تلّة جاويدي وسرّ اشلو


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-07

النسخة: 2017


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 إشارة 
 
"..منذ عقد الثمانينات، أنا مشترٍ وقارئ لهذه الكتب، ولطالما تأثرت بجاذبية وخلوص هذه الكتابات والمقولات وصدقها. وهذا ما أقوله حقيقة، إن ذكرى الذين أوجدوا هذه المرويّات وأنتجوها لن تمحى من ذاكرتي، والأسماء التي قرأتُها خلف هذه الكتب، وكتبهم التي شاهدتها وقرأتها غالباً ما زالت في ذهني، وأنا أحترمها وأعرف قيمتها، وإذا ما قدّر لي أن أمدح هذه الأعمال فإني أمتدحها". ويكمل الإمام الخامنئي: "من ذا الّذي يمكنه أن يُظهر لنا هذه العظمة؟! وهي موجودة، لكن يجب أن يُظهرها لنا شخصٌ، فمن هو؟ هو أنتم1.. إذا عرفتم قدر أنفسكم، يمكنكم أن تكونوا حاملين لمثل تلك النورانية التّي تهزّ الإنسان. فمثل تلك الحقائق، واقعاً، تحدثُ تحوّلاً فينا، حصلت هذه الحقيقة (الحادثة) وفي لحظة ذهبت. بالتأكيد هي باقية في الملكوت، تقع الحادثة في عالم الناسوت والمادة وعالم الزمان والمكان في لحظة ثم تذهب وتختفي. من الذي بإمكانه أن يخلّدها؟ ويُظهّرها ويلقّنها قلب الإنسان وبصيرته، بعد أن تحدث وتغيب عنا!؟..إنه الفن!. للفن هذا الدور ويمكنه القيام بهذا العمل. لقد رأيت بأمّ العين حوادث، ربّما تعجز العين عن إدراكها، لكنّني عندما أعاود مشاهدتها، بعد أن حرّرتموها أنتم الفنّانون، فبيّنتموها إمّا في قالب المسرح، أو بلغة القصّة، أرى كم كانت حوادث عجيبة، وأبدأ بإدراكها من جديد.." ( 16/7/1991م)
 
 

1- مخاطبًا مسؤولي، كتّاب وفناني مكتب فن وأدب المقاومة، 25/4/1370 هـ. ش.(المصدر: روايتى از زندكى وزمانه آيه الله خامنئي، جعفر شير علي نيا، الفصل6).
 
 
 
 
11

1

المقدمة

 إن كان انتصار ثورة الإمام الخميني قدس سره قد ولّد مرحلةً جديدة من الوعي الإسلامي، وبنى أعظمَ مشروع نهضوي على مستوى الأمة، وأحيا قيمًا ووظائفَ مطويّة في بطون التاريخ الإسلامي وتراثه، فإن الحرب المفروضة قد فجّرت معها طاقات الثوار وأبرزت تجليات العظمة والتضحية في أرواحهم، فكانوا أبطالًا حقيقيين في ساحات القتال وميادين العشق، وكانت نتائج هذه الحرب أحد تجليات نهضة الإمام، رجال آمنوا بربّهم فزادهم هدًى، ومنهم القائد الشهيد مرتضى جاويدي"اشلو" الذي عشق الإمام عشق الفراشة للنّور فذاب فيه. 


هذا الكتاب..
رواية حقيقية دوّنها أكبر صحرائي في 600 صفحة، شارك في سرد قصصها الـ133 قرابة 40 راوياً، تحدثوا جميعًا بضمير المتكلم عن مواقف ومشاهد فريدة شكّلت صورةً رائعة لحياة هذا القائد الاستثنائي. من بين هؤلاء الرواة السيد مرتضى آويني ومحسن رضائي وصياد شيرازي، وجعفر أسدي(راوي كتاب الهداية الثالثة). كما تمّ الاعتماد في المسائل المتعلقة بحياته الأسرية على ما روته زوجته.

مرتضى جاويدي قائد كتيبة الفجر في لواء المهدي الذي شارك في أشد الهجمات التي قادتها القوات الإيرانية في الخطوط الأمامية من الجبهة خلال سنوات الحرب المفروضة، وكان حلّال المشاكل والعقد.. وقد ذاع صيته ما حدا بالكثيرين ممن كانوا يلتحقون بالجبهة من محافظة فارس للالتحاق بكتيبة الفجر حصرًا للقتال معه والانضمام إلى لوائه. 

تبدأ الرواية من قرية جليان التابعة لمدينة فسا في محافظة فارس، 
 
 
 
 
 
12

2

المقدمة

 محل ولادة مرتضى، بالتظاهرات الأولى التي عمت أرجاء إيران على مشارف انتصار الثورة الإسلامية عام 1978 وتتوالى الأحداث زمانيًا حتى تختتم بشهادته عن عمر ناهز الثامنة والعشرين في عمليات (كربلاء 5) أوائل العام 1987م.


يواجه القارئ مع مطالعته عنوان الرواية اسم "اشلو" الذي عُرف به الشهيد طوال سنوات الحرب، إلى درجة أن البعثيين كانوا يعرفونه بهذا اللقب ويذكرونه في نشراتهم الإخبارية حتى أعلنوا فيها كذبًا شهادته عدة مرات. ويكتشف ضمن طيات الفصول سر "اشلو" والمسؤولية التي تصدى لها هذا البطل في صناعة رفاق جهاده.. ويصوّر الكتاب بالإجمال مشاهد من عمليات (كربلاء4) و(كربلاء5) .. وبالخصوص ما جرى من بطولات لفتح تلة "برد زرد" في عمليات (والفجر2)، التلّة التي تبعد مسافة 30 كلم داخل الأراضي العراقية في ظل حصار شديد ييأس منه من لم يمتحن الله قلبه للإيمان. شارك في هذه العمليات حوالي 380 مجاهدًا من خلّص المجاهدين،.. بقي منهم 18 مجاهدًا فقط، 15 منهم كانوا جزءًا من رواة حكايات هذا الكتاب. 

وكان لنا شرف إعداد هذه الترجمة1، وقد ترجمنا سابقًا نظير هذا الكتاب في أسلوبه الأدبي (سلام على إبراهيم) غير أن الكتاب الحاضر يمتاز بالترابط والمتانة بحيث تتضافر عدة شخصيات لتروي حدثًا من زوايا عدة، فتعطينا مشهدية بأبعاد مختلفة. 
 
 

1- أضفنا بعض الهوامش التوضيحية في ما يتعلق بــبعض المصطلحات والأمثال والتعابير الفكاهية والقصص المشهورة في التقاليد الإيرانية، تسهيلًا على القارئ. وجعلنا بعض الهوامش في ملحقٍ مختصر..
 
 
 
13

3

المقدمة

 شكر وتقدير

يقدّم مركز المعارف للترجمة هذا الإصدار الجديد "تلة جاويدي وسر اشلو"، في سلسلة سادة القافلة ضمن مجموعة أدب الجبهة، ولا يسعنا إلا أن نشكر كل من ساهم في إعداده ليبصر النوربهذه الحلّة، الكاتب: أكبر صحرائي. فريق الترجمة: عزة فرحات وسمية يوسف. فريق التحرير والمراجعة في مركز المعارف. المدقق اللغوي: عدنان حمود. رضوان راغبي التي أفادتنا بملاحظاتها في تدقيق الترجمة. المخرج الفني: علي عليق. 

والشكر موصول لناشر النسخة الفارسية: (انتشارات ملك أعظم) والأستاذ سعيد عاكف، ولا ننسى دار المعارف الإسلامية الثقافية ناشر النسخة العربية.


مركز المعارف للترجمة
20شوال 1438هـ.
 
 
 
 
14

4

المقدمة

 مقدمة الكتاب

 

هو الله العلي الأعلى
لقد وفّر لي العمل في مجال التأليف والنشر لحوالي ربع قرن تجاربَ ومعارفَ بمقدار ما هي غالية ومكلفة هي أيضًا قيّمة ورفيعة القدر. وطوال هذه المدة لم أشارك في أي مباراة أو مهرجان، وكنت دائمًا يائسًا من اختيارات هذه المهرجانات. لقد استهدفت المحسوبيات على الدوام معايير سلامة وصحة أكثر هذه البرامج، والتي كانت قطعًا تنطلق في بداية الأمر بنية حسنة.

وقد عزمت منذ مدة أن أبادر في هذه الأجواء الصعبة وبمقدار الوسع والقدرة التي أملكها، إلى التعريف بأرفع آثار دائرة أدب الدفاع المقدس. وأكون بهذا الشكل قد بيّنت وجهة نظري وكذلك وفّرت للمتعطشين الحقيقيين لهذه الآثار شروط الاختيار، من أجل أن لا يبتلوا عند انتخابِ أثرٍ للمطالعة بالضياع والحيرة على أثر تجاذبات محسوبيات الآخرين وتحزّباتهم.

"تلة جاويدي وسر أشلو" هو اختياري الأول في هذا المجال. وأنا عازم بحول الله وقوته، وبعيدًا عن أي نوع من الحب والبغض، أن أقوم باختيار ونشر آثار من هذا النوع. أسأل الله أن يكون هذا الاختيار والنشر محل رضى الباري تعالى، وجوابًا لطلبات الأعزاء المتكرّرة الذين يشملونني دومًا بلطفهم ويطلبون مني أن أعرّفهم إلى آثار جيدة.

سعيد عاكف
 
 
 
 
15

5

شجرة النارنج

 شجرة النارنج1 - 10 كانون الأول 1977


- أخرجي صورتي من تحت التراب!
قفزتُ من نومي مضطربة في الصباح. رأيت في المنام سيدًا، أشار لي بإصبعه إلى باحة2 منزلنا.

- أخرجي صورتي من تحت التراب!
البارحة بعد الظهر وصل مرتضى حاملًا حقيبته الصغيرة. ألقى التحية وذهب إلى جوار التنّور في زاوية الباحة. أخرج أشياء من داخل الحقيبة ودفنها تحت إحدى البلاطات.
أسرعت مذعورة نحو مرتضى وأيقظته.

- ماما، مرتضى..
فتح عينيه.

- ما الذي حصل يا أمي!
- رأيت منامًا يا بني!
- خيرًا إن شاء الله!
- ما الذي أخفيته يوم أمس في باحة المنزل يا عزيزي؟
جلس متعجّبًا في الفراش.
 

1- شجر مثمر من الفصيلة البرتقالية، يسمى بالعامّية "أبو صفير". 
2- بالفارسية "حياط" وتعني الباحة أو الفناء، وهي ساحة صغيرة داخلية مسوّرة أمام المنزل (front yard) أو خلفه (backyard) وقد يكون من ضمنها حديقة، موجودة في أغلب البيوت في جمهورية إيران الإسلامية.
 
16

6

شجرة النارنج

 - هل حصل أمرٌ ما؟

- سيّد ممشوق كان في منامي يقول، أخرجي صورتي من تحت التراب.. ما القصة يا أماه؟
نهض من دون أن ينبس ببنت شفة وتوجه نحو باحة المنزل. سرتُ خلفه قلقة. مستعينًا بالمعول، نحّى التراب سريعًا في زاوية الباحة وأخرج مغلّفًا بلاستيكيًّا. أخرج من داخله صورة وتأمل فيها. أربكني شغف وجهه وحرارته. قبّل الصورة مرات عدة. شمّها ومسح بها عينيه ووجهه. انتابني الشكّ وقلت: "أماه، هل أصبحت عاشقًا!".

- أجل يا أماه، وأيّ عشق هو! 
ارتجف قلبي. رفعتُ حاجبيّ وقد امتقع لون وجهي من سرعة جريان الدم فيه. 

- أعدمني الله الحياة، دعني أرى.
أخذت الصورة بسرعة من يده. أصابتني رعدة حين حدّقت في الصورة! أشرتُ إليها مدهوشةً.

- الله أكبر.. هذا هو السيد الذي جاءني في المنام يا ولدي! من هو هذا يا روحي؟
تأبّطني وقال: "يا لعظمتك يا الله! أماه لقد رأيت الإمام الخميني في منامك!".

عندما جلستُ بجوار تنّور خبز الرقاق ذهب ووارى الصور في الحديقة أسفل شجرة النارنج!

مع تتابع الطرقات على الباب الخشبي، سبقني زوجي "مش رضا"1
 
 

1- مش رضا، بمعنى رضا المشهدي، ومعلوم أن كل من يزور مشهد الإمام الرضا عليه السلام يلقبه الإيرانيون بالمشهدي، واختصارًا ينادى باسمه مسبوقا بلفظ "مش".
 
 
 
 
17

7

شجرة النارنج

 في الوصول إلى باحة المنزل. 


- ها قد أتيت.. ما الخبر يا بني؟ لقد خلعتَ الباب من مفاصله!
- افتح وإلا سوف نكسره!
حدقت من نافذة الغرفة الحديدية في باحة المنزل. بالإضافة إلى الجلبة والصياح خلف باب المنزل ارتفع نباح كلب بيت الجيران أيضًا. انقبضتُ. جاء مرتضى مرتديًا السروال، والقميص مرخيًّا فوقه، ووقف بجانبي. قلت: "حبيبي إياك أن تخرج! قلبي مضطرب!".

- لا تقلقي يا أماه!
قال كلمته وصار في الباحة. دعوتُ وسرت في أثره. ما إن فتح مش رضا الباب، حتى دفعه رئيس المخفر ببنيته الضخمة عنوةً بحيث وقع زوجي وسقط على قفاه. اندفع مجندان أو ثلاثة ومعاون المخفر بأسلحتهم إلى باحة المنزل. وضع رئيس المخفر يدًا على خصره العريض ورفع إصبعه مهددًا بالأخرى بصوت جاف ووجه خشن.

- يجب أن تُحرقوا أنتم مع هذا المنزل.
تأتأ مش رضا وقد تملّكه الخوف قائلًا: م.. ما.. ما الذي حصل يا سيادة الرقيب؟
اكفهرّ وجهه المنتفخ الأغبر وحملق بعينيه الحمراوين من غليان الغضب في وجه زوجي الذي لوّحته الشمس. تقدم وأمسك بتلابيب مش رضا وقال: "ها.. هل تعلم ماذا تعني الخيانة لجلالة الشاه المعظم؟".
انعقد لسان مش رضا.

- لـ.. لا.. صـ.. صدّقني! 
- أين هو هذا الولد الخائن للوطن..
 
 
 
 
 
18

8

شجرة النارنج

 - استقويتَ على رجل عجوز!


عندما تقدم مرتضى أفلت الرقيب تلابيب زوجي واتجه نحو ابني. كانت عيناه تقدحان شررًا من شدة غيظه. أرجع يده إلى الوراء وصفع وجه ولدي صفعةً قوية، وقال بصوت ممزوج بالغضب:
- يا رعاعة1 صرتَ ثوريًا؟! ألا ترعوي؟ كل العقاب الذي أذقتُكَ إياه في المخفر كان بلا فائدة! سأرسلك إلى سابع أرض حيث لا يعلم بأمرك أحد2. ستعرف قيمتك في سجن عادل آباد في شيراز حيث يسحبون أظفارك واحدًا واحدًا وتعود إلى رشدك3!

اغرورقت عيناي بالدموع. صرخت قائلة: "ماذا تريد من ولدي أيها الحقير!".

توجّه نحوي. خزّر4 عينيه ازدراءً:
- أنعِم بهذا الابن الذي قمتِ بتربيته! المقصّر هو أنتم! لو كنتم صفعتموه على فمه لما كان ليقف الآن في وجه الرجل الأول لهذا البلد، الشاه المعظم والقائد الأعلى للجيش.

عاد نحو البقية. لدى سماعهم اسم الشاه صفّ الجنود والعريف أقدامهم وأدّوا التحية العسكرية. عاد ثانية نحو ولدي. 

- توزّع بيانات الخميني وصوره؟ أين هي البيانات؟ أتظن أني لا أعرف؟
 

1- رعاعة: جمعها رعاع، غوغاء الناس وسفلتهم.
2- جایی كه عرب نی انداخت، مثل شعبي يستخدم عند الغضب للتعبير عن إرسال الشخص إلى مصير مجهول لا عودة منه.
3- یه من ماست چقدر كره داره، مثل شعبي يستخدم للدلالة على التهديد والانتقام،ويرادفه في أمثالنا: بدي مسح فيك الارض.
4- خزّر عينيه: ضيّق جفنيهما.
 
 
 
 
19

9

شجرة النارنج

 أشار إلى معاون المخفر ونادى:

- عريف شاطري!
- نعم سيدي.

ارتسمت على وجهه ابتسامة صفراء، وأشار بحاجبين معقودين إلى نقطة من باحة المنزل. 

- جد تلك الصورة والبيانات! ولتكن الفضيحة أم جلاجل1!

أخذ العريف معه جنديًّا وتوجّها مباشرة نحو رمال أرض الباحة. كانوا مطلعين على كل شيء. وبدأوا يحفرون الباحة بدقة. كلما أكثروا حفرًا وتنقيبًا قلّ أملهم بإيجاد شيء. رفع العريف رأسه. مطّ شفتيه وقال: "سيدي، ليس هناك من شيء!".

لم يكن الرقيب ليصدّق. توجه بنفسه نحو العريف شاطري. وعندما رأى بأم عينه أنّ سهمه قد خاب، ذهب ناحية مرتضى وقال بصوت مرتجف: "أفلتَّ، ولكن كن بانتظاري!".

ثم ذهب ووقف بجوار شجرة النارنج. قطف حبة نارنج من الشجرة وتوعّد مش رضا.

- في النهاية ستسلّم ابنك للقتل!
 
 

1- تا سیاهی بمونه به دیك، مثل شعبي للدلالة على الفضيحة والعار.
 
 
 
 
20

10

البرواز المائل

 البرواز المائل - 1 شباط 1979


- سيادة الرقيب، الجندي أسدي فرّ البارحة!
استشطتُ غضبًا، وضعتُ إصبعي على فمي وقلت للعريف شاطري مغتاظًا: 
هس، ما الخبر! فرّ مع سلاحه؟

- نعم سيدي، مع بندقية G3!
- قضي علينا، إذا ما علم فوج "فسا"1 ! كيف تجرّأ أن يفرّ بسلاحه؟
- سيدي، كله من تحت رأس مرتضى جاويدي!
- ذاك الذي أرسلناه الأسبوع الفائت إلى فسا!

تقدّم العريف وقال: "يقول الجندي غلامي إنّه في آخر مرة سجنّاه، لم يتوقف، وعلى مسمع من الجندي أسدي، عن الحديث عن الثورة وفتوى الخميني بشأن الفرار من الثكنات والمراكز العسكرية!".

هززت رأسي وقلت: "وما الذي قاله أيضًا مما لم أُخبَر به؟".

قلّب العريف شاطري كفيه وقال مرتابًا: "سيدي، يعني سيعود الشاه المعظم إلى إيران..".

صحتُ: "أيها العريف، تكرّم الشاه المعظم وغادر البلاد لمدة قصيرة لأجل تهدئة الأوضاع. فإذا ما عادت المياه إلى مجاريها سيرجع، كما حدث مع مصدّق!".

خاف شاطري وتراجع.
 
 

1- فوج الدرك في مدينة "فسا" في محافظة فارس في إيران.
 
 
 
 
21

11

البرواز المائل

 - نعم سيدي، كما تتفضلون!

عضضت على شاربي وتباهيت مختالًا:
اعتقِلوا أباه كما فعلتم من قبل، هو سيدلّنا عليه. وهذه المرة أنا سأسحق عظامه!

- سيدي، لقد نسيتم أننا سلّمنا مرتضى للفوج. إنه حسب ما أعرفه، لا يخاف إلا الله فقط!

استشعرت السخرية في عمق نظرة العريف. وضعت يدي خلف ظهري وجُبتُ الغرفة مرات ذهابًا وإيابًا. توقفت وتأملت في برواز صورة الشاه المائل. كنت ساخطًا من كل شيء ومن كل أحد. صرخت:
- أيها العريف!
- نعم سيدي!
- سوِّ برواز صورة فخامته! واطلب أن يحضروا لي فطوري أيضًا.

لما غرب العريف عن وجهي، سرت خبط عشواء ووقفتُ خلف نافذة المخفر أتأمل الخارج. نظرت إلى نخلات القرية الثلاث الباسقات المعمرات فيما كان مطر الشتاء يغسل عنها آثار الغبار والتراب، وقد عبقت في أنفي رائحة المطر الرطبة. فكرت في مستقبلي وثورة الخميني التي امتدت فجأة في غضون أشهر على كامل أرض الوطن وبلغت قرية جليان. منذ وقت غير بعيد كان العباد والبلاد يخافون المخفر والدرك ويحسبون لهم الحساب. لكن الآن الكبير والصغير ينظر إليّ شزرًا. أصبح شغلهم الشاغل الإسلام والخميني والمسجد وشعار الموت للشاه! عدت من أفكاري وإذا بشاب ملتحٍ أمام باب المخفر يثرثر كلامًا تحت المطر مع حارس باب مدخل المخفر.

استشطت غضبًا وصرخت:
 
 
 
 
22

12

البرواز المائل

 - هاي أيها العريف!

وصل العريف بسرعة البرق.
- نعم سيدي!

أشرت إلى الشاب والحارس بإصبعي.
- أنا متأكد أنه يخادع الحارس! اذهب وانظر ماذا يقول هذا النذل! 

سرعان ما وقع نظري على شعار "الموت للشاه وعاش الخميني" على الجدار الآجري أمام المخفر. استشطتُ غضبًا. أغمضت جفنيّ بشدة.
- أيها العريف! انظر حراس الأمس في أي جحيم كانوا عندما كُتبت الشعارات مجددًا! 
- سيدي! يوجد من هذه الشعارات الكثير!

رجعتُ وحدّقت في وجه العريف النحيل وذقنه البارزة:
- مع من أنت يا شاطري؟
- البلد!

كان في جوابه هذا معان ودلالات! كنت قد سمعت أنّ ابن العريف الجامعي قد تم اعتقاله داخل شيراز. لم يكن لدي ثقة بأحد. كنت أرى نفسي وحيدًا في القرية وفي المخفر وفي المنزل. فكرت في كلام زوجتي البارحة: "يا رجل، عن أي شيء تدافع؟ الشاه نفسه قد فرّ، وغدًا يأتي السيد الخميني إلى إيران. والكل يتحدث عن الثورة والخميني، والجيش قد أعلن حياده. جِدْ حلًّا! أهل القرية يبصقون علينا ويلعنوننا..".

كنت أعلّق آمالي على كلام رئيس الوزراء "شاهبور بختيار" وتهديده: لا أسمح للخميني بالدخول إلى إيران، ومطار مهرآباد مغلق! ألقيت نظرة على الساعة. كانت تشير إلى التاسعة وعدة دقائق صباحًا.
 
 
 
 
23

13

البرواز المائل

 توجهت إلى التلفاز الأسود والأبيض ذي الـ 14 إنشًا، المتهالك في زاوية المخفر وشغّلته. كانت مراسم استقبال الخميني تُبثّ مباشرةً. بدت صالة المطار مزدحمة فيما كان البعض يُنشد "خميني أيها الإمام". جلستُ خلف الطاولة منهكًا وخائبًا. قبضت على شعري بيدي، ورحت أفكر بابن مش رضا ــ مرتضى جاويدي. كلما كنت أُكثر من ضربه داخل المخفر كان يزداد دفاعًا عن الخميني والثورة. لقد زلزلت مقاومته وإصراره أسس دعمي للشاه. فكرت في المستقبل وأسرتي التي قد تتعرض للخطر مع سقوط النظام.


- سيدي، الفطور!
كان الجندي نادري، وضع صينية الزبدة والمربى والشاي على الطاولة بعد أن أدى التحية العسكرية بهدوء. تأملت في وجهه. لاحت لي الثورة في عينيه أيضًا. قلت: "أنت لماذا لا تهرب؟".

سألني مبهوتًا: "ماذا قلتم سيدي!".

- لا شيء.. اذهب!
 
 
 
 
24

14

الرقيب

 الرقيب - 10 شباط 1979


- جيلا..جيلا.. جيلا
الساعة العاشرة صباحًا، في جوّ الشتاء الغائم، وصلتُ خبط عشواء إلى داخل باحة المنزل، مناديًا زوجتي بنفس واحد وبنحو متلاحق. خرجت جيلا من الغرفة مذعورة.

- مـ.. ما الخبر برويز!
وضعتُ يديّ على ركبتيّ وأخذت نفسًا عميقًا.

- أسرعي أنت والأولاد واركبوا سيارة الجيب! الأوضاع متدهورة.
قالت جيلا مشوّشة: "لم أجمع الأمتعة بعد!".

- دعي الأمتعة. لقد سقطت البلاد! الآن ينقضّ الرعاع وعندها سيقطّعوننا إربًا إربًا!
قالت جيلا مذعورة: "يا الله! رحمتك!".

زاغت عينا جيلا وهي تتلفّت حولها. نهرتُها زاجرًا دورانها حول نفسها وقد اختفى اللون من وجهها.

- لقد حاصروا المخفر. استطعت الفرار بشقّ الأنفس، هيا أسرعي يا امرأة! لقد هلكنا!

دخلت جيلا إلى الغرفة وأمسكت بيد "منيجة" ابنتي ذات الأربع سنوات و"هرمز" ولدي ابن السبع سنوات وخرجت. قلت: "أسرعوا، السيارة في الخارج!".

طبقات الشحم والدهن حول بطني وصدري من جهة، والخوف
 
 
 
 
 
 
25

15

الرقيب

 والاضطراب من جهة أخرى كانا يعيقان حركتي. بصعوبة ونفس منقطع أركبتُ زوجتي وطفليّ سيارة المخفر. بظنّي كان صوت نفسي واصلًا إلى المخفر! قالت جيلا: "أما كان لك أن تحضر معك عدة جنود على الأقل!".


بابتسامة صفراء ولهاث مضنٍ قلت: "أنائمةٌ أنت.. لم يبق من الخمسة عشر جنديًا غير ثلاثة، ولا ريب أن هؤلاء قد استسلموا الآن!".

- أين العريف إذًا؟
- ذلك الجبان، لم يكن الرعاع قد وصلوا بعد حين لاذ بالفرار!
فيما كانت شفتاها ترتجفان، غطّت جيلا شعرها بوشاح برتقالي وكحلي، وسألت: "ماذا نفعل الآن يا برويز؟ إنني خائفة. علينا أن نعبر من وسط القرية! وإلّا وقعنا في البلاء..".

- لا أعلم. ما لم يشملنا الله برحمته..
أخرجت سلاحي الشخصي من غطائه الجلدي ورفعته عاليًا.

- سوف أردعهم بهذا!
- برويز، وماذا عن أمتعتنا؟
- الآن يجب أن ننجو بأنفسنا!
وقع نظري على ابنتي منيجة التي كانت قد التصقت بحضن أمها خوفًا. أعدت السلاح إلى غمده الجلدي على وسطي. وأدرت محرك السيارة. كان صوت دعاء جيلا ومناجاتها ونذرها متواصلًا: "يا فاطمة الزهراء.. لقد أخطأنا يا إلهي.. نذرًا عليّ خمسون تومانًا للولي شاه تْشِراغ1.. ولداي..".

أدرتُ محرك السيارة وانطلقت نحو ساحة القرية. أثناء الطريق
 

1- لقب يطلقه أهل شيراز على السيد أحمد ابن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، المدفون في شيراز وله ضريح ومزار مهم فيها.
 
 
 
 
26

16

الرقيب

 ألقيتُ نظرة على بستان البرتقال والرمان الكبير الممتد، سوف يذهب أدراج الرياح. فجأة قالت جيلا: "برويز، إلى أين نذهب بدون أمتعتنا؟".

- علينا الوصول كيفما كان إلى فوج فسا. ومن هناك نذهب إلى مدينتنا!

تجاوزنا نصف الأزقة والبيوت الطينية لجليان من دون خطر ولم نصادف أحدًا من الناس. استبشرت وقلت: "لقد احتشدوا صغيرهم وكبيرهم حول المخفر!".

وما إن اقتربنا من الساحة، حتى انصبّ أهالي القرية، فجأةً، كالجراد المنتشر يحملون العصي والهراوات وقطعوا الطريق على السيارة. دستُ على الفرامل. وأنشأتْ جيلا تقول بتتابع: بـ.. برويز.. لا تتوقّف.. تـ.. تحرّك..

التفتّ إلى الخلف لأرجع بالسيارة، ولكن الجموع قطعت طريق العودة أيضًا وبتّ محاصرًا. كان الشباب والشيوخ يرفعون قبضاتهم المحكمة ويردّدون شعار: الموت للشاه!

وكأنني كنت أنا الشاه! وكانوا يريدون أخذ ثارهم مني. جمدتْ قطرات العرق البارد على وجهي. بلعت ريقي. كنت أسمع دقات قلبي. أصيب زجاج الجيب الأمامي بحجر.
- أيها الجبان، ترجّل من السيارة..

باضطراب وتردّد وضعت يدي على مسدسي. أخرجته من غمده وفتحت باب السيارة. لم يتوقف صوت بكاء منيجة الخافت ورنين جيلا الضعيف في أذني.
- لا يا برويز.. لا تنزل.. سوف يقتلونك!
 
 
 
 
27

17

الرقيب

 ترجّلت من السيارة خائفًا، للحظة مرّ أمامي ظلمي وجوري على الناس. تراءى أمام ناظريّ العنف والابتزاز والرشى المالية والعينية طوال سنوات خدمتي في الدرك والمخفر. لم يكن كبريائي وافتخاري قد انهار بعد، وكنت أرى نفسي مختلفًا عن أهل القرية. صوّبت مسدسي نحوهم وقلت مهدّدًا: تنحّوا جانبًا.. سوف أرديكم جميعًا، تغلقون الطريق على موظف الحكومة! أتعلمون في وجه من تقفون؟


هتف شاب من بين الأهالي: "ها هو الذي أمعن في ظلم الناس.. لقد انتهى عهدك يا حضرة الرقيب. تشهّد على روحك!".

أغاروا عليّ مغضَبين. كان افتراقهم عما كانوا عليه قبل عدة شهور كافتراق الأرض عن السماء. رفعت المسدس نحو الأعلى.

- كل من يقترب، فقد أباح دمه..
لم يخافوا واستمروا بالتقدم. خاتلتهم1: "لقد اتصلت لاسلكيًّا بفوج فسا. الآن ستأتي كتيبة عسكرية إلى هنا!".

- يا حضرة الرقيب، لقد حان أجلك!
أطلقتُ رصاصة في الهواء. أصابني حجر في رجلي وآخر في خاصرتي. اجتاحني الألم. شاهدت مجموعة تحمل بنادق يدوية2. ترجّلت زوجتي من السيارة وتوسلت: "بالله عليكم دعونا وشأننا!".

- لا شأن لنا بكم يا أختي!
- إذًا دعونا نذهب!
عندما اطمأننت أنهم لن يتعرضوا بالحدّ الأدنى لزوجتي وولديّ، ولأول مرة في حياتي، وجدت أنني أتجاوز نفسي اضطرارًا. خنقتني
 
 

1- خدعتهم مراوغًا.
2- بنادق قديمة يتم تلقيمها عند كل طلقة.
 
 
 
 
 
28

18

الرقيب

 الغصة. تقدم شاب يحمل عصا.


- أيها الخائن، يجب أن أقتلك كالكلب ها هنا!
وما إن رفع عصاه حتى أغمضتُ عينيّ.

- يا هذا ما الذي تفعله..
- دعني.. هذا الجبان هو نفسه الذي عذّبك مرارًا وتكرارًا.. وأهان مش رضا في المخفر..
بعث فيّ الصوت قوة. بقلق وارتياب فتحت جفوني. كان مرتضى جاويدي ابن مش رضا بقامته المتوسطة وقدّه النحيف ولحيته التي نبتت حديثًا على ذقنه. كان قد أمسك بيد الشاب حامل العصا ورفعها عاليًا. قرّع الشاب:
ثورتنا هي لأجل أمن الناس وراحتهم، وليست للتخويف والإرهاب!

- أمن الناس! وليس هذا الظالم..
جاء لدعم مرتضى جاويدي صديقُه المقرّب ومعلمُ قرية جليان، داراب عليزاده:
- كلام السيد مرتضى هو كلام الإمام الخميني!

لدى سماع اسم "الخميني" ارتفعت أصوات الجميع بالصلوات ثلاثًا، واستحالت الصلوات ماءً باردًا أطفأ نار غضب الأهالي. أنزل الشاب عصاه. قلت في نفسي: "على الأقل لن يُردوني قتيلًا.. لا بد أنهم سيسجنونني و..".

نظرتُ إلى جيلا والطفلين، كانوا يرتجفون كورق الصفصاف! توجه مرتضى نحو زوجتي قائلًا: "أختاه، اركبي إلى جانب طفليك في المقعد الخلفي للسيارة!".
 
 
 
 
 
29

 


19

الرقيب

 عندما ركبتْ جيلا السيارة من الخلف تقدم ابن مش رضا وانتزع مسدسي من يدي وقال: "هلمّ إلى داخل السيارة!". ثم أردف بصوت عال: "اجلس خلف المقود، أعلم كيف أسقيك من الكأس نفسه1". 


ما إن جلستُ خلف المقود جاء وجلس بجانبي. قلت في نفسي: "لا يكوننّ بلاءً أسوأ سينزله على رأسي.. أي مصيبة هذه التي وقعتُ فيها"..

أحاطت الجموع المذهولة بالسيارة.

- إلى أين تذهب بالخائن.. يجب أن نسلّمه!
قال مرتضى: "أعرف ماذا أفعل به. تحركوا نحو المسجد!".

تدريجيًّا، تفرّق الجمع وظلّت أعين البعض تراقبني. قرّعني مرتضى جاويدي: "أدِرِ المحرك يا رقيب!".
على أثر الصدمة، أدرت مفتاح التشغيل بالعكس وعلا صوت صرير مزعج. حرّكت ناقل السرعة وقدت السيارة باتجاه الشارع المعبّد فيما كانت عيناي تراقبان السلاح في يد ابن مش رضا وتزدحم في رأسي الأفكار السلبية بأنه لن يدعني، يريد أن يعدمنا جميعًا.. بعد كل تلك المصائب التي جلبتها عليه.. ليتني بقيت في القرية وأسرني الأهالي.. ما الذي يريد إنزاله بنا.. ليتني توسلت إليه..

سألتْ جيلا: "إلى أين تأخذنا أيها السيد؟".
التفت مرتضى إلي وقال: "إلى أين كنت تنوي الذهاب؟".
تقمّصت حال الثكلى وقلت متلعثمًا: "فـ.. فسا!".

دخلت في الشارع المعبّد. كانت السحب مكفهرة وعلى وشك أن تمطر. وصلت إلى ضريح ابن الإمام "السيد شمس الدين"2.
 

1- أعرف كيف أجعلك تدفع ثمن فعالك!
2- امام زاده سید شمس الدین: سيد جليل القدر عظيم المنزلة، يرجع في نسبه إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
 
 
 
 
30

20

الرقيب

 - دس على الفرامل ها هنا!


انهدم حيلي. دست على الفرامل. ترجّل. دار بهدوء حول السيارة ولما وصل إلى جانبي وضع يده على كتفي اليسار. حين نظرت إليه باستعطاف شاهدت بريقًا خاصًا في عينيه الشفافتين.

أشار لي إلى المسدس.
- هذه أمانة تبقى في عهدتنا حتى يتّضح الأمر بشأنك.

نظر إلي مرة أخرى. بدأ المطر يتساقط. وعبقت رائحة التراب الرطب. استقام ثم أدنى رأسه وقال: "أوصل زوجتك وولديك إلى مكان آمن يا رقيب!".
بعينين متسعتين استوضحت: "يعني أذهب؟".
- هل لديك شك؟

لم أتريّث. نجوت بنفسي وضغطت على دواسة الوقود إلى الحد الأقصى. حين ابتعدتُ نظرتُ في المرآة الأمامية إلى الخلف، كان ابن مش رضا على الشارع يمشي باتجاه ضريح السيد شمس الدين.

بعد أن زال الروع عني أخذت نفسًا عميقًا وركنت السيارة بجانب مقبرة قرية "كبك آباد"، ورحتُ أتأمل في حبيبات الثلج المتراقصة وقطرات المطر الكبيرة التي كانت تتساقط على زجاج السيارة الأمامي. سألتْ جيلا: "لماذا توقفت يا برويز؟".

ألقيت نظرة على مقبرة القرية، وارتسمت ابتسامة مريرة على شفتي:
- كنت على وشك أن أصير في حفرة القبر!
- أطال الله في عمر ذلك الشاب! كان ملاك الرحمة!
 
 
 
 
 
31

21

الرقيب

 عدت بنظري إلى مجسّم أسد حجري قديم وسط المقبرة. اغرورقت عيناي بالدموع وبعد سنوات طويلة من جفاف الدمع، أجهشت بالبكاء:

- جيلا، لقد أسأتُ إلى ذلك الشاب..

وضعتُ رأسي على مقود السيارة. سألت جيلا: "ومن كان ذلك الشاب؟".
- مرتضى جاويدي. ابن مش رضا!

رفعت رأسي من على المقود:
- ضربتُه مرات في المخفر حتى شارف على الموت. سلّمتُه إلى سجن فسا. قمتُ بإهانة والده..
- برويز.. لماذا لم ينتقم منك؟
- ماذا أقول؟ مبهوتٌ أنا من تصرّفه اليوم!
- ماذا كان جرمه؟
- كان ينشر صور الخميني وبياناته!

فكرتُ وتابعت: "فجأة انهار كل شيء؟ الشاه والجيش، كل شيء تبخّر وطار في الهواء!".

استدرت إلى الخلف وحضنت منيجة وهرمز وقبّلتهما. نظرت إلى جيلا وقلت: "في المرة الأخيرة ظللت أضربه في المخفر حتى ازرقّ تمام بدنه! قلت له: متى ستكفّ عن أعمالك التخريبية؟ قل "الله، الشاه، الوطن!"، ارتسمتْ على شفتيه ابتسامة باردة وقال: الله والوطن لا ضير! لكن ضع خطًّا أحمر على الشاه!". 

بلعتُ ريقي وتأمّلت في عيني جيلا وقلت: "حين قال كلامه هذا انقضضنا عليه واستمررنا بضربه ما دام فيه رمق".
 
 
 
 
32

22

عمر نوح

 عمر نوح - 31 آب 1980


كنت جالسة في باحة المنزل بعد ظهر يوم الجمعة، أضرب العجين في الطست وأفكر في مرتضى: رؤيا الإمام الخميني في المنام.. صورته.. وكأنه البارحة هاجمَ عناصرُ الدرك منزلَنا.. إلهي! لم أرَ ولدي منذ انضمامه إلى الحرس. أين هو الآن.. وماذا يفعل؟ لقد ذاب قلبي عليه..

- السلام عليك يا أماه!
جفِلت! قمتُ مدهوشة من مقعدي قرب الطست وحدّقت في مرتضى. كان واقفًا فوق رأسي حاملًا حقيبة ظهره. بدا أكثر نحافة وقد ألقى على بدنه قميصًا كاكيًّا تركه من دون عناية فوق سرواله. وكأنني قد مُلِّكتُ الدنيا. قلت: "فدتك أمك!".

ضحك. تقدم وقال: "لا قدّر الله!".

ثم تنشّق.

- ياااه.. أي رائحة خبز زكية هذه يا أمي!
- أيها المحتال، لم أخبز العجين بعد!
- أعلم، ولكن إذا ما خبزته فسيكون لا أطيبَ منه!

تقدّمت متحمّسة نحوه، وكأنّما لم أره منذ سنين رحت أتحسّسه بيدي وأقبّله من رأسه حتى أخمص قدميه وقلت: "ليتني سألت الله لك عمر نوح يا روح أمك!".

مسح وجهه ولحيته الملطّختين بالعجين. قبّل جبيني وقال: "رأيت منامًا من جديد؟".
 
 
 
 
 
33

23

عمر نوح

 - لا يا قلبي! كنت للتو أفكر فيك.


ركع على ركبتيه وفتح حقيبة ظهره الكحلية وأخرج منها زيّ الحرس الأخضر. فتحه على وُسعه. كان كبيرًا وفضفاضًا. قلت: "حبيبي! هذا اللباس يتسع لاثنين معًا!".

ابتسم ومسح بيده على لحيته السوداء وقال: أصلحيه!

أخذت بيده وسقته إلى داخل المنزل. لقد دوّى خبر مجيئه كالمدفع في جليان! جاؤوا صغارًا وكبارًا لأجل رؤيته. أدركت في الحال أنه كان قد ذهب مدة إلى كردستان لقتال أعداء الثورة. أخبر الشباب عن المذابح التي ارتكبها أعداء الثورة بحق الشعب.

وحينما تفرقت الحشود من حوله، حملقتْ فيه عمّته وقد أدنت خرطوم النرجيلة إلى شفتيها. تبسم مرتضى وقال: "عمتي، ألم تري إنسانًا من قبل؟".

سحبتْ أخت زوجي، التي تجاوزت الستين من العمر وقد ذاقت حلو الحياة ومرّها، نفسًا من النرجيلة حتى علا صوت بقبقة الماء فيها. أفلتت الخرطوم من فمها وقالت: "بلى، رأيت!". ثم هزّت برأسها.

- ولكن.. متى سيصبح رجلًا؟

أجاب زوجي مش رضا: "ما هذا الكلام يا أختي! لو وُجد رجل واحد في هذه المعمورة لكان مرتضى!".

هزّت رأسها متذمرة وقالت: "لا.. لا.. ما دام لم يتّخذ لنفسه زوجة فإيمانه ورجولته لم يكتملا يا أخي!".

عادت وقالت لولدي: "أنا نفسي سأدبر الأمر لك".

قال مرتضى ممازحًا: "ومن سيزوّجني ابنته يا عمة؟!".

عادت العمة وكأنها قد حبكت مخططًا في رأسها من قبل وتوجهت
 
 
 
 
34

24

عمر نوح

 بنظرها نحو أختي.

- ومن أفضل من ابنة خالتك، آمنة! أليس كذلك يا شهربانو؟

تراجعتُ إلى الوراء ونظرت إلى أختي وقلت: "والله لا أدري ماذا أقول!".

عادت العمة وقالت لأختي: "ما رأيك؟".

أرجعت أختي رأسها وتأملت في عيني مرتضى، لعلّها تقرأ فيهما شيئًا ما. لكنّ ولدي طأطأ رأسه.

قالت أختي بفرح وسرور: "كل فتاة تتمنى زوجًا مثل مرتضى!".

هذه المرة، حينما تمعّنتُ في عيني مرتضى بنظرة الأم وشاهدتُ فيهما بريق الرضى، وضعتُ يدي على فمي وأطلقتُ زغرودة.
 
 
 
 
35

25

كوني مستعدة!

كوني مستعدة! -  1 أيلول 1980

عند المغرب، كان طقس قرية جليان يميل نحو البرودة. أشعلت أمي سراج الكاز1 ووضعته في الغرفة إلى جانبي. كان الفرح باديًا بوضوح على محياها. احتملتُ أنها كانت مرتبكة وتخفي عني شيئًا ما. وفي نهاية المطاف استجمعتْ شجاعتها وتقدّمت مني. أمسكتني بكتفيّ وأخفت ابتسامة على شفتيها وقالت بسرعة: آمنة، لقد طلبوا يدك لمرتضى!

انهدم حيلي وقلت بلا إرادة: مـ.. مرتضى!

احترّ بدني وازداد خفقان قلبي. لقد انتابتني حالٌ لم أكن قد اختبرتها من قبل، أنا ابنة الخمسة عشر عامًا، الزواج؟! عمري خمس عشرة سنة.. زواج.. بيت.. أطفال.. مرتضى.. بيت..
كانت المرة الأولى التي أسمح فيها لنفسي أن أفكّر بشاب غير محرم. وبسرعة الضوء شغل الزواج وأحلام المستقبل بالي. عندما خلوت بنفسي تراءت أمام ناظريّ حادثة كانت قد حصلت قبل سنوات..

- آمنة!
قمت من مقعدي في الصف. سارعت السيدة اشرافي، معلمة الصف الابتدائي الخامس، مقطّبة حاجبيها المرسومين بنحو رفيع وعينيها المكحلتين، وقالت بحدّة: مجددًا وضعت الحجاب على رأسك؟ ألم أقل لا ينبغي أن تغطين رؤوسكن! 

شعرت برعشة تسري في بدني.

- لـ لـ لـكن.. يا آ.. آنسة!
 

1- كان مشهورًا في تراثنا باسم (سراج أبو فتيلة) أو قنديل نمرة 3.
 
 
 
 
36

26

كوني مستعدة!

 مرّرتْ يدها على شعرها الأسود المجعد والقصير ورفعت صوتها.


- لكن "السمّ الهاري"1!
وفيما اقتربت مني رجّ صوت طقطقة حذائها طبلة أذني! وكما في كل مرة تغضب فيها أخذت تحرّك وتدير خاتمها الذهبي المرصع في إصبعها وأشارت إلى عريفة الصف صائحة: "كشاورز"، اذهبي ونادي السيدة المديرة!

خطت بتنورتها الضيقة بحذر واضعة يدها على خصرها، وقالت: بحسب أوامر "التربية والتعليم" لا يحق لأحد أن يضع غطاء الرأس أو يرتدي العباءة (الشادور) داخل حرم المدرسة.. تمامًا مثلي أنا، انظرن.. التمدن والعلم والحرية يعني هذا! أنتنّ الآن لا تدركن معنى خلع الحجاب.. جناب حضرة فرح.. ملكة إيران تريد صلاحنا.

- وقوف!
دخلت السيدة فروغي، مديرة مدرستنا المتمدّنة2، إلى الصف سافرةً ترتدي جاكيتًا وتنورة كحليتي اللون تشبهان الزيّ الرجالي. أدارت قضيب الرمان في يدها وهزت رأسها بعصبية، وقالت: ما الذي يجري هنا؟ للمدرسة نظامها، والويل لمن لا يراعي هذا النظام.. من المخالف؟

كنت أعلم أنها عرفت "البير وغطاه"3 من العريفة أثناء مسيرها إلى الصف. أشارت المعلمة إليّ.
 
 

1- بالفارسية "زهرمار"، ومعناها الحرفي سم الحية، وتقال للتوبيخ والإسكات بصيغة اللعن. ويقابلها في العربية المحكية "السمّ الهاري"، والهاري من هرى بمعنى أبلى وأهلك.
2- ابنة المدينة.
3- بمعنى أنها عرفت كل تفاصيل ما جرى.
 
 
 
37

27

كوني مستعدة!

 - جناب المديرة، آمنة.. أتت مجددًا إلى المدرسة بالحجاب.


لم تدع المديرةُ المعلمة تنهي كلامها واتجهت نحوي مباشرة. بنحو لا إرادي أخذت شفتاي ترتجفان. كنت أسمع صوت خفقات قلبي! وصلت أمامي وحملقت فيّ بعينيها السوداوين الواسعتين وقالت بلهجة شديدة وحاسمة: سوف تخلعين حجابك الآن حالًا!

كنت أظن أن روحي ستغادر جسدي في تلك اللحظة، وإذ بقوة داخلية تنبعث منّي وتمدّني بالعون. ازدادت شجاعتي ومقاومتي وتزايدت. وكلما زاد تهديد المديرة كانت مقاومتي تزداد.

- أيتها العنيدة المتعنتة، اخلعي حجابك!
- لا أريد.. الله قال..
- ستُطردين من المدرسة.
- القرآن قال..

حميت حجابي بيدي. امتقع لون وجهها الأبيض واستشاطت عيناها غضبًا وأنزلت الضربة الأولى من قضيب الرمان على يدي.
- ارفعي يدك!
- لن أرفعها!

سرى الوجع من داخل يديّ إلى دماغي. كانت السيدة فروغي تنهال عليّ ضربًا ودموعي تصب مدرارًا فيما أحكمتُ إمساك حجابي! كانت عيون التلميذات مسمّرة عليّ. زعقت السيدة فروغي بصوت كان يرتجف من شدة حنقها: حسنًا.. من الغد إذا أردت أن تأتي محجّبة فلا تأتِ من الأصل! أنتِ مطرودة..

انتشر خبر مقاومتي في قرية جليان كالنار في الهشيم.
 
 
 
 
 
38

28

كوني مستعدة!

 في صباح اليوم التالي، دخلتُ الصف متأخّرة وأنا خائفة أترقب. لكن ويا للعجب، استقبلتني المعلمة ببشاشة! أثناء الفسحة أوضحت لي زميلاتي وحارسة1 المدرسة الخالة "دولت" بكل سرور: "لقد جاء ابن خالتك مرتضى إلى مكتب المدرسة بعدما دقّ الجرس الأول وأحدث ضجة كبيرة"..


لقد رمتني والدتي بجملتها تلك في بحر الحياة المتلاطم، إلهي كيف أمنع قلبي عن الوساوس المادية والنفسانية لأتمكن بهدوء بال من السير قُدُمًا في تحقيق إرادتِكَ؟ وفيما كان هذا السؤال يمر على خاطري كأنما ألقى الله جوابه في كل كياني: آمنة، لا تطلبي شيئًا لنفسك، لا تسعي للحصول على شيء وتجنبي الانفعال والحسد، مستقبل الناس ومصيرك أنت أيضًا يجب أن يكونا محجوبين عنكِ. عيشي على نحو تكونين فيه مستعدة لأي شيء.. كررتها مرات: كُوني مستعدة.. مستعدة..

كانت والدتي قد خرجت من الغرفة فيما كانت عيناي تحدقان بالسراج. كانت فراشتا شجرة النارنج الخضراء والصفراء تحومان حول السراج. منذ تلك اللحظة وما تلاها، كلما فكرت في مرتضى استحال شكّي وتردّدي شغفًا وحبًّا.
 

1- حارسة المدرسة: من يحرس بابها ويراقب الداخل والخارج محافظًا على أمنها.
 
 
 
 
39

29

القلق الحلو

 القلق الحلو - 24 نيسان 1981


- الليلة يأتي مرتضى لخطبتك.. بماذا تشعرين؟
في ليلة ربيعية داخل الباحة الترابية كانت أختي الكبرى تروح وتجيء وتستفزني ممازحة.

- هيا اذهبي وضعي الحناء!
- لا تقولي فول حتى يصير في المكيول!1

- كنتُ قلقة، ولطالما فكرت في مرتضى خلال هذه الشهور التي مضت، وحلّلت شخصيته في ذهني: هل سأكون محظوظة؟ أي صنف من الرجال هو مرتضى؟ مثل أبي أو أخي أو..هل هو رجل يكد وراء العيش الرغيد. سوف يسعدني! مرتضى شهم غيور. قبل سنوات جاء إلى المدرسة ووقف أمام المديرة والمعلمة معترضًا على طلبهما من ابنة خالته أن تخلع حجابها.. مرتضى رجل حرب. لا يعرف الخوف. ماذا لو أصابه مكروه؟ سيكون عُمرًا من الوحدة! التوكل على الله! كل الرجال يذهبون إلى ميادين القتال.
- يا ابنتي ادخلي إلى المنزل، إنهم قادمون.. أعدي الشاي..

كان صوت أمي. جاء مرتضى مرتديًا قميصًا أنيقًا أزرق قد تدلّى فوق سروال كاكي برفقة الخالة وزوجها وعدة أشخاص آخرين.

- يا الله .. يا الله..
لم أكن حتى ذلك اليوم قد رأيت كل هذا العدد من مصابيح الكاز
 

1- مثل شعبي يعني ألا تعتمد على أمر لم تتأكد من حصوله بعد، أو لا تقل سأفعل كذا وكذا حتى تتأكد من قدرتك على القيام بهذا الفعل.
 
 
 
40

30

القلق الحلو

 مضاءة في مكان واحد! كانوا قد تحلّقوا بجوار بعضهم البعض تحت نور المصابيح ودفئها يتبادلون أطراف الأحاديث الطيبة، وكنت أنا أروح وأجيء وأقدّم الضيافة.


مع النسائم العليلة، كانت فراشات الليل بغية الوصول إلى النور والدفء تحوم حول المصابيح وترتطم بزجاجاتها فتحرق أجنحتها. وكنت بين الحين والآخر أتجرأ أن أختلس نظرة إلى ابن خالتي بقميصه الأزرق الفاتح وقد رسم بسمة على شفتيه وتسمّرت عيناه على السجادة اليدوية العجمية تحت قدميه! لم أكن لأتصور مرتضى من دون ابتسامةٍ على محياه. كانوا يتجاذبون شتى أنواع الأحاديث إلا موضوع خطبتي!

- لعنة الله على صدام.. بإذن الله سينتصر المجاهدون.

- لقد أضحى المنافقون الجاحدون الطابور الخامس للعدو!

- لم يتم الإعلان عن كوبونات1 السكر!

- لقد شيّعت فسا البارحة ثلاثة شهداء!
- مع هذه الحرب ما الذي سيحل في النهاية؟

- كما قال الإمام الخميني، لقد جاء مجنون اسمه صدام وعرقل الأمور. هؤلاء الشباب والناس أنفسهم سوف يذيقونه جزاء عمله!
في نهاية الأمر تدخلت العمة وقاطعت الأحاديث الدائرة لتدخل إلى صلب الموضوع.

- صلّوا على محمد وآل محمد.. تفضل ابدأ يا مش رضا!
- المهر أولًا..
- هؤلاء ليسوا غرباء..
 
 

2-1 كوبونات: مفردها كوبون، قسيمة تموينية: جذاذة صغيرة توزعها الحكومة في الأغلب بين الناس ليتمكنوا من شراء بعض حاجياتهم الضرورية بسعر أقل من سعر السوق.
 
 
 
 
41

31

القلق الحلو

 وبسرعة تمّ الاتفاق على كل التفاصيل بسلاسة وحميمية.

- نسخة من القرآن الكريم.. وكذلك 120 ألف تومان مهرًا..
- صلوا على محمد وآل محمد..

وأنا التي ارتديت عباءة (شادورًا) جديدة زهرية اللون منقوشة بالورود، كنت أنصت فقط فيما رحت ألاعب أصابعي. وحين اختُتِم الكلام قام مرتضى فجأة بين الحاضرين. 
- أرجو المعذرة، من دون تجرؤ.

ساد الصمت وتسمّرت العيون عليه. كان مرتضى يقف بنحو جعل نور المصابيح تضيء نصفًا من وجهه أكثر من النصف الآخر. تابع كلامه: من بعد إذن الأفاضل! يجب أن ألفت النظر إلى مسألة الآن. الجميع يعرف أن من يعمل في الحرس يمضي أكثر وقته في جبهات الحرب وقليلًا ما يحضر في المدينة والبيت. عندي رجاء!..

سكت. أخذ نفسًا ثم قال: أتمنى على ابنة خالتي وخالتي وزوج خالتي أن يراجعوا أفكارهم حتى لا يندموا فيما بعد لا سمح الله. دعوا المجاملات جانبًا!
لقد استدعت كلمات مرتضى تفكير العائلتين للحظة. ثم كسرت والدتي جليد الصمت.

- أنا أعرف ابنتي. وأدرك ضمنًا جميع هذه الظروف. أنت تذهب إلى الجبهة دفاعًا عن الإسلام ولأجل رفاهنا. أنا راضية بهذا الارتباط! وفيما عدا ذلك فلنسلّم الأمر لله!
دعا والدي الجميع للصلاة على محمد وآله وتقرّر موعد الشراء1 للغد. في الليل، مهما سعيت أن أنام، لم أتمكن!
 

1- شراء جهاز العروس والعريس.
 
 
 
 
42

32

مثل المرآة

 مثل المرآة - 31 آب 1981


- آمنة يا ابنتي، استيقظي فقد حان وقت الصلاة..

قمت عند أذان الصبح على صوت والدتي. بعد الصلاة لم يأتني نوم. كنت أنتظر أن يدق باب المنزل ويأتي ابن خالتي. كنت أتأمل باستمرار "المحبس الذهبي" في يدي. كان مرتضى قبل أيام قد اشتراه لي بالإضافة إلى طقم ثياب جديد بقيمة 800 تومان.

عند الثامنة صباحًا طُرق باب المنزل ودخل مرتضى وعائلته. ركبنا معًا سيارة جارنا من نوع بايكان1 وانطلقنا نحو "فسا" لأجل عقد القران.

عند الساعة العاشرة تمّ إجراء عقد الزواج من قبل السيد شريعتي في مراسم بسيطة من دون تكلّف أو إسراف.

وضعت النسوة أيديهنّ على أفواههنّ وعلت الزغاريد. تقدم مرتضى ووضع في فمي قطعة حلوى وقال: بالصحة والهناء ابنة خالتي!

وكأن مرتضى قد قرأ لي هذا الشعر ألف مرة حتى حفظته عن ظهر قلب! كنت سعيدة وأشعر بالفخر لأنني تزوجت من ابن خالتي. قالت أمي: بماذا تشعرين يا آمنة؟
 
ألقيت نظرة على وجه زوجي المبتسم ويديه المخضبتين بالحناء وقلت: أنتِ خير من يعلم يا أماه أن لا شيء عند المرأة أفضل من تقوى زوجها وحيائه!

قالت أمي: أسعدك الله!
 
 

1- Paykan سيارة إيرانية الصنع.
 
 
 
 
43

33

مثل المرآة

 - ماما!

- يا روح أمك!

حدّقتُ في عيني مرتضى وعدت لأتأمّل في والدتي وقلت بحيرةٍ وتردّد: هل سيعيش مرتضى حتى يكبر ويشيخ!

قبلتني أمي في وجهي ووضعتُ رأسي في حضنها، وقالت: سوف تكبران معًا يا ابنتي!

لقد بثت نبضات قلب أمي السكينة في نفسي.

عند الظهر وأثناء مسير العودة إلى "جليان" اشتدّ بي الجوع فقلت ممازحة: يا بن خالتي ليتنا كنا ذاهبين إلى بائع كباب!

- لقد أعدوا الغداء في المنزل وينتظروننا! وحتى يمضي الوقت بسرعة سوف أُشغلك بالكلام!

وعلى امتداد الطريق حدثني مرتضى عن الإمام والثورة والجبهة! لقد كنتُ مأخوذة بكلامه إلى درجة أنني لم أنتبه متى وصلنا إلى القرية.

عصرًا مدّت الخالة سُفرة متواضعة، وجاء أفراد العائلتين، وأقيم احتفال صغير. ورغم بساطة المراسم كانت لحظات مفعمة بالسعادة.

أمضينا يومين في أجواء الخطوبة. كنت أتمنى أن يتوقّف الزمن وأبقى للأبد إلى جوار مرتضى. صبيحة اليوم الثالث جاء ابن خالتي إلى منزلنا. أحضرت الشاي ووضعته أمامه.

- شكرًا لك يا بنت خالتي!
كنت أشعر في تلك الدقائق العذبة أنني أسعد امرأة في أرجاء المعمورة. لقد وجدت في هذه الأيام القليلة أملًا وسندًا قويًّا. حملت صينية الشاي وأدْنيتُها منه.
 
 
 
 
44

34

مثل المرآة

 - اشرب الشاي، سيبرد!

- يجب أن أذهب إلى الجبهة!

عرقت أطرافي الأربعة، شعرت بنوبة برد أعقبها حرّ! بدأت الصينية تهتز في يديّ واندلق كوب الشاي الحار على مرتضى.
- ليت الله أعدمني الحياة!
- لا قدّر الله يا بنت خالتي!

خلع قميصه الكاكي ذا الجيبين.
- ما الذي حصل حتى ذُعرتِ يا بنت خالتي!

نظرت إلى القماشة الرقيقة الخضراء على ذراعه. أشار هو إليها.

تذكار من والدتي، لقد علقته بشالي منذ أيام الطفولة.

قلت: آغا1 مرتضى، لماذا بهذه السرعة! لقد عقدنا قراننا للتو!

سكتُّ. وقع في قلبي شيء من الخوف والاضطراب. أمسك بذقني ورفع وجهي وتأمّل في عينيّ. هدّأتني حرارة يده ونظرة عينيه المشعتين. ابتسم وقال متمنّيًا: أنا أيضًا أرغب في البقاء يا بنت خالتي. لكن الجبهة الآن في حاجة ماسة إليّ!

تسمّرت عيناي عليه. لقد انعكس هدوء عينيه في داخلي كانعكاس الصورة في المرآة، واستسلمت!
 

1- آقا بمعنى السيد، لقب يعتمد للنداء، عادة يدل على الاحترام.
 
 
 
 
45

35

آخر الأغنية

 آخر الأغنية - 26 أيلول 1981


- آمنة يا ابنتي، المذياع.. هناك هجوم..

الساعة العاشرة صباحًا ولدى سماعي صوت أمي تركت من يدي حلب الماعز، وخرجت من الزريبة راكضة نحو باحة المنزل وقلت: ماذا هناك يا أماه؟
- ألا تسمعين صوت المذياع.. هناك هجوم..

لفح نسيمُ الخريف وجهي ورأسي المتعرّق وارتجف بدني. طرق سمعي صوت المذياع آتيًا من غرفة الاستقبال الكبيرة. كان المذياع يبث الموسيقى العسكرية يتخلّلها صوت المُذيع يعلو كل حين.

نصرٌ من الله وفتح قريب..لقد تمكّن المجاهدون المتصدّون والتعبويّون الفرسان والحرس الشجعان والجنود الشرفاء..أثناء عمليات ثامن الأئمة ومن خلال تجاوز العوائق والدفاعات الكثيرة للعدوّ البعثي العراقي المُعتدي.. من تدمير معدّاته وتجهيزاته.. وفكّ الحصار عن عبادان بعد أشهر عدة.. وقتل وجرح وأسر عددٍ كبير من المُعتدين البعثيين.

كنت من جهة سعيدةً بنصر المجاهدين ومن جهة أخرى قلقةً على مرتضى: لا بد أن مرتضى كان مشاركًا في هذا الهجوم.. أيكون سالمًا.. إلهي احفظه بحفظك.. لم يقرّ لي قرارٌ ولم أشعر بالهدوء. قلت لوالدتي: مرتضى؟!

قالت أمي وهي تدُقُّ اللحمة في الهاون الحجري في زاوية الباحة: توكلي على الله يا أمّاه!
 
 
 
 
 
46

36

آخر الأغنية

 بعد كسر الحصار عن عبادان ظلّت أذني ترقب صوت المذياع وعيني على الطريق لعل أحد المجاهدين يرجع من الجبهة بخبرٍ لي عن مرتضى. في الأسبوع الذي تلا عاد مرتضى من الجبهة. كان يحمل حقيبة الظهر الصغيرة الكحلية نفسها. ومجدّدًا نبت لي جناحان وشعرت أنني أحلّق في القمّة. غمرتني السعادة برجوع مرتضى سالمًا من الحرب.


- مرتضى متى يكون عرسنا!
- لقد قدمنا شهيدًا الآن في القرية. سنقيم زفافنا في أقرب فرصة!

ومجدّدًا مثلَ ثلج تموز لم يبق إلا صباحات ثم اختفى ذاهبًا إلى الجبهة! وعود على بدء، صار الانتظار قاتلي وبتُّ أترصّد أخبار المذياع. مجدّدًا رُحت أسألُ عن أخباره وسلامته من القريب والغريب!

- مرتضى بخير.. رأيته بنفسي.. ما شاء الله أسدٌ..

كان الوقت يمرُّ عليّ ثقيلًا مغبرًّا كقطيع الغنم الذي ينزل عند الغروب من الجبل إلى القرية. كنت أعُدُّ الأيام داخل المنزل، وفي الليالي أبقى مُستيقظةً قسمًا من الليل أُفكر في مرتضى.
في نهاية الأمر وبعد شهرين، يوم 29 تشرين الثاني 1981م.، بث المذياع الموسيقى العسكرية وأعلن المُذيع خبرَ تحرير مدينة بستان.

.. عمليات طريق القدس وبالنداء المقدّس "يا حسين".. وبعد مُضي 420 يومًا على بدء الحرب المفروضة.. تمكّن جنود الإسلام في المنطقة المحيطة لسوسنكرد وبستان أن يستقرّوا عند الحدود.. ويحرّروا تشزابه.. ويحرّروا بستان..

بعد شهرين وعدّة أيام، رجع مرتضى من الجبهة وباغتني قائلًا: ابنة خالتي، الآن يمكننا أن نقيم مراسم العرس! لكن من دون ضجّة
 
 
 
 
 
47

37

آخر الأغنية

 وصخب! أهل جليان لا يزالون في عزاء!


ابتسمت وقلت: لا اعتراض لديّ.

رجع وتأمّل في عينيّ جيدًا.

- آمنة لقد غارت عيناك، هل أنت حزينة؟
ضحكت وقلت: لا، ليس هناك أي شيء!

أُقيمت مراسم العُرس من دون طبل وزمر. مرتضى صار عريسًا بلباس الحرس الأخضر الواسع على بدنه النحيف وأنا صرت عروسًا بعباءة بيضاء مُزينة بورودٍ زهريّة!
 
 
 
 
 
48

38

قصة حنظلة

 قصة حنظلة - 28 شباط 1982


صبيحة يوم شتوي رحت أراقب من داخل عتبة الغرفة حبيبات الثلج البيضاء. كان الثلج يتساقط بهدوء من سماء جليان بعد انقطاع لسنوات ويُلْبس شجرات البرتقال الثلاث وشجرة النارنج الوحيدة ثوب البياض. تناهى إلى سمعي صوتُ لعب أطفالٍ في الزقاق حين وضع مرتضى يده على كتفي.

- هل تُحصين حبيبات الثلج يا بنت خالتي؟

- وهل يمكن إحصاؤها يا بن الخالة! الثلج في منطقتنا جديدٌ! ليته يبقى محفوظًا ولا يصير ماءً، مثلك أنت!

- وضع كلتا يديه الدافئتين على وجنتيّ وقال: كيف فهمتِ أنّ عليّ أن أذهب!

تضخّمت كلمة مرتضى (عليّ أن أذهب) في دماغي واستحالت محيطًا من الماء البارد الذي انصب على بدني. شعرت أن يديه بردتا ولعل بدني أيضًا كان قد برد. قلت بفمٍ مفتوح: يعني عليك أن تذهب؟! 

رفع يده وقال بهدوء: أنا مسافر. 

نظرت إليه بوجهٍ خائبٍ ومتجهّم ورجوته: بهذه السرعة؟! لا أقله ابقَ حتى العيد، ثم بعدها..

لم أستطع أن أُكمل، أحسست بالغصّة كالشفرة في حنجرتي! يبست شفتاي وتخدّر بدني. تبسّم ونظر إليّ بوجهه الجبلي الصافي واضعًا يده خلف رأسي.

- يا بنت الخالة أتعلمين كم يوجد في الجبهة الآن شبانٌ مثلي تركوا
 
 
 
 
 
 
49

39

قصة حنظلة

 أُسَرِهم وراحوا يقاتلون؟ 


تجرعت غصّتي.

- ولكننا أقمنا عرسنا توًّا.
- هل سمعتِ بقصة حنظلة، ذلك العريس زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي التحق بالجهاد فور عُرسِه واستشهد!

انعقد لساني وحاولت جهدي أن أمنع دموعي. 

مثل جميع الفتيات الحديثات الزواج كنت أتمنى أن يبقى زوجي إلى جانبي، كان ذهابه صعبًا عليّ. أدرت ظهري للباحة والثلج، حتى لا يرى دموعي، لكنه استدار ووقف مقابلي.

- هل تعارضين ذهابي يا بنت خالتي!

جعلَ صوتُه بدني يرتجف تدريجيًّا، وفيما كانت تتساقط الدموع من عينيّ رفعت رأسي وقلت: لا.

مسحتُ دموعي وتابعتُ: أنا أفتخر بك! ولكنني أخاف عليك أحيانًا..

- تبسّمي الآن!
تبسّمتُ، ومجدّدًا وضع يده الدافئة على وجهي وقال: نعيش حياةً هانئة هناك، نأكل.. وننام.. وأحيانًا نمارس الألعاب النارية مع العراقيين!

رفع يده وقال: أتحبّين أن تواسي السيدة زينب عليها السلام؟

نظرت في عينيه الصافيتين والمُشعّتين بالنور:
- أتمنى ذلك.
- يا بنت خالتي، إذا لم تكوني حاضرة في زمان السيدة زينب عليها السلام يجب عليك الآن أن تُظهري أنك مُسلِمة ومن أتباع الحسين عليه السلام. أتظنين أن الإمام لم يكن يعلم أنه سيستشهد وأنّ أهل بيته سيكونون أُسارى؟ في
 
 
 
 
 
50

40

قصة حنظلة

 الوقت الذي كان قادرًا على أن يُبايع يزيد ويعيش حياةً رغيدة، لكنه لم يَقم بهذا الأمر ولم يقبل الذلّة. قاتل واستشهد عطشان!


أخذ نفسًا ومن جديد وضع يده على وجهي وذقني، شعرت أن مرتضى يتقصّد تلقيني بشفتيه ودفء أصابعه تلك الكلمات المهمة كلمةً كلمة لتستقر في نفسي.

- يجب الدفاع عن الإسلام العزيز. ليس هناك فرق بين هذا المكان وكربلاء. اليوم أيضًا يجب أن تُراق الدماء لحفظ عزّة الإسلام. وأنا مستعدٌّ أن يراق دمي على يد المعتدين البعثيّين الذين لا يعرفون الله لئلا يضيع شبرٌ واحدٌ من تراب وطني. والأعمار بيد الله..

مذهولةً تأملتُ شفتيه فقط وفكّرت بكلماته. وكأنه كان يضيء لي مسيرة حياتي. وفي نهاية المطاف حمل حقيبة ظهره الكُحلية وودّعني.

جعلتُهُ يمُرُّ من تحت القرآن، وحين صببت الماء وورق النارنج خلفه عاد وقال: ابنة خالتي عندما تشعرين بالضيق والوحدة اقرئي سورة الواقعة! سوف تهدئين.

وأطبق جفنيه وتلا بصوته الحسن آيات من السورة.

﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا *  فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾.

واختفى عن ناظري وغاب مجدّدًا، هكذا بكل بساطة!

عدتُ وحدي من جديد، وانقبضت نفسي مجددًا. جلست في زاوية الغرفة. أردت أن أستسلم للبكاء، لكن كلماته التي ملأت كل وجودي لم تدعني! فكّرتُ فيما جرى بيني وبينه، وبالليالي والأيام العديدة التي ينبغي أن أصنعَ فيها نفسي بوحدتي وأُفكِّر بكلامه.
 
 
 
 
 
51

41

الواقع والخرافة

 الواقع والخرافة - 5 أيار 1982


في عيد النوروز أيضًا لم يأت مرتضى إلى المنزل. خلال هذه الأشهر المعدودة التي لم أره فيها كانت قد أنجزت عمليات الفتح المبين وبيت المقدس في الجبهة الجنوبية، وتمّ تحرير خرّمشهر ومناطق كثيرة من خوزستان. وكانت سورة الواقعة قد باتت أنيس نفسي.

﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ  ... فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.

عند الغروب كنت داخل الغرفة ذات السقف الخشبي أقرأ مجدّدًا آخر رسالةٍ من مرتضى تحت نورِ السراج الأصفر.
- يا ابنتي، يُشاع أنّ مرتضى قد وقع في الأسر!

كانت عيني على الرسالة حين خرق صوت أمّي دماغي كالسهم. 
- هل أنتِ معي! أين أنت يا ابنتي؟ لقد سرت شائعة أسر مرتضى في كل مكان!

هالَنِي الخبر فارتطمت يدي بزجاجة مصباح الكاز واحترقت! وبسرعة صار تمامُ بدني يتصبّبُ عرقًا. عُدت وتأمّلت في وجهِ أمّي المجعّد وعينيها المحزونتين. انتصبتُ واقفة وكأنني قد خرجت لتوّي من صدمة.
- يا زينب الحوراء! من الذي يقول هذا يا أمي؟
- لقد ذاع الخبر في جليان!

فزِعتُ، وبسرعة هاجت في رأسي الأفكار والخيالات، ورأيتُني امرأةً
 
 
 
 
52

42

الواقع والخرافة

 يُشيرُ إليها بالبنان آحاد أهالي القرية ويتحدّثون عنها.

- منحها الله الصبر.
- عليها أن تعُدّ الليالي والأيام حتى تنتهي الحرب ولعلها حينذاك ترى زوجها!
- هذا إن خرج سالمًا معافى من الأسر!
- ليته استشهد، لكان أفضل من أن يؤسر! 
- لم تذهب، يجب أن تعود إلى منزل أبيها!

لم أكن لِأُصدِّق أن أخسرَ مرتضى بهذه السرعة! كان هناك نداء من أعماقي يصرخ بي: ما زلنا في البداية، إنها الحرب!

مرَّت أيام، وشيئًا فشيئًا صدّقتُ أنّ مرتضى بات أسيرًا، وأنّ عليّ أن أبقى أسيرة الانتظار مدّة مجهولة من الزّمن. لكن فجأةً باغتني مرتضى بلباسه الكاكي واقفًا على عتبة باب الغرفة!
- السلام عليك يا بنت خالتي!

يبسَ حلقي. أغلقتُ جفوني وفتحتُها مرات عدّة. فَركتُ عينيّ. ولكنه كان لا يزال واقفًا بتلك الابتسامة المُشرقة والجميلة. أدركت حينها أنّ حياتي من تلك اللحظة وصاعدًا ستكون مملوءةً بالقصص والخرافات، وفي داخلي بالتأكيد حربٌ فظيعةٌ وحماسية!

اقتربت منه. تحسّست نفسَهُ. رغبت في أن أُمسك به وأحجزه بآلاف السلاسل والأغلال لنفسي. 
- ماذا، لم أكن أعلم أنك تحبينني بهذا المقدار! 

جلس وجلستُ. قلت باكية: أنت لا تعلم أي عيدٍ مرّ عليّ.. لقد قالوا إنّك أُسرت.
- أُسرت! كيف فهمتِ أنني أُسرت؟
 
 
 
 
53

43

الواقع والخرافة

 - إذًا..

- كانت نقاهة! أثناء العمليات ضلَلنا الطريق وحاصرَنا العراقيّون، وبعد أيام عدنا!
- بهذه البساطة! عليك أن تخبرني القصة حرفًا بحرف.. هل تعلم كم عانيت!
- أثناء عمليّات بيت المقدس قمنا بهجوم على العراقيّين فاستشهد مسؤول الاتصالات وحُوصرنا. كانت منطقةً رمليّة وحارة. أصابنا العطش. فأوصلنا أنفسنا إلى خلف أحد المتاريس. 

سمعنا أصوات أشخاص فظننا أنهم من شبابنا. سُررنا وتقدمنا نحوهم وناديناهم، ولكننا اكتشفنا أنهم عراقيّون، وما لبثوا أن بدأوا بإطلاق النار علينا. علقنا بينهم ثم لذنا بالفرار مجدّدًا وتُهنا في المنطقة. بعد يوم وليلة وصلنا إلى قوّاتنا. عندما عدنا كان قد شاع في كل مكانٍ أننا وقعنا في الأسر. وها أنا قد جئت بسرعةٍ لأُثبت أنني بخير وأرجع!

كانت يداي ترتجفان وقد انتابتني حماسة من حكاية ابن خالتي. حين سمع صوت زقزقة صغير البلبل البني قال: أنتَ أيضًا خرجتَ من وحدتك!

قلت: أقدّم له الماء والحَبَّ ليكبُرَ ويتمكن من الطيران! 

ذهب وأخرج البلبل الصغير من صندوق الكرتون ووضعه في كفّه وأتى ناحيتي. كان البلبل فاغرًا فمه يريد أن يأكل. تبسّم مرتضى وقال: إنه جائع، لقد بات أليفًا وسيكون جليسك دومًا! فقط انتبهي عليه من أن يصير لقمةً سائغةً للقطّة!

حين أتى أهل القرية، صغارهم وكبارهم، فردًا فردًا، وسألوا عن أحواله علمتُ أنه كان قد جُرح ولكنه لم يخبرني!
 
 
 
 
 
54

44

الواقع والخرافة

 كانت تلك الأيام القليلة حلوةً وجميلة. وكم تمنّيت أن تستمر هذه اللحظات حتى قيام الساعة. لكنّ الزمن كان في حرب معي، فعلى خلاف الأوقات التي كنتُ أنتظرُه فيها ليعود من الجبهة، سرعان ما مضى لقاؤنا معًا وانتهى، كمثل حبيبات الثلج تحت حرارة الشمس! 


- يا بنت خالتي، ألك حاجة؟
- هكذا! إلى أين يا بن خالتي؟
- إلى الجبهة!

انقبضت مجدّدًا. حمل حقيبته الكُحلية وأودعني بسمته الحلوة الخاصة وذهب! استطعت فقط أن أجعلَهُ يعبُر من تحت القرآن وأن أرش خلفَهُ الماء وورق النارنج وأقرأ: ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾.
 
 
 
 
 
 
55

45

المقهى الصلواتي

 المقهى الصلواتي1  - 15 تموز 1982


ظهيرة اليوم الثاني لعمليات رمضان في منطقة شلمجة القتالية، لاحظت سيارة جيب لاند روفر عراقية يقودها اثنان من المجاهدين المتحمسين، تذرع الساتر الترابي ذهابًا وإيابًا تحت مرمى نيران العدو: ما الذي يفعله هذان؟! ما الذي سيحدث لو أن قذيفة سقطت على رأسيهما؟ هل يظنان أنهما يؤديان دورًا في فيلم حربي!

ناديتُ أصغر نجفي مسؤول الآليات في لواء المهدي: تلك السيارة باستلام من؟

وفيما كان يتصبب وجهه ورأسه عرقًا من شدة حرارة الجنوب، قلّص أصغر حجم عينيه أمام نور الشمس المباشر وقال:
يا حاج أسدي السيارة غنيمة، هذان الشابان هما اللذان غنماها الليلة الماضية!

- وهل تمّ تسجيلها وتحويلها إليهما؟ هل هناك حاجة لأن تكون معهما؟

مسح أصغر عرق جبهته وقال متلعثمًا:
- لا يا حاج. لم تسنح الفرصة بعد.

عقدتُّ حاجبيّ.

- يجب أن يتم تسجيل السيارة أولًا، وبعد ذلك إن كان هناك حاجة
 

1- "صلواتي" كلمة تُقال عندما تقدّم الخدمات أو الأشياء والبضائع والأموال.. للآخرين مقابل "الصلاة على محمد وآل محمد" ومن دون مقابل مادي، وهي تنمّ عن ثقافة البذل والخدمة والعمل الحسن.
 
 
 
56

46

المقهى الصلواتي

 لتسليمها إليهما فلتسلّم. كن حريصًا في هذه الأمور فهي حق لبيت المال.


- على عيني يا حاج أسدي1!

كنت مشغولًا مع "خليل مطهرنيا" نبحث أوضاع الجبهة حين علت الضجة. كان أصغر نجفي يتنازع مع الشابين وهما لا يستسلمان له. في نهاية المطاف ضاق أصغر ذرعًا بهما فواجههما بحدّة ثم أشار بإصبعه من بعيد ناحيتي كأنه يقول إنها أوامر قائد اللواء جعفر أسدي وأنا مأمور ومعذور!

رمقني الشابان الغريبان من بعيد بنظرة، وركبا السيارة متجهين نحوي. وصلا إلى قربي وكبحا الفرامل.

ترجل الشاب الأنحف الذي كان خلف المقود وقال:
- السلام عليكم يا حاج. أنتم طلبتم أن يأخذوا السيارة منّا؟

كان وجهه مفعمًا بالحماسة والمشاعر، فرأيتُ من الصلاح أن أوضّح له بدل أن آمرهُ. ابتسمتُ وقلت: صحيح. قلتُ فلتسجّل السيارة أولًا ثم إن كان هناك حاجة تُسلّم إليكما!

فجأة نطق الشاب النحيف الذي تعلوه سيماء القرويين البسطاء مهددًا: كنّا في مأمورية لثلاثة أشهر وقد انتهت. والآن نريد أن نرجع إلى المدينة.. إنها تصفية حساب*2..

نظرتُ إلى لباسه الأخضر والشعار المخملي الأصفر والأزرق على صدره.
- أنت من الحرس إذًا؟

اتخذ شكلًا جديًّا وحرّك جفنيه المغبرين.
 
 

1- القائد أسدي راوى كتاب "الهداية الثالثة".
2- * معاملة خروج العناصرفي مأذونية بعد أدائهم الخدمة.
 
 
 
57

47

المقهى الصلواتي

 - نسأل الله القبول!


قلتُ بدقة ولطف:
- هل انزعجت؟!

نفض التراب والغبار عن شعر رأسه القصير.
- من حقّي أن أنزعج!
- لماذا؟
- وهل كنّا في صدد سرقة السيارة؟ لقد عانينا الأمرّين حتى أحضرناها بنفسينا ليل أمس من الساتر الترابي للعراقيين وأوصلناها سالمة إلى هذه الجهة!

هززتُ رأسي.

- لم يكن هذا مقصدي. ما اسمكما؟
- مرتضى جاويدي، ورفيقي حسين إسلامي!
- لا مشكلة إذا كنتما تريدان تصفية الحساب، أيمكن أن تدخلا الدشمة لنتحدّث قليلًا.

لم تمهلنا صواريخ الكاتيوشا العراقية، فسرعان ما انطلقت صلية صواريخ كاتيوشا لتدكّ الساتر الترابي ضربة إثر ضربة. انبطحنا جميعًا خلف الساتر الترابي الثنائي الجدار، وبعد انفجار جميع صواريخ الصلية كانت سيارة الجيب قد أصيبت بعدة شظايا. وقفت وقلتُ للشابين:
- تعالا معي يا أخويّ!

مشيا في أثري حتى وصلنا إلى داخل دشمة تكتيكات خط الهجوم. تبعنا مباشرة الحاج صلواتي مسؤول الإعلام في اللواء يحمل برّاد
 
 
 
 
58

48

المقهى الصلواتي

 عصير ليموناضة إلى داخل الدشمة وقال:

- صلّوا على النبي أيها المحمديون!
- اللهم صل على محمد وآل محمد.

بعد أن ارتفعت أصواتنا بالصلوات وضع العجوز براد العصير أمامنا وأحضر عدّة أكواب بلاستيكية حمراء اللون استعملت لآلاف المرات من قبل وملأها عصيرًا! وقال:
- هذا عصير المقهى الصلواتي. اشربوه هنيئًا مريئًا ولا تنسوا الصلوات..

فيما كانا منهكين لا يقويان على شيء، حدثتُ مرتضى وحسين عن الجبهة وأهداف الثورة وتكليفنا في الحرب وأوضحت لهما في نهاية المطاف مقصودي من أخذ السيارة. ثم رميت سهمًا أخيرًا وقلت:
- الآن الجبهة بحاجة إليكما، بالخصوص أنتم الحرس الذين اخترتم لباسكم الأخضر بمحبة ووعي!

من دون كلام كانت عيونهما وآذانهما وكل حواسهما معي. وما إن توقفتُ عن الكلام، قال مرتضى: البقاء في الجبهة هو تكليفنا لكننا نحتاج إلى السيارة! 

سررتُ من جرأة وشجاعة مرتضى وحسين. كنت أرى فيهما خصالًا كثيرةً يحتاجها اللواء. قلتُ:
- إن شاء الله بعد تسجيل السيارة نتوصّل إلى تفاهم!
 
 
 
59

49

العشق ها هنا

 العشق ها هنا  - 18 تموز 1982


- آمنة، هل سمعتِ أنّ مرتضى قد أصيب؟
- لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا يا "زينت".
- ألستِ قلقة؟!
- وما الذي يمكنني أن أفعله يا عزيزتي؟

قبل ظهيرة يوم صيفي حار داخل الغرفة، مسحتُ على رأس البلبل البني وفكرتُ في كلام ابنة الجيران زينت يوم أمس. شيئًا فشيئًا كنت أزداد نضجًا في مواجهة الأحداث! لقد بات جسمي وروحي الآن أكثر انسجامًا مع حوادث الحرب الفجائية! وضعت بعض فتات الخبز داخل فم البلبل البني وتأملت في الريش الأصفر المتناثر بالقرب منه.

اشتد طرق الباب فشرع البلبل البني بالزقزقة. وضعت على رأسي العباءة المرقطة وتوجهت نحو الباحة. وقفت خلف الباب وقلت:
- من؟
- أنا يا بنت خالتي!

انخلع قلبي وفتحت باب البيت بسرعة. كان مرتضى واقفًا أمامي يحمل حقيبته في يده ويرتدي قميصًا أبيض بياقةٍ مشيخية، وقد بدا خلفه بعض الشباب والعجائز من المارة يعبرون الطريق.
- مرتضى، سـ.. سلام.

ذهلتُ عند رؤية وجهه الأصفر الذي ازداد نحولًا.
- يا بنت الخالة، لقد متُّ من شدة الحر، ألا تفسحين لي المجال لأدخل؟

حين وقع نظري على القطة الشقراء واقفة على الجدار الطوبيّ
 
 
 
 
 
60

50

العشق ها هنا

 صرختُ: مرتضى، البلبل!


ركضت على عجلة نحو الغرفة، وحين رأيت البلبل البني تنفستُ الصعداء.
- حسنًا لقد وجدتِ أنيسك.

استدرتُ ونظرتُ إلى مرتضى، كان واقفًا داخل الغرفة مع حقيبة ظهره الكحلية. وقلتُ:
- يا بن الخالة، لحظة واحدة أمضيها معك لا أستبدلها بكل الدنيا وما فيها! خفتُ على هذا المسكين أن يصير لقمة سائغة للقطة! 

عندما جلس على البساط البدوي بان الألم بوضوح في وجهه.
- أأقول.. جُرحت مجددًا؟
- خدش بسيط.

قلت بسرعة: أرني.. أين؟
- وهل تنوين إذاعة الخبر!

ووضع أمامي حقيبة ظهره الكحلية.

- ابنة خالتي فديتُ تلكما اليدين، أرجو أن تغسلي الملابس داخل الحقيبة!

عندما علت زقزقة البلبل، أخذه من يدي ووضعه على سبّابته وقال:
- إنّه يغرّد من أجلي، ما أجمله وأنظفه!

حمل البلبل وأدناه من وجهه وضمّ شفتيه وصار يصفر له ويزقزق. قلتُ مبتسمةً: مرتضى لا تنظر إليه هكذا، سيظن أنك تريد أن تأكله!

ظلّ مرتضى يغرّد والبلبل يجيبه حتى تعبا معًا في نهاية المطاف، وخفتت أصواتهما. فتحتُ الحقيبة فوقعت عيناي على لباس ملطخ بالدماء، شعرت بوخز في بدني وأصابتني قشعريرة. حاولت أن أتجاهل الأمر وقلت: بتّ ترتدي الأحمر؟!
 
 
 
 
 
 
 
61

51

العشق ها هنا

 - إنه عراقي!

- ولماذا ترتديه؟!

تبسم ولم ينطق، قلت بنحو أكثر هدوءًا:
- اعذرني، لم أتمالك نفسي.

لم يقل شيئًا.

- بالله عليك لا تلبس هذه الملابس، سوف أمزّقها!

رفض ذلك.
- رزقك الله يا بنت الخالة. وهل عدتِ ولدًا؟ أتعلمين ما الذي أصنعه بهذا اللباس في الجبهة؟!

حملتُ اللباس العراقي الملطخ بالدماء وتوجهتُ نحو الباحة الترابية. جلست تحت نور الشمس ووضعته داخل الطشت النحاسي حتى يتبلّل. عندما كنتُ أغسل اللباس كان يسيل منه الماء أحمرَ ويقشعرّ بدني. جاء وجلس بجواري، كنت أدعكُ اللباس وأنظر إليه. أخرج من جيبه صورة ووضعها أمام ناظري. 
- انظري يا بنت خالتي!

تأملتُ في الصورة، كانت لمرتضى داخل الجبهة وهو يركب سيارة جيب أخضر. كان مرتديًا اللباس الذي أغسله مع طاقية حمراء ملوية على الرأس وقد رفع إصبعيه على شكل علامة النصر وأخرج يده من السيارة ضاحكًا. وضع إصبعه على صورة السيارة وقال: إنها غنيمة، ونحن نجول فيها داخل المنطقة. بهذه الملابس التي تغسلينها الآن أذهب إلى مناطق العراقيين وآكل معهم الخبز واللبن!
- معهم؟

نفضتُ اللباس العراقي. عندما ألقيته على حبل الغسيل أمام الزريبة اخترقته أشعة الشمس في عدّة ثقوب. جاء ووضع إصبعه داخل
 
 
 
 
 
62

52

العشق ها هنا

 ثقب عند الوسط.


- معك حق يا آمنة. الأفضل أن أعطي هذه البدلة لأخي "مصيب" حتى يصلحها!

ليلًا، جلستُ في زاوية الغرفة أخيط قميصه العسكري تحت نور سراج الكاز ، وكلما رفعت رأسي رأيته ينظر إليّ.
- ماذا يا بن خالتي؟

تنهّد.
- لو أنكِ في تلك الليلة التي طلبتُ فيها يدكِ قلتِ لا!

على حد قول أهل شيراز، "زرعنا "لو" فأنبتت "يا ليت""1!

سكتُّ ثم قلتُ: لعلك عاشق لأحد ما؟

ردّد مرات: عاشق.. عاشق.

أصابني لحن قوله بغصة في حلقي، قلت:
- يا بن خالتي، لقد اخترتُ عن وعي ولست نادمة. والآن أيضًا أنا سعيدة جدًا، أسعد من ليلة العرس!

جاثيًا على ركبتيه وكما يحبو الأطفال توجه نحوي:
إنّ أُمنية كل زوجة وزوج أن يكونا معًا ويعيشا حياةً هانئة!
فتحتُ عينيّ متعمدةً على اتساعهما وقلت: حسنًا!

تنهّد. 

- ولكن ما الذي يمكن أن أفعله؟ لقد جاء العدو إلى دارنا ونحن مسلمون ومكلفون بالعمل. سامحيني يا بنت خالتي، حتى الآن لم أكن زوجًا صالحًا، أرجوك أن تتحملي معي من أجل الإسلام!

وأنا التي لطالما أحببتُ أن أسمع، كنت فقط منصتةً إلى كلماته الجديدة التي كانت تسري في روحي وجسمي.
 
 

1- مثل شعبي يضرب للتعبير عن عدم جدوى كلام المتكلم في الظرف الذي يقال فيه، وأنه لن يغيّر شيئًا.
 
 
 
 
63

53

فندق إسترا

 فندق إسترا - 11 أيلول 1982


كان شابًّا متوسط العمر يقود الحافلة ليلًا، وكنت أرى بين الحين والآخر في المرآة الكبيرة أمامه جَفنيه يطبقان من النّعاس. أرجعت رأسي بهدوء ناحية الكرسي الخلفي. كانت خديجة مأخوذة بمراقبة إغفاءة "كرامة الله رفيع"، كانت مستغرقة في النظر إلى وجه زوجها وكأنها تحمِلُهُ قربانًا إلى المذبح، وعليها أن تدرك قدر اللحظات ما قبل ذبحه! وكنتُ مسرورةً وقلقة في الآن نفسه. ابتسمتُ وهمستُ لخديجة: تراقبينَهُ حتى في نومه؟

ومن دون أن تُدير نَظرها عن وجه زوجها أجابت: يجب أن تُعرف قيمة الفرص يا سيدة جاويدي! إن يقظتهم ليست لنا، لعلّ نومهم يكون!

جلس على صف الكراسي إلى جواري كلٌّ من فاطمة وأكبر نورافشان. لم يكن قد مرّ بعدُ على معرفتي بخديجة وفاطمة ساعات، وكأننا كنّا نعرف بعضنا بعضًا منذ سنين! لقد أحكمتِ الخصائصُ المشتركة الكثيرة الرابطةَ بيننا. وكأنّ الحافلة باتت مهدًا لرجال الحرب! أشارت فاطمة إلى الرجال.
- لا أظنهم نائمين!

همس مرتضى وهو مُغمَض العينين: الغيبة حرامٌ يا أخوات!
- أرأيتِ يا سيدة جاويدي قلت إنهم مستيقظون!

قال أكبر نورافشان: نمنا ساعات وإذا بيزيد الكافر "صدام" قد ضغط على دواسة الوقود واجتاح المناطق بسرعة حتى وصل إلى خلف معمل "نَفَرْد" في الأهواز!
 
 
 
 
 
 
64

54

فندق إسترا

 كنا قد أخذنا مقاعدنا على عدّة كراسٍ في آخر الحافلة وقد ملأ الصف أمامنا وما بعدَهُ أفرادٌ من الحرسِ والتعبئة المتطوّعين للحرب.


توقفت الحافلة أمام محطّة تفتيش. كان الجميع مندهشين من حضور ثلاث نساء بالعباءة السوداء في جمعٍ من المجاهدين. وكانت كلُّ واحدة منّا قد حزمت أمتعتها داخل حقيبة صغيرة. 

كان يعتريني شعور بالفخر والاعتزاز، فبمقدار المسافة التي كنت أبتعد فيها عن القرية كنت أسبق نساء المعمورة وأختبر حياةً جديدة. وبات أوّل سفرٍ لي عبارة عن حركة باتجاه جبهات الحرب! استغرقت في التفكير حتى غمضتْ عيناي.

مع بزوغ الفجر استيقظت من شدة الحرّ. كنت أتصبب عرقًا. أرجعت رأسي ناحية زجاج الحافلة، وما إن أزحت الستارة حتى انخلع قلبي. أشرتُ باضطرابٍ إلى ألسنة النيران.

- مرتضى، هل وصلنا إلى الجبهة؟!
- كنتِ نائمة يا سيدتي، لقد أمطر العراقيّون كل الأمكنة بالقذائف! 

هدّأت ابتسامة مرتضى وبرودة أعصابه من روعي. أشرت إلى لهيب النيران خلف التلال.
- وما هذه؟
- إنها العفاريت ترحّب بنا!
- لا تمزح يا بن خالتي! 

ضحك وأجاب: حسنًا إنّهم خبّازو الأهواز، كلٌّ منهم يُشعل تنوره لخبز عجين الصباح!

سمعت قهقهة ضحكات أكبر نورافشان وكرامة الله رفيع. همست لمرتضى: هكذا إذًا يا بن الخالة!
 
 
 
 
65

55

فندق إسترا

 - لا تنزعجي، إنها الشمس تطلع من خلف الجبل!

- تمزح مجدّدًا؟

لم يدعني أنام حتى قُبيل الصبح وراح يشاكسني. كنت مضطرة لِقَبول كل ما كان يقوله. في نهاية المطاف أوضح السيد أكبر نورافشان لفاطمة: إنّها بئر النفط، الغاز فوق البئر يشتعل!

حين بزغ النور، ناحية اليمين، حيث كانت الشمس تشرق، شاهدت تسع أو عشر إسطوانات إسمنتية كبيرة مدمّرة. سألت بحشرية: سيد مرتضى، ما هذه؟ أرجوك أن تجيبني صدقًا!
- إنها خزانات وإهراءات القمح، تمّ قصفها في بداية الحرب!

كانت شمس الجنوب الذهبية قد أشرقت على الحافلة بأكملها حين دخلنا مستديرة "تْشَهَارْشير" في الأهواز. عبرنا شارعًا أو شارعين.
- هذا شارع نادريّة حيث سوق السمك والخضار!

كانت المدينة خاليةً ويسكنها الصمت، وكنتُ مُتحفّزة أبحث عن آثار دمار الحرب وخرابها. شاهدت عدّة أماكن في المدينة مدمّرة ومُنهدِمة.

عبرت الحافلة من فوق جسر الأهواز الحديدي واجتازت المياه الملوّثة لنهر "كارون". شاهدت عدّة زوارق وقوارب في مياه النهر. كانوا يصطادون السمك غير آبهين بصخب الحرب!
 
عَبرَت الحافلة شارعين آخرين وتوقفت عند بناء قديمٍ يُشبه الفندق. حالما ترجّلت العائلات أكملت الحافلة بعيدًا مع بقيّة المجاهدين. قرأت لافتة الفندق القديمة: فندق إسترا!

الطقس القائظ جعل جسمي ووجهي شديدي الرطوبة. كنت أتصبّب عرقًا من رأسي حتى أخمص قدمي. دخلنا فندق إسترا الذي
 
 
 
 
66

56

فندق إسترا

 كان يشبه كل شيء إلا الفندق! ودخلنا غرفة خديجة لأجل الاستراحة.


بعدما استرحنا قليلًا قالت خديجة: ما رأيك أن نذهب مباشرة إلى غرفة السيدة بروين1، إنها امرأةٌ صالحة، زوجها في الحرس أيضًا. من الأفضل أن تتعرفي إليها!

سرنا داخل الممر الضيّق للفندق الذي كانت أوراق جدرانه البُنية قد تآكلت وعفا عليها الزمن حتى اسودّت. في وسط الممر ضغطنا على جرس الغرفة رقم 110. فتحت لنا الباب سيّدةٌ شابّة وطويلة ترتدي عباءة بيضاء منقوشة بالورد. قدّمتني خديجة: آمنة، زوجة السيد جاويدي!

حين ابتسمت بروين استقرت محبّتها في قلبي.
- سلام.. تفضّلا، أتيتما في الوقت المناسب! 

ألقينا التحيّة ودخلنا غرفة بمساحة (3*4) م. كانت عدّة نساءٍ أخريات قد جلسن في الغرفة. وَقَفْنَ وتبادلنا السلام والقُبلات. وأخذتْ بروين تُقدّمهن: آسية زوجة مطهرنيا، زهراء زوجة رحمانيان، ومرضية زوجة محسن نيا، وهذه ليلى زوجة بهمن زادكان! وبالتأكيد هذه سيدتي الصغيرة سمية خانم!

كانت طفلة لها من العمر سنتان، بيضاء مشربة حمرة، وبسمتها لا تفارق وجهها. وحالما أردت تقبيلها فتحت فمها تريد أن تأكل أنفي وشفتي!

لا أدري لماذا كنا - نحن النسوة - كلما احتضنت إحدانا الأخرى استسلمت كلتانا للبكاء من دون اختيار. لا بد أنه القاسم المشترك نفسه! الصمت والوحدة والانتظار! انتظارٌ وصمتٌ تواءما مع صراع
 

1- تكتب بروين وتلفظ برفين.
 
 
 
 
 
67

57

فندق إسترا

 داخلي فينا ولم يكن لينتهي في نومٍ أو يقظة، حتى يُختتم دائمًا بهذه النتيجة: الشهادة، الأسر، الإصابة، وفقد الأثر، أيٌّ من هذه الأمور سيكون مصير زوجي؟ وكانت هذه المشاعر قاسمنا المشترك نحن نساء فندق "قيام"1.


تحلّق بعضنا حول بعض وتبادلنا أطراف الأحاديث. وكأنه كُتِبَ لنا أن يحبَّ بعضنا بعضًا وإلى الأبد. وهذه كانت إحدى خصائص العيش المشترك في الحرب! وكأننا البارحة عبرنا في الحافلة جميع حدود القبائح والأحقاد ودخلنا أرض المحبة والصلاح، بل لعلها الجنّة!

بغمضة عينٍ حمل الرجال حقائب الظهر واستعدّوا للوداع. سرّح مرتضى شعر لحيته بمشط صغير أزرق وقال: الحمد لله، لم تعودي وحيدةً الآن. يجب أن نذهب إلى الخط الأمامي. 

سأسعى أن أرجع آخر الأسبوع!

خنقتني الغصّة، لكنني رسمتُ ابتسامة على وجهي. غير بعيد ذهب محمود ستوده نحو زوجته وطفلته. احتضن ابنته وقال: سمية يا روحي، ما اسم أبيك؟

أجابت سمية بلهجتها الحُلوة: اسم بابا محمود ستوده!

ضحكنا جميعًا. حمل محمود طفلته باتجاه صورة جماعية موضوعة على الرفّ في الغرفة رقم 110 تحوي الرّجال جميعهم، أشار إلى الصورة وسأل ابنته: سمية حبيبتي أيُّ واحد من هؤلاء هو أبوك؟

أشارت سمية بإصبعها الصغير إلى صورة أبيها.
- هذا بابا!

استدار ستوده وقال: أترون أي زمن هذا الذي وصلنا إليه؟ ابنتي لا
 

1-* وردت هكذا (قيام) ولعله اطلق عليه ذلك الاسم بعد حين.
 
 
 
 
68

58

فندق إسترا

 تعرفني ولكنها تعرف صورتي!


قالت بروين: لا ذنب للطفلة، هي بالكاد تراك مرة واحدة كل شهر. لكنها ترى هذه الصورة كل يوم!

جعلتنا إجابة محمود ستوده نستغرق جميعًا نحن النساء في التفكير.
- هكذا أفضل، أن لا تعرف وجهي! أن تعتاد على هذه الصورة أفضل من أن تعتاد عليّ!

وَدَّعَنا الرجال واحدًا واحدًا، وظلّت عينا كل واحدة منّا نحن النساء مسمّرة عليهم حتى اختفوا عن أنظارنا!
 
 
 
 
 
69

59

اشلو

 اشلو - 30 آذار 1983


قبيل أذان الصبح عمّ جبهة "حيّ الستين" نداءٌ مسموع.
- أي شَي لَونَك.. أشلونك..يا أخي.. صباح الخير!

في عتمة الفجر قفزتُ من نومي قلقًا محتارًا. حملت سلاح الكلاشنكوف وخوذتي من دون وعي ورميت بنفسي ناحية انعطافة الخندق (الدشمة). لم أعرف كيف حشوت قدميّ بسرعة في حذاء زميلي الموحل والواسع وارتميت خارج الدشمة المؤقتة. التفّ رباط الحذاء المنسدل حول قدميّ واختل توازني خلف الساتر القليل الارتفاع فوقعتُ واصطدمَ رأسي ببطن "حيدر يوسف بور" الذي كان يحمل بيده إبريق الحمام وقد خرج للتو من المرحاض. التففنا بعضنا حول بعض وانقلبنا رأسًا على عقب حتى ارتطمنا بالأرض. قال يوسف بور: هاااااااي حسين قلندري، تشقلبتَ حتى أزبدتَ! ما بك لا تدري رأسك من قدميك!

سألتُ بسرعة: يا حسين، ما الذي حصل؟ لقد هجم العراقيون. سمعت صوتًا عربيًّا!

حينما شاهد يوسف بور حالي وضع يده على صدره وانفجر ضاحكًا! صحتُ منفعلًا: لماذا تضحك أيها المعتوه!

وجّه الإبريق الأحمر نحو الساتر الترابي وقال: افتح عينيك جيدًا لترى، مرتضى جاويدي على الساتر يعظ الإخوة العملاء البعثيين!

دققت النظر في الساتر. كان مرتضى آمر "السريّة الأولى"1 يقف
 

1- اعتمدنا في النصوص لاحقًا: "السرية1"، "السرية 2" بدلاً من "السرية الاولى" و "السرية الثانية"
 
 
 
 
70

60

اشلو

 فوق الساتر الترابي على بعد سبعين أو ثمانين مترًا من العراقيين وقد وضع يديه حول فمه وراح يحدثهم:

- أي شَي لونك..أشلونك..يا أخي..صباح الخير!

سألت يوسف بور: ما معنى "أي شي لونك؟".
- يعني كيف حالك وأحوالك..

لم يكن مرتضى قد أنهى بعد سؤال العراقيين عن أحوالهم حين سقط ناحيته فجأة وابل من النيران وقذائف (الـهاون60) وعندما رأى أن جواب "السلام عليكم" التي أرسلها كان نارًا وقذائف شرع بترديد شعار: الموت ليزيد الكافر صدام..

عند الظهيرة أيضًا تكررت نفس المراسم! لم يكن مرتضى ليرتدع، بل كان يعتلي الساتر الترابي في وضح النهار ليقف أمام أعيننا وأعين العراقيين ويلقي على الأعداء درسًا في العقيدة. كان أحيانًا يقرأ من خلف مكبر الصوت سورة الواقعة: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ﴾.

لكن جواب العراقيين، كما عند الصباح، كان رصاصًا وقذائف، ومجدّدًا لجأ مرتضى إلى الخيار الأخير.
- الموت لصدام..

جاء عدد من الإخوة في السرية لمشاركته أيضًا وردّدوا: الموت لصدام..

هذه المرة تركزت نيران العدو على الساتر بأكمله. تعجّبت من عدم تدخل قائد الكتيبة "جليل إسلامي" ليمنع مرتضى عن فعله. قلت في نفسي: لا بد أنّ مرتضى يريد أن يثبت أنّه في غاية الشجاعة! والقائد
 
 
 
 
71

61

اشلو

 أيضًا يحسب له حسابًا.


كان كريم الأبرص قد أصيب بشظية في ذراعه وذعر إلى حدٍّ ما، فقال: ما هذه التصرفات يا حسين قلندري؟ سوف يودي مرتضى بحياتنا جميعًا!

مططت شفتي.
- ماذا أقول يا أخ كريم! اذهب إلى المستوصف.

عدتُ وحدّقتُ في وجه مرتضى الأسمر وهو ينزل بكامل هدوئه من على الساتر ويدخل مع قوات سريته إلى الدشمة.

طوال الليل وحتى الصباح كان ذهني مشغولًا بما قام به مرتضى جاويدي الذي كرر عمله عند أذان الصبح. هذه المرة، كان يحمل معه مكبّر الصوت الخاص بمسؤول الإعلام الحاج صلواتي.

- أي شي لونك.. أشلون صحتك..صباح الخير.. الله يسلمك..

كان مرتضى يحدّث العراقيين بالعربية، وعمدة كلامه على كلمة أشلو التي كانت برأيي تخفيفًا لـ"أي شي لونك" نفسها، أي كيف حالك. وكان مسؤول الإعلام، العجوز السبعيني النحيف، الحاج صلواتي كمثل الشباب أيضًا ينتقل على الساتر من هذا الطرف إلى ذاك ويستمع إلى مرتضى. وأما العراقيون الذين قاموا غاضبين من نومهم فقد ردّوا مجدّدًا بالقذائف والرصاص. ثم علا شعار الموت لصدام من مرتضى والحاج صلواتي وعدد من الإخوة في السرية الذين جاؤوا لدعمهما.

شيئًا فشيئًا حين بدأ عمل مرتضى يُلقي الرعب والخوف في قلوب قوات العدو، أدركت أن وراء سلوكه هدفًا. وسرعان ما سرت عدوى مرتضى في باقي شباب كتيبة الفجر، وانجذب الإخوة إلى عمله بحيث بات الجميع في منافسة من أجل الانتقال إلى سرية السيد مرتضى أشلو!

بعد مدة وبينما كنت أعبر من أمام دشمة مرتضى في منطقة
 
 
 
 
72

62

اشلو

 عمليات "حي الستين"، شاهدت لوحة منصوبة إلى جوار دشمة مرتضى مكتوب عليها: دشمة أشلو!


