دراسات في الإلهيات


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-02

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

المقدمة

 بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الأطهار الميامين وبعد.

لقد كثُرت الدراسات وتنوّعت الأدلّة الفطرية والنقلية والعقلية وغيرها في البحث عن معرفة الله تعالى، وأرشدت نصوص أهل البيت السلا إلى طريقة هامة لمعرفة الله وهي معرفة الله بالله تعالى. "سُئِل أمير المؤمنين عليه السلام: بما عرفت ربّك؟ فقال: بما عرّفني نفسه، قيل كيف عرّفك نفسه؟ فقال: لا تشبهه صورة ولا يحّس بالحواس ولا يُقاس بالناس قريب في بعده، بعيد في قربه..."1.

وفي الدعاء عن الإمام السجّاد عليه السلام "بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولولا أنت لم أدرِ ما أنت"2.

وُيستفاد من الروايات أنّ الإيمان بالله تعالى مرتبة رفيعة وخاصة وله عدّة مراحل، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان، وما من شيء أعزّ من اليقين"3. ويتضح هذا التقسيم أكثرعندما نتأمّل في بقية الروايات التي تشرح هذه الدرجات، وتُقسّمها إلى المراحل التالية:

- مرحلة الإسلام: وهو التصديق بالله تعالى وتوحيده، ونبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إجمالاً، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "الإسلام شهادة ألا إله إلا الله والتصديق برسول الله، به حُقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس"4.

- مرحلة الإيمان: ويعني التصديق بما جاء به الديّن الإسلامي في القلب واللسان وتجسيد ذلك بالجوارح، فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "... والإيمان الهُدى وما ثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة..."5.

- مرحلة التقوى: وهي المرحلة التي يكون فيها المؤمن متوقّياً لكلّ ما يُحتمل إبعاده عن الله تعالى، فيجتنب الشبهات ويفعل المستحبّات كما يترك المكروهات، وجاء في الحديث: أنّ التقوى فوق الإيمان بدرجة، والمعروف عن تفسير التقوى هو: "أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك".

- مرحلة اليقين: وهي أعلى المراتب وأسماها، وهي مرحلة انكشاف الغطاء وتحوّل الغيب إلى الشهادة، عن الإمام علي عليه السلام: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"6، بأفضيلة اليقين على الإيمان وأنه فوق التقوى بدرجة.

ومن المعلوم أنّ المعرفة والعلم بأصول الدين من العناصر الأساسية، والمقدّمات التي لا بدّ منها في سلوك سبيل معرفة الله تعالى والترقّي في هذه المعرفة إلى درجة الإيمان أو اليقين، وذلك بحسب التزامه بعقيدته وانعكاس معرفته لله تعالى على حياته العملية وسلوكه، وإلا لتحوّلت تلك المعرفة إلى حجاب بينه وبين الله، ومنعت الترقّي في السير إلى الله تعالى.

هذا الكتاب "دراسات في الإلهيات" من الكتب العقائدية التي تتضمّن مجموعة هامة من الدروس التي تُعزّز المعرفة وتُنير الطريق أمام الإنسان ليسلك إلى ربّه على هدى وبصيرة ونور. ومادة هذا الكتاب في الأصل مأخوذة من كتاب "محاضرات في الالهيات" لسماحة الشيخ علي الرباني الكلبابكاني، تم إعادة تبويبها واختصارها بما يتناسب مع المستوى والأهداف العلميّة المحددة لهذه المّادة.

ويتشرّف مركز نون للتأليف والترجمة بتقديم هذا الكتاب لجميع الدارسين والباحثين، بمنهج وإسلوب ولغة تعليمية، عسى أن يوفّقنا الله تعالى في الدنيا والآخرة.

 والحمد لله ربّ العالمين

مركز نون للتأليف والترجمة

 

 

 

 

 





[1] الكليني، الكافي، ج1، ص85، حديث5.

[2] الشيخ الطوسي، مصباح المجتهد، ص582.

[3] أصول الكافي، ج2، باب فضل الإيمان على الإسلام، حديث، 1.

[4] أصول الكافي، ج2، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام ح1.

[5] (م.ن).

[6] إبن أبي الحديد، شرح النهج،ج7، ص253.

 

 


1

الدرس الأول: معرفة الله تعالى

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى الأسئلة التي تدعوه للبحث عن الله تعالى.

2- يتعرّف إلى أجوبة الأسئلة المتقدّمة.

3- يدرك أهمّية الدِّين وما يترتّب على الإيمان به.


21


2

الدرس الأول: معرفة الله تعالى

لماذا نبحث عن وجود الله سبحانه؟

إنّ هاهنا سؤالين في مجال البحث عن الله والإيمان به، ينبغي أن نبحث عنهما قبل كلّ شيء، هما:

1- ما الّذي يبعث الإنسان للبحث عن وجود مبدئ العالم وصانعه؟

2- ماذا يترتّب على معرفة صانع العالم والإيمان به، وبالتّالي، الإيمان بالدين الإلهي؟

 

والجواب عن السؤال الأوّل بوجوه ثلاثة:

1- لزوم دفع الضّرر المحتمل:

إنّ هناك عاملاً روحيّاً يحفّزنا للبحث عن هذه الأمور الخارجة عن إطار المادّة والمادّيات، وهو أنّ هناك مجموعة كبيرة من رجالات الإصلاح والأخلاق الدينية فدوا أنفسهم في طريق إصلاح المجتمع وتهذيبه وتوالوا على مدى القرون والأعصار، ودعوا المجتمعات البشريّة إلى الاعتقاد بالله سبحانه وصفاته الكمالية، وادّعوا أنّ له تكاليف على عباده ووظائف وضعها عليهم، وأنّ الحياة لا تنقطع بالموت، وإنّما يُنقل الإنسان من دار إلى دار، وأنّ من قام بتكاليفه فله الجزاء الأوفى، ومن خالف واستكبر فله النّكاية الكبرى.

هذا ما سمعته آذان أهل الدنيا من رجالات الوحي والإصلاح، ولم يكن هؤلاء

 

23

 

 

3

الدرس الأول: معرفة الله تعالى

متَّهمين بالكذب والاختلاق، بل كانت علائم الصدق لائحة من خلال حياتهم وأفعالهم وأذكارهم، عند ذلك يدفع العقل الإنسان المفكّر إلى البحث عن صحّة مقالتهم دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون الذي يورثه أمثال هؤلاء.
 
2- لزوم شكر المنعم:
 لا شكّ أنّ الإنسان في حياته غارق في النعم، وهذا ممّا لا يمكن لأحد إنكاره، ومن جانب آخر إنّ العقل يستقلّ بلزوم شكر المنعم، ولا يتحقّق الشكر إلاّ بمعرفته1.
 
وعلى هذين الأمرين يجب البحث عن المنعم الّذي غمر الإنسان بالنعم وأفاضها عليه، فالتعرّف عليه من خلال البحث إجابة لهتاف العقل ودعوته إلى شكر المنعم المتوقف على معرفته.
 
3- استجابة لنداء الفطرة:
إنّ الإنسان بفطرته يبحث عن علل الحوادث، فما من حادثة إلا وهو يبحث عن علّتها ويشتاق إلى الوقوف عليها، عندئذٍ ينقدح في ذهنه السؤال عن علّة العالم ومجموع الحوادث. هل هناك علّة موجدة للعالم الكوني وراء العلل والأسباب المادّية أم لا؟ فالبحث عن وجود صانع العالم فطري للإنسان2.
 
دور الدِّين الإلهي في حياة الإنسان
الدين منظومة فكريّة تقود الإنسان إلى الكمال والترقّي في جميع المجالات المهمّة بالنسبة إلى حياة الإنسان منها:
أ- تقويم الأفكار والعقائد وتهذيبهما عن الأوهام والخرافات.
 

1- إن كان شكر المنعم لازماً فيجب معرفته، لكنّ المقدّم حقّ، فالتالي كذلك. أمّا حقيّة المقدّم فلأنّه من البديهيات العقلية. وأمّا الملازمة فلأنّه أداء للشكر، والإتيان به موقوف على معرفة المنعم وهو واضح.
2- راجع العلّامة الطباطبائي، أصول الفلسفة، المقالة 14.
 
24
 

4

الدرس الأول: معرفة الله تعالى

ب- تنمية الأصول الأخلاقية.
ج- تحسين العلاقات الاجتماعية.
د- إلغاء الفوارق القومية.
 
وإليك تبيين وجه قيادة الدِّين في هذه المآرب الأربعة:
أمّا في المجال الأوّل: فإنّ الدّين يفسِّر واقع الكون بأنّه إبداع موجود عال قام بخلق المادة وتصويرها وتحديدها بقوانين وحدود، كما أنّه يفسِّـر الحياة الإنسانية بأنّها لم تظهر على صفحة الكون عبثاً ولم يخلق الإنسان سدى، بل لتكوّنه في هذا الكوكب غاية عليا يصل إليها في ظلّ تعاليم الأنبياء والهداة المبعوثين من جانب الله تعالى.
 
وفي مقابل هذا التفسير الديني لواقع الكون والحياة الإنسانيّة تفسير المادّي القائل بأنّ المادّة قديمة بالذّات وهي التي قامت فأعطت لنفسها نظماً، وإنّه لا غاية لها ولا للإنسان القاطن فيها وراء هذه الحياة المادية، وهذا التفسير يقود الإنسان إلى الجهل والخرافة، إذ كيف يمكن للمادّة أن تمنح نفسها نظماً؟! وهل يمكن أن تتّحد العلّة والمعلول، والفاعل والمفعول، والجاعل والمجعول؟
 
ومن هنا يتبيّن أنّ التكامل الفكري إنّما يتحقّق في ظلّ الدِّين، لأنّه يكشف آفاقاً وسيعة أمام عقله وتفكّره.
 
وأمّا في المجال الثاني: فإنّ العقائد الدينية تُعدّ رصيداً للأصول الأخلاقية، إذ التقيّد بالقيم ورعايتها لا ينفك عن مصاعب وآلام يصعب على الإنسان تحمّلها إلاّ بعامل روحي يسهِّلها ويزيل صعوبتها له، وهذا كالتضحية في سبيل الحقّ والعدل، ورعاية الأمانة ومساعدة المستضعفين، فهذه بعض الأصول الأخلاقية التي لا تنكر صحّتها، غير أنّ تجسيدها في المجتمع يستتبع آلاماً وصعوبات، والاعتقاد بالله سبحانه وما في العمل بها من الأجر والثواب خير عامل لتشويق الإنسان على إجرائها وتحمّل المصائب والآلام.
 
 
25

5

الدرس الأول: معرفة الله تعالى

وأمّا في المجال الثالث: فإنّ العقيدة الدينيّة تساند الأصول الاجتماعية، لأنّها تصبح عند الإنسان المتديّن تكاليف لازمة، ويكون الإنسان بنفسه مقوداً إلى العمل والإجراء، أي إجراء التكاليف والقوانين الاجتماعية في شتّى الحقول.
 
وأمّا في المجال الرابع: فإنّ الدين يعتبر البشر كلّهم مخلوقين لمبدأ واحد، فالكل بالنسبة إليه حسب الذّات والجوهر كأسنان المشط، ولا يرى أيّ معنى للمميّزات القوميّة والتفاريق الظاهريّة.
 
فهذه بعض المجالات الّتي للدّين فيها دور وتأثير واضح، أفيصحّ بعد الوقوف على هذه التأثيرات المهمة أن نهمل البحث عنه، ونجعله في زاوية النسيان؟
 
نعم ما ذكرنا من دور الدِّين وتأثيره في الجوانب الحيويّة من الإنسان إنّما هو من شؤون الدين الحقيقي الذي يؤيّد العلم ويؤكّد الأخلاق ولا يخالفهما، وأمّا الأديان المنسوبة إلى الوحي بكذب وزور فخارجة عن موضوع بحثنا.
 
26
 

6

الدرس الأول: معرفة الله تعالى

المفاهيم الرئيسة
- هناك ثلاثة أمور تدعو إلى البحث عن وجود خالق لهذا العالم:
1- لزوم دفع الضرر المحتمل، حيث أخبرنا الأنبياء عليهم السلام بوجود عقاب أخروي إن لم نطع خالق العالم.

2- لزوم شكر المنعِم، حيث إنَّ شكر المنعِم متوقّف على معرفته.

3 - استجابة لنداء الفطرة، حيث إنّها تدعو الإنسان إلى معرفة خالق هذا الكون ومبدئه.

- يترتّب على الإيمان بخالق للعالَم وبالتّالي الإيمان بالدِّين الإلهي فوائد عديدة، منها:
1- تقويم الأفكار والعقائد وتهذبيها عن الأوهام والخرافات.
2- تنمية الأصول الأخلاقية.
3- تحسين العلاقات الاجتماعية.
4- إلغاء الفوارق القومية.

- وهذه الفوائد وغيرها تدعونا إلى البحث عن الخالق وبالتّالي عن الدِّين الحقّ.
 
27

7

الدرس الأول: معرفة الله تعالى

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
 
1- عدِّد الأسباب الموجبة لبحث الإنسان عن وجود مبدئ العالم وصانعه.
2- بيِّن كيف يؤثّر الاعتقاد بالدين في تنمية الأصول الأخلاقية لدى الإنسان.
3- هل يؤدّي الدين إلى إلغاء الفوارق بين الأمم والشعوب؟ وضح ذلك.

ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- يدفع العقل الإنسان المفكّر إلى البحث عن صحّة أقوال الأنبياء والحكماء حول وجود الخالق ومبدئ الكون دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون. 

2- إذا بحث الإنسان عن الصانع والخالق كان الدافع وراء ذلك هو الخوف من الطبيعة. 

3- إنّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى يؤدّي إلى تقويم الأفكار والعقائد وتهذيبهما عن الأوهام والخرافات الفاسدة. 

4- وجوب شكر المنعم من القواعد الأساسية في فهم كون الخالق حياً لا يموت. 

5- لا يمكن للإنسان المؤمن بالدين إلا وأن يلتزم بتطبيق القوانين والأحكام الاجتماعية للدين.
 
28
 
 

8

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدّرس أن:
1- يتعرّف إلى برهان النظم لإثبات وجود الخالق.
2- يشرح الإشكالات على برهان النظم.
3- يبيّن إلى الإجابات عن الإشكالات المتقدِّمة.
 
 
29
 
 

9

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

إنّ البراهين الدالّة على وجود خالقٍ لهذا الكون ومفيضٍ لهذه الحياة كثيرة متعدّدة، منها:
 
برهان النظم
إنّ من أوضح البراهين العقلية وأيسرها تناولاً للجميع هو برهان النظم، وهو الاهتداء إلى وجود الله سبحانه عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون. ما هو النظم؟
 
إنّ مفهوم النظم من المفاهيم الواضحة لدى الأذهان ومن خواصّه أنّه يتحقّق بين أُمور مختلفة سواء كانت أجزاء لمركب أو أفراداً من ماهية واحدة أو ماهيات مختلفة، فهناك ترابط وتناسق بين الأجزاء، أو توازن وانسجام بين الأفراد يؤدّي إلى هدف وغاية مخصوصة، كالتلائم الموجود بين أجزاء الشجر، وكالتوازن الحاصل بين حياة الشجر والحيوان.
 
شكل البرهان وصورته
إنّ برهان النظم يقوم على مقدّمتين: إحداهما حسيّة، والأخرى عقلية.
 
أمّا الأولى: فهي أنّ هناك نظاماً سائداً على الظواهر الطبيعية التي يعرفها الإنسان إمّا بالمشاهدة الحسّية الظاهرية وإمّا بفضل الأدوات والطرق العلميّة التجريبيّة. وما زالت العلوم الطبيعيّة تكشف مظاهر وأبعاداً جديدة من النظام
 
31
 

 

10

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

السائد في عالم الطبيعة، وهناك مئات بل آلاف من الرسائل والكتب المؤلّفة حول العلوم الطبيعيّة مليئة بذكر ما للعالم الطبيعي من النظام المعجب. فلا حاجة إلى تطويل الكلام في هذا المجال.
 
وأمّا الثانية: فهي أنّ العقل بعد ما لاحظ النظام وما يقوم عليه من المحاسبة والتقدير والتوازن والانسجام، يحكم بالبداهة بأنّ أمراً هكذا شأنه يمتنع صدوره إلاّ عن فاعل قادر عليم ذي إرادة وقصد، ويستحيل تحقّقها صدفة وتبعاً لحركات فوضويّة للمادّة العمياء الصمّاء، فإنّ تصوّر مفهوم النظم وأنّه ملازم للمحاسبة والعلم يكفي في التصديق بأنّ النظم لا ينفكّ عن وجود ناظم عالم أوجده، وهذا على غرار حكم العقل بأنّ كلّ ممكن فله علّة موجدة، وغير ذلك من البديهيات العقلية.
 
برهان النظم في الكتاب والسنّة
إنّ الوحي الإلهي قد أعطى برهان1 النظم اهتماماً بالغاً، وهناك آيات كثيرة من القرآن تدعو الإنسان إلى مطالعة الكون وما فيه من النظم والإتقان حتّى يهتدي إلى وجود الله تعالى وعلمه وحكمته.
 
نرى أنّ القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان إلى السّير في الآفاق والأنفس ويقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ2.
 
وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "ألا ينظرون إلى صغير ما خلق؟ كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه، وفلق له السّمع والبصر، وسوّى له العَظمَ والبَشَر، أُنظروا إلى النّملة في صِغَرِ جُثّتها


1- إنّ برهان النظم متفرّع على قانون العلّية، وإنّ كلّ حادثة لها علّة محدثة لا محالة، وحينئذٍ يقع الكلام في صفات تلك العلّة، فهل يجب أن تكون عالماً وقادراً ومختاراً أو لا يجب ذلك؟ وبرهان النظم بصدد إثبات وجود هذه الصفات لعلّة الحوادث الكونية وفاعلها، وهذا ما يرتئيه القرآن الكريم والأحاديث الإسلامية في الدعوة إلى مطالعة الكون والتفكّر في آياته. 
2- سورة فصّلت، الآية 53.
 
 
32
 

11

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

ولطافة هيئتها لا تكاد تُنال بلحظِ البَصَر ولا بمُستَدرَكِ الفِكَر، كيف دبّت على أرضها وصُبَّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جُحرها وتُعِدُّها في مستقرِّها، تجمَعُ في حرِّها لبردها وفي وِرْدِها لصَدْرها1.. فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر..."2.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام في ما أملاه على تلميذه المفضّل بن عمر: "أوّل العبر والأدلّة على الباري جلّ قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه، فإنّك إذا تأمّلت بفكرك وميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسّماء مرفوعة كالسّقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكلّ شيء فيه لشأنه معدّ، والإنسان كالمملَّك ذلك البيت، والمُخَوَّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيّئة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه. ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأنّ الخالق له واحد، وهو الذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض جلّ قدسه وتعالى جدّه"3.
 
إشكالات على برهان النظام
إنّ هناك إشكالات طرحت حول برهان النظم يجب علينا الإجابة عنها، والمعروف منها ما طرحه دايفيد هيوم الفيلسوف الإنكليزي (1711 ـ 1776م) في كتابه "المحاورات"[4] وهي ستّة إشكالات نشير إلى اثنين منها:


1- الصدر بالتحريك رجوع المسافر من مقصده، أي تجمع في أيّام التمكّن من الحركة لأيام العجز عنها. 
2- نهج البلاغة، الخطبة: 185، هذا وللإمام عليه السلام وصف رائع لخلقة النحل والخفّاش والطاووس يستدلّ به على وجود الخالق وقدرته وعلمه.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 62، لا ت، الناشر مؤسّسة الوفاء – بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1983م، ك 2، باب توحيد المفضل.
4- الكتاب مؤلّف على شكل حوار بين ثلاثة أشخاص إفتراضيين، وقد نشر الكتاب المذكور بعد وفاة "هيوم".
 
33
 

12

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

الإشكال الأوّل:
إنّ برهان النّظم لا يتمتّع بشرائط البرهان التجريبي، لأنّه لم يجرّب في شأن عالم آخر غير هذا العالم، صحيح أنّا جرّبنا المصنوعات البشريّة فرأينا أنّها لا توجد إلّا بصانع عاقل كما في البيت والسفينة والسّاعة وغير ذلك، ولكنّنا لم نجرّب ذلك في الكون، فإنّ الكون لم يتكرّر وجوده حتّى يقف الإنسان على كيفية خلقه وإيجاده، ولهذا لا يمكن أن يثبت له علّة خالقة على غرار المصنوعات البشريّة.
 
والجواب عنه: أنّ برهان النظم ليس برهاناً تجريبيّاً بأن يكون الملاك فيه هو تعميم الحكم على أساس المماثلة الكاملة بين الأشياء المجرّبة وغير المجرّبة، وليس أيضاً من مقولة التمثيل الذي يكون الملاك فيه التشابه بين فردين، بل هو برهان عقلي يحكم العقل فيه بأمر بعد ملاحظة نفس الشيء وماهيته، وبعد سلسلة من المحاسبات العقلية من دون تمثيل أو إسراء حكم، كما يتمّ ذلك في التمثيل والتجربة.
 
وكون إحدى مقدّمتيه حسّيّة لا يضرّ بكون البرهان عقليّاً، فإنّ دور الحسّ فيه ينحصر في إثبات الموضوع، أي إثبات النظم في عالم الكون، وأمّا الحكم والاستنتاج فيرجع إلى العقل ويبتني على محاسبات عقلية، وهو نظير ما إذا ثبت بالحسّ أنّ هاهنا مربّعاً، فإنّ العقل يحكم من فوره بأنّ أضلاعه الأربعة متساوية في الطول.
 
فالعقل يرى ملازمة بيّنة بين النظم بمقدّماته الثلاث، أعني: الترابط والتناسق والهدفيّة، وبين دخالة الشعور والعقل، فعندما يلاحظ ما في جهاز العين مثلاً من النظام بمعنى تحقّق أجزاء مختلفة كمّاً وكيفاً، وتناسقها بشكل يُمكنها من التعاون والتفاعل فيما بينها ويتحقّق الهدف الخاص منه، يحكم بأنّها من فعل خالق عظيم، لاحتياجه إلى دخالة شعور وعقل وهدفيّة وقصد.
 
34 

13

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

الإشكال الثاني:
ماذا يمنع من أن نعتقد بأنّ النظام السائد في عالم الطبيعة حاصل من قبل عامل كامن في نفس الطبيعة، أي أنّ النظام يكون ذاتيّاً للمادّة؟ إذ لكلّ مادّة خاصيّة معيّنة لا تنفكّ عنها، وهذه الخواص هي التي جعلت الكون على ما هو عليه الآن من النظام.
 
ويردّه أنّ غاية ما تعطيه خاصيّة المادّة هي أن تبلغ بنفسها فقط إلى مرحلة معيّنة من التكامل الخاصّ والنظام المعيّن ـ على فرض صحّة هذا القول ـ لا أن تتحسّب للمستقبل وتتهيّأ للحاجات الطارئة، ولا أن تقيم حالة عجيبة ورائعة من التناسق والانسجام بينها وبين الأشياء المختلفة والعناصر المتنافرة في الخواصّ والأنظمة.
 
ولنأت بمثال لما ذكرناه، وهو مثال واحد من آلاف الأمثلة في هذا الكون، هب أنّ خاصيّة الخليّة البشريّة عندما تستقرّ في رحم المرأة، هي أن تتحرّك نحو الهيئة الجنينية، ثمّ تصير إنساناً ذا أجهزة منظّمة، ولكن هناك في الكون في مجال الإنسان تحسُّباً للمستقبل وتهيُّؤاً لحاجاته القادمة لا يمكن أن يستند إلى خاصيّة المادّة، وهو انّه قبل أن تتواجد الخليّة البشريّة في رحم الأمّ وجدت المرأة ذات تركيبة وأجهزة خاصّة تناسب حياة الطفل ثمّ تحدث للأمّ تطوّرات في أجهزتها البدنية والروحيّة مناسبة لحياة الطفل وتطوّراته.
 
هل يمكن أن نعتبر كلّ هذا التحسّب من خواصّ الخليّة البشريّة، وما علاقة هذا بذاك؟
وللمزيد من التوضيح نأتي بمثال آخر ونقول: إن جملة "أفلاطون كان فيلسوفاً" تتكوّن من (17) حرفاً، فلو أن أحداً قال: إن لكل حرف من هذه الحروف صوتاً خاصاً يختص به، وإن هذا الصوت هو خاصية ذلك الحرف لما قال جزافاً. ولكن لو قال بأن هناك وراء صوت كل حرف وخاصيته أمراً آخر وهو التناسق والتناسب والانسجام الذي يؤدي إلى بيان ما يوجد في ذهن المتكلم من المعاني، هو كون
 
35 
 

14

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

أفلاطون فيلسوفاً، وأن هذا التناسق هو خاصية كل حرف من هذه الحروف، فقد ارتكب خطأ كبيراً وادّعى أمراً سخيفاً ، فإنّ خاصية كل حرف هي صوته الخاص به ولا يستدعي الحرف هذا التناسق، مع أنه يمكن أن تتشكل وينشأ من هذه الحروف آلاف الأشكال والأنظمة الأخرى غير نظام "أفلاطون كان فيلسوفاً". فإذا لم يصح هذا في جملة صغيرة مركبة من عدّة أحرف ذات أصوات مختلفة وخواص متنوّعة، فكيف بالكون والنظام الكوني العام المؤلّف من ملايين المواد والخواص والأنظمة الجزئية المتنوّعة؟!

 

36


15

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

المفاهيم الرئيسة

- من الأدلّة على وجود الله تعالى برهان النظم، وهو من أوضح البراهين العقلية وأيسرها، وهو يبتني على مقدّمتين، إحداهما حسيّة والأخرى عقلية:

فالمقدِّمة الأولى: الكون يسوده النظام, وهذا مثبت بالمشاهدة الحسيّة والتجربة والعلم.

والمقدِّمة الثانية: النظام يحتاج إلى فاعل منظِّم قادر عليم ذي إرادة وقصد، ويستحيل صدوره عن صدفة عمياء.

- لقد أُشير في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة إلى برهان النظم ومنه قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾.


- أشكل دايفيد هيوم على برهان النظم بعدّة إشكالات منها:

- إنّ برهان النظم ليس وليد التجربة فلا يمكن تعميمه للكون بأسره:

والجواب: إنّ برهان النظم برهان عقلي وإن اعتمد في إحدى مقدّماته على الحسّ.


- يمكن إسناد النظم السائد في عالم الطبيعة إلى المادة:

والجواب: إنّ المادّة تقصر عن التحسّب للمستقبل وعن إيجاد حالة من التناسق بينها وبين غيرها، فلا يمكن إسناد النظم إليها.

 37

 


16

الدرس الثاني: براهين وجود الله سبحانه (1) (برهان النظام)

أسـئلـة الـدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- عرّف برهان النظام.

2- قال دايفيد هيوم في إشكاله على برهان النّظام: "لا يتمتّع بشرائط البرهان التجريبي، لأنّه لم يجرّب في شأن عالم آخر غير هذا العالم"، فبماذا نجيب عن ذلك؟

3- كيف يمكن الاستدلال على وجود الله سبحانه وتعالى، برهان النظام بقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾؟

ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- يبتني برهان النظام على وجود الله على مقدّمتين إحداهما حسيّة والأخرى دينية.
 
2- إذا لاحظ العقل النظام وما يقوم عليه من المحاسبة والتقدير والتوازن والانسجام، يحكم بأنْ لا يصدر إلاّ عن فاعل قادر عليم ذي إرادة وقصد. 

3- إنّ النظام السائد في عالم الطبيعة حاصل من قبل عامل ذاتي في نفس الطبيعة والمادة. 

4- يمكن للإنسان أن يتعرّف على النظام الكوني إمّا بالمشاهدة الحسّية الظاهرية وإمّا بفضل الأدوات والطرق العلميّة التجريبيّة. 

5- إذا نظر الإنسان إلى النظام وتأمّل فيه وجده كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه العباد.

38
 

17

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى برهان الإمكان لإثبات وجود الله تعالى.
2- يتعرّف إلى برهان الحدوث.
3- يتعرّض لبعض الشبهات حول برهاني الإمكان والحدوث والجواب عنها.
 
 
 
39

18

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

تقرير برهان الإمكان والوجوب

تقرير هذا البرهان يتوقف على بيان أمور:
الأمر الأول: تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن، وذلك لأنّ الموجود إمّا أن يستدعي من صميم ذاته ضرورة وجوده ولزوم تحقّقه في الخارج، فهذا هو الواجب لذاته، وإمّا أن يكون متساوي النسبة إلى الوجود والعدم ولا يستدعي في حدّ ذاته أحدهما أبداً، وهو الممكن لذاته، كأفراد الإنسان وغيره.
 
الأمر الثاني: كلّ ممكن يحتاج إلى علة في وجوده، وهذا من البديهيات التي لا يرتاب فيها ذو مسكة، فإنّ العقل يحكم بالبداهة على أن ما لا يستدعي في حد ذاته الوجود، يتوقف وجوده  على أمر آخر وهو العلّة، وإلا فوجوده ناشئ من ذاته، هذا خلف.
 
الأمر الثالث: الدور ممتنع، وهو عبارة عن كون الشيء موجداً لثان وفي الوقت نفسه يكون الشيء الثاني موجداً لذاك الشيء الأوّل.
 
وجه امتناعه أن مقتضى كون الأول علة للثاني، تقدّمه عليه وتأخّر الثاني عنه، ومقتضى كون الثاني علة للأول تقدّم الثاني عليه، فينتج كون الشيء الواحد، في حالة واحدة وبالنسبة إلى شيء واحد، متقدّماً وغير متقدّم ومتأخّراً وغير متأخّر وهذا هو الجمع بين النقيضين.
 
 
41

19

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

إنّ امتناع الدور وجداني ولتوضيح الحال نأتي بمثال: إذا اتفق صديقان على إمضاء وثيقة واشترط كل واحد منهما لإمضائها، إمضاء الآخر، فتكون النتيجة توقّف إمضاء كلٍّ منهما على إمضاء الآخر، وعند ذلك لن تكون تلك الورقة ممضاة إلى يوم القيامة، وهذا ممّا يُدركه الإنسان بالوجدان وراء دركه بالبرهان.

الأمر الرابع: التسلسل محال، وهو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعاليل الممكنة ، مترتّبة غير متناهية، ويكون الكلّ متّسماً بوصف الإمكان، بأن يتوقّف (أ) على (ب) و (ب) على (ج) و (ج) على (د) وهكذا من دون أن تنتهي إلى علّة ليست بممكنة ولا معلولة.
 
والدليل على استحالته أن المعلولية وصف عام لكل جزء من أجزاء السلسلة، فعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: إذا كانت السلسلة الهائلة معلولة، فما هي العلة التي أخرجتها من كتم العدم إلى عالم الوجود؟ والمفروض أنه ليس هناك شيء يكون علّة ولا يكون معلولاً، وإلا يلزم انقطاع السلسلة وتوقّفها عند نقطة خاصة، وهي الموجود الذي قائم بنفسه وغير محتاج إلى غيره وهو الواجب الوجود بالذات.
 
فإن قلت: إنّ كلّ معلول من السلسلة متقوم بالعلة التي تتقدّمه ومتعلّق بها، فالجزء الأول من آخر السلسلة وجد بالجزء الثاني، والثاني بالثالث، وهكذا إلى أجزاء وحلقات غير متناهية، وهذا المقدار من التعلُّق يكفي لرفع الفقر والحاجة.
 
قلت: المفروض أنّ كلّ جزء من أجزاء السلسلة متّسم بوصف الإمكان والمعلولية، وعلى هذا فوصف العلّية له ليس بالأصالة والاستقلال، فليس لكلّ حلقة دور الإفاضة والإيجاد بالاستقلال، فلا بدّ أن يكون هناك علّة وراء هذه السلسلة ترفع فقرها وتكون سناداً لها.
 
ولتوضيح الحال نُمثّل بمثال وهو أنّ كلّ واحدة من هذه المعاليل بحكم فقرها الذاتي، بمنزلة الصفر، فاجتماع هذه المعاليل بمنزلة اجتماع الأصفار، ومن المعلوم أن الصفر بإضافة أصفار 

42

20

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

متناهية أو غير متناهية إليه لا ينتج عدداً، بل يجب أن يكون إلى جانب هذه الأصفار عدد صحيح قائم بالذات حتى يكون مصححاً لقراءة تلك الأصفار. فقد خرجنا بهذه النتيجة وهي أن فرض علل ومعاليل غير متناهية مستلزم لأحد أمرين: إما تحقق المعلول بلا علّة، وإما عدم وجود شيء في الخارج رأساً، وكلاهما بديهي الاستحالة.

برهان الإمكان والوجوب
إلى هنا تمّت المقدّمات التي يبتني عليها برهان الإمكان، وإليك نفس البرهان:

لا شكّ أنّ صفحة الوجود مليئة بالموجودات الإمكانية، بدليل أنّها توجد وتنعدم وتحدث وتفنى ويطرأ عليها التبدّل والتغيّر، إلى غير ذلك من الحالات التي هي آيات الإمكان وسمات الافتقار.

وأمر وجودها لا يخلو عن الفروض التالية:

1- لا علّة لوجودها، وهذا باطل بحكم المقدمة الثانية (كلّ ممكن يحتاج إلى علّة).

2- البعض منها علّة لبعض آخر وبالعكس، وهو محال بمقتضى المقدّمة الثالثة (بطلان الدور).

3- بعضها معلول لبعض آخر وذلك البعض معلول لآخر من غير أن ينتهي إلى علّة ليست بمعلول، وهو ممتنع بمقتضى المقدّمة الرابعة (استحالة التسلسل).

4- وراء تلك الموجودات الإمكانية علّة ليست بمعلولة بل يكون واجب الوجود لذاته وهو المطلوب.

فاتّضح أنّه لا يصحّ تفسير النظام الكوني إلا بالقول بانتهاء الممكنات إلى الواجب لذاته القائم بنفسه، فهذه الصورة هي التي يُصحّحها العقل ويعدّها 

 

43


21

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

خالية عن الإشكال، وأمّا الصور الباقية، فكلّها تستلزم المحال، والمستلزم للمحال محال.
 
برهان الإمكان والوجوب في القرآن
وقد أشير في الذكر الحكيم إلى شقوق برهان الإمكان، وإلى أن حقيقة الممكن حقيقة مفتقرة لا تملك لنفسها وجوداً وتحقّقاً ولا أيّ شيء آخر أشار بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾1.
 
ومثله قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾2.
 
وقوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾3.
 
وإلى أنّ الممكن ومنه الإنسان لا يتحقّق بلا علّة، ولا تكون علّته نفسه، أشار سبحانه بقوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾4.
 
وإلى أنّ الممكن لا يصحّ أن يكون خالقاً لممكن آخر بالأصالة والاستقلال ومن دون الاستناد إلى خالق واجب أشار بقوله: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾5.
 
إجابة عن إشكال
قد استشكل على القول بانتهاء الممكنات إلى علة أزلية ليست بمعلول، بأنه يستلزم تخصيص القاعدة العقلية، فإنّ العقل يحكم بأنّ الشيء لا يتحقّق بلا علّة.
 

1- سورة فاطر، الآية 15.
2- سورة النجم، الآية 48.
3- سورة محمد، الآية 38.
4- سورة الطور، الآية 35.
5- سورة الطور، الآية 36.
 
 
44
 

22

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

والجواب: إنّ القاعدة العقلية تختص بالموجودات الإمكانية التي لا تقتضي في ذاتها وجوداً ولا عدماً، إذ الحاجة إلى العلة، ليس من خصائص الموجود بما هو موجود، بل هي من خصائص الموجود الممكن، فإنّه حيث لا يقتضي في حدّ ذاته الوجود ولا العدم، لا بدّ له من علة توجده، ويجب انتهاء أمر الإيجاد إلى ما يكون الوجود عين ذاته ولا يحتاج إلى غيره، لما تقدّم من إقامة البرهان على امتناع التسلسل، فالاشتباه نشأ من الغفلة عن وجه الحاجة إلى العلّة وهو الإمكان لا الوجود.
 
برهان الحدوث
من البراهين التي يُستدلّ بها على إثبات وجود خالق الكون، برهان الحدوث، وقد استدلّ به إمام الموحّدين عليّ عليه السلام على وجود الله سبحانه وأزليّته في مواضع من كلماته وخطبه التوحيدية، منها قوله عليه السلام: "الحمد لله الّذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدالّ على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده"1.
 
يعني أنّ حدوث العالم يدلّ على محدِث له وهو الله تعالى، وإذا كان العالَم بوصف كونه حادثاً مخلوقاً له تعالى، فهو قديم أزلي، وإلاّ كان حادثاً واحتاج إلى محدث، هذا خلف.
 
تعريف الحدوث وأقسامه
الحدوث وصف للوجود باعتبار كونه مسبوقاً بالعدم وهو على قسمين:
الأوّل: الحدوث الزماني وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الزماني كمسبوقيّة اليوم بالعدم في أمس ومسبوقية حوادث اليوم بالعدم في أمس.



1- نهج البلاغة، الخطبة: 185.
 
45
 

23

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

 والثاني: الحدوث الذّاتي وهو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم في ذاته، كجميع الموجودات الممكنة التي لها الوجود بعلّة خارجة من ذاتها، وليس لها في ماهيتها وحدّ ذاتها إلاّ العدم، هذا حاصل ما ذكروه في تعريف الحدوث وتقسيمه إلى الزماني والذاتي والتفصيل يطلب من محلّه1.

ثمّ إنّ مرجع الحدوث الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فالاستدلال بالحدوث الذاتي راجع إلى برهان الإمكان والوجوب، فلنركّز الكلام هنا على الحدوث الزّماني فنقول: العلوم الطبيعيّة وحدوث الحياة في عالم المادّة.

أثبت العلم بوضوح أنّ هناك انتقالاً حراريّاً مستمرّاً من الأجسام الحارّة إلى الأجسام الباردة، ولا تتحقّق في عالم الطبيعة عملية طبيعية معاكسةً لذلك، ومعنى ذلك أنّ الكون يتّجه إلى درجة تتساوى فيها جميع الأجسام من حيث الحرارة وعند ذلك لن تتحقّق عمليات كيميائيّة أو طبيعيّة، ويستنتج من ذلك:

إنّ الحياة في عالم المادّة أمر حادث ولها بداية، إذ لو كانت موجوداً أزلياً وبلا ابتداء لزم استهلاك طاقات المادّة، ونضوب ظاهرة الحياة المادّية منذ زمن بعيد.

وإلى ما ذكرنا أشار "فرانك آلن" أُستاذ علم الفيزياء بقوله: "قانون ترموديناميا أثبت أنّ العالم لا يزال يتّجه إلى نقطة تتساوى فيها درجة حرارة جميع الأجسام، ولا توجد هناك طاقة مؤثِّرة لعمليّة الحياة، فلو لم يكن للعالم بداية وكان موجوداً من الأزل لزم أن يقضى للحياة أجلها منذ أمدٍ بعيدٍ، فالشَّمس المشرقة والنجوم والأرض المليئة من الظواهر الحيويّة وعملياتها أصدق شاهد على أنّ العالم حدث في زمان معيَّن، فليس العالم إلاّ مخلوقاً حادثاً"2.


1- لاحظ: العلّامة الطباطبائي، بداية الحكمة، المرحلة 9، الفصل 3.
2-إثبات وجود خدا (فارسي)، ص 21.يحتوي الكتاب على مقالات من أربعين من المتمهرين في العلوم المختلفة، جمعها العالم المسيحي "جان كلورمونسما".

 

46

24

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

تقرير برهان الحدوث
ممّا تقدّم تبيَّنت صغرى برهان الحدوث وهي أنّ الحياة في العالم المادّي حادث، وليست الحياة أمر ذاتي في العالم المادي1, وليُضمَّ إليها الأصل البديهي العقلي وهو أنّ كلّ أمر غير ذاتي معلَّل، كما أنّ كلّ حادث لا بدّ له من محدث وخالق، فما هو المحدث لحياة المادة؟ إمّا هي نفسها أو غيرها؟ ولكنّ الفرض الأوّل باطل، لأنّ المفروض أنّها كانت قبل حدوث الحياة لها فاقدة لها، وفاقد الشيء يستحيل أن يكون معطياً له، فلا مناص من قبول الفرض الثاني، فهناك موجود آخر وراء عالم المادّة هو الموجد للمادّة ومحدث الحياة لها.
 
إلى هنا تمّ دور الحدوث الزماني في البرهان، وأنتج أنّ هناك موجوداً غير مادّي، محدثٌ لهذا العالم المادّي. وأمّا أنّ هذا المحدِث هل هو ممكن أو واجب، وحادث أو قديم، فلا بدّ لإثباته من اللجوء إلى برهان الإمكان والوجوب وامتناع الدور والتسلسل وهو ما تقدّم بيانه.

الإجابة عن شبهة رسل
إنّ لبرترند رسل هاهنا شبهة يجب أن نجيب عنها وهي: إنّه بعد الإشارة إلى قانون "ترموديناميا" وما يترتّب عليه من حدوث العالم المادّي، قال: "لا يصحّ أن يستنتج منه أنّ العالم مخلوق لخالق وراءه، لأنّ استنتاج وجود الخالق استنتاج علّي والاستنتاج العلِّي في العلوم غير جائز إلّا إذا انطبقت عليه القوانين العلمية، ومن المعلوم استحالة إجراء العمليّة التجريبيّة على خلقة العالم من العدم، ففرض كون العالم مخلوقاً لخالق محدث، ليس أولى من فرض حدوثه بلا علّة محدثة، فانّ الفرضين مشتركان في نقض القوانين العلميّة المشهودة لنا"2.
 
47


1- راجع كتاب "اللّه خالق الكون".
2- جهان بيني علمي (فارسي)، ص 114.
 

25

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

 وحاصل كلامه أنّ فرض العلة المحدِثة لهذا العالم الحادث يساوي فرض عدم العلة المحدِثة له، وذلك لاستحالة إجراء عملية تجريبية لكلا الفرضين. وبملاحظة هذه الاستحالة يتكافئ الفرضان على صعيد النتائج المتوخّاة.
 
والجواب عنها: إنّ برهان الحدوث - كما عرفت - متشكّل من مقدّمتين، الأولى: حدوث العالَم، وهذا نتيجة واضحة من الأبحاث العلمية التجريبيّة، والثانية: الأصل العقلي البديهي، وليس هذا مستفاداً من الأبحاث العلمية، بل هو خارج عن نطاق العلم التجريبي رأساً، فإن كان مراد رسل من تساوي فرض مخلوقية العالَم وفرض وجوده صدفةً أنّهما خارجتان عن نطاق العلوم التجريبيّة، فصحيح، لكنّهما غير متساويين عند العقل الصريح الّذي هو الحاكم الفريد في أمثال هذه الأبحاث العقلية الخارجة عن نطاق العلوم التجريبيّة الحسيّة، فكأنّ رسل رفض العقل والبراهين العقليّة وحصر طريق الاستدلال على طريقة الحسّ والاستقراء والتجربة، كما هو مختار جميع الفلاسفة الحسّيّين الأوروبيّين وغيرهم، وقد بُرهِن على فساد هذا المبنى في محلّه.
 

