقيقة الوجود كما هي، والقيمة العلميّة تعني قدرة العلم على إعانة الإنسان على التسلّط على الطبيعة، والتصرّف بها وتغييرها وفق مراده.
إنّ الفصل بين هذَيْن الأمرَيْن يبدو مستحيلًا لأوّل وهلة. فأن يكون للعلم أو للفلسفة قيمة نظريّة دون أن تكون لهما قيمة علميّة لا يبدو عجيبًا بقدر عجبنا في أن تكون لهما قيمة علميّة دون قيمة نظريّة.
إنّ من العجائب في عالَم اليوم هو أنّه بقدر ازدياد قيمة العلم العلميّة يومًا بعد يوم تنخفض قيمته النظريّة. إنّ الّذين يتدفؤون بنار العلم من بعيد يظنّون أنّ تقدّم العلم ناشئ من استنارة الضمير الإنساني، ومن الإيمان والاطمئنان بأنّ الواقع هو هذا
 
 
 
 
 
 
 
71

57

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 الّذي تنطبع صورته في مرآة العلم، وتقدّمه الّذي لا يُمكن إنكاره، غير أنّ الأمر على العكس من ذلك.

يقول "برتراند راسل" في كتابه الآنف الذكر، بعد أن يشرح نماذج من الأساليب العلميّة في البحث وخصائصها، والحدود الّتي يدور فيها بحث علميّ حول ما وراء الطبيعة: "أرى أنّ العالَم مجموعة من منطلقات تفتقر إلى وحدة لا ثباتَ لها، ولا نظام ولا ترتيب، وتخلو من أيّ محتوى آخر يودّي إلى علاقة حبٍّ وتعلّق. في الواقع لو تغاضيْنا عن التعصّب والعادات، فمن النادر أن نستطيع الدفاع حتى عن وجود العالَم نفسه. وهذا بالطبع يشمل نظريّات الفيزيائيّين الأخيرة، فكيف ينبغي أن نُفكّر في الشمس اليوم؟ لقد كانت الشمس فيما مضى مصباح السماء النيِّر، وآلهة الأفلاك ذات الشعر الذهبي، ولكنّها اليوم ليست سوى أمواج من الاحتمالات. فإذا سألتم: ما هي هذه الّتي تدعونها احتمالات أو في أيّ محيط تسير هذه الأمواج؟ لأجابك الفيزيائيّ كالمجنون: لقد سمعنا كثيرًا من هذا الكلام. لنفرض أنّنا أخذنا المسألة مأخذًا آخر، فماذا حينئذٍ؟ مع ذلك، إذا كنتم تُصرّون، سوف يُجيبكم قائلًا: إنّ الأمواج موجودة في معادلته والمعادلة في فكره".
ثمّ يقول أيضًا: "إنّه لأمر يدعو إلى العجب، ففي الوقت الّذي نجد أكثر العلوم واقعيّة، الفيزياء قد تخلّى عن المنطق العلمي، وبدلًا من أن يضع الإنسان في عالم صلد نيوتني، يجعله في قبال عالم خيالي وغير واقعي، لقد أصبح العلم أوفر ثمرًا وأقوى من أيّ عصر مضى لكي يُقدّم للحياة الإنسانية نتائج أفضل".
إنّ انفصال العلم عن الفلسفة هو الّذي جاء بخسائر لا يُمكن تلافيها. وهكذا نجد أنّ "الفلسفة العلميّة" تلك الفلسفة الّتي تستند إلى بحوث جزئيّة وفرضيّات واختبارات، يصل بها الأمر في النهاية إلى الاعتماد كلّيًا على الحواس. فما مصير فلسفة كهذه؟ ليس هنا مجال تفصيل هذا الموضوع.
 
 
 
 
 
 
72

58

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 5 ـ التزلزل المستمر:

من نواقص المعرفة العلميّة الأخرى هي أنّها من حيث وجهة نظرها الواقعيّة، وفي تلك الحدود الّتي تظهرها فيها، تبدو في مركز متزلزل غير ثابت. إنّ ملامح العالَم تتغيّر يومًا بعد يوم من حيث المنظور العلمي؛ وذلك لأنّ العلم يقوم على البحوث والفرضيّات والاختبار، لا على البديهيّات الأوليّة العقليّة والأصول الثابتة الّتي لا تتغيّر. إنّ القوانين الّتي تستند على الفرضيّة والاختبار ذات قيمة مؤقّتة. وهي دائمًا عرضة لظهور قوانين تنسخها. وبما أنّ المنظور العلمي للعالَم غير ثابت، فهو لا يصلح لأن يكون مرتكزًا عقائديًّا. فالعقائد لا تكون عقائد حقًّا إلّا إذا استمسك بها الأفراد استمساكًا وهو الإيمان المنظّم. والإيمان يتطلّب مرتكزًا ثابتًا لا يتزحزح، مرتكزًا يصطبغ بصبغة الخلود. ولذلك فإنّ المنظور العلمي لا يُمكن أن يكون هذا المرتكز بالنظر إلى مكانته المؤقّتة غير الثابتة.
منذ "هيـكل"، طرحت فرضيّة تكامل الحقيقة. وهي فرضية ذات مفهوم خاص في الفلسفة الهيكليّة، تعتمد صحّتها أو عدم صحّتها على صحّة الفلسفة الهيكليّة أو عدم صحّتها بكلّيتها. وهذا ما لا نُريد الخوض فيه.
إنّ الّذين لا يؤمنون بالفلسفة الهيكليّة يسعون إلى التوسّل بفرضيّة تكامل الحقيقة لتعليل نواسخ الفرضيّات العلميّة. لقد سبق لي أنْ بحثت في أُصول الفلسفة الواقعيّة في مقالة سابقة، وأثبتّ متى يكون مفهوم تكامل الحقيقة صحيحًا ومتى لا يكون.
 
ثالثًا: النتيجة:
لقد ظهر ممّا قُلناه أنّ النظرة إلى العالَم، إذا أُريد لها أن تزجر بالمطامح، وأن تبني الإيمان، ولكي تكون مرتكزًا للأيديولوجيّة، يتوجّب عليها أولًا أن تتجرّد من التحديدات الّتي تلازم المعرفة العلميّة، وأن تُجيب عن المسائل الخاصّة الّتي تطرحها المعرفةّ
 
 
 
 
 
 
73

59

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 والّتي تتعلّق بالعالَم كلّه من حيث الهيئة والماهيّة. ويتوجّب عليها ثانيًا أن تتبنّى معرفة خالدة يعتمد عليها، لا معرفة مؤقّتة وسريعة الزوال. وثالثًا أن تكون لها قيمة نظريّة ذات منظور واقعي، لا أن تكون عمليّة وفنّية فحسب. كما ظهر أيضًا أنّ المعرفة العلميّة تفتقر إلى كلّ هذه المزايا، على الرغم من مزاياها المتعلّقة بجوانب أُخرى. وعليه، فإنّ المعرفة العلميّة لا تستطيع أن تمنح الإنسان معرفة بالعالَم بالمفهوم الخاص، وتُجيب عن تساؤلات الإنسان الّذي يُريد تفسيرًا عامًّا للوجود وتحليلًا شاملًا له.

إنّ جميع الّذين تحدّثوا عن معرفة العالَم العلميّة، أو أطلقوا على فلسفتهم اسم "الفلسفة العلميّة"، تراهم، بعد التمحيص، قد ولجوا أماكن لا يضع العلم قدمه فيها. إنّهم استغلّوا أوجه شبه سطحيّة بين بعض فرضيّاتهم وبعض المعطيات العلميّة، فأطلقوا على فلسفتهم خطًا اسم "الفلسفة العلميّة"، وسمّوا نظرتهم إلى العالَم "نظرة علميّة". وهنا ينبغي ألّا ننسى التأثير الإعلامي لهذه التسميات.
 
خصائص المنظور الفلسفي للعالَم
على الرغم من أنّ معرفة العالَم معرفة فلسفيّة لا تملك دقّة المعرفة العلمية، فإنّها من جهة أُخرى، تستند إلى "أُصول"، هي أولّا أُصول بديهيّة وذات قيمة نظرية مطلقة، وهي ثانيّا عامّة وشاملة، وهي ثالثًا ثابتة وغير قابلة للتغيير. وبالطبع، فإنّ المنظور الفلسفي للعالَم مقنع، وثابت، شامل، وغير محدود.
وبخلاف المنظور الفلسفي للعالَم يُجيب عن كلّ تلك المسائل الّتي تضمّ العالَم في كلّياتها، وتُميّز هيئته وملامحه، وتُقيم أُسس الأيديولوجيّة الإنسانيّة، أو إنّها تُقوّضها من جذورها.
إنّ كلا المنظورَيْن العلمي والفلسفي مقدّمتان للعمل، ولكن بصورتَيْن مختلفتَيْن. فالمنظور العلمي مقدّمة عمل من حيث كونه يمنح الإنسان القوّة والقدرة على
 
 
 
 
 
 
74

60

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 التصرّف في الطبيعة واستخدامها حسبما يشاء، أمّا المنظور الفلسفي فهو مقدّمة عمل من حيث كونه يُعطي نظرة الإنسان إلى الوجود شكلًا خاصًّا، ويمنحه المثال، أو يسلبه مثاله، ويؤثّر في طراز مواجهة الإنسان للعالَم وفي ردّ فعله إزاءه، ويُعيّن موضعه فيه وفي المجتمع، ويُسبغ على حياته معنىً خاصًّا، أو أنّه يُجرّد حياته من كلّ معنى، ويجرّ الإنسان نفسه إلى العبثيّة والعدم.

أمّا المسائل الأخرى من قبيل: هل ثمّة فلسفة مستقلّة عن العلم؟ ما الأُسس الّتي تستند عليها؟ وما هي معايير الصحيح وغير الصحيح منها؟1.
 
المنظور الدّيني للعالَم
إذا اعتبرنا كلّ وجهة نظر عامّة حول العالَم والوجود، أي في المسائل الّتي تدور حول ماهيّة الوجود ككلّ، وشكله وصورته، ناشئة من المنظور الفلسفي، بصرف النظر عن مبدأ هذا المنظور، أهو يستند إلى القياس والبرهان والاستدلال، أم أنّه يتلقّى الوحي من عالم الغيب، فلا بدّ لنا أن نعتبر المنظور الديني ضربًا من ضروب المنظورات الفلسفيّة، فكلا المنظورَيْن الفلسفي والدّيني لهما حدود متشابهة، مهما اختلفت محتوياتها.
ولكن إذا أخذنا مبدأ المعرفة بعين الحسبان، على أنّ أحد مبادئ المعرفة هو العقل والمقولات العقليّة، والمبدأ الآخر هو الوحي والإلهام، فلا يبقى ثمّة شكّ في أنّ المنظورَيْن الفلسفي والديني منظوران مختلفان. كلّ ما في الأمر هو وجود جوانب في المنظور الفلسفي تختلف كلّ الاختلاف عمّا هي عليه في المنظور الدّيني، كما أنّ فيهما جوانب أُخرى يقترب بعضها من البعض الآخر.
في بعض الأديان، كما في الإسلام، يصطبغ المنظور الدّيني بصبغة فلسفيّة عقليّة
 
 

1  لقد بحث الشهيد الشيخ مرتضى مطهري هذه المباحث في محاضرات أخرى له.
 
 
 
 
75

61

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 استدلاليّة. فالقرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسم وأمير المؤمنين والأئمّة الأطهار عليهم السلام تستند استنادًا كبيرًا إلى العقل وقواعد المنطق والبرهان في المسائل الفكريّة والعقائديّة، كمسالّتي المبدأ والمعاد. وعليه، فإنّ المنظور الإسلامي، في الوقت الّذي لا يخرج عن كونه منظورًا دينيًّا، لا يبعد كثيرًا عن كونه منظورًا فلسفيًّا عقلانيًّا.

إنّ من مزايا المنظور الدّيني، والّتي يفتقر إليها المنظور العلمي والمنظور الفلسفي المحض، هي أنّه فضلًا عن ميزة الخلود والشمول، فإنّه يُضفي القداسة على القواعد الفكريّة الّتي ينتظم العالَم من خلالها. فإذا علمنا أنّه لا بدّ للأيديولوجيّة من أن تكون على شيء من حرارة الإيمان والانتساب إلى مذهب ذي حرمة وقداسة بين المذاهب، يتبيّن عندئذٍ أنّ النظرة إلى العالَم تُصبح قاعدة تستند إليها الأيديولوجيّة الّتي تصطبغ بالصبغة الدّينيّة.
يتّضح ممّا تقدّم أنّ أيّ منظور إلى العالَم لا يُمكن أن يكون قاعدة متينة ومتماسكة لأيّ أيديولوجيّة إذا لم يكن يمتاز بالسعة، وقوّة الفكر، والفلسفة وتقديس القيم الدينيّة واحترامها.
 
النظرة الإلهيّة والنظرة الماديّة
أين يكمن اختلاف النظريّة الإلهيّة عن النظريّة الماديّة؟ ماذا يقول الإلهيّ وماذا يقول المادّي؟ ما الموضوع الّذي يدور حوله بحثُ هاتَيْن النظريتَيْن عند كلٍّ منهما؟
إنّ جواب هذا التساؤل بسيط جدًّا. إنّ البحث يدور حول الوجود وواقعه. يرى المادّي أنّ الواقع في المادّة، في كلّ ما هو جسم وله طول وعرض وعمق، في كلّ ما يُمكن الإحساس به، في كلّ ما هو مكانيّ وزمانيّ، في كلّ ما هو متغيّر، وما هو فانٍ، وما هو محدود ونسبيّ. وهو لا يعترف بأيّ واقع وراء هذا. أمّا الإلهيّ فلا يرى الواقع محصورًا في هذه الأمور، بل يؤمن بوجود واقع آخر غير مادّي وغير محسوس مجرّد عن الزمان والمكان، واقع ثابت وخالد ومطلق أيضًا.
 
 
 
 
 
 
76

62

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 يرى المفكر المادّي أنّ القوى والنظم الّتي تحكم الواقع هي الروابط والطاقات المادّية، وفي نظر المفكِّر الإلهي إنّه يقع أيضًا إضافة إلى تلك تحت حكم أنظمة وقوى غير مادّية.

وعليه، فإنّ المذهب المادّي مذهب انحصاري، سواء من حيث الواقع أو من حيث النظر والقوى الّتي تتحكّم فيه. أمّا المذهب الإلهي فيُعارض الانحصار في كليْهما.
 
التهرّب من الصيغة الصحيحة
إنّ ما يُثير الحيرة والتساؤل في هذا الخصوص هو تهرّب المادّيين من طرح القضيّة بصيغتها الحقيقيّة الأصليّة، فهم يحاولون دائمًا تجنّب وضع المسألة بصورتها الأصليّة، بل يخفون صورتها الأصليّة ويعرضون المسألة بصورة بديلة ومغايرة.
إنّهم يعرضون المسألة عادةً على أنّ القضية الفلسفيّة الرئيسة هي: هل المادّة أقدم أم الفكر؟ هل الماهية أقدم أم الوجود؟ إنّ الّذين يرون المادّة أقدم من الفكر، والماهية أقدم من الوجود هم الفلاسفة المادّيون. أمّا الّذين يُقدّمون الفكر على المادّة، ويرون أنّ الفكر هو الّذي سبق الوجود، فهم الإلهيّون والميتافيزيقيّون.
يقول "إنجلز": "إنّ المسألة الكبرى في الفلسفة، وبخاصّة الفلسفة المعاصرة، فيما يتعلّق بالفكر والوجود، هي المادّة. وإنّ الفلاسفة الّذين يُجيبون عن هذه المسألة ينقسمون إلى مجموعتَيْن كبيرتين. مجموعة ترى أنّ الروح أسبق من الطبيعة، وعليه فإنّهم يتقبّلون فكرة خلق الكون بشكل ما، ويُمثّلون المعسكر المثالي، أمّا الّذين وضعوا الطبيعة قبل الروح، فينتمون إلى المعسكر المادّي".
إنّ ما يقوله "إنجلز" هنا يتكرّر في كتب الماديّين. يقول "أفانا سيف" في أُصول الفلسفة الماركسيّة:
"إذا دقّقنا النظر في العالَم الّذي يُحيط بنا، لرأينا أنّ كلّ موجوداته ومظاهره إمّا أن
 
 
 
 
 
 
 
77

63

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 تكون مادّية، أو معنويّة وروحيّة وفكريّة. والمظاهر الماديّة هي تلك الأشياء العينيّة، أي الّتي لها وجود خارجي بمعزل عن فكرة الإنسان وإدراكه. أمّا ما هو موجود في فكر الإنسان فمشمول بالنشاط النفسي، ويرتبط بالجانب المعنويّ والفكريّ. والآن، فلننظر ما الرابط الّذي يربط بين المادّي والمعنويّ؟ هل يظهر المعنويّ والفكريّ من المادّي أو بالعكس؟ إنّ قضية ماهيّة هذا الارتباط، أعني ما يربط الفكر والروح بالوجود المادّي قضية رئيسة من قضايا الفلسفة.

إنّ لقضيّة الفلسفة الرئيسة جانبَيْن: الجانب الأوّل يتناول البحث في أيّهما أقدم، المادّة أو الفكر؟ هل المادّة هي الّتي تخلق الروح، أو العكس هو الصحيح؟ أمّا الجانب الآخر فيدور حول السؤال: هل يُمكن معرفة العالَم؟".
بالتعمّق في محتوى قضيّة الفلسفة الرئيسة، يُمكن أن نُدرك بسهولة أنّ هناك لحلّها وجهَيْن متناقضَيْن من حيث الأساس، وهما: إمّا القول بتقدّم المادّة، وإمّا القول بتقدّم الفكر. وهذا هو السبب في وجود وجهتَيْ نظر قديمتَيْن في الفلسفة: الماديّة والمثاليّة.
إنّ الّذين يُقدّمون المادّة ويؤخّرون الفكر على اعتبار أنّ هذا وليد المادّة هم أصحاب المذهب المادّي، وهم يرون أنّ المادّة خالدة، ولم تُخلق، وليس هناك أيّ قوى خارقة للعادة خارج هذا العالَم، وإنّ الروح وليدة تكامل المادّة، وهي من خصائص الجسم المادّي الفائق التطوّر كدماغ الإنسان.
أمّا الفلاسفة الّذين يُقدّمون الرّوح، فهم من أتباع المثاليّة، ويقولون إنّ الإدراك أقدم من المادّة وجودًا، وهو الّذي خلق المادّة ووهبها الحياة. إنّ الإدراك هو أساس الوجود ومنبعه. أمّا أيّ إدراك هو الّذي خلق العالَم، فإنّ آراء المثاليّين تختلف فيه. فالمثاليّون الفكريّون يرون أنّ العالَم من خَلَقَ إدراك الفرد الإنساني. أمّا المثاليّون العينيّون فيرون أنّ العالَم قد خلقه إدراك عيني (موجود خارج الإنسان). وهذا ما يُعرف عند الفلاسفة بالمثال المطلق، ويُسمّى أحيانًا بالإرادة العالمية، وغير ذلك.
 
 
 
 
 
 
78

64

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 ترى لماذا يطرح المادّيون المسألة هكذا؟ لماذا يعتبرون نظريّة إنكار التحقيق العيني للوجود ولا جدوائيّته (أي المثاليّة الفكرية على حدّ قول أفانا سيف)، وهي في موضع التقابل مع الفلسفة بالنظر؛ لأنّ الواقعية هي الّتي تُشكّل أساس الفلسفة نظامًا فلسفيًّا؟ لماذا ينظرون إلى مجموعة من المسائل الّتي تتعلّق بقضايا المعرفة، ولا تربطها رابطة بكون الأشياء عينيّة أو غير عينيّة، كذلك المسائل الّتي يطرحها "كنت" و"هيكل" في مسألة المعرفة، ينظرون إلى كلّ هذه الأمور على أنّها تنطوي تحت عنوان الواقعيّة وإنكار العالَم الخارجي؟ لماذا يُصرّون على استعمال كلمات مثل "الرّوح" و"الإدراك" ممّا يصدق على الإنسان فقط، فيُطلقونها على الله، فكان من أثر الخصوصية الإنسانيّة في هذه الكلمات أن امتنع الفلاسفة الإلهيّون من إطلاقها على الله، ترى ما هي أسباب هذه الأمور وأسرارها؟

إنّ السرّ في كلّ ذلك واحد وهو تحريف الأفكار، والخوف من مواجهة الصورة الواقعيّة للمسألة.
هل سبق لكم أنْ سمعتم أنّ حكيمًا أو متكلّمًا أو نبيًّا قد جعل من مسألة تقدّم الفكر على الوجود أو الإدراك على المادّة، وسيلة للدفاع عن مذهبه؟ أثمّة تلازم بين النظرية الإلهيّة عن الوجود وتقدّم الإدراك على المادّة؟ هناك عدد من الفلاسفة الإلهيّين يقولون إنّ الروح حصيلة الحركة الجوهريّة في المادّة والطبيعة، كما أنّهم لا يرون تناقضًا بين تقدّم المادّة على الإدراك، وأصالة الروح وخلودها وتجرّدها بمثل ما ليس هناك أيّ تلازم بين النظرية المادّية، أي إنكار الله وما وراء الطبيعة من جهة، وتقدّم المادّة على الإدراك بالمفهوم الّذي يذكره "إنجلز" وأتباعه. مع أنّ "برتراند راسل" مادّي ينكر وجود الله وما وراء الطبيعة ولا يؤمن بالدّين، إلّا أنّه فيما يتعلّق بالعلاقة بين المادّة والإدراك يُدلي بآراء يُستفاد منها، قوله بتقدّم الإدراك على المادّة. ويدّعي بأنّ الفيزياء الحديثة قد توصّلت في آخر نظريّة لها إلى هذه النقطة.
 
 
 
 
 
79

65

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 سبق أن أشرنا إلى رأيه بشأن العالَم، حيث قال: "إنّ العالم، في رأيه، ليس سوى مجموعة من النقاط والطفرات الّتي تفتقر إلى الوحدة، وإلى الدوام، وإلى النظام والترتيب، وإنّه خالٍ من أيّ محتوى يؤدّي إلى علاقة حبٍّ وتعلّق".

وعليه، فإنّ ما نُدركه من العالَم من صور على شكل أبعاد، ووحدات واستمراريّات، ونظم، ليست سوى أفكار لا علاقة لها بعالَم الواقع، حسب قول "راسل".
لقد قال أيضًا: "إذا تغاضينا عن التعصّب والعادات، فمن النادر أن نستطيع الدفاع عن وجود العالَم نفسه، إذ إنّ النظريّات الفيزيائيّة تضطّرهم إلى ملاحظة ما ذُكر".
إذا لم تكن هذه هي المثاليّة، فما عساها تكون؟ يبدو أنّ ليس هناك ما يمنع من أن يكون المرء مثاليًّا، وينكر وجود الله وما وراء الطبيعة في الوقت نفسه.
لقد قال أيضًا: "إنّ الشمس، في نظر فيزيائيّي اليوم، ليست أكثر من أمواج من الاحتمالات. فإذا سألتم: ما هذه الّتي تدعونها احتمالات؟ أو في أيّ محيط تسير هذه الأمواج؟ لأجابك الفيزيائي كالمجنون: لقد سمعنا كثيرًا من هذا الكلام. لنفرض أنّنا أخذناالمسألة مأخذًا آخر، فماذا حينئذٍ؟ مع ذلك، إذا كنتم تُصرّون، سوف يُجيبكم قائلٌ: إنّ الأمواج موجودة في معادلته، والمعادلة في فكره".
فهل يختلف ما قاله "أفانا سيف" عن "المثاليّة الفكريّة" بشيء عن هذا الّذي يقوله هذا الفيزيائي والرياضي الّذي يُنكر وجود الله وما وراء الطبيعة بماديّته المنتمية إلى القرن العشرين؟
يتّضح إذًا إمكان تقديم المادّة على الإدراك، أي اعتبار المادّة بمثابة الأم، والإدراك وليدها. والانتماء، في الوقت نفسه، إلى الفلسفة الإلهيّة، بل والقول بأصالة الوجود وبأسبقيّة الفكر، كما هي حال بعض الفلاسفة، مثل "صدر المتألّهين".
كذلك يتّضح إمكان اعتبار الإدراك أصلًا، والشكّ في الوجود العيني لما وراء الإدراك، أو إنكاره وفي الوقت نفسه إنكار الله وما وراء الطبيعة، كما هي حال "راسل" وأمثاله.
 
 
 
 
 
 
 
80

66

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 يُمكن القول إذًا إنّ المقياس الرئيس في الاختلاف بين المذهب الإلهي والمذهب المادّي هو "خلق العالَم". فالإلهي يرى العالَم مخلوقًا، والمادّي يراه غير مخلوق.

غير أنّ هذا المعيار ليس صحيحًا أيضًا. صحيح أنّ الإلهي يرى العالَم مخلوقًا، إلّا أنّه ليس من الضروري أن يراه المادّيون غير مخلوق. فالماديّة الجديدة، أي الماديّة الجدلية، تدّعي، وفق المنطق الجدلي، أنّ العالَم "صيرورة" لا "كينونة"، وأنّ العالَم "جريان" وليس شيئًا ذا جريان، وأنّ هذه "الصيرورة" أو "الجريان" ناشئٌ عن التناقض الذّاتي في الأشياء. وعلى ذلك، فإنّ العالَم، كما يقول "ماركس" "ذاتي الخلق"، يخلق نفسه بنفسه. وإنّه كما يقول "ماركس" أيضًا "تناسلي ذاتي السير"، أي إنّ العالَم في حالة تخلّق دائم، وفي حالة نموٍّ ذاتي.
إنّ الإلهيّين يدّعون أيضًا أنّ العالَم في حالة تخلّق مستمرّ. فالخلق ليس أمرًا "آنيًّا حدث في الماضي وانتهى، بل هو حدث تدريجيّ مستمرّ، أي أنّ العالَم في حالة "صيرورة" مستمرّة. إنّ العالم في حالة دائمة من الحدوث والفناء. إنّه حدوث دائم ومستمرّ، وبما أنّه في حالة حدوث دائم ومستمرّ، فإنّ أيّ مرحلة منه ليست في مرحلة سابقة ولا في مرحلة لاحقة، وعليه لا يكون العالَم "ذاتي الخلق" ولا في حالة من "التناسل الذّاتي السير"، فلا يُمكن أن يكون العالَم علّة وجوده. إذًا، لا بدّ من وجوده علّة خالدة ذات إحاطة شاملة وهي الّتي تحفظ استمراريّة وديمومة وجود العالَم. وعليه، فالمعيار ليس كون العالَم إلهيًّا أو مادّيًا، مخلوقًا أو غير مخلوق.
إنّ المادّيين، لكي يزيدوا من إخفاء وجه المسألة الحقيقي، يطرحون أسسًا أُخرى غير ذلك الأساس الّذي قالوا عنه إنّه "المسألة الفلسفيّة الأساس"، والّذي يصطلح عليه أنّه يختصّ بالمنطق ويُبيّن ما بين المذهبَيْن من اختلاف.
يقول "ستالين" في رسالة حول الماديّة الجدليّة: "إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا، لا يعتبر الطبيعة مجموعة من المصادفات والمظاهر المفكّكة والمجزّأة الّتي لا يرتبط
 
 
 
 
 
 
 
81

67

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 بعضها ببعض، بل على العكس، يرى الطبيعة مجموعة أشياء في وحدة تامّة ومظاهر يرتبط بعضها ببعضها الآخر ارتباطًا آليًّا متسلسلًا...".

"إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا الّتي تعزو للطبيعة حالة من الركود والسكون وعدم التغيّر، يرى الطبيعة متحرّكة وفي حالات تحوّل متتالية وفي تكامل وتقدّم دائمين...".
"إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا، يرى أنّ سير التكامل يجري جريانًا بسيطًا في النشوء والارتقاء ولا تنتج تغيّراته الكمّية تحوّلات كيفية واضحة ومهمّة".
"إنّ الديالكتيك، بخلاف الميتافيزيقا، يرى أنّ في الأشياء والظواهر في الطبيعة تناقضاتها الداخليّة، وذلك لأنّ لكلٍّ منها قطبًا سالبًا وآخر موجبًا، لها ماضٍ ولها مستقبل.
إنّ الأسلوب الجدلي يظنّ أنّ جريان تكامل الدّاني إلى العالي ليس نتيجة لتكامل الظواهر واتّساعها وانسجامها، بل على العكس من ذلك، يرى ذلك نتيجة التناقضات الكامنة في الأشياء والظواهر، فيحدث ما يحث على أثر الصراع بين ميول المتناقضات على أساس التضاد الموجود بينها".
أما إذا أردنا أن نسمع عن المذهب الإلهي، أو المذهب الميتافيزيقي، فيجب أن نتقبّل "تعبّديًّا" كثيرًا من الأشياء الّتي لا تعرف روحنا ولا روح أيّ إلهي آخر. علينا أن نقبل بأنّ الميتافيزيقيّين لا يعترفون بوجود عالَم عيني أوّلًا، وأنّ أجزاء العالَم منفصلة لا رابط بينها ثانيًا، وأنّ العالَم ثابت لا حركة فيه وغير قابل للتغيير ثالثًا، وأنّ التغيّرات التكامليّة تسير على وتيرة واحدة، ولن تبلغ حدّ الطفرة أبدًا، رابعًا، وأن ليس في العالم تناقض خامسًا، وعلى فرض وجود تناقض ما، فإنّه ليس تناقضًا ذاتيًا بصورة صراع بين الجديد والقديم.
لا بدّ للميتافيزيقيّين أن يتقبّلوا بأنّ هذا طراز تفكيرهم، وأنّ هذه هي نظرتهم إلى العالَم، على الرغم من أنّهم لا يعلمون إلى حدّ الآن أنّهم يُفكّرون وينظرون إلى هذا العالَم وفق هذا المنحى من التفكير. فلو أراد هؤلاء أن يعرفوا كيف يرون العالَم،
 
 
 
 
 
82

68

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 عليهم أن يستعيروا نظّاراتهم من أيدي الماديّين والديالكتيكيّين، إذ إنّهم بنظّاراتهم لا يستطيعون أن يروا العالَم ميتافيزيقيًّا.

تحضرني الآن حكاية "قاضي بلخ"، وهي تدور حول رجل طال غيابه عن بلدته، فحكم القاضي بموته، واتّفق إنْ ظهر الرجل بعد ذلك بأيّام، فقبض عليه رجال القاضي وألقوه في التابوت بالقوّة، وحملوه وساروا به إلى حيث يدفنونه، وكلّما رفع صوته بالصراخ بأنّه حيّ، إلى أين تذهبون بي؟ كانوا يردّون قائلين إنّك مخطئ. لقد قال القاضي إنّك قد مُتّ، فأنت ميت ويجب دفنك.
فالميتافيزيقيّون لا يحقّ لهم أن يقولوا: إنّنا واقعيّون، وأقدر منكم على إثبات أصالة الوجود، وإنّنا نحن وحدنا القادرون على إثبات ذلك. ولا يحقّ لهم كذلك أن يقولوا: إنّنا لم نقل إنّ أجزاء العالَم منفصلة بعضها عن بعض. بل إنّ ظهور نظريّة وحدة العالَم وترابط أجزائه ترابطًل آليًّا مرجعه إلينا؛ لأنّنا نحن الّذين قُلنا إنّ العالَم كائن حيّ، كالإنسان، وإنّ مذهبنا هو وحده الّذي يحقّ له القول بوجود رابط آلي يربط جميع أجزاء العالَم.
والإلهي لا يحقّ له أن يقول: إنّ ما تسمّونه تبديل التغيير الكمّي إلى تغيير كيفيّ، نحن سبقناكم إليه قبل سنوات، بل قرون، بصيغته الصحيحة، وهي "إنّ التغييرات الكيفيّة مقدّمات لتغييرات كمّية". أمّا ما يقوله علم الحياة بشأن تكامل الأحياء، فإنّه نظريّة جديدة لا علاقة لكم بها.
ولا يحقّ له أن يقول: إنّنا نحن أول من اكتشف الدور الأساس الّذي يُمثّله التناقض في العالَم. وإذا تغاضينا عن سلسلة من الأخطاء الّتي وقعتم فيها بأنّكم اعتبرتم التناقض نفسه عاملًا حركيًّا، من دون الالتفات إلى عوامل التناقض، ومن دون الالتفات إلى أنّ دور التناقض دورٌ ثانوي، ومن دون الالتفات إلى أنّ عوامل التناقض وقواه هي نفسها معلولات لحركة العالَم وتحوّلاته وتغيّراته. لذلك، فالتناقض لا يُمكن أن يكون
 
 
 
 
 
 
 
83

69

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 وجهًا للحركة، بل إنّ التحرّكات والتحوّلات هي الّتي تؤدّي إلى ظهور التناقض والقوى المتناقضة، وهذه بدورها تُصبح عاملًا من عوامل تسريع التحرّك.

نعم، لا يحقّ للميتافيزيقيّ أن يُردّد تلك الأقوال؛ لأنّه إذا ردّدها على لسانه، فما يكون من أمر هذه الاعتراضات "العلميّة" الكثيرة الّتي ترد على أقواله؟
ولا يحقّ للميتافيزيقي أن يسأل: كيف يُمكن لي، بعد إنكاري العالَم العيني، أن أصفه بأنّه على صورة أجزاء مفكّكة ومفصّلة؟ ولا يحقّ له أن يسأل: كيف، وأنا أُنكر وجود العالَم، أقول إنّه ثابت لا يتحرّك؟.
ولا يحقّ للميتافيزيقي أن يسأل: كيف يُمكن أن أعتبر العالَم ساكنًا وراكدًا وغير متغيّر، ثمّ أقول إنّ سير التكامل يجري جريانًا بسيطًا في النشوء والارتقاء، ولا تنتج تغيّراته الكمّية تحوّلات كيفيّة؟
نعم، لا يحقّ له الكلام على أيٍّ من هذه المسائل؛ لأنّ القاضي هذا حكم، ولا مردّ لحكم القاضي. ترى لماذا لا يملك المادّيون، وخصوصًا الماديّين الجدليّين، الجرأة على المواجهة المباشرة؟ لماذا لا ينقلون كلام الآخرين على حقيقته وينقدونه؟ لماذا يقتلون القتيل ثمّ يبكون عليه، أي يحرفون الكلام ومن ثمّ يبدؤون بنقده؟ لماذا لا يثقون بأنفسهم وبأسلوبهم؟
تعالوا نضع كلّ مذهب في قِبال الآخر بكلِّ صراحة وجرأة، ونُقيِّمه على وفق الأُصول العلميّة والمنطقيّة.
هل المذهب الإلهي يعني إنكار الطبيعة؟ أم يعني إنكار قوانين الطبيعة؟ أم هو إنكار قانون العلّة والمعلول؟ أم إنكار قانون الحركة؟ أم ينكر تأثير أجزاء الطبيعة بعضها ببعض، أم أنّه لا يرى العالَم كلًّا لا يتجزّأ؟ أم أنّه ينفي التكامل؟ أو على العكس، إنّ الإلهي لا يرى الوجود منحصرًا بالطبيعة، ولا يرى أنّ قوانين الفيزياء والكيمياء هي وحدها الّتي تحكم الوجود، ويرى أنّ العالَم كلّ مدرك، وأنّ له ماهية تبدأ "منه" وتنتهي "إليه".
 
 
 
 
 
84

70

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 إنّ الفرق بين الإلهي والمادي كالفرق بين العالِم النفسي والمحلِّل النفساني. فقبل أن يكتشف المحلِّل النفساني حدود الوعي الباطن، لا تكون نفس الإنسان في نظر العالم النفسي سوى سلسلة من الإدراكات، والأحكام، والاستدلالات، والغرائز، والعواطف، والميول، والرغبات، والإرادات، وهي جميعًا ممّا يحسّ بها الإنسان. وبعد ظهور المحلّل النفساني، اكتُشِفت مناطق أوسع أُطلق عليها اسم "اللاوعي" أو "اللاشعور". ودنيا اللّاوعي هذه أوسع بكثير من دنيا الوعي والشعور وأعظم، وتُسيطر عليه. فالمحلِّل النفساني لم ينف منطقة علم النفس السابقة، بل إنّه أخرج واقع النفس الإنسانيّة من حدود منطقة الوعي، وهو كذلك لم ينف قوانين دنيا الوعي، ولكنّه توصّل إلى سلسلة من القوانين الأخرى الخاصّة باللّاوعي والمسيطرة على قوانين دنيا الوعي.

 
طريق المعرفة
الشيء المهمّ هنا هو كيف يتعرّف الإلهي إلى عالَم يقع وراء العالَم المحسوس، نسبته إلى العالَم المحسوس كنسبة دنيا اللّاوعي إلى دنيا الوعي، بل أكثر كمثل "الشيء" إلى "الفيء"، أو كنسبة العاكس إلى المعكوس، أو الشعاع إلى مصدر النّور؟ تُرى أثمّة طريق إلى تلك المعرفة؟ صحيح أنّنا إذا لم نعثر على طريق إلى المعرفة المطلوبة، يجب علينا أن نلتجئ إلى "اللّاأدريّة" وليس إلى الماديّة الّتي تنفي وتجزم. ولكن هل من الصعب العثور على طريق لمعرفة عالم ما وراء الطبيعة، ولمعرفة قوانين أُخرى غير الّتي تتواجد في المادّة وما تنتج منها؟
 
 
 
 
 
85
إنّ طرق معرفة العالَم الآخر متعدِّدة، ليس هنا مجال تبيانها وتوضيحها. إنّ واحدًا من تلك الطرق يمرُّ عبر الطبيعة مباشرة: إنّه طريق تظهر فيها الطبيعة "مرآة" و"آية" و"دليلًا" على ما وراء الطبيعة. ثبتت هذه الطريق أنّ ماهية الطبيعة "منه"و"إليه".

