فرقة الأخيار - الجزء الأول


الناشر: دار المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2018-01

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 قبس من تنويه الإمام الخامنئي1

...أسأل الله سبحانه أن يثيب السيّد رضائي الذي روى هذا الكتاب وكذلك السيّدة سبهري التي حرّرته، فالرواية جيّدة جداً والتحرير ممتاز..، وهذه الأقلام، في الواقع، هي ذات مكانة.

إنّني أشكر الله (سبحانه) عندما أشاهد هذه الابداعات البارزة جدّاً وبلاغة أدب الثورة الإسلاميّة..

إن مسائل حرب الدفاع المقدّس مهمّة بكلّ تفصيل من تفاصيلها وكلّ جزئيّة من جزئيّاتها، فكلّما غاص المرء ودقّق واطّلع أكثر، تتبدى له عظمة هذه الظاهرة العجيبة والحادثة المهمّة الممتدّة لسنوات ثمانٍ.

..، وعندما نقرأ هذه الكتب، يتّضح كم كانت تقارير القادة العسكرية شيئاً مختصراً جدّاً عن ذلك المحيط العظيم من الفعالية والعمل والجهاد والأهمّيّة. إنّه في الحقيقة، استثنائيّ جدّاً.

من بين عدّة كتب أخرى قرأتها، وجدت كتاب "لشكر خوبان" هذا، الذي يحكي عن فرقة عاشوراء، كتاباً جيّداً جدّاً جدّاً، ثقله ناشئ بنحو خاصّ من كونه يحكي عن قوّات الغوص والاستطلاع والمعلومات. 
 

1- من كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في جمع من الكتّاب والأدباء وأصحاب دور النشر خلال تكريم معدّي هذا الكتاب (الراوي: مهدي قلي رضائي، رجل الاستطلاع والمعلومات الذي روى كامل تفاصيل الكتاب، الكاتبة والمحررة: معصومة سبهرى، والمساعدين الآخرين..).
 
 
 
7

1

مقدمة

 ومغامرات الغواصين العجيبة والمدهشة، هي قصص أساسية جدّاً، وتم تفصيلها جيّداً في هذا الكتاب.


وحيث إنّ الأمنيّين لا يتكلّمون مع أحد وهم يلتزمون بتلك العبارة الشهيرة: "قيل لنا لا تتكلموا"، لذا فالكثير من الأمور والمواضيع التي يعلمونها، غالباً ما بقيت مكتومة طوال سنوات، فلتُعلن هذه الآن، ولتظهر.

إنّ أحد أعظم فنون الكتّاب، أي الأشخاص الذين يكتبون الرواية، سواءٌ كتّاب الرواية، أو القصّة القصيرة أو المذكّرات، وأحد أهمّ أقسام عملهم هو أن يتمكّنوا من تصوير اللحظات الدقيقة والحسّاسة.

يوجد كتب، نلاحظ فيها أنه عندما يصل الكاتب إلى تلك اللحظة الحسّاسة حيث تتشكّل حادثة داخليّة في بناء شخصيّة من شخصيّات هذه القصّة، أو تحصل حادثة مهمّة في الخارج، فإنّه يتجاوزها، لأنّه لا يستطيع تصوير المشهد، كمن يضع نقاطاً في جزء ما، ينقّط ويمضي.

أما هذه المذكّرات التي تكتب فأنا أقرأها وأستأنس بها الآن ومنذ سنوات، وأجد أحد محسّنات هذه المؤلّفات الجيّدة والرفيعة هي أنّهم استطاعوا تصوير اللحظات الحسّاسة، وتفصيلها وتبيانها. فبعض هذه اللحظات، لا يمكن فهمها إلّا من خلال التصوير المادي والمسرحي. إذا استطاع أحدٌ تبيين هذا الأمر وتصويره جيّداً في الكتابة، يحرز في الواقع فنّاً عظيماً جدّاً، فينقل الإحساس إلى القارئ في مختلف اللغات، التي من المفيد جداً ترجمة الكتابات اليها. فالقدرة على إيصال الرسالة، واقعاً هي إذا استخدم فنُّ البيان، سواءٌ بيان الراوي أو بيان الكاتب، 
 
 
 
8

2

مقدمة

 وإن فُصّل بشكل جيّد. إن اللحظات الحسّاسة في هذه الكتب ليست قليلة، خاصّة في مسألة الغوّاصين، والتفصيل والتصوير الذي جرى عنهم وعن عملهم. وشِعْرُ الـغوّاص "الحاجّ صمد" حقيقةً هو مؤثّر جدّاً لمن يفهم المعنى.. وكذلك الحاجّ أصغر المنشد الزنجاني، كان ينشده جيّداً على ما يبدو. نعم، هي أشعار استثنائيّة، والكتاب عموماً أيضاً كتاب جيّد جدّاً.


ما أوصي به الجميع وأوصيكم به أنتم الذين خبرتم هذه المشاهد بأجسامكم وأرواحكم، وعايشتم هذه الساعات الصعبة لحظة بلحظة وأحسستم بها، وكذلك (وصيّتي) للآخرين أن لا تودعوا هذه الذكريات طيّ النسيان.
منذ اللحظات الأولى لشروع حرب الدفاع المقدّس، وانبعاث هذه الملحمة العظيمة من خلال أنفاس الإمام الخميني الحارّة، ومسارعة الشباب للالتحاق بالجبهة، كانت جميع الأيادي الشيطانيّة تعمل على عدم انعكاس جماليّات هذه الواقعة وعظمتها. كان الجميع يسعى لمنع ظهور تلك العظمة الموجودة في هذا الأمر. إضافة إلى ذلك، لا يمكن للإنسان إدراك الكثير من الأمور العظيمة ما لم يقترب منها، فيتلمّسها، أو على الأقلّ يطّلع عليها من خلال أسلوب فنّيّ.. أنتم أنفسكم الذين كنتم هناك، اروُوا، دَعُوا هذه الكتابات تدعم وتكمل بعضها. لقد شاهدت في كتاب السيد نور الدين1، اسم السيّد مهدي قلي رضائي، ففي قصّة الغوّاصين تلك، يتحدث في مكان ما: "مهدي قلي رضائي 
 

1- كتاب " نور الدين ابن ايران"، يحكي ذكريات الجبهة، الراوي: نور الدين عافي.
 
 
 
9

3

مقدمة

 من عناصر الجبهة المخضرمين"، هذه الحقائق تؤيّد تماماً بعضها بعضاً، أي تبيّن أبعاد المسائل. ينبغي أن يُروى أكثر فأكثر، يُكتب أكثر فأكثر، أن تُعكس تلك التفاصيل بنحو شفّاف أكثر، من دون زيادة أو نقصان، من دون مبالغة، أي إنّ تلك الحوادث ليست بحاجة إلى المبالغة، لأنّها تحتوي الكثير من العظمة، بحيث تُفصح الحادثة المنقولة نفسها عن جلال وعظمة الموجودين داخلها. لا ينبغي اللجوء إلى المبالغة أبداً. كما لا ينبغي التنقيص. ينبغي بيان جميع التفاصيل القوية والفاعلة، التي هي جميعاً مؤثّرة.


كما أوصي السادة المحترمين في مؤسّسة "حوزة هنري" وجميع دور النشر: عليكم أن تقدّروا هذه الكتابات، والتجليات، ومكتسبات تاريخ الثورة وتاريخ حرب الدفاع المقدّس، عليكم أن تقدّروا هذه الأمور كثيراً وأن تنشروها بين الناس أيضاً. شبابنا حالياً، لم يشهدوا الحرب، ولم يسمعوا قصّة جيّدة عنها. الرواية الجيّدة، هي هذه الروايات. فاسعوا قدر الإمكان لأن تكون هذه الكتب بين أيدي الشباب، ليتعرّفوا إلى الحرب، ويخبروا ما حدث، وما جرى، وما هي الجمهوريّة الإسلاميّة، ومن هو هذا الشعب. .. أحد الأمور التي تذلّ الشعوب وتجعلها خاضعة لسلطة الآخرين، هو أن تبقى نقاط قوّتهم مخفيّة عن أعينهم، أن يجهلوا ماذا لديهم من قيم، ومن طاقات ونقاط قوّة، ولا يدركوها.

ينبغي أن يتعرف الشباب إلى وقائع الحرب، وكيف ذهب شباننا إليها من دون العتاد الكافي، ومن دون الاستعدادات والتحضيرات المسبقة 
 
 
 
 
10

4

مقدمة

 اللازمة لمثل هذه الأعمال، وماذا صنعوا. كما يجب أن تُترجم.


بالطبع، أرى أنه ينبغي، في ترجمتها، أن تكون اللغة المترجم إليها هي اللغة الأمّ للمترجم، وينبغي أن يكون كاتباً، لا يمكن الأمر بغير هذا .. مهما أنفقتم على هذا الأمر فهو يستحقّ ذلك حتماً، بشرط أن تتمكّنوا من نشره. فأحد أعمال أجهزة الاستكبار أنهم لا يقبلون بسهولة أن يصل ما ترجمتموه إلى مخاطبيهم لأنهم متعصّبون جدّاً، ومتشدّدون.. لذا عليكم أن تجدوا طريقةً، بحيث تتمكنوا من الأمر، بناءً على ذلك، فالترجمة أمر مهمّ جدّاً.

على كلّ حال، أسأل الله سبحانه التوفيق والتسديد لكم جميعاً. لقد سررت اليوم كثيراً بلقائكم، كذلك أسأل الله التوفيق والتسديد للسيّد مهدي قلي رضائي، .. كما أسأل التوفيق الكثير للسيّدة معصومة سبهري التي تحمّلت العناء حقيقةً، وكان عملها عملاً قيّماً جدّاً، جدّاً، واعلمي يا سيّدة سبهري أنّ هذا العمل الذي قمت به، هذين الكتابين اللذين أراك تخرجينهما، هما على التحقيق مصداق للجهاد في سبيل الله، وذلك لأنّ أعداء هذه الثورة وأعداء طريق الله يسعون لمنع هذا الطريق النيّر من الاستقرار أمام الأعين، لقد قمتِ أنتِ بعمل مخالف لهم تماماً، وكنتِ في الجهة المقابلة لهم، لذا، يعتبر هذا الفعل جهاداً في سبيل الله، أسأل الله سبحانه أن يتقبّل عملك، ويجعل نيّاتنا جميعاً خالصةً له، ويجعل أعمالنا، أفكارنا، أقوالنا، وأفعالنا له وفي سبيله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
 
 
 
11

5

مقدمة

 مقدمة الترجمة

هي مذكّرات مقاتل، تختزنُ في تفاصيل أحداثها فلسفةً خاصة. يرويها تعبوي معاندٌ صارَعَ لأجل غاية وأمل، .. تمرّس في الاستطلاع وعاين الأسماء والمواقع والخرائط، ووجّه الكتائب والسرايا، وهو جريحٌ رافقته هواجس وأوجاع، وعاشقٌ أحبّ واشتاق وانتظر.

انبعث من الأسرةِ والدراسة، وانجذب إلى عالم الجبهة ورفاق الصبا، وغاص في التدريبات والمهام والالتحام مع العدو، وشهود الموت.. وشهادة الرفاق.

منعطفات ومغامرات، خاضها "مهدي قلي"، وقاسى الشدة في امتحان الصبر والبلاء، أفرزت تغيّرات صنعَها مع رجال الجبهة، وبانت صفاتٌ وملَكات نكتشف من خلالها شدّة العلاقة بالله عز وجل.

هي رحلةُ شابٍّ اختزَن المعلومات والوجع والضحك والمشاكسة والدموع، ورائحة البارود، وعطر الشهداء، وملأ نفسه بحقائق أدركها وقرر نقلها لنا. نضعها بين يدي القارئ ليجول في دقائقها، ويكتشف عِبَرها.

وإن كانت خاتمة الثورات هي أكثر ما يوضح كمْ تركّزَ فكرُها في نفوس محاربيها، فهنا ستبدأ معالم هذا الفكر بالظهور. لتجيب عن السؤال: هل كان "مهدي قلي" من المحاربين حُبًّا بالحرب أو بقرار عفوي، وهل كان في عداد اليائسين لما شاهد أو لما آلت إليه الأمور؟ أم هل تحرك 
 
 
 
 
13

6

مقدمة

 ببصيرة لا تُضيّع، وقناعات لا تموت؟


يسرّ مركز المعارف للترجمة أن يقدّم الجزء الأول من كتاب "فرقة الأخيار"، ضمن سلسلة "سادة القافلة" التي تصدر تباعًا عن دار المعارف الاسلامية الثقافية، استجابةً لهواجس الإمام القائد دام ظله في ما يتعلق بأدب الجبهة وثقافة الحرب، حيث عبّر سماحته: "هذه الحرب كنز. فهل سنقدر على استخراج هذا الكنز أم لا؟" وقال أيضا: "..ما أحمله في ذهني هو هاجس ضياع ثقافة الحرب وثقافة الثورة، وفي الحقيقة، روحية الثورة، ..التي أوجدت في الحرب ساحةً للرشد والتكامل".

ختامًا، لا بدّ من توجيه الشكر لكل من ساهم في إعداد النسخة العربية (الجزء الأول)، ولا سيما:
- في الترجمة: إيمان صالح.
- في التحرير والتبويب: منى ياسين، نجوى الموسوي.
- في التدقيق اللغوي: عدنان حمّود.

ويبقى الشكر موصولاً لمعدي الكتاب، الكاتبة: معصومة سبهري، الراوي الغواص، ورجل الاستطلاع: مهدي قلي رضائي. وكامل الشكر للأخوة في مكتب "أدب وفن المقاومة" ومؤسسة "سوره مهر".
 

مركز المعارف للترجمة
 
 
 
 
14

7

مقدمة

 مقدّمة الطبعة الأصلية

بدأ مكتب "أدب وفنّ المقاومة - آذربيجان" نشاطه في مدينة "تبريز" عام 1992م، تأسّيًا بمكتب "أدب وفنّ المقاومة" في الدائرة الفنيّة في "طهران"، الذي كان يوقد تنّور الأدب المقاوم1. أُنجزت المقابلات الأولى في هذا المكتب بمساعدة عدد من هؤلاء المجاهدين، ومن بينها مقابلة "فرج قلي زاده" مع "مهدي رضائي". غدا "فرج قلي زاده" الذي كان أيام الحرب المفروضة في فرقة (عاشوراء31) ورفيق درب "مهدي قلي رضائي"، مستمعًا إلى مذكّرات صديقه في وحدة استطلاع فرقة "عاشوراء" لمدة 36 ساعة. هذا وقد عُهد لعددٍ من العناصر - بالتزامن مع إنجاز المقابلات - مهمّة تدوينها. وقد تعرّفتُ، عبر صديقتي الكريمة السيدة "شكوفه خياباني"، إلى هذا المكتب عام 1994م. ورُحت أعمل على "تفريغ" أشرطة "الكاسيت"، وما إن أنهيتُ تفريغ مقابلات "موسى غيور" مع السيد "نور الدين عافي"2، حتى 
 

1- يقع المكتب في الطابق العلوي لسينما "القدس" الواقعة على تقاطع شارعَي شريعتي - تبريز، وهو محل تردّد المجاهدين الذين أدركوا أهميّة توثيق ذكريات حقبة الدفاع المقدّس.
2- بعد سنوات، كان لي شرف تدوين مذكرات هذا المقاتل الغيور في كتاب حمل عنوان "نور الدين ابن إيران"، وقد قامت مؤسسة "سوره مهر" للنشر عام 1991 بطبعه ونشره. (يقوم مركز المعارف للترجمةحاليًا بترجمته).
 
 
 
16

8

مقدمة

 عُهد إليَّ بتفريغ 20 "كاسيتًا"، هي عبارة عن مقابلات أجريت مع الأخ "مهدي قلي رضائي". وتعتبر هذه المذكّرات رواية صريحة وصادقة لجهاد وجهود شابٍّ تبريزيّ يافع بدءًا من التحاقه بجبهات القتال. إلى كيفية انضمامه إلى وحدة الاستطلاع في "فرقة (عاشوراء31)" ومشاركته في عمليات الاستطلاع والقتال، كعمليات: "والفجر" التمهيدية، "بدر"، (والفجر8)، (كربلاء4)، (كربلاء5)، (بيت المقدس2) و(3)، وعمليات "المرصاد". وقد صقلت الحوادث التي مرّ بها الراوي شخصيته وأغنت تجاربه، فكانت الصور التي ينقلها هذا العنصر في وحدة استطلاع فرقة (عاشوراء31) غاية في الجمال والروعة، وقد شرّعت أمامي - أنا المتردّدة حتى ذلك اليوم في الخوض في قضايا الدفاع المقدّس - نافذةً لأطلّ من خلالها على تلك الحقبة وتلك الأجواء، وأدركتُ شيئًا فشيئًا سبب شوق هؤلاء المقاتلين وتعلّقهم بالجبهة والحرب. قضيت شهورًا عديدة بشوقٍ وحماسة لا يوصفان، مع تلك المقابلات التي أُجريت باللغة التركية، وقد سعيت جاهدةً لأترجمها وأقدّمها بأبهى حُلّة وصورة.


بعد إنهائي "تفريغ" المقابلات بداية عام 1996م، اتصل بي مسؤول مكتب "أدب وفنّ المقاومة - آذربيجان" حينها، السيّد "قاسم نظمي" وسألني إن كنت على استعداد لتدوين ذكريات "مهدي قلي رضائي" في كتاب. كان هذا الاقتراح بالنسبة لي - أنا التي خضتُ تجربة شعرية منذ وقت قريب - حدثًا مهمًّا جدًّا.

قبلتُ العرض بكلّ طيب خاطر رغم خشيتي من الفشل في إيصال هذا الكنز الثمين إلى حيث يجب وكما يليق، بسبب عدم خوضي أي 
 
 
 
 
17

9

مقدمة

 تجربة في هذا المجال.


استلمت الأشرطة المسجّلة والنصوص المنسوخة لتلك المقابلات، وبدأت العمل. كنت يومها طالبة جامعيّة في فرع الفلسفة في جامعة "تبريز"، عندما حصلتُ صدفةً على مذكّرات أحد الشهداء، وذلك أثناء رحلة للطلاب باسم "قافلة جامعة تبريز"1 في ربيع 1996م، إلى المناطق التي شهدت معارك خلال الحرب المفروضة. وقد أعطاني "المذكّرات" أحد الطلاب التعبويين ويُدعى السيّد "شيعة زاده". تعود المذكّرات التي كُتب على غلافها رقم (10) للشهيد "بايرام علي فرمزياري"2. كان الشهيد يروي أحداث عمليات "مسلم بن عقيل" التي جرت في أيلول 1982، وحادثة تعرّضه لجراح خطيرة، وكل ما حصل معه آنذاك. لم يكن اسم هذا الشهيد غريبًا عنّي، فقد مرّ ذكره في مذكرات "مهدي قلي رضائي" في الفصل المتعلّق بعمليات "مسلم بن عقيل".

وها أنا الآن أقرأ في دفتر مذكّرات الشهيد "فرمزياري" عن حادثة مشتركة بينهما. تفاءلت بهذه الصدفة كثيرًا، وكأنّ عناية الشهداء قد واكبتني في كتابة هذه المذكّرات.
 

1- كانت رحلة جامعة تبريز لزيارة مناطق الحرب جنوب وغرب البلاد، الأولى للجامعة عام 1994م، وتحت عنوان "من الجامعة إلى الجامعة". استمرّت الرحلة 10 أيام، وكانت رحلة عام 1996م هي الثالثة والأولى التي تشارك فيها الفتيات. كانت تلك الرحلة التي شارك فيها قادة ومجاهدون ومقاتلون وجرحى من فرقة "عاشوراء3" - وهم أيضًا من طلاب جامعة تبريز - مليئة بالبركات ولا تمحى من الذاكرة.
2- خلّف الشهيد بايرام فرمزياري varmizyari - قائد كتيبة "علي أكبر" - 15 مذكرات جمعناها في دفتر، فضُمّت إلى سيرته الذاتية، وهي قيد الطباعة حاليًا.
 
 
 
18

10

مقدمة

 وصلت في كتابتي للمذكّرات، إلى فصل عمليات "مسلم بن عقيل"، "جلوس "مهدي قلي رضائي" إلى جانب "بايرام علي فرمزياري" الجريح، وقد ورد اسم "رضائي" في مذكّرات الشهيد أيضًا.


جرى التنسيق مع "مهدي قلي رضائي" لأوّل مرة في صيف 1996م، فذهبت لزيارته في مكان عمله في مركز مؤسسة شهيد الثورة الإسلاميّة في شارع شريعتي في مدينة "تبريز".

وجدته أكثر شبابًا ممّا تصوّرت. كما شعرت أنّه لم يأخذ الأمر على محمل الجدّ في البداية، ربّما لأنّه شكّ في قدرة فتاة لم تعش الحرب ولم تعرف عنها غير ما شاهدته في الأفلام أو ما قرأته في المذكّرات، على القيام بهذه المهمة الصعبة! لكنّني وبوجود دفتر مذكّرات الشهيد "فرمزياري"، اطمأنّ قلبي ولم أشعر بالتردّد أو الخوف لحظة واحدة لإنجاز هذه المهمة.

سألته ذلك اليوم، بناءً على ما قرأته في مذكّرات الشهيد "فرمرزياري"، أسئلة حول عمليّات "مسلم بن عقيل". لقد فتحت هذه المذكّرات الطريق أمامي. كان السيّد "رضائي" يعي تمامًا أهميّة هذا السند الثمين. فقد صوّر نسخة عن هذه المذكّرات لمؤسسة الشهيد، وأعتقد أنّه بات يثق بي أكثر لكتابة مذكّراته!

أخبرته أنّني، وبهدف الحصول على تفاصيل أكثر، بحاجة للقائه أكثر من مرّة، وبعد أن أدركنا أنّنا نقيم في الحيّ نفسه، حدّدنا مكان لقائنا الثاني في منزله. وممّا سهّل عمليّة التواصل معه أكثر فأكثر، دراسته الفلسفة في جامعة "تبريز"، وهو الاختصاص نفسه الذي أدرسه.

زرته في منزله ما بين صيف 1996م وصيف 1998م أكثر من مرة، 
 
 
 
 
 
19

11

مقدمة

 بهدف الحصول على إجابات لأسئلتي حول مختلف مراحل حياته، عن طفولته والبيئة التي نشأ فيها، وعن الأيام الأولى له في جبهات القتال وأيام الهدنة. وددت كثيرًا أن أعرف ما يفعله المقاتلون في أوقات الهدنة ووقف إطلاق النار. استقبلتني زوجة السيد "مهدي" السيدة "ناهيد رادش زاده" المحترمة وطفلاهما "أمين وسجّاد"، عدّة أيام في شقّتهم الصغيرة بكلّ حرارة وألفة. كنت أطرح أسئلتي في أجواء آمنة هادئة وأحصل على الإجابات الشافية. كما حصلت على الكثير من التفاصيل، كجغرافية مناطق الجبهة وخرائط العمليات، حتى تعاريف المصطلحات العسكريّة.


وخلال بحثي الدؤوب، حصلتُ على عدد من الكتب أهمها: الطبعة الثانية لـ "سجل عمليات جنود الإسلام خلال ثماني سنوات من الدفاع المقدّس"، من منشورات حرس الثورة الإسلاميّة. على الرغم من ذلك، طلبت من السيد "مهدي قلي رضائي" أن يوضح لي مجريات تلك الحقبة من خلال رسم خرائط جزئية للمناطق التي استطلعها بنفسه، أو لتلك التي ساهم في توجيه وإرشاد قواتنا المسلّحة إليها. كان هذا العمل ينقلنا إلى أجواء تلك الأيام، وقد رسم لي السيد "رضائي" خرائط تمثيلية للمنطقة، كتلك التي كان يرسمها عناصر وحدة الاستطلاع في ذلك الوقت. كوّنت، من خلال تدقيقي بتلك الخرائط، صورة أفضل للأحداث. وهكذا، لم أستفد من المقابلات الأوليّة فحسب، بل حصلت على تفاصيل جديدة وكثيرة، وحاولت أن أجد إجابة لكل سؤال يخطر على بالي.
 
 
 
 
20

12

مقدمة

 لم أكن أملك أدنى فكرة عن الطريقة الأنسب لجمع وتدوين مذكرات المقاتل، كما لم أكن على تواصل مع مكتب "أدب وفنّ المقاومة" في طهران. والمساعدة الوحيدة التي استطاع مكتب "تبريز" أن يقدّمها لي هي مجموعة كتب من منشورات مؤسسة "مذكّرات الحرب" التي قرأتها بشوق وشغف، كما سعيت لمشاهدة البرامج التلفزيونية والاستماع للبرامج الإذاعية حول الحرب والشهداء بكلّ دقة، وكنت أدوّن الملاحظات التي قد تفيدني في مهمّتي. في الوقت ذاته، حاولت الاستفادة من تجاربي في مطالعة وقراءة القصص والروايات لأتمكّن من التعبير عن الحوادث وتصوير فضاء الوقائع من خلال ذكر التفاصيل والجزئيات. لطالما أوقفني صراعي الدائم مع المشاعر والأحاسيس عن الكتابة، خاصةً عندما كنت أحاول تصوير المشاهد المؤثّرة جدًّا، كمشهد استشهاد الأصدقاء أو ظروف التدريب أو حتى العمليات العسكريّة. في تلك الظروف، حاولت بكلّ ما أملك من مهارات أن أخطّ تلك الأحاسيس على الورق بعبارات سلسة وكلمات معبّرة، وفق أصول كتابة المذكّرات.


ومع حضور السيد "مهدي قلي رضائي" وبمدد ذاكرته وذهنه الوقّاد الذي حفظ الكثير من التفاصيل المهمّة1، حيث كان يصف لي بأسلوبٍ سلس وجميل، مشاهد منقطعة النظير لمهمّات الاستطلاع التي قام بها، فُتحت أمامي الآفاق لسرد بعض الأحداث بشكل أفضل وأدقّ. ومن جهة 
 

1- وما زال يشتهر بين أصدقائه بهذه الصفة، وقد شهدت بنفسي مرات عدة كيف أنّ رفاق السلاح في وحدة الاستطلاع والمعلومات يعودون إليه في كثير من الأمور.
 
 
 
 
21

13

مقدمة

 أخرى، ولكونه عنصرًا من عناصر وحدة الاستطلاع، كانت له ذكريات مختلفة عن غيره من المقاتلين. كان عناصر وحدة الاستطلاع بمنزلة عين المقاتلين ومنظارهم طوال سنوات الحرب، خاضوا تجارب قاسية وعجيبة خلال تنفيذ المهمّات، وعاشوا أيامًا صعبة للغاية. كانوا من أشجع المقاتلين وأكثرهم جرأة وإقدامًا، حيث يتوزّعون قبل العمليّات وخلالها على عدّة مجموعات صغيرة تتوغّل في قلب العدو لاستطلاع عدده وعدّته، مواقعه وإمكاناته، والتعرّف إلى البيئة والحواجز الطبيعيّة وغير الطبيعيّة، إضافة إلى ظروف القوّات المعادية. كما تولّوا إلى جانب ذلك مهمّة إرشاد قوات الهجوم. إنّ سماع تلك الذكريات على لسان أحد عناصر وحدة الاستطلاع، بالغ الجاذبية والتأثير في آن. استشهد العديد من هؤلاء المجاهدين الأبطال غرباء مجهولين. وما هذا الكتاب إلّا تصوير لمشاهد قليلة من بطولات باقة من هؤلاء الشجعان.


كل هذا ساعدني في التعرّف بشكل دقيق وجليّ إلى شخصيّاتهم والكتابة عنهم. اعتقدتُ - وما زلت - أنّ ذكريات المقاتلين ما هي إلا فرصة لنفض الغبار عن أسماء وذكريات الشهداء من أبناء الوطن الذين يعجز التاريخ عن وصفهم.

استغرق تدوين هذا الكتاب وقتًا أطول ممّا كان متوقّعًا. كنت على تواصل دائم مع السيد "رضائي"، أسلّمه كل فصل عند الانتهاء من كتابته، فيطّلع عليه ويعدّل ما كان غير مطابق للأحداث، ويجيب عن بعض الأسئلة الواردة في تلك النسخ، وقد استفدت منها جميعها، وما زالت معي.
 
 
 
22

14

مقدمة

 شهدت خلال العمل على هذا الكتاب، نضال السيد "مهدي قلي رضائي" الدائم مع الجراح التي أصيب بها خلال سنوات الحرب، وقد خضع بسببها لعملية جراحية صعبة. مع هذا، لم يتوقف العمل على الكتاب، حتى في أوقات وجوده في المستشفى وفي فترة النقاهة. وقد جعلتني مشاهداتي لهذه الحالات، أكثر إصرارًا على إنجاز المهمة. ولأجل الاطلاع على أوضاع جراحه، لجأت إلى الطبيب المعالج الدكتور "عباس منتظري" في مستشفى "الإمام الخميني" في مدينة "تبريز".


في الحقيقة، انصبّت جميع جهودي للتعرّف عن كثب إلى هذا المقاتل الجريح الذي أبدى استعدادًا لمشاركة الناس في مذكراته الحلوة والمرّة زمن الحرب. طوال تلك السنوات تكرّرت المقابلات الأوليّة واستُكملت أيضًا، غُصنا رويدًا رويدًا في أعماق تلك الذكريات.

في تلك الأيام، كنت مستغرقة بالكتابة، كأنّني أصبحت أشاركه في كلّ التدريبات والعمليات والمزاح والضحكات، وحتى في الغمّ وغربة شهادة الأصحاب... كنت أسأل نفسي في بعض الأوقات، هل هذه الكلمات قادرة فعلًا على نقل هذه المشاعر وهذه الروحيات؟ كيف لشخص مثلي لم يعش الحرب، وكان لسنوات ليست ببعيدة ينظر بشكّ إلى حياة المقاتلين، أن يستمع إلى توصيف مشاهد الحرب ويكتب عنها؟ هناك حيث بلغ أُنس الإنسان بربّه الذروة، وتحقّقت كل المفاهيم الجميلة. هي مشاهد جذّابة تفيض بالصدق، جعلتني أكثر إصرارًا على المثابرة وإكمال المهمة.

كتاب "فرقة الأخيار1" هو جنيُ ثمار ظروف وأحوال كهذه، خبِرتُ مع سطوره أفضل الأيام وأفضل العزائم والخيارات. أرجو لهذا الكتاب الذي نقلني من التسكّع في عالم الكلمات الخيالية إلى فضاء الحياة الواقعية في أصعب وأجمل أيامها، وشقّ أمامي طريقًا جديدًا، أن يخاطب الأصدقاء الباحثين عن الحقيقة في كل زمان ويكون لهم مددًا في بحثهم...

من دواعي سروري أن تحمل الطبعة الرابعة2 اليوم تصحيحات السيد "رضائي" التي رأى ضرورتها ليُنشر هذا الكتاب بالشكل المناسب. أشكر جميع الإخوة المجاهدين المقاتلين الذين رافقونا بذكرياتهم ولم يبخلوا علينا بآرائهم. كما وأشكر جميع من تقبّل هذا العمل الذي، بالرغم من الشوائب، جاء صورة رائعة لإخوة السيد "مهدي باكري"، الصورة التي التقطت بعد عشرين عامًا من انتهاء الحرب.

أتمنّى أن تحفظ هذه الصفحات جزءًا من جهود فتية أبطال ضحّوا بأرواحهم وشبابهم من أجل الإسلام ووطن الإسلام.
 


معصومة سبهري3 - تبريز
ربيع 2012
 

1- "لشكر خوبان" أي: فرقة الصالحين أو الأخيار، والمقصود فرقة (عاشوراء 31) .
2- من الجدير الإشارة هنا إلى أن طبعات الكتاب الفارسية قد تخطت الـ 30 طبعة حتى عام 2015.
3- سپهري: sepehri.
 
 
 
 
 
23

15

المسافر

 المسافر

خريف 1981م1
كنت كأيّ طالبٍ إعداديّ يغادر مدينته لأول مرة.

تشتعلُ مشاعري وأفكاري سعيًا لغاية كبرى أريد تحقيقها.

حجزني العائق الأول وهو تحصيل الموافقة للّحاق بمتطوعي الحرب المفروضة.

هُديت للحل. ثم عاينتُ اكتشافات مرحلة التحضير، من مدينتي "تبريز" إلى عوالمَ فجّرت ينابيع الشوق والتصميم.
 

1- سعياً لربط الفصول بعضها ببعض، عملنا على استخراج الفترة الزمنية لكل فصل، ووضعنا له مدخلاً موجزاً المعارف للترجمة -.
 
 
 
 
25

16

المسافر

 كيف استطاع "كريم" و"دوست علي"1 الذهاب إلى الجبهة وأنا لم أوفّق لذلك؟ لمَ لا ينتهي هذا الصيف!؟


تلك الليلة كانت من أشدّ الليالي حماوةً في حياتي، ولكن ليس بسبب حرارة الطقس، فقد كانت بعض السُحب تسبح تائهةً في السماء.

كنت أتململ في فراشي من دون أن يقرّ لي قرار. لم أصدّق أنني عدت من مركز التعبئة خالي الوفاض، وأنّه عليّ الاكتفاء بالزقاق والمدرسة والمسجد فحسب، ويصبح عملي الوحيد حراسة الأزقّة وتكرار جملة "أطفئوا الأنوار! أطفئوا الأنوار!"

بقيت على تلك الحالة حتى الصباح. لم أخبر أحدًا أنّني رُفضت في مركز التطوّع للتعبئة، تمامًا كما رسبتُ في الصف الثالث المتوسط.

حاولت جاهدًا أن لا أفضح مشاعري. بعد يومين من تلك الليلة المضجرة، أخذت معي نسخة مصوّرة ومزوّرة عن بطاقة هويتي إلى مركز تسجيل أسماء المتطوّعين.

- اصعد إلى الأعلى واكتب وصيّتك..

ما أروع هذا الشعور، أن يكبر الإنسان فجأةً في ليلة واحدة1! وأمّا المسؤول عن تسجيل أسماء المتطوّعين، فبالرغم من نظراته المُشكّكة التي كانت تقول: "كأنك جئت قبل عدة أيام!"، فقد سجّل اسمي في
 

1- كان كريم عبديان ودوست على داداش زاده من أقراني المقيمين في الحي نفسه.
2- فقد غيّرت تاريخ ميلادي من عام 1966 إلى عام 1965م
 
 
 
26

17

المسافر

 لائحة المتطوّعين وأخذ منّي الأوراق الثبوتية من دون تعليق. حينها! تقرّر لأوّل مرة أن أكتب وصيتي!


أردت أن أكتب باللون الأحمر، كدلالة على أنّني أكتبها بالدماء، لكنّني ارتبكت أمام نصاعة الورقة البيضاء، لأوّل مرة في حياتي كنت أفكّر بالموت بطريقة جديّة. تذكّرت وصايا الشهداء التي كنت قد قرأتها. فكتبت: "بسم الله الرحمن الرحيم"..، وسار كل شيء على ما يرام. وقّعت وصيّتي الحمراء وسلّمتها لهم فأعطوني في المقابل البزّة الترابيّة اللون الخاصة بالتعبويّين، وأبلغوني بتاريخ إرسالي إلى الجبهة. لم يبق أي عمل آخر لأقوم به، واستنادًا إلى التدريب العسكري البسيط الذي تلقّيته في مسجد "شربت زاده"، أخبرتهم أنّني خضعت لتدريبات عسكرية فلم يناقشوا الأمر. خرجت مسرعًا من المبنى وما إن وصلتُ إلى حيّنا، حتى توجّهت إلى المسجد مباشرة. كانت "قاعدة المقاومة" في مسجدنا، القاعدة السادسة التي تشكّلت في مساجد المدينة. في تلك الأيام لم يكن لدينا شهيد من المسجد أو الحي لنطلق اسمه على القاعدة، لذا عُرفت بـ"قاعدة مسجد شربت زاده رقم (6)".

في بداية الحرب كنّا نقضي معظم أوقاتنا في القاعدة، وعندما يحلّ الظلام نقوم بحراسة أزقّة الحيّ، ونحذّر الناس من الغارات الجوية للأعداء بنداء: "أطفئوا الأنوار، أطفئوا الأنوار!".

عندما رأى الإخوة البزة العسكرية، أدركوا الأمر. في الحقيقة، هم من علّموني طريقة تزوير بطاقة الهوية. وضعت الثياب في قسم أمانات المسجد، وحاولت أن لا يُفتضح أمري في المنزل إلى أن يحين موعد إرسالي إلى الجبهة.
 
 
 
 
27

18

المسافر

 في أحد أواخر أيام صيف عام 1981م، كان موعد ذهابي إلى الجبهة للمرة الأولى. عرّجتُ على المسجد أولًا، نقطة انطلاقي مع مجموعة من رفاقي. وأثناء وداع أصدقائي الذين لم يحصلوا على الإذن بالذهاب قلت لهم والشوق يغمرني: "حسنًا يا أصدقاء! أتمنى أن يوفّقكم الله ويكون لقاؤنا التالي في الجبهة".


- إلى أين؟ هيا اخرج..

شدّتني يد أخي حسن القوية من الطابور الذي ينتهي عند الحافلة، ومرّت في ذهني كل مشاعر الاضطراب والشوق للذهاب إلى الجبهة في لحظة واحدة أمام ناظري. وقفتُ، ومن دون أن أنبس ببنت شفة، قلقًا أشاهد شجار أخي مع مسؤول نقل المتطوعين إلى الجبهة: "إنّه فتى صغير! إلى أين تأخذونه من دون إذن وليّ أمره؟".

كدتُ أموتُ خجلًا. كرّرت في داخلي عدّة مرّات: "وا أسفاه!! على هذا الزي الذي أرتدي!".

عندما أمسك أخي بيدي وجرّني معه، بدأت بالنحيب. قطعنا الطريق كلّه وهو يجرّني جرًّا مخلّفًا آثار أقدامي على الأرض. عندما دخلنا فناء الدار، أغلق الباب عليّ، فجلست هناك وبكيت حتّى السأم.

بعد عدة أيام من التجهّم والخصام والانزواء، حاولت العمل بنصيحة من هم أكبر مني سنًّا. كانت المدارس قد فتحت أبوابها. رسوت في آخر طابور الصّف الثالث إعدادي، لكن شتان ما بين هذا الطابور وذاك!

سمعت فيما بعد من الأصدقاء أن "محمد زارع زاده" التقى بعد
 
 
 
 
 
28

19

المسافر

 وداعي له أخي في الزقاق وقال له: "مبروك فها هو 'مهدي' ذاهب للجبهة أيضًا".


- "مهدي؟ أيُّ مهدي؟!.. الجبهة؟!".

بقيت مدة مستاءً من الأصدقاء الذين تسبّبوا لي بهذه المشكلة عن غير قصد، لكن لا مفرّ من الوقوع في المحظور. كنت كل يوم أعبر فيه من البيت إلى المدرسة وبالعكس، أشاهد الملصقات لصور الشهداء التي ملأت الجدران، أقف وأختلي بنفسي، وأضحك عندما أتذكّر وصيتي، وكيف أوصيت أصدقائي بالذهاب للجبهة وإكمال درب الشهداء، بينما أنا عالق في هذا الوحل!

مع انتهاء عمليات "ثامن الأئمة"1 وكسر حصار عبادان وعودة الإخوة في إجازة، زاد تململي لرؤيتهم وسماع أحاديثهم. تحمّستُ وعدت ثانيةً إلى مركز التعبئة، الكائن في شارع "دانشسرا"، لتسجيل أسماء المتطوّعين.

كان كلّ شيء يسير على ما يرام، إلى أن أعطوني استمارة وقالوا لي: "هذه استمارة موافقة وليّ الأمر، خذها إلى والدك ليوقّعها". لو ناقشتهم بأمرها لارتابوا، لذلك عدت إلى المنزل مشوّش الذهن وقرّرت هذه المرّة الحصول على موافقة والدي.

تمكّنت عند العصر من التحدّث إلى والدي على انفراد، جثوت على ركبتي أمامه وقلت له: "الدفاع عن الإسلام واجب، وأنت تعرف
 

1- جرت عمليات "ثامن الأئمة" في 27 أيلول/سبتمبر 1981 بنداء "نصر من الله وفتح قريب"، في شمال عبادان، وبهدف كسر الحصار عنها.
 
 
 
29

20

المسافر

 هذا الأمر أكثر منّي. بما أنّ الإسلام في خطر، على الجميع الذهاب إلى الجبهات، هناك الكثير من الفتية، ممّن هم أصغر مني سنًّا، قد ذهبوا بينما بقيت أنا هنا".


تجرّأت على قول ما يدور في خلدي بكلّ رجولة، وعندما رأيت دموع والدي تفاءلت، والآن ها هو يقول: "إذا لزم الأمر فأنا أيضًا أريد الذهاب إلى الجبهة". فقلت له بحماسة وشوق عارمين: "لا يا والدي العزيز، لا حاجة لذهابك مع وجودنا، لكن ذهابي إلى الجبهة مرهون بتوقيعك هذه الاستمارة".

وقّع والدي الاستمارة، ولا أعتقد أنّني شعرت يومًا بالخجل منه أكثر من ذلك اليوم.

كنت أمشي وأقفز جذلًا، أحسست بالراحة والثقة معًا، شعرت بالزهو لأنّني لم أحدّث أحدًا في هذا الشأن. ظنّ الجميع أنّني تخلّيت عن فكرة الجبهة والحرب، لكنّني كنت ذاهبًا بالفعل. قرّرت أن أقول لأخي "حسن" إن حاول منعي من الذهاب ثانية: "إذا كانت الجبهة مكانًا سيّئًا فلِم تذهب أنت إليها؟".

كنت أثق بصديقي "محمد محمد بور"1 أكثر من غيره، فهو صديقي منذ المرحلة الابتدائية، شارك "محمد" في عمليات "مطلع الفجر"2، لكنّه انشغل فيما بعد بمشاكله العائلية ولم يعد قادرًا على الالتحاق
 

1- پور: pour
2- عمليات "مطلع الفجر": جرت في 11 كانون الأول عام 1981م بنداء "يا مهدي أدركني" في منطقة "كيلان غرب" و"سربل ذهاب"
 
 
 
30

21

المسافر

 بالجبهة مجدّدًا، طلبت منه أن يذهب إلى منزلنا عصرًا ويخبرهم عن مقصدي.


جاءت جموع غفيرة لوداع المتطوّعين. استعجلتُ الصعود إلى الحافلة التي ستنقلنا إلى محطة القطارات، وكان برفقتي عدد من زملاء المدرسة، فشعرت بالأنس والاطمئنان. وضعت قدمي على الدرجة الأولى، والتفتّ نحو الجموع. رأيت بين كلّ تلك الأعين الضاحكة الباكية، أخي "رضا"! لا أدري كيف وصل إليّ وعانقني!

- أنت ذاهب أيضًا؟ ألا ترى حالنا؟ إلى أين تذهب في هذه الأوضاع؟ أنت تعلم أنّ أخانا "حسن" يذهب هو الآخر إلى الجبهة، وأنّ عمّنا مريضٌ طريح الفراش ولا معيل له غيرنا، لا أحد سواي أنا ووالدي العجوز ليهتم بأمور العائلة، فأين تذهب في هذه الأوضاع؟!".

بذلت جهدًا لإقناعه. عندما رأيت دموعه، ارتاح بالي، وعلمت أنّه سيُقنع الآخرين أيضًا. وضع في يدي ثلاثة آلاف تومان، كما وضع معطفه على كتفيّ ليقيني البرد. عندما تحرّرت من عناقه، شعرت بالاطمئنان، فقد جاء أحدهم لوداعي أنا أيضًا. ما إن تحركت الحافلة حتى حملت الريح صوتي:
- مع السلامة يا أخي!

كان ذاك اليوم من شهر تشرين الثاني عام 1981م، أحد أهمّ أيام حياتي، بقيت ذكراه لسنوات عالقةً في ذهني.

جلست إلى جانب أصدقائي: "خليل تبريزي"، "رحيم داسيار"، "محمد باقر خان محمدي"، "جواد فرامرزيان"، "حسين نوري"، ورجل
 
 
 
 
31

22

المسافر

 لا أدري أي قدر جاء به إلى مقصورتنا، اسمه "يد الله مرادي". كان قليل الكلام ولم يُخبرنا أيّ شيء عن نفسه، علمنا فيما بعد أنّه يعمل في إعلام الحرس الثوري، وحاليًّا رامي "أر بي جي".


يومها، كان لكتاب الشهيد مطهري "قصص الأبرار" بين يديه، شكل مختلف. كان الأخ "مرادي" يقرأ قصصه ويقصّها علينا. أُعجبنا كثيرًا بأحاديثه، فلم نشعر بطول الطريق والسفر. أما "جواد فرامرزيان"، الذي يكبرنا بعامين، فكان الوحيد بيننا نحن الخمسة ممّن خبروا الحرب، فقد شارك في معارك "مهاباد"، وأصبح منذ أن تعرّفنا إليه بمنزلة الصديق والمدرّب. أضحى رفاق البارحة في المدرسة، رفاق سفر القطار اليوم، ورفاق الغد في الخندق.

تساءلت كم عنصرًا من عناصر الكتيبتين المتّجهتين إلى جبهة الجنوب، مثلي، قد ترك والديه ليخوض تجربته الأولى في الحرب، شعرت بالراحة عندما علمت أنّ "علي تجلائي"1 هو قائد هاتين الكتيبتين، فقد سمعت باسمه عندما كان المقاتلون المجتمعون في قاعدة المسجد يتحدّثون عن ذكرياتهم في عمليات "سوسنكرد"2. هذا ما جعلني معجبًا به وأحببته حتى قبل أن أراه.
 

1- ولد الشهيد علي تجلائي في 28 تموز 1959م في مدينة تبريز، وهو من مؤسسي قاعدة التدريب "خاصبان" قاعدة سيد الشهداء اليوم-. كان قبل الحرب، يدرّب المجاهدين المسلمين في أفغانستان، وفي بداية الحرب المفروضة، عيّن قائدًا للقوات العسكرية الآذربيجانية في سوسنكرد، وقد أنقذ المدينة من السقوط بيد الأعداء. بعدها، أصبح قائد مركز خاتم الأنبياء، وفيما بعد وخلال عمليات بدر التحق بقوات فرقة عاشوراء31 واستشهد بعد قتال بطولي شرق نهر دجلة، ولم يعد جسده الطاهر إلى مدينته أبدًا.
2- سوسنگرد: sowsanghared
 
 
 
32

23

المسافر

 ما إن رأيت أول شجرة نخيل حتى أيقنت أنّنا وصلنا إلى جنوب إيران. كُنّا يوم أمس قد توقّفنا أربع ساعات في طهران، فالقطار ينطلق الساعة الخامسة عصرًا، وكنّا قد وصلنا عند الساعة الواحدة بعد الظهر، ما أتاح لنا فرصة التجوال في تلك المدينة. ذهبت يومها مع الإخوة إلى سينما في "ميدان انقلاب" (ساحة الثورة)، وعندما خرجنا تعاركنا مع شبّان كانوا يتحرّشون بسيدة.


تحرّك القطار في الوقت المحدّد، وكان "يد الله مُرادي" يجلس قُبالتي. أعجبتُ كثيرًا بجبينه العريض والمشرق، لم تستطع عدسات نظّارته السميكة إخفاء حنان ملامحه. لقد استفدت كثيرًا من الحديث معه طوال فترة الرحلة إلى "الأهواز". ركبنا حافلة في محطة قطارات "الأهواز"، لم نكن نعلم الوجهة ولا المقصد، فقد كانت تسير بنا في شوارع المدينة. سمعت للمرة الأولى في حياتي صوت خرير مياه نهر "كارون"، ورأيت "الجسر الحديدي"، "الطيور البحرية"، وأشجار نخيلٍ واقعية.

توقفت الحافلة أمام مسجد "تشيت ساز"1. كان خرير النهر يصل إلى قلب المسجد، ظننتُ أنّي سأسمَع صوته في كل أنحاء الأهواز، لكن سُرعان ما ضاع صوت النهر وسط ضجيج الإخوة، فقد كان المكان ضيّقًا. ما هي إلا برهة حتى نُقل مجموعة من الإخوة، من بينهم "جواد
 

1- چيت ساز: chet saz
 
 
 
33

24

المسافر

 فرامرزيان" و"يد الله مُرادي"، إلى "مسجد الجزائري"، فبقيت أنا وأصدقائي الواصلين الجدُد وحدنا. لم يكن لأيّ منّا تجربة في مثل هذه الظروف، وكانت أجواء الأهواز جديدة بالنسبة لنا، لذا وبعد أن رتّبنا أغراضنا في المسجد خرجنا للتجوال في المدينة ورجعنا عند المغيب.


كنّا طوال خمسة عشر يومًا قضيناها في الأهواز، نخرج يوميًا بعد صلاة الصبح والفطور للتعرف إلى المدينة (كما كنّا ندّعي)، الأمر الذّي كلّفنا غاليًا. فقد أنفقتُ الخمسة آلاف تومان التي كانت بحوزتي. حتى "خليل تبريزي، محمد باقر خان محمدي ورحيم داسيار" الذين كانت بحوزتهم مبالغ أكبر أُنفقت كلّها، على امتطاء الجياد على ضفاف نهر كارون عدّة أشواط يوميًا، وعلى تناول طعام الغداء في مطعم الأهواز للمشاوي، إضافةً إلى شراء النظارات الشمسية والكوفية وغير ذلك. في أول يوم لم نذهب فيه للتجوال في المدينة - طبعًا بسبب "الإفلاس" - أدركنا أنّ هناك مراسمَ متنوّعة تُقام طوال اليوم في هذا المسجد. فقد كنّا عادةً نصلي صلاتي الظهر والعصر في أحد مساجد المدينة، ونعود عند المغيب إلى مسجد "تشيت ساز"، نصلّي العشاءين ونشارك في المراسم والأنشطة التي تُقام بعد الصلاة وتناول طعام العشاء. عندما لا تكون هناك أنشطة، كنّا ندسّ أنفسنا تحت البطانيات التي أعطونا إياها ونخلد إلى النوم1.

تنوّعت المراسم التي تُقام طوال اليوم ما بين الصفوف التدريبية،
 

1- يقع مسجد "تشيت ساز" خلف مبنى الاتصالات، وقد استقرّت أغلب عناصر كتيبة "الشهيد قاضي" التي نحن من ضمنها، في هذا المسجد.
 
 
 
 
34

25

المسافر

 والدروس الثقافية إلى مراسم الأدعية والمدائح، وأحيانًا إلقاء كلمات لقادة الكتائب. تولّى "خليل نوبري"1 مهمة الإنشاد والمدائح، بينما تولّى "محمود نعل بندي" مهمة تلاوة مجالس العزاء. سُرعان ما وجدتُ لنفسي أصدقاء جددًا في هذه الأجواء، أصدقاء استطاعوا ملء فراغ غياب "جواد فرامرزيان" و"يد الله مُرادي"، وصاروا يرشدونني ويقدّمون لي النصح عندما أُخطئ في التصرّف.


علّمني أحدهم في اليوم الأول لإقامتي الصلاة في مسجد "تشيت ساز"، طريقة الوضوء الصحيحة بأسلوب مؤدّب ولائق جدًا، لدرجة أنّني اعتقدت أنّني أنا من يعلّمه الوضوء وليس هو.

- هل تريدني أن أوقظك لصلاة الليل؟

كان "جواد" مَن وجّه إليّ هذا السؤال، وأنا أؤكد عليه مرارًا: "بالتأكيد! لا تنسَ ذلك". تمّ نقل عددٍ آخر من العناصر إلى "مسجد الجزائري" في تلك الليلة، وكي نكون مع "جواد" أينما يذهب، أسرعنا نحن الأربعة ووقفنا في نفس الصف. استقررنا ليلًا في "مسجد الجزائري" الكائن إلى جانب تقاطع شارع "نادري" البعيد نسبيًّا عن نهر "كارون".

كالعادة، فكّرت وأنا في الفراش بكتابة مذكراتي اليومية، الأمر الذي لم أقم به أبدًا. كنت أفكر فقط بضرورة ذلك.

- هيا انهض ..

- ماذا؟ .. لماذا؟ .. صلاة الليل؟ حسنًا ... حسنًا.
 

1- كان في عمليات بدر - آذار 1985م - قائد إحدى سرايا كتيبة الإمام الحسين عليه السلام. وقد استشهد على ضفة نهر دجلة.
 
 
 
 
35

26

المسافر

 كنت غارقًا في النوم، فاستيقظت متثاقلًا، وذهبت لكي أتوضّأ. اصطدمت في ذلك الظلام بعدّة أشخاص، كانوا على ما يبدو قد استيقظوا لصلاة الليل. كنت أعتقد أنّ صلاة الليل واجبة لمن سيصبح تعبويًّا، حتى لو لم يكن مزاج الإنسان جاهزًا للكلام مع خالقه!


توضّأت، فشعرت بالبرد. انتبهت كي لا أدوس على أحد في طريق عودتي. عندما رأيت أن الكثير من البطانيات قد جُمعت، تعجّبت كثيرًا! كانت الظلال تتحرّك قيامًا وقعودًا على جدران المسجد، وبدل أن تتعوّد عيناي على الظلمة تدريجيًا، شعرت أنّ الظلام يشتدّ من حولي، فقد غالبني النعاس. . ووقفت في اتجاهٍ ما للصلاة..

- الله أكبر ..

الأمر الأهم الذي شغل بالي في تلك اللحظة، هو مدى صحة صلاة الليل وأنا في هذه الحال؟! أحسست بيدٍ تربّت على كتفي.

- أيّها المسكين! القبلة في هذا الاتجاه!

كان هذا صوت "جواد". عندما أدرتُ رأسي طار النُعاس من عينيّ، لقد أخجلتني نظرات "جواد" المندهشة.

من الجيد أن المكان كان مظلمًا فلم ير بعد الله أحدٌ غير "جواد" أنني أُصلي بعكس اتجاه القبلة.

بعد ثلاثة أسابيع جرت إعادة هيكلتنا من جديد في "مسجد الجزائري". انفصلنا أنا و"رحيم" عن باقي الإخوة. وتمّ إلحاقنا بكتيبة "الشهيد قاضي"، بينما أُلحقَ باقي الإخوة بكتيبة "الشهيد مدني". كنت أخشى أن أُخطئ التصرف ثانية إذ انفصلتُ عن مرشدي، لكن لحسن
 
 
 
 
36

27

المسافر

 حظي، استقرت الكتيبتان في جامعة "جندي شابور"1 في الأهواز التي أُخليت وتحوّلت إلى ما يشبه المعسكر.


كانت جامعة "جندي شابور" مقرًّا للواء "النجف الأشرف". لم يكن حينها لمدينة "تبريز" لواءٌ خاصّ، لذا توزع عناصر متطوعيها على لواءي "النجف الأشرف، أصفهان وكربلاء". 

وكان قائد لواء "النجف الأشرف" هو "أحمد كاظمي" ومعاونه "مهدي باكري"2. عندما علمت أنّه من "آذربيجان" تفتّحت براعم الشوق لرؤيته في قلبي، لكن لم أُوفّق لذلك في تلك الأيام.

نُصبت في ملعب كرة السلّة في الجامعة، خيمة لكل فصيل. كان مسؤول فصيلنا الأخ "ياسر زيرك"، وكنت العنصر الأصغر سنًّا بينهم. كان قائد سريتنا الأخ "محمود أرفنكي"3، ومسؤول كتيبتنا الأخ "داود
 

1- تقع جامعة "جندي شاپور" shapour الشهيد شمران چمران- chamranحاليًا- في أول طريق عام الأهواز - خُرّم شهر القديمة.
2- ولد "مهدي باكري" في "مياندو آب" عام 1955م. كان أخوه الأكبر علي من المناضلين السياسيين المناهضين لحكم الشاه. اعتقله عناصر السافاك، وأعدموه رميًا بالرصاص في نيسان 1972م. أصبحت نشاطات مهدي باكري السياسيّة بعد إعدام أخيه أكثر سريّة. التحق عام 1973م بجامعة تبريز للدراسة في فرع الهندسة الميكانيكية، وتخرّج منها عام 1977م، ثم التحق بخدمة العلم. التحق بعد انتصار الثورة الإسلاميّة بالحرس الثوري لمدينة "أُرومية"، كما عمل لمدة رئيسًا لبلديتها، شارك لأول مرة في المعارك ضد المنافقين والمطالبين بالانفصال في محافظة كردستان. التحق بالجبهة في خريف 1980م، وكان معاون قيادة لواء "النجف الأشرف" في عمليتيّ "الفتح المبين" و"بيت المقدس". وقد جرح في كلتا العمليتين. عيّن قائدًا للواء عاشوراء في تشرين الثاني 1982م. وقد أسّس قبل عمليات و"الفجر" فرقة عاشوراء31-. وفي 16 آذار 1985م، عندما كان يحارب في صفوف وحدة الهجوم للتعبئة، استشهد على ضفة نهر دجلة. وكأخيه الأصغر "حميد" الذي استشهد في عمليات خيبر- لم يُعثر على جثمانه أبدًا.
3- محمود آرونگي: arvangheh.
 
 
 
 
37

28

المسافر

 نوشاد". اختاروا "رحيم" بسبب قِصر قامته للعمل في قسم التموين، واختاروني بسبب طول قامتي وحجمي المناسب لأكون مساعد رامي "الرشاش". في الحقيقة شعرت بالزّهوِ، وكانت هذه المرة الأولى منذ بداية الرحلة، التي أشعر بها بهذا الشعور الغريب. عُيّن رامي رشاشٍ واحد لكلّ كتيبة، فكان رامي الرشاش في كتيبة "الشهيد قاضي" الأخ "صمد خطيبي" وكنت مساعده. كنت أحمل جعبة الذخيرة على ظهري، و"الكلاشنكوف" بيدي. صحيح أن الجعبة كانت ثقيلة على ظهري، إلا أنّ ثقلها لا يمكن مقارنته بفرحة قلبي. وكانت فرحتي الثانية في معسكر "جندي شابور"، عندما استلمت رسالة من "داود" ابن خالتي. كنت قد آليت على نفسي في الأيام الأولى لانتقالي إلى جامعة "جندي شابور" أن أكتب رسالة إلى أهلي، لكن وبسبب الطريقة التي هربت فيها من المنزل، لم أعرف ماذا أكتب لهم. فكّرتُ أن أكتب رسالة إلى "داود"، الذي سيطلعهم على أحوالي بالتأكيد. لقد ترعرعتُ وابن خالتي في الحيّ ذاته، في الحقيقة هو من عرّفني إلى أصدقائي الحاليّين.


كان ذلك في صيف العام 1977م الحارّ، عندما أقفلت المدارس أبوابها للتو، كنت كبقية أقراني ألهو في أزقّة وزواريب "شاه آباد"1 وقد أنهيت الصف الخامس الابتدائي بنجاح. في أحد الأيام وبينما نحن منهمكون بلعب كرة القدم، سلوتنا الوحيدة، جاء "داود" بخبر جديد:
 

1- اسم حيّ قديم في مدينة تبريز ويُسمى اليوم بحيّ الشهيد مُفتح.
 
 
 
38

29

المسافر

 - مهدي! هل تعلم أنّه ستُقام في المسجد دورات لتدريس القرآن الكريم؟


يومها انتظرت بشوق كبير أمام مدخل مسجد "شربت زاده"، لم يأت "داود"، لكن جاء عدد كبير من الأولاد. كنّا نشبه بعضنا بعضًا بتلك الرؤوس الحليقة، وعرفتُ من بين كلّ أولئك الأولاد، زميلي في الصف "محمد محمد بور" فقط. بعد عدّة دقائق من الانتظار، فُتح باب المسجد، وخرج شاب يحمل ورقة وقلمًا. كانت الأصابع ترتفع واحدًا تلو الآخر فيطرق سمعي أسماء أسمع بها لأول مرّة1. بدأ الصف في اليوم نفسه، وخلال عدّة أيام جرت غربلة الأولاد، فبقي من يستحقّ البقاء. كُنا نجتمع كلّ يوم أمام اللوح الأسود في المسجد. بدأ الأخ "خُشكبار آذر" بتعليمنا ألف باء اللغة العربية وقواعد القراءة، وبعد نصف ساعة، درسنا حصّة تفسير نهج البلاغة وتلاوة القرآن الكريم مع الأخ "لطفي". خمسة وأربعون يومًا مرّت على بدء الصف، ولم ندرك أنّه قد شُكّل من قِبل عالم دين الحيّ الذي عهد بإدارته إلى شابين حاذقين، يعملان إلى جانب تدريسنا قراءة القرآن، على توعيتنا بما يدور حولنا في تلك الأيام. في أحد الأيام، ارتفع أثناء تبديل الحصص صوت شجار بين مشاركين في الدورة. لم أفهم لماذا كانا يمحوان كتابات بعضهما البعض عن اللوح الأسود ويعلو شجارهما! جاء الأخ لطفي وأسكتهما.
 

1- : "مرغوب داداش زاده - دوست علي داداش زاده - محمود نعل بندي - نادر رضائي - جمشيد فتحي بور - حسين لطيفي - حسن عباس زاده - حسين عباس زاده - جليل زارع زاده - محرّم نوروز بور - رضا عباس نجاد - يعقوب برفايي - يعقوب توانا" و..
 
 
 
39

30

المسافر

 أدركت حينها أنّ أحد الأولاد كان يكتب التاريخ الشاهنشاهي1 على اللوح، والآخر يتشاجر معه بشدة ويقول: "علينا كتابة تاريخنا الهجري الشمسي2". لم تكن حادثة تغيير التاريخ من الهجري الشمسي إلى الشاهنشاهي وكذلك افتتاح صفوف تعليم القرآن بالأمر العادي وغير المهم كما كنت أظن.


غداة ذلك اليوم، لم يُفتح باب المسجد في الوقت المحدد، انتظرنا كثيرًا لكن من دون جدوى. عندما سمع خادم المسجد العجوز أصواتنا، خرج إلينا وقال: "هيا اذهبوا إلى منازلكم، فلا صفوف بعد اليوم". صحيح أنّ صفوف القرآن الكريم قد توقفت، لكنني وجدتُ أصدقاء جددًا. كنّا نتشارك في المراسم الدينية التي تُقام هنا وهناك، وكان منزل "نوروز بور" في أغلب ليالي ما قبل الثورة، مركزًا لتلك المراسم ولتبادل "بيانات الإمام الخميني".

سمعت في الصف الأول المتوسط، على لسان معلم اللغة العربية العجوز، الذي كان يتحسّس من كلمتي "موز" و"الزيت النباتي"3، كلامًا يشتمّ منه رائحة معارضة الشاه، فقد كان وكأغلب العجائز، يعتبر "الموز والزيت النباتي" نوعًا من الغزو الثقافي. أجرينا في إحدى المرّات، بهدف إزعاجه، نقاشًا حول فوائد الموز، فقال بانزعاج: "لا عجب فأنتم تعيشون على مائدة هذا الشاه". تعجبت كثيرًا من كلامه ذلك اليوم،
 

1- التاريخ الشاهنشاهي: مفاصله الأساسية حكومات الملوك ويبدأ من تنصيب كورش الأول.
2- التاريخ الهجري الشمسي: ابتداءً من الهجرة النبوية ،بعد حوالي 500 سنة من الميلاد. كان اعتماد التاريخ الهجري الشمسي من جملة القوانين والمراسيم التي ثبّتتها الثورة الإسلاميّة.
3- موز و روغن نباتي
 
 
 
40

31

المسافر

 لكن بعد مرور عدّة أشهر وبمساعدة أصدقائي الجدد الذين تعرفت إليهم في صفوف تعليم القرآن، أصبحت أكثر حشرية لأعرف ما يدور حولنا، ووجدت عندهم الإجابات عن تساؤلاتي. توليت مع مجموعة من إخواني في المسجد، في أوج الثورة الإسلاميّة، مهمة جمع البطانيات، القطن، الأدوية وغيرها، من الناس. حدّثت نفسي أحيانًا أنّ الفضل فيما أصبحت عليه يعود لصف القرآن الكريم في ذاك الصيف.


منحتني أول رسالة استلمتها من ابن خالتي "داود" شعورًا جيدًا.

قلّما اشتقت إلى منزلنا طوال العشرين يومًا التي قضيتها في "جندي شابور"، لقد شعرت في ذلك المكان بأنني الابن الأصغر لعائلة كبيرة ومتآلفة.
 
 
 
 
41

32

الفتح المبين

 الفتح المبين


شتاء عام 1982م
أكثر من شهرين، لا ككلّ الأشهر. صرتُ وجهًا لوجه في المعارك الأولى مع العدو، مباشرةً في المناورات والإصابات والحراسات الغريبة.

مواقفُ راحت تُظهِر ما اختزنته النفسُ من أيام الطفولة ومن أحلام المستقبل.

.. وكان أن سُمّي فصيلنا "فصيل الإيثار".

ها هم الشهداء الأوائل، يملأون مساحة البصر والبصيرة، أشتمّ عطرَ دمائهم وألمسُ صفحاتِ وجوهٍ قابلوا بها "الجبار". وها هي لذة الانتصار الأولى.
 
 
 
 
 
43

33

الفتح المبين

 وادي "ذليجان" شقّ صخري ممتدّ في قلب التلالِ الرملية الواقعة بمحاذاة سلسلة جبال "ميشداغ". وبسبب قربه من خطوط التماس مع العدو، سرنا باتجاهه ليلًا. عندما كانت الحافلة تسير بنا على الطريق الرئيسية للأهواز - "أنديشمك"، شاهدنا على الجهة اليمنى، تبادل إطلاق نار بين قواتنا والأعداء. وصلنا إلى مكان تموضعنا في وادي "ذليجان"، وكان برد "خوزستان" القارس أول المستقبلين لنا عند صلاة الصبح، فانهمكنا بنصب الخيم ونحن نرتجف من شدة البرد. كان مكان تموضع (السرية 22) أكثر ارتفاعًا عن باقي السرايا.


اتفق عناصر فصيلنا جميعًا على نصب خيمتنا فوق صخرة كبيرة مشرفة على المنطقة حولها. لقد أعطوا خيمة واحدة لكل فصيل مؤلف من 22 عنصرًا، فعانت جميع الفصائل من ضيق المكان، إلى أن حصلنا فيما بعد على خيمة إضافية لكل فصيلين. بقينا عدة أشهر في ذلك الوادي، كانت مليئة بالمفاجآت.

كانت المراسم الصباحية والتدريب أول أعمالنا بعد صلاة الصبح، تمامًا كما كُنّا نفعل في "الأهواز"، وبعد الركض الميداني، يتولّى الأخ "ياسر زيرك" الذي يجيد فنون القتال، تدريبنا على شتى التمارين القاسية. كانت الصلوات الخمس تُقام جماعة، وبناءً على توصيات صديقي "محمد محمد بور"، شاركت فيها جميعها، ولم أدع أي فرض يفوتني. لم يكن أحد ليترك صفوف الصلاة قبل قراءة دعاءي الفرج
 
 
 
 
44

34

الفتح المبين

 والعهد، وفي بعض الأحيان يقرأ الإخوة زيارة عاشوراء داخل الخيمة، ما يضفي عليها روحانية خاصة. كانت هذه الأدعية جديدة بالنسبة إليّ وتشعرني بالروحانية. في إحدى الليالي، رأى أحد الإخوة في منامه، أن إمام الزمان عدل الله تعالى فرجه الشريف يتفقد القوات المتموضعة في محيط وادي "ذليجان"، فزاد هذا الكلام من شوقنا وحماستنا. وقد أضفت الوجوه النورانية لكبار السنّ إلى جانب الشباب، رونقًا خاصًا على فصيلنا. كان أحدهم كـ"حبيب بن مظاهر" إمام جماعتنا، وبالرغم من أنّه لم يكن رجل دين، إلاّ أن الجميع رضوا أن يؤمّنا في الصلاة. ولا أنسى رجلًا عجوزًا أضحى حديث الجميع، ففي الأيام التي كان الانتساب إلى الحرس الثوري صعبًا للغاية، كان يقول مفاخرًا: "أنا عضو في الحرس الثوري منذ عهد الشاه!". أصرّ في أحد الأيام على تناول قديد الخبز، فتسبّب بكسر إحدى أسنانه الصناعية، فقد كان الخبز سميكًا وقاسيًا وبحاجة لبلّه في الماء وقتًا ليصبح طريًا. أقوال ذلك العجوز وتصرفاته جعلت الإخوة يطلقون عليه لقب "بابا فنجان".


استقرّت باقي كتائب لواء "النجف" في السهل أعلى الوادي، وقد أُلحق في السابق، خلال عملية إعادة الهيكلية، عدد من مقاتلي "سوسنكرد" بفصائل كتيبتنا، وكان لهم أثر طيب علينا حيث ساهموا ببث المعنويات والأمل، إلا أنهم زادوا من مشكلاتنا في توافر التموين، فعلى سبيل المثال لم تعط الكتيبتان سوى شاحنة صغيرة واحدة (بيك أب) لنقل التموين وغيره، وحمام واحد لعدّة سرايا. كما إن مشكلة تأمين المحروقات من جهة، ونقل مياه الاستحمام بالأيدي من يدٍ إلى يدٍ، من
 
 
 
 
 
45

35

الفتح المبين

 جهة أخرى، جعلت عملية الاستحمام تستغرق نصف يوم تقريبًا. لذا لم أستحمّ طوال مدة وجودي في "ذليجان" سوى مرّة واحدة.


في تلك الظروف، زاد وجود المقاتلين المتمرّسين الذين تطوّعوا مجدّدًا للحرب، من شوقنا لسماع ذكرياتهم وقصصهم. حدّثنا "محمد فتحي بور"، الذي عاد من "سوسنكرد"، عن جرح في جبهته وعن قصص المعارك البطولية التي دارت هناك، وكيف استطاعت مجموعة لا تتعدّى 30 عنصرًا بقيادة "علي تجلائي" الصمود في وجه جحافل الأعداء الزاحفة إلى "سوسنكرد"، وإعاقة تقدّمهم لعدة أيام. كما حدّثنا عن إبداعات "علي" الذي وزّع الذخائر والمواد الغذائية على مختلف أحياء المدينة، وحدّد نقاط ضرب دبابات العدو في الشوارع والأزقة لصدّها. قال: رغم أنّ "عليًا" كان جريحًا، إلاّ أنّه لم يكترث لذلك، وكان يبث فينا الروحية والحماسة.

كان معظم الإخوة في خيمتنا يستيقظون لأداء صلاة الليل، فكنت أغبطهم على بكائهم العلني والخفي. لقد جعل وجود أبطال أمثال: "محمد فتحي بور - ياسر زيرك - محمد محمدي - رحيم رهبري - علي أسعدي - داود صالح بور - سيد صالح الحسيني وعوض غيبي"، فصيلنا متميزًا عن باقي الفصائل. فقد شهد معظم هؤلاء معارك "سوسنكرد" وحدثونا عن لحظات فكّ الحصار ووصول قوات الشهيد "شمران"، والقوات الآذربيجانية الأخرى بقيادة "ناصر بيرقي"1، إلى مدخل
 

1- ناصر بيرقي: كان قائد القوات الآذربيجانية في سوسنكرد وأصيب عام 1982م إثر انفجار لغم أرضي، فبترت كلتا ساقيه، وكان أول جريح تبريزي بنسبة 70%.
 
 
 
 
46

36

الفتح المبين

 المدينة لجهة "الحميدية". حدّثونا عن الشدائد وآلام الشهادة المظلومة للمدافعين عن المدينة، وعن خيانة بني صدر1، وعن لوعة فراق الإخوة. كانوا يصرون على قول "إنّهم لم يفعلوا أيّ شيء يستحق الذكر"، ولم يبلسموا قلوب أمهات الشهداء الثكالى، وإنّ عليهم الصمود والثبات أكثر. بكيت لسماع تلك الذكريات، خاصة ذكريات استشهاد الطلاب الخمينيّين، الذين سُحقت أجسادهم الطاهرة تحت دبابات الأعداء في منطقة "الهويزة"، وبقيتُ متأثرًا لمدة طويلة، فسماع هذه الخواطر جعلنا نقدّر ما نحن فيه، فندع التذمر من قلّة الإمكانات. في أحد الأيام دخل مسؤول الفصيل إلى خيمتنا وهو يحمل صندوقًا بين يديه، فتح الصندوق ووضعه في الوسط وقال: "للأسف نحن نواجه شُحًّا في الإمكانات، لقد أعطوا لكل فصيل صندوقًا واحدًا فقط، ويمكن لمن هو بحاجة ماسّة أكثر من غيره أن يأخذ حاجته". وجدنا في الصندوق سبع بزّات جديدة. عندما التحقنا بالجبهة أعطوا كل عنصر بزّة واحدة، لكن مع مرور الوقت اهترأ بعضها وأصبح رثًّا للغاية. سوّلت لي نفسي أن آخذ إحداها، كنت أنتظر أحدهم أن يمدّ يده قبلي. عندما رفعت رأسي ورأيت حالة الإخوة وتمنّعهم عن أخذ أيّ بزة، خجلت من نفسي. بعد ساعة أعاد مسؤول فصيلنا "ياسر زيرك" الصندوق إلى مخزن السرية، بعد مدّة أطلقوا على فصيلنا اسم "فصيل الإيثار".


1- أبو الحسن بني صدر: أول رئيس للجمهورية الإسلاميّة في إيران ، خان الشعب وتواطأ مع الغرب وأعداء الثورة . كان له دور في إخفاقات الجبهة. فرّ إلى فرنسا بعد افتضاح أمره.

 

 

47


37

الفتح المبين

 إنّها المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عن الحراسة. شاركتُ في ما مضى في حراسة مسجد "شربت زاده"، لكن الحراسة هنا تختلف عن تلك:

- مهمّتكما مراقبة الجهة المقابلة، ففي بعض الأحيان تتوغل دوريات العدو إلى عمق جبهاتنا، إمّا بهدف الاستطلاع أو توجيه الضربات، لذا عليكما الانتباه جيدًا.

كانت تلك توجيهات مسؤول فصيلنا "ياسر زيرك"، حيث توجّب على كلّ عنصرين الحراسة ليلًا بالعتاد الكامل مدة ساعتين. كم وددتُ عندما حان دوري، أن أفتح فمي وأقول إنّني خائف! لكنني لم أستطع. حاولت عبثًا أن أتذكر الليالي التي قمت فيها بالحراسة في ظلِّ القصف وعمليات الاغتيال التي قام بها المنافقون أيام الثورة، في أحد تلك الأيام، عندما كنت أنا و"عباس أكبري" نوزّع بيانات الإمام بين أتباع حزب "الشعب المسلم"، أمسكوا بنا وتلقّى المسكين "عباس" أنواع الضرب والركل، ولم نفلت من أيديهم إلاّ بعد جهدٍ جهيد. كان كلام مسؤول الفصيل حول أهمية الحراسة ما زال يتردد في أذني. استأتُ من نفسي كثيرًا عندما فكرت أنني قد أكون ممن يتقاعسون عن القيام بواجباتهم. انتهت حراستي في منتصف هذا الليل الحالك، كنت خلالها مسترسلًا بأفكاري وتخيلاتي، عندما رأيت ظلّ المسؤول الليلي "محمد فتحي بور"، بقامته القصيرة والنحيلة، ولشدّة فرحي وددت الإسراع إليه وتقبيل جبينه. فقد مضت تلك الليلة بسلام. مع الوقت تحوّل ذلك الخوف إلى حماسة وولع. ذهب عني الفزع، وفكرت أنّه كلّما قمتُ بمهام أكثر،
 
 
 
 
 
 
48

38

الفتح المبين

 أصبحتُ أكثر استعدادًا. لذا كنت أتطوع دائمًا للقيام بمهمة الحراسة نيابة عن إخواني.


مع مرور الأيام أصبحت التدريبات العسكرية والليلية، أكثر صعوبةً وجدّية. تدربنا على مختلف الفنون، كاستخدام السلاح، صناعة الألغام، طريقة التحرك، تطهير الجيوب (التمشيط) وغيرها. كنّا نسير خلال التدريبات الليلية في المناطق الرملية عند أطراف الوادي، أحيانًا كان المسير الليلي أو النهاري يتمّ بالعتاد العسكري الكامل، لنصبح أكثر جهوزية للمشاركة في المعارك والعمليات.

كان لوادي "ذليجان" في تلك الأيام أجواؤه الخاصة، وكلّ شيء كان يوحي باقتراب المعارك، فهنا سريّة مشغولة بتعلّم فنون القتال، وهناك أخرى تُدرّب عناصرها على استخدام السلاح. كنت أشتاق في تلك الأجواء لسماع أشعار "محمد صبوري"الحماسية أكثر من أيّ شيء آخر. فـ"محمد صبوري" مسؤول إحدى سرايا كتيبة "الشهيد مدني"، ومهمّته إنشاد الأشعار التي ترفع من معنوياتنا. كنّا نلتقي قادة الفصائل والسرايا الأخرى أثناء المراسم والتدريبات الصباحية وعند صلاة الجماعة. كم تمنيت رؤية قائدنا "علي تجلائي"، لكنني خلال تلك المدة لم أوفق لذلك سوى مرتين أو ثلاث، غير أنّ حرارة تحيته لنا، وسؤاله هو والقادة الآخرين عن أحوالنا، كانا يمدّاننا بالنشاط والحيوية لوقت طويل.

في بعض الأحيان كنت أجد فرصة للاختلاء بنفسي، وقد أنساني الطقس الرائع لآخر أيام فصل شتاء عام 1982م، أعاصير بلدتي وثلوجها. أضحى السهل أعلى الوادي، الذي أسلم قلبه للشقائق الحمراء، ملاذي
 
 
 
 
 
49

39

الفتح المبين

 وخلوتي. كنت أحمل معي مذياعًا صغيرًا، وأتمدّد على الأعشاب محدقًا في السماء. لم أرَ في حياتي أكبر وأجمل من شقائق ذاك السهل. كان المذياع في بعض الأحيان، يبثّ النشيد الثوري الذي أحبه كثيرًا فأنشد معه:

قوموا أحبائي ولبّوا النداء
قد رفع إمامنا لواء الإباء
كبّر المؤذن "لبيك"، فسرْ مع الركبان
ولنزحف نحو ديار القدس يا رفاق

كنت أصطحب في بعض الأحيان زملائي من مدرسة "الرازي" إلى تلك الخلوة. ونحتسي الشاي، فيظنّ كلّ من يرانا من بعيد، أننا مجرد شبان نبغي التنزه، لكنّ كلّ أحاديثنا كانت تدور حول الجبهة والعمليات القادمة، وحول ذكريات المدرسة لا سيما المعلمين الطيبين، "صمد بخت شكوهي" و"منوتشهر سمساري"1.
 

1- منوجهر: manocheher.
 
 
 
50

40

الفتح المبين

 شرحوا لنا على الخريطة العسكرية التي علمت فيما بعد أنّ اسمها "المخطط" (الكالك)، كيفية توزيع القوات في منطقة العمليات، كما أوضحوا لنا مهمة الكتائب وسير المعارك وحدود منطقة العمليات. كنت أفكر أنّى وكيف لهم أن يحدّدوها بهذه الدقة: مرتفعات "ميشداغ"، الكُثبان الرملية، تلال الرقابية، إضافة إلى خطوط الانطلاق وبنك الأهداف لكل وحدة.


ذات ليلة عندما كنا نتدرب على المسير الليلي، افتقدنا قائد سريتنا الأخ "أورنكي"، وانتشر خبر غيابه بين الإخوة. كان العناصر القدامى يعلمون أنّه ذهب في عملية استطلاع، لكننا لم نكن نعرف ماذا يعني الاستطلاع، ومن يقوم به. في تلك الليلة قادنا للمناورات معاون (السرية 2) الأخ "قنبر ظاهري"1. كان المسير على الرمال بالعتاد العسكري الكامل، مع رعاية جميع الضوابط والخطوات، غاية في الصعوبة. عدنا إلى مقرّنا بعد أن قطعنا حوالي 4 كلم على الرمال. كانت هذه المناورة لقطع هذه المسافة الطويلة ضرورية جدًا للعمليات القادمة.

في الصباح الباكر، كنّا ما نزال في خيمتنا عندما دخل قائد فصيلنا وأعطى الأمر بالاستعداد.

- عمليات؟! في هذا الصباح الباكر؟!

لم يكن وقت طرح الأسئلة. حمل كل واحد عتاده وتحرّكنا نحو
 

1- استشهد قنبر ظاهري في ربيع 1982 في عمليات الفتح المبين.
 
 
 
51

41

الفتح المبين

 الحافلات الصغيرة الـ "ميني باص"، حملت جعبة ذخيرة الرشاش على ظهري، والكلاشنكوف بيدي. كانت الحافلات الصغيرة "ميني باص" تتحرك بعضها خلف بعض على طريق تمرّ وسط سهول رملية مكسوة بغطاء نباتي أخضر خفيف جدًا. لم نكن نعرف مقصدنا، وكان العناصر القدامى الذين طالما رأيناهم مستغرقين بالتفكير في الأيام والليالي السابقة، يعجّون بالنشاط والحيوية والضحك. فتساءلت: أهكذا يذهبون كل مرّة إلى العمليات؟ في هذا الوقت من النهار ومن دون وداع؟!


مضت ساعة ونحن في الطريق، وشيئًا فشيئًا أصبحت أصوات الانفجارات أكثر قربًا ووضوحًا. توقفت الحافلات، فترجّلنا منها بأقصى سرعة. سمعناهم، وسط أزيز الرصاص وأصوات الانفجارات، يقولون بصعوبة: "هنا مضيق الرقابية"1. لم نبتعد عن الحافلة كثيرًا، حين شدّ انتباهي رجل سبعيني بلحيةٍ بيضاء، كان يصرخ بالآذرية2: "هيا يا جنود الإسلام، هيا لنصرة الإسلام ولا تخشوا شيئًا". ما كان لصوت آخر أن يمدّ الإخوة بالروحية كصوته. كان من عناصرنا، لكنّه وصل قبلنا إلى المنطقة، لم تنقطع أصوات الانفجارات لحظة واحدة. كنّا نسير في منحدر شبه عمودي. لقد أُخبرنا أثناء التدريب، أنّ لسقوط قذائف الهاون صفيرًا خاصًّا، فكنت أنبطح أرضًا مع كلّ صفير أسمعه. كانت جثث العراقيين
 

1- مضيق الرقابية: منطقة بمساحة 3*2- كلم تقريبًا، يحده من الشمال مرتفعات الرقابية ومن الجنوب منطقة ميشداغ. وإلى الشرق تمتد الخطوط الدفاعية لإيران، بينما تمتد الحدود العراقية إلى الغرب منه. وبسبب الموقع الجغرافي الهام، عُرف عسكريًا باسم "دهليز الاختراق". وتُعدّ السيطرة على هذا المضيق مكسبًا هامًا سواء بالنسبة إلينا أو إلى العراقيين.
2- أي اللغة التركية الآذربيجانية
 
 
 
52

42

الفتح المبين

 منتشرة في كل مكان، والأرض تهتزّ من تحتي.


يقع مضيق الرقابية بين تلّتين مرتفعتين نسبيًا، والمنطقة كانت تهتز مع سقوط قذائف المدفعية وقذائف الهاون. كانت المعارك قد بدأت قبل ساعة من وصولنا. قطعنا مسافة 300م تقريبًا، ووصلنا إلى قناة يقع في نهايتها خط الدفاع والمعارك. سقط على مدخل القناة شهيد أعاق حركتي. لم يكن من مكان للوقوف في تلك القناة التي يبلغ عمقها ما بين متر ومتر ونصف، وعرضها حوالي 75 سم. لذا كان علينا السير في طابور واحد. سرنا في تلك القناة مسافة 400م تقريبًا، إلى أن وصلنا إلى ساتر ترابي عمودي يرتفع حوالي المترين عن سطح القناة. كانت آثار معارك الليلة الماضية ما تزال ماثلة للعيان، فترى أجساد شهدائنا وقتلى العراقيين الذين يمكن التمييز بينهم بسهولة من خلال ملابسهم. ملأت رائحة البارود والدخان الأرجاء، وانفجار قذائف الهاون والآر بي جي وغيرها.

تقدّمت مع "صمد" وسط الساتر الترابي، إلى ما يشبه المتراس. رأينا الدبابات وقوات المشاة العراقية تتحرك بتشكيل ونظم خاصين باتجاه الساتر الترابي. جهّزنا الرشاش وبدأنا الرماية باتّجاههم. بعد عدّة دقائق، توقف الرشاش فجأة، اكتشفنا أنّ إبرته قد تعطلت، تركتُ جعبة الذخيرة في المكان، وحملت الكلاشنكوف. رأيت الدبابات والقوات العراقية تتقهقر، فتحوّل القلق الذي رافقني قبل بدء العمليات إلى سرور. كان جميع المقاتلين، حتى أولئك الذين خاضوا قبل وصولنا معارك طاحنة، ينظرون هنا وهناك ضاحكين مستبشرين، فالعدو
 
 
 
 
 
 
 
53

43

الفتح المبين

 يتقهقر ولم نواجه أيّ مقاومة تُذكر. لم يكن هناك سوى أصوات قذائف الهاون والمدفعية العراقية التي لم تهدأ لحظةً واحدةً، ثم بدأت قوات الدعم تصل إلينا تباعًا.


انشغل الإخوة بتفتيش قتلى العراقيين، وبتمشيط المنطقة والمتاريس خلف الساتر الترابي وفي القناة. وأسروا عددًا من العراقيين الذين اختبأوا تحت ألواح الصفيح متظاهرين بالموت. كنّا نتوقع وجود أحياء بين القتلى، وبينما انشغل أحد الإخوة بنزع بنطال أحد قتلاهم، نهض القتيل فجأة وراح يركض محاولًا الفرار، فما كان من الإخوة إلّا أن أطلقوا النار عليه وأردوه قتيلًا. إلا أنّ وجه صديقنا الذي حاول نزع بنطال العراقي بقي مصفرًّا لساعة أو ساعتين من هول مشهدِ ميتٍ دبّت فيه الحياة فجأة فقام يهرب!

بعد أن هدأت المعارك، نظرت إلى المتاريس، كانت فريدة من نوعها. لقد حفر العراقيون حفرًا مربعة أو مستطيلة الشكل، (1.5*0.5) م وارتفاعها نصف متر تقريبًا. غُطيت المتاريس بقوالب إسمنتية أو بأكياس الخيش وضمّت عدة ثقوب لإطلاق النار. كانت المتاريس غاية في المتانة، فلم تؤثر قذائف الهاون والقذائف المدفعية فيها إلّا قليلًا، وهذا أول شيء تعلّمته من العراقيين1.
 

1- لقد تعلمنا الكثير من تجارب العراقيين طوال سنوات الحرب ، وقد استخدمنا بعض ما تعلمناه بطريقة أفضل من العراقيين أنفسهم. وهذا ما فعلوه أيضًا معنا ، سمعت أن الدكتور شمران قد أغرق منطقة "عبادان" بالماء فتحولت إلى مستنقع علقت فيه دبابات العدو. وقد استخدم العراقيون الأسلوب ذاته؛ حتى نهاية الحرب؛ في مناطق عدة من الجبهة الجنوبية. كثيراّ ما واجهتنا مشاكل الوحول والمياه في تلك المناطق.
 
 
 
54

44

الفتح المبين

 عند الساعة الرابعة تقريبًا، تبلّغنا الأوامر بالتوجّه إلى الطريق العام. علمت في الطريق أنّ شظية قد أصابت ذراع "صمد خطيبي"، وقد تبيّن عند إحصاء عناصر المجموعة أنّ أحد الإخوة ويُدعى "عوض غيبي" مفقود الأثر. لم أكن في تلك الأيام أعي معنى "مفقود الأثر". ظننت أنه لاذ بالفرار بكلّ حقارة في أول مواجهة له مع العدو. دارت الأحاديث حول معارك ومواجهات الليلة الماضية. وتبيّن أنّ العدو قد شنّ هجومًا من ثلاث مناطق هي: "تشزابه1، الرقابية ودشت عباس"، وكاد في اللحظات الأولى أن يُحقّق أهدافه، لكنّ الهجوم المضاد لجنود الإسلام حال دون ذلك وأجبره على الانسحاب والتقهقر إلى مواقعه السابقة. ما إن حلّ غروب يوم 19 آذار، حتى وصلنا نبأ استشهاد الأخ "عوض غيبي"، وأنّ جسده ما زال مفقودًا. أول من خطر ببالي عند سماع هذا الخبر: عائلته. كان الشهيد من الإخوة القلائل المتأهلين في فصيلنا، ولن يرجع أيّ أثر منه لهم. في غروب ذاك اليوم عمّت أجواء الحزن "فصيل الإيثار"، حيث افتقدنا وجود "عوض غيبي" شهيد الكتيبتين الوحيد. كم وددت لو أهرب إلى ملاذي السريّ، حقل الشقائق ذاك، فأشفي غليلي بالبكاء. لكنّني بقيت بين رجال "فصيل الإيثار" لأُعاين عن كثب تأثر الإخوة بشهادة إخوانهم.

 


1- چزابه: chezabeh.

 

 

55


45

الفتح المبين

 خلال اليوم الذي ذهبنا فيه للتصدّي لهجوم العدو، تغيّر وجه منطقة استقرارنا في مضيق الرقابية، فقد سقطت فيها العديد من قذائف المدفعية الثقيلة. أُقيم في السهل مستشفى ميداني، نُقل إليه الجرحى للمعالجة، وانهمك المسعفون بعمل صعب وشاق. كان الجميع يستعد للمعركة الحاسمة، المعركة التي استبقها العدو بالهجوم قبل يوم من بدئها، بحسب ما كان مُخطّطًا لها. ويحتمل أن يكون العدو قد كشف أمرها. لم يغب عنّا الاستعداد للمعركة من جهة، ومن جهة أُخرى كنّا نفكّر كيف ستجري الأمور ما دام العدو قد علم بأمرها، فهو بالتأكيد مستعدّ ويقظ1!

 


1 بعد سنوات من انتهاء الحرب، سمعت في إحدى الدورات التدريبية على لسان العميد "ذاكري" الذي كان مسؤول الاستطلاع لعمليات "الفتح المبين" في مقر "خاتم": "عندما قام العراقيون بالهجوم والسيطرة على الجانب الآخر لجسر "كرخه"الاستراتيجي، وقفنا على مُفترق طرق، بين الانسحاب أمام العدو وإلغاء العمليات، وإرسال قوات التعبئة في إجازة، وبين الاستمرار بالمخطط كما رُسم. لم تتوصّل النقاشات إلى نتيجة. كان الوقت ضيقًا، وعلينا اتخاذ القرار الصائب. رسا رأي الأخ "محسن رضائي" والعقيد "صياد شيرازي" على الذهاب إلى طهران والوقوف على رأي الإمام وأخذ التكليف. لكن المشكلة التي استوقفت الأخ "رضائي" هي كيفية الانتقال بسرعة إلى طهران والعودة قبل فوات الأوان! فما كان من طيار في القوات الجوية برتبة مُقدم، إلّا أن اقترح نقله من قاعدة "دزفول" بطائرته إلى طهران وبالعكس. لكن ركوب طائرة "فانتوم" ليس بالأمر السهل لمن لم يتدرب على ذلك، بسبب السرعة القصوى وضغط الهواء. رغم ذلك رحّب الأخ رضائي بالاقتراح وغادر مسرعًا إلى طهران. عندما وصل إلى بيت الإمام أطلعه على مجريات الأمور، وطلب منه الاستخارة. أجابه الإمام بهدوئه المعتاد: "ارجع إلى المقر، واستخر الله هناك، وإن شاء الله خيرًا". عاد الأخ رضائي واستخرنا الله، فكانت نتيجة الاستخارة الآية التالية: "إنّ فتحنا لك فتحًا مُبينا". وهو جواب واضح لا لبس فيه. من هنا أُطلق على العمليات اسم "الفتح المبين".

 

 

56


46

الفتح المبين

 وصل الإخوة جميعًا ظهر ذلك اليوم الموافق لأول أيام السنة الهجرية الشمسية (فصل الربيع من عام 1982م)، إلى حالة يرجون فيها: "يا محوّل الأحوال حوّل حالنا إلى أحسن حال"1. توجّهنا جميعًا إلى المعركة. كانت وجهتنا واحدة، لكن النهاية لم تكن واحدة للجميع. أخبرونا في آخر شرح لمسار العمليات، أنّ مهمة كتيبة الشهيد "قاضي"، هي الوصول إلى خلف الخط الأول للأعداء ومحاصرة قوة الاحتياط. أمّا مهمّتنا مع بدء المعارك، فقد كانت القضاء على قوة احتياط العدو حتى لا تتمكّن من مساندة القوات المقاتلة على الخطوط الأمامية للجبهة. كان علينا التصرّف بسرعة وحزم. أهم مشكلة اعترضت هذه المهمّة هي السير لمسافات طويلة على الرمال، 13 إلى 15 كلم تقريبًا، كي نتمكن من القيام بعملية التفاف على جبهة العدو للوصول إلى جناحه الخالي والنفوذ منه.


عملت قواتنا المسلّحة سواء من الجيش أو الحرس الثوري، تحت إمرة أربع مقرات، منها لواء "النجف الأشرف" الذي عمل تحت إمرة مقر "فتح".

عصرًا، تأهبت جميع القوات للتحرّك. وتألّقت وجوه البعض بنورانية أكثر. طُلب من الإخوة الذين لا يملكون قلادة معدنية2، كتابة أسمائهم بقلم التخطيط على أماكن متفرقة من ملابسهم، فكتبت اسمي "مهدي
 

1- مقطع من الدعاء المعروف عند بداية السنة الجديدة.
2- قلادة معدنية: يحملها كل جندي في الجيش ويكون عليها رقمه الخاص به يمكن التعرف إليه من خلالها إذا ما قضى خلال المعارك.
 
 
 
57

47

الفتح المبين

 قلي رضائي" - متطوع من تبريز، على عدة زوايا من ملابسي.


طُبع يومها في ذهني إلى الأبد مشهدُ الوداع وطلب المسامحة، الذي شاهدته لأول مرّة في حياتي عند غروب شمس ذلك اليوم: عناق "يد الله مرادي" الذي تعرّفت إليه في القطار، وداع "محمد باقر خان محمدي" وغيرهما من الإخوة وأصدقاء المدرسة والمسجد.

استعدّ الرتل العسكري للحركة، انطلقنا وقد أضفت أشعة الشمس القانية المائلة للغروب، على المشهد رونقًا وجلالًا. وصل إلى مسامعنا صوت المؤذن العجوز من الطرف الآخر للرتل: أشهد أن لا إله إلّا الله..

انسلخنا عن كلّ شيء، توكّلنا على الله وتابعنا السير والتوغل في قلب تلك الرمال. صلّينا ونحن نسير في الرتل، ركعنا وسجدنا للحضرة الإلهية بإيماءات الرأس والقلب. كانت المرة الأولى التي أؤدي فيها الصلاة بهذه الكيفيّة. تُرى من منّا ستكون "صلاة العشق" هذه صلاته الأخيرة؟! الله وحده يعلم! مررنا في طريقنا نحو الخطوط الأمامية بأحد معسكراتنا المنتشرة على طول الجبهة بفاصل 1 كلم تقريبًا بين المعسكر والآخر. أظنّ أنّ عددًا قليلًا من عناصر الفرقة 922 المدرّعة قد استقروا هناك. جاءت الأوامر بعد أن عبرنا المعسكر بعدم إصدار أيّ صوت. كان مسؤول كل فصيل، يعطي الأمر بصوت خافت لمن يسير خلفه، وهو بدوره يعطيه لمن يليه وهكذا إلى آخر الرتل. كان لكلٍّ منّا رقم، وكان رقمي (155). أحيانًا، كنّا عندما يتوقف الرتل لاستراحة قصيرة، نعلن بصوت خافت عن أرقامنا مرّة أخرى، بغية اكتشاف المتسلّلين إلى صفوفنا في ذلك الظلام الدامس. إذ إنّ "الطابور الخامس" ينشط في
 
 
 
 
58

48

الفتح المبين

 تلك المنطقة، بهدف إفشاء أمر العمليات والهجوم الاستباقي للعدو في منطقة "الرقابية".


كان القمر منيرًا، والطريق الرملي أمامنا طويلًا وممتدًّا. اضطُررنا في بعض الأحيان إلى تسلّق تلال رمليّة يصل ارتفاع بعضها من 150م إلى 200م، كانت أقدامنا تنغرس في الرمال، ما جعل حركتنا شبه مستحيلة، لكن إرادة الإخوة الصلبة في ذلك الليل الساكن ذلّلت كلّ الصعاب. أنهكَنا ثقل السلاح والعتاد، لذا كان صعود التل يستغرق وقتًا طويلًا، ويستنزف كلّ قوانا، وكأنّنا نتسلّق القمم الشاهقة. تابعنا سيرنا وتقدّمنا. شاهدنا مرتفعات "ميشداغ" عن يميننا. فجأةً، أضاءت المنطقة حولنا قنبلةٌ مضيئة، فانبطحت على الأرض بسرعة. انتابني شعور بالرضى أثناء استلقائي على الرمال. لكن سُرعان ما نهض الرتل وعاودنا المسير. كنّا نسمع بين الحين والآخر أصوات إطلاق نارٍ متفرق، مصدره الخطوط الأمامية للجبهة، وهذا أمر طبيعي.

كانت الكُثبان الرملية تختفي شيئًا فشيئًا، وأصبحت التربة صلبة، ما سهّل عمليّة السير. أفَل البدر فعمّ ظلام حالك. اصطدم الرتل آخر المطاف بحقل ألغام فاضطرّ للتوقف. أُخبرنا سابقًا أنّ العراقيين يزرعون الألغام لحماية جناح جبهتهم الخالي، الذي لا يحتملون تسلّل القوات الإيرانية منه، فيحصّنونه بالألغام بدل نشر القوات العسكريّة فيه. دخلت وحدة التخريب1 إلى حقل الألغام أولًا، ثم تبعها فصيلنا. كان هذا أول
 

1- الوحدة الخاصة بزرع وتفكيك الألغام
 
 
 
59

49

الفتح المبين

 حقل ألغام أعبره. انتشرت أشراك الألغام من نوع "المِدقة والصرصار" في الحقل، إضافة إلى صف من الألغام المضادة للأفراد في ذلك الحقل القليل العمق. فُكّكَت الأشراك فأصبح مسيرنا آمنًا. كان عبور هذا الحقل - وقد عبرناه من دون أي مشكلة - كمن ينفذ إلى عمق جبهة الأعداء. كانت المنطقة مهجورة معزولة، وقد بدا واضحًا أنّه لم يعبرها أيّ مخلوق منذ أمد بعيد. ثم أصبحنا أمام سهلٍ ينتهي عند حقل الألغام الثاني المحيط بمقر قوة الاحتياط العراقية. جلسنا إلى جانب حقل الألغام بانتظار انتهاء عمل وحدة التخريب. بدأت المعارك عن يميننا ومن خلفنا. لم يكن يحقّ لنا أن ننبس ببنت شفة. كنت أفكر، ماذا علينا أن نفعل إذا دخلت جميع الوحدات والكتائب المعركة، ولم نصل نحن بعد إلى قوة الاحتياط؟! كنّا نسير خلف "ياسر زيرك". تقدّم مسؤول المجموعة الثانية الأخ "فتح الله مرادي" الذي تعرفت إلى أخيه "يد الله" في القطار، وكان على دراية كبيرة بتفكيك الألغام، وتصدّى للمهمة. كان من المقرّر بعد عبور حقل الألغام أن نشتبك مع قوة احتياط العدو واحتلال مقرهم. كان على سريّتنا الهجوم في خط الوسط، بينما تُطبق عليها السريّتان الأخريان من كتيبة الشهيد "قاضي" من جهتي اليمين واليسار. قطعنا ثلاثة أسلاك للهاتف في حقل الألغام الثاني، وكان وطيس المعارك يشتدّ تدريجيًا في الخلف، ولم يلتفت العدو لوجودنا بعد. كان "فتح الله" ما زال منشغلًا بتفكيك أحد الألغام، ونحن نجلس خلفه منتظرين. فجأة أحسست أن الأرض قد غارت تحت قدمي، وتبع انفجار اللغم إطلاق نار كثيف من مقر قوة احتياط العدو.

 

 

 

 

 

60


50

الفتح المبين

 غرق "فتح الله" بدمائه، وسقطت أنا وعدد آخر من الإخوة جرحى على الأرض. ارتعبت وأصبت بالهلع عندما شاهدت الثقب في ركبتي، وقلت في نفسي: "لربما قُطعت قدمي!". اشتبك الإخوة مع الأعداء وخرجوا بسرعة من حقل الألغام. انتبه العراقيون للممر الذي أحدثناه وسط حقل الألغام، فبدأوا بصبّ نيران الرشاشات وقذائف "الآر بي جي" والهاون عيار 600 ملم عليه. وقد أثار دهشتي صوت أزيز الرصاص المتطاير وهو يمرّ بالقرب مني ليستقر في التراب. كنت أظنّ أن لا شيء أسوأ من البقاء في ممر مكشوف للأعداء. لذا نهضت على قدميّ بصعوبة واتجهت صوب مقر قوة الاحتياط. كانت جراح "فتح الله" عميقة جدًا، لذا تقرّر إبقاؤه حيث هو ريثما يعود الإخوة من مهمّتهم. أدركت من غزارة النيران من الجانبين، أن السريّتين قد بدأتا الهجوم من الجناحين كما هو مخطّط. كنت أشعر بلهيب في ركبتي، لكنني لم أنبس ببنت شفة. ولو افترضنا أنني أنّيت وتذمرت، فمن ذا الذي سيدركني وسط هذه المعمعة! رحت أسير وحيدًا وأنا أعرج. أوشكت خطوط العدو على التهاوي ومقر الاحتياط على السقوط. اتخذت قوة احتياط العدو، وهي بحجم لواءٍ تقريبًا، شكلًا تنظيميًا في القتال وكأنّها تقاتل في الخطوط الأمامية. عند اقتحامنا خطوطهم، اشتدت مقاومتهم وتصدّيهم لنا، وكان الإخوة برغم التعب يقفزون برشاقة وخفّة وكأنّهم لم يقطعوا هذه المسافات في الرمال. كان ضوء السماء يأذن بالانبلاج من ناحية الشرق، عندما سألني "رحمان مصلحي": "هل جُرحت؟ هيا تمدّد على النقالة لننقلك إلى الخلف". نظرت إلى النقالة وإلى قدمي، كانت المرّة

 

 

61


51

الفتح المبين

 الأولى التي أُجرح فيها، وقد حظي المسعفون بجريحهم الأول. اعتقدتُ أن جرحي عميق، لذا لم يكن من أحد ليلومني ويقول لي: "ابق هنا، إلى أين تذهب وسط المعركة؟ وعلى النقالة أيضًا!".


حملني أربعة مسعفين على النقالة. كان للتمدّد عليها عند انبلاج الفجر وبين نيران العدو المنصبّة علينا بين الحين والآخر، لذّة لا تُنسى. سار "رحمان مصلحي" في المقدمة. دخلنا حقل الألغام، فكان "رحمان" يُفكّك كلّ "تشريكة" يصل إليها. تعجبت كثيرًا كيف أنّ تلك الألغام لم تنفجر. ظننت أنّه ماهر جداّ في عمله. كذلك، تعجبت لكثرة الألغام، وفكرت كيف للحقل أن يتسع لكلّ هذا! ثم أدركت أننا كنّا نسير على طول الحقل لا عرضه. فجأة هزني انفجار قوي، وصارت أذناي تصفران من قوة الصوت. شعرت لعدّة دقائق أنّ كلّ شيء من حولي صباغٌ أحمر، كأنني غطّست رأسي في المازوت الأحمر. امتزج الدم بالتراب فكان طعمه مُقرِفًا في فمي، وزكمت أنفي رائحة البارود، وشعرت بحرقة شديدة في رأسي وعنقي. مسحت بيدي على خوذتي، كانت كالمصفاة لكثرة الثقوب. أدركت من الدماء التي سالت على وجهي، أنّ رأسي مصاب كخوذتي. شيئًا فشيئًا بدأت أشعر بالبرد ينخر عظامي، أخذتُ أرتجف لا إراديًّا. فتحت عينيّ، رأيت انبلاج الصباح، وقد حلّ وقت الصلاة. كنت أسمع أصوات رفاقي الجرحى، لقد انفجر لغم تحت رأسي وأصيب المسعفون الأربعة الذين حملوني، أما "رحمان" الذي كان يسبقنا بخطوات فلم يصب بأيّ أذى.

حَللتُ الكوفية - ذكرى أول أيام تبذيري في مدينة الأهواز - عن
 
 
 
 
62

52

الفتح المبين

 خصري وربطت بها رأسي، لقد أفادتني كثيرًا في هذا الظرف. أدركت مع انبلاج الصباح أنّنا قبالة متراس أحد رُماة الأعداء. مرّ في تلك الأثناء وعلى مسافة قريبة منّا رتل من إخواننا، اتّجهوا مباشرة نحونا عندما سمعوا أنيننا. كان قائد السرية مع مجموعة من عناصره، عرفت قائدهم "بيوك آقا دلداربناب"، الذي كلّمني بكل عطف، ثم أخبر "محمود أورنكي"1 عبر اللاسلكي، أنّ عددًا من عناصره جرحى وسط حقل الألغام. سمعت صوت "محمود اورنكي" في تلك الضوضاء يقول: "لقد نفدت ذخيرتنا"، فيأتيه صوت ضعيف من الطرف الآخر لللاسلكي: "اصبروا ريثما تدخل كتيبة الشهيد مدني المعركة".


انتظارُ عمل سيقوم به آخرون أمرٌ مضنٍ حقًا! واسانا "بيوك آقا" قليلًا ثم تركنا وذهب في مهمّته.

أعادني إلى واقعي صوت أحد الجرحى يذكّرنا بالصلاة. صليت وأنا بهذه الحالة، من دون وضوء أو تيمم، مُعفّرًا بالتراب والدماء. كنت أرتجف خلال الصلاة، لا خوفًا من الله، بل من شدّة البرد الذي لم أستطع مقاومته. عند التسليم في نهاية الصلاة، علا صوت "محمد ساعدي": "آخ". أدركت ما حدث بسرعة، فقد كنّا نقبع مقابل متراس العدو، وقد كشفوا أمرنا مع انبلاج الصباح. كنّا هدفًا سهلًا لقنّاصيهم. حاولنا جمع التراب من حولنا لعلّنا نستتر خلفه عن أعينهم. ماذا يستطيع أن يفعل عدّة جرحى في مواجهة قناصٍ نذل! كان يرتفع مع كلّ إطلاق نار صوت أحدهم:
 

1- اورنگي: ouranghei
 
 
 
63

53

الفتح المبين

 - آخ قدمي..


