قد أفلح المؤمنون


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-04

النسخة: 2018


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطاهرين، وبعد...

وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام، ترى أنّ الإيمان هو عقد بالقلب، وقول باللِّسان، وعمل بالأركان. رُوِيَ عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عن الإيمان، أنّه قال: "الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان"1.

وروي عن الإمام الباقر عليه السلام، 
 

1- الرضي، السيد محمد بن حسين، نهج البلاغة (خطب الإمام علي عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، دار الهجرة، إيران - قم، 1414ه‏، ط1، ص508.
 
 
 
 
5

1

مقدمة

 في معرض تفريقه بين الإسلام والإيمان: "الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل"1.


ويؤكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام، على قاعدة التلازم بين القول والعمل، في تحقّق مفهوم الإيمان، فيقول: "ليس الإيمان بالتحلّي ولا بالتمنّي، ولكنّ الإيمان ما خلص في القلوب وصدّقته الأعمال"2. وعن سلام الجعفيّ قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الإيمان فقال: "الإيمان أن يطاع الله فلا يعصى"3.

ويتّضح من خلال تلك الأحاديث ونظائرها، أنّ أهل البيت عليهم السلام، قد رفضوا كون الإيمان مجرّد إقرار باللسان، أو اعتقاد بالقلب، أو بهما معاً؛ إنّ إيماناً كهذا، لا روح فيه، ولا حياة، ما لم يقترن بالطاعة المطلقة لله، وتنفيذ ما أمر، والنهي عمّا زجر، كلّ ذلك في دائرة الوعي والسلوك والعمل.

وهكذا نجد أنّ مفهوم الإيمان في مدرسة أهل البيت عليهم السلام، 
 

1- ابن شعبة الحراني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، إيران - قم، 1404ه‏، ط2، ص297.
2- المصدر نفسه، ص 370.
3- الكليني، الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران - طهران، 1407ه‏، ط4، ج2، ص 33.
 
 
 
6

2

مقدمة

 يرتكز في أحد كفّتيه على الباطن الذي تعكسه نيّة الفرد، وانعقاد قلبه على الإيمان، وفي الكفّة الأخرى يرتكز على الظاهر، الذي يتمثّل بعمله وسلوكه السويّ اللذين يكونان كمرآة صافية لتلك النيّة. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "الكفر إقرارٌ من العبد فلا يُكلّف بعد إقراره ببيّنة، والإيمان دعوى لا يجوز إلّا ببيّنة وبيّنته عمله ونيّته"1.


وخلاصة القول: إنّ الإيمان كلّ لا يتجزّأ، ويرتكز على ثلاثة مقوّمات: الاعتقاد والإقرار والعمل. فعن أبي الصلت الهرويّ، قال: سألت الرضا عليه السلام عن الإيمان، فقال عليه السلام: "الإيمان عقد بالقلب ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح، ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا"2.

والتأمّل في العبارة الأخيرة من الحديث "... ولا يكون الإيمان إلاّ هكذا" هو خير شاهد على النظرة الشموليّة غير التجزيئيّة للإيمان.

هذا الكتاب "قد أفلح المؤمنون" يسلّط الضوء على مفهوم الإيمان ودور الجانب العمليّ للإيمان، في صلاح الفرد والمجتمع في عالم الدنيا، وفوزه في الآخرة. وقد اقتصرنا في دروسه على الشواهد مع تعليقات موجزة ومورديّة محدودة، وتركنا الشرح والتفصيل للأخوة المبلّغين.

والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 40.
2- الصدوق، الشيخ محمد بن علي بن بابويه، معاني الأخبار، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، إيران - قم، 1403ه‏، ط1، ص186.
 
 
 
 
7

3

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 الدرس الأوّل

معرفة الله وحقيقة الإيمان


محاور الموعظة:
1 - معرفة الله تعالى 2 - حقيقة الإيمان 3 - قيمة الإيمان

تصدير الموعظة:
روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لَو عَرَفتُمُ اللهَ عزّ وجلّ حقَّ مَعرِفَتِهِ لَمَشَيتُم عَلَى البُحورِ، ولَزالَت بِدُعائِكُمُ الجِبالُ. ولَو خِفتُمُ اللهَ حَقَّ خَوفِهِ لَعَلِمتُمُ العِلمَ الَّذي لَيسَ مَعَهُ جَهلٌ، ولكن لم يبلغ ذلِكَ أَحَدٌ..."1.
 

1- المتقي الهنديّ، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني - تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409ه - 1989م، لا. ط، ج3، ص144.
 
 
 
9

4

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 معرفة الله تعالى

سُئِل أمير المؤمنين عليه السلام: بما عرفت ربّك؟ فقال: بما عرّفني نفسه، قيل كيف عرّفك نفسه؟ فقال: "لا تشبهه صورة ولا يحسّ بالحواسّ ولا يقاس بالناس قريب في بعده، بعيد في قربه..."1.

تنوّعت الأدلّة الفطريّة والنقليّة والعقليّة وغيرها، للبحث عن معرفة الله تعالى، وقد أرشدت نصوص أهل البيت عليهم السلام إلى طريقة هامّة لمعرفة الله، وهي معرفة الله بالله تعالى. وورد في الدعاء عن الإمام السجّاد عليه السلام قوله: بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولولا أنت لم أدرِ ما أنت2.

فكلّما ازداد علم المرء بأسرار الحياة، ونواميس الكون وعظمة الخالق، زاد خشوعه نتيجة معرفته هذه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان بالله أعرف كان من الله أخوف"3. ومثله
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص86.
2- المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج95، ص82.
3- المصدر نفسه، ج67، ص393.
 
 
 
 
10

5

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 ما عن الإمام عليّ عليه السلام: "أعلم الناس بالله سبحانه أخوفهم منه"1.


وعن الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: "اَللّهُمَّ اجْعَلْنى أخشاك كَأنّي أراك، وَأسْعِدْني بِتَقواكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ، وَخِرْ لي في قَضائِكَ، وَبارِكْ لي في قَدَرِكَ، حَتّى لا أُحِبَّ تَعْجيلَ ما أخّرت وَلا تَأخيرَ ما عَجَّلْتَ، اَللّهُمَّ اجْعَلْ غناي في نفسي، وَالْيَقينَ في قلبي، والإخلاص في عملي، وَالنُّورَ في بصري، وَالْبَصيرَةَ في ديني"2.

فيجب أن يربّي المؤمن نفسه على الخوف من الله تعالى، ليكون باعثاً له على الطاعة ومنفّراً له من الذنب والمعصية، قال الإمام عليّ عليه السلام في وصيّته لابنه الحسن عليه السلام: "أوصيك بخشية الله في سرّ أمرك وعلانيتك"3.
 

1- التميميّ الآمديّ، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيد مهدي رجائي‏، نشر دار الكتاب الإسلاميّ‏، إيران- قمّ‏، 1410ه‏، ط2، ص200.
2- ابن طاووس، السيّد عليّ بن موسى، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنّة، تحقيق وتصحيح جواد قيومي الأصفهانيّ، نشر مكتب الإعلام الإسلاميّ‏ّ، إيران - قمّ، 1418ه‏، ط1‏، ج2، ص78.
3- الطوسيّ، الشيخ محمد بن الحسن، الأمالي، دار الثقافة، إيران - قم، 1414ه‏، ط1، ص7.
 
 
 
11

6

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 حقيقة الإيمان:

1- "سُئِلَ الإمام عليّ عَنِ الإيمان فَقَالَ: "الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ"1.

وعليه فالإيمان:
أ- مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ: المراد بالمعرفة هنا الاعتقاد الجازم واليقينيّ.
ب- وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ: أي لا بدَّ من إظهار الإيمان لكي يعرف المؤمن ويعامل بما له من الحقّ.
ت- وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ: أي يجب أن يتجسّد الإيمان بالعمل المحسوس، كالجهاد والصوم والصلاة والحجّ والزكاة.

2- عقيدتنا: يعتقد الإماميّة أنّ الإيمان هو الاعتقاد الثابت الجازم بأحوال المبدأ والمعاد، وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء به رسوله الذي من جملته الوصايا والإمامة على سبيل الإجمال.
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 467.
 
 
 
12

7

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 وهناك روايات تدلّ على أنّ الإيمان هو التصديق، وعلى أنّه بالعمل يكمل ويتمّ ويرتقى إلى الدرجة العليا ومرتبة الكمال.


3- الإيمان هو التصديق القلبيّ: يؤيّد ما قلنا أنّ هناك روايات عن الإمام أمير المؤمنين يفهم منها أنّ الإيمان هو التصديق القلبيّ.
أ- عن أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه قَالَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ "إِنَّ لأَهْلِ الدِّينِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا صِدْقَ الْحَدِيثِ وأَدَاءَ الأَمَانَةِ ووَفَاءً بِالْعَهْدِ وصِلَةَ الأَرْحَامِ ورَحْمَةَ الضُّعَفَاءِ وقِلَّةَ الْمُرَاقَبَةِ لِلنِّسَاءِ أَوْ قَالَ قِلَّةَ الْمُوَاتَاةِ لِلنِّسَاءِ وبَذْلَ الْمَعْرُوفِ وحُسْنَ الْخُلُقِ وسَعَةَ الْخُلُقِ واتِّبَاعَ الْعِلْمِ ومَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ زُلْفَى..."1.

ب- روي عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عِشْرُونَ خَصْلَةً فِي الْمُؤْمِنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيه لَمْ يَكْمُلْ إِيمَانُه. إِنَّ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ يَا عَلِيُّ، الْحَاضِرُونَ الصَّلَاةَ، والْمُسَارِعُونَ إِلَى الزَّكَاةِ، والْمُطْعِمُونَ الْمِسْكِينَ،
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 240.
 
 
 
 
14

8

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 الْمَاسِحُونَ رَأْسَ الْيَتِيمِ الْمُطَهِّرُونَ، أَطْمَارَهُمْ الْمُتَّزِرُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمُ، الَّذِينَ إِنْ حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا، وإِذَا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا، وإِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وإِذَا تَكَلَّمُوا صَدَقُوا، رُهْبَانٌ بِاللَّيْل،ِ أُسُدٌ بِالنَّهَارِ، صَائِمُونَ النَّهَارَ، قَائِمُونَ اللَّيْلَ، لَا يُؤْذُونَ جَاراً، ولَا يَتَأَذَّى بِهِمْ جَارٌ - الَّذِينَ مَشْيُهُمْ عَلَى الأَرْضِ هَوْنٌ، وخُطَاهُمْ إِلَى بُيُوتِ الأَرَامِلِ، وعَلَى أَثَرِ الْجَنَائِزِ، جَعَلَنَا اللَّه وإِيَّاكُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ"1.


قيمة الإيمان:
1- مفتاح السعادة: الإيمان بالله هو مفتاح السعادة الحقيقيّة للإنسان، لأنّ سعادة الإنسان الحقيقيّة تتحدّد بمقدار سعة إيمانه، وأدائه الأعمال الصالحة.

2- اقتران الإيمان بالعمل الصالح: إنّ الإيمان والعمل الصالح هما الملاك الأساس لسعادة الإنسان. فالقرآن الكريم قرن، وبشكل دائم، الإيمان بالعمل الصالح، وقد وردت كلمة "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" عشرات المرّات مقرونة بالإيمان.

قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2.

وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ3.

وقال: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ4. وغيرها من الآيات الشريفة.

3- عدم قبول أعمال الكافرين: وفي المقابل الإنسان الكافر لا يقبل الله تعالى منه أيّ عمل، لأنّه يفتقد الملاك لقبول الأعمال، وهو الإيمان بالله تعالى، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في القرآن الكريم في موردين.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 222، ح5.
2- سورة البقرة، الآية 25.
3- سورة البقرة، الآية82.
4- سورة آل عمران، الآية 57.
 
 
 
15

9

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 الأول: قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾1. "فأعمال الإنسان الكافر أشبه بحفنة من رماد، اشتدّت بها الريح في يوم عاصف وحملته وطيّرته، فلا يرون له أثراً من الثواب وذلك هو الضلال البعيد، لكونهم في غاية البعد عن طريق الحقِّ... "2.


الثاني: قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾3.
 

1- سورة إبراهيم، الآية 18.
2- المازندراني، محمد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1421ه - 2000م، ط1، ج5، ص 144.
3- سورة النور، الآيتان 39-40.
 
 
 
 
16

10

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 وفي كلّ آية من الآيتين السابقتين تشبيه لبيان إحباط الأعمال وذهابها يوم القيامة على الشكل الآتي:

أ- تشبيه أعمال الكفّار بالعطشان في الصحراء، الذي يسعى وراء الماء فيرى سراباً ويتخيّل أنّه ماء، ويسرع وراءه لرفع عطشه، وعند وصوله إلى تلك المنطقة يرى أنَّ ذلك ليس ماءً. وفي الآية الشريفة يوجد تعبير لطيف وهو أنّه وجد الله تعالى هناك لحسابه. ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ﴾ عند عمله فجازاه على كفره"1.

ب- ثمّ ذكر مثلا آخر لأعمال الكفّار، فقال عطفاً على كسراب: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ و"أو" للتخيير، فإنّ أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية من نور الحقّ كالظلمات المتراكمة ﴿فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ عميق، كثير الماء. منسوب إلى اللجّ، وهو معظم ماء البحر. ﴿يَغْشَاهُ﴾ يغشى البحر. يعني: يعلو ذلك البحر. ﴿مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ أي: أمواج مترادفة متراكمة
 

1- ينظر: الكاشانيّ، الملا فتح الله، زبدة التفاسير، تحقيق ونشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، إيران - قم، 1423ه، ط1، ج4، ص 518. سورة النور، الآيتان 39 – 40.
 
 
 
 
17

11

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 ﴿مِّن فَوْقِهِ﴾، من فوق الموج الثاني ﴿سَحَابٌ﴾ غطَّى النجوم، وحجب أنوارها. والجملة صفة أخرى للبحر. فالظلمات: ظلمة من لجّ البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب. ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ أي: هذه ظلمات ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾، ﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ﴾ الَّتي هي أقرب ما يرى إليه. ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ أي: لم يقرب أن يراها، فضلاً عن أن يراها. وهذا مبالغة في عدم رؤية اليد"1.


النتيجة:
هذه الأحاديث وغيرها تدلّ على:
أ- إنّ السعادة الحقيقيّة للإنسان تبتني على الإيمان بالله تعالى، وإنّ الأعمال الصالحة يجب أن تكون ناشئة من الإيمان، ومن دون هذا الإيمان، لا أثر للأعمال في الآخرة على الإطلاق، وإن كان لها أثر في الدنيا. فالعمل متقوّم بالإيمان والكفر ماحقّ له.

ب- إنّ الإيمان هو التصديق القلبيّ والعمل ليس جزءاً منه.
 

1- الكاشاني، زبدة التفاسير، مصدر سابق، ص 512.
 
 
 
18

12

الدرس الأوّل: معرفة الله وحقيقة الإيمان

 ج- وصحيح أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان، ولكنّه مصدّق، ومبيّن، ومظهر له، وموجب لكماله.


ومن دون العمل يكون الإيمان في خطر.
 
 
 
 
 
19

13

الدرس الثاني: قيمة المؤمن ومنزلته عند الله

الدرس الثاني
قيمة المؤمن ومنزلته عند الله

محاور الموعظة: لا يمكن وصف حقّ المؤمن
1- حرمة المؤمن عند الله تعالى أعظم من الكعبة       2- وجوب رعاية حرمة المؤمن
3- الله تعالى مؤنس المؤمن                             4- الله تعالى يستضيف المؤمن

تصدير الموعظة:
روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى الكعبة فقال: "مرحباً بالبيت ما أعظمك وأعظم حرمتك على الله؟! والله للمؤمن أعظم حرمة منك، لأنّ الله حرم منك واحدة، ومن المؤمن ثلاثة: ماله، ودمه، وأن يظنّ به ظنّ السوء"1.
 
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص 71.
 
 
 
 
20

14

الدرس الثاني: قيمة المؤمن ومنزلته عند الله

 لا يمكن وصف حقّ المؤمن:

يوجد روايات كثيرة، بيّنت عظمة المؤمن عند الله، منها ما تحدّث بشكل صريح عن أنّ حرمته أشدّ من حرمة الكعبة، ومنها ما تحدّث بالمُلزمات التي تدلّ على عظمة المؤمن، منها:
عن مالك بن أعين الجهنيّ قال: أقبل إليّ أبو عبد الله، فقال: "يا مالك أنتم والله شيعتنا حقّاً، يا مالك... لا يقدر أحد أن يصف حقّ المؤمن، ويقوم به ممّا أوجب الله على أخيه المؤمن، والله يا مالك إنّ المؤمنين ليلتقيان، فيصافح كلّ واحد منهما صاحبه، فما يزال الله تبارك وتعالى ناظراً إليهما بالمحبّة والمغفرة، وإنّ الذنوب لَتحاتّ عن وجوههما وجوارحهما حتّى يفترقا، فمن يقدر على صفة الله وصفة من هو هكذا عند الله؟!"1.
 

