سراج القلوب


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-02

النسخة: 2018


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد..

يتناول هذا الكتاب مقتطفات من الخصال الفذّة لأبعاد الشخصية المتكاملة للإمام الخميني قدس سره، التي تُبرهن بحقّ على مدى سمّوها وتعاليها، وتلفت الأنظار إلى وحدة وانسجام شخصية هذا الإنسان العظيم، خاصة في مجال قيادة المجتمع الإسلامي.

وقد جاء الكتاب في أربعة فصول:
يتناول الفصل الأول، الذي حمل عنوان (مع الناس)، موقع الجماهير ودور الشعب في رؤية الإمام الخميني قدس سره. حيث يُلقي الضوء على الحبّ والعاطفة تجاه الشعب من الموقع الفردي، والتواضع، والاحتكام للقانون في المواقف الاجتماعية.

وما ينبغي الإشارة إليه، والذي يتجلّى في فكر الإمام الخميني بوضوح، هو أنّ سماحته يعتبر الجماهير صاحبة الكلمة الفصل في القضايا الاجتماعية، خاصّة تلك التي تتّصل بالنضال والثورة وإقامة نظام الجمهورية الإسلامية، ومن ثم الذود عنه وصيانته. ومن هذا المنطلق كثيراً ما يؤكّد سماحته على ضرورة تواجد الجماهير في الساحة والاضطلاع بمسؤوليّاتها الاجتماعية.
 
 
 
 
 
 
7

1

المقدمة

ومن ناحية ثانية، وبالالتفات إلى أنّ الإمام الخميني يعتبر الجماهير صاحبة الثورة والنظام الحقيقيين، نرى سماحته يوصي كبار المسؤولين مراراً وتكراراً ببذل كلّ ما في وسعهم لخدمة أبناء الشعب معتبراً (خدمة الحقّ تتجلّى في خدمة الخلق).


أمّا الفصل الثاني، فقد حاول إلقاء الضوء على اللطائف الروحية التي تتمتّع بها شخصيّة الإمام، حيث يتّضح من خلال التأمّل فيها مدى أهمّيتها لحياة قائد إلهي في المجتمع.


أمّا الفصل الثالث، فقد كرّس لتوضيح السلوك والتصرّفات التي وإن كانت تتجلّى في الحياة الشخصية للأفراد، إلا أنّ انعكاساتها الاجتماعية مهمّة ومؤثّرة للغاية.


وأخيراً، يتناول الفصل الرابع، الذي يحمل عنوان (أسوة الصلابة)، بيان الخصال الشخصية والفردية لسماحة الإمام. وبالتّالي فإنّ اجتماع كلّ هذه الخصال والصفات والقيم الأخلاقية والسلوكية في شخصيّة الإمام الخميني، قد جعلت من سماحته في الحقيقة نموذجاً فذّاً للتخلّق بالأخلاق الإلهية.. ولعلّه من المناسب حقّاً أن يُطلق على أخلاقه وسلوكه ونهجه وتطلعاته اسم (سراج القلوب).


ولا بد في الختام من توجيه الشكر الجزيل إلى الجهة التي أنتجت هذا الكتب بنسخته الفارسية، وهي مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، في تهران.


والحمد لله رب العالمين

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

 

 

 

8

 

2

المقدمة

 قبس من سيرة الإمام الخميني قدس سره

مدخل
من جملة المفاهيم المعتمدة في المناهج التربوية، مفهوم القدوة والأسوة، التي بوسعها - بسبب عينيتها وواقعها المحسوس - أن تترك أكبر الأثر وتحقّق أعظم الفائدة. وبطبيعة الحال، إنّ مثل هذه الأسوة تضطلع بدورها، سواء الإيجابي أو السلبي، بناءً على نوعية الاختيار واتجاهه وتوجّهه.

ولمزيد من تسليط الضوء على هذا الموضوع، يرى الإمام الخميني قدس سره ضرورة التعرّف على الأنظمة التربوية الدينية ومنزلة الإنسان في هذه الأنظمة، موضحاً بأنّ الإسلام، مع الأخذ بنظر الاعتبار الكرامة الإنسانية، يؤمن:
أولاً: ليس بوسع أيّ شخص أن يحتلّ موقع الأسوة والقدوة وأن يكون نموذجاً يحتذى به. إذ إنّ القرآن المجيد يُشير إلى أعظم الخلق، نبي الإسلام الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك إلى النبي إبراهيم العظيم، بصفتهما (أسوة).

ثانياً: تتميّز الرؤية الإسلامية بنظرتها الإيجابية واهتمامها بسموّ الإنسان وتعاليه. ويوصي الإسلام بالتأسيّ بـ (الأسوة الحسنة)، ويُحذّر من التوجّه المعارض لها.

ثالثاً: من بين أتباع هؤلاء العظام، ثمة أصفياء بوسع حياتهم ونهجهم 
 
 
 
 
9

3

المقدمة

 وأخلاقهم وسيرتهم أن تُشكّل نموذجاً قيماً يُحتذى به وأسوة حسنة للناس كافة، وكأنّهم يريدون أن يقولوا للآخرين من خلال أقوالهم وأفعالهم: (كونوا مثلنا)، و (عيشوا حياتكم مثلنا) و...الخ.


وممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الخميني قدس سره استطاع، في عصر سيطرت عليه المادّيات وخيّم عليه النهم والجشع وغابت عنه المعنويّات والقيم الإلهية، استطاع أن يضع أمام الإنسانية تجسيداً حقيقيّاً للإسلام المحمّدي الأصيل، وأن يُترجم الأسوة الحسنة والنموذج العملي للاقتداء، لما تحلّى به سماحته من خصال وقيم أخلاقية فذّة، ولما اتسمت به شخصيّته من روح توّاقة للمحاسن كلـّها، وفكر توحيدي أصيل، وبيان واضح وصريح مفعم بالمعنويّات، وأقوال وأفعال سمتها الصدق والإخلاص.

السيرة المباركة
فيما يلي نظرة إجمالية إلى سيرة الإمام الحافلة، واستعراض سريع لأبرز الأحداث والوقائع التي تركت تأثيرها على حياته.

في مطلع القرن العشرين، وفيما كان العالم الغربي يطوي جادّة التطوّر والرقي مسرعاً، لم يجن الشعب الإيراني من حكم الأسرة القاجارية خلال هذه الفترة، سوى الظلم والضياع. واستناداً لما يذكره المؤرّخون وأصحاب المذكّرات، كانت المجاعة والقحط، والنهب والسلب، والاضطرابات وانعدام الأمن، وانعدام الصحة والسلامة، وفقدان المستلزمات الأولية للحياة، السمة الغالبة في حياة الشعب الإيراني.

كما أنّ (الحركة الدستورية) كانت قد ضلّت طريقها، نتيجةً لمخطّطات عملاء الإنجليز في البلاط القاجاري ودسائسهم، فضلاً عن الصراعات 
 
 
 
 
 
 
10

4

المقدمة

 الداخلية وخيانة جمع من المثقّفين المتغرّبين. فعلى الرغم من أنّ علماء الدين كانوا في طليعة هذه الحركة إبان انطلاقتها، إلا أنّه تمّ إقصاؤهم عن الساحة بمختلف أنواع الدسائس والأحابيل، وعاد الاستبداد ليلقي بظلاله من جديد على مناحي المجتمع. فكانت النـزعة العشائرية التي اتسمت بها الملكية القاجارية، وضعف رجالها وافتقارهم للمؤهّلات والكفاءة، كانت وراء التدهور الاقتصادي والتدنّي الاجتماعي الذي شهدته إيران في هذه الفترة، ممّا شجّع الخوانين والأشرار للعبث بمقدّرات الناس وأمن المجتمع1.


في ظلّ هذه الأوضاع والأحوال، ومع شروق شمس اليوم الأول من شهر مهر عام 1281 هـ.ش، الموافق العشرين من جمادي الثاني 1320 للهجرة (1902م)، وتزامناً مع ذكرى ولادة الصدّيقة الزهراء عليها السلام، بضعة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ولد في مدينة خمين طفل قاد فيما بعد نهضة إلهية استطاعت أن تعيد للشعب الإيراني عزّته وكرامته وتمضي به قدماً على خطى الإسلام والتقدّم والازدهار.

أطلق على هذا المولود، الذي رأى النور في السادس والعشرين من سبتمبر، وحيث مضى على ولادة السيّد المسيح 1902 عاماً، اسم روح الله. ولا شكّ أنّ أحداً لم يكن يعلم آنذاك، بأنّ هذا الطفل سيُصبح الإمام الخميني، المحي لدين الله، والذي أعاد الحياة للقيم الإلهية السامية في عصرٍ كانت قد مُسخت هذه القيم.

لم يكن قد مضى على ولادة روح الله سوى أربعة أشهر و22 يوماً، حتى استشهد والده، الذي كان يومها الملاذ والحامي للمضطهدين والمظلومين، ورمز مقارعة ظلم واستبداد الخوانين وأصحاب النفوذ المحليين في خمين، استشهد على
 
 

1- حميد أنصاري، حديث الانطلاق، ص21.
 
 
 
 
11

5

المقدمة

  أيدي هؤلاء الظالمين، ليُمسي روح الله تحت كفالة ورعاية والدته السيّدة هاجر، وعمّته السيّدة صاحبة خانم، ومن ثم شقيقه الأكبر السيّد مرتضى بسنديدة.


بيْدَ أنّه حُرم من نعمة وجود الأم والعمّة معاً في سنّ الخامسة عشرة.. وخلال هذه الفترة طوى في خمين مراحل تحصيلاته العلمية، ومن ثمّ توجّه في سنّ السابعة عشرة للالتحاق بالحوزة العلمية في أراك، لينهل من علوم الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي، أحد كبار علماء إيران آنذاك. وبعد ثلاث سنوات من انتقال آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري إلى حوزة قم العلمية، شدّ سماحته الرحال إلى المدينة للإقامة فيها، ومواصلة دراسته الحوزوية وطيّ المدارج العلمية حتى بات من خيرة أساتذة الحوزة العلمية وعلمائها المبرزين. وإنّ من جملة الأساتذة الذين كان لهم دور بارز في إثراء الجانب الفكري لسماحة الإمام وتكامل شخصيته، المرحوم آية الله الشيخ شاه آبادي، لا سيّما في توجّهاته العرفانية.

عُرف روح الله في هذه الفترة، بالحاج السيّد روح الله.. ونظراً لما امتاز به سماحته من روح حسّاسة باحثة دقيقة ومنتظمة، ومثابرته وسعيه المتواصل، أصبح من الفطاحل ومن كبار الشخصيات الشهيرة في تدريس العلوم المتداولة في الحوزة العلمية من قبيل الفقه والأصول والفلسفة والعرفان.. وفضلاً عن اهتمام الإمام بالتدريس وتربية تلامذة بارزين، انكبّ سماحته على تصنيف مؤلّفات قيمة يُعدّ كلّ واحد منها فريداً في بابه في عصرنا هذا.

على صعيد آخر، إنّ بناء الذّات ومجاهدة النفس، الذي أولاه منذ نعومة أظفاره اهتماماً بالغاً وشكّل معيناً دائماً لتحرّكه وتوجّهاته، كان قد صنع من شخصيته شخصية جامعة متكاملة حتى أنّ (خصاله البشرية قلّما تتوافر لدى الأشخاص الاعتياديين، وإذا ما شوهدت إحدى هذه الخصال لدى شخص ما عُدّ هذا الشخص إنساناً عظيماً، فكيف والحال قد اجتمعت كلّ هذه 
 
 
 
 
12

6

المقدمة

 الخصال الفذّة في رجل واحد.. إذ كان الإمام الخميني إنساناً عاقلاً للغاية، عميق الفكر، حكيماً، خبيراً بالناس، حليماً، متيناً، ذا رؤية مستقبلية. وإنّ كلّ واحدة من هذه الصفات كانت كافية لتضع صاحبها في مرتبة سامية وتفرض احترامه على الجميع)1.


بيْدَ أنّ هذه الشخصية، بما امتازت به من خصال وسمات فذّة، لم تكن تتطلّع في كلّ اهتماماتها وتوجّهاتها، سوى إلى رضا الله تعالى فحسب، وتتوكّل عليه وتُحسن الظنّ به. ولعلّ هذا ما كان وراء سيرته الموفّقة وتحقيق سماحته كلّ هذه النجاحات، والفيض بكلّ هذه البركات على جميع الناس.

وفضلاً عن تحصيل العلوم وكسب المعارف والتفوّق في هذا الميدان، وكذلك تهذيب النفس وبناء الذّات والتحلّي بالمحاسن والخصال الفردية القيمة، كان الإمام يتمتّع - منذ مرحلة الشباب - بروحيّة مناهضة للظلم، وحرص شديد على متابعة القضايا السياسية والاجتماعية والإحاطة بخفاياها، وقد تنامى وتكامل لديه هذا الوعي بموازاة تكامله العلمي والروحي.

تواصل هذا النهج لدى الإمام بصور مختلفة، سواء في عهد رضا خان أو في عهد ابنه محمد رضا، إلى أن برزت قضية اتحاد الأقاليم والمدن بعد رحيل المرحوم آية الله العظمى السيّد البروجردي. وطرح تبعاً لذلك موضوع استفتاء الشاه والثورة المسمّاة بالبيضاء. وتواصلت الأحداث لتُفضي إلى انتفاضة الخامس عشر من خرداد حزيران 1963م، حيث اضطلع الحاج السيّد روح الله، بدور بارز في قيادة النهضة الشعبية والتصدّي للنظام الشاهنشاهي المستبدّ والظالم.
 
 

1- آية الله السيّد الخامنئي، حديث الولاية، ج1، ص23
 
 
 
 
13

7

المقدمة

 وبعد منتصف ليلة الخامس عشر من خرداد عام 1342 هـ.ش - 5 حزيران 1963م - تمّت مهاجمة منـزل الإمام الخميني في قم واعتقال سماحته، ومن ثم احتجازه لمدّة عشرة أشهر في طهران، حيث فُرضت عليه الإقامة الجبرية. إلا أنّ عوامل عديدة اضطرت النظام الحاكم للإفراج عنه. ولأنّه لا يساوم الظالمين ولن يهدأ له بال حيال الاستبداد الداخلي، ولا يرضى بالهيمنة الأجنبية على شؤون المسلمين، انتفض سماحته مرّة أخرى إزاء قضية منح الحصانة القضائية للرعايا الأميركيين في إيران. وفي ضوء ذلك ألقى خطاباً هاجم فيه بشدّة الولايات المتحدة وأياديها وأذنابها وربيبتها إسرائيل، إضافة إلى إصدار بيان شديد اللهجة ينتقد فيه سياسات النظام الحاكم، قاد في النهاية إلى نفيه إلى تركيا.


وخلال فترة النفي، التي أمضى عاماً منها في تركيا وثلاثة عشر عاماً في النجف الأشرف بالعراق، وفضلاً عن اهتمامه بالحلقات الدراسية في النجف، واصل السيّد روح الله النضال بأساليب مختلفة حتى بلغ ذروته واشتدّ لهيبه مع حادثة استشهاد نجله العالم الفاضل المرحوم آية الله السيّد مصطفى الخميني في الأول من آبان عام 1356 هـ.ش (1977/10/23م).

وبسبب الحصار الذي فُرض على تحرّكات الإمام الخميني في النجف، اضطر سماحته إلى ترك العراق والهجرة إلى فرنسا، وقيادة وتوجيه مسيرة النضال والثورة من هناك.

ومع خروج الشاه من إيران في 26/10/1356 هـ.ش (1978/01/16م)، وتصاعد النضال وبلوغه الذروة، عاد الإمام الخميني إلى أرض الوطن في 12 بهمن 1356 (1978/02/8م) - بعد غياب دام 14 عاماً - حيث كان في استقباله حشد جماهيري فريد لم يشهد التاريخ له نظير.

وبفضل قيادته وتوجيهاته، حقّقت الثورة الإسلامية الشعبية انتصارها 
 
 
 
 
13

8

المقدمة

 في الثاني والعشرين من بهمن 1357 - 11هـ.ش (11 شباط 1979م) -، وأسّس سماحته الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتحلّ محلّ النظام الشاهنشاهي البغيض، وبذلك اضطلع الإمام الخميني بأعظم دور في تحرير الإنسان وإرساء دعائم واحدة من أكثر الحكومات شعبية، تتخذ من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف نهجاً لها.


ربّما يمكن القول بأنّ أبرز تطلّعات هذا الإنسان الصانع لنفسه، سواء انطلاقاً من موقعه كطالب للعلوم الدينية، أو كأستاذ وعالم بارز ومرموق في الحوزة العلمية بمدينة قم، أو كقائد للثورة والنهضة، أو من موقعه كمرجع ديني كبير وقائد للجمهورية الإسلامية الإيرانية - النظام الإلهي-، تتجلّى في تجسيد عبوديته لله تعالى في كافّة توجّهاته ونشاطاته وفي مختلف المراحل وجميع الأوقات. وبالتّالي أداء التكليف في ضوء هذه العبودية، ساعياً إلى إنقاذ الإنسان والسمو به في مدارج الكرامة والكمال. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى تحرّكات سماحته في مقارعة الظلم، والتصدّي لهيمنة الأجانب سواء على المستوى الوطني وعلى صعيد العالم الإسلامي، والمستضعفين في العالم، والنضال ضدّ الشاه وأميركا وإسرائيل، ومناصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، وقضايا عديدة من هذا القبيل، كلها تصبّ في هذا السياق وتأتي من هذا المنطلق.

ومن الواضح تماماً أنّ هذا الإنسان الباني لنفسه، وبوحي من أتباعه تعاليم الإسلام السامية في مختلف أبعاد وجوده، استطاع أن يسمو بنفسه في مدارج الكمال، وقد بلغ في تعلّقه بجمال الحقّ منزلة رفيعة أهّلته لأن يكون مظهراً لجمال المحبوب في مختلف الأبعاد الفردية والاجتماعية.
 
 
 
 
 
14

9

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 التوجّه الشعبي وحبّ الناس


حياة بسيطة وشعبية
كانت حياة الإمام الخميني بسيطة وشعبية للغاية.. على سبيل المثال، كنّا نلحق به أحياناً بعد الانتهاء من الدرس، للاستفسار واستيضاح بعض الموضوعات. وفي الطريق كنّا نُشاهد سماحته يدخل المحال التجارية بكلّ بساطة ويقوم بشراء احتياجات المنزل بنفسه.. إنّ مثل هذه البساطة وعدم التكلّف، التي اعتاد عليها الإمام في حياته، تُجسّد المعنى الحقيقي للزهد.. فقد اعتاد على استهلاك القليل والانتفاع به إلى أقصى حدٍّ ممكن.. وكان وجوده مدعاة خير وبركة بالنسبة للآخرين على الدوام.. إنّ بساطة العيش والزهد كانا ملازمين لسماحته حتى خلال فترة المرجعية. وكان بيت المال يحظى بأهمّية خاصّة لدى سماحته1.

لا بدّ من اطلاع الناس على البرقية
في الماضي كان علماء الدين يتّخذون أشدّ المواقف وأكثرها قوّة وحزماً ضدّ الطغاة والمستبدّين، غير أنّ الناس لم يكونوا يطّلعون عليها في معظم
 
 

1- آية الله إمامي كاشاني، مرآة الجمال، ص54-55.
 
 
 
 
19

10

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 الأحيان. حتى أنّهم كانوا يتصوّرون أحياناً بأنّ العلاقة السائدة فيما بينهم على أحسن ما يرام.. بيْدَ أنّ الإمام ومنذ انطلاقة النهضة عام 1341 هـ.ش - 1962م -، ولدى لقائه جمعاً من علماء قم، اقترح على الحاضرين ضرورة طباعة البرقيات والرسائل التي يتمّ تبادلها بين علماء الدين وأركان النظام الشاهنشاهي ووضعها في متناول أبناء الشعب، كي يتسنّى لعامّة الناس الاطلاع على كافّة التفاصيل والتعرّف على مواقف الطرفين.. ولم يمضِ وقت طويل حتى غيّر الإمام أسلوب تعامل العلماء مع النظام تماماً. فبدلاً من أن يُخاطب في برقياته، الشاه والحكومة وكبار المسؤولين، توجّه بالخطاب إلى الشعب وأقدم رسمياً على إصدار البيانات1.


لم يحتفل بعد ذلك
في الأيام الأولى من قدوم الإمام إلى النجف، كان سماحته يحتفل في الأعياد الدينية من قبيل عيد الفطر وعيد الأضحى والمنتصف من شعبان والثالث عشر من رجب، وولادة الصدّيقة الزهراء، حيث كان يُقام احتفال بهيج في القسم الخارجي من المنـزل، ويأتي السادة العلماء والطلبة لتقديم التهاني والتبريك. ولكن ومنذ أن علم الإمام بحملات الاعتقال والتعذيب التي كان يتعرّض لها المجاهدون المسلمون في سجون النظام الشاهنشاهي، لم يعد يحضر سماحته هذه الاحتفالات وامتنع عن إقامتها تماماً ولم يحتفل بعد ذلك2.
 
 

1- سيد حميد روحاني، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني قدس سره، ج1، ص119.
2- حجة الإسلام قرهي، ص99.
 
 
 
 
20

11

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 كيف أذهب إلى الكوفة؟

الطقس في النجف حار جدّاً حتى أنّ درجة الحرارة كانت تصل أحياناً إلى خمسين درجة مئوية.. وفي أحد الأيام ذهبتُ مع عدد من الإخوة إلى الإمام وقلنا لسماحته: أيّها السيّد! إنّ الحرّ شديد، وأنت رجل مسنّ، وإنّ أناساً كثيرين يذهبون في الليالي إلى الكوفة حيث الطقس جميل، فلتذهب أنت أيضاً. فقال: "كيف لي أن أذهب إلى الكوفة لأنعم بالجوّ الجميل، بينما أخوتي في إيران يقبعون في السجون؟"1.

وهل لدى جميع الطلبة (برّادات) حتى تكون لدينا واحدة؟
ينقل أحد الذين عملوا في منـزل الإمام منذ إقامة هذا العظيم في النجف موضحاً: لم يكن لدينا (برّاد) في المنـزل في حين كنتُ أعلم بوجوده في معظم المنازل بالنجف.. ونظراً لحاجتنا الماسّة إلى (البرّاد)، قلتُ يوماً للسيّد مصطفى: أيّها الحاج اشتري لنا برّاداً. فقال: سأفعل. ولكن عندما استشار الإمام، قال سماحته: كلّا، وهل لدى جميع الطلبة برّادات حتى تكون لدينا واحدة؟.. وبعد مدّة من التردّد على منازل الطلبة علمت بأنّ الجميع لديهم برّاد. فأخبرت الإمام بذلك، عندها أذِن سماحته بشراء برّاد صغير2.

لم أرَ مثلما كنتُ أتصوّر
قبل التوجّه إلى باريس، كنتُ أتصوّر، بوحي من الانطباع الذي كنتُ أحمله
 
 

1- آية الله ناصري، ص101.
2- الدكتورة فاطمة طباطبائي، مرآة الجمال، ص126-127.
 
 
 
 
21

 


12

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 عن هذه المدينة، بأنّ منـزلاً مؤثّثاً قد تمّ إعداده لقائد الثورة، كي يتسنّى له في أية لحظة إرسال نداء إلى مختلف أنحاء العالم، أو تسلم الأخبار أوّل بأوّل.. بيْدَ أنّه عندما دخلتُ باحة المنـزل الذي كان يُقيم فيه الإمام، واجهتُ حشداً من الحاضرين في القسم الخارجي من المنـزل.. كان هناك عدد كبير من الأحذية. ولأنّ الجوّ كان ممطراً، كانت الأحذية كلّها ملطّخة بالوحل.. ولجت الباب فإذا بدهليز صغير علقت أمامه ستارة من القماش. فأزحت الستارة وتوجّهت نحو الجانب الآخر. رأيتُ غرفة صغيرة وضع فراش في صدرها وقد جلس الإمام عليه.. لم أرَ أيّ أثر للإمكانات المتوقّعة ووسائل الراحة.. باختصار لم أرَ ما كنتُ أتصوّره1.


كانت هذه أجمل لحظات حياتي
بعد خطابه في مقبرة (جنّة الزهراء)، أعرب الإمام عن رغبته بالسير وسط الجموع المحتشدة. وهناك صورة للإمام يبدو فيها حاسر الرأس ومن غير عباءته وكأنّه يلتقط أنفاسه بصعوبة. وقد أوضح سماحته فيما بعد قائلاً: "لقد شعرت بأنّ روحي تخرج من جسدي".. أراد الإمام أن يقول بأنّ أجمل لحظات حياتي هي تلك التي كاد أن يُقضى عليّ وسط زحمة الجماهير. ومثل هذا يصوّر لنا غاية الإخلاص والتواضع اللذين كان يتحلّى بهما الإمام ويُعبّر بذلك عن مشاعره تجاه الجماهير2.
 

1- آية الله ناصري، ص101.
2- حجة الإسلام الإمام الجماراني، مقتطفات من سيرة الإمام، ج1، ص143.
 
 
 
 
22

13

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 أودّ أن أُقبّل جباهكم

خلال الفترة التي كان الإمام يُقيم في مدرسة (علوي)، كان الناس يأتون زرافات زرافات لرؤيته.. الرجال يأتون في الصباح والنساء عصراً.. كان الزحام بشكل عجيب، وكان البعض يُصاب بالإغماء فيتمّ نقلهم بسيّارات الإسعاف إلى المستشفى.. كنتُ مرّة عند الإمام، ومن بين الجموع المحتشدة وقع نظر الإمام على صبيٍّ لم يتجاوز عمره العشر سنوات، كان يبكي ويتدافع كي يصل إلى الإمام. فأشار الإمام أن يأتوا له بهذا الصبيّ. فجاؤوا به وكان مبللّاً من شدّة العرق، وكان يبكي من شدّة الشوق والفرحة. وفيما كان الإمام يحاول أن يُحيطه بحنانه قال له الصبي: أريد أن أُقبّل وجهك. فأحنى الإمام رأسه فقبّل الصبيّ خدّ الإمام. ثمّ طلب أن يُقبّل خدّه الآخر، فأذن له الإمام بذلك. وأخيراً قال: أريد تقبيل جبينك. فانحنى الإمام بكلّ تواضع حتى يتمكّن الصبيّ من تقبيل جبين سماحته المبارك1.

والناس ماذا تفعل؟
بعد انتصار الثورة، كانت الجماهير تأتي من مختلف الفئات، للقاء الإمام في قم. ونظراً لشدّة الزحام كان من الممكن أن تنتظر الجموع ساعات طوال في الطقس البارد حتى يأتي دورها. وفي بعض الأحيان كان الإمام يصعد إلى السطح ليُحيّي الناس المحتشدة فيما كانت الثلوج تتساقط. فكنّا نحاول أن نُمسك المظلّة لمنع المطر عن سماحته، فكان يقول مستاءً: "والناس ماذا تفعل؟ أنا لا احتاج للمظلّة"2.
 
 

1- حجة الإسلام مهدي كروبي، ج2، ص197.
2- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص124.
 
 
 
 
23

14

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 أنت أيضاً قف في الطابور كالآخرين

في الأيّام الأولى من انتصار الثورة كان الإمام في قم، وكانت الحشود الكبيرة تأتي للقاء سماحته كلّ يوم تقريباً. فكانت المدينة مكتظّة بالزوّار.. الفنادق ممتلئة، والمطاعم مزدحمة، وطوابير طويلة أمام أفران الخبز.. باختصار كانت مدينة قم تموج بالحشود البشرية.. وكان ثمّة شيخ عجوز ضعيف البنية يخدم في منـزل الإمام، كانوا ينادونه بالأب.. في أحد الأيام قال له الإمام: "علمتُ بأنّك عندما تذهب لشراء الخبز، يقول الواقفون في الطابور بأنّ هذا الرجل خادم السيّد، ويحاولون أن يضعوك في مقدّمة الطابور وتأخذ ما تريده من الخبز دونانتظار.. لا تفعل هذا. ليس من المناسب أن يذهب أحد أفراد هذا المنـزل لشراء شيء ما دون مراعاة دوره في الطابور.. أنت أيضاً قف في الطابور شأنك شأن الآخرين.. حذار من أن تكون لك الأفضلية!"1.

من الذي قال امنعوا الناس؟
بعد انتصار الثورة، جاء الإمام مرّة إلى المسجد الأعظم في قم لحضور أحد مجالس الفاتحة.. ونتيجة للزحام فُقد حذاء الإمام وسقطت العمامة من على رأسه، وحاولنا بشقّ الأنفس إخراجه من وسط الناس المزدحمة.. وفي اليوم التّالي، وحيث كان من المفترض أن يُشارك سماحته في مجلس يُقام في نفس المكان، تمّ إحضار عدد من الحرس للتواجد في المسجد ومراقبة مكان جلوس الإمام.. وبعد حضور سماحته واشتداد الزحام، تمّ إغلاق أحد الأبواب.. وما أن انتهى الاحتفال، وبدلاً من أن يتوجّه لركوب السيّارة، توجّه
 
 

1- حجة الإسلام حسن ثقفي، ص127.
 
 
 
 
24

15

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 الإمام إلى وسط الحشد حيث أحاط به الناس من كلّ صوب.. بعدها وفي طريق عودته، قال سماحته إلى المرحوم إشراقي: "مَنْ الذي قال بأن تمنعوا الناس وتتركوهم خلف الأبواب؟ آمل أن لا تتكرّر هذه الأعمال من الآن فصاعداً"1.


أنا لا أريد مرافِقاً مسلّحاً
ثمّة مشكلة كبيرة حدثت في الأيام الأولى من وجود الإمام في قم بخصوص توفير الحماية والأمن. إذ أنّ الإمام كان يرفض أن يرافقه حارس مسلّح، كان يقول دائماً: "أنا لا أُريد مرافقاً مسلّحا". وفي ذات الوقت الذي كان الإمام يذهب في الليالي، إلى منازل أصحاب السماحة والفضيلة وأُسر الشهداء، وكانت ثمّة مخاطر كبيرة تُهدّد حياته من هذه الناحية، كان أهالي مدينة قم بمجرّد أن يعلموا بوجود الإمام في شارع أو زقاق ما، كانوا يخرجون من منازلهم ويحتشدون حول السيّارة التي كانت تُقلّ سماحته. حتى أنّهم كانوا يجلسون فوق سقف السيّارة، فيحتار السائق ماذا يفعل، وفي الوقت نفسه كان الإمام يُصرّ على القول: "لا يتبعني أحد.. الناس هم الذين يحموني"2.

نموذج من حبّ الإمام الشديد للناس
كان الإمام يستقبل زوّاره، سواء من داخل إيران أو خارجها، في غرفة
 
 

1- حجة الإسلام علي أنصاري، ص136.
2- حجة الإسلام علي أنصاري، ص144.
 
 
 
 
25

16

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 صغيرة ومتواضعة. وفي بعض الأحيان كان الإمام يخطب خمس مرّات في اليوم الواحد، سواء للمحتشدين في باحة المنـزل أو إلى الذين قدموا للقائه. وعلى الرغم من أنّ ذلك كان يُرهقه كثيراً، ولكنّه ونظراً لحبّه الشديد للناس وعشقه لهم، لم يقل لا أبداً1.


الإمام ذهب وسط الجماهير
عندما كان الشهيد رجائي وزيراً للتربية والتعليم، توجّه في 28 شهريور 1358هـ.ش (1979/09/19م) للقاء الإمام في قم مصطحباً معه المدراء العامّين في الوزارة.. كان الجميع جالساً في الغرفة الصغيرة التي يستقبل فيها الإمام ضيوفه. وكانت الجماهير الثورية المحتشدة في الأزقّة المحيطة بمنـزل الإمام، تهتف بالشعارات الحماسية.. فجأة قيل لنا جاء الإمام، وما أن لمحنا عباءة سماحته انتفضنا واقفين. غير أنّ الإمام لم يدخل الغرفة.. فجأة ارتفعت أصوات الحاضرين بالتكبير والتهليل والصلاة على محمّد وآل محمّد. سألنا ما الذي حدث؟ قالوا: الإمام ذهب وسط الجماهير2.

التعامل بمنتهى الحلم والبهجة
أثناء لقائه الناس والإصغاء إلى همومهم واحتياجاتهم، وكذلك الحرص على خدمتهم بكلّ إخلاص، لم يشعر الإمام بالتعب مطلقاً.. ففي الكثير من الأوقات يضيق ذرعاً حتى المسؤولين في مكتب الإمام
 
 

1- آية الله توسّلي، ص146.
2- كيومرث صابري، ص149.
 
 
 
 
26

17

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 من إلحاح بعض المراجعين وإصرارهم غير المبرّر. غير أنّ الإمام كان يتعامل مع الجماهير بمنتهى الحلم والبهجة. فلم نرَ سماحته قد غضب في مثل هذه المواقف مطلقاً. حتى أنّه كان يستمع إلى هموم الناس وتطلّعاتهم بكلّ رحابة صدر1.


جاء هؤلاء إلى هنا بكلّ شوق
إبّان الانتصار، وخلال الفترة التي كان الإمام يُقيم في قم، كانت الجماهير تأتي لرؤيته وتحيته في كلّ يوم تقريباً، وكانوا يُعبّرون عن أحاسيسهم ومشاعرهم أثناء تواجدهم في الأزقّة التي تُفضي إلى مقرّ إقامة الإمام.. كانت حشود مكتظّة. وكان الإمام يصعد إلى السطح لتحيّة الجماهير والسلام عليها. فكان البعض يطلب من سماحته: (أيّها السيّد! لا تصعد إلى السطح، إنّه لا يخلو من خطورة)، غير أنّ الإمام كان يرفض مثل هذا التحذير قائلاً: "كلّا.. لقد جاء هؤلاء إلى هنا بكلّ شوق وحبٍّ".. وعندما رأى البعض إصرار الإمام، قالوا له: (أيّها السيّد! متى ما أردت الصعود إلى السطح، اسمح لنا بمراقبة الأوضاع أولاً). حتى أنّ السيّد إشراقي حاول تكرار ذلك أكثر من مرّة، غير أنّ سماحته لم يكن يعبأ بذلك. فما أن كان يتنادى إلى سمعه هتافات الجماهير المحتشدة داخل الأزقّة، حتى كان يصعد إلى السطح.. كان سماحته حريصاً على التعبير عن احترامه للناس الذين جاؤوا لتحيّته بكلّ شوق وحماس2.
 
 
 

1- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص 151.
2- حسن ثقفي، ص152.
 
 
 
 
27

18

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 الجماهير لن تتزلزل مطلقاً

مرّت فترات شنّ فيها المغرضون دعايات واسعة في الداخل والخارج تؤكّد مرض الإمام. فكان يُقال للإمام لا بدّ من أن يكون لك ظهور عام من خلال لقاء أو خطاب، وإلا فإنّ مثل هذه الدعايات سوف تترك تأثيرها على حماس الشعب والمقاتلين في جبهات القتال. فكان الإمام يردّ على ذلك بالقول: "وهل يُقاتل الشعب من أجلي حتى يتأثّر بذلك؟ إنّ أبناء الشعب يناضلون من أجل الله والإسلام ولن يزلزلوا مطلقاً"1.

أنا أعرف الجماهير بنحو أفضل
من بين كلّ الذين أعرفهم لا أجد شخصاً كالإمام يؤمن بدور الشعب الإيراني. فقد قيل لسماحته مراراً خلال مرحلة النضال: أيّها السيّد إنّ الشعب لا يُطيق تحمّل متاعب النضال ومشاقه. غير أنّ الإمام كان يُجيبهم: "كلّا، الشعب ليس كما تقولون، إنّني أعرف الجماهير أفضل منكم"2.

الصحف ليست ملكاً لنا
ذهبتُ يوماً للقاء الإمام برفقة مندوبي سماحته في كلٍّ من مؤسسة كيهان ومؤسسة اطلاعات، الشهيد شاه جراغي والسيّد دعائي. وكان وزير الثقافة والإرشاد آنذاك موجوداً. فقال لنا الإمام مداعباً: "أرجو أن لا يقتصر اهتمام الصحف على نشر الأمور المرتبطة بي، وأن لا تحرص على وضع صورة
 
 

1- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص115.
2- آية الله الشهيد مطهري.
 
 
 
 
28

19

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 لي في الصفحة الأولى وعنوان رئيسي يُنسب لي". ثم قال: "الصحف ليست ملكاً لنا. إنّها ملك للشعب المحروم. ملك للطبقات الوسطى.". وأضاف: "إذا ما عمل أحد المزارعين عملاً جيداً، حاولوا أن تضعوا صورته في الصفحة الأولى بدلاً منصورتي"1.


لأنّه غير متوافر للجميع لذا لن أذهب للملجأ
يشهد الله بأنّ الإمام كان يدعو لأبناء الشعب في صلاة الليل وفي مناجاته وتهجّده. وكان يُطالب دائماً بتوفير الرخاء للشعب.. كان حريصاً على أن ينعم الشعب بالهدوء والاستقرار، وكان لا يكفّ عن أن يوصي المسؤولين بذلك. خاصّة المسؤولين الذين تسلّموا زمام الأمور في مطلع الثورة ولم يكونوا يعبؤون كثيراً بهموم أبناء الشعب.. كما كان حريصاً على راحة الشعب واستقراره.. يعلم الله كيف أنه لم يكن يغادر غرفته خلال الفترة التي كانت تتعرّض طهران للقصف الصاروخي والقصف الجوّي. ولم يكن يبتعد عن النافدة.. فكم ألحّ على سماحته السادة المسؤولون وبعض أفراد أسرته، بأن يأذن بإعداد ملجأ له، غير أنّه كان يقول: "إذا كان بوسع كافّة أبناء الشعب الذهاب إلى الملاجئ لكي لا يلحق بهم أذى، عندها سأذهب أنا للملجأ. ولكن أعلم بأنّ إمكانية ذلك غير متوافرة لجميع أبناء الشعب.. صحيح قد تمّ لحدٍّ الآن تشييد عدد من الملاجئ، إلا أنّ الغالبية من أبناء الشعب لا تستطيع الاستفادة منها. لذا لن أتحرّك من مكاني".. قلتُ: سيدي! قسماً بالله إنّ الشعب نفسه سوف يفرح عندما تكون أنت في مكان آمن. لذا نسألك أن تحمي نفسك من
 
 

1- حجة الإسلام مسيح مهاجري، ص113-114.
 
 
 
 
29

20

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 أجل أبناء شعبك. فأجاب: "أجل، تلك مسؤولية أخرى. ولكن أنا لا أستطيع أن اذهب إلى مكان أتصوّر أنّي آمن فيه، في الوقت الذي أعلم بأنّ ذلك غير متيسّر لجميع أبناء الشعب"1.


إلى جوار الشعب في المخاطر
في عصر أحد الأيام، أصابت نحو سبعة إلى ثمانية صواريخ المنطقة المحيطة بجماران.. فتوجّهتُ إلى الإمام وقلتُ: كم سنفرح إذا ما أصاب أحد صواريخنا قصر صدّام. ولكن ماذا لو وقع أحد الصواريخ بالقرب منّا ونزل السقف علينا ولحق بك سوءاً. فقال الإمام: "قسماً بالله! إنّي لا أرى فرقاً بيني وبين ذلك الحارس المرابض أمام المنـزل.. قسماً بالله! إنّ الأمر سيّان بالنسبة لي إذا ما قُتلت أنا أو قُتل هو". فأجبتُه: نحن نعلم بأنّك تُفكّر بهذه الطريقة، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للشعب.. فقال: "كلّا، لا بدّ للشعب أن يعلم بأنّه إذا ما حاولت اللجوء إلى مكان آمن لئلّا أُقتل، فيما يُقتل بالقصف الحارس المرابض أمام المنـزل، فإنّي لم أعد أصلح لقيادة هذا الشعب.. إنّني أستطيع أن أخدم الشعب عندما تكون حياتي على قدم المساواة مع حياة الشعب.. فإذا ما تقرّر أن يتعرّض أبناء الشعب، أو هؤلاء الحرس، أو الذين يتواجدون هنا، للأذى فلأكن أنا أحدهم كي يُدرك الشعب بأنّنا معاً وإلى جوار بعض".. فقلتُ: إلى متى تريد الجلوس هنا؟. فهزّ كتفه المبارك وقال: "إلى الوقت الذي تُصيب شظايا الصاروخ المكان"2.
 
 
 

1- فرشته أعرابي، ص109-110.
2- حجة الإسلام أحمد الخميني، ص106-107.1
 
 
 
 
30

21

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 متى ما توفّرت الملاجئ للجميع

خلال فترة القصف الجوّي وسقوط الصواريخ على طهران، قام الإخوة في الحرس بتشييد ملجأ صغير بالقرب من مقرّ إقامة الإمام كي يلجأ إليه وأفراد أسرته إذا ما أعلنت حالة الخطر ودقّت صافرة الإنذار.. غير أنّ سماحته لم يذهب إلى الملجأ أبداً. وعندما كنّا نسأله لماذا لا تذهب إلى الملجأ حفاظاً على حياتك من أجل الشعب؟ كان يقول: "وهل تتوفّر الملاجئ لكافّة أبناء الشعب حتى يكون لي ملجأ؟ متى ما أصبح لدى جميع أبناء الشعب ملاجئ عندها يمكن أن أحتمي بالملجأ". وأصرّ سماحته على البقاء في غرفته الصغيرة1.

لا يحقّ لكم أن تمنعوا الناس
كان الإمام يُحذّر أعضاء المكتب دائماً قائلاً: "حذارِ أن تُسيؤوا معاملة الناس.. لا يحقّ لكم أن تمنعوا الناس". وفي أحد الأيام خرج سماحته من المنـزل مبكراً على غير عادته. فرأى الناس يتزاحمون وراء السياج الحديدي بانتظار أن يفتح الباب كي يتسنّى لهم الدخول. وقد اشتدّ تدافعهم عندما رأوا الإمام لعلّ الباب يُفتح أسرع.. فنظر الإمام إلى من حوله ممتعضاً، وطلب منّا ومن الحرس بضرورة إزالة هذا السياج2.
 
 

1- خادم الإمام قدس سره.
2- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص135.
 
 
 
 
31

22

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 تعال في أيّ وقت تُحبّ

في كلّ يوم كانت تصل إلى مكتب الإمام أكثر من خمسمئة رسالة. وقد اعتاد سماحته على قراءة كلّ الرسائل حتى الرسائل الاعتيادية، قبل أن يمنعه الأطباء من كثرة القراءة.. وثمّة رسائل كثيرة أجاب فيها الإمام بخطّ يده على رسائل الأطفال والأحداث، الذين كانوا يبعثون برسائلهم المفعمة بمشاعرهم وأحاسيسهم الجيّاشة حيال الإمام.. إنّ هذا النوع من الرسائل كثير جدّاً. وفي كثير من الأحيان كانوا يطلبون من سماحته أن يبعث لهم صورته مزيّنة بتوقيعه. فكان الإمام يأمر بتهيئة الصور وإرسالهم إليهم1.

قولوا له أن يأتي
في عام 1361 كان لنا لقاء مع الإمام.. عندما وصلنا إلى بوّابة المنـزل، تقدّم نحوي شيخ عجوز كان يحمل في يده كيساً، وقال بلكنة تركية: أيّها السيّد! إذا التقيتَ الإمام قل له بأنّ شيخاً عجوزاً من أهالي ارسباران قد أمضى وقت طويلاً في الطريق حتى وصل إلى هنا، وإنّه يريد أن يتشرّف بلقائك. وأضاف: أريد أن أهدي الإمام كيس اللوز هذا.. وقد وعدتُه بأن أبلغ رسالته إلى الإمام.. لمّا حان دوري للقاء الإمام، جاء السادة حجج الإسلام الشهيد محلاتي وأنواري وموحدي كرماني، مندوبو الإمام في حرس الثورة والجندرمة وقوات الشرطة، للقاء الإمام. فقال الإمام للسيّد صانعي: أنا متعب ولا أستطيع أن أستقبل السادة.. عندها قلتُ مع نفسي، لما يكون الإمام غير مستعدٍّ لاستقبال مندوبيه، فكيف سيوافق على استقبال هذا الشيخ العجوز. ولكن على أيّة حال
 
 

1- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص157.
 
 
 
 
32

23

التوجّه الشعبي وحبّ الناس

 أخبرتُ الإمام بحكاية الشيخ موضحاً: بأنّ ثمّة شيخاً عجوزاً في الباب يتمنّى رؤيتكم. فأمر الإمام على الفور: "قولوا له أن يأتي". عندما دخل الشيخ العجوز حيّاه الإمام بحرارة وتفقّد أحواله وأحنى ظهره كي يتمكّن من تقبيل يده1.


كانوا يتصرّفون بمنتهى الاحترام
المشاعر التي كان يتمتّع بها الإمام حيال أبناء الشعب، كانت على درجة كبيرة من الرقي. وعلى الرغم من كلّ الهموم التي كان يواجهها والمسؤوليات التي يتحمّل أعباءها، كان يأتي إلى سماحته أشخاص يتحدّثون إليه أحياناً حتى عن مشكلاتهم الأسرية. وفي أحد الأيام جاء إلى مكتب الإمام شاب كان مضرباً عن الطعام حتى يتسنّى له لقاء الإمام. ومهما حاول الزملاء ثنيه عن ذلك والتعرّف على مشكلته، باءت محاولاتهم بالفشل. وكان يُصرّ على ضرورة لقاء الإمام بمعزل عن الآخرين. فتمّ إبلاغ الإمام بحكاية هذا الشاب. فوافق سماحته على استقباله رغم ما في الأمر من خطورة على حياته. إذ كيف ينفرد شاب بالإمام دون أية معرفة مسبقة.. على أية حال دخل هذا الشاب على الإمام وطرح على سماحته مجموعة من الأسئلة التي لا معنى لها، وكان موضوعها عادياً جدّاً. ومع ذلك تعامل معه الإمام بمنتهى الاحترام2.
 
 

1- محسن رفيق دوست، ص157-158.
2- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ص161.
 
 
 
 
33

24

العاطفة والرأفة

 العجوز الجنائني

أتذكّر مرّة عندما كنتُ صغيراً، جلب شيخ عجوز تراباً إلى حديقة المنـزل. وفي تلك الساعة كنّا جالسين إلى المائدة. فقال الإمام: إنّ هذا العجوز لم يتغدَّ بعد.. كانت كمّية الطعام محدودة. فأخذ سماحته صحناً من المائدة وصبّ فيه عدّة ملاعق من طعامه وقال لنا: "ليضع كلّ واحد عدّة ملاعق من طعامه في هذا الصحن حتّى يُصبح بمقدار وجبة غداء لهذا الرجل.".. وعلى الرغم من أنّ طعامنا كان محدوداً في ذلك اليوم، إلا أنّنا قمنا بإعداد وجبة غداء لذلك العجوز، وكنتُ في عالم الطفولة قد سعدت كثيراً بهذا العمل1.

من أيّ مدينة أنت؟
بعد إطلاق سراح الإمام عام 1343هـ.ش (1964م) وعودته إلى مدينة قم، أخذت حشود المحبّين والمخلصين تتدفّق على مدينة قم ومنـزل الإمام من مختلف أنحاء البلاد.. وفي أحد الأيّام كنّا عند الإمام، دخل على سماحته أحد
 
 

1- فريدة مصطفوي، ص182.
 
 
 
 
35

25

العاطفة والرأفة

 القرويّين وكان قد جاء من إحدى مدن إقليم خراسان للقاء الإمام.. كان يعشق الإمام وكان يذرف دموع الشوق بغزارة.. عندما تنبّه الإمام إلى حاله دعاه للجلوس إلى جنبه وأحاطه بعطفه وحنانه. ثم أمر أن يأتوا له بقدح الشاي، وراح يسأله عن ظروفه ويتفقّد أحواله مثلما يفعل الأخ مع أخيه، حيث أخذ يسأله عن مدينته وعمله وأسرته حتى بدأ يهدأ ويسترجع حالته الاعتيادية، وكان ذلك موقفاً مؤثّراً بالنسبة لنا جميعاً1.


لم يقل (لا) قط
كان الإمام يتحلّى بروح لطيفة للغاية.. وإنّ الخصال والصفات الأخلاقية التي كان يتحلّى بها، قلّما كانت تُشاهد لدى الآخرين.. وكنتُ قد اعتدتُ على مرافقة الإمام على مدى سنوات عديدة بعد انتهاء الدرس أثناء خروجه من مسجد (سلماسي) وهو في طريقه إلى المنـزل. وكنتُ أنتهز هذه الفرصة لأنْ أطرح بعض الاستفسارات حول موضوع الدرس، وكان سماحته يُجيب عليها بكلّ رحابة صدر. وطوال هذه الفترة لم يحدث أن انزعج من ذلك. وطبعاً لم يقتصر ذلك على يوم أو يومين وإنّما كان في معظم الأيام تقريباً، حتى في تلك الفترة التي لم أكن أحضر حلقات درس سماحته. فلم يحدث أن تصرّف بنحو يوحي باستيائه أو امتعاضه من السير خلفه واللحاق به وطرح أسئلتي واستفساراتي2.
 
 

1- مهدي كروبي، ص148.
2- آية الله يوسف صانعي، ج3، ص285.
 
 
 
36

26

العاطفة والرأفة

 كأنّه يتحدّث مع أصدقائه القدماء

في إحدى الليالي، جاء إلى مرقد الإمام أمير المؤمنينعليه السلام جماعة من الطلبة الجامعيين المسلمين الذين يدرسون في أوروبا، للقاء الإمام.. وكان مظهر الجامعيين - وعلى حدّ تعبيرنا - غريباً على بيئتنا ومثيراً للتساؤل سواء من حيث المظهر الخارجي والقيافة، أو من ناحية طريقة الكلام والتعامل. غير أنّنا شهدنا كيف أنّ الإمام تعامل معهم بنحو وكأنّه جالس مع أصدقائه القدماء منهمكاً بالحديث معهم. وبالمقابل كانوا مشدودين إلى الإمام بحيث عندما نهضوا من عند سماحته، كانوا يختزنون عاماً من الطاقة والإيمان والأمل1.

لا تضغطوا على الناس
أُشيع في وقتٍ ما بالنجف أنّ جماعة جاءت من إيران -أواخر عام 1346هـ.ش (1967م) - لاغتيال الإمام بأمر من الشاه.. فكان واجبنا الشرعي يقضي بضرورة المحافظة على حياة الإمام. وفي ضوء ذلك قرّرنا أنا وسبعة أو ثمانية من الإخوة مرافقة الإمام عند ذهابه إلى مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مساء كلّ يوم. فضلاً عن مرافقته عند توجّهه إلى حلقة الدرس.. في الليلة الأولى، وعندما انطلق الإمام في طريقه إلى مرقد أمير المؤمنين، مضينا في السير خلفه. وما هي إلا خطوات حتى شعر الإمام بوجودنا، فعاد وطلب منّا الانصراف إلى شأننا. وبطبيعة الحال سلّمنا في تلك الليلة لرغبة الإمام وعدنا أدراجنا، فيما واصل سماحته مسيره إلى الصحن الشريف. ولكن في اليوم التّالي بعثنا رسالة إلى الإمام مفادها بأنّ
 
 

1- آية الله كريمي، ص255.
 
 
 
 
 
37

27

العاطفة والرأفة

 الواجب الشرعي يحتمّ علينا الحفاظ على حياته شاء أم أبى. ولأنّنا نعتبره واجباً سوف نُصرّ عليه ولن نتخلّى عن مرافقته.. ومما يذكر في هذا الصدد أنّ ضريح الإمام أمير المؤمنين كان يزدحم بالزوّار وكانوا يتزاحمون على تقبيل يد الإمام. وكان سماحته يتعرّض لبعض المضايقات أحياناً نتيجة هذه الزحمة، فكنّا نتدخّل في الوقت المناسب. إلا أنّ تدخّلنا هذا كثيراً ما كان يقترن بتحذيرات الإمام لنا قائلاً: "لا تضغطوا على الناس" وكان يدفعنا جانباً ليكون الناس أحراراً ولئلّا يلحق بهم أيّ أذى1.