71

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 إنّ معرفة ما وراء الطبيعة بهذه الصورة - وهي معرفة بالآثار والدلائل - لا تختلف من حيث الماهيّة عن الأسلوب الّذي نتّبعه لمعرفة معظم أُمور العالَم؛ أي إنّ معرفتنا بعددٍ من الأشياء معرفةً مباشرة مبنيّة على أساس الدرس والملاحظة من دون واسطة. إلّا أنّ معرفتنا بأمور أُخرى معرفة غير مباشرة، مبنيّة على دراسة آثارها ودلائلها.

فمثلًا، نحن نعرف آثار الحياة عن طريق الملاحظة مباشرة، ولكن الحياة في نفسها باعتبارها عاملًا يكمن في الكائنات الحيّة، نتعرّف إليها ونُصدّق بها عن طرق آثارها ودلائلها. وبعبارة أُخرى، إنّ معرفتنا بالحياة معرفة غير مباشرة نصل إليها عن طريق الاستنباط والاستدلال، وما يصطلح عليه باسم "البرهان الإنّي".
كذلك أمر معرفتنا بالنفس اللّاواعية، فهي معرفة غير مباشرة عن طريق الآثار والعلائم و"البرهان الإنّي"، بينما معرفتنا بالنفس الواعية معرفة مباشرة عن طريق الملاحظة الباطنيّة.
هل تعلمون أنّ معرفتنا بالوقائع والحوادث الماضية عن الأشخاص، مثل معرفتنا بـ"ابن سينا"، مثلًا، هي معرفة غير مباشرة، أي إنّها من النوع الاستبطاني الاستدلالي وبطريق "البرهان الإنِّي".
يحسب المرء لأوّل وهلة أنّ معلوماته عن الحوادث الماضية الّتي كانت حوادث ملموسة في حينها معلومات مباشرة، وعلى الأخصّ إذا كان قد "سمع" عن تلك الحوادث من أشخاص أو "قرأ" عنها في كتاب. مع أنّ ما سمعه لم يكن سوى مجموعة من الكلمات والأصوات تخرج من فم إنسان معاصر، وإنّ ما رآه لم يكن سوى الحبر على الورق في صورة خطوط ظهرت يومًا هناك، وما زالت باقية. أمّا "ابن سينا" فليس أيًّا من تلك. إنّما الفكر يستدلّ بالبرهان العقلي على وجود شخص اسمه "ابن سينا"يتّصف بالصفات المذكورة، فيُذعن بوجوده إذعانًا يقينيًّا غير قابل للشكّ - على الرغم من أنّ "راسل" يقول إنّ هذا الإذعان عند الّذين لا يملكون فكرًا فلسفيًّا. يكون إذعانًا
 
 
 
 
 
86

72

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 لا واعيًا - وعليه فإنّ وجود "ابن سينا" في أذهان أبناء هذا العصر وجود استنباطي ومعقول، وليس وجودًا محسوسًا.

فضلًا عن ذلك، إذا ما أمعنّا النظر جيّدًا ومحّصنا إذعانات الفكر بشأن الموجودات الّتي نحسبها محسوسة، نجد أنّ معلوماتنا ومعرفتنا حتى عن أقرب الناس الّذين نُعاشرهم يوميًّا واصلة إلينا عن طريق غير مباشرة وهي من النوع الاستبطاني العقلاني، عن طريق "الآية" و"العلامة".
إنّ الكائن الوحيد الّذي نعرفه مباشرة من دون وساطة الآثار والعلاقات هو نفسنا، وما عداها فنحن نصل إلى معلوماتنا عنه بالواسطة وبطريق غير مباشرة، بما في ذلك الوجود العيني للآيات والعلامات نفسها، فإنّنا نعرفها أيضًا عن طريق آياتها وعلاماتها. أمّا إذا عرفنا الله عن طريق التزكية وصفاء النفس، فتكون تلك معرفة مباشرة ومن دون وساطة.
فما أعجب أن نعلم، بعد التمحيص، أنّ معرفتنا بالعالَم الخارجي معرفة غير مباشرة، وأنّ المعرفة المباشرة تنحصر في معرفة النفس ومعرفة الله.
إنّنا لكي نوضح كيف أنّ معرفتنا حتى بوجود صديق نُعاشره كلّ يوم معرفة غير مباشرة نحصل عليها عن طريق الاستنباط والاستدلال العقلي بالدلائل والإمارات، نذكر لكم ما يقوله فيلسوف ورياضي وفيزيائي مادّي يُنكر وجود الله. إنّه "راسل" نفسه. يقول في بحث له عن عدم صلاحيّة تعميم نتائج الحالات الّتي أُجريت فيها تجارب على الحالات الّتي لم تُجر فيها تجارب: "سبق القول بأنّ ما أُجريت عليه التجارب أقلّ بكثير ممّا يخطر ببال الإنسان. فمثلًا أنت تدّعي بأنّك ترى صديقك السيد "جونز" في حالة المشي، إلّا أنّ قولك هذا أكبر ممّا لك حقّ التصريح به. إنّ ما تراه ليس سوى نقاط متتالية ملوّنة تجري على أرضيّة ساكنة. إنّ هذه النقاط، وبطريقة "بافلوف" في الاقتران الشرطي، تُحيي في فكرك "جونز"، ومن ثم فإنّك تقول إنّك ترى "جونز".
 
 
 
 
 
87

73

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 إنّ قولك إنّك ترى "جونز" أشبه ما يكون بارتداد قذيفة عن جدار متّجهة إليك، فتقول إنّ الجدار قد ارتطم بك، حقًّا ما أقرب هذين المثلين من بعضهما! وعليه، فإنّ الأشياء الّتي نتصوّر رؤيتها لا نراها أبدًا. فهل من دليل على أنّ الشيء الّذي نظنّ أنّنا نراه - وإن لم نره في الواقع - موجود؟ إنّ العلم طالما افتخر بكونه تجريبيًّا، وأنّه لا يؤمن إلّا بما يُمكن التحقّق منه. والآن يُمكنك أن تُحقّق في ذهنك تلك الظواهر الّتي تُسمّيها "رؤية جونز"، ولكنّك لن تستطيع أن تُدرك "جونز" نفسه حقًّا. إنّك تسمع أصواتًا وتقول إنّ جونز يتحدّث إليك، وتحسّ أنّ يدًا تُمسك فتقول إنّ "جونز" قد لمسك بيده، وإذا لم يكن قد استحمّ منذ أيام، فإنّك تشمئزّ من رائحته إذا اقترب منك وتعزو تلك الرائحة إلى "جونز". والآن إذا كُنتَ قد وُضعت تحت تأثير هذا البحث، فلك أن تُخاطبه عبر التلفون، قائلًا: "آلو، هل أنت هناك؟"، فتسمعه يقول: "نعم، ألا تسمعني؟"، ولكن إذا اعتبرت كلّ هذه شواهد على أنّه هناك، فإنّك لا تكون قد أدركت وجهة نظر هذا البحث".

يقصد "راسل" أن يقول إنّ وجود شخص مثل "جونز" بالنسبة إلى صديقه نوع من الاستنباط وليس مشاهدة مباشرة. ولكن بما أنّ "راسل" يقول بالمعرفة المنطقيّة، فإنّه يرى أنّ الشيء الّذي تُراد معرفته يجب أن يوضع تحت الدرس مباشرة، أو أنّه يقع في الأقل، تحت التعميم، في حين أنّ وجود "جونز" لا هو من المشاهد المباشرة ولا هو نتيجة تعميم المشهود على غير المشهود، وعلى ذلك فإنّه يستنتج منطقيًا أنّ وجود "جونز" مشكوك فيه، ولا يُمكن إثباته علميًّا.
إنّ هذا الاستنتاج الخاطئ ناشئ عن طريقة "راسل" المنطقيّة والفلسفيّة في المعرفة الخاطئة، والّتي سوف نوضحها فيما بعد.
والنقطة الأخرى الّتي يجب التنويه بها هي أنّ الفكر الفلسفي هو وحده الّذي يشكّ في وجود شخص مثل السيد "جونز". أمّا الفكر البسيط العادي فلن يدع للشكّ
 
 
 
 
 
 
 
88

74

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 طريقًا إلى نفسه. فلماذا؟ هل هذا من قبيل الشكّ في البديهيّات؟ كلّا أبدًا.

عندما يقف الطفل أو الإنسان العادي أمام المرآة ويرى صورته فيها، هل يشكّ في أنّ صورته موجودة فعلًا في المرآة؟ إنّ الفكر الفلسفي لا يشكّ مطلقًا في عدم وجود أيّ صورة في المرآة.
الحقيقة هي أنّ الفكر غير الفلسفي لا يُدرِك أنّ ما يراه ليس الوجود العيني للأشياء، بل هي الصور المنعكسة عن الأشياء في الفكر؟ وعليه، فإنّه لا يشكّ في وجود ما يراه، ما دامت التجربة لم تثبت خلاف ذلك. غير أنّ الفكر الفلسفي يرى الفرق بين الاثنَيْن. إنّ انعكاس صور الأشياء في الذهن في نظر الفكر الفلسفي ليس سوى حكاية عن بعض الأفعال والانفعالات الّتي تصدر عن الأعصاب، وهي مجرّد دليل وإمارة على وجود واقع هو سبب تلك الآثار والتأثيرات، وعلى هذا فإنّ وجود السيّد "جونز" للفكر غير المنطقي وجود محسوس ومشهود ومعرفة مباشرة، ولكنّه للفكر الفلسفي وجود غير محسوس وغير مشهور ومعرفة غير مباشرة، أي إنّه وجود استنباطي استدلالي معقول.
أما كون "راسل" يُريد من كلّ هذا - كالشكّ الفلسفي في وجود السيد "جونز" ووجود أيّ أمر آخر من هذا القبيل، وعلى الأخصّ وجود وقائع كانت في الزمن الماضي (مثل ابن سينا في المثال السابق) - أن يصل إلى نتيجة، فناشئ عن خطأ منطقه الفلسفي.
 
أنواع المعرفة
أولًا: المعرفة التعميميّة:
إنّ الإنسان، مثل أيّ حيوان آخر، يحسّ بالعالم لأوّل وهلة، ويختزن ما يحسُّ به في ذاكرته. إلّا أنّ الإنسان يمتاز بالقدرة على التفكير والتعقُّل، ولذلك فهو يقوم بنوع آخر من المعرفة. وفي هذه المرحلة من المعرفة يعمد الإنسان إلى عدد من الصور  
 
 
 
 
89

75

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 المشابهة فيصوغ منها مفهومًا كلّيًا عامًّا، ثمّ يُصنّف هذه الكلّيات في مجموعات يضع لكلٍّ منها مقولة خاصّة: الكم، والكيف، والإضافة، والجوهر، وغير ذلك. ويُجري سلسلة من التجارب، فيطّلع على خواصّ الأشياء وآثارها، ويُعمّم ما يصل إليه من نتائج تجاربه على عدد من الأفراد، ويكتشف القوانين الكلّية.

إنّ مسألة تعميم القضايا الّتي اختُبرت على القضايا الّتي لم يُجرَ اختبارها تُعدّ من المسائل الفنّية. إنّ أصحاب الماديّة الجدليّة يمرّون بالمعركة كالعادة مرورًا من دون أن يُجشّموا أنفسهم عناء التورّط فيها، ويُريحون أنفسهم ببضع جمل بسيطة، قائلين: "إنّ عددًا من الظواهر لا يُحصى في العالَم العيني الخارجي ينعكس عن طريق حواسنا الخمس في الدماغ، ممّا يُعطي معرفة حسيّة في أول الأمر. وبتجمّع معطيات كافية من الإدراك الحسّي، تظهر "طفرة" وتتحوّل المعرفة الحسّية التعقّلية من نوع الطفرة وأنّها تجاوز الكم إلى الكيف، فلا تعدو هذه المعرفة عن أن تكون انعكاسًا من انعكاسات العالَم؛ وذلك لأنّه في كلّ طفرة وتجاوز من الكمّ إلى الكيف يُغيّر الشيء ماهيّته ونوعيّته، ويتغيّر كلّيًا ويُصبح شيئًا آخر. فإذا كان الإحساس انعكاسًا للعالَم الخارجي، ثمّ يُغيّر ماهيّته فيُصبح صورة تعقّلية، تكون رابطة التعقّل عندئذٍ، مقطوعة عن العالَم الخارجي، وهذا يعني المثالية.ّ
الحقيقة هي أنّ جميع النظم الفلسفيّة الغربيّة تحار في توضيح ميكانيكيّة التعميم، وهذا "راسل" لا يُخفي حيرته بهذا الخصوص، كما رأينا.
ولمّا كان هذا النوع من المعرفة المنطقيّة مقبولًا من لدن الجميع، فلا نرى موجبًا لبحث موضوع ميكانيكيّة التعميم من وجهة النظر الإسلاميّة.
إنّما الّذي ينبغي أن نُشير إليه هنا هو أنّ المعرفة المنطقيّة لا تنحصر بالمعرفة التجريبيّة التعميميّة. ففي المعرفة التجريبيّة يقوم الفكر أولًا باختبار بعض الأمور اختبارًا عمليًّا، ومن ثمّ يسحب الحكم الناتج من هذه الأمور المجرّبة على الأمور المشابهة. وفي الواقع، إنّ عمل المعرفة الفكريّة يتحرّك حركة أُفقية.
 
 
 
 
 
90

76

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 ثانياً: المعرفة المنطقيّة العموديّة:

إنّ للفكر نوعًا آخر من طرق المعرفة، يُمكن أن نُطلق عليه اسم "المعرفة العموديّة"، إذ إنّ الفكر في هذه الحركة يتّخذ من الأمور المجرّبة وسيلة وآلة للنفوذ إلى عمق ما وراءها.
إنّ ما سبق أن أشرنا إليه، أعني معرفة الطاقة والحياة من آثارها الخاصّة، ومعرفة اللّاوعي عن طريق بعض النشاطات الواعية، ومعرفة الماضي البعيد بالآثار والعلائم الحاضرة، وحتّى إدراك الفكر الفلسفي بالوجود العيني والواقعي للمحسوسات من العلائم والآثار الحسيّة المباشرة الّتي تحدث في الحواس، كلّها من هذا النوع من المعرفة. وهذه هي المعرفة الّتي أطلقنا عليها اسم المعرفة بالاستنباط أو بالاستدلال، أو بحسب تعبير القرآن المعرفة بالآية والعلامة.
إنّ المعرفة بتوسّط الآية والعلامة، بخلاف ما يتصوّره بعضهم، معرفة تعقّليّة وفلسفيّة. صحيح أنّ ما اتّخذ وسيلة وآية هو أمر محسوس ومشهود، إلّا أنّها معرفة فلسفيّة وتعقّليّة خالصة.
من هنا، يتّضح أنّ معرفة الله، وإنْ لم تبدُ معرفة تجريبيّة، أي إنّها لا تضع الله تحت التجربة، إلّا أنّ ماهية هذه المعرفة لا تختلف كثيرًا عن ماهيّات مجموعة من معارفنا عن الطبيعة، كالحياة، والوعي الباطني أو اللّاوعي، وغيرهما.
إنّما الاختلاف هو في كون الاستدلال جزئيًّا وكلّيًّا. فمثلًا، لا يرى عالم الأحياء سوى آثار الحياة، أمّا الحياة نفسها فإنّه "يستنبطها" استنباطًا.
إنّ محلّلًا نفسانيًّا يُلاحظ عددًا من الآثار والعلائم على السطح الخارجي للنفس الواعية، ثمّ "يستدلّ" على وجود اللّاوعي، أو الوعي الباطني.
إلّا أنّ نبيًّا، أو موحّدًا على غرار إبراهيم، يُطلق نظرة في الكائنات جميعها، فيرى فيها آثار "المربوبية" و"المقهورية" و"عدم الاستقلال" وأنّها "قائمة بغيرها". لقد
 
 
 
 
91

77

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 لاحظ إبراهيم علائم "المربوبية" و"المقهورية" في نفسه أوّل الأمر، فراح يبحث عن "ربّه" فظنّه كوكبًا فقمرًا فشمسًا، ولكنّه سرعان ما لاحظ فيها جميعًا أمارات التغيّر والتحرّك والمحكوميّة، فأشاح بوجهه عنها واستطاع أن ينفذ عميقًا إلى ما وراء العالَم المتغيّر المتحرّك، إلى عالم ثابت غير متغيّر كامل، وقال: ( إِنِّي وَجَّهتُ وَجهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ حَنِيفا وَمَا أَنَا مِنَ المُشركِينَ )1.

 
العالَم الّذي يراه الإلهي
إنّ العالَم الّذي يراه الإلهي الحقيقي العارف بالدِّين يتميّز بأنّه "منه"، أي إنّ حقيقة العالَم تساوي كونه "منه"، ولا يعني هذا أنّ للعالَم حقيقة يُمكن أن تُنسب أو تُضاف "إليه" مثل حقيقة انتساب الابن لأبيه، ولا كإضافة أيّ شخص إلى آخر، ولا انتساب حقيقة اختراع ما إلى مخترعه وصانعه، بل إنّ حقيقة العالَم وماهيّته هي "هو" نفسه، وهي الصدور نفسه "عنه"، والتعلّق والارتباط نفسيهما "به"، والإضافة نفسها "إليه". وهذا هو معنى "الخلق" ومفهومه، ومعنى أن يكون العالَم كلّه "مخلوقًا" من مخلوقات الله.
وبالإضافة إلى كون العالم الّذي يراه الإلهي ذا ماهيّة تتّصف بأنّها"منه"، فإنّها تتّصف كذلك بأنّها "إليه"، بل إنّ هاتين الصفتين متلازمتان لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى. إنّ الوجود يسير من النقطة الّتي بدأ منها في قوس نزولًا ليعود ثانية في قوس صعودًا إلى النقطة نفسها. وهذا هو المعاد الّذي ذكره الأنبياء، وحثّوا على الإيمان به.
إنّ العالم الإلهي عالم خير وجود ووحدة وانسجام، ويتبع ذلك الشر والبخل والتفرّق والتضاد. غير أنّ لهذه الحالات التبعية دورًا أساسيًّا في جريان الخير والجود، وفي ظهور الوحدة والانسجام.
 

3  سورة الأنعام، الآية 79.
 
 
 
 
92

78

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 هذا العالم عالم شاعر، فبالإضافة إلى قوانين المادّة الجامدة الصلبة، ثمّة قوانين أُخرى تحكمه أيضًا. فكما أنّ الإنسان مثلًا، من حيث أجهزته الجسميّة، تتحكّم فيه قواعد وضوابط، وقد تمرض هذه الأجهزة البدنيّة وقد تشفى بدواء مادّي، فإنّه في الوقت نفسه، من حيث روحه الّتي فيه، وفكره، وعقله واستعداده للتلقّي، يقع تحت سيطرة الرّوح ويجري فيه حكمه وقوانينه، والعلّة الروحيّة تُسبّب المرض الجسمي، كما أنّ المرض الجسمي قد يشفي الروحيّة.

العالم كلّه كذلك أيضًا هنالك في العالَم مجموعة من العلل من الأفعال وردودها، تتحكّم في قوانين المادة الجامدة الصلبة، وهي قوانين وليدة روح العالَم وقواه المدبّرة له.
ولهذا، فإنّ العالم يُعنى بخير الإنسان وشرّه، يحمي الأخيار وطلّاب الحق والمدافعين عنه، ويقضي على دعاة الباطل. إنّ سرّ الدُّعاء والاستجابة كامن في هذه الصفة من صفات الدّنيا.
إنّ العالَم الّذي يعرفه الإلهي عالَم متكامل موجّه، إنّ كلّ كائن في أيّ موقع كان يتمتّع بمقدار من الهداية - أو الوحي كما يُسمّيه القرآن - يتناسب مع وجوده: 
( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)1.
إنّ المجتمع البشري لا يستهين من الهداية، ومن هنا أصل النبوة أيضًا. وهذه الدنيا دنيا لا يضيع فيها شيء، ويبقى الإنسان قرين عمله، وما أن تحين الساعة حتى يحضر الناس جميعًا إلى معرض الأعمال: ( يَومَئِذ يَصدُرُ النَّاسُ أَشتَاتا لِّيُرَواْ أَعمَالَهُم * فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرا يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّة شَرّا يَرَهُ )2.
إنّ العالَم الّذي يظهر في المنظور الإلهي، كلّ لا يقبل التجزئة، أجزاؤه وأعضاؤه تُشبه أجزاء الجسد وأعضاءه كلّها مترابطة، وتؤلّف بمجموعها "وحدة" واحدة.
 

1  سورة الأعلى، الآيتان 2 - 3.
2  سورة الزلزلة، الآيات 6 - 8.
 
 
 
 
93

79

الفصل الأوّل: العالَم في المنظور الإلهيّ والمنظور المادّي

 وعلى ضوء هذه النظرة إلى العالَم، فقد خلق الله بإرادته وبقضائه وقدره العالَم في نطاق من النظم والقوانين والسُّنن. إنّ القضاء والقدر الإلهيَّيْن يقضي أن تجري الأمور بعللها وأسبابها المعيّنة لها، ليس غير.

والإنسان، في هذا المنظور، ولكونه يتمتّع بجوهر روحي غيبي، فإنّه يتمتّع لذلك بإرادة حرّة يستطيع بها أن يتحرّر من قيود المحيط وقيود المجتمع وقيود الطبيعة الحيوانيّة إلى حدٍّ كبير، وهو لهذا مسؤول عن نفسه وعن مجتمعه.
 
 
 
 
 
 
 
94

80

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 الفصل الثّاني

الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل


الدليل العلمي الاستقرائي
لإثبات وجود الله عزّ وجل1


تعريف الدليل العلمي
إنّ الدليل العلمي هو كلّ دليل يعتمد على الحسّ والتجربة، ويتبع منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

وعلى هذا، فالمنهج الّذي نتّبعه في الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى هو منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات2. ومن أجل ذلك نُعبّر عن الدليل العلمي لإثبات الصانع بالدليل الاستقرائي، وكلّ هذا ما سنوضحه فيما يلي.
 

1 السيد محمد باقر الصدر {، الأسس المنطقية للاستقراء.
2 منهج الدليل، غير الدليل نفسه، فأنت قد تستدلّ على الشمس أكبر من القمر، بأنّ العلماء يقولون ذلك، والمنهج هنا هو اتخاذ قرارات العلماء دليلًا على الحقيقة. وقد تستدلّ على أنّ فلانًا سيموت بسرعة، بأنّك رأيت حلمًا، ورأيت في ذلك الحلم أنّه مات، والمنهج هنا هو اتخاذ الأحلام دليلًا على الحقيقة، وقد تستدلّ على أنّ الأرض مزدوج مغناطيسي كبير، ولها قطبان سالب وموجب، بأن الإبرة المغناطيسية الموضوعة في مستوى أفقي، تتّجه دائمًا بأحد طرفيها إلى الشمال وبالآخر إلى الجنوب، والمنهج هنا هو اتخاذ التجربة دليلًا، وصحّة كلّ استدلال، ترتبط ارتباطًا أساسيًا، بصحة المنهج الّذي يعتمد عليه.
 
 
 
 
95

81

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 خطوات المنهج والدليل الاستقرائي

عرفنا أنّ الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى يتّخذ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، ونُريد قبل أن نبدأ باستعراض هذا الدليل أن نشرح هذا المنهج وبعد ذلك نُقيّمه، لكي نتعرّف إلى مدى إمكان الوثوق بهذا المنهج، والاعتماد عليه في اكتشاف الحقائق والتعرّف إلى الأشياء.

منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات له صيغ معقدّة، وبدرجة عالية من الدقّة. وتقييمه الشامل الدقيق يتمّ من خلال دراسة تحليليةّ كاملة للأسس المنطقية للاستقراء، ونظريّة الاحتمال1. ونحن نحرص هنا على تفادي الصعوبات والابتعاد عن أيّ صيغ معقّدة، أو تحليل عسير الفهم.

ولهذا سنقوم فيما يلي بأمرَيْن:
الأول: تحديد المنهج الّذي سنتّبعه في الاستدلال وتوضيح خطواته بصورة مبسّطة وموجزة.

الثاني: تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به، لا عن طريق تحليله منطقيًّا واكتشاف الأسس المنطقيّة والرياضيّة الّتي يقوم عليها؛ لأنّ هذا يضطّرنا إلى الدخول في أشياء معقّدة وأفكار على جانب كبير من الدّقة، بل نُقيّم المنهج الّذي سنتّبعه في الاستدلال على الصانع الحكيم في ضوء تطبيقاته الأخرى العمليّة المعترف بها عمومًا لكلّ إنسان سويّ. فنوضّح أنّ المنهج الّذي يعتمده الدليل على وجود الصانع الحكيم هو نفس المنهج الّذي نعتمده في استدلالاتنا الّتي نثق بها كلّ الثقة في حياتنا اليوميّة الاعتياديّة، أو في البحوث العلميّة التجريبيّة على السواء.

إنّ ما سيأتي سيوضّح بدرجة كافية أنّ منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو المنهج الّذي نستخدمه عادة لإثبات حقائق الحياة اليوميّة والحقائق العلميّة. فما  
 

1 راجع: السيد محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للأستقراء، القسم الثالث، ص133 ـ 410. 
 
 
 
96

82

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق، فمن الضروريّ أن نثق به بصورة مماثلة لإثبات الصانع الحكيم الّذي هو أساس تلك الحقائق جميعًا.


فأنت في حياتك الاعتيادية حين تتسلّم رسالة بالبريد، فتتعرّف بمجرّد قراءتها على أنّها من أخيك. وحين تجد أنّ طبيبًا ينجح في علاج حالات مرضيّة كثيرة، فتثق به، وتتعرّف بأنّه طبيب حاذق. وحين تستعمل إبرة بنسلين في عشر حالات مرضية، وتُصاب فور استعمالها في كلّ مرّة بأعراض معيّنة متشابهة، فتستنتج من ذلك أنّ في جسمك حساسيّة خاصّة تجاه مادّة البنسلين.

أنت في كلّ هذه الاستدلالات وأشباهها تستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

والعالِم الطبيعي في بحثه العلمي، حينما يلاحظ خصائص معيّنة في المجموعة الشمسيّة فيتعرّف في ضوئها على أنّها كانت أجزاء من الشمس وانفصلت عنها. وحينما استدلّ على وجود "نبتون" أحد أعضاء هذه المجموعة، واستخلص ذلك من ضبط مسارات حركات الكواكب قبل أن يكتشف نيوتن بالحسّ. وحينما استدلّ في ضوء ظواهر معيّنة على وجود الإلكترون قبل التوصّل إلى المجهر الذرّي. إنّ العالِم الطبيعي في كلّ هذه الحالات ونظائرها يستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

وهذا المنهج نفسه هو منهج الدليل الّذي نجده فيما بعد لإثبات الصانع الحكيم، وهذا ما سنراه بكل وضوح عند استعراض ذلك الدليل.

الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي
إنّ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يُمكن تلخيصه إذا توخّينا البساطة والوضوح في الخطوات الخمس الآتية:
 
 
 
 
 
97

83

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 أولًا: نواجه في مجال الحسّ والتجربة ظواهر عديدة.


ثانيًا: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها، والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضيّة صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعًا. ونقصد بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر، أنّها إذا كانت ثابتة في الواقع، فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر الّتي هي موجودة فعلًا.

ثالثًا: نُلاحظ أنّ هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع، ففرصة تواجد تلك الظواهر كلّها مجتمعة ضئيلة جدًّا، بمعنى أنّه على افتراض عدم صحّة الفرضيّة تكون نسبة احتمال وجودها جميعًا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة جدًّا؛ كواحد في المئة، أو واحد في الألف وهكذا.

رابعًا: نستلخص من ذلك أنّ الفرضيّة صادقة، ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر الّتي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.

خامسًا: إنّ درجة إثبات تلك الظواهر للفرضيّة المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسيًّا مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعًا إلى احتمال عدمها1 على افتراض كذب الفرضيّة. فكلّما كانت هذه النسبة أقلّ كانت درجة الإثبات أكبر، حتّى تبلغ في حالات اعتياديّة كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحّة الفرضية2.

وفي الحقيقة، هناك مقاييس وضوابط دقيقة لقيمة الاحتمال، تقوم على أساس نظريّة الاحتمال. وفي الحالات الاعتياديّة، يُطبّق الإنسان بصورة فطريّة تلك المقاييس والضوابط تطبيقًا قريبًا من الصواب بدرجة كبيرة. ولهذا سنكتفي هنا بالاعتماد على التقييم الفطري لقيمة الاحتمال، دون أن ندخل في تفاصيل معقّدة عن الأسس المنطقيّة والرياضيّة لهذا التقييم.
 

1 نقصد باحتمال عدمها، احتمال عدمها، أو عدم واحد منها على الأقل.
2 وفقًا للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي، لاحظ الأسس المنطقية للاستقراء، ص355 - 410.
 
 
 
 
 
98

84

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 هذه هي الخطوات الّتي نتّبعها عادة في كلّ استدلال استقرائي يقوم على أساس حساب الاحتمال، سواءً في مجال الحياة الاعتياديّة، أو على صعيد البحث العلمي، أو في مجال الاستدلال المقبل على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.


تقييم المنهج
الآن لنُقيّم هذا المنهج من خلال التطبيقات والأمثلة كما وعدنا سابقًا، وسنبدأ بالأمثلة من الحياة الاعتياديّة أوّلًا.

مثال الرسالة البريديّة
قُلنا آنفًا إنّك حين تتسلّم رسالة بالبريد وتقرؤها، فتتعرّف على أنّها من أخيك لا من شخص آخر ممّن يرغب في مواصلتك ومراسلتك، تُمارس بذلك استدلالًا استقرائيًّا قائمًا على حساب الاحتمال. ومهما كانت هذه القضية (وهي أنّ الرسالة من أخيك) واضحة في نظرك، فهي في الحقيقة قضيّة استنتجتها بدليل استقرائي وفقًا للمنهج المتقدّم.

فالخطوة الأولى، تواجه فيها ظواهر عديدة من قبيل أنّ الرسالة تحمل اسمًا يتطابق مع اسم أخيك تمامًا، وقد كتبت فيها الحروف جميعًا بالطريقة نفسها الّتي يكتب بها أخوك الألف والباء والجيم والدال والراء إلى آخر الحروف، وقد نسّقت الكلمات والفوارق بينها بالطريقة نفسها الّتي اعتادها أخوك، وأسلوب التعبير ودرجة متانته، وما يشتمل عليه من نقاط‍ قوّة أو ضعف، يتلاءم مع ما تألفه من أساليب التعبير لدى أخيك، وطريقة الإملاء، وبعض الأخطاء الإملائيّة الموجودة في الرسالة هي الطريقة نفسها والأخطاء نفسها الّتي اعتادها أخوك في كتابته، والمعلومات الّتي تتحدّث عنها الرسالة هي معلومات يعرفها أخوك عادة، والرسالة تطلب منك أشياء، وتُعلن عن آراء تتوافق تمامًا مع حاجات أخيك وآرائه الّتي تعرفها عنه، هذه هي الظواهر.
 
 
 
 
 
99

85

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وفي الخطوة الثانية، تتساءل هل الرسالة قد أرسلها أخي إليّ حقًّا، أو أنّها من شخص آخر يحمل الاسم نفسه؟

وهنا تجد أنّ لديك فرضيّة صالحة لتفسير وتبرير كلّ تلك الظواهر، وهي أن تكون هذه الرسالة من أخيك حقًّا، فإذا كانت من أخيك فمن الطبيعي أن تتوافر كلّ تلك المعطيات الّتي لاحظتها في المرحلة الأولى.

وفي الخطوة الثالثة، تطرح على نفسك السؤال التّالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي، بل كانت من شخص آخر، فما هي فرصة أن تتواجد فيها كلّ تلك المعطيات والخصائص الّتي لاحظتها في الخطوة الأولى؟ إنّ هذه الفرصة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات؛ لأنّنا لكي نحصل على كلّ تلك المعطيات والخصائص في هذه الحالة، يجب أن تفترض أنّ شخصًا آخر يحمل الاسم نفسه، ويُشابه أخاك تمامًا في طريقة رسم كلّ الحروف من الألف والباء والجيم والدال وغيرها وتنسيق الكلمات، ويُشابهه أيضًا في أسلوب التّعبير، وفي مستوى الثقافة اللغويّة والإملائيّة، وفي عدد من المعلومات والحاجات، وفي كثير من الظروف والملابسات. هذه مجموعة من الصدف يُعدّ احتمال وجودها جميعًا ضئيلًا جدًّا، وكلّما ازداد عدد هذه الصدف الّتي لا بدّ من افتراضها، تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر.

والأسس المنطقيّة للاستقراء تُعلّمنا كيف نقيس الاحتمال، وتُفسر لنا كيف يتضاءل هذا الاحتمال، ولماذا يتضاءل تبعًا لازدياد عدد الصدف الّتي يفترضها، ولكن ليس من الضروري أن ندخل في تفاصيل ذلك؛ لأنّها معقّدة وصعبة الفهم على القارئ الاعتيادي. ومن حسن الحظ إنّ ضآلة الاحتمال لا تتوقّف على فهم تلك التفاصيل، كما لا يتوقّف سقوط الإنسان من أعلى إلى الأرض على فهمه لقوّة الجذب واطّلاعه على المعادلة العلميّة لقانون الجاذبيّة، فلست بحاجة إلى شيء لكي تحسّ بأنّ احتمال أن يتواجد شخص يُشابه أخاك في كلّ تلك الظروف والحالات بعيد جدًّا، وليس البنك   
 
 
 
 
100

86

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 بحاجة إلى استيعاب الأسس المنطقيّة للاستقراء لكي يعرف أنّ درجة احتمال أن يسحب كلّ زبائنه ودائعهم في وقت واحد ضئيل جدًا، بينما احتمال أن يسحب واحد أو اثنان ليس كذلك.


وفي الخطوة الرابعة، تقول ما دام تواجد كلّ هذه الظواهر في الرسالة أمرًا غير محتمل إلّا بدرجة ضئيلة جدًّا، على افتراض أنّ الرسالة ليست من أخيك، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلًا، أن تكون الرسالة من أخيك.

وفي الخطوة الخامسة، تربط بين الترجيح الّذي قرّرته في الخطوة الرابعة (ومؤدّاه أنّ الرسالة قد أُرسلت من أخيك)، وبين ضآلة الاحتمال الّذي قررته في الخطوة الثالثة (وهي ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الرسالة من دون أن تكون من أخيك). ويعني الربط بين هاتَيْن الخطوتَيْن أنّ درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسيًّا مع ضآلة هذا الاحتمال. فكلّما كان هذا الاحتمال أقلّ درجة، كان ذلك الترجيح أكبر قيمة وأقوى إقناعًا. وإذا لم تكن هناك قرائن عكسيّة تنفي أن تكون الرسالة من أخيك، فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة أنّ الرسالة من أخيك. هذا مثال من الحياة اليومية لكلّ إنسان.

مثال نظرية نشوء الكواكبب
لنأخذ مثالًا آخر للمنهج من طرائق العلماء في الاستدلال على النظريّة العلميّة وإثباته، وليكن هذا المثال نظريّة نشوء الكواكب السيّارة ونصّها: "إنّ الكواكب السيّارة التسعة أصلها من الشمس حيث انفصلت عنها كقطع ملتهبة قبل ملايين السنين". والعلماء يتّفقون على العموم في أصل النظريّة، ويختلفون في سبب انفصال تلك القطع عن الشمس.
 
 
 
 
 
101

87

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 والاستدلال على أصل النظريّة الّتي يتّفقون عليها يتمّ ضمن الخطوات الآتية:


الخطوة الأولى

لاحظ فيها العلماء ظواهر عدّة أدركوها بوسائل الحسّ والتجربة، منها:
1 - إنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها كلّ منها من غرب إلى شرق.
2 - إنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها، أي من غرب إلى شرق.
3 - إنّ الأرض تدور حول الشمس في مدار يوازي خطّ استواء الشمس؛ بحيث تكون الشمس كقطب والأرض نقطة واقعة على الرحى.
4 - إنّ نفس العناصر الّتي تتألّف منها الأرض موجودة في الشمس تقريبًا.
5 - إنّ هناك توافقًا بين نسب العناصر من ناحية الحكم بين الشمس والأرض، فالهيدروجين مثلًا هو العنصر السائد فيهما معًا.
6 - إنّ هناك انسجامًا بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها، وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها.
7 - إنّ هناك انسجامًا بين عمري الأرض والشمس حسب تقدير العلم لعمر كلٍّ منهما.
8 - إنّ باطن الأرض ساخن وهذا يُثبت أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّة جدًّا.

هذه بعض الظواهر الّتي لاحظها العلماء في الخطوة الأولى من وسائل الحسّ والتجربة.

الخطوة الثانية
وجد العلماء أنّ هناك فرضيّة يُمكن أن تُفسّر بها كلّ تلك الظواهر الّتي لوحظت في الخطوة الأولى، بمعنى أنّها إذا كانت ثابتة في الواقع، فهي تستبطن هذه الظواهر جميعًا، وتُبرّرها. وهذه الفرضية هي: "إنّ الأرض كانت جزءًا من الشمس وانفصلت عنها
 
 
 
 
 
102

88

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 لسبب من الأسباب"، فإنّه على هذا التقدير يُتاح لنا أن نُفسّر على أساس ذلك الظواهر المتقدّمة.