1- البرقي، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص 143، باب"ما هو الا الله ورسوله ونحن وشيعتنا"، ح41.
 
 
 
21

15

الدرس الثاني: قيمة المؤمن ومنزلته عند الله

 1- حرمة المؤمن عند الله تعالى أعظم من الكعبة:

روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى الكعبة فقال: "مرحباً بالبيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك على الله! والله لَلمؤمن أعظم حرمة منك، لأنّ الله حرّم منك واحدة، ومن المؤمن ثلاثة: ماله، ودمه، وأن يظنّ به ظنّ السوء"1.

وفي رواية أنّ المؤمن من الحرم الخمس لله تعالى في بلاده. فقد روي عن الإمام الصادق أنّه قال: "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه قَالَ لِلَّه عَزَّ وجَلَّ فِي بِلَادِه خَمْسُ حُرَمٍ حُرْمَةُ رَسُولِ اللَّه وحُرْمَةُ آلِ رَسُولِ اللَّه وحُرْمَةُ كِتَابِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ وحُرْمَةُ كَعْبَةِ اللَّه وحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ"2.

وعن الإمام عليّ: "إِنَّ اللَّهً حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ وأَحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ وفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا وشَدَّ بِالإِخْلَاصِ والتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا3"4.
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص 71، ح39.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 107، ح82.
3- "معاقدها "مواضعها "وما يجب " أي ما يلزم ويثبت وهو كالتأكيد لقوله إلّا بالحقّ.
4- نهج البلاغة، مصدر سابق، ج2، ص 79، من خطبة له أوّل خلافته عظم فيها حقّ المؤمن ووصّى بمبادرة أمر العامّة والعدل فيهم.
 
 
 
22

16

الدرس الثاني: قيمة المؤمن ومنزلته عند الله

 2- وجوب رعاية حرمة المؤمن:

لقد جعل الله تعالى حرمة المؤمن فوق كلّ حرمة، وأوجب على المخلصين المعترفين بالوحدانيّة المحافظة على حقوق المؤمنين ومراعاتها، كما جاء في العديد من الروايات، ننقل منها:
روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الحرمات التي تلزم كلّ مؤمن رعايتها، والوفاء بها: حرمة المؤمن، وحرمة الأدب، وحرمة الطعام"1.

وعنه: صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: "سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ وقِتَالُه كُفْرٌ وأَكْلُ لَحْمِه مَعْصِيَةٌ وحُرْمَةُ مَالِه كَحُرْمَةِ دَمِه"2.

3- الله تعالى مؤنس المؤمن:
عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه قَالَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ لَاسْتَغْنَيْتُ بِه عَنْ جَمِيعِ خَلْقِي ولَجَعَلْتُ لَه مِنْ إِيمَانِه أُنْساً لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ"3.

ومعنى الحديث: "أي اكتفيت بعبادته عن عبادتهم. وفيه
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 74، ص 152.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 360، باب السباب، ح2.
3- المصدر نفسه، ص 245، بَابُ الرِّضَا بِمَوْهِبَةِ الإيمان والصَّبْرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بَعْدَه، ح2.
 
 
 
23

17

الدرس الثاني: قيمة المؤمن ومنزلته عند الله

 إشارة إلى كمال فضيلة الإيمان وتمام نعمته، فينبغي لمن يؤمن بالله أن لا يحتقر تلك النعمة، ولا يهمل أداء شكرها الذي من جملته أداء وظائف الطاعات وأن لا يجزع على فقد غيرها وأن يصبر على نوائب الدنيا وأن لا يؤذي أحداً من المؤمنين. لأنّ المؤمن حبيب الله ومن آذاه فقد آذى الله. "ولجعلت له من إيمانه أنساً، لا يحتاج إلى أحد" لأنّ الإيمان بالله سبب للتفكّر فيه، والالتفات إلى فضله، والشوق إلى قربه، والوثوق بلطفه، والعزلة عن شرار خلقه، والأنس به. فلا يعرضه وحشة فلا يحتاج إلى صحبة أحد لدفع الوحشة"1.


4- الله تعالى يستضيف المؤمن:
ورد عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام عن النبيّ: "يُعَيِّرُ اللهُ عزّ وجلّ عَبداً مِن عِبادِهِ يَومَ القِيامَةِ فَيقَولُ: عَبدي ما مَنَعَكَ إذ مَرِضتُ أن تَعودَني؟ فَيقَولُ: سُبحانَكَ! أنتَ رَبُّ العِبادِ، لا تَألَمُ ولا تَمرَضُ. فَيَقولُ: مَرِضَ أخوكَ المُؤمِنُ فَلَم تَعُدهُ، وَعِزَّتي وجَلالي لَو عُدتَهُ لَوَجَدتَني عِندَهُ، ثُمَّ لَتَكَلَّفتُ
 

1- المولى المازندراني، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج9، ص 190.
 
 
 
 
24

18

الدرس الثاني: قيمة المؤمن ومنزلته عند الله

 بِحَوائِجِكَ فَقَضَيتُها لَك، وذلِكَ مِن كَرامَةِ عَبدِيَ المُؤمِنِ، وأنَا الرَّحمنُ الرَّحيمُ"1.


والرواية تدلّ على عدّة أمور:
أ- على عظيم شأن المؤمن ومنزلته عند الله تعالى.

ب- إنّ عيادته عيادة اللَّه سبحانه، ويدلّ عليه ما ورد في بعض الروايات "عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه قَالَ مَنْ زَارَ أَخَاه فِي اللَّه قَالَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِيَّايَ زُرْتَ وثَوَابُكَ عَلَيَّ ولَسْتُ أَرْضَى لَكَ ثَوَاباً دُونَ الْجَنَّةِ"2.

ج- على كراهة ترك العيادة لمكان التعبير بالتعيير، إذ لا تعيير في ترك المستحبّ.

د- إنّ من حقّه تعالى على عباده، أن لا يهملوا بعضهم بعضاً في شدائدهم وضرّائهم في حال الحياة أو بعد الممات.

هـ- إنّ من آثار عيادة المؤمن قضاء حاجة الزائر من قبل الله تعالى.
 

1- الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام، إيران - قم، 1414ه، ط2، ج2، ص417، باب استحباب عيادة المريض المسلم وكراهة ترك عيادته، ح10.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 176باب زيارة الإخوان، ح4.
 
 
 
25

 


19

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 الدرس الثالث

مقوّمات الإيمان


محاور الموعظة:
1- الإيمان وعلاقته بالقلوب      3- الإيمان وعلاقته باليقين
2- الإيمان وعلاقته بالصبر      4- الإيمان وعلاقته بالقرآن الكريم

تصدير الموعظة:
قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ1.
 

1- سورة الحجرات، الآية 7.
 
 
 
 
26

20

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 تمهيد:

الإيمان منظومة متكاملة وشبكة دقيقة من العلاقات وله روابط متعدّدة منها علاقته مع القلوب، ومع اليقين، ومع الصبر، ومع القرآن، ونحاول شرح هذه العناوين باختصار.

الإيمان وعلاقته بالقلوب:
قال أمير المؤمنين "فَمِنَ الإيمان مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ، ومِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُورِ "إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ". فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ"1.

قوله: "ومِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُورِ"، أي لم يبلغ الإيمان حدّ الملكة، بل كانت بعد حالات في معرض التغيّر والانتقال، فهي العواريّ المتزلزلة غير راسخ فيها، ولا بالغ حدّ الملكة، لعدم استناده إلى الحجّة، فيزول بتشكيك المشكّك وتفتين المفتّن2.
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، أقسام الإيمان، ص279.
2- راجع: ابن ميثم البحرانيّ، شرح نهج البلاغة، مركز النشر مكتب الإعلام الإسلامي - الحوزة العلمية، إيران - قم، 1362 ش، ط1، ج5، ص 193. (بتصرف).
 
 
 
 
27

21

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 الإيمان وعلاقته باليقين:

قال أمير المؤمنين في صفات المتقين "وإِيمَاناً فِي يَقِينٍ"1.

من صفات المتّقين هو الإيمان في اليقين، واليقين هو العلم الذي لا يداخله شكّ وريب. والإيمان الجازم، والحكم القاطع الذي لا يتطرّق إليه شكّ، هو ما يؤمن به الإنسان، ويعقد عليه ضميره، ويتّخذه مذهباً وديناً، بغضّ النظر عن صحّته من عدمها. واليقين جزء من تلك العقيدة الثابتة التي لا يتطرّق إليها شكّ.

ومن خطبة للنبيّ جاء فيها: "وأعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عزّ وجلّ، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر،..."2.

روي أنّه ذكر عند النبيّ: أنّ بعض أصحاب عيسى، كان
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، 193 ومن خطبة له عليه السلام يصف فيها المتّقين، ص 303.
2- الكراجكي، الإمام العلّامة أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان، كنز الفوائد، مكتبة المصطفويّ، إيران - قم، 1369ش، ط2، ص 97، فصل من كلام سيّدنا رسول الله.
 
 
 
28

22

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 يمشى على الماء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لو زاد يقينه لمشى على الهواء"1.


والحديث يومئ إلى أنّ تسخير الأسباب الكونيّة، يدور مدار اليقين بالله سبحانه وتعالى.

ولا يمكن الوصول إلى درجة اليقين من دون أن يكون الإنسان مؤمناً بالله حقّ الإيمان، مصدّقاً بأركان الإيمان، مطمئنّ النفس بالقضاء والقدر، ساكن القلب لأحكام الشرع، بعيدًا عن الشكوك والشبهات والارتياب، وعليه يبنى الإيمان بل إنّ الإيمان يقينيّ، فإذا نزل عن درجة اليقين، فقد أصبح ضعيفاً، لا يقوى عند الامتحان، والشدائد؛ لأنّ الإيمان الضعيف يخشى على صاحبه من سوء الخاتمة، فإذا نقص اليقين نقص الإيمان، وإذا ضعف اليقين ضعف الإيمان، لكونه باعثاً على فعل الطاعات، ومانعاً من اقتراف السيّئات، بل قد يقال: إنّ اليقين هو الإيمان كلّه، إن لم يكن الإيمان كلّه فهو على الأقلّ جزء مهمّ وأساس من دعائم الإيمان؛ ولذا قد يطلق الإيمان ويراد به اليقين.
 

1- الطبرسيّ، الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408ه - 1987م، ط1، ج11، ص 198، باب وجوب اليقين بالله في الرزق والعمر والنفع والضرر، ح (12737) 16.
 
 
 
29

23

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 واليقين صفة من صفات المؤمنين، وعلامة على صدق إيمانهم: إنّ من صفات المؤمن: اليقين بالله واليوم الآخر، فلا إيمان لمن لا يقين له يدلّ على هذا آيات كثيرة، منها قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ1.


الإيمان وعلاقته بالصبر:
قال أمیر المؤمنين عليه السلام: "وعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإيمان كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، ولَا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لَا رَأْسَ مَعهُ، ولَا فِي إِيمَانٍ لَا صَبْرَ مَعَهُ"2.

وقد بيّن الإمام عليه السلام فضيلة الصبر "وأمر بتحصيلها؛ لأنّ كلّ الفضائل لا يخلو عنها وأقلّ ذلك الصبر على اكتسابها، ثمّ على البقاء عليها، وعن الخروج عنها، ولذلك شبّهها من الإيمان
 

1- سورة البقرة، الآيتان 2 – 4.
2- نهج البلاغة، مصدر سابق، حكم أمير المؤمنين عليه السلام، رقم الحكمة 82، ص482.
 
 
 
30

24

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 بالرأس من الجسد، في عدم قيامه بدونه. ثمّ أكَّد التشبيه والمناسبة بينهما بقوله: لا خير في جسد. إلى آخره"1. ومن خلال جعل الصبر من الإيمان كالرأس يفهم منه أمرين:

1- إنّ من لا صبر له لا إيمان له.
2- إنّ درجات الإيمان تقاس بدرجات الصبر.

فالإيمان والصبر مثل كفّتي ميزان متعادلتين، كلّما زادت إحداهما زادت الأخرى.

قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ2.

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾3.

وفي الرواية: "عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه فِي قَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ: ﴿اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ﴾ قَالَ اصْبِرُوا عَلَى الْفَرَائِضِ وصَابِرُوا
 

1- ابن ميثم البحرانيّ، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج5، ص 283.
2- سورة البقرة، الآية 155.
3- سورة آل عمران، الآية 200.
 
 
 
31

25

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 عَلَى الْمَصَائِبِ ورَابِطُوا عَلَى الأَئِمَّةِ"1. والمرابطة على الأئمّة، تكون بالنفس والمال والخدمة والانقياد لهم والانتظار لفرجهم.


وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾2. فالآية الكريمة بيّنت أنّ "سبب موهبة الإمامة بقوله: ﴿لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ فبيّن أنّ الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله، والصبر هو في كلّ ما يبتلي ويمتحن به عبد في عبوديّته، ولكونهم قبل ذلك موقنين"3.

وإذا راجعنا إلى صفات أهل البيت فنجد أن أهمها على الإطلاق صفة الصبر فقد ورد في بعض الروايات "أن اليقين فوق الإيمان بدرجة واحدة، والصبر فوق اليقين"4.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص81، باب أداء الفرائض، ح3.
2- سورة السجدة، الآية 24.
3- الطباطبائي، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرفة، إيران - قمّ، 1417ه‏، ط5، ج1، ص272.
4- عليّ بن بابويه القمّيّ، فقه الرضا، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قمّ المشرّفة، المؤتمر العالميّ للإمام الرضا عليه السلام - مشهد المقدّسة، 1406ه، ط1، ص 368، باب الصبر والكتمان والنصيحة.
 
 
 
32

26

الدرس الثالث: مقوّمات الإيمان

 وهناك روايات، كما قلنا، تشير إلى أنّ هناك مقامات أعلى من اليقين، ومن هذه الروايات عن عليِّ بن الحسين: "الزُّهْدُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ أَعْلَى دَرَجَةِ الزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ وأَعْلَى دَرَجَةِ الْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ وأَعْلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَةِ الرِّضَا"1.


الإيمان وعلاقته بالقرآن الكريم:
"(القرآن) إِنَّهُ مَعْدِنُ الإيمان وبُحْبُوحَتُهُ"2. "أمّا أنّه معدن الإيمان، فلأنّ المعدن عبارة عن منبت الجوهر من ذهب وفضّة ونحوهما، ولمّا كان الإيمان باللَّه ورسوله جوهراً نفيساً، لا جوهر أنفس منه ولا أغلى عند ذوي العقول، وكان يستفاد من القرآن ويستخرج منه جعله معدناً له. وأمّا إنّه بحبوحته ووسطه فلأنّ الإيمان بجميع أجزائه وشرائطه ومراسمه يدور عليه، فهو بمنزلة القطب والمركز لدائرة الإيمان، كما هو ظاهر"3.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 62، باب الرضا بالقضاء، ح10.
2- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 315.
3- الخوئيّ، حبيب الله الهاشميّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق السيّد إبراهيم الميانجي، بنياد فرهنگ امام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، لا.م، لا.ت، ط4، ج12، ص 307.
 
 
 
33

27

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 الدرس الراب

 

صدق الإيمان


محاور الموعظة:
1- صدق الإيمان
2- الأركان الأساسيّة لصدق الإيمان
3- علامات صدق الإيمان

تصدير الموعظة:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل المؤمن كمثل السنبلة، تخرّ مرّة وتستقيم مرّة. ومثل الكافر مثل الأرزة لا يزال مستقيماً لا يشعر"1،2.
 

1- لعلّ المراد به قلب المؤمن والكافر، فإنّ قلب المؤمن لرقته يتقلّب أحواله مرّة يسهل ومرّة يصعب، بخلاف قلب الكافر فإنّه لا يزال يصعب وهي كالحجارة بل أشدّ قسوة.
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 74، ص 142، ح 31.
 
 
 
34

28

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 صدق الإيمان:

عن أمير المؤمنين: "لَا يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْدٍ، حَتَّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ"1.

"صدق الإيمان بالشيء يقينه وكماله. ومن كماله حسن الرجاء للَّه والتوكَّل عليه، حتّى يكون أوثق بما في يد اللَّه منه بما في يده. وذلك لتيقّن وصول رزقه من اللَّه، وجزمه بذلك الأقوى من جزمه ووثوقه بما في يده، لجواز تلفه وعدم ثباته. وهي مرتبة عالية من مراتب التوكَّل"2. المراد بأوثق الوثوق بالرزق من اللَّه.

