روح وريحان


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد...

قد تختلف دوافع كلّ إنسان في طلبه ودراسته للعلوم الإسلاميّة، فذا يرغب في الردّ على الفرق المخالفة، وذاك يرى في العلم غذاءً لروحه وعقله، لِما يحويه الدين الإسلاميّ من استدلالات وبراهين يمكن أن تُسكِّن نفسه الحائرة في هذا العالم، وثالث يرى في المعارف الدينيّة منهلاً لمعرفة أسرار هذا الوجود وخفاياه. ولكن يبقى الجامع المشترك بين هؤلاء أنّ جميعهم يبحث عن الحقيقة في هذه الدنيا، هذه الحقيقة التي تكون عاملاً حاسماً ومهمّاً في قرب الإنسان من الله، والتي ستورثه الرَوْح والراحة في الدنيا قبل الآخرة، طبقاً للقاعدة القرآنيّة: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ1.

وأهمّيّة المعرفة الصحيحة تكمن في أنّ سلوك الإنسان في الحياة والسبيل العمليّ الذي ينتهجه في هذا العالم، إنّما هو حصيلة التصوّر الذي يحمله في ذهنه حول الأشياء، فالسلوك الإنسانيّ هو وليد ما تكوّن لديه من معرفة، وما يستتبّ له لاحقاً من اعتقاد، وما يلازمه بعد ذلك من خصائص وخصال نفسيّة وأخلاقيّة ترسم لهذا الإنسان شيئاً فشيئاً صورته الإنسانيّة التي هو عليها واقعاً. من هنا، كانت إحدى أهمّ مظاهر عظمة الإسلام أنّه دعا الذي يودّون أن يتمسّكوا به ويعتنقوه، من أجل القرب من الله والنجاة، إلى أن يحصّلوا المعرفة الصحيحة بتعاليم الدين الحنيف، معتمدين بذلك على المنطق والعقل ومتسلّحين بالدليل والبرهان، بعيداً عن الاسقاطات المعرفيّة والموروثات الثقافيّة والقناعات المسبقة، بل على كلّ طالبِ هداية وباحثٍ بجدٍّ ونشاط عن الحقيقة أن يدع تقليد الآباء والأجداد جانباً، وينطلق في رحلة معرفيّة شيّقة من أجل سبر أغوار العلوم الإسلاميّة، لِما تحويه 
 

1- سورة الواقعة، الآيتان 88-89.
 
 
 
 
19

1

مقدمة

 من كنوز وجواهر علميّة ومعرفيّة أشدّ ما يكون الإنسان بحاجة إليها عند اشتداد وطيس ابتلاءاته الدنيويّة، وعند اشتداد ملامح عودته إلى ربّه، وبدء رحلته المعنويّة وارتباطه الوجوديّ بالله تعالى من جديد، ليصبح العِلم أنيسه في هذا العالم الموحش الأطراف.


إنّ كلّ تعاليم الإسلام الأخلاقيّة والعقائديّة والشرعيّة وغيرها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهدف كبير وعظيم، هو صناعة الإنسان المؤمن بالله، لِما للإيمان من مدخليّة ضروريّة لارتباط المخلوق بالخالق، وهذه الصناعة متوقّفة على المعرفة بالمبدأ والمعاد وما بينهما من أصول ومعارف.

وهدف هذا الكتاب "روح وريحان" يقدّم صورةً أوّليّة وضروريّة لمعارف هذا الدين الحنيف، بطريقة تجمع بين سهولة اللغة والبيان والخالية من المصطلحات المعقّدة، والغنيّة في آنٍ بالأدلّة والبراهين الأوّليّة، والتي تصلح لأن تكون مرتكزاً للانطلاقٍ نحو فضاءات أوسع من العلم والمعرفة مع مرور الوقت وتقدّم الزّمن.
 

والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
 
 
 
 
 
 
20

2

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 الدرس الأوَّل

الإيمان بالله تعالى


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى بديهيّة الإيمان بالله تعالى.
2- يشرح كيف أنّ الفطرة دليلٌ على وجود الله.
3- يستدلّ على وجود الله سبحانه وتعالى.
 
 
 
 
 
 
 
23

3

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 تمهيد

عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال: "أول الدين معرفته (اللَّه) وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له"1.

إنّ الطرق إلى معرفة اللَّه تعالى كثيرة، كما قيل إنّ الطرق إلى اللَّه بعدد أنفاس الخلائق، حيث يقول الشاعر:
وفي كلّ شيء له آية          تدلّ على أنّه واحد

ونذكر بعض الأدلّة العقليّة لأصول العقائد الإسلاميّة، ونضيء على بعض الأدلّة التي لها ارتباطٌ بالآيات القرآنيّة.

الإيمان بوجود اللَّه تعالى بديهيٌّ، لا يحتاج إلى دليل
لئن ذكر علماء العقيدة والكلام العديد من الطرق لإثبات وجود اللَّه تعالى، من خلال عرضهم للأدلّة والبراهين العقليّة والمنطقيّة، إلّا أنّ القرآن الكريم يؤكّد حقيقة أنّ وجود اللَّه أمرٌ بديهيٌّ لا شكّ فيه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ2. ولقد اعتبر بعض العرفاء "وجود اللَّه" في العالم أمرًا بديهيًّا، وقالوا إنّ استنباط هذه الحقيقة من آيات القرآن والوقوف عليها لا يحتاجان إلى الاستدلال عليه والتفكير مطلقًا.

كما يمكن استفادة إشارات واضحة إلى هذا الأمر من دعاء منسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة، حيث يقول: "كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!
 

1- الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد الرضيّ بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة خطب الإمام عليّ عليه السلام-، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، بيروت - لبنان، 1387ه - 1967م، ط1، ص40.
2- سورة إبراهيم، الآية 10.
 
 
 
 
25

4

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيبًا". ويقول عليه السلام في ختام دعائه: "يا من تجلّى بكمال بهائه، كيف تخفى وأنت الظاهر؟! أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر"1.


الفطرة دليلٌ على وجود اللَّه تعالى
يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ فطريّة الإيمان باللَّه تعالى أمرٌ يمكن الاستفادة منه من الآيات القرآنيّة، أي إنّها تصرِّح أنّ الاعتقاد بوجود اللَّه تعالى فطريٌّ لدى الإنسان، أي إنّ الإيمان به سبحانه وتعالى عند الإنسان كسائر الغرائز المتأصّلة في النفس. فكما يحبّ الإنسان الخير فطريًّا أو يكره الشرّ كذلك، يحبّ أن يبحث عن اللَّه ويؤمن به فطريًّا. يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ2. ففي هذه الآية، لم يجعل مسألة معرفة اللَّه والإيمان به فقط أمرًا فطريًّا، بل وصف الدين بكونه فطريًّا.

نعم، ليس معنى فطريّة الإيمان باللَّه تعالى أن يكون الإنسان بالضرورة متوجّهًا إلى اللَّه دائمًا، ملتفتًا إليه في جميع حالاته، إذ ربّ عوامل تتسبّب في إخفاء هذا الإحساس في خبايا النفس، وتمنع وتحجب الفطرة عن اكتشاف وجود الخالق تعالى، وعندما يرتفع ذلك الحجاب، فإذا به يسمع نداء الفطرة.

عندما تقع للإنسان حوادث خطيرة، كهجوم الأمواج العاتية على سفينة يركبها في عرض البحر، أو حصول عطل فنيّ في الطائرة يهدِّدها بالسقوط أو ما إلى ذلك. فعندما يواجه الإنسان المخاطر، نراه يتوجّه من فوره وبصورة تلقائيّة فطريّة إلى اللَّه تعالى، بلا حاجة إلى إعطائه دروسًا استدلاليّة على وجود اللَّه تعالى. يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ
 

1- ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد الحسنيّ الحسينيّ، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة، تحقيق جواد القيوميّ الأصفهانيّ،  مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم‏، 1414ه، ط1، ص350.
2- سورة الروم، الآية 30.
 
 
 
 
26

5

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾1.


ويقول تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ2.

وكذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾3, إلى غير ذلك من الآيات التي تتحدَّث عن هذا المعنى.

أدلّة وجود اللَّه تعالى
1- برهان الفقر:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ4. لا ريب أنّ فقر الشيء دليلٌ قاطعٌ على احتياجه إلى "غنيّ قويّ" يزيل حاجته. من هنا، لا بدّ أن يكون لهذا الكون بأسره من أفاض عليه الوجود.

إنّ الظواهر الكونيّة، من الذرّة، إلى المجرّة أي السماوات والأرض وما فيهما، هي جمادات فقيرة في ذاتها، كانت لا شي‏ء ثمّ وُجدت، فهي مسبوقة بالعدم. فلكي توجد لا بدّ من موجد لها، لأنّها لا يمكن أن توجِد نفسها بنفسها، وهذا الموجِد لها لا بدّ أن يكون غنيًّا، عنده القدرة على إيجادها، ويخرجها من العدم إلى الوجود. وكذلك الإنسان، يدخل ضمن هذه القاعدة، فإنّه في ذاته فقيرٌ، ليس غنيًّا، أي لا يقدر أن يوجِد نفسه بنفسه، بل يحتاج إلى قوّة أكبر منه توجده، لذلك يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ5. وقد ركَّز القرآن الكريم في مواضع متعدّدة على صفة "الغنيّ"
 

1- سورة يونس، الآيتان 22 - 23.
2- سورة العنكبوت، الآية 65.
3- سورة يونس، الآية 12.
4- سورة فاطر، الآيات 15 - 16.
5- سورة فاطر، الآية 15.
 
 
 
 
27

6

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 في الذات الإلهيّة المقدّسة، بحيث يمكن اعتبار ذلك إشارة ضمنيّة أو صريحة إلى هذا البرهان - أي برهان الفقر - ومن هذه الآيات: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء1, إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.


2- استحالة وجود المعلول بلا علّة
يقول تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ2، ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ3. هذه الآيات وما بعدها تطرح تساؤلات واحتمالات حول مبدأ الإنسان وعلّة وجود العالم:
أ ـ أن تكون الكائنات البشريّة قد وُجِدت بلا علّة، بمعنى أن تكون قد وُجِدت صدفة، ومن تلقاء نفسها.

لقد طُرِح هذا السؤال في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾.

ب ـ أن تكون هي الخالقة لنفسها، وهي الصانعة لذاتها، أي أوجدت نفسها بنفسها. وإلى هذا الاحتمال أشارت جملة: ﴿أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾.

ج ـ أن يكونوا علّةً لغيرهم من المخلوقات كالسماوات والأرض: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.

د ـ أن يكون الذي خلقهم وأوجدهم إله غير اللَّه تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ﴾.

هذه هي الاحتمالات، وهي واضحة البطلان:
أمّا بطلان الاحتمال الأول: فلبداهة أنّ لكلّ ظاهرة وحادث ومعلول موجدًا ومحدثًا وعلّة، هذا ما يقول به العقل السليم، ولو ادّعى أحدٌ وقوع معلول بلا علّة لسخر منه العقلاء.

أمّا بطلان الاحتمال الثاني: فهو كذلك بديهيّ البطلان، لأنّ معنى قولك "خلق الشيء نفسه" هو أن يكون الشيء موجودًا قبل ذلك، ليتسنّى له خلق نفسه. ومعنى هذا: توقّف
 

1- سورة محمّد، الآية 38.
2- سورة الطور، الآيتان 35 ـ 36.
3- سورة الطور، الآية 43.
 
 
 
 
28

7

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 الشيء وتقدّمه على نفسه، أي كان موجودًا قبل أن يوجد، وهو أمر مستحيل.


أمّا الاحتمال الثالث: فهو واضح البطلان، لأنّ الإنسان العاجز عن خلق نفسه الضعيفة كيف له أن يخلق السماوات والأرض، وهي أعظم خلقًا من خلق الإنسان.

أمّا الاحتمال الرابع: فيلزم منه وجود شريك للباري، وهو أمر مستحيل، كما سنثبت في الدرس اللاحق.

3- الكون آية تدلّ على الخالق
يقول اللَّه تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ1: في هذه الآية الكريمة، وفي غيرها الكثير من الآيات، يلفت القرآن الكريم نظرنا إلى ظاهرة الحياة وعشرات - بل مئات وآلاف - العوامل الخفيّة والبارزة التي ساعدت على وجود ظاهرة الحياة على هذا الكوكب، وكأنّها تقول: هل يمكن اجتماع كلّ هذه العوامل والشرائط بمحض المصادفة، ومن دون وجود خالق هو الذي أوجدها ورتّبها ونظّمها. وهنا نورد لكم بعض الأمثلة على دقّة النظام الكونيّ. لقد خُلِقَت الأرض بجاذبيّة خاصّة، وعلى قطر خاصّ، بحيث تجذب بها المياه والهواء نحو مركزها وتحافظ عليها. فلو أنّ قطر الأرض كان ربع قطرها الفعليّ لعجزت جاذبيّتها عن الاحتفاظ بالمياه والهواء على سطحها، ولارتفعت درجة الحرارة إلى حدِّ الموت. ولو أنّ الأرض بعدت عن الشمس بمقدار ضعف ما هي عليه الآن، لانخفضت درجة حرارتها (الأرض) إلى ربع حرارتها الحاليّة، ولتضاعف طول مدّة الشتاء فيها، ولتجمّدت كلّ الأحياء فيها.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن، لبلغت الحرارة التي تتلقّاها الأرض أربعة أمثال، ولآلت الفصول إلى نصف طولها الحاليّ، ولصارت الحياة على سطح الأرض غير ممكنة.
 

1- سورة البقرة، الآية 164.
 
 
 
 
29

8

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 تدور الأرض حول نفسها في كلّ 24 ساعة دورة واحدة، وهي في دورتها هذه تسير بسرعة ألف ميل في الساعة. فلو تناقص ذلك - أي بلغ مقدار سرعتها مئة ميل في الساعة مثلًا - لتضاعف طول الليالي والأيّام إلى عشرة أضعاف ما هي عليه الآن، ولأحرقت شمس الصيف بحرارتها الملتهبة كلّ النباتات في الأيام الطويلة، ولجمّدت برودة الليالي الطويلة من جانب آخر كلّ البراعم والنباتات الصغيرة. ولو أنّ شعاع الشمس الواصل إلى الأرض تناقص إلى درجة النصف ممّا هو عليه الآن، لهلكت جميع أحياء الأرض من فرط البرد. ولو تضاعف هذا المقدار، لمات كلّ نبات، بل لماتت نطفة الحياة، وهي في بطن الأرض، من شدّة الحرارة. إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة جدًّا، والتي تدلّ على ضرورة وجود الإله العليم الحكيم المدبِّر المنظّم، وتنفي وجود الكون مصادفة1.


1- انظر: مكارم شيرازي، الشيخ ناصر، نفحات القرآن‏، منشورات مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، إيران - قم، 1426ه، ط1، ج‏2، ص‏184 وما بعدها.

 

30


9

الدرس الأوَّل: الإيمان بالله تعالى

 المفاهيم الرئيسية


1- الإيمان بوجود اللَّه تعالى بديهيٌّ لا يحتاج إلى دليل، وهذا ما أكّده القرآن الكريم: ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.

2- الفطرة دليل على وجود اللَّه تعالى، وإنّ الإيمان به كسائر الغرائز المتأصّلة في النفس، كحبّ الخير وكره الشرّ.

3- الفقر هو دليلٌ قاطعٌ على الحاجة إلى غنيّ قويّ يزيل هذه الحاجة بإفاضة الوجود عليها وما تحتاجها.

4- الكون آية تدلّ على الخالق. يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
 
 
 
 
31

10

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 الدرس الثاني

صفات الله تعالى


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح معنى التوحيد.
2- يعدّد مراتب التوحيد.
3- يفهم الصفات الإلهيّة الثبوتيّة والسلبيّة.
 
 
 
 
 
 
33

11

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 تمهيد

إنّ التوحيد من أهمّ المسائل الاعتقاديّة التي تصدَّرت التعاليم السماويّة، حيث يُعدُّ أساسًا لسائر التعاليم والمعارف الإلهيّة التي جاء بها الأنبياء والرسل.

والتوحيد هو أصل من أصول الدين، يجب الإيمان به، ومنكره يُعتَبر كافرًا ويخرج عن ملّة المسلمين.

معنى التوحيد ومراتبه
التوحيد هو الاعتقاد بأنّ اللَّه تعالى واحدٌ أحدٌ، لا شريك له، ولا شبيه ولا مثيل.

وللتوحيد مراتب عديدة يؤدّي إنكارها إلى الخروج عن الإيمان والإسلام. وهذه المراتب هي:
1- التوحيد في الذات‏:
المراد منه هو أنّه سبحانه واحدٌ لا نظير له، فردٌ لا مثيل له، بل لا يمكن أن يكون له نظيرٌ أو مثيل.

ويدلّ على ذلك بالإضافة إلى البراهين العقليّة قوله سبحانه: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾1, وقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ2, إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّه تعالى واحدٌ لا نظير له ولا
 

1- سورة الشورى، الآية 11.
2- سورة الإخلاص، الآيات 1 - 4.
 
 
 
 
35

12

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 مثيل، ولا ثانيَ ولا عدل، وقد كفر من ادّعى له شريكًا أو مثيلًا، أو جعله ثالث ثلاثة كما في قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ1. ولو كان للَّه تعالى شريكٌ لاختلّ‏َ نظام الكون وفسد، ولذهب كلّ إله بما خلق، كما يقول تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾2.