أمّا الظاهرة الأولى وهي "أنّ حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها لأنّ كلًا منهما من غرب إلى شرق"؛ فلأنّ سبب هذا التوافق في الحركة يُصبح واضحًا على تقدير صحّة تلك الفرضية؛ لأنّ أيّ جسم يدور إذا انفصلت منه قطعة، وبقيت منشدّة إليه بخيط أو غيره، فإنّها تدور بنفس اتجاه الأصل بمقتضى قانون الاستمراريّة.

وأمّا الظاهرة الثانية وهي "أنّ دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها أي من غرب إلى شرق"، فالفرضيّة المذكورة تكفي لتفسيرها أيضًا؛ لأنّ الجسم المنفصل من جسم يدور من غرب إلى شرق يأخذ نفس حركته بمقتضى قانون الاستمراريّة.

وكذلك الأمر في الظاهرة الثالثة أيضًا.

وأمّا الظاهرة الرابعة والخامسة اللّتان تُعبّران عن توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها، فهما مفهومتان بوضوح على أساس أنّ الأرض جزء من الشمس؛ لأنّ عناصر الجزء نفس عناصر الكل.

وأمّا الظاهرة السادسة وهي "الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها، وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها"، فقد عرفنا أنّ فرضيّة انفصال الأرض عن الشمس تعني أنّ حركتَيّ الأرض ناشئتان من حركة الشمس، وهذا يُفسّر لنا الانسجام المذكور ويُحدّد سببه.

وأمّا الظاهرة السابعة وهي "الانسجام بين عمري الأرض والشمس"، فمن الواضح تفسيرها على أساس نظرية الانفصال. وكذلك الأمر في الظاهرة الثامنة الّتي يبدو منها أنّ الأرض في بداية نشوئها كانت حارّة جدًّا، فإنّ فرضية انفصالها عن الشمس تستبطن ذلك.
 
 
 
 
 
103

89

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 الخطوة الثالثة

يُلاحظ أنّه على افتراض أنّ نظريّة انفصال الأرض عن الشمس ليست صحيحة، فمن البعيد أن تتواجد كلّ تلك الظواهر وتتجمّع؛ لأنّها تكون مجموعة من الصدف الّتي ليس بينها ترابط مفهوم. فاحتمال تواجدها جميعًا على تقدير عدم صحّة النظرية المذكورة ضئيل جدًّا؛ لأنّ هذا الاحتمال يتطلّب منّا مجموعة كبيرة من الافتراضات لكي نُفسّر تلك الظواهر جميعًا.

فبالنسبة إلى انسجام حركة الأرض حول الشمس مع حركة الشمس حول نفسها، في أنّها من غرب إلى شرق، لا بدّ أن نفترض أنّ الأرض كانت جرمًا بعيدًا عن الشمس، سواءً أخُلقت وحدها أم كانت جزءًا من شمس أخرى انفصلت عنها ثمّ اقتربت من الشمس. ونفترض أيضًا أنّ الأرض المنطلقة حيًّا دخلت في مدارها حول الشمس، دخلت في نقطة تقع في غرب الشمس، فتدور حينئذٍ من غرب إلى شرق، أي مع اتجاه حركة الشمس حول نفسها، إذ لو كانت قد دخلت في مدار الشمس في نقطة تقع في شرق الشمس لكانت تدور من شرق إلى غرب.

وبالنسبة إلى التوافق بين حركة الأرض حول نفسها ودوران الشمس حول نفسها، في أنّ الاتجاه من غرب إلى شرق نفترض مثلًا أنّ الشمس الأخرى الّتي انفصلت عنها الأرض افتراضًا كانت تدور من غرب إلى شرق.

وبالنسبة إلى دوران الأرض حول الشمس في مدار يوازي خط استواء الشمس، نفترض مثلًا أنّ الشمس الأخرى الّتي انفصلت عنها الأرض كانت واقعة في نقطة عمودية على خطّ الاستواء للشمس.

وبالنسبة إلى توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها، لا بدّ أن نفترض أنّ الأرض أو الشمس الأخرى الّتي انفصلت عنها الأرض قد كانت تشتمل على نفس عناصر هذه الشمس، وبنسب متشابهة..
 
 
 
 
 
104

90

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وبالنسبة إلى الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها، وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها، نفترض مثلًا أنّ الشمس الأخرى الّتي انفصلت عنها الأرض انفجرت بنحو أعطت للأرض المنفصلة نفس السرعة الّتي تتناسب مع حركة شمسنا.

وبالنسبة إلى الانسجام بين عمرَيْ الأرض والشمس وحرارة الأرض في بداية نشوئها، نفترض مثلًا أنّ الأرض كانت قد انفصلت من شمس إلى أخرى، نفس عمر شمسنا، وأنّها انفصلت على نحو أدّى إلى حرارتها بدرجة كبيرة جدًّا.

وهكذا نُلاحظ أنّ تواجد جميع تلك الظواهر على تقدير عدم صحّة فرضيّة الانفصال يحتاج إلى افتراض مجموعة من الصدف الّتي يعدّ احتمال وجودها جميعًا ضئيلًا جدًّا، بينما فرضيّة الانفصال وحدها كافية لتفسير كلّ تلك الظواهر والربط بينها.

الخطوة الرابعة
نقول ما دام تواجد كلّ هذه الظواهر الملحوظة في الأرض أمرًا غير محتمل إلّا بدرجة ضئيلة جدًّا على افتراض أنّ الأرض ليست منفصلة عن هذه الشمس، فمن المرجّح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلًا أن تكون الأرض منفصلة عن الشمس.

الخطوة الخامسة
في الخطوة الخامسة، نربط بين ترجيح فرضيّة انفصال الأرض عن هذه الشمس كما تقرّر في الخطوة الرابعة، وبين ضآلة احتمال أن تتواجد كلّ تلك الظواهر في الأرض من دون أن تكون منفصلة عن هذه الشمس كما تقرّر في الخطوة الثالثةـ إنّ الربط بين هاتَيْن الخطوتَيْن يعني أنّه كلّما كانت ضآلة الاحتمال الموضحة في الخطوة الثالثة أشدّ، كان الترجيح الموضّح في الخطوة الرابعة أكبر.

وعلى هذا الأساس، نستدلّ على نظرية انفصال الأرض والشمس، وبهذا المنهج حصل العلماء على قناعة كاملة بذلك..
 
 
 
 
 
105

91

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 كيف نُطبّق المنهج لإثبات الصانع؟


بعد أن عرفنا المنهج العام للدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات، وبعد أن قيّمنا هذا المنهج من خلال تطبيقاته المتقدّمة، نُمارس تطبيقه الآن على الاستدلال لإثبات الصانع الحكيم، وذلك باتّباع الخطوات السابقة نفسها.

الخطوة الأولىى
نُلاحظ توافقًا مطّردًا بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة الإنسان ككائن حيّ، وتيسير الحياة له على نحو نجد أنّ أيّ بديل لظاهرة من تلك الظواهر يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلّها. وفيما يلي نذكر عددًا من تلك الظواهر كأمثلة.
تتلقّى الأرض من الشمس كمّية من الحرارة تمدّها بالدفء الكافي لنشوء الحياة، وإشباع حاجة الكائن الحيّ إلى الحرارة لا أكثر ولا أقلّ. وقد لوحظ‍ علميًّا أنّ المسافة الّتي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقًا كاملًا مع كمّية الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض. فلو كانت ضعف ما عليها الآن لما وجدت حرارة بالشكل الّذي يُتيح الحياة، ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى الدرجة الّتي لا تُطيقها حياة.

كما نُلاحظ أنّ قشرة الأرض والمحيطات تحتجز - على شكل مركّبات - ا‍لجزء الأعظم من الأوكسجين، حتى أنّه يُكوّن ثمانية من عشرة من جميع المياه في العالَم. وعلى الرغم من ذلك، ومن شدّة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيماويّة للاندماج على هذا النحو، فقد ظلّ جزء محدود منه طليقًا يُساهم في تكوين الهواء. وهذا الجزء يُحقّق شرطًا ضروريًّا من شروط الحياة؛ لأنّ الكائنات الحيّة من إنسان وحيوان بحاجة ضروريّة إلى أوكسجين لكي تتنفّس، ولو قُدّر له أن يحتجز كلّه ضمن مركّبات لما أمكن للحياة أن توجد.

وقد لوحظ أنّ نسبة ما هو طليق من هذا العنصر تتطابق تمامًا مع حاجة الإنسان، 
 
 
 
 
106

92

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وتيسّر حياته العمليّة. فالهواء يشتمل على 21% من الأوكسجين، ولو كان يشتمل على نسبة كبيرة لتعرّضت البيئة إلى حرائق شاملة باستمرار، ولو كان يشتمل على نسبة صغيرة لتعذّرت الحياة، أو أصبحت صعبة، ولما توفّرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مَهمّاتها.


ونُلاحظ ظاهرة طبيعيّة تتكرّر باستمرار ملايين المرّات على مرّ الزمن، تُنتج الحفاظ على قدر معيّن من الأوكسجين باستمرار، وهي أنّ الإنسان - والحيوان عمومًا - حينما يتنفّس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقّاه الدم، ويوزّع في جميع أرجاء الجسم، ويُباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام، وبهذا يتولّد ثاني أوكسيد الكربون الّذي يتسلّل إلى الرئتَيْن ثمّ يلفظه الإنسان. وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار، وهذا الغاز بنفسه شرطٌ ضروري لحياة كلّ نبات. والنبات بدوره حين يستمدّ ثاني أوكسيد الكربون، يفصل الأوكسجين عنه، ويلفظه ليعود نقيًّا صالحًا للاستنشاق من جديد.

وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات أمكن الاحتفاظ بكمّية من الأوكسجين، ولولا ذلك لتعذّر هذا العنصر، وتعذّرت الحياة على الإنسان نهائيًّا. إنّ هذا التبادل نتيجة آلاف من الظواهر الطبيعية الّتي تجمّعت حتّى أنتجت هذه الظاهرة الّتي تتوافق صورة كاملة مع متطلّبات الحياة.

ونُلاحظ أنّ النتروجين بوصفه غازًا ثقيلًا أقرب إلى الجمود، ويقوم عند انضمامه إلى الأوكسجين في الهواء بتخفيفه بالصورة المطلوبة للاستفادة منه.

كما يُلاحظ هنا أنّ كمّية الأوكسجين الّتي ظلّت ضيّقة في الفضاء، وكمّية النتروجين الّتي ظلّت كذلك، منسجمتان تمامًا، بمعنى أنّ الكمّية الأولى هي الّتي يُمكن للكمّية الثانية أن تُخفّفها، فلو زاد الأوكسجين أو قلّ النتروجين لما تمّت عمليّة التخفيف المطلوبة..
ونُلاحِظ أنّ الهواء كمّية محدودة في الأرض، قد لا يزيد على جزء من مليون من 
 
 
 
 
107

93

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 كتلة الكرة الأرضيّة. وهذه الكميّة بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض، فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلّت لتعذّرت الحياة أو تعسّرت، فإنّ زيادتها تعني إفساح المجال للشهب الّتي تترى في كلّ يوم لإهلاك من على الأرض واختراقها بسهولة.


ونُلاحظ أيضًا أنّ قشرة الأرض الّتي كانت تمتصّ ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين محدّدة، على نحو لا يُتيح لها أن تمتصّ كلّ هذا الغاز. ولو كانت أكثر سمكًا لامتصته، ولهلك النبات والحيوان والإنسان.

ونُلاحظ أنّ القمر يبعد عن الأرض مسافة محدّدة، وهي تتوافق تمامًا مع تيسير الحياة العمليّة للإنسان على الأرض. ولو كان يبعد عنّا مسافة قصيرة نسبيًّا لتضاعف المدّ الّذي يُحدثه، وأصبح من القوّة على نحو يزيح الجبال من مواضعها.

كما نُلاحظ وجود غرائز كثيرة في الكائنات الحيّة المتنوّعة، ولئن كانت الغريزة مفهومًا غيبيًّا لا يقبل الملاحظة والإحساس المباشر، فما تُعبّر عنه تلك الغرائز من سلوك ليس غيبيًّا، بل يُعدّ ظاهرة قابلة للملاحظة العلميّة تمامًا. وهذا السلوك الغريزي في آلاف الغرائز الّتي تعرّف عليها الإنسان في حياته الاعتياديّة، أو في بحوثه العلميّة، يتوافق باستمرار مع تيسير الحياة وحمايتها، وإنّه يبلغ أحيانًا إلى درجة كبيرة من التعقيد والإتقان. وحينما نُقسّم ذلك السلوك إلى وحدات، نجد أنّ كلّ وحدة قد وضعت في الموضع المنسجم تمامًا مع مَهمّة تيسير الحياة وحمايتها.

والتركيب الفسلجي للإنسان يُمثّل ملايين من الظواهر الطبيعية والفسلجية. وكلّ ظاهرة في تكوينها ودورها الفسيولوجي وترابطها مع سائر الظواهر تتوافق باستمرار مع مَهمّة تيسير الحياة وحمايتها. فمثلًا نأخذ مجموعة الظواهر الّتي ترابطت على نحو يتوافق تمامًا مع مَهمّة الإبصار وتيسير الإحساس بالأشياء بالصورة المفيدة.

إنّ عدسة العين تلقي صورة على الشبكيّة الّتي تتكوّن من تسع طبقات، وتحتوي 
 
 
 
 
108

94

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 الطبقة الأخيرة منها على ملايين الأعواد والمخروطات قد رُتّبت جميعًا في تسلسل يتوافق مع أداء مهمّة الإبصار، من حيث علاقات بعضها ببعضها الآخر، وعلاقاتها جميعًا بالعدسة. إذا استثنينا شيئًا واحدًا وهو أنّ الصورة تنعكس عليها مقلوبة، غير أنّه استثناء موقّت فإنّ الإبصار لم يربط بهذه المرحلة لكي نحس بالأشياء وهي مقلوبة، بل أُعيد تنظيم الصورة في ملايين أخرى من خويطات الأعصاب المؤدّية إلى المخ حتّى أخذت وضعها الطبيعي، وعند ذلك فقط تتمّ عملية الإبصار وتكون عندئذ متوافقة بصورة كاملة مع تيسير الحياة.


حتّى الجمال والعطر والبهاء كظواهر طبيعيّة تجد أنّها تتواجد في المواطن الّتي يتوافق تواجدها فيها مع مهمّة تيسير الحياة، ويؤدّي دورًا في ذلك. فالأزهار الّتي تُرك تلقيحها للحشرات، لوحظ أنّها قد زوّدت بعناصر الجمال والجذب من اللّون الزاهي، والعطر المغري بنحو يتّفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة، وتيسير عمليّة التلقيح. بينما لا تتميّز الأزهار الّتي يحمل الهواء أو لقاحها عادة بعناصر الإغراء وظاهرة الزوجية على العموم، والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لأنثاه في الإنسان وأقسام الحيوان والنبات على النحو الّذي يضمن التفاعل واستمرار الحياة مظهر كوني آخر للتوافق بين الطبيعة ومهمّة تيسير الحياة، قال تعالى: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ1، هذه هي الخطوة الأولى.

الخطوة الثانية
نجد أنّ هذا التوافق المستمرّ بين الظاهرة الطبيعيّة ومَهمّة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يُمكن أن يُفسّر في جميع هذه المواقع بفرضيّة واحدة، وهي أنْ تفترض صانعًا حكيمًا لهذا الكون قد استهدف أن يوفّر في هذه الأرض عناصر الحياة وتيسير مَهمّتها، فإنّ هذه الفرضيّة تستبطن كلّ هذه التوافقات.
 

1 سورة النحل، الآية 18.
 
 
 
 
109

95

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 الخطوة الثالثة

نتساءل إذا لم تكن فرضيّة الصانع الحكيم ثابتة في الواقع، فما هو مدى احتمال أن تتواجد كلّ تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعيّة ومَهمّة تيسير الحياة دون أن يكون هناك هدف مقصود؟ ومن الواضح أنّ احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة المرسلة إليك في مثال سابق من شخص آخر غير أخيك، ولكنّه يُشابهه في كلّ الصفات بعيدًا جدًّا؛ لأنّ افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنّك باحتمال أن تكون هذه الأرض الّتي نعيش عليها بكلّ ما تضمّه من صنع مادة غير هادفة ولكنّها تُشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات.

الخطوة الرابعة
نُرجّح لدرجة لا يشوبها الشك أن تكون الفرضيّة الّتي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحة، أي أنّ هناك صانعًا حكيمًا.

الخطوة الخامسة
نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال الّتي قرّرناها في الخطوة الثالثة. ولمّا كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلة كلّما ازداد عدد الصدف الّتي لا بدّ من افتراضها فيه - كما عرفنا سابقًا - فمن الطبيعي أن يكون هذا الاحتمال ضئيلًا لدرجة لا تُماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أيّ قانون علمي؛ لأنّ عدد الصدف الّتي لا بدّ من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر من عددها في أيّ احتمال مناظر، وكلّ احتمال من هذا القبيل فمن الضروري أن يزول1.
 

1 بقيت مشكلتان لا بد من تذليلهما: إحداهما: إنّه قد يُلاحظ أنّ البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم، تبعًا لمنهج الدليل الاستقرائي. هو أن تكون كل ظاهرة من الظواهر المتوافقة، مع مهمة تيسير الحياة، ناتجة عن ضرورة عمياء في المادة، بأن تكون المادة بطبيعتها، وبحكم تناقضاتها الداخلية، وفاعليتها الذاتية، هي السبب فيما يحدث لها من تلك الظواهر، والمقصود من الدليل الاستقرائي تفضيل فرضية الصانع الحكيم، على البديل المحتمل؛ لأن تلك لا تستبطن إلا إفتراضًا واحدًا وهو افتراض الذات الحكيمة، بينما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة، بعدد الظواهر موضوعة البحث، فيكون احتمال البديل، احتمال لعدد كبير من الوقائع والصدف، فيتضاءل حتى يفنى، غير أنّ هذا إنّما يتم، إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنة لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضًا، مع أنّه قد يبدو أنّها مستبطنة لذلك؛ لأن الصانع الحكيم الّذي يُفسّر كلّ تلك الظواهر في الكون يجب أن نفترض فيه علومًا وقدرات بعدد تلك الظواهر، وبهذا كان العدد الّذي تستنبطه هذه الفرضية، من هذه العلوم والقدرات، بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء فأين التفضيل؟ الجواب: إن التفصيل ينشأ من أن هذه الضرورات العمياء، غير مترابطة. بمعنى أن افتراض أي واحدة منها يعتبر حياديًا، تجاه افتراض الضرورة الأخرى وعدمها، وهذا يعني في لغة حساب الاحتمال، أنها حوادث مستقلة، وأن احتمالاتها مستقلة، وأما العلوم والقدرات الّتي يتطلبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر، موضوعة البحث، فهي ليس مستقلة لأن ما يتطلّبه صنع بعض الظواهر من علم وقدرة هو نفس ما يتطلّبه صنع بعض آخر من علم وقدرة، فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات، ليس حياديًا تجاه افتراض الآخر، بل يستبطنه، أو يرجحه بدرجة كبيرة، وهذا يعني بلغة حساب الاحتمال أنّ احتمالات هذه المجموعة من العلوم والقدرات، مشروطة، أي إنّ احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الآخر، كبيرًا جدًا وكثيرًا ما يكون يقينًا. وحينما نريد أن نقيم احتمال مجموعة هذه العلوم والقدرات، واحتمال مجموعة تلك الضرورات، ونوازن بين قيمتي الاحتمالين، يجب أن نتبع قاعدة ضرب الاحتمال المقررة في حساب الاحتمال، بأن نضرب قيمة احتمال كل عضو في المجموعة، بقيمة احتمال عضو آخر فيها، وهكذا، والضرب كما نعلم، يؤدي إلى تضاؤل الاحتمال، وكلما كانت عوامل الضرب أقل عددًا، كان التضاؤل أقل، وقاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والاحتمالات المستقلة تبرهن رياضيًا على أن في الاحتمالات المشروطة، يجب أن نضرب قيمة احتمال عضو، بقيمة احتمال عضو آخر، على افتراض وجود العضو الأول، وهو كثيرًا ما يكون يقينًا أو قريبًا من اليقين، فلا يؤدي الضرب إلى تقليل الاحتمال إطلاقًا، أو إلى تقليله بدرجة ضئيلة جدًا، خلافًا للاحتمالات المستقلة، الّتي يكون كل واحد منها حياديًا تجاه الاحتمال الآخر، فإنّ الضرب هناك يؤدي إلى تناقص القيمة بصورة هائلة، ومن هنا ينشأ تفضيل أحد الافتراضين على الآخر (من أجل توضيح قاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والمستقلة راجع كتاب الأسس المنطقية للاستقراء ص153 - 154 ).
والمشكلة الأخرى: هي المشكلة الّتي تنجم عن تحديد قيمة الاحتمال القبلي، للقضية المستدلّة استقرائيًا، ولتوضيح ذلك يقارن بين تطبيق الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع وتطبيقه في المثال السابق لإثبات أنّ الرسالة الّتي تسلّمتها بالبريد هي من أخيك ويُقال بصدد هذه المقارنة، أن سرعة اعتقاد الإنسان في هذا المثال بأنّ الرسالة قد أرسلها أخوه، تتأثّر بدرجة هذه القضية، قبل أن يفضّ الرسالة ويقرأها - وهو ما نسميه بالاحتمال القبلي للقضية - فإذا كان قبل أن يفتح الرسالة، يحتمل بدرجة خمسين في المئة مثلًا، أن أخاه يبعث إليه برسالة، فسوف يكون اعتقاده بأن الرسالة من أخيه وفق الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي سريعًا، بينما إذا كان مسبقًا، لا يحتمل أن يتلقّى رسالة من أخيه بدرجة معتدّ بها، إذ يغلب على ظنّه مثلًا بدرجة عالية من الاحتمال أنه قد مات فلن يسرع إلى الاعتقاد بأن الرسالة من أخيه، ما لم يحصل على قرائن مؤكدة، فما هو السبيل في مجال إثبات الصانع لقياس الاحتمال القبلي للقضية؟
والحقيقة أنّ قضية الصانع الحكيم، سبحانه، ليست محتملة، وإنّما هي مؤكّدة بحكم الفطرة والوجدان، ولكن لو افترضنا أنّها قضية محتملة، نريد إثباتها بالدليل الاستقرائي فيمكن أن نقدر قيمة الاحتمال القبلي بالطريقة التالية:
نأخذ كل ظاهرة من الظواهر، موضوعة البحث بصورة مستقلة، فنجد أنّ هناك افتراضين، يمكن أن نُفسّرها بأي واحد منهما: أحدهما افتراض صانع حكيم، والآخر افتراض ضرورة عمياء في المادة، وما دمنا أمام افتراضين، ولا نملك أي مبرر مسبق لترجيح أحدهما على الآخر، فيجب أن نقسم رقم اليقين عليهما بالتساوي، فتكون كل واحد منهما خمسين في المئة، ولما كانت الاحتمالات الّتي في صالح فرضية الصانع الحكيم مترابطة ومشروطة، والاحتمالات الّتي في صالح فرضية الضرورة العمياء مستقلة وغير مشروطة، فالضرب يؤدي باستمرار إلى تضاءل شديد، في احتمال فرضية الضرورة العيماء، وتصاعد مستمر في احتمال فرضية الصانع الحكيم. والّذي لاحظته بعد تتبّع وجهد، أنّ السبب الّذي جعل الدليل الاستقرائي العلمي لإثبات الصانع تعالى لا يلقى قبولًا عامًا على صعيد الفكر الأوروبي وينكره فلاسفة من أمثال رسل، هو عدم قدرة هؤلاء المفكّرين على التغلب على هاتين النقطتين اللتين، أشرنا هنا إلى الطريقة، الّتي يتم التغلب بها عليهما. ومن أجل التوسّع في كيفية تطبيق مناهج الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع مع التغلب على هاتين النقطتين، يمكن أن يراجع كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، ص441 - 451.
 
 
 
 
 
110

96

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 وهكذا تصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أنّ للكون صانعًا حكيمًا بدلالة كلّ ما في 

 

 

 

 

 

111


97

الفصل الثّاني: الدليل العلمي الاستقرائي لإثبات وجود الله عزّ وجل

 هذا الكون من آيات الاتّساق والتدبير.


قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَ لَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ 1.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ2.

قال تعالى: ﴿ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ ٣ ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ 3.
 

1 سورة فصلت، الآية 53.
2 سورة البقرة، الآية 164.
3 سورة الملك، الآيتان 3 - 4.
 
 
 
 
 
112

98

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 الفصل الثّالث 

 

خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر


خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر1


قال تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ 2.

من المواضيع الأساسيّة جدًّا في رحاب متطلّبات العصر هو موضوع النسخ والخاتميّة، وهنا نقطتان:

مسألة النسخ

النسخ في القوانين الإلهيّة والتشريعيّة
إنّ النسخ يعني تبديل حكم مكان حكم آخر، وهذا شائع بين من يضع القوانين من النّاس؛ حيث يكثر الناسخ والمنسوخ في هذه القوانين. ولا مانع في ذلك ما دام يحدث في الوسط البشري؛ لأنّ الإنسان قد يضع قانونًا في فترة معيّنة، ويظهر له خطأ ذلك القانون بعد تلك الفترة، فيقوم بإصلاحه أو تبديله.
 

1 الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، الإسلام ومتطلبات العصر، ص 285، ترجمة علي هاشم، دار الأمير، بيروت لبنان، ط. أولى 1992.
2 سورة الأحزاب، الآية 40.
 
 
 
 
113

99

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 لكن كيف يصدق هذا على قانون شرّعه الله تعالى؟ وكيف يتحقّق النسخ في أمثال هذا القانون الإلهيّ؟ فلا يُمكن أن يتصوّر الإنسان أنّ قانونًا إلهيًّا قد وُضِع على لسان الأنبياء، ويبدّل أو يصلح بعد فترة لثبوت خطئه مثلًا؛ لأنّه يتعارض مع علم الله وإحاطته بكلّ شيء، بل مع المفهوم الإلهيّ الربّاني الّذي يستلزم العلم بكلّ شيء، كان أم لم يكن أم سيكون. في حين أنّ طبيعة النسخ تعكس جهل المشرّع، والله منزّه عن ذلك. إذًا، لا بدّ أن نلتمس سبب النسخ في مجال آخر يتبيّن من خلاله أنّه لا يدلّ على الجهل أو القصور، وليس هو كذلك قطعًا. لكن من جهة أخرى نرى أنّ النسخ موجود في القوانين الإلهيّة، من خلال تعدّد النبوّات؛ حيث يأتي نبيّ من الأنبياء بشريعة لفترة معيّنة، وبعد مدّة يأتي نبيّ آخر فينسخ شريعة النبيّ الّذي سبقه، وهذا ما نُلاحظه في شريعة نوح الّتي نسخت شريعة آدم، وشريعة إبراهيم الّتي نسخت شريعة نوح، وكذا شريعة موسى الّتي نسخت شريعة إبراهيم، وشريعة عيسى الّتي نسخت شريعة موسى، علمًا أنّه ليس لقوانين عيسى عليه السلام شريعة تقريبًا، لكن لا نقاش في أنّها ناسخة إجمالًا. ثمّ بعد ذلك جاء الإسلام، فنسخ جميع الشرائع الّتي سبقته. فالنسخ - إذًا - موجود في القانون الإلهي، لكنّه ليس من جنس النسخ الحاصل في القوانين البشريّة، كما أنّ سببه غير السبب الموجود فيها، وهو النقص أو الخطأ في القانون نفسه، فالنسخ يصدق على العلوم البشريّة الناقصة، ولا يصدق على العلم الإلهيّ.


أسباب النسخ في القوانين الإلهيّة
ما هو سبب النسخ - إذًا - في القوانين الإلهيّة؟ وكيف يتحقّق؟ وما هي مبرّراته؟ من الأشياء المهمّة الّتي يجب أن نلتفت إليها - حسب رؤية متطلّبات العصر- هي أنّ الشرائع الّتي سبقت الإسلام كانت محدودة لعصر معيّن منذ بدايتها، ولم يكتب الله لها الخلود والأبديّة والدوام. فكلّ شريعة كانت تنسخ ما قبلها؛ وذلك لأنّها كانت مناسبة 
 
 
 
 
 
 
114

100

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 لعصرها فقط. وربّ سائل يسأل: إنّه لماذا لم يُشرّع الله شريعة واحدة خالدة تبقى ما دامت الحياة باقية؟ والجواب هو: لم يفعل الله ذلك مراعاة للظروف الزمنيّة؛ لأنّ لكلّ عصر متطلّباته الخاصّة به، فشريعة نوح أو شريعة إبراهيم عليهم السلام كانتا مناسبتَيْن لعصرَيْهما فقط، أمّا العصور الآتية فتتطلّب شرائع أخرى تبعًا لظروفها وأوضاعها.


ويُثار هنا سؤال وإشكال مهمّ حول هذا الموضوع، وهو: أنّه إذا كانت الشرائع تنسخ تبعًا للتبدّلات الحاصلة في كلّ عصر، فلا ينبغي أن تكون هناك شريعة يُطلق عليها: "الشريعة الخاتمة"، بل يجب أن تستمرّ النبوّات، ويتعاقب الأنبياء جيلًا بعد جيل، وينسخ اللّاحق شريعة السابق؛ وذلك لأنّ عجلة الزمن لا تتوقّف عند حدٍّ، لا سيّما وأنّ علّة النسخ - على رأي - لا ترتبط بنقص الشريعة اللّاحقة أو عدم استيعابها لمتطلّبات المرحلة وتطوّراتها، بل ترتبط بعنصر الزمن، والزمن لا يتوقّف عند نقطة من النقاط. وعلى ضوء هذه القاعدة، تكون شريعة كلّ نبيّ محدودة لعصرها فقط، وإذا ما انقضى ذلك العصر فلا بدّ من نبيّ جديد وشريعة جديدة.

هذا ملخّص السؤال المثار والإشكال الموجّه ضدّ علاقة النبوّة الصميميّة بعنصر الزمن، ويُثيره كثيرون منهم: البهائيّون الّذين يُركّزون عليه باستمرار. لا لكي يكون دليلًا يدعم توجّهاتهم المنحرفة، بل ليكون هزّة تضعضع مفهوم الخاتميّة في الشريعة الإسلاميّة، تحقيقًا لمآرب تتلاءم وتعليماتهم.

والآن، نُريد أن نتعرّف إلى الكيفيّة الّتي يتسنّى للشريعة من خلالها أن تقف عند حدّ لا تتجاوزه، ولا تسمح لشريعة أخرى بالمجيء وتنسخ تعاليمها. وبعبارة أخرى، كيف تكون الشريعة شريعة خاتمة؟ وهذا ما يتعلّق بالإسلام؛ لأنّه الشريعة الخاتمة فقط.
أودّ أن أذكر هنا بأنّ اليهود يُنكرون النسخ، ولا يرون إمكانيّة نسخ أيّة شريعة. وادّعاؤهم هذا غير صحيح؛ لأنّه لو لم يكن نسخ الشريعة ممكنًا، فما بال شريعة
 
 
 
 
 
 
115

101

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 موسى عليه السلام الّتي نسخت ما قبلها من الشرائع، وهم يؤمنون بها؟ وبناءً على قولهم، فلا حاجة حتّى إلى شريعة موسى نفسه، ويجب أن تكون فقط تلك الشريعة الّتي نزلت في بداية عمر الدنيا، وتبقى هي نفسها حتّى الأبد. وهذا غير ممكن طبعًا.


ضرورة الخاتميّة في الإسلام
إنّ مفهوم الخاتميّة في الإسلام من ضروريّات الدّين، ولو أنكرها أحد فإنّه يُصبح منكرًا للإسلام نفسه؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يُعرف بالنبيّ الخاتم منذ الأيّام الأولى لبعثته، وأوّل من آمن به لم يؤمن به بصفته نبيًّا فقط، بل آمن به بصفته نبيًّا خاتمًا. وهذا ما أجمع عليه المسلمون منذ الصدر الأوّل، حيث كانوا يعرفونه بهذا العنوان. وقد تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لا نبيّ بعدي"، عندما خاطب عليًّا عليه السلام في غزوة "تبوك" وقد خلّفه على المدينة، بعد أن أعرب عن شوقه إلى الجهاد في ركاب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رجل الحرب والجهاد، فقال له: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي"1. وهذا حديث متّفق عليه بين المسلمين، وقد نقله الخاصّة والعامّة، علمًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن محتاجًا في حقيقة الأمر إلى قائد عسكري باسل كأمير المؤمنين عليه السلام، وإلّا لما استغنى عنه، وهو بطل الحروب والغزوات جميعها؛ وذلك لأنّ "تبوك" كانت مناورة عسكرية على حدود الجزيرة العربية لترويع الروم وتخويفهم، فلم تكن هناك ضرورة لالتحاق الإمام بها، وهذا هو الّذي دعا النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرع الأسماع بها ليتناقلها أرباب الحديث والتاريخ والسيرة، ويُسجّلوها فضيلة من فضائل الإمام، ومنقبة من مناقبه الّتي جلّت عن الإحصاء والتعداد. وقد خصّص المرحوم العلّامة "مير حامد حسين الهنديّ" (المتوفى سنة 1306ه)جزءًا من كتابه "عبقات الأنوار" للروايات المتعدّدة الّتي ذكرها أبناء العامّة حول هذا الحديث. على أيّ حال، فإنّ الخاتميّة من ضروريّات الدين الإسلامي.
 

1 الكليني، الكافي، ج 1، ص107.
 
 
 
 
116

102

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 فلسفة الخاتميّة

يجب علينا هنا أن نناقش موضوع الخاتميّة من جوانبه المختلفة. فقبل كلّ شيء، إنّ الحاجة إلى نبيّ جديد ليست من أجل التشريع فقط؛ لأنّ النبيّ - بالدرجة الأولى - يأتي معه بمعارف إلهيّة، وينقل حقائق عن عالم الغيب، مثل: معرفة الله، صفاته الألوهيّة، معرفة المعاد، وكلّ ما يرتبط بسير الإنسان نحو الآخرة، بالإضافة إلى القوانين والمقرّرات والأحكام الّتي يأتي بها النبيّ. هناك المعارف الّتي ينقلها إلى الناس، ولو أخذنا بعين الحسبان قضيّة الخاتميّة من وحي تلك المعارف المنقولة إلى النّاس، فستكون كالآتي:

لكلّ نبيّ من الأنبياء قابليّة محدودة، ومنزلة خاصّة به، ويطرح المعارف الإلهيّة على الناس، متناسبة مع درجة سيره وسلوكه، أو مع مقدار عروجه في عالم الملكوت. وبعبارة أخرى، يُبيّن كلّ نبيّ من الأنبياء ذلك المقدار من المعارف الإلهيّة، والّذي استطاع كشفها أو الّذي بلغته مكاشفتها - على حدّ تعبير العرفاء- ولا يستطيع أن يُبيّن أكثر من ذلك لمحدوديّة نفسيّته وقابليّته. ولكن لو جاء بعده مكاشف آخر، وهو أعلى منه درجة، فستكون مهمّته أكبر؛ إذ يتولّى تفصيل المعارف والحقائق الّتي يتلقّاها. وعلى ضوء هذا، يُمكن أن تكون مكاشفة تلك المعارف ناقصة، ويُمكن أن تكون كاملة، ويُمكن أن تكون أكمل، وهكذا فهي درجات، أعلاها وآخرها هو ما يصطلح عليه "بالختام" وهو الحدّ النهائيّ في المكاشفة؛ حيث يحصل فيه ذلك الإنسان المرشّح، وهو الإنسان الكامل طبعًا، على أكبر مقدار من المعارف الإلهيّة بالشكل الّذي يُمكنه كشف ما يُمكن كشفه منها، بحيث لا يترك أيّ مجال لإنسان بعد أن يحظى بما حظي به من مكاشفة ومعارف تامّة. فهو قد بلغ الحدّ الأعلى من المعارف، ونال الشرف الأسمى باتصاله الكامل باللّوح المحفوظ، وله درجة لم ولن يصلها أحد أبدًا. ولو فرضنا مجيء شخص بعده، فإمّا أن يكون في درجته، أو أكثر أو أقل منه. فإن كان أقلّ منه، 
 
 
 
 
 
117

103

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 فلا يعبأ به، كما لا تكون له تلك المنزلة العلميّة والاجتماعية وذلك لنقصه. وإن كان في درجته أو أكثر منه على سبيل الفرض، فليس هناك من شيء وراء تلك الأشياء كي يتسنّى له كشفه، كما أنّه سيُكرّر نفس ما قاله الأوّل فيما لو صحّ بلوغه درجته.


ويكون مثل ذلك مثل من يريد أن يعرف ماذا يجري على سطح القمر، فيُرسل صاروخًا، ويقوم هذا بالتصوير ونقل الأخبار، ويزوّد من أرسله بمقدار من المعلومات، ثمّ يُرسل صاروخًا آخر فيأتي بمعلومات أكثر، وهكذا يواصل إرساله للصواريخ حتّى يصل حدًّا لم تبق فيه أيّة معلومات تكشفها تلك الصواريخ، ويقف عند نقطةٍ فوق قابليّاته وإمكانيّاته، ولو بقي هناك شيء فهو فوق طاقته.

لكن لو أراد استئناف إرساله للصواريخ أو روّاد الفضاء، فلا يأتون بجديد، بل سيُكرّرون المعلومات السابقة نفسها. وهكذا، فالخاتميّة تعني الختام، والفصل الكامل من وجهة نظر المعارف الإلهيّة. وعندما يتّخذ الفصل الكامل شكله الحقيقي، فلا معنى لوجود فصل آخر مغاير له. ولو فرضنا أنّ نبيًّا آخر في درجة النبيّ الخاتم فسيُكرّر نفس ما قاله ولا يأتي بجديد.