وفي (مروج الذهب) وقف عَلَى علِيّ سائل، فقال للحسن: "قل لأمّك تدفع إليه درهماً، فقال إنّما عندنا ستة دراهم للدقيق، فقال عليّ: لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون بما في يد الله أوْثَقَ منه، بما في يده، ثمّ أمر للسائل بالستة الدراهم كلّها، فما برح عليّ عليه السلام عنه حتّى مرّ به رجل، يقود بعيراً،
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، حكم أمير المؤمنين عليه السلام رقم 310، ص 529.
2- ابن ميثم البحرانيّ، شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج5، ص 398.
 
 
 
35

29

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 فاشتراه منه بمائة وأربعين درهماً، وأنسأ أجَلَه ثمانية أيّام، فلم يحلَّ أجله حتّى مرّ به رجل، والبعير معقول فقال: بكم هذا؟ فقال: بمائتي درهم، فقال: قد أخذته، فوزَنَ له الثمن، فدفع عليّ منه مائة وأربعين درهما للذي ابتاعه منه، ودخل بالستين الباقية على فاطمة عليها السلام، فسألته: من أين هي؟ فقال هذه تصديقٌ لما جاء به أبوك صلّى الله عليه (وآله): ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾"1.


الأركان الأساسيّة لصدق الإيمان:
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ2.
 

1- المسعوديّ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، منشورات دار الهجرة، إيران - قم، 1404ه - 1363 ش - 1984م، ط2، ج2، ص 423، وصف علي عند معاوية.
2- سورة البقرة، الآيات 2 – 4.
 
 
 
36
 

30

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ1.


- هذه الآيات الكريمة، تهدينا إلى علامة محوريّة لصدق الإيمان بالله واليوم الآخر، وهي العمل الصالح بمقتضى ذلك الإيمان، ولهذا العمل ركنان أساسيّان وهما:
الركن الأوّل: هو ما يظهر في سلوك المؤمن بالله، وعلاقته مع ربّه، وهذا ما يشير إليه تعبير ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾، والصلاة هي عمود الدين، ومركز الارتباط بالله، ومنطلق التخلق بأخلاقه. وفي سورة الأنفال تفصيل لآثار الارتباط بالله، تتمثّل بالآتي:
أ- بالخشية الإيجابيّة منه عزّ وجلّ ﴿إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ وهذه الخشية هي جوهر التقوى التي تحصّن المؤمن من ارتكاب المعاصي.
 

1- سورة الأنفال، الآيات 2 – 4.
 
 
 
37

31

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 ب- وبزيادة ذكر الله لإيمان المؤمن، من خلال دوام تفكّره في آيات الله في الآفاق والنفس، فتترسّخ باستمرار حقائق الإيمان في قلبه، وتظهر في عمله، وتتمثّل آثار الارتباط بالله عزّ وجلّ.

ت- في التوكّل على الله، والاستمداد منه، والرضا بقضائه، والتسليم لأمره وطاعته.

الركن الثاني: الإنفاق ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ والإنفاق في سبيل الله هو من أوضح مصاديق الإيمان بالدار الآخرة.
وفي هذه يشير الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، وهو يشرح قوله تعالى قوله تعالى: ﴿وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ قال: "بالدار الآخرة بعد هذه الدنيا يوقنون، لا يشكون فيها أنّها الدار التي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل ممّا عملوا الأعمال السيّئة بمثل ما كسبوه"1.
 

1- المشهديّ، الشيخ محمد بن محمد رضا القمّيّ، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، تحقيق حسين درگاهي، مؤسّسة الطبع والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، إيران، 1407ه - 1366ه‍.ش، ط1، ج1، ص 131، سورة البقرة، الآية 4: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ﴾.
 
 
 
 
38

32

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 علامات صدق الإيمان:

هناك أربع علائم لمعرفة صدق الإيمان:
الأولى: علائم عباديّة:
أ- العبادة هي التجسيد الحقيقيّ للإيمان وتحتلّ مركز الصدارة في الكشف عن حقيقة إيمان الإنسان. يقول أمير المؤمنين: "لا عبادة كأداء الفرائض"1.

ب- هناك علاقة طرديّة بين الإيمان والعبادة، كلّما أزداد إيمان العبد أقبل على العبادة أكثر فأكثر، وظهرت عليه علائم التفاعل معها والانفعال بها. كما هي حال أهل البيت عليهم السلام، الذين ضربوا بعبادتهم أروع الأمثلة. عن أبي عبدالله قال: "كان أبي يقول: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّه سَاقُ شَجَرَةٍ لَا يَتَحَرَّكُ مِنْه شَيْءٌ إِلَّا مَا حَرَّكَته الرِّيحُ مِنْه"2.

ج- والعبادة لا ينحصر مصداقها في الصلاة والصيام، وما إلى ذلك من الفرائض العباديّة، فعن أمير المؤمنين أنّ: "التفكّر
 
 

1- الواسطي، عليّ بن محمد الليثيّ، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قم، ط1، ص 533، الفصل الثاني: ما ورد بلفظ النفي.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 300، باب الخشوع في الصلاة، ح4.
 
 
 
 
39

33

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 في آلاء الله نعم العبادة"1، وعنه أيضاً: "التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين"2.


الثانية: علائم نفسيّة: ومنها
أ- الصلابة والثبات: روي عن الإمام الصادق في وصف المؤمن أنّه قال: "... وَقُورٌ عِنْدَ الْهَزَاهِزِ صَبُورٌ عِنْدَ الْبَلَاءِ شَكُورٌ عِنْدَ الرَّخَاءِ قَانِعٌ بِمَا رَزَقَه اللَّه،.. "3.

ب- التزام الحقّ عند الرّضا والغضب: عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أُمِّه فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّه: ثَلَاثُ خِصَالٍ، مَنْ كُنَّ فِيه اسْتَكْمَلَ خِصَالَ الإيمان، إِذَا رَضِيَ لَمْ يُدْخِلْه رِضَاه فِي بَاطِلٍ، وإِذَا غَضِبَ لَمْ يُخْرِجْه الْغَضَبُ مِنَ الْحَقِّ، وإِذَا قَدَرَ لَمْ يَتَعَاطَ مَا لَيْسَ لَه"4.

ج- البشر وانشراح الصدر: عن أمير المؤمنين عليه السلام:
 

1- الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 29.
2- المصدر نفسه، ص 53.
3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 231، باب المؤمن وعلاماته، ح2.
4- المصدر نفسه، ص 239، ح 29.
 
 
 
40

34

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 "بِشْرُه فِي وَجْهِه وحُزْنُه فِي قَلْبِه أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً وأَذَلُّ شَيْءٍ نَفْساً،.."1.


د- قوّة الإرادة: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ المؤمن إذا نظر اعتبر، وإذا سكت تذكّر، وإذا تكلّم ذكر، وإذا استغنى شكر، وإذا أصابته شدّة صبر، فهو قريب الرضى بعيد السخط، يرضيه عن الله اليسير، ولا يسخطه الكثير، ولا يبلغ بنّيته إرادته في الخير، ينوي كثيراً في الخير، ويعمل بطائفةٍ منه، ويتلهّف على ما فاته من الخير كيف لم يعمل به"2.

هـ- الاستغلال الأمثل للزمن: عن أمير المؤمنين: "لِلْمُؤْمِنِ ثَلَاثُ سَاعَاتٍ فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّه وسَاعَةٌ يَرُمُّ مَعَاشَه وسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِه وبَيْنَ لَذَّتِهَا فِيمَا يَحِلُّ ويَجْمُلُ ولَيْسَ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ شَاخِصاً إِلَّا فِي ثَلَاثٍ مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي مَعَادٍ أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ"3.

الثالثة: علائم أخلاقيّة: لا يخفى أنّ هناك علاقة وطيدة بين
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ص 226، ح 1.
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص 50، ح 79.
3- نهج البلاغة، مصدر سابق، غريب كلامه، ص 545، ح 390.
 
 
 
 
41

35

الدرس الرابع: صدق الإيمان

 الإيمان والأخلاق، كلّما سما المؤمن في إيمانه حسنت أخلاقه، يقول عليه السلام: "لَا تَنْظُرُوا إِلَى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وسُجُودِه، فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ اعْتَادَه، فَلَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ، لِذَلِكَ، ولَكِنِ انْظُرُوا إِلَى صِدْقِ حَدِيثِه وأَدَاءِ أَمَانَتِه"1.


الرابعة: علائم اجتماعيّة: من الأمور الهامّة التي تكشف عن مدى إيمان الفرد، شعوره نحو أبناء جنسه، وعلاقته معهم. ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "الْمُؤْمِنُ حَسَنُ الْمَعُونَةِ، خَفِيفُ الْمَؤونَةِ، جَيِّدُ التَّدْبِيرِ لِمَعِيشَتِه، لَا يُلْسَعُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ"2.

وقد اعتبر الرسول الأكرم أنّ: "مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش"3.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 105، باب الصدق وأداء الأمانة، ح12.
2- المصدر نفسه، ص 241، باب المؤمن وعلاماته، ح 38.
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 74، ص 145، ح48.
 
 
 
42

36

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 الدرس الخامس

دعائم الإيمان


محاور الموعظة: دعائم الإيمان
1- الدعامة الأولى: الصبر
2- الدعامة الثانية: اليقين
3- الدعامة الثالثة: العدل
4- الدعامة الرابعة: الجهاد

تصدير الموعظة:
"سُئِلَ الإمام عليّ عَنِ الإيمان فَقَالَ: "الإيمان عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّبْرِ والْيَقِينِ والْعَدْلِ والْجِهَادِ"1.
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، حكمة رقم 31.
 
 
 
43

37

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 الإيمان نور يتشعشع في قلب الإنسان، ويضيء على جميع حواسّه وأعضائه، فيلمع من كلّ منها ما يقتضيه. فالعقل يتنوّر به، ويفهم الحقائق الإلهيّة، والمسائل الكونيّة، والوهم والخيال ينكمشان من الصور الزائغة والأباطيل، وأعضاء البدن تشتغل بالأعمال الخيريّة الَّتي تشعّ على الجامعة الإنسانيّة بالفوائد والسرور والراحة والازدهار1.


دعائم الإيمان:
"سُئِلَ الإمام عليّ عَنِ الإيمان فَقَالَ: الإيمان عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ..." ثمّ بيّن الإمام أنّ كلّ واحدة من هذه الدعائم على أربع شُعب، ولكلّ واحدة منها مدخلاً عظيماً في تحقيق الإيمان وثباته وبقائه، وهي:
الدعامة الأولى: الصبر:
وهو الثبات على الشريعة، وخلع النفس عن الشهوات، ومنعها عن الجزع عند المصيبات، وهو كنز من كنوز الجنّة، وطريق عظيم للدخول فيها. وباعث قويّ للبقاء على الإيمان.
 

1- حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، مصدر سابق، ج21، ص 62.
 
 
 
 
44

38

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 وقدّم الإمام الصّبر في كلامه، لأنّ الصّبر لا يستغني المؤمن عنه، لأنّ المؤمن إمّا في نِقمة وإمّا في نعمة: فإذا كان في النّعمة، فلو لم يصبر، ولم يملك نفسه، حصل له البطر والطَّغيان، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾. والصّبر في العافية والنّعمة من علامات الصّدّيقين. والصّبر على النعمة أنْ لا يسكن إليها، ولا يطمئنّ ويعرف أنّ هذه عارية.


ولا غنى عن الصّبر في أداء التكليف على كلفة التّكليف ومشقّته. ومنها موت الأعزّة، ونقصان الأموال، ولا غنى عن الصّبر عند هذه الشّدائد. قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا1.

شعب الصبر:
والصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ:
الشَّوْقِ: أي الشوق إلى الجنّة ونعيمها ودرجاتها.
الشَّفَقِ: وهو الخوف من نار جهنّم.
 
 

1- البيهقي، عليّ بن زيد، معارج نهج البلاغة، تحقيق محمّد تقي دانش پژوه، إشراف السيد محمود المرعشيّ، مطبعة بهمن، إيران - قم، 1409ه، ط1، ص 404، الحكمة 22.
 
 
 
45

39

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 الزُّهْدِ: أي الزهد في الدنيا وزهراتها، وهو لا يحصل بدون الصبر على الطاعات وزجر النفس عن المنهيات.

التَّرَقُّبِ: أي ترقّب الموت.

ثمرات شعب الصبر وفوائدها:
فَمَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْجَنَّةِ سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ: أي فارقها ومنع نفسه عن جميع مشتهياتها، التي هي طرق النار، لأنَّ من اشتاق إلى شيء يجتنب ما يوصل إلى ضدّه.
ومَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ اجْتَنَبَ الْمُحَرَّمَاتِ: لأنّها مؤدّية إلى النار، وسبب لها ومن خاف من المسبّب يفرّ عن السبب. فمن ادّعى الإشفاق، وارتكب الحرام، فهو كاذب.
ومَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ: إذ منشأ صعوبتها هو الميل إلى الدنيا، ومحبّة قنياتها، والشوق إلى لذّاتها، وراحتها النفسانيّة والبدنيّة.
ومَنِ ارْتَقَبَ الْمَوْتَ، سَارَعَ إِلَى الْخَيْرَات: حذراً من أن يموت قبل أن يدركها، ولعلمه بأنّها سبب للحياة الأبديّة، التي هي الحياة الحقيقيّة، فيستعدّ لها بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة.
 
 
 
 
 
46

40

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 الدعامة الثانية: اليقين:

تعريف اليقين: وهو العلم مع زوال الشكّ، وعدم احتمال طريانه.

شُعب اليقين: والْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ:
تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ: الفطنة جودة الذهن وتهيّؤه لإدراك الأشياءِ، وأحوالها كما هي، والتبصرة والتأمّل فيها وفي مقتضاها من العلوم والمعارف.
تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ: التأوّل بمعنى التأويل، وهو تفسير ما يؤول إليه الشيء، والحكمة العلم الذي يمنع الإنسان من القبيح مطلقاً، والمراد بتأولها الوصول إلى غورها.
مَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ: أي عبرة لأولي الأبصار ومحلّ لاعتبار ما كانوا فيه من نعيم الدنيا ولذّاتها، والمباهاة بكثرة أسبابها وزهراتها، ثمّ مفارقتهم لذلك كلّه، بالموت وبقاء الحسرة والندامة لهم، حجباً حائلة بينهم وبين الوصول إلى حضرة جلال الله.
وسُنَّةِ الأَوَّلِينَ: أي معرفة سنّتهم وطريقتهم، من خير يوجب النجاة، وشرّ يوجب الهلاك.
 
 
 
 
47

41

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 ثمرات شعب اليقين وفوائدها:

- فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَبَيَّنَتْ لَه الْحِكْمَةُ: أي نظر إلى وجه مقتضاها، (عرف الحكمة).
- ومَنْ تَبَيَّنَتْ لَه الْحِكْمَةُ عَرَفَ الْعِبْرَةَ: أبلغ غورها (عرف العبرة) بأحواله وأحوال الماضين. والذي يعرف العبرة يعرف السنّة، أي سنّة الأوّلين وأنماطهم وطريقتهم.
- رومَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ فَكَأَنَّمَا كَانَ فِي الأَوَّلِينَ: في حياتهم، فيرى أعمالهم، وما يتعقّبها من العقوبات الدنيويّة، أو بعد موتهم، فيرى حسراتهم وعقوباتهم الأخرويّة.

الدعامة الثالثة: العدل
وهو ملكة الاعتدال في القوّة النظريّة، والعمليّة والتوسّط في القوّة الشهويّة والغضبيّة، وهو مثمر لقوّة الإيمان وكماله.

شُعب العدل: والْعَدْلُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ:
- غَائِصِ الْفَهْمِ وغَوْرِ الْعِلْمِ: أي الفهم الغامض الذي ينفذ في بواطن الأشياء، والغامر، أي الغائر الذي يطلع عليه أذهان الأذكياء. والفهم الغائص الذي ينفذ في دقائق الأشياءِ، ويطلع
 
 
 
 
 
48

42

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 على أسرارها وحقائقها.


- زُهْرَةِ الْحُكْمِ ورَسَاخَةِ الْحِلْمِ: والمراد بزهرة الحكم، الحكم المعجب للأنام وبروضة الحلم المكمل للنظام.

ثمرات شعب العدل وفوائدها:
- فَمَنْ فَهِمَ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ: فمن فهم بالفهم الغامض أو الغايص. (فسر جميع العلم) الشرعيّ، والقانون العقليّ والنقليّ، لأنّ هذا التفسير من شأن الفهم المذكور وآثاره.