48

26

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

 المفاهيم الرئيسة
- من البراهين التي يستدلّ بها على وجود الخالق برهان الإمكان والوجوب.

- تتوقّف الاستفادة من هذا البرهان على فهم معاني الإمكان، الوجوب، استحالة الدور والتسلسل.

- إنّ وجود الممكن لا ريب فيه وبحكم أنّ الممكن محتاج إلى علّة، وبحكم استحالة الدور والتسلسل، يلزم الانتهاء إلى علّة هي واجب الوجود.

- لقد أشير في الذكر الحكيم إلى برهان الإمكان في عدّة آيات منها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.

- ومن البراهين التي يستدلّ بها على إثبات وجود الخالق برهان الحدوث.

- الحدوث وصف للوجود باعتبار كونه مسبوقاً بالعدم وهو على قسمين, الحدوث الزماني، والحدوث الذّاتي.

- كلامنا في هذا الدرس حول إثبات الحدوث الزماني، وهو مؤلّف من مقدّمتين:
الأولى: إثبات حدوث العالم (من خلال العلوم التجريبية).
الثانية: كلّ حادث لا بُدّ له من محدِث (وهي مقدّمة بديهية عقلية).
 
- أشكل "برترند رسل" على برهان الحدوث بأنّه من المعلوم استحالة إجراء العمليّة التجريبيّة على خلقة العالم من العدم، ففرض كون العالَم مخلوقاً لخالق محدِث، ليس أولى من فرض حدوثه بلا علّة محدثة، فإنّ الفرضين مشتركان في نقض القوانين العلمية.
 
الرد: إنّ برهان الحدوث مشكّل من مقدّمتين، الأولى علمية: حدوث العالم، والثانية عقلية بديهية: لا بدّ لكلّ حادث من علّة، وهذه ليست مستفادة من الأبحاث العلمية.
 
 
49
 
 

27

الدرس الثالث: براهين وجود الله سبحانه (2) (برهان الإمكان والوجوب - برهان الحدوث)

أسـئلـة الـدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- كيف يمكن لنا الاستدلال ببرهان الإمكان على وجود الخالق عزّ وجلّ؟
 
2- استشكل برترند رسل على الاستدلال ببرهان الحدوث على وجود الله سبحانه وتعالى باعتبار أنّ فرض العلة المحدِثة لهذا العالم الحادث يساوي فرض عدم العلة المحدِثة له، وذلك لاستحالة إجراء عملية تجريبية لكلا الفرضين، فكيف يجاب؟
 
3- ما هي الأمور التي يتوقّف عليها برهان الإمكان؟

 ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- إذا قلنا بأن الوجود ممكن بالذات فهذا يقودنا للقول بوجود علة له أخرجته من الإمكان إلى العدم. 
2- إنّ الحياة في العالم المادّي أمر ذاتي، وليست الحياة أمراً حادثاً. 
3- الحدوث الذاتي هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته كجميع الموجودات الممكنة التي لها الوجود علة خارجة من ذاتها. 
4- إن الموجودات الإمكانية ليست بمعلولة بل واجبة الوجوب لذاتها القائمة بنفسها. 
5- الحدوث الزماني هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزماني.
 
50
 

28

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى مراتب التوحيد.
2- يتعرّف إلى براهين التوحيد في الذات.
3- يطّلع على نظرية التثليث عند النصارى وما يبطلها.
 
 
51
 

29

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

تمهيد
يحتلّ التوحيد المكانة العليا في الشرائع السماوية، فكان أوّل كلمة في تبليغ الرسل الدعوة إلى التوحيد ورفض الثنوية والشرك، يقول سبحانه:  ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ1.
 
ولأجل ذلك يجب على الإلهي التركيز على مسألة التوحيد أكثر من غيرها، واستيفاء الكلام فيه موقوف على البحث حول أهمِّ مراحل التوحيد، وهي:
1- التوحيد في الذات.
2- التوحيد في الصفات.
3- التوحيد في الخالقية.
4- التوحيد في الربوبية.
5- التوحيد في العبادة.
 
وإليك دراسة المواضيع المتقدّمة:
 

1- سورة الأنبياء، الآية 25.
 
53
 

30

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

التوحيد في الذات
يعنى بالتوحيد في الذات أمران: الأوّل أنّ ذاته سبحانه بسيط لا جزء له، والثاني أنّ ذاته تعالى متفرِّد ليس له مثل ولا نظير، وقد يُعبَّر عن الأوّل بأحديّة الذات وعن الثاني بوحدانيّته. وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام: "إنّه تعالى واحد أحديّ المعنى"1.
 
البرهان على بساطة ذاته تعالى
اعلم أنّ التركيب على أقسام: 
أ- التركيب من الأجزاء العقلية فقط، كالماهية النوعية المركّبة من جنس وفصل.
ب- التركيب منها ومن الأجزاء الخارجية كالمادّة والصورة والأجزاء العنصرية.
ج- التركيب من الأجزاء المقدارية كأجزاء الخط والسطح. والمدّعى أنّ ذاته تعالى بسيط ليس بمركّب من الأجزاء مطلقاً.
 
والدليل على أنّه ليس مركّباً من الأجزاء الخارجية والمقدارية أنّه سبحانه منزّه عن الجسم والمادّة كما سيوافيك البحث عنه في الصفات السلبية.
 
والبرهان على عدم كونه مركّباً من الأجزاء العقلية هو أنّ واجب الوجود بالذات لا ماهية له، وما لا ماهية له ليس له أجزاء عقلية الّتي هي الجنس والفصل2.
 
والوجه في انتفاء الماهية عنه تعالى بهذا المعنى هو أنّ الماهيّة من حيث هي هي، مع قطع النظر عن غيرها، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، فكلّ ماهيّة من حيث هي، تكون ممكنة، فما ليس بممكن، لا ماهيّة له واللّه تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات، لا يكون ممكناً بالذات فلا ماهيّة له.

1- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب 11، الحديث 9.
2- إنّ الماهية تطلق على معنيين: أحدهما ما يقال في جواب "ما" الحقيقية ويعبَّر عنها بالذات والحقيقة أيضاً، وثانيهما ما يكون به الشيء هو هو بالفعل، أي الهويّة، والمراد من نفي الماهية عنه سبحانه هو المعنى الأوّل.
 
 
54

31

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

دلائل وحدانيته
1- التعدّد يستلزم التركيب:
لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود، فلا بدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك، وذلك يستلزم تركّب كلٍّ منهما من شيئين: أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك، والآخر إلى ما به الامتياز، وقد عرفت أنّ واجب الوجود بالذّات بسيط ليس مركّباً لا من الأجزاء العقلية ولا الخارجية.
 
2- صرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر:
قد تبيّن أنّ واجب الوجود بالذّات لا ماهيّة له، فهو صرف الوجود، ولا يخلط وجوده نقص وفقدان، ومن الواضح أنّ كلّ حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أيّ خليط وصارت صرف الشيء، لا يمكن أن تُثنّى وتُعدّد.
 
وعلى هذا، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهيّة له ـ وجوداً صرفاً، لا يتطرّق إليه التعدّد، ينتج أنّه تعالى واحد لا ثاني له ولا نظير وهو المطلوب.
 
التوحيد الذاتي في القرآن والحديث
إنّ القرآن الكريم عندما يصف الله تعالى بالوحدانية، يصفه بـ"القهّاريّة" ويقول: ﴿هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ1.
 
وبهذا المضمون آيات متعدّدة أُخرى في الكتاب المجيد، وما ذلك إلاّ لأنّ الموجود المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، فإذا كان قاهراً من كلّ الجهات لم تتحكّم فيه الحدود، فاللاّ محدودية تلازم وصف القاهرية.
 

1- سورة الزمر، الآية 4.
 
 
55

32

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

 ومن هنا يتضح أنّ وحدته تعالى ليست وحدة عددية ولا مفهومية، قال العلاّمة الطباطبائي قدس سره: "إنّ كلّاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع، والوحدة النوعية كالإنسان الذي هو نوع واحد في مقابل الأنواع الكثيرة، مقهور بالحدّ الذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كلّ شيء، فليس بمحدود في شيء، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحقّ لا يعرضه باطل، فللّه من كلّ كمال محضه"1.
 
وقد أشير في سورة التوحيد إلى معنيي التوحيد (الأحدية والواحدية)، فإلى المعنى الأوّل، أُشير بقوله تعالى:  ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 2.
 
وإلى المعنى الثاني بقوله تعالى:  ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ3.
 
نظرية التثليث عند النصارى
إنّ كلمات المسيحيين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث (الأقانيم الثلاثة: الأب، الابن والروح القدس) من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم، ولا مناص لأي مسيحي من الاعتقاد به، وفي عين الوقت يعتبرون أنفسهم موحدين غير مشركين، وأنّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ومع كونه ثلاثة واحد أيضا. وأقصى ما عندهم في تفسير الجمع بين هذين النقيضين هو أنّ عقيدة التثليث عقيدة تعبّدية محضة ولا سبيل إلى نفيها وإثباتها إلا الوحي، فإنها فوق التجريبيات الحسية والإدراكات العقلية المحدودة للإنسان.


1- العلّامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج6، ص 88 ـ 89 بتصرّف.
2- سورة الاخلاص، الآية 1.
3- سورة الاخلاص، الآية 4.
 
56
 

33

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

تسرّب عقيدة التثليث إلى النصرانية
إنّ التاريخ البشري يرينا أنه لطالما عمد بعض أتباع الأنبياء عليهم السلام - بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم - إلى الشرك والوثنية، تحت تأثير المضلّين. إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب النبي موسى عليه السلام أظهر نموذج لما ذكرناه وهو مما أثبته القرآن والتاريخ، وعلى هذا فلا عجب إذا رأينا تسرّب عقيدة التثليث إلى النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح عليه السلام وغيابه عن أتباعه. إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح، من العقائد الباطلة السابقة عليها، حيث يقول تعالى: ﴿وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ 1.
 
لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية والهندوكية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين، فقد تجلّى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة:
1- براهما (الخالق).
2- فيشنوا (الواقي).
3- سيفا (الهادم).
 
وبذلك يظهر قوة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي "غستاف لوبون" قال: "قد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأولى من حياتها، مع أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوربية حوالي القرن الأول الميلادي فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والابن وروح القدس، مكان التثليث القديم المكوّن من (نروبى تر) و (وزنون) و (نرو)".


1- سورة التوبة، الآية 30.
 
 
57
 

 


34

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

نقد القرآن الكريم لعقيدة التّثليث
لقد رفض القرآن بشكل قاطع عقيدة التّثليث، واعتبرها مخالفة ‌لعقيدة التّوحيد، بل ووصف القائلين بها بالكفر، وقد أشار القرآن بصورة صريحة إلي عقيدة التّثليث في آيتين، الأولي جاءت في سورة النّساء، وهي قوله تعالي: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً 1.
 
والثّانية في قوله تعالي: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 2.
 
وفي الحقيقة إذا نظرنا إلي عبارتي: ‌"ثلاث" و"ثالث ثلاثة" في سياقها في الآيتين المذكورتين نلاحظ أنّهما قد يعنيان: "ثلاثة آلهة"، إذ بعد ذكر كلّ عبارة منهما يقع التّأكيد مباشرة علي أنّ الله واحد، أي: أنّه لا يُوجد ثلاثة ‌آلهة.
 
وهذا ما يؤكّده المفسّرون من أنّ المقصود بـ (ثلاثة) في الآيتين المذكورتين "ثلاثة آلهة"، ويرون في ذلك جوهر عقيدة النّصاري، وإن كانوا لا يعلنونها صراحة، ويقدّمونها في شكل إله واحد له ثلاثة أقانيم.
 
إنّ القرآن الكريم إذ يدحض عقيدة التّثليث بشكل عام يهدف أوّلاً إلي اثبات التّوحيد الذّاتي لله سبحانه، وأيضاً دحض العلاقة الّتي يقيمها النّصاري بين عيسي والأُلوهيّة،‌ من خلال القول بأنّ عيسي ا‌بن الله أو هو الله المتجسّد، وأيضاً إبطال الصّيغة اللاهوتية الّتي يعطونها للرّوح القدس أو لمريم بالنّسبة إلي بعض الفرق.


1- سورة النّساء ، الآية 171 .
2- سورة المائدة، الآية 73 .
 
58

35

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

فالقرآن يشدّد علي أنّ هذا القول مؤدّاه إلي الكفر، وقد رفض أيضاً أن يكون لله سبحانه ابن أو ولد، قال تعالي:  ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 1.
 
وقال أيضاً: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ 2، بل نعت القرآن القول بأنّ المسيح عليه السلام هو الله بالكفر والشّرك، كما في قوله تعالي:  ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ 3.
 
وأيضاً بالنّسبة إلي كلمة: "روح القدس" فإنّه رغم تعدّد ذكرها في القرآن الكريم، ولكنّها نجدها مفرغة من البعد الإلهي الّذي أعطاه أياها النصاري، ‌فالروح القدس هو المؤيّد والمسدّد للأنبياء عليهم السلام، كما في قوله تعالي:  ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ 4 وأيضاً قوله تعالى:  ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ 5، فهو مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالي، ولا يمكن لمخلوق أن يكون إلهاً.
 
بالإضافة إلي كلّ هذا فإنّ العهد الجديد يرفض كون هذه الأقانيم الثّلاثة: (أب، الابن، الروح القدس) متساوية، فإنّ المسيح يصرّح في إنجيل يوحنّا بأنّ الأب أعظم منه، حيث جاء في إنجيل يوحنّا: 


1- سورة الإخلاص، الآيات 3-1.
2- سورة الأنعام، الآية 101.
3- سورة المائدة، الآية 72.
4- سورة البقرة، الآية 87.
5- سورة المائدة، الآية 110.
 
 
59
 

36

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

 "لو كنتم تحبّونني لكنتم تفرحون لأنّي قلت أمضي إلي الأب، لأنّ أبي أعظم منّي"1. بل ينفي عن نفسه أيّ قدرة مستقلّة، ‌حيث يقول: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين ودينونتي عادلة،‌لأنّي لا أطلب مشيئتي، بل مشيئة الأب الّذي أرسلني"2.
 
ومن جهة أخرى نجد أنّ النبي عيسي عليه السلام كان كثير العبادة، كما تنقل ذلك آيات العهد الجديد, إذ إنّه صام أربعين يوماً، وكان يخلو للعبادة أحياناً الليل كلّه، فلا يعقل كونه (ابن الله) بمعني أحد الأقانيم الثلاثة إطلاقاً،‌إذ لا يعقل أن يكون له جوهر وطبيعة الأُلوهية،‌وهو يصوم ويصلّي ويتعبّد لغيره.
 
وبالإضافة إلي ما تقدّم فإنّ العقل يرفض هذه العقيدة مطلقاً‌،‌لكونها مخالفة للضرورة العقليّة الّتي تأبي أن يكون الإله الخالق البسيط الذّات، مركباً من أقانيم أو شخصيات أو أي نوع آخر من التّركيب، ‌إذ التّركيب يستلزم الاحتياج،‌والله سبحانه غنّي بذاته عن أيّ شيء آخر.
 
ولكن مع ذلك فإنّ الكنيسة المسيحيّة بمختلف مذاهبها تُؤمن بأنّ هذه العقيدة أساس المسيحيّة، والمنكر لها خارجٌ عن الدّين المسيحي!!


1- إنجيل يوحنا، 14/28.
2- المصدر السابق: 5/30.
 
60
 

37

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

المفاهيم الرئيسة
- يعتبر التوحيد على رأس الأصول الاعتقاديّة في الأديان الإلهيّة، وله العديد من المراتب منها: التوحيد في الذات.
 
- معنى التوحيد في الذات أنّه سبحانه يتّصف بالأحديّة والواحدية.
 
- الله سبحانه وتعالى منزّه عن كلّ أنحاء التركيب سواء الخارجي أو المقداريّ أو العقليّ وبهذا تثبت أحديّته.
 
- من الأدلّة على وحدانية الله تعالى أنّ التعدّد يستلزم التركيب وتنزّه الله تعالى عن التركيب، ومن جهة أخرى هو صرف الوجود، وصرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر.
 
- تقودنا الأبحاث التاريخيّة إلى الاعتقاد أنّ عقيدة التثليث قد تسرّبت من بعض الديانات الهندية إلى النصرانيّة.
 
- لقد رفض القرآن الكريم عقيدة التثليث وردّ عليها بمنطق العقل والبرهان، قال تعالى:  ﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً .
 
- مضافاً لما تقدّم نجد أنّ العهد الجديد يرفض فكرة تساوي الأقانيم الثلاثة (الأب، الإبن والروح القدس)، بل نجده ينسب إلى المسيح عليه السلام وفي عدّة مواضع الصفات البشرية المحضة، فكيف يدّعى والحال هذه أنّه إله؟!
 
61
 

38

الدرس الرابع: التوحيد ومراتبه(1) (التوحيد في الذات)

أسـئلـة الـدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- ما هو الدليل على بساطة الذات الإلهية؟
2- بيّن كيف يمكن الاستدلال على وحدانيته تعالى من خلال القاعدة الفلسفية "التعدُّد يستلزم التركيب"؟
3- كيف نستطيع الاستفادة من القرآن الكريم في نقد عقيدة التثليث عند النصارى؟

ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- التوحيد في الذات هو كون الله سبحانه وتعالى بسيط لا جزء له، متفرِّد ليس له مثل ولا نظير. 

2- إذا قلنا بأن الله تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات، لا يكون ممكناً بالذات فلا ماهيّة له. 

3- إذا تجرّدت حقيقة الشيء عن أيّ خليط وصارت صرف الشيء، فإنها تُثنّى وتُعدّد. 

4- إذا كان الله تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كلّ شيء، فليس بمحدود في شيء، فهو موجود لا يشوبه عدم، وحقّ لا يعرضه باطل، فللّه من كلّ كمال محضه. 

5- إن واجب الوجود بالذّات بسيط ليس مركّباً من الأجزاء الخارجية فقط دون العقلية.
 
62
 
 

39

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى التوحيد في الصفات.
2- يُدرك المعنى الصحيح للتوحيد في الخالقية.
3- يُلاحظ بعض الشبهات حول التوحيد في الخالقية والجواب عنها.
 
63

40

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

 التوحيد في الصفات
اختلف الإلهيون في كيفية إجراء صفات الله الذاتية عليه سبحانه على قولين:
الأوّل: عينيّة الصفات مع الذات، وهذا ما تبنّاه أئمّة أهل البيت عليهم السلام واختاره الحكماء الإلهيون وعليه جمهور المتكلّمين من الإماميّة والمعتزلة وغيرهما.
والثاني: زيادتها على الذّات وهو مختار المشبِّهة من أصحاب الحديث والأشاعرة.
 
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الصحيح هو القول بالعينيّة، فإنّ القول بالزيادة يستلزم افتقاره سبحانه في العلم بالأشياء وخلقه إيّاها إلى أُمور خارجة عن ذاته، فهو يعلم بعلم هو سوى ذاته، ويخلق بقدرة هي خارجة عن حقيقته وهكذا، والواجب بالذّات منزّه عن الاحتياج إلى غير ذاته، والأشاعرة وإن كانوا قائلين بأزليّة الصفات مع زيادتها على الذّات، لكنّ الأزلية لا ترفع الفقر والحاجة عنه، لأنّ الملازمة غير العينية، قال الإمام علي عليه السلام: "وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله"1.


1- نهج البلاغة، الخطبة: الأولى.
 
 
65

41

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

 وقال الإمام الصادق عليه السلام: "لم يزل الله جلّ وعزّ ربُّنا والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدور"1.
 
إشكال وردّ
استشكل أنّه: لا شكّ أنّ لله تعالى صفات وأسماء مختلفة أُنهيت في الحديث النبوي المعروف إلى تسع وتسعين، فكيف يجتمع ذلك مع القول بالعينيّة ووحدة الذات والصفات؟
الجواب: كثرة الأسماء والصفات راجعة إلى عالم المفهوم، مع أنّ العينية ناظرة إلى مقام الواقع العيني، ولا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال يكون فيها كلّه علماً وقدرة وحياة ومع ذلك فينتزع منه باعتبارات مختلفة صفات متعدّدة متكثّرة، وهذا كما أنّ الإنسان الخارجي مثلاً بتمام وجوده مخلوق لله سبحانه، ومعلوم له ومقدور له، من دون أن يخصّ جزء منه بكونه معلوماً وجزء آخر بكونه مخلوقاً أو مقدوراً، بل كلّه معلوم وكلّه مخلوق، وكلّه مقدور.
 
التوحيد في الخالقية
دلّت البراهين العقليّة على أنّه ليس في الكون خالق أصيل إلّا الله سبحانه، وأنّ الموجودات الإمكانية مخلوقة لله تعالى وما يتبعها من الأفعال والآثار، حتى الإنسان وما يصدر منه، مستندة إليه سبحانه بلا مجاز وشائبة عناية، غاية الأمر أنّ ما في الكون مخلوق له إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب.
 
وذلك لما عرفت من أنّه سبحانه هو الواجب الغني، وغيره ممكن بالذّات، ولا يعقل أن يكون الممكن غنيّاً في ذاته وفعله عن الواجب، فكما أنّ ذاته قائمة بالله سبحانه، فهكذا فعله، وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية. ومن عرف الممكن 


1- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب 11، الحديث 1.
 
 
66

42

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

حقّ المعرفة وأنّه الفقير الفاقد لكلّ شيء في حدّ ذاته، يعد المسألة بديهيّة.
 
هذا ما لدى العقل، وأمّا النقل فقد تضافرت النصوص القرآنية على أنّ الله سبحانه هو الخالق، ولا خالق سواه. وإليك نماذج من الآيات الواردة في هذا المجال: ﴿قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ1.
 
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ 2.
 
إلى غير ذلك من الآيات القرآنية الدالّة على ذلك.
 
التفسير الصحيح للتوحيد في الخالقية
إنّ المقصود من حصر الخالقية بالله تعالى هو الخالقية على سبيل الاستقلال وبالذات، وأمّا الخالقية المأذونة من جانبه تعالى فهي لا تنافي التوحيد في الخالقية. كما أنّ المراد من السببية الإمكانية (أعمّ من الطبيعيّة وغيرها) ليست في عرض السببية الإلهية، بل المقصود أنّ هناك نظاماً ثابتاً في عالم الكون تجري عليه الآثار الطبيعية والأفعال البشرية، فلكلّ شيء أثر تكويني خاصّ، كما أنّ لكلّ أثر وفعل مبدأً فاعلياً خاصّاً، فليس كلّ فاعل مبدأً لكلّ فعل، كما ليس كلّ فعل وأثر صادراً من كلّ مبدأ فاعلي، كلّ ذلك بإذن منه سبحانه، فهو الّذي أعطى السببيّة للنّار كما أعطى لها الوجود، فهي تؤثّر بإذن وتقدير منه سبحانه، هذا هو قانون العلّية العامّ الجاري في النظام الكوني الّذي يؤيّده الحسّ والتجربة وتبتني عليه حياة الإنسان في  ناحية العلم والعمل.
 
وبهذا البيان يرتفع التنافي البدوي بين طائفتين من الآيات القرآنية، الطائفة الدالّة على حصر الخالقية بالله تعالى، والطائفة الدالّة على صحّة قانون العلّية والمعلولية واستناد الآثار إلى مبادئها القريبة، والشاهد على صحّة هذا الجمع، لفيف من الآيات وهي التي تسند الآثار إلى أسباب كونية خاصّة وفي عين الوقت 
 

1-  سورة الرعد، الآية 16.
2- سورة الزمر، الآية 62.
 
67
 

43

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

تسندها إلى الله سبحانه، وكذلك تسند بعض الأفعال إلى الإنسان أو غيره من ذوي العلم والشعور، وفي الوقت نفسه تسند نفس تلك الأفعال إلى مشيَّته سبحانه، وإليك فيما يلي نماذج من هذه الطائفة:
1- إنّ القرآن الكريم أسند حركة السحاب إلى الرياح وقال:  ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا1.
 
كما أسندها إلى الله تعالى وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا 2.
 
2- إنّه تعالى نسب توفّي الموتى إلى الملائكة تارة وإلى نفسه أُخرى فقال:  ﴿حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا3.
 
وقال:  ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا4.
 
3- إنّ القرآن يشير إلى كلتا النسبتين  ﴿أي نسبة الفعل إلى الله سبحانه وإلى الإنسان في جملة ويقول:  ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى 5.
 
فهو يصف النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه قد رمى وينسبه إليه حقيقة ويقول: ﴿إِذْ رَمَيْتَ ومع ذلك يسلبه عنه ويرى أنّه سبحانه الرامي الحقيقي.
 
هذه المجموعة من الآيات وغيرها تُرشدك إلى النظرية الحقّة في تفسير التوحيد في الخالقية وهو كما تقدّم, أنّ الخالقية بالأصالة وبالذات وعلى وجه الاستقلال منحصرة فيه سبحانه، وغيره من الأسباب الكونيّة والفواعل الشاعرة إنّما تكون


1- سورة الروم، الآية 48.
2- سورة النور، الآية 43.
3- سورة الأنعام، الآية 61.
4- سورة الزمر، الآية 42.
5- سورة الأنفال، الآية 17.
 
 
68
 

44

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

 الوجود الإضافيّ المنتزع من مقايسة أحد الظاهرتين مع الأخرى فليس أمراً واقعيّاً محتاجاً إلى مبدأ يُحقِّقها.
 
الشبهة الثانية: التوحيد في الخالقية وقبائح الأفعال:
 ربّما يقال إنّ الالتزام بعمومية خالقيته تعالى لكلّ شيء يستلزم إسناد قبائح الأفعال إليه تعالى، وهذا ينافي تنزُّهه سبحانه من كلّ قبح وشين. بمعنى أن حصر الخالقية بالله تعالى يستلزم نسبة الأفعال القبيحة إليه لأنّها أمور مخلوقة أيضاً.
 
الجواب: إنّ للأفعال جهتين:
إنّ للأفعال جهتين، جهة الثبوت والوجود، وجهة استنادها إلى فواعلها بالمباشرة، فعنوان الطّاعة والمعصية ينتزع من الجهة الثانية، وما يستند إلى الله تعالى هي الجهة الأولى، والأفعال بهذا اللحاظ متّصفة بالحسن والجمال، أي الحسن التكويني.
 
وبعبارة أُخرى: عنوان الحسن والقبح المنطبق على الأفعال الصادرة عن فاعل شاعر مختار، هو الذي يدركه العقل العملي بلحاظ مطابقة الأفعال لأحكام العقل والشرع وعدمها، وهذا الحسن والقبح يرجع إلى الفاعل المباشر للفعل.
 
نعم أصل وجود الفعل ـ مع قطع النظر عن مقايسته إلى حكم العقل أو الشرع ـ يستند إلى الله تعالى وينتهي إلى إرادته سبحانه، والفعل بهذا الاعتبار لا يتّصف بالقبح، فإنّه وجود والوجود خير وحسن في حدّ ذاته.
 
قال سبحانه:  ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ1. وقال تعالى:  ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ2.
 
فكلّ شيء كما انّه مخلوق، فهو حسن، فالخلقة والحسن متصاحبان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر أصلاً.


1- سورة السجدة، الآية 7.
2- سورة الزمر، الآية 62.
 
 
70

45

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

 المفاهيم الرئيسة
- اختلف الإلهيّون في كيفية اتّصافه تعالى بصفات الذّات بين قائل بالعينية وقائل بالزيادة، والصحيح هو ما نادت به مدرسة أهل البيت عليهم السلام من العينيّة، وذلك لأنّ القول بالزيادة يستلزم خلو الذّات في نفسها عن هذا الكمال وافتقارها إلى غيرها.

- قد دلّ العقل والنقل على تفرّد الله تعالى بالخالقية بمعنى الاستقلالية في التأثير، وهذا مقتضى كونه تعالى واجب الوجود بالذّات وما سواه ممكن الوجود.

قال تعالى: 
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ .

- أُثيرت العديد من الشبهات على كونه تعالى متفرّداً في الخالقية منها:
1- شبهة الثنوية في استلزام هذا التوحيد لإسناد الشرور إليه تعالى، وهو منزّه عن ذلك.

والجواب: إنّ الشرّ أمر نسبي، وليس وصفاً للأشياء في نفسها، بل هي في نفسها خير.

2- الشبهة القائلة أنّ هذا التوحيد يستلزم إسناد قبائح الأفعال إليه تعالى. والجواب: إنّ اتّصاف الفعل بالقبح يرجع إلى ملاحظة الفاعل المباشر للفعل وهو غيره تعالى، وأمّا بلحاظ استناد الفعل إليه تعالى فهو خير وحسن دائماً.
 
71
 

46

الدرس الخامس: التوحيد ومراتبه (2) (التوحيد في الصفات، التوحيد في الخالقية)

أسـئلـة الـدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- ما هو المقصود بالتوحيد في الصفات وأي القولين هو الصحيح؟
2- وفِّق بين الآيات القرآنية الدالّة على حصر الخالقية باللّه تعالى، والطائفة الدالّة على صحّة قانون العلّية والمعلولية واستناد الآثار إلى مبادئها القريبة.
3- اذكر الأحاديث الشريفة التي أشارات إلى التوحيد في الصفات.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- التوحيد في الخالقية هو كون الموجودات الإمكانية مخلوقة للّه تعالى وما يتبعها ويصدر منها من الأفعال والآثار إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب. 
2- إنّ كثرة الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى يكشف عن تعدُّد الذات والصفات. 
3- إنّ اتصاف الظواهر والأمور بالشرور هو اتصاف قياسي وليس اتصافاً نفسياً. 
4- إذا قلنا بعمومية خالقيته سبحانه وتعالى لكلّ شيء يستلزم إسناد قبائح الأفعال إليه تعالى. 
5- إذا كان الممكن فقيراً في ذاته فاقد لكلّ شيء في حدّ ذاته فلا يعقل أن يكون الممكن غنيّاً في ذاته.
 
72

47

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يتعرّف إلى التوحيد في الربوبية وبعض شؤونها.
2- يُتقن أدلّة التوحيد في الربوبيّة.
3- يُدرك المعنى الحقيقي للتوحيد في العبادة.
 
 
73
 

48

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

المراد من التوحيد في الربوبية
التوحيد في الربوبيّة هو الاعتقاد بأنّ تدبير الحياة والكون ومنه الإنسان كلّه بيد الله سبحانه وأنّ مصير الإنسان في حياته كلّه إليه سبحانه، ولو كان في عالم الكون أسباب ومدبّرات له، فكلّها جنود له سبحانه يعملون بأمره ويفعلون بمشيئته.
 
ويقابله الشرك في الربوبية وهو تصوّر أنّ هناك مخلوقات لله سبحانه لكن فوّض إليها أمر تدبير الكون ومصير الإنسان في حياته تكويناً وتشريعاً.
 
دلائل التوحيد في الربوبيّة
1- التدبير لا ينفكّ عن الخلق:
 إنّ النكتة الأساسية في خطأ المشركين تتمثّل في أنّهم قاسوا تدبير عالم الكون بتدبير أُمور عائلة أو مؤسَّسة وتصوّروا أنّهما من نوع واحد، مع أنّهما مختلفان في الغاية، فإنّ تدبير الكون في الحقيقة إدامة الخلق والإيجاد.
 
توضيح ذلك: أنّ كلّ فرد من النظام الكوني بحكم كونه فقيراً ممكناً فاقد للوجود الذاتي، لكن فقره ليس منحصراً في بدء خلقته وإنّما يستمرّ هذا الفقر معه في جميع الأزمنة والأمكنة وعلى هذا، فتدبير الكون لا ينفكّ عن خلقته وإيجاده بل الخلق تدبير باعتبار، والتدبير خلق باعتبار آخر.
 
 
 
75
 
 

49

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

فتدبير الوردة مثلاً ليس إلّا تكوّنها من المواد السُّكرية في الأرض ثمّ توليدها الأوكسجين في الهواء إلى غير ذلك من عشرات الأعمال الفيزيائية والكيميائية في ذاتها وليست كلّ منها إلّا شعبة من الخلق، ومثلها الجنين مذ تكوّنه في رحم الأمّ، فلا يزال يخضع لعمليّات التفاعل والنمو حتى يخرج من بطنها، وليست هذه التفاعلات إلّا شعبة من عمليّة الخلق وفرع منه.
 
ولأجل وجود الصلة الشديدة بين التدبير والخلق نرى أنّه سبحانه بعدما يذكر مسألة خلق السماوات والأرض يطرح مسألة تسخير الشمس والقمر الذي هو نوع من التدبير، قال تعالى:  ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ1.
 
ومن هذا الطريق يوقفنا القرآن الكريم على حقيقة التدبير الذي هو نوع من الخلق وقد عرفت أن لا خالق إلّا الله تعالى.
 
2- انسجام النظام واتصال التدبير:
إنّ مطالعة كلّ صفحة من الكتاب التكويني العظيم يقودنا إلى وجود نظام موحَّد وارتباط وثيق بين أجزائه، ومن المعلوم أنّ وحدة النظام وانسجامه وتلائمه لا تتحقّق إلّا إذا كان الكون بأجمعه تحت نظر حاكم ومدبِّر واحد، ولو خضع الكون لإرادة مدبِّرين لما كان لاتصال التدبير وانسجام أجزاء الكون أيّ أثر، لأنّ تعدّد المدبّر والمنظِّم ـ بحكم اختلافهما في الذات أو في الصفات والمشخِّصات ـ يستلزم بالضرورة الاختلاف في التدبير والإرادة، وذلك ينافي الانسجام والتلاؤم في أجزاء الكون.
 
فوحدة النظام وانسجامه وتلاصقه وتلائمه كاشف عن وحدة التدبير والمدبّر وإلى هذا يشير قوله سبحانه: 


1- سورة الرعد، الآية 2.
 
76
 

50

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

 

﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا1.
 
وهذا الاستدلال بعينه موجود في الأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقول الإمام الصادق عليه السلام: "دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد"2.
 
ثمّ إنّ المراد من حصر الربوبيّة والتدبير بالله سبحانه، هي الربوبيّة على وجه الاستقلال وبالذّات، وذلك لا ينافي وجود مدبِّرات في الكون مسخَّرات لله تعالى، قال سبحانه: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا3.
 
وقال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً4.
 
فالاعتراف بمثل هذه المدبِّرات لا يمنع من انحصار التدبير الاستقلالي في الله سبحانه.
 
من شؤون التوحيد في الربوبية
إنّ للتوحيد في الربوبية نطاقاً واسعاً شاملاً لجميع المظاهر الكونية والحقائق الوجودية فلا مدبِّر في صفحة الوجود، بالذّات وعلى وجه الاستقلال، سوى الله تعالى فهو ربُّ العالمين لا ربّ سواه. فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام بطل التوحيد يصف التوحيد في الربوبية بقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ *  الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ5.
 
وينبغي في ختام هذا البحث أن نشير إلى قسمين لهما أهميتهما الخاصة في حياة الإنسان الاجتماعية وهما مما يتفرّع على التوحيد في الخالقية والربوبية وهما:


1- سورة الأنبياء، الآية 22.
2- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب 36، الحديث 1.
3- سورة النازعات، الآية 5.
4- سورة الأنعام، الآية 61.
5- سورة الشعراء، الآيات: 77 – 83.
 
77
 

51

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

1- التوحيد في الحاكمية:
الحاكم هو الذي له تسلّط على النفوس والأموال، والتصرف في شؤون المجتمع بالأمر والنهي، والعزل والنصب، والتحديد والتوسيع ونحو ذلك، ومن المعلوم أن هذا يحتاج إلى ولاية له بالنسبة إلى المسلَّط عليه، ولولا ذلك لعدَّ التصرّف عدوانياً، هذا من جانب. ومن جانب آخر الولاية على الغير متفرع على كون الوالي مالكاً للمولّى عليه أو مدبّر أموره في الحياة، وبما أن لا مالكية لأحد على غيره إلا لله تعالى ولا مدبر سواه، فإنه الخالق الموجد للجميع والمدبر للكون بأجمعه، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات سوى الله تعالى، فحق الولاية منحصر لله تعالى.
 
قال سبحانه: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ1.
 
وقال سبحانه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ2.
 
ومن جانب ثالث: إنّ وجود الحكومة والحاكم البشري في المجتمع أمر ضروري كما أشار إليه الإمام علي عليه السلام بقوله: "لا بد للناس من أمير برٍّ أو فاجر"3. ومن المعلوم أن ممارسة الإمرة وتجسيد الحكومة في الخارج ليس من شأنه سبحانه، بل هو شأن من يماثل المحكوم عليه في النوع ويشافهه ويقابله مقابلة الإنسان للإنسان، وعلى ذلك، فوجه الجمع بين حصر الحاكمية في الله سبحانه ولزوم كون الحاكم والأمير بشراً كالمحكوم عليه، هو لزوم كون من يُمثّل مقام الإمرة مأذوناً من جانبه سبحانه لإدارة الأمور والتصرّف في النفوس والأموال، وأن تكون ولايته مستمدّة من ولايته سبحانه ومنبعثة منها. وعلى هذا فالحكومات القائمة في المجتمعات يجب أن تكون مشروعيتها مستمدّة من ولايته سبحانه وحكمه بوجه من الوجوه، وإذا كانت علاقتها منقطعة غير موصولة به سبحانه فهي حكومات طاغوتية لا مشروعية لها.


1- سورة الشورى، الآية 9.
2- سورة الأنعام، الآية 57.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 40.
 
78
 

52

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

 2- التوحيد في التشريع:
إنَّ الربوبية على قسمين: تكوينية وتشريعية ودلائل التوحيد في الربوبية التكوينية يثبت التوحيد في الربوبية التشريعية أيضاً، فإن التقنين والتشريع نوع من التدبير، يدبَّر به أمر الإنسان والمجتمع البشري، كما أنّه نوع من الحكومة والولاية على الأموال والنفوس، فبما أنّ التدبير والحكومة منحصرتان في الله تعالى، فكذلك ليس لأحد حقّ التقنين والتشريع إلا له تعالى. 
 
وأمّا الفقهاء والمجتهدون فليسوا بمشّرعين، بل هم متخصّصون في معرفة تشريعه سبحانه، ووظيفتهم الكشف عن الأحكام بعد الرجوع إلى مصادرها وجعلها في متناول الناس.
 
وأمّا ما تعورف في القرون الأخيرة من إقامة مجالس النواب أو الشورى في البلاد الإسلامية، فليست لها وظيفة سوى التخطيط لإعطاء البرنامج للمسؤولين في الحكومات في ضوء القوانين الإلهية لتنفيذها، والتخطيط غير التشريع كما هو واضح. وهناك آيات من الذكر الحكيم تدل بوضوح على اختصاص التشريع بالله سبحانه نشير إلى بعضها:
 
قال سبحانه:
1- ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ1.
 
2- ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ2.
 
3- ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ3.


1- سورة المائدة، الآية 44.
2- سورة المائدة، الآية 45.
3- سورة المائدة، الآية 47.
 
79

53

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

التوحيد في العبادة
التوحيد في العبادة ممّا اتّفق على اختصاصه بالله سبحانه جميع المسلمين بل الإلهيين، وهو الهدف والغاية الأسنى من بعث الأنبياء والمرسلين، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ1.
 
وناهيك في أهميّة ذلك أنّ الإسلام قرّره شعاراً للمسلمين يؤكِّدون عليه في صلواتهم الواجبة والمندوبة بقولهم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ2.
 
كما أنّ مكافحة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل وسائر الأنبياء للوثنيين تتركّز على هذه النقطة غالباً كما هو ظاهر لمن راجع القرآن الكريم.
 
وبالجملة لا تجد مسلماً ينكر هذا الأصل أو يشكّ فيه وإنّما الكلام في تشخيص مصاديق العبادة وجزئياتها عن غيرها، فترى أنّ أتباع الوهّابيّة يرمون غيرهم بالشرك في العبادة بالتبرّك بآثار الأنبياء والتوسّل بهم إلى الله سبحانه ونحو ذلك، فتمييز العبادة عن غيرها هي المشكلة الوحيدة في هذا المجال، فيجب قبل كلّ شيء دراسة واقعية عن حقيقة العبادة على ضوء العقل والكتاب والسنّة فنقول:
 
حقيقة العبادة؟
قد تُعرّف العبادة بـ "الخضوع والتذلّل" أو "نهاية الخضوع" ولكنّهما تعريفان ناقصان لا يساعدهما القرآن الكريم.
 
توضيح ذلك: أنّ القرآن الكريم أمر الإنسان بالتذلّل لوالديه فيقول: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا3.


1- سورة النحل، الآية 36.
2- سورة الفاتحة، الآية 5.
3- سورة الإسراء، الآية 24.
 
80
 

 


54

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

فلو كان الخضوع والتذلّل عبادة لمن يتذلّل له لكان أمره تعالى بذلك أمراً باتّخاذ الشريك له تعالى في العبادة! كما أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم فيقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ1.
 
مع أنّ السجود نهاية التذلّل والخضوع للمسجود له، فهل ترى أنّ الله سبحانه يأمر الملائكة بالشّرك في العبادة؟!
 
إنّ إخوة يوسف ووالديه سجدوا جميعاً ليوسف بعد استوائه على عرش الملك والسلطنة، كما يقول سبحانه: ﴿وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا2.
 
إذاً ليس معنى العبادة التي تختصّ بالله سبحانه ولا تجوز لغيره تعالى هو الخضوع والتذلّل، أو نهاية الخضوع، فما هي حقيقة العبادة؟
 
حقيقة العبادة على ما يستفاد من القرآن الكريم هي "الخضوع والتذلّل، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له" فما لم ينشأ الخضوع من هذا الاعتقاد، لا يكون عبادة، ويدلّ على ذلك الآيات الّتي تأمر بعبادة الله وتنهى عن عبادة غيره، معلّلة ذلك بأنّه لا إله إلّا الله، كقوله سبحانه: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ3.
 
وقد ورد هذا المضمون في عشر موارد أو أكثر في القرآن الكريم4.
 
ومعنى هذا التعليل أنّ الذي يستحقّ العبادة هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله، فإذا تحقّق وصف الألوهية في شيء جازت بل وجبت عبادته واتّخاذه معبوداً، وحيث إنّ الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.