دشمة يتناهى منها كل ليلة إلى مسامعي صوت قراءة سورة الواقعة: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ... وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *  لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ...﴾.

كان عليّ أن أدقّ الحديد وهو حام. ذهبت من فوري في أثر حسن مايلر، قناص سرية أشلو، وسألته:
- هل يمكن أن تتوسّط لي لأنضم إلى السرية؟!

حكّ أذنه وقال: بهذه البساطة؟!
- ماذا، وهل تريدني أن أدفع رشوة يا عديم المعرفة!
- أغلى من الرشوة، الانضمام إلى سرية أشلو له شروطه.
- لا تتعبني، وهل تتطلّب التضحية بالنفس شروطًا أيضًا!
- لأجل هذا النوع من التضحية طاااابعًا..

مطّ كلمة طبعًا ليؤكد صعوبة ولزوم الشروط. قلت: ما هي الشروط المطلوبة؟
- صلاة الليل، التدخين ممنوع، المشاركة في هجومات عدة.. وآخرها امتحان التوكل والشجاعة!
- ما هو هذا الامتحان المطلوب؟
- أن تذهب في لحظة استثنائية في وضح النهار أمام أعين الأعداء لتعتلي الساتر الترابي وتخلع قميصك فتجعل صدرك درعًا في وجه الرصاص والقذائف وتقول عشر مرات:
- أسأل الله أن يعطيني مئة ألف روح لأموت مئة ألف مرة في سبيلك!
 
 
 
 
73

63

النفطة والثفنة

 النفطة1 والثفنة2-4 نيسان 1983


عند شمس الظهيرة، جثوت في ناحيةٍ من صحراء نينوى وقد أعياني العطش. لجهة اليمين كانت قد نُصبت خيامٌ بيض وخضر للإمام الحسين عليه السلام، وفي الجهة الأخرى كانت خيام حشود جيش يزيد باللونين الأسود والأحمر. تتناهى إلى مسامعي الأصوات النسائية المتعالية من ناحية جيش يزيد بالأهازيج والهتاف تهييجًا للجنود وتحريضًا. وكان فتى شجاع في قلب المعركة يضرب كالصاعقة جنود يزيد المدججين بالسلاح. وفي كل مرة كان يسقط فيها جندي من الأعداء، كانت جراحات الفتى الممشوق تزداد، وتتكسر النصال على النصال. وسط الغبار وقعقعة الدروع وصليل السيوف وبوارقها، يخرّ الفتى أرضًا فتصخ سمعي صلصلة سيوف الأعداء ورماحهم ممزوجة بضجيجهم وصياحهم فرحًا:
- (ولدي) قاسم..

وفيما تُنهَك ساحة المعركة وقد حمي الوطيس، ومن دون أن أقوم من مكاني، أقتربُ أكثر وأكثر إلى ميدان المعركة ولا يراني أحد. الأشلاء المقطعة والأجساد المضرجة لأصحاب الإمام الحسين عليه السلام تناثرت في كل بقعة من الميدان. يؤخذ بي ناحية خيمة كبيرة مشرفة على ساحة المعركة. يتكئ على سيفه سيد ممشوق القامة نوراني الطلعة كأنما وجهه القمر ليلة اكتماله. ويقترب رجلٌ أسود طويل القامة حاملًا سيفًا وترسًا، يجثو بهدوء على ركبته ويقول: مولاي! أَطلبُ الإذن بالنزول إلى الميدان!
 

1- بثرة يتجمع بداخلها سائل بين الجلد واللحم جراء العمل الشديد أو الحرق أو الاحتكاك المتكرر. 
2- الجزء من الجلد يغلظ وييبس من كثرة العمل.
 
 
74

64

النفطة والثفنة

 يرفع السيد رأسه.

- أنت في حلٍّ مني.. انجُ بنفسك!
- إلى أين يا مولاي؟ أنا خادمك!
- أنت حرّ! يمكنك الذهاب حيث تريد!
- إن حريتي وحياتي الأبدية عندكم يا مولاي!

يبكي الرجل الأسود ويقول: أعلم لماذا لا تعطيني إذن القتال في سبيل الله!

وتصبّ عيناه مجددًا الدمع مدرارًا. يقف السيد ويضع يده على كتف الرجل الأسود.
- اذهب وعِش حياتك!
- إلى أين أذهب يا مولاي! لا طيّب الله العيش دونكم، أعلم أن لوني الأسود لا يمنحني لياقة القتال في ركبكم يا مولاي!
- ما هذا الكلام أيها العبد الطيّب!
- إذًا امنحني شرف الجهاد والشهادة في ركب إمامي!
- حسنًا..
- لي طلب آخر يا مولاي!

يشير الغلام الأسود إلى صدره ويتابع قائلًا: سيدي، عندي أمنية، أن أقف حين أضرب بسيفي في سبيل دين الله بصدر عارٍ أمام سهام الأعداء وسيوفهم.

أُشاهد ذلك الرجل الحر الأسود يخلع قميصه عن بدنه بمرح وسرور، وينزل ميدان القتال. ومن جديد تتناهى إلى سمعي صلصلة السيوف والدروع وتخنقني الغصة. مُشاهِدٌ أنا لمعركة عاشوراء بلا
 
 
 
 
 
75

65

النفطة والثفنة

 حول مني ولا قوة. حين يصيب السهم الأول صدر الرجل الأسود نصف العاري.. أصرخ: أسأل الله أن يعطيني مئة ألف روح لأموت مئة ألف مرة في سبيلك!


- حسين قلندري..قلندري! لماذا تصرخ في الجبهة.. أنا أكلمك.. يا عزيزي لم يحن وقت امتحانك بعد.. أيعقل أن يكون الخوفُ تملّكك.

أيقظتني الرطوبة والبلل. فتحت جفنيّ. تحت أشعة الشمس الحارقة شاهدتُ فوق رأسي وجهًا مدهوشًا مبهمًا. صرخت من أعماقي: يا حسين.. لقد وقعتُ في دشمة المذبحة.. الشمر الملعون.. يا حسين.. الموت ليزيد الكافر صدام..

- أدام الله رزقك، هيا قم. ما كان عليك أن تحفر الدشمة في هذا القيظ حتى تغيب عن الوعي!

ما إن أكمل صبّ ماء المطرة على وجهي حتى انقشعت الغشاوة عن عيني ورأيت نفسي مجددًا في جبهة "شرهاني" بالقرب من مرتضى جاويدي. أمعنت النظر في ملامح مرتضى فاجتاحني شعور حسنٌ برؤياي وقلت بلا وازع: الرؤيا.. طلب الغلام الأسود في الرؤيا من الإمام الحسين عليه السلام الإذن بنزع درعه وقميصه عند النزال.. مرتضى يقلّده.. جلست وألقيت نظرة على وجه "أشلو" وقد تماهى مع العرق والتراب، وأنهكه التعب. بنحو لا إرادي خرجت من داخل القناة الرملية. أمسكت بياقة "أشلو" ورحتُ أقبّل رأسه يمينًا وشمالًا. ضحك مرتضى وقال: في النهاية فعلت الحرارة فعلها!

قلت: سيد مرتضى أنا في ركبك حتى النهاية! 

وضع المعول من يده على الأرض. تبسم وقال: إن شاء الله في ركب مولانا الإمام الحسين!
 
 
 
 
76

66

النفطة والثفنة

 - لا أدري ما الذي حصل، فجأة فقدت وعيي. لكنني مسرور!

- أدام الله رزقك! اذهب إلى الدشمة واسترح!

حمل معوله وشرع بحفر التراب الأحمر والقاسي للقناة التي تقابل إلى جهة اليسار الخط الدفاعي للعراقيين. تزامن ضرب أشلو للمعول مع السقوط الفجائي لقذائف (الهاون60) ملم من قبل العدو.

بعد إلحاح، أخذت المعول من مرتضى وتَفَلْتُ لعابي على باطن كفي وبدأت أضرب في الأرض. أثناء سقوط القذائف علا صياح حسن مايلر. وصل إلى داخل القناة بسرعة البرق وقال لاهثًا: الحاج أسدي آت ليتفقّد الخط!

في تلك الناحية من القناة كان مرتضى، ومن دون انتباه لأمر مجيء جعفر أسدي قائد لواء المهدي، يحفر الأرض الصلبة بنسق سريع. كنت أُجفّف عرقي بالكوفية حول عنقي حين رأيت قائد اللواء فوق رأسي.
- بارك الله بكم!

كان جليل إسلامي قائد كتيبة الفجر ومحمد رضا بديهي وكيهان بور معاون قائد الكتيبة موجودين أيضًا. تركت ما في يدي ووقفت بنحو مستقيم قائلًا: مشكور يا حاج!

مد يده ناحيتي ليصافحني. بسرعة مسحت يدي المعفرة بالتراب بسروالي الكاكي ومددتها. صافحها بشدة، شعرت أنه أحسّ بالنفطات والتورمات في باطن كفي. وحين صافح أشلو قال: ماذا حصل لأيديكم؟ دعني أرى!

كالأطفال سارعت إلى إخفاء يديّ من دون قصد خلف ظهري وقلت: لا شيء يا حاج!
 
 
 
 
77

67

النفطة والثفنة

 توجه قائد اللواء إلى جليل إسلامي قائلًا: أعطِ هذين مأذونية واصرفهما من العمل ريثما يرتاحان!


ضحك جليل إسلامي وقال: "يا حاج أسدي، إذا صرفتهما سيتحتم عليّ حينها أن أعطي الجميع إجازة للراحة، فجميع من في الكتيبة مُنْهَكون وقد مجلت1 أيديهم من العمل!".

فكّر قائد اللواء قليلًا ثم أمسك بقبضة جليل إسلامي وفتحها. وحين رأى نفطات وثفنات يده شاهدتُ الدموع في عينيه.
 

1- أي تقرّحت وتكوّن بين الجلد واللحم ماء بإصابة نار أو مشقة أو معالجة الشيء الخشن.
 
 
 
 
78

68

التلة 175

 التلة 175 -10 نيسان 1983


منتصف الليل، كنتُ منبطحًا أسفل "التلة 175" الحدودية برفقة قوات "السريّة1" بالقرب من المعبر الذي فتحه سابقًا شباب الهندسة. كانت قذائف الكاتيوشا والمدفعية تتساقط قرب الإخوة وتنشر شظاياها وكتل التراب في جميع الأرجاء. ارتددتُ على ظهري وحدقتُ للحظة في القنابل المضيئة الفضية التي كان يرميها العدو فوق رؤوسنا. مباشرة أحسستُ بنفسٍ دافئ على عنقي، استدرت على كتفي الأيمن. كان "حسن مايلر" يحدق بي بعينيه البراقتين في الظلام! 

سأل: قلندري، هل جرحت؟!
- لقد أخفتني. كلا.. كنت أحلّق في السماء!
- إذًا قل إنّك كنت في غاية الأنس!

أعلن "نداء العمليات" من جهاز السرية اللاسلكي:
- يا الله، يا الله، يا الله، إلى الأمام..

لقد أعطى العم مرتضى الأمر بالهجوم. نهضتُ، وجدت الشريط الأبيض (الفوسفوري) الحاجز ودخلتُ المعبر. ركض الجميع خلف العم مرتضى مباشرة باتجاه سفح "التلة 175". 

كانت رصاصات الدوشكا العراقية تمشّط كل المكان. أصابت قذائف الـ(B7) كومة تراب فارتدّت علينا شلالات الطين والشظايا ثم سمعتُ من بعدها صوتًا.
- أخ يا إلهي! لقد عميت!

أمامي وتحت غبار البارود والتراب كان "ناصر براري" قد وضع بندقيته (الكلاشنكوف) على الأرض وراح يعيد بأعصاب باردة
 
 
 
 
79

69

التلة 175

 تركيب قدمه الصناعية التي انفكّت من مكانها تحت الركبة. قلت: ألا تريد أي مساعدة يا ناصر؟


رفع رأسه وقال: لا يا قلبي، فديتُك!

حين وصلت إلى حقل الألغام الثاني كان إطلاق الرصاص الخطّاط قد جعل الجميع تحت مرمى النيران. كنتُ أشعر مع إطلاق رصاصات الدوشكا وكأن مطرقة تنزل فوق رأسي. لقد شلّني صوت انفجارات القذائف المفاجئ ووابل النيران داخل حقل الألغام. تفحصتُ المكان حولي. كانت الحُفَر التي يخلّفها سقوط قذائف الكاتيوشا والمدفع قد ملأت جميع الأرجاء. فورًا وقع نظري على حذاء عسكري بقيت فيه قصبة رجل أحد المجاهدين: لا بدّ أنها قدم أحد شباب الاستطلاع.. بقيتْ هناك!

زحفتُ إلى داخل إحدى الحفر التي خلفتها القذائف، ومددتُ عنقي متلصصًا. كانت نيران قذائف مدفعية العدو المضادة للطيران تتناغم مع النجوم في السماء. وكان العم مرتضى أسفل التلة يطلق قذائف الـ (B7) من على كتفه باتجاه المرتفع (175) ويتقدم: لا يصيبَنَّ العمَّ شرٌّ؟ عار ألا أمضي قُدُمًا! غير آبه بالألغام، أخفيتُ رأسي وبدأتُ زحفي على مرفقي متجهًا نحو أشلو. أثناء المسير كان فتى مجروح ببطن ممزق ينادي الإمام الحسين عليه السلام. وفي ناحية أخرى كان هناك جسدٌ متفحم عبقت منه في أنفي رائحة اللحم والجلد المحترق، وبعيدًا عنه كانت جثتان مقطعتين إربًا إربًا.

وصلتُ إلى العم مرتضى بشق الأنفس، فيما كان هو يتقدم بشباب الكتيبة. كان العراقيون يقاومون من فوق التلّة وقد جعلوا الإخوة هدفًا لقذائف الـ (B7) والرشاشات والقنابل اليدوية. 

ورغم هذا الظرف فإن التقدم لم يتوقف، وبدأنا بالصعود من سفح التلة نحو الأعلى.
 
 
 
 
80

70

التلة 175

 مع بزوغ الفجر وصلنا إلى أعلى "التلة 175". صاح أشلو: طهّروا الخنادق!


وتحت إشراف أشلو دخلنا الممرات المتعرجة وبتنا في مواجهة مباشرة مع قوات العدو. أصيب مسؤول الاتصالات (عامل الإشارة)، الفتى المرافق لمرتضى، وسقط أرضًا. وبدأ الجنود المعدودون المتبقون من قوات العدو بالتراجع، وتم تحرير "التلة 175".

مع إشراقة الصباح لم يكن قد تبقى من المئة شخص في السرية إلّا ثلاثون على قيد الحياة مع عشرة أسرى كنّا قد أسرناهم من قوات العدو. جاء العم مرتضى وأعاد تنظيم الإخوة من جديد وقال: يُحتمل بدرجة عالية أن يقوم العراقيون بهجوم مضاد لاستعادة التلّة، يجب أن نستعد للدفاع!

فتحَ جهاز اللاسلكي وطلبَ من قائد اللواء قوة دعم. كنا متعبين وعطاشى، ومهما طال انتظارنا لم يكن هناك أي خبر عن قوة الدعم. عند الساعة العاشرة صباحًا ولأجل استعادة "التلة 175" قام العراقيون بهجوم مضاد برّي وجوّي. هاجمتنا كتيبة كومندوس مسندة من المدفعية ونيران الهيلوكوبتر. نظر العم إلى "التلة 179" على يميننا وقال: لا يبدو أن شباب "السريّة2" قد تمكّنوا من السيطرة على "التلة 179"!

وكان حقًّا ما قال. نزلت علينا أول زخة رصاص (ملوّن) من جهة العدو في "التلة 179"، وتبعها انفجار تلك القذائف الحربية فوق رؤوسنا! اتصل العم بجليل إسلامي الذي كان قد ذهب مع شباب "السريّة2" للاستيلاء على "التلة 179".

- جليل، جليل، مرتضى..
- مرتضى على السمع!
 
 
 
 
81

71

التلة 175

 - في الموقع يا جليل، نحن بتنا هدفًا..

- مرتضى نحن لم نتمكن من السيطرة على 179 واضطر الشباب للتراجع!
- ما هي الأوامر؟ بتنا نتلقى النيران من جميع الجهات!
- سوف أتصل بالحاج أسدي. أعلمك بالمطلوب.

كنّا تحت مرمى النيران من ثلاثة اتجاهات، وكان العراقيون ينصبّون من دون تردّد كالجراد من الأعالي. استشهد عدة إخوة آخرين وجُرح البعض الآخر، وفي آخر الأمر اتصل جليل إسلامي.
- ما الوضع يا مرتضى؟
- ليس على ما يرام، نحتاج قوة دعم.
- مرتضى، جناحاك الأيسر والأيمن لم يتمكنا من السيطرة على المواقع المطلوبة، قال الحاج أسدي انسحب مع شبابك بحذر! مفهوم؟ ما هي خطتك من أجل الانسحاب؟
- ولكن بهذه الطريقة سوف نترك جثث الشهداء خلفنا!
- ليس أمامنا حلٌّ آخر يا مرتضى، تراجع بالأحياء معك.

عند الظهر قسّم مرتضى الإخوة المتبقين إلى مجموعتين وقال: المجموعة الأولى تُطلق النيران على العدو حتى تتمكّن المجموعة الثانية من إخراج الجرحى!

بقيتُ أنا ومرتضى في المجموعة الأولى وتولت المجموعة الثانية عملية التراجع بالجرحى. فُتحت الجبهة واستمر إطلاق النيران حتى تمكنوا من النزول إلى أسفل التلة وبعدها وصلوا إلى حقل الألغام. كان مرتضى قد وضع جثث عشرين شهيدًا من أفراد سريته في مكان مناسب من التلّة وفصل قلاداتهم، وبدأنا بعيون غرقى بالدموع عملية التراجع.
 
 
 
 
 
 
82

72

التلة 175

 وحيث لم ترافقنا قوة إسناد ناري فقد كان تراجع مجموعتنا صعبًا. كان علينا أن ندخل حقل الألغام في وضح النهار وأمام أعين الأعداء. لقد كان حقل الألغام بالنسبة إلينا بمنزلة كعب آخيل وعين اسفنديار1.


داخل حقل الألغام كانت نيران العراقيين المباشرة تنهال علينا من كل جانب، لقد تحوّلنا إلى أهدافٍ للرماية! تحت وابل النيران كنت أنتظر حصتي من الرصاص. لفت انتباهي صوتُ مرتضى: لا تتحلّقوا حولي.. انجوا بحياتكم.. اسمعوني.. أنا لا أسامحكم إن لم تبتعدوا من حولي. 

بعد جهد جهيد تمكّنت من الاقتراب من مرتضى. كان المشهد الذي تراءى أمامي غير قابل للتصديق! في تلك الأوضاع المحتدمة والقتل الجاري كان الإخوة المتبقّون قد تحلّقوا كالفراشات حول مرتضى وراحوا يتحركون خطوة خطوة معه حتى يمنعوا عنه الرصاص!
- لا تصيبنّ العمّ رصاصة وفينا عرق يجري!

كان مرتضى يتعذّب. يضج وينوح. يبكي ويترجى الإخوة أن يتفرقوا عنه: أقسم عليكم بروح الإمام أن تبتعدوا..

وكان الإخوة يذرفون الدمع ويطلقون النار باتجاه العراقيين وقد اشتدت عزيمتهم وأحكموا جمعهم أكثر حول مرتضى حفظًا له وهم يصرخون: .. كلنا فداء لـلعم مرتضى.. 

بشكل تلقائي صرت جزءًا من ذلك الدرع البشري. وحين تجاوزنا حقل الألغام وخرجنا من مرمى النيران لم يكن قد تبقّى سالمًا منّا إلّا العم مرتضى وأنا وشخصان آخران.
 

1- يراجع الملحق: كعب آخيل.
 
 
 
83

73

التلة 175

 عندما وصلنا إلى ساترنا الترابي لم يكن مرتضى ليهدأ أبدًا. كان يتنقل من مكان إلى مكان بحثًا عن جليل إسلامي قائد الكتيبة، يريد أن يرجع ليلًا ويعيد جثث أفراد سريته. لكنّ الخبر وصل: جثة كيان بور معاون قائد كتيبة الفجر بقيت أيضًا على "التلة 179"، وقد أُصيب كلٌّ من جليل إسلامي ومحمد رضا بديهي.

 

 

84


74

مطر الأقاحي

 مطر الأقاحي - 10 أيار 1983


﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ...  إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا *  عُرُبًا أَتْرَابًا *  لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ *  ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ *  وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ *  وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ... فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾.

- سلام ابنة خالتي!

أغلقت المصحف، قبّلته واستدرتُ بسرعة ناحية مدخل الغرفة رقم 120. كان مرتضى، بعينين دامعتين ورأس ووجه معفّرين بالتراب وشعر رأس قصير، واقفًا داخل إطار باب الغرفة ينتظرني حتى أنهي قراءة سورة الواقعة. تبادلنا النظرات وتلعثم لساني.
- يا إلهي! .. مـ..رتـ..ض...ـى!

مسح بيده على لحيته الشعثاء.
- ماذا يا بنت الخالة، أرأيت جِنًّا!

حين تمالكت نفسي مسحتُ دموعي وقلت: الحمد لله! كنتَ واقفًا تستمع أيها الماكر!
- كنت أظن أنك تقرأين سورة الواقعة ليلًا!
- الليل له عمله. عندما وصلتُ إلى أصحاب اليمين وصلتَ أنت، ماذا يعني هذا.. مرتضى؟

شبك أصابع كلتا يديه خلف رأسه، فكر وأخذ نفسًا عميقًا. حدقتُ في وجهه الأغبر. تمنيتُ أن أبقى أنظر إليه حتى قيام الساعة. وضع يده أمام وجهي وحرّكها مرات وقال: استغرقتِ في الهلوسة؟ ألا ترين إنسانًا أمامك؟
 
 
 
 
85

75

مطر الأقاحي

 مسحتُ بيدي على رأسه المعفّر ومسحتُ عينيّ بها.

- وهذا كحل عيني.. أليس هناك وقت للاستحمام في الجبهة! 

تبسّم.
- كيف لا.. هناك حديقة عامة وسينما وكأننا في الكويت! تقرأين رسالة الإمام العملية أيضًا؟
- نعم، صحيح، تعال واسألني!

حين جلس ذهبتُ وأشعلتُ مدفأة الكاز في زاوية الغرفة 110 ووضعتُ إبريق الماء عليها.

كان الوقت يميل نحو الغروب. ضغطت مفتاح المصباح الدائري المعلّق بالسقف. عدتُ ووضعت الشاي في الإبريق وقدّمته لمرتضى. شرب الشاي وقال: سلمت يداك! لقد قرّر اللواء الانتقال إلى غرب البلاد، إلى كردستان!
- لماذا؟!
- مهمة جديدة!
- وهل ينبغي أن أحزم أمتعتي في حقيبة!
- لا يا آمنة، هذه المرة يجب أن تعودي إلى فسا.

أطلقتُ العنان لغضبي وقاطعته قائلة: لن أعود إلى جليان إلّا معك!
- يا بنت خالتي بقية النساء أيضًا سيرجعن.
- لا شأن لي بهنّ! أذهب معك إلى الغرب وإن لم يكن الأمر ممكنًا سأبقى أنتظرك هنا!
- تبقين وحيدة!
- ههنا أكثر راحة لي من جليان. هناك عليّ أن أجلس وأغرق في
 
 
 
 
86

76

مطر الأقاحي

 الكآبة والحزن.

- كما تفضّلين!
- مرتضى!
- يا روح مرتضى!
- ألا يمكن أن تتأمّن غرفة هناك كما هنا!
- لا يا بنت خالتي، لا يوجد فندق هناك!

ضحكت.
- كيف هي الكويت؟
- منطقة كردستان فيها معارضو الثورة، وهناك حضور للحزبين الكرديين "الكومله" و"الديمقراطي"1، وهم يطعنون بالخنجر في الظهر. ليست مكانًا مناسبًا للأُسَر.

ضحك وواصل كلامه: بالطبع هناك الثلج والمطر والأقاحي الجبلية.. فكردستان جميلة!
- أنا أعشق الأقحوان والخطر!
- لقد صدقتُكِ القول. مجيئك إلى هناك سيبقيني قلقًا عليك!
- إذًا أنتظرك هنا!

ظهيرة اليوم التالي دخل مرتضى بهدوء وصمت إلى الغرفة 110. رسم ابتسامة على شفتيه. سرّح بالمشط الأزرق في يده شعر رأسه الذي تمّ تقصيره للتوّ، ثم سرّح شعر لحيته. 
- إذا كنّا عبئًا فنحن راحلون إذا كنّا قساةً فنحن راحلون!

خنقتني الغصة. ودّعني وخرج من الغرفة. حبستُ دموعي. كدتُ
 

1- يراجع ملحق (كومله).
 
 
 
87

77

مطر الأقاحي

 أنفجر من الداخل! ذهبتُ خلف نافذتي الصغيرة وأزحتُ ستارتها البنّية ورحتُ أحدّق في الخارج. كان مرتضى ومحمود ستوده قد صارا داخل موقف الفندق. 

- سلام، عذرًا على الإزعاج.

استدرت. كانت بروين زوجة ستوده وسمية ابنتها الصغيرة قد صارتا داخل الغرفة. تقدمتا بعجل نحو النافذة. قالت بروين: اعذريني لقد أفقدَتْني سمية صوابي، تقول إنها تريد أن تشاهد من خلف النافذة والدها وهو يذهب. وأنت تعلمين أن نافذتنا تطلّ على كارون!
- أهلًا وسهلًا بكما!

تقدمتُ واحتضنتُ سمية، وصرنا أنا وبروين نتأمل زوجينا اللذين ركبا في سيارة التويوتا الرمادية اللون.

وكأن مرتضى كان يعلم حين تحركت السيارة أنني أراقبه من خلف النافذة. ألقى نظرة على النافذة ورفع إصبعيه راسمًا علامة النصر نحوي. مرّت السيارة بجانب النخلات المغبرّة لفندق استرا ثم اختفت عن ناظري. همستْ بروين وقد خنقتها الغصة: آمنة هل سنراهما مرة أخرى!

ارتجفتْ شفتاي وانفجرتُ بكاءً.
 
 
 
 
88

78

عمو زنجير باف

 "عمو زنجير باف"1- 15 أيار 1983


عند الظهيرة، بعد تسلّق خمسة كيلومترات محمّلين بالعتاد في جبال بيرانشهر، وصلنا إلى داخل القاعدة منهكين وبلا رمق. صاح العم مرتضى الذي كان أكثرنا نشاطًا وهمة: من المتعب؟

صرخنا في الكتيبة جميعًا بصوت واحد: العدو!
من الأبتر؟ أمريكا!
الروحية؟ عالية!
وحين سكت العمّ، انطلق "مش موسى"، مسؤول الدعم:
البطون؟ خالية!
التعبوي؟ مقاتل!
حزب الله؟ مقاتل!
أمريكا؟ بائسة!
السوفياتية2؟ بائدة!
إسرائيل؟ زائلة! 

في نهاية التدريب اليومي، لم يبقَ فينا رمق أو حناجر، ولكنّ خطوات العمّ مرتضى الشامخة والثابتة كانت تبعث فينا جميعًا الحياة من جديد. من ناحية أخرى كنا مسرورين أنّ هجومًا جديدًا يوشك أن يشنّ وسوف نغير على العدو البعثي. ابتسم العم ويده على وسطه وقال
 

1- يراجع ملحق: العم زنجبير باف (العم رابط السلسلة).
2- اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية أو ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي سابقًا.
 
 
 
89

79

عمو زنجير باف

 بحزم: جلوس!


الخوذات على الرؤوس والحقائب والأغطية على الظهور، والأسلحة في الأيدي، جلسنا متناسقين وصرخنا: يا حسين!
- قف!

وقفنا جميعًا وهتفنا: يا علي!.
كنا مسرورين من انتهاء تدريب هذا اليوم المنهك، لكن صوت العم فجأة خرّب علينا فرحتنا.
- اليوم نريد أن نمشي ضعف المسير اليومي!

جمدت تعابير البعض وصرنا نتبادل النظرات فيما بيننا. قال أحدهم من خلفي: لقد مجلت أقدامنا!

كثر التهامس بين الأفراد. رفع العم مرتضى يده عاليًا.
- التسلّق المضاعف اليوم ليس إلزاميًا! كلّ من لديه عذر يمكنه الخروج من الصف والذهاب للاستراحة في خيمته!

كانت الشمس في كبد السماء. زادت الهمهمات. صرنا نحدّق في بعضنا بعضًا الواحد تلو الآخر. كنا مستعدين أن نضحّي بأرواحنا لأجل مرتضى، ولكن في ظلّ هذا التعب المضني، كان من المستحيل أن نتحمّل مسيرًا مجهدًا آخر! قال جليل إسلامي الذي كان قد تنازل عن قيادة كتيبة الفجر لمرتضى تطوعًا والتحق هو في ركبه: كل من لديه اعتراض فليخرج من الرتل.. ليذهب للصلاة وتناول طعام الغداء!

توانيت متردّدًا وانتظرت. طال الوقت حتى خرج أول شخص من الرتل. تبعه عدد آخر. من بين ما يفوق الثلاثمئة شخص في الكتيبة كان لا يزال هناك مئتان. أشار العمّ إلى إسلامي فأوضح الأخير مشيرًا بإصبعه إلى المرتفع والوادي الرماديّين أمامنا اللذين كنا جلنا
 
 
 
 
 
90

80

عمو زنجير باف

فيهما صباحًا.
- ليس الأمر مزاحًا، علينا أن نذهب إلى هناك مرة أخرى!

توقف قليلًا، وتراجع خمسون أو ستون شخصًا آخر. تقدّم العمّ بحيث يراه الجميع.
- أما من أحد آخر يريد أن يذهب ليستريح! أكرّر مرة أخرى، ليس الأمر إجباريًّا، والوقت ليس ليلة عاشوراء، كما إنّني والعياذ بالله لست الإمام الحسين عليه السلام!

أعطى كلامه الحجة للبعض وانسحب عدد أكبر من الرتل فلم يتبقّ إلا سبعون شخصًا. هزّ العم يده مرخّصًا لهم في الانسحاب وقال للبقية: امشوا خلفي في صف واحد!

بدأ المزاح والضحك، وأمسك كل واحد بالحزام العسكري لمن يتقدمه وانطلقنا.

وصار حسن مايلر ينشد أنشودة: "عمو زنجير باف"!

ونحن بدورنا صرنا جميعا نمطّ حروف كلمة نعم خلفه ونقول:نعم!
- هل ربطتَ سلسلتي؟ نعم!
- هل وضعتها خلف الجبل؟ نعم!
- جاء العم! ماذا جلب؟
- سندويش وعصير! كل وتعال.

انعطفت الكتيبة التي تقلصت إلى سرية خلف أول مبنى في القاعدة.
- بأي صوت؟ الهاون.. الهاون..
كُپ كُپ كُپ.. كُپ..

أثناء المسير كانت جفوننا قد أطبقت من كثرة الضحك المكتوم،
 
 
 
 
 
91

81

عمو زنجير باف

 وكنا نرتجف من شدة الضغط الذي مارسناه على أنفسنا! ذهب بنا محمد رضا بديهي، المعاون الثاني لقائد الكتيبة، مباشرة إلى باب خيمة الدعم الخاصة بالكتيبة وأعطى الأمر بالتوقف: اجلسوا!


جاء العم وجليل يضحكان. كانت ضحكات صامتة سبّبها الإنهاك الذي أضنى أجسامنا. قال العم: قوّاكم الله، وعافاكم دومًا!

نادى "مش موسى"، مسؤول الدعم في الكتيبة فظهر مع أشخاص عدة يحملون في أيديهم صندوقًا من الثلج.
- هذه مكافأة إيثاركم!

أخرج "مش موسى" ذو الشعر الرمادي من داخل الصندوق المطاطي علب عصير، وصار يوزّعها على الإخوة ويقول ما بين الجد والمزاح: خسارة أن يضيع هذا العصير المنعش والصافي في بطونكم!

وُزّعت علب العصير وكأن "مش موسى" كان هو الذي تمّ توزيعه! في النهاية قال العم: لم يكن هناك عدد كاف من علب العصير لكل أفراد الكتيبة، فكان لا بدّ من أن أختبركم، الآن أكملوا المسير بالعودة إلى خيمتكم واستريحوا!

شربنا العصير البارد دفعة واحدة، وعدنا ننشد "عمو زنجير باف" من جديد حتى خيام الاستراحة.
- "عمو زنجير باف".. نعم..
 
 
 
 
 
 
92

82

حوالة البغل

 حوالة البغل 31 أيار 1983م


صباحًا، عندما ركبت الجيب العسكري برفقة صالح أسدي وجلال كوشا قاصدين ثكنة الجيش في بيرانشهر، ظهر مرتضى أمام السيارة بغتة.
- حاج كاظم.. إلى أين تذهب بهذه السرعة؟

رفعت إصبعيّ عاليًا مشيرًا إلى علامة النصر.
- ينقصُنا بَغلان لأجل الهجوم، ونحن ذاهبون لاقتراضهما من الإخوة في الجيش!
- حاج كاظم حقيقت، بعد إذنك أريد أن آتي.

قفز صالح من المقعد الأمامي للجيب المكشوف إلى المقعد الخلفي وأخلى المكان. جلس مرتضى بجانبي، وضع كفّيه خلف رأسه، واتّكأ على الكرسي.

شهر التدريب المكثّف هذا قد أجهدني. أنا خجلٌ من شباب كتيبتي! لقد استنفدوا وُسعهم.

ضغطت على دوّاسة البنزين وخرجنا من المقر. كانت الطريق الجبلية شديدة الخضرة وكثيرة التعرّج، وكان النسيم البارد يلفحُ وجهي. رأيتُ جنودًا بأيديهم بنادق (G3) وقد تموضعوا كلَّ مئة متر فوق التلال ضمن مجموعات. لوّحت لأحدهم بيدي. قال مرتضى: "حاج كاظم، هل تعلم كم عدد الجنود الذين يسقطون لأجل حماية طرقات كردستان حاليًا!".
- أهلك الله أعداء الثورة الذين استحالوا عملاء ومرتزقة لصدام!

غيّر صالح موضوع الكلام.
 
 
 
 
 
93

83

حوالة البغل

 هل تعلمون أنّ قيمة البغل في الجبال أغلى من "التويوتا!".


استدرت قليلًا ونظرت إليه: "صالح، من سيتولى ركوب البغال؟".
- أنا، أعرف ركوب البغل.

قال جلال: "هذا رائع!".

قلت: "جلال، وماذا عنك؟".
- في الحقيقة في أيام طفولتي رفسني حمارٌ تحت عيني.. وهذا مكان الضربة! 

نظرتُ إليه من خلال المرآة الأمامية وقلت: "يا فصيح، ليس الحمار، البغل!".
- وما الفرق، كلاهما يرفس!
- ما إن تركبه، سوف تبتهج، وأعدك أنّك سوف تقع في غرامه!
- وقعتُ في الغرام مرّة وكانت كافية للعمر كله! ولكن برأيي، الحياة بلا غرام كالسندويش بلا مرطبات.

قال مرتضى: "تذكّر يا حاج كاظم ما إن نرجع إلى الأهواز علينا أن نُبلِّغ زوجة الحاج!".
- عم مرتضى، لا توقع الخلاف بيني وبين زوجتي!

رمى جلال الكرة في ملعب صالح أسدي.
- صالح، كم غيارًا للسرعة لدى البغل؟

وضع صالح يده على صدره وتحسّس أضلاعه.
- هذا الغيار1 لن أُخبرك عنه!
 

1- في النص الفارسي لعب على الألفاظ، حيث استخدمت كلمة "دنده" كمشترك لفظي بمعنى غيار سرعة مرة، والضلع مرة أخرى.
 
 
 
 
94

84

حوالة البغل

 قلت: جلال، يجب أن تكون رفيقًا بالبغل، أن تُعايشه.. علينا أن نذهب بواسطة هذه البغال إلى عمق 30 كلم داخل الأراضي العراقية!


قال مرتضى: بدون هذه البغال، لن نصمد حتى يومًا واحدًا!

أشار جلال بإصبعه إلى جانب الطريق.
- ما هذا يا حاج كاظم!

التفتُّ إلى سيارة تويوتا عسكرية مدمّرة يتصاعد منها الدّخان الأسود!
- لم تكن هنا البارحة!

قال مرتضى: لقد كمن لها الـ "كومله" البارحة، استشهد على الأثر اثنان من شباب التعبئة في اللواء وقاموا بقطع رأس شابٍّ آخر! 
لمحتُ إلى جوار السيّارة المحروقة لوحة مخطوطة.

"يا كُتّاب التاريخ! فليُكسَر القلم الذي لا يكتب عمّا جرى على الخميني وأصحابه".

تنهّد مرتضى تنهيدة طويلة.
- إلهي.. متى يحينُ الوقت الذي نعبر فيه الحدود ونحرق مقر هؤلاء!

شاهدتُ الدمع في عينيّ مرتضى. أَمَلْتُ مِقوَد السيّارة وانعطفتُ مبتعدًا عن المنطقة الجبلية ودخلتُ في السهل.

حين شاهدتُ الجدران العالية لثكنة الجيش خففت من سرعة السيارة وقلت: "مع الاعتذار من العم، للعسكر في الجيش نظامهم، أرجو أن تلزموا الآداب لعدّة ساعات!".

دُستُ على الفرامل أمام باب التفتيش وأبرزتُ للجنديّ المسلّح تصريح المرور وورقة الحوالة، فأمسكها وراح يتأمّل فيها. لكمني جلال
 
 
 
 
95

85

حوالة البغل

 على جانبي.

- لقد حمل الورقة بالمقلوب! 

دفعتُ صالح بهدوء على جانبه:
قلتُ لك، أحسنوا التصرف!

ظلّ الجندي محتارًا في الأوراق المقلوبة التي يحملها بين يديه وقال في نهاية المطاف:
- ماذا لديكم؟

قال صالح: جنابكم، يجب أن ندخل لنستلم الحمار.
أخذ الجندي نفسًا عميقًا. رمقنا بنظرة حادة وهزّ رأسه.
- أعلم ذلك!

أعاد إلينا تصريح المرور والحوالة وأشار بإصبعه إلى إسطبلٍ كبير.
- اذهبوا إلى قسم البغال!
- شكرًا جنابكم!

ما إن تحرّكتُ، خرج راكضًا من المرحاض خلف حجرة التفتيش جندي آخر وبيده إبريق بلاستيكي أحمر! نظر إلى سيارتنا. وضع الإبريق أرضًا. شدّ حزام وسطه وصاح بالشرطي: من كان هؤلاء.. ألم أقل لك.. لا تعط إذنًا بالمرور لأحدٍ حتى أرجع! يا عديم الفهم..

ضغطت على دوّاسة البنزين وتوقّفت أمام الإسطبل الكبير. استلمنا البغلين ورحنا نتأمل فيهما. لم يمتلك أيٌّ منّا جرأة ركوب أيّ منهما. قال مرتضى: "أنا سأُجرّب!".

قال جلال كوشا: "لا يا عم .. وهل متنا نحن؟".

ركب جلال البغل بسرعة. انحنى. وأمسك لجامه.
 
 
 
 
 
96

86

حوالة البغل

 - لا لا لا لـ.. لست سيّئًا.. الأمر سهـ.. 


جَمُدت الكلمات في فم جلال واهتزّت الأرض من تحت قدميه. تذكّرتُ أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) وراكبي الحمير الوحشية ورفسات الأحصنة!
- يااااااا أماااااه.. يـ يا إمام شاه تشراغ1.. لقد أ.. أ..أخطأت..

شرع البغل يهُزّ جلال كمثل مادة هلامية وانطلق يعدو! وكان جلال كمثل القُراد2 ملتصقًا بظهر البغل المسكين! أما البقية، فلم نتمكن من الحركة أو الكلام من شدّة الضحك اللاإرادي. وما إن أفقنا من الصدمة، حتى انطلقنا في أثر البغل! الحيوان يعدو ونحن نعدو خلفه! اتجه البغل نحو حجرات الإسطبل وأخذ يدخل الواحدة ليخرج من الأخرى وهو يرفس ويركل. ساد الهرج والمرج. كان الجنود والضّباط الذين تجمعوا جراء صراخ جلال وصياحه قد وضعوا أيديهم على بطونهم من شدة الضحك المتواصل.

دخل البغل وجلال إلى كراج تغيير الزيت وبعد العدو لمسافةٍ تزحلق البغل وتوقّفا. كشفنا على البغل الذي كان يعرج في حركته وأدركنا أنّ عينه اليسرى كانت منطفئة!

بدّلنا البغل الأعرج والأعمى. هذه المرة قال صالح "بسم الله" وركب البغل الجديد. خائفًا ومرتجفًا تحرك صالح ما أمكنه على مهل. زفر الحيوان وهزّ قليلًا. حفّ الأرض برجله الأمامية ثم فجأة قلع صالح من مكانه بسرعة مذهلة وفرّ به مثل الريح! قلت: "اللهم
 
 

1- لقب يطلقه أهل شيراز على السيد أحمد بن الامام موسى الكاظم (عليه السلام)، المدفون في شيراز وله ضريح ومزار مهم فيها.
2- القراد: دويبة متطفلة من المفصليات ذات أربع أزواج من الأرجل تعيش على الدواب حيث تلتصق بها وتمتص دمها.
 
 
 
 
97

87

حوالة البغل

 الْطُف بصالح!".


قفز مرتضى خلف مِقود الجيب.
- اركبوا!

لحِقْنا البغلَ الهارب بالسيّارة! أمام مقرّ المراقبة في الثكنة كان الجنديان لا يزالان يتشاجران بشأن فتح الطريق أمامنا! تجاوزناهما وتواصلت عملية التعقّب والفرار خارج الثكنة. كان صالح محنيًّا وقد أمسك برقبة البغل بكلتا يديه بإحكام. وكان البغل يعدو بسرعة نحو بيرانشهر. أكثر من مرّة ظلّ صالح معلّقًا بالبغل من جهة واحدة فيما كانت قدماه تشحطان على الأرض، كأنّما كان قد التصق برقبة البغل! قلت: "مرتضى، تجاوز البغل وسدّ عليه الطريق!".

ضغط مرتضى على دوّاسة البنزين وصِرنا أقرب من البغل الجامح. قلت: "يا عم.. لقد اصطدمنا به، خُذ يسارك.. احتياطًا..".

وصل البغل إلى شوارع بيرانشهر واستمرت الملاحقة والفرار أمام أعين الناس الضاحكة في الأزقة والسوق. في نهاية المطاف انعطف الحيوانُ داخلَ زقاقٍ وسلك مرتضى طريقًا مختصرة ليقطع الطريق على البغل. عندما وصلنا إليهما كان صالح مرميًّا على الأرض ملطّخًا بالدماء وتغطي الجراح جميع أنحاء بدنه، والبغل فوق رأسه يلهث ويدُقّ الأرض بحافره!
 
 
 
 
 
 
98

88

الأخدود

 الأخدود1 - تسعة 5 حزيران 1983


- صالح يجب علينا أن نستطلع كل معسكر العدو بدقة.

أكد "كاظم حقيقت" مسؤول المعلومات العسكرية للواء المهدي مرات عدة: يا صالح، يجب إرشاد مرتضى إلى المنطقة كأحد أفراد فريق المعلومات. انتبه له! إن أصابه أدنى مكروه فإن الحاج أسدي سيسلخ جلدنا!

مساءً، شكلنا فريق استطلاع مؤلّفًا من ثمانية عشر شخصًا ونزلنا من مرتفع قمطرة الحدودي العالي مرتدين اللباس الكردي نحو وادي الحاج عمران في عمق أرض العراق.

استغرق الأمر أربعًا وعشرين ساعة حتى ابتعدنا عن العدو بالالتفاف حول محور منطقة "الحاج إبراهيم"، ووصلنا إلى معسكر أكراد الحزب الوطني الكردستاني المعارض في العراق. 

عندما دخلنا إلى الشيار رقم تسعة، حضر لاستقبالنا الأخ إدريس من قادة الحزب الوطني لكردستان العراق. همس كاظم في أذن العم مرتضى: الأخ إدريس هو أخو مسعود البارزاني، رئيس الحزب الوطني لكردستان العراق! وهو إنسان مميز!

سأل مرتضى متعجبًا: ابن الملا مصطفى البارزاني المعروف؟!
- نعم.. الأخ إدريس أكثر تحصيلًا من أخيه مسعود. لقد درس في أوروبا، ويتقن لغتين أجنبيتين، وهو أيضًا حافظ لكلّ القرآن!
- حافظ لكلّ القرآن؟
 
 

1- (شيار نه)، أخدود أو منخفض تسعة.
 
 
 
99

89

الأخدود

 بعد ساعة شدّ صوت تلاوة مرتضى للقرآن الأخ إدريس إلى جوار النار.


﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ...  فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ *  وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ *  لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ *  إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ *  وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ﴾.

في منتصف العمر وبابتسامة على الشفتين اقترب الأخ إدريس ووضع سلاحه الكلاشينكوف الأخمس بجوار النار. فتل شاربه الكث والأسود وتحت انعكاس ضوء شعل النيران أمعن النظر في مرتضى الذي كان يقرأ سورة الواقعة غيبًا.

﴿... قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *  لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *  فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾.

عندما أتم مرتضى قراءة القرآن قال الأخ إدريس: لقد سمعت الكثير عن رجال الحرس! وهذه فرصة جيدة لأفهم لماذا وضع صدام جائزة بقيمة خمسين ألف تومان مقابل رأس كل واحد منكم!

سكت قليلًا ثم تابع: يقولون إنّ كل واحد منكم يقاتل بمقدار عشرة من البشمركة1! كم كنت أتمنى أن أحظى بكتيبة منكم!

قال العم مرتضى ضاحكًا: يا أخ إدريس، تحمّلنا نحن عدة أيام، وإن لم تندم فكتيبة الفجر مباركة عليك!
 
 

1- البشمركة أو الفدائيون كما تعني الكلمة بالعربية، وهي ترمز إلى القوات المسلحة الكردية الموجودة في شمال العراق.
 
 
 
 
100

90

الأخدود

 هز الأخ إدريس رأسه وقال متأملًا: لا يبدو من قوامك النحيل وعظامك البارزة.. أنك تتمتع بالقوة! وضع مرتضى يده على قلبه:

- يا أخ إدريس قوة أفراد الحرس ها هنا، وليس في عضدهم!

حدق الأخ إدريس في وجه مرتضى.
- لا بدّ أنك القائد.. أليس كذلك؟

تسمّرنا في مكاننا. سأل كاظم: أتعلم بالغيب يا أخ إدريس؟
- كلا.. العينان، القلب، تلاوة هذا الرجل لسورة الواقعة، تنطق بذلك. فلندع ذلك جانبًا..

أشار إلى الرجل الضخم المتوسط العمر إلى يمينه.
- الأخ ملازم علي. الضابط الفارّ من الجيش العراقي، ابن بلدكم ومن بلوشستان! يعرف المنطقة مثل كفّ يده!

بعد ساعات من الاستراحة، بدأنا برفقة ملازم علي وشخصين كرديّين باستطلاع المواقع الموجودة فوق المرتفع. شيئًا فشيئًا رمّمنا الخرائط الناقصة للمحاور ووصلنا إلى مرحلة كان يجب علينا فيها أن نذهب لنشاهد عن قرب الموانع الدفاعية للمواقع العراقية ونعاينها. قلت للأخ ملازم علي: هل تأتي معنا؟ 
- إلى أين يا أخ صالح؟
- قريبًا من المواقع؟!

عقد الأخ ملازم علي حاجبيه الكثيفين وخزّر عينيه.
- أجُننت يا أخ صالح؟ هل تريد أن تقتل نفسك!

قلت ببرودة أعصاب: لدينا تجربة. لن تحدث أي مشكلة!
- لا أستطيع أن آذن لكم. قم بالاستطلاع من هذه المسافة!
 
 
 
 
 
101

91

الأخدود

 - يجب أن نذهب ونعاين عن قرب! أن ندرس بدقة موانع الأسلاك الشائكة وحقل الألغام والمحور.


مسح على شاربه الرمادي الكثيف.
- لا علاقة لي بذلك. اجلس فوق المرتفع واستطلع بواسطة المنظار! 

ومهما قلت، لم ينثن عن قراره. واصل قول لا بشكل متلاحق. ضحك مرتضى وقال: لا تلوموه، هم يعيشون في الأخدود رقم تسعة1!

قلت للأخ ملازم علي محاولًا للمرة الأخيرة: سنذهب أتى من أتى أم بقي من بقي. 

زمجر ملازم علي قائلًا: أنتم أفراد الحرس مجانين. لا تشيخون أبدًا!
- لا نشيخ أبدًا، هذا أمر حسن جدًّا!
- قصدي أنّكم تُقتلون في سنّ الشباب!

ضحكنا وتركنا الأكراد المعارضين وانصرفنا إلى العمل. من خلال الاستطلاع الأول التفتنا إلى أنّه لم تشيّد حقول ألغام حول المواقع العراقية، واستطعنا أن نتقدم حتى مواضع هوائيات إرسال أجهزة اللاسلكي في مواقع العدو!
 

1- في النص الفارسي لعب على الكلمات، فكلمة (نَه) تعني لا، وكلمة (نُه) تعني تسعة، وفي اللغة المحكية يتشابهان حتى يصيرا كالمشترك اللفظي، والمعنى المقصود في النص هو أن كثرة قوله (نه/كلا) ترجع إلى عيشه في الاخدود (نه/تسعة).
 
 
 
102

92

إبراهيم الزّمِك

 إبراهيم الزّمِك1 10 حزيران 1983م


عند الغروب جاءني إسماعيل توكّلي.
- أخ صالح، الشباب مستعدّون للتحرك! 
- أين هم الآن؟
- في دشمة2 الاستطلاع؟

أشرت بإصبعي إلى سفح مرتفع القمطرة وقلت: "أخ إسماعيل، إلى حين ذهابي عند كاظم لأستوضح مهمّة الليلة، استلم أنت جهاز اللاسلكي وأحضر الإخوة إلى أسفل القمطرة!".

استلمتُ برنامج استطلاع الليلة من كاظم حقيقت وذهبتُ إلى مجموعة الاستطلاع. كانوا قد تجمّعوا كلُّهم باللباس الكُردي ومعهم المعدّات العسكرية التي يحملها المغاوير. وطبقًا لمعظم الأوقات كان إسماعيل يُشاكس إبراهيم كاركر، الفتى الصغير الجثّة في مجموعة الاستطلاع.

- إبراهيم الزّمِكّ، طلبوا ألا نأخذ معنا الليلة للاستطلاع من كان تحت الخامسة عشرة من العمر!
- احلف بحياتك يا إسماعيل.
- بحياتيش يا برهوم3!
 

1- الزّمكة: القصير القامة الصغير الحجم، باللغة المحكية "الزّمكّ".
2- يراجع ملحق الكتاب (الدشمة). 
3- في الفارسية استخدمت كلمة "ابرام" بدل "برهوم" والمقصود هو اسم الدلال المتداول لاسم إبراهيم.
 
 
 
 
103

93

إبراهيم الزّمِك

 - وضعت حرف شينٍ في آخر قَسَمِكَ، أرأيتَ، أنت تكذب؟

- إبراهيم، إن تُعطِني بعض علب الكرز (الكمبوت) قد أتوسّط لك!
- ومن أين آتي بالفاكهة المعلّبة؟!
- اختفت في لباسك الكُردي يا إبراهيم الزّمكّ!
أحلف عليك بأبيك ألا تناديني بإبراهيم الزّمكّ!

حين لمحني قاسم معماري قال: "سكوت يا شباب لقد جاء مسؤوله!". تراجع الشباب وعلّقوا أنظارهم عليّ. قلت: "لقد جَمّعت الناس حولك مجدّدًا يا إسماعيل. فلنذهب لقد تأخّرنا!".

في ظلمة الليل عَبرنا من بين المتخفض (الاخدود) ومرتفعات إيران الحدودية ودخلنا أرض العراق. راح إبراهيم كاركر، وكأنّه حمل مُزاح اسماعيل على محمل الجدّ، يتقمّز1 في مشيته كالوعل2 أمامنا.

- يا إبراهيم الزّمِك إذا استمررت في ركضك هكذا فسنضطر في نهاية المطاف إلى أن نحملك على ظهرنا! لا تركض يا ولد..
- أنت الولد يا أخ إسماعيل!
- انتبه. ستصطدم فجأة بكمين العراقيين!
أشرتُ إلى المجموعة.
- يا شباب من الآن فصاعدًا صمتٌ مطلق!

سُرعان ما واجهنا الرّعاة الأكراد المحليين وقطعان الغنم العائدة من الجبال إلى القرى. اختفينا خلف الصخور الكبيرة حتى يعبروا.
 

1- تقمّز في مشيته: هرجل في خطوه، لم يسلك في مشيه مسلك النظام وكان بعيد الخطو واسعه. 
2- الوعل: تيس الجبل، نوع من المعز الجبلية.
 
 
 
 
104

94

إبراهيم الزّمِك

 دخلنا في حقل قمحٍ كبير وبدأنا بصعود المرتفع العالي. 


عند الساعة العاشرة ليلًا وصلنا إلى قرية "زينو" داخل منطقة الحاج عمران في العراق. ناديت إسماعيل توكّلي: "إسماعيل، يجب أن يدخل أحدنا قرية زينو ويُعلم الأخ قادر بشأن الانضمام إلينا".
- أنا أذهب يا سيد أسدي!

كان إبراهيم الزّمِك. قلت: يجب أن يذهب أحدٌ على معرفةٍ بالقرية!

يا أخ صالح! لقد ذهبتُ عدّة مراتٍ مع الأخ قادر حتى باب منزله!

استدرتُ ونظرتُ إلى البقيّة الذين كانوا في حال اضطرابٍ وتشوّش. قال إسماعيل ما بين الجدّ والمزاح: إبراهيم هذا هو وديعتي، وإن أصابه مكروهٌ فإنّ والدته ستطردني من جَهرَم. أنا أذهب.
- كن حذرًا يا إسماعيل! لا ينبغي أن يراك أحد.

ذهب إسماعيل توكّلي وسرعان ما عاد مع الأخ قادر. قلت: عُدتَ سريعًا يا إسماعيل؟ هل رآك أحد؟
- كلا يا أخ صالح! حتى إنّني لم أطرق الباب لِئلّا ينتبه أحد. لقد قفزتُ من فوق جدار باحة منزل الأخ قادر وطرقتُ باب غرفته من الخلف.

التفتَ إلى الأخ قادر، المقاتل الكردي البارزاني، وقال: "بالتأكيد بعد إذن الأخ قادر!".

فَتّل الأخ قادر، المربوع القامة والذي كان يرتدي اللباس الكردي الأسود، شاربه وقال: الضيف حبيب الله! وهو أنت! والآن إلى أين ينبغي أن نذهب؟
- باتجاه النهر!
 
 
 
 
105

95

إبراهيم الزّمِك

 - وما هي المهمّة؟!

- استطلاع!
- أعرف هذا يا أخ صالح، اها، فهمت.. كالعادة المهمة سرية.

تقدّم الأخ قادر وسِرنا خلفه. همست لإسماعيل: "تمّ إبلاغ اللواء أنّ العراقيين قد وضعوا مدافع (130 ملم) على ضفة نهر شمشير. علينا أن نتأكد من صحّة الخبر. وإذا ما كانوا قد نصبوا تلك المدافع فعلًا فكم عدَدُها!".

التففنا بحسب إرشادات الأخ قادر حول منبسطٍ كبيرٍ تُحيط به سلسلة تلالٍ متعدّدة الارتفاع ووصلنا إلى مشارف النهر. قال الأخ قادر: يا أخ صالح، ها هو النهر.. هناك.

جاء إبراهيم كاركر وهمس في أُذني: سيد أسدي، أنا كنت أعرف هذا المكان تمامًا ككفِّ يدي. لم يكن هناك أي حاجة لقادر!

عُدتُ ونظرتُ إلى إسماعيل وضحكنا معًا. أخرجتُ المنظار الليلي من حقيبة الظهر وتفحّصتُ النهر. 

سأل إسماعيل: هل ترى شيئًا؟
- أجل.. مدافع عدّة!
- من نوع 130؟
- في الأمر مخاطرة، من الممكن أن يرونا!
- ليس أمامنا طريقٌ آخر!
- ابقوا أنتم هنا. أنا أذهب وحدي!
- وأنا آتي يا أخ صالح أسدي!

وضعتُ يدي على رأس إبراهيم الزّمِك، الذي لم يكن شعر لحيته
 
 
 
 
 
106

96

إبراهيم الزّمِك

 قد نبت بعد، وقلت: مشكور يا إبراهيم! لا داعٍ.


قمتُ وسِرتُ مُنحني الظهر وسط الظلام حتى صرت بمحاذاة نهر شمشير. أنساني خرير الماء وصرير صراصير الليل داخل الأشجار الحربَ لبعض الوقت. دخلتُ مرجًا وإذ بي أغرق حتى رُكبتَي في الوحل والطين. امتلأ حذائي بالماء والوحل. خفتُ أن أكون قد سقطتُ في أحد المستنقعات. خرجتُ بشقِّ الأنفس ووصلت إلى ضفّة النهر وجثوتُ على رُكبتيّ. شعرتُ بالبرد وصرتُ أرتجف. كنت أنا على هذه الضفّة من النهر وعلى الضفة الأخرى ثلاث منصّات مدافع منصوبة تفصل أمتار بعضها عن بعض. لقد كان البلاغ صحيحًا، والمدافع من نوع 130 ملم. وفيما كنت أستطلع لمحتُ فجأة جنديًّا عراقيًّا بجوار أحد المدافع وانتصب شعر بدني! تحت نور القمر بدا أنّ الحارس العراقي قد اتّكأ على مدفع الـ 130 وراح يُحدّق بي. كان قد انقضى نصف عمري حين تبيّن لي أنّه غارق في النوم. لو أنّه فتح عينيه لكان رآني. استدرتُ بهدوء.

في مسير العودة وبعد انفصالنا عن الأخ قادر شاهدنا عدة دوريات عراقية كانت تسير خلفنا. قلت للشباب: فلنتوجّه إلى أعلى المرتفع. علينا أن نُضيّعهم. يجب أن لا يصلوا إلينا.

بدأنا بصعود المرتفع وسط الظلام. تقدّم قاسم معماري حاملًا بندقية G3 وسبقنا بمسافة. قبل أن نبتعد عن العراقيين كانت قريحة إسماعيل مفتوحة على المُزاح. 
- هل تريد أن أحملك على ظهري يا إبراهيم؟
كان إبراهيم يلهث ويقول: أيًّا يكن، لا يحتال عليّ! 
- إذا لم تقع في الأسر سوف أحملك على ظهري!

حين تجاوزنا العراقيين تنفّسنا الصّعداء وتابعنا سيرنا صعودًا
 
 
 
 
107

97

إبراهيم الزّمِك

 بشكلٍ مريح. فجأةً وبنصف وَعيِه، ظنًّا منه أنّنا عراقيّون وأنّنا نطارده، رشّنا قاسم بزخّة من الرّصاص.


ريثما انبطحنا جميعًا على الأرض، واستعدنا انتباهنا كانت طلقة قد أصابت باطن قدمِ "مجيد محمّدي مقدّم". صاح إسماعيل: أيّها الأحمق لا تطلق النار!

حين جاء قاسم عند مجيد لم يدرِ ما يقول من شدّة الخجل. أمّا "مجيد محمدي" فقد ربط قدمه بكوفيّته وضحك.
 
 
 
 
 
108

98

الملّا مصطفى

 الملّا مصطفى - 22 حزيران 1983م


- أخ حقيقت، كيف تجرّأت وذهبت برفقة عدد من شبان الحرس والتعبئة لأجل الاستطلاع!

كان الأخ إدريس يناديني دائمًا بالأخ حقيقت. أجاب مرتضى بدلًا عني: "الحرب مغامرة! وفيما عدا ذلك فنحن نتوكل على الله!".

صباح ذلك اليوم كان من الأيام النادرة التي جاء فيها الأخ إدريس لمهمة الاستطلاع. ولكي لا يرانا العراقيّون أثناء النهار كنّا مضطرين أن نتحرك داخل الوهاد والمنخفضات. تجاوزنا عددًا من الجبال والمضائق المعقّدة وقرب الظهر وصلنا إلى منخفض (اخدود) مملوء بالثلج بالكامل. فوق رؤوسنا كان ماء الثلج الذائب يتساقط قطرة قطرة ويظهر من نور الشمس على الأثر مشهدٌ جميلٌ جدًّا. كان ماء الثلج يجري تحت أقدامنا أيضًا.

تحت الثلوج وبواسطة البغال تقدّمنا بحذر مسافة كيلومترين داخل المنخفض. لم نرفع رؤوسنا خوفًا من أن تتساقط عليها كُتل الثلج الكبيرة التي بدأت تذوب مع بداية فصل الصيف. وصلنا إلى مكانٍ قد سدّته الثلوج واضطررنا أن نحفر في قلب الثلج حفرةً ونواصل المسير حتى نصل إلى خطِّ الرأس ونبقى في مأمنٍ من أعين العراقيين. بتنا خلف العراقيين بالكامل. حين التففنا حول المعسكرات العراقية ووصلنا إلى نقطة جبليّة صعبة العبور قال ملازم علي: "أخ حقيقت ينبغي أن نقلل من عدد البغال!".
- لماذا؟
 
 
 
 
109

99

الملّا مصطفى

 - العبور صعبٌ وخطر!


حين وافقنا على التخلّي عن بغلين بحمولتيهما من المعلبات باغَتَنَا ظهور كرديٍّ معارض أَخَذَ البغلين الإضافيين معه وغادر! حين وصلنا إلى آخر مرحلة في الاستطلاع كانت البغال العشرة التي رافقتنا في البداية قد نقصت شيئًا فشيئًا حتى صارت خمسة بغال فقط. وكان الأخ حقيقت يسأل ملازم علي بين الحين والآخر: "لماذا لم تقل من البداية أن نحضر معنا خمسة بغال فقط، ومن أين يظهر أصدقاؤك الغيبيون هؤلاء فجأة، وإلى أين يأخذون البغال؟".

وكان ملازم علي يهزّ رأسه ويضحك ويقول: "لا تستغرق في التفكير بهذا الأمر يا مرتضى، سوف تكتسب الخبرة!".

وصلنا إلى قرية زينو بعد الظهر. جلسنا على أعلى المرتفع الذي كان يُشرف على زينو لأجل الاستراحة. كنا قد عَبَرنا خمسة عشرَ معسكرًا عراقيًّا وبقي أمامنا ثلاثون أو أربعون معسكرًا آخر! كان في القرية نفسها ثكنةٌ للعراقيين أيضًا. قال لي الأخ إدريس: "أخ حقيقت هل تريد أن تستطلع كل وادي الحاج عمران؟!".
- أجل يا أخ إدريس!
- لا بدّ أنّك تريد فيما بعد أن تسيطر على ثكنة الحاج عمران.

قال مرتضى: إن شاء الله!

ضحك الأخ إدريس وهزّ برأسه.
- أخ مرتضى أنت شابٌّ لافت، أنا معجبٌ بك، لكنّ الأمر غير ممكنٍ!

تقدّم مرتضى ووضع يده على كتف الأخ إدريس العريض وقال: يا أخ إدريس لقد سمعتُ كثيرًا عن شجاعة الكُرد، لكن شبابنا بحول الله
 
 
 
 
 
110

100

الملّا مصطفى

 وقوّته أحالوا الكثيرَ من المستحيلات أمورًا ممكنة في هذه السنوات!


أجاب الأخ إدريس الذي كان يظهر عليه أُنسه واستمتاعه بالحديث مع مرتضى: والدي بارك الله فيه، الملّا مصطفى، رغم كل جهاده في عهد حكومة حسن البَكر، لم يتمكن من السيطرة على ثكنة الحاج عمران!
- إمامنا يقول، نحن نقدر!
- أيُّ إمام؟
- روح الله الخميني!

شدّد مرتضى على كلمة روح الله الخميني بقوّة وأتبعناها نحن بالصلاة على محمدٍ وآل محمد، فتوقف الأخ إدريس قليلًا ثمّ أجاب: إذا استوليتم على الحاج عمران فإنّني سأُقدّم مفتاح بغداد هديّةً لكم!

مغتاظًا من كلمات مرتضى، ضرب ملازم علي على صدره. 
- يا أخ إدريس لو كانوا يملكون ألفًا مثلي لربما استطاعوا!

نفيًا للضعف والانهزام بدأ ملازم علي يتبجح بقوّته وشجاعته. وقرّر صالح أسدي أن يصبّ الزيت على النار فقال: أخي ملازم، إن كان صِدقًا ما تقول، اذهب أنت إلى زينو وأحضر لنا بعض الخبز واللبن!".
- الأمر سهلٌ!
- يا علي! 

لم تكن رمية صالح موفّقة. نفخ ملازم علي صدره وقرّر أن ينزل من الجبل باتّجاه قرية زينو. لجمه جلال كوشا.
- أنا آتٍ معك؟!
 
 
 
 
 
111

101

الملّا مصطفى

 أجابه وكأنّه قد اصطدم به: لأجل أيِّ شيء؟

- أريد أن أرى شجاعتك!

- هكذا يا أخ جلال، لا مشكلة الآن.. تعال!
مرّت ساعتان، وحين بدأنا نقلق بشأن عودتهما أطلّ الأخ ملازم علي مزهوًّا منتفخًا كقربة الماء الممتلئة يرافقه جلال مع صينيّة فيها الشاي والسكّر ووعاء لبن كبير.
 
 
 
 
 
 
112

102

كاني خدا

 كاني خدا - 25 حزيران 1983


دخلنا ليلًا برفقة مرتضى واثني عشر شخصًا آخر من المحور لجهة يسار "منطقة الحاج إبراهيم" إلى عمق الأراضي العراقية. كان مرتضى كما في أغلب الأوقات وكيلنا، فسأل: سيد كاظم، ما هي المهمة؟

وصلنا تقرير بأن العراق قام بتدعيم المعسكرات المحيطة بقرية "رايات"، علينا أن نستطلع ونتأكد من صحة التقرير الوارد!

كان لدينا أربع وعشرون ساعة من المشي حتى منطقة قرية رايات. بعد مسير 20 كيلومترًا وصلنا إلى "الأخدود تسعة". بقينا ساعات وعند السحر حين هممنا بالذهاب ناحية المدفعية العراقية، صار الأخ ملازم علي مجدّدًا أحنّ من الأم.
- هذا العمل ليس صحيحًا. لا ينبغي أن تذهب يا أخ حقيقت!

وكأنه اعتاد على قول لا! عندما قلت يجب أن نذهب، جاء معنا.
- لو أن الأخ إدريس لم يوصِ بك، لما أتيتُ معك، أنت عنيد جدًّا!

وسط الظلام تقدمنا حتى أسفل مرتفع "كاني خدا". هناك صاح مرتضى فجأة: يا إلهي، ما أجملها!

في الظلام الممتد أمامنا كانت هناك نقاط صغيرة من النور تومض كما الضوء المتلألئ، وتبث نورًا يشبه نور القمر. قال ملازم علي: سراج الليل!1

مع بزوغ الفجر، عبرنا نهر "تشومان مصطفى" ووصلنا إلى غابات
 
 

1- سراج الليل: اليراع: حشرة تضيء ليلًا.
 
 
 
113

103

كاني خدا

 البلوط على أطراف قرية رايات. وقف "حسن خسرواني" يمعن النظر في غابة البلوط. رفع إصبعه متأملًا وصار يحرّك رأس أنفه وكأنه قد شاهد في ذهنه شيئًا ما. قال: كاظم سيد الحقيقة1، إني متوجس!

- ما الذي حصل؟
- لو أنني كنت مكان العراقيين لنصبتُ كمينًا في هذه الغابة.

قال "داوود عبدوس": مجددًا تفتحت حاسة شمّك البوليسي يا حسن!

للعلم فقط! برأيي يجب أن ننقسم إلى قسمين!

لم يكن عندي شك بدقّة "حسن خسرواني" ويقظته، لكن حين وافقه مرتضى في اقتراحه قسمتُ القوات إلى مجموعتين، واحدة مؤلفة من تسعة أشخاص والأخرى من سبعة. رجعت مجموعة التسعة أشخاص إلى ناحية الشيار وتحرّكت أنا ومرتضى وملازم علي مع المجموعة الثانية من طرف قرية رايات باتجاه مدفعية العدو من دون أن ندخل في غابة البلوط.

كانت الشمس قد نشرت أشعتها بالكامل فوق الجبال. توقفنا وحملنا الماء من العيون التي تنبع في جبال كردستان العراق، وتوضأ بعضنا استحبابًا. بدأ "ميثم كوشكي" يمازح مرتضى قائلًا: يا عم، هل الوضوء في الأرض المغصوبة مقبول!".
- عندما نصل إلى بغداد نطلب براءة الذمة من صدام.

كانت شمس الصباح تبزغ على أجسادنا وتشعرنا بالدفء والراحة. 

قرب الظهر وصلنا إلى تلة "كوران". كان علينا أن نحوّل النهار إلى
 
 

 
1- حقيقت بالفارسية تعني الحقيقة، وهي في الوقت نفسه اسم عائلة "كاظم"، وفي النص أحيانًا لعب على استخدام الكلمة فمرة تستخدم كاسم العائلة ومرة يستفاد منها بمعناها اللفظي الحقيقي. 
 
 
114

104

كاني خدا

 ليل ونقترب في الظلام من مواقع العدو. اخترنا عدة صخور بنفسجية واختبأنا خلفها. كان يمكن لعبور الرعاة والأغنام أن يفضح أمكنتنا. كنّا الآن في عمق ثلاثين كيلومترًا في الأراضي العراقية! مع حلول المغيب كانت قطعان الأغنام العائدة إلى القرية قد اقتربت عدة مرات من ناحيتنا. وكان ملازم علي يتقدم بسرعة إلى الأمام ويمحو آثارنا.


حين ادلهمّ الليل، بدأنا عملية الاستطلاع. تحركنا بداية نحو تلة "بهن" الحيوية والمهمة للعدو. كانت التلة تشرف على الجادة المعبدة وثلاث طرق أخرى تدعم الخطوط الدفاعية الأولى للعدو. وكانت الجادة تعبر في مضيق. قمنا باستطلاع التلّة بإشراف ملازم علي وصولًا إلى الموانع الموجودة تحتها. 

أنهينا الاستطلاع منتصف الليل. كنّا نشعر بالتعب والجوع، وبينما نحن عائدون مرتاحي البال إلى "الأخدود تسعة" دهمنا صوت مرتفع لأحد العراقيين.
- قف!

قلت أنا أيضًا بشكل تلقائي ومن دون تفكير: قف!

مع كلمة قف التي قالها العراقي وكلمة قف التي قلتها أنا، رجع حسن خسرواني الذي كان من عادته دائمًا أن يلقّم سلاحه الكلاشنكوف ويعلقه في رقبته، وأطلق النار نحو صدر العراقي ما أدّى إلى رميه إلى الخلف وانبطحنا جميعنا أرضًا. حصل كل هذا في ظرف عدة لحظات. ساد الصمت في البداية. ناديت مرتضى وأنا ممدّد فوق الأرض الصخرية الباردة. أجابني حسن خسرواني بدلًا عنه: أخ كاظم، لقد وقعنا في كمين!

قلت: البارحة لم يكن أي شيء هنا!
 
 
 
115

105

كاني خدا

 أجاب "سالار أنصاري": يبدو أنهم استشعروا الخطر ونصبوا لنا كمينًا.


قطعت كلامنا رصاصة أصابت طرف سروالي الكردي. طويتُ قدمي بسرعة وبدأ إطلاق النار من الجهتين. عندما استعدتُ انتباهي كانت صليات النار تنزل علينا من أمامنا ومن خلف رؤوسنا. لقد وقعنا في الفخ. من جهة كان هناك المرتفع، ومن الجهة الثانية كان النهر الغزير بالمياه، وخلفنا وأمامنا قد أغلقت مجموعتا الكمين العراقي الطريق علينا. جعلتنا نيران الرصاصات المجهولة المصدر نلتصق بالأرض. كنت شديد الالتصاق بالأرض وكأنما أريد أن أختفي داخلها. لم يكن ظلام الليل يدعنا نرى لعدة أمتار أمامنا. ظننتُ أن العراقيين كانوا يخمنون مكاننا ويطلقون النار علينا. علا صوت ملازم علي المرتجف: لقد قضي علينا. لم تسمعوا كلامي. تبًّا لك يا أخ حقيقت.. إذا خرجت سالمًا من هذا المأزق سأريك ماذا أفعل بك!
أثناء طقطقة رصاص العراقيين المتفرق ارتفع شيئًا فشيئًا صوت مرتضى يقرأ سورة الواقعة.

﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ... نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ *  نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾.

ط.. طق.. طاق! ط.. طق..

كان مرتضى يتلو الآيات بصوت عالٍ ما بين زخات الرصاص ويترجمها أيضًا. وكان لقراءة هذه الآيات الخاصة من سورة الواقعة في تلك الظروف القاتلة والحابسة للأنفاس أثر عجيب في مدّنا بقوة القلب، وكأنّ مرتضى كان يقارننا بأصحاب أهل الجنة الذين
 
 
 
 
 
116

106

كاني خدا

 تخاطبهم السورة.


﴿عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ﴾.

عندما أتمّ قراءة القرآن قال بهدوء تام: يا حاج كاظم، قبل أن يتأخر الوقت يجب أن نعبر من قلب الكمين!

قال داريوش سليماني: يا عم، سوف نقتل جميعًا!

قلت: الحق مع الأخ مرتضى، فلو أنّ أحدنا وقع في الأسر ستنكشف العمليات! وإذا ما طلع الصبح علينا هنا فسنقع جميعنا في الأسر، يجب أن نستغل الظلام!

زحف حسين جعفري باتجاهي.
- أنا أطلق النار وأنتم تتحركون!

قال ملازم علي فيما اشتدّت نيران العراقيين بصوت قد اختفت منه الرجفة:
- يا أخ "حقيقت"، أنا أعترف الآن!

قلت مصدومًا: بماذا ستعترف؟
- الاستيلاء على ثكنة الحاج عمران. أنتم الرابحون في الحرب. إنني أضع شاربي رهنًا.. شاربي..

صرختُ: استعدوا جميعًا!

مع وميض نيران الأسلحة العراقية أطلق حسين جعفري مسؤول الهندسة (التخريب) في المجموعة أول رصاصة وبدأت الحركة باتجاه العدو. كان العراقيون قد قطعوا الطريق من خلف بلاطة صخرية كبيرة فوق رؤوسنا. انتهزنا فرصة انشغالهم بنيران حسين وتقدمنا منحنين
 
 
 
 
117

107

كاني خدا

 وبهدوء إلى مكان لا يفصل فيه بيننا وبين العراقيين إلا تلك البلاطة الصخرية الكبيرة التي بلغت مساحتها عدة أمتار فقط. وفيما لو بقينا بجوار تلك البلاطة الصخرية لهلكنا جميعًا. بدأنا نتبادل إطلاق النيران من الطرفين، العراقيون من فوق البلاطة الصخرية ونحن من أسفلها ببنادق رُكزت بقوائمها. لا نحن كنا نستطيع الخروج من خلف البلاطة الصخرية ولا هم! لا رصاصنا كان يصيبهم ولا رصاصهم كان يصيبنا! ومن شدّة قرب المواجهة وكثافة النيران، كانت رائحة البارود الحادّة قد عبقت في أنفي وأخذت تحرقني. قال مرتضى: القنابل اليدوية!


قلت: سوف تصيبنا شظاياها!
- ليس هناك حل آخر، إذا استمر الأمر على هذا النحو فسيقضى علينا مع طلوع الضوء!

قلت: ننقسم إلى مجموعتين، مجموعة تطلق النار والمجموعة الثانية تتقدّم وتفرّ ثم بالعكس.

رمى خسرواني وأنصاري وصالح النار حتى تمكنّا من مغادرة جوار البلاطة الصخرية. بعد ذلك بدأنا نحن بإطلاق النار حتى التحق بنا أولئك الثلاثة. مجددًا عاد إطلاق نيران العدو باتجاهنا! قلت: نركض باتجاه المرج!

لم يكن العراقيون ليكفّوا واستمروا بإطلاق النار. وسط الظلام أصابت الرصاصات النباتات اليابسة إلى جوارنا واشتعلت النار. باحتراق النباتات والأعشاب اليابسة أضيء الشيار! فجأة سمعت صوت الأخ ملازم علي. كان يلعن نفسه ويوبخها بأن كيف سلّم نفسه لعدّة شباب من الحرس!

حين وصلنا إلى "الأخدود تسعة" كان كريمي مفقود الأثر! قلت:
 
 
 
 
 
118

108

كاني خدا

 أخفقنا، إذا وقع في الأسر فالعمليات ملغاة!


ضحك مرتضى وقال: توكل على الله!

كنّا منهكي القوى ونشعر بالجوع. جاء الأخ إدريس لاستقبالنا وأحضر معه خبزًا وبطيخًا. أكلنا ومن شدّة التعب نمنا على أن نعود للتفكير بخطة ما فيما بعد.

عند صلاة الصبح طار النوم من عيني وأنا أفكّر بكريمي وانكشاف أمر الهجوم. كنت أحدّق بالجبال البنفسجية والزرقاء المحيطة بنا: ماذا أقول للحاج جعفر أسدي. هكذا وبالمجّان وقع في الأسر.. ذنبه في رقبتي.. عملية لأجل..
- سلام يا أخ كاظم. أراك مشغول البال..

كان كريمي نفسه! قفزت من مكاني كالزنبرك. احتضنته بحماسة شديدة. وجرّاء ارتفاع صوتي وجلبتي احتشد الجميع وجاء أيضًا الأخ ملازم علي.
- أين كنت؟

- بعدما ذهبتم سدّوا الطريق عليّ! اضطررتُ أن أختبأ داخل غابة البلوط. مع إشراقة الصباح بحثوا عنّي كثيرًا، اقترب مني أحد العراقيين إلى درجة أني قرأت الفاتحة على روحي. لكن عندما رأيته وتلاقت نظرتانا سعل واستدار وأثناء استدارته سعل مرة أخرى. وأنا أفكّر حتى الآن في السبب الذي منعه من القيام بأي عمل حين تلاقت نظرتانا؟

ضحك الأخ ملازم علي وقال: لقد رآك ذلك الجندي العراقي!
- رآني نعم، ولكن لماذا لم يعتقلني؟

إنه من العرب الشيعة، عندما يرون شخصًا ولا يريدون أن يفضحوا أمره يقومون بالسعال مرتين تفصل بينهما مدة قصيرة!
 
 
 
 
 
119

109

الفالوذج

 الفالوذج1 الزعفراني 29 حزيران 1983


صباحًا، على مرتفع القمطرة الحدودي العالي، كانت عينِيْ على كاظم حقيقت. كان يشرح آخر الأوضاع لقادة كتائب لواء المهدي من خلال الخريطة الممدودة على أرض الدشمة: للمنطقة ثلاثة محاور، لجهة اليمين هناك (قلعة) گرد كوه، في الوسط (مزرعة) تمرتشين، ولجهة اليسار أرض الحاج إبراهيم الخصبة أو (گره مند) (الوعر)! للعدو معسكر على "مرتفعات"هدفنا السيطرة على هذا المعسكر!.. هل من سؤال؟
- سيد صالح، تفضل الفالوذج بنكهة الزعفران!

حدّقتُ مدهوشًا في الصينية البلاستيكية الحاوية على الفالوذج الزعفراني بيد "مش موسى". وكأني قد أُعطيتُ الدنيا وما فيها! كنت من أهل شيراز2  ولم أكن قد أكلت الفالوذج العادي منذ سنوات، فما بالك بالزعفراني! حملتُ وعاء الفالوذج وهمستُ في أذن "مش موسى" المتوسط العمر: أحضرتَ الفالوذج بطائرة حربية نفاثة من شيراز؟

أجابني بملء حنجرته: سيد صالح! ألا تعلم أن معلّم الفالوذج المشهور في شيراز، "كل خليل"، قد أقفل دكانه وجاء بكامل أدوات صناعة الفالوذج إلى لواء المهدي!
 

1- الفالوذج: فالوده بالفارسية، حلوى إيرانية باردة تتكون من شعيرية الأرز أو الذرة التي توضع في ماء الورد والسكر والماء المثلج، ويضاف إليها بعض من عصير الحامض أو غيره من عصائر الفاكهة. 
2- أهل شيراز هم أول من صنع الفالوذج بحسب المشهور، ويقال الفالوذج الشيرازي نسبة إلى المدينة التي هي أصل انتشاره.
 
 
 
120

110

الفالوذج

 قال ذلك وقد قرّب صينية الفالوذج من العم مرتضى. وضعت اللقمة الأولى في فمي فقرقشت شعيرية الفالوذج الرقيقة تحت أسناني. بعدما طرح سؤالًا أو سؤالين على كاظم حقيقت وضع مرتضى جاويدي الفالوذج على الأرض وسأل: في كم محور يجب على لواء المهدي أن يعمل؟


همّ كاظم بالإجابة لكن أخي جعفر أسدي قائد اللواء، قال من أسفل الدشمة: بعد إذنكم يا حاج كاظم، أنا أشرح لك!

نهض جعفر وقد رمى معطفه الكاكي على كتفيه وتقدّم إلى الأمام ليقف إلى جوار كاظم حقيقت.
- سيكون الهجوم الأول على المحور إلى يميننا. إذا لم تحصل عراقيل بحول الله وقوته نسيطر على مواقع العدو، ثم نسلّمها إلى وحدة أخرى! في المرحلة الأولى سوف تعمل خمس عشرة كتيبة مدعّمة قتاليًّا، اثنتا عشرة كتيبة من لواء المهدي وثلاث كتائب من "اللواء2" التابع للفرقة 77 في الجيش!

مسح "علي أصغر سرافراز" قائد كتيبة كميل على رأسه الكثيف الشعر وقال: يا حاج أسدي، يجب أن نؤمّن الاستقرار في المواقع؟ ليس الهجوم إيذائيًّا فقط؟

هزّ جعفر أسدي رأسه وقال: سؤال جيد! العمليات ليست بأي وجه إيذائية فقط، أنتم تعلمون أنه خلال هذا العام أو العامين أُقفلت العمليات في منطقة الجنوب بالكامل، ورأي قيادة المقر أنّ القفل يجب أن يُفتح ها هنا! هذا الأمر يزيد من أهمية الهجوم! الهزيمة في هذا الهجوم تعني أن تُشلّ القدرة على القتال وتقفل! ومفتاح القفل بيد لواء المهدي.

سكت قليلًا وأشار بيده إلى العم مرتضى.
 
 
 
 
121

111

الفالوذج

 - وبالتأكيد كتيبة الفجر، فعلى مرتضى وكتيبة الفجر أن يحكموا الخناق على العدو ويزيدوا ضغطهم لتتمكّن الوحدات الأخرى من تسديد الضربة القاضية إليه!


هزّت أصوات التكبير فضاء دشمة التكتيكات. أكلتُ الفالوذج الزعفراني بسرعة حتى آخره. تابع أسدي: أوضّح أكثر في الجلسة التالية. يجب أن تبحثوا الآن في مسألة ذهاب قادة الكتائب والسرايا إلى عمق العدو، يجب أن تذهبوا وتشاهدوا عن قرب المحاور والمخافر التي ينبغي السيطرة عليها! وإن كان البعض قد ذهب قبلًا.

رمق جعفر أسدي مرتضى بنظرة ذات معنى ثم أشار إلى كاظم حقيقت وقال: تابع!

وما إن جلس أسدي حتى واصل كاظم كلامه.
- قبل الهجوم يجب أن تعاينوا المحور والمسير مع شباب الاستطلاع ويتم توجيهكم.

حين انتهت الجلسة حان دور الحاج صلواتي، العجوز الشيرازي مسؤول الإعلام، ليدخل إلى الدشمة حاملًا الكيس ووعاء حلوى الرنكينك1 الخاصة بأهل جهرم. وضع الكيس على الأرض وصفّق بكفّيه وأنشد مثل الحكواتيين:
قلبي مليء بحبك يا تعبوي،
رأسي تحت قدميك يا تعبوي،
آه فلتكسر يد التعبوي2..!
 
 

1- يراجع ملحق الكتاب (حلوى الرنكيك). 
2- ها هنا لعب على الكلام لأن فعل "شكستن" بالفارسية، أي الكسر، يستخدم لازمًا مرة ومتعدّيًا مرة أخرى من دون تغيير في التصريف. ولذا فالمستمع هنا يظن أن القائل يدعو على التعبوي بكسر اليد فيحتار، ولكن عندما يكمل الكلام يتضح أن الفعل متعد والمقصود رقبة صدام.
 
 
 
 
122

112

الفالوذج

 سكتَ. رجع الجميع وحدّقوا محتارين في الحاج صلواتي. تابع : ..رقبة صدام!


تقدم الحاج صلواتي ووقف مختالًا أمام "مش موسى". رفع إصبعه نحو سقف الدشمة وتابع إلقاء الشعر والحكاية: اهاااااا.. مدفع الـ (106)، مسدسي أنا!

حَجَل1 "مش موسى" مستجيبًا وفتح ذراعيه للدلالة على البحر، وأجاب بصوت جهوري وبأسلوب الحكواتي نفسه: ماء بحر الخزر جرعتي أنا!2
سروال رستم3 شورتي4 أنا!
غطاء الدبابة بشكيري5 أنا!
أرض الصحراء السوداء مهدي6 أنا!
دويّ المدفع صفيري أنا!
الإعصار والريح نفختي أنا!
قَنْع7 البوق شياعي8 أنا!
 
 

1- حجل في مشيته: تبختر فيها.
2- الجرعة من الماء: حسوة منه ملء الفم.
3- رستم: أشهر بطل أسطوري في الأدب الفارسي.
4- شورت: سروال قصير يمتد للركبة أو فوقها.
5- بشكير: منشفة للحمام أو فوطة كبيرة.
6- المهد: السرير الممهد لنوم الطفل أو الصبي.
7- القنع: صوت البوق.
8- الشياع: صوت المزمار.
 
 
 
 
123

113

الفالوذج

 وأعلن الحاج صلواتي ختام المغامرة: أيها المحمديون صلوات!


مطّ العجوز قوله "صلوات" حتى انتفخت أوداج عنقه النحيفة.
- انبسطتَ يا عجوز؟! هذا ما يسمى الروحية!

ثم وقف وسط الدشمة ووضع حلوى الرنكينك على الأرض في الوسط وأفرغ كيس رسائل الناس المرسلة إلى المجاهدين.
- تذكروا يا مؤمنين، الرنكينك مع الرسائل. كلوا واقرأوا واكتبوا ردودكم!

وضع كاظم لقمة من الرنكينك في فمه، وشاهد قرب العلبة رسالة. حمل الرسالة وفتحها. نظرت إلى ما في يد كاظم. وكأن الرنكينك كانت من تلميذ جهرمي اسمه "مهدي صحرائيان"، وقد طلب بعد الدعاء للمجاهدين ونصرهم طلبًا لافتًا! بلع كاظم لقمة حلوى التمر وقرأ الرسالة بصوت عال: .. أيها المجاهد الذي تقرأ رسالتي الآن، أنا تلميذ في الرابعة عشرة من العمر أعشق بكل وجودي الحضور في الجبهة ومقاتلة العدو البعثي. ولكنهم للأسف لم يسمحوا لي بالمجيء إلى الجبهة. أقسم عليك بروح الإمام الخميني إن كنت قادرًا، أن تسعى لتأمين شروط مشاركتي في الجبهة.. إلهي إلهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني! قال العم مرتضى لكاظم: أكلت من خبزه وملحه وصرت مرهونًا له. بما أنك أكلت من حلواه عليك أن تساعده.

قلت: لو كنت مكانك يا كاظم، لذهبت إلى جهرم وأحضرته!

تحمّس كاظم لاقتراحي.
- صالح أسدي، كفّ عن التلحين! هات أعطني قلمك!

حمل كاظم المغلف والورقة الخاصة بالإجابة. وضع لقمة ثانية من
 
 
 
 
124

114

الفالوذج

 تمرية الرنكينك في فمه وبعد التحية والسلام على مهدي صحرائيان كتب له ما بين الجد والمزاح رسالة في نهاية المطاف.


"أنا كاظم حقيقت ولديّ تأثير في الجبهة، ولكني أحقق طلبك وأتابعه بشرط أن ترسل لي علبة كبيرة من تمرية رنكينك جهرم الشهية. فإذا ما قمت بهذا الأمر سوف أوصي بك مسؤول حافلة لجنة إمداد الإمام الخميني الذي يُحضر إلى الجبهة عشاق زيارة جبهات الحرب. والسلام، كاظم حقيقت".

وضع العم مرتضى لقمة من الحلوى في فمه وقال لكاظم: لو أنك كتبت، والسلام، صديقك الشرهان1، كاظم سيّد الحقيقة!.
 
 

1- شرهان: شديد الشهوة للطعام حريص عليه.
 
 
 
 
125

115

حلوى الرنكينك

 حلوى الرنكينك - 7 تموز 1983


داخل معسكر جلديان كنت منكبًّا فوق آخر خريطة استطلاع قبل الهجوم. 
- سيد كاظم، لقد جاءت فرقة إنشاد طلاب مدرسة جهرم!

أشار لي صالح أسدي بإصبعه إلى الحافلة الحمراء التابعة لجمعية إمداد الإمام الخميني في جهرم.
- يا حاج كاظم، لماذا الآن؟ وفي مثل هذه الأوضاع أيضًا؟!

قلت: من المقرر أن يؤدّوا الأناشيد للكتائب لعدة ليالٍ. 
- الآن ونحن على أعتاب الهجوم؟
- ليس من المقرر أن يكونوا أثناء الهجوم! يقومون بجولة في المعسكر وفي سردشت ويعودون إلى جهرم!

خطر في ذهني: أسأل الله أن يكونوا قد أحضروا حلوى الرنكينك! 

قال صالح بتعمق: سيد حقيقت، هل دققت في الحافلة! وكأنّ فيها شيئًا..

ظلّلت عينيّ بيدي من نور الشمس وتأمّلت في الحافلة القادمة. كانت ملطخة بالتراب كمثل الجرحى المنهارين. كانت تسير بنحو يثير الانتباه. انقبض قلبي! ازدحم المعسكر بكل حناياه، وخرج أفراد الكتائب من الخيام والأبنية. تابع صالح: يا ستار، لقد حدث أمر ما!

توقفت الحافلة الحمراء وسط ميدان الرياضة الصباحية. توجهت ناحية الحافلة. بالقرب منها غار قلبي وشُلّت قدماي وتوقّفت! كان
 
 
 
 
126

116

حلوى الرنكينك

 واحد أو اثنان من إطاراتها مثقوبًا وزجاجها الأمامي مخروقًا برصاص الرشاشات! قفز السائق المتوسط العمر من السيارة يضرب على رأسه ووجهه وقال بلسان متهدج: آآآااااه إلــــــه..هـــــي.. وا ويلاااه.. مصيبة.. يا اللـــــــــــــــــــــــــــــــــه .. خذني.. أمتني!


ركضت إلى الأمام. وأرجعت الجموع إلى الخلف. كان قميص السائق من الأمام مشبّعًا بالدماء! وكأنهم سددوا النيران نحوه! لكن مهما أمعنت النظر لم أرَ علامة على وجود الجراح داخل بدنه! كان مرتضى أول من وصل إلى السائق وهزّه. 
- ما الذي حصل؟ تكلّم!

أشار السائق المتوسط العمر بعينين مدهوشتين ووجه مضطرب إلى الحافلة.
- قـ..قــــــطعوا.. الرؤووسسس.. الــــ..كومله1.. 

هجم صالح وهاشم ومرتضى والبقية إلى داخل الحافلة. ساد الصمت، ثم أخذت الهمهمات ترتفع ونداء: حسين.. حسين..

كانت النداءات تعلو وتعلو أكثر، ثم تعود لتخرج بصورة همهمة غير مشخّصة.

التعبويون والحرس يلطمون الصدور! والحافلة تهتز. صاروا يترجّلون كل عدة أشخاص معًا، ويُشاهَد فوق أيديهم أجساد نحيلة ونحيفة بلا رؤوس! 

في وقت قصير أنزلوا من الحافلة أجساد 14 فتىً مقطوع الرأس! 

غير بعيدٍ، وقعت عيناي على مرتضى. كان قد جلس القرفصاء على حجر ووضع رأسه بين يديه. وقف وتوجه نحو السائق. كان السائق
 

1- يراجع الملحق كومله.
 
 
 
 
127

117

حلوى الرنكينك

 قد خرج من الصدمة إلى حدّ ما. سأله مرتضى: ما الذي حصل؟!


رفع السائق يديه عاليًا.
- الكفار قطعوا الرؤوس! 
- من؟! أين؟
- الـ كومله.. الديمقراطي.. أعداء الثورة.. هل رأيت ما جرى على فلذات أكباد الناس ورياحينهم، كم أوصى بهم آباؤهم وأمهاتهم!

ضرب على رأسه وتابع: الكفار الذين لا يعرفون الله، قبيل بيرانشهر، وادي الشيطان، قطعوا الطريق وحجزوا السيارة.. آه وأنزلوا أعزة الناس منها. سألوهم: من أنتم وإلى أين تذهبون؟ 

وهم في المقابل من منطلق صدقهم وأمانتهم أخبروهم عن زيارتهم وعشقهم للجبهة وعن عزمهم على الإنشاد لكم.

انقطع تفجّع السائق. سكت. مسح يده على الدم الذي يبس على وجهه وصدره.
- أشباه الشمر الذين لا يعرفون الله أطلقوا عليهم جميعًا نيران رشاشاتهم. لم يتركوا جثثهم أيضًا. صاروا يبحثون في وجوه الفتية الذين لم تنبت لحاهم بعد ولا يناسب العراق أخْذهم! قال قائدهم شمر بن ذي الجوشن، نحتجز الرؤوس حتى تتشوّه وتتحلّل فلا يُدرى أكانوا ذوي لحى أم لا!

كان لصوت السائق نشيج مؤلم وكانت عيناه تفيضان بالدمع من دون توقّف. ضرب مرارًا على أم رأسه. أشار إلى مكان انتفاخ حنجرته!
- يا الله... جلسوا وأخذوا يقطعون رؤوس الأطفال الأبرياء من هنا واحدًا تلو الآخر!

تعرّقت أطرافي الأربعة. أردت أن أبلع ريقي لكن المرارة والغصة في
 
 
 
 
128

118

حلوى الرنكينك

 حنجرتي لم تسمح. أحسست بالخواء في ركبتي وجلست. بعد ذلك لم أرَ أو أسمع شيئًا. كأنما كانوا يذبحونني من منحري أنا، حين شعرت بضغط يدٍ على كتفي. جاهدت لأستجمع قواي ورجعت بشقّ الأنفس.

- كاظم.. كاظم..

فتحت عيني مذهولًا، كان صالح أسدي واقفًا ومعه علبة السبعة عشر كيلوًا من حلوى الرنكينك. سألت: ما الأمر؟

تأمّل صالح في عينيّ المغرورقتين بالدموع.
- لقد كانت هذه في الحافلة أيضًا، مكتوب عليها، إلى أخي كاظم حقيقت من قِبل مهدي صحرائيان!

بدأت شفتاي ترتجفان. اختفى اللون من وجهي. واشتدّ نبض صدغيّ. همهمت: كان مهدي صحرائيان معهم أيضًا.. كم أبغض الرنكينك..
 
 
 
 
 
129

119

قشرة البيضة

 قشرة البيضة - 17 تموز 1983


بعد الظهر، على الطريق القَدَمِيّة1 في مرتفع القمطرة كنت أدقّق النظر في البغال. بادرتُ "أبو القاسم تشوبان"، قائد "السريّة1".
- أبو القاسم، لقد تحوّلت وحدة التجهيزات إلى وحدة البغال (المجهّزة)!

حكّ أم رأسه من فوق القبعة الصوفية الخضراء. أخرج من جيبه حبة تين مجففة وضيّفني.
- نوذري، البغل هذه الأيام في بيرانشهر أغلى من شاحنة التويوتا!

أخذتُ حبة تين استهبانات2 ووضعتها في فمي وقلت: وما هي قيمة السيارة في الطريق القَدَمِيّة؟

سوّى نظارته الأنفية3 أمام عينيه وربّت على كتفي:
- ينتابني شعور مختلف في هذا الهجوم!

وعندما تجاوزني وقع نظري على المكتوب على ظهر لباسه الكاكي.

"لا تقل لأحد إنّي كنتُ! 
أين كنتُ! كيف كنتُ!
أريد أن أبقى مجهولًا!".

خطوت خلفه فتفرّقت تحت قدمي حصوات الجبل الصغيرة. شارفتُ على الانزلاق ولكنني سيطرت على نفسي. لمحتُ أمامي مكتوبًا
 
 

1- الطريق القدمية، أو الأدومية بالعامية أو المعبور: الطريق الضيق الوعر في الجبل الذي لا يسلك إلا مشيًا على الأقدام أو من قِبل بعض الدواب، يقال له أيضًا: طريق قدَم.
2- استهبانات أو اسطهبانات: مدينة تدعى اليوم استهبان، تقع في شرق محافظة فارس في إيران. تشتهر بالمحاصيل الزراعية وأهمها التين.
3- النظارة الأنفية: عدستان بإطار، تثبت على الأنف من غير مسكتين خلف الأذنين.
 
 
 
 
130

120

قشرة البيضة

 على صخرة:

قوِّ الدعسة ولا تخفّف!
ضحكت: وكأن كل من يصل إلى هذا المكان تزلق قدمه!

استدار تشوبان. وضع حبة تين أخرى في فمه وقال: صدقًا يا نوذري، لقد رأيت البارحة منامًا عجيبًا، إذا استشهدتُ، لا تدع شباب سريتي يتفرقون!
- (ما بك) توصي مثل الأمهات. وهل شاركت في عملية قبلًا من دون أن توصي!
- هذا الهجوم مختلف!

ازدادت حدّة صعود ممر الطريق القَدَميّة لمرتفع القمطرة، وبدأت ألهث. وعند ذاك ضرب نور الشمس الذهبي على وجهي. أشار أبو القاسم تشوبان إلى رأس جبل القمطرة العالي المغطّى بالثلج. 
- يبدو بياض الثلج كقشرة البيضة!

رغم أننا كنّا في فصل الصيف، لكنّ البخار كان يخرج من فمي جراء البرد الشديد. وصلنا أعلى المرتفع فشاهدنا دشمة العم مرتضى.
- أيها التعبوي، أشلونك!

بعد صلاتي المغرب والعشاء تحلّق قادة سرايا الفجر حول مدفأة الكاز في الدشمة. كان العم مرتضى يشرح تفاصيل منطقة الحاج عمران في العراق من خلال الخارطة. 
- قبل ليلةٍ من الهجوم يجب أن نخلي مرتفع القمطرة الحدودي نزولًا! نسلك هذا المسير وننفذ بمسافة خمسة عشر كيلومترًا في عمق الأراضي العراقية. ينبغي أن نصل قبل طلوع الفجر إلى مضيق تشومان مصطفى! أسفل هذه التلال الثلاث علينا أن نُخفي أنفسنا في
 
 
 
 
131

121

قشرة البيضة

 النهار داخل الفجوات والمضائق.. ثم نستولي على التلّة عند منتصف الليل.. هل هنالك أي سؤال؟


رفعت يدي. أشار العم إليّ.
- ماذا يا نوذري!
- إنّ استتار قوة بحجم كتيبة أثناء النهار في ظل تحكّم العدو وتحت مرآه هو أمر غير ممكن! إذا كنت تذكر قبل أسبوعين حين ذهبنا للاستطلاع اصطدمنا بالرعاة وأمور أخرى!

ابتسم مرتضى وقال: ولهذا السبب فإنّ التنبّه ورعاية الصمت التام أمران لازمان. نحن لدينا مرحلتان في هذه العمليات، في البداية المسير المجهد ومن بعد ذلك الهجوم!
رفع أبو القاسم تشوبان قبعته الصوفية عن رأسه وسأل: عم مرتضى، ما الذي يحدث لو انكشفنا؟
وضع مرتضى يده خلف مدفأة الكاز الخضراء القديمة.
- أدام الله رزقك، نؤدي تكليفنا!

سقطت قذيفة مدفعية على مرتفع القمطرة واهتزت الدشمة. لمعت لمبة المئة شمعة التي كانت تُضاء بالمولد الكهربائي وسقطت من السقف الترابي الناعم حيث كانت معلّقة. أشار مرتضى إلى التلال الثلاث التي تشبه المثلث على الخارطة.

- لو فرضنا أن هذه التلال الثلاث هي مثلثٌ، والتلّة الكبيرة الوسيعة رأسه، والتلّتين الأصغر حجمًا اللتين تتقدّمانها وتفصل بينهما مسافة 25 مترًا هما قاعدته، فإنّ التلّة الكبيرة وبسبب إشرافها على المضيق وثلاث طرقات معبدّة هي بمنزلة خناق العدو! ولو أنّنا سيطرنا عليها نكون قد أحكمنا خنق العدو بقبضتنا. وبذلك لا يصل إليه الطعام ولا العتاد!
 
 
 
 
 
132

122

قشرة البيضة

 سكت قليلًا ثم نادى: يا أخ تشوبان!

- في الخدمة يا عم!
- "السريّة1" تتولى عملية السيطرة على التلة الوسيعة! أنا آتي معك. التلتان الأخريان ليستا أقل أهمية أيضًا، وهما تحميان التلّة الوسيعة! 

رجع وحدّق في وجه "فرهاديان فر النضر".
- وأما سريتك يا خال شيرازي! 

ضرب على كتف محمد رضا بديهي المعاون الثاني لقائد الكتيبة.
- يرافق محمد رضا سريّتَك وتستولون على التلّة لجهة اليمين! وهو يعطي التوضيحات اللازمة!

نظر إليّ وقال: وكذلك فضل الله نوذري يتحرك مع فصيلين باتجاه التلّة ناحية الشمال ويستولي عليها. من خلال استطلاع الأيام القليلة الماضية بات طريق النفوذ إلى التلة محفوظًا عن ظهر قلب. ولذلك ليس هناك أي داعٍ للمواجهة المباشرة مع العدو! صحيح يا نوذري؟
- تمامًا يا عم. على مدى ساعتين كنت أشاهد العراقيين يلعبون الكرة الطائرة. 

أخذ جليل إسلامي يمزح ويقول:
- بعد السيطرة على التلّة ننظّم مباراةً في الكرة الطائرة مع العراقيين!

نظر مرتضى إلى معاونه وقال باحترام خاص: السيد جليل أيضًا سوف يمنّ عليّ ويرافق نوذري مع "السريّة3" حتى يقوم بتنظيم مباراة كرة الطائرة بنفسه، نتحرك غدًا!
 
 
 
 
 
133

123

الضيافة

 الضيافة - 18 تموز 1983


أدّينا صلاتَي المغرب والعشاء داخل مُصلّى مُعسكر جلديان في بيرنشهر. جاء الحاج صلواتي عجوزُ إعلام "لواء المهدي" المؤنس. وقف خلف مُكبّر الصوت اليدوي وقال بلهجته الشيرازية الثقيلة: "لجمال وجه الخميني صلوات!".

وحين لم يُلاقِ ارتفاعُ أصوات الصلوات استحسانَه صاح بحماسة وابتهاج: "هاي يا خالو1! وكأنّكم لم تأكلوا بعد؟".

ثمّ أخذ نفسًا عميقًا وأطلق من عمقِ حُنجرته صيحةً: 
- فلتَكسر يد التعبوي!

سكت قليلًا. انصدمتُ مثلَ بقيّة الشباب ونظرتُ مشدوهًا إلى وجهه النحيف ومحاسنه البيضاء، ثم تابع بشكل أقوى:
- رقبة يزيد الكافر صدّام.. صلوات بأعلى الأصوات!

هذه المرّة هزّت أصوات الصلوات أنحاء قاعة الاستقبال. قال الحاج صلواتي: "الخال صار خالو2.. يا إخوان ها هنا سيتم تناول طعام العشاء. تحلّقوا يا خالي واجلسوا على شكل سفرة الطعام! وبعد العشاء سوف يأتي العم مرتضى فلديه شغلٌ معكم!".

استدرتُ وسألتُ رفيقي سيد علي الحسيني مستفهمًا: يقصد قائد
 

1- بالفارسية "كاكو"، أي الخال (أخو الأم) بلهجة أهل مازندران.
2- بالفارسية "حالو شد كاكو"، والكلمتان حالو (بلهجة أهل لرستان) وكاكو (بلهجة أهل مازندران) لهما نفس المعنى: الخال (أخو الأم). وفي الجملة تهكم وسخرية من اختلاف اللهجات.
 
 
134

124

الضيافة

 كتيبة الفجر؟

- أجل! مرتضى جاويدي.. أشلو المعروف نفسه!
- وماذا لديه معنا؟
- التّعرُّف إلى الشباب، هذا منهجه في العمل!
- سيد علي، هل حقًّا تمّ تكليفنا بالعمل داخل كتيبة الفجر؟ بات الأمر محسومًا؟
- إذا شاء الله.
- العمليات باتت قريبة، أنا لا أكذب!
- حسين بنائيان، إنّني أستشعر رائحة الهجوم.
- لعلّهم يريدون مجددًا أن ينتخبوا من بيننا عددًا! نحن الذين قدّمنا الامتحانات مرارًا وتكرارًا وتحوّلنا من كتيبة تتألّف من أربعمئة شخصٍ إلى أقل من سريّة.
- كلا يا كبير!
- من فمك حتى أبواب السماء! يقولون إنّ مرتضى مغوارٌ!
- ليس له ندّ.. لقد خضع لجميع دورات المغاوير وحرب العصابات. 
- لقد ذاع صيت تقواه وشجاعته على كل لسان..
- كم أشتاق لرؤيته!
- لا بدّ أنّه ضخم الجثّة والهيكل، أليس كذلك؟!

كالبرق مُدّت سفرة العشاء ولم نسمع خبرًا عن مرتضى جاويدي. كان هناك شابٌّ فقط، في العشرين والنيّف من العمر، متوسّط القامة،
 
 
 
 
135

125

الضيافة

 نحيل البدن، يتولى أمر توزيع الملاعق وأباريق الماء بسرعة أمامنا.


أشار السيد علي الحسيني إلى الشاب بإصبعه. 