إذا ما كان ثمّة خطر فلماذا لا يكون لي؟
عندما كنّا في باريس، كنتُ أتولّى فتح الرسائل التي كانت تصل لدوافع أمنية، ومن ثم أحملها إلى الإمام ليطّلع عليها. ومرّة كنتُ في المطبخ منشغلاً بفتح الرسائل، جاء الإمام وقال: "أنا غير راضٍ". وحينها تصوّرت بأنّ سماحته قلق لئلّا أطلع على فحوى الرسائل، فقلتُ: قسماً بجدّك رسول الله، بأنّي لن أحاول قراءتها، وإنّما اكتفي بفتحها لأغراض أمنية فقط لئلّا يحدث ما لا يحمد عقباه. فقال الإمام: (أعلم ذلك، وهذا) ما قصده. فإنْ كان ثمّة خطر فلماذا لا يكون لي. قلتُ: سيّدي الإمام. الشعب الإيراني بانتظارك. قال: (وهناك ثمانية أطفال بانتظارك في إيران). قلتُ: لا تقلق سماحتك لقد تدرّبت على هذا العمل ولا توجد مخاطر. قال: "حسناً، تعال وعلّمني كيف تفتح الرسائل، حتى إذا ما كان ثمّة خطر سوف ينتفي"2.
 
 

1- حجة الإسلام محتشمي بور، ص127.
2- دباغ، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني قدس سره، ج1، ص11.
 
 
 
 
38

28

العاطفة والرأفة

 جئت لأُساعدكم

في أحد الأيام، وحسب الاتفاق، ازداد عدد ضيوف منزل الإمام. وبعد تناول الطعام وجمع الأواني والصحون رأيت الإمام يدخل المطبخ. ولأنّه لم يكن وقت الوضوء، سألتُ: لماذا الإمام في المطبخ؟ فقال سماحته: "لأنّ الصحون اليوم كثيرة، جئت لأُساعدكم".. إلى هذا الحدّ كان سماحته يُراعي أحوال وحقوق الآخرين1.

جئت لتقديم المساعدة
كانت السيّدة دبّاغ تضطلع بدور بارز في نوفل لوشاتو. إذ كانت تهتم بشؤون المطبخ والطهي والتنظيف إضافة إلى أمور كثيرة أخرى.. وفي كثير من الأحيان كنّا نذهب عندها نجلس ونتحدّث. وفي أحد الأيام كانت صحّتها ليست على ما يرام ومع ذلك كانت واقفة تغسل الصحون. فذهبتُ لرؤيتها. شعرتُ بأنّها كانت مستاءة، فسألتُها: ما الذي يؤلمك؟ قالت: فيما كنتُ أغسل الصحون، فإذا بي أُفاجئ بالإمام يدخل المطبخ ويُخاطبني: أيّتها الأخت - كان الإمام يُناديني بالأخت - جئتُ لتقديم المساعدة، اسمحي لي أن أغسل الصحون.. لقد تأثّرت السيّدة دبّاغ لهذا الموقف كثيراً قائلة: الإمام بهذه العظمة ورغم كلّ مشاغله وهمومه، جاء إلى المطبخ ليقول لي - أنا بالذّات - هذا الكلام2.
 
 

1- دباغ، ج1، ص11.
2- السيّدة فاطمة طباطبائي، مرآة الجمال، ص127.
 
 
 
 
39

29

العاطفة والرأفة

 كان يُناديني بالأخت

في نوفل لوشاتو، كنتُ في خدمة الإمام أربعة أشهر وستة عشر يوماً. وكان يطلب منّي أحياناً أن اتصل بالقس الفلاني وأن أبحث معه قضايا الثورة. أو أتناول هذا الموضوع مع الصحافي العلّاني. وقد علمتُ من أحد الأعزّة من الذين يتردّدون على منزل الإمام، بأنّ سماحته كان يُناديني في غيابي بالأخت طاهرة بوحي من لطفه ومحبّته. وأنا أعتبر ذلك فخراً ولطفاً منّ الله تعالى به عليّ1.

أيّهم طعامك؟
عندما كنّا في باريس، كانت أسرة الإمام يوماً مدعوة إلى منـزل أحد الأصدقاء، فأخبرنا الإمام بأنّ آية الله مطهّري وآية الله صدوقي سيكونان ضيوفه على الغداء.. وعندما حان موعد الغداء، سكبت الطعام الذي اعتاد الإمام على تناوله كلّ يوم، وهو مرقة اللحم، في ثلاثة صحون وقدّمتها للإمام. ولحظتها فكّرتُ مع نفسي بأن أذهب إلى المبنى الآخر وأتناول الخبز والجبنة والبندورة، وهو الطعام المتوافر في العادة هناك.. عندما قدّمتُ الطعام، سأل الإمام: "أيّهم طعامك؟". ولأنّي لا أستطيع أن أكذب، قلتُ: (تناولوا أنتم غداءكم، وسأذهب أنا إلى البناية الثانية وأتناول شيئاً). فقال: "اذهبي وهات صحناً".. جئتُ بإناء آخر وقام سماحته بتقسيم الطعام الموجود في الصحون الثلاثة إلى أربعة أقسام وأعطاني واحداً2.
 
 

1- دباغ، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني قدس سره، ج2، ص201.
2- السيّدة فاطمة طباطبائي، مرآة الجمال، ص127.
 
 
 
 
40

30

العاطفة والرأفة

 لم أستطع النوم ليلة أمس

جاء مرّة عدّة من الإيرانيين إلى فرنسا لزيارة الإمام. وكانت فسحة صغيرة خلف غرفة الإمام، كنتُ أنام فيها. وفي تلك الليلة، ونظراً لضيق المكان، تركتُ مكاني لأحد الضيوف وذهبتُ ونمتُ في المطبخ. وقد علم الإمام بذلك، فقال لي في اليوم التّالي: "لمّا علمت بأنّك اخترت النوم في المطبخ، وكان من الممكن أن تتضرَّر من البرد، لذا لم أستطع النوم طوال الليل"1.

أسوة الرأفة
كانت الأمطار والثلوج تتساقط في باريس، وعندما كان الإمام يذهب لإقامة الصلاة ويعود، كان حذاؤه يتّسخ بالوحل. فكنتُ أحرص على تنظيفه في كلّ مرّة. فلمّا تنبّه الإمام إلى ذلك، كان يحترس لئلّا يتّسخ حذاؤه كثيراً كي لا يُسبّب لي المتاعب ولو بمقدار بسيط2.

هدايا ليلة عيد الميلاد في باريس
وجّه الإمام ليلة عيد الميلاد نداءً إلى المسيحيين في العالم بثّته معظم وكالات الأنباء. وفضلاً عن هذا النداء أمرنا سماحته بتوزيع الهدايا التي جلبها الإخوة من إيران، وكانت في الغالب أنواعاً من الحلوى والمكسّرات، على أهالي نوفل لوشاتو. ووضعنا مع كلّ هدية زهرة. وأثناء توزيع الهدايا شعرنا بأنّ الأمر أثار استغراب وتعجّب الأهالي، إذ كان موضع تساؤل بالنسبة لهم
 
 

1- دباغ، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني قدس سره، ص202.
2- السيّدة فاطمة طباطبائي، مرآة الجمال، ص127.
 
 
 
 
41

31

العاطفة والرأفة

 أن يُبادلهم قائد إيراني مسلم كلّ هذه المشاعر في ليلة ميلاد السيّد المسيح، ويكنّ لهم الحبّ والاحترام. ومن بين هؤلاء كانت هناك امرأة أخذت عيناها تفيض بالدموع إعجاباً بالإمام وهي تتسلّم هديّته.. لقد ترك سلوك الإمام هذا تأثيره في نفوس الأهالي إلى درجة طالبوا بتحديد موعد لهم للقاء الإمام. فوافق الإمام على استقبالهم فوراً. وكان عددهم ما بين عشرة إلى خمسة عشر شخصاً، وقد جاؤوا وهم يحملون باقات الزهور.. فتفقّد الإمام أحوالهم وسألهم إن كان لديهم طلباً خاصاً. فقالوا: كلا، ليست لدينا حاجة، لقد جئنا لرؤية سماحتك عن كثب، وما هذه الزهور إلا هدية محبّة.. فارتسمت ابتسامة على شفتي الإمام وراح يتسلّم باقات الزهور من أيديهم واحدة واحدة، ويضعها إلى جواره. ثم ودّعوا الإمام ببهجة وسرور1.


حذار أن يتأذّى الجيران
نظراً لوجود الأعداد الغفيرة والحركة الدؤوبة المتواصلة، كان الإمام يوصي دائماً لئلّا تصدر حركة أو تصرّف يؤذي الجيران الذين كان جميعهم من المسيحيين.. في الحقيقة كان الإمام يحرص كثيراً على راحة جيرانه وهدوئهم ويبذل كلّ ما في وسعه لئلّا يتأذّى أو ينزعج أهالي المحلّة لشدّة الزحام وكثرة التردّد على منـزل سماحته. وإنّ أخلاق الإمام هذه وحرصه على راحة جيرانه، كانت وراء حزن وتأثّر أهالي نوفل لوشاتو عندما قرّر الإمام العودة إلى إيران. وإنّ بعض هؤلاء قام بإهداء الإمام حفنة من التراب الفرنسي2.
 
 

1- السيّدة فاطمة طباطبائي، مرآة الجمال، ص127.
2- حجة الإسلام محتشمي بور، ص203.
 
 
 
 
42

32

العاطفة والرأفة

 اعتذروا من الجيران

بعد أن تأكّدت مغادرة الإمام باريس والعودة إلى إيران، أمرني سماحته بالتوجّه إلى المنازل المجاورة لمقرّ إقامته والاعتذار من أصحابها نيابةً عنه، لما كان يُسبّبه الزحام من سلب لهدوئهم وراحتهم طوال فترة إقامة الإمام في هذه القرية.. وبالفعل توجّهت أنا والسيّد إشراقي وشخص أو شخصان آخران، إلى لقاء جميع الجيران في تلك القرية وإبلاغهم رسالة الإمام واعتذاره منهم1.

لا تفعلوا شيئاً تعجزون عن تبريره للشعب
كنّا مرّة نُناقش قضايا السياسة الخارجية، وقد احتاج الأمر إلى قدرٍ من التحرّك الدبلوماسي السرّي. فتمّت استشارة الإمام في ذلك، فقال سماحته: "لا تفعلوا شيئاً تعجزون عن تبريره للشعب".. فكان ذلك بمثابة مبدأ عام في السياسة الخارجية وعلى صعيد الداخل. وفي الوقت نفسه لفت الأنظار إلى السيرة السياسية للإمام التي لم تعرف التناقض في المواقف سواء في الماضي والحاضر، وعلى صعيد القرارات العلنية والسرّية2.

اعذروني
كان الإمام متواضعاً حتى في تعامله مع تلامذته والذين كانوا في مراحل أولية من الناحية العلمية والاجتماعية.. وممّا يذكر في هذا الصدد، أنّي كنتُ
 
 

1- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني.
2- ميرحسين موسوي، ج3، ص261.
 
 
 
 
43

33

العاطفة والرأفة

 في آذربيحان قبل حوالي ثماني سنوات. وكان الوقت صيفاً. فبعث الإمام طالباً حضوري لبحث موضوعٍ هامٍّ يتعلّق بآذربيجان، وقبل أن يطرح عليّ الموضوع قال لي: "أرجو أن تعذرني لما تسبّبته لك من عناء عندما طلبتُ حضورك".. إنّ كلام سماحته هذا أثّر فيّ بدرجة دفعتني للبكاء1.


هذا الطفل أكثر قرباً في محضر الله
كانت علاقة الإمام بالأشخاص على قدر قربهم من الله.. على سبيل المثال، كان سماحته يُحبّ الأطفال كثيراً. وعندما كان يُقبّل حفيده عليّ، كان يقول: "إنّ هذا الطفل حديث العهد وملكوتي. وهو أقرب إلى المبدأ.. إنّه أطهر من الآخرين". وكان حبّه للأطفال نابعاً من أنّهم أكثر قرباً من الله. ولم يكن الإمام يتكلّف في التعبير عن مشاعره.. إنّ حبّه وكرهه كان بصورة تلقائية ومن أجل الله2.

لا شأن لكم بالطفل
ذهبتُ يوماً مع ولدي حامد، الذي كان له من العمر أربع سنوات، إلى عند الإمام. كان الإمام جالساً في غرفته والى جواره كيس كبير ممتلئ بالأوراق والرسائل.. كان الإمام يُخرج منه الرسائل ويقرأها واحدة واحدة، وكان يضع الرسائل التي تستوجب الردّ تحت (البطّانية) التي يجلس عليها كي يعود إليها فيما بعد، ويضع البقية جانباً..
 
 

1- آية الله بني فاضل، ص245.
2- السيّدة فاطمة طباطبائي، ص188.
 
 
 
 
44

34

العاطفة والرأفة

 سلّمنا على سماحته وجلسنا. فأخذ الإمام يتحدّث مع حامد ويُداعبه. وما هي إلا لحظات حتى بدأ حامد يلعب مع الإمام. غير أنّي حاولت أن أستأذن بالخروج آخذاً حامد معي كي لا يُزاحم أوقات الإمام. فقال الإمام: (لا شأن لك بالطفل، فإن كان لديك عمل فتفضّل اذهب.). فخرجتُ لإنجاز بعض الأعمال. وبعد نصف ساعة قلتُ مع نفسي: ربما تسبّب الطفل في إيذاء الإمام، فعدتُ لآخذه. فرأيته قد وضع رأسه في حضن الإمام ورجلاه على الحائط ويطالب الإمام بوضع الأوراق بصورة مرتّبة وكذا وكذا. وكان الإمام يضحك من كلامه. فطلبتُ من حامد أن يأتي لنذهب، إلا أنّه رفض.. فاستأذنت الإمام بأخذه موضحاً بأنّه يزاحم أوقات سماحتكم. فقال: "كلا، الطفل ليس مزاحماً، اذهب أنت"1.


يتعاطف مع معارضه
ذهبتُ يوماً بمعيّة الشهيد حجّة الإسلام والمسلمين سليمي، الذي كان يعمل في مكتب الإمام، إلى إحدى جبهات القتال جنوبي البلاد لتفقّد جند الإسلام وتقوية روحيّاتهم. وفي الطريق دار بيننا حديث عن خصوصيّات الإمام. وقد نقل لي: قبل أيّام كنتُ أتحدّث مع الإمام عن وقاحة الشيخ علي طهراني وجرأته في الإساءة خلال أحاديثه التي تبثّها إذاعة بغداد . إذ أنّ هذا الخبيث كان يتجرّأ في الإساءة إلى الإمام بشكل غريب.. وما أن أنهيتُ كلامي، حتى قال سماحته: "من المصادفة كنتُ قد تذكّرته قبل أيام ودعوتُ له".. كان الإمام يتعاطف إلى هذا الحدّ مع معارضيه وأعدائه ويدعو لهم بالهداية2.
 
 

1- علي ثقفي، ج2، ص192.
2- غلام علي رجائي، ص209.
 
 
 
 
45

35

العاطفة والرأفة

 هل سمعت صوت الجرس؟

فترة طويلة وأنا أنام مع الإمام في غرفة واحدة، خاصّة عندما كانتْ تُسافر والدتي.. كان الإمام يرفض ذلك، وكان يقول إنّ نومك حسّاس جدّاً يُحرجني. حتى أنّي رأيته يوماً يلفّ الساعة التي كان يستخدمها كمنبّه لإيقاظه، بقطعة قماش لإخفات صوت الجرس. وكان يضعها في مكان بعيد حتى إذا ما رنّ جرسها لا أفيق من نومي. وفي إحدى المرّات كنت يقظة إلا أنّي حاولتُ التظاهر بالنوم، لأنّ سماحته نهض لصلاة الليل. وفي صباح اليوم التّالي أراد الإمام أن يعرف إن كنتُ أفقت على صوت جرس الساعة، فقال لي: "هل أفقتِ على صوت جرس الساعة؟". ولأنّي لا أريد قول الحقيقة وفي الوقت نفسه لا أكذب، قلتُ: وهل كانت هناك ساعة في الغرفة حتى أفيق؟..الإمام أيضاً تنبّه إلى أنّي أحاول التحايل عليه، فقال: "أجب على سؤالي، هل استيقظت بسبب رنين الساعة؟". فاضطررت لأن أجيب بنعم. قلتُ: من المحتمل أنّي كنتُ يقظاً، لأنّ صوت الساعة كان خافتاً جدّاً. وقال الإمام: "بعد الآن يجب أن لا تنام معي في الغرفة لأنّي أبقي قلقاً لئلّا تفيق من نومك". قلتُ: أتقصد أن أكون معك - بعدما أصيب الإمام بمرض القلب واستقرّ في طهران- لأكون بجوارك إذا ما تدهورت صحّتك. فقال: "كلا، اذهب وقل لبنتك تأتي عندي". وما هي إلا أيام معدودة حتى قال: ليلى أيضاً لم تعد ضرورة لأن تنام معي. لأنّها تُزيل الغطاء عنها، فأضطر للنهوض وتغطيتها كلّ ساعة1.
 
 

1- زهرا مصطفوي، ص193-194.
 
 
 
 
46

36

العاطفة والرأفة

 كثيراً ما أتطلع إلى الأطفال

كان الإمام رؤوفاً وعاطفياً للغاية. خاصّة إزاء الأطفال إذ كان يُحبّهم كثيراً.. كان سماحته يتصرّف مع الطفل كالأطفال، حتى إنّه كان يقول: "عندما أكون في الحسينية كثيراً ما أُمعن النظر إلى الأطفال". وأحياناً عندما كان يرى الأطفال يتألّمون لشدّة الزحام وحرارة الطقس، كان يقول: "إنّني أتألّم كثيراً لهؤلاء الأطفال الذين يأتون بهم إلى الحسينية في مثل هذه الظروف.. لأنّهم يتأذّون ويمرضون".. حتى إنّ سماحته كان يُحبّ أبناء الشهداء إن لم يكن أكثر من أبنائه فليس أقلّ منهم1.

ممازحة الإمام لأبناء الشهداء
في أحد الأيام كنتُ في جماران، وكان الإمام قد جاء حديثاً للإقامة في جماران.. كان ذلك في الأيام الأولى من الحرب المفروضة.. كان من بين الحشود التي جاءت لرؤية الإمام، امرأة شابّة فقدت زوجها في الحرب وكانت برفقتها صبية بعمر الزهور.. كانت الطفلة مضطربة ولا تكفّ عن البكاء.. كان التراب يُغطّي رأسها ووجها، والدموع تموج على وجنتيها.. كانت الأم حزينة تتمنّى لو تتمكّن هذه الطفلة، التي فقدت أبيها، من الوصول إلى الإمام لعلـّها تهدأ قليلاً. كانت المرأة تقول: لستُ حزينة لاستشهاد زوجي، لأنّي أنا الذي قمتُ بتشجيعه على الذهاب إلى الجبهة. غير أنّ هذه الصبية تؤلمني، وأتصوّر أنّ السبيل الوحيد لهدوئها هو احتضان الإمام لها. وقد قرّر شقيقي أن يأخذ بيدها ويأتي بنا لرؤية الإمام.. كان الإمام يتمشّى في باحة المنـزل. وكنّا
 
 

 
1- نعيمه أشراقي، ص196.
 
 
 
 
47

37

العاطفة والرأفة

 نتصوّر بأنّ الإمام إذا ما رأى الطفلة سوف يمسح بيده على رأسها ونعود بها إلى أمّها. ولكن عندما رآها، مكث قليلاً ثم جلس جنب الحوض وأخذ الطفلة واحتضنها ومسح بيده الحنونة على رأسها ومسح دموعها وأخذ يفعل ذلك حتى هدأت. ثم طلب منّا أن نأخذها لأمّها1.


تعال نتحدّث معاً
جاء أحد الأقارب يوماً إلى المنـزل. ولأنّه كان غاضباً لقضيةٍ ما، كان يتحدّث بصوتٍ مرتفع ويُعبّر عن وجهة نظره.. وعلى الرغم من أنّ الإمام كان يُمضي وقتئذ فترة نقاهة بعد شفائه من المرض، قال له بكلّ هدوء ولطف: "لماذا أنت غاضب.. تعال لنتحدّث معاً وفي النهاية نتفاهم ونتّفق"2.

وهذه لأمّك!
عندما كنتُ أتولّى مسؤولية قيادة اللجان الثورية، كان ثمة لقاء لكبار المسؤولين مع الإمام في حسينية جماران بمناسبة عيد الغدير. وبعد أن أنهى الإمام خطابه عاد وجلس على الكرسي في الشرفة المقابلة لغرفته، وأخذ المسؤولون يتوجّهون للسلام على سماحته.. كان إلى جنب الإمام إناء صغيرا وقد وضعتْ فيه مسكوكات (القدس) من فئة الريال.. كان الإمام يردّ على مهنئيه بوجهه النوراني المفعم بالحيوية ويأخذ بيده عدّة مسكوكات ويُسلّـمها لمن جاء لتهنئته من المسؤولين بمثابة (عيدية). وكنتُ أنا أحد الذين حصلوا على هذه العيدية.. غير أنّي لم أرتوي من رؤية الإمام فعدتُ ثانية للوقوف في
 
 

1- علي ثقفي، ص196.
2- زهرا مصطفوي.
 
 
 
 
48

38

العاطفة والرأفة

 الطابور، ولمّا جاء دوري قبّلتُ يد الإمام وأخذتُ المسكوكات المتبرّكة.. وفي المرّة الثالثة تنبّه الإمام، حيث كنتُ آخر شخص، فابتسم .. قلتُ: سيدي! هذه المرّة أُريد المسكوكات لأمّي - التي كانت مريضة وقد أردتُ الحصول على المسكوكات بنيّة التبرّك والشفاء -.. عندها أخذ الإمام، والابتسامة الجذّابة تعلو شفتيه، عدداً من المسكوكات ممّا تبقّى داخل الإناء ووضعها في يدي وقال مازحاً: وهذه لأمّك1.


لهؤلاء حقٌّ كبير في رقابنا
قلتُ مرّة للإمام، إنّ الكثير من هذه الأسر التي لم تُغادر أماكنها رغم القصف، تعشق الثورة وتحرص على دعمها والدفاع عنها، وما فتئت تقول إنّنا على استعداد للمقاومة والصمود حتى آخر نفس. ولكن أنت أيضاً لديك واجب وتتحمّل مسؤوليّات جسيمة. فقال الإمام: "إنّهم صادقون فيما يقولون. إنّ لهؤلاء حقّاً كبيراً في رقابنا"، وأخذتْ دموعه تتساقط وراح يبكي2.

ترقرقت الدموع في عينه
نقل أحد السادة ممّن توجّهوا إلى مدينة مسجد سليمان، بعد قيام صدّام بقصفها بالصواريخ، نقل للإمام بعد عودته عن لسان إمام الجمعة في المدينة قوله: إثر هذا القصف استشهد البعض وأصيب آخرون. وأثناء عمليّات رفع الأنقاض وبعد ساعات طويلة من البحث عن القتلى والجرحى، أُخرج طفل كان
 
 

1- حجة الإسلام أحمد سالك كاشاني، ص287.
2- آية الله مهدوي كني، ج1، ص138.
 
 
 
 
49

39

العاطفة والرأفة

 قد بقي على قيد الحياة بصورة غير طبيعية طوال كلّ هذه الفترة. وما إنْ فتح عينيه المصابة والملطّخة بالتراب، ورأى الحشد الكبير من المسعفين، أخذ يهتف بدون مقدّمة وبصوت مسموع، وقبل أن ينطق بأيّ كلام: حرباً حرباً حتى النصر.. إلهي احفظ لنا الخميني حتى ثورة المهدي.. كان الإمام يُصغي بدقّة وعيناه متسمّرتان إلى المتحدّث. ولما نطق المتحدّث بهذه العبارة تغيّرت معالم وجه الإمام الملكوتي. وعلى الرغم من أنّ صلابة الإمام كانت السمة الغالبة على تقاطيع وجهه وتُخفي تأثّره الباطني، غير أنّ الدموع ترقرت في عينيه1.


اضطرب حال الإمام فجأة
أخبرتني إحدى السيّدات في تبريز: كان ولدي قد أُسر على يدي العراقيين، وقد علمتُ مؤخّراً بأنّه استشهد في الأسر. وجئتُ لأقول لك بأن تُبلّغ الإمام أن لا يحزن لأبنائنا، لأنّ ما نحرص عليه هو سلامة الإمام.. عندما قلتُ هذا الكلام للإمام، فإذا بي أرى حال الإمام اضطرب فجأة وترقرقت عيناه بالدموع، وكان منظره يؤلم كثيراً2.

كانت الابتسامة لا تغيب عن شفتيه
كان الإمام رزيناً للغاية، ومتى ما كنّا نلتقي به كانت الابتسامة لا تغيب عن شفتيه3.
 
 

1- حجة الإسلام رحيميان.
2- الإمام الخامنئي، ج2، ص224.
3- خادم، ج3،ص284.
 
 
 
 
 
50

40

العاطفة والرأفة

 كان مبتسماً دائماً

لا أتذكّر أنّي دخلتُ غرفة الإمام ولم تكن الابتسامة مرتسمة على وجه سماحته1.

ذكر الحادثة بمرارة
كان الإمام يعشق الناس.. وفي تلك الليلة التي تعرّضت مدينة بهبهان لقصف الطائرات العراقية، حيث تمّ قصف مدرسة (بيروز) واستشهد إثر القصف عدد كبير من تلامذة المدرسة.. في تلك الليلة كنّا جالسين فإذا بالإمام يدخل علينا.. أوّل كلمة نطق بها، أشار إلى حادثة بهبهان.. كان يتحدّث عن هذه الحادثة بدرجة من المرارة والحزن وكأنّ ضحايا الحادث كانوا من أبنائه.. الإمام لم يبك لاستشهاد ابنه، ولكنّه بكى مراراً لمقتل أبناء الشعب2.

دعوها تتناول غداءها
في أحد الأيام أخذتُ عليّاً - حفيد الإمام - إلى المتنـزّه. وجاء أحد الحرّاس بابنته معه. وبعد عودتنا إلى المنـزل أصرّ علي على أن يأخذها معه إلى عند الإمام. وكان وقت الغداء، فقال الإمام لعليّ: "أجلس صديقتك لتتناول الغداء".. فجلسا معاً يتغدّيان.. حاولتُ أكثر من مرّة أن أُخرج الصبية لئلّا تُزاحم أوقات الإمام. فكان يقول: دعوها تتناول طعامها. وبعدما انتهت الطفلة من تناول الغداء، أهداها الإمام خمسمئة تومان وودّعها.. أجل، كان
 
 

1- نعيمة أشراقي.
2- الإمام الخامنئي، ج1،ص130.
 
 
 
 
 
51

41

العاطفة والرأفة

 الإمام يأنس مع الأطفال وكان يُحبّهم كثيراً.. لم يقتصر الأمر على علي وحده وإنّما كان يُحبّ جميع الأطفال1.

 

 


1- حاج عيسى جعفري، ج2، ص187-188.

 

 

 

 

52


42

إظهار الحبّ

 إظهار الحبّ


أُريد أن أبقى معكم
كان أبي أحد الحرّاس المسلّحين للسيّد مصطفى والد الإمام. وطبعاً كانت أسرتنا تُقيم إلى جوار منـزل السيّد مصطفى. وكان لي أخ توفّي في الأيّام الأولى من ولادته. فقالت عمّة الإمام لوالدي: علمتُ بأنّ طفلك توفّي. وإنّ أمّ روح الله لا تدرّ الحليب، فانْ حاولت (خاور) إرضاعه، سوف تُثاب على فعلتها وتُنقذ حياة الطفل.. فقال والدي اسمحي لي أن أستأذن زوجتي... وجاء إلى المنـزل وقال:
يا خاور! تقول شقيقة السيّد، إذا لم يكن لديك مانع من إرضاع روح الله، فسوف تكسبين ثواباً كبيراً.. فردّت عليه والدتي بالإيجاب. فعاد والدي مسرعاً يُخبر عمّة الإمام بما دار بينه وبين زوجته. وحملوا هم مهد روح الله إلى منـزلنا على الفور.

لمّا جاؤوا بالسيّد روح الله، نهضت والدتي وقرأت سورة الحمد وسورة التوحيد، وطبعت على وجهه قبلة وأرضعته.. طلب والد السيّد روح الله من والدتي أن لا تتناول طعام أحد طالما كانت تُرضع روح الله، وكان يرسل لها عدّة وجبات من الطعام كلّ يوم.. حتى أكمل السيد روح الله السنتين. وبعد السنتين فطموه وعادوا به إلى منزل والده. ولكنّه كان يتردّد على والدتي كثيراً.
 
 
 
 
 
53

43

إظهار الحبّ

 وكانت تبتهج لذلك وتضحك، وكان والدي يقول له: عزيزي روح الله! إنّك لم تعد تتناول اللبن، فلماذا لا تذهب إلى منـزلكم؟. فكان يردّ عليه: "أريد أن أبقى معكم"1.


من أصعب ليالي حياة الإمام
بعد اعتقال الإمام - في السابع عشر من صفر - نقلوا سماحته إلى زنزانة انفرادية. وحيث أراد أزلام النظام تعذيبه نفسياً، أخذوا يُعذّبون أحد السجناء في الزنزانة المجاورة، وكان يصرخ ويستغيث.. ولكي يكفّ أزلام النظام عن تعذيب هذا الشخص، نذر الإمام نذراً. وقد قال سماحته لي فيما بعد: كانت تلك الليلة من أصعب الليالي في حياتي2.

كانت نظراته مفعمة بالحبّ
كان الإمام عالماً من العواطف.. كانت نظراته مفعمة بالحبّ والرأفة، حتى أنّنا كنّا نلوذ به بصورة تلقائية كلّما ألمّ بنا الحزن وواجهتنا الهموم.. أستطيع أن أقول بأنّ كلّ أحزاني وهمومي كنتُ أحسّ بها تزول لمجرّد أن يردّ على تحيّتنا ويُجيب على سلامنا3.
 
 

1- السيّدة بهجت (بنت خال الإمام الخميني)، ج1، ص181.
2- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني، ج2، ص215.
3- فرشته اعرابي، ص159.
 
 
 
 
 
54

44

إظهار الحبّ

 كان الإمام عاطفياً للغاية

كان الإمام عاطفياً للغاية. على سبيل المثال، عندما كان في النجف كانت شقيقاتي يأتين من إيران لزيارته. وبعد انتهاء الزيارة كان موقف التوديع مؤلماً للغاية. حتى أنّي لم أكن أطيق الوقوف في باحة المنزل ومشاهدة لحظات وداعهنّ مع الإمام. كذلك المرحوم شقيقي السيّد مصطفى، كان يقول إنّي لا أطيق لحظات الوداع. غير أنّ وداع الإمام لبناته كان مؤثّراً للغاية بحيث لا يُطيق الإنسان رؤيته. ورغم كلّ ذلك فإنّ عواطف الإمام ومشاعره لم يكن لها أدني تأثير على قراراته وما ينبغي له القيام به1.

إذا مرض أحد
كانت علاقة الإمام عجيبة بزوجته وأبنائه وأحفاده، بل وحتى مع القريبين منه.. فإذا ما كان يمرض أحد أعضاء مكتب سماحته كان يتفقّد أحواله باستمرار، ويوصي بالعلاج وعرضه على الطبيب، ونقله إلى المستشفى حتى وان لم يتطلّب الأمر ذلك.. وممّا يُذكر في هذا الصدد، أنّ الحاج السيّد أحمد كان قد أوكلت إليه يوماً مهمّة قراءة خطاب الإمام في مناسبة ما. وكان الإمام يستمع إلى البثّ المباشر للحفل عبر الراديو.. وكان السيّد أحمد قد ذكر قبل المباشرة بإلقاء الخطاب، بأنّ صحّته ليست على ما يرام. فأخذ الإمام على الفور يستفسر عن حال السيّد أحمد وممّا يشكو2.
 
 

1- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني.
2- حجة الإسلام أنصاري،(محمد علي)، ص189-190.
 
 
 
 
 
55

45

إظهار الحبّ

 الإمام سأل عنك كثيراً

عندما توفّي آية الله خاتمي - والد زوجي - ذهبتُ إلى مدينة يزد للمشاركة في مراسم العزاء والتأبين.. وبعدها أخبرتني والدتي بأنّ الإمام كان يسأل عنك كثيراً خلال فترة غيابك، وكان يُعبّر عن حزنه ويودّ رؤيتي لتعزيتي ومواساتي ليهدّأ من روعي وأحزاني.. ولمّا عدتُ إلى طهران اتصلوا بي على الفور وأخبروني بأنّ الإمام أبلغهم بأنْ تأتي زهراء أُريد أن أراها. وكلّ ذلك كان بالنسبة لي ملفتاً.. إذ إنّه مع كلّ هذه المشاغل والمسؤوليّات كان الإمام يتفقّد أفراد أسرته وكان يحرص على مواساة حفيدته.. لم يكن الإمام يتجاهل أو يُهمل أيّ أمرٍ وإنْ كان بسيطاً1.

الاهتمام بالأمور البسيطة
من سمات الإمام مقام جمع الجمع الذي كان يتمتّع به. إذ إنّ سماحته وفي ذات الوقت الذي يهتمّ بالقضايا الكبيرة، لم يكن يُهمل الأمور البسيطة. على سبيل المثال، إذا ما تصادف أن تعامل مع أحد وكان قد أسدى له خدمة في يوم ما، كان الإمام لا يكفّ عن تفقّد أحواله وأحوال أفراد أسرته. وإذا ما كان أحد هؤلاء الأفراد تزوّج حديثاً، فإنّه يسأل حتى عن أحفاده2.

سامحوني
في الليلة التي كان من المفترض أن يُغادر الإمام في الصباح باريس عائداً
 
 

1- زهرا أشراقي.
2- حجة الإسلام عباسي خراساني، ج2، ص206.
 
 
 
 
56

46

إظهار الحبّ

 إلى طهران إلا أنّ العودة أُرجئت إلى موعد آخر، اجتمع أهالي نوفل لوشاتو وجاؤوا بباقات الزهور للقاء الإمام. حتى النساء المسيحيات اللواتي لم يعتقدن بالحجاب، كنّ قد وضعن غطاء الرأس وجئن للقاء الإمام.. كان هؤلاء المسيحيون في حالة عجيبة إذ كانت عيونهم مملوءة بالدموع.. وفي كلمات موجزة اعتذر قائد الثورة الإسلامية الكبير من جيرانه قائلاً: "سامحوني.. إنّ وجودي هنا طوال هذه الفترة قد خلق متاعب لكم". ولمّا نقل المترجم هذه الكلمات إلى الفرنسية عجّ أهالي نوفل لوشاتو بالبكاء1.


أصبحتُ سبباً في إثارة المتاعب
كان من المفترض أن يتوجّه الإمام في الثاني عشر من بهمن إلى مدرسة (رفاه)، غير أنّ شدّة الزحام والحشود المكتظّة حالت دون ذلك، فذهب إلى منـزل أحد الأقرباء.. وبعدها، وفي حوالي الساعة العاشرة مساءً، انتقل سماحته إلى المدرسة من الباب الخلفي، فتفاجأ الشباب وذهلوا عندما رأوا الإمام واقفاً أمامهم.. تحدّث سماحته قليلاً إلى الشباب ثم اتّجه للجلوس في الغرفة. وقد كنتُ في خدمة الإمام منذ أن كان في مدرسة (علوي). وكنتُ أحياناً أحظى بالفخر بأن توكل إليّ مهمّة مراقبة الأطراف المحيطة بغرفة الإمام. وإنّ إحدى أجمل لحظات عمري كانت منتصف تلك الليلة التي نهض فيها الإمام ليتوضّأ استعداداً لصلاة الصبح.. فأنا أساساً من أسرة روحانية ونشأت في بيت رجل دين، إلا أنّي لم أرَ رجل دين بهذه الدرجة من النظم والترتيب.. حيث رأيتُ الإمام يضع العمامة على رأسه ويمشط لحيته، ويرفع
 
 

1- حجة الإسلام هادي غفاري، ج3، ص244.
 
 
 
 
57

47

إظهار الحبّ

 أكمامه ويخرج للتوضّؤ.. حاولتُ أن أقترب من سماحته لتحيّته، فبادرني بالقول: "أصبحت سبباً في إثارة المتاعب". فأجبتُه: أنت رحمة لستة وثلاثين مليون شخص. فنطق بكلمات دعاء لا زالت ترنّ في أذني حتى هذه اللحظة1.


كم أنا أحبّك؟!
في المناسبتين أو الثلاث التي تشرّفت خلالهما بلقاء الإمام، كان الإمام يُعبّر في كلّ مرّة عمّا يكنّه من حبّ وودّ تجاهي ويخجلني. وفي إحدى هذه اللقاءات قال لي وقد أمسك بيده المباركة يدي: "إنّك تعلم كم أنا أُحبّك"2.

اشتقتُ لرؤية جمران
اتصل الحاج السيّد أحمد يوماً من مكتب الإمام باللجنة المسؤولة عن حرب العصابات في مدينة الأهواز، موضحاً عن لسان الإمام: "لقد اشتقتُ لرؤية الدكتور جمران، أبلغوه بأن يأتي إلى طهران".. يومها كان الدكتور في منطقة (سوسنكرد) الحدودية وكان مصاباً بقدمه. وبمجرّد سماعه لهذه الرسالة توجّه على الفور إلى طهران للقاء الإمام. وكنتُ برفقة الدكتور جمران حيث حملنا معنا الخرائط ومخطّط منطقة العمليّات إلى الإمام.. كانت إصابة الدكتور جمران بنحو لا يستطيع أن يجلس على الأرض ويثني ساقه. ولكن واحتراماً للإمام - الذي كان يعشقه - جلس وأثنى ساقه، وأخذ يشرح للإمام ويوضح الرسوم والخرائط، دون أن يعبأ بالآلام.. تنبّه الإمام
 

1- احمد ناطق نوري.
2- اللواء قاسم علي ظهير نجاد، ج2، ص204.
 
 
 
 
58

48

إظهار الحبّ

 بفراسته المعهودة إلى تألّم الدكتور فقال: "مدّ ساقك وخذ راحتك". فأجاب الدكتور: أنا مرتاح.. فقال الإمام: "أقول لك مدّ ساقك وخذ راحتك.." غير أنّ الدكتور رفض أن يفعل ذلك احتراماً للإمام قائلاً: لا أشعر بالألم.. وكرّر الإمام عبارته بلهجة أشدّ: فوافق الدكتور على مضض.. بعد انتهاء اللقاء، وحيث كان الإمام يستعدّ للتوجّه إلى حسينية جماران لتحيّة حشود الجماهير التي جاءت للقائه، نادى سماحته على الحاج السيّد أحمد، الذي كان واقفاً في باحة المنزل: (أحمد، أحمد!) ولأنّ أحمد لم ينتبه لنداء الإمام، ناديت عليه وقلتُ له: الإمام يُناديك. جاء الحاج أحمد فقال له الإمام: "ارفعوا هذه الطاولة من الطريق، لأنّ السيّد جمران لا يستطيع أن يمرّ من هنا وساقه مصابة"1.


ضحكة في أحضان الإمام
أرسلتْ سيّدة إيطالية كانت تعمل في سلك التعليم وتعتنق المسيحية، رسالة مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الودّية تجاه الإمام ونهجه، وبعثت مع الرسالة عقداً من الذهب. وكانت قد أشارت في رسالتها إلى أنّ هذا العقد إنّما هو عقد زواجي اعتزّ به كثيراً، وإنّني أقدّمه هدية تعبيراً عن حبّي واحترامي لسماحتكم ولنهجكم.. تُرجمت الرسالة وأُخذت إلى الإمام مع العقد. فقرأ الإمام الرسالة ووضع العقد على الطاولة التي كانت إلى جواره.. بعد يومين أو ثلاث، صادف أن جاؤوا بطفلة لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات وكان والدها قد استشهد في جبهات القتال.. عندما علم الإمام بوجودها طلب أن يراها.
 
 

1- من أقوال الحاج السيّد أحمد، ص204-205.
 
 
 
59

49

إظهار الحبّ

  فجيء بها.. أخذها الإمام وأجلسها في حضنه ووضع خدّه المبارك على خدها ومسح بيده على رأسها.. تصرّف معها بنحو لم يشاهد من قبل حتى مع أحفاده.. أخذ يتحدّث مع الطفلة بصوت خافت بحيث يصعب علينا سماع كلماته على الرغم من أنّنا كنّا على مقربة من سماحته.. لحظتها بدأت الطفلة الحزينة تقهقه وهي في أحضان الإمام. ثم تناول الإمام العقد، الذي كان إلى جنبه، وعلّقه بيده المباركة في رقبة الطفلة، وخرجت من عند الإمام وهي تطير من الفرحة1.


أنتم لم تكونوا في آبادان
خلال فترة الحرب كانت هيئة الإذاعة والتلفزيون تحاول أن تُسلّط الضوء على إقامة صلاة الجمعة في آبادان كلّ أسبوع. حيث تبثّ العديد من اللقطات عن وقائع إقامة الصلاة وخطبتي إمام الجمعة. وفي فترة ما كنتُ قد سافرت للعلاج ولم أتمكّن من إقامة صلاة الجمعة على مدى شهر تقريباً. بعد عودتي التقيتُ الإمام برفقة أئمة الجمعة في محافظة خوزستان. فسألني سماحته: لم تكن في آبادان، أين كنت؟2.
 
 

1- حجة الإسلام رحيميان، ص216.
2- حجة الإسلام جمي (امام جمعة آبادان)، ج4، ص286.
 
 
 
 
60

50

إظهار الحبّ

 قرّرنا أن ننصحك

فيما يلي رسالة بعثت بها طالبات إحدى المدارس الابتدائية إلى الإمام، وردّ سماحته عليها.

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام على الإمام العزيز.. نحن طالبات الصف الخامس (جهاد) في مدرسة الفاطمية.. لقد قرّرنا، اقتداءً برسالة الإمام محمد التقي عليه السلام، والتي وردت في منهجنا الدراسي، التي بعث بها إلى حاكم سيستان ناصحاً إيّاه، قرّرنا أن نبعث برسالة نُقدّم لكم فيها النصح.. بيْدَ أنّنا أيّها الإمام أعجز من أن ننصحك، لأنّك عظيم ومنزّه من كلّ الذنوب.. أيّها الإمام، نحن الفتيات الصغيرات نرجوكم من أعماق قلوبنا، ونأمل أن نكون أهلاً لذلك، أوّلاً - أيّها الأب الكبير، يا شيخ جماران، يا روح الله! أن تكتب لنا بخطّ يدك الجميل جواب هذه الرسالة، وأن تنصح معلّمينا... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فكتب الإمام في جواب هذه الرسالة قائلاً: "أبنائي الأعزّاء! قرأتُ رسالتكم الودّية.. ليتكم أيّها الأعزّة نصحتموني لأنّي بحاجة إلى النصيحة.. آمل أن تقرؤوا دروسكم جيّداً وبنشاط ومثابرة، وأن تعملوا في الوقت نفسه بالواجبات الإسلامية التي تصنع الإنسان، وأن تتحلّوا بالأخلاق الحسنة، وتغتنموا الفرصة لإطاعة وخدمة آبائكم وأمّهاتكم وتنالوا رضاهم، وتحترموا معلّميكم كثيراً.. احرصوا بأن تكونوا نافعين للإسلام والجمهورية الإسلامية ولبلدكم.. أسأل الله تعالى لكم السلامة والسعادة والرقي في مدارج العلم والعمل، إنّكم نور العيون. والسلام عليكم جميعاً.

29 شهر صفر 1403هـ.ق. (1982/10/15م) - روح الله الموسوي الخميني"1.
 

1- حجة الإسلام رحيميان، ج2، ص217.
 
 
 
 
61

51

التواضع

 التواضع


قـبّلت يده
بعد وفاة آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري، انشغل الإمام بالتدريس ولم يلتحق بالحلقة الدراسية لأيّ أستاذ آخر.. ومن أجل مواصلة رقيّه في مدارج الفقه والأصول، كانت لديه أبحاث مشتركة مع كبار علماء الحوزة العلمية. وقد حرص على مدى سنوات على المشاركة في مثل هذه البحوث التي كانت تُقام من قِبَل المرحوم آية الله السيّد الصدر وآية الله السيّد الزنجاني. وممّا يذكره سماحته في هذا الصدد قوله: "اشتدّ في أحد الأيام النقاش أثناء هذه الأبحاث بيني وبين المرحوم آية الله الزنجاني، ونظراً لمنـزلة المرحوم الزنجاني وكبر سنه قمت وقـّبلت يده"1.

أنا طالب علم ليس أكثر
منذ اللحظة الأولى لوصول الإمام إلى (كرج)، جاء حجّة الإسلام الحاج الشيخ حسين لنكراني لزيارته. وما أن رأى الإمام حتى قال: (أنا غير مؤهّل لتقبيل أياديكم، ولكن ائذنوا لي بتقبيل قدمكم...) كما أنّه عتب على الإمام
 

1- آية الله سبحاني، ج3، ص242-243.
 
 
 
 
63

52

التواضع

 قائلاً: (لقد جئتم من دون إعلان مسبق، وبلا استقبال. وأنا احتجّ على ذلك). فأجابه الإمام: "أنا طالب علم ليس أكثر ولا استحقّ كلّ هذا الذي تذكرونه"1.


كان يُجالس الطلبة
في عام 1333 شمسي (1954م)، كان هناك مجلس تعزية يُقام في منزل سماحة آية الله العظمى السيّد البروجردي، بمناسبة الأيّام الفاطمية، وخلال هذا المجلس رأيتُ الإمام جالساً بين طلبة العلوم الدينية بتواضع وأدب جم، على مسافة من المرحوم السيّد البروجردي.. وكان خطيب المجلس المرحوم تربتي.. والملفت هنا هو أنّنا طوال الفترة التي كنّا نحضر هذا المجلس، كنّا نرى الإمام متربّعاً في جلسته بأدب جم منذ بداية المجلس وحتى انتهائه، يُصغي إلى الخطيب. وكان ذلك بالنسبة لي يبدو عجيباً، لسببين، الأول أنّه لم يحاول الجلوس بالقرب من المرحوم السيّد البروجردي. وثانياً، كان يجلس وسط الطلبة الشباب بكلّ تواضع وكأنّه شخص عاديّ، متجاهلاً الهيبة والقداسة التي كان يحظى بها لدى الحوزويّين2.

لم تأمروا بذلك!
حدّثني علماء كبار بأنّ المرحوم السيّد البروجردي لم يكن يُجيز البقاء على تقليد الميت، ويرى ضرورة تقليد المجتهد الحي.. وفي هذا الصدد
 

1- حجة الإسلام محمد فاضلي اشتهاردي، ص246.
2- حجة الإسلام سيد محمد باقر حجتي، ص238-239.
 
 
 
 
 
64

53

التواضع

 حاولتْ شخصيّتان علميّتان مناقشة السيّد البروجردي، هما المرحوم آية الله يثربي، أحد كبار علماء كاشان ومن تلامذة المرحوم السيّد ضياء العراقي الذي كان من كبار علماء النجف، والإمام الخميني الراحل.. وقد تحدّث المرحوم يثربي أوّلاً إلا أنّ السيّد البروجردي لم يقتنع. بينما كان الإمام جالساً ملتزماً الصمت في غاية الأدب. إذ إنّه كان قد اعتاد على عدم التحدّث ما لم يُسأل. فأدار المرحوم البروجردي وجهه نحو الإمام وقال: أيّها السيّد ألا تقل شيئاً؟، فأجاب الإمام: لم تأمروا بذلك.. وبعدما عبّر الإمام عن رأيه قَبِل السيّد البروجردي وجهه نظر سماحته1.


الإسلام غير مرتبط بي
بعد وفاة المرحوم آية الله العظمى البروجردي، اقترح عليّ يوماً أحد الأصدقاء من تلامذة الإمام، بمفاتحة الإمام للحصول على موافقته بطباعة الرسالة الفقهية.. وفي الصباح توجّهنا إلى منـزل الإمام القسم الخارجي. وكان الإمام جالساً على سجّادة متواضعة. فابتدأ بالحديث موضحاً للإمام بأنّ المجتمع اليوم يتطلّع إليكم وإنّكم تُعتبرون محطّ اهتمام وطموح الحوزات العلمية. وربما بالغ فيما كان يقول. حتى أنّي لا زلت أتذكّر بأنّ وجه الإمام احمرّ فجأة، وقال: "كلا، ليس الأمر بهذه الصورة، فالإسلام غير مرتبط بي"2.
 
 

1- حجة الإسلام سيد كمال فقيه ايماني، ص249.
2- آية الله توسّلي، ص230.
 
 
 
 
65

54

التواضع

 سلام آغا!

كان الإمام يولي الجماهير اهتماماً كبيراً. وفي الوقت نفسه كان سماحته يستاء كثيراً من التحرّكات التي كانت تحاول أن تخلق له مكانة ظاهرية متميّزة، فكان ينهى عنها ويتصدّى لها.. حتى أنّه كان هناك دكّان بقّالة في زقاق (ارك) الذي كان يسلكه الإمام، وكان صاحب هذا الدكّان يُدعى الحاج غلام.. وفي إحدى المرّات كان الرجل جالساً أمام باب الدكّان على صفيحة وواضعاً ساقيه فوق بعض، وماسكاً بيده سلسلة يهزّها.. عندما اقترب الإمام من الحاج غلام ألقى عليه التحية غير أنّ الرجل لم يتنبّه إلى الإمام وبقي جالساً على حالته وردّ على تحيّة الإمام وهو يهزّ بالسلسلة: (سلام آغا! كيف حالك)1.

كان يردّ على تحيّة الجميع
على الرغم من كلّ هموم الإمام الخميني واهتماماته بمقارعة سلطات النظام الشاهنشاهي، ورغم كلّ المتاعب والمشاغل اليومية، لا أتذكّر أنّ أحد الأطفال سلـّم على سماحته ولم يردّ عليه التحيّة.. كان الإمام يُلقي نظرة على وجه كلّ طفل من بين الأطفال ويردّ على تحيّة الجميع والابتسامة ترتسم على شفتيه2.
 
 

1- آية الله موسوي خوئينيها، ص239.
2- حسين شهرزاد (جار الإمام في قم)، ص239.
 
 
 
 
 
66

55

التواضع

 كان يُسلّـم حتى على الأطفال

كان الإمام سبّاقاً في السلام على الآخرين. وكان يُبادر بإلقاء التحيّة بمجرّد أن يدخل مكان قبل أن يُحيّوا سماحته.. فمع كلّ تلك العظمة التي كان يتّصف بها، والرعب الذي كان ينتاب الأعداء بمجرّد سماع اسمه، كان عطوفاً ورؤوفاً بدرجة إذا ما رأى أطفالاً كان يُبادرهم بالسلام والتحيّة1.

لا أتذكّر سبقتُ سماحته مرّة في السلام عليه
ما لا يغيب عن ذاكرة أيّاً من تلامذة الإمام، وجميع الذين عرفوا سماحته عن كثب، هو تواضع الإمام الجم والاهتمام التربوي الذي كان يتّسم به سماحته حيال المحيطين به. وعلى الرغم من أنّي كنتُ أحد تلامذته، إلا أنّي كنتُ مبهوراً بشخصيّة سماحته، وكنتُ أعشقه تماماً. وطوال الفترة التي كنتُ في خدمة الإمام، ورغم حرصي على أن أكون سبّاقاً في إلقاء التحيّة والسلام، إلا أنّي لا أتذكّر مرّة سبقته مرّة في السلام2.