- ومَنْ عَلِمَ غَوْرَ الْعِلْمِ صَدَرَ عَنْ شَرَائِعِ الْحُكْمِ: كذلك، (عرف) جميع (شرائع الحكم) ومشاربه وموارده ذلك من آثار العلم الغامر.

- ومَنْ حَلُمَ لَمْ يُفَرِّطْ فِي أَمْرِه وعَاشَ فِي النَّاسِ حَمِيداً: ولم يقصر فيه أصلاً لأنّ شأن الحليم الكامل هو التحرّز عن طرف الإفراط والتفريط والاستقرار في الوسط. (وعاش في الناس حميداً) أي محموداً، لأنّه يطفئ نائرة الغضب عند نزول التعب ومكاره النفس فيحمده الناس وينصرونه.
 
 
 
 
 
49

43

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 الدعامة الرابعة: الجهاد:

ويشمل المجاهدة النفسانيّة والبدنيّة والمراقبة الروحانيّة، والله سبحانه أظهر الدين وطلب الإيمان به، وجعل عزّهما وكمالهما في الجهاد، فمن جاهد كمل إيمانه.

شُعب الجهاد: والْجِهَادُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ:
- عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: أي الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية بالشرائط والمراتب المذكورة في كتب الفقه.
- والصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ: أي مواطن جهاد النفس والعدوّ، والفاسق بالأمر والنهي، ومنه أن يكون قوله موافقاً لفعله، وفعله موافقاً لقلبه، وقلبه موافقاً لرضا الله تعالى.
- وشَنَآنِ الْفَاسِقِينَ: أي بغضِّهم، وهو راجع إلى إنكارهم بالقلب ومقتصى الإيمان، وليس بداخل في النهي عن المنكر عند جماعة. ومن الأصحاب من أدخله فيه مجازاً.

ثمرات شعب الجهاد وفوائدها:
- فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِيَن ومَنْ نَهَى عَنِ
 
 
 
 
50

44

الدرس الخامس: دعائم الإيمان

 الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْكَافِرِينَ: والمراد بشدّ ظهر المؤمن تقويته وإمداده، وبإرغام أنف المنافق إهانته وإذلاله، وذلك لأنّ الأمر بالمعروف تحريص العبد على ما يقرّبه إلى الله تعالى، باتّباع شرائعه، والنهي عن المنكر زجره عمّا يبعده منه، ومن الندم عاجلاً وآجلاً، ومن البين أنّ من اتّصف بهذه الصفة يكون مقوّياً ومرغماً وآمناً.


(ومَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ) كلّها (قَضَى مَا عَلَيْه)، أي ما يجب عليه من القول الحقّ وغيره، ودخل في زمرة الصادقين الذين مدحهم الله في كتابه الكريم بقوله: يوم ينفع الصادقين صدقهم.

(ومَنْ شَنِئَ الْفَاسِقِينَ) وأبغضهم لفسقهم (وغَضِبَ لِلَّه) طلباً لمرضاته. (غَضِبَ اللَّه لَه) (وأَرْضَاه يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وأرضاه في الدنيا والآخرة. نعم من كان لله كان الله له، رضي الله عنه ورضي عنه1.
 

1- المولى المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج 8، باب صفة الإيمان، ص 159 - 162. (بتلخيص وتصرف).
 
 
 
 
51

45

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 الدرس السادس

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ


محاور الموعظة
1 - كيف يحقّق المؤمن الفلاح
2 - أمير المؤمنين عليه السلام يوصينا بالصلاة

تصدير الموعظة:
قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ1.
 
 

 
1- سورة المؤمنون، الآيات 1-11.
 
 
 
52

46

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 كيف يحقّق المؤمن الفلاح؟

إنّ الله سبحانه تعالى أولى عناية خاصّة لصفات المؤمنين، واختار لهم سورة خاصّة باسمهم وهي سورة"المؤمنون"، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ...﴾.

وكلمة "أفلح" في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: مشتقّة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثمّ أُطلقت على أيّ نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة، فالمنتصرون والفائزون يزيلون من طريقهم كلّ الموانع والحواجز والحجب، لينالوا الفلاح والسعادة، ويشقّون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة.

فإذا أردا المؤمن أن يكون من المفلحين، فعليه التحقّق بالصفات الآتية:
1- الخشوغ: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾: "اعتبر القرآن الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرّد ألفاظ وحركات، لا روح فيها،
 
 
 
 
 
 
 
53

47

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّهه إلى الله، تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق.."1.


2- الإعراض عن اللغو: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾: أي ما لا يغنيهم من القول أو الفعل، كاللعب والهزل، وما توجب المروّة إلقاءه وإطراحه.

3- الزكاة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾: "أي يؤدون ما يجب عليهم في أموالهم من الصدقات، وسمّيت زكاة، لأنّه يزكو بها المال عاجلاً وآجلاً"2.

4- العفّة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾: الآية فيها إشعار واضح بالمدح، أي يمدحهم على حفظ فروجهم عمّا أمروا بحفظه وعلى عدم حفظها عمّا أبيح لهم.

5- حفظ الأمانة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ﴾: والأمانات ضربان: أمانات اللَّه، وأمانات العباد، فأمانة اللَّه تعالى هي
 

1- الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، إيران - قم، 1426ه، ط1، ج10، ص419، صفات المؤمنين البارزة.
2- الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العامليّ، دار إحياء التراث العربيّ، مطبعة مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران، 1409ه، ط1، ج7، ص 348.
 
 
 
 
54

48

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 العبادات كالصيام والصلاة وغيرها من الأفعال المكلّف بها، وأمانات العباد هي مثل الودائع والشهادات وغيرها. وأمّا العهد فعلى ثلاثة أضرب: أوامر اللَّه، ونذور الإنسان، والعقود الجارية بين الناس. فيجب على الإنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات والعهود والقيام بما يتولّاه منها"1.


6- مراعاة العهد: ﴿وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾: هذه الآية الكريمة تكون في جهة بيان الأوصاف للمؤمنين، فتبيّن أنّ رعاية العهد والوفاء به من صفات المؤمنين الواجبة عليهم.

7- المحافظة على الصلاة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾: أي يواظبون عليها ويؤدّونها في أوقاتها، من غير تقديم على الوقت ولا تأخير عنه.

أمير المؤمنين عليه السلام يوصينا بالصلاة
في خطبة للإمام عليّ عليه السلام تحدّث عن بعض العناوين المتقدّمة في سورة "المؤمنون"، ومن العناوين التي تعرض لها:
 

1- الكاظمي، الجواد، مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام، تحقيق الشيخ محمّد باقر شريف زاده، المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، إيران، ج3، ص 154، النذر والعهد واليمين.
 
 
 
 
55

49

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 الأمر بالصّلاة والحثّ عليها، نقسّمها إلى قسمين:

القسم الأول: قال عليه السلام في الحثّ على الصلاة: 
"تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ، وحَافِظُوا عَلَيْهَا، واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا، وتَقَرَّبُوا بِهَا، فَإِنَّهَا ﴿كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾.

ويتضمّن هذا القسم من كلام الإمام عليّ عليه السلام أربع وصايا:
الوصيّة الأولى: (تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ) أي جدّدوا العهد بها وراقبوا عليها في أوقاتها المخصوصة، ولا تضيّعوها، ولا تغفلوا عنها، لأنّها عماد الدّين، ومعراج المؤمنين، وقربان كلّ تقىّ ومؤمن نقيّ، وأوّل ما يحاسب عليه العبد، إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردّت ردّ ما سواها.

الوصية الثانية: (وحَافِظُوا عَلَيْهَا) أي على أوقاتها ورعاية آدابها وسننها وحدودها ومراسمها وشروطها وأركانها.

الوصية الثالثة: (واسْتَكْثِرُوا مِنْهَا): فإنّها خير موضوع، فمن شاء أقلّ، ومن شاء أكثر.

عن أبي جعفر ذكر عنده الصلاة فقال: إنّ في كتاب عليّ
 
 
 
 
 
 
56

50

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 الذي أملاه رسول اللَّه: إنّ اللَّه لا يعذّب على كثرة الصلاة والصيام ولكن يزيده، خيراً جزاء "خيرا"1.


الوصية الرابعة: (وتَقَرَّبُوا بِهَا) إلى اللَّه سبحانه فإنّها قربان كلّ تقىّ.
عنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ "الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ"2.

القسم الثاني: أكمل عليه السلام كلامه قائلاً في آثار الصلاة: 
"أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ وإِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ7 الْوَرَقِ، وتُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ3، وشَبَّهَهَا رَسُولُ اللَّه بِالْحَمَّةِ4 تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ؛ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْه مِنَ الدَّرَنِ5،
 
 

1- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج4، ص 103، باب استحباب كثرة التنفّل، ح4.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، باب فضل الصلاة، ح6، ص 265.
3- (حتّ) الرّجل الورق من الشجر حتا من باب مدّ أسقطه وأزاله، وتحاتت الشّجرة تساقط ورقها.
4- (الرّبق) وزان عنب جمع ربق بالكسر وزان حمل حبل فيه عدّة عرى يشدّ به البهم، وكلّ عروة ربقة.
5- (الحمّة) بفتح الحاء المهملة كلّ عين فيها ماء حارّ ينبع يستشفى بها الأعلاء، وفي بعض النّسخ بالجيم وهى البئر الكثيرة الماء.
6- (الدّرن) محرّكة الوسخ. درن جلده وثوبه درن والحمام ينقي الدرن.
 
 
 
 
 
57

51

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 وقَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ ولَا قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ ولَا مَالٍ. يَقُولُ اللَّه سُبْحَانَه ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ﴾ وكَانَ رَسُولُ اللَّه نَصِباً بِالصَّلَاةِ بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَه بِالْجَنَّةِ، لِقَوْلِ اللَّه سُبْحَانَه: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ فَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَه ويَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَه"1.


ويتضمّن هذا القسم من كلام الإمام عليّ العلل والوجوه المرغبة في الصلاة، وهي خمسة:
الأوّل: قوله: ﴿كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾.

عن أَبِي عَبْدِ اللَّه قَوْلُه تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ قَالَ كِتَاباً ثَابِتاً ولَيْسَ إِنْ عَجَّلْتَ قَلِيلاً أَوْ أَخَّرْتَ قَلِيلاً بِالَّذِي يَضُرُّكَ مَا لَمْ تُضَيِّعْ تِلْكَ الإِضَاعَةَ فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ لِقَوْمٍ "أَضاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا"2.
 
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 316، 199 ومن كلام له كان يوصي به أصحابه، الصلاة.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص 270، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها، ح13.
 
 
 
 
58

52

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 الثاني: قوله: (ألا تسمعون إلى جواب أهل النار) والاستفهام للتقرير بما بعد النّفي أو للتوبيخ والتقريع، والغرض منه تنبيه المخاطبين، إلى أنّ ترك الصلاة يوجب دخول النار، وسخط الجبّار، ليتحرزوا من تركها، ويحافظوا عليها.


الثالث: (إنّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق) أي تسقطها من الرّقاب، سقوط الأوراق عن الأشجار.

الرابع: ما أشار إليه بقوله (وقد عرف حقّها) وقدرها "رجال من المؤمنين" وهو عليه السلام رئيسهم وسيّدهم وأفضلهم، حسبما تُطلع عليه في الأخبار الآتية، وهم "الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرّة عين من ولد ولا مال"، لعلمهم بأنّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربّهم ثواباً وخير أملاً.

الخامس: إنّ في المحافظة على الصلاة أسوة بالنّبيّ:
فلقد "كان رسول اللَّه نَصِباً بالصلاة" أي تَعِباً بها كلّ التعب. حتّى رُوي أنّه كان يصلَّى اللَّيل كلَّه ويعلِّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النّوم فعاتبه اللَّه على ذلك وأنزل عليه ﴿طه *
 
 
 
 
 
 
59

53

الدرس السادس: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ

 مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ وأمره بأن يخفّف على نفسه وذكر أنّه ما أنزل عليه الوحي ليتعب كلّ هذا التّعب.

 

 

 

60


54

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 الدرس السابع

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...


محاور الموعظة:
1- من هم عباد الرحمن؟ 
2- هل نحن عبادٌ للرحمن حقَّاً؟
3- صفات عباد الرحمن

تصدير الموعظة:
قال الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا *  وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ...1.
 

1- ينظر: سورة الفرقان، الآيات 63- 67.
 
 
 
 
61

55

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 من هم عباد الرحمن؟

قال الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ...﴾1 إلى آخر الآيات الشريفة التي سنشرحها تباعاً.

نزول الآيات الكريمة: إنّ هذه الآيات نزلت بالأئمة. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ سَلَّامٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرعليه السلام عَنْ قَوْلِه تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ قَالَ هُمُ الأَوْصِيَاءُ مِنْ مَخَافَةِ عَدُوِّهِمْ2.

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾: إنّهم عباد الرحمن، هؤلاء العباد الذين نَسَبَهُمُ الله إلى صفته المباركة، فقال: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ" وهذا تشريفٌ عظيم أن يكون الإنسان عبداً للرحمن، والمقصود بعباد العبوديّة الحقيقيّة الخاصّة التي اختصّ الله تعالى بها الصالحين الأخيار من عباده، تشريفاً لهم وتكريماً.
 
 

1- ينظر: سورة الفرقان، الآيات 63-67.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص427، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية، ح78.
 
 
 
 
62

56

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 هل نحن عبادٌ للرحمن حقَّاً؟

طرحت السورة الكريمة في آياتها هذه الصفات لمن وصفتهم بعباد الرحمن. لتكون هذه الصفات مقياساً لنا، فعلينا أن نضع هذه الصفات نصب أعيننا دائماً، ونجعلها هدفاً لنا نسعى لاكتسابها والتحلّي بها. ولمعرفتهم والاقتداء بهديهم، صوّرهم الله تعالى لنا عبر صفاتهم وهي:
الصفة الأولى: التواضع: ﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾: أي بسكينة ووقار بلا تجبّر وتبختر. وفي المجمع عن الإمام الصادق عليه السلام، هو الرجل يمشي بسجيّته التي جبل عليها لا يتكلّف ولا يتبختر1. والتواضع أحد علائم "عباد الرحمن"، التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتّى في مشيتهم، التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحقّ. والمعنى الثاني: التمهّل والتأنّي: أي هم يتمهَّلون في كلّ شيء، لا تأخذهم الأشياء بظواهِرها، هُم يتأمَّلون، يتفكَّرون، يبحثون، يُقَلِّبون الأمر على وجوهه، يتمهّلون في حياتهم العاديّة وفي
 
 

1- راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج66، ص260.
 
 
 
63

57

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

  اختيارهم للصديق، لمكان الدرس، للكتاب، للمدرّس وهكذا. وبعبارة جامعة هم يتحرّكون في كلّ أمورهم من واقع التبصّر والبصيرة في شؤون حياتهم.


الصفة الثانية: الحلم: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾: "إذا سفه عليهم الجهّال بالقول السيّء لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون، ويصفحون، ولا يقولون إلّا خيرًا. بمعنى إذا خاطبهم الجاهلون خطاباً ناشئاً عن جهلهم، ممّا يكرهون أن يخاطبوا به، أو يثقل عليهم، كما يستفاد من تعلّق الفعل بالوصف، أجابوهم بما هو سالم من القول، وقالوا لهم قولاً سلاماً خالياً عن اللغو والإثم.

الصفة الثالثة: التهجّد: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾: فعباد الرحمن لا يبيتون لاهين غافلين عن ذكر ربّهم، بل يحيون ليلهم في طاعته وعبادته. فهم الذين يدركون الليل حال كونهم ساجدين فيه لربّهم، وقائمين يتراوحون سجوداً وقياماً، ويمكن أن يراد به التهجد بنوافل الليل.

الصفة الرابعة: الخوف من عذاب الله: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ
 
 
 
 
 
64

58

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا﴾: الغرام ما يحلّ في الإنسان من شدّة أو مصيبة فيلزمه، لا يفارقه، والباقي ظاهر.


﴿إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾: الضمير لجهنّم، والمستقرّ والمقام اسما مكان من الاستقرار والإقامة، والباقي ظاهر.

فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون، وجلون من عذاب الله، وهذا الخوف منهم عن علم ودراية، ولذلك علَّلوه بأنّه عذاب لازم لصاحبه غير مفارق له.

الصفة الخامسة: الاعتدال في الإنفاق: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾:
الإنفاق بذل المال، وصرفه في رفع حوائج نفسه أو غيره، والإسراف الخروج عن الحدّ، ولا يكون إلّا في جانب الزيادة، وهو في الإنفاق التعدّي عمّا ينبغي الوقوف عليه في بذل المال، والقتر بالفتح فالسكون التقليل في الإنفاق، وهو بإزاء الإسراف.