وجاء في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: "يا بنيّ لو كان لربّك شريك، لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه..."3. فإنّه من الطبيعيّ لو كان هنالك شريكٌ للَّه تعالى، لظهرت آثاره، ولأرسل الرسل تبشّر به وتدعوَ إليه. ومع عدم وجود هذه الآثار، كيف نحكم بوجوده؟ فهذا يدلّ على عدم وجود شريك للَّه تعالى.

2- التوحيد في الخالقيّة:
المراد منه هو أنّه ليس في الوجود خالقٌ أصيلٌ غير اللَّه، ولا فاعل مستقلّ سواه، وإنّ كلَّ ما في الكون من مجرَّات ونجوم وكواكب وأرض وجبال وبحار، وما فيها ومن فيها، وكلّ ما يُطلق عليه أنّه فاعل وسبب فهو موجودات مخلوقة للَّه تعالى، وإنّ كلّ ما ينتسب إليها من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب، وإنّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى اللَّه سبحانه. فجميع هذه الأسباب والمسبّبات على الرغم من ارتباط بعضها ببعض مخلوقة لله، فإليه تنتهي العلّيّة والسببيّة، فهو علّة العلل ومسبِّبها.

ويدلّ على ذلك بالإضافة إلى الأدلّة العقليّة قوله سبحانه: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ4, وقوله سبحانه: ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾5, وإلى غير ذلك من الآيات التي تدلّ على ذلك.
 

1- سورة المائدة، الآية 73.
2- سورة الأنبياء، الآية 22.
3- نهج البلاغة، مصدر سابق، الخطبة 31.
4- سورة الرعد، الآية 16.
5- سورة الأنعام، الآية 102.
 
 
 
36

13

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 3- التوحيد في الربوبيّة:

المراد منه هو أنّ للكون مدبّرًا واحدًا، ومتصرّفًا واحدًا، لا يشاركه في التدبير شي‏ء، وأنّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب إنّما هو بأمره سبحانه، وهذا على خلاف بعض المشركين، حيث كانوا يعتقدون بأنّ الذي يرتبط بالله تعالى إنّما هو الخلق والإيجاد والابتداء، وأمّا التدبير فقد فوِّض إلى الأجرام السماويّة والملائكة والجنّ والموجودات الروحيّة التي كانت تحكي عنها الأصنام المعبودة، وليس له أيّ دخالة في تدبير الكون وإدارته وتصريف شؤونه.

يقول تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ1, ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ2.

فإذا كان هو المدبِّر وحده، فيكون معنى قوله تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا3, وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً4, أنّ هؤلاء مدبِّراتٌ بأمره وإرادته تعالى، فلا ينافي ذلك انحصار التدبير الاستقلاليّ في اللَّه سبحانه. وقد استدلّ القرآن الكريم على وحدة المدبّر في العالم في آيتين: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾5, ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ6. وهما يعنيان: أنّ تصوّر المدبِّر لهذا العالم على وجوه:
أن يتفرّد كلّ واحد من الآلهة بتدبير مجموع الكون باستقلاله. ففي هذه الصورة، يلزم تعدّد التدبير، وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم، وذهاب الانسجام والنظام المشهود، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾.
 

1- سورة يونس، الآية 3.
2- سورة الرعد، الآية 2.
3- سورة النازعات، الآية 5.
4- سورة الأنعام، الآية 61.
5- سورة الأنبياء، الآية 22.
6- سورة المؤمنون، الآية 91.
 
 
 
37

14

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 أن يدبّر كلّ واحد قسمًا من الكون الذي خلقه، وعندئذ يجب أن يكون لكلّ جانب من الجانبين نظام مستقلّ خاصّ مغاير لنظام الجانب الآخر، وغير مرتبط به أصلًا، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام والنظام من الكون، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلّا نوعًا واحدًا من النظام يسير على قانون مترابط دقيق، يسود كلّ جوانب الكون من الذرّة إلى المجرّة. وإلى هذا الوجه أشار قوله تعالى: ﴿إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ﴾.


أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقيّة، ويكون حاكمًا عليهم ويوحّد جهودهم وأعمالهم، ويسبغ عليها الانسجام والاتّحاد والنظام الواحد، وعندئذ يكون الإله الحقيقيّ هو هذا الحاكم دون الباقين. وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾, وإلاّ لو لم يكن هنالك إله واحد لتصارع الآلهة وخرب الكون وفسد وفني، لأنّ كلّ واحد يريد أن يعلوَ على الآخر، ويتفرّد في الحكم والتدبير.

4- التوحيد في العبادة:
هو أن نؤمن بأنّ المستحقّ للعبادة هو اللَّه تعالى وحده، لأنّه هو الخالق، والعبوديّة من شأن الخالق الغنيّ غير المحتاج، لذلك يستحقّها وحده دون غيره، كما نقرأ في سورة الحمد "إيّاك نعبد وإيّاك نستعين". فهنا القرآن الكريم حصر العبوديّة باللَّه تعالى، حيث يقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا1.

الصفات الإلهيّة
5- أقسام الصفات الإلهيّة
إنّ صفات اللَّه سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: الصفات الثبوتيّة والصفات السلبيّة.

الصفات الثبوتيّة: كلّ صفة مثبتة لجمال وكمال في الموصوف فهي صفة ثبوتيّة، أو صفة جمال وكمال، وهي كثيرة لا تنحصر، لأنّه تعالى ثابتٌ، له كلّ كمال، والخلو من الكمال نقص، وكلّ نقص منفيّ عنه تعالى.
 

1- سورة آل عمران، الآية 64.
 
 
 
 
38

15

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 الصفات السلبيّة: هي كلّ صفة تنفي عنه تعالى كلّ نقص، لأنّ إثبات الكمال لا يكون إلّا بنفي النقص، كما لا يتمّ إثبات الحقّ إلا بنفي الباطل، وتُسمّى هذه الصفات بصفات الجلال أيضًا. والصفات الثبوتيّة تنقسم إلى قسمين: الصفات الذاتيّة والصفات الفعليّة. أمّا الصفات الذاتيّة: هي كلّ صفة منتزعة من الذات نفسها، كالعلم والحياة والقدرة. والصفات الفعليّة: هي كلّ صفة منتزعة من نوع علاقة اللَّه وارتباطه بالمخلوقات، كالخالقيّة والربوبيّة.


6- الصفات الثبوتيّة
هي عديدة، منها:
العلم: إنّ اللَّه تعالى عليمٌ، لأنّه خالق كلّ شي‏ء، وخلقه على وجه الحكمة والإتقان، ولا يمكن أن يصدر هذا الإتقان إلّا عن عالمٍ وعلمه واسع شاملٌ لكلّ شي‏ء. يقول تعالى: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ1، وقوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾2.

وممّا قدّمنا من الآيات، نقف على حقيقة سعة علم اللَّه تعالى، فهو عليم بكلّ شي‏ء، لا يخفى عليه شي‏ءٌ، عالمٌ بالغيب والشهادة، بما مضى وما سيأتي، بالسرِّ وأخفى، وبكلّ‏ِ جزئيّات هذا الكون. يقول تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾3. هذه الآية المباركة تتحدّث عن علمه تعالى، فالذي خلق القلوب يعلم ما تكنّ فيها من أسرار، والذي خلق عباده لا يجهل أسرارهم، والذي خلق عالم الوجود جميعًا عارفٌ ومطّلعٌ على جميع أسراره، لأنّ المخلوقات تكون دائمًا تحت رعاية خالقها، وأنّه أعرف شي‏ء بها. فإدراك هذه العلاقة القائمة بين الخالق والمخلوق هو أفضل دليل على علم الخالق بالمخلوقات في كلّ زمان ومكان.
 

1- سورة البقرة، الآية 282.
2- سورة الأنعام، الآية 59.
3- سورة الملك، الآية 14.
 
 
 
39

16

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يعزب عنه عدد قطر السماء، ولا نجومها ولا سوافي الريح في الهواء، ولا دبيب النمل على الصّفا، ولا مقيل الذَّر في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق، وخفيّ‏َ الأحداق"1. وقال عليه السلام: "قد علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكلّ شي‏ء"2.


القدرة: من صفاته سبحانه وتعالى أنّه قادرٌ، وأنّ قدرته عامّة لكلّ شي‏ء وهو تعالى مختار في فعله، إن شاء فعل وإن شاء ترك، ففعله تعالى يكون بإرادته واختياره. وهذا الكون شاهدٌ على عظيم قدرته، يقول تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾3, ويقول أيضًا: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا4. فالله تعالى خالق هذا الكون الوسيع بما رحب من الكواكب والمجرّات والسماوات والأرض، وما حوته من العظمة والنظام المتناهي البديع، والتناسق الفريد بين أجزائه. وهو عزّ اسمه خالق الإنسان أعجوبة الخلقة الإلهيّة، والذي نفخ فيه من روح وسوّاه فأحسن خلقه: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ5.

وقد لعن اللَّه تعالى اليهود في كتابه الكريم، لأنّهم حدّوا القدرة الإلهيّة، فقالوا بمحدوديّة قدرته تعالى، وأنّ يده مغلولة، فكان الجواب الإلهيّ لهم: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء6.

الحياة: الله تعالى هو الحيّ القيوم، القديم الأزليّ، الأبديّ السرمديّ، ليس مسبوقًا بعلّة، ولا يعتريه عدم وفناء، بل هو الأوّل بلا أوّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده. فاللَّه تعالى حيٌّ، لأنّه قادرٌ وعالمٌ وكلّ من هو كذلك فإنّه حيّ. وعندما تنتفي القدرة والعلم والشعور فلم تكن هنالك حياة. بمعنى آخر، قدرته وعلمه يكشفان عن حياته، لأنّه
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، خطبة 178.
2- المصدر نفسه، خطبة 86.
3- سورة الأحزاب، الآية 27.
4- سورة فاطر، الآية 44.
5- سورة المؤمنون، الآية 14.
6- سورة المائدة، الآية 64.
 
 
 
40

17

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 بطبيعة الحال لن يكون من يمتلك العلم والإرادة والقدرة موجودًا ميتًا. وقد أثبتنا أنّ اللَّه تعالى قادرٌ وعالمٌ فيثبت بذلك أنّه حيّ. يقول تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾1.


الإرادة: الله عزّ وجلّ مريدٌ، بمعنى أنّه تعالى يعلم متى يوجد الفعل على وجه المصلحة بقدرته واختياره. والدليل عليه: أنّ قدرته تعالى عامّة لكلّ شي‏ء، ولكنّه خصّص بعض الأفعال في أوقات دون أوقات، وصفات دون صفات، وذلك باختياره. وإلّا لو لم يكن مريدًا ومختارًا لوجدت كلّها في وقت واحد. يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾2.

هذه بعض الصفات الثبوتيّة وبعض الأدلّة عليها.

7- الصفات السلبيّة
هي عديدة، منها:
إنّه تعالى ليس بمركّب: وإلّا لو كان تعالى مركّبًا من أجزاء، يكون مفتقرًا إلى هذه الأجزاء ومحتاجًا إليها، ولكنّ اللَّه تعالى هو واحدٌ أحدٌ، غنيّ غير محتاج لا إلى غير ولا إلى أجزائه. يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾3, ﴿فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾4.

إنّه تعالى ليس بجسم: وإلّا لو كان تعالى جسمًا لافتقر إلى المكان، وقلنا إنّ اللَّه تعالى غنيّ غير محتاج إلى شي‏ء حتّى المكان والزمان، يقول تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ5.

إنّه تعالى لا يُرى بالأبصار: فالله عزّ وجلّ يستحيل رؤيته من خلال البصر الحسّيّ والمادّيّ، لأنّه من يُرى بالبصر لا بدّ أن يكون موجودًا في جهة ومكان، فيكون جسمًا، ونحن نفينا عنه تعالى الجسميّة وكونه محتاجًا إلى شي‏ء، يقول تعالى حينما سأله موسى عليه السلام
 

1- سورة الفرقان، الآية 58.
2- سورة يس، الآية 82.
3- سورة البقرة، الآية 263.
4- سورة آل عمران، الآية 97.
5- سورة الشورى، الآية 11.
 
 
 
41

18

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 الرؤية: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي1, ويقول تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ2.


ورد في كتاب التوحيد عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سأله رجل يُدعى ذعُلب، وقال له: "يا أمير المؤمنين هل رأيت ربَّك؟"، قال عليه السلام: "ويلك يا ذعُلب لم أكن بالذي أعبد ربَّا لم أره"، فقال: "كيف رأيته؟ صفه لنا"، قال عليه السلام: "ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان"3.

ليس بمحتاج: من صفاته تعالى أنّه غنيّ وليس محتاجًا إلى غيره، لا في ذاته ولا في صفاته، لأنّه لو كان محتاجًا إلى غيره لم يعد واجبًا، بل أصبح ممكنًا. وقد ذكرنا الآيات التي تتحدّث عن غناه تعالى في الصفة الأولى التي فيها: ﴿وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾4.
 

1- سورة الأعراف، الآية 143.
2- سورة الأنعام، الآية 103.
3- المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1414ه - 1993م،  ط2، ج1، ص225.
4- سورة البقرة، الآية 263.
 
 
 
42

19

الدرس الثاني: صفات الله تعالى

 المفاهيم الرئيسة


1- أصل التوحيد هو من أهمّ المسائل الاعتقاديّة التي تصدّرت التعاليم السماويّة، ويعدّ أساسًا لسائر التعاليم والمعارف الإلهيّة التي جاء بها الأنبياء والرسل.

2- التوحيد هو الاعتقاد بأن اللَّه تعالى واحدٌ أحدٌ، لا شريك له ولا شبيه ولا مثيل.

3- للتوحيد مراتب عديدة، يؤدّي إنكارها إلى الخروج عن الإيمان والإسلام، منها: التوحيد في الذات، التوحيد في الخالقيّة، التوحيد في الربوبيّة، والتوحيد في العبادة.

4- صفات اللَّه سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: الصفات الثبوتيّة والصفات السلبيّة.
أ- الصفات الثبوتيّة: هي كلّ صفة مثبتة لجمال وكمال في الموصوف.
ب- الصفات السلبيّة: هي كلّ صفة تنفي عن الموصوف كلّ نقص.
5- من الصفات الثبوتيّة: العلم، القدرة، الحياة، والإرادة.
6- من الصفات السلبيّة: إنّه تعالى ليس بمركّب، ليس بجسم، لا يُرى بالأبصار، وليس بمحتاج.
 
 
 
 
 
43

20

الدرس الثالث: العدل الإلهيّ

 الدرس الثالث

العدل الإلهيّ


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح مفهوم العدل.
2- يحدّد دواعيَ الظلم وعدم انطباقها على الله سبحانه وتعالى.
3- يدرك مفهومَي العدل والظلم في القرآن الكريم.
 
 
 
 
 
45

21

الدرس الثالث: العدل الإلهيّ

 تمهيد

إنّ العدل هو صفةٌ من صفات اللَّه تعالى الثبوتيّة، ولكن أُفرِد ببحث مستقلّ لأهمّيّته وكثرة متعلّقاته، ويقابل العدل الظلم. فاللَّه تعالى عادلٌ، غير ظالم لمخلوقاته، لا يفعل قبيحًا، ولا يجور في قضائه، ولا يحيف في حكمه وابتلائه لعباده، يُثيب المطيعين، وله أن يعاقب العاصين، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقّون. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتّهمه"1.

معنى العدل
العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه. يقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ2, أو هو وضع الأمور في مواضعها، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "العدل يضع الأمور مواضعها"3.

دواعي الظلم
الظلم ضدّ العدل، وللظلم دواعٍ ثلاثة، إذا انتفت هذه الدواعي يثبت العدل، وهي:
الجهل: من دواعي الظلم الجهل. فإنّ القوانين الوضعيّة التي وضعها الفكر البشريّ تحتوي على كثير من الظلم، لأنّها نابعة من الفكر البشريّ المحدود. ولو كان هذا العقل البشري عالمًا ومدركًا لكلّ التفاصيل والنتائج، لانتفت الكثير من أسباب الظلم. في حين أن
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، حكمة 470.
2- سورة الزلزلة، الآيتان 7 ـ 8.
3- المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقيّ، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، بيروت - لبنان، 1403ه - 1983م، ط2، ج75، ص350.
 
 
 
 
47

22

الدرس الثالث: العدل الإلهيّ

 اللَّه تعالى عالم، وعلمه مطلق لا حدّ له. كما تقدّم معنا في الصفات، يقول تعالى: ﴿وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾1, ويقول تعالى: ﴿وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2, وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾3


وعليه، فلا يمكن أن يتطرّق إليه الجهل وعدم العلم، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يظلم، لأنّه لا يقع في الظلم إلّا من لديه نقص في المعرفة ومحدوديّة في العلم، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

الخوف: أحيانًا يؤدّي الخوف إلى الظلم، سواء أكان الخوف من الغير على الحكم، أو كان الخوف من انهيار الوضع الاقتصاديّ للشخص، ممّا يدفع بالأشخاص إلى ظلم الآخرين للحفاظ على أوضاعهم ومراكزهم، وغير ذلك. وهذا السبب يستحيل أن يكون في اللَّه تعالى، لأنّه هو القويّ العزيز مالك الملك، غلبت جبروته كلّ شي‏ء وقدرته غير متناهية. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾4, ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾5.