كان يُباغتنا
عندما كان الإمام يدخل مكاناً كان من الصعب أن تسبقه بالسلام. ففي أحيان كثيرة كنّا نُسارع إلى مكتب الإمام ونبقى بانتظار قدومه لنُبادره بالتحيّة، إلا أنّ سماحته كان يُباغتنا ويُلقي بالتحيّة أسرع منّا3.
 

1- الدكتور محمود بروجردي، ص240.
2- آية الله عز الدين زنجاني، ص240.
3- حجة الإسلام رحيميان، ص240.
 
 
 
67

56

التواضع

 كان يُسلّم قبل أن نبتدره بالتحيّة

لقد اعتاد الإمام على التعامل مع الدارسين وطلبة العلوم الدينية بنحو متكافئ بعيداً عن الألقاب والمستويات العلمية مهما كان مستوى الطرف الآخر. وفي هذا الصدد لم يحدث مرّة أن زرتُ سماحته ولم يُبادرني بالسلام.. أحياناً كانت المسافة بيني وبين سماحته لا تقلّ عن عشرة أو خمسة عشر متراً، وكنتُ أحتمل إذا ما ألقيتُ التحيّة لا يسمعني، لذا كنتُ أتريّث حتى تتقلّص المسافة لأبادر بإلقاء التحيّة، فإذا بسماحته يُبادرني بالتحيّة قبل أن أنطق بها1.

أحسست بأنّ أحداً ألقى التحيّة
كنتُ مرّة مارّاً عبر الزقاق الواقع بين مسجد المرحوم الشيخ الأنصاري ومنزل الإمام، وفيما كنتُ أسير مطأطأ الرأس فإذا بي أحسّ بأنّ أحداً سلّم عليّ. وعندما رفعتُ رأسي وقعتْ عيناي على سيماء الإمام المباركة ولحظتها انتابني إحساس عجيب وكأنّ لساني معقود.. فالإمام مرجع تقليد وعالم كبير، ولم أكن أنا سوى طالب علم لم أتجاوز سنّ السابعة عشر2.

أدار ظهره لكلّ الاعتبارات الظاهرية
حرص المجتمع الحوزوي في النجف الأشرف على ضرورة مراعاة الاعتبارات الاجتماعية والمستويات العلمية المختلفة. على سبيل المثال، لم يكن بوسع أحد من طلبة العلوم الدينية المبتدئين أن يحشر نفسه كأحد
 
 

1- حجة الإسلام مرتضى صادقي تهراني، ج3، ص242.
2- حجة الإسلام رحيميان، ص 241.
 
 
 
 
 
68

57

التواضع

 الأفاضل. وهكذا بالنسبة لأصحاب الفضيلة مقارنة بالمجتهدين. والمجتهدين أمام مراجع التقليد وهكذا. فكان ينبغي لكلّ واحد من هؤلاء مراعاة مكانته وحدوده.. وكان العرف السائد لا يسمح لمرجع التقليد بالذهاب إلى منـزل أحد الطلبة الفقراء وتفقّد أحواله. إذ إنّ ما كان شائعاً هو أن يُطأطأ الجميع رؤوسهم أمام المراجع والمجتهدين، وأن يقوم بزيارتهم كواجب ووظيفة.. وفي هذا الصدد يُمكن القول بكلّ جرأة، إنّ تاريخ التشيّع لم يشهد أن قام مرجع تقليد في زمن مرجعيّته، بزيارة مدارس الحوزة العلمية في النجف والتحدّث إلى طلبة العلوم الدينية المبتدئين وتفقّد أحوالهم وأوضاعهم المعيشية. غير أنّ الإمام الخميني كان قد أدار ظهره للمعايير والاعتبارات الظاهرية، وأرسى قواعد سنّة إسلامية حسنة في النجف الأشرف1.


أنا مدين للشعب
أثناء مغادرة العراق، وامتناع الكويت عن استقبال سماحته، مكث الإمام ليلة في بغداد. إذ تقرّر أن يتوجّه في صباح اليوم التّالي - يوم الجمعة الساعة التاسعة - إلى باريس.. وفي تلك الليلة كنّا جالسين عند الإمام. وكان الجميع مضطّرباً قلقاً حيال ما سيحدث. غير أنّ الإمام كان هادئاً مطمئنّاً وكأنّ شيئاً لم يحدث. وكان يحاول أن يُهدّأ من روعنا.. وفي هذه الأثناء وصلت أنباء من طهران تفيد بأنّ الجماهير غاضبة وأنّ ثمّة مسيرات وتظاهرات قد عمّت مدناً كثيرة.. فما زلت أتذكّر عبارة الإمام التي قالها في تلك الأجواء من الحيرة والترقّب التي كانت تُخيّم على الجميع، ولم يكن واضحاً ما الذي يُخبّئه لنا
 
 

1- حجة الإسلام محتشمي بور، ص248.
 
 
 
 
69

58

التواضع

 المستقبل، إذ قال: "أشعر بالخجل أمام الشعب وأنا مدين له.. إنّني أشعر بالحقارة أمام هذا الشعب.. إنّه يواجه المخاطر من أجلنا، ونحن جالسين هنا ننعم بالراحة".. حقّاً كم هو أمر عجيب.. رجل في هذه الحالة التي كان فيها، مشرّد عن الوطن، وتحيط به المخاطر من كلّ صوب دون أن يتضح مصيره. ينتقل من النجف إلى البصرة، ومن البصرة إلى بغداد، ومن بغداد لا يدري أين سيحطّ به الرحال وما الذي سيحدث له، ورغم كلّ ذلك يتصوّر أنّه ينعم بالراحة، ويشعر بالخجل لأنّ الشعب يواجه المخاطر من أجله1.


كان يُعبّر عن حبّه بكلّ صدق
في عام 1348هـ.ش (1969م)، جاء إلى النجف أحد علماء طهران وهو المرحوم آية الله جابلقي، وكان من تلامذة المرحوم آية الله الحائري اليزدي في قم، وكانت إقامته في منزلي. فأخبرت المرحوم الحاج السيّد مصطفى بأنّ آية الله جابلقي يزور النجف ويُقيم الآن في منزلي. في اليوم التّالي أبلغني المرحوم السيّد مصطفى بأنّ الإمام يرغب بزيارة السيّد جابلقي، وكان ذلك بالنسبة لي عجيباً، فأطلعت السيّد جابلقي على ذلك.. كانت الغرفة التي يُقيم فيها السيّد جابلقي لا تتجاوز أبعادها (4×3) أمتار.. جاء الإمام بعد صلاتي المغرب والعشاء التي كان يُقيمها في مدرسة آية الله البروجردي، وجلس في تلك الغرفة المتواضعة إلى جوار السيّد جابلقي وقد أحاط هذا الروحاني العارف بحبّ غامر وعاطفة جيّاشة حتى أني شاهدت، بعد خروج الإمام، حالة معنوية عجيبة لدى المرحوم جابلقي متأثّراً بشدّة إزاء عظمة الإمام وتواضعه2.
 
 

1- حجة الإسلام محمد رضا ناصري، ج3، ص243.
2- حجة الإسلام سيد أكبر محتشمي بور، ص249.
 
 
 
 
70

59

التواضع

 آمل أن لا تترك هذه الكلمات تأثيرها في نفسي

بعد تشكيل مجلس الشورى الإسلامي في دورته الأولى، ذهبنا إلى عند الإمام. وقد تطوّع أحد النوّاب - السيّد فخر الدين حجازي - بالتحدّث نيابة عن الآخرين. فامتدح الإمام وأثنى عليه كثيراً. وفي هذه الأثناء كنتُ أنظر إلى وجه الإمام فبدأ مستاءً من هذا المديح والثناء، وقال في نهاية اللقاء: "آمل أن لا تترك هذه الكلمات تأثيرها في نفسي، فأنا لست سوى خادم لهذا الشعب"1.

كيف يتسنّى إدراك عظمة الشعب؟
كنّا يوماً عند الإمام فقال سماحته: "لا أدري كيف يتسنّى لنا أن نُدرك قيمة وعظمة هذا الشعب ونُثمّنها. فأنا عندما أرى هؤلاء الشباب أشعر بالحقارة تجاههم"2.

وددتُ تقبيل يده
في إحدى الليالي كنّا عند الإمام، فكان يقول: جاء عندي شيخ عجوز وكان يقول بكلّ ثقة: قدّمتُ أبنائي في طريق الإسلام. وقد جيء اليوم بجنازة ابني الثالث الذي هو آخر أبنائي - كان في سنّ الثامنة عشر وقد استشهد في عمليّات (والفجر) - وانتهيت للتو من دفنه. ولأنّي عازم للالتحاق بجبهات القتال، جئتُ لأودّعك. ومضى الإمام يقول: "إنّ شهامة وشجاعة هذا الشيخ،
 
 

1- حجة الإسلام ناطق نوري، ص230.
2- حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني، ج1، ص130.
 
 
 
 
71

60

التواضع

 خلقت في نفسي حالة شعرتُ حينها برغبة عارمة في تقبيل يده. غير أنّه كان يقف في الباحة وكنتُ أنا في الشرفة، فلم أتمكّن من ذلك"1.


تقطّب وجهه
قلتُ للإمام بأنّ الجميع، إلى ما قبل حادثة الجمعة الدامية في مكّة المكرمة، كان قد دُهش لاختيار سماحتكم الآية: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ2 لتستهلّ بها نداء الحج لهذا العام. غير أنّه بعد الحادث أدرك الجميع فحوى ذلك وازدادوا حيرة وذهولاً في الوقت نفسه.. ومما يذكر في هذا الصدد أنّ الإمام كان يُصغي لكلامي وكان ينتظر أن أُحدّثه بالمزيد مما شهدته حادثة الجمعة الدامية، ولكن عندما حاولتُ التلميح من خلال الإشارة إلى هذه الآية وذلك النداء، إلى ما يُمكن اعتباره من كرامات سماحته، أغمض عينيه وتقطّب وجهه وانكمش، تعبيراً عن أنّ مثل هذا الموضوع لا يستحقّ الذكر.. لم يكن يرغب بالإشارة إلى مثل هذا الأمر، وقد عبّر عن امتعاضه لذلك من خلال نظراته3.

لا يهتفوا من أجلي
في أحد اللقاءات العامّة، قال لي الإمام قبل مجيئه إلى الحسينية: "قل لهؤلاء أنْ لا يهتفوا من أجلي"4.
 

1- آية الله موسوي أردبيلي.
2- سورة النساء، الآية 100.
3- حجة الإسلام رحيميان، ج3، ص236.
4- آية الله توسّلي.
 
 
 
 
 
72

61

التواضع

 لا أرغب في وجود صور لي

علمتُ بأنّ السيّد محمد هاشمي، رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون، عندما التقى الإمام قال له سماحته بأنّه لا يرغب في أن يعرض التلفزيون صوره في كلّ مرّة يبثّ أخبار سماحته.. فقلتُ للإمام بأنّ أبناء الشعب يُحبّون أن يروا سماحتك ويتابعوا نشاطاتك من خلال التلفزيون. فقال الإمام: "نحن لم نتعرّف على الشعب عن طريق الإذاعة والتلفزيون، بل إنّ معرفتنا بأبناء الشعب كانت قبل أن تصبح الإذاعة والتلفزيون تحت تصرّفنا. وعليه فإنّ ارتباط الشعب بنا وتواصلنا معه، لا شأن له بهذه الأمور"1.

ليت كان لي مثل هذه العلاقة
بعث شاب برسالة إلى الإمام يقول فيها: (أيّها الإمام! إنّني أُحبّك لأنّك تُحبّ الله.. أيّها الإمام! لأنّك على صلة بالله تعالى، فنحن على اتصال معك).. كان الإمام يقرأ هذه الرسالة ويبكي، موضحاً: "ليت كانت لي مثل هذه العلاقة كي يصحّ ما تقوله"2.

الشعب متفوّق علينا
في إحدى الليالي كنّا في منـزل الحاج السيّد أحمد مع عدد من الأصدقاء. وكان الإمام حاضراً، فدار بحث موضوع تضحيات الشعب. فقال الإمام: "الشعب متفوّق علينا كثيراً ونحن نسير من خلفه". فعلّق أحد الأصدقاء: حسناً، إذا ما قبلنا بأنّنا نتّبع الشعب فمثل هذا يصدق علينا نحن، ولكن لا نستطيع قول ذلك بالنسبة لسماحتك، فأنتم في طليعة الشعب. وما زلت أتذكّر
 
 

1- حجة الإسلام مسيج بروجردي، ص236-237.
2- حجة الإسلام محلّاتي.
 
 
 
 
73

62

التواضع

 ردّ الإمام إذ قال: "كلا. الشعب في الطليعة". لقد كان سماحته مؤمناً حقّاً بدور الجماهير وتضحياتهم"1.


تواجد الشعب يزيدنا عزّة وشموخاً
دعا الحاج أحمد يوماً والد السيّد محمود البروجردي - صهر الإمام - لتناول الغداء في منـزله. وكان حاضراً عدد من العلماء وعدد آخر من الأصدقاء. وقد انضمّ الإمام إلى هذا الجمع بعد إقامته الصلاة إكراماً لوالد السيّد محمود البروجردي. وصادف أن اقترنت هذه الدعوة مع زيارة آية الله السيّد الخامنئي للأمم المتحدة. وقد دار بين الحاضرين حديث عن خطاب آية الله الخامنئي في هذه المنظّمة. حيث أثنى الحاضرون على خطاب سماحته الذي اتّسم بثراء خاص في تعريف الإسلام والثورة الإسلامية. وفي هذه الأثناء بدأ والد السيّد محمود يتحدّث فسكت الآخرون وأخذوا ينصتون. فدعا سماحته الله أن يمنّ على الإمام بالسلامة، مضيفاً: من بركات القائد الكبير للثورة الإسلامية أن يطرح اليوم الإسلام العزيز في المحافل الدولية الكبرى نظير الأمّم المتحدة. فعلّق الإمام بتواضعه الخاص المعهود قائلاً: "إنّه الشعب الذي وجد طريقه، وقد علّم المسؤولين ما الذي ينبغي لهم فعله. وسوف يتواصل هذا الطريق بوجودي وغيابي. وإنّ تواجد الشعب في الساحة يمنحنا العزّة والشموخ". ومضى سماحته يقول: "إنّني واثق تماماً من أنّ الشعب الإيراني سيواصل تواجده في الساحة حتى أنّه سيكون أكثر تحمّساً ممّا هو عليه الآن"2.
 
 

1- ميرحسين موسوي، ج1،ص117-118.
2- علي أكبر آشتياني، ص118.
 
 
 
 
 
74

63

سيادة القانون

 سيادة القانون

لا أُعطي قرضاً
كان ذلك في عام 1352هـ. ش (1973م)، حيث توجّهنا برفقة الحاج السيّد أحمد وولدنا الحاج حسن، الذي لم يكن له من العمر وقتئذٍ سوى سنتين، إلى النجف. ومن الطبيعي أن يبعث وجودنا البهجة والسرور في نفس الإمام وقرينته المكرّمة، خاصّة في تلك الفترة التي اتسمت بالغربة والنفي.. كان من المفترض أن نمكث في النجف شهرين نعود بعدها إلى إيران.. في تلك الفترة كانت منظّمة الأوقاف في عهد الطاغوت هي المسؤولة عن إجراءات الحج، وإنّ الكثير من الناس بما فيهم الحاج السيّد أحمد، لم يرتضوا التوجّه إلى الحج في تلك الظروف التي كانت سائدة في إيران. لذا كانت ثمّة فرصة للقيام بهذه الرحلة من العراق على نحو أفضل لعدّة أسباب منها: أنّها تتمّ خارج إطار عمل منظّمة الأوقاف الإيرانية، فضلاً عن أنّ نفقات السفر أقلّ بكثير ممّا هو موجود في إيران. إضافة إلى أنّ زوجة الإمام كانت ترغب كثيراً في التوجّه إلى الحج، وأنّ باستطاعتها أن تذهب إلى الحج برفقة نجلها الحاج السيّد أحمد. ولعلّ الأهمّ من كلّ ذلك، أنّ فترة مكوثنا في النجف سوف لا تقلّ عن 7-8 أشهر، وهو أمر بحدّ ذاته يمكن أن يكون مناسباً للغاية في ظلّ الظروف التي كان يمرّ بها الإمام وزوجته آنذاك. عندما بحثنا موضوع
 
 
 
 
 
 
75

64

سيادة القانون

 السفر، كانت المشكلة الوحيدة هي عدم توفّر نفقات السفر. فاقترحت السيّدة الحاجة أن نقترض من السيّد (الإمام)، وهو أمر لا نسمح - لا أنا ولا السيّد الحاج أحمد - لأنفسنا بأن نتقدّم بمثل هذا الطلب إلى سماحة السيّد الإمام.. وفيما كنّا جالسين معاً، قالت السيّدة: أيّها السيّد! إنّ أحمد وزوجته ينويان الذهاب إلى الحج. فقال السيّد حسناً، فليذهبا. قالت السيّدة: أيّها السيّد! الذهاب إلى مكّة يتطلّب مالاً. فأجاب من يريد الذهاب إلى الحج لا بدّ له من المال. فإنّ توفّر لديه المال فليذهب وإلا فلا. فقالت السيّدة: حسناً، أعطهم قرضاً. فقال: أنا لا أعطي قرضاً.. كرّر هذه العبارة مرّتين أو ثلاث. ومن ثمّ سألتْ السيّدة: لماذا لا تُعطي قرضاً؟ قال: هذه ليست أموالي. وأنا أُعطي قرضاً لشخص أعلم بأنّه سوف يسدّد. فمن أين سيُسدّد هذا القرض؟. فردّت السيّدة قائلة: سيسدّدانه. فقال: من أين؟ قالت: حسناً، إذا أعطيت صداق فاطمة، يستطيعان الذهاب؟.. في الحقيقة إنّ وقع هذا الحوار، خاصّة هذه العبارة الأخيرة، كان ثقيلاً على نفسي، خاصّة عندما قال الإمام: وهل تُطالب بالصداق؟ فإذا كانت هناك مطالبة بالصداق فهذا أمر آخر.. فاضطررت للتدخّل والقول: كلا، إنّ هذا الأمر غير مطروح أصلاً. كلّ ما في الأمر هو إذا ما كان الذهاب إلى الحجّ واجباً علينا، فالظروف الحالية تُعتبر أفضل فرصة. (تقصّدت أن أطرح الموضوع من زاوية وجوب الحجّ). فقال: السيّد إذا لم يكن لديك المال، فأنت غير مستطيعة ولا يُعتبر الحجّ واجباً في هذه الحالة. قلتُ: أجل وهو كذلك. وانتهى النقاش.


بعد يومين أو ثلاثة، قال: السيّد أحمد لوالدته: إنّنا ننوي العودة ولا بدّ لنا من إعداد مقدّمات السفر.. فقالت السيّدة بحزن: فليكن ذلك.. وكي يتسنّى لنا تحضير مقدّمات السفر، سلّمنا جوازات سفرنا للسيّد الشيخ عبد العلي قرهي..
 
 
 
 
 
 
76

65

سيادة القانون

 في اليوم التّالي وحيث كنّا على المائدة، قالت السيّدة بحزن: إنّه الأسبوع الأخير لوجودهم معنا.. ستبدأ وحدتنا من جديد بعد سفرهم. فقال الإمام: لماذا، إنّهم موجودون؟ فردّت السيّدة بألم: أنت غير مستعدّ لمنحهما قرضاً، وهؤلاء سلّموا جوازات سفرهم إلى الشيخ حتى... فقال السيّد والابتسامة تعلو شفتيه: قلتُ للشيخ قرهي أن يتريّث قليلاً.. فعلمنا بأنّ السيّد الإمام أعاد النظر في موقفه.. وبعد ذلك سمعت من الحاج السيّد أحمد بأنّ السيّد الإمام قال له: "إذا ما تأكّدت بأنّكما ستُعيدان القرض، فلن أُمانع سوف أمنحكم القرض".. وأخيراً انشغلنا بكيفية تسديد القرض؟ فقلتُ: بمجرّد أن نعود إلى إيران سأبيع ما عندي من مصوغات وأعطي أموال السيّد الإمام وأسلّمها إلى السيّد بسنديده.. باختصار تسلّمنا الأموال وتوجّهنا برفقة السيّدة الحاجة إلى مكّة.. أمّا ما حدث لنا في تلك الزيارة فهذه حكاية طويلة. ولكن بمجرّد أن عدنا إلى قم، بعت مصوغاتي وسلّمت قرض السيّد الإمام إلى السيّد بسنديده1.


حتى وإن كان استالين في السلطة
في النجف، كنتُ في إحدى الليالي عند الإمام، فسأل أحد الطلبة الحاضرين من سماحته: هل يُمكن استخدام طابع ذي ريالين بدلاً من طابع ذي ثماني ريالات؟ فأجاب الإمام: لا يجوز ذلك. وأضاف: حتى وإن كان استالين على رأس النظام، لا بدّ من الحفاظ على النظم الذي يعدّ من أهمّ الواجبات2.
 
 

1- السيّدة فاطمة طباطبائي، مرآة الجمال، ص124-126.
2- حجة الإسلام سيد مجتبى رودباري، مقتطفات من سيرة الإمام، ج44، ص290.
 
 
 
 
77

66

سيادة القانون

 لماذا جئت متسلّلاً

نظراً لأنّي كنتُ ممنوع الخروج من إيران، لذا حاولتُ الذهاب إلى النجف متسلّلاً. وفي الطريق واجهتُ مشكلات كثيرة.. عندما وصلتُ إلى منـزل الإمام كان وقت الظهيرة.. فتحتُ باب غرفة الإمام وألقيتُ التحيّة. فقال: عليكم السلام. أنت أيضاً جئتَ متسلّلاً؟ قلتُ أجل. قال: لا تأتي بعد الآن. قلتُ: سمعاً وطاعة سيّدي، لن آتي بعد الآن. قال: أقصد لا تأتي متسلّلاً، لماذا تُعرّض نفسك للمخاطر؟ لا تفعل هذا بعد الآن.. إن استطعت حاول أن تدخل البلاد بالبطاقة - الجواز - أو لا تأتي أصلاً.. إنّ إصرار الإمام هذا إنّما هو من أجل إقناعنا بضرورة مراعاة القوانين1.

يُعتبر انتهاك القوانين خلافاً للشرع
كان الإمام مقيّداً بالقانون إلى حدٍّ كبير، وكان يولي احتراماً كبيراً للقانون. إذ كان سماحته يعتبر مراعاة القانون بمثابة تكليف شرعي، وانتهاكه خلافاً للشرع، حتى بالنسبة لقوانين السير والمرور.. فعلى سبيل المثال إذا ما وضعت لوحة ممنوع المرور في مكان ما وقد تمّ تجاهلها، أو إذا ما تجاوز أحدهم السرعة المسموح بها في السياقة، فإنّ الإمام يعتبر ذلك خلافاً للشرع، لأنّه يُشكّل انتهاكاً لقوانين المرور2.
 
 

1- حجة الإسلام علي أكبر مسعودي خميني.
2- زهرا مصطفوي.
 
 
 
 
78

67

سيادة القانون

 لن آكل من هذا اللحم

من الخصوصيات البارزة التي اتّسم بها الإمام هي حرص سماحته - حتى في البلاد غير الإسلامية - على مراعاة الحقوق والقوانين الاجتماعية المنصوص عليها.. على سبيل المثال، عندما كنّا في باريس قام بعض الإخوة بجمع المال وشراء خروف وذبحه وإعداد طعام بمناسبة ليلة العاشر من محرّم، وإرسال مقدار منه إلى منـزل الإمام.. غير أنّ ثمّة قانوناً في فرنسا ينصّ على منع ذبح الحيوانات خارج المسلخ مراعاة للأمور الصحّية. ولمّا علم الإمام بهذا القانون قال: بما أنّه قد تمّ انتهاك قوانين الحكومة، فأنا لن آكل من هذا اللحم1.

نهضتُ من أجل الصلاة
ينقل أحد الأطباء ممّن كانوا يُشرفون على علاج الإمام أثناء وجوده في قم: عندما أخبروني بأنّ الإمام يشكو من آلام في القلب توجّهت مسرعاً إلى غرفته وحاولت قياس ضغط الدم. كان قياس الضغط يشير إلى عدد خمسة الذي يُعتبر خطراً من الناحية الطبية. فقمتُ بالإسعافات الأولية. وبعد ساعتين تحسّن الوضع إلى حدٍّ ما، غير أنّه تمّ نصيحة الإمام بعدم الحركة. ولكن سماحته حاول الحركة. فقلتُ: سيّدي العزيز لماذا نهضتَ من مكانك؟ قال: للصلاة. قلتُ: سيدي، أنت مجتهد في الفقه، وأنا في الطب. وإنّ تحرّكك وفقاً لفتواي الطبية، محرّم. عليك أن تُصلّي وأنت مستلقٍ. وقد حرص الإمام على تطبيق التعاليم الطبّية بدقّة2.
 
 

1- دباغ، ص291.
2- زهرا مصطفوي، ص295.
 
 
 
 
79

68

سيادة القانون

 تصرّفوا معه وفقاً للضوابط

جاءني خطاب من قيادة القوّات البرّية يبلغني بأنّه ليس لديك أيّة مسؤولية في قيادة قوّات غربي البلاد. فأجبتهم: إنّ المجلس الأعلى للدفاع هو الذي أوكل لي هذه المسؤولية، ولن أعود إلى طهران إلا بأمرٍ منه وليس من بني صدر.. وكنتُ قد أصرّيت على ذلك دون أن أعبأ بأنّ مثل هذا الموقف يُعدّ تمرّداً بنحو ما من الناحية العسكرية.. من جهته أسرع بني صدر إلى إبلاغ الإمام بموقفي هذا. وقال الإمام، الذي لم يكن يعرفني، إلى بني صدر، بأن يتمّ التعامل مع المتخلّف وفقاً للضوابط.. وبعد فترة وعندما التقى أئمّة الجمعة في البلاد، بما فيهم شهداء المحراب، الإمام قالوا لسماحته بأنّ فلاناً شخص حريص ومثابر، وقد أقدم بني صدر على عزله وتجريده من رتبته العسكرية. وعلى الرغم من أنّ أئمّة الجمعة شخصيّات معروفة لدى الإمام ويحظون بمكانة مرموقة، إلا أنّ الإمام ردّ عليهم بشكل حازم: إنّ فلاناً قد تمرّد على الأوامر. طبعاً هذا لا يعني أنّ الإمام لم يوافق هؤلاء، ولكن كان يؤمن بضرورة الانصياع للقانون واحترامه1.

التقيّد بقوانين الدولة الإسلامية
بصفتي أحد الذين عملوا في مكتب الإمام لسنوات، أستطيع القول بكلّ جرأة بأنّي لم أرَ في حياة الإمام الشخصية والعامّة أيّ تخطّي لقوانين الدولة الإسلامية.. على سبيل المثال، إنّ الفواتير الخاصّة بالماء والكهرباء والهاتف، وإيصالات الضرائب، كان يتمّ تسديدها في أقرب فرصة بمجرّد استلامها2.
 
 

1- الشهيد صياد الشيرازي، ص203.
2- حجة الإسلام رحيميان، ص289.
 
 
 
 
80

69

سيادة القانون

 متى تأتي؟

توجّه السيّد أنصاري مرّة إلى جبهة القتال الجنوبية حاملاً تحيّات وتمنّيات الإمام إلى جند الإسلام ومقاتليه.. وفي المساء حيث كنّا في وحدة الإعلام الحربي لمقرّ قيادة كربلاء، ادخل السيّد أنصاري يده في جيبه وأخرج قصاصة جريدة وقال لي: هذا خطّ الإمام أقدّمه هدية لك.. وكان الإمام قد كتب بخطّ يده الجميل على حاشية قصاصة الجريدة يستفسر من السيّد أنصاري قائلاً: إنّ زوجة المرحوم السيّد بهشتي طلبت تحديد موعد للقاء. متى تستطيع المجيء؟. ويُعلّق السيّد أنصاري على ذلك بالقول: إلى هذا الحدّ كان الإمام يحترم المقرّرات والضوابط المعمول بها في منـزل سماحته ومكتبه. فعلى الرغم من أنّ الأمر كان يعود إليه وهو حرّ في وقته، غير أنّ دقّة النظم الذي كان عليه، تدفعه لأن يسأل من المعنيين كي لا يحصل تداخل في المواعيد وبرامج المكتب1.

إذا كان القانون ينصّ على ذلك فلا تأتوا به
كنتُ يوماً عند الإمام، فأدار وجهه إلى الحاج السيّد أحمد وقال: هات لي كتاب كشف الأسرار.. قال ذلك بنحو تصوّرت بأنّ ثمّة مكتبة في حسينية جماران يُشير إليها الإمام.. فأجاب السيّد أحمد: إذا ما أمرت بذلك، سآتي لسماحتك به. ولكن قانون هذه المكتبة لا يسمح بإخراج الكتب خارج المبنى. كلّ من يريد الاطلاع على أيّ كتاب عليه أن يذهب إلى هناك. فقال الإمام: حسناً، إذا كان قانونها ينصّ على ذلك فلا تأتوا به.. بعدها أشار لي وقال:
 
 

1- غلام علي رجايي.
 
 
 
 
 
81

70

سيادة القانون

 هل تستطيع أن تأتي بهذا الكتاب؟ قلتُ: أجل. وقمتُ بإحضار كتاب (كشف الأسرار) من مكان آخر وقدّمته لسماحته1.


تتمّ مراعاة القانون حتى داخل المنـزل
كان الإمام يحرص على المشي عدّة مرّات في اليوم في كلّ مرّة عشرين دقيقة.. وفي أحد الأيام كنتُ برفقته، فلمّا انتهى من المشي، أشار إلى مكان في الباحة وقال: يُعجبني أن أجلس هناك وأتناول قدحاً من الشاي. فقلتُ وما المشكلة في ذلك؟ سآتي لك بالبساط لتجلس وتشرب الشاي. فقال: كلا، والدتك قالت لي إذا ما أردتَ أن تجلس في الباحة، ضع تلك السجّادة - وأشار إليها - في ذلك الجانب واجلس هناك.. إلى هذا الحدّ كان الإمام يحترم القانون الذي كانت قد وضعته سيّدة المنـزل، فلم يجلس ذلك اليوم ولم يشرب الشاي2.

لماذا تريد استبدال الدواء؟
قلمّا رأيتُ مريضاً كالإمام يلتزم بالنصائح الطبّية بدقّة متناهية وفقاً لما يريده الطبيب المعالج. على سبيل المثال إذا ما قيل له عليك بتناول هذا الدواء في الأوقات المحدّدة كذا وكذا، فإنّ سماحته يتقيّد بذلك بنحوٍ لا يُطيقه الشخص العادي، غير أنّ سماحته كان إنساناً استثنائياً تماماً. وكثيراً ما كنّا نُحاول اختيار الدواء ذات المواصفات (الفعالية الطويلة)، غير أنّنا كنّا نخشى
 
 

1- زهرا مصطفوي، ص292.
2- زهرا مصطفوي، ص292-293.
 
 
 
 
82

71

سيادة القانون

 أن يجذبه الجسم بنحو مفاجئ وتترتّب عليه تبعات غير محبّبة.. على أيّة حال كنّا نتشاور مع الإمام بهذا الخصوص، فكان يقول: لماذا تريدون استبدال الدواء؟ فكنّا نُجيب: خشية أن يزعجكم الالتزام المستمر بمواعيد تناوله، ونكون قد خلقنا متاعب لكم. فكان سماحته يقول: لن يزعجني ذلك مطلقاً، ولا توجد حاجة لاستبدال الدواء1.


كان يمنح الصلاحيّات للمسؤولين
من السمات البارزة واللافتة في نهج الإمام، توسيع دائرة صنع القرار، وعدم التدخّل في المهام والمسؤوليات التي فوّضها الدستور للسلطات الثلاث. وبفضل بركات نهج الإمام وأسلوبه هذا في الإدارة تكاملت مؤسّسات النظام وتشكيلاته.. إذ إنّ سماحته، ومن خلال منح الصلاحيات وعدم التدخّل إلا في الحالات الضرورية، كان قد مهّد الطريق أمام الطاقات الشابة لتنمو وتنضج وتتكامل في خبراتها2.

كان يؤمن باستقلاليّة المسؤولين
كان الإمام لا يتدخّل في شؤون الحكومة إلا في الحالات الاستراتيجية. وكان يمتنع عن الخوض في وظائف ومسؤوليات الأجهزة الحكومية لصيانة استقلالية قراراتها. وإنّ مثل هذا النهج ساعد إلى حدٍّ كبير في إنضاج عمل الحكومة وتعزيز سلطاتها.. ذلك أنّ الإمام كان يؤمن بالنظم والانضباط، حتى أنّ
 
 

1- الدكتور بور مقدس، ص293-294.
2- ميرحسين موسوي، ص295.
 
 
 
 
 
83

72

سيادة القانون

 المراجعات التي كانت تتمّ عن طريق مكتب سماحته، كان يوصي بمتابعتها عن طريق الأجهزة المعنية والمسؤولة. فلم أرَ يوماً أن زجّ مكتب الإمام بنفسه في مهام ووظائف الأجهزة الحكومية. حتى أنّي لا أتذكّر أنّ الإمام تدخّل في تعيين أو عزل شخص ما، أو أنّه تقدّم بتوصية معيّنة بشأن الاستعانة بشخص ما أو إقصائه لدى تشكيل الحكومة، إلا في حالة واحدة وهي وزارة الأمن. حتى في هذه الحالة لم يطرح سماحته اسماً محدّداً وإنّما كان يقترح التشاور معه بهذا الخصوص إذا ما تمّ الاتفاق على اسم معيّن.. وفضلاً عن ذلك، وفي كلّ مرّة كانت تطرأ عقبة أمام تشكيل الوزارة، لا سيّما فيما يخصّ نيل الثقة داخل مجلس الشورى، كان سماحته يفوض مهمّة تذليل العقبة إلى شورى يتمّ تشكيلها لهذا الغرض.. وبشكل عام لا بدّ لي من القول إنّ الإمام كان يؤكّد دائماً على استقلالية المسؤولين واضطلاعهم بمهامهم في إطار الدستور1.


اسألوا رئيس الوزراء
ثمّة مشكلة كانت تواجه المسؤولين عن الحقوق الشرعية التي كانت تصل من خارج البلاد بالعملة الأجنبية من مقلّدي سماحة الإمام. إذ كان يفترض أحياناً أن يتمّ استبدالها بالعملة المحلّية - الريال -. وإنّ ما كان متعارفاً وقتئذٍ هو إمّا أن تُسلـّم الأموال للبنك المركزي واستلام ما يُعادلها من العملة المحلّية بالسعر الرسمي. وفي
 
 

1- مير حسين موسوي، ص296-297.
 
 
 
 
84

73

سيادة القانون

 مثل هذه الحالة سيتمّ حرمان المستحقّين الفارق بين السعر الرسمي والسعر المتداول في الأسواق الحرّة.. أو أن يتمّ استبدال هذه الأموال في السوق الحرّة ومن ثم إنفاقها في المواضع الشرعية المقرّرة. وفي مثل هذه الحالة كان من الطبيعي إمّا أن تُعطى المائة دولار - مثلاً - إلى الفقير كصدقة أو زكاة الفطرة، أو أن يتمّ استبدالها بسعر الصرف الرسمي للدولار، وفي مثل هذه الحالة يكون الفارق غير قليل.. وعندما سأل الإمام عن رأيه بهذا الشأن، قال: اسألوا السيّد موسوي - رئيس الوزراء وقتئذٍ - وإذا لم يكن ثمّة إشكال من وجهة نظر الحكومة، سوف يتمّ استبدال الحقوق الشرعية المرسلة بالعملات الأجنبية إلى العملة المحلّية وفقاً لسعر الصرف المتداول في السوق الحرّة1.

 


1- حجة الإسلام رحيميان، ص203.

 

 

85


74

الأنس بالقرآن

 الأنس بالقرآن


كان يجلس على الأرض
في معظم الأعوام التي تلت عام 1321 شمسي، كان الإمام يسافر في الصيف إلى مشهد. وكان عدد من الطلبة ممن كانوا يكبروننا في السن، وعلى علاقة صداقة مع الإمام، ينتهزون هذه الفرصة لإعداد عدد من المجالس واللقاءات لسماحته. ولدى وصول سماحته إلى المدرسة كانت تأتي عدّة خاصة من العلماء، ربما كان يتراوح عددهم ما بين العشرة إلى الخمسة عشر، لزيارة الإمام والجلوس معه.. وكان يتولّى الإشراف على المدرسة أحد العلماء الكبار الذين تربطهم علاقة وثيقة بسماحة الإمام.. وصادف شهر رمضان المبارك في ذلك العام مع فصل الصيف، وكان مسجد (كوهر شاد) في الليالي يعجّ بالحاضرين حتى وقت السحر. وقد اعتدتُ على الذهاب إلى مسجد كوهر شاد في الليالي، حيث كان يرتقي المنبر وعّاظ كبار، وكان والدي أحد هؤلاء الوعّاظ.. كان الناس موزّعين في باحة المسجد والصحن، كلّ واحد منهم منشغل بالدعاء والمناجاة. وكثيراً ما كنتُ أرى الإمام قد افترش عباءته وجلس عليها بين الجموع الحاضرة. (يومئذ لم يكن الناس يعرفون سماحته سوى قلّة خاصة). وفي هذا الصدد لا زلت أتذكّر كيف أنّي مرّرت يوماً من هناك الساعة التاسعة مساءً متوجّهاً إلى الحرم. وقد رأيت الإمام
 
 
 
 
 
 
 
 
89

75

الأنس بالقرآن

 جالساً يقرأ الدعاء ويتهجّد. وفي الحرم الرضوي صلّيت ودعوت وتباحثت مع الطلبة، وبعد حوالي ثلاث ساعات عدتُ من نفس الطريق، فرأيتُ الإمام لا زال جالساً يُصلّي ويدعو ويتلو القرآن. فعجبت كثيراً لصبر الإمام وتحمّله وأنّه من أهل الدعاء والعبادة إلى هذا الحدّ1.


الإمام ختم القرآن في سنّ السابعة
تعلّم الإمام القراءة والكتابة في الكتاتيب على يد الآخوند المُلا أبي القاسم.. وكان الملّا أبو القاسم شيخاً عجوزاً يُعلـّم الأطفال القراءة والكتابة، وكان مكتبه يقع بالقرب من منـزلنا.. أنا أيضاً كنتُ قد تعلّمت في مكتبه.. كان كلّ واحد منّا نحن الأطفال يقرأ في الكتاتيب نصف جزء من القرآن كلّ يوم. وإذا ما ختم أحد التلاميذ القرآن وأنهى تلاوته، كانت العادة أن يولم وليمة يدعو إليها بقية التلاميذ وآخرين.. وكان الإمام قد ختم القرآن في سنّ السابعة تقريباً، وبدأ بدراسة الآداب العربية لدى الشيخ جعفر ابن عم والدتنا2.

كان يقرأ جزأين من القرآن في اليوم
اعتاد الإمام على قراءة القرآن أو الدعاء - مفاتيح الجنان - قبل صلاتي المغرب والعشاء، وكذلك قبل صلاة الظهر.. وفي هذا الخصوص لا زلتُ أتذكّر ما قاله سماحته مرّة: اقرأ جزأين من القرآن في اليوم...3.
 
 

1- آية الله واعظ زاده خراساني، ج3، ص189.
2- آية الله بسنديده، ج3، ص3.
3- حجة الإسلام مسيح بروجردي.
 
 
 
 
90

76

الأنس بالقرآن

 كان يقرأ القرآن باستمرار

كان الإمام يأنس بالقرآن كثيراً لا سيّما في شهر رمضان المبارك.. فلا أتذكّر أنّي دخلتُ على الإمام مرّة في هذا الشهر الشريف، خاصّة شهر رمضان الأخير من عمره المبارك، الذي كان قد صادف مع مطلع عام 1368هـ.ش (1989م)، ولم أرَ سماحته إلا منشغلاً بقراءة القرآن.. ففي كلّ مرّة كنتُ أدخل على سماحته لعملٍ ما، كنتُ أراه منهمكاً بتلاوة القرآن المجيد1.

تلاوة القرآن أحد مهامّه اليومية
على حدّ علمي، كان الإمام يقرأ آيات من القرآن كلّ يوم منذ مطلع حياته ولحدّ الآن. وكان ذلك يُعدّ أحد مهامّه اليومية. ففي ضوء النظم الدقيق الذي اتّسمت به حياته، خصّص سماحته ساعة معيّنة لتلاوة القرآن المجيد والأنس به، وخلال هذه الساعة لا يدخل عليه أحد، ولا يردّ على سؤال أحد، وكان يعيش مع القرآن تماماً ويتمعّن في الآيات القرآنية ومعانيها2.

يأنس بالقرآن كثيراً
كان الإمام يأنس بالقرآن كثيراً. فعلى سبيل المثال، كان قد اعتاد على تلاوة القرآن حوالي الساعة التاسعة والنصف صباحاً، بعد تناول الفطور ولقاء المسؤولين وانتهاء فترة المشي.. وبعد الانتهاء من التلاوة يتوجّه إلى إنجاز بعض المهام والاطلاع على الرسائل السرّية التي لم يكن يطّلع عليها أحد غير
 
 

1- حجة الإسلام رحيميان، ص5.
2- حجة الإسلام رسولي محلاتي.
 
 
 
 
91

77

الأنس بالقرآن

 سماحته فقط.. ومع اقتراب موعد أذان الظهر، يتوضّأ من جديد ويبدأ بتلاوة القرآن.. كان لدى الإمام أنس خاص مع القرآن، وحبّ فريد للدعاء1.

 


أريد العين لتلاوة القرآن
عندما كنّا في النجف، شعر الإمام بأنّ عينيه تؤلمانه. فجاء الطبيب وفحص عينيه، ونصحه قائلاً: اترك قراءة القرآن بعض الوقت واسترح قليلاً. فضحك الإمام وقال: "أيّها الدكتور! أنا أريد عيناي من أجل تلاوة القرآن، فما جدوى أن تكون عندي عينان ولا أقرأ القرآن.. عليك أن تفعل شيئاً كي أتمكّن من تلاوة القرآن"2.

اتلُ يا عزيزي
عندما هبطت المروحية التي كانت تقلّ الإمام في (جنّة الزهراء)، صنع أفراد الحماية سلسلة بشرية تقود إلى المنصّة حيث اجتازها الإمام برفقة الحاج أحمد وعدد من العلماء حتى وصلوا إلى المنصّة.. ولدى بدء المراسيم تلا أحد الفتيان اليافعين آيات من القرآن الكريم بصوت عذب رخيم.. وكلّما أراد أن يختم تلاوته كان يقول له الإمام: "اتلُ يا عزيزي"3.
 
 

1- حجة الإسلام حسن ثقفي، ص6.
2- الدكتورة فاطمة طباطبائي.
3- صحفي من جريدة كيهان، ص9.
 
 
 
 
 
92

78

الأنس بالقرآن

 يقرأ القرآن حتى ليلة إجراء العملية الجراحية

كان الإمام حريصاً على تلاوة عدّة صفحات من القرآن المجيد كلّ يوم. وكان يتلو حزباً أو أكثر على أقلّ تقدير. وإنّ سماحته لم يترك تلاوة القرآن وصلاة الليل، حتى في الأيام الأخيرة من عمره المبارك والليلة التي سبقت إجراء العملية الجراحية1.

جلس على الأرض
لقد رأى الجميع مرّة كيف أنّ الإمام عندما دخل حسينية جماران لتحيّة الجماهير التي احتشدت للقائه، وبدلاً من أن يجلس على الكرسي المخصّص له، كما هي العادة في كلّ مرّة، اختار الجلوس على الأرض بنحو غير متوقّع. وقد حدث ذلك لدى مجيء الفائزين بمسابقات تلاوة القرآن للقاء سماحته. وكان من المفترض أن تُتلى آيات من القرآن في تلك الجلسة2.

لأنّك تقرأ القرآن فأنا أُحبّك
كنتُ قد اعتدت على تلاوة القرآن في مرقد الإمام علي عليه السلام. وكنتُ أتواجد هناك باستمرار. وكان الإمام يلمحني هناك فرغب في استضافتي، حيث بعث شخصاً يبلغني برغبة الإمام هذه.. في البداية تحفّظت. إذ كنتُ أتصوّر بأنّ الإمام ينوي معاتبتي.. مرّة أخرى جاء نفس الشخص وقال: الإمام يودّ رؤيتك لعمل ما.. فقلتُ له: أقسم عليك بالله أن تقول لي ماذا يريد الإمام
 
 

1- حجة الإسلام رسولي محلاتي، ص8.
2- حجة الإسلام رحيميان، ص11.
 
 
 
 
 
 
93

79

الأنس بالقرآن

 منّي.. قال: قسماً بالله لا أعلم.. قلتُ: أخشى أنّه عاتب عليّ. قال: كلا. لقد طلب منّي أن آتي بالشخص الذي يتلو القرآن في مرقد الإمام.. قلتُ: اذهب أنت وسآتي خلفك. عندما التقيتُ الإمام سألني: ما اسمك؟ قلتُ: حاج إبراهيم الخادم النجفي.. قال: هل تودّ أن تكون معنا وتُساعدنا؟ قلتُ: أيّها السيّد، ما الذي بوسعي أن أفعله؟ قال: أيّ عمل تُجيده. وكن واثقاً بأنّك سترتاح بوجودك معنا.. أضف إلى ذلك، فأنا قد أحببتك، لأنّك رجل مؤمن. ففي كلّ مرّة جئت إلى مرقد الإمام رأيتك منشغلاً بالدعاء وتلاوة القرآن1.

 


1- إبراهيم نجفي (خادم بيت الإمام الخميني).

 

 

 

94


80

لطافة الروح

 لطافة الروح


متى تتفتّح هذه البرعمة؟
في أحد الأيام، وفيما كان الإمام عائداً للتو من الحسينية وقد تحدّث في خطابه عن الحرب والعداء لأميركا، أخذ يتمشّى في حديقة المنـزل، وحيث كنتُ برفقته قال لي: "متى تتفتّح براعم الزهور هذه؟ كم تستغرق من الوقت حتى تتفتّح زهرة؟"1.

أيّ الأشجار أجمل؟
كنتُ أتمشّى يوماً مع الإمام في باحة المنـزل، فقال لي: قل لي أيّ الأشجار أجمل؟.. حتى تلك اللحظة لم أكن قد فكّرت بمواضيع من هذا القبيل. فأجبتُ دون تأمّل: هذه الشجرة مشيراً إلى إحدى الأشجار في الحديقة.. فقال الإمام: لا تقل هكذا دون تفكير..فما هو دليلك على جمالية هذه الشجرة؟.. خذ وقتك، اذهب وفكّر في الموضوع.. فقلتُ مازحاً: لأنّ هذه الشجرة خضراء!. فقال الإمام: كلا. اذهب وتأمّل أين يكمن جمال الشجرة. انظر إلى طريقة نمو ساقها وأغصانها وجمال ظلالها.. كان الإمام يقول كلّ هذا ويلفت نظري
 
 

1- زهرا أشراقي، ج2، ص169.
 
 
 
 
95

81

لطافة الروح

 إليه. ثمّ قال: مثلاً انظر إلى تركيبة هذه الشجرة عموماً، وكيف هي أجزاؤها.. كنتُ أتمشّى مع الإمام في باحة المنزل عند الغروب، فقال سماحته: فاطي (فاطمة)! في الصباح وقبل شروق الشمس حيث كنتُ أتمشّى، لن تتصوّري كم هو جميل منظر هذه الشجرة. فعندما أطلّت الشمس بأشعّتها من الخلف على الجانب العلوي للشجرة، اكتسب هذا القسم من الشجرة منظراً ساحراً1.


الأشواك لا تؤذي يد علي
كنتُ يوماً أتمشّى مع الإمام في الحديقة فتوقّف أمام نبته زهرة الجوري وقال: إذا ما اقترب عليّ من هذه الزهور فالأشواك سوف تؤذي يده.. حاول أن تُقلـّم الأشواك كي لا تؤذي يد عليّ. ومن محاسن الصدف أن يأتي الجنائني الذي يعتني بحديقة المنـزل، ويُزيل الأشواك من غصن الورد تماماً. وما أن رأى الإمام ذلك تألّم كثيراً، وتساءل: لماذا فعل الجنائني هذا؟ أنا طلبت أن يتخلّص من الأشواك التي في أسفل النبتة فقط، لماذا ألحق ضرراً بهذه الزهرة؟2.

يا له من منظر جميل
في أحد الأيام كان الإمام واقفاً يُصلّي صلاة المغرب في شرفة المنـزل، فدقّت صفارة الإنذار فجأة.. كان الإمام في نهاية الصلاة وفي حالة التسليم. حاولت النظر إلى وجهه، فلم ألحظ ادني تغيير طرأ على وجهه.. بعدما انتهى
 
 

1- فاطمة طباطبائي، ص170.
2- م.ن.
 
 
 
 
 
96

82

لطافة الروح

 من الصلاة، رمق بنظره السماء وشاهد الرصاص المشتعل في السماء التي تُطلقه المضادّات الجوّية من كلّ مكان، وقال بصوت خافت: "انظر يا له من منظر جميل"1.


إذا كان لذيذاً سآكل
في كلّ مرّة أقدم الطعام إلى السيّد (الإمام) كان ينبغي لي أن أعتني بمظهره الخارجي. فإن لم يكن شكله جميلاً لن يتناوله وإن كان طعمه لذيذاً. ولكن إذا ما كان مظهر الطعام جميلاً كان يقول: سوف أتذوقّه فإن رأيته لذيذاً سأتناوله.. وكان ذلك مدعاة لأن نعتني بمظهر الطعام الذي كنّا نعدّه للإمام، كي يبدو منتظماً جميلاً فضلاً عن مذاقه.. كان الإمام يتّصف بخصال ملفتة، وفي كثير من الأحيان كنت أشعر بأنّه ينبغي لي تدوينها. وإذا ما فعلت ذلك أستطيع أن أُألّف كتاباً حول خصال الإمام2.

كان يعشق الجمال
كان الإمام يُمضي معظم أوقاته في حديقة المنـزل. وكان على اطلاع تامّ بتفاصيل نبتات الزهور التي تضمّها هذه الحديقة. فمثلاً كان يعدّ الأيام منذ تفتّح البرعم وحتى تساقط أوراقه ويرقب نموّه بدقّة متناهية. على سبيل المثال في اليوم الذي حدث تفجير مقرّ الحزب الجمهوري الإسلامي واستشهاد المرحوم السيّد بهشتي والإخوة الآخرين، التفت الإمام إلى بنت أختي وقال: "أتعلمين كم عمر هذه الزهرة؟". وفي كثير من الأحيان كان يقول لي مشيراً إلى إحدى الزهور: هذه الزهرة تُمثّل عليّ - حفيده -، وهذه الزهرة التي بدأت تتساقط أوراقها، هي أنا.. كان الإمام يعشق الجمال والنظافة والعبير والعطور3.

عمر هذه الزهور ثلاثة أيّام
تنقل والدتي بأنّ الإمام كان يتمشّى يوماً إلى جنب حديقة المنـزل. وكانت الحديقة تحتوي على زهور كثيرة.. حاولت أن أكون إلى جواره، فقال لي: كم تتصوّري عمر هذه الزهور؟. قلتُ: لا أدري. قال: عمرها ثلاثة أيّام.. ثم أشار
 
 

1- حجة الإسلام سيد حسن خميني، ص71.
2- فاطمة طباطبائي، ص171-172.
3- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني، ص172.
 