تفاوت درجات الأنبياء
في الوقت الّذي أتحدّث فيه عن موضوع النسخ والخاتميّة، أرى من الضروري التعرّض إلى نكتة لها علاقة بالموضوع، وهي: هل أنّ كلّ نبيّ أفضل من غير النبيّ؟ لا، إذ هناك من هم غير أنبياء، لكنّهم أفضل، ويمكن أن يكون هناك نبيّ وله شريعة، وهناك شخص تابع لنبيّ آخر، لكنّه أفضل من ذلك النبيّ صاحب الشريعة. فمثلًا نوح، أو إبراهيم، أو موسى وهم من الأنبياء ولهم شرائع، لكنّهم أقلُّ درجة من عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أو الصدّيقة الكبرى فاطمة عليها السلام، أو سائر الأئمة عليهم السلام، في حين أنّ هؤلاء ليسوا أنبياء وليسوا أصحاب شرائع، ولهم إحاطة بالمعارف الإلهيّة دونها إحاطة نوح وإبراهيم عليهم السلام، 
 
 
 
 
 
118

104

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 لكن بما أنّهم عاشوا في ظلال النبوّة الخاتمة، لذلك لم يكونوا من الأنبياء.


إنّ ما بيّنه النبيّ إبراهيم عليه السلام كان جديدًا، ولقد كشف عن أشياء لم تكن مكشوفة من قبل، لذلك فهو نبيّ من الأنبياء. أمّا علي بن أبي طالب عليه السلام، فلأنّه جاء بعد النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فلا يُمكن أن يكون نبيًّا. ولو فرضنا أنّه بلغ درجة لم يبلغها إبراهيم عليه السلام لكنّه أيضًا لا يُمكن أن يكون نبيًّا بحكم مجيئه بعد النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا لو كان أفضل من نوح وإبراهيم عليهم السلام مئة ألف درجة، وطوى المراحل العليا في العلم والمعرفة، والسلوك الأعلى في العرفان، فلا يُمكنه أن يكون نبيًّا أبدًا. ولو فرضنا أنّه كان في عصر النبيّ عيسى عليه السلام، أو بعد عصره، أو قبل عصر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لكان نبيًّا، ومن المستحيل أن لا يكون نبيًّا. ولكن بما أنّه جاء بعد النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فلا يُمكن أن يكون نبيًّا. وهذا المفهوم هو ما يوضّحه الحديث المتواتر المشهور: "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي".

حيث يُبيّن أنّ كلّ ما كان لهارون من موسى عليهم السلام كان لعليّ من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا النبوّة. فلا نبيّ بعد النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم أبدًا، وكما قال الشاعر: "لقد كشف كلّ ما كان وراء الحجاب"، هذا من ناحية المعارف.

متطلّبات العصر والقوانين
أمّا من ناحية القوانين، فإنّ موضوع متطلّبات العصر يرتبط بالقوانين لا بالمعارف. وكما ذكرت، فإنّ الشرائع تتبدّل بحكم تطوّر متطلّبات العصر، ولا بدّ لي أن أوضّح هذا الموضوع.

ما هو المقصود بمتطلّبات العصر؟
إذا كان القصد من متطلّبات العصر هو ما يُسمّونه اليوم بالمدنيّة، أو المدنيّة
 
 
 
 
 
 
119

105

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 المتطوّرة، فإنّ الحاجة إلى دين جديد مستمرّة على الدوام؛ وذلك لأنّ هذه المدنيّة المرتبطة بالحياة الاجتماعية، والّتي يكون مآلها إلى الوسائل الماديّة من علم وصناعة، تتفاوت من عصر إلى آخر. فما كان منها في عصر نوح لم يكن نفسه في عصر النبي إبراهيم عليه السلام. وكانت للبشرية في عصر النبيّ إبراهيم عليه السلام مدنية أكثر رقيًّا وتطوّرًا من ذي قبل، وكذلك في عصر النبيَّيْن موسى وعيسى عليه السلام، وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسم، وفي عصر ما بعد النبوّة حيث وصلت المدنيّة الإسلاميّة أوجها في القرنين الرابع والخامس. وفي عصرنا الحاضر، في القرن العشرين، فإنّ له مدنيّة أرقى وأعظم من القرن الرابع الهجري فضلًا عن عصر النبوّة الخاتمة.


فهذه المدنيّة في تبدّل وتطوّر. ولكن تلك المتطلّبات الّتي تستوجب تجدّد الشرائع هي ليست التطوّرات المدنيّة الملحوظة، وليست تطوّر المدنيّة بالمعنى المذكور سلفًا بل لها معنى آخر.

وسائل الهداية لدى الإنسان
للإنسان بحكم فطرته، وحكم ما ذكره أئمّة الدين، حجّتان؛ إحداهما باطنة وهي العقل. والثانية ظاهرة وهي النبيّ الحقيقي. ويحتاج هذا الإنسان إلى الهداية، وشعوره هذا هو نفسه نبوّة له وحجّة عليه، وهو وسيلة اقتضاها اللّطف الإلهيّ حتى يُبصر طريقه، ولكن طيّ ذلك الطريق الّذي يجب على الإنسان أن يعثر عليه يحتاج إلى وسيلة. وهنا لا بدّ من توضح الأمور الآتية:

أ ـ الهداية التكوينيّة:
الأهواء والغرائز تحكم وجود الإنسان، وتوجد كثير من الممارسات والأعمال لا بدّ للإنسان من ممارستها وإنجازها بحكم غريزته، علمًا أنّ حقيقة الغريزة لم تُكشف بعد. وفي هذا الإنسان جهازٌ أوتوماتيكيٌّ عجيبٌ يسّر وجوده. مثلًا في حنجرة الإنسان 
 
 
 
 
120

106

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 تقاطع، طريقان فيه من الخارج، وأخريان من الداخل. وهذه الطرق مجتمعة تُشكّل ذلك المفرق في آخر الحنجرة، وتتفرّع هذه الطرق من الأنف والفم والرئة والمعدة، ولا يعلم الإنسان بوجود هذا المفرق الّذي يكون فرعان منه مفتوحين في الظروف الاعتياديّة، وهما فرعا الأنف والرئة؛ حيث يتنفّس الإنسان بحريّة وطلاقة. كذلك لا يعلم أنّه عندما يضع اللّقمة في فمه ويمضغها، وبعد مضغها تخرج عن قدرته، إذ تنزل إلى المريء دون اختياره، لا يعلم أنّه فور نزول اللّقمة تنغلق ثلاثة فروع من ذلك المفرق أوتوماتيكيًّا، ويبقى فرع واحد مفتوحًا لاستقبال اللّقمة. وهذه الفروع هي: الفرع الّذي تدخل اللّقمة من خلاله، والثاني فرع الأنف حيث إذا ظلّ مفتوحًا فإنّه يُسبّب إزعاجًا للإنسان، والثالث الّذي يتصل بالرئة، وهذا أيضًا إذا ظلّ مفتوحًا فإنّه يُعرّض حياة الإنسان للخطر. ولا يبقى إذًا إلّا طريق المريء والمعدة، حيث تصل اللّقمة إلى هناك. يقوم هذا الجهاز بعمله آليًّا، ويؤدّي وظيفته بكلّ معرفة، وهذا لون من ألوان الهداية، فلا بدّ أخيرًا من أن تصل اللّقمة إلى المعدة، وهي لا تدري طبعًا أين ستكون وماذا ستفعل، ولكنّ الجهاز الموجّه لها يعلم ذلك، فهو هاد لها ولكلّ عمل من أعمال البدن.


ب ـ هداية العقل:
أمّا الهادي الآخر الّذي يحكم وجود الإنسان فهو العقل، حيث يكتشف الإنسان - من خلاله - كثيرًا من المسائل، ويُدرك مصالحه ومنافعه عن طريقه. فمثلًا، عندما يُعرض عليه عملان، فإنّه يُفكّر بانتخاب أحدهما، والعقل هو الّذي يقوم بهذا الدور. أمّا المجانين فإنّ غريزتهم المودعة بديل عن العقل الّذي حُرِموه، وتؤدّي هذه الغريزة دورها، كما يؤدّي العقل دوره عند أهله، فهم لا ينعمون بنعمة هذا الموجّه، علمًا أنّ لكلّ موجّه دورًا مختلفًا عن دور الموجّه الآخر. فالمساحة الّتي تؤدّي الغريزة فيها دورها محدودة، وهي غير مساحة الفكر، والحسن له مساحة أخرى، ومساحة العقل تختلف عنه أيضًا.
 
 
 
 
121

107

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 ت ـ هداية الوحي:

هناك هادٍ آخر للإنسان هو الوحي. ولا تعني هداية الوحي أنّها موجودة في كلّ إنسان بشكل تامّ، بل هي موجودة بشكل ناقص جزئيّ على شكل إلهامات محدودة. ولا يليق لهداية الوحي التامّة إلّا من يصطفيهم الله من أنبيائه؛ حيث يبعثهم إلى الناس بعد أن يُنزّل عليهم وحيه ليُبيّن لهم جملةً من الحقائق، ويدلّهم على طريق خيرهم وسعادتهم الّتي يحتاجون إليها. وهذه الحقائق والطرق ممّا لا سبيل للغريزة والحسّ والعقل لتبيينها والإرشاد إليها، وليس إلّا الوحي الّذي يسعف الإنسان ويوجّهه. ولذلك، فإنّنا عندما نقول إنّ الإنسان يحتاج إلى النبيّ، فإنّنا نقصد أنّه يحتاج إلى مسائل وأمور لا يُحقّقها له إلّا الوحي والدين، وتعجز الوسائل الأخرى عن تحقيق ذلك.

الوحي ومتطلبات العصر
قضيّة الوحي لا تختلف باختلاف العصور، ولكن تختلف باختلاف الاستعدادات والقابليّات. أعني أنّها لا تختلف وفق تطوّر المدنيّة، فبما أنّ المدنيّة تتبدّل وتتجدّد، لا بدّ أن يتبدّل القانون. كلّا، فلا تتأثّر قضيّة الوحي بالمدنيّة وتطوّرها، وليست لها أيّة علاقة بالمدنيّة؛ لأنّ الوحي يتبدّل من فترة إلى أخرى بحكم الاستعدادات الموجودة لدى الناس لتقبّل القوانين الإلهيّة وتعلّمها، فتجدّده تابع للتبدّلات الحاصلة في النوع الإنسانيّ. والمجتمع البشري كالفرد يمرّ بمرحلة الطفولة، فالنموّ، فالمراهقة، فالبلوغ. وحالة البشريّة في بدايتها تُشبه حالة الطفل في ضعف درجة تقبّلها، وكلّما تقدّمت خطوة إلى الأمام وازداد نموّها، كبر استعدادها. ووضعها كوضع التوجيهات الصادرة لطفل من الأطفال، فهي ثابتة، لكنّ الطفل غير مستعدّ لتنفيذها كلّها، وإذا ما نمت قابليّته، يصدر له قسم من تلك التوجيهات، ويبقى قسم قد يُنجزه الكبار أنفسهم، حتّى إذا وصل مرحلة البلوغ والنضج فإنّه يتقبّل كلّ ما يصدر له من توجيهات وتعليمات
 
 
 
 
 
 
 
122

108

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 بعد إرشاده إلى كافّة الأسس والمبادئ اللّازمة، ويظلّ على هذا الوضع، يعني وضع العمل بالتوجيهات والتعليمات، حتّى آخر حياته.


إنّ المبادئ والقوانين العامّة النابعة من الوحي، والّتي تحتاجها البشريّة، محدودة، وإنّ سبب عدم نزولها على البشريّة في مراحلها الأولى هو لأنّها كانت في مرحلة الطفولة، علمًا أنّ القوانين العامّة في جميع الأزمنة والعصور واحدة، ولكنّ البشرية غير مستعدّة لتلقّي جميع الأحكام دفعة واحدة، ولو نزلت دفعة واحدة لما كانت تستطيع تطبيقها أبدًا، فحجم الأحكام يتناسب مع استعداد البشرية في كلّ عصر، ولا بدّ لها من مشرف موجّه يُعلّم الناس كيفيّة التطبيق.

وعندما تصل البشرية مرحلة البلوغ والعقل الكامل، رحلة النضج وتفتّق الطاقات والقابليّات، إذ تُصبح قادرة على تقبّل القوانين الّتي هي أسس ومبادئ نظامها الاجتماعي والفردي، فلا بدّ من إبلاغها وتعليمها وتوجيهها. ويُقال لها - عندئذٍ - إنّ هذا هو الوحي التامّ الكامل الّذي لا بدّ له من هداية الناس وتعليمهم. وذلك أنّها قد بلغت تلك المرحلة الّتي تشعر فيها أن كلّ ما تحتاجه عن طريق الوحي، وكلّ ما ينبغي أن يُقال لها وتُطبّقه، أُبلغت به، وما عليها إلّا المحافظة عليه وتكييف حياتها معه.

الخاتميّة ومتطلّبات العصر

إنّ مرحلة الخاتميّة لا تعني أنّها مرحلة من مراحل التمدّن البشري، كما أنّ هذه المراحل ليست ملاكًا ومعيارًا لها. إنّها تعني تلك المرحلة الّتي وصلت فيها البشرية إلى حدًّ تستطيع معه استيعاب ووعي ما يعرض عليها من قوانين وأحكام، والاستفادة منها، وتطبيقها إلى الأبد عن طريق قوّة العقل المودعة فيها.

ويُمكننا تشبيه البشريّة في معاصرتها للنبوّات المختلفة بالطفل الّذي من شأنه
 
 
 
 
 
 
123

109

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 تمزيق الكتب وعدم المحافظة عليها. ففي القديم، كان الأطفال يُمزّقون سبع أو ثماني نسخ من جزء عمّ حتّى يحفظوه. والآن أيضًا يُمزّقون كتبهم المدرسيّة، على الرغم من كلّ العناية والإشراف والاهتمام من لدن آبائهم أو أمّهاتهم. فالطفل لا يملك القدرة على أن يُحافظ على كتبه. وكذلك البشريّة في المراحل السابقة، كانت غير قادرة على حفظ الكتب السماوية، بل مزّقتها وأتلفتها وضيّعتها. أين صحف إبراهيم عليه السلام؟ وأين توراة موسى عليه السلام؟ وأين إنجيل عيسى عليه السلام؟ ولو كان زرادشت نبيًّا، فأين كتاب "الابستا"1؟ فهذا يدلّ على أنّ البشريّة كانت غير ناضجة في تلك المراحل والإعصار، ولو كان القرآن نازلًا في تلك العصور، لكان حظّه حظّ غيره من الكتب السالفة الذكر، لكنّه نزل في وقتٍ بلغت البشريّة فيه نضجها. ولقد لاحظنا حقًّا أنّها وصلت إلى مرحلة من الوعي حافظت فيها على القرآن. وولّت تلك المراحل الّتي كانت تُمزّق فيها أمثاله من الكتب. والقرآن - بحمد الله - محفوظ، وحفظه يعكس الوعي والنضج اللّذَيْن تتحلّى بهما البشريّة.


فالوحي يلعب دورًا في إكمال النقص الّذي يتّسم به العقل، بل هو مكمّل ومتمّم له. فعندما يعجز العقل عن أداء وظيفته، يأتي الوحي ليُجبر هذا النقص. وعندما تصل البشريّة إلى ذلك المستوى الّذي تكون فيه مؤهّلة لتلقّي الوحي، ووعي تعليماته، والمحافظة على المبادئ الثابتة النابعة منه، ورعايتها، وعندما تكون صالحة للتطبيق والاجتهاد الّذي يعني استنباط الأحكام التفصيليّة لكلّ ما استجدّ من وقائع وأحداث من المصادر التشريعيّة المجملة. عندما يكون ذلك كلّه، تكون الخاتميّة، فهي غير مرتبطة - إذًا - بالتمدّن ومراحله ودرجاته حتّى يقول القائلون: كيف يُمكن أن يأتي بعد نوح إبراهيم، وبعد إبراهيم موسى، وبعد موسى عيسى، وبعد عيسى محمّد صلى الله عليه وآله وسم، وتنتهي النبوّات؟ فهل تتوقّف عجلة الزمن بعد خاتم الأنبياء حتّى لا تأتي أيّة شريعة؟ لا، فالزمن لا يتوقّف عند حدّ، بل هو في سير دائب. وإنّ ما حدث من تطوّرات منذ
 

1 ويطلق عليه المؤرّخون العرب أيضًا "أبستاق" و"بستاه" ويسمّيه الفرس "أوستا". (المترجم).
 
 
 
 
 
 
124

110

الفصل الثّالث: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 عصر النبوّة الخاتمة حتّى يومنا هذا أضعاف ما حدث منذ نبوّة نوح عليه السلام حتى النبوّة الخاتمة. فلا ترتبط النبوّات بأيّ لون من ألوان المدنيّة.


ولمَ جاء الأنبياء؟ وما هو مغزى احتياج الإنسان للوحي؟ فالنبيّ لم يأتِ ليكون بديلًا عن الفكر والعقل، كما لم يأت ليُعطّل القوى المودعة في الإنسان، ويقول له: لا تُفكّر! لا تستدلّ! لا تجتهد! فأنا أُنجز جميع الأعمال نيابة عنك. كلّا، فهذا خلاف النظم الّذي تقتضيه النواميس الطبيعية؛ لأنّ منطق الأنبياء يستلزم أن يُنجز الإنسان أعماله في حدود استطاعته وفكره وعقله. وأمّا الأعمال الخارجة عن قدراته، فيُساعده الوحي فيها ويُعينه عليها، ومثله في ذلك مثل الطفل الّذي يُرافق أباه، فإنْ استطاع المشي وحده، يتركه أبوه وشأنه، وإن لم يستطع يرفعه ويحتضنه. وهكذا الوحي بالنسبة إلى الإنسان، علمًا أنّ الأشياء الّتي يشعر الإنسان فيها باحتياجه للوحي محدودة منذ بداية الخليقة حتّى فنائها، ومنذ عصر آدم حتّى عصر خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسم ولكن على الرغم من هذه المحدوديّة، فلم تفوّض إليه الأمور، ويترك وشأنه، لذلك كان يتعاقب الأنبياء بين فترة وأخرى إلى أن بلغ مرحلة تأهّل فيها لتفويض الأمور إليه، وأصبح زمامها بيده، ودور الآخرين هو دور المراقبة والإشراف. وهذا نفسه يُلاحظ في عمل الأطبّاء حيث يتعاملون مع مرضاهم بأسلوبَيْن، أحدهما مع البسطاء منهم حيث لا يكتفون بإعطائهم الوصفة فقط، بل يشفعون ذلك بالمراقبة والرعاية. والثاني مع المثقّفين، حيث يسهل أمرهم بسماع كلام قليل، ويقنعون ببيانٍ مجمل.

إلى هنا، نكون قد عالجنا مسألة الخاتميّة، وظهر لنا بطلان من يقول: إذا كان لا بدّ من نسخ الأديان تبعًا لاختلاف الأزمنة والعصور، ينتفي مفهوم الخاتميّة إذًا، وإذا كانت لا تنسخ شريعة شريعة سبقتها، فموضوع الخاتميّة موضوع آخر.
 
 
 
 
 
 
125

111

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر1



تمهيد
قال تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ 2.

كنّا نحوم حول الخاتميّة وذلك لمناسبتها لموضوع متطلّبات العصر، فذكرنا أنّ الخاتميّة - أساسًا - مسألة مرتبطة بعامل الزمن، وأنّ مجيء شريعة بدل شريعة أخرى منسوخة مسألة تتعلّق بعنصر الزمن فقط، ولا تفسير آخر لها. ويتّفق العلماء كافّة على أنّ تعاقب الشرائع في فترات معيّنة يتّصل اتصالًا وثيقًا بالتطوّرات الحاصلة في كلّ فترة، أو بما يُسمّى بـ"متطلّبات العصر".

ويُثار هنا سؤال وهو: إذا كانت الشرائع بهذا الشكل، فلماذا تكون هناك شريعة خاتمة، ولماذا تقف النبوّة عند حدّ معيّن مع القفزات الّتي يقفزها عنصر الزمن؟ وأجبنا عليه بأنّ الّذين يثيرون هذا السؤال يخلطون بين شيئَيْن، فيتصوّرون أنّ تطوّرات العصور تعني تبدّل المدنيّات. ولذلك يجب أن يبعث في كلّ فترة نبيٌّ 
 

1 للشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، الإسلام ومتطلبات العصر.
2 سورة الأحزاب، الآية 40.
 
 
 
 
127

112

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 يتناسب والمدنيّة الموجودة. وبعبارة أخرى، تتناسب توجّهاته مع التقدّم العلمي والثقافي الحاصل. والحال هي ليست كذلك؛ لأنّ تبدّل المدنيّات لا يؤدّي إلى تبدّل القوانين. والسبب الرئيسي لنسخ الشرائع هو عدم استعداد الناس لوعي واستيعاب جميع حقائق هذه الشريعة أو تلك، وقصورهم عن فهم ووعي واستيعاب جميع حقائق هذه الشريعة أو تلك، وقصورهم عن فهم تعليماتها. وإذا ما نما وعيهم تدريجيًّا تنزل عليهم شريعة أكمل من سابقتها، وإذا تقدّموا أكثر تنزل عليهم شريعة أكمل من الّتي قبلها، وهكذا يستمرّ نزول الشرائع تبعًا لاستعدادات الناس حتّى يصلوا إلى مستوىً يستغنون به عن الوحي، ولا يبقى هناك شيء يحتاجون فيه إلى الوحي، أي إنّ احتياجهم إليه محدود. وإنّ هناك قضايا ومسائل سواء في دائرة المعارف الإلهيّة، أو في دائرة التعاليم الأخلاقية، والاجتماعية، خارجة عن حدود العقل والتجربة والعلم، أي إنّ الإنسان لا يستطيع الظفر بها عن طريق العلم. وبما أنّ العلم والعقل قاصران عن ذلك، يأتي الوحي ليقوم بدوره في رفد الناس وإغاثتهم. وليس من الضروري أن يستمرّ الوحي بصورة مباشرة في إلقاء ما عنده على البشرية إلى ما لا نهاية. وكحدّ أعلى، يكون الإلقاء لذلك المقدار الّذي يحتاجه الإنسان في وقت يكون مؤهّلًا لتقبّله أوّلًا، ومحافظًا عليه ثانيًا. فاستعدادات الناس وقابليّاتهم تبعث على نسخ الشرائع.


وقوع التحريف في الأديان السماويّة
هناك مسألة أخرى يجب أن تطرح بعد هذه المسألة، وهي أنّ قسمًا من حقائق الشريعة السابقة قد ناله التحريف على أيدي الناس، وظهر في قالب آخر، وهذا باعث آخر على تجدّد الشرائع والنبوّات.

فالتحريف الّذي طال بعض الشرائع سبب من أسباب تعاقب الأنبياء، مع العلم أنّ أحد الأعمال الّتي يقوم بها كلّ نبيّ إحياء تعاليم النبيّ السابق. وبعبارةٍ  
 
 
 
 
 
 
128

113

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 أخرى، فإنّ قسمًا من تعاليم كلّ نبي تُشبه تعاليم النبيّ الّذي كان قبله. ولا يخفى، فإنّ هذه التعاليم لم تبق على حالها كما كانت في أوّل نزولها، إذ تلاقفتها أيدي الناس فتلاعبت بها. وهذه من طبيعة الإنسان، حيث يُضيف ويحذف من كلّ تعليم يتلقّاه من معلّمه، وبعبارة أخرى يُحرّفه. وهذه من المسائل الّتي أقرّ بها القرآن الكريم، ودلّت على صحّتها التجارب البشريّة. فنجد القرآن مثلًا أقرّ ببعض تعاليم التوراة والإنجيل رغم أنّه نسخهما، ولمّا تلاقفتهما الأيدي وتلاعبت بهما، أعلن عن رفضه لهما بكلّ صراحة، ونادى بتركهما، وأخبر النّاس أنّهما غير التوراة والإنجيل الحقيقيَّيْن. وكذلك الأمر بالنسبة إلى ملّة إبراهيم عليه السلام الّتي ورد ذكرها في القرآن الكريم. قد استغلّتها قريش، إذ تعدّ نفسها تابعة لملّة إبراهيم عليه السلام، في حين لم يبق من تعاليم خليل الرحمن عليه السلام شيء يُذكر، حيث قامت بتحريفها وتبديلها بتعاليم من عنديّاتها، فاندرست تلك التعاليم الأصلية الحقيقية. وفي القرآن مثلٌ على هذا التلاعب والتحريف الّذي يحصل، إذ يقول: ﴿ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمۡ عِندَ ٱلۡبَيۡتِ إِلَّا مُكَآءٗ وَتَصۡدِيَةٗۚ1، فقد أوجب إبراهيم عليه السلام الصلاة. ولكن أيّة صلاة؟ إنّها الصلاة الحقيقيّة الّتي تعكس المعنى الواقعي للعبادة، والّتي تُمثّل العبادة بعينها، وما العبادة؟ إنّها الخضوع لربّ العالمين، والتسبيح والتنزيه والتحميد. وإذا كانت صلاة إبراهيم عليه السلام قد اختلفت في ظاهرها عن صلاتنا بعض الشيء، فليس مهمًّا؛ لأنّها تظلّ تلك الصلاة الّتي أرادها الله تعالى من حيث نوع أذكارها، وحمدها، وتمجيدها، وثنائها، وخضوعها، وتقديسها، وإظهار الذلّة والمسكنة فيها. ولكن جاءت قريش الّتي تدّعي أنّها على ملّة إبراهيم عليه السلام فغيّرتها وبدّلتها إلى ما عبّر عنه القرآن الكريم بالصفير والتصفيق، ففقدت الصلاة بذلك معناها ومحتواها.

 


1 سورة الأنفال، الآية 35.

 

 

 

129


114

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 التكاملية والاستمراريّة في نهج الأنبياء

ذكرت قبل قليل أنّ أحد الأعمال الّتي يقوم بها أيّ نبيّ من الأنبياء إحياء تعاليم الأنبياء السابقين الّتي لم ينلها التحريف. وهذه حقيقة نلمسها في القرآن الكريم حيث يقول جلّ من قائل: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ 1. هذه الآية تدلّ على أنّ الدين واحد، لكنّ الأهواء هي الّتي أوجدت الاختلاف بين الأديان. ولو حذفت منها تحريفات الناس وتصرّفاتهم فيها لظهرت لنا جميعها أنّها دين واحد، وماهية واحدة وطريقة واحدة. وفي صدد إبراهيم الخليل عليه السلام، يقول القرآن: ﴿ مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ 2، فاليهود كانوا يدّعون أنّ ما عندهم من تعاليم هي نفسها تعاليم إبراهيم الخليل عليه السلام، وكذلك النصارى كان لهم نفس الادّعاء، وأضافوا إليه أنّ تعاليمهم أكمل من تعاليم إبراهيم الخليل عليه السلام بل هي ناسخةٌ لها.

المهم أنّ إحياء أصل الدين مهمّة من مهمّات الأنبياء، وهو واحد منذ آدم عليه السلام حتّى نبيّنا الكريم صلى الله عليه وآله وسم، ولا اختلاف إلّا في الفروع. وكلّ نبيّ من الأنبياء عندما يأتي، فإنّ أحد الأعمال الّتي يقوم بها تشخيص الإضافات والتحريفات الّتي طالت رسالة النبيّ الّذي كان قبله.

الصراع بين التحريف ورسالات الأنبياء جميعًا
يُثار هنا سؤال هو: هل أنّ هذا التحريف يخصّ مرحلة ما قبل النبوّة الخاتمة، أو أنّه يشمل مرحلة ما بعدها أيضًا؛ بحيث يتمّ التلاعب في الدين، وتدخله الخرافات والأباطيل؟ والجواب هو: أنّه لا يخصُّ مرحلة دون أخرى، فكما كان قبل النبوّة الخاتمة 
 

1 سورة الشورى، الآية 13.
2 سورة آل عمران، الآية 67.
 
 
 
 
130

115

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 كذلك يكون بعدها؛ لأنّ طبيعة الإنسان واحدة لم تتغيّر. وهناك شعر معروف ينسب إلى الشاعر "نظامي"، وهو ليس له، يتحّدث فيه الشاعر عن التحريف الحاصل في الدين فيقول: "يتلاعبون بدينك أيّها الإنسان ويُحرّفون فيه، وقد أضافوا إليه من ألوان التزييف ما يجعلك عاجزًا عن معرفته".


فالتحريف أمر طبيعي وهو موجود في كلّ مرحلة، ولو لم يكن كذلك، فمن أين جاء هذا الاختلاف والتفاوت الّذي نُلاحظه في ديننا؟ فظهور البدع في الدين الخاتم أمر ممكن.

المصلح في الفكر الإسلامي
إنّ احتياج البشريّة إلى الإنسان المصلح قائمًا في ضوء ما تقدّم، وما ذكرنا من أنّ كلّ نبيّ يقوم بإصلاح دين النبيّ الّذي سبقه.

يُثار هنا سؤال وهو: إذا كانت الحاجة إلى إنسان مصلح قائمة، فكيف نُبرّر الخاتميّة؟ وكيف نُفسّرها في ضوء الحاجة إلى مصلح، وفي ضوء استعداد البشرية لتقبّل حقائق الوحي تقبّلًا تامًّا؟ أقول: إنّ هنا موضوعين: لا نقاش في أنّ الحاجة إلى المصلح والإصلاح موجودة في كلّ عصر وزمان، وهي موجودة في الدين الخاتم أيضًا. وما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا إمارتين من إمارات الإصلاح. وقد أُثر عن الأئمّة عليهم السلام: "وإنّ لنا في كل خلف عدولًا ينفون عنّا تحريف الغالين وانتحال المبطلين"1، فلا نقاش في أنّ الحاجة إلى الإصلاح والمصلح قائمة، ولكن من هو هذا المصلح؟ ومتى يكون وقت مجيئه؟ وهل هو موجود في كلّ مرحلة أو في بعض المراحل؟ وما هي الظروف الّتي يعيش فيها هذا المصلح؟ هذه الأسئلة بمجموعها تُشكّل الموضوع الثاني الّذي يتفرّع من الجواب.
 

1 راجع: الشيخ الكليني، الكافي، ج 6، ص 33.
 
 
 
131

116

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 وأُكرّر هنا ما ذكرته سلفًا، من أنّ الحاجة إلى مصلح موجودة دائمًا وأبدًا، وهي من المسائل المتّفق عليها، ولكن الاختلاف في ظروف ظهور هذا المصلح. ففي عصور الشرائع السابقة، لم يكن الناس من الكفاءة في مستوى ينهض من بينهم فيه من يضع حدًّا للتلاعب والتزييف، فلا بدّ لهم من نبيّ يأتي بمهمّة سماوية ليقوم بهذا العمل. أمّا في عصر النبوّة الخاتمة، فإنّ وجود الإصلاح والمصلحين سمة مميّزة لهذا العصر، بل من مختصّاته، وكذلك فالظروف مؤاتية له بحكم منطق الشريعة الخاتمة الّتي أكّدت على ظهور المصلحين وضرورة وجودهم. وإضافة إلى ذلك، فنحن الإماميّة نعتقد بوجود ذخيرة للإصلاح، وهو الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. وهذا ما ينسجم مع توجّهات النبوّة الخاتمة. كما أنّ الإصلاح بعد النبوّة الخاتمة لا يحتاج أن يكون المصلح نبيًّا. والإمام عندما يظهر فإنّه يظهر بصفته إمامًا لا نبيًّا. والإمام هو ذلك الإنسان الّذي يعلم ما في الإسلام علمًا وراثيًا عن طريق آبائه وأجداده الّذين علّم أحدهم الآخر دون أن يتتلمذوا على يد أستاذ؛ لأنّ أستاذهم الأوّل هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسم؛ حيث علّم أمير المؤمنين علي عليه السلام جميع علومه، وتلقّى الإمام عليه السلام الإسلام خالصًا نقيًّا، ثمّ انتقل إلى الأئمة عليهم السلام من بعده، فتوارثوه أبًا عن جد حتّى صار بيد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. فلا حاجة إلى وحي جديد؛ لأنه يُبيّن للناس ما جاء عن طريق الوحي الّذي نزل على جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسم.


إحياء الفكر الديني عبر الأزمنة
وأنا أتحدّث عن هذه المفاهيم، لا بدّ لي أن أتطرّق إلى موضوع يتعلّق بها، وهو موضوع إحياء الدين، الموضوع الّذي دارت حوله الخرافات والأباطيل. ووفّقت مرّةً أنْ أُلقي محاضرة حوله بعنوان "إحياء الفكر الديني"، وذلك في جلسة دينيّة كانت تُعقد شهريًّا، وذكرت هناك أنّ الدين - كأيّ حقيقة من الحقائق - يُصاب بأعراض. إنّ الدين كالماء الّذي ينبع من العين الصافية، بَيدَ أنّه يتلوّث بمجرد جريانه في الأنهار، ويجب
 
 
 
 
132

117

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 تطهيره وتعقيمه من هذه الملوّثات. لكن من المؤسف له هو ظهور أفكار منحرفة غريبة لوّثت هذا الدين العظيم، ومن حسن الحظ أنّ من مميّزات الدين الخاتم هو أنّه ذاته مقياس بأيدينا لتشخيص تلك الأفكار المنحرفة والتعرّف إليها.


لقد ظهرت فكرة إحياء الدين بين المسلمين أبّان القرنين الثاني والثالث الهجريَّيْن (مع العلم أنّها ظهرت في البداية بين عامّة المسلمين، ثم سرت إلى الإمامية). لقد أظهرت هذه الفكرة شعورًا بضرورة التجديد والإصلاح في الدين حيث تظهر فيه البدع، ويتعرّض إلى البلى والاندثار على مرّ التأريخ. فلا بدّ من التجديد فيه. ومثله في ذلك مثل السيارة المعطوبة التّي تصلح، أو البيت الّذي يُنظّف تنظيفًا تامًّا أو يصبغ في كلّ سنة. وهكذا، فتعاقب الأزمنة والعصور يُبلي الدين ويفقده رونقهُ. لذلك قال أصحاب هذا الاتّجاه، إنّ الله يبعث في كلّ مئة شخصٍ يُجدّد للأمّة دينها، وذلك لإصابته بالبلى، وتلوّثه بغبار السنين المتوالية، فهو يحتاج إلى من يُنظّفه ويُطهّره. لقد رأيت هذا في عدد من الكتب الّتي طالعتها، ورأيت أنّ عددًا من علمائنا يُطلق عليهم لقب "المجدّدين"، مثل "الميرزا الشيرازي"، حيث يُعبّرون عنه أنّه مجدّد الدين في أوّل القرن الرابع عشر، والمرحوم "الوحيد البهبهاني" مجدّده في أوّل القرن الثالث عشر، و"العلّامة المجلسي" مجدّده في أوّل القرن الثاني عشر، و"المحقّق الكركي" مجدّده في أوّل القرن الحادي عشر، وهكذا حتى يصل إلى القرن الثاني الهجري، فيقولون إنّ الإمام الباقر عليه السلام مجدّده في هذا القرن، والإمام الرضا عليه السلام مجدّده في أوّل القرن الثالث، و"الكليني" مجدّده في أوّل القرن الرابع، و"الطبرسي" في أوّل القرن الخامس، وهلمّ جرّا.

وقد نقل العلماء ذلك في كتبهم كـ"الميرزا حسين النوري" في ذكره لأحوال العلما،ء أو "محمّد باقر الخوانساري في كتابه "روضات الجنّات". وقد خطر في بالي أن أبحث عن الدليل الّذي يعتمد عليه دعاة التجديد للفكر الديني. فحينما بحثت ونقّبت، لم أر في أخبارنا ورواياتنا شيئًا من هذا القبيل، ولا أدري. فما هو المصدر الّذي يطمئن  
 
 
 
 
 
133

118

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 إليه في أمثال هذه الأفكار والمفاهيم؟ وبحثت كذلك في كتب إخواننا من عامّة المسلمين، فلم أعثر إلّا على حديث واحد في سنن "أبي داود" فقط. وقد روي عن "أبي هريرة" ونصّه: "إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدّد لها دينها"1 ولم ينقله من محدّثي العامّة غير "أبي داوود". ولا أدري كيف يقبله الإماميّة ويقرّون به؟


إنّه من الأحاديث المحظوظة حقًّا، وقد انفرد في نقله العامّة دون الإمامية. وراحوا يوردونه في كتبهم، ويُكثرون من التطرّق إليه وبحثه. ويُثيرون حوله الأسئلة الكثيرة ويُجيبون عليها هم أنفسهم، فمثلًا يقولون: هل يُجدّد هذا الشخص المقصود جميع الدين أو جزءًا منه؟ وهل هذا الشخص من العلماء أو من الخلفاء والسلاطين؟ وهل يتخصّص في جميع حقول الدين، أو يأتي شخص لكلّ حقل؟ فمثلًا يأتي أحد العلماء ليُجدّد في الحقل العلمي، ويأتي أحد الخلفاء أو السلاطين ليُجدّد الدين كلّه، مع العلم أنّه قد أقحم هؤلاء في الحديث من قبل الوضّاع الّذين تلاعبوا به إرضاءً للخلفاء والحكّام، وتزلّفًا لهم بسبب مصالحهم الخاصّة، إذ كيف يطلق لقب المجدّد على أحد العلماء، ولا يطلق على أحد الخلفاء!؟ فقالوا: يظهر في كلّ قرن خليفة يصلح للأمّة دينها، فمثلًا ظهر "عمر بن عبد العزيز" في أوّل القرن الثاني، و"هارون الرشيد" في أوّل القرن الثالث، وهكذا..