1- سورة البقرة، الآية 34.
2- سورة يوسف، الآية 100.
3- سورة الأعراف، الآية 59.
4- يمكن للقارئ أن يراجع لذلك الآيات التالية: سورة الأعراف، الآيات: 65، 73، 85؛ سورة هود، الآيات: 50، 61، 84؛ سورة طه، الآية 14؛ سورة الأنبياء، الآية 25؛ سورة المؤمنون، الآيتان 22 - 23.
 
81

55

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

 والمراد من الألوهيّة هو ما يعدّ من شؤون الإله، أعني: الاستقلال في الذّات والصفات والأفعال، فمن اعتقد لشيء نحواً من الاستقلال إمّا في وجوده، أو في صفاته، أو في أفعاله وآثاره فقد اتّخذه إلهاً، والأبحاث المتقدّمة حول التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي كانت هادفة لحصر الألوهية المطلقة لله سبحانه وإبطال أُلوهيّة غيره تعالى.
 
ثم إنّ المستفاد من مطالعة عقائد الوثنيّة في كتب الملل والنحل، ويؤيّده القرآن الكريم أيضاً، أنّ معظم الإنحرافات في مسألة التوحيد كان في مجال الربوبية والتدبير. فالمشركون مع اعترافهم بحصر الخالقية بالله تعالى وأنّ جميع من سواه مخلوق لله سبحانه، إلا أنهم كانوا معتقدين بوجود أرباب من دون الله وأنّ لهم الألوهيّة في مجال الربوبيّة والتدبير، وكان الغرض من عبادتهم الاستنصار على الأعداء والعزّة والغلبة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ1.
 
ويقول سبحانه: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا2.
 
ومن هنا نرى أنّ قسماً من الآيات تعلّل الأمر بحصر العبادة في الله وحده، بأنّه الربّ فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ3.

وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ4.

وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ5.
 
وغير ذلك من الآيات التي تجعل العبادة دائرة مدار الربوبية6.
 

1- سورة يس، الآية 74.
2- سورة مريم، الآية 81.
3- سورة المائدة، الآية 72.
4- سورة الأنبياء، الآية 92.
5- سورة آل عمران، الآية 51.
6- لاحظ الآيات الكريمات التاليات: سورة يونس، الآية 3. سورة الحجر، الآية 3. سورة مريم، الآيتان 36 و65.سورة الزخرف، الآية 64.
 
82
 
 

 


56

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

زبدة الكلام
خلاصة القول في المقام إنّ أيّ خضوع ينبع من الاعتقاد بأن المخضوع له إله العالم أو ربّه أو فوّض إليه تدبير العالم كلّه أو بعضه، يكون الخضوع بأدنى مراتبه عبادة ويكون صاحبه مشركاً في العبادة إذا أتى به لغير الله.
 
ويقابل ذلك الخضوع غير النابع من هذا الاعتقاد، فخضوع أحد أمام موجود تكريمه - مبالغاً في ذلك - من دون أن ينبع من الاعتقاد بألوهيّته، لا يكون شركاً ولا عبادة لهذا الموجود، إن كان من الممكن أن يكون حراماً، مثل سجود العاشق للمعشوقة، أو المرأة لزوجها، فإنه وإن كان حراماً في الشريعة الإسلامية لكنّه ليس عبادة بل حراماً لوجه آخر، ولعلّ الوجه في حرمته هو أن السجود حيث إنه وسيلة عامة للعبادة عند جميع الأقوام والملل، صار بحيث لا يراد منه إلا العبادة، لذلك لم يسمح الإسلام بأن يستفاد منها حتى في الموارد التي لا تكون عبادة، والتحريم إنّما هو من خصائص الشريعة الإسلامية.
 
83

 


57

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

المفاهيم الرئيسة
- من مراتب التوحيد: التوحيد في الربوبية، والدليل عليه أمّا أوّلاً، فلأنّ التدبير شعبةٌ من شعب الخلق، وما دام الخالق واحداً فالمدبّر واحد كذلك.
 
- وثانياً: إنّ اتّصال التدبير وانسجام النظام آية المدبّر الواحد.
 
- من شؤون التوحيد في الربوبيّة التوحيد في الحاكميّة والتوحيد في التشريع.

- من مراتب التوحيد أيضاً: التوحيد في العبادة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ.

- إنّ حقيقة العبادة على ما يستفاد من القرآن الكريم هي "الخضوع والتذلّل، لفظاً أو عملاً مع الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له".

- الدليل على التوحيد في العبادة أنّ الذي يستحقّها هو من كان إلهاً، وليس هو إلّا الله تعالى، وحيث إنّ الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه.
 
 
84
 

58

الدرس السادس: التوحيد ومراتبه (3) (التوحيد في الربوبية، التوحيد في العبادة)

أسـئلـة الـدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- بيّن كيف يمكن الاستدلال على التوحيد في الربوية من خلال انسجام النظام واتصال التدبير في جميع المخلوقات.
2- اذكر أنواع التوحيد المتفرّعة عن التوحيد في الربوبية.
3- ما هو المعنى المقصود من التوحيد في العبادة في القرآن الكريم؟

 ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- التدبير في الكون هو عبارة عن إدامة الخلق والإيجاد بحكم كونه فقيراً ممكناً فاقداً للوجود الذاتي. 
2- التوحيد في الربوبية وهو الاعتقاد بأن الله سبحانه فوّض أمر تدبير شؤون المخلوقات لنفسها تكويناً وتشريعاً. 
3- إنّ الذي يستحقّ العبادة هو من كان إلهاً، وحيث إنّ الوصف لا يوجد إلّا في الله سبحانه وجب عبادته دون سواه. 
4- إنّ القول بوجود مدبّرات في الكون غير الله سبحانه وتعالى يؤدّي للقول بانحصار التدبير الاستقلالي للكون في الله سبحانه وتعالى. 
5- إذا اعتقد الإنسان بأن المخضوع له إله العالم أو ربّه أو فوّض إليه تدبير العالم كلّه أو بعضه، يكون الخضوع بأدنى مراتبه عبادة ويكون صاحبه مشركاً في العبادة إذا أتى به لغير الله.
 
85
 
 

 


59

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى الأقوال في كيفية معرفة صفاته تعالى.
2- يهتدي إلى الطرق الصحيحة في معرفة صفاته تعالى.
3- يبيّن أنواع الطرق لمعرفة صفات الله تعالى.
 
 
87

 


60

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

 كيف نتعرّف على صفاته تعالى؟
اعتاد الإنسان الساكن بين جدران الزمان والمكان أن يتعرّف على الأشياء مقيّدة بالزمان والمكان موصوفة بالتحيّز والتجسيم، متَّسمة بالكيف والكم، وما إلى ذلك من لوازم المادَّة ومواصفات الجسمانية، فقد قضت العادة الملازمة للإنسان، أعني: أُنسه بالمادّة واعتياده على معرفة كلّ شيء في الإطار المادّي، أن يُصوِّر لربِّه صوراً خيالية على حسب ما يألفه من الأمور المادّية الحسيّـة، وقلَّ ما أن يتّفـق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ونفسه خالية عن المحاكاة.
 
بين التشبيه والتعطيل
على ذلك الأساس افترق جماعة من الإلهيين إلى مشبِّه ومعطِّل، فالأوّلون تورّطوا في مهلكة التشبيه وشبّهوا بارئهم بإنسان له لحم، ودم، وشعر، وعظم، وله جوارح وأعضاء حقيقية من يد، ورجل، ورأس ويجوز عليه المصافحة والانتقال1. وإنكار بارئ بهذه الأوصاف المادّية المنكرة أولى من إثباته ربّاً للعالم، لأنّ الاعتقاد بالبارئ بهذه الصفات يجعل الألوهية والدعوة إليها منكراً تتنفّر منه العقول والأفكار المنيرة.
 
والطائفة الثانية أرادت التحرّز عن وصمة التشبيه وعار التجسيم فوقعت في إسارة التعطيل، فحكمت بتعطيل العقول عن معرفته سبحانه ومعرفة صفاته وأفعاله، 


1- الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 104.
 
 
89

61

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

قائلة بأنّه ليس لأحد الحكم على المبدأ الأعلى بشيء من الأحكام وليس إلى معرفته من سبيل إلّا بقراءة ما ورد في الكتاب والسنّة، فقالت: إنّ النجاة كلّ النجاة في الاعتراف بكلّ ما ورد في الشرع الشريف من دون بحث ونقاش، فقد نقل عن سفيان بن عيينة أنّه قال: "كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه"1.
 
ما هو المسلك الصحيح؟
ولكن هناك طائفة ثالثة ترى أنّ من الممكن التعرّف على صفاته سبحانه من طريق التدبّر وعلى ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر.
 
وحجّتهم في ذلك أنّ الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن، فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.
 
ويكفي في تعيّن هذا الطريق ما ورد في أوائل سورة الحديد من قوله سبحانه: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: ﴿وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ2.
 
وما ورد في آخر سورة الحشر من قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ إلى قوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ3.

 

 
وغير ذلك من الآيات المتضافرة في بيان صفات ذاته وأفعاله تعالى.
 
فهل يظنّ عاقل أنّ تلك الآيات المتكثّرة إنّما أنزلها الله تعالى لمجرّد القراءة والتلاوة، ولو كان كذلك فما معنى التدبّر في الآيات القرآنية الّذي دعا القرآن نفسه إليه بوجه أكيد؟


1- الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 93.
2- سورة الحديد، الآيات 6-1.
3- سورة الحشر، الآيات 23-24.
 
90
 

62

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

وأوضح دليل على قدرة العقل على البحث ودراسة الحقائق السفلية والعلوية حَثُّ الوحي على التعقّل سبع وأربعين مرَّة، وعلى التفكّر ثماني عشرة مرّة، وعلى التدبّر أربع مرّات في الكتاب العزيز.
 
قال الإمام عليّ عليه السلام: "لَمْ يُطْلِع العقول على تَحديد صِفته، وَلَم يَحجُبْها عن واجب مَعرفته"1.
 
والعبارة تهدف إلى أنّ العقول وإن كانت غير مأذونة في تحديد الصفات الإلهية، لكنّها غير محجوبة عن التعرّف حسب ما يمكن.
 
الطرق الصحيحة إلى معرفة صفاته تعالى
قد عرفت أنّ ذاته سبحانه وأسماءه وصفاته، وإن كانت غير مسانخة لمدركات العالم المحسوس، لكنّها ليست على نحو يستحيل التعرّف عليها بوجه من الوجوه، ومن هنا نجد أنّ الحكماء والمتكلّمين يسلكون طرقاً مختلفة للتعرّف على ملامح العالم الربوبي، وها نحن نشير إلى هذه الطرق:
 
الأوّل: الطريق العقلي:
إذا ثبت كونه سبحانه غنيّاً غير محتاج إلى شيء، فإنّ هذا الأمر يمكن أن يكون مبدأً لإثبات كثير من الصفات الجلالية، فإنّ كلّ وصف استلزم خللاً في غناه ونقصاً له، انتفى عنه ولزم سلبه عن ذاته.
 
وقد سلك الفيلسوف الإسلامي نصير الدِّين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية حيث قال: "وجوب الوجود يدلّ على سرمديته، ونفي الزائد، والشريك، والمثل، والتركيب بمعانيه، والضد، والتحيّز، والحلول، والاتحاد، والجهة، وحلول الحوادث فيه،

1- نهج البلاغة، الخطبة: 291.
 
 
91

63

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

 والحاجة، والألم مطلقاً، واللذة المزاجية، والمعاني، والأحوال، والصفات الزائدة والرؤية".
 
بل انطلق المحقّق من نفس هذه القاعدة لإثبات سلسلة من الصفات الثبوتية حيث قال: "وجوب الوجود يدل على ثبوت الوجود، والملك، والتمام، والحقيّة، والخيرية، والحكمة، والتّجبُّر، والقهر، والقيُّومية"1.
 
وعلى ذلك يمكن الإذعان بما في العالم الربوبي من الكمال والجمال بثبوت أصل واحد وهو كونه سبحانه موجوداً غنياً واجب الوجود.
 
ومن هنا تنفتح نوافذ على الغيب والتعرّف على صفاته الثبوتية والسلبية، وستعرف البرهنة على هذه الصفات من هذا الطريق.
 
الثاني: المطالعة في الآفاق والأنفس:
من الطرق والأصول التي يمكن التعرّف بها على صفات اللّه، مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، فإنّه يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيّات الكامنة فيه، وكلّ القوانين التي تسود الكائنات، فمن خلال هذه القاعدة وعبر هذا الطريق أي مطالعة الكون، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الجمالية، وبهذا يتبيّن أنّ ذات الله سبحانه وصفاته ليست محجوبة عن التعرّف المطلق وغير واقعة في أُفق التعقّل، حتّى نعطّل العقول، وقد أمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق، يقول سبحانه: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ2.


1- العلّامة الحلّي، كشف المراد، المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة:7 ـ 21.
2- سورة يونس، الآية 101.
 
92
 
 

64

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ1.
 
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ2.
 
الثالث: الرجوع إلى الكتاب والسنّة الصحيحة:
وهناك أصل ثالث يعتمد عليه أتباع الشرع، وهو التعرّف على أسمائه وصفاته وأفعاله بما ورد في الكتب السماويّة وأقوال الأنبياء وكلماتهم، وذلك بعدما ثبت وجوده سبحانه وقسم من صفاته، ووقفنا على أنّ الأنبياء مبعوثون من جانب الله وصادقون في أقوالهم وكلماتهم.
 
وباختصار، بفضل الوحي ـ الّذي لا خطأ فيه ولا زلل ـ نقف على ما في المبدأ الأعلى من نعوت وشؤون، فمن ذلك قوله سبحانه: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ3.
 
الرابع: الكشف والشهود:
وهناك ثلّة قليلة يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار، فيرون جماله وجلاله وصفاته وأفعاله بإدراك قلبي، يدرك لأصحابه ولا يوصف لغيرهم.
 
والفتوحات الباطنية من المكاشفات أو المشاهدات الروحية والإلقاءات في الروع غير مسدودة، بنص الكتاب العزيز.


1- سورة آل عمران، الآية 190.
2- سورة يونس، الآية 6.
3- سورة الحشر، الآيتان 23 - 24.
 
93

 


65

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

قال سبحانه: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً1.
 
أي يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحقّ والباطل، وتميّزون به بين الصحيح والزائف، لا بالبرهنة والاستدلال بل بالشهود والمكاشفة.
 
وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ2.
 
والمراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته في معاشه ومعاده، في دينه ودنياه3.
 
وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ4.
 
إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ المؤمن يصل إلى معارف وحقائق في ضوء المجاهدة والتقوى، إلى أن يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية.
 
قال سبحانه: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ5.
 
نعم ليس كلُّ من رمى، أصاب الغرض، وليست الحقائق رمية للنبال، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلاّ النزر القليل ممّن خلَّص روحه وصفّى قلبه.


1- سورة الأنفال، الآية 29.
2- سورة الحديد، الآية 28.
3- أمّا في الدنيا فهو النور الذي أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾. (سورة الأنعام، الآية 122).
وأمّا في الآخرة فهو ما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾.( سورة الحديد، الآية 12).
4- سورة العنكبوت، الآية 69.
5- سورة التكاثر، الآيتان:5 ـ 6.
 
94
 

66

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

المفاهيم الرئيسة
- تعدّدت المسالك في معرفة صفاته تعالى بين التشبيه والتعطيل، وكلاهما باطل، إلا أنّ هناك مسلكاً ثالثاً ذهب إلى أنّه من الممكن التعرّف على صفاته سبحانه من طريق التدبّر وعلى ضوء ما أفاض الله سبحانه على عباده من نعمة العقل والفكر.

- وحجّتهم في ذلك أنّ الله سبحانه ما نصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن، فهذا أمر يدعو إليه العقل والكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.

- توجد العديد من الطرق في كيفية التوصّل إلى صفاته تعالى وهي:
1- الطريق العقلي: فإنّه تبارك وتعالى ولكونه غنيّاً عن كلّ ما سواه، وواجب الوجود لذاته، متّصف بجميع صفات الجمال والجلال.

2- المطالعة في الآفاق والأنفس: إنّ مطالعة الكون المحيط بنا، وما فيه من بديع النظام، يكشف عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيّات الكامنة فيه، ونحن عن هذا الطريق نتعرّف على عددٍ من الصفات الثبوتيّة لله تعالى.

3- الرجوع إلى الكتاب والسنّة الصحيحة: لقد ذخرت آيات الكتاب وأحاديث الأنبياء والمعصومين بالحديث عن صفاته تعالى، ونحن بوسيلة هذا الطريق نستطيع أن نتعرّف على كثير من هذه الصفات. 

4- الكشف والشهود: وهو طريق خاصٌّ بثلّة قليلة من الناس وهبها الله تعالى القدرة على معرفة الكثير من الحقائق عن طريق تصفية الباطن.
 

95

67

الدرس السابع: أسماء الله وصفاته

أسـئلـة الـدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- اشرح كيف يمكن من خلال العقل التعرُّف على صفات الله.
2- بيّن طريق الكشف والشهود في التعرّف على صفات الله.
3- عدِّد الآراء في معرفة صفات الله سبحانه وتعالى.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- إنّ الله سبحانه لم ينصّ على أسمائه وصفاته في كتابه وسنّة نبيّه إلّا لكي يتدبّر فيها الإنسان بعقله وفكره في حدود الممكن. 
2- لا يمكن للإنسان التعرّف على الصفات والأسماء الإلهية حتى لو سلك طريق التفكر في النفس. 
3- إذا آمن الإنسان بأن الأنبياء مبعوثون من جانب الله وصادقون في أقوالهم وكلماتهم فيمكن التعرّف على أسمائه وصفاته وأفعاله بما ورد من أقوالهم وكلماتهم. 
4- إذا نظر الإنسان إلى السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقات فلا يعتبر ذلك طريقاً إلى أسماء الله وصفاته. 
5- يعتبر القرآن الكريم والكتب السماوية غير المحرّفة طريقاً واضحاً في التعرّف على أسماء الله وصفاته. 
 
 
96

68

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى التقسيمات الرائجة لصفاته تعالى.
2- يتدبّر في معنى إحدى الصفات الذاتية وهي العلم.
3- يتعرّف إلى دلائل اتّصافه تعالى بصفة العلم بجميع أبعادها.
 
 
97
 

69

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

تقسيمات الصفات الإلهية
ذكروا لصفات الله تعالى تقسيمات عديدة منها:
1- الصفات الجمالية والجلالية:
إذا كانت الصفة مثبتة لجمال ومشيرة إلى واقعية في ذاته تعالى سمّيت "ثبوتية" أو "جمالية" وإذا كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه سمّيت "سلبية" أو "جلالية".
 
فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتية المشيرة إلى وجود كمال وواقعية في الذات الإلهية ولكن نفي الجسمانية والتحيّز والحركة والتغيّـر من الصفات السلبية الهادفة إلى سلب ما هو نقص عن ساحته سبحانه.
 
قال صدر المتألّهين: "إنّ هذين الإصطلاحين (الجمالية) و(الجلالية) قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز، قال سبحانه: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ1.
 
فصفة الجلال ما جلّت ذاته عن مشابهة الغير، وصفة الإكرام ما تكرّمت ذاته بها وتجمّلت، فيوصف بالكمال وينزّه بالجلال"2.


1- سورة الرحمن، الآية 78.
2- صدر الدين الشيرازي، محمد بن ابراهيم، الحكمة المتعالية، ج 6، ص 118.
 
99

70

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

 2- الصفات الخبريّة:
والمراد منها ما ورد توصيفه تعالى بها في الخبر الإلهي من الكتاب والسنّة من العلو وكونه ذا وجه، ويدين، وأعين، إلى غير ذلك من الألفاظ الواردة في القرآن أو الحديث التي لو أُجريت على الله سبحانه بمعانيها المتبادرة عند العرف لزم التجسيم والتشبيه.
 
3- صفات الذات وصفات الفعل:
من جملة التقسيمات التي ذكرها المتكلّمون للصفات الإلهية تقسيم صفاته سبحانه إلى صفة الذات وصفة الفعل، والأوّل: ما يكفي في وصف الذات به، فرض نفس الذات فحسب، كالقدرة والحياة والعلم.
 
والثاني: ما يتوقف توصيف الذات به على فرض الغير وراء الذات وهو فعله سبحانه.

فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل، بمعنى أنّ الذات توصف بهذه الصفات عند ملاحظتها مع الفعل، وذلك كالخلق والرزق ونظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل ومعنى انتزاعها، أنّنا إذ نلاحظ النعم التي يتنعّم بها الناس، وننسبها إلى الله سبحانه، نسمّيها رزقاً رزقه الله سبحانه، فهو رزّاق، ومثل ذلك الرَّحمة والمغفرة فهما يطلقان عليه على الوجه الذي بيّنّاه.
 
ولنشرع بالحديث عن أولى صفات الذّات وهو "العلم".

علمه تعالى
1- ما هو العلم؟
عُرّف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء في الذهن، وهذا التعريف لا يشمل إلاّ العلم الحصولي، مع أنّ هناك قسماً آخر للعلم وهو العلم الحضوري، والفرق بين 
 
 
100

71

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

 القسمين أنّ في العلم الحصولي ما هو حاضر عند العالم وحاصل له هي الصورة المنتزعة من الشيء بأدوات الإحساس، وهذه الصورة الذهنية وسيلة وحيدة لدرك الخارج وإحساسه ولأجل ذلك أصبح الشيء الخارجي معلوماً بالعرض والصورة الذهنية معلومة بالذات، وأمّا العلم الحضوري فهو عبارة عن حضور المدرَك لدى المدرِك من دون توسّط أيّ شيء وذلك كعلم الإنسان بنفسه.
 
على ضوء ما ذكرنا من تقسيم العلم إلى الحصولي والحضوري يصحّ أن يُقال: "إنّ العلم على وجه الإطلاق عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم".
 
وهذا التعريف يشمل العلم بكلا قسميه، غير أنّ الحاضر في الأوّل هو الصورة الذهنية دون الواقعية الخارجية، وفي الثاني نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينها وبين العالم.
 
إذا وقفت على حقيقة العلم، فاعلم أنّ الإلهيين أجمعوا على أنّ العلم من صفات الله الذاتية الكمالية، وأنّ العالم من أسمائه الحسنى، وهذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله، ولكن مع ذلك اختلفوا في حدود علمه تعالى وكيفيته على أقوال، يلزمنا البحث عنها لتحقيق الحال في هذا المجال، فنقول:
 
2- علمه سبحانه بذاته:
قد ذكروا لإثبات علمه تعالى بذاته وجوهاً من البراهين نكتفي بذكر وجهين منها:
 
الأول: مفيض الكمال ليس فاقداً له:
إنّه سبحانه خلق الإنسان العالم بذاته علماً حضورياً، فمعطي هذا الكمال يجب أن يكون واجداً له على الوجه الأتم والأكمل، لأن فاقد الكمال لا يعطيه، ونحن وإن لم نُحط ولن نُحيط بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته، غير إنّا نرمز إلى هذا العلم بـ ‍"حضور ذاته لدى ذاته وعلمه بها من دون وساطة شيء في البين".
 
 
101
 

72

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

الثاني: التجرّد عن المادّة ملاك الحضور:
إنّ ملاك الحضور والشهود العلمي ليس إلا تجرّد الوجود عن المادة، فإنّ الموجود المادّي بما أنّه موجود كمّي ذو أبعاض وأجزاء ليس له وجود جمعي، ويغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر، مضافاً إلى أنّه في تحوّل وتغيّر دائمي، فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنّه مادّي أن يعلم بذاته، لعدم تحقّق ملاك العلم الذي هو حضور شيء لدى آخر. فإذا كان الموجود منزّهاً من المادّة والجزئية والتبعُّض، كانت ذاته حاضرة لديها حضوراً كاملاً، وبذلك نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا، فلو فرضنا موجوداً على مستوى عال من التجرد والبساطة عارياً عن كلّ عوامل الغيبة التي هي من خصائص الكائن المادّي، كانت ذاته حاضرة لديه، وهذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتمّ وجه لتنزّهه عن المادّية والتركُّب والتفرّق.

3- علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها:
إنّ علمه سبحانه بالأشياء على قسمين: علم قبل الإيجاد وعلم بعد الإيجاد. ونستدلّ على القسم الأوّل بوجهين:
الأوّل: العلم بالسّبب علم بالمسبَّب:
إنّ العلم بالسبب والعلّة بما هو سبب وعلّة، علم بالمسبّب، والمراد من العلم بالسّبب والعلّة، العلم بالحيثية التي صارت مبدأ لوجود المعلول وحدوثه، ولتوضيح هذه القاعدة نُمثِّل بمثالين:
أ- إنّ المنجّم العارف بالقوانين الفلكيّة والمحاسبات الكونيّة يقف على أنّ الخسوف والكسوف أو ما شاكل ذلك يتحقّق في وقت أو وضع خاص، وليس علمه بهذه الطوارئ، إلّا من جهة علمه بالعلّة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

ب- إنّ الطبيب العارف بحالات النبض وأنواعه وأحوال القلب وأوضاعه يقدر على التنبّؤ بما سيصيب المريض في مستقبل أيّامه وليس هذا العلم إلّا من جهة علمه بالعلّة من حيث هي علّة.
 
102

73

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

الثاني: إتقان الصنع يدلّ على علم الصانع:
إنّ وجود المعلول كما يدلّ على وجود العلّة، كذلك خصوصيّاته تدلّ على خصوصيّات علّته، فإنّ المصنوع من جهة الترتيب الذي في أجزائه ومن جهة موافقة جميع الأجزاء للغرض المقصود من ذلك المصنوع، يدلّ على أنّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات.
 
فالعالَم بما أنّه مخلوق للّه سبحانه يدلّ ما فيه من بديع الخلق ودقيق التركيب على أنّ خالقه عالم بما خلق، عليم بما صنع، فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ1.
 
وقال الإمام عليّ عليه السلام: "وعَلِمَ ما يمضي وما مضى، مبتدع الخلائق بعلمه ومنشئهم بحكمه"2.
 
وقال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: "سبحان من خلق الخلق بقدرته، أتقن ما خلق بحكمته، ووضع كلّ شيء منه موضعه بعلمه"3.
 
وإلى هذا الدليل أشار المحقّق الطوسي في "تجريد الاعتقاد" بقوله: "والإحكام دليل العلم".
 
4- علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها:
إنّ كل ممكن، معلول في تحققه لله سبحانه، وليس للمعلولية معنى سوى تعلُّق وجود المعلول بعلّته وقيامه بها قياماً واقعياً كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي، فكما أنّ المعني الحرفي بكلّ شؤونه قائم بالمعنى الاسمي فهكذا المعلول قائم بعلّته


1- سورة الملك، الآية 14.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 191.
3- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار ، ج 4، ص 85.
 
103

 

74

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

 المفيضة لوجوده، وما هذا شأنه لا يكون خارجاً عن وجود علّته، إذ الخروج عن حيطته يلازم الاستقلال وهو لا يجتمع مع كونه ممكناً. فلازم الوقوع في حيطته، وعدم الخروج عنها، كون الأشياء كلها حاضرة لدى ذاته والحضور هو العلم، لما عرفت من أنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم. وقد اتضح بما تعرّفت أنّ علمه تعالى بأفعاله بعد إيجادها حضوري، كما أنّ علمه سبحانه بذاته وبأفعاله قبل إيجادها حضوري، فإنّ المناط في كون العلم حضورياً هو حصول نفس المعلوم وحضوره لدى العالم لا حضور صورته وماهيته، وهذا المناط متحقّق في علمه تعالى بذاته وبأفعاله مطلقاً.
 
104
 

75

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

المفاهيم الرئيسة
- تنقسم الصفات الإلهيّة بإحدى التقسيمات إلى صفات الجلال والجمال، أمّا صفات الجلال فتحكي عمّا جلّت ذاته عن الاتصاف به، وأما صفات الجمال فتحكي عمّا تجمّلت ذاته بالاتصاف به.

- من جملة التقسيمات التي ذكرها المتكلّمون للصفات الإلهية تقسيم صفاته سبحانه إلى صفة الذّات وصفة الفعل,
 
والأوّل: ما يكفي في وصف الذّات به، فرض نفس الذّات فحسب، كالقدرة والحياة والعلم.
 
والثاني: ما يتوقّف توصيف الذّات به على فرض الغير وراء الذّات وهو فعله سبحانه.
 
- أجمع الإلهيّون على أنّ العلم من صفات الله الذاتيّة الكمالية، لكن اختلفوا في كيفية علمه وحدوده.

- قد ذكروا لإثبات علمه تعالى بذاته وجوهاً من البراهين منها أنّ مفيض الكمال ليس فاقداً له، ومنها أنّ التجرّد عن المادّة ملاك الحضور.

- إنّ الله عالم بالأشياء قبل إيجادها وبعده. ومن الأدلّة على علمه بالأشياء قبل الإيجاد:
1- العلم بالسبب علم بالمسبَّب.
2- إتقان الصنع يدلّ على علم الصانع.
 
105
 
 

76

الدرس الثامن: الصفات الذاتية (1) (العلم)

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- عدِّد أنواع الصفات الإلهية متحدِّثاً عن الصفات الجمالية والجلالية.
2- اشرح المقصود بالتجرّد عن المادّة ملاك الحضور.
3- ما هو الدليل على علم الله سبحانه وتعالى بالأمور قبل إيجادها؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- الصفات الخبرية وهي التي ورد توصيف الله سبحانه وتعالى بها في الخبر الإلهي من الكتاب والسنّة. 
2- الصفات الذاتية هي الصفات المنتزعة من الذات والتي تكون زائدة عليها. 
3- تنتزع الصفات الفعلية من مقام الفعل وتوصف بها الذات عند ملاحظتها مع الفعل. 
4- لا يشترط في معطي الكمال أن يكون واجداً له على الوجه الأتم والأكمل. 
5- إذا كان علم الله سبحانه وتعالى بذاته وبأفعاله علماً حضورياً مطلقاً فكذلك علمه بالأمور بعد إيجادها.
 
106

77

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يتعرّف إلى بقية صفات الذّات: القدرة والحياة.
2- يبيّن البراهين على اتصافه تعالى بالقدرة والحياة.
3- يتعرّف إلى بعض الشبهات المثارة حول قدرته تعالى والإجابة عنها.
 
107
 

78

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

قدرته تعالى
اتّفق الإلهيون على أنّ القدرة من صفاته الذاتية الكمالية كالعلم، ولأجل ذلك يعدّ القادر والقدير من أسمائه سبحانه.
 
1- تعريف القدرة:
إنّ هناك تعريفين للقدرة مشهورين:
أحدهما: أنّـها عبارة عن صحّة الفعل والترك، والمراد من الصحّة: الإمكان، فالقادر هو الّذي يصحّ أن يفعل وأن يترك.

والثاني: أنّها عبارة عن صدور الفعل بالمشيّة والاختيار، فالقادر من إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
 
2- برهان قدرته تعالى:
استدلّ على قدرته سبحانه بوجوه نكتفي بواحد منها، وهو برهان إحكام الصنع وإتقانه.
 
توضيحه:
أنّه قد عرفت في الأبحاث المتقدّمة أنّ الفعل كما يدلّ على وجود الفاعل، كذلك خصوصياته تدلّ على خصوصيات الفاعل، فإذا كان الفعل متَّسماً بالإحكام والإتقان،
 
109
 
 

79

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

والجمال والبهاء يدلّ ذلك على علم الفاعل بتلك الجهات وقدرته على إيجاد مثل ذلك الصنع.
 
ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه عندما يصف روائع أفعاله وبدائع صنعه في آيات الذكر الحكيم، يختمها بذكر علمه تعالى وقدرته، يقول سبحانه: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا1.
 
فالإحكام والإتقان في الفعل آيتا العلم وعلامتا القدرة، قال الإمام علي عليه السلام: "وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته"2.
 
وقال أيضاً: "وأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته"3.
 
وقال أيضاً: "فأقام من الأشياء أودها، ونهج حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادّها"4.
 
3- سعة القدرة الإلهية:
إنّ الفطرة البشرية تقضي بأنّ الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان في بعض الأحايين قادر على كلّ شيء ممكن، ولا يتبادر إلى الأذهان أبداً ـ لولا تشكيك المشكّكين ـ أنّ لقدرته حدوداً، أو أنّه قادر على شيء دون شيء، ولقد كان المسلمون في الصدر الأوّل على هذه العقيدة استلهاماً من كتاب الله العزيز الناصّ على عمومية قدرة الله سبحانه.


1- سورة الطلاق، الآية 12.
2- نهج البلاغة، خطبة الأشباح، الخطبة: 91.
3- (م. ن)، الخطبة: 165.
4- (م. ن)، الخطبة: 91.
 
110

80

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

قال سبحانه: ﴿وَكَانَ اللّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا1.
 
وقال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا2.
 
كما صرّح بعمومية قدرته تعالى في الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
 
قال الإمام الصادق عليه السلام: "الأشياء له سواء علماً وقدرةً وسلطاناً وملكاً وإحاطةً"3.
 
4- البرهان العقلي على عمومية قدرته تعالى:
إذا تعرّفت على قضاء الفطرة على عموميّة قدرته تعالى ونصّ القرآن والحديث على ذلك، فاعلم أنّ هناك براهين عقلية على ذلك نكتفي بتقرير واحد منها، وهو: إنّ وجوده سبحانه غير محدود ولا متناه، بمعنى أنّه وجود مطلق لا يحدّه شيء من الحدود العقلية والخارجية، وما هو غير متناه في الوجود، غير متناه في الكمال والجمال، لأنّ منبع الكمال هو الوجود، فعدم التناهي في جانب الوجود يلازم عدمه في جانب الكمال، وأيّ كمال أبهى من القدرة، فهي غير متناهية تبعاً لعدم تناهي وجوده وكماله.
 
5- دفع شبهات في المقام:
ثمّ إنّ هناك شبهات، أُوردت على القول بعمومية قدرته تعالى ربما يعسر دفعها على الطالب، يجب أن نذكرها ونبيّن وجه الدفع عنها:


1- سورة الأحزاب، الآية 27.
2- سورة الكهف، الآية 45.
3- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب9، الحديث15.
 
111
 

81

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

1- هل هو سبحانه قادر على خلق مثله؟ فلو أُجيب بالإيجاب لزم افتراض الشريك له سبحانه، ولو أُجيب بالنفي ثبت ضيق قدرته وعدم عمومها.

ويدفع ذلك بأنّه ممتنع فلا يصل الكلام إلى تعلّق القدرة به أو عدمه، والوجه في امتناعه هو لزوم اجتماع النقيضين، أعني: كون شيء واحد واجباً بالذات وممكناً كذلك، فإنّ ذلك المثل بما أنّه مخلوق، يكون ممكناً، وبما أنّه مثل له تعالى، فهو واجب بالذات، وهو محال بالضرورة.
 
2- هل هو قادر على أن يجعل العالم الفسيح في البيضة من دون أن يصغر حجم العالم أو تكبر البيضة؟

 والجواب عنه كسابقه، فإنّ جعل الشيء الكبير في الظرف الصغير أمر ممتنع في حدّ ذاته، إذ البداهة تحكم بأنّ الظرف يجب أن يكون مساوياً للمظروف، فجعل الشيء الكبير في الظرف الصغير يستلزم كون ذلك الظرف مساوياً للمظروف لما يقتضيه قانون مساواة الظرف والمظروف وأن يكون أصغر منه غير مساوٍ له ـ لما هو المفروض ـ وهذا محال وإنّما يبحث عن عمومية القدرة وعدمها بعد فرض كون الشيء ممكناً في ذاته، وإلى هذا أشار الإمام علي عليه السلام في الجواب عن نفس السؤال بقوله: "إنّ الله تبارك وتعالى لا يُنسَب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون" .
 
حياته تعالى
اتّفق الإلهيون على أنّ الحياة من صفاته تعالى، وأنّ الحيّ من أسمائه الحسنى، ولكن إجراء هذا الاسم عليه سبحانه يتوقّف على فهم معنى الحياة وكيفية إجرائها على الله تعالى، فنقول:


 1- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب9، الحديث9. 
 
 
 
112

82

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

1- الدرك والفعل ركنان للحياة:
إنّ الحياة المادّية في النبات والحيوان والإنسان ـ بما أنّه حيوان ـ تقوم بأمرين، هما: الفعّاليّة والدرّاكيّة، فالخصائص الأربع  التي ذكرها علماء الطبيعة راجعة إلى الفعل والانفعال، والتأثير والتأثّر ونرمز لها "بالفعّاليّة"، كما نرمز إلى الحسّ والإدراك المتسالم على وجودهما في أنواع الحيوان، وقد يقال بوجودهما في النبات أيضاً، بـ "الدرّاكيّة" فالحيّ هو الدرّاك والفعّال، كما هو المصطلح عند الفلاسفة الإلهيين.
 
فملاك الحياة الطبيعيّة هو الفعل والدرك، وهو محفوظ في جميع المراتب لكن بتطوير وتكامل، أعني: حذف النواقص والشوائب الملازمة للمرتبة النازلة عن المرتبة العالية، فالفعل المترقب من الحياة العقلية في الإنسان لا يقاس بفعل الخلايا النباتية والحيوانية، كما أنّ درك الإنسان للمسائل الكلية أعلى وأكمل من حسّ النبات وشعور الحيوان ومع هذا البون الشاسع بين الحياتين، تجد أنّا نصف الكلّ بالحياة بمعنى واحد وليس ذاك المعنى الواحد إلاّ كون الموجود "درّاكاً" و"فعالاً".
 
2- ما هو معنى حياته تعالى؟
فإذا صحّ إطلاق الحياة بمعنى واحد على تلك الدرجات المتفاوتة فليصحّ على الموجودات الحيّة العلوية لكن بنحو متكامل، فاللّه سبحانه حيّ بالمعنى الذي تفيده تلك الكلمة، لكن حياة مناسبة لمقامه الأسنى، بحذف النواقص والأخذ بالزّبدة واللّب، فهو تعالى حيّ أي "فاعل" و"مدرك" وإن شئت قلت: "فعّال" و"درّاك" لا كفعاليّة الممكنات ودرّاكيتها.


  1- وهي: الجذب والدفع، النمو والرشد، التوالد والتكاثر، الحركة وردّة الفعل.
 
 
113
 

83

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

3- دلائل حياته تعالى:
قد ثبت بالبرهان أنّه سبحانه عالم وقادر، وقد تقدّم البحث فيه، وقد بيّنا أنّ حقيقة الحياة في الدرجات العلوية، لا تخرج عن كون المتّصف بها درّاكاً وفعّالاً، ولا شكّ أنّ للّه تعالى أتمّ مراتب الدرك والفعل، لأنّ له أكمل مراتب العلم والقدرة، وهما عين ذاته سبحانه، فهو حيّ بحياة ذاتية.
 
أضف إلى ذلك أنّه سبحانه خلق موجودات حيّة، مدركة فاعلة، فمن المستحيل أن يكون معطي الكمال فاقداً له.
 
114
 

84

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

المفاهيم الرئيسة
- اتّفق الإلهيون على أنّ القدرة من صفات الله الذاتية الكمالية، ومن براهين قدرته تعالى: إحكام الصنع وإتقانه.

- إنّ قدرة الله تعالى عامّة واسعة، ومن أدلّة ذلك: أنّ وجوده تعالى غير محدود، وما هو غير محدود في الوجود هو غير متناه في الكمال والجمال، وأيّ كمال أبهى من القدرة.

- قد وردت شبهات على سعة قدرته تعالى، منها: هل هو قادر على خلق مثله؟

- هل هو قادر على أن يجعل العالَم الفسيح في البيضة؟
والجواب: إنّ الأمر الممتنع بذاته لا تتعلّق القدرة به أو بعدمه، وإنّما يبحث عن عموميّة القدرة بعد فرض كون الشيء ممكناً في ذاته. فالقصور في القابل لا الفاعل.
 
- من صفات الله تعالى الثبوتية الحياة، ومن أدلّة حياته: أنّه ثبت كونه تعالى عالماً وقادراً وهذا يعني أنّه درّاك فعّال ـ وهو معنى الحياة ـ. أضف إلى ذلك أنّه خالق للأحياء، وفاقد شيء لا يُعطيه.
 
115
 
 

85

الدرس التاسع: الصفات الذاتية (2) (القدرة، الحياة)

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- ما هو الدليل على وجود القدرة الإلهية المطلقة في الوجود؟
 
2- كيف يمكن الإجابة عن السؤال التالي: هل الله سبحانه قادر على خلق مثله؟ فلو أُجيب بالإيجاب لزم افتراض الشريك له سبحانه، ولو أُجيب بالنفي ثبت ضيق قدرته وعدم عمومها؟
 
3- ما هي الأركان في كون الشيء حياً من الموجودات؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- إذا قلنا بأنّ الله سبحانه وتعالى درّاك وفعّال فلا شك في كون لديه الحياة بأتم وأعلى المراتب العلوية. 
2-الاعتقاد بكون الله سبحانه وتعالى قادراً يعني قدرته على فعل كل شيء ولو كان ذلك الشيء ممتنع الحصول والتحقّق بذاته. 
3- إنّ عدم التناهي في جانب الوجود لله عزّ وجلّ يلازم عدمه في جانب الكمال والجمال فالقدرة غير متناهية تبعاً لعدم تناهي وجوده وكماله. 
4- إن الأشياء تختلف لله سبحانه وتعالى من حيث العلم والقدرة والسلطنة والملك والإحاطة فبعضها علمه بها أشد وقدرته أضعف. 
5-إذا كان الفعل متَّسماً بالإحكام والإتقان من جميع جهاته يدلّ ذلك على علم الفاعل بتلك الجهات وقدرته على إيجاد مثل ذلك الصنع.
 
 
116

86

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى حقيقة كلامه تعالى.
2- يتعرّف إلى القول الصحيح في مسألة حدوث الكلام الإلهي أو قدمه.
3- يستدلّ على اتّصافه تعالى بالحكمة.
 
 
116
 

 


87

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

تمهيد
إنّ صفات الله تعالى الفعلية التي تنتزع من مقام فعله سبحانه كثيرة، والّذي نخصّه بالبحث هنا ثلاث صفات هي: التكلّم والحكمة والصدق، فنقول:
 
التكلّم
أجمع المسلمون تبعاً للكتاب والسنّة على كونه سبحانه متكلّماً، ولكنّهم اختلفوا في أمرين:
أـ تفسير حقيقة كلامه تعالى، وما هو المراد منه.
ب ـ حدوثه وقدمه.
 