 
 
 
 
97

83

لطافة الروح

 إلى زهور أخرى، موضحاً لي متى تفتّحت كلّ واحدة منها وكم هو عمرها.. ثم سمّى الزهور بأسماء أحفاده. فأشار إلى زهرة كانت قد تفتّحت للتو وقال: هذه الزهرة باسم عليّ، وتلك باسم حسن، وهذه باسم ياسر1.


كم تتصوّر عمر هذا البرعم
كنتُ أتمشّى مع الإمام أحياناً، وكان سماحته يتمشّى ثلاث مرّات في اليوم. وكانت هذه الأوقات تُشكّل فرصة جيّدة لرؤية الإمام والتحدّث إليه. وفي كلّ مرّة كنتُ أرى كيف أنّ سماحته كان ينظر بعشق وتأمّل إلى ما حوله. وفي هذا الصدد أتذكّر أنّه وقف مرّة أمام أحد البراعم وأدار وجهه نحوي وقال: كم تتصوّر عمر هذا البرعم؟.. حتى تلك اللحظة لم أكن أفكّر بموضوع مثل هذا. فأجبتُ لا أدري. فقال: أنا أعرف ذلك على وجه الدقّة.. لا أتذكّر عبارته جيداً، ولكنّه قال: إنّ هذا البرعم تفتّح منذ يومين ونصف اليوم.. قلتُ: وهل كنتَ ترى هذا البرعم باستمرار كلّ يوم؟ قال: أنظر إليه كلّ يوم. ففي كلّ يوم أمرّ من هنا أرى كم تغيّر، وقد مرّ الآن يومان ونصف اليوم من عمره2.

الأشعار التي أقرؤها ينقدها
عندما كنتُ ألتقي الإمام، كنتُ أقرأ لسماحته أحياناً بعض الأبيات التي كانت تبدو لي جميلة. على سبيل المثال كنتُ قد رأيت في إحدى الصحف مقطوعة شعرية بدت لي جميلة، فأخذتها وقرأتها على سماحته، وممّا لفت
 
 

1- م.ن.
2- فاطمة طباطبائي، ص172-173.
 
 
 
 
 
98

84

لطافة الروح

 نظري هو كيف أنّه كان يُنصت بكلّ شوق ودقّة مما أسعدني كثيراً. كما أنّ سماحته كان ينتقد أحياناً الأشعار التي كنتُ أقرأها له1.


كان ذوّاقاً للغاية
حدث أحياناً أن حملت باقة من زهور الياس إلى الإمام، فأعجبته كثيراً واستقبلها بابتسامة جذّابة ومليحة. وممّا يذكر في هذا الصدد أنّ الإمام ذوّاق للغاية، إضافة إلى أنّه يُنظّم أشعاراً جيّدة. وكان لديه دفتر أشعار يضمّ قصائد جيّدة اختفى لدى مداهمة السافاك لمنـزل الإمام في قم2.

القلب حريم الكبرياء
كان المرحوم السيّد واعظ زاده الخونساري، الذي كان أحد العلماء الكبار والعرفاء والوعّاظ المبرزين، كان يأنس بصحبة الإمام كثيراً. قال لي يوماً: سيأتي السيّد برهاني ونذهب سوية لزيارة الحاج السيّد روح الله.. عندما التقى الإمام قال له سماحته - انطلاقاً من خلفية العلاقة الودّية التي كانت بينهما -: يا سيّد واعظ زاده! بفضل الصداقة التي بيننا، انتفعنا كثيراً بصحبتكم سواء من خلال البحوث العلمية أو النتاجات الأدبية. وما أن قال الإمام هذا حتى بدأ المرحوم واعظ زاده بقراءة إحدى رباعيّاته3.
 
 

1- م.ن، ص175.
2- حجة الإسلام حسن ثقفي.
3- حجة الإسلام برهاني، ص175-176.
 
 
 
 
99

85

الاعتناء بالمظهر الخارجي

 الاعتناء بالمظهر الخارجي


كان ثوبه يفوح شذى أحياناً
في تصوّري، ربما كانت من أبرز صفات الإمام اجتناب سماحته أيّ شكل من أشكال الرياء والتظاهر والمظاهر المخادعة.. وكان الإمام يرتدي ملابس نظيفة دائماً، ولا أتذكّر أنّي رأيت ثيابه يوماً متّسخة ولو بمقدار نقطة صغيرة.. كان الإمام يحرص على ارتداء جوارب جيّدة وانتعال حذاء نظيف.. وكانت عمامته مرتّبة على الدوام، حتى أنّ ثوبه كان يفوح منه أريج الورد دائماً.. باختصار كان يظهر في المجتمع بصورة إنسان طاهر1.

كان يُضرب به المثل في النظم والنظافة
كان السيّد (الإمام) نظيفاً للغاية، حتى أنّه كان من خصوصيّاته البارزة نظافته الفائقة.. منذ سنوات شبابه -أتذكّر جيّداً - كان يُضرب به المثل بين أصدقائه في النظم والنظافة.. ففي تلك الفترة كنّا نحن أطفالاً، وكانت الأزقة ترابية مغطّاة بالوحل، حتى أنّ عباءات الطلبة كانت ملطّخة دائماً بالوحل. ولكن الإمام كان يمشي في الزقاق بتأنٍّ وحذر لئلّا تتّسخ عباءته
 
 

1- آية الله جعفر سبحاني ج2، ص153.
 
 
 
 
101

86

الاعتناء بالمظهر الخارجي

 قدر الإمكان. وعندما كان يدخل المنـزل، كان يأتي بالعباءة ويضعها أمام المدفئة حتى إذا ما جفّت نقوم نحن بتنظيفها من الوحل ونمسحها بقطعة من القماش1.


كان يمسح حذاءه دائماً
عندما كنّا في النجف، كان الإمام يحرص دائماً على مسح حذائه كلّما أراد الذهاب إلى حرم أمير المؤمنين عليه السلام. وكانت هناك مرآة معلّقة على الحائط في باحة المنـزل، كان سماحته يقف أمام المرآة ويمشط لحيته. وكان يتعطّر ويخرج من المنـزل.. كان الإمام مقيّداً حتى بالمستحبّات، وكان يُلفت أنظارنا إليها دائماً.. حتى إنّنا كنّا نأتي مرّتين في اليوم إلى منـزل السيّد (الإمام). وكنّا دائماً نحذر من اختيار الطريق العام لئلّا يرانا ويعترض علينا، لماذا هذا مظهركم؟ ولماذا ثيابكم غير مرتّبة؟ كنّا نحرص دائماً على التحلّي بالنظم حتى إذا ما رآنا نكون في مظهر مناسب2.

كان لديه ثياب خاصّة للقاء الضيوف
عندما كان الإمام يعود من لقاء الجماهير في الحسينية، كان يخلع جبته وثوبه ويضعهما
 
 

1- فريدة مصطفوي، ص154.
2- زهرا أشراقي، ص156.
 
 
 
 
 
102

87

الاعتناء بالمظهر الخارجي

 جانباً.. كان يفعل ذلك حتى وإن تطلّب الأمر الذهاب إلى الحسينية ثلاث أو أربع مرّات، لأنّه لم يكن يجلس في غرفته بالجبّة والثياب التي كان يخرج بها إلى الجماهير. بل يخلع الجبّة والثوب ويطويهما ويضعهما جانباً ويغطّيهما بقطعة قماش أبيض ويجلس. وفي كلّ مرّة يطلب من سماحته الإطلال على الجماهير المحتشدة في الحسينية، ينهض وينـزع ملابسه ويرتدي الثياب الخاصّة باللقاء ويخرج للجماهير، حتى وإن تكرّر ذلك عدّة مرّات في اليوم1.


لم أرَ شخصاً بهذه الدرجة من النظم
كان الإمام يحرص على أن يكون مظهره مرتّباً دائماً، سواء من حيث الملبس أو المظهر الخارجي. وفي هذا الجانب ينبغي للمرء حقّاً أن يأخذ درساً من الإمام.. كان شديد الاهتمام بهذا الجانب. كما أنّه كان نظيفاً بدرجة لم أرَ شخصاً بنظافته. فلم أرَ بقعة متّسخة في ملابسه البيضاء مطلقاً2.

قلّما من هو بنظافة الإمام
كان الإمام يستحمّ كثيراً، وكان يستبدل ثيابه باستمرار. وربما كانت لديه جبّة واحدة وثياب معدودة يرتديهما على الدوام، حتى أنّها كانت تُثير اعتراض الجميع: يا رجل إلى متى تبقى ترتدي هذه الجبّة؟ بيْدَ أنّ نفس هذه الجبّة كانت نظيفة بدرجة ربما قلّما تجد شخصاً بنظافة الإمام في قم3.
 
 

1- زهرا مصطفوي.
2- زهرا أشراقي، ص156.
3- فريدة مصطفوي.
 
 
 
 
103

88

الاعتناء بالمظهر الخارجي

 كان ينتخب أفضل العطور

كان الإمام نموذجاً متكاملاً في بساطة العيش والقناعة والاستفادة القصوى من الإمكانات المعيشية المتوافرة. غير أنّه في ذات الوقت كانت الأجواء المحيطة به ومكتبه ومكان نومه وعباءته، تفوح بأريج العطور الفوّاحة دائماً. وكان حسّاساً للغاية بالنسبة للنظافة والطهارة واستخدام أفضل العطور.. حتى أنّه عندما كان الأصدقاء والمعارف يهدون إلى سماحته أنواع العطور المحلّية والأجنبية، كان يتقبّلها بكلّ شوق ورغبة1.

بودّي أن آكل كلّ لقمة بملعقة
على الرغم منّ أن وجبة الطعام التي كان يتناولها الإمام قليلة، ولكن - ربما لا يصدق - كان لديه ثلاث أو أربع ملاعق لتناول الطعام، وقد قال مراراً: بودّي لو أتناول كلّ لقمة بملعقة، لأنّ الملعقة التي تدخل الفم لا أرغب في إعادتها ثانية إليه.. وفضلاً عن ذلك فإنّ ثمّة مقدّمات كان يعتني بها الإمام قبل تناوله الطعام. منها كان يضع منشفة في حضنه أولاً ومن ثم يُغطّيها بقطعة من النايلون، من أجل أن لا يقع شيء من الطعام على ثيابه.. لقد كان دقيقاً في مراعاة النظم والنظافة إلى حدٍّ كبير. وكنّا نقول لسماحته: إنّ الطعام الذي تتناوله ليس بالشيء الذي يذكر، غير أنّ مقدّماته كثيرة جدّاً2.

أومأ للممرض باستبدال قميصه
كنتُ قد زرتُ الإمام في المستشفى في الأيام الأخيرة من حياته المباركة. وكانت بقعتان صفراوان على قميصه تنبّه إليهما الإمام فجأة فأومئ بيده للممرِّض مشيراً للبقع على قميصه وطلب منه استبداله على الفور3.

لم يُهمل الرياضة والترفيه مطلقاً
ربما تُعتبر هذه الخصيصة، من جملة الخصائص التي امتاز بها الإمام الخميني، استثنائية أيضاً. وهي أنّه كان يحرص، منذ مطلع شبابه، أي منذ حوالي ثمانين عاماً مضت تقريباً، كان يحرص على سلامته تماماً.. فما هو معروف عن علماء الدين أنّهم لا يعتنون كثيراً بالرياضة ووسائل الترفيه. بيْدَ أنّ الإمام الخميني، أو السيّد روح الله الخميني، لم يكن يُهمل الرياضة
 

1- حجة الإسلام رحيميان، ص161.
2- زهرا مصطفوي، ص163.
3- فريدة مصطفوي.
 
 
 
 
105

89

الاعتناء بالمظهر الخارجي

 والترفيه منذ أن كان في خمين ولم يبلغ سنّ العشرين بعد، وفي قم حتى سنّ الخامسة والعشرين تقريباً. وذلك حرصاً على تقوية الجسم والروح. ولم يقتصر ذلك على الصعيد الشخصي وإنّما لم يكن يتحفّظ من دعوة الآخرين للاهتمام بذلك1.

 


1- حجة الإسلام علي دواني، ص167.

 

 

 

106


90

اجتناب المظاهر والتعارفات

 اجتناب المظاهر والتعارفات


تفضّل اذهب
كان الإمام يتجنّب منذ البداية أيّ عمل تشوبه شائبة طلب الشهرة والمنصب والمقام.. على سبيل المثال، لم يكن يسمح بأن يسير أحد خلفه.. فإذا ما كان لدى أحد الطلبة إشكالاً وحاول أن يلحق بالإمام ليستفسر منه، كان سماحته يتوقّف عن المسير ويُجيب على إشكال الطالب، ومن ثم كان يقول له: "تفضّل اذهب"1.

لم يكن يسير مع حاشية
كان الإمام يمضي وحيداً دائماً في تنقّلاته وزياراته ولقاءاته. فلا يرضى أن تسير حاشية من خلفه. وكان يستاء من السير في موكب من المرافقين والعساكر والحاشية.. وفي هذا الصدد ينقل الشيخ حسن صانعي، أنّ الإمام كان ينوي يوماً التوجّه لزيارة أحد العلماء ولكنّه لم يكن يعرف عنوانه. فسأل منّي عن العنوان، وقد أصرّيت على مرافقته لأرشده إلى العنوان، إلا أنّه رفض2.
 
 

1- حجة الإسلام موسوي تبريزي، ص131.
2- حجة الإسلام روحاني، ص122.
 
 
 
 
107

91

اجتناب المظاهر والتعارفات

 اعتاد على السير عبر الأزقّة

اعتاد الطلبة على السير وراء الإمام بعد انتهاء حلقة الدرس..وحتى لا يُقال كم لديه من مريدين، كان الإمام يُفضّل المسير عبر الأزقّة بدلاً من الشارع العامّ.. وكنّا نخرج من المسجد متوجّهين إلى الحرم، فكان الإمام يختار السير عبر الأزقّة، وحينها كنّا نتصوّر بأنّه ذاهب إلى المنزل، إلا أنّنا كنّا نفاجئ بسماحته أمام الحرم، وقد تبيّن لنا بأنّه كان يُفضّل المسير عبر الأزقّة كي لا يتبعه الطلبة1.

هل لديك سؤال؟
حدث مراراً أن كنّا نسير خلف الإمام وهو في طريقه إلى المنـزل، فكان يتوقّف عن السير ويسأل: "هل لديكم سؤال؟". أي إنْ لم يكن لديكم سؤال فلا تتبعوني. بتعبير آخر، لم يكن يرتاح بأن يسير من خلفه عدد من المعمّمين2.

السادة يتفضّلون يذهبون
من خصائص الإمام أنّه لم يكن يرغب أن يظهر في الساحات العامّة وتسير من خلفه الحاشية مطلقاً.. حتى أنّه كان من الممكن أن يُجيب عن إشكالات الطلبة في منزله.. وعندما كان يخرج من حلقة الدرس، كان يختار مسيراً خالياً وفي معظم الأحيان يختار الأزقّة التي كانت تُفضي إلى المنـزل.. فكثيراً ما كان يشاهد بعد انتهاء حلقة الدرس، أنّ عدّة ممّن يودّون مرافقة
 
 

1- حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني، ص126.
2- حجة الإسلام محمد علي فيض، ص124.
 
 
 
 
 
108

92

اجتناب المظاهر والتعارفات

 الإمام، كانوا يسيرون خلف سماحته، ولكنّه عندما كان ينتبه إلى وجودهم كان يقف ويطلب منهم العودة1.


بساطة الإمام كانت جذّابة للجميع
فيما مضى من السنين، ذهب الإمام مرّة إلى مشهد بالحافلة. ومن محاسن الصدف أنّي كنتُ ذاهباً إلى مشهد في نفس الحافلة.. طبعاً يومها كنتُ أحد الطلبة الشباب، إلا أنّي كنتُ أعرف الإمام. كان سماحته بسيطاً للغاية.. على سبيل المثال، عندما وصلنا إلى سمنان توقّفتْ الحافلة ونزل الركّاب. فرأيتُ الإمام تناول غداءه ثمّ توضّأ وافترش عباءته وجلس ليستريح حتى يجهز الركّاب.. تصوّر أنّ أستاذاً مرموقاً ومجتهداً بارزاً في الحوزة العلمية، يتصرّف كالمسافرين الآخرين الذين كانوا من مختلف الفئات.. كان واضحاً أنّ نشاطه إنّما هو من أجل الله.. بعد ذلك توقّفتْ الحافلة في (خواجه ربيع)، فرأيتُ الإمام توجّه لزيارة مرقد خواجه ربيع.. إنّ بساطة معيشة الإمام كانت محطّ إعجابنا جميعاً.. ربما كان يتصوّر الجميع بأنّه إذا ما أراد السيّد (الإمام) الذهاب إلى مشهد، ينبغي أن تُرافقه الحاشية في حلـّه وترحاله، إلا أنّنا رأينا أنّ الأمر كان عكس ذلك تماماً2.

غير راض عن الصلوات من أجلي
في بعض السنوات كان الإمام يذهب إلى مدينة (محلّات) في فصل
 
 

1- حجة الإسلام عبد العلي قرهي، ص123.
2- حجة االسلام أحمد صابري همداني، ص141.
 
 
 
 
 
 
109

93

اجتناب المظاهر والتعارفات

 الصيف.. وفي صيف عام 1325هـ.ش (1946م) قرّر المجيء إلى محلّات. وفي هذه الأثناء طلب علماء الدين في المدينة، ممن كانوا على صلة وثيقة بالإمام، أن يضعوا أحد المساجد تحت تصرّفه كي يتسنّى للمؤمنين الاستفادة من وجوده. فرفض سماحته قائلاً: اتركوني لحالي واهتمّوا بشؤونكم. وما أن مضتْ أيّام معدودة من شهر رمضان، حتى قيل له: الآن حيث رفضت إقامة (الجماعة)، لتكن لسماحتك - على الأقل - جلسة يستفيد المؤمنون من وجودكم.. وبعد نقاش طويل وافق الإمام على إقامة مثل هذه الجلسة.. وكانت تُقام في الساعة الخامسة عصراً من أيام شهر رمضان في أحد المساجد وسط المدينة.. كان الإمام يجلس على الأرض متكئاً إلى أحد أعمدة المسجد، وكان الطلبة يلتفّون من حوله.. وفي هذه الجلسات رأيتُ أمرين ملفتين لا أنساهم. أحدهما، أنّه في اليوم الأول جاء عدد من العلماء والأفاضل وحضروا الجلسة.. فقال لهم الإمام بعد انتهاء الجلسة: إذا ما أردتم الحضور بهذه الصورة فسوف أمتنع عن إقامة الجلسة. فلا بدّ من مراعاة مقامكم وصيانة منـزلتكم الاجتماعية. الأمر الآخر هو أنّ عرفاً كان متّبعاً لدى طلبة العلوم الدينية يقضي بأن يُطلقوا الصلوات على محمّد وآل محمّد إذا ما حضر أحد العلماء إكراماً لقدومه. وعندما كان الإمام يدخل المسجد كان أحدهم يُبادر إلى ذكر الصلوات. بعد انتهاء الجلسة الأولى استدعى الإمام هذا الشخص وقال له: "هل تقصد بهذه الصلوات قدومي، أم أنّها من أجل الرسول الأعظم؟ فإنْ كنتَ تذكر الصلوات من أجل الرسول الكريم فحاول أن تذكرها في وقت آخر. وإنْ كانت من أجلي لدخولي المسجد، فأنا غير راض".. وأنا أتصوّر أنّ الإمام أراد أن يقول بأسلوب بليغ: (أيّها الإخوة المسلمون الأعزّاء! أنتم الذين وجدتم لأنفسكم بدلة الصوف وترتدون البنطلون والجاكيت وتفخرون بحالكم وتغترون، هل

 
 
 
 
110

94

اجتناب المظاهر والتعارفات

 سألتم أنفسكم أنّ قماش الصوف هذا من أين جاء؟ أليس هذا الصوف هو نفسه الذي كان يكسي ظهر الخروف؟ إلا أنّه لم يتفاخر به. وإنّ نفس هذا الصوف قد تمّ غزله وصبغه وأصبح جاكيت وبنطلون، وغيّر حالكم فجأة!. فأيّ تعاسة هذه بأن نُمنّي أنفسنا بمثل هذه الأشياء الواهية1.


لم يضف إلى أمواله شيئاً
كنّا قد شهدنا طوال حياة الإمام، بأنّ سماحته لم يُضف شيئاً إلى أمواله. فكلّ ما كان لديه تركة متواضعة ورثها عن أبيه عبارة عن أرض مزروعة، وكان سماحته يُدير شؤون حياته من عائد هذه الأرض.. إنّ زهد الطلبة من وجهة نظر الإمام، لم يكن يعني ارتداء الطلبة ثياباً رثة بالية، أو أن تكون مظاهر الكد والمشقة ظاهرة على ثيابهم.. كان الإمام يؤمن بضرورة أن يعمل الطلبة على تطهير قلوبهم، وفي الوقت نفسه لا بدّ لهم من الاعتناء بمظهرهم المناسب، وكان يقول: لا بدّ من إحياء القلب وإعماره بالمعنويات والتوجّه إلى الله2.

لا يحقّ لأحد الخروج معي من المدرسة
في عام 1348هـ.ش (1969م)، حصل عشرة آلاف زائر إيراني على تأشيرة السفر إلى العراق أثناء العودة من رحلة الحج.. وإثر ذلك كانت تحتشد جموع غفيرة من الزوّار الإيرانيين للمشاركة في صلاة الجماعة التي كان يُقيمها الإمام في مدرسة البروجردي في النجف. وبعد انتهاء
 

1- حجة الإسلام سروش محلاتي، ص141-142.
2- آية الله الشيخ جعفر سبحاني، مرآة الجمال، ص108.
 
 
 
 
111

95

اجتناب المظاهر والتعارفات

 الصلاة كان المصلّون يحاولون الخروج برفقة الإمام وتوديعه بالتهليل والصلوات. بيْدَ أنّ الإمام، وفي كلّ مرّة كان يريد الخروج من المدرسة، كان يوصي بأن يُبلّغوا الحاضرين بأنّه لا يحقّ لأحد الخروج معي من المدرسة. لذا كان الزوّار يمكثون في المدرسة حتى إذا ما ابتعد الإمام يبدؤون يخرجون بالتدريج.. كان سماحته يُحذّر الزوّار الإيرانيين من السير خلفه، في وقت كان يواجه في العراق الوحدة وغياب النصير بشدّة1.


منـزل الإمام لم يكن يختلف عن منـزل أفقر النجفيين
في منعطف أحد أزقّة النجف الضيّقة حيث تكون البيوت متداخلة مع بعضها إلى حدٍّ كبير بما تُشكّل مظلّة أمام انعكاس أشعة الشمس الحارقة، كان يقع المنـزل المتواضع لآية الله الخميني.. كان هذا المنزل أشبه بمنـزل أفقر أبناء النجف. في غرف المنـزل الثلاث، كان يتواجد اثنى عشر شخصاً من المقرّبين لسماحته. وفي هذا المنـزل المتواضع لم يُشاهد أيّ مظهر من مظاهر زعماء المعارضة الذين كانوا يعيشون في المنفى.. وقد التقينا آية الله في غرفة لا تتعدّى أبعادها (2×3) متراً، وفي منـزل كان يقع في أقصى ضواحي النجف.. مدينة تُعتبر من الناحية الجغرافية إحدى أسوأ المناطق الصحراوية في العراق2.
 
 
 

1- حجة الإسلام السيّد حميد روحاني، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني، ج2، ص129.
2- صحفي من جريدة لوموند، ص52.
 
 
 
 
112

96

اجتناب المظاهر والتعارفات

 أنا لا أُريد سيّارة

أهدى أحد الإيرانيين المحبّين لسماحة الإمام، ممّن يُقيمون في ألمانيا، سيّارة للإمام كي يستخدمها في تنقّلاته وأثناء زيارته لحرم الإمام أمير المؤمنينعليه السلام، وذهابه إلى كربلاء لزيارة ضريح سيّد الشهداء الإمام الحسينعليه السلام. فرفضها الإمام قائلاً: أنا لست بحاجة إلى سيّارة، سأبيعها وأُنفق ثمنها على احتياجات طلبة العلوم الدينية. غير أنّ هذا الشخص حاول إقناع الإمام بأنّه اشترى السيّارة خصّيصاً لسماحته، ولكن الإمام لم يقتنع وبقي يصرّ على رأيه حتى استجاب الشخص لرغبة الإمام1.

لا يعبأ السادة بالتعارفات
في عهد الطاغوت، وفي إحدى مراحل النضال، تمّ نفي حوالي عشرين عالماً من علماء الدين وإبعادهم عن أماكن سكناهم لمدّة ثلاث سنوات، وكنتُ أنا أحد هؤلاء.. بعد انتهاء مدّة النفي، عاد ثلاثة منهم إلى مدينة قم، وقد تحسّنت بعد فترة أوضاعهم واستبدلوا منازلهم.. عندما علم الإمام بذلك، بعث برسالة من النجف موضحاً: على السادة أن لا يعبؤوا بالتعارفات، وأن لا يشوّهوا صورة السلف الصالح في أنظار الناس من خلال تصرّفاتهم.. فنحن نقول دائماً بأنّ الشيخ الأنصاري عندما رحل عن هذه الدنيا لم يكن لديه سوى سبعة تومانات، فلا تنشغلوا بالدنيا كي لا يُسيء الناس الظنّ بالسلف الصالح2.
 
 

1- حجة الإسلام فرقاني، مرآة الجمال، ص148.
2- حجة الإسلام محمد صادق كرباسجي تهراني، ص163.
 
 
 
 
113

97

اجتناب المظاهر والتعارفات

 جلس على الأرض بكلّ تواضع

آية الله الخميني، رجل يخرج بإشارة صغيرة منه وفي ظرف دقائق معدودة، الملايين من الإيرانيين من بيوتهم وينزلون إلى الشوارع.. ومع كل هذه الشأنية، إذا ما تسنّى لك الحضور إلى مكتبه والوصول إلى محلّ إقامته، تراه جالساً على الأرض بكلّ بساطة وتواضع وقد وضعت أمامه طاولة صغيرة.. هذا كلّ ما في مكتب آية الله الخميني1.

الزهد الحقيقي
رأيتُ الزهد الحقيقي بعيني في حياة الإمام وسيرته.. ففي اليوم الذي غادر النجف متوجّهاً إلى الكويت نادى سماحته على نجله أحمد قائلاً: أحمد! أعطني ملابسي.. وعندما فُتحت حقيبة الإمام لم يُر فيها غير عباءة وجبّة، وثوب وسروال ومنشفة لا غير. وحينها تنبّهت إلى أنّ هذا المرجع الديني الكبير والزعيم السياسي الفذ، ورغم المبالغ الضخمة التي كانت تصله ويوزّعها على طلبة العلوم الدينية في إيران والعراق، ليس لديه من متاع الدنيا غير هذه الأشياء البسيطة.. ولا يخفى أنّ هذا يُعطي درساً كبيراً لأرباب العلم والأخلاق وكبار المسؤولين، لافتاً الأنظار إلى أنّ سماحته انطلق من هذه الخصال في محاربة الكفر والاستكبار العالمي، واستطاع أن يُحقّق الانتصار تلو الانتصار2.
 
 

1- البروفسور حامد الكار، ص49.
2- حجة الإسلام فردوسي بور، ص143-144.
 
 
 
 
 
114

98

اجتناب المظاهر والتعارفات

 هل كوروش يريد دخول إيران؟

اتصل الشهيد المظلوم السيّد بهشتي موضحاً بأنّه قد تمّ إعداد المقدّمات اللازمة لاستقبال الإمام لدى عودته إلى طهران، منها:
1- تنظيم استقبال عظيم وحاشد. وسيتمّ فرش مطار مهرآباد بالسّجاد.
2- وضع مظاهر الابتهاج والزينة في مختلف أنحاء العاصمة.
3- إعداد مروحية لنقل الإمام إلى (جنّة الزهراء)، لأنّه ليس بوسع السيّارة اختراق صفوف الجماهير المحتشدة ممّا يُشكّل خطورة على حياة الإمام.

عندما أخبرنا الإمام بذلك، قال: اذهب واتصل بإيران وقل للسادة: هل كوروش يريد دخول إيران؟ إنّ طالباً من طلبة العلوم الدينية كان قد خرج من إيران وها هو الآن يُريد العودة إليها.. أنا لن أذهب إلى (جنّة الزهراء) بالمروحية. وقد تمّ اطلاع السادة في إيران على ذلك. غير أنّ الشهيد بهشتي كان قلقاً من أنّ شدّة الزحمة من الممكن أن تُلحق أذى بالإمام - لا سمح الله -.. فأخبرنا الإمام بذلك، فقال: "ينبغي لي السير كبقية الناس حتى وإن أدّى ذلك إلى سحقي تحت الأقدام.."1.

كان يُنظّف غرفته بنفسه
منذ أن وصل الإمام إلى باريس، كان يتولّى تنظيف غرفته بنفسه، ومهما حاول البعض إقناع سماحته بالسماح للآخرين بذلك إلا أنّه رفض. ومثلما اعتاد عليه، اتسمت إقامة سماحته في نوفل لوشاتو بالبساطة والتواضع..
 
 

1- حجة الإسلام فردوسي بور، ص144.
 
 
 
 
 
115

99

اجتناب المظاهر والتعارفات

 وفيما كان مراسلو أكثر الصحف العالمية انتشاراً يتنافسون على إجراء مقابلة مع سماحته، وكانت صوره تتصدّر الصفحات الأولى من الصحافة العالمية، بقي سماحته حريصاً على أسلوب حياته بعيداً عن المظاهر والتعارفات1.


سحرتنا بساطة الإمام
إنّ بساطة حياة الإمام استحوذت على اهتمامنا أكثر من أيّ أمر آخر. فالإمام كان يُقيم في منزل متواضع في باريس مكوّن من غرفتين خُصّصت إحداهما لنومه، والأخرى لعمله ولقاءاته. فلم يكن هناك سجّاد أو أثاث ثمين. كما أنّ طعام سماحته كان بسيطاً للغاية، إذ إنّه لم يكن يزيد على الرز واللبن. كذلك الخيمة التي كان يُصلّي فيها، كانت خيمة بسيطة للغاية2.

الموبيليا الوحيدة في المنـزل هي طاولة صغيرة
عندما كان ينتهي عمل الإمام في المدرسة الفيضية، ولم يكن لديه برنامج لاستقبال الضيوف، كان يذهب إلى منـزله - الذي يعود إلى أحد أقاربه - الواقع في زقاق (يخجال قاضي) والذي يحمل رقم 61، وهو منـزل قديم مكوّن من دور واحد تمّ بناؤه ربما قبل مائة سنة مضت.. يقع المنزل في زقاق ضيّق في مركز مدينة قم، ويضمّ باحة وحوض، وقد تسلّقت جدرانه سيقان
 

1- الصحفي المبعوث من قبل جريدة اطلاعات إلى نوفل لوشاتو، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني، ج2، ص144.
2- البروفسور مونتي(فرنسي)، مرآة الجمال، ص187.
 
 
 
 
116

100

اجتناب المظاهر والتعارفات

 أشجار الكروم بشكّل معقّد.. قطعة الموبيليا الوحيدة الملفتة في منـزل الإمام هي طاولة خشبية يستعين بها منذ سنوات1.


هل يأتي سماحته بهذه البساطة؟
إبّان انتصار الثورة، جاءت صحفية بريطانية إلى قم، ولأنّي أعرفها منذ أن كنتُ في لندن، لذا طلبتْ منّي أن أُرتّب لها مقابلة مع الإمام. وبناءً على ذلك تحدّثتُ مع المرحوم السيّد إشراقي هاتفياً موضحاً بأنّ لدى هذه السيّدة البريطانية أسئلة كثيرة تتمنّى لو تحصل على إجابات عنها من قِبَل الإمام.. فاعتذر. وفي إحدى الليالي جاء الإمام إلى منزلنا، ومن محاسن الصدف أنّ الصحافية كانت هناك. وبذلك حصلت على ما كانت تتمنّاه. وبعد ذلك أعربت عن دهشتها قائلة: يا للعجب! كيف يتسنّى للإمام أن يأتي إلى هنا بهذه البساطة.. فأجبُتها: أجل، إنّ الإمام يأتي إلى منازل الطلبة بكلّ سهولة.. قالتْ: الرجل الذي فجّر هذه الثورة وكان وراء كلّ هذه الأحداث، يأتي إلى هذا المكان بكلّ تواضع وبعيداً عن التعارفات؟.. ولأنّه سبق لها أن شاهدت عن كثب كيف تُحاط المراسيم الملكية بالتعارفات، لذا أحبّت الإمام حبّاً جمّاً2.

نذهب بالسيّارة ذاتها
عندما كان الإمام يُقيم في قم، كان يقوم في الكثير من الأحيان بتفقّد منازل الشهداء وأفاضل الحوزة العلمية. وفي إحدى الليالي أراد أن يذهب إلى
 
 

1- نقلاً عن مجلة تايم الأمريكية، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني، ج2، ص50.
2- حجة الإسلام أحمد صابري همداني، ص140.
 
 
 
 
117

101

اجتناب المظاهر والتعارفات

 منزل أحد العلماء، وكان المنـزل يقع في أحد الأزقّة التي لا تستطيع أن تدخلها السيّارة الاعتيادية. لذا حاولنا التعرّف على أوضاع الزقاق مسبقاً واقتنعنا بأنّ سيّارة (جيان) الصغيرة وحدها التي بوسعها دخول الزقاق. فأحضرنا السيّارة وانطلقنا مع الإمام.. وأثناء العودة قرّرنا أن نستخدم سيّارة (جيان) حتى نهاية الزقاق ومن ثم نقل الإمام إلى سيّارة مريحة. فأحضر أحد الأصدقاء سيّارة (بيكان) وأوقفها في الشارع العام نهاية الزقاق. وقُلنا للإمام تفضّل اركب سيّارة أخرى مريحة في هذا الطقس الحار. فقال الإمام: لماذا؟ فهذه السيّارة تسير ولا توجد أيّة مشكلة لذا يُستحسن أن نعود بنفس السيّارة1.


بمستوى معيشة فقراء المجتمع
إنّ مستوى معيشة الإمام، من حيث الإسكان والطعام والوسائل الشخصية والشؤون الأخرى، كان حتى دون مستوى معيشة أبناء الطبقة الثالثة من المجتمع. وعلى الرغم من المكانة التي كان يتمتّع بها كزعيم للمعارضة وشخصية سياسية عالمية، إلا أنّه لم يكن مستعدّاً لاتّخاذ أيّ خطوة على مستوى تحسين أوضاعه المعيشية الشخصية. وفي كثير من الأوقات كان ينتابنا قلق إزاء تأمين مستلزمات معيشته، خشية اعتراض سماحته على الأسعار المرتفعة للسلع التي نقوم بشرائها له، ويلومنا على ذلك. فكثيراً ما حدث أن استجوبنا إزاء بعض الأمور منها محاولة طلاء المنزل، وارتفاع استهلاك الماء والكهرباء، والاستخدام غير المناسب لوسائل المنـزل2.
 
 

1- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، مرآة الجمال، ص55-56.
2- م.ن، ص56.
 
 
 
 
 
118

102

اجتناب المظاهر والتعارفات

 لا تهتمّوا بمظاهر الزينة

رغم أنّ حسينية جماران ليست لها أيّة علاقة شخصيّة بالإمام، وإنّ أيّ تحديث لها يصبّ في النهاية باسم الإمام الحسين عليه السلام، إلا أنّ الإمام لم يكن يسمح بإجراء أيّ ترميم أو مظاهر الزينة من أجل إضفاء جمالية عليها. حتى أنّ السيّد إمام جماراني، أراد إجراء بعض الترميمات وتجديد طلائها، فقال له الإمام: إذا أردت أن أبقى هنا، فلا تحاول تزيينها. وفي أحد الأيام تنبّه الإمام إلى أنّهم يريدون أن يكسوها بالموزائيك، غضب وقال: سأترك هذا المكان. وهكذا بقيت الحسينية على ما هي عليها حتى النهاية1.

هذه البيوت كانت مستأجرة
لم تكن مساحة مكتب الإمام تتجاوز أربعة أمتار مربّعة. ففي هذا المكتب كانت تتمّ جميع اللقاءات المحلّية والخارجية، وكان رؤساء الجمهورية وكبار المسؤولين يأتون إلى هنا للقاء سماحته. وبذلك كان قد برهن عمليّاً على تواضعه وبساطة معيشته. وكما هو واضح أنّ هذه البيوت كان قد تمّ استئجارها طوال الفترة التي كان يُقيم فيها الإمام، وكان سماحته يُسدّد بدل الإيجار أوّلاً بأوّل2.

ثوبان وسروالان
لم يكن لدى الإمام الخميني أكثر من ثوبين وسروالين. وكانت السيّدة -
 
 

1- آية الله توسّلي، ص71.
2- حجة الإسلام الحاج السيّد أحمد الخميني، ص91.
 
 
 
 
119

103

اجتناب المظاهر والتعارفات

 قرينته - تقول: ليس لديه غير هذين الثوبين. ولكنّه كان نظيفاً ومرتّباً على الدوام. وكان يستبدلهما بين يوم وآخر1.


ثياب بسيطة ولكنّها نظيفة ومرتبة
كانت ممتلكات الإمام في الدنيا عبارة عن نظارة وجهاز راديو صغير، وحقيبة ملابس .. في الحقيقة كانت حياة الإمام تُدار في غاية التقشّف والقناعة، في ذات الوقت الذي كان النظم والانضباط حاكماً عليها بمختلف جوانبها، وكانت مراعاة الشؤون الصحية والنظافة تُعدّ من الجوانب الرئيسة. ففي الوقت الذي كانت الملابس تتّسم بالبساطة، إلّا أنّها كانت نظيفة ومرتبة.. كان الإمام في جميع أعماله نموذجاً، وكان ثمّة انسجام متكامل بين أقواله وأفعاله2.

ليتني تمكّنت من لقاء الإمام
جاء البروفسور الألماني مل - أخصّائي العظام - إلى إيران بعد رحيل الإمام الخميني قدس سره. وكنتُ قد ذهبتُ إلى عيادته بسبب ما كنتُ أعاني من آلام المفاصل.. وبعد الفحوصات التي أجراها، ولمّا علم بقربي من الإمام، أحبّ أن نجلس ونتحدّث قليلاً. كان محور حديثه يدور حول الإمام الخميني، وكان البروفسور الألماني مبهوراً إزاء تواضع منـزل الإمام ومقرّ إقامته. كان يسأل: هل إنّ المسؤولين الآخرين يعيشون بهذه البساطة أيضاً؟ وقد أجبت:
 
 

1- الدكتور رضا ثقفي، ص76.
2- الدكتور سهراب بور، ص113.
 
 
 
 
120

104

اجتناب المظاهر والتعارفات

 طبعاً ليست بهذه البساطة، لأنّ الإمام الخميني استثناء. وبالمقابل أخذ يُثني على الإمام، وكان يقول: يا له من إنسان عجيب. لقد هزّ الدنيا وزلزلها ببساطة عيشه هذه.. وكان يُعرب عن حزنه وأسفه موضحاً: ليتني تمكّنت من لقاء الإمام في حياته1.


اتركوا المكان على بساطته
أتذكّر أنّ اثنين من القساوسة الفرنسيين جاءا إلى جماران في مراسيم أربعينية وفاة الإمام الخميني، وقد دهشوا كثيراً وذهلوا عندما رأوا حسينية جماران المتواضعة، المكان الذي كان الإمام يستقبل فيه ضيوفه ويلتقي محبّيه، وقد طلب القسّيسان الفرنسيّان منّي قائلين: اتركوا هذا المكان على بساطته، ليرى العالم المكان الذي كان يعيش فيه الرجل الروحاني، رغم كلّ ما كان يتمتّع به من مقام ومنـزلة، وكيف هو مكان استقباله لضيوفه2.
 
 

1- محمد تقي كروبي، ص164.
2- آية الله توسّلي، ص71.
 
 
 
 
 
121

105

الإخلاص والتقوى

 الإخلاص والتقوى


لا يُذكر اسمي
ألّف الإمام كتاباً عنوانه (كشف الأسرار). جاء الكتاب ردّاً على كتاب ألّفه أحد أبناء العلماء - للأسف - اسمه (أسرار الألف عام)، سخر فيه مؤلّفه من عقائد الشيعة، وتهجّم على علماء الدين ومبدأ الإمامة، إلى غير ذلك.. وبدافع الذود عن حريم الإسلام، عطّل الإمام دروسه وأبحاثه وأوقف نشاطه الحوزوي - لفترة محدودة - وتفرّغ للردّ على هذا الكتاب.. ويتسنّى له التفرّغ لتأليف كتابه (كشف الأسرار).. وكي لا يتبادر إلى الأذهان أنّ الإمام يهدف من وراء ذلك لفت الأنظار إليه، فقد صدرت الطبعة الأولى والثانية من الكتاب دون ذكر مؤلّفه الإمام العظيم، وقد تمّ الاكتفاء بالإشارة إلى أنّه يأتي للردّ على كتاب (أسرار هزار ساله).. ولا شكّ أنّ إصرار الإمام على عدم وضع اسمه على الكتاب، يشير إلى نواياه الصادقة من وراء نشر هذا الكتاب1.

عطّل حلقة درسه
في أحد الأيام وأثناء مسيره إلى المدرسة الفيضية، تنبّه الإمام إلى تجمّع
 
 

1- آية الله فاضل لنكراني، ج3، ص208.
 
 
 
 
 
123

106

الإخلاص والتقوى

 بعض الطلبة والضجّة المثارة حول كتاب (أسرار الألف عام). وبعد اقتناء الكتاب والاطلاع على موضوعاته، عطّل الإمام دروسه الحوزوية وتفرّغ على مدى شهرين تقريباً لتأليف كتاب (كشف الأسرار) يردّ فيه على الكتاب آنف الذكر. وللبرهنة على أنّه جهد خالص لوجه الله رفض سماحته أن يُذكر اسمه1.


لماذا لا ينبغي المشاركة في صلاته
كان أحد أئمّة الجماعة في قم يُعارض آراء الإمام إزاء بعض القضايا السياسية وأحياناً المسائل الفلسفية. بيْدَ أنّ الإمام كان يذهب بين فترة وأخرى للمشاركة في صلاة الجماعة التي كان يُقيمها. وكان يفعل ذلك من دون أيّ قصد. وكان سماحته يقول: "إنّ نمط تفكير فلان لا يتّفق مع أفكاري. وإذا ما أخطأ، فأنا لن أُخطأ في تصرّفي، لذا لماذا لا ينبغي لي عدم المشاركة في صلاته؟"2.

لا أستطيع عقد نيّة القربى
جاء مرّة أحد الخطباء والوعّاظ المعروفين في همدان، إلى قم وأقام في منـزل شقيقه الذي كان من تلامذة الإمام. فقلنا أنا والمرحوم الشهيد شاه آبادي، للإمام: فلان موجود في قم، وإنّه رجل طيّب ومجاهد وكانت له مواقف مشرّفة أثناء مرحلة النضال، ولعلّ من المناسب زيارته.. فأجاب الإمام: "إنّ
 
 
 

1- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني، ص207.
2- آية الله مجتبى عراقي.
 
 
 
 
124

107

الإخلاص والتقوى

 وضعي الصحّي لا يسمح بذلك".. فحاول المرحوم شاه آبادي أن يُلفت نظر الإمام إلى أنّ شقيق هذا الرجل أحد تلامذة سماحتكم، وأنّه يُكنّ مشاعر طيّبة تجاهكم ومن المخلصين لكم وقد عانى كثيراً خلال مرحلة النضال، ولعلّ كلّ ذلك يشفع له بأن تذهب لزيارته.. غير أنّ الإمام كرّر ما قاله: "إنّ وضعي الصحّي لا يسمح بذلك وإنّ حرارة جسمي مرتفعة. ولكن على أيّة حال ليس ارتفاع الحرارة بدرجة لا أستطيع الذهاب إلى منـزل السيّد وزيارة الرجل. غير أنّه لا أستطيع أن أنوي قصد القربة بعد هذا الذي ذكرته من أنّ الرجل فعل كذا وكذا ويحمل مشاعر خاصة تجاهكم وأنّه من المخلصين لكم.. ولذلك لن أذهب"1.


كنّا نُراقبه على مدى ثلاثين عاماً
ثمّة وسواس عجيب سائد بين طلبة العلوم الدينية إزاء العلماء فيما يتعلّق بسيرتهم العلمية والأخلاقية، خاصّة إذا ما كان أحدهم يتطلّع إلى المرجعية. بيْدَ أنّنا مهما أمعنّا النظر في سيرة الإمام وسلوكه ومواقفه على مدى ثلاثين عاماً، لم نرَ في سيرته ومواقفه غير الدافع الإلهي والتوجّه الربّاني2.

النفس هي التي تدعو
عندما كنّا في النجف كنتُ أسمع عتاباً من البعض لأنّ الإمام لم يكن يتعامل بحرارة معهم. وقد نقلت الموضوع إلى المرحوم السيّد مصطفى لكي
 
 

1- حجة الإسلام تهراني، ص224.
2- حجة الإسلام موسوي خوئينيها، ص213.
 
 
 
 
125

108

الإخلاص والتقوى

 يطلب من الإمام أن يتعامل بحرارة أكبر مع هؤلاء الأشخاص. فأخبرني فيما بعد بأنّه طرح الموضوع على الإمام فقال سماحته: "إنّ ذلك من دسائس الشيطان وما يسوّله للمرء. أي في الحقيقة إنّ نفسي هي التي تدعوني للتعامل بحرارة أكبر مع الأفراد كي يزداد عدد المحبّين لي، غير أنّ الأمر يشتبه عليّ إذ يوحي لي الشيطان بأنّ هذا من أجل الله ومن أجل الإسلام. لذا لا أستطيع أن أفعل ذلك"1.


آتي الآن وأصبح مشركاً!
كان البعض في النجف يعتب على الإمام، لماذا لا يتعامل بحماس أكبر مع أصدقائه؟ على سبيل المثال، عندما يلتقي اثنان من الآيات في الحوزة العلمية يتبادلون التحايا بحماس وحرارة، ويُمجّد أحدهما الآخر. فكان الإمام يردّ على ذلك بالقول: "لقد بذلت كلّ ما في وسعي طوال أربعين عاماً كي أصبح موحّداً، والآن آتي لأصبح مشركاً وأسجد لكم ولبقيّة السادة؟!"2.

الحرص على تقوية روحية الإخلاص
كان نهج الإمام متبايناً عن الآخرين. إذ كان أسلوب الآخرين يتلخّص في إيلاء الأشخاص الأكثر قرباً منهم اهتماماً أكبر. بيْدَ أنّ الأمر بالنسبة للإمام كان يختلف، فكلّما كان الشخص أقرب من سماحته كان اهتمامه به أقل. على سبيل المثال، إذا ما دخل أحد الطلبة مجلساً ما كان الإمام يُبدي له
 

1- حجة الإسلام موحدي كرماني، ج3، ص224-225.
2- حجة الإسلام فرقاني، ص225.
 
 
 
 
 
126

109

الإخلاص والتقوى

 احتراماً كبيراً. ولكن عندما يأتي نجله - مثلاً - أو أحد التلامذة المقرّبين من سماحته، فلم يكن يتصرّف بنحو يشعرنا بأنّنا الأكثر قرباً منه، وكان يحرص سماحته على أن يوجد روحيّة الإخلاص1.


بماذا سنُجيب رسول الله؟
عندما كنّا في النجف، كان البعض يحرص على مراعاة سلسلة مراتب مراجع الشيعة الكبار، وكان يتجاهل منـزلة الإمام ومكانته الاجتماعية. وكان هذا الأمر يؤلم الكثير من تلامذة الإمام. وفي ضوء ذلك اتفقتُ مع عدد من الأصدقاء بمصارحة الإمام بذلك. ونظراً لما عُرف عنّي من وضوح وصراحة، تطوّعت لمفاتحة الإمام، فقلتُ: لا يخفى أنّ كلّ بيئة لها عاداتها وتقاليدها. ويبدو أنّ مراعاة العادات لا يترتّب عليه إشكال شرعي. ولا شكّ في أنّ المكانة العلمية والاجتماعية التي يتمتّع بها سماحتكم، موضع اهتمام عامّة المسلمين ولا بدّ من صيانتها خدمة للإسلام. بيْدَ أنّ السادة، وانطلاقاً ممّا اعتادوا عليه، يحاولون تجاهل هذه المكانة. أو انتهاك - لا سمح الله - حرمة سماحتكم حسب تصوّرهم. لذا نرجو من سماحتكم، وانطلاقاً من الأعراف والتقاليد السائدة في هذا المجتمع، أن يكون لكم موقف بهذا الشأن.. وما أن انتهيتُ من كلامي حتى بادر الإمام إلى نقل حكاية شعرنا بعدها بالحقارة أمام العظمة الروحية التي كان يتمتّع بها سماحته. إذ قال الإمام: "في الماضي حيث لم تكن الكهرباء، وكانت الأزقّة مظلمة، كان أحدهم في طريقه إلى مكان ما. وحسب العادة كان يسير أمامه شخص يحمل الفانوس بيده. ومن محاسن
 
 

1- حجة الإسلام ناصري، ص213-214.
 
 
 
 
127

110

الإخلاص والتقوى

 الصدف أنّه كان متّجهاً إلى مجلس كان يقصده سيد آخر. وفي الطريق التقى الاثنان. فابتعد هذا مسافة عن الآخر كي يتّضح بأنّ لديه تشكيلات خاصّة به ولديه شخص يحمل الفانوس، محاولاً لفت الأنظار إليه". وبعد الانتهاء من نقل الحكاية، قال الإمام: "إذا ما دُعينا يوم القيامة للوقوف في محضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسأل كلّاً منّا عن هذه الأمور، فهل أعدّ السادة جواباً كون هذا في المقدّمة وذاك في المؤخّرة؟ وهذا في الطليعة وذاك في الخلف؟ إذا ما سُئل كلٌّ منّا عن هذه المعايير والاعتبارات التي يهتمّ بها السادة في محضر الرسول الأعظم ونحن نقف أمامه، فهل لدينا ما نُجيب به؟" ثم قال: "حاولوا التقييد بما اعتادوا عليه"1.


لا بدّ من حذف هذه الألقاب
عندما تمّت طباعة كتاب (تحرير الوسيلة) في النجف الأشرف، وضعت في الغلاف الخلفي للكتاب، وفقاً للعرف الذي كان سائداً في النجف، الألقاب من قبيل آية الله العظمى وزعيم الحوزات العلمية، وعبارات من هذا القبيل. وكان ذلك أمراً معتاداً، وقد أقدم عليه المتصدّون لطباعة الكتاب. ولكن عندما تنبّه الإمام إلى ذلك، منع توزيع الكتاب قائلاً: لا بدّ من حذف هذه الألقاب. وكان مصرّاً على ذلك، مما اضطر المسؤولون عن الطباعة للعمل على تغطية الألقاب بنحوٍ ما كي لا يتسنّى قراءتها2.
 

1- آية الله قديري، ج3، ص235.
2- م.ن.
 