وعندما تفرّقوا إلى أربعة مذاهب اعتبارًا من القرن السابع، قالوا: هل يأتي مجدّد لكلّ مذهب، أو يأتي مجدّد واحد للمذاهب الأربعة؟ بعد ذلك، قالوا: لكلّ مذهب من المذاهب مجدّد يُجدّد فيه على رأس كلّ قرن. فمجدّد مستقلّ لمذهب "أبي حنيفة"، وآخر لمذهب "الشافعي"، وثالث للمذهب "الحنبلي"، وهكذا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المذاهب الأخرى، فقالوا بظهور المجدّد في مذهب أهل البيت باعتباره من المذاهب 
 

1 سليمان بن الاشعث السجستاني، سنن أبي داوود، تحقيق محمد اللحام، نشر دار الفكر، ط1، 1990م، باب ما يذكر في قرن المائة، ج2، ص311. 
 
 
 
 
134

119

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 الإسلاميّة، وأيضًا في مذهب الخوارج الّذين يزعمون أنّهم من المذاهب الإسلاميّة.


فأطالوا البحث في هذا الموضوع دون طائل، واسترسلوا وأسهبوا فيه من خلال لصقه بكلّ مذهب من المذاهب، حتى تسرّب إلى الإمامية. وبرأيي، أنّ أول من نقله إلى الإماميّة هو الشيخ "البهائي" - أعلى الله مقامه - لا بصفته حديثًا صحيحًا حقيقيًّا، بل الرجل كتب رسالة صغيرة في أحوال الرجال، ومن ضمن الّذين تطرّق إليهم من الرجال هو: "الشيخ الكليني"، فقال عنه: ما أعظم هذا الرجل الّذي اعتبره علماء السنّة من مجدّدي المذهب الإمامي!

و"الشيخ البهائي" عالم متبحّر وله اطّلاع على كلام أهل السُنّة، وإنّ ما أراده هو أن يثبت فضيلة من فضائل "الشيخ الكليني"، لا ليقرّ بصحّة الحديث ويقطع به. لكن جاء بعده من كتبوا في علم الرجال فنقلوا كلامه، إلى أن صار من المسلّمات عندهم، واعتقدوا أنّه من الأحاديث الصحيحة. وظلّ على هذه الحال يتداوله الخلف عن السلف، وفي القرنَيْن الثاني عشر والثالث عشر (اللّذَيْن اعتقد أنّهما من أتعس الفترات الّتي مرّ بها الفكر الإمامي، ولو أردنا أن نُحدّد الفترة الّتي تعرّض فيها للانحطاط، وانخفض مستواه لكانت: هذين القرنين) صوّر القصّاصون أنّ هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة دون أن يفهموا جذوره، وتفنّنوا فاصطنعوا له تتمّة من عنديّاتهم، حيث إنّ العامّة وصلوا في تعداد المجدّدين حتى "الشيخ الكليني"، أمّا هؤلاء فقد واصلوا الشوط حتى أوّل القرن الرابع عشر، وانتخبوا "الميرزا الشيرازي" مجدّدًا لمذهب أهل البيت فيه، ولا أدري ما هو دليلهم؟


والمضحك أكثر أنّ الحاج "مير ملّا هاشم الخراساني" قد نقل هذا الموضوع في كتابه "منتخب التواريخ"، وذكر مجدّدي المذهب الإمامي قرنًا بعد قرن، لكنّه نفسه يرى عدم انسجام هذا الموضوع مع بعض مصاديقه، ويقف عند عظماء عباقرة لم يُحسبوا في عداد المجدّدين مع خدماتهم الجليلة الّتي قدّموها للدّين والأمّة، وذنبهم
 
 
 
 
 
135

120

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 أنّهم لم يكونوا على رأس المئة سنة، ومن هؤلاء "الشيخ الطوسي" الّذي قلّ أن يكون عالم مثله في خدماته الكبيرة الّتي قدّمها للإمامية، لكنّه لم يُذكر في عداد المجدّدين، وذنبه الوحيد أنّه لم يكن على رأس قرن، في حين أنّ هناك من هم أقلّ منه، لكنّهم ذكروا في عداد المجدّين.


واتّبع المؤلّف "الخراساني" أسلوب أهل السنّة عندما فرّق بين العلماء والخلفاء، أي أنّه اعتبر المجدّدين من كلا الطرفين لكنّه فصل بينهما. ذكر خلفاء أهل السنّة وملوكهم كـ"عمر بن عبد العزيز" و"المأمون"، وأمثالهم. وذكر من الإماميّة "عضد الدولة البويهي" وأمثاله حتّى وصل إلى "نادرشاه" أحد ملوك "إيران". والعجب كلّ العجب أن يعدّ هذا السفّاك الجزّار في عداد مجدّدي المذهب الإمامي. وهو الّذي أراق الدماء، وحصد رؤوس الناس ليشيد بها المنائر. ويذكر المؤلّف أنّ عظمة "نادرشاه" تكمن في أنه كان قائدًا عسكريًّا محنّكًا شجاعًا لا يعرف الخوف.

أقول: أحسَنَ "نادرشاه" في تعامله مع أعداء "إيران" آنذاك حيث طردهم منها، وقام بفتح الهند، ولكن ماذا فعل فيما بعد؟ إنّه ارتكب المجازر تلو المجازر، وأراق دماء الأبرياء، حتى نقل البعض أنّه ابتُلي بالجنون في آخر عمره، فكيف يعدّ هذا الملك المجنون مجدّدًا للمذهب الإماميّ؟ ما أتعس حظّنا إذًا! وأين وصل بنا المطاف؟

انظروا كيف كانت طريقته في أخذ الضرائب. لقد وضع في نظام الضرائب اصطلاحات من عنده، فكان يقول مثلًا: "اجلبوا لي ألفًا من المكان الفلاني". ولم يُعيّن هذا الألف، من أيّ شيء؟ كان يقول ذلك دون حساب، ودون تخطيط، فهل الألف المقصود ألف تومان، مثلًا، أو ألف رأس إنسان أو ألف شيء آخر؟ مثلًا كان يقول: "اجلبوا لي من مدينة ورامين ألفًا!؟"، ولكن ألف ماذا!؟ ولا أدري هل في ورامين تلك الثروة المطلوبة أو لا؟ المهم، ليس هناك فترة أتعس من تلك الفترة الّتي كانت في أواخر حكومة هذا الجلّاد.
 
 
 
 
 
136

121

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 في ضوء ما تقدّم، ينبغي الحيطة والحذر أكثر. وأودّ أن أسترعي انتباهكم إلى نقطة أخرى تتعلّق بهذا الحديث وأمثاله من المنقولات، وهي أنّه قد تكون له جذور من الأديان الأخرى، حيث جاء أتباعها وأقحموا معتقداتهم في ديننا. ولا يخفى، فإنّ فكرة التجديد في الدين كانت موجودة قبل الإسلام حيث يرون ظهور مجدّد للدين في كلّ ألف سنة، فالفكرة ليست نابعة من الإسلام، بل هي وليدة مرحلة ما قبل الإسلام. ويقول الشاعر "باب طاهر" في هذا الصدد: "يظهر في كلّ ألف سنة عظيم من العظماء، وقد ظهرت أنا في الألف سنةٍ الجارية".


كانت فكرة التجديد موجودة في "إيران" القديمة، وهي تعود للزرادشتيين حيث كانوا يعتقدون بظهور مجدّد كلّ ألف سنة. وقد قرأت في كتابهم أنّهم يُلقّبون الشخص الّذي يظهر كلّ ألف سنة "هوشيدر". وكان هناك شخص روّج للزرادشتية في "إيران"كثيرًا، وهو عدوٌّ من أعداء العرب وكلّ ما صدر عنهم، أي أنّه عدوّ الإسلام. وقد ألّف كتابًا حول الزرادشتية في جزأين. وتطرّق فيه إلى حياة "يعقوب ليث الصفّاري"، وادّعى فيه أنّه هو الّذي أوجد فكرة التجديد في كلّ ألف سنة. وهذا كلام كاذب لا ينسجم مع روح الإسلام؛ لأنّ الفكرة دخيلة عن طريق الآخرين.

والآن تذكّرتُ أنّي كُنتُ أُطالع كتاب "الفرائد" لـ"أبي الفضل الكلبايكاني"، وهو من مبلّغي البهائيّة الماهرين، فرأيته قد ذكر حديثًا زعم أنّه نقله من الجزء الثالث عشر من بحار الأنوار، وهو مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسم ومضمونه: "إن صلحت أمّتي فلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم". بعد ذلك يقول: "إنّ اليوم المقصود هنا هو اليوم المذكور في القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ 1، فإذا كانت الأمّة صالحة تعيش ألف سنة، وإذا كانت فاسدة تعيش خمسمئة سنة". ثمّ يؤيّد هذا الحديث ويصفه أنه من الأحاديث الصحيحة، لحاجةٍ في نفسه، حيث إنّه يعدّ محتالًا من الطراز الأوّل، فيقول: "إنّ هذه الأمّة الّتي فسقت كانت صالحة ولم تُعمّر أكثر من ألف سنة،
 

1 سورة الحج، الآية 47.
 
 
 
 
137

122

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 وذلك أنّ الأئمّة كانوا يُبيّنون للناس ما تعلّموه أبًا عن جدّ عن طريق الوحي الّذي نزل على جدّهم (صلى الله عليه وآله وسلّم، فكانت تلك الفترة فترة اتّساع رقعة الإسلام وبسط نفوذه). ويجب أن نقول إنّ عمر الأمّة بدأ بوفاة الإمام العسكري عليه السلام سنة (260هـ)، وهي سنة ولادة الأمّة، فإذا مضى عليها ألف سنة، فستحلّ سنة (1260هـ) وهي سنة ظهور "الباب". وهذا تأييد لحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسم من أنّ الأمّة إذا كانت صالحة عاشت ألف سنة، وبعبارة أخرى يظهر شخص يأتي بدين جديد ينسخ دين المصطفى صلى الله عليه وآله وسم، وإذا كانت فاسقة عاشت خمسمئة سنة.


فما أراده هذا المفتري هو أن يدعم البابيّة المنحرفة بأحاديث مختلقة لا صحّة لها. وعندما قرأت هذا الحديث حاولت أن أعثر عليه في "البحار"، فبحثت عنه كثيرًا، فلم أجده - ورأيت "الميرزا أبا طالب" قد خصّص صفحات من كتابه لهذا الحديث جوابًا على ادّعاء "الكلبايكاني" المذكور ظنًّا منه أنّ هذا الحديث موجود وصحيح، إذ لم يُصدّق أنّ "الكلبايكاني" قد اخترعه من عنده. وأنا كلّما بحثت عنه لم أجده. ووجدتُ شيئًا آخر في "البحار" نقلًا عن "كعب الأحبار"، لا عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسم، وهذا الّذي رأيته يذكر أنّ الناس في عصر الإمام المهدي عليه السلام إذا كانوا صالحين، يُعمّرون ألف سنة، وإذا كانوا فاسقين، يُعمّرون خمسمئة سنة.

فلينظر ذوو الألباب والبصائر كيف افترى "الكلبايكاني" على رسول الله صلى الله عليه وآله وسم، مدّعيًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسم قد قاله، وليس "كعب الأحبار"، في حين أنّ الحق ينطق بأنّ القائل هو "كعب الأحبار". فيا له من موضوع "يستفرغ العجب"، وكان مدهشًا إلى الحدّ الّذي جعلني أتّصل بأحد الإخوة ممّن لهم اطلاع كثير حول البهائية، وأُخبره به، وبما قاله "الكلبايكاني" في كتابه، و"الميرزا أبو طالب" في كتابه، وببحثي الطويل عنه وعدم عثوري عليه، فقال لي: "إنّ الحقّ معك، إذ كلّ الأحاديث المذكورة في الكتابموضوعة مختلقة ما عدا هذا الحديث المنسوب إلى كعب الأحبار".
 
 
 
 
 
138

123

الفصل الرّابع: خاتميَّة الأنبياء ومتطلّبات العصر

 وإن دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ على أنّ التساهل في الدين أمر قبيح مذموم. وماذا أحدث "أبو هريرة" من ضجّة بين عامّة المسلمين في حديثه الّذي نقله "أبو داوود" في سننه، وذكره علماء الإماميّة في كتبهم باهتمام بالغ إلى الحدّ الّذي أصبح فيه "نادرشاه" من مجدّدي المذهب؟. ويأتي محتال آخر مثل "الكلبايكاني" فيضع حديثًا آخر يعوّل عليه "الميرزا أبو طالب" دون أن يتأكّد منه، هل هو موجود في "البحار" أم لا؟ ويطالع مئات الأشخاص كتابه مصدّقين بالحديث الّذي أورده فيه في حين هو من الأحاديث الموضوعة.


لا، إنّ في الإسلام مصلحًا لكن الإصلاح على قسمين: إصلاح عام يخصُّ الإمام المهدي | - كمصلح عالمي حسب اعتقادنا نحن الإمامية - وهذا الإصلاح عالميّ عام، ولا علاقة له بموضوعنا، وهناك إصلاح خاص وهو محاربة البدع الّتي يفتريها المفترون. وهذا الإصلاح مهمّة جميع أفراد الأمّة في كل زمان ومكان، ولا يقتصر على عصر معيّن، أو أفراد معيّنين إذ يمكن ظهور مصلحين (حسب المعنى المذكور) في جميع الأعصار. ولم يشترط الباري جلّ وعلا أن تكون المدّة كلّ مئة سنة، أو كلّ مئتي سنة، أو خمسمئة سنة، أو ألف سنة. كلّا وألف كلّا. فلم تُحدّد المدّة أبدًا.

وبالنسبة إلى الأديان الأخرى، كان يجب أن يأتي نبيّ يُحيي دين النبيّ السابق، وهذا غير ممكن إلّا عن طريق النبوّة. أمّا بالنسبة إلى الدين الإسلامي العظيم، فإضافة إلى الاصطلاحات الجزئية، هناك إصلاح عالمي عام يجري على يد وصي النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
 
 
 
139

124

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 الفصل الخامس


العدل في الإسلام1


أسباب انحراف المسلمين عن العدل الإسلامي

1 ـ عدم تنفيذ الدستور الإسلامي:
عندما يُطرح السؤال: لماذا لم تُطبّق العدالة، على الرغم من تشديد الإسلام على هذا الأصل من أصول الدين، بل لم تمض فترة حتّى ابتُلي المجتمع الإسلامي بأقسى حالات الظلم وفقدان العدالة والتمييز؟ عندما يُطرح هذا السؤال يتبادر إلى الذهن، أول ما يُتبادر، أنّ المسؤوليّة في ذلك تقع على عدد من المسؤولين الّذين حالوا دون تنفيذ هذا الدستور الإسلامي؛ وذلك لأنّ تطبيق هذا المبدأ يبدأ من زعماء المسلمين، حيث لم يكن بعضهم جديرين بذاك المقام الكبير، فوقفوا في وجه تنفيذ العدالة، فكانت النتيجة أن أُصيب المجتمع الإسلامي بأنواع من الظلم والإجحاف والتمييز بين الناس.
 

1 الشيخ مطهري قدس سره، الشهيد، مرتضى، محمد وعلي النبي والإمام، دار الارشاد، الطبعة الأولى، بيروت، 2009، ص405.
 
 
 
 
 
141

125

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 إنّ هذا الجواب صحيح. إنّ أحد الأسباب هو أنّ المسؤولين عن تطبيق العدالة لم يُطبّقوه، بل فعلوا النقيض، وتاريخ الخلفاء الأمويّين والعباسيّين خير دليل على ذلك.


2 ـ سوء تفسير العدالة:
إنّ ذلك لم يكن العلّة كلّها، فثمّة علّة كبيرة أخرى، إذا لم تكن أشدّ تأثيرًا، فهي لا تقلّ عن الأولى أثرًا، وهذا ما أُريد بحثه في هذا الموضوع. وهذه العلّة الكبرى هي أنّ عددًا من علماء الإسلام أساؤوا تفسير العدل في الإسلام. وعلى الرغم من أنّ عددًا آخر من العلماء قاوموا ووقفوا في وجه أولئك، إلّا أنّهم غُلبوا على أمرهم.

إنّ قانونًا رفيعًا كالعدل يجب أوّلًا أن يُفسّر تفسيرًا جيّدًا، ويجب ثانيًا أن يوضع التنفيذ بصورة جيّدة أيضًا؛ وذلك لأنّه إن لم يُفسّر تفسيرًا جيدًا، فإنّ الّذين يريدون إجراءه إجراء جيدًا لا يستطيعون تحقيق ذلك؛ لأنّ تحقيقه يعتمد على تفسيره. وإذا لم يكونوا يريدون حسب نيّات المنفّذين السيّئة، فإنّهم يكونون قد أعانوا أولئك وخدموهم وجنّبوهم وجع الرأس الحاصل من الاصطدام بالناس، سواء أكان قصد المفسّرين سيّئًا من التفسير بهدف خيانة الناس، أم لم يقصدوا شيئًا من ذلك، وإنّما فسّروا القانون بحسب فهمهم المعوج.

وهذا ما حصل في تفسير أصل العدل. إنّ أغلب الّذين أنكروا أن يكون العدل من أصول الإسلام، أو لعلّهم جميعًا، لم يكونوا يحملون نيّة سيّئة في تفسيرهم الّذي سأذكره.

آثار النظرة السطحية والتعبدية للأمور
إنّ النظرة السطحية والتعبديّة الّتي كانوا يحملونها هي الّتي ألقت بالمسلمين في هذه الحال، فأوجدت للإسلام مصيبتين:  
 
 
 
 
 
142

126

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 الأولى: سوء النيّة في الإجراء والتنفيذ؛ وذلك لأنّ الخلافة منذ البدء لم توضع على المحور الصحيح، وجرى تفضيل العرب على غير العرب، وتفضيل قريش على القبائل الأخرى، وإطلاق يد بعضهم في الحقوق والأموال، وحرمان البعض الآخر من ذلك، حتّى قام الإمام علي عليه السلام بالخلافة بهدف محاربة هذا الانحراف، الأمر الّذي انتهى باستشهاده، ثمّ تفاقم الأمر على يد "معاوية" والّذين جاؤوا من بعده من الخلفاء.


أمّا المصيبة الثانية: فقد جاءتنا على يد العلماء السطحيّين التعبديّين، والّذين تمسّكوا بمجموعة من الأفكار الجافّة، فراحوا يشرحون ويُفسّرون العدالة تفسيرًا معوجًا، ممّا بقيت آثاره حتى وقتنا الحاضر.

أسباب ظهور علم الكلام والمتكلّمين
لقد ظهر علم الكلام في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري، حيث أخذ بعضهم يُجري بحوثه في أصول الدين وما يرتبط بالتوحيد، وصفات الله، والتكليف، والمعاد، فأطلق على هؤلاء اسم المتكلّمين.

أمّا السبب في إطلاق هذه التسمية عليهم، فثمّة أقوال لعدد من المؤرّخين بهذا الخصوص. قال البعض: إنّ السبب يعود إلى أنّ المسألة المهمّة الّتي ظلّت تشغل بال هؤلاء زمنًا طويلًا هي البحث في الحدوث وقدم القرآن المجيد، كلام الله. ويقول البعض: إنّ هؤلاء هم الّذين أطلقوا على فنّهم اسم الكلام في مقابل المنطق الّذي كان حديث الظهور، فكانوا يريدون اسمًا يرادف المنطق في المعنى وهو يعني النطق، فاختاروا لفظة الكلام الّتي تعني القول. وقال البعض الآخر منهم: إنّهم لمّا كانوا يكثرون من الجدل والبحث والكلام، فقد وصفوا بالمتكلّمين. على كلِّ حال، ظهرت جماعة تحت هذا الاسم.
 
 
 
 
 
 
143

127

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 موقعيّة بحث العدل الإلهي

من المسائل الّتي جرى فيها البحث عند المتكلّمين هي مسألة العدل الإلهي. وهل أنّ الله عادل أم لا؟ وكانت هذه المسألة على جانب كبير من الأهميّة؛ فقد تشعّبت وظهرت لها فروع كثيرة، حتّى وصل الأمر في النهاية إلى مبدأ العدل الاجتماعي الّذي هو موضوعنا. وقد طغت أهميّة هذه المسألة على مسألة كون القرآن حادثًا أم قديمًا، والّتي أثارت الكثير من الفتن، وأريق فيها الكثير من الدماء. ثمّ انقسم المتكلّمون في موضوع نفي العدل وإثباته إلى قسمَيْن اثنَيْن: العدليّون وغير العدليّين، أو الّذين يؤيّدون أصل العدل الإلهي، والّذين يُنكرون ذلك.

إنّ متكلّمي الشيعة من العدليّين على وجه العموم، ولهذا عرف منذ القديم، أنّ الشيعة يقولون بخمسة أصول للدين هي: التوحيد، العدل، النبوّة، الإمامة، والمعاد، أي إنّ الشيعة من حيث معرفة الإسلام، هم الّذين يرون للإسلام أصولًا خمسة.

مباحث العدل الإلهي

أ ـ العدل في النظام الكوني:
في موضوع العدل الإلهي، جرى البحث في قسمين: الأول: هل إنّ تكوين العالم، من سماء وأرض، وجماد، ونبات، وحيوان، ودنيا وآخرة، قد جرى وفق موازين العدالة، وإنّ أيًّا من الموجودات لا يُصيبه الظلم في الخلق؟ وهل إنّ هذا العالم قائم على العدالة؟ "أبالعدلِ قامت السماواتُ والأرضُ"؟ أو إنّ الله الّذي مشيئته مطلقة، وإنّه لا تتحدّد إرادته بشيء، وإنّه فعّال لما يشاء، ويفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، فإنّ الله يخلق وفق قانون وميزان وقاعدة. إنّ ما يفعله الله هو العدل، لا إنّ الله يفعل ما يقتضيه العدل.
ولهذا، ففي الجواب على ما إذا كان الله يوم القيامة، هل يُرسل هذا إلى الجنّة
 
 
 
 
 
144

128

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 وذاك إلى النار، بحسب موازين العدالة وقوانين العدل، أم لا؟ يقول هؤلاء: إنّ الأمر ليس كذلك، إذ ما من قانون يُمكن أن يحكم فعل الله، بل إنّ كلّ قانون إنّما هو تابع لفعله وأوامره، بما في ذلك العدل والظلم. فإذا أدخل المطيع الجنّة، والعاصي النار، فهذا عدل؛ لأنّ الله هو الفاعل. إنّ إرادته وفعله ليسا تابعَيْن لميزان، ولا خاضعَيْن لقانون، كلّ القوانين والموازين تابعة لإرادته.


كان هذا القسم يتعلّق بأصل العدل في الخلقة والموجودات ونظام العالم، وهل كان كلُّ ذلك على وفق العدل أم لا؟


ب ـ العدل في النظام التشريعي:
أمّا القسم الثاني فيتعلّق بنظام التشريع، بالدساتير الدينية، بالدستور الإلهي الّذي أتى به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسم، وأطلق عليه اسم الشريعة الإسلامية، كيف يكون أمرها؟

هل إنّ نظام التشريع تابع لميزان العدل أم لا؟ هل روعيت العدالة في وضعه، وهل كلُّ حكم نابع في حقيقته من مصلحة أو مفسدة واقعية، أم لا؟

عندما ننظر إلى قوانين الشريعة الإسلامية نجد أنّ مجموعة من الأشياء جائزة، بل واجبة، ومجموعة أخرى على العكس من الأولى قد حرمت ومنعت. فالصدق والأمانة من الواجبات، والكذب والخيانة والظلم من المنهي عنها.

لا مندوحة عن القول إنّ ما أمر به حسن، وإنّ ما نهي عنه قبيح، ولكن هل لأنّ الحسن حسن والقبيح قبيح أمر الإسلام بالأوّل ونهى عن الآخر؟ أم لأنّ الحسن لم يُصبح حسنًا إلّا لأنّ الإسلام قد أمر به، وإن القبيح قبيح لأنّ الإسلام قد نهى عنه؟ فلو كان العكس، أي إذا أمر بالكذب والخيانة والظلم لغدت هذه حسنة، وإذا نهى عن الصدق والأمانة والعدالة لأضحت هذه قبيحة؟

يقول شرع الإسلام: إنّ البيع حلال والربا حرام، ولا شكّ الآن في أنّ البيع حسن والربا قبيح، ولكن هل إنّ البيع بذاته حسن، ينفع الناس، ولكونه كذلك أحلّه الإسلام،  
 
 
 
 
 
145

129

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 وإنّ الرِّبا قبيح بذاته، يضرُّ الناس والمجتمع، ولكونه كذلك حرّمه الإسلام وقال: ﴿ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ1 أم إنّ الأمر على العكس من ذلك، وإنّ البيع حسن لأنّ الإسلام قال: إنّه حلال، وإنّ الربا قبيح لأنّ الإسلام حرّمه.


ظهور بحث الحسن والقبح في الإسلام
ظهرت على أثر ذلك جماعتان من بين علماء المسلمين، فالتزمت الجماعة الأولى جانب الحسن والقبح العقليَيْن، وقالت: إنّ أوامر المشرّع تعتمد على الحسن والقبح والصلاح والفساد الحقيقي للأشياء، وأنكرت الجماعة الأخرى الحسن والقبح العقليَّيْن للأشياء، وقالت: إنّ حسن الشيء أو قبحه يكون تابعًا لأوامر الشريعة.

وفيما يتعلّق بالعدل والظلم، المرتبطين بحقوق الناس وحدودهم، واللَّذَيْن يعدّان من الموضوعات الاجتماعية، برز النقاش فيه. وبحسب رأي "العدليين"، فهناك في الحقيقة والواقع حقّ وذو حقّ، وأن يكون المرء ذا حقّ وأن لا يكون هو بحدّ ذاته حقيقة، وقبل أن يصلنا أمر الإسلام كان هناك حقّ وكان هناك ذو حقّ، وكان هناك من ينال حقّه الطبيعي، ومن لا يناله ويحرم منه. ثمّ جاء الإسلام ونظّم شرائعه بحيث يصل كلّ ذي حقّ إلى حقّه. أي إنّ الإسلام قد وضع دساتيره وفق الحقّ والعدالة، فالعدالة تعني "إعطاء كلِّ ذي حقّ حقّه". فالحقّ والعدالة من الأمور الواقعية الموجودة الّتي لو لم يأمر بها الإسلام لما تأثّرت واقعيّتها بذلك.

وبحسب رأي الجماعة الثانية فإنّ الحقّ، وأن تكون ذا حقّ أو لا تكون، والظلم والعدل، لا حقيقة لهما، إنّما أوامر المشرِّع هي الّتي تسنّ القانون.
 
 

1 سورة البقرة، الآية 275.
 
 
 
 
146

 


130

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 يعتقد هؤلاء أنّه كما أنّ نظام التكوين فعل حقّ ووليد إرادة الله ومشيئته المطلقة، ولا يخضع لأي قانون أو قاعدة، فإنّ نظام التشريع أيضًا لا يخضع لأيّ أصل من الأصول ولا يتبع أيّ قانون، فكلُّ قانون يضعه الإسلام هو الحقّ، أي يُصبح هو الحقّ، فالعدالة هي ما يُقرّره الله.


فلو شاء الإسلام أن يُقرّر أنّ من يعلم ويتعب ويقوم بالإنتاج لا حقّ له فيما ينتج، وأنّ الحقّ يكون للّذي لم يفعل شيئًا ولم يتعب ولم يتعذّب، عندئذ يكون الأمر كذلك، أي إنّ الحقّ هو هذا وليس الّذي كدّ وتعب.

النتائج العملية لبحث قضية الحسن والقبح
قد يتساءل البعض: ما النتائج العملية لبحث قضية الحسن والقبح؟ على كلّ حال، كلتا الجماعتَيْن تعتقدان أنّ القوانين الإسلامية الموجودة صالحة ومتّفقة مع الحقّ والعدل، وكلّ ما في الأمر هو أنّ جماعة تعتقد أنّ الحسن والقبح والصلاح والفساد والحقّ وغير الحقّ كانت موجودة من قبل، ثمّ جاء المشرع الإسلامي ووضع قوانينه بموجبها، وجماعة أُخرى تعتقد أنّ هذه كلّها لم تكن موجودة من قبل، إنّما وجدت بوجود التشريعات الدينيّة. فالبعض يقول إنّ الحسن والقبح والحقّ وغير الحقّ والعدل والظلم هي المقياس للدساتير الدينية، والبعض يقول إنّ الدين هو المقياس لها. والآن سواء أكانت هذه أم تلك، فالنتيجة واحدة. ولهذا، فإنّ علماء كلتا الجماعتين عندما يُعالجون مسائل الفقه والأصول، يبحثون في موضوع المصلحة في الأحكام، وفي تقديم مصلحة على أخرى.

في الردّ على هذا القول: لا، ليس الأمر هكذا، إذ إنّ لذلك أثرًا عمليًا مهمًّا، وهو تدخّل العقل والعلم في استنباط الأحكام الإسلامية. فلو قَبِلنا بالنظرية الأولى الّتي 
 
 
 
 
 
 
 
 
147

131

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 تقول بوجود الحقّ والعدالة والحسن والقبح، وأنّ المشرّع الإسلامي أخذ ذلك بنظر الاعتبار، عندئذ عندما نصطدم بحكم العقل والعلم الصريح في ما هو الحقّ وما هو العدل، ما الصلاح وما الفساد، لا بدّ لنا من التوقّف والقبول بالعقل هاديًا، حيثما أمكنه التمييز بين الصلاح والفساد، والتسليم بقاعدة العدليين الّتي تقول: "كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع" أو "الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقلية" حتى إن كان ظاهر أحد الأدلّة النقلية خلاف ذلك، وذلك لأنّنا بناءً على ذلك، نعترف بوجود روح وغرض وهدف في الأحكام الإسلامية، ونعتقد أنّ للإسلام هدفًا، وأنّه لن ينحرف عن هدفه مطلقًا، فنسير نحن مع ذلك الهدف، ولا نتبع الشكل والصورة في القضايا. فما إنْ نعرف أنّ الربا حرام، وأنّه لم يحرم دون سبب، نُدرك بأنّه مهما حاول أن يتنكّر في الشكل والصورة، فإنّ حرمته لا تزول، فماهية الربا هي الربا، وماهية الظلم هي الظلم، وماهية السرقة هي السرقة، وماهية الاستجداء هي الاستجداء، سواء أكانت صورة كلَّ ذلك هي صورة الربا والظلم والسرقة والاستجداء، أم كانت في صورة مختلفة ومتلبّسة بلباس الحقّ والعدالة.

أمّا في النظرية الثانية، إنّ العقل لا يُمكن أن يكون هاديًا. فإنّ الروح الّتي تنظم القوانين الإسلامية والمعاني الّتي فيها ليست واحدة يُمكن أن نجعلها أصلًا من الأصول. كلّ الموجود هو هذا الشكل وهذه الصورة، وكلّ شيء يتغيّر بتغيّر الشكل والصورة، صحيح أنّه بموجب هذه النظرية يجري الحديث عن الحقّ والعدل والمصلحة، وتقديم مصلحة على أخرى، ولكن ليس لذلك أي مفهوم حقيقي، فقد أطلق على ذلك الشكل وتلك الصورة اسم العدل والحقّ وأمثالهما.

وعليه، فإنّنا، من حيث النظرية الأولى، ننظر إلى الحقّ والعدل والمصلحة نظرة واقعية، وننظر إليها، من حيث النظرية الثانية، نظرة خيالية.
 
 
 
 
148

132

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 آثار ترك الحسن والقبح

إنّ أحد أسباب ضلال أهل الجاهلية كان أنّهم سُلبت منهم ملكة التمييز بين الخير والشر، فكانوا يتقبّلون كلّ قبيح وشرّ باسم الدين، فيسمّونه بأسماء دينيّة وشرعيّة. وهذا ممّا ينتقدهم عليه القرآن الكريم: ﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةٗ قَالُواْ وَجَدۡنَا عَلَيۡهَآ ءَابَآءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ * قُلۡ أَمَرَ رَبِّي بِٱلۡقِسۡطِۖ1. كان عليهم أن يُدركوا أنّ القبيح قبيح بذاته، فلا يمكن أن يُجيز الله القبيح فيأمر به. إنّ مجرّد قبح أمر ما يكفي أن يدلّ على أنّ الله لا يمكن أن يأمر به، فالفحشاء لا تكون عفافًا، والعفاف لا يكون فحشًا؛ لأنّهما حقيقتان واقعيتان فلا تنقلب الفحشاء عفّة، ولا العفّة فحشاء بأمر الله ونهيه، ثمّ إنّه لا يُمكن أن يأمر بالفحشاء ويُقرّها. إنّ الله يأمر بالعدل والاعتدال. وهذا ما ينبغي أن تُدركوه بأنفسكم وتُشخّصوه وتجعلوه مقياسًا تعرفون به ما يُجيزه الله ويأمر به وما لا يُجيزه ولا يأمر به.

الحسن والقبح ومصادر التشريع الإسلامي
استنادًا إلى ذلك، قال العدليّون: إنّ الأدلّة الشرعيّة أربعة: القرآن، السنّة، الإجماع (أي اتفاق علماء الإسلام وفق شروط معيّنة)، والرابع: العقل. أمّا من وجهة نظر غير العدليّين، فلا معنى في أن يُعدّ العقل من الأدلّة الشرعيّة، وأن يُعدّ أساسًا من أسس الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية، فهم يرون أنّ التعبُّد هو الّذي يجب أن يسود.
 

1 سورة الأعراف، الآيتان 28 - 29.
 
 
 
 
149

133

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 إنّ ما يدعو إلى العجب أن يسمع أحد أنّه ظهرت في الإسلام جماعة كانوا مسلمين حقًّا، بل كانوا يرون أنفسهم أشدّ إسلامًا من الآخرين وأتقى، وأكثر تعبّدًا، وإنّهم كانوا يتّبعون سنّة الرسول الكريم مئة في المئة ولكنّهم أنفسهم، لكي يُثبتوا أقوالهم في إنكار العدالة الإلهية، سواء أفي التكوين أم في التشريع، يعمدون إلى الاستدلال. فمن جهة يذكرون ما يحسبونه في ظنّهم نماذج لانعدام العدالة في الخلق، ممّا يدعو إلى الخجل. إنّهم يضربون مثلًا بالأمراض والآلام، ويستدلّون بخلق الشيطان، ويقولون: لو كان العالم يجري مجرى عادلًا لكان من العدل ألا يُقتل علي بن أبي طالب لكيلا يأخذ مكانه "زياد بن أبيه" و"الحجّاج بن يوسف"، وغير ذلك كثير بخصوص الخلق ونظامه.


أمّا بخصوص التشريع ونظامه، فهم لكي يُثبتوا أنّ القوانين الإسلامية لا تتّبع أية قاعدة أو قانون في الصلاح والفساد والحسن والقبح، قالوا: إنّ الشرع مبنيّ على جمع المتفرّقات وتفريق المجتمعات. ولهذا كان التناقض الموجود في الدساتير الدينية، ففي حالات مختلفة كثيرة نجد أنّ الشارع يُصدر حكمًا واحدًا برغم ذلك الاختلاف، وفي حالات أخرى يكون العكس. ففي قضيّتين متشابهتين تمام التشابه ممّا يقتضي حكمًا متشابهًا، نجد حكمين مختلفين. قالوا: لماذا قال الإسلام بالفرق بين الرجل والمرأة، وأجاز للرجل أن يتزوّج حتى أربع نساء، ولم يُجز للمرأة سوى زوج واحد؟ لماذا قال في السارق أن تُقطع يده الّتي هي آلة الجرم، ولم يأمر بقطع لسان الكذّاب باعتباره آلة الجرم أيضًا؟ وهكذا الزنا وغير ذلك.

إنّه لمن المخجل أن يقرأ الإنسان في التاريخ عن ظهور عدد من الناس كانوا يرون أنّهم يتّبعون القرآن، الّذي طالما تحدّث عن العدل الإلهي، عن نظام التكوين وعن نظام التشريع، إلّا أنّ هؤلاء تحدّثوا عن إنكار الحكمة والعدالة في نظام الخلق، وعن انعدام الحكمة في قوانين الإسلام.
 
 
 
 
150

134

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 العوامل الّتي أدّت إلى ترك الحسن والقبح العقليين

بعد قرن من الجدل والنقاش والمباحثة والفتن وإراقة الدماء، انتصر رأي غير العدليين وفازوا بسبب السياسة الّتي سادت ذلك العصر.

لقد تحقّق ذلك على يد المتوكّل العباسي، الّذي أيّد تلك الفكرة، إمّا لكونها كانت تتّفق ورغبته، وإمّا لأنّه لم يفهمها. يقول المسعودي في "مروج الذهب": "لمّا أفضت الخلافة إلى المتوكّل، أمر بترك النظر والمباحثة والجدال والترك لما كان عليه الناس في أيّام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد وأمر الشيوخ والمحدّثين بالتحديث وإظهار السنّة والجماعة".1

كما أنّه منع الفلسفة الّتي كانت قد شاعت بين الناس، بحجّة أنّها من المباحث العقلية غير الجائزة.

كان العامّة من الناس يستحسنون رأي غير العدليّين؛ لأنّه كان مبنيًّا على التسليم والتعبُّد والتبعية المحض. ولمّا كان العامّة لا يُفكّرون، كان يرون التفكير والتعقُّل خطرًا عليهم يخافونه. فمن حيث وجهة نظر العامّة إذا قُلنا: إنّ حكم الشرع لا يتبع قانون العقل، يكون ذلك نوعًا من العظمة والأهميّة يُسبغان على الدين. ولهذا فقد استحسن العامّة من الناس قيام المتوكّل بالحَجْر على حريّة الفكر، وعدّوه حماية للدين وللسنّة النبوّة. ومع أنّ المتوكّل كان فاسقًا وشرّيرًا وظالمًا، فإنّ الكثير منهم قد مالوا إليه وأحبّوه، حتى قيلت في مدحه القصائد؛ يشكرونه فيها على هذا العمل الّذي رأوا فيه نصرة لدين الله، واحتفل الناس فرحين في ذلك اليوم الّذي كان في الحقيقة يوم فاجعة علمية وفكرية كبرى نزلت بالإسلام، ومصيبة حلّت على حياة العقل الإسلامي.

قال أحد الشعراء يمدح المتوكّل بما مضمونه: اليوم غدت سنّة الرسول عزيزة 
 

1 المسعودي، مروج الذهب، نشر دار الهجرة ـ إيران، ط2، 1984م، ج4، ص3.
 
 
 
 
151

135

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 محترمة بعد أن كانت ذليلة، اليوم تتباهي سنّة الرسول وتزهو وتتجلّى، وتُرمى أصنام الباطل والزور على الأرض.


لقد ظاهر أهل البدعة (يعني العدليين) وذهبوا إلى جهنم بلا عودة، لقد أخذ الله على يد المتوكّل، السائر على سنّة الرسول والمتمسّك بها، رسول الله، وخير بني العباس. هو الّذي نصر الدين وأنقذه من التفرقة، أطال الله عمره، وأدام ظلّه علينا وأسبغ عليه الصحّة، وأناله على نصرته العظيمة للدين ثواب الجنّة وجعله جليس الأنبياء.

كان هذا موجزًا لتاريخ هذه القضية، قضية البحث في العدل الإلهي وانتصار مفكّري العدل الإلهي. وعلى أثر سريان أفكار غير العدليين في أفكار العدليين، أُصيب أصل العدل الاجتماعي في الإسلام أيضًا، وحاق به سوء المصير. لقد دفع الإسلام ثمنًا باهظًا عن هذا التشويش والاضطراب الفكري في عالم الإسلام.

العدل والسفسطة اليونانية
إنّ هذه الفكرة الّتي وجدت في الإسلام، حول ما إذا كان العدل مقياسًا للدين، أو إنّ الدين مقياس للعدل، تُشبه إلى حدٍّ كبير ما ظهر بين الفلاسفة في قديم الأيام، حول الحقيقة هل هي موجودة فعلًا؟ وهل إنّ أفكارنا وإدراكاتنا تتبع الحقيقة والواقع، أم إنّ الأمر ليس كذلك؟ وإنّما الحقيقة هي الّتي تتبع الفكر والعقل. وبعبارة أخرى، إنّنا في أفكارنا العلمية والفلسفية نقول: إنّ القضية الفلانية كذا، أو كذاك، فهل هناك في القضية حقيقة فعلًا، سواء أدركناها أم لا؟ ولمّا كان عقلنا يُدركها كما هي، فهل إدراك عقلنا إدراك حقيقي؟ أم إنّ الأمر معكوس وإنّ الحقيقة هي الّتي تتبع العقل؟ وإنّ ما نُدركه هو الحقيقة، ولمّا كان الأشخاص المختلفون يختلفون في الجوانب الّتي يُدركونها من قضية واحدة، فإنّ الحقيقة بالنسبة إلى كلّ واحد منهم
 
 
 
 
 
152

136

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 يختلف عن الحقيقة الّتي يُدركها الآخر، إذًا فالحقيقة نسبية.


لقد ظهر في اليونان قديمًا جماعات اعتبروا فكر الإنسان هو المقياس لفهم الحقيقة، وليست الحقيقة هي مقياس الفكر. قالوا: مقياس كلّ شيء هو الإنسان. وقد أُطلق على هؤلاء في تاريخ الفلسفة اسم "السفسطائيين".

وهؤلاء متقدّمون على المتكلّمين المسلمين من حيث الزمان، وقد أوردوا عددًا من البراهين على مزاعمهم، مثل الأدلّة الّتي جاء بها منكرو العدالة في الإسلام. لقد ظنّ منكرو العدالة أنّهم وجدوا في الدساتير الإسلامية متناقضات كالجمع بين المتباينات والتفريق بين المتشابهات، وقالوا: إنّه بالنظر لوجود هذه المتناقضات لا يُمكن اعتبار الصلاح أو الفساد الواقعي مقياسها للشرائع الدينية، بل يجب اعتبار الشرائع الإسلامية مقياسًا للحسن والقبح والصلاح والفساد. كذلك قال السفسطائيّون:أنّه بسبب وجود التناقض والأخطاء بين المدركات العقلية والحسيّة، لذا لا يُمكن أن تكون الحقيقة هي مقياس العقل، بل العقل هو مقياس الحقيقة.

إنّ الردود الّتي ردّ بها الفلاسفة على الشكّاكين اليونانيّين، وغير اليونانيّين الّذين ظهروا حتى في العصور المتأخّرة، قريبة الشبه بالردود الّتي ردّ بها العلماء العدليون على الجماعة الأخرى الّتي يحسن أن نطلق عليها اسم الشكّاكين والسفسطائيين الدينيين، ولسنا في مجال الدخول في هذا البحث.

الحرب بين الجمود الفكري والتنوّر
لاحظنا أنّ ما جرى بين العدليين وغير العدليين كان حربًا بين الجمود والركود الفكري من جهة، والتنّور والتفتّح العقلي من جهة أُخرى.

وممّا يؤسف له، أنّ الجمود الفكري والرؤية المظلمة قد انتصرا، وبهذا كانت خسائر العالم الإسلامي كبيرة جدًّا، لا الخسائر الماديّة بل المعنوية.
 
 
 
 
 
153

137

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 في الإنسان ثمّة شعور يحمله أحيانًا على الخضوع المتناهي أمام الأمور الدينية. وفي تلك الحال، يكون خضوعه على خلاف ما يقضي به الدين نفسه، أي: إنّه حين يُطفئ سراج العقل، تكون النتيجة أنّه يتيه حتى عن محجَّة الدين.


روي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسم أنّه قال: "قصم ظهري رجُلانِ جاهلٌ متنسِّك وعالمٌ متهتِّك"1. أو قال: "قطع ظهري اثنان جاهلٌ متنسِّك وعالمٌ متهتِّك"2.

وفي الحديث أيضًا: "إنّ لله حجّتين: حجَّة الباطن وحجّة الظاهر. حجَّة الباطن العقل وحجَّة الظاهر الأنبياء"3.

الإمام عل يعليه السلام ضحيّة الجمود
إنّ حكاية استشهاد الإمام علي عليه السلام من هذا المنظور، أقصد من منظور انفكاك العقل عن الدين، حكاية ذات دروس وعبر.

عندما كان علي في المسجد يُقيم الصلاة، أو يتهيّأ ليُقيمها، أصابته الضربة، واستشهد بسببها. صحيح إنّه "قُتل في محرابه لشدّة عدله؟ فإنّ صلابته الّتي لا تلين وتنحرف في أمر العدالة أوجدت له الأعداء، وأثارت له حربَيْ الجمل وصفّين. ولكن الحقيقة هي أنّ يد الجهالة والركود الفكري ظهرت من أكمام أناس أُطلق عليهم اسم الخوارج وألحقت عليًّا بركب الشهداء.

نشأة الخوارج
في حرب صفّين ظهرت قضيّة التحكيم، فخرج بعض من أصحاب علي وأتباعه عن طاعته، فكانوا الخوارج، والسيف الّذي شقَّ رأس علي كان بيد أحد أولئك الخوارج.
 

1 الكراجكي، محمد بن علي، معدن الجواهر ورياضة الخواطر، تحقيق وتصحيح، أحمد الحسني، نشر المكتبة المرتضوية، طهران، الطبعة الثانية، 1394هـ، ص26.
2 راجع: الشيخ الصدوق، الخصال، ج1، ص69، عن أمير المؤمنين عليه السلام قريب منه.
3 راجع الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص35.
 
 
 
 
154

138

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 وهؤلاء فرقة من الإسلام، وهم بموجب عقيدتنا كفّار، ولكنّهم اعتقدوا أنّهم كانوا مسلمين، بل كانوا يرون أنّهم هم وحدهم المسلمون، وأنّ الآخرين خارجون عن الدين. إنّ أحدًا لم يقل إنّ الخوارج لا يؤمنون بالإسلام بل يعترف الجميع أنّهم شديدو التمسّك بالدين إلى حدّ التعصّب المسرف. إنّ السمة الّتي يتّسمون بها هي أنّهم مؤمنون ولكنّهم جهلة سطحيّون، كانوا يتعبّدون، ويُقيمون الليل، ويقرؤون القرآن، ولكنّهم كانوا جهلة، خفيفي العقل، بل كانوا في الدين يُخالفون العقل والفكر.


لقد قال لهم علي عليه السلام لإتمام الحجَّة عليهم: "وقد كُنتُ نهيتكُم عن هذه الحكومة فأبيتم عليّ إباء المخالفين المنابذين حتى صرف رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفَّاء الهام، سفهاءُ الأحلام"1.

إنّكم اليوم تعترضون في أمر التحكيم، وتقولون إنّه كان خطأ وإنّنا تُبنا، فتُب أنت أيضًا والغِ الاتفاق. ولكنّني قُلتُ لكم منذ البدء: ألّا نستسلم للتحكيم، ولكنّكم وقفتم بصلابة وشهرتم سيوفكم، وقُلتُم: إنّنا نُحارب في سبيل القرآن، وهؤلاء توسّلوا بالقرآن، حتّى اضطررت على كره وإجبار أن أرضخ وأعقد اتفاقًا. وأنتم الآن تقولون كان ذلك خطأ، وتُطالبونني بنقضه. كيف أنقضه وقد جاء في القرآن: ﴿ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ 2؟!. لم ينقض الرسول عهدًا عقده مع المشركين، إذ لم يكن يُجيز الغدر والمكر بخلاف شروط العقد، أيًّا كان الطرف الآخر، حتى ولو كان مشركًا ومن عبدة الأصنام. فكيف تُطالبونني بنقض ما أبرمت؟

لقد ذكر لهم علي عليه السلام هذه الأمور في موارد مختلفة، وعلى الأخصّ تلك العبارة الّتي تضع الأصبع على جرحهم: "وأنتم معاشر أخفَّاء الهام، سفهاء الأحلام". إنّكم خفاف العقل، قليلو التبّصر، جهلاء. وهذا موطن ضعفكم، فمرّة تؤيّدون التحكيم بأشدّ ما يكون التأييد، ومرّة تقولون بالشدّة نفسها. إنّ ذلك كان كفرًا وارتدادًا.
 

1 نهج البلاغة، ص80.
2 سورة المائدة، الآية 1.
 
 
 
 
155

139

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 إنّ تاريخ الخوارج عجيب وذو عبر، يكشف عمّا تؤول إليه الحال إذا امتزج الإيمان بالجهل والتعصّب الجاف.


عندما ذهب "ابن عباس"، بأمر من أمير المؤمنين عليه السلام، ليُحادثهم رأى منهم عجبًا. يقول: "رأيت منهم جباهًا قرحة لطول السجود، وأيديًا كثفنات الإبل، عليهم قمص مرخصة وهم مشمّرون"1.

يقول المؤرّخون: إنّ الخوارج كانوا حريصين على تجنّب آثام كالكذب، فلم يكونوا يخفون مذهبهم حتى أمام أعتى الجبّارين مثل "زياد". كانوا على خلاف مع العاصين، وكان بعضهم قائمًا في الليل، صائمًا في النهار، ولكنّهم من ناحية أخرى كانت عقائدهم سطحية. ففي قضية الخلافة، لم يكونوا يرون ضرورة لوجود خليفة، وأنّ القرآن يكفي أن يتبعه الناس.

كانوا ضيّقي الفكر في كثير من عقائدهم كما هي حال خفاف العقل. كان أكثرهم يرى أنّ سائر الفرق الإسلامية كافرة، فلم يكونوا يُصلّون معهم، ولا يأكلون ذبائحهم، ولا يتزاوجون معهم. كانوا يرون العمل جزءًا من الإيمان، وهذا هو الّذي ضيّق من تفكيرهم وعقائدهم، ولهذا كانوا يُكفّرون كلّ من ارتكب إحدى الكبائر. كانوا يقولون: إنّنا نحن الناجون وسائر الناس كلّهم كفرة ومصيرهم نار جهنّم.

كان الخوارج يقولون إنّهم قاموا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبعد أن يئسوا من استمالة علي عليه السلام إلى جانبهم، عقدوا أول اجتماع لهم في إحدى دور الكوفة، حيث وقف أحدهم خطيبًا وقال: "أمّا بعد فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن أن تكون هذه الدنيا آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحقّ، وإن من وضر فإنّه من يمنّ ويضرّ في هذه الدنيا فإنّ ثوابه يوم القيامة رضوان الله والخلود في جناته، فاخرجوا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلَّة"2.
 

1 الأحمدي الميانجي، مواقف الشيعة، طبع مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، 1416هـ, ج1، ص173
2 محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، نشر مؤسسة الأعلمي-لبنان، ج4، ص55.
 
 
 
 
156

140

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 الخوارج والأمر بالمعروف

للأمر بالمعروف شروط ذكرها فقهاء الشيعة وفقهاء السنّة، وهم لا يُجيزون التعرُّض للناس باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخصوصًا إذا جاء ذلك التعرُّض عن طريق العنف والضرب وإراقة الدماء، إذ إنّ لذلك شروطًا كثيرة، منها شرطان من الشروط الأوليّة يلزم توافرهما في جميع حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلّا أنّهما لم يكونا متوافرَيْن في الخوارج، بل كانوا يُنكرون أحدهما. وهذان الشرطان هما: البصيرة في الدين، والبصيرة في العمل. البصيرة في الدين تعني المعرفة الصحيحة والكافية بأمور الدين، التمييز بين الحلال والحرام، والواجب وغير الواجب. وهذا ما كان الخوارج يفتقرون إليه، لذلك استندوا إلى الآية: ﴿ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ يَقُصُّ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰصِلِينَ1، وجعلوا شعارهم "لا حكم إلّا لله" على الرغم من أنّ هذه الآية لا علاقة لها بأمثال هذه الموضوعات.

أمّا البصيرة في العمل، فثمّة شرط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُطلق عليه تعبير "احتمال الأثر"، ويذكرون شرطًا بعنوان "عدم ترتّب مفسدة". أي إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوبان لكي يشيع المعروف ويزول المنكر. وعلى ذلك، يجب القيام بذلك إذا أمنّا عدم ترتّب مفسدة أكبر. وهذان الشرطان يستوجبان البصيرة في العمل. فإذا لم يتبصّر المرء في العمل الّذي ينوي القيام به، لا يكون قادرًا على التنبّؤ بما إذا ترتّب أيّ أثر على عمله، وبما إذا لم تترتّب عليه أيّ مفسدة أكبر. وهكذا نجد أنّ قيام الجاهل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتسبّب، كما جاء في الحديث، في الإفساد أكثر ممّا يتسبّب في الإصلاح.

إنّ شيئًا من هذا لم يرد بشأن أداء الفرائض الأخرى. فلا يشترط فيك أن تعلم أو تحتمل الفائدة في فعلك، فإذا احتملت فافعل وإلّا فلا، على الرغم من أنّ في
 
 

1 سورة الأنعام، الآية 57.
 
 
 
 
157

141

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 كلّ فريضة، كما قُلنا من قبل، مصلحة وفائدة. وذلك لأنّ معرفة تلك المصلحة أو الفائدة لم توضع على عواتق الناس. ففي الصلاة، لم يشترط في أدائك لها أو احتمالك بوجود فائدة لك فيها، وإنّك لا تؤدّيها في غير تلك الحال، كذلك الأمر في الصوم، فهو لا يسقط عنك إذا لم تعلم أو لم تحتمل أي فائدة لك فيه. وهكذا الأمر في الحجّ والزكاة والجهاد، لا وجود لشرط من تلك الشروط، بخلاف الأمر بالمعروف، فقد اشترط عليك أن ترى احتمال الأثر أو ردّ الفعل الّذي قد ينجم عنه، وهل فيه ما ينفع الإسلام والمسلمين أم لا؟ في أداء هذه الفريضة يجب على الفرد أن يستنجد بالمنطق والعقل والبصيرة في العمل واحتمال الفائدة، إنّ هذا الّذي يُطلق عليه اسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس تعبديًّا محضًا.


إنّ القول بلزوم التبصّر في العمل في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قول متّفق عليه عند جميع الفرق الإسلامية عدا الخوارج. فهم، بالنظر إلى جمودهم وتعصّبهم الفكري الجامد، كانوا يقولون إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعبّد محض، وليس فيه أيّ شرط بخصوص احتمال الفائدة وعدم ترتّب مفسدة، وليس على المرء أن يحسب هذه الحسابات، إنّما هو فريضة يجب تنفيذها بعينين معصوبتين. ولهذا آثر الخوارج، على الرغم من معرفتهم أنّه ليس لثورتهم أيّ أثر مفيد، وأنّهم يهدرون دماءهم دون تحقيق مصلحة ولا تجنّب مفسدة، أنْ يرتكبوا حوادث الاغتيال، ويبقروا البطون، ولهذا لم يعوزهم التبصّر في العمل فحسب، بل إنّهم أنكروا لزوم ذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانوا مصيبة كبرى على العالم الإسلامي.

آثار الخوارج على الإسلام
أيّ مصيبة أكبر وأفجع من اغتيال علي بن أبي طالب عليه السلام على يد "عبد الرحمن بن ملجم" الخارجي المذهب؟! لم يكن بينهما، كما قال الإمام نفسه، أي عداء شخصي أو اختلاف، بل كان أمير المؤمنين عليه السلام قد أحسن إليه كثيرًا من قبل، إلّا أن هذا
 
 
 
 
158

142

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 الرجل الجاهل الجريء اعتقد - وفق مذهبه الخارجي - أنّ عليًّا كافر، وأنّه واحد من الثلاثة الّذين أثاروا الفتنة بين المسلمين. ولذلك اجتمع في مكّة مع اثنين آخرين وتعاهدوا على قتل علي و"معاوية" و"عمرو بن العاص" في ليلة واحدة، واتّفقوا أن تكون ليلة التاسع عشر من شهر رمضان أو السابع عشر منه. فلماذا تعيين تلك الليلة؟


جعلوا شعارهم "لا حكم إلّا الله"، ولكنّ الإمام علي عليه السلام لعلمه بسوء حظّهم وأنّهم مساكين تاهوا في طريق الضلال، لم يكن يقسو عليهم، على الرغم من استمرار إزعاجهم له. حتى إنّه قال: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأهُ كمن طلب الباطل فأدركه"1. فهؤلاء يختلفون عن "معاوية" وأصحابه، لأنّهم يريدون الحقّ والدين، ولكنّهم لجهلهم وعدم إدراكهم وقعوا في الخطأ. أمّا "معاوية" و"عمرو بن العاص" وأتباعهما فقد كانوا منذ البدء يطلبون الدنيا ويُتابعونها.

وعلى الرغم من أنّ الخوارج كفّروا عليًّا علانيةً، إلّا أنّه لم يقطع عنهم حصصهم من بيت المال؛ لأنّه اعتبرهم جهلاء. كانوا يحضرون إلى المسجد وينتحون جانبًا منه يتحلّقون فيه. وعندما كان الإمام يخطب، كانوا يقطعون عليه خطابه وينادون "لا حكم إلّا لله" أو "الحكم لله لا لك يا علي"2.

وفي يوم من الأيام، كان علي عليه السلام يُصلّي جماعة، وكان أحد الخوارج حاضرًا في المسجد، وعندما بدأ الإمام بالقراءة، قرأ الرجل هذه الآية: ﴿ وَلَقَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكَ لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ 3، كناية عن أنّك قد كفرت وأشركت. ولكن لما كان من آداب الاستماع إلى القرآن الصمت عند قراءته، فقد صمت علي عليه السلام ولم يُقاطعه حتى انتهى الرجل من قراءة الآية، فشرع الإمام بالقراءة ثانية، إلّا أنّ الرجل عاد فتلا الآية نفسها مرّة ثانية، فصمت الإمام عليه السلام احترامًا للقرآن، حتى انتهى
 

1 نهج البلاغة، ص 94.
2 م.ن، ص9.
3 سورة الزمر، الآية 65.
 
 
 
 
159

143

الفصل الخامس: العدل في الإسلام

 الرجل، فهمّ بالقراءة، وإذا بالرجل يُكرّر تلاوة الآية للمرّة الثالثة، ومرّة أُخرى سكت الإمام عليه السلام احترامًا للقرآن. وعندما انتهى الرجل من تلاوة الآية، تلا الإمام عليه السلام الآية التالية: ﴿ فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞۖ وَلَا يَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ1، فسكت الرجل ولم يعد.


لقد أثار هؤلاء بتهوّرهم واندفاعهم رهبة عجيبة بين الناس، وكانت عبارة "لا حكم إلّا لله" تُثير الخوف في النفوس. وجاء "عبد الرحمن بن ملجم" إلى الكوفة، واتصل باثنين آخرين من الخوارج وأمضوا الليلة الموعودة في المسجد. وفي اللحظة الّتي أصاب فيها السيف مفرق علي عليه السلام سمعت صرخة والتمع ما يشبه البرق في ظلمة الليل. كانت الصرخة "ابن ملجم" وهو يقول: "لا حكم إلا لله"، وكان البرق التماعة السيف على مفرق علي عليه السلام.
 

1  سورة الروم، الآية 60.
 
 
 
 
160

144

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 الفصل السّادس

إشكاليّة وجود الموت والفناء1


ظاهرة التفكير بانتهاء الحياة
التفكير في الموت وانتهاء الحياة من الهواجس الّتي أقضَّت مضاجع الإنسان طوال تأريخه، وجعلته يُسائل نفسه باستمرار: لماذا ولدنا لنموت؟ ما الهدف من هذا البناء ثمّ الهدم؟ أليس هذا هو العبث بعينه؟

وقد شكلّ هذا القلق المؤذي أحد الأسباب الّتي أدّت إلى ظهور الّتيار التشاؤمي في الفلسفة، والفلاسفة المتشائمون يتوهّمون خلو الحياة والوجود من الغاية والحكم، وقد أوقعهم ويوقعهم هذا التوهّم في حالة من الإحباط والحيرة والتفكير بالانتحار. هؤلاء يقولون لأنفسهم: إذا كان قدرنا الموت والفناء فما كان ينبغي أن نُولد أساسًا، وإذا كان مجيئنا إلى هذا العالم بغير اختيار منّا، فنحن قادرون - كحدٍّ أدنى - أن نضع حدًّا لهذا العبث، وإنهاء العبث هو - بحدّ ذاتِهِ - عملٌ حكيمٌ!!
 

1 الشهيد مطهري قدس سره، مرتضى، العدل الإلهي، دار الحوراء، بيروت (لا.ط), ص275.
 
 
 
161

145

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 القلق من الموت دليل الخلود

من الضروريّ أن ننتبه إلى قضيّة مهمّة قبل أن نُناقش هذا الإشكال الموجّه انطلاقًا من مسألة عدالة النظام الوجودي، وهذه القضية هي أنّ هاجس الخوف من الموت خاص بالإنسان. فباقي الحيوانات لا تُفكّر بالموت والموجود فيها غريزة الفرار من الخطر ونزعة حفظ حياتها، وهذه النزعة من لوازم الحياة عمومًا، ولكن وجودها في الإنسان مقرونٌ بالاهتمام بالمستقبل والبقاء فيه، أي يوجد فيه بعبارة أخرى الأمل بالخلود، وهذا الأمل من مختصّاته.

والأمل فرعٌ لتصوّر المستقبل، والأمل بالخلود فرع لتصوّر الأبدية، وهذا التصوّر هو من الأفكار الخاصّة بالإنسان. ولذلك شغل هاجس الخوف من الموت فكره باستمرار، وهذا الهاجس شيءٌ آخر غير غريزة الفرار من الخطر الّتي تتمظهر في كلّ حيوان بشكل ردّة فعل مؤقّتة وغير محسوبة تجاه الأخطار، وهذا ما يظهر أيضًا في الإنسان وهو طفل قبل أن تتبلور فيه نزعة الأمل بالبقاء كفكرة.

وهاجس الخوف من الموت، وليد الميل للخلود، وحيث لا يوجد في نظام عالم الطبيعة أي ميل لا يستند إلى قاعدة تسوغه، لذلك يمكن اعتبار وجود هذا الميل دليلًا على بقاء الإنسان بعد الموت، أي أنّ كون التفكير بالفناء يؤذينا هو - بحدّ ذاته - دليلٌ على أنّنا لا نفنى، ولو كانت حياتنا محدودة ومؤقّتة - كما هو حال الورود والنباتات - لما كان الأمل بالخلود نزعة متأصّلة وميلًا أصيلًا في وجودنا.

إنّ وجود العطش دليلٌ على وجود الماء، وكذلك الحال مع وجود أيّ ميل واستعداد أصيل، فهو يدلُّ على وجود كمال يتوجّه إليه ذلك الميل والاستعداد، وكأنّ كلّ استعداد وميل يُمثّل السابقة الذهنية والتذكرة الّتي تُذكّر بالكمال الّذي يجب السعي إليه.

وانشغال ذهن الإنسان باستمرار بالأمل بالخلود وهواجس الخشية من عدم تحقّقه هو من تجليات فطرة رفض الفناء والعدم في الإنسان، فهو دليل على أنّه لا يفنى، 
 
 
 
 
 
162

146

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 وهذه الهواجس هي كالأحلام الّتي تُعبّر عن تجليات في المنام لملكات الإنسان ومشهوداته في عالم اليقظة. فما يظهر في عالم الرؤيا هو تجليات لأحوال طرأت على أرواحنا في عالم اليقظة أو ترسّخت فيها أحيانًا، وما يتجلّى في أرواحنا في عالم اليقظة من نزوع وأمل بالخلود - وهو نزوع لا يتجانس أصلًا مع الحياة الدنيوية المؤقّتة - إنّما هو تعبير عن حقيقتنا الوجودية الخالدة الّتي ستُحرّر - شاءت أم أبت - من "وحشةِ سجن الإسكندر"1 و"ستجمع رحالها وستصل إلى ملك سليمان"2.


إنّ أمثال هذه التصوّرات والأفكار والآمال تُعبّر عن تلك الحقيقة الّتي يُسمّيها الفلاسفة والعرفاء "غربة الإنسان" أو "عدم تجانسه" مع هذا العالم الترابي.

حقيقة الموت
لقد نشأ إشكال وجود الموت من توهّم أنّه يعني الفناء، في حين أنّ الموت لا يعني فناء الإنسان، بل هو تحوّل وتطوّر، وغروب لنشأةٍ وجوديّة وشروق لنشأةٍ وجودية أخرى. فهو - بعبارة أُخرى - فناءٌ، ولكنّه ليس مطلقًا بل هو فناءٌ نسبيٌّ، أي أنّه عدم لنشأةٍ ووجود لنشأةٍ أخرى3.

ليس موت الإنسان موتًا مطلقًا، بل هو فقدان لحالةٍ واكتساب لحالةٍ أخرى، فهو فناء نسبيٌّ كما هو الحال مع أيّ تغيّر وتحوّلٍ آخر. وموت التراب يتحقّق عندما يتحوّل إلى نبات، فهو إذًا ليس موتًا مطلقًا، بل إنّ التراب فَقَدَ شكله وخواصه السابقة، وتجلّيه وظهوره القبلي بصورة الجماد، أي أنّه مات في حالٍ ووضع معيّن واكتسب حياةً أخرى في وضع جديد. 
 

1 ترجمات نثرية لصورٍ شعرية.
2 ترجمات نثرية لصورٍ شعرية.
3 في علل الشرائع، أنّ رجلًا قال للإمام الصادق عليه السلام: إنّا خلقنا للعجب... خلقنا للفناء! فقال عليه السلام: "مه يا بن أخ! خلقنا للبقاء، وكيف تفنى جنة لا تبيد ونار لا تخمد؟ ولكن قل: إنما نتحوّل من دار إلى دار". بحار الأنوار، ج5، ص 313.
 
 
 
163

147

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 الدنيا رحم الروح الإنسانية

ثمّة أوجه للشبه، وأخرى للتمايز بين انتقال الإنسان من هذا العالَم إلى عالَم آخر، وولادة الطفل من رحم أمّه. فأوجه التمايز بينهما تكمن في أنّ الاختلاف بين الدنيا والآخرة أعمق وأكثر جوهرية من الاختلاف بين عالم رحم الأم وخارجه. فعالَم الرحم وخارجه كلاهما من عالم الطبيعة والحياة الدنيا، أمّا عالمي الدنيا والآخرة فهما نشأتان متمايزتان ونمطان مختلفان من أنماط الحياة بينهما فروق جوهرية.

أمّا أوجه الشبه بين هذه الولادة وذاك الانتقال، فهي تكمن في بيان طبيعة اختلاف الأوضاع الحياتية، فالطفلُ يتغذّى بواسطة حبل المشيمة وهو جنينٌ في رحم أمّه، لكن هذا الحبل يُقطع عندما يولد لتُصبح تغذيته عن طريق الفم وقنوات الجهاز الهضمي، وتُخلقُ فيه الرئتان وهو في الرحم، لكنّه لا يستفيد منهما إلا بعد خروجه من الرحم، بل إنّ أبسط استفادة منهما وهو في الرحم تؤدّي إلى موته، وتستمرّ حاله على هذا المنوال إلى اللحظة الأخيرة من إقامته في الرحم، فإذا خرج منه بدأت الرئتان والجهاز التنفّسي بالعمل فورًا وبصورة متواصلة؛ لأنّ أبسط توقّف فيها يُعرّضه لخطر الموت.

أجل، فالتغيّر في النظام الحياتي للطفل يتغيّر بهذه الحدّة، فهو يعيش قبل الولادة بنظام حياتي متمايز بالكامل عن نظام حياته بعدها، والجهاز التنفسّي يُخلق فيه وهو مقيم في رحم أمّه، ولكن ليس من أجل أن يستفيد منه أثناء إقامته بالرحم، بل بهدف إعداده مسبقًا للحياة بعد مرحلة الرحم وهكذا الحال مع أجهزة البصر والسمع والذوق والشم، فهي تُخلقُ فيه بكلّ تعقيداتها أثناء مدّة إقامته في رحم أمّه، لكي يستفيد منها في المرحلة اللاحقة من حياته، لا أثناء مدّة إقامته في الرحم.

وهكذا هي حال الدنيا مقارنة بعالَم الآخر، فالدنيا هي بمثابة الرحم الّذي يُقيم فيه الإنسان لإعداده الحياة الأخرى؛ لأنّ في هذه الدنيا تصنع الصورة والأجهزة المعنوية الّتي يستفيد منها الإنسان ويعيش بها في حياته الأخرى.
 
 
 
 
164

148

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 والأجهزة الإعدادية المعنوية للإنسان هي: البساطة والتجرّد، ورفض التجزّؤ والتشتّت الذّاتي، والثبات النسبي لـ "أنا" الإنسان، وهويّته الإنسانية.


طبيعة خلق الإنسان والحياة الأبدية
إنّ آمال الإنسان العريضة غير المحدودة وأفكاره بآفاقها الواسعة الّتي لا حدّ لها، هي أدوات تناسبُ حياة أوسع نطاقًا من حياته الدنيا، بل هي حياة خالدة أبدية. وهذه الأدوات هي الّتي تجعل الإنسان "غريبًا" عن هذا العالَم الترابي الفاني وغير متجانس معه، وهي الّتي جعلت حاله حال قصبة "الناي" الّتي قطعوها عن أخواتها ونقلوها بعيدًا عن وطنها، فأخذت تئنّ في غربتها أنينًا مفجعًا يبكي النساء والرجال على حدٍّ سواء، وتبحث باستمرار عن صدر غريب مثلها تبثّ إليه شكوى الفراق وألم الاشتياق. وهذا هو السبب الّذي جعل الإنسان يرى نفسه "ملك سدرة المنتهى والأفق المبين"1، ويرى العالم "سجن المحنة"2 بالنسبة إليه، أو يرى نفسه "طائر روضة القدس"3، ويرى الدنيا "شبكة الحوادث"4.

يُخاطب الله تبارك وتعالى عباده الّذين جهّزهم بهذه الأدوات، منبّهًا إلى الغاية من خلقهم وتجهيزهم بها: ﴿ أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ 5.

لقد خُلق الإنسانُ مجهّزًا بكلّ هذه الأدوات المناسبة لعالَمٍ أوسع أفقًا من عالَم الدنيا، ولو لم تكن له رجعة إلى هذا العالَم الأوسع، فإنّ حاله ستكون بالضبط كحال الجنين الّذي لا يكون له عالمٌ أوسع من عالَم الرحم، وهذا يعني موت جميع الأجنّة فور انتهاء مدّة الإقامة في الرحم، فتكون النتيجة أنّ خلق جميع أجهزة البصر والسمع 
 

1 تعابير ورموز مستخدمة في الشعر الحكمي الفارسي للتعبير عن المعنى الّذي يتحدّث عنه المؤلّف.
2 م.ن.
3 م.ن.
4 م.ن.
5 سورة المؤمنون، الآية 115.
 
 
 
 
165

149

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 والشم والدماغ والأعصاب وأجهزة التنفّس والهضم وغيرها من الأجهزة الّتي لا يستفيد منها الجنين في رحم أمّه، حيث تكون حياته فيه نباتية، هو خلق عبثي؛ لأنّ الجنين لن يستفيد منها أبدًا.


إذًا، يتّضح أنّ الموت عبارة عن نهاية لمرحلةٍ من حياة الإنسان وبداية لمرحلة جديدة منها، فهو موت بالنسبة إلى الحياة الدنيوية وولادة بالنسبة إلى الحياة الأخروية، مثلما أنّ ولادة الطفل تعني موتًا لمرحلة حياته في الرحم، وولادة نسبة إلى مرحلة حياته في عالم الدنيا.

مرحلية الفترة الدنيوية للآخرة
تُعدّ الدنيا مرحلة الاستعداد والتكامل والتأهّل للحياة الآخرة، فهي بمثابة المدرسة والجامعة الّتي تعدّ الشاب لحياته المستقبلية، وهي حقًّا مدرسة ودار للتربية. روي في قسم الكلمات القصار (الحكم) من نهج البلاغة، أنّ الإمام علي عليه السلام سمع رجلًا يذمّ الدنيا ويذكر شرورها، فهي تخدع الإنسان وتفسده وتجني عليه، وكان هذا الرجل قد سمع الأكابر يذمّون الدنيا فتوهّم أنّ مرادهم ذمّ حقيقة هذا العالَم وأنّ العالَم بحدّ ذاته سيّئ، وغفل أنّ الذمّ متوجّه إلى عبادة الدنيا وضيق الأفق والأماني الدنيّة الّتي لا تُناسب مكانة الإنسان ولا تُحقّق له سعادته. وهذا ما بيّنه له أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: "أيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها... أتغترّ بالدنيا ثم تذمّها؟ أنت المتجرّم عليها، أم هي المتجرّمة عليك؟... إنّ الدنيا دار صدقٍلمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها... مسجد أحبّاء الله ومصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله... "1.

يقول تبارك وتعالى: ﴿ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ 2.
 

1 نهج البلاغة، ص 575، في القصار من كلماته، رقم الحكمة 131.
2 سورة الملك، الآية 2.
 
 
 
166

150

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 وهذه الآية تُبيّن أنّ عالم الدنيا مركّب من الموت والحياة، فهو دار لاختبار صلاح الإنسان وحسن عمله. وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ معنى الاختبار الإلهي هو إظهار طاقات الإنسان واستعداداته، أي تنمية هذه الاستعدادات وإيصالها إلى مرتبة الكمال. وبعبارة أخرى، إنّ هدف الاختبار الإلهي هذا ليس كشف الأسرار الموجودة، بل نقل الاستعدادات الكامنة الخفية، كالأسرار من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعل. فالمقصود بالكشف هنا هو "الإيجاد"، إذ إنّ الاختبار الإلهي ينقل الصفات الإنسانية من مخفي القوّة والاستعداد إلى ميدان الفعلية ومرتبة الكمال، أي إنّ الاختبار الإلهي لا يكشف عن وزنها وقيمتها بل يزيد وزنها وقيمتها.


وبهذا البيان يتّضح أنّ الآية المتقدّمة تُشير إلى حقيقة أنّ الدنيا محلّ تنمية الطاقات والاستعدادات، فهي "دار التربية".

جذور الاعتراض على وجود الموت
على ضوء التوضيح الّذي عرضناه آنفًا لحقيقة الموت، يتّضحُ عدم استناد الاعتراضات المثارة بشأنه إلى أيّ أساس قويم، وهذه الاعتراضات ناشئة في الواقع من الجهل بحقيقة الإنسان وحقيقة عالم الدنيا، أو أنّها ناشئة من معرفة بتراء وناقصة لحقيقة الكون والحياة.

وحقيقٌ بالنزوع للحياة الخالدة أن يكون مؤلمًا للغاية، وتكون صورة الموت مرعبة للغاية في رؤية الإنسان ذي النظرة الواضحة البعيدة، إذا كان الموت نهاية للحياة حقًّا، وهذا هو سرُّ توهّم بعض الأشخاص أنّ الحياة عبثٌ لا جدوى منه، فهم يجدون في أنفسهم نزوعًا وميلًا للحياة الخالدة، لكنّهم يتوهّمون استحالة تحقّق ما يميلون إليه بقوّة، ولولا وجود هذا الميل فيهم لما اعتبروا الحياة عبثًا لا طائل منه. فهم كانوا سيرونها فرصة محدودة للتمتّع بالنعم والسعادة، وإن كانت ستنتهي إلى العدم 
 
 
 
 
167

151

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 المطلق، ولن يُفكّروا أبدًا بأنّ العدم أفضل من وجود مثل هذه الحياة المحدودة؛ لأنّهم يفترضون أنّ عيبها هو في محدوديّتها وقصر أمدها وانتهائها إلى العدم، أي أنّ عيوبها ناشئة - حسب هذا الفرض - من العدم اللاحق لها وقصر أمدها؟ فكيف يكون العدم أفضل من هذا المقدار المحدود من الوجود؟!


ولكنّنا عندما نجد أملًا ونزوعًا وطلبًا للخلود في نفوسنا، فهذا النزع والطلب والأمل فرع لتصوّر الخلود وإدراك جماله وجاذبيّته الّتي تبعثُ فينا الأمل الكبير بالخلود والفوز بالحياة الأبديّة. أجل إذا هجمت علينا مجموعة من الأفكار المادّية الّتي تقول لنا: إنّ هذه الآمال لا مصداق لها، فلا وجود للحياة الخالدة. فمن الطبيعي - حينئذٍ - أن نقع في الاضطراب والأذى والعذاب الخانق الّذي يدفعنا إلى تمنّي عدم المجيء إلى هذه الدنيا، لكي لا نواجه كلّ هذا العذاب والأذى.

من هنا، يتّضح أنّ تصوّر عبثية الوجود ناشئ عن عدم الانسجام بين غريزة ذاتية في الإنسان، وتلقينات اكتسابية، ولذلك لم يكن لمثل هذا التصوّر ليتولّد فينا لولا وجود تلك الغريزة الذاتية، وكذلك لولا هجوم تلك الأفكار المادّية الخاطئة.

لقد خُلق الإنسان بصورة غرست معها في فطرته هذه النزعة القوية للخلود، لكي تكون وسيلة لوصوله إلى الكمال اللائق به، والّذي يتوفّر فيه الاستعداد اللازم لبلوغه، والاستعدادات الكامنة في فطرة الإنسان وتركيبته أوسع من أن تستوعبها الحياة الدنيا بأيّامه المعدودات، ولذلك فلو كانت حياته محدودة بهذه الحياة الدنيوية فإنّ خلق تلك الاستعدادات فيه هو أمر عبثيّ حقًّا. والّذي لا يؤمنُ بالحياة الخالدة يجد حالة من عدم الانسجام بين تركيبته الوجودية من جهة، وأفكاره الإلحادية وآماله المحدودة من جهة أخرى، ولذلك فهو يقول بلسان أفكاره الإلحادية: إنّ العدم هو نهاية الوجود، وكلّ الطرق تنتهي إلى العدم، ولذلك فالحياة عبث لا طائل منه، لكنّه يقول بلسان استعداداته الفطرية - وهو اللسان البليغ ذو النظرة الجامعة -: لا محلّ للعدم. وأمامي 
 
 
 
 
 
168

152

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 طريق لا نهاية لها، ولو كانت حياتي محدودة لما خُلق فيّ الاستعداد للخلود والنزوع إليه.


من هنا اعتبر القرآن الكريم - وكما لاحظنا سابقًا - إنكار المعاد مرادفًا للاعتقاد بعبثية الخلق: ﴿ أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ1.

أجل، إنّ من يعتقد أنّ الدنيا مدرسة ودار للتكامل ويؤمن بالحياة الأخرى ونشأة الآخرة، لا يُمكن أن تصدر منه اعتراضات من قبيل: ما كان ينبغي أن نُخلق في هذه الدنيا، وإذا خُلقنا فلا ينبغي أن يُكتب علينا الموت، فمثل هذا الاعتراض لا يختلف في درجة ابتعاده عن المعايير العقلية، عن القول: إمّا أن لا يدخل الطفل المدرسة، وإذا دخلها فلا ينبغي أن يُغادرها!!

ولقد أجاد الشاعر العالم "بابا أفضل الكاشاني"2 - وهو أُستاذ الخواجة نصير الدين الطوسي3 أو أُستاذ أستاذه - في بيان حكمة الموت، حيث شبّه جسم الإنسان بالصدف الّذي يربي في داخله جوهر الروح الإنسانية الثمينة، ولا ينكسر هذا الصدف إلا بعد أن يتكامل وجود الجوهرة وتتأهّل بذلك لمغادرة محلّها الداني والعروج إلى مقامها السامي على رأس الإنسان. وهذا التشبيه يصدق على الموت، فبه ينتقل الإنسان من سجن عالم الطبيعة إلى رياض البهجة في الجنّة العالية الّتي عرضها عرض السموات والأرض، فيستقر في مقعد الصدق عند المليك المقتدر4 والربّ العظيم الّذي يكتسب الإنسان بالتقرّب إليه كلّ كمال. وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ5.  
 

1 سورة المؤمنون، الآية 115.
2 الحكيم فاضل بابا أفضل الكاشاني فيلسوف، أُستاذ نصير الدين الطوسي، حيث أخذ منه الأصول العلمية والفلسفية، ويحتمل غير ذلك، لأنّ نصير الدين كان له من العمر عشر سنوات عندما توفي خاله سنة (607/1209). انظر: الفيلسوف نصير الدين الطوسي، ج27، ص61.
3 حجة الفرقة الناجية الفيلسوف المحقِّق أُستاذ البشر، وأعلم أهل البدو والحضر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الجهرودي سلطان العلماء المحققين، وأفضل الحكماء والمتكلمين ولد في 4 جمادى الأولى سنة 597هـ ، بطوس، وتوفي في يوم الغدير سنة 672هـ. الكنى والألقاب، ج3، ص250.
5 ﴿ إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَنَهَرٖ ٥٤ فِي مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِيكٖ مُّقۡتَدِرِۢ ﴾ (سورة القمر، الآيتان 54 - 55).
6 سورة البقرة، الآية 156.
 
 
 
 
 
169

153

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 الموت والحركة التكاملية في الحياة

ينبغي الانتباه - ضمن دراسة ظاهرة الموت - إلى حقيقة أنّ ظاهرتَيْ الموت والحياة توجدان في عالم الوجود نظام التعاقب، بمعنى أنّ موت كلّ جماعة يُمهّد الحياة لجماعة أخرى فيه. فأجساد الحيوانات الميتة لا تذهب هدرًا، بل إنّها تولد حيوانات نشطة جديدة أو نباتات طرية شابة. كما أنّ الصدف يقدم لعالم الوجود عندما ينغلق درّة مضيئة ثم يتولّد - من مادّة الصدف المنكسر نفسه - صدف جديد، وشاب يُربّي في داخله جوهرة ثمينة أُخرى، وهكذا تتكرّر هذه العملية باستمرار، ويستمرّ فيض الحياة اللامتناهي على مدى الزمان.

ولو لم يمت الّذين عاشوا قبل ألف سنة لما حظي أهل هذا العصر بنعمة الحياة، كما أنّ بقاء أهل هذا العصر أحياء يسلب أجيال المستقبل فرصة الحياة، وإذا لم تقتطف ورود الموسم الزراعي السابق، فإنّ الورود الجديدة الطريّة لن تجد فرصة إظهار جمالها.

إنّ سعة المادّة لتقبّل الحياة المحدودة من جهة المكان، لكنّها غير محدودة من جهة الزمان، والطريف أنّ لمادّة العالَم سعة زمانية تتناسب مع سعتها المكانية، فكلّما ازدادت سعتها المكانية، ازدادت تبعًا لها سعتها الزمانية وبصورة لا نظير لها.

ومن المحتمل أن يعترض معترض بأن يقول: إنّ قدرة الله سبحانه مطلقة لا حدّ لها، فما المانع أن يبقى هؤلاء خالدين، ويوفّر الله للأجيال القادمة ما تحتاجه من مكان وطعام؟

لكنّ القائلين بهذا الاعتراض لا يعلمون أنّ كلّ ممكن الوجود قد أفاض الله ويفيض الوجود عليه، وغير الموجود هو الّذي يفتقد لإمكانية الوجود. وحتى مع فرض إمكان وجود مكان آخر مناسب لحياة أقوام أخرى، فإنّ الإشكال يبقى على قوّته؛ لأنّ استمرار هؤلاء الأقوام في الحياة - حتى مع هذا الفرض - سيُشكّل مانعًا لوجود وحياة أجيال   
 
 
 
 
 
170

154

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 لاحقة في هذا المكان المفترض1.


وقد ذكرنا هذه الحقيقة كقضية تكميلية للجواب الّذي عرضناه تحت عنوان "الموت أمر نسبي"، والنتيجة استفادة من الجمع بين هاتين الحقيقتين هي: أنّ مادّة الكون تُوجدُ - بسيرها الطبيعي وحركتها الجوهرية - الجواهر النقية المتألّقة للأرواح المجرّدة، ثمّ تترك الروح المجرّدة المادّة وتواصل حياتها في مرتبة حياتية أعلى وأقوى، لتفسح المجال للمادّة لكي تُربّي في أحضانها جوهرةً أخرى.

وبناءً على هذه النتيجة، يتّضحُ أنّ الموجود في هذا النظام الكوني هو التكامل والرقي في مراتب الحياة ولا غير، وهذا التكامل والرقي يتحقّق من خلال عمليات النقل والانتقال.

ولا يُمكن أن يكون ثمّة محلٍّ لمثل هذا الاعتراض في الفلسفة الّذي يقول: "كما تنامون تموتون، وكما تستيقظون تُبعثون"2  كما ورد في الحديث النبوي، وصاحب هذه العقيدة لا يرهب الموت، بل يُقبل عليه بشوق ويرى فوزه فيه كما كان حال الإمام علي عليه السلام. يقول الفيلسوف الإلهي الجليل السيد "الميرداماد"3 ما مضمونه: "لا تخش مرارة الموت، فمرارته تكمن في الخشية منه"، ويُحدّد الفيلسوف الإلهي الإشراقي الشيخ "السهروردي"4 قاعدةً مؤدّاها: نحن لا نعدّ الحكيم حكيمًا حتى
 

1 يُضاف إلى ذلك أنّه حتى تغيّر المستوى الطبيعي المتعارف من مدّة الحياة يؤدّي إلى اختلال نظام الحياة كما يشير إلى ذلك ما رواه الشيخ الصدوق في أماليه مسندًا عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ قومًا أتوا نبيًّا لهم فقالوا: ادع لنا ربك (ربنا - خ) يرفع عنّا الموت، فدعا لهم، فرفع الله تبارك وتعالى منهم الموت، وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل، وكان الرجل يُصبح فيحتاج أن يُطعم أباه وأمّه وجدّه وجدّ جدّه، ويوضيهم (يرضيهم - خ) ويتعاهدهم فشغلوا عن طلب المعاش، فأتوه فقالوا: سل ربّك أن يردّنا إلى آجالنا الّتي كنّا عليها، فسأل ربّه عزّ وجلّ فردّهم إلى آجالهم ". بحار الأنوار، ج6، ص116. وعليه يتّضح أنّ مستوى الآجال المألوف للكائنات ينسجم مع خصوصيات النظام الخلقي الأحسن. (المترجِّم).
2 الجامع لأحكام القرآن، ج15، ص261، في تفسير سورة الزمر، الآية 42، وروضة الواعظين، 53 باختلاف يسير، وعنه التفسير الأصفى، ج2، ص711، وص870.
3 محمد باقر بن محمد الحسيني، توفي سنة 1041هـ، الاسترأبادي الأصل، المعروف بالمير الدماد، فقيه، أصولي، حكيم، رياضي، شاعر له تصانيف عديدة منها: رسالة في حدوث العالم وغيره. أعلام الزركلي، ج6، ص272 ومعجم المؤلفين، ج6، ص156، رقم 12360.
4 أبو حفص شهاب الدين عمرو بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه البكري الشافعي الصوفي العارف الحكيم، له كتاب جذب القلوب إلى مواصلة المحبوب، وعوارف المعارف، توفي ببغداد سنة 632، الكنى والألقاب، ج2، ص325.
 
 
 
 
 
171

155

الفصل السّادس: إشكاليّة وجود الموت والفناء

 يُصبح قادرًا على خلع بدنه بمحض إرادته، أي يُصبح خلع البدن والتحرّر منه ملكة له وكأمر عادي وبسيط.


وللسيد "الميرداماد" - وهو الحكيم المحقّق ومؤسّس حوزة أصفهان - كلام مماثل لكلام الشيخ "السهروردي".

أجل، هذا هو منطق العارفين بقيمة الجوهرة الثمينة الّتي تتربّى في باطن الجسم الإنساني، أمّا الّذي حبس نفسه في سجن الأفكار المادّية الخاطئة وذات الأفق الضيّق، فمن الطبيعي أن يخاف من الموت؛ لأنّه يراه معبرًا إلى العدم، ويُؤذيه تصوّر أن يهدم الموت هذا الجسم الّذي يتوهّم أنّه يُمثّل كلّ وجوده وهويّته وحقيقته. ولذلك فإنّ رؤيته هذه للموت تجعله ينظر بعين التشاؤم إلى الكون برمته.

وعلى مثل هذا الشخص أن يُعيد النظر في طبيعة فهمه للكون والحياة، وعليه أن يعرف أنّ اعتراضه على وجود قانون الموت ناتج من فهمه غير الصحيح للكون والحياة.

ويُذكّرني هذا الموضوع بقصّةِ رجل ساذج كان يبيع الكتب في المدرسة الفيضية في الأعوام الّتي كُنتُ أدرس فيها في قم، كان هذا الرجل يعرض كتبه ويشتري طلبة الحوزة ما يرغبون فيه منها، وكانت تصدر منه أفعال عجيبة وكلمات مضحكة يتناقلها الطلبة. وقد نقل أحدهم أنّه ذهب إليه لشراء كتاب منه، ولمّا سأله عن ثمنه أجابه: لا أبيع هذا الكتاب؟! فسأله: ولماذا؟ أجاب: إذا بعته وجب عليّ أن أشتري نسخة أخرى لأضعها في محلّه! فضحك الطالب من قوله: إذ لا يخفى أنّ بائع الكتب لا يكون بائعًا للكتب ولا يربح شيئًا إذا لم يكن يبيع ويشتري الكتب.

والخلق برمّته تجارة، والكون سوق للبيع وتهيئة البضائع والحصول على الربح، وهذه العملية تتكرّرُ فيه باستمرار. ونظام الموت والحياة نظام تبادلي ونظام ازدياد وتكامل، والّذي ينتقده لم يعرف قوانين العالم وغايته.
 
 
 
 
172

156

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 الفصل الأوّل


الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة


الخلافة العامّة في القرآن الكريم
قال الله سبحانه وتعالى:
1 - ﴿ وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ * وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِ‍ُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ * قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ * قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ﴾1.

2 - ﴿ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحٖ2.

3 - ﴿ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ 3.
 

1 سورة البقرة، الآيات 30 - 33.
2 سورة الأعراف، الآية 69.
3 سورة فاطر، الآية 39.
 
 
 
 
175

157

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 4 - ﴿ يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ 1.


5 - ﴿ إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ﴾2.

الشهادة في القرآن الكريم
قال الله سبحانه وتعالى:
1 - ﴿ فَكَيۡفَ إِذَا جِئۡنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۢ بِشَهِيدٖ وَجِئۡنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا 3.

2 - ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ 4.

3 - ﴿ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ ﴾5.

4 - ﴿ وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ6.

5 - ﴿ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ7.

6 - ﴿ إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾8
 

1 سورة ص، الآية 26.
2 سورة الأحزاب، الآية 72.
3 سورة النساء، الآية 41.
4 سورة البقرة، الآية 143.
5 سورة المائدة، الآية 117.
6 سورة النحل، الآية 89.
7 سورة الحج، الآية 78.
8 سورة آل عمران، الآية 140.
 
 
 
 
 
176

158

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 7 - ﴿ إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ1.


8 - ﴿ وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ2.

خلافة الإنسان على الأرض
إنّ الله سبحانه وتعالى شرّف الإنسان بالخلافة على الأرض، فكان الإنسان متميّزًا عن كلّ عناصر الكون بأنّه خليفة الله على الأرض، وبهذه الخلافة استحقّ أن تسجد له الملائكة، وتدين له بالطاعة كلّ قوى الكون، المنظور وغير المنظور.

والخلافة الّتي تتحدّث عنها الآيات الشريفة المذكورة ليست استخلافًا لشخص آدم عليه السلام، بل للجنس البشري كلّه؛ لأنّ من يفسد في الأرض ويسفك الدماء - وفقًا لمخاوف الملائكة - ليس آدم بالذات، بل الآدميّة والإنسانيّة على امتدادها التاريخي. فالخلافة إذًا، قد أعطيت للإنسانية على الأرض. ولهذا خاطب القرآن الكريم، في المقطعين الثاني والثالث من المقاطع القرآنية المتقدّمة، المجتمع البشري في مراحل متعدّدة، وذكّرها بأنّ الله قد جعلهم خلائف في الأرض، وكان آدم هو الممثّل الأوّل لها، بوصفه الإنسان الأوّل الّذي تسلّم هذه الخلافة، وحظي بهذا الشرف الربّاني، فسجدت له الملائكة ودانت له قوى الأرض.

وكما تحدّث القرآن الكريم عن عملية الاستخلاف من جانب الله تعالى، كذلك تحدّث عن تحمّل الإنسان لأعباء هذه الخلافة بوصفها أمانة عظيمة ينوء الكون كلّه بحملها. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ  
 

1 سورة المائدة، الآية 44.
2 سورة الزمر، الآية 69.
 
 
 
 
177

159

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا1.


واستخلاف الله تعالى خليفة في الأرض، لا يعني استخلافه على الأرض فحسب، بل يشمل هذا الاستخلاف كلّ ما للمستخلِف سبحانه وتعالى من أشياء تعود إليه، والله هو ربّ الأرض وخيراتها، وربّ الإنسان والحيوان وكلّ دابة تنتشر في أرجاء الكون الفسيح. وهذا يعني أنّ خليفة الله في الأرض مستخلف على كل هذه الأشياء. ومن هنا كانت الخلافة في القرآن أساسًا للحكم، وكان الحكم بين الناس متفرّعًا على جعل الخلافة، كما يلاحظ في المقطع الرابع من المقاطع القرآنية المتقدّمة2 المرتبطة بالخلافة.

ولمّا كانت الجماعة البشرية هي الّتي مُنِحَت - ممثّلة في آدم عليه السلام - هذه الخلافة، فهي إذًا المكلّفة برعاية الكون وتدبير أمر الإنسان والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربّانية.

المفهوم الإسلامي لخلافة الإنسان
هذا يعطي مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة؛ وهو أنّ الله سبحانه وتعالى أناب الجماعة البشرية في الحكم وقيادة الكون، وإعماره اجتماعيًّا وطبيعيًّا. وعلى هذا الأساس، تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله.

وعملية الاستخلاف الربّانيّ للجماعة على الأرض بهذا المفهوم الواسع تعني:
أوّلًا: انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد، وهو المستخلِف - أي الله سبحانه وتعالى - الّذي استخلفها على الأرض بدلًا عن كلّ الانتماءات الأخرى، والإيمان بسيّد  
 
 

1 سورة الأحزاب، الآية 72.
2 سورة ص، الآية 26.
 
 
 
 
178

160

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 واحد ومالك واحد للكون وكلّ ما فيه. وهذا هو التوحيد الخالص الّذي قام على أساسه الإسلام، وحملت لواءه كلّ ثورات الأنبياء تحت شعار "لا إله إلّا الله". قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ صِبۡغَةَ ٱللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبۡغَةٗۖ وَنَحۡنُ لَهُۥ عَٰبِدُونَ 1، ﴿ يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابٞ مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ 2.


ثانيًا: إقامة العلاقات الاجتماعية على أساس العبودية المخلصة لله، وتحرير الإنسان من عبودية الأسماء الّتي تمثّل ألوان الاستغلال والجهل والطاغوت. قال الله سبحانه: ﴿ مَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسۡمَآءٗ سَمَّيۡتُمُوهَآ3.

ثالثًا: تجسيد روح الأخوّة العامّة في العلاقات الاجتماعية كلّها، بعد محو ألوان الاستغلال والتسلّط، فما دام الله سبحانه وتعالى واحدًا ولا سيادة إلّا له، والناس جميعًا عباده ومتساوون بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن يكونوا أخوة متكافئين في الكرامة والحقوق الإنسانية، ولا يقوم التفاضل على مقاييس الكرامة عند الله تعالى إلّا على أساس العمل الصالح، تقوىً أو علمًا أو جهادًا. قال الله سبحانه: ﴿ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ 4.

رابعًا: إنّ الخلافة استئمان. ولهذا عبّر القرآن الكريم عنها في المقطع الأخير5 بالأمانة. والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب؛ إذ بدون إدراك الكائن أنّه مسؤول، لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يُختار لممارسة دور الخلافة، ﴿ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡ‍ُٔولٗا 6.
 

1 سورة البقرة، الآية 138.
2 سورة يوسف، الآية 39.
3 سورة يوسف، الآية 40.
4 سورة النجم، الآية 39.
5 الآية المتقدّمة في سورة الأحزاب، الآية 72.
6 سورة الإسراء، الآية 34.
 
 
 
 
179

161

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 مسؤولية الإنسان على الأرض


إنّ المسؤولية علاقة ذات حدّين:
١. الارتباط والتقيّد:

هي من ناحية تعني الارتباط والتقيّد، فالجماعة البشرية الّتي تتحمّل مسؤوليات الخلافة على الأرض إنّما تمارس هذا الدور بوصفها خليفة عن الله. ولهذا فهي غير مخوّلة أن تحكم بهواها أو باجتهادها المنفصل عن توجيه الله سبحانه وتعالى؛ لأنّ هذا يتنافى مع طبيعة الاستخلاف، وإنّما تحكم بالحقّ، وتؤدّي إلى الله تعالى أمانته بتطبيق أحكامه على عباده وبلاده. وبهذا تتميّز خلافة الجماعة بمفهومها القرآني والإسلامي عن حكم الجماعة في الأنظمة الديمقراطية الغربية؛ فإنّ الجماعة في هذه الأنظمة هي صاحبة السيادة، ولا تنوب عن الله في ممارستها، ويترتّب على ذلك أنّها ليست مسؤولة بين يدي أحد، وغير ملزمة بمقياس موضوعي في الحكم، بل يكفي أن تتّفق على شيء. ولو كان هذا الشيء مخالفًا لمصلحتها ولكرامتها عمومًا، أو مخالفًا لمصلحة جزء من الجماعة وكرامته، ما دام هذا الجزء قد تنازل عن مصلحته وكرامته. وعلى العكس من ذلك، حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف؛ فإنّه حكم مسؤول، والجماعة فيه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل، ورفض الظلم والطغيان، وليست مخيّرة بين هذا وذاك، حتى أنّ القرآن الكريم يسمّي الجماعة الّتي تقبل بالظلم وتستسيغ السكوت على الطغيان بأنّها ظالمة لنفسها، ويعتبرها مسؤولةً عن هذا الظلم، ومطالبة برفضه بأيّ شكل من الأشكال، ولو بالهجرة والانفصال إذا تعذّر التغيير، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا1
 

1 سورة النساء، الآية 97.
 
 
 
 
 
180

162

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 ٢. الاختيار والحرية:

تعني المسؤولية من ناحية أخرى، أنّ الإنسان كائن حرّ؛ إذ من دون الاختيار والحرية لا معنى للمسؤولية، ومن أجل ذلك كان بالإمكان أن يُسْتَنْتَج مِنْ جعلِ الله خليفة على الأرض، أنّه يجعل الكائن الحرّ المختار، الّذي بإمكانه أن يصلح في الأرض وبإمكانه أن يفسد أيضًا، وبإرادته واختياره يجدّد ما يحقّقه من هذه الإمكانات، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا 1.

وأكبر الظنّ أنّ هذه الحقيقة هي الّتي أثارت في نفوس الملائكة المخاوف من مصير هذه الخلافة وإمكانية انحرافها عن الطريق السويّة إلى طريق الفساد وسفك الدماء؛ لأنّ صلاح المسيرة البشرية لمّا كان مرتبطًا بإرادة هذا الإنسان الخليفة، ولم يكن مضمونًا بقانون قاهر - كما هي الحالة في كلّ مجالات الطبيعة -، فمن المتوقّع أن تجد إمكانية الإفساد والشرّ مجالًا لها في الممارسة البشرية على أشكالها المختلفة، وكأنّ الملائكة هالهم أن توجد لأوّل مرّة طاقة محايدة يتعادل فيها الخير والشرّ، ولا تضبط وفقًا للقوانين الطبيعية والكونية الصارمة الّتي تسيّر الكون بالحكمة والتدبير، وفضّلوا على ذلك الكائن الّذي يولد ناجزًا مصمّما،ً لا فراغ في سلوكه، تتحكّم فيه باستمرار قوانين الكون، كما تتحكّم في الظواهر الطبيعية. ومن هنا قدّموا أنفسهم كبديل عن الخليفة الجديد، ولكن فاتهم أنّ الكائن الحرّ الّذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض لا تعني حرّيته إهمال الله تعالى له، بل تغيير شكل الرعاية. فبدلًا عن الرعاية من خلال قانون طبيعي لا يتخلّف - كما ترعى حركات الكواكب ومسيرة كلّ ذرة في الكون - يتولّى لله سبحانه وتعالى تربية هذا الخليفة وتعليمه، لكي يصنع الإنسان قدره ومصيره، وينمّي وجوده على ضوء هدىً وكتاب منير. 
 

1 سورة الإنسان، الآية 3.
 
 
 
 
 
181

163

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 ومن هنا علّم الله تعالى آدم الأسماء كلّها، وأثبت للملائكة من خلال المقارنة بينه وبينهم أنّ هذا الكائن الحرّ الّذي اجتباه للخلافة قابل للتعليم والتنمية الربّانية، وأنّ الله تعالى قد وضع له قانون تكامله من خلال خطّ آخر يجب أن يسير إلى جانب خطّ الخلافة، وهو خطّ الشهادة الّذي يمثّل القيادة الربّانية والتوجّه الربّاني على الأرض.


إنّ الملائكة لاحظوا خطّ الخلافة بصورة منفصلة عن الخطّ المكمّل له بالضرورة، فثارت مخاوفهم. وأمّا الخطّة الربّانية فكانت قد وضعت خطّين جنبًا إلى جنب: أحدهما خطّ الخلافة، والآخر خطّ الشهادة الّذي يجسّده شهيد ربّاني يحمل إلى الناس هدى الله، ويعمل من أجل تحصينهم من الانحراف، وهو الخطّ الّذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله: ﴿ قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ مِنۡهَا جَمِيعٗاۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ1.

مسار الخلافة على الأرض
ما هو الهدف المرسوم لخلافة الإنسان على الأرض؟

وفي أيّ اتّجاه يجب أن تسير هذه الخلافة في ممارستها الدائبة؟

ومتى تحقّق هدفها وتستنفذ غرضها؟

إنّ الخلافة الربّانية للجماعة البشرية وفقًا لركائزها المتقدّمة، تقضي بطبيعتها على كلّ العوائق المصطنعة والقيود الّتي تجمّد الطاقات البشرية وتهدر إمكانات الإنسان، وبهذا تصبح فرص النمو متوفّرة توفّرًا حقيقيًّا.

النمو الحقيقي في مفهوم الإسلام أن يحقّق الإنسان - الخليفة على الأرض - في ذاته تلك القيم الّتي يؤمن بتوحيدها جميعًا في الله عزّ وجلّ الّذي استخلفه واسترعاه أمر الكون. فصفات الله تعالى وأخلاقه، من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين ً
 

1سورة البقرة، الآية 38.
 
 
 
 
 
182

164

الفصل الأوّل: الأساس الإسلامي لخطّ الخلافة

 والانتقام من الجبّارين والجود الّذي لا حدّ له، هي مؤشّرات للسلوك في مجتمع الخلافة، وأهداف للإنسان الخليفة. فقد جاء في الحديث: "تشبّهوا بأخلاق الله". ولمّا كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولا حدّ لها، وكان الإنسان الخليفة كائنًا محدودًا، فمن الطبيعي أن تتجسّد عملية تحقيق تلك القيم إنسانيًا في حركة مستمرة نحو المطلق، وسير حثيث إلى الله. وكلّما استطاع الإنسان من خلال حركته أن يتصاعد في تحقيق تلك المثل ويجسّد في حياته بصورة أكبر فأكبر عدالة الله وعلمه وقدرته ورحمته وجوده ورفضه للظلم والجبروت، سجّل بذلك انتصارًا في مقاييس الخلافة الربّانية، واقترب نحو الله في مسيرته الطويلة الّتي لا تنتهي، إلّا بانتهاء شوط الخلافة على الأرض، قال الله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ 1.


ولم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلًا ثانيًا من أصول الدين، ويمّيز عن سائر صفات الله تعالى بذلك، وإنّما كان تأكيدًا على أهمّ صفات الله تعالى في مدلوله العملي ودوره في توجيه المسيرة الإنسانية؛ وذلك لأنّ العدل في المسيرة وقيامها على أساس القسط هو الشرط الأساس لنمو كلّ القيم الخيّرة الأخرى، ومن دون العدل والقسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرّك تلك القيم وبروز الإمكانات الخيّرة.

فالخلافة إذًا، حركة دائبة نحو قيم الخير والعدل والقوّة، وهي حركة لا توقّف فيها؛ لأنّها متّجهة نحو المطلق، وأيّ هدف آخر للحركة سوى المطلق - سوى الله سبحانه وتعالى - سوف يكون هدفًا محدودًا، وبالتالي سوف يجمّد الحركة، ويوقف عملية النمو في خلافة الإنسان. ويجب على الجماعة الّتي تتحمّل مسؤولية الخلافة أن توفّر لهذه الحركة الدائبة نحو هدفها المطلق الكبير كلّ الشروط الموضوعية، وتحقّق لها مناخها اللازم، وتصوغ العلاقات الاجتماعية على أساس الركائز المتقدّمة للخلافة الربّانية.
 

1 سورة الانشقاق، الآية 6.
 
 
 
 
183

165

الفصل الثّاني: الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة

 الفصل الثّاني


الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة


الركائز العامّة لخطّ الشهادة
﴿ وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۖ 1.

﴿ أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ2.

﴿ وَٱلۡعَصۡرِ ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ٢ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ 3.
 
 

1 سورة ق، الآية 16.
2 سورة المؤمنون، الآية 115.
3 سورة العصر، الآيات 1 - 3.
 
 
 
 
185

166

الفصل الثّاني: الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة

 وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خطّ الخلافة - خلافة الإنسان على الأرض - خطّ الشهادة الّذي يمثّل التدخّل الربّاني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة؛ فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، وما تزخر به من إمكانات ومشاعر، وما يتأثّر به من مغريات وشهوات، وما يُصاب به من ألوان الضعف والانحلال. وإذا ترك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة من دون توجيه وهدىً، كان خلقه عبثًا ومجرّد تكريس للنزوات والشهوات وألوان الاستغلال.


وما لم يحصل تدخّل ربّاني لهداية الإنسان الخليفة في مسيره، فإنّه سوف يخسر الأهداف الكبيرة كلّها الّتي رسمت له في بداية الطريق.

وهذا التدخل الربّاني هو خطّ الشهادة. وقد صنّف القرآن الكريم الشهداء ثلاثة أصناف، فقال: ﴿ إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ 1.  

والأصناف الثلاثة على ضوء هذه الآية هم النبيّون والربّانيون والأحبار، والأحبار هم علماء الشريعة، والربّانيون درجة وسطى بين النبيّ والعالم، وهي درجة الإمام.

الممثّلون لخط الشهادة

من هنا أمكن القول بأنّ خطّ الشهادة يتمثّل:

أولًا: في الأنبياء.

ثانيًا: في الأئمّة الّذين يعتبرون امتدادًا ربّانيًّا للنبي في هذا الخطّ.

وثالثًا: في المرجعية الّتي تعتبر امتدادًا رشيدًا للنبيّ والإمام في خطّ الشهادة.

دور الممثّلون لخط الشهادة
الشهادة على العموم يتمثّل دورها المشترك بين الأصناف الثلاثة من الشهداء فيما يأتي:

أوّلًا: استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها: ﴿ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ2.
 

1 سورة المائدة، الآية 44.
2 سورة المائدة، الآية 44.
 
 
 
 
186

167

الفصل الثّاني: الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة

 ثانيًا: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة، ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الّذي يتصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها.


ثالثًا: التدخّل لمقاومة الانحراف، واتّخاذ كلّ التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة.

فالشهيد مرجع فكري وتشريعي من الناحية الأيديولوجية، ومشرف على سير الجماعة وانسجامه أيديولوجيًا مع الرسالة الربّانية الّتي يحملها، ومسؤول عن التدخّل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيحة، إذا واجه انحرافًا في مجال التطبيق. هذا هو المحتوى المشترك لدور الشهداء بأصنافهم الثلاثة.

ومع هذا، فإنّ هناك فروقًا جوهرية بينهم في طريقه أداء هذا الدور. فالنبي هو حامل الرسالة من السماء باختيار الله تعالى له للوحي، والإمام هو المستودع للرسالة ربّانيًّا، والمرجع هو الإنسان الّذي اكتسب من خلال جهد بشري ومعاناة طويلة الأمد استيعابًا حيًّا وشاملًا ومتحرّكًا للإسلام ومصادره، وورعًا معمّقًا، يروّض نفسه عليه، حتى يصبح قوّة تتحكّم في كلّ وجوده وسلوكه، ووعيًا إسلاميًّا رشيدًا على الواقع وما يزخر به من ظروف وملابسات، ليكون عليه شهيدًا.

ومن هنا، كانت المرجعية مقامًا يمكن اكتسابه بالعمل الجادّ المخلص لله سبحانه وتعالى، خلافًا للنبوّة والإمامة؛ فإنّهما رابطتان ربّانيّتان بين الله تعالى والإنسان النبي أو الإنسان الإمام، ولا يمكن اكتساب هذه الرابطة بالسعي والجهد والترويض.

والنبي والإمام معيّنان من الله تعالى تعيينًا شخصيًّا، وأمّا المرجع فهو معيّن تعيينًا نوعيًّا؛ أي إنّ الإسلام حدّد الشروط العامّة للمرجع، وترك أمر التعيين والتأكّد من انطباق الشروط إلى الأمّة نفسها.

ومن هنا كانت المرجعية -كخطّ- قرارًا إلهيًّا، والمرجعية -كتجسيد في فرد معيّن- قرارًا من الأمّة.  
 
 
 
 
187

168

الفصل الثّاني: الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة

 وارتباط الفرد بالنبي ارتباطًا دينيًّا والرجوع إليه في أخذ أحكام الله تعالى عن طريقه يجعل منه مسلمًا بالنبي، وارتباطه بالإمام على هذا النحو يجعل منه مؤمنًا بالإمام، وارتباطه بالمرجع على النحو المذكور يجعل منه مقلّدًا للمرجع.


وهناك فارق آخر أساس بين النبيّين والربانيّين من الشهداء، وبين الأحبار منهم، وهو أنّ النبي والربّاني - الإمام - يجب أن يكون معصومًا؛ أي مجسّدًا للرسالة بقيمها وأحكامها في كلّ سلوكه وأفكاره ومشاعره، وغير ممارس، لا بعمد ولا بجهالة أو خطأ، أي ممارسة جاهلية. ولا بدّ أن تكون هذه العصمة المطلقة متوفّرة حتى قبل تسلّمه للنبوّة والإمامة؛ لأنّ النبوّة والإمامة عهد ربّانيّ إلى الشخص، وقد قال الله تعالى: ﴿ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ1.

فكلّ ممارسة جاهلية أو اشتراك ضمني في ألوان الظلم والاستغلال والانحراف تجعل الفرد غير جدير بالعهد الإلهي. وأمّا المرجعيّة فهي عهد ربّاني إلى الخطّ لا إلى الشخص؛ أي إنّ المرجع محدّد تحديدًا نوعيًا لا خصيًا، وليس الشخص هو طرف التعاقد مع الله، بل المركز كمواصفات عامّة، ومن هذه المواصفات العدالة بدرجة عالية تقرّب من العصمة، فقد جاء في الحديث عن الإمام العسكري عليه السلام: "فأمّا من كان من الفقهاء صائنًا لنفسه حافظًا لدينه مخالفًا لهواه مطيعًا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه"2.

ولكن هذه العدالة ليس من الضروري أن تبلغ درجة العصمة، ولا أن يكون المرجع مصونًا من الخطأ من الأحوال. ومن هنا كان هو بدوره بحاجة إلى شهيد ومقياس موضوعي، قال تعالى: ﴿ لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ3.
 

1 سورة البقرة، الآية 124.
2 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 18، ص 94.
3 سورة الحجّ، الآية 78.
 
 
 
 
188

169

الفصل الثّاني: الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة

 شروط الشهيد في خط الشهادة

بالمقارنة بين آيات الشهادة في القرآن الكريم نستخلص شروط الشهيد، فالعدالة هي الوسطية والاعتدال في السلوك الّذي عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾1.

والعلم واستيعاب الرسالة هو استحفاظ الكتاب الّذي عبّر عنه قرآنيًا بقوله سبحانه: ﴿ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ2.

والوعي على الواقع القائم مستبطن في الرقابة الّتي يفترضها مقام الشهادة:

﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ 3؛ إذ لا معنى للرقابة من دون وعي وإدراك لما يراد من الشهيد مراقبته من ظروف وأحوال.

والكفاءة والجدارة النفسية الّتي ترتبط بالحكمة والتعقّل والصبر والشجاعة؛ هي الإمكانات الّتي توخّى الله سبحانه وتعالى تحقيقها في الصالحين من عباده، من خلال المحن والتجارب والمعاناة الاجتماعية في سبيل الله وربطها مقام الشهادة، فقال سبحانه: ﴿ إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ4.

فالله تعالى يسلّي المؤمنين ويصبّرهم على المحن، ويبعث في نفوسهم العزيمة، ويعدهم بمقام الشهادة إذا اجتازوا التجارب والمحن صابرين.

وهكذا نخرج بنتيجة من ذلك بأنّ الشهيد، سواء كان نبيًا أو إمامًا أو مرجعًا، يجب أن يكون عالمًا على مستوى استيعاب الرسالة، وعادلًا على مستوى الالتزام بها والتجرّد عن الهوى في مجال حملها، وبصيرًا بالواقع المعاصر له، وكفؤًا في ملكاته وصفاته النفسية. 
 

1 سورة البقرة، الآية 143.
2 سورة المائدة، الآية 44.
3 سورة المائدة، الآية 117.
4 سورة آل عمران، الآية 140.
 
 
 
 
189

170

الفصل الثّاني: الأساس الإسلامي لخطّ الشهادة

 وقد شرحنا حتى الآن المعالم العامّة للخطّين الربّانيين، خطّ الخلافة - خلافة الإنسان على الأرض - وخطّ الشهادة - شهادة النبي والإمام والمرجع -. وهذان الخطّان يندمجان في بعض مراحلهما ويتجسّدان في محور واحد يمثّل الخلافة والشهادة معًا.  

 

 

 

 

190


171

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 الفصل الثّالث


مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض


التمهيد لدور الخلافة
لقد قُدِّر لآدم عليه السلام أن يكون هو المثل الأوّل للإنسانيّة الّتي استخلفها الله تعالى على الأرض.

وبدأ آدم حياته كما يبدأ أيّ إنسان آخر حياته في هذه الدنيا، مع فارق جوهري، وهو أنّ كلّ إنسان يمرّ في مرحلة الطفولة بدور احتضان إلى أن يبلغ رشده؛ لأنّ هذه المرحلة لا تسمح للإنسان بالاستقلال ومواجهة مشاكل الحياة وتحقيق أهداف الخلافة. فلا بدّ من حضانة ينمو الطفل من خلالها ويربى في إطارها إلى أن يستكمل رشده. وكلّ طفل يجد عادة في أبويه وجوّهما العائلي الحضانة اللازمة له، غير أنّ الإنسان الأوّل - آدم عليه السلام - الّذي لم ينشأ في جوّ عائلي من هذا القبيل، كان بحاجة إلى دار حضانة استثنائية يجد فيها التنمية والتوعية الّتي تؤهّله لممارسة دور الخلافة على الأرض، من ناحية فهم الحياة ومشاكلها المادية، ومن ناحية مسؤوليّاتها الخلقية والروحية. وقد عبّر القرآن الكريم عن دار الحضانة الاستثنائية الّتي وفّرت للإنسان الأوّل بالجنّة؛ إذ حقّق الله تعالى في هذه الجُنَيْنَة الأرضية لآدم وحواء كلّ وسائل  
 
 
 
 
 
 
191

172

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 الاستقرار، وكَفِل لهما كلّ الحاجات، ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ ١١٨ وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ1.


وكان لا بُدّ من مرور فترة تنمو فيها تجربة هذين الإنسانين، وتصل إلى الدرجة الّتي تتيح لهما أن يبدآ مسيرتهما في الأرض وكدحهما نحو الله من خلال ممارسة أعباء الخلافة، وكذلك كان لا بُدّ في هذه الفترة من تربية الإحساس الخلقي، وزرع الشعور بالمسؤولية وتعميقه في نفس الإنسان، وذلك عن طريق امتحانه بما يوجّه إليه من تكاليف وأوامر.

وكان أوّل تكليف وُجِّه إليه، أن يُمْسِك عن شجرة معيّنة في تلك الجُنَيْنَة ترويضًا للإنسان الخليفة على أن يتحكّم في نزواته، ويكتفي من الاستمتاع بطيّبات الدنيا بالحدود المعقولة من الإشباع الكريم، ولا ينساق مع الحرص المحموم على المزيد من زينة الحياة الدنيا ومتعها وطيباتها؛ لأنّ هذا الحرص هو الأساس لكلّ ما شهده المسرح بعد ذلك من ألوان استغلال الإنسان للإنسان.

وقد استطاعت المعصية الّتي ارتكبها آدم عليه السلام، بتناوله من الشجرة المحرّمة، أن تحدث هزّة روحية كبيرة في نفسه، وتفجّر في أعماقه الإحساس بالمسؤولية من خلال مشاعر الندم، وطفق في اللّحظة يخصف على جسده من ورق الجنّة، ليواري سوءته ويستغفر الله تعالى لذنبه.

وبهذا، تكامل وعيه في الوقت الّذي كانت قد نضجت لديه خبراته الحياة المتنوّعة، وتعلّم الأسماء كلّها، فحان الوقت لخروجه من الجنّة إلى الأرض الّتي استخلف عليها ليمارس مسيرته نحو الله من خلال دوره في الخلافة.
 

1 سورة طه، الآيتان 118 - 119.
 
 
 
 
192

173

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 مرحلة الفطرة في الخلافة 


قال الله سبحانه وتعالى:


﴿ وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَٱخۡتَلَفُواْۚ1.
﴿ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ..2.

وقد جاء في التفسير، عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّ الناس كانوا أمّةً واحدة على فطرة الله، فبعث الله النبيين3.

يعرف في ضوء هذه النصوص أنّ الجماعة البشرية بدأت خلافتها على الأرض بوصفها أُمّةً واحدة، وأنشأت المجتمع الموحّد مجتمع التوحيد بركائزه المتقدّمة، وكان الأساس الأولي لتلك الوحدة ولهذه الركائز الفطرة؛ لأنّ الركائز الّتي يقوم عليها مجتمع التوحيد، والّتي تمثل أساس الخلافة على الأرض، كلّها ذات جذور في فطرة الإنسان.

﴿ فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٠ مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٣١ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ4.

فالإيمان بالله الواحد، ورفض كلّ ألوان الشرك والطاغوت، ووحدة الهدف والمصلحة والمسير، كلّها معالم الفطرة الإنسانية، وأيّ شرك وجبروت، وأيّ تناقض وتفرّق، هو انحراف عن الفطرة. 
 

1 سورة يونس، الآية 19.
2 سورة البقرة، الآية 213.
3 نصّ الحديث: روي عن أبي جعفرعليه السلام أنّه قال: "كانوا قبل نوح أمّة واحدة، على فطرة الله، لا مهتدين ولا ضلالا، فبعث الله النبيين". الطبرسي، مجمع البيان، ج2، ص65.
4 سورة الروم، الآيات 30 - 32.
 
 
 
 
193 

174

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 وهكذا شكّلت الفطرة في البداية أساسًا لإقامة مجتمع التوحيد، وكان - الإنسان ممثلًا في الجماعة الإنسانية كلّها - يمارس خلافة الله على الأرض وفقًا لذلك، وكان خطّ الشهادة قائمًا إلى جانب خطّ الخلافة ممثَّلًا في الأنبياء، وكان دور الأنبياء في تلك المرحلة ممارسة مهمّة الشهيد الربّاني، مهمّة الهادي والموجّه والرقيب، كما يفهم من النصّ القرآني الثاني، إذ اعتبر بعثه الأنبياء الّذين يحكمون بين الناس في فترة تالية للمرحلة الّتي كان الناس فيها أُمّةً واحدة. ففي هذه المرحلة إذًا، كانت الخلافة والحكم للجماعة البشرية نفسها، وكان خطّ الشهادة للإشراف والتوجّه والتدخّل إذا تطلّب الأمر.


وبعد أن مرّت على البشرية فترة من الزمن، وهي تمارس خلافتها من خلال مجتمع موحّد، تحقّقت نبوءة الملائكة، وبدأ الاستقلال والتناقض في المصالح والتنافس على السيطرة والتملّك، وظهر الفساد وسفك الدماء؛ وذلك لأنّ التجربة الاجتماعية نفسها وممارسة العمل على الأرض نمّت خبرات الأفراد، ووسّعت إمكاناتهم فبرزت ألوان التفاوت بين مواهبهم وقابليّاتهم، ونجم عن هذا التفاوت اختلاف مواقعهم على الساحة الاجتماعية، وأتاح ذلك فرص الاستغلال لمن حظي بالموقع الأقوى، وانقسم المجتمع بسبب ذلك إلى أقوياء وضعفاء ومتوسّطين، وبالتالي إلى مستغلّين ومستضعفين، وفقدت الجماعة البشرية بذلك وحدتها الفطرية، وصدق قوله الله تعالى في آية تحمّل الإنسان للأمانة الّتي أشفقت منها السماوات والأرض.

إذ قال : ﴿ وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا 1.

وعلى هذا الأساس، لم يعد - في المنطق الربّاني - للأقوياء المستغلّين موقع في الخلافة العامّة للجماعة البشرية؛ لأنّ هذه الخلافة أمانة كما تقدّم، ومن خان الأمانة لم يعد أمينًا. وأمّا المستضعفون، فمن يواكب منهم الظلم ويسير في اتّجاهه ويخضع  
 

1 سورة الأحزاب، الآية 72.
 
 
 
194

175

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 للاستغلال يعتبر في المفهوم القرآني ظالمًا لنفسه، وبالتالي خائنًا لأمانته، فلا يكون جديرًا بالخلافة، ويظلّ في موقعه من الخلافة. أولئك المستضعفون الّذين لم يظلموا أنفسهم، ولم يستسلموا للظلم، فهؤلاء هم الورثة الشرعيّون للجماعة البشريّة في خلافتها، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ 1.


ولكنّ المجتمع قد غرق في هذه اللحظة في ألوان الاستغلال، وسيطرت عليه علاقات اجتماعية تُجسّد هذه الألوان، ومشاعر نفسية تبرّر الانحراف عن الفطرة، وأساطير فكرية ووثنية تمزّق المجتمع شيعًا وأحزابًا، ولم يبقَ مستضعف غير ظالم لنفسه، إلّا عدد قليل مغلوب على أمره.

ثورة الأنبياء لإعادة مجتمع التوحيد
كان لا بدّ في ظلّ هذه الظروف من ثورة تعيد المسيرة إلى طريقها الصالح، وتبني المجتمع الموحّد من جديد على أساس أعمق وأوعى، على أساس الفطرة، وتهيّئ الجماعة لاستئناف دورها الربّاني في خلافة الله على الأرض.

١. الأسس والمرتكزات:
كانت الثورة بحاجة إلى أساس ترتكز عليه، وتنطلق منه، وتستمدّ دوافعها وحيويتها منه. وقد شهد التاريخ البشري - منذ أقدم العصور - استغلال أساسين مختلفين للثورة:

الأساس الأوّل: ما تزخر به قلوب المستضعفين والمضطّهدين من المشاعر الشخصية المتّقدة بسبب ظلم الآخرين واستهتارهم بحقوق الجماعة ومصالحها. وهذا الشعور يمتدّ في المستضعفين تدريجيّا كلّما ازدادت حالتهم سوءًا وازداد المستغلّون لهم عتوًّا واستهتارًا بهم. ولكي يتحوّل هذا الشعور إلى ثورة لا بدّ له من بؤرة تستقطبه،  
 

1 سورة القصص، الآية 5.
 
 
 
 
195

176

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 وتنبثق عن هذه البؤرة الّتي تستقطب هذا الشعور؛ القيادة الّتي تتزعّم المستضعفين في كفاحهم ضدّ المستغلّين والثورة عليهم.


وإذا لاحظنا هذا الأساس بعمق، نجد أنّه يتعامل مع المشاعر الشخصية والمادّية نفسها الّتي خلقتها ظروف الاستغلال، فالاستغلال يكرّس في جميع أفراد المجتمع الشعور الشخصي بالمصلحة وينمّي فيهم الاهتمام الذاتي بالتملّك والسيطرة، غير أنّ هذا الشعور وهذا الاهتمام ينعكس إيجابيًّا في المستغلّين على صورة الاستيلاء المحموم على كلّ ما تمتدّ إليه أيديهم، وتسخير كلّ الإمكانات من أجل إشباع هذه المطامع، وينعكس الشعور والاهتمام نفسه سلبيًّا في المستضعفين، على صورة المقاومة الصامتة أوّلًا، والمتحرّكة ثانيًا، والثائرة ثالثًا، على المستغلين، وهي مقاومة تحمل الخلفية النفسية نفسها الّتي يحملها المستغلّون، وتنطلق من المشاعر والأحاسيس عينها الّتي خلقتها ظروف الاستغلال. وهذا يؤدّي في الحقيقة إلى أنّ الثورة لن تكون ثورة على الاستغلال وعلى جذوره، ولن تعيد الجماعة إلى مسيرتها الرشيدة ودورها الخلافي الصالح، وإنّما هي ثورة على تجسيد معيّن للاستغلال من قبل المتضرّرين من ذلك التجسيد. ومن هنا كانت تغييرًا لمواقع الاستغلال أكثر من كونها استئصالًا للاستغلال نفسه.

الأساس الثاني: استئصال المشاعر الّتي خلقتها ظروف الاستغلال، واعتماد مشاعر أخرى أساسًا للثورة. وبكلمة أخرى، تطوير تلك المشاعر على نحو تمثّل الإحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحقّ والقسط والإيمان بعبودية الإنسان لله، الّتي تحرّره من كلّ عبودية، وبالكرامة الإنسانية، وهذه المشاعر تخلق القاعدة الّتي تتبنّى تصفية الاستغلال؛ لا لأنّه يمسّ مصالحها الشخصية فحسب، بل لأنّه أيضًا يمسّ المصالح الحقيقية للظالمين والمظلومين على السواء، وتنتزع وسائل السيطرة من المستغلّين، لا طمعًا فيها وحرصًا على احتكارها، بل إيمانًا بأنّها من حقّ الجماعة كلّها، وتلغي العلاقات الاجتماعية الّتي نشأت على أساس الاستغلال، لا لتنشئ علاقات مماثلة لفئة   
 
 
 
 
 
196

177

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 أُخرى من المجتمع، بل لتعيد إلى الجماعة البشرية الشروط الضرورية لممارسة الخلافة العامّة على الأرض، وتحقيق أهدافها الرشيدة.


٢. الأهداف:
يتّضح من خلال المقارنة أنّ الأساس الثاني وحده هو الّذي يشكّل الخلفية الحقيقية للثورة، والرصيد الروحي القادر على جعلها ثورة بدلًا عن تجميدها في منتصف الطريق، بينما الأساس الأوّل لا يمكن أن ينجز سوى ثورة نسبية تتغيّر فيها مواقع الاستغلال.

غير أنّ مجرّد ذلك لا يكفي وحده لاختيار الأساس الثاني، واعتماد المستضعفين له في كفاحهم ذلك؛ لأنّ الأساس الثاني يتوقّف على تربية للمحتوى الداخلي للثائرين أنفسهم، وإعداد روحي ونفسي - من خلال التعبئة والممارسة الثوريتين - يطهّرهم من مشاعر الاستغلال، ويستأصل من نفوسهم الحرص المسعور على طيّبات هذه الحياة وثرواتها المادّية - سواء كان حرصًا مسعورًا في حالة هيجان كما في نفوس المستغلّين، أو في حالة كبت كما في نفوس المستضعفين. وهذه التربية لا يمكن أن تبدأ من داخل الجماعة الّتي انحرفت مسيرتها وتمزّقت وحدتها، بل لا بدّ من تربية تتلقّاها، ولا بدّ من هدىً ينفذ إلى قلوبها من خارج الظروف النفسية الّتي تعيشها.

وهنا يأتي دور الوحي والنبوّة: ﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ1.

وتتحقّق بذلك كلمة الله: ﴿ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ 2، بعد أن تحقّقت نبوءة الملائكة. فالوحي وحده هو القادر على أن يؤمّن التربية الثورية والخلفيّة النفسية الصالحة الّتي تنشئ ثائرين لا يريدون في الأرض علوًّا ولا فسادًا، وتجعل   
 

1 سورة البقرة، الآية 213.
2 سورة البقرة، الآية 30.
 
 
 
 
197

178

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 من المستضعفين أئمّة لكي يتحمّلوا أعباء الخلافة بحقّ، ويكونوا هم الوارثين: ﴿ تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ1، ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ ثِينَ2.


والنبي الرسول هو حامل الرسالة من السماء، والإنسان المبني ربّانيًا لكي يبني للثورة قواعدها الصالحة ويعيد إلى الجماعة الشروط الحقيقية لاستعادة دورها الخلافي الصالح، وذلك باعتماد الأساس الثاني.

ومن هنا دعا الأنبياء إلى جهادين: أحدهما الجهاد الأكبر، من أجل أن يكون المستضعفون أئمّة وينتصروا على شهواتهم ويبنوا أنفسهم بناءً ثوريًا صالحًا، والآخر الجهاد الأصغر، من أجل إزالة المستغلّين والظالمين عن مواقعهم.

وتسير العمليّتان في ثورة الأنبياء جنبًا إلى جنب، فالنبي ينتقل بأصحابه دائمًا من الجهاد الأكبر إلى الأصغر، ومن الجهاد الأصغر إلى الأكبر، بل إنّهم يمارسون الجهادَين في وقت واحد، وحتى عندما يخوضون ساحات القتال وفي أحرج لحظات الحرب. انظروا إلى الثائر النموذجي في الإسلام، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كيف أقدم بكلّ شجاعة وبطولة على مبارزة رجل الحرب الأوّل في العرب "عمرو بن ودّ العامري"، واعتبر الناس ذلك منه انتحارًا شبه محقّق، ثمّ كيف أمسك عن قتله بضع لحظات بعد أن تغلّب عليه؛ لأنّ "عمرو" أغضبه، فلم يشأ أن يقتله وفي نفسه مشاعر غضب شخصي، وحَرِص على أن ينجِز هذا الواجب الجهادي في لحظة لا غضب لديه فيها إلّا لله تعالى ولكرامة الإنسان على الأرض، وبهذا حقّق انتصارًا عظيمًا في مقاييس كلا الجهادَين في موقف واحد فريد.
 

1 سورة القصص، الآية 83.
2 سورة القصص، الآية 5.
 
 
 
 
 
198

179

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 وعلى هذا الأساس، نؤمن بأنّ الثورة الحقيقية لا يمكن أن تنفصل بحال عن الوحي والنبوّة، وما لهما من امتدادات في حياة الإنسان، كما أنّ النبوّة والرسالة الربّانية لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان. يقول تعالى: ﴿ وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ 1، ﴿ وَكَذَٰلِكَ مَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ2.


فالنبوّة ظاهرة ربّانية تمثّل رسالة ثورية وعملًا تغييريًا وإعدادًا ربّانيًا للجماعة، لكي تستأنف دورها الصالح، وتفرض ضرورة هذه الثورة أن يتسلّم شخص النبي الرسول الخلافة العامّة، لكي يحقّق للثورة أهدافها في القضاء على الجاهلية والاستغلال، ﴿ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ3.

ويبني القاعدة الثورية الصالحة، لكي يمنّ الله عليهم ويجعلهم أئمّة ويجعلهم الوارثين، ﴿ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ِحُونَ4.

اتّحاد خط الخلافة وخط الشهادة
بذلك يندمج خطّ الشهادة وخطّ الخلافة في شخص واحد، هو النبي، فالنبوّة تجمع كلا الخطّين. ومن هنا اشترط الإسلام في النبي العصمة، وفي كلّ حالة يقدّر للخطّين أن يجتمعا في واحد بحكم ضرورات التغيير الرشيد، نجد أنّ العصمة شرط أساس في المحور الّذي يقدّر له أن يمارس الخطّين معًا؛ لأنّه سوف يكون هو الشهيد وهو المشهود عليه في وقت واحد.
 

1 سورة سبأ، الآية 34.
2 سورة الزخرف، الآية 23.
3 سورة الأعراف، الآية 157.
4 سورة الأعراف، الآية 157.
 
 
 
 
199

180

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 وخلافة الجماعة البشرية في مرحلة التغيير الثوري الّذي يمارسه النبي باسم السماء ثابتة مبدئيًا من الناحية النظرية، إلّا أنّها من الناحية الفعلية ليست موجودة بالمعنى الكامل. والنبي هو الخليفة الحقيقي من الناحية الفعلية، وهو المسؤول عن الارتفاع بالجماعة إلى مستوى دورها في الخلافة.


وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على النبي - مع أنّه القائد المعصوم - أن يشاور الجماعة، ويشعرهم بمسؤوليّتهم في الخلافة من خلال هذا التشاور، ﴿ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ﴾1.

ويُعدّ هذا التشاور من القائد المعصوم عملية إعداد للجماعة من أجل الخلافة، وتأكيد عمليّ عليها.

كما أنّ التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصيائه تأكيد من الرسول على شخصية الأمّة وإشعار لها بخلافتها العامّة، وبأنّها بالبيعة تحدّد مصيرها، وأنّ الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولًا عن الحفاظ عليه. ولا شكّ في أنّ البيعة للقائد المعصوم واجبة، لا يمكن التخلّف عنها شرعًا، ولكنّ الإسلام أصرّ عليها واتّخذها أُسلوبًا من التعاقد بين القائد والأُمّة، لكي يركّز نفسيًا ونظريًا مفهوم الخلافة العامّة للأمّة. وقد دأب القرآن الكريم على أن يتحدّث إلى الأُمّة في قضايا الحكم توعية منه للأمّة على دورها في خلافة الله على الأرض، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ2.

﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا 3.

﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا َهُمَا4.

﴿ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ﴾5.
 

1 سورة آل عمران، الآية 159.
2 سورة النساء، الآية 58.
3 سورة النور، الآية 2.
4 سورة المائدة، الآية 38.
5 سورة الشورى، الآية 13.
 
 
 
 
200

181

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 ﴿ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ1.


وإذا لاحظنا الجانب التطبيقي من دور النبوّة الّذي مارسه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسم، نجد مدى إصرار الرسول على إشراك الأمّة في أعباء الحكم ومسؤوليات خلافة الله في الأرض، حتى أنّه في جملة من الأحيان كان يأخذ بوجهة نظر الأكثر أنصارًا، مع اقتناعه شخصيًا بعدم صلاحيتها؛ وذلك لسبب واحد، وهو أن يُشعر الجماعة بدورها الإيجابي في التجربة والبناء.

الوصاية على الثورة ممثّلة في الإمام
إنّ صنع مجتمع التوحيد ليس بالأمر الهيّن؛ لأنّه ثورة على الجاهلية بكلّ جذورها، وتطهيرٌ للمحتوى النفسي والفكري للمجتمع من جذور الاستغلال ومشاعره ودوافعه. ومن هنا كان شوط الثورة أطول عادة من العمر الاعتيادي للرسول القائد، وكان لا بدّ للرسول أن يترك الثورة في وسط الطريق، ليلتحق بالرفيق الأعلى، وهي في خضمّ أمواج المعركة بين الحقّ والباطل.

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ 2.

ومن الواضح أنّ الحفاظ على الثورة - وهي لم تحقّق بعد، بصورة نهائية، مجتمع التوحيد - يفرض أن يمتدّ دور النبي في قائد ربّاني يمارس خلافة الله على الأرض وتربية الجماعة وإعدادها ويكون شهيدًا في الوقت نفسه. وهذا القائد الربّاني هو الإمام، ويجب أن يكون معصومًا؛ لأنّه يستقطب الخطّين معًا، ويمارس - وفقًا لظروف الثورة - خطّ الخلافة إلى جانب خطّ الشهادة.
 

1 سورة التوبة، الآية 71.
2 سورة آل عمران، الآية 144.
 
 
 
 
201

182

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 وعصمة الإمام تعني أن يكون قد استوعب الرسالة الّتي جاء بها الرسول القائد استيعابًا كاملًا، بكلّ وجوده وفكره ومشاعره وسلوكه، ولم يعِشْ للحظة شيئًا من رواسب الجاهلية وقيمها، "لم تدنّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسه من مدلهمّات ثيابها1"؛ لكي يكون قادرًا على الجمع بين الخطّين في دور واحد يمارس فيه عملية التغيير دون أن يتغيّر، ويواصل الإشعاع النبوي دون أن يخفت، ويتّخذ القرارات النابعة بكامل حجمها من الرسالة الّتي يحملها دون أدنى تأثّر بالوضع الجاهلي الّذي يقاومه.


فالإمام كالنبي، شهيد الله وخليفته في الأرض، من أجل أن يواصل الحفاظ على الثورة وتحقيق أهدافها، غير أنّ جزءًا من دور الرسول يكون قد اكتمل، وهو إعطاء الرسالة والتبشير بها، والبدء بالثورة الاجتماعية على أساسها. فالوصيّ ليس صاحب رسالة، ولا يأتي بدين جديد، بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة الّتي جاء بها الرسول.

أشكال الإمامة على مرّ التاريخ
الإمامة ظاهرة ربّانية ثابتة على مرّ التاريخ، وقد اتّخذت شكلين ربّانيين:

أحدهما: شكل النبوّة التابعة لرسالة النبي القائد. فقد كان في كثير من الأحيان يخلف النبي الرسول أنبياء غير مرسلين، يكلّفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها. وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمّة، بمعنى أنّهم أوصياء على الرسالة، يقول الله تعالى: ﴿ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ نَافِلَةٗۖ وَكُلّٗا جَعَلۡنَا صَٰلِحِينَ ٧٢ وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ2، ﴿ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٢٣ وَجَعَلۡنَا مِنۡهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا لَمَّا صَبَرُواْۖ وَكَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ 3.
 

1 زيارة وارث.
2 سورة الأنبياء، الآية 72 - 73.
3 سورة السجدة، الآيتان 23 - 24.
 
 
 
 
202

183

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 ثانيهما: هو الوصاية من دون نبوّة، وهذا هو الشكل الّذي اتّخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسم بأمر من الله تعالى، فعيّن أوصياءه الاثني عشر، من الأئمّة أهل البيت عليهم السلام، ونصّ على وصيّه المباشر بعده، علي بن أبي طالب عليه السلام، في أعظم ملأ من المسلمين.


ولعلّ الّذي يحدّد هذا الشكل أو ذاك، هو مدى إنجاز الرسول القائد لتبليغ رسالته. فإذا كان قد أكمل تبليغها أخذت السماء بالشكل الثاني، كما هو الحال بالنسبة إلى سيّد المرسلين، كما نصّ القرآن الكريم: ﴿ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ1.

وإذا كانت الرسالة والثورة بحاجة إلى وحي مستمّر واتّصال مباشر بما تتنزّل به الملائكة من قرارات السماء، اتّخذ الشكل الأوّل.

ويلاحظ في تاريخ العمل الربّاني على الأرض أنّ الوصاية كانت تُعطى غالبًا لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد ارتباطًا نسبيًّا، أو لذرّيته وأبنائه، وهذه الظاهرة لم تتّفق فقط في أوصياء النبي محمّد صلى الله عليه وآله، بل اتّفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحٗا وَإِبۡرَٰهِيمَ وَجَعَلۡنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلۡكِتَٰبَۖ...2، ﴿ وَوَهَبۡنَا لَهُۥٓ إِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ كُلًّا هَدَيۡنَاۚ وَنُوحًا هَدَيۡنَا مِن قَبۡلُۖ وَمِن ذُرِّيَّتِهِۦ دَاوُۥدَ وَسُلَيۡمَٰنَ3.

فاختيار الوصي كان يتمّ عادة من بين الأفراد الّذين انحدروا من صاحب الرسالة، ولم يروا النور إلّا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادّية تشكّل أساسًا للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكّل عادة الإطار السليم لتربية الوصي، وإعداده للقيام بدوره الربّاني. وأمّا إذا لم تُحقِّق القرابة هذا الإطار، فلا
 

1 سورة المائدة، الآية 3.
2 سورة الحديد، الآية 26.
3 سورة الأنعام، الآية 84.
 
 
 
 
203

184

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 أثر لها في حساب السماء. قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِين1.


المرجعية الدينيّة وثورة الأنبياء ووصاية الإمامة
لقد قُدّر للإمامة بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسم أن تُحرم من الممارسة الفعلية لخلافة الله في الأرض ومواصلة القيادة السياسية والاجتماعية للتجربة الّتي خلفّها النبي صلى الله عليه وآله وسم، وتولّى هذه الخلافة عمليًا عدد من الصحابة على التعاقب، وفقًا لأشكال مختلفة من الاختيار. وحاولت الأمّة بقيادة هؤلاء الصحابة أن يواصلوا قيادة التجربة مع الاحتفاظ - في بداية الأمر - للإمامة بخطّ الشهادة. فقد اعتُبر الإمام علي شهيدًا؛ أي مشرفًا وميزانًا أيديولوجيًا وإسلاميًا للحقّ والباطل، حتى قال "عمر" مرّات عديدة: "لولا علي لهلك عمر"2، وقال للإمام: "أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن"3، قال: "كاد يهلك ابن الخطاب لولا علي"4، وقال: "اللهمّ، لا تُبْقني لمعضلة ليس فيها أبو الحسن!"5.

ولكن تبدّلت الظروف كثيرًا فيما بعد، واستيقظت مطامع المستغلّين الّذين حاربوا الإسلام بالأمس، وأدّى ذلك بالتدريج إلى استيلاء أعداء الإسلام القدامى على الحكم بعد عصر الخلفاء، إذ أعلن معاوية نفسه خليفة للمسلمين بقوّة الحديد والنار، وكان ذلك أعظم مأساة في تاريخ الإسلام.
 

1 سورة البقرة، الآية 124.
2 السنن الكبرى، 7، ص 442. مختصر جامع العلم، ص 150. الرياض النضرة، 2، ص 194. ذخائر العقبى، ص 82. تفسير الرازي، 7، ص 484. أربعين الرازي، ص 466. تفسير النيسابوري 3 في سورة الأحقاف. كفاية الكنجي، ص 105. مناقب الخوارزمي، ص 57. تذكرة السبط، ص 87. الدر المنثور، ص 228 وج 6، ص 40 نقلًا عن جمع من الحفاظ صحّ كنز العمال، 3، ص 96 نقلًا عن خمس من الحفاظ. وج 3، ص 228 نقلًا عن غير واحد من أئمّة الحديث.
3 الرياض النضرة، ص 197، منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد، 2، ص 352.
4 أخرجه الحفاظ الكنجي في الكفاية، ص 96 وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة ص 18.
5 تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام علي بن أبي طالب - طباعة دار التعارف - بيروت الجزء الثالث رقم الحديث 1073 - ص 40.
 
 
 
 
204

185

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 ولم يترك الأئمّة - على الرغم من إبعادهم عن مركزهم الطبيعي في الزعامة الإسلامية - مسؤوليّاتهم القيادية، وظلّوا باستمرار، التجسيد الحيّ الثوري للإسلام والقوّة الرافضة لكلّ ألوان الانحراف والاستغلال. وقد كلّف الأئمّة ذلك حياتهم، الواحد بعد الآخر، واستشهد الأئمّة الأحد عشر من أهل البيت، بين مجاهد يخرّ صريعًا في ساحة الحرب ومجاهد يعمل من أجل كرامة الأمّة ومقاومة الانحراف، فيغتال بالسيف أو السمّ.


وقد فرض هذه الواقع المرير - ضمن تفصيلات لا يتّسع لها هذه البحث - أن يقرّر الإمام الثاني عشر بأمر من الله تعالى التواري عن الأنظار؛ انتظارًا للحظة المناسبة الّتي تتهيّأ فيها الظروف الموضوعية للظهور، وإنشاء مجتمع التوحيد في العالم كلّه.

وكانت غيبة الإمام صدمة مريرة لقواعده الشعبية، وكان بالإمكان أن تؤدّي إلى تفتّتها وضياعها، غير أنّ الإمام تدرّج في الغيبة، علاجًا لآثار هذه الصدمة؛ فبدأ بالغيبة الصغرى الّتي كان يتّصل فيها مع الخواصّ من شيعته حتى ألِف المسلمون هذا الوضع، فأعلن عن الغيبة الكبرى، وبذلك بدأت مرحلة جديدة من خطّ الشهادة تمثّلت في المرجعيّة، وتميّز في هذه المرحلة خطّ الشهادة عن خطّ الخلافة بعد أن كانا مندمجَيْن في شخص النبي أو الإمام؛ وذلك لأنّ هذا الاندماج لا يصحّ إسلاميًا إلّا في حالة وجود فرد معصوم قادر على أن يمارس الخطّين معًا، وحين تخلو الساحة من فرد معصوم، فلا يمكن حصر الخطّين في فرد واحد.

مسؤوليات خط المرجعية
خطّ الشهادة يتحمّل مسؤوليته المرجع، على أساس أنّ المرجعيّة امتداد للنبوّة والإمامة على هذا الخطّ. وهذه المسؤولية تفرض:

أوّلًا: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة، ويردّ عنها كيد الكائدين وشبهات الكافرين والفاسقين..
 
 
 
 
 
205

186

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 ثانيًا: أن يكون هذا المرجع في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه مجتهدًا، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمّة من الناحية الإسلامية، وتمتدّ مرجعيّته في هذا المجال إلى تحديد الطابع الإسلامي، لا للعناصر الثابتة من التشريع في المجتمع الإسلامي فقط، بل للعناصر المتحرّكة الزمنية أيضًا، باعتباره هو الممثّل الأعلى للأيديولوجية الإسلامية.


ثالثًا: أن يكون مشرفًا ورقيبًا على الأمّة، وتفرض هذه الرقابة عليه أن يتدخّل لإعادة الأُمور إلى نصابها إذا انحرفت عن طريقها الصحيح إسلاميًا، وتزعزعت المبادئ العامّة لخلافة الإنسان على الأرض.

المرجع الشهيد معيّن من قبل الله تعالى بالصفات والخصائص؛ أي بالشروط العامّة الموجودة في كلّ الشهداء الّتي تقدّم ذكرها، ومعيّن من قِبل الأُمّة بالشخص، إذ تقع على الأُمّة مسؤولية الاختيار الواعي له.

وأمّا خطّ الخلافة الّذي كان الشهيد المعصوم يمارسه، فما دامت الأُمّة محكومة للطاغوت ومقصية عن حقّها في الخلافة العامّة، فهذا الخط يمارسه المرجع، ويندمج الخطّان حينئذٍ - الخلافة والشهادة - في شخص المرجع. وليس هذا الاندماج متوقّفًا على العصمة؛ لأنّ خطّ الخلافة في هذه الحال لا يتمثّل عمليًّا إلّا في نطاق ضيّق، وضمن حدود تصرّفات الأشخاص، وما دام صاحب الحقّ في الخلافة العامّة قاصرًا عن ممارسة حقّه نتيجة لنظام جبّار، يتولى المرجع رعاية هذا الحقّ في الحدود الممكنة، ويكون مسؤولًا عن تربية هذا القاصر وقيادة الأُمّة لاجتياز هذا القصور وتسلّم حقّها في الخلافة العامّة.

وأمّا إذا حرّرت الأُمّة نفسها فخطّ الخلافة ينتقل إليها، فهي الّتي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الأُمّة بتطبيق أحكام الله وعلى أساس الركائز المتقدّمة للاستخلاف الربّاني..
 
 
 
 
206

187

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 وتمارس الأُمّة دورها في الخلافة في الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين الآتيتين: ﴿ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ 1.


﴿ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ... 2.

إنّ النصّ الأوّل يعطي للأُمّة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى، ما لم يرد نصّ خاصّ على خلاف ذلك، والنصّ الثاني يتحدّث عن الولاية، وإنّ كلّ مؤمن وليّ الآخرين. ويريد بالولاية تولّي أموره، بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنصّ ظاهر في سريان الولاية بين كلّ المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية. وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.

وهكذا وزّع الإسلام في عصر الغيبة مسؤوليّات الخطّين بين المرجع والأُمّة، بين الاجتهاد الشرعي والشورى الزمنية، فلم يشأ أن تمارس الأُمّة خلافتها من دون شهيد يضمن عدم انحرافها ويشرف على سلامة المسيرة ويحدّد لها معالم الطريق من الناحية الإسلامية، ولم يشأ من الناحية الأخرى أن يحصر الخطّين معًا في فرد ما لم يكن هذا الفرد مطلقًا، أي معصومًا.

وبالإمكان أن تستخلص من ذلك: أنّ الإسلام يتّجه إلى توفير بيئة العصمة بالقدر الممكن دائمًا، وحيث لا يوجد على الساحة فرد معصوم، بل مرجع شهيد، ولا أمّة قد أنجزت ثوريًا بصورة كاملة وأصبحت معصومة في رؤيتها النوعية، بل أمّة لا تزال في أوّل الطريق، لا بدّ أن تشترك المرجعية والأمّة في ممارسة الدور الاجتماعي الربّاني بتوزيع خطّي الخلافة والشهادة وفقًا لما تقدّم.
 

1 سورة الشورى، الآية 38.
2 سورة التوبة، الآية 71.
 
 
 
 
207

188

الفصل الثّالث: مسار الخلافة الربّانيّة على الأرض

 ومن الضروري أن يلاحظ أنّ المرجع ليس شهيدًا على الأمّة فقط، بل هو جزء منها أيضًا، وهو عادة من أوعى أفراد الأمّة وأكثرها عطاءً ونزاهة، وعلى هذا الأساس، وبوصفه جزءًا من الأمّة، يحتلّ موقعًا من الخلافة العامّة للإنسان على الأرض، وله رأيه في المشاكل الزمنية لهذه الخلافة وأوضاعها السياسية بقدر ماله من وجود في الأمّة، وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها.


وهكذا نعرف أنّ دور المرجع كشهيد على الأمّة دور ربّاني لا يمكن التخلّي عنه، ودوره في إطار الخلافة العامّة للإنسان على الأرض دور بشري اجتماعي يستمدّ قيمته وعمقه من مدى وجود الشخص في الأمّة وثقتها بقيادته الاجتماعية والسياسية..
 
 
 
 
 
208

189
الإسلام والحياة