لقد شغلت هذه المسألة بال العلماء والمفكّرين الإسلاميّين في عصر الخلفاء، وحدثت بسببه مشاجرات بل صدامات دامية مذكورة في التاريخ تفصيلاً، وعرفت بـ "محنة القرآن" فيلزمنا البحث والتحليل حول ذينك الأمرين على ضوء العقل والقرآن والنقل المعتبر فنقول:
1- الأقوال في تفسير كلامه تعالى:
أـ نظرية المعتزلة: وهو أنّ كلامه تعالى عبارة عن أصوات وحروف غير قائمة بالله تعالى قياماً حلولياً أو عروضياً، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل أو النبيّ أو غير ذلك.
 
119
 
 

88

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

قال القاضي عبد الجبار: "حقيقة الكلام الحروف المنظومة، والأصوات المقطّعة، وهذا كما يكون منعماً بنعمة توجد في غيره، ورازقاً برزق يوجد في غيره، فهكذا يكون متكلّماً بإيجاد الكلام في غيره وليس من شرط الفاعل أن يحلّ عليه فعل"1.
 
وهذا المعنى من الكلام هو الّذي يسمّى بالكلام اللفظي وهو من صفات فعله تعالى، حادث بحدوث الفعل.
 
ب- نظرية الأشاعرة: يظهر من مؤلّف المواقف2 أنّ الأشاعرة معترفون بما ذكره المعتزلة وبأنّ الكلام بهذا المعنى حادث، ولكنّهم يدّعون معنى آخر وراءه ويسمّونه بالكلام النفسي.
 
قال الفاضل القوشجي في تفسير الكلام النفسي: "إنّ من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك يجد في نفسه معاني يعبّـر عنها بالألفاظ التي نسمّيها بالكلام الحسّي، فالمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده، لا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبه، هو الّذي نسمّيه الكلام النفسي"3.
 
ويلاحظ على هذا المعنى من الكلام ـ على فرض ثبوته ـ أنّه يكون بذلك من صفات ذاته تعالى وقديم بقدم الذات، وليس أمراً وراء العلم التصوّري أو التصديقي.
 
ج- نظريّة الحكماء: ذهبت الحكماء إلى أنّ لكلامه سبحانه مفهوماً أوسع ممّا ذكره المعتزلة من الكلام اللفظي، بل كلامه تعالى مساوق لفعله سبحانه فكلّ موجود كما هو فعله ومخلوقه، كذلك كلامه تعالى ونسمّيه بـ "الكلام الفعلي".


1- عبد الجبار المعتزلي،شرح الأصول الخمسة، ص528 .
2- الشريف الجرجاني، شرح المواقف، ج 8، ص 93.
3- القوشجي، شرح التجريد، ص 319.
 
 
120

89

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

توضيح ذلك: إنّ الغرض المقصود من الكلام اللفظي ليس إلّا إبراز ما هو موجود في نفس المتكلّم ومستور عن المخاطب والسامع، فالكلام ليس إلّا لفظاً دالّاً على المعنى الذي تصوّره المتكلّم وأراد إيجاده في ذهن السامع، فحقيقة الكلام هي الدلالة والحكاية، ولا شكّ أنّ الفعل كما يدلّ على وجود فاعله فهكذا خصوصياته الوجودية دالّة على خصوصيات فاعله الوجودية، وليس الفرق بين دلالة اللفظ على المعنى ودلالة الفعل على الفاعل، إلّا أنّ دلالة الأوّل وضعية اعتبارية، ودلالة الثاني تكوينية عقلية، والدلالة التكوينية العقلية أقوى من الدلالة اللفظية الوضعيّة.
 
وعلى هذا، فكلّ فعل من المتكلّم أفاد نفس الأثر الذي يفيده الكلام، من إبراز ما يكتنفه الفاعل في سريرته من المعاني والحقائق، يصحّ تسميته كلاماً من باب التوسُّع والتطوير.
 
2- كلامه تعالى في القرآن والحديث:
إنّ لكلامه تعالى في القرآن الكريم معاني أو مصاديق أربعة نشير إليها:
 
أـ الكلام اللفظي:
قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ1.
 
دلّت الآية الكريمة على أنّه تعالى نادى نبيه موسى عليه السلام وكلّمه من طريق الشجرة، إمّا بإيجاد الكلام فيها، بأن يكون الكلام قائماً بها كقيام الكلام بالمتكلّم منّا، كما قال به بعضهم ـ أو بأخذها حجاباً، احتجب سبحانه به وكلّمه من ورائه2.


1- سورة القصص، الآية 30.
2- لمزيد من التفصيل راجع السيد الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج16، ص32.
 
121
 

90

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

 ب- الكلام بالإيحاء:
وهو إلقاء المعنى فقط أو اللفظ والمعنى معاً في روع الأنبياء وغيرهم من الأولياء الإلهيين، إمّا بلا واسطة أو معها، قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ1.
 
فقوله: ﴿إِلَّا وَحْيًا إشارة إلى الإيحاء بلا واسطة، وقوله: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا إشارة إلى الإيحاء بواسطة ملك الوحي كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ2.
 
كما أنّ قوله: ﴿أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ إشارة إلى الكلام اللفظيّ المسموع كما تقدّم.
 
فترى أنّه سبحانه أطلق لفظ الكلام على الوحي بقسميه، وعدَّ إيحاءه سبحانه، تكليماً له، فالوحي كلامه والإيحاء تكليمه.
 
ج- نفس وجود الأشياء:
هناك آيات تدلّ على أنّ وجود الأشياء كلام له تعالى، ترى أنّه تعالى يصف المسيح عليه السلام بأنّه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم العذراء، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ3.
 
د- القضاء والحكم الإلهي:
قد استُعملت "الكلمة" في كثير من الآيات فيما قاله تعالى وحكم به، كقوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ4.


1- سورة الشورى، الآية 51.
2- سورة الشعراء، الآيتان 193 - 194.
3- سورة النساء، الآية 171.
4- سورة الأعراف، الآية 137.
 
122
 

91

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

وقوله: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ1.
 
وقوله: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ2.
 
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المجال.
 
وقد فسّر الإمام عليّ عليه السلام قوله تعالى بفعله الذي يُنشئه ويُمثّله، حيث قال: "يقول لمن أراد كونه كن فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله"3.
 
فتحصّل بذلك، أنّ كلامه سبحانه في القرآن لا ينحصر في الكلام اللفظي، كما لا يكون منحصراً في الكلام الفعلي، بل هناك قسمان آخران سمّيا بالكلام، أحدهما: الوحي، وثانيهما: قضاؤه تعالى وحكمه، نعم يمكن إرجاع هذين القسمين إلى الكلام الفعلي، بلحاظ أنّ الإيحاء والقضاء أيضاً من أفعاله سبحانه.
 
وبذلك يظهر أنّ الصواب من الآراء المتقدّمة هو نظريّة الحكماء، وأمّا نظرية المعتزلة فهي غير منطبقة على جميع مصاديق كلامه سبحانه وإنّما هو قسم قليل منه. وأمّا نظرية الأشاعرة فليس لها أثر في الكتاب العزيز.
 
3- كلامه سبحانه حادث أم قديم؟
من المسائل التي اختلفت فيها كلمات المتكلّمين، مسألة حدوث كلامه تعالى أو قدمه، ويمكن إرجاع هذه المسألة إلى القرن الثاني وقد يقال إنّ أوّل من قال بكون القرآن مخلوقاً هو "جعد بن درهم" وبقيت في طيّ الكتمان إلى زمن المأمون، وإليك دراسة الآراء وتطوّرها في المسألة:


1- سورة يونس، الآية 33.
2- سورة يونس، الآية 19.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 186.
 
123
 

92

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

أ- نظرية أهل الحديث والحنابلة:
أوّل من أكّد القول بعدم حدوث القرآن وعدم كون كلامه تعالى مخلوقاً وأصرّ عليه، أهل الحديث، وفي مقدّمتهم "أحمد بن حنبل" فإنّه الذي أخذ يروّج فكرة عدم خلق القرآن ويدافع عنها بحماس، متحمّلاً في سبيلها من المشاقّ ما هو مسطور في كتب التاريخ.
 
ب- نظرية المعتزلة:
قد تبنَّت المعتزلة القول بخلق القرآن وانبروا يدافعون عنه بشتّى الوسائل، ولمّا كانت الخلافة العباسية في عصر المأمون ومن بعده إلى زمن الواثق بالله، تؤيّد حركة الاعتزال وآراءها، استعان المعتزلة من هذا الغطاء، وقاموا باختبار علماء الأمصار الإسلامية في هذه المسألة، وكانت نتيجة هذا الامتحان أن أجاب جميع الفقهاء في ذلك العصر بنظرية الخلق، ولم يمتنع إلّا نفر قليل على رأسهم أحمد بن حنبل.
 
ج- نظرية الشيخ الأشعري:
أوّل ما أعلنه الشيخ الأشعري في هذا المجال هو القول بعدم كون القرآن مخلوقاً حيث قال: "ونقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر"1.
 
ولكنّه رأى أنّ القول بقدم القرآن المقروء والملفوظ شيئاً لا يقبله العقل السليم، فجاء بنظرية جديدة أصلح بها القول بعدم خلق القرآن والتجأ إلى أنّ المراد من كلام الله تعالى ليس القرآن المقروء بل الكلام النفسي.


1- الأشعري، الإبانة، ص 21، ولاحظ الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص 321.
 
 
 
124
 

93

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

 4- دلالة القرآن على حدوث كلامه تعالى:
صرّح القرآن الكريم بحدوث كلامه تعالى ـ أعني: القرآن ـ في قوله سبحانه: ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ1.
 
والمراد من "الذكر" هو القرآن نفسه لقوله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ2.
 
وقوله سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ3.
 
والمراد من "محدث" هو الجديد وهو وصف "للذكر" ومعنى كونه جديداً أنّه أتاهم بعد الإنجيل، كما أنّ الإنجيل جديد، لأنّه أتاهم بعد التوراة، وكذلك بعض سور القرآن وآياته ذكر جديد بالنسبة للآيات السابقة. وليس المراد كونه محدثاً من حيث نزوله، بل المراد كونه محدثاً بذاته بشهادة أنّه وصف لـ "ذكر"، فالذكر بذاته محدَث لا بنزوله.
 
5- موقف أهل البيت عليهم السلام:
إنّ تاريخ البحث وما جرى على الفريقين من المحن، يشهد بأنّ التشدّد فيه لم يكن لإحقاق الحقّ وإزاحة الشكوك بل استغلّت كلّ طائفة تلك المسألة للتنكيل بخصومها، فلأجل ذلك نرى أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام منعوا أصحابهم من الخوض في تلك المسألة، فقد سأل الريّان بن الصلت الإمام الرضا عليه السلام وقال له: ما تقول في القرآن؟


1- سورة الأنبياء، الآية 2.
2- سورة الحجر، الآية 9.
3- سورة الزخرف، الآية 44.
 
125
 

94

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

فقال عليه السلام: "كلام الله لا تتجاوزوه، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا"1.
 
فإنّا نرى أنّ الإمام عليه السلام يبتعد عن الخوض في هذه المسألة لما رأى من أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام، وأنّ الاكتفاء بأنّه كلام الله أحسم لمادّة الخلاف.
 
ولكنّهم عليهم السلام عندما أحسّوا بسلامة الموقف، أدلوا برأيهم في الموضوع، وصرّحوا بأنّ الخالق هو الله سبحانه وغيره مخلوق، والقرآن ليس نفسه سبحانه وإلّا يلزم اتحاد المنزِل والمنزَل، فهو غيره، فيكون لا محالة مخلوقاً.
 
فقد روى عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه كتب إلى بعض شيعته ببغداد: "وليس الخالق إلّا الله عزّ وجلّ وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين"2.
 
الحكمة
من الصفات الفعلية الحكمة وهي تطلق على معنيين:
أحدهما: كون الفعل في غاية الإحكام والإتقان، وغاية الإتمام والإكمال.
وثانيهما: كون الفاعل لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب.
 
ويمكن الاستدلال على حكمته تعالى بمعنى إتقان فعله وتدبيره بوجهين:
1- التدبّر في نظام الكون وبدائعه:
أوضح دليل على أنّه تعالى حكيم بهذا المعنى، التدبّر في نظام الكون وبدائعه، فانّ الناظر يرى أنّ العالم خلق على نظام في غاية البداعة والإحكام، وأنّ كلّ نوع خلق بأفضل صورة تناسبه وجهّز بكلّ ما يحتاج إليه من أجهزة تهديه في حياته وتساعده على السير إلى الكمال، وإن شئت فانظر إلى الأشياء المحيطة بك ممّا هو من مظاهر حكمته تعالى.


1- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب 30، الحديث 2.
2- (م.ن)، الحديث 4.
 
 
126

95

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

فلاحظ القلب وهو مضخّة الحياة التي لا تكلّ عن العمل فإنّه ينبض يوميّاً ما يزيد على مائة ألف مرّة، يضخّ خلالها ثمانية آلاف لتر من الدم وبمعدّل وسطي يضخّ ستة وخمسين مليون غالون على مدى حياة الإنسان، فترى هل يستطيع محرّك آخر للقيام بمثل هذا العمل الشاقّ لمثل تلك الفترة الطويلة من دون حاجة لإصلاح...؟
 
وأمثال ذلك الكثير ممّا لا تستوعبه الكتب.
 
إنّ معطيات العلوم الطبيعية عمّا في الكون أفضل دليل على وجود الحكمة الإلهية في الفلكيات والأرضيات.
 
2- مناسبة الفعل لفاعله:
إنّ أثر كلّ فاعل يناسب واقع فاعله ومؤثره فهو كظلّ يناسب ذا الظلّ، فالفاعل الكامل من جميع الجهات يكون مصدراً لفعل كامل وموجود متوازن أخذاً بقاعدة مشابهة الظلّ لذي الظلّ، وقد استعملت الحكمة بهذا المعنى في كلمات الإمام علي عليه السلام حيث قال: "...وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته... وظهرت في البدائع التي أحدثتها آثار صنعته وأعلام حكمته...قدّر ما خلق فأحكم تقديره ودبّره فألطف تدبيره ـ إلى أن قال: ـ بدايا خلائق أحكم صنعها وفطرها على ما أراد وابتدعها"1.
 
وأمّا البحث عن حكمته تعالى، بالمعنى الثاني فسيجيء عند البحث عن عدله سبحانه فانتظره.


1- نهج البلاغة، الخطبة: 91.
 
127
 

96

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

المفاهيم الرئيسة
- إنّ صفات الله الثبوتيّة الفعلية كثيرة، منها التكلُّم والحكمة.

- الأقوال في تفسير كلامه تعالى ثلاثة: المعتزلة: القائلون بأنّ كلامه تعالى عبارة عن أصوات غير قائمة بالله تعالى بل يخلقها في غيره. الأشاعرة: القائلون بالكلام النفسي. الحكماء: القائلون بأنّ كلامه تعالى له مفهوم أوسع من الكلام اللفظي وهو يساوق الكلام الفعلي. 

- إنّ لكلام الله تعالى في القرآن الكريم مصاديق أربعة: الكلام اللفظي، الكلام بالإيحاء، نفس وجود الأشياء، القضاء والحكم الإلهي.

- من المسائل التي اختلفت فيها كلمات المتكلّمين، مسألة حدوث كلامه تعالى أو قدمه. وفيها عدّة نظريات منها: نظرية أهل الحديث والحنابلة القائلون بعدم حدوث القرآن الكريم، ونظرية المعتزلة: القائلون بحدوث القرآن، ونظرية الأشاعرة: القائلون بالكلام النفسي.

- اتّخذ أهل البيت عليهم السلام موقف القرآن الكريم في هذه المسألة وأكّدوا على حدوث كلامه تعالى. فعن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "وليس الخالق إلّا الله عزّ وجلّ وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين".

- من صفات الله تعالى الفعلية الصدق وعدم الكذب، فإنّ الكذب قبيح والله تعالى منزّه عن فعل القبيح.

- من صفات الله تعالى الفعلية الحكمة، وهي على معنيين:
1- كون الفعل في غاية الإحكام والإتقان.
2- كون الفاعل لا يفعل قبيحاً ولا يخلّ بواجب
 
- يستدل على الحكمة بالمعنى الأوّل: بالتدبّر في نظام الكون وبدائعه، وبمناسبة الفعل لفاعله.
 
128
 

97

الدرس العاشر: الصفات الفعلية (التكلّم، الحكمة)

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- كيف يمكن الاستدلال من خلال مناسبة الفعل لفاعله على الحكمة الإلهية؟
2- ما هو موقف أهل البيت عليهم السلام بشأن مسألة كون كلام الله سبحانه وتعالى حادث أم قديم؟
3- من معاني كلام الله في القرآن الكريم والحديث القضاء والحكم، اشرح ذلك.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- فسّر المعتزلة كلامه تعالى بأنه عبارة عن أصوات وحروف غير قائمة بالله تعالى قياماً حلولياً أو عروضياً، بل يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبرائيل أو غير ذلك. 

2- لا يمكن الاستفادة من معطيات العلوم الطبيعية في الاستدلال على وجود الحكمة الإلهية في الكون. 

3- كلام الله سبحانه وتعالى هو عبارة عن مساوقة الكلام لفعله فكلّ موجود كما هو فعله ومخلوقه، كذلك كلامه تعالى. 

4- لا يمكن اعتبار نفس وجود المخلوقات تفسيراً لكلام الله لأنها أمور لها علاقة بالفعل الإلهي وليس بالكلام الإلهي. 

5- إذا تدبّر الإنسان في نظام الكون وبدائعه فإنّه يدرك حكمة الخالق في إبداع الكون وتصويره.
 
 
129
 

98

الدرس الحادي عشر: الصفات الخبريّة

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى الصفات الخبرية.
2- يطّلع على الأقوال في معنى اتّصافه تعالى بالصفات الخبرية.
3- يتعرّف إلى المعيار والميزان في اتّصافه تعالى بالصفات الخبريّة.
 
131
 
 
 

99

الدرس الحادي عشر: الصفات الخبريّة

الصفات الخبريّة
قسّم بعض المتكلّمين صفاته سبحانه إلى ذاتيّة وخبريّة، والمراد من الأولى أوصافه المعروفة من العلم والقدرة والحياة، والمراد من الثانية ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث له سبحانه من العلو والوجه واليدين إلى غير ذلك، وقد اختلفت آراء المتكلّمين في تفسير هذا القسم من الصفات إلى أقوال:
 
الأوّل: الإثبات مع التكييف والتشبيه
زعمت المجسِّمة والمشبِّهة أنّ للّه سبحانه عينين ويدين مثل الإنسان.
 
قال الشهرستاني:
"أمّا مشبِّهة الحشويّة... أجازوا على ربِّهم الملامسة والمصافحة وأنّ المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة، إذا بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حدّ الإخلاص"1.
 
وبما أنّ التشبيه والتجسيم باطل بالعقل والنقل فلا نبحث حول هذه النظرية.


1- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص 105.
 
133

100

الدرس الحادي عشر: الصفات الخبريّة

الثاني: الإثبات بلا تكييف ولا تشبيه
إنّ الشيخ الأشعري ومن تبعه يجرون هذه الصفات على الله سبحانه بالمعنى المتبادر منها في العرف، لكن لأجل الفرار عن التشبيه يقولون "بلا تشبيه ولا تكييف".
 
يقول الأشعري في كتابه (الإبانة): إنّ لله سبحانه وجهاً بلا كيف، كما قال: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ1. وإنّ له يدين بلا كيف، كما قال: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ2.3
 
وقد نقل هذه النظرية عن أبي حنيفة والشافعي وابن كثير[4]. وحاصل هذه النظرية أنّ له سبحانه هذه الحقائق لكن لا كالموجودة في البشر، فله يد وعين، لا كأيدينا وأعيننا وبذلك توفّقوا - على حسب زعمهم - في الجمع بين ظواهر النصوص ومقتضى التنزيه.
 
إن القول بأنّ لله يداً لا كأيدينا، أو وجهاً لا كوجوهنا، وهكذا سائر الصفات الخبرية أشبه بالألغاز فاستعمالها في المعاني الحقيقية وإثبات معانيها على الله سبحانه بلا كيفية أشبه بكون حيوان أسداً حقيقة ولكن بلا ذنب ولا مخلب ولا ناب ولا....
 
وإبراز العقيدة الإسلامية بصورة الإبهام والألغاز كما في هذه النظرية كإبرازها بصورة التشبيه والتجسيم المأثور من اليهودية والنصرانية كما في النظرية الأولى، لا يجتمع مع موقف الإسلام والقرآن في عرض العقائد على المجتمع الإسلامي.
 
وممّن خالف هذه النظرية منهم أبو حامد الغزالي، وحاصل ما ذكره في نقدها أنّ هذه الألفاظ التي تجري في العبارات القرآنية والأحاديث النبوية لها معان ظاهرة 


1- سورة الرحمن، الآية 27.
2- سورة ص، الآية 75.
3- الابانة، ص18، نقله في الالهيات, تقرير بحث الشيخ السجاني، الشيخ حسن مكي، ص318 .
[4] راجع: علاقة الإثبات والتفويض،: ص 46 - 49.
 
134

101

الدرس الحادي عشر: الصفات الخبريّة

وهي الحسية التي نراها، وهي محالة على الله تعالى، ومعانٍ أخرى مجازية مشهورة يعرفها العربي من غير تأويل ولا محاولة تفسير، فإذا سمع اليد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله خمَّر آدم بيده، وإنّ قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمان" فينبغي أن يُعلَم أنَّ هذه الألفاظ تطلق على معنيين:
أحدهما - وهو الوضع الأصلي -: هو عنصر مركب من لحم وعظم وعصب.
والثاني: استعارة هذا اللفظ، أعني: اليد ، لمعنى آخر ليس هذا المعنى بجسمٍ أصلاً، كما يقال: "البلدة في يد الأمير". فإنّ ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد.
 
فعلى العامّي وغير العامّي أن يتحققا قطعاً ويقيناً أنَّ الرسول لم يُرد بذلك جسماً، وأنّ ذلك في حق الله محال، فإن خطر بباله أنّ الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم، فإنّ كل جسم مخلوق وعبادة المخلوق كفر وعبادة الصنم كانت كفراً لأنه مخلوق1.
 
الثالث: التفويض
ذهب جمع من الأشاعرة وغيرهم إلى إجراء هذه الصفات على الله سبحانه مع تفويض المراد منها إليه.
 
قال الشهرستاني: "إنَّ جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤوّلون ذلك، إلا أنّهم يقولون إنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. ومثل قوله: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له وذلك قد أثبتناه"2.


1- لاحظ: إلجاء العوام.
2- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص92 - 93.
 
 
135
 

102

الدرس الحادي عشر: الصفات الخبريّة

وإلى هذا القول جنح الفخر الرازي وقال: "هذه المتشابهات يجب القطع بأنّ مراد الله منها شيء غير ظواهرها كما يجب تفويض معناها إلى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها"[1].
 
ولكن يلاحظ على مقالتهم هذه أنّ الآيات المشتملة على الصفات الخبرية وإن كانت في بادىء الرأي من المتشابهات، لكنّها تصير محكمة بعد إرجاعها إلى المحكمات.
 
الرابع: التأويل
إنّ العدليّة من المتكلّمين هم المشهورون بهذه النظرية حيث يفسّرون اليد بالنعمة والقدرة، والاستواء بالاستيلاء وإظهار القدرة.
 
أقول: إنّ الظاهر على قسمين: الظاهر الحرفي والظاهر الجُمَلي، فإنّ اليد مثلاً مفردة ظاهرة في العضو الخاص، وليست كذلك فيما إذا حفّت بها القرائن، فإنّ قول القائل في مدح إنسان إنّه "باسط اليد"، أو في ذمّه "قابض اليد" ليس ظاهراً في اليد العضوية التي أسميناها بالمعنى الحرفي، بل ظاهر في البذل والعطاء أو في البخل والإقتار وربما يكون مقطوع اليد، وحمل الجملة على غير ذلك المعنى، حمل على غير ظاهرها.
 
وعلى ذلك يجب ملاحظة كلام المؤوِّلة فإن كان تأويلهم على غرار ما بيّناه فهؤلاء ليسوا بمؤوِّلة بل هم مقتفون لظاهر الكتاب والسنّة، ولا يكون تفسير الكتاب العزيز - على ضوء القرائن الموجودة فيه - تأويلاً وإنّما هو اتّباع للنصوص والظواهر، وإن كان تأويلهم باختراع معان للآيات من دون أن تكون في الآيات قرائن متصلة أو منفصلة دالّة عليها فليس التأويل - بهذا المعنى - بأقلّ خطراً من الإثبات المنتهي إمّا إلى


1- الفخر الرازي، أساس التقديس، ص 223.
 
136
 

103

الدرس الحادي عشر: الصفات الخبريّة

 التجسيم أو إلى التعقيد والإبهام.

وعلى ضوء ما قرّرنا من الضابطة والميزان، تقدر على تفسير ما ورد في التنزيل من الوجه1 والعينوالجنب3 والمجيء3 والفوقية5 والعرش6 والاستواء7 وما يشابهها، من دون أن تمسّ كرامة التنزيه، ومن دون أن تخرج عن ظواهر الآيات بالتأويلات الباردة غير الصحيحة.


1- ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (سورة القصص، الآية 88).
2- ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ (سورة هود، الآية 37).
3- ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ﴾ ( سورة الزمر، الآية 56).
4- ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ (سورة الفجر، الآية 22). ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ (سورة النحل، الآية 26).
5- ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (سورة الفتح، الآية 10).
6- ﴿قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً﴾ (سورة الإسراء، الآية 42).
7- ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (سورة طه، الآية 5).
 
137
 
 
 

104

الدرس الحادي عشر: الصفات الخبريّة

المفاهيم الرئيسة
الصفات الخبرية هي ما أثبتته ظواهر الآيات والأحاديث له سبحانه من العلو والوجه واليدين إلى غير ذلك. وقد اختلفت آراء المتكلِّمين في تفسير هذه الصفات إلى أقوال:
الأوّل: الإثبات مع التكييف والتشبيه للمجسِّمة والمشبِّهة.
 
الثاني: الإثبات بلا تكييف ولا تشبيه (الشيخ الأشعري).
 
الثالث: الإثبات ولكن مع التفويض أي تفويض المراد من هذه الصفات إلى الله تعالى (بعض الأشعرية).
 
الرابع: التأويل (العدلية). كتفسيرهم اليد بالنعمة والقدرة، والاستواء بالاستيلاء وإظهار القدرة.
 

 138
 

105

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الصفات السلبيّة.
2- يُتقن الأدلّة على اتّصافه تعالى بالصفات السلبية.
3- يطّلع على النزاع في مسألة إمكان الرؤية واستحالتها والصحيح فيها.
 
141
 

106

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

الصفات السلبيّة
الصفة السلبية ما تفيد معنى سلبياً، لكن الله تعالى لا يجوز سلب كمال من الكمالات عنه لكونه مبدأ كل كمال، فصفاته السلبية ما دلّ على سلب النقص والحاجة، كمن ليس بجاهل، وليس بعاجز، ولمّا كان معنى النقص والحاجة في معنى سلب الكمال كانت الصفة السلبية المفيدة لسلب النقص، راجعة إلى سلب واحد وهو سلب النقص والاحتياج ولقد أجاد الحكيم السبزواري في المقام حيث قال:
وَوَصْفُهُ السَّلْبيُّ سَلْبُ السَّلْبِ         جا في سَلْــبِ الاحتيـاجِ كُلاً أدْرِجا

وقد تقدّم الكلام حول بعض هذه الصفات، كنفي الشريك والتركيب والصفات الزائدة على الذّات في مباحث التوحيد، ونبحث الآن عن غيرها فنقول:
1- ليس بجسم:
الجسم ـ على ما نعرف له من الخواص ـ هو ما يشتمل على الأبعاد الثلاثة من الطول والعرض والعمق، وهو ملازم للتركيب، والمركب محتاج إلى أجزائه والمحتاج لا يكون واجب الوجود بالذّات.
 
143

107

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

 2- ليس في جهة ولا محلّ:
وقد تبيّن استغناؤه عنهما ممّا ذكرنا من الدليل على نفي الجسمية، فإنّ الواقع في جهة أو محلّ لا يكون إلّا جسماً أو جسمانياً.

3- ليس حالاً في شيء:
إنّ المعقول من الحلول قيام موجود بموجودٍ آخر على سبيل التبعيّة، وهذا المعنى لا يصحّ في حقّه سبحانه لاستلزامه الحاجة وقيامه في الغير.
 
4- ليس متِّحداً مع غيره:
حقيقة الاتحاد عبارة عن صيرورة الشيئين المتغايرين شيئاً واحداً، وهو مستحيل في ذاته، فضلاً عن استحالته في حقّه تعالى، فإنّ ذلك الغير بحكم انحصار واجب الوجود في واحد، ممكن، فبعد الاتحاد إمّا أن يكونا موجودين فلا اتحاد، أو يكون واحد منهما موجوداً والآخر معدوماً، والمعدوم إمّا هو الممكن، فيلزم الخلف وعدم الاتحاد، أو الواجب فيلزم انعدام الواجب وهو محال.
 
5- إنّه تعالى ليس بمرئيّ:
اتّفقت العدلّية على أنّه تعالى لا يُرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأمّا غيرهم فالكراميّة والمجسِّمة الذين يصفون الله سبحانه بالجسم ويثبتون له الجهة، جوَّزوا رؤيته بلا إشكال في الدارين، وأهل الحديث والأشاعرة ـ مع تحاشيهم عن إثبات الجسميّة والجهة له سبحانه ـ قالوا برؤيته يوم القيامة وأنّ المؤمنين يرونه كما يُرى القمر ليلة البدر، وتحقيق الكلام في هذا المجال رهن دراسة تحليلية حول أُمور ثلاثة:
 
تحديد محلّ النزاع في الرؤية؟
الرؤية التي هي محلّ الاستحالة والمنع عند العدلية هي الرؤية البصرية بمعناها الحقيقي، لا ما يعبّر عنه بالرؤية القلبية كما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام والشهود العلمي
 
 
144
 

108

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

التام في مصطلح العرفاء، وهذا المعنى من الرؤية هو الظاهر من كلام الشيخ الأشعري حيث قال: "وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"1.
 
ولكنّ المتأخّرين من الأشاعرة لمّا رأوا أنّ القول بجواز الرؤية بالأبصار تستحيل في حقّه تعالى، حاولوا تصحيح مقولتهم بوجوه مختلفة لا تسلم جميعها من النقد والإيراد2.
 
أدلّة امتناع رؤيته تعالى
يدلّ على امتناع الرؤية وجوه منها:
1- إنّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً – كالجسم - أو في حكم المقابل ـ كالصورة في المرآة ـ والمقابلة وما في حكمها إنّما تتحقّق في الأشياء ذوات الجهة، والله منزّه عنها فلا يكون مرئياً، وإليه أشار مؤلّف الياقوت بقوله: "ولا يصحّ رؤيته، لاستحالة الجهة عليه"3.
 
2- إنّ الرؤية لا تتحقّق إلّا بانعكاس الأشعَّة من المرئي إلى أجهزة العين، وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذا أبعاد.
 
3- إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الذّات كلِّها أو على بعضها، فعلى الأوّل يلزم أن يكون المرئي محدوداً متناهياً، وعلى الثاني يلزم أن يكون مركّباً ذا أجزاء وأبعاض والجميع مستحيل في حقِّه تعالى.


1- الأشعري، الإبانة، ص 21.
2- لمزيد من التفصيل راجع الشيخ جعفر السبحاني، "محاضرات في الإلهيات"، ص142 - 143.
3- العلّامة الحلّي، أنوار الملكوت، ص82.
 
145

109

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

أدلّة القائلين بالجواز
من جملة ما استدَلّ به القائلون بالجواز التمسّك بآيات من الكتاب العزيز منها:
1- قوله تعالى حكاية عن النبي موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ1.

وجه الاستدلال: إنّ الرؤية لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى جهلاً أو عبثاً2.

والجواب عنه: إنّ التدبّر في مجموع ما ورد من الآيات في القصة يدلّنا على أنّ موسى عليه السلام ما كان طلب الرؤية إلّا لتبكيت قومه عندما طلبوا منه أن يسأله الرؤية لنفسه، حتى تحلّ رؤيته للّه مكان رؤيتهم، وذلك بعدما سألوه أن يريهم الله جهرة لكي يؤمنوا بأنّ الله كلّمه، فأخذتهم الصاعقة، فطلب الكليم منه سبحانه أن يحييهم، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم، فلربما قالوا: إنّك لم تكن صادقاً في قولك إنّ الله يكلّمك، ذهبت بهم فقتلتهم، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه، وإليك الآيات الواردة في القصّة:
أ- ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ3.
 
ب- ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ4.
 
ج- ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا5.

 

 
د- ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ6.


1- سورة الأعراف، الآية 143.
2- المحقّق نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصل، ص 320.
3- سورة البقرة، الآية 55.
4- سورة النساء، الآية 153.
5- سورة الأعراف، الآية 155.
6- سورة الأعراف، الآية 143.
 
146
 

110

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

 فالآيتان الأولى والثانية تدلّان على أنّ أهل الكتاب طلبوا من موسى أن يسأل من الله تعالى أن يُريهم ذاته، فاستحقّوا بسؤالهم هذا العذاب والدمار فأخذتهم الصاعقة، والآية الثالثة تدلّ على أنّ الذين اختارهم موسى لميقات ربّه أخذتهم الرجفة، ولم تأخذهم إلّا بما فعلوه من السفاهة، والظاهر أنّ المراد منها هو سؤال الرؤية المذكور في الآيتين المتقدمتين، والمقصود من الرجفة، هي رجفة الصاعقة، كما عبّر عن هلاك قوم صالح تارة بالرجفة1 وأُخرى بالصاعقة2.
 
وبما أنّه لم يكن لموسى مع قومه إلّا ميقات واحد، كان الميقات الوارد في الآية الثالثة نفس الميقات الوارد في الآية الرابعة، ففي هذا الميقات وقع السؤالان، غير أنّ سؤال الرؤية من جانب القوم كان قبل سؤال موسى الرؤية لنفسه، والقوم سألوا الرؤية حقيقة وموسى سألها تبكيتاً لقومه وإسكاتاً لهم، يدلّ على ذلك أنّه لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أيّ لوم وعتاب أو مؤاخذة وعذاب بل اكتفى تعالى بقوله: ﴿لَن تَرَانِي.
 
2- قوله تعالى ـ فيما أجاب النبي موسى عليه السلام عند سؤال الرؤية لنفسه: ﴿وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي3.
 
وجه الاستدلال: "إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن والمعلّق على الممكن، ممكن فالرؤية ممكنة"4.


1- سورة الأعراف، الآية 78.
2- سورة حم السجدة، الآية 17.
3- سورة الأعراف، الآية 143.
4- المحقّق نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصل، ص 319؛ القوشجي، شرح التجريد، ص 329.
 
147

111

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

 يلاحظ عليه: أنّ المعلَّق عليه ليس هو إمكان الاستقرار، بل وجوده وتحقّقه بعد تجلّيه تعالى على الجبل، والمفروض أنّه لم يستقرّ بعد التجلّي، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا1.
 
أضف إلى ذلك أنّ المذكور في الآية هو استقرار الجبل في حال النظر إليه بعد تجلّيه تعالى عليه، ومن المعلوم استحالة استقراره في تلك الحالة، وإليه أشار المحقّق الطوسي بقوله: "وتعليق الرؤية باستقرار المتحرِّك لا يدلّ على الإمكان"2.
 
الرؤية في روايات أهل البيت عليهم السلام
إنّ المراجع لخطب الإمام عليّ عليه السلام في التوحيد وما أُثر عن أئمة العترة الطاهرة يقف على أنّ مذهبهم في ذلك امتناع الرؤية، فعلى من أراد الوقوف على كلمات الإمام عليّ عليه السلام أن يراجع نهج البلاغة، وعلى من أراد الوقوف على كلمات سائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام أن يُراجع الكافي لثقة الإسلام الكليني والتوحيد للشيخ الصدوق3.
 
ثمّ إنّهم عليهم السلام رغم تأكيدهم على إبطال الرؤية الحسّية البصرية صرّحوا على إمكان الرؤية القلبيّة، فهذا هو الإمام عليّ عليه السلام حينما سأله ذعلب اليماني هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: "أفأعبد ما لا أرى؟!" فقال: وكيف تراه؟ فقال: "لا تُدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تُدركه القلوب بحقائق الإيمان"4.


1- سورة الأعراف، الآية 143.
2- كشف المراد، العلّامة الحلّي، ص 231؛ المحقّق نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصل، ص 319.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، باب إبطال الرؤية؛ الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب الثامن. ويراجع أيضاً العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج4، باب نفي الرؤية وتأويل الآيات فيها.
4- نهج البلاغة، الخطبة: 179.
 
148
 

112

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

المفاهيم الرئيسية 

- الصفات السلبية هي ما دلّت على سلب نقص أو حاجة عن الله سبحانه, ككونه تعالى ليس بجسمٍ ولا في جهةٍ ولا في محلّ وليس متّحداً مع غيره وأنّه تعالى ليس بمرئيّ.

- محل النزاع في الرؤية التي هي محلّ الاستحالة والمنع عند العدلية هي الرؤية البصرية بمعناها الحقيقي والتي أجازها الأشعري في الآخرة.

- يستحيل رؤية الله تعالى لوجوه منها: استحالة الجهة عليه، نفي الجسمية عنه، عدم كونه محدوداً ولا مركّباً.

- استدلّ المجوِّزون لرؤية الله تعالى ببعض آيات الله تعالى واستدلالهم مردود.

- أهل البيت عليهم السلام نفوا الرؤية الحسّية وأجازوا الرؤية القلبية، وهذا ما يظهر من رواياتهم.
 
149
 
 

113

الدرس الثاني عشر: الصفات السلبيّة

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- ما هو محل النزاع في مسألة رؤية الله سبحانه وتعالى؟
2- اشرح ما هو المقصود بــ: "إنّ الله سبحانه وتعالى ليس متحداً مع غيره".
3- استدل بقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام:  ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ على جواز رؤية الله سبحانه وتعالى، فما هو تقييمك لذلك؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- الصفات السلبية هي ما دلّت على سلب نقص أو حاجة عن الله سبحانه كالجسم. 

2- يمكن الاستدلال على جواز رؤية الله تعالى بقوله:  ﴿وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي

3- تعتبر مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن رؤية الله سبحانه وتعالى بالعين الباصرة غير جائزة وإن جازت بعين القلب. 

4- إنّ الرؤية إذا وقعت على الذّات كلِّها فهذا يلزم منه أن يكون المرئي مركّباً ذا أجزاء وأبعاض. 

5- إذا قلنا بأن الله سبحانه وتعالى حالاً في شيء فهذا يستلزم الحاجة وقيامه تعالى في الغير.
 
 
150

 


114

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- أن يتعرف إلى إطلاقات الحسن والقبح ومحل النزاع فيهما.
2- أن يطّلع على أدلّة المثبتين والنافين لعقليّة الحسن والقبح وتقييمها.
3- أن يتعرّف إلى التحسين والتقبيح في آيات الكتاب العزيز.
 
151
 

115

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

 تمهيد
إنّ العدل عند المتكلمين عبارة عن تنزّهه تعالى عن فعل ما لا ينبغي، وهذا أحد معاني الحكمة، فالعدل الحكيم هو الذي لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالحسن، والتصديق بثبوت هذه الصفة للباري تعالى مبني على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، فإنّ مفاد تلك المسألة أنّ هناك أفعالاً يُدرك العقل كونها حسنة أو قبيحة، ويُدرك أنّ الغنيّ بالذّات منزَّه عن الاتِّصاف بالقبيح وفعل ما لا ينبغي، ومن هنا يلزمنا البحث عن تلك المسألة على ضوء العقل والكتاب العزيز فنقول: ذهبت العدلية إلى أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل من صميم ذاته من دون استعانة من الشرع أنّها حسنة وأفعالاً أخرى يُدرك أنّها قبيحة كذلك، وقالت الأشاعرة: لا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، فلا حسن إلا ما حسَّنَه الشارع ولا قبيح إلا ما قبَّحه، والنزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلي، فالعدلية يقولون بالأول والأشاعرة بالثاني.
 
إطلاقات الحسن والقبح وملاكاتهما
لا شكَّ أنّ للحسن والقبح معنى واحداً، وإنّما الكلام في ملاك كون الشيء حسناً أو قبيحاً، وهو يختلف باختلاف الموارد، فقد ذكر للحسن والقبيح ملاكات نوردها فيما يلي:
 
 
153
 

116

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

1- ملائمة الطبع ومنافرته: فالمشهد الجميل - بما أنه يلائم الطبع - حسن ، كما أنّ المشهد المخوف - بما أنّه منافر للطبع - يُعدّ قبيحاً، ومثله الطعام اللذيذ والصوت الناعم، فإنّهما حسنان، كما أنّ الدواء المر ونهيق الحمار قبيحان.
 
2- موافقة الغرض والمصلحة ومخالفتهما: والغرض والمصلحة إمّا شخصيان وإمّا نوعيان، فقتل عدو الإنسان يُعَدّ حسناً عنده لأنّه موافق لغرضه، ولكنّه قبيح لأصدقاء المقتول وأهله، لمخالفته لأغراضهم ومصالحهم الشخصية، هذا في المجال الشخصي، وأمّا في المجال النوعي، فإنّ العدل بما أنّه حافظ لنظام المجتمع ومصالح النوع فهو حسن وبما أنّ الظلم هادم للنظام ومخالف لمصلحة النوع فهو قبيح.
 
3- كون الشيء كمالاً للنفس أو نقصاناً لها: كالعلم والجهل، فالأول زين لها والثاني شين، ومثلهما الشجاعة والجبن، وغيرهما من كمالات النفس ونقائصها.
 
4- ما يوجب مدح الفاعل وذمّه عند العقل: وذلك بملاحظة الفعل من حيث إنّه مناسب لكمال وجودي للموجود العاقل المختار أو نقصان له، فيستقلّ العقل بحسنه ووجوب فعله، أو قبحه ووجوب تركه وهذا كما إذا لاحظ العقل جزاء الإحسان بالإحسان، فيحكم بحسنه وجزاء الإحسان بالإساءة فيحكم بقبحه، فالعقل في حكمه هذا لا يلاحظ سوى أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحي المختار وبعضها الآخر نقص له فيحكم بحسن الأول وقبح الثاني.
 
تعيين محل النزاع
لا نزاع بين العدلية والأشاعرة في الحسن والقبح بالملاك الأول والثالث، وهو واضح، وكذلك في الحسن والقبح بملاك الغرض والمصلحة الشخصيين، وأمّا الغرض والمصلحة النوعيان فإنّ كثيراً من الباحثين عن التحسين والتقبيح العقليين
 
154
 

117

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

يعلِّلون حسن العدل والإحسان، وقبح الظلم والعدوان، باشتمال الأول على مصلحة عامة والثاني على مفسدة كذلك. وهذا الملاك في الحقيقة من مصاديق الملاك الرابع كما لا يخفى.
 