 
 
 
128

111

الإخلاص والتقوى

لا يوجد عندي المال كي أعطيه قرضاً
في العراق عندما طرح موضوع زواجي، لم يكن وضعي المالي جيّداً. كما أنّ ارتباطي بإيران لم يكن على ما يرام. وعليه قلتُ للسيّد رضواني: حاولْ أن تحصل لي على مبلغ خمسمئة دينار - ما يعادل عشرة آلاف تومان وقتئذٍ - كقرض من الإمام.. فطرح السيّد رضواني الموضوع على الإمام، فقال له: "أستطيع أن أعطيه المبلغ كقرض لمدّة شهرين، على أن تتسلّم منه القسط في نهاية المدّة".. فأخذتُ المبلغ وبدأتُ بإعداد مقدّمات الزواج. وعندما حان موعد التسديد بعث لي السيّد رضواني يُخبرني بأنّ السيّد (الإمام) يقول: "قل لفلان أنّ الشهرين قاربا على الانتهاء، ولا توجد لديه أموال، فلا بدّ له من تسديد القرض".. وكان الأمر بالنسبة لي عجيباً حقّاً.. فإذا ما كان الأمر يتعلّق بشخص آخر غير الإمام، وأنّ شخصاً مثلي أنجز له كلّ هذه الأعمال، كان سيتسامح معه بعض الشيء. بيْدَ أن الإمام كان صادقاً معنا ومع نفسه. ولهذا اضطررت إلى تسديد القرض في الموعد المحدّد1.

الإسلام هو المعيار
من السمات الأخلاقية الفذّة التي كان يتمتّع بها الإمام الخميني، هي أنّ معيار حبّه وبغضه للأشخاص يكمن في التقوى وخدمة الإسلام.. حتى حبّه لأبنائه وأفراد أسرته كان يتمّ بناءً على هذا المعيار2.
 

1- حجة الإسلام ناصري، ص217.
2- آية الله بني فضل.
 
 
 
 
 
129

112

الإخلاص والتقوى

 وجه غارق في الدموع

عندما كان الإمام يذهب لزيارة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في النجف، أو مرقد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام، لم يكن يقرأ كلّ الأدعية داخل الحرم مثلما كان يفعل البعض كي يرى الناس ذلك. فعلى سبيل المثال كان سماحته يتوجّه إلى الحرم العلوي في ليالي الجمع للزيارة، وكان يقرأ دعاء كميل في المنـزل بعد عودته من الزيارة. أو أنّه كان يدخل غرفته بعد عودته من المسجد، ويُغلق وراءه الباب من الداخل، ويُطفأ مصباح الغرفة لبعض الوقت ويتفرّغ لعباداته الخاصّة. وفي إحدى المرّات وحيث كنتُ عائداً من المسجد برفقة السيّد (الإمام)، فجأة شعرتُ باختفاء الإمام، وكان باب غرفته مغلقاً بنحو ممّا دفعني للتصوّر بأنّ سماحته خرج من المنزل.. فقلتُ للخادم: "لقد جئنا معاً للتو من المسجد فأين ذهب السيّد؟". قال: صعد السلّم ودخل غرفته. قلتُ: غير موجود في الغرفة، المصباح مطفأ والباب مغلق.. وفي هذه الأثناء جاء آية الله التبريزي للقاء الإمام، فرأيتُ الخادم يقول ثانية: السيّد في غرفته. وفيما أنا أقول بصوت مرتفع: قسماً بالله غير موجود، الغرفة مظلمة والباب مغلق.. فإذا بصوت السيّد (الإمام) يرتفع من داخل غرفته قائلاً: "يا سيّد فرقاني لا تصرخ، أنا موجود هنا". ثم نهض وفتح قفل الباب من الداخل. قلتُ: سيّدي! لماذا أنت جالس في الظلمة؟. وما أن أضأت النور، حيث كان مفتاح الكهرباء قرب الباب، فإذا بي أرى الإمام ساجداً. فقال: "ماذا تريد؟".. كان الإمام منهمكاً في قراءة الأذكار التي لم أكن أعرف ما هي، وعندما رفع رأسه من السجود رأيت وجهه غارقاً في الدموع وقد ابتلّت التربة بالدموع أيضاً1.
 
 

1- حجة الإسلام فرقاني، ص215.
 
 
 
 
130

113

الإخلاص والتقوى

 كتب بيد الأقلّ الفاني

أخذ أحد تلامذة الإمام على عاتقه مهمّة طباعة كتاب (المكاسب المحرّمة). وكان الإمام قد امتنع عن ذكر اسمه لدى الانتهاء من تأليف الكتاب، فقلتُ لسماحته: أيّها السيّد! الرجاء أن تُشيروا إلى اسم مؤلّف هذا الكتاب. فقال: "كلا، ليس المهمّ الاسم وإنّما موضوعات الكتاب".. ومهما حاولتُ إقناع سماحته إلا أنّه رفض. وأخيراً قال: "لا حاجة لذلك، إنْ رغبتَ فليُطبع بهذه الصورة وإلا فلا". فاضطررت للجوء إلى حيلة شرعية قائلاً: أيّها السيّد! على الأقل اذكر اسمك على الكتاب حتى إذا ما أشكل البعض على موضوعاته، يعرفون على مَنْ يشكلون ومَنْ صاحب هذه الآراء.. فقال سماحته: "حسناً، إذا كان الأمر كذلك، فلا مانع من ذكر اسمي". فتمّ تدوين هذه العبارة: كُتب بيد الفاني روح الله الموسوي الخميني1.

قولوا بأنّه لم يُشرك بعد!
كان الإمام يتلّقى أخبار النجف عن طريقة فريق من الطلبة القريبين من سماحته. حيث كان الفريق يقوم بجمع الأخبار ويضعها تحت تصرّف الإمام دون أدنى تصرّف. وفي هذا الخصوص كان يتمّ إطلاع الإمام على كافّة التفاصيل مهما كانت هامشية. فعلى سبيل المثال نقلنا لسماحته ما كان يقوله أحدهم: إنّ عمامتك صغيرة ولحيتك قصيرة، وإنّه لا يعتني بزيّ المرجعية.. فردّ سماحته: قولوا له بأنّ السيّد لم يُشرك بعد2.
 
 

 
1- آية الله مسعودي خميني، ص210.
2- حجة الإسلام عميد زنجاني، ص275.
 
 
 
 
 
131

114

الإخلاص والتقوى

 ليست سوى هدية قد مَنّ الله بها

عندما وصل خبر استشهاد الحاج السيّد مصطفى، أخذ الجميع يُفكّر بكيفية إبلاغ الإمام وإطلاعه على حقيقة ما جرى. ولأنّ وقع الخبر كان مؤلماً على الجميع، فلم يكن يجرؤ أحد على إخبار الإمام بما حصل.. أحمد آغا، الذي خيم عليه الاضطراب، بقي متسمرّاً وراء النافذة يتطلّع إلى الإمام.. كان الإمام جالساً في غرفته فتنبّه إلى الأجواء غير الطبيعية في المنـزل.. نادى أحمد آغا، فحضر. قال الإمام: "ما الذي حدث؟". فلم يتمالك أحمد آغا نفسه وأجهش بالبكاء.. طبعاً كان من الصعب أن تتمالك أعصابك. بيد أنّ الإمام ومثلما عُرف عن صلابته، راح يسترجع ثلاث مرّات قائلاً: "إنّا لله وإنا إليه راجعون.. إنّها هدية منّ بها الله تعالى علينا وقد استرجعها اليوم.. انهضوا وأعدّوا مقدّمات التشييع وانظروا إلى أين ينبغي لنا أخذه وأين يجب دفنه؟"1.

لا يوجد فرق بين داخل المنـزل وخارجه
لعلّ الأهمّ من كلّ شيء هو صدق الإمام وإخلاصه.. فما هو معلوم أنّ سيرة الإمام وتصرّفه داخل المنزل هي ذاتها التي يظهر بها في المجالس العامّة وبين المقرّبين من سماحته.. وإنّ ما يتحدّث به بين أوساط الناس، يعتمده في المنـزل أيضاً. فليس هناك أدنى اختلاف بين خلوته وجلوته، وظاهره وباطنه. وبطبيعة الحال أنّ سماحته في المنـزل يُداعب الأطفال ويلعب معهم2.
 
 

1- فاطمة طباطبائي، ص197-198.
2- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني، ص259.
 
 
 
 
 
132

115

الإخلاص والتقوى

 الدقّة في تطابق الأقوال والأفعال

ينقل أخي الحاج السيّد رضا ثقفي: في أحد الأيام أعطاني الإمام رسالة وطلب منّي أن أسلّمها إلى مسؤول قسم الأخبار في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون لإذاعتها.. وما أن عُدّت ناداني سماحته وقال: اذهب وهات الرسالة على وجه السرعة.. ولمّا جئت بالرسالة غيّر كلمة فيها وقال: خذها الآن وسلّمها إلى قسم الأخبار.. عندما عدتُ قلتُ للإمام: ما الإشكال الذي كان في الرسالة؟ قال: كنتُ قد كتبتُ (إنّي أدعو لأفراد قوّات التعبئة - بأقصى همّتي وعزمي) ثمّ انتبهت إلى أنّ هذا غير صحيح، فاستبدلتها بعبارة (إنّي أدعو للتعبئة بمعظم همّتي وعزمي)1.

إقامة الصلاة في حدود أداء الواجب
إنّ إقامة الإمام لصلاة الجماعة في شهر رمضان المبارك قبل الإفطار في حسينية جماران بحضور المسؤولين، التي يقوم التلفزيون بعرضها مراراً، والتي اقتصرت على الواجب من الصلاة، كانت خير دليل على مدى مقت الإمام للرياء2.
 
 

1- علي ثقفي.
2- آية الله مرتضي بني فضل، ص207.
 
 
 
 
 
133

116

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية


اجتناب الذنوب منذ مطلع شبابه
كان الإمام مواظباً منذ مطلع شبابه على اجتناب الغيبة. حتى أنّنا - نحن تلامذته - عندما كنّا نجلس في محضره، لم نكن نجرؤ على التحدّث عن أحد لأنّه كان سيردعنا عن الكلام بنظراته الحادّة.. كان سماحته يتّسم بوقار خاص بهذا الشأن... كان الإمام مواظباً على عدّة أمور منها: صلاة الجماعة في وقتها، والتهجّد، وعدم الاغتياب، حتى في مطلع شبابه وقبل زواجه. وفي هذا الصدد يذكر أصدقاء الإمام، بأنّه كان يجتنب حتى الذنوب البسيطة1.

لم يكن يجلس في مجلس يُغتاب فيه أحد
يتّفق الجميع بأنّ الإمام لم يكن مستعدّاً منذ مطلع شبابه، الجلوس في مجلس يغتاب فيه أحد، أو يروّج للكذب والغيبة، وكان إمّا أن يمتنع عن حضور مجالس الغيبة منذ البداية، أو أنّه يُبادر إلى قطع الحديث الذي تشوبه شائبة الغيبة على الفور2.
 
 

1- آية الله شهيد محلاتي، ج3، ص292.
2- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني.
 
 
 
 
135

117

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 أمّا الاغتياب، فمستحيل

أقول من باب الدقّة، إنّ الإمام كان حسّاساً للغاية وحذراً لئلّا تُثار الشبهة - لا سمح الله - حول أدنى شؤونه الشرعية. فليس بوسع أحد أن يزعم بأنّه رأى الإمام يوماً في مجالس الغيبة ناهيك عن سماعه وهو يغتاب أحد، والعياذ بالله1.

كرامة النفس في التعامل مع المعارض
عندما كنتُ في مدرسة دار الشفاء، كانت حجرتي إلى جوار حجرة الإمام، وكان أحد العلماء يأتي من المدرسة الفيضية إلى مدرسة دار الشفاء ويتوقّف عند حجرتي ولا يذهب أبعد منها.. حتى أنّه لم يكن مستعدّاً لرؤية الإمام ولا حتى حجرته، لأنّه كان مخالفاً للعرفان والفلسفة بشدّة، وكان يرفض أفكار الإمام.. عندما ذكرتُ للإمام بأنّ فلاناً يحمل مثل هذه النظرة تجاه سماحتكم، وأحياناً يتحدّث ضدّكم، قال: "فيما يتعلّق بي، فأنا أُسامحه، وآمل أن يكون اغتيابه لي سبباً في أن يعفو الله عن ذنوبي، وأسأل الله أن يهديه"2.

لم أسمع حتى ما يُشبه الغيبة
ثلاثون عاماً كنتُ برفقة أستاذي الكبير قائد الثورة المعظّم سماحة الإمام الخميني. وأشهد الله تعالى بأنّي لم أرَ من سماحته طوال هذه الفترة حتى ما يُمكن أن يُثار حول شبهة الغيبة.. ليس لم أراه يغتاب أحداً فقط، وإنّما لم
 
 

1- آية الله زنجاني.
2- آية الله سيد حسين بدلا، ص325.
 
 
 
 
 
136

 


118

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 أرَ حتى ما يُشتبه بأنّه غيبة.. ولا أنسى كيف أنّ سماحته جاء يوماً إلى مسجد (سلماسي) لإلقاء درسه وكانت أنفاسه تتقطّع وقال: "والله لم ينتابني الخوف يوماً مثلما انتابني اليوم". وأضاف: "لم آتِ لإلقاء الدرس، وإنّما جئت لأقول لكم هذا".. أنا الذي كنتُ أحضر درس سماحته طوال خمسة عشر عاماً، لم أرَ يوماً أنّ سماحته تطاول على أحد الطلبة.. ومضى سماحته يقول: "إن لم يكن لديك علم، ولم يكن لديك عقل.. إن لم يكن لك دين، كن عاقلاً ولا تدع أن يُساء إلى هويّتك الإنسانية".. ثم عاد الإمام إلى المنـزل وأُصيب ثانية بمرض (الحمّى المالطية) وبقي راقداً في المنـزل ثلاثة أيام بسبب الحمّى المالطية. كلّ ذلك لأنّه كان قد سمع أحدهم يغتاب أحد المراجع.. لم يكن الإمام الذي اغتاب أحداً، وإنّما أحدهم اغتاب أحد المراجع وتكلّم من ورائه، ومع ذلك كانت أنفاس الإمام تتقطّع1.


لم يجرؤ أحد على الغيبة حتى كناية
كان الإمام معروفاً بسعة الصدر. وحيث كنتُ في خدمته صباح مساء على مدى سنوات طويلة، لم أرَ - ولو مرّة واحدة - بأنّه عبس بوجه أحد أو عبّر عن استيائه وامتعاضه لأحد.. ومع كلّ ذلك لم يكن يجرؤ أحد على اغتياب شخص أو الإساءة إليه حتى ولو كناية، في حضور الإمام2.
 
 

1- آية الله مظاهري، ص297.
2- آية الله مسعودي خميني، ص295-296.
 
 
 
 
137

119

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 تجنّب المجالس المشبوهة

كان الإمام فريداً حقّاً في جدّه ومثابرته. وحسبما أتذكّر، ووفقاً لما علمته من رفقاء الإمام في مرحلة الشباب والدراسة، أنّ سماحته لم يُمضِ وقته مطلقاً بالبطالة وأحاديث الطلبة ومجالسهم المتعارفة التي لم تكن تخلو - في العادة - من الغيبة وإيذاء المؤمن والضحك الصاخب الذي يقود إلى إماتة القلب والابتعاد عن الله. بل إذا ما اضطر أحياناً للتواجد في مثل هذه المجالس، إمّا كان يحول دون الوقوع في أحاديث تنتابها شبه الغيبة وإيذاء المؤمن ويتصدّى لها بحزم، أو أنّه كان يخرج من هذه الجلسة على الفور1.

كان الإسلام حاكماً على قلبه
للتعرّف على سيرة الإمام في شبابه، حاولتُ استطلاع انطباع عدد ممّن رافقوا الإمام في مرحلة الشباب، وكان الجميع متّفقين على أنّه لم يصدر عن الإمام مجرّد زلّة حتى في مرحلة ثورة الشباب.. على سبيل المثال، حتى في المجالس الودّية التي كانوا يُقيمونها ويتبادلون فيها المزاح، إذا ما ذُكرت عبارة بين ثنايا المزاح تُفيد الاستغابة، كان الإمام يغضب على الفور، وكان يُنبّههم إلى أنّ الغيبة حرام وأمر مرفوض.. كان الإسلام حاكماً على قلب الإمام إلى حدٍّ كبير2.
 
 

1- حجة الإسلام رسولي محلاتي، ص293.
2- آية الله فاضل لنكراني، ص293.
 
 
 
 
138

120

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 لديه أخلاق فريدة

كان الإمام نموذجاً فريداً من الناحية الأخلاقية.. ومن المعلوم أنّ الإمام كان قد حضر مع المرحوم الزنجاني حلقات دروس المدرسة الفيضية أكثر من خمسة وعشرين عاماً، غير أنّه كان يحرص في السير خلفه دائماً. حتى أنّه لم ير أنّه تقدّم على سماحته ولو مرّة واحدة1.

لم يكن بصدد المحراب والمسجد
في فترةٍ ما، كانت من السمات الشخصية للمجتهد أو مرجع الدين، إقامة صلاة الجماعة في مسجد كبير معروف، أو بالقرب من الصحن الشريف، وأن يأتم به عدد كبير من المصلّين.. غير أنّ الإمام كان يُقيم حلقة درسه في مسجد (سلماسي) القريب من زقاق (يخجال قاضي)، وكانت هذه الحلقة تضمّ مجموعة من أكثر الطلبة والأفاضل حبّاً للدرس والبحث، وإنّ أشخاصاً معدودين ممّن كانوا يرافقون سماحته بعد الغروب إلى منزله المتواضع، كانوا يقفون لإقامة الصلاة جماعة مع الإمام2.

إذا ما كان جدال التزم الصمت
كان الإمام حريصاً على البحث والدقّة في مناقشاته العلمية، وكان يتدارس الموضوعات بدقّة متناهية ويُجيب على كلّ الإشكالات.. بيْدَ أنّه كان يلتزم الصمت في جلسات المناقشات التي تتّسم بالسجال واستعراض القدرات العلمية.. فإذا ما سُئل أجاب، وإلا جلس ساكتاً يستمع لما يُقال3.
 
 

1- آية الله بهاء الديني، ص252.
2- حجة الإسلام رحيميان، ص219.
3- آية الله ابراهيم اميني، ص216.
 
 
 
 
139

121

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 الاحترام الخالد للأصدقاء

في المجالس التي كان يحضرها الإمام مع الأصدقاء، كان سماحته يحرص دائماً بأن يضع الأصدقاء في المقدّمة ويكون من بعدهم. وكان بذلك يحاول إكرام أصدقائه.. وإنّ مثل هذا التصرّف لم يكن يصدر في مرّة أو مرّتين، بل كان يتجلّى على مدى عشرين عاماً وكنتُ قد شهدته عن كثب.. لقد كان الإمام يتمتّع بعظمة روحية عجيبة1.

ماذا أصنع مع النفس الأمّارة؟
كان كبار العلماء يأتون من المحافظات إلى مدينة قم، وكان العرف السائد أن يقوم العلماء والمراجع بزيارتهم. غير أنّ الإمام لم يكن يفعل ذلك إلا مع الذين يعرفهم. وكنّا أحياناً نقترح عليه ذلك فكان يرفض.. وفي أحد الأيام قلتُ لسماحته: أليس التزاور وتجسيد المودّة من الأخلاق الإسلامية؟. قال (بلى). قلتُ: ألا ينبغي ترجمة الأخلاق الإسلامية عملياً؟. قال: (بلى). قلتُ: إنّنا نتوقّع من سماحتكم تجسيد الأخلاق الإسلامية ليس بدافع الرياء ومداراة الناس، وإنّما من أجل الله. قال: (أجل، صحيح ينبغي لي أن أفعل ذلك. ولكن ماذا أصنع مع النفس الأمّارة؟).. ربما كان يتصوّر البعض أنّ تصرّف الإمام هذا نابع عن التكبّر، في حين أنّه ليس كذلك. ففي هذه الفترة كنتُ قد مرضتُ، ورقدتُ حوالي الشهر في الحجرة بالمدرسة الحجّتية. وطوال هذه المدّة كان الإمام يأتي لعيادتي كلّ أربعاء من كلّ أسبوع. وكان ذلك في وقتٍ لم أكن سوى أحد الطلبة المغمورين2.
 

1- آية الله بهاء الديني، ص251.
2- آية الله ابراهيم أميني، ص223.
 
 
 
 
140

122

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 أرسل مالاً بيد شخص آخر

في الأعوام التي سبقت انتصار الثورة، كان أحد العلماء الكبار يواجه ظروفاً معيشية صعبة بعد رحيل والده. فأرسل إليه الإمام مبلغ ألف تومان عن طريق أحد الأشخاص كي لا يعرف بأنّ الإمام هو الذي أرسل إليه هذا المال1.

النصيحة بتجنّب الغرور والتكبّر
كان التواضع من سجايا الإمام البارزة. وكان يتحدّث عن نفسه بمثابة أحد طلبة العلوم الدينية، حتى الأيام الأخيرة من عمره المبارك.. وفي أحد الأيام، وحيث كان يُحدّثنا عن حكايات طلبة الحوزة، أوضح بأنّه في اليوم الأول من دراسته المنطق، قال لأستاذه: وما الذي نقوله نحن الفلاسفة إذاً؟!.. كان سماحته ينصح مؤكّداً باجتناب الغرور والتكبّر2.

ذهب بنفسه إلى عيادة الطبيب
على الرغم من أنّ الإمام كان أباً بالنسبة لأبناء الحوزة وتلامذته، ولكنّه كان يتعامل مع الأفراد كتعامله مع مَنْ هم في سنّه. ولم يصدر عنه أيّ موقف سلبي إزاء منطق الآخرين.. كان يُصغي للجميع، ويعمل بما يراه جيّداً، وإلا فلا يعبأ به.. وفي أحد الأيام جاء الطبيب إلى منـزل الإمام لمعالجة أسنانه. غير أنّ المرحوم الشهيد محمد منتظري احتجّ على الإمام معترضاً على عدم ذهابه إلى العيادة. فاقتنع الإمام برأيه وذهب بعد ذلك بنفسه أكثر من مرّة
 
 

1- حجة الإسلام فخام، ص226.
2- حجة الإسلام السيّد مجتبى رودباري، ص250.
 
 
 
 
141

123

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 إلى عيادة الطبيب لمعالجة أسنانه.. والشيء نفسه ينطبق على حلقات درسه. فلم يُشاهد الإمام مطلقاً أن أصيب بالغرور العلمي لما لديه من علوم ومعرفة، وكان يقول دائماً: من المحتمل أن يكون كذا وربما كان كذا1.


غير مستعدٍّ لأن أسمع
إنّ أكثر ما كان يؤلم الإمام هو تجاهل التعاليم الإلهية وانتهاك الحدود الشرعية. خاصّة إذا ما حاول أحدهم اغتياب الآخر في حضور سماحته، أو أراد الإساءة إلى أعاظم الدين.. وفي أحد الأيام ذكر أحدهم موضوعاً عن أحد المراجع تُشمّ منه رائحة الإساءة. فوجّه الإمام إليه عتاباً شديداً على الرغم من أنّ المتحدّث كان من المخلصين للإمام. إذ إنّ سماحته لم يكن يعبأ بهوية الأشخاص في أداء التكليف الإلهي.. فإذا ما أراد أقرب الأشخاص أن يُثير موضوعاً يتضمّن غيبة أو إساءة، لم يكن يجرؤ على ذلك لأنّ الإمام كان سيقول له: غير مستعدٍّ لسماع هذا الموضوع2.

غير راضٍ أن تغتابوا أحداً في منـزلي
عندما حاصر البعثيّون منـزل الإمام في النجف، كان المتوقّع من بعض المراجع السؤال عن أحوال الإمام ولو عن طريق الهاتف. إلا أنّ ذلك لم يحدث. فكان أصحاب الإمام وأصدقاؤه متألّمين للغاية، وكان من الممكن أن يتحدّثوا عنهم بوحي من تألّمهم. غير أنّ الإمام كان يقول: "من الممكن أن
 
 

1- حجة الإسلام محمد رضا سجّادي أصفهاني، ص250.
2- آية الله توسّلي، ص295.
 
 
 
 
142

 


124

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 يغضب الرفقاء لذلك ويتألّموا بعض الشيء، ولكن قولوا لهم بأنّي غير راضٍ أن يغتابوا أحداً أو يتحدّثوا ضدّ أحد في منـزلي"1.


لماذا تنتهكون حرمتي في منـزلي؟
في أحد الأيّام كنّا نُصلّي مع الإمام صلاة الظهر في منـزل سماحته. فجاء شخص وقام بتوزيع صور الإمام بين المصلّين.. عندما تنبّه الإمام إلى ذلك، غضب بشدّة واحتجّ على الشخص وقال في حالة من التألّم والغضب: "لماذا تهتكون حرمتي في منـزلي. أنا لا أسمح بمثل هذه الأمور ومحاولة ممارسة الدعاية لي"2.

منع توزيع الصور للدعاية
كان المرحوم الشيخ نصر الله الخلخالي أرسل إحدى صور الإمام من النجف لتُطبع في لبنان في حجمين صغير وكبير. ومن ثم جاء السيّد الخلخالي بالصور ووضعها في القسم الخارجي من منـزل الإمام.. عندما عاد الإمام تلك الليلة من زيارة مرقد أمير المؤمنين عليه السلام، توجّه إلى القسم الداخلي من المنـزل. في منتصف الليل نادى الإمام من الطابق العلوي، الذي كان يتّصل بالقسم الداخلي: "هات الصور". قلتُ: على عيني.. ولأنّ الصور كانت جميلة، وددتُ أن أحتفظ بواحدة لي. وما أن كنتُ أُفكّر بذلك حتى تنادى صوت (السيّد) إلى سمعي: "احتفظ بواحدة". وبعد ذلك، ورغم إصرار الأصدقاء
 
 

1- آية الله خاتم يزدي، ص296-297.
2- حجّة الإسلام السيّد محمود دعايي، ص223.
 
 
 
 
143

125

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 وإلحاحهم، وقد أخبرت الإمام بذلك، إلا أنّه رفض إعطاء الصور، وكان يقول: "أنا أنهى الناس عن الدنيا، وهذه الدنيا بعينها"1.


منع الغيبة والتجرّؤ على العلماء
كان الطلبة يُخصّصون جانباً من أوقاتهم للبحث والنقاش في القسم الخارجي من منـزل الإمام. وخلال هذا النقاش كان يصدر أحياناً نقدٌ لبعض العلماء. لأنّ هؤلاء الطلبة كانوا متألّمين ليس لأنّ الإمام لا يُفكّر بالمرجعية فحسب، وإنّما يحاول تجنّبها.. وفي أحد الأيّام جاء المرحوم الحاج السيّد مصطفى ليقول بأنّ السيّد (الإمام) قال: "سمعتُ بأنّ البعض يغتاب العلماء ويتطاول عليهم في هذا المنـزل.. فأنا غير راضٍ بأن يقوم أحد باغتياب الأفراد والإساءة إليهم في منـزلي"2.

لماذا تقطعون أرزاق الناس؟
مرّةً كان الإمام يقرأ الزيارة في حرم الإمام الحسين عليه السلام، فقام أحد الخدم بسحب البساط من تحت أقدام سماحته. فأخذ الإمام السجّادة وكتاب (المفاتيح) وجلس على الأرض.. وممّا يُذكر في هذا الصدد أنّ بعض الخدم كان يُبادر على الفور، بمجرّد أن يرى الإمام يهمّ بدخول الضريح، بكنس أرضية المرقد وتوجيه الغبار المتطاير صوب الإمام عن عمد. ونحن كنّا نرى ذلك ولا نستطيع أن نفعل شيئاً لأنّ الإمام كان يقول: ما شأنكم، اتركوهم
 
 

1- حجة الإسلام قرهي، ص220.
2- آية الله توسّلي، ص294.
 
 
 
 
 
144

126

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 يقومون بأعمالهم.. ومما يذكر هنا أنّ بعض الخدم كان يتصرّف بهذا النحو لأنّهم كانوا قد اعتادوا على الالتفاف حول العلماء عند دخولهم المرقد، وفي المقابل كان يُغدق عليهم العلماء بالمال، غير أنّ الإمام ليس بالشخص الذي يوزّع الأموال على أمثال هؤلاء.. على أيّة حال عندما سحب الخادم البساط من تحت أقدام الإمام، قلتُ له: قسماً بالله لأجعلك تندم على فعلتك هذه.. فانتبه الإمام، فقال: "خلافاً للمروءة.. ماذا تريد منه؟ دع الناس يؤدّون أعمالهم.. لا بدّ لهم من جمع السجّاد". بعد ذلك قدّمنا شكوى إلى مديرية المحافظة لافتين الأنظار إلى أنّ الشيخ محمد رئيس الخدم ارتكب مثل هذه الإساءة.. فتمّ إحضاره على الفور وفصله من عمله.. ثم جاء هو وزوجته وأطفاله إلى منـزل السيّد (الإمام) تولول وتقول: إنّه أحمق، لم يتعرّف على الإمام.. لقد قطعوا رزقنا.. وفي هذه الأثناء خرج الإمام من المنـزل يريد التوجّه إلى مرقد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فأوضح له حاج حسين - خادم الإمام - بأنّ هذه المرأة هي زوجة ذلك الخادم الوقح. وقد وقع على قدم الإمام يريد تقبيلها. فقال الإمام: "اتركوه يذهب إلى عمله، لماذا تقطعون أرزاق الناس؟"1.


الحرص على احترام الشقيق الأكبر
عندما حطّت طائرة الإمام في مطار طهران، في الثاني عشر من بهمن عام 1357، صعد آية الله السيّد بسنديده - شقيق الإمام - إلى داخل الطائرة لاستقبال سماحته. وانطلاقاً من الروحيّة التي كانت يتمتّع بها الإمام، طلب من السيّد بسنديده أن يتقدّمه لدى النـزول من الطائرة. فما هو معروف عن
 
 

1- حجة الإسلام فرقاني، ص328-329.
 
 
 
 
145

127

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 الإمام أنّه لم يكن يسبق شقيقه الأكبر أبداً. غير أنّ السيّد بسنديده لا يستطيع أن يتقدّم الإمام لدى النـزول من الطائرة، نظراً لحساسية الموقف السياسي الذي كان يتّصف به وصول الإمام. فقال الإمام: "إذاً اسبقني أنت في النـزول من الطائرة، وإلا لن أسبقك في النـزول"1.


أخلاق محمّدية
كان الإمام يتّصف بأخلاق محمّدية حقّاً. إذ إنّه طوال الفترة التي كنّا في منـزله، وخلال كلّ الأعمال التي كنّا نؤدّيها لسماحته، وحتى أثناء العملية الجراحية التي أُجريت لسماحته، لم يحدث أن عبس بوجه أحد مطلقاً. وخلال هذه الفترة، وانطلاقاً من الاحترام الخاص الذي نكنّه للإمام، كنّا نحاول أحياناً أن نقترح عليه أن يجلس مثلاً، أو أن يحاول المشي قدر المستطاع. ولم يحدث أن اعترض سماحته على ذلك مطلقاً.. كان يعاملنا في غاية اللطف والاحترام. وأستطيع أن أقول بكلّ ثقة، بأنّ سماحته يعتبر مريضاً نموذجياً من وجهة نظري. وأنا لا أتصوّر أنّ أحداً يستطيع أن يكون في مقام الرضا الإلهي إلى هذا الحد، ويتحمّل الأوجاع ويتحلّى بهذه الأخلاق الرفيعة، وان لا يتصرّف بنحو يزعجنا2.

كان يتأذّى من المديح
كنتُ أرى عن كثب كيف كان يتصرّف الإمام في الحالات التي كان التلفاز
 
 

1- حجة الإسلام الإمام جماراني، ص251.
2- الدكتور كلانتر معتمدي، ص288.
 
 
 
 
146

128

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 يمتدح سماحته. إذ كان يبادر إلى إسكات صوت التلفاز حتى ينتهي المديح.. كان الإمام يتأذّى من المديح أساساً1.


لماذا تمدحني
تطرّقت يوماً، في أحد أحاديثي قبل خطبتي صلاة الجمعة، إلى جوانب من سيرة الإمام موضحاً بأنّ سماحته يحاول أن يقتصد في كلّ شيء، حتى أنّه عندما يشرب الماء فإذا ما بقي شيء في الإناء فإنّه لا يكبّه وإنّما يُبقيه ليشربه فيما بعد.. عندما سمع الإمام حديثي هذا من الراديو، شكا الأمر إلى الحاج أحمد عاتباً لماذا يقوم فلان بمدحي والثناء عليّ2.

لقد سامحته
في حالات عديدة كان بعض الذين يسيؤون إلى الإمام ويتحدّثون عنه بسوء، ومن ثم يستبصرون ويندمون على فعلتهم، كانوا يطلبون العفو من الإمام ومسامحتهم، عبر الرسائل التي كانوا يبعثون بها والتي كانت تعرض على سماحته بأجمعها. وكان الإمام يقول في جميع الحالات بدون استثناء: "لقد سامحته".. وإنّ أحد هؤلاء كان من المسلمين الأميركيين من ذوي أصول عربية. وكان قد بعث برسالة إلى الإمام يقول فيها: لقد ارتكبت ذنباً عظيماً بالإساءة إليكم. وبات ذلك يؤرقني بمثابة كابوس مرعب. وها أنا ذا ألتمس
 
 

1- زهرا مصطفوي، ص232.
2- حجة الإسلام أنصاري كرماني، ص229.
 
 
 
 
 
147

129

الأخلاق الحسنة والقيم الأخلاقية

 من سماحتكم بإصرار أن تعفو عنّي.. عندما عرضت الرسالة على الإمام قال سماحته بنبرة مفعمة بالحبّ والعاطفة: "لقد سامحته"1.


مسامحة الإمام لمن يُسيء الأدب
من جملة الخصال الفذّة التي كان يتّسم بها الإمام، أنّه كان يتغاضى عن الإساءة ويتسامح بشكل مذهل إزاء من يتطاول على سماحته ويُسيء إليه. ولعلّ النموذج البارز على ذلك ما كنّا نُشاهده في تحرّكات بعض المشبوهين من خلال البرقيات والرسائل التي كانوا يبعثون بها إلى سماحته. بيْدَ أنّ الإمام، وفضلاً عن تغاضيه عن إساءاتهم والكلام البذيء والشتائم، فإنّه لم يكن يسمح حتى لمحبّيه بالتطوّع للدفاع عنه2.

كلا، لا حاجة لذلك
في جماران كان الإمام يأتي ويجلس معنا ويقوم بتعبئة الأكياس بيده المباركة بالمكسّرات التي يتمّ إرسالها للمقاتلين المرابضين في جبهات القتال. وفي إحدى المرّات قلتُ لسماحته: ائذن لنا بأن نكتب على هذه الأكياس بأنّ الإمام هو الذي قام بتعبئتها، فإنّ مثل هذا سوف يُسعد المقاتلين. غير أنّ سماحته رفض موضحاً: "لا حاجة إلى ذلك"3.
 
 

1- حجة الإسلام محمد حسن رحيميان، ص325-326.
2- آية االله بني فضل، ص326.
3- زهرا مصطفوي، ص226.
 
 
 
 
 
148

130

النـظم فـي الأمـور

 النـظم فـي الأمـور


لم يُعطّل الإمام دروسه سوى يومين فقط
كان النظم والانضباط من أبرز سمات الإمام. وطوال فترة حضوري حلقة درسه، لم أرَ أحداً بمثل سماحته جادّاً ومنظّماً. فلم يحدث أبداً أن ألقى دروسه بدون تحضير مسبق. كما أنّه كان مواظباً على حضور حلقة الدرس إلى حدٍّ كبير. على سبيل المثال، عندما بدأ سماحته تدريس الأصول في مسجد (سلماسي) بمدينة قم، الذي استغرق أربع سنوات ونصف السنة، لم يُعطّل الدرس طوال هذه الفترة - عدا العطلة السنوية - سوى يومين فقط، في أحدهما كان سماحته مريضاً1.

روح الله هو روح الله
لقد حضرت حلقات درس (خارج) الفقه والأصول لسماحة الإمام على مدى ثماني سنوات تقريباً. وطوال هذه الفترة كان سماحته حريصاً على حضور حلقة الدرس على رأس الساعة. حتى في تلك الأيام التي كان يُقيم حلقة درسه في مسجد (سلماسي) بمدينة قم، وكان بعض التلاميذ يحضرون درساً
 
 

1- آية الله بني فضل، ص32-33.
 
 
 
 
 
151

131

النـظم فـي الأمـور

 آخر، وكانوا يلتحقون بحلقة الدرس متأخّرين بعض الشيء. فكان سماحته يستاء من ذلك وكان يُنبّه إليه أحياناً. والمعروف أنّ الإمام نفسه في مرحلة الدراسة، كان يحضر دروس أساتذته بشكل منتظم وفي الوقت المحدّد. وفي هذا الخصوص يقول المرحوم آية الله الشاه آبادي - أستاذ الإمام في العرفان - وهو يصف نظم الإمام وحضوره المنتظم حلقات الدرس: (روح الله هو روح الله حقّاً. فلم يحدث أن التحق بحلقة الدرس بعد قول بسم الله.. كان حاضراً دائماً قبل أن أنطق ب بسم الله والشروع بالدرس)1.


حتى لم يتأخّر دقيقة واحدة
من خصوصيّات الإمام أنّه كان يولي أهمّية كبيرة لحلقة الدرس، وكان حريصاً دائماً على الحضور في الوقت المحدّد. حتى أنّه لم يكن يتأخّر دقيقة واحدة.. ففي سنوات الكبت والاختناق، كان سماحته يُدرّس في المدرسة الفيضية. وفي أحد الأيّام هاجم (السافاك) المدرسة الفيضية. وحينها كان الجميع حاضرين، وقد حضر الإمام في الوقت المحدّد كالعادة. وفيما كنّا نتوقّع بأنّ الإمام سيُلغي الدرس في ظلّ هذه الأوضاع، غير أنّ سماحته جلس على الأرض في صحن السيّدة (معصومة) وبدأ الدرس2.

حضور الدرس في الوقت المحدّد
أحياناً كان الطلبة يأتون إلى حلقة الدرس بشكل غير منتظم، إضافة إلى
 
 

1- آية الله بني فضل، ص32-33.
2- آية الله نوري همداني، ص33.
 
 
 
 
 
152

132

النـظم فـي الأمـور

 أنّهم لم يكونوا منظّمين في شؤون حياتهم. وكان الإمام يستاء لذلك، وكان يُكرّر هذه الملاحظة على أسماع تلامذته في مناسبات عديدة: إنّ الذين استطاعوا أن يتوفّقوا في الحياة، وأن تُكلّل جهودهم بالنجاح، هم مَنْ اتّسمت حياتهم بالنظم والانضباط1.


مع توزيع الوقت تتّسم الأعمال بالبركة
ينقل الإمام عن أستاذه المرحوم آية الله الشاه آبادي قوله، بأنّ صاحب كتاب (الجواهر) كان قد وضع لنفسه برنامجاً محدّداً لتأليف كتابه (جواهر الكلام). وكان يتفرّغ لكتابة مقدار منه في كلّ ليلة.. وكان لديه ابن عالم فاضل يودّه كثيراً توفّاه الله. وصادف أن تمّ إرجاء تشييع جنازته إلى اليوم التّالي. وفي المساء وضعوا الجنازة في غرفة والده. وفي تلك الليلة جلس صاحب الجواهر إلى جوار جنازة ابنه وكتب المقدار الذي كان ينبغي له كتابته في تلك الليلة.. بعدما نقل الإمام هذه الحكاية، قال: أيّها السّادة! يجب أن تجدّوا وتجتهدوا، وأن تهتمّوا بنظم أعمالكم. لأنّ مع النظم وتوزيع الوقت تتّسم الأعمال بالبركة2.

لنقل للسيّد أن يأتي بشكل منتظم
في أحد فصول الصيف كان الإمام في طهران، وكان يحضر صلاة الجماعة بإمامة آية الله السيّد أبي الحسن الرفيعي القزويني.. كان السيّد الرفيعي
 
 

1- السيّد حميد روحاني، ص29-30.
2- آية الله قديري، ص30.
 
 
 
 
153

 


133

النـظم فـي الأمـور

 يُقيم صلاتي المغرب والعشاء جماعة في مسجد جمعة طهران، إلا أنّه لم يكن يأتِ بشكل منتظم. وفي أحد الأيّام تأخّر السيّد الرفيعي، فنهض الإمام وقال للحاضرين الذين كانوا ينتظرون إقامة صلاة الجماعة: "تعالوا لنقل للسيّد الرفيعي أن يأتي بشكل منتظم. لأنّ مجيئه بصورة غير منتظمة يُضيّع وقت الكثيرين.. لنقل للسيّد أن يأتي بشكل منتظم".


بعدها جاء السيّد الرفيعي وأقام الصلاة. وما أن انتهى من الصلاة حتى قال له أحد الحاضرين: ثمّة سيّد شاب كان يقول للحاضرين لنقل للسيّد الرفيعي أن يأتي بشكل منتظم. إنّه يعترض على عدم انتظامكم في المجيء. فقال السيّد الرفيعي: ومن هو هذا السيّد؟ فأشار الرجل إلى الإمام الذي كان واقفاً يُصلّي في الجانب الآخر.. وما أن وقع نظر السيّد الرفيعي على الإمام حتى قال: إنّه الحاج السيّد روح الله. إنّه رجل في غاية الفضل والزهد والتقوى والنظم والتهذيب. إنّه محقّ فيما يقول. فإذا ما تأخّرت أحياناً قدّموه ليُقيم الصلاة بدلاً عنّي1.

النظم حتى في الزنزانة الانفرادية
بعد اعتقال الإمام في ليلة الخامس عشر من خرداد ونقله إلى طهران، وتمّ احتجازه لمدّة تسعة عشر يوماً. ومن ثم نقلوه إلى زنزانة انفرادية لمدّة 24 ساعة. وعن وجوده في هذه الزنزانة يقول الإمام: كان طول الزنزانة أربعة أقدام ونصف القدم، وكنتُ أتمشّى فيها ثلاث مرّات في كلّ مرّة نصف ساعة، طبقاً لما اعتدت عليه في كلّ يوم2.
 

1- آية الله حسيني نوري، ص30-31.
2- الدكتور محمود بروجردي، ص18.
 
 
 
 
154

134

النـظم فـي الأمـور

 14 عاماً واظب على الزيارة

كان من عادة الإمام خلال فترة إقامته في النجف، أن يأتي في الليالي بعد ساعتين ونصف من وقت الغروب، وفي السنوات الأخيرة بعد ساعتين من دخول الليل، يأتي ويجلس في القسم الخارجي من المنـزل يستقبل الطلّاب والناس. وفي وبعد الغروب بثلاث ساعات، كان يتوجّه إلى مرقد الإمام أمير المؤمنين، وكان يقرأ زيارة (أمين الله) واقفاً أمام الضريح، وزيارة (الجامعة) جالساً، ومن ثم يعود إلى المنـزل بعد إقامة صلاة الزيارة.. كان هذا برنامج السيّد (الإمام) طوال أربعة عشر عاماً من إقامته في النجف، باستثناء ليالي السبت في فصل الصيف حيث كان موعد غسل المرقد والأروقة بعد صلاة المغرب والعشاء. ففي هذه الليالي لم يكن الإمام يذهب إلى المرقد الطاهر..1

عندما كان الإمام يذهب إلى المرقد الشريف
في النجف اعتاد الإمام على الجلوس بعد صلاتي المغرب والعشاء، في القسم الخارجي من المنـزل. وكانت المشاركة في هذا المجلس متاحة للجميع، حيث بوسع كلّ فرد أن يلتقي الإمام والتحدّث إليه. وبعد انتهاء هذه الجلسة، كان الإمام يتوجّه إلى الحرم العلوي.. كانت الجلسة تستمرّ إلى ما بعد ثلاث ساعات من الغروب. كان هذا البرنامج منظّماً بحيث إذا ما أراد أحدهم تنظيم توقيت ساعته، كان بوسعه إذا ما رأى الإمام في شارع الرسول، حيث كان منـزل سماحته، متوجّهاً إلى الصحن الشريف، يعلم بأنّ الساعة تُشير إلى
 
 

1- حجة الإسلام سيد مجتبى رودباري، ص25.
 
 
 
 
155

135

النـظم فـي الأمـور

 مرور ثلاث ساعات على الغروب. أو عندما كان يخرج سماحته من الصحن، يعلم بأنّ الساعة تُشير إلى مرور ثلاث ساعات ونصف على الغروب1.


النظم في زيارة المرقد الشريف
في إحدى زياراتي للعراق، كنتُ في أحد الأيام جالساً في صحن الإمام أمير المؤمنين مع عدد من الطلبة وفضلاء الحوزة نتبادل أطراف الحديث بعد صلاتي المغرب والعشاء.. وعندما انتهى الحديث وأراد السادة الانصراف، نظروا إلى ساعاتهم، فحدث تباين في الوقت.. ساعة الصحن الشريف، التي كانت بالتوقيت (العربي)، كانت تُشير إلى الساعة الثانية والنصف (بعد المغرب). وكانت تتباين مع توقيت ساعات السادة بنحو خمس إلى سبع دقائق. وفي هذه الأثناء دخل الإمام الصحن من (باب القبلة). فقال أحد أساتذة النجف الذي كان حاضراً: نظّموا ساعاتكم. الساعة الآن تُشير إلى الثانية والنصف من دخول الليل. وأضاف: منذ ثلاثة عشر عاماً - ثلاثة عشر عاماً من إقامة الإمام في النجف - والإمام يدخل الصحن الشريف في مثل هذه الساعة من كلّ ليلة2.

بقي على وقت العشاء عشر دقائق
جلب بعض الإخوة، لدى مجيئهم إلى فرنسا، فيلماً يصوّر أحداث الثورة في إيران. وقد اقترحوا أن يُشاهده الإمام بعد تناول العشاء.. ومع اقتراب
 

1- آية الله محمد هادي معرفت، ص24.
2- آية الله عبد المجيد إيرواني.
 
 
 
 
156

136

النـظم فـي الأمـور

 موعد العشاء قلتُ لسماحته: العشاء جاهز، هل آتي به؟.. نظر الإمام إلى الساعة وقال: "لا زالت هناك عشر دقائق على موعد العشاء".. إنّ ساعات الليل والنهار كانت بالنسبة للإمام موزّعة بانتظام بشكل كان باستطاعتنا التنبّؤ بماذا ينشغل الإمام في كلّ ساعة دون أن نرى سماحته1.


شؤون الإمام خلال الأربع والعشرين ساعة
كان لدى الإمام جدول محدّد بالنسبة لشؤونه اليومية قد أعدّه بنفسه، يقوم بموجبه بأعماله على مدار الساعة فيما عدا ساعات معدودة من الليل حيث كان ينهض من النوم لصلاة الليل والتهجّد والعبادة2.

نظم للأعمال دقيق وتلقائي
يستطيع الإنسان أن يُنظّم أوقاته من خلال ممارسة الإمام لشؤونه اليومية. حتى أنّ أهالي المنـزل يعتبرون سيرة سماحته، من حيث النظم والانضباط، بمثابة ساعة توقيت تعمل بصورة مبرمجة وبشكل تلقائي. ولهذا كانوا يُنظّمون أوقات أدائهم لمهامهم من خلال أعمال الإمام. إذ كانوا يعلمون على وجه الدقّة متى ينام ومتى يستيقظ، ومتى يرغب في تناول الشاي، ومتى يخرج إلى القسم الخارجي من المنـزل3.
 
 

1- دباغ، ص9.
2- حجة الإسلام أنصاري، ص7.
3-  م.ن، ص26.
 
 
 
 
157

137

النـظم فـي الأمـور

 البرنامج الأسبوعي المنتظم للإمام

بغضّ النظر عن النظم والانضباط الذي كان حاكماً على أداء الإمام لشؤونه وأعماله، كان سماحته حريصاً لئلّا ينشغل بأداء عمل يؤدّي إلى تضييع جهود الآخرين وتجاهلها. ففي كلّ يوم ينشغل بالعبادة وتلاوة القرآن وقراءة الأدعية والمطالعات المختلفة، والاستماع إلى الأخبار، والمشي وممارسة التمارين الرياضية - التي كان يؤدّيها بناءً على نصائح الأطبّاء المشرفين على علاج سماحته حفاظاً على سلامته - والمتابعات الفكرية، والإجابة على المسائل الشرعية والإجازات وإيصالات الوجوه الشرعية، واللقاءات، وقضاء بعض الوقت مع أفراد الأسرة، وتناول الطعام والنظافة، والاستراحة.. إنّ كلّ واحد من هذه الأمور كان الإمام يؤدّيه بشكل منتظم وفي موعده. وأنّ نفس هذا النظم كان حاكماً على برنامجه الأسبوعي.. على سبيل المثال، كان يستعدّ للاستحمام صباح كلّ جمعة بعد سماع موجز أخبار الساعة الثامنة1.

إذا كان لديه موعد لن يؤجّله
كان الإمام يتمتّع بنظم خاص في حياته، وكانت أعماله تؤدّى في أوقاتها المحدّدة. أي كان دقيقاً للغاية في أن يتناول الغداء في ساعة معيّنة، وأن ينام في وقت محدّد، وأن يستيقظ في الموعد المحدّد. وإذا كان لديه عمل، أو حدّد موعداً لأحد، فإنّه غير مستعدٍّ لتأجيله أبداً.. إنّ أحد أسرار نجاح الإمام يكمن في أنّه كان منظّماً في كلّ شيء، وكان معروفاً منذ شبابه بالترتيب والنظم.. وكان بدرجة من النظم والدقّة بحيث إذا ما تأخّر خمس دقائق - مثلاً -
 

1- حجة الإسلام رحيميان، ص6.
 
 
 
 
158

138

النـظم فـي الأمـور

 عن موعد تناول الغداء، يقلق الجميع لتأخّره، وكان الجميع يتوجّه لا إرادياً صوب غرفته لئلّا يكون قد حدث لسماحته طارئ. وحينها نرى - مثلاً - أنّ الحاج السيّد أحمد عنده ليسأل عن موضوع ما، مما حال دون تناوله الطعام في الموعد المحدّد1.


الاستفادة المثلى من الوقت
كان لدى الإمام برنامج خاص لجميع الأوقات على مدار الساعة. أي كان لديه وقت محدّد للمطالعة والعبادة والتهجّد والدعاء، ومتابعة أمور المسلمين والبلاد الإسلامية. كذلك وقت محدّد للنوم وكافّة شؤونه الشخصية. وإنّ نفس هذا الأمر كان مدعاة لأنْ يستفيد سماحته من جميع لحظات عمره المبارك على أحسن وجه، وأن يتحلّى بروح سامية لا توصف.. فقد وزّع أوقاته في النهار بصورة لا تقتصر على قراءة الصحف فقط، وإنّما يولّي اهتماماً خاصّاً للموضوعات التي تنشر في وسائل الإعلام العامّة بنحو كان يحرص على متابعة برامج الإذاعة والتلفزيون والصحافة الداخلية2.

النظم في برنامج عمل يوم كامل
الشؤون اليومية للإمام في غاية النظم. وهذا يعني إذا ما نظرنا إلى برنامج عمل سماحته على مدار يوم كامل، وضربنا ذلك في 365 يوماً، يتّضح برنامج عمل الإمام على مدار السنة.. عموماً يبدأ البرنامج الساعة السابعة صباحاً
 
 

1- فريدة مصطفوي.
2- حجة الإسلام علي أكبر آشتياني، ص10.
 