- المسكين يقوم وحده بعمل أشخاص عدّة!
- ليتنا قُمنا لمساعدته!
- اجلس يا حبيبي، لكلّ شخصٍ في الجبهة عملُه. نحن نقاتل في الكتيبة، وهذا المسكين وظيفتُه تقديم الطعام وأمثال ذلك!

كالصقر كان الشاب ذو اللباس الكاكي والكوفيّة الملقاة حول العنق يجول بيننا، يرفع بشغفٍ ومحبّة صحون العدس بالأرز (مجدّرة الأرزّ) من الصينية ليضعها أمام الإخوة. قلت: هل ترى أيّ عشقٍ هو فيه؟

أنهينا طعام العشاء فجاء الشاب نفسه وجمع الصحون ولَملَم السّفرة. ومجدّدًا حمل الحاج صلواتي مكبّر الصوت وأدناه من فمه وصدح بصوته خاتمًا بالمسك عشاءنا: لعن الله في العالمين صدّام الملعون فقد عزم على قتل وسحق جنى عُمرِ الناس.

ثمّ على طريقة الإنشاد والمدّ قال: قولوا لأمريكا أن تغتاظ منّا وأن تموت في غيظها. الإمام الخميني!

حين رفعنا أصواتنا بالصلوات ثلاثًا أعطانا الحاج صلواتي علامة النجاح قائلًا: هكذا ترفع الصلوات!

أحضر الشاب مسؤول الضيافة كرسيًّا حديديًّا قديمًا قيّمًا ووضعه في وسط القاعة ووقف عليه. تعجّبنا من فعله وتسمّرت عيوننا عليه. قلت: انظر يا سيد، إنّه الشاب نفسه الذي مدّ سُفرة الطعام، يريد أن
 
 
 
 
 
136

126

الضيافة

 يتكلم!

- وما الذي يريد قوله!
- لا بدّ أنّه يريد أن يُحدّثنا عن الطعام والمستحبّات والإسراف.
- ولكنّنا أكلنا حتّى حبّات الأرز التي سقطت على الأرض.

أعطى الحاج صلواتي مكبِّر الصوت للشاب.
- تفضّل يا سيد مرتضى!

قلت مباشرةً: مرتضى!

أدنى الشابّ ذو اللباس الكاكي المُرقّط مكبّر الصوت من فمه.
- يا إخواني! السلام عليكم.. سامحونا إذا كان الطعام سيّئًا أو غير كافٍ، نعتذر من حضراتكم.. ونُحيّيكم ونرحّب بكم في كتيبة الفجر.. سوف تكونون ضيوفنا لمدّة.. إنّني مسرورٌ أن وفّقني الله بدءًا من هذا اليوم لأكون في خدمتكم أيّها الإخوان المؤمنون.. مهمّتنا الجديدة ليست إجبارية.. في هذه المهمّة هناك طريقان لا ثالث لهما، إمّا النّصر وإما الشهادة.. فكّروا جيّدًا..

حين أنهى العم مرتضى كلامه مسح الحاج صلواتي بيده على لحيته البيضاء فرتّبها وشرع بإنشاد الشعر على طريقته الخاصة. 
قوموا! قوموا! فالعاشقون يبثّون الليلَ سرّهم.
يطوفون حول باب المعشوق وحرمه.
انظر الدّيكَ فليس له إلّا الجناح والرّيش
 
 
 
 
 
138

127

سراج الليل

 سراج الليل - 19 تموز 1983


في عتمة منتصف الليل تمتمت لأول مرة بآيات سورة الواقعة أثناء المسير باتجاه العدو: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ... أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾.

علا صوت "جليل حمامي"، مسؤول الاتصالات اللاسلكية الشاب مع العم مرتضى: أخ داريوش!

أجبته بسرعة: حمامي، صار اسمي سلمان.
- عُذرًا أخي داريوش، لم أنتبه أنه يجب أن لا أقول داريوش!
- لقد قلت داريوش مجدّدًا!
- عفوًا.. سلمان! هناك شيءٌ دخل في يدي وهو يؤلمني كثيرًا!

تقدّمَ لِيُريني يده فسقطت خوذته الواسعة على مقدمة أنفه. أَرْجَعَها إلى الخلف وقال: ها هنا..
- في هذه العتمة أنا لا أرى شيئًا، يُحتمل أن تكون شوكة توت العليق قد غرزت في يدك، فهي وافرة في كُردستان. هي سامّة أيضًا!
- سـ سـ ســــــــامّة؟!
- خفتَ؟ ابن فسا وتخاف..

ضحك حمامي وشدّ لجام البغل المُحمّل بالعتاد وقال: أنا ابن منطقة زاهدون في فسا والتي صار اسمها بعد الثورة زاهدشهر!

 
 
 
 
139
قلت: حمامي، سمعتُ أنك صرت طالب علوم دينية؟

128

سراج الليل

 - نسأل الله القبول! آه.. ما أجملها!

- ما هي؟
- سُرج الليل! اليراعات!

في وسط العتمة كان اليراع يضيء مثل النجوم الساطعة ويفتح الطريق أمام كتيبتَي التعبئة والحرس، الفجر وكُميل. سوّى حمامي جهاز الـ "PRC" على ظهره وقال: "أخ سلمان، يعني هل تكون الشهادة من نصيبي في هذا الهجوم؟".

باغتني لحن قوله وتذكّرت تلقائيًا ما حصل في اليوم السابق. كان أول شخصٍ في الكتيبة يغتسل غسل الشهادة في ماء النبع البارد! قلت له: "ننتصر إن شاء الله ونعود ونستعدّ للهجوم التالي، حتى نقضي على يزيد الكافر صدّام!".

همس بهدوء: ولكن ألا توافقني بأن الشهادة شيء آخر!

رأيتُني منزوع السلاح أمامه فحاولت أن أُغيّر الموضوع بنكتة عسكرية. همستُ في أذنه قائلًا: "محقّقٌ عراقي يسأل أسيرًا إيرانيًّا شابًّا: ما الذي تحمِلهُ عن الحرب يا بُني؟ يجيبه الشاب مُضلّلًا: لا شيء! حملتُ فقط زوجي أحذية ومعطفًا وساعة يد!".

ضحك حمامي وكان جوابه حاضرًا: في أحد الأيام يجمع صدام قادته ويقول: ها هي السنوات تمضي على الحرب ولا تزال حسرةً في قلبي أن يأتيني أحدُكم ومعه عدد من التعبويين أسرى! وها أنا أعلن الآن أن كل من يتمكّن من فكّ هذه العقدة ويأتيني بأسيرٍ فله جائزة قيّمة عندي. في اليوم التالي يرى صدّام وقد أخذته الدهشة أحد ضبّاطه يكبح فرامل حافلةٍ مملوءةٍ بالتعبويين ويوقفها أمام مركز القيادة. يُربّت صدّام على كتف الضابط ويقول: أحسنت! أحسنت!
 
 
 
 
 
140

129

سراج الليل

 والآن قل لي كيف استطعت الحصول على هذا الصّيد الثمين؟ يؤدي الضابط التحيّة ويقول: 

سيدي! ذهبتُ خلف الساتر التّرابي الإيراني وفتحت باب الحافلة ووقفت عنده وصِحتُ، كربلاء! كربلاء! ثمّ بطرفة عين امتلأت الحافلة بالتعبويين. في الحقيقة كان هناك أكثر من هؤلاء بكثير ولكن الحافلة امتلأت!

قلت: ليس إخفاقًا أن صرت شيخًا!
- هذا إذا كنت لائقًا!

أخافَه صوتُ خشخشة اللاسلكي خلفي فعَلَا شحيج1 البغل، ومباشرة علا صوتُ الهسهسة2 والصهصهة3 والزجر من الإخوة.
- يا حبيبي أسكِت الحمار.. لقد فُضحنا.. شُدّ لجامه..

بدأ حمامي يُلاطف البغلَ بالمسح على رأسه وعُنقِه حتى هدّأه. هذه المرّة ارتفع صوتُ خشخشة جهازه اللاسلكي هو.
- سلمان، سلمان، مرتضى.. 

أدنى حمامي السمّاعة من فمه وأجاب من عمق حُنجرته: مرتضى، مرتضى.. على السمع..

مدّ سمّاعة اللاسلكي ناحيتي.
- أخ داريو.. آه.. عفوًا.. العم مرتضى يريد أن يكلمك.

تقدّمت من اللاسلكي لأحكي، ولم أفهم كيف استطاع العم مرتضى بخطواتٍ صامتةٍ أن يصِلَ برفقة الأخ مُلازم علي ومُرشدٍ كردي آخر إليّ من آخر الطابور وقال: "سلمان صفري، يقول الأخ ملازم إنّه ما
 

1- الشحيج: صوت البغل المرتفع.
2- الهسهسة: قول "هس" بنحو خفي بقصد الإسكات والتهدئة.
3- الصهصهة: قول "صه" بنحو النهي بقصد الإسكات والزجر.
 
 
 
 
141

130

سراج الليل

 زال لدينا ساعة حتى نصل إلى نقطة الانطلاق. علينا أن نزيد من سرعة الطابور لئلا يطلع علينا الضوء. فمن الممكن حينها أن يرونا!".

- على عيني يا عم! أخبروا الجميع لئلّا يتخلّف أحد.

اجتاز صفّنا الطويل المنطقة الجبلية الباردة والزرقاء في العراق كالبنيان المرصوص، ثم انحدر كالسيل نزولًا حتى وصل في نهاية المطاف إلى الجادّة الواسعة في قاع الوادي. دخلنا من بعدها في نهرٍ ضحلٍ ووصلت المياه إلى ركبتي.
 
 
 
 
142

131

المقنبلة

 المقنبلة - 20 تموز 1983م


عند الصباح أضاء خطّ الأفق الأحمر خلف الكتيبتين كلَّ الأرجاء وامتزج صوتُ تدفّق المياه المنحدرة من زاوية الجبل بتغاريد الطيور البريّة. عبرتُ فوق المياه المتجمّدة وجثوت بجانب نبعةٍ وشربت. كان الشباب قد اختفوا ضمن مجموعات مؤلفة من أشخاص عدّة في ظلّ النباتات وتحت الأشجار من أجل الاستراحة. وكان شابٌّ من طلبة العلوم الدينية بلباسه التعبويّ الكاكي وعمامته البيضاء قد وقف داخل انحدار في الجبل للصلاة.

وجدتُ مكانًا قليل الانحدار واتّكأت على جذع شجرة ضخم. لففتُ معطفي حولي بشدّة اتّقاءً من البرد. أسفل مني كان "حسين بنائيان" الفتى الشيرازي الطويل والضخم برفقة زميله السيد علي الحسيني يتحدّثان مع ضابط من الدرك قصير القامة في الأربعين والنّيف من العمر.

- أيُّ نوعٍ من الأسلحة هذا يا سيد غلامي؟
- سلاحٌ ثقيل! يسمّونه المقنبلة!
- تُشبه طلقاتُه البيضَ، ولكن أكبر! لماذا ذخيرته كبيرة إلى هذه الدرجة؟
- لأجل هدم المتاريس، يجب أن تكون كبيرة هكذا!
- سيد غلامي، هل بقيّة أصدقائك معهم مقنبلاتٌ أيضًا؟
- أجل، في كل فصيلٍ يوجد مقنبلة مع أحد الأفراد.
- سيد غلامي، جنابكم تخدمون في الجيش؟
 
 
 
 
 
143

132

المقنبلة

 رمق غلامي كُلًّا من حسين ورفيقه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه.

- كلا، في الدرك.

- أنتم تعبويّون..
- لا؟

- حقًّا كم يبلغ عمركما؟ أربع عشرة أو خمس عشرة سنة؟ ألا تخافان في عمق أرض العدو وهذه المنطقة الجبلية..
- كلا.. ولأجل أيِّ شيءٍ نخاف؟ المهم الآن هذه البندقيّة، كيف تعمل؟ علّمنا كيف تُطلق النار منها يا سيادة العريف.

- ليست سهلة كالكلاشينكوف! إنّها أكثر تعقيدًا. لن تتعلما. ثمّ ما حاجتكما إليها؟
- يا سيد غلامي! بما أنّنا جئنا، يجب أن نتمكن من الاستفادة منها إذا ما استشهدتَ.. هل انزعجت؟ هل قُلتُ كلامًا سيئًا يا سيد غلامي؟

- الشهادة.. ألا يُمكن أن تُفكّرا بالحياة؟ لا تزال فتى في أول حياتك. يجب أن تذهب وتستمتع بملذات الحياة. الزوجة والأبناء.. الحب.. السيارة والمال.. الأمور التي سخّرها الله لأجل فائدتنا.

- كل هذه الأمور هي وسيلة لامتحان الإنسان.. والشهادة هي الحياة الخالدة!

- لا أعلم كيف تذوّقت طَعمَ الشهادة أيّها الصّغير. أحد مصاديق هذا الجنون هو مجيئك إلى عمق أرض العدو ومشاركتك في مهمّة لا رجعة منها!
- أيّها الرقيب غلامي! عندما يصل الإنسان إلى المعرفة فإنّ أقلّ شيءٍ يُقدّمه في سبيل الله هو روحه!
 
 
 
 
 
144

133

المقنبلة

 - لا أنتم تفهمون كلامي ولا أنا أفهم كلامكم.. ما أعرفه هو هذا فقط، وهو أنّكم عندما تكبرون وترتبطون بالزوجة والأولاد ويشغلكم الصهر والكنّة ستفهمون عندها معنى التّعلق!

- الكثير من شباب الكتيبة متزوجون ولديهم أولاد أيضًا!

- لا بأس اضحكوا..
- يجب أن تتذوّق حياة الشهيد يا سيادة الرقيب، تتذوّقها بكل وجودك! لا يكفي أن تراها ببصر عينك بل ينبغي ذلك ببصيرة قلبك. لقد عدّ أمير المؤمنين عليه السلام الشهادة فوزًا عظيمًا وعدّها الإمام الحسين عليه السلام رأس مال السعادة. الشهداء يعرفون الشهداء.

- متى تعلّمتما هذه الأمور..؟ لأقم وأذهب حتى لا تجعلا مني شهيدًا..

وقف الرقيب مُحتارًا ومُشوّشًا. وضع خوذته ذات الشبكة على رأسه، والمُقنبلة على كتفه، وذهب لينضم إلى سبعة أو ثمانية من زملائه الدّرك الآخرين الذين كانوا قد توزّعوا في فصائل الكتيبة، كلٌّ مع مُقنبلة. تسلّلتُ واقتربتُ من فصيلة الشيرازيين. كان شابّ في العشرين من العمر طويل القامة نضر الوجه يبوح عمّا يجول في خاطره: قبل أيام، في ثكنة جلديان أخبروني أن ابنيَ المُنتظر قد جاء!

قال بنائيان بسرعة: مبروكٌ يا نادر! فور استيلائنا على التلّة عليك أن تحتفل بولادته وتوزّع الحلوى أيضًا من خلال الغنائم.
- ليتني كنت رأيت ولدي! إذا بقيت حيًّا..
- حين تراه، وبحسب قول الرقيب ستخور قواك وتعلق!
- نادر، وجهُكَ يُفصح أنّك قد علقت من الآن!

لم ينبس نادر ببنت شفة وهرول مُنسحِبًا.

انضم "كريم الأبرص" والأخ "ملازم علي" إلى الجَمع. حين رآني
 
 
 
 
 
 
145

134

المقنبلة

 كريم ابتسم ابتسامة ذات معنى وقال: "سيد داريوش، سلام!".


قلت: "لمحتَ أبناء مدينتك! أحقًّا تنوي قراءة الطالع؟".

غمز كريمُ الأبرص بطرف عينه.
- حتمًا من بعد إذنك!

أشرتُ إلى حقيبة الظهر الخاصة بالـ(B7) على ظهره. 
- صرتَ مساعد رامي الـ(B7) أيضًا؟!

فتح حقيبة الـ(B7) ووضعها على الأرض. ثمّ أخرج البُلبل البنّي بحذرٍ من داخل قُبّعة صوفية زيتونية اللون وبدأ شعوذة قراءة الطالع: كيف جلب معه في برد مناطق الغرب البلبل البنيّ! 

سيموت الطائر يا عبد الله! البلبل البنّي يعيش في المناطق الحارّة..

أخرج من داخل حقيبة الظهر الخاصة بسلاح الـ(B7) صندوق أوراق الطالع الصغير وقرأ طالعَ الأخ ملازم علي:
يا حافظ عند الفقر وفي خَلوة الليالي المظلمة     ما دام وِردك الدعاء ودراسة القرآن فلا تغتم

لم يكن الأخ ملازم علي مُستهترًا.
- ما معنى ذلك؟
- الأخ إدريس أيضًا يُحسن رواية الشعر عن حافظ! أخ كريم اقرأ طالِعَ أخينا أيوب هذا!

حين أفلت كريم الأبرص من بين يدي الأخ ملازم علي جثوتُ مقابله على رُكبتيّ مُبتسمًا وقلت: "هيا اقرأ طالعي فلديّ عمل!".
- اعقد النية يا سيد داريوش!

أجبته ضاحكًا: "أبوك هو داريوش!".
 
 
 
 
 
146

135

المقنبلة

 تحلّق حولنا عدّة أشخاص. قرأت في ذهني الحمد والسورة وعقدتُ النّية: وبنيّة معرفة مصيري والعمليات القادمة! قلت: "لقد نويتُ، اسحب الطالع!".


نقر البلبل البنّي نقرة في الصندوق الصغير وسحب ورقة. حين أراد كريم الأبرص أن يحمل ورقة الطالع أخذتها وقرأتها.

يا حافظ، الأسرار الإلهية لا يعلمها أحد، فاصمُت    من تسأل ماذا يجري بعد الحياة؟

وصل "محمد إلهي" حاملًا بيده آلة تصوير وبدأ يُصوّر الإخوة. مباشرة رفع الشباب أيديهم مُشيرين إلى علامة النصر على شكل سبعة أمام الكاميرا.
 
 
 
 
 
147

136

الكتابة على الظهر

 الكتابة على الظهر - 20 تموز 1983م


استيقظت عند العاشرة صباحًا. كان قد أُغمي عليّ لعدّة ساعات على الأعشاب البريّة من فرط التعب. كان الثلج محيطًا بي من ثلاث جهات وقد تسلّل ماء الثلج المُذاب تحت بدني. 

ووسط البلل والصقيع كان بدني يحترق. خلعتُ عن بدني جُعبتي وعتادي بحذرٍ. كان جلدي ولحمي جراء ضغط العتاد قد قُرِضَ وجُرح. وكنت في حاجة إلى الدّفء. زحفتُ إلى مكانٍ تجمّع فيه الإخوة ونور الشمس. كان التّعبوي "حميد زارع" قد افتتح سوق الكتابة على الظهر بالقلم الخطاط الأزرق.

- هؤلاء الذين لا يريدون أن ينتهوا مفقودي الأثر فليتقدّموا إلى الأمام..
- هل تتمرّن على الخط على ثياب الإخوة يا سيد حميد؟

- يا حبيبي يجب مُراعاة الدّور!
- ليس هناك داعٍ، وضعُ القلادة في العنق إنّما هو لأجل هذا!

- الريحة ولا العدم، والحذر أفضل من الندم!
- يا حميد، اكتب على جيبي وتحت إبطي اسمي واسم عائلتي!

- اكتب على ظهري: مُخْترِق العدو!
- لقد لففت كل بدنك بشرشور الرصاص، فأين أكتب؟

- اكتب بخطٍّ جميل: ها هنا تربية الروح لا البدن!
- اكتب على ظهري: صيّاد الدبابات!

- اكتب على قلبي: هنا مكان الخميني لا الشظايا والرصاص!
 
 
 
 
 
148

137

الكتابة على الظهر

 - ذكيٌّ جدًّا!


-حسنًا اكتب: مع الخميني حتى الشهادة! جيّد هكذا..
- اكتب: تقدّم للأمام بلا كلام!

- يعني ماذا؟
- تفهم فيما بعد..

كان الدفء قد بدأ يسري في بدني حين وصل "إبراهيم كاركر الزمكّ" من منعطف الطريق.
- داريوش، يقول العم اذهب بسرعة!

وصلت أنا وقاسم كوشكي ومحمد رضا بديهي وفرهاديان فر إلى أعالي مرتفعات المنطقة. عبقت في أنفي رائحة صمغ الصنوبر. وكأنّما كان هناك خبرٌ ما في الأعالي. قُرب غابة الصنوبر العالية، وقع نظري على عدّة رجال أكراد قد غُلّت أيديهم من الخلف! ذهب الأخ "ملازم علي" ناحيتهم وهو يحمل بندقيته السيمونوف ذات المنظار وتحدّث معهم لمدّة باللغة التركيّة. ثمّ رجع باتجاه العم مرتضى وأصغر سرافرازي.

- أخ مرتضى! يقولون إنّهم مزارعون ومن أهل قرية شمشير.
- وأين تقع قرية شمشير!

- عدّة كيلومترات من هنا.. بالقرب من جبل "كاني خدا".
- وماذا يفعلون هنا!

- كانوا يسعون خلف قطعانهم وخيولهم.
حكّ العم مرتضى رأسه.

- أخ ملازم أنت تُصدّق كلامهم؟
 
 
 
 
 
149

138

الكتابة على الظهر

 - الله العالم! أنت القائد يا أخ مرتضى!


- لا يُمكننا المخاطرة. حتى لو لم يكونوا جواسيس من الممكن أن يذيعوا خبر رؤيتنا أمام العدو!
- يا أخ مرتضى يعني نقتُلُهم؟

ضحك العم مرتضى وربت على كتف الأخ ملازم علي.
- لا يا عبد الله! يأتون معنا إلى قُرب الهدف وحين تُقرّرون أنتم العودة، تُرجعونهم معكم. بهذه الطريقة لا يفتضح أمر هجومنا!

ذهب الأخ ملازم علي والأكراد الأسرى. فتح العم الخريطة الأولية لمنطقة العمليات وثبّتها بحجارة صغيرة على زواياها الأربع. تجمّعنا حول الخريطة وبدأ العم بالشرح: كتيبة كُميل تنفصل عنّا عند نقطة الانطلاق. سريّةٌ منها تتقدّم من نقطة الانطلاق مسافة عدّة كيلومترات إلى الأمام وتستقر هناك وتتولى مسؤولية تأمين الحماية لكتيبتنا وكتيبتهم حتى لا يُغلِق العدو أمامنا طريق العودة.

ثمّ أخرج طلقةً من خزّان الرّصاص ورسم برأسها النّحاسي على الأرض شكل وعاء.
- لنفترض أن منطقة العراقيين حتى الحدود هي على شكل هذا الوعاء فإنّ مجرى الدخول إلى هذا الوعاء هو طريق دربندخان، وكتيبة كُميل من خلال سيطرتها على مرتفع الشهيد الصدر تغلق مجرى الوعاء هذا. نحن أيضًا يجب أن نسيطر على تلّة بردزرد، يعني قاع الوعاء، ونُحكم الخناق على العدوّ عند مضيق دربندخان.

أشار بإصبعه إلى مسير استقرار كتيبة كُميل.
- تدور كتيبة كميل من جهة اليمين حول المواقع والمرتفعات التي تسيطر عليها كتيبة الفجر، وتتقدّم في العمق أكثر لتستولي على
 
 
 
 
150

139

الكتابة على الظهر

 المعسكرات المشرفة على دربندخان. ثمّ تستقر بعد ذلك في أعلى الطريق المُعبّدة لدربندخان وتمنع (تقدُّم) ضغط العدو علينا! 


أشار العم إلى فرهاديان فر.

- ينبغي أن تنقسم سريّتك إلى فصيلين، الفصيل الأول يُرافقك لتسيطروا على الناحية اليمنى من التّلة، ويسيطر بديهي مع نوذري على الناحية اليسرى من التّلة! ها هنا. أنا وقاسم تشوبان نتولى مع سريّتين أمر السيطرة على تلّة بردزرد!
 
 
 
 
151

140

كمبا 11 20

كمبا 11 20  - تموز 1983م

- إلى الأمام أيُّها المجاهدون..
غروب اليوم الثاني، حين غَفت الشمس، عَقَد "حسن مايلر" عصبة "لبيك يا خميني" الزرقاء حول خوذته الحديدية، وراح يدور كدولاب الهواء بين شباب كتيبة الفجر يُبلغهم بأمر التّحرك. 

حين اقترب منّي نظرتُ إليه وقلتُ ممازحًا: حسن، لا تُضيِّع نفسك، فالمسؤوليات لا تدوم!

وقف، ابتسم وأرجع إبهامه ناحية ظهره وأشار إلى صورة الرّشاش وكتابة "مُرتاح البال!".
- أخ داريوش، مُرتاح البال!
- إذا قلت داريوش مرّة أخرى، سيكون حسابك عسيرًا!

وجّهتُ يدي ممازحًا نحو الأرض لأوحي له بأنّي أريد أن ألتقط حجرًا. سارع بالفرار وهو يقول: "وعلامَ يلجأ إلى الحجر من يملك بندقيةً!".

لم يكن حسن قد ابتعد بعد حين وصل "مش موسى" بالرّاية الحمراء المكتوب عليها "يا ثار الله" واندسّ بين الشبيبة وأوصاهم بالوصايا اللوجستية: لا تُسرفوا في طعامكم.. لا تأكلوا كثيرًا.. هذه هبات الناس وهداياهم. ماءُ مطراتكم لا تُهدروه سُدًى.. لا تطلقوا النار اعتباطًا..لا تغفلوا..

ارتفع صوت أبو القاسم تشوبان: ليس لدى "مش موسى" إلّا لا تأكل.. لا تغفل.. لا تلبس.. دائمًا لا.. لا.. أوصِنا ولو لمرة واحدة بالإيجاب..

قال "مش موسى" وقد أمسك بسارية العَلم الخشبية وراح يُلوّح بها
 
 
 
 
 
152

141

كمبا 11 20

 في الهواء: أنت تنظر إلى الشَّعر وأنا أرى انعطاف الشّعر وانحناءه1


وصل طابور الأربعمئة شخصٍ من المجاهدين في نهاية المطاف إلى نقطة الانطلاق، حيث ينبغي أن تنفصل الكتيبتان الواحدة عن الاخرى. ووصل أيضًا أصغر سرافرازي قائد كتيبة كميل. ذهب مرتضى لاستقباله. حين التقيا وأمام أعين الجميع تحدّثا أحدهما إلى الآخر بلغة العيون. ثمّ تقدّما واحتضن كلٌّ منهما الآخر. 
- اشفع لي يا أصغر! 
- بشرط أن تشفع لي أنت أيضًا يا مرتضى!
- ادعُ لي أن أكون لائقًا بالشهادة يا حاج أصغر!
- انتبه لنفسك يا عم مرتضى فالحرب بحاجة إليك!
- وأنت أيضًا كذلك! وفّقك الله..

صمتا لعدة لحظات ثم رأيت اهتزاز كتفَي كلٍّ منهما. لحظةَ استدرتُ كان الرقيب غلامي مأخوذًا بوداعهما إلى حدّ السُّكر.

بالاسترشاد بأكراد البارزاني المعروفين بوحدة (كمبا 11) انقسمت قوات الاستطلاع في الكتيبتين إلى فرعين. واصلت كتيبة كُميل بقيادة أصغر سرافرازي مسيرها في العمق وتقدّمت كتيبة الفجر بقيادة مرتضى جاويدي ناحية اليسار على شكل قوسٍ.

كان الفصل صيفًا، لكن شدّة برد المناطق الجبلية والغابة جعلتنا جميعًا نرتدي معاطفنا ونلبس الكفوف ونعتمر القُبّعات الصوفية. أطلّ علينا حسن عدّة مرات. كان يروح ويجيء على طول الطابور ويهمس في الأثناء: لا تنسوا سورة الواقعة، اقرأوها بقلوبكم!
 

1- بيت شعر عرفاني: تو مو مي بيني ومن پيچش مو! وهو يشير إلى دقة نظر الحبيب وملاحظته لدقائق الأمور وعدم وقوفه على الظاهر.
 
 
 
153

142

كمبا 11 20

 ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ...  إِنَّا لَمُغْرَمُونَ *  بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ *  أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ *  لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾.


في الليل وسط الظلمة العمياء والسكوت الذي لم يكن يكسره إلا أصوات الحيوانات البريّة في الغابة وخرير مياه الينابيع الجبليّة، عبرنا عدّة تلالٍ ومعسكراتٍ للعراقيين. كنّا نسمع بين الحين والآخر أصوات ضحك الحراس وأشرطة الموسيقى المرتفعة. نادى حمامي العم مرتضى: الحاج أسدي على الخط!

أمسك العم مرتضى بسماعة اللاسلكي. 
- على السمع يا حاج!
- في موقع العرس! 
- ما زال لدينا خمسة إلى ستة كيلومترات لنصل إلى نقطة العرس! لقد واجهنا مشكلة.
- أشلو، موعد العرس عند الثانية عشرة ليلًا، يجب أن تصل في الوقت المحدّد!
- أستبعد ذلك يا حاج! سوف أسعى.

انقطع الاتصال. وبأمر من "العم مرتضى" أسرعنا في حركتنا حتى وصلنا إلى النهر. نادانا مرتضى أنا وفضل الله جمالي: يجب أن نجد طريقًا مختصرًا. فعلى هذا النحو لن نصل إلى العرس!

قلت: علينا أن نصل أولًا إلى الجسر، وقبل ذلك لا بدّ أن نقطع مسافة إلى جوار النهر!
- لا وقت لدينا، أخبرْ جميع الإخوة أن ينزلوا في الماء!
 
 
 
 
154

143

كمبا 11 20

 - سيهلك الشباب من البرد وأسلحتهم و..

- لا سبيل آخر لدينا، التوكّل على الله، فعرضُ النهر ليس أكثر من سبعة إلى ثمانية أمتارٍ!

وافق جمالي على كلام العم مرتضى أيضًا. وبصفتي عنصرًا محوريًّا في قوّة الاستطلاع في الكتيبة كان ينبغي أن أقوم بعملٍ ما. وجدتُ المكان الأكثر ضحالة في عرض النهر ونزلنا بلباسنا وعتادنا مضطرين في المياه الباردة التي كانت تصل إلى حدِّ الفخذ وفي أماكن أخرى إلى حدّ الصدر. ابتَلَّت الأسلحة وخدّرتنا المياه حتى أُنهكنا. ولحظة توقّف الطابور، أوصل " ملازم علي" نفسه إليّ. وضع بندقيّته السيمنوف ذات المنظار على الأرض وربّتَ على كتفي.
- أخ داريوش! 
- في خدمتك! 

أخرج من خلف أذنه سيجارةً وأراني إياها: هل هناك مشكلة في أن أدخّن سيجارةً؟
- أخي ملازم علي أتريد أن تقتلنا جميعًا!

قطع كلامي وقبّلني في جبهتي.
- أنت في وحدة الاستطلاع دُلّني على طريقةٍ ما. لم أعد قادرًا على التّحمل!

قلت: ألف ما شاء الله عليك في هذه الأوضاع وتحمِل الدخّان أيضًا!".
- يا أخ داريوش! أعتقد أنّه مع كل خزّان رصاص يتّسع لثلاثين طلقة يجب أن يتُم إحضار مئة سيجارة. الطلقات في كل مكان، لكن السيجارة لا!
 
 
 
 
155

144

كمبا 11 20

 ضحكت من بساطته وجوابه الحاضر. ولمَعت في ذهني فكرة. فتحتُ الكوفيّة الموضوعة حول عنقي وجلبتُه إلى زاوية تحت شجرة وقلت: "اجلس!".


جلسنا معًا. وضعتُ الكوفيّة فوق رأسي ورأس الأخ ملازم علي وقلت: أسرع.. هيا دخّن!

ضحك وقال: ما ألطفك يا أخ داريوش، حقًّا إنّك رجل أمنيّ!

أشعل سيجارته وراح يدخّن بسرعة. أخذتُ أسعل فأطفأ سيجارته في نصفها وأخذ نفسًا عميقًا.
- هل تأذيت.. أشكرك يا أخ داريوش!
- أخ ملازم علي، يا عزيزي أنت على الأقل نادني سلمان!
- على عيني! 

وصل حسن مايلر بفمٍ ممتلئ. كان صوت مضغ الطعام في فمه مسموعًا. قلت: إذا ما انفجرت فاشفع لنا!
- على عيني يا أخ داريوش!

أثناء المسير كان قائد اللواء الحاج جعفر أسدي يتواصل ويحثّ مرتضى لأجل الوصول إلى الهدف، لكنّ ذلك كان من دون جدوى، وحانت الساعة العاشرة وكان لا يزال أمامنا ساعات 
حتى نصل إلى تلّة بردزرد.

لم تتبق مسافة طويلة إلى المرتفع الذي كان ينبغي أن ننحدر منه باتجاه مواقع العدو. وفق الاتفاق، كان ينبغي على "السريّة3" بقيادة فرهاديان فر وأبو الفضل نوذري أن تنفصل عنّا عند المرتفع وتتقدّم باتجاه الهدف. نادى العم فرهاديان فر: إذا ما وصلتَ في الوقت المحدّد حيث ينبغي أن تبدأ المهمة، وإذا ما قُطع التواصل بيننا تُنسِّق أنت مع اللواء أمر الهجوم عبر جهاز اللاسلكي..
 
 
 
 
 
156

145

عشق كرب وبلاء

 عشق كرب وبلاء الأربعاء - 20 تموز 1983


تحت مطر الجبال، كنت كلما تقدمتُ أكثر في الأراضي العراقية، أرى موتي أقرب: إلهي! هؤلاء التعبويون والحرس جاؤوا بملء رغبتهم.. وأنا مكلّف من جانب الدرك ويجب أن أحفظ حياتي. لقد خدمت لمدة ثلاثين سنة. تجربتي تنفع البلاد! 

رغم أنّ سلوك التعبويين وأفراد الحرس وهدوءهم الخاص وكلام ذلك الشاب الطويل القامة ابن الخامسة عشرة قد صفعني، لكنّ التفكير في الموت وعدم العودة كان يتعبني: زوجتي وأولادي، أمي وأبي، ما ذنبهم. أُسَرُ هؤلاء وعوائلهم مستعدّة لشهادة أعزائها.. لقد كبحوا جماح أنفسهم وهذبوها وأعدّوها للشهادة. إنّ عمري من عمر آباء هؤلاء.

ينزل المطر كالمطرقة الثقيلة على خوذتي. لقد تجمّدت يداي من شدة البرد واستحالت المقنبلة كقطعة ثلج بينهما: .. كأنّ هؤلاء ذاهبون إلى عرس.. أنا إن متُّ فسيبقى جثماني في أرض العدو ويتعفّن.. أنا لا أفهم هؤلاء الناس ولا أدرك باطنهم.. وكما يقولون أنفسهم، فالشهداء يعرفون الشهداء.. أنا غريب!
- جناب الرقيب، تفضّل تين استهبانات المجفف! حلوٌ مثل الشهادة!

عدتُ من أفكاري ونظرتُ إلى الوجه الضاحك لرجل متوسط العمر نضر الوجه، كان يقسّم التين المجفف بين شباب الكتيبة بسرور. وضع في كف يدي عدّة حبّات من التين.
- كل واستمتع يا أخي! إنّها فاكهة الجنّة!

كنت جائعًا، وضعتُ قدمي على الطلعة الموحلة والمجوّفة للمرتفع
 
 
 
 
157

146

عشق كرب وبلاء

 وتقدّمت. بات الخطوُ صعبًا: التين فاكهة الجنة.. فاكهة الجنة1.. ومن حظّي رأيتني فجأة أنني بتناول هذه الفاكهة صرت شهيدًا!


استقر العرَقُ البارد على جبيني ويبس حلقي. لم آكل التين ووضعته داخل جيبي: ليتني كنت الآن إلى جانب زوجتي وأولادي.. هل سأراهم مجددًا؟ أعطني فرصة أخرى يا الله! أليس معي حق: هؤلاء قد صفّوا حسابهم معك ومع أنفسهم. أما أنا.. حتى إنّني لم أكتب وصية..

في لحظة أضاء المكان كله ولمعت السماء في طرفها. بدأت يداي جرّاء التفكير ترتعشان وتهتزان شيئًا فشيئًا. ضربت بظاهر كفي على جبيني وأخذت نفسًا عميقًا، سرت رائحة مطر الجبل داخل أنفي. عنّفتُ نفسي: ألا تعدّ نفسك رجلًا! انظر إلى كل هؤلاء الأشخاص من حولك، شبّان صغار ومتوسطي العمر، رغم التعب المنهك هم مسرورون وسعداء وكأنهم ذاهبون في نزهة!

عدت ونظرتُ إلى اثنين أو ثلاثة أكراد في وحدة (كمبا11). كان معهم عدّة أكراد أسرى مكبلي الأيدي.

عند الساعة العاشرة والنصف ليلًا وصلنا إلى أعلى المرتفع. كان مطر الصيف قد توقف وكتل الغيم الفصلي قد اختفت من السماء. مباشرة راح شخصٌ يدور حول الأفراد ويقول: أيها الإخوة ها هنا مبيتنا الليلة.. توقُف.

تنفستُ الصعداء وتمددتُ بحقيبة ظهري وسلاحي الثقيل على الأرض الرطبة، وخلعتُ خوذتي المعدنية عن رأسي. بالتدريج جاء زملائي السبعة أو الثمانية من ضباط الصف وجلسنا متحلقين بعضنا
 

1- فاكهة الجنة أو عصير الجنة: مصطلح ساد في الجبهات أيام الحرب، كان يتفاءل به المجاهدون اذا ما قيل لهم عند تقديم الفاكهة أو العصير، للدلالة على قرب موعد استشهادهم.
 
 
 
 
158

147

عشق كرب وبلاء

 حول بعض. وكأنهم كانت لديهم هواجسي وقلقي.

- أيها الرقيب، الأوضاع صعبة جدًا! كل هؤلاء يريدون أن يقتحموا قلب العدو، لن ينجو أحد منهم..
- ليس فيهم من يتحدث عن العودة!
- الأمر بسيط، لقد توغلنا مسافة 30 كيلومترًا في أرض العدو، فهل هناك من رجوع!
- هؤلاء كانوا يعلمون من البداية أنه لا رجعة في هذه المهمة، لكن ما ذنبنا نحن؟

العريف عبد الكريم ستايش، كان كلامه يختلف عن البقية:
في نهاية الأمر علينا أن نساعدهم. لقد أرسلونا إلى هنا مع المقنبلات من أجل هذا الهدف. مقتضى العدل!
- بات رأسك يعبق مثلهم برائحة مرق الخضراوات1.. هل صرت تعبويًّا؟
- صحيح، لقد قالوا لنا اذهبوا عدّة أيام للمساعدة وارجعوا. لا أن نسلّم أرواحنا للموت!

قال العريف ستايش: نحن في نهاية المطاف إيرانيون ويجب أن نقاتل العدو! لقد أقسمنا واخترنا هذا اللباس بملء إرادتنا.
- قتال لا رجعة فيه! نحن لم نتطوع مثل هؤلاء أصلًا.
- أيها الرقيب ماذا نفعل الآن؟

نظرتُ إلى وجه ستايش وقلت بحذر: ما باليد حيلة، علينا أن نسعى
 

1- قرمه سبزي: مرق الخضراوات، والعبارة مثل شعبي يقال عندما يراد اتهام أحدهم بعدم النضج والتصرف الأرعن.
 
 
 
 
159

148

عشق كرب وبلاء

 فقط أن نبقى أحياء.. ولنرَ ما الذي سيحدث!

- أنا سأسلم نفسي للأسر في أول فرصة سانحة، هذا أفضل من أن أقتل!
- تصبح أسيرًا؟!
- لديّ عرسٌ بعد شهر من الآن!
- عندي أم عجوز ستموت من دوني كمدًا!

احمرّ وجه العريف عبد الكريم ستايش غضبًا: جميعنا لدينا أهل وعمل، مثل جميع هؤلاء.. انظروا إلى وجوه هؤلاء الشباب.
- ما الذي تقوله يا عزيري. لقد سمعت أن هؤلاء قد وقّعوا عهد الدم.
- وأنا وأنت أيضًا باختيارنا لهذا اللباس العسكري قد انتخبنا طريقنا. قبل هؤلاء الشباب!
- رح يا عزيزي، قلبك طيب أيها العريف1!

نظروا إليّ:
- أيها الرقيب أنت أكبرنا. قائد كتيبتهم ذلك.. ماذا كان اسمه؟
- ينادونه العم مرتضى!
- أجل عمهم هذا. يبدو أنه رجل صالح! تحدث معه لعله يرسلنا إلى الخطوط الخلفية!

فكرتُ وقلت: ولنفرض أنه أجاز لنا العودة. مع من؟ العودة فحسب تساوي إما الموت أو الوقوع في الأسر!
- لعلّه يؤمّن لنا مرشدًا!

ابتسمتُ ابتسامة صفراء وقلت: يؤمّن لنا نحن الذين خفنا
 
 

1- قلبك طيب، بلحن التهكم عبارة يقصد بها اتهام المخاطب بالسذاجة والبساطة.
 
 
 
 
160

149

عشق كرب وبلاء

 وتراجعنا ونريد أن نفرّ؟!

- أنا غير موافق. مجرد الحديث في هذا الأمر سيزيد الطين بلّة! ولو عرفوا ما يدور في خلدنا سوف يرموننا بالرصاص ههنا!
- اسكتوا أحدهم قادم نحونا.

اقترب مسؤول التجهيزات المتوسط العمر مني. 
- قوّاكم الله أيها الرقيب!

سوّيتُ طرفي شاربي وقلت: سلمت!

قال العم مرتضى: فليتجمّع الكل هناك.

أشار بإصبعه إلى مكان في المرتفع كان قد تجمّع فيه أغلب أفراد كتيبة الفجر. لقد أخرجوا العتاد من أجربة عدة بغال وقسّموها. وقفتُ، وذهبت قلقًا وانضممتُ إلى البقية. جاء قائد الكتيبة. سار حتى وقف على صخرة تجعله مرئيًّا للجميع. باتت الهمسات والوشوشات مسموعة. رفع يده فسكت الجميع.

- بسم الله الرحمن الرحيم.. إذا نزلنا من هذا المرتفع باتجاه الوادي ثم مشينا لمدة ساعة أو ساعتين سنصل إلى الهدف. على جهتنا الشمالية تقع تلة بردزرد، وعلى جهة اليمين توجد حقول القمح وقرية واحدة.. صمت مطبق.. أيها الإخوة لا يوجد في هذه المهمة تراجع أو عودة، أمامنا إمّا النصر وإمّا الشهادة! علينا أن نسيطر على الهدف حتى يتمكن الآخرون من الوصول إلينا. كل من كان عاشقًا لكرب وبلاء فبسم الله1..

صاح أفراد الكتيبة وقد كسروا الصمت: جاهزون.. جاهزون..
 

1- بمعنى: فلينطلق.
 
 
 
 
161

150

عشق كرب وبلاء

 انخلع قلبي وامتلأتُ إحساسًا بالوحشة. ومهما سعيتُ في هذه اللحظة الأخيرة أن أُدخل في ذهني فكرة القتال وتسليم المصير لم أتمكن.. لم أكن مستعدًّا للموت، ففي النهاية ما زال عندي في هذه الدنيا الكثير من الذنوب والحاجات والحسابات غير المسوّاة مع هذا وذاك.. يا رب أنت تولَّ أمري..


تتمة كلام قائد كتيبة الفجر أعطتني الأمل بالحياة.

- لقد قلتُ في ذلك اليوم الأول للتدريب والآن أعود وأكرر، ليس هناك إجبار في هذه المهمة! أقسم بالله إنّني لا أسامح أي شخص في هذا العالم يوجد في قلبه ولو ذرة شك أو تردد في المجيء معنا ولا يرجع الآن ما دامت الفرصة سانحة! كل من لديه إشكال أو تردد فليرجع..

علا صوت بكاء أفراد الكتيبة. أشار القائد إلى الناحية المعتمة حيث كان أكراد (كمبا11) يقفون مع عدة بغال وكانت ظلالهم مشخّصة.

- الإخوان في (كمبا11) لن يكملوا معنا من هنا وما بعد بل سيرجعون. كل من كان غير راغب بالمجيء معنا فليرجع مع هؤلاء الإخوة الأكراد. حين يحين موعد الوداع والمسامحة ليرجع من يريد العودة في هذا الظلام مع الأكراد. والباقون يسيرون خلفي وهم يقرأون سورة الواقعة في قلوبهم!

مجددًا علا صوت البكاء وتناهت الشكاوى إلى مسامعي.
- ما الذي فعلناه حتى شكّك العم بنا..
- لقد أمضينا عهود الدم.
- نحن مستعدون يا عم أن نموت معك مئة مرة.
- لا بدّ أن ذنبًا ما صدر منّا.
- تريد أن تتم الحجّة علينا.
 
 
 
 
 
162

151

عشق كرب وبلاء

 أُنْشِدَ صوتٌ يشبه صوت ذلك الرجل المتوسط العمر المسؤول عن التجهيزات:

أسأل الله أن يعطيني مئة ألف روح
حتى أموت مئة ألف مرة لأجلك!

رجعت ونظرت إلى ضباط الدرك. شعرتُ أن كل واحد فينا نحن الثمانية غريب عن الآخر.

- إلى الأمام.. بصمت تام.. أيها الإخوة.. اقرأوا سورة الواقعة في قلوبكم: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ﴾.
 
 
 
 
163

152

اكسر الجنزير

 اكسر الجنزير الأربعاء - 20 تموز 1983


- استيقظ يا حسين! استيقظ! لقد بدأنا بالتحرك!

استيقظتُ مشوشًا.
- كيف أمكنك النوم في هذا البرد وجهاز اللاسلكي خلف ظهرك؟
- أيقظني السيد علي الحسيني. فهمتُ مباشرة أنّ النوم كان قد غلبني من شدة التعب وأنا جالس. قلت: كم الساعة؟ هل تخلفنا عن الركب؟
- إنها الحادية عشرة! لقد انفصل عنّا شباب "السريّة3"!

فركتُ عينيّ ونظرتُ إلى الأمام. كان فرهاديان فر ونوذري يودّعان العم مرتضى. قلت: رجع الأكراد!
- من نصف ساعة!
- سيد علي، هل رجع معهم أحد!
- وهل كان من المقرر أن يرجع معهم أحد!
- نادر!
- ما به نادر؟
- كان يردّد على لسانه موضوع العودة!
- كلٌّ مسؤولٌ عن نفسه. 

في عتمة منتصف الليل ألقيتُ نظرة على الطّلعة الشديدة للجبل.
- يا إخوان تحركوا..

هزّني السيد علي الحسيني من كتفي.
 
 
 
 
164

153

اكسر الجنزير

 - حسين لا تزال جالسًا، هيا قم!


مرّ بجانبي "علي سبزي" الشاب النحيف وقد لفّ الحمّالة المصنوعة من القماش المشمّع وحملها على كتفه.
- سيد بنائيان، لا تتخلّف عنا يا عزيزي!

ما من مرة رأيت فيها عليًّا إلا كان في حال الصلاة والدعاء! كان يرفع يديه طويلًا في الصلاة. يضعهما أمام وجهه النوراني الصافي ويغمض جفنيه فيما تسيل دموعه على خدّيه. الله وحده يعلم بما كان يقول.

خطر ببالي أنه لم يكن قد خُلق إلّا لأجل الدعاء والصلاة.. بعيدٌ أن يكون بجسده النحيف هذا من أهل الحرب والقتال..

قمت وأعدت تسوية جهاز اللاسلكي على ظهري، ورتّبت الأدوات المعلقة بجعبتي وبدأتُ بالتحرك وانضممتُ إلى الرتل. وصلنا إلى وادٍ لا يمكن عبوره. وريثما استدرنا حول الوادي ووجدنا طريقًا للعبور كان قد ضاع منّا بعضُ الوقت.

فجأةً شاهدتُ مرتضى قائد كتيبة الفجر إلى جواري. سأل العم مرتضى الشاب إلى جواره: كم بقي حتى نصل إلى الهدف؟
- بحدود كيلومترين!
- الوقت يضيع، يجب أن نركض!

لم أكن أحب أن أنفصل عن مرتضى وبدأتُ بالركض. دخلنا الغابة. جاء عامل الاشارة إلى مرتضى راكضًا: عم مرتضى، إنها كتيبة كميل! علي نجفي على السمع!

أخذ مرتضى سمّاعة اللاسلكي.
- علي، علي، مرتضى!
- إي مرتضى، سلام!
 
 
 
 
165

154

اكسر الجنزير

 أجابه مرتضى بنفس متقطع: وعليكم السلام، ما الأوضاع؟

- نحن تحت مرتفع الشهيد الصدر.. جاهزون لإقامة العرس! ما أوضاعكم أنتم؟
- نحن نركض، وها أنت تسمع صوت لهاثي..

انحدرنا من المرتفع إلى الأسفل. لم نكن قادرين على السيطرة على خطواتنا. كنّا ننزلق في بعض الأمكنة، فيصطدم الرتل الطويل بعضه ببعض. رفعت رأسي فشاهدتُ أمامي حقلًا واسعًا ومصابيح قرية مضاءة تلمع. أثناء عبورنا بجانب القرية سمعتُ صوت عواء كلب.

مع دخولنا نهاية الحقل، كان يتناهى إلى مسامعنا من بعيد أصواتُ نيران الأسلحة الثقيلة!
- هذا يعني أن الهجوم قد بدأ.. بهذه السرعة.. 

كان العراقيون يرمون النيران في كل الاتجاهات من أعلى المرتفع المقابل وكأنّ مرصد هداية النيران العراقية كان على المرتفع أمامنا! كنتُ أسير خلف العم مرتضى ويسير السيد علي الحسيني خلفي! جاء جمالي من شباب المعلومات وقال: يا عم، لقد تنبّه العدو فوق التلّة، أصبحت المهمة صعبة جدًّا!

ضحك مرتضى وأجاب: على العكس! حتى في منامهم لن يتخيلوا أننا موجودون تحت أقدامهم ونريد أن نشنّ الهجوم!

في قلب الظلام قدّم عدّة أشخاص لم أكن أعرفهم عدّة أدلّة أخرى على صحة شنّ الهجوم: لقد شخّص الشباب مكان رماية العدو من خلال نيران فوهات الرشاشات.
- لقد تعبوا الآن!
- هم لا يتصوّرون أنّ سريتّين سوف تضربانهم من الخلف!
 
 
 
 
166

155

اكسر الجنزير

 قال مرتضى: الليلة ستقوم القيامة! القيامة..


أمر القائد بالتوقف للحظة ونادى جليل حمامي.
- خذ "فرهاديان فر"!.. يجب أن تبدأ "السريّة3" بالهجوم في وقت أبكر وتُحكم السيطرة على تلّة "الفولي بول"!

سأل داريوش صفري: ولأجل أي شيء يا عم؟!
- لأنهم يتقدموننا ونحن لم نستقر بعد، إذا لم تسقط تلة الفولي بول فسنكون في مرمى النيران من جانبنا، وعلى فرض أنّنا سيطرنا على تلة بردزرد فغدًا صباحًا سيكونون شغلنا الشاغل!
- شوكولاتة، تين، تمر.. 

كان صوت "مش موسى" مسؤول تجهيزات الكتيبة الذي كان في أوج حساسية المواجهة وخطورتها، يوزّع ما في يديه من منال وزاد مبتهجًا مسرورًا. مرّ "مش موسى" بجانبي فقلت: "مش موسى"، أنت دائمًا توصي الشبيبة بألا يأكلوا وألّا يشربوا وألّا يسرفوا، ما الذي حصل حتى انتابتك هذه الحال من السرور والكرم؟

ضحك وقال: إن لم تأكلوا الآن فمتى ستأكلون؟ هذه ليلتكم الأخيرة، قلت فلتأكلوا عشاءكم الأخير مبسوطًا!

وحين لاحظ صمتي، ضحك وقال: إنني أمزح. قلت: سوف نستولي على التلّة إن شاء الله، ونغنم أكوامًا من الطعام والمؤونة، وحينما يأتي الجديد يصبح القديم في الحضيض!

ذهب وأنشد: كُل التين واكسر الجنزير.. شكولاتة، تمر..
 
 
 
 
 
167

156

تلة الفولي بول

 تلة الفولي بول1 - 20 تموز 1983


منتصف الليل، قدّام بقية أفراد "السرية 3" تحت تلة الفولي بول، كنت مستلقيًا أنصتُ إلى مناجاة فرهاديان فر.
- يولد الإنسان من جديد في الجبهة.. لا عداوة ولا بغضاء.. صداقة وأخوّة.. محبة وأنس بمولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف بالإمام الخميني.. عشق لله..

أخذ "فرهاديان فر" نفسًا عميقًا ونزل من عليائه وصار ترابيًّا وقال: أخي نوذري، تتوق نفسي إلى فنجان شاي زلال ولا أطيب، أشربه وأنطلق باتجاه جبهة العدو.

أطلق الـمضاد الجوّي نيرانه من فوق تلة الفولي بول وكان يرسل رصاصاته الخطاطة الحمراء والصفراء بتدرج وتتابع في سماء المرتفعات الحدودية نصف الغائمة. انفجرت بعد ذلك قنبلة مضيئة فوق رؤوسنا وشاهدت وجه فرهاديان فر بشكل أوضح. همست في أذنه: حين أصل إلى الأعلى هناك، سأعد لك من الشاي المغتنم من الأخوة العملاء البعثيين كوب شاي على مزاجك! ولو أنك قلت في وقت أبكر لكنت أعددت لك أثناء المسير شاي المعركة من أعشاب الجبل اليابسة والمقذوفات الفارغة وعلب الفاكهة الخالية والتين.
- قدم في هذا العالم، وقدم أخرى في ذاك!
- ماذا قلتَ؟!
- هذه حكايتنا..! نوذري، لِمَ أطلقت على التلة اسم الفولي بول؟!
 

1- الكرة الطائرة.
 
 
 
 
168

157

تلة الفولي بول

 استدرت ونظرت لجهة اليسار حيث تقع تلة بردزرد، وقلت: بسبب ذاك الاستطلاع نفسه، حين جئت الأسبوع الماضي بعد الظهر برفقة العم مرتضى لاستطلاع التلة. وفق أوامر مرتضى بقيت مستلقيًا عدة ساعات فوق أعلى المرتفع وعيني على التلة بحثًا عن طريق نفوذ سهلة لأجل هجوم الليلة. عصرًا، كانت عيناي على التلّة أحدّق في مكان يكسوه الشوك والهشيم يبعد عنها (200م). ارتفعت أصوات ابتهاج عدد من الجنود العراقيين على سطح التلة. كان الجنود الذين أنهوا المعركة يلعبون الكرة الطائرة بفرح وصبيانية فيما تتعالى أصوات ضحكاتهم في السماء. وكان الوقت يقترب شيئًا فشيئًا من المغيب وأملي بإيجاد معبر للنفوذ يقلّ حين ظهر جندي عراقي يصفّر آتيًا من طريق قدَميّة فرعية، فدخل المعسكر وانضم إلى فريق كرة الطائرة ودلّني بمجيئه على طريق التسلل المخفي! عندها أسميت التلة بتلة الفولي بول.

- نوذري!

أدرت وجهي ناحية اليمين. همس فرهاديان فر في أذني: يجب أن تتم السيطرة على التلة. يعتمد العم مرتضى علينا.

علا صوت خشخشة اللاسلكي وتقدّم مهدي مسؤول اللاسلكي المرافق لـ"فرهاديان فر" وقال: العم مرتضى على السمع! (وراء الخط).

قال فرهاديان فر الذي كان يتمتم بدعاء: نوذري، أجب أنت!

وضع مهدي سماعة اللاسلكي أمام وجهي. ألصقتُ السماعة بفمي. ضغطت على الزر وقلت بصوت أجش: عم ، يا عم، معك نوذري! ما الأوامر؟
- ما الأخبار يا فضل الله؟
- كله تمام!
 
 
 
 
169

158

تلة الفولي بول

 - إذا ما أعلن الحاج أسدي نداء الهجوم سوف ألصق سماعته بسماعتي لتسمع النداء مباشرة!


وسرعان ما سمعت نداء العمليات.
- يا الله، يا الله، يا الله.. وفقكم الله إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم..

رفع فرهاديان فر يده عاليًا وبنداء "الله أكبر" بدأنا التقدم. كالحبل الطويل انحدر الشباب ودخلوا في المنخفضات والأخاديدالمحاذية للتلة. برفقة "مهدي باريك اندام"1 الذي كان يتبع خطواتي قافزًا كغزال يلهو، وصلتُ ناحية عنق (عُرف) تلة الفولي بول.

اضطرب قلبي، وسمعت بوضوح وسط سكون الجبل خفقان الدم في قلبي. قمت. تناهى إلى سمعي من بعيد صوت إطلاق الرصاص كفرقعة اشتعال الحطب حين تلتهمه النار. قلت بسرعة: إلى الأمام.. الرتل رقم واحد، خلفي!

تقدمت فيما تبعني أفراد السرية بالأسلحة وحقائب الظهر ومطرات المياه يركضون بخطوات واسعة. في غضون خمس دقائق خرجنا من منخفضات تلة الفولي بول وسرنا وسط الظلام باتجاه الطريق القَدَميّة نفسها.
- لا يتخلّفَنّ أحد!

خلال عشر دقائق، ومن دون أن تنتبه لنا الحراسة أو نطلق رصاصة، استطاع أفراد السرية دخول المعسكر. أرعبَ وقع أقدامهم على الأرض ونداؤهم الممدود "الله أكبر" العراقيين وجعلهم غير قادرين على الحراك! كان صوتي يرتجف من شدة الحماسة.
 

1- (باريك اندام) معناها أيضا : صغير الجسم ضعيفه.
 
 
 
170

159

تلة الفولي بول

 - إلى الأمام..


حين انتبهت إلى نفسي كنت فوق أول خندق كمين للعدو. كنا عدة أشخاص، وجّهنا معًا سبطانات بنادقنا داخل المكمن حتى نضغط على الزناد، لكن حارس الكمين، ومن شدة الخوف، وافته المنية فورًا!
- من أطلق النار على هذا؟

قال مهدي: المدد الغيبي!

هززت الحارس فسقط جسده المتخشب على جانبه الأيمن! مجدّدًا علت أصوات رماية أفراد السرية، وبمنتهى الذعر انتهى أمر الجنود العراقيين الغافين ما بين قتيل وهارب.

سقط الموقع العراقي في أقل من نصف ساعة وكأنّ العدو لم يكن قبل دقائق مستقرًّا فوقه. وعلى مدّ النظر، كانت القنابل المضيئة الصفراء تتساقط بمظلاتها البيضاء وتضيء الجبال والوديان الزرقاء من حولنا. وبدأ تمشيط المتاريس وتطهيرها بالقنابل اليدوية.
 
 
 
 
 
171

160

داريوش الكبير

 داريوش الكبير - الأربعاء 20 تموز 1983


وصلنا عند الثانية عشرة والنصف ليلًا الى أسفل تلة بردِزرد. كان العراقيون يطلقون نيران الرشاشات من العيارات المتوسطة والثقيلة والمضادات الجويّة من أعلى التلة على تمرتشين والقمطرة. ناداني العم مرتضى: سلمان، أنا أفهم الآن لماذا كان يجب السيطرة على تلة بردِزرد!

وصلنا خلف نهر ضحل كانت مياهه تنبع من الجبل. وكان النهر يشكّل أول عائق أمام الدخول إلى تلة بردزرد. أسفل العدو، تأملت في أعداد مظلات القنابل المضيئة التي كانت تنفجر شمالًا ويمينًا في سماء المنطقة وتترنّح في سقوطها. ربّت العم مرتضى على كتفي.
- صفري، يا الله! المهمة الآن تطلبُ يدك!

مسحت بيدي على شعر كريم الأبرص.
- لا تنس أن تقرأ طالعي هناك في الأعلى!

قمتُ وتقدمت لأقود بـ"السريّة2" وأرشد الشباب إلى محور الهجوم. انحدرت والرتل نحو الوادي. دخل الشباب خلفي في شق (أخدود) مكّننا من صعود طلعة التلة والبدء بالهجوم. نادى العم مرتضى حمامي: لا تدع الشباب يتحركون من أماكنهم حتى أرجع. سلمان تعال معي!

عدت مع العم إلى جانب أفراد "السريّة2" خلف النهر. راقب مرتضى بدقة، مستعينًا بالمنظار، أربعة إلى خمسة خنادق تشكّل معابر دخول للتلة. ثم أوصى أبو القاسم تشوبان الوصية الأخيرة في أذنه. وضع إصبعه على تلة بردزرد التي شابهت ثلاث قبب على الخريطة.
- أنتم يجب أن تسلكوا من الخلف وتحكموا السيطرة على التلة
 
 
 
 
 
172

161

داريوش الكبير

 الأعلى!


ثم وضع إصبعه على التلة الأمامية بموازاة التلة ناحية اليسار وتابع: أنا و"السريّة2" نضرب عنق التلة. ننسق الهجوم باللاسلكي.

سأل "حجة الله آذربيكان": والعنق الثاني ناحية اليسار، ماذا بشأنه؟
- حالما نستولي على هاتين نتوجه جميعًا للسيطرة عليه!

ربّت العم مرتضى على كتف تشوبان.
- تحرك! ما إن تصل، نبدأ الهجوم.

استجاب أبو القاسم تشوبان قائلًا على عيني، ووضع حبة تين مجفّفة في فم مرتضى. قلت لجلال كوشا: دلّهم على الطريق!

انطلقت "السريّة1" لتلتفّ حول تلة بردزرد التي كانت عبارة عن ثلاث تلال متصلة. رجعنا بسرعة. أعلن حمامي: لقد استقر تشوبان في موقعه!

أخذ العم سماعة اللاسلكي منه وقال لتشوبان: حالما تسمع مني نداء الله أكبر تبدأ الهجوم. علينا أولًا أن نسيطر على عدة خنادق أسفل التلة الصغيرة! من بعدها تصعد بشبابك نحو أعلى التلة الكبيرة.

نادى مرتضى "حسين تشابكي" وأشار إلى حلقات الشريط الشائك في الناحية الأخرى من النهر.
- حسين، حالما تسمع نداء الهجوم تطلق نيران الـ(B7) على الشريط الشائك لتنفتح الطريق!

كانت الرشاشات الثقيلة في أعلى مرتفع بردزرد تصوّب بعيدًا.

نادى العم مرتضى حسن مايلر. جاء حسن حاملًا الـ(B7) خاصته. أشار العم إلى الرشاشات.
- مع ندائي الله أكبر ترمي متراس إطلاق الرشاشات!
 
 
 
 
173

162

داريوش الكبير

 قرّب حمامي السماعة من فم مرتضى. سدّد*1 حسين تشابكي على حلقات الشريط الشائك عند مدخل التلة بـالـ(B7) وهو واقف يستعدّ، وسدّد حسن سرخي على فوهات رشاشات التلة الملتهبة. من غير قصد وقع نظري على صورة الرشاش وكتابة "مرتاح البال" على ظهر حسن. زأر مرتضى كالأسد: الله أكبر..


انطلقت النار من الفتحة الخلفية لقاذف الـ(B7) بيد حسن وكانت عيني على الصاروخ الذي جرّ اللهب خلفه باتجاه الرشاش. أصاب الصاروخ طرف غطاء الخيش للمتراس وانحرف مساره! صاح مرتضى: علينا أن نتقدم إلى الأمام، ليس باليد حيلة!

قمت برفقة الآخرين وعبرت النهر الذي بلغت مياهه حتى الركبة. اشتغلت الرشاشات الثقيلة، وفجأة سمعت صوت تحطّم جمجمة وأنين أشخاص آخرين!
- آه.. ياااا حسين..

أشعلت قذيفة (B7) حسين تشابكي النار بالشريط الشائك وفتحت الطريق. تقدمت تحت نيران الرشاش الثقيل نحو الشق وإذ به يسكت للحظة ويعم السكوت كل الأرجاء. سمعت على الأثر صوت دويّ وشاهدت انفجار قنبلة انفجرت بين الشباب في الصف الأول.
- آه.. احترقت.. يا الله..

صوت الآه! من مرتضى انغرز كالسكين في قلبي. أجنّني تخيُّل استشهاد مرتضى وقفزت نحوه بسلاحي الكلاشنكوف. كان جاثمًا على ركبته.
- ما.. ماذا ج..جرى عم مرتضى!
 
 

1- * وجّه نحو الهدف، صوّب.
 
 
 
174

163

داريوش الكبير

 وضع إصبعه بنحو مستقيم على أنفه.

- هس! لا شيء يا داريوش الكبير..

ضحكت وتنفّست الصعداء.
- خادمك يا عم! 

تحسّس بيده كتفه الأيمن. أمسكت بأسفل خصره. قال: أظن أنّ حجرًا قد أصاب ظهري. يجب أن نتقدم!

قمت، وبدأ إطلاق الرشاش من جديد. هذه المرة كان التصويب نحو الأسفل، وكان وابل النيران يصيب الشباب كزخات المطر، وكانت قنبلة مضيئة تسقط من أعلى فوق رؤوسنا وتستحيل عينًا لرامي الرشاش. علت أصوات الآخ والتوجّع من عدة أشخاص.
- احترقت.. يا الله.. يا حسين..

كانت الطلقات الخارقة تفجّر أجساد الإخوة وترميهم إلى الخلف. ألقت موجة من رشقات الرشاشات المتوسطة والثقيلة وكأنما اتصلت بالبحر، الجميعَ أرضًا، وخلال دقائق أصيب نصف الشباب.

تحت وابل النيران وأنين الإخوة كان فكري مشغولاً بالمجزرة الموحشة التي يتعرضون لها. لم يكن من الممكن الوقوف والإطلاق المباشر للنار. فجأة ارتفع صوت.
- مهلًا.. أعطونا مهلة..

وقع نظري على العريف عبد الكريم ستايش. جلس وصوّب مقنبلته ناحية دشمة الرشاش الثقيل. أصابت القنبلة الأولى طرف الدشمة وسقطت القنبلة الثانية في قلب دشمة الرماية العراقية وتناثرت الدشمة مع الرشاش في الهواء. قبّل العم مرتضى جبينه وصاح: إلى الأمام.. الله أكبر..
 
 
 
 
175

164

داريوش الكبير

 تحرّك السالمون والجرحى. العم في المقدمة والإخوة خلفه انطلقوا صعودًا. وصلنا إلى الصف الأول من الخنادق والمتاريس عند سفح التلة الصغيرة. اشتبكنا وسط الظلام مع العدو ونشبت معركة وجهًا لوجه. كانت القنابل المضيئة العراقية تشتعل في السماء وتُظهر ظلال رأس التلة. استمرّ التمشيط بطيئًا وثقيلًا. امتدت المعركة وجهًا لوجه إلى الخنادق. كنا نفجّر بالقنابل الخنادق والمتاريس والكوّات الصغيرة والكبيرة وكل ثقب ومنفذ في التلة ونتقدّم. ارتفعت حرارتي واشتدت سخونتي. وصلنا إلى مكان تركّزت علينا فيه من ناحية القمطرة وتمرتشين نيران الأسلحة الثقيلة لقواتنا!

 

 

 

176


165

جبل النور

 جبل النور - 20 تموز 1983


تملّكتني حماسة الهجوم واحتدامه. فككتُ جهاز الـ PRC اللاسلكي من على ظهري ووضعته على الأرض.

اللعنة!

قال السيد علي: "حسين لماذا وضعت جهاز اللاسلكي؟".

صرخت: "وما هي حاجته! أعطني الـ(B7)!".

أمسكت قبضة الـ(B7) من السيد علي الحسيني وركضت في أثر قائدي رحيم نعيمي. كان نظام الهجوم قد انحلّ تحت وطأة نيران العدو، وكان كل واحدٍ يتقدّم وفق هواه وإرادته.

كنتُ أفكر فيما هو أمامي فقط وأصعد طلعة التلّة لاهثًا وكأنني في صدد تحطيم الرقم القياسي العالمي لسباق المئتي متر. أثناء الطريق، أضاء جبل من النور فجأة وجمدتُ كقطّة فاجأها ضوء مصباح السيارة ليلًا وتوقّفت! لم يكن النظر إلى التّلة ممكنًا، وكأنني كنت أنظر إلى قرص الشمس.
- ارموا على الأضواء الكشّافة..

بسرعة فائقة أطفأتْ رمياتُ الإخوة الأضواء الكشّافة وبدأتُ بالتقدم مجدّدًا. وصلتُ بسرعة البرق إلى المتراس الأول للتّلة الصغيرة. كان رشاش ثنائي يقاوم من داخل المتراس ويحصد الشباب ويصمّ الآذان. كان الرصاص يتجاوزني من كل الأنحاء وأنا مدهوش كيف أنّه لم يكن يصيبني. فجأة سمعت صوت انفجار رصاصة خارقة متفجرة في جسد "غلام فرماني ها". في البداية توقّف غلام ثم رجع
 
 
 
 
177

166

جبل النور

 إلى الوراء ثمّ تدحرج نحو الأسفل كقطعة صخر على منحدر التلة.


أثناء حركتي اصطدمت بعراقي كان قد خرج من دشمته لا يلوي على شيء وقد علا صوتُه "دخيل الخميني" وسط الغوغاء وفرقعة الرصاص. سار العراقي وبعد عدّة خطوات سقط على رأسه. كان السيد علي وحميد زارع وعدّة أشخاص آخرين يسيرون خلفي وكأنني قد أخذت مكان قائد الفصيل. وسريعًا ما عمّت المواجهة كلّ التلة الصغيرة وأضاءتها. كان مرتضى يردّد بسرعة: "طهّروا الخنادق!".

وصلتُ إلى منطقة سهلة الصعود مسطّحة نسبيًّا بين التلّتين. كان على التلة عدد من الآليات والتجهيزات العسكرية. رحتُ أفتّش عن صيدٍ لصاروخ الـ(B7) الذي أحمله على كتفي! وكان أمامي آليّة IFA كبيرة قد غطّت مؤخرتها خيمة قماشية. قلت في نفسي: هذا هدف جيد! يجب أن أطلق النار.. يجب أن أقوم بعمل ما.. 

وقفت. وضعت القبضة على كتفي واستهدفت ناقلة الجند الكبيرة هذه وسط الظلام المضاء بشُعل القنابل المضيئة وانفجارات المتاريس والخنادق.
- هاي.. لا ترمِ ال IFA!

بين أصوات الرصاص أوقفني صوت تعبوي الكتيبة "محسن شعباني". استدرت متعجّبًا وقلت له: "ولأجل أي شيء لا أرمي؟".
- إنّها غنيمة، لبيت المال.. قد تنفعنا!
- دعك عني!

كانت ال IFA تلمعُ من الخلف أمامي. صوّبتُ على مؤخرتها.

تقدّم محسن شعباني غاضبًا وصرخ بصوت أجشّ.
- قلت لا ترمِ!
 
 
 
 
178

167

جبل النور

 بحماسة، وبدون أن أنظر إليه قلت: "هل نسيت أنّنا جئنا للقتال.. نحن نحارب عدوًّا".


كانت جملة "لا ترم.. قد تنفعنا.." تطرق مسامعي حين ضغطت على الزناد. انطلق الصاروخ كالطوربيد وأصاب الزجاج الخلفي للسيارة ثم خرج من الزجاج الأمامي واصطدم بصدر التلة وانفجر.
- شاطر! 

استدرت ونظرت بانزعاجٍ إلى محسن. كان السيد علي أيضًا وسط معركة القتال واقفًا بدم بارد يضحك عليّ مثل الأطفال الصغار! كان الوقوف وسط الهجوم يعني أن تصير صيدًا، ولم تكن هناك فرصة لتوقّف الصاروخ وقد جعلني محسن أيضًا أتردّد. حين استعدتُ انتباهي كان شباب الإعلام قد بدأوا بالكتابة على ناقلة الجند الـIFA بمسحوق الطلاء: "لواء المهدي!".
- حسين بنائيان، علينا أن نمشّط الخنادق!

وصل أيضًا مصوّر الكتيبة الشاب وصوّر حركة الشباب خطوة بخطوة. رأيت للحظة القائد مرتضى يُرشد الشباب بين التّلتين إلى ناحية المواقع العراقية. قلت: أيُّها الشباب لقد استشهد قائد الفصيل فلنتبَع نعيمي قائد السّرية!

وضعت الـ(B7) وحملت سلاح الكلاشنكوف المغتنم ونظرت إلى حسيني وقلت: "يا سيد فلنذهب لنُمشّط المتراس!".

لم يكن محسن شعباني من المتقاعسين وسار يحذو خطاي. وصلنا إلى المتراس الأول. حين أردت أن أُخرج القنبلة من حزامي وأرميها فيه انتبهت إلى أن القنابل لم تكن على خصري! 

لم يُضيّع محسن وقتًا وألقى قنبلة بدلًا عني داخل المتراس. إلى هذا الحدّ كانت النتيجة:
 
 
 
 
179

168

جبل النور

 اثنان صفر لمصلحة محسن!


أفزعني صوت الانفجار! استعدت رباطة جأشي. كانت آهات محسن شعباني وأنينه عالية ومرتفعة. صفّرَت أذني. حين استعدت انتباهي أدركت أنّ قذيفة (B7) من العدو - وربّما الصديق - قد أصابت جانب المتراس. نظرت ناحية محسن. كان قد سقط على الأرض والدّم جارٍ من رأسه. تملّكني الحزن والنّدم من مشاجرتي معه قبل دقائق. جلست ونظرت إلى رأسه.
- ما الذي حصل.. 

كان يتألم ويشير إلى قدمه. 
- قدمي! لا أستطيع تحريكها.

كانت ساق سرواله اليمنى قد احترقت وتلطّخت بالدماء. أمسكتُ قدمه، فتبيّن أن شظايا الـ(B7) قد قطّعت قصبة ساقه. لكنّ جرح رأسه كان سطحيًّا. قال السيد علي: "ماذا نفعل!".

قال محسن: دعوني وشأني.. اذهبوا أنتم لمساعدة الإخوة..
- ما الذي حصل؟

كان علي سبزي. وكأنّ مَلاك الرحمة قد وصل. جلس وأخرج الضمادات من حقيبة ظهره وضمّد بدقّة وعناية جرح قدم محسن ورأسه وقال: أنا أحمله إلى مكانٍ آمن.
- أيُّها الشباب تقدّموا باتّجاه التّلة العليا..

كان قائد السرية رحيم نعيمي. حين اطمأننت على محسن أسرعت في الركض ناحيته.

كانت "السريّة1" بقيادة أبو القاسم تشوبان قد سيطرت أيضًا على التلة من خلف المرتفع وانضمّت إلينا. جلب شباب "السريّة1" معهم
 
 
 
 
180

169

جبل النور

 مجموعة جنود أسرى. فرّ عددٌ من العراقيين تحت انعكاس أشعّة النور الناشئة عن تدمير الذخائر العراقية والقنابل المضيئة ولاذوا ناحية المرتفع الشمالي لتلّة بردزرد. رافَقَنا نعيمي نحو المرتفع لكنّنا وُوجِهْنا بنيران العراقيين ومقاومتهم الشديدة. وأصيب عدد آخر من الإخوة. لم يكن ممكنًا الاستيلاء على المرتفع ناحية الشمال، الذي كان أعلى من التلتين الأخريين، بعدد محدود من القوات المنهكة والجريحة! أوصل إلينا جليل حمامي أمر القائد مرتضى الجديد: أحكموا السيطرة على هذين العنقين واضمنوا استقرار الأوضاع فيهما. لا تذهبوا باتجاه مرتفع التلة، فمن الممكن في ظل الخسائر أن نفقد هذا المكان أيضًا!

 

 

 

 

181


170

الملك

 الملك - الأربعاء 20 تموز 1983م


عندما تمّ إطلاق قنبلة مضيئة صغيرة واحدة حمراء اللون بمظلّة مقوّسة من فوق قمّة كينغ وتساقطت بشكل حلزوني فوق رؤوسنا وسط الظلام، ألصق الرّائد قادري، قائد "الكتيبة 551" في "اللّواء2" في الفرقة 64 - أرومية، فمه بأذني وسأل: 
- ملازم بانوسان، الأوضاع ملتبسة! أليس كذلك؟

استدرت وأنا مستلقٍ ونظرت إلى الرائد الذي كان قد موّهَ أطراف وجهه المحلوق بالشفرة بالشمع الأسود فبات يلمع كالمعدن، وكان بياض عينيه يزيغ فيتلألأ وسط الظلام! وأجبته بصوت أجشّ: برأيي هي كذلك سيدي!

خائبًا قال بتردّد: "أتعرف هذه المنطقة والمحور جيّدًا يا ملازم بانوسان؟".

عملتُ لمدّة شهرين مع شباب الاستطلاع في لواء المهدي على هذا المحور!".

حدّق بي متعجّبًا. 
- مع الحرس والتّعبئة؟! وأنت أرمني!
- نعم سيدي!

علا صوتُ وشوَشَة بين جنديّين. استدار الرائد وقال بصوتٍ منخفض: "هس.. وهل أتيتم للاستجمام!".

للحظة، جلبت الريح صوت خشخشة تبديل موجات راديو العراق من أعالي مرتفع كينغ. لم يكن الرائد انهزاميًّا، وبظنّي كان يُكابد
 
 
 
 
182

171

الملك

 خوف ما قبل الهجوم ويريد بالحديث معي أن يُقلّل من فزعه. 

- بانوسان، في كم عمليّة استطلاعٍ شاركت مع شباب الحرس؟

جلب نسيم منتصف الليل لسعة الصقيع معه من مرتفع كينغ ولفح وجهي. نفختُ نَفَسَ فمي الحار داخل قبضتي وفركتُ يديّ الاثنتين وأجبت: كثيرًا يا جناب الرائد، حصار عبادان، الفتح المبين، بستان، بيت المقدس، كنت مع شباب الحرس في أغلب العمليات!
- ملازم زوريك بانوسان، هل ألفظ اسم عائلتك بشكل صحيح؟
- كلا سيدي! بانوسيان.
- اسمك صعب. بانوسيان، ألم يكن شاقًّا عليك أن تكون أرمنيًّا بين مسلمي جبهتين!
- في الحقيقة كانت من أفضل أيام عمري!
- ملازم بانوسيان، أنت لا تخاف؟
- الكل يخاف سيدي، الحب والخوف متقابلان! وكلّما ازداد الإنسان حبًّا قلّ خوفه!

سأل الرائد الذي كان قد تغلّب إلى حدٍّ ما على ألم خوف ما قبل الهجوم: ملازم بانوسيان، لماذا يسمون هذا المرتفع كينغ؟".
- سيدي.. إنّ كلمة كينغ بالإنكليزية تعني الملك! وكينغ هو أعلى مرتفعٍ في المنطقة!

هزّ رأسه متحيّرًا.
- بانوسيان، وهل يمكن الإطاحة بالملك؟
- لقد حصل ذلك في الثورة! بالتوكّل على الله حتمًا!
- إنّ كلامك يفوح منه عبق الحرس والتعبئة يا بانوسيان!
 
 
 
 
183

172

الملك

 قال الرائد وقد نظر في الساعة المضيئة على قبضة يده.

- إنّها الثانية عشرة إلّا عشر دقائق! لم يبقَ شيءٌ على إطلاق الإسناد النّاري، هل في المحور حقل ألغامٍ يا ملازم بانوسيان؟
- كلا سيدي، سنواجه حوافّ منحدرة وأشرطة شائكة فقط!

أخرجتُ من جيب لباسي العسكري حبّة شوكولا بطعم الكاكاو، وقسّمتها نصفين وضيّفت الرّائد. 
- تفضّل الشوكولا يا جناب الرائد!
- شكرًا..يا لك من رجل.. لقد سدّ الإجهاد والتوتّر مجرى حلقي.

وضعتُ النصف الثاني من حبّة الشوكولا في فمي وطحنته بأسناني. 
- سيدي، تناول الكاكاو يُهدّئ!

دوّت صاعقة مدفعيتنا من خلفنا، متلاحقة كالبرق والرعد. وبسرعةٍ انصدع الهواء فوق رأسي وخرقت النيران الثقيلة التي حطّت فوق مرتفع كينغ جدار الصمت والظلام.
- بووم.. بووم

ظلّ مرتفع كينغ لمدّة نصف ساعة تحت نيران مدفعيّتنا. استدرتُ وأنا مستلقٍ على ظهري وسمّرت عيني بالقنابل المضيئة الصفراء والبيضاء فوق رأسي. كانت القنابل المضيئة تترنح في احتراقها وتسقط بمظلاتها بشكل لولبيّ. كان كينغ من هذه النقطة يبدو في انعكاس الشعل المتلألئة للقنابل المضيئة وانفجار صخور الجبل عظيمًا ومخيفًا!

عند الساعة الثانية عشرة والنّصف بعد منتصف الليل أُعلن النداء عبر لاسلكي قائد "الفرقة 64 - أرومية": يا الله، يا الله، يا الله..
 
 
 
 
184

173

الملك

 - إلى الأمام أيُّها الملازم.. بدأ الهجوم.. دُلّنا أنت على الطريق! 


أحكمتُ إغلاق رباط خوذتي الحديدية ووضعتُ أخمص بندقية الـ(G3) الذي يُطوى آليًّا على الأرض وانتفضتُ من مكاني صائحًا: أيّتها السّريّة، خلفي!

بدأ التقدّم من ثلاثة محاور. تحرّك الجنود خلفي في اضطرابٍ وحيرة. كانت الحصى تحت قدميّ تنزلق وتتدحرج، وكنتُ في بعض الأماكن أتوقف قليلًا. بحماية الإسناد النّاري للمدفعيّة تقدّمنا حتى أعلى مرتفع كينغ. عبرنا الأسلاك الشائكة والموانع بسهولة. وحين وصلنا إلى خنادق كمائن العدو كانت خالية: هل فرّوا جراء الإسناد النّاري؟! 

كان المانع الوحيد من الصعود تحت النور الملوّن للقنابل المضيئة ماء النبع البارد الذي كان يجري منحدرًا من المرتفع إلى الأسفل، وحيوان برّي اصطدم بقدميّ فجأة وأصدر صوتًا يُشبه عواء ابن آوى ثم قفز فارًّا إلى الناحية الأخرى. لم يكن هناك حاجة إلى أي مشابك أو أدوات تسلّق حديدية لأجل الصعود. مع اقترابنا من المرتفع سكنت نيران مدفعيّتنا. وقفت: الأوضاع جيّدة أكثر مما ينبغي.. لم يصدر من العراقيين أيُّ ردّ فعلٍ، حتى طلقة رصاص واحدة! لعلّهم عرفوا وأخلوا المرتفع..

أمسكت بيدي الصخرة إلى جانبي. جاءني الرّائد وهو يتنفس بسرعة من شدّة الاضطراب والتعب. وضع يديه على ركبتيه وأخذ يلهث ويزفر الهواء من رئتيه بسرعة وقد ضاع صوتُه في طيّات انفجارات غير واضحة فلم أسمعهُ.
- بانوس..، تــ.. تقدّمنا على ما يرام؟ أ.. أليس كذلك؟

قلت بسرعة: سيدي الأوضاع مُريبة!
 
 
 
 
 
185

174

الملك

 - مُريبة!؟ ماذا تقصد..

- سيدي حتى الآن لم يتمّ إطلاق رصاصة واحدة من جانب العراقيّين!
- ماذا تقول أيُّها الملازم؟
- سيدي اطلب من الجنود أن يتوخّوا الحذر..

تب!! تب!! قطع كلامي صوت انفجارٍ مع نور أحمر خفيف، تبعه مباشرة صراخ أحد الجنود عاليًا: 
- آخ.. يا أماه لقد احترقت..

سرت الهمهمات والهمس وتتالت الانفجارات الصغيرة المترافقة مع النور الخفيف وأصوات أنين الجنود تتعالى من الواحد تلو الآخر. كان الجنود يطلقون باضطراب وذعر نيران الرشاشات والـ(B7) من دون استهداف محدد. صرخ الرائد في وجهي بصوتٍ مرتجفٍ وكأنّني كنت مسؤولًا عن إتلاف أرواح الجنود.
- ما الذي حصل يا ولد.. أنا آمرك.. المحكمة العسكرية.. أنقذنا.. 
- سيدي أنا أُفكّر في حلٍّ.

حاولتُ السيطرة على أعصابي. أخذتُ نفسًا عميقًا: ماذا يُطلقون علينا.. يجب أن أستطلع مكان إطلاق النيران..

سمّرتُ عيني بدقة على القمّة. لم أرَ وميض نار أيّ بندقيّةٍ أو رشاش! لم يكن واضحًا من أين يتمّ الإطلاق على الجنود وبأيّ أسلحة يجري تقطيعهم! كلّما تقدّمنا أكثر كانت الانفجارات الخفيفة بين جموع الجنود المتراكمة تزداد أكثر. بات نصف الجنود ما بين قتيلٍ وجريح.
- ويحك أيُّها الملازم.. افعل شيئًا!

لم تتوقّف تمتمات الرّائد وتهديداته لحظة واحدة. كانت الحيرة
 
 
 
 
186

175

الملك

 وخيبة الأمل قد تملّكتني حين خبط شيءٌ كالحجر على مقدّمة خوذتي وسقط أمام قدمي. وقفتُ وبحثتُ تحت ضوء القنابل المضيئة كلمبات الشوارع الغازيّة وحملتُ جسمًا ما: يا إلهي! قنبلة.. صرختُ:

- قنبلة.. لا تتقدّموا.. اختبئوا..

أسرع الجنود مذعورين وانبطحوا بعجلة أرضًا. لم يكونوا يعرفون أين يستهدفون بنيرانهم. ومجدّدًا جاءني الرّائد وبدأ يتمتم في أذني: 
- لقد حلّ بنا البلاء! ما القضيّة.. ماذا يجب أن نفعل؟

قلت بصوتٍ عالٍ: أيّها الرّائد لقد انكشف أمر الهجوم.. العراقيّون كانوا ينتظروننا!
- ولماذا أماكن تموضعهم غير محدّدة!
- إنّهم لا يُطلقون النار. يرمون علينا قنابل فقط، ولذلك فإنّ خنادقهم لم تُكشف!

قلتُ في نفسي: ما أدقّ هذه الخطّة! بهذه الطريقة سوف يقضون على آخر نفسٍ منّا بانفجارات القنابل!
- ماذا نفعل الآن؟
- أَبلِغ اللواء أوضاعنا! إذا طلع علينا الصبح فلن يبقى منّا مبشّرٌ!

وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة، صاح الرّائد: مسؤول الاتصالات.. 

جاء الجندي مسؤول الاتصالات(عامل الاشارة).
- نعم سيدي!
- اطلب اللواء!

كان صوت انفجار القنابل يعلو بين الحين والآخر مع أصوات أنين الجنود. وضع الجنديّ سمّاعة اللاسلكي في يد الرّائد. 
- سيدي، اللواء!
 
 
 
 
187

176

الملك

 وضع الرّائد السمّاعة أمام فمه ونشر خبر الأوضاع الوخيمة: .. كانوا ينتظروننا.. مجزرة.. ليس هناك أمل.. الكلُّ جرحى..

- انتظروا الأوامر! 

سمعتُ صوت انفجار وأصابت شظيّةُ قنبلةٍ خوذتي وارتدّت. جمعتُ رأسي وبدني واحتميتُ بيديّ ولجأتُ إلى صخرة. أخرجت القطعة الثانية من الشوكولا من جيبي وبدأت بأكلها. حين استجمعت تركيزي قليلًا سمعتُ صوت خرير ماء النبع ثمّ بالتدريج لحنَ قطرات الماء التي كانت تتساقط على رأسي وجسمي، وطار خيالي بعيدًا في هذه اللحظات! سرت البرودة والبلل شيئًا فشيئًا داخل جسمي وإذا بصوت خشخشة اللاسلكي يعلو ويصدر الأمر بالتّراجع.
- لقد أُقفل محوران آخران والعراقيّون يهاجمون من الأعلى بالقذائف والقنابل! عليكم أن تتراجعوا قبل طلوع الصبح.

لم يتعطّل الرائد لحظة. 
- بانوسيان اطلب من الجميع التراجع.. بسرعة.. بسرعة..

قلت: نُعيد أجساد الشباب!
وجَّهَ سلاحه الرشاش بعصبيّة ناحيتي وصاح: تريد أن تقتل الجميع أيّها الأحمق! نفّذ الأوامر.

استدرتُ مارًّا على الجنود واحدًا تلو الآخر وقلت:
- أوقفوا إطلاق النار.. تراجعوا بهدوء إلى الوراء.. تحركوا معي. اتبعوا خطواتي.. من هذه الجهة..

حين أرجعتُ بقية السّريّة ثمّ الكتيبة إلى الخطوط الخلفية كان الصّبح قد طلع. صعدتُ منهكًا المرتفع الحدودي ونظرتُ إلى قمّة كينغ بالمنظار. كان العراقيّون يرمون جثث الجنود من أعلى القمّة إلى الأسفل!
 
 
 
 
188

177

الرّباعي

 الرّباعي - 20 تموز 1983م


كنت أصعد التّلة العليا مع أكثر من ثلاثين عنصرًا خلف نعيمي. وكانت برودة نسيم الصّباح تلفح وجهي وأنا أتقدّم. فجأة وُوجهنا بنيران المضادات الجوية الرّباعية والثنائية ذات عيار 23 ملم. انبطحنا وصاح نعيمي: إذا لم نتقدّم إلى الأمام فلن يبقى منّا حيٌّ يُرزق..

لم يكن نعيمي قد أتمّ كلامه بعد حين حمل حسين تشابكي الـ(B7)، وما إن وقف حتى أمطرته رصاصات المضادّ الرّباعي. انطلق صاروخ الـ(B7) في يده بشكلٍ عشوائي، واهتزّ هو كمن قد مسّته الكهرباء ووقع على الأرض.
- رحمكم الله، لماذا أنتم منبطحون!

نبّهنا جميعًا صوت القائد مرتضى. لا أعلم كيف ظهر مجدّدًا في ذلك الوضع الذي كان كل شيء فيه قد أُقفل.
- بهذا النحو لن يصل أيٌّ منكم إلى الأعلى!

عندما رأيت القائد في وضح النّهار واقفًا في وجه المضادّ شعرتُ بالخجل. صاح "مختار عاشوري": يا حسين.. إلى الأمام..

انسلختُ من مكاني بلا تفكير وبدأتُ بالركض مع مختار عاشوري والبقيّة. فجأةً لمحتُ المضاد الثنائي يطلق النار وارتفع صوت مختار عاشوري.
- آخ.. احترقتُ.. يا مهدي..

تقدّمنا جميعًا مع القائد مرتضى حتى صرنا أسفل متراسي المضادين. ذهب اسماعيل توكّلي ومحمد إلهي وأبو القاسم تشوبان
 
 
 
 
 
189

178

الرّباعي

 برفقة القائد مرتضى وأسكتوا الرّشاشين بالقنابل. خرجنا وبقيّة الإخوة من موقعنا وبدأنا بتمشيط التّلة العليا.


في غمرة هذا الحيص والبيص أضعتُ السيد علي الحسيني وانشغل بالي خوفًا من احتمال استشهاده. كان العراقيّ الذي يبرز أمامنا من بين القليلين الذين تبقّوا منهم يصاب مباشرة برصاصنا. فيما كنت أتقدّمُ مشغولَ البال ظهرَ أمامي رجلٌ محروقٌ بوجهٍ مروّع. حين نظرت إلى وجهه انتصب شعر بدني بأكمله! كانت جميع ملامح وجه العراقي الدّقيقة والغليظة قد ذابت وكان الدّم واللحم يتدافع منه كفوران البركان الأحمر! حتى عيناه تحلّلتا وسالتا. كان ينتحب ويُولوِل بكلماتٍ عربيّة غير مفهومة تُبقبق من فمِه المُذاب. وصل علي وقال: أرحه! المسكين يتعذّب.

جمدتُ وأنا لم أكن سوى شابٍّ يافع. 
- علي أين.. وجهه، ما الذي جرى له؟
- لا بدّ أنّ رفاقه رموا الـ(B7) وكان واقفًا خلفه! حُرقُه عميق، إذا لم ترحه فسيموت من المعاناة!

صارعتُ نفسي: لماذا لا يرميه عليٌّ بنفسه!

لم أمتلك الجُرأة لأنظر إلى وجهه مرّة أخرى وابتعدت عنه. أمسكت بيد علي.
- تبقى إلى جانبي ولا تتحرك!

ضحك ببرودة.
- ولأجل أيّ شيء؟
- من دون كلام.. تعال!

كان على التّلة، كما التّلة السفلى، مهبط مروحية وعدّة آليات IFA
 
 
 
 
190

179

الرّباعي

 وجيب ومضادات دفاع جوّي. أطللتُ برأسي على أوّل متراس نصف مظلم كان فيه عراقيٌّ مصابٌ ينتحب.

- لا تدخل.. في الأمر مجازفة. ارمِ قنبلة!

خرجتُ وقلت لعلي: ارمِ طلقة وأرح ذلك المجروح!".

وضع علي فوّهة رشاشه داخل المتراس وأفرغ مخزن رصاصٍ فيه. اقتربنا مرّة أخرى فكان صوتُ أنين الجريح أعلى من قبل. استدرتُ وقلت: أين أفرغت مخزن الرصاص بأكمله! 

هيّا لنذهب.. أنا وأنت لا ننفع للقتل!

ذهبنا مباشرة باتجاه ناقلة الجند IFA. تهكّم علي قائلًا: أخ حسين أتريد أن ترمي الـ(B7) مجدّدًا؟

ضحكتُ وقلت: لا يا عزيزي!
- لنذهب ونرَ ماذا يوجد فيها!

اقتربتُ من الآليّة. استدرتُ حولها. شاهدتُ خطّ ماء رفيعًا يجري من تحت السيّارة.
- ما هذا؟
- لا أعلم لعلّه ماء الرادياتور..
- ولكنّ رادياتور الآليّة في الأمام!

تمدّدت على الأرض ونظرتُ أسفل السيّارة. كان تحتها جنديّان عراقيّان قد انبطحا مرتجفين وكان البول يجري من تحت قدميهما. أشرتُ إلى أسفل الآليّة. 
- علي، لديك ضيوف! أخرجهما..

انحنى علي وضحك ضحكته الخاصّة بهدوء ولامبالاة وقال: "اها!
 
 
 
 
191

180

الرّباعي

 اها! ومن هما هذان.. تعال.. تعال..".


كرّر الكلمة العربيّة الوحيدة التي كانت على لسانه. أخرجتُ برشّاشي الأسيرين المُبلّلين من تحت السيّارة ورفعتُ أيديهما فوق رأسيهما. كان عليّ قد ربض غير بعيدٍ تحت جِيب القيادة الزيتوني اللون. وكأنّه قد اكتشف أمرًا مهمًّا، قال: حسين هناك واحدٌ آخر هنا أيضًا!

توجّهت نحو الجيب. انحنيت ونظرت أسفل السيّارة. كان عراقيًّا سمينًا قد انبطح أسفلها ونظر عابسًا في وجهي. أشرتُ بسلاحي.
- هيّا اخرج!

لم يهتم وكمثل الأطفال المستائين هزّ بدنه. عندما كرّرت طلبي عدّة مرات ولم يخرج أدخلت سبطانة السلاح تحت السيّارة ليخرج، لكنّ يدي ضغطت على الزّناد وانطلقت رصاصة وارتفع صوت نحيبه ولعْنِه. زحف خارجًا. أشار إلى جرح فخذه وبدأ يسبّ ويشتم! كان ينظر إليّ بنحوٍ لو استطاع معه أن يشرب من دمي لما قصّر، وكالعادة ضحك علي. 
- من الواضح أنّه بعثي! إنّه يسبّ!

وصل علي سبزي. جلس وعالج جُرح العراقي وأخذه معه إلى خندقٍ أسفل التّلة. كان إحساسي بالعطش يزداد شيئًا فشيئًا. أشرتُ إلى الخندق الكبير الذي بدا مجهّزًا.
- علي، لندخل تلك الدشمة.. فلربما كان فيها ماء، شيء ما.. يمكن أن يكون مفيدًا!

أخذنا الأسيرين معنا إلى داخل الدشمة الكبيرة بجوار الجيب. لمحتُ شنطة وحقيبة ظهرٍ ولفائف قماشٍ عسكريّ مرقّط وراديو. 
- علي انتبه لهذين الاثنين!
 
 
 
 
192

181

الرّباعي

 أسندتُ سلاحي الكلاشنكوف إلى جدار الدشمة وبدأتُ أُفتّش داخل الشنطة وحقائب الظهر وانشغلتُ في البحث. عندما اصطدم رأسي برأس علي وتلاقت نظرتانا قلتُ: ..عافاك الله.. أين سلاحك؟!


كمن قد مسّته الكهرباء انتصبَ شعرنا وتأمّلنا في الأسيرين العراقيين. كانا قد وقفا إلى جانب سلاحينا ينظران ببلاهة1.
 

1- بالعامية اللبنانية: مسطولين.
 
 
 
 
193

182

فلّ يا فلّ

 فلّ يا فلّ - 20 تموز 1983


عند الثامنة صباحًا، هدأ الاشتباك فوق التلة. انتهزتُ الفرصة لأجلس على صخرة وأشاهد من ذلك العلو المسيرَ الذي عبرناه الليلة الفائتة لنهاجم تلة بردزرد. تحت قدميّ كان المشهد الطبيعي البديع لكردستان العراق يبدو كملصق جميل! قرية نضرة بسقوفٍ وباحاتِ منازلَ متراكبة في الأعلى والأسفل ونساء ورجال أكراد في الباحات. تبسّمت: وكأن هؤلاء لا يصدّقون حتى اللحظة أن هذا المرتفع بات تحت سيطرتنا..

أدرتُ نظري نحو النهر الذي يلفّ القرية وينتهي إلى التلة. ناحية اليسار، كان هناك طريق قَدَميّة وجسر كان ينبغي أن يتفجّر الليلة الماضية ولم ينفجر!

استقرّت يد السيد علي على كتفي.
- أخ حسين، اختليتَ بنفسك!

أشرتُ إلى القرية أسفل منا.
- أترى، وكأنه ليس هناك حرب! الرجال والنساء يجولون في القرية كما اعتادوا! مرتاحي البال منّا؟

ضحكت وقلت: حظّنا عاثر! لا أحد يحسب لنا حسابًا!

مسح السيد علي بيده على شعره الأسود الخشن وقال: يتذكر الإنسان تلقائيًّا اعتداءات الجنود العراقيين على الهويزة وسوسنكرد وخرمشهر! لقد قتلوا العباد ودمروا البلاد، حتى إنّهم اعتدوا على أعراض العرب في تلك المناطق.
 
 
 
 
194

183

فلّ يا فلّ

 قلت: أتعلم، نحن الآن سافرنا إلى الخارج بدون جواز سفر!

- إذا ما وصلَ شبابُ المحاور الأخرى نقوم بجولة ونجوب المنطقة بشكل جيد!
- فَلْنَجِدْ مذياعًا، الآن تُبثّ الموسيقى العسكرية وأُعلن خبر انتصارنا عبر الأثير! 

أشار علي إلى مطرته الفارغة من الماء.
- حسين، أنا ظمآن جدًّا! جد لنا حلًّا للماء.

كان "سعيد حفار" ينقل عددًا من الأسرى نحو الأسفل ليسلّمهم إلى دشمة الأسرى. قمنا وذهبنا ناحية الخنادق فوق التلة. وصلتُ إلى الدشمة التي كان ينتحب فيها العراقي قبل ساعة.
- علي، هي الدشمة نفسها التي أفرغتَ فيها مخزنًا من الرصاص وكان العراقي حيًّا ينشج وينتحب. لنقصدها لعلّ داخلها برادًا، فنجد فيه ماء، شرابًا، شيئًا من هذا القبيل!

ما إن دخلنا الدشمة فغرتُ فاهي مدهوشًا وقلت: يا رب بارك!

كانت الدشمة مخزنًا للعتاد، حيثما نظرت رأيتها تعجّ بصناديق الأسلحة الخفيفة والثقيلة! بلعتُ ريقي وقلت: علي، لقد أفرغتَ مخزن رصاص داخلَها، فلا العراقي أصيب ولا شيء من هذا العتاد؟! لو أن رصاصة واحدة أصابت شيئًا من هذه لكانت كافية لتفجير الجبل بأكمله، وليس كلينا فحسب!

وقع نظري على عدد كبير من بنادق السيمينوف ذات المنظار والبرنو القصير ورشاشات الغرينيف.
- كل شيء متوافر إلا الماء! ينبغي أن نُبلّغ!

خرجت من الدشمة. في أعلى التلة كان يقف بابتهاج وسرور العم
 
 
 
 
 
195

184

فلّ يا فلّ

 مرتضى وعلي نعيمي قائد السرية ومحمد إلهي وسعيد حفار و"جواد خيرات"، يتبادلون أطراف حديث عمليات الليلة الفائتة.

- لو أن معنا مذياعًا لنستمع إلى ما ينشر عن عمليات ليلة الأمس!
- كانت رقعة الهجوم واسعة!
- هذا يفرح قلب الإمام.
- الناس يستمعون الآن إلى الموسيقى العسكرية وأخبار انتصار الشباب!
- الحمد لله!

جاء جليل حمامي مسؤول الاتصالات راكضًا وسماعة اللاسلكي في يده. أصابت رصاصةٌ الأرض بالقرب منه. وقف قليلًا ثم تابع حتى وصل إلى مرتضى.
- عمّ، علي نجفي على الخط!

أخذ مرتضى السماعة ووضعها على أذنه.
- علي، علي، مرتضى!
- مرتضى، مرتضى، عليّ على السمع!
- أوضاعكم!
- استقررنا فوق المنطقة المحررة. كيف هي أوضاعكم؟

أجاب العم مرتضى ببشاشة وسرور: حبيبي علي، فُلّ يا فُلّ!

برمتُ شفتي وقلت لـعلي حسيني: يعني؟

ربّت محمد إلهي على كتفي.
- يعني الأوضاع جيدة!

أعاد العم السماعة إلى حمامي وأشار إلى مضاد الطيران الرباعي.
- ابحثوا عمّن يستطيع تشغيل الرباعي!
 
 
 
 
 
196

185

انعطافة الشَّعر

 انعطافة الشَّعر - 20 تموز 1983م


عند العاشرة صباحًا، تضعضع هدوء التلّة وعلا صوت إطلاق النار من أسفل التلّة الصغيرة! صعد التعبوي "مرتضى مُحب" من هناك راكضًا.
- عم مرتضى، العراقيّون يستولون على التّلة السفلى!

نادى القائدُ أبو القاسم تشوبان ورحيم نعيمي.
- أنتما راقبا هذا المكان مع القوّات القديمة، وكل من بقي من سريّة الشيرازيين فليأتِ معي!

حمل العم مرتضى رشاش الغرينيف المتوسط ونزل إلى الأسفل مع مُحب. ربّتُّ على جانب علي حسيني.
- حان عملُنا!

وضعت الـ(B7) على كتفي وتبعتُ القائد برفقة حميد زارع وعليّ سبزي وعدّة أشخاص آخرين. كانت الاشتباكات أسفل التلّة من جهة النهر. شغلتنا وآلمتنا عدّةُ خنادق تشكّل معابر دخول للتلّة، كانت تبدو تحت السيطرة، لكن العراقيين من داخلها جعلوا شبابنا تحت مرمى نيران الـ(B7) والرشاشات المتوسطة. شكّلنا طابورًا من عشرة أشخاص خلف القائد. قال مرتضى: رامي الـ(B7)!

وكأنّه قد قال: "حسين بنائيان أنت ارمِ!" قمت من مكاني ممسكًا بقبضة الـ(B7)، وحين هممت أن أُطلق أعاقني الرشاش العراقي وسقطتُ على أم رأسي وسقط سلاح الـ(B7) الملقّم بالقذيفة من يدي. كنت ألملم نفسي حين وقف حاملًا الـ(B7) أمين زاد الله من
 
 
 
 
197

186

انعطافة الشَّعر

 شباب الحرس الثوري في مدينة فسا، لكنّ الرشاش المتوسط العراقي رماه بزخّة رصاص وأصاب صدره بطلقة. سقط من دون أن ينطق بآهٍ أو يتألم وفار الدّم من صدره! كنت ما أزال مذعورًا من إصابة أمين زاد الله حين أُصيبت دشمة الرشاش العراقي وتهدّمت، وارتفعت أصوات التكبير في الأرجاء.


كان القائد قد أمسك بقبضة الـ(B7) التي سقطت مني المجهّز للإطلاق ورمى الدشمة. بتدمير دشمة الرشاش ضعفت معنويات العراقيين. وضع مرتضى الـ(B7) وحمل سلاحه الأخمص القصير وتقدّم.
- الجميع خلفي!
تحرّكت بسرعة في أثر العم وخلال أقل من نصف ساعة قمنا بتمشيط بقيّة الخنادق المسببة للمشاكل في أنحاء الوادي والنّهر، وفرّ عدد من العراقيين باتجاه الغابة. قرب النهر تمّ استهداف مرتضى مُحب برصاصة قنّاصة سيمينوف وسقط على رأسه في الماء! نزل مرتضى بنفسه في النهر وسحب جسد "مُحب" على كتفه وأخرجه من الماء.
- لا تتقدّموا.. العراقيون يسيطرون على النهر!
حين وضعوا جسد مُحب داخل دشمة "روضة الشهداء" إلى جوار باقي الشهداء كان الدّم يسيل من فوق خصر مرتضى. شاهد علي سبزي الجُرح خلف كتفه فحمل ضماداته واتّجه نحوه.
- يا عم، جرحكم ينزف، دعني أُضمده!

استدار البقيّة ونظروا باستهجان خاصٍّ إلى جرح القائد. وكأنّ أحدًا لم يكن يتوقّع أن يصاب مرتضى، وكانوا يرونه منيعًا. حين رفع علي سبزي يده ليضمد الجرح منعه العم مرتضى.
- إنّه خدشٌ بسيط، لا حاجة للضماد.. سوف يلتئم بنفسه!

استغرب علي سبزي سلوك القائد وتراجع. ذهب إلى جوار "جواد
 
 
 
 
198

187

انعطافة الشَّعر

 محمدي" وسأل: جرح السيد مرتضى ينزف لماذا لا يدعني أُضمده؟".


تبسّم محمدي وقال: أنت تنظر إلى الشعر والعمّ يرى انعطافه1! أنت نفسك، أتحبّ في هذه الأوضاع أن يكون قائدك جريحًا مُضمّدًا أم سالمًا معافى؟

حين أتممنا عملنا نادى مرتضى الشباب.
- نحّوا جثث العراقيين جانبًا.

نقلنا ستة عشر أسيرًا جديدًا إلى داخل خندقٍ كبيرٍ كان في وسط التلّة، وجُعل علي خليلي من أفراد الحرس حارسًا للأسرى.