دلائل المثبتين والنافين
أ- دلائل المثبتين:
استدلّ القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بأدلّةٍ عديدة نكتفي بذكر اثنين منها:
الدليل الأول: إنَّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل، بحيث كان العقل مستقلّاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب فلا إشكال في أنّ ما أخبر الشارع عن حسنه حسن، وما أخبر عن قبحه قبيح، لحكم العقل بأنّ الصدق حسن والكذب قبيح والشارع منزَّه عن ارتكاب القبيح فلا يخبر إلاّ بما هو حقّ.
 
وأمّا لو لم يستقلّ العقل بذلك، فلو أخبر الشارع بحسن فعل أو قبحه فلا يمكن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه حتى نعتقد بمضمون إخباره ونستكشف منه حسن الفعل أو قبحه، وذلك لاحتمال عدم صدق الشارع في إخباره، فإن الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد وإثبات قبح الكذب بإخبار الشارع عن قبحه مستلزم للدور.
 
الدليل الثاني: وهو ما ذكره العلامة الحلي بقوله: "لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء، ولو كان كذلك لما قَبُحَ منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة، فإنّ أيّ نبي أظهر المعجزة عقيب ادِّعاء النبوة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة"1.


1- العلّامة الحلّي، نهج الحقّ وكشف الصدق، ص 84.
 

118

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

ب- أدلّة النافين:
وممّا استدلّ به النافون الدليلين التاليين:
الدليل الأول: قالوا: لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين، لكن التّالي باطل بالوجدان فالمقدَّم مثله.
 
ويلاحظ عليه:
أوّلاً: يجوز التفاوت في الإدراكات البديهية، فالأوّليّات متقدّمة على المشاهدات وهي على الفطريات وهكذا، فوجود التفاوت بين البديهيات لا ينافي بداهتها.
 
وثانياً: إنّ نفي كون الحكم بحسن فعل أو قبحه بديهياً لا يدلّ على نفي كونه عقلياً، فإنَّ نفي الأخصّ - وهو كونه بديهيّاً - لا يدلّ على نفيّ الأعمّ - وهو كونه عقلياً -، فمن الجائز أن يكون العقل مستقِلّاً بحسن فعل أو قبحه لكن بعد التأمّل والنظر، وعليه فما ذكره المستدِلّ لا يجديه نفعاً.
 
الدليل الثاني: لو كان الحسن والقبح عقليين لما اختلفا، أي لما حَسُنَ القبيح ولما قَبُحَ الحسن، والتالي باطل فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح، وذلك فيما إذا تضمَّن الكذب إنقاذ نبي من الهلاك والصدق إهلاكه. فلو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عندما استفيد به عصمة دم نبي عن ظالم يقصد قتله[1].
 
والجواب عنه: إنّ كلّاً من الكذب في الصورة الأولى والصدق في الصورة الثانية على حكمه من القبح والحسن، إلّا أنّ ترك إنقاذ النبيّ أقبح من الكذب، وإنقاذه أحسن من الصدق، فيحكم العقل بترك الصدق وارتكاب الكذب قضاء لتقديم الأرجح على الراجح، فإنّ تقديم الراجح على الأرجح قبيح عند العقل.


1- القوشجي، شرح التجريد، ص 339.
 
156

119

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز
إنّ التدبر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنّه يسلِّم استقلال العقل بالتحسين والتقبيح خارج إطار الوحي ثم يأمر بالحسن وينهى عن القبيح، وإليك فيما يلي نماذج من الآيات في هذا المجال.
 
1- ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ1.
 
2- ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ2.
 
3- ﴿يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ3.
 
فهذه الآيات تُعرب بوضوح عن أنّ هناك أموراً توصف بالعدل والإحسان والمعروف والفحشاء والمنكر والبغي قبل تعلّق الأمر والنهي بها، وأنّ الإنسان يجد اتِّصاف بعض الأفعال بأحدها ناشئاً من صميم ذاته وليس عرفان الإنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع، وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح وبيان ما لا يستقلّ العقل في إدراك حسنه وقبحه، وتدلّ على ما تقدم بأوضح دلالة الآية التالية:
 
4- ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ4.
 
فإنّ الظاهر من الآية أنّ المشركين كانوا عارفين بقبح أفعالهم وأنّها من الفحشاء ولكنهم حاولوا توجيه تلك الأفعال الشنيعة إمّا بكونها إبقاء لسيرة آبائهم وهم كانوا يرون ذلك حسناً، وإمّا بكونها ممّا أمر بها الله سبحانه ولكنّ الله تعالى يخطِّئهم في ذلك ويقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء كما يُخطِّئهم في اتِّباعهم سيرة آبائهم بقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ5.


1- سورة النحل، الآية 90.
2- سورة الأعراف، الآية 33.
3- سورة الأعراف، الآية 157.
4- سورة الأعراف، الآية 28.
5- سورة البقرة، الآية 170.
 
157
 

120

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

المفاهيم الرئيسة

- إنّ التصديق بثبوت صفة العدل للباري تعالى مبنيّ على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وقد ذهبت العدلية إلى أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل من صميم ذاته من دون استعانة من الشرع أنها حسنة وأفعالاً أخرى يدرك أنّها قبيحة كذلك، وقالت الأشاعرة: لا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها.

- يطلق الحسن والقبح بملاكات متعدّدة منها:

1- ملاءمة الطبع ومنافرته.

2- موافقة الغرض ومخالفته.

3- كون الشيء كمالاً للنفس أو نقصاناً له.

4- ما يوجب مدح الفاعل أو ذمّه عند العقل.

 
- ومحلّ النزاع هو في الملاك الرابع.

- استدلّ المثبتون لعقلية الحسن والقبح بأدلّة عديدة منها:

1- لو لم يستقلّ العقل بالحكم بالحسن والقبح فلا يمكن الحكم بصدق الشارع والاعتماد عليه.

2- لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء.

 

- ذكر النافون لعقليّة الحسن والقبح أدلّة لإثبات دعواهم ولكنّها جميعاً لا تسلم من النقد والإيراد.

- في الكتاب الكريم العديد من الآيات الدالّة على الحسن والقبح منها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.

 

158

 


121

الدرس الثالث عشر: التحسين والتقبيح العقليّان

 أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- عدِّد الملاكات في التحسين والتقبيح العقليين.
2- بيّن الدليل الأول على كون التحسين والتقبيح عقليين؟
3- ذكر القرآن الكريم شواهد عديدة على الحسن والقبح، وضّح ذلك؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- إنّ نفي كون الحكم بحسن فعل أو قبحه بديهياً لا يدلّ على نفي كونه عقلياً. 

2- إذا قلنا أنّ الحسن والقبح ليسا عقليين لقلنا بجواز صدور القبح عنه تعالى في كل شيء. 

3- تعتبر العدلية أنّ للعقل حكماً في حسن الأشياء وقبحها من دون استعانة بالشرع في تحسين الأشياء وتقبيحها.

4- لا يمكن للأمور أن تتبدل بحكم العقل من القبح إلى الحسن أو من الحسن إلى القبح. 

5- تعتبر المدرسة الأشعرية أن لا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها فلا حسن إلا ما حسّنه الشارع ولا قبيح إلا ما قبّحه الشارع.
 
159



 

 


122

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى حقيقة العدل الإلهي وأقسامه.
2- يستدل على العدل على أساس العقل والكتاب والسنّة.
3- يُثبت أنّ الأفعال الإلهيّة معلّلة بالغايات.
 
 
160
 

123

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

إنّ من ثمرات التحسين والتقبيح العقليين إثبات عدله تعالى في أفعاله وأحكامه، وقبل بيان وجه الاستدلال عليه نقدِّم الكلام حول تعريف العدل وأقسامه.
 
حقيقة العدل وأقسامه
أحسن كلمة في تعريف العدل ما روي عن الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: "العدل يضع الأمور مواضعها" .
 
بيان ذلك:
إنّ لكلّ شيء وضعاً خاصّاً يقتضيه إمّا بحكم العقل، أو بحكم الشرع، والمصالح الكلية والشخصية في نظام الكون، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط، نعم موضع كلّ شيء بحسبه، ففي التكوين بوجه، وفي المجتمع البشري بوجه آخر وهكذا، وبلحاظ اختلاف موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيان تلك الأقسام، إلّا أنّ موارد العدل بالنسبة إلى الله تعالى يجمعها أقسام ثلاثة:
1- العدل التكويني: وهو إعطاؤه تعالى كلّ موجود ما يستحقّه ويليق به من الوجود، فلا يهمل قابلية، ولا يعطّل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.

2- العدل التشريعي: وهو أنّه تعالى لا يهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته،


1- نهج البلاغة، حكمة رقم: 437.
162
 
 

124

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

وبه قوام حياته المادّية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، كما أنّه لا يكلّف نفساً فوق طاقتها.

3- العدل الجزائي: وهو أنّه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد والمؤمن والمشرك في مقام الجزاء والعقوبة، بل يجزي كلّ إنسان بما كسب، فيجزي المحسن بالإحسان والثواب، والمسيء بالإساءة والعقاب، كما أنّه تعالى لا يُعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلّا بعد البيان والإبلاغ.
 
عدل الله تعالى والحسن والقبح العقليان
إنّ مقتضى التحسين والتقبيح العقليّين على ما عرفت، هو أنّ العقل بما هو، يُدرك أنَّ هذا الفعل بما هو هو - من دون اختصاص ظرف من الظروف أو قيد من القيود - حسن أو قبيح، والمأخوذ في موضوع هذا الحكم العقلي ليس إلا الفاعل العاقل المختار، من غير فرق بين الواجب والممكن. وعلى ذلك فالله سبحانه عادل ومنزّه من الظلم، لأنَّ القيام بالعدل حسن، وتركه كارتكاب الظلم قبيح، والله سبحانه حكيم لا يرتكب القبيح كما هو مقتضى القول بالتحسين والتقبيح العقليّين.
 
العدل في القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليهم السلام
لقد وصف الذكر الحكيم الله تعالى بالعدل ونزّهه عن الظلم بجميع أقسامه في كثير من آيات الذكر الحكيم، منها: قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ.
 
فإنّ قوله ﴿قَآئِمَاً إمّا حال من اسم الله تعالى مؤكّدة، وإمّا حال من "هو" في قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، والمراد من قيامه بالقسط إمّا مطلق يشمل جميع مراتب القسط (في التكوين والتشريع والجزاء) وإمّا يختصّ بالقسط التكويني كما ذهب 
 
163
 

125

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

إليه بعضهم، وعلى هذا، فمعناه إنّه تعالى حاكم بالعدل في خلقه إذ دبّر أمر العالم بخلق الأسباب والمسبّبات، وإلقاء الروابط بينها، وجعل الكلّ راجعاً إليه بالسير والكدح والتكامل وركوب طبق عن طبق، ووضع في مسير هذا المقصد نعماً ينتفع منها الإنسان في عاجله لآجله ، وفي طريقه لمقصده1.
 
قال سبحانه: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا2.
 
وهذا ناظر إلى عدله تعالى في التشريع والتكليف.
 
قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا3. وقال سبحانه: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً4 وهما ناظرتان إلى عدله تعالى في مقام الحساب والجزاء. وعلى كلّ حال فالآيات في هذا المجال أكثر من أن تعدّ وتُحصى.
 
وأمّا بلحاظ ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فقد اشتهر عن الإمام عليّ وأولاده عليهم السلام تأكيدهم على اتّصاف الله تعالى بالعدل، وعنه أخذت المعتزلة، حتى قيل: "التوحيد والعدل علويّان والتشبيه والجبر أمويّان". وإليك بعض ما أثر عنهم عليهم السلام:
 
سُئِل الإمام علي عليه السلام عن التوحيد والعدل، فقال: "التوحيد أن لا تتوهّمه، والعدل أن لا تتّهمه"5. أي أن لا تتوهّم في توصيفه تعالى بالصفات التي يُدركها الوهم، ولا تتَّهمه بقبائح الأفعال.
 
روى الصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "أمّا التوحيد فأن لا تجوّز على ربِّك ما جاز عليك، وأمّا العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه"6.


1- السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، ج3، ص119.
2- سورة المؤمنون، الآية 62.
3- سورة الأنبياء، الآية 47.
4- سورة الإسراء، الآية 15.
5- نهج البلاغة، حكمة رقم: 470.
6- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب 5، الحديث 1.
 
164
 

126

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

وقال علي عليه السلام: "الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه"1. وقد أُشير في هذا الكلام الشريف إلى جميع أقسام العدل. 
 
فقوله عليه السلام: "ارتفع عن ظلم عباده". وكذا قوله عليه السلام: "وعدل عليهم في حكمه". ناظر إلى العدل في مقام التشريع، والجزاء وقوله عليه السلام: "قام بالقسط في خلقه". 
 
ناظر إلى العدل في الإيجاد والخلق، فإنّ الخلق لا يختصّ بالإنسان بل يعمّه وغيره.
 
إجابة عن إشكال
لا شكّ في وجود آلام ومصائب اجتماعية يتألّم منها ويتضرّر بها أفراد المجتمع من غير فرق بين المؤمن والكافر والمطيع والعاصي، فإذا كان الكافر والعاصي مستحقّاً لتلك المصائب بكفره وعصيانه، فما هو المصحّح لتألّم المؤمن المطيع وتضرّره منها، مع أنّ مقتضى العدل أن لا تزر وازرة وزر أُخرى، ولا يُعاقب المؤمن بعقوبة الكافر، أفلا يخلُّ ذلك بعدله تعالى؟
 
والجواب عنه الآن - وسيأتي بحثه مفصّلاً في الدرس التالي: إنّ من خواصِّ يوم القيامة أنّه "يوم الفصل"، فيفصل أهل النار من أهل الجنّة وتُجزى كلّ نفس بما كسبت، وأمّا الحياة الدنيوية فالناس يعيشون فيها بالاختلاط والاشتراك، فإذا نزلت بليّة وكارثة طبيعية أو غير طبيعية يتألّم منها الجميع، ولكن مع ذلك إنّ الله تعالى بعدله ورحمته يعوِّض غير المستحقّين لتلك النازلة بما هو أنفع لهم إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة، وهذا هو المراد من "العوض" في اصطلاح المتكلِّمين.


1- نهج البلاغة، الخطبة 185.
 
165

127

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

أفعال الله سبحانه معلَّلة بالغايات
من ثمرات مسألة التحسين والتقبيح العقليّين أنّ أفعال الله سبحانه منزّهة عن العبث ويجب اقترانها بالغايات والأغراض، وهذه المسألة من المسائل التي اختلفت فيها العدلية والأشاعرة، فالأولى على الإيجاب والثانية على السلب.
 
واستدلّت العدلية على مدّعاهم بأنّ خلوَّ الفعل عن الغاية والغرض يعدّ لغواً وعبثاً وهو من القبائح العقلية، واللّه تعالى منزَّه عن القبائح فلا بدّ أن تكون أفعاله مقترنة بأغراض ومعلَّلة بغايات.
 
والمهمّ في هذا المجال التحقيق حول دلائل الأشاعرة على إنكار كون أفعاله تعالى معلّلة بالغايات.
 
استدلّ الأشاعرة على مذهبهم بأنّه: "لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال"1.
 
الجواب: إنّ الأشاعرة خلطوا بين الغرض الراجع إلى الفاعل، والغرض الراجع إلى فعله، فالاستكمال لازم في الأوّل دون الثاني، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض والغايات والدواعي والمصالح، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل.
 
توضيح ذلك: "إنّ العلّة الغائية في أفعال الفواعل البشرية هي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل، فهي متقدّمة على الفعل صورة وذهناً ومؤخّرة عنه وجوداً وتحقّقاً، ولا تتصوّر العلّة الغائية بهذا المعنى في ساحته تعالى، لغناه المطلق في مقام الذات والوصف والفعل، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته، وإلّا لكان ناقصاً في مقام الفاعلية مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا 


1- الإيجي، شرح المواقف،ج 8، ص 202 ـ 203.
 
176
 

128

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

يجتمع مع غناه المطلق، ولكن نفي العلّة الغائية بهذا المعنى لا يلازم أن لا يترتّب على فعله مصالح وحكم ينتفع بها العباد وينتظم بها النظام، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم، والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلّا ما يناسب ذلك، ولا يصدر منه ما يضادّه ويخالفه"1.
 
والعجب من غفلة الأشاعرة عن النصوص الصريحة في هذا المجال، يقول سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ2.
 
وقال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ3.
 
وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ4.


1- وإلى ذلك أشار المحقّق الطوسي بقوله:"ونفي الغرض يستلزم العبث ولا يلزم عوده إليه" كشف المراد، العلّامة الحلّي، المقصد 3، الفصل 3، المسألة 4. 
2- سورة الدخان، الآية 38. 
3- سورة ص، الآية 27.
4- سورة الذاريات، الآية 56.
 
167
 

129

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

المفاهيم الرئيسة
- أحسن كلمة في تعريف العدل ما روي عن الإمام عليّ عليه السلام حيث قال: "العدل يضع الأمور مواضعها".

- إنّ مقتضى التحسين والتقبيح العقليين هو أنّ الله تعالى متّصفٌ بالعدل، لأنّ العدل حسنٌ والله لا يترك الحسن. والظلم قبيح والله منزّه عن فعل القبيح.

- لقد ورد توصيف الله تعالى بالعدل وتنزيهه عن الظلم بجميع أقسامه في كثير من آيات الذكر الحكيم وروايات أهل البيت عليهم السلام. قال تعالى: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه".

- من ثمرات مسألة التحسين والتقبيح العقليّين أنّ أفعال الله سبحانه منزّهة عن العبث ويجب اقترانها بالغايات والأغراض.
 
178
 
 

130

الدرس الرابع عشر: العدل الإلهيّ

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- ما هو وجه العلاقة بين عدل الله تعالى والحسن والقبح العقليين؟
 
2- كيف تردّ على قول الأشاعرة: "لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال"؟
 
3- بماذا فسّرت الروايات الشريفة عدل الله سبحانه وتعالى؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- العدل هو رعاية وضع كل شيء بحسبه وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط. 
2- يقصد بقوله تعالى: ﴿وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ هو العدل الجزائي. 
3- لقد جمع الإمام علي عليه السلام كل أنواع العدل بقوله: "الذي صدق في ميعاده وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه". 
4- إنّ مما يخلُّ بالعدل الإلهي وجود آلام ومصائب اجتماعية يتألّم منها ويتضرّر بها جميع أفراد المجتمع. 
5- إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليّين فإنّ أفعال الله سبحانه منزّهة عن العبث ويجب اقترانها بالغايات والأغراض. 
 
169
 
 

131

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يعالج إشكالية المصائب والشرور وتلائمها مع حكمة الله تعالى.
2-  يتنبّه إلى الأصول التي توجب رفع الإشكالية من أساسها.
3- يبيّن أهم فوائد الشرور والمصائب والحكمة منها.
 
171
 

132

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

تمهيد
روى الصدوق بسند صحيح، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كان فيما أوحى الله عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أنْ يا موسى ما خلقت خلقاً أحبُّ إليَّ من عبدي المؤمن، وإنّما أبتليه لما هو خير له وأُعافيه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه أمر عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرض بقضائي، أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي فأطاع أمري"1.
 
المصائب والشرور وحكمته تعالى
إنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما لمصلحة الإنسان وانتفاعه بها في معيشته، وإذا كان الأمر كذلك تأتي إلى الذهن وتدور على الألسن الشبهة التالية: كيف يمكن التوفيق بين هذه القناعة ووجود المصائب والبلايا في حياة الإنسان، مع أنّ المصائب والبلايا تنافي الغاية المتقدّمة وتضادّها، والفاعل الحكيم لا يصنع ما يضادّ غرضه؟
 
أضف إلى ذلك أنّ مقتضى رحمة الله الواسعة رفع المصائب ودفع الشرور الواقعة في عالم الطبيعة كي لا تصعب المعيشة على الإنسان وتكون له هنيئة مريئة بلا جزع ومصيبة.


1- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب62، الحديث 13.
 
173
 

133

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

والإجابة عن هذه الشبهة تبتني على بيان أُمور:
1- المصالح النوعيّة راجحة على المصالح الفردية:
لا شكّ أنّ الحياة الإنسانية حياة اجتماعية، فهناك مصالح ومنافع فردية، وأُخرى نوعية اجتماعية، والعقل الصريح يرجّح المصالح النوعية على المنافع الفردية، وعلى هذا فما يتجلّى من الظواهر الطبيعية لبعض الأفراد في صورة المصيبة والشرّ، هو في عين الوقت متضمّنه لمصلحة النوع والاجتماع.
 
وعليه فالحكم بأنّ هذه الظواهر شرور، تنافي مصلحة الإنسان، ينشأ من نظر بعض الأفراد إلى هذه الظواهر بمنظار خاص والتجاهل عن آثارها العامّة في العالم وبالنسبة لغيره من الكائنات، من غير فرق بين من مضى في غابر الزمان ومن يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي ويعيش فيها.
 
وما أشبه الإنسان في مثل هذه الرؤية المحدودة بعابر سبيل يرى جرّافة تحفر الأرض، أو تُهدِّم بناءً مثيرةً الغبار والتراب في الهواء، فيقضي من فوره بأنّه عملٌ ضارّ وشرّ، وهو لا يدري بأنّ ذلك يتمّ تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويُهيّئ للمحتاجين إلى العلاج وسائل المعالجة والتمريض.
 
ولو وقف على تلك الأهداف النبيّلة لقضى بغير ما قضى، ولوصف ذلك التهديم بأنّه خير وأنّه لا ضير فيما يحصل من ضوضاء الجرّافة وتصاعد الغبار.
 
2- ضآلة علم الإنسان ومحدوديته:
إنّ علم الإنسان المحدود هو الذي يدفعه إلى أن يحكم في الحوادث بتلك الأحكام الشاذّة، ولو وقف على علمه الضئيل ونسبة علمه إلى ما لا يعلمه لرجع القهقرى قائلاً: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ1.


1- سورة آل عمران، الآية 191.
 
174
 
 

134

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

ولأذعن لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً2.
 
ولذلك ترى كبار المفكّرين وأعاظم الفلاسفة يعترفون بجهلهم وعجزهم عن الوقوف على أسرار الطبيعة، وها هو الشيخ الرئيس وهو المعروف بحدّة ذكائه وسعة معارفه يقول: "بلغ علمي إلى حدٍّ علمت أنّي لست بعالم".
 
3- الغفلة عن القيم الإنسانية العليا:
ليست الحياة الإنسانية حياة ماديّة فقط، بل للإنسان حياة روحية معنوية، ولا شكّ أنّ الفلاح والسعادة في هذه الحياة، هي الغاية القصوى من خلق الإنسان، ومفتاح الوصول إلى تلك الغاية هو العبادة والخضوع للّه سبحانه، وعلى هذا الأساس فالحوادث التي توجب اختلالاً مّا في بعض شؤون الحياة المادّية ربما تكون عاملاً أساسياً لاتّجاه الإنسان إلى الله سبحانه كما قال سبحانه: ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا2.
 
4- المصائب وليدة الذنوب والمعاصي:
القرآن الكريم يعدّ الإنسان مسؤولاً عن كثير من الحوادث المؤلمة والوقائع الموجعة في عالم الكون، قال سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ3.
 
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ4.


1- سورة الإسراء، الآية 85.
2- سورة النساء، الآية 19.
3- سورة الروم، الآية 41.
4- سورة الأعراف، الآية 96.
 
175
 

135

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ لأعمال الإنسان دوراً واقعياً في البلايا والشرور الطبيعية والاجتماعية، أو الفوائد التربويّة للمصائب.
 
فوائد المصائب والشرور
إذا عرفت هذه الأصول فلنرجع إلى تحليل فوائد المصائب والشرور، فنقول:
 
1- المصائب وسيلة لتفجير الطاقات:
إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدّم العلوم ورقي الحياة البشرية، فإنّ الإنسان إذا لم يواجه المشاكل في حياته لا تنفتح طاقاته ولا تنمو، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾[1].
 
2- البلايا جرس إنذار وسبب للعودة إلى الحقّ:
إنّ التمتُّع بالمواهب المادّية والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب في كثير من الأحيان الغفلة عن كثير من القيم الأخلاقية، ومن هنا نجد أنّ الإنسان - وفي الأغلب الأعمّ - كلّما ازداد توغّلاً في اللذائذ والنعم، ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية.
 
يقول تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى2.
 
فإذاً لا بدّ لانتباه الإنسان من هذه الغفلة من هزّة وجرس إنذار يذكّره ويرجعه إلى الطريق الوسطى، وليس هناك ما هو أنفع في هذا المجال من بعض الحوادث التي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتى يُدرك عجزه ويتنبّه من نوم الغفلة.
 
يقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ3.


1- سورة الانشراح، الآيات 5 ـ 8. 
2- سورة العلق، الآيتان 6 - 7.
3- سورة الأعراف، الآية 94.
 
176
 

136

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

 3- حكمة البلايا في حياة الأولياء:
يظهر من القرآن الكريم والأحاديث المتضافرة أنّ البلايا والمحن ألطاف إلهيّة في حياة الأولياء والصالحين من عباد الله وشرط لوصولهم إلى المقامات العالية في الآخرة.
 
قال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ1.
 
وروى هشام بن سالم عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الأمثل فالأمثل"2.
 
وقد شكا عبد الله بن أبي يعفور إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام ممّا أصابه من الأوجاع ـ وكان مسقاماً ـ فقال عليه السلام: "يا عبد الله لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنّى أنّه قُرّض بالمقاريض"3.
 
حاصل المقال
إنّ المصائب على قسمين: فردية ونوعية، ولأعمال الإنسان دور في وقوع المصائب والبلايا، وهي جميعاً موافقة للحكمة والغاية، فإنّ الغاية من خلقة الإنسان وصوله إلى الكمالات المعنوية الخالدة، وتلك المصائب جرس إنذار للغافلين وكفّارة لذنوب المذنبين وأسباب لارتقاء الصالحين.
 
هذا من جانب الغرض الأخروي، وأمّا من ناحية الحياة الدنيا فينبغي الالتفات إلى الأمرين التاليين:


1- سورة البقرة، الآيات 155 - 157.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 252، باب شدة ابتلاء المؤمن، الحديث 1. 
3- (م.ن)، ح 15.
 
177

137

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

1- ملاحظة منافع نوع البشر من دون قصر النظر على منافع فردٍ أو طائفةٍ من الناس.

2- ملاحظة ما يتوصّل إليه الإنسان عند مواجهته للمشاكل والشدائد من الاختراعات والاكتشافات الجديدة المؤدّية إلى صلاح الإنسان في حياته الماديّة.
 
 
178
 

138

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

 المفاهيم الرئيسة
- توجد شبهة حول عدالة الله تعالى وحول كيفيّة التوفيق بين هذه القناعة ووجود المصائب والبلايا في حياة الإنسان، مع أنّ المصائب والبلايا تنافي العدالة وتضادّها، والفاعل الحكيم لا يصنع ما يضادّ غرضه؟

- الجواب عن الشبهة المتقدّمة يبتني على الالتفات إلى الأصول التالية: إنّ المصالح النوعيّة راجحة على المصالح الفردية، وإنّ علم الإنسان ضئيل ومحدود. وأننا كثيراً ما نغفل عن القيم الإنسانية العليا، وأنّ الكثير من المصائب هي وليدة الذنوب والمعاصي.

- إنّ للمصائب والشرور العديد من الفوائد التي تترتب عليها منها أنّها: وسيلة لتفجير الطاقات، جرس إنذار وسبب للعودة إلى الحقّ، سبب لترقية الأولياء في مدارج الكمال.
 
179
 

139

الدرس الخامس عشر: المصائب والشرور

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- أُجيب عن شبهة وجود المصائب والبلاء في الحياة الدنيوية وعدل الله سبحانه وتعالى بأنّ: "المصالح النوعية راجحة على المصالح الفردية"، اشرح ذلك.

2- بيّن ما هي العلاقة بين أعمال الإنسان الصالحة أو الفاسدة ووجود المصائب والبلاء في الحياة الدنيوية.

3- ما هو وجه الحكمة في تحقّق المصائب والبلاء في حقّ الأولياء والصالحين مع أنّ أعمالهم خالصة لله سبحانه وتعالى؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- إذا غفل الإنسان عن القيم الإنسانية العليا فإنّه يرى كلّ ما يحصل حوله من مصائب وبلايا شرّاً مطلق. 

2- إنّ مواجهة الإنسان للبلايا والمصائب تؤدّي إلى حالة من اليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى. 

3- إنّ علم الإنسان المحدود هو الذي يدفعه إلى أن يحكم في الحوادث حكماً لا ينسجم مع العقيدة الصحيحة بعدل الله سبحانه وتعالى. 

4- إنّ المصائب والبلايا تؤثّر في حياة الإنسان الدنيوية ولا تأثير لها على حياته الأخروية.
 
5- إذا استغرق الإنسان بالملذّات الدنيوية والحياة الرغيدة فلا بد من منبهات كالمصائب توقظه من حالة الغفلة.
 
 
180 
 
 

140

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
- يتعرّف إلى المذاهب الإسلامية في الجبر والاختيار.
- يفهم نظرية الكسب عند الأشاعرة وما يرد عليها.
- يفهم نظرية التفويض عند المعتزلة وما يرد عليها.
 
181
 
 

141

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

تمهيد
من الأبحاث الكلامية الهامّة، البحث عن كيفية صدور أفعال العباد، وأنّهم مختارون في أفعالهم أو مجبورون، مضطرّون عليها؟ والمسألة ذات صلة وثيقة بمسألة العدل الإلهي، فإنّ العقل البديهي حاكم بقبح تكليف المجبور ومؤاخذته على فعله، وأنّ الله سبحانه منزَّه عن كلّ فعل قبيح.
 
والمذاهب والآراء المطروحة في هذا المجال في الكلام الإسلامي أربعة: الجبر المحض، الكسب، التفويض والأمر بين الأمرين.
 
الجبر المحض
وهو المنسوب إلى جهم بن صفوان (المتوفّـى 128هـ)، قال الأشعري: "تفرّد جهم بأُمور، منها: انّه لا فعل لأحد في الحقيقة إلاّ الله وحده، وأنّ الناس إنّما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحرّكت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس"1.
 
ولا ريب في بطلان هذا المذهب، إذ لو كان كذلك لبطل التكليف والوعد والوعيد والثواب والعقاب. ولصار بعث الأنبياء وإنزال الكتب والشرائع السماوية لغواً. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.


1- الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج1، ص 312.
 
 
183
 

142

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

الأشاعرة والكسب
قد انطرحت نظرية الكسب في معترك الأبحاث الكلامية قبل ظهور الشيخ الأشعري بأكثر من قرن، فهذه هي الطائفة الضرارية1 قالت: "بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى حقيقة والعبد مكتسبها"2.
 
وتبعتهم في ذلك الطائفة النجّارية3 فعرَّفهم الشهرستاني بأنَّهم يقولون: "إنَّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرّها، حسنها وقبيحها، والعبد مكتسب لها، ويثبتون تأثيراً للقدرة الحادثة، ويسمّون ذلك كسباً"4.
 
ومع ذلك فقد اشتهرت نسبة النظرية إلى الأشاعرة وعدّت من مميّزات منهجهم، وما ذلك إلا لأنّ الشيخ الأشعري وتلامذة مدرسته قاموا بتحكيم هذه النظرية وتبيينها بالأدلة العقلية والنقلية، وقد اضطّربت عبارات القوم في تفسيرها إلى حدٍّ صارت من الألغاز حتى قال الشاعر:5
مما يقال ولا حقيقة عنده                 معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري، والحال          عند البهشمي، وطفرة النظام 
 
ومرجع تلك التفاسير المختلفة إلى أمرين:
الأول: إنّ للقدرة المحدثة (قدرة العبد) نحو تأثير في اكتساب الفعل وهو يسمّى "كسباً" وهذا التفسير يظهر من جماعة من الأشاعرة.

الثاني: ليس للقدرة المحدثة تأثير في الفعل سوى مقارنتها لتحقق الفعل من جانبه سبحانه وهذا التفسير يظهر من كلمات جماعة أخرى من الأشاعرة.


1- هم أصحاب ضرار بن عمرو، وقد ظهر في أيّام واصل بن عطاء.
2- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص91-90.
3- هم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله النجّار.
4- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص89. (نقل بالمعنى)
5- للشاعر عبد الكريم الخطيب المصري.

184
 

143

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

 وإليك فيما يلي بعض نصوصهم في هذا المقام:
1- قال الشيخ الأشعريّ عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية والحركة الاكتسابية: "لمّا كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسباً، لأنّ حقيقة الكسب هو أنّ الشيء وقع من المكتسِب له بقوّة محدثة"1.
 
يلاحظ عليه: إنّه لم يُبيّن مراده من وقوع الفعل المكتسب بقوة محدثة، فهل المقصود أنّ للقوة المحدثة تأثيراً في وجود الفعل تكوينياً (وهو ما يتنافى مع نظريّته في خلق الأعمال)؟ أو أنّ تأثيرها ليس في واقعية الفعل بل في أمر آخر كالعناوين الطارئة عليه كما قال به الباقلاني؟ أو أنّ المراد من كلمة "باء" في قوله "بقوة محدثة" مقارنتها لحدوث الفعل لا تأثيرها فيه؟
 
ونكتفي هنا بتسجيل الملاحظة التالية على الاحتمال الأوّل وهو أنّه يتنافى مع نظريّة الأشعريّ نفسه في خلق الأعمال.
 
وأمّا الاحتمالين الأخرين فيتّضح ما فيهما مع استعراض بقيّة ما اخترناه من نصوص سنقوم بعرضها بإذن الله تعالى.
 
2- قال القاضي الباقلاني: "الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست صفات الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أخرى هي وراء الحدوث". ثم ذكر عدة من الجهات والاعتبارات، كالصلاة والصيام والقيام والقعود، وقال: "إنّ الإنسان يفرق فرقاً ضرورياً بين قولنا: "أوجد" وقولنا: "صلّى" و "صام" و"قعد" و "قام" وكما لا يجوز أن تُضاف إلى الباري جهة ما يُضاف إلى العبد، "فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد جهة ما يُضاف إلى الباري تعالى"2.


1- الأشعري، اللمع، ص 76.
2- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص98-97.
 
 
185
 

144

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

 ثم استنتج أنّ الجهات التي لا يصحّ إسنادها إلى الله تعالى فهي متعلّقة للقدرة الحادثة ومكتَسَبة للإنسان، وهي التي تكون ملاك الثواب والعقاب.
 
ويلاحظ عليه: إنّ هذه العناوين والجهات لا تخلو من صورتين:
- إمّا أن تكون من الأمور العدمية، فعندئذ لا يكون للكسب واقعية خارجية، بل يكون أمراً ذهنياً اعتبارياً خارجاً عن إطار الفعل والتأثير، فكيف تؤثّر القدرة الحادثة فيه، حتى يُعدُّ كسباً للعبد، ويكون ملاكاً للثواب والعقاب؟
 
- وإمّا أن تكون من الأمور الوجودية، فعندئذٍ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلَّم (خلق الأفعال) عندكم.
 
3- قال الغزالي في كتابه "الاقتصاد" ما هذا حاصله: "إنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد والقول بمقدورٍ منسوب إلى قادرين، فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد القدرتين المتعلّقتين على شيء واحد غير محال".
 
وحاصل ما ذكره في تغاير وجه تعلّق القدرتين هو: "إنّ تعلّق قدرته سبحانه بفعل العبد، تعلّق تأثيري، وتعلّق قدرة العبد نفسه تعلّق تقارنيّ، وهذا القدر من التعلّق كافٍ في إسناد الفعل إليه وكونه كسباً له"1.
 
ويلاحظ عليه: إنّ دور العبد في أفعاله على هذا التفسير ليس إلا دور المقارنة، فعند حدوث القدرة والإرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل، ومن المعلوم أنّ تحقّق الفعل من الله مقارناً لقدرة العبد، لا يصحّح نسبة الفعل في تحقُّقه إليه، ومعه كيف يتحمّل مسؤوليّته، إذ لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه؟


1- الغزالي، الاقتصاد في الإعتقاد: 47.
 
186

145

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

وفي ختام عرضنا لهذه النظرية نشير إلى أنّ جماعة من محقّقي الأشاعرة ونتيجة لإدراكهم ما عليه هذه النظرية من ضعف، قاموا بنقضها وذكروا كلاماً يلتقي في جزءٍ منه مع ما ذكره الإمامية في المقام1.
 
المعتزلة والتفويض
المنقول عن المعتزلة هو أنّ أفعال العباد مفوَّضة إليهم وهم الفاعلون لها بما منحهم الله من القدرة، وليس للّه سبحانه شأن في أفعال عباده، قال القاضي عبد الجبار: "ذكر شيخنا أبو علي رحمه الله: اتّفق أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم، حادثة من جهتهم، وأنّ الله عزّ وجلّ أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدِث سواهم"2.
 
ثمّ إنّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على العدل الإلهي، فلمّا كان العدل عندهم هو الأصل والأساس في سائر المباحث، عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد عليه، فوقعوا في التفويض لاعتقادهم بأنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة للّه سبحانه ينافي عدله تعالى وحدّدوا بذلك خالقيّته تعالى وسلطانه. والّذي أوقعهم في هذا الخطأ في الطريق، أمران:
أحدهما: خطأهم في تفسير كيفيّة نسبة الأفعال إلى الإنسان وإليه تعالى، فزعموا أنّهما في عرضٍ واحد، فأحدهما ينافي الآخر ويستحيل الجمع بينهما، وبما أنّهم كانوا بصدد تحكيم العدل الإلهي لجأوا إلى التفويض ونفي ارتباط الأفعال بالله تعالى.
 
ويلاحظ عليه: إنّ الإنسان لا استقلال له، لا في وجوده، ولا فيما يتعلّق به من


1- راجع الشيخ الشعراني، "اليواقيت والجواهر في بيان عقيدة الأكابر"، ص141-139، الشيخ محمد عبده، و"رسالة التوحيد" ص62-59.
2- عبد الجبار المعتزلي، المغني في أُصول الدين، ج6، ص 41، الإرادة.
 
187
 

146

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

 الأفعال وشؤونه الوجودية، فهو محتاج إلى إفاضة الوجود والقدرة عليه من الله تعالى مدى حياته، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ1.
 
وثانيهما: عدم التفكيك بين الإرادة والقضاء التكوينيين والتشريعيين، فالتكويني منهما يعمّ الحسنات والسيّئات بلا تفاوت، ولكنّ التشريعي منهما لا يتعلّق إلاّ بالحسنات، قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء2.
 
وقال سبحانه: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ3.
 
فالآيات النازلة في تنزيهه تعالى عن الظلم والقبائح إمّا راجعة إلى أفعاله سبحانه، ومدلولها أنّه سبحانه منزّه عن فعل القبيح مطلقاً، وإمّا راجعة إلى أفعال العباد، ومدلولها أنّه تعالى لا يرضاها، ولا يأمر بها بل يكرهها وينهى عنها، فالتفصيل بين حسنات أفعال العباد وقبائحها إنّما يتمّ بالنسبة إلى الإرادة والقضاء التشريعيّين، لا التكوينيّين، وهذا هو مذهب أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
 
روى الصدوق بإسناده عن الرضا عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: سمعت أبي علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: "الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، وفضائل، ومعاصي. فأمّا الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضى الله وبقضائه وتقديره ومشيّته وعلمه. وأمّا الفضائل فليست بأمر الله، ولكن برضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيّة الله وبعلم الله. وأمّا المعاصي فليست بأمر الله، ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلمه، ثمّ يعاقب عليها"4.
 
إلى غير ذلك من الروايات، ومفادها كما ترى هو التفكيك بين الإرادة التكوينية والتشريعية.


1- سورة فاطر، الآية 15.
2- سورة الأعراف، الآية 28.
3- سورة الأعراف، الآية 29.
4- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 29.
 
 
188
 

147

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

بطلان التفويض في الكتاب والسنّة

إنّ الذكر الحكيم يردّ التفويض بوضوح:
يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ1.
 
ويقول سبحانه: ﴿وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ2.
 
ويقول تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾3.
 
ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ4.
 
إلى غير ذلك من الآيات التي تقيّد فعل الإنسان بإذنه تعالى، والمراد منه الإذن التكويني ومشيئته المطلقة.
 
وأمّا السنّة، فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض فيما أُثر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
 
ففي "الاحتجاج" عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال: قال الإمام أبو جعفرالباقر عليه السلام للحسن البصري: "إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ الله عزّ وجلّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً، ولا أجبرهم على معاصيه ظلماً"5.
 
وفي "العيون" عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "مساكين القدرية، أرادوا أن يضعوا الله عزَّ وجلَّ بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه"6.


1- سورة فاطر، الآية 15.
2- سورة البقرة، الآية 102.
3- سورة البقرة، الآية 249.
4- سورة يونس، الآية 100.
5- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص17.
6- (م.ن)، ص54.
 
189
 

 


148

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

 المفاهيم الرئيسة
- المذاهب المطروحة في اختياريّة الإنسان وجبريّته أربعة: الجبر المحض، الكسب، التفويض والأمر بين الأمرين.

- اشتهرت نسبة نظرية الكسب إلى الأشاعرة وعدّت من مميّزات منهجهم، وما ذلك إلا لأنّ الشيخ الأشعري وتلامذة مدرسته قاموا بتحكيم هذه النظرية وتبيينها بالأدلة العقلية والنقلية، وقد اضطّربت عبارات القوم في تفسيرها إلى حدٍّ صارت من الألغاز.

- نقلنا جملة من كلمات أعلام المذهب الأشعريّ في تبيين نظرية الكسب ولكنّها جميعاً لم تفِ بالغرض إمّا للتهافت الموجود فيها، وإمّا لعدم سلامتها من النقض والإيراد.

- ذهب المعتزلة إلى القول بالتفويض ودافعهم إلى ذلك هو الحفاظ على العدل الإلهي، لاعتقادهم بأنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ينافي عدله تعالى ولكنّهم بذلك حدّدوا خالقيته تعالى وسلطانه.

- الذي أوقع المعتزلة في هذا الخطأ، أمران:
الأوّل: خطأهم في تفسير كيفية نسبة الأفعال إلى الإنسان وإليه تعالى.
الثاني: عدم التفكيك بين الإرادة والقضاء التكوينيّين والتشريعيّين.