- يا أمّاه..

كنت عندما أسمع صوتًا، أعرف أنّ رصاصةً قد أصابت صاحبه. أُصيب "محمود ساعدي" بأربع رصاصات "سمينوف" في ذلك المكان، وشظية لغمٍ. مرّت لحظات مؤلمة فكّرت فيها بالإخوة في الكتيبة، فقد خفتت أصواتهم، ترى هل نفدت ذخيرتهم نهائيًّا وهم ينتظرون وصول فرق الدعم والإسناد؟! بدت لي الدنيا حقيرة جدًا في ذلك المكان. فقد ذهبت جهودي للالتحاق بجبهات القتال سدًى، وكذا كل التدريبات والتنقلات هنا وهناك، لأصبح قبل خوض المعركة، طريدة جريحة لا حول لها ولا قوة في حقل ألغام وأمام صياد قاسي القلب بلا رحمة!

سطع ضوء النهار، وأرسلت أشعة الشمس دفأها إلى أفئدتنا. سمعت صوتًا قادمًا من الخلف، حيث مرّ رتل عراقي، انفصل عنه عنصران تقدما نحونا بسرعة:
- تعال .. تعال..

علا صوت "محمود ثانية: " يا إلهي!.."

لم أعد أحتمل. لم أشأ أن أصبح أسيرًا أو شهيدًا من دون مقاومة. أنا لم أتحمّل كلّ ذلك العناء لأصل إلى هنا، وأرحل بهذه البساطة. وقعت يدي على سبطانة سلاح أحد الإخوة، لم أكترث لأمر القنّاص. رفعت جسمي قليلًا، وصوّبت سلاحي نحو الجنديّين العراقيين، وأرديتهما أرضًا برشق واحد. جُنّ جنون الرتل العراقي المؤلف من 60 عنصرًا تقريبًا بينما عددنا لا يتجاوز ستة عناصر، خمسة منهم جرحى وعنصر واحد سالم
 
 
 
 
64

54

الفتح المبين

 فقط، مع مخزن رصاص واحد. حرث الرصاص المتساقط التراب من حولنا، ونحن منبطحون لا حول لنا ولا قوة. مرّت دقيقتان على بدء إطلاق النار علينا. فجأة، تضاعف إطلاق الرصاص وبدأ جنود الأعداء بالتساقط أرضًا. اقتربت المجموعة التي جاءت لنجدتنا يتقدّمها قائد كتيبة الشهيد "قاضي" الأخ "داود نوشاد". دخل حقل الألغام بحركة فدائية. وأخرس بنيران سلاحه المتراس الذي كان يفتك بنا لأكثر من ساعة. أخرجنا "داود نوشاد" ومن معه من حقل الألغام. في تلك اللحظات أصيبت أصابع الشخص الوحيد السالم بيننا، "رحمان مصلحي".


ضمّد المسعفون جراحنا خلف الكُثبان الرملية المتصلة ببعضها على شكل ساتر ترابي. ثم نُقلنا بعد ساعة بناقلة جندٍ غنمناها من العراقيين إلى وداي "ذليجان"، حيث مركز الطوارئ نفسه الذي شاهدته بعد عودتنا من الرقابية، وأغَرْنا أنا والإخوة على الأطعمة المكدّسة فيه.

التقيت في المركز بعدد آخر من الجرحى الذين كانت جراحهم أعمق وأخطر من جراحي. لم أشأ البقاء هناك، فنقلت إلى مستشفى ميداني. شاهدت أثناء نقلي في سيارة الإسعاف، العديد من اللوحات التي نُصبت على طول الطريق، وقد كتب عليها الآية القرآنية: "إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا".

أعادوا في المستشفى تنظيف جراحي وتضميدها، وطلبوا مني الانتظار حتى يتم إرسالي إلى الأهواز. قضيت ليلتي كيفما كان، لكنّني في الصباح، وبحيلةٍ ما فررت من المستشفى. ذهبت بقدمي المضمّدة إلى وادي "ذليجان"، ومن هناك إلى منطقة العمليّات. كانت كتيبتا
 
 
 
 
 
 
65

55

الفتح المبين

 الشهيد "قاضي" والشهيد "مدني" قد استقرتا في المقر الذي كان تابعًا لقوة احتياط العدو.


سرّني الشعور بلذّة الانتصار خلال يومين، فقد حُلّت أزمة قوة احتياط العدو على أفضل وجه، واستسلمت مجموعات الأعداء المؤلفة من مئة عنصر أو أكثر. لم أهدأ وأنا أرى إخوة في مثل سنّي يأسرون مجموعات الأعداء وينقلونهم إلى الخطوط الخلفية للجبهة. كانت المتاريس في مقر احتياط العدو مُتصلة ببعضها بواسطة قناة، وعلى مدخل كل متراس قناة على شكل حرف (Z). حُفرت المتاريس في باطن الأرض، وسقفها مساوٍ لمستوى سطح الأرض. كانت جدران المتراس مستوية، بينما قُعّرت أرضها في الوسط، وجُعلت فتحة لتهوئة المكان وسط السقف. استمرت ملاحقة الأعداء الفارّين. جمع "علي تجلائي" عددًا من العناصر وانطلق لملاحقة فلولهم، الذين ابتعدوا عنّا حوالي 2 كلم. وقعت هناك معارك قاسية، جُرح خلالها "علي تجلائي" في قدمه. لكنّه بقي إلى جانب مجموعته حتى آخر لحظة.

شعرت بنشاط عجيب خلال الأيام التي قضيتها مع الكتيبة في تلك المنطقة، لدرجة أنني نسيت معها جراحي. نزعت ضمادات رُكبتي، وأبقيت فقط على الضمّادات البيضاء التي غطّت جراح رأسي السطحيّة. خرجنا في تلك الأيام عدّة مرات للبحث عن جرحانا وشهدائنا الذين أُخبرنا أنّهم ما زالوا في المنطقة. جعلني سماع نبأ استشهاد أصدقاء عرفتهم، أكثر تصميمًا على متابعة المسيرة، "يد الله مرادي" الشاب البالغ من العمر 24 عامًا، ذاك الذي قصّ لنا من كتاب "قصص الأبرار"
 
 
 
66

56

الفتح المبين

 في القطار، "محمد زارعي" الذي جلس في تجويف صخري بالقرب من خيمتنا، في وادي "ذليجان" ليكتب وصيته، والتقطنا له الصور من دون علمه، صديقي في المقر "حسين لطيفي" الذي يعود زمن صداقتنا إلى سنوات خلت. لم أصدق كيف تألق خلال هذه المدة القصيرة1، "مهدي صبوري" الذي جعلنا نهيم بأشعاره، ولم نكن نعلم أنّها كانت آخر خطواته نحو الشهادة.

 


1- عندما عدت إلى تبريز علمت أن حسين لطيفي، قد أُصيب برصاصة في رأسه، فمات سريريًّا وبقي في الكوما مدة شهر كامل. لكن العناية الإلهية شاءت بقاءه على قيد الحياة، ليكون في عداد جرحى الحرب، وشهيدًا حيًّا من شهداء الدفاع المقدس.

 

 

 

67


57

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل


ربيع وصيف 1982
لحظاتٌ مصيرية. من الإجازة واستلهام كينونة الوالدين، إلى مشاعر تكريم المقاتلين. من الدّور التربوي الذي أوكلوه إليّ، كمسؤول لجنة التلامذة، إلى مراسم وداع الشهداء.

مع انضمامي لكتيبة "المهدي"، نقلتني المشاهد الأولى لمعرفتي بمهدي باكري، إلى الانطلاق لحظة بلحظة في "عمليات مسلم بن عقيل".

قذائف وشظايا وقنابل. خنادق وتلّ ووادٍ. وجاءت معجزة النجاة.. عبرٌ من الانتكاسات. وانتقالاتٌ لم أكن أتوقع كلَّ ما حملته لي من التجارب..
 
 
 
 
69

58

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 عدنا بالقطار إلى مدينة "تبريز"، حيث محطة السكّة الحديدية تعجّ بالعيون القلقة، وبالورود ورائحة ماء الورد والبخور. كانت خالتي أول من رأيت مع والدتي بين جموع الأهالي الذين قدموا لاستقبالنا. أحاط الأهالي بالمقاتلين، ورحتُ أجول بعينيّ بحثًا عن"علي تجلائي". ركب معظم المقاتلين الحافلات المتجهة إلى "وادي الرحمة"، كم تمنيت أن أرافقهم، لكن قلبي لم يطاوعني بالابتعاد عن عائلتي وقد وصلت للتو، فقد قررت أن أكون ولدًا مطيعًا مهتمًا بدروسه طوال مدة بقائي في المنزل، وذلك لتسهيل عودتي إلى الجبهة ثانية.


ذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة حيث أُقيمت مراسم لتكريم التلامذة المقاتلين. اجتمعنا في ملعب المدرسة، ثمّ ألقى معلّمان كلمتين في الحضور، وبعدها تحدّثتُ ببضع كلمات عبر مكبّر الصوت. قرأ "محمد باقر خان محمدي"، الذي جُرح مثلي في عمليات "الفتح المبين"، بعضًا ممّا دوّنه، ثم تولّى الكلام ضيف مدرسة "الرازي المتوسطة": مسؤول التطوع في الحرس الثوري "محمد رضا باصر". كان كلامه جيدًا، وقد ترك انطباعًا طيبًا في نفوسنا، وخاصّة أنه ممّن يقولون ما يفعلون. لقد سمعت أنّه لم يدَعْ يومًا يمرّ من دون زيارة عوائل الشهداء والعمل على حلّ مشاكلهم1. بعد انتهاء المراسم، وأمام
 

1- استشهد محمد رضا باصر، في عمليات بدر في آذار 1985م، وكان من الشهداء مفقودي الأثر، وعاد جثمانه إلى العائلة بعد عدة سنوات من انتهاء الحرب، فكان شمعة مضيئة في "وادي الرحمة".
 
 
 
70

59

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 عدسات التلفزة، وضعوا أكاليل الورد في أعناقنا، ومنذ ذلك الوقت حظي التلامذة المقاتلون (المجاهدون) بشعبية أكثر من غيرهم في المدرسة. وقد برزت محبّة اثنين من المعلمين لنا بشكل لافت، حينها أذعن جميع التلامذة المقاتلين بأنّ عليهم التحدث إليهما عن ذكريات الجبهة كلّما التقوا بهما، فهما يحبّان سماع تلك الذكريات لدرجة كبيرة جعلتني أتعجّب من عدم ذهابهما إلى الجبهة حتى الآن. لقد تعلمنا أمورًا كثيرة من كلّ من "صمد بخت شكوهي" و"منوتشهر سمساري"1


كانت علاقتنا بهما أقوى من علاقة تلميذ بأستاذه. جاءني أحد الزملاء بعد يومين من مراسم الاستقبال، وأخبرني أنّ الأستاذ "سمساري" يريدني في أمر. عندما دخلت إلى صفّه سألني: "هل أنت جاهز لتقديم امتحان مادة "المهن والحرف؟". كان الزملاء قد قدّموا الامتحان في هذه المادة حينما كنت في الجبهة. وبما أنّني أنوي متابعة الدراسة إلى جانب مشاركتي في الجبهة، جلست هناك وقدّمت الامتحان. كنت أحب المعلم كثيرًا، لذا كنت أهتمّ بمادّته وأدرسها بشكل جيّد. صحّح الأستاذ ورقة الامتحان مباشرة وأعطاني علامة (20)، ثم التفت إلى أحد الزملاء الذي نال علامة متدنّية وقال له: "انظر إلى هذا! لقد نال علامة (20) مع أنّه كان بين القذائف والسلاح لأشهر عديدة، بينما أنت!..".

بعد عدّة أيام نادوني مجددًا: "رضائي! لقد جاء رجل إلى غرفة المدير ويريدك في أمر". تجاذبتني الأفكار إلى أن وصلت إلى غرفة
 

1- منوجهر: manocheher
 
 
 
71

60

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 المدير. تعجبت كثيرًا عندما رأيت السيد "زلفي" أستاذي في الصفوف الابتدائية، من الصف الثالث إلى الخامس، كنت أعلم أنه أصبح مدرس مادة الرياضيات في إحدى المدارس المتوسطة. لقد علم أنني كنت في الجبهة، فطلب مني أن أحدث تلامذة صفه عن ذكرياتي في الجبهة والحرب. شعرت بالخجل من لطفه، ولبّيت الدعوة. كان تلامذة الصف الأول المتوسط، يستمعون إلى كلامي عن الجبهة بكل شغفٍ وشوق، كأنّهم يشاهدون فيلمًا سينمائيًّا عن الحرب. أدركت بعد تلك الحادثتين، أن لصفة المجاهد مسؤولية كبيرة.


شارف الشهر الأول من فصل الربيع على الانتهاء، وقد التأمت جراحي بشكل جيد، لكن قلبي لم يكن ليستكين، وما فتئت فكرة العودة إلى الجبهة تراودني. كنت أعلم أنّه من المستحيل أن توافق عائلتي على عودتي إلى هناك. لم يكن قد مرّ على مجيئي أكثر من عشرين يومًا، حتّى بدأت أعدّ العدّة للرحيل.

تضاعفت فرحتي عندما علمت أن الأخ "تجلائي" هو مسؤول التطوع. جرى توزيعنا في ثكنة التطوع الكائنة في شارع "حافظ"، وكالمرة السابقة اتفقت مع صديقي "محمد" ليخبر عائلتي عن رحيلي. دخلت الحافلة خائفًا أترقّب، قلت لنفسي: "ربما كان هذا الشعور بسبب تجربتي السابقة والسيّئة مع الحافلة، وعندما أصل إلى القطار سأشعر بالطمأنينة"، إلا أنّ شعوري بالقلق رافقني حتى وأنا في القطار. كان عدد المتطوّعين المتجهين إلى الجبهة كبيرًا هذه المرة. ما إن أُطلقت صفارة القطار حتى فُتح باب المقصورة، وألفيت أخي عبد الله واقفًا لدى الباب:
 
 
 
 
 
72

61

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 - سلام


ألقيت السلام، وانتظرت أن يستمع إلى بقية كلامي، لكنه قال بلهجة قاطعة: "وعليك السلام! إلى أين يا 'مهدي'؟ أصيبت أمّنا المسكينة بالجلطة، وأنت تغادر من دون أي خبر؟!".

أُسقط في يدي، إذًا، لهذا رافقني الشعور بالاضطراب! ظننت أنّ حال أمي ستتحسّن حينما تراني، وأنه ربما كان ينقصني شيء لأكون مستعدًا لعمليات "بيت المقدس"1. حملت حقيبتي على كتفي وترجّلت من القطار. ابتعد القطار، وعدت أنا وأخي إلى المنزل. سرنا طوال الطريق بخطًى سريعة من دون أن ننبس ببنت شفة. فتحت الباب على عجل وسألت بلهفة عن أمي. أين أمي؟ أين؟

- في منزل الخالة، وستعود عصرًا.

جلست قرب الحائط أبكي وأنتحب بلا خجل.

- تُرى أين وصل القطار الآن؟
 

1- جرت عمليات بيت المقدس بنداء "يا علي بن أبي طالب عليه السلام" في 20 - نيسان 1982م وأدت إلى تحرير "خرمشهر - الهويزة وثكنة "حميد".
 
 
 
73

62

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 في شهر رمضان، أقام أولاد الحيّ مباراة في كرة القدم. كنت أجلس مع المتفرّجين وإلى جانبي "محمد محمد بور". حميَ وطيس المباراة شيئًا فشيئًا، وتزايدت أعداد المتفرّجين. رأيت "جواد فرزاميان" مُقبلًا نحونا على دراجته من نوع "كورس"، ظننتُ أنّه يريد مشاهدة المباراة، لكن عندما وصل إلينا رأيته يبكي.


- ماذا حدث؟ لِم تبكي؟

أصيب جواد في الأيام الأولى لعمليات "بيت المقدس" برصاصة في عنقه، وكان يتابع علاجه في المدينة ويأخذ قسطًا من الراحة فيها، وقد أعاقت هذه الإصابة التحاقه بالجبهة من جديد، لكن لم يحدث أن رأيته على هذه الحالة من قبل، كان خائر القوى فأمسكنا به أنا و"محمد" واصطحبناه إلى المسجد من دون أن يتوقّف عن البكاء.

- قل شيئًا يا عزيزي، لِمَ كلّ هذا الحزن؟

- لقد استشهدا.. "منوتشهر سمساري" و"صمد بخت شكوهي"، في عمليات "رمضان"1.

كانت هذه الجملة كافية لأن أستسلم لمشاعري وأجهش بالبكاء. بعدها لم يسألنا أحد عن سبب بكائنا، فكلّ من عرفهما يعلم أيّ شخصين عظيمين قد فقدنا.
 

1- جرت عمليات "رمضان" بنداء "يا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف"، بتاريخ 14 - 6 - 1982م في منطقة شرق البصرة.
 
 
 
74

63

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 ذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة، رغم أننا دخلنا في شهر تموز، إلّا أنها كانت ما تزال تعجّ بالتلامذة والمعلمين. كنت مسؤول لجنة التلامذة، وعلى علاقة طيبة مع العاملين، فأجلس بعض الأحيان في مكتب الناظر، وأحيانًا أخرى في غرفة المعلمين حيث الأستاذان "منوتشهر وصمد". دخلت إلى هناك وعلقتُ ولم أستطع الخروج بسهولة:

- ماذا حدث يا رضائي؟ ما الأمر؟ لم تلبس السواد؟

- .. لم يحدث شيء .. لقد استشهد أحد الإخوة.

لم أكن أدري كيف أُطلعهم على الأمر، لكن الناظر الذي يقطن في حيّ عائلة الأستاذ "بخت شكوهي" نفسه، لم يدعني وشأني، فقال وقد ضاق بي ذرعًا: "لقد سمعت بعض الأخبار، هيا لِمَ لا تخبرنا ما الأمر؟!"، التفت جميع المعلمين نحوي. لم أعرف كيف أخبرتهم بالأمر. بدأوا بالبكاء واللطم على الرؤوس. لم أستطع البقاء في تلك الأجواء، فخرجت.

تحولت مدرستنا إلى مأتم. استعد الجميع لاستقبال جسدي الشهيدين الطاهرين. بعد عدّة أيام وصلنا خبران، أحدهما من "بيت الشهيد" في "تبريز"، والثاني من مستشفى "الإمام الخميني". لقد وصل جثمان الشهيد "صمد بخت شكوهي" إلى "بيت الشهيد"، وأُعلن "منوتشهر سمساري" شهيدًا مفقود الأثر1. لقد أصيب "صمد"
 

1- عُثر على جثمان الشهيد "منوتشهر سمساري" عام 1995م، أثناء عملية تفتيش في منطقة عمليات "رمضان"، ووري الثرى في "وادي الرحمة" مع رفاقه الشهداء.
 
 
 
 
75

64

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 بقذيفة دبابة تلاشى معها رأسه وجزءٌ من صدره، بينما كان "محمد باقر خان محمدي" يعالج في مستشفى الإمام، لإصابته برصاصة في الرأس، بقي على قيد الحياة مدة 200 يومًا بمساعدة جهاز التنفس الصناعي. ولأنني عاينت مدى تعب وعناء والده في العناية به يوميًا، لم أجرؤ على إخباره أن ابنه قد ترك وصيته معي قبل أن يتوجه إلى الجبهة. كنت أقسّم وقتي بين المستشفى والمشاركة في مأتم الشهيدين الذي كان وبحسب وصيتهما بسيطًا بعيدًا عن التكلّف. التحق "محمد باقر" في اليوم العشرين بقافلة الشهداء، عندها سلّمت وصيته إلى أهله. لم أعد أستطيع تحمّل البقاء حتى ليومٍ واحدٍ في المدينة. في الصباح، أخبرتُ أُمي أنني ذاهب إلى الحمام العمومي، فجهزت لي حاجاتي في الحقيبة:

- في رعاية الله، عُد بسرعة.

بعد نصف ساعة، كنت في ثكنة المتطوعين، وانتقلت من هناك إلى محطة قطارات "تبريز"، ثم منها إلى "طهران". كان من المقرر أن يذهب "محمد" عصرًا إلى منزلنا ليخبر أمي بذهابي إلى الجبهة بعد الحمّام.
 
 
 
 
76

65

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 تموز 1982م، كان ألم فراق شهداء عمليات "رمضان" ما يزال متأججًا في صدري، اتجهت وحيدًا من "تبريز" إلى الجبهة، وقد انضممت في منتصف الطريق إلى مجموعة من 20 مقاتلًا تقريبًا. عندما وصلنا إلى الأهواز، انتقلنا إلى مدرسة "كلستان"1 حيث استقرّ لواء "عاشوراء" بعد عمليات "بيت المقدس". توجهنا مباشرة من هناك إلى معسكر "اللواء" الكائن في محلّة تُعرف باسم "محطة الحسينية" الواقعة على مقربة من "خُرمشهر". هناك تمّ توزيعنا وفرزنا، وحوّلنا إلى كتيبة "المهدي". كان المقاتلون من جميع الأقضية من: "خوي، ميانه، سلماس، تبريز ومُراغه". لذا عُرفت الكتيبة باسم "الكتيبة المتعددة الجنسيات".


كان مسؤول الكتيبة، الأخ "بني حسن"2، ومسؤول السرية "محمد حسن سهرابي". أعيدت هيكلة القوات وأغلبهم من الفتيان الصغار. وبما أنني أنهيت الصف الثالث المتوسط، اعتُبرت من المتعلمين بينهم. على أي حال وقعت القرعة عليّ لأكون عامل الإشارة3. كان الأخ "صفر
 

1- كلستان: kholestane.
2- استشهد بني حسن في عمليات كربلاء 5-، وكان عنصرًا من قوات الاستخبارات والاستطلاع. وقد التحق بعداد مفقودي الأثر. عُثر على جثمانه بعد عدّة سنوات من انتهاء الحرب وذلك أثناء عمليات التفتيش التنقيب- في "شلمشه"
شلمشه: shalamcheh-. ووري الثرى في "وادي الرحمة".
3- عامل الإشارة: عنصرٌ مهمّته استقبال وإرسال البرقيات.
 
 
 
77

66

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 حبشي"1، قائد كتيبة "المهدي" والأخ "بايرام علي فرمزياري"2 قائد سريتنا، "فرهنك أطراحي"3 مسؤول (الفصيل 1)، "شكارلو" مسؤول (الفصيل 2) و"حيدر مهدي خاني" مسؤول (الفصيل 33). بدأت (السرية 1) من كتيبة "المهدي" تدريباتها العسكرية بناءً على هذه التشكيلة.


كان خبز "إسكو"4، تعدُّد الحمّامات، امتلاك سيارة خاصة للتموين، الإجازات لعدّة ساعات، وغيرها من التسهيلات، دليلًا على وجود تقديمات وتجهيزات أفضل من تلك التي كانت في عمليات "الفتح المبين". ولأنّنا كنّا نفضّل حمامات المدينة العموميّة، كان يُسمح لنا بإجازة لمدة ساعة واحدة، فنذهب بسيارة الكتيبة إلى حمامات "خُرمشهر" العمومية5. استمرت عمليات التدريب الصحراوية المتناسبة مع طبيعة المنطقة في جنوب البلاد، من قَبيل الهجوم، الاقتحام وتطهير السواتر الترابية، بإشراف مدرّبنا الأخ "رمضان فتحي". أقمنا مدة أسبوعين تقريبًا في خيم نُصبت في ساحة مربعة الشكل، بمعدل خيمة لكلّ سرية. كنتُ في بعض الأحيان أتذكر الأيام الأولى لإلتحاقي بالجبهة، أتذكر الأصدقاء
 

1- استشهد "صفر حبشي" وهو من المقاتلين الأبطال من أهالي "خوي"، في عمليات والفجر 1- وكان مسؤول المحور.
2- استشهد بايرام علي فرمزياري في آذار 1984م في عمليات "خيبر". وكان قائد فيلق "علي الأكبر" في تلك العمليات. وقد عُثر على جثمانه الطاهر عام 1995م، وورى الثرى في مدفن شهداء "سلماس" في جوار أخيه الشهيد "عبد الله".
3- فرهنك اطراحي: farhainkh
4- خبز إسكو: نوع من الخبز المحلي ويشبه خبز المرقوق في لبنان.
5- الحمّامات العامة التي تستخدم فقط للاغتسال وكانت منتشرة في إيران. ولا زالت ولكن على نحو أضيق.
 
 
 
78

67

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 وصورة "محمد باقر" أول السابقين، كما لم تفارقني صورة "منوتشهر وصمد" في المنام، فيشتدّ اشتياقي لهما أكثر فأكثر.


في تلك الأيام، اختبرت ولأول مرّة صيف الجنوب الحارق، وازدادت حرارة شوقي لبدء العمليات.

تسلّمنا في إحدى الليالي، السلاح والذخائر وكل ما نحتاج من عتاد وتجهيزات. ركبنا السيارات العسكرية وانطلقنا إلى جهة مجهولة. تفتّقت في الطريق روح الطُرفة عند الإخوة، ففرِحت لهذا التغيّر. ما إن وصلنا بعد ساعات، حتى شعرت بهواء جبلي بارد، وأدركت أنّنا عبرنا تلك الليلة "إسلام آباد"، وسلكنا بالقرب من "سربل ذهاب"1 طريقًا يوصلنا إلى منطقة "سومار".

بعد أن تخطّينا نهر "سومار"، تموضعنا في معسكر لواء "عاشوراء" المستقرّ في وادٍ صخري فسيح يقينا نيران الأعداء، وليكون مناسبًا أيضًا لتدريب العناصر. تقع "سومار" مقابلنا وخلفنا تلّ قسّم الوادي إلى قسمين. لاحظت من طريقة اختيار مكان نصب الخيم والمتاريس، أنّهم يحاولون إسكان جميع القوات داخله. تموضعت عناصر كتيبتي "المهدي" والشهيد "صدوقي" شمال الوادي، بينما تموضعت عناصر كتيبتي الشهيد "مدني" والشهيد "قاضي" في الوادي المجاور. وبعد مدّة شُكّلت كتيبة الشهيد "بهشتي" وتموضعت في الوادي ذاته.

في الأيام الأولى لتموضعنا جاء سرب من الطائرات العراقية المقاتلة
 

1- سربل ذهاب: shareh poulzhab.
 
 
 
79

68

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 للترحيب بنا! فأغار أكثر من عشر مرّات على المعسكر ومحيطه، لكنّ عمق الوادي شكّل ملجأ آمنًا لنا، فجاءت النتائج بأقلّ خسائر ممكنة. كان من بين شهداء القصف: السيد "بجاني" الذي عمل في قسم التموين في كتيبة الشهيد "صدوقي"، وقد استشهد في الشاحنة الصغيرة أثناء نقل الطعام. حزنت كثيرًا عليه، فقد كنت صديقًا وزميلًا لابنه في المدرسة، ولطالما قضينا معًا الكثير من الأوقات في الحيّ، وفي مسجد "شربت زاده" وفي الحراسة، وها هو الأب يستشهد في أوّل مشاركة له في الحرب وقبل بدء العمليات.


التدريبات التي خضعنا لها في هذا المعسكر، كانت متناسبة مع طبيعة المناطق الجبلية، كالهجوم في المرتفعات والالتفاف حولها، وتطهير المواقع وغيرها. كنّا نتدرب معظم ساعات النهار وأحيانًا في الليل. كانت الصلاة تقام جماعة في كل الأوقات. وللدعاء في ذلك الوادي - خاصة قبل المعركة - طعم خاص. أحيانًا كانت السريّة كلّها تشارك في الدعاء والمناجاة، وأحيانًا أخرى كانت المراسم تجري في خيمة أو متراس كل فصيل على حِدة. لم يكن في السريّة مدّاح أو قارئ عزاء خاصّ، فقررنا في إحدى المرات أنا ومسؤول مجموعتنا "شكارلو" قراءة دعاء التوسل معًا. كانت تجربتي الأولى، وقد أخطأت في القراءة عدّة مرات، لكن ذلك كان كافيًا لروحية الإخوة.

اعتدنا على الحياة في الوادي، كنّا نذهب أحيانًا إلى نهر "سومار"،
 
 
 
 
80

69

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 المقرر أن نتموضع في كتف الوادي، فتعاونتُ مع أحد الإخوة على حفر خندق بواسطة الحراب للتمترس فيه.


كان القصف مستمرًا منذ الليلة الماضية، وقد سقط موقع "سلمان كشته" في الليلة الأولى للهجوم بيد قواتنا، وتوالت الهجمات المضادة للأعداء لاسترجاعه. وصلتْ حوالي الساعة 11 من قبل الظهر، شاحنة صغيرة محمّلة بالمؤن والعتاد أسفل التل. انتهزتُ الفرصة فنزلت إلى هناك، وأخذت بطيخة، ثم رجعت مسرعًا إلى خندقنا، ما إن اقتربت من الخندق حتى صاح صديقي: "انبطح أرضًا". انبطحتُ أرضًا، وشعرت في نفس اللحظة برياح ساخنة تمرّ من فوقي، وما هي إلا لحظات حتى اصطدمتْ بصخرة وانفجرت، لقد أطلقوا علينا من التل المقابل قذيفة مدفع عيار1. ولولا ذاك الخندق المشترك، ورؤية صديقي للهب فوهة المدفع عند إطلاقها، لما بقي أثر ينبئ عني.

بعد الظهر، كانت قذائف الهاون تنزل علينا بلا هوادة. سقط خمسة إخوة بانفجار إحدى القذائف. أحسستُ بجسمٍ ضخمٍ صلبٍ يصطدم برأسي. مسحت بيدي على رأسي لا إراديًّا، لكن لم أر أي أثر للدماء. يبدو أنها شظية باردة سقطت عليّ. كان عجوز الكتيبة العم "يحيى" قد جُرح أمام صهريج الماء، رغم ذلك، ما كان ليستكين، فتارة يقاتل، وتارةً أخرى يساعد على نقل الجرحى والشهداء. بعد حوالي الساعة جاءنا خبر استشهاده وهو في طريقه إلى مركز الإسعاف.

كان الطقسُ غائمًا والهواء باردًا، وقد شارف اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني على الانقضاء. نجوتُ ذلك اليوم بمعجزةٍ إلهية من أذى
 

1- يدل قعر الوادي الصخري والمليء بالحصى، على أنّه ممرّ للنهر الموسمي "تشم هندي": cham hindi
 
 
 
90

70

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 حيث علّمني "سعيد تشرتاب"1 السباحة. كانت مياه النهر قليلة العمق شحيحة في أغلب أنحائه، لذا كانت الآليات تقطعه من ضفّة إلى أخرى بسهولة. بعد عدّة أيام، تم اختياري مع مجموعة من المقاتلين وأُرسلنا إلى مدرسة في "باختران" حيث درّبنا الأخ "علي قدسي" على استخدام اللاسلكي. عندما رجعنا، أعطونا "جهاز لاسلكي"، أما أنا فأخذت سلاح "كلاشينكوف".


مرّ شهران ونصف على إقامتنا في ذلك الوادي، دون أن يحصل أيٌّ منّا على مأذونية، فدبّ الملل فينا شيئًا فشيئًا. أخبرونا أنّ قائد الفرقة سيتحدث إلينا، فأدركنا أنّ أمرًا ما سيحدث. كان لقاء الأخ "حسن باقري"2 ممتعًا بالنسبة لي. كنّا نمزح ونقول: "انظروا لهذا الطفل الذي جاء يخطبُ فينا!".

لم يكن لديه لحية، وكانت ملامحه تنمّ على أنه صغير السن، لم نكن نصدّق أنّه قائد فرقة (نصر 5). بعد عدة أيام، اجتمعنا واستمعنا لأول مرة لكلام الأخ "مهدي باكري" الذي عُيّن من قِبل القيادة العامة للحرس، قائدًا للواء "عاشوراء". كان أغلب الإخوة منزعجين لأنّ "علي تجلائي" لم يكن قائدنا، إذ لم يكن أيّ منّا يعرف السيد "مهدي باكري" عن كثب. في البداية قرأ آياتٍ من القرآن الكريم، ثم ترجمها وفسّرها
 

1- چرتاب: chertab: استشهد بعد عدّة أسابيع في عمليات "مسلم بن عقيل".
2- لم أكن قد التقيت "غُلام حسين أفشردي" المعروف بحسن باقري حتى ذلك اليوم، في الحقيقة كان العقل المدبر في الحرس الثوري في السنوات الأولى للحرب؛ وأصبح نائب القائد العام للحرس مدة من الزمن. استشهد في منطقة عمليات "والفجر"التمهيدية في شباط 1982م، خلال عملية الاستطلاع.
 
 
 
81

71

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 بطريقة جيدة. لم يكن صعبًا أن ندرك أنّه كان ضليعًا بقراءة القرآن وتفسيره. حدّثنا عن الحروب في صدر الإسلام وعن واجب المسلمين في الجهاد. جذبت بساطته وتواضعه الجميع إليه. زاد خلال بضعة أيام عدد عناصر الكتيبة، وشَكّل المتطوّعون الجُدد كتيبة جديدة، سُمّيت بكتيبة "الحر". انضم عددٌ من المقاتلين الأشدّاء إلى عناصر السرية، كان من بينهم "صالح اللهياري"1 و"غُلام علي شجاعي" اللذان انضمّا إلى سريّتنا بصفة عناصر حرّة.


مضت الأيام الأولى لخريف عام 1982م، حين أُعلنت حالة التأهب والاستعداد.

- لا يحق لأي أحد الذهاب إلى أي مكان من دون إذن القائد.

بعد الظهر، جُمع عناصر كتيبتنا في الحسينية المخصصة، وشرح لنا الأخ "صفر حبشي" سير العمليات على خريطةٍ عُلّقت على صخرة، وقد حُدّد عليها مرتفعات "سلمان كشته"، "204"، "سان وابا"2، ومدينة "مندلي" العراقية. كان على كتيبتنا عبور مضيق "تشم هندي"3، وتشكيل خطّ دفاعي متقدم كي لا يتمكن الأعداء من الالتفاف على قواتنا في تلك المنطقة، وتقطيع أوصالنا. كانت مهمة صعبة، إذ تعيّن علينا الانطلاق بالتزامن مع كتيبتي الاقتحام: كتيبة "الشهيد مدني" وكتيبة "الشهيد صدوقي"، لتسيطرا على مرتفعات "سلمان كشته"،
 

1- استشهد "صالح اللهياري" في عمليات والفجر 4- حيث كان قائد كتيبة "الحرّ".
2- سان واپا: sanvapa.
3- جم هندي: .chamhindi
 
 
 
82

72

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 بينما نحن نقوم بهجوم على السهل الممتد بمحاذاة المرتفعات وننتظر استكمال المهمة.


بعد حوالي الساعة، استُدعيت مع عدد من الإخوة إلى مركز القيادة، وطُلب منّا نقل تجهيزات وعتاد الكتيبة إلى "شركة الحفر" القريبة من منطقة العمليات، وإيجاد مكان مناسب لتستقر فيه ليومين. عُيّن عنصران من كل سريّة لهذه المهمة. وضعنا كمية كافية من المعلبات والخبز وغيرهما في شاحنة التويوتا الصغيرة وانطلقنا مسرعين. تقع شركة الحفر في وادٍ صخري، ولا تزال بقايا الآلات شاهدة في المكان. اخترنا الموقع الأنسب والأكثر أمنًا لاستقرار القوات. نمتُ تلك الليلة إلى جانب معاون الكتيبة "عوض عاشوري"1، الذي كان برفقتنا.

بعد ظهر اليوم التالي، وصلت قوات الكتيبة واستقرت في شركة الحفر. ما إن انتهت عملية التموضع حتى حلّ المغيب، فرفع العم "يحيى" الأذان كعادته. لقد كان تعبويًا شيخًا لا يترك الأذان أبدًا، حتى أثناء القتال الليلي. فما إن يحين وقت الأذان حتى يصدح بصوته عاليًا. حان وقت الاستراحة بعد الصلاة وتناول الطعام. طال الوقت قبل أن تهدأ الأصوات ويعمّ السكون الوادي مجددًا. لكن لم يطل الأمر، حتّى انقلبت الأمور رأسًا على عقب واهتزت الأرض من تحتنا.

- هل أنا في حلم؟!

لا! كانت أصوات الانفجارات المتلاحقة الموحشة عين اليقظة.
 

1- استشهد عوض عاشوري في عمليات والفجر 1-
 
 
 
83

73

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 فقدتُ صوابي، وكذا كان حال جميع الإخوة الذين انتشروا في كلّ الأرجاء بحثًا عن مكان آمن.


- إنهم يقصفوننا بصواريخ الكاتيوشا ..

لم تنفك الصواريخ تنصبّ علينا، انفجر آخر صاروخ على بُعد 40 مترًا منّا. توقف عقلي عن العمل، وضاعت أصوات الإخوة بين صفير صواريخ الكاتيوشا. دفعتني الموجة الانفجارية التالية بشدة وانهال التراب والحجارة على رأسي. كنت أشعر بحرقة الدماء وهي تسيل من يدي وذراعي، ولم أكن أدري حينها ما الذي حل بهما. وصلت إلى مكان أكثر عمقًا في الوادي حيث اختبأ عدد من الإخوة مع قائد كتيبتنا "حبشي". انفجرت صواريخ "الكاتيوشا" في خط واحد، فأدّت إلى جرح عدد من الإخوة. أصيب "عوض عاشوري" بشظية في الصدر وكان ينزف بشدة. لم يكن غبار القصف قد انجلى بعد، عندما شاهدت "الخال" سائق الكتيبة، ولا أدري لِمَ ينادونه بـ"الخال"، مستلقيًا عند أقدامنا. عندما رأيت أنّه ما زال مستلقيًا بلا حراك، تعجبت كثيرًا وقلت: "انظروا أيها الإخوة للخال وكأنّ صواريخ "الكاتيوشا" لم تنفجر على بعد خطوات منه!" في لحظات الغم والاضطراب تلك، ارتسمت ابتسامة على الوجوه، لكن الأخ "حبشي" التفت إليّ وقال: "يا فتى! ربما أصابه مكروه؟".

- ربما! لديّ مصباح يدوي، سأتفقّده.

عندما سلّطت ضوء المصباح على وجهه، ظننت أنه نائم، لكن بعد عدة ثوان ذُعرت ممّا رأيت. فقد تبيّن لي من نور المصباح الضعيف أن بطنه قد شُقت وخرجت أحشاؤه منها. لقد استشهد بهدوء وصمت.
 
 
 
 
84

74

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 كانت المرة الأولى التي أرى فيها شخصًا يستشهد على هذا النحو. رجّح الإخوة أنه قد تعرّض إلى عصف الانفجار، فمهما كانت الشظية كبيرة لا يمكن أن تُحدث جرحًا كهذا. طلب مني الأخ "حبشي"، وقبل أن ينتبه الإخوة إلى الأمر ويتجمهروا في المكان أن آخذ مفتاح الشاحنة من جيب "الخال" وألفّ جسده بالبطانية، وقد ابتلّت يداي بالدماء الساخنة وأنا أُخرج المفتاح من جيبه. لففت جسده بمساعدة الإخوة ببطانية لنقله إلى جانب أجساد باقي الشهداء.


مع شروق الشمس نقلنا الجرحى الذين كانت إصاباتهم خطيرة إلى مركز الطوارئ الذي أُقيم في قسم تجهيزات شركة الحفر، عنبر كبير تتفرّع منه عدة عنابر صغيرة، لكنّه لم يكن مجهّزًا للقيام بالعمليات الجراحية اللازمة.

نظرت بعد الصلاة إلى يديّ، وقد انغرست الشظايا والأحجار الصغيرة فيهما، وجفّت الدماء على الجروح. ذهبت إلى مركز الطوارئ، حيث قام الطبيب بتضميدهما. مع أن جراحي كانت سطحية، إلّا أنّها كان تؤلمني بشدة. ضحكتُ عندما انتهى الطبيب من عمله، فقد ضمد ذراعيّ من الكتفين إلى الأصابع بشكل لم أعد أستطيع تحريكهما. جلستُ جامدًا من دون حركة وقلت للطبيب: "سيدي الطبيب! أريد المشاركة في المعارك، لكن لن يمكنني ذلك والحال هذه!". فنزع الضماد عن المرفقين، فتمكّنت حينها من تحريك يديّ والإمساك بسلاحي.

خرجت من مركز الطوارئ، وعلى ضوء المصباح، صرتُ أراقب وضع المنطقة، ويبدو أن العدو كان قد حدّد مكان تموضعنا بدقّة، إذ كان
 
 
 
85

75

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 "الطابور الخامس" ناشطًا في غربي البلاد تلك الأيام في منطقة الأكراد، ويُحتمل أن يكونوا وشوا بنا. تمّ نقل الجرحى وأجساد الشهداء إلى الخطوط الخلفية، ومن بينهم معاون كتيبة "المهدي" "عوض عاشوري". وكان نصيب كتيبتنا 15 عنصرًا ما بين شهيدٍ وجريح.


عمل القادة ذلك اليوم على إعادة هيكلة القوات واستبدال العناصر المصابة، مع أنه لم يمضِ على القصف الصباحي سوى بضع ساعات. كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها قائد الفيلق الأخ "محسن رضائي" أثناء حديثه إلى عدد من الإخوة الذين تحلّقوا حوله. عند الظهيرة، جاء وتحدث إلينا حول العمليات، وأنّ الدفاع مهمة خطرة وشاقة، لذا سيحاول الأعداء النفوذ من تلك الزاوية في محاولة لتشتيت قواتنا وقال: "على مقاتلي لواء 'عاشوراء'، إحياء عاشوراء الحسين عليه السلام مجددًا، فيقاتلون كالحسين"، كان لكلماته وقع طيب وحماسي على جميع المقاتلين.

عصرًا، تحوّل الطقس إلى غائم، وانضم إلينا أحد الإخوة من منطقة "خوي"، وتولّى سلاح الشارة، بينما أصبحت أنا قنّاص الكتيبة. استعدّت كتيبة "المهدي" للعمليات، فلجأ كلّ مقاتل إلى ظل صخرة أو أي زاوية هادئة ليختلي بنفسه في الساعات الأخيرة قبل بدء المعارك، منهم من انشغل بالدعاء والتوسل، ومنهم من تجاذب أطراف الحديث والفكاهة أو قرأ الوصايا، وبعضٌ تفرّغ للكتابة، وشيئًا فشيئًا بدأت تُسمع جهجهة1 الاستعداد للانطلاق.
 

1- جهجهة: الصيحات في الحرب.
 
 
 
86

76

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 - تُرى ما الذي سيحدث هذه الليلة؟


اصطففنا في رتلٍ ثم انطلقنا. رفع العم "يحيى" أذان المغرب. ثم وقف مسؤول المحور في العمليات، "حبيب باشائي"، بزيّه الفدائي وكوفيته التي لفّها على رأسه، على مكان مرتفع. كان مغرب الشمس خلفه يضفي على وجهه النوراني ولحيته الكثّة وملامحه الصلبة هيبة خاصة. لقد رأيته سابقًا في عمليات "الفتح المبين" حين كان مسؤول سريتنا، وقد اشتُهِر حينها باسم "الدكتور" لأنه تولى لبعض الوقت مسؤولية المركز الصحي لمقرات تبريز في "سوسنكرد". تحدث "حبيب" وصدى صوته يتردد في أرجاء الوادي.

- "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".

ترك كلامه المفعم بالثقة والاطمئنان أثرًا بالغًا علينا جميعًا.
 
 
 
 
87

77

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 يتسع عرض الوادي الذي سرنا فيه إلى أكثر من 60 مترًا في بعض النقاط، وينتهي داخل الأراضي العراقية1. بعد حوالي ساعة من السير، انحرف الرتل نحو جدار صخري. تسلقنا الجدار وتابعنا سيرنا في السهل. هناك، علمت بوجود ما يسمى عنصر الاستطلاع، الذي يتقدّمنا ويرشد قوات كتيبتنا إلى الطريق الصحيح. كان السهل هو منطقة الهجوم المحددة لنا.


عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل تقريبًا، تموضعنا على إحدى التلال المشرفة على المكان:

- سننتظر هنا لمتابعة العمليات.

بدأت عمليات "مسلم بن عقيل" في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1982م، بنداء "يا أبا الفضل العباس". كان الليل مظلمًا حالكًا، وشيئًا فشيئًا ازدادت حدّة إطلاق النار، لدرجة أيقنت معها أننا نسير في الطريق الخطأ. اعتقدت بناءً للتوجيهات التي تلقيناها، أنّنا لن نقترب لهذه الدرجة من منطقة المعارك، لكن هذا ما قد حصل! كانت قذائف "الهاون" تنفجر من حولنا وتنصبّ علينا. لم يكن أحدٌ من الإخوة القريبين مني يعرف ما يحدث. كنّا حوالي 12 عنصرًا، تجرّأت وقلت: "أعتقد أننا في الطريق الخطأ"، ووافقني مَن حولي الرأي. قلت: "لنذهب إلى قائد الفصيل و.." لكن ما من أحد هنا! لقد غادرت معظم القوات المكان،
 

1- استشهد حبيب پاشائي: pashaee في الأيام الأولى لعمليات مسلم بن عقيل .
 
 
 
88

78

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 واتجهت نحو منطقة العمليات الأساسية، أمّا نحن الذين تقدّمناهم بخطوات فلم ننتبه للأمر. عندما أدركنا أننا انفصلنا عن كتيبتنا شعرنا بالقلق، كان علينا الابتعاد عن تلك المنطقة بأيّ طريقة من الطرق. على الرغم من أن شدّة الاشتباكات جعلت عبورنا صعبًا للغاية، إلا أنّنا اقتربنا كثيرًا من الأعداء، لدرجة أننا اشتبكنا معهم بالكلاشينكوفات، ولم نكن نعرف أننا ومن دون قصدٍ منّا قد اقتربنا من "سلمان كشته" أحد الأهداف الرئيسية لعملياتنا. فكّرت في الانسحاب مع الإخوة إلى الأخدود فقلت لهم: "معظم القوات تعبر هذا الوادي، هيا لنذهب إلى هناك ونبحث عن كتيبتنا". كان حدسي صائبًا، فقد كان الوادي يعجّ بالمقاتلين. لحسن الحظ التقيت "جمشيد نظمي" الذي عرّفني "محمد محمد بور" إليه من قبل، وهو ابن عم "منوتشهر سمساري". كان "جمشيد نظمي" قائد سريةٍ في كتيبة "الشهيد صدوقي" بقيادة "ياسر زيرك".


- لقد تهنا يا أخ "نظمي"!

- كتيبتكم موجودة في المقدمة، تعالوا معي فأنا ذاهب إلى هناك.

سرعان ما رأيت وجه "بايرام علي فرمزياري" المألوف، هو شاب في الثامنة عشرة، ضخم الجسم وقوي البنية، كان كلّ مساعد رامي "آر بي جي" يحمل معه ثلاث قذائف "آر بي جي" إضافية فقط، لكنني رأيته - على الرغم من كونه قائد السرية - يحمل على كتفه كيسًا من الخيش فيه ثماني قذائف. تابعنا السير معه، وبسرعة وصلنا إلى كتيبتنا. كان من
 
 
 
 
89

79

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 القنابل والقذائف والشظايا. حلّ الظلام تدريجيًا، ومرّ الغروب كئيبًا من دون صوت أذان العم "يحيى". كان موقع "سلمان كشته" على التلّ المواجه لنا قد وقع ثانية بيد الأعداء، للأسف لم يستطع الإخوة، تحت وطأة القصف العنيف وتأخر وصول الإسناد، الصمود طويلًا.


على عكس الليلة الأولى، عمّ السكون والصقيع الأرجاء. كنتُ أرتجفُ من شدة البرد، وأسناني تصطك ببعضها. على بعد خطوات منّا كانت مجموعة من الإخوة تحرس المكان. وضعتُ عدّة أكياس من الخيش على جسمي لاتّقاء البرد، لكن عبثًا حاولت. بقيتُ كمعظم الإخوة أرتجفُ بردًا حتى الساعة العاشرة صباحًا حين أطلّت الشمس من خلف التل.

احتدمت المعارك في الصباح مجدّدًا، كانت قذائف مدفعية الأعداء من عيار (106) تنصبّ علينا من المرتفعات المواجهة لنا. نال منّا التعب والبرد، وأنهكنا العطش وقلة المؤن والغذاء، بعد استشهاد الإخوة المسؤولين عن نقل التموين، إضافة إلى مشاكل النقل والانتقال، ناهيك عن قلة النوم. في تلك الأوضاع الصعبة، جاءت الأوامر بالانطلاق. استعد الجميع للتوجّه نحو الهدف الذي حدّده لنا الأخ "حبشي"، وهو "سلمان كشته"، وحدّدوا مسيرنا بشكل عام. كان على سريتنا الوصول إلى أسفل الجسر القائم على طريق "سومار" العام، ثم عبور طريقٍ مُعّبدٍ وصولًا إلى وادٍ مزروع بالألغام، بعدها، كان علينا الاتجاه نحو مرتفعات "كله قندي"1 حيث كمائن العدو، وتسلّق الشقوق الصخرية الأمامية
 

1- أي رأس السكر.
 
 
 
 
91

80

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 للتل، لنتمكن من الالتفاف حوله ونتسلّل عبر الشقوق خلف الكمائن وصولًا إلى "سلمان كشته". أفرغ الإخوة ماء مطراتهم تيمّنًا بإيثار "أبي الفضل العباس" رمزُ هذه العمليات. حدثت معنا في الطريق أمورٌ عجيبة، كانت السُحب تحجب ضوء القمر أثناء عبورنا في مجال رؤية العدو، فيعمّ الظلام. لم نصل إلى الكمائن إلّا مع انبلاج الفجر، بسبب توقفنا المتكرر في الطريق. سار (الفصيل 2) في مقدمة الرتل، تقدّمه "بايرام فرمزياري" وتلاه "صالح اللهياري" فأنا. لم يكن العدو قد انتبه لوجودنا بعد. كانت الحصى والأحجار تنزلق تحت أقدامنا أثناء صعودنا التلّ، فتُحدث ضجة كبيرة. في تلك اللحظات انصبّت نيران رشاشات العدو علينا إذ اكتشف أمرنا، وكشف مسيرنا. كان العدو قد نصب مضادًا رباعيًا أعلى التّل موَجّهًا نحو الوادي. بدأ الإخوة بالسقوط مع كل رشقة من رشقاتهم. أسرعنا الخطى وركضنا صعودًا باتجاه قمة التل، والخطر يزداد مع اقترابنا من مكمن الرباعي. تابعنا الصعود من دون أن يفكر أيّ منّا بالبحث عن مكمن آمن. كان رامي "الآر بي جي" ويُدعى "هاشم"، يركض خلف "فرهنك أطرحي": هاشم! هيا تقدم وارمِ ذاك الرباعي".
وقف "هاشم" أمامي مُتّخذًا وضعية الإطلاق، لكن قبل أن يرمي سمعت صراخه: "يا إلهي! عيناي!". كان الدم يسيل من عينيه، لم أعرف كيف أُصيب، هل أُصيب بطلق ناري أم بشظية، أو الاثنين معًا! رأيت صخرة على بعد خطوات مني، منتصبة تصلح كمتراس للرمي. حملت "الآر بي جي" واتجهت نحو الصخرة. كان الرصاص يتساقط
 
 
 
 
92

81

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 علينا من تل "سلمان كشته" وتل "كله قندي" ومن كلّ مكان. ناديت "يا أبا الفضل العباس" وصوبت نحو الرباعي. في الوقت نفسه، كان رامي "آر بي جي" العدو يصوّب سلاحه نحوي. أطلقنا النار في آن واحد. لم يكن لديّ فرصة لرؤية النتيجة المرجوّة، إذ إنّ قذيفة "آر بي جي" العدو التي كانت على ما يبدو مضادة للأفراد انفجرت على الصخرة ففتّتتها، ودفعتني قوة الانفجار من مكاني. جثوت على ركبتي، فقد أُصيب ساقي بشظية وكُسر العظم بشكل مفجع. عندما أطلقت النار كان "فرهنك" يركض نحوي، لذا توقعت أن يكون قد أُصيب هو أيضًا، نظرت باتجاهه فوجدته مرميًّا على الأرض وقد شقت شظية صدره. اقتربت منه، ورأيت عينيه قد غارتا، والدماء الساخنة تسيل من صدره. نظرت حولي فرأيت "بايرام علي وصالح" يتابعان الصعود. حاولت أن أستجمع قواي لأتابع الصعود، لكنني فشلت ولم أستطع الحركة. لقد سقط معظم الإخوة بين جريح وشهيد، أمّا الباقون فكانوا يرزحون تحت وطأة نيران العدو الغزيرة. لا أدري كم دقيقة مرّت قبل أن يهبط "فرمزياري" التل ثانية ليصل إلي ويقول: "انسحب إلى تل 'كله قندي' بأي طريقة".


لا أعرف ما الذي دفعه للعودة إلي! كان ضوء النهار قد سطع بشكل كامل. ربما رأى صعوبة الوصول إلى "سلمان كشته" في ظلّ هذه الأوضاع. توكأت على سلاحي ومشيت إلى أن وصلت أسفل تل "كله قندي". يرتفع تل "كله قندي" حوالي 200 متر، لذا كان صعوده لأحد في مثل حالتي أمرًا شاقًّا بل مستحيلًا. وصلت إلى شق التل، التفتُّ أثناء تسلقي إلى أن العدو قد استقر في التلال المواجهة بالقرب من
 
 
 
 
93

82

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 الجسر الذي عبرنا من تحته، وبذلك يكون قد فُصل بيننا وبين خط دفاعنا الرئيس. وبسبب غزارة نيران العدو تموضعت معظم قواتنا أسفل الوادي. ظننت أن من واجبي صعود تل "كله قندي" مع ما فيه من مشقّة، لأنه أفضل من البقاء هنا. سحبت نفسي رويدًا رويدًا لأصل إلى أعلى التل، في النهاية وصلت إلى حيث استقرّ بعض الإخوة من فصيلنا منهم: "خير الله مطلبي"، الذي ينادونه بـ "خير الله،" وعجوز يُدعى "غلام علي فرهادي"، إضافة إلى مسؤول فصيل من كتيبة "المهدي"، ورامي "آر بي جي" لا أعرف اسمه، وعدد آخر من المقاتلين الذين انتشروا هنا وهناك وهم يطلقون النار. كنت أبحث عن مكان مشرف على الوادي، يكون مناسبًا لإطلاق النار. ما إن جلست، حتى جاء "خير الله" وتموضع بجانبي، على الرغم من قلّة عددنا، وعلى الرغم من جراحي، إلا أنني لم أشعر بالخوف، ولم يَغب عن بالي أبدًا شعار العمليات "يا أبا الفضل العباس". كنتُ مؤمنًا أنّه لولا عناية أهل البيت عليهم السلام لما تمكنّا من الصمود في وجه عدو مجهّز بشكل كامل طوال هذه المدة. استمرّت الاشتباكات العنيفة في مختلف الاتجاهات. فجأة! علا صراخ "خير الله" متألّمًا فقد أصابت بطنه رصاصة. كان من أهالي مدينة "هريس". فأخذ يئنّ باللهجة المحلّية. لا أدري لِمَ أثار ذلك ضحكي!


- لِمَ تضحك؟! هيا اربط لي بطني.

لففت بطنه بالضمادة من فوق ثيابه، وقلت له: "هيا يا 'خيرالله'! هيا انزل للأسفل وإلّا ستتعرض للأسر إن بقيت هنا وأنت على هذه الحال!"

وضع خير الله يده على بطنه وأخذ يهبط التل، ما إن ابتعد عدّة
 
 
 
 
94

83

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 خطوات، حتى حُلّت ضمادة بطنه، وراح يجرّ خلفه لفافة بيضاء، ضحكنا جميعًا لرؤية هذا المشهد، بالرغم من تلك الظروف.


لم تمرّ دقائق حتى علا صوت الإخوة ثانية: "لقد جُرح فرمزياري". لم أستطع البقاء مكاني، جررتُ نفسي إلى حيث أشار الإخوة. لقد شقّت شظية قذيفة هاون صدره وكانت الدماء تسيل منه بغزارة. ها هو الشخص الذي لم يهدأ أو يستكِن لحظة واحدة منذ انطلاقنا، قد سقط بين أصحابه مُعفّرًا بالدماء.

فتح عينيه، كنت أنا ومعاونه "أسد رجب بور" بقربه.

- ضمّد لي جرحي.

قال هذا بصوت ضعيف وغاب عن الوعي. حاولت تضميد جرحه بمنديل مثلث الشكل، لكن من دون جدوى، كان النزيف حادًّا، فابتلّ المنديل بسرعة. حاولنا نقله إلى مكان آمنٍ، لكنّني كنت عاجزًا عن الحركة. لذا طلبنا من اثنين من الإخوة نقله إلى أسفل الوادي، فذهبا به ولم يعودا.

تناقص عددنا وما عاد يتجاوز عدد أصابع اليد، وكأنّ الحوادث لا تنفك تتوالى. انتابني شعور عجيب. كان رذاذ المطر يتساقط بهدوء، فامتزج تجهم الطقس بالشعور بالتعب والألم والضيق. هزّني صراخ أحد الإخوة، التفتّ نحو مصدر الصوت، فرأيت النيران تشبّ برامي "الآر بي جي"، إثر إصابة رصاصة لجعبة القذائف التي كان يحملها على ظهره. هزّ كياني صراخه الموجع، كنت أبعد عنه حوالي 20 مترًا، استجمعتُ كلّ قوتي بيدي وزحفت نحوه. كان ينظر إلي ويصرخ متوسلًا: "النجدة!..
 
 
 
 
95

84

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 النجدة!.."، لكن النيران كانت قد التفّت حول جسمه ولم أعد أستطيع فعل أيّ شيء. لقد خدش وجهه بأظافره من شدّة ألمه، فأحدث فيه أخاديد سالت منها الدماء، ثم ما لبث أن خمد صوته وهمدت حركته. غصصت بالبكاء لهول ذاك المشهد المؤلم. وكم أضجرني صوت الأخ "حبشي" على جهاز اللاسلكي الذي أُصيب بشظية فتعطّل ولم يعد يعمل كما يجب، فكنّا نسمع صوته ونداءه المتكرر لنا، لكنّه لم يكن يسمعنا مهما صرخنا. يئست من المحاولة، فتركت الجهاز جانبًا، وذهبت إلى مكان مشرف على الوادي. كان الرتل العراقي يتسلق تل "كله قندي". بذلت أقصى جهدي لأقف على قدمي، وأطلق النار نحوهم. شعرت بضيق كبير. كانت الغيوم الرمادية تملأ السماء، والمطر يهطل بلا انقطاع. لم ألتفت إلى الرصاص الطائش من حولي ولا إلى قذائف الهاون المتساقطة هنا وهناك، ولا لصرير قذائف "الآر بي جي" التي أثارت حفيظتي، بل بقيت واقفًا أطلق النار. كنت أنا وثلاثة إخوة فقط، والأعداء يصبون نيرانهم نحونا من "سلمان كشته". ما عدت أفكر بأي شيء، كان كلّ همي بعد نفاد الرصاص مني هو الالتحاق بركب الإخوة المضرّجين بدمائهم أمام ناظري.


رأيت رتلًا عسكريًا من عناصرنا يتسلقون الجهة الأخرى للتل. لقد أرسلوا كتيبة "الشهيد بهشتي" إلى تل "كله قندي" لمساندتنا، لكن لم يتسلق التل أكثر من 30 عنصرًا، أمّا الباقون فتحصّنوا أسفل الوادي، إمّا بسبب الجراح، أو بسبب الخوف. كنت أنتظر وصول القوة، التي لم يسلم منها الكثير وذلك لإصابتهم إمّا بالرصاص أو بالشظايا. بلغ عددنا
 
 
 
 
96

85

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 مع الأفراد الجدد 155 عنصرًا، لكن نيران العدو ما فتئت تشتدّ علينا في كل لحظة. لم تكن القوات التي وصلت حديثًا إلى المنطقة على دراية بالوضع. كانوا مرهقين بعد المسير الطويل والشاق الذي قطعوه، وقد أُثخن أغلبهم بالجراح. في تلك الأوضاع، ظننت أن الحل الأنسب هو النزول إلى تل "كله قندي". لكنني لم أستطع فعل ذلك بسهولة. عندما رأى أحد قادة الفصائل أنني بقيت وحيدًا أعلى التل، صاح بغضب "هيا انهض واغرب عن وجهي، لِمَ بقيت هنا؟".


كان العراقيون يتسلقون التل، وكنت أرفض فكرة وقوعي أسيرًا بين أيديهم، كما إنّني لم أكن قادرًا على السير بهذه القدم الجريحة. جلستُ على الأرض، مددت قدمي وبدأت بسحب جسمي بيدي. كنت أنزلق على الأحجار، عندما وصلتُ إلى الوادي، كان العراقيون قد وصلوا أعلى تل "كله قندي". لم تكن حدة نيران العدو لتهدأ لحظة واحدة، لكنني لم أبالي بذلك أبدًا، جعلت سلاحي عكازي، واتجهت نحو الجسر. كان العدو الذي يسيطر على التّل يصب نيرانه على الوادي. عندما رأيت المقاتلين الذين أقعدهم الخوف، نائمين في ظل صخور الوادي، غضبت كثيرًا، وخاصة أنني لم أشاهد بينهم أيّ أحد أصيب بجراح أشد وأخطر من جراحي. لا أدري لمَ بقوا هناك! ناديت من أعرفهم بالاسم: " .. حاول أن تنهض لتنسحب من هنا، سيصل العراقيون سريعًا، إمّا لقتلك وإما لأسرك".

أنا جريح! اذهب أنت فأنا لا أستطيع الحركة.

أزعجتني توصيات بعض الإخوة الاحترازية كثيرًا.
 
 
 
 
97

86

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 - انبطح أرضًا، إنهم يُطلقون النار. هل تعتقد أنك تستطيع الابتعاد كثيرًا بهذه القدم؟!..


غضبت كثيرًا وقلت لهم:
- هيا انهضوا وانسحبوا. إذا وصل العراقيون فسيقضون عليكم جميعًا.

تحرك بعضهم بصعوبة، في تلك الأثناء، تقدم أحد المقاتلين نحوي وهو يبكي. كنت أعرفه من قبل، إنّه "صابر كلانتري" من مدينة "ميانة" في محافظة آذربيجان الشرقية وكان من فصيلنا.

- لِمَ تبكي؟

- لقد استشهد جميع أصدقائي

- ليس هذا وقت بكاء، تعال وساعدني لننسحب من هنا.

وضعت يدي على كتفه وتابعنا السير. التقيت في الطريق على بعد خطوات، برسول مرجاني، أحد أبناء حيّنا، وعنصر في كتيبة "الشهيد بهشتي"، وكان مصابًا بركبته، فقلت له: "استخدم سلاحك كعكاز مثلي وتحرك"، كان "صفر حبشي" أول من التقيت به هناك، وكان الشخص الذي أستطيع أن أبثّ إليه شجوني. قلت له بغضب والعبرة تخنقني: "ما بكم قابعون هنا، لقد استشهد الإخوة أعلى التل بطريقة مُفجعة، بينما يوجد كل هذه العناصر هنا؟! افعلوا أي شيء! لقد جُرح
 
 
 
 
98

87

خطوة خطوة مع مسلم بن عقيل

 "فرمزياري" أيضًا ولا أدري أين وضعوه"1. تَفَهّم الأخ "حبشي" حالتي. فقال لي بنبرة أبويه: "عافاك الله، لقد أبليت بلاءً حسنًا".


عاد صابر إلى الوادي وركبت أنا ورسول سيارة إسعاف كانت في الجهة المقابلة للجسر لتنقلنا إلى شركة الحفر2. التقيت هناك صديقي القديم "جواد فرزاميان"، الذي ساعدني وأطعمني الكرز المُعلب. كنت في حالة سيئة جدًا، وشعرت أن شيئًا حارقًا ينبض في صدري بدل القلب. نُقلت بعدها إلى مستشفى "باختران" للمعالجة، لكن جراح روحي كانت أشدّ إيلامًا من جرح قدمي المكسورة.
 

1- التقيت "بايرام علي" بعد عدّة أشهر، فحدثني عن تلك الأيام الثلاثة؛ التي قضاها في المنطقة بين الأعداء؛ قال: "كنت عطشان، فشربت من مطرة أحد الشهداء لكن مهما شربت، كانت المطرة تمتلئ بالمياه الباردة مجددًا .." كان بايرام علي فرمزياري، يدوّن مذكراته منذ اليوم الأول للحرب بكلّ دقة في دفتر جيب صغير، لتبقى وثيقة تؤرخ ثماني سنوات من ملاحم شعبنا. حاليًا، خواطر الشهيد ومذكّراته موجودة؛ ويعكف مكتب "أدبيات المقاومة"، على إعدادها للطباعة والنشر.
2- عاد "صابر كلانتري" ثانية إلى الوادي، وتقدم مع عدد من العناصر بينهم الأخ "شجاعي" أحد مسؤولي المجموعات. وقد استشهد هناك بعد مواجهات ضارية مع العدو.
 
 
 
99

88

وحدة الاستطلاع

 وحدة الاستطلاع1


أواخر عام 1982م
ذكريات أول اشتياق الجريح إلى الجبهة، لا تشبه بحنانها أيّ ذكريات..

رحتُ أتطلّع إلى رؤية الأحبة. وأبحث عن "حسين"، وكان عليّ أن أرسم طريقًا موافقًا لقدري.

وعشتُ في عالم التدريبات والحياة العسكرية والمشاكسات غير القليلة وكان أن حملت الأيام لي امتحانات جبهوية غير متوقّعة. واشتعل القلب عزمًا وتصميمًا.
 

1- او وحدة الاستطلاع والمعلومات.
 
 
 
101

89

وحدة الاستطلاع

 لفح الهواء البارد وجهي. سُمح لي بمغادرة المستشفى مع أوامر مشددة بالاستراحة في المنزل، لكنني لم أشأ أبدًا العودة إلى المنزل. كنت أسير وأنا أعرج هنا وهناك على غير هدى. فمنذ أن هربت بتلك الطريقة من المنزل، إلى يوم عودتي، لم أكن أفكر لا بالبيت ولا بالمدرسة ولا المدينة. بعد أن جُرحت في منطقة "سومار"، نُقلت إلى مستشفى "باختران"، ومن هناك إلى مستشفى "سينا" في مدينة "تبريز". غادرت مستشفى "سينا" بعد أن قضيت فيها يومًا كاملًا. لم أكن أعتقد بعد قضاء أشهر قلائل في الجبهة، أنني سأتعلق بها لهذه الدرجة. كنت منقبضًا مضطربًا. كيف سأعود إلى المنزل؟ ماذا أفعل كي لا يعرفوا أنني جُرحت؟ كيف سأعود إلى المدرسة؟ المدرسة التي أضحت مستودع ذكريات العديد من الشهداء أمثال: "صمد بخت شكوهي، منوتشهر سمساري، محمّد باقر" وغيرهم..


وصلت، لا إراديًّا، إلى ساحة الساعة حيث افتُتح معرض للصور في مبنى البلدية، وبما أنني كنت قد نويت تأخير عودتي إلى المنزل بطريقة ما، وجدت المعرض المكان الأنسب لهذا. دخلت المبنى، فوقعت عيناي على صديقي العزيز "محمد محمد بور". سعدنا جدًا باللقاء. كان "محمد" يذهب إلى مدرسة ليلية ويعمل نهارًا في إعلام الحرس الثوري، الذي أقام ذاك المعرض. عندما رأى حالتي، قال لي بلطف: "اذهب إلى المنزل، إلى متى تريد أن تتسكّع في الطرقات وأنت على
 
 
 
 
102

90

وحدة الاستطلاع

 هذه الحال؟ من المؤكد أن عائلتك قلقة عليك".


ما كان باليد حيلة. أوقفتُ سيارة أجرة، وهممت بالركوب، فعلا صوت السائق: "هيا أسرع". اشتد ألم ساقي، ولم أشأ أن يعرف أحدٌ أنني جريح، لذا حاولت الركوب في السيارة برشاقة لكنني فشلت. سألني السائق بعد أن تحركت السيارة عن الأمر، لم أشأ إخباره الحقيقة:
- لا شيء مجرد كسر جرّاء حادث بسيط..

لكن الأمر لم يكن كذلك، لقد ساءت حالتي جدًّا. حاولت أن أتصالح مع نفسي:
- كيف لهؤلاء الناس أن يعرفوا أنني كنت قبل 3 أيام عالقًا بين النار والرماد، وها أنا الآن أعود للتوّ إلى المنزل؟

وصلت إلى زقاقنا. من المؤكد أن أهالي الحيّ قد علموا بذهابي إلى الجبهة. أردت إخفاء إصابتي عنهم. لقد تعلّمت من التعبويين في الجبهة أن أبتعد عن التباهي. كان لإصابتي تبعات أخرى في المنزل، منها صعوبة العودة إلى الجبهة مجدّدًا.

تضاعف قلقي عند رؤية فرحة عائلتي، كأنهم كانوا يقولون مع كلّ نظرة: "الحمد لله على عودتك سالمًا". كنت أصعد السلالم بكل هدوء وأتوقّف عند كلّ خطوة لأقول طُرفة أو شيئًا ما كي لا أثير انتباه أحد فيشعر بتغيير في مشيتي، لكن أختي سارعت للسؤال: "ماذا حدث يا أخي، لِم تسير هكذا؟"

- ماذا؟ لا شيء .. لقد وصلت للتو، فتظنّين أن شيئًا ما قد تغيّر..

حان وقت الجلوس. كانت أعين الجميع مصوّبةً نحوي، مهما حاولت
 
 
 
 
 
103

91

وحدة الاستطلاع

 الجلوس بشكل طبيعي، ما كنت لأستطيع. شعرت بألم شديد، فالجلوس بقدم مكسورة مضمّدة بالجص أمرٌ صعب للغاية. انتبه والدي لذلك:


- ماذا حدث يا ولدي العزيز؟

- لقد زلّت قدمي عند أوّل الزقاق، فسقطت أرضًا. وهي تؤلمني قليلًا.

بكى والدي حزنًا، ثم غيّر أفراد العائلة الموضوع. بعد ساعة، اصطحبني أخي "رضا" بحجّة ما إلى الغرفة المجاورة، لم يعد من فائدة للإنكار. أخبرته أنّني جُرحت وأنّني خرجت صباحًا من المستشفى. أصرّ على رؤية الجرح. شعرت بالخجل، لكنه ألحّ على رؤيته، وكم سُررتُ لأنني أُعفيت من توضيح ظروف إصابتي للآخرين.

مرّت الأيام، كان أخي يصطحبني باستمرار لتغيير الضمّادات. شُفي جرح قدمي تدريجيًّا. لكنني ضقت ذرعًا، فلا المدرسة ولا الحيّ ولا المنزل، استطاعوا تعويض ما أشعر به في جبهات القتال. لقد لمستُ الصفاء والنقاء الذي يتمتع به الإخوة في الجبهة، لا وجه للمقارنة مع الأيام العادية والرتيبة لأهل المدن الذين لا يعرفون شيئًا عن الحرب، سوى ما يسمعونه في وسائل الإعلام.

بقيت في مدينة تبريز مدة 45 يومًا، كنت أشعر بالندم كلّما حدّثت أهلي فيها عن العودة إلى الجبهة. بالرغم من أنّ حدّة الاعتراضات قد خفّت عن السابق، إلّا أنّهم كانوا قلقين بسبب عودتي جريحًا بعد كلّ مرّة ألتحق فيها بالجبهة. لكنّ حُلمًا راودني في إحدى الليالي، دفعني للعودة إلى الجبهة مهما كلّف الثمن. رأيت أنّني ذهبت إلى المدرسة،
 
 
 
 
104

92

وحدة الاستطلاع

 فشعرتُ بيد رَبَتَتْ على كتفي، التفتُّ إلى الوراء فرأيت الشهيد "منوتشهر سمساري".


قال لي: "لِمَ بقيت هنا؟ هيا لنذهب معًا". لم أذهب معه، لكن "خليل صبوري" ذهب برفقته1.

مرت عدّة أيام قبل سماعي أنباءً عن إرسال دفعة جديدة من المتطوعين إلى الجبهة. ذهبت مجدّدًا في كانون الأول 1982م، أي بعد شهرين من البُعد عن الجبهة، إلى صفوف المتطوعين. كان قلقي في مكان آخر هذه المرة، سمعت كلامًا عن إرسال قوات إلى جبهة "كردستان". كنت أدعو الله أن يكون الخبر مجرّد شائعة، لكن الخبر كان صحيحًا. عندما عجزت عن إقناع نفسي بالذهاب إلى جبهة كردستان، ذهبت إلى الأخ "عوض محمدي" الذي كان مسؤول الإرسال (الإيفاد) إلى الجبهات تلك الأيام:
- أريد الذهاب إلى الجنوب. أريد أن أكون مع الإخوة في فرقة "عاشوراء"، فقد كنت هناك سابقًا.

ذهب إصراري أدراج الريح. وكانت النتيجة أن ذهب الجميع بينما عدت أنا أجرّ أذيال الخيبة ورائي إلى المنزل.

لجأت ثانية إلى "محمد" الذي تفهّم ما أنا فيه. كان "محمد" منغمسًا بمشاكل عائلته المادية، يجب عليه أن يعمل ليساعدهم في تأمين
 

1- تحقق الحلم في عمليات خيبر، والتحق خليل بركب الشهداء مفقودي الأثر، وجد جثمانه بعد عدّة سنوات ودفن قرب ضريح أخيه الشهيد "محمد صبوري" في وادي الرحمة وذلك في محرم 1998م.
 
 
 
 
105

93

وحدة الاستطلاع

 متطلبات الحياة، في حين كنتُ أسيرَ قلبي التوّاق للعودة إلى الجنوب وليس إلى أي مكان آخر. تحدثتُ إليه وقرّرتُ الذهاب إلى الجنوب وحدي. كنت أفكر أنه ربما التقيت بأشخاصٍ مثلي رفضوا الذهاب إلى جبهة "كردستان"، فأرافقهم إلى الجنوب. كان "محمد" حاضرًا دومًا للمساعدة. سُرعان ما حصلتُ على عنوان مقرّ فرقة "عاشوراء" في "باختران". اتّبعتُ الخطة السابقة في ترك المنزل، وانطلقت بحجة ما نحو الجنوب. كنت في الطريق أفكر بصبر "محمد" وبالجبهة التي جذبتني فعشقتها بجنون.

 

 

106


94

وحدة الاستطلاع

 انطلقتُ بالحافلة إلى "باختران" مع ثلّة ممن شدّهم عشق فرقة "عاشوراء". لحسن الحظ، كنت أعرف مكان مقرّ "لواء عاشوراء" الذي تحوّل إلى "فرقة عاشوراء"، فقد كان في المدرسة نفسها التي تدرّبتُ على جهاز اللاسلكي فيها قبل عدّة أشهر. ذهبنا إلى هناك وبتنا ليلتنا.


علمت أنّ "حسين نوري"1، وهو من دُفعتي ذاتها، قد التحق بوحدة الاستطلاع، وكي لا أبقى وحيدًا، وحتى أكون مع صديق المدرسة في مكان واحدٍ، حفظت اسم "وحدة الاستطلاع" لأذكره عندما يسألونني في قسم إعادة الهيكلية والتوزيع، عن القسم الذي أريد الالتحاق به.

ذهبت في الصباح إلى "قهرمان زارعي" مسؤول توزيع القوات.

سألني، بعد أن تناولنا أطراف الحديث، وهو يُقلّب صفحات ملفّي "إلى أيّ قسم تريد الذهاب؟".

- إلى وحدة الاستطلاع. أريد الذهاب إلى وحدة الاستطلاع!

أجبته بكل ثقة وقوة، وكأنّني عملت لمدة طويلة في تلك الوحدة. كنت أفكّر في أعماقي، ماذا لو سألني عن طبيعة عمل وحدة الاستطلاع؟ بماذا سأُجيب حينها؟ فأنا لا أعرف شيئًا عن وحدة الاستطلاع غير ما سمعته هنا وهناك، عن قيام عناصرها باستطلاع مناطق العمليات العسكرية، وإرشاد قوات الاقتحام والهجوم ليلة العمليات، كان هذا كلّ ما أعرفه. بينما كان الأخ "زارعي" يُقلّب أوراق ملفي، كنت أدعو الله أن
 

1- حسين نوري: كان قد شارك معي في عمليات "الفتح المبين".
 
 
 
107

95

وحدة الاستطلاع

  لا يسألني شيئًا عن الاستطلاع. الحمد لله أنه لم يسألني سوى: "لكن هل تستطيع العمل هناك؟"


- أجل بالطبع، لِمَ لا؟!

نظر ثانية إلى ملفي وقال:"لقد جُرحت أيضًا"!

- لقد تعافيت الآن ولا أُعاني من أي مشكلة.

أغلق الملف وكتب رسالة توصية إلى وحدة الاستطلاع، فغمرني سرور وبهجة. سألته: "وأين يقع مقرّ وحدة الاستطلاع؟"

- عليك الذهاب إلى "دزفول"، إلى منطقة "صفي آباد" حيث مقرّ وحدة الاستطلاع.

حملت حقيبتي وركبت سيارة متجهة إلى "دزفول". وفي الطريق إلى "صفي آباد" نسجت في مُخيلتي ألف صورةٍ وصورةٍ لوحدة الاستطلاع، ولم أنسَ أمر البحث عن "حسين نوري". 

توقفت السيارة وترجّلت منها. كنت أتفقدُ المكان من حولي حين قال أحدهم: "هنا الأركان". كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بكلمة أركان، بالطبع لم أهتمّ لمعرفة ما هو ولا ما هي وظيفته، كنت أبحثُ عن وحدة الاستطلاع في كل مكان، لذا كنت أنظر داخل كلّ غرفة وأسأل:
- السلام عليكم. هل وحدة الاستطلاع هنا؟

- لا، بل هي في الطابق السفلي تحت الأرض.

- المعذرة يا أخي، هل وحدة الاستطلاع هنا؟

- الاستطلاع؟ لا! أعتقد أنه عليك الصعود إلى فوق والذهاب من ذلك الاتجاه ..
 
 
 
 
108

96

وحدة الاستطلاع

 - المعذرة! هل تعرف أين وحدة الاستطلاع؟ أين "حسين نوري"!..


كنت أبحث في الغرف وحقيبتي في يدي، حتى إنّ بعض الإخوة لم يتكبّدوا عناء النظر إليّ، بل أتحفوني بإجابات مقتضبة إلى أن وجدتُ من يرشدني في النهاية. علمت فيما بعد أنّه مساعد الأركان، حيث أشار إلى جهة وقال: "هذان يريدان الذهاب إلى مقرّ قوات الأخ 'أسد قرباني'1 رافِقْهما، ومن هناك تستطيع الوصول إلى وحدة الاستطلاع بسهولة". يا للوحدة الغامضة، إذ لا يعرف أيّ من العناصر الموجودين هنا شيئًا عنها. لا أدري ماذا كنت سأفعل لو لم ألتقِ ذاك الرجل! كنت أفكر بهذا الأمر من دون أن ألتفت إلى مدى أهمية السرّية في هذه الوحدة التي لا يؤثر عملها على الفرقة فحسب، بل على سير المعارك والحرب ككل. رأيت شخصين أمام شاحنة ال"تويوتا" الصغيرة:
- المعذرة، هل تعرفان مكان وحدة الاستطلاع؟

قلت هذا وأبرزت لهما رسالة التوصية، ثم أضفت قائلًا وقد تسلّلت إلى صوتي نبرة الغرور: "لقد فُرزتُ إلى وحدة الاستطلاع".

نظرا إليّ وإلى الرسالة، قال أحدهما: "سننطلق بعد ساعة، انتظر هنا".

ركبنا ثلاثتنا في شاحنة التويوتا الصغيرة، دار محرّكها وراحت تنهب الأرض نهبًا. انتقلنا من "دزفول" إلى "شوش"، وشاهدت في الطريق مقام النبي "دانيال". عبرنا الموقعين (2و3) اللذين حُرّرا في عمليات
 

1- أسد قرباني هو مسؤول التخطيط حينها.
 
 
 
109

97

وحدة الاستطلاع

 الفتح المبين، عبرنا "شوش" من دون أن نتوقف فيها، وكانت قرية "تشنانه"1 محطتنا التالية. بعد عبورنا القرية، صرت أقارن بين ما أراه وما أذكره من عمليات "الفتح المبين". عندما رأيت الرمال، تذكرت تلك الليلة: عدة كيلومترات من السير، حقول الألغام.. أدركت نوعًا ما أننا وصلنا إلى منطقة "الرقابية". توقفت التويوتا في منطقة تبعد حوالي 3 كلم من قرية "تشنانه"، على قطعة أرض تبلغ مساحتها حوالي 2 كلم مربع محاطة بساتر تُرابي.


- هيا ترجّل، هنا مقرّ "فرقة عاشوراء".

كانت هذه الكلمة جديدة على مسمعي. كان مقرّ "فرقة عاشوراء" عبارة عن خيمتين ومتراس على شكل عنبر، سُمّي متراس قيادة الفرقة.

أدركت أنّه إذا سرنا مسافة 3 كلم تقريبًا إلى الشرق من المقرّ، فسنصل إلى مضيق "الرقابية" ومنطقة هجوم العراقيين قبل عمليات "الفتح المبين". شعرت بالسعادة عندما رأيت المنطقة الواسعة والهامة التي خسرها العدو الجبان في عمليات "الفتح المبين".

دخلت خيمة التخطيط والعمليات. جاء "أسد قرباني" الذي سمعت اسمه في مقر الأركان من قبل، قدّمني أحد الإخوة إليه، فقال لي: "انتظر هنا". كان مع ثلاثة أشخاص منكبّين على الورق يرسمون خطوطًا متعرّجة ومعوجّة متنوّعة. لم أعلم ماذا كانوا يفعلون، كما إنّني لم أجرؤ على سؤالهم عن عملهم. اعتقدت أنّه شيء يشبه الخريطة. علمت بعد ذلك
 

1- چنانه: chinaneh.
 
 
 
110

98

وحدة الاستطلاع

 أنّهم كانوا يحضّرون مخطّط العمليات. صارت الشمس في كبد السماء، وأنا ما زلت جالسًا بصمتٍ وانتظار أمام المتراس، إلى أن سمعت أنّهم يريدون إرسال الطعام إلى وحدة الاستطلاع. ها قد انتهت فترة الانتظار!


- هيا لنذهب يا أخي، فوحدة الاستطلاع إلى الأمام من هنا قليلًا.

قلت لنفسي: "إلهي! لمَ الوضع هكذا هنا؟" كنت أحيانًا أفكّر بحسين الذي أوصلني البحث عنه إلى هنا، وهل إنّه تكبّد كل هذا العناء للوصول إلى وحدة الاستطلاع مثلي؟

على بعد مسافة من المقرّ شمالي مرتفعات "ميشداغ"، بالقرب من مضيق "الرقابية"، تموضعت وحدة الاستطلاع على تل رمليّ تعلوه شجرة ضخمة، حيث الخِيَم والصمت! حلّ وقت الظهيرة وقد امتزجت الرياح الخريفية بحرارة الشمس. لم يعترض طريقي أحدٌ أو يسألني عن سبب وجودي. دخلتُ إحدى الخيم التي أوى إليها عدد من الإخوة.

- المعذرة، لقد ألحقوني بوحدة الاستطلاع، فماذا عليّ أن أفعل؟

- اذهب إلى الأخ "تمكيني".

سألت هذه المرّة أيضًا، هذا وذاك، إلى أن وجدت الأخ "تمكيني".

- المعذرة أنا...

أخذ رسالة التوصية مني. سألني عن اسمي والمعلومات الشخصية الأخرى، ثم دوّنها: "كم هو عدد العمليات التي شاركت فيها؟ كم مرة تطوّعت في الجبهة؟".
 
 
 
 
111

99

وحدة الاستطلاع

 عندما انتهت عملية الاستجواب قال لي: "انتظر في الخارج لأرشدك إلى خيمتك".


رأيت ثلاثة أشخاص يجلسون تحت الشمس بالقرب من إحدى الخيم. تصوّرت أنهم من وحدة الاستطلاع، وأنّه عاجلًا أم آجلًا سأتعرّف إليهم. لذا سرت نحوهم. لم يكن لدي ما أفتتح به الحديث معهم. عندما اقتربت منهم، شعرت أنّ وجه أحدهم مألوفًا عندي، كنت أحاول أن أتذكر اسمه عندما ناداني: "من أي مدينة أنت؟".

- من "تبريز"

- ومن أي حيّ؟

- "مُفتح"

- هل تعرف مسجد "شكلّي"؟

- أجل!

- إذًا لا بد وأن تعرف مسؤوله "رحيم صارمي"!

تذكّرت في الحال أنه "رحيم صارمي" نفسه. كان العنصران الآخران، طوال مدة حديثنا يضحكان بصوت خافت وباستخفاف. لقد ظنّا أنّهما يهزآن بولد صغير. صحيح أنّه لا لحية لي، إلا أنّني أشعر أنّي كبير بما يكفي كي لا أكون موضع سخرية واستهزاء الآخرين. أردت إفهامهما من بداية الطريق أنني لست ذاك الولد الضعيف العاجز:
- أجل أعرفه

- ومن هو؟

ما إن سألني "رحيم صارمي" هذا السؤال، حتى أجبته، باللغة
 
 
 
 
112

100

وحدة الاستطلاع

 التركية، ومن دون أي تردّد: "إنه إنسان طائش".


تغيرت ملامح وجهه فجأة من البشاشة والابتسام إلى التجهّم والعبوس، بينما تعالت ضحكات صديقيه، شعرت حينها بلذة الانتقام وتابعت طريقي. كانت التربة رملية. وكلما توغلت أكثر، ازداد إعجابي بطبيعة المكان، ومن خلال التدقيق ببعض أجزاء التربة الصلبة، أدركت أنّ المطر قد هطل قبل عدة أيام. كان الهواء العليل يلفح وجهي ويعبث بشعري.

على مسافة من الخيم، رأيت شابًّا في مثل عمري تقريبًا. راقبته عن كثب فأعجبتني تصرفاته، كان يصوّب فوهة سلاحه الكلاشينكوف نحو مدخل جُحر الجرذان - حيث تكثر في تلك المنطقة - ويطلق النار عليها، وأدركت، كلّما سمعت صوت ضحكته المرتفعة، أنه تمكّن من إصابة أحدها. أخذت زمام المبادرة هذه المرة، فرؤية شاب في مثل عمري في وحدة الاستطلاع رفعت من معنوياتي. كانت المشاعر على ما يبدو متبادلة، لذا سُرعان ما أصبحنا أنا و"جلال مجيدي" صديقين. كانت الشمس تميل للغروب، عندما وصلت دراجة نارية إلى المكان، توقفت قرب متراس القيادة، وترجل منها عنصران ودخلا المتراس. كانا من قوات الاستطلاع ويُدعيان: "عبدي"1 و"حميد نجاد"2. ويبدو أنهم أطلعوا الأخ "عبدي" على رسالة التوصية بي، وأخبروه أنّني عنصرٌ
 
 

1- كان الأخ عبدي في ذلك الوقت مسؤول وحدة استطلاع الفرقة، ونال وسام الشهادة في عمليات والفجر 1-.
2- حميد نژاد: nejad.
 
 
 
113

101

وحدة الاستطلاع

 جديدٌ كما طلب الأخ "حميد نجاد" ضمّي إلى عناصره.


وهكذا، تبعت مسؤول الفريق الأخ "حميد نجاد" إلى خيمته. كان في الخيمة عناصر جُدد غيري، وعنصر من فريق الاستطلاع السابق يدعى "فرج فلاح". كان فعالًا ذكيًا مشهودًا له بالدقة، لذا أحببته أكثر من غيره.
 
 
 
 
 
114

102

وحدة الاستطلاع

 في اليوم الثاني لوجودي في وحدة الاستطلاع، جمعنا الأخ "عبدي" وقال لنا: "أنتم عناصر جدد في وحدة الاستطلاع، وبالتالي عليكم تلقي التدريبات اللازمة". انتقلنا في اليوم نفسه بآلية عسكرية، قطعت بنا مسافة20 كلم من الأراضي الرملية التي أعاقت حركة السيارة وأبطأتها، إلى أن وصلنا إلى مقرّ الفرقة في "تشنانه" حيث مركز التدريب. لفت نظري، عند مدخل حراسة المقر، صاروخ طويل مرفوع على قارعة الطريق.


عندما ترجّلنا من السيارة أُمرنا بنصب خيمتين. تعاونّا على تجهيزهما، وكان الأخ "رحيم سرودي" مسؤول فريقنا المؤلف من 15 عنصرًا. علمت من خلال الأحاديث التي سمعتها أمرين، أولًا: إنّ وحدة الإعلام والتشكيلات التابعة لقيادة الفرقة هي معنا في المكان نفسه، وثانيًا: إنّ المقر قد تعرّض منذ مدة قريبة لصلية من الصواريخ البالغ طولها 33 أمتار، اثنان منها لم ينفجرا، فرفع حرس المقر أحدهما على مدخل المقر من دون تفكيكه لإضفاء هالة ورهبة على المكان. لحسن حظّنا، فإنّ موقع تدريبنا قريبٌ جدًا من عنبر القيادة، هكذا كنّا نلتقي القادة باستمرار. كان الأخ "مهدي باكري" منشغلًا بتنظيم الألوية: (1و 2 و9)، وقلّما يحضر إلى المقر1، وكنّا نراه مرةً كلّ يومين تقريبًا.

لم أدع البحث عن "حسين"، إنما لم يكن أحد يعرفه هناك.
 

1- يضم اللواء 1-، كتيبتي "علي الأكبر والحر" - اللواء 2-، كتائب: "شهيد المحراب، علي الأصغر، القاسم ومسلم بن عقيل". عُرف اللواء 9-، بلواء "أبي الفضل العباس"، وكان "حميد باكري" قائده. يضم اللواء 9-، متطوعي مدينة "أردبيل".
 
 
 
115

 


103

وحدة الاستطلاع

 - عجيب! تُرى في أيّ وحدة استطلاع التحق؟!


علمت في النهاية أنّه التحق بوحدة استطلاع كتيبة "القاسم". لم ألتقِ "حسين نوري" لفترة طويلة من الزمن، لكنني تعرّفت إلى حسينٍ آخر، سُرعان ما أصبحنا صديقين حميمين، إنّه "حسين صفا شور". أُصيب في إحدى يديه ففَقَد العصب والحسّ بشكل كلّي، لكنه لم يخبرني أبدًا عن ظروف إصابته1. كنّا نقضي معظم الأوقات معًا، وأثمرت هذه الصداقة شقاوة ضجّ منها المقر. في منطقة عمليات "الفتح المبين"، كان هناك الكثير من مخلّفات المعارك، من رصاص وفتيل صواعق ومتفجّرات. كان حسين على علاقة خاصة بالمتفجرات، فكنّا نذهب هنا وهناك ونكدّس ما نجده من ذخائر فوق بعضها البعض، ثم نشعل بها النار ونختبئ في مكان آمنٍ. وقد وصل بنا الأمر أن نفعل ذلك في محيط المقر.

- ضع هذه الصواعق في أسطوانة قذيفة مدفع فارغة، وأشعل النار بها لنرى النتيجة!

قدّمتُ هذا الاقتراح، وقام "حسين" بالتنفيذ بلا تقاعس. ملأنا أسطوانة قذيفة مدفع كبيرة2، بصواعق قذيفة الآر بي جي وبأحد
 

1- كما لم يخبرنا حسين صفا شور أنه كان مسؤول محور "شوش" في الأيام الأولى للحرب في منطقة سوسنكرد. وأن إصابته تعود لذلك الزمن. كان من القلائل الذين عملوا في الظل من دون التباهي بطبيعة عملهم، وقلّة هم الذين عرفوه حق المعرفة قبل انتهاء الحرب. استشهد في ك2 من عام 1988م في جبال "ماووت" الجليدية، في عمليات بيت المقدس 2-.
2- يبلغ طول أسطوانة قذائف المدفع الفارغة، حوالي 80 سم، وقطرها 10 سم، وهي مصنوعة من النحاس الأصفر وتضم في داخلها صاعق القذيفة الرئيس، وتحمل على فوهتها القنبلة المدفعية المنفجرة.
 
 
 
 
116

104

وحدة الاستطلاع

 صواعق القنابل الطويلة1، ثم أغلقنا فوهتها بالطرق عليها بواسطة حجرٍ كي لا يخرج الدخان منها. أشعلنا النار بها، واختبأنا خلف الساتر الترابي. ما إن احترقت الصواعق، حتى أصدرت دويًّا مُرعبًا، وأخذت بالدوران على الأرض والقفز إلى الأعلى والأسفل عدّة مرات. كان دويّها قويًا جدًا، فساد الهرج والمرج في المقر، كلٌّ يحاول الاختباء هنا وهناك. لم يخرج أحد من مخبئه لعدة دقائق ظنًّا منهم أنه قصفٌ مُعادٍ بنوع جديد من الأسلحة، فهم لم ينسوا بعد القصف العراقي الذي استهدفهم قبل مدة. في الحقيقة لم نتوقع أن يكون لقذيفتنا اليدوية كلّ هذا الفعل. خرجنا من مخبئنا خجلين ودمجنا أنفسنا مع الباقين.


- فعلةُ مَن هذه؟ لِم تفعلون هذا يا عباد الله2؟
كان السيد "مهدي باكري" يتكلم بانزعاج شديد، فلم نجرؤ أنا وحسين على رفع رأسينا. تصرفنا كأن لا شأن لنا بما حدث، لكننا آلينا على أنفسنا أن لا نعيد الكرّة داخل المقر.

بعد عدّة أيام ذهبنا نحو الصاروخ العراقي الذي لم ينفجر، وكان يبلغ طوله 3 أمتار تقريبًا، تعاونّا على رفعه كالسارية، ثم ابتعدنا عنه مسافة 100 قدم. تشارطنا على إصابته برصاص الكلاشينكوف، من دون الالتفات إلى احتمال انفجار الصاروخ بأقلّ ضربة. لحسن الحظ لم تُصِب رصاصاتنا الصاروخ، وإلّا لانتشرت شظاياه في المنطقة كلها. ذاع
 

1- يكون شكل معظم صواعق القذائف، كقلم الرصاص بطول 30 سم تقريبًا وقابلة للكسر. وتؤثر في قوة ومدى القذيفة. كانوا يضعون عددًا منها في كيس خاص ليستخدموها كصاعق للقنابل وفي بعض الأحيان كان المقاتلون يستخدمونها لإشعال الحطب وغيره.
2- كانت كلمة "عباد الله" محطّة كلام مهدي باكري الدائمة.
 
 
 
117

105

وحدة الاستطلاع

 صيتنا بين الإخوة في المقر، وأصبحنا نبدي الآراء ونقدم الاقتراحات. في تلك المرحلة، جرى التداول بين الإخوة أنّ جميع إمكانات الوحدة تذهب بالكامل إلى عناصر "الاستطلاع" المقيمين في تلّ الشجرة، فلا يصلنا منها شيء، سواء من الدرّاجات النارية، المذياع، المعاطف، الثياب، المواد الغذائية أو غيرها.


في أحد الأيام، تشاورت أنا وحسين صفا، وذهبنا مباشرة إلى مسؤولنا "رحيم سرودي":
- سيد رحيم، هل تسمح لنا بالذهاب ليلًا، للسطو على خِيَم وحدة الاستطلاع في تل "الشجرة"؟!

- لا بأس، هذا جيد!

في تلك الليلة، انتظم العناصر الخمسة عشر في رتل، وسرنا نحو مخيم تل "الشجرة" الذي حددناه سابقًا على الخريطة، وقد استعنّا بالبوصلة وآلة قياس الدرجات. اخترنا طريقًا مُختصرًا، مبتعدين عن الطرق التي نسلكها عادة. كان الأمر رائعًا. فمشهد الأشجار والأعشاب البرية، الوادي والتلال الرملية، تحت ضوء القمر، وسكون هذا الليل، جميل جدًا، كما كان لمرافقة الأصدقاء في عملية الاستطلاع والهجوم "الإسلامي" هذا، لذة اختبرتها للمرة الأولى في حياتي. توقفنا عندما بدا لنا تل "الشجرة". كانت خيم الوحدة أسفل التل، ولا وجود لأيّ حراسة من حولها. تحلّقنا حول بعضنا. رسم "رحيم" خريطة تقريبية للمكان بيده على الرمال:
- هنا خيمة القيادة، وهنا خيمة المؤن، و.. يتركز عملنا على هاتين الخيمتين.
 
 
 
 
118

106

وحدة الاستطلاع

 - لا تنسوا المذياع يا أصدقاء!


- من سيتصدى لمهمة إحضار المذياع؟

تطوع حسين للمهمة. فكّرنا بموضوع الضجة المحتملة التي سترافق الحصول على المؤن والتجهيزات الأخرى، ووجدنا حلًا للمشكلة. فمسؤول المؤن الأخ "إيلائي"، ينام عادة في خيمة المؤن. قررنا أن نقف عند رأسه حاملين الكوفيات، فإذا استيقظ وحاول الصُراخ، سنربط يديه وقدميه ونكمّ فمه بها. اتجه الجميع لتنفيذ مهامهم. أحضر اثنان الدراجتين الناريتين، وأحضر "صفا شور" المذياع، حملت أنا وبكل هدوء 15 معطفًا وكلّ ما وجدته من لباس عسكري نظيف، كما أحضرنا 100 علب من التمر وبعض الأغراض والحاجيات الأخرى. التقينا في المكان والزمان المقررين. وضعنا الأغراض الثقيلة على الدراجتين وعدنا أدراجنا نحو مقرنا في "تشنانه". بعد ساعة أخفينا الأغراض المنهوبة في المقر، لكننا لم نجد مكانًا مناسبًا لإخفاء الدراجتين فركنّاهما قرب الخيمة.

لم تكن الشمس قد سطعت بعد، عندما دخلت سيارة مسرعة إلى المقر. ترجّل الأخ "إيلائي" من السيارة، نظرنا إليه وشاهد هو الدراجتين. غضب كثيرًا، وبدأ يصرخ ويتوعد بلهجة أهل "مُراغة" التي ينتمي إليها وقال: "من أحضرهما إلى هنا..؟!" فقلنا له بلهجة صاحب الحق: "نحن من أحضرهما. أنتم لم تعطونا إياهما ففكرنا أن نأخذ حقّنا بأيدينا.."

عندما تيقّن الأخ "إيلائي" أنه لن يستطيع فعل شيء معنا، ذهب إلى
 
 
 
 
 
 
119

107

وحدة الاستطلاع

 الأخ "مهدي باكري" الذي كان يتوضأ1. كانت أخبار "مشاكساتنا" قد شاعت في المقر كلّه، لدرجة أن كلّ عمل شقاوة كان يُنسب إلينا، لذا لم نكن نعرف كيف سيكون ردّ فعل الأخ "باكري".


- يا سيد "مهدي"، لقد سطوا الليلة الماضية على خيمنا، فسرقوا دراجتين ومذياعًا وأفرغوا مخزن المؤن.

كان "إيلائي" يشكونا وهو غاضب، بينما كان صوت الأخ مهدي هادئًا:
- تعال معي لأرى ما الأمر.

تقدم ثلاثة من العناصر المشهود لهم بالشقاوة. سألهم السيد "مهدي" قبل كلّ شيء: "كيف ذهبتم إلى هناك؟"

- لقد ذهبنا يا سيد "مهدي" مستعينين بالبوصلة، فكان تدريبًا لنا. أخذنا الأغراض وعدنا بقياس الدرجات عكسيًا.

أدركنا من نظراته، أنه لم يغضب، بل اندهش من عملنا، ثم ضحك وقال: "أعيدوا إحدى الدراجتين والمذياع، واحتفظوا ببقية الأغراض فهي من حقّكم، هيا!".
 

1- كان معظم الإخوة في الجبهة يبقون على وضوء، ومنهم الأخ باكري الّذي كان على وضوء في كلّ الأوقات.
 
 
 
120

108

أول استطلاع

 أول استطلاع


أوائل عام 1983م
إنه استحقاقٌ من نوع آخر. هل سيكتشف العدو وجود أفراد وحدتنا. أم هل ستحقق أهدافها من دون اصطدام؟

في هذه المرحلة من حياة الجبهة خاض الشبّان حقول الألغام من عدة أنواع. كان علينا تجاوز الحرب النفسية والإعلامية، وكذلك الشائعات التي تَحرِفُ وعيَ المعنويات عن مساره. وجرت بعض الأمور في سياق غير محسوب. ووجدت مثل "حسين"..
 
 
 
 
 
121

109

أول استطلاع

 كان تردّد الإخوة المتزايد إلى المقر، وكذلك كثرة الاجتماعات في خيمة القيادة ينبئان بقرب موعد بدء العمليات.


في أحد الأيام، خرج الأخ "عبدي" والأخ "رضا أحمدي" من خيمة القيادة ودخلا إلى خيمتنا. كان معهما صورة جوية لإحدى المناطق، وكانا يتحدثان ويشيران إلى نقاط عليها، وبما أنّني عنصر جديد في وحدة الاستطلاع، فمن الطبيعي أن يعتقدا أنني لا أفقه شيئًا ممّا يقولانه. انشغلا بالحديث، وكانت بعض أسماء المناطق التي يذكرانها مألوفة لديّ. وضع "رضا أحمدي" يده على الصورة:
- هنا ميشداغ، وهنا سهل الرقابية، وهذه طريق..

أمْعنتُ النظر في الصورة، واستطعت أن أكوّن في ذهني صورة مجسّمة لمنطقة عمليات "الفتح المبين".

كانت أسماء بعض المناطق مدونة على الصورة، فتذكرت المنطقة في الحال: - انظر هنا يا أخ "أحمدي"، هذه القناة، وهذا سهل "خلف شمبل"، وهنا..

- وهل تعرف هذه المناطق؟!

- لقد شاركت سابقًا في العمليات في تلك المنطقة.

نظر "رضا أحمدي" إليّ، وإلى الصورة ثم إلى الأخ "عبدي":
- أخ عبدي، أريده في فريقي.

رافقت الأخ "أحمدي" إلى مقر الاستطلاع في تلّ "الشجرة". كنت
 
 
 
 
 
122

110

أول استطلاع

 أفكر في الطريق، ماذا لو كانت معلوماتي عن المنطقة غير دقيقة وافتُضح الأمر؟! لقد درسوا المنطقة حديثًا، وعندما سمعوا كلامي ظنّوا أنني أعرفها جيدًا. في الحقيقة، كنت أتمنى ذلك، إذ كنت من الشبان اليافعين الذين لم تنبت لحيتهم وشاربهم بعد، ممّن لا يُؤخذ برأيهم في المواضيع الحسّاسة. لكن الأخ "أحمدي" هو من كان يدفعني للأمام.


شكّلنا أنا و"حسين صفا شور"، مع "رضا أحمدي، رحيم صارمي، علي رضا، حسن زاده، فيروز وفوري والسيد صادق عيوضي"1، النواة الأولى لوحدة استطلاع اللواء الثاني في فرقة "عاشوراء". كانت الأوامر تقضي بتشكيل وحدة استطلاعٍ لكلّ لواء. تولينا في هذا الفصيل تشكيل وحدة استطلاع اللواء. كان جميع عناصر الفريق ما خلا "فيروز وفوري" وأنا، من العناصر القديمة الذين أثبتوا جدارتهم مع مرور الأيام. كان كلّ ما يُقال لنا في الأيام الأولى، لا يتعدى المعلومات العامّة حول عملية الاستطلاع لأي منطقة. كانت بعض الأسماء مألوفة لديّ، لكنّ بعض الأمور الجديدة كانت تثير عجبي. علمت على سبيل المثال، أن للجيش في هذه المنطقة خطًا دفاعيًا نشروا الدبابات على طوله2 بحيث تبعد الدبابة عن الأخرى مسافة 22 كلم، وخَلَت هذه المسافة من أي قوة أو حراسة، فقلت في نفسي: "ألم يخطر ببال أحدهم، أن العدو قادر على إدخال جيش جرار من خلال هذا الفراغ بين الدبابتين؟! أم أنهم يعلمون
 

1- السيد صادق عيوضي: لقد سمعنا الكثير عنه على ألسنة قادة الفرقة، وكان الأخ مهدي يثق به كثيرًا حتى عندما كان في سن 18 أو 19 سنة، كان الأخ مهدي يقول: "إذا قال السيد عيوضي إنّه سيدخل خطوط العدو بفانوس مضاء ويشتبك معهم، فأنا أصدقه لأنه كان يُقرن أقواله بالأفعال.
2- علمتُ فيما بعد، أنّ ما نُسميه دبابات، كان عبارة عن مدافع محمولة على مدرعات.
 
 
 
123

111

أول استطلاع

 لكن لا حيلة لهم بسبب نقص العدّة والعديد؟!"


تقع نقطة مراقبة (رصد) "الشهيد بهشتي" على تل يرتفع 70 مترًا. يبلغ ارتفاع أعلى تل في المنطقة 82 مترًا تقريبًا، وكان العراقيون قد وضعوا عليه نقطة للمراقبة. ذهبت إلى هناك أنا والسيد "صادق عيوضي" عدّة مرات بهدف الرصد والاستطلاع، وتمكّنا خلال ذلك من معرفة مدى استراتيجية المنطقة وحساسيتها1.

كنت أظن أنّ تسلل مجموعة من ثلاثة أو أربعة عناصر إلى قلب العدو واستطلاع المكان عملٌ لا يقدر عليه أيّ كان. تقرر - قبل أن أتمكن من بث هواجسي إلى أحدهم - أن أذهب في أول عملية استطلاع.
 