صعد العم مرتضى من التلّة السفلى برفقتنا وأعاد تنظيم الشباب. ربّضنا على مرتفع التلّة مدفع 120 وآخر 81 وغطّينا الطرق المحتمل التسلل منها برشاش غرينيف متوسط ومضاد جوي من عيار 50.

أوكل العم إلى "حجّت الله آذربيكان" ومعه فصيلان مهمة الدّفاع عن الضلع الجنوبي للتلّة المُشرف على مضيق "دربندي خان" والطريق المُعبّدة. وجعل إمرة بقيّة الشباب على التلّة العليا بعهدة أبو القاسم تشوبان ورحيم نعيمي.
- الدفاع عن الضلع الغربي موكول إليكما!

وأوكل أيضًا مسؤولية عشرة أشخاصٍ في وسط (سفح) التلّة إلى سلمان صفري.
- سلمان، عليك تغطية الشقوق بين المجموعات الثلاث!

كانت مقصورة كبيرة قد بُنيت بإحكام من قطع الإسمنت فجُعلت محلًّا للعناية بالجرحى، ووضع خمسة مسعفين لمراقبة الجرحى ورعايتهم.
 
 

1- يراجع هامش ص (154)، كمبا 11.
 
 
 
 
199

188

التنصت

 التنصت، مثلُنا 20 تموز 1983م


على تلّة بردِزرد، كنت أستمع إلى المذياع الثنائي الموجة الذي غنمناه، ولم يكن من خبرٍ عن انتصارنا الليلة الفائتة! لا موسيقى عسكرية تُعزف ولا بلاغ عسكري يتلى. وبدأ كلٌّ يدلي برأيه وتحليله: محمد إلهي! لماذا لا يُبث خبر الهجوم عبر الأثير؟
- لا بدّ أنّهم تركوه لنشرة أخبار الثانية بعد الظهر!
- الموسيقى العسكرية تُعزف دائمًا عند العاشرة صباحًا!
- لا يكوننّ لا سمح الله.. 
- كلا يا عزيزي.. أنت ترى أنّنا وكتيبة كميل سيطرنا على الأهداف..
- إذًا لماذا ليس هناك أيُّ خبر؟
- تعال.. وهذا أذان الظهر!
- انظر هناك..

من ناحية خطّ القمطرة الحدودي، كانت قافلة من الآليات العسكرية آتية باتجاه تلّة بردزرد. سُرِرت.
- إنّهم قوّاتنا.. في نهاية المطاف سقطت جبهة العدو!
- لا يبدو أنّهم من قوات التعبئة والحرس!
- لا بدّ أنّهم من قوّات الجيش!

عندما صار الطابور العسكري داخل "حديقة موتورى" العراقية، ذُهلت! 
- إنّهم عراقيون!
 
 
 
 
200

189

التنصت

 - هذا يعني أنّ جبهة العدو لم تسقط بعد!

- لقد هدأت أصوات الاشتباكات وإطلاق النيران منذ ساعات!
- يا ربي رحمتك!
- يعني أُغلقت الطريق في وجهنا؟
- لعلّنا بتنا محاصرين أيضًا!
- أبلغوا العم مرتضى!

وضعت المذياع الثنائي الموجة أرضًا واستدرتُ إلى الناحية الأخرى من الأراضي العراقية، نظرتُ إلى مضيق دربندي خان: وما هو ذاك؟ يبدو ناقلة جندٍ للعدو.. أشرتُ بإصبعي لنعيمي ناحية الأرض العراقية.
- رحيم، ألقي نظرة هناك.
- إنّها ملّالة عراقيّة ذات عجلات!
- مصيبتنا سوداء.. هذا يعني أنّ كتيبة كميل أيضًا لم تتمكن من إغلاق مضيق دربندي خان!
- تتقدّم ناقلة الجند المرقّطة ذات العجلات عاتية جامحة.
- يعني نحن محاصرون أيُّها الشباب..
- علينا أن نستعدّ لأيِّ حدث!

ناداني نعيمي: محمد إلهي، اذهب إلى العم وأخبره بالمجريات!

وصلتُ إلى العنق الممتدّ ما بين التلّتين الصغيرة والكبيرة. لم أكن قد ركضت عدّة خطواتٍ بعد حين سقطت قذيفة مدفع (106) إلى جواري ورفعني عصف انفجارها عن الأرض ورماني بعيدًا. شعرتُ بألمٍ في جسدي، ومن حُسن حظّي أنّني لم أُصب بشظيّة. رجّحتُ أنّهم رموا قذيفة (مدفع 106) المضاد للدروع بقصد استهدافي! هذه المرّة تقدّمتُ
 
 
 
 
201

190

التنصت

 منحنيًا ووصلتُ خطوة خطوة إلى دشمة العم مرتضى.

- سلام يا عم.. 

أدركتُ من الأجواء داخل الدشمة أنّه على علمٍ بالمجريات قبلي. كان أبو سجاد أحد الضبّاط اللاجئين قد ضبط جهاز اللاسلكي على تردّد موجة العراقيين وراح يتنصّت. نظر مرتضى إلى جليل حمامي وقال: جليل اطلب أنت مقرّ اللواء!

ثبّت حمامي بسرعة الجهاز على موجة المقرّ وأعطى سمّاعة اللاسلكي للعم. نادى مرتضى قائد اللواء جعفر أسدي.
- جعفر، جعفر، أشلو!
- جعفر على السمع!
- جعفر، نحن مستقرون على الهدف وننتظر الأوامر!
- إمكانات وأوضاع القوة القتالية!
- الشهداء أربعون.. والجرحى مثلهم!
- كن منتظرًا، لقد واجهتنا مشكلة!

حين انقطع اتصال مرتضى، توجّه داريوش صفري ومرتضى ناحية "أبو سجاد" الذي كان لا يزال يتنصّت على تردّد موجة العراقيين. وضع مرتضى يده على كتف "أبو سجاد". استدار وحدّق في عيني مرتضى ثم ابتسم وقال: تبارك الله يا أشلو..

قال داريوش صفري لـ "أبو سجاد": هل أنت مهلوس؟
- هلوسة.. يا سيد سلمان؟!

أبعد أبو سجاد سمّاعة اللاسلكي عن فمه وحدّق بحماسة في وجه مرتضى وقال: كان العقيد فاتح قائد لواء "المغاوير 202 الخاص"
 
 
 
 
202

191

التنصت

 يُقدّم تقريرًا تفصيليًّا لقائد فرقته بأنّ الإيرانيين قد هُزموا في جميع المحاور واضطروا للتراجع من قبل القوّات العراقيّة، وأن عناصر من كتيبة الفجر فقط قد تمكنوا من السيطرة على التلّة الممتدة! وقال القائد الركن بغضبٍ، أيّها الأحمق! التلّة الممتدة تقع في عمق الأراضي العراقية، أنت مشتبه، الأمر غير ممكن! وكان العقيد فاتح يُجيب أيضًا، للأسف لقد انتصر أشلو. والقائد الركن من الطرف الآخر لخط الاتصال يأمره بغضبٍ وسبٍّ وشتم أن يبذل أقصى ما لديه ليستعيد السيطرة على تلّة بردِزرد..


قلت: أبو سجاد، وكيف عرفوا أنّ كتيبة الفجر قد سيطرت على بردِزرد؟!

ضحك وضرب على جهاز اللاسلكي.
- التنصّت يا سلمان آغا.. مثلُنا!
 
 
 
 
203

192

ماء الرادياتور

 ماء الرادياتور - 20 تموز 1983م
 
كان العطش على التلة يفتك بأفراد التعبئة والحرس على حد سواء. أصبح شحّ الماء المشكلة الأساسية! قال علي: حسين، أنا ذاهب لجلب الماء.

كنت وعلي في السن نفسها ورفيقَيْ الحمّام1، كان صغير القامة نحيفًا، وكنتُ ضخمًا وأكثر طولًا. لم تسمح لي مبادئي أن يذهب هو.
- يا سيد، أنا أذهب بحثًا عن الماء! ابق أنت هنا.

دخل حميد زارع، تعبوي فصيلنا، على خط الحوار مباشرة.
- دعوا ثواب جلب الماء على عاتقي.

كان عازمًا وحاسمًا وقد نفخ صدره بحيث لم يدع لي مجالًا للمعارضة.
- فليكن، ولكن انتبه على نفسك!

حمل حميد عددًا من مطرات الماء وعلقها بحزام خصره وتوجه نزولًا نحو نهر الماء. ما هي إلا لحظات حين تناهى إلى مسامعنا صوت إطلاق ناري. اضطرب قلبي وقلت: علي، لستُ مطمئنًا، لقد حدث سوءٌ لحميد.. أنا ذاهبٌ في أثره!

قال السيد علي: بما أنك ذاهب، احمل معك وعاءً لجلب الماء!

ولكي أجد وعاءً ذهبتُ إلى الجيب العراقي فوق التلة. خلف الجيب كان يوجد غالونات 20 ليترًا مملوءة بالبنزين. لم يكن أمامي إلا
 
 

1- الحمّام الشعبي القديم الذي كان أهل المحلة يستحمون فيه لعدم توافره أو توافر خدماته في البيوت. والمقصود من التعبير أنه كان بينهما صداقة لذهابهما معاً إليه.
 
 
 
 
204

193

ماء الرادياتور

 أن أحمل عدة مطرات وأبحث أثناء مسيري داخل الخنادق. وجدتُ داخلها أنواعًا من الأسلحة والذخائر والحليب المجفّف واللحوم المعلبة وبسكويت "tuk" ومأكولات أخرى، إلا قطرة ماء!


وصلت إلى مكان يبدو أنه مركز التموين والدراجات النارية على التلة. وصلت إلى ملّالة الـ(IFA) نفسها التي رميتها الليلة السابقة بالـ(B7)، ولم تُصَب. صعدت السيارة من الخلف وأزحت الغطاء المشمّع ذا اللون الزيتي الداكن، وكانت المفاجأة: هوووو..وه! معلبات، حليب مجفف، لحوم، شاي، بسكويت.. وما رزق الباري! لحسن الحظ لم تصبها الـ(B7).. الحق مع شعباني.. وعندما لم أجد ماءً سرت باتجاه أسفل التلة نحو النهر.. قطع طريقي سلمان صفري.
- إلى أين؟!
- أريد أن أجلب الماء للشباب!
- لا يمكن.. العراقيون مسلّطون على النهر ويرمون ببنادق السيمينوف. قبل دقائق فقط أصابوا واحدًا!

قلت بسرعة: التعبوي نفسه الذي علّق مطرات الماء على وسطه!
-نعم!
- ماذا حصل له؟
- جُرح..
- جرحه بسيط!
- كلا! رموه في كتفه.. تمّ نقله إلى خندق الجرحى!
- الشباب فوق، يلهثون من شدة العطش وليس من قطرة ماء!
- ما باليد حيلة، يجب أن يصبروا حتى الليل. لربما أمكن جلب
 
 
 
 
205

194

ماء الرادياتور

 الماء في الظلام.


وحيث اطمأن بالي بشأن حميد زارع حملتُ من مؤخرة الـIFa بعض الحليب المجفف والبسكويت وأشياء أخرى ورجعت إلى أعلى التلة. رسم علي ببشاشته المعهودة بسمة على شفتيه.
- بدل الماء جلبتَ الخبز!
- أُصيب حميد.. لم أجد ماءً، وسنجوع في آخر المطاف.

هزّ عليّ رأسه وقال: حسين، هل شربتَ قبلًا ماء الرادياتور!

انفرجت أساريري وقلت: علي، أحسنتَ التفكير.. لماذا لم تبكّر..

سارعتُ بمساعدة عليّ وأمام الأعين الزائغة المترقّبة للبقية إلى فكّ البرغي الصغير أسفل رادياتور الجيب وسحبتُ ماءه الأصفر الصدئ حتى آخره وصببته في المطرات. وكذلك سحبتُ ماء رادياتورات عدة آليات أخرى، ولحستُ القطرات الأخيرة.
- من أنت يا رجل المهمات الصعبة، يا حسين بنائيان!
- قليلٌ، كيفما كان، خيرٌ من الحرمان!

قسّمتُ الماء الأصفر الصدئ بين ثلاثين شخصًا، لكل واحد نصف كوب! ووزّعت الحليب المجفّف والبسكويت على الجرحى أولًا ثم السالمين. كانت حصتي التي جرعتها من ماء الرادياتور مُرّةً علقمًا! لكنّ الجميع شربوا الماء الأصفر بلذة خاصة، وكذلك وضع البعض مقدارًا من الحليب المجفف في حصتهم من الماء وارتشفوه مع البسكويت.
 
 
 
 
 
206

195

النملة الجندي

 النملة الجندي - 20 تموز 1983


- گرومپ.. گرومپ..

كان صوت المدفعية العراقية المتقطع يدوّي في أذني.
- سلمان!

كالسهم وصلتُ إلى مرتضى.
- في خدمتك عمّ مرتضى!

تفحّصَ بالمنظار أطرافَ تلة بردزرد الأربعة بدقة.
- سامحك الله يا سلمان!

سألت بقلق: هل صدر مني خطأ يا سيد مرتضى؟

تبسم وأبعد المنظار عن عينيه.
- أسأل الله أن أكون مخطئًا. الهدوء الذي أراه أشبه ما يكون بهدوء ما قبل العاصفة.. جد لي من يصلح المضاد الرباعي!

عندما انطلقت، شاهدت ما بين التلّتين الكبيرة والصغيرة سقيفة مغطاة بحصير. كانت الأعشاب البرية تحيط بالسقيفة حتى أسفل التلة. وقد رتبت صناديق العتاد الزيتونية الفارغة فوق بعضها من الجهات الثلاث للسقيفة حتى نصف ارتفاعها. كانت مكان هدوء مناسبًا للاستراحة والفرار من الحر! وبسبب ندرة الماء تيمّمتُ وبدأت بصلاة الظهرين. حين تشهدت وسلّمت شاهدت جموعًا من جنود النمل الطويلة الأرجل كانت تخرج بسرعة حبوبًا بيضاء من عدة ثقوب في وكرها، والله يعلم إلى أين كانت تحملها. ضحكت: إنها تفرّ من الحرب.. سمعت أن الحيوانات تستشعر الزلزال قبل وقوعه.. وإنما
 
 
 
 
207

196

النملة الجندي

 الحرب زلزال.. لعن الله صدام البعثي.. لأذهب فإن الوقت تأخر.. لقد أخبرتُ الجميع تقريبًا عن الحاجة إلى إصلاح المضاد، لكني لم أجد أحدًا! عدت بخفّي حنين.


ناداني أحدهم: داريوش!

أدرتُ وجهي لأقول إنّي سلمان سليماني، ورقم هويتي هو.. من مواليد فسا، لكنني انصرفت عن ذلك لدى رؤيتي حجت الله آذربيكان. كان آذربيكان من الحرس ومسؤولًا في الهندسة(المساحة)، لكن، ولأجل المشاركة في الهجوم فقد وصل إلى كتيبة الفجر بالدهاء والحيلة. قلت له باحترام: في خدمتك، سيد حجت!
- داريوش، أنت تعلم أن إصلاح الكلاشنكوف يحتاج إلى تخصّص فما بالك بالدفاع الجوي!

ابتسمت وقلت: سيد حجت، إن مع العسر يسرًا، كل شيء ممكن بمشيئة الله..
- سلام يا خال!

جاء فتى تعبوي نَضِر الوجه متوسط الطول وألقى التحية. سألت: ما الأمر؟

أجاب الفتى بلهجته الشيرازية: أخي يا خال! أخوك قادر على أن يتولى من أجلك أمر المضاد وغيره، وحتى المدفعية!

نظرت إلى ملامح وجهه الطفولية وقلت متعجبًا: أخوك؟! أخوك أنت أم أخي أنا؟!

ضحك عاليًا وضرب على صدره النحيل.
- مقصودي، أخوك هذا نفسه!

قلت: يعني أنت تعرف كيف تصلح الدفاع الجوي!
 
 
 
 
 
208

197

النملة الجندي

 - إي.. لربما تشغيله أيضًا!


صحت بحماسة: ولماذا لم تقل قبلًا يا خالي الشيرازي!

كبحَ حماستي.
- هاي.. مع احتمال عدم نجاحي!

عقدتُ حاجبيّ وقلت: لم أفهم، يعني يمكنك تولّي أمره أم لا!
- الله كريم!

كان توكّل الفتى كمثل توكّل الكهول. قلت: لنذهب!
- بشرط يا خال!
- شرط؟ أي شرط؟
- رفاقي أيضًا يجب أن يأتوا معي! لقد تعاهدنا أن نبقى معًا أينما كنا!

قال آذربيكان وكأنما كان على معرفة أكبر بالفتى: ولكنك مع رفاقك!

رفع الفتى النحيف الذي لم يكن شعر شاربه قد نبت بعد، رأسَه وذقنَه نافيًا وقال: كلا.. غلام حسين ونون خدا وأمين ومحسن، تفصلهم عنا خنادق عدة من هذه الناحية! أسفل التلة.. 

استدْعِهم ليأتوا أيضًا، نشغّل الرشاش الرباعي معًا.. قبلتَ يا خال!

مدّتني نضارة الفتى وحيويته بالروحية والنشاط بعد ثمانٍ وأربعين ساعة من التعب والضغط وعدم النوم. غمزتُه وقلت: خالو! ما اسمك؟
- خادمك، غلام علي فهندج سعدي!

ذهبتُ لجلب رفاق الفتى، فعلمتُ أن نون خدا قد استشهد و"أمين" بين الجرحى. وجدتُ "محسن" و"عرب سعدي" و"غلام حسين شب
 
 
 
 
 
 
209

198

النملة الجندي

 خيز" فقط وجلبتهم. انهمك الأربعة بالعمل بعد أن أزاحوا جثث طاقم الجنود العراقيين الذين كانوا يعملون على المضاد الجوي، وفككوه حتى آخر قطعة، وفي أقلّ من ساعة أعادوا جمعه وبات الرباعي (الـ23 ملم) المغتنم جاهزًا لإطلاق النار. جلس "جواد خيرات" على الكرسي الحديدي للدفاع الجوي وكأنه يهمّ بتناول طعامه. أدار قبضة المدفع شمالًا ويمينًا وقال: في الدورات التخصصية في الحرس خضعنا لدورة تعليم على مدفع 23 ملم.

 

 

 

210


199

تلة أُحُد

 تلة أُحُد - 20 تموز 1983


عند الواحدة بعد الظهر، غطى الضباب كمثل بحرٍ لَبَنيّ اللون وادي الحاج عمران و"حديقة موتورى". كانت أصوات إطلاق النار التي تتناهى إلى السمع من مرتفعات تمرتشين هي التي تكسر جدار الصمت. نادى محمد إلهي: داريوش، تعال!

ذهبتُ إلى غرب تلة بردزرد. وتمنيتُ على محمد ما بين الجدّ والمزاح: ولو! لقد قلتها مرات ومرات، لا تنادِني باسم داريوش! الأمر قبيح أمام التعبويين.. سيقولون إنّ اسمي طاغوتيّ.

أشار محمد إلى طريق الدعم التي يسلكها العدو.
- داريوش، انظر إلى الطريق..

كبتّ ضحكتي. كان على الطريق المعبّدة الملتوية التي تعبر من مدينة دربندي خان في العراق وتكمل عبر التلال، رتل ضخم من الآليات العسكرية العراقية يزحف نحونا. أطلّ أبو القاسم تشوبان وآذربيكان متوجهَين نحونا. ووصل مرتضى كالصقر الباحث عن صيدٍ له، برفقة سعيد حفار وإبراهيم كاركر وإسماعيل توكلي. مع اقتراب الرتل العسكري أكثر تبيّن في مقدمته ثلاث آليات أيفا IFA تليها دبابة ومنصة مدفع وحفارة وجرافة. حين وصل الرتل إلى مضيق دربندي خان قال مرتضى: إنهم ذاهبون إلى الخط الأمامي للجبهة!

سأل أبو القاسم تشوبان: ماذا نفعل!

تمتم مرتضى: إنه الوقت المناسب لإغلاق مضيق أُحُد! لا ينبغي لأي قوة أن تعبر المضيق.
 
 
 
 
211

200

تلة أُحُد

 سأل آذربيكان: وكيف ذلك؟


أشار العم بإصبعه إلى الدفاع الجوي 23 ملم. 
- الرباعي!

استدرتُ ونظرت إلى مدفع الـ23 ملم الذي كان "جواد خيرات" يعدّل كرسيه الحديدي الأسود الصغير. وكان "محسن عرب سعدي" و"غلام حسين شب خيز" كذلك يضعان مخزن الطلقات الكبير.

قال العم: تعالوا!

تحلقنا عدة أشخاص حول الرباعي.

ربّت العمّ على كتف جواد خيرات.
- إنه موعد تسليتك يا جواد! دعهم يدخلون المضيق. 

حدّقتُ في المضيق في الأسفل. كان على ناحيةٍ منا الوادي العميق وعلى الناحية الأخرى الجبل الصخري. وكانت الطريق المعبدة هي الممر الوحيد الضيق والقابل للعبور بين الجبل والوادي. تابع العمّ: جواد، ما لم أقل، لا تطلق النار!

استدرت ورحت أتأمل في الصف الطويل للآليات العسكرية التي كانت تقترب من المضيق مصاحبة بالضجيج.
- هل أنت جاهز؟

ضحك خيراتي.
- ها، أجل يا عم!

حرّك مقبض المدفع الدوّار ووجه السبطانة نحو الأسفل وضبط جهاز التنشين على المضيق.
- طاقم التعمير!
 
 
 
 
 
212

201

تلة أُحُد

 أحكم شابان أو ثلاثة تثبيت مخزن الطلقات تحت القبضة. وضع جواد خيراتي قدمه بهدوء على دواسة الإطلاق.

- ما لم أقل إياك أن ترمي!

دخلت الأيفا الزيتونية اللون ذات الشادر الأخضر المائل إلى البني المضيق.
- صوّب على ناقلة الأيفا أولًا..

كنت أرى من جهة الرتل العسكري بوضوح. وكان مرتضى يشرف على الرشاش.
- يجب أن تصل الناقلة إلى وسط المضيق.. جواد، ترمي عند قولي. ارمِ السائق أوّلًا.. ثم الآلية.. يجب أن لا تخرج الآلية من الوادي أبدًا..

باتت الأيفا داخل المضيق بالكامل. وساد الصمت التام. كانت النظرات مقسّمة وتدور بين ثلاث جهات، مرةً على القافلة العراقية، وأخرى على قدم جواد، ومرةً على شفتي مرتضى. كنا نسمع أصوات تنفّسنا. وكنت أسمع دقّات قلبي. وكأن الهجوم كان سيبدأ من جديد، وقد انعقدت نتيجة حرب إيران والعراق على عملية إغلاق المضيق هذه! دخلت الآلية الثانية في المضيق.
- استعد.
- أطلق..
- الله أكبر..

من دون وعي كما البقية هزّ صوت تكبيري "الله أكبر" الجبل والوادي! وكأنه كان مقرّرًا بدل طلقات رباعي جواد أن تصيب تكبيراتنا الهدف. كان جواد خيراتي يضغط على أسنانه وقدمه معًا.
- ترررررر..تررررررر..تررررررررر..
 
 
 
 
 
213

202

تلة أُحُد

 علا صوت المضاد وانطلقت سلاسل الرصاصات (الخارقة المتفجرة) صافرةً نحو الآلية. خرقت الطلقات الكبيرة مقطورة السائق كالصاعقة وشاهدنا بأعيننا كيف أخذ جسده يهتز بشكل مستمر.

- ترررررررر.. تب.. تب..

كانت الخراطيش البرونزية الكبيرة الفارغة تتطاير من أسفل المضاد وتفترش الأرض.
- ما شاء الله.. الآن دور الشاحنة ناقلة الجند..

شدّ جواد خيرات على أسنانه وحوّل رشّات الرصاص إلى مؤخرة ناقلة الجند. أزاحت الطلقات صندوق الشاحنة وغطاءه ودوّى صوت انفجار الآلية مرعبًا كالقنبلة، وعلت النيران بسرعة كالطود. وكانت أجساد الجنود ركاب الناقلة والرصاصات الثقيلة تنفجر كما الألعاب النارية وتتطاير بشعاع عدة أمتار في الهواء.
- كان في الناقلة ذخيرة!

سرت النيران بسرعة إلى ناقلة الجند التالية، وبصوتٍ يصم الآذان خرقت الرصاصات بشكل متتابع الآليات المتتالية ومزّقتها.

تحوّل المضيق إلى جهنم نيران. كان الجنود المذعورون يصابون بالنار ويرمون بأنفسهم خارج الآليات. وارتفع الضجيج والنحيب من كل الجهات. كان الجنود وكالأفلام السينمائية يحترقون بالنار ويرمون بأنفسهم في الوادي، واتجه البعض من خوفهم نحو الجبل. سرت نيران الذخيرة المنفجرة في الآليات إلى الخلف وغطّى جبل من النار والدخان المضيق بأكمله.

وفي غضون دقائق تراجعت بقية الآليات العسكرية وجنودها المبهوتون إلى الخلف.
- جواد، سدّد نيرانك إلى الخلف أكثر!
 
 
 
 
 
 
214

203

تلة أُحُد

 بات الجنود والآليات الخلفية تحت مرمى نيران الرباعي 23 ملم. ومع ذلك الحجم من العتاد المقصوف فقد ذاب المضيق تحت وطأة النيران واستحال أمام عينيّ لهبًا متحرّكًا. ارتفع الدخان الأسود من المضيق وغطى السماء الزرقاء وجبل الحاج عمران. قال مرتضى: وكأنهم قد جلبوا كل هذا العتاد ليغلقوا به المضيق!


أشار إلى جليل حمامي.
- اتصل بالحاج أسدي!

كان جليل الطالب الحوزوي الشاب قد تموضع خلف أجمة خضراء. بصعوبة تمّ الاتصال، وأعطى جليل اللاسلكي لمرتضى.
- الحاج أسدي على السمع!

همّ مرتضى باستلام السماعة من مسؤول الاشارة لكنه أغمض عينيه من الألم. استدرتُ ونظرتُ إلى بلوزته الزيتونية اللون من الخلف. شاهدت على كتفه الأيمن جرحًا قديمًا ودمًا جديدًا! تنبّهت للتو، بدل الحجر كان مرتضى قد أصيب ليلة البارحة بشظية قنبلة! وكانت الشظية ولباسه ودماؤه قد التصقت ببدنه. تمزّق قلبي! أعرفُ أنني يجب ألّا أتكلم عن جرحه أمام الإخوة. أخذ السماعة.
- السلام عليكم يا حاج أسدي.. ما الأخبار؟
- قوّاك الله يا أشلو، كيف هي أوضاعكم أنتم؟
- بالتوكل على الله تحوّل مضيق أُحُد بالنسبة للأعداء إلى جهنم!
- مرتضى، لم ينجح الهجوم ليلة أمس، يرى السيد محسن أن تجد طريقة لأجل التراجع، لقد بتّم محاصرين بالكامل!
- حاج جعفر، لقد قضينا على رتل من إمداداتهم العسكرية! لقد أُغلق المضيق الآن ولا سبيل لديهم لتأمين خط قتالهم الأول! أي فرصة
 
 
 
 
 
 
 
215

204

تلة أُحُد

 أفضل من هذه لمواصلة الهجوم!

- المسألة ليست عندي يا مرتضى! استبعد إمكانية مواصلة الهجوم، بقية الفرق لم تتمكّن من السيطرة على موطئ قدم واحد!
- وأي مكان أفضل للسيطرة من المضيق!
- أنتم في قلب العدو، محاصرون! والآن وقد أغلقتم المضيق، سيُعبّأ كل الجيش العراقي للقضاء عليكم! الليلة جد وسيلة للتراجع ما دامت الفرصة سانحة! 
- لديّ أربعون إلى خمسين جريحًا وقدّر ما تشاء من جثث الشهداء! أفضّل أن أستشهد مع شبابي هنا على أن أتراجع!
 
 
 
 
 
216

205

الهجوم المضاد الأول

 الهجوم المضاد الأول - 20 تموز 1983


سقطت زخّات من نيران المدفعية الثقيلة على تلّة بردزرد.
- كب..كب..كب..

بدت أصوات قصف المدفعية العراقية وكأنها عدد هائل من الطبول تُقرع، وكانت التلة تهتز تحت أقدامنا. كانت قذائف المدفعية والهاون تسقط فوق التلة مترًا بمتر. بتنا عاجزين عن الحركة. ناديت مسؤول الاتصال اللاسلكي: حسين، اتصل بالسيد مرتضى!
- الأخ حفّار، القائد!

بين دويّ الانفجارات التي تصمّ الآذان ألصقتُ السماعة بأذني وفمي.
- سعيد، سعيد، مرتضى!
- مرتضى، مرتضى، سعيد، أسمعك!

خرجت مني الكلمات بسرعة بقلق واضطراب.
- مرتضى، لقد سوّى العراقيّون بالمدفعية والكاتيوشا والـ(106) والهاون التلّة أرضًا!
- سامحك الله، أيّ جلبة افتعلت؟! خائف أنت من تسوية التلة بالأرض أم من نفسك؟ التلة موجودة ها هنا بقدر ما تشاء.. خذ نفسًا عميقًا، وقل هل أصيب أحد من الإخوة بأذى؟

نزل كلام مرتضى كالماء البارد على اضطرابي وقلقي الخاطئ: ما زلتُ لا أعرفك أيها الرجل!! استعدتُ رباطة جأشي وأخذت نفسًا
 
 
 
 
217

206

الهجوم المضاد الأول

 عميقًا وقلتُ بهدوء أكثر:

- استشهد اثنان من الشباب جرّاء إصابتهما بشظية! وإلهي جرح أيضًا..

سكت. قلتُ في نفسي: أنا أعرف أخلاقياته.. إنه يفكر الآن بالشهداء ويذوب كالشمعة.. انتظرت حتى تكلّم من جديد:
- سعيد، العراقيون لديهم إحداثيات التلة شبرًا شبرًا، أخبر الجميع أن يحتموا. علينا أن نحفظ قواتنا. ضعوا الشهداء والمجروحين في داخل الخندق.. ما زلنا تحت وطأة الإسناد الناري فحسب. المواجهة تبدأ بعد أن ينتهي إطلاق النار. نحن أيضًا لدينا ضيوف غير مدعوين، حين أنتهي من تنظيم الأمور في الأسفل سوف أصعد إلى الأعلى عندكم.. يا علي مدد!

بعد أقل من ربع ساعة هدأت نيران المدفعية. وفورًا علا صوت "أبو القاسم تشوبان". 
- استعدوا.. يا مؤمنين.. العراقيون يصعدون التلة.. استعدوا.. ما شاء الله يا جيش الإسلام.. استعدوا ..

كان أبو القاسم يدور على الشبيبة ويبثّ فيهم الروحية والعزم. 
- أروني كيف ستلقّنون العدو درسًا. لا ينبغي أن تصل قدم أي واحد منهم إلى تلة أُحد.. دعوا الذخيرة خلفكم. القنابل..

سرتُ على التلّة لأبلّغ أمر مرتضى. كانت طلقات السمينوف العراقية تتساقط أمام قدميّ.
- العراقيون يستهدفون كل مكان بالرصاص والقنص.

أثناء جولتي لمحتُ تعبويًّا جديدًا كان قد انضمّ إلى سريتنا، وكان يعرج ويترنح في مشيته: أيكون جُرح حتى بات يترنح في مشيته هكذا!
 
 
 
 
 
218

207

الهجوم المضاد الأول

 احترق قلبي وأسرعت إليه ووقعنا كلانا خلف شجيرة خضراء كانت بحجم رجل إذا ما تكوّم على نفسه. لم يكن التعبوي قد تجاوز السبع عشرة سنة. كانت شفتاه يابستين ومسودّتين من شدة الحرارة وقد تقشّر جلد وجهه الأبيض المشرب بالحمرة جرّاء تعرّضه لحرارة شمس الساعات الأخيرة. أشرت إلى قدمه.

- وهل جُرحت!

نظر إليّ بتعجب وأجاب بحياء وخجل:
- كلا يا أخي!
- لماذا تعرج؟
- أعرج منذ الولادة!

قبّلتُ جبهته. 
- انتبه لنفسك! نحن بحاجة إليك.
- على عيني يا أخي!

فجأة علا صوت إطلاق أول دفعة من زخّات الرشاش والكلاشنكوف من الشباب.
- العراقيون.. بأعداد غفيرة.. يصعدون التلة.. ها هم.. هنا.. ارمِ.. لماذا أنت واقف..

لم أفكّر بحفظ روحي ولا بطلقات السمينوف والرشاش المتوسط، وخرجت كالبقية الذين انطلقوا من عدّة خنادق مكشوفة على التلّة. ووجهت فوهة سلاحي إلى الأسفل. أطلقتُ النار وأنا واقف وجالس وممدد باتجاه كل ما يتحرك أمامي. كانت النيران تتساقط من حولي بغزارة حتى اختلطت، فلم أكن قادرًا على تشخيص ما إذا كانت رصاصات العدو أو الصديق.
 
 
 
 
219

208

الهجوم المضاد الأول

 انتهزت الفرصة لأنهض قليلًا وأنظر إلى الأسفل. كان سفح تلة بردزرد صعودًا حتى ما يقرب منّا مملوءًا بالمغاوير الذين ارتدوا اللباس العسكري المرقّط! من دون اختيار صفرتُ: يا إلهي.. أين كان هؤلاء. كم شخصًا مقابل كل شخص منّا!؟


بدّلت مخزن الرصاص بسرعة واستهدفتُ المغاوير والجبل ورحتُ أطلق النار. وبين الحين والآخر كان يتدحرج بعض المغاوير نحو الأسفل. كانت كتيبة كاملة من المغاوير تصعد التلّة.
- ها هنا؟ 

كان صوت أبي القاسم. استدرتُ ونظرتُ ناحية الشمال. كانت كتيبة من قوات المغاوير تتقدم كالجراد المنتشر باتجاه مرتضى من ناحية نهر الماء والقرية. امتلأ السهل والجبل بالمغاوير الذين يرتدون الألبسة المرقطة المختلفة الألوان، من أخضر وأصفر وأحمر ناري وكاكي وزيتي داكن1 وبيج2 وأزرق ولباس القوات الخاصة.. أدركتُ للتو أنّ النقطة الأساسية في ميدان المعركة كانت ناحية مرتضى: إلهي! هل سيتمكن الشباب من القضاء على كل هؤلاء المغاوير؟ إذا ما سقطت التلة السفلى فسيأتي العراقيون ويرموننا في الوادي! تمنيتُ لو أنني كنت قادرًا على أن أتكثّر بمقدار عدد المغاوير الذي لا يُحصى من العراقيين وأطلق النار عليهم جميعًا! وبدون وعي بدأت بإطلاق النار رشقيًا ناحية المغاوير وقلت: يجب أن نساعدهم!

لكثرة إطلاق النار تعطّل الكلاشنكوف في يدي وبدأ الدخان يتصاعد من سبطانته. وضعتُ البندقية أرضًا وحملتُ أخرى. كان
 
 

1- الزيتي الداكن: الأخضر الداكن المائل الى البني، يقال له بالعامية الأخضر العسكري.
2- البيج: من تدرجات البني الفاتح، في النص الفارسي تم التعبير عنه بلون الطحينة.
 
 
 
 
220

209

الهجوم المضاد الأول

 صوت إطلاق المضاد الجوي الرباعي من قبل جواد خيرات يرتفع ويرمي نيرانه على كل مكان.


وصلتُ إلى جانب أبي القاسم تشوبان، كان يحثّ الشباب على المقاومة من خلف صخرة على المرتفع. وكان محمد إلهي بجانبه أيضًا يطلق النار بيده المصابة. وصلتُ إلى جليل حمامي. كان يتنصت برفقة أبي سجاد على موجة قائد كتيبة المغاوير التي تشن الهجوم علينا. وكان أبو سجاد يترجم لتشوبان: قوات اللواء الخاص 91 العراقي.. يقول وصلنا إلى بُعد خمسين مترًا عن الهدف. العملية تتقدم بنجاح. سوف تسقط التلة الآن..

تسارعت نبضات قلبي. لم يكن بيدي حيلة وكنت أقول في نفسي: هذا يعني أنهم يستولون على التلة السفلى. إلهي أنت كن في عون أشلو.. إذا راح مرتضى لم يبق أحد.

كنت مصغيًا إلى ترجمة المجاهد العراقي أبي سجاد.
- لم يبق شيء.. الإيرانيون يقاومون بشدّة.. سيدي نحن نقدّم خسائر كثيرة جدًّا. إذا استمرت الأمور على هذه الحال لن يبقى منّا حيٌّ واحد..

صاح أبو سجاد: لقد أصدر قائد (اللواء 91) الأمر بالتراجع.. الله أكبر..

أدّت مقاومة مرتضى ومن معه على التلة السفلى إلى أن تنقلب الأحوال وتتراجع قوات العدو ما قبل وصولها إلى القمة.
 
 
 
 
 
221

210

أنا عينك، أنت قدمي

 أنا عينك، أنت قدمي - 20 تموز 1983


عند الرابعة من بعد الظهر، كان قد دُفِع عنا للتو شرّ الهجوم المضاد العراقي حين سمعتُ صوت انفجار قذيفة هاون ورجف قلبي لصوت أنين خفيف آتٍ من جواد خيرات.
- آخ، يا الله، عيني..

استدرت ناحية الانفجار. كان الدخان والتراب تقريبًا قد أخفيا الرباعي وجواد خيرات! ركضت ناحية المضاد. كانت الشظايا وعصف الانفجار قد أصابت الرباعي وشوّهته. خلف الكرسي كان جواد قد وضع يده على عينيه ووجهه، وكان الدم يخرج من بين أصابعه ويسيل داخل ياقته. قال: يا إلهي.. هل أصابوا المضاد؟ أتحدث معك.. من أنت..
- هذا أنا، سعيد حفّار!
- سعيد، هل أصيب الرباعي؟
- فكّر في نفسك!
- ماذا تقول أنت! إذا تعطّل الرباعي..
- أعطانا الله رشاش الغرينيف!

وصل أبو القاسم ورحيم نعيمي أيضًا، قال نعيمي: لقد أخذوا إحداثيات الدفاع. ابتعدوا.. سعيد، احمل جواد إلى خندق الجرحى..

سحبتُ جواد من خلف المضاد. وسار يتكئ عليّ. لم نكن قد ابتعدنا عدّة أمتار حين سقطت قذيفة هاون على المضاد مباشرة وشعرت بألم شديد في عضلة ساقي اليسرى. استدرتُ ونظرتُ إلى ساقي من الخلف. كان اللحم والعضل ممزّقين والدم ينزف بغزارة! وترك كلٌّ
 
 
 
 
 
 
222

211

أنا عينك، أنت قدمي

 من العطش والحرارة وضعف البدن ومشاهدة جرح قدمي المفتوح أثره عليّ فسقطت على الأرض وسقط جواد معي. كنت أفكّر فيما ينبغي فعله بشأن عضلة ساقي المسحوقة حين وصل علي سبزي النحيف إليّ وقد لفّ حزامًا من المطرات على خصره.

- خيرًا إن شاء الله!
- لا يأتي من الله إلّا الخير!

أشرت إلى المطرات حول خصره التي كانت تُصدر صوت خضخضة حين تصطدم بالصخور وكتل التراب من حوله. أشرتُ إلى حِمل مطراته.
- إلى أين بهذا الحمل كله؟!

ركع على ركبته إلى جواري في طلعة التلة. كانت شفتاه مشقّقتين بنحو فظيع جرّاء انعدام الماء!
- إذا نجوتُ من الإخوة البعثيين العملاء فأنا ذاهب إلى النهر لأجلب الماء.
- في وضح النهار؟ لقد منع الوصول إلى النهر أمثال شمر بن ذي الجوشن يا علي آغا!

من دون أن يجيب أخرج من جيب سرواله ضمّادتين أو ثلاثًا. ألقى نظرة على وجه خيرات وعينيه ثم على قدمي.
- جُرح أيٍّ منكما أكثر حرجًا!

ضمّد جراح جواد أولًا حتى أرى جودة عملك!

أزاح يد جواد. كانت كلتا عينيه مغمضتين وقد غطّى الدم وسع وجهه، ولم يكن واضحًا أي مكان من عينيه ووجهه قد أصيب. مسح بالضمادة الأولى دم وجهه وربط الضمادة الثانية حول رأسه ووجهه.
 
 
 
 
 
 
223

212

أنا عينك، أنت قدمي

 - لا بأس.. يمكنك أن تضمد جرحي الآن!


حين ضمّد جرح ساقي قال: يجب أن أذهب في أثر الماء!

ما إن ابتعد علي سبزي، حتى ازداد إطلاق النار شيئًا فشيئًا على التلّة، والأعراء1 التي لم تنل نصيبها في الهجوم المضاد الأول استُهدفت بـ(مدفع 106) والهاون والدبابة والكاتيوشا والمدفع والقناصة. كانت الحركة على التلّة في غاية الصعوبة. جاء أبو القاسم تشوبان. نظر إلى جرح ساقي نظرة وإلى وجه جواد خيرات وعينيه نظرة أخرى.
- معًا تصبحان رجلًا صحيحًا! سعيد ما دمتما على قيد الحياة فاذهبا إلى خندق الجرحى أسفل التلة! عديمو المروءة يرمون على الأفراد بالـ(106).

كان البقاء على التلّة من دون ملجأ وتحت نيران الأسلحة الخفيفة والثقيلة مستحيلًا. فجأةً طنّت طلقة سيمينوف قرب أذني وأحدثت ثقبًا في التراب أمامي.
- قنّاصوهم يطلقون النار.

نظرتُ إلى قامة جواد خيرات الصغيرة النحيفة. تجاوزتُ وجعي وجرح قدمي. وقفتُ. وضعتُ يدي على كتفه وبات هو الآن مسندي. 
- لا بأس يا سعيد آغا، تريد أن تركب!
- لا يا حبيبي جواد آغا، صفقة، واحدةٌ بواحدة، أنا عينك وأنت قدمي! الآن انعطف يمينًا.

سرنا في طلعة التلّة الوعرة. فجأة انفجرت طلقة قنّاص عراقي على الأرض بين قدمي وقدم جواد وانبطحنا أرضًا. ثم في الوقت نفسه سقطت قذيفة (هاون60) بقربنا وأحدثت عصفًا انفجاريًّا وسمعت
 

1- أعراء: مفردها عراء، مكان خال مكشوف لا يستتر فيه بشيء.
 
 
 
 
224

213

أنا عينك، أنت قدمي

 صوت طيران شظاياها فوق رأسي. ضحكتُ وقلت:

- لقد أنقذنا ذلك القناص العراقي!

تابعتُ: جواد، لنذهب، فالرصاصة التي تلي سوف تصيبُ رأسينا. 

وضعتُ يدي تحت كتف جواد ورفعته من الأرض.
- هيا قم!

سحبتُ جواد في أثري خطوة خطوة. بين التلّتين شاهدتُ جثة أمير علي زاده وقد سقط على ظهره وسال منه دم كثير. 
- هل حدث شيء.. لماذا وقفت يا سعيد؟
- كلا.. لقد تعبت..

تحركتُ باتجاه أسفل التلّة. داخل خندق الجرحى رأيتُ علي سبزي بين المصابين، أطلقتُ ضحكة وقلت: حتى أنت يا علي! (وصل الموسى إلى لحيتك!)
 
 
 
 
 
 
 
225

214

أبو الفضل

 أبو الفضل - 20 تموز 1983


في سكون الليل، كان يُسمع صوت الأنين المتهالك للجرحى العطاشى في تلّة بردِزرد يتناهى إلى المسامع. مضافًا إليه كنت أشعر أنّني أسمع أنينًا غامضًا وممدودًا آتيًا من قلب الجبل. 

قلت لعليّ: هل يمكن أن يكون قد أُصيب أحدٌ ولم نره.. هناك صوت أنينٍ دائمٍ في رأسي!
- أنت تتخيل يا حسين.. من شدّة التعب.. لم ننم منذ 48 ساعة..
- يمكن النوم الليلة!
- من الممكن أن يستأنف العراقيون الهجوم!
- لن يهاجموا ليلًا!
- لكن لا ريب أنهم يريدون أن يسترجعوا التلّة..
- حسين، يعني إلى هذا الحدّ هذه التلّة مهمة؟

انفجرت قنبلة مضيئة فضيّة اللون فوق التلّة. شاهدت طرف وجه علي حسيني الأسمر الخالي من الشعر والذي لم يكن قد فقد بعد طراوته ونضارته.
- كلام السيد مرتضى بشأن تلّة أُحد منقوش كلمة كلمة في رأسي.. لقد قرأت تاريخ صدر الإسلام بشكلٍ جيّد. وكلما كنت أصل إلى حرب أُحد، كان ترك جبل أُحد وهزيمة جيش الإسلام بالنسبة لي مكلفًا جدًا. ولطالما سألت نفسي لماذا تخلى المسلمون عن جبل أُحد؟!

وصل رحيم نعيمي وقال: ينام أحدكم ويحرس آخر!

كنت أهفو إلى ساعة من النوم العميق.
 
 
 
 
226

215

أبو الفضل

 غرومب.. غرومب.. غرومب.. سقطت ثلاث قذائف مدفعيّة غير متباعدة زمانًا على التلّة. أنهى نعيمي جولته ودخل إلى الخندق المفتوح الذي كنا نجلس فيه أنا وعدة آخرون.

- لقد بات الماء معضلة! الجرحى يلهثون لأجل جرعة واحدة!

نظر إليّ وقال: أريد من كل دشمة متطوّعين اثنين لأجل النزول إلى أسفل التلّة وإحضار الماء والذخيرة! إن لم يأت العراقيون الليلة، فغدًا حتمًا سيأتون!

رفع السيد علي يده مبتسمًا. وبالطبع كان ينبغي أن أرفع يدي أنا أيضًا. ومن شدّة التعب والعطش كانت شفاه الباقين في الخندق وعيونهم مطبقة، فلم يتجاوبوا. ربّت رحيم نعيمي على كتفي.
- زاد عطشك كثيرًا!

أشار إلى السيد علي الذي كان يبدو فتى صغيرًا في قامته وضحك.
- ولا بدّ أنك أنت الساقي!

حين ذهب حسن هوشيار إلى الدشمة الصغيرة فوق التلّة للحراسة نام المناوبان الآخران وغطّا مباشرة في سبات. حملنا المطرة وحقيبة الظهر وبدأنا بنزول التلّة. أحرق النسيم الجاف والبارد وجهنا منذ اللحظة الأولى. قال علي حسيني: حسين، لا بحرّ النهار ذاك، ولا بصقيع الليل هذا!

لم نكن قد وصلنا بعدُ إلى الشقّ الأول في التلّة حين شعرتُ بطنين رصاصة أصابت ركبتي وصحتُ: سيد، انبطح!

وثبتُ منبطحًا على الأرض في ثلاث ثوانٍ وارتفع صوت ارتطام المطرة وعتادي.
- ما الذي حصل فجأة؟!
 
 
 
 
227

216

أبو الفضل

 مسحتُ بيدي على ركبتي وشممتُ رائحتها. شعرتُ برائحة الاحتراق. كانت الرصاصة قد لامست ركبتي فقط وأحرقت لباسي. قلت: عديمو المروءة! يرموننا ليلًا مستعينين بالمنظار الليلي!


أثناء المسير اصطدمتُ بجثّة بدا أن صاحبها كان قد أتى لجلب الماء.
- حسين، لنحمل الجثّة إلى الأسفل.

حاولتُ أن أحمل الجثّة ولكنّها كانت أثقل مما أستطيع حمله.
- نحتاج إلى حمّالة، يجب أن ننزل إلى الأسفل لنجلب مساعدة.

استغرق الأمر خمس عشرة دقيقة حتى وصلنا إلى أسفل التلّة الصغيرة. كان السكوت والظلام قد خيّما على كل المكان. أنصتُّ للبعيد وقلت: لم يعد صوت إطلاق النيران والاشتباكات الذي سمعناه في اليوم الأوّل يتناهى إلى مسامعي!

تبسّم علي.
- لعلّهم نسوا أنّنا عالقون في قلب جبهة العدو!

كانت تتعالى أصوات أنّات المجروحين. شاهدتُ غير بعيد القائد مرتضى. كان قد جلس أمام دشمة الجرحى متّكئًا على صندوق الذخيرة. وكأنّه كان قد اختلى بنفسه. قال علي: حسين، لنغتنم الفرصة ونذهب لسؤال القائد عن الأوضاع وما يتوقع أن يحصل في نهاية المطاف.

همّ بالذهاب فمنعته. 
- لقد اختلى بنفسه! إن كان هناك شيء يجب أن نعرفه لكان قاله. وفي الواقع كلّما عرفنا أقل كان أفضل!

انحرفنا باتجاه النهر أسفل التلّة. سمعتُ صوت خرير الماء. كانت الغابة في الناحية الأخرى من النهر تبدو سوداء وأكثر ظلامًا.
 
 
 
 
 
228

217

أبو الفضل

 - انتبه يا سيد علي!


كان الحصى تحت قدمي يتحرك وينزلق. مُثقلًا ونعسًا أحنيتُ رأسي وسرت حتى وصلتُ إلى ضفّة النهر. ازدادت برودة الطقس. كنت أسمعُ لهاث السيد علي. وضعتُ كفّيَّ تحت الماء وغرفتُ مقدارًا منه. تلاقت عيناي وعينا علي. توقفنا قليلًا ثم أعدنا الماء إلى النهر. ملأنا مطرات الماء بسرعة. أخذتُ نفسًا عميقًا وألقيتُ بنفسي على الصخور المجاورة للنهر. شعرتُ بطراوة غير طبيعية تحت قدميّ ويديّ وسمعتُ كذلك صوتَ تنفيس هواء. حينما نظرتُ إلى ما تحت قدمي اتّضح أنّني كنت مستلقيًا على بطنٍ منتفخٍ لجثّة أحد المغاوير الضخام. وجهه الأسود وفمه المفتوح وصفّا أسنانه البيضاء جعلتْ شعر بدني ينتصب.
- اوووه..يا إلهي..

الخوف والاشمئزاز قلبا أحوالي. وقفتُ مبتعدًا.
- عــــــــلـــــــــي.. جــــــــــثثثثـــــثــّة..

كان النهر ممتلئًا بجثث المغاوير الذين قاموا بالهجوم عند الظهر، وبات ماء النهر الآن يعبر من بين جثثهم المنتفخة. استعدت رباطة جأشي وقلت: "علي لنتوجّه نحو الشقّ!".

رجعنا عبر التلّة الصغيرة. كانت التلاوة الجماعية وتمتمات سورة الواقعة آتية من خندق الجرحى.

﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ...﴾.

اجتزنا الشقّ بين التلّتين ووصلنا إلى التلّة العليا. سلّمنا مطرات الماء إلى أبي قاسم تشوبان الذي قسّم الماء بداية بين الجرحى. قلت:
 
 
 
 
229

218

أبو الفضل

 علي، كان هوشيار ظمآن جدًّا، لنذهب ونسقيه بعض الماء!


انطلقنا نحو دشمة الحراسة الصغيرة والمفتوحة. حين دخلنا كان هوشيار جالسًا مكوّمًا على نفسه. 
- لقد نام من التعب!
- أيقظه ليشرب الماء!

وضعت يدي على كتفه وناديته. سقط على جانبه.

انحنى السيّد فوق بدن هوشيار. قال بصوتٍ يغلب عليه الحزن: هنيئًا له! لا بدّ أنّه الآن في الجنة قد سُقيَ بكأسٍ لن يظمأ بعدها.
- وما الذي حصل؟!
- لقد أصابوا قلبه بطلقة سيمينوف!
 
 
 
 
230

219

قصّة أُحد

 قصّة أُحد - 21 تموز 1983


صباح اليوم الثاني للهجوم، وداخل دشمة القيادة في مقرّ خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم كان أحمد كاظمي يعرض أمامي النتيجة القطعية لليلة الأولى من عمليات (والفجر 2): سيد محسن، لم يحصل أيُّ التحاق في أيٍّ من محاور العمليات الثلاث..

حين سكت كاظمي قلت: "خذ راحتك وقل، هل هُزمنا!".

هزّ أحمد رأسه.
- للأسف هكذا هو الوضع!

استدرت ونظرت إلى العقيد علي صيّاد الشيرازي. سألت: أخ صيّاد ما أخبار الجيش؟

تقدّم العقيد وقال: "سيد محسن، ليس في الأمر مواربة. ليلة البارحة مرتفع كينغ لم يسقط أيضًا!".

كان المسؤولون السياسيون في البلاد يتصلون بشكل مستمر ويسألون عن أخبار العمليات. وكانت العمليات قد أقفلت ولم يبق لي مُهجة أو حيل على إيجاد أي حل. وقفتُ ورحتُ أذرع الدشمة مشيًا. فكرتُ في الهزيمة وتوقُّف الهجوم. للحظة أصغيتُ إلى مسؤول اتصالات العقيد صيّاد الشيرازي الذي كان يناديه: جناب العقيد، قائد (الفرقة 77 - خراسان)!

أخذ صيّاد الشيرازي السمّاعة. حدّقت في وجهه. قلت في نفسي: لا بدّ أنّ مشكلة قد حصلت!

مع مرور الدقائق كانت الابتسامة الحلوة تتضح أكثر على وجه
 
 
 
 
 
231

220

قصّة أُحد

 العقيد. هزّ رأسه وقال بوضوح بلحنِ المنتصر المسيطر: أُقبّل يدَ كلّ جندي من الجنود. أبلغهم عنّي أنّني أدعو لهم بالقوّة والثبات..


أعطى سماعة اللاسلكي إلى الملازم القصير القامة وربّت على كتفه بحماسة. نظر إليّ وقال: الله أكبر.. سيد محسن، اللواء الثاني في (الفرقة 77) وبمساعدة لواء المهدي استولوا على مرتفع كينغ واستقروا عليه الآن!

كان خبرُ العقيد السار بمنزلة الأوكسجين الصافي الذي جرى إلى عمق رئتي. انتعشتُ وغمرني السرور! سرعان ما دخل دشمة المقرِّ جعفر أسدي قائد لواء المهدي وأخوه صالح.
- سلام يا سيد محسن!

تقدّما وتعانقنا، قلتُ: لقد تحرّر كينغ.
- أتيت لأعلمكم النبأ ذاته!
- جعفر، ما هي أوضاع محوركم؟

حكّ جعفر رأسه ذا الشعر الخفيف. مدّ خريطة ملفوفة في يده على أرض معسكر المقرّ.

انقطع تواصلنا مع كتيبة مالك. لم تُوفّق كتيبة كميل فوق مرتفع الصدر، هم في حصار يسعون لفكّه. كتيبة الفجر استطاعت في عمق عشرين كيلومترًا من الأراضي العراقية أن تسيطر على عدّة مواقع ومرتفعات مهمة تُشرف على المضيق والطريق الرئيسي لدربندي خان! بات الآن خناق العدو في قبضة كتيبة الفجر!
- الفجر! كتيبة مرتضى؟!
- أيْ نعم!
- أشلو؟
 
 
 
 
 
232

221

قصّة أُحد

 - صحيح! 

- هذا خبرٌ جيّد!
- نعم ولكن هناك مشكلة كبيرة!
- ما هي؟
- المواقع المحيطة بكتيبة الفجر كلّها بيد العراقيين! في الواقع لقد باتوا في وضع "الحصار داخل الحصار!".

سكت جعفر أسدي، قلت: ما رأيك يا جعفر؟!

هزّ رأسه وقال: سيد محسن، لقد استطاع أشلو أن يسيطر على المكان هناك بسريّتين، ولكن ليس لديه أيّ خبر عن سريّته الثانية! والعدو منذ صباح يوم أمس يسعى بجنونٍ من خلال قواته البريّة والجويّة أن يستعيد التلّة! ما الذي يسعُني فعله!

رحت أفكّر. العقيد، كالسيد رحيم صفوي، كان قد سمع كلام جعفر الأسدي. قال رحيم: الأوضاع في غاية الحساسية! يجب أن نتكلم مع مرتضى فهو في قلب المعركة!

اتّصل جعفر أسدي بمرتضى جاويدي لاسلكيًّا وأعطاني السماعة.
- أشلو أشلو، أنا محسن رضائي!
- محسن محسن، أشلو على السمع! 
- سلام سيد مرتضى، ما الأوضاع؟ 
- خالص تقديرنا للعزيز السيد محسن! 
- عافاك الله، ما وضعكم؟
- الإخوة فردًا فردًا يرسلون تحياتهم، ولا يحزننا سوى بعدكم! 

ثمّ وكأنّه حمل السماعة إلى ناحية قوّاته، سمعتُ نداءات الله أكبر
 
 
 
 
233

222

قصّة أُحد

 والموت لصدّام من شبابه من خلف اللاسلكي! قلت: أشلو، ما وضع الخسائر والتجهيزات والذخيرة في كتيبتك..


قال مسهبًا: بحول الله وقوّته، أخذنا عددًا من الأسرى، ونحن ستون سالمون مع عدد من الجرحى والشهداء. لدينا قدر ما تشاء من المؤونة التي غنمناها من الإخوة العملاء العراقيين! 

وقد نجحنا حتى الآن في صدّ هجومهم المضاد. نحن في الخدمة!

حيّرني صوت مرتضى المبتهج والواثق. لكن كلما استذكرتُ الخريطة والأخبار كان يرجح عندي أن أفضل عملٍ هو سحب كتيبة الفجر من عمق أراضي العدو. استشرت العقيد وقلت لمرتضى جاويدي: أشلو، هل يمكنك أن تتحمّل حتى الليل؟

قال بصوتٍ يعبق منه الحسم والتوكّل: يا خال محسن، نقاوم حتى قيام الساعة ونبقى منتظرين لكم!
- حفظك الله، استمروا على ما أنتم عليه حتى الليل ومن بعدها تنسحبون!

سأل بلحنِ المتعجب: انسحاب؟!

قال كلمة انسحاب بنحوٍ وكأنّني قد نطقتُ بما يخالف العقل السليم. قلت بحذر: أشكر شجاعتك يا أشلو، ولكن أنتم في عُقر العدو الآن ويجب أن تسرعوا في الانسحاب!
- سيد محسن، لعلّني أسأت توضيح مقصودي، نحن نُحكم القبضة على خناق العدو! نبقى ونقاوم حتى تصلوا إلينا!
- بخمسين أو ستين من القوّات الأمر غير ممكنٍ!

أجاب بوضوح وصراحة: خال محسن، لقد أقسمنا أنا والشبيبة ألّا ندع أُحُدًا تتكرر! اسأل الحاج جعفر!
 
 
 
 
234

223

قصّة أُحد

 انقلب حالي من مغزى كلامه. تلقائيًّا نظرتُ إلى جعفر أسدي الذي أخفى على وجهه ابتسامة، قلت: ما قصّة أُحُد؟

- سيد محسن، قبل العمليات أكّدت عليه مرارًا، أنّ مضيق دربندي خان هو بمنزلة مضيق أُحد! وهو في المقابل كان يكرّر دومًا: أُحُد لن تتكرر!

ضغطتُ على زرّ جهاز اللاسلكي محتارًا.
- أشلو ليس لديكم تكليفٌ بالبقاء! سريعًا ما ستنتهي المؤن والذخائر. البقاء انتحارٌ!
- سيد محسن، نحن نطيع أوامر القيادة، لكن اعلموا كذلك أنّ رجوعنا من دائرة حصار العدو هو انتحارٌ أيضًا!
- ولكن؟!

قطع كلامي.
- سيد محسن، لقد ترك لنا العدو من الذخائر والعتاد بقدرِ ما تشاء، وسندبّر أمورنا في الماء والطعام.

بثّ التوكّل في كلام مرتضى البهجة والأمل في روحي. اغرورقت عيناي بالدموع. بلعت ريقي وقلت: أشلو، قاوموا، سأتابع الأمور!
- شكرًا لك يا سيد محسن، إذا كانت الشهادة من نصيبي أوصل سلامي إلى الإمام الخميني!

ارتجف قلبي. قلت: إن شاء الله تنتصرون، وأعدك أن أوصل سلامك وشجاعتك إلى حضرة الإمام!

فجأة سمعتُ عبر اللاسلكي صوت طائرة مروحيّة.
- أخ محسن، لدينا ضيوف، يجب أن نستعدّ للضيافة!
 
 
 
 
 
235

224

الألمان

 الألمان - 21/تموز/1983


- تب.. تب.. 

كسر صمتَ صباح المنطقة الجبليّة وهدوءَها سبعُ أو ثماني مروحيّات عراقيّة زيتيّة اللون كانت تحلّق متّجهة نحو المكان الذي أتينا منه قبل ليلتين. سألني حسن مايلر: "داريوش، إلى أين يتوجّه هؤلاء؟". تبسّمت.
- لقد أخطأوا المسير.. كان عليهم أن يشنّوا هجومًا علينا!
- لا بدّ أنّهم لا يعلمون باستقرارنا على تلّة "بردزرد!".
- لعلّهم يريدون الهجوم على "السريّة3".
- .. ها.. انظر.. إنّهم يُنزلون مظلّيين خلفنا!
- كما في الأفلام الألمانيّة!
- هذا لافت، لم يسبق لي أن رأيته!
- فلنلوّح لهم بأيدينا، لعلّهم يجيبوننا.
- تُرى ماذا يدور في رؤوسهم؟
- لقد أنزلوهم هنا خطأً!
- لا بدّ أنّ لديهم فائضًا من العناصر!

كنت غارقًا في مشاهدة فتح المظلّات البيضاء والسُكّريّة اللون التي تعود لقوّات المغاوير العراقيّة. كان المظليّون يهبطون في النطاق الأمنيّ لسريتنا.

تناهى إلى سمعي مجدّدًا أصوات، تلاها وصول مجموعة ثانية من المروحيّات لتحلّ مكان المجموعة الأولى. كانت المروحيّات تدنو من
 
 
 
 
236

225

الألمان

 الأرض فيقفز المغاوير منها إلى الأسفل. علا صوت "مش موسى"، مسؤول تجهيزات الكتيبة، قائلًا: "فليقل أحد لهؤلاء إنّهم يُنزلون عناصرهم خطأً. هذا حرام، إنّها أموال بيت مال المسلمين!".


ابتعدت المجموعة الأولى من المروحيّات فيما أخذت المجموعة الثانية تُنزل المظليّين. كانت السماء تعجّ بأعداد كبيرة منهم!
- يا لهم من حمقى! لماذا يُنزلون المظلّيين هنا؟

قال حسن: "ليتنا نرشدهم!".

ضرب العمّ مرتضى على ظهر حسن، وكان الأخير يضع ذقنه بين يديه وهو ينظر إلى السماء مطلقًا العنان لمزاحه، ثم قال له: "إنّهم يدركون جيّدًا أين ينزلون مظلّيّيهم!".

قال حسن: "هل تحاول إخافتنا يا عمّ؟".

أتممتُ كلام العمّ وقلت: "بهذا العمل يسدّون طريق عودتنا!".

ضمّ حسن شفتيه مُدندنًا موسيقى الأفلام الغربيّة ثم قال: "لأجل حفنة من الدولارات!".

قال العم لحمامي: "اتّصل بـمحمد رضا بديهي واسأله عن الأوضاع هناك".

لم يمضِ وقت طويل على إنزال العراقيّين حتى تساقطت القذائف على التلّة كحبّات برَد كبيرة! كأنّ العراقيّين أرادوا أن يحرثوا أرض التلّة بواسطة هذا الكمّ من القذائف!
- إنّها نيران المدفعيّة!

قال مرتضى ذلك ثمّ وضع المنظار على عينيه وهو يراقب بدقّة أطراف التلّة.

قلت: "ماذا هناك؟".

رفع المنظار عن عينيه وأشار بالتوالي إلى الغابة والنهر وأطراف
 
 
 
 
 
 
 
237

226

الألمان

 التلّة.

- سلمان، انظر إلى هناك! هل هؤلاء أكراد العراق.. لا أصدّق هذا!

نظرتُ إلى الجهة اليسرى أوّلًا. كان هناك أكثر من سرية من القوّات بزيّ كرديّ أسود مخطّط بالأبيض، وبحوزتهم أسلحة من نوع كلاشنكوف وسيمينوف، يزحفون باتّجاهنا من أسفل التلّة المجاورة لـ"حديقة موتورى". قلت: "يريد صدّام القول إنّ لديه قوّات تعبئة أيضًا!".

قال مرتضى: "علينا أن نعرف إن كان تعبويّو صدّام واقعيّين أم مزوّرين!".

أخذت كتيبتان من المشاة تتقدّمان نحونا من ناحية النهر والغابة أيضًا.
- ما الأمر؟ مجموعة من الرجال مقابل رجل واحد! أمامنا حرب ضروس!
- لا قطعَ الله عيشَك1، هل تخاف من الشهادة؟

قلت: "ما دمت موجودًا فأنا حاضر!".
وصلت السرية العراقيّة بالزيّ الكرديّ إلى أسفل التلّة، وأخذ عناصرها يتسلّقون التلّة على أربعتهم كالعنز الجبليّ.
- سلمان، فليأخذ كلّ من بوسعه أن يطلق النار موضعًا مناسبًا. أسرِع..

ثمّ نادى بعجل: "حمامي".

ظهر حمامي فجأة.
- أجل يا عم!
 

1- أو: أدام الله رزقك.
 
 
 
238

227

الألمان

 - لا قطع الله عيشك، اتّصل بتشوبان!


سقطت قذيفة خلفنا فانحنيت. أمّا مرتضى فتناول السمّاعة من جليل بأعصاب باردة. ضغط على زرّ الجهاز اللاسلكي.
- مرتضى، مرتضى، أبو القاسم!
- أرسل يا مرتضى!
- "أبو القاسم".. هل ترى الضيوف.. رتِّب صفوف عناصرك.. قرارنا هو التالي: من يصدّ الهجوم أوّلًا يرسل قوّاته لمساعدة الآخر، مفهوم؟
- مفهوم يا عم!

إلتفت مرتضى نحوي وتابع قائلًا: "إنّ النيران كثيفة.. لن يستطيعوا رفع رؤوسهم.. علينا أن نساعدهم! إن سقط ذلك المحور فسينتهي أمرنا!".

مضى يجول بين العشرين أو الثلاثين عنصرًا ممّن تبقّى من السرية، فرتّب صفوفهم وعاد. جلس خلف الرشّاش الثنائيّ الثقيل وصوّب نحو العراقيّين. أمّا أنا فحملت رشاش الغرينيف الروسي الصّنع مع شريط الرصاص، وصوّبتُ نحو العدوّ عن بُعد. كانت كثافة نيران العدوّ شديدة (القصف المدفعي) بحيث غطّى الدخان والغبار أجواء المكان. صاح مرتضى: "سلمان، أطلِق النار عندما أقول لك!".

أخذ العراقيّون يضيّقون الخناق علينا أكثر فأكثر من ثلاثة محاور سوى الجهة العليا حيث استقرار قوّات تشوبان، فيما كانت كتيبة من المشاة والأكراد العراقيّين تقترب من رأس التلّة.

قرابة التاسعة صباحًا، وصل ضابط عراقيّ من المشاة عظيم الجثّة إلى التلّة بلا أيّ مانع، فرفع مسدّسه الخاص نحو السماء بطمأنينة، وأطلق قنبلة مضيئة حمراء اللون، فانقطعت على الفور نيران مدافع
 
 
 
 
239

228

الألمان

 العدوّ، ما سمح لشبابنا أن يُخرجوا رؤوسهم من الدشم. أمّا مرتضى الذي بدا أنّه يتحيّن الفرصة، فأطلق الرصاصة الأولى وأصاب رأس الضابط مباشرة وصاح: "الله أكبر.. أطلقوا النار..!".

- يا مهدي.. أدركني..

رفعت صرخة مرتضى ومقتل الضابط العراقي من معنويّاتي. ومن داخل الحفرة بين التعبويّين والحرس ضغطتُ بإصبعي على زناد رشاش الغرينيف مطلقًا عنان الرصاص نحو العدو. كنت أبدّل شريط الرصاص بشكل متوالٍ مطلقًا النار بغزارة.

ذابت سبطانة الرشّاش بسبب كثافة النيران. وضعتُ الرشاش جانبًا وحملتُ بندقيّة كلاشنكوف. وصل عدد من المشاة والأكراد العراقيّين إلى رأس التلّة مظهرين شجاعة وجرأة. بدأت مواجهات رَجل لِرَجل، فأصيب واحد أو أكثر من شبابنا وسقطوا من أعلى التلّة نحو الأسفل! شعرتُ بالقلق حيال سقوط التلّة. بينما أنا كذلك وإذ بيد تضغط على حلقي. سقطت البندقية من يدي وكدت أختنق. استدرتُ بصعوبة ونظرتُ فوق رأسي. تجمّدتُ في مكاني مذهولًا! كان أمامي شاب تعبويّ في العشرينيّات، بعينين تكادان أن تخرجا من محجريهما جرّاء الألم الشديد، وهو يحملق فيّ ضاغطًا على حلقي. كان القسم الأيمن من رأسه قد أصيب برصاصة رشّاش ثقيل، فلقت جمجمته فخرج دماغه، فيما كانت ذقنه ترتعش وكذلك شفتاه. تمزّق نياط قلبي وكأنّ دماغي هو الذي خرج من رأسي. لقد تشبّث بحلقي من شدّة الألم، وكأنّه كان يتوسّل إليّ بأن أخلّصه من آلامه! احترت في أمره. قلت له: "ماذا؟!".
- سا.. سا..!!!

لم تخرج الكلمة من حلقه، وهوى في حجري كقطعة صخرة وفارق
 
 
 
 
240

229

الألمان

 الحياة. أحسستُ بحرارة الدم وطراوة الدماغ اللزج على وجهي. أخذتُ أرتعش من هول الصدمة. مدّدتُ الجثّة على أرض الحفرة، ووضعتُ الكوفيّة على رأسه المدمى. صاح حمامي: "العراقيّون يتقدّمون من جهة النهر".


قطعت فصيلة من المغاوير النهر، واشتبكوا مع العناصر المستقرّين في الدشم والخنادق أسفل التلّة. التفّ المغاوير على دشمتين أو ثلاث، ورأيتهم من الأعلى وقد رموا في داخلها "قنابل يدوية". وبهذا استطاع العدوّ السيطرة على مدخل التلّة الصغرى من تلال "بردزرد". ناداني مرتضى: "سلمان، اجمع عددًا من الشباب وهلمّ معي!".

لم ينتظر مرتضى مساعدَ رامي (B7). ثبّت القذيفة الأولى في قاذف الـ(B7) ثمّ جعله على كتفه، وسحب حقيبة القذائف خلفه. حملتُ الرشّاش وركضتُ خلف مرتضى بصحبة إسماعيل توكّلي، إبراهيم كاركر وبضعة أشخاص آخرين. أخذ مرتضى يركض دونما حماية خلف أحد السواتر الترابيّة باتّجاه المغاوير العراقيّين الذين كانوا يصعدون الساتر. لم أدرِ كيف وضع حقيبة القذائف على ظهره، ثم ركض مباشرة نحو جموع المغاوير، وأطلق أوّل قذيفة بينهم فتطايروا في الهواء. تشتّت جمع المغاوير وطار كلّ واحد منهم إلى جهة. إثر رؤيتهم لـمرتضى ولمجموعتنا التي كانت تعدو خلفه مطلقة النار، ذُهل المغاوير غير مصدّقين وتبدّد جمعهم، فتقهقر عدد منهم إلى ما وراء النهر، فيما لجأ الآخرون إلى الدشم التي سيطروا عليها قبل لحظات، وأخذوا يردّون على هجومنا بالرشاشات الثقيلة والـ(B7). أيّما أحد اقترب منهم كان عرضة للإصابة. قال مرتضى: "إنّ احتلال هذه الدشم مشكلة.. لقد سدّوا بذلك طريق النهر، وثبّتوا موطئ قدم مناسبًا للسيطرة على التلّة".
 
 
 
 
241

230

الألمان

 في نهاية المطاف، وعند الساعة الثانية عشرة فشلت هجمة العراقيّين، فأخذوا ينسحبون تدريجيًّا من نقاط تلّة "بردزرد"، فيما حضر عدد من الشباب لمساعدتنا. أشرت إلى دشم العراقيّين.

- ماذا سنفعل بهؤلاء؟

قال مرتضى: "لقد صار هؤلاء شوكة في حلقنا تمامًا كما صرنا شوكة في حلقهم بسيطرتنا على هذه التلّة! علينا إخراجهم سريعًا من الدشم وإلّا فسنواجه مشكلة في الهجمة المضادّة التالية".

فكّر مرتضى قليلًا ثم نادى "مش موسى": "ائتِني بمكبّر صوت يدويّ! لا يُطْلِقنّ أحد النار!".

عندما توقّف إطلاق النار كفّ المغاوير اللائذون بالدشم عن إطلاق النار أيضًا، وساد هدوء نسبي المكان. أدنى مرتضى مكبّر الصوت اليدويّ من فمه وخرج من المخبأ، ثمّ أخذ يتكلّم ببرودة أعصاب وبلغة عربيّة مكسّرة.
- أي شي لونك.. اشلونك.. يا أخي.. صباح الخير!
- سيرمون العمّ بالرصاص الآن!
- إنّ العمّ يعلم ما يقوم به!

كان مرتضى يتحدّث بطمأنينة، وهو يسير نحو العراقيّين وكأنّهم كانوا محاصرين من قِبلنا لأيّام. في اللحظة الأولى أطلقوا بضع رصاصات قرب العم مرتضى محاولة منهم لتقويم الرجل. أمّا مرتضى الذي بدا خبيرًا بزبائنه فلم يرفّ له جفن، وأكمل وعظ العدو بدم بارد. لم يطل الأمر حتى خرج أوّل مغوار بقميص أبيض من الدشمة الأولى. تقدّم مرتضى من المغوار كطبيب نفسيّ محترف، فعانقه وقبّله على مرأى من الآخرين. وفي غضون دقائق معدودة استسلم حوالي ثمانية عشر مغوارًا من دون إطلاق رصاصة واحدة!
 
 
 
 
242

231

الخيار

 الخيار - 21/تموز/1983


- ..الصافرة التي تسمعونها الآن.. الوضع الأحمر.. ومعناها.. حصول هجوم جويّ حتمي.. اختبئوا في الملاجئ..

قبيل الظهر بثّ المذياع الجيبيّ ذو الموجة الواحدة صافرة الإنذار الحمراء. دوّى في أذني صوت مهول ناتج عن المضادّات الجوّية. كان قلبي يغلي من الاضطراب: لا بدّ أنّ أمرًا ما قد حدث.. اللهم اجعله خيرًا.. أين مرتضى الآن، وماذا تراه يفعل.. هل أصيب بمكروه.. لا قدّر الله.. ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب.. نظرتُ من خلال النافذة الوحيدة للغرفة رقم مئة وعشرة لأرى مكان مرتضى الخالي وأتذكّر آخر وداع له! حتى البلبل البنّي توقّف عن الزقزقة في قفصه.

سبق أن قال لي العجوز النحيل ذو الشّيبة، عامل فندق قيام: "سيّدة جاويدي، لقد قصفت الطائرات شارع نادري! هناك عدد هائل من الشهداء والجرحى!".

ارتديت عباءتي، حملتُ المذياع ودخلتُ غرفة السيّدة بروين. قفزت الصغيرة سميّة مرعوبة إلى حضني.
- إنّي خائفة يا خالة!

قبّلتها.
- لا تخافي يا عزيزتي!

بثّت إذاعة أهواز صافرة إنذار الوضع الأبيض، وعاودت بثّ برنامج "البيت والأسرة". عندما رأت بروين، زوجة السيّد ستوده طفلتها في حضني، تركت حديث الحرب وشرعت بالحديث عن الحياة: "آمنة،
 
 
 
 
243

232

الخيار

 ألا تريدين طفلًا؟".


أطرقتُ برأسي. ولمّا طال صمتي أردفتْ قائلة: "الولد نعمة كبيرة..".

كانت سميّة تتسلّق على ظهري وكتفي بسعادة وبراءة. انقطع بثّ البرنامج العادي للإذاعة ثانية، ليحلّ مكانه موسيقى ثوريّة. ما لبث أن خفت صوت الموسيقى الثوريّة فيما صدح صوت المذيع.
- .. مستمعينا الكرام، أرجو الانتباه..

أنصتنا لخبر الإذاعة.
- مستمعينا الكرام.. أنتم تستمعون إلى خبر مهمّ أُفِدنا به من المقرّ العسكريّ..

انخلع قلبي، وقلت بحزن: "عمليّة أخرى!".

اجتاحت أفكار مختلفة ومضطربة ذهني. ملأ الذعر والخوف نفسي، وأطبقا على حلقي. حملقتُ في وجه بروين الذي كان يزداد بياضًا لحظة بعد أخرى. لم أتمالك نفسي فأخذ ستار من الدمع يُسدَل على عينيّ ثمّ يتساقط ثمّ يُسدل من جديد.
- يا خالة، يا خالة..

أعادتني هزّات سميّة الصغيرة إلى الحياة. كانت الموسيقى العسكريّة الصادرة من المذياع تنهش لحمي وتبري عظامي. نظرت بروين إلى سميّة، ونطقت بكلماتها من بين شفتيها المرتعشتين بصعوبة: "هل كان لواء المهدي هناك أيضًا؟".

تمتمتُ ببرودة: "لا أعلم، عسى أن يكون خيرًا!".
- لهذا السبب ما برحت الطائرات تقصف الأهواز منذ الصباح!
- هل تعرّضت خوزستان لهجوم؟
 
 
 
 
244

233

الخيار

 - أين زوجانا الآن يا ترى؟!

- الناس فرحون لهذا الهجوم!

جثمنا في زاوية الغرفة حائرتين، لا ندري أيّنا تواسي الأخرى!
- مستمعينا الكرام.. بدأ مجاهدو الإسلام ومقارعو الكفر ليلة أمس عمليّة "والفجر 2" المهمّة والاستراتيجيّة في منطقة حاج عمران..

بدأت النساء القاطنات في فندق قيام الطواف والسعي وطرح الأسئلة المكرّرة التي كانت تشغل أذهانهنّ بعد كل معركة. 
- دور من.. هل زوجي شهيد، جريح، أسير أو مفقود..

وبانتظار الإجابة كان علينا أن نصبر ونتحمّل أيامًا حتى تنتهي العمليّة، وينجلي الدخان والغبار، فتعرف كلّ منّا خبرًا عن مصير زوجها. لم يكن بوسعنا سوى أن ندعو ونصلّي لسلامة المجاهدين!

عند الظهر عُدت مغمومة إلى غرفتي. أطفأت المذياع، ووضعته على الرفّ. وضعتُ بارتباك إبريق الشاي على المدفأة النفطيّة. لعلّي أردت أن أعيش ذكرى مرتضى فأعددتُ الشاي، إذ كان يحبّه حبًّا جمًّا. كلّما كنت أتأخر في إحضاره كان يقول لي ممازحًا: "أنا لا أدخّن السجائر، لكنّي أدخّن الشاي عوضًا عنها، لا تنسي ذلك يا بنت خالتي!". 

ارتديتُ ثوب الصلاة الأبيض. حملتُ سُبحة "شاه مقصود" الخضراء. صلّيت وقرأت الأذكار، وفي الختام شرعت أتلو سورة الواقعة: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ...  إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾.

بعد الظهر بثّت الإذاعة أخبارًا عن استكمال عمليّة "والفجر 2"، فيما شغلت نفسي في رتق وخياطة ملابس مرتضى. نهضتُ وطحنتُ قليلًا من الخبز وأطعمت البلبل البنّي. علا صوت طرق الباب. فتحتُ
 
 
 
 
 
245

234

الخيار

 الباب فرأيتُ ليلى، زوجة علي أكبر بهمنزادكان، بوجه شاحب وعينين متورّمتين. بعد ذلك ارتمت كالخشبة اليابسة في حضني، كأنّ روحها خرجت من جسدها دفعة واحدة، وأخذت بالبكاء والنحيب.


حضنتُها، فوضعتْ رأسها على كتفي وواصلت بكاءها حتى هدأت. أمسكتُ بكتفيها وأجلستها بقربي. كانت عيناها قد تجمّرتا. وضعتُ يدي على وجهها ومسحتُ ما بقي من دموعها وسألتها: "عزيزتي ليلى، ما الخطب؟".
- زوجي علي أكبر..
ثمّ خنقتها الغصّة.
- ماذا حدث لعلي أكبر؟!
- لقد اس..س..تشهد!
 
 
 
 
246

235

نذر الأمّ

 نذر الأمّ - 21/ تموز/1983


عندما خفّت حدّة النيران على التلّة خرجتُ من الدشمة ذات الواجهة المفتوحة. على مسافة قصيرة من الدشمة جثا "غلام فرمانيها" على ركبتيه قرب جثّة أخيه حسن. في حرّ ما بعد الظهر عاونته على وضع وجه أخيه الشهيد تحت ظل شجيرة لئلّا تصيبه أشعّة الشمس. على مقربة منّا أخذ علي ينزع قشر بشرته التي أحرقتها أشعّة الشمس.
- حسين، إن جلدي ينفصل قشرة قشرة!

أشار عليّ إلى المرتفع العالي خلف رأسي.
- يا لقدرة الله، هناك ثلج وبرد، وهنا شمس محرقة!
- سيّد، هلمّ معي لنعطي الجرحى بعض الحليب.

أخذ علي - الذي كان يُضحكه حتى الشقّ في الجدار- يقهقه مُطْلِقًا ضحكته الخاصّة من شدقيه المفتوحين وقال: "وهل لديكِ حليب يا أمّي؟".

نظرتُ نظرة تهديد، فتوقّف عن الضحك وسار خلفي. حملتُ علبة الحليب ومطرة الماء، وقصدتُ سيارة الـ "جيب" التي كنّا قد وضعنا في ظلّها وفي الحفرة التي تحتها عددًا من الجرحى. سحبتُ نفسي بصعوبة إلى أسفل المركبة. كان الجرحى جائعين خائري القوى. بحثتُ كثيرًا عن وعاء لحلّ الحليب لكن من دون جدوى. قلت لهم: "ليس لدينا وعاء!".

لكنّ الجرحى كانوا يتضوّرون جوعًا، فألصق الجريح الأول كفّي يديه.
 
 
 
 
 
247

236

نذر الأمّ

 - هذا وعاء!

- لكنّ يديك ملوّثتان بالدم! 
- لا يهمّ!

أشرتُ إلى عليّ.
- أنا أسكب الحليب، وأنت تصبّ الماء!

سكبتُ الحليب المجفّف على كفّي الجريح، ثمّ أضاف السيّد علي ماء المطرة شيئًا فشيئًا، فيما أحنى الجريح إبهامَي يديه إلى باطن كفّيه وجعل يحرّك الماء والحليب.
- انظروا النتيجة! حليب، دماء جافّة وماء!

شرب الجريح الحليب، ثمّ كوّر جمال وصابر، الجريحان الشابّان الآخران، يديهما كالوعاء بانتظار الحليب.

أخرجني دويّ انفجار مروّع من تحت المركبة. قرب الدشمة ذات الواجهة المفتوحة سقطت قذيفة (مدفع106)، فارتفع صوت يقطّع القلوب لأحد الشباب من داخل الدشمة. 
- يا إلهي احترقت.. يا مهدي!

وصلتُ إلى الجريح الذي كانت الدماء الصافية تشخب من رقبته كالخروف المذبوح. أحسستُ بحرارة دمه على وجهي. لقد أصابت الشظيّة وريده. تحيّرتُ ماذا أصنع! لم أدرِ كيف وصلتْ إلى يدي بضع ضمادات. حاولتُ جاهدًا أن أسكّر جرح وريده وعبثًا حاولت. أخذتُ يده ووضعتها على رقبته، فلففتُ الضماد حول يده ورقبته والشظيّة معًا حتى انقطع نزف جرحه. كان ذلك الحلّ الوحيد! حملته أنا وعلي على تلك الحال، قد خيطت يده برقبته، ووضعناه تحت ظلّ مركبة الجيب. لم يعد المكان يتّسع لأحد. خرجت وعلي من الحفرة المظلّلة
 
 
 
 
248

237

نذر الأمّ

 بالمركبة، ودخلنا الدشمة المفتوحة والكبيرة نسبيًّا حيث جلس عدد من شباب إحدى المجموعات. قال عليّ ضاحكًا كعادته: "لقد ابتكرت شيئًا جديدًا!".


أمّا سعيد حفّار، الذي لم يقرّ له قرار، فقد صعد إلى الأعلى برجله المجروحة، وبرفقته كريم الأبرص وإبراهيم كاركر لتقديم المساعدة. كانت حدّة نيران العدوّ قد خفّت فوجدناها فرصة ليبثّ بعضنا إلى بعض الشجون ونتعرّف إلى العناصر الجدد وحياتهم. أشار سعيد إلى "حبيب زيبايي عالم"، التعبوي الساكت والنحيل الذي جلس بجانبه.
- ماذا حدث لرِجلك يا سيّد حبيب؟

تبسّم حبيب ذو الخمسة عشر أو ستة عشر ربيعًا.
- أنا نفسي لا أعرف بالدّقة.

سأل سعيد حفاري: "لا تعرف؟ وهل يُعقَل هذا..؟".
- كلّ ما أتذكّره من الصغر أنّها كانت هكذا! في البداية لم أستطع السّير ولو خطوة واحدة.

قال كريم الأبرص: "كيف استطعت أن تأتي إلى هنا مع كتيبة الفجر؟".

خلع حبيب الجزمة من رجله النحيفة، وكان على طرفيها حزامان حديديّان متّصلان بالركبة، وأشار إليها.
- بالجزمة الطبّية! لقد أعانني الله حتى الآن ولم أواجه أي مشكلة!

وضع كريم الأبرص يده على رأسه وشعره الأبيض، مضيّقًا عينيه من قوّة الضوء وسأل: "وهل يعلم العمّ مرتضى بذلك؟".
- لا أظنّ ذلك.. لقد انضممتُ إلى الكتيبة للمشاركة بالمعركة!
 
 
 
249

238

نذر الأمّ

 ثمّ أشار حبيب إلى قعر جزمته الخاصّة.

- لقد أزلتُ عرجة رجلي بوضع كعب إضافيّ. 

سألته مستغربًا: "سيّد حبيب، سبق أن قلت إنّك لم تكن تقدر على المشي على رجلك؟ كيف تمكّنت من ذلك؟".
- بالنذر! ما برحت أمّي تقدّم النذور لمولانا أبي الفضل العباس عليه السلام، إلى أن استطعت المشي منذ العام الماضي. 

ثمّ أخذ نفسًا عميقًا وتابع: "حينها نذرتُ أنا أيضًا أنّي إن شفيتُ فسأقدّم رجلي في سبيل الله!".

أخذ سعيد حفّار رأس حبيب، فأدناه منه وقبّل جبهته. أمّا كريم الأبرص فقال: "تعال لكي أسحب لك ورقة من فأل حافظ!".
 
 
 
 
250

239

القنبلة العنقوديّة

 القنبلة العنقوديّة - 21/تموز/1983


- طائرة.. إيرانيّة؟ عراقيّة! احتموا..

عند الثالثة من بعد الظهر ظهرت الطائرات العراقيّة كالأجل المعلّق، وألقت قنابل عنقوديّة فوق المنطقة! كانت معظم القنابل تسقط بمظلّات صغيرة فوق الوادي والغابة.

من داخل الدشمة المطّاطيّة غير المحكمة كنت غارقًا في مشاهدة هبوط القنابل العنقوديّة، وإذا بعليّ ينبّهني لهجمة مضادّة من قبل العراقيّين.
- حسين.. هناك.. من جهة النهر والقرية.. العراقيّون يقتربون من القائد.. علينا إخباره.

وقفتُ داخل الدشمة المستقرّة على أعالي التلّة الكبيرة ونظرتُ إلى حيث أشار عليّ. أكثر من كتيبة من الجنود العراقيّين الذين يرتدون زيًّا أخضر داكنًا يلمع تحت أشعّة الشمس، أخذوا يقتربون من التلّة الصغيرة من جهات عدّة. تواصل سقوط نيران المدفعيّة الشديدة فوق رؤوس مرتضى وبقيّة الشباب. ضغطتُ على رشاش الغرينيف الذي كان بيدي قائلًا: "ليتنا نستطيع مساعدتهم!".

قال نعيمي: "انتبهوا، من الممكن أن يهجموا علينا أيضًا!".
- أخبروا الشباب! كونوا على حذر.

قال علي: "إنّ السيّد مرتضى يستطيع التغلّب عليهم!".
- يتركّز الهجوم العراقيّ في القسم السفليّ!

استُهدِفت التلّة بقذائف الـ (106) وقذائف الدبابات العراقيّة
 
 
 
 
 
251

240

القنبلة العنقوديّة

 المستقرّة في الوادي. أشار رحيم نعيمي إلى القطع البلاستيكيّة حول دشمة الاتّصالات.

- إنّ دشمة الاتّصالات غير آمنة! علينا إيجاد مكان أفضل.. لا ينبغي أن نجتمع في مكان واحد.

نظرًا لأنّ تلّة "بردزرد" لم تكن على الخطوط الأماميّة للجبهة فإنّ الدشم قد صُنعت للوقاية من الحرّ والقرّ فحسب. التفتّ ونظرتُ إلى "ناصر" أحد شبّان السرية، وكان نائمًا قبالتي هادئ البال رغم كلّ ذلك الضجيج والصخب والحرّ. ليتني أستطيع أن أنام بضع ساعات أنا أيضًا! أفسد تفكيري صوت جلجلة مهولة لرصاص المضاد للطائرات. بينما أنا كذلك وإذ برصاصة مرّت قرب أذني، ودخلت مباشرة في فم ناصر لتخرج من خلف رأسه على مرأى من عينيّ المذهولتين! فما كان من ناصر إلّا أن اهتزّ وأسلم روحه. كنت لم أزل تحت وقع صدمة شهادة ناصر حين سقط الرصاص الخطّاط على الدشمة المطّاطيّة وجدران دشمة الاتّصالات النصفية، فاشتعلت الدشمة. خرجنا جميعًا، سالمين وجرحى، من الدشمة حبوًا على الأربع. كأنّ العدوّ كان يترصّد كلّ من يخرج ذعرًا من الدشمة فيطلق عليه النار من أسلحة الـ"سيمينوف".
- توخّوا الحيطة.. القنّاصة.. إنّها خطّة.. اخرجوا زحفًا.

خرجتُ من الدشمة فصاح علي: إنّ "مهسيما" في الدشمة وقد أصيب برجله.. هو حيّ..
كانت الدشمة المطّاطيّة تشتعل باللهب، فألقى نعيمي نفسه داخلها وأخرج مهسيما الجريح من قلب اللهب. ما إن ابتعدنا قليلا حتى شرع العدوّ يستهدف الأفراد بقذائف الـ(106)! علت من أسفل التلّة أصوات الاشتباكات وإطلاق النار. عندما رأيت أنّ العراقيّين لم يشنّوا هجومهم على تلّتنا، ثبّتُّ رشاش الغرينيف داخل دشمة غير مكتملة
 
 
 
 
252

241

القنبلة العنقوديّة

 واقعة على مقربة من سيارة الجيب. لحق "عليّ" بي فتمدّد بحذائي. كان عدد من العراقيّين في السهل ينوون الالتفاف على القائد مرتضى وشبابه من داخل حقل القمح الذهبي. نبّهني صوت نعيمي: "أيّها المؤمن، تستطيع أن ترمي.. ليست المسافة بعيدة.. ارمِ..".


لم أكن على يقين بأنّ رصاص رشّاش الغرينيف الثقيل سيصل إليهم. حشوتُ كبد الرشاش بشريط من الرصاص. 
- علي، أرسل الشريط إلى الأمام!

رفع السيّد علي طرفي شريط الرشاش الطويل. عضضتُ على ناجذيّ ورحتُ أحصد العراقيّين وحقل السنابل في آن واحد. كانت الرصاصات الفارغة الحامية تنهمر على أرض الدشمة بينما كنت أُشعل القمح والعراقيّين معًا. أطلقتُ النار إلى حدٍّ رأيت احمرار سبطانة الرشّاش بأمّ عيني، فخفت أن يذوب. بينما انشغلت بإطلاق النار وإذ بانفجار مروّع يرميني على بطني بضعة أمتار. انقلبتُ على ظهري وحدّقتُ حيث وقع الانفجار. كانت سيارة الجيب التي وضعنا تحتها الجرحى الأربعة تشتعل بالنيران.
- يا إلهي، الجرحى!

هممتُ بالنهوض وإذ بـغالوني العشرين ليترًا تنفجران كالبراميل المتفجّرة، فسال البنزين الذي في جوفهما على الجرحى أسفل المركبة. كأنني أنا الذي كنت أشتعل وأحترق. نهضتُ ووقفت على بعد خطوات من المركبة. كانت صراخات الجرحى في الحفرة تتعالى بشكل مؤلم في الهواء. اقتربتُ أكثر لأرى التعبويّ الجريح الذي كنت قد ضمدتُ يده ونحره معًا يُشوى بلهب النيران. صحتُ: إلهي..

مضيتُ مذهولًا مثكولًا غيرَ آبه بنيران مدفعيّة العدوّ، فجلستُ قرب إحدى الدشم. ضممتُ ركبتيّ بيديّ وأخذتُ أحدّق بعيدًا.
 
 
 
 
253

242

عنبر الجرحى

 عنبر الجرحى - 21/تموز/1983


في عتمة الليل كانت الفرصة مؤاتية لكي يفكّر أفراد الكتيبة، فرادى أو مجموعات، بأحداث اليومين الماضيين والمستقبل الغامض. كان الصمت والتفكير يزيداني اضطرابًا وقلقًا. لم يكن ثمّة أفضل من غفوة هادئة بعد يومين من المعارك الطاحنة! خرجت من دشمة الرشّاش الثقيل، وانحدرتُ برفقة علي خليلي ونعيمي من الحافّة (عنف) الغربيّة للتلّة نحو مرتضى.

دخلتُ حجرة (عنبر) الجرحى. كانت رائحة التعفّن قد ملأت أجواء الحجرة. تحت نور المصابيح قبع الجرحى المحمومون بأجسادهم المتورّمة جرّاء سوء التغذية وهم يشتكون من كلّ شيء.
- أعاني من نزيف.
- الألم يقتلني!
- متى سيأخذوننا من هنا؟
- لماذا لم يحضر أحد للمساعدة؟
- الماء.. الماء.. أسألك بالله يا عم..
- ليتني استشهدت!
- يا عم.. يا عم.. يا عم..

كان الجرحى ممدّدين على أرض الحجرة صفّين، بحيث لم يبقَ سوى معبر ضيّق في الوسط. تساءلتُ في نفسي: أين مرتضى؟!

وجدته بين الجرحى. اقتربت منه وقد وضع على ركبتيه شابًّا
 
 
 
 
254

243

عنبر الجرحى

 جريحًا من الحرس لم يكْسُ عظمه سوى الجلد، ولم يُرَ من عينيه إلّا بياضهما! حدّقتُ في عينَي مرتضى. كأنّ بحرًا من الدموع كان مستترًا خلفهما إلّا أنّه لم يستطع أن يُخرج قطرة منها. أخذتُ أفكّر في مرتضى وشخصيّته: أيّ ضغط يتحمّله الآن! إنّه قائد كفوء وشفيق. ففي الوقت الذي يتمتّع بكفاءة عالية في قيادة الكتيبة فهو يعمل كالخادم، يجمع بطّانيّات الشباب بدعابة ومزاح، يضع غطاء السفرة، يغسل الصحون ويكنس الأرض.. فليحفظه الله. أشعر أنّنا جميعًا بحاجة إلى ابن القرية المحبّ والشجاع هذا. لقد أظهرت الحرب الاستعدادات الكامنة في مرتضى. لا أعلم ماذا سيكون مصيرنا إن حصل له مكروه! همستُ في أذنه: "هل أستطيع المساعدة؟".


وضع رأس الجريح الشاحب الوجه - والذي لم يُعلم إن كان قد استشهد أو ما زال على قيد الحياة - على الأرض برويّة. عضّ على شفته ألمًا. نظرتُ إلى ظهره، فإذ بمكان إصابته بشظيّة قنبلة يدويّة وقد التهب وانبجست منه دماء غضّة.
- يا عم.. جرحك.. سيقضي عليك! دعني أرى..

للمرّة الأولى استسلم لألم الجرح الملتهب. تقدّم رحيم نعيمي وساعدناه على خلع كنزته الصوفيّة. انفصل الجلد والدم والثياب الملتصقة بالجرح عن لحم جسده، وانبعث القيْح والدم الطريّ. 
- آخ..

كانت المرّة الأولى والأخيرة التي سمعت فيها مرتضى يتأوّه! غسلت جرحه بالمطهّر والضماد. غطّينا جرحه وبدّلنا ثيابه. علا صوت جهاز (PRC) اللاسلكيّ الذي كان بإزائه: مرتضى مرتضى، علي..

تناول السمّاعة وأجاب على علي نجفي بشفتيه اليابستين: "علي
 
 
 
 
 
255

244

عنبر الجرحى

 علي، مرتضى أرسل!".

- ما الأخبار يا مرتضى؟

تبسّم مرتضى وقال: "عزيزي علي، الوضع لمصلحتهم حاليًّا! ماذا عنكم..؟".
- على العكس منكم، الوضع لمصلحتنا!
- الشكر لله!

وضع جهاز اللاسلكيّ أرضًا. وفي ظلّ تلك الأجواء المريرة والكئيبة فاجأني صوته الهادئ والباعث للسكينة وهو يتلو القرآن.

﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ...  إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾.

تمتمتُ لا إراديًّا: "حقًّا إنّ القرآن كتاب كريم ومسطور..". قلت في نفسي: لقد سهوتُ عن تلاوة سورة الواقعة لعدّة ليال! في نفس ذلك الوقت من الليل كنّا نتلو سورة الواقعة. يا لقلبي الغافل! سرتُ في حجرة الجرحى الكبيرة. في وسطها كان شاب نحيف وقصير قد بُترت إحدى يديه، يرتدي زيّ الحرس الأخضر، على صدره الشعار المخملي الأزرق، وهو يتلو سورة الواقعة بصوت جميل خافت. أمّا مرتضى الذي لم يعرف معنى التعب فنهض وأعدّ بعض الحليب، وجعل يصبّه في علبة فارغة ثمّ يدنيه من شفاه الجرحى فيسقيهم ويقبّل جباههم مواسيًا. لم يكن هناك أيّ دواء ولا ضماد لتضميد الجروح. عمد بعض المسعفين إلى تبديل ضماد الجروح بكوفيّات الجرحى والأصحّاء. تلازمت رائحة الدماء والتعفّن والعرق مع أصوات هذيان بعض الجرحى المحمومين جرّاء بتر أيديهم أو أرجلهم. في غضون الساعات القليلة الماضية استشهد اثنان متأثّرَين بجراحهما، وتمّ نقلهما إلى دشمة الشهداء.
 
 
 
 
256

245

مخيّم الأسرى

 مخيّم الأسرى - 22 / تموز /1983


- أهذه صورة زوجتك.. أنا أيضًا تزوّجت قبل شهر! بيد مخضّبة بالحنّاء..

أصابت وجهي رصاصة مباشرة. تلاشى قسم من وجهي، كوجه جريحِ هجومِ يومِ أمس، لكنّي بقيت قائمًا أطلق النار!
- يداك مخضّبتان بالحنّاء أيضًا.. هل يتخضّب العرب بالحنّاء؟ طفلك لطيف جدًّا.. من أيّ مدينة أنت.. الموصل.. ياه.. هل تتحدّث الفارسيّة؟

غطّت الدماء جميع أنحاء جسدي.
- إنّهم ينقلون الأسرى إلى مخيّمات أصفهان وطهران وشمال إيران، أسمعت؟

توقّف رشّاش الغرينيف الذي كان في يدي، فيما صعد عراقيّ ضخم الجثّة إلى أعلى التلّة، فوضع كلتا يديه حول رقبتي وجعل يخنقني.
- مخيّم الأسرى.. طهران.. جرجان.. ادعوا لكي يصل الشباب.. لننجو وإيّاكم..

انقطعت أنفاسي، واسودّ كلّ شيء في عينيّ اسودادًا شديدًا! تقلّبتُ يمينًا وشمالًا أتخبّط بيديّ ورجليّ.
- داريوش!

فتحتُ عينيّ مرعوبًا لأجد "جمالي" عند رأسي. 
- ماذا حصل يا داريوش.. هل كنت تحلم؟
 
 
 
 
257

246

مخيّم الأسرى

 أخذتُ بضع أنفاسٍ عميقة إلى أن أدركتُ أنّي على تلّة "بردزرد". قلت: "لقد غفوتُ دون أن أشعر! منذ متى وأنا نائم؟".


أشار جمالي إلى رشاش الغرينيف الروسيّ في يدي.
- قبيل الفجر. لقد أطبقتَ جفنيك كالأموات وبيدك هذا الرشاش! لم يطاوعني قلبي أن أوقظك.
- لم أنم منذ يومين بليلتيهما! 

عندما تذكّرتُ أنّ جميع أفراد الكتيبة لم ترَ عيونهم النوم لثلاثة أيّام أطلقتُ ضحكة ساخرة ثمّ غيّرت مجرى الحديث.
- هل طلبني مرتضى.. ألم يصل أيّ خبر عن القوّات المساندة..
- لا يا داريوش!
- فليهلك داريوش! ماذا عليّ أن أفعل لكي تناديني بسلمان! 

ضحك جمالي. مجدّدًا سمعتُ الكلام الذي تناهى إلى سمعي بين النوم واليقظة. أنزلتُ نظري بسرعة إلى أسفل يدي، عندها عرفتُ أنّي كنت أسمع حديث علي خليلي والأسرى العراقيّين! كان خليلي قد أخرجهم من الدشمة لكي يدخّنوا، وأخذ يتحدّث معهم بالعربيّة المختلطة بالفارسيّة، ويتبادلون الصور. أطلق جمالي ضحكة.
- أترى كيف بات رفيقًا لهم!
- كيف يفهم لغتهم؟
- كان عليّ يخالط عرب "فسا"، ويتحدّث معهم بلغة مكسّرة!

ضحكتُ مطوّلًا وحرّكت رأسي.
- كنت أسمع حديثهم ودردشتهم أثناء نومي!

مع طلوع الصباح البارد لليوم الثالث وصل "مش موسى" برفقة
 
 
 
 
258

247

مخيّم الأسرى

 علي حسيني وهما يحملان بسكويتًا وعلبة من الحليب المجفّف لفطور الأسرى. قال جمالي: "لدينا نقص في الماء! ماذا سيحصل برأيك يا داريو.. أقصد يا سلمان؟".

- الله كريم.. هلمّ نذهب إلى مرتضى.

انطلقتُ وجمالي باتّجاه أسفل التلّة. خلال المسير كانت الريح تعبث يمينًا وشمالًا بأغلفة قذائف الـ(B7) الخضراء، وأوراق الطلقات البنّية اليابسة.

وصلتُ إلى حجرة الجرحى. وجدتُ علي سبزي و"ظريفكار"، وكان الأخير رجلًا متوسّط السنّ من "كازرون"، ذا شعر أبيض وثياب ممزّقة، وكانا يناولان الجرحى الحليب والماء بجرعة محددة. ما إن أنهيا عملهما حتى عمدا إلى جثّة، فأخرجاها من الحجرة وهما يترنّحان، ووضعاها تحت شجرة كبيرة، وغطّياها ببطّانية: أمِنَ الممكن أن تكون الجثة لذاك الجريح الذي كان رأسه في حجر مرتضى؟

سار علي سبزي برجل عرجاء مبتعدًا عن الجثّة. أمّا ظريفكار، الكهل الكازروني، فجثا على ركبتيه بجانب الجثّة وتلا سورة الرحمن.

حين ابتعد ظريفكار مضيتُ نحو أسفل الشجرة يدفعني الفضول. رفعتُ البطّانيّة العسكريّة الرماديّة عن الجثّة، فوقع نظري على العريف عبد الكريم ستايش! كان رأسه متدلّيًا إلى الأسفل من دون حراك. وكان شاحب الوجه ينظر إلى السماء. عندما تذكّرت حديث العريف مع بقيّة الضبّاط اشتعلت غضبًا!

مع مرور الوقت انبعثت الروائح الكريهة من جراح الجرحى والجثث. عدتُ أدراجي برفقة جمالي بحثًا عن مرتضى في كلّ مكان حتى وجدته. كان جالسًا قرب شجيرة خضراء يحدّق بنظرة جانبيّة
 
 
 
 
259

248

مخيّم الأسرى

 إلى أعماق مرتفع "قمطرة" وكأنّه أراد أن يأتي بالجبل بما عليه من عديد وعتاد إلى تلّة "بردزرد".

- السلام عليك يا عمّ!

التفت إلينا. كانت الشمس قد أحرقت بشرة وجهه فتقشّر، أمّا شفتاه فقد يبستا. ما إن رآنا حتى تغيّرت ملامح وجهه القلِق والغارق بالفكر إلى ابتسامة مترافقة مع الهدوء. هممتُ أن أسأله عن جرح كتفه لكنّي لم أجرؤ على ذلك. قال: "عليك السلام يا سيّد سلمان".

ثمّ تابع قائلًا: "ليس لدينا أخبار عن بديهي وسريته. حاول أن تتّصل به عبر اللاسلكيّ واستفسر عن أوضاعهم!
- أنا على اتّصال مع فضل الله نوذري!
 
 
 
 
260

249

محور المعركة

 محور المعركة - 22/تموز/1983


ليس ثمّة ما أكره أكثر من قذيفة (هاون60). فهي تسقط قرب المرء بلا صافرة، ولا ينتبه إليها إلّا بعد أن يناله نصيب من شظاياها وعصف انفجارها. ما إن ملتُ بوجهي حتى حطّت قذيفة (هاون60) بيني وبين ميثم، الفتى عامل إشارة السرية، في الطين ما أدّى إلى شهادته! كما أصابت شظيّة عين "يدي" اليمنى وأخرى أصابت كتفي فجرحته!

لفّ محمد رضا بديهي كوفيّته حول عين "يدي" التي خرجت من محجرها، وقال لي: "لقد حالفك الحظّ يا فضل الله نوذري!".

وضعتُ كوفيّتي على كتفي وعقدتها تحت إبطي. وضع بديهي جبهته على جبهتي.
- الأوضاع وخيمة يا نوذري، لم يبقَ منّا سوى ثلاثين أو أربعين شخصًا!