فعباد الرحمن ليسوا بمبذّرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقّهم، فلا
 
 
 
 
 
65

59

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 يكفونهم، بل عدلٌ خيارٌ، وخير الأمور أوسطها.


الصفة السادسة: التوحيد: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾: لا يجعلون للَّه سبحانه شريكاً، إنّما يوجّهون عبادتهم إليه وحده. هي التوحيد الخالص الذي يبعدهم عن كلّ أنواع الشرك والثنويّة والتعدّديّة في العبادة.

الصفة السابعة: التنزّه عن سفك الدماء: ﴿وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾: طهارتهم من التلوّث بدم الأبرياء ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ.

الصفة الثامنة: حفظ الفرج عمّا لا يحلّ: ﴿وَلَا يَزْنُونَ﴾: إن عفافهم لا يتلوّث أبداً: ولا يزنون. إنّهم على مفترق طريقين: الطهر والتلوّث: فهم يتخيّرون النقاء والطهر. إنّهم يهيّئون المحيط الخالي من كلّ أنواع الشرك والتعدّي والفساد والتلوث، بجدّهم واجتهادهم. فهم يعلمون قباحة هذه الخصلة، وفحشها فيتنزّهون عنها، بل عن كلّ ما يؤدّي إليها من نظر محرّم، أو خلوة.

الصفة التاسعة: عدم شهادة الزور: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ
 
 
 
 
 
66

60

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 الزُّورَ﴾: أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ. فيشمل الكذب وكلّ لهو باطل كالغناء والفحش والخناء بوجه.


الصفة العاشرة: الإعراض عن اللغو: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾: اللغو ما لا يعتدّ به من الأفعال والأقوال لعدم اشتماله على غرض عقلائيّ ويعمّ - كما قيل - جميع المعاصي، والمراد بالمرور باللغو، المرور بأهل اللغو، وهم مشتغلون به.

فالكلام الذي لا خير فيه، ولا فيه فائدة دينيّة ولا دنيويّة ككلام السفهاء ونحوهم ﴿مَرُّوا كِرَامًا﴾ أي: نزّهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه، ورأوا أنّ الخوض فيه، وإن كان لا إثم فيه، فإنّه سفَه ونقص للإنسانيّة والمروءة، فربأوا بأنفسهم عنه.

الصفة الحادية عشرة: قبول الموعظة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾: والذين إذا ذكروا بآيات ربّهم من حكمة أو موعظة حسنة، من قرآن أو وحي، لم يسقطوا عليه، وهم صمّ لا يسمعون وعميان لا يبصرون، بل تفكّروا فيها وتعقّلوها فأخذوا بها عن بصيرة فآمنوا بحكمتها
 
 
 
 
 
 
67

61

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 واتّعظوا بموعظتها وكانوا على بصيرة من أمر هم وبينه من ربّهم1.


فمن صفات هؤلاء أنّهم إذا ذكروا بآيات الله لم يقابلوها بالإعراض عنها والصمم عن سماعها، وصرف النظر والقلوب عنها كما يفعله من لم يؤمن بها، ولم يصدق، وإنّما حالهم فيها وعند سماعها أنّهم يقابلونها بالقبول والافتقار إليها، والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانًا سامعة وقلوبًا واعية، فيزداد بها إيمانهم، ويتمّ بها إيقانهم، وتحدث لهم نشاطًا، ويفرحون بها سرورًا واغتباطًا.

خلاصة:
العبد إمّا يكون عبداً لله عزّ وجلّ، وإمّا يكون عبداً لهواه وللشيطان، ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾2 وشتّان ما بينهما، وعباد الرّحمن هم عباد الله الصّالحون الذين يتّصفون بنقاوة القلب وطهارته واستقامة اللّسان، والصّادقون في القول
 
 

1- انظر: العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج 15، ص 243-244.
2- سورة الفرقان، الآية 43.
 
 
 
 
68

62

الدرس السابع: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ...

 والعمل، والذين يُؤثِرون النّاس على أنفسهم، ويسعون في تقديم الخير، ويترفّعون عن سفاهات الأمور، أمّا عباد الشيطان فيتّصفون بالظّلم، والأنانيّة، والتكبّر، والقسوة، والغِلظة، وفُحش اللّسان.

 

 

 

69


63

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 الدرس الثامن

كونوا لنا زيناً


محاور الموعظة:
1- قواعد العلاقة بين المؤمنين
2- صفات المؤمنين بعضهم مع بعض
3- شيعة عليّ من صدق قوله فعله
4- الفرق بين المحبّ والشيعيّ

تصدير الموعظة:
روي عن سليمان بن مهران قال: "دخلت على الصادق عليه السلام، وعنده نفر من الشيعة وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، كفّوها عن الفضول وقبيح القول"1.
 
 

 
 
 
 
 
70

64

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 مدخل

أسّست الآيات والروايات قواعد في العلاقة ما بين المؤمنين، وكيفيّة الانتساب إلى المعصومين، وفرقت الروايات بين صفة الشيعيّ وصفة المحبّ وصفة الموالي، ويظهر أنّ صفة التشيّع هي أعلى مرتبة يصل إليها الإنسان المؤمن في الانتساب إلى أهل البيت عليهم السلام، وقد نقل الشيخ الصدوق في كتاب صفات الشيعة روايات، فرّقت بشكل واضح بين صفات الشيعيّ والمحبّ.

قواعد العلاقة بين المؤمنين:
أسّس القرآن قواعد كلّيّة في العلاقة بين المؤمنين وهي:
1- قاعدة الأخوّة الإيمانيّة: يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾1. ركّز المنهج القرآنيّ والنبويّ في أهمّيّة مبدأ الأخوّة الإيمانيّة، معتبراً المؤمنين أخوة، وأنّهم بمنزلة الجسد الواحد، ولا يوجد أيّ مذهب اجتماعيّ قد رفع من شأن العلاقة بين أبناء المجتمع إلى منزلة الأخوّة إلّا الإسلام. روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن أخو
 

1- الصدوق، محمّد بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص 484، ح657/17.
2- سورة الحجرات، الآية 10.
 
 
 
 
 
71

65

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيء منه، وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإنّ روح المؤمن لأشدّ اتّصالاً بروح اللَّه من اتّصال شعاع الشمس بها"1. وعنه عليه السلام: "المؤمنون في تبارّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره بالسهر والحمّى"2.


وتترتّب على هذا المبدأ أساليب تربويّة اجتماعيّة عدّة، كالتعاطف، والتبارّ، والتراحم، وإصلاح ذات البين، وعدم الظلم أو الخيانة أو الغشّ...، هو ما يؤكّده الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "إنّ المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه، ولا يغشّه، ولا يعدّه عدّة فيخلفه"3.

2- قاعدة النظائريّة في الإنسانيّة: يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص166. يراجع حول معنى هذه الأحاديث درس التربية الجهاديّة.
2- حسين بن سعيد الكوفي، المؤمن، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهديّ عليه السلام بالحوزة العلميّة، إيران - قم، 1404ه، ط1، ص39.
3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص166.
 
 
 
 
72

66

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 وَاحِدَةٍ1. أكّد القرآن الكريم مبدأ وحدة النوع الإنسانيّ من حيث الخلقة، فالناس متساوون في البشريّة، إذ كلّ الناس من آدم وحواء عليهما السلام، وهذا يعني أنّهم إخوة في الإنسانيّة. وفي هذين السياقين نلاحظ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قسّم الناس إلى صنفين على أساس الدين والإنسانيّة، إذ قال: "فإنّهم (أي الناس) صنفان: إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق"2.


3 - قاعدة أولياء بعض: يقول الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾3: إنّ أوّل ما يلفت النظر أنّ كلمة ﴿أَوْلِيَاء﴾ لم تذكر أثناء الكلام عن المنافقين، بل ورد ﴿بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ4 التي توحي بوحدة الأهداف والصفات والأعمال، ولكنّها تشير ضمناً إلى أنّ هؤلاء المنافقين وإن كانوا في صفّ واحد ظاهراً، ويشتركون في البرامج والصفات، إلّا أنّهم يفتقدون روح المودّة والولاية فيما بينهم، بل إنّهم إذا شعروا
 
 

1- سورة النساء، الآية 1.
2- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص427.
3- سورة التوبة، الآية 71.
4- سورة التوبة، الآية 67.
 
 
 
 
73

67

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 في أيّ وقت بأنّ منافعهم ومصالحهم الشخصيّة قد تعرّضت للخطر، فلا مانع لديهم من خيانة حتّى أصدقائهم، فضلاً عن الغرباء، وإلى هذه الحالة تشير الآية (14) من سورة الحشر: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى1.


صفات المؤمنين بعضهم مع بعض
وبعد بيان هذه القواعد الكلّيّة في ربط المؤمنين بعضهم مع بعض، تحدّثت عن صفاتهم الجزئيّة. وهي أربع صفات:
أ- ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾. 
ب- ﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ﴾. 
ج- ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾. 
د. ﴿ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ﴾.

شيعة عليّ من صدق قوله فعله:
أسّس أهل البيت قاعدة في الانتساب إليهم، وهي:
"كونوا لنا زينا". وعند مراجعة الروايات نجد أنّ كلمة الشيعة
 
 

1- سورة الحشر، الآية 14.
 
 
 
 
74

 


68

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 لها معنًى خاصٌ ومقدّس في روايات أهل البيت، وتأكيداً لهذا المعنى ذكر أهل البيت للشيعة أوصافاً خاصّة بهم، من أهمّها تجسيد القدوة الحسنة بين الناس في السلوك الفرديّ والاجتماعيّ العامّ. ومن هذه الصفات:

1- كونوا زيناً لنا: روي عن سليمان بن مهران قال: "دخلت على الصادق، وعنده نفر من الشيعة وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، كفّوها عن الفضول وقبيح القول"1.

التزيّن باتّباع أهل البيت هو أن يجعلَ الانتساب إليهم وموالاتهم زينة لهم وفخراً بين الناس، ولا زينة أرفع من ذلك، فمن أراد التزيّن بتلك الصفات عليه أن يلاحظ ما خطّته روايات أهل البيت عليهم السلام في وصف الشيعة.

والمعنى المراد بهذا التعبير: كونوا من أهل الورع والتقوى والعمل الصالح، لتكونوا زينة لنا فإنّ حسن أتباع الرجل زينة له، إذ يمدحونه بحسن تأديب أصحابه بخلاف ما إذا كانوا
 
 

1- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 484، ح657/17.
 
 
 
75

69

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 فسقة، فإنّه يصير سبباً لتشنيع رئيسهم، ويكونون شيناً وعيباً لرئيسهم1.


2- الصفات الجامعة: وعن أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ قَالَ قَالَ: لِي أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام: اقْرَأْ عَلَى مَنْ تَرَى أَنَّه يُطِيعُنِي مِنْهُمْ ويَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ.
أ- وأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ، والْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، والِاجْتِهَادِ لِلَّه، وصِدْقِ الْحَدِيثِ، وأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وطُولِ السُّجُودِ، وحُسْنِ الْجِوَارِ فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم.

ب- أَدُّوا الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا بَرّاً أَوْ فَاجِراً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ والْمِخْيَطِ.

ج- صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، واشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ، وعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِه، وصَدَقَ الْحَدِيثَ، وأَدَّى الأَمَانَةَ، وحَسُنَ خُلُقُه مَعَ النَّاسِ، قِيلَ هَذَا جَعْفَرِيٌّ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ، ويَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْه السُّرُورُ، وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ وإِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُه وعَارُه،
 
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج65، ص 115.
 
 
 
76

70

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 وقِيلَ هَذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، فَوَاللَّه لَحَدَّثَنِي أَبِي عليه السلام أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام، فَيَكُونُ زَيْنَهَا آدَاهُمْ لِلأَمَانَةِ، وأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ إِلَيْه، وَصَايَاهُمْ ووَدَائِعُهُمْ تُسْأَلُ الْعَشِيرَةُ عَنْه فَتَقُولُ مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ: إِنَّه لآَدَانَا لِلأَمَانَةِ وأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ"1.


- وعن أبي عبد الله عليه السلام في رواية أخرى قال: "إنّ أصحاب عليّ كانوا المنظور إليهم في القبائل، وكانوا أصحاب الودائع، مرضيين عند الناس، سهار الليل، مصابيح النهار"2.

- وعن أبي عبد الله أنّه قال: ليس من شيعتنا من يكون في مصر يكون فيه مائة ألف ويكون في المصر أورع منه"3.

الفرق بين المحبّ والشيعيّ:
- قال رجل للحسن بن عليّ عليه السلام: "يا بن رسول الله،
 
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 636، باب ما يجب من المعاشرة، ح5.
2- الطبرسيّ، الشيخ علي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، تحقيق مهدي هوشمند، دار الحديث، إيران، 1418ه، ط1، ص 127، الفصل الثاني: في ذكر علامات الشيعة، ح294.
3- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج15، ص 247، باب وجوب الورع، ح (20408) 18.
 
 
 
 
77

71

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

إنّي من شيعتكم. فقال الحسن بن عليّ: يا عبد الله، إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك، فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة، لست من أهلها، لا تقل: أنا من شيعتكم، ولكن قل: أنا من مواليكم، ومحبّيكم، ومعادي أعدائكم. وأنت في خير، وإلى خير"1.

- وقال رجل للحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "يا بن رسول الله، أنا من شيعتكم. قال عليه السلام: اتّقِ الله، ولا تدعين شيئاً يقول لك الله: كذبت، وفجرت في دعواك. إنّ شيعتنا من سلمت قلوبهم من كلّ غشّ وغلّ ودغل، ولكن قل: إنّي من مواليكم ومحبّيكم"2.

- وعن أبي الْحَسَنِ عليه السلام لَوْ مَيَّزْتُ شِيعَتِي لَمْ أَجِدْهُمْ إِلَّا وَاصِفَةً ولَوِ امْتَحَنْتُهُمْ لَمَا وَجَدْتُهُمْ إِلَّا مُرْتَدِّينَ ولَوْ تَمَحَّصْتُهُمْ لَمَا خَلَصَ مِنَ الأَلْفِ وَاحِدٌ ولَوْ غَرْبَلْتُهُمْ غَرْبَلَةً لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج65، ص 156.
2- المصدر نفسه، ص 156.
 
 
 
 
78

72

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 إِلَّا مَا كَانَ لِي إِنَّهُمْ طَالَ مَا اتَّكَوْا عَلَى الأَرَائِكِ فَقَالُوا نَحْنُ شِيعَةُ عَلِيٍّ إِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ مَنْ صَدَّقَ قَوْلَه فِعْلُه"1.


أي لو ميّزتهم عن غيرهم ما وجدتهم إلاّ واصفين قائلين بالتشيّع وهذا الوصف لم يوجد في غيرهم، فهم به يمتازون عنهم، ثمّ الواصفون، لو امتحنتهم واختبرت أحوالهم، لما وجدت أكثرهم إلاّ مرتّدين، صارفين عن سيرتي، غير آخذين بأمري، ولا عاملين بما هو خير لهم، ثمّ الآخذون العاملون لو تمحّصتهم وفتّشت كيفيّة أخذهم، وعملهم وأخلاقهم، بنوع من التمحيص والتخليص لما وجدت أكثرهم إلاّ غير خالصين، ثمّ الخالصون، وهم الأقلّون جدّاً لو غربلتهم غربلة وحرّكتهم تحريكاً بغربلة البلايا والمحن والمصائد والشدائد لم يبق منهم إلاّ قليل، وهو من كان لي وأخذ بسيرتي، (وإنّما شيعة عليّ من صدق قوله فعله) بالعمل بسيرته ليتحقّق معنى التشيّع والمتابعة"2.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 228، إنما شيعة عليّ بن صدق قوله فعله، ح290.
2- المولى المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج12، ص 305.
 
 
 
 
79

73

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 النتيجة

نستفيد من هذه الروايات الشريفة ما يلي:
أ- ميّزت هذه الروايات بشكل واضح بين الشيعيّ والمحبّ والموالي.

ب- اعتبرت التشيّع من أعلى الصفات والرتب في الانتساب إلى أهل البيت عليهم السلام.

ج- أعطت لمصطلح الشيعيّ مجموعة من العناوين العامّة من قبيل: "اتّبع آثارنا واقتدى بأعمالنا".

د- نفت هذه الروايات صفة التشيّع عن مرتكب الذنب من قبيل: "إنّ هؤلاء لا يسمّون بشيعتنا، ولكن يسمّون بمحّبينا، والموالين لأوليائنا، والمعادين لأعدائنا". أو" إنّ شيعتنا من سلمت قلوبهم من كلّ غشّ وغلّ ودغل، ولكن قل: إنّي من مواليكم ومحبّيكم".
 
 
 
 
 
80

74

الدرس الثامن: كونوا لنا زيناً

 قصّة وعبرة:

قيل للكاظم عليه السلام: مررنا برجل في السوق وهو ينادي: أنا من شيعة محمّد وآل محمّد الخُلّص، وهو ينادي على ثياب يبيعها: مَن يزيد؟.. فقال موسى عليه السلام: "ما جهل ولا ضاع ?مرؤ عرف قدر نفسه، أتدرون ما مَثَل هذا ؟.. هذا شخص قال: أنا مثْل سلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار، وهو مع ذلك يباخس في بيعه، ويدلّس عيوب المبيع على مشتريه، ويشتري الشيء بثمنٍ فيزايد الغريب يطلبه فيوجب له، ثمّ إذا غاب المشتري قال: لا أُريده إلاّ بكذا بدون ما كان طلبه منه.

أيكون هذا كسلمان وأبي ذرّ والمقداد وعمّار؟.. حاشَ لله أن يكون هذا كَهُم، ولكن ما يمنعه من أن يقول: إنّي من محبّي محمّد وآل محمّد، ومَن يوالي أولياءهم ويُعادي أعداءهم؟"1.
 
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج65، ص 157.
 
 
 
81

75

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 الدرس التاسع

امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا


محاور الموعظة:
1- موادّ للامتحان
2- ثلاثة شروط ليحفظ الله تعالى الشيعة
3- علاقة الشيعة بعضهم ببعض
4- الحبّ والعمل
5- الميزان في العلاقة مع المعصوم

تصدير الموعظة:
رُوي عن أبي عبد الله عليه السلام: "امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا، وإِلَي أَسْرَارِنَا كَيْفَ حِفْظُهُمْ لَهَا عِنْدَ عَدُوِّنَا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها"1.
 

1- القمّيّ، الحميريّ، قرب الإسناد، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1413ه، ط1، ص 78، ح 253.
 
 
 
 
82

76

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 ثلاث موادّ للامتحان:

إنّ موادّ الامتحان التي حدّدها الإمام الصادق عليه السلام لشيعته ثلاث:
الأولى: المحافظة على أوقات الصلاة: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"كان لا يُؤثر على الصلاة عشاءً، ولا غيرَه، وكان إذا دخل وقتها كأنّه لا يعرف أهلاً، ولا حميماً"1 (الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام).
و"كان يُحدّثنا ونّحدّثه، فإذا حضرتِ الصلاةُ، فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرِفه"2 (الحديث عن عائشة).
و"كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون في المُصلّين إلاّ كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذاكرين إلاّ كان أكثرهم ذكراً"3.

الثانية: حفظ الأسرار: عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ وَدِدْتُ واللَّه أَنِّي افْتَدَيْتُ خَصْلَتَيْنِ فِي الشِّيعَةِ لَنَا بِبَعْضِ
 
 

1- وارم بن أبي فراس، مسعود بن عيسى، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، مكتبة الفقيه، إيران - قم، ط 1، ج 2، ص 78.
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 67، ص 400، عن عدّة الداعي.
3- الأصبهانيّ، أبو نعيم أحمد بن عبد الله، حلية الأولياء، دار الكتاب العربيّ، لا.م، لا.ت، ط 4، ج 7، ص 112.
 
 
 
83

77

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 لَحْمِ سَاعِدِي النَّزَقَ وقِلَّةَ الْكِتْمَانِ"1. وحفظ السرّ يعني: ترك إفشائه وإظهاره لأنّه أمانة، وحفظ الأمانة واجب، وذلك من أخلاق المؤمنين.


الثالثة: مواساة الإخوان بالأموال: عن الإمام الصادق: "عنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ والْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام مَيَاسِيرُ شِيعَتِنَا أُمَنَاؤُنَا عَلَى مَحَاوِيجِهِمْ فَاحْفَظُونَا فِيهِمْ يَحْفَظْكُمُ اللَّه"2.

والمواساة يعني معاونة ذوي الأرحام والأقربين، وسائر الناس من الفقراء والمساكين في المعيشة، وإشراكهم في القوت والمال من شعب السخاء المعدود من أنواع العفّة، ومن كمال الصالحين وخصال العاقلين، إذ العاقل الكامل يعلم بنور عقله أنَّ سَدَّ خَلّة الفقراء، ومواساة الضعفاء، وإعطائهم ما ينتظم به أحوالهم من فضل المال، يوجب ذكراً جميلاً في الدّنيا3.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 222، باب الكتمان، ح1.
2- المصدر نفسه، ص 265، باب فضل فقراء المسلمين، ح21.
3- المولى المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 244.
 
 
 
84

78

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 ثلاثة شروط ليحفظ الله تعالى الشيعة:

- دخل سَدِيرٌ الصيرفي على أبي عبد الله، وعنده جماعة من أصحابه فقال: "يَا سَدِيرُ لَا تَزَالُ شِيعَتُنَا مَرْعِيِّينَ، مَحْفُوظِينَ، مَسْتُورِينَ، مَعْصُومِينَ، مَا أَحْسَنُوا النَّظَرَ لِأَنْفُسِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَالِقِهِمْ، صَحَّتْ نِيَّاتُهُمْ لِأَئِمَّتِهِمْ، وَبَرُّوا إِخْوَانَهُمْ، فَعَطَفُوا عَلَى ضَعِيفِهِمْ وَتَصَدَّقُوا عَلَى ذَوِي الْفَاقَةِ مِنْهُمْ، إِنَّا لَا نَأْمُرُ بِظُلْمٍ، وَلَكِنَّا نَأْمُرُكُمْ بِالْوَرَعِ الْوَرَعِ الْوَرَعِ، وَالْمُوَاسَاةِ الْمُوَاسَاةِ لِإِخْوَانِكُمْ، فَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَمْ يَزَالُوا مُسْتَضْعَفِينَ قَلِيلِينَ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ"1.

المستفاد من الرواية، أنّه حتّى يكونوا مرعيّين، محفوظين، مستورين، معصومين، عليهم أن يقوموا بثلاثة أمور:
أ- تصحيح العلاقة مع الله تعالى: فعليهم أن يفكّروا جيّداً في كيفيّة علاقتهم مع الله تعالى، فهل العلاقة بيننا وبين الله هي علاقة العبد بمعبوده المتجلّية بحقيقة العبوديّة، فعلينا أن ندقّق النظر دائماً في طبيعة هذه العلاقة.
 
 

1- العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 65، ص 154.
 
 
 
85

79

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 ب- تصحيح العلاقة مع الأئمة: أن تكون نيّاتهم سليمة وصحيحة تجاه الإمام المعصوم، وخصوصاً تجاه إمام العصر، ولا تكون هذه العلاقة مبنيّة على الغشّ والخداع، وأن يربي الإنسان نفسه على الالتزام والطاعة المطلقة للإمام.


ج- تصحيح العلاقة مع الآخرين: وعليهم أن يعزّزوا العلاقة بأخوانهم المؤمنين، وأن يبرّوهم بتقديم الإحسان لهم، وأن يتوجّهوا بعين العطف إلى الضعفاء منهم، وأن يتصدّقوا على ذوي الفاقة.

علاقة الشيعة بعضهم ببعض:
بينت بعض الروايات عناوين العلاقات بين الشيعة، ووسعتها إلى ما هو أكثر من المواساة بالمال، مبيّنة كيفيّة علاقة الشيعة بعضهم ببعض.
- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَسَلَّم فَسَأَلَهُ كَيْفَ مَنْ خَلَّفْتَ مِنْ إِخْوَانِكَ؟ فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ وزَكَّى وَأَطْرَى فَقَالَ كَيْفَ عِيَادَةُ أَغْنِيَائِهِمْ لِفُقَرَائِهِمْ؟ قَالَ قَلِيلَةٌ، قَالَ فَكَيْفَ مُوَاصَلَةُ أَغْنِيَائِهِمْ لِفُقَرَائِهِمْ فِي ذَاتِ أَيْدِيهِمْ؟
 
 
 
 
 
86

80

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 فَقَالَ إِنَّكَ تَذْكُرُ أَخْلَاقاً مَا هِيَ فِيمَنْ عِنْدَنَا. قَالَ كَيْفَ يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَنَا شِيعَة"1.


إذاً تواصل الشيعة وعلاقاتهم مع إخوانهم أمر في غاية الأهمّيّة والخطورة لأنّ في الرواية إشعار بأنّ التوصيف بالتشيّع متعلّق بكيفيّة هذا الارتباط.

الحبّ والعمل:
"عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍعليه السلام قَالَ قَالَ لِي: يَا جَابِرُ أيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّنَا، أَهْلَ الْبَيْتِ، فَوَاللَّه مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّه وأَطَاعَه، ومَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ، والتَّخَشُّعِ، والأَمَانَةِ، وكَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّه، والصَّوْمِ، والصَّلَاةِ، والْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ، والتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وأَهْلِ الْمَسْكَنَةِ، والْغَارِمِينَ، والأَيْتَامِ، وصِدْقِ الْحَدِيثِ، وتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وكَفِّ الأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ، إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وكَانُوا أُمَنَاءَ عَشَائِرِهِمْ فِي الأَشْيَاءِ، قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللَّه، مَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ
 

1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج65، ص 168، ح27.
 
 
 
87

81

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 أَحَداً بِهَذِه الصِّفَةِ، فَقَالَ يَا جَابِرُ لَا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ: أُحِبُّ عَلِيّاً وأَتَوَلَّاه، ثُمَّ لَا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً، فَلَوْ قَالَ إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّه - فَرَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ عليه السلام، ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ سِيرَتَه، ولَا يَعْمَلُ بِسُنَّتِه مَا نَفَعَه حُبُّه إِيَّاه شَيْئاً، فَاتَّقُوا اللَّه واعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّه لَيْسَ بَيْنَ اللَّه وبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ، وأَكْرَمُهُمْ عَلَيْه أَتْقَاهُمْ، وأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِه، يَا جَابِرُ، واللَّه، مَا يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى إِلَّا بِالطَّاعَةِ، ومَا مَعَنَا بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، ولَا عَلَى اللَّه لأَحَدٍ مِنْ حُجَّةٍ، مَنْ كَانَ لِلَّه مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، ومَنْ كَانَ لِلَّه عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ، ومَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالْعَمَلِ والْوَرَعِ"1.


تحدّث الإمام عن الصفات الآتية:
1- التقوى وطاعة الله تعالى: ويحتمل أنّ المُرادَ بالتقوى تقوى القلب، وهي تخليته عمّا يفسده وتحليته بما يصلحه، وبالطاعة طاعة الظواهر بترك المنهيات وفعل المأمورات.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص75، باب الطاعة والتقوى، ح3.
 
 
 
 
88

82

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 2- التواضع والتخشّع: المراد بالتواضع التذلّل لله عند أوامره ونواهية، وتقلّد العبوديّة بمعرفة عجزه بين يديه، وكما افتقاره إليه، ولعباده المؤمنين تعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم، وإظهار حبّهم، والميل إلى مجالستهم ومواكلتهم، ولين القول عندهم وحسن معاشرتهم والابتداء بسلامهم، والرفق بذوي حاجاتهم والأقوام إلى قضاء حوائجهم، والمبادرة إلى خدمتهم، وغير ذلك ممّا يدلّ على ضعته عندهم وعدم تكبّره عليهم، والمراد بالخشوع التذلّل لله مع الخوف منه.


3-والأمانة: وهي حالة نفسانيّة توجب سكون القلب وطمأنينته، وعدم ميله إلى المكر والحيلة، ومنه فلان مأمون الغائلة أي ليس له مكر يخشى. ولعلّ المراد بها حفظ الوديعة والعهد من الله تعالى، أو مع الناس.

4- وكثرة ذكر الله: باللسان والقلب خصوصاً في مقام الأوامر والنواهي والنوائب.

5- والصوم والصلاة: على أركانهما وشرائطهما وفعلهما كذلك دليل على كمال القوّة النظريّة والعلميّة.
 
 
 
 
89

83

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 6- والبرّ وبالوالدين: بتعظيمهما وإطاعتهما في كلّ ما جاز شرعاً وعقلاً والإحسان إليهما ودفع الأذى عنهما، وأداء ديونهما وطلب الخير لهما حيّين وميّتين.


7- والتعاهد للجيران من الفقراء وأهله المسكنة: أي حفظ حالهم، ورعاية أحوالهم، وإيصال الخير إليهم، وترك أذاهم، وتحمّل الأذى منهم، وعيادة مريضهم، وتشييع جنائزهم... والغارمين والأيتام: بأداء ديونهم وتفقّد أحوالهم، ورعاية حقوقهم والرفق بهم.

8- وكانوا أمناء عشائرهم: العشائر جمع العشيرة وهو المعاشر، ولمّا كانت الأمانة عامّة، مطلوبة من جميع الجوارح، والشيء عامّاً صادقاً على جميع أفعالها صادر المقصود أنّهم كانوا أمناءهم بجميع الأعضاء في جميع الأفعال.

الميزان في العلاقة مع المعصوم:
إنّ الطائع لله هو وليّ للإمام: (من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ) أي من كان مطيعاً لله، لا لغيره من النفس والشيطان، فهو لنا وليّ.
 
 
 
 
90

84

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 إنّ العاصي لله تعالى هو عدوّ للإمام: (ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ) أي من حيث إنّه عاص فيرجع النقص والعداوة إلى فعله.


النتيجة:
إنّ الإمام يقرّر أمراً مهمّاً، وهو من كان لله مطيعاً فهو من الموالين لهم، ومن كان لله عاصياً فهو من أعدائهم، ولا يوجد عند أهل البيت براءة لأحد إلّا بالتقوى والعمل الصالح.
 
 
 
 
 
91

85

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 قصّة وعبرة

قيل للصادق عليه السلام: إنّ عمّاراً الدهنيّ، شهد اليوم عند ابن أبي ليلى قاضي الكوفة بشهادةٍ، فقال له القاضي: قم يا عمّار!.. فقد عرفناك لا تُقبل شهادتك لأنّك رافضي، فقام عمّار وقد ارتعدت فرائصه واستفرغه البكاء، فقال له ابن أبي ليلى: أنت رجلٌ من أهل العلم والحديث، إن كان يسوءك أن يُقال لك رافضيّ فتبرّأْ من الرفض، فأنت من إخواننا، فقال له عمّار: يا هذا!.. ما ذهبت والله حيث ذهبت، ولكن بكيت عليك وعليّ.

أمّا بكائي على نفسي، فإنّك نسبتني إلى رتبة شريفة لستُ من أهلها، زعمتَ أنّي رافضيّ ويحك!.. لقد حدّثني الصادق عليه السلام أنّ أوّل مَن سُمّي الرفضة السحرة الذين لمّا شاهدوا آية موسى في عصاه آمنوا به واتّبعوه، ورفضوا أمر فرعون، واستسلموا لكلّ ما نزل بهم، فسمّاهم فرعون الرافضة لمّا رفضوا دينه، فالرافضيّ كلّ مَن رفض جميع ما كره الله، وفعل كلّ ما أمره الله، فأين في هذا الزمان مثل هذا؟
 
 
 
 
 
92

86

الدرس التاسع: امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا

 وإنّما بكيتُ على نفسي، خشيت أن يطلع الله عزّ وجلّ على قلبي، وقد تلقّبت هذا الاسم الشريف على نفسي، فيعاتبني ربّي عزّ وجلّ ويقول:

يا عمّار!.. أكنت رافضاً للأباطيل، عاملاً بالطاعات كما قال لك؟.. فيكون ذلك بي مقصّراً في الدرجات إن سامحني، وموجباً لشديد العقاب عليّ إن ناقشني، إلاّ أن يتداركني مواليَّ بشفاعتهم، وأمّا بكائي عليك فلعِظَم كذبك في تسميتي بغير اسمي، وشفقتي الشديدة عليك من عذاب الله، أنْ صرّفت أشرف الأسماء إليّ، وإن جعلته من أرذلها، كيف يصبر بدنك على عذاب كلمتك هذه؟.

فقال الصادق عليه السلام: لو أنّ على عمّار من الذنوب ما هو أعظم من السماوات والأرضين، لمحيت عنه بهذه الكلمات، وإنّها لتزيد في حسناته عند ربّه عزّ وجلّ حتّى يجعل كلّ خردلة منها أعظم من الدنيا ألف مرّة1.
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 65، ص 157.
 
 
 
 
93

87

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 الدرس العاش

شيعتنا أهل الورع والاجتهاد


محاور الموعظة:
1- صفات الشيعة
2- منتحل صفة التشيع

تصدير الموعظة:
عن عليّ بن سالم، عن أبيه، عن أبي بصير قال: قال الصادق عليه السلام: "شيعتنا أهل الورع والاجتهاد وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار يزكّون أموالهم ويحجّون البيت ويجتنبون كلّ محرّم"1.
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 65، ص 167.
 
 
 
 
94

88

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 صفات الشيعة:

يحدّثنا الإمام الصادق عليه السلام في رواية طويلة عن صفات الشيعة، حيث روي عنْ مِهْزَمٍ الأَسَدِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام "يَا مِهْزَمُ شِيعَتُنَا مَنْ لَا يَعْدُو صَوْتُه سَمْعَه ولَا شَحْنَاؤُه بَدَنَه ولَا يَمْتَدِحُ بِنَا مُعْلِناً ولَا يُجَالِسُ لَنَا عَائِباً ولَا يُخَاصِمُ لَنَا قَالِياً إِنْ لَقِيَ مُؤْمِناً أَكْرَمَه وإِنْ لَقِيَ جَاهِلاً هَجَرَه قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَشَيِّعَةِ قَالَ فِيهِمُ التَّمْيِيزُ وفِيهِمُ التَّبْدِيلُ وفِيهِمُ التَّمْحِيصُ تَأْتِي عَلَيْهِمْ سِنُونَ تُفْنِيهِمْ وطَاعُونٌ يَقْتُلُهُمْ واخْتِلَافٌ يُبَدِّدُهُمْ شِيعَتُنَا مَنْ لَا يَهِرُّ هَرِيرَ الْكَلْبِ ولَا يَطْمَعُ طَمَعَ الْغُرَابِ ولَا يَسْأَلُ عَدُوَّنَا وإِنْ مَاتَ جُوعاً قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيْنَ أَطْلُبُ هَؤُلَاءِ قَالَ فِي أَطْرَافِ الأَرْضِ أُولَئِكَ الْخَفِيضُ عَيْشُهُمْ الْمُنْتَقِلَةُ دِيَارُهُمْ إِنْ شَهِدُوا لَمْ يُعْرَفُوا وإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا ومِنَ الْمَوْتِ لَا يَجْزَعُونَ وفِي الْقُبُورِ يَتَزَاوَرُونَ وإِنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ ذُو حَاجَةٍ مِنْهُمْ رَحِمُوه لَنْ تَخْتَلِفَ قُلُوبُهُمْ وإِنِ اخْتَلَفَ بِهِمُ الدَّارُ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه أَنَا الْمَدِينَةُ وعَلِيٌّ الْبَابُ وكَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّه يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ لَا
 
 
 
 
 
 
95

89

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 مِنْ قِبَلِ الْبَابِ وكَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّه يُحِبُّنِي ويُبْغِضُ عَلِيّاً"1.


وفيما يلي بيان لهذه الصفات:
- مَنْ لَا يَعْدُو صَوْتُه سَمْعَه: وفي معنى هذه العبارة عدّة احتمالات:
خفاء صوته الدال على لين طبعه، أو على الدعاء والتلاوة والعبادة، أو أنّه لا يقول شيئاً إلّا لمن يسمع قوله ويقبل منه.

- ولَا شَحْنَاؤُه بَدَنَه: أي لا يتجاوز عداوته بدنه، أي يعادي نفسه ولا يعادي غيره، أو إن عادى غيره في الله لا يظهره تقية.

- ولَا يَمْتَدِحُ بِنَا مُعْلِناً: الكلام يحتمل وجوهاً منها:
الأوّل: أي لا يمدح معلناً لإمامتنا فإنّه لتركه التقية لا يستحقّ المدح.
الثاني: أن يكون الامتداح بمعنى التمدّح أي لا يطلب المدح ولا يمدح نفسه بسب قوله بإمامتنا علانية.

- ولَا يُجَالِسُ لَنَا عَائِباً: لئلّا يماثله، ولا يشاركه في الإثم والعقوبة، وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنه، ونهى عن مجالسته.
 
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 239، باب المؤمن وعلاماته وصفاته، ح27.
 
 
 
 
96

90

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 - ولَا يُخَاصِمُ لَنَا قَالِياً: أي مبغضاً معانداً لأنَّ مخاصمته لا تثمر إلاّ الضرر وزيادة العداوة والبغض.


- إِنْ لَقِيَ مُؤْمِناً أَكْرَمَه وإِنْ لَقِيَ جَاهِلاً هَجَرَه: وذلك لإيمانه، بأنحاء من الإكرام والإعظام. (وإن لقي جاهلاً هجره) لجهله وهوانه وللتحرّز من أثر جهله، ويندرج في الجاهل العاصي، والعالم الذي لا يعمل بعلمه بل الهجر عنه أولى لأنّ له قوّة رأي يغلب بها على صاحبه بالحيل والتزوير.

- مَنْ لَا يَهِرُّ هَرِيرَ الْكَلْبِ: هرير الكلب ويهِرّ-بكسر الهاء-: يعوي وينبح، وأصلها هرير الكلب، وهو صوته، من دون حاجة من قلّة صبره على البرد.

- ولَا يَطْمَعُ طَمَعَ الْغُرَابِ: الطمع والغراب يضرب به المثل بالطمع. طمعه معروف، يضرب به المثل فإنّه يذهب إلى فراسخ كثيرة لطلب طعمته. ومن صفات الغراب أنّه يجمع الطعام من دون حاجة إليه أصلاً، ويدّخره ويدفنه لوقت الحاجة وهذا يدلّ على شدّة الطمع.

الإمام في هذا المقطع يبين صفتين من صفات الكلب
 
 
 
 
 
 
 
97

91

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 والغراب، وهما الهرير والطمع. ويقول إنّ الشيعة مبرّأون من هذه الصفات الدنيئة والتي تدلّ على خسّة وضعة في النفس، يترفّع عنها شيعة أهل البيت. وفي هذا التوصيف إشارة إلى أنّ الشيعيّ هو من كسر قوّته الشهويّة والغضبيّة، فإنّ إفراط القوّة الغضبيّة يجعل الإنسان شبيهاً بالكلاب، وهو ما شبهه الإمام بالهرير، وإفراط القوّة الشهويّة يجعله من أهل الطمع شبيهاً بالغراب.


- ولَا يَسْأَلُ عَدُوَّنَا وإِنْ مَاتَ جُوعاً: ولم يسأل الناس، وإن مات جوعاً، بعض الروايات عبّرت عن أنّ الشيعيّ لا يسأل أعداءه حاجة، حتّى ولو أدّى ذلك إلى موته وهذا من أبلغ التعابير عن عزّة نفس الشيعيّ.

منتحل صفة التشيع:
في الرواية سأله السائل كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَؤُلَاءِ الْمُتَشَيِّعَةِ؟ أي الذين يدّعون التشيّع، وليس لهم صفاته وعلاماته. فأجاب الإمام...(قَالَ فِيهِمُ التَّمْيِيزُ وفِيهِمُ التَّبْدِيلُ وفِيهِمُ التَّمْحِيصُ تَأْتِي عَلَيْهِمْ سِنُونَ تُفْنِيهِمْ وطَاعُونٌ يَقْتُلُهُمْ واخْتِلَافٌ يُبَدِّدُهُمْ...)
 
 
 
 
 
98

92

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 والكلام يحتمل وجهين:

الأول: أنّ المعنى كيف أصنع بهم حتّى يكونوا هكذا؟ فأجاب بأنّ هذا ليس من شأنك بل الله يمحصّهم ويبدلّهم.
والثاني: إنّ المعنى ما أعتقد فيهم؟ فالجواب أنّهم ليسوا بشيعة لنا، والله تعالى يصلحهم ويذهب بمن لا يقبل الصلاح منهم.

وذكر عليه السلام أموراً توجب خروجهم من الفرقة الناجية، أو هلاكهم بالأعمال والأخلاق الشنيعة في الدنيا والآخرة وهي التالية:
فِيهِمُ التَّمْيِيزُ: التمييز بين الثابت الراسخ وغيره، وتمييز الشيء انفصاله من غيره.
وفِيهِمُ التَّبْدِيلُ: التبديل أي تبديل حالهم بحال أخسّ، أو تبديلهم بقوم آخرين، لا يكونون أمثالهم.
وفِيهِمُ التَّمْحِيصُ: التمحيص وهو الابتلاء والاختبار والتخليص.
تَأْتِي عَلَيْهِمْ سِنُونَ تُفْنِيهِمْ: السنون وهي الجدب والقحط.
 
 
 
 
 
99

93

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 وطَاعُونٌ يَقْتُلُهُمْ: الطاعون وهو الموت من الوباء.

واخْتِلَافٌ يُبَدِّدُهُمْ: أي اختلاف بالتدابر والتقاطع والتنازع يبدّدهم ويفرّقهم تفريقاً شديداً.

الرواية الشريفة وغيرها تبيّن عدّة أمور وهي:
أوّلاً: إنّ هناك مجموعة من الناس يدعون التشيّع، وهم أخطر على مذهب أهل البيت من الأعداء الحقيقيّين.

ثانياً: ذكرت الروايات أوصاف تجعلنا نعرف الشيعة من أصحاب الادّعاء الكاذبة، الذين وصفتهم بمنتحلي التشيّع، أو إنّهم متشيّعة، أو كاذبون وما شاكل ذلك.

ثالثاً: بيّنت أنّ الشيعة يميّزون عن أصحاب الادّعاء من خلال مراحل الاختبار الذي يمرّون به وهي: التميّز، التمحيص، التبديل. والواضح من هذه الروايات أنّ الذين يبقون على ولاية الأئمة قلّة قليلة.

رابعاً: دعت الروايات إلى ضرورة الثبات والاستقامة على نهج وخطّ أهل البيت في كلّ مراحل الاختبار التي يبدو من الروايات أنّها تشتدّ وتعظم، من مرحلة إلى أخرى.
 
 
 
 
 
100

94

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 سأله: قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيْنَ أَطْلُبُ هَؤُلَاءِ؟ لقلّة وجود من اتّصف بالصفات المذكورة.


قَالَ: فِي أَطْرَافِ الأَرْضِ: لأنّهم يستوحشون من الناس لمّا رأوا منهم ما يوجب تنفر القلوب عنهم.

ثمّ أعطاهم الإمام علامات تدلّ عليهم:
أُولَئِكَ الْخَفِيضُ عَيْشُهُمْ: والخفض: الراحة، ووجه كون عيشهم خفيضاً أنّهم تركوا الدنيا ولم يحملوا على أنفسهم ثقل ملاذها.

الْمُنْتَقِلَةُ دِيَارُهُمْ: لأنّهم سايحون في الأرض، وليس لهم مسكن معيّن.

إِنْ شَهِدُوا لَمْ يُعْرَفُوا: لعدم شهرتهم، وقيل لاختيارهم الغربة لطلب العلم.

وإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا: أي لم يطلبوا لاستنكاف الناس عن صحبتهم، وعدم اعتنائهم بشأنهم، وقيل لغربتهم بينهم.

ومِنَ الْمَوْتِ لَا يَجْزَعُونَ: لأنّ أولياء الله يحبّون الموت ويتمنّونه.
 
 
 
 
 
101

95

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 وفِي الْقُبُورِ يَتَزَاوَرُونَ: "أي إنّهم لشدّة التقيّة وتفرّقهم، قلّما يمكنهم زيارة بعضهم بعضاً، وإنّما يتزاورون في عالم البرزخ وقيل القبور: عبارة عن مواضع قوم ماتت قلوبهم لترك ذكر الله، أي لا تمكنهم الزيارة في موضع تكون فيه جماعة من الضلال والجهّال الذين هم بمنزلة الأموات والأوّل أظهر.


وإِنْ لَجَأَ إِلَيْهِمْ ذُو حَاجَةٍ مِنْهُمْ رَحِمُوه: لعلمهم بأنّ قضاء حوائج المضطرّ الملتجئ من صفات الكرام، ورده مع الاقتدار من سمات اللئام.

لَنْ تَخْتَلِفَ قُلُوبُهُمْ وإِنِ اخْتَلَفَ بِهِمُ الدَّارُ: أي قلوبهم متوافقة غير مختلفة وإن كانت ديارهم مختلفة متباعدة، لأنّ مقصدهم واحد وطريقتهم واحدة بخلاف غيرهم فإنّ قلوبهم مختلفة.

ثمّ ختم الحديث الشريف بقوله: "قَالَ رَسُولُ اللَّه أَنَا الْمَدِينَةُ وعَلِيٌّ الْبَابُ"، "أنا المدينة" كأن ذكر هذا الخبر لبيان علّة اتّفاق قلوبهم، فإنّهم عاملون بهذا الخبر أو لبيان أنّ تلك الصفات، إنّما تنفع إذا كانت مع الولاية، أو لبيان لزوم اختيار
 
 
 
 
 
102

96

الدرس العاشر: شيعتنا أهل الورع والاجتهاد

 تلك الصفات، فإنّها من أخلاق مولى المؤمنين، هو باب مدينة الدين والعلم والحكمة، فلا بدّ لمن ادّعى الدخول في الدين أن يتّصف بها1.

 


1- انظر: المولى المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج 9، ص 174 - 175، باب المؤمن وعلاماته وصفاته. (بتصرف).

 

 

103


97

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 الدرس الحادي عشر

زيادة الإيمان وضعفه


محاور الموعظة:
- صفات أهل الإيمان:
1- الإحساس بالمسؤوليّة  2- زيادة الإيمان
3- قلب المؤمن وقلب المريض 4- ضعف الإيمان

تصدير الموعظة:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ1.
 
 

1- سورة الأنفال، الآيات 2-4.
 
 
 
 
104

98

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 صفات أهل الإيمان:

ذكرت الآية خمس صفات وهي:
أ- وجل القلب عند ذكر الله.
ب- وزيادة الإيمان عند استماع آيات الله.
ج- والتوكّل على الله.
د- وإقامة الصلاة.
هـ- والإنفاق ممّا رزقهم الله.

والصفات الثلاث الأولى من أعمال القلوب، أي ذات جانب معنويّ وروحانيّ وباطنيّ، والأخيرتان من أعمال الجوارح أي لهما جانب عمليّ وخارجيّ، وهو الارتباط بالله، وارتباط بخلق الله.

والصفات هي:
1- الإحساس بالمسؤوليّة:
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾.
"الوجل"حالة الخوف التي تنتاب الإنسان، وهو ناشئ عن أحد أمرين:
 
 
 
 
 
105

99

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 - إدراك المسؤوليّة واحتمال عدم القيام بالوظائف اللازمة.

- إدراك عظمة مقام الله والتوجّه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له، ومهابته التي لا حد لها.
ومن الخطأ أن نعدّ أساس الخوف والخشية عدم أداء الوظائف المطلوبة فحسب.

2- زيادة الإيمان:
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾.
المؤمنون حقّاً لهم إيمان حيّ ينمو غرسه يوماً بعد يوم، بسقيه من آيات الله، وتفتح أزهاره وبراعمه، ويؤتي ثماره أكثر فأكثر، فهم ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرّك، ففي كلّ يوم جديد يكون لهم فكر جديد، وتكون صفاتهم مشرقة جديدة...1.

ومعنى زيادة الإيمان أنّ هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن، زادتهم آياته تبصرة ويقيناً على يقين، وقيل: زادتهم تصديقاً مع تصديقهم بما أنزل إليهم قبل ذلك2.
 

1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازيّ، مصدر سابق، ج5، ص 362- 363. (بتصرف).
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج66، ص 177.
 
 
 
106

100

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 3- قلب المؤمن وقلب المريض:

إنّ القلب إذا كان زكيّاً ونقيّاً وحيّاً أثمرت فيه المعرفة والعلم وكلّ وصف ومعنى شريف، لأنّ القلب إذا كان رقيقاً وليناً كان قبوله للعلم سهلاً يسيراً، ورسخ العلم فيه بخلاف القلب القاسي، الذي لا يحتمل العلم والمعرفة تلك القلوب التي خاطبها الله تعالى بقوله: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ1.

أما غير المؤمن لا تزيده هذه التلاوة إلّا رجساً كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ2.

فقد فصل الله سبحانه أمر القلوب، وفرّق بين قلوب
 
 

1- سورة الزمر، الآية 22.
2- سورة التوبة، الآيتان 124 – 125.
 
 
 
 
 
107

101

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 المؤمنين والذين في قلوبهم مرض فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وهم الذين قلوبهم خالية عن النفاق، بريئة من المرض وهم على يقين من دينهم بقرينة المقابلة ﴿فَزَادَتْهُمْ﴾ السورة النازلة ﴿إِيمَانًا﴾ فإنّها بإنارتها أرض القلب بنور هدايتها، توجب اشتداد نور الإيمان فيه، وهذه زيادة في الكيف، وباشتمالها على معارف وحقائق جديدة من المعارف القرآنيّة والحقائق الإلهيّة، وبسطها على القلب نور الإيمان بها توجب زيادة إيمان جديد على سابق الإيمان، وهذه زيادة في الكمّيّة ونسبة زيادة الإيمان إلى السورة من قبيل النسبة إلى الأسباب الظاهرة، وكيف كان فالسورة تزيد المؤمنين إيماناً فتنشرح بذلك صدورهم وتتهلّل وجوههم فرحاً ﴿وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.


﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ وهم أهل الشكّ والنفاق ﴿فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ﴾ أي ضلالاً جديداً إلى ضلالهم القديم وقد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً.

والمقابلة الواقعة بين ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ و ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ يفيد بأنّ هؤلاء ليس في قلوبهم إيمان
 
 
 
 
 
108

102

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 صحيح، وإنما هو الشكّ أو الجحد، وكيف كان فهو الكفر ولذلك قال ﴿وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾.


والآية تدلّ على أنّ السورة من القرآن لا تخلو عن تأثير في قلب من استمعه، فإنّ كان قلباً سليماً زادته إيماناً واستبشاراً وسروراً، وإن كان قلباً مريضاً زادته رجساً وضلالاً1.

4- ضعف الإيمان:
ضعف الإيمان مرض له ظواهره وأسباب منها:
- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرّمات: من العصاة من يرتكب معصية معيّنة يصرّ عليها، ومنهم من يرتكب أنواعاً شتّى من المعاصي، وكثرة الوقوع في المعصية، يؤدّي إلى تحوّلها إلى عادة مألوفة، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): "اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّها لا تغفر، قلت (أي الراوي): وما المحقّرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي لم يكن لي غير ذلك"2.
 
 

1- العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج9، ص 410.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 287.
 
 
 
 
 
109

103

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 وروي عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته لأبي ذرّ (رض): "يا أبا ذرّ، إنّ الرجل ليعمل الحسنة فيتّكل عليها، ويعمل المحقّرات حتَّى يأتي الله وهو عليه غضبان، وإنّ الرجل ليعمل السيّئة فيفرق منها، يأتي آمناً يوم القيامة"1.


وروي عن الإمام الباقر عليه السلام: "الذّنوب كلّها شديدة، وأشدُّها ما ينبت عليه الّلحم والدَّم؛ لأنَّه إمَّا مرحومٌ وإمَّا معذَّبٌ، والجنَّة لا يدخلها إلّا طيّب"2.

5- قسوة القلب: 
قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾3.
- عدم إتيان العبادات على وجهها الصحيح: ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة، وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها، وعدم التدبّر والتفكّر في معاني الأذكار.

- التكاسل عن الطاعات والعبادات: قال تعالى: ﴿وَإِذَا
 
 

1- الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، نشر منشورات الشريف الرضي، لا.م، 1972م، ط6، ص 462.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 27.
3- سورة البقرة، الآية 74.
 
 
 
110

104

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى﴾1 ومنشأ الكسل هو ضعف الإيمان وكلَّما اشتدّ ضعف الإيمان ازداد الكسل والتواني في العمل بالوظائف الدينيّة، والتكاليف الإلهيّة، مع الإشارة إلى أنّ الصلاة عمود، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ عمود الدين الصّلاة، وهي أوَّل ما يُنظَر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نُظِرَ في عمله، وإن لم تَصِحّ لم يُنظَر في بقيّة عمله"2، وفي المعنى نفسه جاء حديث آخر عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أوّل ما يُنظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قُبِلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبَل لم يُنظر في عمله بشيء"3، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام مرشداً وموجّهاً: "واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك، فمن ضَيّع الصلاة، فإنّه لغيرها أضيع"4.


- ضيق الصدر: قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ
 

1- سورة النساء، الآية 142.
2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 4، ص 31، 8 - باب وجوب إتمام الصلاة و إقامتها.
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 82، ص 227.
4- المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الأمالي، نشر مؤتمر الشيخ المفيد، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ج 1، ص 267، المجلس الحادي والثلاثون.
 
 
 
 
111

105

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ1 وشبّه ضيق الصدر عن قبول الإيمان ولوازمه بمن يصُعّد في السماء، في أنّه كما يمتنع الصعود من هذا، كذلك يمتنع قبول الإيمان من ذاك.


وقيل: معناه أنَّ ضيق الصدر يبعد من الإيمان كما يبعد الصاعد في السماء وفيه مبالغة لبعده عن قبول الإيمان2.

- عدم تأثّر القلب بآيات القرآن: لا بوعده ولا بوعيده، ولا بأمره ولا نهيه، ولا في وصفه للقيامة،... عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ العبد إذا أخطأ خطيئةً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، وإن عاد زيد حتَّى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكره الله، ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾3"4.
 
 

1- سورة الأنعام، الآية 125.
2- المولى المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج5، ص 70.
3- سورة المطففين، الآية 14.
4- الفتال النيسابوريّ، روضة الواعظين، تحقيق محمد مهدي الخرسان، نشر منشورات الشريف الرضي، إيران – قم، لا.ت، لا.ط، ص414.
 
 
 
 
112

106

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 - الغفلة عن ذكر الله والتعلّق بالدنيا: إنّ الغفلة عن ذكر الله، والغرق في لذات الدنيا، والانبهار بزخارفها ومغرياتها يؤدّي إلى تسلّط شيطان على الإنسان يكون قرينه دائما...1.


للغفلة آثار سلبية كثيرة منه أنّها تورث قساوة القلب: فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "إيّاك والغفلة؛ ففيها تكون قساوة القلب"2.

وإنّها تميت القلب: وهي درجة أعلى من القساوة، وفي هذه الصُّورة يوصد باب العودة والإنابة إلى الله تعالى، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: "من غلبت عليه الغفلة مات قلبه"3.

- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين: والتفاعل معها خصوصاً تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم، من تسلّط العدوّ والقهر والاضطهاد والكوارث، فيكتفي بسلامة نفسه، وهذا نتيجة
 
 

1- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج3، ص 269، ح (3615) 1.
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص164.
3- التميميّ الآمدي، عبد الواحد بن محمّد، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح مصطفى درايتي، ‏ مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم، 1407ه‏، ط1، ص266.
 
 
 
113

107

الدرس الحادي عشر: زيادة الإيمان وضعفه

 ضعف الإيمان. قالَ رَسُولُ اللَّه: "مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ"1.

 


1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 163، باب الاهتمام بأمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم، ح1.

 

 

 

114


108

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 الدرس الثاني عشر

ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)


محاور الموعظة:
أسباب ضعف الإيمان
1. الابتعاد عن مجالس العلماء 2. ارتكاب الذنوب والمعاصي
3. التعلّق بالدنيا 4. طول الأمل

علاج ضعف الإيمان
1. ذكر الله تعالى 2. تدبّر القرآن الكريم 3. استشعار عظمة الله
4. ذكر الموت والآخرة 5. اجتناب المعاصي 6. محاسبة النفس

تصدير الموعظة:
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾1.
 
 

1- سورة الحديد، الآية 16.
 
 
 
 
115

109

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 أسباب ضعف الإيمان:

1- الابتعاد عن مجالس العلماء والحضور في مجالس اللهو والفساد:
يقول الإمام زين العابدين في دعاء أبي حمزة: "سيّدي... أَوْ لَعَلَّكَ فَقَدْتَنِي مِنْ مَجالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي فِي الغافِلِينَ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَنِي، أَوْ لَعَلَّكَ رَأَيْتَنِي آلِفُ مَجالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْنِي وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَنِي،... "1.

لقد حثّ النبيّ وأهل البيت على حضور المجالس الّتي يُذكر الله تعالى فيها وعدم الابتعاد عنها، لأنّها تُشكّل روضة من رياض الجنّة كما يقول رسول الله: "ارتعوا في رياض الجنّة، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذكر"2. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما قعد عدّة من أهل الأرض يذكرون الله إلّا قعد معهم عدّة من الملائكة"3. وأهمّ مجالس أهل الذكر مجالس
 
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص 87.
2- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص 231، باب استحباب الجلوس مع الذين يذكرون الله، ومع الذين يتذاكرون العلم، ح (9199) 3.
3- المصدر نفسه، ص 153، باب استحباب ذكر الله في كلّ مجلس، والصلاة على محمّد وآل محمّد، ح (8982) 4.
 
 
 
 
116

110

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 العلماء، وفي وصيّة لقمان عليه السلام لابنه: "يا بُنيّ! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنّ الله عزَّ وجلَّ يُحيي القلوب بنور الحكمة كما يُحيي الأرض بوابل السماء"1.


في المقابل نهى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام بشدّة عن حضور مجالس البطّالين وأهل السوء، قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾2. وقال الإمام الصادق عليه السلام: "لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْلِسَ مَجْلِساً يُعْصَى اللَّه فِيه ولَا يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيرِه"3.

2- ارتكاب الذنوب والمعاصي:
إنّ من أبرز أسباب البُعد عن الله تعالى وضعف الإيمان ارتكاب الذنوب والآثام، وتجرُّؤ العبد وانتهاكه لحرمة الله. فكما هي من ظواهر ضعف الإيمان،
 

1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص 204، باب 4مذاكرة العلم، ومجالسة العلماء، والحضور في مجالس العلم، وذمّ مخالطة الجهال، ح22.
2- سورة النساء، الآية 140.
3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 374، باب مجالسة أهل المعاصي، ح1.
 
 
 
117

111

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 كذلك هي من أسباب ضعف الإيمان.


عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "مَا مِنْ شَيْءٍ أَفْسَدُ لِلْقَلْبِ مِنْ خَطِيئَةٍ إِنَّ الْقَلْبَ لَيُوَاقِعُ الْخَطِيئَةَ فَمَا تَزَالُ بِه حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْه فَيُصَيِّرَ أَعْلَاه أَسْفَلَه"1.

فالذنوب تُكدّر القلب وتسوّده وتصيّره مائلاً كلّه إلى الباطل لأنّ أعلاه طرفه المائل إلى الحقّ وأسفله طرفه المائل إلى الباطل. فإذا جعلت أعلاه أسفله جعلت كلّه مائلاً إلى الباطل، أو جعلته كالكوز المنكوس لا يدخل فيه شيء من الحقّ، وخرج ما دخل فيه فيصير خالياً من الحقّ والمعارف، مظلماً قابلاً لجميع المفاسد نعوذ بالله من ذلك2.

3- طول الأمل:
قال الله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ3, وعن الإمام عليّ: "إنّي أخاف عليكم اثنتين اتّباع الهوى وطول الأمل أمّا اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ وأمّا طول الأمل فإنّه ينسي الآخرة"4.
 
 

1- المصدر نفسه، ص 268، باب الذنوب، ح1.
2- المولى المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج9، ص 242.
3- سورة الحجر، الآية 3.
4- الفيض الكاشانيّ، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسينيّ "العلّامة" الأصفهانيّ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، إيران - أصفهان، 1406ه، ط1، ج5، ص 902، باب اتباع الهوى، ح 3255 – 4.
 
 
 
118

112

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 4- التعلّق بالدنيا:

عن الإمام الصادق: "مَنْ أَصْبَحَ وأَمْسَى، والدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّه، جَعَلَ اللَّه تَعَالَى الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْه، وشَتَّتَ أَمْرَه ولَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَسَمَ اللَّه لَه، ومَنْ أَصْبَحَ وأَمْسَى، والآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّه، جَعَلَ اللَّه الْغِنَى فِي قَلْبِه وجَمَعَ لَه أَمْرَه"1. والمقصود بالتعلّق بالدنيا الدنيا المذمومة، والمقصود بها دنيا الإنسان نفسه حيث يتعلّق بها ويحبّها حتّى تصبح منشأ كلّ المفاسد والخطايا النفسيّة والعمليّة.

علاج ضعف الإيمان:
هناك عدّة طرائق لعلاج ضعف الإيمان منها:
1- ذكر الله تعالى:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ2. الذكر حياة القلب، وسبيل لانشراح الصدر، بل به تجلّى الكروب، وتزول الهموم، وتطرد
 
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 319، باب حبّ الدنيا والحرص عليها، ح15.
2- سورة الرعد، الآية 28.
 
 
 
 
119

113

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 الشياطين، ولكن لا ينبغي الذكر باللسان مع غفلة القلب.


والذكر هو أنفع علاج في دفع الوسوسة ذكر الله والإكثار منه لأنّ الشيطان إذا سمع ذكر الله خنس، أي بعد وتأخّر فينبغي الإكثار من قول لا إله إلّا الله لأنّها رأس الذكر وقد ورد في فضلها وشرافتها وأسرارها من طريق الخاصّة والعامّة ما لا يكاد يحصر، ولهذا اختارها أهل السلوك لتربية السالكين، وتهذيب المريدين1.

2- تدبّر القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ2. أمّا طريقة العلاج فهي: التفكّر، والتدبّر.

3- استشعار عظمة الله:
إنّ تعظيمَ الله مِن أجلّ العبادات القلبيّة وأهمّ أعمال القلوب التي يتعيّن ترسيخها وتزكيةُ النفوس بها، قال تعالى:
 
 

1- العامليّ، عزّ الدين حسين عبد الصمد (والد الشيخ البهائي)، العقد الحسينيّ، تحقيق وتصحيح السيد جواد المدرسيّ اليزديّ، گلبهار، يزد، لا.ت، لا.ط، ص 4.
2- سورة الإسراء، الآية 82.
 
 
 
 
120

114

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا1, بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم. والإيمان بالله مبنيّ على التعظيم والإجلال له قال تعالى: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾2 المراد تفطّرهنّ من عظمة الله وجلاله. ومنزلةُ التعظيم تابعة للمعرفة، فعلى قدرِ المعرفة يكون تعظيمُ الله في القلب، وأعرف النّاس به أشدٌّهم له تعظيمًا وإجلالاً، كما هي حال النبيّ وأهل بيته.


4- ذكر الموت والآخرة:
قال أمير المؤمنين: أَلا من اشتاق إلى الجنّة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرّمات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب3. وعنه عليه السلام: ذكر الآخرة دواء وشفاء4.

عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ: قُلْتُ: لأَبِي جَعْفَرٍ حَدِّثْنِي
 
 

1- سورة نوح، الآية 13.
2- سورة مريم، الآية 90.
3- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص 314، ح18.
4- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 256.
 
 
 
 
121

115

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 بِمَا أَنْتَفِعُ بِه فَقَالَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ فَإِنَّه لَمْ يُكْثِرْ إِنْسَانٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إِلَّا زَهِدَ فِي الدُّنْيَا1.


وجاء في وصف مولانا الإمام الحسن المجتبى: كان أعبد الناس في زمانه، وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجّ ماشياً، وربّما مشى حافياً، وكان إذا ذكر الموت بكى، وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى ذكره شهق شهقة يُخشى عليه منها. وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّ وجلّ، وكان إذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم، وسأل الله تعالى الجنّة، وتعوّذ به من النار،... "2.

5- محاسبة النفس:
عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، قَالَ: قَالَ: "أَبُو عَبْدِ اللَّه عليه السلام إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ رَبَّه شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاه فَلْيَيْأَسْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ ولَا يَكنْ لَه رَجَاءٌ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه عَزَّ ذِكْرُه، فَإِذَا عَلِمَ اللَّه
 
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 131، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح13.
2- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص 244، ح 261 / 9.
 
 
 
 
122

 


116

الدرس الثاني عشر: ضعف الإيمان (أسبابه وعلاجه)

 عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِه لَمْ يَسْأَلْه شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاه - فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ لِلْقِيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفاً كُلُّ مَوْقِفٍ مِقْدَارُه أَلْفُ سَنَةٍ ثُمَّ تَلَا ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾1"2.


6- اجتناب المعاصي:
تبقى الخطوة الأخيرة اللازمة في هذا الطريق وتتمثّل باجتناب اقتراف المعاصي وارتكاب الذنوب الوقوع في المحرّمات لما لها من تأثير سلبي في القلب، وملامح بارزة في ضعف الإيمان.

يكفي إثباتاً لأثر الذنوب والمعاصي في ضعف الإيمان، ما روي عن أبي جعفر عليه السلام: "... لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وهُوَ مُؤْمِنٌ، ولَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وهُوَ مُؤْمِنٌ، فَإِنَّه إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خُلِعَ عَنْه الإيمان كَخَلْعِ الْقَمِيصِ..."3.
 
 

1- سورة السجدة، الآية 5.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 143، حَدِيثُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، ح108.
3- المصدر نفسه، ج2، ص 32، باب (بدون عنوان)، ح1.
 
 
 
 
123
 

117
قد أفلح المؤمنون