 
 
 
160

139

النـظم فـي الأمـور

 حيث يأتي الإمام إلى مكتبه في القسم الخارجي من المنـزل ويبدأ نشاطه في المتابعات واللقاءات.. طبعاً أحياناً يُجري له الطبيب بعض الفحوصات، وأحياناً يأتي السادة رسولي وتوسّلي، فيقوم السيّد أنصاري باطلاعهم على المهام الموكلة إليهم، وهي في الغالب مهام خاصّة يُكلّفون بها من قِبَل الإمام.. كذلك ثمّة لقاءات للإمام مع أفراد وأشخاص من كافّة الفئات والطبقات ومن مختلف أنحاء البلاد ممن لديهم حاجة. هذا فضلاً عن المهام الحكومية التي يودّ كبار المسؤولين في الدولة إطلاع الإمام عليها وأخذ التوجيهات اللازمة.. بعد ذلك يخرج الإمام من مكتبه حوالي الساعة التاسعة ويتوجّه إلى القسم الداخلي من المنـزل، حيث يحين موعد المشي. إذ اعتاد سماحته على المشي لمدّة نصف ساعة، أي حتى الساعة التاسعة والنصف. بعدها يذهب إلى غرفته حيث يقوم بمطالعة النشرات الخبرية الداخلية والتقارير التي يتمّ إرسالها إلى سماحته من مختلف أنحاء البلاد وكلّها ممهورة ومختومة يقوم الإمام بفتحها بنفسه ويحرص على مطالعتها كلّها.. تستمرّ المطالعة حتى الساعة العاشرة إلا ربعاً. عندها يأتون لسماحته بالفاكهة وهي متنوّعة باختلاف الفصول، مثل (يوسف أفندي) والتوت والخس.. ثم يتوجّه إلى سريره، أي يذهب في الساعة العاشرة وعشر دقائق ليستلقي وينام حتى الساعة الحادية عشرة والنصف. - طبعاً نحن لا نعلم إنْ كان نائماً حقّاً أو صاحياً - .. بعد أن يستيقظ يستعدّ للصلاة، أي يتوضّأ ويقرأ القرآن والنوافل ثم الصلاة. وفي الساعة الواحدة وخمس دقائق يأتي لتناول الغداء.. بعد الانتهاء من الصلاة وحتى أن يجهز الغداء، ثمّة عشر دقائق. فإذا كان أحد أبنائه موجوداً يتحدّث معه بعض الوقت، وإن لم يكن ينشغل بالمطالعة لاستكمال ما بدأه في الصباح. وفي الساعة الواحدة وخمس دقائق بالضبط يأتي إلى زوجته لتناول الغداء.. وإنّ غداء سماحته لا يزيد على مرقة اللحم يومياً.. مرقة اللحم بالليمون. وإذا ما حاولوا استبدالها بنوع آخر أحياناً لم يكن يستسيغه كثيراً.. تُعجبه مرقة اللحم بالليمون أكثر من أيّ شيء آخر.. طبعاً إذا كان هناك رز أو مرقة أخرى، كان يأكل منها، غير أنّ بقية أفراد الأسرة لا يتناولون مرقة اللحم لأنّها خاصّة بسماحته.. والمعروف أنّ تناوله للغداء كان يتّسم ببرنامج خاص. حيث كان سماحته يُعلّق أولاً فوطة برقبته تمتدّ إلى أسفل الحضن. ومن ثم يضع قطعة من (النايلون) السميك موضوعة داخل كيس نايلون رقيق، على الفوطة.. إذ يجب أن يكون كلّ شيء منظّماً ودقيقاً. وإذا ما تمّ استبدال شيء من المائدة، الإناء الذي يوضع تحت صحن مرقة اللحم - مثلاً -، كان سماحته يسأل عن السبب، على الرغم من أنّ الإناء الموضوع تحت الصحن ليس له علاقة بالطعام.. فلا بدّ من وضع الإناء تحت صحن مرقة اللحم وهو واحد لا يتغيّر.. كما أنّ كلّاً من صحن الطعام والملاعق خاصّة بالإمام ولا يستخدمها أحد غيره.. وبعد تناول الطعام يتحدّث عدّة دقائق إذا ما أراد، خاصة إذا ما كنّا نحن هناك أو إحدى البنات والأحفاد.. طبعاً طوال هذه الفترة يكون جهاز الراديو معه يستمع إليه. حيث يستمع إلى وقائع جلسات مجلس الشورى. وكان سماحته يحرص على الاستماع إلى المحاضرات التي كانت تُذاع من الراديو ما بين الساعة الواحدة إلى الساعة الثانية عصراً. وعند الساعة الثانية يتوجّه إلى غرفته ويستمع إلى نشرة أخبار الساعة الثانية. ويبقى في غرفته يطّلع على التقارير الإخبارية حتى العصر. ثم ينام بعض الوقت وينهض في تمام الساعة الرابعة ليتناول قدحاً من الشاي. ثم يمشي لمدة نصف ساعة، إذ إنّه حريص على أن يكون المشي على رأس الساعة.. خلال فترة المشي ينشغل الإمام بالذكر. طبعاً إذا لم يكن يُذاع في الراديو موضوع مهم. وإذا ما كان ثمّة ظرف خاصّ من

 
 
 
 
 
161

140

النـظم فـي الأمـور

 الناحية السياسية أو الأحداث التي تشهدها البلاد، فإنّه يحرص على الاستماع إلى الراديو بدقّة. وممّا يُذكر في هذا الصدد أنّ لدى الإمام راديو ذا حزام طويل يُعلّقه على كتفه، وأحياناً يقرأ الصحيفة وهو يستمع إلى الراديو.. وفي بعض الأحيان تكون في يده مسبحة يلهج بالذكر.. طبعاً من الممكن أن يلتف الأطفال من أحفاده من حوله ويسحبون يده ويحرفون مسيره ولا يقول شيئاً. ومن الطبيعي يكون ذلك في الحالات التي لم يكن يرغب بالاستماع إلى الراديو بشكل دقيق. أمّا في الحالات الخاصّة فلا يسمح باقتراب الأطفال منه، أو أن نُكلّمه، كي يتسنّى له الإصغاء إلى الراديو جيّداً.


تنتهي فترة المشي في الساعة الرابعة والنصف، فيجلس ويتناول قدحاً من الشاي.. طبعاً خلال الصيف تتغيّر مواقيت هذا البرنامج بعض الشيء. أي ليس بالضرورة أن يستيقظ من النوم في تمام الساعة الرابعة دائماً. إذ إنّ ذلك يتبع طول النهار وقصره. فإذا كان النهار طويلاً فإنّه يهتم، بعد انتهاء فترة المشي، بقراءة الصحف الصباحية والمسائية. وإنّ من الموضوعات التي يُدقّق فيها هي: الافتتاحية، وكذلك المقالات التي يهتمّ بقراءتها بشكل خاصّ، ويحرص على قراءتها بنفسه.. وإذا ما كان متعباً، أو كنّا نحن عنده، وكي لا نبقى بلا عمل، يطلب منّا أحياناً أن نقرأ له الصحف. فنقرأ له بعض الموضوعات التي يرغب بالاطلاع عليها.. وعشية الغروب يعود إلى تلاوة القرآن. وبعد التلاوة، يتوضّأ مرّة أخرى ويعود لقراءة القرآن ثانية ومن ثم يستعدّ للصلاة. وبطبيعة الحال إنّ صلاة سماحته تكون مقرونة بالنوافل. وفي معظم الأوقات يتوجّه إلى باحة المنـزل ليُصلّي في فضاء مفتوح، إلا إذا كان الطقس بارداً جدّاً ويخشى الإصابة بالزكام.. ثم يعود إلى غرفته وينشغل بالمطالعة..
 
 
 
 
 
 
162

141

النـظم فـي الأمـور

 من الكتب التي يحرص على مطالعتها، الإصدارات الحديثة التي يتصفّحها بدقّة. كما أنّه يحرص على متابعة الصحافة اليومية. وما أن يبدأ التلفاز ببثّ برامجه للفترة المسائية، يترك سماحته الراديو جانباً ويهتمّ بمشاهدة برامج التلفزيون، سواء القناة الأولى والقناة الثانية.. وما بين الصلاة والانتهاء من المطالعة، ثمّة فترة تتراوح ما بين الربع ساعة والعشرين دقيقة، لا أتذكّر على وجه الدقّة ماذا يفعل خلالها، ربما يستمع إلى الإذاعات الأجنبية حتى تحين الساعة السابعة مساءً.. وقد اعتاد سماحته على الاستماع إلى الأخبار باهتمام شديد إلى درجة يكتفي بالردّ على تحيّتنا دون أن يُكلّمنا. وإذا ما أراد أن يتفقّد أحوالنا فإنّ ذلك يكون من خلال حركة العين، ممّا يعني ينبغي لنا التزام الصمت. وإذا كنّا في الغرفة فإنّه ينبغي لنا عدم التحدّث حتى فيما بيننا، لأنّ ذلك يُزعجه إلا أنّه لا يقول شيئاً، وبطبيعة الحال نحن نُلاحظ ذلك. وإذا ما كانت ثمّة مقابلة أو حديث خاص بعد نشرة الأخبار والتقارير الإخبارية، كان يستمع إليها دون شكّ. وطبعاً ثمّة برامج كانت تحظى بإعجاب الإمام أكثر من غيرها. وفي الوقت نفسه هناك برامج لا تُعجبه من قبيل برنامج (الأسرة) مثلاً. ففي إحدى المرّات كنتُ عنده وكان التلفاز يبثّ برنامج الأسرة، فلم يُعجبه فقام وأطفأ التلفاز. وعندما أردتُ معرفة السبب، قال: برنامج غير جيّد أصلاً. قلتُ: لماذا؟ قال: متصنّع كثيراً وغير جيّد أساساً..


بعد سماع نشرة الأخبار، ثمّة ربع ساعة مخصّصة للاسترخاء، حيث يضطّجع على الأرض ويضع تحت رأسه وسادة. ويقوم - وفقاً لنصائح - برفع قدميه إلى الأعلى وثنيها ومدّها من منطقة الركبة.. يقوم بهذه الحركة عدّة مرّات بناءً على توصية الأطباء.

يطلب سماحته إحضار العشاء على رأس الساعة التاسعة. طبعاً تجهيز
 
 
 
 
 
 
 
 
163

142

النـظم فـي الأمـور

 العشاء يستغرق بعض الوقت، فيجلس سماحته يُشاهد التلفاز.


وبعد تناول العشاء، يتفرّغ سماحته لشؤونه الخاصّة حتى تحين الساعة العاشرة مساءً. وفي الساعة العاشرة، أو العاشرة وعشر دقائق، يتوجّه إلى غرفته للنوم. وفي الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، ينهض لصلاة الليل. هنا أيضاً تتغيّر المواقيت بعض الشيء بناءً على تغيير الفصول، حيث تتغيّر مواعيد النوم والاستيقاظ.

يستيقظ الإمام في الساعة الثانية والنصف تقريباً لصلاة الليل. وبعد صلاة الليل ثمّة فاصلة حتى أذان الفجر. وخلال هذه الفترة يحاول التعرّف على الاستفتاءات التي صدرت عن مكتب سماحته، إذ يحرص على الاطلاع عليها شخصيّاً. ولهذا يقوم المعنيّون في المكتب بوضعها في علبة خاصّة من الكارتون ويضعونها في متناول الإمام، فينتهز الإمام هذه الفترة للاطلاع عليها. بعدها ينهض لصلاة الصبح.. وبعد صلاة الصبح يسترخي حتى الساعة السادسة حيث ينهض ويتمشّى لمدّة نصف ساعة، بعدها يقرأ القرآن. ثم يأتون إليه بالفطور على رأس الساعة السادسة والنصف. وعموماً يكون قد أكمل فطوره قبل الساعة السابعة. وفي تمام الساعة السابعة يتوجّه إلى المكتب وهكذا يبدأ يوماً جديداً1.

أستطيع أن لا أُفكّر
مقابل إصرارنا وافق الإمام على أن يُحدّثنا عن ذكرياته أثناء اعتقاله ونفيه إلى تركيا. وفي ضوء ذلك كان يُحدّثنا مساءً كلّ يوم لمدّة عشر دقائق فقط
 
 

1- زهرا مصطفوي، ص10 إلى 14.
 
 
 
 
 
164

143

النـظم فـي الأمـور

 وبشكل منتظم. وبعد انتهاء الدقائق العشرة يتوجّه إلى سريره، وكان يقول: "وإنْ كنتُ لن أغفو، ولكنّه وقت النوم.". فقلتُ: عندما تكون يقظاً وأنت في السرير، فإنّ الأفكار تهجم عليك مرّة واحدة، لذا حاول أن تبقى معنا وتكمل حديثك. فقال: "كلا، أستطيع أن لا أُفكّر". قلتُ: إذا كنت تتقلّب في فراشك ولن يغلبك النوم، هل تستطيع أن لا تُفكّر؟ فقال: "أستطيع أن لا أُفكّر"1.


المشي والذكر معاً
طوال حياته حرص الإمام على تلاوة القرآن ثلاث مرّات في اليوم، فضلاً عن الأذكار التي اعتاد على اللهج بها. وفيما يتعلّق بالأذكار، كانت تقترن مع فترة المشي عموماً. فإذا ما أراد أن يمشي نصف ساعة - مثلاً - كان طوال النصف ساعة هذه يلهج بالذكر. وعندما كان ينتهي الذكر كان يتوقّف عن المشي أيضاً. وهذا يعني أنّ المشي نصف ساعة لم يكن على ضوء ملاحظة عقارب الساعة، وإنّما يعرف أنّ الوقت انتهى مع انتهاء الذكر2.

لا بدّ من الترفيه
عندما كان الإمام يراني منهمكاً بالعمل في أيّام العطل، كان يقول: "لا جدوى من ذلك. لا بدّ لك من أن ترفّه عن نفسك في الوقت المخصّص للترفيه". وكان يقول ذلك لحفيده أيضاً. فقد سمعته مرّة يقول لابني: "أنا لم أتخلّ ولو عن ساعة واحدة من الوقت المخصّص للترفيه من أجل الدرس،
 
 

1- طباطبائي، ص14.
2- آية الله توسّلي، ج2، ص17.
 
 
 
 
 
165

144

النـظم فـي الأمـور

 ولا عن ساعة واحدة من أوقات دروسي من أجل الترفيه".. وهذا يعني بأنّه كان قد خصّص وقتاً محدّداً لكلّ شيء، وأنّه كان يتقدّم بهذه النصيحة لابني أيضاً، ويطلب منه أن يُخصّص وقتاً للتسلية، فإنْ لم يفعل ذلك لا يستطيع أن يعدّ نفسه جيّداً للدراسة20.


لا تدرس في ساعة الترفيه
أتذكّر بأنّ الإمام كان يقول دائماً: لا تدرس في ساعة الترفيه، ولا تتسلّى في ساعة الدرس. فلكلّ واحد منهما وقته الخاص، وهما متلازمان. اللعب والجد كاللازم والملزوم21.
 
 

1- زهرا مصطفوي، ص31.
2- عاطفة أشرقي.
 
 
 
 
 
166

145

المطالعة وكثرة المشاغل

 المطالعة وكثرة المشاغل


لم يكن يرى من وراء الكتب أحياناً
منذ اليوم الأول الذي وعيت فيه نفسي، كنتُ أرى الإمام غارقاً بين كتبه. فكثيراً ما كان يحدث أن أدخل غرفة الإمام حاملاً له الشاي، فأجده منشغلاً بالمطالعة وكتب كثيرة مفتوحة موزّعة من حوله.. كانت الكتب بدرجة من الكثرة بحيث لم يكن بالإمكان رؤية الإمام من وراء الكتب .. الإمام يقضي معظم وقته في المنـزل، وكان منهمكاً بالمطالعة دائماً. وقد اعتاد على الخروج من المنـزل قبل ساعة ونصف على وقت الغروب متوجّهاً إلى حلقة درسه1.

كان يُحبّ المطالعة
الإمام يُحبّ المطالعة عموماً، ولا يزال لحدّ الآن لا يكفّ عن المطالعة حتى تتعب عيناه.. وأتذكّر عندما كنّا نأتي في الصيف إلى طهران، كان ينكبّ على مطالعة الكتب المتنوّعة إلى الحدّ الذي يُثير اعتراض ممن جلبوا له هذه الكتب. وممّا يُذكر في هذا الصدد أنّ سماحته قرأ معظم مؤلّفات كبار الكتّاب في العالم، في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية، وكان من أكثر علماء
 
 

1- فريدة مصطفوي، ج2، ص333.
 
 
 
 
 
167

146

المطالعة وكثرة المشاغل

 الدين قراءة.. لقد قرأ تاريخ إيران كراراً، وأحاط بتاريخ الحركة الدستورية جيّداً1.

 


البقاء مستيقظاً بعد صلاة الفجر
في حدود علمي، إنّ أوقات مطالعة الإمام كانت بمعزل عن أوقات الترفيه. ونظراً لأنّ الإمام إنسان منظّم أساساً وتتّسم كلّ أعماله بالترتيب والانضباط، لذا فمن الطبيعي أن تكون مطالعاته منتظمة أيضاً.. وما أتذكّره منذ فترة الطفولة، هو أنّ الإمام كان يقرأ كثيراً. وعندما كنّا نستيقظ في الصباح كنّا نرى سماحته مستيقظاً، وكانت والدتي تقول: لقد اعتاد على البقاء مستيقظاً بعد صلاة الفجر2.

لم يكن يُرى بين الكتب
كانت مطالعات الإمام كثيرة جدّاً، حتى أنّه عندما كنتُ أدخل غرفته، كنتُ أراه غارقاً بين الكتب.. كان يجلس وأمامه طاولته الصغيرة، وكانت الكتب موزّعة من حوله على ارتفاع متر واحد. حتى أنّ سماحته لم يكن يُرى من وراء الكتب. وكثيراً ما كان يمزح البعض قائلاً: السيّد متسمرّ في مكانه.. حتى الأصدقاء الذين كانوا يأتون لرؤيته، كان يلتقيهم على هذه الحالة. والطريف هو عندما كان يريد الشاي، كان يضرب بالملعقة على الصحن الصغير أو بقدح الشاي. وعندما يحين وقت الغداء، كان ينهض ويخرج من غرفته3.
 
 

1- السيّد أحمد الخميني، ص334.
2- زهرا مصطفوي، ص335.
3- صدّيقة مصطفوي.
 
 
 
 
 
168

147

المطالعة وكثرة المشاغل

 لم يكن ينام أكثر من ساعتين أو ثلاث

الإمام وفضلاً عن إصدار البيانات والخطابات، كان ينكبّ على كتابة الرسائل إلى العلماء في كافّة أنحاء البلاد. وكان المرحوم الحاج السيّد مصطفى يقول: إنّ السيّد (الإمام) لم يكن ينام الليل أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات خلال أحداث مجالس الأقاليم والولايات التي شهدتها البلاد عام 1341هـ.ش (1962م)، وكيف أنّه كان يمضي بقية الليل في كتابة الرسائل إلى علماء الدين في مختلف أنحاء البلاد. وفي هذا الصدد أستطيع القول بأنّ الإمام كتب مئات الرسائل إلى علماء الدين في الأقاليم يلفت أنظارهم إلى المخاطر التي تُهدّد العالم الإسلامي. وكان يتناول بالشرح والتوضيح مخطّطات أميركا وإسرائيل، وكيف أنّهما يُخطّطان لإقصاء الإسلام من مسرح الأحداث. وإنّ بعض هذه الرسائل كان يُطبع ويوزّع، وكان ذلك يترك تأثيراً كبيراً ويُثير ضجّة ملفتة. وإنّ إحدى هذه الرسائل - حسبما أتذكّر - كانت موجّهة إلى السيّد فلسفي، وقد قام بقراءتها من على المنبر في مسجد (ارك)، وكنتُ أنا حاضراً في ذلك المجلس. فعندما قال: أمّا رسالة آية الله الخميني. ساد الصمت المجلس واشرأبت الأعناق لسماع ما سيقوله.. هكذا كانت رسائل الإمام تستحوذ على اهتمام الناس وتحظى بتوجّهاتهم. وكان الإمام قد أورد في نهاية الرسالة سورة الفيل كاملة. وعندما قرأ السيّد فلسفي السورة، التهب حماس الناس بشكل أخذوا يُردّدون معه المفردة الأخيرة من كل آية بصوت واحد.. مثلاً عندما كان السيّد فلسفي يقول: (بأصحاب الفيل)، (في تضليل)، كان الحضور يُكرّرون معه بصوت واحد: (الفيل)، (تضليل).. باختصار، اتخذت رسالة الإمام هذه التي قرأت في مسجد (ارك)، حالة من الأنشودة الجماعية وقد ألهبت مشاعر الحاضرين1.
 
 

1- آية الله خامنئي، ص338-339.
 
 
 
 
169

148

المطالعة وكثرة المشاغل

 كان إمّا في حالة عبادة أو مطالعة

بعد وصول الإمام إلى النجف، استغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى جاءت أسرته. وكان سماحته يُقيم في منـزل متواضع تمّ استئجاره. فكان يُقيم في جانب منه، وخصّص الجانب الآخر لشؤونه العامّة. وطوال الوقت كان الإمام إمّا في حالة عبادة أو مطالعة. فالنظم والترتيب اللذان كانا حاكمين على حياة الإمام، كانا بمثابة درس مهم بالنسبة للذين كانوا يتردّدون على القسم الخارجي من منـزل الإمام، وكانوا يرون ذلك عن كثب1.

قرأ معظم الروايات المعروفة
لم يجد الإمام هذه الأيام الفرصة لقراءة الكتب الأدبية والثقافية، بيْدَ أنّه عندما كان في النجف، ربما كان يقرأ مئات الصفحات في اليوم من الروايات وكتب العلوم الاجتماعية. فقد كان يأتي بالعديد من الكتب يتصفّحها، حيث يقرأ من أحدها عشرين صفحة ومن ثان عشر صفحات، ومن ثالث خمس عشرة صفحة وهكذا. ومن المعلوم أنّ سماحته قرأ معظم الروايات المعروفة والكتب السياسية والاجتماعية. فقد قرأ كتاب (نظرة إلى تاريخ العالم) لجواهر لآل نهرو، وقرأ من الكتب التاريخية كتاب (زوج آهو خانم) من الغلاف إلى الغلاف.. عموماً أريد أن أقول إنّ الإمام كان يقرأ هذا النوع من الكتب2.
 
 

1- عباس علي عميد زنجاني، ص336.
2- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني، ج2، ص334.
 
 
 
 
170

149

المطالعة وكثرة المشاغل

 تنوّع المطالعات

ثمّة مطالعات في التاريخ والتفسير وكتب الأخلاق والحديث، شكّلت جانباً من اهتمامات الإمام. وكان سماحته يدوّن أحياناً بعض الملاحظات خلال قراءاته لهذا النوع من الكتب، وكان يستشهد بها في الموضع المناسب1.

لم يكن يغفل عن قضايا إيران
فيما يختصّ بقضايا النضال، لم يكن الإمام يغفل عن متابعة القضايا والأحداث التي تجري في إيران، رغم انشغاله بالبحوث والتأليف والتدريس. ونظراً لأنّي كنتُ آنذاك المسؤول عن الشؤون السياسية، فقد كان سماحته يؤكّد دائماً على ضرورة اطلاعه على الأخبار أوّل بأوّل، وكان يرصد ما يجري في إيران بدقّة متناهية. فأحياناً كنّا نرى الإمام ينهض في منتصف الليل ويكتب بياناً، ويأخذ الإخوة البيان ويصوّرونه ويطبعونه بالخفاء، ومن ثم إرساله إلى طهران. وعندما كنّا نُطلع سماحته على أنّ البيان قد وصل إيران، كان يبتهج لذلك2.

النظم اليومي في باريس رغم المشاغل الكثيرة
في باريس كان لدى الإمام، فضلاً عن الأحاديث العامّة ولقاء الطلبة الجامعيين والفئات الأخرى، التي كانت تتكرّر أكثر من مرّة في اليوم الواحد، كان لديه شؤونه الخاصّة من قبيل: الردّ على الاستفتاءات والأسئلة الشرعية،
 
 

1- حجة الإسلام أنصاري، ص335.
2- م.ن، ج4، ص271.
 
 
 
 
171

150

المطالعة وكثرة المشاغل

 والاطلاع على الأخبار والتحليلات البارزة التي تنشر في الصحافة الأجنبية، إضافة إلى متابعة التقارير الواصلة من إيران بشأن أحداث الثورة، وقراءة الرسائل التي تصله من الشخصيات السياسية والدينية من داخل إيران وخارجها، والردّ على الهام منها، ناهيك عن اللقاءات والمقابلات الصحافية، وكتابة البيانات والنداءات وفقاً لتتابع أحداث الثورة، إضافةً إلى أداء الفرائض والنوافل وتلاوة جزء من القرآن يومياً على مدى ثماني فترات، ولقاء الأسرة وأفراد المنـزل1.


برنامج يوم كامل في باريس
إذا ما أردنا التعرّف على برنامج عمل يومٍ كامل من وجود الإمام في باريس، فهو على النحو الآتي: كان الإمام ينام ما بين أربع إلى ستّ ساعات، أمّا بقيّة الوقت فقد كان منهمكاً بالعمل بشكل متواصل.. إذ اعتاد بعد صلاة الصبح، أن يتلو القرآن ويطّلع على الأخبار والتقارير حتى الساعة الثامنة. وكان يردّ على الرسائل التي تصل إليه من مختلف أنحاء العالم.. وبعد تناول الغداء، كان يخلد إلى النوم لمدّة ساعتين تقريباً، وبعدها ينشغل بمهامّه القيادية حتى يحين وقت صلاتي المغرب والعشاء.. كما أنّه كان يعمل - بعد الفراغ من الصلاة - حتى منتصف الليل. وحسبما يذكر المقرّبون من سماحته، بأنّ الإمام كان يذهب للنوم في الساعة الواحدة من بعد منتصف الليل2.
 
 

1- حجة الإسلام أنصاري، ج4، ص271.
2- صحفي جريدة اطلاعات، ص28.
 
 
 
 
172

151

المطالعة وكثرة المشاغل

 كان يعمل ليل نهار في فرنسا

كان الإمام في فرنسا يعمل ليل نهار. فلم يمرّ يوم دون أن يتحدّث إلى المحيطين به، أو يُجري مقابلة، أو يُصدر بياناً. حتى أنّ الذين كانوا يقابلون سماحته، كانوا يقولون: قلّما رأينا مثله.. فقد قال أحدهم: في غرفة لا تزيد أبعادها على 2×3م، يقيم رجل دين بمعزل عن أيّ تعارفات ومن دون طاولة وكراسي، وإذا ما تحدّث تتبعه إيران بأسرها بالتحرّك والانتفاضة1.

يسمع صرير القلم والورق في منتصف الليل
لم يكن الإمام ينام في فرنسا أكثر من أربع ساعات على مدى الأربع والعشرين ساعة، استجابة لمتطلّبات قيادة الثورة. وكان يذهب إلى سريره في الساعة الثانية عشرة أحياناً. ومع ذلك يتنادى إلى أسماعنا فجأة، بعد الثالثة من منتصف الليل، صرير القلم والورق من داخل غرفته.. وكان يحدث أحياناً إنْ لم يتسنّ له الاطلاع على ملخّص الصحف التي تمّ ترجمتها نظراً لكثرة مشاغله في النهار، فكان يتمّ تجهيزها في آخر الليل كي يتسنّى لسماحته الاطلاع عليها متى ما سنحت له الفرصة2.

لم أرَ الإمام بلا عمل مطلقاً
إنّ مثابرة الإمام في العمل، رغم كهولة سنّه، كانت محطّ حيرة ودهشة
 
 

1- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني، ج2، ص340.
2- دباغ، ص340-341.
 
 
 
 
 
173

152

المطالعة وكثرة المشاغل

 المحيطين بسماحته. فليس بوسع أحد أن يزعم بأنّه قد رأى الإمام - ولو مرّة واحدة - عاطلاً عن العمل، أو يمضي الوقت بلا هدف.. إنّني وطوال الفترة التي كنتُ فيها في خدمة الإمام، قد شهدتُ عن كثب بأنّه لا يوجد في حياة الإمام شيء اسمه فراغ من عمل الشعب وتوجّهات الثورة الإسلامية .. بالنسبة للإمام، ليس هناك فرق بين الصيف والشتاء، السبت والجمعة، العيد وغير العيد. فقد كان يمضي الوقت إمّا في العبادة أو المطالعة والاطلاع على التقارير التي كانت تصل سماحته1.


حقّقوا في هذا الموضوع
في أوائل الثورة، كانت هناك صحيفة أو مجلّة لكلّ فئة وجماعة. وكان الإمام يقول: هاتوا بها كلّها.. وخلافاً للتقليد المتّبع في قراءة الصحف، حيث يكتفي الكثيرون بالتعرّف على العناوين دون الخوض في التفاصيل، كان الإمام يهتمّ بالطريقة التي يُفكّر بها الصحفي وتوجّهاته السياسية. ولهذا كانت توضع تحت تصرّفه صباح كلّ يوم بشكل منتظم ودقيق، صحف من قبيل: الميزان، جمهوري إسلامي، آزاكان. كذلك الصحف المسائية من قبيل صحيفة الثورة الإسلامية، واطلاعات وكيهان. وإذا ما تأخّرت الصحف كان الإمام يأتي ويسأل عنها. وعلى الرغم من أنّ أخباراً مؤلّمة كانت تُنشر في العديد من الصحف، وكنّا نتحفّظ في تقديمها للإمام، غير أنّ حرص سماحته على قراءة معظم الصحف كان يحول دون ذلك. وفي كثير من الأحيان كان يقتطع أجزاء من الصحف ويطلب من أعضاء المكتب قائلاً: حقّقوا في هذا
 
 

1- حجة الإسلام رحيميان، ج2، ص340.
 
 
 
 
 
174

153

المطالعة وكثرة المشاغل

 الموضوع، ونبّهوا المسؤولين إليه. أو محاولة الاستفسار عن سبب تطرّقهم إلى هذا الموضوع؟1.


عمر الإمام المبارك
كنّا قد شهدنا مراراً بأنّ الإمام كان يحرص أثناء فترة المشي المسائية، التي كان يعتبرها رياضة وعملاً مهمّاً وضرورياً للحفاظ على سلامته، كان يحرص على الإمساك بالمسبحة بيده والانشغال بذكر الله. وكان في يده الأخرى جهاز راديو صغير يتعرّف من خلاله على ما يجري داخل البلاد وخارجها. وفي هذا الصدد يُمكن القول إنّ عمر الإمام الحقيقي ليس سبعة وثمانين عاماً، وإنّما كان أضعاف ذلك من الناحية العملية2.

تعريف الدقيقة
لم يكن الإمام يُضيّع وقته هدراً مطلقاً. وقد رأينا مراراً كيف أنّ سماحته كان ينشغل في الدقائق المعدودة التي كان يستغرقها إعداد المائدة، في المطالعة وتلاوة القرآن، دون أن يدعها تمضي هدراً. ومما يذكر في هذا الصدد أنّي كنتُ عند سماحته مرّةً لأمرٍ ما، وبعد الانتهاء منه، نظر إلى ساعته وقال: "هل تستطيع أن تُعرّف الدقيقة؟". وفيما كنتُ أُفكّر بالإجابة انقضت الدقيقة، والإمام أدار مفتاح الراديو، وانتبهت فجأة بأنّ سماحته كان يريد أن لا يُضيّع حتى دقيقة واحدة دون عمل، لأنّه قد اعتاد على الاستماع إلى موجز الأنباء في الموعد المحدّد3.
 
 

1- حجة الإسلام محمد علي أنصاري، ج4، ص267.
2- حجة الإسلام رحيميان، ج2، ص347.
3- حجة الإسلام مسيح بروجردي، ص348.
 
 
 
 
175

154

المطالعة وكثرة المشاغل

 كان يتلو القرآن في كلّ وقت

بعد الانتهاء من صلاتي الظهر والعصر، كان الإمام يستعدّ لتناول الغداء. وخلال المدّة القصيرة التي كان يستغرقها تحضير المائدة، كان يتناول القرآن ويقرأ فيه، حتى وإن كانت هذه الفترة لم تزيد أحياناً عن دقيقتين1.

كان يستثمر كلّ وقته
كان الإمام يستثمر أوقاته إلى أقصى حدٍّ ممكن. مثلاً إذا ما قيل له، بمثابة نصائح طبّية، بأنّ المشي مفيد لسلامتكم، فإنّ سماحته وضمن ممارسة المشي كان يستغلّ الوقت لأداء عمل آخر. على سبيل المثال، أثناء فترة المشي الصباحية كان يحمل معه راديو صغير ويستمع إلى وقائع جلسات مجلس الشورى. أو أنّه كان يستمع إلى الإذاعات الأجنبية خلال الفترة المسائية، أو يقرأ الصحف وهو يتمشّى.. كان سماحته يؤدّي أكثر من عمل في وقتٍ واحد. ففي الوقت الذي يعمل بنصائح الأطباء، كان ينتهز الفرصة للاطلاع على الأخبار والإحاطة بالأحداث2.

الاستثمار الكامل للوقت حتى في ذروة المرض
لم يكن الإمام يغفل عن المطالعة وتلاوة القرآن والتهجّد وصلاة الليل، حتى في الليلة التي سبقت إجراء العملية الجراحية ورقوده على سرير المستشفى، ورغم المرض والإنهاك المفرط. فلم يكن مستعدّاً لضياع لحظة واحدة من عمره دون أن يستغلّها3.
 
 

1- دباغ.
2- الدكتور حسن عارفي، ص348-349.
3- حجة الإسلام رسولي محلاتي.
 
 
 
 
 
176

155

الفطنة والتعرّف على العدو

 الفطنة والتعرّف على العدو


اعرف ما يريد قوله
من مصاديق الرؤية العميقة التي كان يتّسم بها الإمام، ليس إزاء أركان النظام الشاهنشاهي فقط، وإنّما بالنسبة للأفراد والجماعات والفئات التي كان يلتقي بهم، هي أنّه كان يتعرّف على الطرف المقابل من أوّل لقاء. وفي هذا الصدد نقل لي أخي الشهيد الحاج السيّد مصطفى بأنّ الإمام قد قال له: عندما كان يأتي بعض الأشخاص للقائي، كنتُ أعرف ما يريد قوله بمجرّد أن يفتح فمه وقبل أن ينتهي من كلامه، وما الذي يُخطّط له والنتيجة التي يبغاها من هذا اللقاء1.

تحلّى بالرصانة عند سماعك موضوعاً ما
قبل إقدام السلطات على اعتقال الإمام، انتشرت يوماً شائعة تفيد بخروج الشاه من إيران، وقد عملت الأجهزة الحكومية في قم على تقوية الشائعة وانتشارها، حيث تمّ استدعاء أفراد الشرطة من مراكز دوريّاتهم، وقُطعت الكهرباء في مناطق من المدينة. حتى أنّ أبناء المدينة كانوا يُهنِّؤون بعضهم
 
 

1- السيّد حميد روحاني، ج2، ص354.
 
 
 
 
 
177

156

الفطنة والتعرّف على العدو

 البعض في الشوارع والأزقّة.. وفي تلك الليلة تجمّع حشد كبير في منـزل الإمام، وأخذ أحد الأشخاص يقول بكلّ ثقة: لدي اطلاع دقيق بأنّ خبر خروج الشاه مؤكّد.. وقد أصرّ الطلبة والحاضرون على توجّه السيّد (الإمام) إلى مرقد السيّدة (معصومة) والاحتفال بالمناسبة. ولمّا رأى الإمام إصرار الطلّاب، أخذ ينصحهم قائلاً: احرصوا على التحلّي بالرصانة في أيّ موقف. وإذا ما سمعتم موضوعاً ما كونوا رصينين أيضاً.. بعد هذه الكلمات المعبّرة أخذ الحاضرون يتفرّقون، وإذا ما كان ثمّة مخطط فقد تمّ إحباطه1.


اجتناب اللقاءات الخاصة مع مسؤولي النظام الشاهنشاهي
قبل انتصار الثورة، وفي عهد النظام البائد، كان قد توافد أبناء الشعب على مدينة قم للاستماع إلى خطاب الإمام. وكانوا يتردّدون على المسجد الأعظم وعلى منـزل الإمام. وفي هذه الأثناء جاء عدد من الأشخاص طالبين لقاء الإمام على انفراد. غير أنّ الإمام لم يكن يلتقي أياً من المسؤولين الحكوميين على انفراد. وإذا ما جاء أحدهم للقاء الإمام، كان يطلب ممن معه البقاء وعدم مغادرة المكان. وبذلك كان يسدّ الطريق أمام أيّة محاولة لإساءة استغلال ذلك2.
 
 

1- آية الله توسّلي.
2- م.ن، ج4، ص314-315.
 
 
 
 
 
178

157

الفطنة والتعرّف على العدو

 اجتناب اللقاءات الخاصّة مع المسؤولين العراقيين

كان المسؤولون العراقيون يطلبون باستمرار لقاء الإمام على انفراد. غير أنّ الإمام كان يرفض ذلك قدر الإمكان. وأحياناً كانت الضرورة تقتضي ذلك فيضطر مجبراً. بيْدَ أنّه كان يدعو عدداً من المعتمدين لديه وممن يثق بهم من الشخصيات المرموقة في النجف لحضور اللقاء، كي يفوّت الفرصة على من يريد استغلال ذلك سياسياً ومحاولة الإساءة إلى سماحته. وإنّ إحدى هذه الشخصيات المرموقة كان المرحوم آية الله مدني وعدد من العلماء العراقيين البارزين1.

المنافقون خدعوكم
في إحدى الزيارات التي كنتُ أقصد لقاء الإمام في النجف، قال لي أحد الأصدقاء: قل للإمام أن يُسارع للإعلان عن تأييده لمجاهدي خلق قبل فوات الأوان.. فأخبرتُ الإمام بذلك. فقال سماحته: سبق للسادة... وكذلك السيّد مطهّري، أن شجّعوني على الدفاع عن هؤلاء، ولكنّكم غير ملتفتين إلى أنّ هؤلاء قد خدعوكم. إنّ هؤلاء لا يؤمنون بالإسلام الذي نؤمن به.. كما إنّ الأصدقاء خارج إيران يضغطون عليّ بهذا الخصوص. هؤلاء أيضاً تمّ خداعهم2.

أدبيّات هؤلاء منحرفة
عندما صعّد (مجاهدو خلق) من عمليّاتهم وقاموا بتنفيذ عمليتين أو
 
 

1- جريدة الجمهورية الإسلامية، ج2، ص366.
2- السيّد أحمد الخميني، ج4، ص326.
 
 
 
 
179

158

الفطنة والتعرّف على العدو

 ثلاث، شجّع ذلك رجال الدين المناضلين ضدّ النظام الشاهنشاهي، بالدعاية لهؤلاء. حتى أنّ البعض خطا أبعد من ذلك، وأخذ يُقدّم لهم الدعم المالي، فيما انتمى إليهم آخرون، وكانوا يقومون في كلّ مناسبة بالترويج لأفكارهم ومحاولة تزكيتهم. وقد بلغ الأمر حدّاً أن أصدر عدد من المراجع العظام بياناً يؤيّدهم. وعندما أراد النظام الشاهنشاهي إعدام بعض أعضاء هذه المنظّمة، صرّحوا بأنّ هؤلاء الأفراد أناس متديّنون وحافظون للقرآن، فلا تقتلوهم.. وفي هذا الوقت كان الجميع يتساءل: لماذا لا يُعلن الإمام، الذي يقف في طليعة النضال ضدّ النظام الشاهنشاهي، عن موقفه تجاه هؤلاء.. حتى أنّ إحدى الشخصيّات البارزة اليوم كانت قد قالت لي: علمتُ بأنّك تنوي التوجّه إلى النجف. قلتُ: أجل. فقال: قل للسيّد (الإمام) بأنّ هؤلاء سيتسلّمون الحكم وستضطر إلى تأييدهم، وحينها سيكون تأييدك لهم متأخّراً. لذا حاول أن تُعلن تأييدك لهم قبل فوات الأوان.. عندما التقيتُ الإمام أخبرتُه بذلك، فالتزم الصمت.. الإمام لم يؤيّدهم، ولم يُقدّم لهم الدعم المالي، ولم يكن مستعدّاً لأن يقول بحقّهم كلمة واحدة. عندما سألتُ الإمام عن ذلك، قال: "لقد قرأتُ لغة هؤلاء فرأيتُها غير إسلامية ومنحرفة، لذلك لم أؤيّدهم". هذا في وقت كان الجميع قد قرأ هذه الأدبيّات في قم وطهران ومشهد1.


كان يستمع إلى الجميع
أشخاص كثيرون كانوا يتردّدون على الإمام من داخل إيران وخارجها، وكان سماحته يستمع إلى ما ينقلونه. غير أنّ ذلك لم يكن يترك أدنى تأثير
 
 

1- السيّد أحمد الخميني، ج4، ص326.
 
 
 
 
180

159

الفطنة والتعرّف على العدو

 على قناعاته وقراراته. وفي هذا الصدد لا زلتُ أتذكّر حادثة المدعو حسين روحاني، الذي كان من المنافقين وقد أشار إليه الإمام في أحد خطاباته.. إذ جاء هذا الشخص وتعرّف علينا أولاً متصوّراً أنّ بإمكانه الوصول إلى الإمام عن طريقنا. غير أنّنا أوضحنا له بأنّك واهم في ما تتصوّر، لأنّ الإمام يستمع إلى الشخص مباشرة ويتّخذ قراره بنفسه دون أن يتأثّر بأقوال الآخرين. كما أنّه لا جدوى من كلّ هذه الحركات1.


ليس لدينا موضوع نُخفيه
جاء الدكتور سنجابي إلى باريس برفقة كلٍّ من الحاج مانيان ومهديان للقاء الإمام. وفي اللقاء الأول كان برفقة الدكتور سنجابي السيّد سلامتيان إضافة إلى الشخصين آنفي الذكر. وفي هذا اللقاء كان حاضراً كلٌّ من المرحوم إشراقي والحاج السيّد أحمد.. كان الدكتور سنجابي جالساً إلى جوار الإمام. وبعد تبادل التعارفات المتداولة، بدأ يتحدّث إلى الإمام بصوت خافت بما يُشبه الهمس في الأذن تقريباً. فقال الإمام بصوت مسموع: ليس لدينا موضوع نُخفيه. تستطيع أن تتحدّث بكلّ حرّية2.

لم يكن يسمح بإساءة الاستغلال
كان مراسلو وسائل الإعلام يطمحون للتعرّف على حقيقة ما يجري، وكانوا يودّون التعرّف على وجهات نظر الإمام بهذا الخصوص. وكانوا غير مستعدّين
 
 

1- آية الله عنيد زنجاني.
2- الدكتور ابراهيم يزدي، ج4، ص315.
 
 
 
 
181

160

الفطنة والتعرّف على العدو

 مطلقاً لمقابلة المقرّبين من الإمام بدلاً من سماحته، لأنّهم كانوا يتطلّعون إلى الإثارة، وأنّ ما يقوله هؤلاء المقرّبون لا يشفي غليلهم، لأنّه لا يُجسّد الموقف الفكري والسياسي للإمام، فضلاً عن أنّهم ليسوا الناطقين باسم التحرّك السياسي والاجتماعي للشعب الإيراني. وأنّ موقف الإمام لن يُعلن عنه إلا الإمام نفسه، وأنّ تحرّكات الشعب الإيراني تابعة لتوجيهات الإمام شخصياً دون أيّ شخص أو فئة أخرى.. وعليه فإنّ الصحافيين كانوا يحرصون على مقابلة الإمام، أو الاستعانة بالخطابات والبيانات التي كانت تصدر عن سماحته في بعض المناسبات من قبيل تاسوعاء وعاشوراء، أو الاستفادة من النداءات والرسائل التي كان يبعث بها الإمام إلى الشعب الإيراني وعدد من علماء الدين، للتعرّف على مواقفه وتوجّهاته. وإنّ نفس هذا الأمر كان وراء حجم الطلبات الهائل من وسائل الإعلام العالمية وكبار الصحافيين لمقابلة الإمام وإجراء حوار معه، وإنّ جانباً كبيراً من وقت الإمام كان يُكرّس لهذا الغرض. وإنّ الوضوح والصراحة التي كان يتحلّى بها الإمام، كانت قد سدّت الباب أمام كبار الصحافيين وأكثرهم كفاءة وشهرة، والذين اعتادوا على أن يصنعوا من القشّة جبلاً، وأعجزتهم عن إلحاق أدنى شرخة في مسيرة النضال والثورة الإسلامية وتشويه صورة الإمام وموقعيته. وإذا ما كان يحدث أن يتمّ نشر موضوعات واهية في مكان ما، كان يتمّ اطلاع الإمام على ذلك على الفور، وكان سماحته يُلفت الأنظار إليها في بياناته أو خطاباته أو مقابلاته اللاحقة، بصريح العبارة وفي كلمة واحدة، ولم يسمح لأحد بالتطفّل وإساءة استغلال ذلك1.

 


1- الدكتور حسن حبيبي، ج2، ص360.

 

 

182


161

الفطنة والتعرّف على العدو

 لا تتركوه هناك

كنتُ قد تسلّمت قيادة حرس الثورة حديثاً، عندما طلبني الإمام وقال: ثمّة شخص في حرس الثورة بمدينة قم كتب عدّة مقالات في إحدى الصحف، لا تختلف في فحواها عما يردّده المنافقون وأمثالهم.. حاولوا استدعاء هذا الشخص وانقلوه إلى مكان آخر، لأنّ قم لا تطيق تحمّل ذلك.. ولدى متابعة الموضوع اكتشفتُ بأنّ الأمر مثلما ذهب إليه الإمام. ويومها دُهشتُ كيف أنّ سماحته وجد الفرصة لقراءة هذه المقالات، رغم كلّ مشاغله1.

لا شأن لي بالضجّة وهتافات المديح
في أحد الأيام جاء عدد من أئمة الجمعة في مدن البلاد، بما فيهم شهيدا المحراب: آية الله صدوقي وآية الله مدني، جاؤوا للتشاور مع الإمام بشأن عزل بني صدر.. وعندما خرجوا من عند الإمام كانت البهجة واضحة على وجوههم. وحينها حاولتُ التعرّف على حقيقة ما جرى فسألتُ: ما الذي حدث حتى تكونوا مبتهجين إلى هذا الحد؟ فأجابوا بأنّ الإمام قال: إذا ما تمّت الحجّة الشرعية، لن أتردّد. وكونوا على ثقة من أنّ عزل بني صدر لن يستغرق أكثر من دقيقة واحدة.. كان سماحته يقول لضيوفه: لا تتصوّروا بأنّي أخشى الضجّة والسجال. فلو جاء كلّ هذا الحشد وراح يهتف (يحيا الخميني) ثم أخذ يهتف عكس ذلك، فهو أمر واحد بالنسبة لي. فأنا لا أعبأ ذرة واحدة بالصخب والضجّة المفتعلة مطلقاً. فلا تهمّني الهتافات المؤيّدة أو المعارضة بقدر ما أهتمّ بأداء الواجب الشرعي فحسب2.
 
 

1- الدكتور محسن رضايي، ج4، ص369.
2- حجة الإسلام علي أكبر آشتياني، ج4، ص345.
 
 
 
 
183

162

الفطنة والتعرّف على العدو

 ليس وقته الآن

قلتُ للإمام مراراً بأنّ بني صدر يريد أن يوقع بين حرس الثورة والجيش، وأنّه يحاول قمع الشباب المتديّنين والطيّبين. فلم يألو جهداً في دفع الجيش إلى المواجهة مع حرس الثورة، والحرس مع الجيش، ومحاولة دمج اللجان الثورية بقوّات الشرطة عندما كان قائداً عامّاً للقوّات المسلّحة. حتى أنّه منع تزويد قوّات التعبئة بالسلاح.. ويعلم الله كم بذلنا من جهد من أجل الحصول - مثلاً - على عدد من قاذفات (آر.بي.جي7) وإرسالها إلى جبهات القتال.. ولا زلتُ أتذكّر كيف أنّنا بعثنا أحد الأصدقاء إلى قزوين لاستلام هذا السلاح، وقد عاد لنا بسبع أو تسع راجمات أخذها معه إلى جبهات القتال بنفسه. وحينها ابتهجنا كثيراً بأنّنا أرسلنا سلاحاً إلى الجبهة الجنوبية.. فقد حاولنا مع بني صدر كثيراً وحذّرنا من أنّ خرّمشهر على وشك السقوط، إلا أنّه لم يعبأ بذلك.. والطريف كنتُ قد أخبرتُ الإمام بكلّ ذلك، فكان يقول: هل تتصوّر بأنّي لا أعرف ذلك، ولكن ليس الآن وقته. متى ما حان وقته سأتخذ القرار شخصيّاً1.

حذار من السكوت على روسيا
في عام 1365، كنت قد توجّهت إلى الحج بصفتي مندوب الإمام والمشرف على بعثة الحج. وفي المطار تحدّثت إلى الصحافيين عن القضايا السياسية التي ينبغي إثارتها خلال موسم الحج. وأوضحت بأنّ مسيرة البراءة من المشركين لهذا العام ستشهد شعارات تدعو إلى وحدة المسلمين والتصدّي
 
 

1- السيّد أحمد الخميني، ص344.
 
 
 
 
184

 


163

الفطنة والتعرّف على العدو

 لأميركا والصهاينة الغاصبين، وكذلك الدفاع عن لبنان. ولم أتطرّق إلى رفع شعارات معادية لروسيا وإنّما اكتفيت بالقول ضدّ قوى الكفر والإلحاد.. بعد ذلك وحيث توجّهنا إلى مكّة المكرمة، اتصل بي الحاج السيّد أحمد وأخبرني بأن الإمام يقول: كان يفترض بكم مراعاة سياسة اللا شرقية واللا غربية. فمثلما تهاجمون أميركا وسياساتها، ينبغي مهاجمة الاتحاد السوفيتي بكلّ وضوح وصراحة وعدم الفصل بين القوتين العظميين أبداً.. لحظتها لم أتنبّه إلى أصل القضية، فقلتُ: حسناً سنفعل ذلك بالتأكيد.. بعد انتهاء المناسك والعودة إلى إيران، قال لي الحاج السيّد أحمد: هل علمت بأصل القضية التي اتصلت بك من أجلها؟ قلتُ: كلا؟ قال: نحن أيضاً لم نكن واعين لها. وقد قال الإمام فيما بعد: كنتُ أستمع إلى تصريحات الشيخ كروبي التي أدلى بها في المطار، وقد أشار إلى أميركا وإسرائيل بكلّ وضوح، إلا أنّه لم يذكر الاتحاد السوفيتي. ومضى الإمام يقول: ينبغي له أن لا يتحدّث بهذه الطريقة عن الاتحاد السوفيتي في مكّة. لا بدّ من الإشارة إليه بالاسم، وإدانة الاعتداء الروسي على أفغانستان بشفافية1.


يجب عدم إخفاء شيء عن الشعب
وصلتْ رسالة كارتر الخاصّة بشأن المطالبة بإطلاق سراح الرهائن الأميركيين، وتمّ تسليمها إلى الإمام في يوم الجمعة عن طريق قطب زاده - وزير الخارجية -. وقد أوضح للإمام بأنّ الرسالة سلّمت إليه يوم الأربعاء من قِبَل القائم بأعمال السفارة السويسرية. والطريف أنّ الأميركيين كانوا
 
 

 
1- حجة الإسلام مهدي كروبي، ص286.
 
 
 
185

164

الفطنة والتعرّف على العدو

 قد بعثوا، في نفس اليوم أو في اليوم التالي، برسالة أخرى إلى بني صدر. وطبعاً الرسالة الموجّهة إلى بني صدر كانت قد اتسمت بلهجتها الشديدة، فيما اتّسمت الرسالة الموجّهة إلى الإمام بلهجة ملائمة.. وما أن قرأ الإمام الرسالة حتى قال: "لابد مننشرها.. إنّنا لا نُخفي شيئاً عن أبناء الشعب. فضلاً عن أنّه من الممكن أن يقوموا هم بنشرها ويصوّرونها كما يحلو لهم، وعندها قد يتصوّر الشعب بأنّ ثمّة أمور تجري في الخفاء.. وعليه فلا بدّ من اطلاع الشعب على ما يجري كي يتسنّى له اتخاذ قراره بنفسه" .. وهكذا تمّ نشر الرسالة وإذاعتها عبر وسائل الإعلام العامّة في نفس اليوم1.