لقد نطق بما يدور في خلدي. لقد أدركتُ منذ صباح اليوم الأوّل للمعركة بأنّنا وعلى الرغم من تمكننا من السيطرة على تلة "الفولي بول" بسهولة، إلّا أننا وقعنا في محاصرة العراقيّين. لقد سقط أكثر من نصف سريتنا، البالغ عدد عناصرها المئة، بين شهيد وجريح جرّاء نيران مدفعيّة العدو الثقيلة وهجمات مغاويره المضادّة. لقد كان الحظّ حليفنا حين قصف العراقيّون صباحًا مروحيّة لهم عن طريق الخطأ، فسقطت على الأرض وانفجرت أمام عيوننا. وهذا ما رفع من معنويّات أفراد السرية. همس محمد رضا بديهي في أذني قائلًا: "إن سارت الأمور على هذا المنوال فسنفقد بقيّة الشباب أيضًا. اتّصل بالعمّ مرتضى!".
 
 
 
261

250

محور المعركة

 نزعتُ سمّاعة الجهاز اللاسلكي من يد ميثم المطبقة وناديتُ العمّ مرتضى عبر الجهاز. ناولتُ محمد رضا بديهي السمّاعة.


تناهى صوتُ مرتضى إلى سمعنا بوضوح وحرارة: "عافاكم الله أيّها المؤمنون.. هل تستطيعون الاحتفاظ بالتلّة؟".
- كلّا يا عمّ! سيأخذون التلّة عند الهجوم التالي!
- إذًا أخلوا التلّة والتحقوا بنا.. يا بديهي؟
- أسمعك يا عم مرتضى.
- لقد أرسل المقرّ مروحيّة لنا لتستطلع مكاننا، هل لديك أخبار عنها؟

سقطت سمّاعة اللاسلكي من يد محمد رضا بديهي، وظهرت قطرات من العرق البارد على وجهه، ثمّ جعل يحدّق بي. اعترانا الذهول. رفع بديهي السمّاعة وقال بصوت خافت: "لقد سقطت المروحيّة أمام أعيننا، لقد ظننّا أنّها عراقيّة!".

انقطع الاتّصال اللاسلكي ودوّى صوت الرصاص! كان إطلاق النار متقطّعًا في البداية، ما لبث أن صار بفواصل زمنيّة غير منتظمة، ترات..تا.. تات.. إلى أن غدا منظّمًا وسريعًا بشكل تدريجيّ. ألقيت نظرة على قمّة تلّة "بردزرد" حيث كانت طبقات رقيقة من الدخان الناتج عن نيران الأسلحة تزداد وتتكاثر.

سمعتُ صوت خفق طيران مروحيّ. بعدها عبرتْ ظلال واسعة متحرّكة تعود للمروحيّات تلّتنا مقتربة من تلّة "بردزرد". انقسمت المروحيّات إلى مجموعتين. أطلقت المجموعة الأولى صواريخ مستهدفة دُشم تلّة "بردزرد" وخنادقها، فيما أنزلت المجموعة الثانية المغاوير في منحدر التلّة بهدف تسلّقها. أخذ جنود العدوّ يتقدّمون صعودًا بمسافات قريبة وبكيفيّة مبهمة. اشتدّت وطأة المعركة أرضًا وجوًّا. في تلك اللحظة باتت تلّة "بردزرد" نقطة المحور في المعركة.
 
 
 
 
262

251

جيش الخميني

 جيش الخميني - 22/تموز/1983


صباح اليوم الثالث، كنت جالسًا القرفصاء على تلّة "بردزرد"، وقد أعياني التعب والجوع، برفقة علي حسيني. وإذ بصوت خفق المروحيّات يعلو!
- علي، هل تسمع؟
- أجل!
- لعلّها مروحيّات قوّاتنا؟
- ليسمع الله منك!

وفي لمح البصر اسودّت التلّة من ظلال المروحيّات العراقيّة!
- يا إمام الزمان!

وقبل أن ألملم نفسي تساقطت شتّى أنواع الرصاص والقنابل الخفيفة والثقيلة على التلّة. قصفوا كل شبر من أرض التلّة. وضع عليّ يديه حول رأسه حذرًا من الشظايا وعصف الانفجارات وقال: "يا لهم من أنذال! يريدون أن يُسَوّوا أرض التلّة!".
- استعدّوا لمواجهة الهجوم..

أخذ نعيمي وتشوبان يجولان بين العشرة أو العشرين شخصًا ممّن بقي، ويشجّعان العناصر المتعبين المنهكين على المقاومة. أخذت المروحيّات، الخضراء الداكنة اللون والمرقّطة كجلد الفهد، تتناوب على الدنوّ من التلّة وإطلاق الرصاص والصواريخ على رؤوسنا فردًا فردًا. قُصِف كلّ شبر من تلّة "بردزرد" وأطرافها دفعة واحدة بشتّى أنواع الأسلحة. تناهت إلى سمعي أصواتٌ ضعيفة لعدد من الأشخاص
 
 
 
 
263

252

جيش الخميني

 وهم يقرأون دعاء التوسّل.

- إن سارت الأمور على هذا المنوال فلن يبقى أحد منّا على قيد الحياة، ولن يكون ثمّة داعٍ لأن يشنّوا أيّ هجوم.

رسم علي حسيني بسمته المعهودة على وجهه الحنطيّ. 
- هوِّن عليك يا سيّد حسين، الله كريم! 

دوّى صوت "أبو القاسم تشوبان" في أذني.
- لقد توقّفت نيران المدفعيّة العراقيّة، اخرجوا من دشمكم وأطلقوا النّار من قمّة التلّة.

أمّا نعيمي فجعل يرتجز محاولًا رفع المعنويّات.
- يا جيش الخميني! عليكم أن تُحْيوا كربلاء وعاشوراء!

فنادى أحدهم: "لبيك يا خميني!".

قلت لعليّ: "أرأيت أنّي محقّ. يبدو أنّ عملنا، نحن الاثنين، قد شارف على الانتهاء على هذه الأرض! أسأل الله أن نكون في ذلك العالم معًا أيضًا!".

عندما هدأت نيران المدفعيّة العراقيّة إلى حدٍّ ما أخذ نعيمي يجول على الشباب فردًا فردًا.
- اخرجوا.. اخرجوا.. علينا أن نقف على قمّة التلّة وندافع عنها بشهامة ورجولة.

حملتُ رشّاش "الغرينيف"، وقفزت خارج الدشمة المفتوحة الواجهة برفقة عليّ، ووصلتُ إلى قمّة التلّة تحت نيران القذائف والقنابل من دون ستر واقٍ. كانت التلّة مملوءة بشجيرات خضراء تحجب عنا أعين القنّاصة العراقيّين. استرقتُ النظر من أعلى التلّة نحو الأسفل فرأيت
 
 
 
264

253

جيش الخميني

 مشهد المعركة. لقد احتشدت جميع قوّات العدوّ! مدافع العراقيّين ودبّاباتهم في الوادي. 


القنّاصة ومدافع الهاون والجيبات مزوّدة بمدافع (106) على المرتفعات المحيطة، ومروحيّاتهم في السماء. ورأيت زيادة على كلّ ذلك القوّات العراقيّة المدجّجة بالسلاح، التي قد يفوق عددها الألف، وقد أخذت تتقدّم من طرق المضيق، حقل القمح، النهر و"حديقة موتورى" ، مضيّقة الخناق أكثر فأكثر حول تلة "بردزرد". عندئذ طار عقلي.
- فليرحمنا الله! قم وانظر من حولك!
- رجلٌ مقابل عدد من الرجال!
- إنني أفقد الأمل للمرّة الأولى!
- لقد انتهى أمرنا يا سيّد!
- يبدو أنّهم يريدون أن يحسموا الأمر!
- لا يطلقنّ أحد النار!

التفتُّ فرأيت سعيد حفّار، إسماعيل توكّلي، محمد إلهي، جليل حمامي وإبراهيم كاركر حضروا من قِبل القائد مرتضى لمساعدتنا. لقد أرسل مرتضى حتّى عامل الإشارة لديه. كان لرؤية هؤلاء الخمسة أثر في رفع معنويّاتي من جهة، لكنّه كان مدعاة للقلق من جهة أخرى، إذ كان نذيرًا صريحًا أنّ سهم هجوم العدوّ هذه المرّة قد سُدّد نحونا.
- انظر هناك يا حسين!

من جهة القرية كان عدد من المغاوير العراقيّين يتقدّمون تحت غطاء عدد كبير من الأبقار! جلس فتى تعبويّ خلف شجيرة وقد فتح مصحفًا صغيرًا وأخذ يتلو القرآن. أمّا كريم الأبرص فقد نوى على أخذ قراءة طالع للفتى.
 
 
 
265

254

جيش الخميني

 صعد العراقيّون بسرعة حتى باتوا في مرمى نيراننا.

- أطلِقوا النار..

إلى الأسفل كان العراقيّون لا يزالون على مسافة منّا. صوّبتُ سبطانة الرشّاش الثقيل نحو البقرات البيضاء والسوداء وأطلقتُ النار. سقط عدد من الجنود والبقرات معًا على وجه الأرض. بينما أنا مشغول بحصد أرواحهم وإذ بعليّ يصيح: 
- دع عنك أولئك، لقد وصل العراقيّون..

استجمعت قواي وصوّبتُ رشّاش الغرينيف نحو التلّة التي أُشرِف عليها، فيما انهالت نحوي قذائف الـ(B7)، قذائف الـ (106)، وقذائف رشّاش ثقيل في آن واحد. كلّما أصبتُ مغوارًا نبت مكانه ثلاثة! كنت ظمآن ومتعبًا. حلّقت المروحيّات مجدّدًا فوق التلّة وأطلقت النيران. التفتّ لأرى "حمامي" على يميني وقد وضع السمّاعة أمام فمه، ولاذ بحمى شجيرة خضراء وكأنّه لجأ إلى حصن منيع غير مكترث بالرصاص والشظايا! استطاع حمامي أن يتّصل بعاملي مدفعيّة قوّاتنا، ويعطيهم إحداثيّات عن مواقع العراقيّين تمامًا كمراقب خبير.
- مئتان إلى اليمين.. خمسون إلى الأمام..

كان يعطي الإحداثيّة بحماسة. فجأة مرّت رصاصة من جهتي ودخلت خدّ حمامي الأيمن لتخرج من الأيسر!
- آه.. يا مهدي..

كنت أنتظر أن يقع كقطعة حجر ويسلم روحه. غير أنّه وضع السمّاعة أرضًا بتؤدة، قام وألصق يديه على خدّيه، ثمّ دخل إحدى الدشم.
سألت عليًّا: "ماذا حدث؟ هل تراه شعر بالخوف..؟".
 
 
 
 
 
266

255

جيش الخميني

 لم أزل مشغول الذهن بحمامي، طالب العلوم الحوزويّة، وإذ به يظهر وقد لفّ طرفَي وجهه برباط، ضاغطًا على جرحه بغية إيقاف النزيف. جلس خلف الشجيرة، رفع السمّاعة وواصل إعطاء الإحداثيّات ثانية! تعبّأتُ روحيًّا وأخذت أطلق النار بالرشّاش الثقيل. كان العدوّ قد اشتبك مع الشباب على التلّة الصغيرة، ودارت المواجهات رجلًا لرجل. 


نظرتُ إلى الأسفل حيث الجنود العراقيّون الذين باتوا على مقربة منّا. توقّف الرشّاش الثقيل عن العمل جرّاء شدّة الحرارة وكثافة إطلاق النار. قلت: "سيّد، هذه المرّة لن تَسلم الجرّة!".

ألقيتُ نظرة على ساعة اليد العراقيّة حول معصمي، والتي ملأت صفحتها صورة ملوّنة لصدّام وعليه الزيّ العسكريّ، وهو يرفع يده اليمنى إلى الأعلى ضاحكًا.
- لعنك الله! ما الذي فعلته؟

خلعتُ الساعة من معصمي وطفقت أدوس عليها بقدمي بقوّة. كما خلعتُ المعطف الذي كنت قد غنمته ورميتهما إلى أسفل التلّة.
- ماذا تفعل يا حسين؟

أخرجتُ المسدّس الذي غنمته من حزام الرصاص خاصّتي، ورميته إلى أقصى ما أمكنني.
- هل جُننت يا حسين؟
- كلا يا علي، ولكن إن وقعنا في الأسر ورأوا هذه الأشياء بحوزتنا فسيقولون إننا قتلنا صاحبها، حينها سيعدموننا رميًا بالرصاص مباشرة!
- لست ظريفًا! هل استسلمت بهذه السهولة؟

تبسّمتُ بمرارة.
 
 
 
267

256

جيش الخميني

 - لم أستسلم! وهل هذا وقت استسلام يا رجل! أنت تعرفني جيّدًا. لو تطلّب الأمر أن أبذل مئة روح في سبيل الإسلام فلن أتوانى عن ذلك!

- حسين، العراقيّون يكادون يصلون إلينا كالجراد!
- سبق أن قلتُ لك. الأمر مختلف هذه المرّة!

أيقظني من ذهولي صوت محسن بيرامون.
- تعالوا إلى هنا. يكاد العراقيّون يصلون إلى التلّة.

نهضت من مكاني كالبرق ومضيتُ إلى حيث نعيمي، إلهي، محسن بيرامون وسعيد حفار. لم يبقَ على التلّة أحد سالمًا سوانا وشخصين أو أكثر. سألت: "إلى أين؟".

كان كريم الأبرص قد رشّ الأرض والهواء برصاص رشاش كلاشنكوف، ولم أعلم ماذا فعل بالبلبل البنّي؟ أشار حسن إلى الأسفل، جنود المغاوير اقوياء البنية يصعدون التلّة كالدرّاجات النّاريّة. صاح محمد إلهي: "علينا أن نفعل شيئًا!".

فقال محسن: "ماذا لديك؟". أجاب محمد إلهي هاتفًا: "رمّانات!".
- أعطِنيها!

نزع محمد إلهي الرمّانات المعلّقة بحزام الرصاص خاصّته وناولها لمحسن بيرامون. أمّا نحن فوقفنا حائرين ماذا نفعل مع هذا العدد الهائل من المغاوير الذين باتوا قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على التلّة! رمى محسن بضع رمّانات، لكنّها لم تكن ذات تأثير كبير، فاستعددنا للاستسلام، وإذ بـمحسن ورحيم يقولان: "لا ينبغي أن تصل أيديهم إلينا!".

صعد الجنود من نقاط عدّة من التلّة، وسرعان ما سيطروا على أوّل نقطة فيها، ولو لم ننسحب لقُتلنا. قال نعيمي: "نحو التلّة الصغيرة..".
 
 
 
 
268

257

جيش الخميني

 أمّا حمامي فكان ما يزال خلف الشجيرة يعطي الإحداثيّات إلى المدفعيّة غير مكترث. سحبتُ يد علي حسيني قائلًا: "من هذه الناحية يا علي!".


ثمّ انحدرنا برفقة عدّة أشخاص من التلّة المرتفعة نحو الأسفل. لم نكد نبتعد كثيرًا حتى ظهر مرتضى أمامنا.
- إلى أين؟! ماذا حدث؟

أجاب نعيمي: "يا عم، لقد سقطت التلّة!".

على الفور نادى مرتضى بضعة أشخاص من أسفل التلّة فبِتنا عشرة، ثم صاح: "إن لم نستعد القمّة فسيكون مصيرنا إمّا القتل أو الأسر. هلمّوا خلفي.. يا حسين..!".

لا أعلم سرّ إيمان مرتضى وتوكّله اللذين ضخّهما فينا حتّى أخذنا نعدو خلفه من دون اختيار منا نحو قمّة التلّة. اعترتني الدهشة لأوّل شيء واجهته! كان أبو القاسم تشوبان يتعارك مع جنديّ عراقيّ وقد أخذا يتبادلان اللكمات. كبّر العمّ فكبّرنا بعده. ثمّ حملنا على الجنود بقوّة وصلابة بحيث ظنّوا أنّ كتيبة جديدة قد هجمت عليهم، فأخذ المغاوير يصيحون بهلع: "جيش الخميني.. جيش الخميني..!".

نشبت معركة فرد لفرد، وحيث لم يمكن استخدام الأسلحة أخذنا نتبادل الضرب بأعقاب البنادق واللكمات والرّفس. كنّا ندفع الجنود فنسقطهم إلى الأسفل. في غضون بضع دقائق دحرنا الجنود من أعلى التلّة، واستعدنا السيطرة على القمّة مجددًا. وبينما أنا أتنفّس الصعداء وإذ بي أسمع صوت رصاص رشّاش ثقيل تلاه صوت محمد إلهي.
- آخ يا إلهي، لقد فقدت بصري!
 
 
 
 
269

258

زيبايي عالم

 زيبايي عالم - 22/تموز/1983


عند الحادية عشرة قبيل الظهر تمّ صدّ أصعب هجمة عراقيّة مضادّة خلال الأيام الماضيّة، واستعادت التلّة هدوءها ثانية. وضع جليل حمامي جهاز "PRC" اللاسلكيّ أرضًا، وقال لي بصوت غير طبيعي وفم مطبق: "داريوش، ألديك شيء آكله؟".

أدركتُ من طريقة كلامه واضطراب عضلات وجهه بأنّ الرصاصة قد أضرّت بفمه وأسنانه وأنّ فكّيه قد أُقفلا. قلت له: "إن صنعت لك الحليب فهل تستطيع أن تشربه؟".
- لا أظنّ ذلك. لقد أُقفل فكّاي منذ مدّة.

قال سعيد حفار: "اسمحوا لي!".

وضع يده في جيب سرواله الملطّخ بالدم وجعل يبحث حتى وجد قلم حبر من نوع "بيك". تبسّم وقال: "الحمد لله!".

قال حمامي بفمه المقفل: "لقد كتبتُ وصيّتي!".

أمّا سعيد حفّار فأخرج لبّ القلم من أنبوبه ونزع سدّادته السفلى، ثم أشار إلى أنبوب القلم الفارغ.
- من يصنع الحليب؟

بادرتُ إلى العمل فورًا، فصببتُ بعض الماء في صفيحة رصاصة خالية ومزجتُه بالحليب.
- هو ذا الحليب!

نادى سعيد: "اقترب يا جليل! ساعِدنا أنت أيضًا يا داريوش!".
 
 
 
 
270

259

زيبايي عالم

 وضع سعيد رأس حمامي في حجره مداعبًا وممازحًا، فأدخل أنبوب القلم الفارغ إلى حلقه من بين أسنانه المطبقة، ثمّ جعل يصبّ الحليب بدقّة في فم حمامي بواسطة الأنبوب.

- يا لها من فكرة!!

نهضتُ وانحدرتُ نحو التلّة الصغرى لأرى مرتضى. خلال الطريق جذب انتباهي صوت رقيق.
- لن أدخل حجرة الجرحى يا أخي!
- هذا غير ممكن يا صبيّ! إنّها أوامر العمّ مرتضى!
- وهل المسألة بالقوّة! لا أريد أن أدخل..
- يا صبيّ، قال العمّ: على كلّ من أصيب بجروح أن يجلس مع الجرحى!
- أنتَ هو الصبيّ!

كان ذلك جدالًا دائرًا بين مسعِفٍ لجوج و"حبيب زيبايي عالم"، فتى في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من العمر كان قد أصيب بجروح.
- أسألك بالله أن تدخل إلى حجرة الجرحى.. ألقِ نظرة على رجلك..
- لن أدخل، إن كنت محقًّا فلمَ لا تدخل أنت، وقد جُرحت رجلك أيضًا..
- إنّ جرحي مختلف يا صبي!
- ها قد أعادها ثانية.

أراد المسعف العنيد أن يأخذ الفتى سحبًا، غير أنّ حبيب وضع يده
 
 
 
 
271

260

زيبايي عالم

 على سلاحه.

- إن وضعت يدك عليّ فسيصبح دمك في رقبتك!
- عجبًا! هل أثّر عليك عصف الانفجار..

تقدّمت منهما متدخّلًا: "ما الأمر؟!".
- اسأل هذا الصبيّ الأرعن!

اقتربت من الفتى الذي لم ينبت شاربه بعد. كان جالسًا على الأرض وقد علت وجهه قطرات صغيرة من العرق. قلت له: "يا سيّد حبيب، لمَ لا تجلس مع الجرحى؟".

فأطبق الفتى جفنيه بلا اختيار.
- انظر.

وأشار إلى رجله اليسرى النحيفة. كان عظم ساقه مهشّمًا، وقد ربط ما تحت ركبته بعصبة حمراء. بدت ساقه كشجرة لم تُروَ بالماء لسنوات، إذ لم يصلها الدم فباتت جاهزة للبتر. أشار إلى رجله النحيفة.
- يا أخ داريوش، إنّ هذه الرجل منذورة لمولانا أبي الفضل عليه السلام. إن لم أكن لائقًا بالشهادة وكُتب لي البقاء على قيد الحياة فينبغي قطعها. كما إنّ نزيف الجرح قد انقطع.

ثمّ رفع يديه وهزّهما بقوّة.
- لكنّ يديّ سالمتان وأستطيع القتال بهما! أستطيع أن أجلس في مكان ثابت وأحارب ببندقيّة كلاشنكوف وبالرشاش الثقيل! إنّ السيّد مرتضى بحاجة إلى العناصر الآن! لا أريد أن أذهب في ظلّ هذا الوضع إلى دشمة الجرحى وأنتظر الموت! لكنّ هذا لا يكفّ عن لجاجه ويجبرني على دخول الدشمة ..
 
 
 
 
272

261

زيبايي عالم

 علّقت نظري ثانية على رجله اليابسة المهشّمة. كانت عظمة ساقه قد طحنت وبدا كاحله وقدمه معلّقين بالجلد! قلت له: "أيّها المؤمن، إنّ قدمك معلّقة بقطعة من الجلد!".


فتبسّم وغمزني قائلًا: "والله إنّني على ما يرام! كان عليّ نذر فأدّيته!".

بعد ذلك فتح الكوفيّة الملفوفة حول عنقه، ووضعها على ساقه محاولًا محو موضوع رجله من أذهاننا.
- تفضّل، هل هذا جيّد يا أخي؟

خنقتني الغصّة. حين رأى تردّدي عطّر كلامه بقليل من التوسّل: "انظر يا أخي.. قتالي يعني بقائي على قيد الحياة!".

غمزني ثانية مشيرًا إلى يديه.
- سبق أن قلت لك، كلتا يديّ سالمتان ومستعدّتان للقتال!

التفتّ محدّقًا بالمسعف اللجوج فإذ به وقد غطّت الدموع وجهه، وبدا أنّه استسلم قبلي. أشرتُ إليه أن: اذهب، سأعالج الأمر مع حبيب.

فتقدّم المسعف من حبيب وقبّل وجهه.
- هل نفّذتَ ما في رأسك؟ حسنًا، انتبه لنفسك على الأقلّ!

انفرجت أسارير حبيب كالزّهرة المتفتّحة! أمّا أنا فرددتُ الغصّة في حلقي وتبسّمتُ.
- ماذا أفعل بك الآن؟ 

ظلّلتُ وجهي بيدي وجعلتُ أجيل طرْفي باحثًا في أعلى تلّة "بردزرد" وأسفلها. بين الجهة الشماليّة والغربيّة للتلّة وقع نظري على سقيفة
 
 
 
273

262

زيبايي عالم

 خضراء وُضع في داخلها أكياس من الرمل. 


كانت السقيفة الخالية ممتازة للحراسة ولمراقبة تلك النقطة من التلّة، والتي تعتبر نقطة ضعف فيها. أشرت إلى السقيفة.
- هل تستطيع أن تستقرّ في تلك الدشمة الخضراء، فتطلق النار على رؤوس جنود العدو لدى رؤيتهم؟
- في خدمتك يا أخي! 

كان ضعيفًا وخفيفًا. حملته على ظهري، ثمّ وضعته بحيطة داخل الدشمة المظلّلة. بدا ذلك المكان كأنّه مقرّ استراحة العراقيّين! كانت السقيفة مطلّة على العراقيّين. قلت له: "كن على حذر، فإن صعد العراقيّون فأطلِق النار عليهم وأطلِعنا على الأمر!".
- على عيني يا أخ داريوش!
- اسمع يا أخ حبيب، نادني بسلمان!
- على عيني يا سيّد داريـ ..

فسكت وتبسّم.
- سيّد سلمان.

ثمّ أحضرت رشاش الغرينيف مع الكثير من الذخيرة التي غنمناها، ووضعتها بقربه قائلًا: "سأطلب من أحدهم أن يأتي ويضمّد جرح رِجلك!".

انطلقتُ نحو مرتضى، فيما هبّت ريح بعثت النقاء في أجواء التلّة.
 
 
 
 
 
274

263

طلوع القمر

 طلوع القمر - 22/تموز/1983


ترررق..ترترترق..ترق..

كانت أصوات إطلاق النار تخفّ تارة وتشتدّ أخرى، ما تلبث أن تضعف كصوت تنفّس الإنسان!

عند الظهر حملت علبة الحليب المجفّف وقصدتُ حبيبًا. كانت القذائف والقنابل تتساقط على التلّة. وصلتُ بحيطة إلى السقيفة. كان رأس حبيب قد ظهر من بين أكياس الرمل، فيما أخذ ينظر إلى المضيق أسفل منه. بين الفينة والأخرى كان يأخذ قلمًا وورقة ويكتب شيئًا! وضع الورقة أرضًا وأخذ يهمس: "انهضوا أيّها المحظوظون، إنّه وقت طلوع القمر!".
- لقد أصبحتَ شاعرًا أيضًا أيّها المؤمن!

غدا لون وجهه أكثر بياضًا جرّاء الضعف والنزيف، لكنّه كان باسم الثغر. جلست بقربه. كانت أطراف الدشمة مليئة بالأعشاب الخضراء التي يصل طولها حتى الصدر. 
- إنّه مكان جميل، أليس كذلك؟ من المؤسف أنّي محاصر!

سكبت الحليب المجفّف في مطرة الماء، مزجت الخليط ثمّ قدّمته له مع البسكويت: "تفضّل!".

أخذها وانشغل بالأكل. استرقتُ النظر إلى رجله المهشّمة، وكان قد نزع الكوفيّة عنها. كان العظم قد التهب فتجمّع الذباب عليه. سألته: "ماذا كنت تكتب؟".
- وصيّتي.. ليست وصيّة، بل طلب المسامحة من أمّي وأبي! لم أكن
 
 
 
 
 
 
 
275

264

طلوع القمر

 ولدًا صالحًا. لقد آذيتهما. في آخر مأموريّة توسّلت أمّي إليّ أن: لا تذهب! لقد سقط الجهاد عنك برجلك هذه. وعندما أصررتُ قالت: "ابقَ معنا بضعة أيّام أخريات على الأقلّ ثمّ اذهب!". لكنّ غيرتي لم تسمح فذهبت. في هذه الأيّام سنحت لي الفرصة بأن أفكّر بأمّي كثيرًا..


ثمّ أشار إلى رجله.
- إنّ رجلي هذه لن تعود كما كانت أبدًا! إن كتب لي النجاة فسأعانق أبويّ وأقبّلهما.. وإن أصابني مكروه فأوصِل هذه إليهما!

أدنا الوصيّة منّي. قلت: "احتفظ بها، ستعود إن شاء الله ولن يكون ثمّة حاجة للوصيّة".

ثمّ أشرت إلى الأعشاب الخضراء الطويلة من حولنا.
- هل تستمتع بوقتك؟ أعشاب خضراء، جبل ووادٍ، عين ماء ورشاش ثقيل بين يديك للاصطياد!

أخذتُ أستفزّه برهة، وتبادلنا المزاح والضحك. 
- عليّ أن أذهب إلى أعلى التلّة وأتفقّد الشباب، هل يلزمك شيء؟
- لا!

فضحك. أمّا أنا فانطلقتُ نحو قمّة تلّة "بردزرد" حيث أطبق الشباب بنيران الرشّاش الثقيل على المضيق والوادي. لم أكد أبتعد أكثر من مئة خطوة حتى دوّى صوت انفجار مروّع لمدفعيّة دبّابة زلزل الأرض تحت قدمَيّ. التففت كاللولب ونظرتُ إلى الخلف. كانت السقيفة تحترق بلهيب النّار فيما بقي بعض أجزائها معلّقًا في الهواء!
- حبيب..

ركضت نحو السقيفة. كانت ألسنة اللهب وانفجارات الذخيرة المغنومة داخل الدّشمة تفور إلى الخارج، ما حال دون تمكّني من
 
 
 
276

265

طلوع القمر

 الاقتراب. تمدّدت أنتظر ريثما تخفّ الانفجارات والنيران. 


حين هدأ الانفجار قصدتُ السقيفة التي لم يبقَ منها شيء. جلت بنظري في ألسنة اللهب التي أخذت تخبو فلم أجد أثرًا للفتى حبيب، وكأنّه ذاب بين النار وانفجار الذخيرة! أخذتني الحيرة والارتباك: لم يُصَب بمكروه.. لقد خرج من الدشمة في هذه الدقائق.. من المفترض أن يبقى له أثر على الأقل.. إنّه بخير.. سيظهر في الحال..

حاولت أن أواسي نفسي بأنّ حبيبًا خرج من الدشمة قبل وقوع الانفجار. مرّت حادثة شجاره مع المسعِف أمام عينيّ. كأنّي كنت على معرفة به بل وبوالديه لسنوات! عبثًا حاولت أن أجد أثرًا له بين ألسنة النار بعد أن هدأت. صعدت التلّة مهمومًا كئيبًا، وبعد أن تفقّدت العناصر المستقرّين في الأعلى عدتُ إلى مرتضى.
 
 
 
 
277

266

الحافّة الغربيّة

 الحافّة الغربيّة - 22/تموز/1983


عند الساعة الثانية بعد الظّهر أخذت المروحيّات العراقيّة في منطقة "حاج عمران" تحلّق ناقلة العتاد العسكريّ إلى الخطّ الأماميّ للعراقيّين بشكل متواصل. حدّقتُ في وجه مرتضى الأغبر وقلت: "إنّهم يرسلون الدعم إلى قوّاتهم!".
- سلمان، لقد بِتنا شوكة في حلقهم!
- أصبح الوضع حصارًا داخل حصار!

تواصل سقوط شتّى أنواع القذائف على التلّة، حيث أخذت الدبابات والمدفعيّات من عيار (106) وأخرى بعيدة المدى تقصفنا، فضلًا عن القصف المروحيّ من الجوّ، حتى بِتنا منهكين خائري القوى.

تسلّق أفراد المغاوير العراقيّون بجرأة التلّةَ الأخفض من تلال "بردزرد" سعيًا منهم لاحتلالها. فاستطاعوا التقدّم من جهة النهر بلا خوف حتى أصبحوا على مقربة من التلّة الصغيرة، حيث اندلعت اشتباكات فردًا لفرد.
- النّجدة!!

تناهى إلى سمعي صوت "جمالي". كان جنديّ عراقيّ جسيم قد أمسك سبطانة بندقّيّته محاولًا رميه إلى الأسفل. لم يُجدِ إطلاقُ "جمالي" النارَ نفعًا، ولم تخترق رصاصاته سوى عنان السماء. تسلّق الجنديّ العراقيّ المرتفَع مستعينًا ببندقيّة جمالي. صحتُ به: "اترك البندقيّة!".

كنت على مسافة بعيدة منه. استجمع الجنديّ العراقيّ قواه وقفز
 
 
 
 
278

267

الحافّة الغربيّة

 نحو "جمالي" وأصبح فوقه، فأمسك بإحدى يديه سبطانة بندقيّته وأخرج بالأخرى خنجرًا من حزامه. كدت أقرأ الفاتحة على روح "جمالي" النحيف الجسم، وإذ بإسماعيل كاركر يخرج كالرّعد من دشمة جمالي، فضرب بكلتا يديه على بطن المغوار العراقيّ الذي اختلّ توازنه، فسقط من أعلى المرتفع إلى الأسفل!


حملتُ الرشّاش الثقيل، وكان من نوع "غرينيف"، وطفقت أطلق النار على القوّات العراقيّة. ما إن رفعت إصبعي عن الزناد حتى سمعتُ صوت مرتضى يناديني: "سلمان!".

التفتُّ نحوه.
- لقد سقطت الحافّة الغربيّة للتلّة!

سألت: "حيث منصّة المضاد الرباعي (23 ملم)؟".
فهزّ رأسه.
- أجل!

دبّ الاضطراب والحيرة في نفسي. لم يكد يتمّ كلامه حتى وصل "حجة الله آذربيكان" وهو يتوكّأ على بندقيّته برفقة عدد من التعبويّين، وقال: "أنا خجل منك يا عمّ، كانت المقاومة غير ممكنة!".

قال مرتضى: "علينا استعادة التلّة!".

فقال آذربيكان: "كيف ذلك؟".

لم يكن مرتضى ليتعب. ربّتَ على كتفي.
- اجمع كلّ ما لدينا من قوّات والتحقوا بي!

ثمّ نادى أحد التعبويّين: "يا هذا.. إن كنت لا تهاب شيئًا فهلمّ معي!".
- كلّا يا عمّ مرتضى.. قل لي ماذا أفعل فحسب؟!
 
 
 
 
 
279

268

الحافّة الغربيّة

 - ليس عليك سوى أن تحضر قذائف الـ (B7) وتبقى بقربي!


خلع مرتضى نعليه بلمح البصر. حمل قاذف (B7) ومضى قُدمًا. جمعتُ العناصر، وكانوا خمسة أشخاص، فيما بقي عدد ممّن لزِم بقاؤهم، ومضينا خلف مرتضى. انضمّ إلينا أثناء الطريق سبعة أو ثمانية أشخاص من أبناء "شيراز". كان مرتضى يسير وعلى كتفه قاذف الـ(B7) وقد بدا كأنّه يريد استعادة الحافّة الغربيّة من التلّة بمفرده.

استغرق الأمر عشر دقائق حتى وصلنا إلى الجهة الغربية، وهناك اشتبكنا مع العراقيّين. أخذ مرتضى يتقدّم ببسالة، فيأخذ القذائف من مساعده ويضعها داخل القاذف ثمّ يطلقها باتّجاه العدو. أمّا المساعد فقد كان يسير قربه حذو النّعل بالنّعل لكي لا يتأخّر عنه. هذا ولم يقف الآخرون مكتوفي الأيدي بل شرعوا يتقدّمون وهم يطلقون النار بكل ما لديهم من أسلحة وعتاد. أمّا العراقيّون المأخوذون بنشوة احتلال السّفح، فقد بُغتوا ولاذوا بالفرار بعد أن قُتل عدد منهم. وفي غضون نصف ساعة تمّ تحرير الحافّة الغربيّة حيث سقط لنا شهيدان. وباستعادتنا السفح الغربيّ خسر العدوّ آخر هجماته المضادّة، فيما بقيتُ وخمسة وعشرون عنصرًا سالمين، بالإضافة إلى عدد من الجرحى الذين كان عددهم يزداد مع كلّ هجمة.

حملنا الجرحى، بمساعدة مرتضى، إلى داخل الدشمة الخاصّة بهم. وهناك ارتفع صوت أحد الجرحى وكان متوسّط السنّ.
- أنجدوني أيّها المسلمون.. إنّي أشتعل، يا إلهي!

أراد مرتضى أن يذهب نحوه فمنعتُه.
- يا عمّ، اسمح لي أن أذهب إليه بنفسي، لأرى ماذا يريد!

اقتربتُ منه. كانت كلتا يديه قد بُترتا من المرفق، كما التهب جرحه
 
 
 
 
 
280

269

الحافّة الغربيّة

 بشدّة! جلستُ بقربه. حاولتُ أن أبتلع ريقي لكنني لم أستطع!

- هل يلزمك شيء يا أخي؟

كانت أسنانه تصطكّ بعضها ببعض من شدّة الألم. كان مضطربًا ومشوّش الذهن من أثر الحمّى. أخذ يرتجف ثمّ خرّ بوجهه إلى الأرض وهو يقول بنحو متقطّع وصوت غير واضح: "أنققـ ..ذذ..وني!".
- إن شاء الله ستصل قوّاتنا وينقذوننا جميعًا.
- لا، والله لا أستت..تطيع! أنجدوني!
- كيف؟
- بالمررر وحييّة، بالطططائرة، لا أعلم بأيّ شيء.
- إنّنا محاصَرون، لا يمكن حتى لطائر أن يحطّ هنا!

أخذ يتلوّى من شدّة الألم ثم صاح صيحة تفطّر القلوب: "خلّصوني، لا أستطيع أن أتحمّل! يداي! هل من حقنة أو مسكّن.. اقتلللوني!".

تركَت الجلبةُ التي أحدثها أثرًا سيّئًا على الآخرين. فقال جريح آخر: "أخرِجوا هذا من هنا، نكاد نُجنّ منه!".

أشرتُ إلى "علي سبزي" الذي كان وجهه قد انتفخ واصفرّ.
- خذوه إلى الخارج!

وضع عليٌّ الجريحَ ذا الوضع الحرج على نقّالة بمساعدة مسعِف ممزّق الثياب، وأخرجاه من الدّشمة. خرجتُ وجلستُ بقربه ثانية وأخذتُ أحدّق في وجهه. كان بعمر والدي. علت جبهته قطرات صغيرة من العرق، وابيضّ وجهه جرّاء نزف الدّم. قال لي: "إنني سس.. سأموت.. وددتُ لو أرى زوجتي وأولادي مرّة أخرى.. ولو بدون يدين ورجلين! سس.. ساعدني".
 
 
 
 
 
281

270

الحافّة الغربيّة

 اشتعل داخلي وصرتُ أتصبّب عرقًا. أدركتُ ما يشعر به مرتضى. لم يبقَ حتى قطعة ثياب بالية أو كوفيّة لأغيّر ضماد جرحه. حاولتُ أن أسكّن آلامه بكلامي. نظرتُ إلى شفتيه المطبقتين والمتشقّقتين وقلت: "أنا خجل منك.. آجرك الله! أعلمُ بما تعانيه من آلام!".

- لل ..لا، إنّك لا تعلم كك..كَم أعاني.

ثمّ حدّق في يديه المبتورتين كأنّه لا يصدّق ما حلّ بهما. قلت له: "الحقّ معك!".

أضناه الألم والأنين شيئًا فشيئًا، وخفتَ صوته. جلستُ عند رجليه أقرأ الدعاء له. لم أجرؤ على النظر في وجهه. أحسستُ أنّ كلامي قد هدّأ من روعه. فجأة ضرب بقدمه على ظهري! التفتُّ نحوه ونظرت إليه. كان لون وجهه قد دكن وراح يتنفّس بصعوبة. كان يشعر بالاختناق. بدا كأنّه يريد شيئًا لكنّه لم يستطع أن ينطق به. أسرعتُ إليه واضعًا يدي تحت رأسه.
- هل تريد شيئًا؟

جعل يحرّك يديه ورجليه كالطير المذبوح، ونطق بصعوبة : "مااااء..".

كنت أعلم أنّ الماء مضرّ لجروحه كما السمّ، لكنني أردت أن أخفّف من عذابه وآلامه. وضعته على الأرض برويّة، والتفتُّ نحو مرتضى الذي كان ينظر إلينا ساكتًا طوال الوقت. قلت له: "يا عمّ، إنّ ذاك الجريح يريد الماء!".

فقال، وقد خنقته الغصّة: "اسقِه، إنّه يلفظ أنفاسه الأخيرة!".

حملتُ مطرة الماء، وأسرعت إليه كالبرق. وضعت المطرة على شفتيه، فشرب جرعة فيما بقي نظره معلّقًا بالسماء!
 
 
 
 
282

271

المحظوظون

 المحظوظون - 22/تموز/1983


انهضوا أيّها المحظوظون..
عند الرابعة عصرًا كنتُ أنظر إلى "خليلي" وأنا أردّد أبيات الشعر التي كتبها حبيب في وصيّته: "إنّه وقت طلوع القمر..". ليتني أخذتُ وصيّته.. لعلّه ما يزال حيًّا. فلأذهب إلى دشمته وأبحث عنه بدقّة.. هممتُ بالنهوض والذهاب إلى الدّشمة المظلّلة وإذ بـ"سالار" حضر وقال: "هل لديك قطعة من القماش الأبيض؟".

حدّقتُ في وجهه الذي علاه الدّخان والتراب، وفي عينيه الحمراوين المتورّمتين. طننتُ أنّه قد أصيب بعصف انفجار.
- قطعة قماش بيضاء.. لماذا؟!
- ألديك أم لا؟

أشرتُ إلى صدري قائلًا: "قميصي الداخليّ أبيض..ماذا تريد أن تصنع به؟".
- أسلّم نفسي!
- تسلّم نفسك.. هل جُننت؟!
- سيّد داريوش.. أريد أن أذهب وألقي نفسي في التهلكة!

كان وضعه الجسديّ والروحيّ أسوأ حالًا منّي. بدا منهكًا وعطشان وكاد جفناه أن يطبقا. قلت له: "إلى أين تنوي الذهاب؟!".
- إلى أيّ مكان ممكن.. سأكتشف طريقًا ما.
- إن علِمَ العمّ فسيحرقك!
 
 
 
 
 
 
283

272

المحظوظون

 - من الواضح أنّك لا تعرف العمّ يا سيّد داريوش! إنّه لا يستاء بتاتًا ولو تركه جميعنا. إنّ روحه كالبحر.. 

- ستصل المساعدة..
- في ظلّ هذه الأوضاع، هل تصدّق هذا؟ لا أريد أن أجلس بانتظار الموت!
- ليس ثمّة سبيل للهرب!
- سأذهب عبر الجبل، وسأجد طريقًا ما!

أريته كفّي قائلًا: "إنّني أعرف المنطقة كراحة يدي. إنّك ستقتل أو ستقع في الأسر!".
- أفضل من البقاء والمعاناة!
- في هذه الحال سنستشهد معًا!

اغرورقت عيناه بالدموع.
- معذرة.. أشعر بالاضطراب. لا تظنّ أنّي خائف .. إنني مضطرب..

قبّلت جبينه قائلًا: "لو شككتُ بشجاعتي فإنّي لن أشكّ بشجاعتك!".
- داريوش، أيّ الطرق هي الأوفر حظًّا بالنّسبة لي؟ لا تدري، لعلّي أوفّق للوصول إلى إيران!

أشرت بإصبعي إلى حديقة "موتوري" العراقيّة.
- فرصتك الوحيدة هي حديقة "موتوري"، إن عبرت بجانب "حديقة موتورى" فإنّك ربما ستصل إلى محور "تمرتشين!". لكنّ نسبة نجاحك لا تساوي حتى الواحد بالألف! عليك أوّلًا أن تعبر من جهة النّهر.

تقدّم منّي. حدّق بعينيه المرتجفتين في عينيّ، ثمّ ألصق جسمه
 
 
 
 
 
284

273

المحظوظون

 المنهك والخائر القوى بجسمي.

- قل للعمّ بأن يسامحني. لم أكن جنديًّا صالحًا.

أحسستُ بارتعاش كتفيه. كرّرت له مقولته: "إنّك محقّ، لو ترك جميعنا مرتضى وحده، فإنّه سيرى نفسه مذنبًا ومقصّرًا.. إنّه يعلم أنّ أوضاع الجميع شديدة الحرج!".

اشتدّت رعشات كتفيه. مضى نحو علي خليلي فعانقه. قال علي: "انتبه لنفسك!".

وضع بندقيّته على كتفه بإحكام ونزل منحدَر التلّة بلا خوف. هتفت: "بالتّوفيق!".

فاستدار بصعوبة، ونظر إلى الخلف. قلت: "لن أذكر شيئًا عن ذهابك للعمّ مرتضى!".

فهزّ رأسه ثمّ انحدر متعثّرًا نحو الغابة، بل إلى وادٍ سحيق مليءٍ بالأخطار! صحتُ ممازحًا، ولعلّي كنت أواسي نفسي: "إن حالفك التوفيق، أطلِق رصاص الخطّاط بفواصل متعدّدة لكيّ نطمئنّ إليك!".

وقف متردّدًا، وبدون أن يلتفت إلى الخلف حرّك يده وواصل سيره.

وصل إلى النهر داخل الغابة. قال علي: "سيطلق العراقيّون عليه النار!".

قلت: "إنّهم يعلمون، مع ما عليه من حال، أن لا قدرة له على طرد ذبابة عن وجهه!".

جلس عند النهر، وشرب حتى ارتوى ثمّ نهض. التفت إلينا، ولعلّه تبسّم. نهض ثمّ عبر النهر مترنّحًا! سار بضعة أمتار وإذ بالعراقيّين يخرجون من بين الشجر ويطوّقونه. أخذوا بندقيّته، وضربوه بأعقاب أسلحتهم ثمّ رموه أرضًا. ما لبثوا أن رفعوه وأجبروه على خلع قميصه
 
 
 
 
285

274

المحظوظون

 وربطوا يديه من الخلف برباط جزمته. قال خليلي: "سوف يرمونه بالرصاص!".

- لا أظنّ ذلك!
- لن يفعلوا ذلك!؟
- لا، إنّهم بحاجة إلى معلوماته!

رفعه العراقيّون وأخذوه معهم حتى اختفى من أمام نواظرنا. قلت: "لا تخبر أحدًا أنّه وقع في الأسر!".
- إن كان الأسر بهذه البساطة فليتنا نقع جميعنا في الأسر.

فقلت: "إن كان مصيرنا الأسر فسنحارب حتى نؤسر، لا أن نسلّم أنفسنا!".
- إذا كانت المقاومة غير مجدية فالله لا يرضى أن نُقتَل!
- رجاءً، لا تقرّر عوضًا عن الله!

أخذ عليّ يفكّر، ثم قال: "ليتنا نقترح هذا الأمر على العمّ بالحدّ الأدنى!".
 
 
 
 
286

275

داريوسلمان

 داريوسلمان - 22/تموز/1983


عصرًا، قلت لرحيم نعيمي: "هلمّ، نبحث عن ذاك التعبويّ في الدشمة المظلّلة! لعلّ عصف الانفجار قد رماه".
- كما تريد يا داريوش!
- سلمان.. سلمان.. سلمان..

فتبسّم وقال: "حسنًا، داريوسلمان، هل هذا جيّد؟".

انطلقنا نحو الدشمة المدمّرة. حينما اقتربت منها لم أرَ سوى السواد الذي خلّفه الانفجار. كان كلّ شيء قد دُمّر. حدّقتُ في النقطة حيثُ كنتُ وحبيب جالسَين ظهرًا وهو يكتب وصيّته: انهضوا أيّها المحظوظون.. إنّه وقت طلوع القمر.

دخلتُ الدشمة المظلّلة. كانت الحشائش الخضراء قد احترقت بالكامل. حرّكتُ البقايا المحترقة وأخذت أبحث فيها. وقع نظري على شيء محترق متفحّم كأنّه نصف جسد لإنسان. 

ارتجفتُ وانحنت ركبتاي. لم يبقَ من جثّة الفتى "حبيب" سوى كيلوين أو ثلاثة من الفحم! سالت الدموع من عينيّ. صحت عاليًا: "أيّها الأحمق الجاهل!".
- هل تتكلّم معي يا داريوش؟
- بل مع نفسي!

قلت لرحيم نعيمي بغصّة: "كان يكتب وصيّته صباحًا، وأراد أن يسلّمها لي، لكنّي لم آخذها. ها قد احترقت الوصيّة!".

صككتُ جبهتي. عندما حملتُ جثّة حبيب المحترقة لأنقلها إلى دشمة الشهداء ناداني نعيمي: "داريوش، انظر هنا!".
 
 
 
 
 
 
287

276

داريوسلمان

 التفتُّ إلى الخلف لأرى "نعيمي" وقد عثر على ورقة بين الحشائش على بُعد بضعة أمتار.

- أليست هذه وصيّته!
- وصيّة.. دعني أرى..

وضعتُ الجثّة المحترقة أرضًا وخطفتُ الورقة من "رحيم". تمتمتُ: "إنّها الوصيّة، لماذا لم تحترق في الانفجار؟".

.. إلهي، اشهدْ أنّ "حبيب" قد انقطع عن كلّ مظاهر الدنيا لكي يدنو منك. لقد طوى الطريق إليك عاشقًا، وها هو الآن ينتظر الوصل بك. أريد أن أنال الشهادة لعلّ دمائي تروي غرسة الثورة الإسلاميّة..

استيقظوا! استيقظوا!
أشرقوا كالشمس داخل البئر!
انهضوا أيّها المحظوظون!
إنّه وقت طلوع القمر!

وضعتُ الوصيّة في جيبي لكي أضع جثّة حبيب المتفحّمة داخل دشمة الشهداء. وصل "جمالي" وهو يأخذ أنفاسًا متلاحقة ثم قال: "سلمان، علينا أن نجد حلًّا للأسرى!".

حدّقتُ في وجه "رحيم" المنهك.
- ماذا تقصد؟!
- إنّ عددهم أضحى يفوق عددنا. وهم جميعًا أقوياء ونشيطون! إن سارت الأمور على هذا المنوال فسيحملون علينا ويقتلوننا!
- هل "خليلي" معك؟
- لقد أصابته شظيّة هو الآخر، وليس لديه حيل ولا قوّة جرّاء
 
 
 
 
 
288

277

داريوسلمان

 العطش!


جلستُ على المقعد الصخريّ تحت الشجرة الكبيرة.
- هل لديك اقتراح؟
- بلا مجاملات، علينا أن نتخلّص منهم!
- وهل هذا ممكن، إنّهم.. ما رأي "خليلي؟".
- غير موافق.. لقد تصاحب معهم، إنّ حياته في خطر أيضًا!
- لا أستطيع أن أتّخذ القرار! ارجع وساعد "خليلي"، سأخبر مرتضى بالأمر!

وصلتُ إلى مرتضى وقلت: "إنّ عدد الأسرى بات يفوق عددنا، لم يعد هناك عناصر لمراقبتهم.. ثمّ ليس لدينا ماء لكي نسقيهم.. يقول خليلي إنّهم في الهجمة المضادّة التالية سيحملون علينا من الخلف.. لقد استشعروا شيئًا ما!
- إنّهم أسرى عندنا.. القرار صعب!

أشار إلى جليل حمامي الذي كان يعاني من الحمّى إثر نزيف الجرح في فمه، وقال له: "اتّصل بالمقرّ!".

اتّصل "حمامي" بالمقرّ وناول مرتضى السمّاعة.
- جعفر جعفر، مرتضى!
- أرسِل يا مرتضى!
- جعفر، متى ستصلون إلينا!
- ربما الليلة!
- منذ ثلاث ليال وأنتم تقولون: الليلة! الليلة..
- اشلو، لقد تعقّدت الأمور، إن لم تطرأ مشكلة فسنصل إليكم!
 
 
 
 
289

278

داريوسلمان

 - وماذا لو طرأت مشكلة؟

- حينئذ، الأمر إلى الله!
- إنّ مشكلة الأسرى هنا باتت عويصة! لقد أضحى عددهم ضعف عددنا وهم أكثر حيويّةً منّا. من الممكن أن يثوروا ويهجموا علينا. ماذا ينبغي أن نفعل؟
- اشلو، القرار بيدك!
- جعفر، إن تمكّنتم من الوصول حتى المساء فلا مشكلة، وإلّا فينبغي أن نجد حلًّا ما لهم!
- إنّ نسبة وصول الشباب إليكم هي خمسون في المئة، لا أستطيع أن أجزم بذلك! ليس لدينا اطّلاع كافٍ عن المنطقة، ونحتاج إلى مزيد من المعلومات.
- إن كان كذلك فسنضطرّ إمّا إلى قتلهم أو إخلاء سبيلهم. إبقاؤهم هنا يعني مذبحة بحقّ الشباب، وبالتالي سقوط التلّة! ولكن إن قطعتُ بوصولكم فقد أستطيع الاحتفاظ بهم!
- إنّ وصول قوّاتنا إليكم هو بيد الله! مشكلتنا تكمن في عدم امتلاكنا المعلومات. كما إنّ مروحيّتين توجّهتا إليكم لكنّهما أُسقِطتا.
- إذًا، ماذا نفعل بالأسرى؟
- اشلو، القرار بيدك!

حين لم يصل مرتضى إلى نتيجة وضع السمّاعة أرضًا. أخذ نفسًا عميقًا. كانت المرّة الأولى التي رأيتُ فيها ملامح الشكّ والتردّد في وجه مرتضى! فقد سبَق له أن أمر بمعاملة الأسرى كأفراد الكتيبة. أمّا الآن فقد أمسى حائرًا في اتّخاذ قرار صعب كهذا.
- سلمان!
 
 
 
290

279

داريوسلمان

 - أجل يا عم!

- هل ثمّة سبيل للاحتفاظ بالأسرى؟!

حدّقتُ في شفتيه المطبقتين، ووجهه النحيف، وعينيه المنهكتين الحمراوين المتورّمتين، واللتين علاهما التراب. حاول أن يرسم ابتسامة على شفتيه كعادته، إلّا أنّه، هذه المرّة، لم يُفلح. ابتلع ريقه بصعوبة. قلت: "ماذا عساي أقول يا عم، إن بقيت الأمور على هذه الحال فعلينا إمّا أن نطلق سراحهم أو نقتلهم!".
- أنقتلُهم أو نطلق سراحهم؟!

قلت: "إن أطلقنا سراحهم فسيُطلعون العدوّ على مواقعنا وعددنا، وهذا يعني موتنا وسقوط التلّة!".

أطرق برأسه إلى الأرض، وجعل يذرع التلّة بطولها ذهابًا وإيابًا، ثمّ قال: "اتّصِل عبر الجهاز اللاسلكي بالأعلى وقل لخليلي أن يحضر!".

بعد ذلك فكّر مليًّا ثمّ قال: "أعتقد أنّه من الجيّد لو يستطيع أحد كسر حلقة الحصار والوصول إلى الحاج أسدي لتزويده بالمعلومات!".
- أنا حاضر يا عم!
- إنّ ذلك غير ممكن من الطريق التي أتينا عبرها، وبالمناسبة، فالعدوّ قد سدّ تلك الطريق!
- هذا صحيح، يجب أن نجد شخصًا خبِر طريق "حاج عمران" المباشرة. شباب الاستطلاع!
- أكثرهم قد سقطوا شهداء، ولم يبقَ منهم سوى إسماعيل كاركر وإبراهيم توكلي.
- لقد أصيب إسماعيل بجروح ولن يتمكّن من ذلك!
 
 
 
 
291

280

داريوسلمان

 - بقي إبراهيم!

- لكنّ إبراهيم صغير ونحيف! أتظنّ أنّه يستطيع كسر حلقة الحصار، وطيّ مسافة عشرين كيلومترًا عبر الجبال للوصول إلى "قمطره؟".
- علينا أن نعرض الأمر عليه.
- السلام عليك يا سيّد مرتضى!

وصل علي خليلي كالصّقر وقد اعتراه الذهول، كأنّه استشعر بالأمر. قال مرتضى: "أيّها السجّان، لم نعد نستطيع الإبقاء على الأسرى!".
- أتقصد أن نقتلهم؟!
- هذا أحد الحلول!

فقال بعصبيّة: "كلّا.. لا تطلب منّي هذا يا عمّ! لقد وعدتهم أن أوصلهم إلى معسكر إيران!".

تبسّمتُ وقلت لمرتضى: "لقد عيّن السيّد علي معسكرهم ومحلّ إقامتهم أيضًا".

قال العم مرتضى: "عند الهجمة التالية للعدوّ قد ينقضّون علينا، وستكون أنت أوّل ضحاياهم!". 
- أعلمُ يا عم، أنا مستعدّ لأن أُقتَل، ولكن فلنُبقِ عليهم.

قلت له: "علي، أنت تعلم أنّ هذا مستحيل!".
- ولكن، ألن يصل الشباب لنجدتنا؟
- هذا غير مؤكّد!
- إذًا فلنخلِ سبيلهم وندعهم يذهبون، لديهم نساء وأطفال!
 
 
 
 
 
292

281

داريوسلمان

 كان "خليلي" المحبَط نفسُه متردّدًا! لقد كان يعلم أنّ طلبه غير منطقيّ. وضع يده على شعره الأشعث وردّه إلى الأعلى. كأنّه كان يصارع نفسه.


ثمّ تقدّم وقد تجمّعت الدموع في عينيه، وقال: "مع ذلك كلّه، سأنفّذ أيّ أمر تصدره!".

قال مرتضى: "حتى قتلهم!".

هزّ عليّ رأسه فيما انهمرت الدموع من عينيه. حدّق في كفّي يديه المخضّبتين بالحنّاء.
- لقد وقّعتُ معك عهد الدم، لألفِ سبب!
 
 
 
 
293

282

جناح الملائكة

 جناح الملائكة - 22/تموز/1983


لم تعد أذناي تسمعان صفير الانفجار لكثرة ما أطلقتُ النار بالرشّاش الثقيل. ولم أكن أعرف بسقوط القذيفة إلّا عقِب سقوطها وارتفاع ما تُخلّفه من الدخان والغبار. إثر إخفاقهم في الهجمات المرتدّة أخذ العراقيّون يطلقون النار من التلال المجاورة. كانت قوى العناصر تضعف لحظة بعد أخرى. وإذا أُصيب أحد لم يكن هناك مِن مسعف لينقله. كان الجرحى يفارقون الحياة على مرأى بعضهم البعض.

قبيل الغروب، قلت للسجّان، علي خليلي، وقد تملّكني اليأس: "سأذهب لأرى ماذا قرّر العم، على هذه الحال لن يبقى أحد منّا حيًّا!".
- سآتي معك!

انحدرنا معًا نحو الحافّة الشماليّة للتلّة. خلال المسير رأينا جثثًا لعناصرنا ولعناصر العدوّ. بعد مرور أيام اسودّ بعض الجثث وتغيّرت معالمها جرّاء حرّ النهار، ما أدّى إلى تفشّي الروائح النتنة في أرجاء التلّة.

كان مرتضى واقفًا خارج دشمة الجرحى، فيما كانت أنّاتهم الضعيفة تتناهى إلى الأسماع. اقتربتُ منه بهدوء لكي لا أعكّر صفو خلوته. كأنّه كان يردّد ذكرًا. ما إن سمع صوت وطء قدميّ حتى التفت إلى الوراء. كانت رموش عينيه قد ابيضّت من التراب، وعلا الدخان والبارود وجهه. نظرتُ إلى عينيه الحمراوين الغائرتين وقلت: "يا عم، ما العمل..؟".

أخذ نفسًا عميقًا.
 
 
 
 
294

283

جناح الملائكة

 - لا أعلم.. منذ أيّام وهم يقولون إنّهم سيصلون، ولكن ما من خبر..


علت شفتيه ابتسامة مريرة.
- قلت للمقرّ إنّهم إن لم يخرجونا من الحصار فسوف ينهي العراقيّون أمرنا!

ثم سكت. لأوّل مرّة رأيته قلقًا. لم يبقَ أثر لذلك الوجه البشوش والمفعم بالأمل. فجرح كتفه، والجوع والعطش، وتواصل المعارك لأربعة أيّام بلياليها، ومسؤوليّة العناصر وأنّات الجرحى و.. كلّ ذلك كان يعذّب جسمه وروحه. للمرّة الأولى ألقى عبء المسؤوليّة على عواتقنا.
- سلمان.. افعلوا ما ترونه مناسبًا..

وضع يده على وجهه وعينيه.
- ربما هذا هو المقسوم.. الشهادة.. على هذه التلّة..

وجد خليلي الجرأة.
- لنسلّم أنفسنا! هكذا سينجو الجرحى، وأمّا الأسرى فلن يبقى هناك داعٍ ..

ابتلع خليلي كلامه. أمّا مرتضى فتبسّم بضعف، ثمّ عمل على تغيير المعنويّات بشكل مفاجئ، فشرع بتلاوة سورة العصر:
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

أخذ يكرّر: "الصبر.. الصبر.. الصبر.."

كأنّ هذه السورة المباركة قد أوجدت فيه هو الآخر تحوّلًا، فأردف قائلًا: "لا قطعَ الله عيشكم، أخبِروني، ألا يمكن لأحد أن يمازحكم؟".
 
 
 
295

284

جناح الملائكة

 ثمّ أعادنا إلى العمل بالضحك والمزاح.


عدنا أدراجنا إلى دشمة الأسرى. كان خليلي يصارع نفسه. لم أره على هذه الحال قبل الآن. قلت: "علي، أتشعر بالإحباط؟".
- لم يسبق لي أن شعرتُ بمثل هذه الحيرة حتى الآن. هل لديك سيجارة؟
- أنت لست مدخّنًا، أليس كذلك؟ 
- أريد أن أدخّن!

أشرت إلى دشمة الأسرى.
- إن كان لديك مشكلة.. سأنهي الأمر بنفسي!

التفت محدّقًا بي، وقال معاتبًا: "سلمت يداك! أتظنّ أنّي أنانيّ! إن كان الأمر غير صائب فلا فرق بين أن أقتلهم أنا أو أنت؟!".
- هل تشكّ في قرارك؟!
- لا، أنا مؤمن بمرتضى، وبالحرب وبالدفاع عن الإسلام والثورة، ولكن..
- ولكن ماذا؟!
- لعن الله أولئك الذين دفعوا "صدام" لأن يغزو إيران! لماذا يجب أن تقع حرب أساسًا؟! داريوش!
- نعم؟
- لقد أعطيتُ، خلال هذه الأيام، هؤلاء الخبز والماء والسجائر، لقد تبادلنا بثّ الأشجان، لدى أكثرهم نسوة وأطفال!

أشار علي خليلي إلى جثث شبابنا الممزّقة الموزّعة هنا وهناك ثمّ إلى دشمة الجرحى.
 
 
 
 
296

285

جناح الملائكة

 - وهؤلاء الذين سقطوا هنا دفاعًا عن وطنهم ودينهم.. سلمان!

- أسمعُك.. جيّد أنّك ناديتني بسلمان لمرّة!
- كلّما فكّرتُ أكثر وجدتُ أنّي لا أجرؤ على قتلهم!
- لم تُحسم الأمور بعد، لا تعذّب نفسك، لا بدّ أن تتبدّل الأحوال في النهاية..
 
 
 
 
 
 
297

286

معاملة

 معاملة - 22/تموز/1983


عند المساء، جلستُ في زاوية من زوايا الدشمة كالعصفور النائم، واضعًا رأسي تحت كتفي، فيما حلّق ذهني نحو مدينتي وبيتي وزوجتي. حرّك سعالي دخانُ سيجارة تعبويّ متوسّط السنّ كان يدخّن سجائر من غنائم بغداد بشكل متواصل!
- كيف تدخّن وأنت عطشان؟ لم يسبق لي أن رأيتك تدخّن!
- أخي داريوش، العمّ نفسه لا يعلم أنّي مدخّن!
- وهل من المعيب أن يعرف؟
- أجل! في الماضي كنت أدخّن علبة سجائر يوميًّا! لكن، ولعشقي لكتيبة الفجر، توقّفت عن التدخين. لكن هنا، وفي هذه الظروف، اختلف الأمر. أرجو أن يسامحني العمّ! إن نجوت من هذه المعركة سأطلب السماح منه!

قلت ضاحكًا: "إذًا حصلت على سجائر بالمجّان!".

غيّر "رحيم" سياق الحديث.
- ما رأيكم أن نجري معاملة مع العراقيّين!

سألته مستغربًا: "معاملة! ماذا تقصد؟".
- نسلّمهم الأسرى مقابل عشرين غالون(مطرة) من الماء!

فقلت: "فكرة لا بأس بها، هكذا تُحلّ معضلة قتل الأسرى أو الإبقاء عليهم!".
- لقد بنى علي خليلي صحبة وطيدة معهم!
 
 
 
 
 
298

287

معاملة

 - رحيم، ماذا ستكون عاقبتنا؟

- لا أدري، ليس هناك خبر عن قوّاتنا.. ألا يمكننا أن ننسحب إلى الوراء!؟
- ماذا دهاك يا رجل؟ لقد أنزلوا خلفنا لواءً كاملًا من المظلّيّين!
- لكنّ أكثرهم كان دمى متفجّرة! وجدت حلًّا!!
- ماذا؟
- نسلّم أنفسنا!
- يجب أن أذهب بك إلى العمّ مرتضى.
- انتظر.. ألستَ عنصر الاستطلاع في العمليّات؟
- بلى!
- بعد ذلك سنرسم خطّة الفرار في المعسكر!

رمى التعبويّ الكهل عقب سيجارته بإصبعه خارج الدشمة. قلت له: "سيفجّر المرتزقة العراقيّون رأسك يومًا بسبب نار سيجارتك!".

دخل "جمالي" الدشمة لاهثًا وبيده الجهاز اللاسلكيّ.
- داريوش، يريد العمّ أن يتحدّث إليك!

تناولتُ سمّاعة الجهاز وضغطتُ على الزّر.
- مرتضى مرتضى، سلمان أسمعك!
- سلمان، خذ معك شخصين واجلب الماء.. هل لديك أيّ مانع؟
- على عيني!

أواخر الليل اخترتُ "عرب سعدي" و"رحيم"، فحملنا مطرتين خضراوين معدنيّتين خاليتين من البنزين، بِسعة عشرين ليترًا، وتوجّهنا نحو النهر أسفل التلّة.
 
 
 
 
 
299

288

معاملة

 دخلنا الغابة بصمت وسرنا حتى بتنا على مسافة مئة متر من العراقيّين. ساهمت العتمة وصوت الماء في تسهيل تحرّكنا. قرب الماء قلت: "العراقيّون مستقرّون فوق رؤوسنا.. لا تُحدِثوا أيّ صوت!".


انحنيتُ فوق النهر، فيما وقف "رحيم" يراقب على مقربة منّا. ملأ "عرب سعدي" المطرة الأولى مطمئنّ البال وناولني إيّاها. ولمّا همّ بإدخال المطرة الأخرى في الماء اصطدم بصخرة قرب النّهر. وعلى الفور انهمر علينا الرصاص من الأعلى.
- آخ!

أصابت رصاصة يدَ "عرب سعدي" من الخلف فعلا أنينه! رمى المطرة ودنا منّي. أراد "رحيم" أن يطلق الرصاص، غير أنّي منعته.
- لا تطلق النار فيُكشف موضعنا!

حملنا مطرة (غالون) الماء الممتلئة وتراجعنا إلى الخلف بحيطة، ثم صعدنا تلّة "بردزرد". قسّمنا الماء بين العناصر والأسرى! وكان نصيب كلّ شخص نصف مطرة.
 
 
 
 
 
300

289

المصباح البحري

 المصباح البحري - 22/تموز/1983


آخر الليل، كان "حبيب" وجسده الطاهر مدار حديث إسماعيل توكّلي وسعيد حفّار.
- إبراهيم.. أسأل الله أن تنال الشهادة مثله!
- ساعد الله قلب أمّه المفجوع.
- أنت اكتب وصيتك أيضًا يا إبراهيم..

ما برحا يتحدّثان عن "حبيب زيبائي عالم" حتى ضاق صدري، فخرجتُ من الدشمة المكشوفة متوجّهًا نحو دشمة الشهداء.
- إلى أين يا صغير..

داخل دشمة الشهداء، وتحت نور المصباح البحري تسمّرت عيناي على جثّة حبيب التي احتوتها قطعة قماش كالقماط. كأنّي كنت أبحث عن رجله اليسرى النحيفة التي نذرها لأبي الفضل العبّاس عليه السلام، ولَنِعم ما وفّى نذره! مرّت في مخيّلتي صور لوجهه، ونذره، وأمّه، وحديثه في الدشمة المستقرّة أعلى التلّة.

خرجتُ من الدشمة وسرت يلفحني هواء الليل البارد حتى جلستُ على صندوق ذخيرة فارغ أمام كهف العتاد الحربي. كنت أشعر بالوهن في جسدي جرّاء نقص الماء وسوء التغذية. بدت لي السماء مكتظّة بالنجوم.
- إبراهيم! أنت جالس هنا؟

جاء "إسماعيل توكّلي" ورائي.
 
 
 
 
 
301

290

المصباح البحري

 - هل أنت مستاء؟


نظرت إلى وجهه النحيف المغطّى بالدخان. كنت أحبّه أكثر من أخي. لقد شغل خلال هذه الأشهر الستّة لوجودي في قسم الاستطلاع والمعلومات في لواء المهدي منصبَ الأخ الأكبر لي. كان كلانا من "جهرم". قلت له وقد جفّ حلقي: "أتعلم يا إسماعيل، أودّ كثيرًا لو أستشهد!".

جلس بقربي. مسح بيده على رأسي وقال: "إبراهيم، إنّ الناس يكبرون في المصاعب! هل تعلم بما كنت أفكّر وأنا أنظر إليك؟".
- لا!
- كنت أفكّر كيف أنّ صبيًّا ذا خمسة عشر ربيعًا يغدو رجُلًا في غضون أشهر قليلة، ويقوم بمهمّات ينوء بحملها الكثير من الرجال، الرجولة تعني هذا.

أشرت بإصبعي إلى دشمة الشهداء حيث سُجّيتْ جثث الشباب والفتيان صفًّا صفًّا.
- لكنّ هؤلاء أكثر رجولة منّي! خصوصًا حبيب!
- حبيب! هل كنت تعرفه من قبل؟
- إنّه صديق يومين، ولكن، كان كأنّه صديق العمر!
- لم يكن ابن "جهرم"، صحيح؟
- كان ابن الإسلام!
- إبراهيم، أصبحت تتكلّم كلامًا عالميًا!
- هل أخبرك بشيء على أن لا تستاء؟
- هذا مرتبط بما ستقول!
 
 
 
 
302

291

المصباح البحري

 - نذرتُ أنّي إن نجوتُ من هذه المعركة فسأدخل في كتيبة الفجر!


فشدَّ أُذني، وضغط.
- أتظنّ بأنني لا أرغب بذلك أيضًا! في بعض الأحيان هناك أعمال لا تقلّ أهمّية عن الخدمة في كتيبة الفجر! كعملك في الاستطلاع، الذي ليس بمقدور أي إنسان القيام به.
- هل أنت متأكّد يا إسماعيل؟
- هذا ظاهر ظهور الشمس. انهض، وهلمّ لأثبتَ لك بالدليل مدى قيمة عملك.
- إلى أين يا إسماعيل؟
- إلى العمّ مرتضى!

دخلنا دشمة مرتضى. كان القائد بمفرده.
- السلام عليك يا عمّ مرتضى!

تقدّم القائد وطبع قُبلة على جبهتي. جلسنا على أرض الدشمة. فقال بلا مقدّمات: "عندي لك مأموريّة! هل أنت لها يا بن جهرم؟".
- أيّ شيء.. حُبًّا وكرامة!
- سمعتُ أنّك تعرف منطقة "حاج عمران" كراحة يدك؟
- هذا صحيح يا عمّ! لقد عشت فيها ليالي وأيامًا لشهور عدّة.
- هل تستطيع أن تذهب إلى مرتفع قمطرة؟.
- بعينين مُغمضتين!
- حتى ليلًا!

تبسّمتُ وقلت: "حتى ليلًا!".

انفرجت أسارير العمّ مرتضى. أخذ بيدي وأجلسني بجنبه.
 
 
 
 
303

292

المصباح البحري

 - تعال لكي أطلعك على فحوى المأموريّة.


جلستُ قربه بسرعة وحماسة.
- سيّد إبراهيم، عليك أن تعبر وسط العراقيّين وتصل إلى ارتفاع "قمطرة" بأيّ طريقة. فإن وصلت إلى هناك تشرح موقعيّتنا وموقعيّة العراقيّين للحاج "أسدي" بالدقّة والتفصيل المُملَّين!
بعد ذلك، ثنى ورقة عاديّة وأعطاني إيّاها.

- وهذه خريطة مواقعنا ومواقع العدوّ. حاولتُ قدر الإمكان أن أتحرّى الدقّة في رسمها!

أخذتُ الورقة ووضعتها في جيب قميصي الكاكيّ ثمّ أقفلت زرّه.
- سيّد إبراهيم!
- أجل يا عمّ!
- كلاهما مهمّ! المعلومات التي في ذهنك وهذه الورقة! سيبيّن إسماعيل لك موقعيّة التلّة والعدوّ بالكامل، أَرِني ماذا ستفعل! 

سرح فكري وأخذتُ أتأمّل: ليس من المروءة أن أترك الشباب وأذهب. وإسماعيل، ينبغي أن ينجو بنفسه هو الآخر! فالإسلام يحتاج إليه أكثر من أمثالي..
- ما الخطب يا إبراهيم؟

قرأ العمّ أفكاري. نظرتُ إلى إسماعيل ثمّ التفتُّ إلى العمّ قائلًا: "إن إسماعيل أكثر خبرة وجدارة منّي. فليذهب، وسأبقى أنا معك! ليس من المُرو..".

تقدّم إسماعيل منّي فحضنني وقال: "فديتُك مِن عاقِل، لطالما كنتُ عونًا لك. صحيح أنّك خلال الاستطلاع عَييتَ جرّاء التعب مرات عدّة،
 
 
 
 
 
304

293

المصباح البحري

 فاضطررتُ إلى حملك على ظهري. لكنّك الآن ترى بعينك".


وأشار إلى جسده المضنى من رأسه إلى أسفل قدميه:
- لقد خارت قواي ولم يبقَ لديّ حول ولا قوّة! باختصار، أنت الوحيد الذي تستطيع أن تعبر من خلال هذه الحفر والثقوب! هيّا كفاك دلالًا!

وفي النهاية حسم القائد الأمر.
- تحتاج إلى الظلام لأجل الفرار من دائرة الحصار حول "بردزرد"، وإلى ضوء النهار لأجل مواصلة السير حتى الحدود. ينبغي أن تنطلق عند الساعة الرابعة أو الخامسة فجرًا. لديك بضع ساعات لتغفو وتجدّد طاقتك.. في حفظ الله يا إبراهيم!
 
 
 
 
 
305

294

الحلقة الأولى

 الحلقة الأولى - 23/تموز/1983


أيقَظني إسماعيل:
- هل نمتَ جيّدًا يا إبراهيم؟
- لم أغفُ إلّا منذ وقت قليل!
- أنت تمزح! ماذا كنت تفعل خلال هذه الساعات إذًا؟
- أفكّر بذهابي وبالشباب.
- أرجو أن لا تكون متعبًا. أمامك مسير طويل.
- هل حان وقت الذهاب؟
- أجل!
- كم الساعة؟
- الرابعة صباحًا!
- ألم يكن من الأفضل أن أسير ليلة أمس؟
- لقد أخبرك العمّ أنّك تحتاج إلى العتمة للعبور من بين جنود العدوّ. لكن عليك بعد ذلك أن تجد طريقك أثناء النهار. من الممكن أن تضِلّ الطريق ليلًا. لنذهب إلى العم!

خلال الطريق تحلّق حولي من سَلِمَ من الشباب. كأنّهم قد علّقوا آمالهم عليّ. كذلك الجرحى! فقد كانوا مسرورين لمجرّد أنّي سأخترق دائرة الحصار حول التلّة وأمضي.
- أَرِنا ماذا ستفعل، ها!
- إبراهيم، لا تنسَ آية الكرسي.
 
 
 
306

295

الحلقة الأولى

 - ما شاء الله..


كان ثمّة من بقي له جَلَد على المزاح.
- إن وقعتَ في الأسر فادعُ لنا!
- إن ألقوا القبض عليك فقل لهم: إنّي كنت أضايق أمّي كثيرًا فأرسلني أبي إلى الجبهة رغمًا عنّي!
- قل لهم إنّ قسم التعبئة الاقتصادية أرسلني إلى الجبهة لاستلام الثلاجة والسجّادة.

أقفلتُ جعبة الظهر وحملت بندقيّتي ومشطًا إضافيًّا. ربطتُ الكوفيّة حول خاصرتي ووضعت في طيّاتها عددًا من الرمّانات اليدويّة. وصل العمّ مرتضى برفقة إسماعيل وزوّداني بالتوصيات الأخيرة. عانقاني وقبّلاني. تجمّعت الدموع في عيني: إلهي، هل سأراهم ثانيةً..عليّ أن أبذل قصارى جهدي. لا يبعد أن أتمكّن من القيام بشيء.. سوف أعود.. عمّ مرتضى، إسماعيل.. أعدُكما بذلك..

كان عناقي لإسماعيل شديدًا بحيث أخذ ينهرني.
- لا بدّ أنّك تظنّ أنك لن تراني مجدّدًا! أنت مخطئ جدًّا يا إبراهيم الصغير! أنا أكفّن مئة شخص مثلك .. لا قدّر الله..

ثمّ ضحك. رأيت دموعه لأوّل مرّة.
- ليتني أموت ولا أرى شوكة في يدك!

بعد ذلك دفعني إلى الأمام.
- هيّا اذهب! الطريق الأفضل "حديقة موتورى" .. النهر أوّلًا.. لا تنسَ!

أحكمتُ إقفال الساعة الليليّة على معصمي، وشددتُ رباط حذائي الرياضيّ. حملت البندقيّة القابلة للطيّ وهممتُ بالسير، فأوقفني
 
 
 
 
 
307

296

الحلقة الأولى

 مرتضى.

- إبراهيم الكبير!

دنا منّي ثمّ لفّ الكوفيّة التي في يده حول عنقي وعقدها بإحكام.
- قد تنفعُك. انتبه لنفسك!

قبّل جبهتي وقال: "إن بقي لي عمر فأودّ أن نكون في خدمتك في كتيبة الفجر". 
- أسأل الله ذلك يا عمّ مرتضى!

التفت العمّ وهو ينظر إلى إسماعيل الذي ما زالت عيناه غارقتين في الدموع، وقال: "طبعًا، بعد إذن الأخ إسماعيل". 

انحدرتُ من التلّة نزولاً فيما لفح وجهي هواء الجبل البارد. والقمر يبثُّ نوره في كبد السماء. وصلتُ إلى النقطة التي كان من الممكن أن أُرى فيها، فانحنيتُ وسِرت إلى النهر محنيّ الظهر. وصلتُ إلى حافّة النهر بسلام: سأشرب.. لكنّ التأخير قد يسبب لي المتاعب.. إن شاء الله سأشرب من عين الماء في الطريق..

هممتُ بأن أعبر النهر. غاصت قدمي في لحم طريّ فيما علا صوت صفير هواء: "فيس فيس!". شعرت بالخوف. نظرتُ إلى النهر لأرى عددًا من الجثث المنتفخة والمتعفّنة. دبّ الذّعر في نفسي. تراجعتُ إلى الوراء فوقعتُ على ظهري داخل الماء البارد الجاري. حاولتُ أن ألَملِم نفسي وإذ بي أدوس على حجارة ملساء، فأحسستُ وكأنّ شخصًا يرفعني من الماء البارد ثم يدفعني إليه. سكنتُ وتوقّفتُ عن الحركة خوفًا من أن أرى ثم أخذت نفَسًا عميقًا. كان قلبي يضرب جدران صدري، وأحسستُ بحدّة الماء البارد في ظهري كالشفرة. أينما وقع نظري رأيت جثثًا منتفخة ووجوهًا بنفسجيّة وسوداء وقد
 
 
 
 
 
308

297

الحلقة الأولى

 بدت بأسنانها البيضاء اللماعة كأنّها تضحك لي! حتى إنّي بتُّ أسمع قهقهة الأجساد. ماذا دهاك يا إبراهيم؟ لا بدّ أنّ إسماعيل ينظر إليّ الآن من الأعلى ويهزأ بي. فجأة تخيّلتُ أنّ جميع الجثث نهضت من الماء منتصبة وأخذت تقترب منّي. لملمتُ نفسي ومررتُ بجانب الجثث السوداء سريعًا وبلا التفات حتى عبرتُ إلى الجهة الأخرى من النهر.


أحسستُ بأني ثقيل كجثث الموتى، كما زاد الشعور بالبرد في جسدي. دخل الماء في حذائي الكتاني ما أثّر سلبًا على مشيي، حتى إنّي تزحلقتُ مرارًا.

وصلتُ إلى دشمة كمين الرشّاش الثقيل أسفل التلّة، حيث بدأت المعركة في اليوم الأوّل. كان هناك عدد من جثث العراقيّين وبقربهم جثّتان لعنصرين من شباب الكتيبة. حفظتُ صورة مكانيهما في ذهني بالدّقة. اخترق الهواء صوتُ طلقة مدفع. تمدّدتُ على الأرض. انفجرت قنبلة ضوئيّة في السماء وتهادت بالمظلّة نحو الغابة. رأيتُ ارتفاع الأشجار وظلالها، وكانت فرصة سانحة لكي أستطلع ما حولي بدقّة.

انطفأت القنبلة الضوئيّة. نهضتُ وعبرتُ أطراف الغابة حتى وصلتُ إلى مكانٍ تكهّنتُ أنّه مقرّ للعراقيّين. وقفتُ وحملقتُ في الأطراف ودقّقتُ سمعي. سمعتُ في ذلك الصمت المطبق صوت همسات بالعربيّة. اختبأتُ خلف شُجيرة. انتظرتُ حتى اخترقتْ عنانَ السماء قنبلةٌ ضوئيّة أخرى وهبطتْ. من خلال نور القنبلة وجدتُ موقع العراقيّين. ما إن اختنقت القنبلة الضوئيّة في الأرض حتى نهضتُ وتسلّقت إلى داخل شقّ قليل العمق يوصل إلى "حديقة موتورى". اجتزتُ ثلاثة مقرّات للعراقيّين ووصلتُ إلى محاذاة "حديقة موتورى". خرجت من الحلقة الأولى لحصار تلة "بردزرد" تقريبًا. توضّأتُ من مياه العين الموجودة في الطريق، ووقفتُ لأداء صلاة الصبح تحت شجرة بلوط.
 
 
 
 
309

298

الآليّة الحربيّة العجيبة

 الآليّة الحربيّة العجيبة - 23/تموز/1983


في اليوم الرابع للمعركة، اختفى الضباب الليلي مُخلّفًا قطرات النّدى على الدشم وصناديق العتاد الحربيّ! ناداني أبو القاسم تشوبان: "سعيد حفّار!".

وضعتُ الجهاز اللاسلكيّ أرضًا ومضيتُ نحوه برجل عرجاء.
- هل حدث شيء؟

أشار "تشوبان" إلى الجادّة المعبّدة المعدّة لنقل الدّعم العراقيّ.
- ما هذا؟

حملقتُ في جادّة "دربندي خان" لأرى آليّة حربيّة عجيبة! كان هيكلها يشبه الدبّابة، لكنّهم نصبوا مكان المدفع كلّاب جرّافة قويًّا. ضحكتُ.
- تزوّجت الدبابة من الجرّافة فولدتا هذه الآليّة الحربيّة.
- يعني لأيّ أمر يخطّطون؟
- يريدون أن يفتحوا مضيق "أُحُد".
- أخبِر العمّ!
- خَسِئوا! جهّز الرشّاش الثقيل.

توجّهنا نحو آخر رشّاش مضادٍّ ثُنائيّ بقي على التلّة. جلس أبو القاسم خلف الرشاش، ثم صاح: "قم بتذخيره!".

ساعدته وملأت شريط الرشاش.
- بارك الله بالذخيرة التي غنمناها!
 
 
 
 
310

299

الآليّة الحربيّة العجيبة

 انضمّ إلى الآليّة الحربيّة العجيبة الغريبة ناقلتا جند مصفّحتان من نوع "PMP" ومرقّطتان كجلد النّمر. قلت: "لمَ جاؤوا بهاتين؟".

- لحماية الآليّة الحربيّة.

أخذت ناقلتا الجند المُعدّتان للحماية تتقدّمان على الجادّة المعبّدة، فيما سارت الآليّة الحربيّة خلفهما باتّجاه مضيق "دربندي خان". قال أبو القاسم: "علينا أن ندمّر الآليّة الحربيّة!".
- يبدو أنّها مضادّة للدروع.. هل سيقدر عليها الرشّاش الثقيل؟
- لا أدري يا سعيد.. عليك بالدّعاء!

أدار أبو القاسم تشوبان قبضة تنظيم المضادّ الثنائيّ. صوّب نحو الجادّة واستعدّ لإطلاق النار. ما إن تقدّمت المدرّعتان حتى نفثتا دخانًا أبيض ساترًا، فأخْفتا الآليّة الحربيّة.
- عديمو الشرف..! لم أحسب لهذا حسابًا!
- لقد تعقّد الأمر يا تشوبان!

وصلت ناقلتا الجند إلى التلّة وتموضعتا قُبالتها. أمّا الآليّة الحربيّة فدخلت المضيق، فيما علا صوت رشق مدفع "تشوبان" الرشاش ذي السبطانتين في الهواء. ارتعدت فرائصي كمن أصابه الرصاص! انطلقت الرصاصات نحو الآليّة العجيبة فأصابتها ثمّ ارتدّت. زمجرت الآليّة الحربيّة كوحش حديديّ فضربت بكلّابها على شاحنة الـ"إيفا" المحترقة ورمتها في الوادي المجاور.
- "أبو القاسم"، لو فُتح المضيق فاقرأ الفاتحة على العمليّات!

لا أدري كيف وصل "حمامي" بجرح فمه العجيب. جلس خلف شجرة خضراء أعلى التلّة من دون أيّ حماية، وأخذ يُخرج صوته من أعماق حنجرته، وهو مطبق الفكّين، ليتحدّث بأعصاب باردة عبر الجهاز
 
 
 
 
 
311

300

الآليّة الحربيّة العجيبة

 اللاسلكي.

- جيان، جيان، جالِه أسمعك..

علت خشخشة اللاسلكيّ في الهواء وتمّ الاتّصال بالإسناد.
- جاله جاله، جيان أسمعك.. موقعيّتكم؟..
- موقعيّة أُحُد.. مسافة ثلاث حبّات "حمّص"..
- جيان، ابقَ على السمع..

رأيت بأمّ عيني التفافَ الرشاشات الثقيلة لناقلتَي الجند "PMP" المرقّطتين.
- تشوبان، انتبه لناقلَتي الجند!

ساعدت الريح بسحب دخان المدرّعتين الساتر باتّجاه الموقع الخلفيّ للعدوّ، فبدَت الآليّة الحربيّة للعيان بوضوح. عندما انهمر وابل من رصاص رشاشات المدرّعتين باتّجاهنا انبطحتُ أرضًا. أمّا أبو القاسم فلم يتحرّك من خلف الرشاش الثقيل الثنائيّ وردّ عليهم بالمثل.

سمعتُ صفير القذائف، وبعد برهة سقط عدد من قذائف مدفعيّات شبابنا في الوادي على بعد خمسين مترًا من الهدف. صحت قائلًا: "سلمت يداك يا سيّد جليل!".

وعلى الفور صحّح جليل حمامي الخطأ.
- جاله.. موقعيّة "أحُد"، قلِّل عشرين، إلى جهة اليسار.. حبّة حمّص واحدة.
- مفهوم..

سقطت القذيفة التالية في مكان أقرب على مسافة عشرة أمتار، لكن أمام الهدف.
 
 
 
 
312

301

الآليّة الحربيّة العجيبة

 لم يستسلم حمامي وما برح يعطي الإحداثيّات. وعبثًا أطلق أبو القاسم الرصاص، حيث واصلت الآليّة الحربيّة عملها، فرمت شاحنة الـ "إيفا" الثانية في الوادي.

- إنّهم يفتحون المضيق، يا إلهي..

التفتُّ لأنظر إلى "أبو القاسم"، وإذ بوابل من الرصاص يخيطُ الأرض بالسماء فسقطتُ أرضًا. عندما خَفَتَ الصخب والضجيج مزّق نياط قلبي أنين "أبو القاسم". انتصبتُ من مكاني وبحثت عنه. كان قد وقع على بعد أمتار إلى الوراء سابحًا في دمائه. دنوتُ منه فإذا جسده قد تخرّم من رأسه حتى قدميه كالمصفاة. لم أرَ حتى الآن أحدًا أصيب بالرصاص إلى هذا الحدّ! ركضتُ وعُدتُ إليه بمطرة ماء. كان قد سحبَ نَفْسَهُ مبتعداً عن المكان واتّكأ على صندوق الذخيرة. هممتُ بالاقتراب منه فرفع يده بصعوبة بالغة وقال بصوت متقطّع: "لل.. لا تت..تأتِ!". 

وقفت. كان تمام جسده قد تلوّن بالأحمر القاني. لقد نال منه الرصاص بحيث مزّق سرواله وقميصه العسكريّين! علمتُ أنّه يشعر بالخجل والحياء ولا يحبّ أن أدنو منه. وقفتُ في حيرة من أمري! كنت أعلم أنّه مع هذا الكمّ من الرصاص ونزف الدم إنّما يطوي آخر لحظات عمره.

سمعت أصوات عدّة انفجارات متتابعة، حيث سقطت القذائف وقنابل المدفعيّة على المضيق. تناهى إلى سمعي صرخة فرَحٍ من "حمامي".
- جالِه.. عافاك الله! تمّ العمل.. دُمّر السرطان عديم المروءة..

فجأة طرق سمعي صوت تأوّه "حمامي". أحسستُ حينها أنّ الدنيا تدور حول رأسي. مضيت نحوه. كان مرميًّا على الأرض كقطعة حجر
 
 
 
 
 
313

302

الآليّة الحربيّة العجيبة

 جامدة والدم ينبعث من جبهته، فيما علا صوت خشخشة الجهاز اللاسلكي في الهواء.

- جاله جاله، جيان.. مفهوم..

أغمضتُ عينيه وسوّيت يديه ورجليه. نهضتُ وحدّقتُ في المضيق، وإذ بالآليّة الحربيّة تشتعل وتحترق. "تشوبان".. لعلّه ما زال حيًّا..

ركضتُ نحو "تشوبان" وأنا أتصبّب عرقًا. دُستُ بقدمي على شيء فانكسر. كان نظارتي "أبو القاسم". حملتهما ومضيتُ نحوه. كان مرتضى جالسًا عنده، واضعًا رأسه على ساعده وقد غطّى بكوفيّةٍ بطنَ "أبو القاسم" ورجليه. لمحتُ ابتسامة عَلت وجه "أبو القاسم" الأحمر والأبيض. وقع نظري على عظام صدره. كان الدم الأحمر الشفاف ينبعث بهدوء منه. وضع مرتضى يده على جرح صدر "أبو القاسم"، فانبجست الدماء من بين أصابعه. قال "تشوبان" لمرتضى بصوت متقطّع: "يا عم، سامحني!".
- لا قطع الله عيشك، ما هذا الكلام!
- عم مرتضى!
- يا روح العمّ!
 
 
 
 
314

303

الآليّة الحربيّة العجيبة

 - كنت أودّ لو نذهب معًا للقاء الإمام. لكن، يبدو أنّ هذا ليس من نصيبي!


انقطعت أنفاسه. أظنّ أنّ الرصاصة ثقبت رئته. رفع مرتضى رأسه. قال تشوبان: "أبلِغ سلامي للإمام!".

قال مرتضى بحرقة: "ستتحسّن حالك ونذهب معًا لخدمة الإمام!".
- يا عمّ!
- يا روح العمّ!
- حين عدتُ هذه المرّة من المأذونيّة، جلبتُ لشباب السريّة عصير الليمون وجوارب وبعض الحاجيات، وأعطيتها لـ"مش موسى"، قسِّمها بين الشباب!

ارتسمتْ على شفتي مرتضى ابتسامة خذلتها عيناه، ثمّ قال: "هل صرفتَ راتبك على هذه الأمور مجدّدًا. عندما أذهب في المرّة المقبلة إلى "استهبان" سأقول لأمّك بأن تزوّجك لكي لا يفيض عليك المال!".

أغمض مرتضى عينَي قائد سريّته الشابّ، وأخذ نفسًا عميقًا ثمّ زَفَرَهُ من صدره.

- في العام الماضي قلت له: "لمَ لا تصبح جنديّ وظيفة لدى الحرس؟". فضحك وأراني إصبعه المعيوب وقال: "لقد أخذتُ إعفاء سنة من الجيش!".
 
 
 
 
 
315

304

تلّة العقاب

 تلّة العقاب - 23/تموز/1983


مع بزوغ نور الصباح، وبعد أن اجتزتُ حديقة "موتوري" العراقيّة، وصلتُ إلى جُرف هوّة (شيّار) كان من الصعب عبوره. اجتزتُ الجرف بمشقّة حتى وصلتُ إلى مرتفَعٍ عالٍ كانت مياه الثلج الذائب تهوي منه على جسمي فتقطعه كالسّيف . سقطتُ عدّة مرّات من شيّارات قليلة الارتفاع نحو قعر الساقية الذي كانت أشبه بعين الماء. تشبّع حذائي وجوربي بالماء ما أعاق حركتي. فقد كنت أتزحلق على الصخور الرطبة باستمرار، واضطررتُ إلى خلع حذائي وجوربي ورميهما بعيدًا. بات سيري بقدمين حافيتين أسهل، ولم أعانِ سوى من ألم جروح في قدميّ.

بينما أنا أسير وإذ بقواي تخور من فرط التّعب والجوع، فسقطت على وجهي. لم يكن لي حول ولا قوّة على القيام. نهضتُ بشقّ الأنفس مستعينًا بيديّ ورجليّ، فاجتزت الشيّار التالي حتى وصلتُ إلى أطراف وادٍ كبير.

سطعت الشمس فأمدّتني ببعض القوّة. جلستُ مستندًا إلى صخرة واستطلعتُ المكان من حولي. بنظري، كان كلّ شيء مجهولًا: أمِنَ الممكن أن أكون قد ضِعت.. هل ضللتُ الطريق؟ لعلّي توغّلت في عمق الأراضي العراقيّة! يا صاحب الزمان ساعدني، سيّدي.. الشباب ينتظرون النجدة بفارغ الصبر.. لأصعد المرتفع. الشمس تطلع من جهة إيران.

نهضتُ وسرتُ باتّجاه طلوع الشمس فتجاوزتُ التلّة الخضراء المجاورة حتى دخلتُ غابة البلّوط. لاحت لي من بعيد قرية "زينو"
 
 
 
 
316

 


305

تلّة العقاب

 العراقيّة المستريحة على سفح المرتفع. مِن هذا المكان فما بعده كنت أعرف الأراضي والمواقع العراقيّة جيّدًا. تذكّرت المؤونة التي كنّا نخبّئها ليومنا الأسود أيّام عمليّات الاستطلاع في منطقة "حاج عمران": أسأل الله أن أجد شيئًا! ساهم شعاع الشمس في تخفيض برودة جسمي. أثناء السير كانت قدماي الحافيتان والمجروحتان تدوسان على الحجارة الحادّة والأشواك والأقذاء ما أعاق تحرّكي: ما كان عليّ أن أتخلّص من الحذاء.. كوفيّة العمّ! توقّفتُ قرب عين ماء فوّارة. كانت المياه تنحدر كالسيل من قمّة الجبل لتنساب من بين جذور الشجر الغليظة المنحنية متّجهة نحو قرية "زينو". حللتُ كوفيّة العمّ مرتضى من حول عنقي. كانت مبلّلة فمسحتُ بِنَداها العرَق الذي علا وجهي المُنهك. غسلتها في مياه العين. رفعتُ قدميّ لأجد باطنهما يعجّ بأشياء كحقل ألغام العراقيّين. مسحتُ برويّة أسفل قدميّ ونظّفتهما من الدماء والأشواك والطين. ثمّ غسلتُ الكوفيّة ثانية وعصرتها. شطرتها بأسناني إلى قسمين ثم لففتهما بدقّة حول قدميّ وعقدتهما. عليّ الذهاب إلى "قهوة العُقاب".. ضحكتُ بلا اختيار: كثّر الله خيرك يا إسماعيل.. يا له من اسم عجيب وضعتَه على حفرة المؤونة الاضطراريّة.. "قهوة العقاب"..


قرابة التاسعة صباحًا وصلتُ إلى تلّة العقاب. لقد سمّاها إسماعيل بهذا الاسم. عندما كنّا ندقّق النظر كانت التلّة تتراءى لنا من بعيد كأنّها عُقاب يحدّق صوب الحدود. تسلّقتُ منحدر التلّة حتى وصلتُ إلى شقّ صغير أسفل صخرة تتوسّط التلّة. أزحتُ الشجيرات اليابسة من أمام الشقّ. انحنيتُ وأدخلتُ يدي في حفرة كبيرة وأخذتُ أُجيلها فيها. أحسستُ بخشونة كيس خَيش فسحبته خارجًا مفرغًا محتوياته التي كانت عبارة عن: بضع رمّانات يدويّة، بوصلة، منظار معطّل،
 
 
 
 
 
 
317

306

تلّة العقاب

 ومعلّبات سمك وباذنجان. تبسّمتُ: كيف أفتحها! نقّبتُ المكان من حولي فوجدتُ حجرًا حادًّا، فطفقتُ أضرب به على علبة السمك. ضربتُ وضربتُ حتى أحدثتُ فتحة في الغطاء الصفيحيّ. أدخلتُ إصبعي وأخذتُ أُخرِج فتات سمك التونة وأضعها في فمي. عندما التفتّ إلى نفسي وجدتُني قد ابتلعتُ سمك التونة مع بعض المقبّلات من تراب وحصى ودماء خرجت من يدي المشقوقة! لم أتذوّق طعامًا ألذّ من هذا في حياتي! زيادة على حريق جروح قدمي أضيف ألم جرح أصابعي. وضعتُ جميع أغراض "قهوة العقاب" في مكانها ما عدا البوصلة، وحملتُ بندقيّتي وتحرّكت باتّجاه الحدود.


عند العاشرة صباحًا، لاح لي من بين سفوح الجبال والوديان الكرديّة في العراق مرتفع "قمطرة" الذي يعانق السماء. لقد قطعتُ عشرة كيلومترات في غضون الساعات الماضية. كنت أحفظ طريق العودة من هنا فما بعده عن ظَهر قلب. لم يكن عليّ سوى أن أتوخّى الحيطة والحذر لئلّا أصادف مواقع ودوريّات العراقيّين والأكراد المحلّيين. فتنقّلُ الجنود العراقيّين، وأصوات قصف المدفعيّات ورصاص الرشاشات، والدخان والغبار، فضلًا عن تطواف المروحيّات، أمور غيّرت تمامًا ملامح منطقة تعوّدنا على هدوئها أيّام عمليّات الاستطلاع.
 
 
 
 
318

307

اشلونك

 اشلونك - 23/تموز/1983


عند الساعة الحادية عشرة قبل ظهر اليوم الرابع من أيّام العمليّات، خرجتُ من الهواء المحبوس في الدشمة شبه المظلمة في مرتفع "قمطرة"، لأواصل العمل في الجوّ الطلق والمضيء. كان صوت إطلاق النار ما يزال يصل من عمق الأراضي العراقيّة، وهذا يعني بقاء الأمل. خرج بعدي من دشمة قيادة مقرِّ "مالك الأشتر" محسن رضائي، قائد قوّات الحرس الثوري، وسألني: "أيّها العقيد صيّاد، ما هي المعلومات التي خلصتَ إليها حتى اليوم؟".

غرزت أصابعي خلال شعري القصير وقلت: "سيّد محسن، يبدو أن الأمور برمّتها قد تعقّدت.. لا أعرف ما الحكمة في ذلك. ما أعرفه هو أنّه إن سقطت تلّة "بردزرد"، فاقرأ الفاتحة على العمليّات".
- أملُنا في كتيبة الفجر وإحكام السيطرة على التلّة!
- المشكلة تكمن في أننا لا نملك معلومات صحيحة ومستجدّة عن موقعيّة التلّة ولا عن كتيبة الفجر أو مرتفعات "حاج عمران".

من مرتفع قمطرة الشّاهق أخذتُ أحدّق في وادي "حاج عمران": كتتييبة.. الفججرر.. في هذه الأيّام الثلاثة، أينما حللتُ كانت كتيبة الفجر، "مرتضى جاويدي"، وتلّة "بردزرد" محور حديث الجميع! من هو هذا الإنسان؟ أسأل الله أن ينجو بحياته لكي يتسنّى لي رؤيته!". 
- أخ صيّاد، ما هو تحليلك؟

رفعتُ نظري من المرتفعات الرماديّة أمامنا.
- سيّد محسن، إن لم يتمّ وصل محور اليمين بمحور اليسار فلن
 
 
 
 
 
319

308

اشلونك

 نتمكّن من الوصول إلى كتيبة الفجر. كما ينبغي تحرير محور الوسط في الجبهة، أعني جادّة "تمرجين" حتى أسفل تلّة "بردزرد".. فضلًا عن حاجتنا لمعرفة موقعيّة كتيبة الفجر للقيام بعمليّات جديدة.

- ماذا عن مروحيّات المجوقل والاستطلاع "هوانيروز"، هل يمكنها الحصول على المعلومات والتقاط الصّور من الجوّ؟
- حتى اليوم لم يُجدِ الأمر نفعًا، خسِرنا حتى الآن مروحيتَي استطلاع!

دلفنا إلى الدّشمة، فنادى محسن رضائي عامل الإشارة في الحرس الثوري: "انظر هل يمكنك الاتّصال بمرتضى!".

اتّصل عامل اللاسلكي على موجة مرتضى وقال: "سيّد محسن، هذا مرتضى.. الصوت ضعيف!".

تناول السيد محسن سمّاعة الجهاز. دنوتُ منه. ضغط على الزرّ.
- مرتضى مرتضى، محسن!

كان لكلمة "اشلونك" الواضحة المفعمة بالأمل، والصادرة من قائد كتيبة الفجر وقعُها على قوّة الشحنات الكهربائيّة للجهاز اللاسلكي أيضًا!

حدّقتُ في جعفر أسدي قائد مرتضى. فتبسّم وفسّر قائلًا: "يعني: كيف حالك! هو مصطلح خاصّ بمرتضى، اشلو.. اشلونك..".

تذكّرت أنّي سمعتُ كلمة "اشلو" في مكان آخر: إنّ هذه الكلمة مألوفة لي جدًّا.. ترى أين سمعتها.. لا أدري كيف أخذتُ السمّاعة من محسن رضائي وشرعتُ أتحدّث إلى مرتضى: "اشلونك.. يا أخ مرتضى، العقيد صيّاد شيرازي، قائد القوّات البرّية في الجيش يتحدّث إليك، حدّد موقعيتك؟".
 
 
 
 
320

309

اشلونك

 فقال بنبرة واضحة موزونة: "السلام على جندي الإمام وصاحبه المخلص، عزيزي "صيّاد شيرازي"، ليس ثمّة ما يقلق بحول الله وقوّته!".


كانت كلماته خالية من التكلّف كأنّه كان على معرفة بي منذ سنوات. أحسستُ أنّ كلّ كلمة يتواصل معي من خلالها تُخضِعني لتأثير شخصيّته أكثر فأكثر. مع ذلك فقد حملتُ كلامه عن المقاومة والصمود فيما يتعلّق بأوضاع التلّة على محمل المجاملات، فسألته مؤكّدًا: "بدون مجاملة يا أخ مرتضى، ما هي أوضاع الذخائر والمؤونة؟".
- لا أجامل أحدًا، فبحمد الله، لقد ترك الإخوة المرتزقة العراقيّون لنا جميع أنواع الذخيرة، ولا نحتاج شيئًا! كما إنّ حلْق العراقيّين لا يزال في قبضتنا! ما عليكم إلّا أن تقوموا بعملكم وتواصلوا التقدّم. والتّوكّل على الله!

ذكر التّوكّل على الله بقوّة واطمئنانِ قلب عجيبَين. قلت: "ما هي أوضاع القوّات.. كيف هي حال المدافعين؟".
- إننا نقف بقوّة وثبات على التلّة. لقد أخلى الشباب التلّتين المجاورتين! ولو لم يبقَ منّا إلّا اثنان فسنحفظ التلّة حتى وصولكم. أبلغ سلام عناصر كتيبة الفجر إلى الإمام!
تبسّمت.
- على عيني يا اشلو! أخ مرتضى، إننا نبذل ما بوسعنا لكي نتمكّن من الوصول إليكم! مشكلتنا الوحيدة هي عدم اطّلاعنا على منطقتكم وعلى مواقع استقرار قوّات العدوّ.

علت خشخشة اللاسلكي ووصل صوت مرتضى جاويدي مجدّدًا: "أخ صيّاد، لقد أرسلتُ الليلة الماضية أحد عناصر الاستطلاع لكي
 
 
 
 
321

310

اشلونك

 يكسر الحصار ويصل إليكم. لا أدري إذا نجح في ذلك أم لا".

- لم يصل أحد حتى الآن، لكنّ مجيئه سيخدمنا كثيرًا. على أيّ حال سنبذل قصارى جهدنا.
- يا علي! أخ صيّاد، قل للسيّد محسن إنّ عدد الأسرى يفوق عددنا بأضعاف، وإن علموا بأننا محاصرون فمن الممكن أن يسبّبوا لنا المتاعب، كما إنّ وضع الماء يسوء! همّنا هو مشكلة الأسرى، ولا ندري ماذا نصنع بهم!
- ابقَ على السمع!

التفتُّ نحو محسن رضائي. أمسك محسن بسمّاعة الجهاز وقال: "اشلو، القرار بيدك، خذ القرار الذي تراه مناسبًا!".
- متى تصل القوّات إلينا يا سيّد محسن؟
- سنحاول أن يكون ذلك في أقرب فرصة!

قال مرتضى جاويدي آخر ما عنده: "سنحارب حتى آخر قطرة دم، وسنحفظ تلّة "بردزرد" حتى وصولكم!".
رسمتُ في مخيّلتي بلا اختيار صورة لوجه مرتضى وقامته. وقعت محبّته في قلبي قبل أن أراه! جلتُ في ذاكرتي فتذكّرتُ الجلسة التي سبقت عمليّات "والفجر2". في ذلك اليوم طال البحث حول المأموريّة الخاصّة التي كانت تُعتبر قلب عمليّات "والفجر 2". حينها قال السيد محسن: "نريد كتيبة شجاعة ومدرّبة تستطيع الالتفاف على العدوّ في عقر داره، والسيطرة على تلّة "بردزرد" ومضيق "دربندي خان" العراقيَّين!".

ساد الصمت الأجواء لدقائق، بعدها كسر جعفر أسدي، قائد لواء المهدي التابع لمحافظة "فارس"، الصمت. هزّ رأسه وقال: "أعلم لمن هذا الطعام؟".
 
 
 
 
 
322

311

اشلونك

 فقال محسن رضائي: "طعام!".؟


فأجاب جعفر أسدي مؤكّدًا من خلال عينيه الصغيرتين: "هذه مأموريّة كتيبة الفجر و"اشلو!". فقلنا جميعًا: "اشلو؟ ماذا تعني..؟!".

بدا لي قائد كتيبة الفجر، من خلال هذا الأخذ والردّ عبر الجهاز اللاسلكي، إنسانًا فريدًا! لقد كان لمعنوياته وصلابته بالغ الأثر بحيث بدّد كلّ شكّ وتردد ساورا القادة الأُول في مقرّ القيادة فيما يتعلّق بمواصلة عمليّات "والفجر2". على الفور عكفنا على دراسة أسباب عدم تقدّم الوحدات.

- كانت المعلومات الأوّلية عن التوغّل تفتقر إلى الدّقّة.. لقد واجهَنا مانعان: الأرض الجبليّة الوعرة، والعدوّ المستعدّ والمتمترس في الدشم المستحكمة. وأهمّ من ذلك كلّه افتقارنا إلى المعلومات الجديدة عن العدوّ. قال رحيم صفوي، مستشار محسن في العمليّات: "إنّ هذه المعركة كانت تجربتنا الأولى في المعارك الجبليّة، طبعًا إذا استثنينا عمليتي "مطلع الفجر" و"محمد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم المحدودتين، لذا فإنّ عبور الجبال حال دون استكمال العمليّات". 

أكمل محسن رضائي موضحًا على الخارطة: "لقد بات لنا مواطئ قدم عدّة على تراب العدوّ، خصوصًا في هذه الأمكنة!".

وأشار محسن بالقضيب الفضّي في يده إلى مضيق "دربندي خان"، ومرتفع "كينغ"، وعدد من المواقع المتفرّقة الأخرى في المحورين الأيسر والأيمن لـ"لحاج عمران".
 
 
 
 
323

312

قِفْ!

 قِفْ! 23/تموز/1983


عند الثانية عشرة ظهرًا لم يفصلني عن مقصدي سوى بضع تلال صغيرة، بَيد أنّ شيئًا لم يسرّني ويبعث فيّ الأمل بقدر رؤية قمّة مرتفع "قمطرة". لم أعد أحسّ بباطن قدميّ المتورّمتين حتى كأنّهما لم تعودا لي. سقطتُ على وجهي مرّات عدّة ثمّ نهضت. وسط التلّة التالية فاجأني صوت شخص عربيّ.
- قِف!

وقفتُ. على بُعد عشرة أقدام منّي وقف ضابط عراقيّ سمين بيده إبريق ماء وهو ينظر إليّ.
- الجيش الشعبي؟

اعتراني الذهول، إذ لم يسبق لي أن واجهتُ جنديًّا من العدوّ. حين لم أُجب جعل ينقّبني بعينيه من رأسي إلى أخمص قدميّ وقد ملأه الشكّ، ثمّ ثبّت نظره على قدميّ وتكلّم بضع كلمات بالعربيّة. قلت في نفسي: ماذا عساه يقول.. إنّه غير مسلّح. سأرميه بالرصاص وأولّي هاربًا.. قد يكتشف رفاقه الأمر فيلاحقوني.. . دنا منّي بضع خطوات متردّدًا. عندما دقّق النظر بي جيّدًا، ورأى هيئتي وحالي أدرك أنّي إيرانيّ. بدا لي من قَسَمات وجهه ونظراته إلى ملامحي الفتيّة وجسمي النحيف أنّه ظنّ أنّي سأكون لقمة سائغة يبتلعها بلا مضغ! أخذ يخطو وكأنّه يريد أن يبطحني أرضًا ثمّ ينزع سلاحي في أسرع فرصة. رسم على وجهه ابتسامة مصطنعة وأخذ يقترب أكثر. رفعتُ بندقيّة كلاشنكوف وأخذتُ الأقسام.
 
 
 
 
 
324

313

قِفْ!

 - لا تتحرّك!


فجلس رافعًا يديه إلى الأعلى بعد أن سقط الإبريق من يده. في هذه المرّة فهمت معاني كلماته التي أخذ يطلقها كرشق الرصاص.
- دخيل.. الخميني.. الموت لصدّام.. يا علي..

لم يطاوعني قلبي أن أضغط على الزناد من جهة، كما إنّ صوت إطلاق النار قد يسترعي انتباه العدوّ من جهة أخرى. أثبتَت التجربة أنّ المواقع العراقيّة موجودة في أعالي المرتفعات. نظرتُ بطرف عيني إلى أجمة خضراء مليئة بالأشجار أسفل التلّ، وأشرتُ ببندقيّتي نحوها.
- تعال.. اذهب.. اذهب.. إلى الأسفل..

فهّمته بلغة العيون والإشارة بأن يتّجه نحو الأشجار. اعتراه الشكّ ظنًّا منه أنّي سأطلق عليه الرصاص من الخلف.
- الله.. دخيل.. الله..

قلت: لا.. لا..

وأشرتُ بسبطانة البندقيّة إلى أسفل التلّ مجدّدًا.
- الأسفل.. اذهب..

شرع ينزل مائل الجسم وقد ملأه الارتباك والهلع. كان يرفع قدمًا ويلقي عليّ نظرة. هيكله السمين والخوف والحصى الصغيرة تحت قدميه أمور عاقت سيره. كان ينحدر مفرشِخًا كطفل لبس حفاضًا بِزِنة خمسة كيلوات. وأخيرًا انتثرت الحصى من تحت قدميه ففقد توازنه وتدحرج كالأنبوب إلى الأسفل. تناهى إلى سمعي صوت سبّه وشتمه. اغتنمتُ الفرصة وطفقتُ أركض بقدميّ الجريحتين باتّجاه "قمطرة". أثناء سيري كلّما ارتسمت في رأسي صورة ذاك العراقيّ
 
 
 
 
325

314

قِفْ!

 الجسيم وتدحرجه كنت أضحك بلا اختيار.


عند الساعة الواحدة بعد الظهر وصلتُ إلى سفح مرتفع "قمطرة". جلستُ وقبّلتُ الجبل على مرأى من شباب تعبويّين "صفر كيلومتر"، كانوا قد وصلوا حديثًا إلى المنطقة. كانت نظراتهم مليئة بالاستغراب! التفتّ إليهم قائلًا: "لو كنتم في مكاني لأكلتم الجبل!".

لدى رؤيتهم ما بدر منّي أيقن التعبويّون حديثو الوصول بأنّي أصبتُ بعصف انفجار قذيفة حتمًا. قلبوا شفاههم ومضوا في حال سبيلهم. وأوّل من واجهته كان صالح أسدي، أخا جعفر أسدي، قائد لواء المهدي.
- أين الحاج؟

جعل صالح يحملق بقامتي وهيئتي الشعثاء الغبراء. فرك عينيه وقال وقد اعتراه الذهول: "إبراهيم؟! ما الذي جاء بك إلى هنا؟!".
- وهل ظننتني شخصًا آخر؟
- ألم تكن برفقة مرتضى؟
- لقد جئت من عنده . ألا ترى؟ أين الحاج أسدي؟

عندئذ انفرجت أساريره من الغبطة كمن اكتشف البارود فقال ضاحكًا: "يعني أفلتَّ من الحصار؟".
- أجل سبَق أن ذكرت لك ذلك!

بعد ذلك أمسك بمعصمي بشدّة كمن عثر على صيد ثمين.
- هل أمسكت بلصّ يا صالح؟
- لا، بل أمسكت بالذهَب.. تعال!

أمسك بيدي وسحبني. فعلت أنّاتي من فرط التعب وآلام قدميّ.
 
 
 
 
326

315

قِفْ!

 عندما عرف صالح ذلك حملني على ظهره وقال: "كان إسماعيل محقًّا حين سمّاك إبراهيم الصغير!".

عند منتصف المرتفع ضربت على كتف صالح!
- توقّف يا سيّد صالح!
- لم نصل بعد إلى دشمة القادة. لقد أخذت مركبًا خاصًّا!
- بحياتي توقّف. عيب! أستطيع أن أسير بنفسي!

توقّف فنزلت عن ظهره.
- أشكرك يا سيّد صالح!

أمسك بيدي وكأنّه خاف أن أختفي أو أن تنشقّ الأرض فتبتلعني. ثمّ جرّني معه حتى قمّة تلّ "قمطره" دفعة واحدة. أمام دشمة مقرّ قيادة "مالك الأشتر" رأيتُ صفًّا طويلًا من الجزم الجديدة والمصبوغة. أخذ قلبي ينبض بسرعة.
- لماذا توقّفت يا إبراهيم الصغير؟
- أشعر بالخوف!
- لا تخف، لن يأكلوك.. لندخل، وسأكون إلى جانبك.
 
 
 
 
327

316

مرق اللحم والخبز المغمّس

 مرق اللحم والخبز المغمّس - 23/تموز/1983


- السلام عليكم!

أعلن صالح أسدي عن كشفه مسلّمًا على جميع قادة مقرّ "مالك الأشتر". كانت المرّة الأولى التي تتوجّه إليّ فيها وجوه وأنظار هذا العدد من قادة الجيش والحرس الثوري. أخذ الجميع يحدّق بعيون متعجّبة إلى جسدي النحيف والهزيل، وإلى وجهي المحروق المتشقّق، وإلى ثيابي البالية الرثّة، وإلى قدميّ الحافيتين المجروحتين! على أرض الدّشمة وُضِعت مائدة فاحت منها رائحة مرقِ لحمٍ ممتاز من صُنع الحرس، وعبقت في فضاء الدّشمة الصغيرة بحيث حرّكت أمعائي المتضوّرة جوعًا. علا صوت قرقرة معدتي الخاوية بحيث خشيت أن يسمعه الآخرون! لم أشتهِ في حياتي تناول مرق اللحم كما في تلك المرّة!
- أُعَرّفكم إلى المدعوّ "إبراهيم الصغير!".

تسمّرت عيناي على مرق اللحم وأوعية اللبن وعلب المشروب الغازي "كوثر"، وكان من صنع الحرس. أمّا صالح فأسرّ شيئًا في أذن أخيه جعفر أسدي ولا بدّ أنّه عرّفه عليّ. عرفت من بين الحضور "علي أكبر رحمانيان" و"خليل مطهرنيا" جيّدًا. كنت بانتظار أن يتحلّق الجميع حولي ويبدأوا باستجوابي.
- صلّوا على محمد وآل محمد!
- اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد.

كان "أسدي"، قائد اللواء هو مَن أَمر بالصلوات، ثمّ نقل كلام صالح إلى الآخرين.
 
 
 
 
 
328

317

مرق اللحم والخبز المغمّس

 - السيّد إبراهيم.. عنصر من فريق استطلاع اللواء.. حوصِر في الأيام القليلة الماضية مع كتيبة الفجر.. تمكّن الليلة الماضية من اختراق الحصار والوصول إلى هنا..


تغيّرت نظراتهم كمن رأى جنًّا. تقدّم محسن رضائي ورحيم صفوي نحوي ضاحكَين. سألني رحيم: "كيف خرجت من ذلك الحصار؟".

بصرف النظر عن الجروح والتعب المفرط، إلّا أنّ غرور المراهقة أخذ يتسلّل إلى نفسي: مَن مثلك يا إبراهيم! لا بدّ أنّ جميع هؤلاء القادة في الجيش والحرس يُكْبِرون عملك في أنفسهم.. لديّ الكثير لأقوله لهم. لم ينتظر السيد محسن رضائي جوابي، فحملني ووضعني في وسط الدّشمة.
- من المؤكّد أنّه يحمل أخبارًا مهمّة عن تلك المنطقة.
- أجل، لا تنظروا إلى صغر عمره وقصر قامته، يقول صالح: إنّه يحفظ كردستان العراق مثل راحة كفّه. 
- انظروا إلى وجهه.. قدميه الداميتين.
- كيف تمكّن من الوصول إلى هنا!
- فليحفظه الله!

اقترب علي شمخاني والعقيد صيّاد شيرازي منّي. كانت وجوه الجميع ملأى بالتساؤلات. لكنّ نظرة العقيد صياد شيرازي المختلفة شدّت انتباهي. قلت بضعف: "هل أتحدّث يا سيّد صيّاد؟".
- لا.. ليس قبل أن تأكل وتتقوّى!

قرأ ما يدور في خلدي من خلال عينيّ كأنّه أب شفيق، ثمّ قبّل وجهي من دون أن يتكلّم. أمسك بيدي وأخذني وأجلسني إلى مائدة مرق اللحم. وضع أمامي كاسة ستيل صُبّ فيه مرق اللحم، بصلة
 
 
 
 
329

318

مرق اللحم والخبز المغمّس

 بيضاء، قنينة المشروب الغازي "كوثر" وبعض الخبز. ثمّ قدّم إليّ عسكريًّا متوسّط السنّ طَلق المُحيّا: "العقيد "ناصري"، قائد "لواء 2 قوتشان"، في فرقة 77 خراسان".


مدّ العقيد ناصري يده بجدّية وشدّ على يدي وقال برصانة وحزم: "إنّني لأفتخر بجنديّ مقدام مثلك يا ولدي!".

بعد ذلك تبسّم العقيد صياد شيرازي وقال جملة واحدة: "تفضّل يا جندي مولانا صاحب الزمان!".

ثمّ قطّع العقيد بنفسه رغيف الخبز، ووضعه في وعاء مرق اللحم، وصنع خبزًا مغمّسًا بالمرق. لم أضيّع وقتًا. أحنيت رأسي وحملت الملعقة وشرعت ألتهم مرق اللحم الدهنيّ والدسم بنَهَمٍ كمن ضربتهم المجاعة في بعض البلاد الأفريقيّة. كنت أقضم البصلة البيضاء بين الفينة والأخرى.

كرعتُ المشروب الغازيّ، ثمّ رفعتُ رأسي لآخذ نفسًا وإذ بالعسكريّين وعناصر الحرس يحملقون فيّ. وكان الجالس بجانبي، قائد "لواء 2 قوتشان"، العقيد ناصري أكثرهم سرورًا بأكلي! 
- عافاك الله! ما الأخبار؟
- سلامتكم..

جُمعت المائدة بلمح البصر، وتحلّق العسكريّون والحرس من حولي ومدّوا خارطة منطقة "حاج عمران" أمامي. تذكّرت خارطة العمّ مرتضى. أدخلت يدي إلى جيب قميصي الكاكيّ وأخرجت الورقة المثنيّة. كانت الورقة مبلّلة، لكن أمكن ملاحظة الرسم والكتابة عليها. ناولتها للسيّد أسدي، قائد اللواء. سألني العقيد: "هل يمكنك التوضيح على الخارطة؟".
 
 
 
 
330

319

مرق اللحم والخبز المغمّس

 ألقيت نظرة على الخارطة. كانت كبيرة وجيّدة لكنّها لم تكن مألوفة لي. أدرك علي شمخاني الأمر فشرع يوضّح لي عليها أسماء المرتفعات، بالإضافة إلى مواقعنا ومواقع العدوّ، بدءًا من حدود "تمرجين" وصولًا إلى معسكر "حاج عمران" الواحد تلو الآخر. ما إن أنهى حديثه حتى طفقت أصدح كالبلبل موضّحًا على الخارطة بالتفصيل موقعيّة قواعد العدوّ، تلّة "بردزرد"، والتلال الأخرى التي كانت تحت سيطرة كتيبة "كميل" وسرية محمد رضا بديهي. قبّل محسن رضائي وجهي وقال: "أشكرك. لم يبقَ سوى إرسال القوّات!".

 

 

 

331


320

السلّم الحدودي

 السلّم الحدودي - 23/تموز/1983


ربّتَ محسن رضائي على كتفي داخل دشمة قيادة "مالك الأشتر".
- سيّد إبراهيم، لنصعد إلى القمّة!
- القمّة؟

فضحك.
- أريدك أن توضح لي المنطقة بالتفصيل من مرصد "قمطرة!".

عند الثالثة عصرًا دخلتُ المرصد مع محسن رضائي، كاظم حقيقت، وعدد من القادة. من الأعلى بدت جميع التلال والهضاب السُّفلى حتى عمق العراق واضحة للعيان. أحسستُ مجدّدًا أنّي محور اهتمام جميع مَن حولي! مسح كاظم حقيقت، قائد الاستطلاع، بيده على رأسي.
- إبراهيم الصغير، سمعتُ أنّك "أَثَرتَ نقْعَها!"1.

ضحكتُ وقلت: "من أكون أنا يا سيّد كاظم!".

نظر السيّد محسن نظرة خاصّة إلى كاظم حقيقت وإليّ. قرأتُ ما يدور في خلده، لا بدّ أنّه كان يفكّر في كلمة "إبراهيم الصغير". أردف كاظم قائلًا: "حسنًا يا سيّد إبراهيم، تفضّل!".

من على قمّة سلّم (برج) "قمطرة" الحدودي، وتحت سقف السّماء الصافية، أخذتُ أشير بإصبعي إلى التلال والمواقع بالدّقة.
- كتيبة الفجر مستقرّة هنا.. على تلك التلّة القصيرة، هاتان
 
 

1- مصطلح مستوفى من آية "فأثرن به نقعا"، إشارةً إلى الإقدام.
 
 
 
332

321

السلّم الحدودي

 الواقعتان على يمين تلّة "بردزرد" ويسارها.. يتعرّض الشباب فيهما للقصف.. "بديهي" يتموضع على تلك.. السيّد نجفي هناك.. المضيق يقع في هذه الجهة.. تلّة العقاب.. طريق العبور..


شرعتُ أقصّ بشغف وشوق، كالحكواتيّ في القهوة، الأحداثَ التي حصلت لشباب كتيبة الفجر طوال هذه المدّة. سأل كاظم: "كيف كان المسير الذي طويته الليلة الماضية؟".
- لم يكن فيه مشكلة، في النهار أيضًا استطعتُ السير بسهولة..

مكثتُ هنيهة ثمّ بادرتُ بالقول كمن اكتشف شيئًا للتوّ: "إن أردتم فأنا أستطيع العودة من الطريق نفسه!".

رمق محسن رضائي كاظمًا بنظرة ثاقبة.
- هذا الولد قد جُرح، وهو يعاني من سوء تغذية. ينبغي أن يذهب إلى المستشفى!
- سيّد محسن، إنّ العمّ مرتضى والشباب بانتظاري، بينما أنا أذهب للاستجمام! باستطاعتي أن آخذ فرقة من القوّات إلى تلّة "بردزرد!".
- لقد قمتَ بجُهد جبّار حتى الآن، أوكِل الأعمال الأخرى لنا!

شحذَت ابتسامة كاظم، ذاتُ المغزى، همَّتي.
- سيّد محسن، لو كان لي ألف روح فإنّني أبذلها فداءً للإسلام وللإمام! لقد وعدتُ العمّ بأن أعود!
- استرح الآن، سنحتاج إليك فيما بعد كثيرًا.
- حسنًا يا سيّد محسن، لكن اعلم أنّي إن نزلت من "قمطرة" فإنّك وقبل أن يرتدّ إليك طرْفُك ستراني على تلّة "بردزرد!". اللهم إنّي بلّغت.
 
 
 
 
333

322

السلّم الحدودي

 نظر محسن إلى "أسدي" وقد أخذه العجب من جوابي. قال أسدي ضاحكًا: "السيّد إبراهيم "صكّ مرتَجَع" في هذه العمليّات!". 


في نهاية المطاف تركوني وشأني وأخذوا يتحدّثون حول المعركة الجديدة.
- المهمّ هو أن نصل إلى كتيبة الفجر حتى يوم غد!
- نريد على الأقلّ أربع أو خمس كتائب مشحونة القوى!
- لقد استنفدنا قوى جميع الكتائب في الأيّام القليلة الماضية!

قال العقيد صيّاد: "علينا أوّلًا أن نُنزل قوّات الدّعم على تلّة "بردزرد" بواسطة المروحيّة! يجب توسعة موطئ قدمنا ثمّ زيادة المروحيّات.. لم تصِب سهامنا الهدف عن طريق البرّ حتى الآن. لقد أرسلتُ مروحيّة لاستطلاع المنطقة. إن تمّت مهمّة استطلاع المروحيّة بنجاح فمن الممكن أن نأمل خيرًا في نقل القوّات عبر المروحيّات. عليكم بالدّعاء!

قال محسن رضائي: "علينا أن نفكّر في حلّ عبر البرّ أيضًا".
- الآن، وبعد تحرير هضبة "كينغ"، فإنّ محورنا الأصليّ بات في تلك النقطة.
- يجب أن نأخذ بعين الاعتبار محورين للعمليّات، قوّة على يمين الجبهة وأخرى على شمالها. 

التفت أسدي نحو محسن رضائي وقال: "على يمين الجبهة يمضي علي أكبر رحمانيان برفقة عدد من القوّات نحو علي نجفي، ومن هناك يذهبون معًا إلى مرتضى وتلّة "بردزرد". أمّا محور اليسار..

التفت مشيرًا إلى أخيه صالح.
- يأخذ صالح الحاج "محمود ستوده" نحو هضبة "كينغ". لدينا هناك سريّة من قوّات الإسناد الناري، فيأخذون عددًا منهم ويتّجهون
 
 
 
 
 
334

323

السلّم الحدودي

 نحو مرتضى. إن سارت الأمور على خير فسيتمكّن مرتضى من الخروج من دائرة الحصار.


كان البحث حول الحلّ الأوّل حين حضر عامل الإشارة لدى العقيد صيّاد شيرازي وقال: "سيّدي، وصلَنا خبر من مقرّ المظليين والمجوقل "هوانيروز"، لقد انقطع ارتباط مروحيّة الاستطلاع مع الخطوط الخلفيّة".
- يعني ماذا حصل؟
- إمّا أنّها اصطدمت بالجبل، أو أنّه تمّ استهدافها!
 
 
 
 
335

324

المنسيّون

 المنسيّون - 23/تموز/1983


عند الغروب الكئيب جلستُ مُحتميًا بصخرة بينما شرع "خليلي" يبثّني أشجانه: "داريوش، ألم ينسونا برأيك؟".

التفتّ ونظرتُ إلى وجهه المحترق المتشقّق.
- لا تدعِ الشرّ يجد إلى قلبك منفذًا. أنا متفائل.
- غدًا إمّا أن نؤسَر أو نُقتَل.
- ما دام لدينا مرتضى فليس ثمّة ما يُحزن!

أنا نفسي كنت شبه آيسٍ، بل موقنٌ بأنّه وعند أوّل هجمة للعراقيّين فلن يكون هناك من يدافع عن التلّة ما خلا العشرة أو العشرين شخصًا المنهكي القوى. أخذ "خليلي" يحملق بصمت وذهول في الغابة الكثيفة الأشجار، والمستلقية على كتف النّهر أسفل التلّة. تمتم قائلًا: "لقد أُوصِدت جميع السبل أمامنا! أُقفِل كلّ شيء.. يقولون: اليوم سيصلون.. غدًا سيصلون، الليلة القادمة.. لقد بتنا منسيّين!".

قلقتُ على حاله وضعف معنويّاته، فقلت له: "علي، أنت حارس من حرّاس الثورة، ينبغي أن تكون أطول صبرًا وأربط جأشًا!".
- أتظنّ أنّي قلق على نفسي؟ 
- في النهاية، لكلّ شخص ظرفيّة وقدرة محدودة! أنا أيضًا قلق، لكن علينا أن نكون عونًا لمرتضى.

فتبسّم وقال: "لا تخطئ يا داريوش".
- أخطئ؟
 
 
 
 
336

325

المنسيّون

 - لست قلقًا على نفسي!


فسألته متعجّبًا: "إذًا ما الذي يقلقك؟".
- مرتضى!
- مرتضى؟
- أجل يا داريوش، من الممكن أن نقع أنا وأنت في الأسر، أمّا العمّ فإنّه لو قتل ألف مرّة فلن يسمح بأن يقع أسيرًا، هذا ما يعذّبني!

حدّقتُ في وجهه. 
- سامحني يا "خليلي!".

قبّلتُ جبهته شبه المحترقة فيما سالت الدموع من مقلتيّ.
- الظاهر أنّي لم أعرف مرتضى ولا أفراد كتيبته.

جلب انتباهي صفقات مروحيّة عراقيّة كانت تحلّق عند الغروب غير آبهةٍ ناقلةً ذخائر ومعدّات نحو الحدود. تبسّمتُ وقلت: "إنّ تردّد المروحيّة يدلّ على أنّ الشباب يحاربون لكي يصلوا إلينا! أتسمع أصوات الاشتباكات..".

قال: "أسأل الله ذلك، لكنّ العمّ نفسه قد يئس من وصول الدّعم! لقد رأيت ذلك في عينيه للمرّة الأولى بعد ظهر اليوم!".
- لقد بذل مرتضى جُهدًا أضعاف ما بذلتُ أنا وأنت! إنّ جميع أعباء العمل والمسؤوليّات ملقاة على عاتقه! إنّه متعب ليس إلّا!

وصل "عباس"، تعبويّ الكتيبة، بجرح خاصرته.
- العمّ مرتضى يطلبكما!

ألقيتُ نظرة على جسد عباس المضمّخ بالدماء. لقد غطّت الدماء الجافّة كامل خاصرته حتى صدره. قلت له: "لماذا خرجت من دشمة
 
 
 
 
337

326

المنسيّون

 الجرحى؟".

- وهل هذا وقت الاستراحة. العمّ يريد عامل الإشارة (الاتصالات)!

وقع نظري على جهاز "جليل حمامي" اللاسلكيّ الذي حمله عباس على ظهره.

التفتُّ إلى علي خليلي قائلًا: "لا بدّ أنّ أمرًا ما قد حدث!".

ابتلع عليٌّ ريقه. ارتجف وقال: "الأسرى..".

كان كمن يُساق إلى القتل. جعلت ركبتاه ترتعشان. قلت: "لنذهب معًا ونرَ ما الأمر!".

انحدرنا نحو الأسفل. كانت التلّة لا تزال ترزح تحت نيران العراقيّين المتفرّقة. عند إطلاق الرصاص الثقيل علينا كنت أنحني، ما ألبث أن أنهض وأواصل سيري. فجأة ظهر أمامي "كريم الأبرص" وعلى ظهره حقيبة ظهر مليئة بقذائف الـ (B7). أومأ بيده وهمّ بمواصلة سيره وإذ برصاصة بندقيّة قناصة "سيمنوف" تصفر لتستقرّ في ظهره وترميه أرضًا، وفي لمح البصر اشتعلت فتائل قذائف الـ (B7)، وتوقّدت النار فيها قبل أن نستفيق من ذهولنا. كانت صيحة "كريم" المؤلمة كفيلة لإيصال الألم إلى أعماق كياني! نهض وسار بضعة أمتار ثمّ خرّ على الأرض بلا حراك. وصلتُ إليه بسرعة وأطفأتُ النار على ظهره مستعينًا بيديّ، وبالتراب، وبالبطانيّة التي أحضرها عليّ. لكنّه كان قد استشهد. قلت في نفسي: كيف سأخبر العمّ.. يجب أن لا أخبره..

دخلتُ دشمة مرتضى برفقة عليّ. ما إن رآنا حتّى رفع سبّابته إلى الأعلى وقال بحزم وجزم: "أمامكما طريقان، إمّا الذي أقوله لكما أو الذي تختارانه بنفسيكما!".

كان قد تغيّر! نظرتُ إلى وجهه المحروق. لقد كان لمعنويّاته العالية
 
 
 
 
338

327

المنسيّون

 وهمّته المشحوذة وقع مباشر عليّ، بحيث فرّ الضيق والعطش من روحي وجسمي دفعة واحدة.

- كُلّي آذان صاغية يا عمّ!
- لقد تحدّثتُ عبر الجهاز اللاسلكي مع السيّد محسن، وقال: مرتضى، الإمام الخميني مطّلع على مشكلة حصاركم، وهو يعلم ماذا يمرّ على كتيبة الفجر.. لقد قال الإمام شخصيًّا للسيّد محسن: لن أنام الليلة بل سأدعو لكم، اثبتوا..

لمحتُ دموع مرتضى تحت ضوء المصباح. ذرفتُ و"خليلي" دموع الشوق. مسح مرتضى دمع عينيه.
- قلتُ للسيّد محسن نيابة عنّي وعنكم: أوصل سلامنا إلى الإمام الخميني وقل له إنّ كتيبة الفجر لن تسمح بأن تتكرّر وقعة أُحُد ثانيةً! 

أنزل سبّابته.
- هذا قرار بين كتيبة الفجر والإمام الخميني! إمّا أن تقفوا وتحاربوا حتّى آخر قطرة دم، أو أن تفعلوا ما يحلو لكم. بلّغوا هذه الرسالة لكلّ من بقي حيًّا!

كانت معنويّات مرتضى وما نقله عن الإمام الخميني بمنزلة دم غضٍّ جرى في شرياني. وغدوت نشيطًا وحيويًّا تمامًا كما في ليالي العمليّات.

قفزتُ أنا وعلي إلى خارج الدّشمة بخفّة ورشاقة. تعثّرت أثناء المسير، لكنّي وعند سقوط القذائف لم أكن أتمدّد على الأرض، وبدا أنّي أصبحتُ كالسّكارى.
 
 
 
 
339

328

جيش العشرين مليونًا

 جيش العشرين مليونًا - 23/تموز/1983


- هل تقدر أن تعبر بسريّة من قوّاتنا وسط العراقيّين، وتصل إلى مرتضى؟

حدّقتُ بعينين متّسعتين في وجه "جعفر أسدي" المستدير النحيل، وقلتُ وقد غمرني السرور والغبطة: "أعبر بسريّة، هذا مضمون، بل أستطيع أن أعبر بجيش من عشرين مليون تعبويّ!".

كدت أطير فرحًا وكأنّ اسمي فاز بقرعة جائزة الدخول إلى الجنّة.
- لستَ متعبًا يا سيّد إبراهيم، أليس كذلك!
- لا يا حاج أسدي!

رأيت الإكبار في عيني قائد اللواء، ما رفع من أمواج زهوي وأنفتي. أدركتُ من كلام القائد ومَن حولَه أنّ المشكلة الأصليّة تكمن في أنّ القوّات الجديدة ليس لها وجود واقعيّ.
- إننا مضطرّون إلى الاستفادة مِمَّن بقي من قوّات الكتائب الموجودة على الجبهة!
- معظم عناصرنا سقطوا بين شهيد وجريح، أمّا البقيّة فهم متعبون. لقد شنّوا في الأيّام القليلة الماضية هجمات عدة على خطوط العدوّ.
- لا حيلة لنا. خليل مطهرنيا، رتّبْ أوضاع من بقي من كتيبة "أبي ذر"، وتقدّم بهم من الجهة اليسرى للجبهة!

التفت القائد "أسدي" قائلًا لمحمود ستوده: "أمّا أنت، فاذهب برفقة صالح والسيّد إبراهيم باتّجاه تلّة "كينغ"، وهناك تحدّث إلى قوّات
 
 
 
 
340

329

جيش العشرين مليونًا

 كتيبة "أمير المؤمنين" عليه السلام. واصطحب المتطوّعين منهم وتتحرّكوا من الجهة اليمنى باتّجاه مرتضى! كونوا على تلّة "كينغ" عند الغروب. 


قال صالح: "الآن عرفتُ لماذا يسمّون هذه التلّة بـالملكة".

قلت: "الملكة!".
- "كينغ" تعني بالكرديّة: الملكة! وهذه التلّة تعتبر "الملكة" بالنسبة إلى بقيّة التلال!

سرتُ خلف صالح نحو محمود ستوده. كان "رضا"، القائد المؤقّت للكتيبة قد أخرج جميع العناصر، أصحّاءَ وجرحى، من دشمة الاستراحة. كان عددهم لا يزيد عن خمسين شخصًا. حين نظرتُ إلى ظاهرهم الذي يُرثى له أدركتُ على الفور أنّ أوضاعهم لا تقلّ سوءًا عن أوضاع شباب كتيبة الفجر! همستُ في أذن صالح قائلًا: "إنّ هؤلاء الذين أراهم يجب أن يُستَبدلوا بقوّات جديدة ويذهبوا للاستراحة!".

ضحك صالح بمرارة وقال: "يا ذكيّ، لو كان هناك قوّة جديدة في اللواء لتوجّهنا بها إلى مرتضى!".
- يعني أننا لن نحصل على أي مساعدة أو أي قوات دعم!
- بالضبط! هؤلاء يعتقدون أنّنا سنرسلهم إلى الخطوط الخلفيّة للاستراحة.

شمختُ في أنفي أكثر، وأثنيتُ على نفسي قائلًا: إبراهيم، سَلِمَتْ يداك، فأنت لا تعرف التّعب.. لقد فِقتَ كثيرًا من هؤلاء الذين يكبرونك سنًّا.. أستطيع أن أصبح غدًا قائدًا كالعمّ مرتضى!
سار محمود ستوده بهيئته الغبراء نحو صندوق الذخيرة، ووقف بحيث يراه العناصر المستقرّون داخل الدّشم أيضًا.

- عافاكم الله.. ما برحتم تصدّون هجمات العدوّ المضادّة لأيّام
 
 
 
 
 
341

330

جيش العشرين مليونًا

 عدّة.. ولقد بذلتم أكثر ممّا بوسعكم حتّى الآن.. لا بدّ أنّكم تعلمون أنّ العمّ مرتضى وشباب كتيبة الفجر محاصرون من قِبل العدوّ منذ أربعة أو خمسة أيّام بلا ماء ولا طعام، وقد قضى معظمهم شهداء مظلومين. لكنّهم يقاومون بكلّ صلابة وعزيمة متأسّين بالإمام الحسين عليه السلام.. إنّ المسافة الفاصلة بين تلّة "كينغ" وموقع مرتضى، وبالتالي فكّ الحصار عنه، هي نداء "يا حسين" مرّة أخرى.. كلّ من لديه القدرة على المجيء لفكّ الحصار عنهم، فلينادِ: يا حسين..


ما إن أنهى محمود ستوده كلامه حتى ساد سكوت ثقيل أجواء التلّة. وقبل أن أبادر بعرض عضلاتي علا أوّل نداء "يا حسين" من فتى يصغرني سنًّا، وفي غضون ثوانٍ معدودة دوَّت في سماء التلّة صرخات "يا حسين" من جميع عناصر الحرس والتعبئة الخمسين!
- حاضرون لبذل المُهَج لأجل العمّ مرتضى.

هبطت تردّدات أمواج زهوي وخيلائي دفعة واحدة وخرجتْ أوّلًا من جسمي، ما لبثتْ أن طفرتْ بضع كلمات من فمي بلا اختيار: "خسِئتَ يا إبراهيم!".

قال صالح متعجّبًا: "هل كنت تكلّمني يا إبراهيم؟".

قلت بحدّة: "كلّا كنت أتكلّم مع إبراهيم!".
- مع إبراهيم؟!
- أجل، مع إبراهيم!

نظر إليّ صالح محملقًا، وقلب شفته ظنًّا منه، على ما يبدو، أنّي تحت تأثير عصف انفجار. في المقلب الآخر كأنّ القيامة قد قامت، إذ أخذ الصحيح منهم والجريح يعدّ العدّة لمرافقتنا. 

علا صوت القائد "رضا": "إلى أين؟ ما الخطب.. ارجع إلى مكانك..".
 
 
 
 
 
342

331

جيش العشرين مليونًا

 خرج عناصر قوّات الإسناد أيضًا من الدّشم. صاح رضا قائلًا: "يا أخي، لماذا تركتَ دشمتك؟".

- أنت إلى أين.. لم يبقَ دم في جسدك.. هاي، يا هذا.. لقد التهب جرحك.. لا إله إلّا الله.. ما هذا البلاء الذي حلّ بنا! حاج "ستوده!". لقد أفسدتَ الأمر، تفضّل وأصلحه بنفسك!

في النهاية تدخّل "ستوده".
- أحتاج إلى ثلاثين شخصًا بالحدّ الأقصى.
- لا يا حاج، جميعنا يريد أن يذهب!
- انظروا يا إخوان، هكذا سنخسر "كينغ" أيضًا ونقع في الحصار.. أريد ثلاثين شخصًا بالحدّ الأقصى.. أمامنا مسير طويل وخطير ليلًا.. بناءً عليه، فليبقَ الجرحى على التلّة، وليرافقنا المتطوّعون الأصحّاء..
 
 
 
 
343

332

المجزرة

 المجزرة - 23/تموز/1983


مساءً انحدرنا من تلّة "كينغ" نحو الأراضي العراقيّة يرافقنا خمسة بغال تحمل الذخائر والطّعام. كنتُ مع صالح في مقدّمة الرّتل، فيما جعل محمود ستوده يتنقّل بين العناصر البالغ عددهم ثلاثين ونيّفًا، حاملًا بندقيّة كلاشنكوف قابلة للطيّ.
- إبراهيم، كم كيلومترًا يفصلنا عن قرية "زيلو"؟
- سبعة أو ثمانية كيلومترات!
- إنّ نقطة التحاقنا بكتيبة "أبو ذر" هي قرية "زيلو".
- يا حاج، إن لم تواجهنا مشكلة فسأوصلكم، إن شاء الله، خلال ساعتين أو ثلاث.

كنت أنتعل حذاءً كتانيًّا صينيّ الصنع، ولا أزال منزعجًا من جروح قدميّ. أخذتُ أمضي قُدمًا يدفعني شوق الوصول إلى كتيبة الفجر. اجتزنا مرتفعين صغيرين ثم أطراف غابة الصنوبر، حتى وصلتُ بالكتيبة إلى قاعدتين صغيرتين للعدوّ، لا تبعُدان كثيرًا عن مرتفع "كينغ". أعطى محمود ستوده أمرًا بالتوقّف.
- يا شباب، علينا أن نسيطر على هاتين القاعدتين.. استعدّوا..

انقسمنا إلى مجموعتين، صعدتُ بالمجموعة الأولى، فيما قاد صالح المجموعة الأخرى بالاتّجاه المعاكس. كان من المقرّر أن نشتبك مع العدوّ على المرتفع ثمّ ننضمّ ثانية. غير أنّنا حين دخلنا القاعدتين وجدنا أنّ العراقيّين قد أخلوهما ولاذوا بالفرار. قال صالح: "إن سارت الأمور على هذا المنوال فهو أمر جيّد!".

قال محمود: "لقد رأونا وظنّوا أنّه الهجوم الأخير.. فخافوا وأخلوا
 
 
 
 
 
344

333

المجزرة

 القاعدة".


أبلغنا الخطوط الخلفيّة، عبر جهاز اللاسلكي، خبرَ تحرير القاعدتين بغية إرسال قوّات تستقرّ فيهما.

وصلنا إلى جُرف عَصيّ على العبور. ما إن همّ الحمار الأوّل بالعبور حتى سقط في الوادي. فما كان منّا إلّا أن أخلينا سبيل الحمير الأربعة المسكينة، واضطررنا إلى تقسيم الذخيرة والمؤونة بين الشباب بُغية حملها.. اشتدّت كثافة إطلاق النّار من جهة كتيبة "أبو ذر"، وفي غضون وقت قصير اجتاحت المروحيّات العراقيّة سماء المنطقة، وأخذت تطلق قنابل مضيئة عنقوديّة. بات شغلنا الشاغل، أثناء المسير، النّظر إلى القنابل المضيئة والرصاص الخفيف والثقيل المتطاير من كلّ حدب وصوب. كان أزيز الرصاص وأصوات قذائف المدفعيّة يتناهى إلى أسماعنا من كلّ أطراف المنطقة الجبليّة.

أبلغنا عاملُ إشارة السريّة بخبر مفاده أنّ كتيبة "أبو ذر" تسير بموازاتنا من الجهة الأخرى من الجبهة، وهي تتقدّم نحو قرية "زيلو" بعد أن تمكّنت من إفشال عدّة كمائن للعدوّ.

في نهاية المطاف، وبالرّغم من مقاومة بسيطة أبداها العراقيّون، وصلنا إلى قرية "زيلو" عند الساعة العاشرة ليلًا، والتحقنا بكتيبة "أبو ذر". تمّ الإعلان عبر جهاز اللاسلكي، عن انتهاء المرحلة الأولى من التوغّل، وقد بات الطريق مفتوحًا من أجل نقل قوّات الدّعم عبر المروحيّات، وبالتالي توسعة وجهة العمليّات. لم يكن سير المرحلة الثانية بسهولة المرحلة الأولى، حيث أخذ العراقيّون المستقرّون في الوادي المقابل و"حديقة موتورى" يظهرون مقاومة شرسة.

أطلّت أوّل مروحيّة "شنوك"، تابعة للقوّات المجوقلة الإيرانيّة "هوانيروز". صاح صالح قائلًا: "ستُرتَكَب مجزرة بحقّهم جميعًا!".

قلت: "ولكن ماذا حدث يا صالح؟".
 
 
 
 
345

334

المجزرة

 فصفّى صوته ثم صاح ثانية: "إنّ القبطان قليل الخبرة ينزل القوّات داخل الوادي!".


ضرب محمود ستوده على كتف صالح: لعلّه قبطان شجاع!

أخذ رصاص الخطّاط الأحمر والبرتقالي، المتقطّع والمتواصل، يتساقط على محيط وأطراف المروحيّة ويصدر صوتًا!

تحت نور قنابل العدوّ المضيئة أنزلت المروحية قوّات التعبئة والحرس سريعًا، ثمّ طارت بعيدًا! ضرب محمود على كتفي وأشار إلى القوّات المنزَلة من المروحيّة.
- إبراهيم الصغير، هل تعرف الوادي؟
- مثل باحة منزلنا!
- علينا إنقاذهم، وإلّا فسيحصد الرشّاش العراقيّ الثقيل أرواحهم جميعًا!

وقبل أن ينهي محمود كلامه بدأ الرشّاش العراقيّ المستقرّ على مرتفعات "حديقة موتورى" بإطلاق النار.
- صالح، ساعده أنت أيضًا!

وصلنا أنا وصالح بسرعة إلى العناصر المنزَلة من المروحيّة. صاح صالح بعنصر من الحرس طويل القامة وكان قائدهم: "قوّات أيّ منطقة أنتم؟".
- فرقة "8النجف" - أصفهان.
- لماذا ترجّلتم هنا؟!

كان الليل قد انتصف، وكانت عيناي تراقبان بخار أنفاس هذين الاثنين. أخذ الشابّ الأصفهاني ينظر إلى صالح وقد اعترته الدهشة، ولعلّه كان يفكّر في نفسه: من هو هذا الرجل الذي يصيح بنا في خضمّ المعركة؟! وبعد برهة ضمّ أصابعه الأربعة إلى باطن كفّه وأخذ يشير مرارًا بإبهامه إلى السماء المليئة بالقنابل المضيئة.
 
 
 
 
 
346

335

المجزرة

 - يا أخي، لقد قال القبطان إنّه لا يستطيع أن يحطّ في مكان آخر!


التفت صالح نحوي.
- علينا أن نقسّمهم إلى فرَق ونعبر بهم الوادي على دفعات.. وإلّا فلن يبقى أحد منهم سالمًا!

كان الوادي محورًا قد تردّدتُ فيه مرّات عدّة خلال مأموريّات الاستطلاع! قال محمود لعنصر الحرس الأصفهانيّ المتحمّس، والذي كان الشكّ بنا لا يزال يساوره: "التزموا بالدّقة أوامر..".

أشار صالح أسدي إليّ وتابع كلام محمود.
- هذا الأخ، وإلّا لن ينجو أحد منكم بنفسه!

تحت وطأة نيران الرشّاش العراقيّ الثقيل تبدّلت شكوك عنصر الحرس الأصفهاني إلى يقين.

حين عبرتُ بالدفعة الأولى من المحور المحاذي للوادي اكتشفني الرشّاش الثقيل وشرع بإطلاق النيران. استغرق الأمر ساعة حتى تمكّنت، بعد جُهد جهيد، من إيصال السريّة إلى جادّة "دربندي خان" المعبّدة. تقدّم قائد السرية الشابُّ وقال لمحمود ستوده: "أشكرك يا أخي، علينا أن نتموضع فوق الجادّة!".

تغيّرت ملامح وجه محمود من الدّهشة.
- تذهبون؟! إلى أين؟! عليكم أن تساعدونا!
- بماذا نساعد يا أخي؟

أشار محمود إلى الغابة الخضراء والوِهاد الرماديّة المواجهة لنا والتي يلفّها الغموض.
- يجب أن نسيطر على تلك التلال بغية فكّ الحصار عن التلّة الأصليّة التي تستقرّ عليها قوّاتنا!
- يا أخي، لم أتلقَّ مثل هذا الأمر!
 
 
 
 
 
347

336

المجزرة

 - ماذا تعني؟

- اسمع يا أخي، أشكرك على أنّك أنقذت حياتنا، لكننا جئنا لتأمين الجادّة!

ضرب "ستوده" رجله بالأرض بعصبيّة.
- ولكنّ هذه الجادة لا تحتاج إلى تأمين!! وبالمناسبة لقد كنّا نقف عليها قبل مجيئكم!
- اسمع يا أخا شيراز، أنا لا أتلقّى الأوامر منك، كما إنّني على علم بوظيفتي جيّدًا!

ساند صالح محمودًا وصاح بالشابّ: "نقول لك: إنّه "تَيس"، وتقول لنا: احلبه! أيّها الأخ الأصفهاني، إنْ أسفر الصّبح ولم نحرّر تلك التلّة والقواعد المجاورة، فغدًا سيكون مصيرنا جميعًا القتل ولن يعود هناك حاجة لتأمين الجادّة!".
- أنا أعرف وظيفتي جيّدًا يا أخي!

لم يُجْدِ الجدال مع القائد الأصفهاني الشابّ نفعًا، ولو دام حتى الصباح. صاح محمود معنّفًا: "ابقَ هنا حتّى الصبح!".

ثمّ التفت محمود إلى صالح وقال: "يا أخي، إنّ الاشتباك مع هذا الأصفهانيّ أصعب من الاشتباك مع العراقيّين! دعه يفعل ما يحلو له! هيّا بنا لنذهب!".

وصل خليل مطهّرنيا على رأس ثلاث فصائل من القوّات. تقرّر أن نتحرّك مع العناصر الثلاثين من كتيبة "أمير المؤمنين" عليه السلام ومجموعات قوّات كتيبة "أبو ذر" نحو تلّة "بردزرد". كنتُ أنا الدليل مجدّدًا فقلت: "علينا أوّلًا إخراج سرية محمد رضا بديهي من الحصار!".
 
 
 
 
 
348

337

فسبّح باسم ربك العظيم

 فسبّح باسم ربك العظيم - 23/تموز/1983


ليلًا وضعنا أجساد الشهداء في دشمة كبيرة قرب ملعب الـ(فولي بول) التابع للجيش العراقي. بعد ذلك أخلينا التلّة المجاورة لتلة "بردزرد" مع مجموعة من الجرحى ثم انحدرنا باتجاه تلّة "بردزرد" .

وصلنا بهدوء وطمأنينة إلى أطراف الطريق المعبّدة بعد أن عبرنا المنخفض الجميل الواقع بين التلّتين الصغيرتين، ما لبثنا أن انقسمنا إلى رتلين. سار محمد رضا بديهي خلف أحدهما وسرتُ أنا في الأمام. 

بينما كنت مشغول الذهن أنظر إلى المضيق المقابل وإذ بقذيفة دبّابة تسقط وسط الرتل، فضربني عصفُ انفجارها كالصاعقة ليرفعني ويرميني بضعة أمتار بعيدًا!

عَلَت الأنّات والصيحات! هاج جمعنا ودبّ فينا القلق والاضطراب. أخذت أدير رأسي بارتباك يمنة ويسرة فيما تناهى إلى سمعي أصواتٌ مرعبة تُقَشْعِر الأبدان!
- آه .. إنني أحترق! 
- آه.. لم أعد أرى شيئًا!

بعد ذلك سمعت أزيز زخّات الرصاص المنهمر فوق رأسي وأنّات عدد من الأفراد ما لبثوا أن سقطوا على الأرض. عندما خفّت حدّة النيران تفحّصت جسمي فوجدتُ أنّ كتفي قد أصيب بجرح سرعان ما أحسستُ بألمه. وبعدما انجلى الدخان والغبار سمعت صوت محمد رضا: "يا نوذري إنّها دبابة! هناك دبابة مستقرة في ذلك المضيق!".

نظرت إلى المضيق المقابل فإذا بها دبابة عراقية من نوع "ت72"
 
 
 
 
349

338

فسبّح باسم ربك العظيم

 أخذت ترمينا بقذائفها بفواصل زمنيّة غير منتظمة.


بدَت ملامح القلق والحيرة جليّة على الوجوه. نهضت من مكاني ولم يمنعني ذلك الألمُ الشديد الذي كنت أشعر به في مرفقي. عاينت الأوضاع عن كثب لأجد أنّ أربعة شهداء لنا قد سقطوا بالإضافة إلى ستة جرحى. أما الرتل المنتظم والمرصوص فبات أشتاتًا! شعرت بالحزن والغم يطبقان على صدري وبالغصّة في حلقي. لجأت إلى حفرة واختبأت فيها فوجدت محمد رضا بديهي وقد أصيب بشظيّة في ساقه فكُسِرت. شددت جرحه وقبّلت وجهه قائلًا: "سيكون كل شيء على ما يرام".

كان العرق يتماوج على وجهه المجلّل بالتراب! ابتلع محمد رضا ريقه متألّمًا ثمّ أشار بإصبعه إلى منخفض (أخدود) في الأرض وهو يقول: "يا نوذري، علينا أن ندخل جميعًا في ذلك الأخدود".

صرخت قائلًا: "الجميع إلى الأخدود. احملوا معكم الجرحى والشهداء!".

تحت نيران قذائف تلك الدبابة قُدتُ أفراد المجموعة إلى داخل المنخفض. وفي غضون وقت قصير استشهد ثلاثة من عناصرنا متأثرين بجراحهم! كان التعب والجوع قد أخذا من الجميع مأخذًا عظيمًا. ناهيك عن أنّات ضعيفة كانت تصدر من الجرحى لتزيد تلك الليلة الباردة والمظلمة غربةً ووحشة!
- تُرى أنرى العمّ مرتضى ثانية؟
- تحلّوا بالأمل.. ألا تسمعون أصوات المواجهات!
- لا بدّ أنّ شبابنا قد شنّوا هجومًا آخر واستطاعوا أن يتقدّموا.

سيطرت سحابة من اليأس والاضطراب على الأجواء. وما بين
 
 
 
 
 
350

339

فسبّح باسم ربك العظيم

 الحلم واليقظة أذهلني صوت آيات من القرآن الكريم: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ... أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾.


شرع أحدهم يرتّل آيات سورة الواقعة بحرقة ولوعة!
﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾.

وتمتم محمد رضا بديهي قائلًا: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.

تذكّرت أننا لم نتمكّن من قراءة سورة الواقعة في هذه الليالي الأخيرة بسبب انشغالنا بالمواجهات.
﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾.

التصقتُ بمحمد رضا الذي أغمض جفونه فيما أخذ يرتّل آيات القرآن تحت الضوء الخافت للقنابل المضيئة: ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ﴾.

تبدّد الخوف والاضطراب وأخذت أصوات تلاوة القرآن تعلو شيئًا فشيئًا كترانيم فرقة الإنشاد.

فسلام لك من أصحاب اليمين?
كأنّ واقعة من نوع آخر قد وقعت! سرعان ما انقشعت سحابة اليأس والظلمة ليحلّ محلّها النشاط والأمل!
﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّين﴾.

فجأة سمعت صوت إطلاق رصاص ثم انهمر رصاص رشاشات مصدره تلة "بردزرد" أُطلِق باتجاه المضيق والطريق المعبّدة.
 
 
 
 
 
351

340

فسبّح باسم ربك العظيم

 ﴿فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾.


تلاها انفجار أضاء نوره عتمة ذلك الليل.
﴿وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾.

وإذا بها سيارة للعدو تشتعل بالنيران على الطريق!
﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾.

أخذت الذخائر الموجودة داخل السيارة تنفجر وتتطاير منها شعلات النار في كل اتجاه وكأنها ألعاب نارية أضاءت ليلة العيد!
﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾.

قرابة منتصف الليل صحوت من غفوتي القصيرة على صوتٍ ما. نظرت إلى من كان حولي وكانوا لا يزالون يتحدّثون عن سيارة العدوّ المحترقة، فقلت لهم محذّرًا: "هس!".

زحفت داخل الأخدود نحو الأمام. نظرت إلى الطريق المعبّدة التي كانت تبعد عنّا حوالي أربعمئة متر ودقّقت سمعي فرأيت من خلال وميض النار المشتعلة في سيارة العدو مجموعة كبيرة من الجنود تتقدّم من أطراف الطريق باتّجاهنا. 

قلت في نفسي: "ليرحمنا الله، لقد انتهى أمرنا!".

ناديت بصوت خافت "عبد الصاحب إمامي" ابن بلدة "داراب" فحضر عندي بلمح البصر فقلت له: "تقدّم واستطلع الأمر".

وسرعان ما عاد عبد الصاحب فرحًا.
- إنّهم أفراد فرقة "8النجف"!

تنفّست الصعداء. ناداني محمد رضا فذهبت إليه.
- تحت أمرك.
 
 
 
 
 
 
352

341

فسبّح باسم ربك العظيم

 أشار محمد رضا إلى عنق (حرف) التلّة المجاورة.

- لقد سمعتُ صوت الحاج محمود ينبعث من هناك.
- أتقصد الحاج محمود ستوده؟!
- أجل، أظنّ أن ثمّة أمرًا غريبًا يحدث. كن حذرًا!

سرتُ و"عبد الصاحب إمامي" نحو عنق التلة واختبأنا. تناهى إلى سمعي صوت جهاز لاسلكي. تقدّمت باتجاه الصوت. لقد كان محمود ستوده يتحدّث عبر جهاز اللاسلكي قائلًا: "يا حاج أسدي، إننا موجودون في القاعدة، لكن ليس لدينا خبر عن أفراد مجموعة كتيبة الفجر. لم نجد سوى جثث بعض الشهداء! هل هذا مفهوم؟".

ناديت بفرح شديد: "يا حاج ستوده، أنا فضل الله نوذري".

وصل إليّ محمود وقال متعجّبًا: "عافاكم الله! أين الآخرون؟".

- لم يبقَ من كتيبتنا سوى ثلاثين عنصرًا.

ثم أشرت بيدي إلى تلّة بردزرد قائلًا: "إنّ العم مرتضى محاصر بشدّة، علينا أن نذهب لمساعدته".

فقال: "أرسل الشهداء والجرحى نحو الخلف وليأتِ الآخرون معي!".
 
 
 
 
353

342

ثمانية عشر جسدًا

 ثمانية عشر جسدًا - 24/تموز/1983


كان الليل قد انتصف عندما هزّ رحيم نعيمي كتفيّ فالتفتُّ نحوه لأراه يحرّك يديه وشفتيه كالصمّ البكم من دون أن يصدر منه صوت. تبسّمت وقلت له: "هل أصابك عصف انفجار ما؟! دعك من هذا المزاح!".

لكنّه كرّر حركاته وأشار إلى أذني، فعرفت أنّ المشكلة من قِبلي. أدخلت إصبعيّ في أذنيّ وحرّكتهما ثم شهقت شهقات قصيرة متكرّرة. أخيرًا تمكّنت من سماع صوت رحيم بصعوبة يقول: "انهض يا داريوش! إنّ مرتضى وأفراد مجموعة الاستطلاع يطلبونك في أمر".

كنت قد أدركت من طبيعة المواجهات التي دارت في الساعات الأخيرة أنّ الأمور قد تغيّرت وأنّ خطّ الدفاع في "تمرتشين" قد انكسر. بالإضافة إلى أنّ مدفعيّة لواء "المهدي" ونيران رشّاشاته تركّزت على "حديقة موتورى" التابعة للعدو والتلال المحيطة بها.

انطلقت برفقة رحيم نعيمي وعلي خليلي - الذي لم يعد يشغل باله أمر الأسرى - نحو دشمة العمّ مرتضى. وعندما اقتربنا من تلك الدشمة تراءى لي من خلال الضوء الخافت عددٌ من الأشخاص وقد أحاطوا بالعم مرتضى. أعطيت إشارة لرحيم وعلي وقلت لهما فزعًا: "إنّهم جنود عراقيّون.. انبطحا أرضًا!".

ثمّ انبطحت على الأرض وقلت: "لقد أمسكوا بمرتضى وأجبروه أن ينادينا حتى يتمكنوا من الإمساك بنا الواحد تلو الآخر!".

قال رحيم بصوت خافت: "سيد داريوش، يبدو أنّك لم تعرف
 
 
 
 
354

343

ثمانية عشر جسدًا

 مرتضى جيّدًا!".

- إذًا من هؤلاء الذين أحاطوا به؟!
- ولنفرض أنّه وقع أسيرًا، ليس بإمكاننا فعل شيء الآن. هيا بنا نقترب منهم.
- لا..

لم أكد أكمل كلامي حتى علا صوت رحيم يقول فرحًا: "يا إلهي، إنّهم شبابنا! وهذا إبراهيم الزمكّ!".

نهضتُ وقفزت باتّجاه حلقتهم. عرفت منهم "فرامرز كهر" و"محمود ستوده" الذي لم يكن يفارق العم مرتضى. كما رأيت سرية جديدة بالإضافة إلى سرية محمد رضا بديهي. كدت أطير فرحًا! ألقيت السلام على الجميع كرارًا وحضنتهم فردًا فردًا، سواء أكنت على معرفة شخصية بهم أم لم أكن. انهالت قبلاتي على "إبراهيم كاركر" ذلك الفتى اليافع من قرية "جهرم". تهيّأ لي لبرهة أنّ عملنا قد انتهى وأنّهم سيحضرون منصّة لنجلس عليها، ثم يأتي الخدم والحشم بما لذّ وطاب. بعد ذلك تُعلَّق على صدورنا أوسمة الفخر!
- يا سلمان، هلمّ إليّ!

صحوت من تلك التهيّؤات مذهولًا على صوت العم مرتضى.
- سلمان، ذاك هو طريق العبور إلى تلك التلة.

قالها مشيرًا إلى القمّة الشرقيّة لتلّة "بردزرد". 
- أرشِد صالحًا إلى نقطة العبور حتى يتمكّن من السيطرة على التلّة.

لم يكن مرتضى يعرف للتعب معنى، وهذا يعني أنّ الخدم والحشم وما لذّ وطاب وأوسمة الافتخار و.. كلها كانت سرابًا محضًا!
 
 
 
 
 
355

344

ثمانية عشر جسدًا

 أجبت مرتضى: "على عيني". وعلى الفور توجّهتُ وأفراد السريّة الجديدة من النقطة التي أعرفها نحو قمّة التلة التي كانت خارج سيطرتنا منذ بداية المعارك. مع التكبير بدأنا الهجوم واستطعنا السيطرة على القمة خلال خمس عشرة دقيقة. اضطر معظم قوّات العدو إلى الهروب والتراجع نحو "حديقة موتوري". وسرعان ما تحرّرت تلّة "بردزرد" بالكامل.


تذكّرت "سالار" فخنقتني الغصّة. ليتني استطعت أن أمنعه.. ترى ماذا يجري عليه في الأسر؟!

أمضينا ليلتنا أيقاظًا بانتظار توقّف رشقات الدوشكا المتقطّعة للعدو العراقي. ومع وصول مجموعات أخرى من قوّاتنا لتساندنا من الجهات الأخرى توقّفت الدوشكا عن الرمي.

عند بزوغ ضوء الصباح أشار رحيم نعيمي إلى الطريق المعبّدة قائلًا: "انظر هناك يا داريوش. سيارة "تويوتا" تابعة لنا تتّجه مباشرة نحو العراقيّين!".!

أخذت السيارة المزوّدة بالعلم الإيراني وبمكبّر صوت يبثّ الموسيقى العسكرية الثوريّة تشقّ طريقها بسرعة فائقة نحو "حديقة موتورى" التابعة للعدو. صرخت قائلًا: "علينا أن نوقفهم!".
- كيف؟؟
- نطلق النار.

حملت رشاش غرينيف ، جلست ثم أطلقت من أعلى التلّة رصاصات تحذيرية أمام السيارة لعلّها تتوقف. لكنّ طاقمها مضوا قُدُمًا وقد أخذتهم نشوة النصر الذي حقّقناه.
- لا فائدة يا داريوش!
 
 
 
 
356

345

ثمانية عشر جسدًا

 - أستحلفك بأبيك أن لا تنادني بداريوش!!


لم يكن بيدي حيلة. رميتُ الرشاش أرضًا من شدّة غضبي وانتظرتُ حدوث معجزة ما. أكملت السيارة سيرها نحو الحديقة التي لم تكن تحت سيطرتنا بشكل كامل. في الأثناء ظهر عدد من الجنود العراقيين من خلف الحديقة وسدّوا الطريق، فتوقّفت السيارة بشكل مفاجئ. قال نعيمي: "هل سيقتلونهم؟!".
- الأمر بيد الله.

شرعت أقرأ كل ما حفظت من الأدعية، فيما تقدّم العراقيّون من السيارة وأنزلوا أفرادها الثلاثة الذين كانوا يرتدون بزّات كاكيّة اللون، وجعلوا يضربونهم بأسفل بنادقهم وأجبروهم على الانبطاح.
- سوف يقتلونهم! أطلق النار على العراقيين يا داريوش.
- ولكن من الممكن أن يصيب الرصاص عناصرنا، وإن لم أتمكّن من إصابة العراقيين فمن المسلّم أنّهم سوف يعدمونهم جميعًا!
- إنّهم يقيّدون أيديهم!

ثمّ عصّب العراقيون عيون الرجال الثلاثة وأركبوهم السيارة نفسها وأخذوهم. 

ما هي إلّا دقائق حتى حضر عناصر التعبئة والحرس من الكتائب الأخرى في مدرّعات حربية واشتبكوا مع القوات العراقية. وبعد عشرين دقيقة من مقاومة العدو الضعيفة تمّت السيطرة على "حديقة موتورى" بالكامل فيما لاذ الجنود العراقيون بالفرار.
- إنّها دبابات تابعة لنا.

كانت قواي قد خارت، لكنني مع ذلك شعرت بالفرح والسرور لدى رؤيتي الدبابات وناقلات الجند التي أمدّتني بقوة القلب.
 
 
 
 
357

346

ثمانية عشر جسدًا

 فيما بعد حضرتْ بضع جرّافات ودخلَتْ مضيق "دربندي خان" وقامت بجمع كافة السيارات المحترقة ورمتها في الوادي المجاور ففتح المضيق. في ذلك الحين حضرتني أبيات من شعر الفتى اليافع حبيب:

استيقظوا، استيقظوا
أشرقوا كالشمس داخل البئر
انهضوا أيها المحظوظون 
إنه وقت طلوع القمر..

عند الساعة الحادية عشرة صباحًا وصلت ناقلات جند من نوع (PMP) لتقلّ الجرحى ومن بقي من كتيبة الفجر - وعددهم 15 شخصًا - نحو الخطوط الخلفية. كان العراقيون يقصفون تلة "بردزرد" و"حديقة موتورى" بقذائف (هاون60ملم) محاولين منعنا من التقدّم. لم يبقَ على التلة سواي ورحيم نعيمي ومرتضى. قلت لرحيم: "عندما أحصل على إجازة سأخلد خلالها إلى النوم.. النوم! هيا فلنرجع إلى الخلف الآن".

أشار رحيم نعيمي إلى تلة "بردزرد" وأطرافها ثم قال: "أريد أن أتنفس الصعداء".

نظرت إلى عينيه الحمراوين والمتورّمتين من شدّة النعاس والتعب، فيما أخذ رحيم نفسًا عميقًا ثم أخرج من جيبه سيجارة كان قد غنمها من أحد الجنود العراقيين ووضعها بين إصبعيه قائلًا: "دعني أشعل هذه السيجارة!".
- ألم تكن قد أقلعت عن التدخين؟!

قرّب السيجارة من أنفه وشمّ تبغها ثم قال: "دعني أُشعلها للمرة الأخيرة. ألن تأتي معي يا داريوش؟".
 
 
 
 
358

347

ثمانية عشر جسدًا

 - أشعر بنعاس شديد. أريد أن أجد مكانًا مناسبًا لكي أنام قليلًا.


جرّ رحيم نفسه منهكًا نحو سيارة من نوع "جيب" عراقية كانت عجلاتها الأربع قد ثقبت فانغرزت في تراب التلّة. وصل إلى السيارة الخضراء فجلس متّكئًا على عجلتها الخلفية ثم رفع يده اليمنى نحوي كما يفعل الأطفال بأيديهم عندما يلعبون لعبة المسدّسات وابتسم. لوّحت له بيدي وانطلقت باتّجاه "حديقة موتورى". لم أكد أمشي بضع خطوات حتى دوّى صوت انفجار قذيفة (هاون60). عدتُ أدراجي قلقًا ونظرت فلم أجد أثرًا لرحيم جرّاء ارتفاع الغبار والدخان! وقفت مذهولًا ما لبثت أن رأيت رِجلَيْن ترتجفان. ولما انجلى الدخان والغبار ركضت نحو رحيم رغم الوهن الشديد في ركبتيّ لأرى أمامه حفرة سوداء خلّفها انفجار القذيفة التي مزّقت شظاياها صدره وقلبه!

رفع رحيم السيجارة المطفأة للحظة محاولًا إفهامي أنّه لم يشعلها، ثم تبسّم ابتسامة ضعيفة متمتمًا بالشهادتين. وقبل أن يتمكّن من إتمام كلماته وقع على جنبه الأيمن مضرّجًا بدمائه!
 
 
 
 
359

348

المفتاح

 المفتاح - 25/تموز/1983


قبيل الظهر، تسمّرت عيناي على وجه مرتضى النحيف المصفرّ وحاجبيه المغبرّين. بدا لي أنّه كان في مواجهات مع العدو لأربعة أو خمسة أيام من دون نوم أو طعام! أسند مرتضى ظهره إلى حائط الدشمة الكبيرة المستقرّة على تلة "بردزرد" مصغيًا لحديث أخي جعفر أسدي.
- لا يزال العراقيين يسيطرون على مرتفعي "كرده مند" و(19 25).. صااالح، يا صالح. ألا تسمعني؟!

أشحتُ بنظري عن شفتي مرتضى الذابلتين، ثم نظرت إلى كاظم حقيقت وعلي أكبر رحمانيان ومحمود ستوده الذين ارتسمت على وجوههم ابتسامات ذات معنى، فتفاجأت قليلًا.

قال لي أخي: "أين سرح خيالك يا صالح؟ أحضر الخارطة!".

على الفور أحضرت خارطة منطقة العمليّات العسكرية ومددتها بارتباك أمام أخي لكي يطلع الحاضرون على آخر مستجدّات المعارك.

رفع أخي رأسه وأشار إلى مسؤول التجهيزات والدعم في اللواء.
- لديكم مهلة أقصاها العصر لكي تنقلوا مقرّكم من تلّة "قمطرة" إلى هنا. هل هذا واضح؟

وضع المسؤول يده على لحيته الطويلة التي غزاها الشيب قائلًا: "على عيني يا حاج".

في الأثناء سمعنا جلبة خارج الدشمة. فجأة رُفعت البطّانية العسكريّة المعلّقة على بابها ليدخل منه محسن رضائي يرافقه العقيد
 
 
 
 
360

349

المفتاح

 صياد شيرازي، أحمد كاظمي قائد فرقة "8النجف"، وقاسم سليماني قائد فرقة "41 ثار الله" التابعة للحرس في محافظة كرمان. 


نهضنا جميعًا. أمّا الحاج "صلواتي"، ذلك العجوز النحيف ذو الروح المرحة الذي كان يعمل في قسم الإعلام الحربي، فرتّب قلنسوته البيضاء على رأسه وتقدّم من الضيوف ونادى بصوته الحادّ الرفيع وبلهجته الشيرازية: "عاشق أنا عاشق لوجه محمد، أفدي روحي ليحيا دين محمد. ارفعوا أصواتكم بالصلوات..!".
- اللهم صلّ على محمد وآل محمد..

بعد الصلوات تبادلنا التحيات والقبلات ثم جلسنا. قال السيد محسن: "عافاك الله يا سيد أسدي. كيف هي الأوضاع؟".

فأشار جعفر إلى مرتضى جاويدي قائلًا: "سيد محسن، إنّه مرتضى جاويدي، المعروف بـاشلو".

توجّهت نظرات فاحصة ممزوجة بالتقدير من كلّ من محسن رضائي والعقيد صياد شيرازي وبقية القادة نحو عيني مرتضى الحمراوين الغائرتين. ثم قام الجميع احترامًا له ثانية وأخذوه بالأحضان وقبلوا وجهه الذي علته آثار الغبار والدخان.
- عافاك الله أيها الرجل المخلص.. سلمت يداك!

دققت النظر في وجه محسن رضائي تارة، وأخرى في وجه العقيد صياد شيرازي ببشرته البيضاء المشرّبة بالحمرة. كانت نظرات قائدي الحرس والجيش وابتساماتهما الصادقة تضجّ بالمحبة والعشق لمرتضى، وبدا الرجلان لي منبهرَين أشدّ الانبهار بقدرة اشلو!

في تلك اللحظة غمرتني فرحة كبيرة بدلًا من مرتضى، وشعرت بالاعتزاز والفخر بجميع أفراد لواء "المهدي". أدركت أكثر فأكثر
 
 
 
 
361

350

المفتاح

 جوهر شخصية مرتضى. فخلف هذا الوجه النحيف الأصفر والعينين النافذتين اللتين لم تغمضا لليالٍ متتالية بحرٌ ذاخر بالذكاء والفطنة والوقار والسكينة!


سأل محسن رضائي: "ما هي آخر الأخبار يا اشلو؟".

فأجاب أشلو بصوت هادئ ونظرة من عينين ناعمتين يملأهما النشاط: "لقد شنّ العراقيون ثلاث هجمات مضادة محاولين استعادة تلة "بردزرد"، لكنّهم حتى عصر الأمس لم يتمكّنوا من ذلك بحول الله وقوته. بعدها أرادوا الالتفاف من خلف التلّة للعبور من المضيق، لكننا أفشلنا سعيهم بواسطة رشاشاتهم الثقيلة التي غنمناها منهم".

قال العقيد صياد شيرازي مبتهجًا: "سلمت يداك! هل تعلم أنّ هؤلاء كانوا بقايا قوات الكوموندس التابع لـ (اللّواء66) من قوات النخبة في جيشهم؟ لقد علمنا أن صدام وصل إلى مدينة "ديالا" وقاد الهجمات المضادّة بنفسه.. كما إنّه أعدم قائد (اللواء91)!".

أطبق مرتضى جفنيه لحظةً ما لبث أن وضع قبضته على جبهته وتابع بصلابته المعهودة قائلًا: بالطبع لم يكن الأمر بتلك السهولة. فبعد أن دمّرنا آلياتهم وعتادهم في المضيق وأرغمناهم إلى التراجع تقدّمت كتيبة من مشاتهم محاولين الالتفاف من خلف التلة من ناحية النهر متستّرين بالشجيرات المجاورة. لكن وبتسديد من مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف تمكّن أفراد كتيبة كميل من صدّهم من تلك الناحية وإفشال محاولاتهم.

قال محسن رضائي: "ألا يلزمك شيء؟".
- بلى.

حدّقت بشفتَي مرتضى وأصغيت بدقّة إلى كل كلمة يقولها.
 
 
 
 
362

351

المفتاح

 - إنّ بقية الشباب الأحياء يتحرّقون شوقًا لرؤية سماحة الإمام!


قال محسن رضائي: "سأبذل ما بوسعي".

استلم صياد شيرازي دفّة الكلام قائلًا: "إن بقيت تلّتا (19 25) و"كرده مند" تحت سيطرة العراقيين فقد يتمكّنون من إجبارنا على التراجع!".

سأل أخي جعفر: "وما الحل؟".
- علينا أن نسيطر على تلة (19 25).

فقال جعفر: "من المستحيل أن نتمكّن من ذلك من جهة الأمام!".
- الحلّ الوحيد هو المروحية. سننقل قواتنا بالمروحية وننزلهم خلف العراقيين. هكذا نتمكّن من السيطرة عليها. هل لدى أحد اطّلاع على تلك التلة؟

التفت جعفر إليّ وقال للعقيد: "أخي!".

التفت كلّ من العقيد صياد شيرازي ومحسن رضائي ونظرا إليّ. لم أستطع أن أحافظ على برودة أعصابي كمرتضى وشعرت بالارتباك. هزّا برأسيهما وضحكا ثم خاطبا أخي قائلَين: "هل أحضرت جميع أفراد عائلتك إلى الحرب!".

أشار جعفر بيده إليّ ثانية ثم قال: "لقد تولّى صالح استطلاع هذه المنطقة لأشهر عدّة، وهو على معرفة كافية بها".

عقّب محسن رضائي قائلًا: "هذا جيّد، ولهذا جئنا على عجلة من أمرنا. يجب أن يذهب صالح إلى بيرانشهر ليركب المروحية برفقة أفراد فرقة "10سيد الشهداء" إلى مرتفعَي (19 25) و"كرده مند"!".

قال جعفر: "ولكن يا سيد محسن، إنّ عددهم قليل!".
 
 
 
 
363

352

المفتاح

 - هذا صحيح يا حاج أسدي، لذا عليك أن ترسل المصابين من أفراد الكتائب الأخرى إلى الخلف ليتلقّوا العلاج ثم يعودوا!


قال العقيد صياد شيرازي: "طبعًا سنرسل كتيبة من قوات المغاوير التابعة للجيش لمؤازرتكم".

أما أحمد كاظمي، القائد الشاب لفرقة "8النجف"، وضع يده على لحيته السوداء قائلًا: "لدينا سريّة خضعت مؤخّرًا للتدريبات اللازمة ..". 

ثم أشار إلى مرتضى وقال واثقًا كما لو كانا يعرفان بعضهما بعضًا لسنوات: "وسريّتي مستعدّة تمامًا كما كتيبة الفجر".

نفض أخي جعفر سرواله الكُرديّ البسيط. وعقّب محسن رضائي قائلًا: "لقد استنفدنا طوال هذه المدّة كلّ ما لدينا من القوى والطاقات، ولم يبقَ سوى هذا العدد القليل من السرايا، وإن لم نتمكّن من الاستيلاء على تلة (19 25) والمرتفعات المحيطة بها بالإضافة إلى مدينة تشومان مصطفى..".

وسكت هنيهة ثم أشار إلى الخريطة قائلًا: "فعلينا أن نرجع إلى المربّع الأول!".

ثم التفت إلى جمع القادة فردًا فردًا وقال: "إنّ مفتاح تثبيت مواقعنا في منطقة العمليّات هو السيطرة على مرتفع (19 25). لذا عليكم أن تبذلوا قصارى جهدكم!".
 
 
 
 
364

353

تشومان

 تشومان - 26/تموز/1983


- هيّا، بسرعة.. ترجّلوا بسرعة!
في تلك المنطقة الجبلية وبين ضبابها الخفيف كان ملازم من القوات المجوقلة "هوانيروز" يتكلّم بسرعة وهو يدفع مجاهدي فرقة "10سيد الشهداء" التابعة للحرس الثوري من المروحية إلى عرف (عنق) التلّة ضاربًا بكفّه على ظهورهم.
- هيا اذهب، ما شاء الله، هيا بسرعة!

كان آخرهم العقيد صياد شيرازي الذي قفز على عرف التلّة حاملًا بيده بندقية (G3) ذات الكعب القابل للطي!

نظرت إلى ذاك الملازم النحيف الجسم وقد ضرب للعقيد التحية العسكرية، ولعلّه كان يفكّر في سبب وجود قائد القوّات البريّة في الجيش بين عدد من أفراد التعبئة والحرس الثوري خلف العدوّ!

دوّت رصاصة فأخرجتني ممّا أنا فيه. نادى العقيد صياد شيرازي: "أيها الملازم، أبعد المروحية سريعًا!".

تزامن صوت العقيد مع دويّ عدد من الرصاصات اصطدمت بالزلّاجة المعدنيّة للمروحيّة . ارتفعت المروحية سريعًا واختفت في عتمة الغروب الخفيفة. ناداني العقيد صياد: "يا أخ صالح، أحضر بقية القوّات إلى هنا".

ثم وضع بندقيته على ظهره وأخذ جهاز اللاسلكي الخاص بالسريّة من الشاب التعبويّ، وأجرى اتصالًا بقائد فرقة "8النجف"، "أحمد كاظمي" ثمّ بقائد السرية التابعة للجيش.
 
 
 
 
 
365

354

تشومان

 ما إن اختفى الضباب في تلك المنطقة الجبليّة حتى زاد العدو من إطلاق القنابل المضيئة. أمعنت النظر في العقيد صياد شيرازي للحظات وأنا أفكر في شدّة مشابهته للشهيد مصطفى شمران. لقد شاهدتُ شجاعة المهندس "شمران" وإقدامه ويقينه بأمّ عيني في منطقة "كردستان" وجبهة الجنوب. وها أنا ذا أرى الخصال نفسها في شخص العقيد!


كان الطقس باردًا. بعد برهة قصيرة حضرت بقيّة المروحيات التابعة لـ"هوانيروز" ليترجّل منها بقية العناصر في الأخاديد الموجودة أطراف الوادي. وقع نظري على مرتضى يقف بين القوات فأصابني الذهول! تقدّم منّي بيده الملفوفة بالضماد تملأه السعادة والحيوية!
- سيد مرتضى، ألم تذهب إلى المستشفى؟
- بلى، لقد ضمّدت جرحي ورجعت!
- أليس هؤلاء عناصر كتيبة الفجر؟!
- بلى، هم بعينهم يا أخا شيراز!

وصل بعد ذلك "جمال قمّي"، قائد قوّات الحرس في طهران. سرنا نحو العقيد صيّاد الذي عانق مرتضى قائلًا: "اشلونك!".

جثونا على رُكبنا، فسألني العقيد: "أين هي موقعيّتنا بالتحديد؟".

أخرجت من جيبي خارطة صغيرة للمنطقة، وأخذت أفصّل عليها للعقيد أوضاع المرتفع والتلال المحيطة.
- هذا هو مرتفع (19 25) على يمين "حديقة موتورى" ، وهذه تلة "كوران". في الخلف مرتفع "كرده مند". علينا أن نعبر من هذا الخندق نحو(19 25) وهذه هي قاعدة العدو!

نظر العقيد إلى ساعته الليلية وقال: "لدينا بضع ساعات حتى
 
 
 
 
366

355

تشومان

 موعد الهجوم، ينبغي أن نجد مكانًا لنستريح فيه".

- يا أخ صيّاد، هناك مسير ساعتين أو ثلاث حتى نصل إلى العدو. أقترح أن نستريح هناك.
- كلّا!
- لماذا؟
- أخ صالح، كم يلزمنا من الوقت بالدقة حتى نصل إلى أسفل المرتفع؟
- ساعتان على أكثر تقدير، لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار صعوبات الطريق وأمورًا أخرى قد تطرأ!

نظر إلى ساعة يده وأخذ يحكّ أسفل لحيته السوداء التي زادت من جاذبية وجهه ثم تابع قائلًا: "إن تحرّكنا الآن وانتظرنا أسفل المرتفع فمن المحتمل أن يُحدث عناصرنا جلبة فتثير انتباه العدو! من الأفضل أن تبقى قواتنا في هذا المنخفض وتستريح داخل أكياس النوم. سوف ننطلق قبل موعد الهجوم بثلاث ساعات!".

قرابة الساعة الثانية بعد منتصف الليل بدأ القصف على مرتفع (19 25) . كأنّ ستارًا من الدخان والبارود قد أُسدل على تلك المنطقة الجبلية. شنّت القوّات المتشكّلة من كتيبة الحرس وسريّة الجيش هجومها على القوّات العراقيّة من الأمام، فيما تولّت العناصر التي برفقتنا بقيادة العقيد صياد شيرازي الهجوم من الخلف. وقبل طلوع ضوء اليوم الثامن من عمليات "والفجر2" أصبح مرتفع (19 25) في قبضتنا، وتمكنّا من تثبيت مواقعنا في المحورين الجنوبي والشمالي لجبهة "الحاج عمران". وبالتالي فقد صارت قواتنا وللمرّة الأولى مهيمنة على مدينة "تشومان مصطفى" العراقية!
 
 
 
 
367

356

الانسحاب

 الانسحاب - 29/تموز/1983


- اثنا عشر ألف بندقية جديدة من نوع كلاشنكوف، مخزن كامل من المسدسات.. ليتني أستطيع أن آخذ مسدّسًا جيّدًا للذكرى. ياااه.. بنادق ذات كعاب بلون الحنّاء مزوّدة بمنظار.. هذه هي نفسها الأسلحة والمعدّات التي يزوّدون بها الخونة وبائعي الوطن ممّن يسمّون بالديمقراطيّين بحزب "الكوملة" و"الديمقراطيين الكرد"، لكي يغتالوا بها عناصر التعبئة والحرس الثوري في كردستان!

في صباح اليوم التاسع من العمليات وخلافًا لحركة سير الصفّ الطويل من العربات التي تجرّها بغال تحمل الغنائم الحربية، توجّهتُ نحو مرتفع (19 25). أخذت أحسب عددًا لا يُحصى ولا يوصف من الغنائم التي تركها العراقيون، فتلك المخازن الممتلئة بالذخائر كانت تكفي لتسليح اللواء لسنوات عدّة.. بالإضافة إلى وسائل اتّصال وآلات الكترونية عصرية. 

هنيئًا لقسم الإعلام في اللواء بكلّ هذه الوسائل السمعية والتصويرية والمكبّرات الصوتية و.. 

في الأثناء طرق سمعي صوت الحاج "صلواتي"، ذلك العجوز المرح الذي يعمل في قسم الإعلام، من بين صفّ الغنائم:
أصابت التعبوي شظية         شظية حزّت رأسه
مات من دون أن يتزوّج       شظيّة أصابت رأسه
أصيب بقذيفة لكن              لدينا الكثير من شباب التعبئة!

فرفع بعض التعبويّين بنادقهم التي غنموها وضحكوا قائلين له:
ما أجمل هذه البندقية          كعبها بلون الحنّاء
 
 
 
 
 
368

357

الانسحاب

 كان التعبوي يغنم البندقية           فاخترقت شظية قلبه


لكنه لم يمُت بل استشهد

ضحكتُ وقلت في نفسي: "غدًا سيستلم الحاج "صلواتي" مكبّرات الصوت الحديثة من الغنائم العراقية وسيشنّف أسماعنا بصوته البديع".

ثم شرعت بحساب الغنائم مجدّدًا، أكثر من مئة مدفع أوتوماتيكيّ.. ترى هل من الممكن أن يسلّموها جميعًا إلى لواء "المهدي؟".! حين صرت بإزاء البغال رأيت العرق يتصبّب من تلك الحيوانات المسكينة وسمعت أصواتها وهي تنوء بثقل الغنائم. في تلك الأثناء علا صوت أجنحة مروحية بحيث غلب على الجلبة التي أحدثتها الحيوانات، استأتُ وغضبت. ابتعدتُ عن العربات وركضت نحو تلة "كوران" لأرى أربع أو خمس مروحيات وهي تحلق وتتقدم نحو مرتفع "19 25". تضرّعت إلى الله قائلًا: "فليرحمنا الله.. ما الذي يخطّطون له؟ يا إلهي!".

أصابني الفزع لرؤية تلك المروحيات الحربية، إذ إنّه لم يسبق لي أن رأيت هذا العدد يحلّق في الوقت نفسه! أخذت أعدّها: واحدة، اثنتان، ثلاث.. ستّ وعشرون مروحية! يا قمر بني هاشم!!

لم أدرِ كيف تسلّقت التلّة بكلّ ما أوتيت من قوة محاولًا الوصول إلى عناصرنا قبل المروحيّات وإخبارهم بأمرها قبل فوات الأوان، وعبثًا حاولت. فجأة هزّت انفجارات متتالية الأجواء بشدّة. التفتُّ إلى الخلف محدّقًا في تلال خط الرأس، (19 25)، "كرده مند" و"كوران". كانت جميعها في مرمى نيران المروحيات! ناهيك عن مدفعية العدو التي أخذت تقصف تلك المرتفعات بالتزامن مع القصف المروحي. 

لا أدري كيف وصلتُ بسرعة إلى تلة (19 25) وشرعت أُطلق النار
 
 
 
 
 
369

358

الانسحاب

 على المروحيات التي ركّزت نيرانها على تلك التلّة. فيما انقسمت المروحيات إلى قسمين: قسم منها تموضع فوق مواقعنا الدفاعية وصار يستهدف عناصرنا بالـ(B7) والرشاشات الثقيلة، والقسم الآخر أخذ يُنزل أفراد قوات المغاوير بزيّ الفهود على سفح التلة. لم تكد أقدام قوّات المغاوير تطأ الأرض حتى شرعوا بإطلاق النار بشتى أنواع الأسلحة وهم يتقدّمون نحونا. في الواقع، لقد فوجئنا بحضور تلك المروحيات والأعداد الكبيرة من قوات المغاوير. علّقتُ أملي على رشاش من العيار الثقيل تابع للجيش كانوا قد نقلوه بشقّ الأنفس في مروحية قوات المجوقل "هوانيروز" ووضعوه على التلة لكنهم لم يقوموا بتشغيله بعد!


طوال سنوات الحرب التي شهدتُها لم أواجه هجومًا مضادًّا بهذا الحجم. كان الجنود العراقيّون يتقدّمون نحونا بكل شجاعة وجرأة تساندهم المروحيات والمدفعية البعيدة المدى. وما أثار عجبي بل وأقلقني تحليق تلك المروحيات مقابلنا حيث كانت تطلق النيران نحونا من دون أي خوف!

وقع نظري على خليل مطهرنيا، هاشم اعتمادي ومرتضى الذين أخذوا يوجّهون أفراد الكتيبة المندمجة *1 لصدّ الهجوم. كانت يد مرتضى المصابة لا تزال ملفوفة بالضماد! على مقربة منهم وقف رائد في الجيش وجعل يوجّه العسكريين وذوي الرتب. قلت لهاشم اعتمادي: "ليت العقيد صياد شيرازي كان هنا!".
- لماذا، هل حصل شيء؟
- لم أشاهد من قبل مثل هذا الهجوم المضاد! برأيي لو كان العقيد هنا لأمكن الاستفادة من خبراته.
 

1- * من الحرس الثوري، والمندمجة مع الجيش في تشكيل قتالي.
 
 
 
370

359

الانسحاب

 على بعد مسافة قصيرة وضع مرتضى بندقيّة كلاشنكوف على الأرض وأمسك بالـ(B7). لكنّ محاولاتنا لصدّ العدوّ من التقدّم عبر إطلاق النار عليه باءت بالفشل! أخذ الشباب يتهامسون فيما بينهم.

- إنّهم يشبهون أفراد التعبئة عندنا في بأسهم وشجاعتهم!
- لا أظنّ ذلك، أعتقد أنّ الجنود والطيّارين سكارى ولهذا هم يتقدّمون بهذه الطريقة!
- ماذا تقول؟! إنّ السكران لا يستطيع أن يقف ثابتًا على قدميه كما إنّ ذهنه يكون معطّلًا. أعتقد أنّهم أحضروا أفراد التعبئة لديهم!
- من المؤكّد أنّهم مهدّدون بالإعدام لو لم يحقّقوا إنجازًا ما!
- أو لعلّهم تلقّوا دروسًا في أهمية الدفاع عن الوطن!
- لكنّهم كانوا أكثر جُبنًا حين كانوا يحاربون على أرضنا!

نزل نصف قوّات المغاوير وأخذوا يتّجهون صعودًا محرزين تقدّمًا ومقاومة غير مسبوقَين! كان الخناق يضيق شيئًا فشيئًا. أبدى كلا الطرفين مقاومة شرسة من دون التفكير بالخسارة. قاتل جنود جيشنا جنبًا إلى جنب مع قوات التعبئة والحرس الثوري. كانت كفّتا المعركة متكافئتين وكل طرف ينتظر هفوة من الطرف المقابل. لقد كان ظرفًا حساسًا للغاية بحيث لو أظهر أحد الطرفين ضعفًا في نقطة ما لرجحت كفّة المعركة لمصلحة الطرف الآخر!

بينما نحن كذلك وإذا بالرائد الذي كان يتولّى قيادة سرية الجيش، والتي ما برحت تقاتل جنبًا إلى جنب سائر قواتنا، يصيح قائلًا: "انسحاااب..".

حاول خليل رحمانيان جاهدًا أن يقنع الرائد ولكنّه لم يقبل واحتجّ قائلًا: "أنا مسؤول عن قوّاتي، ولا أريد أن يقعوا ضحايا مجزرة ما..
 
 
 
 
371

360

الانسحاب

 فضلًا عن أننا لسنا متكافئي القوى مع مثل هذه الهجمة.. هل فقدنا عقولنا؟".! 


أجاب خليل رحمانيان: "لا شيء مما لدينا متكافئ مع العدو في هذه الحرب!".

لكنّ الرائد اللجوج ظلّ متشبّثًا برأيه!
- لا علاقة لي بهذا..
- ممّن تتلقىّ أوامرك؟؟ ألا تخشى أن تُحاكَم؟؟
- أنا أتلقّى أوامري من قيادة الجيش لا من الحرس!

تذكّرت العقيد صياد شيرازي الذي لو كان حاضرًا لأذاق الرائد العذاب بسبب أمره بالانسحاب في الوقت غير المناسب! في ذلك الموقف الحساس خطر في بالي قصّة الغراب وقطعة الجبن التي قرأناها أيام الصفوف الابتدائيّة، وتلك الجملة التي قالها الغراب بعد أن خدعه الثعلب فوقعت الجبنة من فمه: "ملعون ذلك الفم الذي يُفتح في الوقت غير المناسب!".

تذكّرت ذلك وضحكت. أخذ جنود الجيش بالانسحاب فيما ضعفت عزيمة عناصر التعبئة وأخذوا يتهيّأون للانسحاب أيضًا. وقفتُ في حيرة من أمري، فجأة دوّت قذيفة مضادة للطائرات. التفتّ إلى الخلف فرأيت "خليل مطهرنيا" وراء رشاش مضاد ثنائي وهو يطلق القذائف المتتابعة على مروحيات العدو وعناصر المغاوير. بدأت الأوضاع بالتبدّل فيما وقف الجنود والتعبويّون متردّدين بانتظار ما سيحصل. صاح هاشم: "أشلو!".

التفتنا إلى مرتضى لنراه قد وقف على المرتفع وصار يأخذ القذائف من يد فتى يافع من التعبئة ويضعها في قاذف سلاح الـ(B7)
 
 
 
 
 
372

361

الانسحاب

 ثم يطلقها نحو المروحيات التي ما برحت تنزل قوّاتها من دون هوادة. وبينما اقتربت إحدى المروحيات من الأرض لتنزل قوّات جديدة صوّب مرتضى قبضة سلاحه نحو زلّاجتها ثم أطلق القذيفة. مرّت القذيفة أمام عيون الجميع وأصابت المروحية والجنود العراقيين، فانفجرت المروحية واشتعلت كجبل من النار أمام مرأى الجميع! هزّت أصوات الشباب الأرجاء: "الله أكبر.. ما شاء الله.. أحسنت يا أشلو..!".


أنزل مرتضى الضربة القاصمة الثانية بعد ضربة خليل، وفي غضون دقائق تغيّرت الموازين بالكامل وعاد جنود الجيش والتعبويّون وأخذوا جميعًا ومعهم عناصر الحرس يطلقون نيران أسلحتهم باتجاه العدو!

لدى رؤيتها انفجار المروحية وركّابها لاذت بقية المروحيات بالفرار، ما أدّى إلى انهيار عزيمة قوات المغاوير فأخذوا ينحدرون إلى أسفل التلة هربًا نحو الغابة. توجّهتُ والآخرين إلى الأسفل محاولين اللحاق بالمغاوير وأسرهم. أدّى صدّ الهجمة المضادّة وفرار فلول عناصر المغاوير في لواء (النخبة 66) في الجيش العراقي إلى تثبيت موقعنا على تلة (19 25).

جلستُ أسفل التلة على صخرة مسطّحة لأستعيد قواي المنهكة وحدّقت في الغابة المقابلة. كانت الجهة اليسرى من الغابة، حيث لجأ عناصر المغاوير هاربين، سوداء مظلمة. أما الجهة اليمنى منها فقد غطاها الندى بقطراته فأخذت تلمع تحت نور الشمس!
 
 
 
 
373

362

الميثميّان

 الميثميّان - 31/تموز/1983


قرابة الظهر، وعلى تلّة (19 25) ناداني مرتضى: "يا شيخ بنائي!".

وضعتُ عمامتي على رأسي لكي أتّجه نحوه، لكنّه وصل إليّ وأشار إلى بزّتي العسكريّة الكاكيّة اللون.
- يا شيخ، إنّ من يلبس هذه الثياب عليه أن يضع خوذة حديدية على رأسه وليس عمامة!

فأشرت إلى عمامتي قائلًا: "إنّها تعمل عمل الخوذة الحديدية بطريقة أو بأخرى، فقوّة الشظيّة سوف تضمحل قبل أن تخترق كل هذه الطبقات من القماش!".

ضحك مرتضى ثم قال: "لا أحد يستطيع أن يغلب المعمّم في النقاش..! يا شيخ!".
- يا عزيز الشيخ!
- من المقرّر أن يحضر الشيخ "ميثمي"، ممثل الإمام في مركز "نوح"، لزيارة الجبهة بعد الظهر.
- هذا جيد جدًا. ماذا تأمرني؟
- يا شيخ، إنّ أخا الشيخ "ميثمي" الأصغر هو عنصر في كتيبة الفجر، ولم يأخذ إجازته منذ مدّة. برأيي علينا التنسيق لكي يتمكّنا من اللقاء هنا في الجبهة على الأقل!

فضحكتُ وقلت: "على عيني".
- من المقرّر أن يصل سماحته عند الساعة الثالثة.
 
 
 
 
 
374

363

الميثميّان

 بعد ظهر ذلك اليوم سرتُ وأخو حجة الإسلام والمسلمين الشيخ "عبد الله ميثمي" على أرض تلة (19 25) المغطّاة ببساط من الأعشاب والأزهار متّجهَين نحو دشمة قيادة الكتيبة. ما إن وصلت إلى الدشمة حتى سقطت قذيفتان أو ثلاث قذائف فألقيت نفسي على الأرض. كانت تلك التلة مطلّة على كلٍّ من المضيق ومدينة "دربندي خان"، ولذا فقد كان العراقيّون يستهدفونها بنيرانهم بشكل دائم.


دخلتُ الدشمة وسلّمت على مرتضى وسألته عن أحواله. بعد ذلك غمزني "اشلو" فشرعت بوعظ "ميثمي" الشاب قائلًا: "أنت أعلم بأن صلة الرحم وزيارة الأهل من أوجب واجبات الدين الإسلامي و..".

وواصلت الكلام إلى أن أقنعتُ "ميثمي" أن يأخذ إجازة لبضعة أيام بعد أن يلتقي أخاه الشيخ.

حلّت الساعة الثالثة ولمّا يصل الشيخ عبد الله ميثمي. خرجنا من الدشمة لتنشّق الهواء النظيف وإذ بقذيفة تسقط قربنا فانبطحنا نحن الثلاثة أرضًا. بعد اختفاء الدخان والبارود التفتّ إلى الخلف فرأيت مرتضى واضعًا يده على جرح في بطنه وقد جلس عند رأس "ميثمي" الشاب الذي نبت شارباه حديثًا. دوّى صوته كالرعد في أذني وهو يقول: "يا شيخ بنائي هل أصابتك شظية؟".
- أنا بخير يا سيد مرتضى!

كانت شظية صغيرة أصابت كتفي وقذفني عصف الانفجار. نظرت إلى عمامتي البيضاء التي تدحرجتْ وعلقت ما بين الشجيرات والأعشاب. مشيت نحو الشابّين وأنا أتعثّر من أثر الدوار. كان لون وجه "ميثمي" قد ابيضّ وشفتاه ترتعشان. فتح "اشلو" كوفيته التي لفّ بها عنقه ووضعها على جرح صدر "ميثمي" الشاب. سألته مرتبكًا:
 
 
 
 
375

364

الميثميّان

 "كيف حاله؟".


سكت مرتضى فشعرت باليأس. في الأثناء وصل كلّ من حسن مايلر، صادق خوشقدم وجليل إسلامي ووضعوا "ميثمي" على النقالة وحملوه إلى أسفل التلة ثم وضعوه داخل سيارة الإسعاف.

ترجّل مرتضى من سيارة الإسعاف وخاطب جليل إسلامي قائلًا: "رافقهم إلى المستشفى. سنلحق بكم أنا والشيخ ميثمي".
- هل جُرحتَ يا عمّ؟
- لا شيء مهمًّا. سأضمد الجرح في المستوصف ثم ألحق بكم.

في سيارة الإسعاف نظرت إلى "ميثمي"، ذلك الشاب النحيف، وكان قد نزف طويلًا. تساءلت في نفسي: ترى هل سيرى هذان الأخوان أحدهما الآخر؟

في مستشفى "سردشت" أُدخِل "ميثمي" غرفة العمليات مباشرة فيما تلقّيتُ العلاج على أحد الأسرّة. ولم تمضِ ساعة واحدة حتى أخرجوه من غرفة العمليات. طلبتُ من "إسلامي" أن يأخذني إلى سرير "ميثمي" النقّال فأجابني: "سيأتون به".

أحضروا "ميثمي" إلى ردهة المستشفى فيما وصل مرتضى والشيخ عبد الله ميثمي، ودخلوا الردهة، واتّجهوا نحو السرير النقّال.
- الحمد لله أنّه أتى.

اقتربنا منهم حيث وقف الطبيب الجرّاح والممرّضة، فقال الشيخ ميثمي: "ما الخبر؟".

ما إن رأى الشيخ عبد الله نظرات الطبيب المليئة بالأسف حتى انحنى على جثّة أخيه وقبّل وجهه ثم قال: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون!".!
 
 
 
 
376

365

لقاء في الرّدهة

 لقاء في الرّدهة 6/آب*1/1983


نظرتُ مجدّدًا إلى جسم مرتضى النحيف والهزيل. لقد كان مضطربًا ومتلهّفًا للقاء الإمام الخميني. كنت أقرأ أفكاره من بعيد.
- أخ صياد، لا تنس وعدك.. إنّ وعد الحرّ دين..

لا أدري لماذا اختارني أنا من بين جميع القادة. عندما وقعت عيناه عليّ ثانية هززت رأسي: ما هذه اللهفة والشوق فيك.. فلتطمئنّ أننا نفكّر في الموضوع.. سيكون لك ما تريد.

كنت أجلس في صفّ قادة الجيش والحرس تحت الشرفة الصغيرة نستمع إلى خطاب الإمام الخميني. كانت حسينية "جماران" مكتظّة بمن بقي من مجاهدي كتيبة الفجر وغيرها من الكتائب التي شاركت في عمليات "والفجر2". ابتعدت عن الجمع وذهبت إلى محسن رضائي ورحيم صفوي. همست في أذن السيد محسن قائلًا: "لقد تمّ تنسيق اللقاء. إنّ مرتضى يتحرّق شوقًا لهذا اللقاء.. ماذا لو لم يتم الأمر؟"..

برقت عينا السيد محسن ثم تبسّم قائلًا: "وأنا أيضًا كنت أراقبه.. لديّ المخاوف نفسها يا سيّد علي.. نسأل الله أن تسير الأمور على أحسن وجه".

بدوره أفصح رحيم صفوي عن قلقه ممازحًا وقال: "إنّ هذا الأشلو الذي أراه سيقلب الدنيا فوق رؤوسنا إن لم نفِ بوعدنا له!".

قال السيد محسن: "لقد قمت بالتنسيق مع سماحة السيد أحمد الخميني، لكنني ما زلت قلقًا!".

فقلت: "ممّ أنت قلق؟!".
 

 1- * ورد في الكتاب الاصل 6/تموز/83 لكن برجح أنه 6/آب/83.
 
 
377

366

لقاء في الرّدهة

 - أن لا يتمّ اللقاء في هذا الزحام، أو أن تطرأ مشكلة ما..


فقلت: "وهذا ما أخشاه أنا أيضًا، لذا أقترح أن ننسّق مع الحرّاس الشخصيّين للإمام، ونطلب منهم إجراء اللقاء في الردهة الخارجية، أعني تلك التي تصل حجرة الإمام بالحسينية".

عرفت من بريق عيون محسن ورحيم أنّهما أُعجبا بفكرتي. قبيل انتهاء خطاب الإمام الخميني، كَلَّفْنا أحدَ عناصر الحرس بأن يأتي بمرتضى. وعندما حضر خرجنا نحن الأربعة بعد التنسيق إلى الردهة الفاصلة بين الحسينية وحجرة الإمام، ووقفنا في الطريق الذي يسلكه عند خروجه. وكانت فرصة سانحة لكي ألقي نظرة أخرى على وجه "مرتضى جاويدي" البريء الذي لمّا يزل يعلوه التراب والغبار أثر المعارك. وقع نظري على يده الملفوفة بجبيرة الجصّ.
- ماذا حدث ليدك يا سيد مرتضى؟

تبسّم قائلًا: "جرح بسيط! لا قطع الله عيشهم! ما إن استعدت وعيي حتى وجدت الجبيرة عليها!".

ختم الإمام خطابه ثمّ توجّه نحو الردهة يرافقه ابنه السيد أحمد وسماحة الشيخ أنصاري، فيما سددنا نحن الأربعة طريق الممرّ الضيق، فما كان من السيد محسن إلّا أن بادر بتقديم مرتضى إلى الإمام قائلًا: "سيدنا، أقدّم لكم مرتضى جاويدي، قائد كتيبة الفجر. ذاك الذي أخبرتك عنه. لقد حارب مع كتيبته العدوّ في عقر داره لمدّة أسبوع كامل، وصمدوا حتى النصر. في الواقع إنّ مفتاح نجاح العملية كان السيد مرتضى!".

كنت أرتقب ردّ فعل قائد الثورة على كلام محسن مع ما بسماحته من تعب جراء الخطاب الذي ألقاه وتعب الشيخوخة، حيث ناهز الثمانين من العمر. حدّقت في وجهه الشفيق ولحيته الطويلة ويده البيضاء. كان
 
 
 
 
378

367

لقاء في الرّدهة

 وجهه يتلألأ! تبسّم ثمّ نظر نظرة نافذة من عينيه الناعمتين محدّقًا بوجه مرتضى الذي أحرقته الشمس وبعينيه الملتهبتين كمن أصابته الحمى.

- أسأل الله أن يحفظكم لدينه أيّها المجاهدون!

دمعت عينا مرتضى. ثم نظر الإمام الخميني إلى يد مرتضى الملفوفة بالجبيرة وأشار إليها.
- ماذا حدث ليدك؟
- إنّه جرح صغير يا سيدي!

تقدّم الإمام من مرتضى ومسح بيده على يد مرتضى.
- سيتحسّن حالها إن شاء الله.

أعطى تواضع الإمام ولطفه وحيويّته الضوء الأخضر لمرتضى لكي ينسى نفسه ويتصرّف على رسله. لقد كان جمر الشوق والمحبة يلتهب في قلب مرتضى بحيث أراد أن يعبّر عمّا فيه بأيّ طريقة ممكنة. أطلق "اشلو" العنان لنفسه وتخطّى الجميع مقتربًا بقامته المتوسّطة من الإمام، فوضع يده السليمة خلف رقبة الإمام وأدنى رأس سماحته من وجهه، وجعل يقبّل ويشمّ عمامته وجبهته وعينيه ووجنتيه ولحيته وعباءته ويديه ورجليه كما الظمآن في الصحراء أو كالعاشق الولهان! 

لقد رأيت وجهًا آخر لشهامة مرتضى وجرأته في تصرّفه هذا مع الإمام. لم يكن لدى أيٍّ منّا الجرأة على القيام بمثل هذا العمل لكي نبرز محبّتنا للإمام! لكننا في الوقت عينه قلقنا على حال الإمام إثر هذا الحبّ الذي لا يخلو من ضغط والذي أظهره مرتضى الشائق الوله. غير أنّ الإمام لم يبدِ أيّ ردّ فعل سلبيّ، بل كنت على يقين بأنّ سماحته كان يرى مرتضى نموذجًا من المجاهدين الذين قال فيهم مرارًا: إنني أقبّل أيدي هؤلاء المجاهدين!
 
 
 
 
379

368

لقاء في الرّدهة

 وقف الإمام الخميني بكلّ هدوء ورباطة جأش بانتظار أن ينهي مرتضى جاويدي قبلاته. أردنا أن ندني مرتضى منا وإذ بنا نرى الإمام ينحني ويقبّل مرتضى قبلة لم أرَ مثلها في حياتي! كانت تشبه تمامًا قبلات مرتضى للإمام! لقد شعرت أنّ الإمام أحبّ ضيفه من صميم قلبه! التفتّ لأرى السيد أحمد ابن الإمام، والشيخ أنصاري مدير مكتب الإمام، ومحسن ورحيم وقفوا مذهولين من تصرّفات مرتضى مع الإمام وتعامل سماحته اللطيف معه. سمعت السيد أحمد يقول: "لم أرَ الإمام يقبّل جبهة أحد قط!".


خرجت من حسينيّة "جماران" وفكري وذهني غارق باللقاء الخاص الذي جمع الإمام ومرتضى. بينما أنا كذلك وإذا بالسيد محسن يضرب بهدوء على جنبي.
- سيد علي، انظر هناك..

نظرت إلى حيث أشار السيد محسن فرأيت مرتضى يقف وحيدًا تحت شجرة بالقرب من أحد الجدران وقد بدا متردّدًا في القيام بعمل ما. أردت أن أسأله عمّا يختلج في نفسه إثر ذلك اللقاء. وقبل أن أقترب منه أخذ يضرب جبيرة الجصّ التي تلفّ يده بجذع الشجرة!
- ما الذي يفعله؟!

لم أكد أقترب منه لأمنعه من عمله حتى انكسرت الجبيرة وسقطت.
- ماذا فعلت يا أشلو؟

رفع رأسه وتبسّم.
- "اشلونك" أيها العقيد؟

ثم حرّك معصمه وأصابع يده عدّة مرّات وقال: "أجل.. لقد شفيت.. وهل يمكن أن لا تشفى يدٌ مسح عليها الإمام بيده؟".
تبسّمت في وجهه وقلت: "اشلونك!".!
 
 
 
 
380

369

بهشت آباد

 بهشت آباد - 8/ آب/1983


في الصباح وبينما أنا جالسة في الغرفة رقم 101 من الفندق أفكّر في مرتضى وإذا بأحدهم يطرق الباب بقوة! خفق قلبي سريعًا من الخوف واستفاقت الأوهام والشكوك المرعبة في نفسي مجدّدًا: هل جاؤوا بخبر شهادة مرتضى؟ لا قدّر الله..

نهضت والقلق يلهبني. مشيت نحو الباب بتثاقل. سألت بصوتي المرتعش: "م..م.. من هناك؟".
- صديق!

ففتحت الباب بسرعة وارتباك.
- م..م.. مرتضى!