 190
 

 


149

الدرس السادس عشر: الجبر والتفويض

أسئلة الدرس

أجب على الأسئلة التالية:
1- بيّن نظرية الكسب عند الأشاعرة، وما هي المرتكزات التي تقوم عليها؟
2- قال القاضي الباقلاني: "الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست صفات الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط، بل هاهنا وجوه أخرى هي وراء الحدوث"، فكيف نردّ عليه؟
 
3- كيف يمكن لنا إبطال نظرية التفويض من الكتاب العزيز والسنة المباركة؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
- إنّ المعاصي التي يرتكبها الإنسان ليست بأمر الله، ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلمه. 

- إذا قال الأشاعرة بالتفكيك بين الإرادة والقضاء التكوينيين والتشريعيين فإنّ ذلك يمنع وقوعهم بالقول بالتفويض. 

- التفويض يعني أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم، حادثة من جهتهم، وأنّ الله عزّ وجلّ أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدِث سواهم.

- إنّ كون أفعال الإنسان هي في عرض واحد مع أفعال الله تعالى يلزم من ذلك القول بالجبر. 

- إذا قلنا بنظرية الكسب فإنّ دور العبد في أفعاله يصبح دور المقارنة فعند حدوث القدرة والإرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل.
 
191 
 
 

150

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى نظرية الأمر بين الأمرين.
2- يتعرّف إلى نظرية الأمر بين الأمرين في الكتاب والسنّة.
3- يتعرّض للشبهات المثارة في وجه هذه النظرية وما يردّها.
 
193
 

151

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

الأمر بين الأمرين
قد عرفت أنّ المجبّرة جنحوا إلى الجبر لأجل الحفاظ على التوحيد الأفعالي وحصر الخالقية في الله سبحانه، كما أنّ المفوّضة انحازوا إلى التفويض لغاية الحفاظ على عدله سبحانه، وكلا الفريقين غفلا عن نظرية ثالثة يؤيّدها العقل ويدعمها الكتاب والسنّة، وفيها الحفاظ على كلٍّ من أصلي التوحيد والعدل، مع نزاهتها عن مضاعفات القولين، وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الّذي لم يزل أئمّة أهل البيت عليهم السلام يحثّون عليه، من لدن حمي وطيس الجدال في أفعال الإنسان من حيث القضاء والقدر أو غيرهما.
 
ولإيضاح نظرية الأمر بين الأمرين نأتي بمثال وهو أنّه لو فرضنا شخصاً مرتعش اليد فاقد القدرة، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفاً قاطعاً وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويهلكه، فإذا وقع السيف وقتل، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده، فهذا مثال لما يتبنّاه الجبري في أفعال الإنسان.
 
ولو فرضنا أنّ رجلاً أعطى سيفاً لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلاً، فالأمر على العكس، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى، وهذا مثال لما يعتقده التفويضي في أفعال الإنسان.
 
ولكن لو فرضنا شخصاً مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلّا
 
195
 
 
 
 

152

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

 بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آنٍ انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص، فذهب باختياره وقتل إنساناً به، والرجل يعلم بما فعله، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كلّ منهما، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته، وأمّا إلى الموصل، فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن حتى في حال الفعل والاشتغال بالقتل، وكان متمكّناً من قطع القوّة عنه في كلّ آنٍ شاء وأراد، وهذا مثال لنظرية الأمر بين الأمرين، فالإنسان في كلّ حال يحتاج إلى إفاضة القوّة والحياة منه تعالى إليه بحيث لو انقطع الفيض في آنٍ واحد بطلت الحياة والقدرة، فهو حين الفعل يفعل بقوّة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء.
 
محصّل هذا التمثيل أنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين, إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته، وثانيهما نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كلّ آن وبصورة مستمرّة حتى في آن اشتغاله بالعمل1.
 
الدليل العقلي على نظرية الأمر بين الأمرين
إنّ حقيقة نظرية الأمر بين الأمرين تتعيّن في ظلّ أصلين عقليين بُرهن عليهما في الفلسفة وهما:
1- كيفية قيام المعلوم بالعلّة:
إنّ قيام المعلول بالعلّة يرجع إلى معنى دقيق يشبه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الإسمي في المراحل الثلاث: التصوّر، والدلالة والتحقّق. فإذا قلت: سرت من


1- هذا المثال ذكره المحقّق الخوئي ـ قدّس سرّه ـ في تعاليقه القيّمة على أجود التقريرات، ومحاضراته الملقاة على تلاميذه. لاحظ السيد الخوئي، أجود التقريرات، ج1، ص 90، الشيخ اسحاق الفياض، والمحاضرات، ج2، ص 87 ـ 88. وهناك أمثلة أُخرى لتقريب نظرية الأمر بين الأمرين، لاحظ العلّامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج1، ص 100 الملا صدرا، الأسفار، ج6، ص 377 - 388.
 
196
 

153

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

البصرة إلى الكوفة، فهناك معان إسميّة, السير والبصرة والكوفة، ومعنى حرفي وهو كون السير مبدوّاً من البصرة ومنتهياً إلى الكوفة، فالابتداء والانتهاء المفهومان من كلمتي"من" و"إلى" فاقدان للاستقلال في مجال التصوّر، فلا يتصوّران مستقلّين ومنفكّين عن تصوّر البصرة والكوفة، وإلا لعاد المعنى الحرفي معنى إسمياً، وكذلك فاقدان للاستقلال في مجال الدلالة فلا يدلاّن على شيء إذا انفكّتا عن مدخوليهما، كما هما فاقدان للاستقلال في مقام التحقّق والوجود، فليس للابتداء الحرفي وجود مستقل منفكّ عن متعلّقه، كما ليس للانتهاء الحرفي وجود كذلك.
 
وعلى ضوء ذلك يتبيّن وزان الوجود الإمكاني الذي به تتجلّى الأشياء وتتحقّق الماهيات، فإن وزانه إلى الواجب لا يعدو عن وزان المعنى الحرفي إلى الإسمي، لأنّ توصيف الوجود بالإمكان ليس إلا بمعنى قيام وجود الممكن وتعلّقه بعلّته الموجبة له، وليس وصف الإمكان خارجاً عن هويّته وحقيقته، بل الفقر والربط عين واقعيته، وإلا فلو كان في حاقّ الذات غنياً ثم عرض له الفقر يلزم منه الخلف، أي خلف كونه غنيّاً بالأصل.
 
2- وحدة حقيقة الوجود تلازم العمومية والتأثير:
ثبت في الفلسفة أنّ سنخ الوجود الواجب والوجود الممكن واحد يجمعهما قدر مشترك وهو الوجود، وطرد العدم، وأنّ مفهوم الوجود يطلق على الوجود الواجب والممكن بوضع واحد وبمعنى فارد.
 
وعلى ضوء هذا الأصل، إذا كانت الحقيقة في مرتبة من المراتب العالية ذات أثر خاصّ، يجب أن يوجد ذلك الاثر في المراتب النازلة، أخذاً بوحدة الحقيقة. نعم يكون الأثر من حيث الشدة والضعف تابعاً لمنشئه من هذه الحيثية. فالوجود الواجب بما أنه أقوى وأشد، يكون العلم والدرك والحياة والتأثير فيه مثله، والوجود الإمكاني بما أنّ الوجود فيه أضعف يكون أثره مثله، ولأجل ذلك ذهب الإلهيون إلى القول بسريان
 
 
 197
 

154

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

العلم الحياة والقدرة إلى جميع مراتب الوجود الإمكاني، ويشهد الكتاب العزيز على صحّة نظريتهم في مجال السريان العلمي والدركي إلى جميع مراتب الوجود.
 
إذا وقفت على هذه الأصلين تقف على النظرية الوسطى في المقام وأنه لا يمكن تصوير فعل العبد مستقلاً عن الواجب، غنياً عنه، غير قائم به. وبذلك يتّضح بطلان نظرية التفويض، كما أّنّه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في آثارها، وبذلك يتبيّن بطلان نظرية الجبر في الأفعال ونفي التأثير عن القدرة الحادثة.
 
الأمر بين الأمرين في الكتاب والسنّة
إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين والإسنادين في فعل العبد، نسبة إلى الله سبحانه، ونسبة إلى العبد، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى، فإنّا نجد هاتين النسبتين في آيات من الذكر الحكيم منها:
1- في القرآن الكريم:
أ- قوله سبحانه: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى1.
فترى أنّ القرآن الكريم ينسب الرمي إلى النبيّ، وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله.
 
ب- قال سبحانه: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ2.
فإنّ الظاهر أنّ المراد من التعذيب هو القتل، لأنّ التعذيب الصادر من الله تعالى بأيد من المؤمنين ليس إلّا ذاك، لا العذاب البرزخي ولا الأخروي، فإنّهما راجعان إلى الله سبحانه دون المؤمنين، وعلى ذلك فقد نسب فعلاً واحداً إلى المؤمنين وإلى خالقهم.


1- سورة الأنفال، الآية 17.
2- سورة الأنفال، الآية 17.
 
198

155

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

ج- هناك مجموعة من الآيات تعرِّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله كقوله تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ1، ومجموعة أُخرى تصرّح بأنّ كلّ من يقع في الكون من دقيق وجليل لا يقع إلّا بإذنه سبحانه وأنّ الإنسان لا يشاء لنفسه إلّا ما شاء الله له. قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ﴾2.
 
فالمجموعة الأولى من الآيات تناقض الجبر وتفنِّده، كما أنّ المجموعة الثانية تردّ التفويض وتبطله، ومقتضى الجمع بينهما حسب ما يرشدنا إليه التدبّر فيها ليس إلّا التحفّظ على النسبتين، وأنّ العبد يقوم بكلّ فعل وترك باختيار وحرّيّة لكن بإقدار وتمكين منه سبحانه، فليس العبد في غنىً عنه سبحانه في فعله وتركه.
 
2- في الروايات الشريفة:
هذا ما يرجع إلى الكتاب الحكيم، وأمّا الروايات فنذكر النزر اليسير ممّا جمعه الشيخ الصدوق في "توحيده" والعلّامة المجلسي في "بحاره":
 
أ- روى الصدوق عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهما السلام قالا: "إنّ الله عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب، ثمّ يعذّبهم عليها والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون. قال: فسُئِلا عليهما السلام: هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: "نعم أوسع ممّا بين السماء والأرض"3.
 
ب- وروى أيضاً عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "لا 


1- سورة الكهف، الآية 29. ولاحظ: سورة النور، الآية 11. سورة السجدة، الآية 49. سورة الزمر، الآية 7. سورة الطور، الآية 19. سورة النجم، الآيات:39 - 41. سورة المزمل، الآية 19. سورة المدثر، الآية 55. سورة الاِنسان، الآية 61. سورة النبأ، الآية 39. سورة عبس، الآية 12. سورة الشمس، الآيات:7 - 10.
2- سورة الأعراف: الآية 188. ولاحظ: سورة البقرة، الآيات:102، 249، 251. سورة يونس، الآية 100. سورة التكوير، الآية 29.
3- الشيخ الصدوق، التوحيد، ص 360، الباب 59، الحديث 3.
 
199
 

156

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين. قال، فقلت: وما أمر بين أمرين؟ قال: "مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته، فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته، أنت الذي أمرته بالمعصية"1.
 
شبهات وردود
بعد ما فرغنا من دراسة المذاهب والآراء حول مسألة الجبر والاختيار كان لا بدّ لنا من التعرُّض لبعض الشبهات والإجابة عليها.
 
1- علم الله الأزلي:
قالوا: "إنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلّا جاز انقلاب العلم جهلاً، وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد، وإلّا جاز ذلك الانقلاب وهو محال في حقّه سبحانه، وذلك يبطل اختيار العبد، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع، ويبطل أيضاً التكليف لابتنائه على القدرة والاختيار، فما لزم القائلين بمسألة خلق الأعمال فقد لزم غيرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلّق بالأشياء"2.
 
والجواب عنه: إنّ علمه الأزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق، بل تعلّق علمه بصدوره عنه حسب الخصوصيات الموجودة فيه وعلى ضوء ذلك، تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر والاضطرار، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش كذلك، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية، ومثل هذا العلم يؤكّد الاختيار.


1- الشيخ الصدوق، التوحيد، ص360، الحديث 82.
2- الإيجي، شرح المواقف، ج8، ص 155 بتلخيص منّا.
 
200

157

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

قال العلّامة الطباطبائي:
"إنّ العلم الأزلي متعلّق بكلّ شيء على ما هو عليه، فهو متعلّق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية..."1.
 
2- إرادة الله الأزلية:
قالوا: "ما أراد الله وجوده من أفعال العبد وقع قطعاً، وما أراد الله عدمه منها لم يقع قطعاً، فلا قدرة له على شيءٍ منها"2.
 
والجواب عنه: إنّ هذا الاستدلال نفس الاستدلال السابق لكن بتبديل العلم بالإرادة، فيظهر الجواب عنه ممّا ذكرناه في الجواب عن سابقه.
 
قال العلامة الطباطبائي: "تعلّقت الإرادة الإلهيّة بالفعل الصادر من زيد مثلاً لا مطلقاً، بل من حيث إنّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا، في زمان كذا ومكان كذا، فإذن تأثير الإرادة الإلهيّة في الفعل يوجب كون الفعل اختياريّاً وإلاّ تخلّف متعلق الإرادة... فخطأ المجبّرة في عدم تمييزهم كيفيّة تعلّق الإرادة الإلهيّة بالفعل ..."3.


1- صدر المتألهين، الحكمة المتعالية، ج6، ص 318، تعليقة العلاّمة الطباطبائي.
2- الإيجي، شرح المواقف، ج8، ص156.
3- العلّامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 1، ص 99 - 100.
 
201
 

158

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

المفاهيم الرئيسة
- بين نظريتي الجبر - ولو معدّلاً بالكسب - والتفويض هناك نظرية ثالثة هي الأمر بين الأمرين التي يؤيّدها العقل ويدعمها القرآن والسنّة.
 
- من الآيات والروايات التي تستفاد منها نظرية الأمر بين الأمرين قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾، وقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين".
 
- وردت بعض الشبهات حول نظرية الأمر بين الأمرين، منها: تعارض علم الله الأزلي مع اختيار العبد، وكذلك تعارض الإرادة الإلهيّة النافذة في الأشياء مع اختياره.
 
- والردّ على الشبهة الأولى: إنّ علم الله سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار، ومثل هذا العلم يؤكّد الاختيار.
 
- والردّ على الشبهة الثانية: إنّ الإرادة الإلهيّة تعلّقت بالفعل الصادر من زيد مثلاً لا مطلقاً، بل من حيث إنّه فعل اختياريّ.
 

159

الدرس السابع عشر: الأمر بين الأمرين

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- اشرح نظرية الأمر بين أمرين موضّحاً ذلك بمثال.
2- ما هو المقصود بوحدة حقيقة الوجود تلازم العمومية والتأثير؟
3- اذكر الآيات التي تُعرِّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- إنّ رحمة الله الواسعة تمنع أن يعذب الله عبداً على فعل أمره به. 
2- إذا قلنا بعلم الله سبحانه وتعالى الأزلي فما علمه الله من أفعال العبد فهو واجب الصدور، وما لم يعلمه فهو ممتنع الصدور عن العبد. 
3- يتّسم فعل العبد بأنّ له نسبة إلى فاعله المباشر ونسبة إلى الله سبحانه وتعالى. 
4- إنّ نسبة الفعل إلى العبد وخالقه ينفيه قوله سبحانه وتعالى: ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ﴾ 
5- إذا تعلّقت الإرادة الإلهيّة بالفعل الصادر من الإنسان فهذا يوجب تعلّقها بالفعل من حيث كونه فعلاً اختيارياً.
 
203

 

160

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يبيّن معنى القضاء والقدر ومراتبهما.
2- يتعرّف إلى القضاء والقدر العلميّين.
3- يتعرّف إلى القضاء والقدر العينيّين.
 
205
 

161

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

سؤال حول القضاء والقدر
قالوا: إذا كان العبد مخيّراً فلا يبقي للقضاء والقدر الثابتين في الكتاب والسنّة أيّ معنى، إذ كيف نوفِّق بين القول بهما وبشمولهما لكلّ المخلوقات والقول باختياريّة الإنسان؟

والجواب: صحيح أنّ القضاء والقدر من الأصول الإسلامية الواردة في الكتاب والسنّة، وليس لمن له إلمام بهذين المصدرين الرئيسين أن ينكرهما أو ينكر واحداً منهما، إلّا أنّ المشكلة في توضيح ما يراد منهما، فإنّه المزلقة الكبرى في هذا المقام، واستيفاء البحث عنه يستدعي بيان عدّة أُمور:
 
تعريف القضاء والقدر
قال ابن فارس: "القدر ـ بفتح الدال وسكونه ـ حدُّ كلِّ شيء ومقداره وقيمته وثمنه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾1 أي قدِّر بمقدار قليل"2.
 
وقال الراغب: "القدر والتقدير تبيين كمّية الشيء"3.


1- سورة الطلاق، الآية 7.
2- ابن فارس، المقاييس، ج 5، ص 63.
3- الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة قدر.
 
207
 

162

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

هذا معنى القدر في اللغة. وأمّا معنى القضاء، فقال ابن فارس: "القضاء أصل صحيح يدلّ على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، قال الله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾1 أي أحكم خلقَهـنَّ ـ إلى أن قال: ـ وسمّي القاضي قاضياً لأنّه يحكم الأحكام وينفذها، وسمّيت المنيّة قضاءً لأنّها أمر ينفذ في ابن آدم وغيره من الخلق"2.
 
وقال الراغب: "القضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً"3.
 
مجموع النصّين يشير إلى أنّ أيّ قول أو عمل إذا كان متقناً محكماً، وجادّاً قاطعاً، وفاصلاً صارماً، لا يتغيّر ولا يتبدّل، فذلك هو القضاء.
 
هذا ما ذكره أئمّة اللغة، وقد سبقهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام، كما ورد فيما روي عنهم عليهم السلام:
 
روى الكليني بسنده، إلى يونس بن عبد الرحمان، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام وقد سأله يونس عن معنى القدر والقضاء، فقال: "هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين"4.
 
مراتب القضاء والقدر
لكلّ من القضاء والقدر مراتب أو أقسام، نشير إليها:
1- القضاء والقدر التشريعيان: ويعنى به الأوامر والنواهي الإلهية الواردة في الكتاب والسنّة، وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام في كلامه حينما سأله الشامي عن معنى القضاء والقدر فقال: "الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة، والمعونة على القربة إليه 


1- سورة فصلت، الآية12.
2- ابن فارس، المقاييس، ج 5، ص 99.
3- الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة قضى.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 158. ورواه الصدوق في توحيده بتغيير يسير.
 
208
 
 

163

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد" إلى آخر كلامه الشريف1.
 
2- القضاء والقدر التكوينيان: ويعنى به ما يرجع إلى الحقائق الكونية ونظام الوجود وله أقسام:
القضاء والقدر العلميّان
فالتقدير العلمي عبارة عن تحديد كلّ شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه، قبل إيجاده، فهو تعالى يعلم حدّ كلّ شيء ومقداره وخصوصياته الجسمانية وغير الجسمانية.
 
والمراد من القضاء العلمي هو علمه تعالى بضرورة وجود الأشياء وإبرامها عند تحقّق جميع ما يتوقّف عليه وجودها من الأسباب والشرائط ورفع الموانع.
 
فعلمه السابق بحدود الأشياء وضرورة وجودها، تقدير وقضاء علميّان؛ وقد أُشير إلى هذا القسم، في آيات الكتاب المجيد: قال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً﴾2.
 
وقال أيضاً: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾3.
 
وقال عزّ وجلّ: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾4.
 
هذه بعض الآيات التي وردت في بيان أنّ خصوصيات الأشياء وضرورة وجودها متحقّقة في علمه الأزلي، أو مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات الماضية.


1- الشيخ الصدوق، التوحيد، ص 380؛ العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 128، الحديث 74.
2- سورة آل عمران، الآية 145.
3- سورة فاطر، الآية 11.
4- سورة الحديد، الآية 22.
 
209
 

164

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

القضاء والقدر العينيان
التقدير العيني عبارة عن الخصوصيات التي يكتسبها الشيء من علله عند تحقّقه وتلبُّسه بالوجود الخارجي.
 
والقضاء العيني هو ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامّة ضرورة عينية خارجية.
 
فالتقدير والقضاء العينيان ناظران إلى التقدير والضرورة الخارجيين اللّذين يحتفّان بالشيء الخارجي، فهما مقارنان لوجود الشيء بل متّحدان معه، مع أنّ التقدير والقضاء العلميّين مقدَّمان على وجود الشيء.
 
فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير وقضاء، فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها، وآثار وجودها، وخصوصيات كونها بما أنّها متعلّقة الوجود والآثار بموجودات أُخرى، أعني العلل والشرائط، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها.
 
والتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدِّر له في مسير وجوده، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى1. أي هدى ما خلقه إلى ما قدّر له.
 
وأمّا قضاؤه، فلمّا كانت الحوادث في وجودها وتحقّقها منتهية إليه سبحانه فما لم تتمّ لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها، فإنّها تبقى على حال التردّد بين الوقوع واللاوقوع، فإذا تمَّت عللها وعامّة شرائطها ولم يبق لها إلّا أن توجد، كان ذلك من الله قضاء وفصلاً لها من الجانب الآخر وقطعاً للإبهام.
 
وبذلك يظهر أنّ التقدير والقضاء العينيين من صفاته الفعلية سبحانه فإنّ مرجعهما إلى إفاضة الحدّ والضرورة على الموجودات، وإليه يشير الإمام الصادق عليه السلام في قوله:


1- سورة الأعلى، الآيتان: 2 - 3.
 
 
210
 

165

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

"القضاء والقدر خلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء"1.
 
ومن هنا ينكشف لنا الوجه في عناية النبيّ وأهل البيت عليهم السلام بالإيمان بالقدر، وأنّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلا بالإيمان به، فإنّ التقدير والقضاء العينيين من شعب الخلقة، وقد عرفت في أبحاث التوحيد أنّ من مراتب التوحيد، التوحيد في الخالقية، وقد عرفت آنفاً أنّ حدود الأشياء وخصوصياتها، وضرورة وجودها منتهية إلى إرادته سبحانه، فالإيمان بهما، من شؤون التوحيد في الخالقية.
 
روى الصدوق في "الخصال" بسنده عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة: حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّي رسول الله بعثني بالحق، وحتّى يؤمن بالبعث بعد الموت وحتى يؤمن بالقدر"2.
 
وروى أيضاً بسنده عن أبي أمامة الصحابي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقٌّ، ومنّان، ومكذِّب بالقدر، ومدمن خمر"3.
 
ولأجل ذلك ترى أنّه سبحانه أسند القضاء والقدر إلى نفسه، وقال: ﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾4.
 
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ5.
 
وغيرها من الآيات الحاكية عن قضائه سبحانه بالشيء وإبرامه على صفحة الوجود.


1- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب 60، الحديث 1.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص 87، باب القضاء والقدر، ح2.
3- (م.ن)، ح3.
4- سورة الطلاق، الآية 3.
5- سورة البقرة، الآية 117.
 
211
 
 

 


166

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

 المفاهيم الرئيسة
- القدر لغة: حدّ كل شيء ومقداره وقيمته وثمنه. والقضاء: إحكام الأمر وفصله وإتقانه وإنفاذه.

- للقضاء والقدر مراتب: القضاء والقدر التشريعيان، والقضاء والقدر التكوينيّان وله قسمان: العلميّان والعينيّان.

- القدر والقضاء العلميّان يعنيان علمه تعالى السابق بحدود الأشياء وضرورة وجودها.

- القدر والقضاء العينيّان ناظران إلى التقدير والضرورة الخارجيين اللّذين يحتفّان بالشيء الخارجي.

- أكّد أئمة أهل البيت عليهم السلام تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً حتى يؤمن بالقدر والقضاء، فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول - الله صلى الله عليه وآله وسلّم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة: حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّي رسول الله بعثني بالحق، وحتّى يؤمن بالبعث بعد الموت وحتى يؤمن بالقدر".
 
 

167

الدرس الثامن عشر: القضاء والقدر

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- اشرح ما هو المقصود بالقضاء والقدر.
2- ما هو المقصود بالقضاء والقدر الشرعيين؟ بيّن ذلك.
3- وضّح المقصود من القضاء والقدر العينيين؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- التقدير العلمي هو عبارة عن تحديد كلّ شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه، قبل إيجاده. 
2- لقد اهتمت الروايات بضرورة الإيمان بالقضاء والقدر لكن ليس لدرجة تأثير ذلك على الإيمان ومصير الإنسان الأخروي. 
3- القضاء العلمي هو علمه تعالى بضرورة وجود الأشياء وإبرامها عند تحقّق جميع ما يتوقّف عليه وجودها من الأسباب والشرائط ورفع الموانع. 
4- إنّ علم الله سبحانه وتعالى السابق بحدود الأشياء وضرورة وجودها تقدير وقضاء شرعيان. 
5- التقدير والقضاء العينيان من الصفات الفعلية لله سبحانه فإنّ مرجعهما إلى إفاضة الحدّ والضرورة على الموجودات.
 
213
 

168

الدرس التاسع عشر: البداء

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يتعرّف إلى معنى البداء عند الإماميّة.
2- يفهم البداء على ضوء الكتاب والسنّة.
3- يتعرّف إلى قسميّ التقدير: المحتوم والموقوف.
 
215
 

169

الدرس التاسع عشر: البداء

معنى البداء
إنّ البداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء، قال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا﴾1.
 
والبداء بهذا المعنى لا يُطلق على الله سبحانه بتاتاً، لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله به.
 
الإعتقاد بالبداء عند أئمّة أهل البيت عليهم السلام
تحتلّ مسألة البداء في عقائد الشيعة الإمامية موقعاً مرموقاً، وهم تابعون في ذلك للنصوص الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في تلك المسألة، ومن تلك النصوص:  
1- روى الصدوق بإسناده عن زرارة عن أحدهما، يعني أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام، قال: "ما عُبِد الله عزّ وجلّ بشيء مثل البداء"2.

2ـ وروى بإسناده عن محمد بن مسلم، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "ما بعث الله عزّ وجلّ نبياً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء"3.



1- سورة الزمر، الآيتان 47 و48.
2- الشيخ الصدوق، التوحيد، الباب 54، ح1.
3- العلامة المجلسي، بحار الانوار، ج4، ص108.
 
217
 

170

الدرس التاسع عشر: البداء

 3ـ عن اليان بن الصلت، قال سمعت الرضا عليه السلام يقول: "ما بعث الله نبياً قط إلا بتحريم الخمر، وأن يقرّ له بالبداء"1.
 
إلى غير ذلك من مأثوراتهم عليهم السلام في هذا المجال.
 
لقد اتَّفقت الإماميّة تبعاً لنصوص الكتاب والسنة والبراهين العقلية على أنّه سبحانه عالم بالأشياء والحوادث كلّها غابرها وحاضرها ومستقبلها، كلّيها وجزئيّها، وقد وردت بذلك نصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
 
قال الإمام الباقر عليه السلام: "كان الله ولا شيء غيره، ولم يزل الله عالماً بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعدما كوَّنه"2.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه، إنَّ الله لا يبدو له من جهل"3.
 
إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة في ذلك.
 
حقيقة البداء عند الإماميّة
ممّا تقدّم يظهر أنّ المراد من البداء الوارد في أحاديث الإماميّة ويعَدُّ من العقائد الدينية عندهم ليس معناه اللغوي، أفهل يصح أن يُنسَب إلى عاقلٍ - فضلاً عن باقر العلوم وصادق الأمّة - القول بأنّ الله لم يُعبَد ولم يُعظَّم إلّا بالقول بظهور الحقائق له بعد خفائها عنه، والعلم بعد الجهل؟!
 
حاشاهم ذلك، بل إنّ ما تقدّم معنا من النصوص المرويّة عندهم يؤيّد أنّ المراد من البداء في كلمات هؤلاء العظام عليهم السلام غير ما يفهمه المعترضون، بل مرادهم من


1- العلامة المجلسي، بحار الانوار، ج4، ص108، ح25.
2- (م. ن)، ص86، ح23.
3- (م. ن)، ج 4، ص121، ح63.
 
 
218
 
 

171

الدرس التاسع عشر: البداء

البداء ليس إلّا أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة1، وأنّ لله سبحانه تقديراً مشروطاً موقوفاً، وتقديراً مطلقاً، والإنسان إنّما يتمكّن من التأثير في التقدير المشروط، وهذا بعينه قدرٌ إلهيّ، والله سبحانه عالم في الأزل، بكلا القسمين كما هو عالم بوقوع الشرط، أعني: الأعمال الإنسانية المؤثّرة في تغيير مصيره وعدم وقوعه.
 
قال الشيخ المفيد (المتوفى 413 ه‍): قد يكون الشيء مكتوباً بشرط فيتغيّر الحال فيه، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَه﴾2.
 
فتبيّن أنّ الآجال على ضربين، وضرب منهما مشترط يصحّ فيه الزيادة والنقصان، ألا ترى قوله تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾3.
 
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ4.
 
فبيّن أنّ آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر والانقطاع عن الفسوق، وقال تعالى فيما أخبر به عن نوح عليه السلام في خطابه لقومه: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا﴾5.
 
فاشترط لهم في مدّ الأجل وسبوغ النعم الاستغفار، فلو لم يفعلوا قطع آجالهم وبتر أعمالهم واستأصلهم بالعذاب، فالبداء من الله تعالى يختصّ بما كان مشترطاً في التقدير وليس هو انتقال من عزيمة إلى عزيمة، تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً6.


1- سيوافيك أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم- حسبما رواه البخاريّ - استعمل لفظ البداء في نفس ذلك المعنى الذي تتبنّاه الإماميّة.
2- سورة الأنعام، الآية 2.
3- سورة فاطر، الآية 11.
4- سورة الأعراف، الآية 96.
5- سورة نوح، الآيتان 10و 11.
6- الشيخ المفيد، تصحيح الاعتقاد، ص 50.
 
219

172

الدرس التاسع عشر: البداء

تفسير البداء على ضوء الكتاب والسنة
قد اتّضح ممّا تقدّم أنّ المقصود بالبداء ليس إلا تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة وتأثيرها في ما قدَّر الله تعالى لهم من التقدير المشتَرط، ولإيضاح هذا المعنى نشير إلى نماذج من الآيات القرآنية وما ورد من الروايات في تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة.
 
1- القرآن وتأثير عمل الإنسان في تغيير مصيره:
قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾1.
 
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾2.
 
وقال سبحانه: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾1.
 
إلى غير ذلك من الآيات.
 
2- الروايات وتأثير العمل في تغيير المصير:
روى جلال الدين السيوطي (المتوفى 911 ه‍) عن الإمام علي عليه السلام أنّه سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء﴾4، فقال: "لأقرنّ عينيك بتفسيرها، ولأقرنّ عين أمّتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها، وبرّ الوالدين، واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادةً، ويزيد في العمر، ويقي مصارع السوء"5.


1- سورة الرعد، الآية 11
2- سورة الأعراف، الآية 96.
3- سورة الرعد، الآية 39.
4- سورة يونس، الآية 98.
5- السيوطي، الدرّ المنثور، ج 4، ص66.
 
220

173

الدرس التاسع عشر: البداء

 وقال الإمام الباقر عليه السلام: "صلة الأرحام تُزكّي الأعمال، وتُنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتُيسّر الحساب، وتُنسئ في الأجل"1.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الدعاء يردّ القضاء، وإنّ المؤمن ليذنب فيُحرَم بذنبه الرزق"2.
 
إلى غير ذلك من الأحاديث المتضافرة المروية عن الفريقين في هذا المجال.
 
محل النزاع في المسألة
ممّا تقدّم يظهر أنّ حقيقة البداء - وهي تغيير مصير الإنسان بالأعمال الصالحة والطالحة - ممّا لا مناص لكلّ مسلم من الاعتقاد به وإلى هذا أشار الشيخ الصدوق بقوله: "فمن أقرّ لله عزّ وجلّ بأنّ له أن يفعل ما يشاء، ويعدم ما يشاء، ويخلق مكانه ما يشاء، ويقدّم ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، ويأمر بما شاء كيف شاء، فقد أقرّ بالبداء، وما عُظِّم الله عزّ وجلّ بشيء أفضل من الإقرار بأنّ له الخلق والأمر والتقديم والتأخير وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان"3.
 
فالنزاع في الحقيقة ليس إلا في التسمية، ولو عرف المخالف أنّ تسمية فعل الله سبحانه بالبداء من باب المجاز والتوسّع لما شَهَرَ سيوف النقد على الشيعة. وإن أبى حتى الإطلاق التجوّزي، فعليه أن يتبع النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث أطلق لفظ البداء عليه سبحانه بهذا المعنى المجازي الذي قلنا، في حديث الأقرع والأبرص والأعمى.
 
فقد روى أبو هريرة أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنّ ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم"4.
 
فبأيّ وجه فسّر كلامه صلى الله عليه وآله وسلم يفسّر كلام أوصيائه عليهم السلام.


1- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص470.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 93، ص 288.
3- الشيخ الصدوق، التوحيد، ص335، الباب 54.
4- الإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص109؛ رواه البخاري في صحيحه فلاحظ: ج 4، ص 172.
 
221

 


174

الدرس التاسع عشر: البداء

 وبذلك تقف على أنّ ما ذكره الأشعري في "مقالات الإسلاميين"، والبلغمي في تفسيره، والرازي في المحصّل، وغيرهم حول البداء، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه، فإنّهم فسّروا البداء لله بظهور ما خفي عليه، والشيعة براءٌ منه، بل البداء عندهم كما عرفت تغيير التقدير المشترط من الله تعالى، بالفعل الصالح والطالح، فلو كان هناك ظهور بعد الخفاء فهو بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى الله تعالى، بل هو بالنسبة إليه إبداء ما خفي وإظهاره.
 
التقدير المحتوم والموقوف
أشرنا سابقاً إلى أنّ التغيير إنّما يقع في التقدير الموقوف دون المحتوم، وهذا ما يحتاج إلى شيء من البيان فنقول: إنّ لله سبحانه تقديرين، محتوماً وموقوفاً، والمراد من المحتوم ما لا يُبدَّل ولا يُغيَّر مطلقاً، وذلك كقضائه سبحانه للشمس والقمر مسيرين إلى أجلٍ معين، وللنظام الشمسي عمراً محدّداً، وتقديره في حقّ كلّ إنسان بأنّه يموت قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾1، إلى غير ذلك من السنن الثابتة الحاكمة على الكون والإنسان.
 
والمراد من التقدير الموقوف الأمور المقدّرة على وجه التعليق، فقدّر سبحانه أنّ المريض يموت في وقت كذا إلا إذا تداوى، أو أجريت له عملية جراحية، أو دعي له وتُصدِّق عنه، وغير ذلك من التقادير التي تتغيّر يإيجاد الأسباب المادّية وغيرها التي هي من مقدّراته سبحانه أيضاً، والله سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين: الموقوف، وما يتوقّف عليه الموقوف، وإليك بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حول هذين التقديرين:
 
1- سُئِل الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام عن ليلة القدر، فقال: تنزَّل فيها الملائكة والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة... قال: "وأمرٌ 


1- سورة الرحمن، الآية 26.
 
222
 

175

الدرس التاسع عشر: البداء

موقوف لله تعالى فيه المشيئة، يُقدِّم منه ما يشاء ويُؤخِّر ما يشاء، وهو قوله: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾1"2.
 
2- وفي حديث قال الإمام الرضا عليه السلام لسليمان المروزي: "يا سليمان إنّ من الأمور أموراً موقوفة عند الله تبارك وتعالى يُقدّم منها ما يشاء ويُؤخّر ما يشاء"3.
 
الأجل المطلق والمسمّى في القرآن الكريم
ونشير في ختام حديثنا إلى مطلب ينفع كثيراً في فهم المطالب المتقدّمة، وهو أنّ القرآن الكريم ذكر الأجل بوجهين:
1ـ على وجه الإطلاق.
2ـ بوصف كونه مسمّى.
 
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾4.
 
فجعل للإنسان أجلين: مطلقاً ومسمّى، كما أنّه جعل للشمس والقمر أجلاً مسمّى فقال سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾5. والمقصود من الأجل المسمّى هو التقدير المحتوم، ومن الأجل المطلق التقدير الموقوف، قال العلامة الطباطبائي: "إنّ الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، والأجل المسمّى عند الله تعالى، وهذا هو الذي لا يقع فيه تغيير لمكان تقييده بقوله ﴿عِندَهُ﴾ وقد قال تعالى: ﴿وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾6. وهو الأجل المحتوم الذي لا يتغير ولا يتبدّل، قال تعالى: ﴿إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ7
 
فنسبة الأجل المسمّى إلى الأجل


1- سورة الرعد، الآية 39.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 4، ص102، باب البداء، ح14، نقلاً عن أمالي الطوسي.
3- م. س، ص95،ح2.
4- سورة الأنعام، الآية 2.
5- سورة الرعد، الآية 2.
6- سورة النحل، الآية 96.
7- سورة يونس، الآية 49.
 
223
 
 

176

الدرس التاسع عشر: البداء

غير المسمّى، نسبة المطلق المنجّز إلى المشروط المعلَّق، فمن الممكن أن يتخلَّف المشروط المعلَّق عن التحقّق لعدم تحقّق شرطه الذي علّق عليه، بخلاف المطلق المنجّز، فإنّه لا سبيل إلى عدم تحقّقه البتّة. والتدبّر في الآيات يُفيد أنّ الأجل المسمّى هو الذي وضع في أمّ الكتاب، وغير المسمّى من الأجل هو المكتوب فيما نُسمّيه بـ ‍(لوح المحو والإثبات)"1.


1- السيد الطباطبائي، تفسير الميزان: ج7، تفسير سورة الأنعام، الآية الثانية.
 
224
 
 

177

الدرس التاسع عشر: البداء

المفاهيم الرئيسة
- تحتلّ مسألة البداء في عقائد الشيعة الإمامية موقعاً مرموقاً، وهم تابعون في ذلك للنصوص الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في تلك المسألة.

- ليس المراد من البداء الوارد في أحاديث الإماميّة معناه اللغوي، ولا ما يفهمه المعترضون، بل المراد أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بالأعمال الصالحة والطالحة، وأنّ لله سبحانه تقديراً مشروطاً موقوفاً، وتقديراً مطلقاً، والإنسان إنّما يتمكن من التأثير في التقدير المشروط، وهذا بعينه قدرٌ إلهيّ، والله سبحانه عالم في الأزل، بكلا القسمين كما هو عالم بوقوع الشرط.

- إنّ لله سبحانه تقديرين: محتوماً وموقوفاً. والمراد من المحتوم ما لا يُبدَّل ولا يُغيَّر مطلقاً، والمراد من التقدير الموقوف الأمور المقدّرة على وجه التعليق، والله سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين: الموقوف، وما يتوقّف عليه الموقوف.
 
 
225

178

الدرس التاسع عشر: البداء

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- وضّح الأهمية التي تحتلها عقيدة البداء في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
2- بيّن كيف فسّر الشيخ المفيد البداء عند الشيعة الإمامية.
3- اشرح النظرية القرآنية في مسألة الأجل المسمى والمطلق.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- التقدير الموقوف هي الأمور المقدّرة على وجود أسبابها ومسبّباتها التي تبقيها على حالها أو تغيُّرها لشيء آخر. 
2- إنّ الإيمان بعقيدة البداء يؤدّي إلى تأخُّر علم الله سبحانه وتعالى عن حدوث الأشياء وتبدّلها.
 
3- البداء هو أنّ الله سبحانه وتعالى قد منح للإنسان القدرة على تغيير مصيره بسبب الأعمال التي يقوم بها وهذا كلّه بعلم الله وقدرته. 

4- اعتبر القرآن أنّ للإنسان القدرة على تغيير مصيره وعلّق ذلك على الأعمال الصالحة فقط. 

5- فسّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء﴾ بالأعمال التي تُغيّر مصير الإنسان.
 
226
 

179

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أدّلة لزوم النبوة العامة.
2- يتعرّف إلى أهم شبهات منكري النبوة العامة.
3- يتمكن من الإجابة على أهم الشبهات المثارة حول النبوة العامة.
 
227
 

180

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

تمهيد
النبوَّة سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده، لتدبير حياتهم في أمر معاشهم ومعادهم، والنبيّ هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بإحدى الطرق المعروفة والتي سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
 
والبحث في النبوَّة يقع على صورتين:
الأولى: البحث عن مطلق النبوَّة.
الثاني: البحث عن نبوَّة نبيّ خاص، كنبوَّة سيدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسله.
 
والأبحاث التي طرحها المتكلّمون حول النبوَّة العامة تتمحور في أربعة أُمور وهي:
1- حسن البعثة ولزومها، أو تحليل أدلّة مثبتي البعثة ومنكريها.
2- الطرق التي يعرف بها النبيّ الصادق من المتنبّئ الكاذب.
3- الطريق أو الوسيلة التي يتلقّى بها النبيّ تعاليمه من الله سبحانه.
4- الصفات المميّزة للنبيّ عن غيره.
 
وبإشباع البحث في هذه المجالات الأربعة يكتمل البحث في النبوَّة العامة، ويقع الكلام بعده في النبوَّة الخاصّة بإذنه تعالى.
 
229
 

181

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

أدلّة لزوم البعثة
الدليل الأوّل: حاجة المجتمع إلى القانون الكامل:
لا يشكّ أحد من الفلاسفة والباحثين في الحياة الإنسانية، في أنّ للإنسان ميلاً إلى الاجتماع والتمدّن، كما أنّ حاجة المجتمع إلى القانون ممّا لا يرتاب فيه، وذلك لأنّ الإنسان مجبول على حبِّ الذّات، وهذا يجرّه إلى تخصيص كلّ شيء بنفسه من دون أن يراعي لغيره حقّاً، ويؤدّي ذلك إلى التنافس والتشاجر بين أبناء المجتمع وبالتالي إلى عقم الحياة وتلاشي أركان المجتمع، فلا يقوم للحياة الاجتماعية أساس إلّا بوضع قانون دقيق ومحكم ومتكامل يقوم بتحديد وظائف كلّ فرد وحقوقه.
 