1- تمتد المنطقة شمالًا من مخفر "دويرج" والأراضي المحيطة به، جنوبًا من مخفر "صفرية" وغابة "عمقر"، شرقًا من الجزء الغربي لمرتفعات "ميشداغ" وغربًا من محيط "طاووسية" إلى مخفر "صفرية". كان علينا عبور مضيق الرقابية، من مكان يُسمى "درب الدية"، وعبور التلال الرملية لنصل إلى سهل "خلف شمبل"، ومن ثم نقطع مسافة 4 كلم تقريبًا لنصل إلى مكان يسمى أرضال1-، ومن هناك وعلى بعد كيلومتر واحد نصل إلى أرضال2-، ثم نقطع مسافة 4 كيلومترات أخرى لنصل إلى مقّر "الشجرة"، المكان الذي اشتُهر بـ"الشجرة" عبارة عن تل رملي تعلوه شجرة "سدر" وحيدة. ليس تلّ "الشجرة" آخر المطاف، بل علينا التقدم مسافة 2 كلم لنصل إلى التلال الرملية، إلى مكان يُسمى "الخال"، الذي كان معبرًا للمهربين فيما مضى، هناك تبدأ تحصينات العدو، حيث نصب كمائنه على التلال الرملية المطلّة على سهل "خلف شمبل"، داخل التحصينات وحقل الألغام. يمتد حقل الألغام والتحصينات غربًا لمسافة كيلومتر واحد. وتقع عند نهاية الحقل، كمائن العدو الكثيرة المتصلة بمعظمها بعضها ببعض، والتي تشبه إلى حدٍّ كبير خطوطنا الدفاعية، يلي الكمائن طريق يربط مخافر الحدود الإيرانية ببعضها، وقد سقطت بأيدي العدو. يبلغ عمق وعرض أول قناة للعدو 6م ممتدة على طول الخط الدفاعي، من "تشزابة" إلى "فكة وأبو غريب". طول هذه القناة أكثر من 60 كلم تقريبًا، يليها تحصينات وحقول ألغام أخرى، ممتدة بعمق 2 كلم، يليهما القناة الثانية الشبيهة بالأولى، ومن ثم خط الدفاع الأول للأعداء. تقضي مهمتنا استطلاع كل هذه التحصينات والحقول والكمائن ومحاور التسلل.. وقد حصلنا على هذه المعلومات تدريجيًا خلال عمليات الاستطلاع.
 
 
 
124

112

أول استطلاع

 شرحوا لنا قبل الانطلاق، استراتيجية المنطقة وأهميتها، وأعطونا صورة توضيحية لأهم وأعلى تلالها، كما أعطونا إرشادات أمنية عن كيفية التصرف إذا وقعنا في الأسر.


انطلقنا من سهل "الرقابية"، على الطريق الذي يصل منطقة آبار نفط "بيت راشد" بـ"بيت بيس"، ويمرّ بمحاذاة "تشنانه". كان علينا السير مسافة 6 كلم في الرمال لنصل إلى "درب الدية"1، وهو الطريق الوحيد الذي يربط سهل الرقابية بسهل "خلف شمبل"، حتى نصل بعدها إلى مكان قريب من منطقة الاستطلاع، حيث يوجد معبر كان يستخدمه المهربون قبل الحرب. عمدت قواتنا بعد عمليات "الفتح المبين"، وبالرغم من قلّة الإمكانات في العديد والعتاد، إلى نشر المتاريس والكمائن في نقاط متفرقة من التلال الممتدة على جانبي أخدود "درب الدية". ومن ثمّ بهدف جمع المعلومات، كان ينبغي علينا التوغل في مناطق مجهولة بالنسبة إلينا.

كانت تلك أول عملية استطلاع أشارك فيها. انطلقنا عند الساعة العاشرة صباحًا بقيادة الأخ "علي رضا حسن زاده". سرنا بحذر شديد، ودخلنا المنطقة من "درب الدية"، ثم تقدّمنا مسافة 3 كلم، إلى أن وصلنا إلى (أرضال 1)2 المغطاة بأشجار السدر. انحرفنا نحو الغرب وتابعنا السير مسافة كيلومتر ونصف الكيلومتر تقريبًا، إلى أن وصلنا إلى مكان مشابه يُسمى (أرضال2). تابعنا السير في الاتجاه نفسه، وبعد
 

1- 1 درب الدية باللهجة المحلية وتعني طريق الطيور.
2- 2 أرضال تعني باللهجة المحلية الشجرة.
 
 
 
125

113

أول استطلاع

 مسافة 55 كلم تقريبًا، وصلنا إلى شجرة سدرٍ وحيدة، كانت تلك الشجرة نقطة نهاية المرحلة الأولى من عملية الاستطلاع. عند الساعة الثالثة بعد الظهر عدنا إلى مقرّنا في تل "الشجرة" من دون تسجيل أي حادثة تُذكر.


أما ثاني عملية استطلاع شاركت فيها فقد جرت ليلًا، وكان السيد "عيوضي" قائد الفريق هذه المرّة، لم تكن الطريق العسكرية قد شقّت بعد، فاضطرنا للذهاب سيرًا على الأقدام حتّى "درب الدية". مع أن عديدنا وعتادنا في تلك المنطقة لم يكن كافيًا حتى لتشكيل كمين واحدٍ، إلا أنّها اعتبرت خطنا الدفاعي.

كان تلّ (أرضال1) و (أرضال2) وشجرة السدرِ مألوفين لديّ، لكن عندما تابعنا السير من شجرة السدر حتى "الخال"، شعرت بخوفٍ عجيب. كان "الخال" كدرب الدية، ممرًا رمليًا مناسبًا للمهربين الذين يعبرون الحدود. وكان قد نصب العدو الكمائن على التلال المحيطة بـ"الخال" وزرعها بالألغام.

صحيح أنّني شاركت من قبل في عمليات ليلية، واشتبكت مع كمائن العدو، إلا أنّ عددنا كان هذه المرّة قليلًا، فكرت ماذا سيحدث لو انتبه العدو لوجودنا؟!

المسافة الفاصلة بين شجرة السدر و"الخال" زادت عن الكيلومترين. كانت الكثبان الرملية تحاصر المنطقة، فبدت وكأنها عالقة بين فكّي كماشة. كان دخولنا المنطقة من "درب الدية"، وكأننا صرنا بين فكّي الكماشة، ووصولنا إلى "الخال" كأننا خرجنا منها. كنت كلما اقتربنا من "الخال"، زاد خوفي، فقد نصب العراقيون الكمائن على التلال
 
 
 
 
 
126

114

أول استطلاع

 القريبة. اقتربنا كثيرًا لدرجة يمكن معها رؤية أنوار المصابيح الضعيفة. أصبحت الأماكن متشابهة، ولا يمكن معرفة الاتجاه الصحيح إلاّ باستخدام البوصلة. كانت الأرض بِكرًا، ومن الواضح أنّه لم تكن قد جرت أيّ معارك فيها حتى تلك اللحظة. أدت أمطار فصل الشتاء إلى نمو الأعشاب البريّة في أطراف التلال. وقد زُرعت المنطقة بالأشجار بهدف وقف زحف الرمال، كما رُشّت بعض المناطق الرملية بواسطة الطائرات بمادة (الزفت)، للغاية نفسها.


توقف الأخ "عيوضي" بالقرب من "الخال" وقال: "هناك احتمال كبير لوجود حقل ألغام بعد منطقة 'الخال'، لذا أقترح أن يتقدمنا شخص على دراية بالألغام ليكون حاضرًا إذا حدث أمر ما، أخشى إن أصابني مكروه أن تتوهوا (وتتوقفوا عن عملكم) في هذه المنطقة الجديدة عليكم، فليتطوع أحدكم للمهمة". لقد تدربنا على تفكيك الألغام، لكن تفكيكها في هذا الظلام الدامس يحتاج إلى مهارة خاصة. تطوع "حسين صفا شور" للمهمة بكل شجاعة وثقة، فتقدّمَنا وتبعناه. بعد أن قطعنا مسافة كيلومتر واحد داخل "الخال"، بدأ الظلام بالانحسار شيئًا فشيئًا ليحل ضوء النهار، فلم يعد بالإمكان الاستمرار بعملية الاستطلاع، لذا عدنا أدراجنا وذهب عنّي رُهاب الاستطلاع الأوّل لي.

تكررت مشاركاتي في عمليات الاستطلاع. كنّا نذهب إلى منطقة "الخال" باستمرار، فننجز عملنا ونعود من دون أيّ مشكلة تُذكر. في الواقع، تقع أغلب الحواجز والسدود في ما يلي منطقة "الخال". كنت عندما أسير مسافة 9 كلم من "درب الدية" إلى "الخال"، وأتذكر
 
 
 
 
 
127

115

أول استطلاع

 توجيهات المسؤولين، أقول في نفسي: "إنهم يهوّلون علينا كثيرًا، فكيف لنا القيام بالمهمة مع كل تلك الاحتياطات المطلوبة؟!"


لاحظت في إحدى المرات آثار مرور "جيب عسكري" من منطقة "درب الدية" إلى "الخال"، فسألت صديقي: "ماذا يفعل الجيب هنا؟ نحن نسير مسافة 6 كلم إلى "درب الدية" ونعود على ذات الطريق مع أخذ الحيطة والحذر، بينما يشقّ الجيب طريقه إلى هنا بهذه البساطة..؟!

- بالتأكيد هو للعراقيين! فمن المستحيل أن يجازف الإخوة بالمجيء إلى هنا.

علمنا بعد عدّة أيام، أن قادة الحرس الثوري، ومنهم الأخ "حسن باقري" قائد مشاة الحرس آنذاك، قد وصلوا بسيارة جيب إلى نقطة "شجرة السدر". زادت جرأتي بعد تلك الحادثة، وقلت في نفسي: "لن تتمكن وحدة الاستطلاع من إنجاز مهمتها إذا بقي الخوف يتملّكها بهذا الشكل!".
 
 
 
 
128

116

أول استطلاع

 حدث مرة أثناء عملية استطلاع منطقة عمليات "والفجر" التمهيدية، أن اصطدمنا بتحصينات وموانع قوية مثبتة بطريقة هندسية. لقد مُدّت الأسلاك الشائكة أولًا، يليها حقل ألغامٍ يشمل: الألغام المضيئة، ألغامًا مضادةً للأفراد والمجموعات، وألغامًا مضادةً للدروع. يلي حقل الألغام 200م من الأرض الخالية من أيّ شِراك أو حواجز، لتعود الأسلاك الشائكة بالظهور مجددًا، يليها حقل ألغامٍ ثانٍ يشبه الحقل الأول، ثم 2000م من الأرض الخالية، وهكذا دواليك لمسافة كيلومتر واحد على طول خط جبهة العراق. نصل بعد هذه الحواجز المفخّخة إلى القناة الأولى، التي يبلغ عرضها 6 أمتار، يليها حواجز مشابهة لما قبلها بعمق (1 - 2) كلم، وتضم حقول ألغام وأسلاكًا شائكة كثيفة ممتدة على طول الخط. يوجد خلف القناة الثانية مختلف أنواع الحواجز والأسلاك الشائكة1، حيث يقع خط الدفاع الأول للعدو. إضافة إلى ذلك، وعلى مسافة كلم تقريبًا، تقع الكمائن أو قوات الحرس الحدودي للعدو، الذين توزعوا واستتروا بشكل جيد.


كانت تحصينات مواقع العدو تعتمد على هندسة عسكرية دقيقة، وكانت مثيرة للدهشة بالنسبة لنا نحن الذين نخوض الحرب بطريقة أشبه بحرب العصابات. كانت تلك المنطقة استراتيجية بالنسبة للعدو
 

1- حفظ العدو بهذه الأقنية والحواجز الممتدة من منطقة تشزابه والجبهة الوسطى، خطوط جبهته الوسطى والجنوبية. كانت تشزابه متصلة من الجهة الأخرى بهور الهويزه، وتشكل طوق- خطّ دفاعٍ متكامل للعدو.
 
 
 
129

117

أول استطلاع

 لأسباب عديدة، منها: وجود آبار نفط "بزركان"1، ومدينة العمارة حيث يمّر طريق عام العمارة - البصرة خلف تلك التحصينات والأقنية، وهو الطريق الوحيد الذي يربط مناطق شرق العراق بجنوبه الشرقي. يشكل "هور الحمار" الذي يقع خلف خطوط العراقيين، سدًا طبيعيًا يحول بينهم وبين شقّ طريق جديدة في المنطقة. في الحقيقة، كان الهدف من عمليات "والفجر" التمهيدية، إيجاد ثغرة في الجبهة الشرقية والجنوبية الشرقية للعدو، إضافة إلى قطع طريق البصرة - العمارة لضمان عدم وصول فرق إسناد للعدو وإعاقة تدعيم جبهاته الجنوبية. الأمر الآخر الذي يضاعف من حساسية المنطقة، وجود جسر "العُزير" على نهر دجلة، والذي يشكل جزءًا من طريق العمارة - البصرة. ولأهميته يكفي الإشارة إلى أن لواءً عراقيًا كان مولجًا بحماية هذا الجسر. يعتبر تفجير الجسر، من دون احتلال المنطقة، نجاحًا كبيرًا بالنسبة لنا. وسيتكبّد العدو الكثير من الوقت والجهد والإمكانات الضخمة لبناء جسرٍ آخر2. ومع الوقت طُمست معالم الطريق التي تربط بعضها ببعض.


هكذا، شكّل العراقيون خط دفاعهم على طول الحدود الإيرانية - العراقية.

كنّا ذلك اليوم على التل "70" في نقطة "الشهيد بهشتي" للمراقبة، عندما رأينا الإخوة الذين ذهبوا لاستطلاع منطقة "تشمو"3، يركضون
 

1- بزركان: bozorghan.
2- تقع مخافر الحدود الإيرانية التي دُمّرت خلال الحرب بشكل كاملٍ، داخل تحصينات العدو.
3- چمو: chamoo.
 
 
 
 
130

118

أول استطلاع

 باتجاهنا وهم يصرخون، ومن خلفهم سيارة جيب تتجه بسرعة نحو المقر أيضًا.


- انظروا، سيارة الجيب تتعقب الإخوة!

رأيت "علي رضا حسن زاده ورحيم صارمي" عبر المنظار. كان "علي رضا" يركض وهو يُفرغ الماء من مطرته! ويصرخ قائلًا: "استعدوا! استعدوا!"، شعرنا جميعنا بالقلق، وهبطنا التل بسرعة. عندما وصل الجيب أسفل التل وتوقف، عرفنا أنهم شباب استطلاع المقر. كان الإخوة يلهثون لطول المسافة التي قطعوها ركضًا، ظنًّا منهم أنّ العراقيين يلاحقونهم.

سمعنا من عناصر الفرق الأُخرى العاملة في المنطقة، أنهم اصطدموا بقوات الاستطلاع العراقية عدّة مرات، وآخر الأخبار كانت عن وقوع أحد عناصر وحدة استطلاع من فرقة (الرسول 27) أسيرًا بيد العراقيين.

مع مرور الزمن، واجهنا نقصًا في عديد قوات استطلاع اللواء، لقد أظهر بعض العناصر مهارة ولياقة في عملهم، أما البعض الآخر لم يكن قادرًا على الاستمرار، إلى أن أرسلوا إلينا عناصر جديدة، معظمهم لا يعرف شيئًا عن طبيعة عملنا، فكنّا ننظر إليهم باستغراب.

- كيف يمكن لمن انضم حديثًا إلى صفوف المقاتلين، أن ينضم إلى هذه الوحدة؟!

كأنني وبعد مرور عدّة أشهر من التحاقي بالوحدة قد نسيت أو تناسيت، أنني لم أكن أعرف حتى معنى كلمة "وحدة الاستطلاع"، ولا طبيعة عملها، وأنّ البحث عن صديقي هو من أوصلني إليها! من
 
 
 
 
 
131

119

أول استطلاع

 العناصر الجديدة التي انضمت إلى وحدة استطلاع (اللواء2): "مهدي تجلائي1، مهدي دالاني، محسن أصمعي، مهدي سلمان بور، محمد رضا بني حسن وحسين نوري". بعد وصول هذه العناصر، أصبح الأخ "رضا أحمدي" مسؤول وحدة استطلاع "اللواء2"، واختار عنصرين مساعدَين له هما: "بني حسين" معاونًا تنظيميًّا، و"رحيم صارمي" معاونًا عملياتيًّا (عسكريًّا) قتاليًّا. هذا وأُعطيت سيارة خاصة للوحدة. كانت الأوضاع، بتعبير الإخوة، في تحسّن دائم، استمرت التغيرات والتحولات، وقرّر الحرس الثوري إنشاء فيالق قتالية. ولهذا الهدف أنشأ فيلق (القدر 11)، وهو مشكّل من ثلاث فرق: فرقة (الرسول27)، فرقة (عاشوراء 31)، وفرقة (نصر5). كان مسؤول وحدة استطلاعِ فيلق (القدر11)، الأخ "حسين الله كرم"، ومسؤول استطلاع فرقة (عاشوراء 31): "مسعود شجاعي فر". سُرعان ما التحق عناصر وحدة استطلاع "فرقة الرسول بمقر "تل الشجرة"، ومنذ ذلك الحين أصبحنا نُنفذ المهام بشكل مشترك. عهد إلى مجموعة عناصر وحدة استطلاع "فرقة الرسول"، مهمّة إرشاد وتوجيه قوات "فرقة عاشوراء" الهجومية، وقد التحقت مجموعة من عناصر وحدتنا بقوات "فرقة الرسول" لإرشادهم وتوجيههم ليلة الهجوم.


في بعض الأحيان، كان الأخ "حسين الله كرم" يتحدث ويخطب في قوات استطلاع فيلق (القدر 11)، وكان للوعود التي يطلقها عند تحقق
 
 

1- وهو الأخ الأصغر لعلي تجلائي الذي استشهد في عمليات والفجر التمهيدية -.
 
 
 
132

120

أول استطلاع

 الانتصارات، أثر طيب على نفوسنا. ربما أحسّ أن هذه الوعود ستؤثر إيجابًا على عمل الإخوة، فأغدق علينا الوعود بالترقية وتولّي المناصب.


كانت وسائل إعلام العدو تتحدث عن انتصارات لم يُحقّق أيّ منها بعد! كما كان يعلن عن أسماء ادّعى أنّه أسرها. عندما علمت أنّ اسمي قد ورد من ضمن لائحة الأسرى، أُصبت بالإحباط، كنت أفكر إلى أيّ مدى تغلغلت وتوسعت شبكات التجسّس العراقية في صفوفنا؟! لقد قرأوا لائحة بأسماء مئتي عنصرٍ من عناصر (اللواء 2) في "فرقة عاشوراء"، من بينهم اسمي واسم "محمد باقر مشهدي عبادي"1. كانت تلك الأخبار في إطار الحرب النفسية التي تؤثر سلبًا على معنويات المقاتلين، وعلى نفسية الناس في المدن الذين يسمعون أخبار الحرب من الوسائل الإعلامية فحسب. لم تقتصر الحرب النفسية على الأخبار الملفّقة في الإذاعات، بل سَرَتْ شائعات وهمهمات (أقاويل) غريبة بين الإخوة أيضًا.

كنّا قد تردّدنا قبل بضعة أيام إلى كتيبة "القاسم". كنّا بالتزامن مع تقدّم عمليات الاستطلاع، نصطحب قادة الكتائب والسرايا إلى المنطقة ليتعرفوا إليها عن كثب.

كانت كتيبة "القاسم" من الكتائب الهجومية، التي تولّيت مهمة الاستطلاع فيها. كنت أعرف قائدها "ياسر زيرك" ومعاونه "محمد باقر
 

1- كان الشهيد محمد باقري مشهدي عبادي، قائد كتيبة الإمام الحسين عليه السلام، في عمليات خيبر حيث حاصره العراقيون هو وعناصره، لكنهم استمروا بالقتال حتى آخر طلقة، فسقطوا بين شهيد وأسير. وقد وجدت أجساد الشهداء الطاهرة أثناء عمليات البحث بعد انتهاء الحرب.
 
 
 
133

121

أول استطلاع

 مشهدي عبادي" من قبل، فكان وجودهما ذريعة جيدة لي لأزور الكتيبة باستمرار. في أحد الأيام، عندما دخلت خيمة القيادة تفاجأت بارتفاع وتيرة الضحك وتبادل الأحاديث.


قال أحدهم: "أجل.. لقد رأى أحدهم إمام الزمان!".

- ما هذا؟ وهل أصبحت رؤية إمام الزمان مثيرة للضحك؟

- هذا لأنك لا تعرف القاعدة التي وضعها!، فقد قال: "قوموا بالعمليات لكنكم ستُهزمون لأنكم لا تقرأون دعاء الحجة!

- وقال آخر إنّ إمام الزمان أخبره أنه في القناة خلف "براميل الفوغاز"1.

ذُهلت للمعلومات التي يملكها الإخوة، فأيٌّ من عناصر الكتائب لم يخبر شيئًا عن القناة أو براميل الفوغاز تلك! ونشرُ مثل تلك المعلومات قبل الموعد المحدد لبدء العمليات سيؤدي إلى إفشاء أمرها. لكن وصلَ الأمر إلى أن أضحت المعلومات الكلية والتفصيلية على ألسنة الجميع. مع الأيام، لم يعد مُدّعو زيارة إمام الزمان ينبسون ببنت شفة. دخلت في أحد الأيام خيمة القيادة حيث أحضروا لي أحد المدّعين لإرشاده وتوجيهه، كان يتظاهر بالبُكم ويكتب ما يريد قوله: "لن أتحدث إليكم لأنكم لا تقرأون دعاء الفرج".

- لكن يا أخي، لا يليق بمن يزور الإمام، وحفاظًا على هذه العلاقة،
 

1- كانت براميل "الفوغاز" والشبكات المنفجرة من الأمور التي صادفناها لأول مرة أثناء عمليات والفجر التمهيدية. كان العراقيون يملأون براميل الصفيح سعة 20 ليترًا، بالمواد المنفجرة وبصاعق تفجير، وكانت تحترق عند تفجيرها.
 
 
 
134

122

أول استطلاع

 أن يتحدث بهذه الأمور هنا وهناك فتفقد قُدسيتها.


كثيرًا ما كنّا نكرّر هذا الكلام، وقد أثرت هذه الخزعبلات بشكل سلبي، إلى درجة أنّ العناصر لم تعد تُطيع كلام المسؤولين، لقد عرف هؤلاء نقاط ضعف الإخوة واستغلّوها. كان بعض الإخوة يصدق كلام أولئك المدّعين المتسلحين بالعطور لدعم ادعاءاتهم، وكانت المعلومات الصحيحة وغير الصحيحة والخرافات، تنتشر بين العناصر بشكل كبير. سمعتُ أن أحد رجال الدين قال أثناء إقامته للصلاة: "لا تخافوا على الإطلاق، فهو ليس بالعمل الصعب. ما هي إلا قناة وحقل ألغام وأسلاك شائكة، والقليل من السير على الرمال، ما إن تعبروها حتى تدمّروا العدو وتُبيدوه". دُهشت كثيرًا! فقد كان كلامه أقرب لجلسة تحضيرية للعمليات منه للخطبة بين الصلاتين.

وصلتنا أخبارٌ عن أمور مشابهة حدثت في كتائب وفرق أُخرى. كان واضحًا أن هذه الأحداث تُغذّى من مصدر واحد.

ادّعى عنصران في (اللواء 1) من الفرقة، رؤية إمام الزمان، وانتشرت معلومات جديدة عن العمليات بين العناصر، وما لبث أن ادّعى أحد أفراد وحدة الاستطلاع رؤية إمام الزمان أيضًا، وكالعادة، رافقه نشر معلومات جديدة.

اتُخذت خطوات أكثر جديّة من أجل إخماد تلك الأخبار، وبأمرٍ من قادة الفرق، أُلقي القبض على عددٍ من مروّجيها في "فرقة عاشوراء". جُلدَ بعضهم وطُرد آخرون من الجبهات. وهكذا خبتْ حُمّى الشائعات والادّعاءات.
 
 
 
 
135

123

أول استطلاع

 مع الأيام، أصبحت الكتائب أكثر جهوزية للعمليات، والتدريبات أكثر جديّة ومتناسبة مع العوائق وكيفية عبورها. تَضَمّن برنامج التدريب اليومي، ساعات من السير بالعتاد الكامل. في بعض الأحيان عندما كنت أتواجد في خيم الإخوة في كتيبة القاسم، كنتُ أسمَعهم يقولون: "لدينا مناورات الليلة". كانوا يذهبون ليلًا ويعودون مع صلاة الصبح، وكانت تلك التدريبات ضرورية لاكتساب المهارات البدنية اللازمة للمشاركة في العمليات. حُلّت مشكلة عبور العوائق والقنوات، باستخدام السلالم، فقد تقرّر أن يحمل كل فصيل معه سُلّمين بطول 6 أمتار، ولكن عندما أدركوا صعوبة ذلك، استُعيض عنه بسُلّمين بطول 3 أمتار. كانت السلالم في معظمها حديدية ثقيلة، باستثناء عدد قليل منها كان مصنوعًا من الألومنيوم، وكنّا نحملها مع العتاد الشخصي والذخائر. كنت أفكر كثيرًا بهؤلاء الإخوة الذين يقطعون مسافات طويلة على الرمال وهم يحملون هذه الأثقال. ومن ثم عليهم عبور الحواجز والاشتباك مع الكمائن، وتطهير الخط (خط الاشتباك) و..، فهل إنّ القوات الهجومية قادرة حقًا على القيام بكلّ ذلك؟!

 

 

 

 

136


124

الرمال الدامية

 الرمال الدامية


شتاء 1983م
بين المزيد من عمليات الاستطلاع والمهام العسكرية المتلاحقة. استوجبت المرحلةُ التفكيرَ بالابتكارات.

واندلعت من شرارة هدفي أشعة لأهداف بعيدة المدى.. وراح الطريق يمتلئ بالجراح والجوع وبرقِ الموت فوق الرؤوس.
 
 
 
 
137

125

الرمال الدامية

 في الأيام الأخيرة، حدّدت خطوط عمل القوات المشاركة. في البداية، تقرّر أن تدخل فرقة (نصر 5) إلى المعركة من الجناح الأيمن لفرقة عاشوراء، لكن سُرعان ما ألغي القرار، وأصبح لفرقة "نصر5" جناح أيمن خاص بها. وتقرّر أيضًا أن يدخل (اللواء 2) في فرقة "الرسول" مع كتيبتي "حجر" و"كُميل"، إلى المعركة عن يسارنا الذي يقع جنوبي منطقة العمليات. كان محور عمليات كتيبة "حِجر" حتى نقطة "الخال الأيسر"1، مشتركًا معنا، ومن هناك كانت وجهتنا يمينًا ووجهتهم يسارًا. حُدّدت مهام ألوية الفرق المشاركة في العمليات، فكانت منطقة عمليات (اللواء 2)، بين مخفري الطاووسية والرشيدية العراقيين، وحتى عمق 9 كلم داخل أراضي العدو، وتبدأ من حدود الحواجز إلى الطريق الذي يربط المخافر العراقية بعضها ببعض. هناك، علينا إقامة خطّ دفاعي، وساتر ترابي في الجناح الأيمن على زاوية 270 درجة. الغاية من بناء الساتر الترابي، هي صَدّ كلّ هجوم محتمل للعدو من جهة "فكة"، ومنعه من اختراق جناحنا. شكّلت كتيبتا "القاسم" و"شهداء المحراب" كتيبتي الهجوم والاقتحام لفرقة "عاشوراء"، وتوّلت كتيبتا "مسلم وعلي الأصغر" مهمّة إسنادهما، كما عُهد إلى (اللواء 99) مهمة متابعة العمليات بعد إتمام المراحل الأولى.

 

1- يُعرف "الخال الأيسر" أو الخال الجديد، بنقطة المقتل "فكة" اليوم، وهو محلّ استشهاد العديد من الجرحى الذّين وُجدت أجسادهم أثناء عمليات البحث التي جرت بعد سنوات من انتهاء الحرب، وهو أيضًا محلّ استشهاد "مرتضى آويني" عام1992م.
 
 
 
138

126

الرمال الدامية

 ليلة ما قبل العمليات، ذهبنا في عملية الاستطلاع الأخيرة. وقرّرنا بهدف تسريع التعّرف إلى وجهتنا ليلة الهجوم، الاستفادة من سلك صاروخ "ماليوتكا"1. كان تدبيرًا احترازيًا جيدًا، حتى لو رأى العدو السلك، فلن يُخمّن أنّ له بداية ونهاية محدّدة، بل سيظن أنّه ملقًى على الأرض فحسب. وحدهم عناصر الاستطلاع، يعلمون أنّ سلك الصاروخ يمتد بطول 4 كلم من شجرة السدر إلى "الخال الأيسر"، وقد رُبط بعمود زاوية حديدي بالقرب من حقل الألغام، حيث سنشقّ من تلك النقطة ممرًّا لعبور الحقل.


كُنّا نمدّ السلك بكلّ دقة، عندما سمعنا فجأةً صوت رصاص ورشقات رشاش متتالية. ذُهلنا بعض الشيء، ظنًّا منّا أنّهم كشفوا أمرنا. أدركنا بعد عودتنا أن "رضا أحمدي ومحمد راحت" العاملين في محور "الرسول"، قد ذهبا إلى القناة الأولى التي تقع خلف حقل الألغام، وعند عبورهما للحقل صادفا متراسًا، فاتجها نحوه ظنًا منهما أنه خالٍ. دخل "محمد" إلى المتراس فتفاجأ بجندي عراقي ممدّد على الأرض، نظر العراقي بعينين مثقلتين من النُعاس إلى "محمد" الذي أراد أن يخنقه، وصرخ، فانتبه الحارس في الخارج. خلاصة الأمر، لاذ الأخان بالفرار، بينما أطلق الجنديان العراقيان نحوهما تلك الرشقات التي سمعناها وأقلقتنا.
 

1- نوع من الصواريخ الموجهة، المتصلة بسلك خاص مع قاعدة الإطلاق، يُساعد السلك في حال انحراف مسير الصاروخ على تصحيح وجهته.
 
 
 
139

127

الرمال الدامية

 عند العصر، كسر تجمّع القوات سكون "درب الدية". لقد حلّ يوم العمليات1 الموعود. توليتُ مهمة إرشاد (السرية 2) من كتيبة "القاسم" بقيادة "رضا درخشان" ومعاونه "حبيب آذرينا"، تلينا (السرية 1) من كتيبة "القاسم" بقيادة الأخ "سهرابي"، وتتقدّمنا سرية من "شهداء المحراب"، تشاركنا معها المسير حتى حقل الألغام الأول، ومن هناك، اتجهوا يمينًا إلى منطقة عملياتهم. تقدّم "رضا أحمدي" مسؤول إرشاد وتوجيه كتيبة القاسم الجميع، وتلاه فريق التخريب التابع للكتيبة.


ازدادت طلعات العدو الجوية في الأيام الأخيرة، فكانوا يقصفون المنطقة أو يلتقطون الصور، كما كثّفوا من دورياتهم العسكرية. كان كل شيء يُنبئ أنّهم أصبحوا متوجّسين من المنطقة. رغم كلّ ما مرّ بنا حتى ذلك اليوم، كان أملنا أن لا تكون تحركات العدو نتيجة انكشاف أمر العمليات. لم تبدأ الحركة بعد، وإذا بأحدهم يُطلق قذيفة آر بي جي!

- لا أصدّق! آر بي جي.. هنا! في منطقة "درب الدية" وتحت أنظار العدو؟!

قرأت علامات الانزعاج على وجوه جميع القادة والمسؤولين. لقد أطلق أحد العناصر قذيفة "آر بي جي" عن قصدٍ أو عن غير قصد!

بعيدًا عمّا حدث، اضطُررنا وبسبب المسافة الطويلة، للإسراع بالانطلاق، وقبل الموعد المقرر، وكان العدو يُشرف من (تل 82) على قسمٍ من مسير حركتنا.
 

1- بدأت عمليات والفجر التمهيدية بنداء "يا الله يا الله يا الله" بتاريخ 7 شباط 1983م في منطقتي فكة وتشزابه.
 
 
 
140

128

الرمال الدامية

 كانت الشمس ما تزال في كبد السماء عندما انطلقنا، وسار الرتل بين التلال الوعرة. كنت أفكر بالإخوة الذين اضطروا لحمل السلالم مع عتادهم الثقيل. بعد مدة، بان التعب على العناصر، كما زادت جلبتهم وتثاقلت خطواتهم. كان الوصول إلى الطريق الرئيسة وحماية العمليات، كذلك إسناد القوات الهجومية، يحتاج إلى كثير من الوقت. لذا اضطرت القوات لحمل ذخائر وعتاد إضافي يكفي لساعات طويلة من الاشتباك. أرهقنا السير مسافة 16 كلم على الرمال المتحركة. شيئًا فشيئًا أصبحت الطريق أكثر صُعوبة، الحركة أبطأ والأحمال أثقل.


كان المسير مشتركًا لجميع كتائب (اللواء 2)، إلى نقطة شجرة السدر، ومن هناك، تتجه كلّ كتيبة إلى محور عملها. وصلنا إلى شجرة السدر من دون أي مشاكل تُذكر. كُنّا متعبين جدًا. رحتُ أنظر إلى وجه هذا وذاك وأسأل نفسي: "كيف لهذا أن يصل إلى محوره؟!".

كانت شجرة السدر نقطة الانطلاق، كلٌّ إلى محوره. رافقتنا سريتان من كتيبة "شهداء المحراب"، كان على إحدى السريتين متابعة السير بزاوية 270 درجة على البوصلة، ولمسافة 2 كلم أو أكثر لتصل إلى "الخال"، وعلى السرية الأخرى الوصول إلى"تشمو" الواقعة إلى يمين
 
 
 
 
141

129

الرمال الدامية

 "الخال"، وقد انفصلت السريتان عنّا عندما وصلنا إلى شجرة السدر1.


استعدّ عناصر السرية للحركة. شعرت باطمئنان عندما لمست سلك صاروخ "ماليوكا" بيدي. تبلغ المسافة بين شجرة السدر و"الخال الأيسر" حوالي 4 كلم. انصبّ جلّ اهتمامي على تحديد مسيرنا بدقة، في حين يتوجب على مسؤول السرية ضبط العناصر وتقديم تقرير إلى مسؤول الاستطلاع. بعد أن قطعنا مسافة 22 كلم، من طول السلك، خَطَرَ لي أن أسأل عن أحوال السرية، لم ينبّهنا أحد خلال جميع الدورات التدريبية التي شاركنا فيها إلى أهمية هذا الأمر، لكن قلبي لم يكن ليطمئن. كان أحد عناصر وحدة الاستطلاع برفقتي، فقلت له: "عد للخلف واستطلع أحوال السرية".

- لا يوجد خلفنا غير 4 أو 5 عناصر!

صُعقت للخبر، والتفتّ إلى مسؤول السرية وسألته بتعجب: "أين العناصر يا أخ درخشان؟!".

لم تكن دهشته أقلّ من دهشتي! أحسست بوهن في جسدي لهول الأمر.

كانت هذه المرة الأولى التي أرشد فيها القوات، وأتحمّل هذه
 

1- السرايا التي ذهبت إلى "الخال" وصلت في الموعد. لكن تلك التي اتجهت إلى "تشمو" ضلت طريقها. عندما تأخرت العمليات في تلك المنطقة، أدركت بأن خطأً ما قد حدث. وعلمنا فيما بعد أن مسؤول إرشاد السرايا، كان يحمل سلاحًا بقبضة حديدية، ما أثر سلبًا على دقة البوصلة، فضلوا الطريق. بعد مسافة 5 كلم أدركوا الأمر، فعادوا إلى شجرة السدر، ليبدأوا السير من جديد إلى محورهم الذّي يبعد مسافة كيلومترين تقريبًا. أثر هذا الخطأ سلبًا على روحية الإخوة وأدى أيضًا إلى التأخر في بدء العمليات أيضًا.
 
 
 
142

130

الرمال الدامية

 المسؤولية الخطيرة. لن يؤثر خطأنا هذا على عمل سرية الهجوم فحسب، بل على حركة وعمل الكتيبتين أيضًا. في تلك الوحدة والعتمة الحالكة، فكّرنا بالاتصال بالسرية التي كانت تسير خلف سريتنا. فأخبرونا أن عناصرنا يسيرون أمامهم.


تشاورت بالأمر مع مقر الفرقة، وأرسلت صديقي للبحث عن مقدمة الرتل. طالت المدة ليرجع إلينا ثانية. لقد فعل التعب فعله. كان الإخوة يصابون بالنعاس في الطريق، أو يسقطون أرضًا من فرط الإعياء. وإذا ما تأخر أحدهم قليلًا، من دون أن يلتفت مسؤول السرية للأمر، كان الرتل يتفكّك، وتضلّ العناصر في هذا الليل الحالك، بين التلال الوعرة المتشابهة.

بعد أن وصلت القوات إلينا، علمنا أنّهم تأخروا عنا حوالي 300م ولحسن الحظ، كانوا يسيرون في الاتجاه الصحيح. اتصل الرتل ببعضه مجدّدًا، لكنّني قلقت من انفراطه ثانية. كنت أفكّر بطريقة أستطيع من خلالها المحافظة على تسلسل الرتل وتماسكه، فتذكّرت أنّ عناصر وحدة التخريب يحملون معهم أشرطة طويلة من القماش، يستخدمونها لتحديد الممرات وسط حقول الألغام.

قلت لأحدهم: "مدّ شريطًا بطول رتل السرية، وليمسك جميع العناصر به، وهكذا ننتبه فور حدوث أي خلل".

أصبح الإخوة مرهقين جدًا، فقد كنّا عند الانطلاق نقطع مسافة 4 كلم في الساعة، لكنّنا الآن لم نعد قادرين حتى على قطع مسافة 500م في الساعة، وما زال الطريق أمامنا طويلًا لنصل إلى حقل الألغام. ما
 
 
 
 
 
143

 


131

الرمال الدامية

 إن ارتاح بالي لحركة الرتل، حتى وقع انفجار على مسافة قريبة منّا، وفي مسير حركتنا بالتحديد. غضبت كثيرًا، كنت أعلم أنّ سرية من كتيبة "شهداء المحراب" تتقدّمنا1، وقد داسوا، عند بداية عبورهم لحقل الألغام، على لغم عن غير قصد. لو حدث ذلك في ممرّهم لما غضبت لهذه الدرجة، لكن حدث ذلك في ممرّنا نحن وفي هذا الوقت بالتحديد! أسرعنا الخُطى قدر المستطاع. عندما وصلنا إليهم كانوا يطفئون اللغم الملتهب. لقد أصيب كل من "مهدي تجلائي ورحيم صارمي" من عناصر وحدة الاستطلاع، جرّاء انفجار لغم "فالمارا المتوثب". حالفنا الحظ أن كان برفقة السرية عناصر آخرون من وحدة الاستطلاع تولوا مهمة توجيههم فيما تبقى من الطريق، إضافة إلى ذلك كان قائد السرية "محمد محمدي" من الإخوة الحاذقين الأذكياء ويعرف جهة المسير جيدًا، فتابعوا سيرهم وتابعنا عملنا.


كان حقل الألغام ممتدًّا أمامنا. استعد عناصر التخريب في طليعة الرتل للبدء بتفكيك الألغام. نزع "مهدي سالك"2 الأسلاك الشائكة ودخل الحقل، تبعه "رضا أحمدي"3، لمساعدته على تطهير الحقل بسرعة. كان عناصر التخريب على دراية بجميع أنواع الألغام وأشكالها، فأنجزوا عملهم
 

1- حسب الخطة كان عليهم الوصول إلى الحواجز قبلنا، والسير على امتداد التحصينات، خلف التلال الرملية قُرب "الخال". ثم الانتظار قرب المعبر المحدد، ليشتبكوا مع العدو في الساعة المقرّرة.
2- استشهد في عمليات بيت المقدس 2- عام 1987م في جبال ماووت الجليدية.
3- كان من عناصر الاستطلاع في عمليات والفجر التمهيدية. وكان يعمل على مستوى اللواء ويتنقل بين الكتائب.
 
 
 
144

 


132

الرمال الدامية

 من دون أيّ مشاكل تُذكر. كانوا يجدون مكان الألغام ويُفككونها بسرعة، ويتقدّمون الرتل بعدة خطوات، سُرعان ما شقوا ممرًّا بعرض 1.5م وسط الحقل. لم نكن قد خرجنا من الحقل بعد، حين بدأت المعارك على الجناح الأيسر حيث محور عمليات فيلق "النجف الأشرف".


كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تقريبًا، عندما احتمل العدو وجود قواتنا في حقل الألغام، فصَبّ قذائفه المدفعية على الحقل. استغرق تطهير الممرّ حوالي الساعة والنصف تقريبًا. مع وصولنا إلى الكمائن، وصلت إلينا كتيبة من فرقة "الرسول"، وهي الكتيبة التي كانت تسير خلفنا، كان عليهم بعد عبور حقل الألغام التوجّه يسارًا نحو محور عملياتهم الأساس، لكنهم ضلّوا الطريق. رحتُ أتنقل بين عناصر سريتنا قائلًا: "أرشدوهم إلى مسيرهم، عليهم التوجّه يسارًا..".

أحْدث الإخوة جلبةً وأصواتًا فانتبه العدو لوجودنا، وخلال لحظة تلاشت جميع الأصوات بين أزيز وابل رصاص العدو. كنّا في مكان منبسط مكشوف، قبالة العدو المختبئ خلف السواتر الترابية وفي داخل القناة والمتاريس.

... بدأت الاشتباكات. كنت إلى جانب "صمد زُبُر دست"1، أحد المساعدين في سرية "القاسم"، "حبيب آذرنيا" و"مشهدي عبادي". أول ما فكرنا به هو أن نواجه العدو بطريقة جبهويّة، إذ لا يمكن مع غزارة النيران تلك، وفي هذه المساحة الصغيرة إيجاد ثغرة في جبهته أو
 

1- صمد "زُبُر دست"، من جرحى الحرب المفروضة بنسبة 70%- عمل بعد انتهاء الحرب رئيسًا لمؤسسة المستضعفين والجرحى إلى أن استشهد عام 1993م.
 
 
 
 
 145

133

الرمال الدامية

 الالتفاف عليه. نظمنا صفوفنا بأقصى سرعة. كان خط العدو الدفاعي المتمركز أمام القناة، يطلق النار باتجاهنا بلا توقّف. قسّمنا القوات إلى قسمين، قسم على اليمين والآخر على الشمال.


- أطلقوا النار عليهم بكل ما أوتيتم من قوة.

- صوّبوا قذائف الآر بي جي نحو المتاريس..

أسرعت مع مجموعة من العناصر وتحت غطاء ناري من إخوتنا، نحو خط دفاع العدو. لم نكدْ نصل إليهم حتى لاذوا بالفرار، فأسرنا عشرة منهم. هاجت مشاعر الكراهية في صدري عندما رأيت المرتزقة السودانيين1 بين الأسرى العراقيين: "أي جماعة تقاتل!".

لم أتوقع أن أرى ما رأيته هناك. كنّا نعتقد أنه كمين عادي يمكن الالتفاف عليه، لكننا تفاجأنا بخط دفاعي محكم كسائر الخطوط الدفاعية العراقية، ويضم قناةً، ومتاريس مدعّمة، وحتى سيارات عسكرية ودبابات وناقلات جند. كان خطًا دفاعيًا محكمًا ممتدًّا على طول المنطقة، وتمهيدًا للهجوم على المواقع المقابلة، تموضعنا في القناة التي أحدثها العراقيون خلف الساتر لحماية جنودهم. كان العطشُ قد أخذ من الإخوة كلّ مأخذ، وأغلب مطرات المياه كانت فارغة. قلت لمشهدي عبادي: "سأذهب خلف خط العراقيين لعلّي أجد صهريج ماء".

وجدتُ صهريجًا مليئًا بالمياه سعته ألف ليتر محمولًا على عجلات، فتعاون ثلاثة من عناصرنا لجره نحو محلّ تموضعنا. وجدنا في المتاريس
 

1- كان السودان في زمن حكم الديكتاتور "جعفر النميري" يرسل جنودًا سودانيين للقتال في صفوف العراقيين.
 
 
 
 
146

134

الرمال الدامية

 مواد غذائية وذخائر، وزّعناها على الإخوة. كان رصاص الكلاشينكوف منتشرًا بكميات كبيرة في كل مكان، فانشغل الإخوة بالتزود من العتاد الذي غنموه من العدو. طلب "رضا أحمدي" أن نتقدم إلى الأمام. سرنا معًا إلى القناة الأولى، لكن لم نجد أي أثرٍ للقناة، فالرمال التي أعاقت حركتنا حتى ذلك الوقت أعانتنا هناك، فقد انهارت جدران القناة فتحوّلت إلى منخفض يمكن عبوره بسهولة. لم نَجْنِ من حمل ونقل السلالم الحديدية غير التعب والمشقّة، إذ لم يعد من حاجة لاستخدامها جسورًا للعبور. فقد غطّت الرمال المنزلقة قسمًا من الأسلاك الشائكة وحقل الألغام، لدرجة أنّه يمكن العدْوُ عليه.


عبرنا القناة معًا، كان يمكن أن ندرك من النظرة الأولى، أن العملَ الجادّ يبدأ من هذه النقطة وما يليها، حيث يمتد أمامنا طريق يُؤَمّن خط إمداد العدو، وقد أحيط بحقول الألغام عن جانبيه، وعبور قواتنا لهذا الطريق يعدّ مجازفة كبيرة، فالعدو لن يدعنا نعبره بسهولة ونهجم عليه. لذا نصب على محاذاة الطريق رباعيًا مضادًا للطائرات، ما فَتِئ يصبُّ نيرانه عليها، كما نصب رباعيًا آخر محاذيًا للمسير الذي نفذنا منه. اشتدت المعارك عن يسارنا، بينما الهدوء ساد عن يميننا. توقّعتُ أن تكون كتيبة "شهداء المحراب" ما زالت عالقة في التحصينات والحواجز، وإلا لكانوا قد اشتبكوا مع كمائن العدو، وسُمعت أصوات المعارك!

رجعنا أنا و"أحمدي" إلى حيث قواتنا، ثم عدنا إلى المكان برفقة عناصر وحدة التخريب، ودخلنا حقل الألغام لفتح ممرٍّ بين القناتين الأولى والثانية. تزايدت المكالمات والأصوات المنبعثة من جهاز اللاسلكي،
 
 
 
 
147

135

الرمال الدامية

 فقد تاهت كتيبة "مسلم بن عقيل" عن المسير، وكانت تتواصل مع قيادة كتيبة "القاسم" وتسأل: "كيف السبيل للوصول إليكم؟".


تقررّ إطلاق قنبلة مُضيئة حمراء لإرشادهم. فجأة، امتلأت السماء بالقنابل المضيئة الحمراء، ما يؤكّد أن العدو يتجسّس علينا، وبالتالي ستضلّ الكتيبة طريقها أكثر فأكثر. طال الوقت كثيرًا حتى وصلنا خبر التحاق عناصر كتيبة "مسلم بن عقيل" بكتيبة "القاسم".

كانت المنطقة تهتز برمتها جرّاء تساقط القذائف من الجانبين. لكنها كانت "المقبّلات" إذ إنّنا لم نخض غمار المعركة بعد. يقع خط العدو الرئيس خلف القناة الثانية، وهو عبارة عن ساتر ترابي ضخم على شكل حصن يمتد على طول خط العدو الدفاعي، ويصل إلى مخفري الطاووسية والرشيدية الحدوديين العراقيين، اشتدّ القصف على مقربة من القناة الثانية. ومع ذلك أكمل أربعةٌ من عناصر وحدة التخريب عملهم، غير ملتفتين إلى القنابل التي كانت تنهمر عليهم بلا انقطاع.

ما إن تقدمنا أنا و"مهدي سالك"، و"رضا أحمدي"، وعنصر آخر من السرية، حتى تبعنا أحدهم وقال: "ارجعوا للخلف، الأخ أميني يريدكم في أمر".

عدت مع "رضا أحمدي" إلى محل تموضع كتيبة "القاسم" في حقل الألغام، عرفنا أنّه عندما وصل الأخ "أميني" قائد (اللواء 2) وعلم بذهابنا إلى حقل الألغام لفتح معبر، أرسل أحدهم في إثرنا، عندما رآنا قال: "حاولوا سحب القوات للخلف". كان هذا تدبيرًا احترازيًّا اتخذته قيادة الفرقة عندما تأخر الجناحان في الوصول إلى محورهما، ومع طلوع الصباح، زاد احتمال تقطيع العدو لأوصالنا.
 
 
 
 
 
148

136

الرمال الدامية

 اقترب وقت انبلاج الصبح، ومن المؤكد أنّ العدو لن يبقى مكتوف الأيدي، وأي مواجهة ستكبّدنا خسائر فادحة. جمعنا عددًا من الإخوة المهرة. وجّه الأخ "ياسر زيرك" تعليماته وأوامره للجميع، تقرر سحب قوات كتيبة القاسم وسائر القوات الموجودة إلى الخلف، من الممرّ نفسه الذي نفذنا منه. كما طلب منا سحب الجرحى الذين بقوا في حقل الألغام، وانطلق الجميع.


التفت "رضا أحمدي" إليّ وقال: "مهدي! بما أنّ قواتنا تنسحب، فمن المؤسف أن يصبح كل هذا العتاد وهذه السيارات للأعداء، ما رأيك أن نفجّرها؟!" بدأنا العمل، وكان علينا أن نفجر كل شيء خلف الساتر الترابي، من سيارات عسكرية، ناقلات جند، آليات، صهاريج وأيضًا متاريس الذخيرة والعتاد. استخدمنا ذخيرة وعتاد العدو لتنفيذ هذه المهمة. كنّا نركض على طول الخط ونرمي القنابل على كل شيء يمكن أن يستفيد العدو منه. كان الساتر الترابي قد اختفى خلف ألسنة النار والدخان عندما غادرناه.

نفّذ العدو عمليات إنزال على التلال التي عبرناها الليلة الماضية للوصول إلى الخط، وأحضر إليها السلاح تمهيدًا للهجوم. شعرت بخطر إمكانية محاصرتنا، وقلت في نفسي: "علينا الوصول خلف التلال بأسرع وقت".

سرنا وسط حقل الألغام، كنت متأكّدًا أنّ عددًا من الجرحى الذين
 
 
 
 
 
149

137

الرمال الدامية

 نقلوا إلى نقطة آمنة داخله ما زالوا ملقون هناك. أنا ورضا كنّا آخر شخصين غادرا المكان. آلمني صوت استغاثة الإخوة الجرحى وسط الحقل، وشعرت بالإحباط. كانوا يسألون بالفارسية والتركية: "إلى أين تذهبون؟.. إلى أين؟".


- إلى أين؟ ابقوا هنا وقاوموا.

لم أستطع التوقف لأوضح لهم. جُلّ ما استطعت فعله، هو سحب أحدهم معي إلى الخلف. أضعت "رضا" وسط ضوضاء حقل الألغام، وكان صوت أنين الجرحى وآهاتهم يُدمي قلبي. أعدادهم كانت كبيرة، أما الإخوة السالمون - ولفرط إعيائهم - فبشقّ الأنفس استطاعوا الانسحاب مصطحبين معهم أحد الجرحى.

- مهدي.. أتُراك تذهبُ وتتركني هنا؟ مهدي!..

- لكن من منكم أحمل معي؟

التفتّ إلى صاحب الصوت، كان "رحيم صارمي"، الذي جُرح الليلة الفائتة بانفجار لغم "فالمارا"، وقد استطاع خلال الليل وحتى الصباح أن يجرّ نفسه إلى هنا. وعلمت أنّ "مهدي تجلائي" الذي جُرح معه قد استشهد.

- سأحملك معي حتى لو هلكنا معًا، علينا الانسحاب للخلف.

وضعت ذراعه حول عنقي ونهضنا، لكنني لم أستطع الصمود، كنت منهكًا لدرجة عجزت فيها عن تَحَمُّل ثقله. صحيح أنني في السابعة عشرة من عمري وقوي البنية، لكنني كنت منهكًا جدًا. لقد قطعت تلك المسافة عدّة مرات في الليالي ما قبل العمليات. وفي ليلة العمليات،
 
 
 
 
150

138

الرمال الدامية

 سرنا قبل الجميع، وبعد انسحاب الإخوة في الصباح، بقيت مع "رضا أحمدي" حوالي 44 ساعات خلف خط العدو الدفاعي، نركض هنا وهناك لندمر معداتهم.. كنّا نجرّ أقدامنا جرًّا.


- إذا بقينا هنا، فلا أمل لنا بالنجاة، هيا تحرك!

كان العراقيون قد استقروا على التلال، وصبّوا حمم نيرانهم باتجاهنا بكلّ ما أوتوا من قوة. الحمد لله أنهم لم يفكروا بالهبوط منها، ولم يكن من طريق آخر سوى المرور بينها للوصول إلى خطنا، طريقٌ انهالت عليه النيران المختلفة من القنابل والرصاص والشظايا. ما إن وصلنا إلى التلال حتى رأيت وجه أحد الإخوة الذين كنت أعرفهم من وحدة الاستطلاع. كان "داود حسن بور" ينسحب مثلنا إلى الوراء. عندما رآنا اتجه صوبنا، ومع أنه كان متعبًا مثلنا، إلاّ أنه أخذ بذراع رحيم الثانية وساعدني في حمله، من دون أن ينبس ببنت شفة.

بعد حوالي 40 قدمًا، وجدنا حمالة للجرحى ملقاة على الأرض. فوضعنا صديقنا الجريح عليها وتابعنا المسير. تساقطت القذائف علينا بغزارة، لكننا ما عدنا نكترث لا لرشاشات الكلاشينكوف، ولا لرصاص القنص الذي لطف بنا فمرّ من دون أن يُصيبنا، إلا أنّنا اضطرنا للزحف وقايةً من الإصابة بشظايا القذائف المدفعية، وقذائف الهاون. كانت حركتنا وزحفنا يتسارعان مع اقترابنا من خط الهجوم العراقي. ظننتُ أنّ العراقيين قد أقاموا هذا الخط بهدف تضليل الإخوة واستدراجهم. كنت أعلم أنّه لا يمكن نصب أسلحة ثقيلة أعلى التلال الرملية، والعدو كان يعلم أيضًا أن هذه التلال هي الممر الوحيد للمنسحبين إلى الوراء،
 
 
 
 
 
151

139

الرمال الدامية

 لذا صبّوا نيران رشاشاتهم بجنون في جميع أنحاء الوادي حتى تحوّلت التلال إلى جحيم.


قلت: "سنمرّ من هنا إن شاء الله يا سيد رحيم، لكن لا تُصدر أيّ صوت حتى لو أصبت بطلق ناري".

شعرت بأن قدميّ مهشّمتين. ولم يكن داود أفضل حالًا مني، فقد حملنا شخصًا أكبر حجمًا وأثقل وزنًا منّا. تحمّل "رحيم" أوجاعه وتحلّى بالصبر، فتمكنّا من متابعة سيرنا حتى النهاية. كان علينا أن نعبر من خلال جدار طويل من "الرصاص"، وفي لحظة، بدأنا الركض. ركضنا بسرعة لدرجة أن الجريح المسكين أخذ يئنُّ من الألم، ليس بسبب الإصابة، وإنما لشدّة اهتزازه بين أيدينا، لم أصدّق أننا عبرنا تلال جهنّم بسلام. ما إن وصلنا إلى مكانٍ آمنٍ نسبيًا حتى ارتمينا على الأرض منهكين قرب رحيم. وهكذا عبرت معظم قواتنا المنطقة على هذا النحو، ما عدا قلّة عبرتها بسهولة قبل تموضع الأعداء على تلك التلال. يستطيع المرء أن يتعرف بسهولة إلى المسير الذي قطعه الإخوة من خلال معدّاتهم الملقاة والمنتشرة على طول هذا المسير، فقد تخلّصوا من جميع المعدّات الثقيلة أثناء انسحابهم، كأسلحة الكلاشينكوف، جُعب الذخائر، مطرات المياه، أحزمة الرصاص وغيرها. فتشنا كل جعبة ومطرة مياه، لعلّنا نجد ما نسد به رمقنا أو نروي عطشنا، لكنها كانت جميعها فارغة. شعرت أنّ الطريق إلى خطّنا قد طال، كما زادني اليأس إعياءً، فجأة وقع نظرنا أنا و"داود" على علبة فاكهة مُعلبة ركضنا نحوها كمن أصاب واحة في صحراء، لم يكن معنا حربة لنفتح بها العلبة، فوضعت العلبة
 
 
 
 
152

140

الرمال الدامية

 على الأرض، وضربت عليها بفوهة الكلاشينكوف لأفتحها، وهنا علا صوت رحيم.


- أعطني القليل منها.. سيُقضى عليّ.

- أنت تنزف والسوائل مضرّة لك، هيا كُل من الفاكهة.

أخرجت قطع الفاكهة بأصابعي وأطعمته إياها، ثم شربت أنا وداود عصيرها. صحيح أنّ الكمية قليلة، لكنها كانت كافية لتزودنا بالطاقة والقوة على الاستمرار. توجّب علينا قطع مسافة 4 كلم أُخرى. أجهد السير الإخوة فكانوا يهوون أرضًا هنا وهناك. لم يكونوا جرحى، لكنهم عجزوا عن الحركة لشدّة الإعياء. كنّا نرجو كلّ من نصل إليه أن يساعدنا في حمل الجريح، لكن أنّى لهم ذلك، فلا رمق لهم! كانت حال معظم الإخوة مزرية، فأشفقت عليهم ولم أُكرههم على القيام بما لا طاقة لهم به. في تلك اللحظات العصيبة اللامتناهية، تقدّم أحد عناصر وحدة الاستطلاع للمساعدة. لقد دُرّب هؤلاء الإخوة على القيام بأيّ مهمة قد يواجهونها وإنجازها قدر المستطاع. على بُعد عدّة خطوات التحق بنا مقاتل آخر من طهران. هكذا تقسّم الحمل على أربعة أشخاص فأصبح خفيفًا. في النهاية، وصلنا قرابة الظهر إلى شجرة السدر، وقد شُقت طريق الإمداد بمشقة كبيرة، حيث تمّ إحضار ألواح حديدية بواسطة الجرافة، وبُنيت طريقٌ على شكل سكةٍ حديدية من تلك الألواح والقضبان، فتمكّنت السيارات العسكرية من السير عليها بلا خوف من أن تعلق في الرمال. وضعنا الجريح في أول سيارة إسعاف صادفناها، وما إن أنهيت هذه المهمة، حتى مدَّتْ يدٌ شيئًا ما نحوي! كانت علبة
 
 
 
 
153

141

الرمال الدامية

 كرز مُعلب، الله وحده يعلم كم أنعشتني. تمددت بسرعة على جانب الطريق ورحت ألتهمها. كان فصل الشتاء، والهواء بارد، لكنني لم أكن أشعر بالبرد والجوع. ثم غططت في سبات هو أقرب إلى فقدان الوعي من شدة التعب.


كنت ما أزال أشعر بالإجهاد المضني عندما استيقظت. خلعت حذائي العسكري. كانت الدماء قد تجمدت في أصابع قدميّ بعد مسير يومٍ كاملٍ. تابعت السير بصعوبة كبيرة إلى أن وصلت إلى مقر الاستطلاع. لم يكن مستبعدًا وجود خطط لاستكمال العمليات، والحاجة إلى عناصر الاستطلاع. كان توقعي في محله. فالإخوة كانوا في مقر التخطيط (التكتيك). بقيت هناك أيضًا واسترحت حتى اليوم التالي.

في الصباح، جمع الأخ "علاء الدين نور محمد زاده"، نائب قائد (اللواء 2)، عناصر وحدة الاستطلاع، وقال: "على أي حال علينا إعادة تنظيم صفوفنا. يجب أن نستطلع المنطقة مجددًا، وأقل ما يمكن فعله، هو إنقاذ الجرحى هناك وسحبهم إلى الخلف". كنّا مرهقين جدًا، ولم يكن لدينا أملٌ في إنجاز المهمة. لكنّ كلام "الأخ علاء الدين" شجّعنا على الذهاب لعلّنا نستطيع القيام بعمل ما! ركبنا السيارة وانطلقنا. كنّا ستّة أشخاص: أنا وبني حسن، محسن أصمعي، داود حسن بور، سيّد صادق عيوضي وعنصر آخر من مدينة "خوي". واتّجه خمسة عناصر آخرين نحو نقطة "الخال". كانت "فرقة عاشوراء" قد هاجمت التلال الواقعة إلى يمين نقطة "الخال"، بينما هاجمت "فرقة الرسول" تلك الواقعة إلى اليسار. بعد مضي وقت، علقت السيارة في الرمال
 
 
 
 
154

142

الرمال الدامية

 فأُجبرنا على متابعة الطريق سيرًا على الأقدام. وأدّى تشابه التلال إلى تعقيد مهمتنا. ما إن هبطنا إحداها حتى انفجر شيءٌ ما وسقط ثلاثة إخوة جرحى هم: "محسن أصمعي"، "داود حسن بور" والأخ من مدينة "خوي". بينما بقيتُ أنا واثنان آخران سالمين. لم يكن أمامنا سبيل آخر سوى متابعة الطريق. انفصلتُ عن الأخوين الآخرين واتّجهتُ يسار نقطة "الخال"، حيث تخوض "فرقة الرسول" المعارك مع العدوّ على تلّ "دوقلو"1. عندما اقتربتُ من المكان، وجدتُ أنّ مقاتلينا ينسحبون من المكان، ورأيت في المنظار الأعداء يتسلّقون التلّ. أسرعتُ نحو المقاتلين: "إلى أين تذهبون؟"


- لقد استُشهد قائدنا، وها هم العراقيون يقتربون منّا، فلمَ البقاء.

كانت معنويّاتهم في الحضيض. لا أدري كيف خطرت ببالي هذه الفكرة، فقلتُ لهم: "لقد عُيّنتُ قائدًا للكتيبة بـأمر من قيادة الفرقة". فقبلوا الأمر بلا نقاش. أعدنا القوّات بمساعدة ثلاثة من الإخوة الأشدّاء إلى أعلى التلّ، وتموضعنا هناك. حميَ وطيس المعارك وكان قد اقترب الأعداء منا بشكل كبير، ثم بعد دقائق تواروا عن الأنظار. بعد حوالى الساعة، وصل عددٌ من عناصر تخطيط العمليات في "فرقة الرسول". عندما علموا بما جرى، شكروني كثيرًا. انتهى عملي هناك، غادرت التلّ عائدًا إلى حيث تموضعت قوّاتنا، لكنّني كدتُ أسقط أرضًا لفرط
 

1- دوقلو: أيّ التوأم
 
 
 
155

143

الرمال الدامية

 التعب والجوع. اتّجهتُ تلقائيًّا نحو أشجار النخيل المنتشرة هنا وهناك، والتي تبعد مسافة 500 أو 600م عن بعضها بعضًا. لم أجد ثمرًا في الشجرة الأولى، وكذا كان الأمر في الشجرة الثانية والثالثة. استندتُ إلى جذع النخلة الأخيرة وألقيتُ نظرة يائسة على الأرض.


- ما هذه؟

لفت نظري نتوء صغير في الأرض. أبعدتُ الرمال عنه، فظهر جزء من سلّةٍ مصنوعة من ألياف النخيل.

أخرجتُ السلّة بعناءٍ كبير من تحت الرمال، كانت مليئة بثمار البلح. وزّعتُ الثمار بين الإخوة وتناولتُ عدّة حبّاتٍ من الثمار الكبيرة السوداء التي أمدّتني بالطاقة وساعدتني على النهوض مجدّدًا. التقيتُ في الطريق برتلٍ من عناصر كتيبة "الفجر" في "فرقة عاشوراء"، وكانوا متّجهين للمشاركة في هجوم محور كتيبة "القاسم". توقّعتُ أن يواجهوا مشاكل في الوصول إلى المحور، لذا قرّرتُ مرافقتهم. وصلنا إلى مكان تموضع كتيبة القاسم حيث عاودوا الهجوم بعد عمليّة الانسحاب على جزءٍ من التلال الرمليّة المشرفة على حقل الألغام من نقطة "الخال"، إلى "الخال الأيسر". لم أكن أعرف المنطقة جيّدًا، لذا رافقتهم لأتعرّف إليها أكثر، ولألقي نظرة على حقل الألغام. كنتُ أشعر بضيقٍ كبير لمجرّد التفكير بوجود جرحى سقطوا هناك من دون أيّ مساعدة. كانت المنطقة تتعرّض لقصفٍ عنيف، وقد سقط جريحان من فرقة "الرسول" بالقرب من الحقل. ذهبتُ لمساعدتهما، وعندما أدركا ما أنوي فعله، منعاني وقالا: "حالتنا ليست سيّئة إلى هذا الحدّ، نستطيع الانسحاب
 
 
 
 
 
156

144

الرمال الدامية

 بلا مساعدة، لقد سقط جرحى من فرقتك وسط الحقل وهم بحالة سيّئة. فاذهب لمساعدتهم".


سرتُ بالاتّجاه الذي أشارا إليه، رأيتُ من بعيد أجسادَ ثلاثة شهداء، وجريحًا. كان الشهداء من عناصر وحدة الاستطلاع وهم: "رحيم سرودي"1 من مدينة تبريز، و"محمد رضا شجري" من مدينة أردبيل والسيّد "نخستين" من "مياندو آب". أمّا الجريح فيُدعى "ناصر حق شناس"2 وهو من عناصر وحدة التخريب في المجموعة. ألقيتُ نظرة أخيرة على وجه الشهيد "رحيم" والشهيدَين الآخرين. كنتُ أعلم أنّهم سيبقون على الرمال هناك إلى أن تصل قوّاتنا. ساعدتُ "ناصر" على الانسحاب للخلف. أخبرني أنّهم جاؤوا إلى المنطقة للاستطلاع وفتح ممرٍّ لقوّات اللّواء التاسع، وقد انفجر لغم "فالمارا" أثناء ذلك. لم أستطع أن أخفي حزني. عندما وصلنا إلى بداية حقل الألغام، التقيتُ ثانيةً الجريحَين اللّذَين أخبراني بوجود الإخوة الجرحى وسط الحقل، كانت قذيفة هاون قد سقطت بالقرب منهما وأدّت إلى قطع قدم أحدهما، فتأجّجت نار الحزن في صدري لهول ذلك.

التقيتُ على بُعد خطوات مجموعة من الإخوة، فأودعتهم الأخ "ناصر"، ثمّ رجعتُ مع عددٍ منهم لإنقاذ الجريحَين الطهرانيَّين.
 
 

1- لم يحصل منذ التحاقه بالجبهة وإلى حين شهادته على إجازة واحدة. وقد استُشهد مع العديد من الإخوة في عمليات "والفجر" التمهيدية. وقد وُجد جثمانه أثناء البحث بعد سنوات من انتهاء الحرب ودُفن إلى جانب سائر الشهداء.
2- شُفي ناصر من تلك الجراح وعاد ثانية إلى الجبهة والتحق بقوّات الحرس الثوري وقد استُشهد عام 1989 م في عمليات "كربلاء 5".
 
 
 
157

145

الرمال الدامية

 لفتني ذلك اليوم، وفي تلك المنطقة كثافة نيران العدوّ بشكلٍ ما عهدته في أماكن أخرى، ففي بعض الأوقات كانت الانفجارات تتوالى فيقع أكثر من ثلاثين انفجارًا في آنٍ واحد. تصوّرت أنّ الأعداء قد نصبوا مجموعة من مدافع الهاون عيار (60) ملم بعضها إلى جانب بعض، وراحوا يطلقون قذائفها في آنٍ واحد، في كل الأحوال قلبت تلك القذائف المنطقة رأسًا على عقب1.


وصلتُ عند الغروب إلى مكان تموضع قواتنا في نقطة "الخال"، ولفرط التعب نمتُ حتّى الصباح في أحد متاريس الخط الأمامي.

في الصباح، التقيتُ السيّد "صادق عيوضي"، كان معافًى ونشيطًا. قال: "ما رأيك يا مهدي أن نستطلع خطّ العدوّ المواجه لنقطة 'الخال'؟".

انطلقنا في معبرٍ داخل حقل الألغام، ووصلنا إلى نقطة تبعد حوالي (30 م) عن متراسٍ للعدوّ، اتّضح لنا أنّه أحد كمائنهم. كان واضحًا أنّهم لم يتوقّعوا وصولنا إلى تلك النقطة لذا لم يعملوا على إخفائه. استطلعنا المنطقة بواسطة المنظار وعدنا أدراجنا.

مضى أسبوعٌ كامل من دون وقوع أحداثٍ تُذكَر. استلمتْ وحدات الجيش خطّ الجبهة من كتيبة "الفجر"، وقد انتهت مهمة الفرقة في المنطقة. ركبنا في شاحنات التويوتا الصغيرة وعدنا إلى المقرّ ذاته الذي بحثتُ فيه قبل عدّة أشهر عن وحدة الاستطلاع.
 

1- علمتُ بعد سنوات أنّها قذائف سلاح بلامينا plamina - وهي من عيار 30 ملم مصفوفة في حزامٍ طويل يشبه حزام رصاص الرشاش. ومدافع تطلق قذائف تنفجر عند اصطدامها بالأرض تمامًا كقذائف الهاون عيار 60-.
 
 
 
158

146

الرمال الدامية

 لقد افتقدنا "فيروز ونوري، مهدي تجلائي، ورحيم سرودي..". كان "رضا أحمدي، وعلي رضا، وحسن زاده، ومحسن أصمعي، ورحيم صارمي" وغيرهم في المستشفى. شعرتُ بالغربة وبأنّني قد ابتعدتُ كثيرًا عن الشهداء...


جَمَعَنا مسؤول المقرّ الأخ "كبيري"، في متراس القيادة، وحدّثنا عن أوضاع الفرقة، ثم طلب منّا الذهاب في إجازة من دون أن نسوّي أوضاعنا مع الفرقة لأنّ عملنا لم يكن قد انتهى بعد، ولأنهم ما زالوا بحاجة إلى جميع العناصر.

تذكّرت الأعمال التي توجّب عليَّ القيام بها منذ أمدٍ بعيد ولم أفعلها، فقد كنت أرغب في المشاركة في امتحانات المدرسة بأيّ شكلٍ من الأشكال، كي لا أتأخّر عن زملائي دراسيًّا، لذا أصررتُ كثيرًا على تسريحي من الفرقة.

اقترب الربيع، وتذكّرتُ شهداء "والفجر" التمهيديّة، الذين رووا رمال "فكة" بدمائهم وما زالت أجسادهم الطاهرة مطروحة هناك. عدتُ هذه المرّة من دون أيّ جرحٍ أو إصابة، لكنّني عدتُ كسير القلب.
 
 
 
 
159

147

وحدة شهداء كربلاء

 وحدة شهداء كربلاء


ربيع وصيف 1983م
كان هذا الربيع موسم الاستطلاعات، واللقاءِ بمقاتلين من ذوي المؤثرات العميقة، ثم الالتحاقِ بحرس الثورة بكل ما احتواه. لكن بين التجارب المثيرة باعتمال الفكر وغزارة التجربة العسكرية في الحرس، وبين نفير العمليّات، كان عليّ أن أحدّد الخيار ..
 
 
 
 
 
161

148

وحدة شهداء كربلاء

 مع بداية فصل الربيع من عام 1983م، كان قد مرّ على وجودي في مدينة تبريز، ما يناهز الشهر. حينها التقيتُ "السيّد أجدر مولائي"1. وهو من عناصر قاعدة حيّنا ويعمل في شورى الحرس الثوريّ للمدينة، قال لي: "رائحة العمليات تفوح في الأجواء، فلنذهب معًا إن كنت ترغب في ذلك". ذهبتُ إلى المنزل فرحًا وقلت: "سأذهب مع السيّد 'أجدر' للزيارة.. نعم، سنذهب إلى مدينة مشهد!".


طلب "أجدر" إجازة من عمله في الحرس الثوري أيضًا، وانطلقنا معًا إلى سكة حديد مدينة "تبريز". التقيتُ هناك "رحيم صارمي"، الذي كان يذهب وحيدًا إلى الجبهة. لم يكن من بعثاتٍ للمقاتلين حينها، فترافقنا نحن الثلاثة إلى مدينة طهران، الأهواز، دزفول وشوش. عبرنا الجسر الذي أقاموه على نهر "كرخة"، ووصلنا بعد مشقّة إلى منطقة "تشنانه". اعتقدنا أنّ مقرّ الفرقة كان هناك، لكنّهم أخبرونا عند وصولنا أنّ فرقة "عاشوراء" قد انتقلت إلى "أبو غريب". انطلقنا نحن الثلاثة نحو منطقة "أبو غريب" بحثًا عن فرقة "عاشوراء"، إلى أن وصلنا في النهاية إلى المقرّ التكتيكي "التخطيط للعمليات"، وتزامن وصولنا مع بدء عمليات "والفجر1". إلا أنّ تأخّرنا حال دون مشاركتنا فيها، وبقينا في مقرّ الاستطلاع.

مرتفعات منطقة عمليات "والفجر1" هي امتداد لسلسلة جبال
 

1- اژدر مولائي: Ajdar .
 
 
 
 
162

149

وحدة شهداء كربلاء

 "حمرين" والجبل "الفوقانيّ" نحو الجنوب. تعتبر تلال: "143 - 145 - 165"، من التلال الاستراتيجية في المنطقة، المشرفة على أخدود المواصلات الاستراتيجيّ "ميسان" وهذا الأخدود من أهمّ طرق العراقيين، يُطلق عليه في المصطلح العسكري اسم "الدهليز". كان العراقيون قد رصدوا ميزانية وإمكانات ضخمة لحماية هذا الشريان الحيوي بالنسبة إليهم، فحشدوا كلّ قدراتهم لمنع وصول القوّات الإيرانيّة إليه. كانت أشد التحصينات قوة موجودة في الوادي، كما إن مساحته كبيرة جدًّا، تتّسع لعمل فيلقٍ بكامل عتاده وتجهيزاته، وتجري فيه 13 قناة يفصل بين القناة والأخرى مسافة كيلومتر واحد. وقد زرعت في الكيلومتر الواحد خمسة عوائق يفصل بين كلّ عائق وآخر مسافة 200 متر. يضمّ كلّ عائق أسلاكًا شائكة من النوعَين الكروي والمتشابك الأرضيّ. إضافة إلى حقل الألغام، لم يوفّر العراقيون أيّ نوعٍ من أنواع الألغام إلّا واستخدموه فيه. وتكمن الأهمية الأخرى لهذه الطريق، أنّها تمتدّ خلف مخفري "الشرهاني" و"الزبيدات" وتؤدي إلى آبار نفط "بزركان". كان محور عمليات "والفجر" التمهيدية شمالي هذه الآبار، بينما كان محور عمليات "والفجر 11" على الجهة اليمنى لها.


يوجد بين المحورَين مجرى ماء كبير يُدعى "حُور سنافْ"، وتقع مدينة "العمارة" بمحاذاته، كما تمرّ بالقرب منه طريق الموصل - العمارة الاستراتيجيّة. كانت عمليات "والفجر1" تهدف إلى شلّ وتعطيل هذه الطريق، وقطع ارتباط العدوّ بالمنطقة الجنوبيّة الغربية. التقيتُ خلال الأيام الثلاثة التي قضيتها في المقر بالأخ "مهدي" مرّة واحدة فقط. لقد
 
 
 
 
 
163

150

وحدة شهداء كربلاء

 تحمّل الكثير من المتاعب والأذى خلال عمليات "والفجر" التمهيدية، فقد ردّوا سبب فشل هذه العمليات إلى فرقة عاشوراء. كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها السيّد "مهدي" على هذه الحال. كان منشغلًا منذ أكثر من أسبوع في توجيه القوّات في المنطقة. كان قد هجر النوم والطعام، وبقي إلى جانب الجميع حتّى آخر يوم في الخطوط الأمامية، وبفضل همته ودرايته أظهرت فرقة "عاشوراء" في تلك المعارك تفوقًا قتاليًا، وكانت الأكثر عددًا وجرأةً وإقدامًا.


شاركت في هذه العمليات 9 كتائب من فرقة "عاشوراء"، حقّقت فيها كتيبَتا "القدس" و"مسلم بن عقيل" الأهداف المنشودة، وتمّت السيطرة على تلتي ("143" و"145")، لكن لم يتمّ الاستيلاء على تلّة 165، التي كان العدوّ يشرف منها على كامل المنطقة، والتي أمّنت له سيطرة ناريّة على طول الخطّ.

كان للسيطرة على المنطقة في تلك الفترة، أهمية كبيرة بالنسبة لنا، إذ يقع فيها أخدود "بَجلية" المتفرّع من أخدود "ميسان". كنّا نشرف على المكان، ولما كدنا نصل إلى الأخدود، استشرس العدو في مقاومته، وشنّ أعنف الهجمات على محور فرقتَي"عاشوراء" و"الرسول" اللّتين كانتا قد حقّقتا المكاسب والانتصارات في تلك المنطقة. جُرِح خلالها "حميد باكري" نائب قائد الفرقة، و"مصطفى مولوي" قائد وحدة الاستطلاع، كما استُشهد العديد من عناصر الوحدة. كان الإجهاد وقلّة النوم باديين على وجه السيّد "مهدي" وقد تعفّر وجهه بالتراب، لكنّه لم يهدأ أو يستكن لحظة واحدة. عندما سلّمت الفرقة الخطّ (المحور)
 
 
 
 
164

151

وحدة شهداء كربلاء

 وعادت، تركنا نحن الثلاثة المنطقة أيضًا، وذهبنا إلى "انديمشك"، وركبنا القطار إلى طهران. هناك، رغبتُ ولأوّل مرّة أن أجرّب السفر بالطائرة، لكنّني لم أتمكّن من تأمين تذكرة السفر. بدلًا عن ذلك تعرّفت إلى شخصٍ قال إنّ أحد أقربائه ويُدعى "بيوك نانوائي" قد استُشهد ويريد السفر بسيارته إلى "تبريز" للمشاركة في تشييعه. فرافقته في سفره في سيارته الخاصة إلى تبريز.


كدتُ أموت شوقًا إلى الجبهة، وطوال العشرين يومًا، فترة ابتعادي عنها بحجّة التحضير للامتحانات، قبعتُ في المنزل ولم أفارقه. كانت أيّامي ولياليَّ تمرّ ببطء وصعوبة. عندما ذهبتُ إلى "بهمن نوجدي" مسؤول استطلاع الحرس الثوريّ في تبريز، أخبرني عن إرسال بعثة من المقاتلين إلى الجبهة، وهكذا فُتح أمامي بابٌ آخر من أبواب الرحمة.
 
 
 
 
165

152

وحدة شهداء كربلاء

 كنتُ متطوّع التعبئة الوحيد بين مجموعة مؤلّفة من 27 عنصرًا من عناصر الحرس الثوريّ. فشكّلتُ العلامة الفارقة بينهم. انتقلنا من ثكنة التطوّع إلى محطّة القطارات، وتشاركت مع خمسة عناصر من الحرس الثوريّ إحدى المقصورات، هم: "إسماعيل محمّدي، منصور فرقانيّ، وأكبر جواني، بهمن محبوبي، وأكبر جوان بخشايش". كان بعضهم حديث العهد بالتطوّع للقتال، فجذبهم سماع أخبار المعارك والشهداء. كان "منصور فرقاني" يحمل معه كراسات السنة الثانوية الأخيرة، فقد كان يدرس استعدادًا للمشاركة في الامتحانات الرسمية. عندما علم أنّني من وحدة الاستطلاع سألني: "من هو مسؤول الاستطلاع؟".


- الأخ مصطفى مولوي

- أنا ومصطفى من المدينة نفسها

كان "منصور" من مدينة "ميانة"، وقد دخل قلبي من اللقاء الأول، وكان أيضًا قد التحق بوحدة الاستطلاع.

كان مقرّ وحدة استطلاع فرقة "عاشوراء" في ثكنة الشهيد "مصطفى الخمينيّ" الواقعة بين "دزفول" و"انديمشك"، وقد تموضع فيها أيضًا عناصر كتيبة "التخريب" ومجموعة من الجنود. كانت الثكنة عنبرًا كبيرًا يضمّ عددًا من الغرف، وقد استقررتُ في إحداها، ما لبث أن وصل كلٌّ من: "علي رضا حسن زاده ورضا أحمدي والسيّد صادق عيوضي". لقد جُرِح "رضا" في عمليّات "والفجر" التمهيديّة، بينما جُرِح "السيّد
 
 
 
 
 
 
166

153

وحدة شهداء كربلاء

 صادق" في عمليّات "والفجر 1". لم تكن جروحهما قد التأمتْ بعد عندما وصلا. يا لها من لذة وسرور عظيم أن ألتقي أصدقاء تعرّفتُ إليهم في الجبهة، قاتلنا جنبًا إلى جنب وتقاسمنا السرّاء والضرّاء، بدأ عناصر الوحدة يصلون تباعًا، زرافات ووحدانا. لكنّ "رضا أحمدي" لم يلحق بنا. عندما تيّقنتُ من جدّية قراره بالذهاب والالتحاق بوحدة التخريب، بدأتُ أرجوه وأتوسّل إليه أن يلتحق بوحدتنا، لكن عبثًا حاولت. لقد ذهبت كلّ محاولاتي سدًى، وقال بكلّ صلابة وإصرار: "لا، بل أفضّل الالتحاق بوحدة التخريب"، ثمّ ذهب ليدرّب عناصر الوحدة الجُدد. لم يكن يعرفه أحدٌ هناك، وهذا ما كان يرمي إليه.


بدأت التدريبات في وحدة الاستطلاع، وكنّا ننقل كلّ ما تعلّمناه منذ بداية التحاقنا بالوحدة على يد "رحيم سرودي"، وكلّ ما اكتسبناه من خبرات إلى العناصر الجدد. كان "رضا" أثناء فرصة الظهيرة، يأتي إلى غرفتي ليبدّل ضمادات جرحه. كانت الدماء والالتهابات التي تسيل من الجُرح العميق في بطنه تلتصق بقميصه الداخليّ، فيضطرّ في كلّ مرّة يريد فيها تغيير الضمادات، أن يسلخ القميص عن جرحه. كان هذا المشهد يؤلمني كثيرًا ويثير حفيظتي: "لكن يا سيّد رضا! لو أنّك تخفّف عن نفسك وتستريح قليلًا، فسوف تُشفى جروحك بسرعة!".

كنتُ أكرّر هذا الكلام يوميًّا، وبطرقٍ مختلفة رغم أنه يكبرني بـ 13 عامًا تقريبًا، لكن الشفاء بنظره لا يكون إلّا بالشهادة!

وصل الأخ "مولويّ" بعد مرور ثلاثة أيّام على بدء التدريبات. لقد تولّى الأخ "مصطفى" مسؤوليّة وحدة الاستطلاع بعد أن جُرح الأخ "مسعود
 
 
 
 
167

154

وحدة شهداء كربلاء

 شجاعي" في عمليّات "والفجر" التمهيديّة. كذلك جرح الأخ "مولويّ" في عمليّات "والفجر 1"، لكنّه لم يبقَ في المدينة لتلقّي العلاج، بل عاد إلى الجبهة. اختار "مولوي" عددًا من عناصر وحدة الاستطلاع منهم: "منصور فرقاني، وإسماعيل محمّدي، والسيّد صادق عيوضي، وعلي رضا حسن زاده وبهمن محبوبي"، واصطحبهم معه. لم أعرف وجهتهم، لكنّني توقّعتُ بدء عمليّات الاستطلاع في منطقةٍ جديدة. بعد ذهابهم، كنتُ أمضي معظم أوقاتي مع "رضا أحمديّ"، وكنّا نذهب في أوقات الفراغ إلى مدينة "دزفول" المحبَّبة للتعبويّين.


رجع الأخ "مولويّ" بعد أربعة أيّام إلى المقرّ، واصطحبني معه هذه المرّة مع "علي محمّدي، وعبد الرضا أكرمي".

جلستُ أنا وعلي على البطانيّات الموضوعة في خلفيّة شاحنة "ايفا" الصغيرة وانطلقنا. أسعدني اختياره للمشاركة في عمليّات الاستطلاع في المنطقة الجديدة. كنتُ أعرف أنّ الأخ "مولوي" لا يعرفني جيدًا، وعلمتُ فيما بعد أنّه اختارني بطلب من "السيّد صادق عيوضي وعلي محمّدي". انطلقنا من مدينة "دزفول" إلى "باختران" ومن هناك إلى "سربل ذهاب".

كانت "سربل ذهاب" خالية من السكّان، تقبع في صمتٍ مطبق. حدّد مسؤول وحدة الاستطلاع أحد المنازل وسط المدينة مقرًّا لنا. كان المنزل مجهّزًا بمبرّد مائيّ، لكن لا أثر للمياه فيه.

حذّرونا طوال الرحلة بعدم ذكر انتمائنا لفرقة عاشوراء تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، فقد علّمتنا تجربة إفشاء أمر المعلومات في عمليات
 
 
 
 
168

155

وحدة شهداء كربلاء

 "والفجر" التمهيديّة، أنّ الحفاظ على المعلومات على درجة كبيرة من الأهمية، تُوازي عملية جمع المعلومات نفسها. لم تمرّ أيام على وجودنا في ذلك المنزل الذي تحوّل إلى مقرّ فرقة "عاشوراء" في "سربل ذهاب" حتى وصل كل من السيدين "مهدي وحميد باكري". استقرّت قوّات فرقة "عاشوراء" في "كاسه كران"، في "كيلان" الغربيّة1، كنّا آخر القوّات الواصلة إلى منطقة العمليّات غربيّ البلاد. تقرّر اختيار اسم لوحدتنا، ووافقنا على الاسم الذي اقترحه السيّد "مهدي". طلينا صهريج الماء باللّون الأبيض، وخطَّ عليه أحد الإخوة اسم الوحدة باللّون الأحمر: "وحدة شهداء كربلاء"، وحملت الوحدة هذا الاسم حتى نهاية الحرب.


أضحى مقرّ "سربل ذهاب" مكانًا للدعم واستراحة عناصر استطلاع فرقة "عاشوراء". وتم اختيار مكانٍ في المنطقة المنوي استطلاعها كمنطلقٍ لعمليات الاستطلاع القادمة، عُرف باسم "موقع عمّار"، ويقع بالقرب من طريق "سربل ذهاب" ، على بعد 20 كلم من "ازكله"2. استقرّ العدوّ على ارتفاع 2 كلم في منطقة "بمو"، بينما تموضعنا نحن على تلٍّ مجاور يرتفع حوالي 60 م تقريبًا. كانت تلك أوّل منطقة مسالمة أراها، وكان تردّد القوّات إلى هناك في حده الأدنى، أما تحصينات العدو البسيطة فكانت بسبب اطمئنانه من أي أخطار تتهدّده. نحن
 

1- كاسه كران - GHRAN - .
كيلان: تُلفَظ GHILAN غيلان.
2- ازكله: Azghaleh.
 
 
 
169

156

وحدة شهداء كربلاء

 بدورنا ومن أجل الحفاظ على السريّة وإدراكًا منّا لحساسيّة الوضع. لم نقم بأيّ عملٍ من شأنه الإخلال بالهدوء السائد هناك، بل منحنا هذا الهدوء فرصة لاستطلاعٍ أدقّ وأشمل للمنطقة.


يجري نهر "سلمانه" في الوادي الممتدّ بين مرتفعي "بمو" و"سلمانه" ويمتدّ، خلف هذين المرتفعَين، سهلٌ فسيح بعرض 6 إلى 7 كلم، ينتهي في الجهة الأخرى بمرتفعات "حسن بيك" الأعلى في المنطقة. يقع في ذلك السهل عدد من قرى ومدن الأكراد، حيث تنشط أحزاب الديمقراطيين ومجموعات "المنافقين". ينبع نهر "سلمانه" من مرتفعات "حسن بيك"، ويجري في السهل بين مرتفعَي "بمو" و"سلمانه"، بالقرب من "باغ منصور" متّجهًا نحو قرية "حسين آباد" ليصبّ في النهاية في مجرى نهر"جوانرود"1 الذي يجري قبالة مرتفعات "بمو" حيث أُنشئ عليه جسرٌ إسمنتيّ. عندما ذهبنا في مهمّة إلى تلك المنطقة، قام الإخوة بسدّ القنطرة الكبيرة للجسر المبنيّ على الطريق بالقرب من موقع "عمّار"، ودُمغ المكان بختم: "مصلّى وحدة الاستطلاع"، المكان الذي احتضن جوفه دعاء العهد، والتوسّل وكُمَيل، وصلوات الجماعة وتوسّلات الإخوة العلنية والخفيّة.

نصبنا قرب الجسر عددًا من الخيم، وهكذا أضحى موقع "فدائيّ عمّار" مقرًّا لقوّات استطلاع فرقَتَي "عاشوراء 31" و"الرسول 27".

كان علينا قبل أيّ شيء، ومن أجل تحديد الطريق الأنسب لعمليّات
 
 

1- جوانرود: تُلفَظ javanrood.
 
 
 
170

157

وحدة شهداء كربلاء

 الاستطلاع، الحصول على معلومات دقيقة من "المرصد". يقع "المرصد" في مرتفعات "سلمانه"، ومن أجل الوصول إليه كان علينا تسلّق مرتفع صخريّ خطر. كنّا نستخدم لتسهيل عملية الصعود، السلالم الخشبيّة لكنها تهشمت بفعل تعرّضها للرصاص والشظايا، فبات الصعود عليها غاية في الصعوبة. مع ذلك ذهبنا إلى هناك عدّة مرات واستطعنا أن نكوّن فكرة عن مكان استقرار العدوّ، كما استطعنا خلال عمليّات الرصد ملاحظة شق صخري بين "سلمانه وبمو"، وأضحت "باغ منصور" نقطة أملنا، حيث نستطيع من خلالها النفوذ إلى السهل.


حان وقت الاستطلاع. على الرغم من القلق الذي كان يخيّم على كلّ عمليّة استطلاع، إلا أنّ الإخوة الباقين في الموقع كانوا يغبطون كلّ من يذهب في مهمة. أضحت وحدة الاستطلاع بعد عمليّات "والفجر1"، وعلى عكس الأيّام الماضية، قِبلةً للنخب المتميّزة المختارة من وحدة التخريب والكتائب المختلفة، نخبٌ تقيّة شجاعة لا تعرف الخوف، وقد مدّها الصمت والتكتم وعملها بين الصخور والسهول والرمال، بعزم وقوّة ورباطة جأش.

انطلقت مع أوّل فريق استطلاع يضمّ: "علي محمّدي، عبد الرضا أكرمي" وآخرين. سار "علي محمّدي" مسؤول الفريق وحامل البوصلة في المقدمة، وتبعتنا قوّة حماية مهمّتها التدخّل في حال شعرت بأيّ خطرٍ يتهدّدنا وإعلام الآخرين بالأمر.

سِرنا ليلًا بعد أن استطلعنا المنطقة بالمنظار الليليّ المجهّز بالأشعة ما دون الحمراء، وقد عمّ الهدوء بسبب الهدنة ووقف إطلاق النار في
 
 
 
 
171

158

وحدة شهداء كربلاء

 السهل والوادي والجبل، وعلى عكس المنطقة الجنوبيّة، كان العدو مرتاحًا ومطمئنًا لوضعه في المنطقة، فلم يحكم تحصيناته وحراسته، ولم يكن فيها من أثرٍ لكمينٍ أو قنابل مضيئة. وصلنا عبر "باغ منصور" إلى السهل، وتابعنا سيرنا نحو مرتفعات "حسن بيك" بلا أيّ عائق. بقينا يومًا واحدًا في قريةٍ مهجورة قرب مرتفعات "حسن بيك"، إذ لم نستطع القيام بعملية الاستطلاع في ليلة واحدة، بسبب طول المسافة. لم تكن المؤونة التي حملناها معنا تكفي لأكثر من يوم واحد، كنّا نعلم أن في القرية نبع ماء زلال وعذب فملأنا أوعيتنا منه وقضينا يومًا من الصباح إلى الغروب من دون أي مشكلة تذكر. لقد أتاح لنا المكان الذي تموضعنا فيه مراقبة تحرّكات العدوّ على المرتفعات القريبة منا. وكم شعرنا بالسعادة عندما رجعنا إلى مقرّنا تلك الليلة، وفي جعبتنا المعلومات التي جمعناها في أول استطلاع للمنطقة.


تابعنا عمليّات الاستطلاع لاكتشاف طرقٍ مؤدية إلى أعالي مرتفع "بمو". بعبور أخدود "بمو"، وبعد قطع مسافة قصيرة وصلنا إلى سهلٍ صغير مثلّث الشكل، وقد عرف باسم المثلث لأنه محصور بين مرتفع "بمو"، والمرتفعات الأقل ارتفاعًا أسفله. يؤدّي ذلك السهل إلى خلف مرتفع "بمو"، وإلى خلف خطوط القوّات العراقية المستقرّة هناك، كما تمرّ فيه طرق إسنادهم ودعمهم. عملية استطلاع "بمو" كانت تبدأ في ذلك المثلّث صعودًا إلى أعلى المرتفعات، وقد وصلنا خلال عمليّتَي استطلاع إلى نقطة قريبة من القمّة، ووجدنا أماكن كالكهوف ودربٍ لعبور الدواب مناسبة للتموضع ونقل العناصر والعتاد إلى القمّة.
 
 
 
 
 
172

159

وحدة شهداء كربلاء

 منتصف شهر تمّوز من عام 1983م، دقّ نفير العمليّات، ووصلتنا أنباء عن القيام بعمليّات "والفجر 2"، وتحرير ثكنة "الحاج عمران" العراقيّة. بعد عدّة أيّام، جُمع عناصر موقع "عمّار" الفدائيّ، فقد شعروا بضرورة وجود الفرقة في المنطقة. ذهبت مع 15 عنصرًا من وحدة الاستطلاع برفقة "حميد باكري، مصطفى مولوي، سعيد فقيه وعلاء الدين نور محمد زاده" إلى هناك.


وصلنا عند المغيب إلى "نقده". وبالتنسيق مع إدارة التربية والتعليم لمنطقة "نقده"، تحوّلت إحدى المدارس إلى مقرٍّ لنا. لدى وصولنا توضّأنا وتهيّأنا للصلاة. ما إن مُدَّت البُسط، واصطفّينا حتى وصل الأخ "مهدي باكري" وانضمّ إلى صفوفنا. حينها أصرّ الجميع عليه ليؤمّنا في الصلاة.

- أخ مهدي! تفضّل لتؤمّنا في الصلاة.

لكن الأخ مهدي أجابنا بطريقة كمَّت أفواهنا جميعًا.

- لا مكان لي في محضر السيّد "صادق".

نمنا ليلتنا في غرفةٍ كبيرة من غرف المدرسة. ما فتئ كلام الأخ "مهدي" حول السيّد "صادق" يتردّد في ذهني. كان السيّد صادق مميّزًا متخلقًا بالكثير من الحسنات. لقد تعرّفت إليه في عمليّات "والفجر التمهيديّة"، حيث كنت أنام بينه وبين "فيروز وفوري"، وأستمع إلى نصائحه التي كانت تستمر حتّى ساعات متأخرة من الليل. رحت أتساءل كيف له أن يراقب عملي بهذه الدقة، وهو ينجز العمل بنفسه؟! كان يقول: "كنْ متعاونًا أكثر مع الإخوة يا 'مهدي قُلي'! يمكنك أن
 
 
 
 
173

160

وحدة شهداء كربلاء

  تتصرّف بلطفٍ أكثر معهم.. لا تكن حادّ المزاج.. شارك في الأنشطة الجماعيّة..". كان السيّد دقيقًا جدًا بالنسبة لأعمال الكنْس والتنظيف وغسل الأطباق، والمداومة على المشاركة في صلاة الجماعة وغيرها من الأمور، ويوجّه إليّ الملاحظات بطريقةٍ لطيفة جدًّا، وكان مسلكه مطابقًا لما يقوله، ففي الأيّام التي كثُرَت فيها ادّعاءات بعض الإخوة حول رؤية إمام الزمان، وطردهم من صفوفنا، كان يقول لي وبكلّ سعة صدر، "لا تتدخل في مثل هذه الأمور، فلكلّ عملٍ مسؤوله الخاصّ. إذا أردت أن تفكر وتقوم بأمر ما، فما عليك سوى التفكير بكيفية توجيه وإرشاد القوات بكلّ دقة ليلة الهجوم".


في تلك الليلة، صلّينا جميعًا بإمامة السيّد صادق الذي كان حينها في الـ 18 من العمر. كان السيّد صادق عنصرًا عاديًّا في وحدة الاستطلاع عندما شارك في عمليات "والفجر التمهيدية"، ثم تدرّج شيئًا فشيئًا حتى أصبح مساعد قائد الوحدة.

كان صاحب عقل لامع، وراهن أكثر القادة عليه في نجاح الفرقة. كان يضع الأمور في مواضعها، الصداقة والإخوة والاستطلاع والمعارك.

في الصباح، جاءنا السيّد "مصطفى مولوي" بخبر غير متوقّع.

- أيّها الإخوة! عافاكم الله.. لقد وصلنا إلى هنا معًا، لكن من هنا سنعطيكم حافلة صغيرة "ميني باص" لتنقلكم إلى مدينة "تبريز" في إجازة لمدّة 15 يومًا.

لقد صُدمنا!
 
 
 
 
 
174

161

وحدة شهداء كربلاء

 - لِمَ الإجازة وسط العمل؟!


كان هذا سؤال الجميع، لكن علمنا أنّ القرار قد اتُّخذ من قِبَل السيّد "مهدي" والقادة الآخرين، نفّذناه من دون أيّ اعتراض. شعرتُ أنّ هذه الإجازة المفاجئة مرتبطة بالقلق الذي يساورني.

لقد وصلني خبر مرض أبي الشديد عبر رسالة خطية واتصال هاتفي عندما كنت في "سربل ذهاب"، وكثيرًا ما كان يراودني في أحلامي، فصرت قلقًا من أن لا أراه ثانية، لذلك رحّبت أكثر من غيري بهذه الإجازة.
 
 
 
 
175

162

وحدة شهداء كربلاء

 عندما رجعتُ بعد ثلاثة أشهر إلى المنزل، عاينتُ حالة أبي ووحدة عائلتي، فلم أرد أن أتركهم، ولا أن أكون بعيدًا عن والدي العجوز والعليل في أيّامه الأخيرة. لقد شخّص الأطباء: إنّه مصاب بمرض عضال في معدته. ولأنّني تصوّرت أنّ حاله ستتحسّن، أصررتُ على نقله إلى المستشفى وإجراء عملية جراحية له. بقي في المستشفى مدّة 10 أيّام، رافقته خلالها وحاولت تعويضه بعضًا من محبّته وحنانه.


مرَّ صيف عام 1983م بطيئًا، وكان يعتصر قلبي الحزن والألم لابتعادي عن الجبهة ولمعاناة والدي، فكان عزائي الوحيد لقاء صديقي "محمد محمد بور" الذي ابتعد عن الجبهة أيضًا. فقد كنت أقضي معظم أوقاتي في المنزل، إمّا إلى جانب والدي المريض أو في الدراسة.

اجتزتُ الصفّ الثالث المتوسط بنجاح، وحاولت دراسة الصفّ الثانوي الأول، والمشاركة في الامتحانات النهائية في شهر آب. كنتُ أفكر أنّه لا يجدر بي - مع هذا الطريق الذي اخترته - أن أتكاسل وأتقاعس عن الدراسة. لم يبقَ غير شهرٍ واحد على الامتحانات، فكنتُ أدرس بجدٍ. ونجحتُ في الصفّ الثانوي الأول - أدبي نجاحًا باهرًا.

جاء الخريف، وانشغلت بالذهاب إلى المدرسة، لكن لم تعد صفوف الدراسة تجذبني إليها، فرجّحتُ العودة إلى الجبهة، لأطالع دروسي هناك، ثم أعود لأشارك في امتحانات نهاية العام. كعادتي ذهبت يومًا إلى المدرسة، لكن انتابني قلقٌ شديد، فلم أستطع البقاء إلى الظهر.
 
 
 
 
176

163

وحدة شهداء كربلاء

 عدتُ إلى المنزل بسرعة. لم يكن حال الزقاق كما العادة. عندما وصلت إلى باب المنزل ورأيتُ جموع النّاس، أدركتُ سبب قلقي، لقد فارق أبي الحياة.


كان لي أربعة إخوة وأخوات أصغر منّي سنًّا، أمّا إخوتي وأخواتي الأكبر منّي سِنًّا، فكانوا منشغلين بمنازلهم وعائلاتهم. لذا تحتمّ عليَّ البحث عن عمل لإعالة عائلتي. أخذتُ قراري، وذهبتُ إلى مراكز الالتحاق بالحرس الثوري، شُكِّل ملفٌ لي هناك ثمّ بدأت أجري المقابلة تلو المقابلة. كنتُ قد عرفتُ من الإخوة مدى صعوبة الالتحاق بصفوف الحرس الثوري، كانوا يقولون تعليقًا على المقابلات التي تجريها إدارة الحرس "حتّى إنّ الإمام نفسه سيعجز عن الالتحاق بصفوف الحرس"، لذا كان الإمام يردّد: "ليتني كنتُ أحد عناصر الحرس الثوري!" أدركتُ أثناء قطع مراحل الانتساب للحرس، مغزى كلام الإخوة أكثر فأكثر، كان عليَّ الإجابة عن أسئلة متعددة أثناء المقابلات، عن مواضيع عقائدية وفقهية وسياسية معاصرة.

ماذا كنت لتفعل في المسألة الفلانيّة؟!

- كيف تفسّر استخدام "مجاهدي خلق"1 للآية القرآنية في شعارهم؟!

بالإجابة بنعم أو لا، أو الإجابات العامة، قطعت هذه المرحلة وأُرسلتُ في دورة تأهيلية إلى "خاصبان" حيث معسكرات التدريب.
 

1- ويطلق عليهم منافقي خلق.
 
 
 
177

164

وحدة شهداء كربلاء

 نقلونا إلى ثكنة "7 تير"1 المقابلة لمصفاة "تبريز" النفطيّة، حيث بدأت دورة تدريبية. لم أكن لأتصوّر التدريبات النهارية المكثفة حتى في الأحلام. كان مدرّب المهارات القتالية يُصدر أوامر للاستيقاظ ليلًا لنقوم بجولة من الركض اللّيليّ، وكذا يفعل مدرّب حفر المتاريس ومدرب التخريب وغيرهم.


لم تكن التدريبات وفق الأصول المتّبعة، بل كانت تهدف إلى زيادة لياقتنا البدنية، لكن كثافتها في بعض الأحيان، جعلتنا حتّى نحن الذين قضينا أشهرًا عديدة في الجبهة واعتدنا على المسير الطويل والأعمال المشابهة، ننهار ونسقط أرضًا من شدّة الإعياء. على سبيل المثال، كانوا يجعلوننا نركض من ثكنة "7 تير" إلى أيّ مكانٍ يشاؤون، ونصل أحيانًا إلى "خسروشهر" البعيدة حوالي 100 كلم عن الثكنة، ونرجع إليها ركضًا أيضًا.

اعتدنا على دخول المدرّب، حتى أثناء تناول الطعام ثم يتبعه إطلاق النار المتتالي، انفجار القنابل اليدوية الصوتيّة، الركض في محيط الثكنة، الزحف وغيرها من التدريبات الأخرى.

لم أكن لأعترض على أيٍّ منها، إلى أن ألمّ بي مرض شديد في إحدى اللّيالي، فقد ارتفعت حرارتي والتهب حلقي بشدّة. ذهبتُ إلى المركز الطبيّ، فقالوا لي - من دون إعطائي وصفة طبية أو تقريرًا للاستراحة: "اذهب، فأنت لا تعاني من أيّ شيء". اعتقدوا بأنّني أحاول التهرّب من
 
 

1- تير أحد الأشهر الهجرية الشمسيّة 7 تير= 28 حزيران- وقعت فيه حادثة التفجير الإرهابي في المقر الرئيس لحزب الجمهورية الإسلاميّة، راح ضحيتها اكثر من 72 شخصية بارزة من مسؤولي الجمهورية الإسلاميّة من بينهم أية الله السيد محمد حسيني البهشتي، رئيس القضاء/ الديوان الأعلى للبلاد آنذاك.
 
 
 
178

165

وحدة شهداء كربلاء

 التدريبات. في تلك اللّيلة جرت تدريبات ليلية، ولم أكن قادرًا على الحركة، فجاء المدرّب وأمرني بالنهوض بركلة من قدمه. بعد تلك الركلة بقيتُ طريح الفراش حتّى الصباح. كنتُ أعلم أنّ الهدف من هذه القسوة، رفع جهوزيّتنا واستعدادنا ومقاومتنا، لكنّني ضقت ذرعًا من تصرّفاتهم. كان قد مضى 45 يومًا على بدء الدورة، عندما سمعنا خبر بدء عمليات "خيبر" عبر المذياع. لم أستطع بعد سماع صوت نفير العمليات أن أهدأ أو أستكين. كنا ننتظر أفواه قادتنا لتنطق بأوامر الالتحاق بالجبهة، لكن من دون جدوى. لذا تقدّمتُ بنفسي وطلبت الذهاب إلى الجبهة، لأنني ما استطعت تحمّل عدم المشاركة في العمليّات أكثر من ذلك. حيث إنني لم أشارك لا في عمليّات "والفجر 1" ولا في "والفجر 2" ولا حتّى "والفجر 3"، التي جرت بعد عشرة أيّام على عمليات "والفجر 2"، وأدّت إلى تحرير مدينة "مهران".


بدأت عمليّات "والفجر 4" أواسط شهر تشرين الأول من عام 1983، تزامنًا مع أيّام العزاء بوفاة والدي، وقد اكتفيت حينها بمشاهدة صوره فحسب. لقد ألهب فؤادي نبأ استشهاد "رضا أحمد" والسيّد "صادق عيوضي" في عمليات "والفجر 4"، لكن لم يكن باليد حيلة، وكدت أخسر المشاركة في عمليّات "خيبر" أيضًا. لم يلق إصراري أنا وزملائي في الدورة على الذهاب إلى الجبهة، آذانًا صاغية. لذا اغتنمت الوقت وحصلت على إجازة مدّة ساعة واحدة، وعدتُ إلى مدينة تبريز، وذهبتُ إلى مركز تطوع التعبئة، حيث نظموا لي ملف الالتحاق بصفوفهم، وفي اليوم التالي اتجهت نحو منطقة العمليات، وما عرفت ماذا حلَّ بتلك الدورة أبدًا.
 
 
 
 
179

166

أيّام زيد

 أيّام زيد


شتاء وربيع 1984م
ها هو الفتى الذي ألفتْ روحه صداقات غير عادية، يرتجفُ بردًا ويحترق حبّا يُذاب به الجليد القارس.

ها هي الاكتشافاتُ لمزيد من المناطق الجغرافية، وللتدريبات المتقدمة، والعمليّات المتأهبة، توصلني إلى المهام المكثفة، والمتغيّرات في الأحوال والدروس، مزيدٌ من صفات العدو تظهر في المحاور، وتكِلني إلى التمرّس في شتاء "بزرك"، وربيع "زيد".
 
 
 
 
181

167

أيّام زيد

 يقع مقرّ فرقة "عاشوراء" في مخفر "برزكر"1، في منطقة عمليات "خيبر" العامة. وقد تموضعت وحدة الاستطلاع في المكان نفسه. كان المطر ينهمر بغزارة عندما وصلتُ وحدي إلى المقر. وقد فاضت مياه الأنهار كنهرَي "كارون" و"كرخه"، وغمرت المنطقة بأسرها. نال مقرّ الفرقة نصيبه من هذا الفيضان، حيث غمرت المياه أغلب خيمه. ذهبت إلى مقرّ الوحدة الذي أحاطته هالة من الحزن. رأيت وجوهًا جديدة، فقدامى الأصدقاء صاروا إما في عداد الشهداء أو في عداد الجرحى، حتّى الأصحّاء منهم لم يكونوا أفضل حالًا من الجرحى، إذ كانوا خائري القوى منهَكِين بعد خوضهم المعارك القاسية. تجدّدت أحزاني لفراق الأحبّة: "السيّد صادق عيوضي، علي رضا حسن زاده، فيروز وفوري، وأكبر جهان بخشي" وغيرهم.


كان شباب وحدة الاستطلاع في منطقة عمليات "خيبر"، يأتون إلى مقرّ الوحدة للاستراحة، حيث تعرّفتُ إلى وجوهٍ جديدة، كان "خسرو ملّا زاده" من العناصر الجدد الذين أُعجبتُ بهم من اللقاء الأول. كان شابًّا في مقتبل العمر، ضخم الجثّة وقد أُصيب أثناء عمليات "والفجر 1" بشظيّة في عموده الفقريّ، لكنّه كأغلب الإخوة الذين ألِفوا تراب الجبهة، لم ينسحب أو يتراجع وبقي في الخطوط الأماميّة. سُرعان ما بدأ مسؤول وحدة الاستطلاع الأخ "مصطفى مولوي"، يعيد هيكلية العناصر
 

1- برزكر: BARZGHAR.
 
 
 
182

168

أيّام زيد

 - سواء الجُدُد أو القدامى - في ثلاث فرق، وقد عُهد إلى العناصر القدامى تدبير أمرهم. لم تمرّ بضعة أيّام حتّى جاءت الأوامر بالانتقال إلى منطقة في سهل "آزادكان" القريب من مدينة "سوسنكرد". كانت طبيعة المنطقة رمليةً قاحلةً، غير ذات زرع، رياحها عاتية وسماؤها مغبرّة مكفهرّة. سُرعان ما أطلق الإخوة عليها اسم "توز آباد" وهي كلمة تركية تعني "كفْر الغبار".


بالرغم من التحاق عناصر جدد بها، ظلّت الوحدة تعاني، كما في السابق، من نقص في العديد. لذا شرع عددٌ من الإخوة القُدامى في الوحدة بالبحث والتفتيش بين صفوف الكتائب عن عناصر مناسبين للعمل في الاستطلاع، ثم يعرّفونهم إلى مسؤول الوحدة أو الأخ المعني في الاستقطاب. وقد زرت أنا والأخ "مولوي" عدّة مرّات مقرّ الفرقة الكائن في مدرسة الشهيد "براتي" في الأهواز.

في الحقيقة، كانت المهمّة الرئيسية لـ"توز آباد" استقطاب وتنظيم العناصر الوافدين والمتطوعين من المدن.

كانت أيّامي في "توز آباد" وطقسها المغبرّ باستمرار ممزوجة بلذّة مجاورة قائد فرقتنا الأخ "مهدي باكري". فقد نُصبت خيمة الاستطلاع إلى جانب خيمة القيادة، وكانت علاقتي بالسيّد "مهدي باكري" تتوطّد يومًا بعد يوم. بعد استشهاد أخيه "حميد" و "مرتضى باغتشيان"1، معاوني فرقة "عاشوراء" في عمليات خيبر، أصبح السيّد "باكري" أكثر
 

1- باغچيان: Baghchian
 
 
 
183

169

أيّام زيد

 غربة. وكان يلفّ وجهه مسحة من الحزن والأسى لاستشهاد وأسر عدد كبير من مقاتلي فرقة عاشوراء القدامى والأبطال في عمليات خيبر. كان الجميع يعلم مدى محبّته للتعبويين، وكُنّا نستشفّ مدى عطفه وقلقه عليهم في كلّ كلمة من كلماته، وكلّ حركة من حركاته، لكنّه في الوقت نفسه لم يكن ليتهاون في أمورٍ كالإسراف وغيره، وكان يحاسب حتّى التعبويين الأعزّ على قلبه على ذلك. وبرغم مشاغله الكثيرة في قيادة الفرقة، لم يتوانَ عن القيام بأصغر الأعمال الشخصية الخاصة به.


وبهدف وقف زحف الرمال على مدينة الأهواز، عمدوا إلى زرع شُجيرات صحراوية صغيرة، تحوّلت مع مرور الوقت إلى غابة في قلب الصحراء. كان لتلك الغابات جميع خصائص الصحراء، ما عدا شُجيرات الـ"الكز"1 التي أصبحت زينة الرمال ومأوى الحيوانات والحشرات كالعقارب والأفاعي والعناكب القاتلة، فكان خطرها على حياتنا أكثر من خطر مناخ وطبيعة "توز آباد" نفسها. انتقل مقرّ الفرقة إلى إحدى تلك الغابات التي لا تبعد كثيرًا عن "توز آباد"، فأطلق الإخوة اسمًا جديدًا على المقرّ:"جنكل آباد" أي "كَفْر الغابة".

بعد مدّة، أُرسلتُ أنا و"مهدي داودي، ويعقوب شكاري، ورضا بور جواد والسيد مرتضى زعفرانتشي" للمشاركة في دورة تمهيدية للاستطلاع أُقيمت حديثًا، بناءً على توصية من الأخ "مصطفى مولوي". أُقيمت الدورة في "ثكنة الخاتم" الواقعة على بُعد 30 كلم من "آبادان"
 

1- گز: GAZ
 
 
 
184

170

أيّام زيد

 (عابدان)، كانت هذه الثكنة مقرّ الفرنسيين المشاركين في اتّحاد شركات النفط (كارتيل) زمن الشاه. استخدمها الحرس الثوري بعد الثورة وزمن الحرب المفروضة ثكنة له.


عندما وصلنا إلى هناك، علمنا أنّ عناصرَ من سائر الفرق قد قدِمَت أيضًا. بدأت التدريبات مباشرةً، قراءة الخرائط، معرفة الاتجاهات، التعرّف إلى المحاور والتدريبات العملانية في اللّيل وغيرها. رسَم أحد المسؤولين في الثكنة صورة مفتاح على ظهر ملابسه وكتب تحته "مفتاح الجنّة". كان "مفتاح الجنّة" المدير الداخلي للثكنة ويعامل المتدرّبين بكثيرٍ من الحزم، فلا إجازات ولا برامج أخرى غير التدريبات المكثّفة. ما أدّى إلى تأجّج الشوق في داخلنا لأجواء الفرقة العذبة بعد أسبوع واحد من الدورة. لم يكن من أملٍ في الحصول على إجازة من "مفتاح الجنّة". في النهاية، سلّمنا أمرنا لله وزدنا حرف "ر" إلى حرف "د"، "دُرْ"، وهو اصطلاح تعارف الإخوة عليه عند تصميمهم على الفرار، وهكذا لذنا بالفرار إلى الفرقة.

حدثت تغيّرات أثناء ابتعادنا مدّة أسبوع عن الفرقة، فقد عيّن الأخ مهدي "مصطفى مولوي" نائبًا له، وعهد بمسؤولية وحدة الاستطلاع للأخ "كريم فتحي". كان أغلب عناصر الوحدة الذين جُرحوا في عمليات "خيبر" قد عادوا والتحقوا بالفرقة ثانيةً. فاختار المسؤول الجديد للوحدة ثلاثة من بينهم وعيّنهم مسؤولين عن مجموعات الاستطلاع، وهم: "قادر حميد نجاد، محمد محمّدي، وكريم حرمتي". دبّت الحياة في جسد الوحدة من جديد، وجذبتني الأجواء بشدّة إليها.
 
 
 
 
185

171

أيّام زيد

 - كيف لي أن أدع كلّ هذا وأعود إلى الدورة؟!


- أنا لم أعُد أتحمّل صرامة "مفتاح الجنّة"!

- إذًا؟!..

ذهبنا إلى المسؤول الجديد وتحدّثنا إليه. وهكذا تركنا الدورة والتحقنا بمجموعات الاستطلاع، ومن دون أن أدري، التحقتُ بمجموعة "محمد محمّدي".

كان للحياة في "جنكل آباد" (كفْر الغابة)، إلى جانب الشباب في الفريق (المجموعة) حماسة وطعمٌ آخر. أدركتُ منذ اليوم الأول أنّ أكثر الشباب شغبًا في الوحدة موجودون في خيمةٍ واحدة وهم: "خسرو مُلّا زاده، داود قريشي، محمد حسين علي برستي، توحيد فام، السيد قدير غني زاده"، وغيرهم وقد انضممتُ إليهم، فاكتمل نصابنا. حتّى إنّ "محمّد محمّدي" كان يتميّز بخصائص حصرية، ويؤمن بالعناصر المشاكسة والماهرة، لذا فُتح الباب على مصراعَيه أمام حيلنا.

أعطونا وجبة الغداء في أحد الأيام: لبن مبستَر، لكن لسوء حظّنا، كان اللبن قد حمض طعمه فلم نذقه. وفيما كان كلّ واحد منّا يحمل علبة اللّبن الخاصة به ويصفها بأوصاف مضحكة. دخل علينا "خسرو مُلّا زاده"، تزامنًا مع إطلاق أحد الإخوة للرصاص، فرمينا جميعنا اللّبن على "خسرو مُلّا زاده" الذي قال بالتركيّة وقد غطّاه اللّبن من رأسه إلى أخمص قدمَيه: "لقد تسلّق المُزاح شجرتنا"، أي إنّ المُزاح قد زاد عن حده. ومنذ تلك الحادثة، أصبحت هذه العبارة متداولة في الجبهة،
 
 
 
 
186

172

أيّام زيد

 تُستخدم عند كلّ مُزاحٍ يزيد عن حده.


لم تقتصر شقاوتنا على فريقنا فحسب. ففي إحدى المرّات، دخل الأخ "حرمتي" مسؤول إحدى المجموعات، بشكلٍ خفيّ إلى خيمتنا، فألقينا القبض عليه بصفته جاسوسًا، وأوثقناه بالحبل جيّدًا، ثمّ ضربناه ضربًا مبرّحًا، بعدها وضعنا عليه كلّ ما لدينا من بطانيات وخرجنا من الخيمة. بعد صلاة الظهر، عدنا إلى الخيمة ونزعنا البطانيات عنه، كاد يهلك من شدّة العطش. صببنا الماء في فمه، ثمّ حللنا وثاقه وتركناه يرحل، كان ذلك عقابًا قاسيًا لجاسوسٍ، خاصّةً في طقس خوزستان الذي بلغ ارتفاع حرارته 40 درجة، مع يدين وقدَمَين مقيّدَتَين وتحت هذا الكمّ من البطانيات.

منذ ذلك الحين، قلّما تجرّأ أحد على التسكّع بمفرده أمام خيمتنا. في المقابل، وقعنا أكثر من مرّة في أفخاخ مجموعات الفرق الأخرى، حيث علق بها عددٌ من الإخوة الأشدّاء، وبقوا لعدّة ساعات معلَّقين في الهواء بين السماء والأرض.

إلى جانب تلك الشقاوات (المشاغبات) كانت تحدث أمورٌ تدلّ على مدى تقيُّد الإخوة بالأمور الشرعية في كل الظروف. على سبيل المثال، في إحدى المرّات أمسك الإخوة بأبقارٍ تائهةٍ في الغابة بحثًا عن الماء والكلأ، فحلبوها ومن ثمّ ربطوا مبلغًا من المال في قرن إحداها ثمنًا لما حصلوا عليه من حليب، ثمّ تركوها وشأنها.
 
 
 
 
 
187

173

أيّام زيد

 في أحد أيّام شهر أيّار من عام 1984م، طلب منّا الأخ "فتحي"، أنا و"محمّد محمّدي، وداود قريشي، ومحمد حسين علي برستي، وخسرو مُلّا زاده" مرافقته إلى المدينة لعمل ما. كان كلّ شيءٍ يسير بشكلٍ طبيعيّ إلى أن انتبهنا أنّ مسيرنا لا يؤدي إلى المدينة، فقد اتّجهنا نحو "خُرَّمشهر" و"مثلّث الحسينية". من هناك انعطفنا إلى طريقٍ مؤدٍّ إلى منطقة "زيد". كانت منطقة "زيد" تشكّل الخطّ الأمامي لقوّاتنا، المواجه لمنطقة "البصرة" العراقية. عند وصولنا، التقينا الأخ "حسين كربلائي"1 والأخ "مرغوب داداش زاده"، كانا مسؤولين في كتيبة "كربلاء". أدركنا هناك أنّنا جئنا في مهمّة جديدة.


استطعنا أن نكوّن فكرة عن المنطقة من خلال أعمال الرصد في مرصدٍ من على برج يرتفع 25م ويقع بالقرب من مخفر "زيد" العراقي. في الواقع، كانت تلك المرّة الثانية التي نطّلع فيها على تفاصيل خطّ الجبهة الأمامي. تعرفنا هناك إلى جزئيات منطقة عمل "فرقة عاشوراء" وحدودها، وأدركنا أنّنا بصدد واحدة من أصعب المهام التي قُمنا بها حتّى ذلك اليوم. وما دلّنا على صعوبة المهمّة طبيعة منطقة "زيد" الاستراتيجية الواقعة في نطاق محافظة "البصرة" العراقية، فهي تؤدّي من الغرب إلى الداخل العراقيّ، ومن الشرق إلى "مثلث الحسينية"، ومن الجنوب إلى "شلمجة" ومن الشمال إلى منطقة "كوشك". كان
 
 

1- كربلائي: من الوجوه العظيمة والمجهولة في الحرب وقد استُشهد في عمليات "كربلاء 5".
 
 
 
188

174

أيّام زيد

 النظام العراقي وقبل بدء حربه على إيران، قد حصّن المنطقة لمواجهة القوات الإيرانيّة. ومن أبرز ما قام به، إنشاء قناة لتربية الأسماك..1، إضافة إلى التحصينات العسكرية التي بناها العراقيون على امتداد المنطقة في سنوات ما قبل الحرب.


لقد حُصّنت منطقة "زيد" من الاتجاهين بسواتر ترابية هلالية ومثلّثة الشكل. استخدم العراقيون أيضًا هذه السواتر في مناطق "شلمجة وطلائية وكوشك"، وقد امتدّت سواتر طلائية وغطّت جزءًا من منطقة عمليات "زيد".

من خلال تجاربنا في عمليات "رمضان"، عرفنا إلى أيّ مدى يمكن أن تعرقل السواتر الترابية الهلالية والمثلّثة الشكل سير العمليات. يبلغ ارتفاع هذه السواتر مترَين، وتتركّز وظيفتها على إتاحة الفرصة أمام الجناح (الساتر) الثاني للتدخّل في حال تمّ اختراق الخطّ الدفاعي (الساتر) الأمامي، وحتّى لو سقط (الساتر) الثاني، فإنهم يستطيعون الدفاع من خلف الساتر الثالث. في الواقع، إذا اخترقنا الخط المتقدم فإنه علينا التعامل مجددًا مع جناحَين آخرين، وهذان الجناحان (الساتران) يحيطان بنا ويشكّلان نحوًا من الحصار لنا، ما يصعّب مهمّتـنا أكثر فأكثر. هكذا، ونظرًا لسرعة تحريك العدو لقواته الاحتياطية، يستطيع سدّ الثغرات بسهولة كبيرة ومنع سقوط خطّهم الدفاعي. وما كان يدلّ على أهمية منطقة "زيد" بالنسبة إليهم هو تموضع الفيلق العراقي الثالث بقيادة
 

1- تمتدّ مسافة 25 كلم، من إحدى زوايا مخمَّس "شلمجة" إلى "طلائيّة"، وتمرّ خلف "نُشوة" وبالقرب من منطقة "زيد".
 
 
 
 
189

175

أيّام زيد

 "ماهر عبد الرشيد" فيها. هذا وقد حُوّل خطّ دفاعي ممتدّ مسافة 7 كلم في المنطقة إلى فرقة "عاشوراء"1.


تقرّر أن تستلم كتيبة "كربلاء" الخطّ الدفاعي من جيشنا النظامي. كُنّا أوّل الواصلين إلى المنطقة للبحث عن مكانٍ مناسب لاستقرار وحدة الاستطلاع وقيادة الفرقة. بعد الاستطلاع عُدنا إلى سدٍّ مائيّ عسكريّ بُنيَ في زمن الطاغوت ويبتعد عن خطّنا الرئيس حوالى 1.5 كلم. وجدنا في ذلك التحصين مكانًا مناسبًا، بدا وكأنّه كان فيما مضى مقرًّا لإحدى وحدات الجيش النظاميّ وتمّ إخلاؤه. بقينا هناك بينما عاد "الأخ فتحي" إلى "جنكل آباد" ليُحضِر مع باقي القوات المعدّات والاحتياجات اللّازمة إلى المنطقة لبناء المتاريس وإنشاء المقرّ.

في الصباح بدأت ورشة العمل. وصلت القوات الجديدة وباشرنا بناء المتاريس معًا. كان قد حُفِر في التحصين مكان لاستقرار الآليات والمدافع وسائر التجهيزات الثقيلة، وضعنا فوقها أعمدة الحديد وغطّيناها بأكياس التراب، فتحولت شيئًا فشيئًا إلى متاريس. وضعنا أيضًا ألواح الصفيح على تلك الأعمدة، وأهالت الجرّافات التراب عليها بارتفاع مترٍ واحد تقريبًا، وهكذا بنينا متاريس متينة تستطيع - على ما
 

1- حُفرت من ساترنا الترابي أقنية بطول 300م تصل إلى حقل ألغام العدوّ، ويستطيع العنصر عبورها وهو منحني الظهر، إضافة إلى ذلك حفرت أقنية متعددة لوصل كل قناتين ببعضهما البعض عرضًا. أدركنا، من خلال استطلاعنا الأوليّ للمنطقة، أنّ المسافة الفاصلة بين ساترنا الترابي وخطّ العدوّ الأمامي غير متساوية، وتتراوح ما بين 1 و1.5كلم-، وتبدأ العوائق على بُعد 400م من ساترنا بحقل ألغام، يليه قناة تمتدّ على طول المنطقة بموازاة خط دفاع العدو، وقد ملئت بالمياه.
 
 
 
190

176

أيّام زيد

 يبدو - الصمود حتّى لو قصفت بقذائف هاون.
خُصّص المتراس الأول من الجهة اليُمنى لفريق (مجموعة) الأخ "محمّد محمّدي"، والثاني لفريق الأخ "حُرمتي"، بينما خُصّص الثالث لفريق الأخ "قادر حميد زاده". عُرف هذا المتراس باسم متراس "بيجن"، ذلك أنّ معاون "قادر" يُدعى "لطف علي بيجن". امتدّت متاريس القيادة والتموين في الجهة اليُسرى، وتولّت مهمّة إمداد القوّات ماديًّا ومعنويًّا. كان متراسنا يقع في الجهة اليُمنى بجوار متراس قيادة الفرقة، وينتهي إلى مسجدٍ كبيرٍ. بقي في ذلك المتراس الأخ "مصطفى مولوي"، الأخ "يزداني" والأخ "مهدي". ولقد أنعم الله علينا بمجاورة الأخ "مهدي باكري" للمرة الثانية.

مع تزايد عدد القوات في الخطّ، نُظّمت البرامج الجماعية ثانيةً. كان معاون الوحدة الأخ الحاج "مصطفى عبدلي" يتمتّع بروحيّة معنويّة طيبة، وببركة وجوده لم نترك قراءة دعاءَي التوسل وكميل أبدًا. فقد كان يقرأ الدعاءين بنفسه، وفي غيابه كُنّا نطفئ الأنوار ونستمع إلى الدعاء عبر آلة التسجيل. كان لتجمّع قوات الاستطلاع في المنطقة تبعاتٌ لاحقة، منها أنّ الأخ "فتحي" فكّر بالقيام بأعمالٍ أخرى.

- علينا ابتداءً من صباح الغد القيام بالبرامج الصباحية.

قال ذلك، لكن أحدًا لم يأخذ كلامه على محمل الجِدّ، إذ لم يحدث أن أُقيمت مثل تلك البرامج في وحدتنا حتّى ذلك اليوم. لكن في اليوم التالي، عندما وقفنا في الطابور خارج المتاريس، أدركنا أنّ الأخ "فتحي" سلب النوم من أعيننا!
 
 
 
 
 
 
191

 


177

أيّام زيد

 - كما تعلمون أيّها الإخوة، فإنّ الشيطان يخلد في أحذيتنا لذا علينا أن نخلعها جميعًا، وأن نركض حُفاة!


قال هذا وخلع حذاءه وبدأ بالركض، كان الطريق الذي اختاره للركض مغمورًا بالمياه في السابق، لذا كانت الأصداف والحصى الصغيرة والكبيرة المسنّنة تملأ المكان. وبما إن قائد المجموعة كان في المقدّمة، لم نجرُؤ على تخفيف السرعة أو الخروج من الطابور. لقد جعلنا الأخ "فتحي" نعدو لدرجة أنّني قلتُ في نفسي عندما توقّفنا: "اصبر، وسأريك كيف يخلد الشيطان إلى أحذية البشر!".

في اليوم نفسه، وبالاتفاق مع "خسرو ملّا زاده"، ذهبنا وجمعنا كلّ ما وجدناه من بقايا مادّة البارود للقذائف المدفعيّة والهاون المُلقاة هنا وهناك، ثمّ وضعناها في عبوة قذيفة مدفعية فارغة. عند منتصف اللّيل، وضعنا العبوة فوق متراس قائد الوحدة، ثمّ أشعلناها ولذنا بالفرار، لم نفكّر أبدًا بعاقبة هذا العمل، وأنّ العدوّ سيلتفت إلى وجودنا ويحدّد موقعنا ويقلب المكان رأسًا على عقب. في الصباح لم تُقَم المراسم الصباحية، بسبب دكّ العدو للمنطقة بالهاون وبكلّ أنواع القذائف. عندما هدأ القصف، خرجنا من مكامننا. كان كلّ شيءٍ مقلوبًا رأسًا على عقب، وقد سقطت قذيفتا مدفعية أمام متراس القيادة!

شيئًا فشيئًا اعتدنا على المراسم الصباحية، وكانت مسافة الركض تزيد يومًا بعد يوم. كان الأخ "حميد اللّهياري" يقف بعد الركض وسط الساحة ويبدأ معنا التمارين الرياضية الخفيفة.

في الحقيقة، لقد
 
 
 
 
192

178

أيّام زيد

 ساعدتنا تلك التمارين مع الركض كثيرًا في تقوية عضلات أجسامنا، وقد ساعدتنا كثيرًا أثناء تنفيذ مهام الاستطلاع. لكنّنا لم نكن نرغب بالقيام بها لما تسبّبه من عناءٍ وتعب، فكُنّا نرسم الخطط على الدوام للتخلّص منها.


بعد عدّة اجتماعات بين قياديّي الوحدة والفرقة، تقرَّر القيام باستطلاع في محورَين، لذا سُلّم متراسان لوحدة الاستطلاع، أحدهما قرب (القناة 7) والآخر قرب (القناة 9). كانت مهمّة فريقنا استطلاع المحور الأيمن، ومن أجل تنفيذ المهمّة انتقلنا إلى المتراس الواقع على مدخل (القناة 7) في الساتر الترابي الأول لخط دفاعنا الأماميّ. بعد أن تموضعنا في المتراس، وجدتُ أعلى الساتر الترابي مكانًا مناسبًا لبناء متراس الرصد. وضعنا هناك منظارًا "أرنبيًّا"1، وبدأنا عمليات الرصد مباشرةً. كنت أنزعج كثيرًا عندما أرى العراقيين يجولون في المنطقة بلا خوف أو ارتباك.

- ما هذا؟! وكأنّهم ليسوا في الخطوط الأماميّة، ويخالون أنفسهم في نزهة!...علينا أن نفعل شيئًا.

من الطبيعي أن لا يعلم العراقيون بالتغيرات الحاصلة في خطّنا الدفاعي، وهم ما زالوا يعتقدون أنّ الأوضاع هادئة كما في الأيّام الخوالي، فكانوا يتنقّلون هنا وهناك بكلّ حريّة، لكن من الصعب علينا
 

1- المنظار الأرنبيّ: مؤلّف من منظارَين تلسكوبيَين لهما وصلة عمودية يثبت منظار على رأسها؛ والمنظار الآخر وعدسته التي يراقب الراصد من خلالها في الأسفل، ما يساعد الراصد في أعمال الرصد من دون تعرّضه لخطر رصاص وشظايا الأعداء.
 
 
 
 
193

179

أيّام زيد

 تحمّل هذا الوضع، لذا بدأنا تنفيذ خطة للحدّ من تحركاتهم مستخدمين طريقة "خسرو" المبتكرة في إطلاق النار. كان "خسرو" قد وصل قطعة من المطّاط الأبيض من رأس "الشعيرة" في سلاحه إلى ثقب "مسطرة المسافات" (الفرضة)، عندما يصوّب سلاحه نحو الهدف وتظهر قطعة المطّاط كنقطة بيضاء صغيرة، كان يُطلق النار، وما من شكٍّ أبدًا بدقة إصابة الهدف بهذه الطريقة، وقد قلّدنا "خسرو" واستخدمنا طريقته المبتكرة في الإطلاق.


في اليوم الأول قال "خسرو": "سنجبرهم على البقاء داخل القناة". لقد دُهشنا كثيرًا عندما لم يخرج أيّ منهم في اليوم التالي.

- حسنًا، سنجبرهم من الغد على اعتمار الخوذات المعدنيّة.

وفي اليوم التالي، كان جميع العراقيين يعتمرون الخوذات إلا أنّهم لم يأخذوا الأمر على محمل الجدّ كما يجب.

- علينا القيام بأمرٍ يجعلهم يسيرون في القناة وظهورهم منحنية.

كان عملًا شاقًّا، لكنّه أثمر في النهاية، فقد أُجبر العراقيون بعدها على أخذ جانب الحيطة والحذر في كلّ تنقّلاتهم وتحرّكاتهم، لكنّهم عاملونا بالمثل أيضًا. هكذا أعدنا للخطّ هيبته.

في إحدى اللّيالي، بقيتُ أنا والأخ "علي برستي" في متراس الخطّ الأمامي، بينما رجع الباقون إلى المقرّ. استيقظنا منتصف اللّيل فزعين على صوت انفجار مرعب.

وقد قذفتنا موجة الانفجار عاليًا. خرجنا بسرعة من المتراس، بعد أن انجلى الغبار اتضح لنا أنّ قذيفة هاون 80 ملم قد سقطت على
 
 
 
 
 
 
194

180

أيّام زيد

 متراسنا! لكنّه لم يتضرّر بفضل قوة تحصينه. عدنا إلى الداخل وحاولنا النوم مجدّدًا إلّا أنّ نيران العدوّ لم تهدأ.


عندما حان وقت الاستطلاع الأول، اصطحبني مسؤولنا العزيز الأخ "محمدي" معه في هذه المهمة، إذ وجد لديّ اللياقة المطلوبة. تملّكني القلق من هذه العملية، فقد كانت منطقة العدوّ مجهولة بالنسبة إليّ، وخاصّة أنّنا لم نكن نملك أيّ معلومات دقيقة عن تحرّكات العدوّ اللّيليّة، وجلّ ما كنّا نعرفه لم يتعدّ المعلومات العامة. كنت أفكر بمدى صعوبة هذه المهمّة، لذلك احتطنا واصطحبنا عنصر احتياط وهو السيّد "قدير غني زاده". دخلنا (القناة 7)، وفي منتصف الطريق خرجنا من القناة وانعطفنا يسارًا نحو حقل الألغام. كان العدوّ متيقّظًا، لا ينفكّ يقصف المنطقة بالقنابل المضيئة. شعرنا تحت ضوء هذه القنابل، أنّنا أصبحنا تحت نظر العدو بشكلٍ مباشر. كنّا نسير ببطء، والبوصلة في يد "محمدي". سرنا في زاوية 280 درجة، ووصلنا بعد مسافة 200م إلى مكانٍ مناسب لتموضع عنصر التأمين، وكان عبارة عن تلّ ترابيّ صغير يستطيع شخص واحد الاختباء خلفه بصعوبة. تركنا السيد "قدير" هناك وتابعنا نحن طريقنا. كان الهدف في هذه المهمّة استطلاع حقل ألغام العدوّ وأنواع العوائق المستخدمة فيه. اعتقدنا أنّنا ما زلنا بعيدين عن حقل الألغام، ولم نكن ندري في ظلّ حركتنا البطيئة هذه، متى سنصل إلى الهدف. فجأةً عمَّ الهدوء المكان، وانقطع صوت الرصاص كما توقّف إطلاق القذائف المضيئة. استغللنا فرصة الهدوء ومشينا بسرعة. لم نتقدَّم أكثر من 150 قدمًا، فجأةً أُضيءَ المكان بأكمله. انبطحنا بسرعة
 
 
 
 
195

181

أيّام زيد

 على الأرض، تسارعت أنفاسي، وتمنيت لو يعمّ الهدوء ثانية فنتمكّن من الوصول إلى الحقل. كنت أفكّر بهذا الأمر، عندما لمع شيء بالقرب منّي تحت ضوء القذيفة المضيئة، لم أكن أصدّق، إنّه لغم مضيء1. تبدّلت أحوالي:

- إلهي ما أرحمك!

كنت على بُعد خطوة واحدة فقط من حقل ألغام رُصف في بدايته صفٌّ من الأفخاخ المضيئة. والله وحده يعلم ما الذي كان ليحدث لو تقدّمنا خطوة واحدة فقط. لم تكن تلك المرّة الأولى التي أُدرك فيها وبجميع جوارحي معنى "الإمداد الغيبيّ"، ولكن كان الشعور مختلفًا هذه المرّة. بقينا هناك وتابعنا استطلاع المنطقة بواسطة المنظار الليلي. كنّا نسمع أصوات العراقيين على بُعد خطواتٍ منّا، لكنّهم لم ينتبهوا إلى وجودنا. استطلعنا جميع العوائق المستخدَمة في الحقل بواسطة المنظار اللّيلي، وتمكنّا من تكوين فكرة وافية عن طبيعة الحقل، صفٌّ من الألغام المضيئة، يليه سلسلة من الأسلاك الشائكة، تليها على بُعد مترَين، ثلاث حلقات من الأسلاك الشائكة الحلقيّة الموضوعة فوق بعضها بعضًا، بعدها صفّ من ألغام "فالمارا" التي رُصفت على شكل (XX). نفّذنا المهمّة على أكمل وجه. كنتُ أشاهد بالمنظار العراقيين المنهمكين بتبادل الأحاديث غافلين عن وجودنا بالرغم من ضوء القذائف الذي أضاء المكان. كانت ألسنتنا تلهج بآية "السدّ"، انسحبنا بحذر إلى
 

1- نوع من الألغام المضيئة المنصوبة على قواعد متينة ترتفع في العادة 40 سم عن سطح الأرض، تتّصل بواسطة الأسلاك ببعضها بعضًا، ومع اصطدام الأقدام بها، تنفجر وتضيء المكان.
 
 
 
196

182

أيّام زيد

 الوراء. وصلنا إلى السيّد "قدير"، ومن هناك عدنا نحن الثلاثة إلى المتراس.


في الصباح، كتبنا تقريرًا عن مهمّتنا وقدّمناه إلى قائد الوحدة.

كان مسؤول الوحدة يضغط علينا كثيرًا، وكان علينا، بأيّ طريقة ممكنة الدخول إلى حقل الألغام واستطلاع المكان حتّى خطّ الأعداء الأمامي. انطلقت تلك اللّيلة مع الأخ "علي برستي". بناءً على تجاربنا السابقة، وضعنا خطّةً خاصّة لتحرّكنا. كان علينا البحث عن معبرٍ داخل حقل الألغام لاستخدامه. وكنا متأكدين أنّ الأعداء قد شقّوا لأنفسهم معابر وسط الحقل وأن اكتشافها سيمكننا من النفوذ إلى عمق جبهة الأعداء، وإلّا سيتوجب علينا نزع الأسلاك الشائكة وتفكيك الألغام. في الحالة الأولى، لن يشعر الأعداء أثناء عمليات التفتيش بأيّ تغيّر حاصل في الحقل، لذا فإنّ عمليات الاستطلاع ستكون أقرب إلى عمل فنيّ دقيق منها إلى عمل عملياتيّ.

اخترنا مكانًا بين القناتَين (5) و(6)، خرجنا من القناة واتّجهنا نحو حقل الألغام، تقرّر أن أجلس وأراقب المكان بينما يسير "علي برستي" ثلاثين خطوة إلى الأمام، ومن ثمّ يجلس هو ليرصد المكان فأتحرّك أنا باتّجاهه. كانت أصوات الرصاص والطلقات المضيئة تُبطئ حركتنا. رحت أستطلع المكان بالمنظار، و"علي برستي" يتقدم. كنتُ أرى الأسلاك الشائكة وأراقب المكان المواجه لي بدقّة، عندما رأيتُ فجأة خمسة عراقيين، كان "علي برستي" يسير نحوهم مباشرةً، وقد ابتعد عنّي كثيرًا فلم أستطع فعل أيّ شيء. كان العراقيّون في حقل رؤيتي.
 
 
 
 
 
 
197

183

أيّام زيد

 ظننتُ أنّهم لم يروا "علي برستي" لذا صبرتُ في مكانٍ ولم آتِ بأيّ حركة. لكن خاب ظنّي، فقد نهض أحد العراقيين وأطلق النار على "علي برستي"، تبعه الباقون وأمطروه بالرصاص. سقط "علي برستي"أرضًا، وبقيت أنا في مكاني لا أدري ما العمل. كنتُ متردّدًا: هل أرجع وحدي وأترك جثمان "علي برستي" بيد الأعداء؟! بينما كنت أفكّر بهذا، رأيتُ "علي برستي" ينهض فجأةً من مكانه ويركض بسرعة نحو خطّنا. كان يعْدو بسرعة فائقة، لدرجة أنّه تخطّاني وأصبحت أنا من يركض خلفه. راح الأعداء يُطلقون علينا نيران أسلحتهم، قذائف "الآر. بي. جي"، الرشاش، والكلاشينكوف. كان الرصاص يسقط عند كلّ خطوة من خطواتنا. أصرّوا بشكلٍ عجيب على قتلنا، لكنّنا وصلنا إلى ساترنا الترابيّ سالمين. فتنفّسنا الصعداء. هناك، انتابنا خوفٌ من نوعٍ آخر، إذ عمَّ الهدوء والسكون المكان، فاعتقدنا أنّنا أخطأنا المسير. لم يكن من أثرٍ للحراسة، ولم يضطرب أحد لصوت الرصاص والقذائف فيستيقظ من سباته! دخلنا بحذر إلى أحد المتاريس، وكان فيه عناصر التعبئة من (السرية 2) في كتيبة "كربلاء"، وقد استسلموا جميعهم لنومٍ هانئ وعميق.


ذهبنا بعد عدّة ليالٍ في عملية استطلاع جديدة، سلكنا الطريق ذاته الذي سلكناه المرّة السابقة لنستكمل المهمة من حيث انتهت. أثناء سيرنا، انتبهنا إلى وجود عراقيٍّ قابعٍ في طريقنا. أدركنا من خلال تجاربنا السابقة، أنّ أمر المسير لم يُكشَف بعد، لكن العراقيين قد تنبّهوا لجرأتنا وتغلغلنا في المنطقة، فزادوا من تدابيرهم الاحترازية. عدنا أدراجنا تلك
 
 
 
 
 
198

184

أيّام زيد

 اللّيلة بلا جديد. تكرّرت الحوادث والمعوّقات التي عرقلت تقدّم عملنا، الذي انحصر فقط في التأكد من خلوّ المنطقة من كمائن العدوّ السيارة (المتنقّلة) أو لا، واتخذنا أقصى تدابير الحيطة والحذر في تحرّكاتنا، خاصّة أنّنا لم نكن نملك معلومات دقيقة عن حجم قوّات العدوّ في المنطقة. أدّت تلك العراقيل إلى فشل عمليات الاستطلاع، ما حدا بالسيّد "مهدي" لاستدعائي أنا و"محمّدي" إلى قسم المراقبة، حيث طلب منا تقريرًا عن سير عملنا خلال الليلة الماضية، فأخبرناه بما جرى فانزعج كثيرًا:

- ما الذي يحدث؟ لِمَ لا تتقدمان في عملية الاستطلاع؟ هيّا قولا شيئًا...

- نحن خائفان يا سيّد مهدي!

- ممّ تخافان؟

- نخاف أن نتقدّم فنقع أسرى بيد الأعداء وينفضح أمر العمليات.

- إن وقعتما في الأسر قولا إنّ 50 فيلقًا سيهاجمون المنطقة.

خطر لي بعدما ودّعناه، أن عمليّات الاستطلاع في تلك المنطقة ربما هي لخداع العدوّ فحسب!

تنبّه العدو لجرأتنا وجسارتنا في التحرّك في المنطقة، كما كشفنا نحن مع الأيام كيفية تحرّكه أيضًا. قرّرنا أن نقوم بحركة معيّنة في المنطقة، توهم العدوّ أنّنا لا نقوم بأيّ عمليات استطلاع، بل دوريات عسكرية روتينية، ولخلق هذا الانطباع عنده، كنّا نحمل أسلحتنا المجهّزة بمناظير ليلية، وننتظر وصولهم إلى كمائنهم، فنطلق النّار عليهم. كنّا في بعض
 
 
 
 
199

185

أيّام زيد

 الأوقات، نسبقهم إلى النقاط التي سيكمنون فيها، فنفخّخها بالمتفجرات أو الألغام. كرّرنا هذه الأعمال خمس أو ستّ مرات لنوحي للعدوّ بأنّ تحرّكاتنا عاديّة.


ذات مرة، اشتقنا أنا و"خسرو ملّا زاده" لتناول المثلّجات وخاصّة تلك التي بطعم فاكهة مدينة الأهواز. حصلنا على إذن مسؤول الوحدة واتّجهنا معًا نحو الأهواز. كان علينا المرور على نقطة استقرّ فيها حرس الحدود بالقرب من الأهواز، مهمتها مراقبة العناصر والقوّات التي تتنقل من خطوط الجبهة إلى المدينة. كان عبور نقطة الحراسة تلك أصعب من عبور حقل ألغام العدوّ، وأدّى تشدّدهم إلى حدوث شجارٍ بينهم وبين "خسرو". أُجبرتُ على المشاركة في الشجار لمساعدة "خسرو"، فاشتدّ النزاع بيننا وبين عناصر حرس مقرّ الجنوب وأدى إلى تدخّل مسؤول الحرس الذي أجرى بيننا مصالحة. في النهاية وصلنا إلى مدينة الأهواز وجُلنا فيها، ذهبنا ليلًا إلى مقرّ تجهيزات الفرقة الكائن في مدرسة الشهيد "براتي". كنتُ أعرف جميع عناصر الفرقة القُدامى هناك، وكثيرًا ما يتردّد عناصرنا على المقر. أقيم في المقرّ حسينيّة كبيرة، لتقديم طعامي الغداء والعشاء والشاي والعصير مجانًا مقابل "الصلوات على محمد وآل محمّد" فقط، فصارت محطة لاستراحة قوّات مقرّ الفرقة الرئيس1، أو قوّات المقرّات الأخرى المتوجّهة إلى الأهواز.

في الصباح الباكر، ركبنا سيّارة باتجاه منطقة "زيد". كانت الوجوه
 

1- كان مقرّ الفرقة الرئيس في ذلك الحين، معسكر "شهداء خيبر" في مثلّث الحسينية مثلث طرق-.
 
 
 
200

186

أيّام زيد

 كالحة متجهّمة، والحزن بادياً عليها، ولم أدرِ ما السبب! قال لي الأخ "كريمي" عندما رآني: "هيا اركب في "الجيب" بسرعة". ركبتُ في "الجيب" وانطلقنا.


رافقنا "كريم حرمتي"، وكان حزينًا كالجميع.

- ما الأمر يا كريم؟ ماذا حدث؟ أين "محمّدي"؟

أخجلني جواب كريم.

- يا للعار! أين كنت إلى الآن؟

- ما الذي يحدث؟

- ستعلم عندما نصل إلى مقدّمة الخطّ.

وصلنا إلى الخطّ الأمامي، وكان "سائق" الجيب قائد وحدتنا. توقّفنا أمام متراس الرصد، وشاهدتُ سيّارة الأخ "مهدي باكري" هناك فشعرتُ بقلقٍ شديد. لم أستطع أن أخمّن ماذا حدث حتّى اجتمع الجميع. دخلنا إلى المتراس، كان "علي برستي" هناك يشرح للأخ "مهدي باكري" ما حدث، حينها فهمنا كلّ شيء. لقد ذهب "علي برستي" و"محمّدي" الليلة الماضية في عملية استطلاع، لكن فصل بينهما أحد كمائن العدوّ في حقل الألغام.

انتظر "علي برستي" حتّى الصباح، لكن العراقيين لم يتحرّكوا من مكانهم، فاضطرّ للعودة وحده.

بقينا ذلك اليوم وحتى المساء، نرصد حقل ألغام الأعداء، لكن لم يظهر أي أثر لمحمّدي على الإطلاق. حلَّ الظلام وبدأ القلق على مصير "محمّدي" ينهش قلوب الجميع، أترى وقع في الأسر وانفضح أمر
 
 
 
 
 
201

187

أيّام زيد

 العمليّات؟ تجهّزنا للذهاب إلى المنطقة والبحث عنه. تَقَدَّمَنا "علي برستي" فتبعته وتلانا الأخ "فتحي". خرجنا من القناة التي تربط القناتَين (5) و(6) ببعضهما البعض. كان الظلام الدامس قد عمَّ الأرجاء. شعرتُ بشبحٍ متّجهٍ صوبنا، أمعنتُ النظر، فجأة سمعتُ صوتًا يقول: "هذا أنت يا علي برستي؟"


ركضتُ بسرعة باتجاه صاحب الصوت، تعانقنا وكأنّنا لم نلتقِ منذ أمدٍ بعيد. حمدنا الله لأنّه عاد إلينا سالمًا. مع صوت الأخ "فتحي"، انتبهنا إلى أنّه علينا العودة لنطمئن الأخ "مهدي" وبقية الإخوة. وصلنا إلى خطّنا، فأسرعوا صوبنا فرحين. لم يصدّق أحد أنّ "محمّدي" قد عاد إلينا سالمًا معافًى محمّلًا بالمعلومات المهمّة، وقد بدا نحيلًا بوضوح. نام محمّدي تلك اللّيلة، وفي الصباح أخبرنا بما جرى معه وكيف انتظر مدّة من الزمن بعد وصول كمين العدو الطيار1 إلى المكان، وبما أنّهم لم يغادروا، اضطرّ للسير وحده نحو خطّ العدو ووصل إلى القناة المقابلة لساترهم الترابيّ. استطلع حقل الألغام والساتر والتحصينات وقفل راجعًا، لكنّه عند شروق الشمس، اضطرّ للاختباء في حفرةٍ منفجرة داخل حقل الألغام، حيث قضى فيها يومه بلا ماء أو غذاء تحت درجة حرارةٍ تخطّت 50ْ ثمّ اتّجه بعد الغروب نحو خطّنا حيث التقينا به.

قدّمت عملية استطلاع "محمّدي" تلك، توضيحًا لمعظم النقاط المبهَمة في حقل الألغام وتحصينات العدوّ، واستمرّت عمليات الرصد
 

1- أي، كمين متنقّل.
 
 
 
202

188

أيّام زيد

 في جميع أنحاء منطقة عمل الفرقة بشكلٍ أوضح وأسهل. زادت تحرّكات الفرق (المجموعات) العاملة في الكتائب لإعطائها التعليمات تمهيدًا للعمليات المرتقبة، ما أثار حفيظة العدوّ وحذره، فحاول جاهدًا كشف موقع الهجوم الرئيس. إلى جانب كلّ تلك الأحداث، ظلّت الحياة مفعمة بذكريات طيبة بوجود رفاق السلاح الأصفياء. تزامنت تلك الأيام من شهر حزيران مع أيام شهر رمضان المبارك، وكانت شمس خوزستان وحرارة طقسها غير المسبوقة، قد قلّصت من حركتنا خلال ساعات النهار، لكن مع غروب الشمس كنا نزحف باتجاه متراس التموين، فنشارك في الإفطار الذي حضّره العمّ "محمّد" لنا. "محمد ملك جاني"، مزارعٌ عجوز قدِمَ مع أبنائه إلى الجبهة وعمل في قسم تموين الوحدة1.


عند الغروب يصبح المسكين بلا رمق، وحينها كنا نأتي إليه من كلّ حدبٍ وصوب:
- كيف حالك يا عم "محمد"؟

عندما يرى أنّ لديه علبتين من مربّى الفاكهة فقط، بينما ضيوفه ثلاثة أشخاص كان يقول: "لن أبقى في قسم التموين، بل سأحمل السلاح وأذهب إلى الخطّ الأمامي.."، لكن كلامه هذا ما كان ليثنينا عن هدفنا، وكان هو يعلم بأنّ عليه انتظار المزيد من الضيوف غير المدعوّين!

في أحد الأيام وأثناء جلوسي في المتراس، دخل عسكريٌّ شابٌّ، ووضع أغراضه في الزاوية. قال الأخ "محمّدي": "لقد التحق هذا الأخ
 

1- كان يطلب الإذن من مسؤول الوحدة ليصوم في طقس منطقة "زيد" البالغ 50 درجة مئويّة.
 
 
 
203

189

أيّام زيد

 حديثًا بالوحدة، وسيعمل في فريقنا إن شاء الله..".


كان الأخ في مثل عمري تقريبًا، وقد دخل قلبي من اللحظة الأولى. راقبت حركاته وسكناته فجذبتني نظراته. بادرتُه الحديث والسؤال عن أحواله، وشُرّع باب الصداقة بيننا:
- من أين أنت؟

- من تبريز

- هل أنت تعبوي؟

- لا، من الحرس

- ما اسمك؟

- حسين محمديان

- أين كنت تعمل؟

- قسم شؤون الموظّفين (إداري)

لم يثق الإخوة بالموظّفين، وكانوا يلقّبونهم بـ"اللّاقط" (الرادار)، "الجاسوس" أو "منتعلي الأحذية"1. أدّت تلك الخلفية الذهنية عندهم إلى إظهار شيء من المعاندة تجاه "حسين"، لكنّنا تآلفنا بسرعة. قال حسين في البداية: "بما أنّنا سنصبح صديقَين، علينا أن نروي لبعضنا حديثًا عند بداية كلّ يوم" فوافقت على طلبه.

كنتُ أروي في الأيام الأولى الأحاديث المشهورة التي أحفظها، لكن
 

1- لم يثق الإخوة بالعاملين الإداريين خلف خطوط الجبهات وكانوا يلقبونهم بمنتعلي الأحذية، أي، الموجودين خلف خطوط الجبهة والمصطلح عليه "أصحاب الأحذية اللماعة"-.
 
 
 
204

190

أيّام زيد

 في الأيام التالية، كان عليَّ أن أقرأ وأطالع بجديّة أكثر في هذا المجال. صرتُ أحفظ أيّ حديثٍ أسمعه هنا وهناك كي أتمكّن من مجاراة حسين و"حدثني يا أخي".


لم تمضِ ثلاثة أسابيع على صداقتي بـ"حسين محمّدي"، حتى سمعت نبأ إصابته. والقصّة: كان الأخ "مهدي خير اللهي" قد اصطحبه لتأمين المعبر، في العودة لم يجدوه، فاعتقدوا أنّه عاد إلى خطّنا، لذا رجعوا هم إلى خطّهم. أمّا حسين فقد انتظر مدّة من الزمن، وعند الصباح وكي لا ينتبه الأعداء لوجوده، رجع هو أيضًا إلى خطّنا. فألقى أحد حراس خطّنا قنبلة عليه ظنًّا منه أنّه من الأعداء، فأصيب بجراح. يروي الإخوة أنّه كان يبكي عندما نقلوه إلى خلف الخطوط ويقول: "للأسف لن أستطيع المشاركة في العمليات".

أخبرني قائد كتيبة كربلاء "حسين كربلائي" في أحد الأيام، أنّ العدو قد أطلق مياه نهر "أروند" من جهة (القناة 3)، وأنّ المياه غمرت المنطقة الواقعة بين ساترنا الترابيّ وساتر العدوّ.
ركبتُ الدراجة النارية واتجهت إلى حيث أشار الأخ كربلائي. كان من الطبيعي أن نرى السراب في المنطقة، لكن من خلال تجاربنا أصبحنا نعرف متى وأين يظهر السراب، لم يكن ما رأيته سرابًا. الحقّ مع الأخ
 
 
 
 
 
205

191

أيّام زيد

 "كربلائيّ"، كان منسوب المياه يرتفع تدريجيًّا ويدخل الأقنية1. صرنا نفكر بما علينا فعله إذا ما غمرت المياه المنطقة بأكملها.


استمرّ منسوب المياه بالارتفاع، لكنّ العمل لم يتوقّف أبدًا. كانت المنطقة الواقعة خلف خطوطنا من المناطق المهمّة أثناء عمليات "رمضان" وقد انتشرت حقول الألغام منذ ذلك الحين، الأمر الذي سبّب الكثير من المشاكل لقوات الإسناد، لذا أوعزوا إلى الشباب في وحدة الاستطلاع بتفكيك تلك الألغام. ذهب كلٌّ من "داود قريشي، محمد محمّدي وكريم حُرمَتي" لتنفيذ هذه المهمّة، وبقيتُ أنا في متراسٍ في المقرّ.

كانت الوحدة تملك سيارة صحراوية من نوع "جيب ميو"، سمعت صوتها خارج المتراس وكنت أعرفه جيّدًا، تفاجأت بـ"داود" المتجهّم الوجه، فشعرتُ بالقلق وتملّكني الرعب، كان "قعر الجيب" ملطّخًا بالدماء. اختلستُ النظر فانتبهتُ لغياب "كريم حرمتي".

- ماذا حدث؟ ما الذي أصاب كريم؟

- لقد داس على لُغم مضاد للأفراد TS 50


حزنت كثيرًا، لجُرح أعزّ صديقَين لي قبل أيّامٍ من بدء العمليات. كنتُ أحبّ كريمًا حبًا جمّا، وزاد حبي له بعد إصابته، قال "داود": "عندما انفجر اللّغم وأُصيب كريم، كان ينادي: "يا مهدي أدركني".
 

1- كانت المنطقة تنحدر باتّجاهنا، وقد حُفرت الأقنية مشكّلةً كمائن عند مدخلها المواجه للعدوّ، لذا كانت مهمّة جدًّا في العمليات، حتّى إنّ بعض تلك الأقنية كقناتَي 6- و9- التي تُستخدم لتوجيه القوّات عند عبورهم نحو منطقة العمليات، كانتا أوسع وأعمق من غيرهما، كانوا يحضرون الكتائب تباعًا إلى هناك ويقوم العناصر بحفر تلك الأقنية.
 
 
 
206

192

أيّام زيد

 أثّرت الظروف الخاصة التي عصفت بالبلاد إلى جانب المشاكل السياسية والعقوبات الاقتصادية والضغوط التي فرضت عليها من قِبَل بلدان العالم، سلبًا على أوضاع الجبهة وعلى معنويات المقاتلين، وأدّى ذلك إلى انخفاض عدد المتطوعين ووقوع القادة في مشاكل عديدة. اجتمع عناصر الوحدة في الحسينية الكائنة بالقرب من مقرّ قائدهم، للاستماع إلى كلمة قائد الفرقة، جهّز "علي فائقي" آلة التصوير، وجلسنا ننتظر. دخل السيد "مهدي" وبيده مصحف، ثمّ وقف خلف المنبر الذي صنعناه من جُعَب الذخائر. كانت الرايات السوداء والحمراء التي خُطَّ عليها "يا أبا عبد الله" عليها السلام، "لبيك يا خميني" وغيرهما من الشعارات، تزيّن جدران الحسينية المبنيّة من أكياس الرمل. وقد أضفت بركات شهر رمضان رونقًا خاصًّا على وجوه الإخوة. بدأ الأخ "مهدي" كلامه باسم الله، ثم وجّه كلامه للأخ "فائقي" قائلًا:

- أيّها المؤمن، هل تملك أشرطةً بما يكفي حتّى تصوّرني؟! لمَ الإسراف؟1

استمعنا إلى كلام وهموم قائدنا العزيز بكل جوارحنا.

حدّثنا الأخ "مهدي" عن ظروف الحرب، وعن انخفاض عدد القوات، وأنّه علينا الصمود والمقاومة أكثر فأكثر!

كعادته قرأ لنا آياتٍ من القرآن المجيد وأخبرنا بحق من نزلت، حدّثنا
 

1- يوجد فيلم خطاب شهيد الإسلام البطل الأخ "مهدي باكري" موجود في أرشيف الحرس الثوري.
 
 
 
207

193

أيّام زيد

 أيضًا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين سألوه في ذروة التعب والعذاب، "أين وعد الله؟" فنزلت الآية الشريفة: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾، جاء "النصر القريب" بعد 50 عامًا، وقصد الأخ "مهدي" في كلامه، أنّنا لم نفعل أي شيء بعد حتّى نتعب بهذه السرعة. علينا أن نأخذ العبرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أصحابه، وأن نعمل بتكليفنا. كان لكلام قائدنا البطل أثرٌ عجيب على روحيّة القوّات. انتهى الخطاب بالتوسّل والصلوات، وضاع الأخ "مهدي" كالعادة بين جموع الإخوة الذين تحلّقوا حوله.


كانت شمس الهجير تلفحنا بلهيبها، وقد حان وقت أذان الظهر، حدث مشادّة كلامية في تلك الأيام، بين الأخ "فتحي" والأخ "محمدي"، فترك الأخير الوحدة، وبقينا دون مسؤول.

حاولنا وبمساعدة بعضنا بعضًا أن ننجز الأعمال على أكمل وجه. كنت ذاهبًا إلى متراسنا عندما وقعت عيناي على متراس السيد "مهدي". لم أستطع منع نفسي من الذهاب إليه. لقد علّمنا السيد "مهدي" طوال مدّة وجودنا في منطقة "زيد"، التواضع والإخلاص. كان يدخل متراسنا، إن لم يكن لديه عملٌ خاص، باستئذانٍ بسيط أو بقول كلمة يا الله، كما لم يكن الدخول إلى متراسه بحاجة إلى إذن خاصّ. رأيته نائمًا منهكًا بزيّه التعبوي وقد غطّى وجهه بكوفية واضعًا قدمًا فوق الأخرى. لم يكن السيّد "مهدي" الذي نعرفه لينام في هذا الوقت من النهار لو لم يكن خائر القوى. وقفتُ إلى جانبه وحدّقتُ في ملامحه. نظرت إلى وجهه وتأملت تلك الهالات السوداء تحت عينَيه جرّاء التعب
 
 
 
 
208

194

أيّام زيد

 وقلّة النوم، والتي ستلازمه حتى نهاية الحرب. كنتُ أشعر بالعطش، ففكرت أن أشرب بعض الماء البارد من وعاء الشرب الخاص بالرحلات (الترمس)، لكن الماء كان قليلًا في قعر الوعاء وحارًّا جدًّا.


استمرّت الأعمال بجديّة أكبر. كنتُ أمضي الليل والنهار في الخطّ الأمامي لأراقب منسوب المياه بكلّ دقّة. كانت المياه قد غمرت المنطقة بأكملها بعمق 25سم، وكان علينا أن نجد حلًّا لعبورها. جرت أول عملية استطلاع بعد فيضان المياه، بالصعوبة نفسها لأول عملية استطلاع في منطقة "زيد". رفعنا سراويلنا إلى ما فوق الركبة، وخلعنا أحذيتنا العسكرية، سرنا في الماء باتجاه حقل الألغام. مررنا في القناة التي تصل القناتَين (5) و (6) ببعضها، ولم تكن تفاصيل المنطقة قد تغيّرت كثيرًا، ولكن أثارت الضجّة الناتجة عن حركتنا في الأوحال قلقنا بعض الشيء. كنّا متأكّدين أنّ تلك الضجّة ستصل إلى أسماع الأعداء. لكنّنا لم نسمع أو نرَ أيّ ردّ فعلٍ من قِبَلهم.

وصلنا إلى العوائق ودخلنا حقل الألغام، بحثنا بكلّ دقّة وحذر عن الألغام وسط الطين والماء، واستمرينا في التقدّم. وبعد مئة مترٍ من السير داخل الحقل، عُدنا أدراجنا من المسير ذاته.

ولأنّ الأعداء لم يقوموا بأيّ ردّ فعلٍ، توقّعنا أنّ تكون المياه قد دفعتهم إلى ترك كمائنهم، وقد أصبنا في ذلك. فقد دخلت المياه إلى كمائنهم وحتّى إلى قناتهم فاضطرّوا إلى ترك المنطقة.

أصبحت حركتنا أسرع من ذي قبل، وصرنا نتعرض لمشاكل من نوعٍ آخر أثناء الاستطلاع، على سبيل المثال، كنّا نثني سراويلنا إلى ما
 
 
 
 
209

195

أيّام زيد

 فوق الركبة كي لا تبتلّ، لكنّنا اضطررنا في بعض الأماكن إلى النزول في المياه حتّى الصدور، فنعرف أنّنا سقطنا في إحدى الحفر التي سببتها الانفجارات وقد غمرتها المياه. كما انفجرت عدّة ألغامٍ تحت الماء أثناء قيامنا بالاستطلاع، ولكن، لم تؤدِّ إلى إصابة أيّ منّا بجروح خطرة. وجد الأخ "محمد نجف بور" لغمًا ثلاثيًّا، أي إنّه كان ضدّ المدرّعات وضدّ الآليّات والأفراد، فأطلقنا عليه اسم لغم "نجف بور".


أنهينا بعد عدّة عمليات استطلاع، تطهير حقل الألغام وصولًا إلى خطّ العدوّ واستعدّينا للعمليات.

أدّت الأوضاع السائدة إلى اتّخاذ المسؤولين عدّة تدابير خاصّة، منها استخدام قطعٍ مطاطيّة، قُطّعت بحجم الشخص الواحد، للنوم والسباحة عليها في آن، وكنّا خلال السباحة نستخدم الأيدي كمجاذيف. ولم يكن من داعٍ لاستخدام القوارب المطاطيّة حتّى ذلك الحين. في تلك الظروف، وصل خبر منح القيادة إجازاتٍ للجميع. شعرتُ بعد أربعة أشهر ونصف قضيتها في الجبهة، بالحاجة إلى إجازة، فغادرت منطقة "زيد" بكلّ حوادثها الحلوة والمُرّة، وكلّ ألغامها، من دون المشاركة في العمليات.
 
 
 
 
210

196

الهور

 الهور


من صيف 1984م إلى 1985م

ثلاثة فصول غنية.

عدت إلى المنزل، أصررت على التفوق في دراستي. ونشطتُ مع اللجان الثقافية الطلابيّة، قبل الانتقال إلى "الأهواز" ومنها إلى "هور الهويزة".

تدريبات المراكب والغوص، ومواقف دفعتني إلى المشاركة في مسار صناعة الأحداث وتغيير الآراء والسياسات..
 
 
 
 
 
211

197

الهور

 بعد أيّامٍ رجعنا إلى المنطقة، لكنّنا لم نجد أحدًا سوى بعض عناصر وحدة الاستطلاع المنشغلين بجمع المعلومات في منطقتين. سمّيت إحدى هاتين المنطقتين باسم "بندر عباس"، كنتُ أعلم أنّ تسمية المناطق بأسماء كهذه ما هي إلّا نوعٌ من التضليل. بدا واضحًا أنّ العمليات ستتوقّف لوقتٍ طويل، فرحت أدرس وضعي، ما هي إلّا أيام قليلة تفصلنا عن شهر أيلول، وكان عليَّ الإسراع كي أستطيع المشاركة في الامتحانات. لذا قرّرتُ تسوية أموري مع الفرقة والعودة سريعًا إلى مدينة "تبريز". أول ما أقوم به عندما أصل إلى هناك هو الالتحاق بالصفّ الثانويّ الثاني فرع الآداب، كما كنت إلى جانب دراستي، أعمل في "جمعية الطلبة المسلمين" في ثانوية "دهخدا"، الأمر الذي أحيا ذكرى الشهيد "سمساري" مجدّدًا في خاطري، فقد قال لي في إحدى المرّات في مدرسة "الرازي المتوسطة": "لا داعي لأنشطة الجمعية الإسلاميّة في المدرسة، فقد عرف التلامذة طريقهم جيّدًا وهم يتقدّمون في هذا المضمار". كان محقًّا في قوله.


أيقنت أنّ الفضل في هداية التلامذة إلى الطريق القويم يعود إليه وإلى الشهيد "بخت شكوهي". لقد شهدت عدّة مرّات مشاركتهما هموم وأحزان التلامذة، كما شهدت مدى محبّة التلامذة لهما.

كان لفقد الإخوة وظروف الجبهة ومصاعبها وجراحاتها أثرٌ بالغٌ على روحيتي، ولم يعد من فرق بين الجبهة والمدرسة بالنسبة لي، ورحت
 
 
 
 
 
212

198

الهور

 أجتهد. وكما اجتهدت في الجبهة أثمر اجتهادي في المدرسة وحصلت على المرتبة الأولى في صفّي. كما اشتهرت في المدرسة بكتابة مواضيع الإنشاء الرائعة والموسّعة، وبإصرار من التلامذة والمعلّم كنت ألقي مواضيع الإنشاء أمام الحضور، فأرى دموعهم المنهمرة على الوجنات. كان الأستاذ عندها يثني عليّ بعبارات ملؤها الحبّ والودّ ويعطيني علامة (20).


انشغلت كثيرًا في المدينة، لكنّ شوقي للجبهة كان يثقل قلبي، ومهما حاولت إقناع نفسي بالبقاء، لم أفلح!
 
 
 
 
213

199

الهور

2
 
كان "علي أكبر رهبري"1 أوّل شخص ألتقيه في مقرّ الدفاع الجوّي في الأهواز. وأوّل سؤال وجّهه إليّ بعد التحيّة وتقبيل الوجنتين، كان عن سبب غيابي:
لِمَ غبتَ كلّ هذه المدّة عن الجبهة؟!

فأجبته: "كنت مشغولًا بالدراسة".

فضحك قائلًا: "يا للعجب"!

كان مقرّ الوحدة يوجد داخل مقرّ الدفاع الجوّي في الأهواز، وهو عبارة عن أبنية من ثلاث طبقات، على شكل ثلاث سواعد متّصلة ببعضها من أحد طرفيها، ويتفرّع من كلّ ساعد ساعدان آخران. استقرّت وحدة الاستطلاع في الطابق الثالث، وأُعطي هذا الطابق من جهة الساعدين الآخرين لقيادة الفرقة ولقسم تخطيط عمليّات الفرقة.

دخلت غرفة وحدة الاستطلاع، فقام العم "محمدي" بواجب الضيافة.

انتشرت قوّات الاستطلاع في المناطق المختلفة لتنفيذ المهام المنوطة بها، ولم يكن أحد في المقرّ. حضّر العم "محمدي" الشاي كعادته، فقد كانت جميع الأعمال ملقاة على عاتقه عدا مسألة جلب الماء إلى الطابق الثالث، فالشباب كانوا يقومون بذلك.
 

1- هو قائد كتيبة سيّد الشهداء، وقد استشهد بعد أربعة أشهر على تقاطع طريق "شهيد همت" عند شارع سيد الشهداء إثر إصابته بشظيّة قذيفة هاون.
 
 
 
214

200

الهور

 وصل عصرًا عدد من الشباب، لكنّني لم أستطع فهم أيّ شيء منهم عن طبيعة المهمّة! وكلّما سألت أحدهم عن الأمر، كان يبتسم ويغيّر الحديث. عندما تحرّكوا في الصباح اتجاه المنطقة، تابعت بنظري مسير سيّاراتهم ووجهتهم لعلِّي أعرف منطقة الاستطلاع، إلى أن توارت:

- حسنًا! من الواضح أنّهم اتّجهوا نحو "دزفول"!

علمت أنّ الإخوة قد فكّروا في كلّ الأمور، ومن أجل تضليل الأعداء، كانوا يتّجهون بداية إلى منطقة أخرى، وبعد مسافة يعودون إلى المسير الأصلي. بالطبع، كانت تلك الإجراءات ضروريّة لحفظ سريّة عمليّات الاستطلاع.

في النهاية أجاب "كريم حرمتي" عن سؤالي. لم يكن كريم قد تعافى بعدُ من الجرح الناتج عن انفجار لغمٍ مضادٍّ للأفراد في منطقة "زيد"، وكان يُضمّد جرحه بنفسه ويذهب مع الإخوة إلى المنطقة. سُعدت للقائه كثيرًا، وسُعدت أكثر عندما أعطاني الجواب المناسب. إذ قال: "أجل نحن نعمل، سأتحدّث إلى السيّد "كريم" كي يُلحقك بفريقنا".

لقد أراحني ردّ الأخ "كريم فتحي" كثيرًا.

- أنت أيضًا يا "مهدي" اذهب مع الإخوة!

في صباح اليوم التالي، ركبت الحافلة الصغيرة مع باقي الإخوة، واتّجهنا نحو منطقة عملنا. لاحظت أنّ تغيرات جذرية قد حدثت خلال الأشهر التي ابتعدتُ فيها عن الجبهة. إذ إنّ روحيّة الإخوة تحسّنت إلى حدّ كبير، وكذا إمكانيّات الوحدة. سابقًا، كان الإخوة في وحدة الاستطلاع، يضطرّون للذهاب إلى قسم التموين والتجهيزات للحصول
 
 
 
 
215

201

الهور

 على الأدوات والوسائل اللازمة، فيتعرّضون لعمليات استجواب عن مدى حاجتهم لهذه القطعة أو تلك، ولأيّ أمر يحتاجونها، الأمر الذي كان يسبّب الكثير من العقبات لعمل الوحدة، وكان يجعل أمر إفشاء العمليات ممكنًا، فيترتّب إلغاؤها. في تلك الأيام، نشط المنافقون و"الطابور الخامس" واستخدموا كلّ الوسائل لجمع المعلومات خدمةً للعدو. عمل الأخ "مهدي" على حلّ هذه المعضلة عبر إغداق الإمكانات اللازمة على الوحدة.


الحماسة والشوق كانا باديين على الإخوة أثناء الطريق، وكانت شخصية سائق الحافلة الصغيرة "حميد قلعه اي" تتمتّع بمميزات خاصة، فقد كان هو نفسه سائقَ الحافلة وسائقَ الشاحنة وآلة الحفر وشاحنة "التويوتا" الصغيرة، وكذا سائق سيارة الإسعاف إذا لزم الأمر. لم يكن مكان عمله محدّدًا، فتارةً تراه مع فريق الاستطلاع، وأخرى مع قيادة الفرقة. في إحدى المرّات، سأله "منصور فرقاني"، وقد التحق بوحدتنا بعد أن غمرت المياه منطقة "زيد":

- "ما هو عملك بالتحديد يا سيد "حميد"؟ هل أنت سائق الشاحنة أم عنصرٌ في قيادة الفرقة، أو في قيادة الوحدة أم أنّك عنصرٌ في الفريق؟ هيا أجب لنعرف مع من نتعامل؟!" ابتسم السيد "حميد" ابتسامته المعهودة وأجاب:

- "يا سيّد 'منصور'، أنا أعمل مع الجميع، مرة مع فريقكم، ومرة أخرى في أي مكان يرسلني إليه السيد مهدي".

كانت حافلة الـ(TOYOTA) الصغيرة، تتابع سيرها، وقد ملأت الأجواء
 
 
 
 
216

 


202

الهور

 صيحات وضحكات الإخوة الذين كانوا ينشدون معًا:

- فلتسعد أيّها السائق كما أسعدتنا، فقد حوّلت عصا السرعة لكثرة ما أدرتها إلى مقود!

ولم يكن "حميد قلعه اي" ممّن يقصّرون عن الردّ:
- "افرحوا لأنّي أفرحتكم"، "من لعبتم بأنفكم حتى أصبح مزرابًا"!

عدت إلى جمع الإخوة، وقد غمرتني السعادة مجدّدًا. تعجّبت من نفسي كثيرًا كيف أنني تحمّلت الابتعاد عن الجبهة كلّ تلك المدّة!

حدّقت مليًّا من خلال زجاج الحافلة، فشاهدت "مثلّث فتح" وطريقَ الشهيد "همّت" اللذين أعرفهما جيّدًا، وقد جدّدت بقايا جسر "خيبر" ونعوش الدبابات وبقايا الآليات المحترقة وطريق سيّد الشهداء وغيرها، آلامي وحسرتي لعدم تمكّني من المشاركة في عمليات خيبر، وقد عبقت رائحة الهور في أنفي.

كانت شمس "جزيرة مجنون الكبرى" حمراء كبيرة، وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الهور. استقرّت أشعّة شمس المغيب القانية خلف حقل القصب. كانت الريح تلاعب القصب فتصدر أصواتًا تبعث في القلب أشجانًا. كنت قد سمعت بأنّ غروب الهور شجيّ رائع الجمال، وصوت الأذان يزيده روعة وجلالًا. أسرعنا إلى (الموقع 3)، الذي كان مقرًّا لوحدة الاستطلاع، دخلنا المتراس الذي استقرّ فيه فريق "السيد منصور فرقاني". وضعنا أغراضنا في إحدى زواياه، وأسرعنا للالتحاق بصفوف المصلّين.

تلونا تعقيبات الصلاة التي استمرّت عدّة دقائق، ثمّ صلّينا صلاتي
 
 
 
 
217

203

الهور

 الغفيلة والنافلة والمستحبات التي كانت من أوجب واجبات الجبهة.


التقيت بأصدقائي القدامى: "حسين محموديان، محمد بورنجف، رسول سعيدي، يوسف صارمي" وغيرهم. لقد اجتمع مشاغبو الوحدة ثانيةً، فكان من الممكن توقّع حدوث أي أمر.
في الليلة الأولى، زرتُ أنا و"رسول سعيدي" خيمة التموين. كان مسؤول التموين الأخ "إيماني". فحدثناه عن الجنّ وما شابه. اكتشفنا أنّه يخاف من الجنّ كثيرًا، فلمعت في أذهاننا فكرة جديدة للمشاغبة:
- أجل، أخبرنا أحد الإخوة أنّه ذهب إلى الحمّام وكان منهكًا من شدّة التعب، أحسّ أنّ أحدًا يفرك ظهره بالليف والصابون تريَّث قليلًا.. لكن عندما رأى أظفاره الطويلة والشعر الأسود الذي يكسو يديه..

تسمّر المسكين في مكانه من الخوف، نظرنا أنا ورسول إلى بعضنا، ثمّ ودّعناه وخرجنا. مشينا قليلًا ثمّ التففنا حول الخيمة. رفعنا أحد أطرافها وبدأنا بعملية السطو على معلّبات الفاكهة والحبوب. علا ضجيجنا بعد أن أخذنا ما يكفي من مؤونة، وربما سمعنا الأخ "إيماني" أيضًا، لكن لشدّة خوفه من قصّة الجنّ، لم يجرؤ على مواجهة جِنّة الليل من أجل عدة معلّبات.

أحضرنا المسروقات إلى الخندق. تقرّر بقائي في متراس فريق "منصور قرباني"، فأخفيت المعلبات في إحدى زوايا المتراس، من دون أن نُشعر أحدًا بشيء. بعد أن عاد الإخوة في اليوم التالي من عمليّة الاستطلاع، استضفتهم على مائدة معلّبات الفاكهة والحبوب.

بدّلنا برنامج حفظ الأحاديث أنا و"حسين محمدي" إلى برنامج تناول
 
 
 
 
218

204

الهور

 معلّبات الفاكهة، كنّا نذهب معًا، وفي جعبتنا علبتا فاكهة إلى بقعة هادئة عند أطراف الموقع، فنجلس هناك نأكل ونتحدّث لساعات.


كان هور "الهويزة" عبارة عن مستنقعات طبيعيّة ممتدّة على جانبي مجرى نهرَي "كرخة" و"صويب"، اللذين يصبان في نهر دجلة. هذه المنطقة النفطية هي عبارة عن منخفض أرضي، مكسوّ بغطاء نباتي متنوّع، وتضمّ جزيرتي "مجنون الجنوبية"و"مجنون الشمالية". كان العراقيّون قبل الحرب، قد شقّوا طرقًا ترابيّة مكسوّة بالحصى الصغير داخل مياه الهور، بهدف تجفيفه والتنقيب عن النفط، وتمتدّ تلك الطرق مع سواتر ترابية مشيّدة داخل المياه حتى آبار النفط، وتنتهي ببقعة من الأرض بمساحة ملعب كرة القدم، خُصّصت لإقامة العمال، عُرفت تلك الطرق باسم "pedar" في "الإنكليزية"، وتنتهي أحيانًا ببئري نفط أو ثلاث. بلغ عدد تلك الطرق في جزيرة "مجنون الشماليّة" سبعة طرق، وكان مقرّ الاستطلاع في الموقع رقم 3،1 وهو مكان صغير نسبيًّا.

جُهّز مقرّنا في الجزيرة تجهيزًا كاملًا، جعلنا نستغني عن العالم الخارجي، حتى صندوق البريد كان خاصًّا بنا، فكانت الرسائل تصلنا مباشرة من دون أن تمرّ بصندوق بريد الفرقة.

كان لوحدة الاستطلاع في تلك المنطقة أربع فرق (مجموعات)، وتولّى مسؤوليّتها كل من الإخوة: "أسد بيكي، منصور فرقاني، محمد حسين علي برستي ومهدي داودي". تموضعت تلك الفرق في متاريس
 
 

1- موقع محصّن عبارة عن غرفة صغيرة الحجم اتُخذ لأغراض عديدة؛ المتاريس؛ مخزن الذخائر والأطعمة أو مكان لاحتماء مجموعة أشخاص. 
 
219

205

الهور

 خاصة ومستقلّة في (الموقع 3). كان أحد تلك المتاريس عبارة عن عنبر كبير استُخدم كمُصلّى، يتشعّب منه عنبران صغيران، خصّص أحدهما لفريق "مهدي داودي" والآخر لقيادة الوحدة. كان الإخوة يقومون بعمليات الاستطلاع باستمرار. وكانت تحصينات (الموقع 33) في الجزيرة الشمالية بعهدة وحدتنا أيضًا، لذا كان الإخوة يحرسون المكان بالتناوب. كنت أنظر إلى الإخوة بحرقة فأراهم يعملون بنشاط كخليّة النحل بينما أنا قابع بلا عمل، في النهاية قال لي الأخ "منصور":

- سيد مهدي! هل تجيد قيادة المركب؟

- لا يا سيد منصور، لا أجيد ذلك!

- عليك البدء بتعلّم قيادة المراكب شيئًا فشيئًا.

- حاضر!

بدأت بتعلّم قيادة المراكب أنا و"أصغر عباس قلي زاده" الذي التحق بفريقنا مؤخّرًا. عندما كانت الوحدة في منطقة "طلائية" تعلّم أصغر قيادة المراكب هناك1، لكن عندما سأله السيّد "منصور": أنت أيضًا لا تجيد قيادة المراكب؟ أجاب لا خجلًا. وهكذا تكفّل أحد الإخوة في الحرس الثوري - الذي كان قد قدم من وحدة استطلاع "تبريز" إلى المنطقة، ويدعى "خسروي" - بتعليمنا قيادة المراكب. خسروي من مدينة "مشكين" وكان ماهرًا في عمله متقنًا له.
 

1- كانت أولى تجارب العمليات داخل الماء، في عمليات "خيبر" ومنطقة "طلائية" حيث تشكّل المستنقعات قسمًا منها، وقد استخدمت القوات المراكب للهجوم على مواقع الأعداء. وكانت قيادة المراكب بعهدة عناصر المحلّة الذين تعلّموا قيادتها منذ الصغر.
 
 
 
 
220

206

الهور

 بدأ تدريبنا على قيادة المراكب في صباح اليوم التالي. صحيح أني لم أكن على معرفة مسبقة بالأخ "عباس قلي زادة"، لكن سرعان ما أدركت أنه أكثر جرأة مني في تنفيذ أعمال المشاغبة. تعلّمنا ما طُلب منا بسرعة، إلا أنّ حزمَ مدرّبنا وتشدُّده الزائد معنا دفعانا إلى مشاكسته، فكنّا كثيرًا ما نتظاهر بعدم الاستيعاب والفهم، الأمر الذي كان يثير استياءه منّا، فيوجّه لنا النصائح كي نأخذ المسألة على محمل الجِدّ ونخفّف من شقاوتنا أثناء التدريب.


كنا نهدأ ساعة أو ساعتين ثم نعود ونشاكس من جديد. عندما كنا نأتي بأي حركة إضافية غير موزونة كان المركب ينقلب على عقبيه فيعلو صراخ الأخ "خسروي". لقد ضاق بنا ذرعًا إلا أنه أدرك أننا نجيد القيادة متى نشاء فلم يشكُنا إلى السيد "منصور".

انشغل كل من على الجزيرة بعمل ما تقريبًا. وقد احتاج تدريبنا إلى سلسلة من التمارين المتتالية. كان يؤكّد عليّ الأخ "فرقاني" بالاستمرار بالتمارين قدر استطاعتي لأنّه أمرٌ ضروري، لكنّني لم أكن ممّن يتحملون التمارين لمدّة طويلة. عيل صبري وأنا أنتظر موعد الذهاب في عملية الاستطلاع. كان الأخ "منصور" يقول لي: "اذهب بعد صلاة الصبح للتمرّن على قيادة المركب مع السيد "أصغر" ولا تعد قبل العصر".

فأجيبه: "حاضر"! لكنني كنت أذهب مباشرة إلى فريق الأخ "مهدي داودي" حيث أصدقائي القدامى: "حسين محمديان، يعقوب شكاري، أبو الفضل فرهمند، محمد بور نجف" وغيرهم. كان الوقت يمضي معهم كلمح البصر. عند الظهر، كنت أخرج من متراسهم للوضوء، فألتقي بالأخ
 
 
 
 
 
221

207

الهور

 "منصور" في بعض المرات فيسألني: "أراك عدت يا سيّد 'مهدي'"؟


- أجل لقد عدت!

- لكنك عدتَ باكرًا، وما زال هناك نصف ساعة من الوقت حتى وقت الصلاة، هيا اذهب للتمرّن في الأنحاء، وَعُد للصلاة بعد نصف ساعة.

ومن دون أن أنبس ببنت شفة، كنت أتوضّأ، وبعد مغادرة الأخ منصور أعود إلى متراس الأصدقاء. عند الغروب، كنا نأخذ المركب أحيانًا إلى مكان هادئ حيث المياه الخالية من أي نبات أو قصب، فنركُنه هناك، ويقوم السيد أصغر بترتيل آيات من القرآن الكريم بصوت جميل. كنا نقضي ساعات طوالًا في ذلك المكان، وكان ترتيل "أصغر" العذب يتردّد في أرجاء الهور، فيمنحني الهدوء والسكينة حتى عودتي إلى الموقع.

كانت قد بدأت برودة الطقس تشتدّ شيئًا فشيئًا فاضطرّ الإخوة المواظبون على صلاة الليل أن يصلّوا في الداخل اتقاءً للبرد بينما كانوا في الليالي العادية يأخذ كل واحد منهم بطانية ويصلّي خارج الخندق. كان متراسنا صغيرًا، ومن دون قصد منهم كان المصلون يفسدون نوم من في الخندق، فيعلو صوت "أبو الفضل فرهمند" عندما يستيقظ صباحًا: "الله أكبر، ما بكم؟ أين العدل والإنصاف؟! أكاد أجنّ من صوت رنين منبّهاتكم، أنا منزعج منكم يا مصلّي الليل! أيّها المزعجون! سأرمي هذه المرّة المنبّه خارج المتراس.. سترون!".

كلّما كانت تعلو صيحات استنكار "أبو الفضل"، كانت تزداد وجوه
 
 
 
 
 
222

208

الهور

 بعض من في المتراس احمرارًا. أيقن الجميع أنّ الأخ "فرهمند" كان ينزعج من رنين منبّهات مصلّي الليل التي كانت تؤرّقه، وكان على استعداد تام إذا ما لزم الأمر أن يفضح أسماءهم. مع أنّ صلاة الليل في الجبهة أمرٌ عادي، إلا أنّ الإخوة كانوا يبتعدون عن كلّ ما من شأنه أن يفشي أمر تعبّدهم وصلاتهم على الملأ، فهم يؤمنون أنّ الجبهة، بعكس المدينة التي تفتح باب المعاصي على مصراعيه، تغلق الباب بوجه الشيطان، وإذا ما ضلّ أي شخص في الجبهة فبسبب الرياء والغيبة فحسب. لذا فالخشية من الرياء كانت أهم سبب لإخفاء العبادات وصلاة الليل.


تحوّل صياح "أبو الفضل فرهمند" إلى أحد المراسم الصباحية، فكنا ننتظر صياحه بداية كل صباح. قرّرت أنا و"محمد بور نجف" أن نفعل شيئًا للتعّرف إلى مصلّي الليل الذين يسبّبون الضجة! استيقظنا عدّة أيام منتصف الليل قبل الجميع، واختبأنا قرب المتراس وفي أيدينا فانوس يدويّ، وكلّ من يخرج من المتراس للوضوء نسلّط ضوء الفانوس على وجهه فنعرفه. تعرّفنا خلال عدّة ليال إلى أغلب المصلّين في متراسنا، وهكذا أصبح في أيدينا ورقة ضغط لاستخدامها عند اللزوم. استمرّت المهمة وظننّا أنّنا تعرّفنا إلى جميع المصلّين، لكنّنا ذُهلنا ذات ليلة عندما رأينا وجه "أبو الفضل فرهمند" تحت ضوء الفانوس!

- يا للعجب! أنت أيضًا؟ تأكّد أننا لن نرحمك! سترى، سنفضح أمرك في الصباح..

في الصباح، كان "أبو الفضل" أكثر مصلّي الليل مظلومية، حيث قمت أنا و"محمد" بسرد مجريات الليلة الماضية بكثير من التشويق
 
 
 
 
223

209

الهور

 والإثارة، ما جعل لون وجه "أبو الفضل" يتغيّر مع كلّ ضحكة من ضحكات الإخوة ومع كل طرفة من طرائفهم!


لقد وصل الأمر ببعضهم، ومن بينهم أنا، أن انتقلنا إلى المصلّى لننام كي لا يعكّر صفو ليلنا أحد. في الليلة الأولى عندما ذهبت إلى المصلّى حاملًا بطانيتي معي، وحاولت تهيئة زاوية للنوم، جاء "محمد بور نجف" وقال بلهجة آمرة: "هيا انهض وخذ بطانيتك واخرج!".

- لكن لماذا؟

- من دون لماذا! هذا مركز المقاومة، وأنت لست عضوًا فيها، لذا لا يحق لك التواجد هنا!

كان يتكلّم بكلّ جدّيّة فقلت: "حسنًا دوّن اسمي كعضو جديد!".

- ليس بهذه السهولة، عليك إحضار الوثائق المطلوبة: صورة لأبيك وأمّك، البطاقة العائليّة مع صورة عن عقد الزواج، 3000 تومان و..، وإذا استطعت، عليك إحضار ثلاجة ودزينة أو دزينتين من الأقداح.

عدّد حوالي خمسين شرطًا وبندًا، إلى أن ضاع صوته بين قهقهات الإخوة.

وصل إلى مسامع مسؤول الوحدة أمر تحويل المصلّى إلى مركز للمقاومة والوثائق المطلوبة لقبول العضويّة فيه.

- يا سيّد "كريم"! لا يمكنك النوم بسهولة في المصلّى؟

- ما الذي تقوله؟!

- للمكان مسؤول اسمه "محمد" لا يسمح بدخول الغرباء إليه..

لم يصدّقنا في البداية، ولإثبات صحّة كلامنا، اصطحبه الإخوة في
 
 
 
 
 
224

210

الهور

 إحدى الليالي فجأةً إلى المصلّى. كان "محمد" نائمًا فأيقظه أحد الإخوة:

- هيا انهض فقد جاء أحدهم للانتساب، فماذا عليه أن يُحضِر؟!

لم يتوان "محمد" عن الإجابة، فعدّد جميع ما يلزم من وثائق ووسائل من دون أي خطأ أو تكرار في عدّها.

حلّ فصل الشتاء، وكان برد شهر كانون الثاني من عام 1985م قارسًا جدًّا، وأخذ يشتدّ يومًا بعد يوم، أخيرًا بعد عشرين يومًا من وصولنا إلى الهور، جاء خبر طيّب:
- اجلس في مقدّمة المركب وجذّف.

لقد حان موعد أوّل عمليّة استطلاع1. غمرتني الفرحة لأنّني كنت برفقتهم، جلس "حميد اللهياري" في مؤخرة المركب وجلس كلّ من "كريم حرمتي وخسروي" وسطه. انطلقنا من (الموقع 6)، ومن المجرى المائي "موته". قال كريم لي ولحميد، قبل الانطلاق:

- إذا أردتم شيئًا يستوجب نظر بعضنا إلى بعض، ما عليكما إلا أن تهزّا المركب قليلًا.

كان كلامه ذريعة لي لأهزّ المركب بعد مسافة قصيرة من الانطلاق، حيث قلت لقائد فريق الاستطلاع كريم حرمتي: "لقد تعبت!".

- اذهب يا خسروي واجلس في المقدمة.
 

1- كانت عمليّة الاستطلاع تلك، ثاني مرحلة- عمليّة استطلاع في المنطقة، ذلك أنّ عناصر من وحدة استطلاع فرقة عاشوراء قاموا وقبل تسليم المنطقة للفرقة، بعدّة عمليات استطلاع بشكل خفي. لقد توغّلوا بكلّ شجاعة إلى حدود منطقة سدّ الأعداء وصوّروا الطرقات داخل خطّهم، الدروب المؤديّة إلى السدّ، والسيارات العابرة وغيرها. كان من ضمن الفريق الشهداء: السيد منصور فرقاني، الشهيد مهدي داودي والأخ أسد بيكي.
 
 
 
225

211

الهور

 جثا خسروي على ركبتيه في مقدّمة المركب. كان المركب يتقدّم ويهتزّ في ممرات الهور1، وحان الوقت لأقوم بعمل ما.. اهتزّ المركب بحركة منّي اهتزازًا شديدًا، كاد معها أن يقع خسروي في الماء، وقد استعاد توازنه بصعوبة، ثمّ نظر نحوي غاضبًا، فاتحًا فمه وطغى بياض أسنانه على بشرته الداكنة. ضحكنا أنا و"حميد"، فاستشاط غيظًا، نظر إلى "كريم" وقال بصوت حاول أن يكون منخفضًا: "أترى كيف يهزآن بي يا سيد كريم؟!"، فبانت ضحكة على وجه كريم.


كان خسروي قد التحق بمجموعتنا حديثًا، وشعوره شعور كل من يلتحق بنا حديثًا: إنّ عناصر وحدة الاستطلاع مستهترون، لا يأخذون الأمور على محمل الجدّ. لكن بعد أن يختلطوا بنا ويطّلعوا على أحوالنا عن كثب، يقرّون بأنّ عناصر وحدة الاستطلاع، مع أنهم أكثر العناصر شقاوةً، يمكن الاعتماد عليهم أثناء العمليّات، وحضورهم يمدّ الإخوة بالروحية والمعنويات العالية. كما يمكنهم إذا لزم الأمر أن يحلّوا محلّ قائد الكتيبة.

ينتهي مجرى ماء "موته" بمنعطف متشعّب إلى ثلاثة مجارٍ، أطلقنا عليها اسم "زيد": زيد1، وزيد2، وزيد3. والأخير لا يبعد عن سدّ الأعداء
 

1- كانت مجاري المياه في الهور على نوعين: المجاري الطبيعيّة والمجاري البرمائية التي حدثت بفعل جرف النباتات بواسطة جرافة خاصة. كانت مجاري المياه الطبيعيّة فيما مضى ممرًّا للمواشي، لكن لم تعد النباتات لتنمو داخلها بعد أن غمرت المياه المنطقة وتحوّلت إلى مجارٍ مائية مناسبة للمراكب. المجاري التي حدثت بفعل جرف النباتات، كانت مناسبة لعبور المراكب والزوارق، مع أنّ هذا النوع من المجاري كان متوافرًا بكثرة في الهور؛ إلا أنّ أغلب مجاري المياه الموجودة في نطاق عمل الفرقة، كانت طبيعيّة.
 
 
 
 
226

212

الهور

 المائي أكثر من 1كلم. لم نصطدم أثناء سيرنا بأيّ كمين، فقد اخترنا هذا المسير عن سابق معرفة، إذ يتعيّن علينا قيادة القوّات ليلة الهجوم، من دون أي معارك أو اشتباك، حتى نصل إلى سدّ العدو. توقّفنا عند مجرى مياه "زيد"، لم يكن في وسعنا التقدّم أكثر، كانت الشمس ترسل أشعّتها الأخيرة وقد حلّ الغروب ووقت الصلاة. بما إن العدو لم يشعر بنا في هذه المنطقة، استطعنا عبور جزء منها خلال النهار بكلّ اطمئنان. قرّرنا أن نصلّي هناك، كان المركب الذي كثيرًا ما تاه بنا في مجاري المياه في الأيّام الأولى للتدريب، ساكنًا مطيعًا لدرجة أنّنا استطعنا الحركة داخله والوضوء من ماء الهور. كنتُ غارقًا في المناجاة حين خرق صوتٌ سكون الهور الذي اختلط بأصوات الحيوانات البعيدة:


- تاب1..

سقطت ساعة "كريم" في المياه، ولم نكن قادرين على فعل أي شيء في ذلك الظلام، فكيف لنا أن نجد مكانها بين النباتات وفي قعر الهور؟! قلقنا جميعًا وانزعجنا، فالمياه أقلّ عمقًا بالقرب من سدّ الأعداء، حيث يمكن لأي دوريّة من دورياتهم التي تمرّ في المكان، أن تلحظ بريق الساعة تحت أشعّة الشمس فتدرك وجود غرباء في المنطقة. والمشكلة أنّه لم يكن يفصلنا عن ليلة الهجوم غير أيام قليلة وبالتالي ستضيع جهود أشهر عديدة من الاستطلاع والحفاظ على السريّة في المنطقة.

قرأنا آية السدّ "وجعلنا"، المجرّبة كثيرًا وتركنا المكان، وكم شغلت
 

1- صوت سقوط شيء في الماء.
 
 
 
227

213

الهور

 هذه الحادثة أذهاننا ليلة الهجوم!!


نجحنا ذلك اليوم في استطلاع مسيرنا حتى مجرى مياه (زيد 3)، وأيضًا مسير كتيبة "سيد الشهداء". أعددنا تقريرًا عن عمليّة الاستطلاع وقدّمناه إلى مسؤولنا مباشرة. كانت المعلومات التي حصلنا عليها حول جغرافية المنطقة والتجهيزات العسكرية وغير ذلك مهمة جدًا، وشكّلت الحجر الأساس لبناء مخطّط العمليات، لذا كان جلّ همّنا إيصال جميع المعلومات المهمّة والمؤثرة في سير العمليات للمسؤولين:
- الهواء بارد وتشتد برودته يومًا بعد يوم.

- يصبح الغطاء النباتي كثيفًا جدًّا في بعض الأماكن فيعيق حركة المركب، ويُحدث ضجّة أثناء العبور.

- كما إنّ المجاري المائية تصبح ضيّقة جدًّا في بعض الأماكن، ما يحدّ من حركة المركب نحو اليمين أو اليسار.

- علينا أن نحذر كمائن العدو في المجاري المائيّة المجاورة، لأنّه يستنفر لأقلّ ضجّة غير معتادة.

- إنّ أصوات الحيوانات والطيور، كالبطّ والضفادع والعظّاءات، ترتفع عند رؤيتها للبشر، ما يثير انتباه العدو.

من الأمور الأخرى التي تهم عناصر الاستطلاع، الصلاة والاستراحة والذهاب إلى بيت الخلاء. فقد تعدّت مسافة الذهاب والإياب في كلّ عمليّة استطلاع 12 كلم، ويستغرق قطعها يومًا كاملًا تقريبًا. وقد تسبّبت برودة الطقس بزيادة حاجتنا للمرحاض، ناهيك عن تفاقم هذه المشكلة حين وجودنا في المراكب، لذا حاولنا أن نجد الحلول المناسبة.
 
 
 
 
228

214

الهور

 بحثنا الوضع مع مسؤولي محور عمليات "فرقة عاشوراء" في منطقة الهور، السيدين "ميرزا علي رستمخاني" و"محمد اشتري"1 اللذين قرّرا استطلاع وضع المنطقة عن كثب. رتبنا عملية استطلاع توجيهيّة لهما، وكان معظم القادة قد حرصوا على استطلاع المنطقة برفقة عناصر الوحدة قبل بدء العمليّات بأيام. بعد عمليّة استطلاع القادة، ظهرت الحاجة إلى المزيد من المعلومات، ما استوجب القيام بعمليّات جديدة. كان الهدف منها هذه المرّة، الحصول على معلومات حول مجاري المياه، أبعادها الدقيقة، مدى قربها من كمائن العدو، نوع الغطاء النباتي بالقرب من سدّ العدو، نوعيّة العوائق في ذلك السدّ، نوعيّة المسافة الفاصلة بين المتاريس، وغيرها من الأمور التي من الممكن أن تعترضنا ليلة العمليات. انطلقنا من (موقع 6)، كما انطلقتْ بالتزامن معنا عمليات الاستطلاع في المحاور الأخرى.


كانت مهمة الفرق الأخرى توجيه القوّات للاشتباك مع كمائن العدو، أو الوصول إلى عمق خطوطهم، بينما تركّزت مهمّتنا على توجيه قوّات الهجوم. سرنا في مجرى المياه ذاته، وكان المركب يطفو ويتحرّك بسرعة على سطح الماء. كنّا نراقب الأنحاء بكل دقّة، كي لا يفوتنا أدنى تفصيل. قدّرنا أن تستغرق عمليّة الاستطلاع يومًا كاملًا، لذا حملنا معنا ما نحتاجه من منظار ليلي، أسلحة، عتاد وذخائر ومياه للشرب، مع أنّه كان بإمكاننا الشرب من مياه الهور العذبة.
 

1- كان مسؤول المحور في فرق الحرس، بمنزلة قائد لواء، وقد استشهد هذان العظيمان في عمليات "بدر".
 
 
 
 
229

215

الهور

 سارت بنا المراكب إلى الهدف، فتذكّرت معها عملية استطلاع منطقة "والفجر التمهيديّة"، التي كان يستحيل معرفة الطريق فيها من دون استخدام البوصلة. بينما كان المجرى المائي الضيّق هنا يوجّهنا إلى هدفنا، وقد نبتت على أطرافه حقول القصب فساعدتنا على الاختفاء عن عيون الأعداء1.


أحيانًا، كنّا نصل عند نهاية المجرى المائي إلى منطقة جرداء، متفرّعةً إلى مجريين أو ثلاثة. ولمعرفة المجرى الصحيح، كان علينا الانتباه إلى الإشارات والعلامات التي باتت واضحة بالنسبة إلينا. كنّا عند أدنى حركة تشعرنا بوجود الأعداء، نسحب المركب داخل حقل القصب لمسافة مترين أو ثلاثة، ونمكث لدقائق حتى ينجلي الموقف ويمرّ زورق الأعداء. سرعة التصرّف والمهارة في قيادة المركب أمران ضروريان جدًّا في مثل تلك المواقف، والحمد لله، كنّا نتمتّع بكليهما.

كنّا نرى خطوط العدو في ذلك الظلام، ونسمع أصوات تحركاتهم بوضوح. وصلنا إلى مسافة 100م من خط الأعداء، حيث بدأت المسافة بيننا تضيق شيئًا فشيئًا، لكنّ المركب علق بالسلك الشائك وتوقف عن الحركة. لو أنّ السلك الشائك كان طيّعًا وسمح بعبور المركب، لكنّا أكملنا تقدّمنا، ووصلنا إلى أقرب نقطة من تحصينات العدو، وعاينّا
 
 

1- في الهور يوجد ثلاثة أنواع من النباتات: القصب الذي يرتفع من مترين إلى مترين ونصف المتر عن سطح الماء، قصب "البردى" أخضر اللون ويرتفع حوالي نصف المتر. وقصب الغزار الناعم جدًّا والذي يسمح بمجال رؤية تصل لأكثر من مئة متر. بينما مجال الرؤية حتى لو كنّا داخل حقل القصب لا يتعدّى المترين، وفي حقل البردى يتراوح بين 10 و20 مترًا. لذا فإنّ القصب يشكّل مأوى بعيدًا عن الأنظار؛ لكن أغلب مناطق عمليات فرقة عاشوراء كانت مغطّاة بقصب الغزار.
 
 
 
 
230

216

الهور

 ما جئنا من أجله عن كثب، لكنّنا توقفنا هناك ودوّنّا بدقّة كلّ ما شاهدناه على الورق. بعدها، عدنا أدراجنا بالطريقة نفسها والهدوء نفسه.


جمعنا، خلال عملية الاستطلاع تلك، معلومات وافية عن تشكيلات الأعداء في تلك المنطقة. لقد تقدّمت كمائنهم الخط الدفاعي بمسافة 200 أو 500 أو 1000 م بحسب حساسيّة وخطورة كلّ منطقة، وكان يدلّ أسلوب نشر الكمائن على أنّ العدو يستشعر الخطر من جهة المجاري المائية. كنّا واثقين أنّ تلك الكمائن منتشرة عند المضائق المهمة كتقاطع المجاري والمثلّثات. بهدف حماية المجاري المائية الجرداء التي يُحتمل عبور المراكب فيها بكثرة. رغم كل تلك الإجراءات، كان هناك عدد من المجاري المائية غير الخاضعة لمراقبتهم، وكنّا نستخدمها في عمليات الاستطلاع، كما استخدمناها لتوجيه قوات الهجوم ليلة العمليات. انتشرت على صفحة السد المائي للأعداء ثلاث حزم من الأسلاك الشائكة الحلقية المتلاصقة، كما كانت توجد بالقرب منه وعلى مسافة 20 إلى 30م أسلاك شائكة تسد طريق المراكب. شكّل هذا السدّ الخطّ الدفاعي الأوّل للأعداء، وكان الخط الدفاعي الثاني يقع خلفه على مسافة 500م تقريبًا. تتمركز في المسافة الفاصلة بين الخطّين أنواع التجهيزات العسكريّة، بينما تمركزت خلف الخطّ الثاني، المقرّات، الدشم، العتاد والجنود أيضًا. بالطّبع كنّا نحلّل المناطق التي نعجز عن استطلاعها بشكل مباشر، ونتعرّف إليها بواسطة الرصد (بالمنظار) والصور الجوية.

يجري نهر "دجلة" خلف الخط العراقي الثاني، وقد شاهدنا على
 
 
 
 
231

217

الهور

 الخريطة منعطفًا له حيث محور عملنا، وأطلق الإخوة عليه اسم منعطف "الكيس". كما شاهدنا أيضًا مواقع قريتي "همايون"، "الحريبة"، وغيرهما من القرى، وخلفها طريق البصرة - العمارة الاستراتيجي، وهورٌ كبيرٌ آخر يسمى "هور الحمار".


مرّ شهر كانون الثاني سريعًا وحلّ شهر شباط وأيام "عشرة الفجر" "ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة". لقد مرّت 6 سنوات على رحيل الشاه وانتصار الثورة، فاقترح "مهدي داودي" إقامة حفل للمناسبة في مصلّى الموقع.

- لكن كيف؟

- بمسرحية ترفع من معنويات الإخوة!

نظّمنا البرنامج الاحتفالي بسرعة البرق. ودعونا إليه جميع مَن في (الموقع 3)، من بينهم 15 عنصرًا من وحدة استطلاع مقرّ "نصرت" الذين كانوا يتعاونون مع "فرقة عاشوراء" في المنطقة، وكان معظمهم من السكان المحليّين. لم تكن المسرحية بحاجة إلى تدريب، وكانت فكرتها أن يقف الجنود البعثيون إلى جانب وزير دفاعهم الذي يقدّم التقرير تلو التقرير عن هزيمة وانسحاب جنوده، فيستقبلهم "صدام حسين" استقبالًا حافلًا مميتًا. ارتدى "مهدي داودي" زي "المغوار" البعثي ووضع المسدس على خصره، لقد أدّى دور صدام حسين الغاضب ببراعة. أدّيت أنا دور أحد القادة العسكريين، وقد ارتدى جميع الممثلين الزي العسكري العراقي الذّي غنمناه في المعارك، وكنّا نقدّم التقارير باستخدام اللهجات وبعض الكلمات المضحكة التي نعرفها، فرافقتنا
 
 
 
 
 
232

218

الهور

 أصوات ضحكات عناصر مقرّ "نصرت"، الجالسين في الصف الأخير، إلى نهاية العرض المسرحي.


وزّعنا الحلوى التي كنّا قد حضّرناها سابقًا في ختام المسرحيّة، بعدها حان وقت إلقاء كلمة مسؤول وحدة الاستطلاع الأخ "كريم فتحي". كان الأخ "كريم" متحدّثًا لبقًا، وكنّا ندعو الله كي تحين فرصة يتحدّث فيها إلينا ولو ببضع نصائح.

كنّا بحاجة لذلك أكثر من أيّ وقت مضى، خاصّة مع الأخبار الكاذبة والمحبطة التي كانت تبثّها الإذاعات الأجنبيّة، وتتحدّث في معظمها عن عدم قدرة إيران على خوض المزيد من المعارك. كان العدو قد تقدّم تقدّمًا محدودًا في بعض نقاط الجبهة، ما جعل الدول المعروفة بـ"الدول الصديقة"، تظنّ إيران عاجزة عن الاستمرار بالحرب. كانت علاقة تلك الدول بإيران مبنيّة على أساس تفوّقنا العسكري في الميدان. وكنّا كلّما أظهرنا تفوّقًا في الجبهات، رغبت تلك الدول بعقد المعاهدات معنا، وما لم نُحرز أيّ تقدّم يذكر، كانت تتراجع عن مواقفها الداعمة لنا. مرّت حوالي السنة على عمليات "خيبر"، وكان المفجوعون على أحبتهم "مفقودي الأثر" ما زالوا ينتظرون. كان للعمليّات في تلك المرحلة أثرها الإيجابي في إحباط المؤامرة الدعائية المعادية وفي دعم السياسة الخارجية للبلاد.

تحدّث الأخ "فتحي" عن تقدّم عمليّات الاستطلاع وعن موقع المنطقة الاستراتيجي وأهمية العمليات في تلك المرحلة. انتهى احتفال ذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة في "هور الهويزة" بدعاء الإخوة المعتاد: "إلهي إلهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني!".
 
 
 
 
233

219

الهور

 نقلت الكتائب التي ستشارك في العمليّات إلى منطقتي "سرهنكيه" و"كسور" المشابهتين لمنطقة العمليات الأصلية، بهدف تلقّي التدريبات اللازمة المحاكية للعمليات المرتقبة. من أهمّ تلك التدريبات، التدرّب على قيادة المراكب، وبالتزامن مع تدريب الكتائب، كنا نقدّم المعلومات والتعليمات اللازمة لمسؤولي الكتائب حول المنطقة، على عدة دفعات. وذلك إمّا بواسطة الخريطة أو باصطحابهم ومشاركتهم معنا في عمليات الاستطلاع مباشرة، وأيضًا من خلال تقديم التقارير والمراقبة المباشرة من على أبراج الرصد1.


كانت كتيبتا "سيد الشهداء" و"الإمام الحسين" كتيبتي هجوم، على أن تتدخل كتيبتا "علي الأكبر" و"القاسم" فور اختراق الخطّ. أعطيت التعليمات حول المجاري المائية والمسارات التي يجب اتباعها للكتائب الأربع. وتعيّن على كتيبتي الهجوم عبور مجرى "موته" معًا، ثمّ تعبر كتيبة "الإمام الحسين" مجرى ماء "الفتح". وتتقدّم كتيبة "سيد الشهداء" لتصل إلى مجرى ماء "زيد"، ومن هناك إلى قلب خط العدو. هذا
 
 

1- في المناطق الجنوبية، خاصة في الهور، كان يتم استخدام الأبراج لعمليات الرصد بدل الكمائن والمرتفعات. وترتفع تلك الأبراج حتى أربعين مترًا، أو65 م في بعض الأحيان. يوجد أعلى تلك الأبراج غرف للمراقبة زوّدت بمناظير بحجم 20×120أر 20×80، التي اشتهرت باسم مناظير الكاتيوشا. من المؤكد أنّ العدو كان يرى تلك الأبراج، لكن إصابتها كان أمرًا بالغ الصعوبة، ذلك أنّ البرج أشبه بالقضبان الحديدية الرفيعة التي يصعب إصابتها، حتى لو انفجرت قذيفة هاون بالقرب منها، فإنّ احتمال إصابة الشظايا للقضبان الأربعة التي تشكّل البرج ضئيل جدًا. وما كانت تلك الشظايا لتؤثّر في متانة البرج، إلا إذا أصابت غرفة المراقبة مباشرة، وهو أمر شبه مستحيل أيضًا، لقد رأيت بعضًا من الأبراج المتهاوية بعد عمليات "بدر" في منطقة"شط علي"؛ و يعود السبب في ذلك إلى عدم امتلاك البرج للأوتاد والأسلاك المثبتة له في الأرض، ففي الأبراج المتينة يوجد ثمانية أسلاك مثبتة بأوتاد إلى الأرض تجعله أكثر متانةً عند تعرّضه للقصف.
 
 
 
234

220

الهور

 يعني أن فرقة "عاشوراء" ستخوض المعارك على محورين. تتولى كتيبة "سيد الشهداء" المحور الشمالي بقيادة "رستمخاني"، وكتيبة "الإمام الحسين" محور "الهور الجنوبي" بقيادة "محمد أشتري".