نظر إليّ بعينيه المنهكتين. وبدوري حدّقت في وجهه طويلًا.
- ماذا بك ِيا بنت خالتي؟! ألا تطلبين منّي أن أدخل؟

بالنسبة إليّ كان كأنّه قد وُلد ثانية. لم أستطع أن أتمالك نفسي وانهمرت الدموع من عينيّ. كانت عيناه غائرتين وقد بدا هزيل الجسم أكثر من ذي قبل. لكنّ وجهه كان أكثر جاذبية في قلبي ممّا مضى. شيئًا فشيئًا انحلّت عقدة لساني وشرعت بالكلام قائلة: "هل عانيت الجوع والعطش فصرت نحيف الجسم هكذا يا بن خالتي؟".! 
- كلا يا بنت خالتي، كنت في الكويت!
- ادخل!

فتبسّم ضاحكًا ثم دخل. أخذتُ أدور حول نفسي لشدّة فرحي به فيما جلس واضعًا إحدى رجليه على الأخرى.
- لماذا تدورين هكذا؟ اجلسي!
 
 
 
 
381

370

بهشت آباد

 جلست قبالته وغرقت في قسَمات وجهه أتأمّلها بدقّة بحيث صرتُ أسمع صوت أنفاسه وأشمّ رائحته. حرّك يده أمام عينيّ.

- أين أنتِ يا بنت خالتي؟ ألم يسبق لكِ أن رأيتِ إنسانًا؟!

فتبسّمتُ ثم قلت: "ما هي أخبار الحرب؟".
- لقدّ لقّن مجاهدونا عملاء البعثيين درسًا لن ينسوه!

لم أتمالك نفسي وشرعت بالبكاء.
- هل استشهد "بهمنزادكان" أيضًا؟

هاج به الحزن.
- لقد سبقني إلى الشهادة!

فقلت بغصّة: لقد عادت زوجته إلى "جهرم".
- أنتِ فقدتِ صديقتك أيضًا؟ اجمعي حاجياتك. علينا أن نرجع إلى "فسا".
- إلى "فسا؟!". متى؟
- هذا اليوم!

بعد ظهر ذلك اليوم، وبكل بساطة، وضّبت حقيبتي وركبت السيارة برفقة "بروين" وتركنا الفندق. جلس مرتضى خلف مقود سيارة "تويوتا لاندكروز" الخاصّة بالحرس وإلى جانبه الحاج محمود ستوده، فيما جلستُ وزوجته "بروين" وابنتهما في الخلف. ربّت محمود على كتف مرتضى.
- إن لم يكن لدى السيّدتين مانع فسنذهب أولًا إلى مقبرة "بهشت آباد!".

التفت مرتضى إلى الخلف ونظر إليّ قائلًا: "لا أدري إن كان محمود يريد الذهاب إلى "بهشت آباد" بغية زيارة قبور الشهداء أم لتناول المثلّجات!".
 
 
 
 
382

371

بهشت آباد

 - نزور الشهداء أولًا ثم نتناول المثلّجات. ثمّ عليك أن تعلمي أنّ كليهما ينتسبان إلى عائلة واحدة.

- وما علاقة الشهادة بالمثلّجات؟!
- كلاهما طعمه حلو!

نظرتُ أنا و"بروين" إلى بعضنا البعض.

دخلت السيارة مقبرة "بهشت آباد". وبعد زيارة قبور الشهداء أوقف مرتضى السيارة قرب دكّان المثلّجات خلف المقبرة.
- أخبِرني الحقيقة يا حاج محمود، كيف عثرت على دكّان المثلجات هذا؟!

أجاب محمود الذي كان هو المضيف كما في كلّ مرّة: "تناولْها واهدِ لي مقابلها ثواب الفاتحة!".

وقبل أن تنطق بروين ببنت شفة، ترجّل من السيارة ثمّ ما لبث أن عاد وبيده المثلجات.
- تفضّلوا بتناول المثلّجات! إنّ صاحب الدكان أبٌ لشهيدين، وهو يقدّم مثلّجاته للمجاهدين مقابل الصلوات على محمد وآل محمد. اهدوا ثواب الفاتحة إلى روحَي ولديه الشهيدين!

ظُهر اليوم التالي عبرنا جادّة "شيراز - فسا". وقبل أن نصل إلى "جليان" وقعت عيناي على قبّة ضريح سليل الأئمة السيد "شمس الدين"، فقلت للسيد محمود: "توقّف قرب المقام".

أوقف السيارة.
- تفضّلي يا حاجّة.

فتحتُ الباب الخلفيّ فنظر محمود إلى مرتضى.
- أشارطك أنّ الحاجّة تريد أن تضع النقود مجددا في صندوق الضريح!
 
 
 
 
 
383

372

بهشت آباد

 فتبسّمتُ ثم ذهبت نحو الصندوق وأدخلت فيه ورقة مئتي تومان حمراء اللون. بعد ذلك زرت صاحب المقام زيارة سريعة ورجعت إلى السيارة. قال محمود لزوجته: "إنّ قلبي يحترق على مرتضى!".


مسح مرتضى على لحية محمود ضاحكًا.
- وما الذي يحرق قلبك؟
- إنّ مرتّبك الشهري لا يتجاوز الألفين وثمانمئة تومان، وفي كل مرة نمرّ من هنا تضع زوجتك مالًا قد نذرته للسيّد ابن الإمام! لا أعلم هل يبقى لديكما مال لتصرفانه أم لا؟ أعتقد أني عرفت سرّ نحول جسمك يا مرتضى؟!

التفت مرتضى إلى الخلف وقال لي: "الآن عرفت لماذا أصاب دائمًا بالجراح ولا أوفّق للشهادة".

فسأل محمود: "وما علاقة هذا الأمر بالشهادة؟".
- العلاقة واضحة. فمن جهة أنا أدعو الله أن أرزق الشهادة وفي المقابل تتضرع ابنة خالتي بالدعاء والنذر لكي لا أستشهد. ولا بدّ أنّ الملائكة وقفوا حيارى أيستجيبون دعائي أم دعاءها!

أخذت أفكّر في ما قاله مرتضى مازحًا حتى وصلنا إلى البيت.

بعد تناول طعام الغداء وبينما أنا أفرغ حقيبتي وإذا بنداء "يا الله، يا الله" يعلو في باحة البيت المملوءة بالغبار والتراب!
- تفضلوا بالدخول، أهلًا وسهلًا.. شرّفتمونا.

نهضت بسرعة ووقفت خلف نافذة الغرفة الخشبيّة ونظرت إلى الباحة لأرى جمعًا من الناس وفيهم الغريب والصديق والكبير والصغير والقروي والمدني قد دخلوا البيت، وأخذوا يعانقون مرتضى ويقبّلونه، ثمّ وضعوا حول عنقه إكليلًا من الورد، كما ذبحوا أضحية من أجله. كأنّ مرتضى قد عاد لتوّه من حجّ بيت الله. انتابني الذهول والحيرة!
 
 
 
 
 
384

373

بهشت آباد

 ما برحتْ غرفة مرتضى تغصّ ثم تخلو من الوافدين فيما انشغلتُ طوال الوقت بتهيئة الضيافة. 


في اليوم التالي حضرتْ مجموعة من قِبل الحرس الثوري وأخذوا مرتضى إلى "فسا"، وسمعت فيما بعد أنّه خطب في مراسم صلاة الجمعة. في المساء، وحين عاد وبيده كتاب وصورة للإمام الخميني، نظرت إليه بعينين ملؤهما الشكوك والاستغراب ثم قلت: "ما سبب كل هذا الذهاب والإياب والزيارات والاستقبال.. أخبرني بالحقيقة؟!".

حاول أن يتجاهل الأمر.
- أي حقيقة؟ 
- ما سرّ هذه الحفاوة؟ لماذا يزور بيتنا الجميع؟ لماذا يقومون بتكريمك ويأخذونك إلى "فسا؟".

فضحك متظاهرًا أنّه لم يدرك قصدي.
- آه..نعم.. الآن فهمت ماذا تقولين..
- أجل، لا تدّعِ أنّك لم تفهم ما قصدت.
- إنّ الناس يسألون عن أخبار الحرب وأنا أقوم بدور الحكواتي في القهوة وأسرد لهم ما رأيت!
- هل تريدني أن أصدّق ما تقول؟

لكنّي لمّا شعرت أنّه يخفي عليّ أمرًا ما كففتُ عن مضايقته. في ذلك الوقت كنت أعيش لحظات سعيدة لرؤيتي أفراد عائلتي وأقاربي ولو لأيام قليلة.
 
 
 
 
 
385

374

قصف مرعب

 قصف مرعب - 23/أيلول/1983


صباح أول يوم من أيام فصل الخريف كنت أحيك لمرتضى كنزة من الصوف كُحلية اللون. فجأة قُرع باب غرفة فندق "قيام"، فشعرت بالاضطراب وقلت في نفسي: عسى أن يكون خيرًا..

وضعت العباءة على رأسي وفتحت الباب بحذر فإذا بها "حليمة"، المرأة ذات القامة الطويلة من مدينة "خرّمشهر".
- السلام عليكِ يا سيدة "جاويدي".

حدّقتُ في وجهها الفتيّ الأسمر المليح، فرأيت عينيها تضجّان بالنشاط والحيويّة، عندها تنفّست الصعداء! كانت حليمة قد خرجت وزوجها من وطأة حصار "خرمشهر" الذي دام ثلاثة وثلاثين يومًا. التحق زوجها بجبهة القتال مع مرتضى فيما بقيت هي معنا في فندق "قيام". قلت لها: "تفضلي بالدخول، هل حدث شيء؟".

نظرت إلى الصنارة وخيط الصوف اللذين كانا في يدي ثم وضعت يدها على فمها وضحكت قائلة: "هل تحيكين كنزة للسيد مرتضى؟".
- ادخلي الآن!
- شكرًا، أردت أن أسألك، هل رأيتِ صورة زوجك في الصحيفة؟
- صورة مرتضى؟
- أجل، لقد حضر زوجي. سوف آتي لكِ بالصحيفة!

ما إن ذهبت حليمة حتى رنّ جرس هاتف الغرفة.
- نعم.. م..م.. مرتضى؟ هل هذا أنت؟ أين أنت؟
 
 
 
 
386

375

قصف مرعب

 - ألا تسلّمين عليّ يا سيّدة!

- السلام عليك، ولكن، أين أنت الآن؟
- إنني في غرب البلاد، آخذ قسطًا من الراحة.
- راحة! أين؟
- في "تبريز".
- لماذا في "تبريز؟".
- أُصبتُ بجرحٍ طفيفٍ.. 

لم أعد أسمع صوته. مرّت في مخيّلتي سحُبٌ من الأفكار العجيبة المؤلمة فأرعبتني، وأجهشتُ بالبكاء.
- يا بنت خالتي.. إنني أكلّمكِ.. إن بكيتِ فسأقطع المكالمة!
- حسنًا.. ولكن أين جُرحت؟ بالله عليك أخبرني..
- ليس هناك ما يقلق. إنّه مجرّد جرح سطحيّ!
- أين أنت الآن؟!
- سبق أن قلت لكِ في مستشفى "تبريز!".
- إن كان جرحك طفيفًا لمَ أنت في المستشفى إذًا؟
- تعرفين ما يقوله الأطبّاء: من أجل الاطمئنان!
- أعطني عنوان المستشفى، أريد أن أذهب إلى هناك.
- هل أنتِ تمزحين يا بنت خالتي، إنّ تبريز بعيدة! لقد أقنعت طبيبي أن يرسلني إلى شيراز، حينها يمكنك البقاء بقربي قدر ما تشائين، هل هذا جيّد؟ لكن لديّ رجاء منك!
- أي رجاء؟
- لا تخبري أحدًا بالأمر، خصوصًا أبي وأمي. هل تعدينني بذلك؟
 
 
 
 
387

376

قصف مرعب

 - أين أُصبت؟

- لقد أصبت ببعض الخدوش في يدي ورجلي. حسنًا، هل تعدينني؟؟
- حسنًا يا مرتضى!

وضعتُ سمّاعة الهاتف وغرقت في أعماق نفسي.

عند الظهر أتت كل من "بروين" و"حليمة" والأخريات وحاولن إخراجي ممّا أنا فيه. قالت بروين: "قرروا أن يأخذوا العائلات إلى "خرمشهر" لإحياء العاشر من محرم، تعالي برفقتنا أنتِ أيضًا".

وضعتُ يدي سريعًا على الهاتف.
- لن آتي. إنني أنتظر مكالمة من مرتضى. لن أذهب إلى أيّ مكان بدون إذن مرتضى!

قلت ذلك جازمةً بحيث أصيبت بروين بالدهشة.

لم تمرّ ساعة على ذهاب بروين حتى اتّصل مرتضى.
- يا بنت خالتي، اتصلت بك لأوقّع على ورقة مأذونيّتك للذهاب إلى خرّمشهر! 
- سوف أبقى هنا. إنّك تدخل السرور على قلبي بمكالماتك!
- اسمعي، سوف تشعرين بالوحدة وستتأذّين. اطمئنّي لن أتّصل هذه الفترة. اذهبي إلى خرّمشهر يوم العاشر من محرم عسى أن تُوفَّقي لإحياء العزاء. أو لعلّك تخافين من الذهاب؟! ها؟
- لن أذهب!
- أدام الله رزقك! قولي إنّك تخافين! 
- كلا، هل نسيت أنني بنت الجبل!
- إذًا أقسم عليكِ بحياة الإمام الخميني أن تذهبي ولكِ عليّ أن لا
 
 
 
 
 
388

377

قصف مرعب

 أتصل هذه المدّة.


فلم يكن لي حيلة إلّا الاستسلام.
- حسنًا، سأذهب!

في اليوم التالي كنت أقف على سطح المسجد الجامع في خرمشهر أنظر إلى المدينة المحرّرة، فيما أخذت مواكب صغيرة وكبيرة من المجاهدين الذين يلطمون صدورهم تتّجه من الشوارع المحيطة نحو المسجد. وقف بينهم "كويتي بور" وهو يقول ناعيًا:
يا ليتني أموتُ حزنًا لفاجعة عاشوراء
لم يرجع حامي خيام آل الرسول.

كلّما وقع نظري على شابّ من المجاهدين تراءى لي مرتضى. ليته كان بينهم اليوم. تقدّمتْ منّي بروين وابنتها الصغيرة سمية ثم قالت: "كأنّهم ألقوا قنبلة ذَريَّة على خرمشهر. لم يبقَ فيها بيت سالم!".

نظرتُ إليها، وكنت أحبّها أكثر من أختي، ثم قلت: "سامحيني يا أختاه، كنت أودّ أن أرى خرّمشهر بعد تحريرها!".
- حين يفقد الإنسان شيئًا ثمينًا ثم يجده فإنّه سيعرف قدره أكثر.

بينما أنا أراقب مواكب اللطم وإذ بالسكوت يخيّم على المدينة المدمّرة.
- إنّها طائرات عراقيّة! اختبئوا.

علت الأصوات. خافت سمية وأخذت بالبكاء. نظرت إلى السماء فرأيت سواد طائرتين حربيّتين عراقيّتين أخذتا تغيران على المدينة. تفرّقت مواكب اللطم ولاذ كلّ واحد إلى ملجأ. ملأ الأجواء صوت المضادات المنطلقة من أطراف المدينة. ما لبثتْ صفحة السماء الزرقاء أن انتقشت بالكثير من الدوائر البيضاء الصغيرة التي أحاطت
 
 
 
 
 
389

378

قصف مرعب

 طائرتَي العدو محاولة نسفهما. ما إن هممتُ بالنزول من السطح حتى سمعت دويّ عدّة انفجارات عمّ بعدها الصمت والسكون، ولم يطل الأمر حتى ارتفع الدخان والغبار من مناطق متفرّقة من المدينة.

- أين قصفوا؟ لعنة الله عليهم!

كانت المرة الأولى التي شاهدتُ فيها الحرب بهذا القرب. وخلافًا لما هو متوقّع، فإنني لم أشعر بالخوف والفزع من خطر الحرب، ليس هذا فحسب، بل تملّكني حينها شعور جيّد، ولعلّه كان بقدر ذرّة من تلك المشاعر المعنوية العجيبة التي تعمر قلوب المجاهدين ليلة العمليات العسكرية، والتي لطالما أخبرني عنها مرتضى! في تلك اللحظة أدركت كيف كان مرتضى يثبت كالجبل الراسخ رغم ضراوة الحرب. كأنّ طائرتي "ميغ" السوداوين العدوّتين دمّرتا كل أنواع الشكّ والضعف والحقارة في نفسي ثم غادرتا.
- علينا الذهاب إلى "عبادان!".

أمسكت بروين بيدي محدّقةً بي باستغراب، ثم تبسّمت وتابعت كلامها قائلة: "ماذا حدث، لقد انقلبتِ بشكل مفاجئ".

ألقيت نظرة أخيرة على التقاطع والشارع اللذين مرّ فيهما مواكب اللاطمين، وتناهى إلى سمعي دوي الانفجارات وأزيز الرصاص.

عند خروجنا من خرّمشهر وقع نظري من خلال نافذة الحافلة على عدد كبير من السيّارات الخاصّة والأعمدة الحديديّة المغروزة في الأرض بشكل عموديّ. قلت: "ما هذه؟".

فأجابني علي أكبر رحمانيان وكان يجلس قرب زوجته: "سيّدة جاويدي، لقد غرسها العراقيّون لكي تنبت منها أسلاك حديديّة!".

فضحكتُ وشعرت بتحسّن. تركنا خرّمشهر متّجهين نحو عبادان
 
 
 
 
390

379

قصف مرعب

 التي كانت مدّمرة بشكل جزئيّ بحيث لم يخلُ مكان فيها من آثار القنابل والقذائف.


عند الظهيرة تناولنا الغداء، معلّبات السمك مع الخبز، وبقينا نرزح تحت وطأة نيران مدفعيّة العدو حتى العصر. مررنا على مقبرة شهداء الحرب كما قرأنا الفاتحة لأرواح ضحايا سينما "ركس" في عبادان، ثم توجّهنا نحو الأهواز. أمّا أنا فكلّما كنت أبتعد عن خطوط المواجهات سيطر الاضطراب والقلق عليّ أكثر فأكثر!
 
 
 
 
391

380

الوليّ الصالح إسماعيل

 الوليّ الصالح إسماعيل - 24/أيلول/1983


مساءً رنّ جرس الهاتف، رفعت السمّاعة، وبادرت بقولي: "نعم".
- السلام عليكِ يا بنت خالتي!
- عليك ال..س..س..لام، مر..ر..تضى! كيف حالك؟
- ما بكِ؟ أراكِ مرتبكة؟

تنفّست الصعداء.
- ومن ذا الذي يسمع صوت مرتضى فلا يرتبك؟!
- يا لكِ من محتالة!! لقد أقنعتُ طبيبي بأن يرسلني إلى شيراز، وتواصلتُ مع الحاج محمود وعلي لكي يأتيا بكِ إلى هناك.

ما إن وضعتُ السماعة حتى شرعت بالبكاء. بعد ذلك نهضت وفتحت باب الغرفة ثم نظرت إلى ممرّ الفندق، ما لبثتُ أن أغلقت الباب ودخلت. سرت قليلًا ثم وقفت أمام النافذة وألقيت نظرة على شجر النخيل ونهر "كارون". نظرت إلى الساعة التي كانت عقاربها تشير إلى العاشرة مساءً. فجأة طُرق الباب فأسرعت وفتحته لأرى بروين وهي تقول لي: "محمود حاضر للذهاب، هل أنتِ مستعدّة؟".

فأشرت برأسي وعينيّ بأنني مستعدّة.
- إننا ننتظرك أمام الفندق.

لم أدرِ كيف وضّبت حقيبتي ثم أغلقت باب الغرفة ونزلت الدرج سريعًا. خرجت من الفندق فرأيت سماحة الشيخ بنائي والسيد ألواني وعائلتيهما ينتظرون قرب السيارة. ركبتُ السيارة الكاكية اللون، حيث
 
 
 
 
 
392

381

الوليّ الصالح إسماعيل

 جلسنا نحن النساء في الخلف فيما جلس الرجال في المقاعد الأمامية.


في تلك الليلة، وعلى ذلك الطريق المظلم ما خلا انعكاس أضواء السيّارات المقابلة، كانت الفرصة مؤاتية لأن يسبح خيالي في بحر من الأفكار المتلاطمة: من الممكن أن تكون رجله أو يده قد قطعت.. أو عينه قد انطفأت.. جريح! لعلّه هكذا يبقى بقربي.. لكن لا، ذاك الذي أعرفه لن يترك الحرب ولو قُطعت يده ورجله! أنانيةٌ أنا لأنني أريده لنفسي فقط؟ ليت النساء يستطعن القتال في الخطوط الأماميّة، حينها سنبقى معًا، مهما حلّ بنا من مصائب.. الوحدة والانتظار يقتلان الإنسان .. للهِ صبرك يا مولاتي يا فاطمة.. يا زينب الكبرى.. كلّما اقتربتُ من شيراز كان الهدوء والسكينة ينسلّان من داخلي أكثر فأكثر.

في صباح اليوم التالي وصلنا إلى مستشفى "نمازي" في شيراز.
- أيتها الممرّضة.. مرتضى جاويدي، جريح نُقل من مستشفى تبريز.. لواء المهدي.. كتيبة الفجر..

أخذتُ أركض داخل ممرّ المستشفى مسرعة. فجأة رأيت رجلًا نحيفًا هزيل الجسم عليه زيّ أزرق مخطّط، يمشي بالاتجاه المعاكس لي. صرخت قائلة: "مرتضى!".

ما إن أدار الرجل وجهه حتى شعرت بعينيّ تلتهبان. كانت يده اليمنى ملفوفة بجبيرة الجصّ وقد عُلّقت برقبته. لقد كنت أعشق مرتضى إلى حدّ التقديس. يا إلهي، لولا وجود الآخرين حولنا لعانقته وانهلت عليه تقبيلًا، ولكحّلت عينيّ بتراب قدميه، وربّما لسجدت أمامه والعياذ بالله! في كلّ مرّة أراه كنت أشعر بأنّه أغلى وأثمن من ذي قبل، وهذا ما كان يقلقني! اقتربت منه فالتفتَ إليّ تعلو وجهه النحيف ابتسامة، أمّا جسده فكان مملوءًا بجراحات مضمّدة وأخرى مكشوفة. وحين رفع
 
 
 
 
393

382

الوليّ الصالح إسماعيل

 قدمه أحسستُ وكأنّ الشظايا الصغيرة والكبيرة التي اخترقت جسده تضغط على أعصابه فبان أثر الألم واضحًا على قسمات وجهه. وقفتُ أمامه فيما اغرورقتْ عيناي بالدموع. قلت في نفسي: ليتني أستطيع أن آخذه إلى مكان لا تصل إليه يد أحد، يا ليت، يا ليت!!


لكنني ما لبثت أن عنّفت نفسي: أنانيّة.. أنانيّة!

صحت في وجهه معاتبة: "مرتضى.. ألم تقل لي إنه جرح بسيط..هل هذا من المروءة؟!".

فوضع يده على كتفي.
- يا بنت خالتي، اجمعي أغراضي ولننطلق إلى "فسا".

دخلنا غرفة فيها سريران استلقى على أحدهما فتى تعبويّ جريح. أما سرير مرتضى والطاولة المجاورة له فقد امتلآ بالورود وعلب الحلوى ومعلبات الفاكهة والعصير.. ضحك محمود ستوده:
- هل هذا مستشفى أم دشمة الدعم والتموين!

قال ألواني: "يمكننا بوجود كلّ هذه الأزهار والحلوى والعصائر أن نفتح دكانًا لبيع الخضار أو الحلوى أو الزهور!".

قال محمود ستوده: "من الأفضل أن ننطلق بعد الظهر".

فأشار "ألواني" إلى الأطعمة.
- سينالنا شيء من هذا على الأقلّ.

ضحك مرتضى قائلًا: "إن حلّت الساعة الثانية فسيحضر جميع أهالي شيراز إلى المستشفى لزيارة الجرحى، حينها سنضطر للبقاء حتى الليل!".

رافقَنا مرتضى من دون أن يبدّل زيّ المستشفى.
 
 
 
 
 
394

383

الوليّ الصالح إسماعيل

 مررنا ببحيرة الملح ثم بقرية "مهارلو". قال مرتضى لمحمود ستوده: "توقّف عند مقام الولي الصالح إسماعيل حتى نصلّي".


فقال ألواني: "ها هو ذا مقام الولي الصالح إسماعيل".

كان مرتضى يجلس بقربي ويده معلّقة بعنقه فتبّسم لي.
- هل تُضحككِ ثيابي يا بنت خالتي؟

أدّينا الصلاة في مقام سليل الأئمة إسماعيل ثم انطلقنا.

مررنا بـ"فسا" وحين اقتربنا من قرية "خيرآباد" رَكن محمود السيارة إلى جانب الطريق وقال: وهذه هي قريتنا!

قال مرتضى: "هل تريد أن تقول لنا إنّ قريتكم أكبر من قريتنا!".
- لا يا بن العم، أريد أن أقول إنّك إن دخلت "جليان" بهذه الهيئة فسوف تصاب أمّك المسكينة بسكتة قلبية!".

ثم التفت إليّ قائلًا: "هل لديكِ ثياب له يا حاجّة؟".
- ها.. أجل!

أدخلتُ يدي في الحقيبة بسرعة وأخرجتُ ثياب عرسه الكحليّة. وعلى الفور علت أصوات "ستوده" والسيّدات بالضحك. أمّا السيد ألواني فأخذ يضرب على باب السيّارة وهو ينشد: "عريس الزين يتهنّى..!". ضحك مرتضى وقال: لقد أرقتِ ماء وجهي يا بنت خالتي!

أطرقتُ برأسي أرضًا فيما مرّت في ذهني أحداث يوم الخطبة. قال محمود ستوده: "إنّه جيد، إلبسه يا سيد مرتضى!".
- ليس المكان مناسبًا، على حافة الطريق و..
- اسمح لي، سوف أرتّب الأمر. أرجو المعذرة، فليترجّل الجميع من السيارة ما عدا العريس.
 
 
 
 
 
395

384

الوليّ الصالح إسماعيل

 ترجّلنا جميعًا فيما لم يكفّ "ستوده" عن المزاح.

- فلينظر الجميع ناحية القبلة!

ضحكنا ونظرنا إلى الجبل، لمحتُ في سفحه قطيعًا من الأغنام يتحرّك نحو الأسفل، وتناهى إلى أسماعنا رنين الأجراس المعلّقة في رقابها. أخذت أفكّر في الحياة: إلهي اجعل حياة الجميع عامرة بمثل هذه اللحظات الحلوة.. ولا تجعلها تمرّ سريعًا! إلهي اجعل هذه الدنيا خالية من الغصص والآلام .. واختم هذه الحرب بنصر المجاهدين..
- يمكنكم أن تنظروا الآن!

التفتنا إلى الخلف لنرى جسد مرتضى النحيف والهزيل قد غرق في تلك البدلة، وكأن ألم الجروح والشظايا قد نُفِضَتْ جسمه!
- تفضّلوا بالركوب.

عندما اقتربنا من قرية "جليان"، فتح مرتضى الرباط الذي عُلّقت يده به. قلت له: "ماذا تفعل؟".
- هكذا أفضل.

دخلت سيارة التويوتا أزقّة القرية الترابيّة. أصابتني الدهشة حين رأيت الكبار والصغار يخرجون من بيوتهم ويمشون خلفنا. توقّفت السيارة أمام بيت الحاج رضا. ما لبث أن خرج الوالد من البيت وكأنّه شمّ رائحة ولده. ترجّل مرتضى. نظر "مش رضا" إلى وجه ولده مرتضى وقال بلحن خاص: "هل جُرحتَ ثانية؟".

قال ستوده: "من أين علمت يا حاج؟".
- لقد رأيت حلمًا.
- يا حاج رضا، إنّ مرتضى لم يصب بجروح. كلّ ما في الأمر أنّه كان يقشّر برتقالة فجرح يده!
 
 
 
 
 
396

385

الوليّ الصالح إسماعيل

 أسرعت خالتي "شهربانو" نحو مرتضى وقبّلت رأسه ووجهه!

- فديتك بروحي يا عزيز أمّك!

ثمّ جاء الأقارب والمعارف وأهالي القرية وقبّلوا مرتضى. كانت القرية تضجّ بأهلها والجميع يتكلّم عن "اشلو"، أمّا أنا فازددت قلقًا. تضايق مرتضى من محمود ظنًّا منه أنّه أخبر الناس من قبل بمجيئه. لكنّ محمودًا نفى ذلك بشدّة فهدأ باله. 

دخلنا المنزل، فما لبث أن كسر "ستوده" جدار الصمت مشيرًا إلى جدار الغرفة.
- يا أمّ مرتضى، لماذا علّقتم صورة "قدمعلي" ولم تعلّقوا صورة مرتضى؟

فقالت الخالة شهربانو: "ماذا أقول لك يا ولدي؟! لطالما طلبت منه أن يأخذ صورة له ولكنّه لم يقتنع!".

فالتفت ستوده إلى مرتضى قائلًا: "سوف نضع صورة للسيد مرتضى على الحائط إن شاء الله!".

تملّكني والخالة شهربانو القلق. حاول ستوده أن يصلح ما قاله، ولكنّه زاد الطين بلة فقال: "نسأل الله أن يختم حياتنا جميعًا بالشهادة!".
 
 
 
 
 
397

386

الخطّ الأمامي

 الخطّ الأمامي - 25/أيلول/1983
 
بعد الظهر عاد مرتضى من شيراز بعد إجراء معاينة لجروحه وفكّ الجبيرة عن يده. دخل باحة المنزل ثم جلس وناداني: "آمنة، هلّا أحضرت لي إبرة؟".

عندما أحضرت له الإبرة وجدته قد أشعل المدفأة الزيتية. قلت له: "أتريد أن تخيط ثوبًا؟".

فضحك. قلت: "أشعلتَ المدفأة في هذا الحرّ؟!".

دخلتُ الحظيرة وحلبتُ الشاة. وحين عدت وجدته منهمكًا في عمل ما وقد أحنى رأسه. اقتربت منه لأرى بجانبه قطعة من ورق الكرتون وعليها عدد من قطع الشظايا الملوّثة بالدم فاقشعرّ بدني! كان يُخرج الشظايا الصغيرة من تحت جلده بالإبرة. عندما وضع الإبرة المغطاة بالدخان الأسود على النار ثانية قلت له: "ماذا تفعل يا مرتضى؟". تفاجأ ورتّب جلسته سريعًا ثم ضحك وقال: "لقد كنت أقوم بعمليّة جراحيّة مستعجلة!".
- ولكن يا رجل، سوف تلتهب!
- لقد اخترقت الشظايا الجلد فقط.
- قل لي الحقيقة يا مرتضى ماذا حلّ بك؟
- لا شيء يُذكر يا بنت خالتي.

تذكّرت كلام "علي ألواني" حين قال لي: "اهتمّي بمرتضى، لقد شعر بالغثيان عدّة مرّات خلال الطريق".

قلت لمرتضى: "ماذا تريد أن تفعل؟ لماذا تخفي عنّي؟".

حين رأى دموعي قال: "حسنًا اذهبي وأحضري قليلًا من الماء الساخن حتى أغسل هذه الجروح!".
 
 
 
 
 
398

387

الخطّ الأمامي

 ذهبت وسخّنت قليلًا من الماء، ثم عدتُ فوجدته جالسًا قرب الحوض الإسمنتي. ما إن خلع قميصه حتى سألته بصوت مرتعش: "ما هذا يا مرتضى؟".

- فديتكِ بنفسي، إنّها شظايا!

أصابني الذهول من كثرة الجروح في ظهره. ولا أبالغ إن قلت إنّ ليس ثمّة مكانٌ سالم في جسده! بعض تلك الجروح كانت قد خيطت وبعضها بقي على ما هو عليه. شعرت وكأنّ الدنيا تدور من حولي! قلت له: "عليك أن تذهب إلى المستشفى".
- أرأيتِ أنّك لا تقدرين على أن تصبحي ممرّضة! من الواضح أنّك لم ترَي جرحًا قبل الآن!

بعد أيّام ناداني مرتضى عند الصباح وكانت جراحاته لم تلتئم بعد: "وضّبي حقيبتك، علينا العودة إلى الأهواز عصرًا".

تبسّمتُ، فتابع قائلًا: "حين نصل إلى شيراز سأذهب أنا إلى "زرقان" وتذهبين برفقة عائلتَي السيدين ستوده وألواني إلى الأهواز، وسألحق بكم فيما بعد".
- لماذا إلى "زرقان"؟، أَلِأجل زيارة عوائل أفراد كتيبتك؟ 
- أصبحتِ كأحد أعضاء هيئة كتيبة الفجر يا آمنة! لقد أصرّ أحد شبّان الكتيبة عليَّ فوعدته أن أزوره برفقة "بديهي" ليوم أو يومين.
- ألا يضرّ هذا بجروحك؟

أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال:
- إننيّ أعشق هذه الجروح! اذهبي الآن واجمعي أغراضك.

عندما ودّعت والديّ نصحاني قائلَين: "إنّ الأهواز تتعرّض للقصف يوميًّا، الأوضاع خطرة هناك!".
- "لو كان باستطاعتي مرافقة مرتضى إلى الخطّ الأمامي لفعلت!".
 
 
 
 
 
399

388

الخطّ الأمامي

 عصر ذلك اليوم ركبتُ وعائلات كلٍّ من "ألواني" و"ستوده" و"نورأفشان" السيارة وانطلقنا باتّجاه شيراز. في الطريق اشترى مرتضى والآخرون تينًا وشمامًا (خربُزه) وأخذوا يأكلون ويمزحون.


أثناء سيرنا شعر ألواني بالغثيان، كأنّ التين لم يناسبه. أمّا مرتضى وستوده فشقّا الـ(خربزه) وقدّما منها للآخرين. لم يستطع ألواني أن يأكل وانزوى ساكتًا. فيما أخذ الاثنان يأكلان منها ويرميان القشور على علي ألواني قائلَين: "هنيئًا لنا أنّنا سالمان!".

قطع ألواني صمته وقال لمرتضى بصوت عالٍ: "إليك عنّي أيّها القروي. سأخبر الجميع كيف أرقت ماء وجوهنا أمام الإمام الخميني!".

نظر مرتضى إليّ ثم إلى ألواني نظرة ملؤها التوسّل.

أمّا ألواني الذي عرف نقطة ضعف مرتضى فتابع قائلًا: "أريد أن أعلم أيّ علاقة تربطك بمحسن رضائي، القائد العام للحرس، حتى تناديه بلا تكلّف: محسن!".

ضحك الجميع. فرمى مرتضى قشرة الشمام نحو ألواني. وبعد وقف التراشق مرّ في ذهني كلام الناس عن مرتضى والجريدة واللقاءات والاستقبالات. قلت له: "عمَّ يتحدّث السيد ألواني؟!".

فحاول أن يماطل مجدّدًا.
- إنّه يمزح.
- هل تقصد أنّ اللقاء الخاص بالإمام وقائد الحرس كان مزحة؟

فاضطرّ إلى أن يخبرني باختصار أنّه وبسبب الانتصار الذي حققه شباب الكتيبة في عمليات "والفجر2" أخذوهم للقاء الإمام. قاطعته قائلة: "هذا فقط!".
- فقط.

حين وصلنا إلى شيراز ترجّل مرتضى ثم توجّه نحو مدينة "زرقان".
 
 
 
 
 
400

389

بيت الأحزان

 بيت الأحزان - 3/ ت1/1983


قبيل الظهيرة كنت في غاية السرور. لقد أحضر معه هذه المرة معاونه محمد رضا بديهي إلى مدينة "زرقان". سألته: "هل ستزور مكانًا آخر غير زرقان يا عمّ مرتضى؟".

فتبسّم وقال: "سيد همّتي، إنني أعتبر جميع المدن التي لديها عناصر في كتيبة الفجر كمدينتي!". ثمّ ربّت على كتفي وتابع: "سيّد مسعود، فلنذهب إلى روضة الشهداء عصرًا".
- طلباتُ "اشلو" أوامر!

بكلّ فخر واعتزاز أخذتُ الرجُلَين بدايةً لزيارة قبور شهداء زرقان. وبعد أن قرأنا الفاتحة ذهبنا إلى المسجد الجامع في زرقان لأداء صلاتي المغرب والعشاء. وكان من عظيم دهشتي ما رأيته من استقبال أهل زرقان وشبابها وحفاوتهم بالعم مرتضى قبل الصلاة وبعدها بل وقبل ذلك في روضة الشهداء! لقد كان جميع أهل مدينة زرقان يعرفونه. فملحمة "والفجر 2" وشجاعة شباب زرقان في تلك المعركة، فضلًا عن قيادة مرتضى الرشيدة لكتيبة الفجر ولقائه بالإمام الخميني، وخطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ رفسنجاني، كلّ ذلك جعل مرتضى محور أحاديث الناس وكلامهم. كان الجميع، كبارًا وصغارًا، يتحلّقون حوله ويقبّلونه ويتحدّثون معه:
- هل تستقبل كتيبة الفجر المزيد من العناصر؟
- نريد أن ننضمّ إلى الكتيبة، ماذا علينا أن نفعل؟
- ائذن لنا أن نقبّل الجبهة التي قبّلها الإمام!
 
 
 
 
 
401

390

بيت الأحزان

 - هل عليّ أن أطلب الانضمام إلى الكتيبة مباشرة أم إلى فرقة1 المهدي؟

- أنا معلّم، ولا تسمح لي وزارة التربية والتعليم بالذهاب إلى الجبهة لأكثر من 54 يومًا، هل يمكنني أن آتي إلى كتيبة الفجر؟

لم يترك الشباب مرتضى لحظة، بل صاروا يلحقون به في الشوارع والأحياء. قلت له: "لقد تأخّر الوقت، هل نذهب إلى البيت؟".
- ثمّة مكان آخر علينا الذهاب إليه.
- إلى أين؟!
- إلى نادي الرياضة التقليديّة" "الزورخانة"2.

لم تكن الطريق إلى النادي بعيدة. أفلتنا من الناس بصعوبة وتوجّهنا إلى النادي برفقة محمد رضا بديهي.

دخلنا النادي إلّا أنني لم أدرِ كيف عرف الناس بحضور مرتضى، فما كان منهم إلّا أن قاموا ورفعوا أصواتهم بالصلوات احترامًا لدخوله. همس مرتضى في أذني: "مسعود فلنجلس في المكان المعتاد!".

ذهبنا وجلسنا في مكاننا المعتاد قبالة المنشد -وكان من مدينة "نهاوند" - وأخذنا نستمع إلى صوته المؤنس. فهمَ المنشد أنّ رجلًا ذا أهمية قد دخل النادي فتوقّف عن الإنشاد بانتظار أن يأذن له مرتضى بمواصلة إنشاده والضرب على الطبل. حدّق مرتضى في نقطة بعيدة ثمّ تأوّه من أعماق قلبه آهة قلبت كيانه، كمن ذكر عزيزًا له وهو حديث العهد بفقده. بلّلت قطرات من الدمع عينيه وخاطبني بصوت
 
 

1- لشكر المهدى، يبدو أن لواء المهدي تحول لاحقًا الى فرقة، ولذلك نرى في النصوص اختلافا، فأحيانًا ورد بعنوان (لواء المهدي) واحيانًا (فرقة المهدي).
2- يراجع الملحق: زورخانة. 
 
402

391

بيت الأحزان

 تشوبه الرعشة قائلًا: "مسعود، قل للمنشد أن يقرأ أبيات رثاء لمولاتنا الزهراء عليها السلام!".

- على عيني يا عم مرتضى!

ذهبت إلى المنشد الذي لم يكن يفصله عنّا سوى مسافة قصيرة، فسلّمت عليه وشرعت أحدّثه باختصار عن شخصية مرتضى فيما أصغى المنشد بدقّة وتمعّن شديدين إلى كلامي وهو يحملق في وجه مرتضى. في ختام كلامي قلت للمنشد: "إنّ قائدنا يريدك أن تقرأ له مصيبة السيّدة الزهراء عليها السلام!".

ما إن سمع المنشد اسم جدّة السادة حتى تغيّر حاله، فوضع يده على عينيه قائلًا: "بالتأكيد!".

رجعت إلى حيث مرتضى ومحمد رضا. همس "اشلو" في أذني مشدّدًا على اسمي وشهرتي: "لا قطع الله عيشك يا "مسعود همّتي"، ماذا كنت تقول للمنشد طوال هذا الوقت؟!".
- نقلتُ له رسالتك.

فنظر إليّ نظرة ملؤها الكثير من الكلام ولم يقل شيئًا.

لقد تكهّن ما قلت للمنشد فشعر بالاستياء.وما إن ضرب المنشد على طبله وشرع بقراءة أبيات الرثاء الحزينة، حتى نسي مرتضى كلّ شيء واغرورقت عيناه بالدموع وملأ كيانه الحزن والأسى!

كلّما أفاض المنشد بذكر مصائب السيدة فاطمة عليها السلام تغيّر حال كلٍّ من مرتضى ومحمد رضا أكثر فأكثر. سرعان ما تبدّلت أنّاتهما إلى عويل. ولم يطل الأمر حتى أمسى نادي الرياضة التقليديّة بيت أحزان! عندما انتهى مجلس العزاء لم يكن لأحد همّة ولا جلَد على القيام بالحركات الرياضية!
 
 
 
 
403

392

داخل البئر

 داخل البئر - 28/ت1/1983


في الصباح كنت جالسًا في السيّارة الخاصّة بالقيادة أفكّر في أوامر العقيد "جواديان" قائد "اللواء 55" في القوّات الجويّة لمنطقة شيراز: الرائد "كريم عبادت"، تقرّر في العمليّات المقبلة أن تُدمج كتيبتك مع كتيبة الفجر التابعة للواء المهدي في الحرس، وستنقلون بالطوّافات إلى خلف مواقع العدو.. اعقد جلسة مع قائد كتيبة الفجر.. 

حين وصلت السيارة إلى قاعدة "أميدية5" زادت حماستي لرؤية مرتضى جاويدي المعروف بـ"اشلو". فأنا من شيراز وقد سمعت بشجاعة قائد كتيبة الفجر من هذا وذاك. سأل الجنديُ السائقُ الحارسَ: "يا سيد، أين هو مقرّ قيادة كتيبة الفجر؟". 

وبدلًا من أن يجيب السائقَ، حملق حارسُ مدخل قاعدة "أميدية5" الجويّة - وكان يرتدي بدلة كحليّة - في بندقيتَي مرافقَيّ ثم نظر إليّ. نزعت النظارات الشمسيّة عن عينيّ وعقدت حاجبيّ وحدّقت بعينيه. فرتّب وقفته وضرب التحيّة العسكريّة ثم قال: "عذرًا سيّدي، اتّجه إلى الأمام مباشرة ثم انعطف إلى الشمال بعد محطّة الوقود، تصل إلى فندق H!".

قلت: "فندق H؟!".
- أجل حضرة الرائد. معذرة يا سيدي، ولكن عليكم أن تسلّموا أسلحتكم أيضًا!

سلّمنا المسدّس وبندقيتَي (G3) الخاصّتين بالمرافقَين، ثمّ دخلت سيارة "لاند كروز" القاعدة الجويّة. تمتمتُ بحيث لم يُعلم إن كنت
 
 
 
 
404

393

داخل البئر

 أكلّم نفسي أم المرافق الذي بجانبي قائلًا: "أمر مثير.. كتيبة من التعبئة والحرس تستقرّ في فندق H التابع للقوات الجويّة!".


وصلنا إلى الساحة الكبيرة المحيطة بمبنى H. ترجّلتُ وسرتُ نحو مقرّ قيادة كتيبة الفجر يرافقني سائقي والمرافقان ذوَا القامة الطويلة والزيّ المرقّط. كان عدد من شباب التعبئة بزيّهم الكاكيّ وآخرون من الحرس بزيّهم الأخضر موجودين في الساحة هنا وهناك. تعجّبوا لدى رؤيتهم لي وللجنود المرافقين. لم يكن ظاهر المبنى يشبه الفندق مطلقًا. لقد كان مبنى عاديًا بواجهة اسمنتيّة توحي بحاجتها القديمة إلى الترميم! أمّا ممرّ المبنى فلم يكن أفضل حالًا من الخارج، فبالإضافة إلى وضعه السيّئ فإنّ التعبويّين من كلّ أصقاع إيران كتبوا بأقلام الحبر والرصاص وغيرها على جدرانه جملًا كثيرة للذكرى. دخلتُ غرف المبنى الواحدة تلو الأخرى وسألت عن القائد مرتضى جاويدي، فقيل لي إنّه في الساحة!

كانت الغرف مرتّبة ومنظّمة لكنّ أبوابها وجدرانها مملوءة بمذكّرات المتطوّعين من عناصر التعبئة على امتداد سنوات الحرب: .. موفدٌ من "لار"، "شيراز"، "جهرم"، "كازرون".. بتاريخ كذا .."زرقان".. "داراب"..

في نهاية المطاف دلّنا أحدهم على بئر ماء ذات دولاب!

خرجنا من الفندق. في إحدى زوايا ساحة الفندق وقع نظري على دولاب بئر خشبيٍّ قديم وقد وقف شابّ عنده. اقتربت منه لأسأله عن قائد الكتيبة.
- السلام عليك أيّها الشاب!

حملق باستغراب في ثيابي المرتّبة والأنيقة وأكمام مرافقيَّ المطويّة.
- سـ..سـ..لام يا حضرة النقيب..
 
 
 
 
 
405

394

داخل البئر

 فتبسّمت. أمّا مرافقي الذي ثارت حفيظته لسماعه كلمة "نقيب" فقال: إنّه حضرة الرائد "كريم عبادت"، قائد الكتيبة الأولى في (اللواء 55) في القوات الجوّية!.
علا صوت من قعر البئر يقول: "كريم، ارفع الدلو إلى الأعلى!".

فأدار الشابّ، الذي غطّى الوحل رأسه ووجهه، الدولابَ بكلّ ما أوتي من قوة مستعينًا بيديه ورجليه، وحاول جاهدًا جمع الحبل ليُخرج من البئر دلوًا بلاستيكيًّا أسود مليئًا بالطين. بعد ذلك نزع الدلو من الصنّارة الحديدية المعلّقة بأعلى الحبل وأفرغ ما فيه على كومة من الطين والوحول قرب رجله. ابتعدتُ عنه قليلًا ثم سألته: "المعذرة يا سيّد، هل تعلم أين يمكنني أن أجد قائد كتيبة الفجر، السيد مرتضى جاويدي؟". تبسّم الشابّ كريم، وحكّ رأسه بإصبعه الملوّث بالطين ثم أشار إلى داخل البئر!
- يا حضرة النقيب، إن كنت تريد العمّ مرتضى فجنابه موجود داخل هذه البئر حاليًا!
 
 
 
 
 
406

395

المراحل السبع

 المراحل السبع - 12/ ت2/ 1983


كانت أصداء عمليات "والفجر 2" وملحمة تلّة "بردزرد" وبطولات كتيبة الفجر تتردّد في كلّ مكان وزمان. التحاليل السياسية والأخبار في الإذاعة والتلفزيون، الصحف، منبر الجمعة وخطبة الشيخ رفسنجاني، الجميع كان يمجّد كتيبة الفجر. وهذا ما أشعل روح الثورة في الكبار والصغار ولا سيّما في مدينة "فسا" ولواء المهدي!

بعد رجوعنا من معركة "والفجر2" واستقرارنا في الفندق الواقع في قاعدة "أميدية 5" التابعة للقوات الجوية للجيش، انهال علينا سيل المتطوّعين من التعبئة والحرس والمجنّدين الذين قدِموا بتوصية وبدونها من مدن محافظة "فارس"، وجميعهم أراد الانخراط في صفوف كتيبة الفجر. وبصفتي عالم الدين في الكتيبة (شيخ الكتيبة) كنت أحدّد الشروط و"مراحل رستم السبع"1 عسى بذلك أن تضيق دائرة الانتساب إلى الكتيبة. 
- يا شيخ بنايي، نريد أن ننتسب إلى الكتيبة!
- ثمّة شروط.. عهد الدم!
- لا يهمّ يا شيخ!
- ينبغي عليكم الصمود إلى آخر الحرب!
- سوف نصمد يا سماحة الشيخ!
 

1- إحدى القصص الموجودة في الشاهنامة وهي عبارة عن المراحل السبع التي اجتازها "رستم" أثناء سفره إلى "مازندران" لإنقاذ "كيكاوس" الذي اعتقل هناك. وفي الطريق صادفته أهوال سبعة، وتذكر القصة من أجل التعبير عن تخطّي الصعوبات.
 
 
 
 
409

396

المراحل السبع

 - إنّ أفراد الكتيبة يقاتلون في المعارك حتى الرمق الأخير!

- لا يهمّ يا شيخ!
- المأذونيّة محدودة!
- هل سبق أن أخذ أحدهم مأذونيّة من الجنّة؟! 
- صلاة الليل!
- تلك هي أمنيتنا يا شيخ!
- قراءة سورة الواقعة كلّ ليلة.
- وهل ثمّة توفيق أكبر من هذا!

لقد آلت الأمور إلى أن نرضخ للأمر الواقع، وذلك أنّ عدد قوّات الكتيبة وصل إلى سبعمئة عنصر! ورفضنا مئات الأشخاص بحجّة "مراحل رستم السبع" وغيرها من أعذار مختلقة. 

رغم ذلك فقد كانوا يبكون ويتوسّلون إلى هذا وذاك. كنت أضع نفسي مكان أولئك المجاهدين فأجدهم محقّين. حينها أدركتُ أكثر أنني أخذت الخيار الصائب بين التحصيل والتدريس في حوزة "فسا" العلمية ووجودي مع هؤلاء الأشخاص.

حين طرحت موضوع استقبال المجاهدين مع جعفر أسدي قائد اللواء قال: "أعرف هذا يا شيخ بنائي، ولذا طلبت من مرتضى أن يقبل تحويل كتيبة الفجر إلى لواء مستقلّ تحت إمرته فيمكن بذلك انضمام جميع هؤلاء الفدائيّين، إلّا أنّه رفض وقال إنّه يحبّ أن يبقى قائد كتيبة إلى آخر عمره، إن استطعت أن تقنعه بذلك فتوكّل على الله!".

فتأمّلت قليلًا ثم قلت: "سأحاول".

لكنني حين ذهبت إلى مرتضى واقترحت عليه مسألة قيادة اللواء ضحك وقال: "يا شيخ، لا تتدخّل في أمورنا!".
 
 
 
 
 
 
410

397

المشارطة

 المشارطة - 22/ ت2/ 1983


- يا أخ أميري، إذا كنت تصرّ على إجراء المقابلة فلماذا لا تذهب إلى "اشلو!". إنّه في قلب أحداث الحرب ومجرياتها!
- "اشلو؟".!
- أعني مرتضى جاويدي، قائد كتيبة الفجر!

في الثكنة، أجريتُ مقابلات حواريّة مع عدد من المجاهدين العاديين وقادة فرقة المهدي لكي أسجّل ذكرياتهم لقسم "إعلام المركز" فكان الجميع يتحدّث عن مرتضى جاويدي وملحمة تلّة "بردزرد". قلت لهم: "سأتولّى أمر إقناعه بإجراء المقابلة!".
- لن تستطيع!
- أشارطكم أنني سأوفّق!

وبالفعل، فقد اضطررت أن أشارط عدة أشخاص على (كباب مشوي) لذيذ من محلّ يقع على تقاطع خرّمشهر. وكانت قيمة وجبة الكباب مع اللبن وقنينة مرطّبات تساوي عشرين تومانًا هناك، في حين كانت الوجبة ذاتها تباع في محلّات أخرى بعشرة أو اثني عشر تومانًا! 

في صباح أحد أيّام الخريف ذهبت إلى قاعدة "أميدية 5" فوجدت مرتضى في المصلّى. في البداية ظننتُ أنني أخطأت الرجل. رأيت شابًّا قرويًّا بسيطًا يلبس بدلة الحرس الكاكيّة وقد بدا لي أنّه خجول. ساورتني بعض الشكوك والتساؤلات. قلت في نفسي: هل هذا هو القائد؟! إنّ هذا لا يقدر على تحمّل مسؤوليّة عنصرين.. يبدو أنني أخطأت. وبالرغم من الشكّ الذي لم يفارق ذهني بادرته بالسؤال:
 
 
 
409

398

المشارطة

 "أرجو المعذرة، هل أنت مرتضى جاويدي؟".


التفت ونظر إلى وجهي، ثم قال بصوته الهادئ الذي لا يختلف عن محيّاه: "أنا في خدمتك".

فأريته ورقة حكم مأموريّتي المختوم بختم المركز.
- إنني مبعوث من قِبل المركز لجمع مذكّرات القادة!

رفع نظره عن حكم المأموريّة، ثمّ تبسّم وقال: "يا أخ ناصر أميري، بالرغم من انتهاء صلاحية الحكم منذ يوم واحد إلّا أنني في الخدمة!".

أعجبني ذكاؤه الحادّ حيث قرأ اسمي وتاريخ الحكم بدقّة خلافًا لمن سبقه. قلت له: "سمعت أنّ لديك ذكريات جيّدة وأردتُ أن نحدّد موعدًا لإجراء مقابلة!".

أدار السبحة التي كانت في يده.
- يمكنك أن تسأل معاون الكتيبة الأخ "إسلامي" أو الأخ "بديهي!".
- أريد أن أجري حوارًا معك أنت بالذات!
- ليس لديّ الكثير لكي أقوله لك!

قلت في نفسي: يجب التحدّث مع مثل هؤلاء الأشخاص بفوقيّة.. فقلت بإصرار: "لقد جئت من قِبَل المركز، وعملي هذا في غاية الأهمّية!".
- فديتُ قامتك والمركز، إنّ شباب الكتيبة يستطيعون مساعدتك! عن إذنك!

ثم ذهب! أمّا أنا فقد ساءتني فكرة سخرية الرفاق وخسارة وجبات الكباب المشوي. لكنني لم أستسلم وبقيت ألاحقه وأطلب منه إجراء المقابلة متذرّعًا بضرورة هذا الأمر بالنسبة إلى المركز والإسلام
 
 
 
410

399

المشارطة

 والمسلمين حتى رضخ لي.

- سأكون في انتظارك غدًا بعد الظهر.

استغللت تلك الفرصة وقمت بتحقيق واسع حوله. في اليوم التالي دخلت غرفة قيادة كتيبة الفجر لأجد مرتضى يرتدي سروالا داخليا! قام لاستقبالي وسلم عليّ وقبّلني ثمّ أجلسني بقربه. 

وضعت المسجّل وعدّة العمل أمام مرتضى وشرعت بالحديث حول كل شيء.
- يقال إنّك أمرت بوضع نظام خاص في الكتيبة..

فقال مستغربًا: "أي نظام؟!".

فقلت بصوت جليّ: "أقصد ما يفعله عناصر الكتيبة من ترتيب البطّانيّات وتوضيبها بحيث لا يراها أحد، النظام الصباحي، الدعاء عند الطعام، قراءة سورة الواقعة ليليًّا، دعاء كميل والتوسل، والرياضة وكرة القدم.. حتى ما تقوم به أنت في فترة المأذونيّة من زيارات لمنازل عناصرك في مدنهم.. وباختصار إنّك لا تأوي إلى فراشك أبدًا!

فقاطعني قائلًا: "ماذا تريد منّي الآن يا بن الخالة؟!".

فأخذت أتحدّث بجدّية وتكلّف: "اسمع يا أخ جاويدي، إنّ هذا التاريخ يجب أن يحفظ للمستقبل وللأجيال القادمة. يجب أن يعلم أولئك ماذا قدّم مرتضى جاويدي من تضحيات و..".

فقطع كلامي قائلًا: "اسمع يا سيد أميري، إنّ تجربتي محدودة، وحضوري في ساحات الحرب كان من الألطاف الإلهية! لا أنا ولا أمثالي هو من يقوم بقيادة القوّات وتوجيهها، إنّ الله هو من يأخذ بيد الجميع في الكتيبة نحو العدوّ. أمّا الباقي فهو مبتنٍ على العقيدة الراسخة والإيمان القويّ لشباب وطننا الإسلاميّ!".

ثم سكت.
 
 
 
 
411

400

المشارطة

 فقلت: "أهذا كلّ ما لديك؟".! 

- هذا كلّ ما لديّ يا أخي مبعوث المركز العزيز!
- تقصد ليس لديك أيّ خاطرة أو شيء عن حياتك أو..!
- لا ليس لديّ، أدام الله رزقك! وما دَعوتُكَ إلّا لإصرارك الشديد. والآن إن لم يكن لديك مانع فابقَ معنا هذه الليلة!

شعرت باستياء كبير. أوقفتُ المسجّل بسرعة ونهضت قائلًا: "هل هذه باكورة الفاكهة1!".

أردت أن أخاصمه لكنّه تقدّم نحوي وقبّل جبهتي ثم قال: "لا تبتئس يا أخي، أنا لا باع لديّ بالمقابلات ولا أستطيع الحديث جيّدًا. اذهب وأجرِ مقابلة مع إسلامي وبقية الرفاق .. أنا خادمك!".
 
 

1- هذا المصطلح يُستعمل فيما لو أنّ شخصاً يملك شيئاً يعتبره ثمينًا ولذلك لا يبذله لأحد ويمنع الآخرين من الوصول إليه كباكورة ثمار الفاكهة (مثل: ديفورالتين بالعامية).
 
 
 
 
412

401

عراك صادق

 عراك صادق - 28/ ت2/ 1983


عند العصر، وفي باحة ثكنة "أميدية" رفعتُ بعض الماء من البئر التي كان "كريم آزاديان" قد ابتكر لها دولابًا لرفع الماء وغسلت ثيابي، ونشرتُها على الحائط الإسمنتي في أطراف مكان استراحة الكتيبة وإذا بصوت يطرق سمعي.
- يا عديمي المروءة، مجموعة مقابل واحد، سوف أثكل بكم أمّهاتكم!

التفتّ إلى مصدر الصوت فإذا بي أرى "صادق صائب"، قنّاص الكتيبة ببدلته الكاكيّة، يمشي متعثّرًا ورجلاه تُسحبان إلى الخلف كالقطّة المكسورة الظهر! ركضت نحوه وأسندته إليّ. كان ما تحت عينيه مسودًّا وفمه الأحمر اللطيف متورّمًا، ناهيك عن أنفه المتورّم الذي غدا مسطّحًا وكأنّه قد تلقّى ضربة بالمطرقة! كانت الدماء تسيل من أنفه وفمه، وقد تدلّى الدم المختلط بلعابه من شفتيه! بدت آثار الألم واضحة على وجهه المتّسخ. سألته متعجّبًا: "ماذا حصل لك يا صادق؟ هل تعرّضت لحادث سير؟!".

لم أتمالك نفسي فانفجرت ضاحكًا بلا توقّف. فما كان منه إلّا أن نهرني قائلًا: "اضحك يا عديم الوجدان "خوشقدم"!".

توقّفتُ عن الضحك بصعوبة وقلت: "أخبرني الآن من الذي فعل بك هكذا؟".

فتح عينيه بصعوبة وأشار بإصبعه إلى مكان استراحة كتيبة "كميل".
- عديمو المروءة تجمّعوا حولي وأوسعوني ضربًا مبرّحًا!
- من هم؟!
 
 
 
 
413

402

عراك صادق

 - شباب كتيبة "كميل!".


فأخذتني عصبيّة وحدة الكتيبة والمدينة، وفار الدم في وجهي وصرخت قائلًا: "لأيّ سبب؟!".
- ليس هناك من سبب!

أسندته إليّ لكي لا يقع ثمّ أخذته إلى ممرّ مبنى الفندق H، وهناك رفعت صوتي وناديت مكرّرًا: "يا أيها الناس"..

فخرج شباب كتيبة الفجر سريعًا من غرفهم، ورأونا على تلك الحال.
- ماذا حدث؟
- لماذا أنت مدمى هكذا؟

تركت صادقًا مغضبًا وفاضت قريحتي الشعريّة. ضربت بقبضتي على صدري ثمّ أنشأت أقول:
قد ضُرب صادق صائب وكتيبة كميل هي الضارب
لن نقف ساكتين لن نقف ساكتين
نريد الانتقام نريد الانتقام 

كان لشعري الركيك وقعه في نفوس الجميع الذين ثارت حفيظتهم، فأخذوا يردّدون الأبيات قاصدين مقرّ كتيبة "كميل" للانتقام!
قد ضُرب صادق صائب وكتيبة كميل هي االضارب
لن نقف ساكتين لن نقف ساكتين
نريد الانتقام نريد الانتقام

وفي منتصف الطريق كان قرابة الأربعين نفرًا يسيرون خلفنا أنا وصادق. عند ملعب نادي الزورخانة المجاور لمبنى الفندق كان منشد الكتيبة "أبو الفضل صادقي" ينشد الشعر وهو يضرب على وعاء
 
 
 
 
414

403

عراك صادق

 خالٍ، فيما أخذ عشرة أشخاص أو أكثر يقومون بالحركات الرياضيّة التقليديّة وبأيديهم بندقيّات بلا أمشاط.


ناديت بحماسة: "أيها المنشد، إنّه وقت الحرب، وإخماد العار!".

فضحك وزاد ضربات أصابعه على الوعاء. كرّرت شعار "ضُرب صادق.." عدّة مرّات. فما كان من جميع من كان في النادي، ما خلا المنشد، إلّا أن خرجوا من الملعب والتحقوا بنا. في تلك اللحظات كانت نار الحرب تزداد اضطرامًا.

كنت حامل لواء تلك المجموعة. قبيل أن نصل إلى مبنى كتيبة "كميل" مررنا بالحمّام الذي كان قد بناه "قاسم باقرنجاد" المعروف بـ"الدولاب الواحد". فجأة خرج من الحمام العم مرتضى وعلي أصغر سرافراز، قائد كتيبة كميل، يعلو وجهيهما ويديهما دخان أسود. كأنّهما كانا يصلحان الحمام معًا. تسمّرت في مكاني وجمُد الشّعار على لساني! طال نظر العمّ مرتضى إلينا فيما غدت شعارات المجموعة كصوت المسجّل ممدودة وبطيئة ما لبثت أن انطفأت. انسحب الجميع من خلفي الواحد تلو الآخر حتّى لم يبقَ غيري وصادق! تقدّم العم مرتضى منّا وألقى نظرة على وجه صادق المهشّم ثمّ ضحك، وكأنّ شيئًا لم يكن، قائلًا له: "الحمّام جاهز. اغسل نفسك بقليل من الماء السّاخن حتى تستعيد عافيتك!".

أردت أن أنجو بنفسي وألوذ بالفرار وإذا بالعم مرتضى يناديني: "يا محمد خوشقدم!".

وقفت في مكاني كعجلات الدرّاجة حين تدور عبثًا في مكانها من دون أن تتحرّك. التفتّ إليه قائلًا: "في خدمتك يا عم!".
- اغتسل أنت أيضًا مثل صادق، لعلّ نارك تنطفئ!
 
 
 
 
 
415

404

عهد الدم

 عهد الدم - 5/ ك2/ 1984


عصر ذلك اليوم أخذت أدور بين غرف ثكنة الإمام الخميني بحثًا عمّن يتوسّط لي للانتساب إلى كتيبة الفجر. قرب باحة المراسم الصباحية التقيت برجل ذي وجه لطيف يرتدي بدلة كاكيّة. ناديته: "هاي، يا أخي!".

التفت إليّ وقال: "في خدمتك، أتأمرني بشيء؟".
- أنت تابع لهذه الثكنة؟
- إن شاء الله، ماذا عنك، هل أنت من القوّات الجديدة؟
- أجل، وصلنا اليوم.
- هل أنت من شيراز؟!
- من أين عرفت؟
- إنّ ذلك واضح جدًّا من لهجتك!

أمدّتني عيناه البرّاقتان ومحيّاه المُشرق البشوش بالجرأة فقلت: "لا بدّ أنّك من القوّات القديمة، أليس كذلك؟". فرفع الكلفة وغمزني بعينه. 
- ولا بدّ أنّك قمت بتزوير بطاقة الهويّة خاصّتك!

عقدت حاجبيّ.
- كيف عرفت ذلك؟
- من وجهك!

أدنيتُ فمي بهدوء نحو أذنه وهمست قائلًا: "لستَ مسؤولًا فتفضح أمري، أليس كذلك؟!".
 
 
 
 
 
416

405

عهد الدم

 فقال بجدّية: "ماذا تريد بالضبط يا أخا شيراز!".


رفعت كتفيّ وقلت باقتضاب وجفاء: "كائنًا من تكون لا يهمّ، ولكن أخبرني أيّ الكتائب تُعنى بالقتال؟".
- كلّ مكان في ميادين الجهاد جيّد، حتى المطبخ!

عبستُ مجدّدًا.
- لمَ لا تفهم؟ جئت للقتال لا للطبخ!
- الحرب حرب أينما كانت.

فقلت مقطّبَ الحاجبين: "أرأيت أنّك لا تفهم ما أقول. يقولون إنّ كتيبة الفجر كتيبة حربيّة".
- وماذا تختلف عن غيرها؟!
- تختلف بأنّ قائدها هو "اشلو!".
- هل تعرفه؟
- أوووه.. إذن أنت لا تعرف شيئًا، من ذا الذي لا يعرفه!
- إن دخلت كتيبة الفجر فلن تعمّر طويلًا!

فهززتُ يدي قائلًا: "لا عليك مِن هذا، هل تتوسّط لي؟".
- إن دخول كتيبة الفجر مشروط بأمرين!
- قبِلتهما قبل أن أسمعهما.. ولكن ما هذان الشرطان؟
- أوّلًا: عليك أن توقّع عهد الدم!
- هذا أمر بسيط!
- دعني أقرأ عليك عهد الدم، فقد لا توقّعه!

قلبتُ شفتي، فقرأ: "نحن مجاهدو كتيبة الفجر، عاهدنا قائدنا أن نضحّي بأنفسنا دفاعًا عن الإسلام والثورة الإسلاميّة حتّى آخر
 
 
 
 
417

406

عهد الدم

 قطرة دم!". 

- قل لي ما هو الشرط الثاني؟
- ذاك ستقوم به عمليًّا في ساحة القتال. ما اسمك؟
- السيد محمد شعاعي.

أخرج الشاب من جيبه قلمًا وكتب رسالة وقدّمها لي قائلًا: "أنت سيّد أيضًا، وبات حقّك علينا أكبر. ذاك المبنى على جهة اليمين هو مكان استراحة كتيبة الفجر. في الطابق الأول منه أعطِ هذه الرسالة إلى الأخ "خوشقدم"، مسؤول شؤون الأفراد، سيتولّى ترتيب أمورك".

أخذت الرسالة. كان توقيعه مثيرًا للغرابة. قلت في نفسي: لعلّه قد استهزأ بي.. إن كان الأمر كذلك سأرجع وألقّنه درسًا!

قصدت مسؤول شؤون الأفراد يملأني الشكّ والتردّد، وأنا أرجو الله أن لا يكون ذلك الشابّ هازلًا. قرأ المسؤول الرسالة، ومن دون أي جدال كتب رسالة جديدة وسلّمها لي.
- خذها إلى إدارة الاستقطاب التابعة للّواء! وحين تأخذ ورقة التعريف بك تأتي بها إلى الكتيبة!

أخذت نفسًا عميقًا ثمّ زفرته بشدّة من فمي. تعجّبت من نفوذ ذلك الشاب وقدرته على الحسم فسألت: "يا أخي، ما اسم ذلك الشخص الذي أتيتك برسالته؟". رفع رأسه وفتح عينيه.
- أتريد أن تقول إنّك لا تعرف العم مرتضى؟!
 
 
 
 
 
418

407

الشرط الثاني

 الشرط الثاني - 15/ ك2/ 1984


مرّت عشرة أيام على دخولي كتيبة الفجر. قبل الظهر وعلى الخط الأمامي في "شلمجه" التفتَ إليّ محمد رضا بديهي، معاون قائد الكتيبة، وذكر لي الشرط الثاني لكتيبة الفجر قائلًا: "يا سيّد علي، تقف على الساتر الترابي تحت نيران العراقيّين وتنادي عشرًا: "سأدعو الله أن يهبني ألف روح لكي أقتل في سبيلك ألف مرّة"

حدّقت في السيد بديهي الذي زادت شفتاه العريضتان من جاذبية محيّاه وقلت: "الآن؟!".
- متى إذًا، إن أردت لا..
- كلّا سأذهب!

في تلك اللحظة سقطت قذيفة (هاون 120) خلف الساتر الترابي وزلزلت أرجاء المكان فجلست على الأرض. ما لبث العراقيّون أن أمطروا الساتر بوابل من الرصاص. حين رأى السيد بديهي تردّدي حكّ لحيته السوداء الغبراء.
- الأمر ليس إجباريًّا. تستطيع أن تخدم في كتيبة أخرى.
- قلت لك سأذهب وأقف على الساتر الترابي!

قرأت الشهادتين. وما إن هممتُ بالصعود إلى الساتر حتى أمسك السيد بديهي يدي.
- دعني أوّلًا أخبرك بقصّة هذا الشرط، بعد ذلك تذهب.

أخذ بيدي وأدخلني إلى الدشمة المفتوحة الواقعة خلف الساتر
 
 
 
 
 
419

408

الشرط الثاني

 الترابي وأخذ يقصّ عليّ: "في ذلك اليوم وفي منطقة "فكّة" تكوّمنا جميعًا خلف الساتر الترابي خوفًا من نيران أسلحة العراقيّين. لم نملك الجرأة على النهوض وإطلاق النار عليهم وكانوا يطلقون النار ويتقدّمون باتّجاهنا. فجأة، وعلى وقع دويّ انفجارات القذائف سمعت صوت العم مرتضى: "لماذا أنتم مستلقون؟ انهضوا..". 


قلت في نفسي: أولستَ ترى حدّة النيران يا عم مرتضى؟ وإذ بمرتضى واقف فوق رأسي والدم يسيل من مرفقه. هممتُ بالنهوض لكنّ توالي سقوط القذائف حالَ دون ذلك فالتصقت بالأرض مجدّدًا كالآخرين لكي لا أصاب بشظية. صحتُ به مرارًا لكي يستلقي لكنّه لم يستجب لي. ثم وقف وأعطى أوامره: "إن بقينا كذلك فسيكون مصيرنا إمّا القتل أو الأسر، هاااي! أريد عددًا من الرجال!".

لم ينتظر أحدًا، ما لبث أن خلع، وبحركة واحدة، قميصه وسترته الداخلية. رأيت أثر جرح الشظية على مرفقه الأيسر. أخذ من أحدهم قبضة الـ(B7) مع قذائفها ثمّ صرخ صرخة حيدريّة مدوّية: "يا علي!".

صعد إلى حرف الساتر الترابي ووقف على قمّته، فانهمر وابل من الرصاص باتجاهه. وضع القذيفة في القبضة وأطلقها. ولمّا نفدت القذائف نظر حوله وقال: "سأدعو الله أن يهبني ألف روح لكي أقتل في سبيلك ألف مرة!".

بعد ذلك حمل بندقيّته ووقف على الساتر وشرع يطلق النار نحو العراقيّين وهو يكرّر هذا البيت الشعري. اقشعرّ بدني، ولم أجد نفسي إلّا وقد نهضت وصعدت الساتر ثم أخذت أطلق النار نحو العراقيّين. في تلك اللحظة ألقيتُ نظرة على يمين الساتر ويساره لأرى من تبقّى من أفراد الكتيبة قد وقفوا عليه عُراة الصدور وجعلوا يطلقون الرصاص".
 
 
 
 
420

409

الشرط الثاني

 حين أنهى السيد بديهي حديثه ربّت على كتفي.

- بعد تلك الحادثة، اشترط شباب كتيبة الفجر هذا الأمر على كل من يريد الانضواء تحت لواء الكتيبة علاوة على الشرط الأول!

كنت أصغي إلى كلماته بدقّة. أحسست أنّ ثمّة تحوّلًا جميلًا ولطيفًا وخفيًّا قد حدث في نفسي. في تلك اللحظة، سقطت قذيفة خلف الدشمة المفتوحة فرمتنا أرضًا. وبعد أن انجلى الدخان والغبار رأيت الابتسامة قد علتْ وجه السيد بديهي.
- يا سيد علي، هل ستصعد إلى أعلى الساتر أم لا؟!

خلعت قميصي وسترتي كلمح البصر ونهضت لكي أصعد وإذا بالسيد بديهي يصدّني.
- لقد قُبِلت!
 
 
 
 
421

410

مثيرٌ للعَجَب

 مثيرٌ للعَجَب - 4/شباط/1984


في الصباح الباكر، وقفتُ مصغيًا لحديث عدد من الجنود وقد تجمّعوا أمام إدارة شؤون الاستقطاب في فرقة المهدي.
- ينادونه "اشلو!".
- خِصاله عجيبة!
- لقد قبّل الإمام الخميني جبهته..
- إنّه صديق لمحسن رضائي وصياد شيرازي!
- لقد خصّص الشيخ رفسنجاني خطبة الجمعة للحديث عن شهامته وبطولات كتيبته!
- كتيبته حوزة علميّة.. وفيها نادٍ للحركات الرياضية التقليدية (الزورخانه)، فريق كرة قدم، نادٍ للترفيه، إضافة إلى القتال. إنّها عائلة تضمّ ثلاثمئة أو أربعمئة نفر..
- العمّ مرتضى مثيرٌ للعَجَب!

قلبتُ شفتي وشعرت حقيقةً أنّي أحسده. قلت في نفسي: "سعيد عليزاده"، لا بدّ أنّ هؤلاء يُغالون فيه ويعظّمون الأمر.. ليس هناك أقوى منك ولا أشجع.

مضت سنوات لي في سوح القتال، لكنّها كانت المرّة الأولى التي سمعت فيها ثناءً وتبجيلًا لشخص بهذا الشكل. عندما سمعتُ الجميع في اللواء وفي المدينة يتحدّثون عن مرتضى ثار فضولي، وعزمت على الانتساب لبعض الوقت إلى كتيبته لكي أتحقّق من الأمر بنفسي.

أخذت ورقة التعريف من إدارة شؤون الاستقطاب في فرقة المهدي
 
 
 
 
 
422

411

مثيرٌ للعَجَب

 وقصدت مبنى الكتيبة. ما إن دخلت المبنى حتى وجدتُ مرتضى بانتظاري. تقدّم منّي: أهلًا وسهلًا بك يا أخ "عليزاده!".


أخذ بيدي وأدخلني إلى غرفة القيادة ثمّ قدّمني إلى قادة الفصائل: "السيد سعيد، من خيرة أفراد اللواء القدماء! يشرّفنا بأن يخدم في كتيبتنا!".

ثمّ عرّفني بالآخرين: "جليل إسلامي، محمد رضا بديهي، خوشقدم..".

دُهشتُ! أطرقتُ برأسي وأخذت أفكّر: من أين عرفني؟؟ كأنّه كان بانتظاري!

كنت مضطربًا من الداخل وكان لا بدّ لي من سيجارة تهدّئ من روعي. أخرجت علبة السجائر من جيبي وقد اعتراني الذهول والدهشة، ثمّ قدّمتها لمرتضى.
- تفضّل، تناولْ سيجارة!
- شكرًا لك يا أخي.

ثمّ قدّمتها للآخرين فردًا فردًا لكنّ أحدًا لم يأخذ. أخرجت سيجارة وأشعلتها. ما إن أخذت النفس الأوّل ثم نفثته في الهواء حتى انتبهت إلى أنّ الجميع ما عدا مرتضى قد تغيّر حالهم وغابت ابتساماتهم! 

حين أنهيت سيجارتي أخذ مرتضى بيدي وأدخلني الصالة وخاطب "مسلم رستم زاده"، قائد "السريّة1"، قائلًا: "عليزاده من العناصر ذوي الخبرة في الحرب، أحسِن الاستفادة من خبرته في السرية!".

أخذني "مسلم" إلى شباب "فسا" وعرّفهم إليّ فردًا فردًا. فرفع الجميع أصواتهم بالصلوات ثمّ تقدّموا منّي وأخذوني في الأحضان وقبّلوا وجهي ويدي. كأنّها كانت العادة عند استقبال الأفراد الجدد! 

مرّت نصف ساعة وخطرت السيجارة على بالي مجدّدًا. أخرجت
 
 
 
 
423

412

مثيرٌ للعَجَب

 سيجارة من العلبة ووضعتها بين شفتيّ، فما كان من أحد شبّان "فسا" إلّا أن تقدّم نحوي ووضع يده على كتفي قائلًا: "أليس لديك اطّلاع على المقرّرات يا أخي!".


فسألته مستغربًا: "أيّ مقرّرات؟!".
- التدخين ممنوع في الكتيبة!

نظرت إلى وجه الشابّ وقلت: "دعك من هذا الكلام يا هذا، قبل نصف ساعة، في غرفة القيادة وأمام عين..".

ثمّ سكتُّ وضربتُ بباطن إحدى كفَّي على ظهر الأخرى: "يا لقلبي الغافل!".
 
 
 
 
 
424

413

جُفير

 جُفير - 21/شباط/1984


عصر ذلك اليوم علا النداء من مكبّر الصوت في معسكر "جُفير" مخاطبًا أفراد كتائب فرقة المهدي.
- اصطفّوا.. سريعًا.. كميل .. فجر..

عصّبتُ رأسي بعصابة خضراء كُتب عليها "لبيك يا خميني"، وخرجتُ وبضعةَ آلاف من قوّات التعبئة من الدشم الكبيرة والخيم العسكريّة، تغمرني مشاعر البهجة واللهفة كما لو أنني شابّ عشرينيّ لا كهلٌ ناهزَ الخمسين من عمره! قصدتُ باحة اصطفاف الطوابير المصنوعة من سواتر رملية منخفضة ومن فوارغ قذائف المدافع. كان مكبّر الصوت يتوقّف بين الفينة والأخرى ليُبَثّ شريطٌ مسجّل بصوت "صادق آهنكران" وهو ينشد: "يا جيش صاحب الزمان استعدّوا استعدّوا..".

وقفتُ بين عناصر كتيبة الفجر وعليّ لامة الحرب أنتظر على أحرّ من الجمر صدور الأمر بشروع العمليّة المنتظرة.
- عافاك الله يا حاج مختاري!

شعرتُ للحظة بيد القائد "اشلو" تمسّ كتفي. وصل العم مرتضى إلى مقدّمة طابور الكتيبة ثم نادى: "يا جنود الإسلام، تراصفوا!".

مددنا الأيادي اليمنى ونادينا: "الله أكبر!".

لم تكن الفرحة تسعني! كنت أراقب شفتَي العم مرتضى الذي وافق بعد توسّط وَلدي أن أشارك في هذه العمليّة في صفوف كتيبة الفجر. كان كلامه لا يزال يتردّد في أذني: "يا حاج أحمد مختاري، أنت في
 
 
 
 
425

414

جُفير

 مقام والدي إلّا أنّ الانضمام إلى كتيبة الفجر له شروطه. لكن نظرًا لإصرارك، وكرمى لعينيك، سأسمح لك بذلك لهذه العمليّة فحسب. بعد ذلك عليك أن تعود إلى وحدة الدعم والتموين!".


فجأة نادى "اشلو": "انتباه!".
- الله أكبر.
- أيّها الإخوة، اجلسوا. سيتحدّث معكم الحاج أسدي قائد اللواء لبضع دقائق!

التفتّ من حولي ورحت أجيل بطرْفي في محيط معسكر "جفير" الذي يقع قرب هَور "الهويزة"، على بعد سبعين كيلومترًا من الأهواز. على جوانبه الأربعة وُضعت أربعة مضادّات جوّية. انتظمت الكتائب بحيث فصل بين الواحدة والأخرى مسافة معيّنة، ووقفنا جميعًا في ذلك الجوّ الحارّ والرطب بانتظار أن يحضر قائد اللواء. كانت بعض الأعلام الحمراء والخضراء ترفرف هنا وهناك، وبدا وكأنّنا جميعًا قد دُعينا إلى حفل مروّع!

كانت جموع التعبويّين الغفيرة تضجّ بالنشاط والعزيمة والشجاعة والبسالة، تعلو وجوههم ضحكات الفرح! أخذ قادة الفصائل يصيحون: "تفقّدوا عتادكم الخاصّ!".

أخذت أفحص جعبتي ومطرة الماء خاصّتي. فجأة سُمعت قرقعة المضادّات الهوائية فسادَ الصمت في الأرجاء. نظرنا إلى بعضنا البعض ثم إلى ما حولنا. كانت المضادّات الجوية الأربعة تدور حول نفسها وتهتزّ بشدّة.
- طائرات حربيّة.. ماذا علينا أن نفعل!؟

نظرتُ إلى السماء فاغر الفم! ظلّلْتُ عينيّ بيدي وحدّقت كما كنت
 
 
 
 
426

415

جُفير

 أفعل أيّام الصبا عند سماع صوت الطائرة لألاحق بنظري دخانها الأبيض. 

 


دوّى انفجار جديد تزامن مع ظلال متتابعة مرّت فوق رأسي. ما لبثتُ أن سمعتُ دويّ عدّة انفجارات مهيبة أخرى. التفتُّ لكي أرى مكان الانفجارات، وإذا بثلاثة من المضادّات المستقرّة على جوانب المعسكر قد دُمّرت بالكامل وارتفع منها الدخان والنار، وبقي المضادّ الرابع يعمل ويطلق رصاصات مضطربة نحو السماء! 
- غارة جويّة، اختبئوا.. اختبئوا!
- طائرة "ميغ" عراقيّة.. إنّها هناك..

تفرّق عناصر الكتائب قلقين مضطربين، كما تتناثر حبّات السُّبحة المنقطعة الخيط، وفرّ كل واحد إلى جهة، فيما علت أصواتهم المتداخلة وغير المفهومة في أرجاء المكان. مع دويّ انفجار آخَر عظيم دُمّر آخِر ما بقي من المضادّات في المعسكر. عندئذ أخذت طائرات الميغ تُغير على رؤوس العناصر مطمئنّةً كنسر يطارد فريسته، وأخذت تلقي عليهم القنابل والصواريخ! لم يكن ثمّة ملجأ في تلك الصحراء الكبيرة، وسيّان كان الوقوف أو الركض! وقفتُ، ولعلّي تسمّرتُ في مكاني من هول الصدمة! انفجرت القنابل والصواريخ بين جموع المجاهدين الغفيرة فقتلت عددًا منهم، فيما غطّتني الدماء من رأسي إلى أخمص قدمَي. فاحت رائحة الدم الثقيلة في المكان وسرعان ما سمعت صراخًا وأنينًا.

تشتّتت الجموع فزعة كما الحِملان التي هاجمها الذئب! أمّا أنا فأخذت أركض نحو الأمام يدفعني الذهول والهلع. قلت في نفسي: عليّ أن أركض بضع خطوات أُخَر لعلّي أجد منجى من هذه الهلكة.. هيّا أسرع يا مختاري.. أسرع يا مختا.. سمعت دويّ انفجار قنبلة صغيرة
 
 
 
 
427

416

جُفير

 أو ربما صاروخ انفجر أمامي فاقتلعني من الأرض ورماني بضعة أمتار إلى الخلف. ملأ الصفير أذني. مرّ بي عدد من الأشخاص وأخذوا يبتعدون عنّي. شعرتُ أنّي في حلم، فقد كان يخيّل لي أنّي أعدو كالريح إلّا أنني كنت أراوح مكاني! وصل من الخلف بعض الأشخاص ومرّوا بجانبي. في تلك اللحظة ملأ ذهني تساؤلات كثيرة: ماذا يعني هذا؟ لماذا لا أتقدّم إلى الأمام؟ هل وقعت؟ هل أصابتني شظية؟ هل قُتلت..؟ رأيت الدماء تسيل من جسدي! لقد جُرحت. أردت أن أنهض من مكاني لكنّي سرعان ما وقعت! لم يكن ثمّة أحد حولي. فجأة أخذ كل الأشخاص الذين عبروا بجانبي يرجعون كمشاهد فيلمٍ تعادُ إلى الخلف، فعرفت أنّهم يهربون من القصف الذي وقع في الأمام. أحسستُ أن يدي اليسرى قد تخدّرت وأنّ شيئًا قد تعلّق بها! كأنّ يدي من المرفق لم تعد لي. تفحّصتها فإذا بالدماء تفور منها. ما لبثت أن باتت ثقيلة كالتي عُلّق بها ثقل من عشر كيلوغرامات. أمسكت يدي المعلّقة بيدي اليمنى وأخذت أزحف على الأرض.


بعد أن أنهت الطائرات إلقاء قنابلها وصواريخها على رؤوس العناصر عادت لتستهدف مَن بقي بنيران رشاشاتها بلا خوف. وحين لم يبقَ لنيرانها أيّ هدف غادرت سماء المعسكر!

بدت أرض المعسكر كأرض محصودة تكدّس في زواياها، عوضًا عن سنابل القمح، عدد من القتلى والجرحى الممدّدين على الأرض. كان بعض الجرحى يزحفون على التراب وقد علت أنّاتهم! لقد ساهم القصف الأوّل الذي رأيته في حياتي في تشويش ذهني عن الحرب. غطّت أجساد الشهداء أرض "جفير". بعدها أغمي عليّ ولم أعد أعرف أين أنا وماذا أفعل! 

عندما استعدت وعيي وجدتُ العم مرتضى عند رأسي وقد ربط يدي
 
 
 
 
428

417

جُفير

 المقطوعة من المرفق بتلك العصابة الخضراء التي كنت قد عصّبت بها جبهتي ليقطع نزف الدم. كان حضوره بقربي في تلك الظروف العسيرة مبعثًا للسكينة. تبسّم ابتسامة مريرة، ثم قال بصوت يضجّ بالحزن والغمّ وهو يحدّق بيدي المبتورة: "روحي لغربتك الفداء يا أبا الفضل العباس!".

 

 

 

429


418

حياة الرجال

 حياة الرجال - 5/آذار/1984


منتصف الليل وبينما أنا في الحافلة كنت أحلم أنّي جالسة في فندق "قيام" أنظر إلى طفل صغير وجميل. كان الطفل الملفوف بقماط أبيض يبذل قصارى جهده لكي يمزّق القماط ويحرّر نفسه منه. صارت وجنتا الطفل حمراوين إثر الجهد الذي بذله! قلت في نفسي: يا إلهي، إنّ ملامح وجه هذا الطفل وعينيه وحاجبيه تشبه مرتضى كثيرًا!

أحسستُ بيدٍ تهزّ كتفي.
- آمنة.. آمنة..

فتحتُ عينيّ فإذا بـ"صدّيقة"، زوجة السيد ألواني، تخرج صوتها من أعماق حنجرتها خوفًا من أن توقظ الرجال في الحافلة وتقول: "استيقظي.. هذه هي نيران آبار النفط! لقد طلبتِ مني أن أوقظك عندما نصل إليها!".

فأجبتها ببرودة وكسل: "أشكرك!".
- هل كنت تحلمين يا آمنة؟
- كان حلمًا جميلًا!
- يا ويلي.. سامحيني!

تثاءبتُ طويلًا ثمّ تبسّمت.
- لا عليكِ يا صدّيقة!

أخذت أراقب نيران آبار النفط. بعد ذلك ألقيت نظرة على مرتضى الذي كان جالسًا بقرب علي محمد ألواني على المقعد الموازي لمقعدنا.
 
 
 
 
 
430

419

حياة الرجال

 كان مرتضى نائمًا وكذلك كان معظم الرجال.


أشرتُ بعيني وحاجبي إلى مرتضى وقلت لصدّيقة: "كنت أحلم بطفل يشبه مرتضى!".

ثم أخذت نفسًا عميقًا ملؤه الرضى.
- إننا نكتسب تجارب قد لا يتسنّى لكثير من النساء اكتسابها. أنت لا تعلمين يا صدّيقة مدى سروري طوال هذه الفترة، حتى عندما كنت أنتظر عودة مرتضى من الجبهة خائفة مضطربة! إنني أشعر أنّي أكبر معه وأعي معنى الحياة أكثر. الشكر لله! 

اغرورقت عينا صدّيقة بالدموع.

رفعتُ حاجبيّ قائلة: "هل قلت شيئًا مسيئًا؟".

سالت الدموع على وجهها النحيف، ثمّ غطّت وجهها بعباءتها السوداء وجعلت تبكي بهدوء بحيث لم أكن أرى سوى ارتعاش كتفيها تحت العباءة. كأنّها وجدت كلامي ذريعة لكي تبكي. مسحتُ بيدي على رأسها وقبّلتها. أحسستُ أنّي أحبّ صدّيقة وبقيّة نزيلات الفندق أكثر من أمّي وأخواتي.
- صدّيقة؟!

فأزاحت عباءتها عن وجهها. تحت النور الخافت المنبعث من سقف الحافلة رأيت وجهها وقد غسلته الدموع. ابتلعت ريقها بصعوبة وقالت: "هذا ما أشعر به بالنسبة لألواني أيضًا. لا أدري إلى متى سنظلّ لائقين بالبقاء مع هؤلاء!".

ثمّ مسحت دموعها بطرف اصبعها وابتسمت ابتسامة باردة وقالت: "إنّ رجالنا عظماء جدًا!".
- حسنًا، ولكن هذا جيد!
 
 
 
 
 
 
431

420

حياة الرجال

 - إنّ هذا هو ما يقلقني!

- لماذا يا صدّيقة؟
- عندما تصبح جواهرك غالية القيمة فإنّها لا تبقى تختصّ بكِ!

ثمّ همستْ قائلة: "آمنة، منذ أيّام وأنا أسمع نداءً من أعماقي يقول إننا سنعود سريعًا هذه المرّة إلى فسا!".

فقلت: "ستنتهي الحرب إن شاء الله ونعود جميعًا مع أزواجنا".

ثمّ أخذ كلانا يبكي بصمت وهدوء..
 
 
 
 
432

421

قصف الأهواز

 قصف الأهواز - 17/آذار/1984


ظُهر ذلك اليوم الشتوي في الأهواز كنت أجلس داخل غرفة الفندق أقرأ الحوار الذي أُجري مع مرتضى في مجلة "بيام انقلاب" (نداء الثورة)، والذي تحدّث فيه عن عملية "والفجر2". بينما أنا كذلك وإذ بجلبة في الممرّ أثارت انتباهي! دقّقتُ سمعي فسمعت وقع خطى جزمة عسكريّة سرعان ما طُرق الباب. اعتراني هلع لا مبرّر له! وبسرعة البرق وضعت العباءة على رأسي وفتحت الباب لأجد السيد نجفي.
- السلام عليكِ يا حاجة!

دقّقتُ النظر في وجهه الذي علاه الغبار والدخان. لم تكن ملامحه تنبئ بأخبار جيّدة. نظرتُ مضطربة حوله ثم قلت: "عليك السلام.. هل حدث شيء؟".
- استعدّي، علينا الذهاب إلى شيراز!

شعرت بشيء ينسلخ من روحي! قلت له وشفتاي ترتعشان من الخوف: "هل حصل مكروه لمرتضى؟ قل لي الحقيقة يا سيد نجفي..".
- كلا يا أختي!
- إذًا لمَ علينا الذهاب إلى شيراز؟!

فارتبك ولم ينبس ببنت شفة. زاد قلقي وتذكّرت كلام "صدّيقة" في الحافلة قبل أسبوع حين قالت: "أسمع نداءً في أعماقي يقول إننا سنعود سريعًا إلى "فسا" هذه المرة".
- أين مرتضى؟
- إنّه بخير، لقد هدّد العراق بقصف الأهواز، ولذا عليكِ الذهاب إلى شيراز!

قلت بإصرار: "لن أذهب إلى شيراز!".
 
 
 
 
 
433

422

قصف الأهواز

 عندما رأى إصراري نظر بحيطة إلى طرفَي ممرّ الفندق، وقال بصوت خافت تشوبه غصّة: "لقد استشهد "ألواني!". وقد طلب السيد مرتضى منكِ أن تذهبي للمشاركة في تشييع جثمانه!".


شعرت وكأنّ كلًّا من السقف والممرّ والسيد نجفي يدورون حولي. جلست على الأرض ولم أعد أسمع كلام السيد نجفي جيّدًا.
- ما.. هل.. بالله..

بعد أن تحسّنت حالي سألته: "من استشهد أيضًا؟ قل الحقيقة..".
- أقسم بحياة الإمام، "ألواني" فحسب، لا تخبري زوجته!

لم أدرِ متى غادر السيد نجفي. عدت أدراجي وبقيت وحيدة تحاصرني أفكار مقلقة: إنّ مرتضى هو من استشهد وليس ألواني.. تلك هي طريقتهم، يعلموننا بالخبر بشكل تدريجيّ.. عليّ أن أذهب إلى الأخريات.. أكاد أُجَنّ..

لم أجرؤ على الذهاب إلى غرف بقيّة النساء. كان الوقت يمرّ ببطء قاتل. بعد صلاتَي المغرب والعشاء جلستُ على سجّادة الصلاة أبكي فيما مرّت في فكري مشاهد رسمتُها مرارًا وتكرارًا لتشييع مرتضى ودفنه.

عند الساعة التاسعة مساءً أقنعت نفسي بأنّي سأتابع العيش بدون مرتضى. ما كنت أرقُبه كلّ يوم وقعتُ فيه.. من هو التالي.. كنت أفكّر بما سيحلّ بي في غياب مرتضى فيما أخذ العرق يتصبّب من أطرافي وشعرت بسهام تمزّق قلبي. حملتُ حقيبتي ونزلت درج الفندق محزونة. دخلت صالة الفندق فرأيت بقيّة النساء وقد اعتراهنّ الحزن والغمّ. تبادلنا تحيات جافّة وابتسامات مريرة.

وصلت سيارة السيد نجفي. أخذتني "فهيمة"، زوجة نجفي، جانبًا وقالت: "سيدة آمنة، تصرّفي بشكل طبيعي، ينبغي أن لا تطّلع صدّيقة على خبر شهادة زوجها!".
 
 
 
 
 
434

423

قصف الأهواز

 فتبسّمتُ بمرارة وقلت في نفسي: لا بدّ أنّها ستقول للأخريات أيضًا: تصرّفن بشكل طبيعي بحيث لا تطّلع آمنة على خبر شهادة زوجها.. يا لتعاستي! 


ركبنا سيّارة "تويوتا لاندكروز" كاكية اللون. كان المكان لا يتّسع للجميع، فوضعوا بطّانيّة في القسم الخلفي من السيارة حيث جلس عدد منا. كانت المرّة الأولى التي لم يكن برفقتنا رجلٌ سوى السيّد نجفي! ما إن جدّت السيارة سيرها نحو "شيراز" حتى أجهشت النسوة جميعهنّ بالبكاء إلّا "صدّيقة" التي كانت تنعم بسكينة غريبة!

وصلنا إلى شيراز في صباح اليوم التالي من ذلك الشتاء ومن ثَمّ دخلنا جادّة "فسا". عند الساعة الحادية عشرة مررنا بمقام الولي الصالح إسماعيل. فجأة التفتت "صدّيقة" إليّ كأنّها استفاقت من تأثير صدمة، وقالت لي: "آمنة، ثمّة شيء تخفينه عنّي!".

احترت بماذا أجيبها. تبسّمتُ ابتسامة مصطنعة. حدّقتْ بعينين ضيّقتين في وجهي. أمّا أنا فاغرورقت عيناي بالدموع. قالت لي: "هل حدث مكروه لعلي؟".

علت وجهها صفرة وغدت بشرة وجهها كالشمع! لم أحتمل نظراتها كما ولم يسعفني أحد. كنت أرى ارتعاش أطراف أنفها بوضوح. غير أنّ سكوتي حفّزها على الكلام فقالت: "آمنة، لا قدّر الله أن يكون علي قد استشهد بهذه السرعة! لقد أراد أن تُفتح طريقا كربلاء والقدس!".

ثم سكتت. أمّا أنا فوضعت عباءتي على رأسي وبكيت بصمت. لم أدرِ في من أفكّر، أبمرتضى أم محمود ستودة أم ألواني والآخرين!

وصلنا إلى "فسا" قرابة الظهر. توقّفت السيّارة أوّلًا قرب باب بيت "ألواني" فترجّلت صدّيقة من السيّارة. كنت أخشى أن أنظر في عينيها عند الوداع..
 
 
 
 
435

424

قصف الأهواز

 بعد مرور ثلاثة أيّام على تشييع جثمان علي محمد ألواني، وحين كنت جالسة في فناء الدار أساعد خالتي في الخبز دخل "قدمعلي" الفناء وقال: "لقد جُرح مرتضى!". شعرت على الفور بالعرق يتصبب من شعري. نهضت سريعًا من مكاني.

- هل جُرح فقط؟
- أجل!
- احلِف بحياة الإمام!
- وحياة الإمام!

تنفّستُ الصعداء، وسرعان ما سرح فكري: ترى أين أصيب هذه المرّة.. ما حال جرحه.. إلهي هل بقي مكان في جسده لم يُصَب بالجراح.. جرحٌ فوق آخر..

عاد مرتضى وستوده من الجبهة وحضرا مراسم أسبوع ألواني. بعد المراسم كان محمود ستوده بحال عجيبة. لقد ملأت الدموع عينيه ووجنتيه! عندما أراد الانصراف حدّق في جسم مرتضى الذي لم يكن فيه مكان سليم ثم قال: "عزيزي مرتضى انتبه لنفسك، لم أعد أقوى على تحمّل فراقك أنت أيضًا!".

هذه المرة رأيته يبكي بصمت. وضع مرتضى يده على كتف ستوده الذي تابع قائلًا: "ها قد استشهد علي.. ما الذي اقترفتُه حتى أبقى حيًّا إلى الآن يا مرتضى؟! إنني أخجل من النظر في عيون عوائل الشهداء!".

عندما ابتعد عنّا قلت لمرتضى: "ما خطبُه؟".

أمسك مرتضى بيدي وقال: "نحن روح واحدة في خمسة أبدان!".
- أي خمسة؟
- أنا، علي، محمود، علي أكبر ونجفي. لكنّ علاقة محمود وعلي على وجه الخصوص كانت من نوع آخر!
 
 
 
 
 
436

425

زينب

 زينب - 27/آب/1984


عصرًا وحين كنت أخيط بالإبرة والخيط ثوبًا لطفلي دخل مرتضى غرفة الفندق ورأى في يدي ثوبًا زهريّ اللون. جلس قبالتي مسرورًا.
- هل أصبحتِ خيّاطة يا بنت خالتي؟!

حدّقت في عينيه اللتين امتلأتا ببريق السعادة وأخذت أنظر إليه من دون شبع! اقترب منّي فيما أخذ الهواء المنبعث من مكيّف الغرفة يتلاعب بمقدّم شعر رأسه. نظر إلى وجهي ثم قال: "إن لم تسامحيني فلا أدري ماذا سيكون موقفي يوم القيامة!".

فقطّبت حاجبيّ بتصنّع.
- ما هذا الذي تقوله!

فسكت. أمّا أنا فوددتُ لو أنظر إليه لساعات طويلة وأطير فرحًا لوجودي بقرب زوج مثله، لكن سرعان ما عشّشت في أعماق نفسي فكرة خسارته. انغرزت الإبرة في إصبعي!
- آخ!
- ماذا حدث، دعيني أرى!

وضعتُ إصبعي في فمي تلقائيًّا ثم أخرجته وضغطت عليه. ظهرت قطرة دم على رأس سبّابتي فغسلتها، ثمّ عدت وحدّقت في وجه مرتضى النحيف المضطرب.
- كم مرة جُرحت يا بن خالتي؟!

انهمكت بالخياطة من دون أن أنتظر جواب مرتضى. تقدّم منّي وقال: "إنّ ثوب زينب جميل!".

فقلت متعجبة: "زينب؟!".
 
 
 
 
437

426

زينب

 - في المرة السابقة التي زرت فيها "مشهد" نذرت إن رزقني الله بنتًا أن أسمّيها زينب.

- ولماذا زينب؟
- أولًا، لأنّ والدة أحد الشهداء، وهي سيّدة علويّة، طلبت منّي ذلك. وثانيًا لأنني أريدها أن تقتدي بصاحبة هذا الاسم مولاتي زينب عليها السلام، بطلة كربلاء، ما رأيك؟".
- الأمر إليك، "زينب" اسم جيد جدًا.
- حسنًا، كم عمر ابنتنا زينب الآن؟
- أولًا من أين عرفت أنّها بنت. وثانيًا إنّها الآن في طريقها إلى الشهر الخامس!
- هل تستطيعين الذهاب للزيارة؟
- للزيارة؟! إلى أين؟!
- إلى مشهد الإمام الرضا عليه السلام.

صرخت من فرط السعادة، وضع يده على فمي ونظر ناحية الباب ثم قال: "ماذا دهاكِ، سيظنّ الجميع أنّ مرتضى يضرب زوجته!".
- أليس الأمر كذلك!

فضحكنا معًا.

بعد يومين استعددنا للذهاب إلى مشهد. في الصباح الباكر جلستُ و"بروين" على المقعد الخلفي للسيارة وجلس محمود ومرتضى في الأمام. اختير المسير بحيث نعرّج على ضريح "شوش دانيال" عليه السلام للزيارة، ثم يكون لنا محطة قصيرة في "دزفول" مدينة البطولة والمقاومة. 

ما إن خرجنا من "دزفول" حتى فتح محمود باب الدعابة والمزاح، فخاطب مرتضى قائلًا: "فلتشكر الله يا هذا!".
 
 
 
 
438

427

زينب

 - على ماذا؟

- على نشوب الحرب وخروجك من قريتك لتشاهد المدينة. لم تكن تحلم حتى أن تشاهد المدن الإيرانيّة يومًا! 

لم يسكت له مرتضى الذي كان يقود السيارة وأجابه قائلًا: "يا مسكين، لو لم تقم مؤسسة جهاد البناء بمدّ جسر من قريتك لم تتمكّن أنت أيضًا من الخروج لمشاهدة المدينة!".

كنّا سعداء بزيارة الإمام الرضا عليه السلام. أخذت أتحدّث إلى بروين عن الهدايا التي سأشتريها من مشهد وإذ بمحمود يقول: "مرتضى، توقّف قرب مبنى الاتصالات!".
- لماذا؟
- لأتّصل باللواء وأطّلع على آخر أخبار الجبهة.

فما كان من مرتضى، الذي بدا أنّه ينتظر هذا، إلّا أن توقّف قرب المبنى. ترجّل محمود ودخل المبنى، سرعان ما عاد وتبسّم لمرتضى.
- ماذا حدث يا محمود؟

نظر "ستوده" إلينا بحيطة وقال: "طلب الحاج أسدي منّا أن نعود على الفور إلى الأهواز!".

لم يصدّق مرتضى مثلي كلام ستوده.
- كفّ عن المزاح!

لكن ملامح وجهه لم تتغيّر وقال: "ليته كان مزاحًا يا مرتضى، لكن هناك عرس في الجبهة!".
- عرس؟!

فما كان من مرتضى إلّا أن وضع يده على صدره مسلّمًا من مكانه على الإمام الرضا عليه السلام، ثم أدار مقود السيارة باتجاه الجبهة.
 
 
 
 
439

428

الحنّاويّ المشويّ

 الحنّاويّ المشويّ - 27/ت2/1984


من بين الأشياء التي أهداها أهل "زرقان" إلى كتيبة الفجر كان خروف سمين بلون الحنّاء، وكان قد سلب لبّ الكبير والصغير في الكتيبة! أوكل العم مرتضى مصير الخروف إليّ. ولمّا رأيت عيون القريب والغريب على ابن مدينتي الحنّاويّ صرت حارسه ومرافقه بلا مقابل! إلى أن نفد صبر جميع من في الكتيبة فرسموا خطّة لذبحه وشيّه. وكان حسن مايلر أوّل من رمى سهمه نحو كلينا، أنا والخروف.
- يا مسعود همّتي، لقد هلكنا ونحن ننظّف روث هذا الخروف!

ثمّ أدلى كلّ مخالف وموافق بدلوه.
- إنّ لحمه مناسب جدًّا للكباب التركي!
- أليس من الظلم أن يذبح هذا الخروف؟ انظروا إليه! إنّ البراءة تضجّ في عينيه ووجهه!
- فلنطبخه مع الأرز!

أمّا الحاج صلواتي، إعلامي الكتيبة، فإنّه لما رأى أنّ "البقرة قد وقعت وكثر سلّاخوها" أراد أن يقدّم مبرّرًا إضافيا فقال: "يا عمّي، هذا الحيوان قد نجّس المكان برمّته!".
- يا حاج صلواتي، إنّ بول هذا الخروف المسكين وروثه ليسا نجسين!
- لا تعلّمني الحكم الشرعي يا بن زرقان، إنّه غير مطابق للشروط الصحيّة!

قال مسلم رستمزاده: "لديّ اقتراح، ما رأيكم لو نغسّله مرّة كل.
 
 
 
 
440

429

الحنّاويّ المشويّ

 يومين ونسرّح صوفه ونضعه أمام قسم الإعلام حتى..".


غير أنّ نظرة الحاج صلواتي الحادّة والمريبة أجبرت مسلمًا على تغيير كلامه " أمـ مـ ام قـقسم الإعلام، وطبعًا نشويه بعد أيّام!".

حضر عباس زماني لنجدتي: "إن أراد أحد ابن مدينتي بسوء فسأكون له بالمرصاد!".

ربتُّ على كتف عباس فالتفتَ ونظر إليّ ثم قال: "ما الأمر يا همّتي؟".
- هل عَنيتني بقولك: ابن مدينتي؟. 

ثم أشرت إلى الخروف قائلًا: "أم عنيت هذا؟".

فانفجر الشباب بالضحك. أمّا عباس الذي احمرّ وجهه فضربني على رأسي.
- تعسًا لك على هذا الكلام يا مسعود همّتي! أهذا جزاء الإحسان!

لم يصل الجدل إلى نتيجة وذلك، على الأغلب، لاستحالة تقسيم لحم خروف واحد، وإن كان سمينًا، على كتيبة مؤلّفة من قرابة أربعمئة عنصر. لذا فالكحل خير من العمى، كما يقول المثل!

أخيرًا، وفي يوم كان أكثر عناصر الكتيبة في مأذونياتهم، اغتنمنا الفرصة. وحيث لم يعد أحد يهمّه جمال ذلك الخروف الحنّاوي ولا تربطه به أواصر، بادرنا إلى ذلك الحيوان المسكين وذبحناه! طبخنا لحمه وتناولناه مع من بقي في الكتيبة. أردنا أن نأكل كبد الخروف وقلبه، إلّا أنّ العم مرتضى اقترح قائلًا: "دعوا القلب والكبد لنتناولهما على الفطور صباح الغد!".

قلت: "إنّهما لا يكفيان الجميع يا عم!".
- سنقنع بالموجود يا مسعود الأكول!
 