الحاجة والحرمان: الإنسان المحتاج الذي ييأس من تحصيل مطالبه بالطرق المشروعة، فإنّه قد يلجأ إلى طرق أخرى يظلم فيها نفسه بالمعصية، ويظلم الآخرين بسلب بعض حقوقهم والاعتداء عليهم، وهذا لا يمكن أن يكون في ساحة اللَّه عزَّ وجلّ،‏َ لأنّه هو الغني المطلق، وعنده خزائن السماوات والأرض. يقول تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾6, وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾7. وهذا لا يختصّ بالحاجة والحرمان الماديّين، بل يشمل الحاجة والحرمان النفسيّين أيضًا كعقدة النقص.
 

1- سورة النساء، الآية 12.
2- سورة المائدة، الآية 97.
3- سورة يونس، الآية 61.
4- سورة المجادلة، الآية 21.
5- سورة البقرة، الآية 259.
6- سورة البقرة، الآية 267.
7- سورة العنكبوت، الآية 6.
 
 
 
48

23

الدرس الثالث: العدل الإلهيّ

 الله هو العادل

لا يظلم أحدًا: قلنا إنّ الظلم يقابل العدل، وإذا نفينا الظلم عن ساحته المقدّسة نكون قد أثبتنا العدل، وهذا ما فعلناه عندما نفينا دواعيَ الظلم عنه تعالى. ولكن الآن، ننفي عنه الظلم تعالى من خلال القرآن الكريم، حيث وردت آياتٌ كثيرة جدًّا تنفي عنه تعالى الظلم، وتتوعّد الظالمين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، حيث يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾1.

الظلم من النفس وليس من الله: آياتٌ كثيرة من القرآن الكريم تسند الظلم إلى نفس الإنسان، لأنّه أعمى بصره عن الحقّ، وتجاوز حدود اللَّه تعالى، فكان ظالمًا لنفسه أوّلًا ثمّ للآخرين، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾2, ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾3.

يذمّ الظالمين فكيف يكون منهم: إنّ اللَّه تعالى ذمّ‏َ الظالمين في آيات كثيرة، وووعدهم بأليم العقاب، واللَّه تعالى منزَّه عمَّا ذمّ‏َ به خلقه. يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ4, ﴿إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ5. ويقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا6. إذًا، هذه الآيات تشير إلى أنّه تعالى يرفض الظلم ولا يقبل به على الإطلاق، فكيف يمكن أن ينسب إذًا إليه مع كلّ ما فيها من قبح، وما يترتّب عليه من عذاب في الآخرة؟!

هو العادل لا يأمر إلّا بالعدل: إنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أمر عباده بالعدل في آيات عديدة، والعدل هو من الصفات الحميدة والكماليّة، والعقلاء يقبّحون من يترك العدل
 

1- سورة فصّلت، الآية 46.
2- سورة الطلاق، الآية 1.
3- سورة آل عمران، الآية 117.
4- سورة إبراهيم، الآية 42.
5- سورة سبأ، الآية 31.
6- سورة الفرقان، الآية 27.
 
 
49

24

الدرس الثالث: العدل الإلهيّ

 ويظلم الناس، ولا يمكن للَّه عزَّ وجلّ‏َ إلّا أن يتّصف بهذه الصفة، لأنّها صفة كمال، كما أنّه لا يمكن أن يأمر الناس بهذه الصفة الكماليّة، ولا تكون عنده، مع أنّه تعالى هو الحاوي لكلّ صفات الكمال على النحو الأتمّ والأكمل.


يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾1.

ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ2.

لوازم عدالة اللَّه تعالى
إن عدل اللَّه سبحانه وتعالى يعني:
إنّ جميع أفعاله تعالى فيها حكمة وصواب، وليس فيها ظلمٌ ولا جور، ولا كذبٌ ولا عيب، لأنّه تعالى منزَّهٌ عن هذه القبائح لعلمه تعالى بها وقدرته اللّامتناهية.

إنّ أفعاله تعالى معلَّلة بالأغراض والمصالح، لأنّه حكيم، والحكيم لا يصدر منه العبث، والعبث من فعل الضعيف، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ3.

إنّه تعالى لا يكلّف أحدًا فوق طاقته، قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا4.

إنّه تعالى لا يضلّ أحدًا من عباده، بل هداهم وهم أضلّوا أنفسهم، حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ5. أو إنّهم أطاعوا كبراءهم ورؤساءهم فأضلّوهم عن طريق الحقّ وأخذوا بهم إلى طريق الباطل، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا6.

إنّه تعالى يعامل عباده معاملة الممتحن، أي يبلوهم ليمتحنهم ويثيبهم، ويعاقبهم على
 

1- سورة النساء، الآية 58.
2- سورة النحل، الآية 90.
3- سورة الأنبياء، الآية 16.
4- سورة البقرة، الآية 286.
5- سورة النحل، الآية 118.
6- سورة الأحزاب، الآية 67.
 
 
 
50

25

الدرس الثالث: العدل الإلهيّ

 أساس الاختبار، قال تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا1.


اللَّه تعالى لا يعاقب الناس على فعلهم، بل يعاقبهم على أفعالهم، ولا يلومهم فيما صنعه بهم، فلا يعاقبهم على الأمور التكوينيّة، كالسواد والبياض، والطول والقصر، وكلّ ما هو غير اختياريّ لهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ2.

اللَّه تعالى أراد الطاعة من عباده: إن اللَّه تعالى أراد من عباده الخير والطاعة، وأحبّها وكره المعاصي ونبذها، يقول تعالى: ﴿... اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ...﴾3.
 

1- سورة الملك، الآية 2.
2- سورة الحجرات، الآية 13.
3- سورة الحجرات، الآية 7.
 
 
 
 
51

26

الدرس الثالث: العدل الإلهيّ

 المفاهيم الرئيسة


1- العدل من الصفات الثبوتيّة للَّه تعالى، ولكن أفرد ببحث مستقلّ لأهمّيّته وكثرة متعلّقاته.

2- العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، يقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

3- الظلم ضدّ العدل ودواعي الظلم ثلاثة: "الجهل، الخوف، الحاجة والحرمان". وهي أمور يستحيل أن تكون في اللَّه تعالى، لأنّه كما أثبتنا في الصفات: "عالم حكيم وقادر على كلّ شي‏ء وغنيّ عن العالمين".

4- عدالة اللَّه تعني أنّ جميع أفعاله حكمة وصواب، ومعلّلة بالأغراض، ولا يكلّف أحدًا فوق طاقته.

5- العدل والظلم في القرآن الكريم: لا يظلم أحدًا، الظلم من النفس، ذمّ الظالمين، إبليس والظالمون.
 
 
 
 
 
52

27

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 الدرس الرابع

الجبر والاختيار


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس:
1- يدرك المقصود بالجبر والاختيار.
2- يشرح عقيدة الشيعة في الجبر والاختيار.
3- يبيّن أسباب البلاء وتنوّعه عند الإنسان.
 
 
 
 
 
53

28

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 تمهيد

قلنا إنّ معالم عدالة اللَّه تعالى تعني أنّه جلّ‏َ وعلا لا يضلّ أحدًا من عباده، ولا يعاقبهم على ما لا اختيار لهم فيه. هذه المقولات البديهيّة خالفها جماعة من المسلمين، وجوّزوا على اللَّه تعالى ما لا يليق بعدله وعظمته، حيث وقع الكلام هل إنّ الإنسان مجبر على أفعاله، أي ليس له إرادة واختيار، وإنّ كلّ فعل يصدر منه بغير إرادته واختياره، وإنّما هو كالآلة تحرّكه قوّة أكبر منه، أم إنّ الإنسان هو مريد ومختار، يفعل بمحض إرادته واختياره ولا يجبره أحد على فعله؟

الجبر عند المشركين
تنصّ الآيات القرآنية على أنّ المشركين كانوا معتقدين بالجبر وسلب الاختيار، قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ1. ولكنّ الذكر الحكيم يردّ عليهم تلك المزاعم بقوله: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ2.

ويقول تعالى في آية أخرى حاكيًا كلام المشركين في تعليل ارتكابهم الفحشاء بأمر من اللَّه تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ3.

ويقول تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ4..
 

1- سورة الأنعام، الآية 148.
2- سورة الأنعام، الآية 148.
3- سورة الأعراف، الآية 28.
4- سورة الزخرف، الآية 20.
 
 
55

29

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 الاعتقاد بالجبر عند بعض المسلمين

من المؤسف أنّ بعض فرق المسلمين وقعوا في شبهة الجبر التي وقع فيها المشركون، نظرًا إلى التفسير الخاطئ لبعض الآيات الكريمة التي تسند الخلق والفعل للَّه تعالى، حيث اعتبروا أنّ اللَّه تعالى هو الذي يفعل كلّ الأفعال من دون اختيار وإرادة للإنسان، وكأنّ الإنسان مجرّد آلة تتحرّك كما يريد اللَّه تعالى ويشاء، كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾1,  ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ2, ﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ3. ولكنّ هؤلاء المسلمين لو أمعنوا النظر في كتاب اللَّه عزَّ وجلّ‏َ لوجدوا آياتٍ كثيرة تدلّ على إسناد الفعل إلى العباد، ممّا يدلّ على أنّ الإنسان مختارٌ ومريدٌ لأفعاله، يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ4, ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ5. هذه الآيات الكريمة واضحة في إسناد الأفعال إلى نفس الإنسان، حيث صرّحت بأنّهم يكتبون بإرادتهم واختيارهم، بل حتّى أنّهم يتّبعون الظنّ وأهواء أنفسهم بملء إرادتهم واختيارهم أيضًا، وأنّ التغيير منوطٌ بإرادتهم.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك، حتّى أنّه وللأسف ظهرت فرق من المسلمين كالمعتزلة تقول إنّ الإنسان يفعل بإرادته واستقلاله من دون تعلّق لإرادة اللَّه تعالى في أفعاله، أي إنّ اللَّه فوَّض للإنسان أفعاله على نحو الاستقلال من دون تدخّل للقدرة الإلهيّة في شي‏ء من أفعاله. وبالطبع، فإنّ هذه العقيدة أعظم بطلانًا من الأولى، لأنّها تجعل الإنسان خالقًا في قبال اللَّه سبحانه وتعالى، كأنه شريكٌ للَّه في خلق الأفعال، واللَّه تعالى يقول في كتابه: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ6.
 

1- سورة الزمر، الآية 62.
2- سورة فاطر، الآية 3.
3- سورة الصافات، الآية 96.
4- سورة البقرة، الآية 79.
5- سورة النجم، الآية 23.
6- سورة التكوير، الآية 29.
 
 
 
 
56

30

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 عقيدة الشيعة الإماميّة بين الجبر والتفويض

ذهب الشيعة الإماميّة في عقيدتهم إلى الأمر بين الأمرين، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين". سئل عليه السلام: "ما الأمر بين الأمرين؟"، قال عليه السلام: "مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية"1.

وقال البصريّ لأبي عبد اللَّه عليه السلام: "الناس مجبورون؟"، قال عليه السلام: "لو كانوا مجبورين لكانوا معذورين"، قال: "ففوّض إليهم؟"، قال عليه السلام: "لا"، قال: "فما هم؟"، قال: "علم منهم فعلًا فأوجد فيهم آلة الفعل، فإذا فعلوا كانوا مع الفعل مستطيعين"2.

تبيَّن أنّ عقيدة الشيعة هي لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين، فإنّ اللَّه تعالى هو خلق السبيل وخلق الإنسان، وأعطاه القدرة والاختيار، وكلّ ذلك متعلّق بقدرة اللَّه واختياره أيضًا، ولكن يختار اللَّه لنا ما نختاره لأنفسنا لذلك: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾3, ولذلك صحّت المحاسبة، يقول تعالى: ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ4, ويقول تعالى حاكيًا قول الشيطان الرجيم: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي5, وكذلك صحّ الثواب والعقاب.

يقول تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ6, وقوله تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ7.
 

1- المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، تصحيح اعتقادات الإماميّة، تحقيق حسين درگاهي، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1414ه - 1993م، ط2، ص46.
2- عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، تصحيح وتعليق وتقديم السيّد طيّب الموسويّ الجزائريّ، مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، إيران - قم، 1404ه، ط3، ج1، ص227.
3- سورة الإنسان، الآية 3.
4- سورة النساء، الآية 123.
5- سورة إبراهيم، الآية 22.
6- سورة الأنعام، الآية 160.
7- سورة النمل، الآية 89.
 
 
 
 
57

31

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 وأيضًا ممّا يدلّ على ذلك الآيات التي تعلِّق أفعال العباد على مشيئتهم كقوله تعالى: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾1, ﴿فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾2.


وممّا يؤيّد ذلك أيضًا الآيات التي تأمر الناس بالعمل، وإلّا لولا وجود الاختيار لكان الأمر عبثًا ولغوًا، تعالى اللَّه عن ذلك علوَّا كبيرًا. وكقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾3.

عقيدة الجبر والسياسة
إنّ عقيدة الجبر التي ظهرت عند بعض الفرق الإسلاميّة إنّما وراؤها غاية سياسيّة استغلَّها الحكّام للوصول إلى مآربهم الشخصيّة والسلطويّة، وكذلك لتبرير أفعالهم وانتهاكاتهم. يقول الشهيد مطهّري رحمه الله: "يشير التاريخ إلى أنّ مسألة القضاء والقدر كانت مستمسكة صلبة وقويّة لحكّام بني أميّة الذين كانوا من المؤيّدين الأشدّاء لمسلك الجبر، وكانوا يقتلون المؤيّدين للاختيار والحريّة البشريّة بتهمة أنّهم من المعارضين للمعتقدات الدينيّة، أو كانوا يرمونهم في السجون حتّى عُرِف في ذلك الوقت أنّ الجبر والتشبيه أمويّان، والعدل والتوحيد علويّان"4. ويقول أبو هلال العسكريّ: "إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ اللَّه يريد أفعال العباد كلّها"5. ويقول ابن قتيبة: "وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم"6. وجرى على هذه السياسة سائر الخلفاء الأمويّين وتبعهم العباسيّون، والسرّ في انتهاج هذه السياسة هو:
 

1- سورة الكهف، الآية 29.
2- سورة المزمل، الآية 19.
3- سورة آل عمران، الآية 133.
4- مكارم الشيرازيّ، الشيخ ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، لا.م، ط1، 1426ه، ج9، ص108.
5- الباقلانيّ، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، تحقيق الشيخ عماد الدين أحمد حيدر - مركز الخدمات والأبحاث الثقافيّة، مؤسّسة الكتب الثقافيّة، بيروت - لبنان، 1414ه - 1993م، ط3، ج‏2، ص‏125.
6- ابن قتيبة الدينوريّ، الإمامة والسياسة، تحقيق علي شيري، انتشارات شريف الرضي، لا.م، 1413ه - 1371 ش، ط1، ج‏1، ص‏171.
 
 
 
58

32

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 1- سلب إرادة واختيار الناس، وإجبارهم على الانصياع للسلطة

إظهار إرادة الحكّام الظالمين على أنّها إرادة اللَّه تعالى، ليبرّروا ظلمهم وجرائمهم أمام الناس، وساعدهم على ذلك علماء السوء ووعَّاظ السلاطين.

2- فلسفة الشرور والآفّات
من المسائل المتعلّقة بمبحث العدل مسألة "الشرور والآفّات"، والتي كانت محلّ تساؤل منذ القدم، وهي أنّه تعالى إذا كان عادلًا لا يظلم مثقال ذرّة، فلماذا وُجِدَت البلاءات والمصائب والآفّات التي يكون ظاهرها الشرّ في العالم؟ لماذا الاختلاف في الخلق، شخصٌ جميل وآخر قبيح، أو طويلٌ وقصير، والبعض فقراءٌ والبعض أغنياء، وغير ذلك ممّا يتراءى لنا أنّه نقصٌ وعيبٌ وشرٌّ وما إلى ذلك؟

إنّ الإنسان باعتبار ضعفه وجهله قد يتوهّم ما غايته خيرٌ شرًّا وما نهايته شرٌ خيرًا، فينظر إلى ظواهر الأمور وبداياتها، ولا ينظر إلى عمقها ونهاياتها. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ1.

فما يراه الإنسان أو ما يشعر به ليس هو دائمًا المعيار الحقيقيّ لفهم المصلحة الحقيقيّة للفرد والمجتمع، فربّ شي‏ء نحبّه وفيه شرّ كثير على صعيد الفرد أو المجتمع أو الأمّة، وكذلك ربّ شي‏ء نكرهه وفيه المصلحة الكبرى للفرد أو الأمّة، واللَّه تعالى هو المحيط بخفايا الأمور، ولا يستطيع البشر مهما بلغ وعيهم وفطنتهم إلّا أن يفهموا جانبًا من تلك الخفايا والمصالح البعيدة في الأحكام. فعلى المؤمن أن يعتقد أنّ كلّ الأحكام الصادرة من اللَّه تعالى هي لصالحه، تشريعيّة كانت، كالصلاة، والصوم، والجهاد والزكاة، أم تكوينيّة، كالموت، والبلاءات، والاختلاف في الخلقة والألوان. ويجب أن يصل إلى مرحلة التسليم للَّه تعالى، حيث يقول: ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا2, لأنّ ما
 

1- سورة البقرة، الآية 216.
2- سورة النساء، الآية 65.
 
 
 
 
59

33

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 توصّل إليه الإنسان من العلوم والاكتشافات لأسرار هذا الكون إنّما هو النزر اليسير، يقول تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً1.


ويؤكّد القرآن الكريم هذه المسألة في قوله تعالى: ﴿وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ2. فإنّ الكثير من الآلام هي في واقعها خير، والإنسان أخطأ عندما اعتبرها شرًّا. فملاك وحقيقة الخيريّة وعدمها ليس بموافقتها للرغبات. وذكر القرآن الكريم صورة أخرى معاكسة، وهي أنّ الشيء قد يكون بالنظر السطحيّ خيرًا، ولكنّه في الواقع شرٌّ وبلاءٌ وفتنةٌ وسببٌ لسوء العاقبة، يقول تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ3.

فلسفة ابتلاء المؤمنين
3- البلاء هو امتحان واختبار:
الدنيا هي دار ممرّ وامتحان وبلاء، واللَّه تعالى يختبر فيها الناس بالخير وبالشرّ ليجزيَ الصابرين والعاملين، يقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾4, ويقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ5.

وفي حديث أنّ أمير المؤمنين عليه السلام مرض، فعاده قوم فقالوا: "كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟"، قال عليه السلام: "أصبحت بشرّ". قالوا: "سبحان اللَّه هذا كلام مثلك؟!"، فقال عليه السلام: "يقول تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾6, فالخير الصحة والغنى، والشرّ المرض والفقر ابتلاءٌ واختبار"7.
 
 

1- سورة الإسراء، الآية 85.
2- سورة آل عمران، الآية 157.
3- سورة آل عمران، الآية 180.
4- سورة الأنبياء، الآية 35.
5- سورة العنكبوت، الآيتان 2 ـ 3.
6- سورة الأنبياء، الآية 35.
7- قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الدعوات سلوة الحزين -، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهديّ عليه السلام إيران - قم، 1407ه، ط1،ص‏168.
 
 
 
 
60

34

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 4- الابتلاء تأديب للمؤمن:

قد يكون ابتلاء المؤمن للتأديب والتذكّر دائمًا، لما في البلاءات من العبر والمواعظ. يقول الإمام الصادق عليه السلام: "ما من مؤمن إلّا وهو يذكَّر في كلّ أربعين يومًا ببلاء، إمّا في ماله، أو في ولده، أو في نفسه، فيؤجر عليه، أو همّ‏ٌ لا يدري من أين هو"1.

5- الابتلاء تطهير لذنوب المؤمن:
قد يكون بلاء المؤمن تطهيرًا لذنوبه. يقول الإمام الكاظم عليه السلام: "للَّه في السرّاء نعمة التفضّل وفي الضرّاء نعمة التطهّر"2، وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "السُّقم يمحو الذنوب"3.

ويقول أيضًا صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا أذى ولا همّ حتّى الهم يهمّه إلا كفّر اللَّه به خطاياه"4.

6- الابتلاء رفع للدرجات:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل". هنالك نوع من البلاء يكون لرفع درجة الإنسان المؤمن في الآخرة، كالذي يتعرّض له الأنبياء والأولياء، فهذا البلاء في الحقيقة هو رحمة سيجد المؤمن نتيجتها في الآخرة.
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏67، ص‏237.
2- المصدر نفسه، ج‏78، ص‏165.
3- المصدر نفسه، ج‏67، ص‏244.
4- المصدر نفسه، ج‏81، ص‏188.
 
 
 
 
61

35

الدرس الرابع: الجبر والاختيار

 المفاهيم الرئيسة

1- تنصّ الآيات القرآنيّة على أنّ المشركين كانوا معتقدين بالجبر وسلب الاختيار، وردَّ القرآن الكريم على مزاعمهم، بقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾، ويقول تعالى: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ﴾.

2- المؤسف أنّ بعض المسلمين وقعوا في شبهة الجبر التي وقع فيها المشركون، نظرًا إلى التفسير الخاطئ لبعض الآيات الكريمة التي تسند الخلق والفعل إلى اللَّه تعالى.

3- هؤلاء المسلمون لو أمعنوا النظر في كتاب اللَّه تعالى لوجدوا آيات كثيرة تدلّ على إسناد الفعل إلى العباد أيضًا.

4- ذهب الشيعة في عقيدتهم إلى الأمر بين الأمرين.

5- مسألة الشرور والآفّات، لماذا وجدت؟ وهل هي موافقة لعدالة اللَّه تعالى؟ مسألة قد طرحت منذ القدم.

6- الإنسان لضعفه وجهله قد يتوهّم ما غايته خيرٌ شرًّا وما نهايته شرٌ خيرًا، فينظر إلى ظواهر الأمور.

7- ما يراه الإنسان أو ما يشعر به ليس هو دائمًا المعيار الحقيقيّ لفهم المصلحة الحقيقيّة.

8- اللَّه تعالى يبتلي المؤمنين ليختبرهم بالخير والشرّ، وليجزي الصالحين والصابرين.
 
 
 
 
62

36

الدرس الخامس: النبوّة

 الدرس الخامس

النبوّة


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الغاية من خلق الإنسان.
2- يبيّن فوائد بعثة الأنبياء وأدوارهم.
3- يفهم المقصود من عصمة الأنبياء عليهم السلام.
 
 
 
 
 
63

37

الدرس الخامس: النبوّة

 تمهيد

إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لحكمة ومصلحة، وجعل له السبل التي تمكّنه من الوصول إلى تحقيق تلك الحكمة والمصلحة الإلهيّة، فلا يصحّ أن يطالب الإنسان بالهداية والعبادة، ولا تبيّن له السبل التي توصله إلى ذلك. ولذا، جعل الله سبحانه وتعالى الأنبياء وسيلة الخلق إليه، وجعلهم المبلّغين الذين يؤدّون رسالة الله إلى خلقه، ويبلِّغون الناس ما أراد الله منهم.

الغاية من خلق الإنسان
اللَّه سبحانه وتعالى عليمٌ حكيمٌ، خلق الخلق لحكمة ومصلحة وهدف، يقول تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾1. ويقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾2. فكلّ شي‏ء خلق لغاية، والغاية أوضحها اللَّه تعالى في كتابه الكريم، حيث يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾3. فالعبادة والمعرفة هما الغاية من خلق الإنسان، كما ورد في الحديث القدسيّ أيضًا: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق لكي أُعرَف"4.

العبادة تعني الخضوع والطاعة والانقياد للخالق بما يأمر وبما ينهى، ولكن لكي تتحقّق
 

1- سورة المؤمنون، الآية 115.
2- سورة الدخان، الآيتان 38 ـ 39.
3- سورة الذاريات، الآية 56.
4- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏84، ص‏199.
 
 
 
65

38

الدرس الخامس: النبوّة

 هذه العبادة والطاعة على الوجه الصحيح والمرضيّ من قبل الخالق، لا بدّ أن تكون عن معرفة ودراية، وإلّا وقعت باطلة وغير صحيحة، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يسلك الطريق الصحيح من دون دليل يدلّه عليه.


الأنبياء وتحقّق الغاية
إنّ تحقيق الغاية من الخلق - وهي المعرفة والعبادة - يتوقّف على تعيين واسطة بين الخالق وبين المخلوقين، يهديهم إلى الرشاد، ويعلّمهم طرق العبادة والطاعة. يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ1, وهنا يأتي دور النبوّة.

إنّ تاريخ الإنسان بنظر القرآن الكريم مترافقٌ مع تاريخ الوحي والنبوّة، فلقد كان الوحي موجودًا بصفته برنامجَ تكاملٍ للإنسان منذ ظهور الإنسان على الأرض، يقول تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾2, إلى غير ذلك من الآيات التي تؤكّد هذه الحقيقة. عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذا السياق في نهج البلاغة: "ولم يخل اللَّه سبحانه خلقه من نبيّ مرسل أو كتاب منزل أو حجّة بالغة أو محجّة قائمة"3.

الإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام
لا يكفي الاعتقاد بنبوّة نبيٍّ واحد أو بعض الأنبياء عليهم السلام، بل لا بدّ أن يعتقد الإنسان بنبوّة جميع الأنبياء، لأنّهم جميعًا أنبياءٌ مرسلون من قبل اللَّه تعالى، وكلّ نبيّ جاء مصدّقًا لكلام النبيّ الذي قبله، يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا4.

ويقول تعالى: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ
 

1- سورة الشورى، الآية 51.
2- سورة فاطر، الآية 24.
3- نهج البلاغة، مصدر سابق، خطبة 1.
4- سورة النساء، الآية 163.
 
 
 
66

39

الدرس الخامس: النبوّة

 وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ1. ويقول تعالى في ذمّ أولئك الذين يؤمنون ببعضهم فقط: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾2


فوائد بعثة الأنبياء
هنالك فوائد كثيرة من بعثة الأنبياء، بالإضافة إلى تعريف الناس وهدايتهم إلى طريق تكاملهم، أهمّها:
يوجد الكثير من المعارف المهمّة في حياة الإنسان قد يجهلها أو يغفل عنها، وهذه المعارف بيَّنها الأنبياء للناس لتذكيرهم الدائم. لذلك ورد في القرآن الكريم صفة المذكِّر والذكر والذكرى والتذكرة. يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴾3.

ويقول تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾4.

ويقول تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى5.

ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول"6.

إنّ وجود النبيّ بين الناس له تأثيرٌ كبيرٌ في تربية الأشخاص، باعتبار أنّ الأنبياء وصلوا إلى أعلى مراتب الكمال، فكانوا القدوة الحقيقيّة ليقتديَ بهم الناس ويتأسّوا بأفعالهم،
 

1- سورة البقرة، الآية 136.
2- سورة النساء، الآيتان 150 ـ 151.
3- سورة الغاشية، الآية 21.
4- سورة الأنعام، الآية 90.
5- سورة طه، الآيات 1 – 3.
6- نهج البلاغة، مصدر سابق، خطبة 1، ص‏23.
 
 
 
67

40

الدرس الخامس: النبوّة

 فيقومون بتربية الناس وتزكيتهم روحيًّا، يقول تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ1.


ويقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ2.

من فوائد وجود الأنبياء ممارسة القيادة السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة، وفضّ الخلافات والمعضلات والاضطرابات الاجتماعيّة بين الناس، يقول تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ3.

دور الأنبياء عليهم السلام
إنّ القرآن الكريم لم يحدّد دورًا خاصًّا للأنبياء عليهم السلام، بل إنّ دورهم مرتبطٌ بكلّ ما تحتاجه الأمّة في حياتها على الصعيدين الروحيّ والعلميّ، وعلى الصعيد الاجتماعيّ، من وضع قوانين تنظّم حياة الناس وتهديهم إلى السعادة الحقيقيّة والكمال الإنسانيّ، وكذلك يبيّنون لهم الأحكام ويحذّرونهم من الوقوع في المعاصي ومخالفة اللَّه تعالى.

وهذه بعض أدوارهم عليهم السلام التي وردت في القرآن الكريم:
التعليم: يقول تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ4.

التبشير والإنذار: يقول تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ5.

الدعوة إلى عبادة اللَّه تعالى: يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾6.
 

1- سورة الممتحنة، الآية 4.
2- سورة الأحزاب، الآية 21.
3- سورة البقرة، الآية 213.
4- سورة البقرة، الآية 151.
5- سورة الأنعام، الآية 48.
6- سورة النحل، الآية 36.
 
 
 
68

41

الدرس الخامس: النبوّة

 إخراج الناس من الظلمات إلى النور: يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ﴾1.


الشهادة على أعمال العباد: يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا2.

إبلاغ الرسالة للناس: يقول تعالى: ﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ3.

الحكم بين الناس: يقول تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ4.

الأسوة الحسنة: يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ5.

صفات الأنبياء عليهم السلام
أخطر المناصب وأكبرها مسؤوليّة قيادة المجتمع البشريّ وهدايته إلى السعادة والكمال. فإنّ المتصدّيَ لهذه المسؤوليّة الكبرى، يجب عليه أن يتمتّع بصفات وامتيازات خاصّة، كالمعرفة التامّة بإدارة الشؤون الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والتربويّة، بالإضافة إلى الاتّصاف بالفضائل النفسيّة والروحيّة والأخلاقيّة. لذلك نرى القرآن الكريم يركّز على هذه الناحية لأهمّيّتها على صعيد التبليغ، حيث يخاطب اللَّه سبحانه وتعالى نبيّه الكريم بقوله: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ6, ولذلك خاطبه اللَّه تعالى وأثنى عليه بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ7. هذا بالإضافة إلى الصفة الأهمّ والأبرز، والتي لها ارتباط وثيق بالتبليغ والهداية، وهي صفة العصمة، وسنتحدّث عنها باختصار.
 

1- سورة إبراهيم، الآية 5.
2- سورة الفتح، الآية 8.
3- سورة المائدة، الآية 99.
4- سورة البقرة، الآية 213.
5- سورة الأحزاب، الآية 21.
6- سورة آل عمران، الآية 159.
7- سورة القلم، الآية 4.
 
 
 
69

42

الدرس الخامس: النبوّة

 عصمة الأنبياء

1- معنى العصمة:
الواسطة بين اللَّه وعباده أيّ النبيّ يجب أن يكون معصومًا، بمعنى أنّه يجب أن يتمتّع بملكة نفسيّة قويّة تمنعه من ارتكاب المعصية حتّى في أشدّ الظروف، وتنبع هذه الملكة من الوعي التامّ بقبح المعصية والإرادة القويّة لضبط الميول النفسيّة، وهذه تتحقّق بالعناية الإلهيّة الخاصّة. إنّ العصمة لا تعني أنّ الإنسان مجبورٌ على العمل بمقتضاها، بل إنّ صاحبها لا يختار المعصية ولا يقع فيها لعلمه بحقيقة الذنب وآثاره، وقوّة العلم توجب قوّة الإرادة، فلا تتعلّق إرادته حينئذٍ إلّا بالطاعات.

2- أدلّة عصمة الأنبياء:
هنالك العديد من الأدلّة منها:
أنّه لو لم يكن النبيّ معصومًا لكان محلّ إنكار ومورد عتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾1, وأيضًا قوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ2. فمن الطبيعيّ أن يكون النبيّ معصومًا، يأتمر بما يأمر، وينتهي عمَّا ينهى، حتّى لا يُنكر عليه من أحد، وحتى يحصل الوثوق به وبتبليغه، ويُعتمد عليه في إخراج الناس من الظلمات إلى النور.

3- أنحاء العصمة:
العصمة من الذنوب: الأنبياء معصومون من ارتكاب الذنوب، صغيرها وكبيرها، لأنّه لو كان مرتكبًا للذنوب لأصبح ظالمًا إمّا لنفسه أو لغيره، وهو خلاف العصمة التي جُعلت شرطًا في النبوّة، كما في قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ3. العصمة عن الخطأ والاشتباه: لأنّ النبيّ لو اشتبه وأخطأ، يكون خلاف كونه هاديًا، حيث يحتمل
 

1- سورة البقرة، الآية 44.
2- سورة الصف، الآيتان 2 و3.
3- سورة البقرة، الآية 124.
 
 
 
 
70

43

الدرس الخامس: النبوّة

 الاشتباه حينها في كلّ قول وتبليغ وحكم، وهذا نقض للغرض الذي أرسل الأنبياء لأجله، لأنّهم عليهم السلام بُعِثوا هداة مهديّين، كما يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾1. ويقول أيضًا: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾2.


ويقول سبحانه وتعالى بحقّ رسوله الكريم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾3.
 

1- سورة الأنبياء، الآية 73.
2- سورة الأنعام، الآية 90.
3- سورة النجم، الآيتان 3 ـ 4.
 
 
 
71

44

الدرس الخامس: النبوّة

 المفاهيم الرئيسة


1- العبادة والمعرفة هما الغاية من خلق الإنسان، كما ورد في الحديث القدسيّ: "كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق لكي أُعرَف".

2- تحقّق هذه الغاية يتوقف على تعيين واسطة بين الخالق وبين المخلوقين، يهديهم إلى الرشاد، ويعلّمهم طرق العبادة والطاعة. ولا يكفي الاعتقاد بنبوّة نبيّ واحد أو بعض الأنبياء، بل لا بدّ أن يعتقد الإنسان بنبوّة جميع الأنبياء.

3- هناك فوائد كثيرة من بعثة الأنبياء، بالإضافة إلى تعريف الناس وهدايتهم إلى طريق تكاملهم، منها:
أ- تبيين الكثير من المعارف التي يجهلها الإنسان.
ب- وجود النبيّ له أثر كبير في تربية الناس.
ج- ممارسة القيادة السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة.

4- المتصدّي لمقام النبوّة عيجب أن يتمتّع بصفات وامتيازات خاصّة، كالمعرفة التامّة، والفضائل الحسنة والعصمة.
 
 
 
 
 
72

45

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 الدرس السادس

نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف فلسفة بعثة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
2- يستدلّ على بعثة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
3- يفهم إعجاز القرآن الكريم.
 