بقي 15 يومًا لبدء العمليّات. ونظرًا لتغيّر حدود محاور الفرق المشاركة، حيث تقلّصت حدود محور فرقة "عاشوراء" من 4 إلى 2 كلم، اضطررنا للقيام بعمليات استطلاع جديدة لنتمكّن من تنسيق حركتنا مع المساحة الجديدة للمحور، وذلك قبيل تحديد الاحتياجات والمستلزمات، ووضع إشارات وعلامات على مجاري المياه كي لا يضلّ عناصر الاستطلاع الطريق ليلة العمليات. على أي حال، يعتبر وضع علامات من مجاري المياه عملًا منطقيًّا يبعث على الطمأنينة أثناء توجيه القوات. كالعادة شارك الجميع في إيجاد الحلّ المناسب، وتقرّر في النهاية صنع لوحات من المطاط (الكاوتشوك) وكتابة أسماء وإشارات خاصة عليها، ومن ثم وصل اللوحات بأوزان مناسبة تجعلها طافية بما يتناسب وعمق المياه. عُهد إليّ مع مجموعة عناصر الاستطلاع بقيادة "السيد مرتضى زعفرانتشي" تحضير تلك اللوحات، المطّاطيّة، وكتبنا عليها بخطّ واضح: "باتجاه المحور1"، "باتجاه المحور2"، "مسير كتيبة الإمام الحسين".. بعد أن أصبحت جاهزة، وضعناها في زاوية متراسنا تمهيدًا لغرزها في الأماكن المحدّدة. وتولى هذه المهمّة الخاصّة الأخ "عباس قلي زاده" مع مجموعة من العناصر.

عُقد اجتماع في مقرّ قيادة كتيبة "سيد الشهداء" في "سرهنكيه وكَسور". شارك فيه كلّ من السيد "مهدي"، "جمشيد نظمي" قائد
 
 
 
 
235

221

الهور

 كتيبة سيد "الشهداء"، "محمود دولتي"، "حسين كربلائي"، "مصطفى شهبازي"، إلى جانب مسؤولي السرايا وعناصر الاستطلاع المكلّفين مهمّة توجيه قوّات كتيبة "سيد الشهداء"، من أجل وضع اللمسات الأخيرة على خطة سير المعارك وتحديد مهمة السرايا. أظهر السيد "مهدي" خلال مشاركته في الاجتماع، أنّه ذو رأي سديد، ودراية كبيرة في جميع الأمور العسكريّة1. تقرّر في نهاية الاجتماع اختيار ثلاثة عناصر من فريق "منصور فرقاني" ليتولّوا مهمة توجيه ثلاث فرق (مجموعات) من غواصي فرقة سيّد الشهداء. ركبنا سيارة الإسعاف (تويوتا) القديمة التي جاء بها السيد منصور إلى الاجتماع، حيث جلس خلف المقود وجلسنا نحن في الخلف بصعوبة.


- على ثلاثة منكم التطوع لهذه المهمّة، وإلا سأضطر لاختياركم بنفسي.

كنّا نعلم أنّ هذا العمل شاق جدًّا، الأمر الذي دفع الأخ منصور لاستخدام هذه اللهجة، على الرغم من معرفته بروحيّة عناصره، ما إن أنهى كلامه حتى بدأ كلّ واحد منّا يصرّ على الذهاب:
- من المؤكد أني سأذهب يا "سيد منصور"!

- لا، الجميع يعلم أني أكثر معرفة بالمجاري المائية..
 

1- جرت العادة في السابق أن يرسم مسؤولو الوحدات العسكرية مثلًا، سير العمليات لمن هم أدنى منهم بدرجتين صَفّين-. وإذا ما اتبعت هذه المعادلة بالنسبة لقادة الحرس، فيتوجّب على الأخ مهدي قائد الفرقة أن يحدّد مسير العمليات للألوية والكتائب فقط؛ لكنه كان يشرف حتى على سير عمل فصائل السريّة أيضًا، وحتى على مجموعة في تلك الفصائل. لقد كان يتمتّع بحذاقة وبحسّ مرهف ودقّة في جميع الأمور العسكريّة.
 
 
 
236

222

الهور

 - أنت تعرف جيّدًا يا "سيد منصور" أنني أجيد السباحة بلباس الغواصين..


كان صعبًا جدًّا تصديق ما يجري، فقد نشأنا في الجبهة على تلبية طلبات ورغبات إخواننا وترجيحهم على أنفسنا، فماذا حدث حتى يحاول الآن كلّ منّا إثبات جدارته بشكل أكبر لهذه المهمّة؟! فيعدّد مهاراته بطريقة ولسان! لم يكن أي منّا قد تلقّى حتى ذلك الوقت أي تدريب على الغوص، لذا توجّب علينا فعل ذلك في وقت قياسي، حتى نتمكّن من توجيه فريق مؤلّف من خمسة غواصين نحو خطّ الأعداء. لم يكن بالعمل السهل، لكنّه تحدٍّ حلو المذاق - مذاق الشهادة - أثار حماستنا وشوقنا، قُضي الأمر. نظر إلينا السيد "منصور" وذكر أسماء ثلاثة عناصر هم: "صمد يوسفي، رسول بنام ومهدي قلي رضائي".

كانت المرّة الأولى التي أرى فيها لباس الغوص. لم يكن لديّ من قبلُ أدنى فكرة عنه، ارتديت الزيّ باعتناء ونزلت إلى الماء، بقيت عائمًا على سطح الماء، ومهما حاولت، لم أستطع الغوص إلى الأعماق، بل كنت كالبالون العائم المتحرّك على سطح الماء.

- آه، لمَ هذا اللباس هكذا؟؟

- يمكن حلّ المشكلة بربط الأوزان بأنفسكم.

اتّبعنا إرشادات مدرّبنا، وربطنا الأوزان، فحُلّت المشكلة إلى حدٍّ ما، وتمكّنا من حفظ توازننا داخل الماء أيضًا. فشلنا في التدريب في اليوم الأول فشلًا ذريعًا، وعلا صوت المدرّبين استنكارًا: "يا إلهي أنتم لا تجيدون أي شيء!".
 
 
 
 
237

223

الهور

 قام الإخوة بتدريبنا: "توحيد نام، غلام علي كلانتري، علي رضا سهراب درخشي، محسن كياني" وشخص آخر، كانوا جميعهم من عناصر الاستطلاع الذين تدرّبوا على الغوص مدّة شهرين في مقرّ القوّة البحريّة في ميناء "بندر انزلي". عندما رأوا أنّنا لا نعرف أي شيء عن الغوص أو أدواته، تعجبوا كثيرًا لاختيارنا لهذه المهمّة. صحيح أنّهم يجيدون الغوص بمهارة، إلا أنّه لا يمكن الاعتماد عليهم في توجيه القوات، خاصة أنهم لم يشاركوا في عمليّات الاستطلاع، لذا فالورقة الرابحة في أيدينا.


أصررنا على تعلّم الغوص، لكن بدا وكأنّ أحواض الماء لم تكن ترغب بنا، إذ كنّا نتخبّط بها، وعبثًا حاولنا، فلم نفلح وشعرنا بالإحباط. لكننا لم نكن أهل استسلام، فقد تعلّمنا خلال المدّة التي قضيناها في وحدة الاستطلاع، أن نكون على أهبة الاستعداد، حتى أصبحت أجسامنا مطواعة أكثر من قبل، وأصبحنا قادرين على اكتساب مهارات جديدة أسرع من العناصر العاديّين.

عندما نزلنا إلى الماء تبعنا المدرّبون وهم ينتعلون أحذية خاصة للتحرك بسرعة ومرونة.

- هكذا إذًا! هذه الأحذية هي التي تساعد على الغوص!

- اسمها الزعانف1.

ساعدتنا "الزعانف" كثيرًا في عمليّة الغوص، لكنّها أضافت مشكلة جديدة إلى مشاكلنا، إذ كانت تعلق بالنباتات المائية فتعرقل حركتنا.
 

1- تشبه هذه الأحذية أقدام البط وتساعد على السباحة بسرعة كبيرة تحت الماء.
 
 
 
238

224

الهور

 فكّرنا كثيرًا بهذه المشكلة، لكننا لم نتوصّل إلى حلّ. لم يكن بمقدورنا التخلّص من تلك النباتات، كما لم نستطع الغوص بلا زعانف، ولم تكن هذه المشكلة الوحيدة التي اعترضت سبيلنا وعجزنا عن حلّها. كنّا كالعادة على ثقة بأن الله سيعيننا على القيام بواجبنا وتكليفنا، لمحاربة الأعداء، وتخطّي جميع العراقيل الطبيعية وغير الطبيعية.


بعد ثلاثة أيام من التدريب، أصبحنا غواصين ماهرين، كنّا نغطس في الماء ونسبح كالأسماك، لقد تعلّمنا كلّ خفايا هذا الفنّ، حتى إنّنا أصبحنا قادرين على رفع رؤوسنا عاليًا والقول بكل فخر إنّنا مستعدّون لتوجيه فرق الغوص.

تشكلت فرق غواصي الهجوم الثلاث من: عناصر الاستطلاع في المقدّمة، يليهم عناصر "التخريب"، ثم أمهر خمسة أو ستة غوّاصين تم اختيارهم من قوّات الكتيبة، ينضم إليهم ثلاثة مدرّبين لتأمين المسير. كانت الفرق الثلاث بإمرة عناصر الاستطلاع الذين ساروا في المقدمة. انطلق كل فريق في قاربه الخاص، ليشق الطريق أمام الكتيبة.

تعيّن على المراكب الثلاثة التي انطلقت بفاصل 700 إلى 800 متر عن بعضها، أن تصل إلى النقاط المحدّدة سابقًا، وتشكّل في الواقع أجنحة اليسار والوسط واليمين في محور كتيبة "سيد الشهداء". عمدنا إلى إغراق المراكب هناك كي يطفو الغواصون على سطح الماء، وينطلقوا نحو سدّ الأعداء، وعند وصولهم إلى السدّ وتموضعهم فيه يرسلون إشارة إلى عناصر الهجوم وقوات الإسناد المنتظرة في القوارب الأخرى1.
 

1- تتسع القوارب التي تسمّى "جينكو" ل7 إلى 10 عناصر.
 
 
 
 
239

225

الهور

 يلي القوارب زوارق1 تتسع لخمسة عشر عنصرًا، أو حتى فصيلًا كاملًا، بانتظار إشارة من الغواصين على السدّ. أما قوات الإسناد فتنتظر إشارة الغواصين على مسافة 200 متر من السد، لتبدأ الإنزال والاشتباك.


شارف بناء متراس القيادة في مقر العمليات في (الموقع 5)، على الانتهاء. لم يكن السيد "مهدي" بحاجة إلى هذا المتراس، أو إلى أي شيء آخر. كان عدم انتهاء العمل في المتراس ذريعة ًمناسبةً له ليقضي أوقات استراحته في متراس قيادة الاستطلاع، وصرنا نأنس بوجوده أكثر من ذي قبل. كان الإخوة يسرّون له بكلّ اختلاجات قلوبهم، وتوطّدت العلاقة بينهم وبينه، لدرجة أنّ الجميع سألوا عن أحواله بعد استشهاد أخيه "حميد"، علمًا أنّه اكتفى بإرسال رسالة تعزية إلى عائلته، وكان هذا دأبه عند استشهاد أي قائد من قادته.

في أحد الأيام كنّا جالسين داخل المتراس متحلّقين حول بعضنا بعضًا، "أنا، كريم حرمتي، السيد منصور فرقاني، حميد اللهياري، خسروي، حميد يوسفي وسهراب قرباني"، نتحدث عن عملية استطلاع الليلة الماضية، وعن العمليات والخطط2، فجأة، سمعنا صوت السيد "مهدي":
 

1- وقعت أثناء التدريب في كتيبة "القاسم" حادثة مأساوية، حيث انقلب الزورق وعلق العناصر الموجودون فيه تحته فقضوا غرقًا -.
2- من العادات الحسنة التي اتبعها عناصر وحدة الاستطلاع اجتماعهم للتحدث حول العمليات والمنطقة وما يتعلق بهما، ما يساعد على تفتح أذهانهم وامتلاكهم الكثير من المعلومات، فيصبح العنصر قادرًا على تقديم المعلومات لعدد غير قليل من العناصر.
 
 
 
 
240

226

الهور

 - ماذا تفعلون يا كريم؟


نظرنا من النافذة فوقع نظرنا على وجهٍ جمعت ملامحه الحزم واللين. أجاب كريم:

- كنّا نتحدّث عن عملية الاستطلاع التي جرت الليلة الماضية وسائر الخطط.

- كيف ذهبتم الليلة الماضية وكيف عدتم؟

- تفضّل وادخل يا سيد مهدي.

لم يحتج إلى دعوة أخرى، فقد كان يعلم كم كنّا مشتاقين للجلوس معه. جلسنا بعضنا قرب بعض، وتابعنا الحديث. بعد برهة استعدّ السيد "مهدي" للانصراف.

- إلى أين يا سيد "مهدي"؟ ابقَ معنا واسترح قليلًا!

فعاد وجلس بيننا مبتسمًا.

تحوّل المصلّى إلى مأوى للعناصر الفارّة من ضجيج مُصلِّي الليل. لكن سُرعان ما أُفشي أمر مرتاديه أيضًا. فكنت إذا استيقظت منتصف الليل، تجد أفرادًا تقوقعوا في زواياه المظلمة، وقد دسّوا رؤوسهم في كوفيّاتهم، وغرقوا في مناجاة بارئهم.


تمدّدنا أنا وحسين وتحدّثنا كالعادة، وكان معظم الإخوة نائمين. فجأة، رأينا يدًا تُدخل قطة إلى الداخل، كنّا نعلم أنها فعلة ذلك المشاغب "محمد بور نجفي"، الحارس تلك الليلة.

- ما رأيك يا مهدي أن ندفع القطة للمواء، ثم نثير بدورنا الضوضاء والصراخ...
 
 
 
 
241

227

الهور

 كانت القطة تتنقل في أرجاء المصلّى وهي تموء، ما إن وصلت إلينا حتى عاجلها "حسين" بضربة على بطنها، فأصدرت المسكينة صوتًا مُفزعًا غير متوقّع، ثم تبعتها أنا بالصراخ والصياح.


- لِمَ لا تدعوننا ننام يا عديمي الإنصاف؟!

تابعت الصراخ بلا انقطاع، فاستيقظ على صراخي كلّ من لم يستيقظ على صراخ القطة.

- ما بك أيّها المؤمن؟! لِمَ هذه الجلبة؟!

جاء صوت الأخ "مهدي" من زاوية المصلّى، فذبت خجلًا.

كان الأخ مهدي قد دخل المصلّى ليصلّي صلاة الليل من دون أن يراه أحد.

ازدحم الهور أكثر فأكثر، ونُقلت القوارب والزوارق والمراسي المتحرّكة، والأسلحة وكلّ المعدات إلى جزيرة مجنون. وتقرّر نقل القوّات أيضًا قبل ليلة من بدء العمليات، على أن تستقرّ في القناة الكبرى التي حُفرت خصوصًا للاستتار والتمويه. وقد أُخفيت الزوارق، والمراسي وجميع المعدّات بانتظار لحظة الانطلاق.

حملتْ قوات الكتيبة بدخولها إلى جزيرة "مجنون" أجواء المرح والحماسة. أُعطيت الأوامر في تلك الليلة، بتنفيذ آخر مهام الاستطلاع. حملنا اللوحات والإشارات المطّاطية (الكاوتشوك) التي جهّزناها سابقًا، وانطلقنا بقيادة "عباس قُلي زادة"، لنضعها في الأماكن المحددة لها، بحيث لا يجدها إلا من وضعها، وبقيت بعض الإشارات الخاصة بالنقاط الحساسة والمهمّة ليضعها فريق "أصغر" ليلة العمليات، وقبل انطلاق
 
 
 
 
 
242

228

الهور

 القوات، في أماكنها.


وأخيرًا حلّ اليوم الموعود الذي طال انتظاره. كان لصلاة الصبح حالة معنوية خاصة، ولدعاء "العهد" طعمٌ آخر.

كان ذلك اليوم فرصة لإنجاز الأعمال التي ربما ستكون آخر أعمالنا الدنيوية المادية. بعد صلاة الصبح، انشغل كل واحد منا بتفحّص معدّاته، بعضنا حمل ورقة وقلمًا وراح يبحث عن خلوة ليخطّ فيها آخر رسائله، وآخر صفحات مذكّراته، أو وصيته. بينما غرق بعضنا الآخر في بحر القرآن والدعاء والتوسل إلى الله... وعندما صدح صوت المؤذن اصطفّ الجميع لصلاة الظهر جماعة وبدت بعض الوجوه أكثر نورانية ممّا كانت عليه في الصباح. كانوا يصلّون بخشوع والدموع تسيل من عيونهم، ثم عادوا بعد الصلاة إلى خلوتهم. وكانت وجوه بعضهم مثقلة بالهموم، يردّون التحية إيماءً ويتابعون طريقهم.

عند الغروب، علا صوت المؤذن ثانية، فتدفق الجميع من هنا وهناك ليؤدّوا صلاة المغرب جماعة. كان غروب "الهور" ذلك اليوم أكثر كآبة، وتردّدت همهمات الأذان الجماعي في الأرجاء. قررت قيادة وحدة الاستطلاع، تسجيل فيلم مصوّر للجميع كذكرى، لاحتمال استشهاد بعض الإخوة في هذه العمليات. كان مشهدًا رائعًا. رأيت بعض الإخوة يفرّون من أمام عدسة آلة التصوير (الكاميرا) تواضعًا، بينما يواجهها بعضهم الآخر بالمزاح والطرائف.

رافقت الصلاةَ، من بدايتها إلى نهايتها، دموع وزفرات وآهات، واهتزّت الأكتاف من شدة البكاء. كنا في كلّ ثانية ننسلخ عن الأرض
 
 
 
 
243

229

الهور

 ونتقرّب أكثر فأكثر إلى السماء. تلك اللحظات التي مرّت علينا لم يكن ليشبهها شيء، نور بعض الوجوه، ولطافة أخرى غارقة بالدموع، والخضوع لله... والصمت في محضره، والانسلاخ عن الذات ودموع غمرت مواضع السجود.


انتظرنا كلمة الأخ "كريم فتحي" بعد الصلاة. بدأ كلامه، وسرعان ما اتخذ منحًى آخر وفاح منه عطر خاصٌّ! قال: "تنظر قوات الكتيبة إلى عناصر وحدة الاستطلاع نظرة القائد، بل أكثر من قائد. إنّ وجودكم في الميدان وفي المقدمة، يرفع من معنويّات المقاتلين ويضاعفها. تذكّروا أنّ مهمّتكم الأساس الوصول بالقوات المقاتلة سالمة إلى خطّ المواجهات. وعليكم أثناء المعارك، الحضور في النقاط التي تشعرون بضرورة وجودكم فيها، حاولوا القيام بأي عمل تقدرون عليه: كونوا أينما كنتم، وفي أي وضعية وحال، سندًا للمقاتلين، كونوا القدوة للجميع في الشجاعة والتضحية، وفي أي ميدان تشعرون فيه بالحاجة لتقديم المزيد.."

لم نعد نسمع صوت الأخ فتحي، بكينا بلا رياء أو نفاق، وامتزجتْ مشاعر الفرح بالحزن في قلوبنا. فقد شرّع الأخ "فتحي" بكلامه الباب لنا للمشاركة في المعارك هذه المرة، بينما كانت الأوامر في المعارك السابقة تقتضي عودتنا إلى مراكزنا ما إن تصل القوات إلى الخط وتبدأ المواجهات. كانوا يصرّون على عدم مشاركتنا في المعارك، فخسارة عنصر واحد من عناصر الاستطلاع من شأنها أن تؤثر سلبًا على الكتائب كلّها، إذ ليس من السهل ملء فراغ شهداء الوحدة، وكنّا ما زلنا حتى ذلك اليوم نشعر بالفراغ الذي سبّبه استشهاد بعض الإخوة، لكن الحال
 
 
 
 
 
244

230

الهور

 تبدّلت تلك الليلة، وتقرّر أن "ينطلق كل من يملك قلب الأسد في سفر العشق هذا". قُضي الأمر وحصلنا على الإذن الشرعي للمشاركة في المعارك حتى تحرير وتطهير السدّ، هذا ما فهمناه من كلام الأخ"فتحي". وزاد صوت الأخ "عباس محمدي" الشجي من حماسة الإخوة، تاليًا الآية القرآنية: "يا أيتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي".


تملّكني شعور غريب، وددت لو أنّ جميع حواسي تتحوّل إلى عيون تمكّنني من رؤية خضوع وخشوع هؤلاء الأحرار لرب العالمين فأحفظها في خاطري للأبد. بدأت مراسم اللطم، كان "حسين أبو القاسم زادة" يقرأ اللطمية، فترتفع الأيدي لتضرب بقوة على الصدور، لعلّها تخمد اللهيب المتأجّج داخلها. توسّل الإخوة بالإمام الحسين وبالزهراء عليهما السلام، وكنّا على يقين بأنّ عناية أهل البيت عليهم السلام ستشملنا ولن تدعنا نرجع خالي الوفاض. تبدّلت أحوال الجميع، ولهجت الألسن بالدعاء. كانت رؤية بعض الإخوة في تلك الأجواء، مؤثرة للغاية، كحالة "يعقوب شكاري" الذي كان قد طلب إجازة قبل عدة أيام من بدء العمليات، ولم يُوافَق على طلبه إلا بعد إصرار كبير. الغريب أنه لم يمضِ يوم واحد على ذهابه حتى عاد أدراجه. فسألناه: "لقد حصلت على الإجازة بمشقّة كبيرة، فلم عدت سريعًا؟!". أجاب: "لم تسمح لي أمي بالبقاء في المنزل وقالت لي: "لم عدت قبل الانتصار؟ ليس هذا وقت الإجازات!". عاد "يعقوب"، لكن بروحية مرتفعة حيث وقف وقال بصوت عال: "لن أتراجع إن لم أحصل الليلة على الشهادة من صاحب العصر والزمان،
 
 
 
 
 
245

231

الهور

  ليشفع لنا 'الإمام الحسين'، ويضمن لنا الشهادة!"


- يا حسين كربلاء.. حسين حسين.

- يا شهيد كربلاء.. حسين حسين.

انتهى اللطم الحسيني، لكن الإخوة لم يتوقّفوا، ولم نشأ أن نفسد عليهم حالاتهم الروحية تلك. ذهب كلّ في اتّجاه، وذهبت أنا لرؤية "حسين محمديان" في متراس فريق "مهدي داودي"، كنت أستغلّ كلّ فرصة للذهاب إلى هناك. صرت أفكّر باليوم التالي، وبالإخوة الذين حصلوا على "إذن العبور"! نظرت إلى "صمد يوسفي"، إلى كلّ تلك البراءة البادية على محيّاه، وتساءلت في نفسي: "هل يعقل أن لا يستشهد صمد؟!". حدّقت بوجه "بهمن محبوبي" وقلت في نفسي: "كيف سيطيق الحياة إن لم يستشهد هذه المرة؟!". كان "بهمن" من منطقة "مراغة" من الإخوة القلائل المتأهّلين في الوحدة الذي نادرًا ما ذهب في إجازة، لذا كنّا نعتقد أنّه كاذب مثلنا، لكنّه قبل بضعة أيام نبأني بولادة ابنه: "لقد رزقني الله قبل بضعة أيام صبيًّا أسميته 'مهدي' كإسمك". كنت أفكر في هذه الأمور عندما دخل "يعقوب شكاري" ضاحكًا صاخبًا إلى المتراس على غير حاله التي كان عليها منذ عدّة دقائق، قال من دون انتظار: "لقد حصلت1 هذه الليلة على ما أردته، فماذا عنكم أنتم؟!" نظرنا إليه. كان هادئًا مطمئنًا لدرجة صدّقنا فيها أنّ تلك كانت ليلته الأخيرة بيننا.
 

1- كان مسجّل الصوت يعمل تلك الليلة، ونسمع على الشريط المسجّل صوت يعقوب كي يثبت لنا فيما بعد أنّ يقينه لم يكن مجرّد خيال وأوهام.
 
 
 
 
246

232

كربلاء بدر

 كربلاء بدر


آذار 1985م
استطلاعاتنا المائية حفلت بالحالات المعنوية في جزيرة مجنون. وجوهٌ لها تاريخ، ووجوه فتِيّة تكتسب الخبرة في الجبهة.

أمامنا مشاهد قتالية ومفاجآت نوعية في خضم خطوط العبور والدفاع، والمسافات والمواقع، والسدود والقنوات والمقرّات والمخازن والمتاريس. رحل من رحل، وتشظّى آخرون. هنا لم تعد المواجهات كما كانت. وكذلك "مهدي قلي رضائي" الذي كان يكرّ في داخلي من هنا إلى هناك، لم يعد كما كان.
 
 
 
 
 
247

233

كربلاء بدر

 1


علا صوت الأخ "فتحي" في الصباح الباكر:
- جهّزوا عتادكم بسرعة واركبوا السيارات.

لقد حُدّدت المهام من قبل، تقرّر أن يذهب عددٌ منّا، بينما يبقى آخرون. كان الباقون يتقدمون فيقبّلون الذاهبين ويشمّونهم بحجة طلب المسامحة، لكن الحقيقة كانوا يخشون فقدهم إلى الأبد. لذلك، طالت دقائق العناق والوداع.

- نسيت.. لكنّني أذكر أنّني آذيتك. كان ذلك قبل شهرين عندما كنت أضحك واعتقدت أنت أنّني .. لن أدعك قبل أن تسامحني.

- يا إلهي، لكنّني لا أذكر شيئًا، ولمَ تصرّ على أن أعترف بأنّك آذيتني؟!

تكرّرت تلك الحوارات بأشكال مختلفة. كان هدف الإخوة تسوية جميع حساباتهم الدنيويّة، بحيث لا يبقى أي دَين لغيرهم في أعناقهم "ماديًّا" و"معنويًّا". كان كلّ من يركب في السيارة يثير أعاصير الشوق والدموع في عيون المنتظرين، ثمّ علت الترانيم مع صوت "عباس محمدي":
يا نسيم الصبا خبّر أهل القرى
جنود الإسلام قد ساروا للكرب والبلا
أذّن أيّها المؤذّن وشيّع القافلة

رفع عباس محمدي الأذان بصوته الشجي الذي يخترق القلوب، وامتزجت الدموع بالابتسامات.. إلى أن انطلقت السيارات وراحت تنهب الأرض نهبًا، وكالعادة رشّوا الماء خلفنا.
 
 
 
 
 
248

234

كربلاء بدر

 حُفرت داخل جزيرة مجنون الشمالية قناة عرضها 1.5م وعمقها 2م، ويتشعّب من جانبيها روافد متعدّدة ومتتالية. لا أدري كيف قضى الإخوة ليلتهم حتى الصباح في برد آذار القارس في تلك القناة! انطلقت إلى سريّة "محمود دولتي" التي كنت أتولّى توجيه فريق غوّاصيها. كان الأخ "محمود" من العناصر الشجعان المجرّبين والموثوق بهم في الفرقة، وكان الأخ "مهدي" يكنّ له محبة خاصة، كما زادت خصاله الحميدة وطرافته من محبة عناصر الكتيبة له. تركت شظيّة ندبة على وجنته، كانت رؤيتها تذكّرني بالقائد البطل في صدر الإسلام "مالك الأشتر"، وبالقادة الشهداء في الفرقة. عندما رآني، جمع قادة فصائله، وقدّمنا لهم التعليمات الأخيرة. جال محمود على العناصر مؤكّدًا عليهم تفحّص معدّاتهم وتجهيزاتهم، وقال لمسؤولي الفصائل: "جولوا على جميع العناصر، وتأكّدوا أن كل تجهيزاتهم كاملة".


التقيت خلال المدّة التي قضيتها في سرية "محمود دولتي" بعدد من الإخوة أصحاب الدعابة والمزاح، منهم "أحمدي نمر" الذي أينع مزاحه. فكان يقول: "مرحبًا! ستستشهدون جميعكم، وأُصبح حينها قائد السريّة!" كان يمازح ويشاكس هذا وذاك، خاصة "إسماعيل ريسماني":

- أنت أصلع، وعندما تسقط جثّتك في القناة، سأضغط على رأسك جيّدًا كي يغرق في الماء فلا يلمع ويفضح أمرنا. ولم يقصّر إسماعيل في الجواب:

- العفو! سأدعك تسير في المقدّمة كي أطمئن بأنّك لن تتيه وتضلّ الطريق..
 
 
 
 
 
249

235

كربلاء بدر

 - يا علي! ليتحرّك الرتل.


انطلق الجميع، بعضهم بالسيارات وبعضهم مشاةً نحو (الموقع 6). كان المرسى جاهزًا، والزوارق والقوارب في الانتظار. وصلت إلى المرصد في (الموقع 6) حيث اجتمع عناصر الاستطلاع للمرة الأخيرة هناك: "منصور فرقاني، كريم حرمتي، سهراب قرباني، حميد اللهياري، صمد يوسفي، علي رضا سهراب درخشي، داود خسروي، حسنلك مري"، مع مجموعة من الإخوة الطلبة1، اجتمعنا هناك لعدّة دقائق. عندما خلا المكان من القوّات، خيّم علينا الصمت والسكون، ولم يتفوه أحد بأيّ كلمة. ألقيت نظرة على جميع العناصر، ثم صعدت القارب، واتّجهنا نحو المرسى. كان المرسى عبارة عن 10 قطع من جسر خيبر2 مصفوفة في صفين يبعدان مسافة خمسة إلى عشرة أمتار أحدهما عن الآخر. جلست كتيبة "سيد الشهداء" في الصف الأمامي وكتيبة "الإمام الحسين" في الصف الخلفي. يوجد بين صفّي المرسى جسور لعبور الأفراد، أُخفيت ومُوّهت بالقصب. أما القوارب والزوارق المخصصة لنقل القوات والمنتشرة على جانبي هذه الجسور فقد موّهت وأخفيت بطريقة خاصّة.

كانت الساعة الثالثة بعد الظهر. نظرت في الأنحاء، فشاهدت قائد كتيبة "سيد الشهداء" الأخ "جمشيد كاظمي" يتحدّث إلى عناصره:
 

1- طلبة: أي طلاب العلوم الدينية في الحوزة.
2- جسر خيبر: جسر من ابتكار المهندس القائد بهروز بوشريفي" في جهاد البناء، مؤلف من قطعات بمساحة 5×3 م مسطّحة ومصنوعة من المعدن والفوموفايبر كلاس المقاوم بوزن 1200 كيلو غرام للقطعة الواحدة؛ وترصف إلى جانب بعضها بعضًا مُشَكِّلة جسرًا مناسبًا للعبور في المياه الراكدة.
 
 
 
250

236

كربلاء بدر

 - إذا استشهدت أنا فسيتولّى قيادة الكتيبة "محمود دولتي"1.


وقف محمود، وعندما رأيت قامته المنتصبة، قلت دون إرادة منّي: "الحق يقال إنّه أهلٌ للشهادة".

- أسمعتم جيّدًا! إذا حدث لي أو لمعاوني أيّ مكروه، فسيتولّى "محمود" القيادة.

رأيت في الجهة الأخرى "أصغر قصاب" يجول بين عناصره ويتحدّث إليهم. كانت روحيّة الإخوة مدهشة ذلك اليوم. تكرّر مشهد طلب المسامحة، الوداع، المزاح، الخلوة بالنفس، الابتسام، الدموع والسكوت بين عناصر الهجوم أيضًا. في تلك اللحظة تذكّرت المرة الأولى التي تطوّعت فيها للحرب. كنت أقف في الصف لأركب الحافلة والقلق يساورني خشية أن يأتي أحدهم ويمنعني من الذهاب. كان هناك أشخاص وصلوا إلى المرسى خِلسةً محاولين التقدم إلى الخط الأمامي والمشاركة في المعارك بأي وسيلة ممكنة.

وسمعت أنّ عددًا من المقاتلين قد قطعوا الليلة الفائتة مسافات بعيدة، تحت جنح الظلام، للمشاركة في المعارك. تذكرت غربة ووحدة "الإمام الحسين عليه السلام"، وكيف أخذ شيعته العبرة من كربلائه، بعد كلّ هذه القرون، ليُسابقوا بعضهم بعضًا إلى الموت. فجأة، تسمّرت عيناي على وجه أحدهم، كان "علي تجلائي"، القائد الآذربيجاني الأوّل الذي أنقذ "سوسنكرد" من السقوط، وقائد المتطوّعين للمشاركة في
 

1- نقله الرائد قبل بدء العمليات من كتيبة "الإمام الحسين" إلى كتيبة "سيد الشهداء" حيث نال شرف الشهادة في عمليات "كربلاء بدر".
 
 
 
251

237

كربلاء بدر

 عمليّات "الفتح المبين" التي شاركت فيها. ما زلت أحتفظ بصورته عندما استقبلونا في محطة قطارات "تبريز" بعد عودتنا من عمليّات "الفتح المبين"، وقد وضعوا إكليل ورد في عنقه. سمعت عن تدريباته القاسية والشاقّة في "خاصبان"، وأنّه من القادة القلائل الذين شاركوا في دورات عديدة كدورة "دافوس"1 التدريبيّة.


من الوجوه الأخرى المعروفة التي وصلت إلى المرسى خلسة، "أبو الحسن آل إسحاق". قبل عدة أيام، كان قد وصل عنصرٌ مجهول الهوية إلى مقر الوحدة في (الموقع 3)، وكان يصرّ على غسل أطباقنا. كنّا نذكر محاسنه ونقول: "لا نعرف من هو، لكنّه إنسان طيّب، ويقوم بعمله بكلّ إخلاص..". هذا الشخص الطيب هو "أبو الحسن آل إسحاق"، من أوائل قادة الحرس في "تبريز". لم نكن نعلم في تلك الأيام كم عانى حتى يستطيع المشاركة في المعارك، فقد كتب رسالة طويلة للسيد "مهدي" أصرّ فيها عليه بالسماح له بالمشاركة في الهجوم. فكتب له السيّد "مهدي" في الجواب: "لك الإذن فقط بالحضور في مقرّ وحدة الاستطلاع، والبقاء مع الأخ 'فتحي'، ولا يحق لك التقدّم أكثر من ذلك".

جُلت بعينيّ على "أصغر قصاب"، "قاسم حريسي"، و"محمد تجلائي" والأخ "علي تجلائي". كنت أفهم حالة كل من جاء إلى هناك خلسة.

تحوّل المرسى إلى عالم آخر، اصطفّ المصلّون كتفًا إلى كتف
 

1- دورة تدريبية خاصة بالقادة والأركان.
 
 
 
252

238

كربلاء بدر

 لصلاة الجماعة، والانطلاق بعدها. أمَّنَا في الصلاة رجل دين طيّب، كنّا نناديه بالأستاذ "جعفري"1. عاش الإخوة حالة روحيّة رائعة، لا يعرفها إلّا من مرّ بتجربة انتظار أجمل "موت". الموت الذي سيحررنا بعد عدّة ساعات من هذا العالم الترابي الفاني. انتابني ذلك الشعور الغريب الذي لطالما كان يساورني عند بدء كلّ عمليّة. ودّعت "حسين محمديان" وبقية الإخوة في الوحدة. كان عليهم توجيه قوّات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". حان وقت الانطلاق، ذهب المقاتلون من دون أي تباطؤ لارتداء بدلات الغوص، وكذا فعلت أنا. عندما رأيت عددًا من الفتية في الخامسة عشرة من العمر يخلعون الزي العسكري ليرتدوا بدلات الغوص، اضطربت بشدة:

- أنّى لهذا الفتى بجسمه الضعيف وعمره الصغير أن يجرؤ على اقتحام قلب العدو؟!
 

1- حجة الإسلام جعفر زاده رجل دين مسنّ من قضاء "خلخال" عرف في الفرقة بالأستاذ جعفري، كان له دور إيجابي مؤثر بين الإخوة. كنت قد التقيت به في الغرفة قبل عمليات "خيبر" وقد استشهد في عملية والفجر8-.
 
 
 
253

239

كربلاء بدر

2

 نزعنا القصب الذي وضعناه لإخفاء الزوارق، وصعد الغوّاصون الذين شايعتهم نظرات إخوانهم المتحسّرة واحدًا تلو الآخر. شعرت بالخجل من نفسي لرؤية ملامح الغوّاصين المطمئنّة، لأنّني شككت بقوّتهم وجرأتهم. في تلك الأثناء، لفتني صوت قارب مغاير لأصوات زوارقنا، كان صوت محرك قارب السيد "مهدي" وقد جاء وحيدًا.


- يا إلهي ما الذي أصاب السيد مهدي؟!

لم يستكن لحظة واحدة، كان يجوب المرسى، تارة لوحده، وتارة مع عنصرين آخرين. ينظر إلى وجوه الغوّاصين، وإلى الزوارق، وإلى مجرى الماء ومن ثم يتجه نحو المجرى وهو يقود قاربه بسرعة باتجاه القصب الممتد على جانبه، مكرّرًا هذه العمليّة عدة مرات بهدف توسيع المجرى أمام عبور الزوارق. فجأة، انتابني اضطراب شديد، فقد حملتني هذه المياه وهذا القصب إلى كربلاء "الحسين عليه السلام" الذي كان يقطع بسيفه أشواك صحراء "نينوى" حتى لا تؤذي قدميه وأقدام أصحابه أثناء المعركة في اليوم التالي. لقد ألهبت هذه الذكرى أحشائي.

- هل من الممكن أنّ السيد مهدي .. لا! وهل يعقل؟! وماذا سنفعل من دونه؟!

حاولت إبعاد جميع الأفكار عن رأسي والتركيز فقط على مهمّتي، لكن عبثًا حاولت. كانت المشاعر تضطرب في داخلي عند رؤيتي للسيد "مهدي" أو لأي أخ آخر. كم وددت لو ننطلق تلك اللحظة. وأخيرًا
 
 
 
 
254

240

كربلاء بدر

 انطلق الزورق الأوّل، وكان على متنه "كريم حرمتي"، حيث تولّى توجيه الغواصين إلى الهدف المنشود. أسرعتُ بزورقي قليلًا كي أصل إلى "كريم". كنّا نقترب بهدوء من مجرى مياه "موته". وجّه "كريم" تعليماته الأخيرة، ونحن كلّنا آذان صاغية.


كان لغروب الشمس تلألؤ خاصّ على مياه "هور الهويزة". رأيت قارب السيد "مهدي" متجهًا نحونا. توقف بهدوء عندما وصل إلينا، ونادى كريم: "تعال إلى هنا يا كريم". جذّف كريم زورقه نحو قارب السيد "مهدي":

- هل ستنطلقون الآن يا كريم؟!

- أجل يا سيد مهدي، بإذن الله.

- لا تنسوا التسبيحات: لا إله إلا الله، سبحان الله والحمد لله، لن أوصيك بالإخوة أكثر!

مرّ الزورق بهدوء من أمامه، وحملت الريح إليّ صوت السيد "مهدي" الذي كان قلقًا على الإخوة، ويوصي بالتسبيح. انطلق خلفي رتل زوارق الاقتحام. مرّ الجميع من أمام السيد "مهدي"، كم وَددتُ لحجّة ما البقاء هناك لأراهم كيف يتبادلون نظرات الوداع. كنت أنظر أحيانًا إلى الخلف، فأرى القارب يصغر شيئًا فشيئًا، حتى يتوارى عن الأنظار، وأنا على يقين أنّه ما زال هناك، وسيبقى هناك ليشايع جميع قوّات كتيبتيّ الاقتحام في فرقته.

كنت أرمق الأفق عند الساعة الخامسة عصرًا، حين نشرت شمس المغيب أشعّتها القانية على "الهور". ساورني القلق، وراحت مئات
 
 
 
 
255

241

كربلاء بدر

 الأسئلة والهواجس تنهشني:


- ماذا لو ظهرت مروحيّة العدو في الأجواء؟ كيف لكلّ هذه الزوارق الاستتار؟ ماذا لو كان العدو يعلم بأمر العمليّات وقد نصب لنا الكمائن في مجاري المياه؟ ماذا لو..

تمتمت شفاهي "وجعلنا..."، وكنت على يقين أن هذه الهواجس قد انتابت جميع عناصر الاستطلاع. فكّرت أنّ الجهاد الأكبر هو محاربة تلك الهواجس والوصول إلى اليقين، إنّه "هو" من أتى بنا إلى هنا وسيدفع بنا للأمام.

كان مجرى ماء "موته" مسيرًا مشتركًا لكتيبتين، حيث تنفصل كتيبة "الإمام الحسين" عنّا عند مثلث مجرى ماء "فتح"، لتدخل مجرى "فتح". بينما نواصل نحن الحركة في المجرى عينه إلى أن نصل إلى منطقة "زيد" ونقتحم خط الأعداء.

كانت تفصلنا مسافة قصيرة عن مثلّث فتح، حين هزّني فجأة صوت مروحيّة، كان يقترب أكثر فأكثر.

- هيا أسرعوا واختبئوا بين القصب!

دخلت جميع المراكب في طرفة عين داخل حقل القصب. نظرت في لحظات الصمت والانتظار تلك إلى وجوه الرفاق. لقد رسا بالقرب مني ثلاثة زوارق، فكانت فرصة لأتفحّص الإخوة عن كثب. كان "مهدي قيطانتشي"1 في الزورق المحاذي لنا قد أرخى سحّاب بدلات الغوص
 

1- قيطانچي: Khaytanchi
 
 
 
 
256

242

كربلاء بدر

 وأخرج يديه منه، ثم انحنى ليتوضّأ من مياه "الهور". لم يرتجف جسمه النحيل، في برد التاسع من "آذار" القارس أبدًا. توضّأ وكنت أنظر إليه، صحيح أنه لم يكن قد تجاوز السادسة عشرة من العمر، إلا أنّه كان مفتول العضلات، قوي البنية. كنت أغبطه وأقول في نفسي كم هو أهل للشهادة والاستشهاد:


- يبدو يا مهدي أنّنا سنضحي بك الليلة فضوؤك مرتفع1!

رفع رأسه وتبسّم لي ابتسامة هزّت كياني. نظرت إلى عناصر فريقي، فلفت نظري وجه "أحمد يوسفي" المشعّ. كان أصغر سنًّا وحجمًا من "مهدي قيطانتشي". ذاك المارد الشهم بإيمانه وإرادته الصلبة، أتى إلى الجبهة وأصبح غوّاصًا في قوات الاقتحام! لم أرَ فيه، ومهما أمعنت النظر إليه، أي أثر للخوف أو الوجل. كنت أفكر أنّه من أهل الشجاعة والبأس المفيدين جدًّا في وحدة الاستطلاع. فرسمت له الخطط كي أستفيد من قدراته على أكمل وجه. "علي رضا سهراب درخشي" هو عنصر آخر في الفريق، كان منطويًا على ذاته، منشغلًا بها، ولا يمكن اختراق تفكيره. مرّت ربع ساعة على وجودنا في حقل القصب، رحلت المروحيّة، وحلّ المغيب. فكّرت أنّه من الأفضل أن نصلّي صلاتي المغرب والعشاء هناك قبل أن نصل إلى مثلّث الفتح، فنتمكّن من متابعة مسيرنا نحو نقطة الاشتباك من دون أي توقّف. استعدّ الجميع للصلاة، مع أنّنا
 

1- مصطلح الضوء العالي إشارة إلى ضوء السيارات المرتفع والمنخفض، يستخدم لمن تظهر أنوار الشهادة على وجوههم قبل بدء المعارك، وكان يُستخدم مزاحًا بين المجاهدين في جبهات الحق أثناء الحرب المفروضة على إيران خلال ثمانينات القرن الماضي.
 
 
 
 
257

 


243

كربلاء بدر

 توضّأنا قبل ارتداء بدلات الغوص، إلّا أنّنا جدّدنا وضوءنا. كان لذلك الوضوء وتلك الصلاة طعم آخر، كانت خالصة لله سبحانه وتعالى، منسلخةً عن كل عوالق الدنيا.. في وحدة وظلمة ذاك "الهور"، وقبل ساعات من بدء المعارك، بل ربما، والله أعلم! قبل ساعات من تلك اللحظة الموعودة للعروج.


أمر "كريم حرمتي" بالانطلاق. كان آخر عنصر يجلس في الزورق ينقل الأمر لمن يليه، وهكذا حتى يصل الأمر إلى العنصر الأول:
- استعدّوا للانطلاق!

خرجنا من بين القصب، ووصلنا بعد عدّة دقائق إلى مثلّث الفتح، انعطف عناصر كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" نحو مجرى ماء "الفتح"، بينما تابعنا نحن التقدّم في مجرى "موته". كانت السماء تشتدّ ظلمة وانتابني شعور رهيب. شعرت، وعلى الرغم من الظلام الدامس الذي لفّ الأرجاء، ورغم غياب القمر، بضياء ساحر، وكأنّني أستطيع رؤية كلّ شيء من حولي. عند وصولنا إلى السدّ، نكون قد ابتعدنا مسافة 6 كلم عن قوّات الإسناد، ومهما حدث هنا، لن يعلم به إلّا الله، هو حسبنا ونعم الوكيل. شعرت بفقري وفاقتي أكثر من أي وقت مضى. كان الزورق يتقدّم بهدوء، وكلّي ثقة أنّه الوقت المناسب كي أكبر هنا في حلكة هذا الليل الذّي تمرّ فيه السنون الطوال كلمح البصر. سمعت أنّ ذنوب الشهيد تُغفر مع أوّل قطرة دم تسقط منه. فكّرت في تلك الأجواء أنّ ذنوب هؤلاء الإخوة ستُمحى حتى قبل أن تصل قطرة من دمائهم إلى الأرض. كانت أنفاسنا متسارعة لشدّة التعب، والمجاذيف تمخر عباب
 
 
 
 
258

244

كربلاء بدر

 الماء، وكأنّني نسيت لما أنا ذاهب. كنت أتحسّس العظمة الإلهيّة التي أحاطتنا. سرعان ما وصلنا إلى تقاطع مجرى "موته - زيد". حيث تنقسم الزوارق إلى فريقين، فيذهب كلّ فريق إلى مهمّته. لم يطاوعني قلبي على مغادرة المكان، ورؤية الزوارق تنفصل وتبتعد الواحد تلو الآخر. حلّ صمت مطبق، وكأنّ ربّ الكون قد أمر جميع الكائنات: "اصمتوا وانظروا إلى عبادي". هدأت رياح آخر أيام فصل الشتاء، وسكن صوت حفيف القصب، وهدأت أصوات الأمواج والضفادع والطيور، حتى أصوات قطرات المياه التي تصدر عن مجاذيفنا قد صمتت، بقينا وحدنا، نمخر عباب الماء نحو هدفنا. كان كلّ شيء ساكنًا وكأنّني في سبات عميق، أو كأنّني دخلت إلى عالم غير هذا العالم، حيث يصل الإنسان إلى "الوحدة" وسيستعيد حقيقته: خلافة الرحمن على الأرض.


وصلنا إلى مجرى "زيد"، حيث يتشعّب منه ثلاثة مجارٍ أُخرى تتّجه نحو السد، وضعنا لها أسماءً خاصة: (زيد 1) و(زيد 2) و(زيد 3). انفصل عنّا الإخوة الذين كانوا سيقتحمون خط العدو من (زيد 2). كان مسؤول استطلاع ذلك الفريق هو الأخ"سهراب قرياني"، بينما كان مسؤول كلّ الفرق الأخ "موسى مختاري". نظرت إلى "موسى"، وكان ذا بشرة سمراء وهو من "سيلاب"، ويلعب كرة القدم بمهارة. أدركت حينها أنّني أجهل الكثير عن هؤلاء الإخوة، الذين قد يرحلون عنّا بعد ساعات، فيستحيل التعرّف إليهم جيدًا. انعطفوا هم نحو (زيد 2)، وتابعنا نحن مسيرنا لننعطف بعد دقائق نحو (زيد 3). كانت نظرات الإخوة إليّ تثقل كاهلي. كم تمنّيت لو أصل بهم جميعًا سالمين إلى السدّ. كنت أعلم
 
 
 
 
259

245

كربلاء بدر

 أنّ كتيبة "سيد الشهداء عليه السلام"، تنتظر إشارتنا من الخلف لتتقدّم عبر (زيد 3) وتبدأ الاشتباك مع العدو.


حان وقت الانفصال. أشرت إلى الإخوة، بحركة ليتجهوا إلى مواقعهم. التقت نظراتي مع نظرات "كريم حرمتي"، وكأنّه لا يرغب في الانفصال عنّا. كان قلقًا، فاتّجه بزورقه نحونا، من دون أن ينبس ببنت شفة. تبادلنا نظرات الوداع، واتّجهنا نحو السدّ. بقي "كريم" في مكانه يراقبنا من الخلف. كانت الأهداف1 المحدّدة لنا على السدّ تبعد مسافة 200 إلى 4000م الواحد عن الآخر، لذا يتوجّب على الزورق الواحد تغطية مقطع عَرَضي بمئات الأمتار من خط العدو، وهو أمر غير منطقي، أي ستقتحم قوّات خمسة مراكب ثلاثة كيلومترات من خط العدو الدفاعي: ثلاثة مراكب من محور كتيبة "سيد الشهداء" في مجرى مياه "زيد"، ومركبان من محور كتيبة "الإمام الحسين" في مجرى المياه "الفتح". كان العدو قد حصّن الساتر الترابي مؤخرًا، إضافة إلى المقرات، المخازن والمتاريس، رأيت كل ذلك في الصور الجوية. كنت أفكّر في العمل العظيم الذّي نحن في صدد تنفيذه. كان من المقرّر أن يقع قائد الفيلق الثالث في الجيش العراقي "ماهر عبد الرشيد" مع كل قدراته الفكرية والعسكرية أسيرًا في أيدي قوات حوالي عشرة زوارق.

- احنوا حافة الزورق بهدوء في الماء كي تغمره المياه. لم تطل المدّة حتى غرق الزورق في المياه، وطفونا على السطح.. "اشهد يا
 

1- الأهداف: أي النقاط المحددة للهجوم عليها في السدّ والاشتباك مع العدو.
 
 
 
260

246

كربلاء بدر

 ربّ العالمين، لقد أغرقنا آخر ما يربطنا بهذه الدنيا حتى، المراكب التي تحت أقدامنا.." مددت يدي نحو الإخوة وشكّلنا حلقة في الماء.


- تمسّكوا بالحبل جيّدًا حتى لا ينفرط عقدنا، وعندما أُسرع تُسرعون في إثري، وحينما نصل إلى الخط، نصعد أعلى السدّ، عليك يا أحمد بالمتراس عن يسارنا، وأنتما يا "علي رضا وتوحيد فام"، عليكما بالمتراس المواجه لنا. علينا تأمين مسير عبور واضح لقوات الكتيبة مهما كلّف الثمن، حتى لو جُرحنا. انتشر صوتي المنخفض في الحلقة، مدّدت الحبل الذي أحمله معي وأمسكنا به جميعًا. ما عدت أفكّر لا ببرودة الماء ولا بالأسلاك الشائكة على السدّ، ولا حتى بالخطر الذي كان يتهدّدنا ورميِنا بالرصاص إذا كُشف أمرنا والبقاء في قعر الماء إلى الأبد. جلّ ما كنت أفكّر به، هو التقدم وفتح معبرٍ وممر في سدّ الأعداء وإعطاء الإشارة للقوات بالتقدم.

- اصبر.

كانت تفصلنا مسافة 20 مترًا عن السدّ، عندما علقتُ بأحد الأسلاك الشائكة. لم يتجاوز عمق الماء المتر ونصف المتر، وكنت أسير في الماء سيرًا، بينما يسبح كلّ من "علي رضا وأحمد" خلفي، كالضفادع بلا أي ضجة تحت الماء. لم أكن أفكّر بالأسلاك الشائكة، بل كنتُ على عجلة من أمري لأصل بسرعة إلى السدّ. اعتقدت أنّ الأسلاك الشائكة موجودة على وجه الماء فقط. لم أكن قد قمت بأي خطوة بعد، حتى خرق صوت رصاص كثيفٍ سكون المنطقة، فقد بدأت المعارك في الجهة اليمنى في محور (لواء المهدي 33)، قبل الموعد المحدّد. تأكّدت من وقوع
 
 
 
 
261

247

كربلاء بدر

 الاشتباكات مع إطلاق قذائف "آر بي جي" التي كانت بعكس الرصاص الطائش الذي يطلق في منطقتنا. كان كل شيء يؤكّد بدء المعارك هناك. ما باليد حيلة. لم يكن المتراس المقابل لنا قد قام بأي ردّ فعل، فاغتنمت الفرصة لأتحرر من الأسلاك الشائكة، وقلت لعنصر التخريب وأنا أغطس في الماء:

- سأغطس لأقطع الأسلاك الشائكة، فاتبعني.

عندما غطست في الماء، رأيت جدارًا من الأسلاك الشائكة ممتدًا أمامي. بحثت بيدي عن عنصر التخريب القريب مني، سحبته بسرعة تحت الماء فانتبه إلى الأمر، وبدأ يساعدني في قطع الأسلاك الشائكة. عبرت الممرّ الذي صنعته وتابعت قطع الأسلاك، ثمّ وضعت كبسولة الإضاءة الليليّة1 وتابعت حركتي نحو السدّ.

كانت المعارك تشتد في الجهة اليمنى وكذلك تبادل إطلاق النار.

- لِمَ لم يقم هذا المتراس بأي ردّ فعل حتى الآن؟

لقد شملتنا العناية الإلهية برحمتها، ولم يستشعر العدو الخطر في هذه المنطقة، بالرغم من بدء المعارك. أيًا يكن، كان هذا في مصلحتنا. تابعنا الحركة نحو السدّ، زحفًا على الصدور حينًا، وحبوًا على اليدين والقدمين حينًا آخر، بحسب عمق المياه. وصلنا إلى صفحة السدّ، وبدأ الإخوة يقفون في صف واحدٍ من دون أي ضجة أو ضوضاء. كنت أريد
 

1- عبارة عن كبسولة زجاجية بحجم حبة الحمص تحتوي على مادة فسفورية في غلاف بلاستيكي ويمكن رؤيتها من مسافة بعيدة بكل سهولة في الظلام. فكانت علامة ودليلًا للقوات التي كانت ستلحق بالغواصين للتحرك باتجاه ضوء الكبسولة.
 
 
 
262

248

كربلاء بدر

 التأكد للمرة الأخيرة من موقع المتاريس، فجأة، علا صوت من خلفي. لم أصدق ما أرى. فقد عبر زورق من خلال الفجوة التي أحدثناها في جدار الأسلاك الشائكة. حيث وضعنا الكبسولة الفسفورية وتقدم نحونا. والحمد لله لم ينتبه العراقيون له.


- اذهب يا "علي رضا" وأنتما معه إلى ذلك المتراس.

كنّا ستة عناصر، ذهب اثنان مع "علي رضا"، واثنان معي. سحبت ضامن أمان القنبلة اليدوية التي في يدي، وألقيتها داخل المتراس. تزامن انفجار المتراس مع وصول الزورق إلى الساحل، فعَلَت صيحات تكبير الإخوة الذين كانوا يقفزون من الزورق نحو السدّ. فتح المتراس الذي اتجه "علي رضا" نحوه، النارَ علينا بغزارة. رأيته من بعيد يسقط أرضًا، فقام أحد الإخوة الذين ترجّلوا من الزورق بإطلاق قذائف "آر بي جي" نحو المتراس فتناثر حطامه في كل مكان. مع السيطرة على المتاريس، كنّا قد حرّرنا حوالي 60 مترًا من سدّ العدو. توالت المشاهد أمام ناظري، حيث أطلق أحد مقاتلينا قذيفة "آر بي جي" على "جيب" عسكري عراقي كان يسير بسرعة على السد. فاحترق وترجّل منه جنديّان عراقيّان ما لبثا أن قتلا على بعد خطوات برصاصنا. كانت زوارق قوّاتنا تصل السدود الواحد تلو الآخر، وازداد عدد الوجوه المألوفة لدي في المكان. ارتعب العدو، وبعكس توقّعاتنا لم نلقَ مقاومة. لم يحدث حتى تلك الليلة أن انهارت خطوط العدو بهذه السهولة والسرعة.

ارتاح بالي لجهة السيطرة على السدّ، وكنتُ أظنّ أن أفضل عمل يمكن أن أقوم به هو إيجاد طريق تسهّل عبورنا نحو قلب جبهة الأعداء،
 
 
 
 
263

249

كربلاء بدر

 فقد تقرّر أن تهاجم كتيبة "علي الأكبر" بقيادة "محمد رضا بازكشاه"1 عمق جبهتهم من خلال هذه الطريق وتكمل عملياتها، فإذا ما عثرتُ على تلك الطريق فسيسهّل ذلك مهمّتهم. سرت على طول السدّ نحو نهر "الروطة" حيث وجدت الطريق التي أبحث عنها بسهولة. كانت الطريق عمودية بالنسبة للسدّ، تنفصل عنه في نقطة لتتّجه غربًا نحو نهر دجلة. كنت أعرف أنّ الطريق وبحسب الخارطة تنتهي إلى نهر "دجلة". قلت لأحمد يوسفي وأربعة من عناصر الكتيبة:

- تقدّموا حتى مسافة 200م تقريبًا في هذه الطريق، تأكدوا من عدم وجود متاريس عليها، وقوموا بتأمينها لحين وصول كتيبة "علي الأكبر"، بعدها يمكنكم العودة إلى مواقعكم!
بعد أن انطلقوا اتجهت نحو أرض المعركة.

وصلت كتيبة علي الأكبر، وتقدّم الرتل "منصور فرقاني، حميد اللهياري وحميد قلعة اي"، وكانوا من عناصر استطلاع الفرقة، تلاهم معاون الكتيبة البطل "علي رضا جبلي"2.

وصل الجميع سالمين من دون أي مشاكل أو عناء إلى منطقة السدّ. وصلت قوّات الإسناد بعد مضي 20 دقيقة من وصولنا، سألني "منصور فرقاني":
- هل وجدت الطريق؟

- أجل يا سيد منصور، ها هي إلى الأمام.
 

1- أصيب بعد عدة أيام في المنطقة نفسها بشظية في رأسه أعجزته عن المشاركة في العمليات، وقد انضم إلى قافلة جرحى الجهاد المضحّين والصابرين.
2- علي رضا جبلي من العناصر القدامى في "فرقة عاشوراء" وقد استشهد في معركة "بدر" بعد خوضه مواجهات بطولية.
 
 
 
 
264

250

كربلاء بدر

 رافقته لأدلّه على الطريق وقلت له:

- لقد أرسلت عددًا من الإخوة لتأمين الطريق فانتبهوا لهم!

ساروا في الطريق متّجهين نحو عمق جبهة الأعداء، ورجع الإخوة الذين ذهبوا لتأمين الطريق بعد عدة دقائق من انطلاقهم. عاد الهدوء إلى المكان شيئًا فشيئًا، رحت أجول على طول الخط، وأسأل كلّ من ألتقيه عن أحواله، إلى أن سألني أحدهم: "كان لديكم مسؤول.."

- أي مسؤول تعني؟

- أعتقد "كريم حرمتي"؟

- طيب؟

- لقد استشهد.

بهذه البساطة؟ لا أصدق؟ أسرعت لعلّي أحصل على خبر عنه. كنت أعلم أنّه أعلى السدّ. لم أستكن لشدّة حزني، واختنق ندائي في داخلي: "أين أنت يا كريم؟".

وجدته في النهاية، كان ممدّدًا أعلى السد والدماء تغطّيه من رأسه إلى أخمص قدميه. لم أصدق أنّه استشهد. دنوت منه وناديته بخوف، كنت أخشى أن لا ألقى جوابًا: "كريم .. يا كريم..!".

- نعم ماذا تريد ؟!

لم يكن قادرًا على الحركة لشدة الإعياء، عندما وصل بالقوات أعلى السدّ تمدّد على التراب، وكأنه لا وجود للمعارك أو الاشتباك على بعد خطوات منه. شعرت في الظلام أنّ ثيابه مغطاة بالدماء...

- لا شيء، فقط قلقتُ عليك واعتقدتُ أنكَ أُصبتَ وجُرحت.
 
 
 
 
265

251

كربلاء بدر

 عندما ارتاح بالي لوضع كريم، رحتُ أبحث عن متراس مناسب لنقل الجرحى إليه، ساعدني "حسين كربلائي1"، مسؤول السرية التي كنت فيها سابقًا، ووجدنا المكان المناسب. كان لديّ إحساس أن هناك جريحًا ما زال عند بداية السدّ المائي في المنطقة التي خرجنا فيها من الماء، لذا اتجهت إلى هناك، فوجدت كلًّا من "علي رضا سهراب درخشي ومهدي قيطانتشي" ممدّدين على الضفة وغارقين بدمائهما. حزنت كثيرًا لاستشهادهما في الدقائق الأولى لبداية المعارك. نقلتُ مع مجموعة من الإخوة أجساد الشهداء الذين سقطوا في الماء أو عند حافة السدّ إلى مكان بعيد عن الماء كي لا تغرق أجسادهم. عمّ السكون المكان، فقد أُخذ العدو على حين غرّة ولم يَستَعِدْ زمام المبادرة بعد.


كانت مهمتي تقضي بأن أقدّم العون إلى قائد السرية، فذهبت إليه.

- أخ كربلائي! هل من أخبار عن قوات "محمود دولتي"، وهل التحقوا بكم؟

- "مهدي قلي"! لم ألتفتْ للأمر بتاتًا، اذهب واستطلع الأمر.

- حسنًا، تابعوا أعمالكم، سأذهب وأرى أين أصبحت مؤخرة قوات سريتكم.

قبل أن أنطلق، تحدثت بواسطة جهاز اللاسلكي إلى "محمود دولتي"، وتقرّر أن يرسل أحد عناصره ليجد مؤخّرة سريّته ويرشدهم ليتوجهوا صوبنا. ما إن انطلقت حتى التقيت بـ"راشد خاك باكي"، كان
 

1- استشهد "حسين كربلائي" في عمليّات "كربلاء بدر".
 
 
 
266

252

كربلاء بدر

 من العناصر الجريئين والمغامرين في كتيبة "سيد الشهداء"، عطوفًا وذا روحية عالية رغم صغر سنّه، ومن الذين حدثني قلبي بأنهم من "المحلّقين" عندما شاهدته قبل بدء العمليات:

- هيا يا "راشد" لنذهب معًا.

رافقنا ثلاثة عناصر آخرين، وسرنا على طول السدّ، ما إن ابتعدنا مسافة 50م عن قوات سرية "حسين كربلائي" حتى اعتراني خوف شديد، فلا أثر هناك لأيٍّ من شبابنا:
- ربما لم نسيطر على هذه المنطقة بعد، ونحن نسير باتجاه قلب الأعداء مباشرة؟!

قطعنا مسافة 10 أمتار أخرى، فسمعنا كلامًا باللغة العربية من جهة السدّ، عرفت حينها أنّ ظني في محلّه. طلبتُ من العناصر الحذر، وتابعت سيري باتجاه الصوت، لم أكد أقوم بأي حركة، حتى مرّت قذيفة "آر بي جي" بالقرب مني.

ردّ الإخوة بإطلاق النار على مصدر القذيفة، وكان عرض الطريق أعلى السدّ لا يتجاوز الأربعة أمتار، وهو الحدّ الفاصل بيننا وبين الأعداء في الجهة الأخرى للسدّ، فكنّا نحن في جهة والعدو في الجهة الأخرى، واحتدمت المواجهة. جلتُ بنظري على إحدى الجهات، فشاهدتُ أجساد عددٍ من الشهداء، اعتقدتُ أن هذه المجموعة من العراقيين قد علقت في منطقة تقع بين المحورين المسيطر عليهما من السريتين، وها قد اتخذت موقعًا قتاليًا وموطئ قدم للاشتباك، قلت لراشد: "أسرع وأخبر 'حسين كربلائي' بالأمر، وليرسل 'محمود دولتي' عناصره من الجهة
 
 
 
 
267

253

كربلاء بدر

 الأخرى فنحكُم الطوق على الأعداء من تلك الجهة".


احتدمت الاشتباكات من الجهتين، وأدركت بسرعة أن قواتنا قد وصلت من الجهة الأخرى واشتبكت مع العدو حيث كانت مقاومتهم تشتدّ مع اشتداد الإطباق عليهم.

ظننت أن عددهم يناهز الـ"50" عنصرًا أو أكثر، مهما كان فقد أعاقوا عملنا وأعاقوا التحاق القوات ببعضها. فكرتُ أنّه قد يكون من بينهم عناصر من أهالي "أربيل" أو "كركوك" ويمكنهم أن يتقنوا اللغة التركية فقلت باللغة التركية: "لو قاومتم حتى الصباح، فلن نرحم منكم أحدًا، لذا من الأفضل لكم الاستسلام فورًا".

لا أدري إن سمعوا كلامي أم لا، لكنّ ذلك لم يؤثر في مقاومتهم أبدًا، بدأ ضوء النهار بالانبلاج رويدًا رويدًا، اتصلت بمجموعة "محمود دولتي"، وقلت لهم: "لنشدّ عليهم الخناق من جميع الجهات"، سرعان ما أثمرت هذه الخطة، وأضحى البعثيون العراقيون تحت رحمة نيراننا بالكامل، فما كان منهم إلا أن بدأوا بالفرار، لكن نيراننا كانت لهم بالمرصاد، فسقطوا جميعهم قتلى، إلا ثلاثة منهم بقوا في أماكنهم مستسلمين.

أشار الأسرى إلى صور "كربلاء" التي كانوا يحملونها معهم وقالوا: "نحن شيعة". وربما شعروا بأنني عنصر مهم، أخذوا يقبّلون وجهي ورأسي. شعرت أن هذه العناصر المنحطّة تُقبّلني لتبقى على قيد الحياة، هؤلاء الذين كانوا منذ دقائق وقبل أن تفرغ ذخيرتهم يصبّون نيرانهم وحقدهم علينا، ولا تزال دماء الشهداء أمثال "مهدي"، "علي رضا" وآخرين لا أعرف أسماءهم، تسيل على الأرض.
 
 
 
 
268

254

كربلاء بدر

 أرسلت الأسرى إلى مقرّ قيادة الكتيبة من أجل نقلهم إلى الخلف وقلت: "خذوهم إلى الأخ 'جمشيد نظمي'".


تمّ تطهير السدّ من دنس العراقيين البعثيين، ومن ثم تقدمت قواتنا إلى خط الأعداء الثاني وأحكمت السيطرة عليه، انشغل عدد من الإخوة بالصلاة، وكنت منذ أن خرجت من الماء وحتى الصباح لم أهدأ أو أستكِن، ولم أشعر بالبرد، لكن ما إن توقفت حتى تغلغل برد الصباح القارس إلى جسدي ونخر عظامي، لم أجد الفرصة في هذه المنطقة المضطربة لنزع بدلة الغوص والوضوء، لذا تيمّمت حيث أنا وذهبت إلى نقطة أستطيع فيها الصلاة وقوفًا، فأدّيتها وأنا أرتجف بردًا.

مع أني كنت في غاية الشوق لكتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، إلا أنّه لم يعد لديّ عمل محدد هنا. كنت أريد أن ألتقي صديقي العزيز "حسين محموديان"، فانطلقت نحو الكتيبة، وكنت في الطريق أبحث عن وجوه مألوفة لي، منها وجه "علي أكبر بوزش بذير"، جلّ ما كنت أعرفه عنه، هو أنّه معاون فصيل نشيط في سرية "محمود دولتي"، كما إنّه شخص مرح محب للمزاح ومؤمن. ما إن وطئتْ قدماه أرض الجبهة حتى استوطنها. كنت أعلم أنه فقد أمّه، وكان يشتاق إليها بين الحين والآخر، أحببته ولم أكن قد التقيت به إلا مرتين أو ثلاثًا. كنت أسير وأفكر بهذه الأمور وبالأشخاص الذين أتوقع رؤيتهم. لفت نظري مشهد مقاتل قد انكبّ بوجهه على الساتر الترابي، وقد شُقّ ظهره بشكل فجيع، لم أكن أدري هل أصابته شظيّة، أم تعرّض لموجة انفجارية. سرت نحوه،
 
 
 
 
269

255

كربلاء بدر

 كان "علي أكبر"، وقد سقط جثة هامدة من دون حراك1. وضعت يدي على كتفه وقرأت الفاتحة، هاجت مشاعر الحزن في قلبي. نهضت وتابعت السير شمالًا على طول السدّ نحو كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، إلى أن وصلتُ إلى طلائع قوات الكتيبة.


- أين قوات الاستطلاع أيها الإخوة؟

- في ذلك المتراس الأمامي اثنان منها.

أسرعت نحو المتراس، فالتقت ابتسامتي بابتسامَتَيْ "حسين محمديان ويعقوب شكاري". كنت ما أزال أرتجف، وغير قادر على التحدث، سُررت فقط لأنهما ما زالا على قيد الحياة. اضطرب "حسين" عندما رأى حالي وخرج مسرعًا ليحضر لي بطانية من البطانيات التي خلّفها العراقيون. صحيح أن البطانية كانت متسخة بالتراب كثيرًا، إلا أنها أنقذتني من هذا البرد، وشيئًا فشيئًا تسرّب الدفء إلى أوصالي وأطبقتُ جفنيَّ مستسلمًا لنوم عميق.
 

1- بعد معركة "بدر" التقيتُ "علي أكبر" سليمًا معافًى فتعجبت كثيرًا، وكان قد عاد إلى الجبهة بعد أن تعافى نسبيًا، وقد كتب الله له الحياة حتى آخر يوم من أيام الحرب.
 
 
270

256

كربلاء بدر

 3


لم أنم أكثر من ساعة حتى أشرقت الشمس، وأصبح الطقس أكثر دفئًا، فتحسنت حالي.

- سأخرج لاستطلاع الأوضاع.

هممتُ بالخروج من المتراس، فقال "يعقوب شكاري": "سأرافقك". ودّعنا "حسين" وباقي الإخوة وخرجنا. سرنا قرب الماء، فكانت فرصة جيدة لنشاهد من فوق السدّ العراقي، "هور الهويزة" والممرات المائية. حان الوقت للالتحاق بمقر الوحدة من أجل التحضير للمراحل القادمة من العمليات.

كنت أبحث عن قارب نستطيع العودة به إلى المقر، عندما جذبَ انتباهي مجموعة أفراد تتجه نحونا ومعهم عدد كبير من أجهزة اللاسلكي.

- يحتمل أنه السيد "مهدي"!

انتظرنا وصولهم، كان السيد "مهدي" كما توقعت، وكان مستبشرًا فرحًا، عندما رآنا، اتجه نحونا وقبّل وجهينا وقال: "عافاكما الله"، فنسينا همومَنا وتعَبنا.

- كيف هي الأوضاع؟

يبدو أنه قد وصل إلى الخط لتوه، وكنا أول من يلتقي بهم، ولدينا المعلومات الكافية، فأخبرناه بكل ما حدث تلك الليلة.

- لم تصل كتيبة "القاسم"، وواجهنا بعض المشاكل. تقدمت كتيبة "علي أكبر" وما زالت مشتبكة مع الأعداء، والإخوة الآن موجودون في الخط الثاني..
 
 
 
 
 
271

257

كربلاء بدر

 كنا نسير جنبًا إلى جنب وأنا أخبره بتفاصيل ومجريات المعارك، نظر إلى حالتي وملابسي وقال:

- إلى أين كنت ذاهبًا وأنت على هذه الحال؟!

- إلى (الموقع 3)

- لا، لا تذهب، بل ابقَ معي لربما احتجتك في أمر.

ولأنّني أحبّ مرافقته من كل قلبي، بقيت معه إلى جانب أحد الوجوه التي كنت أعرفها في فريق الإشارة الخاص بالسيد "مهدي": "عبد الرزاق ميراب"، واثنان آخران مرسلان من قبل مقرّ الفرقة. انطلقنا من أمام السدّ نحو عمق الأراضي العراقية، عبرنا من جانب التلّ الواقع على بعد 20م من السدّ، وكان العراقيون قد أقاموا تلك التلال في المنطقة بغرض الرصد وتمركز المدافع المضادة للطائرات. وقع المضاد الرباعي السالم على ذلك التلّ بيد الإخوة. تمكّنا من رؤية كل شيء بوضوح في ضوء النهار. كانت الساعة 9 صباحًا، والكتائب تقدم تقارير المعارك تباعًا عبر اللاسلكي إلى قيادة الفرقة. اتخذ قائد كتيبة "سيد الشهداء" الذي كنا نسير في محوره، تدابير بحيث تتقدم قواته وتطهّر المنطقة لتصل قوات الإسناد إلى محاورها من دون الانشغال بتطهير السدّ. وصلت سرايا "محمود دولتي"، أيضًا إلى الخط العراقي الدفاعي الثاني، وبعد كتيبة "علي الأكبر"، التحقت الدفعة الثالثة من القوات، أي قوات كتيبتي "علي الأصغر" و"الإمام السجاد عليه السلام" إلى مجموع القوات الحاضرة في المنطقة. كانت المعارك لا تزال على أشدها.

كان محور عمل كتيبة "الإمام الحسين" إلى يسارنا، صحيح أنه أقل
 
 
 
 
 
272

258

كربلاء بدر

 سعة مقارنةً بمحور كتيبة "سيد الشهداء" إلا أنه على درجة كبيرة من الأهمية، ولذلك اشتدت فيه حدّة المعارك.


خلال عبورنا من أمام التل، استطعنا مشاهدة دبابات الأعداء بوضوح فوق سدّ نهر "دجلة" وهي تخلي المنطقة. أسرع السيد "مهدي" واتصل بقائد كتيبة "علي الأصغر"، وهي أقرب من غيرها إلى المكان الذي تخليه الدبابات، وقال له: "لا تسمح يا 'تقي لو' بفرار الدبابات".

لم يقرّ للسيد "مهدي" قرار، ففرار الدبابات مشكلة كبيرة برأيه، ومن الممكن أن تعيد تنظيم نفسها وتعاود الانقضاض علينا.

كان السيد "مهدي" يستعجل القضاء عليها، لكن بعضهم لم يكن يبالي بالأمر، فكانوا يتذرّعون بشتى الذرائع، ولم ينفذوا الأمر كما يجب، ما أتاح الفرصة للدبابات بأن تخلي المنطقة بسهولة. قال "مجيد تقي لو" عبر جهاز اللاسلكي:

- أشعر بالبرد يا سيد "مهدي".

يبدو أنّه كان يتكلّم بالشيفرة، لكن السيّد "مهدي" كان يؤكد عليه ضرورة ضربها ويقول: "أنا أعرفك مقاتلًا شجاعًا يا 'تقي لو'.. لا تسمح بفرارها ..". هبّ الأخ "رستخواني" قائد محور العمليّات - الذي كان بقربنا - مستأذنًا السيد "مهدي" للذهاب والمساعدة على حلّ المشكلة، واتجه مع عامل الإشارة نحو كتيبة "علي الأصغر".

انطلقنا بدورنا خلف "رستمخاني" واجتزنا المسافة بين الخط العسكري، وهو عبارة عن ساتر ترابي يمتد مع نهر دجلة، ويبتعد مسافة 2 كلم تقريبًا عن السدّ، أي الخط الأمامي للعراقيين. تموضعت قوات
 
 
 
 
273

259

كربلاء بدر

 كتيبة "الإمام السجاد" بقيادة "حميد أحدي"1 خلف ذاك الساتر، كما وصلت قوات سرية "محمود دولتي" إلى هناك أيضًا حيث كانت تدور المعارك، لأنّه كان يشكّل - في بعض أقسامه - مرصدًا جيدًا مشرفًا على المنطقة. انبطحتُ أنا ويعقوب شكاري إلى جانب السيّد "مهدي" هناك.


كان السيد "مهدي" يراقب القوات العراقية قبالة الساتر. لم يكن يفصلنا عن نهر دجلة سوى مقرٍّ واحدٍ. قلت: "يا سيد 'مهدي' يقع نهر 'دجلة' خلف مقر قوات 'إبراهيم' المقابل لنا".

استمرّ السيد "مهدي" بالتحديق إلى الأمام. فجأة، سمعت صوته الهادئ: "دعوا التعبويين يزورون كربلاء!".

بدّلت نجوى السيد "مهدي" أحوالي. نهض بعد لحظات من مكانه وقال لي: "أخبر الإخوة أنّ 'مهدي' ذهب للأمام .."، ثم عبر الساتر. ناديت "محمود دولتي" الذّي كان قرب قوّاته:
- لقد ذهب السيّد "مهدي" إلى الأمام يا "محمود"، فأحضر قواتك.

ارتفعت بعد لحظات صيحات الله أكبر، واندفعت القوات كالسيل الجارف باتجاه المقرّ والساتر، كأنّهم كانوا ينتظرون قدوم السيد "مهدي". لم تمرّ دقائق حتى وصلنا إلى المقر، من دون أي معارك، فقد بدا أنّ المقرّ قد أخلي ليلًا، ولم يبقَ فيه سوى عدد قليل من العناصر الذين
 

1- استشهد حميد أحدي في تلك الأيام في معارك بدر .
 
 
 
 
274

260

كربلاء بدر

 استسلموا من دون أي مقاومة تُذكر فور رؤيتهم سيل مقاتلينا. كتب على لوحة معلّقة على مدخل المقر "قوات إبراهيم"، المكان الذي طالما رأيناه في الصور الجويّة وجرى الحديث عنه. كنت داخل المقرّ حين ناداني "أيوب خرابي"1 ممازحًا. كان لي مع أيوب ذكريات رائعة، وكثيرًا ما كنّا نشاكس بعضنا بعضًا. أذكر أنني كنت في إحدى المرّات مع "محمد بور نجف" في "دزفول"، عندما جاء "أيوب" وأخبرنا أنه عيّن قائدًا للسريّة، فقلت له ممازحًا: "لكنّ القيادة كبيرة عليك"، وعندما أظهر رسالة التعيين، أخذتها منه ومزقتها:

- "أيوب"! اذهب وسجّل اسمك في الفصيل!

الآن جاء دوره ليشاكسني، سألني الدعاء وقال: "يا لك من فتًى طيّب يا مهدي!"

- كيف ذلك؟

- لقد جئت إلى المعارك حافي القدمين!

فتذكرت حينها أنّني ومنذ أن خلعت حذاء الغوص (الزعانف) في الليلة الماضية، لم أجد حذاء لأنتعله لربما اعتقدَ أنّني نذرتُ أن أجيئ حافيَ القدمين إلى نهر "دجلة"! فقلت له: "جزاك الله خيرًا، أنا لم أجد حذاءً لأنتعله، لذا بقيت حافي القدمين". لكنّه لم يدعني وشأني.

- كلا أنا لم أرَ أذكى منك..
 

1- أيوب خرابي شاب حنون وحسّاس. كثيرًا ما كان يأنس بمجالس العزاء واللطم. ويسير وكأنّه في مسيرة اللطم الحسيني، مردّدًا "حسين حسين". استشهد في عمليات والفجر 8- المظفّرة في شباط 1986م. 
 
 
 
275

261

كربلاء بدر

 - هيا دعني وشأني يا أخي!


كان أيوب في تلك الأنحاء، وكنت أتجنب لقاءه ككلّ من أحبهم لئلا أفقد تركيزي على العمل أثناء اشتداد المعارك لأني سأتبعهم بحواسي وأقلق عليهم. لم يمرّ علينا بضع دقائق في المقرّ، حتى سمعنا صوت مروحيّات عراقيّة قادمة من جهة نهر "دجلة".

كان هناك أربعة مدافع "دوشكا" خلف السواتر المحيطة بالمقر، فأعطى السيد "مهدي" الأمر بأن تتصدّى للمروحيّات التي كانت تطلق النار على قواتنا. وصلتُ إلى أحد تلك المدافع وبدأت بإطلاق النار عليها. فجأة تعطل المدفع ولم أستطع إصلاحه رغم محاولتي، فجاء أحد الإخوة الذين كانوا قد رافقوا السيد "مهدي" من المقر لمساعدتي، وتمكن من إصلاح العطل فيه. علمت فيما بعد أنّ اسمه "أمين شريعتي". أجبرنا المروحيّات تحت وطأة نيران الدوشكا على الابتعاد وترك المنطقة، حينها جاء أمر السيد"مهدي":
- أيّها المؤمن، قم بإجراءات نقل مدافع الدوشكا إلى الأمام!

كان نهر دجلة أمامنا مباشرة، نقلت أمر السيّد مهدي للإخوة، على الفور حمل "أيوب ضربي" الدوشكا على كتفه بمفرده، بينما حمل آخر قاعدته الثلاثيّة. لا أدري كيف استطاع أن يحمله بمفرده!

انطلقنا جميعًا نحو نهر "دجلة". كان المقر يبعد مسافة 200م تقريبًا عن النهر. اجتاحني شوق عجيب مع اقترابي منه. كانت الشمس في كبد السماء تقريبًا، عندما وصلنا إلى النهر الذي تجذّر اسمه عميقًا في معتقداتنا. فقد اقترن اسم نهري "دجلة والفرات" باسم "الإمام
 
 
 
 
 
276

262

كربلاء بدر

 الحسين عليه السلام" وشفاه العطاشى في صحراء كربلاء.


كانت كتائب "الإمام الحسين عليه السلام، علي الأصغر والقاسم" لا تزال تخوض المعارك إلى يسارنا، وكان السيد مهدي على اتصال دائم معهم بواسطة جهاز اللاسلكي. وصلنا إلى السدّ المقام شرقي نهر "دجلة"، كان "محمود دولتي" إلى جانبي، فجثونا على رُكَبنا: السلام عليك يا "أبا عبد الله الحسين عليه السلام". غرفنا من مياه النهر الباردة وتوضأنا لنصلي صلاة ظهر الحادي عشر من شهر آذار لعام 1985م، على ضفة النهر، وكانت الضفة المقابلة خالية من الأعداء، وكنّا في تلك المرحلة وذلك المحور أول الواصلين. انتاب كلّ منّا مشاعر خاصة برزت بأشكال مختلفة، ما بين البكاء والسجود، صلاة الشكر والصمت.

لم يكن هناك متسع من الوقت، لذا كان علينا أن نصلّي بسرعة، فقد توقّعنا أن يستدعينا الأخ "مهدي" في أي لحظة. وقفتُ إلى جانب "محمود" كتفًا بكتف لإقامة الصلاة. ما ألذّ تلك الصلاة! نويتُ بعدها أن أصلي ركعتين استحبابًا عندما ناداني الأخ"مهدي": "ماذا تفعل؟"

- أريد أن أصلي ركعتين استحبابًا.

- في الواقع، أريدك في أمر أهم.. تعال.

كان السيد مهدي قلقًا من عبورنا نهر دجلة لأنّ القوات العراقية كانت تحاول التموضع على الضفة المقابلة للنهر، في محاولة لمنعنا من عبوره. أراد السيد "مهدي" أن نصل إلى الضفة الأخرى قبل أن يتمكن العدو من تحصين مواقعه هناك:
- هيا أسرعوا وأحضروا القوارب والزوارق من السدّ!
 
 
 
 
 
 
277

 


263

كربلاء بدر

 نهض "حسين بارتشه باف"1 قبل الجميع وقال: سأذهب حالًا. كان هناك شاحنة ايفا داخل المقر، وقد أصيب أحد إطاراتها برصاصة، فقام "حسين" وأحد الإخوة بتغيير إطارها وإصلاحه، وكانت تلك أوّل سيارة لنا تتحرك في المنطقة باتجاه السد.


بعد انطلاقهما، التفت السيد "مهدي" إلينا أنا والأخ "يعقوب شكاري" وقال: "كتيبة 'الامام الحسين عليه السلام' موجودة على ضفة نهر "الروطة" بالقرب من مقام (إمام زاده)، هيا انطلقا من جهة قرية "همايون" لتصلا إليها وأحضراها إلى سد نهر "دجلة".

انفصلنا عن السيد مهدي من دون أن ننبس ببنت شفة. وسرنا نحو قرية "همايون". لم نبتعد كثيرًا عندما قال لي "يعقوب": هيا يا "مهدي" لنبحث عن زوجين من الأحذية لننتعلها. فقد كان هو أيضًا حافي القدمين. كان المتراس مظلمًا جدًا، لم نكد نبدأ البحث حتى سمعنا صوتًا يقول: "أيها المؤمنان لقد أرسلتكما في مهمة!"

قال السيد "مهدي"، ذبنا خجلًا. كان يفكر بالمهمة التي طلبها منّا، عندما رآنا ندخل إلى المتراس العراقي، لربّما ظنّ أنّنا دخلنا بهدف الحصول على الغنائم، مجرّد التفكير بالأمر جعلني أرتجف خجلًا.

- وجدنا في المتراس وثائق حربية، فكنّا نخبّئها يا سيد "مهدي".

- الوثائق ليست مهمة، الحرب أهم، هيا اذهبا في مهمّتكما!

وجد "يعقوب" زوجين من الأحذية العسكرية البنّية اللون، فانتعلها.
 

1- پارچه باف: Parche Baf استشهد في الأيام الأخيرة لعمليات بدر.
 
 
 
 
278

264

كربلاء بدر

 أما أنا فقد كُتب عليّ القتال حافي القدمين.


انطلقنا بسرعة نحو محور كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". اقتربنا من نهر "الروطة" وهناك التقينا صدفةً بـ"الأخ رستمخاني"1، وكان يدير المعركة وهو ممدّدٌ على الأرض. اشتدت الاشتباكات على طول مجرى نهر "الروطة" وكان أحد العناصر جالسًا في حفرة تشبه القناة، متشعبة من أقنية نهر "الروطة" المنتهية بالمدرسة2، دقّقت النظر فيه فعرفت أنّه تعبوي، كان رتل من التعبويين يتقدم أعلى القناة. لم أصدق ما رأيت! لقد رمى أحدهم قنبلتين داخل القناة! "ألا يدرون أنّ المقاتلين في الجهتين هما من التعبويّين الإيرانيّين؟". قلت لـ"يعقوب": "صدقني يا "يعقوب" كلاهما من قوات التعبئة!".

- أين؟ ناولني المنظار لأرى.

ما إن نظر إليهم حتى قال لرستمخاني: "أخ 'رستمخاني'، الجهتان من قوات التعبئة!"

وثق "رستمخاني" بكلامنا واتصل باللاسلكي (بالإشارة) وهو يراقب بالمنظار، وأخبر الطرفين بأنّ كليهما إيرانيّون، وطلب منهما الاندماج معًا. توقّف إطلاق الرصاص برهة، ورأيت عبر المنظار كيف اتّجه أحد الفريقين نحو الآخر واتّحدا. انطلقت أنا ويعقوب ورستمخاني، وفي الطريق أخبرت رستمخاني أنّ مهمّتنا إرشاد وتوجيه كتيبة "الإمام الحسين" نحو سدّ نهر دجلة.
 

1- رستمخاني قائد المحور 1- ويقود كتائب "سيد الشهداء، الإمام السجاد وعلي الأكبر"، استشهد بعد عدة أيام من بدء عمليات "بدر".
2- تقع المدرسة عند بداية الهور وقد غمرتها المياه لكنها كانت علامة مميزة في المنطقة.
 
 
 
 
279

265

كربلاء بدر

 سرعان ما وجدنا الكتيبة في محيط الخط العسكري الثاني، وكانت كتيبة "علي الأصغر" أيضًا في المحيط نفسه، فأخبرناهم برسالة السيد "مهدي". استعدّينا للانطلاق بلا أي تأخير (مع الكتيبة). في ذلك الجزء وخلف الخط الثاني، توجد منطقة مستنقعات صغيرة مكسوّة بالقصب واقعة بين نهر "دجلة" والخط العسكري الثاني، حيث عَلِق العراقيون الذين فرّوا من المنطقة. وعندما رأوا كثرة عناصرنا، بدأوا بالخروج من حقل القصب رافعين أيديهم فوق رؤوسهم مستسلمين. لم نتوقف كثيرًا هناك، وسرنا بالقوات نحو سد "دجلة". أما مقام ابن الإمام (إمام زاده) الذي تحدث عنه السيد "مهدي" فكان يقع في قرية همايون عند جزء من نهر "دجلة" يُعرف بالكيس. لم يطاوعني قلبي أن أمر بالمكان ولا أزور المقام، فدخلته وكان ذا نوافذ حديدية وأحجار صفراء بسيطة وغريبة، وقد نُشر على الضريح قماشة خضراء اللون. زرت "ابن الإمام" بمفردي، عندما هممت بالخروج، استوقفتني ساعة حائط كبيرة معلقة على أحد جدرانه. فكرت أنها مفيدة للوحدة، لكن لم أرتح للفكرة، وقلت لنفسي: إنها وقف المقام ولا يصح ذلك!


أخذت معي سجدة للصلاة من التربة الحسينية وخرجت. كانت رائحتها عطرة وقد كتب عليها: "تربة كربلائية".

كانت القوات تتابع سيرها في الخارج حين اتجهت أنا و"يعقوب" نحو السيد "مهدي". رأينا الإخوة قد جلبوا الزورق وبدأوا عبور نهر دجلة. وصلتْ في تلك الأثناء إلى شرقي النهر مجموعة من العناصر بينهم "محمود دولتي"، فقدمنا تقريرًا عن عملنا للسيد "مهدي"، ثم
 
 
 
 
280

266

كربلاء بدر

 ركبنا في ثالث زورق للعبور.


كان لمجرى نهر دجلة في محور عمليات فرقة "عاشوراء" منعطف على شكل كيس. فكنّا نلجه خلال عبورنا للنهر، وهو عبارة عن بقعة خضراء خصبة تسرّ الناظرين، وتضم حقل نخيل يمتد إلى عمق 30 أو 40م ويصل في بعض النقاط إلى 100م. يلي حقل النخيل قرية تسمى "الحريبة". كانت سنابل القمح المزروعة في حقول القرية قد وصلت في ذلك الوقت إلى ارتفاع 30سم، سنابل خضراء نديّة جميلة، ذكّرتني بقريتنا.

اقتربنا من برج "مايكرويف"1 المبني يسار القرية، ورحتُ أنظر إليه وإلى القرية، إلى الطريق العام للبصرة - العمارة الممتد خلفها، وأفكر كيف أنّ تصوّر هذا التقدّم في عمق الجبهة، كان مُحالًا قبل بدء المعارك. لم أكن أعرف مدى تقدّم باقي الفرق، لكن علامات البِشر وفرحة الانتصار كانت بادية على وجوه عناصر فرقة "عاشوراء".

حلّ بعد الظهر، والشمس تبثّ أشعتها الدافئة في المكان. لم أكن قد تناولت الطعام منذ الليلة الماضية، وقد أخذ منّي الجوع كلّ مأخذ. بدأت أبحث عن شيء من الطعام حين وقعت عيناي على أحمد يوسفي. كان منشغلًا في أحد متاريس العراقيين. فذهبت إليه:
- ما هذا يا أحمد؟

- تفضّل إنّه دبس التمر.
 

1- ضم البرج أجهزة الإرسال والاستقبال وتقوية الأمواج وقد دُمر في الحرب، الا أنه كان علامة فارقة ومهمة في المنطقة.
 
 
281

267

كربلاء بدر

 كان العراقيون يتناولون دبس التمر ممزوجًا بالطحينة، تناولنا الدبس حتى شبعنا، وما أن فرغنا من الأكل حتى جاء "يوسف صارمي" وقال لنا: لقد طلب الأخ "فتحي" أن أخبر كل من ألتقي به بضرورة التوجه إلى مقرّ "قوات إبراهيم" بأسرع وقت!


عدنا أدراجنا إلى نهر "دجلة"، ومن هناك إلى مقر "قوات إبراهيم". وتفرّغ السيد "مهدي"، بعد أن اطمئن لوصول القوات إلى الضفة الأخرى مع مسؤولي الفرقة لإعداد الخطط ومتابعة العمليات. جلست على مقعد خشبي خارج المبنى، وكان المكان أشبه بمقهى قديم وهادئ، فيه مقاعد خشبية قديمة خضراء اللون.

كان "عبد الرزاق ميراب" جالسًا هناك أيضًا، بدا وكأنّ عقب قدمه قد أصيب برصاصة، لكنّه كان بحالة جيّدة. جلست على المقعد واضعًا قدمًا فوق أخرى، وقلت: "أتعلم ما يناسب هذا المكان؟.. النرجيلة!".

كنّا نتمازح غافلين عمّا كان يخطّطه لنا الأخ "فتحي" في الجهة الأخرى من المقر. علمت أنّ الأخ "حسين محمديان" قد وصل قبلي إلى المقر، لكن السيد "مهدي" والأخ "فتحي" أوكلا إليه مع عددٍ من عناصر الوحدة، مهمة استطلاع الضفة الأخرى لنهر دجلة، الطريق العام للعمارة - البصرة، إضافة إلى قرية "الحربية" ومحيط برج "مايكرويف"، ومن ثم توجيه إحدى الكتائب في ذلك المسير.

اطمأننت لسلامة حسين، وانتظرت إبلاغنا بالمهمة الجديدة. لم يكن هناك أي اشتباكات تذكر في محور الفرقة. وقد رفع هذا الانتصار من معنوياتنا عاليًا.
 
 
 
 
 
282

268

كربلاء بدر

 - عافاكم الله!


ناداني الأخ "فتحي" قائلًا:
- عليك العودة للخلف والبقاء هناك ريثما نطلبك.

- نرجع للخلف؟ الآن؟ ..لا! لا أريد.

كان هذا الأمر موجهًا لي ولـ "مهدي داودي"، ودَدْنا كثيرًا البقاء في المنطقة، لكن الأوامر قضت غير ذلك. ألحّ "مهدي" على البقاء، بينما خضعت أنا للأوامر. لم تكن ثيابي مناسبة لجوّ باردٍ، ومع الغروب وانخفاض درجات الحرارة، صرت أرتجف من البرد، لكنني تابعت السير نحو السدّ.

تبدّل المشهد على السدّ، وتحوّلت الجسور الطافية إلى قوارب كبيرة تنقل الآليات الضخمة نحو الخطوط المنتزعة من الأعداء. كان عملًا مبتكرًا رائعًا وكانت الجرافات تعمل بلا انقطاع في المكان. جُمعتْ على الأرض أعدادٌ كبيرة من المعلبات، دلالةً على وصول المواد التموينية إلى خطوط الجبهة. استقرّ الإسعاف الميداني في المكان، وكانت مختلف أنواع الآليات في حركة دؤوبة على السدّ. لكن لم تكن أنباء الانتصارات قد ذيعت بعد. فكرت أنّ هذه الانتصارات كانت أسرع ممّا تصوّرها القادة، لذا كانوا يتريثون في بث أنبائها على الملأ ريثما تُحدّد نتائجها بشكل أفضل.

كان القارب يستعد للحركة على الضفة فركبته، وكان فيه عدد من الجرحى وهم يرتجفون من شدة النزف والبرد. ما إن وصلنا إلى (الموقع 6)، حتى انفصلتُ عنهم واتجهت نحو الطريق العام في أول
 
 
 
283

269

كربلاء بدر

 سيارة صادفتها، ووصلت بعد عدّة دقائق إلى مقر وحدة الاستطلاع الكائن في (الموقع3). كان المشهد قد تبدّل هناك أيضًا، أحضر الجيش عددًا من العوّامات إلى المكان وأضحى (الموقع3) مقرًّا لفرقة "النجف".


كان الإخوة في تلك الفرقة يبحثون عن حجة ما ليدفعوني إلى ترك المقر، فيقولون لي بين الحين والآخر إنّ مقرّكم أصبح في (الموقع 5). لقد زاد عدد قوارب فرقة "النجف" في المكان، وكنت وحيدًا غريبًا بينهم. أوّل شيء فعلته لدى وصولي هو الاستحمام والبحث عن زوجين من الأحذية العسكرية، وبات عملي الوحيد مدة يومين هو الانتظار أمام جهاز اللاسلكي.
 
 
 
 
283

270

كربلاء بدر

 في الساعات الأولى لجلوسي أمام جهاز اللاسلكي، أدركت أنّ السرايا في الجهة اليمنى، في جادة الخندق ما زالوا مشتبكين مع العدو على الرغم من عبور الفرقة لنهر دجلة. كانت جادّة الخندق أحد أهم أهداف عمليات "بدر" وكان لا بد من السيطرة عليها. وكانت فرقة عاشوراء على بعد 6 كلم شمالي ذلك المحور، حيث استمرّت المعارك بشدة. وكان يتعين على فرقة "علي بن أبي طالب عليه السلام" بعد السيطرة على الجادة، التوجه نحو جسر "العزيز" الاستراتيجي، وتدميره لقطع طريق إمداد العدو. أدركت، في تلك الظروف، ومن خلال البحث وتحليل الأوضاع، أنّ تحقيق ذلك الهدف كان مستحيلًا آنذاك. أقلقني كثيرًا ما كنت سمعته، وأدركت أنّ فرقة عاشوراء قد وقعت في مأزق، الفِرَق العاملة في الجهة اليمنى لم توفّق، وتمكّن العدو من اختراقنا.


كان لدينا في الحقيقة جناح خالٍ، كما إنّ فرقة "النجف" ما زالت تخوض المعارك عن يسارنا ولم تصل إلى هدفها شمالي نهر "الروطة". أما فرقة "الرسول" ما زالت مشتبكة مع العدو إلى يسار فرقة "عاشوراء"، وقد تمكّنت قواتنا من اختراق منطقة بعمق 9 كلم2، بينما عجزت الفرق الأخرى عن التقدّم بموازاتها ومؤازرتها.

لم أكن أبتعد عن اللاسلكي أبدًا، وكان عدد آخر من عناصر الوحدة قد عاد إلى المقرّ تنفيذًا لأوامر القيادة، فكنّا نجسّم سير المعارك على الخريطة اعتمادًا على ما نسمعه عبر اللاسلكي. لقد وصل عناصر
 
 
 
 
 
285

271

كربلاء بدر

 الاستطلاع من الناحية العسكرية إلى مرحلة تسمح لهم بإبداء آرائهم حول سير المعارك، وأجمعت آراؤنا جميعًا على أنّ فرقة "عاشوراء" في وضع لا تُحسد عليه، وخطر جدًّا، ويستلزم فعل شيء في أسرع وقت، إما تبديل الفرق، أو - على الأقل - وضع الفرقة في خطّ موازٍ مع باقي الفرق. من جهة أخرى، كان كل اتصال يحمل أنباءً عن استشهاد ثلة من قادة الفرقة، ما ساهم في تشكيل صورة واضحة عن احتدام المعارك.


- استشهد قائد كتيبة "الإمام السجاد"، "حميد أحدي"

- استشهد الأخ "رستمخاني".

- أصيب "أُشتري" بجراح خطرة ونقل للخلف

- استشهد "أصغر قصاب" قائد كتيبة "الامام الحسين"

- استشهد "علي تجلائي"..

كان آخر خبرٍ، خبر استشهاد "آل اسحاق"، وهو من المتحمّسين جدًّا للحرب، وجاء إلى المنطقة بشكل خفي، وتمكّن من البقاء بعد رجاء وتعهّدٍ بعدم الانفصال عن الأخ "فتحي". كنّا نعرف أنّ الأخ "كريم فتحي" في مقر "قوات إبراهيم"، وقيل لنا إنّ "آل إسحاق" استشهد في قصف ذلك المقر أيضًا. فقلت لنفسي: إذا استمرّت الأمور على هذا المنوال فسنخسر الكثيرين.. لم لا يبدّلون الفرقة؟! جعلني الجلوس إلى جانب جهاز اللاسلكي أكثر همًّا وحزنًا.

- لِم لا يستدعوننا؟ أحقًّا لا نستطيع فعل شيء؟ أيُعقل أنهم نسوا وجودنا؟..

زادني القلق اضطرابًا، فكنت أذهب في بعض الأوقات إلى الموقع.
 
 
 
 
286

272

كربلاء بدر

 كانت الخسائر كبيرة. فسألت نفسي: ما الذي يجري هناك؟ لكن لا جواب! كنت أتمنى فقط أن أطير إلى "دجلة" وأبقى إلى جانب الإخوة.


وأخيرًا انتهى انتظارنا. فقد تلا علينا "محمد محمدي" عبر اللاسلكي لائحة بأسماء عددٍ من العناصر من بينهم اسمي وأوامر بالوصول سريعًا إلى الخطوط الأمامية.

انطلقنا مباشرة، ثمّ ركبنا بعد دقائق قاربًا شقّ عباب الهور لينقلنا إلى السدّ. ما رأيته هناك لا يُمكن تصديقه، لكنه حدث فعلًا. وصلت خلال لحظة قاذفة قنابل العدو "توبولوف"1 وأمطرت كل محور الفرقة بالنيران. كانت حدة القصف شديدة لدرجة أنّ المنطقة غرقت في الظلام لعدة دقائق. الغريب أنّ القاذفات جاءت وألقت أحمالها وغادرت من دون أن يعترض سبيلها أي مضاد جويّ، وكأنّها طائرة مدنية لنقل الركاب.

كانت المروحيّات الناقلة للجند التابعة لقوّاتنا تحلّق باتجاه المنطقة. يبدو أنّها تنقل وحدات من الجيش. أحدث ضجيج الطائرات، أصوات الانفجارات، النيران والدخان مشهدًا غريبًا. كانت مقاتلاتنا تحلّق على ارتفاع منخفض وتعبر سماء المنطقة بسرعة هائلة، فتقصف وتعود للتزوّد بالقنابل و"التذخير" من جديد. كنت أرى كلّ هذا من القارب المتّجه نحو السدّ، وأخمّن حجم الفوضى التي سأراها خلفه.

نزلنا من القارب باتجاه السدّ، كانت نيران قذائف الهاون والرباعي تتساقط علينا من كل حدب وصوب، والأرض مزروعة بأجساد الجرحى
 

1  توبولوف: طائرة قاذفة للقنابل روسية الصنع.
 
 
 
287

273

كربلاء بدر

  الذين ضاعت أصوات أنينهم وسط تلك المشاهد المتداخلة. العدد الأكبر من الجرحى كان للإخوة في الجيش الإيراني، ربما هم من القوات الذين أنزلوا في المنطقة، وقد تعرّضوا للقصف مباشرةً. كانت طائرةُ "pc7" المشهورة بيننا باسم "قارقاري" تجول في سماء المنطقة بلا أي وجل، وتصبّ النار من قاذفاتها المنصوبة على جانبيها على البشر والحجر والآليات. بالرغم من تلك الظروف، تحتّم علينا متابعة طريقنا للوصول إلى مقرّ "قوّات إبراهيم".


كنّا نركض، نسقط أرضًا ثم ننهض ونتابع الركض من دون توقف. كان قلبي يعتصر حزنًا، وشعرت أنّ الغُصّة في صدري ستلازمني مدى الحياة. رأيت شاحنة "تويوتا" صغيرة قد أصيبت، فاحترق واستشهد جميع من فيها. امتلأت الطريق ومجاري المياه وحقل القصب وكل الأرجاء، بأجساد الشهداء المقطّعة الأوصال والغارقة بالدماء.

هزّت الانفجارات المتتالية المنطقة، وأزكمت رائحة البارود والدخان الأنوف. كانت قذائف الهاون تتساقط بالقرب منّا، وكنت أشعر مع كلّ انفجار أنه قُضي علينا، لكن بالرغم من كلّ تلك القذائف والشظايا وصلنا سالمين إلى المقرّ. لم أكن قادرًا على التحدّث إلى أحد. شعرت أنّه يتوجّب عليّ قول شيء ما للذين صمدوا في المنطقة، لكن أي شيء أستطيع قوله ليسكّن قليلًا من آلامهم ومعاناتهم! كم رغبت بالبكاء والنحيب وأنا أجول في المقر. تقع خلف المقرّ غرفة صغيرة، فُتح بابها، فسقط جسد شهيد بين يدي. كانت أشلاء الشهداء متناثرة في كل مكان. أشلاء الأصحاب العاشورائيّين، أيدٍ وأصابع وأقدام وتراب ودماء..
 
 
 
 
288

274

كربلاء بدر

 - إلهي كيف قاتل هؤلاء هنا؟ كيف استشهدوا؟


عجّلت الشمس بالغروب، وكأنها لم تعد تتحمّل رؤية المزيد، وتحوّل لون السماء إلى الحُمرة البنفسجيّة. سألت كلّ من كنت ألتقيه عن الإخوة:
- أين "يعقوب شكاري"؟

- لا أدري.. يقولون إنّه استشهد.

- أين "كريم حرمتي"؟

- لقد جرح ونقلوه إلى الخلف.

- ماذا عن "حسين محمديان"؟ هل رأيته؟

- بلى، لقد جرح هو أيضًا.

- و"مهدي داودي"؟

- لا أخبار عنه، لم يره أحد.

- "بهمن محبوبي"؟


- لقد استشهد بالقرب من نهر "دجلة".

- "حميد قلعه اي"؟

- لقد جُرحَ.

- "علي برستي"؟

- لقد جُرحَ.

- "حميد علي زاده"؟

- جرح..

كنت أستمع وقلبي يتفطر حزنًا. لم تغب عن بالي أبدًا وجوه الإخوة
 
 
 
 
 
289

275

كربلاء بدر

 الشهداء الأطهار. كنت أودّ الذهاب بمهمّةٍ في أسرع وقت، خاصة بعدما رأيت الجرحى الذين لم يتوقف نزفهم، وبقوا عالقين في المنطقة لا يدرون إلى أي مكان أو زاوية يلجأون. لم نكن قد أبلغنا الأخ "فتحي" عن المهمة بعد، وسمعت أنّ كتيبة "الإمام الحسين" هناك.


كنت أعرف أغلب عناصر تلك الكتيبة، وكنت أعلم أنّهم من قوّات الاقتحام فذهبت إليهم لاستطلاع أمرهم. لكن ما رأيته هناك أجّج شجوني مجدّدًا، لم يبق من الكتيبة أكثر من 10 عناصر، وسقط الباقون بين شهيد وجريح. كان "محمد تجلائي ومحمد بالابور" من القلائل السالمين في الكتيبة، أمّا باقي الأحياء، فكانوا مصابين بجروح سطحيّة.

ما إن وصلنا إلى المقرّ حتى نادى "كريم فتحي" الأخ "منصور فرقاني" وأسرّ إليه ببعض الأمور. عاد الأخ "منصور" إلينا بسرعة، فتحرّكنا جميعًا بإشارة منه، والهدف: نهر "دجلة". التقينا في الطريق بإخوة ينسحبون من المنطقة وقد غطّت وجوههم الدماء والتراب، وعلتها مسحة من الغم والتعب. لكننا تابعنا سيرنا بتصميم أكبر وإصرارٍ على تنفيذ المهمة مهما كان الثمن.

- عليكم الوصول إلى "الحريبة" ولو اضطررتم قَيِّدوا يديّ وقدميّ السيد "مهدي" واسحبوه للخلف.

كان جسر المشاة الذي نصبه الإخوة على النهر لعبور قوات فرقة "عاشوراء" يتداعى إثر القصف الذي تعرّض له، وقد اشتدّت حدة المعارك. شعرنا أنّ الأعداء موجودون في كل مكان، والنيران تنصبّ علينا من كل حدب وصوب، من اليمين واليسار، من الأرض والسماء.
 
 
 
 
290

276

كربلاء بدر

 التقينا قرب نهر "دجلة" بمعاون الفرقة "مصطفى مولوي"، كان يسير باضطراب. ما إن رآنا حتى نادى السيد "منصور" وأسرّ إليه ببعض الأمور، فعاد الأخ "منصور" نحونا مطأطئ الرأس وقال لنا: "سنعود، لم يعد من حاجة لذهابنا".


خطر في بالي مئة سؤال وسؤال، لكنني لم أجرؤ على طرح أي منها مخافة أن ألقى جوابًا لا أحبّ سماعه. الجواب الذي شعرت به منذ أن تحرّكنا من المرسى، وعاينته في أحوال السيد "مهدي"، لكن لم أجرؤ على تصديقه. لا أعلم كيف ومتى وصلنا إلى المقرّ! ذهب "منصور فرقاني" مباشرة إلى السيد "كريم فتحي". حدّقت جيدًا بملامحه التي أصبحت أكثر مأساوية مع كل كلمة تخرج من فم السيد "منصور". بدا الهم والحزن واضحين عليه، وقال بصوت متعبٍ متألمٍ: "ارجعوا"!

كان الظلام قد حلّ في طريق العودة. كم كانت ليلة السادس عشر من شهر آذار 1985م ثقيلة علينا. كنّا نرى الرصاص "الخطّاط" وأضواء الانفجارات بوضوح. لقد كان هجوم الأعداء مركّزًا من الجهة اليمنى، وكانت وحدات فرقة "عاشوراء" الصامد الوحيد في المكان، وأشيع بين الإخوة أنّ وحدات من الجيش والوحدات الأخرى موجودة أيضًا. كانت النيران المنصبّة في تلك المنطقة، من الشدّة بحيث تخال معها أنّ جدرانًا من الرصاص الذائب الملتهب قد لفّت المنطقة المحدودة المساحة تلك، كانت جادة "الخندق" إلى يسارنا، وكنا نرى عبور الرصاص "الخطّاط" الذي لا ينقطع فوقها، ومن جميع الاتجاهات. اعتبرنا أنّ أهم عمل يمكن القيام به في تلك اللحظات، هو توجيه القوات نحو السدّ.
 
 
 
 
291

277

كربلاء بدر

 انفصلنا عن بعضنا البعض، وذهب كلّ منّا في اتّجاه. كنّا ننقل الجرحى إلى السدّ ونرشد القوارب إلى الطريق. انصبّ جلّ اهتمامنا على إخراج ما تبقّى من قوات من هذا الجحيم بأسرع وقت. عملنا كوحدة تنسيق في المنطقة، أشرنا إلى سائقي الآليات الضخمة، الذين لم ينتبهوا لما يجري، بضرورة الانسحاب.


- عليكم العودة إلى (الموقع 4)، لقد أنشأوا هناك جسرًا بالقرب من مدرسة "فتح"، يمكنكم عبوره والانسحاب عبره.

كنتُ أنا و"منصور فرقاني وأصغر عباس قلي زاده" نركض في كل اتجاه ونرشد كلّ من نلتقيه من عناصر وآليات إلى طريق الانسحاب، وندمّر كل الآلات والتجهيزات والوسائل التي نعجز عن سحبها ونقلها كي لا تقع بأيدي الأعداء. بعد أن فجّرنا عددًا من المدافع، اتّجهنا بسرعة نحو مخفر "الروطة" حيث الجسر الذي يربطه بالموقع رقم 44. أذهلنا ازدحام الآليات المتوقّفة هناك، ركضت إلى الأمام، حيث كان يقف حارسان أمام الجسر.

- لِمَ لا تسمح يا أخي بعبور هؤلاء؟!

- لأنّه دور الجهة الأخرى بالعبور الآن

حاولت السيطرة على أعصابي قدر المستطاع، ففي حين كنّا نحاول إخلاء المنطقة، فتح هؤلاء الطريق لعبور الآليات من الجهة المعاكسة، فقلت لهما:
- انسوا تلك الجهة، حاولوا الاتصال بهم بأي طريقة، واطلبوا منهم التوقف والبقاء في أماكنهم، فما من حاجة لقدومهم، وافتحوا
 
 
 
 
292

278

كربلاء بدر

 الطريق لعبور هذه الآليات بأسرع وقت، هيا فالوقت ينفد.


الحمد لله، كان لكلامي وقعه المؤثّر، وفتحت الطريق في ثوان. أُخليت المنطقة من القوات تقريبًا، بحيث لو تقدّم العدو إليها فلن يواجه أي مقاومة. لكنهم لم يفعلوا ولعلّه كان تكتيكًا عسكريًا من جانبهم، أن يبقوا في المنطقة تحت رحمة قصفهم وقذائفهم فلا نجد الفرصة لإخلائها من الجرحى. كنت منشغلًا بإرشاد القوات المنسحبة، ولم أنتبه إلى أن معظم عناصر وحدة الاستطلاع كانوا قد رحلوا، ولم يبقَ غيري مع بضعة عناصر، ثم حان وقت مغادرتنا نحن أيضًا.

لم أجد أي قارب بالقرب من السدّ، لذا اضطررت إلى العودة والانسحاب عبر الجسر القريب من مخفر "الروطة"، وسط النيران والشظايا. لم يكن عبور الجسر بالأمر اليسير، فقد كان هدفًا ثابتًا لقذائف الهاون. لكن لم يكن باليد حيلة. بدأت الركض على الجسر، فكانت القذائف المتساقطة في الماء تثير أمواجًا تبلّلني من رأسي إلى أخمص قدمي حينًا، وتسبّب انهيار أجزاء من الجسر خلفي حينًا آخر. هو الله الذي جعل النار على إبراهيم بردًا وسلامًا، أعانني على عبور الجسر من دون أن يصيبني أي مكروه. لم يبقَ في المنطقة سوى بعض العناصر المنسحبين وأجساد وأشلاء الشهداء الغارقة بالدماء.

وصلنا إلى "الموقع 3"، حيث مقرّ وحدة الاستطلاع، وسنحت لنا الفرصة هناك لمعاينة أحوال الإخوة عن كثب. لم يكن عناصر الفرقة على علم بما جرى، أقصد الخبر الذي حطمنا. وما كان لشيء أن يشفي غليلنا غير البكاء، لكن لا، حتى البكاء والنحيب لن يُجديا نفعًا. لقد بكى الأخ
 
 
 
 
 
293

279

كربلاء بدر

 "فتحي" لدرجة أنّه شاخ وهرم في ليلة واحدة، وبدا الانكسار والنحول عليه بوضوح. في تلك الليلة أدركت كيف أنّ السيدة زينب عليها السلام كبرت وهرمت في ليلة واحدة. تُرى ما الذّي حلّ بالفرقة تلك الليلة من دون "مهدي"؟ وكيف قضينا ليلتنا إلى السحر نتذكّر إخواننا الذين خلّف فقدهم الجراح والآلام في أفئدتنا. الشُبان الذين أضحوا رجالًا في الحرب. أشخاص تركوا فراغًا في حياتنا لن يملأ أبدًا. تلك الليلة، التهب (الموقع 3) بنحيب الإخوة الذين فقدوا أعزّ رفاقهم.


بقي "مهدي داودي" وتحقق ما وُعد به "يعقوب شكاري" ليلة الهجوم، والسيد "مهدي" الذي لطالما بثّ فينا من روحيته ومعنوياته المرتفعة، وطالما أزالت رؤيته عنّا كل هموم العالم وأحزانه. كانت تلك الليلة، ليلة الوحشة، ليلة شهداء فرقة "عاشوراء"المظلومين الذّين بقيت أجسادهم الطاهرة على الضفة الأخرى للنهر، ولا نعلم إلى متى ستبقى هناك1، مفقودة الأثر!

أُخبرنا في الصباح أنه علينا الانتقال إلى "الأهواز"، كانت السيارات والشاحنات بانتظارنا، وضعنا جميع أغراضنا في السيارات تمهيدًا لترك (المقر 3). أقمنا في قاعدة جويّة في الأهواز، وهناك قضينا يومًا من الغمّ، واختلى كلّ واحد بنفسه بصمت وحزن. اجتمعنا في اليوم التالي في المسجد لنقيم مراسم العزاء مع الأخ "آهنكران":
يا حسين.. لطالما صحبنا بلواك
 

1- وجد خلال عمليات البحث عددٌ من جثث شهداء عمليات بدر. لكن لا أثر حتى الآن لجثة الشهيد مهدي باكري وعلي تجلائي و..
 
 
 
294

280

كربلاء بدر

 أيا شاهدًا على دموعنا ومصابنا

ويا شاهدًا على زهق أرواحنا
ها قد شهدت ابتلاءنا
وتعلم بحالنا ولوعتنا

انتشر خبر استشهاد السيد مهدي باكري، وعمّ النحيب والبكاء وبدأ لطم الصدور الملتهبة. قفزت الذكريات إلى ذهني، وعادت بي إلى الأيام التي لم أستطع فيها تمييز السيد "مهدي باكري" عن غيره من العناصر العاديّين لشدة تواضعه، تلك الأيام التي كان يسألنا فيها عن التفاصيل الدقيقة لعمليات الاستطلاع، وصيته قراءة آية السدّ، وداعه لنا قبل انطلاقنا في عملية الاستطلاع، وجلوسه في المقدمة منتظرًا عودتنا..

شقت الغصة طريقها للظهور، وكانت ذكرى عظمة الشهداء وصفائهم كطيفٍ جميل. نحن المكروبون المحزونون، بينما حقق الشهداء مبتغاهم: "مهدي باكري، علي تجلائي، أصغر قصاب، آل إسحاق، رستم خاني، يعقوب شكاري، محمود دولتي، علي رضا جبلي، محمد رضا ناصر، مهدي قيطانشي، بهمن محبوبي، مصطفى شهبازي، أصغر رهبري" وغيرهم الكثيرون.

لم يكن مجلس العزاء لينتهي بهذه البساطة، إذ وقف مسؤول أركان الفرقة "السيد مهدي حسيني" خلف المنبر وأبلغنا رسالة مضمونها أنه على القوّات المتبقيّة فعل شيء ما لتغيير المعادلة في المنطقة. شعرت بضيق شديد، لربّما وصلت الأنباء إلى مسامع الإمام، وانزعج للأمر. لم نكن لنطيق انزعاج الإمام ولو للحظة واحدة. اعتبرنا أنّ الصمود والصبر
 
 
 
 
295

281

كربلاء بدر

 في تلك الظروف من الابتلاءات الإلهية. تُلي علينا رسالة أخرى، كانت من قائد الحرس الأخ "محسن رضائي": "الله أكبر الله أكبر الله أكبر على كل مقاتل وبما أوتي من سلاح وعتاد التقدّم للأمام.."


اتّخذ البكاء شكلًا آخر، واستشعرنا من مضمون الرسالة وجود أمل بتغيّر المعادلة، وحملتْ إلينا أيضًا نبأ النجاح في منطقة "جادة الخندق"، ما رفع من معنويّاتنا.

- نحن نريد العودة ثانية

- فليحمل كلٌّ منّا أيّ سلاح يجده وينطلق.

حملت أنا قطعة "آر بي جي" وحمل "مهدي داودي" الرشّاش. وكذا فعل الآخرون. لم نكن نطيق الصبر بانتظار وصول الأوامر.

انسلَّ بعض الجرحى من المستشفى وعادوا إلى المنطقة لمرافقة الفرقة عند القيام بأي هجوم.

رغم ذلك، وعندما أتذكّر أنّ معظم قادة الفرقة قد استشهدوا أو جرحوا، يخيّل إليّ أن لا فائدة من القيام بأي هجوم جديد في تلك الظروف.

في اليوم التالي، أُعطيت إجازة لمدّة 15 يومًا لجميع القوات، فعدت إلى مدينتي والحزن يعتصر فؤادي، إذ كيف أذهب إلى "كربلاء" وأعود بلا أيّ جُرحٍ؟!
 
 
 
 
296

282

كتيبة الإمام الحسين

 كتيبة الإمام الحسين


ربيع وصيف 1985م
كان علينا اجتياز محن النصر والهزيمة. تبدّى المنطق الثوري، يدًا تنتشلُنا من الأزمة.

مرّت الليالي والأشهر بالتشكيلات الجديدة بعد استشهاد كلّ الأعزاء..

لأول مرة في "الهويزة" تحديدًا نقع في اختلاف الآراء. تفاصيل ما كنت أعرف هل تمر في كافة نوبات المجاهدين أيضًا.

حدث أن عُدت إلى مهمّات وواجبات كتيبة "الإمام الحسين". وحدثت الإجازة غير المرغوب بها. وإن لم يكن ما نريد، فقد أردنا ما يكون، وصَنعنا...
 
 
 
 
 
297

283

كتيبة الإمام الحسين

1

كان قلبي منقبضًا مغمومًا. سرت نحو المصلّى وأنا أفكّر بالمجاهدين التبريزيّين الذين شكّل عددهم في يوم من الأيام أكثر من 19 كتيبة، بينما لا يكادون يشكّلون اليوم أكثر من 3 كتائب.


بعد يومين من عودتي إلى المدينة، أصبحت أكثر حزنًا وشوقًا، أينما ذهبت كنت ألتقي بأشخاص يسألونني الدعاء، أشخاص لم يعرفوا الجبهة، ولم يصبهم رصاصها وشظاياها، بل حتى لم تُعفّر أحذيتهم بترابها وغبارها. كان يوم الجمعة، ولم تكن المدينة مكانًا مناسبًا لي وأنا على تلك الحال من الحزن. والشيء الوحيد الذي كان يواسيني، هو تلك الوجوه الطيّبة التي ألتقيها أحيانًا في الأزقّة والشوارع، فترمقني بنظرات الحب والعطف، وكأنّها تنظر إلى مجاهد عزيز على قلبها.

أنقذني صوت "حسين محمدي" من وحدتي، فقد رآني بين تلك الجموع الغفيرة المشاركة في صلاة الجمعة، وأحسّ بمعاناتي وأحوالي.

- كيف حالك يا "مهدي قلي"؟

- جيّد

- هل تشعر بالملل؟

- أنا حزين جدًّا.. لا أدري لِما بقيتُ هنا؟ ما شأني وهذا المكان؟

لا حاجة للمزيد من الكلام، فألمنا ووجعنا واحد. عندما التقينا "يوسف صارمي ومحمد بور نجف"، أدركنا أنّهما يتحدّثان عن الموضوع ذاته. اتّخذنا قرارنا في صلاة الجمعة، وركبنا القطار المتوجّه نحو "طهران"
 
 
 
 
298

284

كتيبة الإمام الحسين

 الساعة الخامسة عصرًا، قاصدين "الأهواز".


انشغلت وحدة الاستطلاع أوائل ربيع 1985م، بسبب خسارتها للعديد من عناصرها المتمرّسين المحترفين، باستقطاب وتعليم عناصر جدد. وكذا كان حال معظم وحدات الفرقة. انتظرنا جميعًا بفارغ الصبر، تعيين قائد جديد للفرقة. في تلك الأجواء، كانت هموم شباب وحدة الاستطلاع وأحزانهم كبيرة جدًّا، فراق الأحبّة والأصدقاء الشهداء من جهة، ومن جهة أخرى الكلام الذي تتناقله الألسن حول عمل الوحدة، فيصل إلى مسامعنا ويؤجّج الأحزان في أفئدتنا. يعرف الجميع أنّ عمل الوحدة ليس منحصرًا بليالي وأيام العمليات وحسب، وقد تصل المدّة الفاصلة عن العمليات إلى السنة تقريبًا يقضيها عناصر الوحدة إما بالتدرّب أو القيام بمهام الاستطلاع، كما إنّ مهمّتهم خلال العمليّات من أهم وأخطر المهام. مع ذلك، عندما ننتصر، في أي معركة، كان البعض يجلس كتلامذة المدارس ليحلّلوا أسباب الانتصار، ولينسبوا الانتصارات بنحو ما إليهم، بينما يردّون أسباب الهزيمة العسكريّة الظاهريّة إلى خلل في عمل قوات الاستطلاع وتوجيه القوات، هذا مع العلم أنّ عناصر الاستطلاع في الفرقة، على الأقلّ في عمليّات "بدر"، قد أظهروا كفاءة عالية مكّنت القوّات بسرعة قياسيّة من الوصول إلى أهدافها في محور عملها، ولو كانت الحال كذلك في الفرق الأخرى، لربّما تغيّر مسار المعارك كليًّا.

على أي حال، كنّا نمرّ أمام هذا الكلام مرور الكرام، فنبتسم وندّعي أنّه لا يؤثّر بنا. كان جلُّ همّنا أن نعمل بتكليفنا، ولمرضاة الله الذي إليه مرجع الأمور.
 
 
 
 
 
 
 
299

285

كتيبة الإمام الحسين

 عاد الإخوة في وحدة الاستطلاع إلى فرقتهم، ولم تنقضِ نصف إجازتهم بعد، وقبل أن تشفى جراحاتهم التي أصيبوا بها في معركة "بدر". اخترنا مكانًا مقابل ثكنة الشهيد "باكري" بالقرب من نهر "دز"1 لنصب خيمنا، كانت تشكيلاتنا بسيطة للغاية، وانتظرنا مع سائر قوات الفرقة لتعيين قائدها الجديد.


وقفنا في ذلك اليوم صفًّا واحدًا للقفز إلى المياه. فجأة، ركض شاب نحيل نحونا، وبدأ يدفعنا دون سابق إنذار إلى الماء، ومن ثم قفز بنفسه. كان وجهه مألوفًا بالنسبة إليّ. لكن لم أعرف من هو وما سبب مجيئه إلى هناك.

قال "يوسف صارمي" للأخ "كريم فتحي": هل تريد أن نقرص أذنيه ونرميه في الماء؟

وقال آخر: من هو؟

- إنّه قائد الفرقة الجديد!

علت البسمة وجوهنا. تقدّم القائد الجديد إلينا والبسمة تغمر وجهه، وقال: لا تعتقدوا أنّني لا أجيد اللغة التركية، بل أفهم جيّدًا ما تقولون!

عندها، تذكّرت أنّه الشابّ الفارسي النحيل الذّي كان في مهمّة من قِبلِ مقرّ القيادة، وعلّمني كيفيّة تغيير صندوق ذخيرة مدفع "الدوشكا" في مقرّ "قوّات إبراهيم" خلال عمليّات "بدر"، ويدعى "أمين شريعتي".

بعد ذلك اللقاء الأول بالقائد الجديد، أقيمت مراسم خاصة لتعريفه
 

1- يمر نهر دز في مدينة دزفول ليصب في نهر كارون.
 
 
 
300

286

كتيبة الإمام الحسين

 إلى جميع القوات، وألقى كلمة في الجمع. استردّت الفرقة عافيتها مجددًا، فالقائد الجديد من رفاق درب الشهيد "باكري"، وظلّ لمدّة طويلة يوقّع أسفل كل رسالة أو ورقة عبارة "بالنيابة عن الشهيد "مهدي باكري"، وسريعًا ألفناه وأحببناه.


لم تمض أيامٌ حتى جمعنا خيمنا تمهيدًا للانتقال إلى المكان الجديد الذي خُصّص للوحدة، في جزيرة كبيرة نسبيًّا، تقع وسط بحيرة سد "دز". تمّ تقسيمنا على الجزيرة إلى 3 فرق1 تولّيت قيادتها مع "أصغر عباس قلي زاده، وحسين محمديان". بدأتُ بتدريب فريقي من دون أي تأخير، وكما في السابق كان من نصيبي جميع العناصر المشاغبة، ومن أبرزهم الأخوان: "محمد بور نجف ورسول سعيدي".

جال علينا في الأيام الأولى لبدء التدريب، قائد الفرقة برفقة الأخ "كريم فتحي"، وكالعادة قام الأخ "فتحي" بتعريفه إلى جميع العناصر فردًا فردًا. ومن طريف الصدف أنّني كنت أجلس إلى جانب "بور نجف وسعيدي"، تغيّرت نبرة الأخ "فتحي" عندما وصل إلينا:
- هؤلاء الإخوة الثلاثة المظلومون: "رضائي وبور نجف وسعيدي"، فمظلوميتهم تفوق مظلومية أي أحد في هذه الوحدة!

هزّ الأخ "شريعتي" رأسه وكأنه يقول: "أجل، أعي تمامًا ما تقول!".

بدأت التدريبات بشكل جدّي، من قبيل قراءة ورسم الخرائط والرسم
 

1- فرق هنا، بمعنى مجموعة أو فريق وليس بمعنى "فرقة" بالمصطلح العسكري، وسترد المفردة في موارد عديدة في الكتاب عندما يكون الحديث عن تقسيم قوات الاستطلاع.
 
 
 
301

287

كتيبة الإمام الحسين

 التخطيطي للمساحات1، والتعرّف إلى المحور وفنون القتال وقيادة القوارب. وفي الوقت ذاته، جرت تدريبات لعناصر الفرقة على ساحل البحيرة، بإشراف الأخ "علاء الدين نور محمد زاده" وكان من قادة الفرقة البارزين، ويعاونه "رحمة الله أوهاني"2. كنت قد تعرّفت إلى الأخ أوهاني حديثًا، وأصبحنا متآلفين جدًّا، وكان كلّما التقيته يقول: "في النهاية عليك أن تنازلني بالمصارعة، إما أن تُسقطني أرضًا أو أُسقطك أنا".


لم يكن الأخ "أوهاني" يجيد السباحة، فكان يفرّ كلّما رآني في الماء لأنّه يعلم بأنّ سقوطه في الماء حتميّ إذا ما أمسكت به. كان يملك في خيمته ثلّاجة من الكاوتشوك، يحتفظ فيها بأنواع الفاكهة الطازجة والمعلّبة.

في أحد الأيام، قدّموا للإخوة المتدرّبين فاكهة البطيخ، ووضعت في خيمته تمهيدًا لتوزيعها، كان هذا الأمر حجّة جيّدة لنا لنبدأ بتنفيذ مخطّطنا!

كانت جزيرتنا تبعد عن خيمة القيادة على الساحل مسافة خمسة كلم تقريبًا، تعاهدنا أنا و"رسول سعيدي ومحمد بور نجف" على الإغارة تلك الليلة على خيمة "أوهاني"! ركبنا الزورق واتّجهنا إلى هناك، رسونا عند الساحل بهدوء، وحتى يكون هجومنا وإغارتنا على قدر المخاطرة، لم ندع أي شيء يمكن حمله إلا وحملناه معنا. عندما فرغنا من الإغارة
 

1- الرسم التخطيطي للمساحات، أي رسم المنطقة المواجهة لنا كما هي على الورق.
2- استشهد رحمة الله أوهاني في عمليات كربلاء 4.
 
 
 
 
302

288

كتيبة الإمام الحسين

 على الفاكهة الطازجة والمعلبة، أغرنا على حذاء "أوهاني" العسكري أيضًا، وعدنا بغنائم كثيرة إلى جزيرتنا.


قضينا أيامنا في الجزيرة، بهناء وسلام، ورمينا بتوصيات الأخ "فتحي" بضرورة التدرّب الليلي عرض الحائط. وكنّا نصرّ مقابل إصراره المتزايد على عدم الطاعة، فنعِدهُ وننكُثُ بالوعد.

- سنذهب الليلة حتمًا للتدرّب الليلي يا أخ "فتحي".

لكنّنا كنّا ننام طوال الليل ولا نستيقظ إلا مع أذان الفجر.

في ذلك اليوم، وكالعادة بعد صلاة الصبح، تدثّرنا بالبطانيّات، وعند الساعة التاسعة صباحًا، جاء الأخ فتحي بالقارب لتفقّدنا. فرح كثيرًا عندما لم يرَ أحدًا على الجزيرة ظنًّا منه أنّنا ذهبنا جميعًا للتدرّب. من الطبيعي أن يتفاجأ ويُصدم عند اقترابه من الخيم ورؤيته الجميع يغطّون في نوم عميق. وكي يعاقبنا جميعًا بما نستحقّه رمى قنبلة دخانية مسيّلة للدموع كانت بحوزته داخل الخيمة.

استيقظنا جميعًا على صوت انفجار مرعب، شعرت بالدوار، ولم يكن الباقون أفضل حالًا منّي، أصوات الأنفاس المتقطّعة، حرقة العيون والأنف وسيلان الدموع والسائل المخاطي. أسرعنا نحو الماء، وأدّى تدافعنا إلى تعرّض "محمد بور نجف" الذي لم يكن يجيد السباحة إلى ارتطام رأسه بصخرة في قعر المياه. فقد قفز عن صخرة ترتفع ثلاثة أمتار إلى المياه التي لم يتجاوز عمقها في ذلك المكان النصف متر.

كانت حال الجميع مزرية، ولسوء حظّنا، فُتحتْ فوّهات القنبلة الدخانيّة الثلاث دفعةً واحدة، مع أنّها في العادة تُفتح واحدة تلو الأخرى،
 
 
 
 
 
303

289

كتيبة الإمام الحسين

 فامتلأت خيمتنا بدخان كثيف. وكان من نصيب "كريم حرمتي" شظيّة بلاستيكية أصابته بفعل الانفجار، فذاع صيته بين الإخوة الذين صاروا يقولون: حتى لو انفجرت قنبلة في ساحة "توب خانه"1 في طهران، فستصيب إحدى شظاياها "كريم حرمتي"!.


بقيت لساعات أشعر بحرقة في عيني وأنفي وبلعومي والدموع لا تنفك تنهمر، بالإضافة إلى سيلان أنفي. عندها، أخذت عهدًا على نفسي ألقّنه درسًا. كان عقابه لنا مبكيًا لدرجة أنّه جعلنا نعود إلى رشدنا. بعد تلك الحادثة، صارت دموعنا تنهمر عند قيامنا من السجود في كلّ صلاة نصلّيها في الخيمة. تعجّبت كثيرًا في البداية، لكنني بعدها اكتشفت أنّ أثر الغاز ما زال موجودًا في الخيمة والبطانيات. يمكن غسل البطانيات، لكن ماذا عن الخيمة؟ كي أتأكّد من صحة اكتشافي، قمت باختبارٍ، أثناء تناول الإخوة لطعام الغداء، رميت حجرًا على سقف الخيمة من الخارج، وعندما دخلت اعتراني الخجل من دموع الإخوة المنهمرة على وجناتهم.

زارنا بعد عدّة أيام الأخ "حميد سليمي"2 برفقة قائد الفرقة وقائد وحدة الاستطلاع. استبقيناهم لطعام الغداء في الخيمة عينها. كانت الفرصة مواتية، فأشرت لـ "محمد بور نجف"، أن حان وقت الانتقام الإلهي!

خرجنا بحجّة ما، وقمنا برشق الخيمة بثلاثة أحجار تقريبًا. عندما سأل الضيوف عن سبب رمي الأحجار على الخيمة، جاءهم الجواب: "لا
 

1 إحدى الساحات المشهورة في مدينة طهران.
2- كان قائد مقرّ نوح وقد استشهد في عمليّات والفجر 8.
 
 
 
304

290

كتيبة الإمام الحسين

 شيء، لا بدّ وأنّ الأصدقاء يمزحون"، وعندما عدنا إلى الخيمة، كانت عينا الأخ "شريعتي" حمراوين وأنفه يسيل من دون انقطاع. لم يكن الباقون أفضل حالًا، ولم يستطيعوا منع انهمار الدموع ولا سيلان الأنوف. عندما سأل الأخ "شريعتي" والأخ "سليمي" عن السبب، أخبروهما أنّ الأخ "فتحي" رمى قنبلة مسيّلة للدموع داخل الخيمة، وأنّ ما أصابهم هو من آثارها التي ما تزال عالقة فيها.


بعد استكمال التدريبات، لم يكن هناك سبب لبقائنا في الجزيرة، كما أننا لم نكن مرتاحين فيها، ننتظر فقط صدور الأوامر بمغادرتها. فكّر المسؤولون بإسكاننا في مدينة "دزفول". أخيرًا، تمّ نقلنا إلى ثكنة "الشهيد باكري". لم نكن قد استقرّينا في الثكنة بعد، حين خطر على بالي أن أترك الوحدة، الوحدة التي يتمنّى كثيرون العمل في صفوفها. مع أنني أدركت أهميّة هذه الوحدة، خاصة في السنة الماضية. لذا تعجّب كلّ من سمع بقراري:
- لكن إلى أين تنوي الذهاب؟

- إلى كتيبة "الإمام الحسين"

- لكن، لِمَ تلك الكتيبة؟

- في الكتيبة نشارك في العمليات دون قيود، لكن في وحدة الاستطلاع، علينا انتظار التعليمات، الأوامر والنواهي، وفي اليوم الأول لبدء العمليّات، علينا الانسحاب إلى خلف خطوط الجبهة، وهذا ما لا أرغب به.

كان لديّ الحجج الكافية للالتحاق بكتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"،
 
 
 
 
305

291

كتيبة الإمام الحسين

 منها مشاركة قوّات كتيبتي "الإمام الحسين و"سيّد الشهداء" الملحميّة في معظم مراحل عمليات "بدر" التي استُشهد فيها أغلب قادتهما وعناصرهما، الأمر الذي زاد من شوقي ورغبتي للانضمام إليهما، بالأخصّ كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" التي تعني لي الكثير، وكنت مستعدًا لترك وحدة الاستطلاع من أجل الانضمام إليها.


كان "حسين محمديان" صاحب فكرة الانتقال إلى الكتيبة، فصداقتنا قد ذاع صيتها بين عناصر الوحدة، وعرف الجميع أنّه إذا ترك "حسين" الوحدة ورحل، فلن يرحل من دوني. حاولنا وبأشكال مختلفة إيصال قرارنا هذا إلى مسامع الأخ "فتحي"، إلى أن استدعانا ذات يوم، وبدأ النصح بعيون دامعة وفي جعبته ردود صريحة ومقنعة على إصرارنا وقرارنا:
- وحدة الاستطلاع بحاجة إليكما، ماذا لو رغب كلّ العناصر بترك الوحدة للأسباب التي ذكرتموها؟ ما الذي سيحدث حينها؟ أنتما من العناصر المتمرّسين والمحترفين في هذا المجال! أتعلمان كم نحتاج من الوقت لتدريب وتعليم عناصر جدد ليصلوا إلى ما وصلتما إليه؟

أدّت حجج "كريم فتحي" المنطقيّة، الواضحة والصادقة مع دموعه الحارة إلى صرف النظر عن فكرة ترك الوحدة.

منذ ذلك الحين، زاد حضور "كريم فتحي" في الوحدة. ومن المميّزات التي اشتهر بها أينما حلّ وحضر، تشدّده في القيام بالتمارين الصباحيّة التي خبرناها سابقًا. بحثنا أنا و"حسين" تلك المرّة عن سبل التخلّص من المشاركة فيها.
 
 
 
 
306

292

كتيبة الإمام الحسين

 - ما رأيك أن ننام في مكان بعيد عن عيون الجميع؟ فإذا استيقظوا لن يرونا، فننجو من المشاركة في تلك التمارين دون ضجيج.


قلت هذا لـ"حسين"، وفكّرنا مليًّا في المكان المناسب للنوم. اخترنا مكانًا خلف ميدان التمارين الصباحيّة، حيث توجد مجموعة قضبان حديديّة كانت قد نُصبت حديثًا مع ما يُظلّلها. أحضرنا أدثرتنا إلى ذلك المكان، ونمنا ليلتين متتاليتين بهدوء واطمئنان. شكّ"كريم حرمتي" عصر اليوم الثالث بحضورنا في المراسم، وعَلم بغيابنا ليلًا عن خيمتنا، وعدم مشاركتنا في المراسم صباحًا. لذا قام بتعقّبنا ليلًا إلى أن وجد مخبأنا، وأفشى في صباح اليوم التالي سرّنا للأخ "كريم فتحي".

عدتُ بعد صلاة الصبح مع حسين للنوم في مخبئنا، من دون أن نعلم بما يدور من حولنا، واستيقظنا مذعورين على صوت غير مألوف سبّبه ارتطام حجر بأحد القضبان الحديديّة. دهشنا عندما رأينا عناصر الوحدة وهم يمرّون بالقرب من مخبئنا ويرمي كلّ واحد منهم حجرًا نحونا! كان رأسي ما يزال مثقلًا بالنعاس، فقلت، وأنا نصف مستيقظ، لكريم حرمتي: "أيّها الفتى الطيّب، أرسل عناصرك ليركضوا في ذلك الاتجاه، لِمَ جمعتهم كلّهم هنا؟".

انفصل أحد العناصر عن الإخوة الذين ما زالوا يركضون حولنا، واتّجه نحونا. كان الأخ "كريم فتحي" بذاته. لم يمهلنا لنلقي التحيّة حتى، قال بكلّ جدّيّة وصرامة: "هيا انهضا! انهضا بسرعة واتبعاني إلى مقرّ الوحدة، أريدكما في أمر!". ذهب الأخ"فتحي" بسرعة وتبعناه بلا تباطؤ إلى المقر. نادى أوّلًا "حسين". دخلا إلى زاوية الخيمة، بينما بقيت أنتظر
 
 
 
 
 
307

293

كتيبة الإمام الحسين

 خارجًا. من الصفات الأخرى التي تميّز بها الأخ "فتحي"، أنّه لا يؤنّب أو ينصح أحدًا أمام الجمع.


- هيا! تعال يا أخ "مهدي قلي"!

دخلت الخيمة. كان منزعجًا وقال: "ما هذه الروحيّة؟ يبدو أنّك مللت الحرب، وأصبحت متهاونًا! لِمَ تفرّ من البرنامج الصباحيّ؟ لِمَ لا تأخذ هذه التدريبات على محمل الجدّ؟"

لم أكن أتصوّر أن أسمع هذا الكلام بسبب فراري من المراسم. اعتذرت منه بخجل وتعهّدت بالمشاركة في البرنامج الصباحيّ بكل نشاط ابتداءً من اليوم التالي.
 
 
 
 
 
308

294

كتيبة الإمام الحسين

 2


انتدبتني قيادة الوحدة مع السيّد "إسحاق رجبي، كريم آهنج، أصغر قريشي، دميرتشي، حسين محمديان ومهدي داودي" إضافة إلى عناصر آخرين من قوّات الوحدة، للقيام بمهمّة في جزيرة "مجنون". كان علينا الذهاب إلى (الموقع 5). انطلقنا نحو الجزيرة، فتذكرنا أصدقاء قطعوا الطريق ذاته، والتحقوا بغيرهم من مفقودي الأثر.

ما إن استقرّينا في الجزيرة حتى طُلب منّا البدء بالعمل.

أدركنا من اللحظات الأولى أنّ العدو لا يبدي أي ردّ فعل إزاء وجودنا في المنطقة، وكأنّه لا يتوقّع حصول أي عمل هناك. وكانت التحصينات والعوائق على عكس ما اعتدنا عليه في مناطق أخرى تفتقد إلى المتانة والقوة، وهو ما نسمّيه اصطلاحًا "لا مبالاة". وهذا يشير ظاهريًا إلى مدى سذاجة العدو، لكن وبنظرة أدق وبتحليل وتفكير، استنتجنا ومن خلال المساحة المائيّة التي تفصلنا عنه، استحالة حصول أي تحرّك عسكري واسع هناك. لذا، لم يكن الأمر يستدعي تشييد الكثير من الموانع والتحصينات. كانت المنطقة المستهدفة في الاستطلاع جزءًا من محور عمليّات "بدر"، وكنت كلّما عبرت الممرّات المائيّة، أتذكّر وجوه شهداء عمليات "بدر" وبالأخص السيد "مهدي".

طُلب منا خلال فترة إقامتنا في الجزيرة أن نتصرّف بطريقة لا تثير انتباه أحد لطبيعة عملنا والهدف من وجودنا هناك. كان مقرّ عمليّات الفرقة قد انتقل منذ مدة، إلى (الموقع 5)، وكانت ما تزال إحدى
 
 
 
 
309

295

كتيبة الإمام الحسين

 كتائبها مشغولة في الدفاع هناك، نحن بدورنا انشغلنا بعملنا، وعملنا جهدنا لأن لا نلتقي أحدًا من شباب الكتيبة حتى لا نتعرّض لأسئلتهم، ونضطر للشرح والتورية. لكن، حدثَ في أحد الأيام أن جاء أحدهم إلينا مباشرة وقال: أين مسؤول المحور؟


علمت أنّه قادم من قبل وحدة مدفعيّة الفرقة. تقدّمت نحوه وقلت له: "تفضل كيف أستطيع أن أخدمك؟"

اعتقد أنّني مسؤول المحور، فراح يشكو تصرّفات كتيبة الدفاع! وقال: "كان من المقرّر أن ننصب في المنطقة عددًا من المدافع، لكنهم يمنعوننا من القيام بذلك".

- لا يحق لهم فعل ذلك! نحن طلبنا وضع المدفعيّة هناك. هيا اذهب وأكمل عملك وسوف أصل وأحلّ المشكلة.

ذهب الأخ في حال سبيله، وبالطبع، لم يجرِ أي اتصال هاتفي، وعلمت بعد عدّة ساعات أنّ الوحدة تعمل على نصب المدفعيّة في المكان، وعندما اعترض الإخوة في الكتيبة مجددًا، أخبرهم بما دار بينه وبين مسؤول المحور (أي أنا)، فرضخوا للأمر، وهكذا حُلّت المسألة.

كانت الحياة في هور "الهويزة" هادئة، وكان لدينا متراس كبير مرتّب ومنظّم، أطلقنا عليه اسم "نادي الضباط"، وهو عبارة عن متراسين متداخلين. كان مدخل المتراس بمثابة القاعة (الصالة)، ومنه ننفذ إلى عنبر بمنزلة غرفة للجلوس، ومنها إلى عنبر آخر أشبه بغرفة النوم، بسبب وجود ألواح الكاوتشوك التي نستخدمها للنوم بدل الأَسرّة.

كانت مشكلة المتراس الكبرى التي لا حلّ لها، هي التعايش مع
 
 
 
 
 
310

296

كتيبة الإمام الحسين

 الجرذان التي تقطن الجزيرة، والتي تزايدت أعدادها بعد عمليات "بدر"، وأصبحت أكثر جرأة، تتنقّل بحريّة وتتسلّق أكتافنا ورؤوسنا بلا أي خوف أو وجل، وترغب كثيرًا في قضم أصابع أيدينا وأقدامنا أثناء النوم.


أضحت هجمات الجرذان أكثر خطورة. كنّا نستيقظ أحيانًا على أصوات القضم لنكتشف أنّ الجرذان شغفة بقضم شعر رؤوسنا. وقد واجه الإخوة تلك الهجمات الشرسة بضربات صاعقة، فقد حدث في إحدى الليالي أن استيقظ الأخ "دميرتشي" على صوت قضم أنفه، فضرب الجرذ بيده ضربة ألصقته بعمود العنبر الحديدي.

تابعنا عمليات الاستطلاع، وكنّا نعود إلى متراسنا لنبدأ معركة من نوع آخر مع عدونا الداخلي. لم نكن نملك في مواجهة هذا العدو أي علاج ناجح ومؤثّر، لذا اضطررنا للتعايش معه خاصة أن أمورًا أهم منها كانت تشغل بالنا وفكرنا.

كانت ليالي الجزيرة غريبة فريدة، ولو كان لديك الجرأة واقتحمت حريم خلوة بعض المنشغلين بالدعاء والمناجاة هنا وهناك تحت جنح الظلام، لأدركت مدى العمق وسعة الصدر الذي تجذّر في وجودهم. حتى إنّ أكثر الإخوة شقاوة ومشاكسة خلال النهار، الذين يفضحون - كما يدّعون - أصحاب صلاة الليل، هم أنفسهم الذين تجذبك أصوات مناجاتهم الشجيّة في الليل وعند السحر.

كان عناصر وحدة الاستطلاع المستقرّون في الجزيرة يعملون في محورين، ولكلّ محورٍ فريقان، كان مسؤولا المحورين كل من الأخ "مهدي داودي"، والأخ "كريم حرمتي"، وكان "حسين محمديان" معاونًا
 
 
 
 
311

297

كتيبة الإمام الحسين

 للأخ "مهدي"، بينما كنت أنا معاونًا للأخ"كريم". شارك كل من الأخ "مهدي" والأخ "كريم" في جميع عمليات الاستطلاع، وقمت باستطلاع المنطقة المكلف بها على ثلاث مراحل.


كنّا ننقل العناصر التي ترافقنا في عمليّات الاستطلاع، في زورقين وكنّا نحمل معنا طعامًا يكفي لمدة 24 ساعة، إضافة إلى الذخائر وجميع أدوات المراقبة، مثل المناظير العادية والليلية إضافة إلى البوصلة. كنّا ننطلق من مجرى مياه "فتح" إلى أن نصل إلى مجرى "زيد" المتفرّع من مجرى "موته"1، والمتصل بالقرب من المدرسة مع مجرى مياه "فتح". وهكذا يتصل المجريان معًا. كنّا نتابع سيرنا من مجرى (زيد 1) إلى (زيد 2)، ومن هناك إلى نقطة قرب السدّ الذي كان قد استولى عليه الأعداء مجدّدًا، فنراقبهم ليلًا بالمنظار ما دون الأشعة الحمراء، ونجول فيها أحيانًا.

نجحنا في المراحل الثلاث لعملية الاستطلاع في التعرّف إلى عدد من الأهداف وتحديدها، منها: مكان ونوع العوائق، أماكن الكمائن وأنواعها، ومحل استقرار وتموضع الأعداء.

نادرًا ما يصادف أن أكون أنا و"حسين محمديان" بلا عمل في آن واحد، فنقضي بعض الوقت معًا، لكن عندما تسنح لنا فرصة كهذه، كنّا نحمل معلّبات الفاكهة ونركب الزورق إلى مكان بعيد عن الأنظار وسط حقل القصب. كان لحديث "حسين" طعم آخر. كنت أراه هناك على
 

1- اسم نهر يجري داخل المناطق القاحلة في العراق، وكان مسير كتيبة "سيد الشهداء" أثناء عمليات بدر.
 
 
 
312

298

كتيبة الإمام الحسين

 حقيقته، حيث يترك قناع الشقاوة والمزاح جانبًا لتتجلّى حالته المعنويّة والعرفانيّة في أبهى حللها. كان حديثنا يطول لأكثر من أربع أو خمس ساعات، فنتحدّث عن الشهداء، عن الأيام والساعات التي قضيناها سويًّا، عن السنوات الثلاث التي مضت على حضورنا في جبهات القتال، والموت الذي أضحى سهلًا مستساغًا عند الإخوة المجاهدين. كيف يصل الإنسان في مرحلة ما لتصبح جميع أعماله وأقواله وأهدافه في سبيل رضى الله معشوقه الأول والأخير، كيف يَعْبُرُ بعض الإخوة جسر الشهادة سريعًا، ليلقوا محبوبهم الأبدي، وماذا علينا أن نفعل لنتمكن من عبوره نحن؟..


كان الأخ "حسين" من طلّاب الحوزة العلميّة، ويحب إكمال دراسته ويردّد دائمًا: "بعد انتهاء الحرب سأعود إلى الحوزة". كانت تلك الأحاديث حاضرة دومًا في جلساتنا وخلواتنا أنا و"حسين"، إلى جانب الحديث عن عملنا في الوحدة، وخاصة استطلاع تلك المنطقة.

كان لدى "حسين" أفكارًا جديدة في الاستطلاع. بالنسبة إليه، إنّ جمع المعلومات سيؤدي بالنهاية لمعرفة العدو بشكل أفضل. كان يؤمن بأساليبه المبتكرة في الاستطلاع، ويعمل بها بكلّ جرأة وإقدام. وقد ارتبطت بعض الأساليب باسمه، خاصة بعد عمليات"بدر"، فكان الإخوة في وحدة الاستطلاع يقولون: "هذا أسلوب حسين محمديان".

كانت صداقتنا أنا و"حسين محمديان" تزداد وتقوى يومًا بعد يوم، إلى درجة أنّها مدّتنا بعلاقة روحيّة متينة، وكلّما حدّثني قلبي أنّ "حسين" قادم، كان يطلّ بنظراته البريئة ووجهه المحبّب. وقد اعتاد الإخوة على
 
 
 
 
 
313

299

كتيبة الإمام الحسين

 رؤيتنا معًا. كان لـ"حسين" إضافة إلى الخصائص المعنويّة تلك، شقاوة خاصة منحصرة به، تدلّ على جرأته وعدم مهابته. نادى "حسين" في أحد الأيام قائلًا: سأذهب أنا والسيد "إسحاق" في مهمّة استطلاع، لِمَ لا ترافقنا، قال لي ونحن في الطريق نحو الزورق: "صحيح أنّنا في مهمة استطلاع، لكن لا يعني ذلك أن نظلم أنفسنا!".


ثم ملأ محفظتين للمياه بعلب الكرز المعلّب والعصائر وتابعنا سيرنا. طلب من السيّد "إسحاق" أن يجلس في مقدّمة الزورق بينما جلس هو في الوسط وجلست أنا في المؤخرة، وشرعنا بالتجذيف، وعمليّة التجذيف في مقدّمة الزورق هي الأصعب، إذ كان على المجذّف الجلوس على ركبتيه والتجذيف بكل قوة. أخذ "إسحاق رجبي"1 يجذّف بكل ما أوتي من قوّة، فنظر "حسين" إليّ نظرة شقاوة، وناولني الفاكهة المعلّبة في وعاء كان على غطاء محافظ مياه الشرب، وكان يعطيني من كل شيء يأكله، وفي بعض الأحيان كنا نتناوب على التجذيف، بينما يستمرّ السيد "إسحاق" المسكين بالتجذيف وحده في مقدمة القارب من دون أن يدري أي أمر يحدث خلف ظهره. بدأت أنفاسه تتقطّع من شدة التعب عندما وصلنا إلى مفترق طرق مجرى مياه "فتح"، قال: "اللعنة، أكاد أهلك من التعب، هل تهزآن بي؟"

بدأ السيد "إسحاق" بالاعتراض والشكوى بالقرب من كمين العراقيين. كان العرق يسيل من رأسه ووجهه لشدة التعب والعياء،
 

1- من أهالي "خلخال"، من العناصر المتأهّلة في الوحدة، استشهد قبل أن يرى طفله في عمليات "كربلاء 5" عام 1986م في شلمجة.
 
 
 
314

300

كتيبة الإمام الحسين

 فذهب "حسين" للتجذيف مكانه. جلس "إسحاق" وسط الزورق وقال بهدوء: ما ألذّ تناول العصائر في هذا الوقت!


فتح المسكين صنبور محفظة الماء، لكنه كان خاليًا خاويًا، فقد أغار عليه "حسين" ولم يُبقِ منه باقية. نظر "إسحاق" بحنق إليّ، فقلت له بهدوء: أنا كنت أجذّف إنها فعلة "حسين"!

- حسنًا سأريك يا "حسين"!

قال السيد "إسحاق" هذا ثم هزّ الزورق كي يسقط "حسين" في الماء. اهتزت مقدمة الزورق، لكن السيد لم يشعر بلذة الانتقام. عادة ما يوجد في الزورق مجذاف إضافيّ. حمله السيد "إسحاق" وضرب كلّ واحد منا ضربة واحدة. فقال له "حسين" بصوت منخفض: "لا يا سيد لا تفعل هذا بالقرب من كمين العراقيين"، لكن السيد كان غاضبًا بشدّة، والحق معه.

وصل الأخ "إسماعيل محمدي" معاون وحدة الاستطلاع إلى المنطقة للإشراف مباشرة على عمليّات الاستطلاع، كما انضم إلينا ثلاثة عناصر جدد. كانت آراء الأخ محمدي مختلفة عن آرائنا تمامًا، وهو التحق بوحدة الاستطلاع في عمليات (والفجر 4)، ثم رُقّي خلال عمليات "خيبر" وما بعدها، ليصبح قبيل عمليات "بدر" معاون مسؤول الوحدة خلفًا للأخ "محمد محمدي" الذي اضطر لترك مسؤوليته لأسباب متعدّدة منها الدراسة الحوزوية. من خلال تحليلي لطرق وأساليب الأخ "إسماعيل محمدي" في العمل، أدركت أنّه يفعل كلّ ما من شأنه تطوير عملنا، لكنّ آراءه كانت مختلفة عن آرائنا لدرجة كبيرة، ولم نتمكّن من إدراكها وفهمها. فقد سعى للاستفادة من العناصر الجدد في الوحدة بشكل
 
 
 
 
 
315

301

كتيبة الإمام الحسين

 أكبر، بينما لم يستسغ هذه الفكرة أي من العناصر القدامى، وربما أدّت أفكاره تلك إلى ترك بعض الإخوة للوحدة وانتقالهم إلى وحدات أخرى.


وصل بنا الأمر إلى الطلب من الأخ "فتحي" بضرورة تغيير المسؤول! فقد أدّى وجوده إلى بثّ الخلافات بين الإخوة، لكن عبثًا حاولنا فلم يحدث أي تغيير. تشاجر الأخ "مهدي داودي" مع الأخ "محمدي" لسبب ما، ووصل الأمر إلى حدّ لا يطاق. ذهبت إلى الأخ "فتحي" وأخبرته بكل صراحة أنّني لم أعد أستطيع العمل مع الأخ "محمدي" في المنطقة في تلك الظروف. انتظرت، لكن لم يحدث أي شيء، فذهبت إليه ثانية لأتمّ الحجّة وقلت له: "اكتب رسالة لنقلي من هنا، فأنا لم أعد أستطيع تحمّل الوضع". أخيرًا، كتب الأخ فتحي وبكل حنق، طلب نقلي من الوحدة، وذكر السبب "لا فائدة منه في الوحدة". أزعجتني هذه الجملة كثيرًا، شطبتها ثم كتبت: "بسبب عدم تطابق الآراء". حملت الرسالة من دون أي تأخير إلى قيادة الفرقة. انزعجوا كثيرًا بسبب التغيير الذي قمت به في الرسالة، وسألوني عن سبب تصرفي هذا، فقلت لهم: "لو كان الأمر كذلك لذُكر خلال السنوات الثلاث الماضية من عملي في الوحدة!".

- حسنًا وإلى أين تريد الانتقال؟

- إلى كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"

بسبب سوابق عملي في وحدة الاستطلاع ونظرتهم الخاصة لكتيبة "الإمام الحسين"، رفضوا طلبي، وكلّما أصررت على الانتقال زاد تمنّعهم ورفضهم. لكنّني لم أتراجع، ما حدا بهم لإحالتي إلى القضاء العسكري. هناك انتهت الأمور لمصلحتي ونُقلت إلى الكتيبة.
 
 
 
 
316

302

كتيبة الإمام الحسين

 3


توقّعت أن أُستقبل في الكتيبة بالترحاب، وذلك بسبب معرفتي بأغلب مسؤوليها، لكن على عكس ما توقعت استُقبِلتُ بفتور وبشكل عادي جدًّا. انزعجت كثيرًا، فصداقتي بالأخ "محمد سبزي" معاون الكتيبة لم تكن حديثة العهد. كنّا قد تعرّفنا منذ أمد بعيد. كان تصرّفه هذا وتصرّف الآخرين معي لا يصدّق. لكنّني كنت سعيدًا في أعماقي، فهذا يدلّ على أنّهم سيعاملونني كأيٍّ من العناصر الآخرين العاديّين في الكتيبة، عاهدت نفسي عندما تركت الوحدة أن أعمل قنّاصًا، تمّ تحويلي بعد هذا الاستقبال الفاتر إلى (السرية 3) بقيادة "علي تشرتاب"، الذي أرسلني إلى (الفصيل 3) بقيادة الأخ "أيوب أيوبي"، حيث بدأت حياتي عنصرًا عاديًّا في الكتيبة.

سرعان ما وجدتُ أصدقاء جدد منهم: "رضا أفخمي، نادر ناقل، دانائي، السيد محمد وطني، علي زارع" وغيرهم، ورغم أنّني صرت في المكان الذي أرغب، إلا أنني كنت أشتاق للمشاركة في عمليات الاستطلاع ولقاء الإخوة في الوحدة، وأبرّر لنفسي أنّ بقائي في الكتيبة أفضل لي، حيث لن يجبرني أحد عند بدء المعارك على الانسحاب للوراء بحجّة أنّ مهمتي قد انتهت.

كان للفصيل (3) خيمتان، إحداهما رثّة للغاية تكثر فيها الثقوب والتمزّقات، حيث أقمت أنا وصديقي الجديد "رضا أفخمي"، الذي شابهني ببعض السلوكيات.
 
 
 
 
317

303

كتيبة الإمام الحسين

 - حال خيمتنا سيّئ للغاية يا "مهدي قلي"! علينا القيام بأمر ما!


- أي أمر؟

- رأيت في قسم التجهيزات عددًا من أكياس الخيش، ربما استطعنا فعل شيء مفيد بها.

ذهبنا إلى قسم التجهيزات، وحملنا ما نحتاج إليه من الأكياس من دون استئذان أو إجراءات، ثم عملنا مباشرة على ترميم الخيمة وتزيينها، وأصبحت خيمتنا أشبه بقاعة سينما صغيرة وجميلة، لقد استخدمنا أسلاك الهاتف وقضبان الحديد لتعليق أسلحتنا، كما وضعنا دعائم خشبيّة على مدخل الخيمة وخلفها. لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزناه إلى بناء رواق صغير خارج الخيمة. ويا للحظّ، فأرضيّة الخيمة لم تكن مناسبة! لهذا أغرنا على مجمّع قد شيّد منذ مدة1، وقد فُرِش بالموكيت، فأخذنا ما نحتاجه لخيمتنا. وصل اهتمامنا بتزيين خيمتنا إلى حدّ أدهش العديد من الإخوة. لم يكن الأمر مقبولًا أن يمتلك عنصران عاديّان كلّ هذه الإمكانات والرفاهيّة. وعلمنا في ما بعد أنّ جماعة السريّة لم يطيقوا وجود الخيمة. كما أثار الأمر حفيظة "تشرتاب" الذي استدعانا وعقد معنا جلسة نصائح استمرّت لساعتين. وبما أنّه من أبناء محلّتنا وكنت على معرفة سابقة به، لم "تؤثر" نصائحه فيّ، بل نسيت كل ما قاله ما إن خرجت من خيمته.

لحسن الحظ حدث أمر جذب الأنظار بعيدًا عن خيمتنا، فمع اكتمال
 

1- مدرسة كان الجنود يتابعون تعليمهم فيها.
 
 
 
318

304

كتيبة الإمام الحسين

 عديد الكتيبة انتظمت المراسم الصباحيّة. وطغت مجدّدًا الأجواء المعنوية التي لطالما اشتهرت بها كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". عندما استدعينا وأخبرنا بوجوب نقل الخيم إلى المكان المحدد، علمت أنّ القرعة قد وقعت عليّ لأكون في صفوف خَدَمة الكتيبة، وأنّ العمليّات قد أضحت قريبة التنفيذ. ركبت السيارة في ذلك الليل، مع عدد من العناصر المعروفين أمثالي، الذين اختارهم المسؤولون بعناية خاصة، من دون أن نعرف وجهتنا.


من خلال مشاهداتي في ذلك الظلام الدامس، ظننت أنّ وجهتنا كانت الجبهة الوسطى، فرؤية التلال والجبال العالية، زادت من اعتقادي بأننا متّجهون نحو غرب البلاد. لكن عند الصباح، وعندما توقفت السيارة، أدركت أنني قد أخطأت الظنّ، فلقد كنّا نحن في منطقة "تشزابه"، وقد ضللنا الطريق. استعنّا بأشخاص للتعرف إلى المكان المقصود في الهور بالقرب من "شط علي".

ما إن وطئت أقدامنا الأرض، حتى انهال سيل توصيات الأخ "ناصر أميني" على رؤوسنا. هو من أهالي "سراب"، وسائق الكتيبة، وكان له عملٌ سريّ آخر، وهو تأمين السجائر لمدخّني الكتيبة! فالتدخين كان ممنوعًا منعًا باتًا في الفرقة. لذا كان المدخّنون الذين لم يتمكّنوا من الإقلاع عنه، يدخّنون السجائر سرًّا، فناصر نفسه كان من المدخّنين، وكان يعمل على تأمين السجائر لنفسه ولأصحابه. أعطى الأخ "ناصر" الأمر بنقل الخيم ونصبها، وكان صراخه يعلو إذا تباطأ أحد في عمله، ويقول بلهجته الخاصة:"ما بك؟ لِمَ تقف من دون حراك؟"
 
 
 
 
319

305

كتيبة الإمام الحسين

 نُصبت جميع الخيم بإشراف الأخ "ناصر أميني" وجهود الإخوة. اخترت لنفسي هذه المرة خيمة نظيفة.


وصلت قوّات الكتيبة مباشرة، وتموضعت في "سرهنكية". أيام قليلة كانت تفصلنا عن شهر محرم الحرام، استعدّت مجموعة اللطم والعزاء للمناسبة. عمّت أجواء من نوع آخر في الكتيبة، حيث انضم إليها وإلى فصيلنا الأخ "وبيسي" مسؤول مؤسسة المستضعفين في المحافظة، الذي أحضر مذياعًا صغيرًا لكل فصيل.

ما إن استقرّت الكتيبة حتى بدأت التدريبات، وكان على جميع العناصر الخضوع لدورات تدريبيّة على الغوص. كانت التدريبات بدائيّة ضعيفة، ولم ترتقِ لاستخدام الزعانف. كان العناصر يقفون طابورًا واحدًا ليقفزوا في المياه ويسبحوا ويعوموا هنا وهناك، أو يجذّفوا الزوارق. ظنّ أغلب الإخوة الذين خاضوا تلك التجربة أنّ الغوص لا شيء غير هذا!

كدت أجنّ من التفكير، ومقارنة وضعي في الكتيبة مع ما كان عليه في وحدة الاستطلاع، أدركت كم أنا مرتاح البال، لا تدريبات صعبة وقاسية ولا عمليات استطلاع ولا تعب أو مشقّة. لكنّ تلك الأفكار كادت تقتلني، وكأنني فررت من المسؤولية. كنت أفكر: هل حقًّا تستحق تلك الأسباب والحجج الفرار من المسؤولية؟! وهل عجزت عن الإفادة من التجارب والمهارات والمعلومات التي اكتسبتها طوال مدة عملي في وحدة الاستطلاع؟ وكنت أسأل نفسي مرارًا، لِمَ لم أقم بتكليفي حيث يتوجّب عليّ، وحيث هو بمنزلة مسؤولية؟! كانت تلك الأفكار تنهشني، لكن لم يكن باليد حيلة. لم أخبر أحدًا بمشاعري، والتزمت
 
 
 
 
320

306

كتيبة الإمام الحسين

 بعملي وتدريباتي. سرعان ما فُتح باب الرحمة بوجهي، فقد ناداني الأخ "تشرتاب" وعهد إليّ بمسؤولية خطيرة، قائلًا: "أنت مسؤول عن تعليم الغوص لعناصر السريّة".


فكرت كثيرًا تلك الليلة بأنجح الطرق لتدريب الإخوة. عندما اجتمع العناصر في الصباح، بدأنا التدريبات وفق الخطة والبرنامج الذي وضعته. علّمتهم في البداية كيفية ارتداء بدلة الغوص مع القبعة والجوارب وغيرها. ومن ثم كيفية الحركة في الماء وطُرق ربط الأوزان وشرحت لهم سبب ربطها، بعدها، انتقلنا للتطبيق العملي. علتْ الابتسامات وجوه الإخوة، إذ لم يجدوا ما يكفي من الأوزان الخاصة بالغوص واستعاضوا عنها بالأحجار والآجر. كان مشهدًا مثيرًا للضحك فعلًا. اخترت مكانًا قليل العمق لنتمكّن من السير فيه، لكن حدث أن غرق عددٌ من قصار القامة الذين ربطوا بأنفسهم أوزانًا أثقل مما يجب، فكنت أسارع لانتشالهم وهم على آخر نفس.

كان كلّ شيء يسير على ما يرام، وشعرت بالرضى عن النتائج التي حصلتُ عليها حتى الآن. انصبّ جلّ اهتمامي على تقديم المعلومات المفيدة والضرورية لجميع العناصر. بيد أنّ تلك الجهود والمساعي لم تكن خافية على مسؤولي الكتيبة، حيث استدعاني الأخ "سبزي" ومنحني ترقية.

فرحتُ كثيرًا بمسؤوليتي الجديدة، ونظّمت في كتيبة "القاسم" دورة مكثّفة ابتدائية لتعليم الغوص لمدة يومين.

أُخبرت في اليوم الذي أردت فيه العودة إلى كتيبة "الإمام الحسين"،
 
 
 
 
321

307

كتيبة الإمام الحسين

أنّ قائد الفرقة سيأتي لزيارة الكتيبة والاطّلاع على سير وتقدّم عمليّة تعليم الغوص، وعلى كيفيّة أداء العناصر. لم أكن قد التقيت الأخ "شريعتي" منذ أن غادرتُ وحدة الاستطلاع، وشعرت أنّه لم يتوقع وجودي في كتيبة "القاسم" أيضًا، فقد جاء برفقة الأخ "علاء الدين نور محمد زاده"، وأخذ يرمقني بنظرات عاتبة، لكنّه سيطر على مشاعره هناك، ولم يشأ الحديث عمّا في داخله.

- حسنًا يا سيد "مهدي". أخبرنا بما فعلته حتى الآن!

شرحت له مراحل التعليم بشكل مختصر، وسألني السيد "أمين": "كيف ستكون حركة القوات التي ستقوم باختراق السدّ؟".

- تنطلق القوات بواسطة الزوارق، وما أن تصل إلى السدّ حتى تغرقها وتتسلّقه بهدوء..

وهكذا شرحت للمسؤولين كيفية عمل قواتنا تمامًا كما جرت في تلك الليلة الأولى لعمليات "بدر". بعد الانتهاء من الشرح، شعرت برضى المسؤولين عن سير التدريبات، وسألني السيد "أمين" عما أفعله هنا؟ فشرحت له الوقائع باختصار موضحًا سبب تركي لوحدة الاستطلاع، استمع إليّ من دون تعليق. غادر المسؤولون وعدت أنا إلى كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، بعد انتهاء مهمتي في كتيبة "القاسم".

كانت كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" السبّاقة في إقامة المجالس الحسينية لشهر محرم الحرام، والأفضل بين الكتائب الثلاث المستقرّة خلف خطوط الجبهة على "شطّ علي": "القاسم، الإمام الرضا عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام"، وكذا كانت روحية ومعنويات الإخوة فيها.
 
 
 
 
 
322

308

كتيبة الإمام الحسين

 كانت تعطّل جميع الأعمال عند انطلاق فرق العزاء. وقد تنوّعت المراسم ما بين اللطم ومجالس العزاء والتلاوة الجماعية لدعاء التوسل. كانت زيارة "عاشوراء" تُقرأ في الكتيبة بشكل جماعي حينًا، أو عند كل فصيل في خيمة على حدة حينًا آخر، وبصوت رواديد الكتيبة وهم الإخوة: "جليل حاجي نوري، الحاج بيوك اساشي، إبراهيم اساشي وأيوب رضائي" وكان رادود الكتيبة الثابت الأخ "أيوب"، وهو من عناصر (السرية 1).


مرت العشر الأوائل من شهر محرم، وأقيمت خلالها مجالس العزاء الجَماعية الصباحية عدة مرات، فكان العناصر يجتمعون في مكان واحدٍ ويتناولون طعام الإفطار. كنّا كلما اقتربنا من يوم العاشر من محرم، استعر لهيب الشوق المتأجّج في الأعماق. كانت كل كتيبة تقيم المجالس الحسينية والمراثي طبقًا للعادات السائدة في مدنها وقراها. فتأتي الكتائب جماعات جماعات إلى ساحة العزاء، فترى الإخوة القزوينيّين يمسحون رؤوسهم ووجوههم بالطين ويخلعون قمصانهم، ويأتون لاطمي الصدور لينضمّوا إلى جماعتنا، كما كان الأردبيليون يأتون وهم يقرأون لطمياتهم الخاصة.

ضجّت عاشوراء ذلك العام بألوان العزاء والمراثي، وكانت المرّة الأولى التي تقام في فرقة "عاشوراء" بعد غياب قائدها الشهيد "مهدي باكري"، وإخوانه الشهداء الذين ما تزال أشلاؤهم متناثرة في المنطقة تحت أشعة الشمس والمطر، أو في مجاري المياه، والله وحده يعلم إلى متى سيبقون على هذه الحال، وإلى متى سيبقون في عداد "المفقودين"!
 
 
 
 
 
 
323

309

كتيبة الإمام الحسين

 حلّ صيف العام 1985م بحرّه الشديد، وببعوضه وتدريباته النهارية والليلية، وأشرقت وجوهٌ اتضح أنها راحِلة عمّا قريب. كان التعبويون والجنود حديثو السن يرتدون بدلات الغوص الكبيرة المقاس في حين أنّ قاماتهم صغيرة ونحيلة، فتتسرب إليها المياه وتبتلّ ثيابهم، وكانوا يغرقون أيضًا بسبب الأوزان، إلا أن التوقف لم يكن واردًا في قاموسهم. فهؤلاء بقاماتهم الصغيرة كانوا يحملون الأسلحة الثقيلة كالرشاش، فيفقدون توازنهم ويغرقون في الماء، وهم متشبثّون بسلاحهم، مصمّمون على النجاح فلا يعرف اليأس طريقًا إليهم. وكلّما زادت المصاعب والمشاق، ازداد الإخوة نشاطًا وصفاءً، وكان كل شيء يوحي باقتراب موعد الهجوم.


كان الحاج "بيوك آسايش" يحمل مكبّر الصوت بيده، ويجلس في أحد الزوارق التي يتدرب الإخوة على قيادتها، ويبدأ بإنشاد الأناشيد الثورية وقراءة المراثي، فتتضاعف أشواق الإخوة ومعنوياتهم لدى سماعهم اسم إمامهم "الحسين عليه السلام". فقد أُلقي في قلب بعض الإخوة أن أسرعوا، إذا ما سعينا، فسوف يُفتح أمامهم معبرُ الشهادة. كان السيدان "محمد وطني خطيبي وعلي زارع بور" من قوات سرية "علي تشرتاب"، وكان ظاهرًا من خلال الجهود التي يبذلانها أنّهما تلقّيا إشارة ما. كان "إبراهيم علي نجاد وجلال زاهدي" من الأشخاص الذين عملوا بصمت وشوق في تدريب السرايا الأخرى.

استمرت التمرينات والتدريبات، وكنت سعيدًا لأنني استطعت المساهمة بها، إلى أن أصبح برنامج مناورات العمليات جاهزًا. عرفنا بعد البحث والتدقيق أنّ قسمًا من محور عملياتنا ما زال خاليًا من العناصر،
 
 
 
 
324

310

كتيبة الإمام الحسين

 لذا تقرر إرسال مجموعة، وأنا من بينها، لتسوية أوضاع متراسين من متاريس العدو. في الوقت نفسه، ذهب "علي تشرتاب" مع بعض مسؤولي السرايا والعاملين في الكتائب إلى "شط علي" من أجل التعرف إلى الأوضاع هناك، حيث المكان الذي بدأت وحدة الاستطلاع العمل فيه منذ مدة. أُخبرتُ بعد عودتهم أن "كريم حرمتي" قد تحدث إليهم وطلب منهم إعادتي إلى الوحدة، وذلك بعد الحصول على موافقة المسؤول. لكنني كنت مصرًا على البقاء في الكتيبة التي أحبّ إلى حين بدء العمليات، ذلك لأنني تركت الوحدة من أجل هذا اليوم.


دار الحديث عن العمليات في كل مكان، وكان لساحة كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، عطر من نوع آخر. دُعينا في أحد الصباحات إلى القيام بالمراسم الصباحية المشتركة. استعدّينا وأخذت كل كتيبة مكانها. علا صوت المكبر، وانطلقت الكتائب بحركات منتظمة: استعداد، تراصف، استعدّ!

كان واضحًا أنّ شخصية بارزة تزور المكان. بدأ الخطيب كلمته بعد التدريبات البسيطة، سمعت عنصرين يقفان إلى جانبي يدردشان:
- يا إلهي من هذا؟ ولمَ جاء إلى هنا؟

أمعنت النظر فعرفته، كان الأخ "رحيم صفوي" قائد المشاة في الحرس الثوري. زاد قلق الإخوة وكثُرت دردشاتهم. متى جاء؟ ما الذي يريد قوله؟ أيعقل أن..

كان الجميع قلقًا من أن يكون سبب زيارة الأخ "صفوي" هو إخبارنا بإلغاء العمليات. كانت لحظات مليئة بالإثارة والقلق. بدأ الأخ "صفوي" كلمته، وأصوات بكاء الإخوة بدأت ترتفع تدريجيًا. صحيح أنه لم يصرّح
 
 
 
 
325

311

كتيبة الإمام الحسين

 بإلغاء العمليات إلا أنه يمكن التخمين أن شيئًا ما قد حدث. كثرت الشائعات وتعدّدت الأقوال، فكان كل واحد يتفوه بشيء ما. ربما كانت تلك الشائعات السبب وراء القيام بتحركات معيّنة تدلّ على قرب بدء العمليات في اليوم التالي، في محاولة لإخمادها. حتى إنّهم سلّموا الذخائر والعتاد لبعض العناصر. علت البسمة الشفاه عندما وصلت "عصبات الرؤوس"، كان من بين العصبات التي سُلّمت إلى كتيبتنا، ثلاث باللون الأخضر، فحاول الإخوة، ومنهم الأخ السيد "محمد وطني" الحصول على إحداها. لقد كُتبت عليها الكلمة التي يحبها السادة كثيرًا وهي كلمة "يا زهراء". علا صياح السيد "محمد" وقال: "أنا سيد، ويجب أن أحصل على عصبة خضراء.."


كان الجميع في حيرة، فمن جهة، كانوا متشوقين لبدء العمليات، ومن جهة أخرى متخوّفين من إلغائها. لم أشأ البحث والسؤال أكثر عن الأمر، وقد تعلمت من تجاربي السابقة وحدّثني قلبي عن إلغائها. اجتمعنا ذلك اليوم في محيط كتيبة (القاسم 36) للإستماع إلى كلمة قائد الفرقة الأخ "شريعتي". اعتقد بعضهم أنّ العمليات ستبدأ تلك الليلة، ولفّ العصبة على جبينه، لكن آخرين أمثالي ما زال القلق ينهشهم.

- أيّها الإخوة، لا يعني هذا الكلام إلغاء العمليّات، لكن تمّ تأجيلها لأسباب خاصة. إن شاء الله ستشاركون في العمليات بعد عودتكم من الإجازة.

علا بكاء الإخوة، أخذ بعضهم باللطم على الرأس والصدر، وآخرون مرّغوا رؤوسهم بالتراب وعلا نحيبهم. أيام مرّت ونحن ننتظر بدء العمليات،
 
 
 
 
326

312

كتيبة الإمام الحسين

 لكن في اللحظات الأخيرة التي توقعنا أن تكون خاتمة لانتظارنا، جاءنا نبأ تأجيلها. نزل الخبر كالصاعقة على القلوب التي خفقت بالشهادة. وقوطع خطاب الأخ "شريعتي" عدّة مرات بأصوات البكاء.


كانت الحافلات جاهزة لنقل القوات، جمعنا الخيم بسرعة وركبناها مباشرةً. تركنا "سرهنكيه" بغمّ وحزن، واتجهنا نحو "دزفول". وفي ثكنة الشهيد "باكري" حيث وصلنا، أُعطيت المأذونيات للجميع، باستثناء 10 عناصر تقرّر بقاؤهم في المكان، لتجهيز مسجد ومصلّى كتيبة "الإمام الحسين"، منهم: "أحمد يوسفي، إبراهيم علي نجاد، جلال زاهدي، علي أكبر بوزش، محمد سبزي"، أنا و..

جهّزنا مكانًا خاصًّا للصلاة. اجتمعنا وتبادلنا الآراء حول طريقة بنائه. تذكّرت حينها التجهيزات الموجودة في الفرقة فقلت للإخوة:
- لدينا في قسم التجهيزات أنابيب ضخمة.. إضافة إلى الخيم وأكياس الخيش.. يمكننا استخدام الأنابيب عوضًا عن الأعمدة، وتغطيتها بالخيم وأكياس الخيش.

لاقت الفكرة استحسانًا، فذهبنا إلى قسم التجهيزات للحصول على المواد المطلوبة.

في البداية وضعنا خيمة كبيرة في اتجاه القبلة. وبفضل الأنابيب الضخمة أصبح البناء متينًا للغاية. أحضرنا التراب والرمال وبنينا جدارًا من الأحجار بارتفاع مدماك واحد. استغرق بناء المسجد عدّة أيام، وأصبح لدينا مسجد كبير فريد، وانتشر خبرٌ مفاده أنّ سعر متر الأرض في كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" قد بلغ 20000 تومان!
 
 
 
 
 
327

313

كتيبة الإمام الحسين

 استقدم الأخ "سبزي" من قيادة الفرقة حافلة صغيرة "ميني باص". ثم استعدّينا جميعًا للعودة إلى مدينتنا.


اقترح الأخ "أحمد يوسفي" عند وصولنا إلى طهران أن ننفصل عن الإخوة ونذهب إلى "مشهد". لم آخذ كلامه على محمل الجدّ، لكنّه أصرّ على زيارة "الإمام الرضا عليه السلام" معي.

كنت متردّدًا، فمن جهة أريد الذهاب إلى مدينة "تبريز"، ومن جهة أخرى لم أستطع مقاومة نداء الشوق وصدّ إصرار "أحمد". وصلنا إلى مكان قريب من "كرج"، وعلم الإخوة بمخططنا، نظر الأخ "سبزي" إليّ وقال:
- لِمَ ترفضْ الذهاب مع كلّ هذا الإصرار؟

ثم أعطانا آلة التصوير التي يملكها كي نلتقط الصور هناك، وبعد أن قلدنا الإخوة الدعاء، ترجّلنا من الحافلة الصغيرة، وعدنا أدراجنا إلى "طهران". اشترينا من محطّة حافلات "خزانه" تذكرتي سفر إلى "مشهد المقدّسة" وانطلقنا. كنت قد زرت "الإمام الرضا" عليه السلام سابقًا، برفقة الأخ "محمد محمد بور، و"أحمد يوسفي" ثاني مقاتل يصطحبني للزيارة. لم أعرف حينها لأي غرض زار هذان الأخان الإمام الرضا عليه السلام. وماذا قالا حتى استجيبت دعوتاهما!1

وصلنا إلى مدينة مشهد منتصف الليل، واستأجرنا غرفة في نُزلٍ بالقرب من الحرم. لم نكد نضع أغراضنا في الغرفة، حتى قال "أحمد":
- هيا لنذهب إلى الزيارة!
 

1- استشهد محمد محمد بور في عمليات "والفجر 8"، وأحمد يوسفي في هجوم عمليات "نصر7" فوصلا إلى أمنيتهما.
 
 
 
328

314

كتيبة الإمام الحسين

 كان الوقت صباحًا، وصوت نفير "أبواق الحرم" تُحرك في الإنسان مشاعر الشوق والرهبة.


ظهرًا، عدنا إلى النُزل لتناول طعام الغداء. كان "أحمد" في حالة روحية مختلفة تمامًا. تناولنا ما يسدّ جوعنا ثم عدنا لزيارة الحرم مجدّدًا. تعلمت في تلك الليلة ولأول مرة آداب الزيارة من "أحمد"، حيث قال لي: من الأفضل أن نقرأ الدعاء في المكان المخصص له، الزيارة عند رأسه الشريف: أعلى الرأس، تحت الرأس ومقابل وجهه الشريف. رافقت أحمد تلك الليلة إلى الحرم، ومشاعر من نوع آخر تتلاطم في داخلي، وبقينا هناك حتى الصباح. دهشت لحالة أحمد العجيبة1، كلما نظرت إليه رأيته منشغلًا بالتوسل وعلامات الخشوع بادية على محياه، وقد بللت الدموع وجهه. كان أحمد طوال سبعة أيام سفر العشق هذا، في حالة عجيبة ولم يفارق فيها الحرم. سعى للقيام بجميع الأعمال على نحوٍ أفضل. صار قليل الطعام، قليل النوم، وقد تغيرت تصرفاته، كان يجلس ساعات طوالًا في الحرم منكبًّا على تلاوة القرآن الكريم والنحيب. كنت أراقبه عن كثب، فأرى كيف يتضرع لـلإمام ويطلب حاجته بكل تواضع وأمل، وإخلاص وأدب. زرنا خلال فترة إقامتنا في مدينة مشهد المقدسة أماكن أخرى، مثل مقامي "خواجه ربيع وخواجه مراد". رأيت هدوء أحمد التام عندما ذهبنا في اليوم السابع للزيارة الوداعية لحرم الإمام الرضا عليه السلام، فـأيقنت أنه وصل إلى مراده.
 
 

1- حينها كان عدد من الزوار نائمين في أروقة الحرم، وبعضهم قد حطّ رحاله للاستراحة.
 
 
 
329

315

ملكوت الفصيل الأول

 ملكوت الفصيل الأول


خريف 1985م
بعد زيارة مشهد، طار الحنينُ بالقلب ورفاقه إلى الفرقة. وغاصَ الإدراكُ العشريني إلى ضرورة المبادرات المسؤولة.

ولكن أين انتهت المحاولات والدراسات لتشخيص المكان الأنسب للخدمة؟
 
 
 
 
 
331

316

ملكوت الفصيل الأول

 1


التقيت "أحمد" بعد ثلاثة أيام من عودتنا، فقال لي: "هيا لنعُد إلى الفرقة".

اشترينا تذاكر السفر وانطلقنا بالقطار مع "علي أكبر بوزش بذير"، قاصدين ثكنة الشهيد "باكري". شاركنا المقصورة رجلٌ كبيرٌ في السن، اندهش كثيرًا لرؤيتنا، ولم يصدّق أنّنا قضينا عدّة سنوات في جبهات القتال، وأنّنا شاركنا في أكثر من معركة، وجرحنا عدّة مرّات. تأثّر كثيرًا بالذكريات والخواطر التي كان أحمد يسردها علينا. أسرّ "علي أكبر" في أذني وقال: "يبدو أنّ في جعبة "أحمد" الكثير من الذكريات يا "مهدي"، حاول أن تدفعه للكلام طوال الطريق بينما أقوم بتسجيل صوته".

ترجّلنا من القطار في "أنديمشك". توجّهنا إلى "دزفول"، ودفعنا 5 تومانات فقط للوصول إلى ثكنة الشهيد "باكري". كنّا نظنّ أن لا أحد في الثكنة خاصة أنّ إجازات الإخوة لم تكن قد انتهت. لكنّنا أخطأنا الظن، فقد التقينا هناك بـ "جلال زاهدي وإبراهيم علي نجاد" اللذين فرّا من المدينة ووصلا قبلنا.

حلّ فصل الخريف، لكنّ طقس الجنوب بقي حارًّا. كنّا ننام في مخزن التموين التابع لكتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" ليلًا، حيث كان الهواء أكثر برودة. كان قد افتُتح حديثًا حمامٌ1 بالقرب من الكتيبة، وبما
 

1- مكان يستخدم للاستحمام فقط وتوجد فيه أيضًا خدمات أخرى كالتدليك وإزالة الشعر و.. كان مشهورًا في المدن والقرى وكذلك في الجبهة.
 
 
 
332

317

ملكوت الفصيل الأول

 أنّ أحدًا من العناصر لم يكن قد عاد من إجازته، استغلّيت سكون الثكنة وحمّامها أفضل استغلال. أيقظني "جلال" الساعة الرابعة صباحًا وقال لي: انهض لنذهب إلى الحمام!


فتح "أحمد" في المرّة الأولى صنبور المياه الساخنة وملأ الحوض ثم جلس فيه، وكذا فعلت أنا. كان الأمر ممتعًا للغاية. استمتعنا ببرنامج الحمام الصباحي ما قبل أذان الصبح لثلاثة أيام قبل وصول الكتائب، لكنّنا مرضنا بشدة. لحسن الحظ وصل الحاج"بيوك جباريان"1 وجهّز لنا حساءً لذيذًا.

كانت تلك الأيام فرصة لأتعرّف أكثر إلى "جلال"، الذي كنت قد التقيته وتعرّفت إليه بشكل سطحي في مسجد "آية الله شهيدي"، لكن صداقتنا تعمقت هنا أكثر فأكثر. بعد أن بدأت طلائع القوّات بالوصول، عادت الحيوية إلى كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". أعيد تنظيم وهيكلة القوّات التي وزّعت على الفصائل. أُلحقتُ هذه المرّة بـ (السرية 3). ووصلت الأوامر بضرورة التحاق (السرية 1) بكتيبة "سيّد الشهداء". وتزامن هذا الأمر مع شيوع مرض خفيّ وغريب بين العناصر!

كان للمسؤولين أسبابهم الوجيهة في انتقال وتبديل القوّات. فأغلب عناصر كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" كانوا من قوات النخبة المجرّبة، ونقل فصيل واحد من هذه الكتيبة إلى كتيبة "سيّد الشهداء"
 

1- أصبح الحاج بيوك جباريان بعد حادثة شطّ علي مسؤول دعم تموين كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وعُرف بين الإخوة بـ "تختة (لوح) بيوك آغا". تعرض لمحاولة إغتيال خريف عام 1981م على يد المنافقين حيث أصيب بـ 8 طلقات. وبعد تلك الحادثة نحل جسمه بشكل كبير؛ ولذا السبب عرف بين الإخوة ب "تخته بيوك".
 
 
 
333

318

ملكوت الفصيل الأول

 يقوّي الكتيبة من جهة، ولا تبقى كلّ تلك الخبرات والمهارات من دون فائدة وجدوى من جهة أخرى. كان الإخوة يدركون تلك الأسباب تمامًا، وبسبب محبّتهم الكبيرة لكتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". كانوا يلجأون إلى وسائل متعدّدة لصرف النظر عن نقلهم. فشاع مرضٌ معدٍ من أهم علائمه: "الانحطاط البدني". وقد وصل الأمر لدرجة شيوع مقولة بين عناصر كتيبة سيّد الشهداء، مفادها أنّ عناصر كتيبة الإمام الحسين عليه السلام مبتلون بالكسل والتهاون، لذا يُنقلون إلى كتيبتنا. بالغ بعضهم في التمارض ما حدا بالمسؤولين إلى إعادتهم إلى كتيبتهم، وحُلّت المسألة مع الوقت. تولّى معظم العناصر المنتقلين، قيادة فصائل وسرايا الكتيبة. في خضمّ ذلك، ظهر "صاحبي في الغار" وهو "حسين محمديان". سُررت لرؤيته كثيرًا، لكنّه كان قد جاء لأمر محدّد.


- ألم يحن الوقت يا "مهدي قلي" لعودتك إلى الوحدة؟

كان يعبّر في كلامه عن أمنيتي القلبيّة، لكنّني أصررت بعناد على موقفي.

- ما دام هناك فلن أعود أبدًا.

لم يتراجع "حسين" بسهولة وقال إنّ تكليفي هو العودة إلى الوحدة. كان شيئًا يغلي في داخلي ويقول:
"سأعود سأعود!"، وبقيت معاندًا. كلّما أصرّ "حسين" على ذلك، زاد عنادي. لم يفاتحني "حسين" بأمر إجازة نقلي إلى الوحدة، التي حصل عليها من الأخ "كريم فتحي".

عاد "حسين" من دوني، لكن خلال فترة إقامته في كتيبة "الإمام
 
 
 
334

319

ملكوت الفصيل الأول

 الحسين عليه السلام"، اختار بنظرته الثاقبة ثلاثة من العناصر لضمّهم إلى وحدة الاستطلاع هم: "حسين طيار، رسول رضا زاده ومحمد رضا بالود"1. لم يُفلح في نقل "محمد رضا"، فاكتفى باصطحاب كلّ من رسول وحسن اللذين عملا في فريقه.


هزّت زيارة حسين إلى الكتيبة كياني، وكأنّ صوتًا في داخلي كان يقول: "أينما ذهبت، فإنّ مصيرك في النهاية هو العودة إلى وحدة الاستطلاع، وإنّ نصيبك من هذه الحرب هو هذه الوحدة". كنت أحدّث نفسي بهذه الأمور، لكنّني كنت أؤمن أيضًا أنّ لوجودي في كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" مصلحة ما.

استوجب انتقالي من كتيبتنا إلى كتيبة "سيّد الشهداء" إعادة الهيكليّة والتنظيم على مستوى الكتيبة ككلّ، فدُمج ما تبقّى من عناصر (السرية 1) بسريّتنا، وتغيّرت هيكليّة السرايا أيضًا بشكل كبير. في تلك الأثناء ناداني الأخ "تشرتاب" وقال: "ينوي الأخ 'زارع بور' تقديم امتحانات السنة الرابعة. ولا أحد يحلّ مكانه في (الفصيل 1)، لذا اذهب إلى خيمتهم لأرى ما يمكنني فعله".

قبلتُ ذلك مع أنّه مخالف للعهد الذي كنت قد قطعته على نفسي أوائل التحاقي بالكتيبة، وكلّي أملٌ أن أكون فعّالًا خلال مدّة حضوري فيها. وفكّرت أنه وربّما سنحت لي الفرصة لأتّخذ قرارًا جادًّا بين عودتي إلى وحدة الاستطلاع أو بقائي في الكتيبة.
 

1- استشهد محمد رضا في خط دفاع تشلمثة.
 
 
 
335

320

ملكوت الفصيل الأول

 2


من العناصر الذين أُلحقوا بـ (الفصيل 1) بعد التشكيلات الأخيرة: "محمود أغنده، إبراهيم آسايش، جليل حاجي نوري وصمد صالح نيا". ومن العناصر القدامى في الفصيل: "مسعود فرزاميان، حسين قوجايي، بدرام شاكري، رضا بدري، علي زين العابدين زاده، حبيب شيري، إبراهيم علي بور وأيوب رضائي". كانت تجمعني بأغلب عناصر (الفصيل 1) معرفةٌ سابقة، فرحّبوا بي ترحيبًا حارًّا، وصادقتهم بسرعة.

أوّل عمل قمنا به هو نصبُ خيمتين متلاصقتين. فرشنا أرضهما بالموكيت والبطانيّات، وجعلنا عند مدخلهما ما يشبه الغرفتين نستخدمهما لحفظ أحذيتنا من البلل أثناء المطر، وخزن وسائلنا غير الضروريّة. ومن المهام الأخرى للغرفتين، الحدّ من تسرّب الرياح والبرد إلى الخيمتين. سُرعان ما لَفَتَ فصيلُنا الأنظارَ إليه حيث كانت علاقة الإخوة بعضهم ببعض طيّبة، وشعرت مع مرور الأيام أنّ أمر وجودي في تلك الكتيبة تدبير إلهي.

توطّدت علاقتي بـ"أيوب رضائي". كان الشباب هناك يتمتعون بخصال جذبتني إليهم. فـ"بدرام شاكري" الذي لم يتجاوز الـ16 عامًا من العمر، تبدّلت شقاوته إلى بطولات وشجاعة في المعارك، وكان يبثّ بسنّه الصغير وسلوكه الروحيّةَ بين جميع أفراد الفصيل. كما كان "رضا بدري" صاحب شخصيّة متميّزة، لكنّه لم يسلم من مضايقات "بدرام" له، فقد كانت المرّة الأولى التي يأتي فيها "رضا" إلى الجبهة، وكان
 
 
 
 
 
336

321

ملكوت الفصيل الأول

 "بدرام" يردّد على مسامعه: "ما زلتَ طفلًا تنبعث رائحة الحليب من فمك". لذا ترك الجبهة ورجع إلى المدينة، ليعود ثانية، ويتمكّن من القول بأنّه متطوّع للمرة الثانية.


في الأيام الأولى لوجودي في (الفصيل 1) التحق بنا ثلاثة عناصر جددٍ قادمين من كتيبة "سيّد الشهداء" عندما رأيتهم خرجت بسرعة من الخيمة وذهبت مباشرة إلى الأخ "تشرتاب" في خندق القيادة وقلت له: "لو سمحت أرسل العناصر الثلاثة الجدد إلى فصيل آخر فهم لا يتناسبون لا معي ولا مع أفراد الفصيل". لكنّ الأخ "تشرتاب" ردّ عليّ بجواب منطقي:
- حتى الآن لا تعرف عنهم شيئًا، دعهم عندك لنرى ما لديهم.

عدتُ إلى الخيمة، ورأيت العناصر الثلاثة جالسين داخلها، الأوّل كان سمينًا، والثاني نحيلًا يعرج من قدمه، والثالث لم يكن قد بلغ الحلم بعد. ظننتُ أنّهم ضيوفٌ ليومين أو ثلاثة، وأنّ الأخ "تشرتاب" سينقلهم إلى فصيل آخر ما إن يقتنع بأنّهم لا ينتمون إلينا.

مضى يومان على وجودهم ولم يحدث أي أمرٍ يُذكر. كان الرجل السمين الذّي عرّف عن نفسه بأنّه "إبراهيم خليل خطيبي" قليل الكلام. ظننت أنّه ربّما يعاني من مشكلة ما، أو أنّه منزعج من وجوده معنا. جازفت وقلت له:
- حفظك الله يا حاج، لِمَ لا تتحدّث إلينا؟ يجب أن نستمدّ منك المعنويات.. هؤلاء الشباب..

- ليرحم الله أجداد وآباء هؤلاء الشباب.
 
 
 
 
 
337

322

ملكوت الفصيل الأول

 كأنّه كان في عزاء، كنت أتوقّع أي كلام منه عدا هذا..!


ضبط الإخوة أنفسهم، ولحفظ الأدب كتموا ضحكاتهم. منذ ذلك اليوم بدأت تنهال كلمات "إبراهيم خليل" القصار علينا، ولم يعد أحد قادرًا على منع نفسه من الضحك. ما أن يتفوه "إبراهيم" ببضع كلمات حتى تنفجر الأفواه ضحكًا. في عصر أحد الأيام، كان الحاج "إبراهيم" واقفًا أمام الخيمة، وكنتُ أفكّر أنّ خلف هذا الوجه المرح أمورًا خفيّة. فكّرت بالوسيلة التي أستطيع من خلالها أن أنتزع الكلام منه، عن سبب قدومه إلى الجبهة، فقطع صوت الحاج "إبراهيم" حبل تفكيري:
- سامحني يا أخي!

- لكن ماذا فعلت لي لأسامحك؟

كان ذلك صوت الأخ "سبزي" معاون سريّتنا، الذي كان مارًّا بالقرب من الخيمة. فقال "إبراهيم خليل" ثانية:
- عليك أن تسامحني.

أصبح الأمر جديًّا، وزاد فضولنا لنعرف ماذا يدور بين هذا العنصر الجديد والمعاون، ولِمَ يلّح عليه بطلب المسامحة؟

قال الأخ "سبزي":
- لكن لا أدري إن كنت قد أسأت إليّ على ماذا تريدني أن أسامحك؟

بالطبع اتضح الأمر بعد جواب "إبراهيم خليل" الذي جعل الإخوة ينفجرون من الضحك:
- لا شيء، لطالما اعتقدت أنّك إنسان طيّب وعاقل، لكنّني
 
 
 
 
338

323

ملكوت الفصيل الأول

 اكتشفت كم كنتُ مخطئًا!


لا فرق عند "إبراهيم خليل" بين الكبير والصغير أو بين العنصر العادي والمسؤول، الجميع عنده سواسية. سرعان ما ذاع صيت سلوكه وأخلاقه بين الفصائل والسرايا، وكان يُدعى كلّ يوم ليحلّ ضيفًا عزيزًا في إحدى الخيم. وصرنا نأمل بقاءه ولو ليوم واحدٍ في خيمتنا.

أصبح فصيلنا مع انضمام الإخوة الثلاثة الجدد إلينا، متكاملًا من جميع الجوانب، المزاح والطرائف والروحية العالية. كان "عبد الله" الشاب النحيل المنضمّ حديثًا، جريحًا سببت إصابته عرجًا في إحدى قدميه فكان نموذجًا للمقاتل المسلم الملتزم والمؤمن، وقد طغى الجانب العبادي على مختلف جوانب حياته، وكان يفيض بهذه الروحيّة في صمته وكلامه، فيذكّر الإنسان بخالقه. لطالما اعتقدت أنّ ملامح "مش عبد الله"1 النورانيّة النقيّة قد زادت من رونق وسُمعة الفصيل الطيّبة. كان حقًا "عبد الله"!...

كان من القلائل الذين يؤدّون جميع العبادات والأعمال المستحبّة، وقد امتزجت حياته بالدعاء والتوسّل، فيشارك في جميع المراسم العباديّة الجماعيّة للكتيبة. ويعود له الفضل في إقامة العديد منها. كنّا قد ابتكرنا للكتيبة برميلًا نستخدمه بدل "السماور" لتحضير الشاي، وعندما كنّا نفتقد "عبد الله" في المراسم نجده قابعًا أمام السماور (البرميل) وقطرات العرق تلمع على جبينه الشامخ والنوراني.
 

4- "مش" مخفف مشهدي أي الذي تشرّف بزيارة "مشهد الإمام الرضا عليه السلام" كما يقال "حاج" لمن حج بيت الله الحرام.
 
 
 
339

324

ملكوت الفصيل الأول

 اضطررنا بسبب تزايد عديد عناصر الفصيل، إلى نصب خيمة ثالثة لإيواء 8 عناصر فيها ليلًا. كان الإخوة يصلّون صلاة الليل يوميًّا، وتقرّر أن يُوقظنا أول المستيقظين للصلاة. كان الحاج "إبراهيم خليل" يستيقظ بصعوبة بينما لا يستيقظ "بدرام" أبدًا. فكنّا نستيقظ ونتحضّر جميعًا للصلاة ونقف بانتظار عجوز الفصيل، لنرى كيف سيستيقظ هذه الليلة وكيف سيتصرّف. ناداه أحد الإخوة في إحدى الليالي عدّة مرّات، فاستيقظ بصعوبة. مكث قليلًا ثم ضمّ إليه الشخص الذي أيقظه وقبّله. نهض بعدها واتّجه نحو آخر الخيمة محاولًا فتح بابها بأيّ شكل من الأشكال، لكنّه عجز عن ذلك، إذ إنّ الباب في الاتّجاه المعاكس تمامًا، وكان الحاج إبراهيم خليل ما زال مثقلًا بالنعاس لا يعي ما يفعل، فأثار المشهد ضحك الإخوة. ذهبت إليه، أمسكت بيده وسرت به نحو باب الخيمة. عندما سألته عن الأمر في الصباح، قال: "كنت أحاول ركوب سيارة الأجرة، لكنني عبثًا حاولت فتح بابها، لولاك لبقيت هناك!


كان "بدرام شاكري" أستاذًا في الشقاوة وزَرع الفوضى، ومن القلائل الذين لا يستيقظون لصلاة الليل. فكّرت في إحدى الليالي أنّه حان الوقت لمعاكسته قليلًا، فقلت لرضا بدري:
- لقد طلب "بدرام" أن نوقظه لصلاة الليل، هيا اذهب وأيقظه.

ذهب رضا إليه:
- بدرام.. بدرام!
 
 
 
 
 
340

325

ملكوت الفصيل الأول

 كان نوم "بدرام" أعمق من أن يستيقظ بعدّة نداءات، لذا اجتمع الإخوة، وراحوا ينادونه ويهزونه:

- هيا انهض يا بدرام..

استيقظ "بدرام" أخيرًا:
- ماذا حدث؟ ما بكم؟..

- انهض، ألا تريد أن تصلّي صلاة الليل؟
كان مشهد "بدرام" الغاضب مثيرًا جدًا.

- أنا؟ اللعنة عليّ إن قلت إنّني أريد أن أصلّي صلاة الليل؟

لحسن الحظ أنّه لم ينتبه، بسبب نومه الثقيل، للشخص الذي كان يحاول إيقاظه، وإلّا لانتقم منه في الصباح شرّ انتقام.

تعمّقت أواصر الصداقة بين أفراد الفصيل، وأصبحوا على علم بخفايا بعضهم بعضًا. تضاعفت مشاعر الصداقة والعاطفة لديّ، مع شعوري بالمسؤولية تجاههم، لذا صرت أقوم بأعمال لم أكن لأقوم بها من قبل. مع أنّ في خيمتنا أشخاصًا مسنّين، إلّا أنّني كنت أشعر بالأبوّة نحو الجميع. أصبح الطقس أكثر برودة، وخاصّة في الليل، ولم أكن لأنام قبل أن أطمئنّ على جميع العناصر، فأجول عليهم وأدثّرهم جيدًا. كنت أملك ثلاث بطانيّات وأضعها أحيانًا عليهم. خصّصت إحداها للحاج "إبراهيم خليل" ظنًا مني أنّه وبسبب كبر سنّه سيشعر بالبرد أكثر من غيره. شعرت في تلك اللحظات أنّني نضجت وكبرت، وأصبحت أدرك الكثير من الأمور التي لم أكن لأدركها وأفهمها من قبل. كنت أرغب أن أقدّم كلّ ما أملك لعناصر الفصيل، وأنظر لكلّ منهم على أنّه عبد من عباد الله المخلصين، فأشعر بالخجل لأنّني مسؤول عنهم، وأحددّ لهم المهام والوظائف.

أحيانًا كنّا ندعو الكتائب الأخرى لتناول طعام الفطور في كتيبتنا.
 
 
 
 
341

326

ملكوت الفصيل الأول

 وكان هذا من البرامج الجماعيّة المؤثّرة في بثّ روح التعاون والألفة بين أفراد القوات. كان لتناول فطور الوحدة في بيئة ملؤها الصفاء والقربى، ذكريات لا تُمحى عند الجميع. عناصر فصيلنا خاصّة "محمود آغنده، مش عبد الله والحاج خليل خطيبي"، كانوا يقومون بمعظم الأعمال. وكنت أساهم معهم في ذلك لنيل شرف خدمة مجاهدي الإسلام. لقد وثَّقَت تلك البرامج أواصر المحبّة والألفة بيننا.


أجمعنا الرأي في الفصيل على استضافة جميع عناصر الكتيبة على مائدة الفطور، على أن ندعوهم فصيلًا فصيلًا إلى خيمتنا. وهذا ما فعلناه. أدّت تلك البرامج إلى خلق أجواء المحبة بين جميع قوّات وأقسام الكتيبة، إلى درجة أننا أصبحنا نعرف بعضنا بعضًا عن قرب، وتوثّقت بيننا روابط التآخي والصداقة.

في أحد الأيام، كان الإخوة في قيادة الكتيبة مدعوّين للعشاء في خيمتنا، اقترحتُ بعد العشاء أن نتعرّف إلى بعضنا بشكل أفضل، فيقوم كلّ واحد بالتعريف عن نفسه. بدأ قائد كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" الأخ "السيد حسن شكوري"، ثم تلاه "محمد تجلائي"ومن ثمّ معاون الكتيبة "محمد بالابور"، إلى أن وصل دور "إبراهيم خليل"، الذي كان هادئًا صامتًا حتى تلك اللحظة. فجأةً قال بصوت مرتفع، سريع وكأنّه رشقات الرشاش: "السلام عليكم، وبسم الله الرحمن الرحيم، أنا الحاج 'إبراهيم خليل خطيبي' الآذري المارالاني التبريزي الأصل ..". فانقلبت أجواء الخيمة رأسًا على عقب!
 
 
 
 
342

327

ملكوت الفصيل الأول

 دخل مرّةً الحاج "إبراهيم خليل" بوجه عابسٍ متجهّمٍ إلى الخيمة. كانت تلك المرة الأولى التي أراه فيها على هذه الحال:

- ما الأمر يا حاج لِمَ أنت منزعج؟
- هكذا، لقد ضايقني شيخكم!

تعجّبت من كلامه. كان يقصد "الحاج أبو فلاح"، وكان من المجاهدين العراقيّين العاملين في فرقة "عاشوراء"، فسألته:
- لكن ما الذي قاله لك؟

أجاب:
- يقول إنّ من يُضحِك القوم مصيره إلى جهنم! أيعني هذا أنّ مكاني في جهنم؟

لم أستطع قول شيء وحبستُ الضحكةَ في داخلي. حاولتُ أن أغيّر موضوع الحديث، وحدث أن كان السيد "محمد وطني" قد ملأ زجاجة عطر فارغة بالشاي وأهداها للحاج "إبراهيم خليل" ذلك اليوم، فتحدّثنا عن تلك الهدية التي فرح بها كثيرًا، وكان يتباهى:
- انظروا ماذا أهداني ابن بلدتي؟ تعلّموا منه..

لكنه شعر بخيبة كبيرة عندما أخبره "أيوب رضائي" ضاحكًا:
- ما بك يا "حاج خليل" إنها زجاجة من الشاي فحسب..

كانت رؤية ملامح الحاج إبراهيم بتلك الحال مثيرة للضحك، حيث قبع في إحدى الزوايا من دون أن ينبس ببنت شفة، أحد حاجبيه محملقًا بـ "أيوب رضائي"، فعلًا كان المشهد مضحكًا. لكن لم يعد يتفاعل معنا مهما حدّثناه وسألناه، وكأنّه ليس "الحاج إبراهيم خليل" الذي عرفناه،
 
 
 
 
343

328

ملكوت الفصيل الأول

 والذي لا يترك شاردة ولا واردة من دون جواب!


حاولتُ أن أُخرجه عن صمته فقلتُ له:
- تفضّل يا حاج ..

فجأة، قال بصوت مرتفع وقاطع، كأنّه اعتلى المنبر لتأنيبنا:
- أنتم تخونون دماء "سيد الشهداء" ..

انهالت مع كلماته تلك ضحكات الإخوة كرشقات الرشاش، كاسرة صمت الخيمة دفعة واحدة. كانت رؤية "الحاج إبراهيم خليل" طوال مدة وجوده معنا مرادفة للفرح والنشاط، حتى وإن كان منزعجًا ومتجهمًا. وجدت أن لا صلاح في بقائه على تلك الحال، فتحدّثت إليه وسألته:
- لكن ماذا حدث لتنزعج إلى هذا الدرجة؟

- أتسأل ماذا حدث؟ ألم تسمع ما قاله شيخكم إنّ من يضحك الناس مثواه جهنم، وماذا عن هديتكم هذه ..

- لكن يا حاج ربما كان لكلام الحاج "أبو فلاح" توضيح وتتمة ما، لِمَ لا تذهب إليه حالًا وتستوضح الأمر؟

انطلق إليه بناءً على طلبي، حتى قبل تناول الغداء. عاد بعد مدة بوجه باسم بشوش، فعلمت أنّ مسألة ذهابه إلى جهنم قد حلّت.

- ما الأمر يا حاج خليل؟

- ذهبت إليه وقلت له: لقد قلت يا مولانا إنّ من يضحك الآخرين مثواه جهنم.. الإخوة يضحكون لكلامي. فهل يعني هذا أنّه سيُلقى بي في النار؟ سألني "أبو فلاح": لكن ما الذي تقوله ليضحكوا؟ ذكرت له بعضًا ممّا أقول، فما كان منه إلّا أن استلقى دفعة واحدة
 
 
 
 
344

329

ملكوت الفصيل الأول

 على الأرض وأسند قدميه إلى جدار الخيمة وانفجر بالضحك.. قال لي بعدها: لا إشكال بهذا النوع من الكلام!


أصبح "الحاج إبراهيم" بعد حصوله على "الإجازة والإذن"، يتنقل باطمئنان وثقة أكبر بين خيم الإخوة، وكان قد دخل قلوبهم قبل خيمهم. عندما عرفتُ بعض الأمور عن حياته، أصبحت أغبطه على صموده وتفانيه في سبيل الحق.

للحاج "إبراهيم خليل خطيبي" خمسة أبناء، وقد شارك قبل بدء الحرب، في المعارك التي حدثت في "كردستان"، بالرغم من أوضاعه المعيشية الصعبة، قاتل مدة من الزمن مع قوات "الشهيد شمران" الفدائية، وبعد عودته إلى مدينته في إجازة، أخبره والده أنّه لم يعد قادرًا على العناية بزوجته وأولاده، وعليه أن يتدبّر أمرهم بنفسه، فقال له الحاج "خليل" إنّه غير مستعدّ لترك الجبهة. لذا اصطحب عائلته معه إلى "الأهواز" وأسكنهم هناك. لكنّه في النهاية أصغى إلى نصائح "علي الأكبر رهبري"1 الذي قال له إنّه لا يجوز ترك العائلة على تلك الحال، وإنّ عليه تهيئة منزل مناسب لهم، ومن ثم العودة إلى الجبهة. عاد "إبراهيم خليل" مع عائلته إلى "تبريز" وعمل ليلًا نهارًا، حتى استطاع شراء منزل مناسب لهم، ثمّ عاد إلى الجبهة.

جعلني حضوري في (الفصيل 1) أصرف النظر نهائيًّا عن العودة إلى وحدة الاستطلاع، إلى أن جاء في يوم الأخ "تشرتاب"، واصطحبني
 

1- استشهد علي الأكبر رهبري قبل عمليات بدر وكان حينها يقود كتيبة سيد الشهداء في جزيرة مجنون.
 
 
 
345

330

ملكوت الفصيل الأول

 إلى خيمة مسؤول السريّة، ومن هناك إلى مقر الوحدة في القاعدة الجويّة في "الأهواز". علمت هناك أنّ "حسين محمديان" قد جرح في إحدى عمليّات الاستطلاع. تحدّث إليّ الأخ "محمد مهدي" كثيرًا وأقنعني بالعودة. استلمت رسالة الانتقال من الأخ "فتحي" وعدت إلى "دزفول". لكنّني لم أخبر أيًّا من الإخوة بأمر انتقالي، عدت مباشرة إلى خيمة (الفصيل 1) وبقيت فيها.


بعد يومين تقريبًا، ناداني الأخ "سبزي" وقال: "اذهب واجمع أغراضك يا 'مهدي' واذهب إلى خيمة السريّة".

خفق قلبي بشدّة، لقد تعلّقت بالفصيل وكان صعبًا عليّ الانفصال عنه، فقلت بكلّ صراحة وجرأة للأخ "سبزي":
- يا سيد محمد لن أغادر الفصيل إلى أي مكان.

كرّر الأخ "سبزي" كلامه بكلّ رويّة وهدوء، وبأشكال وأساليب مختلفة، إلى أن جمعت أغراضي، وانتقلت إلى خيمة السريّة من دون أن أخبر الإخوة بشيء، وعُيّن السيد "محمد وطني" مسؤولًا (للفصيل 1) مباشرة.

فرحت لأنّني تخلّصت من قيادة الفصيل، إلّا أنّني كنت أرغب في أن أكون عنصرًا عاديًّا فحسب. لكنّ رغبة قائد الكتيبة بعكس رغبتي تمامًا، كان يقول لي: "أريدك لأمر آخر..!". عندما أيقنت أنّ الانفصال عن الفصيل أصبح واقعًا لا مفرّ منه، فكّرت في العودة إلى الوحدة مجدّدًا، أو على الأقل ترك هذه الكتيبة. حظيتُ بمكانة مميزة عند قائد الكتيبة، وكنت أنتظر الفرصة المناسبة لأعطيه رسالة أطلب فيها الانتقال. وقد
 
 
 
 
 
346

331

ملكوت الفصيل الأول

 أخرجتُ فكرة العودة إلى (الفصيل 1) كليًا من ذهني، لأنّني كنت كلما فكرت في الأمر وجدت أنّ الوحدة بحاجة إليّ أكثر من أي مكان آخر.


وقد سنحت تلك الفرصة عندما بعث الأخ "سبزي" برسالة طلب منّي أن أجمع أغراضي وأنتقل إلى خيمة الكتيبة، فذهبت.

- اجمع أغراضك وتعال إلى خيمتنا.

كان "محمود آغنده" على علم بتغيّر مكان عملي فقال:

- لقد شملك الله بعنايته بشكل كبير، يوم في الفصيل وآخر في السرية وثالث في الكتيبة1!

لم أكن حتى تلك اللحظة قد أخبرت أحدًا بما يجرى معي في "الأهواز". تجرّأت وقلت:
- يا أخ "سبزي"، وجودي في (الفصيل 1) جيّد.

- كلا، فقد قررنا تشكيل مجموعة استطلاع خاصة بالكتيبة، ويمكنك أن تساعدنا في بعض الأعمال بصفتك مسؤول استطلاع الكتيبة، كما نحتاجك لإرشاد وتوجيه القوّات في منطقة العمليّات.

تذكّرت اليوم الذي خرجت فيه بانزعاج من وحدة الاستطلاع. كنت حينها أتوقّع منه أذنًا صاغية، لكنّه واجهني بعدم اكتراث، واستمر في التعامل معي بهذه الطريقة حتى الأيام الأخيرة. 

فقلت له:
- لو سمحت يا أخ "سبزي"، وقّع على طلب انتقالي إلى الوحدة فأنا أريد العودة إلى هناك.
 

1- كناية عن أنك تطورت واجتزت المراحل بهذه السهولة.
 
 
 
 
347

332

ملكوت الفصيل الأول

 انزعج من كلامي كثيرًا. من الواضح أنّه كان يعتمد عليّ للقيام ببعض الأعمال:

- لا ضرورة للعودة إلى الوحدة.

ناولته رسالة الأخ "فتحي" وفيها طلب انتقالي، فأخذها ومزّقها، لكنّني لم أستسلم. كنت واثقًا من أنّ واجبي في تلك الظروف يحتّم علي العودة إلى الوحدة بأسرع وقت ممكن، فقلت له:
- لقد جرح عدد من الإخوة في وحدة الاستطلاع، وتكليفنا يقضي أن ألتحق بها، وسيكون لوجودي فيها فائدة لكتيبتك ولجميع القوات.

عندها، ضمّني إليه وقبّلني. علمت أنّه راضٍ عن انتقالي:
- سامحني يا سيّد "مهدي".

- لماذا؟

- كنت أفكّر بك بطريقة مختلفة. فقد أخبروني أنّهم طردوك من الوحدة.

- لا يهم، فقد عاهدت نفسي أن أكون عنصرًا عاديًا عندما انضممت إلى كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، وهكذا كنت.

ارتاح بالي عندما علمت سبب معاملة الأخ "سبزي" لي بفتور في الأيام الأولى لوجودي معهم. كان الوحيد الذي ودّعته من الكتيبة، وكنت أعلم أنّ الإخوة سيحزنون لرحيلي بمقدار حزني أنا على فراقهم.
 
 
 
 
 
348

333

الغوّاصون

 الغوّاصون


أواخر العام 1985م وأوائل 86م
رغم التنقّلات كان للرجوع إلى وحدة الاستطلاع أثرُ التجدّد.

انطلقت التدريبات المتطورة كمًّا ونوعًا. وتبلورت مهارةُ حلّ المشكلات.

من نهر "كارون" إلى نهر "أروند"، لم تختلف طبيعة الجغرافيا وحسب، بل الهمة والمسؤوليات أيضًا.

أسئلة محيّرة ومخططات لعبور "أروند".

ولكن كيف سيمضي الغوّاصون من دون "حسين محمديان"؟
 
 
 
 
349

334

الغوّاصون

 1


وصلت بسرعة إلى القاعدة الجويّة في "الأهواز" حيث مقرّ وحدة الاستطلاع. ما إن رآني "كريم حرمتي" حتى تقدّم منّي مبتهجًا وذهب مباشرة بعد السلام والتحيّة إلى "كريم فتحي" ليخبره بنبأ وصولي. في تلك الظروف، كان لانضمام أي عنصرٍ إلى الوحدة أثره البالغ. كنت أعلم أنّ "حسين" كان يستطلع منطقة "الهور العظيم" قبل أن يصاب بجروح، وكنتُ أظنّ أنّ العمل ما زال مستمرًا في تلك الناحية. وكانت مجموعة أخرى تستطلع المنطقة الغربيّة. قبل أن يتفوه كريم حرمتي بأيّ شيء يخصّ موضوع مهمّتي، اقترحت عليه أن أعمل في فريق "حسين محمديان". لكنّه قال لي: "لا تفكّر بذلك، فهناك عمل أهم، نحن بحاجة إليك في محورنا". لم أعترض أو أقل شيئًا، وتقرّر أن أعمل في المحور الذي يتولّى هو مسؤوليّته.

استقرّت قوات كتيبَتَيْ "سيد الشهداء وعلي الأصغر" على قسم من ضفة نهر "كارون" للتدرّب على الغوص. قال لي الأخ حرمتي:
- مسؤوليّتنا هي تدريب غواصي كتيبة "سيد الشهداء"، ومهمّتك تدريب إحدى سراياها!

- لكنّني لست مؤهّلًا لتدريب هذا المستوى من الغوص.

تلقّيت دورة مكثّفة متقدمة في الغوص على مدى ثلاثة أيام، تدرّبت خلالها على الحركة بالزعانف وأدوات الغوص الأخرى، كما تدرّبت على إدارة حركة الرتل وحركة السريّة، وأيضًا على كيفيّة نشر وتوزيع القوات
 
 
 
 
350

335

الغوّاصون

 وإطلاق النار تحت الماء، إلى أن أصبحت ماهرًا فيها، وصرت على أتمّ الاستعداد لتدريب غواصي الاقتحام في كتيبة "سيد الشهداء".


اختيرت سريّتان من كتيبة "سيّد الشهداء" لتكونا القوات الاقتحاميّة، على أن تكون السريّة الثالثة للإسناد. ثمّ اختاروا فصيلين من كلّ سريّة من سرايا الاقتحام للتدرّب على الغوص، أما الفصيل الثالث (من كل سريّة) فيشكّل القوات البرمائية، وهي بحكم قوات الإسناد. كما تعيّن على عناصر وحدة الاستطلاع تدريب فصائل غواصي الاقتحام الأربعة وهم: "حميد اللهياري، علي شيخ علي زاده، إبراهيم أصغري، مير داود حسيني، ناصر رضا بور، محسن كياني، مير عيسى حسام" وأنا. شارك معظم هؤلاء الإخوة، وقبل اختيارهم ليكونوا مدرّبين، في عمليّات الاستطلاع التمهيديّة لنهر "أروند". كانت خبرتهم مؤثّرة جدًّا في عمليّة التدريب، لأنّهم على دراية بأحوال وأوضاع نهر "أروند"، والمهارات اللازمة لعبوره.

أُوكِل إليّ مهمّة تدريب (السرية 2)، بقيادة الأخ "السيد محسن موسويان"، توكّلت على الله وبدأت.

بدأت التدريبات الصعبة والمكثّفة لقوّات الاقتحام في شتاء عام 1986م القارس. كنّا نتناول طعام الفطور بعد المراسم الصباحيّة التي تبدأ عادة عند الساعة السابعة صباحًا، لنباشر التدريب بعدها عند الساعة الثامنة صباحًا حتى الظهر. كنّا نخرج لبضع ساعات من الماء على صوت أذان الظهر، فنشارك في صلاة الجماعة في الحسينيّة، وبعد الصلاة وطعام الغداء نقضي ساعتين تقريبًا نلعب كرة القدم في مباريات
 
 
 
 
351

336

الغوّاصون

 بين فريقي الكتيبتين، لنعاود التدريب مجدّدًا عند الساعة الثالثة من بعد الظهر. كان الإخوة يرتدون بدلات الغوص المبلّلة ويسيرون نحو نهر "كارون" وهم يلطمون الصدور، على صوت الرادود "رضا داروبيان". عند الساعة السادسة عصرًا مع أذان المغرب، نخرج من الماء ثانية، لنعود منتصف الليل مرة أخرى للتدريب والغوص مدة ثلاث ساعات في مياه شديدة البرودة، لا أستبعد احتمال تَجَمُّدها لو كانت راكدة.


إنّ قضاء 10 ساعات تقريبًا يوميًا في التدريب ليل نهار، من دون توقف أو استراحة، وفي ظروف يصعب جدًّا حتى تخيّلها وتصوّرها، عملٌ لا يمكن أن تقوم به إلا قوات عرفت وخبرت معنى العشق الحقيقي.

من المشكلات التي واجهتنا خلال التدريب، أنّ جميع العناصر كانوا حديثي العهد بالغوص، وأغلبهم لا يجيد السباحة، ناهيك عن شدة البرد وبدلات الغوص غير المناسبة، بالإضافة إلى سوء التغذية والأمراض الناشئة عن البقاء لساعات طويلة في المياه. كنتُ حديث العهد في معرفتي بنهر "أروند" ومخاطره، لكنها لم تكن كذلك على من عرفوه وخبروه من قبل، فقد كانوا أكثر قلقًا منّي. ومع ذلك لم يتوان عناصر كأحمد مهدوي عن الحضور والمشاركة الدائمة في تدريبات الغوص للفصائل.

كانت التدريبات الأوليّة عبارة عن ارتداء بدلات الغوص، ثم الغوص والسباحة بواسطة الزعانف، وكنت أصرّ على القيام بالتمارين التحضيرية على الضفة، قبل النزول إلى الماء، خاصة تمارين القدمين، والتمرّن على دوّاستي الدراجة الهوائية لتقوية عضلات القدمين. فقد وجدتُ - أنا
 
 
 
 
352

337

الغوّاصون

 الذي لطالما فررت من التدريب الليلي - أنّ من واجبي العمل على حلّ مشكلات جميع العناصر والبقاء إلى جانبهم ليل نهار. كنت أنزل إلى الماء معهم، وبعد انتهاء التدريب وتقديم الشروحات الكليّة، أستمع إلى المشاكل التي يواجهونها ويطرحونها، ومن ثم أعمل على حلّها الواحدة تلو الأخرى، فقد واجه بعض العناصر مشكلات في الحركة تحت الماء، وبعضهم الآخر في حمل السلاح والحفاظ على التوازن داخل الماء، بينما عانى آخرون من مشكلات جسدية.


مع أن التعب الجسدي والبرد كانا يزيدان من المشقّة والعناء في العمل، إلا أنّ تحمّل ذلك أسهل بكثير من مشكلات واجهها عناصرنا. كانت تلك المرة الأولى التي تُقام فيها تدريبات الغوص بهذه الظروف وهذا الحجم، ولم يلتفت أو يهتم أحدٌ بتغذية العناصر. ناهيك عن برد "كارون" الذي لم يكن يطاق، إذ كنا نرتجف بردًا خارج الماء بالرغم من ارتدائنا للملابس الشتوية. كانت المياه شديدة البرودة لدرجة قد تؤدي إلى تجمّد الغواص الذي يتوقف عن الحركة لفترة وجيزة من الزمن. في ذلك الطقس، لم تكن بدلات الغوص تجفّ خلال الفترة الفاصلة بين التدريبات، وكان على الغواصين ارتداؤها مبلّلة، والقيام بالتمارين على ضفة النهر، ومن ثم الغوص فيه.. كان هذا الأمر يتكرّر ثلاث مرات يوميًا. في الحقيقة لم يرحم البرد الإخوة لحظة واحدة. في تلك الظروف، كانت التغذية المناسبة أكثر ما يمكن أن يساعد الإخوة على تحمّل الظروف المناخيّة الصعبة، لكن الأمر كان عكس هذا تمامًا، فوجبات الطعام كانت بسيطة وباردة أغلب الأحيان، لا تمور ولا عسل أو جوز، أو أي من
 
 
 
 
353

338

الغوّاصون

 المأكولات المولّدة للطاقة. رغم ذلك، لم نكن نسمع أي شكوى أو تذمّر. كان الإخوة يرتدون بدلات الغوص التي لا تناسب مقاسهم، ويستعيضون بالأحجار والآجر عن الأوزان التي تساعد على الغوص لساعات طوال في المياه الموحلة والجليدية لنهر "كارون". غواصون بجرأة البحر أمثال "نادر دانائي" و"مجيد طايفة" وغيرهما، كانوا يخوضون لجج الماء بعشق، وتشعّ من وجوههم سيماء أهل السماء.


عندما كانت المياه الباردة تلسع جسدي، كنت أشك في قدرة هؤلاء الفتية الذين لم تكن أعمارهم تتجاوز السابعة عشرة على تحمّل هذه الظروف الصعبة، وأنّهم على أهبّة الاستعداد للعمليّات. كنتُ أسترجع ذكريات الأيام الماضية الصعبة، وأعقد الأمل في نفسي بأنّ المياه الباردة والتدريبات هي مثلها ولا فرق.

تذكرت عمليات "مسلم بن عقيل"، حين كنت أرتجف بردًا حتى الصباح، ولم تكن أكياس الخيش الملوثة بالتراب التي كنت أتدثّر بها لترد البرد عني. تذكرت صمود السيد "مهدي" الذي لم يكن يعرف التعب أو الكلل، كما تذكرت ضفة دجلة الدامية. لكن، كان برد مياه نهر "كارون" شيئًا آخر.

أضنى التعب وسوء التغذية أجسام معظم العناصر، وفتكت بهم الأمراض، لكن البرامج المعنوية التي كانت تقام على مستوى الكتيبتين صقلت الأرواح وجعلتها أكثر مقاومةً وصمودًا. تضمن برنامج استراحة الإخوة بعد التدريبات مجالس عزاء ولطم. كان عشق أهل البيت عليهم السلام بمنزلة الشمس التي ترسل الدفء إلى أوصالنا والتي تمنع شدة الصقيع
 
 
 
 
354

339

الغوّاصون

 وكلّ الظروف القاسية أن تفكّ من عضدنا وأن تفرض علينا التراجع. اشتهرت لطميّات وتوسّلات "إبراهيم أصغري" أحد عناصر وحدة الاستطلاع المخلصين، وكان أوّل من توسّل بالسيدة رقيّة عليها السلام. حلّ الظلام، وقبل أن يحين وقت التدريب، صدح صوت "إبراهيم" الشجي بلطمية ألهبت حناجر وصدور الكتيبتين:


رقية لا تسندي وجهك الرقيق إلى الجدار
لا تحدقي بقلق وشُرود إلى كربلاء
لا تبكي يا رقية.. لا تبكي يا رقية
فقد أنستنا ذكرى كربلاء! كلّ هموم العالم وآلامه..

كان الإخوة يخوضون غمار الصعاب بهذه الروحيّة وهذا الإيمان، بل ويتسابقون إليها. فالرياضة الصباحية، ومسابقة كرة القدم وقت استراحة الظهيرة ومجالس العزاء بعد الغروب، كانت في مثل هذه الظروف من أهم البرامج التي لم نكن لندعها إلى جانب التدريب والتعليم.

تميّز الإخوة أيضًا بالإيثار والتضحية. ففي بعض الأحيان، كان صوت "علي حاج بابائي" يصدح في أنحاء الكتيبة مناديًا: "ليحضر كلّ من لديه ملابس متّسخة لأغسلها له"، فيغسل بمساعدة عدد من عناصر الكتيبة جبلًا من الملابس ويسلّمها إلى أصحابها.

انقضت الأيام واستمرت التدريبات على الرغم من البرد الشديد والصعاب، وكلما قويت العلاقة القلبية بالله، انعكست وظهرت على سلوك الإخوة جميعًا. سرى نوعٌ من التنافس الإيجابي بين سرايا كتيبة "سيد الشهداء"، فكان الجميع يسعى ليكون الأفضل في الغوص
 
 
 
 
 
355

340

الغوّاصون

 والتدرّب، فقد تُجعل السرية الأكثر تفوّقًا ومهارة في عداد سرايا الاقتحام ليلة العمليات.


كان معظم العناصر يعانون من مشكلة تشنّج عضلات القدمين أثناء السباحة والغوص، وكان الغوّاصون الذين يتمتعون باللياقة البدنية قادرين أكثر من غيرهم على تحمّل الألم الناتج عن التشنّج الذي يُقعد الإنسان عن الحركة، لكن أصحاب البنية الضعيفة كانوا يعانون أشدّ المعاناة، ولم يكن من حلّ لهذه المشكلة سوى عدم الحركة والتريّث قليلًا ريثما يخفّ الألم. لكن عدم الحركة في المياه الباردة خطِر جدًا، قد يؤدي إلى تجمّد الأطراف والدم في العروق.

أما العناصر الذين انسحبوا مع الأيام الأولى للتدريب فكانوا قلّة مقابل العناصر المخلصة، مقدّمين مختلف الحجج والأعذار لعدم المتابعة. كنت أتعجّب كثيرًا عندما أرى عنصرًا قويّ البنية، ينسلّ من بين هؤلاء الفتية ليقول: "أعاني من ألم في البطن بسبب الزائدة الدودية، كما إنّ عضلاتي تتشنّج باستمرار.."، ويقدّم كل الذرائع لكي لا يقوم بهذا العمل. بينما يهزأ أولئك الفتية من البرد والتعب والمشاق، وكأنهم يشعرون أنه كلّما زادت الصعاب واشتدّت صار لتلك الأعمال قيمة وأهمية أكبر.

كانت إحدى القرى المهجورة - قرب نهر "كارون" - مقرًّا لوحدة الاستطلاع، حيث جُعلت بعض بيوتها المهجورة مراكز للفرق وكان كل فريق يقضي أوقات فراغه فيها. كان فريقنا مسؤول تدريب غواصي الاقتحام لكتيبة "سيّد الشهداء"، من أكثر الفرق عملًا ونشاطًا، فبعد
 
 
 
 
356

341

الغوّاصون

 التدريب والاهتمام بمشاكل الإخوة، علينا المشاركة باجتماعات قادة السرايا والكتائب التي تبحث في أمور العمليات. وعندما نعود للاستراحة في تلك القرية، ورغم شدة التعب والإعياء، كان علينا المشاركة بالبرامج الجماعيّة التي تقام في الوحدة، كصلاة الجماعة في مسجد بُنِيَ خصيصًا ليتّسع للكتيبتين، وقراءة القرآن بعد صلاة الصبح، وفقرات من نهج البلاغة كان يقرأها أحد الإخوة ويترجمها. لقد كان القرآن الكريم حاضرًا بقوة في حياة الشباب ولولا القرآن لكان تحمّل كلّ تلك الصعاب والمشاقّ بلا معنًى، وكان مع محبّة أهل البيت عليهم السلام معيارًا وأساسًا لكل الأعمال. كان يبدي كل من "علي غفار بور"1 و"جعفر حقكو"2 و"أصغر عباس قلي زاده"، أهمية كبيرة لهذه الصفوف. غالبًا ما كانت تقام في غرفهم دروس نهج البلاغة.


ألزم بعض الإخوة أنفسهم يوميًّا بتلاوة جزء من القرآن الكريم على الأقلّ. كنّا قبل الالتحاق بقوات الكتيبة، نقرأ زيارة عاشوراء، وعند العصر دعاء التوسل. وكان لدعاءي التوسّل وكميل ليلتي الأربعاء والجمعة عطرهما الخاص المنتشر في جمع قوات الاقتحام. فعندما تجتمع قوات كتيبتي "سيد الشهداء"، و"علي الأصغر" ووحدة الاستطلاع في المسجد، يتوالى على تلاوة الدعاء كلّ من "رضا داروبيان" و"محمد محمد بور". كان "محمد" يتعلم المدائح من الأخ "رضا"، فأصبح يتقنها بشكل جيد، وكان رضا يمازحه قائلًا: "أنت تضارب علينا يا محمد"!
 

1- استشهد علي غفار بور في عمليات "يا مهدي".
2- استشهد جعفر حقكو في عمليات "والفجر8".
 
 
 
 
357

342

الغوّاصون

 تعجبت كثيرًا ممّا جرى في أوّل ليلة جلست فيها في المسجد قرب "محمد محمد بور". كنت و"محمد" صديقين منذ الصف الأول الابتدائي، وقد ساعدني لأتمكّن من الالتحاق بالجبهة، وأصبح عنصرًا ثابتًا في كتيبة "سيد الشهداء". على الرغم من صداقتنا العميقة إلا أنّه قلّما كنّا نلتقي، وإذا حدث ووجدتُ الفرصة المناسبة كنت أذهب إليه في خيمة التبليغ والإعلام، كان يمازحني كثيرًا وكنت أجلس قربه أحيانًا في بعض المراسم. إلا أنّ تلك الليلة كانت المرة الأولى التي أجلس قربه أثناء قراءته دعاء كميل بكامله، لاحظت كيف اغرورقت عيناه بالدموع منذ اللحظة الأولى لبدء القراءة، وكان لصوته ترنيمة عجيبة! أدركتُ حينها مدى سموه وارتقائه خلال الفترة الماضية التي ابتعدت فيها عنه، وأصبحت منذ تلك الليلة أغبطه على دموعه وكلامه وسكونه، حاولت منذ ذلك الحين أن أقضي معه وقتًا أطول. لاحظت كيف كان يقضي معظم الليل بالصلاة، ومعظم صلاته بالبكاء. وكان دعاؤه وتوسّله يكشفان عن رؤيته وإدراكه لأمور جعلته مضطربًا حزينًا إلى ذلك الحد!


لم يمضِ يومٌ لم يقع فيه حدث يبعث في نفسي الكثير من الخجل أمام صفاء الإخوة وروحيّتهم العالية، لا سيما بين "البرمائيين" الذين أسميناهم مظلومين. نظرًا للمشاق والصعاب الكبيرة التي يتحمّلها الغوّاصون، فإنّ مهامهم مقارنة مع أعمال ومهام باقي القوات، كانت الأصعب والأخطر، خاصة النزول ليلًا ونهارًا إلى مياه نهر "كارون" الباردة والهائجة. كانت القوات "البرمائية" تقضي معظم وقتها في التدرب على عمليات التطهير، التكتيك، التوغّل والمناورات، مع هذا، كانوا يشعرون
 
 
 
 
 
358

343

الغوّاصون

 أنّ جهودهم لا تساوي شيئًا مقارنة بجهود الغوّاصين، لذا عملوا على تطوير عملهم وتدريباتهم. ولطالما ردّد مسؤولوهم: "إن تعبنا لا يساوي شيئًا أمام تعب الغوّاصين، حتى إنّه لا يساوي النزول مرة واحدة في المياه الباردة، لذا علينا أن نسعى ونجدّ أكثر كي نتمكّن من متابعة العمليات والمعارك على أكمل وجه، بعد انتهاء عمل قوات الاقتحام".


كان كلّ واحد يرى عمله أقلّ شأنًا من عمل البقية، فمثلًا دُوّن على خيمة القيادة العبارة التالية: "خيمة خدّام الكتيبة"، وكذا عبارة: "القيادة لك وحدك يا حسين"، كانت هذه العبارات تلفت الأنظار بوجودها أمام كلّ خيمة ومتراس لمسؤول أو قائد في الكتيبة.

من التدريبات الأخرى في وحدة الاستطلاع، البقاء في المياه قرابة 13 ساعة، أي أكثر بـ 4 ساعات عن باقي القوات، فقد كان من مهامّنا إضافة إلى التعليم، القيام بمهمات الاستطلاع، وتعليم عناصر الوحدة الجدد، واطّلاعهم على مجريات الأمور الواجب معرفتها، هذا إلى جانب مشاركتهم بالاجتماعات وتقديم المعلومات والتوجيهات للقوّات. مع ذلك، كان عناصر الوحدة يشعرون بالخجل من حصولهم على معلّبات إضافية من "سمك التونة".

فقد اهتمّ قادة الفرقة بهذه الأمور أكثر من غيرهم لإدراكهم أهمية أن يتمتّع عناصر وحدة الاستطلاع ببنية جسدية قوية. لذا كانوا دائمًا يأتون إلينا بأيدٍ مليئة بمختلف الأطعمة والمواد الغذائية.

كانت مجموعتنا المؤلّفة من 15 عنصرًا، تقيم في غرفة واحدة، فنتناول الفطور والغداء والعشاء معًا. بعد اختياري "رئيس بلديّة" للفريق،
 
 
 
 
359

344

الغوّاصون

 وزّعت المهام على العناصر واكتفيت بالإشراف عليهم وتنظيمهم:

- عليك تنظيف الغرفة اليوم يا أخ "محسن"1، وسأرى كيف ستقوم بذلك!


- مهمتك غسل الأطباق اليوم يا "حميد"2.

- تفضّل، إليك المقشّة..

كانت تلك الأعمال تنجز باستمرار وبلا تباطؤ، وكان هناك العديد من المتطوّعين مجهولي الهوية الذين تصدّوا لها، لكن وبهدف المزاح، كنّا نوزّع المهام مع بعض الصخب، كما ابتكرت أنواعًا من العقاب لِمن يتهاون في القيام بواجباته. كان في زاوية المتراس موقد للطبخ، نرمي فيه قشور اللوز لتحترق وتتحوّل إلى رماد.

- كلّ من يتهاون في عمله، عليه أن يدسّ رأسه في الموقد!

كان "علي شيخ علي زاده" يرفض ممازحًا القيام بمهامه، فأقول له بسرعة: "أدخل رأسك في الموقد!".

وعندما يتقاعس "مير داود" عن أداء مهمّته، أقول له: "عليك أن تضمّد جرح قدم 'رضا بور' عقابًا لك".

خلاصة القول، أمضينا أوقاتًا ممتعة رغم كلّ الصعاب والمشاق.

عندما اكتسب عناصر الكتائب المهارات اللازمة للغوص، قررت حلّ بعض المشكلات التي كانت تواجهنا خلال عمليّة التعليم والتدريب،
 

1- استشهد الغواص محسن كياني بعد عدة أيام في عمليات "والفجر8".
2- استشهد حميد اللهياري في عمليات "نصر7".
 
 
 
 
360

345

الغوّاصون

 كموضوع المناورات داخل الماء. نظّمنا المشكلات حسب الأولويات وبحثنا في طرق حلّها. تمّ التوافق على رأي مُجدٍ لمواجهة خطر التعرّض لإطلاق النار داخل الماء، ولم يكن ليخرج الأمر عن إحدى حالتين: إما أن يُطلق العدو النار عشوائيًّا كعادته، ويُحتمل أن يُصاب بعض العناصر أو أن يستشهدوا. وإما أن يُطلق النار لأنه أحسّ بحركة ما داخل الماء، بهدف إيقافها أو القضاء عليها. وصورة أخرى وهي الاشتباك مع العدو عند وصولنا إلى الساحل ما يسهّل علينا الأمر وتكون المشكلة هنا أسهل، قرّرنا في الحالة الأولى، أي عند تعرّض القوات لإطلاق نار عشوائي من العدو، أن يحافظ العناصر على الهدوء، والتزام الصمت بأي نحو كان، كما تقرّر إبلاغ هذا الأمر لغواصي مجموعات الاقتحام ليلة العمليات. كان المسؤولون واثقين أنّ قواتنا لن تتعرّض لأي مشكلة في تلك المرحلة، لكن في الحالة الثانية، أي عند التعرض لإطلاق نار مباشر، كان يجب تعليمهم على كيفية الرد. إذا أحسّ العدو بوجودنا في الماء، فسيضطر الإخوة، وبهدف حماية الخطوط الخلفية، لإطلاق النار من الأسلحة الخفيفة كالكلاشينكوف وال "آر بي جي" من داخل الماء. لذا، خضع الإخوة لدورة تدريبية جديدة ومبتكرة، فتدربوا على السباحة بواسطة الزعانف، وعلى القيام بحركات متوازية وتحريك الزعانف قليلًا بنحو مستمر، يطفو معه الجسم على السطح، الأمر الذي يمكّن الغواص من الحفاظ على توازنه. عندها، يستطيع العنصر إطلاق النار من سلاحه الخفيف أو حتى إطلاق قذائف "الآر بي جي". لكن الخطير في الأمر، طبيعة نهر "أروند"، المختلفة كليًّا عن غيره من الأنهار، فكنّا نكرّر للإخوة،

 

 

 

 

361


346

الغوّاصون

 أنّ قوّة جريان مياه نهر "كارون" ليست بشيء أمام قوة جريان مياه نهر "أروند"، والرياح التي تهبّ ليلًا من جهة البحر نحو اليابسة، تخلّف أمواجًا في النهر يتراوح ارتفاعها ما بين 1.5 و2م تقريبًا، إضافةً إلى حركة المدّ والجزر فيه، وأنه إذا ما استطعتم عبور نهر "كارون" الذي يتراوح عرضه ما بين 250 إلى 500 متر بسهولة، فكونوا واثقين أنّكم قادرون على قطع مسافة أربعة أمتار في نهر "أروند". عليكم التمرّن بقوة وجدّ لتتمكّنوا من التغلّب على أمواجه العاتية.


كنّا ومن أجل خلق مناخ وطبيعة مشابهة لتلك التي في "أروند"، نمرّ بمحاذاة رتل الغواصين بواسطة قوارب ذات محركات قوية، فتُحدث أمواجًا يصل ارتفاعها حوالي متر ونصف المتر.

كانت خطوط الجبهة الخلفية للفرقة، قريبة من "أروند"، وتقرّر نقل عناصر الاستطلاع الذّين لم يعد لديهم عمل في الكتائب إلى هناك. جاء حسين محمديان إليّ للمرة الثانية قبل الانتقال، وكان قد عاد إلى الجبهة بعد أن تعافى بعض الشيء، وأصبح مسؤول محور الاستطلاع في "شط علي"، ويعمل مع عدد من الفرق1 هناك، عندما رأيته لاحظت مدى انزعاجه، فقد انتقل من "شط علي" إلى "آبادان (عبادان)"، وجاء
 

1- كان الحرس الثوري في العادة يقوم بعمليات الاستطلاع في عدد من المناطق كتمويه ليلفت أنظار العدو عن المنطقة المستهدفة ومباغتته. في تلك الأثناء كانت قوات الاستطلاع تعمل على محاور نهر "أروند"، "شط علي" ومرتفعات "هزار قله مريوان" الألف قمة مريوان-.. كانت تلك القوات وبناءً على تجاربها، تعلم أنّ منطقتها ليست منطقة العمليّات، وفقط إطاعة "ولاية الفقيه" جعلتهم يتحمّلون ألم البُعد عنها، وكان "حسين محمديان" يعمل حينها في إحدى "مناطق الخِداع" تلك.
 
 
 
 
362

347

الغوّاصون

 من هناك للقائي. كان الأخ "شريعتي" قد التقاه في الخطوط الخلفية للفرقة، وقال له: "مسؤوليتك في منطقة أخرى، اذهب وابقَ هناك، لِمَ أنت هنا؟". كان لهذا الكلام وقع ثقيل على "حسين محمديان"، الذي يتوجّب عليه البقاء بعيدًا عن المعارك، فهو يرغب بالبقاء في "شط علي" والمشاركة في عمليات الاستطلاع. ما إن رآني حتى قال لي: "إنّهم يعتقدون أنّ الشهادة تكون فقط في منطقة العمليات وخلال المعارك، ولا يعلمون أنّ الله إذا شاء أن يأخذ عبدًا إليه، سيأخذه في أي مكان كان!". لم أستطع تهدئته مهما حاولت، كما لم أُفلح في إبقائه عندنا تلك الليلة، فقد كان يريد العودة سريعًا إلى منطقة "شط علي". تعانقنا في وداع لا ينسى، وافترقنا بعيون دامعة باكية. انطلق نحو "الأهواز"، ولم ألتقه منذ ذلك الوقت.

 

 

363


348

الغوّاصون

 2


بعد أن تلقّى الغوّاصون كلّ ما يحتاجون إليه من تدريب وتعليم، لم يعد من حاجة لبقاء عناصر الاستطلاع هناك، لذا جمعنا أغراضنا وركبنا الحافلة الصغيرة (ميني باص) وشاحنة التويوتا، وانطلقنا إلى منطقة العمليات حيث حقول النخيل على ضفاف نهر "أروند".

في المنطقة التي تموضعت فيها "فرقة عاشوراء"، وبين حقول النخيل، يجري سبعة أنهر متفرّعة من نهر "أروند". يبلغ متوسّط عرض كلّ واحد منها حوالي 6 أمتار ومتوسط عمقه حوالي 3 أمتار، بينما يصل طول بعضها إلى 20 كلم. تستخدم هذه الأنهر في ريّ أشجار النخيل المنتشرة على الضفتين. تمّ ترقيم تلك الأنهر، وأُطلق على بعضها أسماء الأئمّة الأطهار عليهم السلام. اتخذت وحدة الاستطلاع المسجد الكائن على ضفّة النهر المعروف المُسمى بنهر "الإمام علي عليه السلام" مقرًّا لها، وبُني داخل المسجد عنبرٌ حديديٌ غُطّي بالتراب ليكون مقاومًا للقصف الجوّي والصاروخي.

كان لاستخدام منازل ومباني القرية بهذا الشكل هدف آخر وهو التمويه والاستتار عن عيون الأعداء، فهذا النوع من الاستتار لا يُحدث أي تغيّر في طبيعة المنطقة، وقد تمت مراعاة هذا الأمر في جميع وحدات الفرقة. على سبيل المثال، استقرّ مستوصف الفرقة في مدرسة القرية. وبقي مقرّ الفرقة في تلك القرية حتى الأيام الأخيرة ما قبل العمليات، بالطبع أُحضرت التجهيزات والمتاريس وانتقل المقرّ فيما بعد إلى هناك.
 
 
 
 
364

349

الغوّاصون

 كانت المتاريس هي أبنية القرية نفسها التي وجدت من قبل، ولم تقتصر الدقّة والاحتياط في الحفاظ على سرية المنطقة وعلى المتاريس والتجهيزات فحسب، بل تعدّتها إلى الحدّ من عديد العناصر، لذا كان كلّ عنصر من عناصر وحدة الإستطلاع الذّين حضروا إلى المنطقة سابقًا، ومنعًا لتزايد أعدادهم، يقوم بعمل عدّة عناصر. لاحظت منذ الأيام الأولى لوصولي، أن الوحدة تقوم بعمل فرقة كاملة، فقد كانت تتولّى مسؤوليّة التحصينات، أعمال الهندسة، التموين والاستطلاع.


قسّمت الأنهُر المنطقةَ إلى أجنحة، ورُفعت السواتر الترابيّة في هذه الأطراف على شكل مواقع. وكنّا نعمد إلى بناء السواتر في أغلب الأحيان، فكان الإخوة يملأون أكياس الخيش (الجُنْفيص) بالتراب ويكدّسونها بعضها فوق بعض كمتاريس لهم. إضافة إلى بناء التحصينات الدفاعية خلف تلك السواتر، استخدم بعض الإخوة شاحنة قلاّبة من وحدة الهندسة في الفرقة وبدأوا بشق ورسم الطرق العسكريّة في منطقة العمليّات، كما تولّوا مهمة توزيع المؤَن على المخافر والمواقع في المنطقة. هذا إضافة إلى مهمّتهم الرئيسة: الإستطلاع والرصد وجمع المعلومات.

في شتاء كانون الثاني القارس، وفي ظل الهدوء الظاهري للقرية الواقعة على ضفّة نهر "أروند"، كان عدد من شباب وحدة الإستطلاع يعملون بجهد متواصل وحثيث يفوق التصوّر. عند وصولنا إلى المنطقة، أُرسلنا إلى المسجد، صعدنا عدّة درجات لنصل إلى غرفة كبيرة هي القاعة، تتصل بغرفة أخرى أشبه بالشرفة، وفي الجهة الأخرى للقاعة كان هناك غرفة أخرى، اتّخذناها متراسًا لنا. كنّا أنا و "حميد اللهياري، علي
 
 
 
 
365

350

الغوّاصون

 الشيخ علي زاده، محسن كياني، مير عيسى حسان، إبراهيم أصغري، محمد رضا مهرباك، كريم وفا، مير داود حسيني، محمد أسدي، كريم حرمتي، رضا انكوتي، وناصر رضا بور"، جمعًا متقاربًا متآلفًا، ومع ذلك، وبسبب ضغط العمل، لم نكن نجد الفرصة لنلتقي ونجتمع كما يجب، وكنّا في وقت الفراغ نكتفي باستراحة قصيرة لنعاود العمل مجدّدًا.


كان مسؤولنا الأخ "كريم حرمتي" قد أصيب جرّاء انفجار لغم وتضرّرت قدمه، فصار يعرج، هذا إضافة إلى إصابته في عمليّات "بدر" التي أقعدته في مستشفى المدينة مدّة من الزمن. اشتغل بعد أن تماثل للشفاء في أحد المصانع لتأمين لقمة العيش لعائلته، لكن الجبهة ووحدة الاستطلاع كانت أحوج إليه، فاتصل به أحدهم طالبًا منه القدوم إن استطاع، حينها ترك العمل والعائلة في رعاية الله واتّجه مباشرة إلى المنطقة.

في الوقت الذي إسْتَلَمت فيه الوحدة المنطقة، وقبل تدريب الكتائب، بدأت أولى عمليّات الإستطلاع، كانت هذه المرّة الأولى التي تواجه فيها الوحدة هذا النوع من العمليّات المائية، أقلقنا جريان نهر "أروند" والميزانيّة الضخمة التي خصّصها العدو لتحصينات المنطقة، إلى جانب الرادارات1 التي استخدمها في معظم مناطق العمليات. في الحقيقة، لقد غدت الحرب، حربًا إلكترونيّة نوعًا ما. أدركت وحدة الاستطلاع أنّ هذه الرادارات لن تشكّل أزمة فعليّة، لأن تيارات نهر
 

1- عُرف نظام الرادار بين المقاتلين باسم "السرّي".
 
 
 
366

351

الغوّاصون

 "أروند" الهائج ستؤثّر على عملها وتسبّب خللًا في أنظمتها، إضافةً إلى التشويش الذي تسبّبه الحيوانات المائية في "أروند" بإصدارها ذبذبات مشابهة لتلك التي يصدرها الإنسان. كانت تلك الرادارات في الواقع فعّالة فوق سطح الماء فقط لمراقبة وكشف الآليّات.


وصل "كريم حرمتي" قرابة الظهر إلى المنطقة، ومن خلال حديثه مع الأخ "فتحي" عَلِم أنّ الإخوة عاجزون ولم يستطيعوا إنجاز أي شيء، وأنه لم يحدث أي تطوّر في عمليّات الإستطلاع حتى تلك الساعة. طمأنه مسؤول وحدة الإستطلاع بابتسامته المعهودة وقال له:
- لا مشكلة، أنا ذاهب هذه الليلة إلى الإستطلاع.

ربما كان كلام الأخ "كريم حرمتي" هذا نوعًا من المزاح لمن لا يعرفه، خاصّةً مع وضعه الجسدي وجراحاته المتوالية في السنة الأخيرة والتي أدّت لإصابته بنوع من الإعاقة الجسديّة، لكنّ الأخ "فتحي" يعرفه حق المعرفة فقال له:
- لقد تلقّى الإخوة تدريبات جيّدة، ومع ذلك لم يستطيعوا التقدّم خطوةً واحدة.

فقال "كريم حرمتي": - لا تقلق، سوف أتدرّب اليوم على الغوص.

- أين؟

- في النهر القريب!

تدرّب "كريم حرمتي" ساعة أو ساعتين على الغوص في النهر القريب، وذهب في الليلة نفسها مع أحد الإخوة في وحدة الإستطلاع في أوّل عمليّة إستطلاع له، حيث استطاعا ليلتها عبور الأسلاك الشائكة
 
 
 
 
367

352

الغوّاصون

 والعوائق الحديديّة المتشعبة والدائرية التي زرعها الأعداء قرب السدّ وتحت الماء، وعادا إلى المقرّ بسلام بعد عمليّة إستطلاع تُوّجت بنجاح غير متوقّع. في اليوم التالي، بدا أثر عمل "كريم حرمتي" جليًا على الوحدة. ومنذ تلك الليلة سارت عمليات الاستطلاع بسرعة وقوّة.


كانت فرق الاستطلاع تعمل في محورين، تولّى الأخ "أصغر عباس قلي زاده" مسؤوليّة المحور الأول، بينما كان الأخ "كريم حرمتي" مسؤول المحور الثاني. بالنظر إلى حساسيّة المنطقة، تمّ الإسراع في تقسيم عناصر وحدة الاستطلاع على الكتائب، وفُرز لكلّ فصيل من فصائل قوّات الاقتحام عنصران من الوحدة، فكان لكل محور ما بين 6 إلى 8 من عناصر الاستطلاع، وتعيّن عليهم مرافقة غوّاصي الاقتحام ليلة العمليّات، ممّن استطلعوا من خلال الغوص، قبل وبعد التدريب، نهر "أروند" وسدّ الأعداء، في مهمة صعبة ومجهدة للغاية. وكان على باقي قوّات الاستطلاع الاستفادة من نجاح عمليّة الاقتحام، لإرشاد قوّات الكتائب إلى قلب منطقة العدو ومتابعة العمليّات.

تمّ اختيار عناصر الاستطلاع المرافقين لغوّاصي الاقتحام، من قدامى الإخوة في المنطقة وممن هم على دراية بجميع خفاياها وزواياها. حُرمتُ من المشاركة في العمليّات مع غوّاصي الاقتحام، لأنّه تقرّر أن أستطلع مسير كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، ولم يكن قد حدّد بعد إذا ما كنتُ سأتولّى إرشاد الكتيبة في العمليّات أم لا. لكن لأهميّة المهمّة والحاجة لعناصر مجرّبين وذوي خبرة لإرشادهم ومرافقتهم في العمليات، تمنّيت أن يكون لي دور في ذلك.
 
 
 
 
368

353

الغوّاصون

 بعد التشكيلات، وشعورًا منّي بخطورة المهمّة التي أوكلت إليّ في استطلاع مسير كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، عملتُ بجدٍّ ودقّةٍ لإنجاحها. درستُ جميع الاحتمالات وما يمكن أن يصادفنا في مسيرنا، كما درستُ الهدف والمسير من جهات متعدّدة. درست الصور الجويّة، تقارير الرصد والمعلومات الأخرى، وأصبحت على دراية كبيرة بمسير العمليات بحيث أستطيع أن أبينه مترًا مترًا. كنت أعرف أنّه وبعد عدّة خطوات من خروجنا من الماء سنصل إلى النهر الفلاني، ومن هناك إلى السواتر الترابية على شكل (ب)، والموانع ستعترض طريقنا، حتى إنّني درستُ تفاصيل عمل جميع سرايا الكتيبة بالدقة نفسها، وبقي ذهني مشغولًا بالتعرف أكثر إلى خفايا المنطقة.


كانت عمليّات الاستطلاع في عمق المياه ما تزال جارية على قدم وساق. وكان كلّ من "محسن كياني، "كريم وفا"، "إبراهيم أصغري"، "حميد اللهياري"، "مير عيسى حسان"، "علي شيخ علي زاده"، و"كريم حرمتي"، ما زالوا يعملون بجدٍّ على استطلاع محورنا. كنت أقضي الليل والنهار في الرصد ودراسة الصور الجوية وإعطاء التعليمات حول الخط.

استمر العمل في برد شباط القارس بهدوء وصمت. ما إن صلّينا الظهر جماعةً في الرابع من شهر شباط، حتى خرج الأخ "حسين أبو القاسم زاده" من بين المصلّين وتقدّم. كنّا عادةً نستمع إلى خطاب قصير بين الصلاتين، وقد توقّعنا سماع خطاب الأخ"أبو القاسم زاده". ذلك اليوم، لفتني تَجَهُّمَه ونَبْرَتهُ الحزينة:
- بسم الله الرحمن الرحيم، ما إن تسقط راية من يد قائد مغوار
 
 
 
 
369

354

الغوّاصون

  حتى يبادر آخر لرفعها والتقدّم في الميدان.


ما إن سمعت كلمة الإمام هذه حتى هالني قلق شديد، كما الجمع، فأغلب الظن أنّ مكروهًا ما حدث لأحد قادة الفرقة. مرّت أسماؤهم ووجوههم بسرعة في ذهني. فجأة نزل صوت الأخ "أبو القاسم زاده" على روحي وقلبي نزول الصاعقة، عندما قال: "نبارك لكم.. استشهاد.. الأخ.. حسين.. محمديان". انطلقت صرخة من أعماق وجودي، ومرّت ذكرياتي مع حسين لعدّة دقائق في ذاكرتي: نظرةُ "حسين" العميقة، نداء "حدثني يا أخي"! حنانه وحكمته وفراسته. حسين! كيف خفي عليّ ذلك عندما جئتَ ذلك اليوم لتودعني عند ضفة نهر "كارون"؟ حين قلت إنّهم يتصوّرون أنّ الشهادة لا تكون إلا في العمليّات والمعارك فقط! جئتَ إليّ وكنتَ كسيرَ القلب، كيف لم أُدرك ذلك بالأمس عندما رأيت سيارتك التي أصابت زجاجها شظيّة؟ عندما رأيت سيارتك في تلك الحالة، سألت الإخوة عنك، ولمَ لم أدرك من أجوبتهم المبهمة أنّهم كانوا يخفون عنّي أمرًا؟ وهو خبر استشهادك.. عزيزي "حسين"! كيف لم أدرك أنّك قد قطعت كلّ الأشواط وحان وقت اللحاق والانعتاق القاني، وقت الشهادة.

كان الإخوة في وحدة الاستطلاع ينوحون بلا رياء ويلطمون الرؤوس والصدور. ويُسمع بين الفينة والأخرى نداء "يا حسين".. لكن لم أكن أدري ماذا أفعل؟ منذ مدّة تحوّل الحزن والألم الرابض على صدري عند فراق كلّ صديق وأخ إلى شكله الأكمل في داخلي. كنت رغم الألم والحزن واللوعة أُمنّي النفس بشفاعة الشهداء والالتحاق بقافلتهم. إلا أنّ تلك الأفكار والآمال لم تستطع، أمام الفَرِق الذي كنت ألحظه
 
 
 
 
370

355

الغوّاصون

 بيني وبين أعزّ الأصحاب، أن تُهدِّئ من روعي وألمي. كان حسين عندما يشتدّ وطيس المعارك عصارة كل الأشياء الطيبة والحسنة التي يمكن لي التفكير بها والاعتماد عليها، فيهدأ قلبي ويطمئن بالي. لكن يومها أدركتُ لمَ لمْ أعد أرى البسمة على وجه "مهدي داودي" الصديق الوفي للشهيد "يعقوب شكاري" بعد سماعه نبأ استشهاده.


ضجّ المتراس بالبكاء والنواح، أحزنَ استشهاد "حسين" جميع عناصر الوحدة، وبالطبع ترك أثره الأكبر عليّ، وأيقنتُ أنّه أصبح الشاهد الدائم عليّ. لا أدري كم من الوقت دام هذا العزاء الصادق لحسين. قدّم الإخوة بعد فراغهم من الصلاة العزاء إليّ قائلين: "ليُلهمك الله الصبر يا مهدي".

- ليرحمه الله

كانت ظهيرة ذلك اليوم الذي انتشر فيه خبر استشهاد "حسين" في الوحدة، نقطة تحوّل بالنسبة إليّ. لقد عاهدته وعاهدت ربي أنّ أبقى في الجبهة مهما طالت الحرب، وأن أسعى إلى العمل بأقواله وأفكاره، وأتابع طريقه كما أراد وشاء هو أن يفعل. أقامت وحدة الاستطلاع مراسم العزاء في مصلّى الوحدة، وبمشاركة الأخ "آهنكران"، كانت المراسم حماسيّة جدًّا.

عبقت رائحة العمليّات وأزكت أنوف ثلّةٍ أحسّوا بقرب الوصال، فنشروا بين الجموع حماسة لا توصف. كان خبر استشهاد "حسين" ما زال حديثًا، وكانت أحزاني تتجدّد مع ردّ فعل كلّ أخ يسمع بنبأ استشهاده، كنت أطلب من الله السلوى ومن "حسين" الشفاعة.
 
 
 
 
371

356

الغوّاصون

 3


حُدّدت تشكيلات الكتائب والمحاور، وصرنا على علم بمجريات الاستطلاع ومسؤولية توجيه الكتائب معلوماتيًّا. كان الأخ "علاء الدين نور محمد زاده" مسؤول (المحور 2)، والأخ "كريم حرمتي" مسؤول الاستطلاع فيه. كان على كتيبة "سيد الشهداء"بقيادة الأخ "جمشيد نظمي"، وكتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" بقيادة الأخ "السيد حسن شكوري"، وكتيبة "حبيب بن مظاهر" بقيادة الأخ "السيد مجيد فاطمي"، المشاركة بشكل متتالٍ في عمليات هذا المحور. من جهة أخرى، كان الأخ "عبد الله عراقي"مسؤول المحور الأوّل والأخ "أصغر عباس قلي زاده" مسؤول الاستطلاع فيه. كان مقرّرًا أن تبدأ كتيبة "علي الأصغر" بقيادة "منصور عِزّتي" المعارك في ذلك المحور، يليها كتيبة "القاسم" بقيادة الأخ "محمود بني هاشم"1، وكتيبة "أبو الفضل" بقيادة الأخ السيد "أجدر مولايي"، كقوات إسناد ودعم.

هدفت العمليّات التي سُميت فيما بعد بـ"والفجر8" إلى اقتحام وتدمير سدّ العدو في المرحلة الأولى، ومن ثم التقدّم والوصول إلى طريق القدس2 (طريق الفاو - أم البحار) في المرحلة الثانية، وفي المرحلة الثالثة التقدّم نحو طريق النصر3 (طريق الفاو - البصرة).

*
 

1 استشهد محمود بني هاشم في عمليات نصر 7.
2 طريق القدس: الطريق التي تربط الفاو بمدينة أم البحار ومنها البصرة.
3 طريق النصر: هي الطريق التي تربط بين الفاو ومدينة أم القصر العراقيّة.
 
 
 
 
372

 


357

الغوّاصون

 كان لمحورنا ثلاثة معابر، خصّص كلّ معبر لمسير فريق واحد، وجرت عمليّات الاستطلاع عبر تلك المعابر، وكانت كلّ عمليّة تستغرق حوالي الساعة ونصف الساعة، وتصل أحيانًا إلى أكثر من ثلاث ساعات. كان ينقطع التواصل بين القوات والمقرّ ما إن ينزلوا الماء، ولم يكن عناصر الاستطلاع يحملون معهم أيّ جهاز للاتصال أو أيّ نوع من السلاح، كانوا في بعض الأحيان يحملون معهم المسدّسات فقط، ذلك أنّ الاشتباك مع العدو أثناء تنفيذ المهام المنوطة بهم ممنوع بأي شكل من الأشكال، وكلّما كان الحمل خفيفًا، كانت تُنجز المهام بسرعة أكبر. في كل معبر كان ينزل ثلاثة من الغواصين الواحد تلو الآخر إلى مياه "أروند"، فيغوصون ويسبحون بواسطة الزعانف. وبعكس فرق الغوص الأخرى، الذين كانوا يستخدمون الحبل أو أي وسيلة ثانية لحفظ التواصل بين الغواصين في الماء، كان على الغواص في عمليّات الاستطلاع أن يسبح ويقاوم تيارات نهر "أروند" العاتية وحيدًا، وأن لا ينتظر المساعدة من باقي أعضاء الفريق مهما حدث.


في كل ليلة، كانت تتكرّر معجزة عبور نهر "أروند"، الذي ما فتئ يستعرض قواه في عمليات مدّ وجزر في مياه الخليج الفارسي، التي كانت تؤثّر على حركة تيارات النهر فتغيّر اتّجاهها أكثر من مرة في اليوم الواحد، مرتين إلى الخليج الفارسي ومرتين في الاتجاه المعاكس، أي نحو مدينة البصرة. كان القلق يساورني من عبور نهر "أروند"، وفي جعبتي العديد من الأسئلة التي لم أجد لها جوابًا دقيقًا وشافيًا:
- هل علينا النزول إلى النهر أثناء عملية المدّ كي نصل إلى هدفنا في الضفّة الأخرى؟
 
 
 
 
 
373

358

الغوّاصون

 - متى تبدأ عمليّة المدّ الكامل؟


- كم تستغرق عملية المدّ والجزر؟

- كم عدد عمليّات المدّ والجزر في اليوم الواحد؟

- كم يبلغ ارتفاع المياه أثناء عمليتي المدّ والجزر الكاملتين؟

- هل يحدث تغيّر في عملية المدّ والجزر خلال الشهر الواحد، وكم هي مدتها؟ وهل يُحدث ذلك تغيّرًا في ارتفاع منسوب المياه؟

اعتاد الإخوة على الغوص في الماء أثناء المدّ الكامل، ومواجهة المشكلات عند عودتهم بسبب حركة الجزر، في السابق كانوا يختارون نقطة نزولهم إلى الماء آخذين بعين الاعتبار جهة جريان الماء، ما يساعدهم في الوصول إلى هدفهم، في الضفة المقابلة بأسرع وقت ممكن، لكنّهم كانوا متأكّدين من أنّ نقطة عودتهم ستكون بعيدة جدًّا عن نقطة انطلاقهم، وإذا نزلوا إلى الماء في (النهر 3)، سيخرجون من الماء من (النهر 1). حدث في إحدى المرّات وبسبب شدّة المدّ والجزر، أن أصبحت نقطة العودة بعيدة حوالي 10 كلم عن نقطة الانطلاق، حيث قذف الجزر الإخوة إلى أحد الأرياف الواقعة على ضفّة نهر "أروند" والمعروفة باسم "القصر". لم تكن القوات المستقرة في "القصر" على علم بما يجري، وفوجئوا بخروج ثلاثة غواصين غرباء من الماء في منتصف الليل، فأخضعوهم للتحقيق. بعد أن توضّحت الأمور، جرى نقلهم إلى مقرّهم بصعوبة. ولو تكرّر هذا الأمر لن نتمكّن من الحفاظ على سريّة عملية الاستطلاع، لذا بُذلت الجهود لدراسة حركتي المد
 
 
 
 
374

359

الغوّاصون

 والجزر، ومعرفة زمانهما، إذ لم تكن تحدث خلال عمليات الاستطلاع في زمن واحدٍ. على سبيل المثال، إذا بدأت عمليّة المدّ في اليوم السابق الساعة 9، وفي اليوم التالي، الساعة 8 فلا يمكن توقّع متى ستبدأ في اليوم الذي يليه. فقد كان لجاذبيّة القمر، أيام الفصول، معدل هطول الأمطار وغيرها من الأمور، تأثيرها المباشر على حركة المد والجزر في نهر "أروند"، لذا فالأمر بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة. وشعورًا منّا أنا والإخوة في وحدة الاستطلاع بحساسيّة هذا الموضوع، وبالمسؤوليّة، بدأنا دراسة جديدة للإحصاءات والأرقام والتجارب. وُضعت علامات خاصّة في زوايا وأقسام متعدّدة داخل الماء، للمساعدة في قياس معدل التغيّر في ارتفاع منسوب المياه في مختلف الأيام. كان منسوب المياه يرتفع بعض الأيام فيفيض من الأنهر ليغمر حقول النخيل المجاورة.


وضع الحرس الثوري إحصاءات المدّ والجزر في نهر "أروند" خلال السنوات العشر الماضية في تصرّفنا، ونحن بدورنا تابعنا الأبحاث والدراسات بناءً عليها وعلى ما عاينّاه بأنفسنا. لو كانت العمليات في فصل الصيف أو الربيع، لأمكننا من خلال الدراسة الوافية لتلك الإحصاءات وضع جدول زمني لحركة المدّ والجزر. لكنّ الأمر يختلف تمامًا في فصلي الخريف والشتاء، فمعدّل هطول الأمطار يؤثر على هذه الحركة، لأنّه يؤثر بشكل مباشر على منسوب مياه النهر وبالتالي يؤدي إلى تغيّرات في تياراته.

في الواقع، لم نكن خلال عمليات الاستطلاع وعبور نهر "أروند" المتوحّش نواجه العدو فحسب، بل توجّب على الإيمان والإرادة الإنسانيّة
 
 
 
 
375

360

الغوّاصون

 أن يتغلّبا على الطبيعة أيضًا، وبعبارة أخرى، التنسيق الكامل معها. كان علينا مواجهة كلّ هذه المشكلات والصعاب في ضفّتنا. وبعد عبورنا لنهر "أروند" الذي يصبح لعدة دقائق ساكنًا هادئًا بفعل حركة المدّ الكامل، تبدأ المشاكل الأصعب. كان الوصول إلى ضفة الأعداء أثناء حركة المدّ، يسهّل علينا عبور العوائق الحديديّة والأسلاك الشائكة المتشعبة داخل الماء، لكن ولسبب غير معروف قد يحدث تغيّر مفاجئ في حركة التيارات، وتؤدي سرعة الأمواج إلى إعاقة حركة الغواصين، فستُستنفذ معظم قواهم وطاقاتهم، وبالتالي تبطؤ حركتهم. في تلك الحالة، قد يصل الغوّاصون إلى العوائق مع بداية حركة الجزر، وانحسار مستوى المياه، فيصطدمون بالعوائق الحديديّة المتشعبة والأسلاك الشائكة. فبالتالي سيُضطر الإخوة لاستخدام معابر الأعداء التي تمّ كشفها في عمليات الاستطلاع.


كانت توجد معابر ضيقة بين العوائق المتشعبة تسمح بمرور عنصر واحدٍ، ينفذ من خلالها إلى عمق منطقة الأعداء. كان الإخوة خلال عمليّات الاستطلاع يُحدثون ممرًّا من خلال فصل الأسلاك الشائكة عن بعضها، ومن ثم يوصلونها كما كانت كي لا يلتفت الأعداء للأمر.

من المشاكل الأخرى التي واجهتنا في ضفّة الأعداء: كيفية التحرّك، إذ كان على غوّاصي قوات الاستطلاع عدم ترك أي أثر خلفهم تحت أي ظرف من الظروف. لحسن الحظ، كانت ضفة الأعداء طينيّة، وتحوّلت بفعل طغيان مياه "أروند" إلى أوحال يمكن بسهولة إخفاء أثر الأقدام فيها. مع ذلك، كان على شباب الاستطلاع الاحتياط أكثر فأكثر عند ابتعادهم عن الضفة، ذلك أنّ آثار العبور لم تكن لتختفي قبل مرور 4 ساعات تقريبًا،
 
 
 
 
376

361

الغوّاصون

 ومن أجل حلّ هذه المشكلة، كان الإخوة عند ذهابهم إلى ضفة العدو يتذكرون جيدًا مسير عبورهم ليعودوا أدراجهم من نفس المكان، ويحاولوا بشتى الطرق والأساليب، باستعمال الأيدي أو حتى التزحلق على الأرض، لإخفاء آثارهم. حتى إذا ما التفت العدو لوجود آثارٍ أو حركةٍ غير اعتيادية، سيظنّ أنّ بعض الحيوانات قد زارت المكان في الليلة الماضية.


شكّلت دقّة حرّاس العدو ويقظتهم إلى جانب أسلوب بناء المتاريس والدشم مشكلة واقعية للإخوة، جعلتهم يتحدّثون عنها باستمرار وبعد كلّ عمليّة استطلاع، إذ كانت دشم العدو متراصّة لا تشبه ما رأيناه من قبل في عمليّات بدر. كانت جميع الدشم متلاصقةً، مصنوعة من الإسمنت، كما جُعلت فيها ثقوب لإطلاق النار تسمح بتغطية كامل المنطقة، من سطح الماء وحتى ارتفاع 20م، يمينًا ويسارًا. وإذا ما أُطلقت النيران من جميع الدشم في وقت واحد، فإنها ستغطي كامل المنطقة بالرصاص. بهذا الوصف وهذه الأوضاع، كان يعتبر النصر ليلة العمليات عناية إلهيّة وتسديدًا من إمام الزمان أرواحنا له الفداء.

بعد استكمال عمليات الاستطلاع، أُعطيت الأوامر بإغلاق المحاور، ولم يحدث في محاور فرقة "عاشوراء"، أي نوع من تبادل إطلاق النار أو الاشتباك مع العدو، وجرت الأعمال وعمليات الاستطلاع حتى تلك المرحلة بهدوء، بعيدًا عن عيون الأعداء، بفضل وعي وجدية وتوكل مجاهدي الإسلام. تمّ الحفاظ على سرّيّة العمل والمعلومات في تلك المنطقة ببراعة منقطعة النظير، وكان عناصر الاستطلاع العاملون في تلك المنطقة، يعانون أثناء تنقّلهم، لذا ابتكروا أساليب خاصة لعبور حواجز
 
 
 
 
 
 
377

362

الغوّاصون

 الحراسة التابعة لقواتنا. كان على كل عنصر أو سيارة تريد العبور إلى المنطقة، أن تحمل تصريحًا خاصًا للعبور، وإلّا يتمّ إيقافها. كانت تلك التصاريح تحت إشراف مدخل "عبادان" ومركز شرطة المرور في "الأهواز". حدث أن اضطررنا عدة مرات لاستخدام أسلوبنا الخاص والمبتكر في تأمين التصريح الخاص بالعبور إلى المنطقة، كنّا نعبر المركز وفي الجانب الآخر نسلّم التصريح الخاص بنا لأحد الإخوة الخارجين منها، ليسلمه للأخ المنتظر أمام بوابة العبور بالاسم الفلاني والصفات الفلانية. بالطبع، كنا نضطر لاستخدام الحيلة بسبب ضيق الوقت وفي الأمور المستعجلة، وقد انتشر استخدام هذه الحيلة في العبور بين عناصر الوحدة فقط.


استخدمنا للتنقل من المنطقة وإليها، شاحنات التويوتا الصغيرة المجهزة بمقصورات معدنية من الخلف. كان الدخول والخروج من منطقة العمليات يخضع لمراقبة مشدّدة، كما كان يسجل عدد العناصر العابرين داخل السيارات والشاحنات بدقة. جرى نقل جميع قوات الكتيبة بواسطة الشاحنات المغطاة بقماش الخيم السميك أو بواسطة الشاحنات التي تحمل المقصورات الحديدية، وبفضل تشديد الحراسة والمحافظة التامة على سرية العمل، لم يكتشف العدو حتى ليلة العمليات، أنّ الحرس الثوري قد تسلّم المنطقة من الجيش الإيراني النظامي. وقد تمّ بعون الله وحمده نقل جميع القوات بعيدًا عن عيون الجواسيس والأقمار الصناعية1.
 

1- إضافة إلى نشاط العدو الواسع في منطقة عمليات نهر "أروند"، كانت طائرات الأواكس السعودية والأقمار الصناعية إلى جانب الجواسيس يمدون العراقيين بالمعلومات.
 
 
 
378

363

الغوّاصون

 تسارعت وتيرة أعمال الهندسة أيضًا. وكان عدد من الإخوة في وحدة الاستطلاع، أمثال "حسين صفا شور"، يقومون بقيادة الآليات الثقيلة بشكل يومي ما زالت ذكرى سائقي الآليات الضخمة الذين سبّبوا الكثير من المشاكل بسبب عدم إدراكهم لحساسية المنطقة، ماثلة أمام أعيننا لذا فضّل شباب الاستطلاع القيام بتلك الأعمال بأنفسهم، على أمل أن لا يشعر العدو المتيقّظ دومًا، بوجود أي حركة غير اعتيادية في المنطقة.


كانت الأيام الأخيرة قبل بدء العمليات غريبة عجيبة، فمن جهة، كنت أحسّ بالضيق الشديد، ومن جهة أخرى صرت أشعر بلذة أكبر. لقد اكتشفت بعد فراق "حسين" معاني أخرى للكثير من الأشياء والأمور التي كنت أُصادفها. أصبحت حقول النخيل ملاذي ومأمني، وقد كتبتُ في ظلها الكثير من الوصايا. كما أصبحتْ في أوقات الفراغ والاستراحة القليلة، المكانَ الأفضلَ للخلوة، والصلاة والتضرع والبكاء، ولقطع العهود بيني وبين الله والشهداء.

كنت أفكر في بعض الأحيان أنه لولا وجود أشجار النخيل تلك لكان فراق "حسين" والتفكير بأنني لن أراه في هذه الدنيا، ثقيلًا جدًا علي. كان الغروب يضفي أجواءً أخرى على تلك الحقول، فتدفعني لتصوُّر وحدة وحزن "أمير المؤمنين علي عليه السلام". لم يمر يوم من دون أن أتذكّر الإخوة الشهداء. ولشدّة حزني، كنت أُخفي نفسي بين تلك الأشجار. أضحى المكان وكأنّه محفل لجميع الشهداء. في بعض الأحيان، كنت أجالس بعض الإخوة، ونتحدث عن السيد "مهدي باكري" وسائر الشهداء. كان الجميع واثقًا أنّه لولا وجود السيد "مهدي باكري"، لما
 
 
 
 
379

364

الغوّاصون

 استطعنا أن ننجز ما أنجزناه حتى ذلك اليوم. بالتأكيد لم ينسنا الشهداء، حتى لو أصبحوا عاجزين (ظاهريًا) عن القيام بأي عمل، لكنّهم بالتأكيد يذكروننا ويدعون لنا بالتوفيق. لقد حدثت معنا وفي كلّ الأيام، خلال عمليات الاستطلاع والهجوم، أمور كثيرة ومئات الحوادث، كل واحد منها كان كافيًا ليشعر من يمتلك البصيرة، بصيرة القلب والعقل، بالعناية والرحمة الإلهية التي رافقتنا في جميع تحرّكاتنا على ضفة نهر "أروند" المغطاة بالرصاص والشظايا.


أخذت الأمور تتبدّل في المنطقة شيئًا فشيئًا: كانت طريق العمليات تُفرش بالحصى، وقادة المحاور والكتائب يتردّدون إلى المنطقة يوميًا للاستطلاع والوقوف أكثر على سير الأوضاع، وكانت تستقدم الأسلحة الثقيلة تدريجيًّا، وبدأ التخطيط والبحث عن مكان مناسب لتموضع القوات.

لم تَخُفْ مهام قوات الاستطلاع، بل كانت تتبدّل كلّ يومٍ من دون أي تغير في خطوتها وأهميّتها. كان الإخوة كالسابق يعملون ليلًا نهارًا، ويشعرون بالراحة مع إحساسهم باقتراب موعد العمليات. يا لصباح ذلك اليوم المتألق الذي رأينا فيه طريق العمليات قد هُيّئت وأُعدّت. كنت أنا و"الشيخ علي زاده" أول من خطا على تلك الطريق، كان شخصًا آخر. تراه يقفز عاليًا في الهواء ويتدحرج على الطريق قائلًا: "هذه طريق العمليات.. هذه طريق العمليات" ومن خلال تجربتي مع الإخوة، كنت على اطمئنان بأنّ"علي" سيتحرر ويغادر في هذه العمليات.

جاء طاقم الكتيبة إلى المنطقة للاستطلاع والتوجيه. تقدموا داخل
 
 
 
 
380

365

الغوّاصون

 المياه بعض الشيء ليعاينوا عن كثب مكان مهمتهم. كان تصرفًا عاقلًا أن لا تزدحم المنطقة مع اقتراب موعد العمليات فينتبه العدو لهذا ويرتاب. كانت الكتائب حتى ذلك الوقت متموضعة في منطقتين، كتائب الاقتحام على ضفة نهر "كارون"، وكتائب الإسناد في منطقة "بهمن شير".


تمّ اختيار أماكن تموضع تلك القوات في المنطقة، وتقرر أن تستقر قوات الاقتحام على ضفة (النهر 4) ، بينما تستقر كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" في القرية القريبة من مقرّنا ومن المركز. كما خُصصت المخافر المحاذية للأنهار وبالقرب من "أروند" كمقرّات لقوات الغوص المؤلفة من ثمانية فصائل، مع مراعاة السريّة وسهولة وسرعة وصول القوات إلى الأنهر، حيث سيركبون القوارب، ويتقدمون للأمام. فكُلّما قصُرت المسافة بين القوات والأنهر، ازدادت السرعة شرط الحفاظ على السرية والاحتياط.

نُقلت القوات العاملة على "شط علي" إلى مقرّنا، كما جاء "محمد بور نجف" - وكان من الإخوة الذين شهدوا استشهاد "حسين" - وأخبرني أنه أصيب بشظية صغيرة في الرأس أدت إلى استشهاده بهدوء وصمت.

أراحني كثيرًا لقاء أصدقائي القدامى. ذهبتُ قبل يومٍ من بدء العمليات للقاء صديقي القديم "محمد محمد بور" في كتيبة "سيد الشهداء"، فقال لي كعادته: "هذه المرة سأكون معك يا "مهدي"!". كان "محمد" في طاقم كتيبة "سيد الشهداء" وقد حدثت معه بعض الأمور التي جعلته كسير القلب. للأسف، لفّق بعضهم الأحاديث حوله،
 
 
 
 
 
381

366

الغوّاصون

 الأمر الذي آذاه بشدّة وأحزنه لدرجة أنّه كان ينهي صلواته اليومية بالبكاء. التقطنا معًا بعض الصور في ذلك اليوم، وعندما أردت العودة، تبادلنا العناق والقبلات ثم قال ضاحكًا: "شفنا ما شفنا، سامحني"1 ضحكت وكررت كلامه.


بدأت جلسات إعطاء التعليمات وإلقاء الكلمات التوجيهية قبل العمليات، وطبقًا للأوامر، دقّقتُ وبحثتُ جيدًا في المرحلة الثانية للعمليات في محور كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، لكنني لم أكن واثقًا بعد، إن كنت سأرافق هذه الكتيبة أم لا. جاء "محمد سبزي"معاون كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" إليّ بعد انتهاء الجلسة وقال ضاحكًا: "انهض واجمع أوانيك وأغراضك لنذهب!".

ذهبت إلى كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" في الصباح، لكنني لم أتمكّن من لقاء الإخوة لأنه كان عليّ العودة إلى الوحدة لسماع بقية التوجيهات والكلمات. اجتمع جميع عناصر الوحدة هناك، تحدث الأخ "فتحي" وذكّرنا ببعض الأمور المهمة.

- "لا تتوانوا عن التضحية بأرواحكم حيث يقتضي الأمر، فأنظار الإخوة مصوّبة نحوكم. ووجودكم بينهم يمدّهم بالمعنويات. اذهبوا حيث تشعرون أن وجودكم سيحل معضلة أو عقدة. نفّذوا حتى الصباح ما يتوجب عليكم من مهام، ثم عودوا إلى الأرصفة والمتاريس التي حددت لكم على ضفة النهر".
 

1- أي سامحني على كل ما رأيته ولم تره مني.
 
 
 
 
382

367

الغوّاصون

 كان كلام الأخ "فتحي" الأخير حول ضرورة عودتنا إلى المراكز المحددة لنا صباح العمليات، خلافًا لرغبتي وميلي. لكن أحدًا لم يكن يفكر فيما سيؤول إليه الصباح، فأمنية الشهادة ليلة العمليات كانت لا تزال كبيرة جدًا، وهي التي دفعتني للاستمرار.


كان للضحكات والابتسامات وتحيات الوداع طعمٌ آخر. اختفى الأخ "فائقي" في مكان بعيد عن الأعين ليلتقط بعدسته المشاهد الأخيرة لوداع الإخوة. كما شهدتْ النخلات المقطوعة الرأس على ضفة نهر "أروند" وداعَهم الرائع لهذه الدنيا الفانية، النخلات نفسها التي عاينت فيما مضى نجوى وحُرقة قلوب منتظري الإمام الحقيقيين، في صلاة الليل، وعند بكائهم الخفي على رفاق دربهم الشهداء.

وكما في عمليات "بدر"، لم يغب عنا لحظة واحدة نداء "يا فاطمة الزهراء" عليها السلام رمز العمليات. ذلك الشعار الذي يمنح القلب أجنحة للتحليق. مضت ساعات وأنا حاضرٌ في جمع الإخوة في وحدة الاستطلاع. حدّقتُ مليًّا في الوجوه المألوفة لديّ. كان "محمد رضا مهر باك" واقفًا أمامي، كان كثير الحركة بعكس ما قال بعضهم، ربما لأنّه استطاع إخفاء حقيقته جيدًا. كان "محمد رضا" يمتلك قلمًا سيّالًا وكتاباته رائعة، وفي بعض الأحيان يأخذ قلمه ودفتره ويجلس قرب جدار المسجد ويشرع بالكتابة. كنّا نكمُنُ له في مكان قريبٍ ننتظر انتهاءه من الكتابة لنهجم عليه محاولين معرفة ما كتبه، فيفرّ إلى حقول النخيل، ونلحق به مصرّين على معرفة ما كتب، لكنّه ما كان ليفشي شيئًا أبدًا. تحدث "محمد رضا" في تلك الأيام عن كتاب يؤلّفه جوابًا لسؤال ابن
 
 
 
 
383

368

الغوّاصون

 أخته فيما مضى وقال: "سألني ابن أختي في طهران عندما كنّا جالسين في أحد الأيام على سطح المنزل: "يقولون يا خالي إن الله في السماء، فأين هو دلني عليه لأراه؟". حينها لم أستطع الإجابة، لكنّني الآن أؤلف كتابًا جوابًا عن سؤاله".


قبل ثلاثة أيام تقريبًا، كان قد طلب الأخ "فتحي" من الإخوة في الوحدة أن يكتبوا له أي شيء يرغبون به، وأكّد لهم أنّ تلك الكتابات مهمّة بالنسبة له وسيستفيد منها في المستقبل. كان "محمد رضا مهر باك" من بين الملبّين لهذه الدعوة، وجلس يكتب بكل همّة وجدّ.

حان موعد الانطلاق، وكان غواصو الاقتحام قد انطلقوا قبلنا. شارفت الشمس على الغروب، وكانت الغيوم المتناثرة التائهة تجوب السماء، وقلبي يحدّثني بأنها ستُمطر. لم أكن أتحمّل رؤية هذه الوجوه المبتلّة بالدموع. شباب أصبحت الجبهة دارهم ومدارهم، وقد شهدوا العديد من مراسم الوداع المشابهة، وحملوا أجساد إخوانهم الشهداء على أكتافهم أكثر من مرة، كانت وسيلتهم الوحيدة للتعبير عن هواجسهم وقلقهم: "هل يُعقل أن لا ألتحق بالركب هذه المرة أيضًا؟!".

كان معطفي على كتفي، قلت لهم: "عليّ الذهاب الآن!".

بهذه الكلمات، غادرت وحدة الاستطلاع من دون أن أودّع أحدًا، خشية أن يتقدم أحدهم ويطلب المسامحة. فلا مؤاخذة لي ولا عتب على أيٍّ منهم، وكنت أعلم أنني لم أضايق أحدًا سوى الأخ "كريم فتحي" فأذهب وأطلب منه المسامحة.

وصلت بمفردي إلى جمع الإخوة في "كتيبة الإمام الحسين عليه السلام".
 
 
 
 
384

369

الغوّاصون

 كانت أصوات أذان الشباب تنبعث من بين زوايا وجنبات حقل النخيل. لم يكن يُسمح باستخدام مكبّر الصوت لرفع الأذان، لذا كان الإخوة يرفعونه ويناجون الخالق، كلّ حسب حاله وأحواله. كان "رضا خيري"1، "يعقوب علي زاده" وغيرهما من كتيبة الإمام الحسين عليه السلام قد استعدّوا للالتحاق بآخر سرية من سرايا كتيبة "سيد الشهداء". كان الإخوة يغبطونهم على التحاقهم بالكتيبة، لأنّه من المقرر أن تشتبك هذه الكتيبة مع العدو في المرحلة الأولى للهجوم. ودَّعُوهم فردًا فردًا، واحتضنوا بعضهم الواحد تلو الآخر، وداع هملت له العيون واهتزت له الأكتاف تأثرًا وشوقًا، فرؤية تلك المشاهد أجّجت نيران فؤادي. مشهد شباب يتهيأون للهجوم بعد ساعة ولا يطيقون التأخر للسير إلى المعركة، رغبتُ في قضاء بضع دقائق في الجمع الملكوتي (للفصيل 1) من (السرية 3)، ذلك الفصيل الذي مَنحني أروع الذكريات. فتّشت عنهم لأجدهم. ما إن فتحت باب غرفتهم حتى ضعت في الظلمة والآهات، وهمهمات "يا حسين" جعلتني في عالم آخر. وضع الحاج "خليل" رأسه على كتف "جليل حاجي نوري"، وتعانقا باكيين وكأنه وداعهما الأخير. ما إن انتبه "إبراهيم خليل" لوجودي حتى ضمّني إليه. كان قد مضى وقت طويل على آخر لقاء لنا، وكان يبكي شأنه شأن جميع الإخوة. أسرّ"ابراهيم خليل" في أذني وهو ما يزال يبكي: "منذ أن ذهبت لم يعد من أحد يدثرني بالبطانية ليلًا يا 'مهدي قلي'!".

 


1- استشهد في عمليات كربلاء 5- في شهر كانون الأول 1986م

 

385


370

الغوّاصون

 خجلت من نفسي كثيرًا، لقد تعلمت من صحبتهم الكثير الكثير. في لحظات نزول الرحمة تلك، جَعَلتْ طيبتهم وصداقتهم دموعي تنهمر بلا إرادة مني. حان وقت الصلاة، فتراصّت الصفوف وصلّينا جماعة.

 

 

386


371

طيور أروند

 طيور أروند

شباط وآذار 1986م
 
عمليات نهر "أروند"، تقدّمٌ خطير وشهداء يفارقون. ما تألّمت في حياتي مثل هذا الألم..
     
وأدركتُ بين سطور مذكرات "محمد بور" ما عرفه قبل رحيله.

من شهيدٍ إلى جهاد، حمِيَ الوطيس، والتهب القتال في عمليات الفاو.

وفجأة جاءت العودة الاستثنائية إلى "تبريز". لا أعمق من هذا الخجل والحزن والقرار الجديد..
 
 
 
 
387

372

طيور أروند

 1


انطلق الغوّاصون ليلة التاسع من شهر شباط لعام 1986م. أكثر ما كنت أخشاه هو أن يشقّ عليّ فراق الإخوة إن طال مكوثي بينهم، لذا ودّعتهم فردًا فردًا، وكان عليّ الذهاب إلى السيّد "حسن شكوري" قائد كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، وقد ساورني قلقٌ حول العقبات والأحداث التي يمكن أن تواجهنا ليلة العمليات، كأمواج نهر "أروند" العاتية والمعاكسة، قلق لم يشاطرني إياه أيّ من أعضاء ومسؤولي الفرقة. ربما لأنّني كنت على تماسٍ مباشر بمجريات الأمور. خرجتُ لأقف على مكانٍ مرتفع ومشرف على المنطقة، وكنت بين الحين والآخر أذهب إلى هناك ثم أعود.

كانت هذه من المرات القلائل التي لا أشارك فيها مع قوات الاقتحام وأراقب من بعيد لحظات الاشتباك. لكن سنحت لي الفرصة لأعاين وجوه وملامح الإخوة المنتظرين، أمام أجهزة اللاسلكي بفارغ الصبر، أي اتصال أو إشارة من قوات الاقتحام. كان المطر يهطل بشكل متقطع:
- تُرى أين أصبح الغوّاصون؟

- هل بدأت المعارك؟

- هل سَيُنْهك الهواء العاصف قوى الإخوة، فلا يصلون إلى الهدف؟!

هبطتُ المرتفع، وكان مسؤولو الكتيبة يشرفون على تجهيز العناصر، ويحدّدون السرايا التي ستنطلق في القوارب أولًا. وقد تقرر أن أركب أنا وقائد (السرية 1) الأخ "مصطفى بيشقدم" مع عدد من العناصر، القارب الأوّل.
 
 
 
 
388

373

طيور أروند

 بعد أن حُددت المهام، انشغل الإخوة هنا وهناك بالدعاء والتوسل، فعدت إلى المرتفع مجددًا وحدّقت في الأفق البعيد، حيث ستبدأ أولى المعارك. لقد أتعبني التفكير بالمدّ والجزر، بجهوزية الأعداء، بالتجهيزات والمتاريس والحراس. كان صوت دعاء الإخوة الهادئ يصل إلى مسمعي فيشعرني ببعض الطمأنينة. فجأة سمعت صوت تبادل لإطلاق النار قادم من محور فرقة (كربلاء25)، أعقبه هدوء.


في المعارك، عادة ما يبادر العدو إلى إطلاق النار ثم يبدأ ردّ الإخوة عليه، لكنني لم أفهم معنى الهدوء الحاصل. استمر الهدوء وسط عاصفةٍ من القلق والاضطراب اجتاحتني مدة خمس دقائق. كانت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل، عندما خَرَقتْ رصاصاتُ الأعداء هذا السكون وبدأ تبادل لإطلاق النار من جديد. يبدو أنّ غواصي الاقتحام في "فرقة عاشوراء" قد وصلوا إلى خط الأعداء الدفاعي. إنقطع الصوت فجأة وعاد السكون والصمت مجددًا. مرت لحظات ثقيلة ندمت فيها كثيرًا لأنّني لم أكن مع قوّات الاقتحام، وكان القلق ينهشني ولا أدري ما العمل، فقد طال الهدوء هذه المرة لأكثر من عشر دقائق، تُرى هل قضى الأعداء على جميع الإخوة؟!

فجأة بدأ إطلاق نار غزير من ضفتنا. طوال مدة الحرب، لم أرَ هذا القدر الهائل من النيران المنهمرة على رؤوس الأعداء. كانوا قد أحضروا في الليلة الماضية مختلف صنوف الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة (الهاون، المدافع الثقيلة، الكاتيوشا وغيرها). بعد لحظات من انصباب الحمم على خط الأعداء، بدأت أجهزة اللاسلكي بالعمل.
 
 
 
389

374

طيور أروند

 - جهّزوا الإخوة بأسرع وقت.. هيّا تحرّكوا!


ركضت أنا و"مصطفى بيشقدم" جنبًا إلى جنب، وصلنا بأقصى سرعة إلى القارب المحدد لنا. كانت جميع قوات الكتيبة تحثّ الخطى خلفنا باتجاه النهر حيث تنتظرهم القوارب، لأننا كنّا نعلم جيدًا أنّ أيّ تأخير في الانطلاق يعني بدء حركة الجزر وبالتالي انغراس القوارب في الأوحال1. أقلعنا بالقوارب وكنا نتجه نحو علامة لمعت من مسافة بعيدة كأنها تدعونا إليها. كان أحد الإخوة، وحسب ما كان مقرّرًا، يرسل لنا إشارات بالمصباح اليدوي. هكذا، لم نواجه أي مشكلة في عبور المجاري المائية ونهر"أروند"، غير أننا كنّا نتعرّض لوابل من رصاص الأعداء من جهة الشرق. وظلّ القلق يساورني من احتمال أن يكون الأعداء قد كمنوا لنا عند السدّ، إذ سنضطر حينها للاشتباك معهم قبل وصولنا إلى السدّ.

كان نهر "أروند" تلك الليلة على غير عادته، هادئًا جدًّا بالرغم من هطول الأمطار المتفرّقة. عندما وصلنا إلى عوائق سدّ الأعداء رأيتُ وجه "رضا داروبيان" المألوف، وقد غيّرت بدلة الغوص شكله الظاهري كثيرًا. وصل القارب إلى الأسلاك الشائكة، لحسن الحظ، كان الإخوة قد نزعوا جزءًا منها فسارت القوارب من دون أي مشاكل تُذكر. ما إن رآني "رضا" حتى ناداني: "أهذا أنت يا مهدي قلي؟!".

لمّا وصل القارب إليه، أمسك رضا به وساعدنا في العبور. وصلنا
 

1- وقد سمعت أن بعض القوات قد واجهت تلك المشكلة.
 
 
 
390

375

طيور أروند

 إلى مكان يتعذر فيه مرور القارب، قفزنا إلى الماء بسرعة. غمرتني المياه إلى ما فوق الركبتين. عندما وصلنا إلى الضفة، رأيت الغوّاصين وهم يركضون كلٌّ في اتجاه. شعرت بالبرد الذي لطالما ألفْتُه واعتدتُ عليه، وكنت ألقي التحية على كل من ألتقيه، لكنهم ولشدة الإرهاق والتعب، كانوا غير قادرين على ردّ التحية.


- عملكم رائع، أحسنتم! عافاكم الله!

سَبَح الغوّاصون مدة ساعتين تقريبًا ليقطعوا نهر "أروند"، نحو ضفة الأعداء، وبرغم الإرهاق والبرد الذي أنهَكَهم، كانوا ما زالوا يعملون على تطهير الدشم والمتاريس. دخلتُ أولَ متراسٍ وصلت إليه، وإذا بي أرى فيه "إبراهيم أصغري" وقد سالت الدماء من رأسه على وجهه، لقد أصيب بشظية في رأسه، فخلّفت فيه جرحًا عميقًا. ظننت أنّ التحدّث إليه قد يفيد ويعطيه بعض المعنويات، لكن ما إن رآني حتى قال بلهجة غاضبة: "ما الذي أتى بك إلى هنا؟!".

أدركت أنّه ليس بحالة مواتية، ولن أستطيع فعل شيء، لذا خرجت من المتراس.

توقفت القوارب بجانب الضفة، ونزلت القوات بسرعة إلى السد. حان دوري لأقود القوات إلى الأمام، وقد كنت شاهدَ عيانٍ على كل ما رأيته سابقًا خلال عمليات الرصد والاستطلاع والصُوَر الجوية. كنّا نتقدّم في المنطقة بسرعة وكأنّنا نعرفها من قبل، ونعرف جيدًا طرقاتها وسواترها الترابية. كان الطريق الذي كنّا نعبره يمرّ فوق أحد الأنهر، وكنت أعرف أين ينتهي. كان "مصطفى بيشقدم" يسير خلفي برشاقة وخفة حاملًا سلاحه
 
 
 
 
391

376

طيور أروند

 بيده، ومن خلفه قوات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". كنت أسير في مقدمة الرتل بلا سلاح. فجأة، وعلى بعد خمسة أقدام نهض شخصان وقالا شيئًا بالعربية لم أفهمه، لكنّ مصطفى عالج الموقف برشقات من سلاحه فأسكتهما إلى الأبد. دفعتني هذه المصادفة إلى الانحراف عن الطريق الرئيس، فسرت بالقوات بمحاذاة الساتر الترابي للخط الدفاعي الثاني للأعداء. لم أكن أعلم أنّ "كريم حرمتي" قد رافق قوات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" من دون أن يُطلع أحدًا على الأمر. قال لي الإخوة الذين يعرفونني جيدًا: "لقد استشهد صديقك ذاك"، وكانوا يقصدون "كريم حرمتي"، ولم أعلم كيف رأوه في محورنا. انزعجت من هذا الخبر، لكن مهمتي كانت إرشاد وتوجيه القوات، لذا كان عليّ تحمّل أي نبأ أو خبر مهما كان مُرًا. كنّا نسير على الحافة الغربية للخط الدفاعي الثاني، عندما سقطت عليه قذيفة دبابة. وجّهتُ القوات بسرعة إلى القسم الشرقي من الخط، حيث تموضعنا سابقًا. ولأنني لم أكن أحمل السلاح1، اتخذت القرار المناسب بسرعة، وغيّرت مسير القوات لأصل بهم إلى الهدف المنشود من دون الدخول في أي معارك جانبية.


كان علينا الالتفاف حول الساتر الترابي لخطّ الأعداء الثاني الممتدّ كساتر ترابي بموازاة نهر "أروند"، لنصل مباشرة إلى السواتر الترابية المثلّثة التي أخذت شكل حرف (ب)، والتي كانت تمثل خط الدفاع
 

1- لم أكن أحمل السلاح معي ليلة العمليات، وفائدة هذا الأمر أنني لن اضطر للتفكير في خوض المعارك، وأستطيع بالتالي التركيز على مسألة إرشاد القوات. كانت القوات مسلحة، ويمكنهم الدخول في أي معركة متى لزم الأمر. وهكذا كنت أركز كل جهودي للوصول بالقوات إلى الهدف سالمين وبأقصى سرعة.
 
 
 
392

377

طيور أروند

 الثالث لهم. كان عبور تلك السواتر بسبب شكلها الخاص، صعبًا نوعًا ما، إضافة إلى ذلك المقر الموجود في تلك البقعة، وقد أمطر الإخوة بنيرانه فَشَلّ حركتهم. كان ذلك المقرّ يشكّل أحد أضلاع ذلك الساتر الترابي المثلّث، وكان علينا عبور ضلعه الآخر حتى نتخطّى العدو ويصبح وراء ظهرنا. ولكي لا يعيق هذا المقر حركتنا أرسلنا مجموعة للقضاء على عناصره. لم يكن لدينا الوقت الكافي لننتظر رجوع المجموعة، ما إن تحركت حتى تابعنا نحن سيرنا، وسرعان ما وصلنا إلى السواتر ذات الشكل (ب). أعلى من هذه السواتر بقليل، تقع نقطة انفصال السرايا بعضها عن بعض. وتوجّب على السريتين (2) و(3) الاستمرار في التقدم. أوكلتُ لـ"رضا انكوني" مهمة إرشاد السريتين، فانطلق هو وبقيت مع "محمد أسدي"1. أكملتُ مع (السرية 1) السير من جهة اليسار، ولم نكد نسير مسافة قصيرة حتى ظهرت أمامنا طريقٌ. كنت أعلم من خلال استطلاعي السابق أن كل تلك الطرق ستوصل في النهاية إلى طريق "القدس"، لكن الطريق التي كنت أبغي الوصول إليها تمرّ بالقرب من أحد مخافر العدو، ولم نكن قد وصلنا إليه بعد. جعلتني الظلمة أشك بالأمر، لربّما مررنا بالقرب منه ولم ننتبه إليه. كان قائد (السرية 1) "مصطفى بيشقدم" بالقرب مني، فقلت له بصوت منخفض: "إبقَ هنا يا سيد 'مصطفى' لألقي نظرة على المكان لعلّي أجد المخفر". ناديت "رحمان هراتي" و"محمد أسدي": "اذهب يا

 


1- رضا انكوتي ومحمد اسدي من قوات الاستطلاع اللذين توليا مهمة توجيه وإرشاد قوات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام".

 

 

393


378

طيور أروند

 رحمان لجهة اليمين وأنت إلى اليسار، إبْتَعِدا فقط مسافة 200 متر وعُوَدا بسرعة". وتابعت أنا سيري ووصلت إلى حيث تموضَعَت قوات كتيبة "سيد الشهداء" البرمائية. سألتهم إن صادفوا في طريقهم مخفرًا ما، فقالوا: "يوجد إلى الأمام مخفرٌ يطلق العراقيون منه النار باتجاهنا". علمت أننا في الاتجاه الصحيح، فعدت أدراجي وتوقّعت أن يكون الإخوة قلقين لغيابي، وأن يكون "رحمان ومصطفى" قد عادا.


كان ظنّي في محلّه، فقد كان الأخ "بيشقدم" قلقًا جدًا و"محمد أسدي" يجلس بالقرب منه. كنت على عجلة من أمري وأريد أن أقود القوات نحو الطريق، ما إن هممت بالتحرك حتى رأيت شخصين بلباس أسود يتقدمان نحونا من جهة اليمين. وبما أننا، في بداية الطريق، قد صادفنا عراقيين، توقع الإخوة أن يصادفوا المزيد منهم. رأى "مصطفى" الشخصين أيضًا فرفع سلاحه، وقبل أن أتمكن من فعل أي شيء أطلق النار نحوهما.

- لا تطلق النار يا مصطفى هما منّا!!

أُسقِطَ في يدي وهالني الخوف. ركضت نحوهما والقلق ينهشني، كان ظني في مكانه. لقد استقرت الرصاصة في جبين "رحمان هراتي"، فانتقل إلى الملكوت الأعلى، رأيت "بيوك شمس علي زاده" يجلس بالقرب منه وقد جرح في ظهره، ولم أكن أعلم حتى تلك اللحظة أنّ "شمس علي زاده" قد رافق "رحمان هراتي". وصل عناصر الإسعاف بسرعة، فقلت لهم: "اهتمّا بهما". نهضت من مكاني بسرعة إذ لم يكن بالإمكان التريّث والانتظار، وكان يجب علينا التحرك والاستمرار
 
 
 
 
394

379

طيور أروند

 في التقدم. علت وجه"مصطفى بيشقدم" سحابة حزن وغمّ لاستشهاد "رحمان هراتي"، فأشفقت عليه ولم أطق النظر في وجهه.


وصل الرتل إلى الطريق. استنتجتُ أنّنا إذا تابعنا السير فيه فسنواجه صعوبات مع ذاك المخفر. كنّا نتعرّض لإطلاق نيران الأعداء من عدّة جهات. ذهبتُ مع "مصطفى" إلى حيث يرزح الإخوة تحت وابل الرصاص والقذائف. كانت تقعُ في ذلك المكان أطلال قرية مندثرة على تقاطع طريق فرعي ينتهي بطريق "القدس". ويمرّ بالقرب من القرية نهر جفّت مياهه، وعلاه غطاء نباتي وامتدّ القصب على جانبيه. في الجانب الآخر من النهر، كان يقع متراس العراقيين الذي يبعد حوالي 20 مترًا عن القرية. لم ينقطع رصاص الأعداء لحظة واحدة، ما أعاق تقدّمنا. أطلق الإخوة ثلاث قذائف "آر بي جي" نحوه، لكنّها لم تؤثّر فيه، انبطحوا أرضًا إثر تعرضهم لإطلاق نار كثيف، وقد ألحّ بعض الشباب أصحاب النخوة عليّ طالبين التقدّم نحو المتراس وتدميره. قرّرت أن أذهب مع السيد "محمد وطني" أحد المتطوعين لهذه المهمة، لكنّنا لم نستطع التقدم خطوة واحدة بسبب غزارة النيران. جاء "أحمد يوسفي" إليّ وقال: "أنا أذهب بسرعة وأقضي عليهم". كنت أعلم أنه رجل مغوار، يفعل ما يقوله. قال: "عليكم فقط إلهاؤهم بإطلاق النار لأتمكن من التسلّل باتجاههم".

نهض "أحمد" وبدأنا بإطلاق النار بهدف تأمين طريقه. كان أحمد قصير القامة، قوي البنية، وما هي إلا ثوانٍ حتى وصل إلى المتراس، واتّكأ على جدار يعلوه ثقب لإطلاق النار. لم يلتفت العراقيون بعد
 
 
 
 
395

380

طيور أروند

 لوجود "أحمد" الذي سحب بكلّ خفّة صاعق قنبلة يدويّة ورماها من خلال الثقب ثم زحف على الأرض مبتعدًا بسرعة عنه وهو يكبّر، وما لبث أن دوّى صوت انفجار مرعب من داخل المتراس. يبدو أنّ القنبلة قد سقطت على جعبة للذخيرة، إذ تزامن الانفجار مع دوي عشرات الانفجارات الصغيرة الأخرى التي أشعلت النيران داخله. أرعبت هذه الانفجارات الأعداء الموجودين فيه، وخرج منه أكثر من عشرين عراقيًا واضعين أيديهم فوق رؤوسهم علامة الاستسلام.


سنحت لي الفرصة لإحصاء خسائر قوات السريّة. لقد جُرح كلّ من "كريم عظيمي، كريم جوراب باف ورسول رجب بور1 جراء إصابتهم بشظايا قذائف الهاون (60).

نظّمنا صفوفنا وتابعنا سيرنا فوصلنا بعد عدة دقائق إلى طريق الفاو - البحار أو "جادة القدس". كنّا أوّل القوات الواصلة إليه في محورنا. اتصلنا بالجناح الأيمن حيث محور السرّيتين (2) و(3) من سرايا كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، وكانوا قد وصلوا إلى الطريق، لكنهم أخبرونا أنّهم يتعرضون لإطلاق نار كثيف من جهة حقول النخيل.

تموضعت القوات على الطريق، لكنني لم أستطع المكوث، فقررت التقدم واستطلاع المنطقة، رغم أنّ ظلام الليل وهطول الأمطار صعّبا الأمر بعض الشيء. اصطحبت معي "محمد أسدي" وانطلقنا، فوصلنا إلى طريق أخرى بعد قطع مسافة 700م تقريبًا.
 

1- استشهد رسول رجب بور بعد إصابته بعدة ساعات.
 
 
 
396

381

طيور أروند

 - هذا "طريق النصر"!


يمتد طريق "النصر" بين "الفاو والبصرة"، وكان مقرّرًا أن يكون محور عمل كتيبة "حبيب" هناك. كان الطريق مغطًّى بطبقة رقيقة من الإسفلت (الزفت) ما أثار شكوكًا في داخلي، خشيت أن يكون هذا هو طريق القدس وليس ذاك حيث تموضعت قواتنا، وممّا عزّز شكوكي أننا لم نواجه أيًّا من القوات العراقية في المسافة الفاصلة بين الطريقين. استحضرتُ ما في ذاكرتي من معلومات، وأخذت بعين الاعتبار جميع العلامات والأدلّة، فاطمأنّ قلبي إلى أنّني لم أخطئ الطريق، ثم عدتُ أدراجي إلى جادة "القدس".

كانت قوات "فرقة كربلاء" قد انضمّت إلينا عند ذلك الفاصل من الجناح الأيسر، ذهبتُ إلى قيادة كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام":
- هل يمكنك يا سيد "حسن" أن تتصل بالقيادة وتحصل على الإذن بنقل القوات إلى طريق النصر؟

- لا، لا حاجة لذلك.

- قد نواجه مشاكل من جهة طريق "النصر" إن بتنا الليل هناك، ومن الممكن أن تزدحم المنطقة صباحًا بالقوات العراقية.

أصررتُ عليه بأن يتّصل ويشرح الظروف القائمة، لكن ردّهم كان بضرورة البقاء في "جادة القدس". اعتقدتُ أنّ السبب في ذلك يعود إلى عدم رغبتهم في نشر القوات على مساحة واسعة بهدف القيام بعمليات تمشيط وتطهير المنطقة بشكل أسرع وأسهل، كما إنّ كتيبة "القاسم" لم تكن قد وصلت بعد إلى جادة "القدس". وسيؤدّي
 
 
 
 
397

382

طيور أروند

 ذلك في حال تقدّمنا إلى طريق "النصر"، إلى فتح جناح للعدو يخترق فيه قواتنا ويقطع أوصالنا (اتصالنا).


انطلقتُ نحو (السرية 3). كانت نسائم النصر تهبّ من كل حدب وصوب، والإخوة يطلقون الطرائف تعبيرًا عن الفرح. رحتُ أتنقّل بين الإخوة، وقد غمرتني السعادة لرؤية نشاطهم وابتسامات ثغورهم.

كان مقر (السرية 3) بعيدًا جدًّا. بحثت عن الحاج "إبراهيم خليل"، ووجدته ممدّدًا على ظهره محدّقًا في السماء.

- السلام عليكم يا حاج!

ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتيه، وعيناه تبرقان بتباشير النصر. جلست إلى جانبه، وشعرت أنّه مستعدّ للرحيل، خاصة أنّه كان قبل بدء الهجوم يبكي راجيًا هذا وذاك السماح له بالمشاركة في المعارك.

- حسنًا يا "حاج خليل"، ألديك ما يؤكل في جعبتك؟

فتح حقيبة الظهر الخاصة به ووضعها أمامي. كان تلك الليلة حنونًا جدًّا أكثر من أي وقت مضى. بقيت لدقائق معدودة إلى جانبه، لكنه لم يكن على طبيعته، ولم يتكلّم كثيرًا.

- بما أنّني عرفت مكانك، فسآتي لرؤيتك لاحقًا. الآن أستودعك الله.

قلت هذا وانطلقت باحثًا عن الأخ "مصطفى بيشقدم".

حلّ الفجر، وكانت نفحات الهواء العليل المنعش، مع الأذان تنفذُ إلى القلوب قبل نفوذها إلى الآذان. كنت أفكّر في مصطفى، كان يستعدّ للصلاة عندما وصلت إليه. تيمّمنا وصلّينا الفجر.

كان "مصطفى" حزينًا
 
 
 
 
398

383

طيور أروند

 كئيبًا، ولم أدرِ ما أقول لمواساته. شارف ضوء الصباح على الانبلاج، فقلت: يا سيد "مصطفى"! سأذهب إلى السيد لأرى ماذا يجري هناك. لكنه بقي على صمته.


انبلج الصباح، وظهرت الكلاب المتجولة في المكان. كنت أقتل كل كلب أراه لأنه من الممكن أن ينهش أجساد الشهداء، أو قد يكون مصابًا بالكلَب. كنت على عجلة من أمري لأصل إلى السيد "حسن شكوري". رأيت جرافة من بعيد. عندما اقتربت علمت أنّ عناصر من "كتيبة الإمام الحسين عليه السلام" كانت قد غنمتها من مقر سلاح الهندسة التابع للأعداء، كانت الجرافة تهيل التراب على الطريق، ويكاد سائقها لا يظهر لصغر سنه.1

وصلت إلى الأخ "شكوري" وقلت له: "لقد أشرقت الشمس يا سيد، لم لا تتصل بالقيادة ليسمحوا لنا بالتقدم نحو طريق "النصر".

- لا يا سيد "مهدي"، لا حاجة لذلك.

- إذًا سأذهب لأستطلع أمر الطريق.

كان "علي زين العابدين زاده" من العناصر الذين أثق بقدراتهم، لذا انطلقنا معًا في هذه المهمة. وصلنا إلى ساتر ترابي شُيّد بشكل يشبه المقرّ، إلا أنّه لم يكن يصدر منه أيّ أصوات أو حركة. انتابني الخوف عندما دخلنا إليه، فقد كان خاليًا بشكل يثير الشكوك. قطعنا الساتر
 

1- أخبرني الأخ فرج قلي زاده فيما بعد، أنّ سائق الجرافة كان شابًا صغير السن من أهل "مراغة"، والابن الثاني لعائلة ثرية، وقد حضر أخوه الأكبر إلى الجبهة أولًا فأصرّ هو على الالتحاق بها أيضًا، وتوسّط له أخوه للسماح له بالمشاركة في المعارك، وكان يركب في ذلك الصباح الجرافة ويعمل على تسوية الطريق.
 
 
 
399

384

طيور أروند

 الترابي ونحن نسير كتفًا بكتف وباحتياط وحذر. لقد جُهّز الساتر ليكون مقرًّا، لكنه كان خاليًا من أي معدات أو سلاح يدلّ على وجود قوات عسكرية فيه. وصلنا إلى آخره، فتسلّقته بحذر، كان طريق "النصر" ممتدًّا أمام ناظري. رأيت في نهايته نقطة سوداء تتحرك، حدّقت فيها قليلًا فإذا هي رتل لفصيل عراقي يسير نحونا ببطء وحذر.


- هيا يا "علي"، علينا إبلاغ السيد بالأمر، ليحضر القوات إلى هنا.

عدنا من الطريق نفسه، بسرعة وحذر. أبلغنا السيد "حسن شكوري" بما رأيناه، فاتصل بدوره بالقيادة.

كنت أسير على طول الساتر الترابي عندما وقعت عيناي على الحاج "إبراهيم" ثانية. ما إن رآني حتى ناداني وقال: " يبدو يا سيد 'مهدي' أنهم يزعجوننا هناك، فلأذهب إليهم وأسوّي أوضاعهم!".

ابتعدت عنه وأنا أضحك، وكانت لا تزال ابتسامته المعهودة مرتسمة على شفتيه. فالقيادة لم تأمر بعدُ بالاشتباك مع العدو أو التقدم نحو طريق "النصر". كانت الشمس ترتفع إلى كبد السماء، فخفّف دفء أشعتها من برودة الطقس. بأمر من الأخ "فتحي"، كان على جميع قوات الاستطلاع العودة صباحًا إلى الساحل. عندما وجدت السيد "شكوري"، قلت له:
- إن لم تكن تحتاجني سأذهب لأتلقى أوامر الأخ "فتحي" الجديدة!

- اذهب في أمان الله.

ودّعته وانطلقت من الطريق التي تموضعت فيها "قيادة" كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" باتجاه السدّ. رأيت في الطريق الكثير من
 
 
 
 
 
400

385

طيور أروند

 الجرافات والحفّارات فاطمأننت إلى أنّ وحدة النقل قد استقرت في المنطقة. شدّ سمعي عندما مررت قرب الآليات، ضحكات بعض العناصر، وتبيّن من لهجتهم أنهم كانوا من فرقة "النجف"، وقد تحلّقوا حول جثة قتيل عراقي، قال أحدهم: "يا عديم الفائدة، لِمَ أتيتَ إلى الجبهة؟ ألديك ساعة؟!" ضحك رفاقه، ضحكت أنا أيضًا وقلت لهم: "لا عمل لديكم؟ هيا اذهبوا إلى أعمالكم!".


ابتعدتُ عنهم واتجهت نحو خط دفاع الأعداء الأول الذي كان قد استولى عليه غواصو الاقتحام الليلة الماضية. لم أكد أقطع عشرين خطوة، حتى وجدت ساعة ملقاة على الأرض، لا بد وأنها كانت تخصّ ذلك العراقي السيّئ الحظ، التقطت الساعة وتابعت سيري.1
 

1- كانت الساعة من الغنائم القليلة التي حصلتُ عليها طوال الحرب. أعطيتها ليوسف حقاني، وهو من أشجع الإخوة في الوحدة. وقد استشهد بعد معارك بطولية في هجوم عمليات "كربلاء 5" في 9 ك2 1987م 1365/15/19-. ودفن في وادي الرحمة قرب رفاقه الشهداء.
 
 
 
401

386

طيور أروند

 2


كم اشتقت لرؤية وجوه مألوفة، عندما التقيتُ عددًا من قوات كتيبة "سيد الشهداء"، من بينهم قائد الكتيبة الأخ "جمشيد نظمي"، تأكدت أنّ جميع قوات الكتيبة متموضعة هناك، وتوقعت أن ألتقي "محمد محمد بور". كنت أعرف أغلب العناصر، فتحدثت إليهم ومازحتهم، لفتني تحديق "هادي نقدي وسهرابي" بي. عندما ودّعت الإخوة وقبل أن أكمل طريقي، تقدّم "هادي" مني وقال: "محمد ينتظرك يا "مهدي"!"، وكان يقصد "محمد محمد بور"، فسألته: "أين هو الآن؟".

- تابع سيرك بهذا الاتجاه إلى ذلك الطريق الضيق ثم انعطف يسارًا... ستجد بعدها جسرًا للمشاة على النهر... اعبره وستصل إلى صديقك.

لم أكترث إلى المكان الذي أرشدني إليه "هادي"، ولشدة شوقي لم أسأله عمّا يفعله "محمد" هناك بمفرده! سرت حسب العنوان الذي أعطاني إياه. عندما عبرت الجسر، فوجئت بالمشهد أمامي، كانت أرضًا جرداء واسعة. تملّكني شعور غريب. تمشّيتُ قرب النهر، بانتظار وصول محمد. كان المكان ساكنًا فازداد قلقي. ابتعدت عن النهر، ورأيت على بعد 1000م تقريبًا شخصًا ملقًى على الأرض، وحيدًا في تلك البقعة الشاسعة الجرداء. نظرت في الأنحاء فلم أجد أحدًا. أحسست أنّ ذلك الشخص هو من عناصر وحدتنا. سرت نحوه وأنا أفكر كيف استشهد غريبًا وحيدًا هكذا!.. ما إن رأيت قميصه الأخضر، قميص الحرس، حتى
 
 
 
 
 
402

387

طيور أروند

 تسمّرت قدماي في مكانهما. كان قد سقط ووجهه إلى الأرض، ولم أرَ غير ظهره، كان شعره يشبه شعر محمد، قامته قامة محمد، ويداه جامدتان..


- ماذا تفعل يا محمد هنا؟ لِمَ أنت وحيد؟..

لم أُصدّق! ذاك الشهيد الوحيد الغريب لم يكن إلا صديقي القديم "محمد"! رفعتُ رأسه عن الأرض. كان جانبًا من وجهه قد ازرقّ. صرت أقبّل وجهه المدمّى والتريب والدموع تنهمر عن غير قصدٍ مني، مسحتُ بيدي على شعره، وجميع ذكرياتي معه تمرّ في ذهني، مصحوبة بالزفرات والدموع: صفوف القرآن، مسجد "شربت زاده"، الصف الأول، مجيء ذلك الرجل، انتصار الثورة، (القاعدة 6) في مسجد شربت زاده... في كل مكان كنّا معًا إلى أن جئت أنت إلى الجبهة وبقيتُ أنا.. ثم عدتَ أنت وجئتُ أنا.. وشاء القدر في النهاية أن نكون معًا في الجبهة. أما الآن!.. بقيتُ أنا، ورحلتَ أنت؟! أين أنت يا محمد؟!..
 
ضممته إلى صدري، بثثتُ إليه شجوني التي كانت خارج نطاق الزمان والمكان. لقد أصابت شظية قنبلة يدوية قلبه. كما حرقت عنقه بضع شظايا صغيرة وروت دماؤه الأرض. شعرت أنّ الغَصة التي لطالما حُبست في جوفه، وكانت تتفجر في صلاته ودعائه، قد أضحت صمّام أمان تحرّره وتحلّق به إلى الملكوت. أفرغت كلّ ما في جيبه لأني كنت أظن أنه إذا نُقل جسده إلى مركز التعاون1  فلن أرى هذه المقتنيات
 

1- مؤسسة رسميّة كانت زمن الحرب تعنى بتقسيم وتوزيع المؤن إضافةً إلى جمع مقتنيات وأجساد الشهداء وتسليمها إلى مدنها وقراها.
 
 
 
 
403

 


388

طيور أروند

 ثانية. كان دفتر مذكراته الصغير في جيبه، دفتر بغلاف أحمر عليه صورة الإمام، كان ما زال فيه بضع صفحات بيضاء فارغة، قرأت آخر سطرين كتبهما: "...... اليوم التقيت الأخ "مهدي قلي رضائي"، وكان الوداع الأخير".


ألهبت هذه الجملة صدري. إذًا كان "محمد" يعرف كل شيء. جلست بجانبه راغبًا أن لا تنتهي تلك اللحظات. اقترب مني عدد من الإخوة، بينهم الأخ "محمد قاسم بور"، الذي نظر إلى وجه الشهيد من دون أن يَتفوه بأي كلمة، وبدا الحزن واضحًا عليه.

كان يعرف "محمد" جيدًا. أراد الإخوة الذّين كانوا برفقته نقل الجثة إلى الخلف:
- لا، لنذهب إلى الأمام أكثر، ربما كان هناك عدد آخر من الشهداء.

قلت هذا واتجهت نحو الساحل. كان عدد من غوّاصي الاقتحام قد خرجوا من تلك النقطة عند نهر "أروند". وجدت على بعد 500م، شهيدًا آخر أعرفه، كان "علي شيخ زاده" من الاستطلاع في فصيل "مجيد طايفه". وبما أنّ "علي" كان من قوات الاستطلاع، فقد كان عليه السير في مقدمة الرتل، ولهذا كان أول المستشهدين. أفجعتني طريقة استشهاده، فقد تشظّى عنقه، وحاول نزع بدلات الغوص لعلّه يخفّف من الضغط على جسمه، لكنّه قضى وهو على تلك الحالة. خنقتني العبرات وتذكرت كلمة رادود الوحدة "حسين أبو القاسم"، الذي أخبرني أن "علي" ناداه قبل الانطلاق وقال له: "تذكر من اليوم فصاعدًا أن تُردّد اللطميات بلسان أم الشهيد وأن تبكي عليّ"، حينها علمت أنّ أمّه متوفّاة.
 
 
 
 
 
404

 


389

طيور أروند

 كان المشهد على بعد خطوات، داخل العوائق على ضفة نهر "أروند" دمويًّا مؤلمًا. فقد تناثرت أشلاء ثمانية من شهدائنا. سرت نحو العوائق الشمسية (الأسلاك الدائرية الشائكة) حيث استشهد "كريم وفا" - أحد عناصر وحدة الاستطلاع - بطلق ناري دفعه بشدة نحو الأسلاك الشمسية فانغرس رأسه في أحد شعبها، وقضى معلّقًا عليها حيث وجدته. كان تجسيدًا لمشهد الرؤوس المعلقة على الرماح في "كربلاء".


وعلى مسافة قريبة من "كريم"، كان قد سقط أحد عناصر وحدة التخريب، فَلَقَتْ رأسه رصاصة أثناء محاولته قطع الأسلاك الشائكة، فتناثر دماغه على الأسلاك وعلى ضفة النهر الموحلة. وسقط إلى الخلف منه مباشرة، ثلاثة شهداء جنبًا إلى جنب: الشهيد"نادر ناقل دانائي" معاون السريّة، "راشد خاكباكي" وعنصر آخر من وحدة التخريب، يدعى "نادر" من محافظة "زنجان". وقع مشهد الشهداء كالصاعقة عليّ. سرتُ بلا هوادة في المعبر، أنظر في كلّ جهة لعلّي أتعرف إلى باقي الاجساد المتناثرة هنا وهناك. على بعد خطوات، سقط الشهيد "عبدالله شكوفة" غارقًا بدمائه، وخلفه "أحمد مهدوي" الذي أسلم الروح بهدوء وسكون، وكان ما زال يرتدي بدلة الغوص وقد تخضّبت يداه الصغيرتان والقويتان بالدماء وبأوحال الضفة، وذاك "محمد شمس" آخر طيور السرب. وقد بانت جثته العالقة بين الأسلاك الشائكة المنغرسة في الأوحال بعد انحسار المياه بفعل حركة الجزر.

خنقتني العبرة. كنت أشعر بصوت حفيف أجنحة الملائكة في ذلك السكون المهيب. كان يمكن التكهّن بما حدث: سارت قوات الاستطلاع
 
 
 
 
405

390

طيور أروند

 في مقدمة السريّة، حين شعر العدو بوجودهم أمطرهم بوابل الرصاص، فسقطوا الواحد تلو الآخر، ومن بعدهم عناصر التخريب، ثم معاون السريّة ويليه باقي الإخوة الشهداء.


علمت فيما بعد أنّ "محمد شمس" قد أصيب برصاص العدو الطائش داخل الماء، وكي لا يسمع العدو صوته فينفضح أمر الهجوم، طلب من صديقه أن ينزله بقوة تحت الماء فيختنق، لقد استشهد مظلومًا مخنوقًا، وقام صديقه الذي خنقه تحت الماء بسحبه نحو ضفة النهر وعلّقه بلباس الغوص بالأسلاك الشائكة كي لا تجرفه مياه النهر الهائج معها، وقد استشهد ذلك الصديق فيما بعد أيضًا.

سمعت أيضًا أنّه عندما وصل الإخوة إلى الضفة، كان منسوب المياه قد انخفض بفعل حركة الجزر، فاضطروا لإيجاد ثغرة في الموانع والأسلاك الشائكة. انتبه العدو لوجودهم تحت أضواء الكاشفات، فسلط عليهم نيرانه. هذا ما أخبرنا به "السيد رضا الموسوي" معاون سرية غواصي الاقتحام في ذلك المحور.

كنا ننقل الأجساد بصمت، لا شيء يُسمع سوى الشهيق، ولا شيء يُرى سوى اهتزاز الأكتاف والأيدي مع كلّ نظرة إلى وجوههم النورانية. انتابني شعور مختلف عندما حملت جسد الشهيد "محمد شمس"، فقد تعرفت إليه أول مرة في منطقة "زيد"، حين جاء مع صديقه الملازم له "جواد أفشردي".1 كانا قد أحضرا "رسالة التعريف" للعمل في
 

1- يا للعجب فقد شاءت الأقدار أن يستشهد جواد بعد يومين من استشهاد محمد شمس في تلك العمليات ودفنا جنبًا إلى جنب في وادي الرحمة.
 
 
 
406

391

طيور أروند

 وحدة الاستطلاع. كان استطلاع العوائق والتحصينات في منطقة "زيد"، صعبًا ومرْهِقًا للغاية، وكان كلّ واحد يذهب للاستطلاع ثم يعود، يستسلم لنوم عميق، إلا "محمد وجواد" اللذان أدهشا الجميع، إذ كانا عند الساعة الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل ينهضان للمناجاة والدعاء والتوسل، فيأخذان دثاريهما ويبتعدان عنّا منشغلين بالدعاء والتوسل للباري تعالى حتى السحر!


عندما ذهبت إلى كتيبة "سيد الشهداء" للتدريب على الغوص، التقيت "محمد شمسٍ" ثانية، وكان وحيدًا تلك المرة، سألته عن "جواد" فقال: "لقد ذهب مع جهاد إلى الأهواز".1

كانت الشمس في كبد السماء عندما سحبنا أجساد الشهداء من بين العوائق. أخذ الإخوة على عاتقهم نقل الشهداء، فانفصلتُ عن الأخ "قاسم بور" وسرتُ على طول الضفة بحثًا عن شباب في وحدة الاستطلاع.

شيئًا فشيئًا بدأت أراهم من بعيد، كانت نفحاتُ فرحٍ ممزوجة بالحزن باديةً على كلّ الوجوه. كان النصر عظيمًا بعظمة الشهداء الذين هَزَمُوا نهر "أروند". كنت منهكًا وحزينًا، وعندما سألت عن الشباب أشاروا إلى متراس في المكان. عندما دخلت المتراس، شعرت كأنّ السقف والجدران يطبقان عليّ. كان لا يزال فيه بعض الجرحى وبعض المتعبين
 

1- نظم الأخ محمد قاسم بور ما جرى في اليوم الأول من عمليات والفجر 8 على ساحل نهر "أروند" في قصيدة طويلة خلّد فيها ذكرى "غواصلار" الغواصين-، جرت أبياتها فيما بعد على ألسنة مقاتلي "فرقة عاشوراء". وما زالت هذه الأشعار حتى هذا اليوم، على ألسنة أصحاب الشهداء الذين ذابوا شوقًا لفراق أحبتهم.
 
 
 
407

392

طيور أروند

 المكلومين أمثالي، الذين قبعوا في المكان بانتظار أوامر الأخ "فتحي" الجديدة.


عمّ الفرح المتراس مع دخول "مهدي داودي"، ذكرني "مهدي" بأمور كثيرة، فقد كان مسؤول "حسين محمديان" مدة من الزمن، لكن عندما استشهد "حسين"، كان مهدي حينها أحد عناصره. وما عدنا نسمع ضحكاته أو نرى مشاغباته منذ استشهاد رفيق دربه "يعقوب شكاري" في عمليات "بدر". لكن في ذلك اليوم كانت حالته مختلفة، لقد رَفَعَ الأذان وماء الوضوء يقطر من لحيته. عندما وصل إلى "لا إله إلا الله"، ربط الكوفية على خصره وقال بثقة عجيبة واطمئنان لافت: "سأذهب لأستشهد اليوم، فكل من يريد أن يستشهد فليقف ويصلي خلفي!"، وعندما قال "قد قامت الصلاة" وقف "عباس محمدي وأبو الفضل يعقوبي" خلفه للصلاة ولم يَتَّسع المكان لغيرهما1.

- طلب السيد "كريم" أن نتقدّم!

خرجنا من المتراس بسرعة. وإلى الأمام كان مقام أحد أبناء الأئمة (إمام زادة)، حيث يقع مقرّ كتيبة "القاسم" في محيطه. كان متراس "كريم فتحي" مقابل المقام، أدّينا الزيارة على عجل وأخذ كلٌّ منّا سجدة من التربة الكربلائية، واتجهنا بسرعة تحت وابل نيران الأعداء إلى المتراس. كان "مهدي داودي" قد سبقنا إلى هناك وحدّد الأخ "فتحي" مهمته. عندما وصلنا ذهب مع عدد من الإخوة لإنجاز المهمة.
 

1- استشهد مهدي في ذلك اليوم، وأبو الفضل يعقوبي في اليوم التالي، بينما استشهد عباس محمدي في عمليات "نصر 7" في تموز 1987م.
 
 
 
408

393

طيور أروند

 - اذهبوا إلى الرصيف ومن هناك إلى السفينة الصينية. لم يقم أحد حتى الساعة بتفقّد السفينة، تأكدوا من خلوّها من العناصر المعادية، وارجعوا بسرعة إلى المقر.


انطلقتُ أنا و"أصغر عباس قلي وحميد اللهياري"، كانت سفينة صينيّة قد رست مقابل رصيف "المصابيح الأربعة"، على بعد 200م تقريبًا من ضفة الأعداء. ركبنا القارب واتجهنا نحو السفينة العالقة بالأوحال.

بدأت حركة الجزر في نهر "أروند"، ما صعّب علينا تسلّق جدران السفينة كثيرًا، وبعد جهد ومشقة كبيرين وصلنا أعلى السفينة، وأصبحنا نرى حجراتها الحديدية، شاهدنا شخصًا يركض بسرعة نحو إحدى تلك الحجرات.

ما إن ثبتنا أقدامنا على متن السفينة حتى ركضنا نحو تلك الحجرة. سحب "أصغر ضامن" القنبلة اليدوية ورماها داخل الحجرة. فرمى أحدهم بنفسه خارجها على الفور، كان إصبع "أصغر" على الزناد، فأطلق النار مباشرة بلا إرادة منه، فأصابت الطلقة جبين العراقي وأردته قتيلًا. بعد انفجار القنبلة ومقتل العراقي، خرج أربعة آخرون من الحجرة. كان القلق والخوف باديين على وجوههم. من الواضح أنّهم شكّلوا كمينًا في السفينة عانى الإخوة منه الأمرّين. كانت الحجرة التي خرج منها العراقيون عبارة عن قاعة كبيرة ومظلمة، ولم يكن داخلها أي شيء يُذكر. سألنا الأسرى العراقيّين إذا كان هناك من أحد غيرهم في السفينة، فأجابوا بالنفي، لكن الثقة بالعدو حماقة، فقلت لأصغر: "علينا تفتيش
 
 
 
 
409

394

طيور أروند

 السفينة حجرة حجرة ومن ثم نصعد إلى الصارية". فتشنا جميع حجرات وزوايا السفينة، فلم نجد أحدًا.


نقلنا الأسرى بمساعدة الإخوة، من السفينة إلى الخطوط الخلفية. جمعنا الوثائق الموجودة فيها وضممناها إلى وثائق عثرنا عليها في الدشم والخنادق وغادرناها على عجل. فجأة أطلّت مقاتلات العدو منفذة عدة غارات عليها، ومطلقة الصواريخ نحوها. من الطبيعي أن يكون تدمير السفينة هدفًا من أهدافنا أيضًا، إذ لم يكن لوجودها من فائدة، سوى أنها علامة فارقة في المنطقة ومؤثرة في تحديد مسار إطلاق النيران.

كان لأشعة الشمس الدافئة في ذلك الطقس الشتوي طعمٌ آخر. انطلقنا نحو المرسى على ضفتنا. سمعنا أصواتًا مألوفة تتصاعد من مكبّرات الصوت. كانت أنباء عمليات (والفجر8) تُبثّ منذ الظهر في جميع أنحاء البلاد، وكان لصوت الموسيقى العسكرية لذّة خاصة ذلك اليوم. تراجع السكون والهدوء الذي ساد في أيام وليالي ما قبل العمليات، ليحلّ محلّه ضجيج الآليات المختلفة وقرقعة السلاح الخفيف والثقيل. كانت وحدات التموين والتجهيزات وسائر الوحدات الأخرى، تعمل بجدٍّ وبشكل متواصل.

سرنا نحو المسجد الذي كان ملجأنا لأيام وأسابيع، وقد تحوّل إلى مأتم. كان عناصر الاستطلاع الأحياء، وبناءً للأوامر الُمعطاة، يصلون الواحد تلو الآخر إلى المقرّ. لقد ترك استشهاد الإخوة جروحًا عميقة في النفوس، وسيولًا من العبرات ونشيجًا في القلوب. كنتُ أخبر الإخوة بنبأ
 
 
 
 
410

395

طيور أروند

 استشهاد هذا وذاك وأسمع منهم نبأ استشهاد آخرين.


- استشهد "علي شيخ زاده".

- رحل "جعفر حقكو" أيضًا.

- أتعرفون كيف استشهد "كريم وفا"؟!

- استشهد "محمد رضا مهر باك" أيضًا.

تحوّل اجتماعنا إلى مجلس عزاء، أخذ أحدهم ينظم لطمية لذكرى الفوج الأول من شهداء عمليات (والفجر 8)، للإخوة الذين كانوا بيننا الليلة الماضية واليوم قد ارتحلوا. كان الرادود يذكر أسماء الشهداء: "..رحل الشهيد أصغري ولم يعد.."

- لكن "إبراهيم أصغري" جُرح فقط. لقد رأيته بنفسي!

قلت هذا، لكن صديق "إبراهيم" قال: "لا! لقد استشهد بعد مدة وجيزة". صحيح أن جرحه كان عميقًا نسبيًا، لكنني لم أكن أظنّ أنّه سيستشهد بسببه. "سيعود إبراهيم وسيرون ذلك!". جال ذلك في خاطري لكن لم أتَفوه به. كان الجميع يبكون وينوحون، ولم يكن لدينا أي عمل غير ذلك. فجأة وفي تلك المعمعة ظهر "إبراهيم أصغري"، قُطع العزاء، ونثرت عودتُه حيًّا بعض الفرح في أجواء المسجد.

أدركنا من ترجمة بعض وثائق العراقيين أنّ حرّاسهم قد التفتوا لتحركاتنا، وقدّم الفصيل المتمركز في خطهم الأمامي تقريرًا بذلك إلى السريّة. كلّ ذلك يؤكد أنّ العدو قد شكّ بوجود تحضيرات ما، غير أنهم رغم كل تلك التقارير والأنباء لم يقوموا بأي رد فعل سريع، بل بوغتوا ليلة العمليات.
 
 
 
411

396

طيور أروند

 انتهت مهمتنا وكنت كغيري مشتاقًا كثيرًا للذهاب إلى مدينة "الفاو". في الليلة الماضية، كان أبطال فرقة (كربلاء 25) قد حرّروا ميناء "الفاو" الواقع أقصى جنوب مدينة "البصرة" العراقية بالقرب من نهر "أروند"، وأقيمت هناك محطات للضيافة، ومكبرات الصوت تصدح لتسهيل التعرف إلى المنطقة. التقيت معظم الإخوة هناك. امتزج كل لقاء بالفرح والحزن معًا، فرح اللقاء وحزن فراق الأعزاء من الشهداء والجرحى.


عندما كنت بانتظار إعطائنا الإجازات، سمعت بنبأ استشهاد اثنين من الإخوة، وقد آلمني نبأ استشهادهما أكثر من أي شخص آخر، هما "إبراهيم خليل خطيبي ومهدي داودي".
 
 
 
 
412

397

طيور أروند

 3


كان أهم سبب للعودة إلى المدينة هو المشاركة في تشييع صديقي العزيز الشهيد "محمد محمد بور". وصلت ليلًا إلى مدينة تبريز، وكانت الأنباء قد سبقتنا إلى المدينة، فطلب منّي الإخوة في المقرّ أن أخبر عائلة "محمد بور" بنبأ استشهاده. لم أقدر على ذلك، لذا تقرّر أن يقوم عدد من وجهاء الحيّ من كبار السنّ بنقل الخبر.

ذهبتُ في الليلة نفسها إلى منزل عائلة الشهيد، وكانت قد أُقيمت مراسم العزاء في منزل جيرانهم، لأنّ منزلهم أصغر من أن يتّسع لاستقبال الأعداد الكبيرة من المعزّين. جلست مع الإخوة وخجلت من النظر إلى وجه والد الشهيد، ولا أدري أكنت أخجلُ من الوالد أو من الشهيد نفسه، أو من الناس؟ كانت تلك المشاعر والآلام ترافقني بعد كلّ عودة لي من الجبهة، خاصة تلك المرة. لقد هاجرت روحُ "حسين ومحمد" والكثير من رفاق الدرب، غير أنني عدت إلى بلدتي لم يصبني حتى جرحٌ صغير.

وقع نظر والد الشهيد "محمد" عليّ، كنت مطأطئ الرأس مُحرجًا. "لقد شاء الله هذه المرة أن أبقى ويرحلون". هدّأت هذه الفكرة من روعي، لكن ما إن وقع نظري على والد الشهيد حتى راودتني تلك الحالة مجدّدًا. كان الإخوة يخطّطون لإقامة مراسم التشييع ويتقاسمون الأعمال:
- اذهب للمصوّر لتكبير صورته.

- وأنت عليك كتابة اللافتات.
 
 
 
 
 
413

398

طيور أروند

 لم أستطع تحمّل نظرة والد الشهيد، لذا نهضت لأغادر المكان. لم أكد أصل إلى الباب، حتى جاء إليّ مسرعًا وضمّني إليه وكأنه حبس كل دموعه حتى تلك اللحظة. بقينا على تلك الحال لحظات طويلة، ترك الجمع ما بأيديهم من أعمال وتوقفوا عن الكلام محدّقين بنا. قال والد الشهيد بصوت ضعيف مرتجف: "إن كان 'محمد' ليس موجودًا، فأنت موجود، أنت ابني محمد!".


أثقلت كلمات والد الشهيد كاهلي، فقلت له: "أبتي، لن أستطيع تحمّل هذه المدينة، سأعود غدًا إن شاء الله بعد تشييع 'محمد' إلى الجبهة". كان الوقت متأخرًا عندما غادرت المكان. كان كلامه لسان حال آباء جميع الشهداء. لكن حاجتي لأكون "محمدًا" و"حسينًا"، وبكلمة واحدة لأكون مثلَ الشهداء، لهي أشدّ من حاجته لأكون ابنًا له وأحلّ مكان الشهيد!

تلك الليلة بتُّ في منزلي بعد غياب ستة أشهر. كانت أمي مندهشة وسعيدة لعودتي سالمًا، لكن حزني وغمّي كان قد غلبني ولم أستطع التحدّث إليها. نمت مباشرة، ويا له من حلم رأيته! رأيت جمعًا من الإخوة الشهداء، يقفون على الجانب الآخر من الطريق مبتسمين مستبشرين، في حين كنت أسير في الطرقات الملتوية وبين الأمواج العاتية محاولًا الوصول إليهم.

كانت روضة الشهداء ("وادي الرحمة") مزدحمة، وتكاد بقعة مدافن الشهداء تغصّ بسكانها، ما أشعرنا بالقلق من أن لا تتسّع لنا نحن المنتظرين. استُقدم الشهداء، الواحد تلو الآخر، محمّلين على الأكفّ: "محمد شمس، جواد أفشردي، عبد الله شكوفة، أحمد مهدوي، راشد خاكباكي، نادر ناقل دانايي، حسين أرجمندي" وغيرهم. لم يكن قبر
 
 
 
 
414

399

طيور أروند

 "حسين محمديان" قد جفّ بعد، كم وددت لو تنشقّ الأرض وتبلعني. وصل دور دفن "محمد"، فوقفتُ في زاويةٍ أبكيه. فجأةً علا صوت والد الشهيد فوق صوت البكاء:

- لقد أوصى الشهيد بأن ينزله صديقه إلى القبر.

ارتفعت الهمهمات: صديقه؟؟!.. أيُّ صديقٍ؟!

- مهدي قلي رضائي..

كأنني في حلم! ما الذي تفعله يا "محمد"؟ تلاطمت مشاعري وفاض وجد قلبي، شقّت الجموع لي طريقًا لأصل إلى القبر. كانت تلك المرة الأولى التي أشعر فيها أن الله ينظر إليّ بهذه الدرجة من القُرب. كنتُ أنا و"محمد"، الآن "محمد" والملائكة! قبل أن أنزل إلى القبر قدّم لي والد "محمد" ثيابه العسكرية.

- لقد أوصى محمد أن ترتديها أنت بعد استشهاده.

كان "محمد" نفسه يساعدني لأُسجّيه في مسكنه الأبدي، حيث أتركه وحيدًا مع خالقه إلى يوم الدين. ضممته إلى صدري وقبّلت جبينه وخده المزرق، كم أزاحت تلك اللحظات الأثقال عن صدري. وضعته على التراب وهمست في أذنه: "محمد! 'شفنا، ما شفنا'، اشفع لي يا محمد!" نظرت من حولي إلى القبور الخالية وفكرت أنّ أحدًا منها سيكون لي. هدّأ هذا الأمل من روعي. بعد الظهر، رتّبت القميص الذي تركه لي محمد، ووضعته في حقيبتي، ونويت ارتداءه في جميع العمليات التي سأشارك فيها حتى نهاية الحرب، ومع غروب شمس ذلك اليوم انطلقت إلى الجبهة.
 
 
 
 
 
415

400

معركة في مصنع الملح

 معركة في مصنع الملح 

نيسان 1986م

 
إرباك في الرسائل اللاسلكية سبّب خللًا على الأرض.

حدثٌ قمتُ به لا أدري هل كان مفاجئًا وغريبًا، ولكن المرحلة استوجبته فأبديتُ عنادي فيه.

وخضت محاولات السيطرة على التلال وحفر القنوات، والمصائر مجهولة..

وحان موعد الاستفادة من الوسائل الخاصة والمتنوعة، وتلك التي أُتيحت مع "وحدة التخريب".

على صفحات الملح أو تنصعُ بشائر مستقبل الوحدة. فهل سيُدرَك الوصال أم يطول الطريق؟
 
 
 
 
417

401

معركة في مصنع الملح

 1


تنتهي الطريق المتّجهة من "مخفر سير الأهواز" إلى "دزفول وأنديمشك" بتقاطع مثلّث الشكل. وإذا تابعنا سيرنا من المثلث يسارًا، نصل بعد 2 كلم إلى القاعدة الجوية للجيش الإيراني، كانت تلك القاعدة تضمّ مقر وحدة الاستطلاع المركزي آنذاك.

وصلت إلى القاعدة ليلًا برفقة "محمد بور نجف ويوسف صارمي" ، لكننا لم نجد من يطلعنا على المنطقة، وعن مهمتنا فيها، لذا اضطررنا أن نركب السيارة وننطلق نحو المسجد الكائن على ضفة نهر "أروند"، حيث مقر الوحدة في المنطقة. بقينا هناك حتى الصباح حيث التقيتُ الأخ "ناصر ديبائي" من قوات الاستطلاع ومسؤول المحور آنذاك، وكان عائدًا من الخط الأمامي، أدركت من كلامه أن قواتنا قد تموضعت على طول حقول النخيل من جهة نهر "أروند" إلى طريق الفاو - أم البحار، ومن هناك إلى طريق الفاو - البصرة على امتداد مصنع الملح.

يمّر في محيط مصنع الملح طريق بطول 3 كلم، كان يفصل بين قوات فرقة (كربلاء 25) وفرقة "عاشوراء"، وقد خرقه العدو وتموضع فيه، فأضحى مصدر قلق وخطر كبير على قواتنا. امتدّ خط دفاع فرقة "عاشوراء" من جهة أبنية مصنع الملح وأحواضه المربعة الشكل، بطول وعرض 1كلم تقريبًا. هذا إضافة إلى الأحواض الكبيرة التي يسيطر عليها العدو. ويمتدّ الخط الدفاعي من مصنع الملح إلى طريق "أم القصر"، حيث أنشئت على امتداد هذا الطريق باتّجاه "خور عبد الله" مواقع
 
 
 
 
418

402

معركة في مصنع الملح

 عسكرية تقلل من احتمال هجوم العدو من ناحية البحر. إضافة إلى تلك المواقع التي انتشرت حتى مدينة "الفاو"، كان قد زرع العراقيون العوائق الحديدية على طول الساحل البحري، التي استخدمت ضدهم فيما بعد1. من هناك، لم يكن يشكّل الساحل البحري أي خطر جدّي على قواتنا، لأنّ الخطر الحقيقي كان من ناحية (موقع) مصنع الملح الاستراتيجي حيث اقتربت خطوط دفاعنا من خطوط العدو، الذي كان قد ضاعف ضغوطه على قواتنا يومًا بعد يوم من خلال الشرخ الذي أوجده بين فرقة "عاشوراء"وفرقة (كربلاء 255).


على أي حال لم يكن هذا الوضع لمصلحتنا، فقد كان يسقط يوميًا عدد من الشهداء والجرحى بين صفوفنا، وكان لا بدّ من تصحيح هذا الوضع السيّئ. كانت الفرقة الوحيدة المتكاملة العدد، والمؤلفة من ثلاث كتائب كاملة، هي فرقة "النجف"، ذلك أنّ معظم القوات التي شاركت في المراحل المتتالية لعمليات (والفجر8) سُرّحت في إجازة، ولم يُستقدم أيّ عناصر جدد ليحلّوا محل الشهداء والجرحى الذين كانوا لا يزالون يتلقون العلاج. ترك كلّ من "أمين شريعتي، كريم فتحي ومصطفى مولوي" الذين جرحوا في عمليات (والفجر88)، فراغًا كبيرًا في جبهتنا.

ذهبتُ إلى مصنع الملح مع الأخ "ديبايي" من أجل استطلاع المنطقة بشكل أفضل. وصلنا بعد عبور نهر "أروند"، وبعد مسافة بعيدة نسبيًا
 

1- من جملة تلك العوائق: أعمدة حديدية وُصلت بالأرض بثلاث قوائم. وقد استوعبت هذه القوائم السفليّة مجمل المسافات لتعيق أي عمليات بحرية يمكن أن تُشنّ على الشاطئ.
 
 
 
419

403

معركة في مصنع الملح

 عن الخط الأول، إلى الطريق الذي يصل الساحل بطريق "القدس"، الممتد من هناك إلى طريق "النصر"، والمتصل في النهاية بطريق "أم القصر" حيث خط دفاع الفرقة. اشتهر تقاطع طريق "أم القصر" مع الطريق المنتهي بمصنع الملح بتقاطع "الموت"، إذ كان يقع تحت نظر العدو ونيرانه المباشرة. وإذا لم ينعطف السائق بسرعة ومهارة، فسيتلقّى بضع قذائف هاون لا محالة!!


في النهاية، وصلنا سالمين إلى متراس قيادة الفرقة في مصنع الملح. تولّى الأخ "كاشاني"، الذي صار حضوره في الفرقة شبه دائم تلك الأيام قيادة "فرقة عاشوراء" بعد أن جُرح الأخ "شريعتي". كان في المتراس الأخ السيد "مهدي حسيني" قائد أركان الفرقة، و"مير حجت كبيري" الذي عُيّن مساعد مسؤول الفرقة قبل مدّة طويلة. واتُّخذ مقرّ قيادة إحدى فرق الفيلق السابع العراقي مقرًّا لفرقتنا، وكان متراسًا متينًا ومجهزًا بشكلٍ حتى وإن تعرّض لقصفٍ مباشرٍ لن تلحق به الأضرار. على الرغم من أن معظم تجهيزات وعتاد الوحدة موجودٌ على ساحل الخليج بالقرب من طريق "أم القصر"، إلا أنهم اتخذوا ذلك المتراس مقرًا آخر لها.

أخبرونا أنّ كتيبة "الحر" التابعة لفرقة "عاشوراء" بقيادة "حسن زنده دل" ستتوجه إلى منطقة العمليات، وستُنفّذ المهمة الموكلة إليها تلك الليلة. ما إن وصلت القوات إلى مدينة "الفاو" حتى تجهزوا بالعتاد والسلاح، وعقدت جلسة شرح وتوجيه لسير العمليات. كان مقرّرًا أن تبدأ العمليات بسريّتين وعلى محورين، بينما تتولى السرية الثالثة من
 
 
 
 
420

404

معركة في مصنع الملح

 كتيبة "الحر" أمر دعمهما وإسنادهما. هدفت هذه العمليات إلى إرغام العدو على الانسحاب، وتصحيح الوضع في خطنا الدفاعي. تقرر أن تنطلق (السرية 11) من جهة طريق "بيروزي" حيث يتولى "أحمد بيرامي" وعنصر آخر من وحدة الاستطلاع توجيهها، ويتولى القيادة الميدانيّة للمحور الأخ "مير حجت كبيري"، كما تقرر انطلاق (السرية 2) من جهة مصنع الملح، وأتولّى أنا و"ناصر ديبائي" توجيهها. وأوكل أمر قيادة محور مصنع الملح ومجمل عملية التنسيق في فرقة "عاشوراء" إلى الأخ "كاشاني". كنت قلقًا على سير العمليات، لكن، بما أن الأمر كان صادرًا عن القيادة لم أعترض ولم أتفوه بكلمة. تقرّر تسمية محور الأخ كبيري بـ "حجّت 1"، ومحور الأخ "كاشاني" بـ "حجّت" في نداءات أجهزة الإشارة.


اشتدّ تبادل إطلاق النار بين الطرفين مع حلول الظلام، وأفادنا الإخوة المتموضعون على الخط الدفاعي في المحور أنّ حدّة إطلاق النار لم تخفّ، بل على العكس، زادت بالرغم من مرور ثمانية أيام على انتهاء عملية (والفجر 8) الكبرى". لم أكن على علم بما يجري في باقي محاور الفرقة، وكنت أتساءل إلى أي مدى يمكن أن يكون الهجوم بسريّتين فقط مؤثرًا ومثمرًا؟! حلّ الظلام ولم أجد الجواب الشافي لهذا التساؤل. استقرت القوات في أماكنها، وانطلقت الأرتال في موعدها المحدد. كان العدو يحتمي خلف سدّ يرتفع حوالي مترًا ونصف المتر، وهو عبارة عن ساتر ترابي شكل خطه الدفاعي. وفي أعلى السدّ يوجد طريق لعبور الآليات حيث تعرضت السريّة التي انطلقت من طريق "النصر" لوابل
 
 
 
 
421

405

معركة في مصنع الملح

 من قذائف الهاون والرصاص. كان العدو تلك المرة أكثر جهوزية ويقظة. وأدّت غزارة النيران إلى إعاقة حركة الإخوة بشكل كامل، فلم يستطع أحد الوصول إلى ساتر العدو الدفاعي، وانطلقت سريّتنا من جهة مصنع الملح في الوقت نفسه. يوجد قرب السدّ حيث خطّنا الدفاعي الأوّل، مبنًى صغير لمحوّل الكهرباء شكّل هناك علامة فارقة، وساعدنا في توجيه وإرشاد القوات. كان من المقرّر أن يعبر الإخوة من أمام المبنى ليصلوا إلى العدو ويشتبكوا معه. لم نكد نبدأ بتنفيذ الخطة، حتى وصلت قوات إسناد للعدو بهدف ترميم وتدعيم خطهم الدفاعي في النقطة التي خرقها الإخوة وطهّروها. في تلك اللحظات، أعطاني الأخ "كاشاني" الأمر بنقل قوات السرية إلى جانب المبنى بسرعة، ومع أنني لم أستطلع الطريق من قبل، لكن الوصول إلى المبنى لم يكن صعبًا، بفضل العلامات والإشارات التي حفظتها في ذهني. سرنا تحت وابل قذائف العدو التي تساقطت علينا بمعدل قذيفة لكل مترين مربعين، لكن ما باليد حيلة، كان علينا متابعة التقدم على طريق السدّ، ذلك أنّ أحواض الملح كانت مليئة بالمياه في ذلك الفصل، وكي نبقى بمأمن من القذائف والرصاص، سرت بالقوات بجانب الطريق، على منحدر السد، لكن من دون فائدة. كان الرتل ينبطح أرضًا مع أزيز الرصاص أو صفير القذائف، وقد استشهد عددٌ من الإخوة على طول المسير وجرح آخرون.


تابعنا السير ببطء، لم أعد ألتفت لسقوط القذائف في أحواض الملح، لكن مع كل قذيفة، كانت الأرض تهتز من تحتنا، ويضطر الرتل للانبطاح معها. تعرضنا أثناء قطع مسافة قرابة (1،5) كلم، أي المسافة
 
 
 
 
422

406

معركة في مصنع الملح

 الفاصلة بين المصنع ومبنى المحوّل الكهربائي، لأكثر من عشر قذائف هاون. بعد الابتعاد عن خطّنا بقي أمامنا قطع مسافة 700 م للوصول إلى مبنى المحوّل بأقصى سرعة، لكن غزارة النيران أعاقت حركتنا وأقعدتنا ثانية قرب مبنى المحوّل حيث استشهد قائد كتيبة "الحر"، الأخ "حسن زنده دل". شرع مسؤولو الفصائل الذين تلقّوا التعليمات اللازمة بتنفيذ المهمة بسرعة.


لم تنقطع أصوات الانفجارات والرشاشات لحظة واحدة، وطرق سمعي وسط كل أصوات القذائف وتطاير الرصاص الممتزج بالتراب والأوحال، صوت جهاز اللاسلكي الذي زاد من قلقي. كان مسؤول السريّة الذّي انطلق من ناحية طريق "النصر" يطلب تحديد الأوامر والتكاليف. ويشرح الوضع في محوره مكررًا:
- ما العمل؟.. حجت!.. حجت...

سمعت بعد صوته - عبر اللاسلكي - إصدار أمرين متناقضين.

- انسحبوا إلى الخلف.. اسحب القوات بسرعة إلى الوراء.

- ابقوا في أماكنكم..

كنت أفكّر أنّ هذين الأمرين المتناقضين سيصيبان عامل الإشارة، بل وقائد السريّة أيضًا بالذهول والضياع. كان الأخ "كبيري" الذي سمعت خبر إصابته بجروح يصدر الأمر بالانسحاب، بينما يأمرهم الأخ "كاشاني" بالبقاء. في الحقيقة أُصدر الأمران لكلا السريتين، لكن، في تلك الظروف اختلط الحابل بالنابل، ولم نتمكن من تحديد ما هو المطلوب. في نظرة سريعة لما يجري حولي، أدركت أنّ القوات التي وصلت إلى هنا لن
 
 
 
 
423

407

معركة في مصنع الملح

 تتمكّن من الصمود لأكثر من ساعتين، ولن نتمكن من إحداث أي تغيير على الوضع، بل على العكس. كانت كلّ الشواهد والأدلّة تؤكّد أنّنا أمام أمرين لا ثالث لهما، فإمّا الانسحاب تحت وطأة غزارة نيران العدو، أو أن نقتل ونُباد عن بكرة أبينا. طلبت من الإخوة سحب جرحانا ما أمكن إلى الوراء تحت غطاء ناري.


كان العدو يصبّ نيرانه بشكل جنوني على المكان، وبعد أن أدرك عجزنا بدأ بتضييق الخناق علينا أكثر فأكثر. بعد أن ارتاح بالي لجهة إنقاذ الأحياء المتبقّين من نيران الأعداء، انتبهت إلى أنّ الأخ "كاشاني" قد أُصيب بشظية، ما إن رآني حتى سألني عن الأوضاع في الخط الأمامي. أخبرته أنّنا اشتبكنا لمدة قصيرة مع قوات العدو المتمركزة في الساتر الترابي الأول وفي محيط "محوّل الكهرباء"، وكذا مع قوات الإسناد التي وصلت لدعمهم، وأنّ عناصر الكتيبة الأحياء حاولوا المقاومة والصمود، إلا أنّ العدو ضيّق الخناق علينا وتمكّن من ترميم الفجوة التي أحدثناها في ساتره الترابي، كما بقي عدد من شهدائنا وجرحانا خلف خطوط العدو وعلى الساتر الترابي. أدركت حينها أنّه لم يبقَ من أحياء في كتيبة "الحر" غير أولئك العناصر الذين ساعدتهم على الانسحاب. لم أطق سماع أو قول أي شيء لشدة حزني وانزعاجي.

اقترب الصباح، كان الإخوة طوال الليل ينفذون الأوامر بالهجوم والحركة تحت نيران العدو الغزيرة من دون أي اعتراض أو تذمّر. نظرت بالمنظار إلى أجسادهم الطاهرة المتناثرة على الساتر الترابي وفي محيطه: فالقوات التي انطلقت من جهة طريق "بيروزي" قد استشهد
 
 
 
 
424

408

معركة في مصنع الملح

 أكثرها على ساتر العدو الترابي أو على جانبه. كما إنّ بعض الأجساد قد طفت على سطح أحواض الملح. شعرتُ بحزن شديد، وكدت أدخل في جنون وأفقد وعيي لعجزي عن القيام بأي شيء. نظرت إلى وجوه الإخوة المنهكين والجرحى الناجين، وقد ارتسمت ابتسامة مُرّة على وجهي، أما أولئك الشهداء فقد وصلوا إلى مرامهم..


عدت إلى مصنع الملح وبقيت مدة ساعة في المقر. مع أنني كنت منهكًا جدًّا وبحاجة ماسّة إلى النوم، إلا أنّ التفكير بما حلّ بالإخوة لم يغب عن بالي. خرجت من المقرّ مصمّمًا على قول كلّ ما يجول بخاطري للأخ "كاشاني" ومغادرة المنطقة بعدها. شاهدت أثناء خروجي دراجة نارية قرب متراس القيادة فقلت في نفسي:
- هذا جيد، سأغادر على هذه الدراجة بعد أن أقول ما عندي.

كان "ناصر ديبائي" داخل المتراس وقد أدرك فور رؤيتي ما أنوي فعله، فقال لي:
- لا تنفّذ ما تفكّر به يا سيّد "مهدي"!

لكنني لم أكن لأستمع إليه. وقفت مقابل الأخ "كاشاني" وأخبرته بكلّ ما كان يجول في خاطري.. فانزعج أيضًا وقال لي: "هذا ما قضت به الأوامر، ولا مفرّ من تنفيذها".

لم يقنعني جوابه، كما إنّني قد اتخذت قراري ولا رجوع عنه.

- إن لم يكن من أوامر أخرى فأنا أريد المغادرة!

- ابقَ هنا فأنا أحتاجك في أمر.

تبعني "ناصر ديبائي" عندما خرجت من المتراس، بحثتُ عن
 
 
 
 
425

409

معركة في مصنع الملح

 الدراجة لكني لم أجدها في مكانها.


- أين الدراجة يا ناصر؟

- لا أدري، علينا البحث في الأنحاء!

بحثنا عن الدراجة في محيط المتراس فوجدناها على سطحه محترقة، وقد تحوّلت إلى ركام. لقد أصابت قذيفة هاون الدراجة إصابة مباشرة. ورغم ذلك، كانت بعض الإمكانات كالدراجات النارية، متوافرة بكثرة في الجبهة، ويمكن استخدامها من دون الحاجة للحصول على الإذن.

سرت بسرعة نحو المرسى حيث مقرّ وحدة النقل في حقل النخيل القريب من "الفاو". من هناك ركبت سيارة وانطلقت نحو مقرّ الوحدة بالقرب من طريق "أم القصر". جمعت أغراض ووسائل الوحدة في السيارة، وانطلقت برفقة "أحمد بيرامي ومحمد بور نجف"، اللذين رافقاني من دون أي سؤال أو استفسار لعلمهما بمجريات الأمور. وجرت العادة في مثل تلك الظروف أن يؤخذ برأي من هم أكثر تجربة ويُعمل به. لكنّني كنت أكرّر في نفسي: "طالما أنّ القادة يأخذون القرارات الخاطئة فمن الخطأ البقاء وتعريض حياة الآخرين للخطر".

وضعنا "معدّاتنا ووسائلنا" في المسجد الكائن قرب نهر "أروند". بعد ذلك جمعت كل عناصر الوحدة في المسجد وقررنا العودة إلى مقرنا المركزي في القاعدة الجوية في "الأهواز". كنت أعتقد أنّه في النهاية سيسألون عنا وعمّا حصل. فيطلبون منّا البقاء، أو ترك الفرقة، أو البدء بمهمة جديدة، حينها سأخبرهم بكلّ ما عندي.
 
 
 
 
426

410

معركة في مصنع الملح

 كان الأخ "ياسر زيرك" من قادة كتائب الفرقة ذوي الخبرة، وقد عمل مدة من الزمن راصدًا مدفعيًّا، التحق بوحدة الاستطلاع قبيل عمليات "والفجر 8"، وتولّى إدارة شؤون الوحدة في غياب الأخ "فتحي"، الذي كان يعالج في أحد مستشفيات الوحدة من جروح أصيب بها، وقد ذهب إلى الخط الأمامي بعد رسالة وصلته، فالتقى هناك الأخ "كاشاني"، الذّي حدّثه بشأني، وبما أن الأخ "كاشاني" يعرفني معرفة سطحية، فقد نسي اسمي، فسأل الأخ "ياسر" عنه، ثمّ طلب منه أن يعطيني ورقة طردي من الفرقة، وأن يفعل كل ما يلزم كي يضمن عدم عودتي إلى الفرقة الثانية". التقيت "ياسر زيريك" في الثكنة:

- ما الأمر؟

- لقد حدّثني الأخ كاشاني بشأنك.

أخبرني بما جرى من حديث بينه وبين الأخ "كاشاني"، فقلت له: "حسنًا، إذا كنت تجيد ذلك فاكتب الورقة!". كتب "ياسر" رسالة طردي بلا أي مجاملة، ثم أعطاني إياها وذهب ليدير محرّك السيارة. لحقت به:
- إلى أين أنت ذاهب؟

- سأذهب إلى "دزفول".

- إذًا خذني معك!

كانت إدارة شؤون قوات الفرقة في مدينة "دزفول"، وكان علي أن
 
 
 
 
427

411

معركة في مصنع الملح

 أسلّم الرسالة إلى المعنيّين هناك. جلست قربه وانطلقت السيارة بسرعة خارج الثكنة. وصلنا إلى "دزفول" وزرنا مقام ابن الإمام "سبز قبا"، بعد ذلك تناولنا طعام الغداء معًا وجُلنا مطوّلًا في المدينة. تعود معرفتي بـ"ياسر" إلى الأيام الأولى لإلتحاقي بجبهات القتال. لم يتفوه طوال تجوالنا بأيّ كلمة، حول الطرد وإدارة شؤون الفرقة. في النهاية، أوقف السيارة وسألني بلهجة ذات مغزى: "ومتى ستنزل حضرتك من السيارة؟!".


- أنزل؟ وإلى أين أذهب؟

- إذهب إلى الثكنة، فمقر إدارة الشؤون هناك!

كنت أعلم أنه يشاكسني ويحاول جهده التماسك والتحدث إلي بنبرة جادة. فقلت له: "لكن من أنت لتكتب رسالة طردي؟ هل أنت مسؤول الوحدة أو معاونه؟ كما إنّني مزقت رسالتك ورميتها بعيدًا!" ضحك "ياسر" واضطر وهو يهزّ رأسه إلى أن يعيدني إلى الثكنة.

مع أنني لم أطرد فعليًا من الوحدة، إلا أنّ الأمور لم تعد كالسابق، لقد أرسلت وحدة الاستطلاع عددًا من العناصر الذين شاركوا في عمليات "والفجر 8" إلى مشهد المقدسة، لكن، بسبب التأليب ضدّي حُرمت من نعمة زيارة الإمام الرضا عليه السلام. بقيت في القاعدة الجوية في "الأهواز". كنت في بعض الأحيان أذهب للتجوال في المدينة، وأحيانًا أخرى يُزهر في داخلي حس التعاون والمساعدة، فأغسل أطباق وأواني الإخوة. شغلت نفسي عدة أيام بتلك الأعمال إلى أن جاءني الأخ "زيرك" وقال: "يريدك السيد أمين في أمر".
 
 
 
 
428

412

معركة في مصنع الملح

 - وهل عاد؟


- نعم، وهو ينتظرك الآن في مقرّ وحدة النقل التابع للفرقة.

فرحت كثيرًا لأنّ قائد فرقتنا قد تعافى وعاد إلى الجبهة. ما إن رآني الأخ "شريعتي" حتى ابتسم وسلّم علي بكل حرارة وودّ، ثم قال: "لم تصرّفت هكذا يا سيد 'مهدي'؟".

أخبرته بأمر استشهاد قوات كتيبة "الحر"، وحزني الشديد لذلك.

- لا يهم الآن! لقد تقرّر القيام بالعمليات في ذلك الموقع، وعلينا أن نصحّح وضع خطنا الدفاعي. اذهب إلى هناك إذا أمكن وابدأ بتنفيذ مهمتك.

هكذا، ومن دون الحديث عن الطرد وما شابه، انطلقت نحو الخط الدفاعي من أجل تنفيذ المهمة الجديدة. ذهبت مع عدد من العناصر الجدد، منهم "رسول رضا زادة"، وكان داكن البشرة، اشتهر بين الإخوة باسم "قره رسول"، وعنصران آخران هما: "أمير أسد اللهي" و"محسن إقدامي كيا"، كل ما كنت أعرفه أن "إقدامي كيا" كان في وحدة التخريب. رافقنا عنصر آخر من وحدة الاستطلاع هو "قهرمان معطلي" الذي كان قد رجع ذلك اليوم من مأذونيته. استلمنا عتادنا واتّجهنا نحو المسجد الكائن على ضفة نهر "أروند".

كان علينا إبلاغ قائد المحور الأخ "كاشاني" بقدومنا. وبسبب تعاطي الأخ "شريعتي" الطيب معي، كنت أظنّ أنّ الأخ "كاشاني" قد تناسى ما جرى بيننا في السابق. وبالفعل، فقد فاجأني تصرفّه الودود والطيب
 
 
 
 
429

413

معركة في مصنع الملح

 أيضًا، حيث نهض من مكانه عندما رآني وسلم عليّ وقبّلني1:

- أهلًا وسهلًا يا سيد "مهدي". أين كنت؟

لم أخبره أنّي كنتُ سأطرد بأمر منه، لقد نسيت كل ما كان بيننا ولم أكن أحمل أي ضغينة تجاهه، كنت أعلم أن هذا من مقتضيات الحرب، وأن إطاعة القادة أمر واجب، وكل ذلك يصبّ في خدمة الأهداف الكبرى لها. بدأنا بتنفيذ المهمة من دون أي تباطؤ.

أنشأت كتيبة "علي الأكبر" من فرقة "عاشوراء" خطها الدفاعي في المنطقة، وسبّب الخرق الذي حققه العدو في خطنا تهديدًا مباشرًا لنا، خاصة بعد تقدمه، إثر المعركة التي أطاحت بعناصر كتيبة "الحر"، والذي تمكن خلالها من قضم جزء من الطريق التي تصل إلى مصنع الملح، فتقلّصت المسافة الفاصلة بيننا وبينه إلى 10 أمتار فقط. يربط هذا الطريق مصنع الملح بطريق عام الفاو - أم القصر من ناحية الشرق، وإذا عبره العدو فسيصل إلى مثلث "الشهادة". كان العدو قبل عمليات "والفجر8" قد أفرغ على الطريق حمولة عدّة شاحنات من الحصى، لكن، باغتته المعارك فلم يتمكّن من مدهِ وتسوية الطريق به. شكّلت تلال الحصى هذه نوعًا من السواتر احتمت قوات العدو خلفها2. كان يجب تأمين هذه الطريق وتطهيرها قبل بدء العمليات بأي شكل ممكن،
 

1- كانت من العادات الجميلة في الجبهة أنّه لو حصل سوء تفاهم أو "زعل"، وانزعج أحدهم، لا يطول الأمر كثيرًا حتى يتمّ الالتقاء والمسامحة ومحو أي أثر له في الذهن أو أي ضغينة في القلب.
2- غمرت القسمين الجنوبي الشمالي للطريق مستنقعات المياه، من الجنوب حتى خلف خطوطنا الدفاعية؛ وكان هناك احتمال أن يطبق العدو على قواتنا ويحاصرها مستفيدًا من المستنقعات، وكان العارض الوحيد المساعد للدفاع بوجه العدو هو هذه الجادة نفسها وقد جاء العدو إليها.
 
 
430

414

معركة في مصنع الملح

 فمن المقرر التحاق قوات فرقة "كربلاء 25" المتقدمة من جهة طريق الفاو - البصرة بقوات فرقة (عاشوراء 311) المتقدمة من جهة مصنع الملح، على هذه الطريق، ومن ثم تستمر عمليات الاستطلاع باتجاه شمالي مصنع الملح الذي ما زال بيد الأعداء. وُضعت أرقام لتلال الحصى تلك، وقبع بالقرب من التلين رقم 19 و20 حطام دبابة محترقة للعدو تحولت إلى مكمن ينطلقون منه ليل نهار نحو التلال المجاورة. في المقابل كان الإخوة ينطلقون ليلًا من جهة التل 33 ويعودون إلى المقر مع الفجر. وتمكّنت قوات كتيبة "علي الأكبر" بقيادة "يوسف صارمي" من تطهير (التل 44) والتموضع فيه. كانوا كل ليلة يسيطرون على تل أو اثنين لكن الأهم من كلّ ذلك، هو شقّ قناة تربط تلك التلال بعضها ببعض، ما يؤثر سلبًا أو إيجابًا على سرعة التقدّم والسيطرة على أجزاء أكبر من تلك الطريق. كان شقّ القناة تحت وطأة نيران العدو الذي لا يبعد عنا أكثر من 2000م أمرًا غاية في الصعوبة.


عُقدت الجلسات التحضيرية بين قوات وحدة الاستطلاع والتخريب بادئ الأمر، وقدم اقتراح يقضي بسيطرة كتيبة "علي الأكبر" كلّ ليلة على تلٍّ جديد، على أن يتم حفر قناة اتصال يمين الطريق تُمكّننا من البقاء هناك طوال ساعات النهار. لكن، إن لم تُحفر القناة بالوقت المناسب، فلن نتمكّن من الصمود خلال النهار، لأنّ العدو مستقر على يسار الطريق، وبالتالي سنكون عُرضة لنيرانه وسلاحه. طُلب من عناصر التخريب التفكير بطريقة تسرّعُ عملية حفر الأقنية، فاقترحوا استخدام "طوربيدات بنغلور"(Bangalore Torpedo). كان لاستخدام هذا النوع
 
 
 
 
431

415

معركة في مصنع الملح

 من الطوربيدات على الطريق نتيجة مرضية، لكن اختلف الأمر عند استخدامها على التربة اللينة، إذ إنّها تُحدث حُفرة واسعة وليس قناة، وهذا لا يناسب عملنا. وصلت القناة التي عمل الإخوة على حفرها طوال أسبوعين، إلى التل 4. استقررنا هناك، وكان اثنان من الإخوة يتقدمان في كل ليلة لاحتلال تلٍّ جديد والاستقرار فيه قبل أن يسبقنا العدو إليه. كان أي تأخير في الانطلاق يعني احتلال العدو للتل والتوسع باتجاهنا.


في إحدى الليالي، انطلق كل من "السيد علي وقهرمان" من التل 4 نحو التل 5. بيد أنّهما تأخّرا قليلًا في الانطلاق، فإحتله العدو قبل وصولهما إليه. تابعا تقدمّهما ظنًّا منهما أن المنطقة خالية من الأعداء كالليلة السابقة، فجأة بدأ إطلاق النار عليهما من مسافة قريبة فأُجبرا على التراجع إلى التل 4، وهما يركضان بأقصى سرعة، وأصيب "السيد علي" بثلاث رصاصات. ظن الجميع بعد هذه الحادثة أن العراقيين يتقدّمون نحو التلال خلال النهار أيضًا.

في الليلة التالية، تقدّم "قهرمان معطلي" نحو التل 8، وبقي هناك إلى وقت السحر، ثم قفل راجعًا إلى مكانه، حينها تيقنّا أن العراقيين يتقدّمون باتجاهنا مرة كل عدة ليالٍ.

استلمتْ كتيبة "حبيب" بقيادة الأخ "السيد فاطمي" المنطقة من كتيبة "علي الأكبر"، وكان الأخ "سوداكر"، مسؤول السرية المستقرة في منطقة التلال. باءت جميع المحاولات للسيطرة الكاملة والدائمة على تلك المنطقة بالفشل، فلا نحن تمكنا من السيطرة الكاملة عليها، ولا
 
 
 
 
432

416

معركة في مصنع الملح

 العراقيّون. لم يكن بناء المتاريس على التلال بالأمر اليسير، لذا استمرت لعبة "العسكر والحرامية" بين الجانبين مدة طويلة.


في إحدى الليالي خرجتُ مع "يوسف صارمي" من متراسنا الذي أحدثناه مؤخرًا في التل 5، قاصدين التلال المقابلة. انطلقنا والقلق يساورنا من وجود الأعداء فيها، مشيت أنا عن يمين الطريق و"يوسف" عن شماله، حتى قطعنا حوالي 30 - 40م وهي المسافة الفاصلة بين التلة 5 والتلة 6، جلسنا عند التلة 66 وتنفسنا الصعداء.

- ما رأيك أن نتقدم يا يوسف؟

يفصل بين التل والآخر مسافة 40 مترًا تقريبًا، لم نكد نصل إلى (التل 7) حتى سمعت صوتًا خافتًا على بعد خطوات، جعلني أرتجف خوفًا.

- يبدو أن أحدهم أعلى التل؟

- هذا ما أظنه أيضًا.

انبطحنا على الطريق، وكان الصوت العربي يتوالى ويتضح أكثر فأكثر. فقلت:
- إرمهم بقنبلة يدوية!

ما إن رمى "يوسف" القنبلة، حتى تعالت أصوات الرصاص. ركضنا باتجاه متراسنا في التل 5 بأقصى سرعة والرصاص ينهمر علينا. لحق العراقيون بنا ووصلوا إلى التل 6 . ما إن وصلنا إلى متراسنا حتى طلبت من رامي "الآر بي جي" أن يطلق عليهم إحدى قذائفه. خرج الرامي بسرعة وأطلق واحدة نحوهم، ثمّ علا صراخه في الوقت نفسه: "احترقت... احترقت يدي...".
 
 
 
 
433

417

معركة في مصنع الملح

 خرجنا بسرعة فوجدناه قد وضع يده على ماسورة القاذف بدل الإمساك بالقبضة فأصيب بحروق بليغة، فنقلناه للخلف.


لم تمرّ دقائق حتى أصابت متراسنا قذيفة "آر بي جي"، وتطاير التراب والغبار من حولنا، كما علا صوت "يوسف صارمي" صارخًا: "آخ... آخ... لقد جُرحت". أصابت شظية خدهُ فلم يستطع الصراخ بشكل صحيح فأثار ضحكي، فالتفتَ إليّ غاضبًا وسألني: "ما الذي يضحك يا هذا؟!". نقلت "يوسف" إلى الإسعاف، وانتهت بذلك مغامرة تلك الليلة.

رحتُ أتندّر على "يوسف":
- أجل! كان يصرخ عندما أصابته الرصاصة، آخ آخ.. أين أنت يا "رسول قره"، أين أنت لقد جُرحت!

لم يكن "يوسف" في وئام مع "رسول"، وقد انزعجا كثيرًا من الكلام الذي ابتدعتُه.

في الصباح التالي أطل علينا وجه صديقي القديم "حميد اللهياري" . كان قد سمع بلعبة "العسكر والحرامية" هذه فتملّكه حسّ المغامرة.

أصرّ عليّ لأصطحبه ليلًا إلى المنطقة، فقلت له: "يا عزيزي! إنهم يطلقون النار على كل من يذهب إلى هناك ويصيدونه!".

- لا لن يتمكنوا مني، أنت لا تعرف قدراتي بعد!

اصطحبته إلى التل 3، وهناك شرحت له أوضاع المنطقة، مواقع العدو ومواقعنا.

- كل ليلة نتقدم نحن والعدو للسيطرة على هذه التلال ثم نتراجع،
 
 
 
 
434

418

معركة في مصنع الملح

 وقد تقدم العدو الليلة الماضية من التل 19 إلى التل 6، ثم...


تعجّب كثيرًا عند سماعه لهذا الكلام، وقطب حاجبيه قائلًا: "لقد اختلط الحابل بالنابل هنا!".

- أخبرتك بذلك فلم تصدقني.

لم يقرّ له قرار، وقال: "دعني أستكشف الأمر بنفسي!".

ما إن رفع رأسه من خلف التل حتى مرّت رصاصة قناص بمحاذاة وجهه فجرحتْ أنفه وجانبًا من وجهه، فجلس واضعًا يده على وجهه كـ"يوسف صارمي". ضحكتُ للمشهد، وقلت متهكّمًا: "لن يتمكنوا منك صحيح؟!".

اصطحبتُ "حميد" إلى نهر "أروند" وكنت أضحك في الطريق فيزداد هو غضبًا. ودّعته عند القارب، وعدتُ إلى المنطقة وأنا أفكّر بمخرج لما يجري. انعكس الوضع سلبًا على روحية الشباب، وخاصة أنّه لم يكن بيننا حينها عناصر قدامى وذات خبرة، وقد اتخذت الحرب في مصنع الملح حالة حرب الاستنزاف. لقد أصبح العراقيون أكثر خوفًا وكذا نحن، فكّرت مليًّا في حلٍّ لهذه الأزمة.

عندما وصلت إلى المنطقة سمعت خبرًا سارًا من شباب التخريب فقد جرّبوا "طوربيد بنغلور" لحفر قناةٍ على الطريق، بعد أن وضعوا أكياس التراب عليه، فكانت النتيجة قناة بمواصفات جيدة.

- هذا رائع، إن شاء الله سنتمكن من السيطرة على تَلَّين في كل ليلة.

انطلقت ليلًا مع "قهرمان" من التل 5 إلى التل 7 من دون أي حادث
 
 
 
 
435

419

معركة في مصنع الملح

 يذكر. كان العدو قد مدّ الأسلاك الشائكة على الجانب الآخر من التل 7، وساورني القلق من أن يكونوا قد زرعوا الألغام خلفها، لكن، يبدو أنهم لم يجدوا الفرصة لهذا بعد. انتهت مهمتنا، وبدأت مهمة عناصر التخريب، الذين قاموا بوصل "طوربيد بنغلور" لمسافة 500 مترًا تقريبًا على الأرض. ثم وضعوا عليه أكياس الخيش المليئة بالتراب بمعدل كيس واحد لكل خمسة أمتار، وأحدث انفجارها حُفرة على شكل خندق أو قناة، قام الشباب بتنظيفها جيدًا واستخدموا هذه الحفر للكمين والإحتماء. استخدمت هذه الطريقة في حفر الأقنية على طول منطقة التلال، وكان عناصرنا يكمنون طوال النهار فيها، لينطلقوا منها للسيطرة على تلال جديدة والاستمرار بعملية الحفر. سيطر الشباب خلال أيام على معظم المنطقة وعلى التلَّتَين 14 و15.


اعتقدت أنه آن الأوان لبدء عمليات الاستطلاع وتقسيم المحاور تمهيدًا لبدء العمليات انطلاقًا من التلال المسيطر عليها.

خلال تلك المدة، أقمنا مع عناصر وحدة التخريب في المتراس الذي خُصص لنا في مقر القيادة في مصنع الملح. ذاع صيتُ شجاعة وطهارة شباب وحدة "التخريب" منذ مدّة طويلة، منهم الأخ "رحيم خدير"1 الذي كان يشاكس ويمازح الجميع هنا. فأصحاب صلاة الليل في المتراس لم يكونوا ليعتبوا على رحيم ولم يوفّرهم من "المقالب". ومن عناصر التخريب الذين شاركونا الإقامة في المتراس، أذكر "علي
 

1- استشهد في عمليات كربلاء 5-.
 
 
 
 
436

420

معركة في مصنع الملح

 رضا عطائي، أحد بهارلو، كاظم آفاقي، حجت شريعتي، عبد الواحد محمدي وحسين آمان خدائي". كانت الصلاة تقام جماعة بإمامة الأخ "حسين آمان خدائي". وكان شباب وحدة التخريب معروفين باهتمامهم بالمستحبات وإقامة مجالس الدعاء والزيارات وصلاة الليل.


كان الأخ "آمان خدائي" يتلو الأشعار والمناجاة بعد الصلاة:

- عندما أُصبحُ وحيدًا في الليل...

كان "رحيم" يسجل كل ما يراه في ذهنه، فيتجه بعد الصلاة نحو الأخ "حسين" و يقول له: "لا تَتْلُ هذه الأشعار بعد الصلاة، هذا قبيح، وهو يعود لزمن الشاه!...".

فتبدأ الضحكات والمزاح الذي لا ينتهي.

شاركنا المكان، إضافة إلى شباب وحدة "التخريب" وكتيبة "حبيب"، حوالي عشرة فرق من الجرذان الكبيرة والصلفة.

لم نكن نصدق رؤيتها في المنطقة المالحة! كانت توجد بكثرة في محيط متراس القيادة وداخله، وكأنّها تميّز الفَرق بين هذا المكان وغيره! مع أن الكثير منها قد هلك إثر الانفجارات وتبادل إطلاق النار، لكن ذلك لم يؤثر أبدًا على كثافة وجودهم في المنطقة. والمشكلة الأكبر كانت انتشار بعرها في كلّ مكان، حتى داخل محفظة الثلج المطاطية ومائدة الطعام، الأمر الذي لم نجد له أي حلّ.

بدأنا عمليات الاستطلاع في المنطقة من ثلاثة محاور. تقرر أن انطلق مع "يوسف حقائي، قهرمان معطلي ورضا سلطان زاده"، من المحور الأول، قرب "التل 15". بينما ينطلق كل من "رسول رضا زاده، أمير أسد
 
 
 
 
437

421

معركة في مصنع الملح

 اللهي ومحسن إقدامي"، من المحور الثاني، و"علي غفار بور ومحسن" من المحور الثالث، وحُدّدت مهلة يومين لإنجاز الاستطلاع المطلوب.


تمتّعت تلك المنطقة بميزات خاصة، كانت أرضًا ملحية وتعرضت خلال 45 يومًا مضت لنيران العدو باستمرار، ما أدى إلى تغير معالمها فانتشرت فيها الفجوات والحفر، الأمر الذي ساعدنا على الاستتار أثناء تعرضها للقصف بالقنابل المضيئة. لكن معظم تلك الفجوات مُلئ بالمياه المالحة، فكانت ملابسنا تبتل عندما نقع فيها. الأمر الآخر، أن الإصابات السطحية التي نتعرض لها، تصبح أكثر عمقًا عند تعرضها للمياه المالحة.

انطلقتُ في عملية الاستطلاع الأولى مع "رضا سلطان زادة"، من أمام التلال، حيث بلغت المسافة التي تفصلنا عن خط العدو حوالي 250 مترًا. قطعنا حوالي 200م من دون أي حادثة تذكر، وتابعنا السير من تلك النقطة بكل حيطة وحذر. ومما صعب عملية الاستطلاع علينا، عدم امتلاكنا معلومات وافية عن مدى استعدادات العدو وحجم تجهيزاته. شيئًا فشيئًا كانت تتقلّص المدة الزمنية بين القنبلة المضيئة والأخرى.

قلت لرضا: "إبقَ هنا بينما أتقدم أنا، وعندما أجلس أرضًا، تتقدم أنت وتتخطاني للأمام، ثم تجلس أرضًا ما إن ترى ضرورة لذلك، حينها أتقدم بدوري، وهكذا دواليك". هذه الطريقة تؤمن لنا التغطية النارية اللازمة إلى حدٍّ كبير. لم أكد أتحرك من مكاني حتى انفجرت قنبلة مضيئة في السماء، انبطحت أرضًا ورددت آية السد: "وجعلنا من بين أيديهم..". كان الرصاص الطائش، ككل ليلة، يتطاير في الأرجاء، وهنا
 
 
 
 
438

422

معركة في مصنع الملح

 عليها. لذا لم يكن من الصائب التقدم خطوة واحدة، تراجعتُ للخلف وحاولت إخفاء آثار قدمي، ثم عدنا أدراجنا من حيث أتينا بسلام، وقد تعجبت وتساءلت عن سبب عدم وضع العدو أي عوائق في المكان؟!


لم يطل تعجّبي وتساؤلي، فقد أدركت أنّه لم يتخذ المكان خطًا دفاعيًّا له، إنّما اتّخذه سدًّا أو خطّ حراسة ورصد متقدمَين، فمن الطبيعي أن يصاب العدو بالخوف الشديد لسرعة عبور قواتنا لنهر "أروند" وسيطرتها على "الفاو"، ومن ثم تقدّمها نحو مصنع الملح. بيد أنهم توقعوا هجوم قواتنا على تلك المنطقة بين ساعة وأخرى، لذا لم يقوموا ببناء أي تحصينات، ولا حتى مدّ الأسلاك الشائكة1.

في اليوم الثاني لعملية الاستطلاع، وصل الأخ "عبد الرضا أكرمي" إلى المنطقة، وهو من عناصر النخبة في الوحدة، بصفته مسؤول الاستطلاع. ولمعرفتي بحساسية العمليات، فقد سُررت لقدومه. تابعنا القيام بالمهام من دون إجراء أي تغيير أو إعادة تشكيل للهيكليات. أوكل إليّ عملية استطلاع المحور الأول، بينما تولّى هو المحورين الثاني والثالث. مع حصر وتحديد المنطقة المطلوب استطلاعها، ما سهّل مهمّتنا أكثر. سنحت الفرصة أثناء عمليات الاستطلاع لامتحان العناصر الجدد في الوحدة، فكان العناصر القدامى يختبرون قدراتهم من أجل زيادة الكفاءة، وتقوية آفاق الوحدة. لفت نظري في المجموعة التي أعمل
 

1- علمنا بعد العمليات أنهم حتى لم يبنوا متراسًا لهم بل أحدثوا على الطريق قناةً وحفرة. وفي وقت، حفروا الجادة بشكل ثقب حفرة- يمكن الوصول إليه من خلال القناة، وقد وضعوا حراسًا فيها.
 
 
 
440

423

معركة في مصنع الملح

 معها عدد من العناصر، وتوقعت أن يتمكنوا من القيام بالمهمات في العمليات القادمة، منهم، "قهرمان معطلي، يوسف حقائي، علي غفار بور وأمير أسد اللهي". لاحظتُ دقّتهم، أسئلتهم، تحليلاتهم، قدرتهم على الشرح وإعطاء التعليمات حول المنطقة إلى جانب أخلاقيتهم العالية. لقد جعلوني آمل خيرًا وأطمئن على مستقبل الوحدة. كنا عادة ننقل تقييمنا للمسؤولين.


أُخبرت في تلك الأثناء أن الأخ "أمين شريعتي" يريدني في أمر. فانطلقت إلى نهر "أروند" مع "رحمة الله أوهاني" الذي كان أيضًا في المنطقة. كان السيد "أمين" في الضفة المقابلة، قدّمت في الاجتماع تقريرًا عن سير عمليات الاستطلاع، وأخبرتهم أنّنا تقدّمنا نحو التل 15، لكن لم يكن لديّ اطّلاع حول تقدم فرقة "كربلاء25". شرحت لهم أوضاع المنطقة، كما أخبرتهم عن الماء الموجود قرب ساتر الأعداء الترابي، وعن عدم قدرتنا على التقدّم حفاظًا على سرية العمليات.

قال الأخ "شريعتي" بعد أن قدمت تقريري، إنّ مهمة الاقتحام ستسند إلى كتيبة "علي الأكبر" في كل المحور، بينما تشكّل كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" قوة الإسناد. وقبل بدء العمليات والهجوم، يجب تقديم المعلومات الكافية والإحداثيات اللازمة لكتيبة "علي الأكبر" من أجل تسهيل مهمتها في المنطقة.

كما أولى أركان القيادة قضية أحواض تجمع المياه قبالة ساتر الأعداء، الكثير من الأهمية، وطلب الأخ "شريعتي" مني الذهاب مع ثلاثة عناصر إلى "خور عبد الله"، والسير في منطقة مشابهة لمنطقة العمليات حيث
 
 
 
 
 
441

424

معركة في مصنع الملح

 أحواض المياه، تارة ببدلات الغوص، وتارة أخرى بلباس الجبهة العادي، لمعرفة أيهما أفضل في الحركة أثناء الهجوم ليلة عمليات.


ذهبت أنا و"رحمة الله أوهاني" إلى المكان المحدّد ببدلات الغوص، أجرينا عدة اختبارات وخرجنا بالنتيجة التالية: من الأفضل ارتداء سروال الغوص الضيق، ذلك أن السروال الفضفاض يسبب حفيفًا قد يشدّ أسماع وأنظار العدو إلينا، ورأينا أنّه من الأفضل عدم ارتداء القمصان أثناء الهجوم. عدنا إلى مقر القيادة وقدمنا تقريرنا إلى السيد "أمين"، وقلت له: "من الأفضل ارتداء السراويل الضيقة "دار" ليلة الهجوم". ما إن أنهيت كلامي حتى علا صوت الأخ "شريعتي" بالضحك، فالتفت إليه متعجبًا متسائلًا عن سبب ضحكه، فسألني: "ماذا يا سيد مهدي؟". حينها انتبهت إلى أنني مزجت بين اللغتين الفارسية والتركية. تقرر في ذلك الاجتماع أن يرتدي عناصر الهجوم سراويل الغوص الضيقة ليلة العمليات.

حوّلت كتيبة "حبيب" خطّ الدفاع إلى كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، التي فيها الكثير من الوجوه المألوفة لديّ، والكثير من الذكريات التي لا تنسى، وكان حضوري إلى جانب شباب هذه الكتيبة يمدّني دائمًا بالمعنويات والروحية العالية، وهذا ما لمسته ذلك اليوم، اعتقدت أن السبب حرب الاستنزاف التي طالت في "مصنع الملح". على أي حال، تموضعت "قوات السرية 1" في الخط الدفاعي، و"السرية 2" في الكمائن، حضر فصيل واحد من "السريّة 3"، بينما بقي الفصيلان الآخران منها خلف الخطوط. كالعادة، استقبلني مسؤولو وطاقم كتيبة "الإمام
 
 
 
 
442

425

معركة في مصنع الملح

 الحسين"، وكانوا من العناصر القدامى الذين لهم خبرة في ميادين الحرب والقتال، بكل حرارة ومودّة: قائد الكتيبة الأخ "السيد حسن شكوري"، المعاون الأخ "محمد سبزي"، قادة السرايا: "علي تشرتاب، جعفر زوار ومصطفى پيشقدم"، وهم من الوجوه المعروفة والفعالة في الكتيبة، إضافة إلى الإخوة: "محمد تجلائي، محمد بالاپور، رضا خيري، أيوب أيوبي ومقصود نيكرد"، وغيرهم من العناصر الفعالة الأخرى. فكرت بعد استقرار القوات، أن أذهب مع شباب وحدة الاستطلاع إلى التلال، على أن نتقدم، قبل ليلة العمليات، نحو "التل 20"، حتى يتاح لنا استطلاع المنطقة بشكل أكبر. قمنا بالإجراءات اللازمة بعد ظهر ذلك اليوم، وتقرر أن أذهب أنا و"محمد وطني" مع عدد من العناصر إلى "التل 18". كان عناصر التخريب على أتم الجهوزية للقيام باستكمال شق القناة باستخدام طوربيدات "بنغلور" كما في السابق.


انطلقنا بعد المغيب. تقدّم عنصران وتموضعا على التلّ، وما إن انفجرت الطوربيدات حتى قام باقي العناصر بتنظيف القناة والاستقرار فيها. وصلنا إلى "التل 18"، وأعطينا التعليمات للشباب للانطلاق في اليوم التالي نحو تلّ آخر موضِّحين لهم الأسلوب المتَّبَع في السيطرة عليها.

في اليوم التالي عُقد اجتماع في مصنع الملح بمشاركة جميع عناصر وحدة الاستطلاع، تقرر فيه استطلاع جميع المحاور للمرة الأخيرة. وكان من السهل جدًا توجيه القوات ليلة العمليات، إذ لم تتعدّ المسافة الفاصلة بيننا وبين العدو 250 مترًا، ويمكن استطلاعها باستخدام المناظير الليلية
 
 
 
 
443

426

معركة في مصنع الملح

 والتعرّف إلى المسارات والعوائق وأماكنها. انتهى الاجتماع عند الظهر. 


تناولنا طعام الغداء معًا. ثم انطلقتُ على الدراجة النارية نحو كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" لاطلاع "حسن شكوري" على نتائج الاجتماع.

- سيد "شكوري"، سنذهب الليلة في مهمة استطلاع، فهل يستطيع الإخوة الذهاب وحدهم إلى التلال؟

- أجل، لكننا بحاجة إلى منظار ليلي (مزوّد بالأشعة تحت الحمراء)!

- لن تستغرق مهمتنا نصف ساعة، حينها سنعطيكم منظارنا.

ودّعت الأخ "شكوري" وانطلقت. لكن، رغم تأكيده على أنّ الإخوة قادرون على الذهاب إلى التلال ليلًا وحدهم ومن دون شباب الاستطلاع، إلّا أنّ القلق كان يساورني أينما ذهبت.

حُدّد وقت الانطلاق بعد صلاتي المغرب والعشاء. وصلنا إلى "التل 11". ومهمتنا استطلاع المنطقة في محيط تلي 11 و12. لم أكد أتنفس الصعداء، حتى وصل الأخ "السيد محمد وطني" مسرعًا نحوي وقال: "أعطني المنظار الليلي يا سيد "مهدي"، نحن ذاهبون في المهمة وبحاجة إليه". كان السيد "محمد" من الأشخاص الذين أعجبت بهم كثيرًا، فهو إنسان جدّي، لكن عصبي المزاج بعض الشيء، حتى إنّ الشباب كانوا يتعمّدون ممازحته. إذ كان يروقهم كثيرًا أن يروه غاضبًا منفعلًا!

قلت له: "إليك عني أيها الصبي، أين أنت من المهمة!".

كاد أن يغضب فأمسكت يده قائلًا: "يا سيد! من المقرر أن يذهب الإخوة في آخر مهمة استطلاع، وسأعطيك المنظار عندما يعودون...".
 
 
 
 
444

427

معركة في مصنع الملح

 كان "يوسف حقائي وقهرمان معطلي" قد ذهبا في آخر عملية استطلاع، وكان بحوزتي منظار عادي، والسماء مضيئة بعض الشيء، ناهيك عن القنابل المضيئة التي سهّلت الرؤية. ابتعد الإخوة حوالي 100م، كانوا في منتصف المسافة بيننا وبين خط الأعداء، ومن الطبيعي جدًّا أن يراهم العدو كما نراهم نحن، لكن، عدم قيام العدو بأي ردّ فعل وكأنّه لا يراهم، أثار تعجبي وقلقي في آن، وبدا هذا القلق والتعجب أضعافًا مضاعفة على السيد "محمد"!


فجأة، حدث الأمر ذاته الذي حدث معي في عملية الاستطلاع الأولى للمنطقة، فقد سقطت قنبلة مضيئة على بعد خطوات من الإخوة واحترقت. ردّد السيد "محمد" باضطراب شديد: "سيرونهم الآن.. سيرونهم الآن...".

- اصبر لنرى ماذا سيحدث، واقرأ آية السدّ: "وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون".

غاب الإخوة عن أنظارنا 10 دقائق تقريبًا. لفت انتباهي قلق واضطراب السيد "محمد" الذي يشهدُ أولَ عملية استطلاع عن قرب. اعتقدت أنّه من الجيد أن يرى شباب وحدة الاستطلاع ردّ فعل الآخرين على عملهم، فرحتُ أُحدّق مليًّا بملامحه.

- إنهم قادمون!

قالها وقد ارتسمتْ البسمة على ثغره وشعر بالطمأنينة. وصل الإخوة فأخذت منهم المنظار الليلي وسلمته له، مكررًا التعليمات والاحتياطات الواجب عليهم اتخاذها:
 
 
 
 
445

428

معركة في مصنع الملح

 - يا سيد! ها قد شاهدتَ كيفية الحركة الليلة الماضية، يتقدّم اثنان من العناصر، إذا رأيتم عراقيًا فارموه بقنبلة يدوية، وإلا فلتتابعوا تقدّمكم وتموضعوا على التل، عندها يبدأ عمل عناصر "التخريب".


حمل السيد "محمد" المنظار الليلي بحذر شديد وانطلق بسرعة نحو سريته.

تمّت العملية النهائية لاستطلاع المنطقة بنجاح. انتظرنا في إحدى النقاط عودة جميع العناصر من المحاور الأخرى. بعد أن تأكّدنا أنّ كلّ شيء يسير على ما يرام، ركبنا شاحنة التويوتا الصغيرة وعدنا إلى مقرّنا في مصنع الملح.

لم يبقَ الكثير لأذان الصبح، أعددتُ الشاي وطعام الفطور، ولأنني كنت على عجلة من أمري لم انتظر باقي الإخوة. تناولت بضع لقمات ثم ركبت الدراجة النارية واتجهت نحو كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". لم أدرِ ما الذي كان يدفعني للذهاب إلى هناك! أهو ذلك الاضطراب الذي كان ينهشني أو "صوت الوصال" الذي سمعته حديثًا؟!.

كنت قد أخبرت الشباب أنني ذاهب لأستطلع تقدّم قواتنا الليلة الماضية على التلال. وصلت إلى متراس القيادة، لكنني تسمّرت خارجه ولم تطاوعني قدماي على الدخول، وقد لفتني وجود شاحنة التويوتا قرب المتراس. جاء "علي تشرتاب" نحوي، رأيت في التويوتا أجساد ثلاثة شهداء مغطاة ببطانية، شعرت بشيء يمزق أعماقي، سألني علي: "هل تعرفهم؟!".
 
 
 
 
446

429

معركة في مصنع الملح

 - ماذا حدث؟ متى استشهدوا؟


- الليلة الماضية على التلال...

لم أستطع سماع المزيد، أساسًا لم أفقه شيئًا مما قاله..

رفعت "البطانية" لأرى أجساد: "محمد سبزي، مير حيدر بايدار وناصر" قناص (الفصيل 2)، غارقين بدمائهم. كان "محمد" قد أصيب في العمليات السابقة في إحدى عينيه ففقدت النور، والآن أصيبت العين ذاتها بشظية، بينما بقيت عينه الأخرى مفتوحة. حدقت بتلك العين، بينما مسحتُ برفق على وجهه الدامي المعفّر، وأطبقت جفن العين الأخرى بهدوء، حينها أدركت سبب اضطرابي وقلقي، لم أكن أعلم ماذا حدث وكم هو حجم خسائرنا.

انطلقت بسرعة في القناة، أصابني صوت الرصاص الغزير بالدوار.

عبرت "التل 16". كانت النيران تتساقط بغزارة على المكان. رأيت هناك مسعفين تركا الجريح على نقالة أعلى الساتر الترابي، بينما نزلا أسفل القناة احتماءً من الرصاص. كانت رصاصات الرشاش المضاد للأفراد، من نوع "بيلامينا" التي تتشظى عند ارتطامها بالأرض، تنهمر نحونا بلا انقطاع. ساءني تصرّف المسعفين، فصرخت بغضب: "ما بالكما تركتما الجريح في معرض النيران واختبأتما؟! هيا انهضا وانقلاه للخلف". عملنا على إنزاله بصعوبة وبألف حيلة، كان الحاج "صادق صدقي" ولم يكن قادرًا على التفوّه بأيّ كلمة لشدة النزف، لا أدري إن كان سيبقى على قيد الحياة لحين إيصاله إلى سيارة الإسعاف أم لا! رافقت المسعفين إلى حيث يمكنها متابعة السير وحدهما بسهولة،
 
 
 
 
447

430

معركة في مصنع الملح

 ثم عدتُ إلى القناة ثانية. لم أصدق أن هجوم الليلة الماضية، من دون مرافقة عناصر الاستطلاع، قد كلفنا كلّ هذا!


كان كلّ شيء يدلّ على أنّ القوات لم تعمل بتوجيهاتنا أثناء الهجوم، أُخبرت أنّهم توغلوا أكثر مما يجب فاصطدموا بالعراقيين عند الصباح. تلك المرة، كان ثمنُ السيطرة على تل إضافي استشهادَ عدد من الإخوة، بينما سقط الباقون أثناء تنظيف القناة، إثر تعرّضهم للقصف المباشر.

- من استشهد؟

- استشهد الحاج "صادق" في الطريق.

- ومن أيضًا؟

- السيد "محمد وطني".

عدت أدراجي في القناة، وأنا أكبتُ عواطفي كي لا تلحظني عيون العناصر التي تراقب كل حركاتنا وسكناتنا عن كثب، وليس مسموحًا أن نقوم بأي عمل يضعف معنويّاتهم. لم تغب صورة وجوه الشهداء الخمسة عن بالي أبدًا. كانت القناة تمتد إلى "التل 1"، وتقع مقابلها متاريس الإسناد والمؤن والقيادة، وكان المحيط المقابل للقناة أشبه ما يكون بالمقر، حيث يقع فيه مقر(دشمة) الكتيبة، وهو عبارة عن عنبر حديدي مدخله ممر بشكل حرف (L) . سألت "محمد تجلائي" الجالس في الممر: "أين السيد"حسن"؟!".

- في المقرّ...

فقلت له بصوت حزين وعال: "لم يكن من داعٍ لإرسال كل تلك القوات إلى هناك، ما الداعي لكل تلك الخسائر في الأرواح؟!".

لم أنتظر رده، كأنّه أدرك سبب انفعالي فلم يتفوه بأي كلمة. ابتعدت
 
 
 
 
448

431

معركة في مصنع الملح

 عنه قاصدًا المقر. بضع قطرات من الدمع كافية لأتمكن من خنق الحزن الذي تأجّج في أعماقي.

 

 

 

 

449


432

معركة في مصنع الملح

 3


كان المقر يضجّ بالأنباء والأحداث الجديدة. قيل إنّه من المتوقع بدء العمليات هذه الليلة. وصلت قوات كتيبة "علي الأكبر" الهجومية إلى المنطقة، وكانوا على أتم الجهوزية للتحرك باتجاه محور عملياتها. وكان لرؤية الوجوه المصمّمة والمستعدة لخوض المعارك، أثرها الكبير في تسكين آلام جراح قلبي التي لا يدملها شيء.

عُقد اجتماع مع قادة كتيبة "علي الأكبر"، ووُزّع عناصر الاستطلاع على الفصائل والسرايا. كان الأخ "بهمن نوري" مسؤول محور عمليات الكتيبتين، وهو من "زنجان"، ومن المقاتلين أصحاب التجارب في الحرب.

قبل انطلاق قواتنا، اتجهت إلى المحور المقرّر أن نتحرك منه، وحدّدتُ أماكن استقرار القوات قبل ساعات من الانطلاق، خاصة أماكن تموضع قوات كتيبة "الإمام الحسين"، قوة الإسناد التي ستقوم بتمشيط وتطهير المنطقة بعد إنجاز الاقتحام. وكنت قد استطلعت المحور بنفسي وأعرفه شبرًا شبرًا. اخترتُ القناة خلف "التل 11"، العميقة نسبيًا، مكانًا مناسبًا لاستقرار قوات سرية الأخ "تشرتاب" التي عليها دعم وإسناد محورنا، والقناة الواقعة خلف "التل 12" لاستقرار قوات الاقتحام والهجوم من كتيبة "علي الأكبر".

وجدتها فرصةً مناسبةً لاجتماع قوات الوحدة في مكان واحد، بعد التجمّع انطلقنا باتجاه المسجد خلف نهر "أروند"، فكرت أنه من
 
 
 
 
 
450

433

معركة في مصنع الملح

 المستحسن أن يستحم الشباب هناك، والأهم من ذلك أن نقضي معًا بعض الوقت. كنتُ واثقًا أن عددًا منهم سيغادر هذا العالم الترابي هذه الليلة، لذا كنت أراقب بكل دقة جميع حركاتهم وسكناتهم، ضحكاتهم وصمتهم وحتى خلواتهم. تناولنا طعام الغداء في المسجد، ثم انطلقنا نحو المحور.


ما إن ركبنا شاحنة "التويوتا" حتى لفتني "قهرمان معطلي" فقد بدا مختلفًا كثيرًا عن ذي قبل. كانت دموع "قهرمان" تنهمر بصمت على وجنتيه طوال الطريق، كنت أغبطه على حاله! فقد وصل إلى "ساح المعارج" متأخرًا، وها هو يحصل سريعًا على إجازة العروج!

حلّ الغروب وكانت ساعة الانطلاق. استقرّت القوات في المكان المحدّد لها، وتم اختيار "قهرمان معطلي ويوسف حقاني" لتوجيه قوات الاقتحام. كان اختيار "يوسف" صعبًا علي، فهو قد جرح في عمليات "والفجر 8"، ولم يكن جرحه قد برؤ بعد بالرغم من مضي عدة أشهر، كما إنّ نزوله إلى الممالح قد يُسبب تقرّح جُرح قدمه أكثر فأكثر، كنت أعلم كلّ هذا، لكنني لم أقدر على منعه من المشاركة. وخلال عملية الاستطلاع لم أسمع منه أيّ تأوّه أو شكوى بالرغم من كل آلامه وجراحه.

- ابق هنا يا يوسف.

- لا، بل سأقود قوات الاقتحام، لا تقلق!

حانت لحظة الانطلاق، وسار الرتل خلف عنصرَي الاستطلاع في ذلك السهب الواسع.

كنت إلى جانب الأخ "بهمن نوري" أراقب حركة الرتل من خلف
 
 
 
 
451

434

معركة في مصنع الملح

 الساتر. وأشعر بالقلق من أن يكتشف أحد قنّاصي متاريس العدو وجودهم فيقضي عليهم، وتتكرر مأساة كتيبة "الحر" ثانية.


تذكرت عمليات الاستطلاع في المنطقة، والجهوزية الكاملة لقواتنا، فتفاءلت بالنصر، خاصة أن العمليات كانت بنداء اسم صاحب الأمر "يا مهدي"! وهو الكفيل بقيادة وإرشاد هذه القوات للنصر.

ككلّ ليلة استمرّت رشقات رصاص العدو الطائش. لكن، مع غياب الرتل عن أنظارنا، أصبحنا نتوجس خيفة عند سماع كلّ رشقة، لربما اكتشف العدو أمر الإخوة؟!

ساور القلق أيضًا عناصر كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، الذّين كانوا ينتظرون دورهم في القناة. بدأ كلّ من "رسول آفتابي وهاشم تاري" المزاح ومشاكسة الآخرين بإشارة من الأخ "علي تشرتاب"، فساد جوٌّ من المرح، كان كفيلًا برفع معنويات الإخوة. ترك عمل الأخ "تشرتاب" هذا أثره الطيب على العناصر. وكانت أصوات دعاء الشباب الهادئة وقراءة الآيات الكريمة تنبعث من القناة. كان لإجراءات وأعمال الأخ تشرتاب وقعها المؤثر في جمع القوات. بدأتُ ثانية بتأنيب نفسي على البقاء وعدم الذهاب مع الإخوة في قوات الاقتحام، لم يقرّ لي قرار ولم أستكن، وإذ بي وأنا على هذه الحال، أسمع صوت انفجار قنبلة يدوية، من الجهة التي تقرر فيها تسلق الإخوة لخط دفاع العدو، ما دفعني للتحرك والانطلاق:
- سأذهب لاستطلاع الأمر يا سيد "بهمن".

ركضتُ باتجاه رتل الشباب، وكنت في الطريق أفكر بنقل أي جريح
 
 
 
 
452

435

معركة في مصنع الملح

 أجده إلى الخطوط الخلفية. وصلت إلى الملاحات، على مسافة 10 أمتار من خط العدو، حيث وصلت في عملية الاستطلاع الأولى. رأيت هناك آخر عناصر الرتل يتسلّقون ساتر الأعداء الترابي وقد تمّ اقتحام الخط وبدأت المعارك. لكنّ اللافت أنّ حجم إطلاق النار من قبل العدو لم يتغير عما كان عليه منذ عدة دقائق! لم أكن أصدق أن دفاعات العدو في تلك المنطقة ضعيفة إلى هذا الحدّ. بدأت فرقة "كربلاء 25" العمليات في خطها أيضًا، ما رأيته في خط العدو في تلك المنطقة لا يشبه أيًّا من الخطوط الأمامية الأخرى.


عبرتُ الساتر الترابي، وأنا قلق جدًا على "قهرمان ويوسف"، سألت عنهما أول عنصر التقيته فقال لي: "لقد ذهبا للأمام". كانت أصوات المعارك والاشتباكات قادمة من ناحية الكمين الكائن في المحور الذي استطلعه الأخ "أكرمي". صحيحٌ أنّ صوت إطلاق الرصاص قادم من هناك! لكن، لا أثر للمعارك أو الاشتباكات حيث أقف. ذهبت للبحث عن "يوسف وقهرمان" حيث أشار الأخ، وابتعدت عن قواتنا مسافة كبيرة، فوجدت نفسي وحيدًا وقد تملّكني الخوف.

- إذًا أين هو "قهرمان"؟!

أسرعت الخُطى أكثر عندما رأيت القامة الصغيرة والمألوفة لأحد شباب "التخريب"، شعرت بالاطمئنان، سألته عن "قهرمان"!

- إنه هناك، ذهب لتطهير المتاريس.

- وحده؟

- لا أدري.
 
 
 
 
453

436

معركة في مصنع الملح

 كنت أركض وذكريات شهادة "محمد محمد بور" الأليمة تلاحقني.


وجدته في النهاية في مكان بعيد جدًا وقد سقط أرضًا، شعرت أنّ قلبي يقفز من بين ضلوعي.

- قهرمان؟!.

رفع رأسه وضحك، جلست بالقرب منه. لقد اخترقت رصاصة قدمه وكان ينزف بشدة. قبّلت جبينه وساعدته على النهوض، ثم تركته عندما وصلنا إلى قوات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" في عهدة اثنين من العناصر لينقلاه، إلى الخلف. بعد ذلك ذهبت لمساعدة الإخوة في تطهير المتاريس. كانت قوات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام" تسير على جانبي السدّ، وتدفع بالعناصر الفارّين إلى نقطة الالتحام مع قوات كتيبة "كربلاء 25". توجّهت من هناك صوب الكمين حيث تدور المعارك، لأطّلع على سبب استغراقها كلّ هذا الوقت! انتهت الطريق التي كنت أسير عليها بمفترق مثلث، يتجه أحد الطُرق فيها نحو الكمين، والآخر نحو التلال حيث تدور المعارك، بينما يمتد الثالث بموازاة الخط الدفاعي. كانت المتاريس التي أنشأها العراقيون على مفترق الطرق محكمة بعض الشيء، وأدّت مقاومتها إلى عرقلة تقدّم الإخوة. جمعتُ عناصر كتيبة "علي الأكبر" وانطلقنا، كنت واثقًا أن هجومًا ساحقًا سيحل مشكلة المتاريس تلك.

- أحسنتم يا شباب، لم يبقَ الكثير. هيا "يا علي"...

كان حضور أحد عناصر الاستطلاع بين الإخوة كفيلًا برفع معنوياتهم. استسلم العراقيون إثر إطلاق كثيف للنيران، ولم أكن أعرف القرار الذي سيتخذه القادة بشأنهم، إذ كان الاحتفاظ بالأسرى أثناء الهجوم والاقتحام
 
 
 
 
454

437

معركة في مصنع الملح

 أمرًا غير محسوب العواقب. ثم بعد ذلك حُلّت المشكلة هناك، وخفت حدّة النيران، وعلا صوت الجرافات والحفارات.


فقد تقرّر في الاجتماعات السابقة للعمليات، أن تبدأ جرافاتنا بتمهيد الطريق نحو خط العراقيين، وما إن تمّ الاقتحام حتى عملت وحدة الهندسة في فرقة "عاشوراء" بدقة وسرعة متناهية على شقّ وتمهيد الطريق. لكنّ فرحة شقّ الطريق امتزجت بحزن وغم كبيرين.

كنت أسأل كلّ من ألتقيه عن عناصر وحدة الاستطلاع. سقط "رضا زادة" داخل الحقل إثر إصابته بجروح بليغة. وقد نقلوه إلى الخلف، وقيل إنّ "محسن" قُطعت رجله، ونقلوه أيضًا إلى الخطوط الخلفية، سألت عن "علي غفار بور"، قالوا لي إنّه جُرح أيضًا.

- من الذي نقل "علي" للخلف؟

لم ألقَ جوابًا واضحًا، قال أحدهم: وَضَعَه الشباب إلى جانب الساتر من تلك الجهة.

لكنّ الجهة التي أشار إليها هي تحت طريق ما زالت قيد الإنشاء والتعبيد. لم أستطع تحمّل فكرة أن يكون "علي" الجريح قد دفن تحت كومة التراب! رحت أبحث عنه على طول الساتر ذهابًا وإيابًا مرات عديدة، وأسأل عنه هذا وذاك، بل وطلبت من بعض الإخوة المساعدة في البحث عنه... لكن محاولاتنا ذهبت سدى1.
 

1- عُثر على جسد الشهيد "علي غفار بور" الطاهر، أثناء عمليات البحث عام 1996م، ونقل رفاته إلى مسقط رأسه في مدينة "سهراب" حيث ووري الثرى. كان "علي" يأنس كثيرًا بكتاب نهج البلاغة، وكان يدير دورات "نهج البلاغة" التعليمية في الوحدة. رحمة الله عليه.
 
 
 
 
455

438

معركة في مصنع الملح

 بدأ ضوء الصباح بالانبلاج شيئًا فشيئًا، سرت إلى حيث تدور المعارك مع كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام". بعد وصولي سألت عن الوضع فقيل لي إنّه لم يتمّ الالتحاق مع قوات فرقة "كربلاء 25" حتى الآن. اعتقدت أن وجودي إلى جانب قوات الفرقة ضروري، فسرتُ إليهم. كانت لا تزال التجارب المرة السابقة، من عدم التحاق القوات في الوقت المناسب، ماثلة أمام ناظري، خاصة الخسائر الفادحة التي تكبّدناها في محور عمليات "مصنع الملح" الأخيرة. سمعت صوت الأخ "شريعتي" يقول عبر جهاز اللاسلكي: فرقة (كربلاء 25)، لقد وصلنا إلى المكان المقرر للالتحاق، لكن أين أنتم؟!". لم أتفاجأ، فهذه ليست المرة الأولى التي تصل فيها الفرقة إلى نقطة الالتحاق في الوقت المحدّد، بعكس ما كان يُشاع. لم يكن هذا وقت إثبات صحة هذا الأمر أو عدمه، اتجهت بسرعة إلى حيث فرقة (كربلاء 25)، والتقيت في الطريق "كريم بور كريم" صديق "أحمد يوسفي" الأسمراني، كان يجلس وحيدًا داخل متراسٍ فسلّمت عليه وتابعت المسير.


لفتني عدد قتلى العراقيين داخل القناة! في النقطة التي فرّوا إليها من أمام زحف قوات فرقة "كربلاء 25" وفرقة "عاشوراء".

وعلى ما يبدو فإنّ قوات كتيبة "الإمام الحسين عليه السلام"، وأثناء تقدّمهم من ناحية أحواض المياه، قد ألقوا عليهم القنابل اليدوية، ما أوقع في صفوفهم كلّ هذه الخسائر. كنت أؤكد لكلّ من التقيته في الطريق، أن الساتر الترابي سيكون خطنا الدفاعي من جهة الأحواض، وبالتالي عليهم بناء متاريس لهم في تلك الناحية. كما التقيت أحد
 
 
 
 
 
456

439

معركة في مصنع الملح

 الإخوة، وكان قد أخفى وجهه بالكوفية، بدا لي مألوفًا، وعرفته من صوته، إنه "رضا داروبيان":

- لِمَ تضع الكوفية يا رضا؟ لماذا تخفي وجهك!

- وصل السيد "أمين" إلى الخط، وسيغضب كثيرًا إن رآني هنا.

علمت أنه جاء مع قوات الاقتحام من دون علم قائده. تركته ومضيت. رأيت مع أشعة الصباح الأولى فلول العراقيين الفارين من ناحية أحواض المياه المقابلة لخطهم، وكان عدد من الإخوة قد كمنوا لهم هناك. سرعان ما صاح أحد الإخوة أن قوات فرقة"كربلاء 25" قد وصلت إلى مكان الالتحاق.

بعد أن تمّت عملية الالتحاق بين القوات. قررتُ ترك المنطقة التي أصبحت تحت السيطرة ولم يعد لحضوري هنا ضرورة. اصطحبت معي في طريق العودة الأخ "رضا"، وكان ما زال يخفي وجهه بالكوفية، ثم التقينا بعد مسافة قصيرة بأحمد يوسفي:
- أحمد! التقيتُ صديقك في ذلك المتراس، هل التقيت به؟!

- نعم رأيته في ذلك المتراس..

عندما التفتُّ نحو المتراس لم أر أثرًا له. فقد تحوّل إلى ركام بفعل قذيفة "هاون" سقطت عليه. اعتقدنا أنه ما زال حيًا، لذا بدأنا العمل والحفر. رفعنا السقف المنهار في البداية، ثم أكياس الرمل، فظهر جسد "كريم"، سحبناه خارج التراب، كان قد أغمي عليه بسبب الاختناق وضيق التنفس. بعد برهة استعاد وعيه وفتح عينيه، وبعد أن استطاع الوقوف على قدميه، اصطحبناه إلى مقر قيادة الكتيبة.
 
 
 
 
457

440

معركة في مصنع الملح

 انتهت مهمة عناصر الاستطلاع في المنطقة تقريبًا. جمعنا أغراضنا ونقلناها إلى المسجد. كنت أرى في الطريق الوجوه الضاحكة وأسمع الأناشيد الحماسية والموسيقى العسكرية. لكنّ قلبي كان منقبضًا، فقد تذكرت الليلة الماضية شباب وحدة الاستطلاع حيث قطعنا هذه الطريق، بينما أجمع اليوم أغراضهم الخاصة! تذكّرت عيني "قهرمان معطلي" ذاك الفتى ذا الوجه النوراني الذي لم تنبت لحيته بعد. لكنه كان شجاعًا وبطلًا حقًا.


وصلتُ إلى المسجد. توجّهت قبل أي شيء نحو حقائب الإخوة الشهداء، قمت بترتيبها لحفظها ونقلها. فتحت حقيبة "قهرمان" أولًا. لم أُصدق أنّ جُرحًا كهذا يؤدي إلى استشهاده، أخبروني أن الرصاصة قد قطعت الشريان الرئيس في قدمه فنزف بشدة واستشهد قبل وصوله إلى الإسعاف. وجدت وصيّته في الحقيبة، فتحتها وقرأتها: "إنها الساعات الأخيرة لعمري، وأنا أقترب من خالقي كلّ لحظة.. لقد أدركت خلال المدة التي قضيتها في الجبهة أن الشهادة هي الطريق الأقصر والأسرع والأفضل للوصول إلى الله".

لم أتمالك نفسي عن البكاء، فدموع "قهرمان" المدرارة بالأمس هزَّت كياني. "من أين له تلك الثقة والطمأنينة بالشهادة، وأي فلسفة عميقة لاحت بها كلماته!!".

بقيت هناك حتى الغروب. وصل من تبقى من شباب وحدة الاستطلاع إلى المسجد. لم يكن من شيء هناك غير السكوت والصمت، وحشرجة الصدور وتمتمات مبهمة!
 
 
 
 
458

441

معركة في مصنع الملح

 في الصباح، وضعنا الأغراض في شاحنة التويوتا، وانطلقنا نحو مدينة "الأهواز". عندما وصلنا إلى هناك سمعت خبر عودة الإخوة من زيارة مشهد المقدسة، وقد أصبحوا في منطقة "شط علي". بانَ الحزن والغم على محيّاي، بالرغم من جميع محاولاتي لإخفائه.


- اذهب يا "مهدي قلي" في إجازة لبضعة أيام.

- لا، بل أريد البقاء هنا.

كان "ياسر زيرك" عارفًا بحالي وأحوالي، فقال لي: "لِمَ لا نذهب للقاء الإخوة في "شط علي"!".

كان لقاء الإخوة أفضل دواء لي.

قبل خروجي من الثكنة، ذهبت بالسيارة إلى قسم التموين. كان من المعروف أن يأخذ الإخوة معهم ما يلزم من تجهيزات ومؤن إلى المقر الذاهبين إليه. وقد رفعت توصيات بهذا الشأن لمسؤول التموين. قام الحاج "حميد" مسؤول تموين الفرقة بإدخال السيارة إلى المخزن وملئها بأنواع المؤن والحاجات ثم سلمها لي. ثمّ انطلقت بسرعة من "الأهواز" قاصدًا "شط علي".

تمّ الجزء الأول.
 
 
 
 
459

442

معركة في مصنع الملح

 في الجبهات تحوّلات في المُلك والملكوت. فهل ستتبدّل المصائر؟ وإلى أين سيصل "مهدي قلي رضائي" في طموحه نحو الغاية؟ نتابع في الجزء الثاني من فرقة الأخيار:

• منطقة الخداع
• عمليات الشهادة
• معركة "كربلا5"
• معركة الجراح
• منطقة (مدينة) ماووت
• عمليات بيت المقدس الجبلية
• منطقة الجزمة
• الانسحاب
• المرصاد
• الهجرة
• منطقة الملكوت
• ملف المشاهِد المصورة والوثائق
 
 
 
 
460

443
فرقة الأخيار - الجزء الأول