1- شرائط المقنّن:
لا ريب في أنّ جعل قانون يكون متناولاً لجميع جوانب الحياة للمجتمعات البشرية في أصقاع الأرض التي تتباين من حيث الظروف الجغرافية والعادات والتقاليد، يحتاج إلى توفّر شروط، تخرج قطعاً عن طاقة الإنسان مهما ترقّى في درجات العلم، وإليك بيان الشرطين الأساسين لذلك: 
 أ- معرفة المقنِّن بالإنسان:
إنّ أوّل وأهمّ خطوة في وضع القانون، معرفة المقنِّن بالمورد الّذي يضع له القانون، وعلى ضوء هذا، لابدّ أن يكون المقنِّن عارفاً بالإنسان: جسمه وروحه، غرائزه وفطريّاته، وما يصلح لهذه الأمور أو يضرّ بها، وكلّما تكاملت هذه المعرفة بالإنسان كان القانون ناجحاً وناجعاً في علاج مشاكله وإبلاغه إلى السعادة المتوخّاة من خلقه.
 
ب- عدم انتفاع المقنِّن بالقانون:
وهذا الشرط بديهي، فإنّ المقنِّن إذا كان منتفعاً من القانون الذي يضعه، سواء 
 
 
230
 

182

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

 كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمتّ إليه بصلة خاصّة، فهذا القانون سيتمّ لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع، ونتيجته الحتميّة الظلم والإجحاف.
 
فالقانون الكامل لا يتحقّق إلّا إذا كان واضعه مجرّداً عن حبّ الذات وهوى الانتفاع الشخصي.
 
2- دراسة الشرطين المتقدّمين:
أمّا الشرط الأوّل: فإنّا لن نجد في صفحة الوجود موجوداً أعرف بالإنسان من خالقه، فإنّ صانع وخالق الشيء أعرف به من غيره، يقول سبحانه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾1.
 
إنّ عظمة الإنسان في روحه ومعنوياته، وغرائزه وفطريّاته، أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله ولا يضاء محيطه، وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده حتى لقِّب بـ "الموجود المجهول".
 
وأمّا الشرط الثاني: فلن نجد أيضاً موجوداً مجرّداً عن أيّ فقر وحاجة وانتفاع سواه سبحانه، ووجه ذلك أنّ الإنسان، مجبول على حبّ الذّات، فهو مهما جرّد نفسه من تبعات غرائزه لن يستطع التخلّص من هذه النزعة.
 
وممّا يدلّ على عدم صلاحية البشر نفسه لوضع قانون كامل، ما نرى من التبدّل الدائم في القوانين والنقض المستمرّ الذي يورد عليها بحيث تحتاج في كلّ يوم إلى استثناء بعض التشريعات وزيادة أُخرى، إضافة إلى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر، وما ذلك إلّا لقصورهم عن معرفة الإنسان حقيقة المعرفة وانتفاء سائر الشروط في واضعيها.


1- سورة الملك، الآية 14.
 
231

183

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية للبشر متوقِّفاً على التقنين الإلهي، فواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم، والحامل لرسالة الله سبحانه هو النبيّ المنبئ عنه والرسول المبلّغ إلى الناس، فبعث الأنبياء واجب في حكمته تعالى حفظاً للنظام المتوقِّف على التقنين الكامل.
 
وإلى هذا الدليل يشير قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾1.
 
الدليل الثاني: حاجة المجتمع إلى المعرفة:
إنّ الإنسان ـ كغيره من الموجودات الحيّة ـ مجهّز بهداية تكوينية لكنّها غير وافية في إبلاغه الغاية التي خُلق لها، ولأجل ذلك ضمّ الخالق إلى تلك الغرائز مصباحاً يُضيء له السبيل في مسيرة الحياة، ويفي بحاجاته التي تقصر الغرائز عن إيفائها، وهو العقل.
 
ومع ذلك كلّه فإنّ العقل أيضاً غير كاف في إبلاغه إلى السعادة المتوخّاة، بل يحتاج إلى عامل ثالث يعينه في بلوغ تلك الغاية، ووجه ذلك أنّ العقل الإنساني غير مصون عن الخطأ والزلل.
 
ثمّ إنّ أهمّ ما يحتاج الإنسان إلى التعرُّف عليه ليكون ناجحاً في الوصول إلى السعادة المطلوبة من حياته أمران:
1- المعرفة بالله سبحانه.
2- والتعرّف على مصالح الحياة ومفاسدها.



1- سورة الحديد، الآية 25.
 
232

184

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

والمعرفة الكاملة في هذين المجالين لا تحصل للإنسان إلّا في ضوء الوحي وتعاليم الأنبياء، وأمّا العلوم الإنسانية فهي غير كافية فيهما.
 
وممّا يوضح قصور العلم البشري في العلوم الإلهية أنّ هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية، ومع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الإلهية، فجلّهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ عبّاد للأصنام والأوثان، وببابك بلاد الهند الشاسعة وما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسة وتألُّه في "البقر"!!
 
نعم هناك نوابغ من البشر عرفوا الحقّ عن طريق التفكير والتعقّل كسقراط وأفلاطون وأرسطو، ولكنّهم أُناس استثنائيون، لا يعدّون معياراً في البحث، وكونهم عارفين بالتوحيد لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه.
 
على أنّه من المحتمل جدّاً أن يكون وقوفهم على هذه المعارف في ظلّ ما وصل إليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه، قال صدر المتألّهين:
"أساطين الحكمة المعتبرة عند اليونانيين خمسة: أنباذقلس وفيثاغورث وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، وقد لقي فيثاغورث تلاميذ سليمان بن داود عليهما السلام بمصر واستفاد منهم وتلمّذ للحكيم المعظم الربّاني أنباذقلس وهو أخذ عن لقمان الآخذ عن داود عليه السلام، ثمّ سقراط أخذ عن فيثاغورث وأفلاطون عن سقراط وأخذ أرسطاطاليس عن أفلاطون وصحبه نيِّفاً وعشرين سنة..."1.
 
وممّا يدلّ على قصور العلم الإنساني عن تشخيص منافع البشر والمجتمعات ومضارّها، أنّ المجتمع الإنساني ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف بعد على النظام الاقتصادي النافع له، فطائفة تزعم أنّ سعادة البشر في نظام الرأسمالية 


1- صدر الدين الشيرازي، الرسائل، ص 68 - 69.
 
 
233
 

185

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

 والاقتصاد الحرّ المطلق، والأخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي وسلب المالكية عن أدوات الانتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة.
 
كما أنّه لم يصل بعد إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعدّدت المناهج الأخلاقيّة في العصر الأخير إلى حدّ التضادّ فيها.
 
وأيضاً نرى أنّ الإنسان - مع ما يدّعيه من العلم والمعرفة - لم يدرك بعد عوامل السعادة والشقاء له، بشهادة انّه يشرب المسكرات، ويستعمل المخدّرات، ويتناول اللحوم الضارّة، كما يُقيم اقتصاده على الرِّبا الذي هو عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع.
 
فإذا كان هذا حال الإنسان في معرفة المسائل الابتدائية في الاقتصاد والأخلاق، وعوامل السعادة والشقاء، فما ظنّك بحاله في المسائل المبنيّة على أُسس تلك العلوم، أفبعد هذا الجهل المطبق يصحّ لنا أن نقول إنّ الإنسان في غنى عن الوحي في سلوك طريق الحياة؟
 
وفيما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام إشارات إلى هذا البرهان نأتي بنموذجين منها:
- قال الإمام الكاظم عليه السلام: "يا هشام: ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة"1.
 
- وقال الإمام الرضا عليه السلام: "لم يكن بدّ من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدّي إليهم أمره ونهيه وأدبه، ويقفهم على ما يكون به من إحراز منافعهم ودفع مضارّهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه"2.


1- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 16 كتاب العقل والجهل، الحديث 12.
2- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج11، ص 40.
 
234

186

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

أدلّة منكري بعثة الأنبياء عليهم السلام
أثار منكرو بعثة الأنبياء عليهم السلام العديد من الشبهات بصورة أدلّة على مدّعاهم، نتعرّض لاثنين منها لنحاكمها ونرى ما فيها.
 
الدليل الأوّل:
إنّ الرسول إمّا أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها، فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، ولا فائدة فيه، وإن جاء بما يخالف العقول، وجب ردّ قوله.
 
وبعبارة أُخرى: إنّ الذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون معقولاً، وإمّا أن لا يكون معقولاً.
 
فإن كان معقولاً، فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولاً، فلا يكون مقبولاً، إذ قبول ما ليس بمعقولٍ، خروجٌ عن حدّ الإنسانية ودخول في حريم البهيمية.
 
الجواب:
إنّ حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول ومخالفها، حصر غير حاصر، فإنّ هاهنا شقّاً ثالثاً وهو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له، فإنّك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلّة على لزوم البعثة، أنّ عقل الإنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل.
 
الدليل الثاني:
قد دلّت الدلائل العقلية على أنّ للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً، وأنّه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر، فننظر في آيات خلقه بعقولنا، ونشكره بآلائه علينا، وإذا عرفناه وشكرناه، استوجبنا ثوابه، وإذا أنكرناه وكفرنا به، استوجبنا عقابه، فما بالنا نتّبع بشراً مثلنا؟!
 
235


187

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

الجواب عنه بوجهين:
الأوّل: إنّ كثيراً من الناس لا يعرفون كيفية الشكر، فربّما يتصوّرون أنّ عبادة المقرَّبين نوع شكر للّه سبحانه، فلأجل ذلك ترى عبدة الأصنام والأوثان يعتقدون أنّ عبادتهم للمخلوق شيءٌ موجب للتقرّب1.
 
الثاني: إنّ تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر والنهي عن كفران النعمة، غفلة عن أهدافهم السامية، فإنّهم جاءوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية، ولا تختصّ رسالتهم بالأوراد والأذكار الجافّة، كتلك الّتي يردّدها أصحاب بعض الديانات أيّام السّبت والأحد في البيع والكنائس، وإنّك لتقف على عظيم أهداف رسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إذا وقفت على كلمته المأثورة: "إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة"2.


1- قال تعالى حكاية عن المشركين: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ (سورة الزمر، الآية 3). 
2- تاريخ الطبري، ج2، ص 63، قاله النبيّ عند دعوة أقاربه إلى الإسلام.
 
236


 

188

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

المفاهيم الرئيسة
- النبوّة سفارة بين الله تعالى وبين ذوي العقول من عباده؛ لتدبير حياتهم في أمر معاشهم ومعادهم.

- البحث في النبوّة يقع على صورتين، الأولى: البحث عن مطلق النبوّة، الثانية: البحث عن نبوّة نبيٍّ خاص كالنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

- من أدلّة لزوم بعثة الأنبياء عليهم السلام: حاجة المجتمع إلى القانون الكامل، وحاجة المجتمع إلى المعرفة. وكلا الحاجتين لا يلبيهما إلا إرسال الرسل وإنزال الكتب.

- من أدلّة منكري البعثة:
1- إنّ الرسول إن أتى بالمعقول فيكفينا العقل إيّاه، وإن جاءنا بغير المعقول فهو غير مقبول.
الرّدّ: إنّ حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول ومخالفها، حصر غير حاصر، فإنّ هاهنا شقّاً ثالثاً وهو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل.
 
2- إنّ الدلائل العقلية دلّت على وجود الخالق المنعم وعلى وجوب شكره، فإن شكرناه استوجبنا ثوابه وإلّا عقابه، فلا حاجة لبشر مثلنا نتّبعه.

الرّدّ: أ ـ إنّ كثيراً من الناس لا يعرفون كيفية الشكر.
ب ـ إنّ حصر برامج الأنبياء بالأمر بالشكر والنهي عن الكفران غفلة عن أهدافهم السامية، فإنّهم جاءوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية.
 
237
 

189

الدرس العشرون: النبوّة العامّة

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- اذكر الشرط الأول للمقنّن الحكيم، مبيّناً مصداقه الصحيح.

2- أجب عن هذا الإشكال: "إنّ الرسول إمّا أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها، فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، ولا فائدة فيه، وإن جاء بما يخالف العقول، وجب ردّ قوله".

3- اذكر الروايات التي استُدلّ بها على حاجة المجتمع إلى المعرفة.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- إنّ الحياة الاجتماعية لا بد لها من قانون يكون متناولاً لجميع جوانب الحياة للمجتمعات البشرية التي تتباين من حيث الظروف الجغرافية والعادات والتقاليد. 

2- لا يؤثّر في وضع القانون كون الواضع صاحب منفعة فيه لأنّ ذلك يؤدّي إلى وضع قانون مناسب لجميع أفراد المجتمع. 

3- إنّ معرفة مصالح الحياة ومفاسدها لا يتحقّق إلا في ضوء الوحي وتعاليم الأنبياء العظام. 

4- إذا تعرّف الإنسان على الله سبحانه وتعالى بالأدلة العقلية وشكره استوجب ثوابه وإذا أنكره استوجب عقابه فلا حاجة بعد ذلك للأنبياء ليكون أداة لمعرفة الله عزّ وجلّ. 

5- إنّ معرفة الأنبياء والإيمان بهم هو لمعرفة الله وبناء المجتمع الإنساني الإلهي.
 
239
 
 

190

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يتعرّف إلى طرق إثبات دعوى النبوّة.
2- يُبيّن معنى المعجزة والرابطة المنطقيّة بينها وبين دعوى النبوّة.
3- يُدرك الفرق بين المعجزة والسحر.
 
239

191

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

تمهيد
يجب أن تقترن دعوى النبوَّة بدليل يثبت صحّتها وإلاّ كانت دعوى فارغة غير قابلة للاِذعان والقبول وهذا ما تقتضيه الفطرة الإنسانية، يقول ابن سينا في كلمته المشهورة: "من قَبِلَ دعوى المدّعي بلا بيِّنة وبرهان، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية".
 
ثمّ إنّ هنا طرقاً ثلاثة للوقوف على صدق مدّعي النبوَّة في دعواه وهي:
1- الإعجاز.
2- تصديق النبيّ السابق نبوة النبيّ اللاحق.
3- جمع القرائن والشواهد.
 
ولنبدأ بدراسة هذه الطرق، الواحد تلو الأخر:
تعريف المعجزة
المشهور في تعريف المعجزة أنّها: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، مع عدم المعارضة"1، وإليك توضيحه:
إنّ هناك أُموراً تعدّ خارقة (مضادّة) للعقل، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، 
 

1- العلّامة الحلّي، شرح التجريد، ص 465.
 
241
 

192

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

 ووجود المعلول بلا علّة ونحو ذلك، وأُموراً أُخرى تخالف القواعد العادية، بمعنى أنّها تعدّ محالات حسب الأدوات والأجهزة العادية، والمجاري الطبيعية، ولكنّها ليست محالاً عقلاً لو كان هناك أدوات أُخرى خارجة عن نطاق العادة، وهي المسمّاة بالمعاجز، وذلك كحركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين بلا تلك الوسائط العادية، فإنّه غير ممتنع عقلاً ولكنّه محال عادة، ومن هذا القبيل ما يحكيه القرآن من قيام من أوتي علماً من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام في طرفة عين بلا توسُّط شيء من تلك الأجهزة المادّية المتعارفة، قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾1.
 
فتحصّل أنّ الإعجاز أمر خارق للعادة لا للعقل.
 
ثمّ إنّ الإتيان بما هو خارق للعادة لا يسمّى معجزة إلّا إذا كان مقترناً بدعوى النبوّة، وإذا تجرّد عنها وصدر من بعض أولياء الله تعالى يُسمّى "كرامة" وذلك كحضور الرزق لمريم عليها السلام بلا سعي طبيعي2 ولأجل ذلك كان الأولى أن يضيفوا إلى التعريف قيد: "مع دعوى النبوّة"3.
 
ولا يتحقّق الإعجاز إلاّ إذا عجز الناس عن القيام بمعارضة ما أتى به مدّعي النبوّة، ويترتّب على هذا أنّ ما يقوم به كبار الأطباء والمخترعين من الأمور العجيبة خارج عن إطار الإعجاز، كما أنّ ما يقوم به السحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة، لا يعدّ معجزاً لانتفاء هذا الشرط.


1- لاحظ سورة النمل، الآية 40.
2- لاحظ سورة آل عمران، الآية 37.
3- لا تختص المعجزة بدعوى النبوة، بل يعمّها ودعوى الإمامة وغيرها من الدعاوى الإلهية، كدعوى المسلم أنّ شريعة الإسلام هي الحقّ دون غيرها من الشرائع، ويقوم بالمباهلة، فذلك معجزة البتة، فالصحيح في تعريف المعجزة أن يقال:"هو الفعل الخارق للعادة الذي يأتي به من يدّعي منصباً أو مقاماً إلهياً شاهداً على صدق دعواه" راجع السيّد الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص 33.
 
242
 

193

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

ومن شرائط كون الإعجاز دليلاً على صدق دعوى النبوّة أن يكون فعل المدّعي مطابقاً لدعواه، فلو خالف ما ادّعاه لما سُمّي معجزة وإن كان أمراً خارقاً للعادة، ومن ذلك ما حصل من مسيلمة الكذّاب عندما ادّعى أنّه نبي، وآية نبوّته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء، يكثر ماؤها، فتفل فغار جميع ماؤها.
 
دلالة الإعجاز والتحسين والتقبيح العقليّان
إنّ المعجزة إنّما تكون دليلاً على صدق النبوّة يتوقّف على القول بالحسن والقبح العقليين، لأنّ الإعجاز إنّما يكون دليلاً على صدق النبوّة، إذا قبح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب، فإذا توقّف العقل عن إدراك قبحه واحتمل صحّة إمكان ظهوره على يد الكاذب، لا يقدر على التمييز بين الصادق والكاذب، فالذين أعدموا العقل ومنعوا حكمه بهما، يلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز.
 
الرابطة المنطقية بين الإعجاز ودعوى النبوّة
هناك من يتخيّل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبيّ، دلالة إقناعية لا برهانية، بحجّة أنّ الدليل البرهاني يتوقّف على وجود رابطة منطقية بين المدّعى والدليل، وهي غير موجودة في المقام. ويردّه أنّ دعوى النبوّة والرسالة من كلّ نبي ورسـول ـ على ما يقصّه القـرآن ـ إنّما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول ملك، وهذا أمر لا يساعده الحسّ ولا تؤيّده التجربة، فإنّ الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية ممّا لا يشاهده البشر في أنفسهم، والعادة الجارية في الأسباب والمسبّبات تنكره، فهو أمر خارق للعادة.
 
فلو كان النبيّ صادقاً في دعواه النبوّة والوحي، لكان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة، مؤيَّد بقوَّة إلهية تقدر على خرق العادة، فلو كان هذا حقّاً كان من الممكن أن يصدر من النبيّ خارق آخر للعادة يصدّق النبوّة والوحي من غير مانع منه، فإنّ حكم الأمثال واحد، فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوّة 
 
243
 
 

194

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

والوحي، فليؤيّدها وليصدّقها بخارق آخر وهو المعجزة.
 
وهذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوّة كلّما جاءهم رسول من أنفسهم1.
 
فوارق المعجزة لسائر خوارق العادة
إنّ هناك جهات من التمايز والتفارق بين المعجزة والكرامة وبين غيرهما من خوارق العادات وهي:
الجهة الأولى: من حيث طريق الحصول عليها، فإنّ المعجزة والكرامة وليدتان لعناية إلهية خاصة، وليس السبب لهما مما تناله يد الدراسة والتعلّم، ولكن السحر ونحوه نتاج التعليم والتعلّم ولها مناهج تعليمية يجب ممارستها حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة يقول سبحانه: ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾2.
 
قال القاضي عبد الجبّار: "إنّ الحيلة ممّا يمكن أن تُتعلّم وتُعلّم، وهذا غير ثابت في المعجزة"3.


1- العلّامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 1، ص 86.
2- سورة البقرة، الآية 102.
3- عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، ص 572.
 
244
 

195

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

ومن هنا فإنّ السحر ونحوه قابل للمعارضة دون المعجزة، وإلى هذا أشار عبد الجبار بقوله: "إنّ الحيل ممّا يقع فيها الإشتراك، وليس كذلك المعجزة"1.
 
ولمّا كان السحر ونحوه رهن التعليم والتعلم، فهو متشابه في نوعه، متّحد في جنسه، يدور في فلك واحد، ولا يخرج عن نطاق ما تعلّمه أهله ولذا لا يأتون إلّا بما تدرّبوا عليه، بخلاف إعجاز الأنبياء فانّه على جانب عظيم من التنوّع في الكيفيّة إلى حدّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدراً مشتركاً وجنساً قريباً، كما في المعجزات التي يخبر بها القرآن عن موسى وعيسى عليهما السلام بقوله تعالى: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ2
 
وقوله تعالى: ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾3.
 
وقوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾4.
 
وقوله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾5.
 
وقوله سبحانه: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾6.


1- عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، ص 572. 
2- سورة الأعراف، الآية 107.
3- سورة الأعراف، الآية 108.
4- سورة البقرة، الآية 60.
5- سورة الشعراء، الآية 63.
6- سورة آل عمران، الآية 49.
 
245
 
 

196

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

نعم الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون الرائجة في عصورهم حتى يتسنّى لخبراء كلّ فنٍّ تشخيص المعاجز وإدراك استنادها إلى القدرة الغيبية، وتميّزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم والفنون الرائجة.
 
الجهة الثانية: من حيث الأهداف والغايات، فإنّ أصحاب المعاجز يتبنّون أهدافاً عالية ويتوسّلون بمعاجزهم لإثبات حقّانية تلك الأهداف ونشرها، وهي تتمثّل في الدعوة إلى الله تعالى وحده وتخليص الإنسان من عبوديّة الأصنام والحجارة والحيوانات والدعوة إلى الفضائل ونبذ الرذائل، واستقرار نظام العدل الاجتماعي وغير ذلك، كما أنّ أصحاب الكرامات أيضاً لا يتبنّون إلّا ما يكون موافقاً لرضى الله سبحانه لا غير.
 
وهذا بخلاف المرتاضين والسحرة، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسمعة بين الناس، أو جمع المال والثروة، وغير ذلك ممّا يناسب متطلّبات القوى البهيميّة.
 
الجهة الثالثة: من حيث التقيّد بالقيم الأخلاقية، فإنّ أصحاب المعاجز والكرامات ـ باعتبار كونهم خرّيجي المدرسة الإلهية ـ متحلّون بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانية، والمتصفّح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عمل مشين ومناف للعفّة ومكارم الأخلاق، وأمّا أصحاب الرياضة والسحر، فهم دونهم في ذلك، بل تراهم غالباً فارغين عن المثل والفضائل والقيم.
 
فبهذه الضوابط يتمكّن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق، والنبيّ عن المرتاض والساحر.
 
هل المعجزة تناقض قانون العلّية؟
الحقيقة أنّ المعجزات لا تعدّ نقضاً لقانون العلّية العام، فإنّ المنفي في مورد المعجزة هو العلل المادّية المتعارفة الّتي وقف عليها العالم الطبيعي واعتاد الإنسان على مشاهدته في حياته ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أُخرى لم يُشاهدها 
 
244
 
 

197

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

الناس من قبل ولم يعرفها العلم ولم تقف عليها التجربة.
 
فإنّ مبدأ العلّية لا يقتضي أكثر من أن يكون لكلّ معلول علّة ما، ولكن هذا المبدأ لا يفرض أن تكون كلّ علّة قابلة للمعرفة والاكتشاف من خلال التجارب العلميّة، ولا يوجد أيّ دليل على ذلك، لأنّ ميدان التجارب العلميّة ومجالها محدّد بالأمور الطبيعية، ولا يمكن أن يثبت من خلال أدوات المختبرات وأجهزتها، وجود أمور ما وراء الطبيعة أو نفيها، أو عدم تأثيرها.
 
أمّا تفسير الإعجاز بالتعرّف على العلل المجهولة فغير صحيح، ذلك لأنّ هذه المعرفة إن أمكن التوصّل إليها من طريق العلل والعوامل العاديّة، فلا يكون هناك فرق بينها وبين سائر الظواهر العاديّة، ولا يمكن اعتبارها بأيّ وجه كان أمراً خارقاً للعادة. أمّا لو حصلت المعرفة المذكورة بصورة غير عادية، فإنها - وإن كانت أمراً خارقاً للعادة وفيما كانت مستندة إلى إذن خاص من الله تعالى وصدرت كدليل على صدق النبوّة- ستعتبر من أقسام المعجزة (المعجزة العلمية) كما في معرفة النبي عيسى عليه السلام ما يأكل الناس وما يلبسون، حيث اعتبرت من معجزاته. ولكن لا يمكن حصر المعجزة بهذا القسم ونفي سائر أقسامها.
 
كما أنّ المعجزة أيضاً لا تخدش ببرهان النظم الّذي يستدل به على وجود الصانع، وذلك لأنّ الإعجاز ليس خرقاً لجميع النظم السائدة على العالَم، وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان النظم على وجود الصانع.
 
247

198

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

المفاهيم الرئيسة

- ينبغي أن تقترن دعوى النبوّة بدليل يثبت صحّتها، وهناك طرق ثلاثة لإثبات صدق مدّعي النبوّة:
1- الإعجاز.
2- تنصيص النبيّ السابق.
3- جمع القرائن والشواهد.
 
- المعجزة: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي ـ مع دعوى النبوّة ـ مع عدم المعارضة".

- إنّ المعجزة إنّما تكون دليلاً على صدق النبوّة، إذا قَبُح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب.

- هناك فوارق بين المعجزة والكرامة وسائر خوارق العادة:
 
1- من حيث طريق الحصول عليها: فإنّ المعجزة وليدة العناية الإلهية بخلاف السحر فهو نتاج التعليم والتعلُّم ثم إنّ المعجزة لا تُعارَض بخلاف السحر.
 
2- من حيث الأهداف والغايات: فأصحاب المعجزات يتبنّون أهدافاً عالية بخلاف أصحاب السحر فإنّ أهدافهم دنيوية كالمال والجاه والسمعة.
 
3- من حيث التقيّد بالقيم الأخلاقية: فأصحاب المعجزة والكرامة أصحاب أخلاق وقيم بخلاف أصحاب السحر.
 
- إنّ المعجزة لا تنقض قانون العلّيّة، فإن المنفي في مورد المعجزة هو العلل المادية التي اعتاد الإنسان على مشاهدتها في عالم الطبيعة.

 248
 

199

الدرس الواحد والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (1)

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- ما هي الرابطة المنطقية بين الإعجاز ودعوى النبوّة؟
2- تمتاز المعجزة عن الكرامة من حيث الأهداف والغايات، بيّن ذلك.
3- فسّر كيف أنّ المعجزة لا تتناقض مع قانون العلّية.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- عُرّفت المعجزة بأنّها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدّي، مع عدم المعارضة. 

2- لا يشترط في مدّعي النبوة أن يكون فعله مطابقاً لدعواه فلو خالف ذلك سمّي معجزة وصحّت دعوته. 

3- إذا لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين يستلزم ذلك سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز. 

4- لا يتوقّف حصول المعجزة على كونها هبة إلهية بل لا بد من التدريب والممارسة والتعليم لكي تتحقّق. 

5- يمتاز أصحاب المعاجز والكرامات بالتقيّد بالقيم الأخلاقية خلافاً لأصحاب الرياضة والسحر. 
 
249

200

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يستدل على صدق دعوى النبي من خلال تنصيص النبي السابق.
2- يستدل على صدق دعوى النبي من خلال صفاته وصفات أتباعه.
3- يستدل على صدق دعوى النبي من خلال مضمون وأسلوب دعوته.
 
251
 

201

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

تنصيص النبيّ السابق
إذا ثبتت نبوَّة نبي بدلائل مفيدة للعلم بنبوَّته، ثمّ نصّ هذا النبيّ على نبوَّة نبيّ لاحق يأتي من بعده، كان ذلك حجّة قطعيّة على نبوَّة اللاحق، لا تقلّ في دلالتها عن المعجزة.
 
وذلك لأنّ النبيّ الأوّل، إذا ثبتت نبوّته، يثبت كونه معصوماً عن الخطأ والزلل، لا يكذب ولا يسهو، فإذا قال ـ والحال هذه ـ:سيأتي بعدي نبيّ اسمه كذا، وأوصافه كذا وكذا، ثمّ ادّعى النبوّة بعده شخص يحمل عين تلك الأوصاف والسمات، يحصل القطع بنبوَّته.
 
ولا بدّ أن يكون الاستدلال بعد كون التنصيص واصلاً من طريق قطعي، وكون الأمارات والسمات واضحة، منطبقة تمام الانطباق على النبيّ اللاحق، وإلّا يكون الدليل عقيماً غير منتج.
 
ومن هذا الباب تنصيص المسيح على نبوّة النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، كما يحكيه سبحانه بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾1.


1- سورة الصف، الآية 6.
 
253
 

202

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

ويظهر من الذكر الحكيم أنّ السَلَف من الأنبياء وصفوا النبيّ الأكرم بشكل واضح، وأنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون النبيّ كمعرفتهم لأبنائهم، قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾1. بناء على رجوع الضمير إلى النبيّ، المعلوم من القرائن، لا إلى الكتاب.
 
وقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ﴾2.
 
وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوّة النبيّ الخاتم في حياته وبعد مماته، لصراحة التباشير الواردة في العهدين.
 
هذا، وإنّ الاعتماد على هذا الطريق في مجال نبوّة النبيّ الخاتم، في عصرنا هذا، يتوقّف على جمع البشائر الواردة في العهدين وضمّها إلى بعضها، حتى يخرج الإنسان بنتيجة قطعيّة على أنّ المراد من النبيّ المُبشَّر به فيهما هو النبيّ الخاتم. وقد قام بهذا المجهود لفيف من العلماء وألَّفوا فيه كتباً3.
 
جمع القرائن والشواهد
هذا هو الطريق الثالث لتمييز النبيّ الصادق عن المتنبّئ الكاذب، وهذا الطريق معتمد عليه في المحاكم القانونية لحلّ الدعاوى والنزاعات، يسلكه القضاة في إصدار أحكامهم، ويستند إليه المحامون في إبراء موكّليهم، خاصّة في المحاكم الغربية التي تفتقد القضاء على ضوء الأيمان والبينات. وتقضي هذه


1- سورة البقرة، الآية 146.
2- سورة الأعراف، الآية 157.
3- لاحظ منها كتاب "أنيس الأعلام"، ومؤلّفه كان قسيساً محيطاً بالعهدين وغيرهما وقد تشرّف باعتناق الإسلام، وألّف كتباً كثيرة، منها هذا الكتاب وقد طبع في ستة أجزاء.
 
254
 

203

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

الطريقة بجمع كل القرائن والشواهد التي يمكن أن تؤيّد دعوى المدّعي، أو إنكار المنكر، وضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحّة دعواه أو إنكاره. ويمكن تطبيق هذه الطريقة بعينها في مورد دعوى النبوة، فنتحرى جملة القرائن التي يمكن أن نقطع معها بصدق الدعوى، ومن أهمّ هذه القرائن التي لها دور في تأييد وتأكيد صدق مدّعي النبوّة:
 
1- صفات النبيّ وأ خلاقه:
ممّا يدلّ على كون مدّعي النبوّة صادقاً في دعواه، تحلّيه بروحيات كمالية عالية، وأخلاق إنسانية فاضلة، غير منكبّ على الدنيا وزخرفها، ولا طالب للرئاسة والزعامة، لم ير له في حياته منقصة، ودناسة، بل عرف بكلّ خلق كريم، واشتهر بالنّزاهة والطهارة. فجميع هذه الصفات تدلّ على صفائه في روحه وباطنه، وبالتّالي صدقه في دعواه.
 
2- مضمون دعوة النبي:
من جملة القرائن التي تُرشد إلى صدق المدّعي أو كذبه في دعواه، مضمون العقيدة التي يحملها، والدعوة التي يدعو إليها، ومقدار التوافق بينهما.
 
فإذا كانت العقيدة التي يحملها، والمعارف التي يدعو إلى اعتناقها، معارف إلهية تبحث في خالق الكون وصفاته وأفعاله، وكانت دعوته العملية مرشدة إلى التحلّي بالمُـثُـل الأخلاقيـة، والفضائل الإنسانية، وناهية عن الرذائل النفسية وركوب الشهوات المنحرفة والفسق والمجون، كانت هذه قرائن على اتصال دعوته بخالق الكون، ومبدأ الخير والجمال.
 
3- أسلوب دعوة النبي:
من القرائن الّتي تدلّ على صدق المدّعي في دعوى النبوّة والسفارة الإلهية،
 
 
255
 

204

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية، موافقة للفطرة والطهارة، فإنّ لذلك دلالات على إلهية دعواه.
 
وأمّا لو اعتمد في نشر وتبليغ ما يدّعيه على وسائل إجرامية، وأساليب وحشية غير إنسانية، متمسكاً بقول ماكيافللي: "الغاية تبرّر الوسائل"1، كان هذا دليلاً على كون دعواه شخصية محضة، لا صلة لها بالعالم الربوبي.
 
4- أخلاق اتباع النبي:
إنّ لنفسيات المؤمنين بمدّعي النبوّة وحواريه، دلالة خاصّة على صدقه فيما يدّعيه، وذلك أنّ أقرباء المدّعي وبطانته إذا آمنوا به، واتّبعوا دعوته، وبلغوا فيها مراتب عالية من التقوى والورع، كان هذا دالاًّ على صدق المدّعي في ظاهره وباطنه، وعدم التوائه وكذبه، لأنّ الباطن لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء والبطانة.
 
هذه القرائن وما يشابهها إذا اجتمعت في مدّعي النبوّة، ودعواه التي يدّعيها، كانت دليلاً قاطعاً على صدقه، فإنّ كلّ واحدة من القرائن، وإن كانت قاصرة عن إفادة اليقين، إلاّ أنّها بمجموعها تفيده.
 
5- أول من طرق هذا الباب:
إنّ أوّل من طرق هذا الباب، وجعل القرائن المفيدة للقطع بصدق المدعي، دليلا على صحّة الدعوى، هو قيصر الروم، فإنّه عندما كتب إليه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الذي أتى به، أخذ - بعد استلامه الرسالة - يتأمل في


1- نيكولو ماكيافللي (1469 - 1527م). سياسي ومؤرخ إيطالي، أحد أعلام عصر النهضة في أوربا، شارك في الحياة السياسية في إيطاليا ثمّ اعتزلها عام (1512م) متفرّغاً للتأليف، وعرف في تاريخ الفكر السياسي بمؤلّفه الشهير "الأمير"، حيث أيّد فيه نظام الحكم المطلق، وأحلّ فيه للحاكم اتّخاذ كلّ وسيلة تكفل استقرار حكمه واستمراره، ولو كانت منافية للدين والأخلاق وذلك على أساس أنّ الغاية تبرّر الوسيلة، ومن هنا صار لفظ "المكيافللية" وصفاً لكلّ مذهب ينادي بأنّ الغاية تبرّر الواسطة أو الوسيلة.  غير أنّ ماكيافللي عاد في كتابه "المحاضرات"، فأيّد النظام الجمهوري الذي يقوم على سيادة الشعب، وعدَّد مزايا هذا النظام وفضّله على النظام الملكي.
 
256
 
 

205

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

عبارات الرسول، وكيفية الكتابة، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجوّل في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب، ومطّلع على أخلاقه، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فأُحضروا إلى مجلس قيصر، فطرح عليهم الأسئلة التالية:
 
قيصر: كيف نسبه فيكم؟
 
- أبو سفيان: محض، أوسطنا نسباً.
 
قيصر: أخبرني، هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول، فهو يتشبّه به؟
 
- أبو سفيان: لا، لم يكن في آبائه من يدّعي ما يقول.
 
قيصر: هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه؟
 
- أبو سفيان: لا.
 
قيصر: أخبرني عن أتباعه منكم، من هم؟
 
- أبو سفيان: الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء، وأمّا ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتّبعه منهم أحد.
 
قيصر: أخبرني عمّن تبعه، أيحبّه ويلزمه؟ أم يقليه ويفارقه؟
 
- أبو سفيان: ما تبعه رجل ففارقه.
 
قيصر: أخبرني كيف الحرب بينكم وبينه؟
 
- أبو سفيان: سجال، يدال علينا وندال عليه.
 
قيصر: أخبرني هل يغدر؟
 
- أبو سفيان: (لم أجد شيئاً ممّا سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت): لا، ونحن منه في هدنة، ولا نأمن غدره. (وأضاف أبو سفيان بأنّ قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه).
 
 
257
 

206

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

 ثمّ إنّ قيصر بيّن الوجه في السؤال عن الأمور السابقة وأنّه كيف استنتج من الأجوبة التي سمعها من أبي سفيان أنّه نبيّ صادق، بقوله: "سألتك كيف نسبه فيكم، فزعمت أنّه محضٌ من أوسطكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبيّ إذا أخذه، لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسباً. وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول بقوله: فهو يتشبّه به، فزعمت أن لا. وسألتك هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إيّاه، فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه، فزعمت أن لا. وسألتك عن أتباعه فزعمت أنّهم الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء، وكذلك أتباع الأنبياء في كلّ زمان. وسألتك عمّن يتبعه، أيُحبّه ويلزمه، أم يقليه ويفارقه، فزعمت أن لا يتبعه أحد فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه. وسألتك هل يغدر، فزعمت أن لا. فلئن صدقتني عنه ليغلبني على ما تحت قدميّ هاتين، ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه، انطلق لشأنك".
 
قال أبو سفيان: "فقمت من عنده وأنا أضرب إحدى يديّ بالأخرى وأقول: إي عباد الله، لقد أمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة، أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في سلطانهم بالشام"1.


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص291-290، حوادث السنة السادسة للهجرة.
 
 
258
 

207

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

 المفاهيم الرئيسة
1- هناك الكثير من الطرق والوسائل لمعرفة النبي وإدراك صحة دعوته:
 
2- من هذه الطرق: تنصيص النبيّ السابق على اللاحق، فإذا ثبتت نبوّة السابق بطريق صحيح فهو إذاً لا يكذب، فيكون إخباره الواصل من طريق قطعي على نبوّة اللاحق دليلاً على نبوّة اللاحق، مع اعتبار وضوح الأمارات والسمات وكونها منطبقة تمام الانطباق على اللاحق.
 
3- ومن الطرق أيضاً: جمع القرائن والشواهد، ومن أهمّ هذه القرائن:
أـ صفات النبيّ وأخلاقه.
ب ـ مضمون دعوة النبي.
ج ـ أسلوب النبي في دعوته.
دـ أخلاقيات المؤمنين بالنبي.
 
259

208

الدرس الثاني والعشرون: طرق معرفة الأنبياء (2)

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- استدلّ من القرآن الكريم على تنصيص النبي عيسى عليه السلام على نبوة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

2- اشرح باختصار كيف يمكن أن يكون مضمون دعوة مدّعي النبوة دليلاً على نبوته.

3- تعتبر نفسيات وصفات المؤمنين بمدّعي النبوة دليلاً قوياً على صدق دعوته، بيّن ذلك.
 
ضع إشارة  صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- تُعتبر القرائن والشواهد دليلاً مساعداً في إثبات دعوى نبوة الأنبياء. 

2- إذا أخبر النبي السابق بنبوة آخر لحق عليه يكفي انطباق الصفات والأمارات والعلامات عليه ولا يجب أن يكون من طريق قطعي. 

3- إنّ صفات وشمائل مدّعي النبوة تُعتبر مستنداً واضحاً على إثبات دعواه في النبوة. 

4- إنّ استخدام أساليب القوة والصلابة في إثبات النبوة يعتبر دليلاً على صدق دعوى النبي نظراً لحاجته في ضرورة إقناع الناس والتزامهم بأحكام الدين. 

5- إنّ الاعتماد على القرائن والشواهد في إثبات النبوة كان دليلاً معتمداً عند الأمم السابقة كالروم وغيرهم.

260
 
 

209

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى معنى الوحي لغةً واصطلاحاً.
2- يبيّن حقيقة الوحي وارتباطها بالنبوة.
3- يستعرض الأقوال في حقيقة الوحي واختيار الصحيح منها.
 
261
 

210

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

الوحي في اللغة
كما يستنبط من نصوص أهلها في معاجمهم هو الإعلام بخفاءٍ بطريق من الطرق1، وقد جاء استعماله في القرآن الكريم في موارد متعدّدة مختلفة يجمعها المعنى اللغوي حقيقة أو ادّعاءً، منها قوله سبحانه: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾2، أي أودع في كلّ سماءٍ السنن والأنظمة الكونية، وقدّر عليها دوامها، فإيجاد السنن والنظم في السماوات على وجه لا يقف عليه إلّا المتدبّر في عالم الخلقة يشبه الإلقاء والإعلام بخفاء بنحو لا يقف عليه إلّا الملقى إليه، وهو الوحي.
 
ومنها قوله سبحانه: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾3.
 
فأطلق الوحي على ما أودع في صميم وجود النحل من غريزة إلهية تهديه إلى أعماله الحيويّة الخاصّة.


1- راجع ابن فارس، في ذلك معجم مقاييس اللغة، ج 6، ص 93، الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة "وحي"؛ ابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 379.
2- سورة فصّلت، الآية 12.
3- سورة النحل، الآية 68.
 
263
 

211

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

ومنها قوله سبحانه: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾1.
 
حيث إنّ تفهيم أُمّ موسى عليه السلام مصير ولدها كان بإلهام وإعلام خفي، عبّر عنه بالوحي.
 
ومنها قوله تعالى في وصف النبي زكريّا عليه السلام: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾2.
 
والمعنى: أشار إليهم من دون أن يتكلّم، لأمره سبحانه إيّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليال سويّاً، فأشبه فعله، إلقاء الكلام بخفاء لكون الإشارة أمراً مبهماً.
 
ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾3.
 
ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرناه فيما سبقه.
 
وحي النبوّة
ولكنّ الغالب في استعمال كلمة الوحي في القرآن هو كلام الله المنزّل على نبيّ من أنبيائه، فكلّما أطلق الوحي وجرّد عن القرينة يراد منه ذلك، وهذا هو الذي نحن بصدد بيان حقيقته فنقول:
 
الوحي الّذي يختصّ به الأنبياء إدراك خاصّ متميّز عن سائر الإدراكات فإنّه ليس نتاج الحس ولا العقل ولا الغريزة، وإنّما هو إدراك خاص يوجده الله سبحانه في الأنبياء، وهو يغاير الادراك الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامّة، لا يغلط معه النبيّ في إدراكه ولا يشتبه ولا يختلجه شك ولا يعترضه ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو الله سبحانه، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل، أو إقامة حجّة.
 
 

1- سورة القصص، الآية 7.
2- سورة مريم، الآية 11.
3- سورة الأنعام، الآية 121.
 
264
 

212

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

قال سبحانه: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾1.
 