 
 
 
 
 
73

46

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 تمهيد

بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء لهداية الناس، وقد تميّز من بين الأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام بما أنزل اللَّه عليهم من الكتب السماويّة المشتملة على الأحكام والقوانين. ولكنّ هذه الكتب تعرّضت للتحريف، ومنها اختفى تمامًا وغاص العالم كلّه في الظلام والجهل، حينها بعث اللَّه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر المناطق تخلّفًا وانحطاطًا وظلمًا، للناس كافّة، ورحمة للعالمين.

فلسفة بعثة نبيّ الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
لقد بُعِث آلاف الأنبياء عليهم السلام في مراحل تاريخيّة مختلفة وأماكن مختلفة من العالم، وقاموا بمهامّهم خير قيام في هداية البشريّة، وتربيتهم وتقوية معتقداتهم وقيمهم، ودعوا إلى التوحيد والعدل. وتميَّز من بينهم نوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى عليهم السلام بأن أنزل اللَّه عليهم كتبًا سماويَّة مشتملة على الأحكام والقوانين الفرديّة والاجتماعيّة، والتعاليم والوظائف الأخلاقيّة والقانونيّة الملائمة لظروفها الزمانيّة. ولكنّ هذه الكتب تعرّضت للتحريف، ومنها ما اختفى، وعاش الناس في ضلال، لأنّهم باتوا يأخذون دينهم من رهبانهم وأحبارهم وكتبهم، مع ما فيها من تحريف، وأساطير، وتشويه لصورة الأنبياء، والنيل من مقام الربوبيّة، وتحريم ما أحل اللَّه، وتجويز ما حرَّم، فلم يعد أيّ دور يُذكر لهداية البشر، حيث غاص العالم كلّه في القرن السادس الميلاديّ في الظلام والجهل والظلم، وخمدت مشاعل الهداية الإلهيّة. وفي ذلك الوقت، بعث اللَّه سبحانه وتعالى خاتم الأنبياء وأفضلهم في أكثر المناطق تخلُّفًا وانحطاطًا وظلمًا وجهالةً، أرسله إلى البشر كافّة، ليحمل لهم الكتاب
 
 
 
 
 
75

47

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 الإلهيّ الخالد، ليهديَهم إلى سبيل الرشاد، ويعلّمهم المعارف الحقيقيّة، ويقود البشر إلى السعادة الدنيويّة والأخرويّة.


يقول تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ1.

ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ2.

الدليل على نبوّة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم
إثبات نبوّة أيّ نبيّ يتمّ من خلال ثلاثة طرق:
الأوّل: التعرّف على سيرتهم وسلوكهم.
الثاني: إخبار الأنبياء السابقين.
الثالث: المعجزة.

وهذه الطرق الثلاثة قد توفرَّت في نبوّة نبيّ الإسلام محمّد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، وتفصيلها كالآتي:
1- الطريق الأوّل: سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
إنّ أهل مكّة قد عاشروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أربعين عامًا ولم يجدوا خلالها عثرة من العثرات وأيّ ضعف في حياته، بل كانت حياته مضيئة بالنور والعطاء، وكان يُشار إليه بالبنان، وبالتواضع والزهد، والصدق والأمانة، حيث لقَّبوه بالصادق الأمين، وكان مثال مكارم الأخلاق، حتّى نعته اللَّه تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ3.

2- الطريق الثاني: إخبار الأنبياء السابقين:
لقد أخبر وبشَّر الأنبياء السابقون بنبوّته وبعثته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان ينتظر ظهوره جماعة
 

1- سورة آل عمران، الآية 164.
2- سورة الجمعة، الآية 2.
3- سورة القلم، الآية 4.
 
 
 
76

48

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 من أهل الكتاب، وكانوا يعرفون بعض العلامات الواضحة والبيّنة عليه، وكانوا يقولون للمشركين من العرب بأنّه سيبعث بالرسالة أحد أبناء إسماعيل عليه السلام يصدّق بالأنبياء السابقين، وقد آمن به بعض علماء اليهود والنصارى اعتمادًا على تلك البشائر.


يقول تعالى في كتابه الكريم على لسان عيسى عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ1. ويقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ2.

ويقول تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ3. إنّ معرفة علماء بني إسرائيل بنبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم استنادًا إلى بشارات الأنبياء السابقين تُعدُّ دليلًا واضحًا على صحّة نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم، وحجّة مقنعة لأهل الكتاب ولغيرهم لمشاهدتهم صدق وحصول هذه البشارات.

3- الطريق الثالث: المعجزة:
إنّ الناس كانوا يطلبون المعجزة من الأنبياء عند ادّعائهم النبوّة، كما حدّثنا القرآن الكريم عن قوم نبيّ اللَّه صالح عليه السلام: ﴿مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ4, وقد يخبر النبيّ عن تسلُّحه بالمعجزة ابتداءً كما حصل مع نبيّ اللَّه موسى عليه السلام مخاطبًا فرعون: ﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾5.

وكذلك حدث مع النبيّ عيسى عليه السلام كما في قوله تعالى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ6.
 

1- سورة الصف، الآية 6.
2- سورة الأعراف، الآية 157.
3- سورة البقرة، الآية 129.
4- سورة الشعراء، الآية 154.
5- سورة الأعراف، الآية 105.
6- سورة آل عمران، الآية 49.
 
 
 
77

49

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 القرآن معجزة نبيّ الإسلام

إنّ معجزات رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى، كشقّ القمر له في مكّة عندما طلبت قريش منه آية، كما أخبر القرآن الكريم: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ *  وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرّ1, وغيرها من المعجزات ولكن تبقى معجزته الإلهيّة الباهرة والخالدة في القرآن الكريم.

فالقرآن الكريم هو الكتاب السماويّ الوحيد الذي أعلن أنّه لا يمكن لأحدٍ الإتيان بمثله حتّى لو اجتمعت الإنس والجنّ، أو حتّى بعشر سورٍ أو سورة واحدة. يقول تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا2, ويقول تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ3, ويقول تعالى: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ4. ثمّ إنّ عدم الاستجابة لهذا التحدّي لهو دليلٌ على إعجازه وتصديق لنبوّة صاحبه صلى الله عليه وآله وسلم.

وجوه إعجاز القرآن الكريم
يوجد وجوه عديدة لإعجاز هذا الكتاب العظيم، منها:
إنّه مع كونه مؤلّفًا من هذه الحروف الهجائيّة المحدودة عجز البشر عن الإتيان بمثله، قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا5.

فرادة الأسلوب وأعجوبة النظم، وليس له شبيه في كتب الشعراء والبلغاء والفصحاء.

عدم الاختلاف والتناقض فيه، ولو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، يقول
 

1- سورة القمر، الآيتان 1 و2.
2- سورة الإسراء، الآية 88.
3- سورة هود، الآية 13.
4- سورة يونس، الآية 38.
5- سورة الإسراء، الآية 88.
 
 
78

50

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 تعالى: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا1.


اشتماله على الآداب الكريمة والشرائع القويمة، ونظام العباد والبلاد والمعاد.

اشتماله على ما كان مخفيًّا من الأخبار الماضية والأزمنة الغابرة، كقصص أصحاب الكهف، وسبأ، وذي القرنين والخضر.

اشتماله على الأمور المستقبليّة: "كغلبة الروم" في قوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ2.

إنّه مع كلّ وجوه إعجازه، صدر من إنسان أميّ لم يتعلّم القراءة والكتابة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ 3, وقال تعالى: ﴿النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ4.

خاتميّة الرسالة الإسلاميّة
إنّ الدين الإسلاميّ هو الدين الخالد، ودعوته شاملة وعامّة غير محددة بمنطقة وغير مختصّة بقوم، وممّا يؤيّد ذلك الرسائل التي كان يبعثها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للرؤساء والملوك والحكام، أمثال: قيصر الروم، وكسرى الفرس، وحكّام مصر والشام والحبشة، ورؤساء القبائل المختلفة، حيث دعاهم جميعًا لاعتناق الإسلام، ويدلّ على ذلك أيضًا أنّ خطابات الآيات القرآنيّة متوجّهة للناس جميعًا في الغالب، مثل: "يا أيّها الناس"يا بني آدم"، "يا أهل الكتاب". قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾5, ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾6, ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ7.

وهذه الرسالة هي خاتمة الرسالات السماويّة. يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿مَّا كَانَ
 

1- سورة النساء، الآية 82.
2- سورة الروم، الآيتان 2 ـ 3.
3- سورة النحل، الآية 103.
4- سورة الأعراف، الآية 158.
5- سورة الأنبياء، الآية 107.
6- سورة سبأ، الآية 28.
7- سورة التوبة، الآية 33، سورة الفتح، الآية 28، سورة الصف، الآية 9.
 
 
 
79

51

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ1. الآية المباركة تدلّ على أنّ النبيّ الأكرم هو خاتم الأنبياء، أي إنّ سلسلة النبوّة تنتهي بنبوّته صلى الله عليه وآله وسلم. هذا بالإضافة إلى الكثير من الروايات الدالّة على ذلك، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيها الناس إنّه لا نبيّ بعدي ولا أمّة بعدكم"2. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنّه ليس بعدي نبيّ"3.

 


1- سورة الأحزاب، الآية 40.

2- الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، تحقيق وتصحيح وتذييل الشيخ عبد الرحيم الربانيّ الشيرازيّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت - لبنان، 1403ه - 1983م، ط5، ج‏1، ص‏15.

 

3- المصدر نفسه.

 

 

80


52

الدرس السادس: نبوّة النبيّ محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم

 المفاهيم الرئيسة


1- الدليل على نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هو سيرته وسلوكه، إخبار الأنبياء السابقين عنه والمعجزة الخالدة.

2- معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن تحصى.

3- القرآن الكريم هو الكتاب السماويّ الوحيد الذي أعلن أنّه لا يمكن لأحد الإتيان بمثله أو بجزء منه، وللقرآن الكريم وجوه عدّة تبيّن إعجازه.

4- إنّ الدين الإسلاميّ هو الدين الخالد، ودعوته شاملة وعامّة غير محدّدة بمنطقة وغير مختصّة بقوم، وممّا يؤيّد ذلك الرسائل التي كان يبعثها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للرؤساء، والملوك والحكّام أمثال: قيصر الروم، وكسرى الفرس، وحكّام مصر والشام، والحبشة، ورؤساء القبائل المختلفة.
 
 
 
 
81

53

الدرس السابع: الإمامة

 الدرس السابع

الإمامة


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح استمراريّة الإمامة بعد النبوّة الخاتمة.
2- يستدلّ على ضرورة وجود الإمام.
3- يفهم أنّ الولاية من كمال الدين وتمام النعمة.
 
 
 
 
83

54

الدرس السابع: الإمامة

 تمهيد

إنّ الإمامة الإلهيّة بعد الأنبياء عليهم السلام تعتبر من القضايا العقائديّة الأساسيّة في هداية الناس وإرشادهم إلى طرق الخير والصلاح والهداية. فالوصيّ هو الشخص الأقدر على استكمال دور الأنبياء، وهو الذي يعمل بما وسعته الظروف المختلفة حفظ الرسالة، وصيانتها من التحريف والتشويه. والإمام يمتلك الصفات والمؤهّلات التي تجعله الأقدر بين الناس على قيادة رسالة النبيّ السابق عليه.

وبما أنّ الإسلام هو الدين الخاتم، فكان لا بدّ من تعيين فئة تمتلك كلّ الصفات الإلهيّة التي تمكّنها من قيادة الإسلام، وحفظه وصيانته من التشويه والتحريف والتلاعب. وقد عيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأئمّة الأطهار عليهم السلام خلفاءً من بعده، بأمر من الله سبحانه وتعالى.

مفهوم الإمامة
الإمامة في اللغة: "الرئاسة العامّة وكلّ من يتصدّى لرئاسة جماعة يسمّى إمامًا".

الإمامة في الاصطلاح: هي الرئاسة والقيادة العامّة الشاملة على الأمّة الإسلاميّة في كلّ الأبعاد والجوانب الدينيّة والدنيويّة.

الإمامة استمرارٌ للنبوّة
بعدما عرفنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيّين، وأنّ الخلافة هي سنَّة مستمرّة بين الأنبياء عليهم السلام حتى لا تخلو الأرض من حجّة، ولحفظ ما أنجزه الأنبياء، وإتمام دورهم في هداية الناس إلى كمالهم الروحيّ والأخلاقيّ، وكلّ ما يرتبط في حياتهم وآخرتهم، ويكون ذلك على يديّ إنسان يتمتّع بمواصفات النبيّ نفسها من الكفاءة والمؤهّلات، ويمتلك كلّ مناصب
 
 
 
 
85

55

الدرس السابع: الإمامة

 النبيّ إلّا النبوّة والرسالة. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "اللّهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجّة، إمّا ظاهرًا مشهورًا وإمّا خائفًا مغمورًا، لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيناته"1. وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إن اللَّه لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل"2.


من يختار الإمام عليه السلام
إنّ مسألة الإمامة ليست مسألة سهلة، بل لها من الأهمّيّة والخطورة، بحيث لا يمكن أن يقوم بها وبمهامّها إلّا من اختصّه اللَّه تعالى بصفات خاصّة. لذلك لم يُترَك أمر اختيار أصحابها إلى الناس، بل كانوا يعيّنون من قبل اللَّه تعالى على لسان من سبقهم من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام. يقول تعالى مخاطبًا النبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ3. فالآية الكريمة تنصّ على أنّ الظالم - وهو المرتكب للمعصية - لا يمكن أن يصل إلى هذا المقام العظيم وهو مقام الإمامة الإلهيّة.

النصّ على الإمام عليه السلام
قلنا إنّ منصب الإمامة هو استمرارٌ للنبوّة، فلذلك ما كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك المجتمع يعيش في فراغ بعد رحيله، بحيث تقع فيه الخلافات والنزاعات، ويرجع الناس إلى عهد الجاهليّة، بل إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم - الذي بعث رحمة للعالمين، وسيّد العقلاء الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يوحى - كان قد نصّ‏َ على ولاية عليّ عليه السلام وإمامته في مناسبات كثيرة منذ انطلاق الدعوة الإسلاميّة. فينقل لنا التاريخ تلك الحادثة المعروفة بـ"حديث الدار"، عندما جمع عشيرته ولم يؤازره على أمره غير الإمام علي عليه السلام، فقال عندها صلى الله عليه وآله وسلم: "أنت
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، حكمة 147.
2- الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاريّ، نشر دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1407هـ، ط4، ج‏1، ص‏178.
3- سورة البقرة، الآية 124.
 
 
 
86

56

الدرس السابع: الإمامة

 أخي ووصيّي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي"1، ثمّ أكّد على هذه الولاية في العديد من النصوص لاحقًا، إلى أن وصل إلى "حديث الغدير" الذي أوردناه أوّلًا.


هذا بالإضافة إلى الآيات الواردة في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام، التي منها:
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ2.

وقد ذكر الكثير من المفسّرين من السنّة والشيعة أنّها نزلت بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام عندما تصدَّق بخاتمه في أثناء الصلاة. ومنها قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ3.

في أسباب نزول هذه الآية المباركة، روى الثعلبيّ الذي هو من المفسّرين السنّة، "أنّه لمّا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ عليه السلام فقال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ الحارث بن النعمان الفهريّ، فأتى نحو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته حتّى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، ثمّ أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه فقال: "يا محمّد أمرتنا من اللَّه أن نشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنّك رسول اللَّه ففعلناه، وأمرتنا أن نصليَ خمسًا فقبلناه، وأمرتناأن نصوم شهر رمضان فقبلناه، وأمرتنا أن نحجّ البيت فقبلناه، ثمّ لم ترضَ بهذا حتّى رفعت بطبعي ابن عمك وفضَّلته علينا، وقلت من كنت مولاه فعليّ مولاه، وهذا شي‏ء منك أم من اللَّه؟"، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي لا إله إلّا هو، من اللَّه"، فولَّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: "اللّهم إن كان ما يقول محمّد حقًا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، فما وصل إليها حتّى رماه ابن بحجر فسقط على هامته فقتله وأنزل اللَّه تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ4.
 

1- الشيخ المفيد، الإرشاد، مصدر سابق، ج‏1، ص‏50.
2- سورة المائدة، الآية 55.
3- سورة المعارج، الآيتان 1 ـ 2.
4- راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏37، ص‏136.
 
 
 
87

57

الدرس السابع: الإمامة

 النصّ على الأئمّة الاثني عشر

لأهمّيّة موقع الإمامة وخطورته، لم يكتفِ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالنصّ على أمير المؤمنين عليه السلام فقط، بل أشار إلى الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام في مناسبات عديدة وبصيغ مختلفة، منها: ما رواه جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا يزال الإسلام عزيزًا إلى اثني عشر خليفة"، ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: "ما قال؟"، قال: "كلّهم من قريش"1.

وفي رواية عن الصحابيّ الجليل جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ، قال: لمّا أنزل اللَّه تبارك وتعالى على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ2 قلت يا رسول الله قد عرّفنا اللَّه ورسوله، فمن أولي الأمر الذين قرن اللَّه طاعتهم؟، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "هم خلفائي وأئمّة المسلمين بعدي أوّلهم: عليّ بن أبي طالب ثمّ الحسن والحسين ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه عنّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد ثمّ موسى بن جعفر ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن عليّ، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة اللَّه في أرضه وبقيّته في عباده ابن الحسن بن عليّ الذي يفتح اللَّه على يده مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته غيبة لا يثبت على القول في إمامته إلّا من امتحن اللَّه قلبه بالإيمان"3.

الولاية تمام الدين وكمال النعمة
إنّ الدين قد كمل على يديّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم والنعمة قد تمَّت، وإنّ اللَّه تعالى قد رضيَ لنا الإسلام دينًا. يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا4, ولكن متى رضيَ اللَّه سبحانه وتعالى بهذا الدين واعتبره كاملًا وتامًّا؟!

في الجواب عن هذا السؤال، نرجع إلى الحادثة التي حصلت وسبَّبت نزول هذه الآية
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏36، ص‏266.
2- سورة النساء، الآية 59.
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏23، ص‏289.
4- سورة المائدة، الآية 3.
 
 
 
88

58

الدرس السابع: الإمامة

 الكريمة، والتي نزلت في السنة العاشرة للهجرة، وعند عودة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من حجّة الوداع، عندما نزل جبرائيل عليه السلام بالآية المباركة: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ1.


فما هو هذا البلاغ العظيم والمهمّ الذي توقّفت عليه الدعوة وصحّتها، وتوقّف عليه كمال الدين وجهاد ومعاناة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين طوال ثلاثة وعشرين عامًا، فعندها نُصب لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم المنبر وصعد عليه وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّها الناس إنّ اللَّه مولاي وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم والِ من والاه"2. وبعدها سلَّم المسلمون على عليّ عليه السلام بإمرة المسلمين.

فاللَّه تعالى ارتضى عن هذا الدين، واعتبره كاملًا عندما نصَّب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إمامًا وعندما جعل خليفة، يكمل دور النبوّة في الهداية والرعاية. وهكذا كانت سنَّة الأنبياء السابقين عليهم السلام، فإنّهم كانوا يوصون إلى أوصياء بعدهم حتّى لا يتركوا الأمّة في فراغ، بل ليهدوا الأمة إلى سبل الخير ويعرِّفوهم طرق التكامل والرشد.
 

1- سورة المائدة، الآية 67.
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏23، ص‏141.
 
 
 
89

59

الدرس السابع: الإمامة

 المفاهيم الرئيسة


1- إنّ الدين قد كمل وتمّت النعمة عندما نصّب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليّ عليه السلام إمامًا وخليفة من بعده، وبذلك رضي اللَّه تعالى لنا هذا الدين العظيم واعتبره كاملًا.

2- الإمامة هي القيادة والرئاسة العامّة الشاملة على الأمّة الإسلاميّة من جميع الجوانب.

3- الإمامة مسألة خطيرة لا يمكن أن يقوم بأعبائها إلّا من اختصّه اللَّه تعالى بصفات خاصّة، ولا بدّ أن يكون منصوصًا عليه من قبل اللَّه تعالى.

4- نصّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على وجود اثني عشر إمامًا في مناسبات عديدة، وهنالك بعض الروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم تنصّ على أسمائهم، كالرواية المرويّة عن جابر الأنصاريّ.
 
 
 
90

60

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 الدرس الثامن

المعاد والآخرة


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح أهمّيّة البحث عن المعاد.
2- يعدّد دلائل المعاد في القرآن الكريم.
3- يدرك العلاقة بين مفهومي العدل والمعاد.
 
 
 
 
91

61

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 تمهيد

قلنا إنّ الله سبحانه وتعالى إنّما خلق الإنسان لهدف معيّن، وحدّد له المسار الصحيح الذي يجب أن يسير عليه، وأن يخطوَ كلّ الخطوات في اتّجاه تحقيق الهدف الإلهيّ، وبعد أن يسعى الإنسان لتحقيق ذلك الهدف، يجب أن تكون النتيجة منتظرة، وشاخصة أمام أعينه، والناس في السعي لتحقيق ذلك الهدف الإلهيّ على نحويْن، فمنهم من يسعى فعلًا مع الاتّجاه الصحيح، ومنهم من يسعى عكس هذا الاتّجاه بشكل كامل، بل يسعى إلى معارضة الاتّجاه الأوّل وتدميره، وزرع كلّ العراقيل أمامه. لذا، لا بدّ من محاكمة لكلا الاتّجاهين، لكي يتميّز المؤمن من الفاسق، ويتميّز صاحب العادل من الظالم، فجعل الله سبحانه وتعالى المعاد ليكون هو الحكم والفصل بين الاتّجاهين يوم القيامة.

أهمّيّة بحث المعاد
إنّ لبحث المعاد أثرًا كبيرًا على صعيد الحياة الدنيويّة، وعلى صعيد السعادة الأخرويّة، من حيث إيجاد محفّز ودافع قويّ لسير الإنسان نحو تكامله. لهذا، كان البحث في المعاد محطّ اهتمام جميع الأديان، وفي كلّ العصور، حتّى أنَّ أحد وجوه الحكمة في بعث أصحاب الكهف هو إثبات المعاد لوجود الجدل الكبير حينها بين الناس، فكان إحياؤهم دليلًا قاطعًا أمام المنكرين. يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا1, ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا2, ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ
 

1- سورة الكهف، الآية 9.
2- سورة الكهف، الآية 12.
 
 
 
93

62

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا1. ولو ألقينا نظرة على القرآن الكريم، لوجدنا أنّ ثلث القرآن يتكلّم عن المعاد، أي ما يقرب من 1200 آية من مجموع آياته. وقد قرن الله تعالى في الكثير من الآيات بين اليوم الآخر والإيمان باللّه، كقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ2، إلى غير ذلك من الآيات التي ناهزت الثلاثين آية.


أسماء المعاد في القرآن
عبَّر القرآن الكريم في مئات الآيات الكريمة بتعبيرات متنوّعة عن المعاد، وكلّ تعبير يتناول بعدًا من أبعاده. أهمّ هذه الأسماء هي:
1- قيام الساعة 7- لقاء الله 13- يوم الفصل
2- إحياء الموتى 8- الرجوع 14- يوم الخروج
3- البعث 9- القيامة 15- اليوم الموعود
4- الحشر 10- اليوم الآخر 16- يوم الخلود
5- النشر 11- يوم الحساب 17- يوم الحسرة
6- المعاد والعود 12- يوم الدين 18- يوم التغابن

 
إلى غير ذلك ممّا يقارب السبعين اسمًا.

دلائل المعاد في القرآن الكريم
هنالك طرق كثيرة في القرآن الكريم يمكن إثبات المعاد من خلالها.

1- آيات الخلق الأول:
يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾3. ففي هذه الآيات الكريمة، يبيّن الله تعالى إمكان إثبات المعاد بدليل أنّ الذي خلقها وكوَّنها في أوّل مرّة قادرٌ على إحيائها وخلقها من
 

1- سورة الكهف، الآية 21.
2- سورة البقرة، الآية 177.
3- سورة يس، الآيتان 78 ـ 79.
 
 
 
94

 


63

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 جديد مرّة ثانية، لأنّ القدرة واحدة، بل لعلّ الخلق الثانيَ أهون وأيسر بنظر المخلوقين، ولكنّ عند الله تعالى أيسر في كلّ المراحل، لأنّ قدرته متساوية لجميع الأشياء.


2- آيات القدرة الإلهيّة المطلقة:
البحث في المعاد يأتي بعد إثبات التوحيد والصفات الثبوتيّة والسلبيّة. وإنّ إحدى صفاته تعالى "قدرته غير المحدودة"، والتي ظهرت في خلق السماوات والأرض والمجرّات والكواكب، وتنوّع المخلوقات ودقّة النظام، وذلك كلّه لدليل على قدرته تعالى. يقول تعالى: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ1.

ويقول تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ2. ففي هذه الآيات المباركة، يقيس اللَّه تعالى إحياء الموتى بخلق السموات والأرض. فالذي يخلق هذا الخلق العظيم قادرٌ على إعادة الإنسان الذي خلقه أوّلًا.

3- آيات إحياء الأرض:
إحياء النباتات الميّتة هي ظاهرة أخرى من الظواهر الدالّة على المعاد، والتي أشار إليها القرآن الكريم في عدد من آياته. فذلك النظام وتلك الحالة المتكرّرة والمتجدّدة في كلّ عام دليلٌ صريحٌ على المعاد، حيث إنّ كلّ من على الأرض يرى هذه النباتات كيف تموت وكيف تُحيا في كلّ عام وعند كلّ موسم، إذا تهيّأت لها ظروف الحياة. وإنّ الحاكم على موت هذه النباتات وعلى إحيائها هو نظام واحد في كلّ الموارد، وحتّى على الإنسان وباقي المخلوقات. يقول تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ3.

ويقول تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ4. في هذه
 

1- سورة غافر، الآية 57.
2- سورة العنكبوت، الآية 20.
3- سورة ق، الآيات 9 – 11.
4- سورة الحج، الآيتان 5 ـ 6.
 
 
 
95

64

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 الآيات أيضًا، يقيس اللَّه تعالى إحياء الإنسان بإحياء النباتات بعد موتها، لأنّها تابعة للقانون نفسه، وهو أمرٌ يحتاج إلى تأمّل وتفكُّر، ونحن لا نعتني كثيرًا بهذا التغيير في النباتات، لأنّنا اعتدنا مشاهدته في كلّ عام فصار أمرًا عاديًّا، وإلّا فإنّه تابعٌ لنظام دقيق.


4- آيات تطوّر مراحل خلق الإنسان:
إنّ التغيّرات التي تطرأ على النطفة منذ استقرارها في الرحم حتى الولادة، وتقلّبها وتبدّلها في تلك المرحلة، خيرُ دليل على ثبوت المعاد، لأنّه نموذج من نماذجه. فإنّ الإنسان بموته ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ... * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ1. ويقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى *  ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى2.

ففي هذه الآيات، يشير القرآن الكريم إلى مراحل الإنسان الأربع "التراب، النطفة، العلقة، المضغة". وكلّ مرحلة تُعتبر بنفسها عالمًا عجيبًا.

نماذج قرآنيّة على المعاد
بالإضافة إلى الأدلّة القرآنيّة التي مرَّت حول إمكان المعاد، فإنّ القرآن الكريم ذكر شواهد على المعاد في آيات وحوادث متعدّدة، منها:
قصّة أصحاب الكهف التي ذكرناها في بداية البحث، حيث بعثهم اللَّه تعالى بعد
 

1- سورة الحج، الآيتان 5 ـ 6.
2- سورة القيامة، الآيات 37 – 40.
 
 
 
 
96

65

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 ثلاثمئة وتسع سنوات، لكي يكونوا دليلًا حيًّا على المعاد. يقول تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا1.


قصّة النبيّ عزير عليه السلام الذي أماته اللَّه تعالى مئة عام، ثمّ بعثه عندما مرَّ على قرية مهجورة، فأراد أن يشاهد إحياء الموتى بنفسه، ليكون ذلك دليلًا قاطعًا أمام المنكرين.

يقول تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ2.

قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام مع الطيور الأربعة عندما طلب من اللَّه تعالى أن يريَه كيف يحيي الموتى حتى يطمئنّ قلبه. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ3 إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾4. هذا بالإضافة إلى شواهد أخرى ذكرها القرآن الكريم، وكذلك إحياء النبيّ عيسى عليه السلام للموتى دليل واضح على ذلك.

العدل دليلٌ على المعاد
إنّه من المسلّم أنّ في هذه الدنيا يوجد ظالمون ومظلومون، ولكنّ حقّهم لا يأخذونه في هذه الدنيا بصورة كاملة. فمقتضى العدالة الإلهيّة أن يقتصّ اللَّه تعالى من الظالمين للمظلومين بمحاسبة عادلة، وهذا لا يتحقّق في الدنيا، لأنّهم قد يموتون من دون تحقّق ذلك، فلا بدّ أن يوجد عالم يحاسبون فيه، ويؤخذ الحقّ منهم، وهو عالم الآخرة. يقول تعالى: ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ5.

وذلك مقتضى عدالة الله سبحانه وتعالى، لأنّه لا يظلم مثقال ذرّة كما مرَّ في مبحث
 

1- سورة الكهف، الآية 21.
2- سورة البقرة، الآية 259.
3- صرهنّ: أضممهنّ.
4- سورة البقرة، الآية 260.
5- سورة الجاثية، الآية 21.
 
 
 
 
97

66

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 العدل. ويقول تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ1, فيبعث اللّه تعالى البشر حتّى يحاسبهم.


محكمة العدل الإلهيّ
إنّ أهمّ منزل من منازل يوم القيامة مرحلة حساب الخلائق في محكمة العدل الإلهيّ، فيسأل الإنسان فيها عن الصغيرة والكبيرة: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا2. ويقول تعالى: ﴿وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ3.

فهذه الآيات تتحدّث عن حضور جميع الأمم أمام اللَّه تعالى في محكمة عدله، ليقفوا على جميع ما قدَّموه في حياتهم الدنيا، واللَّه تعالى يأخذ الحقوق، ويحكم بينهم يوم القيامة، يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾4, و ﴿وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ5.

واللَّه تعالى في تلك المرحلة يُعطي البدن حتّى الجلد القدرة على التكلّم والنطق، وكلّ عضو من الأعضاء يجيب عمّا فعله، والمذنبون يعاتبون جلودهم على شهادتهم، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ6, ويجيبونهم بأنّ الأمر وكلّ شي‏ء بيد اللَّه وقدرته.
 

1- سورة الأنبياء، الآية 47.
2- سورة الكهف، الآية 49.
3- سورة يس، الآية 32.
4- سورة الحج، الآية 69.
5- سورة ق، الآية 21.
6- سورة النور، الآية 24.
 
 
 
98

67

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 ميزان الأعمال

عند ذلك، توضع الموازين الدقيقة لتزن أعمال العباد، صغيرها وكبيرها، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ1.

فكلّ شي‏ء يوزن بهذا الميزان، سواء أكان كبيرًا أم صغيرًا، حتى وإن كان بمقدار حبّة خردل فسوف يأتي بها اللَّه تعالى، وقيل إنّ ما يوزن هو صحيفة الأعمال، وإنّ الميزان هم الأنبياء والأوصياء2.

وقد ورد في الروايات أيضًا أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو ميزان الأعمال، لذلك نقول في الزيارة المطلقة لأمير المؤمنين عليه السلام: "السلام على ميزان الأعمال"3، وهو قسيم الجنّة والنار، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام للمفضل بن عمر عندما سئل: "لمَ صار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب قسيم الجنّة والنار؟"، قال: "لأنّ حبّه إيمان وبغضه كفر، وإنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان وخلقت النار لأهل الكفر فهو عليه السلام قسيم الجنّة والنار"4.
 

1- سورة الأنبياء، الآية 47.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج‏1، ص‏419.
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏97، ص‏287. الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، تعريب السيّد محمّد رضا النوريّ النجفيّ، مكتبة العزيزيّ، إيران - قم، 1385ش - 2006م، ط3، ص521، الزيارة المطلقة.
4- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1385ه - 1966م، لا.ط، ج‏1، ص‏162.
 
 
 
99

68

الدرس الثامن: المعاد والآخرة

 المفاهيم الرئيسة


1- إنّ لبحث المعاد أثرًا كبيرًا على صعيد الحياة الدنيويّة والأخرويّة، فإنّه يوجد محفّزًا للاهتمام والعمل.

2- إنّ ثلث الآيات القرآنيّة تتحدّث عن المعاد وخصوصيّاته، وما يقرب من 1200 آية.

3- للمعاد أسماءٌ عدّة في القرآن الكريم، منها: "قيام الساعة، إحياء الموتى، البعث، الحشر، القيامة...".

4- هنالك طرق كثيرة في القرآن الكريم يمكن إثبات المعاد من خلالها منها:
1- آيات الخلق الأوّل.
2- آيات القدرة الإلهيّة المطلقة.
3- آيات إحياء الموتى.
4- آيات تطوّر مراحل خلق الإنسان.
5- هذا بالإضافة إلى نماذج واقعيّة كثيرة ذكرت في القرآن الكريم لأناس ماتوا ورجعوا، "كالنبيّ عزير عليه السلام وأصحاب الكهف".
 
 
 
 
 
 
 
100

69

الدرس التاسع: حقيقة الموت

 الدرس التاسع

حقيقة الموت


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف حقيقة الموت والبرزخ.
2- يدرك أحوال المؤمنين والفاسقين عند الموت.
3- يعدّد خصوصيّات عالم البرزخ.
 
 
 
 
 
100

70

الدرس التاسع: حقيقة الموت

 تمهيد

إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الموت سنّة إلهيّة تجري في كلّ المخلوقات، وقهر بهذه السنّة كلّ المخلوقات، فهو الحيّ القيّوم الذي لا يموت، والموت لا يعني الفناء والاندثار، والتحوّل إلى سراب، بل الموت عبارة عن انتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ومع هذا تجد الكثير من الناس يفرّون منه هربًا وفزعًا لعدم فهمهم لحقيقة هذا الأمر، أو لخوفهم من سوء وعاقبة أعمالهم التي عملوا بها في الدنيا. ثمّ بعد الموت يأتي على الإنسان عالم البرزخ الذي يمهّد للإنسان الانتقال إلى يوم القيامة.