 


1- حجة الإسلام السيّد أحمد الخميني، ج1، ص21.

 

 

186


165

الشجاعة

 الشجاعة


ما حدث أن خفتُ من أحد
أتذكّر أنّ الإمام قال في أحد خطاباته التي ألقاها في المسجد الأعظم بقم في السنوات الأولى من النضال، في حشد كبير من الجماهير، بأنّه لم يدع الخوف والتهديد ينفذ إلى قلبه مطلقاً.. في الحقيقة إنّ احتمال الخطر والتهديد كان قائماً في أيّة لحظة، إلا أنّ الإمام لم يعرف معنى للخوف.. ففي نفس هذا الخطاب، وحيث إنّ سماحته تجاوز الثالثة والستين من عمره، ولا أتذكّر إن كان قد أقسم أم لا، قال: إنّني لم أخف من أحد مطلقاً حتى هذه اللحظة، وإنّ الخوف لا يعرف له طريقاً إلى قلبي1.

لا أتذكّر أنّي خفتُ من أحد
نقل لي أحد العلماء الثقاة بأنّه كان جالساً مع عدد من الأفاضل بمحضر الإمام، وكان الحديث يدور عن القوى العظمى، فقال الإمام: "لا أتذكّر - حتى هذه اللحظة - بأنّي خفتُ يوماً من شيء أو أحد، إلا الله تعالى"2.
 
 

1- آية الله فاضل لنكراني، ج2، ص234.
2- علامه جعفري، ص235.
 
 
 
 
 
189

166

الشجاعة

 التوجّه الإعجازي

بعد أن أصدر الإمام بيانه الشهير (صداقة الشاه تعني النهب)، شنّت السلطات حملة اعتقالات واسعة في صفوف طلبة العلوم الدينية وأفاضل الحوزة العلمية بقم وسوقهم إلى الجندية. وقد تمّ نقلهم إلى (حديقة الشاه) بطهران، وجرّدوهم من زيّ رجال الدين وألبسوهم ملابس العسكر. وفي أحد الأيّام خلال هذه الفترة حيث كنّا في منزل الإمام، دخل المنـزل أحد الهاشميين في حالة مثيرة، إذ ضرب باب المنـزل بشدّة رغم أنّه كان مفتوحاً، ودخل علينا فجأة في حالة تبعث على الضحك والحزن معاً.. في هذه الأثناء كان الإمام مطأطأ رأسه ومنشغلاً بالكتابة، فصرخ الرجل بصوت عال: أيّها السيّد! بعد انتهاء حلقة درس السيّد المشكيني، خرجنا من مسجد الإمام، فإذا بقوّات السلطة تهجم علينا وتعتقل الطلبة وتضعهم في الشاحنات وتأخذهم إلى الجندية.. لقد اعتقلوا السيّد رفسنجاني وأخذوه معهم.. إثر سماع هذا الخبر، والحالة المثيرة للحزن والشفقة التي كان عليها هذا الرجل، تألّم الحاضرون وراح البعض يبكي.. حاول الإمام أن يُلقي نظرة من وراء نظّارته، إلى الرجل والقلم في يده، ثم قال له: لماذا أنت واقف، اجلس؟. لمّا جلس رفع الإمام النظّارة عن عينيه، وقال بكلّ هدوء: أخذوهم للجندية؟. فردّ الرجل: بلى سيّدي. فقال الإمام: ليأخذوهم، ينبغي لهؤلاء أن يتدرّبوا على فنون القتال، إذ إنّنا بحاجة إليهم في المستقبل!.. إنّ صدور مثل هذا الكلام عن الإمام في ذلك الوقت كان بمثابة معجزة1.
 

1- حجة الإسلام علي دواني، ص236.
 
 
 
 
190

167

الشجاعة

 ليضربوا أبناءنا !

كنّا في غروب اليوم الذي تمّت فيه مهاجمة المدرسة الفيضية، في منـزل الإمام، فأخبرونا بأنّهم ضربوا الطلّاب في الفيضية، والآن في طريقهم إلى هنا.. المرحوم السيّد محمّد صادق اللواساني، الذي كان من المقرّبين جدّاً لدى الإمام، نهض وأغلق باب المنـزل. وما أن علم الإمام بذلك، نهض على الفور وفتح الباب قائلاً: "أبنائي يُضربون، وأنا أُغلق باب منـزلي على نفسي؟". ثم وقف للصلاة، وصلّى النوافل مثلما كان يفعل في الليالي الأخرى، في وقت كان من الممكن أن يُهاجم أزلام السلطة المنـزل في أيّة لحظة1.

النفس المطمئنة
قبل حادثة المدرسة الفيضية، وعشيّة العيد، رأيتُ في الصباح الباكر وأنا في الطريق، منشورات ملصقة على الأبواب والجدران. وكانت هذه المنشورات من تدبير (السافاك) إلا أنّه تمّ تذييلها بأسماء مختلفة من قبيل: الجبهة الوطنية، رابطة المرأة، إلى غير ذلك. وكانت المنشورات تزخر بالشتائم والكلام البذيء ضدّ الإمام.. عندما رأيتُ المنشورات تألّمت كثيراً.. على أيّة حال توجّهت على الفور إلى منـزل الإمام. وهناك رأيت آخرين جاؤوا والمنشورات في أيديهم.. بقلب يعتصره الألم، قلتُ للسيّد صانعي: أُريد أن أرى الإمام.. وما هي إلا دقائق حتى دخلتُ على الإمام.. رأيتُ سماحته منهمكاً بالإعداد للدرس الذي سيُلقيه. وكان ذلك مثار دهشتي إلى حدٍّ ما. ففي مثل هذا الظرف وقد تعقّدت الأمور، ومع توزيع هذه المنشورات التي آلمتنا كثيراً،
 
 

1- آية الله توسّلي.
 
 
 
 
191

168

الشجاعة

 كيف يتسنّى للإمام أن يتحكّم بأعصابه ويتفرّغ للمطالعة. وأيّة مطالعة؟ مطالعة كتاب لم يكن جزءاً من المنهج الدراسي، وإنّما آراء أحد العلماء إزاء موضوع ما، وكان الإمام يحاول الاطلاع عليه لتتمّ مناقشة موضوعاته في حلقة الدرس. إنّ مثل هذه الروحية التي كان يتمتّع بها الإمام كانت مثار إعجاب كثيرين.. ففي مثل هذه الظروف لم يكن بوسع علماء كثيرين أن يلقوا مجرّد نظرة على الكتاب فضلاً عن نقد أبحاثه، غير أنّ الإمام كان منهمكاً بمطالعته بكلّ هدوء1.


نحن أيضاً نُصدر الأوامر لقوّاتنا الخاصّة
كان ذلك صباح يوم عاشوراء عام 1342 شمسي. كان الإمام يتحدّث في منـزله إلى مريديه عن المسائل الدينية. فاقترب من سماحته مسؤول في (السافاك)، وبعد أن عرّف نفسه، قال: لقد كلّفت من قبل صاحب الجلالة بأن أُبلّغكم، إذا ما أردتم إلقاء خطاب في المدرسة الفيضية، فسوف تتمّ مهاجمة المدرسة بأفراد القوّات الخاصّة (الكوماندوز).. القائد الكبير وبدون أن يرفّ له جفن، أجاب على الفور: "نحن أيضاً نُصدر الأوامر إلى قوّاتنا الخاصّة بتأديب الذين يُرسلهم صاحب الجلالة!"2.

الإمام فتح باب المنـزل
شهامة الإمام في غنى عن التعريف، لأنّها خارجة عن حدود الحصر..
 

1- آية الله طاهري خرم آبادي، ص237.
2- السيّد حميد روحاني، ص293.
 
 
 
 
192

169

الشجاعة

 على سبيل المثال، أثناء حادثة المدرسة الفيضية، حيث دفع الشاه بأكثر من ألف شخص خفية إلى داخل المدرسة لارتكاب تلك الجريمة الفظيعة. ولمّا رأوا نصرهم الموهوم في الفيضية، نزلوا إلى شوارع المدينة يقمعون الناس ويرعبونهم، وهم يهتفون (الشاه خالد)، بنحو لم يجرؤ أحد على أن يتنفّس. وحيث كانت أزلام السلطة والقوّات الخاصّة تتمركز في ثانوية (الحكيم نظامي)، التي كانت تقع على مقربة من منـزل الإمام، فقد تصور الكثيرون بأنّ هؤلاء في طريقهم إلى منـزل الإمام، وأخبر البعض الإمام بأنّ هذا الحشد من القوات الخاصة المدججة بالسلاح، تستعدّ لمهاجمة منـزل سماحتكم. وكان بعض من في المنـزل يُفكّر في إغلاق باب المنـزل، وربما قفلها من الداخل، لسدّ الطريق أمام أزلام السلطة. وقد نفّذوا ذلك بالفعل متصوّرين بأنّ ذلك سوف يُرضي الإمام. بيْدَ أنّ الإمام لمّا علم بذلك، خرج من غرفته وتوجّه صوب الباب وفتحه، دون أن يُكلّم أحداً، ومن ثم عاد إلى مكانه. وفي هذه الأثناء كانت أصوات أفراد (الكوماندوز) تسمع بنحو أكثر قوة لحظة بعد أخرى. غير أنّ الإمام كان جالساً مستعدّاً لأيّ طارئ، ولن يُرعبه حجم القوّات الخاصّة التي كانت ترعد وتزمجر بالقرب من منـزل سماحته1.


أُحذّرك أنت وحكومتك
بعث بعض المراجع في قم برقية إلى الشاه المعدوم يُطالبونه بالضغط على الحكومة للكفّ عن ممارسة الانحرافات الدينية. وقد ردّ الشاه على برقية المراجع قائلاً: إنّنا نتطلّع إلى نجاحكم في إرشاد وتوجيه العامّة.. فبادر
 

 
1- آية الله فاضل لنكراني، ص294.
 
 
 
 
193

170

الشجاعة

 الإمام إلى كتابة بيان يرد فيه على الشاه قائلاً: إنّك تتطلّع إلى نجاح المراجع في إرشاد العامّة! لذا فإنّي أتوجّه إليك وللحكومة بالنصيحة.. أي إنّكم من العامة وينبغي تحذيركم ومحاولة إرشادكم وتوجيهكم1.


أنا أيضاً جندي الإسلام
بعد أن أقدم النظام الشاهنشاهي على إطلاق سراح الإمام، كتبت صحيفة (اطلاعات) في افتتاحيتها تقول: إنّ علماء الدين تصالحوا مع الحكومة.. غير أنّ الإمام ألقى خطاباً مثيراً بهذه المناسبة يُكذّب فيه مزاعم السلطة. فسارع النظام إلى إرسال العقيد مولوي - رئيس السافاك بطهران - للاعتذار من الإمام. وقد حاول أن يلتقي الإمام على انفراد، غير أنّ النهج الذي اعتاد عليه الإمام كان يرفض لقاء رجال السياسة سواء الحكوميين أو غيرهم، على انفراد. فأمر سماحته أن يكون بعض المقرّبين حاضرين أثناء لقائه مبعوث الشاه. وكنتُ أنا حاضراً في هذا اللقاء.. تحدّث (مولوي) وقدّم اعتذاره عن الخطأ الذي حصل. وأثناء حديثه صدرت منه عبارة ربما كانت تستبطن الإساءة. إذ قال: أيّها السيّد، لا تدعنا نضطر للعمل بواجبنا العسكري.. وفجأة أشار الإمام بسبابته إلى صدره المبارك، وقال بحزم: "أنا أيضاً أحد جنود الإسلام، فلا تدعونا نضطر للعمل بواجبنا العسكري"2.

لا تفعل شيئاً اضطر لأن آمر بإخراجك
كان من المفترض أن يُلقي الإمام خطاباً في عاشوراء عام 1342 شمسي.
 

1- آية الله مؤمن، ص299.
2- آية الله توسّلي.
 
 
 
 
194

171

الشجاعة

 وفي هذا الوقت كانت القوّات الخاصّة (الكوماندوز) مستقرّة في المدرسة الفيضية. وكانت ثمّة ضجّة مفتعلة عجيبة تسود أجواء المدينة. وقد أُشيع بأنّ مخاطر حقيقية تُهدّد حياة الإمام، لذا من الأنسب أن يصرف النظر عن الذهاب إلى الفيضية اليوم.. غير أنّ الإمام رفض ذلك، وحتى لم يكن مستعدّاً أن يركب سيّارة غير مكشوفة لدى توجّهه إلى المدرسة. وكان ما أراد حيث توجّه إلى المدرسة الفيضية بسيّارة (جيب) مكشوفة تخترق صفوف الجماهير المحتشدة. وبصراحته المعهودة، وجّه الإمام خطابه إلى الشاه قائلاً: "أرجو أن لا يفعل هذا الرجيل - الصعلوك - أمراً أضطر لأنّ آمر بإخراجه من هذه البلاد"1.


مهاجمة أميركا بعنف
أثناء قضية منح الحصانة القضائية للرعايا الأميركيين، جاء أحد كبار المسؤولين إلى قم للقاء الإمام. غير أنّ الإمام لم يسمح بذلك. فاضطر للقاء السيّد مصطفى - نجل الإمام - وقال له: إذا ما تحدّث الإمام منتقداً قانون الحصانة القضائية، فليحذر ردّ فعل الأميركي. إذ إنّ مهاجمة أميركا اليوم تُعدّ أخطر بكثير من التعرّض للشاه.. بيْدَ أنّ ما حصل هو أنّ الإمام قال في خطابه ذاك: (ليعلم الرئيس الأميركي بأنّه يعدّ اليوم أحد أكثر الأشخاص نفوراً لدى شعبنا. وإنّ كلّ معاناتنا اليوم إنّما هي بسبب أميركا)، وشنّ هجوماً عنيفاً ضدّ أميركا2.
 
 

1- حجة الإسلام حسن روحاني، ص291.
2- حجة الإسلام السيّد حميد روحاني.
 
 
 
 
 
195

172

الشجاعة

 كانوا خائفين وكنتُ أُهدّأ من روعهم

يذكر المرحوم الحاج السيّد مصطفى، بشأن الليلة التي اعتقلوا فيها الإمام ونقلوه إلى طهران، بأنّ الإمام كان قد ذكر له: "عندما نقلوني إلى طهران، وفيما كنّا وسط الطريق انحرفت السيّارة عن الطريق العام، فتبادر إلى ذهني بأنّهم يريدون إنهاء الأمر. ولكن عندما عدتُ إلى قلبي رأيتُ لم يطرأ عليه أيّ تغيير". ولهذا عندما ألقى الإمام خطابه التاريخي في المسجد الأعظم عام 1343 بعد إطلاق سراحه، قال: "قسماً بالله بأنّي لم أشعر بالخوف في عمري.. حتى في تلك الليلة التي أخذوني فيها، كان هؤلاء خائفين وكنتُ أهدِّأ من روعهم"1.

كلا، لم أخف أصلاً
بعد إطلاق سراح الإمام عقب أحداث الخامس عشر من خرداد، مكث سماحته بعض الوقت في محلّة (القيطرية). فجاء آية الله المرعشي لزيارته. وفي هذا اللقاء سأل السيّد المرعشي سماحة الإمام: عندما أخذوك ألم تخف؟. فأجاب الإمام: كلا، لم أخف أصلاً.. حتى عندما كنّا في الطريق إلى طهران انحرفت السيّارة عن الطريق العام، فتبادر إلى ذهني بأنّهم أرادوا التوجّه صوب بحيرة (حوض سلطان) - بحيرة الملح -، ووقتئذ كان شائعاً بأنّ النظام الشاهنشاهي إذا ما أراد التخلّص من معارضيه كان يأتي بهم إلى هناك ويلقونهم في بحيرة الملح والتخلّص منهم.. حتى في تلك اللحظة لم أشعر بالخوف قسماً بالله2.
 

1- حجة الإسلام عبدالعلي قرهي، ص241.
2- الدكتور محمود بروجردي.
 
 
 
 
 
196

173

الشجاعة

 لماذا تتصرّفون بهذه الصورة؟

ينقل خادم الإمام مشهدي حسين، الذي كان يعدّ الشاي، بشأن الليلة التي اعتقلوا الإمام ونفوه إلى تركيا، موضحاً: كان الإمام يقول لأزلام السلطة: "ما هذا التصرّف، لماذا كلّ هذه الضجّة؟ ألا تخجلون؟ كان يكفي أن يأتي أحدكم ويدقّ الباب ويقول: أيّها الخميني تعال معنا. وكنتُ سآتي". وأضاف: كما أخبرني السيّد (الإمام) نفسه مشيراً: "عندما كنّا في الطريق إلى طهران، ولما اقتربنا من (بئر النفط)، قلتُ: إنّ كل مأساتنا بسبب هذا النفط.. لماذا تتصرّفون بهذه الصورة. وكنتُ أتحدّث معهم طوال الطريق. وإنّ أحد هؤلاء الذي كان يجلس إلى جنبي، كان يبكي طول الطريق"1.

هل نستطيع التصوير؟
استقبل الإمام مرّة وفداً رسمياً من المسؤولين العراقيين مكوّناً من 14 شخصاً.. ونظراً لأنّ وفداً مؤلّفاً من أربعة أشخاص كان قد التقى الإمام قبل ذلك وخرج غاضباً من هذا اللقاء، فقد طلب الإمام حضور أحد الأشخاص - وكان مترجماً - ليتولّى مهمّة الترجمة.. ولمّا عرض على المترجم الموضوع انتابه الخوف. ففي البدء حاول أن يختلق الأعذار لعدم تمكّنه من الحضور. بعدما أوضح بأنّ هذا الشخص الذي يريد لقاء الإمام إنّما هو كذا وكذا. وأوصانا بأن نُبلّغ الإمام بأنْ يكون حذراً لدى لقائه هذا الشخص.. فأجبته: الإمام الذي خاطب الرئيس الأميركي - عام 1343 - بأنّك أكثر الأشخاص منبوذية لدى الشعب الإيراني، تريده أن يخشى هؤلاء ويحذرهم؟. إنّني إذا ما
 

1- السيّد أحمد الخميني، ص296.
 
 
 
 
197

174

الشجاعة

 قلتُ للإمام ذلك فسوف ينهرني!.. فضحك المترجم وذهب إلى شأنه..


ما أن وصل الوفد البعثي إلى منـزل الإمام، وحيث كنتُ واقفاً في الباحة - ربما لم يروني أو أنّهم تصوّروا بأنّي أجهل العربية وإلا لما كانوا تحدّثوا بذلك أمامي - قال محافظ النجف، الذي كان مرتبكاً، للمسؤول الحكومي الذي كان بجنبه: كيف أتصرّف إذا ما دخلت؟ فقال له المسؤول الحكومي: قبّل يده واجلس.. وكان الوفد قد جلب معه معدّات لتصوير اللقاء وتسجيله. وقاموا بتجهيزها والإمام يُشاهد ذلك ولم يقل شيئاً.. وأخيراً وبعد الانتهاء من نصبها، أمر الإمام بجمعها. فقاموا بجمعها وبقيت كاميرا تصوير واحدة، وطلبوا بالتقاط صورة واحدة. فرفض الإمام.. إلى هذا الحدّ كان الإمام حازماً، ولم يكن مستعدّاً للترحيب بهم مطلقاً1.

لا يمكن قول ذلك لهذه الحكومة
إنّ مواقف الإمام إزاء النظام البعثي العراقي وطريقة مخاطبته لهم، كانت بمثابة الصرخة التي تُبدّد صمت السكون. ولعلّها المرّة الأولى، وربما كانت الأخيرة، التي تستطيع شخصية دينية سياسية أن تُبدّد أجواء الاختناق التي فرضتها الحكومة البوليسية لنظام البعث العراقي، وأن تصرخ بوجه هؤلاء: "... إنّ هذه الحكومة، التي لا تستحقّ أن يطلق عليها اسم حكومة أساساً، ليس بوسعها مواجهة الشعوب"2.
 
 

1- حجة الإسلام قرهي، ص307.
2- حجة الإسلام حميد روحاني، ص306.
 
 
 
 
198

175

الشجاعة

 لقد فعلتم أسوأ ممّا فعله اليهود

عندما بدأ البعثيّون لأوّل مرّة بتهجير الإيرانيين المقيمين في العراق، قاموا باعتقال أعداد كبيرة من الناس الأبرياء وتعذيبهم، بعد مصادرة أموالهم وممتلكاتهم في غاية الوقاحة والإهانة. حتى أنّ السلطات العراقية منحت الإيرانيين فرصة ستّة أيام فقط للخروج من العراق. وكان ذلك في فصل الشتاء. واحتجاجاً على تصرّف الحكومة العراقية هذا، قرّر الإمام مغادرة العراق. وفي ضوء ذلك أرسلت الحكومة العراقية وفداً للقاء الإمام والتحدّث معه حول بعض القضايا. بيْدَ أنّ الإمام أعلن عن عدم استعداده لاستقبال أعضاء هذا الوفد، وأخبرهم بأنّي بعثتُ بجواز سفري ليختم كي يتسنّى لي مغادرة العراق مع أبناء وطني. ونظراً لأنّ الشاه رجل خطر وظالم، فقد أرعب قرار الإمام هذا مريديه. لذا طلب العلماء والأحبّة من المرحوم السيّد نصر الله الخلخالي، التدخّل ومحاولة إقناع الإمام بالموافقة على استقبال أعضاء الوفد. وقد نقل السيّد الخلخالي للإمام بأنّ هذه هي رغبة الإيرانيين. فقال الإمام: سأوافق على لقائهم ولكن لا بدّ من تحطيم غرورهم. فلا يتصوّروا بأنّهم جاؤوا من بغداد وأنّ باستطاعتهم اللقاء بي متى ما أرادوا.. لأُحطّم غرورهم أولاً ومن ثم أسمح لهم بلقائي.

بعد ذلك، وحينما التقى الإمام أعضاء الوفد، قال لهم سماحته بصريح العبارة: إنّكم فعلتم أسوأ ممّا فعله اليهود.. إنّ ما قمتم به لم تقم به حتى إسرائيل.. فعندما أخرجوا اليهود من العراق، كانوا قد منحوهم فرصة ستّة أشهر. وبعد انتهاء الفترة المحدّدة، منحوهم فرصة أخرى لتدارك المتبقّي من أعمالهم. ولكنّكم لم تمنحوا الإيرانيين سوى ستّة أيّام فقط1.
 
 

1- آية الله خاتمي يزدي، ص301-302.
 
 
 
 
199

176

الشجاعة

 الحكومة الإيرانية ارتكبت حماقة وأنتم أيضاً

أثناء إقامة الإمام في النجف، حدث نزاع بين إيران والعراق حول الشريط الحدودي بين البلدين واروند رود (شط العرب). وخلال ذلك حاولت الحكومة البعثية الحصول على شهادات من علماء الدين في حوزة النجف ضدّ الحكومة الإيرانية الطاغية.. وفي هذا الصدد كانت الحكومة العراقية تتصوّر بأنّ الإمام على استعداد لإصدار بيان شديد اللهجة لصالحها انتقاماً من الشاه الذي قام بنفيه. بيْدَ أنّ الإمام قال لهؤلاء بصريح العبارة أثناء لقائه بالوفد الذي ضمّ في عضويته محافظ كربلاء ومدير الأمن وقائد الشرطة وقائممقام النجف، قال لهم: "الحكومة الإيرانية ارتكبت حماقة، وأنتم ارتكبتم مثل هذه الحماقة أيضاً.. إنّ مثل هذا الأمر لا علاقة له بمراجع الدين الشيعة والحوزة العلمية حتى يتطوّعوا بالشهادة لكم.. اذهبوا وحاولوا تسوية القضية فيما بينكم" .. وإثر ذلك استشاط البعثيّون غضباً، وقال أحد الحاضرين في الاجتماع: سنقوم غداً بإخراجه من النجف.. وقد بلغ ذلك سمع الإمام فقال: هؤلاء يتصوّرون بأنّي سعيد بوجودي هنا.. فأيّة سعادة في مكان يُقمع الإسلام وتُنتهك نواميسه ولا تُصان حرمته؟ خذوا جواز سفري، فإلى أيّ مكان تريدون إبعادي فهو بالنهاية أفضل من هنا. فالراحة والسعادة لا تتحقّق لي إلا في المكان الذي أرى المسلمين في أمن ورخاء.. فليس هناك ما يدعوني للمكوث هنا!".. وممّا يذكر في هذا الصدد أنّ بعض المراجع كانوا غير مرتاحين لطريقة الإمام في تعامله مع البعثيين، وكانوا قلقين لئلّا تقوم السلطات البعثية بإرسال قوّاتها المدجّجة بالسلاح إلى النجف وتصفية الإمام1.
 
 

1- آية الله كريمي.
 
 
 
 
200

177

الشجاعة

 باب المدرسة مفتوح أم مغلق؟

كانت الخصال التي تتّسم بها شخصيّة الإمام والروحية العالية التي كان يتحلّى بها، خاصّة في الأيّام التي شارفت الثورة على الانتصار، كانت مثار حيرة ودهشة كلّ الذين كانوا يُحيطون بسماحته. وبالنسبة لي فإنّي لن أنسى مطلقاً الروحية التي كان يتحلّى بها الإمام لحظة إعلان الأحكام العرفية ومنع التجوال.. كانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف من عصر يوم الحادي والعشرين من بهمن، وكنّا حينها عند الإمام وكان يسيطر على الجميع قلق واضطراب عجيب. أمّا الإمام فلم يكن يعبأ بذلك وكأنّ شيئاً لم يحدث. وبينما هو منهمك في كتابة (البيان) الخاص بعدم الانصياع إلى قانون الأحكام العرفية، رفع رأسه وقال: "بوابة المدرسة مفتوحة أم مغلقة؟". وفيما أخذنا نوضح لسماحته المخاطر التي استدعت إغلاق باب المدرسة، قال: "افتحوا الباب كي يتسنّى للناس الدخول والخروج بحرّية".

وفي الليلة التالية، وهي ليلة 22 بهمن، حيث كان ثمّة احتمال بقصف المدرسة وقيام انقلاب عسكري، مهما حاولنا إقناع الإمام بمغادرة المدرسة والإقامة في مكان آخر لبعض الوقت، كان الإمام يُجيبنا بكلّ ثقة: "ليذهب كلّ من يخاف، وأنا باقٍ هنا"1.

أنا لا أتحرّك من هذه الغرفة
كنتُ يوماً في مدرسة (الرفاه)، فقال البعض بأنّ ثمّة معلومات موثّقة تقريباً تُفيد بأنّ السلطات الحاكمة تنوي مهاجمة المدرسة هذه الليلة وقصف
 

1- حجة الإسلام ناطق نوري، ص260.
 
 
 
 
 
201

178

الشجاعة

 مقرّ إقامة الإمام. ولهذا تمّ إعداد أحد المنازل خلف مدرسة (العلوي)، نستطيع نأخذ الإمام إليه عبر البوابة الخلفية للمدرسة، ليقضي الليل هناك.. وفي هذا الخصوص ذهب الشيخ هاشمي وبقيّة الإخوة إلى الإمام لإقناعه بالقبول بذلك. فقال سماحته: "ليذهب كلّ من يريد. أنا لا أتحرّك من هذه الغرفة".. يقول الشيخ هاشمي رفسنجاني: قلتُ للإمام أكثر من مرّة بأنّ وجودكم ضروري. إلا أنّه كان يُجيب في كلّ مرّة: "ليذهب كلّ من يخاف، أنا وحدي أبقى في غرفتي".. كان الجميع خائفاً مرعوباً، غير أنّ الإمام لم يشعر بالخوف والرعب لحظة واحدة، وقد قام بأداء شؤونه الخاصة مثلما كان يفعل في كلّ ليلة، وخلد إلى النوم ونهض وقت السحر1.

 


ليس بوسع أميركا ارتكاب أيّة حماقة
خلال حادثة الاستيلاء على وكر التجسّس، كان معظم المسؤولين معارضين لذلك، وكانوا يثيرون موضوعاً جديداً في كلّ يوم. فأحدهم كان يقول: ليس بوسعنا محاربة أميركا. وآخر كان يقول: أميركا أنزلت قواتها في المنطقة. وثالث كان يقول: الأساطيل الأميركية وصلت. بيْدَ أنّ الإمام كان يقول: "ليس بوسع أميركا ارتكاب أيّة حماقة". ولهذا عندما عبرت إحدى الشخصيات الثورية عن خشيتها من المؤامرات التي تُحاك ضدّ الثورة، وضع الإمام يده على صدره وقال: "لماذا أنت خائف؟ لن يحدث شيء!"2.
 
 

1- آية الله الشهيد محلاتي، ص261.
2- حجة الإسلام أنصاري، ص303.
 
 
 
 
 
 
202

179

الشجاعة

 لا أعرف ما هو الخوف

علمتُ من أفراد أسرة الإمام بأنّ سماحته كان قد ذكر في إحدى جلساته الخاصة، بأنه لم يشعر بظاهرة الخوف ولا يعرف معنىً له، أي لا يدري ما الذي يشعر به الإنسان عندما يخاف؟.. ومن الناحية الطبّية كنّا قد لمسنا هذا الشيء عن كثب، واتضح لنا بأنّ الخوف غير موجود لدى الإمام أصلاً. إذ إنّه من الناحية العلمية والطبية، إنّ الشخص الذي يخاف يفرز جسمه مادّة تسمى (آدرنالين). وإنّ هذه المادة تعمل - إضافة إلى مظاهر الخوف - على زيادة نبضات القلب، وتغيير لون الإنسان، وارتعاش البدن، وارتفاع ضغط الدم، وتظهر لدى الإنسان حالة غير طبيعية.. وكوننا كنّا على اطلاع دقيق، طوال ثماني أو تسع سنوات، بنبض الإمام وضغط الدم، حتى في الفترة الأخيرة التي كان يتمّ الإشراف والتحكّم بقلب الإمام عن طريق الشاشة المصوّرة، كان باستطاعتنا التعرّف على عدد نبضات القلب في كلّ دقيقة، وكنّا نشاهد بالعين المجرّدة نبضات قلب الإمام. وخلال هذه الفترة شهدت البلاد أحداث كثيرة وكان من المفترض أن تعمل على زيادة عدد نبضات القلب على أقلّ تقدير، إلا أنّنا لم نر أيّ تغيير في نبضات قلب الإمام تجاه سيل المشاكل والتحديات مطلقاً1.

لم يكن أيّ اضطراب لدى الإمام
الليلة الأخيرة من حياة الإمام لم تكن تختلف عن الليالي الأخرى من حياته.. بل إنّ الإمام كان يعلم - قبل أن يُشخّص الأطباء ذلك - بأنّ عمره
 
 

1- الدكتور بور مقدس، ج2، ص277.
 
 
 
 
203

180

الشجاعة

 الشريف قد شارف على الانتهاء، وأنّ هذا الطريق لا يقبل العودة، ومع ذلك لم يكن يشعر بأيّ خوف واضطراب ورهبة1.

 


1- الدكتور بور مقدس، ص284.

 

 

204


181

الهدوء والسكينة

 الهدوء والسكينة


استدعاء السيّد مصطفى، قلق الآخرين، هدوء الإمام
في الحادي والعشرين من خرداد عام 1348هـ.ش (1969م)، التقى مدير الأمن وقائممقام النجف، الإمام موضحين لسماحته بأنّهما مكلّفان من قِبَل مجلس قيادة الثورة بإحضار الحاج السيّد مصطفى إلى بغداد، وأنّهما جاءا لاستئذان الإمام والسماح لهم بذلك.. يشار إلى أنّ الإمام كان قد بعث السيّد مصطفى لتفقّد المرحوم السيّد الحكيم بعد عودته من بغداد وتطييب خاطره.. فأجابهما الإمام: "إذا كان إرسال مصطفى إلى بغداد منوطاً بإذني، فأنا لن أذن بذلك مطلقاً. وإذا كنتم مكلّفين بجلبه، فأنتم أدرى بذلك".. وعليه أرسل الحاج السيّد مصطفى إلى بغداد الساعة الثانية صباحاً، برفقة عدد من المسؤولين الأمنيين. بيْدَ أنّ الإمام عاد لمواكبة برنامجه اليومي، وحضر حلقة الدرس على رأس الساعة. ووسط حزن وتأثّر وقلق تلامذته، اهتمّ ببحث المسائل العلمية والفقهية في غاية الهدوء والاطمئنان. كما تابع عباداته ولقاءاته وشؤونه اليومية الأخرى بشكل اعتيادي أيضاً1.
 

1- حجة الإسلام السيّد حميد روحاني، ج2، ص243.
 
 
 
 
 
205

182

الهدوء والسكينة

 غاية الهدوء في ذروة التحديات

في عام 1348هـ.ش (1969م)، وفّقت لزيارة الإمام في النجف. وفي تلك الفترة كان منـزل الإمام محطّ أنظار (السافاك) الطاغوتي الجهنّمي بشكل ملفت. ولهذا كانت عدّة معدودة فقط تترّدد على منـزل سماحته. يومها كان الإمام يُقيم في منـزل متواضع في النجف. وعندما ذهبتُ لزيارته، رأيتُ عدداً من الإيرانيين - أربعة أو خمسة - جاؤوا لزيارة الإمام.. إذ صادف ذلك مع أيّام النيروز لذا كان عدد الإيرانيين الذين يزورون العراق كبيراً نسبياً.. وكانت زيارتي صادفت مع الفترة التي كان الطاغوت يُقيم احتفالات مرور 2500 عام على الإمبراطورية الإيرانية، تعبيراً عن رسوخ النظام الطاغوتي في إيران.. ففي ظلّ هذه الأوضاع، كيف تتصوّرون الروحية التي كان يتمتّع بها الإمام؟ هل كان يشعر بالإحباط أو الهزيمة أو الضعف؟ لا شيء من هذا القبيل. بل كان الإمام يتحدّث بكلّ ثقة واطمئنان، وكان يتعاطى مع الأحداث بنحو يجعل كلّ من يراه أكثر تفاؤلاً بالمستقبل1.

لم يظهر أثر الانفعال في صوت الإمام
استقبل آية الله الخميني في منفاه بالنجف في العراق، مراسل صحيفة(اللوموند).. تحدّث آية الله الخميني، ذو الوجه النحيف واللحية البيضاء التي أطالت من وجهه، معنا بلهجة هادئة وكلمات شجاعة، على مدى ساعتين. حتى إنّه عندما كان يتحدّث عن هذا الموضوع ويُكرّره، وهو: ينبغي لإيران إنقاذ نفسها من شرّ الشاه، وكذلك عندما كان يشير إلى موت نجله،
 

1- نقلاً عن الشهيد بهشتي، ص251.
 
 
 
 
206

183

الهدوء والسكينة

 لم نُشاهد أيّة آثار للانفعال في صوته، ولم تظهر أيّة ملامح غير اعتيادية في تقاطيع وجهه.. إنّ تصرّفاته الموزونة والقدرة على التحكّم بمشاعره، كانت عقلانية. فبدلاً من التلاعب بالألفاظ، كان آية الله يحاول أن يُعبّر عن إيمانه ومعتقداته إلى مخاطبه من خلال نظراته.. نظراته كانت نافذة دائماً. ولكن عندما كان يشتدّ البحث ويصل إلى نقاط حسّاسة، كان يحتدّ بشكل لا يُطاق.. يتحلّى آية الله بعزم راسخ غير منقوص، ويرفض أيّ شكل من أشكال المساومة.. إنّه عاقد العزم على المضي قدماً في نضاله ضدّ الشاه حتى النهاية1.


الإمام الشخص الوحيد الذي كان هادئاً
عندما قرّر الإمام مغادرة العراق عام 1357هـ.ش (1978م)، كان يفترض بنا التكتّم على ذلك لدوافع أمنية. ولهذا واجهنا أيّاماً عصيبة. وفي الليلة التي تقرّر أن يُرافق الإمام عدد من المقرّبين من سماحته، لم أستطع النوم من شدّة القلق ممّا دفعني للنهوض من السرير. فرأيتُ السيّد (الإمام) مستيقظاً أيضاً، حيث اعتاد النهوض لصلاة الليل في مثل هذا الوقت.. عندما رآني نهضتُ من السرير، قال بصوت هادئ: "أكملي نومك".. وعندما كان الإمام يستعدّ للحركة في السحر، كان الاضطراب يُخيّم على جميع من في المنـزل بشكل عجيب، وكانوا يلتزمون الصمت وكأنّه لا يوجد أحد في المنـزل.. الشخص الوحيد الذي كان هادئاً تماماً هو الإمام. حيث ودّعنا وذهب مع شقيقي2.
 
 

1- صحفي من جريدة لوموند.
2- فريدة مصطفوي، ص253.
 
 
 
 
207

184

الهدوء والسكينة

 الاطمئنان والهدوء والقوّة في نظرات الإمام

يذكر أحد المصوّرين الإيرانيين بأنّه عندما وصل الإمام إلى مطار باريس، لم يكن قد تمّ الإعداد لذلك، وقد تمّ التعاطي مع الحدث بنحو وكأنّ كلّ شيء يسير على ما يرام.. تصوّروا أنتم أنّ قائداً في هذا السنّ، وفي هذه المرحلة المصيرية من النضال، يتوجّه إلى الكويت فلم يُسمح له بالدخول. ثم يتردّد حديث عن احتمال توجّهه إلى سورية، إلا أنّه ينتفي في اللحظات الأخيرة.

وقد استقرّ الرأي الآن على التوجّه إلى فرنسا.. يقول المصوّر الإيراني: نظراً لأنّي أُجيد فنّ التصوير وأحترف مهنة الصحافة، كنتُ قد اخترتُ الوقوف في نقطة حسّاسة من المطار، المكان الذي يمرّ من أمامه المسافرون.. كنتُ أُريد أن أرى وجه الإمام ونظراته. لذا حاولتُ أن أكون في زاوية مثيرة تُمكّنني من التقاط صور مختلفة.. وفيما كنتُ أنظر من خلال الكاميرا وقعت عيني على الإمام، فضغطّ على الزناد. فكانت لقطة لا يرى فيها غير الهدوء والاطمئنان والقوّة والحزم1.

الجميع كان مضطّرباً عدا الإمام
كتب اثنان من زملائي في تقرير بعثوه إلى مجلّة (جون أفريكا): في الطائرة التي كانت تقلّ الإمام إلى طهران، كان الجميع قلقين إزاء إمكانية هبوط الطائرة بسلام في طهران، أم أنّه ستتمّ مهاجمة الطائرة من قِبَل مقاتلات النظام الشاهنشاهي.. وفي ظلّ هذا القلق والاضطراب لم يستطع أحد أن يخلد إلى الراحة، سوى شخص واحد هو الإمام الخميني، الذي توجّه إلى الطابق العلوي واضطجع على أرضية الطائرة ونام بكلّ هدوء2.
 
 

1- الشهيد بهشتي، ص255.
2- صحفي فرنسي، ص256.
 
 
 
 
208

185

الهدوء والسكينة

 صلّى صلاة الليل بهدوء تام

كان الإمام هادئاً حقّاً أثناء وجوده داخل الطائرة المتّجهة إلى طهران، ولم تظهر عليه أيّة علائم للتشوّش والاضطراب.. حتى في الليلة التي سبقت الرحلة، كان قد صلّى صلاة الليل وصلاة الفجر بكلّ هدوء مثلما اعتاد عليه في كلّ يوم. كذلك اضطجع بعض الوقت حتى حان موعد صعود الطائرة1.

كان الإمام اعتيادياً تماماً
كنتُ جالساً إلى جوار الإمام في الطائرة التي أقلّت سماحته من باريس إلى طهران. وعندما اقتربت الطائرة من طهران، جاء أحد الصحافيين وسأل الإمام: ما هو إحساسك في هذه اللحظة؟ فأجاب الإمام: "لا شيء".. الصحافي كان يتصوّر بأنّه سيجد الإمام شأنه شأن غيره، ممّن يضطربون في مثل هذه اللحظات، ويذرفون دموع الفرح، وأنّ الخوف والرعب كان يُسيطر على البعض إزاء المصير الذي ينتظر الطائرة وهل سيتمّ إسقاطها أم أنّها ستهبط بسلام؟ وهل سيتمّ اعتقال الجميع؟ إلى غير ذلك. بيْدَ أنّه وخلافاً لكلّ هذه التصوّرات، كان الإمام في حالة اعتيادية تماماً، لأنّه كان قد أعدّ نفسه مسبقاً لأيّ طارئ حتى الشهادة2.

هدوء الإمام يُضفي الهدوء على الجميع
في اليوم الذي تقرّر أن يصل الإمام إلى طهران، كنّا قد توجّهنا من الجامعة،
 

1- السيّد أحمد الخميني، ص257.
2- آية الله موسوي خوئينيها.
 
 
 
 
209

186

الهدوء والسكينة

 حيث كنّا معتصمين هناك، إلى المطار لاستقبال الإمام.. كلّ الذين كانوا معي في السيّارة كانوا مبتهجين يضحكون، بيْدَ أنّي وبسبب قلقي إزاء المخاطر التي من الممكن أن تواجه الإمام، كنتُ أذرف الدموع بصورة لا إرادية، لأنّ ثمّة تهديداً كان قائماً.. على أيّة حال دخلنا المطار. ثم وصل الإمام. وبمجرّد أن اتضح هدوء الإمام زال قلقنا واضطرابنا تماماً، لأنّ الإمام بهدوئه كان قد منحني، وربما كثيرين غيري ممّن انتابهم القلق، الهدوء.. وعندما التقيت الإمام في المطار بعد سنوات طويلة، شعرتُ بأنّ تعب كلّ هذه السنوات قد زال وانتهى1.


الهدوء والاطمئنان في ذروة الخطر
وصلتْ ليلة الثاني والعشرين من بهمن أنباء تفيدُ بإمكانية قصف مقرّ إقامة الإمام، مما دفعنا إلى تدارك عمليات خاصة للمراقبة قامت بها وحدات من قوات حرس الثورة والجيش. وقد اضطررنا للبقاء مستيقظين طوال الليل. غير أنّ الإمام خلد إلى النوم في الساعة الثانية عشرة مثلما اعتاد عليه في كلّ يوم. حتى أنّي اقتربتُ من غرفة نوم الإمام فرأيتُه يغطّ في نوم عميق مثل كلّ ليلة2.
 
 

1- آية الله خامنئي، ص258-259.
2- آية الله أشراقي، ج2، ص263.
 
 
 
 
210

187

الهدوء والسكينة

 هدوؤه يبعث على الهدوء

في الليلة التي شهدت حدوث انقلاب (نورجه)، التقى كلٌّ من السيّد خامنئي والشيخ هاشمي رفسنجاني سماحة الإمام واقترحا عليه نقل مقرّ إقامته إلى مكان آخر. فردّ عليهما: "لن أخطو خطوة واحدة خارج هذا المكان". فقيل لسماحته إنّ حياتك في خطر. قال: "كلّا، ليست في خطر. اذهبوا أنتم وحافظوا على حياتكم، وكذلك على مبنى الإذاعة والتلفزيون. وقولوا لهم بأن يضعوا جهاز إرسال هنا، حتى إذا ما أردت إرسال بيان، يكونوا مستعدّين".. وبناءً على الأنباء التي وصلتْ كان من الممكن أن تتمّ مهاجمة منـزل الإمام في هذه الليلة.. وقد قال السيّد خامنئي للإمام ثانية: وهل تكون على قيد الحياة حتى الغد لتُرسل بياناً. فردّ عليه الإمام والابتسامة تعلو شفتيه: "كن مطمئنّاً بأنّ شيئاً لن يحصل لي، وفكّروا أنتم بسلامتكم. فأنا لن أُغادر هذا المكان".. وفي تلك الليلة ليس لم يخطُ الإمام خطوة واحدة خارج مكانه فحسب، وإنّما أضفى على الجميع روحيّة عجيبة، وقد استأذن السادة الإمام وغادروا المكان وهم مطمئنّون على حياته1.

الإمام منح الهدوء للجميع
عقب حادثة تفجير مقرّ الحزب الجمهوري - حادثة السابع من تير - انتابت المسؤولين حالة من الهلع والذعر إزاء مستقبل الثورة، لأنّ مجموعة من كبار المسؤولين في البلاد استشهدت في ليلة واحدة في طليعتها رئيس السلطة القضائية الشهيد المظلوم آية الله الدكتور بهشتي وشخصيّات بارزة
 
 

1- حجة الإسلام الإمام جماراني، ص265.
 
 
 
 
211

188

الهدوء والسكينة

 في الحكومة.. وفي صباح اليوم التّالي جاء المرحوم الشهيد رجائي والشهيد باهنر، مع جمع من الوزراء، للقاء الإمام واستلام التوجيهات، وكان الجميع منهاراً. غير أنّهم عندما خرجوا من عند الإمام، قال السيّد رجائي: لقد بثّ الإمام بكلمات معدودة، الهدوء في نفوسنا جميعاً. إذ قال سماحته: "ثمّة حوادث يشهدها العالم كلّ يوم. وإذا ما استشهدت عدّة من الشخصيّات فلا يعني هذا أن نتخلّى عن الهدف". وإثر هذا اللقاء خيّم الهدوء على الجميع بدرجة توجّه كلّ واحد منهم من هناك إلى مكان عمله مباشرة وكلّه اطمئنان وثقة بالمستقبل1.

 


1- آية الله توسّلي، ص270.

 

 

 

212


189

هدوء الإمام وثباته الروحي

 هدوء الإمام وثباته الروحي


السابع من تير
بعد حادث السابع من تير، ذهبنا برفقة الشهيد رجائي والسيّد موسوي أردبيلي والشيخ هاشمي رفسنجاني، إلى لقاء الإمام. وفي الطريق دار حديث بيننا حول كيفية إطلاع الإمام على الحادث لئلّا يصدمه الخبر وهو يُعاني من تعب القلب أساساً. واتفقنا على أن يتحدّث الشيخ رفسنجاني نيابة عن الحاضرين.. لمّا دخلنا على الإمام جلسنا صامتين دون أن ينبس أحدنا ببنت شفة، وقد تنبّه الإمام إلى ذلك.. ولكن بدلاً من أن يتحدّث الشيخ رفسنجاني، تحدّث الإمام. ثم ذكر لنا واقعة موضحاً: في فترةٍ ما انتشر وباء في منطقةٍ ما، وقد مات أناس كثيرون بسبب الوباء، وأخذت تُصفّ الجنائز وتوضع إلى جوار بعضها. وقد أثار منظر الجنائز الرعب والذعر في نفوس الناس، حتى أنّ البعض مات من شدّة خوفه من أن يطاله الوباء. واستمرّ الوضع على هذه الحال، حتى جاء عالم بارع مقتدر ووجّه خطابه للناس: ما الذي حدث؟ لماذا أنتم مضطّربون؟ لقد اقتربت الآجال، وإنّ الأفراد يفقدون حياتهم معاً وإلى جوار بعضهم البعض.. تخلّصوا من الخوف وإلا سيموت الجميع بسبب خوفهم من هذا الوباء.. بعد نقل هذه الحكاية، قال الإمام: أجل، في حادثة ليلة أمس اقتربت الآجال.. وقد طال الموت هؤلاء الشهداء، وليس هناك ما
 
 
 
 
213

190

هدوء الإمام وثباته الروحي

 يدعو إلى القلق والرعب.. لقد تعاطى الإمام مع هذا الحادث بدرجة عالية من الثبات الروحي والاقتدار بما جعل الجميع يتعامل معها بشجاعة منقطعة النظير.. ثم قال سماحته: السيّد الأردبيلي سيتولّى تصريف الأعمال بدلاً من المرحوم الشهيد بهشتي، وسأُصدر مرسوماً بذلك.. ووجّه خطابه إلى السيّد رفسنجاني موضحاً: لا بدّ من الحرص على بقاء مجلس الشورى فاعلاً في كلّ الأحوال. وممّا يُذكر في هذا الصدد، أنّهم جاؤوا بنوّاب مجلس الشورى الذين جرحوا في الحادث، البعض على الكرسي المتحرّك والبعض الآخر على أسرّة المستشفى، لحضور جلسة المجلس كي يتحقّق حدّ النصاب الرسمي1.


هدوء الإمام أثناء قصف الصواريخ
خلال عمليّات القصف الجوّي وتعرّض طهران للقصف الصاروخي، الذي أثار القلق والاضطراب لدى الكثيرين، كنّا في لحظات القصف نُشاهد على الشاشة المصوّرة نبضات قلب الإمام التي حافظت على حالتها الاعتيادية. وتمّ قياس ضغط الدم أيضاً فلم يلحظ أيّ اختلاف. وكلّ ذلك يدلّ على أنّ الإمام لم يكن يخشى شيئاً حقّاً2.

هدوء الإمام خلال حرب المدن
في إحدى المرّات، وكان ذلك حوالي الساعة الثامنة وعشر دقائق صباحاً، كانت أمواج الانفجار الذي أحدثته إصابة أحد الصواريخ نقطة قريبة من جماران، بدرجة من القوّة زلزلت المنطقة بأكملها، حتى أنّ باب غرفة الإمام
 
 

1- السيّد علي أكبر برورش، ص271-272.
2- الدكتور بور مقدس، ص 275.
 
 
 
 
214

191

هدوء الإمام وثباته الروحي

 ارتطمت بالجدار بقوة ورجّتني في مكاني حيث كنتُ أجلس بالقرب من الباب.. في تلك اللحظة كنتُ أتطلّع إلى الإمام، فلم ألحظ أيّ تغيير على وجهه. وحيث يتمّ تصوير نبضات قلب الإمام على الشاشة المصوّرة، كنتُ قد سألتُ أحد الأطباء الذين يتولّون مراقبة الإمام، إن كان قد شاهد أيّ تغيير في دقّات قلب الإمام في تلك اللحظات على الشاشة، فنفى ذلك1.


هدوء الإمام كان يُهدِّأ الجميع
الملاحظة الهامّة التي كان تأثيرها أكبر من تأثير توجيهات الإمام أثناء لقاءاتي بسماحته، هي حالة الهدوء والاطمئنان التي كان يتّسم بها الإمام خلال تعاطيه مع القضايا والأحداث. حتى أنّ هدوءه هذا كان يسري إلى الذين كانوا يأتون لاستشارته2.

الهدوء والحركات والسكنات
لقد كنّا نرى الإمام دائماً في حالة من الهدوء والوقار والنظم والترتيب، وكان يتحدّث ويتنقّل بنظراته بهدوء. وقد عرف في مشيه وجلوسه ونهوضه هادئاً أيضاً.. وأثناء سيره لم يكن ينظر إلى ما يجري حواليه أبداً، حتى وإن كان ثمّة ما يُثير الانتباه نظير الصخب والضجّة. كما أنّه لم يعتد على إدارة رأسه باتجاه مصدر صوت ما.. كان مسلّطاً على أعصابه تماماً3.
 

1- حجة الإسلام رحيميان.
2- مير حسين موسوي، ص275-276.
3- حجة الإسلام علي دواني، ص277.
 
 
 
 
215
 

192

هدوء الإمام وثباته الروحي

 الإمام لم يعرف الخوف

كانت ليلة العيد. وكان رؤساء السلطات الثلاث بضيافة الحاج السيّد أحمد في منـزله. فجاء الإمام. وفي هذه الأثناء شنّ النظام العراقي هجوماً جوّياً. فمزح الإمام مع الحاضرين، وقال: "إن هؤلاء بدرجة من الحماقة لا يفقهون بأن القصف في مثل هذه الليلة، يزيد من كراهية الشعب لهم".. إنّ الشيء الذي لم يكن له وجود في قاموس الإمام هو الخوف والارتباك والهزيمة وأمثال هذه المفردات1.