فهذه الآية تشير إلى أنّ الّذي يتلقّى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبيّ الشريفة، من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية.
 
وعلى هذا، فالوحي حصيلة الاتّصال بعالم الغيب، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة المعتادة ولا بالأصول التي تجهّز بها العلم الحديث ومن لم يذعن بعالم الغيب يشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الّذي لا صلة له بعالم المادّة وأُصوله.
 
هل الوحي نتيجة النبوغ؟
إنّ هناك أُناساً يفسّرون النبوّات والرسالات ونزول الوحي على العباد الصالحين بنحو يجمع بين تصديق الأنبياء من جانب، والأصول العلمية الحديثة من جانب آخر، ومن هذا الباب تفسير بعضهم النبوّة بالنبوغ والوحي بلمعات ذاك النبوغ.
 
وحاصل مذهبهم أنّه يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر، أشخاص يملكون فطرة سليمة وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع وسعادة الإنسان، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمران الدنيا، والإنسان الصالح الذي يتميّز بهذا النوع من النبوغ هو النبيّ، والفكر الصالح المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي، والقوانين التي يسنّها لصلاح الاجتماع هو الدّين، والروح الأمين هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه، والكتاب السماوي هو كتابه الّذي يتضمن سننه وقوانينه.
 
ويلاحظ عليه:
أوّلاً: لو صحّت هذه النظرية لم يبق من الاعتقاد بالغيب إلّا الاعتقاد بوجود الخالق


1- سورة الشعراء، الآيتان 193 و 194.
 
265
 

213

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

البارئ، أمّا ما سوى ذلك فكلّه نتاج الفكر الإنساني الخاطئ، وهذا في الواقع نوع إنكار للدِّين.
 
وثانياً: إنّ قسماً ممّا يقع به الوحي الإنباء عن الحوادث المستقبلة، إنباءً لا يخطئ تحقّقه أبداً، مع أنّ النوابغ وإن سموا في الذكاء والفطنة لا يخبرون عن الحوادث المستقبلة إلّا مع الاحتياط والتردّد، لا بالقطع واليقين، وأمّا رجالات السياسة اللاعبون على حبالها لمصالحهم الشخصية، سواء صدقت تنبّؤاتهم أم كذبت، فإنّ حسابهم غير حساب النوابغ.
 
وثالثاً: إنّ حملة الوحي ومدّعي النبوّة ـ من أوّلهم إلى آخرهم ـ إنّما ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً، ولا يشكّ أحد في أنّ الأنبياء عباد صالحون، صادقون لا يكذبون، فلو كانت السنن التي أتوا بها من وحي أفكارهم، فلماذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى؟
 
هذا، ولو كانت شريعة النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلّم والكتاب المجيد الذي جاء به، وليدي النبوغ والعبقرية، فلماذا عجز عن مقابلته ومقارعته النوابغ والعباقرة طرّاً في جميع القرون إلى عصرنا هذا؟
 
هل الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية؟
زعم بعض المستشرقين1 أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبيّ لا من الخارج، وذاك أنّ سموّ نفسه، وسريرته الطاهرة، وقوّة إيمانه بالله وبوجوب عبادته، وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية رديئة يكون لها في جملتها من التأثير ما يتجلى في ذهنه، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصوّر ما يعتقد وجوبه، إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السماء بدون وساطة، أو يتمثّل له رجل يلقنه 


1- هذه النظرية مأثورة عن المستشرق "مونتيه" وفصّلها "إميل درمنغام". لاحظ الوحي المحمدي، السيد محمد رشيد رضا، الطبعة السادسة، 1960م، ص66.
 
 266
 

214

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

ذلك، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء.
 
يقول أصحاب هذه النظرية: لا نشكّ في صدق الأنبياء في إخبارهم عما رأوا وسمعوا، وإنما نقول: إنّ منبع ذلك من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنّه وراء عالم المادة والطبيعة.
 
نقد نظرية المستشرقين
هذه النظرية التي جاء بها بعض الغربيّين وإن كانت تنطلي على السذّج من الناس وتأخذ بينهم رونقاً إلّا أنّ رجال التحقيق يدركون تماماً أنّها ليست بشئ جديد قابل للذكر، وإنّما هي تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوّة والوحي ولكن بثوبٍ جديد. فمن جملة افتراءاتهم على النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وصم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة التي كانت تراود خاطره، ثم تتجلّى على لسانه وبصره، قال تعالى: ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ﴾1.
 
والقرآن يردّ مقالتهم ويركّز على أنّ الوحي أمر واقعي مفاض من الله سبحانه، ويقول: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾2.
 
وكذلك يقول: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾3. أي لم يكذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله وسلّم ما أدركه بصره، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة وإدراكاً حقيقياً.

1- سورة الأنبياء، الآية 5.
2- سورة النجم، الآيات 5-1.
3- سورة النجم، الآية 11.
 
267

215

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

وكذلك يقول: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾1. كناية عن صحّة رؤيته وأنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية ولا أبصر ما لا حقيقة له.
 
والحاصل: إنّ الأنبياء كانوا يُعرّفون أنفسهم بأنّهم مبعوثون من جانب الله تعالى ولا شأن لهم إلا إبلاغ الرسالات الإلهية إلى الناس، ولا ريب في أنّهم كانوا صادقين في أقوالهم - كما اعترف به صاحب النظرية - وعندئذ لو قلنا بأنّ ما ذكروه غير مطابق للواقع وأنّ ما أتوا به من المعارف والشرائع لم يكن رسالات إلهية وذكراً من جانبه سبحانه، بل كان نابعاً من باطن ضميرهم وتجليات نفوسهم، لكان الأنبياء قاصرين في مجال المعرفة، ما زالوا في جهل مركّب، وهذا ما لا يتفوّه به من له أدنى معرفة بمقالات الأنبياء وشخصيّاتهم الجليلة في مجال العلم والعمل، بل يأبى العقل والفطرة من اتّسام من دونهم بمراتب من رجالات العلم والدين بمثل هذا الجهل والخبط.


1- سورة النجم، الآية 17.
 
268
 
 

216

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

المفاهيم الرئيسة
- الوحي لغةً هو الإعلام بخفاءٍ بطريق من الطرق. ووحي النبوّة هو كلام الله المنزل على نبيّ من أنبيائه.

- إنّ الوحي الّذي يختصّ به الأنبياء إدراك خاصّ متميّز عن سائر الإدراكات فإنّه ليس نتاج الحس ولا العقل ولا الغريزة، وإنّما هو حصيلة الاتصال بعالم الغيب.

- لا يصحّ تفسير الوحي على أساس أنّه نتيجة النبوغ ، ولو كان كذلك فلم عجز عن مقابلته ومقارعته النوابغ والعباقرة طرّاً في جميع القرون إلى عصرنا هذا؟

- ولا هو نتيجة تجلّي الأحوال الروحيّة، فإنّ الأنبياء كانوا يعرفون أنفسهم بأنّهم مبعوثون من جانب الله تعالى، ولا شأن لهم إلا إبلاغ الرسالات الإلهية إلى الناس، ولا ريب في أنّهم كانوا صادقين في أقوالهم، وإلا لكانوا قاصرين في مجال المعرفة، وما زالوا في جهل مركّب، وهذا ما لا يتفوّه به من له أدنى معرفة بمقالات الأنبياء وشخصيّاتهم الجليلة في مجال العلم والعمل.
 
269
 

217

الدرس الثالث والعشرون: الوحي

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- فسّر كيف استخدم القرآن الكريم مصطلح الوحي في آيات متعدّدة ومختلفة.
2- فُسّر الوحي بأنّ تجلّي الأحوال الروحية لدى الأنبياء وليس من عالم الغيب شيء في ذلك، ناقش هذه النظرية مبيّناً عدم صحتها.
3- بيّن حقيقة الوحي من خلال قوله سبحانه وتعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ﴾.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- الوحي هو عبارة عن كلام الله المنزل على نبيّ من أنبيائه لغاية تبليغ الناس ما يريده الخالق منهم. 

2- إنّ نسبة الأفكار والسنن الإلهية التي أتى بها الأنبياء إلى الله سبحانه وتعالى لا يتنافى مع كون الوحي ناتج عن نبوغهم الفكري. 

3- إذا قلنا بأن الوحي هو عبارة عن نتاج النبوغ الفكري لدى الإنسان فإنّ ذلك يؤدّي إلى انهيار المنظومة العقائدية لدى الإنسان. 

4- الوحي حصيلة الاتّصال بعالم الغيب، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة المعتادة ولا بالأصول التي تجهّز بها العلم الحديث ومن لم يذعن بعالم الغيب يشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الّذي لا صلة له بعالم المادّة وأُصوله. 

5- أكد القرآن على أنّ الوحي أمر واقعي مفاض من الله سبحانه ولا يحتمل الشك ولا الخطأ.
 
270
 
 

218

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يبيّن معنى العصمة في اللغة والاصطلاح.
2- يستعرض الأدلّة على لزوم العصمة في الأنبياء عليهم السلام.
3- يتعرّف إلى مبادىء تكوّن ملكة العصمة.
 
271

219

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

العصمة في اللغة والاصطلاح
قال ابن فارس: "عصم: أصل واحد صحيح يدلّ على إمساك ومنع وملازمة، والمعنى في ذلك كلّه واحد، من ذلك (العصمة) أن يعصم الله عبده من سوء يقع فيه، واعتصم العبد بالله تعالى إذا تمنَّع"1.
 
وقال الراغب: العصم الإمساك، والاعتصام الاستمساك، قال: ﴿لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ﴾2: أي لا شيء يعصم منه، وقال: ﴿مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾3، والاعتصام التمسك بالشيء، قال: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا﴾5.4
 
هذا هو معناها اللغوي، وأمّا في اصطلاح المتكلّمين فالمشهور عند العدلية أنّها لطف لا داعي معه إلى ترك الطاعة ولا إلى ارتكاب المعصية مع القدرة عليهما6، وقال المحقّق الجرجاني المتوفى (816 ه‍) في كتاب التعريفات: "العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكُّن منها"7.

 

 
1- ابن فارس، المقاييس، ج 4، ص331. 
2- سورة هود، الآية 43.
3- سورة يونس، الآية 27.
4- سورة آل عمران، الآية 103.
5- الراغب الأصفهاني، المفردات: كتاب العين، مادة عصم.(بتصرف).
6- العلّامة الحلّي، إرشاد الطالبين، ص 130.
7- للجرجاني، التعريفات، ص 65، الطبعة الأولى، طهران.
 
273
 

220

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

العصمة غصن من دوحة التقوى، وهي ملكة نفسانية راسخة في النفس، تمنع الإنسان عن المعصية مطلقاً، فهي من سنخ التقوى لكنها درجة قصوى منها، فالتقوى في العاديين من الناس، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي، فهي إذا ترقّت في مدارجها وعلت في مراتبها، تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة والامتناع المطلق عن ارتكاب أيّ قبيح من الأعمال، بل يمنعه حتى عن التفكير في خلاف أو معصية.
 
لزوم عصمة الأنبياء عليهم السلام عن المعاصي
إنّ الأدلة العقلية على وجوب عصمة الأنبياء كثيرة نكتفي بتقرير دليلين منها:
1- الوثوق فرع العصمة:
قال المحقق الطوسي: "ويجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق، فيحصل الغرض".
 
وتقريره - كما قال العلامة الحلي -: "إنّ المبعوث إليهم لو جوّزوا الكذب على الأنبياء والمعصية، جوّزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك، وحينئذٍ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم، وذلك نقض الغرض من البعثة"1.
 
وبعبارة أخرى - كما قال العلامة الطباطبائي -: "التبليغ يعمّ القول والفعل، فإنّ في الفعل تبليغاً، كما في القول، فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية"2.
 

1- العلّامة الحلّي، كشف المراد، ص 274.
2- السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 20، ص 57.
 
 
274

221

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

فإن قلت: إنّ هذا الدليل لا يثبّت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة. قلت: لو كانت سيرة النبيّ مخالفة لما هو عليه بعد البعثة لا يحصل الوثوق الكامل به وإن صار إنساناً مثالياً، فتحقُّق الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره.
 
2- التربية رهن عمل المربي:
إنّ الهدف العام الذي بُعث لأجله الأنبياء هو تزكية الناس وتربيتهم، ولا شكّ أنّ تأثير التربية بالعمل أشدّ وأعمق وآكد منها عن طريق الوعظ والإرشاد، وذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول والعمل هو العامل الرئيس في إذعان الآخرين بأحقيّة تعاليم المصلح والمربي، وهذا الأصل التربوي يجرّنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخّاة من بعثة الأنبياء لا تحصل إلّا بمطابقة أعمالهم لأقوالهم، وهذا كما يوجب العصمة بعد البعثة، يقتضيها قبلها أيضاً، لأنّ لسوابق الأشخاص وصحائف أعمالهم الماضية تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم.
 
عصمة الأنبياء عليهم السلام في تلقّي الوحي وإبلاغه
ذهب جمهور المتكلّمين من السنة والشيعة إلى عصمة الأنبياء في هذه المرحلة. والعصمة في هذه المرحلة على وجهين: أحدهما: العصمة عن الكذب، والثاني: العصمة عن الخطأ سهواً في تلقّي الوحي ووعيه وأدائه. والدليل الأوّل المتقدّم على إثبات العصمة عن المعصية، يُثبت عصمتهم في هذا المجال، ولأجل ذلك اكتفى به المحقّق الطوسي في إثبات العصمة على الإطلاق، فإنّ الوثوق التام بالأنبياء لا يحصل إلا بالإذعان البات بمصونيّتهم عن الخطأ في تلقّي الوحي وتحمُّله وأدائه، عمداً وسهواً.
 
أضف إلى ذلك أنّ تجويز الخطأ في التبليغ ولو سهواً ينافي الغرض من الرسالة، أعني: إبلاغ أحكام الله تعالى إلى الناس.
 
275

 

222

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

وممّا يدلّ على عصمة الأنبياء في هذا المجال قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا1.
 
إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل، ومنهم إلى الناس بأنّه محروس بالحفظة يمنعون تطرّق أيّ خللٍ وانحراف فيه، حتّى يبلغ الناس كما أُنزل من الله تعالى، ويُعلَم هذا بوضوح ممّا تذكره الآية من أنّ الله سبحانه يجعل بين الرسول ومن أرسل إليهم ﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ وبينه ومصدر الوحي ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ رصداً مراقبين هم الملائكة.
 
عصمة الأنبياء عليهم السلام في الكتاب العزيز
إذا ثبتت عصمة الأنبياء في التبليغ، يجوز الاستناد بكلامهم في العصمة عن المعاصي، وعلى ضوء ذلك نقول: يصف القرآن الكريم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان ودقائقه، نكتفي بالإشارة إلى نموذج منها، قال عزّ وجلّ - بعد ذكره عدّة من الأنبياء -: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾2.
 
وقال في موضع آخر: ﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ﴾3. ثم بيّن أنّ المعصية ضلالة بقوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾4. فإذا كان الأنبياء مهديين بهداية الله، ومن هداه الله لا تتطرّق إليه الضلالة، وكانت المعصية نفس الضلالة، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء.


1- سورة الجن، الآيات 28-26. 
2- سورة الأنعام، الآية 90.
3- سورة الزمر، الآية 37.
4- سورة يس، الآية 62.
 
276
 

223

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

مبادئ تكوّن العصمة
لا شكّ أنّ ملكة العصمة عن المعاصي لا تحصل لصاحبها إلا بلطف من الله تعالى وتوفيقه، ومن جملة ما يُعطي للإنسان الأهلية والصلاحية للحصول على هذا اللطف ما يلي:
1- العلم القطعيّ بعواقب المعاصي ونتائج الطاعات:
إنّ العلم القطعيّ بعواقب المعاصي ونتائج الطاعات يخلق في النفس وازعاً قوياً يصدّه عن ارتكاب الأعمال الخطيرة، وأمثاله في الحياة كثيرة، فلو وقف أحدنا على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها بيدٍ عارية من دون حاجب، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والاقتراب منها. وقس على ذلك سائر العواقب الخطيرة وإن كانت من قبيل السقوط في أعين الناس، وفقدان الكرامة وإراقة ماء الوجه، بحيث لا ترغد الحياة معه.
 
فإذا كان العلم القطعي بالعواقب الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن ارتكابها في هذا العالم ، فكيف بالعلم القطعي بالعواقب الأخروية للمعاصي ورذائل الأفعال؟ علماً لا يداخله ريب ولا يعتريه شك، علماً تسقط دونه الحجب فيرى صاحبه رأي العين، ويلمس لمس الحسّ تبعات المعاصي ولوازمها وآثارها في النشأة الأخرى، ذاك العلم الذي قال تعالى فيه: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾1.
 
وكأنّ الإمام علياً عليه السلام يصف هؤلاء بقوله: "فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون"2.


1- سورة التكاثر، الآيتان 6 - 5.
2- نهج البلاغة: الخطبة 193.
 
 

 


224

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

ثم إنّ هذا العلم الذي يعطي صاحبه مصونية كاملة عن المعاصي، ليس من سنخ العلوم المتعارفة ليتسرّب إليه التخلّف، بل هو علم خاص فوقها ربّما يعبّر عنه بشهود العواقب، وانكشافها كشفاً تاماً لا يبقى معه ريب. والحاصل أنّ للعلم مرحلة قوية راسخة، تغلب الإنسان على الشهوات وتصده عن فعل المعاصي والآثام وإلى هذا أشار الفاضل المقداد السيوري (المتوفى 826 ه‍) بقوله: "العصمة ملكة نفسانية تمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه، وتتوقّف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، لأنّ العفّة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء، وفي الطاعة من السعادة، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس، فتصير ملكة"1.
 
2- حبّ المعبود يمنع عن معصيته:
إن الإنسان إذا عرف خالقه كمال المعرفة، واستغرق في شهود جماله، وجد في نفسه انجذاباً نحوه، وتعلّقاً خاصاً به على نحو لا يستبدل برضاه شيئاً، ويدفعه شوق المحبّة إلى أن لا يبتغي سواه، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، وتلك هي درجة العصمة الكاملة، ولا ينالها إلا الأوحدي من الناس. وإلى هذا أشار الإمام علي عليه السلام بقوله: "ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، إنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك"2.
 
وحفيده الإمام الصادق عليه السلام يقول: "لكني أعبده حبّاً له، وتلك عبادة الكرام"3.


1- المقداد السيدري، اللوامع الإلهية، ص 170.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج67، ص 186.
3- (م.ن)
 
278
 

225

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

العصمة والاختيار
ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم الحرية والاختيار وتقهره على ترك المعصية، لتكون النتيجة انتفاء كل مكرمة ومحمدة تنسب إليه لاجتنابه المعاصي والمآثم.
 
ويدفعه أنّ المعصوم قادر على اقتراف المعاصي بمقتضى ما أعطى من القدرة والحرية، غير أنّ تقواه العالية، وعلمه بآثار المعاصي، واستشعاره عظمة الخالق، يصدّه عن ذلك، فهو كالوالد العطوف الذي لا يقدم على ذبح ولده ولو أُعطي ملء الأرض ذهباً، وإن كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه كما يقطع وتين عدوه.
 
يقول العلامة الطباطبائي: "إنّ ملكة العصمة لا تغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعاله الإرادية ولا تخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار، كيف والعلم من مبادئ الاختيار، كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سماً قاتلاً من حينه، فإنّه يمتنع باختياره من شربه"1.
 
وهذا نظير صدور القبيح من الله سبحانه، فإنّه ممكن بالذات ويقع تحت إطار قدرته، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنّم، لكنّه لا يصدر منه لكونه مخالفاً للحكمة، ومبايناً لما وعد به. وعلى ضوء ذلك فوصف العصمة موهبة تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم.


1- السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 11، ص 163.
 
279
 

226

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

المفاهيم الرئيسة
- العصمة لغة: الإمساك والمنع، وفي الاصطلاح: العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكّن منها.

- من أدلّة لزوم عصمة الأنبياء عليهم السلام أنّ:
أـ الوثوق فرع العصمة.
ب ـ التربية رهن عمل المربي.

- فليثق الناس بالنبيّ ويتّبعوه لا بدّ وأن يكون معصوماً.

- عصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وإبلاغه

- ذهب جمهور المتكلمين من السنة والشيعة إلى عصمة الأنبياء في مرحلة تلقّي الوحي وإبلاغه. وهي في هذه المرحلة على وجهين: أحدهما: العصمة عن الكذب، والثاني: العصمة عن الخطأ سهواً في تلقّي الوحي ووعيه وأدائه.

- من جملة مبادىء تكوّن العصمة، العلم القطعيّ بعواقب المعاصي ونتائج الطاعات، وحبّ المعبود الذي يمنع عن معصيته.

- إنّ العصمة لا تنافي الاختيار، بل هي موهبة تفاض على من يعلم الله من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم.
 
 
280

227

الدرس الرابع والعشرون: عصمة الأنبياء عليهم السلام

أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- ما هو الدليل الأول على عصمة الأنبياء عليهم السلام؟
2- بيّن كيف أثبت القرآن الكريم بآياته المباركة عصمة الأنبياء الأطهار عليهم السلام.
3- اشرح كيف أنّ العصمة لا تنافي الاختيار من قبل النبي المرسل.
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- عُرّفت العصمة بأنّها لطف لا داعي معه إلى ترك الطاعة ولا إلى ارتكاب المعصية مع القدرة عليهما. 

2- إنّ تجويز الخطأ في التبليغ ولو سهواً لا ينافي الغرض من الرسالة الإلهية المبلّغة من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 

3- إنّ ممّا يوجب عصمة الأنبياء عليهم السلامهو تطابق أقوالهم مع أفعالهم في جميع حياتهم.
 
4- إنّ ملكة العصمة لدى الأنبياء تُغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في الأفعال الإرادية وتخرجها إلى ساحة الإجبار والاضطرار. 

5- إنّ العلم القطعيّ عند الأنبياء بعواقب المعاصي ونتائج الطاعات يخلق في نفوسهم وازعاً قوياً يصدّها عن ارتكاب الذنوب والمعاصي.
 
 
281

228

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن: 
1- يتعرّف إلى بشائر خاتم الرسل في العهدين.
2- يبيّن القرائن الدّالة على نبوّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
3- يستدلّ من خلال بعض القرآن على نبوة نبي الإسلام.
 
283
 

229

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

بشائر خاتم الرسل
منذ ظهور نبيّ الإسلام، اعتُبِر البحث حول نبوّة نبي الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، وأنّ الدين الإسلامي المقدّس على حقّ، أهمّ موضوع لكلّ إنسان باحث عن الحقيقة بعد التوحيد. ومع إثبات هذا الموضوع الذي يلازمه إثبات أنّ القرآن الكريم على حقّ، واعتباره الكتاب السماوي الوحيد بين أيدي البشر، والمصون عن التحريف والتغيير، سيهتدي البشر حتى نهاية العالم إلى الطريق الوحيد لاثبات سائر المعتقدات الصحيحة، والتعرّف على النظام القيمي (الخلقي) والوظائف العلميّة وسيمسك بالمفاتيح لعلاج كلّ مواضيع مسائل الرؤية الكونيّة والأيديولوجيّة.
 
إنّ تصديقَ النبيّ السّابق للنبيّ اللاحقِ هو أحد الطرق لإثبات دعوى النبوة وذلك لأنّ الفرض هو أنّ نبوّة النبيّ السابق قد ثبتت بالأدلّة القاطعة، ولهذا من الطبيعي أن يكون كلامُه سنداً قاطعاً للنبوّة اللاحقة، ويُستفادُ من بعض الآيات القرآنيّة أنَّ أهلَ الكتاب كانوا يعرفون رسول الإسلام كما يعرفون أبناءهم، يعني أنّهم قرأوا علائم نبوَّته في كتبهم السَّماوية، وقد ادّعى رسولُ الإسلام هذا الأمر، ولم يكذّبه أحدٌ منهم أيضاً، كما يقول: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾1.


1- سورة البقرة، الآية 146.
 
 
285
 

230

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

إنّ رسولَ الإسلام ادّعى أنّ السيد المسيحَ عيسى ابنَ مريم عليه السلام بشّر به، وانّه يأتي من بعده نبيٌّ اسمُه "أحمد": ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾1. كما وأنَّ من الطريف أنْ نَعلمَ أنّ الإنجيل رغم تعرُّضه للتحريف منذ قرون قد جاءَ في إحدى نُسَخِهِ وهو إنجيل يوحنا (الإصحاح 14، 15، 16) بتَنَبّؤٌ بمجيء شخصٍ بعد السيّد المسيح يُدعى "فارقلِيطا" (أي محمّد، بالسريانيّة) يمكن للمحقّقين الرجوع إلى ذلك، للوقوف على الحقيقة2.
 
القرائن الدالَّة على نبوَّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
من الطرق التي يُستكشف بها صدق دعوى مدّعي النبوّة، هي الفحص عن القرائن والشواهد الداخلية والخارجية، وقد ذكرنا في النبوّة العامّة أنّ قيصر الروم هو أوّل من اعتمد هذا الأسلوب، وأُصول هذه القرائن في المقام عبارة عن الأمور التالية:
 
1- سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة:
كفى في إشراق سيرته صلى الله عليه وآله وسلمقبل النبوّة أنّه كان يدعى "الأمين" وكان محلّ ثقة واعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم، فالتاريخ يروي أنّه لولا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة، وإجماعهم على قبول قضائه، لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم، وذلك أنّهم لمّا بلغوا في بناء الكعبة ـ التي هدمها السيل ـ موضع الركن، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه، كلّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تخالفوا واستعدّوا للقتال، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، تفكّر في مخلّص من هذه الورطة.


1- سورة الصف، الآية 6.
2- لقد دوّنت العديد من الكتب التي تجمع بشارات العهدين بمجيء "رسول الإسلام" وتبحث حولها وللمثال راجع كتاب "أنيس الأعلام في نصرة الاسلام" ج5، ص172-139.
 
286
 

231

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

ثمّ إنّ أبا أُميّة بن المغيرة، الذي كان أسنّ قريش كلّها، اقترح عليهم اقتراحاً، فقال: يا قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أوّل من يدخل من باب هذا المسجد، يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أوّل داخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا رأوه قالوا: "هذا الأمين رضينا، هذا محمّد" فلمّا انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وآله وسلم: هلمّ ثوباً، فأُتي به فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثمّ قال: "لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده، ثمّ بنوا عليه كما أرادوا"1.
 
2- الظروف التي نشأ فيها وادّعى النبوّة:
الصورة العامّة الّتي يمكن رسمها عن العرب الجاهليين، أنّه كان مجتمعاً غارقاً إلى آذانه في عبادة الحجارة والأوثان، والفساد الذريع في الأخلاق، يظهر في شيوع القمار والزنا، ووأد البنات، وأكل الميتة، وشرب الدم، والغارات الثأرية، وغير ذلك من التقاليد والأعمال السيّئة التي نقلها المؤرّخون ولا حاجة للتفصيل.
 
والنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وليد هذه البيئة المتدهورة، نشأ وترعرع فيها، وقضى أربعين عاماً بينهم، فإذا به قد بعث بأُصول وآداب ومعارف، تضادّ ما كان سائداً في تلك البيئة، فلو كان هو في تعاليمه مستمدّاً من بيئته، لكان قد تأثّر بها ولو في بعض هذه التقاليد.
 
ويصف أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الظروف والأوضاع التي كان يعيشها العالم خلال بعثة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: "... أرسله (الله) على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظّ من الحروب، الدنيا كاسفة النور، ظاهرة


1- ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص 192 - 199, الشيخ الكليني، الكافي، ج4، ص 217 - 218.
 
 
287

232

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منائر الهدى، وظهرت أعلام الردى، فهي متجهّمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف"1.
 
3- المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها:
جاء الرسول الأعظم بمفاهيم راقية في جميع شؤون الحياة البشرية، ففي مجال المبدأ والمعاد دعا إلى التوحيد، ونبذ الوثنية ونزّهه سبحانه عن كلّ نقص وعيب، وقرّر أنّ الموت ليس بمعنى ختم الحياة، وإنّما هو نافذة للحياة الأبديّة، وأين هذا من مفاهيم الشرك والوثنيّة التي كانت سائدة في ذلك الزمن، وقولهم كما حكاه الله تعالى: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ2.
 
وفي حقل الأخلاق والتعاون والتآلف الاجتماعي، زرع في محيط البغضاء والحقد بذور المحبّة والمواساة، وجعل أبناء المجتمع الواحد إخوة في الدِّين وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾3.
 
وأرسى أركان الإحسان والعدالة الاجتماعية، وحذّر عن الفواحش والبغي والعدوان، وأين هذا من الممارسات القبيحة الرائجة بين العرب في تلك الظروف؟
 
وفي الحقل الاقتصادي، جاء بأُصول ومفاهيم بنى عليها بنياناً محكماً من التشريعات الاقتصادية في مختلف أبواب المعاملات، فمن ذلك أنّه نادى بحرمة الربا الّذي كان الشغل الشاغل في الجزيرة العربية.
 
وإلى هذا أشار جعفر بن أبي طالب في مقالة ألقاها إلى ملك الحبشة فقال: "أيّها الملك بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام،


1- نهج البلاغة، الخطبة 89. 
2- سورة الجاثية، الآية 24.
3- سورة الحجرات، الآية 10.
 
288

233

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي"[1].
 
4- الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته:
إنّ منطق النبيّ الأكرم ومسلكه ـ كغيره من الأنبياء - هو شقّ الطريق على نهج الصدق والعدل والتحرّز عن التذرّع بوسائل غير حقّة حتى لو كانت مفيدة ونافعة لأهدافه الشخصيّة، بل كان يناهضها ليستقيم الناس على جادّة الواقع والحقّ.
 
5- أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها:
إنّ الإلمام العابر بأحوال العرب في شبه الجزيرة العربيّة، يكفي في إثبات أنّ الثورة العارمة على التقاليد والعادات السائدة هناك آنذاك، في مدّة لا تزيد على ثلاث وعشرين سنة وصُنع أُمّة متحضّرة منها، في هذه البرهة الوجيزة من الزمن، أمر يستحيل تحقّقه عن طريق الأسباب العاديّة والأساليب المتعارفة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ وراء هذه الثورة، إمدادات غيبية، نصرت الثائر في جميع مواقفه ومقاصده.
 
وهذا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام يصف وضع العرب الجاهليّين في بعض خطبه ويقول: "وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار... تسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة"2.
 
فهذه الأمّة على هذه الحال وهذه الأوصاف، تحوّلت إلى أُمّة عالمة أرست قواعد الحضارة الإنسانية في مدّة قصيرة، ولم يتحقّق ذلك إلّا في ظلّ العنايات الإلهية 


1- الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج 3، ص 234.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 26.
 
289
 

234

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

والإمدادات الغيبية، وإلى هذا أشارت قرَّة عين الرسول الزهراء البتول عليها السلام في خطبة ألقتها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد المدينة حيث قالت: "ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه, فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عُكّفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة للّه مع عرفانه, فأنار الله بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها وكشف عن القلوب بُهمها، وجلّى عن الأبصار غممه, وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصَّـرهم من العماية، وهداهم إلى الدِّين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم"1.
 
هذه دراسة إجمالية للدّعوة المحمّدية، وتبيين القرائن الموجودة فيها، والكلّ يشهد على أنّ الداعي كان صادقاً في دعوته، محقّاً في نبوته، وهذا الطريق قابل للبسط والإسهاب ففي وسع المحقّقين في الحياة النبوية، أن يشقّوا هذا الطريق بشكل مُسهَب، حتى يتجلّى صدق دعوته تجلّي الشمس في رائعة النهار.


1- الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، ص 99.
 
290
 

235

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

المفاهيم الرئيسة
- منذ ظهور نبيّ الإسلام، اعتُبِر البحث حول نبوّة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته، وأن الدين الإسلامي المقدّس على حقّ، أهمّ موضوع لكلّ إنسان باحث عن الحقيقة بعد التوحيد.
 
- إنّ تصديقَ النبيّ السّابق للنبيّ اللاحقِ هو أحد الطرق لإثبات دعوى النبوة.
 
- من القرائن الدالَّة على نبوَّة الرسول الأعظم:
أ- سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة.
ب ـ الظروف التي فيها نشأ وادّعى النبوّة.
جـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها.
دـ الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته.
هـ ـ أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها.

291

236

الدرس الخامس والعشرون: النبوّة الخاصّة

 أسئلة الدرس
أجب على الأسئلة التالية:
1- اذكر باختصار بشائر العهدين بخاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
2- وضّح كيف أنّ المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دليل على نبوّته.
3- اشرح خطبة السيدة الزهراء عليه السلام التي تحدّثت فيها عن أحوال العرب قبل النبوة وبعدها مستدلاً بذلك على صدق دعوى نبوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم؟
 
ضع إشارة صح أو خطأ في المكان المناسب:
1- لقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أساليب إيجابية في دعوة الناس إلى الإيمان برسالته ممّا تُعتبر دليلاً واضحاً على صدق دعوته المباركة. 

2- لم يذكر القرآن الكريم تباشير عن الأمم السابقة حول دعوة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم. 

3- إذا اطلع الإنسان على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخصائصه قبل دعوة النبوة يدرك عظمة هذا الإنسان وصدقه في ادعائه للنبوة. 

4- إنّ التعاليم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متأثّرة تأثيراً مباشراً بالبيئة التي كان يعيش فيها ممّا كان لها تأثير في مضمون دعوته. 

5- إنّ النظر إلى الحركة الثقافية والفكرية التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد على صدق دعوته وامتدادها الإلهي.
 
 
292

237

الدرس السادس والعشرون: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يشرح الإعجاز البياني للقرآن الكريم.
2- يبيّن المسالك المثبتة للإعجاز البياني للقرآن الكريم.
3- يتعرّف إلى الوجوه الأخرى للإعجاز القرآنيّ.
 
293
 

238

الدرس السادس والعشرون: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

الإعجاز البياني للقرآن الكريم
قد ضبط التاريخ أنّه كانت لنبي الإسلام معاجز كثيرة في مواقف حاسمة غير أنّه كان يركّز على معجزته الخالدة وهي القرآن الكريم، ونحن نقتصر بالبحث عن هذه المعجزة الخالدة فنقول: إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الدِّين الخالد مقروناً بالمعجزة الخالدة حتّى تتمّ الحجّة على جميع الأجيال والقرون إلى أن تقوم الساعة: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾1. بل تكون ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾2، على الناس في كلّ زمان ومكان.
 
إنّ للقرآن في مجالي اللفظ والمعنى كيفية خاصّة يمتاز بها عن كلّ كلام سواه، سواء أصدر من أعظم الفصحاء والبلغاء أو من غيرهم، وهذا هو الذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة، ونحن نعيش في بدايات القرن الخامس عشر من هجرة النبيّ، وندّعي أنّ القرآن لم يزل معجزاً إلى الآن، وأنّه أرقى من أن يُعارض أو يُبارى ويؤتى بمثله أبداً، غير أنّ لإثباته مسلكين:
الأوّل: المراجعة إلى أهل الخبرة ممّن يُعدّون من صميم أهل اللغة العربية.
الثاني: التعرّف عليه بالمباشرة والتحليل.
 

1-  سورة النساء، الآية 165.
2- سورة الأنعام، الآية 149.
 
295

239

الدرس السادس والعشرون: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

ونحن نكتفي هنا بالكلام مختصراً في كلا المسلكين فنقول: أمّا فيما يرتبط بالمسلك الأوّل:
1- اعتراف بلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني:
إنّ ما نركّز البحث عليه في المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن الذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول وعند فصحاء الجزيرة وبلغائهم. إنّ التاريخ قد ضبط اعتراف مجموعة كبيرة من فصحاء العرب بهذا الأمر، وبهذا الصدد نشير إلى النموذج التالي: كان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حكّام العرب يتحاكمون إليه في أُمورهم وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مقدّماً مختاراً. يروي التاريخ أنّه سمع آيات من القرآن عندما كان يتلوها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الآيات الست من أوّل سورة المؤمن، من قوله تعالى: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ إلى قوله: ﴿وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾. فلمّا سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: "والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنّه ليعلو وما يُعلى عليه"1.
 
وأما فيما يرتبط بالمسلك الثاني:
2- القرآن وأُسلوبه المعجز:
الأساليب السائدة في كلام العرب عصر نزول القرآن، كانت تتردّد بين الأساليب التالية:


1- الشيخ الطبرسي، مجمع البيان، ج 9، ص 387.
 
296
 

240

الدرس السادس والعشرون: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

أ - أُسلوب المحاورة وهو الّذي كان متداولاً في المكالمات اليومية ولم يكن مختصّاً بطائفة منهم.

ب- أُسلوب الخطابة وهو الأسلوب الرائج بين خطباء العرب وبلغائهم، ويرى هذا الأسلوب في خطب النبيّ والإمام عليّ عليهما السلام في مواقف مختلفة.

ج- أُسلوب الشعر، وهو الأسلوب المعروف المبنيّ على البحور المعروفة في العروض.

د- أُسلوب السجع المتكلّف، وهو الذي كان يتداوله الكهنة والعرّافون.
 
لكنّ القرآن جاء بصورة من صور الكلام على وجهٍ لم تعرفه العرب، وخالف بأسلوبه العجيب أساليبهم الدارجة ومناهج نظمهم ونثرهم، إنّ الأسلوب القرآني الذي تفرَّد به، كان أبين وجه من وجوه الإعجاز في نظر الباحثين عن إعجازه، وقد ركَز القاضي الباقلاني عليه وحصر وجه إعجازه فيه، وقال: "وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف، وإنّه خارج عن وجه النظم المعتاد في كلام العرب ومبائن لأساليب خطاباتهم، ولهذا لم يمكنهم معارضته"1.
 
وممّا يدلّ على أنّ القرآن ليس كلام النبيّ الأعظم هو وجود البون الشاسع بين أُسلوب القرآن وأُسلوب الحديث النبوي. وهناك نوع من المقارنة يتجلى فيها التفاوت بوضوح بين الأسلوبين وهو ملاحظة خطب الرسول الأعظم عندما يخطب ويعظ الناس بأفصح العبارات وأبلغها، ثم يستشهد في ثنايا كلامه بآي من الذكر الحكيم، فعندها يُلمَس البون الشاسع بين الأسلوبين.
 
خطب النبيّ الأكرم يوم فتح مكّة في المسجد الحرام فقال: "يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خلق من 


1- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج 4، ص 8.
 
297
 

241

الدرس السادس والعشرون: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

 تراب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾2,1 .
 
الوجوه الأخرى للإعجاز القرآنيّ
هذا وللقرآن جهات أُخرى من الإعجاز سوى ما تقدّم، لا يختصّ فهمها بمن كان عارفاً باللغة العربية وواقفاً على فنون البلاغة في الكلام، وهذه العموميّة في الإعجاز هي التي يدلّ عليها قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾3.
 
فلو كان التحدّي ببلاغة بيان القرآن وجزالة أُسلوبه فقط لم يتعدّ التحدّي العرب العرباء، وقد قرع بالآية أسماع الإنس والجن، فإطلاق التحدّي على الثقلين ليس إلّا في جميع ما يمكن فيه التفاضل في الصفات، فالقرآن آية للبليغ في بلاغته وفصاحته، وللحكيم في حكمته، وللعالِم في علمه، وللمقنّنين في تقنينهم، وللسياسيين في سياستهم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه جميعاً كالغيب وعدم الاختلاف في الحكم والعلم والبيان، وإليك فيما يلي بيان بعض تلك الجهات:
1- عدم التناقض والاختلاف:
ممّا تحدّى به القرآن هو عدم وجود التناقض والاختلاف في آياته حيث قال: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾4.
 

1- سورة الحجرات، الآية 13.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، ج3، ص 273؛ تاريخ الطبري، ج 3، ص 120.
3- سورة الإسراء، الآية 88.
4- سورة النساء، الآية 82.
 
298
 

242

الدرس السادس والعشرون: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

توضيح ذلك:
إنّ الإنسان جُبِلَ على التحوّل والتكامل وهناك كلمة قيّمة للكاتب الكبير عماد الدين أبي محمّد بن حامد الأصفهاني (المتوفّى 597هـ) يقول فيها: "إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه، إلّا قال في غده لو غيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر" هذا من جانب.
 
ومن جانب آخر، إنّ القرآن نزل نجوماً في مدّة تقرب من ثلاث وعشرين سنة في فترات مختلفة وأحوال متفاوتة من ليل ونهار، وحضر وسفر، وحرب وسلم وضرّاء وسرّاء وشدّة ورخاء، ومن المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثِّر في الفكر والتعقّل.
 
ومن جانب ثالث، إنّ القرآن قد تعرّض لمختلف الشؤون وتوسّع فيها أحسن التوسُّع، فبحث في الإلهيات والأخلاقيات والسياسيات والتشريعيات والقصص وغير ذلك، ممّا يرجع إلى الخالق والإنسان والموجودات العلوية والسفلية.
 
ومع ذلك كلّه لا تجد فيه تناقضاً واختلافاً، أو شيئاً متباعداً عند العقل والعقلاء، بل ينعطف آخره على أوّله، وترجع تفاصيله وفروعه إلى أُصوله وعروقه. إنّ مثل هذا الكتاب، يقضي الشعور الحيّ في حقِّه أنّ المتكلّم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيّام ويتأثّر بالظروف والأحوال، فلا يكون إلّا كلاماً إلهياً ووحياً سماوياً.
 
ثمّ إنّ كلمة (كَثِيراً) وصف توضيحي لا احترازي، والمعنى: لو كان من غير الله لوجدوا فيه اختلافاً، وكان ذلك الاختلاف كثيراً على حدّ الاختلاف الكثير الذي يوجد في كلِّ ما هو من عند غير الله، ولا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير1.


1- العلّامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 5، ص 20.
 
 
299

243

الدرس السادس والعشرون: وجوه الإعجاز في القرآن الكريم

 2- الإخبار عن الغيب:
إنّ في القرآن إخباراً عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره، وإخباراً بملاحم وفتن وأحداث ستقع في مستقبل الزمن، وهذا الإخبار إن دلَّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتاباً سماوياً أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الذين ارتضاهم من البشر، لأنّه أخبر عن حوادث كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافها، مع أنّه صدق في جميع أخباره، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة، أو على كونها على غرار أخبار الكهنة والعرّافين والمنجّمين، فإنّ دأبهم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز وكنايات حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف، وهذا بخلاف أخبار القرآن فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس ومنطق قاطع، وإليك المثالين التاليين:
أ- التنبّؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن:
قال سبحانه: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾1.
 
وقال أيضاً: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن