أولئك الثلاثة والعشرون فتىً


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 نص تقريظ الإمام الخامنئي دام ظله للكتاب:

"عشتُ ساعاتٍ عذبة بعذوبة هذه الكتابة الجزلة الجذابة والبارعة - في الأيام الأخيرة من عام 1393 هـ.ش (آذار2015) -، وقضيتُ أوقاتًا مع هؤلاء الرجال (الفتية)، الصغار في السنّ والعالي الهمم. أحيّي هذا الكاتب الموهوب، وأولئك الـثلاثة والعشرين فتًى، واليد القديرة الحكيمة المبتكرة والصانعة للمعجزات التي صاغت كل هذا الجمال وأشكر الله وأسجد لله شكرًا على ذلك.

مرّة أخرى شاهدت كرمان من نافذة هذا الكتاب، كما شاهدتها وعرفتها من ذي قبل، وأثنيت على تلاوينها الجميلة المتألّقة".
 
 
 
 
 
9

1

مقدمة

 مقدّمة الترجمة

يا أحمدُ الرسول.

من أوَّلِ نَفثةِ شوقٍ عَبرتْ أنفاسَك الشريفةَ في وادي مكّة، لرجالٍ آمنوا بكَ ولم يرَوْك.

من كلّ خشعةٍ، ولحظةِ وحيٍ، إلى وقدةِ التصديق.

من حبٍّ نبويّ وودٍّ "في القربى" أزليّ.

هذه زفراتُ عشقٍ وأصداء ولاء، غدتْ في زمانِ أحبابِك تشتعل في محاور المنتظرين، وبخّور المجاهدين، وتعبر جدرانَ الزنازين وحدودَ الجبهات.

هي لمحة من حياة فتية "زادهم الله هدى".

تُروَى من قلبٍ أحمديّ، اشتمّ أنفاس السجون، وألوان أطيافها من لطائف وتأمّلات ومواقف، وصلاة انتظار، وعهد للمهديّ.

هو سِجِلٌّ تشرّفَ ونال وسام التقدير من القائد الخامنئي دام ظله، بل ولَطِيفَ إجلال لِجمالٍ من لون خاص. ولسوف يخالجُ روحًا قارئة، ولُبًّا وَقَعَ فيه قرآنُ العشق.

كتابٌ عن أحلامٍ نديّة وبُنية فتيّة، وذاكرةٍ تختزن مدارج الطفولة والأسرة، التحق 
 
 
 
 
 
11

2

مقدمة

 معها الأخ الأصغر "أحمد يوسف زاده" بأشقّائه في جبهات "الحرب المفروضة"، أوائل ثمانينات القرن الماضي.


شابٌّ في أوّل العمر، فرّ من رتابة الحراسة إلى صخب العمليّات، وما كان يعلم إلى أيّ غربة وغرابة سيؤول مصيره، وأيّ كلمة فصل ستقولُها أربعة فصول من عمره. مع 23 فتى من أقرب الرّفاق زمن الصبا الباكر.

كثيرون يحاربون ويجاهدون، وربّما كثيرون يقتربون من حافةِ الانهيار، في ظلماتِ السجون، ودهاليز مكر العدو ومكائده، لكن بأيّ قلبٍ يعودون؟ تلك هي القضيّة، والقصّة الأخرى.

أولئك الثلاثة والعشرون فتىً
قصّة أخرى ضمن سلسلة "سادة القافلة"، عُنِي مركز المعارف للترجمة بترجمتها وإخراجها بهذه الحلّة.

ختامًا، نشكر كلّ من ساهم في إخراج هذا العمل إلى اللغة العربية، ونخصّ بالذكر:في الترجمة: "إيمان صالح". في التحرير والتدقيق اللّغوي: "نجوى الموسوي"، "السيّد ربيع أبو الحسن".

والشكر الجزيل للكاتب "أحمد يوسف زاده"، ولمؤسسة "سوره مهر" و"مكتب أدب وفن المقاومة". ويبقى الشكر موصولًا لدار "المعارف الإسلاميّة الثقافيّة" في "بيروت" التي أصدرت هذا الكتاب.
مركز المعارف للترجمة - محرم 1438 هـ
 
 
 
 
12

3

مقدمة

 إهداء

الحمد لله الّذي أخرجني من السجن.

أهدي هذا الكتاب إلى روح أخي الشهيد "موسى" الّذي ما زالت ذكراه راسخةً متجذّرةً في وجدان ومهج أبناء جنوب "كرمان"، وإلى روح المرحومة والدتي الّتي شيّعت شهيدها وانتظرت عودة أبنائها حتّى الرمق الأخير. كما أهديه إلى روح الشهيد السيّد"عباس سعادت" وأرواح جميع الشّهداء الّذين ذكرتهم في هذا الكتاب، وإلى أخي الأكبر "حسن يوسف زاده" الّذي نشأتُ وترعرعتُ في كنفه، وأهديه إلى زوجتي "وحيده السادات حسيني" الّتي أدين لها بحياتي الهانئة قرب وَلَدَيْنا "علي" و"فاطمة".
 
 
 
 
 
13

4

مقدمة

 مقدّمة الكاتب

قصّة "أولئك الثلاثة والعشرون فتىً" تحكي وقائع وأحداث لم نشاهدها في أيّ حرب أخرى. كنتُ قد كتبتُ أحداثها في العام 1991م، أيْ بعد عام من فكّ أسري الّذي دام 8 سنوات. حملت كتاباتي إلى أحد دور النشر، لكن خرجت كتابًا هزيلًا بقلم شابٍّ مغمورٍ، فلم أستسغه أبدًا.

في العام 2006م، أخرجه "مهدي جعفري"، المخرج الإيراني الملتزم، فيلمًا وثائقيًّا من 13 جزءًا. بثّته حينها القناة الرابعة في تلفزيون الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. وعلى الرغم من قلّة عدد مشاهديها آنذاك، إلّا أنّ قصّة "أولئك الثلاثة والعشرون فتىً" خرجت من عزلتها. كم تمنيتُ خلال السنوات المنصرمة أن يجري القلم في يدي وأعيد كتابة هذه القصّة بحوادثها الحلوة والمرّة، فتُحفظ في ذاكرة الشعب الإيراني الخالد. الحمد لله الّذي وفّقنا في نهاية المطاف، وها أنا أضع بين أيديكم كتاب "أولئك الثلاثة والعشرون فتىً" من خيرة فتية بلادي.

ومن الجدير ذكره أوّلًا أنّ الحوادث المذكورة قد وقعت قبل 30 عامًا تقريبًا، ويُحتمل حصول خطأ -لا يعدو كونه بضعة أيام - في ذكر تاريخها الدّقيق.
 
 
 
 
 
15

5

مقدمة

 ثانيًا، إنّني استعنتُ بكتاباتي القديمة في العام 1991م، وبالفيلم الوثائقي لصديقي العزيز السيّد "مهدي جعفري" الّذي ضمّ مقابلات مطوّلة مع أعضاء المجموعة، ليطمئنّ القارئ إلى أنّ هذا الكتاب ليس وليد خيال الكاتب، وإنّما هو سردٌ لحوادث عاينتُها وعشتُها مع رفاقي.


ثالثًا، إنّ هذا الكتاب يروي حوادث ووقائع ثمانية أشهر من أصل 8 سنوات و3 أشهر و17يومًا قضيتُها ورفاقي في الأسر، تنقّلنا خلالها بين معتقلات "الرّمادي"، بين "القفصين" و"الموصل"، وكان فيها ما كان من الأحداث والحكايا الّتي سأرويها - إن وفّقنا الله لذلك - في كتاب آخر.

من الأمور الأخرى الّتي لا بدّ من لفت النظر إليها أنّ هذا الكتاب مقسّم إلى فصول، أعني بها فصول السّنة، وهي غير الأحداث الّتي جرت في أوائل العام 1982م، لأنّ باقي الأحداث الّتي جرت حتّى شتاء العام 1983 مبوّبة في فصول وعناوين خاصّة.

أخيرًا، لا بدّ من التذكير بأنّ 16 فتىً من أصل 23 هم من أبناء محافظة "كرمان"، وهم أحياء يرزقون، ولا نفتقد من جمعنا غير الشهيد السيّد "عباس سعادت" من "باريز- سيرجان"1 الّذي انتقل إلى الملأ الأعلى.

كما لا يسعني في النهاية إلّا أن أشكر الأخ العزيز "مرتضى سرهنكي"2، رئيس دائرة الأدب والفن المقاوم الّذي أدين له بتأليف ونشر هذا الكتاب، من خلال مواكبته وإرشاداته المستمرّة لي. وأشكر أيضًا السيّد "مهدي أبو الحسني" رئيس 
 

 
1- باريز: pariz.
2- سرهنكي: sarhangy.
 
 
 
16

6

مقدمة

 مركز حفظ ونشر آثار وقيم الدّفاع المقدّس في محافظة "كرمان" الّذي كان ولا يزال يشجّع على تدوين مذكّرات وذكريات فدائيّي الإسلام.



تمضي الحياة كنسيم في صحراء      بمرّها وحلوها، بقبحها والجمال
خَالَ الظالم أن قد نال منّا             إنّما ظلمه نال منه لا منّا

أحمد يوسف زاده
صيف 2012 - كرمان
 
 
 
 
 
 
 
17

7

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق


الشتاء في سهول "خوزستان" المشبعة بمياه الأمطار بارد، بمقدار ما يكون صيف رماله العطشى حارًّا. كانت الرّياح اللّاسعة تهبّ من ناحية حقل القصب فتلفح وجهي، وقد أثقلت الأوحال حذائي العسكريّ، بينما معدتي الخاوية لا تتوقف عن "القرقرة". كنت أحدّق في الطريق كمن ينتظر أحدًا. فجأة، لاحت في الأفق سيارة بيك أب "لاندكروزر" تشقّ طريقها نحو دُشمنا بصعوبة.

قلت في نفسي، ليتها تحمل معها "يوسف" و "محسن"، فقد انفصلتُ عنهما اللّيلة الماضية حينما أنزلوهما في خطّ الجبهة الخلفي، بينما أحضروني أنا الأخ الأصغر إلى الخط الأمامي مباشرة.

بدأت أشعة الشمس تختفي شيئًا فشيئًا خلف حقل القصب، والسيّارة تقترب متثاقلة نحونا، فتنزلق على وحول السهل وتنحرف يمنةً ويسرةً، ما أتاح لي أن أرى بوضوح أن لا أحد يجلس في الصندوق الخلفي، لا "محسن" ولا "يوسف". رجوت الله أن يكون السائق قد أحضر معه ما يؤكل، مثلًا قِدرًا من العدس بالأرز الحارّ والدسم!

توقّفت سيارة الـ "لاندكروزر" أمام الدشمة حيث أقف. ترجّل سائقها وذهب إلى قائد الخطّ، فلم أتريّث لحظة واحدة، وقفزتُ إلى الصندوق الخلفي لأجد قِدرًا
 
 
 
 
 
19

8

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 كبيرًا. سال لعابي قبل أن أرى الطعام، إذ كانت رائحة العدس بالأرز قد تغلغلت في مشامي، لكنّ صوت السائق قطع أحلامي وآمالي: "للأسف لم يبق كثيرًا".


كانت بقايا حساء الخضار في قعر القدر تختفي تحت طبقة من السمن المتجمّد من شدّة البرد. أنزلت القدر إلى الأرض فرحًا، فقد حظيت ببعض الحساء المتجمّد بعد 24 ساعة من الصراع مع الجوع. كان عليّ فقط أن أجد بعض الخبز لأتمكّن من تناول ما تبقّى من طعام الإخوة في الخطّ الخلفي في هذا القدر. بحثتُ في الدشمة وعلى سطحها، قرب الساتر الترابي، وفي كل مكان، علّني أجد كسرة خبز. قد يكون الجنود قد رموها هنا أو هناك.

وأخيرًا، وجدت ضالّتي على سطح إحدى الدشم، بين الصناديق وحشوات الرّصاص الفارغة وأشرطة طلقات الرّشاش الخالية. كسرة خبز بمقدار كفّ اليد متعفنة يابسة، قبعت لأيّام تحت أشعة الشمس والمطر. غسلتها بمياه الصهريج، فاحتفلت معدتي بتسكين جوعها.

أثناء ذلك، كان القائد قد جهّز لائحة بمستلزمات الخطّ، وسلّمها للسائق الّذي أعاد معي القدر إلى الشاحنة. وما إن جلس خلف المقود، حتّى جلست قربه لمرافقته بحثًا عن "يوسف" و "محسن"، فسألني: "إلى أين؟"، أجبت: "إلى الخط الخلفي".

وصلْنا مع حلول الظلام. أنزلني في الجانب الآخر للساتر الترابي، وكان صوت الأذان يصدح من أجهزة الراديو في الدشم، وقد اصطفّ المقاتلون قرب صهاريج المياه المنتشرة على طول الساتر الترابي يتوضؤون على عجل. سألت هذا وذاك حتى وجدت أخوَيَّ "محسن" و "يوسف"، ومعهما "حسن إسكندري"، رفيقنا وابن قريتنا.
 
 
 
 
20

9

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 بدا القلق واضحًا على أخي الأكبر "يوسف" لغيابي 24 ساعة دون أيّ خبر. سُررت كثيرًا برؤيتهم، كما دُهشت لأنواع المأكولات في دشمتهم، حيث اصطفّت معلّبات الفاكهة والطعام والخبز والمربّى، في حين كدنا نموت جوعًا في الخطّ الأمامي. في اليوم التّالي، تمّ توزيع وإعادة تشكيل القوّات، فانتقلتُ أنا و "محسن، يوسف، علي جان تاجيك وبُرزو قانع"1 إلى الخطّ الّذي قضيت فيه ليلتي الأولى وحيدًا. بينما نُقل "حسن إسكندري" إلى جبهة "دبّ حردان" الّتي تبعد عنّا ما يقارب 3 كيلومترات لجهة اليسار. كانت جبهتنا تُعرف باسم "نفرد"2 نسبة إلى مصنع "نفرد" للأنابيب، الواقع على مسافة غير بعيدة عن "الأهواز".


في تلك الأيام، توقف زحف العراقيّين عند مداخل "الأهواز"، وقضت مهمّتنا الحفاظ على مواقعنا. فالعدو لم ييأس بعد من احتلال المدينة. كان الساتر الترابي يمتدّ على يسار طريق عام "الأهواز - خُرمشهر"، ويقع أقرب متاريسنا من العدو، عند نقطة اتصال الساتر الترابي بالطريق العامّ. فكنّا نحرس المكان ليلًا ونهارًا. كنت خلال الساعات الّتي أمضيها في دشمة الرشّاش، أراقب حقل القصب الممتدّ أمامي بدقّة، وأختلس نظرة إلى الطريق الساكنة كأفعى رماها الأولاد بالحجارة فشلّوا حركتها، وسقطت هامدة بين القصب. كان يصعب رؤية الخط الأبيض وسطها لكثرة القذائف والقنابل الّتي انهالت عليها. طريقٌ خاويةٌ لم تشعر بحرارة عجلات السيّارات العابرة منذ أمدٍ بعيد.
 

1- "علي جان تاجيك" و"بُرزو قانع" من التلامذة التعبويين وقد استشهدا في عمليات "رمضان".
2- نفرد: navard: قطع إسطوانية كالّتي تستخدم في آلة الطباعة أو الحادلة.
 
 
 
 
 
21

10

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 نَفَرْد

قضينا شهرَي كانون الثاني وشباط من العام 1982م، في جبهة "نفرد". ثلاثة إخوة في دشمة واحدة، "يوسف" 20 عامًا، "محسن" 18 عامًا وأنا 16 عامًا. كان قائد مجموعتنا شابًّا من أهالي "كاشان"، رؤوفًا متساهلًا. وبما أنّ مَهمَّتنا الحراسة ليلًا ونهارًا، كنّا نقضي ساعات طوال في دشمة الحراسة والرصد، نصغي إلى سكون القصب، حتّى إذا ما تناهى إلى سمعنا حفيف قارب أو ظننّا أنّه كذلك، رحنا نمطر المكان بوابل من الرصاص يخرق عنان الفضاء ويصمّ الآذان. وحتّى لو حركت الريح قصبة طويلة، كنّا نهدر عليها 5 رصاصات على الأقل. وصل إفراطنا في إطلاق الرصاص حدًّا دفع قائدنا الشابّ الّذي لم نره يومًا غاضبًا لأن يضع قوانين صارمة لإطلاق النّار.

لم يقتصر إطلاق النار على القوارب المتوهّمة فحسب، بل ومن أجل التخلص من رتابة الحياة هناك، رحنا نتبارى على الرماية كوسيلة لتمضية أوقات فراغنا. ذات مرة، أطلقنا رصاص "الكلاشينكوف" نحو العصافير المسكينة الّتي كانت تحطّ أسفل الساتر الترابي بحثًا عن فتات الخبز اليابس لتقتات عليها. حينها أُسقط في يد قائدنا، وراح يكرّر علينا قصة العجوز القرويّة ودجاجاتها مذكّرًا إيّانا - وللمرّة الواحدة بعد الألف - أنّ ثمن رصاصاتنا هو من بيع تلك السيّدة للبيض وإهدائه للجبهة.

كان اللّعب بالفئران الّتي دمّرت الأمطار جحورها، وأضحت لغدر الزمان شريكة دشمتنا، وسيلة أخرى للتسلية. في إحدى المرّات، أحضر "علي جان" أحد صغارها، وربطه بقشة إلى صندوق الذخيرة. وكان بعد عودته من نوبة الحراسة، يضع أمامه فتات الطعام. ولإضحاك الرفاق، كان يصطنع التحدّث إليه، ويُمنّنه أنّه يعيش بأمان، ويتناول ثلاث وجبات، وأن لا شيء يقلقه على الإطلاق. والمسكين طبعًا، يلعب دور أسير بعثي.
 
 
 
 
 
22

11

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 تعب "علي جان" من رتابة جبهة "نفرد" وجمودها، خاصة وأنّه قد عاد حديثًا من عمليّات "بستان والفتح المبين". ولا شكّ في أنّ مقارنة أجواء وحماسة العمليّات المظفّرة، بسكون وسكوت حقول القصب في "نفرد"، أشعرته بمللٍ وكللٍ شديدَيْن. كان وجوده غنيمة كبرى للآخرين، إذ كان يتمتع إلى جانب الفكاهة وروح الطرفة، بخبرة قتاليّة أفادتنا في كثير من المواقع. لكن عندما يتحدّث إلى أسيره، كنّا ننقلب على ظهورنا من شدّة الضحك. كان يحدّثه بتهكّم حينًا، ويلاطفه أحيانًا أخرى فيسأله عن منزله، عن عائلته وعن طقس "بغداد"، وما دفعه للمجيء إلى الجبهة. ثم يرقّق صوته متقمّصًا دوره، مجيبًا عن كلّ تلك الأسئلة.


ذلك الخطّ الجميل
في يومٍ ماطر، كنتُ جالسًا في دشمة الحراسة، أراقب حقل القصب بجميع حواسي، الأفق، الجهة اليمنى للطريق، وقبّة المزار الّتي تفتقد زوارها لوقوعها على خط التماس بين الجبهتَيْن.

رأيت "يوسف" حاملًا بندقيّته على كتفه متّجهًا نحوي. تسلّق منحدر الساتر الترابي، دخل إلى الدشمة وجلس على أكياس الرمل خلف الرشاش، ودفع نحوي ورقة كانت في يده قائلًا: "لقد وصلت رسالة من موسى". أخذت رسالة أخي "موسى" بفرح. كان يشغل في تلك الأيام منصب مسؤول التربية والتعليم في "قلعة كنج" الّتي ذهب للعمل فيها بعد مشاركته في عمليات "كرخه نور". كتب "موسى" بخطه الجميل: "إخوتي الأعزّاء، أنتم فخرنا وقد أثبتّم أنّه كلّما تعرّض دين الله للخطر، تستبدلون أقلام المدرسة ببنادق الحرب، وتهبّون للدفاع عن وطننا الإسلامي".
 
 
 
 
 
23

12

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 ذكّرني خطّه الجميل بأنامله الظريفة الممشوقة. كان كلّما رجع من المدينة يفتح حقيبته ويوضّب كتبه في مكان بعيد عن الأعين، ويوصي والدتنا أن لا تسمح لأحد برؤيتها. ثمّ يُخرِج من بين صفحات إحدى المجلّات، والّتي غالبًا ما يحمل غلافها صورة أحد الفنانين، أوراقًا مكتوبة بخط اليد، هي بيانات الإمام الخميني أثناء إقامته في باريس، ويقرؤها علينا.


في إحدى المرّات، جلب معه صورة بالأبيض والأسود لسيّد يضع نظارة، ويقرأ ورقة يحملها. كتب أخي خلف الصورة بخطّه الجميل: "مرجع التشيّع العظيم آية الله العظمى السيّد روح الله الخميني".

لقد كتب لنا الرسالة بالخط نفسه مخاطبًا إيّانا بالمقاتلين البواسل مع كثير من التشجيع والتبجيل. هيّجت رسالته شجوني، وتذكرت عودته في أحد أيام عيد النوروز حاملًا في حقيبته إلى جانب الصور والبيانات أدوات رياضية، ثلاثة رصّورات طويلة متصلة بحلقتين، كان يشدّها بين يدَيْه بقوّة فيتمدّدان، ويكرّر هذه التمارين لفترة محدّدة، ثمّ يعطينا الرصّورات لنتدرب نحن عليها. كان "يوسف" و"محسن" يقدران على ذلك، أمّا أنا فلا. وعندما رأى "موسى" أنّ جميع محاولاتي باءت بالفشل، قام بنزع أحد الرصّورات، حينها تمكنت من شدّها. كما أحضر حلقة مطاطيّة سوداء للضغط عليها وتمرين الأصابع، مضافًا إلى ميلَيْن خَشَبِيّيْن مستخدمَيْن في الرياضة التقليديّة "زورخانه"1، وحبل بلاستيكي بقبضتَيْن خشبيّتَيْن للقفز.
 

1- زور خانه: رياضة المصارعة وألعاب القوى التقليدية في إيران وتجري في باحة منخفضة دائرية الشكل وسط النادي المخصص، ويقوم المرشد بالنقر على طبل خاص وإنشاد الأشعار الحماسية خاصة تلك الّتي تمجد بطولات الأبطال الإيرانيين القدامى من الشاهنامة وغيرها، إضافة إلى الأشعار الدينية.
 
 
 
 
24

13

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 كان "موسى" شابًّا موهوبًا، لا يملّ الإنسان من مجالسته، وكان يمتلك كثيرًا من المعلومات المفيدة. كان يدرس في معهد "كرمان" أواخر عهد الشاه. عندما رجع في أحد الأيام إلى القرية، قال لي: "هيّا يا أحمد لأصنع لك إبريقًا من الورق". سُررتُ كثيرًا ونزعت ورقةً من دفتري، وأعطيته إيّاها. راح يثنيها بأنامله الظّريفة حوالي عشرين مرّة وفي النهاية نفخ فيها، فأصبحتْ بلمح البصر إبريقًا ورقيًّا مع قبضتَيْن. لم أستفق من ذهولي بعد حتّى أردف قائلًا: "كما يمكن صناعة الشاي فيه"، قلت له: "هل تمازحني؟"، قال: "لا، بل أقول الصدق". فقلت له: "هيّا، أرني كيف ذلك؟". وضع "موسى" بضع وريقات من الشاي داخل الإبريق الورقي، وملأ نصفه بالماء المغليّ، ثمّ وضعه على المشعل النفطي. كنت أنظر إليه بذهول ودهشة، وعندما رأى مدى تعجّبي، قال لي: "النار تحت الإبريق تمنع المياه من إتلاف الورق، كما أنّ الماء تمنع النار من حرقه". حقًّا أدهشني تناوب المياه والنار في حفظ الإبريق الورقي.


كان "موسى" خلال 13 يومًا -عطلة عيد النوروز- يمارس الرياضة صباحًا، ثمّ يحمل أحد كتبه ليقرأه متنقّلًا بين أزهار الدحنون الصفراء ونباتات الربيع الغنّاء. كان يصطحبني معه دائمًا، إلّا ذلك اليوم الّذي كسرت فيه قبضة حبل القفز. طبعًا لم يعاقبني، وكدت أموت خجلًا من فعلتي. كنت أسير خلفه وهو يقرأ الكتاب بصوت مرتفع، وفي أحد الأيام قرأ شعر "نحّات الأصنام" للشاعر "نادر نادر بور":
"نحّات تماثيلٍ عجوز ومطرقة الخيال     
في ليلةٍ، خلقتك من مرمر الأشعار
وكي أنقش في حدقتَيْك كلّ الآمال         
استرضيت دلال ألف عين كحلاء"
 
 
 
 
 
25

14

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 كان، في بعض الأحيان، يشرح لي معاني الأشعار، أو يقدّم بعض المعلومات عن حياة الشاعر.


"مرّغت الرأس فداء الحرية             وجُدت بالروح على مذبحها"

عندما قرأ هذا البيت، حكى لي سيرة قائله الشاعر "فرُخي يزدي"، والّذي أمر حاكم يزد بتقطيب شفتَيْه بعضهما ببعض، فأنشد هذا البيت:
"اسمع حكايتي من شفتَيَّ المقطّبتَيْن     فيسري إليك ما ألمّ بي من وجع"

حكى لي قصة الشاعر "فرُخي يزدي" عند نهاية البستان، قرب قصبات لم يستطع أخي الأكبر "حسن" القضاء على جذورها مهما حاول وفعل.

مضى على ذلك اليوم الربيعي سنوات عدّة. وها أنا على مقربة من حقل قصبٍ آخر ممتدّ على مدى النظر، في دشمةٍ قابعةٍ على ضفّة ماء. لا شيء هنا، غير ماءٍ وحقول قصبٍ تمتدّ خلفها، حقول تليها حقول.

لقاء حسن إسكندري
أقنعت "بُرزو" بمرافقتي لزيارة "حسن إسكندري" في الجبهة المجاورة.

"بُرزو" شابٌّ طيّب القلب، كان قبل التحاقه بالجبهة عونًا لوالده "قلندر قانع" سائق ميني باص لنقل الركّاب على خط "فارياب - جيرفت"، كما شارك في عمليّات "بستان والفتح المبين".
في أثناء الطريق، شعرت بالقلق إذ لم أخبر لا القائد ولا أخي "يوسف" بالأمر. ملأنا قارورتَيْ مياه، حملنا سلاحَيْنا، وانطلقنا في ذلك السهل الفسيح. كنّا بين الحين والآخر نسمع أصوات قذائف العدو تمرّ فوق رؤوسنا مستهدفة
 
 
 
 
 
26

15

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 مواقع مدفعيّة للجيش الإيراني. انتابني الخوف، فقد كنّا آمنَيْن خلف الساتر وداخل الدشمة، لكنّنا هنا وسط هذا السهل عُرضة لأن يكشف العدو أمرنا بسهولة. على الرغم من ذلك، تابعنا سيرنا تحت أشعة الشمس الحامية الّتي تبخّر ما تبقى من مياه في تجاويف الأرض وحفرها. وصلنا بعد ساعة إلى الساتر الترابي، وأعلمنا الحرّاس أنّنا من الرفاق. دخلنا إلى محيط الدشم بسهولة، ووجدنا "حسن" الّذي دُهِش لرؤيتنا. تعانقنا وعلت ضحكاتنا، بعدها دعانا إلى دشمته الّتي كانت أفضل حالًا من دشمتنا، وكان في زاويتها بعض الخبز والجبن وعلبتا مربّى الجزر.


قدّم لنا "حسن" ورفاقه طعامًا ساخنًا للغداء، بعدها أخبرونا ببعض الحوادث الّتي جرت في جبهتهم وفي غيرها من الجبهات المجاورة، كقصة أحد إخوة وحدة الاستطلاع الّذي دخل إلى دشمة العراقيّين وقتل أحدهم. لم نشبع من رؤية "حسن"، لكن كان علينا العودة إلى جبهتنا قبل غروب الشمس. ودّعنا "حسنًا" والرفاق وانطلقنا. لكن لم نكد نبتعد خطوات حتّى ناداني: "قف يا أحمد، أريدك في أمر!". اقترب منّا وقال: "هل تذهب في عيد النوروز إلى مشهد؟"، قبلت الدعوة بطيب خاطر وأكملنا المسير.

في منتصف الطريق، شاهدنا صندوق ذخيرة انغرس حتّى نصفه في الأوحال. أخرجناه بصعوبة وفتحناه. كان يحتوي على شريط رصاص رشّاش "كاليبر" سالم، برّاق ونظيف.

فرحنا كمن وجد كنزًا وهممنا بحمله، لكنّه كان أثقل من استطاعتنا، كما أنّ الطريق ما زالت طويلة أمامنا. لذا، اكتفينا ببعض الرصاصات وتابعنا سيرنا. وصلنا إلى الدشمة قبيْل الغروب، وأخبرت أخوَيَّ "يوسف" و"محسن" وأيضًا "علي جان" عن مغامرتنا لهذا اليوم، جاهلين أيّ مصير ينتظرنا بسبب هذه الرصاصات.
 
 
 
 
 
27

16

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 حادثة

منذ أيّام عدّة والقائد غاضب من تصرفاتنا. فقد علم أنّ بعض الإخوة يصطادون البطّ برصاص الكلاشينكوف وببندقية G3. عندما تأكّد أنّ لا جدوى من قصّة السيّدة العجوز ودجاجاتها، قال بحزم: "من الآن وصاعدًا، كلّ من يطلق الرصاص دون مسوّغ سيُطرد من الجبهة، فالعدوّ يتوجّس مع كلّ إطلاق نار، ويبدأ قصفه المدفعيّ العنيف علينا". حقًّا ما قاله، ففي أحد الأيام، سقطت قذائف هاون عدّة وسط دشمنا أدّت إلى جرح قدم أحد الإخوة، فحمّلنا القائد مسؤوليّة ذلك لإطلاقنا النار دون مبرر. حاول القائد كثيرًا منعنا، مرّة بالترغيب، وأخرى بالتهديد، لكن عندما احترق جزء من لحيته بسبب مشاغباتنا، دبّر لنا عقابًا قاسيًا.

بدأت الحكاية عندما أفرغت أنا و"بُرزو" البارود من رصاصاتٍ عثرنا عليها في السهل، ووضعناها في جوارب "بُرزو"، وكنّا نستخدمها في إشعال النار تحت إبريق الشاي. صحيح أنّ البارود كان سريع الاحتراق، ولم يساعد على غليان الماء، لكنّنا كنّا نتسلى بذلك.

في أحد الأيام، جاء القائد وجلس معنا حول النار. عندما رآه "بُرزو"، وضع جوارب البارود قرب النار. راح القائد ینصحنا بعدم هدر بيت المال، وإطلاق الرصاص دون مبرر أو اصطياد البط به. فجأة، وبسبب الحرارة الشديدة احترق البارود، وانتشر کالبرکان فی كلّ اتجاه، ما سبّب احتراق جزء من لحية القائد. تصاعدت رائحة الشواء في المكان، لكن نجا وجهه وعيناه. غضب كثيرًا وقال: "هيّا أخبروني من أين أتيتم بهذا؟"، قال "بُرزو": "سيّدي! أقسم إنّنا وجدنا الرصاصات في السهل، كما إنّها لرشاش كاليبر المحمول على الدبابات، ولا يفيدنا في شيء، فنحن لا نملك دبابات هنا".
 
 
 
 
28

17

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 أخذت جانب "بُرزو" وقلت: "يا أخي! لم نستطع أن نحضرها کلّها فالصندوق ثقيل جدًّا، وأظنّ أنّها للجيش". لم يقلّل كلامنا من غضبه، وكتب من فوره رسالة إلى قسم الإسناد، تفيد بأنّه أرسلنا لتقديم المساعدة في مخزن الذخائر والعتاد، ثمّ وقّع أسفل الرسالة وناولها لـ"علي جان تاجيك". رجوناه كثيرًا لكن دون جدوى، لقد أثّر سلوكنا هذا على مصير الفصيل كلّه.


في اليوم التّالي، عندما جاءت شاحنة التموين، عرّفنا إلى السائق وقال: "استفيدوا من وجودهم المبارك في نقل صناديق العتاد". وهكذا تدنّت درجتنا من مقاتلين في الخطّ المتقدم إلى عتّالين في خطوط الجبهة الخلفيّة.

عقابنا اللّاذع
أصبح عملنا الجديد في مخزن مصنع أنابيب "نفرد" في "الأهواز". في تلك الأيام، استُبدلت الأنابيب بصناديق الذخائر المكدّسة بعضها فوق بعض. وفي كلّ يوم، يأتي عدد من شاحنات "آيفا" العسكريّة لكي تحمل قسمًا من هذا العتاد إلى جبهات القتال. كان عملنا إخراج العتاد الثقيل مثل صناديق الرصاص، القنابل، قذائف الـآر بي جي وغيرها من المخزن، وتحميلها في الشاحنات على حذر. كما أعطونا غرفة صغيرة للإقامة قرب المخزن مع مشعل نفطي جديد وعدد من البطانيّات.

كان مسؤول المخزن شابًّا من "أصفهان"، وبعد مرور أيّام عدّة على وجودنا، استطاع أن يتأقلم مع طباع ومزاح مجموعتنا المؤلّفة من خمسة عناصر، حتى إنّه صار يشارك في المزاح أحيانًا. لم يكن راضيًا عن المسؤوليّة والمَهمَّة الموكلة إليه، ولم يكن يراها مناسبة لقدراته وشأنه. عندما علم أنّنا قدمنا من الخط الأمامي شعر بانكسار. ومن أجل التعويض عن ذلك، كان يحدّثنا عن ذكرياته في الجبهة
 
 
 
 
 
 
29

18

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 الّتي خدم فيها قبل انتقاله إلى هنا، محاولًا من خلال سرد الحوادث والمواقف الخطرة الّتي تعرّض لها في المعارك، إفهامنا أنّه ليس مجرّد أمين مخزن عاديًّا، إنّما هو مقاتل ويتولّى هذه المسؤوليّة بشكل مؤقّت. مهما يكن، لقد كان شابًّا شهمًا ومخلصًا، ظننّا أنّه قد تسبّب بإحراق لحية قائده حتّى أُبعد إلى هنا، لكن لا! فهو أهدأ وأعقل من أن يرتكب مثل هذه الأفعال. كان العمل شاقًّا نهارًا، لكن كنّا ننعم بالراحة ليلًا. وأصبحنا نقيم، بدل الدشمة الّتي تمتلئ حتّى نصفها بالمياه، في غرفة نتسامر فيها ونضحك حتّى ساعات متأخّرة من اللّيل. يا لها من ليال لا تُنسى! لم تغب تلك اللّيلة عن بالي عندما كان مسؤول المخزن يحدّثنا عن مشاركته في عمليّات "بستان"، ووصل في سرده إلى حيث علقت قوّاتنا في حقل الألغام، وراح العدو يطلق نحوها نيران رشاشاته بغزارة، وكي يشير إلى شدّة وغزارة نيران العدو بدقّة قال: "كانت الطلقات تنهمر علينا عن اليمين واليسار كالرصاص!". ما إن وصل إلى هنا حتّى انفجرنا بالضحك. ومنذ تلك الليلة، لم ندع فرصة إلّا وشاكسناه فيها: "أحقًّا كانت الطلقات تنهمر عليكم كالرصاص؟". استمرّت صداقتنا مع أمين المخزن حتّى آخر يوم من إقامتنا وعملنا هناك. كان يحبّ "محسن"أكثر من غيره، لأنّ رسومه جميلة. كان يرسم على صناديق الذخيرة أشكالًا مختلفة، منها رسمُ مقاتل يطلق النّار وكُتب تحته: "أيّها المقاتل، لو سمحتَ، ومن أجل العجوز القرويّة، اقتصد في استعمال الذخيرة". عندها قال له "علي جان": "يبدو أنّك نسيت كيف كنت تصطاد العصافير بهذه الرصاصات منذ بضعة أيام!".


في أحد الأيام، جاء سائق لنقل العتاد، وحمل إلينا رسالة من القائد الكاشاني الشابّ يطلب منّا العودة إلى مقرّ خدمتنا السابق. ببالغ السرور، جهّزنا حقائب الظهر، وجلسنا على صناديق العتاد الّتي وضعناها في الشاحنة الّتي أقلّتنا إلى مقرّنا. بعد ذلك، صرفنا النظر عن إزعاج قائدنا أبدًا.
 
 
 
 
30

19

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 مرّ شهران على وجودنا في الجبهة، جاء القائد إلينا وهو يرتدي لباس الحرس، وقد لمّع حذاءه العسكري، وأخبرنا أنّه في الغد ستأتي قوّات جديدة لتستلم الخطّ ويمكننا العودة إلى منازلنا، فقد انقضت فترة التهيّؤ والتدريب.


في اليوم التالي، في معسكر الغولف في "الأهواز"، سلّمنا أسلحتنا ومخازن الرصاص إلى مستودع الأسلحة، وبلباسنا الكاكي (الترابي) اللّون انطلقنا نحو موقف الحافلات. اشترينا تذاكر السفر وعدنا إلى "كرمان". كانت قريتنا "هور باسفيد" تستعدّ لاستقبال ربيع العام 1982م.

مشهد
بناءً على ما اتفقتُ عليه مع "حسن"، جهّزنا أنفسنا للسفر إلى "مشهد المقدّسة". قبل عيد النوروز بأسبوع واحد، ذهبنا إلى "سيرجان"، ومن هناك ركبنا شاحنة للنقل البري نحو "شيراز". في الحقيقة، أركبَنا السائق كي لا يبقى وحيدًا في الرّحلة. عندما علم مدى شوقي لرؤية بحيرة الملح، توقّف عند أحد المرتفعات بين "ني ريز واستهبان" لأتمكّن أنا و"حسن" من رؤية البحيرة والتقاط الصور التذكاريّة. بدا للبحيرة من ذلك الجبل مشهد بديع خلّاب.

عندما وصلنا إلى "شيراز"، وكأيّ زائر جديد للمدينة، ذهبنا لزيارة مقام ابن الإمام "أحمد". حجزنا غرفة في منزلٍ، وضعنا حقائبنا فيها، ثمّ ذهبنا نجول في المدينة. بقينا في "شيراز" يومَيْن، زرنا خلالها ضريحَيْ الشاعرَيْن "حافظ" و"سعدي" اللَّذَيْن شاهدنا صورهما في كتبنا المدرسيّة. ومن الصور الّتي رأيناها في الكتاب، صورة ساعة ساحة المدينة المصنوعة من الأزهار الطبيعيّة، لكن مهما بحثنا عنها لم نجدها.

انتقلنا من "شيراز" إلى "طهران"، ومن هناك إلى "مشهد". استأجرنا قرب
 
 
 
 
31

20

مقدّمة الفصل: ما قبل اللّحاق

 مقام الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام غرفة مع رجلَيْن عجوزَيْن، في منزل كبير يضمّ في فنائه أشجارًا وحوض مياه. التقطنا الصور مع الرجلَيْن، ويبدو أنّهما قد ترافقا لزيارة الحرم المطهّر دون عائلتَيْهما.


ساعة تحويل العام الهجري الشمسي من 1360 إلى 1361 (آذار 1982م)، كنّا نقف عند أضرحة الشهداء في جنّة الإمام الرضا عليه السلام، بعدها عدنا إلى الحرم المطهّر. بقينا في "مشهد" أيامًا عدّة. في طريق عودتنا مررنا بـ "طبس"، الطريق الصحراويّة القاحلة. حينها رحت أفكّر في الدرس والمدرسة. أفكار تنتاب التلامذة عند قرب انتهاء العطلة، فتسرق منهم أحلامهم وسرورهم فيما تبقّى من أيامها.

حقًّا كيف أستطيع أن أعوّض عن غيابي مدة 3 أشهر عن المدرسة؟ وماذا عن دروس الجبر وعلم المثلّثات والهندسة؟ أين سأدرسها؟ ومن سيساعدني لأفهمها؟ أثقلتْ هذه الأفكار رأسي وأشعرتني بالإحباط.
 
 
 
 
 
32

21

القسم الأوّل: الاستعداد

 القسم الأوّل: الاستعداد


في أوائل العام 1361 ه- ش (آذار1982م)، عندما كنتُ مارًّا بالقرب من مركز التعبئة في مدينة "جيرفت"، وأنا أفكّر في كيفيّة تعويض ما فاتني من الدروس واللحاق بزملاء الصف، شدّني صوت "آهنكران" كالمغناطيس من رصيف شارع "فرمانداري" إلى خلف طاولة الأخ "نوزائي" قائد التعبئة.

كان المبنى عابقًا بأجواء خاصّة، ووجوه الإخوة الجبهويّين تضفي طاقة إيجابيّة على المكان، فتخال لحديثهم المفعم بالأدب والرصانة والوقار، وشفاههم الباسمة أبدًا، أنهّم جاؤوا من الجنّة إلى المدينة لأمر ما، وسُرعان ما سيعودون أدراجهم. كان "آهنكران" ينشد: "لا تقفي في طريقي أُماه... ولا تحاولي ثنيي... فأنا ذاهب إلى الجهاد". تذكّرت والدتي فخنقتني عَبرة عذبة.

في الجانب الآخر من الفناء، كانت الآليّات في حركة ذهاب وإياب دائمة، والسائقون في نشاط دؤوب. جرى في أروقة المبنى الحديث عن إرسال بعثات المتطوّعين إلى الجبهة. كلمة "البعثة" في تلك الأيام تحمل ألف معنى ومعنى. كانت تعني الوداع، الأمّ، العمليّات، الشهادة، وكثيرًا من المعاني الأخرى الّتي تهزّ كيان الإنسان. عندما تسمع كلمة "بعثة الجبهة" تتداعى كلّ تلك المعاني إلى ذهنك، فترى نفسك واقفًا أمام أمّك، تدع يدَيْها الحنونَيْن، تضمّك وتطبع على وجهك أجمل القُبل. ثمّ ترى نفسك غارقًا بين البنادق والقطارات، العتاد
 
 
 
 
 
 
35

22

القسم الأوّل: الاستعداد

 والقنابل، ومرفوعًا في النهاية على أكفّ شبّان مدينتك يجوبون بك شوارعها مشيّعين.


لم تكن كلمة "بعثة" أقلّ أثرًا على الآخرين، فهي تعني القلق وانتظار الأُمّهات والزوجات. وكم من قلوب آباء وأمّهات اضطربت عند وداع فلذات أكبادها، فودّعتهم بالدموع والتوسّل والدّعاء لحفظ قافلة حبّات القلوب هذه.

يومها، عبقت رائحة العمليّات وإرسال البعثات، الأمر الّذي حُرمتُ منه العام الماضي، ولم يكن لي نصيب منه غير 3 أشهر من التدريب العسكري والحراسة فقط. آن الأوان لكي أفرغ عُقدة شهرَيْن من الحراسة في جبهة صامتة ساكنة، وأثلج صدري بالمشاركة في عمليّات واقعيّة مليئة بالضجيج والحركة. لكن عليّ بداية أن أتأكّد من وجود عمليّات، إذ لست على استعداد للعودة إلى الجبهة وهدر الوقت في الحراسة. صحيح أنّني استمتعتُ بالوقت الّذي قضيته في جبهة "نفرد"، لكنّني أفضّل، في حال عدم المشاركة في العمليّات، البقاء في "جيرفت" والاهتمام بالدراسة.

دخلت إلى غرفة الأخ "نوزائي"، كان يجلس خلف طاولته الخشبيّة البسيطة جدًّا، وعلى عينيه نظّارة سميكة العدستَيْن بإطار أسود ولحية سوداء كثّة، يرتدي زيًّا أخضر، وعلى جيبه شعار، يبدو أنّ أحدهم في الحرس الثوري قد أهداه إيّاه. وقفتُ أمامه، ألقيتُ السلام وأخبرته أنّني عدتُ حديثًا من الجبهة، وأرجّح متابعة دراستي على العودة إليها دون المشاركة في العمليّات، وأضفت: "أقسم عليك بالله أصدقني القول، هل من عمليّات في الأفق أم لا؟"، قال: "تعني أنّك لن تذهب إلّا إذا كان هناك عمليات؟". قلت: "لا، إذ عليّ العودة إلى المدرسة والدراسة". يبدو أنّه غير مسموح للسيّد "نوزائي" إفشاء الأسرار العسكريّة، لكن للتخلص من إصراري وإلحاحي قال: "إن شاء الله سيحدث شيء ما في القريب
 
 
 
 
 
 
36

23

القسم الأوّل: الاستعداد

 العاجل". فهمت مغزى كلامه الّذي لا يمكن أن يصرّح به علنًا، بالطبع كي لا يصل خبر العمليّات إلى "منافقي خلق"، وبالتالي إلى أسماع البعثيّين. فقلت في نفسي: "من المؤكّد أنّ العمليات باتت وشيكة، وإلّا أيّ شيء آخر ممكن أن يحدث في الجبهة؟!". صحيح أنّ "نوزائي" قال ذلك في جملة قصيرة مع الغمز واللّمز، وكأنّما لسان حاله يقول: "بالتّأكيد العمليّات قادمة، وإذا كنتَ صادق النيّة في المشاركة، فجهّز نفسك في أسرع وقت!". حصلت على الجواب، وعليّ الآن أن أتّخذ قراري، وفعلت.


حسن تاجيك شير
حتّى ذلك اليوم الّذي علمت بقُرب حصول العمليّات في جبهات الجنوب، لم أكن قد سمعت أيّ خبر عن "حسن" الّذي ذهب قبيْل عيد رأس السنة الهجريّة الشمسيّة إلى الجبهة، وأظنّ أنّه ابتُليَ بالحراسة كما ابتُلينا نحن. لكن بعد أيّام عدّة، عاد من الجبهة عددٌ من أصدقائنا، وقد حمل أحدهم نبأ استشهاد "حسن". عندما سمعت بهذا شعرت وكأنّ السماء قد أطبقت عليّ، خاصّة وأنّ حامل النبأ قال إنّه رأى بأُمّ العين أنّ "حسن" قد جرح، وأنّ دبّابة عراقيّة قد داسته مرّات عدّة. بدا واثقًا من ما يقول، ما جعلنا نظنّ أنّنا لن نجد أيّ أثر لجثمانه.

كانت عائلته تحضّر لمراسم العزاء عندما وصل خبر من التعبئة عن تحديد تاريخ إرسال البعثة إلى الجبهة. بعد سماعي خبر شهادة "حسن"، لم أتردّد لحظه واحدة، وسجّلتُ اسمي في المركز، وبذلك تأكّد ذهابي أكثر فأكثر. لم يكن "حسن" ابن خالي فحسب، بل كان رفيق الطفولة والمدرسة، وشريك الغرفة أيّام الدراسة في مدينة "جيرفت". لقد اشتُهر بحنانه وعطفه بين أفراد العائلة والأقارب، لذا آلم نبأ استشهاده القاسي والمفجع قلوبَ الجميع.
 
 
 
 
 
37

24

القسم الأوّل: الاستعداد

 قبل الذهاب، أردت الحصول على رضى أمي وإذنها. أعتقد أنّ الحصول على رضاها خاصّة بعد سماع نبأ استشهاد "حسن"، سيكون من الصعوبة بمكان. ذهبتُ إلى القرية، وكالعادة ضمّتني إلى حضنها الدافئ. وددتُ لو تحكي لي قصة حياتها، القصة الّتي روتها مرارًا وتكرارًا. ومع ذلك، ما زلت أتشوّق لسماعها. بالطبع، هي قصة حزينة، فقد فقدتْ والدي - سندها وشريك حياتها - مخلّفًا وراءه 8 أبناء أصغرهم أنا في شهره السادس من العمر. لكنّها استطاعت بما ترك لها والدي تأمين حياة كريمة لنا. المشوّق في القصة هو كيفيّة إدارة عائلة مكونة من 8 أبناء لا تزيد الفاصلة العمريّة بين الواحد والآخر عن العامَيْن. لكنّني ذلك اليوم، جئت لأسمع منها كلامًا آخر، كأنْ تقول لي: "اذهب بنيّ، أنا راضية عنك"، هذا فحسب.


عندما حدّثتها عن البعثة إلى الجبهة، وكأنّما امتلأ قلبها غمًّا وحزنًا. خرجتْ من صدرها آهة وقالت: "جعلت فداك بنيّ، الجبهة مشتعلة هذه الأيام، كما أنّك قد عدتَ حديثًا منها، وقد ذهب موسى ويوسف ومحسن مرّة وأدّوا واجبهم، فابقَ اليوم واذهب بعد أشهر عدّة". رحت أحدّثها عن الجبهة وعن آلاف المقاتلين الّذين، وبعد مشاركتهم في العديد من المعارك، يجب أن يعودوا ليزوروا عائلاتهم، ويطمئنّوا إلى أبنائهم وزوجاتهم، وإلى آبائهم وأمهاتهم، كما حدّثتها عن الدشم المغمورة بالمياه، وعن أيّ شيء خطر ببالي يمكن أن يساعد في إقناعها.

عندما سمعتْ أنّها ليست الأمّ الوحيدة الّتي تنتظر عودة فلذة كبدها من الحرب، استغرقتْ في التفكير. لكن عندما تكلّمتْ، كانت لا تزال مصرّة على موقفها، فقد ظنّت أنّني قد وفيت دَيني للدين والوطن بذهابي مرّة واحدة، وإذا ما أدّى البقية واجباتهم، فلا حاجة إلى ذهاب أمثالي مرّتَيْن إلى الجبهة.
 
 
 
 
38

25

القسم الأوّل: الاستعداد

 حقًّا ما قالته أمي، فقد شارك أخي "موسى" في عمليّات "كرخه نور" قبل شهرَيْن، كما أنّني وأخي "يوسف" و "محسن" قد عدنا من الجبهة حديثًا. وجدتُ أنّ الإصرار لا فائدة منه، ربّما لو ناقشتها أكثر لاستطعت إقناعها. لكنّني لم أشأ أن أرى انكسار قلبها عندما تتيقّن من ذهابي، لذا أنهيت النقاش معها دون التوصل إلى نتيجة نهائيّة وقلت لها: "لنرَ ما سيكون إن شاء الله". عندما غادرتُ لم أرَ أيّ مانع لمشاركتي في العمليّات القادمة، عكس ما تراه والدتي. اخترتُ المغادرة دون وداعها، على الأقل لن أرى عينَيْها المغرورقتَيْن بالدموع فيعتصر قلبي ألمًا. صحيح أنّه تصرُّف بعيد عن الشهامة، لكنني رأيته مباحًا في هذه الظروف.


تركت أمّي الّتي ظنّت أنّ كلامها أقنعني، وأنّني لن أعود إلى الجبهة، حزمت أمري وعزمت إلى "جيرفت".

أمي
كنتُ في الشهر السادس من العمر حينما توفّى الله والدي. لكنّ والدتي لم تدعْنا أنا وإخوتي نشعر بثقل اليُتم ومرارته. كانت تؤجّر حقول ومزارع اللّيمون والبرتقال والنخيل الّتي هي نتاج تعب وعرق المرحوم والدي، لتؤمّن لنا حياة كريمة. أصبحت الأمّ والأب معًا، الأب الرؤوف الّذي ذهب إلى مدينة "جيرفت" لشراء "دينام" للمياه لريّ المزارع والحقول، ففاجأه الموت في منزل شخص اسمه "ملك حسين". دفنه أخي "عيسى"، الصبي الّذي لم يبلغ الحُلم بعد، في مقبرة المدينة، وعاد إلى القرية وحيدًا.

في السادسة من العمر، عندما كنتُ أرى أولاد القرية مع آبائهم، أتساءل لمَ لديهم أبٌ بينما أنا لا! وأحمل تساؤلي هذا إلى والدتي الّتي تجيبني وهي تبلع
 
 
 
 
 
 
39

26

القسم الأوّل: الاستعداد

 ريقها وتجفّف عينَيْها بمنديلها الأسود: "لقد ذهب والدك إلى كربلاء"، ثمّ تنتقل إلى موضوع آخر بسرعة.


وقد أتى ذلك اليوم حيث ذهبت لأسترضيها كي تسمح لي بمواجهة الرصاص، مع أنّني أعلم مدى الحبّ الّذي تكنّه لي من بين إخوتي السبعة. كانت تناديني "آخر العنقود"، تضمّني أحيانًا بقوّة إلى صدرها وتقول: "جُعلتُ فداك يا آخر عنقودي". كانت تحبّني كثيرًا، لذا لم تسمح لي بالذهاب إلى سفرٍ ذهب إليه - وبحسب قولها - "حسن ابن بلقيس" ليُهرَس تحت جنزير دبابة، فلم يبقَ للمسكين أيّ أثر منه لتندب عليه، أو حتى قبرًا تقرأ عنده الفاتحة ليالي الجمعة وتذرف الدمع.

لم يكن قد مرّ أكثر من عامَيْن على تلك الحادثة المؤلمة، حينما كنت أعود مع أمّي من قرية مجاورة إلى المنزل. كان فصل المزروعات الصيفيّة، وكان النواطير يجوبون المزارع حاملين مقالعهم، يرمون الطيور الّتي تحاول استخراج بذور الخيار من التربة، بكرات الطين الجافّ. كنّا نمرّ وسط الأثلام الرطبة. حينما علا صراخ أمي، شعرتُ أنّ قلبي ينسلخ من مكانه، وظننت أنّ أفعى قد لسعتْها في إصبع قدمها الظاهر من ثقب نعليها المطاطيَّيْن. لكن عندما رجعت إليها ورأيت أنّ رأسها ووجهها ملوّثان بالتراب، علمت أنّ إحدى تلك الكرات قد أصابتها. الحمد لله كانت الكرة رطبة، فتناثرت على رأسها ووجهها، ولم تصبها بأذًى بالغ. وعلى الرغم من ذلك، راحت تؤنّب الناطور الّذي قذف الكرة وابتعد عن المكان خوفًا. كم حزنتُ عندما سمعتها تقول له: "هل أنت أعمى؟ ألا ترى أنّنا نمرّ من هنا؟ ماذا لو أصابت الكرة رأس ابني؟".

أنا بدوري كنت أحبّها كثيرًا، فقد منحتني علاوة على عطف وحنان الأم عطف الأب الّذي حُرمت منه. لذا عندما أراها مهمومة أُصبح كالنبتة الذابلة. كثيرًا ما
 
 
 
 
 
40

27

القسم الأوّل: الاستعداد

 حدث أن مرضتْ أمّي في تلك القرية النائية الّتي تفتقد لأدنى مقوّمات الحياة. كنت حينها أخرج ليلًا من المنزل، وأقف خلف الغرف الطينيّة، حيث أشجار الخروب الّتي تشكّل صورًا موحشة في اللّيل، خائفًا فزعًا، أرفع يديّ نحو السماء وأقول باللّهجة المحلية: "إلهي! أمّي مريضة، اشفها لي". وقد منعني الخوف من صوت عواء الذئاب، صياح ابن آوى والخوف من "الغول" و"البعبع"، من تكرار دعائي، وعدت أدراجي بلمح البصر. عندما رأت أمّي ملامحي الحزينة وكي تروّح عنّي، قالت وهي تضغط على يديّ، فسرت حرارة الحمى إلى جسدي: "لا تحزن يا صغيري، فأنا بخير". ثمّ ناولتني فخذ الفروج المشويّ الّذي أعدّته لها أختي.


في ليالي شهر محرّم الحرام، كان يتناوب أبناء القرية على إقامة مراسم ليلةٍ من ليالي عاشوراء، وعلى نفقتهم الخاصة. وعندما يبدأ الرادود "قاسمي" وهو من قرية "رودان" بقراءة المصرع الحسيني، ويتحدّث عن مصاب وغربة زينب عليها السلام في الشام، كانت أمّي تبكي بحرقة وحزن كبيرَيْن، حينها كنت أجهش بالبكاء ليس لأنّني أعي ما يقوله الرادود، بل لبكاء وشجون أمي.

الالتحاق بالجبهة
جاء أهالي "جيرفت" و"كهنوج" زرافات زرافات لتوديع المتطوّعين من أمام مقرّ تبليغ الحرس الثوري في "جيرفت"، وكانت شاحنة "لاندكروز" محمّلةً بالأعلام ويعلوها مكبّر صوت قويّ تجوب الشوارع معلنة عن إرسال دفعة المتطوّعين إلى الجبهات. وإلى جانب ذلك، كانت تبثّ الأناشيد الثوريّة والحماسيّة، ويتحدّث الشيخ "معلّمي" إمام مسجد المدينة، عبر المكبّر عن حسنات المشاركة في الحرب والجهاد. كانت الأمّهات والأخوات المودّعات يحملن صواني عليها المصاحف الشريفة، المرايا والبخور. الجميع مشغول بوداع
 
 
 
 
41

28

القسم الأوّل: الاستعداد

 عائلته، إلّا أنا الّذي أتيت دون إخبار أحد. حملت حقيبتي الصغيرة ووقفت أمام وكالة سيارات "مرسيدس بنز" منتظرًا.


بعد كلمة إمام المسجد، وقف شاب من الحرس يحمل بيده لائحة أسماء المتطوّعين، على الدرجة الأولى للحافلة، وبدأ يقرأ الأسماء.

كان الإخوة المذكورة أسماؤهم يعبّرون بمشقّة وسط وابل قبلات العائلة والأصدقاء، ويستقلّون الحافلة. وعندما سمعتُ اسمي وعائلتي انتابني شعور طيّب وفرحتُ للغاية. شعرتُ أنّني كبرتُ بما فيه الكفاية لأتّخذ قرارًا مسؤولًا كهذا، أي أن أحمل حقيبتي وأسير في طريق محفوفة بالمخاطر حتّى الموت، ولم أتوقّع لحظتها المصير الّذي ينتظرني.

جلست على أحد المقاعد وسط الحافلة قرب النافذة، ولم يطل الوقت قبل أن ننطلق وسط مشايعة الأهالي مشاةً وركبانًا إلى خارج المدينة. أخرجت رأسي من النافذة وبفخرٍ اجتاح كياني، لوّحتُ بيدي للمودعين المصطفّين على طول الطريق. فجأة، سمعت صوتًا مناديًا وسط هذا الضجيج: "أحمد... أحمد..."، لكنّني لم أرَ صاحب الصوت.

تابعتْ الحافلة سيرها، وما زال المشايعون يلوّحون بأيديهم بحماس من داخل سياراتهم، ومن على درّاجاتهم. سمعت الصوت ثانية، وكان هذه المرة أعلى وأوضح، بحثتُ بين الجموع عن صاحبه وإذ بأحدهم يمسك بيدي. كان "حسن إسكندري" يجلس على درّاجة ناريّة تسير بمحاذاة الحافلة، ولا ينفكّ ينادي عليّ. ما إن أردت التعبير عن فرحي لرؤيته، حتّى ابتعد سائق الدراجة بأمرٍ منه. بعد لحظات، توقفت الحافلة لبرهة ومن ثمّ انطلقت. لم أزل أبحث عن "حسن" في جموع راكبي الدرّاجات المشيّعة، حتّى شعرت بيدٍ على كتفي.
 
 
 
 
 
42

29

القسم الأوّل: الاستعداد

 كان "حسن" نفسه، بيد أنّه صعد إلى الحافلة أثناء توقّفها. جلس بالقرب منّي، فتعانقنا وأخبرته عن قراري فقال لي: "لم يكن من المقرّر أن تعود إلى الجبهة!" فأجبت: "لم أكن أريد ذلك لو لم أسمع بقرب العمليّات". قال: "أنّى لك التأكّد من ذلك؟"، فقلت: "أنا متأكد! لقد أخبرني السيّد نوزائي بذلك، قال هناك شيء ما سيحدث قريبًا!".


أصبحنا خارج المدينة، وصديق "حسن" ما زال يتبعنا على درّاجته منتظرًا أن ينتهي وداعنا وينزل رفيقه من الحافلة. كان "حسن"، بعد عودتنا من الجبهة، قد قرّر وبشكل قاطع التفرّغ للدراسة والحصول على شهادة الثانويّة العامّة، لكنّه الآن تراه تحمّس لسماع كلمة "عمليّات" وأخّر النزول من الحافلة إلى المحطة الأخيرة.

خارج المدينة، وقرب أهراءات القمح، توقفت الحافلات للمرّة الأخيرة. نزل المودعون منها، ثمّ انطلقت قافلة المقاتلين وعاد المودعون أدراجهم.

في الطريق إلى "كرمان"، لم أعد أشعر بالوحدة، إذ إنّ "حسن إسكندري" كان يجلس إلى جانبي. لقد حسم قراره. أجل! لقد قرّر المشاركة في العمليات.

التقيت أنا و"حسن" لاحقًا بـ"أكبر دانشي"، كان الأطول قامة بين شباب قريتنا حينها. كان ممشوقًا، مليح الوجه، معقود الجانبَيْن، ذا عينَيْن واسعتَيْن.

عندما عدنا من جبهة الحراسة، كان "أكبر" قد ذهب إلى "ثكنة 5" في "كرمان" للتدرّب. لكن خلال منتصف الدورة التدريبيّة، أرسلتْ له والدته رسولًا يقول له: "أنت الآن رجل البيت بعد وفاة والدك، ولا أحد لنا أنا وأختاك وإخوتك الثلاثة الصغار سواك. ماذا سنفعل إن ذهبت واستشهدت؟ ولمن تتركنا؟". لم يكن الرسول غير أخيه الأصغر "منصور" الّذي نقل له الرسالة مع بعض دموع الشوق، فاضطرّ "أكبر" مع كلّ العشق الّذي يحمله للجبهة، إلى
 
 
 
 
 
43

30

القسم الأوّل: الاستعداد

 ترك الدورة التدريبيّة والعودة إلى القرية. لكنّه التقى بنا أنا و"حسن" في مدينة "كرمان" وبقي معنا ليلتها. وفي اليوم التالي، أرسل أخاه الصغير إلى القرية وحيدًا بينما انضمّ هو إلى قافلة المجاهدين.


يوم شاقّ
كانت كليّة الهندسة في "كرمان" مركزًا لمتطوّعي الجبهة، وكان يتوافد التعبويّون إليها من جميع مدن وأقضية محافظة "كرمان". حان يوم الانطلاق نحو الجبهة، فأمر "قاسم سليماني"1، الشابّ المليح وقائد لواء "ثار الله"، باجتماع جميع القوات في ملعب كرة القدم. جلسنا على أرض الملعب الأخضر في مجموعات من 50 عنصرًا. راح "قاسم سليماني" يجول بين القوّات ويقيّمها، وسار خلفه "ميثم أفغاني"2، طويل القامة عريض المنكبين، لو أنّه تقدّم "سليماني" بخطوةٍ لاعتقدنا أنّه هو القائد لهيبته وطول قامته.

كان الحاج "قاسم"، "ميثم" وعدد آخر من الحرس يتقدّمون نحونا، فاضطرب قلبي. لقد جاء ليغربل القوّات. وبالطبع، فإنّ صغار السن سُرعان ما يسقطون من غرباله. كان يُخرجهم من صفوف المقاتلين، ويقول لهم: "اذهبوا إلى الثكنة وإن شاء الله ستشاركون في البعثة القادمة". كلّما اقترب منّي كلّما ازداد اضطرابي. فمن القسوة بمكان إخراجي من صفوف المقاتلين لتبقى حسرة المشاركة في العمليّات تنغّص عليّ أيامي. كم كرهت الحاج "سليماني" حينها، فمن أعطاه الحق ليقرر عنّي، هل أقاتل أم لا؟ لو كنت غير مؤهّل للحرب، فلماذا أرسلونا في اليوم الأول إلى ثكنة "القدس" لتلقّي التدريبات العسكريّة؟ ولو كان من المقرر
 
 

1- قائد لواء ثار الله آنذاك والقائد الحالي لفيلق القدس.
2- من قادة وشهداء "كهنوج" في محافظة "كرمان"، شارك واستشهد في عمليات "بيت المقدس" لتحرير "خرمشهر".
 
 
 
 
44

31

القسم الأوّل: الاستعداد

 أن لا نشارك في المعارك، فلمَ كان "يونس زنكي آبادي" مسؤول التدريب يُطلق في الساعة الثالثة فجرًا صفّارة الاستعداد لنكون حاضرين خلال 4 دقائق بكامل السلاح والعتاد في باحة الثكنة الّتي لفّها الصقيع؟! ولماذا علّمنا الشيخ "بهائي" فكّ وتركيب السلاح مرّات ومرّات؟ ولمَ كلّ ذلك التشدّد من قبل السيد "دامغاني" في حقل الرماية؟ ولمَ يجبرنا السيد "مهرابي" الساعة 1 ظهرًا على البحث عن "خرطوشة" في الصحراء قرب حقل الرماية، عند أطراف جبل "صاحب الزمان"، ويهدّدنا في حال لم نجدها بالحرمان من طعام الغداء الّذي لم يكن يتعدى 4 حبّات تمرٍ؟! كنت أودّ أن يعلم الحاج "سليماني" أنّني فقط قصير القامة، وأنّني في السادسة عشر من العمر، ولست طفلًا صغيرًا كما يظنّ. كنت أودّ لو أمتلك جرأة الوقوف أمامه لأقول له: "هل تعلم أيّها السيد المحترم أنّني خدمت مدة شهرَيْن في الجبهة سابقًا؟! وأنّي كنت أحرس على مسافة قريبة أسمع فيها أصوات العراقيّين، حتى إنّ قذيفة هاون قد انفجرت بالقرب مني؟"، لكنّني لم أجرؤ على قول ذلك.


كان الحاج "قاسم" يرتدي زيًّا أحبّه، وكان ودودًا عكس غيره من القادة العسكريّين، ينظر إلينا بعطف وتواضع، لكنّه في الوقت نفسه، لم يعر اهتمامًا لاعتراضات المبعَدين والمخرَجين من صفوف المقاتلين.

وصل الحاج "قاسم" إليّ فشعرت أنّني على حافة الهاوية. فكرت في نفسي: "ليت لي لحية!". وحسدت الجالس بالقرب مني لأنّ لديه لحية وشاربًا أيضًا. اللّعنة على هذا السنّ الّذي سيوقعني في المشاكل! لم تنبت شعرة واحدة على وجهي بعد، وحتّى اللّون الأخضر فوق شفتي لن يشفع لي. قررت أن أدير وجهي للناحية الأخرى كي لا يُكشَف أمري، لكن ماذا عن قدّي؟ كنت الأقصر في الصف، وأشبه بسنّ المشط المكسور وسط أسنانه السالمة.
 
 
 
 
45

32

القسم الأوّل: الاستعداد

 رفعتُ نفسي بصعوبة على ركبتَيّ قليلًا، ليس لدرجة يظنّ معها الحاج أنّني أقف، ولا لدرجة تُظهر أنّني جالس، بل بين بين، واستعنتُ بحقيبة الظهر لتحقيق هدفي، وهو خداع الحاج "قاسم سليماني". فوضعتها في الجهة الّتي سيمرّ بها، وأدرت رأسي لأنظر في الجهة المعاكسة. وقد ساعدتني القبعة المعدنيّة على ذلك، حيث إنّ جميعها بحجمٍ ومقاسٍ واحد. أظنّ أنني في هذه الخطة قد حللت مشكلة طولي ولحيتي أيضًا، لكن يبقى الأمل بعدم تدقيق الحاج "قاسم"، ولحسن الحظ لم يفعل. ومرّ بي دون أن أسقط من غرباله، بل بقيت في اللّائحة الّتي خوّلتنا في محطّة السكّة الحديديّة ركوب القطار نحو الجبهة.


المُبعَدون
من زاوية ملعب كرة القدم الأخضر، تعالت أصوات استنكار المُبعَدين. بعضهم كان أكبر سنًّا وحجمًا منّي. حينها أدركت كم كانت خطّتي عظيمة، وشعرت براحة البال لأنّني في هذا الجانب وليس ذاك! كان "سلمان زاد خوش" أحد المُبعَدين من قرية"خانوك"، كاليائس الّذي لم يعد يعرف الخوف أو المهابة من أحد، يبكي ويصرخ بوجه الحاج "قاسم" قائلًا: "من تكون حتّى تمنعنا من الدفاع عن ديننا ووطننا؟ لقد تدرّبنا وجهدنا في ذلك كثيرًا. أقسم إنّه ليس من المروءة بمكان منعنا من الذهاب". في النهاية، نطق "قاسم سليماني" وقال: "عندما يقع الصبية في الأسر، يرغمهم العراقيّون على القول إنّهم أجبروا على الذهاب إلى الحرب". تابع "سلمان" وبلهجة قويّة: "في الحقيقة، إنّ الصبية أكثر شجاعة من الكبار، حتى إنّ كثيرًا من الكبار المدّعين لا يعرفون من القتال والعمليّات سوى الثرثرة والكلام!". لا يملك "قاسم سليماني" كثيرًا من الوقت ليجادل أو يقنع "سلمانًا"، لذا أعرض عنه، وقد اغرورقت عينا "سلمان"بالدموع حائرًا مذهولًا قرب الملعب. مُبعَدٌ آخر هو "علي رضا شيخ حسيني"، في 16 من
 
 
 
 
 
46

33

القسم الأوّل: الاستعداد

 العمر. وخلافًا لـ"سلمان"، خرج من الصف بكلّ هدوء وصلابة دون أيّ اعتراض، يبدو أنّه غير مصرّ على الذهاب. لكن كان لهدوئه هذا سرّ آخر! عندما خرج من الصف، حمل حقيبة الظهر واتّجه نحو المنامة. وعندما عاد، كان يرتدي زيًّا عسكريًّا أخضر بلون عينَيْه الخضراوَيْن. كم كان أنيقًا بشعره الأشقر وزيّه الأخضر، وكم منحه ثقة بالنفس لا تخفى على أحد. أدركت أنّه، وعلى الرغم من صغر سنّه، في الحرس الثوري، وبعد أن ارتدى هذا الزيّ، عاد وسجّل اسمه في اللّائحة دون أيّ مشكلة تُذكر.


عجّت محطّة القطارات بالمودعين، وللمرة الثانية نشاهد المصاحف، المرايا ورائحة البخور الّتي تزكم الأنوف. في مراسم الوداع في المحطّة، وعلى عكس ما كانت عليه في "جيرفت"، لم أكن وحيدًا هذه المرة، بل كان "حسن" و"أكبر" معي قبل الانطلاق.

مع سماع صفّارة القطار، ذهب عنّي الجزع. اخترنا مقصورة لأربعة أشخاص، وأغلقنا الباب، فكانت كحصن أشعرني بالأمان. أمام القطار، وقف شابٌّ من الحرس يقرأ الأسماء من اللّائحة متيقّظًا ألّا يمرّ أحدٌ من خارجها، لكنّه لم ينتبه في هذا الضجيج والزحام، أنّ صبيًّا ماهرًا قد زحف بين أقدام وحقائب المقاتلين ودخل القطار خلسة ليختبئ تحت السرير في المقصورة الأخيرة، إنّه "سلمان زاد خوش". سار القطار الهوينا وسط صلوات المودّعين. انطلقت صفّارته، وزاد من سرعته تاركًا خلفه المحطة ومدينة "كرمان"، ليمخر عباب الصحاري الممتدّة أمامه.

بدأ شباب الحرس الثوري بإحصاء أعداد المقاتلين في كلّ مقصورة، ليطمئنّوا إلى أن أحدًا لم يركب القطار من خارج اللّائحة. بعد أن قطع القطار محطة "زرند"، خرج "سلمان" من مخبئه وهو يتصبّب عرقًا، فضحك الجميع لرؤيته،
 
 
 
 
47

34

القسم الأوّل: الاستعداد

 حتّى المولجين بحراسة القطار رفقوا بحاله، بل حريّ بنا القول إنّهم استسلموا "لحربه المفروضة"، وسمحوا له بالبقاء حتّى آخر الخط. وما توقّع أحد في هذه اللّحظات أي منعطفات سيجوب قطار "سلمان" في الأيام اللّاحقة.


روحاني
سار القطار في منحنيات جبال "لُرستان"، يخرج من نفق ليدخل في آخر، وأروع ما في المشهد، عندما يصل القطار إلى منحنى، تشاهد من نافذتك جميع المقطورات. وقفت في ممرّ القطار وأخرجت رأسي من النافذة، ليلفح وجهي هواء الربيع المفعم بعطر النباتات والأزهار الجبليّة، ولأرى ولوج القطار في عتمة الأنفاق. وأنا في تلك الحال، سمعت صوتًا من المقصورة المجاورة. كان بابها مفتوحًا فرأيت السيد "روحاني"، وهو شاب من الحرس من "بهشهر" وقائد قوات زاهدان، يناقش أحد الركّاب. بالطبع كان نقاشًا من طرفٍ واحد. قادني الفضول للاقتراب من المقصورة خطوة واحدة، ووقفت قرب النافذة المواجهة لها.

كان روحاني، ذو الوجه والأنف المستطيل، يتحدّث بلهجة طهرانيّة يشوبها شيء من اللّهجة الشمالية، إلى مقاتل جالس على السرير العلوي في المقصورة. أراد الشاب تدخين سيجارة فراح القائد ينصحه: "أخي العزيز، أنت الآن مقاتل، ويجب أن تكون مثالًا لشبّان الوطن، خاصة أنّك تقترب من أرض الجهاد والشهادة، ولا يجوز أن تتصرّف خلافًا للشرع". أجاب الشابّ المسكين من على السرير وبيده السيجارة المسحوقة: "أخي! عن أيّ خلاف للشرع تتحدّث؟ أنا أدخن سيجارة فحسب، وهل التدخين حرام؟ وأين ذُكر ذلك؟".

عندما لاحظ القائد فطنة وسرعة بديهة الشاب، قال له: "هيّا انزل". نزل الشاب وأكمل القائد نصحه: "انظر يا أخي، أيّ شيء مضرّ بالصحة حرام!".
 
 
 
 
48

35

القسم الأوّل: الاستعداد

 لقد سمح القائد لنفسه، رغم عدم إلمامه بالفقه بإصدار الفتاوى: "لا يحقّ لك أن تُلحق الأذى بروحك وجسمك، هذا الكائن الّذي قدّر له أن يكون في خدمة الإسلام والوطن العزيز". أجاب الشاب: "لو كان تدخين السجائر مخالفًا للشرع وحسب قولك حرامًا، فلماذا نرى بعض الأشخاص في الجبهة يدخنون!؟ حتّى إنّني رأيت بأمّ العين أحد رجال الدين المقاتلين يدخن!".


صُدم القائد، وعندما لم يجد جوابًا مقنعًا، قال بكثير من اللّين: "أخي العزيز، إنّ خطأ الآخرين ليس مسوّغًا لارتكابنا الخطأ ذاته، وأنت الآن عسكري ويجب عليك اتباع القرارات والضوابط، وبما أنّني مسؤول عن هذا القطار، أطلب منك عدم التدخين. حقًّا إنه لأمر قبيح أن تذهب لقتال صدّام بينما لا تستطيع أن تواجه سيجارة لا يتعدّى طولها بضع سنتيمترات!".

حين أعطى القائد أمرًا عسكريًا فما كان من الشاب الّذي سمع مرارًا وتكرارًا أنّ "طاعة القائد من طاعة الإمام"، إلّا أن أخرج علبة السجائر والكبريت من جيبيه ورماهما من نافذة القطار، ليسقطا بين صخور جبال "لُرستان"، ثمّ عاد وألقى التحيّة العسكريّة للقائد وقال: "أمرك سيّدي".

الأهواز
هذه المرّة الثّانية الّتي أزور فيها مدينة "الأهواز" خلال شهرين. لم تعد هذه المدينة غريبة عنيّ، كما شعرت أنّني لست غريبًا عنها. صحيح أنّ العدو يجثم على مقربة منها، إلّا أنّ الحياة فيها ما زالت متدفّقة تدفّق مياه نهر "كارون".

أقمنا أيامًا عدّة في مدرسة "الشهيد رجائي" في "الأهواز"، بانتظار الأوامر بحمل السلاح والعتاد والانتقال إلى الجبهة لنشارك في العمليّات الّتي كثر الحديث عن قرب وقوعها، لكن لا أحد يعلم متى وأين.
 
 
 
 
49

36

القسم الأوّل: الاستعداد

 لم يكن لنا من عمل في "الأهواز" غير التدريبات الصباحيّة والتمدّد قبيل الغروب على عشب ضفة "كارون" وتناول "العوامات". كان البائع يحمل على رأسه صينيّة معدنيّة، رصف عليها حبيبات العوامات الذهبيّة بشكل منظّم أنيق، وكان ينادي بلهجة جنوبيّة غليظة: "تناولوا العوامات وتصارعوا، وإن سقطتم أرضًا خذوا من جديد".


كان كلّما كرّر هذا "الترويج الإعلامي" والدعوة، أتساءل عمّا يقصده بـ"خذوا من جديد!". هل يقصد العوامات أم المصارعة؟ أصبحنا من زبائنه الدائمين، وما إن نتناول حبّتَيْ "عوامات" ويسيل شهدهما في أفواهنا، حتّى يحين وقت العرض الفنّي البهلواني لذلك الجندي المجهول.

كلّ يوم بعد الظهر وقبيل غروب الشمس، يأتي جنديّ من الجيش الإيراني، يقف عند بداية القوس الحديدي لجسر الأهواز المعلّق. وبعد دقائق من التركيز، يبدأ بتسلّقه كأنّما يسير على أرض منبسطة واسعة، وليس قوسًا ضيّقًا معلّقًا في الهواء، بينما ننظر إليه من الأسفل حابسين أنفاسنا.

عندما يصل إلى أعلى نقطة في القوس، يجلس وتتدلّى قدماه، ثمّ يحدق مليًّا في جريان مياه النهر، لينسحب بهدوء قبل هبوط الظلام ويرجع من حيث أتى.

السينما
خلال إقامتنا في مدينة "الأهواز" بانتظار بدء العمليّات، ومن أجل تمضية الوقت، خطر ببالي أن أذهب إلى السينما. في الحقيقة، لم أكن مرتاحًا لذلك، لكنّني أقنعتُ نفسي بشراء بطاقة الدخول. كنت أشعر بالذنب لكنّني وجدت لنفسي حجّة دامغة للذهاب، إذ رأيت على مدخل السينما لافتة بيضاء كبيرة
 
 
 
 
 
50

37

القسم الأوّل: الاستعداد

 كُتِب عليها قول للإمام "الخميني": "لسنا ضد السينما لكنّنا ضد الفحشاء والمنكر".


بعد انتصار الثورة، لم يكن الناس قد تصالحوا بعد مع السينما، ممّا اضطر أصحاب الصالات لتعليق هذا القول للإمام فوق المداخل، بهدف تحفيز الناس على ارتيادها مجدّدًا.

عندما قرأت ذلك القول لم أتوان عن شراء بطاقة الدخول. كانت السينما تعرض فيلم "يد الشيطان"، ولم يطل الوقت حتّى يعود الشعور بالذنب وتجتاحني أفكار سوداويّة. ماذا لو قصفت طائرات العدو الصالة؟ ماذا سيكون مصيري حينها؟ غرقتُ في أفكاري ولم ألتفت إلى الفيلم. فمن المؤسف أن أموت في صالة السينما بدل ساحات الوغى، وزاد صوت الفيلم المصمّ للآذان من وحشتي، كم رغبتُ لو تُضاء الأنوار ويخفض صوت الفيلم فأسمع ما يدور في الخارج، لكن لا أمل في ذلك. لم أعد أطيق المكوث، واستغللت بصيص النور القادم من فتحة الباب، لأنسلّ بهدوء خارج الصالة. عندما أصبحت خارجها، ووجدت أنّ كلّ شيء ما زال على حاله، تنفّستُ الصّعداء، وانطلقت نحو مدرسة الشهيد "رجائي" لأنضمّ إلى "حسن" و"أكبر دانشي".

رحلة إلى "سهل آزادكان"
في منتصف شهر نيسان من العام 1982م، بدأ تحريك القوّات. تسلّمنا أسلحتنا من المخازن، ارتدينا الزيّ العسكري "كاكي" اللّون، حملنا حقيبة الظهر وانتظمنا في الصفّ. بعد ساعة من أذان الظهر، ركبنا الحافلات من مدينة "الأهواز" نحو "بستان"قاصدين ثكنة سهل "آزادكان" (الأحرار). وصلنا إلى "الحميديّة". وبعد مدة قصيرة، توقفنا قرب أبنية الثكنة المؤلفة من 4 طبقات.
 
 
 
 
51

38

القسم الأوّل: الاستعداد

 وضعنا أغراضنا في إحدى الغرف بانتظار الأوامر، تعرّفت هناك إلى "مجيد علي ضيغمي"، "حسين قاضي زاده"،"محمد رضا أشرف"، "علي محمّدي" و"محمود محمّدي". كانوا من "كرمان" ويتحدثون باللّهجة المحليّة.


شعرت بصداع مؤلم ليس بسبب التعب من الطريق، إذ لم تكن بعيدة على الإطلاق. وإنّما بسبب إدماني على شرب الشاي. قلت لـ"حسن": "أنا على استعداد لشراء قدح من الشاي مهما غلا ثمنه!". فقال "حسن": "أنا أيضًا أشعر بصداع، لكن يبدو أن لا مطبخ هنا أو شاي". قال "أكبر": "اصبر قليلًا ربما يقدّمون لنا الشاي على العشاء". كان "محمّد رضا أشرف" الّذي لم تتوطّد صداقته معنا بعد، يُصغي إلى كلامنا، وعندما رأى مدى شوقنا لشرب قدح شاي، فتح باب الحديث والتعارف: "كم ستدفع من أجل قدح شاي؟".

كان "أشرف" ممشوق القوام، نحيلًا جدًّا، ذا عينَيْن واسعتَيْن تنمّان عن عاطفة وحنان. قلت: "50 تومانًا". كان هذا ثمنًا باهظًا جدًّا لقدح شاي، فقال: "ستفي بوعدك؟"، قلت: "بلى"، وأصبحنا أصدقاء من اللحظة الأولى. سحب حقيبته من قرب الحائط، وبحث عن شيء ما دون جدوى، فقام بإفراغ محتوياتها على الأرض، وكان فيها كلّ ما يمكن أن يخطر ببالكم: مشط، مرآة، مقص، أقراص دواء، كوب، إبرة، خيوط، معلّبات فاكهة، جوارب، زوجا نعال. لكن "أشرف" كان يبحث عن شيء آخر يساعدني للتخلّص من الصداع. عبثًا حاول، ولم يجد ضالته. قلب حقيبته رأسًا على عقب، ونفضها في الهواء مرّات عدّة فسقط منها شيء، لكنّه لم يكن ما يبحث عنه. في النهاية، وجد ضالّته في أحد جيوبها، كيس من النايلون فيه مغلّف شاي واحد وثلاث مكعبات سكر، فابتسم ابتسامة المنتصر ثمّ خرج من الغرفة. وجد في الفناء بضعة أغصان جافّة، أشعل النار فيها وملأ وعاء الطعام من ماء قارورته ووضعه على النار ليعدّ كوبًا من الشاي.
 
 
 
 
52

39

القسم الأوّل: الاستعداد

 بعد دقائق عدّة، رجع إلى الغرفة حاملًا كوب شاي صداقتنا الجديدة وقال: "أنا أيضًا أشعر بالصداع إن لم أشرب الشاي، هيّا اشربه وبدل الخمسين تومانًا هات 50 صلاة على محمّد وآل محمّد". منذ ذلك الوقت، توطّدت العلاقة بيني أنا و"حسن" و"أكبر" وبين "أشرف"، و"مجيد"، "رسول" و"علي".


لم نبق في الثكنة أكثر من ثلاثة أيام قضيناها في التدريب العسكري. كنّا يوميًّا بعد صلاة الصبح نركض إلى مدينة "حميديّة" ونعود منهكين، وكان القائد عندما يسمع صوت أنفاسنا المتقطّعة يسأل: "من تعب؟"، فنستجمع كلّ ما تبقّى من قوانا ونجيب:"الأعداء". عجيب تأثير هذا السؤال والجواب! إذ كان يمدّنا بالطاقة لإكمال الطريق.

حميد الفدائي
"حميد إيرانمنش"1، من بلدة "زرند" في محافظة "كرمان"، شارك في عمليات "حصار عبادان، بستان والفتح المبين". وقد أبدى شجاعة وصلابة قلّ نظيرهما، فلُقّب بـ"الفدائي حميد". كان الجميع يرجو الله أن لا يكون "حميد" مدرّبهم العسكري، إذ إنّه كـ"فياض" قاسٍ ومتزمّت جدًّا. "فياض" هذا، هو أحد مسؤولي التدريب، وذكر اسمه كفيل بجعل أيّ مقاتل يرتجف رعبًا.

في أحد الأيام، انتشر خبر في الثكنة انتشار النار في الهشيم: "جاء حميد الفدائي"، ولم يطل الوقت قبل أن تصطف الفصائل في الباحة قرب أبنية الثكنة. لم يكن "حميد"طويل القامة كثيرًا، لكنّه يتمتّع ببنية قوية رياضيّة ونظرات ثاقبة
 
 

1- ورد اسم حميد الفدائي في كتاب "قاسم سليماني ذكريات وخواطر"، ترجمة: مركز المعارف للترجمة، وصَدَرَ عن دار المعارف الاسلامية الثقافية- حيث يتحدث الحاج "قاسم سليماني"، خلال الفصل الأول منه، عن بطولات وشجاعة "حميد".
 
 
 
53

40

القسم الأوّل: الاستعداد

 حادّة، غير ما اشتهر به الإخوة في الجبهات من مرح وعطف. أمرنا بالجلوس والوقوف، ولمّا لم نفعل ذلك كما يحب ويتوقع، رمقنا بنظرات ذات مغزى، زمّ شفتَيْه وراح يهزّ رأسه كمن يقول: "حسنًا أيّها الكسالى، يبدو أن لا عمل لكم غير الأكل والشرب، سأريكم!".


تلقّفنا تلك النظرات مدركين أنّه سيُخضعنا لتدريبات واختبارات صعبة. في الحقيقة، كان صائبًا فنحن خلال إقامتنا في "الأهواز"، كنّا بدل المشاركة في التمارين الصباحية نذهب لشراء "الحليم"1 والخبز الطازج، وبعد الظهر نتناول العوامات على ضفة نهر "كارون"، حتى إنّني ذهبت إلى السينما. بيد أنّ "حميدًا" قد أدرك كلّ ذلك وقال بصوت عالٍ: "يبدو أنّكم جئتم للتنزّه في الأهواز صحيح؟"، صمتنا فتابع كلامه: "سنرى من منكم جاء للتنزه ومن جاء للحرب!".

بعد هذا الوعيد، أشار إلى عمود كهرباء بعيد وقال: "سأعد إلى 10 وعليكم الركض نحو ذلك العمود والعودة بسرعة والويل لمن يتأخّر منكم".

تردّد صدى صفارة "حميد الفدائي" بين الأبنية المجاورة، وجرت العناصر بسرعة نحو العمود. بالطبع تأخر كثيرون في العودة إلى نقطة الانطلاق، فأيقن "حميد"أنّنا تنابل كسالى.

كان المطر قد هطل قبل أيام من وصولنا إلى الثكنة، فتجمعت المياه في نقاط مختلفة من الأرض، مشكّلةً مستنقعات نمت على سطحها طفيليات خضراء. انتظر "حميد" عودة آخر عنصر ثمّ قال بحزم: "والآن مع سماع الصفارة على الجميع الزحف في الماء".
 
 

1- طعام شبيه بالهريسة.
 
 
 
54

41

القسم الأوّل: الاستعداد

 انطلقت صفارته ونحن في حيرة من أمرنا، أهو جاد أم يمزح؟! وتبدّدت حيرتنا باليقين بسحبه أقسام الـ"كلاشينكوفAK"، وإطلاقه الرصاص الحيّ عن جانبَيْنا. على الرغم من خوفنا من تهديدات "حميد" الفدائي ورصاصاته، لم نكن على استعداد لتلويث ملابسنا العسكريّة الجديدة بأوحال المستنقع، لذا عندما وصل زحفنا إلى بقعة الوحل، حرفنا مسيرنا كي لا نبتلّ. هذا التصرف وعدم الانصياع للأوامر، زادا من غضب "حميد" الّذي راح يصرخ صراخًا متواصلًا، وأمرنا بالعودة إلى نقطة الانطلاق. كانت شفتاه ترتجفان حنقًا وغضبًا، وما أن أراد إصدار الأمر الثاني الّذي، وبحسب ظنّه، سيؤدّبنا، حتّى توقفت في المكان سيارة تويوتا ستايشن بيضاء تحمل لوحة الحرس الثوري. ترجّل منها عدد من مسؤولي الحرس، وما أن نزل الشخص الجالس في المقعد الأمامي، حتّى سرت همهمة بين العناصر. إنّه "قاسم سليماني" قائد لواء "ثار الله".


كان الحاج "قاسم" مبتسمًا كعادته، ألقى التحية على المقاتلين، فتذكرت ذلك اليوم في كليّة الهندسة عندما اقترب منّي ليخرجني من صف المتطوعين. شكونا إليه تصرفات "حميد الفدائي": "أخ سليماني! إنّه يضايق المقاتلين دون مبرّر"، وقال آخر: "لا يوجد حمامات هنا، وهو يطلب منّا النزول إلى الأوحال والمياه الآسنة"، وأضاف آخر: "كيف لنا أن نصلي إن تلوثت ملابسنا؟"، وأضاف آخر: "عندما دربنا فيّاض كان يسبق الجميع في النزول إلى المستنقعات، لكن السيّد حميد يقف جانبًا ويطلب منّا النزول". كان "حميد"يتآكل غضبًا. سمع الحاج "قاسم" الشكاوى، لكنّه كان أذكى من أن يصغّر شأن القائد أمام عناصره فقال: "عليكم بإطاعة أوامر قائدكم فهو يريدكم مقاتلين أشداء أثناء المعارك، لا أن ينتقم منكم!".

عندما رأى "حميد" أنّ كلام الحاج في صالحه، قال: "هؤلاء لا يصلحون
 
 
 
 
 
55

42

القسم الأوّل: الاستعداد

 للحرب، يخافون من اتّساخ ملابسهم، فكيف إذا اضطروا لنزول المستنقعات العميقة ليلة العمليّات؟!" أيّد "قاسم سليماني" كلامه، ثمّ استقلّ السيّارة وغادر بعد أن أسرّ ببعض الأمور إلى القادة و"حميد الفدائي".


بقينا نحن و"حميد" وبقعة المياه الآسنة. فبعد أن حصل على دعم "قاسم سليماني"، رفع سلاحه بيده وقال: "إذًا تخافون أن تتسخ ملابسكم! هل تعتقدون أنّكم في زيارة أحد أقربائكم؟ حسنًا، سأنزل إلى الوحل أولًا، والويل لمن لا يتبعني".

حمل سلاحه من طرفَيْه، انطلق بخطوات سريعة واسعة، كرياضي في مسابقة القفز، وما أن اقترب من الماء حتّى وثب كمن يريد الغطس في حوض السباحة، فنزل في الماء القليل العمق على ركبتَيْه ومرفقَيْه وراح يزحف بسرعة كبيرة. عندما نهض في الجهة الأخرى للماء، كانت الطفيليّات الخضراء، الديدان والأوحال تلوّثه من رأسه إلى أخمص قدميه. رمى نحونا رشقات من سلاحه، ثمّ قال: "هيا انطلقوا". حينها لم يجرؤ أحد على عصيان الأمر وزحفنا جميعًا في المياه تمامًا كـ"حميد".

نحو فرسيه
في 21 نيسان، لم يكن قد حُدّد بعد وقت بدء العمليات، لكن بعدما توقفت شاحنات الآيفا العسكريّة لنقل كتيبة "باهنر" - أي نحن - وخرجت من الثكنة، أدركنا أنّ العمليات باتت على الأبواب.

مررنا بمدينة "حميديّة" الجريحة، وبعد أن قطعنا مسافة 5 كيلومترات، انحرفنا يسارًا وتابعت الشاحنات سيرها على طريق ترابيّ. بعد حوالي 10 كيلومترات
 
 
 
 
 
56

43

القسم الأوّل: الاستعداد

 تقريبًا، وصلنا إلى مكان محاط بأشجار "الطرفاء"1، حيث نُصبت خيم تنتظر قاطنيها. استمرّت صداقتنا مع أبناء "كرمان" الخمسة بعد كوب الشاي ذاك، فتشاركنا ذات الخيمة.



كان من السهل توطيد العلاقات مع الإخوة الكرمانيّين وخاصة "مجيد ضيغمي". لـ"مجيد" يدان ظريفتان، ووجه مستطيل تغطّيه شامات بنيّة دقيقة، وجعل الفرق في أسنانه الأماميّة ابتسامته عذبة جذّابة. من عادته عندما يتحدّث إليك، أن يبحث عن خيطٍ بارزٍ من أحد أزرارك، ليسحبه بهدوء دون أن تشعر إلّا وقد سقط الزر أرضًا، فيغرق في الضحك.

كان "علي"، و"محمود"، و"مجيد" ورسول أبناء عمّ، وكان "محمود" من بينهم عنصرًا في الحرس الثوري، يرتدي زيّ الحرس الأخضر، سمينًا أسمر اللون على عكس أبناء مدينته أصحاب البشرة البيضاء. كالعادة، كنّا نجري كل صباح فنعبر الطريق الترابيّة بين أشجار "الطرفاء" الضخمة، وعندما تتقطّع أنفاسنا يعطي قائد سريّتنا الأمر بالعودة. أحيانًا كنّا نلتقي بسرايا أخرى، وكان مرسومًا أن يلفت القائد أنظار عناصره إلى السريّة الأخرى، فيسأل بصوت مرتفع يسمعه الجميع: "من هؤلاء؟"، فيجيب العناصر: "منتظرو المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف".

أدّى تكرار الجري الصباحي ولقاء السرايا المجاورة إلى فتح مجال المزاح واللّهو. كان القائد يسأل كالمعتاد: "من هؤلاء؟" فيجيب الإخوة بشقاوة وتنسيق مسبق: "الأفغان". مرّت الحياة بهناء وتنوّعت ما بين الرياضة الصباحيّة، جلسات الدعاء، المناجاة، مجالس اللّطم والعزاء، التحلّق حول ملعب الكرة
 

1- شجر بري ينبت على ضفاف الأنهار في المناطق الدافئة ويسمّى النوع البستاني منه بالإثل ويكثر في "مصر"، "اليمن" و"الشام".
 
 
 
 
57

44

القسم الأوّل: الاستعداد

الطائرة ومشاهدة إسقاطات "أكبر دانشي" و"صادق هليرودي"1 الساحقة، إلى القفز من أعلى أغصان الشجرة المعمّرة المتدلّية فوق النهر القريب والسباحة فيه أشواطًا وأشواطًا. كلّ تلك الأمور مجتمعة ساعدت على أن نقضي أوقاتًا مرحة في سهول "خوزستان" الغنّاء.

ما أثار تعجّبنا، ذاك المزارع العربي العجوز الّذي كان يعمل بجسدٍ وأملٍ في مزرعته، غير عابئ بالحرب أو العدو المتربص بنا على مسافة غير بعيدة. عندما نعود من الرياضة الصباحيّة، نجده إمّا يعمل في ريّ مزروعاته، أو في التخلّص من الأعشاب الضارّة من أثلام الملفوف. أول مرّة زرنا المزرعة، كان قد قطف الملفوف ووضعه في أكياس تمهيدًا لإرساله إلى المدينة. ظننتُ أنّ الأكياس مليئة بالبطيخ، وكم منّيتُ النفس بتذوق طعمها الحلو واللّذيذ، لكنها كانت ملفوفًا أبيض قاسيًا.

في أحد الأيّام، زارنا إمام مسجد "كرمان" السيّد "يحيى الجعفري". وفي يوم آخر، زارنا السيّد "فخر الدين حجازي" أشهر خطيب في البلاد، وكان يرتدي زيّ الحرس الّذي لم يكن يتناسب مع حجمه وطوله. وفي إحدى المرّات، زارنا رجل دين بهيّ الطلعة ضخم الجسم، كان يرتدي زيّ الحرس تحت عباءته ويصرّ أثناء إلقائه الخطب وزيارة المقاتلين على التقاط الصور التذكاريّة، وكلّما أراد إلقاء كلمة يُخرج الكاميرا من جيب سرواله، يعطيها لأحد الإخوة ويعلّمه كيفيّة التقاط الصور. كان أثناء إلقاء الكلمات يهتمّ لالتقاط الصور ومن أي زاوية، الأمر الّذي جعلني أستاء منه كثيرًا.

مضى أقل من أسبوع على وصولنا، فشعرتُ بالشوق إلى "الأهواز" وإلى
 

1- أسر صادق هليرودي في عمليات بيت المقدس. تحرر بعد 8 سنوات وعاد إلى الوطن.
 
 
 
58

45

القسم الأوّل: الاستعداد

 تناول العوامات على ضفة "كارون". ذهبت مع "حسن إسكندري" إلى خيمة معاون الكتيبة "محمد رضا حسني سعدي"1، كي يوقّع على مأذونيتنا. كان يجلس على حصير مدّ آخر الخيمة على التراب، يتحدّث إلى أحدهم عبر جهاز اللّاسلكي وبالقرب منه وعاء حفظ المياه الّذي كانت قطراته المتسرّبة تحفر في التراب عميقًا. استقبلنا المعاون بحفاوة أكثر مما كنت أتوقع، كان يرتدي زيّ الحرس الّذي تلازم في أذهاننا مع البشاشة والعطف. سألنا: "لِم تريدون الذهاب إلى الأهواز؟".


- لدينا عمل ضروري إذ يجب أن نسلّم حقائبنا الّتي تضمّ صورنا ووصيّتنا وملابسنا المتسخة إلى تعاونية الحرس كي يرسلوها إلى عائلاتنا.

بالطبع كنّا ننوي التنزه على ضفة "كارون" وتناول العوامات الذهبية من ذلك البائع الجوال، مضافًا إلى التقاط الصور قرب جسر الأهواز المعلّق. ولم نخبر السيد "حسني سعدي" بكلّ هذا، لكنّه بسهولة وقع على مأذونية ليوم واحد. بعد ساعتَيْن، كنّا نتّكئ على سياج ضفة "كارون" ليلتقط المصور الجوال آخر صورة لنا في حياتنا العسكرية.
 

1- عاد إلى الوطن بعد 8 سنوات ونيف من الأسر ويشغل حاليا 2012- منصب مدير عام مؤسسة الشهيد في محافظة "كرمان" وله كتابان : 3 آلاف يوم من الأسر والراديو.
 
 
 
59

46

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 القسم الثّاني: نهاية الانتظار


في 29 نيسان من العام 1982م، بعد شروق الشمس بساعة واحدة، أُعطي الأمر بالتأهب فأدركنا أنّ اليوم الموعود قد حان. انتشر الخبر بسرعة، تلاطم زوابع سهول "خوزستان"، مخلّفًا صخبًا وضوضاء في كلّ خيمة اقتحمها.

أسرعنا نحو أسلحتنا، مخازن الرّصاص، حقائب قذائف الـ آر بي جي، وكنّا نختبر أوزانها، فما خفّ منها زدنا عليه، وما كان ثقيلًا لم يطاوعنا قلبنا على التخفيف من وزنه. كنت أحمل 3 قذائف الـ"آر بي جي" لأناولها عند اللّزوم إلى رامي فصيلنا "حسن إسكندري"، وحملت إضافة إلى ذلك مخزنَي رصاص، قارورة مياه، قنبلتَيْن يدويّتَيْن وسلاح كلاشينكوف. يعدّ ذلك وزنًا ثقيلًا بالنسبة إلى من هم في مثل سنّي.

حُدّد وقت الانطلاق إلى الخط الأمامي قبل ساعة من غروب الشمس، وكان ما زال أمامنا 3 ساعات تقريبًا قبل أذان الظهر، قضيناها في تفقّد العتاد والسلاح والتقاط الصور التذكاريّة.

وكأنّ هذه القافلة لم تكن تسير نحو الموت، بل هي أشبه بموكب عرس يسير على أنغام صوت "آهنكران" الّذي تردّد صداه في أنحاء السهل:
"مولاي لو لم نكن معك في كربلاء
لنزود عنك بالمهج وبالأرواح
 
 
 
 
61

47

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 فها نحن اليوم نلبّي النداء

فداءً للرأس القطيع يا مولاي".

مرثية ترتجف لها الأبدان. زاد العرض والطلب في سوق الشفاعة، بعضهم اكتفى بطلبها شفاهًا، وبعضهم الآخر لم يرضَ إلّا كتابةً. وجدتُ قلم الخط العريض ولم يكن خطي سيّئًا، لذا وجدت كثيرًا من الزبائن في مدّة قصيرة. كانوا يقفون بملابس التعبئة الجديدة، ويطلبون أن أكتب لهم:
- إمّا الزيارة أو الشهادة.
- مسافر كربلاء.
- يمنع الإصابة بالرصاص أو الشظايا إلّا بإذن الله تعالى.
- محمود محمدي متطوّع الحرس من كرمان.

عاد "محمود" بعد حوالي الساعة، وقال: "يا ويلي! لقد نسيت كلّيًا إذا وقعت في الأسر ورأى البعثيّون كلمة ‘حرس’ فسيقطّعونني إربًا. لو سمحت عزيزي أحمد غيّر كلمة حرس دون أن يحدث تشوّهًا في الخط". بصعوبة استطعت تغيير كلمة حرس"سباه" إلى "شهر" أي مدينة، لتصبح الجملة: "محمود محمّدي متطوّع من مدينة كرمان"، كما طلب أن أكتب على ظهره مسافر "كربلاء".

صدح صوت أذان الظهر من مكبّر الصوت في الخيمة الكبيرة الّتي اتخذناها مصلّى. في ذلك اليوم، تراصّت صفوف المصلين أسرع مما عهدناها سابقًا. بعد الانتهاء من الصلاة، كرّر القائد التوصيات الأخيرة قبل بدء المعارك، مؤكّدًا على عدم قتل الأسرى، وإذا ما وقعنا في الأسر أن نكتم ما نعرفه من معلومات.
 
 
 
 
 
62

48

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 انطلقت الشاحنات العسكريّة في طريق ترابيّ تلمع في نهايته شمس المغيب القانية. كانوا قد رشّوا عليه مادة المازوت أو النفط، كي لا يتصاعد الغبار فيتنبّه العدو لوجودنا، وينكشف أمر العمليات.


تنازعتني الأفكار ونحن في الشاحنة الّتي تتأرجح على الطريق الترابية المحاطة بالشجيرات، والمتجهة نحو الشمس الغاربة مباشرة. لا بدّ أن هذه الأفكار قد راودت باقي الرفاق أيضًا.

انتابني شعور عجيب، فاللّحظة الموعودة قد حانت، وها نحن نشقّ طريقًا محفوفة بالأسرار والألغاز. فكرتُ إذا اختفى آخر شعاع لهذه الشمس الآفلة وغشتها العتمة، فما الّذي سيجري علينا حتى انبلاج الفجر؟ هل سنبقى أحياء إلى حينها؟ هل سنقتل أم ننتصر أم نهزم؟

العشاء الأخير
وصلنا إلى المحطّة الأخيرة قرية "فريسه" الّتي هجرها أهلها، وقد لفّ بيوتها الطينيّة ظلامٌ دامس، فلا تجد فيها بصيص نور. بعد سنوات من الهجران، تستقبل القرية اليوم ضيوفًا جاؤوا لأجل دحر الغاصب وإعادتها إلى ربوع الوطن، وإلى أهلها العرب بلباسهم الأبيض النقيّ (الدشداشة)، إلى رعاة قطعان الجواميس الّتي ضجّت بها دروبها وسهولها في يوم من الأيّام. 

ترجّلنا من الشاحنات بهدوء وصمت، مخافة أن يحمل النسيم حتّى صوت همهماتنا إلى العدو الّذي لا يبعد عنّا أكثر من 4 كيلومترات.

ما إن وطأ أحد المقاتلين الأرض حتّى أشعل سيجارة كي ينفض عن نفسه - على حدّ تعبيره - عناء الطريق. لم يتمالك القائد نفسه، فأمسكه من ياقته، وقال له بغضب وبصوت منخفض: "ستتسبّب بقتلنا جميعًا". فما كان من الشاب
 
 
 
 
63

49

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 إلّا أن رمى السيجارة وداس عليها بحذائه. لكن ما أن ابتعد القائد حتّى انحنى وأمسكها، ثمّ أشعلها وأحاطها بكفَيْه لإخفاء وميض شعلتها.


بقي حوالي نخلة1 لأفول القمر، لذا علينا الانتظار حتى يختفي تمامًا، ويعمّ الظلام الدامس فنتحرّك باتجاه الأعداء. إلى أن يحين ذلك، بقي علينا 3 أمور لإنجازها: الصلاة، تناول العشاء والوداع الأخير.

صلّينا ونحن مدجّجون بالسلاح، أمّا طعام العشاء فلم يكن بسيطًا بما تيسّر كما توقعنا، بل كان الدجاج بالأرز، طعامًا ساخنًا ولذيذًا. بيد أنّه كان متعارفًا تقديم وجبات دسمة ليلة العمليّات، لكنّني وحتّى يومي هذا لم أفهم السبب في ذلك. ربما يقدّم مسؤولو التموين والتغذية وجبات دسمة كالدجاج عشيّة بدء المعارك، من باب إظهار المحبة والعطف وتعويضًا عن تقصيرهم - بحسب اعتقادهم - في تقديم وجبات لائقة في الأيام الخوالي، وإلّا ماذا سيكون السبب غير ذلك؟ فالمقاتل المقدم على الوغى، والّذي سيقطع عشرات الكيلومترات يجري، ينبطح، ينهض ويطلق النار، يجب أن لا يتناول طعامًا دسمًا يتخمه. عمومًا، كان تقديم الدجاج ليلة العمليّات تقليدًا من تقاليد وعادات الجبهة، وانتشار رائحته إنّما يدل على قرب المعارك. كانت الأنظار مشدودة نحو السماء، بعضها للدعاء والتوسّل، وبعضها الآخر يرصد القمر وإخلاءه مسرح السماء للعتمة.

عند منتصف اللّيل، آن أوان مغادرة الضيوف لسهل "فريسه" مارّين بمحاذاة أسوار القرية الطينيّة باتجاه حقول القصب الّتي لا أحد يعلم غير الله أين تنتهي، ليصلوا بعدها إلى مواقع الأعداء. أجّلنا أنا و"أكبر" و"محسن" الوداع لوقت آخر دون علمنا إن كانت الفرصة ستسنح لذلك أم لا. سرنا في رتل لا أرى أوّله ولا
 

1- كان أهالي الجنوب يقيسون بعد وقرب الشمس أو القمر بأطوال شجر النخل فيقولون بقي نخلة على غياب الشمس.
 
 
 
 
64

50

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 آخره، كانت حركته الصامتة في ذلك الليل وبين القصب كأفعى تنسلّ بهدوء بين العشب لاقتناص فريستها.


تقدّم عناصرُ الاستطلاع الرتل، وقد شُقّ في اللّيالي السابقة وسط حقل القصب، ممرّ بعرض مترين بطريقة ماهرة جدًّا. كنّا نسير حينًا ونجلس حينًا آخر، حسب أوامر قائد الرتل "أكبر خوشي"، والّذي كانت تتناقل الأفواه أوامره من عنصر إلى آخر.

بعد حوالي الساعة أو أكثر، انتهى حقل القصب، ووصلنا إلى أرض منبسطة، يفصلها عن أول ساتر ترابي للعراقيّين حقل ألغام من المؤكّد أنّ عبوره في ذلك الظلام الدامس سيؤدّي إلى خسائر فادحة في الأرواح. لكن عناصر الاستطلاع كانوا قد فتحوا ممرًّا آمنًا في اللّيالي الماضية، وقد استخدموا اليوم حبلَيْن فسفوريَّيْن لتحديده. عندما عبرنا حقل الألغام، جاءت الأوامر بالانبطاح على الأرض دون أي حرّكة بانتظار أمر بدء المعارك، وانطلاق النداء "يا علي بن أبي طالب". ودّعنا أنا و"حسن" و"أكبر"بعضنا بعضًا ونحن منبطحون على الأرض، وتبادلنا القُبل. قال لي "أكبر": "إذا استشهدت فقبّل وجه أخي نيابةً عنّي".

بدء عمليات بيت المقدس
أكثر من ساعة مضت على منتصف ليل 30 نيسان من العام 1982م، تردّد صوت التكبير في أنحاء السهل مؤذنًا ببدء عمليّات "بيت المقدس". تقضي مَهمّتنا الهجوم الساحق على مواقع العدوّ والسيطرة عليها. سُرعان ما أدرك العراقيّون أنّهم يتعرضون لهجوم مباغت، فأمطروا السهل بوابل من نيران رشاشاتهم، في حين كنّا نجري بسرعة نحو دشم ومرابض رشاشاتهم ومدفعيّتهم. هذا المشهد ما زال ماثلًا في ذاكرتي، فقد امتزج الموت بالحياة في لحظة،
 
 
 
 
65

51

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 عاصفة الرصاص من جهة، وزحف القوات من جهة أخرى. كنّا ما إن نخطو خطوة حتّى ينزل الرصاص علينا حيث نقف.


في تلك اللحظات، لم أعد أشعر بشيء، لا الخوف ولا القلق. لا أدري لِم! صحيح أنّ ذلك غير منطقي، لكن هذا ما شعرت به. أحيانًا كان الرصاص يمّر قريبًا منّي لدرجة أسمع أزيزه بوضوح، بل وأقرب من ذلك، فأشعر بحرارته في رأسي وعنقي. كم حدث أن عبرتْ رصاصة على بعد سنتيمترات منّي لتستقر في صدر رفيق لي مُحدثةً صوتًا عجيبًا يشبه صوت "ضربة بقبضة يد ما بين كتفي شخصٍ سمين". لم يدع الرصاص للضحايا فرصةً للتألّم والتأوّ، كلمة "آخ" وانتهى الأمر.

في تلك العمليّات، تمّ دمج لواء "ثار الله" ومغاوير "ذو الفقار" في الجيش. لم نكن نحن التعبويّين نحسن الظنّ بعناصر الجيش، واعتقدنا أنّهم لم يشاركوا في الحرب تطوّعًا مثلنا، وإنّما أجبروا على ذلك، فاستنتجنا أنّه يجب أن لا يشارك الجيش في عمليات متوثّبة كهذه.

لكن تلك اللّيلة، أزال نقيبٌ في الجيش كلّ تلك الشكوك والظنون دفعة واحدة. كان النقيب المغوار "مروج" في لواء "ذو الفقار" بقامته السامقة يُكبّر، يقفز للأمام، ويشجّع المقاتلين على الهجوم ويزأر كالأسد بين أزيز الرصاص ودويّ المدافع. ما زال صوته يرنّ في أذني وهو يقول: "هيّا يا جنود إمام الزمان، اتبعوني للهجوم على الأعداء". ونحن التعبويين المقرّين بجسارة وجرأة ذاك الجندي المغوار، نتبعه مقتحمين أوكار الأعداء.

حاولت طوال الهجوم أن لا أبتعد عن "حسن" و"أكبر". أُعلنَ في اللّحظات الأولى عن سقوط الساتر الترابي الأول للبعثيّين، فطغى صوت تكبيرنا على صوت رصاص وقصف الأعداء الّذين آثروا الفرار على الوقوع في الأسر.
 
 
 
 
66

52

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 عبرنا الساتر الأول، واندفعنا في سهل منبسط، وقد ازدحمت السماء بالرصاص المتطاير والقذائف وصدى حركة الدبابات. قبيْل انبلاج الفجر، سيطرنا على خط الأعداء الثّاني. وانسلّ العراقيّون تحت جنح الظلام منسحبين نحو خطوطهم الخلفيّة. أمّا الباقون، فمنهم من قتل، ومنهم من استسلم للأسر، وراحوا يستجدون الحياة: "دخيل الخميني، دخيل الخميني".


عندما كانوا يفرّون، استهدف رامي الـ"آر بي جي" في كتيبتنا إحدى ناقلات جندهم، فاشتعلت النار فيها، ثمّ أصاب الثانية فاحترقت أيضًا، وامتدّت النيران المتصاعدة من كلا الآليتَيْن إلى الناقلة الثّالثة العالقة بينهما، فاشتعلت أيضًا. والأسرى العشرون هؤلاء هم جنود تلك الآليات الثلاث الّتي أضاءت نيرانها المكان، وبان على ضوئها عدد من ناقلات الجند والدبّابات المهجورة خلف الساتر الترابي.

كانت فرائص الأسرى العراقيّين ترتعد كأوراق الصفصاف في مهبّ العاصفة فزعًا وخوفًا. وراحوا يستجدون الشفقة، ويستنجدون بالمسؤولين الإيرانيّين: "دخيل الخميني، دخيل رفسنجاني، دخيل الخامنئي". حتى إذا كانوا يعرفون اسم مسؤول من الصف الثّاني كانوا يستنجدون باسمه!

وقفت أعلى الساتر الترابي أنظر إلى تلك الجماعة الخائفة والمرتجفة، ثمّ هبطت إلى حيث هم، وقلت لأحدهم باللغة العربية، وكان يبكي بشدّةٍ: "لا تخف". كنت قد تعلمتها في الكراسة (الكتيّب) الّتي وزّعها علينا الحرس الثوري، وفيها عدد من الجمل العربية لتساعدنا على التواصل في حال أسرنا عراقيًّا ما.

نزلت كلمة "لا تخف" عليه بردًا وسلامًا، وفهم منها ما فهم من إعطاء الأمان والأمل، والبقاء على قيد الحياة، والعودة إلى الوطن والعائلة. تلقّف الأسير
 
 
 
67

53

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 العراقي كلمتي هذه، وأراد مبادلتي العطف الّذي أبديته نحوه، فنهض وسار نحوي باضطراب وأمل في آن، يريد تقبيل يديّ امتنانًا. هذه المرة كان دوري لأن أتوجس خيفة من أن يختطف منّي بندقيّتي ويمطرني بالرصاص. لن أعطيه هذه الفرصة، لذا تراجعت إلى الخلف بسرعة، سحبتُ أقسام سلاحي وصوّبته نحو صدره، وقلت بحزم: "لا تتحرك"، لكن بالفارسيّة هذه المرة.


ربما لن يخيفه هذا التهديد من فتى في الـ16 من العمر، لكنّ فوهة البندقية المصوّبة إلى قلبه اليائس، جعلته يرتجف خوفًا ثانية. كلمة عربية منّي زرعت الأمل في نفسه، وأخرى فارسيّة أغرقته في اليأس. جلس على ركبتَيْه قانطًا، ووضع يدَيْه على رأسه ثانية. أسفتُ لحاله، لكن ما باليد حيلة، فالاحتياط واجب في مثل هذه الظروف. فكثيرًا ما سمعت أنّ العدو يبقى عدوًّا ولا مزاح في ذلك. كما لم أنس بعد قصة ذلك المقاتل في عمليّات "الفتح المبين" عندما قرّب قمقمته (مطرته) من عراقي ليشرب، فما كان من ذلك الأسير إلّا أن طعنه بحربة أدّت إلى استشهاده على الفور. لذا، لي الحق في التصرّف بقسوة وفظاظة، لكن تذكّر تلك الحادثة لم يخفّف من شعوري بالأسف تجاهه، فابتسمت له كي أعيد له ذلك الأمل، فتلقّف رسالتي وهدأ.

ما زالت ناقلات الجند تحترق، وشرارات المواد المنفجرة تتصاعد في الفضاء وتفرقع كأنّنا في حفل شواء "عرانيس الذرة". من قلب اللّيل، تقدّم عدد آخر من الجنود العراقيّين مستسلمين، فتعجبتُ لِم استسلموا بدل أن يفرّوا تحت جنح الظلام؟! سأل القائد أو معاونه أو أحد آخر لم أره، وهو يصوّب سلاحه نحو الأسرى: "من منكم على استعداد لاصطحاب الأسرى إلى الخطوط الخلفيّة؟". لم يكد ينهي كلامه حتى تقدمتُ خطوة للأمام وقلتُ: "أنا". فجأة شعرت بيد على كتفي، كان "حسن إسكندري" حيث قال بحدّة : "هل جننت؟ سيقضون
 
 
 
68

54

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 عليك في الطريق، أين عقلك؟". لم يكن كلامه جزافًا، إذ بعد ساعة، ومع شروق الشمس سيرون أنّ من يقودهم فتًى في الـ16 من عمره. حينها، الله وحده يعلم ماذا سيفعلون بي! لذا صرفت النظر عن هذا الأمر.


مع الفجر، زحف ضوء الصباح رويدًا رويدًا إلى جبهتنا، فتوجّهنا إلى حيث اعتقدنا أنّها القبلة، تيمّمنا وصلّينا بملابسنا وأحذيتنا العسكرية. ومع انتشار الضوء، علمنا من خلال محادثات قائد سريّتنا "ناصر رنجبر" في اللّاسلكي أنّ لواء النور الّذي كان من المقرّر أن يشارك في المعارك، عن يميننا، لم يوفّق في اقتحام الخط. وأُخبرنا أنّنا توغلنا أكثر ممّا يجب. فقال "ناصر": "ماذا تعني؟". أجاب الصوت: "أنتم محاصرون، لكن اصبروا ريثما نرسل إليكم الدعم". تناقلت الألسن هذا الخبر على طول الساتر الترابي الّذي تحولّ إلى ملاذنا: "نحن محاصرون". مع أشعة شمس الصباح الأولى، صعدنا أعلى الساتر الترابي، فوجدنا 3 عراقيين يفرّون تجاه قوّاتهم. أطلق عدد من عناصرنا النار تجاههم وأنا من بينهم، لكنّهم تمكّنوا من الفرار. عندما ابتعدوا كثيرًا ويئسنا من إصابتهم، خرجت رصاصة من سلاح أحدنا، فأصابت قدم أحدهم، لكنّه تمكّن بمساعدة رفيقَيْه من الابتعاد عن مرمى نيراننا، كانت تلك الحادثة أول وآخر محاولة لي لقتل عدوٍ.

عندما أشرقت شمس صباح 20 نيسان من العام 1982م، على السهل الّذي امتلأ بالفجوات والحفر بفعل تساقط قذائف الهاون، الـ آر بي جي والمدافع، وجدنا أنفسنا على ساتر ترابي مشرف على سهل ممتدّ منبسط من كلا الجانبَيْن، حيث استقرّت قوات العدو وعلقنا نحن في الوسط.

فشل هجوم لواء "النور" اللّيلة الماضية في اقتحام الخط ودحر العدو، وبالتّالي فشلت كلّ مخططات الحاج "قاسم سليماني"، ممّا جعلنا في موقف
 
 
 
 
69

55

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 لا نُحسد عليه. كان تسلّق الساتر الترابي في تلك الظروف لا يخلو من حالتين: الأولى أن نصاب في الصدر والثانية أن نُصاب في الظهر. فقررنا البقاء في الأسفل وحفر دشم باستخدام الحراب. بعد ساعة حمل، أحد الإخوة خبرًا سيّئًا:

- العراقيّون يتقدّمون نحونا بالدبابات.

تسلّقتُ أعلى الساتر بحيطة وحذر، وتأكّدتُ من صحة الخبر. لقد اتّخذت قوّاتهم شكل نعل الفرس وبدأت بالتقدم نحونا بهدوء. اتّصل حامل الشارة بالخطوط الخلفيّة، لكن لا أخبار سارّة في الأفق، إذ لم تتمكّن قوات الدعم من عبور السهل المنبسط في ضوء النهار.

كانت الشمس في كبد السماء عندما التفت "حسن إسكندري" وغيره من رماة الـ آر بي جي إلى أنّ القصف كان أخفّ عند نهاية الساتر، وهذا مناسب جدًّا لرمي دبابات الأعداء. نهض "حسن" مصطحبًا معه "أكبر"، وقال لي: "حاليًا لست بحاجة إلى القذائف الّتي تتواجد بحوزتك، وسأناديك عندما أحتاج إليها". سارا منحنيَي الظهر، مسرعين إلى نقطة قليلة الارتفاع في الساتر. حتّى تلك اللحظة، كان قد استشهد عدد كبير من الرفاق، فالعراقيّون لم يبخلوا بقصف هذه الكتيبة المحاصرة بأنواع القذائف والقنابل. أصبحت بعيدًا عن رفيقَيَّ، لكن ليس لدرجة لا أرى فيها أنّ "أكبر" قد أُصيب. لقد انتبه العدو لوجود رماتنا عند نهاية الساتر، فركّز قصفه على المكان. سرت نحوهما بصعوبة، ورأيت من بعيد بقعة دماء على سروال "أكبر".

ظننتُ بداية أنّه أصيب بشظيّة صغيرة، لكنّ بقعة الدماء أخذت بالاتساع، فلم أستطع صبرًا، وأسرعت الخطى إليه. عندما رآني "حسن" صاح: "لا تأت يا أحمد، المكان خطر جدًّا"، لكنّني لم أصغِ إليه.
 
 
 
70

56

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 عندما وصلت إلى "أكبر"، كان شاحب اللّون. لقد استقرّت رصاصة رشاش في فخذه والدماء تتدفق منه. كان علينا الانتقال إلى نقطة أكثر أمنًا، فاستجمع "أكبر" كلّ قواه، وقف على قدمَيْه، لكن ما إن خطا بضع خطوات حتى انهار وهوى إلى الأرض. كان جوفه يلتهب عطشًا، لكن قواريرنا فارغة. قفز "حسن" من مكانه متنقّلًا بين الرصاص والقصف وأحضر قارورة مياه، لا أدري لأيّ شهيد كانت. ما زالت الدماء تتدفق من جرح "أكبر" حتى ارتوى التراب من دمه، ولم تفلح الضمادات الّتي تتواجد بحوزتنا من وقف النزيف.


أردتُ الذهاب للبحث عن أدوات الإسعافات الأوليّة، لكنّ "حسنًا"، وشعورًا منه بواجب الأخ الأكبر، منعني وذهب بنفسه. بذهابه تملّكني شعور سيّئ، اعتقدت أنّه لن يعود سالمًا، وأنّني صرت وحيدًا تمامًا، خاصة وأنّ "أكبر" بدأ يفقد قواه، وراح يجول بنظره في الأنحاء كمن يبحث عن شيء أو شخص ويقول: "يا إمام الزمان"، وعندما لم يجد ضالّته سألني: "إذًا أين إمام الزمان؟". شعر أنّه مغادر، وكان قد سمع بأنّ إمام الزمان يحضر إلى جانب المقاتلين لحظة الشهادة. وراح في لحظات الألم تلك، يبحث عن معشوق تمنّى لو يأتي لعيادته.

بدأ القلق ينهشني على "حسن"، فرأيته قادمًا من بعيد. بدايةً، نزعنا ملابس "أكبر" الّتي تلوّثت وثقلت بالدماء، ثمّ ضمدنا جرحه الّذي كان ينزف بشدة. في تلك اللحظة، ظهرت مروحية في السماء، فكدت أطير فرحًا وقلت لأكبر: "عزيزي أكبر لا تقلق، ستنقلنا مروحية الإسناد وننقلك إلى المستشفى إن شاء الله".

كانت رؤية مروحية قادمة لإنقاذنا من سهوب الغربة والنار أشبه بالمعجزة. لكن أكثر ما أسعدني هو إنقاذ "أكبر". حلّقت المروحية على ارتفاع منخفض، وحامت فوق رؤوسنا، فرأيت العلم المرسوم أسفلها: أبيض، أحمر، أسود مع
 
 
 
 
71

57

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 ثلاث نجمات في الوسط ألوان العلم العراقي، فضاع كلّ أملي بالنجاة.


مع ابتعاد المروحية، توقّف القصف دفعة واحدة. لقد هُزمنا وسقط عناصر كتيبتنا بين شهيد وجريح وأسير. بيد أنّ قائد المروحية ومن معه أدركوا هذا وأعطوا الأوامر لقواتهم بوقف إطلاق النار.

عمّ السهلَ صمتٌ مهيب. كانت الشمس منتصبة في كبد السماء، تشعّ حرارة وتبعث دفئًا. لم نعد نسمع غير أنين "أكبر"، وقد تحوّل لون وجهه من الأصفر إلى الأبيض، ويبست شفتاه من العطش. كان علينا الانتقال إلى حيث باقي الرفاق، فرفعنا "أكبر"بصعوبة عن الأرض، وسار معنا مستندًا على كتفينا.

في الطريق، وقع نظري على جسد "محمود محمّدي" الّذي جاء ليلة العمليات لأكتب له: "مسافر كربلاء"، وقد سقط على الأرض منكبًّا على وجهه في حال السجود. لقد أصابت شظية كبيرة ظهره، حيث كتبت جملة "مسافر كربلاء". بدا لي أنّه لم يبق غير أنا و"حسن" و"أكبر" على قيد الحياة في ذلك السهل، وأنّ الجميع قد استشهدوا. كنّا نفكر في حيلة للنجاة من هذه الورطة، عندما أطلّ جندي عراقي من خلف الساتر الترابي مصوّبًا فوهة سلاحه نحونا. أدركت أنّ الجراح ليست كل شيء، وأنّ الاختبار الآتي سيكشف المجهول.

وداع الحرية
سُدّت جميع السُّبل في وجهنا إلّا سبيل الأسر. كان الاستسلام للاعتقال آخر ما يخطر في بال المقاتل. لكن عندما تنفد ذخيرتك، وتحاصرك دبابات الأعداء، ويوجّه جنودها فوهات بنادقهم نحوك، تدوّي فكرة الأسر في رأسك وتدفعك إلى الجنون.

لرؤية العدو عن قرب شعورٌ غريب، أن تشمّ رائحة عطره، وترى طراز ارتدائه
 
 
 
 
72

58

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 للملابس، ترى نظراته ولون بشرته، تسمع صوته ولغته ولهجته. ها هو عدوك الّذي طالما فكرت فيه، وحتى تلك اللحظة لم تر منه غير قذائفه وقنابله. إنّه على مسافة مترَيْن منك، يصوّب إليك فوهة سلاحه، ويطلب منك أن ترفع يدَيْك وتستسلم.


صوّب الجنديّ العراقيّ سلاحه نحونا أنا و"حسن"، وأمرنا بوضع "أكبر" على الأرض. بعدها راح يحملق بي مدهوشًا. كان واضحًا من نظراته أنّه لم يتوقع رؤية فتى نحيل في الـ16 من عمره، فربّما عمري وقامتي لا يتناسبان مع صورته الذهنيّة عن المقاتل الإيراني. اقترب منّا أكثر، وعندما وقع نظره على العصبة الخضراء اللّون المكتوب عليها "يا زهراء" المعقودة على قبّعتي الفولاذيّة، نهرني بخشونة وطلب منّي أن أنزعها. عندما اقترب أكثر لاحظت نظرات الشفقة باديةً منه. قال كلمات باللّغة العربية لم أفهم منها غير كلمتي: "طفل صغير". لقد أشفق عليّ، فاقترب منّي أكثر، وقبّل رأسي قائلًا: "الله كريم". لفظة أشعرتني بالأمان والبقاء على قيد الحياة، تمامًا ككلمة: "لا تخف" الّتي قلتها اللّيلة الماضية للأسير العراقيّ. وهل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟ سمعنا صوتًا من جهة جثث الشهداء الملقاة على التراب، كان صوتًا ضعيفًا لكنّه سماويّ، التفت الجندي العراقيّ مثلنا ليرى مصدر الصوت وماذا يقول. كان تعبويًّا أو ربما جنديًّا في الجيش الإيراني يتمتم آخر نجواه: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾.

أصغى العراقيّ مبهوتًا حتّى نهاية الآية. في تلك الأثناء، وصل جنديّ عراقيّ آخر. من النظرة الأولى، اتضح أنّه لن يكون كالجندي العراقي الأول على الإطلاق، فما إن رأى "أكبر" حتى صوّب سلاحه نحوه يريد قتله، فبدأنا بالتضرّع والاستجداء كي لا يقتله. رفعت يديّ نحو السماء وأقسمت عليه ألّا يقتله، حينها تقدّم الجندي الأول، تلاسن معه وأجبره على عدم قتله، فتركنا وانصرف. على مسافة
 
 
 
 
73

59

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 50 مترًا تقريبًا، كانت تسير مجموعة من قوّاتنا الّتي وقعت في الأسر، وخلفهم عشرات الجنود العراقيّين المسلّحين. تأخر "نجفي"، وهو عجوز في الـ60 من العمر من "بندر عباس"، عن القافلة. لم يشأ الاستسلام للأسر بأيّ شكل من الأشكال، لكنّه أُجبر على ذلك بعد نفاذ ذخيرته مثلنا. وعلى الرغم من ذلك، حوّل حجارة سهل "فرسيه" إلى سلاح وراح يرمي بها الجنود العراقيّين، وكان يخاطبهم باللغة العربيّة ويستمر بالمقاومة. وكأنّ هذا السهل تحوّل إلى أرض الطف، وهذا اليوم إلى العاشر من محرّم الحرام، وتحوّل هذا الرجل العجوز إلى "حبيب بن مظاهر"، على الرغم من التهديد وإطلاق النار بالقرب منه وعند قدمَيْه، صمد ولم يرضخ ولم يستسلم. حينها، نفد صبر العراقيّين الّذين حافظوا على رباطة جأشهم في عدم قتل أيّ أسير، ليس شفقة أو رحمةً، أو التزامًا بالعهود والمواثيق الدولية، وإنّما لأنّهم بحاجة إلى أسرى إيرانيّين لمبادلتهم بأسراهم العراقييّن في إيران. لكنّهم، في النهاية، وضعوا حدًّا لمقاومة هذا الرجل العجوز، وأمطروه بوابل من الرصاص.


أول صفعة في الأسر
ابتعدت قافلة الأسرى عنّا شيئًا فشيئًا. أراد الجنديّ العراقيّ أن ينقلنا إلى حيث باقي الأسرى، فراح يشير إلى أيّ ناقلة جند أو دبّابة مارّة بالتوقف، لكنّ أحدًا لم يتوقّف أو يرضَ بنقلنا معه. ربّما أراد فعل ذلك كي لا نقع فريسة زميله عديم الشفقة والرحمة. في النهاية، وُفّق إلى ناقلة جند تنقل ضابطَيْن عراقيَّيْن جريحَيْن إلى الخطوط الخلفيّة. وضعنا "أكبر" على سطح الناقلة الملتهبة جرّاء أشعة الشمس، جلس "حسن" قربه وجلست أنا قرب برجها. أوصى الجندي العطوف بنا جنديًّا آخر وانصرف. صعد الآخر أعلى ناقلة الجند، ونظر إلى "أكبر" الممدد بلا رمق وإلى "حسن". صفع "حسن" صفعه قويّة، ثمّ اقترب منّي ودون
 
 
 
 
74

60

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 أن ينبس ببنت شفة صفعني أيضًا. سقطت كفّه الثقيلة على وجهي، وأذاقتني شدّة مرارة الأسر.


تلازم الأسر والصفع. فالأسر مهما طال وأينما كان يبدأ بصفعة تعيدك إلى الواقع، تسرق الأمل منك بالنجاة والحياة، فلا يبقى لك ملاذ غير الله لتسلّم له أمرك وتخضع لمشيئته. للصفعة ألم وتحقير، والتحقير أشدّ إيلامًا. المُهين أكثر أنّني تلقّيت صفعة عدو غاصب لأرضي، داس بحذائه تراب وطني. ثمّة فرق كبير بين أن تُصفع من عدوّك على أرضك، وبين أن تُصفع منه على أرضه. لذا كانت تلك الصفعة على تراب "خوزستان" مؤلمة جدًّا.

جلس الجندي خلف الرشاش وأعطى الأمر للسائق بالانطلاق، لكن لم يكد يفعل حتّى ناداه جندي آخر من جانب الساتر، كي ينقل معه جريحًا عراقيًّا آخر. تمدّد العريف الجريح على سطح ناقلة الجند بالقرب منّي. كانت عيناه قد خرجتا من حدقتَيْهما ولم يكن قد مات بعد، ولا أظنّه سينجو. وصلنا إلى قافلة الأسرى الّتي تُنقل سيرًا على الأقدام، لم أستطع تمييز أحد من تلك الوجوه المتربة الدامية الّتي أُجبرت على وضع أيديها فوق رؤوسها علامةً على الاستسلام، كما أنّهم لم ينتبهوا لوجودنا. توقفتْ ناقلة الجند ثانية لتنقل معها ضابطًا عراقيًّا كان يصرخ ويولول ويذرف الدمع كطفل جرح يده بسكين. جلس بالقرب مني، فنظرتُ وإذا بكفّ يده قد تلاشى، ولم يبق منه غير بقايا جلد وعظم متشظٍّ. أظنّ أنّ قنبلة يدوية قد انفجرت في يده.

قرابة الساعة الثانية ظهرًا، توقفت ناقلة الجند، ترجّلنا منها لنُقادَ إلى شاحنة عسكريّة. عندما أصبحنا في الشاحنة، أسرع أحد الجنود العراقيّين نحونا وهو يحمل علبة حليب مجفّف فارغة، قد ملأها بالمياه وأعطاها لـ"حسن" بعدما رأى جريحًا معنا. سارت الشاحنة في طريق تحيط بها الأزهار الربيعيّة الصفراء
 
 
 
 
75

61

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 والأعشاب الخضراء الطويلة الّتي تجدها في جميع سهول "خوزستان" في هذا الفصل. كان الجندي المسلّح واقفًا في زاوية الشاحنة وينظر إلى جزعنا على "أكبر"، أشفق علينا وأخرج من جيبه منديل قماش نظيفًا، أعطاني إيّاه وأفهمني بالإشارة أن أرطّب به شفتَيّ "أكبر" الّذي لم يتفوّ بكلمة واحدة منذ وقت طويل.


وصلنا إلى المكان المقرّر بعد نصف ساعة، ترجّلنا من الشاحنة ومددنا "أكبر" على الأرض. بدا كأنه فقد وعيه، لكن من خلال اهتزاز جفنَيْه أدركنا أنّه ما زال على قيد الحياة وأنّه يتألمّ كثيرًا. في تلك اللحظة، نسيت آلام الأسر كلّها، وقلت في نفسي ليت"أكبر" كان سالمًا معافى عندها لا يهمّ ما سنتعرّض له من مصائب وبلايا. ساء وضعه جدًّا فنظرت إلى وجهه الشاحب، وإلى شفتَيْه الجافّتَيْن من شدّة العطش، وإلى عينَيْه المغمضتَيْن، ورموشه الطويلة الّتي غزاها التراب والغبار، فبدت أكثر طولًا وجمالًا. حينها تذكرت أخاه الأصغر الّذي جاء يوم الانطلاق إلى الجبهة يرجوه قائلًا: "أخي أكبر لا تذهب وتتركنا وحدنا"، كما تذكرت "أكبر" يوم الوداع الأخير في حقل الألغام عندما قال لي: "إن استشهدت فقبّل وجه أخي نيابةً عنّي". كان "حسن" حزينًا مثلي لكن ما باليد حيلة غير الدعاء، وأن تستجيب السيدة الزهراء عليها السلام وتغيث رفيقنا بشفاعتها عند الله.

وصل جيب عسكري يقلّ ضابطَيْن عراقيَّيْن قويَّيّ البنية، فقدّم الجنود العراقيّون لهما التحية العسكرية. من الواضح أنّهما كانا يتحدثان عمّا سيفعلانه بنا، لكن بدا من سلوكهما أنّهما لن يُقدما على قتلنا. بعدها تقدم أحد الضباط وأمرني أنا و"حسن" بركوب الجيب. فرحت كثيرًا إذ فهمت من ذلك أنّهم سينقلون "أكبر" إلى المستشفى ليعالج. ركبت أنا أولًا ثمّ "حسن" الّذي جلس بطريقة أفسح فيها المجال لـ"أكبر". لكن لدهشتنا أغلق الباب دونه، فاعترانا رعب واضطراب كبيران، وبدأنا باستعطاف واسترحام الضابط الّذي قال بعض
 
 
 
 
76

62

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 الكلمات باللغة العربيّة، ثمّ أشار إلى "أكبر" ووضع يده تحت رأسه، يريد إفهامنا أنّه سينقل إلى المستشفى، فهدأت سريرتنا واطمأنّ بالنا. انطلق الجيب العسكري، وما زال "أكبر" ممدّدًا على الأرض لا يعي ما يدور حوله ولا حتى أنّنا انفصلنا عنه. بقي وحيدًا بين الجنود بينما انطلقنا نحن إلى جهة مجهولة. عندما زاد الجيب سرعته، تأوّ "حسن" بحرقة وقال: "أوكلت أمره إليك يا إمام الزمان".


خلال الطريق، ومن شدة الحزن، لم نتفوه بأيّ كلمة. كنت أحاول أن أقنع نفسي أن "أكبر" سيتلقّى العلاج وسوف ألتقي به مجدّدًا في يوم من الأيام، لكنّني لم أستطع أن أقنع نفسي بهذه الآمال الكاذبة، وكذا كانت الحال مع "حسن" الّذي بدت عليه ملامح اليأس.

بعد أقل من ساعة، وصلنا إلى ساحة تحيط بها الدشم والمتاريس، نزلنا من الجيب، وكان العراقيون يقفون أمام دشمهم بملابسهم الداخلية، ونعالهم البلاستيكية، ينظرون بتعجب إلى مقاتل يبلغ 16 عامًا. كانوا يشيرون إليّ ويضحكون، حتى إنّ أحدهم أسرع إلى الدشمة وأحضر آلة التصوير ليلتقط الصور لي.

وضعت يدي فوق رأسي، وسرت إلى حيث أشار الضابط العراقي، وقد تركوا "حسن" أمام سيارة الجيب، فخمّنت أنّهم سيأخذونني إلى دشمة القيادة للتحقيق.

كنت أينما مررت، اجتمع الجنود العراقيون للنظر إليّ، فهم لم يروا جنديًّا، بل وأسيرًا في هذا العمر. ربما الحق معهم، لكنّني استأت كثيرًا من ذلك، خاصة وأنّ الأمر تعدّى الدهشة والتعجب إلى التحقير، أو على الأقل هذا ما تبادر إلى ذهني. شعرتُ أنّه عليّ إظهار ردّة فعل ما كي أفهمهم أنّني لست خائفًا، بل على
 
 
 
77

63

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 العكس أنّني شجاع، لكن كيف السبيل إلى ذلك؟ لم أجد أي فرصة أو حيلة للتعبير عن شجاعتي وجرأتي غير النظر إليهم بغرور والسير بتكبر. رفعتُ رأسي ونفخت صدري ورحت أسير بخطى ثابتة خلف الضابط العراقي.


التحقيق
كان ظنّي في مكانه، إذ وصلنا إلى دشمة كبيرة حصينة، وللدخول إليها وجب علينا عبور ممرّ ضيّق وطويل. لم تكن الدشمة من الداخل تشبه أيًّا من دشم قياداتنا، فيها طاولة خشبيّة كبيرة وحولها عدد من الكراسي، يجلس على رأسها عقيد بلباسه الأنيق، وفي مقابله ملازم شاب. نظر العقيد إليّ نظرة متفحّصة، ثمّ سأل الضابط الّذي أحضرني بضعة أسئلة، بعدها عاد للتحديق بي وقال بلغة فارسيّة يمكن فهمها بصعوبة بالغة:
- ما اسمك؟
- أحمد.
- اسم الأب؟
- محمّد.
- لماذا جئت إلى الحرب؟

لم أجب. فأشار العقيد إلى الملازم الجالس قبالته، وقال: "هذا سيّد من أبناء الإمام علي عليه السلام وأنا أيضًا أزور الإمام الحسين عليه السلام باستمرار، فلماذا تحاربون أبناء الإمام علي عليه السلام؟".

أيضًا لم أجب. فبدأ بطرح الأسئلة العسكريّة:
 
 
 
 
 
78

64

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 - كم عدد قوّاتكم في الخطوط الخلفيّة؟

- لا أدري، كنّا كتيبة واحدة أكثرنا استشهد أو أُسر.
- كم دبابة كانت لديكم؟
- أنا من المشاة، وقد أحضرونا ليلًا إلى الخط ولم يكن لدينا أيّ دبابة.
- من هو قائدكم؟ وهل أسر أيضًا؟

كان سؤالًا صعبًا، فقائدنا "أحمد شول" ومعاونه "محمد رضا حسني سعدي" عندما حوصرنا لم يكن "أحمد شول" بيننا، لكنّني رأيت "حسني سعدي" قبل ساعة من الوقوع في الأسر. كنّا قد تعلّمنا خلال التدريبات العسكرية كيفيّة التصرّف إذا ما وقعنا في الأسر، فقلت له:
- قائدنا رحيم طالقاني وقد استشهد صباح اليوم.

لم أكذب، فـ"رحيم طالقاني" كان قائد فصيلنا، وقد استشهد قبل بضع ساعات.
- الويل لك إن كنت تكذب، سأجعلهم يعدمونك!
- لا لست كاذبًا.
- إذا أطلقنا سراحك هل ستذهب إلى أمّك، ولا تعد لمحاربتنا؟

لم أجب عن هذا السؤال فانتقل إلى أسئلة اقتصاديّة:
- يوجد قحط في إيران صحيح؟ وكلّ السلع تباع ببطاقات التموين صحيح؟
- صحيح، أصبحت جميع السلع تباع بالبطاقات التموينية. قبل ذلك كان التجار يحتكرون البضائع، أما وقد أصبحت بالبطاقة التموينية، فبات بالإمكان تأمين وشراء كل ما نحتاج.
 
 
 
 
79

65

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 لقد تعلمت كلّ ذلك في الجبهة. كان العقيد يترجم بعض كلامي للملازم، وهذه المرة قال شيئًا مضافًا إلى كلامي وضحك الاثنان ثمّ سألني:

- هل يبيعون المشروبات الكحولية في إيران؟
- لقد منع بيعها بعد انتصار الثورة.
- لكن الشعب الإيراني يشرب البيرة (الفقاع) كثيرًا.
- غير صحيح.
وكأنّما اكتشف العقيد أمرًا مهمًّا، فقال بلهجة ممزوجة بالاستهزاء: "بلى! البيرة الإسلامية، لديكم بيرة إسلامية في إيران. لكن كيف للبيرة أن تكون إسلامية وغير إسلامية؟"، ثم غرق الاثنان في الضحك.

أوائل انتصار الثورة، أقفلت مصانع البيرة وكي تحافظ على إنتاجيتها وعدم إفلاسها، راحت تنتج "ماء شعير" خاليًا من الكحول، ولا حرمة شرعية في شربه. لكن عامة الناس أسموه "بيرة إسلامية"، وقد سمع العقيد بهذا الاسم لذا اضطررت أن أوضح له ذلك ببضع كلمات ومعها انتهى التحقيق.

عدت من حيث أتيت، وجاء دور "حسن" للتحقيق؟ وبعد أن عاد عصّبوا أعيننا وانطلقوا بنا إلى جهة ما. كان السير بعينَيْن معصوبتَيْن على أرض ترابية غير ممهّدة، صعبًا للغاية لكننا وبمساعدة إرشادات الجنود العراقيّين تمكّنّا من السير قدمًا.

هبطنا منحدرًا بسيطًا ثمّ جلسنا على الأرض. قال الجندي شيئًا، ثمّ صمت ولم نعد نسمع أي صوت غير أصوات جنود عراقيين حملتها الريح من بعيد. لم أستطع تكوين فكرة عن المكان الّذي نجلس فيه، إذ لم نكن نشعر بشيء غير
 
 
 
 
 
80

66

القسم الثّاني: نهاية الانتظار

 الرياح الّتي كانت تهبّ فتؤدي إلى تساقط الأتربة من الحائط الّذي اتّكأنا عليه. كان التراب يتغلغل في شعري ورائحته النافذة تملأ حلقي. يا لها من عاصفة خلف هذه العصبة السوداء!


بقينا هناك أكثر من ساعة، تعبت قدماي فتحرّكت قليلًا لأعدّل جلوسي فاصطدم مرفقي بأحدهم:
- هذا أنت يا حسن؟
- أجل هذا أنا يا أحمد.
- هل ما زال الجندي العراقي هنا؟
-لا، أعتقد أنه ذهب. هل ضربوك أثناء التحقيق؟
-لا، ماذا عنك؟
-لا، لم يكن تحقيقًا قاسيًا، لقد مرّ الأمر بسلام حتى الآن، الاتكال على الله.
-"حسن".
- نعم.
- برأيك إلى متى سنبقى في الأسر؟
- الله العالم.
- أعتقد أنّ مدة أسرنا ستطول ربما سنة أو أكثر.
- لتكن مشيئة الله.

مع سماعنا صوت أقدام متجهة نحونا توقفنا عن الكلام.
 
 
 
 
 
81

67

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة


ركبنا الجيب العسكري ذاته. في الداخل، أزالوا العصبة فرأينا أنّنا نتجه غربًا. وصلنا قبل غروب الشمس بساعتَيْن إلى سهل منبسط، جُمع فيه أسرى كتيبتنا والكتائب الأخرى موثوقي الأيدي على الأرض. نزلنا وجلسنا معهم، كانوا في وضع مزرٍ، ثياب ممزّقة وشعر مبعثر، وجوه متربة وأبدان دامية، منهم الجالس، ومنهم الممدّد على الأرض وسط حلقة من الجنود العراقيّين ذوي القبعات الحمراء.

بدايةً، لم أميّز أيًّا منهم، لكن رويدًا رويدًا عرفت "محمّد رضا حسني سعدي" معاون كتيبتنا، وفي الجانب الآخر "مجيد" و"رسول ضيغمي" ابنا العم الكرمانيّان، "محمّد رضا أشرف"، "علي محمدي" و"سلمان زاد خوش". اجتمع رفاق الخيمة ثانيةً، ولم يكن ينقصنا غير "محمود محمّدي" و"أكبر دانشي". أُصيب "حسني سعدي" برصاصة في البطن، كما أصيب كلّ من "مجيد" و"سلمان" بشظيّة.

وصلتْ قبيل المغيب 10 شاحنات "آيفا"، فتعالت همهمات الجنود العراقيّين، وما لبث أن صدر الأمر بترحيل الأسرى. ساقونا بعنف إلى الشاحنات، ومن يتأخر عن الركوب، يُضرب بأعقاب البنادق على وجهه وعنقه، كما أُلقي الجرحى في قعر الشاحنة دون أيّ اكتراث لحالهم الصحيّة. حاولت أن لا أبتعد
 
 
 
 
 
83

68

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 عن "حسن" فأسرعنا معًا نحو أوّل شاحنة وركبنا فيها.


عندما امتلأت الشاحنة بالأسرى، صعد إليها أحد الجنود العراقيّين المسلّحين، وجلس بالقرب منّي. كان في الثلاثين من العمر تقريبًا، وعلى عكس باقي الجنود، كان أبيض البشرة ذا وجنتَيْن حمراوتَيْن ممتلئتَيْن، وقد فاحت رائحة عطره في الأرجاء. ما إن تحركت الشاحنة حتّى سألني بالفارسيّة: "ما اسمك؟"
- أحمد.
كانت نظرته إليّ تنمّ عن الشفقة، وتفحّصني بعينَيْه من رأسي إلى أخمص قدميّ، ثمّ هزّ رأسه كأنّما لسان حاله يقول: "أسفي عليك لأنّك قاتلت وأُسرت وأنت ما زلت صغير السنّ".

نظرات الشفقة هذه ذكّرتني بالجندي العراقي الأول الّذي التقيته عند الساتر الترابي. نظرات الشفقة من الجندي الأول، نظرات التعجّب من الجنود العراقيّين منذ حوالي الساعة، كلام القائد العراقي في الدشمة، وقلب هذا الجندي الشفيق حارس الشاحنة، جعلني أتأكّد أنّ ملامحي وقامتي لا تدلّان على أنّني مقاتل، وربما كان الحق مع الحاج "قاسم سليماني" عندما أراد إخراجي من صف المتطوعين. لكنّ الأوان قد فات. احترمت آراءهم جميعًا، لكنّني أظنّ أنّ القامة والبنية الجسدية القوية كانتا مطلوبتَيْن في الحروب القديمة الّتي يتوجب فيها على المحارب ارتداء الدروع الحديديّة والخوذات وحمل السيف. لكن في أيامنا هذه، فإنّ الشبان أمثالي يصبحون بلباس عسكريّ فضفاض، وحذاء رياضي مع "كلاشينكوف AK"، ودورة تدريبيّة مكثّفة لشهر واحد، مقاتلين يشاركون في فكّ حصار آبادان وتحرير بستان وسوسنكرد في عمليّات الفتح المبين، ويستعدّون لتحرير خرمشهر من قبضة الغاصبين في أقرب فرصة.
 
 
 
 
 
84

69

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 كانت الشاحنة تنهب الأرض نهبًا متجهة إلى الغرب. في لحظات الغربة تلك، لربّما كان من الطبيعي بل ومن المنطقي أن يتملّكني الخوف من المصير الّذي ينتظرنا، أضف إلى ذلك غمّ البعد عن البيت والعائلة مع احتمال عدم رؤيتهم ثانية، ثمّ تصوّر التعذيب الّذي سنلقاه في الأسر، وغيرها من الشجون والأحزان. لكن في الحقيقة، لم أفكّر في أيّ من هذه الأمور في تلك اللّحظة.


كنت أفكّر في الطريق الّتي سلكوها بنا، والّتي لا نهاية لها، بالسهول والسهوب المحيطة الّتي تسلكها آليات العراقيّين، بالدشم والمتاريس الّتي بناها الأعداء هنا وهناك، وكأنّما هذه الأرض ليست إيرانيّة! في سنّي تلك، وعلى الرغم من الظروف الصعبة الّتي أمرّ بها، كنت أفكر في ما يفعله هؤلاء الغرباء في أرضي. كيف سمحوا لأنفسهم بالدوس على تراب وطني؟ وكلّما سرنا أكثر كلّما ازددت غيظًا. متى نصل إلى الحدود؟ وكيف تمكّن العدو من احتلال كلّ هذه المساحات الشاسعة؟ لقد تملّكني الحسّ الوطني في تلك اللّحظة بنحو غريب.
- خال أحمد.

كان ذلك صوت الجندي العراقي الجالس قربي، التفتُّ إليه، كان يريد أن يقول شيئًا ما، لم ينتظر جوابي وقال: "أشكر الله أنّك لم تُقتل".

عندما قال ذلك أدركت أنّه ليس عربيًّا، تابع قائلًا: "على الأقل لن تقتل في الأسر، أليس هذا أفضل؟". وكي أظهر التودّد له قلت: "أجل"، فأضاف: "ففي يوم ما ستنتهي الحرب ويطلق سراحك، بينما لو قُتلت فماذا كانت ستفعل المسكينة أمّك؟!".

لم أملك جوابًا حينها، فمنذ 48 ساعة لم يغمض لي جفن، وأثقل النعاس رأسي والحُرقة عينيّ ودبّ الخدر في أطرافي من شدةّ الإرهاق. لكنّ الجندي
 
 
 
 
85

70

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 العراقي ما انفكّ يحدّثني عن منافع الأسر وأنّه أفضل من القتل. كم وددتُ في تلك اللحظات لو كنت في مزاج جيّد، لأخبره أنّ ما تسمّيه "قتلًا" وتخاف منه بل وتخيفني منه، نسميه في بلدنا "شهادة"، وأنّ أحدًا لا يخاف منها، بل على العكس يتوسلون الله كي يرتقوا إلى ذلك المقام السامي. لكنّ النعاس والإرهاق لم يسمحا لي بالردّ بالشكل اللّائق، على الأقل تعبيرًا عن امتناني لمشاعره الإنسانيّة. فكيف بي بشرح الفرق بين الموت والشهادة؟ التفت الجندي الكردي العراقي العطوف لحالي وتعبي، قال جملة أخيرة وتركني وشأني:

- عندما نصل إلى البصرة سيقدّمون لكم الطعام والماء.

بعدها لم أعد أعي شيئًا. عندما مرّت الشاحنة فوق إحدى الحفر، ارتطم رأسي بالقضبان الحديديّة ففزعت من نومي، وكأنّما الجندي كان ينتظر هذه اللّحظة، فقال:
- خال أحمد! انظر هذه حقول نخيل البصرة، انظر ما أكثرها!

استمرّ عبور الأسرى بالقرب من حقول نخيل شبيهة بنخلات قريتنا الصيفيّة "موردان" الّتي كنّا نذهب إليها صيفًا لجني محاصيل البلح والحمضيات، وتداعت الذكريات.

موردان
ما إن تُقفل المدارس أبوابها حتّى يبدأ العدّ التنازلي للذهاب إلى "موردان". وحين يرسلون الدّفعة الأولى من الأمتعة يزداد شوقنا وحماسنا. في اليوم الموعود، نعتلي الأمتعة على الجرارات الّتي تعبر مضيق "دُلوُل"، وكنّا نرجو السائق التوقّف قليلًا، لنصرخ ونسمع ترجيع صدى أصواتنا في الجبال. كم وددت أن أحفر اسمي على صخور المضيق للذكرى، لكن هدير محرّك الجرار
 
 
 
 
86

71

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 المؤذن بالانطلاق، كان يحول دومًا دون تحقيق هدفي. وللتسلية طوال الرحلة، كنت أقرأ الأسماء والعبارات المحفورة على الصخور مع تاريخها.


عندما نصل إلى "موردان"، نجد أنّ "خير الله" البستاني الطيّب، قد جهّز لنا الأكواخ المصنوعة من جذوع وسعف النخيل لإقامتنا المؤقّتة هناك، يستقبلنا بذبح شاة تطبخها زوجته "سوسن" المشهورة بمهارتها في الطهو.

كان أصحاب الحقول والبساتين، حتى منتصف شهر آب فصل جني محاصيل البلح واللّيمون الحامض، يصلون تباعًا إلى "موردان". حينها كان صوت شاحنات "المرسيدس بنز" يخرق عنان السماء مرّة أو مرّتين يوميًّا، فترتسم علامات الفرح على وجوه أولاد القرية، فالشاحنات تأتي محمّلة ببضائع وسلع التجار، أصحاب الدكاكين من قريتي "بافت وبزنجان"، حيث يستقرّون في القرية حتّى أواسط شهر أيلول، وقت انتهاء فصل قطاف البلح واللّيمون الحامض. في كلّ عام، يملأ "شكر الله" أحد تجار"موردان" القدامى غُرف دكانه القديم بأنواع السلع والبضائع، يعلق الميزان الكبير لوزن اللّيمون الحامض على جذع نخلةٍ في سقف الكوخ قبالة دكانه، ويصفّ الخوابي الزجاجية الكبيرة داخل الكوخ بانتظار إعلان مختار القرية بدء موسم القطاف بشكل رسمي. حينها تُملأ الخوابي بعصير اللّيمون الحامض لتُباع بعد ذلك في المدن.

كان منزلنا (كوخنا) كجميع المنازل على الضفة الشرقية لنبع المياه الجميل، الّذي يجري وسط "موردان" لتغور مياهه في الرمال قبل الوصول إلى مراعي "فارياب"، بينما تمتدّ على الضفة الغربية للنبع بساتين اللّيمون الحامض، اللّيمون الحلو، البرتقال والنخيل.

كانت أشجار البساتين كثيفة ملتفّة، نمت بينها شجيرات توت العلّيق، مشكّلةً مأوى للخنازير البرّية الّتي يُسمع صوتها بين الحين والآخر. لذا لم أكن
 
 
 
 
 
87

72

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 أجرؤ على الذهاب وحيدًا إلى هناك. وحدث أن هاجمتْ الخنازير أهالي القرية مرّات عدّة، ناهيك عن الدببة الّتي تسرح ليلًا، والّتي أطلق صيّاد القرية "داد محمّد" النار على أحدها من أعلى شجرة النخيل فقتله.


يعدّ موسم قطاف الليمون من أجمل أيام "موردان"، حيث تزدهر حركة البيع والشراء في الدكاكين المنتشرة على طول الضفة، ويأتي أطفال قريتَيّ "موردان" و"باسفيد" بأحمال اللّيمون ليفرغوها في موازين الدكاكين، أو فوق الأكوام على أرضها. كانت رائحة اللّيمون الطيّبة تفوح في أرجاء القرية وخاصة في الدكاكين. وكان الأطفال يشترون مقابل كلّ حملٍ يضعونه في ميزان "شكر الله" الشوكولاتة، البسكويت والبالونات. كما يوجد في دكان "شكر الله" أنواع القماش، حبيبات السكر وكتل السكر الهرمية (سكر مرودشت)، صابون كلنار، المصابيح الإلكترونية اليدوية الّتي لطالما تمنيت شراء أحدها، لكن لا يمكن ذلك لأنّ شراء واحد منها يستلزم بيع 30 كلغ من الحامض. كانت الدكاكين تفتح حتّى ساعة متأخرة من الليل، كما تنعكس أنوار مصابيح الشاحنات الّتي تعمل على تحميل السلع ليلًا على الجبال المحيطة. كان الأولاد يلعبون بمصابيحهم اليدوية الصغيرة ليلًا، وفي النهار يسرحون في الحقول والبساتين الّتي تضج بأصوات العمال وهم يحملون القضبان الطويلة، يضربون بها أغصان أشجار اللّيمون لتتساقط ثمارها. وكان يحضّهم صاحب البستان على الإسراع في العمل، فيصلّي بين الفينة والأخرى بصوت عال على محمّدٍ وآل محمّد.

يقطف العمّال ثمار اللّيمون من الأغصان المليئة بالأشواك الحادة حتى آخر ثمرة، وتقوم النساء على الأرض بجمعها في سلال خاصّة مصنوعة من سعف النخيل، ثمّ يفرغونها في أكياس الخيش ليحملها العتّالون إلى حيث تُكوّم. عند الغروب يأتي المشترون مع الموازين المعدنية، فيزنون أكياس اللّيمون ليحملها
 
 
 
 
88

73

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 الحمّالون بعد ذلك إلى الشاحنات المنتظرة على الضفة، ويعطون صاحب البستان إيصالًا بالمبلغ، ليذهب ويستلمه في المدينة بعد أيّام عدّة.


يستمرّ مرحنا وفرحنا حتى أواسط شهر أيلول، حيث نعود إلى القرية بملابس بيضاء جديدة اشتريناها من دكان "شكر الله" لنذهب بها إلى المدرسة مباشرة.

البصرة
لا أدري كم قطعنا من الطريق عندما شعرت بيد أمسكت كتفي، كأنّها قبضت على طائر خيالي من فضاء الطفولة إلى قيود القهر. كان الجندي نفسه، لقد وصلنا إلى مداخل مدينة "البصرة" فأصرّ أن أرى شوارعها ومنازلها.

- خال أحمد استيقظ، لقد وصلنا إلى البصرة. انظر إلى الناس.

مالت الشمس للغروب، وكان الرجال يسيرون على الأرصفة باللّباس العربي، دشداشة وعقال، بينما تقف النسوة بعباءاتهنّ السوداء أمام مداخل المنازل، يتجاذبن أطراف الحديث. هنا، تجري الحياة عاديّة كجريان النهر غزير المياه والهادئ الّذي يمرّ وسط البصرة، فتتهادى المراكب واليخوت على سطحه. الحياة تجري والنهر يجري، وكذا الرجل الّذي يحمل كيسًا من البندورة على الجسر، حيث يمكن من هناك مشاهدة مدينة "البصرة" بشكل أفضل. الرجال والنساء والأطفال يتنقّلون في السيارات، والأولاد يلعبون بدشداشاتهم كرة القدم في الملاعب الترابية. الحياة تجري هنا، والنهر يجري. الجميع أحرار يذهبون حيث يشاؤون، وهاك ولد يحمل الخبز الطازج والساخن، لعلّ العائلة تجتمع حول مائدة العشاء دون وجل أو خوف أو قيد، ودون قلق من مستقبل مظلم ومبهم. سأغبطهم حينها على تلك اللحظات. توقفت القافلة على جسر "البصرة" الكبير، وانتبه المارّة إلى أنّ
 
 
 
 
89

74

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 الشاحنات المواكبة بسيارة الـ"ستايشن" ذات الزجاج الملوّن "فيميه" تنقل أسرى إيرانيين فتحلّقوا حولها.


تقدّمت سيّدة عربيّة ترتدي عباءة سوداء، وبين حاجبَيْها وشمٌ من نقاط عدّة، عندما رأت الأسرى الجرحى عضّت على بنان إبهامها وخدشت وجنتَيْها بأظافرها ثمّ ضربت كفًا بكف، زفرت آهة ورفعت رأسها إلى السماء بالدعاء، ثمّ مسحت بطرف عباءتها قطرات دمع تجمعت في مقلتَيْها، وقالت بصوت سمعته: "الله كريم"، ثمّ انسلّت من بين الجموع وابتعدت.

تقدّم رجل أصلع الرأس، أشعث اللحية، تنمّ عيناه عن القسوة. أبعد الجموع ووقف قرب ماسورة سلاح الجندي، تفوّه ببضع كلمات، يبدو أنّها شتائم، ثمّ مرّر سبابته بحدّةٍ على عنقه ومدّ لسانه. كلّ تلك التصرفات دلّت على أنّه يقول: "أيها الملاعين، تستحقون الذبح جميعًا". ثمّ جمع بصاق فمه وقذفه داخل الشاحنة ورحل. كان بين الجموع فتى بمثل عمري تقريبًا، حاول جهده أن يدنو مني ووقف قرب الجندي، ثمّ بدأ بمدّ لسانه للسخرية مني، لكنّني لم أقف مكتوف اليدَيْن، على الرغم من أنّهما مقيّدتان فعلًا، فمدّدتهما أقصى ما استطعت وقلت له: "اغرب عن وجهي أيها الحقير"، بالفارسيّة طبعًا.

خاف الصبي وتراجع عن ذلك الشجار والنزاع الصبياني، فانتهت حرب صبيانية بين مراهقَيْن من بلدَيْن متحاربَيْن.

ليلة في بئر الوحشة (البصرة)
عندما انطلقت قافلة الأسرى مجدّدًا، كان الظلام قد حلّ، وأضاءت السفن في النهر مصابيحها. شعرتُ بضيق شديد، كان "حسن" أيضًا غارقًا في أفكاره، يراقب انعكاس أضواء المدينة على صفحة النهر الّذي يبدو كأنّ مياهه قد توقفت عن الجريان.
 
 
 
 
90

75

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 ضربتُ بمرفقي على خاصرته وقلت: "هل هذه الّتي تسمى بليلة الوحشة؟"، ضحك ضحكة جافّة منهكة مفعمة بالغمّ، ثمّ تنهّد وقال: "لا نعلم أين هو أكبر؟ إلهي احفظه أينما كان!"، وعُدنا للصمت من جديد.


عبرتْ الشاحنات شوارع البصرة الّتي خفّت الحركة فيها، ووقفت تلو بعضها أمام إحدى الثكنات العسكرية. نزلنا لنعبر بابًا حديديًّا مشبكًا وضخمًا، قد رصفوا أمامه صناديق مليئة بالتفاح والخبز إلى جانب عدد من المصوّرين باللباس العسكري، الّذين أغرقوا المكان بأنوار مصابيح كاشفاتهم. كانت الكاشفات مسلّطة على صناديق التفاح والخبز، فلم نتمكّن من الهروب من عدساتهم.

أخذت تفاحة كبيرة ورغيفًا من خبز "السمون". ثمّ سرنا في ممرٍّ من الجنود لنصل إلى قاعة كبيرة. لقد وضعوا كل 100 أو150 أسيرًا في قاعة، ثمّ أغلقوا الباب ووضعوا عليه قفلًا كبيرًا.

عندما يُقفل عليك باب حسن لأوّل مرّة في حياتك يتملّكك شعور بالغربة، وكأنّما القفل يتحدث إليك قائلًا: "أنت محروم من الحياة إلى حين! فابقَ هناك حتّى حين تقرير مصيرك".

كانت أصوات إغلاق الأبواب الحديدية ووضع الأقفال فيها تثقب الآذان، وصوت إطباق القفل "تك" يبعث على اليأس. لقد سمعتُ هذا الصوت آلاف المرّات والمرّات.

جلسنا على أرض القاعة الاسمنتية، وسُنحت لنا الفرصة كي نكسر جدار الصمت الإجباري الّذي استمر 7 ساعات، وتحدّثنا عما يخبّئه لنا القدر. لكن قبل ذلك، كان علينا إنهاء صومنا الّذي استمر 24 ساعة فتناولت بيدي الّتي جفّت عليها دماء "أكبر"التفاحة وقضمتها، لكن الخبز لا يمكن أكله أبدًا.
 
 
 
 
 
91

76

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 معراج الصلاة

ارتفع صوت الأذان من جانب القاعة، تيمّمتُ ووقفت للصلاة في نفس اتجاه المؤذّن. أَمّ الصلاة "علي صالحي" المقاتل أسمر البشرة من "بندر عباس"، فاصطففنا خلفه وصلّينا بملابسنا الملوثة بالدّماء. بين الفريضتَيْن، انتبهت إلى أنّ الجنود العراقيّين ينظرون إلينا بتعجّب من خلف النوافذ، فقد أقنعهم قادتهم أنّ الإيرانيّين مجوس يعبدون النار. لذا تعجّبوا كثيرًا من رؤيتنا نركع ونسجد ونكبّر. بعد الصلاة سألني أحدهم: "هل أنت مسلم؟"، فأجبته: "أجل مسلم!"، قال: "الإيرانيون مجوس!" فلم أجبه. وما إن ابتعدت عن النافذة حتى فُتح باب القاعة ودخل جنديّان عراقيّان مسلّحان، ذهبا مباشرة إلى "علي صالحي" وأخرجاه بالركل والضرب. بدأ يظهر الوجه الحقيقي للأسر. دعوتُ لنجاة الشاب، وبعد دقائق أعادوه إلى الزنزانة برأس ووجه داميَيْن متورّمَيْن، كي لا يفكّر ثانية في إقامة صلاة الجماعة. تحدثت مع "حسن" حول الأسر ومرارته، ثمّ تمدّدنا على الأرض الإسمنتية الصلبة والباردة، وغططنا في سبات عميق كأنّنا ملوك متوسّدون ريش النعام.

في منتصف الليل، استيقظنا على أصوات الجنود العراقيّين وصرير الأقفال. كان علينا الذهاب إلى التحقيق الواحد تلو الآخر. كان في غرفة التحقيق ضابطان عراقيّان مع مترجم، طرحا علينا أسئلة مشابهة لتلك الّتي سألنا إيّاها الضابط في الدشمة ظهرًا، حاولت أن أعطي الإجابات نفسها كي لا أتعرّض للمشاكل. أخبرتهم أنّ قائدنا قد استشهد، وبسبب الظلام الدامس لم أر الدبابات والآليّات الأخرى، كما لا أعرف عدد قواتنا المشاركة. وليتأكّد الضابط أنّي أقول الحقيقة وقف أمامي، رفع كفّه الثقيلة وصفعني على أذني، شعرت وكأنّه وضع سلكًا كهربائيًّا عالي التوتر على عيني، وضربتْ أذني عاصفة هوجاء: "أوو... أوو... أوو ...". كانت هذه ثاني صفعة أتلقّاها في الأسر، الأولى في أرض الوطن والثانية
 
 
 
 
 
92

77

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 في أرض الأعداء، الأولى أدمت قلبي والثانية أصمّت أذني. أعاد الضابط طرح الأسئلة ليتأكّد إن كانت الصفعة قد آتت أُكلها، لكنّني لم أغيّر أقوالي. دوّن مشخّصاتي أنّي عنصر في التعبئة الشعبية، ثمّ رماني خارج الغرفة. جاء دور "حسن"، هو أيضًا كرّر الإجابات نفسها، ثمّ تلقّى بعض الركلات واللّكمات وأُعيد إلى الزنزانة.


استطعت حينها العودة إلى النوم، حتّى ألم أذني لم يحُل دون إطباق جفنيّ والنوم على ريش النعام من جديد.

أوّل صبح في الأسر
صدح الأذان من مسجدٍ قريبٍ. استيقظنا جميعًا، تيمّمنا ووقفنا للصلاة، لكنّ هذه المرة ليس لصلاة الجماعة. مع شروق الشمس، شعرت بالجوع ولا أثر لطعام الفطور، لكنّهم سمحوا لنا بالذهاب إلى المرحاض. حوالي الساعة العاشرة، جلست أسفل النافذة، ووجدت على حافتها علبة زرقاء اللّون كتب عليها بالعربية "جبن". لم أكن أعرف معنى هذه الكلمة، وتأملت أن يكون فيها ما يؤكل. أردت فتحها لكنّنا لا نملك أداة لذلك، فقد أخذوا منّا الليلة الماضية ساعاتنا، خواتمنا وحتّى قلادتنا العسكرية. لذا أرجعتها مكانها، ولمّا اشتد جوعي أخذتها ثانية، وتذكرت أنّ قلادتي ما زالت معي، فالسجّانون لم ينتبهوا لها اللّيلة الماضية. لكنّ القلادة ليست حادة بما يكفي لفتح العلبة، لذا رحت أحفّها في الأرض الاسمنتية حتّى صارت كحدّ السكين وفتحت العلبة. كان في داخلها جبن لكن ليس من النوع الّذي اعتدنا على أكله في "إيران". كان قاسيًا كالبلاستيك مع هذا فضلت تناوله على الجوع. لكن كلّ ما حصلت عليه منها هو تعلّمي لمعنى كلمة "جبن" فحسب، وهي أوّل كلمة عربية تعلمتها في الأسر.
 
 
 
 
93

78

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 نحو بغداد

عند الظهر، دخل جنديّ يحمل كيسًا من الخبز وسطل مياه، ولا أثر للتفاح الّذي كان من أجل التصوير التلفزيوني فحسب. تناولنا الخبز والماء على الغداء، ثمّ أدّينا صلاتَيْ الظهر والعصر. بعدها سمعنا أصوات حرّاس السجن وأنباء عن الانتقال إلى مكان آخر، ورأيت من النافذة الحافلات وسائقيها باللّباس العسكري في الانتظار. لم أكن أبتعد عن "حسن" كي لا أفترق عنه. وعندما نادوا باسمه، خرج وبقيت وحدي فاضطربت كثيرًا. لكنّهم ما لبثوا أن نادوا باسمي بطريقة غير مألوفة عندي: "أحمد محمد يوسف يوسف زاده". سرت بسرعة نحو الحافلة الّتي أشار إليها الجندي، وما إن صرت في داخلها حتّى سمعت صوتًا يناديني، كان هذا "حسن"، فجلست في المقعد المجاور له وتنفّست الصعداء.

غادرنا "البصرة" عند الغروب مكبّلي الأيدي، لكنّ وجود "حسن" قربي منحني الشعور بالأمان والطمأنينة. كان كالأخ الأكبر يهتمّ بي وبكلّ شؤوني. جلس "حسن" يراقب الغروب القاني وقد علت ملامحه مسحة من الحزن. في تلك اللّحظات، رحت أفكر في ما يحدث وسيحدث في الأيام اللاحقة في منزلنا، بأمي ونواحها على "آخر العنقود". كما فكرت في أختي الوحيدة "فاطمة" الّتي ستتحمّل هموم وعبء العائلة بأكملها، وفي إخوتي السبعة الودودين الّذين يكبرونني سنًّا. بالتأكيد، إنّ أخبار العمليات الواسعة في الجنوب قد طرقت أسماعهم، وعلموا أنّني شاركت فيها. وإذا لم أعد إلى المنزل خلال يومٍ أو يومَيْن، فإنّ "يوسف" و"موسى" سيجوبان الجبهات والمستشفيات ومراكز "معراج" بحثًا عنّي لمعرفة مصيري. ليتني أستطيع أن أخبرهم بما حلّ بولدهم ابن الستة عشر ربيعًا.
 
 
 
 
94

79

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 وقع نظري على "محمّد آب بيكر"1 الأسير الخوزستاني، الّذي انطلق من مخيم "منكوبي" الحرب في "كرمان"، وتطوّع للمشاركة في الحرب. كان مضمّد الرأس، ملقًى على أرض الحافلة بلا رمق، ولا أظنّ أنّه سينجو. انحنى أحد الأسرى فوقه، وحدّق به مليًّا ثمّ قال: "لقد فارق الحياة". خرجت زفرات وآهات حزينة من صدور الجميع على فراق "محمّد" في هذه الغربة، لكنّ أسيرًا آخر تقدّم منه ووضع أذنه على صدره، مكث قليلًا ثمّ قال: "لا، لم يمت، ما زال قلبه ينبض"، ففرح الجميع.


مرّت الحافلة بالقرب من بيوت ومزارع القرى الخصبة الغنّاء الواقعة على أطراف طريق عام "البصرة" - "بغداد". كان المزارعون في طريق العودة من حقولهم وثيرانهم محمّلة بأكوام العلف. كم تمنيت لو يتوقف السائق، فأنزل وأعيش في بيت من تلك البيوت الطينيّة وأرتاح من غمّ الأسر، لكن ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه. كانت الحافلة تشقّ طريقها مسرعة عندما جذب أحد الأسرى أفكارنا المبعثرة المشتّتة إليه قائلًا: "صلّوا على محمّد وآل محمّد!". رفع الجميع صوته بالصلاة، ما أثار فضول العراقيّين فأمرونا بالسكوت. وقال أسير آخر: "لسلامة جنود الإسلام صلوات".

- اللّهم ّصلِّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم وأهلك أعداءهم أجمعين.

كان لتصرف هذَيْن الأسيرَيْن أثره الطيب على معنوياتنا، فدبّ فينا الأمل من جديد. أخرج السائق شريط كاسيت "أم كلثوم" من آلة التسجيل وبدّله بأغنية باللغة الفارسيّة:
"بعدك أضحى البكاء رفيقي
حزني عليك قد شردني
 
 

1- عاد إلى الوطن بعد 8 سنوات من الأسر وتوفي عام 2010 بسبب إصابته بالتىسرطان.
 
 
 
 
95

80

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 فأضحيت وحيدًا فريدًا

في هذا البلد غريبًا"

يا لهذا السائق العربي، كيف له أن يعرف أنّ هذه الأغنية تحاكي حالنا ومآلنا وحيدين منهكين في هذا البلد الغريب؟!

طفولتي
عندما رأيت القرويّين، اعتصر فؤادي شوقًا إلى قريتي. قبيل الغروب، كان رعاة الحيّ العلوي يمرّون بقطعانهم بالقرب من حيّنا، فيتصاعد الغبار تحت أخلاف الغنم، وتبقى ذرّاته معلقة في الهواء حتّى اللّيل. كان قلبي ينقبض عندما يحلّ الظلام على قريتنا، ويخمد صوت الماشية في حظائرها، فتغرق في عتمة موحشة. حينها تضيء أمي قنديلَيْن، تضع أحدهما في غرفة الضيافة ذات الجدران البيضاء محلّ نوم الصبية، والآخر في الغرفة المجاورة ذات الجدران الطينيّة المتّصلة بواسطة كوّة صغيرة بغرفتنا، وكانت عبارة عن المطبخ، غرفة المعيشة، وغرفة نوم أمي وأختي الوحيدة "فاطمة".

عندما كنتُ صغيرًا، كنت أنام قرب أمّي لكن عندما كبرت قليلًا، صرت أمدّ فراشي ولحافي الصوفي في الغرفة قرب إخوتي "محسن"، "حسين"، "علي" و"حسن". في الأعياد، ينضمّ إلينا "يوسف" و"موسى" اللّذان يدرسان في المدينة، أمّا أخي الأكبر"عيسى" فكان متزوّجًا ويعيش في منزل مجاور.

في زاوية غرفة المعيشة، يوجد قِدر على النار لإعداد طعام العشاء، وفي الجانب الآخر أتقاسم وأخي "محسن" القنديل بالتساوي لكتابة الفروض المدرسية. قبل أن يذهب "يوسف" إلى المدرسة في المدينة، كنّا نتقاسم نحن الثلاثة ضوء القنديل، وهنا تقع الطامة الكبرى، إذ لا بدّ أن يجلس الثالث في
 
 
 
 
96

81

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 ظلال قبضة القنديل، لذا كنّا نتشاجر دور مَن اليوم للجلوس في ظلالها. وعندما يملّ أخونا الأكبر "حسن" من شجارنا، ينهض ويصلح الفانوس المعطّل، فيضع له شاشة احتراق جديدة، ويملأ الجرن تحتها بالسبيرتو ويشعلها، ثمّ يضخّ الكاز فتضيء الشاشة، ككيس حريري كروي منير تنشر نورها في أرجاء الغرفة.


في إحدى اللّيالي، احترقت فتيلة القنديل، ولم يكن لدينا فتيلة أخرى، فراح أخي "حسن" يجرّب الفوانيس ذات المضخات والشاشات الحريريّة، لكنّها كانت معطّلة. حاول إصلاح إحداها فلم يفلح، عندها فقد رباطة جأشه ورماها خارجًا، ثمّ قال: "سأضيء لكم الغرفة". أدار محرّك جراره الزراعي، واقترب من باب الغرفة لدرجة يصعب معها الخروج منها، مدّ سلكَيْن من بطارية الجرار حتى وسط الغرفة، ثمّ وصلهما بمصباح كهربائيّ (لمبة) صغير أضاء الغرفة بنور أبيض قوي. صحيح أنّ مشكلة الضوء قد حُلّت، لكنّنا افتقدنا صوت الفانوس.

عمّ الظلام، وما زلت أتحسّر على حياة الأولاد في هذه القرية العربية بالقرب من أمهاتهم اللّواتي يضئن لهم القناديل والفوانيس ليدرسوا وينجزوا فروضهم المدرسية. قطع صوت "حسن" أفكاري: "أحمد! يا لهذا الزمن! منذ 20 يومًا، ركبنا حافلة مشابهة إلى مشهد، لكنّ الله وحده يعلم إلى أين ستأخذنا هذه".

سجون بغداد
مع شروق الشمس، دخلنا إلى مدينة "بغداد"، ضغط السائق على البوق ولم ينزع يده، كأنّما يقول لأهالي المدينة إنّه ينقل أسرى.

كان "محمّد آب بيكر" لا يزال يرقد على أرض الحافلة بلا حراك، وباقي الأسرى جالسين على مقاعدهم يفكرون في المصير الّذي ينتظرهم. في تلك اللّحظات، علا صوت أحد الأسرى فانشدّت الأنظار إليه، كان شابًّا لم يستطع الأسر أن يقضي
 
 
 
 
 
97

82

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 على روحه المرحة وعلى طرافته، قال: "أيّها السائق، لو سمحت أنزلني عند التقاطع"، فغرق الجميع بالضحك. كانت تلك الضحكة الأولى بعد الأسر.


ثمّ قال أسير آخر: "صلّوا على محمّدٍ وآل محمّد". كُسر صمت الحافلة الكئيب، وتبدّلت الأجواء، كم كنّا بحاجة إلى تلك الضحكة وتلك الصلوات.

كان سلوك أهل "بغداد" شبيهًا بسلوك أهل "البصرة"، فنالنا منهم ما نالنا من الشتائم والتعاطف. وقفت الحافلات في أحد الشوارع الواسعة بالقرب من بوابة حديدية على جانبَيْها مدفعان قديمان، خلفهما حجرة للحراسة. دخلت سيارة المواكبة أوّلًا، ثمّ تبعتها باقي الحافلات، يبدو أننا وصلنا إلى المكان المقصود.

كانت ثكنة عسكرية كبيرة في شوارع واسعة نظيفة محاطة بأشجار النخيل، علمنا فيما بعد أنّها وزارة الدفاع العراقية. كان الجنود بقبعاتهم الحمراء يحملون الملفات ويتنقّلون بين أبنيتها. توقفت الحافلات ونزلنا منها، ثمّ اقتادونا عبر زقاق ضيّق في نهايته باب حديدي، يُفتح على باحة سجن صغيرة، وقف فيها عدد من الجنود بانتظارنا. كتب أعلى الباب: "لا يدخل الإنسان إلّا أن يخرج إنسانًا آخر". في جهة من الباحة الّتي لا تتعدّى مساحتها 50 مترًا، كان هناك بابان حديديّان رماديّا اللّون بكوة صغيرة مغلقة وقفلَيْن كبيرَيْن يُفتحان على سجنَيْن متلاصقَيْن، يشكّلان معًا نصف دائرة بقطر 7 أمتار. لا تتعدى مساحة السجن مثلث الأضلاع 12 مترًا تقريبًا، وتفوح منه رائحة الرطوبة والعفن. لم يكن السجن ليتسع لكلّ هذا العدد فجلسنا متلاصقين، لكنّ الجرحى تأذّوا كثيرًا لضيق المكان والحّر الّذي لا يُطاق. كان في السجن ضابطان إيرانيّان استقبلانا بابتسامة ذابلة، ومعهما جريح برتبة عقيد، قدمه من الأسفل وإلى الخاصرة ملفوفة بجبيرة الجصّ، كان يجلس على فراش قطني قديم متّكئًا على الجدار ولم يستطع الأسر أن يقلل من هيبته العسكرية أبدًا.
 
 
 
 
98

83

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 رجل عربي

أُقفِل باب السجن فكدنا نختنق من الحّر، وتصبّب العرق من رؤوسنا حتى أخمص أقدامنا، كما ماعت الدّماء الجافّة على ملابسنا. صحيح أنّني لم أجرح، لكنّ ملابسي كانت ملوّثة بدماء "أكبر". أنهكنا العطش، وكان الجرحى يصرخون ألمًا مع كلّ حركة للرفاق. ضرب أحدهم بقوة على الباب وفُتحت الكوة، نادى عريف عراقي: "صالح ... صالح ...". لم يكن بيننا شخص باسم "صالح"، كرّر العريف النداء: "صالح ... صالح ...". حينها نهض رجل أربعينيّ، كان يجلس قرب العقيد في زاوية السجن وأسرع نحو الباب. كان "صالح" أسمر اللّون بعينَيْن صغيرتَيْن وشعر مجعد يرتدي دشداشة قصيرة بالكاد غطّت ساقَيْه. نهره العريف وقال له كلامًا باللغة العربية.

بعدها، التفت "صالح" نحونا وقال باللغة الفارسية لكن بلهجة عربية غليظة: "سكوت أيّها السادة، اسمعوا أيّها الإخوة جيّدًا لو سمحتم". عمّ السكوت السجن، فتابع "صالح": "يقول الجندي العراقي، عليكم أن تتوزّعوا على ثلاث مجموعات: الجنود الإيرانيّون في زاوية، التعبويّون في زاوية والحرس الثوري غير الموجود بينكم في زاوية".

عندما نادى العريف العراقي "صالح" وتحدث إليه باللغة العربية، ظننته للوهلة الأولى أنّه جاسوس مدسوس، لكن سُرعان ما برّأته في محكمة أفكاري، وتحوّل من جاسوس إلى منقذ. فقد أفهمنا وبطريقة غير مباشرة أن لا يقرّ أحدنا أنّه من الحرس الثوري، لأنّ هذا من الجرائم الكبرى عند البعثيّين، وإن وجد بيننا فإمّا أن يقول إنّه من الجيش أو من التعبئة. لقد أفهمنا ذلك بجرأة وأمام العريف العراقي معرّضًا نفسه للخطر عندما قال بوضوح: "والحرس غير الموجود بينكم".
 
 
 
 
99

84

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 فؤاد1

سرعان ما بدأت عملية تشكيل الملفات، فكان الأسرى يخرجون واحدًا تلو الآخر إلى الباحة، ويُلزمون بالوقوف جانب جدار السجن الاسمنتي قبالة عدسة المصوّر العسكري، ليلتقط له صورة فوتوغرافية فورية تضمّ إلى ملفه ويبدأ التحقيق الّذي لم يختلف عمّا كان عليه في "البصرة"، وقد أُضيف إليه سؤال مهمّ وخطير: "هل أنت من الجيش أو من الحرس؟". هنا أنقذت نصيحة "صالح" الأسرى الّذين توزّعوا بين الجيش والتعبئة. وصل دوري في التحقيق، وبخلاف باقي الأسرى، لم يتمّ استجوابي في الباحة، بل اقتادني العريف العراقي خارجًا، فمررنا في الزقاق الضيّق نفسه. يقع على شمال الزقاق مبنى شاهق أبيض اللّون فيه عشرات النوافذ، وعلى كل نافذة مبرّد للهواء، فاختلطت أصوات المبردات بعضها ببعض كخليّة النحل. ويقع على يمين الزقاق عدد من الغرف يتصاعد منها الصراخ والأنين، يبدو أنّها غرف للتعذيب. في الحقيقة، لقد داخلني الوجل لحظتها، إذ لم أدرِ إلى أين يقتادني وماذا ينتظرني.

أُدخلت إلى إحدى الغرف، وكانت في زاوية منها خشبتا "الفلقة" وعدد من السياط الغليظة، وفيها أيضًا سرير مرتّب بشراشف بيضاء يجلس على حافته رجل قصير القامة يدعى "فؤاد"، وكان يعبث بمفاتيح مسجّل الصوت الصغير ذي الغلاف الجلدي. جلست بحسب الأوامر على الأرض قرب السرير، وكان فؤاد يضع شريط كاسيت في المسجل.

"فؤاد"، في الثلاثين من العمر تقريبًا، مستدير الوجه حليق الرأس، أسمر
 

1- فؤاد سلسبيل: خائن من أعضاء حزب خلق عرب -، لجأ إلى العراق وعمل مذيعًا في القسم الفارسي في الإذاعة العراقية. تعاون مع الضباط العراقيين وساهم في تعذيب وأذية الأسرى الإيرانيين. قيل إنّه يعيش حاليًا في الإمارات.
 
 
 
100

85

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 البشرة، ذو جبهة برّاقة ضيّقة ورأسه أصلع يلمع عليه العرق، فيجفّفه بمنديل بين الحين والآخر. ميّزتُ أنّه قصير القامة، لكن عندما وقف تعجبت لمدى قصره، كما كانت ساقه اليمنى أقصر من اليسرى، لذا كان يعرج أثناء السير. عدّل ميكروفون آلة التسجيل ثمّ نظر إليّ وقال: "ما اسمك؟".

- أحمد.
- من أي محافظة؟
- من كرمان.
كان يتحدّث باللغة الفارسية بلهجة شبيهة بلهجة الإيرانيين العرب الّذين هجّرتهم الحرب، فقطنوا في مخيم اللّاجئين في كرمان، تابع "فؤاد":
- كم عمرك يا سيّد أحمد؟
- 17 سنة.

وصل قابس آلة التسجيل بالكهرباء، ثم حدّق في عينيّ بعصبيّة وتعجّب: "17 سنة؟"، فقلت: "نعم". انحنى فوق السرير ومال نحوي حتّى تلاصق رأسانا، وزكمت رائحة عطره أنفي وقال: "انظر! لا يهمّني كم هي سنّك الحقيقيّ، أُريد أن أسجّل صوتك"، قال هذا وأشار إلى آلة التسجيل ثمّ أردف: "عندما أسألك كم عمرك؟ تقول 13 عامًا، وعندما أسألك لِمَ جئت إلى الجبهة؟ تقول إنّهم أجبروك على ذلك. مفهوم؟".

أُسقط في يدي، وتذكرت يوم التطوع وصوت "قاسم سليماني" عندما كان يُخرج صغار السنّ من الصف قائلًا:
- العراقيّون يجبرون صغار السنّ على القول إنّهم أُجبروا على الذهاب إلى الحرب.
 
 
 
 
101

86

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 طلبت المدد من الله عزّ وجلّ والزهراء عليها السلام، تشجعت وقلت بحزم: "لكنّني في الـ17 من العمر كما لم يجبرني أحد على الذهاب إلى الحرب" وكأنّما لسعته النار! نهض من مكانه محاولًا كظم غيظه وغضبه متصنّعًا الشفقة وقال: "هذا ما حشاه الخميني أو الخامنئي أو رفسنجاني في رؤوسكم! اسمع يا ولد، لا أحبّ أن تُضرب فأنا مثلك إيراني، لكن إن لم تنفّذ ما أطلبه منك سأدع إسماعيل هذا (وأشار إلى العريف العراقي الضخم) عديم الرحمة يضربك ويسحقك".


كان "إسماعيل" واقفًا وبيده سوط غليظ. عندما علمت أنّ "فؤاد" إيراني زاد مقتي له وقلت: "لكن لِمَ عليّ الكذب يا سيّد؟". لم يعد يستطيع تصنّع الشفقة وقال: "لأنّني أطلب منك ذلك. عندما أطلب منك القول إنّك في الـ13 من العمر فعليك أن تفعل ذلك كولد طيب مطيع، وعندما أطلب منك القول إنّهم أجبروك على القدوم إلى الجبهة، فعليك أيضًا أن تفعل ذلك كولد طيب ومطيع، واضح؟". رجحت السكوت، فتلقّى "فؤاد" ذلك على أنّه علامة القبول والرضى. حمل الميكروفون وأراد تشغيل آلة التسجيل، عندها قلت له: "لن أقول إنّ عمري 13 عامًا، فأنا في الـ17 من عمري".

وضع "فؤاد" الميكروفون على السرير قرب آلة التسجيل، أخرج منديله من جيب لباسه المرقّط، مسح عرق جبينه وقال: "حسنًا بما أنّك لا تعي ما يُقال لك، اخرج كي لا تأخذ وقت البقيّة، سأناديك فيما بعد وأثبت لك أنّك في الـ13 من العمر، وأنّك جئت مكرهًا إلى الجبهة". ثمّ قال شيئًا لـ"إسماعيل" الّذي انحنى وأمسكني بقميصي من الخلف ثمّ دفعني خارج الغرفة.
جلست في الزقاق قرب الحائط، وجلس "سلمان زاد خوش" مقابلي بانتظار دوره، فسنحت الفرصة ليسألني عمّا يطلبه العدو منّا، وقال وهم يجرونه إلى التحقيق: "حتى لو قتلوني لن أقول إنّني في الـ13 من العمر، فعمري 20 عامًا.
 
 
 
 
 
102

87

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 وبما أنّ الأمر كذلك سأقول إنّني متزوّج أيضًا!".


بقيت خلف الباب لدقائق. أمكنني تخمين ما يطلبه "فؤاد" من "سلمان"، وقررت عدم الخضوع لإملاءاتهم. كنت مستغرقًا في هذه الأفكار عندما علا صراخ "سلمان" من غرفة التعذيب، حتّى إنّ صوت جلده بالسوط انتشر في الزقاق، كان يصرخ ويقول:"أنا متزوج فكيف يمكنني القول إنّني في الـ13 من العمر؟!".

لم يطل الوقت حتى أُلقي "سلمان" الّذي تسلل إلى القطار في محطة "كرمان"، واختبأ تحت المقعد، ليتمكّن من المشاركة في الحرب خارج غرفة التعذيب وآثار الضرب واضحة عليه. في تلك الأثناء، وصل "محمّد صالحي" يقتاده أحد الجنود العراقيين إلى التحقيق، وقد نال نصيبه أيضًا من الضرب والتعذيب، ثمّ رُمي خارجًا ليحين دوري ثانية. دخلت إلى الغرفة وجلست مكاني السابق. لم يعد "فؤاد" كما رأيته أول مرة، كان الشرر يقدح من عينيه، سألني بغضب: "هل ستقول إنّ عمرك 13 عامًا؟". كانت فرائصي ترتعد خوفًا، إذا قلت إنّ عمري 13 عامًا، وإنّني أُكرهت على القدوم إلى الجبهة، فسأبتلى بعذاب الوجدان وباعتقادي سأكون خائنًا لوطني ودماء رفاقي الشهداء، وإن أنكرت، فمصيري محتوم على يد "إسماعيل". أردت أن أجرّب حظي ثانية، طأطأت رأسي وقلت بهدوء: "لا، فأنا في الـ17!". وضع "فؤاد" يده تحت فكي ورفع رأسي، فالتقت عيناي بعينَيْن تقدحان شررًا. حملق بي لحظة ثمّ التفت إلى العريف "إسماعيل" وأشار له. فجأة، سقطت ضربة قوية بين كتفي عجزت معها عن التنفس لثوان عدّة، ثمّ تلاحقت الضربات على جسمي ورأسي ووجهي. سقطت على الأرض ورحت أردّ بقدمي ويدي الضربات عن وجهي وعينيّ.

وقف الخائن "فؤاد" يراقب مشهد الضرب، وبعد دقائق أمر "إسماعيل"
 
 
 
 
 
103

88

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 بالتوقف، فتراجع "إسماعيل" لاهثًا إلى الخلف. تقدّم "فؤاد" وجلس قربي ليبدأ أبشع وأقسى أنواع التعذيب، لقد كال عديم المروءة والشرف وبمنتهى الوقاحة الشتائم لأمي وأختي. تكوّرت على نفسي وانهارت قواي، فلم يحدث حتّى اليوم أن شتم أحد أمي أو أختي. فكرت لوهلة أن لا مصلحة في منازعة خائن عديم الرحمة كـ"فؤاد"، وأنّه عليّ التنازل لكن ليس لدرجة الخضوع الكامل. قطع "فؤاد" عليّ أفكاري وقال: "هل ستنفذ ما أطلبه منك أم أرسلك للإعدام؟"، فأجبته: "سأقول إنّ عمري 16 عامًا" ومع أنّني تنازلت سنة واحدة، إلّا أنّ ذلك لم يرضه وأشار لـ"إسماعيل" الّذي رفع سوطه عاليًا، فصرخت بكلّ ما أوتيت من قوة علّه ينصرف عن ضربي، إلّا أنّ "إسماعيل" الّذي كان يدخن سيجارة - بعد الفراغ من ضربي أول مرّة - نفث سيجارته وتقدّم مني يريد إطفاءها في وجهي، فضربت بيدي على السيجارة الّتي تناثرت على وجهه ووجهي أيضًا، لكنّ حرارتها كانت أبرد من أن تحرقني، فثارت ثائرة "إسماعيل" لجرأتي وانهال عليّ رفسًا وضربًا بقبضتَيْه الثقيلتَيْن إلى أن أمره "فؤاد" بالتوقف. تقدم "فؤاد" مني ثانية - بيد أنّ الوقت لا يتسع لمجادلتي - وقال: "ما رأيك أن تقول إنّك في الـ14 من العمر؟". فكرت في أنّ الأمر لا يستحقّ كلّ هذا العناء والتعرّض للضرب والأذية، فقررت التنازل أيضًا لكن ليس لدرجة تحقيق مآربه فقلت له: "سأقول إنّني في الـ15". عاد "فؤاد" ليكيل لي الشتائم والألفاظ النابية، لكنّه وافق في النهاية. شغّل مسجل الصوت وأراد أنّ يوّجه السؤال الأول، لكنّه انصرف عن ذلك. كان يعلم أنّ حالي غير مناسبة لإجراء المقابلة. فصوتي بعد كلّ الضرب الّذي تعرّضت له كان مشوبًا بالبكاء. لذا طلب مني أنّ أغسل وجهي أوّلًا، غسلته وراح الجندي يلوح بالمنشفة أمام وجهي كالمروحة كي انتعش قليلًا ويبدو صوتي طبيعيًا في المقابلة.

 

 

104


89

القسم الثالث: الترحيل نحو البصرة

 في النهاية، ضغط "فؤاد" على مفتاح التسجيل، قرّب الميكروفون من فمه وبعد مقدّمة صغيرة، سألني: "بنيّ العزيز! عرِّف عن نفسك وكم هو عمرك؟" عرّفت عن نفسي وقلت إنّ عمري 15 عامًا. ثمّ سألني كيف جئت إلى الحرب؟ وكان يتوقع أن أقول إنّهم أجبروني على المشاركة، لكنّني قلت: "كانوا بحاجة إلى مقاتلين وسألوا من يستطيع المشاركة والتطوّع، فأعلنت عن استعدادي!". لم يسمع فؤاد الإجابات الّتي يريدها، كما إنّه قد ملّ من الشجار، لذا أطفأ مسجّل الصوت، شتمني ثمّ أمر "إسماعيل"بإعادتي إلى السجن وهدّدني بالإعدام إن أخبرت الآخرين أنّني ضُربت. لم أرَ سببًا لطلبه هذا. وكقائد هزم عدوه في المعركة، عدت إلى السجن مزهوًّا بنصري.

 

 

105


90

القسم الرابع: بداية الحكاية

 القسم الرابع: بداية الحكاية


بعض الأحيان، يغيّر حادث صغير سياق حياة الإنسان بشكل كامل. كان كلّ شيء يسير بشكل اعتياديّ، وكنت سأُنقَل مع "حسن" وباقي عناصر كتيبتنا إلى معتقل الأسرى، لكن عندما بثّ التلفزيون العراقي مشاهد توزيع التفاح والخبز على الأسرى الإيرانيّين، صادف ولسوء الحظ، أنّ صدام حسين كان يشاهد التلفاز ولفت نظره وجود صبية في مقتبل العمر بين الأسرى، فلمعت في ذهنه فكرة جهنميّة، وأمر بإحصاء عددنا وعدم إرسالنا إلى معتقلات الأسر.

أثناء استكمال ملفّي والتقاط الصور الفوتوغرافية والتحقيق معي، كان أمر صدام قد وصل إلى "أبو وقاص" آمر السجن الّذي استطاع من خلال البحث في ملفاتنا، إحصاءنا في وقت قصير ونظّم لائحة بأسمائنا.

عندما عدت إلى الزنزانة، استطعت الوصول إلى حيث يجلس "حسن" بصعوبة. سألني: "أين كنت؟"، فقلت له: "استكمال الملف"، فقال: "لقد ذهبت إلى هناك لكنّني لم أرك! كما طال الأمر كثيرًا!".

غيّرت الحديث كي لا يكتشف "حسن" شيئًا. لكن بعد ثوان، انزاح كمّ قميصي فرأى حسن آثار الضرب، عندها أمسك بيدي ورفع كمّي فبانت آثار السوط على جسمي الذي ازرقّ لونه، فانكشف ما حاولت إخفاءه. فاضت
 
 
 
 
107

91

القسم الرابع: بداية الحكاية

 عينا "حسن" بالدمع، ثم ضمّ رأسي إلى صدره وقال: "لقد ضربوك عديمو المروءة؟"، فقلت: "أجل وبقسوة".


رفع "حسن" قميصي، وعندما رأى الآخرون علامات الضرب على ظهري وكيف أصبح لونه مائلًا للسواد، شتموا البعثيّين ولعنوهم كثيرًا. سمعنا صوت فتح القفل، فأنزلت قميصي واختبأت خلف "حسن". دخل "إسماعيل" وبيده اللائحة. عندما نادى على اسمي رفعت يدي، وما إن وقع نظره عليّ حتى نادى "صالح" وقال له شيئًا، ثمّ خرج يريد إغلاق الباب، لكنّ "صالح" أصّر عليه بالبقاء قليلًا ثم قال لي: "يقول العريف إنّ صدّام أمر بتحرير جميع الصبية صغار السنّ، لكن هذا الولد أصرّ منذ قليل أنّ عمره 17 عامًا!". رفعت رأسي وقلت له: "صحيح فأنا لست صغيرًا". أراد العريف العراقي إغلاق الباب، فنادى العقيد الإيراني الجريح "صالح" بصوت مرتفع وقال له: "سيّد صالح! لا تدعه يذهب وقل إنّ الصبي يقرّ بأنّه أخطأ وأنّه يريد العودة إلى إيران". ترجم "صالح" كلام العقيد للعريف العراقي الّذي وضع علامة أمام اسمي في اللّائحة وانصرف. انزعجت كثيرًا من تصرّف العقيد وقلت له: "ومن قال لك يا رجل إنّني أخطأت وإنّني أريد العودة إلى إيران؟". فقال العقيد "تقوي" بلهجة أبوية:"بنيّ، بما أنّ رئيس جمهوريتهم يريد تحريركم، فاشكر الله ولا تكن صلفًا. استغلّ الفرصة يا عزيزي، ربما حقًّا يريدون إطلاق سراحكم حتى ولو من أجل مكاسب إعلاميّة محضة".

نعتُّ العقيد بأسوأ النعوت في نفسي ومقتّه كثيرًا، كما مقتُّ شفقته وشفقة العراقيّين حتى لو أرادوا فعلًا إطلاق سراحي. فأنا جئت طوعًا إلى الجبهة، تلقيت التدريبات العسكرية، قاتلت وأطلقت النار، أُسرت وتلقيت الصفع والضرب والشتم أيضًا. لقد أزعجني كثيرًا أن يقال لي ولدٌ وإنّ عليك العودة إلى أمّك!
 
 
 
 
108

92

القسم الرابع: بداية الحكاية

 أولئك الثلاثة والعشرون عنصرًا

تسلّلت أشعة الشمس الذهبية من النافذة الصغيرة في أعلى جدار السجن تحت السقف مباشرة، وانعكست على الجدار، كما تسللت معها أصوات السيارات والمارّة في الشارع المقابل للسجن. عند الغروب، فُتح الباب ودخل العريف، فذهب "صالح" إليه. ناوله العريف ورقة وقال له بعض الكلمات، فالتفت "صالح" نحونا وقال: "على الإخوة الآتية أسماؤهم النهوض والخروج". بدأ العريف بالقراءة: "محمد ساردوئي، رضا إمام قلي زاده، جواد خواجوئي، أحمد علي حسيني، محمد باباخاني، سلمان زاد خوش، محمد ضيغمي، منصور محمود آبادي، حميد تقي زاده، أبو الفضل محمدي، يحيى كسائي نجفي، حسن مستشرق، حسين قاضي زاده، يحيى دادي نسب قشمي، السيد عباس سعادت، حميد رضا مستقيمي، عباس بور خسرواني، علي رضا شيخ حسيني، حسين بهزادي، السيد علي نور الديني، محمد صالحي، محمود رعيت نجاد وأحمد يوسف زاده".

وضعونا نحن الثلاثة والعشرين أسيرًا في غرفة الحرس الملاصقة للسجن وأغلقوا الباب علينا. في نظرة أوليّة، لاحظت صغر سنّنا وقصر قامتنا، كان أكبرنا في الـ19 عامًا من العمر. من بين هؤلاء، كنت أعرف فقط "عباس بور خسرواني"، "سلمان زاد خوش"، "مجيد ضيغمي" و"علي رضا شيخ حسيني" وجميعهم من الجرحى.

بعد حوالي ساعة من مكوثنا في غرفة الحرس، أُخبرنا أنّهم ينقلون رفاقنا خارج السجن، ويا له من خبر نزل عليّ نزول الصاعقة. ألصقتُ رأسي بقضبان النافذة واستطعت رؤية الباحة. كان الباب الحديدي المؤدّي إلى الزقاق مفتوحًا، وكانوا
 
 
 
 
109

 


93

القسم الرابع: بداية الحكاية

 يقتادون رفاقنا خارجًا. انتظرت كي أرى "حسنًا" الّذي كان يبحث عنّي أيضًا، ناديته فالتفت ناحية الصوت ورآني. لم يستطع الاقتراب، لكنّه لوّح لي بيده وقال: "إذا عدت إلى إيران فأوصل سلامي للجميع".


لحظات وأُخرج "حسن" من الباب، فغاب عن ناظريّ رفيق أسري وغربتي، عندها عدت وجلست في زاوية الغرفة منقبض القلب.

حياة السجن
بعد حوالي نصف ساعة من نقل رفاقنا، أعادنا العراقيّون إلى السجن الّذي أصبح شبه فارغ، إلّا من العقيد والضابطَيْن الإيرانيَّيْن و"صالح". عندما أصبحنا في الداخل، رغبت في الشجار مع العقيد و"صالح" لأنّهما السبب في انفصالي عن "حسن" وباقي الأسرى، لكن لا جدوى من ذلك. جلست قرب الجدار على بطانية قذرة بالكاد يمكن تمييز لونها البني. جلس أحد الضبّاط قربي، أظنّ أنّه من "شيراز". كان قد أسر قبل حوالي الشهر في عمليات "الفتح المبين"، وسألني بلطف عن أحوالي. الضابط الآخر من "طهران"، كان قليل الكلام وبالطبع كنت على خصام مع العقيد "تقوي"، و"صالح" دائم التنقل بين كوة الباب الصغيرة وبين الفراش البالي. تحدثت إلى "ساردوئي"، فتى في الـ17 من العمر من "سرجان"، بدا لي مؤمنًا وذكيًّا فسألته: "ما رأيك بفصلنا عن رفاقنا؟"، قال: "يبدو أنّهم يريدون القيام بعمل إعلامي ليكن الله في عوننا. بالتأكيد سيضعوننا أمام الكاميرات ويطلبون منا القول إنّ النظام الإيراني قد أرسلنا إلى الجبهات عنوةً". حينها أخبرته ما جرى بيني وبين "فؤاد".

جاء "سلمان" وجلس قربي. كان قد أصيب بشظية في ذراعه اليسرى وضمدها له العراقيون بشكل بسيط وربطوها في عنقه لكنّ الشظية ما زالت في
 
 
 
 
110

94

القسم الرابع: بداية الحكاية

 ساعده. سألني: "ماذا حلّ بك؟"، قلت له: "لقد ضربوني! ماذا عنك؟"، قال: "أمروني أن أقول إنّ عمري 13 عامًا"، فقلت: "لا أستطيع لأنّ زوجتي ستتضايق وتطلب الطلاق فيراق ماء وجهي حينها". سألته: "هل حقًّا أنت متزوج؟"، أجاب: "بالطبع لا، قلت هذا ليدعوني وشأني فحسب". عندما كان يحدّثني عن تعرّضه للضرب، أمسك بيدي ووضعها على حافة ضمادة ذراعه، سألته بتعجب:

- ماذا؟
- هيّا أمسكها.
- أمسك ماذا؟
- الشظية، انظر كم هي كبيرة!

تحسّست الشظيّة ما بين عضلات ذراعه النحيلة، فجفلت واقشعرّ بدني. تذكرت أنّه قبل أيام عدّة من بدء العمليات، عندما كنّا في الخيمة في سهل "حميدية"، جاء "سلمان" إليّ وقال: "يا لسعادتك يا أحمد"، قلت: "لماذا؟"، قال: "لقد رأيتك في المنام واقفًا على مبنى عالٍ تنظر إليّ في الأسفل، هذا يعني أنّك ستستشهد وتنال مقامًا عليًّا". أبعدت يدي عن الشظيّة الحادة وقلت: "سلمان! هل هذا هو المقام العليّ الّذي رأيته لي في المنام؟"، وغرقنا نحن الاثنَيْن في الضحك.

أخذت أشعة الشمس القانية الّتي دخلت من النافذة بالارتفاع شيئًا فشيئًا حتّى اختفت. كنّا نسمع صوت حركة السيارات في الشارع المقابل للسجن بوضوح، يبدو أنّنا قريبون من شارع مزدحم. كانت أصوات أبواق السيارات، أصوات المكابح وضجيج المارة تدخل السجن دون استئذان، فكنّا نتشاركها مع أهالي "بغداد". كان المصباح الكهربائي الأبيض "فلورسانت" الّذي تجمّع الغبار عليه بالكاد يضيء
 
 
 
 
111

95

القسم الرابع: بداية الحكاية

 السجن، والمروحة تئنّ وتدور لتحرّك الهواء في السجن بشقّ الأنفس. كان "حميد مستقيمي" متّكئًا على الجدار وملابسه ملوثة بدمائه، وقد شقّ العراقيون سرواله أعلى الركبة ليضمّدوا جرح ساقه. وصل صوت الأذان من مئذنة مسجدٍ قريبٍ، ولم تكن لدينا مياه للوضوء، وبما أنّ بطانيّات السجن مليئة بالغبار فقد تيمّمنا بها. بعد الصلاة، جلب الحرّاس صينية الطعام ووضعوها في الوسط. عندما رأى "صالح الطعام"، ابتسم وقال: "من المؤكّد أنّه سيطلق سراحكم، فهذا ليس طعام أسرى!". تناولنا طعام العشاء وكان عبارة عن عجة البطاطا مع الخضار. كان الطعام لذيذًا لا سيّما أنّنا منذ ثلاثة أيام لم نكن قد تناولنا غير الخبز والمياه. قال "علي رضا شيخ حسيني": "يريدون غسل أدمغتنا". في الواقع كان معتقدًا أنّ العراقيين قد وضعوا مادة ما في الطعام تؤثّر على عقولنا. علت الأصوات في الباحة الخارجية، كان الحرّاس يقتادون السجناء العراقيين نحو المراحيض، ويحرصون على جلدهم بالسوط ذهابًا وإيابًا، ويقولون لهم: "هيّا استعجل يا قشمار (أي مسخرة)". بعدها حان دورنا في الذهاب ففتحوا الباب، وقال الجندي: "المرافق"، ترجم "صالح": "المراحيض"، وقال: "لدينا خمس دقائق فقط للذهاب والعودة". إلى يمين الباحة الصغيرة للسجن ذات السقف الأترنيت الّذي تحمله دعائم حديدية علاها الصدأ، يوجد ممرّ صغير يصل إلى فناء صغير أغلق سقفه بالأسلاك الشائكة المتشابكة، فيه مرحاضان قذران مع إبريقَيْن معدنيَّيْن ومغسلة اسمنتية ملتصقة بالحائط، هذا ما أسموه بالمرافق! عدنا خلال خمس دقائق فحان دور الضابطَيْن والعقيد.


نهض العقيد بمساعدة الضابطَيْن وحمل عصاه تحت إبطه، كنت لا أزال حانقًا عليه، فلولا تدخّله و"صالح" لكنت الآن مع "حسن" والرفاق. بالطبع هو أراد لي الخير والنجاة. بعد رحيل رفاقنا الأكبر سنًّا، شعرنا بالوحدة، ورحنا نفكر في المكيدة الّتي يعدّها لنا الأعداء وكيف لنا التصرف إزاءها.
 
 
 
 
 
112

96

القسم الرابع: بداية الحكاية

 حدقت بالجدار المقابل، كان السجناء السابقون قد رسموا جداول يعدّون فيها أيام إقامتهم بالسجن، وقد خطّوا على كلّ 10 خطوط عمودية قصيرة خطًّا أفقيًّا. ومجموعة الخطوط تمثّل عشرة أيام. بدا واضحًا أنّ الإقامة في السجن لم تتجاوز 40 يومًا كحدٍّ أقصى. تكرّر اسم "زكريا" على الحائط، فتعجبت من إصرار صاحب الاسم على ترك أكثر من شاهد على وجوده هنا، لكن بعد ذلك علمت أنّ الكلمة هي "ذكرى" وليس "زكريا". كتب أحد السجناء: "وأكثرهم للحق كارهون"، من طريقة الكتابة يتضح أنّ الكاتب عراقي، ربما كان من المناضلين أو المعارضين للنظام. كنت متعبًا للغاية فاستسلمت للنوم.


في اليوم التالي، دخل جندي عراقي ينتعل حذاءً عاديًّا وليس الحذاء العسكري (البوتين)، كما كانت ملابسه مرتّبة أنيقة ومكويّة، ورائحة عطره تعبق في المكان، بيده دفتر، وخلف أذنه قلم حبر، ويتدلّى على عنقه متر الخياطة. تحدّث إلى "صالح" الّذي ترجم لنا: "أيها الإخوة، هذا خياط ويريد أن يأخذ مقاساتكم ليخيط لكم ملابس جديدة، لذا تقدّموا واحدًا تلو الآخر لينهي عمله بسرعة".

عندما أنهى "صالح" كلامه، رمق العقيد بنظرة رضى مع ابتسامة مختصرة، ثمّ نظر العقيد إلى الضابطَيْن وقال: "قُضي الأمر، سينقلون إلى إيران". في حين أنّ إطلاق سراحنا أضحى وشيكًا، لا ندري لِمَ لم نفرح، بل على العكس كنّا منزعجين. كنت أدرك كم تمنى العقيد والضابطان لو أنّهم كانوا مكاننا، أو على الأقلّ برفقتنا في رحلة العودة إلى "إيران". بعد الانتهاء من أخذ مقاسات الثياب والأحذية غادر الخياط، فتأكّد العقيد والضابطان أن لا أمل لهم في العودة معنا.

أُقفل باب السجن، وكتب لنا الضابطان عنوان منزلهما كي نُطمئن الأهل عنهما. كما أعطى العقيد عنوانه وأكّد علينا إخبار المسؤولين في الجمهوريّة
 
 
 
 
 
113

97

القسم الرابع: بداية الحكاية

 الإسلاميّة الإيرانيّة، أنّه ظلّ وفيًّا لبلاده على الرغم ممّا تعرّض له من تعذيب ولم يعطهم أيّ معلومات أو أسرار عسكرية.


المناضل
سمعنا من جهة الباحة صوت صراخ وأنين وأصوات سقوط السياط على الأجسام. اختلست النظر عبر كوّة الباب، كانوا مجموعة من العسكريّين العراقيّين يُقتادون من الزقاق إلى الباحة تحت ضرب السياط. ثم أُمروا بخلع أحزمتهم، وتسليم ما لديهم من سجائر، عطور، مناديل أو أي شيء آخر بحوزتهم، ووضعه في إحدى الزوايا على الأرض، ثمّ انهالوا عليهم ضربًا وساقوهم إلى السجن المجاور.

كم جُلدت خلال هذَيْن اليومَيْن وكم سمعت وشهدت جلد آخرين، يا له من وقعٍ مرعبٍ موزّعٍ على ثلاث مراحل، المرحلة الأولى صوت تلويح السوط في الهواء، الثانية سقوطه وارتطامه بالجسم، والثالثة الصراخ والأنين اللّاإرادي!.

سلخ الجلد هو الصوت المرعب الثّاني بعد صوت إقفال الأبواب الّذي لا يعرف أثره إلّا من جرّبه وعاشه. ما إن أردت العودة إلى مكاني، حتّى علت الضوضاء ثانية. هذه المّرة، اجتمع السجانون حول شاب وانهالوا عليه جميعًا بالضرب، والشاب يحاول الفرار منهم دون جدوى. عندما أحاطوا به ولم يجد مفرًّا من ضرباتهم، استجمع كلّ ما أوتي من قوة وصرخ: "يا محمّد... يا رسول الله". فازداد السجانون وحشيّةً وعنفًا، وراحوا يجلدونه على وجهه ورأسه. صرخ ثانية: "الله أكبر... لا إله إلّا الله... محمّد رسول الله".

كانت لصرخته هيبة تقشعرّ لها الأبدان، فتذكرت كلام أخي "موسى" عندما عاد من المدينة وأخبرنا عن تعذيب أصحاب الإمام "الخميني" في سجون "السافاك". ساءت حالي ولم أعد أتحمّل النظر، فسحبني "صالح" بعصبية وقال: "اجلس! هل تعتقد أنّهم يوزعون الحلوى هنا؟". كنت في الأيام التالية أيضًا أسمع صراخه
 
 
 
 
114

98

القسم الرابع: بداية الحكاية

 وأنينه، حتّى إنّني التقيت به إحدى المرات قرب المرحاض. كدت أموت جزعًا عندما وقع نظري عليه، كان وجهه متوّرمًا بشكل مفجع إثر الجلد، ورأيت الكدمات على ظهره وساعدَيْه، وقد تخثّر الدم على جروحه، كما تورمت قدماه من ضرب الفلق فصعب عليه المشي، وقد غطّت الكدمات والجروح ساقَيْه وكفَّيْه وأصابعه، ومهما حاول لم يفلح في عقد أزرار سرواله. تأملت وجهه ثانية، ولدهشتي رأيته يحدّق بي أيضًا من رأسي حتى أخمص قدمي، وبعينَيْه اللّتين يفتحهما بصعوبة بالغة لشدّة تورمهما، نظر إليّ مع ابتسامة هزيلة وسألني: "إيراني؟". وقبل أن يسمع جوابي قال: "ما شاء الله". عدت إلى السجن، وسألت "صالح" عن أمر هذا الشاب. أخبرني بعد أن نظر خلال الكوّة، ليطمئنّ إلى أنّ الحراس لن يسمعوه: "لقد أحضروه منذ 10 أيام، وهم يضربونه كلّ يوم، ويجلدونه دون أن يعترف بأيّ شيء ولا يقول غير ‘يا محّمد’ و‘يا رسول الله’. وأخبرني الجنود أنّ المخابرات العراقية تشكّ في أنّه جاسوس سوري أو أنّه من عناصر حزب الدعوة. حاليًا هم مواظبون على تعذيبه يوميًّا، ولا أعرف ما سيكون مصيره". حينها أخبرته بلقائي به قرب المرحاض ،فقال: "الأفضل لك وله أن لا تتحدّث إليه أبدًا".


أبو وقاص
في أحد الأيام، دخل رجل في الـ50 من العمر تقريبًا، بلباس مدني إلى السجن. قدّم له السجانون التحية العسكرية، يدعى "أبو وقاص" وهو آمر السجن. كان طويل القامة، نحيفًا، يرتدي قميصًا مقلّمًا، قصير الأكمام بأزرار كبيرة، وذا عينَيْن مكحّلتَيْن، وقد وشم خمس نقاط خضراء على قبضة يده اليمنى. وقف عند الباب، ورمق الجمع بنظرات غامضة ثمّ تحدّث إلى صالح الّذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة وقال: "سيأتونكم بالملابس الجديدة غدًا، وقد أخبرني أبو وقاص أنّ الدولة العراقية جادّة في إرسالكم إلى زيارة العتبات المقدسة قبل عودتكم إلى
 
 
 
 
115

99

القسم الرابع: بداية الحكاية

 إيران، ويطلب منكم الدعاء لسلامة الرئيس صدّام". فتقدّم "حميد تقي زاده" ورفع يديه إلى السماء مقابل "أبو وقاص" وقال: "اللّهم اقطعه نصفين". سأل "أبو وقاص" "صالح": "ماذا قال؟"، فأجابه:"قال اللهم احفظه". بعد خروج "أبي وقاص" عاتب "صالح" "حميدًا" عتابًا أبويًّا لأنّه كاد يسبّب الأذى لنفسه وللآخرين.


بعد يومين، جلبوا لنا الملابس الجديدة، قميصًا وسروالًا وزوجًا من الأحذية الرياضية، وطلبوا أن نخلع ملابسنا ونرتديها. كم صعُب عليّ فعل ذلك، إذ شعرت أنّ لباس التعبئة الملوّث بالدماء والتراب يمثّل هويتنا وماء وجهنا، فكيف أستبدله بملابس صدّام؟!. استأت كثيرًا لأنّني مجبر على ذلك وتمنيت أن يسمحوا لي بالاحتفاظ به كذكرى، لكنّهم رموها في أكياس كبيرة، وأخرجوها من السجن. لم يأخذ الخياط العراقي مقاساتنا ليخيط لنا ملابس جديدة، بل ليشتري لنا ملابس جاهزة من السوق، لذا لم تناسب مقاساتها العديد من الرفاق، خاصة "حميد تقي زاده" و"عباس بور خسرواني" الأكبر حجمًا من البقيّة، كما لم تناسب نحيلي الجسم وقصار القامة، فأضحت موضوعًا للمزاح والتسلية لبعض الوقت. عندما رآنا "صالح" بالثياب الجديدة لمعت عيناه فرحًا - ربما ذكّرناه بابنه الوحيد - وراح يساعد الصغار على ثني أطراف سراويلهم لتصبح مناسبة لمقاساتهم.

دخلت أشعة الشمس من النافذة كدليل ينبئنا باقتراب ساعة الغروب.

بدء الحملة الإعلاميّة
عند الساعة التاسعة صباحًا، دخل "أبو وقاص" إلى السجن وأمرنا بالتحرّك، إلى أين؟ لا نعلم! عبرنا الزقاق الضيّق وسمعنا صراخ وأنين المعذّبين في الغرف المجاورة. كان نور الشمس يؤذي أعيننا، وصلنا إلى ساحةٍ ينتظرنا فيها فريق من 15 صحفيًّا عراقيًّا ومن دول عربية أخرى، فما إن وقع نظرهم علينا، حتى بدؤوا
 
 
 
 
116

100

القسم الرابع: بداية الحكاية

 بتصويرنا والتقاط الصور الفوتوغرافيّة لنا. كان صوت كاميراتهم كصوت رصاصهم، إذ لا فرق بين يدٍ عدوّة تضغط على زر الكاميرا وأخرى على الزناد!


أحاطنا المصوّرون، وما أمكننا الفرار من عدساتهم، بعدها تقدّم مراسل عسكري عراقي، وبدأ بطرح الأسئلة، فانبرى "محمد صالحي" للإجابة:
الصحفي: "ما اسمك؟"
- محمد صالحي.
- من أيّ مدينة أنت؟
- من مدينة بابك في محافظة كرمان.
- كم عمرك؟
- 15 عامًا.
- في أيّ صف أنت؟
- الصف الثاني متوسط.
- ماذا يعمل أبوك؟
- انتقل إلى رحمته تعالى.
- إذًا، لم جئت إلى الجبهة، هل جئت بالقوة؟
- أجل.
- وكيف ذلك؟
- كنت أريد أن آتي إلى الحرب لكنّ القادة منعوني، لذا جئت بالقوة.

ذُهل المراسل العراقي، فكلّ ما سعى إليه تحوّل إلى سراب، وضرب رأس "محمّد" بالميكروفون.
 
 
 
 
117

101

القسم الرابع: بداية الحكاية

 الملّا صالح

توطّدت العلاقة بيننا وبين العقيد والضابطَيْن و"صالح". كان الضابط الشيرازي يشعر بالحنين. وفي أحد الأيام عندما انعكست أشعّة الشمس الغاربة على جدران السجن، وسمع "سجع القُمّري" على غصن الشجرة المقابلة للنافذة أعلى الجدار، فاضت أشجانه ثمّ وضع يدَيْه على أذنَيْه وراح ينشد بغمّ وحزن:
"كم أذكرك وطني مؤخّرًا
ترى أتذكرني كما أذكرك؟
قد حفر الغمّ عميقًا في قلبي
لكن لن أشكو لغيرك ربّي
إخواني قدروا بعضكم بعضًا
فالأجل حجر والناس زجاج".

طأطأ العقيد "تقوي" رأسه وراح يعبث بجصّ قدمه. كان يشعر بالحنين أيضًا لكنّ هيبته العسكرية لا تسمح له بإظهار أحاسيسه.

تنهّد "صالح" ونظر إلى صورة ابنه "فؤاد" البالغ من العمر 5 سنوات. لكنّ الضابط الطهراني - كعادته صامت متّكئ على الجدار، ونحن الثلاثة والعشرين فتى ساهون عن مشاعر الشوق والحنين للدار والأهل، نفكر في المصير الّذي ينتظرنا.

في تلك الليلة، حدثنا "صالح" عن قصة حياته وكيف اعتُقل زمن الشاه بتهمة انخراطه في العمل السياسي، فاعتقله السافاك في "آبادان" ووضعوه في سجن "القصر". كما حدثنا عن علاقته بـ"آية الله طالقاني" و"مسعود رجوي"، وكيف ترشّح بعد انتصار الثورة لانتخابات مجلس الشورى الإسلامي، وأصبح نائبًا عن "عبادان". وعندما بدأت الحرب وقف نفسه لها، بدءًا بالتعاون مع القادة
 
 
 
 
118

102

القسم الرابع: بداية الحكاية

 الميدانيّين إلى إذاعة "عبادان" وإجراء المقابلات مع الأسرى العراقيين. بعدها أُسندت إليه مهمة في المياه، لكنّ السفن العراقية حاصرتهم فوقع أسيرًا، تابع: "بقيت في هذا السجن مدة 3 أيام، وكدت أُنقل إلى معتقل الأسرى مع باقي الرفاق، لولا وصول فؤاد الّذي فضح أمري فتعرضت للتعذيب والضرب المبرّح وتقرر بقائي هنا. منذ حوالي 8 أشهر وأنا حبيس هذه الغرفة على هذا الفراش النتن"1. رفع "صالح" دشداشته ليُرينا آثار التعذيب على ساقَيْه. عندها قال

 


1- خلال كتابتي هذه المذكّرات في العام 2012، التقيت بالملا "صالح" خلال رحلة لي إلى "طهران"، على الرغم من أنّه ناهز السبعين من العمر إلا أنّه ما زال حيويًا نشيطًا. فأخبرني بما حدث معه بالتفصيل. كان قد سافر إلى النجف الأشرف لدراسة العلوم الدينية في العام 1959، لكن بعد أن ساءت العلاقات السياسية بين "إيران" و"العراق"، طُرد من "العراق" فتابع دراسته في "قم"، لكنه لم يكمل الدراسة. وبعد ذلك تعرّف إلى الإمام الخميني وعشق شخصيته. انخرط في العمل السياسي فاعتقله السافاك في العام 1970، وبقي في السجن إلى أن تحرر مع انتصار الثورة الإسلامية. عُيّن في حزيران من العام 1979 مسؤول التواصل الاجتماعي في الحرس الثوري الحديث التأسيس، وأسّس القسم الثقافي في إذاعة آبادان العربية. كان مقدّمًا لأحد البرامج الإذاعيّة وأضحى له العديد من المستمعين في العراق. وخلال الحرب المفروضة، كان يتواصل مع المجاهدين العراقيين ويحمل لهم المساعدات في الزوارق الكبيرة عبر خور موسى وخور عبد الله. قال: "فكنّا نضع المساعدات في قعر الزورق ونغطّيها بالتمور حتى إذا ما اعترضتنا السفن العراقية أخبرناهم أننا تجار نحمل التمور إلى الكويت. في إحدى المرات اقتربنا كثيرًا من المياه الإقليمية العراقية فاعترضتنا السفن العراقية الّتي انطلقت من جزيرة "بوبيان الكويتية" الّتي وُضعت في تصرف "العراق" آنذاك. أخبرناهم أننا تجار فصدّقونا لكنهم اعتقلونا أنا والبحار وأخيه وأحرقوا القارب، لأنهم لم يتمكنوا من سحبه فاحترق أمام أعيننا وغرق، وهكذا ارتاح بالنا لعدم انكشاف المساعدات. في السجن، كدت أن أُنقل إلى معتقل الأسرى لولا "فؤاد" وهو من عناصر "خلق العرب" وقد قتل لهم العديد على يد العميد "مدني" وكان يعتبرني شريكًا له، لذا طلب من "أبي وقاص" تسليمي للمجاهدين كي يتم إعدامي. حينها قلت لـ"أبي وقاص" إنّ المجاهدين لم ولن يكونوا أصدقاء أوفياء للعراق فهم من أزلام الشاه، بينما كنت أنا من المناضلين العرب للشاه وقد اعتقلت من قبل السافاك في حين كان أمثال "فؤاد" يشون بنا لدى عناصر الشاه. كما تذكرت العميد العراقي "جاسم الزاوي" الّذي كان معتقلًا أيضًا في سجن الشاه، وقد ترافقنا مدة من الزمن هناك. تعجب "أبو وقاص" وتأكد من أنني أعرفه عبر اتصال هاتفي به إذ كان حينها مستشارًا لـ"صدام". فجاء لزيارتي في السجن وأراد أن يرسل في طلب عائلتي لنعيش سويًا في "العراق". لكنني رفضت ذلك وطلبت منه أن لا يتمّ تسليمي إلى مجاهدي خلق وأن أرسل إلى معتقل الأسرى وأن لا أتعرض للتعذيب والضرب. وافق على عدم تسليمي إلى المجاهدين وعدم ضربي، لكنّه قال إنّهم بحاجة إلى مترجم هنا. كما أمر أن يقدّم لي من طعام الضباط العراقيين".

 

 

119


103

القسم الرابع: بداية الحكاية

  "حسن مستشرق" وبلهجة "القبضايات": "كنّا نعتقد أنّك جاسوس مندسّ". ضحك "صالح" وقال: "لا يهمّ كيف يرانا الآخرون، المهم أن نقوم بواجبنا أينما كنّا". وقال السيّد "علي نور الديني": "لكن انظر أين كنت وأين أصبحت. كنت تترجم للأسرى العراقيين في الوطن، وها أنت تترجم للأسرى الإيرانيين في العراق"، فأجاب بالمثل القائل: "الدهر يومان يومٌ لك..."، وأكمل "حسين بهزادي": "ويومٌ عليك". وقال "رضا شيخ حسيني": "الأسرى مدينون لك يا ملّا صالح خاصة عندما أنقذتهم من الحرس بقولك: ‘والحرس غير الموجودين بينكم’". قال "صالح": "أجل فقيادة الجيش العراقي لا تعتبر عناصر الحرس الثوري أو كما يطلقون عليهم ‘حرس الخميني’ أسرى حرب، وبالتالي لا يخضعون لقوانين الأسرى، ولديهم أوامر بتصفيتهم مباشرة".


نظر كلّ من "عباس بور خسرواني" و"علي رضا شيخ حسيني" إلى الآخر، وابتسما ابتسامة ذات دلالات، فكلاهما من الحرس الثوري. "مجيد ضيغمي" المتكئ على الجدار المقابل، والّذي ما زال يعاني من جرح الرصاصة في قدمه، قال: "عذرًا ملّا صالح، ماذا تعرف عن معتقل الأسرى؟ هل تعرف كيف هو المكان؟". أجاب "صالح": "خلال إقامتي هنا، أحضروا إلى المعتقل العديد من الأسرى الإيرانيين الّذين أخبروني أنه مكان فسيح وكبير، يضم كلّ واحد من السجون ما يقارب 2000 أسير. يوجد معتقلان اثنان في الموصل، وآخران في مدينة الرمادي. وتبعد الموصل عن هنا 400 كيلومتر تقريبًا، بينما لا تبعد الرمادي أكثر من 100 كيلومتر. أدعو الله عندما يرسلونكم إلى إيران أن يرسلونني أنا إلى المعتقل أيضًا".

سألت "صالح": "من هو فؤاد ومن أين؟ ولِمَ يتصرف هكذا؟"، أجاب "صالح": "فؤاد عربي من خُرمشهر، كان أحد عناصر حزب خلق، وبعد أن شتّت
 
 
 
 
120

104

القسم الرابع: بداية الحكاية

 الجنرال "مدني" مجموعاتهم وقتلهم، فرّ إلى العراق، ومع بداية الحرب بدأ عمله في القسم الفارسي في الإذاعة العراقيّة".


كان "حسين قاضي زاده"، وهو من "قناغستان" في محافظة "كرمان"، أكثرنا هدوءًا، فقال لـ"صالح" بعد أن لعن "فؤادًا": "لكنّه عربي وأنت عربي أيضًا!". فردّ عليه "صالح": "وهل أصابع اليد الواحدة متشابهة". طرح "أبو الفضل محمّدي" من"قيدار زنجان" السؤال الأخير على "صالح": "كم عمرك يا سيّد صالح؟"، فأجاب: "عمري 40 عامًا من عبادان"، ثمّ أخرج صورة ابنه "فؤاد" من تحت الفراش وناولها "أبا الفضل" ليراها. دارت الصورة على 23 فتى، وعادت إليه ثانية ليضعها في مكانها الدائم. تحدّثنا إلى "صالح" ردحًا من اللّيل، أصغينا إلى كلامه، وأدركنا أنّه بحر هادئ مليء بالمعلومات. كان يقتبس أبياتًا من الشعر لشعراء عرب وأيضًا من آيات القرآن الكريم، وأكّد أنّ من أهم واجباتنا في الأسر حفظ أرواحنا. شعرتُ أنّنا في غياب رفاقنا يمكننا الاعتماد على "صالح" فنستشيره ونطلب منه النصح. لقد عظم شأنه في أعيننا كثيرًا، حتّى أكثر من العقيد نفسه.

حلّ اللّغز
منذ بضعة أيام وذهني مشغول بأمرٍ تحوّل بالنسبة إليّ إلى لغز. ففي اليوم الأول لوصولنا، رأيت في الفراغ، عند اتصال الجدار بأرضيّة السجن، عددًا من "مقذوف"1 الرصاص. وفي الأيام التالية، وجدت العديد منها في أنحاء السجن. مهما فكرت لم أجد سببًا وجيهًا لوجودها هنا، إلى أن سألت عنها "صالح" الّذي قال: "كان الأسرى الجرحى ينزعونها من جروحهم، إذ لم يكونوا يتلقون العلاج
 

1- المقذوف: رأس الرصاصة .
 
 
 
 
121

105

القسم الرابع: بداية الحكاية

 الكافي إلّا بعد انتقالهم إلى المعتقل". كان مجرّد التفكير في أنّ الجريح ينزع الرصاصة بنفسه وبأصابعه يصيبني بالغثيان.


أمر آخر كان يؤذينا في السجن، تلك البطانيات القذرة الّتي أصبحت مأوًى للقمل الذي انتقل إلى ملابسنا، خاصة في ظلّ عدم الاستحمام. كنّا نقضي ردحًا من اللّيل في قتلها. صحيح أنّنا لم نستطع القضاء عليها، لكننا منعنا تزايد أعدادها. حدث أكثر من مرّة، عندما نقف للقنوت في الصلاة، أن خرج بعضها من أكمام ملابسنا وتنقّل بين أصابعنا.

العرض الإعلامي
في 5 أيار، اندفع "أبو وقاص" بسرعة إلى السجن وأمرنا بارتداء ملابسنا. كانت حافلة صغيرة "ميني باص" خضراء اللّون تنتظرنا عند نهاية الزقاق. أُخرجنا من البوابة الحديدية، وأصبحنا في شوارع "بغداد" الّتي تختلف عن شوارع البصرة. هناك، كانت النسوة يلبسن العباءة السوداء، بينما هنا في "بغداد" كنّ سافرات يلبسن التنانير القصيرة، فكنّا إذا رأيناهنّ نشيح بأنظارنا إلى الجهة الأخرى. كنت أحاول قراءة ما كتب أعلى المحلات والمتاجر وترجمتها إلى اللغة الفارسية بحسب البضائع المعروضة داخلها. على سبيل المثال، قرأت فوق أحد المحال: "حلويات كريم"، ولمّا رأيت الحلويات معروضة داخله، أدركت ما تعنيه.

مررنا بدكان أمامه ولد صغير يحمل قطعة من دراجة هوائيّة ويتحدّث إلى شاب بلباس العمل أزرق اللون، كتب أعلى الدكان "بنجرجي"، ولولا الإطارات المعلّقة والمنفخ لما استطعت أن أترجم هذه الكلمة. كنّا قد تعلمنا في المدرسة أنّ أربعة من الحروف غير موجودة في ألف باء اللغة العربية مثل حرفي: پ (p) و چ (Ch)، فيكتبون ج بدل چ وب بدل پ.
 
 
 
 
122

106

القسم الرابع: بداية الحكاية

 وهكذا استطعت أن أقارن بين كلمة "بنجرجي" و"پنچرگيري" الفارسية. كانت دراجة الطفل العراقي شبيهة بأول دراجة اشتراها لي أخي "حسن" عندما كنت طفلًا.


حينها، كنت في التاسعة من عمري عندما جاء أحد أهالي القرية إلى منزلنا، وكان قد عاد حديثًا من المدينة حاملًا خبرًا مفرحًا. أخبرني السيّد "دانشمند" أنّ أخي اشترى لي دراجة هوائية، وسيحضرها لي بعد أن ينهي بعض الأعمال. طار قلبي فرحًا، خاصة أن لا أحد من أقراني في القرية يملك دراجة.

سألته: "ما لونها؟"، فقال :"أرجواني". لم أكن حينها أعرف أنّ كلمة أرجواني تعني اللّون الأحمر، لكنّني رسمت لدراجتي ألف خطة وخطة في ذهني، بأيّ لون من الأشرطة الفسفورية سأزيّنها؟ وإلى أين سأذهب بها؟ لكن قبل كلّ شيء كان عليّ اختيار اسم لها، فأسميتها "أرجوانية"، الكلمة الّتي استخدمها "دانشمند"، ورحت أعدّ الساعات والدقائق لرؤيتها. وأخيرًا، وصلت شاحنة إلى القرية كانت تحمل معها "أرجوانية".

كانت الحافلة الصغيرة تخترق شوارع "بغداد"، وعيناي تقرآن ما في اللوحات المعلقة فوق المتاجر والدكاكين والأبنية، سعيًا لترجمتها، فتعلمت كثيرًا من الكلمات الجديدة، وشعرت أنّه يمكن استغلال بعض أوقات الأسر في أمور مفيدة. عبرنا ساحة كبيرة ووصلنا إلى جسر، يبدو أنّه صلة الوصل بين مدينة "بغداد" ومحيطها. عُلّق عند أوله لوحة كتب عليها: "جسر الأئمة الأطهار"، وقبل أن أعمل الذهن في ترجمة كلمة "جسر"، صرخ "محمّد ساردوئي": "إنّه جسر الأئمّة الأطهار!".

قراءة عبارة "الأئمّة الأطهار" في هذه المدينة الواقعة تحت سيطرة الطواغيت منحنا شعورًا طيّبًا، ورفعت رؤية القبّتَيْن الذهبيّتَيْن لإمامَيْ "مدينة الكاظمية"
 
 
 
 
123

107

القسم الرابع: بداية الحكاية

 معنويّاتنا. كنّا نقترب من مقامَيْ الإمامَيْن "موسى الكاظم" و"محمد التقي" عليهما السلام. ولقد بشرنا "أبو وقاص" بهذه الزيارة لكننا لم نكن لنصدقه.


توقف الميني باص قرب مدخل المقام، كان داخل صحن المقام عدد من شيعة العراق الّذين جاؤوا للزيارة، كما سبقنا الجنود إلى هناك مشكّلين ممرًا عبرناه كي لا نختلط مع الزوار. من خلال نظرات الزوار، أدركنا أنّهم قد شاهدونا مسبقًا في التلفاز. اقتربت سيدة لتناولنا كيسًا من السكريات، فنهرها الجندي بخشونة أجبرتها على الاختفاء بين الجموع.

قبل الدخول إلى الحرم، طلبنا أن يسمحوا لنا بالوضوء، بعدها أخلوا لنا زاوية من الرواق المؤدي إلى الضريح الّذي ذكّرني بزيارة الإمام الرضا عليه السلام قبل 40 يومًا. هناك، كان الإمام الرضا عليه السلام غريبًا، أمّا هنا فنحن الغرباء. ما إن وصلت إلى الضريح حتى تعلّقت بحلقته وبدأت بالبكاء والنحيب، تمنيت لو نبقى وقتًا أطول، لكنّ الجنود سُرعان ما أبعدونا عن الضريح، وجاء رجل عجوز يضع على رأسه طربوشًا أحمر لفّه بعمامة بيضاء، وعلى عينَيْه نظارات سوداء، ليقرأ لنا الزيارة. جمعنا الجنود خلفه، وبعد الانتهاء، تلا بعض الأدعية الّتي لم نفهمها فقلنا: "آمين"، فيما بعد علمنا أنّه كان يدعو لصدّام.

تمّ توثيق كلّ تلك الدقائق، الزيارة والدعاء في فيلمٍ، ثمّ أخرجونا من المقام بسرعة. عند خروجنا من المقام، كان الزوار قد تجمّعوا لرؤيتنا، ودّعناهم بالإشارة، وبالإشارة أيضًا دعوا لنا بالسلامة.

لعبة طفوليّة
بعد أن عبرنا "جسر الأئمّة الأطهار"، أصبحنا في "بغداد" ثانية. توقّف الميني باص أمام أحد الميادين الكبيرة. ساقونا إلى الشارع نحو الميدان المحاط بالجنود،
 
 
 
 
124

108

القسم الرابع: بداية الحكاية

 وقد تجمّع عدد من الأطفال ذوي قبعات من الورق المقوّى، طلبوا منّا أن نسير كمن يتنزّه في الساحة، والتقط الأطفال الصور التذكارية معنا. كما أجبرونا أن نصافح فتاة في الثامنة من عمرها. كلّ ذلك طبعًا أمام عدسات الكاميرات.


بعدها، تابع الميني باص سيره في شوارع "بغداد"، ومرّ بالقرب من نهر "دجلة"غزير المياه الّذي يجري بهدوء وغرور، وتجوبه الزوارق والقوارب.

توقّف الميني باص في شارع "هارون الرشيد" أو على أطرافه، أمام حديقة كبيرة عُلّق أعلى مدخلها لوحة كتب عليها: "مدينة الألعاب"، وعلى اللوحة الثانية: "حديقة الزوّار".

أخذونا إلى مدينة الألعاب وكدنا نموت خجلًا. كانت مكبّرات الصوت تبثّ الموسيقى والأغاني المفرحة والحماسيّة حيث تتكرّر فيها جملة: "منصورة يا بغداد".

تضمّ المدينة ألعابًا متنوعة جديدة من نوعها بالنسبة إليّ وإلى رفاقي القادمين من القرى والأرياف، لكنّها لم تكن لتمتعنا في مثل هذه الظروف، بل على العكس كانت مصدر عذاب لنا. وكذا كان الأمر عندما عبرنا فوق نهر "دجلة" بواسطة المصعد الكهربائي (تلفريك/تله كابين). بعد النزول من المصعد، أمرونا بقيادة السيّارات الكهربائية، فكدنا نذوب حياءً.

لم يعد "محمّد ساردوئي" يحتمل هذه المهزلة، فجلس في زاوية، وبدأ بالصراخ للإيحاء بأنّ حاله سيّئة وسوف يتقيّأ، لذا أُعفي من ركوبها. جلست خلف المقود، وضغطت على دواستها، فانطلقت واصطدمت بالسيارة المقابلة، ما أثار ضحكنا. في لحظة، نسيت كلّ شيء واستيقظ الطفل داخلي فجأة، ودعاني للاستمتاع بهذه اللحظات، لكنني قاومت هذه الأحاسيس، فامتزجت ابتساماتي
 
 
 
 
 
125

109

القسم الرابع: بداية الحكاية

 بالعبوس، وإذا ما أفرط أحدنا في الابتسام والضحك، كنّا ننبّهه للتوقف عن ذلك. قاد "حسن مستشرق" سيارته نحو أحد المصورين، وبالقرب منه تظاهر بأنّه فقد السيطرة عليها، فاصطدم به وسقط المصور في جانب والكاميرا في جانب آخر.


لقد لعب "حسن" دوره بمهارة، فلم يشكّ أحد من العراقيين في أنّه تعمّد ذلك. انتهى العرض وخرجنا من الحديقة، لنعود مباشرة إلى السجن: حيث أخبرنا "صالح" والعقيد والضابطَيْن ما جرى معنا، وكم غبطونا عندما أخبرناهم عن زيارتنا للإمامَيْن في"الكاظميّة".

لقاء هامّ
في صباح 6 أيار، جاء "أبو وقاص" وتحدّث إلى "صالح". بالطبع لم أفهم ما قاله، لكنّ العقيد فهم بعض الأمور، فأسرّ إلى الضابط الطهراني أنّ عودتنا إلى "إيران" أصبحت حتمية، وسوف نذهب لاستكمال بعض الإجراءات. نقل الضابط الطهراني ذلك للضابط الشيرازي الّذي همّ بإخبارنا عندما قال "صالح": "أيها السادة، ارتدوا ملابسكم بسرعة وجهزوا أنفسكم للخروج".

سأل "محمّد باباخاني"، وهو أقلّنا كلامًا: "إلى أين؟"، فقال "صالح": "يقول أبو وقاص يجب الذهاب لاستكمال ملفّاتكم قبل العودة إلى إيران، ويجب ملء بعض الاستمارات والتقاط صور جديدة لكم".

ركبنا الميني باص المنتظر في آخر الزقاق، وانطلقنا إلى مكان مجهول. كانت شوارع "بغداد" مزدحمة كالعادة، وكان "صالح" يجلس على مقعد في الصف الأوّل قرب الجندي العراقي المسلّح، بينما جلس "أبو وقاص" قرب السائق. بعد دقائق عدّة، توقف الميني باص قرب بوابة، واقترب مسلّح عراقي بقبّعة حمراء
 
 
 
 
126

110

القسم الرابع: بداية الحكاية

 كتب على كمّ قميصه: "التنظيمات العسكريّة". تحدّث إلى "أبي وقاص"، ثمّ أبعد الحاجز الكهربائي وأدّى التحية العسكرية احترامًا.


وصلنا إلى مكان مختلف عن باقي مناطق "بغداد"، ووقف الميني باص أمام بوابة أخرى تشبه البوابة الأولى، ثمّ دخلنا منطقة أمنية. وكلّما أردنا سؤال "صالح" عن المكان، رفع الجندي المسلح إصبعه وقال: "صه". عبرنا المنطقة الأمنيّة الثالثة والرابعة، ثمّ توقفنا أمام مبنى فخم. سار "أبو وقاص" في المقدمة، ثم ّصالح" ونحن، ثمّ الجنديّ المسلّح.

أُدخلنا غرفة كبيرة. تحدّث "أبو وقاص" إلى الضابط الجالس خلف الطاولة، يبدو أنّه من أصدقائه، فراحا يتبادلان أطراف الحديث ويتسامران. مضى على وجودنا هناك حوالي الساعة، عندما جاء ضابط آخر وأُعطي الأمر بالحركة.

وانحرفنا في ممرّات عدّة قبل أن نصل إلى قاعة واسعة كبيرة، حيث الهواء منعش، والجو بارد ومعطّر. دخلنا إلى قصر شبيه بما قرأنا عنه في الكتب، بل أشبه بقصر الأمير في فيلم "سندريلا" الّذي شاهدته في سينما "مهتاب" في مدينة "كرمان". تدلّى من السقف المرتفع عدد من الثريّات الكبيرة، وفُرشت الأرض بسجاد نفيس ذي نقوش وألوان زاهية. لم يكن في المكان غيرنا، عبرنا هذه القاعة إلى قاعة أخرى، وجرى عند المدخل تفتيشنا، وأُجبرنا على خلع أحزمتنا، ووضعها في زاوية. بعد لحظات، دخلنا صالة كبيرة تتوسّطها طاولة بيضاوية الشكل، ويحيط بها عدد من المقاعد الجلدية الفخمة، وأمام كلّ مقعد ميكروفون صغير وإناء مياه.

أمرونا بالجلوس على المقاعد. جلتُ ببصري في أنحاء الصالة: يوجد على رأس الطاولة مقعد جلديّ فخم جدًّا كمقاعد الملوك، وعلى الجدران الرائعة
 
 
 
 
127

111

القسم الرابع: بداية الحكاية

 الألوان عُلّقت لوحة كتب عليها الآية القرآنية الآتية: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾. على مسافة بضعة أمتار من الطاولة، كان هناك عدد من الجنود أصحاب الأجسام القويّة. وكان المراسلون والمصوّرون حاضرين في المكان أيضًا. ما إن جلسنا حتى جاء "أبو وقاص" وأخبر "صالح" أمرًا، فانتفض الأخير متعجبًا وقال لنا: "يقول إنّ السيّد الرئيس قادم الآن، هيا انهضوا".


لم يكتف "أبو وقاص" بكلام "صالح"، بل نهرنا كي نسرع بالوقوف. سمعنا من الخلف وقع خطوات عسكرية، فتدافع المصورون نحو مصدر الصوت. رأينا رجلًا باللّباس العسكري يدخل ممسكًا بيد فتاة صغيرة باللباس الأبيض. كان الحرّاس الشخصيّون يمدّون أمامه نوعًا من السجاد البلاستيكي الصغير، وبعد أن يمرّ فوقه يجمعونه من خلفه. دخل باسم الثغر، واتجه مباشرة إلى المقعد الملكي. ويا لدهشتنا! إنّه "صدام حسين" رئيس جمهورية "العراق"!.

وكأنّما انهار كلّ شيء من حولنا. نحن الآن في قصر "صدّام" إذًا. "صدّام" الّذي يقصف مُدننا ويحتلّ أجزاءً من تراب وطننا ويقتل أبناءه. ها هو الآن على بعد خطوات منّا، ينظر إلينا مبتسمًا، بينما نحن لا حيلة لنا غير أن نجلس مقطّبي الحواجب دلالة على عدم الرضى!.

جلس "صدّام" وجلست ابنته الصغيرة قربه. كان يرتدي زيًّا عسكريًّا أخضر، عليه كثير من الأوسمة، ويحمل أعلى رتبة عسكريّة في البلاد، وكان مهيب الركن، ولون وجهه داكنًا أكثر مما يظهر في الصور.

بحث عن مترجم قبل أن يبدأ الكلام، وعندما اطمأنّ إلى وجوده ابتسم وقال: "أهلًا وسهلًا". تحدّث بداية عن الحرب العراقية الإيرانية، وأنّه لم يكن يرغب في وقوعها بين البلدَيْن الجارَيْن، مُعبّرًا عن أسفه لذلك. ثمّ قال: "نحن اليوم طلّاب
 
 
 
 
128

112

القسم الرابع: بداية الحكاية

 سلم، نتعاون مع المنظمات الدولية للتوصل لإيقاف الحرب، لكنّ الطرف الإيراني وللأسف الشديد لا يريد ذلك". ثمّ وجّه كلامه لنا قائلًا: "جميع أطفال العالم هم كأطفالنا، وما كان للنظام الإيراني أن يرسلكم إلى الجبهات وأنتم في هذا السنّ، فمكانكم في المدارس وليس في ساحات الحرب".


لم تكن الفتاة الصغيرة لتهتمّ لكلام أبيها أو لوجودنا، بل كانت ترسم على ورقة أمامها. تابع "صدّام" كلامه: "بعد هذا اللقاء سيطلق سراحكم لتعودوا إلى أمّهاتكم وآبائكم، وأمرت أن يشتروا لكم الهدايا لتأخذوها معكم إلى إيران".

بعد ذلك بدأ يُسائلنا، فكانت البداية مع "حسن مستشرق".
- ما اسمك؟
- حسن مستشرق.
- من أين؟
- من محافظة مازندران.
- هل أنت من القرية أو من المدينة؟
- من مدينة ساري.
- ما عمل والدك؟
- عامل.
وصل دور "أبي الفضل محمّدي":
- وأنت من أين؟
- من زنجان.
 
 
 
 
129

113

القسم الرابع: بداية الحكاية

 - من مدينة زنجان نفسها؟

- لا من ريف قيدار.
- هل والدك مزارع؟
- لا بل عامل مطحنة.
- هل لديك إخوة أكبر منك؟
- بل أصغر منّي.
- هل تذهب إلى المدرسة؟
- أجل في الصف الثاني متوسط.
بعد "أبي الفضل"، جاء دور "يحيى كسائي نجفي"، فسأله "صدّام":
- ما اسمك؟
- يحيى كسائي نجفي.
- من أي ّ مدينة؟
- من طهران.
حدّق صدام فيه لدقيقة ثمّ سأله:
- هل كان والدك في النجف من قبل؟
- لا.
- ماذا عن جدّك؟
 
 
 
 
130

114

القسم الرابع: بداية الحكاية

 - لا.

- ماذا يعمل والدك؟
- عطّارًا.
- هل أنت الأكبر بين إخوتك أم الأصغر؟
- أنا الأوسط.

بعد ذلك، جاء دور "جواد خواجوئي"، وكان من الإخوة الصغار السنّ، فأشار له "صدّام":
- وأنت؟
- جواد خواجوئي، من متطوعي كرمان.
- من المدينة أو القرية؟
- من مدينة سيرجان.
- ما هو عمل والدك؟
- سائق.
- هل أنت تلميذ؟
- أجل.
- في أيّ صف؟
- أول متوسط.
- هل أنت من "الشطّار" أو من الكسالى؟
أجاب جواد بعد سكوت قصير:
 
 
 
 
 
131

115

القسم الرابع: بداية الحكاية

 - بين بين.


فقال "صدّام" متّخذًا لهجة النصح: "لكن يجب أن تكون من الشطار!".

بقي شخصان قبل أن يصل دوري، فتمنيت أن ينهي محاورته عند هذا الحدّ. كان الإخوة يجيبون بأقل كلمات ممكنة عن أسئلة "صدّام"، وهذا دليل آخر على عدم رضانا عن الحضور في هذا المكان. انتبه "صدّام" لوجود "علي رضا شيخ حسيني":
- ما هو عمل والدك؟
- من العشائر.

في "إيران"، نطلق على من يعمل في تربية المواشي على أطراف المدن والأرياف، وحتّى لو لم يكن من الرُحّل، اسم العشائر الّتي لها في "العراق" معنى آخر، فالتبس الأمر على "صدّام" وسأله: "من أيّ عشيرة أنت؟ ما اسم شيخ عشيرتكم؟". ولمّا لم يفهم "علي رضا" المقصود، تابع "صدّام": "هل أمّك على قيد الحياة؟".
- أجل.
بعدها سأل "صدّام":
- من منكم قد توفيت والدته؟

فلم يجب أحد. عندها سأل سؤالًا آخر:
- من منكم من المدينة ومن منكم من القرية؟ ليرفع ابن المدينة يده.

بالطبع، لم أرفع يدي. يبدو أنّ "صدّام" أراد إنهاء اللقاء. وبإشارة منه، تقدّم
 
 
 
 
132

116

القسم الرابع: بداية الحكاية

 ضابط يحمل صينية عليها علبة خشبيّة. أخذ "صدّام" من العلبة سيجارًا، أشعله وبدأ ينفث دخانه الغليظ في المكان، ثمّ قال: "إن شاء الله ستنتهي هذه الحرب، ويعود الجميع إلى أهله في القريب العاجل ما إن نحصل على موافقة الصليب الأحمر، وهناك تابعوا دراستكم، وعندما تصبحون أطباء ومهندسين اكتبوا لي الرسائل"1. شعرنا أنّ اللقاء قد شارف على نهايته، لكنّ "صدّام" قال: "والآن ستوزعّ عليكم ابنتي "هلا" الورود البيضاء علامة السلام". ما إن أنهى كلامه حتّى تقدّم ضابط يحمل إناءً بلوريًا فيه ورود بيضاء، ناوله "هلا" الّتي دارت علينا، فأخذ كلّ منّا وردة وضعها في جيبه.


لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل أمر "صدّام" بوقوف الجميع خلفه لالتقاط صورة تذكارية قائلًا: "سنلتقط وإيّاكم صورة تذكاريّة نعطيكم إيّاها ضمن ألبوم تأخذونه معكم إلى إيران للذكرى". شقّ علينا التقاط صورة مع "صدّام" ومَقَتناه كثيرًا، لكنّنا أسرى وما باليد حيلة غير تنفيذ الأوامر. وقفنا خلف كرسي "صدّام"، وقف "منصور"، "جواد" و"حميد"في الصف الأوّل. كنتُ في حالة سيّئة والدقائق تمرّ عليّ ثقيلة. لم أشأ أن أظهر في الصورة لذلك وقفت في آخر الصف خلف أحد الإخوة، أحنيت ركبتيّ قليلًا وخفضت رأسي، وبذلك اختفيت عن عدسة المصوّر.

تذكّرت حينها الحيلة الّتي اتبعتها للاختباء عن أنظار "قاسم سليماني" كي لا يخرجني من صفوف المتطوعين.

كان كلّ شيء جاهزًا لالتقاط الصورة، لكن ينقص شيء أساس وهو ابتسامتنا لتتوافق مع ابتسامة "صدّام". حاول "صدّام"، وبخطة ذكيّة أن يدفعنا للابتسام
 

1- في العام 1996 بعدما تخرجت من الجامعة، وبناءً على طلب "صدّام" كتبت له رسالة نشرها عدد كبير من وكالات الأنباء والصحف في ذلك الوقت ويمكن للقارئ الاطلاع عليها آخر الكتاب.
 
 
 
 
133

117

القسم الرابع: بداية الحكاية

 فسأل: "من منكم لديه طُرفة؟"، ولمّا لم يجب أحد قال: "إذًا ستحكي لكم ‘هلا’ طرفة".


كانت "هلا" قد عادت إلى مكانها لتنهي رسمتها بعد توزيع الورود، مسح "صدّام" على رأس ابنته الّتي لا تتجاوز السادسة من العمر، وقال: "هل تعرفين طرفة تحكيها لهم؟"، رفعت "هلا" رأسها عن الورقة ثمّ قالت بلحن طفولي: "تسو" (أي لا). لم ينجح "صدّام" في إضحاكنا، لكنّ لحن "هلا" الطفولي رسم ابتسامة على وجوه بعضنا استغلّها المصور فالتقط الصورة. انتهى اللقاء، غادر "صدّام" وعدنا نحن إلى سجن "بغداد".

ضيفان جديدان
كان كلّ شيء كما تركناه في السجن، العقيد والضابطان جالسون في أماكنهم بصمت، لكن كان عندنا ضيفان جديدان، شابّان باللّباس المدني متّكئان على الجدار، أردنا أن نعرف من يكونان؟ ومن أين؟.

اقترب أحد الإخوة منهما وقال: "السلام عليكم، من أيّ فرقة أنتما؟ من التعبئة أو من الجيش؟". أجاب أحدهما بغرور: "نحن من المنظمة". حينها علمنا أنّهما من أعضاء منظّمة مجاهدي خلق المعروفة بالمنافقين في "إيران"، ويبدو أنّهما خُدعا بالوعود الّتي يُطلقها البعثيّون عبر القسم الفارسي في الإذاعة العراقيّة، فعبرا الحدود طمعًا بالسيارة والمنزل والسفر إلى أوروبا وطلبًا للّجوء السياسي.

لم يكن قد مرّ وقت طويل على تفجيرات المنافقين الّتي أدّت إلى استشهاد عدد من أبناء الثورة، ومن الطبيعي أن نكنّ لهم الكره والبغضاء، لذا اقتربت من أحدهما وسألته: "ما أخبار الميليشيّات، هل ما زالت تقتل الناس؟". نظر
 
 
 
134

118

القسم الرابع: بداية الحكاية

 أحدهما إليّ شذرًا وقال:"ميليشيات؟! هل تُسمّي منظمة مجاهدي خلق ميليشيات؟"، فقلت له: "لو لم تكن كذلك لما ارتميتم في أحضان الأعداء"، فأجاب: "لقد فررنا من السجون الإيرانية ولجأنا إلى العراق من أجل متابعة النضال". ضحك الإخوة وقالوا باستهزاء: "نضال؟". طقش "حسن مستشرق" الشابّ الصريح والجسور بفمه مستهزئًا وقال: "مرحبًا يا مناضل!"، فضحكنا ثانية. عندها، تدخّل "صالح" ودعا الجميع إلى السكوت.


خفّف نزاعنا اللفظي مع عضوَيْ منظمة "خلق" من توترنا بعد زيارة قصر "صدّام"، فكنّا كمن خسِرَ ساترًا في معركةٍ واحتلّ آخر. جلسنا في أماكننا، فتذكرنا الساعات الصعبة الّتي مررنا بها. كان "سلمان زاد خوش" ما زال حانقًا. خلع قميصه بحذر كي لا يتسبّب بنزف جرحه مجددًا وقال: "عندما وقفنا خلف "صدّام" كنت أدعو الله أن يضع في جيبي مسدّسًا لأطلق النار على رأسه فأرديه قتيلًا". ضحكنا لقوله فأضاف بجديةّ: "أقسم إنّني أقول الصدق، حتى إنّني بحثت في جيبي مرات عدّة معتقدًا أنّه ربما استُجيبت دعواتي".

عندما ذكر "سلمان" الجيب دسست يدي في جيبي وأخرجت منها وريقات الوردة البيضاء، الّتي كنت قد سحقتها من شدّة الغضب ورميتها في سلّة النفايات، وحذا باقي الرفاق حذوي. قال "محمود رعيت نجاد" لـ"صالح": "هل انتبهت يا ملّا؟ كنت أريد مدّ يدي نحو كرسي صدّام عندما ضربني أحد الحراس عليها!".

فقال "صالح": "صه".

كان "حسن بهزاد" الشاب المبتسم دومًا يقضي أوقاتًا صعبة، قال: "ما أسوأ ما حصل أيها الإخوة، لقد جئنا إلى الجبهة لقتال صدّام، فأخذنا عديمو الشهامة إلى قصره لنلتقط معه الصور التذكاريّة كي يستغلّوها لغاياتهم الإعلامية".
 
 
 
 
135

119

القسم الرابع: بداية الحكاية

 كان "محمد ساردوئي" أكثرنا انقباضًا، وقال إنّه كان علينا فعل شيء في مواجهة "صدّام". فسألته: "مثلًا؟"، فكّر مليًّا ولم يصل إلى أيّ نتيجة. كنّا جميعنا نشعر بالذنب، قال "حسن مستشرق" الّذي كان يلوم نفسه ويلومنا: "لقد ذهبنا بماء وجه التعبئة والبلاد، فكيف لنا أن نرفع رؤوسنا أمام الشهداء والإمام؟".


وقال "سلمان زاد خوش": "لِم لم نرفع نداء "الله أكبر" الّذي رفعناه ليلة العمليات في قصر صدّام، لِم لم أفعل شيئًا، وصمتّ؟".

كان كلّ منّا يذكر شيئًا من اللّقاء المشؤوم بـ"صدّام" ويلوم نفسه. لكن في الحقيقة، لم نكن نستطيع القيام بأيّ شيء، فماذا يستطيع بضعة صبية فعله مقابل حرّاس "صدّام" الأشدّاء قساة القلوب؟ كنّا نتوقع من أنفسنا فعل ما يفوق طاقاتنا. لُمنا أنفسنا كيف لم نهجم عليه هجمة رجل واحد لنخنقه عندما أُتيحت لنا الفرصة، ووقفنا خلف كرسيّه لالتقاط الصور! لكن كيف يمكن الإقدام على عمل خطير كهذا دون تنسيق مسبق؟ خاصة وجود ذلك النظام الأمني القويّ في القصر، إذ يمكنهم القضاء علينا في طرفة عين. حتى إنّ "صدّام" لا يسير إلّا على سجّاد خاص إمعانًا في التشدد والمحافظة على أمنه وسلامته. كيف يمكن وسط كلّ هذه الإجراءات والسلاح القيام بخطوة خطيرة كهذه؟

كنّا نعلم كلّ هذا، ونعلم أنّنا سنقتل حتّى قبل أن تصل أيدينا إليه، لكنّ الأفكار الّتي راودتنا أشعرتنا بالذنب. قلت في نفسي: "ألم نأتي إلى الجبهة لنستشهد؟ ألم نأتي لمواجهة الموت القاني؟ ألم نكتب وصايانا ووضعناها في حقائبنا وسلمناها لتعاون1 الحرس الثوري؟ حسنًا! ما الفرق إذًا، وأين المشكلة
 

1- تعاون أو شؤون الحرس: مركز دعم ومتابعة خلف الجبهة، مهمته: حفظ الأمانات، تسلّم وتسليم السلاح والثياب العسكرية وأي أشياء وأغراض، وحتى استلام أجساد الشهداء أيضًا وتسليمها إلى الجهات المعنيّة في المناطق والمدن.
 
 
 
 
136

120

القسم الرابع: بداية الحكاية

 فيما لو تأخر موعد الشهادة بضعة أيام، فيُراق دمنا في قصر صدّام حتى لو لم نستطع أن نصيبه بأدنى أذى؟ فالتاريخ سيحفظ لنا تلك المحاولة. لكنّنا من جهة أخرى، وجدنا لأنفسنا الأعذار، فإن قُتلنا دون أن نصيبه بأذى، فمن سيعلم بمحاولتنا تلك؟ وما الفائدة من خطوة لن تؤثّر على العدو في شيء ولن يعلم بها أحد وكأنّها لم تكن أساسًا. كما ولن تذكر في أي صفحة من صفحات التاريخ.


هنا تذكرنا مواجهة الإمام السجاد عليه السلام والسيدة زينب عليه السلام لـ"يزيد" في قصره. سلّمنا أمرنا إلى الله، ورضينا بما قسمه الله لنا.

المناظرة
عدا جدالنا وشجارنا مع أنفسنا، نشب تلك اللّيلة جدال آخر صعب، بين الملّا "صالح" والشابَّيْن من المنظمة. هذه المرة كنّا من المتفرّجين فحسب. جرى النقاش حول انحراف المنظمة، والحرب المسلّحة، والعمليات الإرهابيّة، إلى فرار "رجوي" من"إيران". كان الطرفان على دراية واسعة ومتكافئَيْن في الاستدلال وإدارة النقاش. كان الشابان يقدّمان الدلائل والبراهين على كلّ ما أقدمت عليه المنظّمة من أفعال. كان "صالح" في جهة والشابان في الجهة المقابلة. كنّا ننزعج كثيرًا عندما يفحمانه باستدلالاتهما، كمن سقط بطله أرضًا في حلبة المصارعة، وما هي إلّا دقائق ويوجه له منافسه الضربة القاضية. غير أنّ "صالح" لا يلبث أن يستردّ زمام المبادرة ويردّ الصاع صاعين فنتنفّس الصعداء. لقد أجبرهما باستدلالاته المنطقيّة والمقنعة على الإقرار بأخطاء المنظمة، فتحجّجا بالنوم لينهيا المناظرة، معلنَيْن إفلاسهما وخسارتهما.

عندما انتهت المناظرة، وددت لو أعانق "صالح" وأقبّل وجهه. تحلّقنا حوله وعبّرنا عن افتخارنا الكبير بهذا الرجل العربي الآباداني (العباداني). عندما كان
 
 
 
 
 
137

121

القسم الرابع: بداية الحكاية

 "صالح" يجهّز فراشه للنوم قرب الحائط، قال بلهجته العربية الغليظة: "هذان فرخان صغيران، عندما كنت في السجن جادلت من هم أكبر وأهم منهما في المنظمة ولم يكن لديهم ما يقولونه".


في اليوم التالي، عندما ذهبنا إلى المرحاض، رأينا على طاولة الحارس عددًا من الصحف، طُبع على صفحتها الأولى صورة لقائنا بـ"صدّام". عنْوَنت إحدى الصحف كلام "صدّام" في اللّقاء: "كلّ أطفال العالم أطفالنا".

أخبر أحد الحراس "صالح" أنّ التلفزيون يبثّ منذ الليلة الماضية صور اللّقاء. فرح "صالح" بالخبر لأنّ عائلته ستطمئنّ إليه بمشاهدتها الفيلم بعد 9 أشهر من انقطاع أخباره في الأسر. منذ ذلك اليوم وجميع الوسائل الإعلامية العراقية من تلفزيون وصحف تتحدث عنّا، والمراسلون يعدّون التقارير معنا في الساحة الخضراء لوزارة الدفاع، كي نطمئن أكثر فأكثر إلى قرب عودتنا إلى "إيران".

ابتسام عبد الله
في أواسط شهر أيار، حاورتنا مراسلة مجلّة "ألف باء" العراقية على العشب في الباحة الخارجية. كانت المراسلة الثلاثينيّة ترتدي ملابس محتشمة، لكنّها سافرة الرأس. أحضرت معها مسجّل الصوت، وقلمًا وبضعة أوراق. التقطت لنا العديد من الصور الفوتوغرافية وعرّفتنا بنفسها أنّ اسمها "ابتسام عبد الله"، والدها في الجيش العراقي وهي أيضًا كاتبة وشاعرة.

كانت تحاورنا بلطف ولا تفارق الابتسامة محيّاها، كما أعطتنا الحرية في قول كلّ ما نريده. تحدّثت عن بداية الحرب وما أثار دهشتنا ادّعاؤها أنّ "إيران" هي من بدأت الحرب. أنكرنا عليها قولها وأكّد "محمد ساردوئي" أنّ العراق هو من بدأ الحرب والهجوم على الأراضي الإيرانية، معدّدًا لها أسماء المدن الّتي
 
 
 
 
138

122

القسم الرابع: بداية الحكاية

 سقطت في أيدي الجيش العراقي. لكنّها بقيت مصرّة على أنّ "إيران" هي البادئة وأخرجت مصحفًا شريفًا من حقيبتها، قلّبت أوراقه إلى أن وصلت إلى الآية الّتي تريد، ثمّ سألتنا: "هل تجيدون قراءة القرآن؟"، فأجاب "علي رضا شيخ حسيني": "أجل"، رفعت السيدة "ابتسام" القرآن مقابل وجه "علي رضا"، ثمّ وضعت إصبعها المصبوغ باللون الأحمر تحت آية من سورة الواقعة وقالت له: "اقرأ"، فقرأ: "هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان"، فقالت "ابتسام": "القرآن الكريم يقول إنّ من يحسن إلى الآخرين يكون الإحسان جزاء عمله، لكنّ الإمام الخميني لم يفعل ذلك. لقد حلّ ضيفًا في مدينة النجف مدة 14 عامًا وبدل أن يكافئنا على ذلك بالإحسان بادرنا بالحرب".


علمنا فيما بعد أنّ "ابتسام" من النساء الناشطات في مجال الإعلام المصوّر والمكتوب، ولا ندري لِم أصرّت على القول إنّ "إيران" هي من بدأت الحرب. هل حقًا لا تعلم أن "صدّام حسين" قد مزّق أمام شاشات التلفزة معاهدة السلام في العام 1975 وأعلن بداية الحرب؟!

كان الحوار الّذي استمرّ حوالي الساعة بلا جدوى، فالإعلاميّة والكاتبة العراقية المعروفة لم تحترم الأمانة المهنيّة ولم تأخذ بشيء من كلامنا، بل كتبت كلّ ما يحلو لها. الفائدة الوحيدة الّتي جنيناها من هذه المقابلة هي جلوسنا حوالي الساعة في الشمس وعلى العشب، وهذه نعمة إلهية كبيرة وفرصة مغتنمة.

في انتظار خبر طيّب
كنّا نقضي الأيام الصعبة في السجن على أمل أن تصلنا أخبار طيبة مفرحة من الجبهات، وكنّا نعلم أنّ الهدف من عمليات "بيت المقدس" هو تحرير
 
 
 
 
139

123

القسم الرابع: بداية الحكاية

 "خرمشهر"، لكنّنا لم نستطع إقامة الاحتفالات على مداخلها بسبب وقوعنا المبكر في الأسر، وقد مضى على ذلك حوالي 20 يومًا. كان كلّ أسير يؤتى به إلى قسم المخابرات لاستكمال ملفّه، يأتينا باليسير من أخبار الجبهة. كانوا يبشّرون "صالح" بفتح قريب، وهو يخبرنا بدوره عن تقدّم مقاتلينا.


في أحد الأيام، رأيت "صالح" مضطربًا لا يقرّ له قرار. كان يقف حينًا على فراشه، ثمّ يسير نحو كوّة الباب، يُشعل سيجارة ويعود إلى وسط السجن، يجوب المكان على عجلة ذهابًا وإيابًا، وأحيانًا أخرى يضرب بيده على فخذه، يبتسم ويصبو لإخبارنا بالسرّ الّذي يخفيه في صدره، بيد أنّه لم يعد يستطيع الكتمان، فقال له أحد الإخوة: "ما بك يا صالح؟ لِم أنت مضطرب؟" ابتسم الملّا "صالح" ابتسامة ذات مغزى، وتابع حركة الذهاب والإياب، فتأكّدنا أنّه يخفي عنّا أمرًا. أجلسناه أرضًا ورجوناه أن يخبرنا ما الأمر.

بدأ "صالح" بإنشاد شعر لم أفهم معناه، بدا واضحًا أنّ الفرحة قد غمرت وجوده. ترجم لنا الشعر إلى الفارسيّة: "قالت الضفدع قولًا فسّرته الحكماء، في فمي ماء وهل ينطق من في فمه ماء".

قلنا: "هيا تكلّم يا صالح"، فصاح بصوت ضعيف لا يسمعه غيرنا: "لقد تحرّرت خرمشهر هل تصدقون؟!"

كم رغبنا في الصراخ فرحًا ليصل صوتنا إلى الحرّاس والمارة خلف جدار السجن، لكنّ "صالح" أوصانا بعدم إفشاء علمنا بالأمر. أقمنا الاحتفالات في ساحات القلوب، لكنّها لم تطل، إذ سمعنا صوت صراخ وضجيجًا من باحة السجن. خرج "صالح" للترجمة وعندما عاد كانت يداه ترتجفان من شدّة التأثر والغضب. أشعل سيجارة وراح ينفث دخانها بعصبيّة. لم نكن نسمح لأنفسنا بالتحدث إليه وهو في
 
 
 
 
 
140

124

القسم الرابع: بداية الحكاية

 تلك الحال، إلّا أنّ أحد الإخوة تقدّم منه وسأله عن سبب انزعاجه. نفث سيجارته بغضب وقال: "مهما أشرت له كي لا يقول إنّه من الحرس الثوري لم يفهم".


كان "صالح" يتحدث عن أسير شاب من الحرس الثوري، سأله العراقيون: "هل أنت من الحرس؟ "فلم يلتفت إلى إيماءات وإشارات "صالح" واعترف أنّه من الحرس. عندها أشعل البعثيّون النار بلحيته، وطلب منه "إسماعيل" أن يشتم الإمام فأبى، فأقسم"إسماعيل" قائلًا: "أقسم بشرفي أن لا أدع هذا الحذاء يصل إلى المعتقل".

حاملة الجرّة
منذ يومَيْن والضابط الطهراني يجمع فتات الخبز غير القابلة للأكل. وفي أحد الأيام، بلّلها بالمياه وعجنها، ثمّ وضعها على غطاء علبة الحليب المجفّف. وبعد أن جفّت العجينة، أخذ من العقيد نصف شفرة حلاقة وراح ينحتها. كنّا في أوقات الفراغ نتسلّى بلعبة "فرد يا زوج"، وعندما رأيناه ينحت العجين تملّكنا الفضول لنعرف ماذا ينحت. كان ينحت العجين بدقّة وصمت كعادته. رويدًا رويدًا، اتّخذت العجينة شكل امرأة تحمل جرّة على كتفها. كان المجسم لمدة من الزمن موضوعًا على الرفّ حيث يجلس"صالح"، إلى أن جاء "أبو وقاص" في أحد الأيام وكان الشرر يتطاير من عينَيْه، بسبب الهزائم المتكررة الّتي مُني بها جيش بلاده، وما إن وقعت عيناه على المجسّم حتّى رماه بعنف على الأرض فانكسر نصفين، المرأة في مكان والجرة في مكان آخر.

بعد أيام عدّة، جاءت الأوامر للضابطَيْن والعقيد بالاستعداد تمهيدًا لنقلهم إلى المعتقل، وكانوا قبل يومَيْن قد نقلوا العنصرَيْن من ميليشيات "خلق" إلى جهة مجهولة ولا أعتقد أنّها أوروبا.
 
 
 
 
 
141

125

القسم الرابع: بداية الحكاية

 العجوز الطيّب

بعد مغادرة العقيد والضابطَيْن، انضم إلينا سجينان عراقيّان. الأول يُدعى "رضا" في الثلاثين من العمر وهو عريف في الجيش، اعتُقِل لارتكاب مخالفة وحكم عليه بالسجن أشهر عدّة، وتوسط له أحدهم فنقل إلى سجننا الأقل ازدحامًا. في الأيام الأولى، احتاط "صالح" كثيرًا، فلم يكن يختلط بنا أو يتحدّث إلينا، لكن ما إن اطمئنّ إليه حتّى عاد سيرته الأولى وأضحى يجالسه، فيتبادلان أطراف الحديث لساعات.

السجين الجديد الثاني، عجوز في الـ70 من العمر، يلفّ رأسه بشالٍ حريريٍّ ويرتدي دشداشة بيضاء نظيفة. عندما دخل رمقنا جميعًا بنظرة احترام وقال: "السلام عليكم".

أشار "صالح" إلى الفراش الّذي استخدمه العقيد مدّة، فجلس عليه العجوز، ولم يطل به المقام حتى تحلّقنا حوله نسأله عن أحواله، فراح ينظر إلينا بتعجب ويتمتم بالدعاء. أخبرنا "صالح" أنّ للعجوز ابنًا فارًّا من الخدمة العسكريّة، فاعتقلوه رهينة ريثما يظهر ابنه أو يسلّم نفسه. كان العجوز الّذي صرنا نناديه بـ"الحاج" يتجاذب مع "صالح" و"رضا" أطراف الحديث. كنّا نعلم أنهمّ يتحدثون بأمور سياسية، لكنّنا لم نكن ندرك أو نفهم تفاصيل أحاديثهم، لأنّها كانت باللّغة العربية. في أحد الأيام، أخبرنا "صالح" أنّ العجوز من معارضي النظام، ويصف "صدّام" بالحمار العالق في مستنقع الأوحال، كلّما حرّك نفسه محاولًا الخروج، كلّما غرق أكثر فأكثر. جعلنا هذا الوصف ننجذب إلى العجوز ونحبه، لدرجة أنّنا كنّا نلزم الهدوء أثناء نومه كي لا ينزعج، وهو بدوره بادلنا الحب وخاصة "منصور" أصغرنا سنًّا إذ كان
 
 
 
 
142

126

القسم الرابع: بداية الحكاية

  لديه حفيد في مثل عمره. كان "الحاج" (العجوز) يعلّم منصورًا اللّغة العربية يوميًّا. في اليوم الأول، علّمه ثلاث كلمات: "مخدة - قميص - فانيليا". وكانت طريقته في التعليم مبتكرة. على سبيل مثال، حمل الوسادة الّتي كانت للعقيد وقال: "يا منصور هذه مخدة"، ثم أمسك بقميص منصور وقال: "هذا قميص"، بعد ذلك أمسك بلباسه الداخلي وقال: "هذه فانيلا". وكان في أوقات مختلفة من اليوم يحمل المخدّة ويسأل "منصور": "ما هذه يا منصور؟" فيجيبه منصور أينما كان ومهما كان يفعل: "هذه مخدة يا حاج". وفي اليوم التالي، علّمه ثلاث كلمات أخرى وهكذا دواليك في كلّ يوم ثلاث كلمات.


شارف فصل الربيع على الانقضاء، فزادت حرارة الجو في السجن. كان "صالح" و"رضا" يستغلّان أيّ فرصة تسنح لهما فيذهبان إلى المرحاض ويغسلان وجهيهما ليخفّفا من شدّة الحرّ. كان "الحاج" يمسح عرقه بمنديله. وصرنا ننام بشكل معكوس، بحيث تكون رؤوسنا في الوسط وأقدامنا نحو الجدران، كي نبقى تحت المروحة ليجفّ عرقنا.
 
 
 
 
143

127

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق


حلّ الصيف، وفي أحد الأيام الحارّة، فُتح باب السجن، ورمي إلى الداخل شابٌّ طويل القامة بالركل والضرب. نهض بسرعة، جلس في زاوية وهو يتمتم بعض الكلمات، لا بدّ أنّها شتائم للسجانين.

كان الشاب في الـ25 عامًا تقريبًا، أسمر اللون، ذا عينَيْن واسعتَيْن، يرتدي اللّباس العسكري العراقي المرقط. من الواضح أنّه شعر بالإهانة جرّاء الطريقة الّتي رُمي بها داخل السجن أمام الجميع. تنهّد بحرقة، ثمّ ارتسمت على وجهه ابتسامة مرّة.

تركناه ريثما يهدأ غضبه، لنسأله بعدها عن سبب سجنه، ولنعرف إن كان معارضًا مثل العريف "رضا" و"الحاج" أم لا! في اللّيل، ذهب السيد "علي نور الديني" و"حسين بهزادي" إليه. في البداية، لم يشأ الاحتكاك بنا، لكنّه لانَ في النهاية وتحدّث إلى الإخوة بمساعدة "صالح"، مع مراعاة الاحتياطات اللازمة.

بقي الشاب بضعة أسابيع معنا في السجن ذاته. علمنا خلالها أنّ اسمه "عبد النبي"، وأنّ السبب في سجنه أنّه أقدم على ضرب ضابط أعلى منه رتبة، والأهم من ذلك اتهامه بالعلاقة مع حزب الدعوة، وأنّ أحد إخوته يقبع في السجن المجاور.

كان "عبد النبي" شيعيًّا خلافًا لـ"رضا" و"الحاج" السنّيّين. أخبرنا أنّه ذهب مع عائلته إلى "مشهد" عندما كان صبيًّا حتى إنّه يتذكّر الفندق الّذي نزلوا فيه.
 
 
 
 
147

128

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 أيّد "محمود رعيت نجاد" المشهدي صِحّة كلامه، من خلال العلامات والعناوين الّتي ذكرها الشاب.


أخبرنا "عبد النبي" أنّه يحدث في بعض المّرات أن تُكتب شعارات معادية لـ"صدام" على الجدران في شوارع "بغداد"، سُرعان ما يقوم البعثيّون بمحوها. لقد أفهمنا ذلك من خلال حركات يدَيْه وجسمه بطريقة طريفة ومفهومة في آن، كما كان يقلّد صوت صفارات الإنذار لسيارات عناصر حزب البعث.

على الرغم من الاتهامات الخطرة الموجّهة إليه، إلّا أنّه كان جسورًا لا يعرف الخوف طريقًا إليه، ولا يهاب إظهار العداوة لـ"صدّام". كان يقول: "لو سنحت لي الفرصة وأمسكت به فسوف أقتله لا محالة".

شهر رمضان
وافق الأول من تموز من العام 1982م بداية شهر رمضان المبارك من العام 1403 ه. ق.، وبما أنّ إقامتنا في سجن "بغداد" تعدّت الشهر، أصبح بإمكاننا الصوم بلا مانع شرعي وفقهي. لذا أخبرنا "صالح" بنيّتنا الصوم وبدوره طلب من العراقيين أن يعطوننا وجبتي الغداء والعشاء عند الغروب، لنتناول طعام الإفطار بوجبة والسحور بالأخرى، فوافقوا على ذلك. لكن "الحاج" العجوز عندما علم بنيّتنا الصوم، حاول عبر "صالح" منعنا من ذلك بحجة حرّ صيف "بغداد" الحارق والمضاعف في هذا السجن الضيق، لكنّ "صالح" لم يكترث لكلامه، وبالتالي لم يحرّك ساكنًا.

صمنا اليوم الأول من الشهر بصعوبة ومشقة، فقد أنهكنا العطش والجوع. لكن عندما أُطلق مدفع الإفطار شعرنا بتحسّن وتناولنا طعام إفطار يومنا الأوّل.

مرّت الأيام الأولى بطيئة ثقيلة. لم يكن الحاج العربي يصوم، لكنّه كان يعدّ
 
 
 
 
148

129

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 الساعات والدقائق ليحين موعد الإفطار أكثر من الصائمين أنفسهم. كان يبدأ العدّ العكسي لأذان المغرب قبل 3 ساعات من موعد إطلاق مدفع الإفطار، فيقول: "بقي ثلاث ساعات يا منصور". بينما كنت أعرف موعد الإفطار من خلال انعكاس أشعة الشمس على جدار السجن، وما إن يرتفع خط أشعتها نحو الأعلى ويبهت لونه كليًّا، حتّى نسمع صوت المدفع.


كنت أراقب أنا أشعة الشمس، بينما يتابع الحاج إعلام "منصور" باقتراب موعد الإفطار:
- بقي ساعة واحدة يا منصور.
- بقي نصف ساعة يا منصور.
- بقي ربع ساعة يا منصور.

وما إن يُطلق مدفع الإفطار حتى يجلس ويراقب إفطارنا بعشق ومحبة.

في اليوم الثالث، عندما لم نفلح في الحصول على مياه باردة للإفطار، ملأ "عباس بور خسرواني" علبة الحليب الفارغة بالماء، ثمّ أغلق فوهتها بقماشة نزعها من غطاء إحدى الوسادات، ووضعها في معرض مروحة السقف وبذلك أصبح لدينا مياه باردة بمقدار قدح صغير لكلّ شخص، وبالتالي كان علينا إرواء ظمئنا بمياه الدلو الّذي يملؤه "صالح" من الصنبور.

في اليوم الرابع قبيل غروب الشمس، دخل "صالح" وبيده زجاجة عصير البرتقال، دفعها نحونا وقال فرحًا: "هذا عصير إفطار اليوم".

سألناه: "من أين لك هذا يا صالح؟"، فأجاب ضاحكًا: "من بيع بعض السجائر". كان العراقيّون يعطون "صالح" السجائر يوميًّا، وبما أنّه صائم كان
 
 
 
 
149

130

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 يبيعها للجنود العراقيين في السجن المجاور بأثمان باهظة ويشتري بثمنها العصير. مزجنا العصير بمياه العلبة الباردة، حمل "منصور" نصف كوب من العصير للعجوز الّذي رفضها في البداية، لكنه شربها بعد إصرار وإلحاحٍ من "منصور"، ثمّ التفت إلى "صالح" وقال له كلامًا، نظر "صالح" إلينا وقال: "يقول الحاج إن كان أطفال إيران بهذه اللباقة واللطف فكيف الحال مع كبارهم؟!".


كان "عباس" يضع علبة المياه يوميًا في معرض المروحة، فيبرد ماؤها من الظهر حتى المغرب، لكن كثيرًا ما حدث أن لا نشرب منها، إذ يدخل أحد الحراس العراقيين عديمي الرحمة قبل الأذان بنصف ساعة إلى السجن، فيشرب المياه أمام أنظارنا ثم يضحك ويخرج. كان هذا التصرف يثير غضب "الحاج" كثيرًا، لكن لا نحن ولا هو يمكنه فعل أيّ شيء.

في يوم من أيام الشهر، أحضروا السجناء العراقيين من السجن المجاور إلى سجننا بهدف تنظيفه. حينها التقى "عبد النبي" أخاه وتعانقا مطوّلًا، ثم عرّفنا إليه. كان "عبد النبي" خلال الساعات الثلاث التي استضفنا فيها السجناء العراقيين، يتودد إلينا كثيرًا، يحدّثنا بصوت عالٍ ويزهو أمام أخيه وأبناء وطنه باستخدام الكلمات الفارسية الّتي تعلّمها.

إلى جهة مجهولة
بعد ظهر يوم 23 من شهر رمضان، دخل العراقيون بسرعة إلى السجن، وأعطوا الأوامر بالانطلاق. كانت الوجهة مجهولة، لا "صالح"، ولا حتى السجانون يعلمون إلى أين. عندما علمنا أنّ "صالح" سيأتي معنا، فرحنا كثيرًا، وتمنّينا أن تكون الوجهة إلى معتقل الأسرى، فهذا جيّد لنا ولـ"صالح" الّذي أمضى 10 أشهر من أسره في سجن التعذيب في "بغداد".

والمعتقل يتيح لنا فرصة
 
 
 
 
150

131

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 الاختلاط مع مئات الأسرى، كما نستطيع الاستحمام والاستجمام بنور الشمس. كنّا نأمل ذلك على الرغم من أنّ أحدًا لم يخبرنا عن إمكان انتقالنا إلى هناك.


ودّعنا "عبد النبي" والعجوز والعريف العراقي بعيون دامعة وخرجنا من السجن مصحوبين بدعاء العجوز الطيب.

نهاية الزقاق الرهيب الّذي ما زالت آثار الضرب في غرفه واضحة على أجسامنا، وقفت سيارة "ستايشن" بالانتظار. لم نصدق أنّهم سينقلون 23 شخصًا، لكنّهم فعلوها! جلس صالح قرب السائق ونحن في الخلف حيث يفصل حاجز معدني مشبك بيننا وبين السائق وأقفلوا الباب علينا. كانت شمس تموز الحارقة تسطع على سقف السيارة السوداء الّتي تحولت بالنسبة إلينا إلى تابوت متحرك كاد يُزهق أرواحنا.

عبرت السيارة شوارع "بغداد" مطلقة صفارة الإنذار، وخرجت من الناحية الشمالية للمدينة، فزاد أملنا في الانتقال إلى المعتقلات. تبلّلنا عرقًا لشدّة الحرّ، وكدنا نفقد وعينا لانعدام الأوكسيجين إلى أن وصلنا إلى ثكنة كبيرة. عبرنا داخلها شارعًا خاليًا من الأشجار، وتوقفنا أمام ميني باص أبيض اللّون، يفتح بابه على باحة مسورة من الجهات الأربع. تحيط بالمبنى النباتات الشوكية اليابسة، ويُسمع صوت القُمريّ من بعيد ولا شيء آخر. يبدو أنّ جميع الكائنات قد تكاتفت لتزيد من وحشة المكان. توهمنا أنّنا وصلنا إلى المعتقل، لكنّ هذا المبنى الصغير لا يشبه ما سمعناه من وصف للمعتقلات، انتظرنا بفارغ الصبر أن يُفتح الباب. دخلت السيارة إلى وسط الباحة فنزلنا منها. لقد تخدّرت أقدامنا وأخذ العطش منّا كلّ مأخذ. اعتقدنا أنّ الأسرى نائمون في غرفهم، لكن ظنّنا لم يكن في محله. غادرت السيارة، ولم يبقَ في المكان غيرنا نحن وعدد من الجنود العراقيين الّذين راحوا يحدقون بنا ويتهامسون، بيد أنّهم شاهدوا صورنا على شاشات التلفزة أكثر
 
 
 
 
151

132

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 من مرّة. كان في كلّ ضلع 4 غرف مقفلة، كما يوجد حوض للورود الحمراء عند مدخل المبنى وإلى جانبه برميل ماء.


كنّا ما زلنا صائمين، لكنّ "صالح" أنقذنا من الهلاك عطشًا عندما قال لنا إنّنا قطعنا حدّ الترخص وبطل صومنا. ما إن سمعنا هذه الفتوى، حتى هجمنا على البرميل وشربنا من مياهه الكدرة حتّى الثمالة. أدخلونا إلى إحدى الغرف، وكانت أصغر من سجن"بغداد" وأشدّ حرًا. أخبرنا "صالح" بما سمعه من السائق أثناء الطريق:
- قال إنّ الإيرانيين قاموا بعمليات واسعة باسم "رمضان" وقد أحضروا اليوم عددًا من الأسرى، سيضعونهم في سجن بغداد لذا قاموا بإخلائه. وهذا المكان يسمى ثكنة "الرشيد" ويقع على بعد 25 كيلومترًا من بغداد.

سأله "محمّد صالحي": "إذًا يحتمل عودتنا إلى سجن بغداد ثانية؟"، فأجاب "صالح": "ربما، لكن أتمنى أن نبقى هنا، فالمكان أنظف، ويسمحون لنا بالبقاء ثلاث ساعات يوميًّا في باحة الشمس صباحًا وعصرًا، وسوف ينقلوننا إلى غرفة أكبر بعد أن يصلحوا قفلها".

بعث كلام "صالح" فينا الأمل، إذ سيخفف نقل المكان من وطأة الأسر نوعًا ما. كما أنّ الجلوس في الهواء الطلق ساعتَيْن أو ثلاثًا في اليوم يعدّ غنيمة كبرى بالنسبة إلينا نحن الّذين لم نعرف الحمام منذ شهرَيْن، وإذا ما تركتنا عدسات المراسلين وشأننا فنور على نور.

انتقلنا عصرًا إلى غرفة أكبر. جلسنا في الممر حوالي الساعة، فاستمتعنا بالهواء الطلق. كانت الغرف خالية إلّا غرفتَيْن، غرفة للجنود العراقيين الفارّين من الجبهة والأخرى للسجانين. كان مسؤول السجانين رجلًا طويل القامة، آثار مرض الجدري بادية على وجهه. بدا للوهلة الأولى طيّبًا حنونًا، لكنّه ليس كذلك أبدًا.
 
 
 
 
152

133

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 عند الغروب، أحضروا قطعتين (وعاءين) من مرق اللحم، لم تتعدَّ حصة الواحد منّا من الطعام بضع لقمات مع الخبز الّذي لا تصلح سوى طبقته الخارجيّة للأكل.


كانت هذه اللّيلة الأولى من الأسر الّتي لا نسمع فيها صوت السياط وصراخ التعذيب، فنمنا براحةٍ لا توصف. في اليوم التالي، سمح لنا العراقيون بالبقاء مدة 3 ساعات في "باحة الشمس" كما وعدوا. كان "صالح" أكثرنا رضى عن المكان الجديد، لكنّ ذلك لم يدم طويلًا. ففي صباح اليوم التالي، فتح باب السجن ودخلت سيارة الـ"ستايشن" السوداء ذاتها واصطحبت "صالح" إلى سجن "بغداد" كمترجم لأسرى عمليات "رمضان".

ودعْنا "صالح" بمرارة لا توصف، فقد كان لنا كالأخ الحنون في أصعب أيام الأسر، وكان عينًا وناصحًا لنا. لم يكن في وسعنا فعل أي شيء غير تقبيل وجهه، ثمّ استودعناه في أمان الله وحفظه.

لم نكن نعلم كم سنبقى في السجن الجديد، وهل ستسنح الفرصة للإقامة 10 أيام فنتمكّن من الصوم أم لا، لذا لم نكمل صوم شهر رمضان الّذي لم يبق على انتهائه سوى 4 أيام.

تعرّفنا إلى المكان والحرّاس. كان "رحيم" الطويل القامة، ذو الوجه المليء ببثور الجدري والعينَيْن الواسعتَيْن والعنق الطويل، رئيسًا للسجانين الّذين لا يتجاوز عددهم الأربعة، وكانوا أكثر لطفًا من "رحيم"، خاصّة "علي" الشيعي الّذي كان متنفّسًا لنا في أجواء الأسر الخانقة، ويحمل في جيبه صورة للإمام الخميني. بين الحين والآخر، كان يتفقّد رقيب في الخمسين من العمر أحوال السجن. من الواضح أنّ السجانين كانوا يهابونه ويقدّمون له التحيّة العسكرية.
 
 
 
 
153

134

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 في أحد الأيام تحدّثنا إليه بلغة هي مزيج من اللّغة العربية والفارسية وشكونا إليه قلة حصة الطعام الّتي لا تشبع أكثر من شخصين، فكيف تشبع 23 شخصًا، ولنثبت له صحة مقولتنا، جعلنا "حميد" و"منصور" يأكلان وجبة الطعام كاملة أمام ناظريه. وبالطبع نفّذا المهمة على أكمل وجه ما دفع النقيب لإعطاء الأمر بزيادة وجبة الطعام. كما طلبنا منه تأمين نسخة من القرآن الكريم لنتلوه في ما تبقى من أيام هذا الشهر الفضيل. مكث قليلًا ثمّ قال: "لا أظنّ أنّ لدينا مصحفًا في السجن، سأحضره لكم من منزلي في المرّة القادمة". بعد ذلك تقدّم منه "سلمان"، رفع كمّ قميصه وقال: "واحد تركش (شظية) في عضلة"، لكنّ النقيب لم يفهم ما يرمي إليه وغادر السجن. عندما جاء في اليوم التالي، أحضر معه مصحفًا شريفًا قديمًا ملفوفًا في قماشة وقد تبعثرت أوراقه، فكنّا نتناوب على قراءته من الصباح حتى منتصف اللّيل. تعلمت القراءة الصحيحة من "محمّد ساردوئي" و"علي رضا شيخ حسيني" اللّذَيْن أصبحا معلمَي قرآن جيدَّيْن للعناصر كافّة.


توالت الأيام في سجن ثكنة الرشيد، وأضحى السجانون أكثر تساهلًا معنا وسمحوا لنا بالبقاء لوقت أطول في باحة الشمس. عندما نكون داخل الزنزانة يسمحون لجنودهم المعتقلين بالذهاب مرة واحدة في اليوم إلى المراحيض.

في أحد الأيام، وضع العراقيون شبكة للعب الكرة الطائرة في الباحة وراحوا يلعبون، وسمحوا لنا في إحدى المرات أن نلعب معهم، لكن عندما داس "رحيم" على قدم "علي رضا شيخ حسيني" عن عمدٍ وجرحها، امتنعنا عن اللّعب معهم. حدث أن تجادلنا مع الحرّاس حول أيّ البلدين على حقّ وأيّهما الأقوى في الحرب. وفي إحدى المرات، سخر منّا أحدهم كاشفًا عن زنده، وقال: "أنا جنديّ المعارك لا أنتم الّذين لا يصل وزنكم إلى 40 كيلوغرامًا!".
 
 
 
 
154

135

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 حينها تقدّم "حميد مستقيمي" وكان محترفًا ماهرًا فقال له:"ما رأيك في إجراء مسابقة؟"، فأجاب: "أيّ مسابقة". قال "حميد": "سأفكّ الكلاشينكوف قطعة قطعة بعينَيْن معصوبتَيْن، وعليك أنت أن تعيد تركيبه بعينَيْن مفتوحتَيْن".

- هذا فقط؟
- أجل!

نزع الحارس مخزن الرصاص احتياطًا، ثمّ أعطى الكلاشينكوف لـ"حميد"الّذي فكّه وهو معصوب العينين، وقد تلاعب بإحدى القطع دون أن ينتبه الحارس لذلك، ثمّ قال له: "حان دورك".

بدأ الحارس بتركيب السلاح إلى أن وصل إلى القطعة الّتي تلاعب بها "حميد"، فلم يستطع وضعها في مكانها، حاول ذلك ثلاث مرات ولم يفلح. كان "حميد" واثقًا أنّ العراقي لم ولن يكتشف الأمر، فقال له: "سأركبه لك بنفسي".

اضطرّ المسكين للخضوع للأمر، فقام "حميد"بتعديل قطعة مجموعة الزناد خلف ظهره للحظة، ثمّ وضعها في مكانها وأنهى تركيب السلاح بالكامل أمام ناظرَيّ الحارس، ثمّ سحب الأقسام وسلّمه له. بُهت الحارس وسأل "حميد": "ماذا فعلت به؟"، ابتسم"حميد" وقال: "هذا سرّ!".

زيارة مفاجئة
منذ أن أعطى النقيب الأمر بزيادة حصة الطعام، بدأت أفكر في امتلاك ملعقة. وجدت في الباحة بطارية جافّة فأفرغت محتوياتها من الفحم، وحففت الغطاء المعدني على أرض الممر حتى أصبح مستويًا وذهب لونه، ثمّ جعلته بيضاوي الشكل، بعدها صنعت مقبضًا من الخشب فأصبح لديّ ملعقة أشبه بمجذاف
 
 
 
 
155

136

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

زورقٍ مائي. عندما فتح باب السجن ودخلت سيارة الـ"ستايشن" مسرعة، قفز قلبي من مكانه مخافة أنّهم يريدون إعادتنا إلى سجن الاستخبارات في "بغداد".

توقفت السيارة وسط الباحة، ونزل منها "صالح"، فتحلّقنا حوله وسلّمنا عليه، وقبّلناه كمن يستقبل والده. بيد أنّ "صالح" كان على عجلة من أمره، فقال: "أسرعوا يا أولاد يجب أن نعود إلى بغداد بسرعة". ما إن سمعنا اسم "بغداد" حتى ارتجفت قلوبنا وجلًا. سأله السيد "عباس سعادت": "هل سيعيدوننا إلى ذلك السجن اللعين يا صالح؟" فأجاب: "لا، لا، من المقرر أن تزوروا مقرّ الصليب الأحمر وتعودوا إلى هنا".

في الطريق، أعطانا "صالح" معلومات أكثر عن عمليات "رمضان" الّتي جرت بهدف السيطرة على "البصرة"، لكن لم تنجح في تحقيق أهدافها. هذا ما سمعه من الأسرى الجدد، كما أخبرنا عن إطلاق سراح "رضا" و"العجوز". لكن لم يحمل لنا أخبارًا طيّبة عن "عبد النبي"، وقال ربما يصدر الحكم بإعدامه.

شعرتُ بالحزن الشديد لهذا الشاب. نحن بدورنا أخبرنا "صالح"، من خلف الحاجز الحديدي المشبك، بما جرى معنا خلال الأيام الماضية.

نُقلنا إلى مدينة "بغداد" على أمل لقاء الصليب الأحمر وكتابة الرسائل لأهلنا فيطمئنّون إلى حالنا وأحوالنا. توقفت السيارة أمام مبنى، فنزلنا منها. أُدخلنا إلى الصالة، وانتظرنا وصول مبعوثي الصليب الأحمر ليدوّنوا أسماءنا في لوائحهم بعنوان "أسرى حرب". بعد حوالي الساعة، دخل عدد من الضباط على رأسهم عقيد ومعهم سيّدة شابة ترتدي لباسًا أسود فاضحًا ومتبرّجة بنحوٍ تشمئزّ منه الأنظار. يبدو أنّها مراسلة إحدى وكالات الأنباء. كانت تتمتع باحترام خاص بين العراقيين فاق كلّ من عداها من المراسلين الّذين التقيناهم حتى اليوم.
 
 
 
 
 
 
156

137

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 نظرت المراسلة بدهشة لصغر سنّنا، ثمّ تحدثت إلى عدد من الرفاق باختصار، واقترحت على العقيد أن تستكمل اللقاء غدًا في السجن، فوافق على مضض، وكان يرغب لو ينتهي الأمر في هذه الصالة والباحة الخارجية المجاورة.


أوصى العقيد بتنظيف باحة السجن وتقديم الطعام والفاكهة لنا، بعدها ترجم لنا "صالح" توصيات أو بالأحرى تهديدات العقيد: "الويل لكم إن ثرثرتم أمام عدسة الكاميرا أو طأطأتم رؤوسكم!".

عاد "صالح" إلى سجن الاستخبارات في "بغداد" ونحن إلى سجننا. في الطريق جرى حديثٌ فضحك منه الجميع. في اليوم التالي وقبل شروق الشمس، فتح باب الزنزانة وأجبرَنا البعثيون على تنظيف ساحة السجن ورشّها بالمياه.

بعد حوالي الساعة، أحضروا صينية مليئة بالعنب والبطيخ، ووضعوها أمام مدخل الزنزانة. كما استبدلوا برميل المياه بجرّة كبيرة وجديدة، وعلّقوا مروحة في السقف. هدّدنا "رحيم" بعدم لمس الفاكهة إلى ما بعد مغادرة المراسلين، لكنّنا لم نأخذ تهديده بعين الحسبان وما إن غادر حتى أكلناها كلّها. ليس لأنّنا لم نتناول الفاكهة منذ وقت طويل، بل لأنّنا لا نريدهم أن يستغلّوا هذا الأمر أمام عدسات المصوّرين، وكنّا على ثقة بأنّ البعثيين لن يتركوا لنا شيئًا منها بعد مغادرة المراسلين.

انتظرنا المراسلين حتى الظهر، لكن لم يأتِ أيٌّ منهم. ترقّبناهم باضطراب طوال اليوم، ولحسن الحظ لم يأت أيّ منهم ولا حتى السيدة ذات اللباس الأسود! في المقابل، تناولنا الفاكهة وأصبح لدينا - في هذا الحرّ الشديد - مروحة وجرّة مياه جديدة.
 
 
 
 
157

138

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 سفر آخر

انتهى شهر رمضان، وفي أحد أيام تمّوز، بعد 75 يومًا على أسرنا، سمعنا صوت بوق سيارة من خارج السور. لم تكن الـ"ستايشن" السوداء هذه المرّة، بل حافلة صغيرة (ميني باص) لتنقلنا إلى حيث لا نعلم.

"رحيم" الّذي استغلّ فرصة وجودنا لتعلّم اللغة الفارسية، حمل إلينا، وببضع كلمات تعلمها، بشارة نقلنا إلى معتقل "الرمادي". هذا يعني الخلاص من شرّ عدسات مصوّري ومراسلي النظام البعثي، أو على الأقل هذا ما كنّا نظنّه. لكن هل حقًّا سيكون ذهابنا إلى هناك نهاية مرحلة الترويج الإعلامي؟

انطلق الميني باص نحو الغرب. كتب على اللوحة المعلقة على جانب الطريق: "100 كلم إلى الرمادي".

كنّا قد سمعنا بعض الأمور من "صالح" عن هذا المعتقل، وفرحنا لأنّنا بعد حوالي الساعتين سنكون بين حوالي ألف أسير من إخواننا المقاتلين، لكنّني حملت معي أملًا آخر وهو اللّقاء بـ"أكبر" و"حسن" هناك.

سار الميني باص بين المزارع والبيوت القروية، فتملّكني - وبعد 75 يومًا من السجن - شعور لا ينسى. كانت البيوت وأشجار النخيل وغيرها شبيهة بتلك الّتي مررنا بها في "البصرة"، وبقريتنا أيضًا. شعرت بالحنين وتمنيت لو يتوقف السائق لدقائق. فجأة سمعنا صوتًا كإطلاق النار واهتزّ الميني باص، لقد ثقبت العجلة فاضطر للتوقف. لحسن حظنا، كانت العجلة الاحتياطية فارغة من الهواء أيضًا، فاضطروا إلى نفخها في المكان، ما أتاح لنا فرصة الجلوس على التراب واشتمام رائحة النباتات والحشيش وسماع تغريد الطيور. في تلك الأثناء، مرّ بنا فلّاح يجرّ بقرة، نظر إلينا فردًا فردًا ثمّ ألقى السلام فرددنا التحية. كان كلّما تقدّم خطوات عدّة
 
 
 
 
 
158

139

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 يلتفت إلينا وإلى الجنود بتعجب وحشرية. انتهى السائق من استبدال العجلة، وعندما كان يضع الرافعة مكانها، رأيت في الصندوق الخلفي عددًا من المجلات، فاستأذنت السائق بأخذ إحداها، ولشدة دهشتي كانت باللغة الفارسية.


انطلق الميني باص ورحت أقرأ المجلة بولع شديد. كان عنوانها "الحقيقة"1، وقد كُتب بخط "النستعليق". تلا العنوان الآية القرآنية التالية من سورة البقرة: ? ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون?.

في نظرة أولية، أدركت أنّ المجلة توزّع بين الأسرى الإيرانيين، ويشاهد على إحدى صفحاتها رسم للإمام الخميني مؤسّس الجمهوريّة الإسلاميّة، وقد رسم على هيئة الخيّام في حديقة قطعت أشجارها من أسفل جذوعها، وكتب على كلّ جذع اسم أحد شهداء الثورة العظام: "مطهري، بهشتي، رجائي، باهنر ومفتح"، وتستمرّ جذوع الأشجار المقطوعة إلى الأفق البعيد حاملة أسماء عدد آخر من شهداء الوطن، وكتب أسفل الصورة أبيات من رباعيات الخيام:
"رحل الأصحاب والموالون جميعهم
واحدًا تلو الآخر وافاهم الأجل
شربنا معًا في خمارة العمر
فثملوا وإلى المعشوق سبقوا".

تناقلت الأيدي مجلّة الحقيقة الشهرية خلال الطريق إلى مدينة "الرمادي"، لتستقرّ تحت أحد المقاعد.
 

1- كانت مجلة الحقيقة الشهرية تطبع في بغداد بالتعاون مع منظمة منافقي خلق- وتوزع على الأسرى الّذين لم يهتموا للمواضيع الّتي تنشر فيها وقد توقفت عن الصدور بعد عامين.
 
 
 
 
159

140

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 "الرمادي" مدينة صغيرة، كانت شوارعها خالية في تلك الساعة. عبر الميني باص جسرًا حديديًّا فوق نهر غزير المياه، وأصبحنا بعد دقائق خارج المدينة. رأينا من بعيد ثلاثة مباني مؤلفة من طابقين فظننّا أنّه معتقل "الرمادي". عندما اقتربنا رأينا شعار الهلال الأحمر عليها فأيقنّا أنّنا على صواب.


عندما توقف الميني باص على بعد 50 مترًا من الشريط الشائك قرب المبنى الأبيض، استطعنا رؤية الأشخاص داخله بوضوح. كانوا يجرّون نحو مقرّ قيادة المعتقل الّذي وقفنا قربه، وكتب على لوحة كبيرة: "قفص الأسرى - المقرّ العام الرمادي".

نزلنا من الميني باص، فتقدّم خمسة جنود يلبسون القبعات الحمراء ويحملون السياط ليقودونا إلى المعتقل. في تلك اللحظة، خرج ملازم طويل القامة عريض المنكبين عبوس، فقدم له الجنود التحية العسكرية. بعد أن أحصى عددنا، تحلق الجنود المسلّحون حولنا. وعندما رأى "منصور" كلّ هذا العدد من الجنود الّذين صوبوا فوهات أسلحتهم نحونا، قال: "انظروا كم هم جبناء!". تقدّم الملازم العبوس منه وصفعه على أذنه قائلًا: "من هم الجبناء؟".

عند دخولنا المعتقل، قال "عباس بور خسرواني" بصوت منخفض: "انتبهوا لكلامكم، فهؤلاء يجيدون الفارسية". توسّط بوابة المعتقل ذات القضبان الحديدية سور الأسلاك الشائكة الممتد عن جانبيها بارتفاع مترين وعرض 5 أمتار، أسلاكٌ متشابكةٌ متداخلةٌ، بعضها بشكل علامة الضرب وبعضها الآخر متوازٍ، إضافة إلى خط حلقويّ في الوسط. حتّى القطط لتعجز عن عبوره، وإلى يسار البوابة غرفة للحراسة فيها حارسان مسلّحان.

دخلنا المعتقل واتجهنا نحو المبنى الواقع في الجهة اليسرى. فرشت
 
 
 
 
 
160

141

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 الأرض بالحصى الصغيرة، ونُصبت لوحة كتب عليها آية قرآنية من سورة الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾, وكتب على جدار المبنى داخل دائرة حمراء كبيرة: "القاطع الأول". كان المكان هادئًا لا يُسمع فيه صوت أو حركة. دخلنا ممرًّا ضيّقًا، اصطفّت على يمينه نوافذ متعددة تطلّ على غرف الأسرى. هناك سمعنا أصواتًا مألوفة ولغة مفهومة:

- سلام أيّها الإخوة.
- أهلًا بالأبطال.
- في أيّ عمليات شاركتم؟
- متى تمّ أسركم؟
- أنتم الّذين التقيتم صدّام؟
- من أجل سلامتهم صلّوا على محمّد وآل محمّد.

سمعنا أصواتهم ولم نرَ سوى أشباحهم خلف النوافذ المشبكة. انتهى صفّ النوافذ واختفت الأصوات. وصلنا إلى درج مؤدٍّ إلى الطابق الثاني. دخلنا إلى غرفة نهاية الممر حيث استبدلنا الثياب الّتي أعطانا إيّاها صدام بملابس الأسر. كان فرحنا بخلع تلك الملابس كبيرًا كدرجة حزننا عندما خلعنا ثياب التعبئة لنرتديها. كانت ملابس الأسر هي ذاتها الملابس العسكرية لكن مع مربعات سوداء ترمز إلى السجن والأسر. شعرنا بعد ارتدائها بالتجرّد من جميع عوالق الدنيا، تمامًا كحجاج بيت الله الحرام في ثياب الإحرام. خرجنا من الغرفة الصغيرة، ودخلنا بابًا مواجهًا لها، كتب عليه باللون الأحمر: "القاعة 8"، وتقدّم الجندي حاملًا السوط ليفتح القفل. لم يعد يفصلنا عن لقاء أبناء وطننا سوى بضعة أمتار. شعرت باضطراب وأنا أفكر في "أكبر"، هل عالجوه وشُفي؟ هل
 
 
 
 
 
161

142

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 ستتكحّل عيناي برؤيته مجددًا هنا؟ أو على الأقلّ أسمع خبرًا ما عنه! ماذا عن "حسن"؟ هل نُقل من "بغداد" إلى هنا فألقاه ويهنأ عيشي مجدّدًا؟


كنت غارقًا في تلك الأفكار عندما فُتح الباب ودخلنا القاعة رقم "8"، يا إلهي ماذا أرى؟ تحلّق ما يقارب 20 رجلًا عجوزًا بالدشداشة البيضاء، يحمل بعضهم العكّاز وبعضهم الآخر انحنى ظهره حتى ركبتيه. كان أكثرهم شبابًا رجلًا طويل القامة نحيلًا في الـ40 من العمر تقريبًا. استقبلونا وقبّلوا وجوهنا واحدًا واحدًا ورحبوا بنا باللغة الفارسية، لكن بلهجة عربية غليظة. شعرت بالرعب في تلك اللحظات. قلت في نفسي، يا إلهي هل الأسر شاقّ إلى هذه الدرجة حتى يهرُم هؤلاء بهذه السرعة؟

كنت أعتقد أنّهم من التعبئة أو من جنود الجيش ورتبائه. ضمّونا إلى صدورهم وهم يذرفون الدمع حتى تبلّلت وجوهنا. جلسنا متلاصقين وعلمنا أنّهم من أبناء قرى "خوزستان" الحدودية، وقد أسروهم في الأيام الأولى لهجوم البعثيين، إمّا من مزارعهم وإمّا من بيوتهم لتجري مبادلتهم مع الأسرى العراقيين لدى "إيران" نهاية الحرب. استمع الرجل الأربعيني، ويدعى "كاظم" إلى قصتنا وترجمها إلى باقي الأسرى الّذين لا يجيدون الفارسية بشكل جيّد. كنّا نتبادل أطراف الحديث عندما سمعنا صوت صفّارة ممتدًّا، يمكننا الآن الخروج من الزنزانة والتعرف إلى باقي الأسرى. جلب "كاظم" قصعات الطعام المستطيلة الشكل المعلّقة على الجدران، وقبل أن يخرج قال لنا: "حان الآن وقت توزيع طعام العشاء، وبعد ساعة يصدح صوت صفّارة الدخول. اذهبوا إلى المراحيض لأنّه لن يسمح لكم الذهاب ثانية حتى صباح اليوم التالي، ولا يوجد مراحيض في الزنزانة".
 
 
 
 
162

143

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 ابتسامات عذبة

تفاجأنا خلف باب الزنزانة باستقبال الإخوة الأسرى الحارّ، شبّان بوجوه نحيفة وجباه متصلّبة كثفن البعير من كثرة التعبّد والسجود، في أيديهم سبحات من طين صنعتها أناملهم. ابتساماتهم عذبة ونظراتهم ودودة. أحاطت كلّ مجموعة منهم بواحد من أفراد مجموعتنا، وواكبونا إلى أن نزلنا إلى الباحة المفروشة بالحصى. كانوا يعرفون قصتنا أكثر منّا، فقد قرؤوا عنها في الصحف. دعونا إلى غرفهم لتناول العشاء، ولم تكن الشمس قد غربت بعد، فحلّ كلّ فردٍ منّا ضيفًا على مجموعة من 7 عناصر. كنت ضيف "سيامك عطائي" من "كرمان"، وكان العشاء حساء اللحم الّذي لا يشبه حساء اللحم في "إيران" في شيء إلّا في المرق مع بعض قطع لحم البقر، ولا أثر فيه للحمص واللّوبياء أو البطاطا، ناهيك عن خبز الجيش العراقي الّذي لا يؤكل منه غير طبقته الخارجية. بعد العشاء، سألت عن "أكبر" و"حسن"، لكن لا أحد يعرفهما هنا. قال "حسن فند" من "لُرستان": "لا يوجد هنا غير 3 أشخاص من كرمان: السيد محمد حسيني، محمد رضا راشدي، والثالث علي بنافند الّذي أسر منذ 3 أشهر".

التقيت السيّد "محمّد حسيني" و"محمّد رضا راشدي" من "سيرجان". كانا في الـ24 عامًا من العمر تقريبًا، وقد أسرا أوائل الحرب. بدا الصبر والصمود واضحيْن من حديثهما. كان السيّد "محمّد" يعرف عددًا من عناصر مجموعة 23، أو يعرف آباءهم، وقد سُرّ لوجود 7 من أبناء مدينته في مكان واحد، وهم : "رضا إمام قلي زاده، جواد خواجوئي، منصور محمود آبادي، محمد ساردوئي، حميد مستقيمي، عباس بور خسرواني والسيد عباس سعادت".

شارفت الشمس على الغروب عندما انطلقت صفّارة الدخول إلى الزنزانات،
 
 
 
 
 
163

144

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 فواكبنا "سيامك" إلى زنزانتنا. في الداخل، أخبرنا "كاظم" بوجوب الجلوس إلى الجدار ريثما يدخل السجانون ويحصون عددنا. بعد الإحصاء، أعطى "كاظم" ورجل يناديه"كاظم" بـ "العم" وسادة وبطانيّتين ودشداشة مقلّمة لكلّ فرد منّا.


في تلك الليلة، تسامرنا مع الرجال المسنّين حتى وقت متأخّر من اللّيل، بعضهم من "الهويزة" وبعضهم الآخر من "سوسنكرد" ومدن أخرى. و"كاظم" رجل ناضج من "الأهواز"، كان يعمل في شركة النفط.

كان بين الجمع عجوز سبعيني وربما أكثر، يضع نظارات متضرّرة من أنحاء عدّة، فكان يربطها. لم يكن "بابا عبود" يستطيع المشي دون عكازه الّتي هي في الحقيقة قبضة مكنسة. ومن نزلاء هذه الزنزانة رجل ينادونه بـ"الملّا"، كان على عكس المسنّين الآخرين، متعلّمًا ولديه الكثير الكثير من القصص والحكايا، إضافة إلى العلوم الدينية والروايات، والأحاديث والأدعية.

تولّى "الملّا" تعليم زملائه تلاوة القرآن الكريم بأسلوب المدارس القديمة. وكم كان عجيبًا بالنسبة إلينا مدى شوق هؤلاء المسنين إلى تعلّم التلاوة. إضافة إلى التدريس، كان "الملّا" مسؤولًا عن نظافة الزنزانة.

حلّ ليل الأسر الأكثر راحة بالنسبة إلينا، ولقد أنستنا رائحة الوسائد والبطانيات الجديدة سواد بطانيات سجن "بغداد". لم نعد وحدنا وأصبحنا بين أبناء وطننا، فشعرنا كالأسماك الّتي نُقلت من حوض ماء موحلٍ إلى البحر، ذلك لشدةّ معاناتنا في الأشهر الثلاثة المنصرمة.

استعدّ الرجال المسنّون للنوم. كانت المساحة المتاحة لكلّ شخص للنوم، حوالي 60سم. مع أنّني كنت متعبًا، إلّا أنني لم أستطع منع نفسي من التفكير في "أكبر". كدت أفقد الأمل برؤيته ثانية، خاصة أنّ رصاصة الرشاش قد قطعت
 
 
 
 
164

145

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 الشريان الرئيس في فخذه. كنت أفكر في ملامحه البريئة ونظراته حتى وقت متأخر، وتذكرت عندما انتقلنا سويًّا من القرية إلى "جيرفت" للدراسة واستأجرنا غرفة في منزل السيد "عسكري" ولا أنسى تلك اللّيلة الشتوية الباردة.


تلك اللّيلة القارسة
عاد "يوسف" و"محسن" إلى القرية، وبقيت مع "أكبر" في المنزل في "جيرفت" للتحضير للامتحانات. شعرت أول الليل ببرد قارس، فقام "أكبر" بتحضير العشاء وحده. قشّر حبات البطاطا، قطّعها، وخرج إلى الباحة ليغسلها مع بضع حبات من البندورة.

كنت أشعر بالدوار، فتناولت حبّة دواء. كانت مدفأة النفط تبعث الدفء في الغرفة، لكن عندما فتح "أكبر" الباب دخل معه البرد، فاندسست تحت البطانية. كان "أكبر" يرتجف بردًا ويداه تجلّدتا من المياه الباردة. وضع البطاطا والبندورة المقطّعة على النار، وخرج لشراء الخبز من الفرن القريب، فأغلقت الباب من الداخل، وخلدت إلى النوم تحت البطانية من جديد. أثقل النعاس جفنيّ، فاستسلمت لنوم عميق. عندما استيقظت كانت الشمس تنشر أشعتها الدافئة في الغرفة، و"أكبر" نائم في مكانه. شعرت بالتحسّن فخرجت لأملأ الإبريق ماءً وأحضّر الشاي. لدى عودتي إلى الغرفة، انتبهت إلى أنّ زاوية زجاج الباب مكسورة، وقد غطّاها أحدهم بقطعة من النايلون. استيقظ "أكبر" على صوت إغلاق الباب وسألني: "هل أنت بخير؟ هل تشكو من شيء؟"

- لا، لِم تسأل؟ وماذا حدث للزجاج؟

سألني "أكبر" بدهشة: "تقصد أنّك لا تعرف؟"، قلت له: "ماذا حدث؟
 
 
 
 
 
165

146

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 وماذا عليّ أن أعرف؟". عندما أيقن أنّني فعلًا لم أكن واعيًا لما يدور حولي، أخبرني بما جرى:

- الليلة الماضية عندما عدت بعد شراء الخبز، طرقت الباب كثيرًا لكنّك لم تستيقظ. نظرت عبر الزجاج فرأيتك غارقًا في النوم، بدايةً فكرت في الذهاب إلى منزل أحد الأصدقاء للنوم، لكنّني تذكّرت أنّ القدر على النار، فخفت أن تختنق من دخان احتراق الطعام. قرعت الباب مجددًا حتى جاء صاحب المنزل فأخبرته بما جرى، وسمح لي بكسر الزجاج بعد أن وعدته بتغييره على نفقتي الخاصة، وهكذا دخلت الغرفة واطمأنّ قلبي إلى أنّك ما زلت تتنفّس وعلى قيد الحياة1.

استيقظنا على صوت أذان "الملّا" المنخفض لصلاة الصبح. وعندما أشرقت الشمس، علا صوت الصفارة إيذانًا بموعد الإحصاء. بعدها، ولأول مرة منذ أُسرنا، تناولنا حساء الخضار للفطور، الفطور الوحيد الّذي يتناوله الأسرى القدامى منذ حوالي السنتين.

عدنا لتبادل الزيارات من جديد. عندما علم السيد "محمّد حسيني" أنّني من "كهنوج"، أرسل في طلب "علي بنافند". "علي" شاب في الـ21 من العمر من "بجكان" في ريف "منوجان". كان كمّ قميصه الأيمن خاليًا، فقد قطعت شظية يده من الكتف في عمليات "الفتح المبين"، وكان من الصعوبة بمكان سماع صوته لشدّة حيائه وخجله. مهما حاولت لم أستطع نزع الحواجز بيننا، أحدثه بلهجة "كهنوج" فيردّ "علي" بالفارسية الصحيحة، لكنني بعد أيام عدّة استطعت أن أنتزع منه ضحكة، حينها أخبرني قصّة أسره.
 
 

1- أكبر دانشي صديقي ونسيبي ورفيق القتال، لم أره منذ ذلك الحين وحتى الآن لا أثر لهذا الشهيد الكبير. فارقت والدته الحياة بعد انتظار وألم دام 27 عامًا.
 
 
 
166

147

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 أصابته في جبهة "كوشك" شظية حامية جدًّا قطعت يده من الكتف وأحرقت بحرارتها المرتفعة الشريان الرئيس، ما خفّف من حدّة النزف. بقي حيًّا تائهًا مدة 4 أيام في تلك الصحراء الفاصلة بين جبهتَيْ "العراق" و"إيران"، إلى أن أنهكه العطش فارتمى على الأرض ممنّيًا نفسه بالشهادة. في تلك اللحظة الّتي كان يتلو فيها الشهادتين، هطل مطر غزير وجرت جداول المياه، فروى عطشه ودبّ فيه النشاط. وفي اليوم التالي وجدَته دورية للأعداء وأسَرته.


حصلت منه على كثير من المعلومات حول معتقل "الرمادي" والأسرى القدامى، وعلمت أنّ الملازم الّذي استقبل "منصور" بصفعة قوية يدعى "عز الدين" وهو عديم الرحمة. كان الذهاب إلى القاطعين الآخرين ممنوعًا، والغرفة 24 في القاطع (3) تضم كبار ومفكري المعتقل الّذين وصلوا إليهم عبر الجواسيس. حتى إنّ ساعات خروجهم إلى باحة الشمس مختلفة عن ساعات أسرى بقية غرف القاطع (3).

كان رابط المعتقل نقيب عباداني ينادونه بـ"العم غلام". ملأ الأسرى أوقات فراغهم في تعلّم اللغة الإنكليزية، وتعلّم الصرف والنحو من اللغة العربية. الحرّاس داخل المعتقل هم: "جاسم تشركو"، "أحمد سوزني" و"حميد عراقي". الحمام الجماعي يوم الجمعة فقط، وأهم التعليمات أن الاقتراب من الشريط الشائك، وامتلاك ورقة وقلم، وصلاة الجماعة وإقامة أيّ مراسم جماعية ممنوع على الإطلاق.

ومن التعليمات عدم الاختلاط مع أيّ كان، خاصة أكراد "أهل الحق" الصوفيين. كانت هذه المرّة هي الأولى الّتي ألتقي بأفراد من هذه الجماعة. كان شاربا الرجل منهم يصلان حتى أسفل فكّه، بعضهم كان من عناصر الجيش وبعضهم الآخر مدنيّون. كانت زنزانتهم رقم (7)، لذا كنّا نمّر بالقرب منها عند
 
 
 
 
 
 
167

148

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 خروجنا من زنزانتنا وعودتنا إليها، فأراهم إمّا ينظّفون الزنزانة، أو يحلقون لحاهم بالشفرة وكانوا يضعون شاربيهم في أفواههم أثناء الحلاقة كي لا يتعرّضا للقصّ.


بعد مدّة، أيقنت أنّ هؤلاء ليسوا فقط غير خطرين، بل ولطفاء جدًّا. في الأسبوع الثاني لإقامتنا في المعتقل، تعرّفت إلى السيد "حسام الدين نوابي" الّذي شارك في عمليات الفتح المبين. أصيبت قدمه اليمنى برصاصة ولم يكن في استطاعته التنقّل بسهولة. كنت أتحدث معه عن الأوضاع في المعتقل عندما انضم إلينا أحد أصدقائه، وقد تحدّثا عن أسير في القاطع (3) من عائلة "روحاني"، فسألت عن اسمه، قال: "حسين روحاني"! تردّد صدى صفّارة القطار في أذني وتذكرت جبال "لُرستان"، عبق النباتات الجبلية وملامح ذاك الشاب من الحرس الثوري الّذي كان ينصح أحد التعبويين في تلك المقصورة. سألت السيّد "حسام الدين": "هل هو من شمال إيران، من بهشهر؟". انتفض السيد من مكانه مندهشًا وقال: "هل تعرف حسين روحاني؟"، فأجبت: "رأيته في زي قائد الحرس منذ حوالي السنة في قطار أراك – أهواز". جرّني السيد إلى زاوية خالية وقال لي: "يجب أن لا تخبر أحدًا أنّ حسين روحاني قائد، ففي هذا المعتقل العديد من الجواسيس، وإن علم العدو أنّه من الحرس الثوري فالويل كلّ الويل له".

كنت قد سمعت من "صالح" عن عقوبة عناصر الحرس القاسية، فأكّدت للسيد أنّني متيقّظ تمامًا، حينها تنفس الصعداء وغيّر موضوع الحديث قائلًا: "على فكرة، ثمّة اثنان من الأسرى الّذين شاركوا في عمليات الفتح المبين، في القاطع رقم (2) ويريدان التعرّف إليك وهما في مثل سنّك، محمّد حسن مفتاح ومحمّد يزدي". فسألته: "وكيف لي أن أراهما؟"، قال: "فقط في عيد النوروز يسمحون للأسرى في القواطع الثلاثة أن يجتمعوا معًا!".
 
 
 
 
 
168

149

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 ولكلّ حدث عبرة

في الأيام التالية، حصلت على معلومات أكثر أهميّة. الزنزانة رقم (24) هي مقر القيادة المعنوية للمعتقل، وتضم الأسرى المهمّين، من بينهم أحد الطلبة الحوزويّين، تولّى "ولاية المعتقل". وقد والاه جميع الأسرى الملتزمين دينيًّا، وله الكلمة الفصل في جميع الأمور. أيّ أمرٍ يصدره يعدّ تكليفًا شرعيًا، وأيّ رفض للتنفيذ يعدّ معصية، وفي حال نُقل إلى معتقل آخر يُعيّن خلفًا له. كانت أوامر هذا الطالب الحوزوي الشاب تُنقل عبر أقنية سرّية وخاصة إلى نوابه في باقي الزنزانات، وهم بدورهم يطلعون نزلاء الزنزانة على أوامره، ويعتبرون أنّ ولاية النواب والحوزوي الشاب، هي امتداد لولاية الإمام الخميني قدس سره، وبالتالي لولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام.

هذا ما نقله لنا الإخوة المتديّنون في الأيام الأولى لوجودنا في المعتقل. لكن بعد مدّة، علمنا أنّ جميع الأسرى لم يرضوا بتلك الأحكام والقوانين، منهم أهل الحق وجنود الجيش الإيراني الّذين رفضوها دون إظهار أيّ ردة فعل عكسية. بعضهم لم يرفض تلك الأحكام فحسب، بل سعى إلى كشف جسور التواصل مع الزنزانة (24) عند الأعداء، منهم "يحيى م." و"رضا ز.". أمّا المجموعة الثالثة المخالفة لأسلوب الحوزوي الشاب، فهم من المتدينين المتعلمين المثقفين الّذين يرفضون هذا النوع من القيادة في الأسر. فباعتقادهم أنّ الطالب الحوزوي أسير عادي مثل باقي الأسرى وليس على تواصل مع الولي الفقيه في "إيران"، حتى إنّه لم يُعيّن من قبل الإمام الخميني قدس سره، وبالتالي ليس له الحقّ في تعيين مصير مئات الأسرى، خاصة وأنّه لم يصل إلى تلك المرتبة من العلم والاجتهاد الّتي تعصمه من الخطأ.
 
 
 
 
169

150

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 السيد "محمّد حسيني" و"سيامك عطائي" من جملة الأسرى أصحاب هذا الرأي الّذي أيقنتُ حقّانيّته فيما بعد. تعتمد إدارة الحوزوي الشاب ومن يوالون هذا الفكر، على سياسة الطرد والتشدّد غير المحدود. وبسبب هذا التشدد وأحكام التحريم الّتي يطلقونها كتحريم لعب الكرة مع العراقيين، كي لا يستغل العدو هذا باعتقادهم، أدّى إلى نفور الأسرى من هذه الجماعة والابتعاد عنها. ومن أحكامهم كراهة فتح الزر الأخير في القميص، كما أنهم تدخلوا في انتخاب رابط المعتقل، واختاروا شخصًا ضعيف النفس، ما أدّى إلى نشوء كثير من المفاسد وألحق كثيرًا من الخراب، فكان مصيره القتل على أيدي أتباعه.


كما أدّت سياسة هذا الحوزوي إلى إيجاد شرخ بين الأسرى، ففُضح أمر عناصر حزب الله "إيران"، ونقلوا إلى معتقل آخر، ومن بقي منهم عانى الأمرّين من المعارضين لهم. في النهاية، نقل الطالب الحوزوي إلى معتقل "الموصل (4)" وبفضل وعي ودراية كبار المعتقل أمثال الحاج "أبو ترابي" والحاج "جمشيدي" وقدرتهم على جذب الشباب إليهم، تمكنوا من إنهاء ظاهرة ولاية الحوزوي الشاب.

هؤلاء ليسوا أطفالًا
شارف صيف "الرمادي" الحار على الانتهاء، وأصبحت على دراية بقوانين المعتقل المكتوبة وغير المكتوبة. كانت مجموعة الثلاثة والعشرون فتى، تجتمع ليلًا، وفي النهار نفترق كلّ في مكان. نظم السيد "محمّد حسيني" صفًّا لتعليم الصرف والنحو وكان علينا كلّ يوم حفظ حديثين. كان "أبو الفضل محمّدي" أفضل التلامذة يعيد علينا ما حفظه كلّ ليلة. كانت المسافة الفاصلة بين القاطع (1) و(2) مساوية لملعب الكرة الطائرة (فاليبال). في أحد الأيام رأى السيد "حسام" من بعيد "محمّد حسن مفتاح" الّذي أخبرني أنّه في مثل عمري، وأشار إليه. كان
 
 
 
 
 
170

151

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

  "محمّد" يرتدي دشداشة ويستعين بالعكاز ليسير، ابتسم ولوّح لي بيده وأصبحنا صديقين رغم الفاصل، ومرّة أخرى رأيته ولوحت له بيدي واستمرت صداقتنا.


كان كلّ شيء يسير بشكل طبيعي، إلى أن حمل "سيامك عطائي" لنا خبرًا مقلقًا، قال: "يبدو أن العراقيين يريدون إثارة قضيّتكم مجدّدًا". سألته باضطراب: "ما الأمر يا سيامك؟"، فقال: "قرأت في الصحيفة أنّ المسؤولين العراقيين يريدون إرسالكم إلى إيران، لكن هاشمي رفسنجاني قال: ‘إن هؤلاء ليسوا أطفالنا’"، قلت: "هل حقًا قال هذا الكلام؟". ضحك "سيامك" وقال بلهجة "كرمنشاه" المحبّبة: "لا، هذا كلام مفبرك، لا بدّ وأنّه قال: ‘هؤلاء ليسوا أطفالًا’، فحرّفوا الكلام. ألا تعرف كيف يتصرف العراقيون؟!"، ثم تابع: "قالوا إنّهم سيرسلونكم عبر بلد ثالث". دُهشت وسألته: "ومن قال ذلك؟"، أجاب: "العراقيون! وقال بما أنّ إيران لا تريد أبناءها فسنرسلهم إلى فرنسا ويستطيعون من هناك العودة إلى بلدهم إذا شاؤوا".

تصبّب العرق البارد من جبيني، خنقتني العبرة، يبدو أن كلّ شيء سيعيد سيرته الأولى، سنعود إلى الدعاية الإعلامية ثانيةً، إلى عدسات الكاميرات، لتتجدد مرارة الأشهر الثلاثة الأولى للأسر الّتي حاولنا نسيانها، بيد أن علينا الآن الاستعداد لأيام ربما تكون أصعب وأقسى. تملّكنا الحزن والهمّ ونحن نفكر في المصير الّذي ينتظرنا. كررّ "أبو الفضل" الأربعين حديثًا الّتي حفظها، وصرّف "منصور" و"جواد" فعل "ضرب" من الثلاثي إلى صيغة الاستفعال. بعد أيام عدةّ من هذا الخبر، دوّت صفارة السجن الساعة الـ10 صباحًا. جاء "العم غلام" إلى الباحة ونادى: "ليدخل أسرى الزنزانة رقم (8) إلى زنزانتهم، رقم (8) فقط". بدأت اللعبة مجدّدًا! رأيت من النافذة عددًا من المراسلين والمصورين يدخلون إلى المعتقل، دخل "عزّ الدين" و "حميد" وجنديّ آخر إلى الزنزانة قبل الجميع.
 
 
 
 
 
 
171

152

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 بدأ المصوّرون بالتقاط الصور، وأمر "عزّ الدين" "العم غلام" بإحضار الكرة، ثم أمرنا "حميد عراقي" أبغض الحرّاس، بالنزول إلى ملعب كرة الطائرة.


رمى "العم غلام" الكرة لنا وقال: "يأمركم عزّ الدين باللعب". انقسمنا فريقين، سدّد "عباس" الإرسال الأول بقوة، فسقطت الكرة على سطح القاطع الأول، لم يكن من طريق للسطح، أمر "حميد عراقي"، وهو يقضم شاربيه من الحنق، أحد خائني الوطن الأراذل الّذي كنّا نسميه "نخالة": "اذهب وأحضرها". تسلّق "نخالة" أنبوب المياه الآسنة ورمى الكرة إلى الملعب. بعدها، سدّد "حسن مستشرق" الإرسال، وأيضًا سقطت الكرة على سطح القاطع الثاني.

كادت الدماء تفور من عينيّ "حميد عراقي" لشدّة الغضب، وطلب من نخالة ثانية أن يحضرها. لم يستطع المصوّرون حتى تلك اللحظة التقاط أيّ مشهد للّعب. استمرت اللعبة على هذا النحو، من قاطع إلى آخر. كاد "عزّ الدين" أن ينفجر كبرميل البارود، لكنّه كظم غيظه أمام المراسلين وعدسات المصوّرين، وعندما يئس، أمر "حميد عراقي" بإعادتنا إلى الزنزانة. زمجر "حميد": "والله ليل حميد مو حميد.."، وساقنا إلى الزنزانة. اكتفى المصورون بما التقطوه من صور وراحوا يلعبون كرة الطائرة ويتمازحون ويضحكون. كان "أحمد علي حسيني" و"محمد باباخاني" يتحدثان معًا، "ساردوئي" يصلي قضاءً وكلّ منّا مشغولًا بأمر ما، عندما سمعنا وقع أقدام خلف النافذة، ومع سماع صوت فتح الأقفال، جلس كلّ في مكانه. دخل "عزّ الدين"و"حميد"فانحبست أنفاسنا. تذكرت كلام "حميد": "والله ليل حميد مو حميد". جال "عزّ الدين" بيننا، وكان على كلّ من يشير إليه بهراوته الخروج من الزنزانة.

وقع الاختيار على "محمد ساردوئي"، "رضا إمام قلي زاده"، "عباس بور خسرواني"، "منصور محمود آبادي"، "محمود رعيت نجاد"، "حميد مستقيمي" و"أبو الفضل محمدي"، أخرجوهم من الزنزانة حفاة وغير حفاة، وكالعادة بالركل
 
 
 
 
172

153

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 والضرب، ثمّ أقفلوا الباب، وتجهّم وجه "كاظم" رابط (عريف) الزنزانة. علا صوت مكبّر المعتقل بالألحان الموسيقية السواحلية، ورأينا عبر النافذة أنّهم يقودون إخواننا نحو المراحيض. كان المسنون يرتجفون خوفًا على الفتية، و"بابا عبود" الشخص الوحيد الّذي يُسمح له بالبقاء مكانه أثناء دخول العراقيين، يشدّ بقبضته على عصاه ويتصبّب عرقًا.


بعد أقلّ من ساعة، سمعنا صوت أقدام، فقال السيد "عباس سعادت": "لقد أعادوهم". فتح الباب ودخل الفتية عرجًا، ووجوههم مليئة بالكدمات. ما إن غادر العراقيّون حتى أسرعنا نحوهم وأخبرنا "محمد" بما حدث:
- أخذونا خلف المراحيض، بين حوض المياه الآسنة والشريط الشائك، وطلبوا منّا أن نشتم الإمام الخميني فرفضنا.

سأل "أحمد" "أبو الفضل": "هل ضربوكم كثيرًا يا أخي؟ هل أنت بخير؟". ابتسم "أبو الفضل" بمرارة وقال: "بخير!"، وقال رضا إمام قلي زاده: "أراد حميد عراقي رميي في المياه الآسنة، لكن يشهد الله أن "جاسم تشركو"1 لم يدعه يفعل ذلك". سألنا "عباس بور خسرواني": "ألم تسمعوا صوت صراخنا؟"، فأجاب السيد "عباس": "كيف لنا ذلك مع هذه الموسيقى المصمّة للآذان؟".

بيد أن "حسن مستشرق" قد ضُرب أكثر من غيره لكنه حتى في تلك اللحظة ظلّ يضحك وقال: "عديمو الشرف كانوا عشرة جنود انهالوا علينا بسياط غليظة جدًا".

وضع "حميد تقي زاده" صديق "حسن مستشرق" المقرّب يده على كتف "حسن" وقال له مازحًا: "هل اكتفيت أيها البطل؟ والآن سدّد الطابة نحو السطح قدر ما تشاء!". لكم "حسن" قدم "حميد" بقبضته وقال: "لقد افتقدتك كثيرًا
 
 

1- جاسم چرکو أي المتسخ-: هو اللقب الّذي أطلقه الأسرى على الجندي العراقي جاسم بسبب ملابسه العسكرية المتسخة دومًا. 
 
173

154

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 بيننا، لكأنّ جلد السياط جعلك تنحف قليلًا!". ذرف المسنّون الدموع عندما رأوا الكدمات على أجساد الإخوة.


ليلتها، خلدنا إلى النوم في وقت متأخر، لكن الفتية الّذين تلقوا الضرب ظلّوا حتّى الصباح يتلوّون من شدة الألم.

الأسماك العطشى
جلست على حافة الشرفة أمام الزنزانة (8) أنظر إلى البعيد، كان يمكن رؤية أسوار معتقل عنبر على بعد 2 كلم من المكان. فكرت أنّه ربما كان "أكبر" هناك، إذ لم أفقد الأمل من بقائه حيًّا!

سمعت صوت عصا "عبود" من الممر، لا بدّ أنّه كان عند "رشيد". رشيد شاب كردي في الزنزانة رقم (7)، كان مسؤول العناية بالعجوز يأخذه إلى الحمام، يغسل له ثيابه ويحلق له لحيته والأهم من ذلك، يشاكسه كي يضحك فينسى لبرهة غمّ فراق العائلة والأحفاد. وكأنّ الله سخّره ليكون عونًا لـ"عبود" دون أجر أو منّة. كان "بابا عبود" كلّما أحسّ بضعف في جسمه، تمّدد نحو القبلة ونطق بالشهادتين. إذا كنّا في وقت الفسحة، ذهب أحدنا ليخبر "رشيدًا" بالأمر، فيسارع الأخير ويحمله نحو المستوصف. استمرّت الحال على هذا المنوال، إلى أن ساءت حال العجوز فتوجّه نحو القبلة ونطق الشهادتين وأسلم الروح قبل أن يصل "رشيد" إليه.

دخلت سيارة تخلية حوض المياه الآسنة إلى باحة المعتقل، وكالعادة كانت تحمل معها من مياه النهر لترشّ به أرض المعتقل الترابي قبل أن تقوم بإفراغ الحوض. أمسك أحد الأسرى خرطوم المياه وراح يرش الأرض، فخرجت سمكة من الخرطوم ونفقت في الحال، ثم خرجت ثانية ورماها الأسير نحو الشريط الشائك، فتأثّرت لمصيرها المشؤوم. ما أشبه حالنا في الأسر بهذه السمكة، تُرى هل سيكون
 
 
 
 
174

155

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 مصيرنا واحدًا؟ عندها تذكرت الحلم الّذي رأيته منذ ليالٍ عدّة، كان "صدّام" واقفًا أمام الشريط الشائك وقال لي: "إذا كان من المقرّر أن أرحل، فسوف أعدمكم جميعًا قبل رحيلي". سمعت صوت "حسين جان" من الممر الأرضي، كان كعادته يشتم المسؤولين الإيرانيين الّذين لم يقبلوا بشروط "صدّام" للسلام. كان "حسين جان" دركيًّا في أحد مخافر غرب البلاد، لم يكن قد استيقظ بعد من صدمة الثورة الإسلامية، وأنّه أجبر على نزع صورة الشاه الّتي كانت فوق رأسه لثلاثين عامًا، حتى تعرضت البلاد لهجوم البعثيين ووقع في الأسر. لم يكن يرتاح لأيّ واحد من مجموعة 23 أو الإخوة المتديّنين، وكان يكيل لنا الشتائم والإهانات بمناسبة أو بغير مناسبة. والسبب أنّنا مناصرون للنظام الإسلامي، ولا ننتظر مثله عودة ابن الشاه ليعيد النظام الملكي. كان مثيرًا للشفقة رغم ذلك، فهو ضعيف، ملّ كلّ شيء ولم يكن يفكر إلا في كيفية تخلصه من هذه الأسلاك الّتي تحاصره.


كان في الزنزانة رقم (1) ملازم في الجيش أُسر مع عناصره، ولم يكن يتحمّل ظروف الأسر أيضًا، لكنّه على عكس "حسين جان" لا يشكو أو يتفوّ بأيّ كلمة، بل كتم غمّه في صدره إلى درجة أن رجاله سمعوا منه كلامًا غير موزون في يوم من الأيام وشاع خبر جنونه. كنت ألتقيه قرب المراحيض وعليه ثياب غير مرتبة ورأسه حليق. أخبرنا "سيامك" أنّه غير مدرك لتصرفاته وكان يلوث الزنزانة ويسبّب الإزعاج لزملائه. عندما يقدّمون له طبق الطعام، يُخرج صورة زوجته وأولاده ويدعوهم ليأكلوا معه، وعندما ييأس من ذلك يعيد الصورة إلى جيبه ويأكل وحيدًا.

لم يكن الملازم المجنون والدركي أنموذجَيْن لعناصر الجيش أو الدرك في الأسر، فهناك المئات من الضباط والجنود عشاق الوطن في القاطع رقم (1) الّذين لم تستطع الأسلاك الشائكة أو سياط "حميد عراقي" أو حتى غمّ الغربة أن تحني هاماتهم. للبشر قدرات وقابليات متفاوتة.
 
 
 
 
 
175

156

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 أرادت سيارة إفراغ المياه الآسنة الخروج من المعتقل، فتفحّص الحارس أسفلها ليطمئن إلى أنّ أحدًا لم يختبئ تحتها، وكان مكبّر الصوت يبث أغنية: "يا من كنت حبيبي".


ملاطفات العقيد
لم يكن قد مضى أسبوع واحد على ضرب الإخوة، عندما جاء قائد المعسكر الجديد العقيد "محمودي" مع عددٍ من المراسلين اليابانيّين إلى زنزانتنا مباشرة. كان المصور يلتقط الصور بولع شديد لجميع جوانب حياتنا في الأسر، من حقائبنا المعلّقة على الجدران، إلى النعال البلاستيكية أمام الباب، إلى الإطار المعدني الّذي أحطناه بأكياس الخيش على أنّه مرحاضنا الليلي، وحتى الدلو الّذي نجمع فيه البول إلى الصباح. كما التقط صورة جرّة الماء والفُرش الّتي اقتطعنا من عرضها لتصبح 60 سم، ولوجه منصور الطفولي وأيدي المسنّين المجعّدة. لقد صور كلّ شيء وكلّ زاوية.

كان العقيد "محمودي" من "كردستان العراق"، ويتحدث الفارسية بطلاقة. عندما رآنا طأطأنا رؤوسنا اعتراضًا على وجود المراسل الياباني، راح يشتمنا بألفاظ بذيئة نابية. كان واثقًا من أنّ المراسلين اليابانيين لن يفهموا ما يقول، لكنّنا على الرغم من شتائمه بقينا مطأطئي الرؤوس. ذهب "محمودي" إلى "منصور"، رفعه من مكانه وراح يلاطفه بخبث أمام الكاميرا. لقد وجد المراسل في تصرف العقيد موضوعًا مثيرًا، ملاطفة عقيد عراقي لأسير إيراني دون أن يدري أنه يوجّه لنا الشتائم. كان أثناء ملاطفته لـ"منصور" يقول لنا: "سأريكم ماذا سأفعل بكم يا أولاد الكلاب عندما يغادر هؤلاء اليابانيون الحمقى"، ثم أردف تهديده بسيل من الشتائم وبالتعرّض لأعراضنا.
 
 
 
 
176

157

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 عند الغروب، بعد أن انطلقت صفارة الإحصاء، دخل النقيب العراقي العجوز كعادته. كان عندما يدخل يلتفت إلى يمين الزنزانة حيث نجلس ويقول: "شلونكم شباب؟"، ثمّ يلتفت ناحية المسنين ويقول: "شلونكم شباب؟"، بعدها يبدأ بالإحصاء. لكنه اليوم لم يكن حنونًا على الإطلاق، أو ربما أُجبر على أن يكون فظًّا ل "وجود حميد عراقي" الّذي جاء لتنفيذ أمر العقيد بمعاقبتنا. صحيح أنّه لم يضرب أيّ أسير حتى ذلك اليوم، وربما ما كان ليفعل ذلك لولا وجود "حميد"معه! أمكنه ضرب الجميع لكنه لم يفعل أو لم يشأ، فاختار واحدًا ليضربه نيابة عن الجميع، ومن سيختار غير "حسن مستشرق" المشاكس الّذي أطلق عليه العراقيّون لقب "أكبر كلوتشي" -أي المحتال الكبير- سحبه من الصف وشرع بضربه بقضيب الخيزران. سقطت الضربة الأولى على كتفه، واستطاع تلافي الثانية، بينما سقطت الثالثة على كف يده، فبدأ بالصراخ والعويل كمن يعذبونه بسحب أظافره، حتى لو كانت الضربة خفيفة أو لم تصبه على الإطلاق! كما يبدو أن النقيب لم ينزعج البتة من الدور الّذي يلعبه "حسن"، فضربه ضربات عدّة وغادر الزنزانة.


الانتخابات ونكستها
تمكّن العقيد "محمودي" خلال المدّة القصيرة الّتي تولى فيها مسؤوليّة المعتقل من ضبط الوضع فيه. كان العقيد من أكراد محافظة "السليمانيّة العراقيّة"، وقيل إنّه تلقى التعليم العسكريّ في مدينة "شيراز" في عهد الشاه، لذا كان يعرف جميع مدن "إيران". سأل أحد الأسرى: "من أين أنت؟"، فأجاب الأسير: "من قصر شيرين" الّتي كان "محمودي" يعرف أحد أثريائها فسأله: "هل تعرف فلانًا؟، لا بدّ وأنّك سرقت التفاح من حديقته مرارًا؟". حتى إنّه كان يعرف أسماء القرى في "إيران"."محمودي"، ومن أجل تنفيذ الإصلاحات الّتي يهدف إليها في المعتقل، عمد بداية لتغيير رابط المعتقل بشكل ديمقراطي معلنًا أن الأسرى يحقّ
 
 
 
 
 
177

158

فصل الصّيف: قيودٌ وآفاق

 لهم انتخاب رابطهم. أعلن عن اسم المرشح من الزنزانة رقم (24)."علي"، ضابط من جماعة أهل الحق انضمّ حديثًا إلى جمع عناصر حزب الله معلنًا قطع علاقته الكاملة مع تلك الجماعة، ولتأكيد صدقه حلق شاربيه وعمق علاقاته بالمتدينين.


طلب "يحيى كسائي" وهو على علاقة وثيقة مع الإخوة في الزنزانة (24) أن نصوّت لـ"علي" فنفذنا الأمر دون أيّ سؤال أو اعتراض. أجريت الانتخابات يوم الجمعة، وفاز مرشحنا بنسبة عالية من الأصوات، وأصبح "علي" رابط المعتقل.

بعدها دعاه العقيد "محمودي" إلى غرفته وتباحثا حول النظام والضوابط في المعتقل، ليعود "علي" بعد حوالي الساعة بثياب وزوج حذاء رياضي جديدين. كان "علي" خلال النهار يجول على كافة الزنزانات، يتحدث إلى المسؤولين حول الاحتياجات والمشكلات وينقلها إلى العقيد "محمودي". استطاع خلال مدةّ قصيرة الحصول على بعض الامتيازات، أهمها زيادة حصة الطعام. تُرك لـ"علي" حرية التنقل بين الزنزانات، وربما تفاوض مع الحوزوي الشاب أيضًا. كان يُستدعى إلى مقرّ القيادة مرات عدّة في الأسبوع، ويتحدث مع العقيد "محمودي" لساعات. حصل "علي" في مدةّ قصيرة على ثقة الجميع بما فيهم المتدينين، وأعطاه العراقيون غرفة صغيرة في القاطع (3) كمكتب عمل، تحوّل فيما بعد إلى مقرّ إقامته الدائم وفي النهاية إلى مكان قتله.

مع مرور الزمن، زادت اجتماعاته بالعقيد "محمودي"، وتحولت إلى جلسات ليليّة، فكان ينشغل نهارًا بأمور المعتقل ويجتمع ليلًا بالعقيد "محمودي" ليعود إلى غرفته للنوم1.
 
 

1- علي ر: ضابط إيراني أغواه العقيد العراقي "محمودي" فخان كل قيمه الوطنية وقتل في العام 1984 في غرفته على يد أسيرين.
 
 
 
 
178

159

فصل الخريف: منعطفات

 فصل الخريف: منعطفات


يبدو أنّ الخريف لم يسرِ بعد إلى أشجار الكينا الخضراء قرب المعتقل. كنّا كالعادة نقضي أوقاتنا مع المسنّين ليلًا وفي الباحة نهارًا، إمّا للدرس وإمّا للتنزه تحت أشعة الشمس مع باقي الأسرى. كان المراسلون يأتون إلينا مرّة في الأسبوع تقريبًا. فإن استطاعوا، التقطوا لنا بعض الصور ومقاطع الفيديو، وإلّا تسبّبوا بضربنا. ما زالت صورنا وأخبارنا - حتى بعد مرور 6 أشهر من الأسر - تملأ صفحات المجلات والصحف العراقية.

في أحد الأيام توقفت سيارة أمام المقر، ترجّل منها رجلان يحملان كاميرا. انتظرنا كالعادة أن ينادي الحراس: "أسرى الزنزانة رقم (8) إلى الداخل"، لكن لم يحدث هذا. جاء "حميد عراقي" و"علي" واصطحبانا أنا و"حميد مستقيمي"، و"منصور"، و"محمود آبادي" و"محمود رعيت نجاد" إلى المقر.

في غرفة العقيد "محمودي"، رحّب بنا رجل يضع النظارات ولم يكن في الغرفة معه سوى المصور والمترجم. بدا الرجل ذو النظارات مألوفًا لديّ، ربما رأيته عند لقائنا الصليب الأسود! أو ربما في قصر "صدّام". كان يرتدي اللباس المدني، ويحاول أن يظهر بمظهر إنسانيّ. دخل جندي عراقي يحمل على صينية فنجانَي شاي. كانت هذه المرة الأولى منذ الأسر الّتي أشرب فيها الشاي بالفنجان. بدأ الرجل بالكلام:
- أراد رئيسنا إطلاق سراحكم، لكنّ المسؤولين الإيرانيين قالوا إنّكم لستم
 
 
 
 
181

160

فصل الخريف: منعطفات

 إيرانيّين! لذا قررنا إرسالكم إلى فرنسا لتتمكّنوا عبرها من العودة إلى وطنكم. فما هو رأيكم؟


قلت: "في الزنزانة 20 رجلًا عجوزًا بين الـ50 إلى 70 عامًا من العمر، ولم يكن لهم أي دور في الحرب، فهل يمكنكم إرسالهم بدلًا عنّا؟" أجاب الرجل: "لكن سيدي الرئيس يريد إرسالكم أنتم، ألا تريدون العودة إلى أهلكم؟"، أجاب "محمود رعيت نجاد":"ما الفائدة من الإجابة، فكلّ ما نقوله تكتبون عكسه في صحفكم". عندها قال: "لم نأت لا من قِبل التلفزيون ولا من قِبل الصحف، فقد أُرسلنا لنطّلع على أوضاعكم ويمكنكم قول ما يحلو لكم بحرية".

قال "منصور": "أنتم تعلنون في تلفزيونكم وصحفكم أنّهم أرسلونا رغمًا عنّا إلى الجبهة، ومهما قلنا إنّنا تطوّعنا للحرب تكتبون العكس!" وقال "حميد": "نحن نريد أن نُعامَل مثل باقي الأسرى بينما أنتم تستغلّوننا لتوجيه الضربات لوطننا". قال الرجل:"يريد رئيس جمهوريتنا القيام بعمل إنساني فحسب"، فقال منصور: "اعتقلتمونا 3 أشهر في سجن الاستخبارات دون حمام في ذلك الطقس الحار، وفي هذا المعتقل نُضرب يوميًّا، فهل تعتبرون هذا عملًا إنسانيًّا؟".

دخل الجندي وأخرج فناجَي الشاي من الغرفة. كم تمنّيت لو يعود بالشاي ثانية! سألنا الرجل: "تقصد أنّهم ضربوكم؟" أجبنا نحن الأربعة: "أجل". انتهى لقاؤنا الّذي استمرّ ساعة وخلاصة الكلام أنّنا لسنا موضوعًا للترويج والاستغلال الإعلامي.

عند المغادرة، أكّد لنا الرجل ذو النظارة أنّ فيلم المقابلة لن يُعطى لا للتلفزيون ولا للصحف، بل للمسؤولين الرفيعي المستوى في البلاد. صدقنا ما قاله لنا، وبالفعل لم نجد في صحف الأيام التالية، خبرًا عن هذه المقابلة.
 
 
 
 
182

161

فصل الخريف: منعطفات

 متسلّق الجبال

كلّ من مرّ من هناك، وقف ليتأمل بركة الماء الصافية عند قمّة الجبل، وذلك المتسلّق الّذي ربط نفسه بالحبل متخطّيًا الصخور صعودًا نحو القمة، مارًّا بعشٍّ لحمامة فيه 3 بيضات. "سيامك" كان هناك أيضًا، فسألته من صنع هذا؟ قال: "صنعه الأخ رضا من الشمع". أذاب الأخ "رضا" بضع شموع في وعاء على النار، ثمّ أفرغ المواد المذابة في دلو من الماء، وبعد أن بردت اتخذت شكل الجبال والوديان، بعدها أكمل الحفر والنحت عليها حتّى جاءت بهذا الشكل البديع، كما صنع مجسم المتسلّق من الصابون والحبل من خيوط المنشفة المفتولة. عندما رأى "جاسم" هذا الأثر الفني، أحضر له في اليوم التالي عددًا من الشموع الملوّنة وطلب منه صنع واحد له. نزلت مع "سيامك" إلى الباحة. كان بعض الأسرى يسيرون جماعات من 3 أفراد، وبعضهم تمدّد تحت أشعة الشمس في المكان المخصص للاستجمام بالقرب من السياج الشائك. باعتقادهم أنّ الشمس علاج للعديد من الأمراض الجلديّة وآلام المفاصل. لكنّ الإخوة المتديّنين لم يكونوا ليخلعوا ملابسهم أمام الآخرين، وبالتالي لا يشاركون في حمامات الشمس هذه. رأيت على أجسام بعض المستجمّين أوشامًا عجيبة غريبة. لقد وشم أسير مدنيّ يدعى "فريبرز" على ذراعه الأيمن صورة منسوبة للإمام علي عليه السلام، وعلى ذراعه الأيسر صورة امرأة ناشرة شعرها. أخبرني "سيامك" أنّه في الأشهر الأولى للأسر، روج الأسير الإيراني "فريبرز" لهذه العادة السيّئة، وأضحى من النادر أن ترى أسيرًا لا يوجد على ذراعه أو ساعده وشم عبارة عن صورة أو على الأقل وشم جملة: "ستمرّ هذه أيضًا". دلّني "سيامك" على "فريبرز" وهو رجل في الـ30 من العمر، طويل القامة، كثيف الحاجبين، وقال:
- ليس رجلًا سيّئًا، ينادونه "فريبرز الوشّام"، لا يتدخل في شؤون أحد، لكنّ
 
 
 
 
 
183

162

فصل الخريف: منعطفات

 المتديّنين لا يطيقونه، وقد رسم صورًا جميلة، كما أجبره العراقيون أن يرسم صورة لصدّام مقابل بعض الأشياء (بدل مادّي) وهو لا حول له ولا قوة ليرفض.


بعد عامين، ندم كثيرٌ من الأسرى لأنّهم وشموا على أجسادهم، وكانوا يسعون جاهدين للتخلص منها، لكن هيهات! مررنا بالقرب من "فريبرز"، وهو من مدينة "سيامك" نفسها لذا كان يمازحه أحيانًا، فأشار إلى وشم المرأة وسأله: "متى وشمت هذه يا فريبرز؟"، أجاب: "وشمتها زمن الشاه"، ثمّ أشار "سيامك" إلى الصورة المنسوبة إلى الإمام علي عليه السلام وسأله: "وهذه؟" قال: "زمن الجمهورية الإسلامية"، فضحكنا مليًّا.

بعد أن غادرناه، أخبرني "سيامك" أنّ "فريبرز" إنسان بسيط، كان في شبابه طائشًا، لكن قبل أن يقع في الأسر عمل فرّانًا وحاليًا يُشغل نفسه في حياكة الأحذية التقليدية، ولم يبقَ له من طيش شبابه سوى هذه الأوشام، فقد أصبح مؤمنًا مواظبًا على الصلاة والصيام.

انتشرت لوحات على السياج الشائك كتب عليها عبارة: "لا تقترب من السياج"، استطعت قراءة العبارة وفهم معناها فقد تحسّنت لغتي العربية.

وصلنا قرب مدخل المعتقل ورأينا جنديًّا يحمل أعدادًا من الصحف، فعدنا إلى الزنزانة لنعرف الأخبار الجديدة. كانت زنزانة الأسرى القدامى أكثر تنظيمًا من زنزانتنا الّتي لم تعرف التنظيم لسببَيْن، الأول شقاوة الفتية، والثاني عجز الأسرى المسنّين. كانت القصعات الّتي يستخدمونها أكثر عمقًا من قصعاتنا، والواضح أنّهم هم من جعلوها بهذا الحجم. تحت جرّة المياه في الوسط، هناك علب بلاستيكيّة مغطاة بالأقمشة، فيها أنواع المأكولات من المربّى إلى المخلّلات، وقد علقت على الجدران أقمشة خاطوها على شكل جيوب يضعون فيها فرشاة
 
 
 
 
184

163

فصل الخريف: منعطفات

 ومعجون الأسنان، شفرات الحلاقة والملاعق، كما عُلّق على الجدران أنواع المسابح المصنوعة من الطين أو نواة التمر. ومن صفائح الزيوت النباتية، صنعوا صناديق صغيرة لحفظ الخيطان والإبر، الأزرار والأشياء الصغيرة الأخرى.


مدّ "سيامك" بساطه الصغير، وأحضر كوبَيْن ليصنع شرابًا، ترحيبًا بضيفه الّذي هو أنا. وضع السكر في الكوبين وذهب لملئهما بالماء من الجرة في الوسط، القائمة على قاعدة حديدية ثلاثية القوائم تؤمن البرودة تحتها. لذا كان الإخوة يحتفظون أسفلها بالأطعمة كي لا تفسد. ما إن شربنا "الماء والسكر" حتى دخل رابط الزنزانة حاملًا عددًا من الصحف. كالعادة تصدرت الصفحة الأولى لصحيفة الثورة صورة الثلاثة والعشرين فتى، وقرأ "سيامك" ما كتب تحتها بالعربية: "المنبوذون من الوطن"، وكتبوا أيضًا عن محاولات "صدّام حسين" الحثيثة لإعادتنا إلى بلدنا، لكنّ جميع محاولاته باءت بالفشل بسبب تعنّت المسؤولين الإيرانيّين ورفضهم استقبالنا. بالطبع، كلّ ما كتب تلفيق وكذب ودجل!

قبل أن أودّع "سيامك"، تصفحت ألبوم الصور الّذي صنع غلافه من علبة مسحوق الغسيل وصفحاته من النايلون الشفاف، وقد زيّن كلّ صفحة بالخيوط الملونة الّتي حاكها من خيوط المناشف وطرز حواشيها بلون خاص وشكل فنيّ يخطف الأبصار.

المعطف
في أوائل شهر تشرين الأول، أصبح طقس "الرمادي" باردًا جدًا. غسل الأسرى القُدامى معاطفهم الّتي علاها الغبار بعد أن عُلقت قرابة عامٍ على الجدران. عندما جاء النقيب "محمّد" مسؤول المخازن والتموين، أرسلنا إليه "يحيى قشمي" ليطلب معاطف لـمجموعة الثلاثة والعشرين. النقيب محمّد ذو
 
 
 
 
185

164

فصل الخريف: منعطفات

 البشرة السمراء الداكنة، طيب القلب، عندما يضحك يظهر صفّان من الأسنان البيضاء الكبيرة والمرتبة، فتخلق مع بشرته الداكنة تضادًّا جميلًا. كان يقف أسبوعيًّا أمام المطبخ يشرف على الأسرى وهم يفرغون شاحنة التموين من الأرز والحبوب الأخرى ثمّ يوثق ذلك في لوائحه. ما إن تفرغ الشاحنة حتى يأتي بحثًا عن "يحيى قشمي" ويقول له بصوت مرتفع :"كيف حالك يا أبو سمرة". و"أبو سمرة" لقب لمن هم سمُر البشرة، فقد كان "يحيى" أسمر أيضًا، وربما هذا ما دفع النقيب "محمدًا" لأن يحبه ويهتم لأمره، وكان في بعض الأحيان يمازحه ويقول له: "تعال يا أبو سمرة إلى العراق بعد الحرب، كي أُزوّجك ابنتي، فأنت ولد مؤدّب". كان "يحيى" يخجل كثيرًا من كلامه، لكن بالطبع حُمرة الخجل لا تظهر على وجهه الأسمر!


في ذلك اليوم، استغللنا العلاقة الوثيقة بين "يحيى" والنقيب كي يطلب لنا المعاطف، وبالطبع استجاب النقيب للطلب وأحضر لنا في اليوم التالي 23 معطفًا قديمًا أكلها الغبار، حتى إنّ بعضها كان ممزقًا وبعضها الآخر قضمته الجرذان. من الواضح أنها بقيت في المخازن لسنوات، وربما تعود للجنود في عهد رئيس جمهورية العراق السابق "أحمد حسن البكر"، إذ لم يعد الجيش العراقي يرتدي هذا النوع من المعاطف، بل استُبدلت بمعاطف قصيرة.

مهما كانت، ولأي تاريخ تعود لا يهمّ، المهم أنّها تقينا برد الرمادي القارس، فليس هناك أهم من صحتنا وسلامتنا وسط هذه الأسوار الشائكة. غسلنا المعاطف ورتقنا ثقوبها وخطنا ما تمزق منها، لكن في حالات التمزق الكبير لجأنا إلى "حميد مستقيمي". كان والد "حميد" قبل التحاقه بالحرس خياّطًا ماهرًا عنده مشغل صغير في أحد شوارع "سيرجان"، وكان "حميد" يعمل عند والده في العطلة الصيفية، فأصبح خياطًا ماهرًا في سنّ الـ14 من عمره. وعلاوة على
 
 
 
 
 
186

165

فصل الخريف: منعطفات

 خياطة المعاطف بمقاسنا، علّمنا كيف نحول الدشداشة العربية إلى قميص وسروال. لقد تعلمت منه الخياطة باليد، وأصبحت ماهرًا فلا يمكن من النظرة الأولى التمييز بينها وبين خياطة الماكينات. كما تعلمت حياكة الصنارة من الملّا قارئ القرآن في زنزانتنا. صنعت من قطعة من الأسلاك الشائكة صنارة - بالطبع بعيدًا عن أنظار الحرّاس - وحكت طاقية للرأس وبسبب قصر الخيوط أجبرت على حياكة آخر رديفين بخيوط أكياس الخيش.


كان "أحمد علي حسيني" يعطي حصته من الشاي للمسنّين في زنزانتنا وخاصة لـ"بابا عبود"، فهو لم يشرب الشاي طوال حياته، حتّى عندما أصررت عليه أن يشربه من أجل السكر الّذي يحتويه لم يقبل. كان يُجالس من يشرب الشاي ويسامره كي يخفّف من وحدته. تلك الليلة عندما أحضر الشاي للرجل العجوز، أعطيته الطاقية الّتي حكتها لأعطيها له، ففرح العجوز بها كثيرًا. وعندما أراد المغادرة قال لنا "أحمد علي": "يا أولاد إن لم يمت بابا عبود الليلة فهذا أمر عجيب، إذ إنّه يجهز نفسه للموت كلّما علم أن العشاء هو حساء اللوبياء!".

نادي السيّد
اشتدّت برودة فصل الخريف في شهر تشرين الثاني. كان "منصور"، "حميد" و"جواد" يدرسون اللغة العربية، فيكتب السيد "محمّد" الجملة على التراب الممهد بخشبة في يده ويطلب من تلامذته قراءتها وإعرابها.

كنت و"يحيى" بعيدَيْن من إعراب عمر وزيد، نسير قرب السياج الشائك نتبادل الأحاديث وذكريات الطفولة، وتتداعى في ذاكرتنا مشاهد مختزنة لتبعث فينا أنسًا وأملًا. يتحدث "يحيى" بلهجة أهالي جزيرة "قشم"، وأحدّثه أنا بلهجة جنوب "كرمان". كانت اللهجتان متقاربتين نوعًا ما لذا لم نجد صعوبة في الفهم.
 
 
 
 
 
187

166

فصل الخريف: منعطفات

 لكن عندما يتحدث بسرعة لا يفهم أحد ما يقوله غيري أنا. حدثني "يحيى" عن حياته في الجزيرة، عن والده صياد السمك وعن الأيام الّتي رافقه فيها إلى البحر. بينما حدثته عن قريتي وسرقة فراخ البلابل واصطياد الجراد، الطعام المفضل للبلابل. في أثناء ذلك، دنا السيّد "حسام الدين نوابي" منّا، وقد رفع ياقة معطفه على أذنيه ليتقي البرد، جرّنا إلى زاوية وقال لي وهو ينظر في الأنحاء كعادته: "قلت لحسين إنّك تعرفه وهو يسلّم عليك ويقول لك لا أنت تعرفه ولا هو!". قال هذا ثمّ ضحك وغادر.


"يحيى" الّذي لم يدرك ما يحدث سألني من هو "حسين"؟ فقلت له: "حسين من أبناء جيرفت أو كهنوج، نزيل في القاطع (3) ويشتهر باسم حسين كارد (guard) أودّ كثيرًا لو ألتقي به". 

لم أكذب عليه، حقيقة أرغب كثيرًا في لقائه لكن عليّ الانتظار إلى عيد النوروز. كان "حسين" في الحرس الملكي زمن الشاه وبعد انتصار الثورة الإسلامية، بذل كلّ ما في وسعه دفاعًا عن الإسلام والوطن.

بعد إحصاء تلك الليلة، أخرج النقيب ورقة من جيبه وقال لـ"كاظم": "كلّ من يرد اسمه في اللائحة يجب أن يحمل أغراضه ويخرج". ذُهلنا ولم نكن نعرف لِم وإلى أين؟.

قرأ النقيب الأسماء التالية: "منصور محمود آبادي، حميد مستقيمي، حسن مستشرق ويحيى كسائي نجفي". فرح "محمد باباخاني" لأنّه لن ينفصل عن صديقه المقرّب وابن مدينته "أحمد علي حسيني"، لكنّه لم يطق صبرًا وقال لـ"كاظم": "اسألهم إلى أين سيأخذونهم؟". سأل "كاظم" النقيب الّذي أجاب: "سيأخذونهم إلى الزنزانة رقم (24)". هدأت سريرتنا قليلًا فهذه الزنزانة مكان أسر الأشخاص المهمين في المعتقل. لكنّ الفراق صعب فعانقناهم مطوّلًا وودّعناهم.
 
 
 
 
 
188

167

فصل الخريف: منعطفات

 في تلك الليلة، شعرنا بالشوق إلى الإخوة، خاصّة إلى "منصور" بجسمه النحيل الصغير وطباعه المرحة الّتي تبثّ فينا الروحية والمعنويات العالية، وإلى "حسن مستشرق" ليلعب دور المرشد في رياضة "زور خانه" التقليدية1، فيرنّم الألحان والأشعار الحماسية. كنّا نسميه "حسن المرشد" لأنّ والده في السابق كان مرشدًا في أحد أندية "زور خانه" في مدينة "ساري" شمال "إيران". كان "حسن" يحدثنا عن ذكريات طفولته هناك، وكم من ليلة أنشد فيها من الأشعار بصوته الجميل:

- أيها العازف رويدك كي أرى الحبيب.

كانت هذه من الأنغام الخاصة بقوم "اللُر" ولا ندري أين تعلّمها!

بعد أيام عدّة، جمع السيد "عباس سعادت" الّذي يتمتع باللياقة البدنية فراشَ الإخوة وسط الزنزانة وقال: "من يريد منكم أن يتعلم المصارعة؟". لقد تعلّم السيد "عباس" المصارعة في بلدته "باريز" في محافظة "كرمان"، واقترح منذ مدّة تأسيس نادٍ للتدريب على المصارعة في الزنزانة ووافقه "حسن" على ذلك، لكن القدر شاء أن يبدأ النادي نشاطه بغياب "حسن مستشرق". كان السيد "عباس" حنونًا جدًا، وعندما أخبرني في سجن "بغداد" أنّه من أهل "باريز"، تذكرت كتاب "لصوص الأنبياء" الّذي أحضره أخي "موسى" للأستاذ والمؤلف التاريخي "محمّد إبراهيم باستاني باريزي" وذكرني أيضًا بـ"حسين خان بتشاقتشي" بطل القصة الّذي كان مناهضًا للحكومة، ولا بدّ أنّه تمتع باللياقة
 
 

1- أي بيت القوة وهو المكان الّذي يتدرب فيه الرياضيون على المصارعة وألعاب القوى الشعبية في "إيران".
 
 
 
 
189

168

فصل الخريف: منعطفات

 البدنية كالسيد "عباس".


كنت أول متدرب عنده، وعلّمني جميع فنون المصارعة. في السابق، كنت أعتقد أنّ الغلبة في المصارعة للأقوى، وعندما استطعت أن أهزم "أبا الفضل" الأقوى بنيةً مني، علمت أن القوة وحدها لا تكفي. بالطبع، كانت تلك المرة الوحيدة الّتي استطعت فيها هزيمة "أبي الفضل". فبعد أن تعلّم جميع فنون المصارعة لم يعد يستطيع أن يغلبه أحد.

ازدهر نادي السيد "عباس"، أحيانًا كنّا نتدرّب في الليل بعيدًا عن أعين الحراس وكان المسنّون المستلقون على فراشهم يشاهدون مصارعتنا من أماكنهم ويضحكون. كان السيد "عباس" ضليعًا بهذه الرياضة، طيب القلب وحسن المعشر. في أحد الأيام، وزّع العراقيون العنب على الزنزانات، وقام "الملّا" بتقسيم حبات العنب علينا بالتساوي، فكانت حصة كلّ منّا 7 حبات. دفع السيد "عباس" الحبة الأخيرة من حصته نحوي وقال: "كلها يا أحمد، أقسم عليك بحياة سليمان إنها من حظك". أكلتها وسألته:"ومن هو سليمان هذا؟". عندها قصّ عليّ حكاية الحدّاد العجوز في قرية "باريز". كان لحداد القرية ابن اسمه "سليمان"، وكان عمله على منفاخ آتون النار. كان الحداد يصنع أدوات البنائين والمزارعين في القرية، وعندما يأتي أحدهم لشراء أداة ما، يقول له: "لا يوجد عندي فيبدأ الزبون بالرجاء والإصرار ليأتيه بواحدة، عندها يذهب إلى المخزن ويحضر الرفش أو الفأس أو أي قطعة طلبها الزبون قائلًا: "تفضل هذه آخر قطعة، أقسم بحياة سليمان إنّها من حظك!".
 
 
 
 
190

169

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 فصل الشتاء: كفاح الظلام


قبيل غروب أحد أيام كانون الثاني من العام 1983م، تناولنا مرق اللحم البرازيلي المجمّد وغسلنا الأطباق، وبعد أن جاء النقيب للإحصاء وخرج، ارتدينا ملابس النوم واشتغلنا بمراجعة الدروس. فجأة، توقفت سيارة "ميني باص" أمام مقرّ المعتقل، تشبه السيارة الّتي نقلتنا من ثكنة "الرشيد" إلى هنا، وقد تكون هي نفسها.

تصبّب العرق البارد من جبيني، خفتُ وانتفخت اللّوزتَيْن إلى درجة كادت أن تسدّ طريق تنفّسي. لِم أصبحت جبانًا؟! لم أشعر بالخوف في الجبهة، من القتال ولا من حقل الألغام، ولا أيام السجن خفت من غرفة التحقيق، ومن "فؤاد" و"إسماعيل"، بالقدر الّذي خفت منه في هذه اللّحظة. لقد جفّ حلقي وتسارعت ضربات قلبي.

قبل سنوات، كنت أجلس في الصندوق الخلفي لسيارة البيك أب الّتي نقلتنا من قريتنا "هور باسفيد"، إلى مدينة "جيرفت" قاطعًا مسافة 100 كيلومتر. كانت الطريق ترابيّة متعرّجة مليئة بالحفر، وعندما وصل إلى حفرة كبيرة داس على المكابح بقوة، فتوقّف البيك أب بسرعة وتصاعد الغبار والتراب المختلط برائحة البنزين فسدّ حلقي وكاد يخنقني، كما اضطربت أمعائي فأخرجت رأسي وتقيّأت ما في معدتي. وقد انتابني الشعور نفسه في اللّحظة الّتي توقف فيها الميني باص خلف السياج الشائك، ودخل الحرّاس العراقيّون من باب المعتقل متّجهين نحو زنزانتنا، لكن مع مرارة مختلفة جدًّا.
 
 
 
 
 
193

170

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 فُتح باب الزنزانة ودخل "حميد عراقي" و"جاسم تشركو". كان "حميد"مقطب الحاجبين يقضم شاربيه كالعادة. قال لرابط الزنزانة: "قل لهم يا كاظم أن يكونوا خلال 5 دقائق في الممرّ وأن لا يحضروا معهم شيئًا غير الملابس الّتي يرتدونها".


قادونا نحو مدخل المعتقل. ودعنا السيد "محمد حسيني"، "محمد رضا راشدي"، "علي بنافند"، السيد "حسام" وبقية الرفاق من خلف النوافذ الّتي مررنا بها، وهم كانوا بدورهم يحملوننا السلام وبعض التوصيات:
- أوصلوا سلام الأسرى للإمام.
- بالسلامة والله معكم.
- كلوا نيابةً عنّا الكباب مع اللبن المخيض.
- لا تنسوا مراسلتنا.
- قولوا للمقاتلين إنّنا ننتظرهم.

شارفت الشمس على الغروب، وصدح مكبّر صوت المعتقل بصوت تلاوة "محمد صديق المنشاوي" لسورة الزمر. سأل "عباس بور خسرواني": "أين منصور وباقي الإخوة؟"، قال "حسن قاضي زاده": "ها هم قادمون". تبادلنا التحية، بدوا وكأنّهم كبروا خلال الشهر المنصرم، وقد نمت لحية "يحيى" و"حسن".

مع رؤية الميني باص، ذهب عني الخوف الّذي انتابني في الزنزانة، وقبل أن نخطو خطوة واحدة خارج المعتقل، خضعنا للتفتيش البدني في غرفة الحراسة. طال تفتيش "يحيى كسائي" أكثر من المعتاد، فقلقنا عليه وسأل "عباس بور خسرواني""منصورًا" إن كان "يحيى" قد أحضر معه شيئًا من الزنزانة (24)؟
 
 
 
 
 
194

171

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 فأجاب: "تقرر أن نحفظ شعارًا باللغتين الإنكليزية والفرنسية ضدّ مسعود رجوي وبني صدر كي نردّده في مطار باريس إذا ما أرسلونا إلى هناك، أرجو أن لا يكونوا قد وجدوه معه! فقد علّمنا إياه الإخوة في الزنزانة (24)". خرج أحد الحرّاس ومعه ورقة مطوية ربما أخذها من "يحيى"، وسلّمها إلى مسؤوله. كان "يحيى" ما زال في غرفة الحراسة. فتح المسؤول الورقة وقرأ بصعوبة: "خميني أي إمام خميني أي إمام...". ما إن قرؤوا كلمة "خميني" حتى تطاير الشرر من عيونهم، حملوا سياطهم المُلقاة أمام الباب، وأسرعوا إلى غرفة الحراسة. بدأت بالدعاء لـ"يحيى" الّذي تعالى صوت صراخه وعويله على وقع السياط المتسارعة على جسده كوابل المطر، فسددت أذني بيدي كي لا أسمع أنينه الموجع. وما إن توقف مطر السياط حتى خرج "يحيى" يعرج ويئنّ، ثمّ اقتادونا، ما عدا "يحيى"، إلى الميني باص. هبط الظلام، ورحت أراقب خلال زجاج السيارة تنقل الأسرى في المعتقل وأحسدهم على حريتهم. لقد وصل هنا "المنشاوي"في تلاوته إلى الآية: (وَسيقَ الّذينَ اتقّواْ رَبهّم إلى الجنّة زُمَرًا).


وضعوا "يحيى" خلف سيارة الـ"ستايشن" المواكبة لنا، وانطلقنا عبر الجسر على نهر "الفرات" مغادرين "الرمادي" نحو "بغداد". وقد عرفنا وجهتنا من خلال اللوحة الموضوعة إلى جانب الطريق الّتي كتب عليها: "بغداد 100 كلم".

"بغداد"... "بغداد"... كم أكره هذا الاسم وكم هو موحش! لا أعرف كلمة أكثر ألمًا وتعفنًا منها، كآبة ورائحة كريهة، رائحة غرفة الحُقن، رائحة الملابس الّتي جفّت دون أن ترى الشمس، رائحة الدماء المتخثرة، رائحة الرصاص وعطر "فؤاد" السخيف.

صحيح أنّنا فرحنا لرؤية "منصور"، "حسن" و"حميد"ثانية، لكنّ تعرض "يحيى" للضرب والتفكير فيما ينتظرنا في "بغداد" عكّر مزاجنا. سارت الـ"ستايشن" الّتي
 
 
 
 
195

172

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 تحمل "يحيى" أمامنا وانعكس ضوء مصابيح سيارة الميني باص عليها، فرأينا "يحيى" يجلس وحيدًا. حزنت لحاله، وخفت أن يفصلوه عنّا في "بغداد" أو يعذبوه أكثر ممّا فعلوا.


كان "منصور" متميّزًا عن باقي الإخوة، مرحًا ونشيطًا كالعادة. وحدّثنا مرة عمّا حدث في الزنزانة (24): "لقد علّمنا الإخوة هناك العديد من الشعارات باللغتين الإنكليزية والفرنسية كي نردّدها في المطار إذا ما أخذونا إلى فرنسا".

فكرة رائعة خطرت للإخوة هناك، عندما قرأ أحدهم في الصحف عن إمكانية نقلنا إلى "إيران" عبر "فرنسا"، وكان متمكّنًا من اللغتين الإنكليزية والفرنسية. كتب شعارات مضادة لـ"رجوي" و"بني صدر"، وطلب من الإخوة في مجموعتنا حفظها. قلت لـ"منصور": "هيا أسمعنا ما حفظته". فراح يقرأ ما تعلّمه ولم نفهم ممّا قاله غير بضع كلمات: "رجوي، بني صدر، صدام وإيران". ثمّ ترجم لنا ما قاله: "الموت لبني صدر ورجوي الخائنين، الموت لصدام، تحيا إيران!" كان السائق يستمع إلى أغاني"أم كلثوم" ويتحدث إلى الجندي عظيم البطن والشاربين الجالس قربه.

كان "يحيى" الجالس خلف الـ"ستايشن" والمقيد اليدين، كلّما مرّت السيارة فوق حفرة أو مطب، يرتطم رأسه بسقفها. تألمت كثيرًا لحاله، فعلى الالرغم من أنّ المقاعد الخلفية للسيارة خالية، إلّا أنهم وضعوه في صندوقها الخلفي.

فرغ "منصور" و"حسن" و"حميد"من قصّ خواطرهم في الزنزانة (24)، وأصبحنا على بعد 10 كيلومترات من "بغداد"، فانتابني القلق ثانية من المصير الّذي ينتظرنا. عندما توقفت سيارة الميني باص أمام باب كبير على جانبيه عربتا مدفع قديم. قال الجميع بشكل لاإرادي: "الاستخبارات ثانية!". منذ 6 أشهر
 
 
 
 
 
196

173

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 عندما عبرنا هذه البوابة، لم يكن لدينا أدنى فكرة عن سجن الاستخبارات في وزارة الدفاع العراقية، لكن هذه الليلة أعرف أنّنا سنمرّ في زقاق ضيّق لنصل إلى سجنين مثلثي الزوايا، حيث"إسماعيل" السجان المتحجر القلب، بل هو أشدّ قساوة من الحجر. كان لقساوته في تعذيب الأسرى والسجناء، يصرخ في نومه ويضرب بقبضته على العمود الحديدي وسط باحة السجن. اليوم أعلم أنّه لنصل إلى السجن سنمرّ في ذلك الزقاق حيث غرف التحقيق والتعذيب عن يمينه، وينتظرنا في ذلك السجن المهول رجل طيب يجلس على فراش مهترئ لا يدرك أنه بعد دقائق عدّة سيلقانا ثانية وجهًا لوجه.


مررنا في الزقاق بالقرب من غرفة "فؤاد"، فتذكرت كلّ ما تعرّضت له من ضرب وشتْم. على الرغم من مرور ثلاثة أشهر واختفاء آثار ضرب "إسماعيل" عن جسمي إلّا أنني لم ولن أنسى أبدًا شتائم "فؤاد"! لم نسمع أصوات المبردات في هذا الشتاء القارس، كما لم نسمع أصوات تعذيب الأسرى في هذه الساعة المتأخرة من الليل. ما إن دخلنا السجن حتى استقبلنا "صالح" ضاحكًا وقال بصوت عالٍ: "صلّوا على محمّد وآل محمد.. ها أنتم ثانية!"، فأجبناه: "ها ملّا، ها نحن ثانية". بدا لنا بعد غياب ستة أشهر وكأنّه كبر ست سنوات. قال: "ألم يدعوكم وشأنكم بعد؟".

لم يكن في السجن غير "صالح"، كان كلّ شيء على حاله، سجن بارد بلا روح، الجديد فيه غطاء النافذة أعلى الجدار وهو عبارة عن قطعة من النايلون، وأصبحت البطّانيات المطروحة أرضًا أكثر اتساخًا. اشتقت إلى العقيد "تقوي"، وإلى رجز الضابط الشيرازي، والقطعة الفنيّة للضابط الطهراني. ولاحظت أن خطوط إحصاء الأيام والأشهر قد زادت على الجدران.

تحلقنا حول "يحيى" الّذي دخل إلى السجن وهو يعرج، فجأة فتح الباب
 
 
 
 
197

174

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 ودخل جندي، نظر إلى الورقة الّتي بين يديه وقال: "من هو يحيى؟" بدا لنا جميعًا أنّه يجب أن لا يعرفوا من هو يحيى! نهض "يحيى قشمي" -مع أنّه يعرف أنهم لا يبحثون عنه- وقال: "أنا يحيى". لكنّ الجندي العظيم البطن والشارب الّذي دخل أيضًا قال: "لا ليس هذا، كان ذاك أبيض البشرة". 


نهض آخر وقال: "أنا أيضًا اسمي يحيى!"، وكذا فعل الثالث. نهض ما يقارب العشرة إخوة وقالوا: "أنا يحيى"، وبقي "يحيى" المطلوب مخفيًّا. وبعد تشاور فيما بينهما خرجا وانتهى الأمر على خير. قال السيد "علي نور الدين" لـ "يحيى": "أعتقد أن جنود معتقل "الرمادي" أوصوا بضربك عندما نصل إلى هنا، لكنّك نجوت قسرًا".

صالح يُخبرنا
بدأ عهد جديد من الأسر في سجن "بغداد". لم نشعر ببرد الشتاء القارس كثيرًا داخل السجن، وكان "صالح" يرتدي كنزة شتوية عسكرية عراقية فوق دشداشته البيضاء. ما زلنا بين الحين والآخر نسمع صوت الجلد والتعذيب، كانوا يحققون مع الأسرى الإيرانيين في الباحة الخارجية للسجن ثم يرسلونهم إلى المعتقلات. وما زال السجن المجاور مليئًا بالجنود العراقيين الفارّين من الجبهة.

لم يمض على وصولنا أكثر من ثلاثة أيام حتى ظهر الخياط ثانية. أخبرنا "صالح" بما سمع من هنا وهناك: "عاجلًا أم آجلًا سيرسلونكم إلى فرنسا أو إلى أي بلد آخر. السجّانون الجُدُد لا يملكون كثيرًا من المعلومات، حتى إنّ بعضهم سألني، ألم يرسلونكم قبل ستة أشهر إلى إيران؟ والشعب العراقي أيضًا يظن أنّهم أطلقوا سراحكم بعد لقائكم "صدام"، وأصبحتم في وطنكم. 

أخبرني "أبو وقاص" البارحة أنّ "العراق"، وبسبب الترويج الإعلامي الواسع، أضحى مضطرًا لإعادتكم إلى بلدكم بأيّ طريقة كانت". اقترب "جواد خواجوئي" من "صالح" وقال: "وماذا
 
 
 
 
 
 
198

175

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 يقول المسؤولون الإيرانيون؟"، أجاب صالح: "قبل حوالي الشهرين أحضروا أسيرًا إلى هذا السجن، أخبرني أنّ المسؤولين الإيرانيين مستعدون لمبادلة كلّ فرد من أبنائهم بعشرة من الضبّاط العراقيين، وقال هاشمي رفسنجاني إنّ أسرانا ليسوا أطفالًا بل مقاتلين!". عندما سمعنا كلام "صالح" امتلأ كياننا بعشق الوطن، وشعرنا بثقل المسؤولية الّتي أُلقيت على كاهلنا، خاصة عندما قال قادة وطننا إنّنا لسنا أطفالًا. لا بدّ أنهم يتوقعون منّا أن لا نتصرف كأطفال، وأن نثبت للعالم أنّنا لسنا أطفالًا، بل مقاتلين أبطالًا. لذا، لن نفكر في الخضوع لإرادة الأعداء، ولن نقبل أن تأتي فتيات مجاهدي خلق الهاربات لاستقبالنا في مطار باريس، أو أن يضع السفير العراقي يدنا بيد "رجوي"، ويقول له ها هم أبناء وطنك! وعلاوةً على ذلك، كيف لنا تحمّل ذلّ هذه العودة دون رفاقنا؟ ماذا سنقول لإخواننا في الخندق الواحد؟ ماذا سنقول لعوائل إخواننا الّذين استشهدوا أمام أعيننا؟ أنقول لهم إنّ "صدام" قتل أبناءكم بينما أرسلنا مع أكاليل الورد والهدايا إلى"أوروبا"؟ ماذا سنقول لعوائل رفاقنا الّذين أُسرنا معهم وما زالوا أسرى حتى الآن في المعتقلات؟ وماذا سنقول للقادة الّذين حاولوا منعنا يوم تطوّعنا للمشاركة في الحرب عندما يستقبلوننا عند درج الطائرة قائلين: "ألم نقل لكم؟!". لطالما طرحنا هذه الأسئلة على أنفسنا في الأيام الأولى بعد عودتنا إلى سجن "بغداد"، لكن لم نجد لأيٍّ منها جوابًا مقنعًا شافيًا. رويدًا رويدًا، تكونت وتشكلت فينا إرادة جماعيّة تحثّنا على اتخاذ خطوةٍ ما لإيقاف هذه المسرحيّة الهزليّة. يجب أن لا تطأ أقدامنا أرض فرنسا!


صوت الوطن
عند غروب ذلك اليوم، استطاع "صالح" إقناع السجان "عبد الله" أن يعيره مذياعه. في الليل، غطى رأسه بالبطانية ثم فتح المذياع بشكل لا يسمع أحد
 
 
 
 
199

176

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 صوته إلّا هو، وأوصانا بجدية وحزم ألّا يقترب منه أحد أثناء ذلك. فلم نجرؤ حتى على الاقتراب من فراشه.


ليلة الجمعة، بقي "صالح" تحت بطانيته يستمع إلى أخبار إذاعة "إيران". كانت الباحة خالية تمامًا إلّا من حرّاس المدخل. نام الجميع حتى سجناء السجن المجاور، لكننا بقينا مستيقظين في انتظار أن يخرج "صالح" من تحت البطانية ويخبرنا بما سمع من الأخبار. وأخيرًا أزاح "صالح" طرف البطانية وبعدما اطمأنّ إلى أنّ الحرّاس نائمون، طلب منّا الاقتراب بهدوء ورفع صوت المذياع قليلًا كي نستمع إلى مراسم دعاء كميل من حسينية "مهدية" طهران، وختم القارئ بالدعاء للأسرى: "إلهي! نسألك الساعة بحق أسير بغداد الإمام موسى الكاظم، أن تفرّج عن أسرى الإسلام لا سيما أعزاءنا في سجن بغداد"، وكان الناس يردّدون من خلفه: "آمين"، فاغرورقت عيوننا بالدموع.

كانت هذه المرة الأولى الّتي نسمع فيها صوت الوطن بعد 9 أشهر من الأسر. إذًا، هناك من يفكر فينا ولسنا منسيّين أبدًا! لذا علينا أن نكون أوفياء للشعب الّذي يدعو لنا، وأن لا ندع الأمر يصل إلى "باريس".

ليالي الشتاء الطويلة
عند الساعة التاسعة صباحًا، سمعنا صوت جلبة من باحة السجن، ومن ثم أصوات نحيب امرأة وبكاء رجل، كانت كوة الباب مفتوحة، فاختلستُ النظر خلالها، لقد أحضروا عائلة بكاملها، كبيرها وصغيرها، للتحقيق معها.

كنت أسمع صوت بكاء لا أرى صاحبه، ليس بكاءً بسبب الضرب وإنّما بسبب الخوف والهلع. عدت وجلست قرب "محمد باباخاني" لأخبره بما رأيت. فجأة فتح الباب بعنف فرمى "صالح" بطانيته على الوسادة حيث خبّأ الراديو الليلة
 
 
 
 
 
200

177

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 الماضية، ونهض لاستقبال الجندي الّذي قفز وسط السجن دون الالتفات إلى "صالح". جال بنظره على الجميع كأنّما يبحث عن شخص ما ثم توقف عند "منصور"، أمسكه من قميصه وجرّه معه إلى الخارج وأغلق الباب.


رحنا ندعو لسلامة "منصور". التفت "صالح" نحونا وقال: "بالتأكيد تفوّ هذا الولد بكلام سبّب له المشاكل! لطالما نصحته أن لا يناقشهم، فما شأنك أنت بمن بدأ الحرب ومن هو الأقوى 
والأشجع والحق مع من!".

لم نستطع التعليق على كلام "صالح" فالحق معه، إذ إنّ منصور يسبّب لنفسه المشاكل في بعض الأحيان، كتلك المرة الّتي قال فيها: "كم هم جبناء"، وصفعه "عز الدين" صفعة قوية على أذنه. كلّما طال غياب منصور زاد قلقنا. بعد دقائق، فُتح الباب ودخل "منصور" ضاحكًا. تحلّقنا حوله وسألناه عمّا جرى فقال: "لا شيء! لقد أحضروا عائلة عراقية: الأم والأب والأولاد. 

كان ابنهم الأكبر يبكي ويرتجف خوفًا، فأخذني الجندي العراقي إليه وضربه على رأسه قائلًا: "أيّها الثور الكبير، انظر لهذا الطفل الإيراني عمره 12 سنة فقط وهو أسير عندنا منذ 9 أشهر، لكنّه يضحك دائمًا، بينما أنت في هذه السنّ والحجم تبكي وتولول كالأطفال دون أن يمسّك أحد. ألا تخجل من نفسك؟". عندما سمع الصبي ذلك كفّ عن البكاء.

مضى الأسبوع الأول، ولم نعد نطيق هذا السجن المطبق الصغير، فكنّا نشكو ذلك لـ"شاكر" الحارس العراقي الجديد، ونكرّر له يوميًا: "إلى متى سنبقى هنا؟ بأيّ ذنب تُبقونا هنا؟". إذا كان مزاج "شاكر" جيدًا، يفتح ذراعيه بشكل جناحي الطائرة ويقلّد صوتها قائلًا: "ستذهبون إلى باريس حيث الشوارع العريضة والفتيات الجميلة". لكن إن كان مزاجه سيّئًا أغلق باب السجن بعنف وغادر دون أن يتفوّ بكلمة.
 
 
 
 
201

178

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 في أحد الأيام، بعد أن عاد من إجازته بدأنا الشكوى والتذمّر ثانية، حينها دخل إلى السجن وأغلق الباب خلفه ثمّ أزاح البطانيات بحذائه وبدأ يفصح عمّا في داخله:

- لمَ تطرحون عليّ كلّ هذه الأسئلة؟ كيف لي أن أعرف لِمَ لا يعيدونكم إلى معتقل الأسرى؟ هل تعتقدون أنّه يحق لنا طرح الأسئلة على من هم أعلى رتبة منّا؟ في الجيش العراقي لا يحق لأحد طرح الأسئلة". ثمّ ضرب بهراوته على الجدار وقال: "صحيح أنّ هذا الحائط أبيض، لكن إن قال أبو وقاص إنّ لونه أحمر فعليّ القول: "أجل سيدي لونه أحمر!". جال بنظره على السجن وتابع: "قبل شهرٍ ذهبت في إجازة فجاءت زوجة أخي لتسألني عن زوجها وخالي عن ابنه، وجاء هذا وذاك ليسألني عن عزيز له لا يعلم إن قتل في الجبهة أو أسر! عندما أعود إلى حيّنا وأرى العائلات متّشحة بالسواد حدادًا على أبنائها الّذين قتلوا في الحرب، أقطع مأذونيتي قبل انتهائها وأعود إلى هنا لأتخلص من تلك المشاهد والأفكار، لكن أصطدم بكثرة شكواكم وتذمرّكم". شعر"شاكر" بعد أن أنهى كلامه أنّ ثقلًا انزاح عن صدره، فغادر وأغلق الباب دوننا. عندها قال لنا "صالح": "أرأيتم؟ هذه هي معنويات جيش صدام".

اليوم حصلت على إجابة عن السؤال الّذي تبادر إلى ذهني ليلة العمليات، وهو لمَ يستسلم جنودهم بهذه السهولة ولا يفرّون تحت جنح الظلام مع أن الفرصة أتيحت لهم؟

كنّا في ليالي الشتاء الطويلة نتحدث عن ذكرياتنا في "إيران"، وعندما تصل أحاديثنا إلى ذروتها، نتحلّق ونضع البطانيات على أقدامنا اتقاءً للبرد القارس، ونتابع الأحاديث والضحك متناسين غمّ السجن وعناء الأسر. في إحدى الليالي، حدّثنا "سلمان راد خوش" عن جماعات البدو الرُحّل الّذين أحرقوا المسجد
 
 
 
 
202

179

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 الجامع في "كرمان". وفي كلّ ذكرى سنوية لتلك الواقعة، تُطبع صورها، فيرى "سلمان" كل سنة صورة دراجته الهوائية المحترقة بين الدراجات الهوائية والنارية المحترقة الأخرى. حدثنا "أبو الفضل محمدي" عن جارتهم السيدة "كلانتري" في قرية "قيدار" في محافظة "زنجان". كانت إيرانية فارسية لا تجيد التركية وتعاني من مشاكل في التواصل مع أهالي القرية، وكثيرًا ما حدث بينها وبين أهل القرية مواقف طريفة ومضحكة.


حدّثنا "حسن مستشرق" عن "زورخانه" الّتي كان والده مرشدًا فيها، كما حدّثنا عن عمله في محل والده لتصليح الدراجات النارية في ميدان الساعة في مدينة "ساري"، حيث كان يقوّم اعوجاج محور العجلات. وحكى لنا "حسين بهزاد" قصة صبي شقي في قريتهم: "جلس على حصادة قديمة تجرّها الأبقار، وعندما جرت البقرة وتحركت الحصّادة علق رأس الصبي بين صفحتيها، فراح يصرخ لأبيه كي يوقف البقرة، لكن الأب لم يكن يسمع صوته، كان الصبي ينادي بأنفاس وأصوات متقطعة: "بابا... بقرة... الحصادة... رأسي...". بعد ذلك اليوم، صرت كلّما مررت به أضغط على رأسه بأصابعي ولا أتركه إلى أن يعيد الصراخ والنداء الّذي كان ينادي به والده ذلك اليوم".

حدّثنا "حميد مستقيمي" عن عمليات "بستان والفتح المبين"، و"يحيى قشمي" عن أمه الّتي تخرج ليلًا إلى ساحل الجزيرة قلِقةً على والده الّذي تأخّر في البحر. في إحدى الليالي العامرة بالذكريات والخواطر، فُتح باب السجن فجأة، فقفز "صالح" من مكانه، لقد دفعوا رجلًا في الأربعين من العمر إلى الداخل، كان يرتدي دشداشة، أصلها أبيض اللون لكنها لم تعد كذلك، ومن شعر رأسه ولحيته الطويلين اللّذين وصلا حتى صدره، خمنّا أنّه كان لمدّة طويلة في السجن. جلس في زاوية وحدّق بنظرات يائسة وحزينة في مروحة السقف
 
 
 
 
 
203

180

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 الساكنة. لم يحرّك جفنًا كأنّه لا يرى أحدًا منّا. كان معه في كيس النايلون عدد من السجائر، ربما أراد أن يدخنها حتى الصباح. سأل "صالح" "شاكر" عنه وعن سبب وجوده، فأخبره أنّه قتل عددًا من ضباط الجيش العراقي بالرصاص، وأصدرت المحكمة العسكرية الحكم عليه بالإعدام، ومن المقرّر أن يُعدم سَحر اليوم التالي.


بالنسبة إلى من هم في مثل سنّنا، من السهل أن يجالسوا محكومًا بالإعدام لم يبق من عمره سوى بضع ساعات، لكنّنا أدركنا أنّه يجب أن ندعه وشأنه في ساعاته الأخيرة، فلم نقترب منه لنتيح له فرصة التفكير في عائلته وأولاده، وعمره الّذي وصل إلى محطته الأخيرة.

ما إن انتصف اللّيل حتى أعطى لصدره استراحة ولم يدخن السيجارة التالية، بل نهض وصلّى ركعتين، ثمّ عاد للتحديق بالمروحة الّتي أبت أن تتحرك وتدور. نمنا تلك الليلة في وقت متأخّر، وعندما استيقظنا لصلاة الصبح في اليوم التالي، لم نر ذلك الرجل، فقد رحل... وإلى الأبد!

خبر طيّب
في تلك الأيام، أحضروا أسيرًا من معتقل "عنبر"، اسمه "عزيز". لا ندري ماذا ارتكب حتى أحضروه إلى سجن الاستخبارات، ولم يكن يرغب في الإفصاح عن فعلته. لكننا استطعنا من 
خلال كلامه تكوين فكرة عن الأوضاع هناك.

في أحد الأيام، رأيت "عزيز" يحدق في وجهي بدقّة وسألني: "من أين أنت؟"، قلت: "لِم تسأل؟"، قال: "تبدو لي مألوفًا"، فقلت له: "من قضاء كهنوج في كرمان"، عندها قال: "هل تعرف حسن تاجيك؟ هو أيضًا من كهنوج". كاد قلبي ينخلع من مكانه، هل حقًّا يقصد حسن تاجيك شير، ابن خالي الّذي
 
 
 
 
204

181

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 وصلنا نبأ استشهاده قبل عيد النوروز؟ فسألته غير مصدّق: "ما اسم عائلته كاملًا؟" فقال: "حسن تاجيك شير، لكن في المعتقل ينادونه حسن تاجيك فقط". طرت فرحًا وكأنّ جميع خلايا جسمي فرحت ورقصت معي. وعندما علم "عزيز" مدى قرابتي بـ"حسن تاجيك"، قال: "يا إلهي لهذا يبدو وجهك مألوفًا لي! فأنت تشبهه كثيرًا كما أنّك تتحدّث مثله تمامًا". ثمّ أخبرني أنّه أصيب برصاصة في أعلى ركبته أدت إلى كسر عظم الفخذ، وبقي يعالج مدة طويلة في مشفى المعتقل. شكرت الله وحمدته لنجاة حسن وطلبت من "عزيز" في حال رجع إلى هناك أن يخبر "حسنًا" ورفاقه قصّتنا1.


الحدث الطريف الآخر ذلك اليوم، كان عندما أحضروا عند الظهيرة أسيرين شابين من الجيش الإيراني، أحدهما كان يقول مفتخرًا أنّهما استسلما للأعداء طلبًا للجوء. لو كنتم ترون ملامح "حسن مستشرق" وهو يستمع إلى كلامه! بدا الجندي الثاني أكثر قلقًا واضطرابًا وسألنا: "كم يومًا يستغرق خروجنا من العراق؟" فسأله "حسن مستشرق": "إلى أين إن شاء الله؟"، أجاب الشاب: "إلى أوروبا! فإذاعاتهم تبثّ يوميًا، وكذا المنشورات الّتي رموها فوق دشمنا، أنّ أيّ جندي يستسلم يستطيع مغادرة العراق بحرّية إلى أيّ بلد يشاء". فقال له "حسن": "في الحقيقة هناك طائرة جاهزة للإقلاع ينقصها راكبان فقط، الجميع كان في انتظاركما، والحمد لله ها قد وصلتما ويمكنها الإقلاع الآن في أسرع وقت".

أحسّ الشاب المخدوع أن "حسن" يهزأ به، فاغتمّ لذلك وسأله بمرارة: "تقصد أنّهم كذبوا علينا؟" بيّنا لهما أيّ بلاهة ارتكبا! فالعراقيون يعاملون الأسرى
 

1- حسن تاجيك شير، بعد 8 سنوات و 5 أشهر من الأسر وتحمّل أنواع العذابات والآلام بسبب كسرٍ في عظم الفخذ، عاد إلى الوطن ويعمل حاليًا في مجلس المحافظة في"كرمان".
 
 
 
 
205

182

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 أفضل بكثير من معاملتهم للّاجئين. قال أحدهما: "أفّ! هل يمكن هذا؟"، فقال "حسن مستشرق":"أيّها البطل! هم يقولون كيف لمن خان وطنه أن يكون وفيًّا لنا! استيقظ يا أخي!".


نظر إلى رفيقه بغضب ثمّ التفت نحونا وقال: "أقسم بالله إنّي قلت له ذلك لكنه أصرّ عليّ أن نستسلم. والآن كيف لي الخروج من هذه المخمصة؟". قال له "علي رضا شيخ حسيني" بلين: "انظر يا أخي، لقد ارتكبتما خطأ وانتهى الأمر، لكن يمكنكما أثناء التحقيق أن تقولا إنّكما أسرى لا لاجئين. على الأقل ستتمكنان من العودة إلى وطنكما في يوم من الأيام".

في اليوم التالي، نُقلا إلى مكان مجهول، وكان مع أحدهما راديو ترانزيستور صغير، فقال له "صالح" إن وجدوه معك سيبرحونك ضربًا أيها المسكين، لذا أعطاه الجندي إياه راجيًا أن يتخلّص منه. أعطانا "صالح" الراديو، وعيّن "رضا إمام قلي زاده"و"حميد مستقيمي" مسؤولين عن الأخبار، فكانا يتناوبان ليلًا على سماع الأخبار تحت بطانياتهما ويخبرانا ما سمعاه نهارًا.

لم يمضِ أسبوع على ذهاب الجنديّين الشابين، حتى أعادوهما بحالة مزرية، ودلّت ملامحهما على العذاب الّذي عاشاه خلال تلك المدة. لقد نقص وزنهما كيلوغرامات عدّة، غارت عيناهما واصفرّ لون وجهيهما. أخبرانا بما جرى معهما:
- نقلونا إلى زنزانة مظلمة فيها 4 إيرانيين، كانت لحاهم طويلة وكذا أظافرهم وقد تكوّروا في زاويةٍ فسألناهم من يكونون، أجاب أحدهم: "لقد جئنا بصفتنا لاجئين منذ 7 أشهر، فرمونا في هذه الزنزانة منذ ذلك الحين، ويا ليتنا لم نأت". ثم سألونا: "هل أنتما لاجئان أيضًا؟"، عندها تذكرنا كلامكم، وقلنا لهم: "لا، نحن أضعنا طريقنا في الجبهة فوقعنا في الأسر". بعدها طرقنا الباب وبدأنا بالبكاء،
 
 
 
 
 
206

183

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 فسألنا الجندي العراقي ماذا تريدان؟ فقلنا له إنّنا أسرى وقد أحضرونا إلى هنا عن طريق الخطأ. بقينا مدّة أسبوع كامل نبكي ونرجو أن يأخذونا إلى غرفة التحقيق، ووافقوا على نقلنا إلى معتقل الأسرى. بعد أيّام عدّة نُقلا إلى معتقل الأسرى لينالا جزاء حماقتهما.


كان السجن متعِبًا ومملًّا، لا يُسمح لنا بالخروج إلى المراحيض سوى مرة واحدة في اليوم، ولا يُسمح لنا بالاستحمام، فامتلأت ملابسنا بالقمل وتعفّنت أجسامنا وتشقّقت جلودنا. في أحد الأيام، جمع "أحمد علي حسيني" عددًا كبيرًا من "القمل" في علبة كبريت "صالح" الفارغة ورمى عددًا منها على ملابس "أبو وقاص" انتقامًا، والباقي رماه على ملابس الحرّاس عند ذهابه إلى المرحاض، ليأخذوها هدية معهم إلى منازلهم.

مضى عشرون يومًا على عودتنا إلى السجن، جاءنا فيها المراسلون والمصوّرون لإعداد التقارير، وكانوا يُعنونون صحفهم وكتاباتهم بالتالي: "الأطفال الإيرانيّون الأسرى في طريقهم إلى باريس"، ونحن لم نكن في طريقنا إلى هناك، بل كنّا نعاني في سجن الاستخبارات في "بغداد"، حتّى الملابس الجديدة الّتي أخذ الخيّاط مقاساتنا لأجلها لم يحضروها، فأملنا أن يكون العراقيون قد صرفوا النظر عن مخطّطهم.

قرار مهمّ
كان "مجيد ضيغمي"ينظر إلى الباحة عبر كوة الباب، عندما سمعنا صوت نحيب موجع - يبدو أنّهم يعذّبون أحدهم - عاد "مجيد" بعينَيْن غارقتَيْن بالدموع مضطربًا، غاضبًا، وقال: "سيقتلون المسكين، يطلبون منه أن يعترف بأنّه من الحرس ولأنّه يرفض ذلك، يضعون عيدان الكبريت بين أصابعه ويشعلونها، وقد نتف عديم المروءة والشرف لحيته!".
 
 
 
 
207

184

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 يُدعى الأسير المظلوم المعذّب السيد "محمد طباطبائي"، هذا ما علمه "صالح" بعد أيام عدّة عندما قرأ اسمه في الملف. كانوا يعذّبونه كلّ يوم، لكنّه لم يعترف أبدًا أنّه قائد أو من الحرس. 


دفعنا الظلم الكبير الّذي يتعرّض له السيد "محمّد" لأن نفكر في الاعتراض الجَماعي، وعدم السكوت على كلّ هذا الظلم. كان نحيب وأنين هذا الأسير المظلوم داء لأرواحنا وقد زاد من آلامنا ومعاناتنا ومآسينا.

في إحدى الليالي، جلسنا لنلعب لعبة "مزوج أو مفرد"، هذا في الظاهر، وأمّا الواقع، فكنّا نتدارس الخطوات الآتية لتحركنا، قال أحدهم: "لنقف قرب كوة الباب ونكبرّ"، وقال آخر: "لنساعد أحدنا على الفرار من النافذة أعلى الجدار منتصف الليل، لربما ساعد هذا على إنقاذ الآخرين"، وقال ثالث: "لننفّذ إضرابًا عن الطعام". بعد أن قدّم كلّ منا اقتراحًا جرى التوافق على الإضراب عن الطعام. في اليوم التالي، تدارسنا جميع نتائج وعواقب تحرّكنا، إذ كان للإضراب عن الطعام نتيجتان لا ثالث لهما، إمّا الموت أو العودة إلى معتقل الأسرى، وقد تقبلنا النتيجة الأولى بطيب خاطر، لكنّنا وقبل أيّ شيء تعاهدنا على عدم التخلي عن بعضنا بعضًا. وقررنا أن نسير في جميع المراحل معًا وجنبًا إلى جنب كي لا تقع مخاطر هذا العمل على عاتق شخص أو اثنين من المجموعة.

أخبرنا "صالح" عن عزمنا فصُدم. شرحنا له أسباب ذلك وأنّنا لم نعد نحتمل تعذيب إخواننا، كما لن نرضى أن يُقال عنّا أطفال، وأن نُسلَّم إلى منافقي خلق. كلّ ما نريده هو العودة إلى معتقل الأسرى.

فكر "صالح" مليًّا في الأمر، إذ كان من الصعب عليه أن يسمح لنا بالقيام بهذا العمل الخطر وقال: "كنّا نُضرب عن الطعام في سجون النظام البائد، وكان يؤتي ثماره في بعض الأحيان، لا يمكنني سوى أن أنصحكم بأمر واحد وهو أن لا يترأس أحدٌ هذا الحراك وأن تكونوا يدًا واحدة لتحقّقوا مبتغاكم. وإذا ما حدث
 
 
 
 
208

185

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 شقاق وشرخ بينكم فرحمة الله عليكم!". اكتفى "صالح" بهذا القدر من الكلام وترك لنا حرية الاختيار. ليل الجمعة أخذنا قرارنا النهائي، ألا وهو الإضراب عن الطعام وعدم التراجع حتّى الرمق الأخير. لن نرضى بعد اليوم أن نكون أداة للترويج الإعلامي بيد الأعداء، كما سنطالب بلقاء الصليب الأحمر والعودة إلى معتقل الأسرى.


قرّرنا أن لا نخبر أيًّا كان عن مطالبنا الثلاثة هذه - لا الحرّاس ولا "أبا وقاص" - بل فقط الجنرال "قدوري" رئيس كلّ معتقلات الأسرى الإيرانيين في العراق.

اليوم الأول للإضراب
صباح اليوم التالي، كان كلّ شيء يسير طبيعيًّا بالنسبة إلى العراقيين، لكن ليس بالنسبة إلينا. كالعادة، دخل جندي يحمل صينية الطعام، لكنّ أحدًا منّا لم يتحرّك من مكانه ليأخذها منه، صرخ فينا: "طعام الفطور!"، وأيضًا لم نحرّك ساكنًا. عندها وضع الصينية على الأرض، وسأل "صالح" بتعجب: "ما بهم هؤلاء يا صالح؟"، فأجاب "صالح": "يقولون إنّهم لن يتناولوا الطعام؟" فقال الجندي: "اسألهم لِم لا يريدون الطعام؟". سألنا "صالح" ولمّا لم يلق جوابًا نظر إلى الجندي وترجم سكوتنا بالسكوت. أغلق الجندي باب السجن بغضب وذهب ليعود مع "إسماعيل" رئيس الحرّاس. أعادوا السؤال ولم يسمعوا منّا سوى الصمت. جاء باقي الحرّاس ليروا ماذا يجري في السجن، وبقيت أسئلة "إسماعيل" المتكرّرة دون جواب. عندها أغلق الباب وذهب ليبلغ"أبا وقاص" بالأمر.

بعد أقل من نصف ساعة، دخل "أبو وقاص" وسأل "صالح" عما يجري، فقال له "صالح": "يرفضون تناول الطعام يا سيدي".

- لماذا ؟
 
 
 
 
209

186

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 - لا أدري يقولون إنّه "اعتصاب" عن الطعام. استخدم صالح كلمة "اعتصاب" الفارسية فلم يفهم أبو وقاص معناها وسأل "صالح": "ماذا تعني اعتصاب عن الطعام؟"، أجاب "صالح": "يعني أنّهم يتعمّدون عدم الأكل"، فانتفض "أبو وقاص" وكمن اكتشف أمرًا وقال: "اعتصاب؟ تعني إضرابًا عن الطعام؟"، فأيّد "صالح" كلامه. حاول "أبو وقاص" السيطرة على غضبه 

وقال: "لكن لماذا؟"، فأجاب "صالح": "يقولون إنّهم لن يخبروا غير الجنرال قدوري عن سبب إضرابهم".

"أبو وقاص" ذلك البعثي الغامض الّذي لم نعرف ما هي مسؤوليته ولا رتبته، والّذي بمجرد سماع اسمه تُفتح له جميع الأبواب في قصر "صدّام". الشخص الّذي قدّم له حرّاس الرئيس التحية العسكرية، وله أصدقاء داخل قصر الزوراء. اليوم يقف أمامنا يريد معرفة سبب إضرابنا! لكننا لم نعتن لا به ولا بمقامه ورفضنا التحدث إلّا بحضور الجنرال "قدوري".

خيّم السكوت على السجن. خاف "صالح" وشعرنا نحن بالرعب أيضًا. أصبح "أبو وقاص" كبرميل البارود، ضحك ضحكة غاضبة وقال: "أخبرهم يا صالح أنّ عقاب الإضراب هو الموت في العراق. أخبرهم أن من يُضرِب يحضرونه إلى سجن الاستخبارات، بينما أنتم تُضربون داخله!". وكي لا تتطوّر الأمور أكثر وتصل إلى من هم أعلى رتبةً منه، جاءنا من باب العطف والملاطفة وقال: "لا فائدة من ذلك، والآن بما أنّكم عرفتم ما هي عقوبة الإضراب، تناولوا طعامكم ودعوا هذا الهراء". قال هذا ودفع صينيّة الطعام إلى الأمام بقدمه.

لم يتحرك أحد من مكانه، فأصبح برميل البارود على وشك الانفجار. كانت قلوبنا تخفق بشدّة كقلب العصفور لدى رؤيته طائر العقاب. أشعل "أبو وقاص" سيجارته وقال: "يبدو أنّكم لا تفهمون ولا تعون النصح"، ثمّ التفت نحو "صالح" وقال: "أخبرهم يا صالح، والله العظيم إذا تسببوا لي بالمشاكل مع المسؤولين
 
 
 
 
210

187

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 فسوف أعاقبهم بقسوة". قال هذا وسار خطوة نحو باب السجن وتابع: "سأعود بعد نصف ساعة ويجب أن يكونوا قد تناولوا الطعام وإلّا أقسم بشرفي إنني سآمر بتعذيبهم بالماء المُغلى، والأفضل لهم إنهاء هذه المهزلة". خرج وأغلق الباب بعنف. جلس "صالح" مهمومًا ورأسه بين يديه، كان يتمتم باللغة العربية. تمنيت لو أنني لم أسمع من "صالح" شيئًا عن التعذيب بالماء المغلى من قبل، فقد أخبرنا أنّه في مقر الاستخبارات العراقية سجن مرعب يعذبون من يريدون انتزاع الاعتراف منه بالماء المغلى. كان مجرد التفكير بتعذيبنا بالماء المغلى يجعلني أرتجف رعبًا وخوفًا. لم نكن ندري أنّ عقوبة الإضراب عن الطعام هي الموت، ومع هذا كنّا قد حضّرنا أنفسنا للموت وليس للتعذيب بالماء المغلي.


انقضت 5 دقائق من الفرصة الّتي أعطانا إياها "أبو وقاص"، وبقي أمامنا خمس وعشرون دقيقة للتفكير في فكّ الإضراب أو العقاب بالماء المغلي. فُتح الباب ودخل "شاكر": "هل ستأكلون الطعام؟" فقلنا بصوت واحد: "لا". عندها علم أنّ التهديد لم ينفع بعد، فشتمنا وخرج. كانت الثواني تمرّ ثقيلة، وزاد من ثقلها السكون الّذي خيّم على السجن على غير عادته. 

تسارعت أنفاس "صالح"، وانشغلنا وإيّاه بالدعاء والأذكار. كان الحرّاس يأتون كلّ دقيقة ليروا إن تناولنا الطعام أم لا.

كلّما شارف الوقت على الانتهاء، زاد خفقان قلوبنا. انتهت النصف ساعة ودخل "أبو وقاص"، نظر إلى الطعام الّذي لم يُمس، ثم نظر إلى وجوهنا فردًا فردًا، نفث سيجارته بشراهة ورماها على البطانية، داسها بقدمه وقال: "ألن تأكلوا؟"، فأجبنا: "لا!".

انفجر برميل البارود، وراح يصرخ ويعربد، ثمّ أشار إلى 15 منّا للخروج من السجن. بعد أن خرجوا وأقفل الباب، وكأنّما هطلت الأمطار. أحاط عشرات
 
 
 
 
 
211

188

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 الجنود بالرفاق وانهالوا عليهم ضربًا بالسياط. وقفنا جميعًا خلف الباب، كان سماع سلخ السياط وضرب الآخرين، أشد وحشة ووطأةً من التعرض له.


بدأ "مجيد ضيغمي"يركل الباب، فجاء أحد الحراس إلى الباب مذعورًا. صرخ "مجيد" من الكوة: "اضربونا نحن أيضًا". فتح الحارس الباب وشدّ "مجيد" من ياقته خارجًا. ضربوهم حتى ملّوا، ثمّ رموهم داخل السجن وحان دور المجموعة الثانية. هذه المرّة لم يختر "شاكر" سوى أسيرين، أنا و"عباس بور خسرواني". خرجنا بإشارة من سوطه وبدأوا بضربنا من كلّ حدب وصوب. عبثًا حاولنا الفرار من سياطهم. هربنا نحو غرفة الحرّاس، وبما أنّ الغرفة صغيرة، لم يستطع غير حارسين رفع السوط في الهواء ليجلدانا.

اختبأ عباس تحت السرير، في حين كنت أصرخ وأولول تحت وقع السياط. سمعت الحارس يهدّد "عباس" بالخروج من تحت السرير. توقف "شاكر" عن ضربي لحظة وقال وهو يلهث: "هل ستأكل الطعام أم لا؟"، فقلت له وحسب المتفق عليه: "سآكل إن أكل الجميع"، فعاد لضربي مجددًا. استطاعا سحب "عباس" من تحت السرير وسألاه: "هل ستأكل أم لا؟"، فأعطاهما الجواب نفسه، وأيضًا عادا إلى ضربه بشكل جنوني.

عندما أُنهكت قواهم تركونا نعود إلى السجن. عندما أردت الدخول، أخفيت إبهامي الّذي انكسر ظفره أثناء الضرب وكان ينزف، ثمّ وبلمح البصر غيرت ملامحي من الباكية إلى الضاحكة ودخلت إلى السجن، رغبةً مني في رفع معنويات الرفاق. جلست ضاحكًا قرب "بابا خاني"، وكانت كلّ أطرافي وأنحاء بدني تؤلمني إضافة إلى ظفري المكسور، لكنني شعرت بالرضى في تلك اللحظة، لأنّني شاركت الرفاق في التعرض للسياط كما شاركتهم الألم، وقد خفّفت هذه المشاركة من آلامنا كثيرًا.
 
 
 
 
212

189

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 كنّا مشغولين بتفقّد بعضنا بعضًا لنرى ما حلّ بنا، حين فُتح الباب ودخل "أبو وقاص" قائلًا: "هل ستأكلون الطعام الآن أم لا؟". بيد أنّ ضرب السياط جعلنا أكثر جسارة وتحديًّا، فقلنا بنبرة حازمة: "لن نأكل".


وعلى عكس ما توقعنا، لم ينفجر برميل البارود هذه المرّة، بل قال: "إذن تريدوا أن تصبحوا أبطالًا! ومشهورين مثل المناضل الإيرلندي "بوبي ساندز"! لكن خسئتم، ستموتون داخل هذه الجدران ولن يدري بكم أحد"، قال هذا وغادر.

شعرنا بلذة النصر وأنّنا تقدّمنا خطوة إلى الأمام. كما منحنا عدم تنفيذ تهديدهم بمعاقبتنا بالماء المغلي، الأمل لاستكمال المسير. لم يُفتح باب السجن حتى الظهر، عندما دخل حارس يحمل صينية طعام الغداء ووضعها قرب صينية الفطور الّتي لم تمُسّ، ثمّ نظر إلينا ليرى ردّة فعلنا وعندما لم نتحرك من أماكننا سألنا: "ألن تأكلوا؟" فقلنا: "لا، لن نأكل". طوال تلك المدة كان صالح جالسًا مكانه مهمومًا حزينًا.

كنّا عند الغروب كالصائمين، لم نشعر بالعطش الشديد وإنّما بالجوع. أدّينا صلاتَيْ المغرب والعشاء وعدنا لنتكئ على الجدران. كان طعام العشاء الّذي وضعه الحارس قرب طعام الفطور والغداء، مغايرًا للعادة، أرزّ مع قطع اللحم الكبيرة، فاحت رائحته الزكية في أرجاء السجن. أخذ "صالح" حصته من الطعام وتناوله مكرهًا.

بعد قليل، جاء "شاكر" و"إسماعيل" ونظرا من كوة الباب، فوجدا أنّنا لم نقترب من الطعام الدسم، الّذي ظنّ "أبو وقاص" أنّه سيثبط من عزائمنا، لكنّ خطته لم تُفلح. عند منتصف الليل، جاء حارس وأخرج الطعام كله. كان في
 
 
 
 
213

190

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 الباحة قرب غرفة الحراسة، إبريق شاي كبير في حالة غليان دائم، وكان أثقل مما يجب، وكنت أتعجب كثيرًا من هذا الأمر إلى أن اكتشفت أن كتلة من السكر المتجمّد التصقت بقعرة ولا يمكن نزعها أبدًا. آخر الليل أحضر "صالح" الإبريق المليء بالشاي، بالطبع طلبه من الحارس لنفسه، لكنه أصرّ علينا أن نشرب قليلًا منه مستدلًا بأنّنا مضربون عن الطعام وليس عن الشاي، كما إنّنا لسنا صائمين ليبطل بذلك صومنا! اقتنعنا بكلامه وشربنا القليل من الشاي المحلّى ونمنا بمعدة خاوية.


اليوم الثاني للإضراب
نهضنا في اليوم التالي على صوت مؤذن المسجد القريب، كالعادة تيمّمنا بغبار البطّانيّات بينما تيمم "سلمان زاد خوش" بغبار الجدار. لم نستطع النوم بعد الصلاة، واستولى علينا التفكير في ما ينتظرنا هذا اليوم. هل سيحاول "أبو وقاص" إنهاء إضرابنا عن الطعام، بضربنا وجلدنا أو سيرسلنا إلى الجنرال "قدوري"، الّذي سيرسلنا بدوره إلى المعتقل؟

صدح صوت الموسيقى العسكرية في الساعة السابعة كالمعتاد. لا بدّ أنّها تواكب المراسم الصباحية في وزارة الدفاع. بعد المراسم يجري تبديل نوبة الحراسة، ويبدأ العمل الإداري بالشكل المعتاد. في الساعة الثامنة، فُتح باب السجن وخرجنا إلى المراحيض كالعادة، لنعود ونجلس أماكننا في انتظار ما يحمله لنا هذا اليوم. أحضر جندي صينية الطعام ووضعها في مكان البارحة نفسه. كانت أمعاؤنا تقرقر من الجوع، فرحنا نتسلّى بتبادل الأحاديث، ونترقب إعطاء "أبو وقاص" الأمر بجلدنا ثانية، لكنه لم يظهر. عند الظهر، صلينا وتمددنا في أماكننا من شدّة الوهن والجوع. دخل الجندي وأحضر طعام الغداء، ووضعه قرب طعام الفطور الّذي لم يُمسّ،
 
 
 
 
214

191

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 ومهما حاولت لم أستطع أن أشيح بنظري عنه. عندها نهضت وشربت كوب ماء من الدلو قرب باب السجن، فشعرت بألم شديد في معدتي.


عند الغروب، فتحوا الباب لنذهب إلى المراحيض، فذهبنا فقط للوضوء وتنشق الهواء الطلق. وكالبارحة، أحضروا وجبة العشاء أول الليل، ليخرجوا الوجبات الثلاث آخره. تلك الليلة، رحت أفكر في الموت، وربما فكّر فيه باقي الإخوة كذلك. فكرت أيضًا كم يستطيع تحمّلَ الجوع جسمٌ عانى 9 أشهر من الأسر وسوء التغذية. واستنتجت أنّني سأموت في أسرع وقت وينتهي كلّ شيء. تقبلت فكرة الموت، وكذا جميع الإخوة الّذين لم يظهر عليهم أيّ ضعف في الإرادة والعزيمة خلال اليومين الفائتين. الجميع مصمّمون على قرارهم حتى الرمق الأخير.

اليوم الثالث للإضراب
لم أشعر بالجوع إلى هذا الحدّ من قبل. ما زلت أذكر جوع أول يوم صمته في شهر رمضان. لم أكن قد بلغت سنّ التكليف بعد، وطلبت من أختي أن توقظني للسحور، فتناولت ما قدر لي من الطعام وشربت كثيرًا من الماء. رغم ذلك، وفي منتصف النهار، أنهكني الجوع والعطش وعانيت الأمرّين حتى أذان المغرب.

بدأنا اليوم الثالث للإضراب. ولم يعد "صالح" يحتمل الأمر، فقسّم رغيف الخبز إلى قطع صغيرة وقال: "أصل الإضراب أن توهموا الآخرين أنّكم لا تأكلون شيئًا، خذوا وكلوا الخبز تحت بطانياتكم فلا يراكم أحد. أخشى إن طال الأمر أن يصيبكم مكروه لا سمح الله". فأجبناه بما أجبنا به العراقيين في اليوم الأول: "لا، لن نأكل". قال "صالح" الّذي يبدو أنّه ندم لموافقته على إضرابنا: "لكنّكم ستهلكون إن استمرّيتم"، فقال أحدنا: "لا يهمّ"، وقال آخر: "إن أكلنا الخبز سنستعيد نشاطنا، وبهذا لن يولي العراقيون مطالبنا أيّ اهتمام"، وقال ثالث:
 
 
 
 
 
215

192

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 "نحن توقّعنا الموت عندما أخذنا هذا القرار ولا رجوع عنه"، قال "صالح" وهو يرتّب فراشه: "يا لكم من صبية عنيدين". ارتجف بدني، ووددت لو أنام، رويدًا رويدًا أظلم المكان وشعرت بثقل في جفنيّ، مددت يدي نحو طبق الأرز واللحوم، أخذت لقمة كبيرة ومضغتها بنهم. وعندما فتحت عينيّ وقع نظري على مروحة السقف، وما من أثر لطبق الأرز باللحم، لا شيء غير طعام الفطور الّذي لم يُمسّ، وحدث أن توهمت هذه الأمور مرات ومرات. لم يعد "أبو وقاص"يدخل السجن، وكنّا نسمع صوته في الباحة، يعطي الأوامر والتعليمات للحراس ويرحل.


أحضروا عند الظهر طعام الغداء، فنهضنا وأدّينا صلاتي الظهر والعصر بصعوبة، ثمّ تمددنا بلا رمق على الأرض وانتظرنا أن نفقد وعينا في أي لحظة، الأمر الّذي لم يحصل فتعجّبنا من قدرتنا على التحمّل والمقاومة.

قرّرنا أن نُفهم العراقيين أنّ حالنا وخيمة، وانتدبنا "منصور" و"رضا إمام قلي" اللّذَيْن كانا أسوأ حالًا من الجميع، لأن يرتميا دون حراك وكأنّما فقدا الوعي، فنقوم بالصراخ كي ينقلوهما إلى المستشفى. وافق "منصور" و"رضا" على الخطة. لكن قبل أن نقوم بتنفيذها، فُتح باب السجن غروب هذا اليوم، ودخل "أبو وقاص" بعد غياب يومين. عندما رآنا بلا رمق، هزّ برأسه تأسفًا وقال: "اختاروا واحدًا منكم لآخذه إلى الجنرال قدوري".

تحرّكنا من أماكننا، فقد اقتربنا من تحقيق الهدف. اخترنا "حميد مستقيمي" للتفاوض، مؤكّدين أنّه ليس مندوبنا، بل مجرد رسول لنقل مطالبنا للجنرال، فذهب مصحوبًا بدعائنا برفقة " صالح" و"أبي وقاص"، ليعود بعد ساعة وقد نفّذ المهمة على أكمل وجه. وكان كلّما سأله "قدوري" أجابه "حميد": "أنا لست ممثّلهم ويمكنك أن تسألهم بنفسك"، فقد تقرّر أن لا يحمل أحد لواء هذا التحرك. تابع "حميد": "والآن أمر بإرسال ثلاثة آخرين إليه".
 
 
 
 
216

193

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 اخترنا "علي رضا شيخ حسيني"، "محمد ساردوئي" والسيد "عباس سعادت"، خرجوا مع "أبي وقاص" ليخبروا الجنرال أنّنا لسنا أطفالًا ونريد لقاء مندوبي الصليب الأحمر والعودة إلى معتقل الأسرى، ثلاثة مطالب مهمّة ورئيسة. عندما فُتح الباب حوالي الساعة التاسعة، لم يدخل المبعوثون الثلاثة، فخفنا أن يكون قد أصابهم مكروه. قال الحارس: "ليخرج الجميع". عندما كنّا ننهض من أماكننا، أدركنا مدى الوهن الّذي اجتاح أجسامنا. وقفنا بصعوبة بالغة وسرنا خلف الحارس نجرّ أنفسنا في زقاق مظلم إلى أن وصلنا إلى غرفة الجنرال "قدوري" الّتي لا تبعد كثيرًا عن سجننا. كان في الغرفة رجل ضخم البنية، أسمر، يجلس خلف طاولة كبيرة خلفه علم كبير لبلاده، وعلى مسافة من العلم مِشجب لتعليق الثياب، عُلّقت عليه بزّة عسكرية أنيقة. وفي الجهة الأخرى من الغرفة سرير مرتب، إضافة إلى عدد من الكراسي حيث جلس "محمد" و"علي رضا" والسيد "عباس"، وإلى جانبهم "صالح" في انتظارنا. رحّب الجنرال بنا بابتسامة، وعندما وجد أنّ عدد الكراسي غير كافٍ طلب منّا الجلوس على الأرض. نظر إلينا بتمعّن وتفحّص ثمّ قال: "تكادون أن تهلكوا، لمَ تفعلون هذا بأنفسكم؟".


بدأنا مفاوضات استمرّت حوالي الساعتين مع الجنرال "قدوري". فنّدنا مطالبنا للجنرال "قدوري" الّذي استمع إلينا بدقة. وعندما وصلنا إلى عدم استغلالنا إعلاميًّا قال: "أيّ استغلال؟ هذا فقط فعل خير من قبل سيدي الرئيس"، فقلنا له: "ماذا لو كنّا لا نريد هذا الخير؟ وهل نحن أطفال حتى تنقل صحفكم عنّا كلامًا لم نتفوّه به ومغايرًا للواقع؟ من قال إنّهم أجبرونا على الالتحاق بالجبهة؟". فقال قدوري: "أعترف أنّكم لستم أطفالًا، ما هو مطلبكم الآخر؟"، فطلبنا التحدث إلى الصليب الأحمر، فقال:
- غادر مندوبو الصليب الأحمر إلى جنيف بسبب عطلة الميلاد.
 
 
 
 
217

194

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 - هل غادروا جميعهم؟ 

- هنا كسيدة فقط.

قلنا: "حسنًا نريد التحدث إليها"، فقال: "هي لا تستطيع مساعدتكم في أي شيء، وكيف ستقابلون سيدة وحدها؟ أليس في ذلك معصية؟"، أجبناه: "نحن سنتحمل تبعات الذنب"، فقال:
- لا يمكن. هاتوا مطلبكم الآخر؟
- أعيدونا إلى المعتقل.
قال: "بعد 3 أيام عيد الجيش حيث نقيم الاحتفالات، سنأخذكم إلى هناك بعد العيد"، فقبلنا.
- حسنًا! والآن عودوا إلى سجنكم وتناولوا طعامكم.
- سنتناول الطعام بعد عيد الجيش.
- ستنتظرون 3 أيام ؟
- يمكنكم إرسالنا قبل العيد، فالأمر لا يحتاج إلّا إلى ميني باص وسائق وحارس واحد.
- لا يمكن. ما هو طلبكم الآخر؟
- لا طلب آخر لدينا.

إلى هنا كنّا قد تعرفنا إلى جانب واحد من شخصية "قدوري"، وشيئًا فشيئًا بدأ يظهر منها الجانب الآخر: "حقًا ما قالوه عنكم، إنّكم أطفال، لستم أطفالًا فحسب، بل وحمقى. أعاملكم بالحسنى فتتصرّفون وكأنّنا نحن أسراكم لا أنتم.
 
 
 
 
218

195

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 عندما قلت إنّني سأرسلكم بعد عيد الجيش، فأنا أعني ما أقول، لذا عليكم تناول الطعام حتى ذلك الحين، كما سأعطي الأمر بالسماح لكم بالذهاب إلى المرافق الصحية، موافقون؟".


لم نقبل وقلنا له: "لن نتناول الطعام إلّا في معتقل الأسرى". صمت الجنرال لحظة، محاولًا السيطرة على غضبه، ربما كان يقول في نفسه: "للأسف أنّكم التقيتم الرئيس وشاهد العالم ذلك وإلّا لكنت أعدمتكم الساعة الواحد تلو الآخر"1.

عندما هدأ قال: "قلتم إنّكم لستم أطفالًا وقبلت. أنا رجل وأنتم رجال، وكلام الرجال يجب أن يصل إلى نتيجة، صحيح؟"، قلنا: "بلى". عندها ضغط على الجرس، فدخل جندي - يبدو أنّه كان ينتظرنا خارجًا في البرد طوال هذه المدّة - قال له الجنرال:"أعدهم إلى السجن واطلب لهم عشاءً ساخنًا، وفي الصباح أرسلوهم جميعهم إلى الحمام، على أن يتمّ نقلهم إلى المعتقل بعد عيد الجيش". قدّم الجندي التحية العسكرية بفرح وخرج من الغرفة. ربّما فرح لأنّه اعتقد أنّ المفاوضات قد انتهت ولن ينتظر في البرد أكثر من ذلك.

أعلن الجنرال "قدوري" انتهاء المفاوضات، ولمزيد من الاطمئنان قال: "اتفقنا؟". وهربًا من نظراته، طأطأنا رؤوسنا وقلنا بصوت واحد: "لا أبدًا، لن نتناول الطعام إلّا في المعتقل!". اشتدّ غضب "قدوري" ولم يعد يوجه الحديث إلينا، بل قال لـ"صالح": "لقد حاولت كثيرًا مساعدتهم، يبدو أنّهم لا يريدون البقاء على قيد الحياة"، ثم ضغط على الجرس ثانيةً وقال للجندي بغضب:
 

1- يبدو أن النظام العراقي كان قد قرّر تصفيتنا والتخلص منّا في هذه المرحلة من الإضراب لكنّه لم يفعل ذلك لأسباب مجهولة. هذا ما أخبرنا به الدكتور رضا يوسفيان، المحرر الشيرازي ونائب المدينة في المجلس السادس. وقد أُخبر بذلك، بعد الحرب خلال اللقاء مع ممثلي الصليب الأحمر الدولي في جنيف.
 
 
 
219

196

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 "أعدهم إلى السجن واقطعوا عنهم الماء وامنعوهم من الذهاب إلى المراحيض، أقفلوا عليهم باب السجن ليموتوا هناك". قدّم الجندي التحية العسكرية وقال: "حاضر سيدي". 


أخرجنا الجنرال "قدوري" من غرفته باحتقار، وكال لنا الجندي السباب والشتائم في طريق العودة إلى السجن، لكنه لم يجرؤ على ضربنا، لأنّ ضربنا ونحن في هذه الحال ستؤدي إلى عواقب وخيمة، لهذا فضّل الجنرال أن يدعنا نموت في السجن جوعى على أن نموت تحت التعذيب ويُطالَب بلده من قبل الصليب الأحمر طبقًا للقوانين الدولية1.

عندما وصلنا إلى السجن، ارتمينا على الأرض من شدّة الضعف، وانتابنا شعور غريب في تلك اللحظات المحفوفة بالخطر. فالجنرال، رغم حالتنا لم يرضَ بإرسالنا إلى المعتقل، ولم يبق أمامنا غير طريق واحدة وهي الموت! ظننّا أنّه سُرعان ما نموت الواحد تلو الآخر، جوعًا وعطشًا، خاصة بعد قطع الماء عنّا، لكنّنا في الوقت نفسه شعرنا بالرضى، لأنّنا لم نُخدع بوعود "قدوري"، ولأنّنا صمدنا طوال ساعتين من المفاوضات. في منتصف الليل، دخل "شاكر" ثمّ خرج وأخرج معه دلو المياه.

اليوم الرابع للإضراب
في صباح اليوم الرابع للإضراب، وكالعادة ارتفع صوت الموسيقى العسكرية في باحة وزارة الدفاع، وكأنّ تابوت "قاسم" قد حُمل فوق أكفّ المشيّعين وعبقت رائحة الشهادة.
 

1- يعتبر قتل الأسرى الّذين سجلت أسماؤهم في لوائح الصليب الأحمر مخالفًا للقوانين الدولية، ويؤدي إلى فضح سياسات الدولة المخالفة. وكنّا حتى ذلك اليوم قد التقينا بالصليب الأحمر مرات عدّة في بغداد وفي معتقل الرمادي.
 
 
 
220

197

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 عندما أحضروا جثمان "قاسم أوليائي" أول جندي شهيد في قريتنا، من "دهلاوية" إلى "جيرفت"، تقدّمت الفرقة الموسيقيّة العسكرية النعش الملفوف بألوان العلم الوطني، وتردّدت أصوات الطبول والأبواق والصنج في شوارع المدينة.


جلست أنا وأخي "يوسف" وسط هذه الموسيقى الحزينة، في سيارة الإسعاف الّتي من المقرر أن تنقل الجثمان إلى القرية. غادرت السيارة وما زلنا نسمع صوت الموسيقى، كنت أذرف الدمع على تابوت "قاسم"، بينما كانت الإسعاف تشقّ طريقها بين حشود المشيّعين نحو جسر نهر "هليل رود" ومن هناك إلى القرية.

خارت قوانا، وكان "منصور" و"رضا" أسوأ حالًا من الجميع. بدا لنا أنّه قد حان وقت تنفيذ خطة البارحة الّتي أضحت أمرًا واقعًا اليوم. شعرنا أنّنا نخسرهما، فسحبناهما وسط السجن ونادى أحدنا الحارس العراقي الّذي فتح كوة الباب وقال له: "إنّهما يموتان". دخل "شاكر" و"إسماعيل"، وعندما وقع نظرهما على "منصور" و"رضا"، أخبرا المسؤولين بالوضع وبعد نصف ساعة نقلوهما إلى المستشفى.

بعد مغادرة "رضا" و"منصور"، أصبح جو السجن أكثر غمًّا. لم يعد أحد يحمل لنا الطعام، ومنعنا من الذهاب إلى المرافق الصحية.

لم يعد الثلاثة والعشرون فتى الأشقياء الحيويّين الّذين ضجّ منهم "شاكر" في يوم من الأيام كما كانوا، بل أصبحوا أشبه بقافلة ضلّت طريقها وتاهت في الصحراء، فنال منهم الجوع والعطش وتركهم على شفير الموت، هكذا انقضى اليوم الرابع.
 
 
 
 
 
221

198

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 اليوم الخامس للإضراب

عند الساعة العاشرة صباحًا، لم يعد بمقدورنا حتى الجلوس، فُتح باب السجن ودخل "أبو وقاص". قبل ذلك اليوم، كنّا ننهض احترامًا له أو خوفًا منه، ونتكئ على الجدران، لكننا مع ذلك بقينا تحت بطّانيّاتنا إلى أن أمرنا "صالح" بالنهوض: "انهضوا لو سمحتم، يا الله!". نهضنا بصعوبة وببطء شديدَيْن واتّكأنا على الجدران كي لا نسقط، إذ كنّا نشعر بدوار شديد. وقف "أبو وقاص" ينظر إلينا وهو يستشيط غضبًا، لكنّنا لم نعد نخافه أو نهابه، حتى إنّنا لم ننظر إليه، لكنّه نطق بكلام سلخنا عن أفكارنا وجعلنا نحدّق به:
- هيّا جهزوا أنفسكم للذهاب إلى المعتقل.

لم يكن وهمًا، لا! ولا حلمًا أو خيالًا، لقد رضخ "أبو وقاص" والجنرال "قدوري" من قبله وحقّقنا أهدافنا، لقد انتصرنا وانهزم عدونا، وكأنّنا حررنا "خُرمشهر" من براثن "صدّام"، فحمدنا الله وشكرناه.

قال "أبو وقاص" كلامًا لـ"صالح" وخرج. نهضنا من أماكننا بنشاط ورشاقة، وكأنّما لم نكن نستقبل الموت منذ دقائق. دبّ نشاط عجيب فينا ورحنا نبارك النصر بعضنا لبعض.

وضّبنا البطانيات إلى جانب الجدار، وجهزنا أنفسنا للرحيل، وفي الساعة الحادية عشرة من اليوم الخامس للإضراب عن الطعام، غادرنا سجن "بغداد". عبرنا ذلك الزقاق، وعندما رأينا الميني باص، تأكدنا أنّ عودتنا إلى المعتقل حقيقة لا ريب فيها.

قام أحد الحرّاس بإحصائنا، وما إن هممنا بركوب الميني باص، حتى منعنا من ذلك ودفعنا "شاكر" نحو الزقاق ثم أعادونا إلى السجن. هناك أخبرنا
 
 
 
 
222

199

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 "صالح" أنّ الميني باص لن ينطلق قبل وصول الأسيرين "منصور" و"رضا" من المستشفى، فتنفسنا الصعداء، وجلسنا ننتظرهما بفارغ الصبر.


صارت الساعة الثانية عشرة ولم يصلا بعد، قلقنا من أن يكون قد أصابهما مكروه. ونحن على تلك الحال، فُتح الباب ودخل "أبو وقاص" وعلامات الهزيمة بادية على محيّاه، قال: "حسنًا بما أنّكم ستذهبون لم لا تتناولون الغداء ثمّ تنطلقون!". لقد رسم لنا ذلك البعثي الحقير خطة خطيرة ليوقع بنا. أراد أن يحوّل نصرنا إلى هزيمة، ولو أنّنا خُدعنا وأشبعنا بطوننا الخاوية، لكنّا وضعنا خاتمة لكلّ مقاومتنا وصمودنا بأيدينا، وأعدنا الكرّة إلى ملعب الأعداء الّذين لن يتوانوا، بعد أن تشبع بطوننا، عن جلدنا ثانية ليثنونا عن قرارنا وننهي إضرابنا. مرّت هذه الفكرة في أذهاننا جميعًا، فقلنا بصوت واحد: "سنأكل في المعتقل". حينها بصق "أبو وقاص" علينا ووجّه لنا كيلًا من السباب والشتائم وخرج.

بعد صلاة الظهر، عاد "منصور" و"رضا" من المستشفى. كانا متعبين وآثار حقن المصل ظاهرة على يديهما. في الساعة الثانية من بعد الظهر، أعطى "شاكر" الأمر بالتحرك. ودّعنا " صالح"، ذلك الرجل العربي الحنون، الّذي لم يستطع منع دموعه من الانهمار على دشداشته، ودّعناه فردًا فردًا وكان يقبل وجوهنا قائلًا: "في أمان الله، مع السلامة أيها الأبطال الصغار".

عودة مختلفة إلى "معتقل الرمادي"
جلست في الميني باص قرب "محمد ساردوئي". لـ"محمد" جسم نحيف كاد الجوع والعطش أن يذهبا به. لم يتكلم أحد منّا، ولم نكن نسمع سوى صوت محرّك الميني باص. شعرت بضعف شديد في أطرافي. ما من شيء أبقانا على قيد الحياة، سوى الأمل بالله والوصول إلى المعتقل. شاهدت أشعة الشمس الغاربة
 
 
 
 
 
223

200

فصل الشتاء: كفاح الظلام

 المنعكسة على محيط مدينة "الرمادي". لفتُّ نظر "محمد" إلى مشهد الغروب بضربة من مرفقي وإشارة من رأسي، فارتسمت ابتسامة هزيلة على شفتيه. عبر الميني باص الجسر فوق النهر، وما هي إلّا دقائق حتى لاحت مباني المعتقل من بعيد. 


توقف الميني باص أمام مقر قيادة المعتقل وجاء الملازم "عزّ الدين" إلينا. نزلنا من الميني باص بصعوبة فائقة ووقفنا في الصف. يبدو أنّ عزّ الدين مطّلع على قضية إضرابنا عن الطعام. عجز رفيقنا في أول الصف عن الوقوف، فجلس على الأرض، فرفعه "عزّ الدين" من ياقته ودفعه على من يقف خلفه، ومن شدة الضعف تهاوى بعضنا على بعض كأحجار الدومينو. نهضنا ثانية ودخلنا إلى المعتقل. كان وقت العشاء والإحصاء، ولكننا وصلنا متأخرين، حيث إنّ الإخوة كانوا يغسلون أطباقهم. لم يعرفونا من النظرة الأولى، واعتقدوا أننا أسرى جدد. لكن ما لبثوا أن أدركوا أنّنا الثلاثة والعشرون فتى ذاتهم، كنّا بينهم قبل حوالي الشهر. شهقوا عندما رأوا حالنا، وقال أحدهم: "يا إلهي...! ماذا فعلوا بكم؟"، وقال آخر: "ما الّذي حلّ بكم؟ لم يبق أثر للحم على أجسامكم!"، وقال "ما شاء الله ميرجافندي": "في أيّ ورشة في فرنسا كنتم حتى اسودّت بشرتكم هكذا؟".

أخبرناهم بما جرى معنا خلال الشهر المنصرم، ثمّ طلبنا منهم الماء والطعام. لم يطل الوقت حتى عادوا بأطباق مرق اللحم. حملوها إلينا من الزنزانة رقم ثمانية، حيث كان الأسرى العرب المسنّون يبكون لحالنا. عندما علم الأسرى بإضرابنا عن الطعام خمسة أيام، أحضروا ما ادّخروه من خبز، وقطعوه في مرق اللحم. ولأوّل مرة بعد خمسة أيام من الجوع، وعلى بُعد 100 كيلومتر عن "أبي وقاص" والجنرال "قدوري"، فككنا إضرابنا وتناولنا الطعام. بعد العشاء، وقبل صفارة العودة إلى الزنزانات، وقفت أمام مرآة المغسلة، أتأمل وجه فتىً نحيل غارت وجنتاه، وعلت بشرته طبقة رقيقة من الشعر الناعم الأسود. يا إلهي! وأخيرًا نبتت لحيتي! لقد كبرت!
 
 
 
 
 
224

201

نص رسالة المؤلّف إلى صدّام حسين في العام 1996م

 نص رسالة المؤلّف إلى صدّام حسين في العام 1996م

إلى "صدّام حسين" رئيس الجمهوريّة العراقيّة:
في صيف 1982م كنت في السادسة عشر من عمري، برفقة آلاف الشبّان الإيرانيّين الشجعان، نشارك في العمليات العسكرية العظيمة المسمّاة "بيت المقدس"، والّتي كانت كلمة السر فيها "يا علي بن أبي طالب"، استطعنا في تلك المعركة أن نهزم "ماهر عبد الرشيد" قائد الفرقة السابعة ونجحنا باستعادة "خرمشهر" الغالية وانتزاعها من أيدي جنودك الغاصبين.

شاءت الأقدار أن يقع بعض الشبّان المجاهدين في الأسر، ولم يتمكّنوا من الاحتفال بتحرير "خرمشهر" الّتي سمّيتَها المحمّرة.

أما أنت فلم تستطع تصديق وتحمّل طعم مرارة الهزيمة في تلك المدينة، لذلك قمت بإصدار أوامرك بفصلنا عن الأسرى الآخرين. أنا - أحمد يوسف زاده - مع اثني وعشرين فتًى يافعين، وكنّا شبابًا يافعين، قمت بذلك لكي تخلق جوًّا ينسيك مرارة الهزيمة في "خرمشهر". آنذاك، انهالت أبواق إعلامك ليلًا ونهارًا لتوصل للعالم بأنّ الكيان الإيراني أرسل أطفالًا عدّة إلى الحرب، وعلّق على رقبة كلٍّ منهم مفتاحًا كي يفتح باب الجنّة به عند استشهاده. قام جنودك بأخذنا إلى مدينة الملاهي مجبرين، وأصعدونا على السيارات الكهربائية لكي تستهزئ بثورتنا ووطننا، وتظهر للعالم من هم جنود الخميني.

بعد أيام عدّة، قمتم بأخذنا إلى أحد قصورك، وأمرونا بالجلوس أمامك، وخاطبتنا بابتسامة حاولتَ من خلالها إخفاء دموع هزيمتك في "خرمشهر" قائلًا: "أنتم أطفال والأطفال يجب أن يكونوا في المدارس لا في الحروب، وادّعيت أنّك ستقوم بتحريرنا بشرط أن لا نعود للحرب مرة أخرى".
 
 
 
 
226

202

نص رسالة المؤلّف إلى صدّام حسين في العام 1996م

 يا "صدّام حسين"، إن كنت لا تزال تذكر، لقد طلبت منّا طلبًا آخر وقلت: "أنا سأحرّركم لتذهبوا وتكملوا دراستكم وتصبحوا أطباء ومهندسين، وبعد ذلك اكتبوا لي رسائلكم".


ها قد تخرّجتُ اليوم من الجامعة، وأكتب لك هذه الرسالة بناءً على طلبك. أتذكر أنّك قلت إنّ كلّ أطفال العالم هم أطفالنا، أوَلم يكن أطفال "حلبجة" الّذين أذقتهم الموت بدلًا من حليب أمهاتهم، من هذا العالم؟

ألم يكن "أمير شاه بسندي" - من أهل كرمان - من أطفال هذا العالم؟ ذاك الّذي تعرّض لأقسى أنواع التعذيب في المعسكر، لقد قام النقيب "محمّد" - أحد ضبّاطك - بجعل جِلد ذلك الطفل أسود من كثرة الجَلد، وبعد ذلك حرق كفّ قدميه بالمكواة وأجبره على المشي بقدميه المحروقتين على العشب.

اعلم يا "صدّام"، نحن أولئك الفتية الثلاثة والعشرون، الجنود الصغار الّذين قابلتهم في العام 1982م، أخذونا من قصرك إلى سجن "بغداد" الرطب، وهناك قمنا بالإضراب عن الطعام لمدة خمسة أيام، وأجبرنا حكومتك على الاعتراف بأننا جنود ولسنا أطفالًا.

بعد تحمّل أقسى أنواع التعذيب الّتي لا يسعني ذكرها في هذه الرسالة، وبعد غروب أحلى وأجمل سنوات عمرنا في سجونك المظلمة، عدنا أخيرًا إلى وطننا الغالي، واليوم أصبح بعضنا أطباء وبعضنا الآخر مهندسين، نساهم جميعًا في بناء وطننا الغالي.

وأخيرًا أذكر لك مثلًا أطلب منك أن تحفظه جيّدًا: "ذاب الثلج وبان المرج".

أحمد يوسف زادة الأسير رقم 4213 -
معتقل الرمادي
 
 
 
 
 
227

203
أولئك الثلاثة والعشرون فتىً