الموت حقيقة لا مفرَّ منها
إنّ الموت هو حقيقة لا مفرَّ منها ولا مهرب، وكلّ إنسان يُذعن بأنّ مصيره إلى التراب في آخر المطاف، ولكنّ كثيرًا من الناس يتعاملون مع الموت معاملة الشكّ، مع أنّهم لا يرتابون فيه. يقول الإمام الصادق عليه السلام: "ما خلق اللَّه عزَّ وجلّ‏َ يقينًا لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت1. وتضافرت الآيات الكريمة التي تتحدّث عن حتميّة الموت، وأنّ اللَّه تعالى هو الواحد الباقي. يقول تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ2, ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ3.

لكلّ أمّة ونفس جعل اللَّه سبحانه وتعالى أجلًا، وإذا جاء الأجل لا يمكن الهروب
 

1- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران- قم، لا.ت، ط2، ج‏1، ص‏195.
2- سورة آل عمران، الآية 185.
3- سورة الزمر، الآية 30.
 
 
 
103

71

الدرس التاسع: حقيقة الموت

 منه. يقول تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ1.


ويحدّثنا القرآن الكريم عن أولئك الذين يفرُّون من الموت ماذا أصابهم، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ﴾2.

حقيقة الموت
الموت ليس زوالًا وانعدامًا للإنسان، بل هو الحياة الحقيقيّة، لأنّ الإنسان خلق في هذه الدنيا ليبقى ويتكامل لا لينعدم ويزول. يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء وإنّما تنقلون من دار إلى دار"3. إنّما هي الأرواح باقية حيّة في عالم آخر وفي دار غير هذه الدار، وإنّ كلّ ما حصل بالموت هو أنّ الأرواح فارقت الأبدان، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾4. وقد سُئل الإمام الحسن عليه السلام: "ما الموت الذي جهلوه؟" فقال عليه السلام: "أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذا نقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد"5. وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"6.

لماذا الخوف من الموت؟
إنّ للموت صورةً مريعةً عند الناس عامّة، وإنّ لهذا الخوف منشأً ولم يأتِ من فراغ وبلا سبب. ويمكن تلخيص أسباب الخوف بالأمور الآتية:
الجهل بحقيقة الموت وما ينتظر الإنسان بعد الموت: فلو عرف الإنسان حقيقة الموت،
 

1- سورة ق، الآية 19.
2- سورة البقرة، الآية 243.
3- محمّد صالح المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيّد علي عاشور، دار إحياء التراث العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1421ه - 2000م، ط1، ج‏6، ص‏70.
4- سورة آل عمران، الآية 169.
5- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏6، ص‏154.
6- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1379ه - 1338 ش، لا.ط، ص289.
 
 
 
104

72

الدرس التاسع: حقيقة الموت

 وأنّه ليس انعدامًا، وإنّما هو قنطرة تعبر بنا من عالم إلى عالم، وأنّ الحياة الحقيقيّة هي في الآخرة، لو علم الإنسان ذلك وكان من المؤمنين المطيعين، فبالطبع ستتغيّر نظرته ورؤيته حول الموت، لأنّ الموت هو مخلوق من قبل اللَّه تعالى، كما أنّ الحياة مخلوقة كما عبّر اللَّه تعالى عنها، وهذا التعبير يعني الإيجاد وليس الانعدام. يقول تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا1.


ارتكاب الذنوب في عالم الدنيا: فإنّ الإنسان إذا قصَّر في واجباته، وارتكب الذنوب والآثام، ولم يطهِّر نفسه، فإنّه حتمًا سيخاف من الموت وربّما سيكرهه أيضًا، لأنّه يخاف أن ينتقل من نعيم إلى جحيم. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾2. أمّا عن حال المؤمنين فيقول تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ3.

عمران الدنيا ونسيان الآخرة: إنّ الغفلة عن الحياة الآخرة، والانشداد الدائم إلى عالم الدنيا والعمل لها من خلال التكاثر والتفاخر بالمال والبنين، سيؤدّي مع الوقت إلى كراهة النفس لترك ما عمّرته في هذا العالم، والانتقال إلى عالم آخر لم يكن حاضرًا في حسابها، ولم تعمل لأجله يومًا. يقول تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ4، ويقول تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ5. ورُوِيَ أنّ رجلًا جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "يا رسول اللَّه ما لي لا أحبّ الموت؟"، فقال له: "ألك مال؟"، قال: "نعم"، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فقدَّمته؟"، قال: "لا"، قال: "فمن ثمّ لا تحبّ الموت"6. وقيل للإمام الحسن عليه السلام: "يا ابن رسول الله ما بالنا نكره الموت ولا نحبّه؟"، قال:
 

1- سورة الملك، الآية 2.
2- سورة النحل، الآية 28.
3- سورة النحل، الآية 32.
4- سورة الأنفال، الآية 28.
5- سورة التكاثر، الآيتان 1 ـ 2.
6- الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص13.
 
 
 
105

73

الدرس التاسع: حقيقة الموت

 فقال الحسن عليه السلام: "لأنّكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم وأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب"1.


قبض الأرواح
إنّ الآيات الواردة في هذا المجال على ثلاثة أقسام:
الأول: إنّ اللَّه تعالى هو الذي يقبض الأرواح: يقول تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا2.

الثاني: إنّ الذي يتولّى ذلك الملائكة، لقوله تعالى: ﴿حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ3، ويقول تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ4.

الثالث: إنّ الذي يتولّى ذلك ملك الموت. قال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾5.

ويشرح الإمام الصادق عليه السلام هذه الآيات المباركة، عندما سُئِل عنها، قال عليه السلام: "إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل لملك الموت أعوانًا من الملائكة يقبضون الأرواح، بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الأنس يبعثهم في حوائجه، فتتوفّاهم الملائكة ويتوفّاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو ويتوفّاها اللَّه عزَّ وجلّ‏َ من ملك الموت"6.

حال المؤمنين والظالمين عند سكرات الموت
إنّ حال المؤمنين لا يشبه حال الظالمين عند حلول الموت وسكراته، لأنّ نتائج أعمالهم واعتقاداتهم سوف تظهر تدريجيًّا في هذه اللحظة، وتبدأ الحسرة والندامة، أو الفرح والسرور.
 

1- الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ص 390.
2- سورة الزمر، الآية 42.
3- سورة الأنعام، الآية 61.
4- سورة النحل، الآية 32.
5- سورة السجدة، الآية 11.
6- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج1، ص136.
 
 
 
 
106

 


74

الدرس التاسع: حقيقة الموت

 1- حال الظالمين عند الموت:

يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ  ﴾1.

توضح هذه الآية المباركة حال الظالمين كيف أنّهم حتّى عند الموت لم يكونوا خاضعين للَّه تعالى، وكذبوا ونفوا أنّهم كانوا يعملون السوء، لذا أتى في ذيل الآية الكريمة: ﴿بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ﴾, ثمّ أمر بهم إلى النار. يقول تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ2.

فالآية تبيِّن حالهم عند الموت بأنّ الملائكة تستقبلهم بالضرب على وجوههم وأدبارهم.

2- حال المؤمنين عند الموت:
في قبال حال الظالمين، يأتي المشهد الآخر وهو حال المؤمنين الذين يستقبلون الموت بكلّ اطمئنان، يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ3, وعندئذٍ ينادي منادٍ من قبل ربّ العزة من بطنان العرش يقول: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً *  فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي4, 5.
 

1- سورة النحل، الآيتان 28 ـ 29.
2- سورة محمد، الآية 27.
3- سورة النحل، الآية 32.
4- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏6، ص‏164.
5- سورة الفجر، الآيتان 27 ـ 30.
 
 
 
107

75

الدرس التاسع: حقيقة الموت

 المفاهيم الرئيسة


1- الموت حقيقة لا مفرَّ منها ولا مهرب، وكلّ إنسان يذعن أنّ مسيره إلى التراب، ولكنّ كثيرًا من الناس يتعاملون معه معاملة الريب والشكّ.

2- الموت ليس زوالًا وانعدامًا للإنسان، بل هو الحياة الحقيقيّة، لأنّ الإنسان خلق في هذه الدنيا ليبقى ويتكامل، لا لينعدم ويزول.

3- الآيات الواردة حول من يقبض الأرواح على ثلاثة أقسام:
أ- إنّ اللَّه تعالى هو الذي يقبض الأرواح.
ب- الذي يتولّى ذلك الملائكة.
ج- إنّ الذي يتولّى ذلك ملك الموت.

4- إنّ للموت صورةً مريعةً عند الناس عامّة، وإنّ لذلك أسبابه ومناشئه.
 
 
 
 
108

76

الدرس العاشر: عالم البرزخ

 الدرس العاشر

عالم البرزخ


أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى البرزخ وحقيقته.
2- يبيّن حقيقة البرزخ في الآيات والروايات.
3- يشرح أهمّ خصائص عالم البرزخ.
 
 
 
 
 
109

77

الدرس العاشر: عالم البرزخ

 معنى البرزخ

البرزخ لغة: هو الحائل بين شيئين أو مرحلتين، ففي الآية الشريفة: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ1.

البرزخ اصطلاحًا: المراد منه هنا هو العالم الذي يتوسّط بين الدنيا وعالم الآخرة، أي إنّ الروح بعد انفصالها عن الجسم وقبل عودتها إليه يوم القيامة، فإنّها سوف تبقى في عالم يتوسّط العالمين يسمّى عالم البرزخ.

البرزخ في القرآن الكريم
وردت في القرآن الكريم آيات عدّة تتحدّث عن عالم البرزخ، وتعرَّضت هذه الآيات إلى ذكر بعض الخصوصيّات، وهي:
الآية الأولى: يقول تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾2.

ففي هذه الآية المباركة، يذكر اللّه تعالى حال الكفّار والظلمة بعد الموت مباشرة، وبداية دخولهم في عالم البرزخ وقد طلبوا العودة إلى دار الدنيا للعمل الصالح، حيث أدركوا حجم الخسارة التي وقعوا بها. كما يشير إلى ذلك أمير المؤمنين‏ بقوله: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"3. ولكن يأتي الجواب من اللّه تعالى، بعدم العودة وبداية العالم الجديد الذي هو عالم البرزخ، ويبقون فيه إلى يوم القيامة. وجاء في الحديث عن الإمام الصادق‏:
 

1- سورة الرحمن، الآية 20.
2- سورة المؤمنون، الآيتان 99 ـ 100.
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏4، ص‏43.
 
 
 
 
111

78

الدرس العاشر: عالم البرزخ

 "أتخوَّف عليكم في البرزخ". فسأله الراوي: "ما البرزخ؟"، فقال عليه السلام: "القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة"1.


الآية الثانية: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾2.

الآية الثالثة: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ3.

هاتان الآيتان تتحدّثان عن الشهداء والذين يُقتلون في سبيل اللّه تعالى، وعن بعض التفاصيل في حياتهم من الفرح والاستبشار والحياة والرزق، وعدم الخوف والحزن، وهما تدلاّن على عالم البرزخ بالبيان التالي.

إنّ الآيتين تتحدّثان عن الحياة بعد الموت، فأين هي هذه الحياة؟ بالطبع، ليست في الدنيا، لأنّ الكلام بعد الموت، وليست في الآخرة أي يوم القيامة لأنّها لم تأت بعد، فالنتيجة إنّهم أحياءٌ في عالم متوسّط بين الدنيا والآخرة، وهذه الحياة متناسبة مع تلك النشأة وآثارها، وهذا ما سمّاه القرآن وأهل البيت عليهم السلام بالبرزخ.

ونلاحظ في هاتين الآيتين أنّ اللّه تعالى يتكلّم عن حياة الشهداء، ولكن هذا لا ينفي حياة غيرهم، بل لعلّ‏َ اللّه تعالى خصَّص ذكر الشهداء إمّا لمدخليّة أسباب النزول، حيث نزلتا بحقّ شهداء بدر وأحد، وإمّا لأنّ الآيتين تبيّنان فضل الشهداء وكيفيّة حياتهم البرزخيّة من النعيم والرزق الكريم الذي اختصّوا به وميّزوا به عن سواهم من الأموات.

الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ4.

هذه الآية المباركة إشارة واضحة إلى عالم البرزخ، حيث تتحدّث عن آل فرعون كيف يتعذّبون في عالم البرزخ، فيعرضون على النار صباحًا ومساءً، ويدلّ على ذلك ذيل الآية
 

1- السيد هاشم البحرانيّ، البرهان في تفسير القرآن، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة / مؤسسة البعثة، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص‏120.
2- سورة البقرة، الآية 154.
3- سورة آل عمران، الآيتان 169 ـ 170.
4- سورة غافر، الآية 46.
 
 
 
112

79

الدرس العاشر: عالم البرزخ

 التي تحدّثت عن دخولهم في النار عند قيام الساعة المعبَّر عنه بأشدّ العذاب، وصار يظهر الفرق بين العالمين والعذابين حيث إنّهم في عالم البرزخ يعرضون عرضًا على النار أي لا يدخلونها، فيعذّبون فيها عن بعد ومن وهجها كما لو مرَّ إنسان بجانب نار ودنا منها، فإنه قد يحرق نفسه من وهجها، وبالمقابل لو مرَّ إنسان بجانب بستان ملي‏ء بالأشجار، فإنّه من نسيمه يشعر بالانتعاش حتّى لو لم يدخله، أمّا يوم القيامة فإنّهم يدخلون إلى النار ويلقاهم أشدّ العذاب.


وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤيّد هذا المعنى: "إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، وإن كان من أهل النار فمن النار، يقال هذا مقعد حين يبعثك اللّه يوم القيامة"1. وقال‏ عليه السلام: "القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران"2.

الآية الخامسة: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ3.

الآية المباركة تتحدّث عن مؤمن آل يس الذي ساند ودعم رسل السيّد المسيح عليه السلام، والذين بعثوا إلى مدينة إنطاكية، ودعا الناس ونصحهم باتّباع الرسل، لكنّ هؤلاء القوم لم يكترثوا به وقتلوه، وبعد قتله قيل له ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون.

هذه الآية تدلّ على عالم البرزخ بالبيان الآتي: إنّ الجنّة عرضت عليه مباشرة بعد قتله، بدليل أنّ قومه ما زالوا أحياءً، وتمنّى لهم أن يعلموا بما وصل إليه. وبالطبع، إنّ هذه الجنّة هي ليست جنّة القيامة، لأنّ القيامة لم يأت موعدها بعد، وليست هذه الجنّة في الدنيا قطعًا لذهابه بموته عن هذه الدنيا، فلا بدّ أن يكون هنالك عالمٌ آخر، فينحصر ذلك في عالم البرزخ. وهذه الآية تشير بشكل واضح إلى نعيم القبر والبرزخ بالنسبة إلى المؤمنين.

نكتفي بهذا المقدار من ذكر الآيات التي يمكن إثبات عالم البرزخ من خلالها، ولكي يكتمل البحث نشير إلى بعض الروايات الواردة في هذا المجال.
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏6، ص‏276.
2- المصدر نفسه.
3- سورة يس، الآيتان 26 - 27.
 
 
 
113

80

الدرس العاشر: عالم البرزخ

 البرزخ في الأحاديث الشريفة

إنّ الروايات التي تتحدّث عن عالم البرزخ كثيرة. وفي الحديث المشهور عن النبيّ‏ صلى الله عليه وآله وسلم: أنّه عندما ألقوا بأجساد قتلى مشركي مكّة الذين قتلوا في غزوة بدر في أحد الآبار وقف النبيّ على البئر وقال: "يا أهل القليب1 هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقًا"، قالوا: "يا رسول اللّه هل يسمعون؟"، قال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن اليوم لا يجيبون"2.

وذكر أمير المؤمنين‏ في نهج البلاغة أنّه عندما كان عائدًا من حرب صفّين، وقف على مقبرة تقع خلف باب الكوفة، وتحدّث إلى الأموات بهذه الكلمات: "أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق، أمّا الدور فقد سكنت وأمّا الأزواج فقد نكحت، وأمّا الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟"، فالتفت إلى أصحابه وقال: "أمَّا لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى"3.

ورُوِيَ عن الإمام الصادق‏ أنّه عندما سُئل عن أرواح المؤمنين أجاب: "في حجرات في الجنّة يأكلون من طعامها ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم الساعة لنا وأنجز لنا ما وعدتنا"4.

خصوصيّات عالم البرزخ
القرآن الكريم لم يتعرّض إلّا لبعض حالات عالم البرزخ، كالحياة، والفرح، والاستبشار، وعدم الخوف بالنسبة إلى المؤمنين مقابل العذاب الذي يعيشه الظالمون، والعرض على النار في الصباح والمساء. أمّا الخصوصيّات التفصيليّة لعالم البرزخ، فإنّ القرآن الكريم لم يتعرّض لذكرها، بل تعرَّضت لها الروايات عن النبيّ وأهل بيته عليهم السلام. نذكر بعضًا منها:
1- السؤال في القبر:
عندما يوضع الميت في القبر، يأتيه الملكان فيسألانه عن ربّه ودينه ونبيّه وأئمّته وكتابه
 

1- القليب: هو البئر والمراد منه بئر بدر.
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏6، ص‏254.
3- نهج البلاغة، مصدر سابق، الكلمات القصار، ص 130.
4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج‏3، ص‏244.
 
 
 
114

81

الدرس العاشر: عالم البرزخ

 وقبلته، وكيف قضى عمره وأنفق ماله وغير ذلك. ورُوِيَ عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: "ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولّاه، ثمّ عن عمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته..."1.


2- ضغطة القبر:
ورد ذكر ضغطة القبر في الأحاديث كثيرًا، وهي تكون على البعض أشدّ منها على بعضها الآخر، وتعتبر كفّارة للذنوب. قال عندما دفن الصحابيّ سعد بن معاذ: "إنّه ليس من مؤمن إلّا وله ضُمّة"، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: "ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم"2. وإنّ الذي لا يدفن في الأرض يضغطه الهواء كالمصلوب أو الماء كالغريق.

في رواية عن الإمام الصادق‏: "إنّ ربّ الأرض هو ربّ الهواء فيوحي اللّه عزّ وجلّ إلى الهواء فيضغطه ضغطة أشدّ من ضغطة القبر"3.

3- التزاور:
روي عن الإمام الصادق‏: "إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ويستر عنه ما يكره وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحبّ"4.

4- انتفاع الأرواح بأعمال الآخرين:
توجد روايات كثيرة تدلّ على أنّ عمل الخير عن أرواح الأموات تنفعهم في عالمهم البرزخيّ، وتصل إليهم على شكل هدايا. وورد في الرواية أنّ المسيح‏ مرَّ على أحد القبور، فوجد صاحبه في العذاب، وعندما مرَّ في العام القابل وجده في النعيم. فعندما سأل اللّه تعالى عن ذلك: "خوطب بأنّ السبب هو فعل خيرٍ أدّاه ابن مؤمن له..."5.
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏6، ص‏223.
2- المصدر نفسه، ج‏6، ص 271.
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ص‏266.
4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج‏3، ص230.
5- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج‏،6 ص‏220.
 
 
 
115

82

الدرس العاشر: عالم البرزخ

 المفاهيم الرئيسة


1- البرزخ لغة هو الحائل بين شيئين أو مرحلتين، ففي الآية الشريفة: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾.

2- وردت في القرآن الكريم آياتٌ عدّة تتحدّث عن عالم البرزخ، وتعرّضت إلى ذكر بعض الخصوصيّات كحال المؤمنين وحال الكافرين وأحوال الشهداء.

3- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار".

4- يوجد أحاديث كثيرة تحدّثت عن أحوال البرزخ وعقباته وجنّاته، وحال المؤمنين وانتفاعهم بأعمال الآخرين، والتزاور بينهم، وكذلك حال الكافرين وسؤالهم، وضغطة القبر وغير ذلك.
 
 
 
 
116

83

الدرس الحادي عشر: أحكام التقليد

 الدرس الحادي عشر

أحكام التقليد

 
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن شروط التكليف الشرعي.
2- يعرّف التقليد، ويعدّد شروط مرجع التقليد.
3- يشرح كيفية إثبات الاجتهاد والأعلميّة.
 
 
 
 
 
119

84

الدرس الحادي عشر: أحكام التقليد

 مدخل

إنّ من عادة عقلاء الناس جميعاً أن يرجعوا إلى أصحاب الاختصاص الموثوق بهم في مختلف أمور حياتهم، فالمريض يرجع إلى الطبيب المتخصّص، ومن أراد أن يبني منزلاً يرجع إلى المهندس... وهكذا. فالجاهل بأيّ اختصاص يرجع إلى العالم به. وهذا الأمر بنفسه يجري في الأمور الدينية أيضاً، فنرى أنّ الجاهل بالأمور الدينية ليصحّح رؤيته وأفكاره، والجاهل بالأحكام الشرعية يرجع إلى العالم بها، ليقتدي به ويعمل وفق فتواه، ونفس رجوع العامّيّ إلى العالم ليأخذ عنه يُعرف بالتقليد. وكان هدف الإنسان من أصل ذلك الرجوعِ هو تأمين الحياة السعيدة، والبعيدة عن الخطأ والالتباس والاشتباه، فيما يصبو إلى العمل به.

فكما أنّ الإنسان يحتاج إلى من يرشده إلى تأمين السعادة الدنيوية الحقيقية، فكذلك يرمو إلى السعي إلى من يرشده إلى السعادة الأخروية الحقيقية، وهذا ما بيّنه الإمام الصادق جعفر بن محمدعليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عجبتُ لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار"1.

والباب الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يدخله ليصل إلى مبتغاه هو في معرفة أصول الدين وفهمها، والالتزام العملي بالفروع من خلال التقليد، لأنّ التقليد هو المفتاح الأساس لمعرفة كل الأحكام الشرعية، والعمل بها، فليس بمقدور كل إنسان أن يترك حياته ويذهب للتفقه في الأحكام الفقهية، ويتفرغ لذلك، بل مَن لم يكن قادراً - كما هو الغالب في عامة
 

1- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، إيران - قم، 1417هـ، ط1، ص247.
 
 
 
121

85

الدرس الحادي عشر: أحكام التقليد

 الناس - يرجع في ذلك إلى أهل الاختصاص والمعرفة، وهم العلماء المجتهدون في أحكام الشريعة.


المسائل التي يجب تعلّمها
1- يجب تعلّم أجزاء العبادات الواجبة على المكلَّفة، وشروطها، وموانعها، ومقدّماتها.

2- يجب تعلّم مسائل الشّكّ والسهو وغيرها ممّا هو محلّ الابتلاء غالباً، إلّا إذا اطمأنّت من نفسها بعدم الابتلاء بها.

شروط التكليف‏
 
1- العقل
2- البلوغ


يجب على كلّ فتاة اجتمعت فيها شروط التكليف أن تلتزم بأحكام الله تعالى، ومع فقدها أو فقد واحد منها لا تكون مكلّفة بالأحكام الشرعيّة. وهذه الشروط هي:
1- العقل: فلا تكليف على المجنونة إذا كان جنونها مطبقاً، وكذا على المجنونة إدوارياً1 في حال الجنون. أمّا في حال الإفاقة، فيجب عليها الالتزام بالأحكام الشرعيّة (في أوقات إفاقتها).

2- البلوغ: فلا تكليف على الصغيرة. ويتحقّق البلوغ بتحقُّق إحدى العلامات الآتية:

3- نبات الشعر الخشن على العانة.

4- خروج المنيّ بالاحتلام أو غيره2.
 

1- وهي التي يذهب عقلها في بعض الأوقات، فيكون لها دور جنون ودور عقل.
2- في يقظة كان أو في منام، في الحلال كان أو في الحرام.
 
 
 
122

 


86

الدرس الحادي عشر: أحكام التقليد

 5- إكمال تسع سنوات (9) قمريّة1.


ملاحظة: الدم الذي تراه الفتاة قبل إتمام التاسعة من عمرها ليس من علامات البلوغ، كما أنَّه ليس بحيض.

التقليد وشروط المرجع
التقليد هو العمل استناداً إلى فتوى فقيه معيَّن.

وهذا الفقيه هو المجتهد الجامع لشروط الإفتاء والمرجعية. ومن هذه الشروط:
1- الاجتهاد: بأن يكون قادراً على استنباط (استخراج) الحكم الشرعيّ من مصادره2، مع العلم والمعرفة بأوضاع أهل زمانه الّتي لها مدخليّة في الحكم الشرعيّ.

2-  الذكورة: فلا يصحّ تقليد المرأة.

3- العدالة: وهي الحالة النفسانيّة الباعثة دوماً على ملازمة التقوى، المانعة من ارتكاب المحرّمات الشرعيّة. ويكفي في إحرازها حُسْنُ الظاهر الكاشفُ عنها.

4- ويشترط في مرجع التقليد مضافاً إلى ذلك: التسلّطُ على النفس الطاغية، وعدمُ الحرص على الدنيا على الأحوط وجوباً.

5- الحياة: فلا يصحّ تقليد المجتهد الميّت ابتداءً على الأحوط وجوباً.

نعم يجوز البقاء على تقليد الميت الجامع للشروط إذا كانت تقلّده قبل وفاته، إلّا إذا كان الحيّ أعلم، فالأحوط وجوباً العدول إليه. وإذا عدلت المكلّفة بعد موت مرجعها إلى أعلم الأحياء، فلا يجوز على الأحوط وجوباً لها الرجوع مجدّداً إلى الميّت.

6- الأعلميـّة: يجب تقليد المجتهد الأعلم على الأحوط وجوباً، وهو الأقدر على استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها.
 

1- أي 8 سنوات و267 يوماً ميلادياً تقريباً.
2- مصادر الحكم هي الأدلّة الشرعية، وعمدتها القرآن الكريم والسنّة الشريفة.
 
 
 
123

87

الدرس الحادي عشر: أحكام التقليد

 شروط المرجع

1- الذكورة
2- الإجتهاد
3- الاعلمية
4- العدالة
5- الحياة
 
تقليد الميّت‏
1- لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً على الأحوط وجوباً، نعم يجوز البقاء على تقليده بعد تحقّقه بالعمل ببعض المسائل مطلقاً، فيجوز تقليده في كلّ المسائل، ولو في المسائل الّتي لم يعمل بها، ولكن لا يجوز البقاء على تقليد الميّت إلّا بعد الاعتماد على فتوى الحيّ في جواز البقاء.

2- إذا عملت المكلفة عملاً على طبق فتوى مَن تقلّده، فمات ذلك المجتهد، فقلّدت من يقول ببطلانه، فيجوز لها البناء على صحّة الأعمال السابقة.

إثبات الاجتهاد والأعلمية
يثبت الاجتهاد، والأعلميّة أيضاّ، بإحدى الوسائل الآتية:
1- الاختبار، إذا كانت المكلّفة من أهل الخبرة، وقادرة على ذلك.
2- شهادة عدلين من أهل الخبرة.
3- الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان1.
 

1- الاطمئنان هو الاعتقاد الراسخ المتاخم للعلم الذي يوجب سكون النفس، وقد يسمّى علماً عرفاً. راجع: استفتاء خطّي للإمام الخامنئي دام ظله، رقم 1507.
 
 
 
 
 
125

88

الدرس الحادي عشر: أحكام التقليد

 طرق ثبوت الفتوى

 

تثبت الفتوى المجتهد بإحدى الطرق الآتبة:

1- السماع منه مباشر.

2- نقل عدلين، بل عدل واحد، بل يكفي نقل ثقة يطمأن بقوله.

3- الرجوع إلى رسالته إذا كانت مأمونة من الغلط.

 

 

 

125


89

الدرس الثاني عشر: أحكام التخلّي

 الدرس الثاني عشر

أحكام التخلّي

أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يفرّق بين أنواع المياه شرعاً.
2- يفصّل أحكام تطهير أقسام الماء المختلفة.
3- يعرف أحكام التخلّي والاستنجاء.
 
 
 
 
 
127
 

90

الدرس الثاني عشر: أحكام التخلّي

 أنواع المياه1

الماء نوعان: مطلق ومضاف.
1- الماء المطلق: هو ما يصحُّ إطلاق لفظ الماء عليه من دون إضافته إلى شي‏ء، كمياه الأنهار والبحار.

2- الماء المضاف: هو المعتصِر من الأجسام، كماء الرمّان، أو الممتزج بغيره ممّا يُخرِجه عن صدق اسم الماء، كماء السكّر والملح.

أقسام الماء المطلق
1- الجاري (وهو النابع السائل).

2- النابع بغير جريان‏.
 

1- سيأتي كيفية التطهير بالماء في درس المطهِّرات.
 
 
 
 
129

91

الدرس الثاني عشر: أحكام التخلّي

 3- المطر.

4- البئر: وهي البئر النابعة، وليست بئر الجمع.

5- الراكد (الواقف): وينقسم إلى نوعين:
أ- كُرّ، وهو ما بلغ وزنه 377،419 كلغ أو أكثر. وبحسب المساحة هو ما بلغ ثلاثة وأربعين شبراً إلّا ثمن شبر، الطول ضرب العرض ضرب الارتفاع.
ب- غير كُرّ، وهو ما كان أقلّ من ذلك، ويُسمّى بالماء القليل.

حكم الماء المضاف‏
1- الماء المضاف طاهر في نفسه، غير مطهّر لغيره، لا من الحدث ولا من الخبث.

2- لو لاقى الماء المضاف نجساً يتنجّس جميعه، إلّا إذا كان جارياً من العالي إلى السافل ولو بنحو الانحدار مع الدفع بقوّة، فإنّ النجاسة تختصّ بموضع الملاقاة.

3- إذا تنجّس الماء المضاف لا يمكن تطهيره مع بقائه مضافاً.

حكم الماء المطلق‏
1- الماء المطلق طاهر في نفسه ومطهّر لغيره من الحدث والخبث.

2- يتنجّس الماء المطلق بجميع أقسامه فيما إذا تغيّر بسبب ملاقاة النجاسة أحدُ أوصافه الثلاثة، وهي: اللون والطعم والرائحة.

3- المعتبَر تأثّر الماء بأوصاف النجاسة لا المتنجّس، فلو تنجّس القميص بدم قليل، ثمّ وُضع في ماء كُرّ ونحوه، فتغيّر الماء بسبب لون القميص لا الدم، فلا يتنجّس الماء طالما بقي على إطلاقه.

4- الماء الجاري والراكد المتّصل بالجاري والراكد الكُرّ وماءِ المطر حالَ نزوله من السماء لا ينجُس بالملاقاة إلّا بالتغيّر السابق.

5- الماء القليل غير المتَّصل بمادّة ينجُس بمجرّد ملاقاة النجاسة، وإن لم تتغيّر أوصافه.

6- المطلق الكثير المتنجِّس يطهر بالامتزاج بالمعتصم بعد زوال تغيّره.

7- الماء المطلق القليل المتنجِّس يطهر بالامتزاج بالماء المعتصم (كالجاري والكُرّ).
 
 
 
 
130

92

الدرس الثاني عشر: أحكام التخلّي

 أحكام التخلّي‏

1- يجب على المرأة حالَ التخلّي، وفي سائر الأحوال، ستر العورة عن الناظر المحترَم، رجلاً كان الناظر أو امرأة، حتّى عن الناظر المجنون والطفل المميِّزَين.

2- العورة في المرأة أثناء التخلّي (بالنسبة للرجل من محارمها وللمرأة) هي: القبل والدبر، والأحوط وجوباً الاجتناب عن الشعر النابت في أطراف العورة، ناظراً ومنظوراً.

يحرم حال التخلي استدبار القبلة وإستقبالها، والمعيار هو الاستقبال و الاستدبار العرفيّان بمقاديم البدن (الصدر والبطن).

أحكام الاستنجاء
1- الاستنجاء: هو تطهير مخرج البول والغائط.

2- أحكامه:
أ- لا يطهر مخرج البول إلا بالماء.
ب- يكفي في طهارة مخرج البول الغَسلُ بالماء الكثير مرّة واحدة بعد زوال عين النجاسة، أو بالماء القليل مرّتين على الأحوط وجوباً، وفي مخرج الغائط يجب الغسل حتّى زوال عين النجاسة وآثارها1.

3- يمكن غسل موضع الغائط بالماء حتى ينقى، ويمكن مسحه بالأحجار أو الخرق ونحوها من الأجسام القالعة للنجاسة، والغسلُ أفضل، والجمع بين الغسل والمسح أكمل، هذا إذا لم تتعدَّ النجاسةُ الموضع.

4- يتعيّن الغَسل بالماء في مخرج الغائط، ولا يجزي المسح في حالتين:
أ- إذا تعدَّى الغائط المخرجَ الطبيعي.
ب- إذا وصل إلى المحلّ نجاسة من الخارج، أو خرج مع الغائط نجاسة أخرى، كالدم مثلاً.
 

1- المقصود بالآثار: الأجزاء الصغار التي لا ترى، والتي لا تزول عادة إلا بالماء وليس منها اللون والرائحة.
 
 
 
 
131

93

الدرس الثاني عشر: أحكام التخلّي

 5- يشترط في الجسم القالع للنجاسة (حجراً أو غيره) أمران:

أ- أن يكون طاهراً.
ب- أن يكون جافّاً.

6. يحرم الاستنجاء بالأجسام المحترَمة في الشريعة المقدَّسة (كالخبز، والأحجار الكريمة، والورق المكتوب عليه أسماء الجلالة وآيات قرآنيـّة).

7- يحرم الاستنجاء بالرَّوث1 والعظم على الأحوط.

- لو استنجى المكلّف بالأجسام المحترمة، أو بالعظم والروث، فالأحوط وجوباً عدم البناء على حصول الطهارة، فيلزم عليه التطهير بجسم آخر.

8- يجب المسح حتّى يحصل النقاء (نظافة المخرج)، ويجب أن يكون المسح بثلاث قطعات من القماش أو الأحجار، أو بثلاث جهات من القطعة الواحدة. وإن لم تكفِ القطع الثلاث يمسح بقطع أخرى إلى أن يحصل النقاء.
 
 

1- الروث: الغائط الطاهر من الحيوانات في معاجم اللغة: الروث هو رجيع الحيوان ذي الحافر، كالبقرة والفرس... وقد يستعمل في رجيع كلّ الحيوانات.
 
 
 
132

94
روح وريحان