الهدوء الروحي أثناء قصف طهران
في مطلع خرداد من عام 1364هـ.ش (1985م)، الذي صادف مع حلول شهر رمضان المبارك، قامت الطائرات العراقية بقصف طهران على مدار الساعة. وتزامناً مع القصف، اشتدّ عمل المضادات الجوّية التي تصكّ أصواتها المهيبة الآذان، خاصّة في مرتفعات شمال طهران حيث يتردّد صدى الأصوات، وتسلب النوم والراحة من الجميع.. وفي صباح اليوم التّالي كان الجميع كسلاً يُخيّم عليه النعاس لعدم تمكّنه من النوم في الليلة الماضية، مما أوجد إرباكاً في العمل. غير أنّ الإمام ورغم كونه غير ملزم بالحضور في مكتبه في ساعة محدّدة، إلا أنّه كان على رأس الساعة الثامنة صباحاً في مكتبه يُباشر عمله، كما هو الحال في الأيام الاعتيادية الأخرى.

وحيث يقلّ نشاط الأفراد في رمضان وتزداد رغبتهم في النوم والاستراحة، سأل الدكتور عارفي، الذي يُشرف على علاج الإمام، سماحته يوماً: ألم تشعر
 
 

1- ميرحسين موسوي، ص277-278.
 
 
 
 
216

193

هدوء الإمام وثباته الروحي

 حاجة إلى المزيد من النوم والاستراحة؟ فأجاب: كلا. فسأله ثانية: ألم تشعر بأيّ تغيير مطلقاً. فأكّد الإمام: كلّا1.


لن أُغيّر المكان مطلقاً
في أواسط اسفند من عام 1366هـ.ش (1987م)، دخل عليّ السيّد أنصاري يوماً، وكانت الساعة تُشير إلى الحادية عشرة والنصف تقريباً، وقال: السيّد الدكتور تعال معي لنذهب إلى الإمام.. فذهبنا معاً إلى عند الإمام.. كان الإمام يُمسك بيده مسبحة ولسانه يلهج بالذكر وهو يتمشّى داخل الغرفة.. لمّا رآنا استغرب لمجيئنا في مثل هذه الساعة وبهذه الحالة.. طبعاً السيّد أنصاري كان قريباً من الإمام وكان يتحدّث مع سماحته بدون تكليف. غير أنّي في تلك الليلة رأيته مرتبكاً وأخذ يتحدّث مطأطأ الرأس وفي حالة من العجز والإرباك. وممّا قاله للإمام: إنّ الوضع لم يعد يُطاق. والناس غادروا منازلهم، ومن بقي منهم فمن المؤكّد بأنّ لديهم ملاجئ يلجؤون إليها. وفي هذا الصدد فإنّ القلق والاضطراب يسيطر على جميع الموجودين هنا في المنـزل لئلّا يحدث لسماحتكم أيّ مكروه - لا سمح الله - جرّاء هذا القصف. لذا نرجوكم أن توافقوا، من أجلنا نحن، على الانتقال إلى مكان آمن. علماً أنّ ثمّة معلومات تُفيد بأنّهم ينوون قصف جماران بالصواريخ من أكثر من جهة. وهناك العديد من القرائن تؤكّد ذلك. لذا نرجوكم أن تطاوعونا وتوافقوا على تغيير مقرّ إقامتكم.. بعد أن أنهى السيّد أنصاري كلامه، أشار الإمام إلى منـزل الحاج أحمد وقال: "خذوا بيد أحمد وزوجته وأطفاله واذهبوا". ثم قال
 

1- حجة الإسلام رحيميان، ص278.
 
 
 
 
217

194

هدوء الإمام وثباته الروحي

 بلهجة حازمة: "لن أترك هذا المكان مطلقاً".. السيّد أنصاري، الذي عجز عن إقناع الإمام بالموافقة على انتقاله إلى مكان آمن، كرّر كلامه بأسلوب آخر وأخذ يبكي بحرارة طالباً من الإمام الاستجابة لرغبة كلّ من في المنـزل.. ابتسم الإمام وقال: "السيّد أنصاري! إنّك مخطأ في حساباتك. هذا أولاً. وثانياً. لماذا تكون عاطفيّاً؟ حاول السيطرة على مشاعرك والتحكّم بها".


بعدها، وحيث رأى التماسه وإلحاحه، قال سماحته بلباقة: "اذهب مع الدكتور والآخرين وهاتوا المخطّط الذي اعدتتموه بهذا الشأن، حتى أقول لكم ماذا تفعلون".. ففرحنا لذلك كثيراً متصوّرين بأنّ الإمام وافق بالنهاية، حتى أنّي قبّلت السيّد أنصاري من فرط فرحتي وقلتُ: لقد رفض الإمام دعوات كبار الشخصيّات بترك هذا المكان والانتقال إلى مكان آمن، وها هو قد اقتنع الآن بكلامك واستجاب لطلبك.. وما هي إلا دقائق حتى اتصل الحاج السيّد أحمد موضحاً: لا تخلقوا مشاكل لأنفسكم. لقد أراد الإمام أن يعتذر إليكم بلباقة، ولم يكن يودّ القول: اذهبوا وشأنكم. لذا ارتأى القول: اذهبوا وهاتوا مخطّطاتكم. وها قد أخبرني الآن: "لن أترك هذا المكان بالتأكيد"1.

يعد بالنصر في ذروة المتاعب
فكّرت يوماً مع نفسي متسائلاً عمّا إذا كانت تقارير الحرب تُقدّم إلى الإمام بصورة دقيقة، وربما أنّ سماحته غير مطّلع على حقيقة ما يجري، لذا قرّرت أن ألتقي الإمام وأضعه في الصورة بنفسي. بيْدَ أنّي رأيت الإمام يبتسم، وقال بإشراقة نورانية لن أنساها أبداً: "عد إلى الجبهات وكن واثقاً بأنّكم
 

1- الدكتور بور مقدس، ص278 إلى 280.
 
 
 
 
218

195

هدوء الإمام وثباته الروحي

 منتصرون".. وفي هذه الأثناء التقى الإمام أحد علماء الدين، كان قد جاء من محافظة كردستان بشأن موضوع ما، وقال له: "هذه موضوعات ليست مهمّة كثيراً، وسوف نقوم بتطهير هذه المنطقة إن شاء الله، وعندما ننتهي من ذلك سوف تحلّ هذه القضايا بصورة تلقائية".. إنّ كلمات الإمام هذه أنزلت السكينة على قلوبنا، فعدنا إلى الجبهات بروحية عالية وأمل كبير بالنصر1.


إنّها الحرب مرّةً الغلبة لنا ومرّةً لهم
ليلة احتلال الجيش البعثي العراقي لمدينة خرّمشهر، ليلة لا يُمكن نسيانها بالنسبة للعبد الحقير وبقيّة الأعزّة ممّن عايشوا الهجوم على المدينة لحظة بلحظة.. إذ قلّما كان يسكت الهاتف، وكانت أنباء تقدّم القوّات البعثية الملطّخة أياديها بدماء الأبرياء داخل المدينة، تنـزل على رؤوسنا كالصاعقة.. حتى أنّ الزملاء في مقرّ القيادة لم يعودوا قادرين على التحدّث غير الردّ على الهاتف فحسب.. كان الوقت يمرّ ثقيلاً، حتى نزل خبر سقوط خرّمشهر كالصاعقة على رؤوس الجميع.

وكنتُ قد كُلّفت من قِبَل الزملاء بإخبار الإمام بما حصل.. كان صوتي مخنوقاً وكنتُ أخشى أن لا أستطيع التعبير عمّا حصل لشدّة تأثّري. وبمجرّد دخولي مكتب الإمام حتى اشرأبت الأعناق نحوي تتساءل: ما الذي حصل؟.. يعلم الله أنّي قلّما واجهت في حياتي مثل هذا الموقف.. فأجبتُ بصعوبة: لا شيء.. بيْدَ أنّ الإمام العظيم، الذي تنبّه لاضطرابي، لم يقل شيئاً.. جلستُ بالقرب من سماحته وأخذت أنظر إلى التلفاز. بعد ثلاث أو أربع دقائق، خاطبني
 
 

1- حجة الإسلام موسوي جزايري، ص281.
 
 
 
 
219

196

هدوء الإمام وثباته الروحي

 متسائلاً: "ما هي آخر الأخبار؟".. أجبتُ بألم وعبرة: احتلّوا خرّمشهر.. فإذا به يقول بلهجة تنطوي على عتاب: "إنّها الحرب مرّةً الغلبة لنا ومرّةً لهم".. لا أدري كيف أنّ هذه الكلمات أثّرت في نفسي ولا أُبالغ إنْ قلتُ: كان وقعها كمن صبّ سطلاً من الماء البارد على رأسي، حتى أنّي تخلّصت من مشاعر الألم وكأنّ شيئاً لم يكن1.


هدوء الإمام أثناء قصف جزيرة (خارج)
كنّا قد ذهبنا مع عدد من الزملاء في مكتب الإمام إلى جزيرة (خارج)، أثناء تعرّض الجزيرة والمنشآت النفطية فيها، إلى قصف شديد ومتوالٍ خلال فترة الحرب.. ولدى وصولنا الجزيرة كانت طائرات العدوّ تقصف المنطقة، فطلب الإخوة المسؤولون هناك التريّث قليلاً وعدم التوجّه إلى المنصّات النفطية حتى يتوقّف القصف. غير أنّنا قرّرنا التوجّه مباشرة لتفقّد المنصّات، وعدم المكوث في المكان المعد لاستقبالنا.. وعندما كنّا على إحدى المنصّات، جاءت طائرات (ميغ 29) وألقت 18 قنبلة تزن كلّ واحدة منها 500 كيلوغرام على الجزيرة، وقد سقطت بعضها في الماء والبعض الآخر في نقاط مختلفة من الجزيرة، ولم تُصِب القنابل أيّاً من المنصّات. والمفارقة العجيبة أنّ إحدى هذه القنابل سقطت على المبنى الذي كان من المفترض أن نحتمي فيه من القصف.. على أيّة حال، تفقّدنا الأوضاع عن كثب وعدنا ليلة الجمعة.. وفي الصباح، وحيث اعتاد الإمام على الاستحمام بعد الاستماع إلى موجز أخبار الساعة الثامنة مباشرة، قلتُ لسماحته: كنّا قد ذهبنا إلى جزيرة
 
 

1- الدكتور محمود بروجردي، ص286-287.
 
 
 
 
220

197

هدوء الإمام وثباته الروحي

 خارج.. ما أن سمع ذلك حتى جلس مستوضحاً تفاصيل الرحلة. فحدّثته عمّا رأينا عن كثب وأبلغته الرسالة التي حملني إيّاها المسؤولون في الجزيرة. حيث أوضحوا لي: "إذا ما استمرّ القصف على هذا المنوال إلى يومين آخرين، سوف يتوقّف تصدير النفط في الجزيرة". وفي ظلّ الظروف الحسّاسة التي كانت تمرّ بها الحرب والصعوبات التي تواجه البلاد في مجال العملة الأجنبية، فإنّ القلق الحقيقي كان يكمن هنا.. أصغى الإمام بدقّة إلى حديثي. وفي الختام، وبهدوء لا يتصوّر، أخذ يدعو.. هدوء اتضحت تجلياته مع مرور الوقت واستمرار تصدير النفط حتى نهاية الحرب رغم كلّ الضغوط التي كان يُمارسها العدوّ.. فعلى الرغم من أنّ الإمام لم يكن حاضراً في الجزيرة، ولكنّه كان أكثر وعياً للأوضاع والتنبّؤ بالمستقبل، ممّن كانوا يباشرون عملهم هناك1.

 


1- حجة الإسلام رحيميان، ص 287-288.

 

 

221


198

الصلابة والوقار

 الصلابة والوقار


الصلابة في الطفولة
ينقل السيّد بسنديدة، بأنّ الإمام كان في شبابه دائماً الفائز الأول في مسابقة الركض بين شباب (خمين).

وفي سنّ الثامنة أو التاسعة، كان صاحب أطول وثبة مقارنة بمنافسيه من المتسابقين، وقد أُصيبت قدمه في إحدى المسابقات.. وفي هذا الصدد يقول أحد الذين كانوا يلعبون مع الإمام في فترة الحداثة: إنّ فتيان محلّة (سبزي كاران) في مدينة خمين، لم يكونوا يجرؤون على استخدام الكلام البذيء والسبّ والشتم والبلطجة1.

صمت يُزيّنه الوقار
كان الإمام يتمتّع بوقار واتزان وهيبة خاصة، في ذات الوقت الذي عُرف بتواضعه الجم.. ففي معظم الأوقات كان يلتزم الصمت ولا يتكلّم إلا قليلاً.. كان يحرص على أن يتكلّم عند الضرورة. وكان كلامه مدروساً تماماً وموزوناً وموجزاً.. وفيما عدا الاجتماعات العامّة التي كان يخطب فيها، قلّما كان
 
 

1- آية الله مسعودي خميني، ج3، ص134.
 
 
 
 
223

199

الصلابة والوقار

 يتحدّث الإمام، وفي معظم الأحيان كان منشغلاً بالتفكير، وكان يحرص على الاستفادة من أوقاته إلى أقصى حدٍّ ممكن1.


أذهلتني عظمة الإمام
أتذكّر عندما ذهبتُ للقاء الإمام أوّل مرّة، كيف أنّ عظمة سماحته أذهلتني بدرجة حالت دون أن أتمكّن من النطق بما كنتُ أُريد قوله. إذ كان الإمام يتمتّع دائماً بعظمة وهيبة خاصة.. ولحظتها بادر الشهيد سعيدي، الذي كان من تلامذة الإمام القدماء ومن أفاضل حلقة درس سماحته، لإنقاذي وباشر بالكلام موضحاً للإمام ما أردتُ السؤال عنه، وأجاب سماحته بدوره بكلّ رحابة صدر2.

سحر سيماء الإمام النورانية
من الأمور الممتعة التي رأيتها لدى الإمام وانطبعت في ذاكرتي، المظهر الهادئ والرصين الذي كان يتّصف به الإمام، والحركات والسكنات الموزونة والمدروسة التي كان يتّسم بها سماحته.. وبغضّ النظر عن السيماء الجذّابة والمظهر الأنيق والوجه المشرق التي كان يتّصف بها الإمام، التي تعدّ من النعم الإلهية، ولحيته السوداء ووجهه الناصع البياض والعمامة السوداء الوقورة والملابس المرتبة والنظيفة، والتي تعود إلى ذاته واختياره، ونظراته المنتظمة والمعبّرة والنافذة، وحركات الأيدي والرأس والرقبة أثناء الجلوس والنهوض
 

1- حجة الإسلام الإمام جماراني، ص321.
2- آية الله يوسف صانعي، ص322.
 
 
 
 
224

200

الصلابة والوقار

 في الاجتماعات العامّة، وطريقته في محادثة الآخرين، والهدوء والوقار الذي لا يوصف أثناء المشي.. كلّ ذلك يُعدّ من خصائص الإمام وسماته الخاصّة، وكانت محسوسة لكلّ من يراه وتستحوذ على اهتمامه أيضاً.. فكلّ من كان يرى سماحته سواء في مجلس، أو في الشارع، أو في الصحن الشريف للسيّدة (معصومة)، كان مظهر الإمام وهيبته ووقاره يلفت نظره بشكل لا إرادي، حتى أنّه يغفل عمّن سواه1.


وكأنّ حادثة لم تحدث
خلال السنوات الإحدى عشرة التي كنتُ فيها إلى جوار الإمام في النجف، لم يحدث مطلقاً أن حالت الأحداث السياسية الكبرى دون أداء الإمام مهامه الحوزوية وتدريس الفقه الإسلامي، أو إعاقة اهتمامه بها.. فكثيراً ما كان يحدث أن نتغيّب أنا وعدد كبير من تلامذة سماحته، عن حلقة الدرس بسبب القضايا السياسية والأحداث التي تطرأ، أو على الأقل كنّا نحضر الدرس وأفكارنا مشتّتة. بيْدَ أنّ الإمام، وفي ذات الوقت الذي كان يواجه لحظات حسّاسة بالنسبة للقضايا السياسية والأحداث المصيرية التي كانت تُشغله، كان يأتي إلى حلقة الدرس ويتناول أعقد المسائل الفقهية بالبحث والاستدلال وكأنّ شيئاً لم يحدث.. على سبيل المثال، في نفس اليوم الذي تمّ اعتقال نجله العزيز من قِبَل النظام البعثي العراقي الكافر، ونقله إلى بغداد، واصل الإمام برنامجه اليومي المعتاد، وحضر حلقة الدرس. حتى أستطيع القول إنّ سماحته غاص في ذلك اليوم في المباحث العلمية بنحو أعمق وأوسع من
 

1- حجة الإسلام علي دواني، ص324.
 
 
 
 
225

201

الصلابة والوقار

 الأيام الأخرى.. كذلك أعرب عن استيائه لتعطيل علماء الحوزة وأساتذتها دروسهم إثر استشهاد المرحوم الحاج السيّد مصطفى، وذلك حرصاً على مكانة الحوزة العلمية، داعياً الجميع إلى مباشرة التدريس، وكان هو نفسه أول من حرص على مواصلة بحوثه العلمية بدرجة وكأنّ شيئاً لم يحدث1.


حبّ الجامعيّين الفرنسيّين للإمام
عندما تنبّهت إلى أنّ عدداً من الجامعيّين الفرنسيين كانوا يأتون كلّ ليلة للاستماع إلى خطاب الإمام، حاولتُ أن أتعرّف على انطباعاتهم عن طريق أحد الإخوة الذي كان يُجيد التحدّث باللغة الفرنسية. فسألتُهم: هل تفهمون الفارسية، وهل تعون ما يقوله الإمام؟. فقالوا: نحن لا نُجيد الفارسية ولا نفهم من كلام الإمام شيئاً. فسألتهم: فلماذا إذاً تأتون كل ليلة للاستماع إليه؟. قالوا: نحن عندما نأتي إلى هنا ونستمع إلى الإمام وهو يتحدّث، نشعر بحالة روحانية مطمئنة2.

لم تنته الترجمة بعد حتى نهض من مكانه
خلافاً لما كان قد اعتاد عليه الإمام في الحضور إلى مكتبه على رأس الساعة الثامنة صباحاً، تأخّر الإمام عن الحضور في صباح اليوم الذي كان من المفترض أن يأتي أدوار شيفرنادزه، وزير خارجية الاتحاد السوفيتي، للقاء الإمام وتسليمه ردّ الرئيس غورباتشوف على رسالته.. كان الوزير الروسي واقفاً
 
 

1- سيد حميد روحاني، ج2، ص29.
2- حجة الإسلام محتشمي، ج3، ص325.
 
 
 
226

202

الصلابة والوقار

 برفقة المسؤولين في الخارجية الإيرانية ينتظرون قدوم الإمام.. وأخيراً وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، دخل الإمام وتوجّه مباشرة إلى مكانه دون أن يُلقي نظرة على أحد.. وزير الخارجية الروسي، وكونه رئيساً للجهاز الدبلوماسي للقوّة الشرقية العظمى، والذي كثيراً ما شوهد بتقاطيع وجهه الجادّة وحركاته الواثقة في المحافل الدولية الكبرى وخلال استضافته في القصور المجلّلة للقادة الغربيين، كان له وضع آخر في غرفة الإمام المتواضعة والبسيطة. إذ إنّه ربما المرّة الأولى التي يحضر فيها مجلساً رسمياً وقد خلع حذاءه وأقدامه الحافية تطأ سجّادة قديمة شاحبة اللون. أضف إلى ذلك ثمّة رعشة خفيفة طغت على يده وهو يقرأ رسالة غورباتشوف. فمنذ اللحظة الأولى التي جلس على الكرسي كان وضعه غير مستقر، وكان ذلك مشهوداً من خلال عدم استقرار وضعية ساقيه التي استمرّت حتى اللحظة الأخيرة من قراءة الرسالة. وفيما عدا رأسه ويده المرتعشة، بقيت جوارحه متجمّدة كالتمثال طوال فترة وجوده. حتى المترجم، الذي كان يُجيد اللغة الروسية بطلاقة - حسبما أفاد الذين سبق لهم أن تعاملوا معه - كان مرتبكاً، وكان يحاول التغطية على إرباكه من خلال التنحنح والحركات المصطنعة.. على أيّة حال، بعد الانتهاء من ترجمة رسالة غورباتشوف، أعرب الإمام، مباشرة ودون أدنى تأمّل، وفي ظرف دقيقة واحدة وفي كلمات موجزة، أعرب عن أسفه بكلّ صراحة وبعيداً عن أيّ تعارف، من أنّ السيّد غورباتشوف لم يُبد الاهتمام اللازم بالموضوع الرئيسي الذي تمحورت حوله رسالة الإمام. وبعد ذلك وفيما لم ينتهِ المترجم بعد من ترجمة كلمات الإمام، نهض سماحته وغادر الغرفة. وبمزيج من الهيبة والسرعة في الحركة، لم يتسنّ لأحد التحرّك من مكانه، فضلاً عن إعطاء الفرصة في تقبيل اليد والمصافحة1.

 


1- حجة الإسلام رحيميان، ص326-327.

 

 

227


203

الصلابة والوقار

 رجل عقائدي حقّاً

(مايكل فلاس)، مراسل إحدى محطّات التلفزة الأميركية، وأحد الصحفيين الأميركيين الذين يتمتّعون بشهرة واسعة، ولعلّه أول أميركي أجرى مقابلة مع الإمام، كان قد ظهر في أحد برامج القناة الرابعة للتلفزيون الأميركي يتحدّث عن خواطره وذكرياته خلال عمله الصحفي. وقد أشار ضمن حديثه إلى أنّه التقى معظم زعماء العالم وكبار السّاسة المعاصرين وأجرى مقابلات معهم. وفي معرض حديثه عن سماحة آية الله الخميني، قائد الثورة الإيرانية، قال (مايكل فلاس)، بلهجة اتسمت باحترام وثقة وصراحة تامّة: لا بدّ من الاعتراف بأنّه أذكى السّاسة الذين رأيتهم وأكثرهم فطنة وذكاءً.. كان يتمتّع بقدرة عجيبة في الهيمنة على محاوريه. وبدلاً من أسأل منه، كان هو الذي يتحكّم بأسئلتي. وفيما عدا الموضوعات التي كان آية الله يرغب بالخوض فيها، لم أستطع أن أنتزع من هذا السياسي أيّ موضوع جديد. وإنّ ما أذهلني وأثار دهشتي هو كيف أنّ رجلاً روحانياً يُهيمن على شخص مثلي لديه كلّ هذه الخبرة في مجال عمله..

ومضى مايكل فلاس يقول: لا بدّ لي من القول إنّ الحياة البسيطة للغاية التي كان يحياها قائد الثورة الإسلامية، كانت قد ميّزته عن جميع القادة في العالم. وقد رأيتُ فيه رجلاً عقائدياً حقّاً. وأنّ الدنيا والبهارج الدنيوية لم تكن تعني شيئاً بالنسبة له. وممّا يُذكر في هذا الصدد، بأنّه كان قد أجلسنا، أنا وجميع من كانوا يلتقونه، على سجّادة متواضعة، وكنّا مجبرين على خلع أحذيتنا عند الباب، كي نُدرك منذ البداية بأنّنا أمام رجل مختلف تماماً1.
 
 

1- الدكتور أمير هوشنك عسكري، مرآة الجمال، ص131-132.
 
 
 
228

204

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية


لا أرغب أن يُساء إلى شخصيّتك
في إحدى الليالي صادفتُ الإمام في أحد الأزقّة متوجّهاً لزيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين. ولأنّي كنتُ أودّ أن أكون برفقته، لذا قرّرت السير خلف سماحته في الطريق إلى الصحن الشريف. غير أنّ الإمام تنبّه إلى وجودي، فتوقّف عن السير والتفت نحوي وقال: "هل لدى السيّد أية أوامر؟" قلتُ: كلا، وإنّما وددت أن أكون برفقتك فحسب، لأنّ هذا الأمر يُسعدني.. فقال سماحته: "شكر الله سعيكم. أشكركم على حسن ظنّكم، إنّكم سادة حقّاً، وأحد الطلبة المحترمين، لذا لا أرغب أن يُساء إلى شخصيّتكم من خلال سيركم خلفي"1.

لم أره يطلب شيئاً مطلقاً
لم يُعرف عن الإمام بأنّه طلب شيئاً من أحد، أو قبِل منّة أحد.. فطول الفترة التي عرفته بها لم أره يترجّى أحداً مطلقاً.. على سبيل المثال إذا ما كان أحد الباعة يبيع سلعته بسعر مجحف، فلم يقل له شيئاً ليُخفّض السعر وإنّما كان يتركه ويمضي2.
 

1- السيّد حميد روحاني، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني قدس سره، ج2، ص130.
2- آية الله الشيخ جعفر سبحاني، ج3، ص265.
 
 
 
229

205

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 الله ضامن رزقكم

انتاب القلق بعض الطلبة وأساتذة الحوزة بعد وفاة المرحوم آية الله السيّد البروجردي.. البعض كان قلقاً من أجل مستقبل الحوزة. والبعض الآخر من قصيري النظر، كانوا قلقين إزاء الأزمة المالية التي ستعصف بالحوزة. وصادف ذلك مع اقتراب شهر محرّم الحرام حيث يتوجّه طلبة العلوم الدينية إلى مختلف أنحاء البلاد للتبليغ. وإنّ بعض السادة كانوا قد نصحوا هؤلاء الطلبة باطلاع الناس على حاجة الحوزة إلى المال.. غير أنّ الإمام كان قد أوضح في خطابه للمبلِّغين: "حذار أن تُسيؤوا إلى سمعة الحوزة وتريقوا ماء وجهها عند ذهابكم إلى المحافظات والمدن، وتمدّوا يد الاستجداء من أجل الحوزة.. الله وحده الضامن لرزقكم وصيانة الحوزة"1.

لا تقلقوا على رزقكم
إثر وفاة آية الله السيّد البروجردي، تعطّلت الحوزة العلمية في قم أربعين يوماً.. وفي اليوم الأول من عودة الدراسة، قال الإمام ينصح الطلّاب في المسجد الأعظم: "لا تقلقوا على رزقكم أبداً".. إذ كان القلق قد انتاب الكثير من الطلّاب إثر وفاة آية الله البروجردي لئلّا تُقطع (الشهرية) عنهم. غير أنّ الإمام كان يوصيهم: "لتكن هممكم عالية، وأن لا تكون للدنيا أيّة قيمة في اهتماماتكم ولو بمقدار قشّة"2.
 
 

1- آية الله توسّلي، ص265.
2- حجة الإسلام زين العابدين باكوئي، ص266.
 
 
 
 
230

206

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 ليتحلّى الطلّاب بعزّة النفس

كان الإمام يحرص على أن يتّصف طلبة العلوم الدينية بالكرامة وعزّة النفس.. وأحياناً كان يأتي بعض الطلّاب ويتخضّعوا معربين عن عوزهم واحتياجهم. غير أنّ الإمام كان حازماً تجاه مثل هذا التصرّف. طبعاً لا يعني هذا أنّه لم يحاول مساعدتهم، ولكن كان يرفض التذلّل والسلوك المذلّ.. وحدث أن حاولتُ لفتَ نظره عن طريق التلويح أو التلميح، بأنّ فلاناً بحاجة إلى مساعدة. فكان سماحته يُرحّب بذلك ويُقدّم له يد العون والمساعدة. ولكن إذا ما حاول الشخص أن يطلب بلسانه، كان الإمام يستاء من ذلك. فكثيراً ما كان يحدث أن يأتي البعض، ممن يجهلون أخلاق الإمام، ويعربون عن حاجتهم، فكان الإمام يردّ أيديهم ويحاول أن يُفهمهم بأنّ مثل هذا التصرّف غير صحيح، خاصّة إذا ما كان في معرض أنظار الآخرين.. إذ كان سماحته يودّ أن يحترم الطلّاب أنفسهم ويتحلّوا بعزّة النفس، وأن يُعزّزوا حالة التوكّل لديهم1.

كان يحرص على إشاعة القناعة بين الطلّاب
كان بعض الطلّاب يأتي بالحقوق الشرعية للإمام. وكان سماحته يتعامل مع هؤلاء الطلبة بشكل بنّاء مما يحول دون بروز روحية التوقيع لديهم، ويُعزّز قناعتهم، ويرفض الخضوع والتذلّل من أجل المال.. وفي هذا الصدد اقترح عليّ بعض الأصدقاء بأن أطلب من الإمام أن لا يتشدّد كثيراً في هذه القضايا، ولكنّي رفضت. لأنّي كنتُ واثقاً من أنّ الإمام يحرص كثيراً لئلّا يوجد لدى
 
 

1- حجة الإسلام عميد زنجاني، ص266.
 
 
 
231

207

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 البعض الرياء والتملّق، وإذا كانت أرضية ذلك موجودة لدى البعض، فإنّ تصرّف الإمام هذا يسعى للتخلّص منها1.


هكذا زيارة لا تليق
كان بعض الطلّاب وعلماء الدين الإيرانيين يتوجّهون إلى العراق بصورة غير قانونية عن طريق آبادان، لزيارة كربلاء والنجف. ولهذا كان البعض يواجه متاعب على الحدود، حيث يتمّ اعتقالهم وسجنهم وإيذاؤهم من قِبَل المسؤولين العراقيين. وربما كانوا يتعرّضون للإساءة والإهانة. وفي كثير من الأحيان كان يتدخّل السادة العلماء لإنقاذهم.. وفي إحدى الليالي كنتُ عند الإمام في النجف، فأعرب سماحته عن قلقه إزاء ذلك موضحاً: "إنّ زيارة الإمام الحسين مرفوضة تماماً إذا ما اقترنت بكلّ هذا الذلّ والخنوع"2.

أنا أمنّ عليك
في النجف جاء إلى الإمام شخص كانت متراكمة عليه ديون ملفتة من الوجوه الشرعية، وبعد أن سدّد ما عليه من حقوق شرعية، قال كلاماً استنبط منه الإمام بأنّ الرجل يريد أن يمنّ عليه فيما سدّد من حقوق، مما أغضب الإمام ودفعه للقول: "أنا الذي ينبغي لي أن أمنّ عليك، لأنّي أعتقت رقبتك من مسؤولية كبيرة وألقيتها على عاتقي"3.
 
 

1- آية الله محمدي جيلاني، ص267.
2- حجة الإسلام سيد مجتبى رودباري، ص268.
3- حجة الإسلام أنصاري كرماني، ص269.
 
 
 
 
232

208

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 لم أذهب وراء المال طول عمري

كثيراً ما كان يُقال إلى الإمام: إنّ الكثير ممّن يأتون إلى مكّة إنّما هم من المقلّدين لسماحتكم، ولديهم مشاعر خاصّة تجاهكم، ويودّون تسديد حقوقهم الشرعية إليكم، لذا فمن الضروري أن تُرسلوا مندوباً عنكم إلى مكّة.. غير أنّ الإمام كان يرفض ذلك. حتى أنّ البعض كان يقترح على الإمام إرسال الحاج السيّد مصطفى لهذه المهمّة. ولكنّه كان يرفض.. وأخيراً اقترح عليّ الحاج السيّد مصطفى في إحدى السنوات أن أتوجّه إلى مكّة مندوباً عن الإمام، وأن أتولّى جمع الحقوق الشرعية بصفتي وكيلاً للإمام..

عندما التقيتُ الإمام لتوديعه، قال لي كلمة لا زالت ترنّ في أذني. إذ قال: إنّني لم أذهب وراء المال طوال حياتي. وأُريد أن يكون رفقائي بهذا النحو أيضاً.. ذلك أنّه كان قد تنادى إلى سمع الإمام، بأنّه عندما كان يأتي أحد التجّار كان البعض يتراكض وراءه، والبعض الآخر يحاول أن يلتقيه كي يتسلّم منه الحقوق الشرعية.. ثم قال لي: لا أُريد أن أراك بين القوافل، فليس هناك أيّة ضرورة لأن تتوجّه إلى القوافل، قد يتصوّر البعض، كونك وكيلاً عنّي، بأنّك جئت لاستلام الحقوق الشرعية.. وإذا ما جاءك أحدهم وسأل منك مسألة، أجب عن مسألته فحسب. وإذا أراد أحدهم تسليمك أموالاً خذها ولا تُردّها. واعلم بأنّي لا أسمح لك بالتملّق مطلقاً من أجل أن تجلب لي المال.. اترك الناس يُقدّمون حقوقهم الشرعية بالنحو الذي يرتؤونه. ابقَ أنت في مكانك، ومن يريد إعطاء حقوقه الشرعية يأتي إليك1.
 
 

1- آية الله خاتمي يزدي، ص271.
 
 
 
 
233

209

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 لا تذكروا اسمي

قبل أن يتمّ نفي الإمام، كان أحد التجّار الكبار شيّد مسجداً في طهران وطلب من الإمام أن يُرشّح له شخصاً ليتولّى إمامة المسجد. وقد وافق الإمام على ذلك مكرهاً. وعندما رشّح الشخص المناسب، أوصاه قائلاً: "عليك، فضلاً عن التبليغ والإرشاد، أن لا تنسى أمرين، الأول: أن لا يُذكر اسمي في هذا المسجد. والثاني: أن تتصرّف مع صاحب المسجد بصورة لا يتصوّر معها بأنّك طامع في ماله وثروته"1.

لا أتقدّم بطلب
كثيراً ما كنّا نشهد عن كثب مواقف الإمام الحازمة إزاء ظلم الظالمين وجبروت الطغاة، وحيال ممارسات حكومة البعث العراقي الكافرة. ومن هذه المواقف ما حدث أثناء توجّه المرحوم آية الله السيّد الحكيم إلى بغداد احتجاجاً على ممارسات نظام البعث العراقي. حيث كان المسلمون الشيعة يأتون جماعات جماعات لزيارته من مختلف أنحاء العراق. وكان ذلك يُشكّل بحدّ ذاته تحرّكاً مناوئاً للحكومة العراقية. ولهذا حاصرت السلطات البعثية منـزل آية الله السيّد الحكيم وهاجمته. ومن ثم قامت باعتقال كلّ من يأتي لزيارته. ممّا اضطر السيّد الحكيم للانتقال إلى الكوفة احتجاجاً على تصرّفات الحكومة، فضلاً عن تعطيل دروسه. وفي أواخر عمره ودّع المرجع الأعلى للشيعة الحياة في الغربة مظلوماً. وإنّ علماء الدين في النجف كانوا قد امتنعوا عن التردّد على منـزل سماحته واللقاء به خوفاً من غضب وبطش
 
 

1- آية الله حسن صانعي، ص273.
 
 
 
 
234

210

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 النظام البعثي العراقي.. بيْدَ أنّ الإمام، وبوحي ممّا اتّصف به من صلابة وشجاعة، كان يبعث المرحوم الحاج السيّد مصطفى كلّ يوم إلى منـزل السيّد الحكيم لتفقّده. ولهذا أقدم النظام العراقي على اعتقال السيّد مصطفى ونقله إلى بغداد. وحينها سادت النجف أجواء من الرعب. وكانت الحشود تأتي إلى منـزل الإمام تستنكر عمل السلطات البعثية وتطالب بإطلاق سراح الحاج السيّد مصطفى. غير أنّ الإمام كان يردّ عليهم قائلاً: "النضال فيه متاعب وآلام، ومن يخطو في هذا الطريق لن يتقدّم إلى عدوّه بمثل هذا الطلب، حتى وإن أرادوا قتل مصطفى فلن أتقدّم إليهم بإطلاق سراحه".. وقد بقي المرحوم السيّد مصطفى معتقلاً في بغداد أسبوعاً تقريباً، ولم يكن يعرف أحد عن مصيره مطلقاً1.


أنا شخصيّاً لن أتدخّل
كان الإمام مقتنعاً تماماً بأنّه لن يسمح لنفسه بأن يترجّى أحداً لا يؤمن به أساساً ويعتبره من الظلمة والفسقة.. كان هذا مبدأه في الحياة.. وفي إحدى المرّات تمّ اعتقال مجموعة من عناصر (مجاهدي خلق) في العراق. وفي هذا الصدد جاء شخص يُدعى (تراب حق شناس) إلى النجف يحمل معه رسالة من آية الله السيّد الطالقاني إلى الإمام كانت قد كُتبت بالحبر غير المرئي. عندما التقى الإمام أظهر المكتوب في الرسالة.. وإنّ آية الله الطالقاني، وكي يطمئنّ الإمام بأنّ الرجل - حق شناس - مرسل من قبله، أوصاه بأن يذكر له خاطرة كانت له مع سماحته والسيّد الزنجاني. كما أنّ
 
 

1- حجة الإسلام محتشمي بور، ص273.
 
 
 
 
235

211

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 الإمام قد سلّمني رسالة المرحوم آية الله طالقاني للتأكّد من صاحبها.. طبعاً هذه الرسالة شكّلت هي الأخرى خاطرة بيني وبين آية الله طالقاني عندما التقيته من وراء القضبان. وأنّ آية الله الطالقاني كان قد طلب في رسالته من الإمام التدخّل ومطالبة المسؤولين العراقيين بإطلاق سراح أعضاء منظّمة (مجاهدي خلق).. بعد اللقاء قال الإمام: "المسألة بحاجة إلى تفكير".. وفي اليوم التّالي عندما التقيته قال سماحته: "أنا شخصيّاً لا أتدخّل. لأنّي إذا طلبتُ أمراً من البعثيين سأكون مديوناً إليهم في المستقبل، وسيطلبون منّي أشياء".. وفيما حاولت التوضيح بأنّ مثل هذا التدخّل ربما يكون مؤثّراً، قال سماحته: "إذا ما كان السيّد طالقاني والسيّد زنجاني حاضرين هنا وطلبا كلاهما منّي التدخّل، لن أتدخّل، لأنّني أرفض تماماً أن أطلب أمراً من شخص لا أؤمن به وأعتبره من الظلمة والفسقة. ولكن إذا كان بوسعكم أن تفعلوا شيئاً، فلا بأس بذلك"1.


أذهب إلى الفيضية بقدمين حافيتين
عندما وصل خبر هجوم القوّات الحكومية الخاصة - الكماندوز - على المدرسة الفيضية، وقيامهم بإلقاء الطلبة من فوق السطح والأدوار العليا للمدرسة، وقد انهالوا عليهم بالضرب بالعصي والحجارة، عندما وصل الخبر طُلب من الإمام بأن يأذن لنا بإغلاق باب المنـزل. ذلك أنّ ثمّة أنباء تردّدت عن نية أزلام السلطة مهاجمة منـزل الإمام بعد المدرسة الفيضية. فرفض الإمام قائلاً: "كلا، ليبقى باب المنـزل مفتوحاً".. وعندما قيل لسماحته بأنّ
 
 

1- حجة الإسلام دعايي، ص275.
 
 
 
 
236

212

عزّة النفس والإحساس بالمسؤولية

 من الممكن أن تُهاجم القوّات الخاصّة المنـزل، ردّ بحزم أكبر بالرفض.. وفي المرّة الثالثة وفي ردّه على اقتراح السيّد اللواساني: أيّها السيّد، ائذن لي بأن أُغلق باب المنـزل، قال الإمام : "أيّها السيّد! انهض واخرج من بيتي. تطلب منّي إغلاق باب منـزلي، وأبنائي يُضربون ويُجرحون ويُقتلون في المدرسة، وأنا هنا أُغلق باب المنـزل كي أبقى في مأمن؟ إذا أردتم أن تفعلوا ذلك، فسآخذ عباءتي تحت إبطي وأتوجّه إلى المدرسة الفيضيّة بأقدام حافية"1.


عفّة الشخصية
البساطة والعفوية في التعاطي مع مناحي الحياة، واحدة من أنسب الأساليب في تجسيد المعرفة الإنسانية بمعنى الحياة. ذلك أنّ المداهنة والتصنّع في التعبير عن التوجّهات الشخصية تستطيع بمفردها أن تُبرهن جيّداً على جهل المرء بحقيقة الحياة والنمو التكاملي للشخصية. إذ لا نجد في التاريخ شخصية سمت وتكاملت، حاولت أن تستحوذ على اهتمام الناس وتدخل قلوبهم عن طريق المداهنة والتصنّع.. إنّ استغناء الذّات الإنسانية تضع شخصيّة الفرد في مرتبة من الرشد والنمو لا تسمح له باعتماد المظاهر وسيلة للنجاح.. فالابتسامة الطبيعية، والبكاء الطبيعي، والنظرة الطبيعية، والسلوك الطبيعي، والتعامل مع الناس بصدق وأصالة، كلّ ذلك يكشف عن استغناء شخصية الإنسان.. وإنّ مثل هذه الحالة الروحية التي كان يتمتّع بها الإمام قدس سره كانت موضع اتفاق كلّ الذين رأوا الإمام وتعرّفوا عليه عن كثب2.
 
 

1- علي غيوري، ج1، ص138.
2- العلامة محمد تقي جعفري، مرآة الجمال، ص77-78.
 
 
 
 
237

213

الإيمان والتوكّل

 الإيمان والتوكّل


سوف تُحلّ إن شاء الله
كان الإمام صلباً وحازماً في تعاطيه مع المشاكل والصعاب. ولم أرَ يوماً اعتبر تحدّياً ما مشكلة.. كلّ المشكلات كانت تبدو في نظره سهلة.. ولم أسمع منه مطلقاً أن قال في قضية ما أنّها مشكلة. وفي المقابل كان يفوّض همومه إلى الله، وكان يقول دائماً: ليست بشيء، سوف تُحلّ إن شاء الله1.

إذا كان عملك من أجل الله فاصبر
في مطلع النهضة، تمّ اعتقال عدد من علماء الدين في قم منهم المرحوم الشهيد محلّاتي. وكان الإمام قد قال للجميع منذ البداية: "إذا كنتم تناضلون من أجلي وتدخلون السجن، فأنا ليس عندي ما أُقدّمه إليكم، كما أنّه ليس بوسعي أن أفعل شيئاً لكم.. وأقول لكم من الآن لا تفعلوا ذلك من أجلي.. وإذا كنتم تناضلون من أجل الله، فاصبروا، وصابروا، ولا تهابوا الصعاب، وواصلوا جهودكم2.
 
 

 
1- فريدة مصطفوي، مقتطفات من سيرة الإمام الخميني قدس سره، ج3، ص187.
2- حجة الإسلام ناصري، ص222.
 
 
 
 
239

214

الإيمان والتوكّل

 نحن لم نقم بذلك، الله هو الذي قام به

في قضية مجالس الأقاليم والولايات، اضطر الشاه للتراجع بعد الهجوم العنيف الذي شنّه الإمام ضدّه. وقد أعلن النظام الشاهنشاهي في الصحافة الإيرانية بأنّ قانون مجالس الأقاليم والولايات غير قابل للتنفيذ.. وإثر ذلك فرح طلبة العلوم الدينية كثيراً وعندما التقوا الإمام، أوضح سماحته لهم باختصار قائلاً: إنّ هذا الانتصار لم نقم به نحن وإنّما الله هو الذي حقّقه1.

اعتمدوا على الله
في نيروز عام 1342، حيث أضحت قمُّ كربلاء والمدرسة الفيضية مسلخاً، طلب عدّة أشخاص من الإمام بأن يترك منـزله وينتقل إلى مكان آخر لبعض الوقت. فردّ عليهم الإمام: "اعتمدوا على الله. عودوا أدراجكم، إنّ الخميني لن يُغادر هذا المكان مطلقاً". وقد نطق بعبارة "اعتمدوا على الله" بثقة تامّة ممّا جعل الحاضرين يجهشون بالبكاء.. ويصف البعض هذا الموقف موضحاً: إنّ مظهر الإمام وحالته في تلك اللحظة التي نطق فيها بهذه الكلمات، لا توصف.. عندما يتحدّث الإمام عن الله تتفتّح أساريره ويُمسي وجهه بشّاشاً2.

كأنّه لم يكن يرى شيئاً غير الله
إنّ حالات العبادة والارتباط بالله ليست بالشيء الذي يُمكن تجسيده. وفي هذا الصدد حاولتُ كثيراً أن أتعرّف على حالات والدي بهذا الخصوص من
 
 

1- حجة الإسلام قرهي، ص191.
2- السيّد أحمد الخميني.
 
 
 
 
240

215

الإيمان والتوكّل

 خلال أصدقاء سماحته، والاستفسار من والدتي، وقد اتفق الجميع على أنّ الإمام لديه علاقة خاصة مع الله.. كان الإمام فانياً في الله بدرجة إذا ما تحدّث عن معشوقه تقشعرّ لحديثه الأبدان.. ولعلّ من الطريف أن تعلموا بأنّ المسؤولين كانوا يأتون إلى الإمام أحياناً في المصائب والأحداث الكبرى، فكان يتحدّث سماحته عن الله بنحو وكأنّه لا يرى شيئاً غير الله. وإنّ ثمّة خواطر وذكريات فيما يتعلّق بارتباط الإمام بالله، ليس بوسع القلم التعبير عنها كما ينبغي.. الإمام شخصية ذابت حقّاً في الله، ولم يكن يُفكّر بأحد غيره، ولم يكن يخشى أحداً غير الله1.


كان منشغلاً بذكر الله على الدوام
لم يغفل الإمام عن ذكر الله مطلقاً. وكان ذكر الله جارياً على لسانه وفي قلبه في جميع الأوقات وكلّ الأحوال. وكان مواظباً على أدعية اليوم والليلة.. ولم يترك الدعاء حتى أثناء التوضّؤ. وعندما كان راقداً في المستشفى كان لا يتوضّأ إلا وهو متّجهاً صوب القبلة2.

لا يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا
بعد فاجعة الفيضية قال لي الإمام: "سأكتب ردّاً على رسالة السادة في طهران، تعال خذه وأرسله". غير أنّي ذهبت متأخّراً فأخبرني الإمام بأنّه قد أرسله. بعدها حاولنا طباعته بمساعدة الإخوة الأصدقاء.. كان ذلك بيان
 
 

1- السيّد أحمد الخميني.
2- أحد حرّاس منزل الإمام، ص193.
 
 
 
 
241

216

الإيمان والتوكّل

 الإمام ذائع الصيت "صداقة الشاه تعني النهب"، وقد جاء ردّاً على رسالة المرحوم السيّد علي أصغر خوئي.. وكانت المرّة الأولى التي يذكر الإمام الشاه.. وعندما عدت إلى الإمام، قال: "لم تأتِ فأعطيتها ليأخذوها إلى طهران". وعندما استفسرت عن فحوى الرسالة، قال: "ليست أكثر من موقف حيال الشاه". قلتُ: أيّها السيّد! لعلّه ليس من المصلحة في هذا الظرف.. فضحك الإمام وقال: "قل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا"1.


المستقبل مع الله
لمّا فرض البعثيّون في العراق الحصار على منـزل الإمام، لم يكن يحقّ لأحد التردّد على المنـزل سوى أشخاص معدودين من المقرّبين. غير أنّ الضغوط كانت تقلّ وتشتدّ في محاولة لإجبار الإمام على السكوت.. وفي إحدى المرّات حيث اشتدّت الضغوط، اتصل المرحوم والدي بعدد من العلماء والشخصيّات في الداخل والخارج واقترح عليهم إرسال برقيات تأييد إلى الإمام كي لا تتصوّر السلطات العراقية بأنّ الإمام وحيد وباستطاعتها الضغط عليه كيفما شاءت. وقد أرسل برقية إلى النجف الأشرف مع اثنين من العلماء، كانوا قد جاؤوا إلى الكويت حديثاً، معلناً ضمن إدانته للمضايقات التي يتعرض لها الإمام، بأنّه بانتظار أوامر وتوجيهات سماحته بهذا الخصوص.. وقد استطاعت هذه البرقيات أن تترك تأثيرها. ولكن الإمام رأى أنه ليس من المصلحة الردّ عليها في برقيات جوابية. وأنّ العلماء كانوا يهدفون من وراء ذلك إلى إعلان دعمهم وتأييدهم للإمام، وتحذير الحكومة العراقية من إلحاق أيّ أذى بسماحته. وقد بعث الإمام - فيما بعد - في جواب برقية المرحوم والدي، رسالة يقول
 
 

1- آية الله الشهيد محلاتي، ص195.
 
 
 
 
242

217

الإيمان والتوكّل

 فيها: بسمه تعالى.. إلى حضرة المستطاب سيّد الأعلام وحجّة الإسلام السيّد المهري دامت إفاضاته.


بعد السلام والتحيّات.. تلقّيت برقية سماحتكم وسماحة السيّد قائمي وبرقية أخرى توقيعها غير مقروء.. ولم أرَ من المناسب الردّ في برقية مماثلة لعدّة أسباب... إنّهم سرعان ما تخلّوا عن ممارساتهم السابقة بعد التباحث. وأتصوّر أنّ ذلك لا يطول كثيراً.. لقد تقدّمت بطلب المغادرة احتجاجاً على هذه الممارسات، ولكنّهم وعدونا بعدم التدخّل.. ولا أدري ما الذي سيحدث في المستقبل، وهو موكول إلى الله تعالى "إن للبيت ربّاً يحميه"1.

فوّضنا أمرنا إلى الله
عندما تعرّف رجال الحكومة الكويتية على الإمام في الحدود، رفضوا السماح له بدخول الأراضي الكويتية. وقد تأثّرتُ لذلك حقّاً، فقلتُ للإمام: لماذا خرجت من النجف؟ فقال: "لقد أبعدونا.. ولكنّنا نحن الذين اخترنا المجيء إلى الكويت".. فاضطر الإمام للعودة إلى العراق ثانية. قلتُ لسماحته: أذهب أتحدّث مع الموظّف المسؤول؟ فقال: "أبداً., أليس حيفاً أن نُريق ماء وجوهنا عند هذا؟ سنعود من حيث أتينا، إنّنا مع الله".. غير أنّ الإمام أحسّ بأنّي مستاء، فقال لي أثناء العودة: "لا تتأثّر إنّ أمرنا ليس بأيدينا، لقد فوّضنا أمرنا إلى الله. وإنّ كلّ مايُقدّره الله لنا فهو خير".. وحيث إنّي كنتُ قلقاً إزاء ما سيحدث للإمام، فقط طلب سماحته من السيّد فردوسي بور، بمجرّد وصوله إلى باريس، بأن أتصل بفلان وأطمئنه لأنّه كان متأثّراً2.
 
 

1- حجة الإسلام السيّد جواد مهري، ص200.
2- م.ن.
 
 
 
 
243

218

الإيمان والتوكّل

 توكّلوا على الله

بعد انتصار الثورة جاء ياسر عرفات للقاء الإمام. وكنتُ أنا وعدد من الإخوة إلى جوار الإمام في هذا اللقاء. وممّا قاله الإمام لعرفات: "إذا أردتم إنقاذ الشعب الفلسطيني، فإنّ السبيل إلى ذلك ليس في التوجّه إلى روسيا أو أميركا، أو إلى هذا البلد أو ذاك وإنّما بالتوكّل على الله.. توكّلوا على الله، واحملوا السيف باليد. فالله حاميكم، والشعوب معكم". ولو أنّ عرفات كان قد أصغى إلى نصيحة الإمام، لما كان الفلسطينيون اليوم مشرّدين في أنحاء الدول العربية1.

نحن عندنا الله
في الفترة التي استشهد فيها المرحوم مفتح، كان موضوع المحاصرة الاقتصادية على أشدّه، غير أنّ الإمام كان يقول: "صحيح أنّهم فرضوا علينا المحاصرة الاقتصادية، ولكن نحن عندنا الله". وهذا يعني بأنّهم إذا ما كانوا قد فرضوا علينا المحاصرة الاقتصادية، فليس بوسعهم محاصرة الله.. ليس بوسع أحد محاصرة الله، وإنّنا جميعاً في محضر الله2.

والحمد لله ربّ العالمين
 

1- آية الله الشهيد محلاتي، ص194-195.
2- آية الله هاشمي رفسنجاني، ص197.
 
 
 
 
 
244

219
سراج القلوب