 
 
 
 
441

430

الحنّاويّ المشويّ

 - ليس لدينا ثلاجة، سيفسدهما الحرّ!


- نضعهما داخل الكيس في سلّة ونعلّقهما في مكان مناسب، كما كانوا يفعلون في الماضي!

وهذا ما حصل فعلًا. عندما استيقظنا في صباح اليوم التالي أصبنا بالدهشة إذ لم نجد أثرًا للكبد والقلب! ذهبنا للتحاكم لدى العم مرتضى.
- لقد سرقوا الكبد والقلب!

هزّ العم مرتضى رأسه وقال: "ليبقَ الأمر بيننا حاليًا، سأتابعه بنفسي".

عصر ذلك اليوم جاءنا العم مرتضى بالخبر: "لقد تحقّقت من الأمر، إنّها فعلة أبناء مدينة "استهبان".

قصدنا شباب استهبان واعترضنا عليهم: "لماذا خنتم الأمانة؟".

فضحكوا قائلين: "لعلّ القطّة أكلتهما!".

قلنا: "أيّ قطة؟ لا يمكن لأحد غيركم الوصول إليهما!".

لكنّهم رفضوا الاعتراف بفعلتهم. وبتوصية من العم مرتضى كتمنا القضية حتى حين. لحسن الحظ أُهدي أبناء استهبان خروفًا أسمن وأجمل من خروفنا ذاك. بدورهم، أخذوا يغذّون الخروف ويعتنون به بدقّة متناهية لكي يذبحوه ويشووه في الوقت المناسب. خطّطنا مع العم مرتضى للانتقام وقمنا، بمساعدة أبناء زرقان، بأخذ الخروف ثم شويناه وأكلناه! قال العم مرتضى: "ضعوا جلده وأرجله ومعدته في صندوق وابعثوه هدية إلى شباب استهبان!".

ظهر اليوم التالي أعددنا مرق اللحم بما تبقّى من لحم الخروف وجلسنا نأكله وإذا بالمنتهَبين قد حضروا وقصدوا غرفة العم مرتضى شاكين: "يا عم، لقد أخذوا خروفنا!".
 
 
 
442

431

الحنّاويّ المشويّ

 إلّا أنّ العم مرتضى فضح أمرنا بسهولة ووضع نفسه موضع القاضي المحايد. قلت له: "يا عم، لقد أصبحت شريكًا في القافلة ورفيقًا لقاطع الطريق!".


ضحك. ثم جمع أبناء زرقان واستهبان في المصلّى وقال: "في الواقع، إنّ حادثتَي السطو على الكبد والقلب وعلى الخروف كانتا بتخطيط منّي. في النهاية لا بدّ من اصطناع مثل هذه الأحداث في كتيبة الفجر لكي أخرجكم من الكسل والملل!".

ثمّ قبّل وجوهنا قائلًا: "أرجو المسامحة".
 
 
 
 
443

432

أصحاب اليمين

 أصحاب اليمين - 20/ك2/1985


عند الظهر، أخذني الطلق. صرت أتلوّى يمنةً ويسرةً حتى انقطع الألم لبرهة قصيرة ما لبث أن عاودني ثانية. كان طعام الفطور كالصخرة يقبع على رأس معدتي. أمّا مرتضى فقد ذهب منذ الصباح الباكر لشراء لوحة للسيّارة التي بيعت لنا من قبل لواء المهدي. تذكّرت الحوار الذي دار بيني وبين مرتضى:
- آمنة، إن لم تكوني على ما يرام فلن أذهب إلى شيراز! 
- أنا بخير، ستأتي أمّي. 
- علينا أن نبيع السيّارة، فلنبعها من دون لوحة!
- لا، سنبيعها بسعر أفضل مع لوحة! بالمناسبة ألا يمكننا الاحتفاظ بالسيارة؟
- أودّ ذلك من كلّ قلبي، ولكنّك أدرى بأنّنا مدينون بنصف ثمنها!

عندما تواصل ألم الطلق، ناديت وبشقّ الأنفس أمّي التي كانت على أهبة الاستعداد. كما حضر أبي وخالتي وأخذوني إلى مستشفى فسا تحت رذاذ مطر الشتاء.

في اليوم التالي لولادة ابنتي عدت إلى القرية. قرابة الظهر وبينما كنت نائمة في البيت دخل مرتضى حاملًا علبة حلوى.
- السلام عليك يا بنت خالتي!

جلس بقربي ثمّ حمل الطفلة الملفوفة بقماط أبيض وبدأ يؤذّن في أذنها: "ألله أكبر..".
 
 
 
 
444

433

أصحاب اليمين

 لا أدري أيّ سرّ كان في اقتران أذان مرتضى بصوت الأذان الذي اخترق سمعي، والذي انبعث من منارة مسجد القرية! قبّل مرتضى وجه طفلتي الأبيض ذات الوجنتين الحمراوين، بعد ذلك شرع بقراءة سورة الواقعة برويّة حتّى خلتُ أنّه يزرعها في ذهني كلمة بعد أخرى.


إذا وقعت الواقعة.. 
.. فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة..
فسبح باسم ربك العظيم.

وبعد أن أنهى قراءة سورة الواقعة، وبعينين ملؤهما الرضى والطمأنينة، وضع مرتضى طرف أنفه على جبهة طفلتي وجعل يمسّدها بنعومة فريدة، ثم رفع رأسه. دقّقت النظر في محيّا زوجي فوجدته وقد غمره السرور وصَفَتْ نفسه من الغموم وعمرت روحه بالغبطة! طبع قبلة على وجنة طفلتي المتورّدة وقال: "بابا فداءٌ لزينب!".

تبسّمتُ. لكن بعض الأقارب لم يوافقوا على هذا الاسم وأخذ كلّ واحد منهم يقترح اسمًا. وخلافًا لعادته، حيث كان يبدي ليونة مع الآخرين، حسم مرتضى الأمر قائلًا: "زينب، ولا غير!".

كان يهتمّ بزينب ويدلّلها ويكثر من تقبيلها إلى حدّ يفوق التصديق!

في الأسبوع التالي علم مرتضى بشهادة أحد أصدقائه فوضّب حقيبته وقال لي: "ابقي هنا إلى أن تتحسّن صحّتك، وحين آتي لحضور الذكرى السنويّة لألواني سأصطحبك إلى الأهواز".
 
 
 
445

434

لعبة الحرب

 لعبة الحرب - 22/ك2/1985


بعد غياب طال شهرين عاد وَلَدايْ محمد رضا وعباس من الجبهة ولم يكن لهما حديث إلّا عن العم مرتضى: "إننا ننادي قائدنا بالعم مرتضى، شباب الكتيبة يعشقونه!".

سألتهما بفضول: "حسنًا يا عزيزيّ، كم عمر عمّكما هذا؟".
- لقد أتمّ خمسًا وعشرين سنة.

قلبت شفتيَّ وفتحتُ عينيّ مستغربة.
- خمس وعشرون سنة؟!

عاد عباس ومحمد رضا إلى مدينة "زرقان" لقضاء أيّام مأذونيّتهما، وكلّما أتيا على ذكر جبهة القتال أخذا يتحدّثان عن العم مرتضى وأحيانًا عن معاونه بديهي! في اليوم الأخير قبل مغادرتهما إلى الجبهة التفتُّ إلى ابنَيّ قائلة: "بما أنّ قائدكما حسن السيرة إلى هذا الحدّ ادعياه للمجيء إلى زرقان في المرة المقبلة!".

قال عباس فرحًا: "إذًا ابذلي قصارى جهدك لخياطة أكبر عدد ممكن من ثياب الأطفال الرضّع!".

هززت رأسي.
- هل حقًّا ما سمعتُ، ثياب أطفال؟!
- أجل يا أمي العزيزة!
- وهل الأطفال الرضّع يحاربون أيضًا في الجبهة يا بنيّ؟!
- لا يا أمّي، هل تمزحين!
 
 
 
 
446

435

لعبة الحرب

 فغرتُ فاهي.

- آه، مبارك لكما يا عزيزيّ، لا بدّ أنّ عمّكما مرتضى قد زوّجكما في الجبهة ورُزقتما بأطفال من دون علمي!

كاد أن يغمى على محمد رضا من شدّة الضحك. اقترب منّي وقال: "أمّي، كفّي عن مضايقتنا، لقد رُزق العم مرتضى بطفلة جميلة ونريد الثياب لأجلها!".
- أليس لعمّكما هذا أمّ تهتمّ به؟

أخذ محمد رضا نفسًا عميقًا ثمّ قال: "أمّاه، دعكِ من استفزازنا، إنّ العمّ مرتضى نفسه لا يعلم بهذا. كل ما في الأمر أننا أردنا إسعاده بطريقة ما ولم يخطر ببالنا سوى فكرة ثياب الأطفال. كما وإنّ لكِ باعًا طويلًا في هذا العمل!".
- أيّها الولدان المحتالان!

وعلى غير عادتهما رجع محمد رضا وعباس من الجبهة قبل مضي شهر، طرقا الباب. فتحتُ الباب فرأيت شابًا متوسّط القامة نحيف الجسم والوجه، ذا لحية سوداء يضجّ بالحيويّة واللطف. قال عباس: "أمّاه، هو ذا العم مرتضى الذي لطالما أخبرناكِ عنه!". 

فتبسّم مرتضى، وكان يرتدي ثيابًا كاكيّة متواضعة وينتعل حذاءً خفيفًا، وخاطبني كمن كان على معرفة قديمة بي قائلًا: "السلام عليكِ يا أمّاه!".

قوله "أمّاه" جعل محبّته تسري في قلبي. وكانت الساعات الأربع والعشرون الأولى من التعرّف إليه كفيلة بأن تنسج خيوط علاقة فريدة من الأمومة والبنوّة بيني وبينه. قلت له: "بنيّ، أريد أن أتعرّف إلى زوجتك أيضًا إن أمكن ذلك".
 
 
 
 
 
447

436

لعبة الحرب

 فهزّ رأسه قائلًا: "على عيني، في المرة المقبلة سآخذ مأذونية أطول ونأتي معًا لنكون في خدمتك!".


ثم أشار إلى محمد رضا وعباس.
- لطالما وددتُ لو أتعرّف إلى الأم التي ربّت هذين الأسدين!

في تلك الأيام القلائل في مدينة زرقان الصغيرة اصطحبه محمد رضا وعباس إلى مقرّ الحرس والتعبئة والجيش، فكان يقضي ليله ونهاره متنقّلًا بين المسجد والمدارس وغيرها من الأماكن يخطب في الناس ويخبرهم عن الجبهة والحرب وبسالة المجاهدين. وبالرغم من حضوره للمرة الأولى في زرقان إلّا أنّ المدينة بأسرها، بصغيرها وكبيرها، بدت كأنّها تعرفه. في الليلة الأخيرة سألت عباس: "بنيّ، من أين يعرفه الناس؟".
- كلّما عاد أحد من أبناء زرقان من الجبهة تحدّث عن أخلاق العم مرتضى وبسالته! لقد قام بعمل بطولي فريد من نوعه في عمليات "والفجر2"، وقد ذاع صيته في كلّ أنحاء إيران!

سألته: "ماذا فعل يا بنيّ؟". 
- أوووو.. القصّة طويلة يا أمّاه، سأخبرك بها لاحقًا!

بعد ظهر يوم رحيلهم إلى الجبهة، اشتريت بضعة كيلوات من الحلوى المعروفة بـ"حلوى ارده" الخاصّة بمدينة زرقان، ووضّبتها وسلّمتها لهم لكي يحملوها إلى شباب كتيبة الفجر. ما إن ابتعد ولداي قليلًا حتى التفت إليّ مرتضى وقال: "أمّاه، إنّ محمد رضا وعباس زماني هما حاملا راية الكتيبة! هنيئًا لكِ بهذين الولدين!".

عندما انصرفوا متّجهين إلى الجبهة، رميت الماء وزهر الليمون خلفهم. أحسست حينها أنّي أصبحت قلقة على ثلاثة أبناء!
 
 
 
 
448

437

جسد مقابل دبابة

 جسد مقابل دبابة - 16/آذار/1985


- عليكم أن تتسلّموا الليلة خطّ المواجهات من فيلق علي بن أبي طالب عليه السلام السابع عشر، التابع لمدينة قم!

عصر اليوم الخامس لعمليات بدر أعطى أخي جعفر تعليماته الأخيرة لكلٍّ من مرتضى وعلي أكبر. سأله مرتضى: "بالمروحيّة يا حاج؟".

أجاب جعفر: "بل بالزورق، لم يوافقوا على المروحيّة لأنّ نسبة المخاطرة فيها عالية!".

حمل مرتضى وعلي أكبر بندقيّتيهما وخرجا من دشمة التكتيك(التخطيط العسكري). أمّا أنا فكدت أن أفقد السيطرة على أعضاء جسمي جرّاء التعب وقلّة النوم. كنت أتوق للسباحة في مياه باردة أجد بعدها لنفسي خلوة فأنام ساعة من الزمن، إلّا أنّ أخي جعفر حالَ دون ذلك!
- صالح، عليك أن ترافقهما. أريد تقريرًا تفصيليًّا.
- سمعًا وطاعة يا حاج!

وحين هممتُ بالخروج من الدشمة ناداني: "صالح!".

لقد صاح باسمي بصوت عامر بعاطفة جيّاشة ولم يكن قد فعل ذلك منذ زمن. خلال سنوات الحرب التي مضت، كانت تلك من المرّات النادرة التي شعرت فيها أنّ أخي هو من يتحدّث إليّ لا قائدي! تقدّم منّي وعانقني.
- أخي صالح، انتبه لنفسك، إنّ الخطّ الأمامي نار مستعرة! مدفعيّة
 
 
 
 
449

438

جسد مقابل دبابة

 العدو تطلق نيران مدافعها وقذائفها في كل مكان. قم بالتنسيق مع محمود ستوده. أريدك أن ترجع لي بالتقرير سالمًا!


ثمّ وضع يده خلف رأسي وأدنى جبهتي منه وقبّلها.
- اعذرني إن لم أستطع أن أتعاطى معك كأخ!

احترق قلبي لأجل أخي جعفر. لقد كان دائم الجهوزيّة على مدار الساعة! كنت أرى خلف ذلك الوجه جبلًا من التعب الخفيّ. وضعتُ المجاملات جانبًا وارتميت في حضنه. أدركت حينها كم أحبّه. انحنيتُ وقبّلت يده النحيفة اليابسة الخشنة وطفقتُ خارجًا من الدشمة قبل أن يرى دموعي. حملت عتادي الشخصي، وبعد أداء صلاة المغرب وتناول طعام العشاء، استرحتُ لوقت قصير، ثمّ انطلقت برفقة مجاهدي كتيبتي الفجر وكميل باتجاه جزيرة "مجنون" الشماليّة.

خرجنا من المقرّ المظلم بسيّارات مطفأة المصابيح، فيما أخذ عناصر التعبئة والحرس يردّدون مرثية صادق آهنكران وهم يلطمون الصدور:
يا وردة شقائق النعمان الحمراء، يا فتاي الشهيد، يا فتاي الشهيد 
أيّها المضرّج بالدماء بلا كفن، يا روحي يا شهيد، يا فتاي الشهيد

منتصف الليل وصلنا إلى ساحل الهور ومن ثمّ ركبنا مجموعةٌ بعد أخرى زوارقَ صغيرةً سريعةَ السير واتّجهنا نحو خطّ المواجهات الأمامي. في عتمة الليل البهيم بدا بريق نيران مدفعيّة العدو في جهة الجنوب بشكل واضح. كلّما دخلنا الهور أكثر تزايد سقوط القنابل المضيئة ذات الشُّرُر الباهتة اللون فوق مياه الهور الراكدة. شيئًا فشيئًا بتنا نسمع أزيز رصاص الرشاشات الثقيلة والأسلحة الخفيفة. كما كنا نرى في السماء نور رصاص (الخطاط) لتلك الرشاشات. كنت برفقة
 
 
 
 
450

439

جسد مقابل دبابة

 العم مرتضى وفتى يافع يحمل جهازه اللاسلكي، بالإضافة إلى محمود في زورق واحد. كان مرتضى يجري عبر اللاسلكي التنسيقات اللازمة بِلُغة الرموز، بغية استلام الخطّ الأمامي.

- شرقي دجلة.. سنتموضع خلف الساتر الترابي والقناة.

أحيانًا كانت القذائف تسقط في مياه الهور فتنقضّ المياه علينا كوحش مخيف لا رأس له ولا ذيل. عبرت زوارق الكتيبتين الطريق المائي بسلام.

عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وصلنا إلى الساتر الترابي الأول في الجبهة. كان مجاهدو لواء "علي بن أبي طالب عليه السلام - قم" قد أمضوا عدّة أيام تحت وطأة نيران العدو بحيث لم يستطيعوا فتح جفونهم من فرط التعب. وقد علت وجوههم طبقات من الدخان والبارود! أجرى محمود الإجراءات اللازمة.
- كلّ من ليس له دور في الحراسة فليسترح في القناة، وليبقَ الآخرون خلف الساتر الترابي.

تسلّم محمود ستوده مسؤوليّة الساتر الترابي فوضع عناصر الكتيبتين بمساعدة مرتضى وعلي أكبر رحمانيان في داخله. قلت لمحمود: "ألا يوجد دشمة هنا؟!".

فضحك وقال: "إن شاء الله، عندما نستولي على غربي دجلة، سنستقرّ في دشمة العراقيّين!".

فتذكّرتُ تلقائيًّا كلام أخي جعفر.
- الخطّ الأمامي نار مستعرة..

كانت حدّة نيران العدو كثيفة لدرجة أنّ عددًا منّا أصيب بجروح عند تبديل القوّات.
 
 
 
 
 
451

440

جسد مقابل دبابة

 عند بزوغ ضوء الصباح وبينما أخذتُ كبوةً قصيرة وإذا بصوت مرتضى يعلو في الساتر: "هجمة مضادّة.. استعدّوا يا مجاهدي الإسلام، استعدّوا..".


ومع طلوع الشمس اصطفّت عدة دبّابات من نوع (T-60)،(T-52)و(T-72)التي أخذت تحرق وقودها وهي تراوح مكانها فانبعث منها دخان أبيض وأزرق عكّر صفو هواء الجنوب الرطب والنقي.
- استعدّوا .. استعدّوا للدّفاع..

لم يترك العراقيّون مساحة من القناة -التي كانت تحت سيطرتهم قبل أيّام قليلة، ولذا كانوا على اطّلاع دقيق بتفاصيلها - إلّا وقصفوها بالقذائف والمدافع وصواريخ الكاتيوشا. أخذتُ أركض حيران داخل القناة ركضًا عشوائيًّا بغية الفرار من الشظايا وعصف الانفجارات. أحسستُ للحظة بطراوة تحت قدمي وطرق سمعي صوتًا يشبه صوت انتفاخ بطن إنسان. نظرتُ سريعًا تحت قدميّ لأرى نفسي واقفًا على بطن جثّة أحد العراقيّين الذي بدا وكأنّه قد انتفخ!

أمطر العدوّ من الجهة المقابلة الساتر الترابي بوابل من قذائف الدبابات والرشاشات، فيما انهمرت من السماء صواريخ الكاتيوشا والمدفعيّة. وفي غضون دقائق انعدمت الرؤية جرّاء انبعاث الغبار والبارود، كما وحجبت سُحبُ الدخان والغبار نور الشمس وكدّرت الأجواء. شيئًا فشيئًا أخذ الساتر المنشأ من التراب والحصى يضمحلّ اضمحلال الثلج في الصيف نتيجة القصف المركّز بالأعيرة الثقيلة!

عند الساعة الثامنة صباحًا لم يبقَ عمليًّا شيء باسم ساتر ترابي. أمّا من بقي من العناصر الذين لم يستشهدوا أو يجرَحوا فقد انبطحوا على أرض القناة!
 
 
 
 
452

441

جسد مقابل دبابة

 إثر ذلك تحوّلت المعركة إلى قتال مباشر كان عبارة عن دبابة مقابل فرد أو فرد مقابل فرد! فقد تقدّمت قوّات الجيش العراقيّ ودبّاباته إلى أطراف القناة. وما إن وصلوا إلى القناة وكادت المعركة تُحسم لمصلحتهم حتى أعمل العم مرتضى طريقته القتاليّة المعروفة، وفي لمح البصر جمع من بقي من حمَلة سلاح الـ(B7) في كتيبة الفجر مناديًا: "نَظَر.. فرامرز..". 


نادى إثنين من حاملِي الـ(B7)في الكتيبة، وكانا من مدينة "نور آباد"، خلع قميصه وكذلك فعلا، ثمّ صعد الثلاثة إلى أعلى القناة ورموا قذائفهم التي نزلت كالصواعق المحرقة على الدبابات العراقيّة. أمّا العدوّ الذي لم يكن يتوقّع مثل هذا التصرّف الانتحاري من رماة الـ(B7)، فخسر ثلاثًا من دباباته فيما حارت الدبابات الأخرى في كيفية الانسحاب. همّ الشابّان بالرجوع إلى داخل القناة وإذا بقذيفة مدفعية تقع بينهما، أُصيب "نظر نظري" و"فرامرز كهري" إصابات بليغة. ولم يطل الأمر حتى تمّ نقلهما إلى الخلف.

عند الظهر غدت حرارة الشمس شديدة ومباشرة. وفي ظلّ ذلك الهواء الشديد الرطوبة فضلًا عن حرارة الأرض المحرقة، شنّ عدد كبير من دبّابات الجيش العراقيّ وناقلات جنده هجمةً مرتدّة ثانية. أخذت الدبابات الملتصقة بعضها ببعض بالتقدّم نحونا وقد اتّخذت شكل الرقم سبعة.

تجدّد القصف المدفعي وقصف الدبابات المباشر علينا. كانت المواجهات محتدمة إلى حدّ أنّ العراقيّين استهدفوا دباّباتهم التي خلّفوها صباحًا فدمّروها تدميرًا كاملًا. أخذ العدوّ يتقدّم بجرأة متزايدة مشتّتًا جموع المجاهدين بنيران قذائفه ومدافعه! لم يطل الأمر حتى تمكّنوا من الوصول إلى القناة فبادر عناصرنا إلى رمي القنابل
 
 
 
 
 
453

442

جسد مقابل دبابة

 اليدويّة عليهم من داخل القناة. لم يكن يفصلنا عنهم أكثر من عشرين مترًا فكانت القنابل اليدويّة هي وسيلة القتال المتاحة، إذ لم يكن بوسع أحد القيام واستعمال الـ(B7). ضاق الخناق وكاد الخطّ الأمامي أن يسقط بيد العدوّ فيستعيد سيطرته على القناة في أيّ لحظة!


لم تتمكّن سيارات الإسعاف من نقل الشهداء والجرحى بسبب زوال الساتر الترابي فانبعثت رائحة الدم الثقيلة في الأرجاء. كان هناك عدد كبير من الذخائر والمعدّات الحربيّة في القناة غير أننا كنّا نحتاج إلى مزيد منها نظرًا لاحتدام المواجهات. أخيرًا أدّى اللطف الإلهي وشجاعة المجاهدين واستخدامهم القنابل اليدويّة إلى صدّ الهجمة المضادّة فعَلَت أصوات الشباب بالتكبير: "الله أكبر.. الله أكبر..". 

وبينما أنا في خضمّ زهوة صدّ تلك الهجمة المضادّة وإذا بصوت مرتضى الضعيف المشوب بالغصّة يوقظني من ذهولي.
- صالح، أخبر الحاج أسدي أنّ "جليل إسلامي" قد استشهد!

لدى سماعي نبأ شهادة جليل شعرت بحزن شديد وكدت أن أختنق.

تمّ استدعائي بالإضافة إلى محمود ومرتضى وعلي أكبر من قِبل المقرّ عبر اللاسلكي لحضور جلسة مهمّة. في غضون دقائق درسنا صعوبات الخطّ الأمامي والتدابير التي يجب اتّخاذها لكي يتمّ عرضها خلال الجلسة. عمدة تلك التدابير كانت ضرورة المسارعة إلى بناء ساتر ترابي لصدّ هجمات الدبابات، فكان على الجرّافات أن تبادر في الليلة نفسها لبناء الساتر قبل معاودة العدوّ شنّ هجماته في اليوم التالي!
 
 
 
 
454

443

مقرّ المحاربين

 مقرّ المحاربين - 17/آذار/1985


كانت إذاعة الأهواز تبثّ آخر الأنباء فضلًا عن الموسيقى العسكريّة دقيقة بعد أخرى.

"مستمعينا الكرام نرجو الانتباه.. استكمالًا لعمليّات بدر حقّق مجاهدو الإسلام.. تدمير دبابات.. طائرات ومقتل العملاء البعثيين.. كما تمّت السيطرة على مناطق مهمّة في الهور..".

ساد الصخب أجواء فندق "قيام!". اختلط صوت سيارات الإسعاف ببكاء زينب. أخذتُ أهزّ الطفلة وأنا أحدّق في المدرج الهوائي عبر نافذة الغرفة. كانت المروحيّات تحطّ فتهرع سيّارات الإسعاف لتنقل الجرحى إلى مستشفيات الأهواز. وتعرّضت المدينة لقصف الطائرات العراقيّة عدّة مرّات حتى الظهر.

"يا شعب أهواز المقاوم والأبيّ.. هناك حاجة ماسّة إلى جميع أنواع فئات الدم..".

جميع نزلاء الفندق من الرجال كانوا في جبهات القتال. جاءت "ماندانا" المرأة الخرّمشهريّة بأخبار وقالت: "يااااه، المستشفيات تغصّ بالجرحى.. حتى إنّهم أخلوا المدارس لاستقبال الجرحى..".

ثمّ همست لي قائلة: "آمنة، رأيت ليلة البارحة حلمًا.. أشعر بالقلق.. ماذا لو جاء دوري..؟".

ما إن انصرفت "ماندانا" حتى دخلت "بروين" غرفتي قلقة حائرة ترافقها ابنتها الصغيرة سمية وقالت: "لقد أنمتُ مهدي وزهراء. قلبي ليس مطمئنًّا، طلبتُ منهم أن يصلوا خطّ هاتفي إلى غرفتك!".
 
 
 
 
455

444

مقرّ المحاربين

 لم تكد تجلس على الأرض حتى رنّ جرس الهاتف. امتلأ قلبي رعبًا واجتاحت فكري سُحب من الأوهام والأفكار السوداء: هل هو مرتضى.. أو لا قدّر الله.. بِتُّ أحمل همّ شخصين. 


تجمّدت يدي ويد بروين ولم تستطع كلانا الوصول إلى الهاتف. أخذت أصارع نفسي حتى رفعتُ السمّاعة، فيما كانت زينب تبكي بين يدي.
- أأألووو.. تـتفضّل.

كانت "عاطفة" زوجة رضازاده. تنفّستُ الصعداء.
- سلام.. هل السيدة بروين موجودة؟

أعطيت السمّاعة لبروين متردّدة.

أمسكتْ بها بريبة وسألتني: "مـمن هذا؟!".
- إنّها عاطفة، زوجة رضازاده!

دققتُ نظري أسفل عينَي بروين أرقب أيّ ردّ فعل تبديه. قالت مرارًا: "محمود.. ماذا.. ماذا عن محمود.. أستحلفكِ بالله.. ".

وضعت السمّاعة ببرودة. تدلّت شفتها العليا وتبلّلت عيناها. بادرتُها بالسؤال: "ماذا قالت؟".

فأجابت بإكراه: "كان لواء المهدي على خطّ المواجهات الأمامي!".
- حسنًا؟!

فأردفت قائلة: "لقد استشهد كلّ من أكبر نورأفشان وجليل إسلامي أو لعلّهما جُرحا. وقالت إنّ حسين إسلامي ورفيعي أصيبا بجروح أيضًا".
- مـ ـمـ ـماذا عن مرتضى؟

مسحت دموعها بطرف إصبعها وقالت: "لم تذكر شيئًا عنه. سألتها
 
 
 
456

445

مقرّ المحاربين

 أيضًا عن محمود لكنّها لم تجبني!".

- بالله عليكِ يا بروين.. هل أخبرتكِ شيئًا عن مرتضى.. أستطيع أن أتحمّل .. لا تكذبي عليّ!
- كلا. ولكنّها طلبت منّا أن لا نخبر زوجتَي رفيعي وإسلامي بأمر شهادتهما.

كان صوت سيارات الإسعاف وبكاء زينب يجلدان روحي. وقفتْ سميّة الصغيرة قرب النافذة وقالت: "ماما، هل أصيب بابا بجروح؟".

انقلب كيان بروين. لم ندرِ أيّنا عليها أن تسكّن الأخرى وتواسيها! أمسكتُ يد سمية.
- تعالي يا صغيرتي واجلسي هنا!

ملأتُ قارورة الحليب بمزيج الماء والسكر ووضعتُها في فم طفلتي الرضيعة زينب ثمّ أنمتها في إحدى زوايا الغرفة.

عندما طرق باب الغرفة تبدّدت - مؤقّتًا - سُحب العذاب والخوف التي كانت مسيطرة على قلبي. فتحتُ الباب فرأيت مرضية زوجة السيد محسن نيا. اعترتني مجدّدًا حال من الهلع غير المبرّر وأخذتُ أخاطب نفسي: أرأيتِ، ها قد جاءتكِ بنبأ شهادة مرتضى. 

حين رأت بروين سوء حالي سارعت بالسؤال: "مرضية، ما الخبر.. ستوده!".

بتنا نشكّك بكلّ شخص وبكل شيء. دخلتْ مرضية الغرفة. 
- لقد عاد محسن نيا، ولكنّي مهما سألته لم يجب!

سألتها بروين: "هل ثمّة رسالة؟ لقد قال لي محمود إنّه سيرسل برسالة لي".
 
 
 
 
 
457

446

مقرّ المحاربين

 - كلا. كلّ ما قاله إنّهم قاموا بعمليّة عسكريّة وإنّ هناك عددًا كبيرًا من الشهداء والجرحى!


قلّصت بروين جلد وجهها استياءً وقالت: "عليّ أن أتحدّث إلى الحاج!".

وعلى الفور انطلقت نحو غرفة الحاج محسن نيا فتبعتُها ودخلنا الغرفة. سلّمنا وحاولنا الاستفسار، غير أنّ الحاج رفع كتفيه واكتفى بالقول: "لقد جُرح حسين إسلامي..بالله عليكما، لا تخبرا زوجته!".

عدنا مكسورتي الخاطر إلى الغرفة. كنت مضطربة اضطراب بحر متلاطم. كلّما حاولت الفرار بتفكيري إلى جهة ما تراءى أمام عينيّ وجه مرتضى. أمّا سمية الصغيرة التي لم تبارح نافذة الغرفة فجعلت تشير إلى باب الفندق قائلة : "سيأتي بابا بالسيارة وسيلوّح بيده لي من الأسفل!".

كان لا بدّ لنا من أن نضع حدًّا لتلك الأوهام وذلك الانتظار القاتل. خطر ببال بروين أن تجري مكالمة هاتفية مع مقرّ اللواء في الأهواز.
- ألو.. أنا زوجة الحاج ستوده.. أريد أن أكلّمه!

وضعتْ سمّاعة الهاتف وسكتت. سألتُها: "ماذا قال لكِ؟".
- قال إنّ الحاج كان موجودًا هناك لكنّه غادر..

حدّقتْ بالجدار وأردفت قائلة: "إنّه يكذب!".
- وكيف علمتِ بذلك يا بروين؟
- وهل من الممكن أن يأتي محمود إلى الأهواز ولا يتصل بي؟!
- لعلّ الرجل لم يكن عنده أي خبر فأراد بقوله ذاك أن لا يقلقكِ!
- لا أعلم يا آمنة.. متى سينتهي هذا الانتظار؟
 
 
 
 
458

447

مقرّ المحاربين

 عصرًا غطّت سحابة حمراء أشبه ما يكون بالغبار سماء الأهواز. كان معظم نزيلات الفندق موجودات في الغرفة (110) حين رنّ جرس الهاتف. رفعت خديجة ابنة رضازاده السمّاعة.


في البداية ساد صمت رهيب المكان سرعان ما أصغى الجميع إلى الكلام المبهم المنبعث من الهاتف. وضعت خديجة السماعة وقد دكن لون شفتيها. سألتها: "من كان على الخط؟".
- الحاج أسدي، قائد اللواء!
- ماذا قال؟

فتجمّعت الدموع في عينيها.
- قال إنّ أبي قد أصيب بجروح وإنّه في المستشفى، وقال إنّه سيرسل أحدًا ليأخذنا لرؤيته إن أردنا!
- أين أصيب؟
- في يده.. كانت المكالمة من المستشفى..

خرجت بروين من عزلتها وقالت: "بالله عليكِ أخبريني، ألم يذكر شيئًا عن محمود؟".

سالت الدموع على وجنتي خديجة الصبيّة. ابتلعت ريقها بصعوبة.
- إنّ الحاج محمود بخير! قال السيد أسدي إنّ الحاج يتولّى مسؤوليّاته في غيابه، لا تقلقي!

فسألتها: "ماذا عن مرتضى؟".

فالتفتت ونظرت إليّ.
- لم يقل شيئًا عنه.

انطويتُ على نفسي فيما اجتاحتْ ذهني أسراب من الأفكار
 
 
 
 
459

448

مقرّ المحاربين

 السريعة المتلاحقة: ..الناس يُسَرّون لدى سماعهم ما تبثّه الإذاعة من الموسيقى العسكريّة وأخبار تقدّم المجاهدين.. أمّا أنا فكلّما سمعت ذلك أشعر بقلبي ينخلع من مكانه. انتظار قاتل، اضطراب، حيرة.. إلهي متى تنتهي المعركة لأعرف ماذا حلّ بمرتضى؟.. هل هو جريح، شهيد أم أسير! ترى هل سأراه ثانية.. ثمّ انتظار آخر ومعركة جديدة.. آآآه، هذا فضلًا عن الفترة العادية للحرب حيث يقضي مرتضى ليله ونهاره على جبهات القتال في مواجهة العدو، إذ يحتمل أيضًا أن تصيبه شظيّة أو رصاصة في أي لحظة.. لم أكن قلقة إلى هذا الحد في "جليان"، فهناك تفصلني عن مرتضى مسافة ساعات عدّة!.. لولا الزحام وضجيج النهار في الأهواز لأمكن سماع أصوات المدفعيّة والمواجهات على الجبهة.. ترى أيّ مصير سيكون لمرتضى؟ شهيد، جريح، أسير أو سالم معافى.. ماذا عن مصائر بقية رجال الفندق... طُرق الباب ودخلت "فاطمة" والدة الحاج أسدي - قائد لواء المهدي - الستّينيّة. كنّا نناديها "آنا". لقد حضرت آنا برفقة زوجها العجوز وأبنائها الأربعة وكنّاتها إلى الجبهة. كنّا نمازحها أحيانًا فنقول: "ألم يبقَ لديك أحد لم تأتي به إلى الجبهة يا آنا؟!".


كانت آنا امرأة قويّة ذات عنفوان تزور جميع النساء عند الضرورة لترفع من معنوياتهنّ. تقدّمت منها بروين بسرعة فسلّمت عليها وسألتها: "أقسم عليكِ بحياة الإمام، لماذا جئتِ؟".

ارتسمت ملامح الغبطة على وجه آنا وقالت: "يا ابنتي العزيزة، عرفت بالعمليّات فلم تطاوعني نفسي إلّا أكون حاضرة قرب بناتي العزيزات!".

ثمّ بادرت بسؤال بروين ووجهها يضجّ بالفطنة: "عزيزتي، هل لديك خبر عن زوجك؟".
 
 
 
 
 
 
460

449

مقرّ المحاربين

 أرخت بروين شفتيها كما يفعل الأطفال.

- لا خبر لديّ يا أمّاه!

فُتح الباب ودخلت حكيمة زوجة مسلم رستم زاده فرحة وهي تقول: "لقد عاد مسلم!".

تداخلت الأصوات حتى كأنّ حكيمة هي التي عادت من الجبهة. تحلّقنا حولها.
- ماذا قال..
- هل لديه خبر عن إسلامي؟
- رفيعي..
- ...

فأجابت حكيمة: "قال مسلم إنّ العراقيّين ينوون قصف الأهواز انتقامًا، وقد صدرت أوامر بعودة العائلات إلى فسا.. لقد جاء ليخبرنا بهذا فحسب!".

اعترض الجميع.

- لن أذهب إلى أيّ مكان بدون زوجي..
- لن نتحرّك من هنا.
- إننا لا نختلف عنهم!
- من أراد الرحيل فليرحل!

وقالت بروين بحزم: "لقد قال الحاج نفسه إنّه لن يعيدنا إلى فسا حتى لو انقلبت الأهواز رأسًا على عقب"..

أمّا أنا فكان قلبي ينبئني بحدوث مكروه. تقدّمت آنا من بروين التي بدت أكثرنا جزعًا وحيرة.
 
 
 
 
 
 
461

450

مقرّ المحاربين

 - سيدة بروين، هل أنت متأكّدة من أنّك لن تعودي إلى فسا!

- لا يا أمّاه، ولماذا أذهب إلى فسا بلا محمود؟ لن أذهب ما دام لم يتّصل أو يرسل رسالة!

ثم التفتت بروين إلى حكيمة وقالت: "أين هو السيد مسلم الآن؟".

على الفور وضعنا عباءاتنا على رؤوسنا وسرنا خلف حكيمة. وصلنا إلى زوجها فسلّمنا عليه وبادرناه بالسؤال: "ماذا لديك من أخبار عن..؟". جعل مسلم ينظر إلينا وقد علا وجهه الغبار والبارود ثم قال: "الجميع بخير، ولا مشكلة!".

سألته بروين: "هل رأيت محمودًا بأم عينك؟".
- لقد تكلّمت معه بالأمس عبر الجهاز اللاسلكي!

فقلت: "ماذا عن مرتضى؟".
- إنّه بخير أيضًا!

فقالت بروين وقد ساورها الشك والارتياب: "سيد مسلم، في العمليات السابقة كنت تأتي إلى الأهواز بعد مرور عدّة أسابيع، فلمَ حضرت مبكّرًا هذه المرّة؟".

فعلت شفتي مسلم ابتسامة قهريّة وقال: "في الحقيقة، لقد واجهتنا بعض المتاعب في هذه العمليّة، وقد جئت لأحلّ مشكلتكنّ ثمّ أعود!". لكننا لم نقتنع وعدنا إلى الغرفة 110 قلقات!

رنّ جرس الهاتف فرفعت آنا السماعة. كان ولدها قائد اللواء. قالت لولدها فيما قالت: ".. لم توافق، وتقول إمّا أن يتّصل بي الحاج أو يرسل رسالة حتى أذهب إلى فسا!".

كلّما حاولت بروين الاقتراب من آنا لتسمع شيئًا من حديثه كانت آنا ترجع إلى الخلف بحنكة. لكنّها في النهاية لم تعد تستطيع إبعاد
 
 
 
 
 
462

451

مقرّ المحاربين

 بروين فما كان منها إلّا أن ودّعت ابنها ثمّ وضعت السمّاعة. سألتها بروين بريبة: "بالله عليك يا أمّاه، أخبريني ماذا قال لكِ؟".

- لا شيء مهمًّا، كان قلقًا عليكنّ وطلب أن تذهبن إلى فسا. الأوضاع في الأهواز غير مستقرّة هذه الأيام!
- لا يا حاجّة، إنّك تخفين أمرًا ما عنّي! ماذا قال لكِ عندما أخبرته بعدم ذهابي إلى فسا؟
- قال إنّه سيتواصل مع الحاج محمود عبر اللاسلكي ويطلب منه أن يتّصل بكِ، هل ارتاح بالك الآن؟!

عندها شعرنا ببعض الهدوء.
 
 
 
 
463

452

عشرة أشخاص

 عشرة أشخاص - 17/آذار/1985


عند الظهر، وبسبب اشتداد نيران القصف العراقيّ التصقتُ بالساتر الترابي المنخفض وأنا أنظر جائعًا إلى القدر الكبيرة المستقرّة على بُعد خمسة عشر قدمًا منّا، والتي لم يجرؤ أحد على الاقتراب منها. فقد نال آخِر من اقترب منها شظيّة عوضًا عن الطعام!

بعد مضيّ ساعة عاد محمود ستوده من المقرّ ووصل إلينا. نهض شابّ تعبويّ وقال: "إنّه لَمِن القبيح أن يبقى الجميع جياعًا!".
 
أشار بإصبعه إلى القِدر الكبيرة المقابلة لنا وقال: "صالح، سأذهب وأحضر طعام الغداء!".

اقترب واثقَ الخطى حتى صار على مسافة خطوتين منها وإذا به ينادي أمّه: "آخ، أمّاه!".

جثا على ركبتيه ثم جلس. سرتُ نحوه أقوم تارة وأقع أخرى. أمّا هو فوضع يده على ظهره فيما انبجست الدماء من بين أصابعه. حملتُه ثمّ نقلناه على الفور إلى الخلف.

بعد معاينتهم لخطّ الدّفاع توصّل كلٌّ من محمود ومرتضى وعلي أكبر إلى النتيجة التالية: نظرًا لكثافة إطلاق النار وعدم وصول العتاد والذخائر فإنّ العراقيّين ليسوا مضطرّين لشنّ هجومهم، ومع مرور الوقت سيؤول مصيرنا جميعًا إلى القتل أو الإصابة بجروح!

كانت المنطقة محاصرة والمنافذ المؤدّية إليها بيد العدو! وقد ملأت واجهة الساتر الترابي الأمامية والخلفيّة حفرٌ سوداء قمعية الشكل جرّاء اختراق قذائف المدافع والقنابل. اتّصل "ستوده" بأخي "أسدي"
 
 
 
 
464

453

عشرة أشخاص

 عبر اللاسلكي وقال له: "إننا نرزح تحت وابل من نيران المدافع والقذائف. لا يمكننا القيام بقصف مضادّ!".


كان علينا أن نبقى جائعين بانتظار الأوامر. ألقى محمود نظرة إلى الخلف فوقعت عينه على دشمة عراقيّة فقال: "إنّ نسبة سقوط الرصاص هناك أقلّ، فلنذهب ولننتظر الأوامر هناك".

ولمّا هممت بالانطلاق قال لي محمود: "صالح، نأكل ثم نذهب!".

فأشرتُ إلى حيث قدر الطعام.
- ثمّة قدر كبيرة، إنّها هناك.. تحتاج إلى جرأة!

فربّتَ على كتفي قائلًا: "سأذهب برفقة الآخرين إلى الدشمة، إن استطعتَ فاجلب بعض صحون الطعام لنأكل معًا!".

ركب شابّ من الحرس الثوري سيارة التويوتا وقال: "سآتي لمساعدتك، اركب!". ثم التفّ بالسيارة وانطلقنا باتّجاه الطعام. ترجّلتُ وقرأتُ شهادة الموت وحملتُ وعاءين. في تلك اللحظة سقطت عدّة قذائف وسمعتُ صوت انفلاق الهواء. رميتُ غطاء القدر بسرعة، ملأتُ الوعاءين أرزًّا ثمّ صعدتُ إلى القسم الخلفي من السيارة وانطلقنا سريعًا باتّجاه الدشمة ودخلناها. كنّا عشرة أشخاص مع وعاءين من الطعام! لم تسنح الفرصة لكي نجلس ونتناول الطعام معًا. كما وإنّ كثافة النيران واحتدام المواجهات لم يسمحا لنا بانتعال أحذيتنا فبقينا حفاة الأقدام. وصل خبر بأنّ كتيبة "أبو ذر" ستصل للتبديل معنا.

كان على محمود أن ينقل الأمر إلى مسؤول العمليّات عبر اللاسلكي. خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية لاستقرار أفراد اللواء أصيب كلٌّ من مسؤول العمليّات ومساعده بجروح فحضر "رفيعي" مكانهما. كما
 
 
 
 
465

454

عشرة أشخاص

 وصل "فرخي" وتبعه "روغنيان" - وهو من شباب الاتّصالات - يرافقه شخصان أو ثلاثة. أحسستُ بازدياد حدّة النيران على دشمتنا. كان معظم الشبّان يتنقّلون ريثما تتمّ عمليّة تبديل كتيبتي كميل وفجر بكتيبة أبي ذر، وهذا ما أشعرني بالقلق. فقد ركّز العراقيّون قصفهم على دشمتنا! سرعان ما وصل خبر بأنّ العدوّ بدأ بشنّ هجمة مضادّة، وأنّ جرّافته تتّجه نحو قناتنا الدفاعيّة لملئها بالتراب بمساندة من المروحيّة.. لم يبقَ أثر من الساتر الترابي الذي كان موجودًا أمام القناة..


في ذلك الهواء النقي استُهْدِفَتْ طائرة "ميغ" عراقية فسقطت كالمذنّب في الهور وسط غيمة من الدخان.

عند الساعة الثالثة والنصف عصرًا اشتدّت المواجهات إلى حدٍّ لم يعد يُرى شيء على الخطّ الأماميّ سوى الغبار والدخان. كانت مجموعتنا المؤلّفة من عشرة أشخاص لا تزال داخل الدشمة بانتظار وصول كتيبة أبي ذر، وقد علمنا أنّ "عبد الله محسني نيا" انطلق بزوارق أفراد كتيبة أبي ذر باتّجاه الخطّ الأمامي. فجأة سقطت قذيفة دبّابة مقابلة قرب الدشمة فقال علي أكبر: "لقد انكشف موقعنا! علـ..".

لم يكمل كلامه حتّى دوّى صوت انفجار قذيفة سقطت على سقف الدشمة كضربة قويّة من مخلب حيوان مفترس. اسودّت الدنيا للحظات أمام عينيّ، وانهمر فوق رأسي وابل من الحجارة والطين اليابس. اخترق سمعي صوت طويل يصمّ الآذان، كما وشعرت بضغط شديد من داخلي. أحسستُ بأن حديدًا أصاب رأسي ولم أستطع الوقوف. كأنّ سقف الدشمة أطبق على أرضها. اصطدم رأسي عدّة مرّات بأعمدة السقف الحديدية. وقد التوى الحديد فسدّ باب الدشمة.

عاد بصري شيئًا فشيئًا. ولمّا اختفى الدخان والغبار رأيت مشهدًا لا يصدّق! كان "فرّخي" و"جلال كوشا" غارقَين في دمائهما كأنّهما قد
 
 
 
 
 
466

455

عشرة أشخاص

 فارقا الحياة منذ سنوات. نظرتُ إلى حيث كان "كرامت إيرلو" جالسًا قبل سقوط القذيفة فلم أجد له أثرًا. نظرت إلى الأعلى فوجدتُ جسد كرامت وكأنّه قد حِيك بسقف الدشمة وأعمدة الحديد جرّاء الشظايا وعصف الانفجار! في زاوية أخرى من الدشمة رأيت وجه "كرامت رفيعي" وقد اختفت عظامه وذاب جسده على الأرض. لم تتوقّف أذني عن التصفير بسبب عصف الانفجار.


كنت أرتجف من الغضب. استشهد أيضًا كلٌّ من "فرّخي" و"روغنيان". امتلأ جسدي وثيابي بالدماء وقطع اللحم المتناثر من الشباب. غطّت الدماء الدشمة بالكامل، وكلّما حرّكتُ رجليّ انزلقتا في الدماء!
 
 
 
 
 
 
467

456

بدونك

 بدونك - 18/آذار/1985


مساءً، أخذنا ندور حول أنفسنا كالظلال حائرات وإذا بخديجة ابنة رضا زاده تقتحم غرفتي مضطربة وتقول: "لقد وصل الحاج محسن نيا إلى الفندق!".

لم أدرِ كيف اختفت زوجته هاجر! قالت بروين: "ثمّة خطبٌ ما إن لم أخطئ!".

جمعنا طعام العشاء الذي تناولناه بغصّة ثم اتّصلنا عبر الهاتف بغرفة "محسن نيا". رفعت هاجر السمّاعة. قلت لها متوسّلة: "أستحلفك بالله أن تسألي زوجك إن كان لديه خبر عن مرتضى!".

هزّت بروين كتفي.
- آمنة.. اسألي عن محمود..

فتلعثمت هاجر: "الحـحاج وصل للـلتوّ، لـ.لـ.لـ.ليس لديه اطّلاع دددقيق".

وخلافًا لانتظارنا ما كان منها إلّا أن أقفلت السمّاعة! طلبت رقم غرفتها ثانية وسألتها: "لماذا قطعتِ المكالمة؟!".
- لديّ ضيوف، سأسأل الحاج ثم أخبرك.

ثمّ وضعت السماعة. كادت الغصّة تخنقني وهممت بالبكاء لكنّ وجود النساء منعني من ذلك. كانت آنا تحمل زينب بعشق فقلت في نفسي: من الواضح أنّ مكروهًا قد حصل لمرتضى.. ها هي آنا تدلّل ابنتي وتفدّيها بطريقة غريبة..
 
 
 
 
468

457

بدونك

 سألتني بروين: "ماذا قالت هاجر؟".

- لم تقل شيئًا.

لم تسأل بروين عن شيء بعدها وجعلت تتكلّم بصوت خافت كأنّها تناجي زوجها! حاولت آنا أن تشدّ من عزائمنا. جلستُ وبروين القرفصاء في إحدى زوايا الغرفة وغرقنا في بحر من الأفكار المقلقة.

قُرع الباب فهببتُ واقفة! لقد بتُّ حسّاسة تجاه طرق الباب وجرس الهاتف. فما إن أسمع صوت أحدهما حتى ينصدع قلبي إمّا لفرحتي برجوع مرتضى أو لسماع خبر محزن! بادرت بروين قبل الأخريات بفتح الباب فإذا بها هاجر. قالت بروين فرحة: "هل تحملين رسالة من محمود؟".

أجابت متردّدة: "بروين، هلمّي إلى غرفتنا. يقولون إنّ محمودًا قد جُرح".

صار لون وجه بروين أبيض كلون الكِلس وأخذت شفتاها ترتعشان. أدارت عينيها في أرجاء الغرفة مشتّتة الذهن ثمّ خاطبت هاجر بتثاقل قائلة: "أقسم عليك بحياة زوجك أن تخبريني إن كان قد استشهد!".

وصل نبأ إصابة محمود بجروح لكنّني أخذتُ أبكي بصمت. 
- أعلم، لقد استشهد محمود..

أمّا آنا فخاطبت بروين بحزم: "يا ابنتي، لماذا تعاندين مجدّدًا!". 

قالت هاجر: "هيّا نذهب يا سيّدة بروين، لقد حضر الشيخ بنائي ومعه عدد من الأشخاص، تحدّثي إليهم".

مشيتُ خلف بروين الحيرى ونزلت السلّم درجتين درجتين. وما إن وصلنا إلى غرفة هاجر حتى أصبنا بالذهول! لقد كانت الغرفة مكتظّة بجميع زوجات أفراد اللواء بالإضافة إلى الشيخ بنائي وآخرين. شعرتُ
 
 
 
 
469

458

بدونك

 وبروين بالخوف من نظراتهم. بعضهم كان ساكتًا والبعض الآخر كان يجيب أجوبة عامّة ومكرّرة. بعد دقائق قال الشيخ بنائي: ".. تعلمون أنّ لواء المهدي شارك في عمليّات "بدر" وقد حقّق انتصارات كبيرة بحمد الله.. في الحرب هناك شهداء وجرحى ومفقودون وأسرى.. في هذه العمليّة نال كلٌّ من جليل إسلامي وأكبر نورأفشان وسام الشهادة".


دقّقت النظر بطرف عيني متفحّصة ملامح وجه بروين. كلتانا كانت تنتظر سماع اسم زوجها.
- .. أصيب كلّ من حسين إسلامي، كرامت رفيعي ومحمود ستوده بجروح ونُقلوا إلى مستشفى طهران..

نظرتُ إلى عينَي بروين الغائرتين. أمّا هي فقطعت كلام الشيخ بنائي بصوتها المرتعش قائلة: "إإإذا كان محمود قد استشهد فأخبروني، أستطيع تحمّل ذلك!".

فتقدّم الحاج "ذو القدر" وقال: "لو كان قد استشهد لأخبرناكِ".

السرّ يكمن في أنّ زوجات مَن أتوا على ذكر أسمائهم من الشهداء لم يَكنّ حاضرات بيننا، وهذا ما دفعني إلى الشكّ في الأمر! قالت بروين: "حسنًا، سلّمتُ بأنّ محمودًا قد أصيب بجروح، أريد أن أذهب إلى طهران لأرى توأم روحي. أعطوني رقم الهاتف وعنوان المستشفى".

أجاب "ذو القدر": "نحن أيضًا قلقون، فعدد الجرحى كبير، والمستشفيات لا تجيب على اتّصالاتنا! تفضّلي أنتِ بالذهاب إلى فسا وسنتواصل معكِ عند حصولنا على العنوان".

وافق جميع النسوة على الذهاب إلى فسا إلّا بروين التي بقيت متشبّثة برأيها. توسّلت آنا إليها قائلة: "يا ابنتي العزيزة، إنّ محمودًا لا يرضى أن تخالفي أوامره..".
 
 
 
 
 
470

459

بدونك

 وقع نظر بروين على صالح أسدي فالتجأت إليه كغريق تعلّق بقشّة أملًا بالنجاة وقالت: "بالله عليك، أخبرني إن كانوا صادقين ففي أيّ عضو أصيب محمود؟".


أجاب صالح أسدي: "في رجله، ولا مشكلة لديه".

بعد ذلك التفت صالح إلى أمّه وقال: "لا تلحّوا على الحاجّة بالذهاب إلى فسا أكثر. إن بقيت هنا فما من أحد سيأخذها إلى طهران. لكنّها إن وافقت على الذهاب إلى فسا فأعدها بأن أجد العنوان وتذهب عند ذلك إلى طهران برفقة والدَي الحاج محمود!". 

في نهاية المطاف رضخت بروين للأمر، فوضّبنا جميعًا الحقائب. أمسكتُ وصيّة مرتضى وكذلك فعلت بروين، لكنّي لم أجرؤ على قراءة الوصية. أمّا بروين فإنّها قرأت وصية محمود بسهولة وأعادت قراءتها أكثر من مرة وهي تبكي. ثمّ قالت: "محمود.. لقد تذكّرتُ يوم جئتُ لأوّل مرّة إلى الأهواز وحدي، وها أنا أعود من دونك أيضًا!".

انطلقنا آخر الليل في سيّارة القيادة الخاصّة باللواء. داخل مدينة أهواز، كلّما رأت بروين سيّارة تويوتا تابعة للحرس كانت تنظر إلى داخلها وتهمس قائلة: "محمود.. لوّح بيدك لي ولابنتنا سمية ولو للمرّة الأخيرة.. اضغط على بوق السيّارة.. لمرّة واحدة فقط.. يا إلهي..".

لم تنم بروين أو تتكلّم حتى الصباح. وبقيت تناجي محمودًا وتبثُّه شكواها بصوت خافت. أمّا أنا فقرأت سورة الواقعة مرّات عديدة. 

وصلنا إلى فسا ظهر اليوم التالي. لكنّ أجواء الحِداد المخيّمة على المدينة كانت كالماء البارد المسكوب على رؤوسنا. كأنّ المدينة كانت في يوم عطلة وقد نزل الناس بأجمعهم إلى الشوارع. توجّهت السيّارات نحو بيت والد محمود لتوصل بروين. ما إن وصلنا إلى منعطف الزقاق
 
 
 
 
 
 
471

460

بدونك

 حتى رأت بروين الناس وإكليل الورد فأخذت نفسًا عميقًا وخاطبت آنا قائلة: "أنتِ أيضًا كذبتِ عليّ!".


فضمّت آنا بروين بسرعة وطمأنينة إلى صدرها. بدا وجه بروين كنور القمر بوجنتيها المجوّفتين وعينيها الغائرتين. أمّا أنا فأطبقتُ جفوني وتوقّفتُ لبرهة عن التفكير بأيّ شيء!
 
 
 
 
472

461

الحجر والبشر

 الحجر والبشر - 19/آذار/1985


استيقظتُ في الصباح مُنهكًا إثر الهجوم المضادّ القاسي الذي شنّه العدو: ليتني أستطيع النوم لأيّام متتالية! ملأ رأسي صوتٌ حادّ ورتيب "قررررجججج..". أدخلت إصبعي في أذنيّ وحرّكته، لكنّ الصوت المزعج لم يتوقّف. تناهى إلى سمعي صوت حامل اللاسلكي الخاص بالعم مرتضى يناديني قائلًا: "علي غياثي، انظر أمامك..!".

قفزتُ خارج القناة (الخندق) ثمّ التصقتُ بالساتر الترابي المنخفض ونظرتُ إلى الأمام.
- يا أبا الفضل العباس.. ما الخبر؟!

كانت أرتال الدبّابات العراقيّة قُبالتنا تُزلزل بمحرّكاتها الأرض فيما انبعث دخانها في الهواء. أتى مسلم ووقف بجانبي.
- سيد علي، يصيب كلّ شخص منّا دبّابتين!

قلت له: "أين العم مرتضى؟".

فأشار بإصبعه إلى الجهة الأخرى من الساتر الترابي.
- إنّه هناك.. لم تغمض عيناه من الأمس. إنّه يعمل كالمحرّك!

نادى مرتضى: "مسلم!".

تقدّمتُ ومسلم نحوه، فقال له: "اتّصل بالمقرّ.. اطلب منهم أنّ يُمدّونا بكلّ شيء!".

اتّصل مسلم عبر اللاسلكي بالمقرّ وناوله السمّاعة. ساق مرتضى كلماته متوالية من دون توقّف.
- ..قوّة مساندة، معدّات وذخائر وكلّ ما تحبّون! ليس أمامنا شيء
 
 
 
 
473

462

الحجر والبشر

 سوى دبابات! الأمر إليكم..


ثمّ أرجع سمّاعة اللاسلكي إلى مسلم وصاح: "الجميع إلى خلف الساتر، لا تطلقوا النار حتى أطلب منكم ذلك..".

ارتفع صوت خشّة لاسلكي مسلم.
- مسلم، أرسِل!

ما لبث أن عاد إلى مرتضى وقال: "يقول المقرّ إنّ كتيبة أبي ذر ستأتي لتأخذ مكاننا".

فقال مرتضى: "أستبعد أن يصلوا إلى هنا في ظلّ هذا الكمّ الهائل من القصف!".

لم يكد يكمل كلامه حتى بدأ العدو قصفه بالمدافع والمروحيّات. لم أجرّب حتى ذلك الحين مثل هذا الحجم الكثيف من النيران. أخذ عدد عناصر كتيبة الفجر يتناقص ولم يبقَ منهم سوى أربعين أو خمسين شخصًا. ناول مسلم مرتضى سمّاعة اللاسلكي مجدّدًا.
- عم مرتضى، إنّه قائد كتيبة أبي ذر، يقول إنّهم قريبون منّا، ويطلب إرسال شخص ليرشدهم إلى هنا.

نادى مرتضى أحد عناصر الحرس وأرسله خلف كتيبة أبي ذر.

أخذت الدبابات بالتقدّم وقد ملأ ضجيج سلاسلها أرجاء المكان. كانت تطلق قذائفها بشكل منتظم ومباشر على الساتر الترابي المتصدّع القليل الارتفاع، مفرّقةً جمع عناصرنا ورامية الحجر والبشر إلى السماء. أحيانًا كنت أشعر بقذائف مدافع العدو ودبّاباته التي أخطأت هدفها وهي تمرّ من فوق رأسي. لم يستطع أحد أن يصدّ ذلك الهجوم! كنت أنتظر بين لحظة وأخرى أن تستهدفني قذيفة ما فتحوّلني إلى رميم. حينما أدرك مرتضى أنّ معنويّات أفراد كتيبته أخذت تضعف نهض
 
 
 
 
 
 
474

463

الحجر والبشر

 من مكانه برفقة مسلم حامل اللاسلكي، وجعل يسير قرب العناصر بأعصاب هادئة ويقوّي من عزائمهم. ناداني: "يا علي غياثي!".

- فديتك يا عم!
- فليتحصّن رُماة الـ(B7) خلف الدّشم يفصل بين الواحد والآخر مسافة عشرين مترًا، وليطلقوا النار على الدبابات!

انطلقت من مكاني كالسهم ووصلت بجسدي الهزيل إلى رماة الـ(B7) الذين كانوا من مدينة زرقان. ناديت: "يقول العم..".

كانت الدبابات تقصف الساتر الترابي عن بعد مئة متر، فيما غطّت المكان بأسره سُحُبٌ رماديّة من الغبار والدخان. وقف حَمَلة الـ(B7) الشجعان على الساتر ورموا جميع ما بحوزتهم من القذائف فدمّروا ثلاث أو أربع دبّابات حتى نفدت القذائف. رجعتُ إلى مرتضى وقلت له: "لم يبقَ لدينا سوى ذخائر الرشاشات، ماذا سنفعل؟!".

فأشار إلى مسلم.
- اتّصل بالمقرّ!

علت خشّة الجهاز اللاسلكي فتناول مرتضى السماعة من مسلم وأخذ يطلعهم على الأوضاع بالرموز(الشيفرة). لم يصل أفراد كتيبة أبي ذر وبدا أنّهم قد حوصروا خلفنا جرّاء قصف العدو. أعطى مرتضى السماعة لمسلم وقال لي: "يا غياثي، لقد صدر أمر بالانسحاب! سأبقى هنا لأرجع مع آخر عنصر، اسحب العناصر من خطّ التّماس إلى الخلف!".
 
 
 
 
 
475

464

الحجر والبشر

 قلت له: "لا.. اذهب أنت، وأنا سأبقى!".


صاح في وجهي: "كلّا يا علي، عليّ أن أحمل آخر جثّة وآخر جريح إلى الخلف!".

أخذتُ أركض خلف الساتر منحنيًا ونقلتُ أوامر مرتضى للعناصر بعجالة وأنفاسٍ متلاحقة قائلًا: "الععـ العم .. مججـ مجموعة بعد أخرى، تراجعوا إلى الخلـالخلف!".

بعد لحظات أدرتُ بوجهي إلى الخلف لأرى العم مرتضى يركض كالغزال بخفّة وليونة على امتداد الساتر الترابي وهو يطلق نيران رشاشه نحو العراقيّين لكي لا يتنبّهوا إلى خلوّ الساتر من العناصر!

وصلتُ إليه وأنا أتصبّب عرقًا بفضل أجواء الجنوب الرطبة. كان وجهه قد اسودّ بسبب الدخان والبارود، وخرج الدم من كلتا أذنيه. تبسّمتُ وقلت: "لقد أصبحت شبيهًا بالحاج فيروز1 يا عم!".

فضحك وقال: "بقي بضعة أيّام حتى حلول العام الجديد ومجيء الحاج فيروز، لكن هلمّ إليّ لأبارك لك العيد سلفًا!".

وإذ به قد التصق بي وعانقني بشدّة.
- كل عام وأنت بخير!

دمعت عيناي. همستُ في أذن مرتضى بغصّة: "الجميع تراجع إلى الخلف، هيّا لنذهب قبل أن..".

فقطع كلامي قائلًا: "اذهب أنت يا علي، لديّ عمل أنجزه ثم آتي".

ثم أبعدني عنه ودفعني إلى الخلف.
- هيّا اذهب، هذا أمر!

حدّقتُ في عينيه الصافيتين كالمرآة واللتين لا يمكن لأحد النفوذ إليهما وأخذت أسير إلى الوراء. لم أكد أبتعد كثيرًا حتى سقطت قذيفة دبابة قربي فانفجر المكان قبالتي. شعرت بدوار شديد ما لبثتْ عيناي أن اسودّتا ثم فقدت وعيي.
 

1- شخصيّة تقليديّة فكاهيّة ترتبط بعيد رأس السنة الشمسية - النوروز - وهو أسود البشرة يرتدي زيّاً أحمر ويقوم بحركات مضحكة ومسلية... 
 
 
476

465

الأسير

 الأسير - 19/آذار/1985


بعد ظهر ذلك اليوم الشديد الحرّ، وتحت وطأة القصف المركّز للدّبابات العراقيّة وصلتُ إلى العمّ مرتضى وأنا أتصبب عرقًا، قلت له: "يا عم، علي غياثي!".
- علي غياثي، ماذا به؟!
- لقد وقع في الأسر!

أدام الله رزقك يا "حسن مايلر"، أيّها المحتال، أنا أرسلته إلى الخلف بنفسي!
- أقسم بالله إنني أقول الحقيقة يا عمّ!
- ولكن كيف؟
- لقد جُرح.. وقد سقطت الجهة اليسرى من الساتر الترابي أيضًا، علينا أن نذهب!

حضر محمد رضا بديهي وأكّد صحّة ما أقول: "حسنٌ محقّ، جميع العناصر انسحبوا إلى الخلف ولم يبقَ سوانا!". 

مسح مرتضى بيده على جبهته السوداء المتعرّقة فزالت طبقة الدخان عنها. كانت عيناي تحرقاني بسبب البارود الغليظ. لمّا رأى سكوتي قال: "حسن مايلر، ارجع إلى الخلف، سأذهب لأرى ما حلّ بغياثي، أين رأيته آخر مرّة؟".

شعرتُ بالاستياء وقلت: "ماذا ظنَنْتَني يا عمّ، حسن مايلر لا يترك رفاقه في وسط الطريق! علينا أن نتحرّك من الجهة اليمنى فإمّا أن نحيط بهم أو أن يحيطوا هم بنا!".
 
 
 
 
477

466

الأسير

 اتّجهنا يمينًا منعطفين حول الساتر الترابي بظهور محنيّة. كانت الرؤية معدومة جرّاء الدخان والغبار. ساد هدوء نسبيّ الأجواء ما خلا أصوات رشقات قنّاص متقطّعة. سرنا مسافة قصيرة وإذ بي أسمع صوتًا قريبًا لرجل عربي يتلفّظ الحروف العربيّة بتأنٍّ وهدوء قائلًا: "لا تتحرّك.. جيش الخميني..".


استفقتُ من ذهولي لأجد أننا قد أُحيط بنا. لقد حاصرَنا عشرة أو خمسة عشر جنديًّا عراقيًّا. لم يكن أمامنا سبيل للمقاومة. لا أدري لماذا انطلق لساني ببديع الكلام في تلك الظروف الحرجة والقاسية.
- إن كنتُ ثقيل الظلّ فها أنا راحل، وإن كنت قليل العطف فأنا راحل.

ثم أردفت: "ماذا نفعل الآن يا عم مُر..!".

أخرسني عن النطق ألمٌ قاتل في خاصرتي إثر ضربة من كعب البندقية فأخذت أتلوّى كالأفعى. ثم انهالت الضربات من كعاب البنادق على جسد محمد رضا ومرتضى فارتمينا نحن الثلاثة على الأرض. نظر مرتضى خلسة في عيون العراقيّين البرّاقة وقال بصوت خافت: "إن أخطأنا التصرّف فسيقتلونا نحن الثلاثة! سنسلّم أنفسنا ثمّ نرى ماذا سيحدث!".

قال محمد رضا بديهي: "بهذه البساطة!".

فقال مرتضى: "ربما!".

جلسنا واضعين أيدينا فوق رؤوسنا. كنّا نحن الثلاثة نرتدي الزيّ الكاكي البسيط وننتعل أحذية خفيفة. تقدّموا منّا وأخذوا يضحكون لتمكّنهم - بحسب ظنّهم - من أسر ثلاثة تعبويّين حيارى، ثمّ ربطوا أيدينا من الخلف بالكوفيّات التي كانت حول أعناقنا وجعلوا يسخرون منّا مشيرين إلى أحذيتنا الخفيفة وثيابنا الكاكيّة المملوءة ببقع بيضاء
 
 
 
 
478

467

الأسير

 ناجمة عن العرق الجاف. قال مرتضى من دون أن يفتح شفتيه: "تظاهرا أنّكما خائفان!".


ولأني كنتُ ماهراً في فنّ التمثيل تعلّقتُ برِجل أحد الجنود.
- العفو.. العفو..

نجحت حيلة مرتضى وسُلّمنا إلى ثلاثة جنود عراقيّين فيما ذهب الآخرون لجمع الغنائم. 

أخذ الجنود الثلاثة يدفعوننا وهم يسخرون منّي حيث إنني كنت أتظاهر بأنّ يديَّ وقدميّ ترتعش. وصلنا إلى ما بقي من الساتر الترابي بين طرفي المعركة. كانت الأجواء بجانب الساتر الترابي هادئة. أمّا الدبّابات والجنود العراقيّون فكانوا يتقدّمون من الساتر لكي يُحكموا السيطرة على الخطّ الدفاعي الذي صار في قبضتهم. أجلسَنا الجنودُ خلف الساتر وعاودوا الاستهزاء بثيابنا وأحذيتنا الخفيفة والبسيطة. اجتاح سيل من الأفكار السريعة والمتلاحقة ذهني المشوّش المليء بالغموض: لو عرف هؤلاء المساكين أنّ في جوف هذا الصيد الثمين لؤلؤة عظيمة باسم مرتضى ماذا عساهم يفعلون.. تُرى هل انتهى أمرنا..

قبيل حلول الظلام تغيّر لون وجه مرتضى. أشار إلى محمد رضا وقال: "هو ذا المدد الإلهي!".

أشار برأسه إلى قنبلة يدويّة أسفل الساتر الترابي. عندها علمتُ أنّ مرتضى كان يتحيّن الفرصة. قال: "إن أرجعونا خطًّا واحدًا إلى الوراء فسينتهي أمرنا!".

انتبهتُ حينها أنّ مرتضى فكّ قيده. استغفل الجنودَ الثلاثة المتعبين وسار بهدوء نحو القنبلة اليدويّة، فحملها بمهارة وأخفاها في الكوفيّة.

ولمّا حلّ الظلام قال: "عندما تسمعان صوت القنبلة اليدويّة تفرّان
 
 
 
 
479

468

الأسير

 باتّجاه إيران! حاولا أولًا الوصول إلى مزرعة القمح!". ثمّ أشار بعينه ناحية إيران. نظرتُ إلى يد مرتضى الذي سحب حلقة القنبلة وقد غمرني الخوف والاضطراب. تهيّأنا. قال مرتضى: "ليس من الضروري أن يفكّر أحدنا بالآخر. إن تمكّن واحد منّا من الفرار فَبِها!".


ثمّ أخرج يده. قرأتُ شفتيه وهو يعدّ: ".. اثنان، ثلاثة..".

رمى القنبلة اليدويّة.
- الآن!

نهضنا ولم نكد نسير بضع خطوات حتى سمعتُ صوت الانفجار وأنين الجنود، كما وشعرتُ بألم جرّاء شظيّة وقعت في ظهري. ركضت نحو مزرعة القمح من دون أن ألتفت إلى الوراء. أخذتْ قطرات العرق تتساقط من وجهي. أحسستُ أنّ الرصاص ينهمر عليّ من كلّ جانب. أثناء الركض شعرتُ بألم شديد في كتفي الذي أخذ يحرقني. وصلتُ إلى مزرعة القمح مقطوع الأنفاس، ولكننا تمكنّا من النجاة. أصابت شظيّة من القنبلة اليدويّة يدَ محمد رضا بديهي.
 
 
 
 
 
 
480

469

ملح البرتقال

 ملح البرتقال - 20/آذار/1985


عصرًا، وعلى جادّة الأهواز ألصقتُ جبهتي بنافذة الحافلة بينما مرّ أمام ناظريّ قطيع من الجواميس كان يسير بمحاذاة الطريق. كنت مشغول الذهن أفكّر في تشييع أجساد كلٍّ من محمود ستوده، جليل إسلامي، كرامت رفيعي، إيرلو وبقيّة رفاقي. ساد صمت مطبق أجواء الحافلة المتّجهة إلى شيراز، ولم يكن لأحد جَلَد على الكلام والمزاح. أوقف مرتضى الحافلة ثمّ ناداني: "محمد بلاغي، انزل!".

ترجّلنا فاشترى مرتضى صندوق برتقال وحملناه معًا إلى الحافلة وقسّمناه بين الشباب. ما إن بدأنا تقشير البرتقال وأكله حتى علا صوت السائق: "آخ رأسي.. لا عافاكم الله .. كُفّوا عن التراشق..".

لم يكد السائق ينهي كلامه حتى سقطت قشرة على رأسه. فالتفت إلى الخلف وقال: "بسبب أعمالكم هذه لم تُرزقوا الشهادة!".

أراد السائق أن يشكو الشباب إلى العمّ مرتضى من خلال المرآة الأماميّة، فرآه يتهيّأ لرمي قشرة! فانفجر ضاحكًا وأنشد بيتًا من الشعر:
"كلّ ما يتعفّن يعالجونه بالملح       ويلٌ ليومٍ يتعفّن فيه الملح!".

لم تمضِ برهة قصيرة حتى أخذ جميع من في الحافلة يتراشقون بقشور البرتقال. عمّ النشاط والحيويّة وارتفعت أصوات الضحك.

حين تعب الشباب نهض العمّ مرتضى وحمل صندوق البرتقال الخالي وراح يجمع من آخر الحافلة قشور البرتقال المرميّة على الأرض حتى وصل إلى السائق فقبّل وجهه.
- سامِحنا!
 
 
 
 
481

470

ملح البرتقال

 همَّ السائق بالنّهوض فرِحًا وقبّل وجه مرتضى وقال: "خادمك يا عمّ!".

- أوه.. أوه.. ستنحرف الحافلة بنا.. انتبه!

عند الصباح تناولنا طعام الفطور في شيراز وانطلقنا باتّجاه "فسا". علت الأصوات المتداخلة في الحافلة: "لقد احتشد الناس لاستقبال كتيبة الفجر!".

أثناء الطريق انتبهتُ إلى وجه مرتضى يتكدّر حُزنًا كلّما اقتربنا من "فسا". وصلت الحافلة إلى مستديرة "مصلّى" بالتزامن مع وصول الجموع الغفيرة من الرجال والنساء فاغرورقت عينا مرتضى بالدموع. دنوتُ منه.
- هل حصل شيء؟

أخذت الدموع تنهمر من عينيه كالأطفال ولكن بصمت. قلت له: "ولكن ماذا حدث؟".
- أخجلُ أن أنظر في وجه الناس!
- ولكن لماذا يا عمّ؟

أشار بإصبعه إلى الجماهير المحتشدة في الميدان والشارع وقد ارتفع صوته بالبكاء!
- إنّ كثيرًا من هذه العائلات التي حضرت لاستقبالنا قدّمت أبناءها شهداء في كتيبة الفجر.

لم يستطع أن يتابع حديثه فأسند رأسه على المقعد الأمامي فيما كنت أرى كتفيه يرتعشان. قلت له: "هؤلاء اختاروا طريقهم بأنفسهم! وهل الشهادة أمر سيّئ؟". 

رفع رأسه وقال:
 
 
 
 
 
 
482

471

ملح البرتقال

 - كلّا يا محمد، بل إنّها أملُ كلّ مجاهد ومُنيته!

- إذًا ما خطبك؟
- إنّ هذا الأمر هو مبعث خجلي، فكثير من عناصري قد استشهدوا فيما لا أزال أنا على قيد الحياة. بأيّ عينٍ أنظر في وجوه هذه العوائل!

سكتُّ ورحتُ أفكّر في كلامه، فيما حُوصرت الحافلة من قِبل جموع النساء والرجال الذين حملوا الورود والحلوى.
- يحيا مجاهدو الإسلام..
- كتيبة الفجر الأُسُود.. مالك الأشتر اشلو.. اشلو..

ترجّل عناصر كتيبة الفجر من الحافلة بحماسة وسرور واستقبلهم الناس. أمّا مرتضى فبقي حزينًا وقد غرق جسده في مقعد الحافلة الطريّ. قلت له: "يا عم، إنّ أكثر الناس حضروا لرؤيتك!".
- هذا ما يخيفني أكثر يا محمد!

لم تتزحزح الجماهير من حول الحافلة وبدا واضحًا أنّ الجميع ينتظرون نزول "اشلو" لكي يأخذوه في الأحضان. قلت له: "ترجّل، بقاؤك هنا أسوأ، سيظنّون بك الظنون!".

أخذتُ يده وأخرجته من مقعده.
- حسنًا، سآتي خلفك!

تحرّكتُ فسار خلفي بخطوات متردّدة ومضطربة وقد احتمى بي كالأطفال. أخذ يقول مرارًا: "محمد، أقسم عليك بحياة أمّك أن تدعني أعبر من بينهم بأيّ وسيلة!".
- حسنًا يا عم، تعال الآن!

ما إن ترجّلنا من الحافلة حتّى هجم النّاس - على اختلاف
 
 
 
483

472

ملح البرتقال

 أصنافهم وأطيافهم - وأحاطوا بمرتضى كجوهرة ثمينة، وساروا به كعشّاق يهوَون معشوقهم إلى حدّ التقديس.


بعد عدّة أيّام وصل خبر خروج كلٍّ من "نظر نظري" و"فرامرز كهر" - راميي الـ (B7) في كتيبة الفجر- من مستشفى شيراز، فذهب العم مرتضى ويوسف حيدربور معًا إلى قرية "نظر آباد" لعيادتهما.
 
 
 
 
484

473

نظر آباد

 نظر آباد - 30/آذار/1985


صباح اليوم العاشر من السنة الجديدة ناداني العم مرتضى وكنّا في مدينة "فسا".
- يا حيدر يوسف بور!
- أجل يا عمّ.
- بَلَغني أنّ "فرامرز كهر" و"نظر نظري" قد خرجا من مستشفى شيراز وذهبا إلى قريتهما "نظر آباد".
- هذا صحيح يا سيد مرتضى!
- أريد أن أذهب إلى "نورآباد" لعيادتهما.
- وأنا سآتي أيضًا. دعني أذهب إلى مقرّ الحرس الثوري في "فسا" لآخذ سيّارة.
- لا داعي لذلك يا حيدر. سأركب الحافلة العموميّة بمفردي.
- أتعني أنّك تريد أن تحرمنا رفقتك؟
- حسنًا عزيزي حيدر!

انطلقنا نحو شيراز بالحافلة. أثناء مسيرنا ما برح يتحدّث عن عناصر كتيبته وراميَي الـ (B7) الجريحَين: "فرامرز" و"نظري" إلى أن وصلنا إلى شيراز، فركبنا حافلة "نور آباد" الصغيرة. 

عند الظهر وصلنا إلى مدينة "نور آباد" وسألنا أحدَ المارّين عن الطريق المؤدّية إلى قرية "نظر آباد": "في أيّ اتّجاه تقع قرية نظرآباد؟".
- من جادّة "كتشساران". تذهبان بالسيّارة مسيرة نصف ساعة
 
 
 
 
485

474

نظر آباد

 حتى تصلا إلى جسر "حسين آباد". على بُعد مئة قدم منه تشاهدان لوحةً على رأس الجادّة كُتب عليها "نظر آباد". انعطفا بعدها إلى الجادّة. القرية تقع على بُعد ثمانية عشر كيلو مترًا من هناك! 


وقفنا على رأس الجادّة المعبّدة طويلًا حتى توقّفت أمامنا سيّارة من نوع "نيسان" زرقاء اللون.
- نظر آباد!

أرجع السائق السيّارة إلى الوراء. ألقى نظرة على ثيابنا الكاكيّة وقال: "سأذهب إلى رأس جادّة "نظرآباد" فحسب، ومن هناك عليكما أن تركبا سيّارات القرية".

قال العم: "أوصِلنا إلى هناك وسنكون لك من الشاكرين!".

جلسنا بمحاذاة السائق، فقبّل العم مرتضى جبهة السائق الكَهل.
- آجرك الله يا أخي!

ما إن انطلقت السيّارة حتى نظر السائق إلى بذلتينا الكاكيّتين وشرع بالحديث: "هل أنتما ذاهبان لعيادة نظر وفرامرز؟".

فسألناه بدهشة: "وهل أنت من أهل نظر آباد؟".

- لا أنا من "مهرانجان". لكن لديّ بعض الأقارب والمعارف في نظر آباد. لا بدّ أنّكما عنصران في كتيبة الفجر!

هممتُ بأن أجيب بِنَعم، وبأنّ هذا الشابّ النحيف المتواضع الذي يجلس قربي هو قائد كتيبة الفجر مرتضى جاويدي، إلّا أنّ مرتضى أسكتني بقوله: "أجل يا أخي، نحن عناصر في الكتيبة نفسها!".

انحنى السائق نحونا وأخرج سيجارة من "تابلو" السيّارة.
- هل تدخّنان السجائر؟
 
 
 
 
486

475

نظر آباد

 - كلّا، شكرًا.

- من الجيّد أنّكما لستما مدخّنَين!

أشعل سيجارته بقدّاحة السيّارة. أخذ نفَسًا من سيجارته ثم قال: "لقد خدمتُ لعدّة شهور في فوج "19 فجر". لكن يقولون إنّ الخدمة في كتيبة الفجر لها طعم آخر. سمعتُ الكثير عن قائدها "اشلو".

قال مرتضى: " إذًا، لا بدّ أنّك تعرف "فرامرز كهري" و"نظر نظري!".

نفث دخان سيجارته خارج السيارة.
- أعرف كُلًّا من نظر وفرامرز وجميع العائلات الثلاث عشرة التي تقطن في نظرآباد. إنّ نظرآباد هي القرية الوحيدة التي قدّمت كلّ أسرة فيها شهيدًا!

بعد ذلك أشاح بوجهه عن جادّة نورآباد - كتشساران لِلحظة وقال للعم مرتضى: "إذًا لقد كان حدسي في محلّه. إنّكما ذاهبان لعيادة نظر وفرامرز، أليس كذلك؟".

عبرت السيّارة الجسر ثمّ توقّفت قرب لوحة "نظر آباد" الخضراء. قال السائق: "أرجو المعذرة، عليّ أن أذهب إلى "كتشساران". أمامكما سبعة عشر كيلومترًا حتى تصلا إلى القرية. انتظرا على رأس الجادّة وستقلّكما سيّارات أهل القرية".

قال مرتضى: "نشكرك لأنّك أوصلتنا إلى هنا! أجرك على الله!".

ترجّلتُ ومرتضى فيما ابتعدت السيّارة عنّا. نظرتُ إلى اللوحة التي كتب عليها "نظر آباد" وأنا أفكّر في كلام السائق: كلّ أسرة قدّمت شهيدًا! كنت أتضوّر جوعًا وقد مضى ساعتان على حلول الظهيرة. وقفنا قرب الطريق الترابيّ. قلت: "يا عم مرتضى، أسأل الله أن لا
 
 
 
 
 
487

476

نظر آباد

 يطول مكوثنا هنا وأن تحضر سيّارة..".


لم أكد أكمل كلامي حتى رأيت مرتضى وقد انحنى وخلع حذاءه الخفيف وجواربه. ظننتُ أنّه يشعر بالتعب وقد رأى ساقية فأراد أن يغسل قدميه بمياهها الباردة. جلتُ بنظري في أطراف المكان فلم أرَ أثرًا للماء، لكنّي لمّا نظرتُ ثانية إلى مرتضى أصبتُ بالدّهشة! فقد ربط شريطَي نعليه وعلّقهما على رقبته. تبسّم وقال: "حيدر، ابقَ أنت هنا بانتظار السيّارة! لقد عقدتُ النيّة أن أذهب لعيادة "فرامرز" و"نظر" سيرًا على الأقدام، إنّ تراب "نظرآباد" مباركٌ لأنّه موطئ أقدام الشهداء!".

لم أنتظر وخلعتُ حذائي وجواربي بسرعة البرق. علّقت الحذاء على رقبتي وطفقتُ أسير خلفه!
 
 
 
 
488

477

الكابوس

 الكابوس - 9/نيسان/1985


عند الظهر، مسح مرتضى - وهو يجلس خلف عجلة المقود - بإصبعه دمعات انهملت من عيني اليسرى.
- لماذا تبكين يا بنت خالتي؟

حدّقتُ في مبنى فندق "كارون". تبسّمتُ ابتسامة فاترة وقلت: "تذكّرتُ السفر الأخير حين كنتَ ومحمود ترميان قشور الـ"خربزه" على ألواني!. كأنّه كان حلمًا جميلًا تحوّل إلى كابوس بالنسبة لي!".

ارتسمت على شفتيه ابتسامة عميقة وصادقة.
- آمنة، فكّري بالمستقبل!

حملقتُ في عينيه النافذتين والناعمتين في آن معًا وجعلتُ أفكّر في ما لم أستطع أن أنطق به: أنا قلقة من المستقبل يا مرتضى.. المستقبل المجهول.. هل سيكون مصير زوجي الشهادة كما ألواني، ستوده، رفيعي و.. . أدخل مرتضى سيّارة الـ"تيوتا لاندكروز" الكاكيّة إلى موقف فندق "قيام". نظر إليّ بهدوء ووقار.
- ما الذي يشغل بالك يا بنت خالتي؟ أخبريني!

التفتُّ إلى الخلف ونظرتُ إلى رضيعتي زينب النائمة على المقعد الخلفيّ وقلت: "هل تقرأ أفكار الناس أيضًا؟".
- هذا هو الطريق الذي اخترناه!
- وهذا هو ما يقلقني..

تنفّستُ الصعداء.
 
 
 
 
489

478

الكابوس

 - هل أنا أنانيّة لأنّي أريدك لنفسي ولابنتي، أم أنتَ الأنانيّ لأنّك تريد الشهادة لنفسك؟!


ترجّلنا. ألصق زينبَ الملفوفة بقماطها بصدره حتى كأنّه لم يرد أن يفصل بينه وبينها مقدار شعرة. أحنى رأسه وقبّلها وشمّها مرارًا، ثمّ قال بصوت متغيّر لم يشبه صوته: "آمنة، إيّاكِ أن تظنّي أنّ مرتضى لا يحبّ زوجته وابنته!".

كانت من المرّات النادرة التي أرى عينيه قد اغرورقتا بالدمع. ابتلعتُ ريقي وقلت: "يا بن خالتي، هل أسأتُ القول، أو بدر منّي خطأٌ؟".

فأجاب بصوت تخنقه الغصّة، لكنّه كان في الوقت عينه هادئًا ومليئًا بالأسرار: "كلّا يا بنت خالتي، أنا خجلٌ منكِ! إنّ الرجل الصالح هو من يرسم حدودًا حول عائلته فيحافظ عليها. والأفضل منه هو ذاك الذي يجعل لأبناء وطنه حدودًا ويذود عنهم! لكنّ حدود الإسلام كبيرة جدًا. فمحمود وكرامت وجليل وسائر شهداء عمليات "بدر"، إضافة إلى زوجاتهم اللواتي يشغلن بالك، وفتيان التعبئة وشبابها المجهولي الهويّة، والذين وقّعوا عهد الدم في الكتيبة بأنّهم صامدون حتى آخر قطرة دم.. جميع هؤلاء هم أفراد عائلتي!".

أصغيتُ بتمعّن إلى كلماته المختصرة والبسيطة والواضحة. أحسستُ أنّ سرًّا جديدًا قد كُشف لي. ومع ذلك كلّه فإنني حين سرت في فندق "قيام" شعرتُ بأنني أكره جدرانه وأبوابه، ولم أطلب مفتاح غرفتي من التعبويّ العجوز المعنيّ بشؤون الفندق إلا مُكرَهة. 
- يا سيّدة، لقد سلّموا غرفتك لشخص آخر!

فتبسّم مرتضى وقال: "حاج صلواتي، سنكون الليلة ضيوفًا عندك!".
- أوّلًا، الضيف حبيب الله. ثانيًا، لقد هيّأوا لكم بيتًا قرب تقاطع
 
 
 
 
490

479

الكابوس

 خرّمشهر، قرب معسكر الإمام الخميني!


كدتُ أطير فرحًا، لا لأنّ الغرفة أصبحت بيتًا، بل لأنّ رؤية الفندق كانت تثير في ذهني ذكرياتي مع صديقاتي!

ريثما ينهي مرتضى توضيب الأغراض أخذتُ أتمشّى للمرّة الأخيرة داخل ممرّ الفندق فيما مرّ في مخيّلتي شريط من ذكرياتي مع الشهداء وعوائلهم. عاد مرتضى إليّ وقال: يا بنت خالتي، إن شاء الله سنذهب في الإجازة التالية إلى "زرقان" بدلًا من "فسا".
 
 
 
 
491

480

رقائق بطاطا بطعم الملح

 رقائق بطاطا بطعم الملح - 21/ت2/1985


لم تكن المنطقة المحيطة بالبيت الجديد عامرة بالبيوت السكنيّة، فلم أكن أشعر بالأمن كما في الفندق. ليلاً كنّا نشعر نحن النسوة الأربع مع أطفالنا بشيء من الخوف. حين علم مرتضى بالأمر قرّر وبقيّة الرجال أن يأتي أحدهم من الجبهة دَوريًّا كل ليلة ويحضر في البيت.

طرأ عملٌ على مرتضى لبضعة أيّام فقال لي: "آمنة، سيأتي محمد رضا بديهي لعدّة ليالٍ إلى البيت. لقد أوصيناه بأن لا يترك الجماعة لوحدهم!".

ودّعني وذهب.

في الليلة الأولى، التي تزامنت مع هجوم جويّ لطائرات "ميغ" العراقيّة، طال انتظارنا لبديهي، لكن من دون جدوى، ما أثار استغرابنا الشديد. اضطررنا في النهاية أن نمضي تلك الليلة الباردة والممطرة بخوف وبلا تدفئة. أمّا الليلة الثانية فكانت شديدة الظلام، ترافقَ ذلك مع أمطار غزيرة ورعد وبرق، ناهيك عن حبّات المطر الكبيرة التي كانت تضرب جدران البيت وأبوابه ونوافذه، فدبّ الذعر في قلوب النسوة الأربع وأطفالهنّ! ولسوء حظّي أصيبت طفلتي زينب بحمّى شديدة. انتظرنا بديهي حتى مللنا الانتظار ولم يحضر هذه المرة أيضًا. جمعنا كلّ ما لدينا من أقفال وسلاسل وقد اجتاحنا الخوف والذعر، وعمدنا إلى إقفال نوافذ البيت وأبوابه.

في تلك الأيّام لم نسمع خبرًا عن بديهي، ولم يكن لدينا حيلة سوى قضاء تلك الليالي بأيّ شكل من الأشكال، حتى حضر مرتضى إلى
 
 
 
 
492

481

رقائق بطاطا بطعم الملح

 البيت. عندما رأى حالنا غضب وقال: "ألم يأتِ محمد رضا؟".


قلت: "كلا!".

ذرع الغرفة جيئة ورواحًا ثم قال: "لقد أكّدت عليه مرارًا بأن لا يترك النسوة والأطفال لوحدهم..".

بعد ذلك نظر إلى وجه زينب المتورّد من شدّة الحرارة وقال: "انهضي لنأخذ الطفلة إلى الطبيب!".

عصرًا ولدى عودتنا من عيادة الطبيب حضر محمد رضا من الجبهة وقد علا وجهه وثيابه التراب. كان مسرورًا كما الأطفال، وقد حمل في يده كيس رقائق البطاطا بطعم الملح. وضع رقاقة البطاطا في فمه وهزّ رأسه وهو يمضغها ثمّ قال وقد علت ثغره ابتسامة لطيفة: "السلام عليك يا سيّد مرتضى!".

ألقى مرتضى نظرة مليئة بالمعاني إلى كيس رقائق البطاطا المالحة ذي اللون البرتقاليّ ثم قال: "بسم الله! أيّ سلام، يا رجل إن لم يكن لديك وقت لذلك لمَ قبِلت؟".

أجابه بأعصاب باردة: "تناول بعض الرقائق، ماذا حصل يا عم؟".

أخذ مرتضى يحدّق باستغراب في عينيه الحمراوين المنهكتين.
- هل تسخر منّا!

تلعثم محمد رضا.
- لـلـلا أفهم.. مـما تـتقوله يا عمّ!

فعقد مرتضى حاجبيه.
- اللعنة على الشّيطان..

أخذ نفَسًا عميقًا ثمّ قال: "أليس الاتفاق أن تتفقّد أحوال الجماعة؟".
 
 
 
 
 
493

482

رقائق بطاطا بطعم الملح

 - أقسم بحياتك يا مرتضى، بل بحياتي إنّني لم أتركهم ولو للحظة!


التفت مرتضى وحدّق في وجهي، أمّا أنا فقلبت شفتي ثم قلت: "إن كنت أكذب فهؤلاء..". وأشرت إلى غرفة النسوة.
- اسألهنّ!

سأل محمد رضا والحيرة على وجهه: "هلّا أخبرتموني بما حدث؟".

أشار مرتضى إليَّ ثمّ إلى سائر الغرف وقال: "أتعني أنّ الجميع يدّعون كذبًا بأنّك لم تأتِ إلى البيت ولو لليلة واحدة!".

تغيّر وجه محمد رضا وضرب على جبهته وقال: "آه .. يا إلهي، كم أنا أحمق! لقد فهمتُ من قولك "لا تترك الجماعة لوحدهم" أنّك تعني شباب الكتيبة! أقسم بأرواح الشهداء إنّني لم أترك شباب الكتيبة طوال الأيّام الماضية ولو للحظة.. إنني ظننتُ..".

ثمّ سكتَ وانهملت عيناه بالدموع. اقترب مرتضى من محمد رضا، قبّل جبهته، ثم أخذ رقاقة من كيس البطاطا البرتقالي ووضعها في فمه.
- إنّها لذيذة جدًّا!
 
 
 
 
 
 
494

483

قنّاص

 قنّاص - 2/ك1/1985


بعد جهدٍ جهيد تمكّنتُ من الاتّصال بلواء المهدي وتمّ وصلي بمرتضى.
- .. سيّد مرتضى؟!
- أجل يا عزيزي!
- إنّ أخاك الصغير "جعفر" يريد الذهاب إلى الجبهة أيضًا!
- أهلًا وسهلًا به!
- أهلًا وسهلًا به؟! لكنّ عُمر جعفر لا يتجاوز الخمس عشرة!
- يا حاج محمد علي، إنّ أتراب جعفر في كتيبة الفجر كثيرون!
- الله أكبر.. كلّما قلت لك شيئًا أجبتني بما يحلو لك!
- لا تبتئس يا صهرنا العزيز، أبلغه فقط بأن لا يأتي إلى كتيبة الفجر!
- سيّد مرتضى، يبدو أنّه قد فاتك أنّ عددكم بقدوم جعفر إلى الجبهة سيصبح أربعة!
- يا حاج محمد علي، إنّ شهادتي الثانويّة هي في فرع الرياضيات!
- إذًا أنت مسؤول عمّا ستجيب به أباك "مش رضا" وأمّك! بدلًا من أن تفكّر في حلٍّ لأمر أخيك تقول أهلًا به! 
- اسمع يا حاج محمد علي، إنّ دم جعفر ليس بأغلى من دماء بقيّة شباب الكتيبة! إن التحق جعفر بالكتيبة، فسيصبح أحد قنّاصي الخطّ الأمامي فيها!
- إنّ جعفرًا الآن موجود في معسكر الإمام الحسين عليه السلام في شيراز،
 
 
 
 
495

484

قنّاص

 وإن لم تبادر إلى فعل شيء فسيرسلونه غدًا إلى الجبهة!

- لا تشغل بالك يا حاج! كيف حال أختنا؟
- تُسلّم عليك، إنّ صدّيقة هي الأكثر قلقًا لذهاب جعفر، ومن الطرف الآخر ماذا أفعل مع "مش رضا" وأمّك؟ 
- افعل ما تريد فعله هناك، وإلّا فإن صار جعفر في عداد عناصر الكتيبة فسأرسله إلى إحدى الفصائل ليصبح أحد قناصيها!
- اللعنة على الشيطان، بالله عليكم انظروا إلى واسطتنا!
- حاج محمد علي، إنّ فاتورة هاتفك ستصبح مكلفة! من الممكن أن تقوم صدّيقة..
- لا عليك، لا تقلق على فاتورة هاتفي..
- أنا خجل منك يا حاج، ولكن لو كنت مكاني ماذا كنت لِتفعل؟!

أنهيتُ المكالمة آيسًا. خطر ببالي أن أقصد مقرّ الحرس الثوري في "فسا" وأطلب منهم المساعدة.

قبيل الظهر وصلتُ إلى مبنى الحرس وأخبرت قائد حرس "فسا" بقضيّة جعفر.
- إنّ أمّه شديدة القلق عليه، وهي تطلب على الأقلّ أن يرجع أحد الثلاثة ليذهب هذا!
- لا تغتمّ يا حاج، سأتّصل بشيراز وأخبرهم بالأمر، سنجد حلًّا.

أجرى مكالمة هاتفيّة مع المعنيّين في شيراز وبعد التنسيق معهم قال لي: "اذهب إلى الأخ "كديور" في شيراز وسيحلّ لك المشكلة! ستذهب وترجع في سيّارة الحرس".

عصرًا وصلتُ برفقة سائق سيّارة الحرس إلى ثكنة "عبد الله
 
 
 
 
 
496

485

قنّاص

 مسكر". اتّصلت من غرفة حراسة الثكنة بالأخ "كديور" وبعد التنسيق معه دخلنا بالسيّارة إلى الثكنة. كانت ساحة المراسم الصباحية تعجّ بقوّات التعبئة المتطوّعين الذين كانوا يهمّون بركوب الحافلات المتوجّهة إلى جبهة الحرب. أخذني "كديور" إلى منصّة الساحة ونادى جعفرًا عبر مكبّر الصوت: "جعفر جاويدي إلى المنصّة..".


بعدها قال لي "كديور" الذي كان يرتدي زيّ الحرس الأخضر: "اذهب واجلس داخل السيّارة، سأسلّمك إيّاه بنفسي لكي تأخذه!".

قلت: "يا أخ كديور، إن حاول الفرار فلن أقوى على الإمساك به!".

فتبسّم وقال: "سأتولّى حلّ هذه المشكلة، اذهب أنت إلى السيّارة!".

جلستُ داخل السيّارة فما لبث أن وصل كديور برفقة جعفر ووقفا بجانب السيّارة. حاول جاهدًا أن يتكلّم معه، لكنّ جعفرًا لم يقبل أن يرجع. أخذ يتوسّل إليه باضطراب مشيرًا إلى جموع التعبويّين الذين كانوا يستعدّون لركوب الحافلات. احترق قلبي لأجله. وحين لم يستطع كديور إقناعه بالكلام نادى جنديّ حراسة الثكنة، فقيَّد يدَ جعفر وأدخله إلى السيّارة. قال كديور: "يا حاج، إنّه بعهدتك! ولكي يطمئنّ قلبك فسأقيّده بالمقعد الخلفيّ!".

اغرورقت عينا جعفر بالدموع. ولمّا علّق "كديور" قيده بقضيب يتوسّط المقعد الخلفيّ للسيّارة ناولني مفتاحه وقال: "سلّم القيد إلى مقرّ الحرس في فسا!".

انطلقت السيّارة لكنّ جعفرًا لم ينبس ببنت شفة. كان مستاءً لحدّ بدا وكأنّ الدماء قد جفّت في عروقه!
 
 
 
 
 
497

486

القبلة الأسبوعيّة

 القبلة الأسبوعيّة - 8/آذار/1986


عند الغروب كانت زينب ذات العام الواحد تبعثر أغراض البيت، فيما انشغلتُ بالدردشة مع "فرشته" زوجة السيد "بني أسد". بينما نحن كذلك علا صوت مرتضى قائلًا: "يا الله..". 

ودّعتني "فرشته" وغادرت، أمّا مرتضى فدخل وحمل زينب وانهال عليها تقبيلًا. كأنّه كان يطبع على وجنتيها ما فاته من قبلات الأسبوع. وضع طفلتي على الأرض ثم حدّق في وجهي قائلًا: "ما رأيك أن تذهبي إلى فسا لبعض الأيّام ثم تعودين؟".

دبّ ذعر غامض في قلبي، وتسلّلت البرودة سريعًا إلى أطرافي. ألقيتُ نظرة ملؤها الدهشة والاستغراب على عينيه الملتهبتين من فرط النعاس. كانت مؤشّرات الحسّ والتجربة لقربي من جبهة القتال تنبئني بأنّ نار الحرب تستعر ثانية، وأنّ ثمّة هجومًا قريبًا. فتحتُ عينيّ على وسعهما وقلت: "يا بن خالتي، أعلم أنّ ثمّة خبرًا ما، لا تقلق عليّ!".

غمز عينه وقال: "يا بنت خالتي، هكذا سأكون أكثر ارتياحًا! إنّ النسوة الأخريات سيذهبن أيضًا، سيأخذكنّ أخي قدمعلي إلى فسا!".

كان يتكلّم متوسّلًا، فلم أستطع أن أرفض!
- إن أذنتَ لي فسآخذ أغراض البيت وأرجع إلى فسا!

سكت مرتضى متأمّلًا.
- لن ترجعي إلى أهواز ثانية؟!
- من بعد إذنك!
- كما تريدين يا بنت خالتي، إن تعبتِ من هذه الحياة فلا بأس!
 
 
 
 
498

487

القبلة الأسبوعيّة

 أجهشتُ بالبكاء وقلت: "لم أقصد ذلك يا بن خالتي! ولكنّك تترك عملك ليلًا لكي تتفقّد أحوالنا! فليُمِتني الله إن تعبتُ من العيش معك!".


- لكنّني أشعر بالسرور عندما أتفقّد أحوالكما وأراكما! 
- أنا لا أشكو من هذا الوضع. لكن في الواقع هناك ما يعذّبني وهو أنني أتعرّف لمدّة من الزمن إلى عدد من أصدقائك وأتقرّب من زوجاتهم وأطفالهم ثمّ يستشهدون، إنّ هذا يؤلم روحي بشدّة!.

لم يتكلّم مرتضى، وفي صباح اليوم التالي انطلقنا برفقة "قدمعلي" وعائلات كلّ من بني أسد، حسين إسلامي ومحمد رضا بديهي متوجّهين إلى فسا. وصلتُ إلى قرية "جليان"، وما إن رآني الناس بدون مرتضى حتى ظنّوا أنّ خطبًا ما قد وقع. لكنّهم لما رأوا قدمعلي وشاهدوا روحيّتي علموا بأن شيئًا لم يحدث.

بعد مضيّ يومين، جلستُ في الصباح تحت أشعّة شمس الشتاء الضعيفة أسرّح شعر زينب وإذ بمكبّر صوت المسجد يصدح بموسيقى العمليّات العسكريّة.
- .. أيّها المستمعون الأعزّاء نرجو الانتباه إلى هذا الخبر الذي وصلنا للتوّ..

صار قلبي يخفق بشدّة، أخذت يداي ترتعشان، وجفّ حلقي. عاودتني تلك الأحجية المخيفة ذات الاحتمالات الأربعة: إلهي! مرتضى.. الآخرون.. أسأل الله أن يكون الجميع بخير.. تراءت أمام عينيّ تلقائيًّا وجوه زوجات كلٍّ من "بذرأفكن"، "ألواني"، "ستوده" وجميع زوجات الشهداء الواحدة تلو الأخرى، تلاها صوَر النسوة اللّاتي عقدت معهن ميثاق الأخوّة حديثًا.

أخرجت المشط من بين خصلات شعر زينب التّمريّ اللون، الذي
 
 
 
 
499

488

القبلة الأسبوعيّة

 كان يلمع تحت أشعّة الشمس، ثمّ رفعت يديّ نحو السماء قائلة: "إلهي، رضًى برضاك!".


بثّ مكبّر صوت المسجد النبأ التالي: 
- ليلة الأمس ، وضمن عمليّات "والفجر 8" وبنداء "يا زهراء" عليها السلام، تمكّن مجاهدو الإسلام من عبور نهر "أروند"، وشنّوا هجومًا على خطوط البعثيّين الكفرة..
 
 
 
 
 
500

489

نهر الجنة

 نهر الجنة - 11/آذار/1986


عند المساء، وحين دخلتُ مياه نهر "أروند" الباردة برفقة الغوّاصين المهاجمين، أدنيتُ رأسي من أُذن "عزيز بابائي" مستغربًا.
- يا عزيز، ألم يحدث المدّ الكبير لنهر "أروند" قبل الآن؟!
- بلى يا حسن إشراقي، هل نسيتَ إلى أيّ حدّ ارتفع منسوب المياه، الشهر الماضي، حتى دخل الدُّشم؟ 
- لكن يبدو أنّ هناك مدًّا كبيرًا الليلة؟ ما العمل؟
- حسن، لقد أطلقوا نداء العمليّة، ليس باليد حيلة، علينا أن نبدأ الهجوم!

تمام الساعة الثامنة مساءً تمّ إعلان رمز عمليّات "والفجر 8": ..يا زهراء.. يا زهراء..

في عتمة الليل غطستُ ببدلة الغوص السوداء الملساء وسبحتُ نحو شاطئ العدو. وعلى الرغم من اتصال كلّ مجموعة منّا بحبل، إلّا أنّ الحركة كانت صعبة، بل غير ممكنة بسبب ذلك المدّ الكبير والسرعة الشديدة لجريان المياه، بحيث وصل في بعض الأماكن من النهر حتى خمسين، بل سبعين كيلومترًا في الساعة. خلال الدقائق الأولى شتّتتْ أمواج النهر معظم الغوّاصين وقذفتهم إلى أماكن مجهولة! غير أنّ فصيلتنا التي طوت مسافة الثمانمئة متر تلك لعشرات المرّات، ذهابًا وإيابًا، خلال شهرين، تمكّنت من الوصول إلى السفينة الغارقة في الوحل قرابة الساحل العراقيّ. وقع نظري على حُجرة القيادة التي دخلتُها برفقة عزيز بابائي قبل أيّام. مرّت أحداث ذلك اليوم أمام
 
 
 
 
 
501

490

نهر الجنة

 عينيّ كمشاهد فيلم سينمائيّ.. في تلك الليلة خرجتُ من مياه نهر أروند وتسلّلتُ إلى السفينة الغارقة في الوحل. ثمّ خرج عزيز بعدي وأخرج حذاء الغوص من قدميه. نظر إلى الصارية أعلى حجرة القيادة وقال: "حسن إشراقي، هل تستطيع أن تتسلّق إلى الأعلى؟".


- إنّه خطر جدًّا، لكنني سأصعد!
وصلتْ إلى مشامّي رائحة خضرة طازجة. وضعتُ يدي على عشب طويل يشبه سنابل القمح، كان قد نبت أسفل السفينة!
- ما هذا يا عزيز؟
- شعير!
- شعير في هذا المكان؟
- عندما غرقت السفينة كانت محمّلة بحبوب الشعير، ومن الطبيعي أن يتحوّل المكان إلى حقل شعير!

اخترقت أنفي رائحة الحديد المهترئ والصدئ. خاطبني عزيز قائلًا: "حسن، عليك أن تصعد تلك الصارية، وحين تشرق الشمس تباشر بالتقاط الصور لخطّ دفاع العراقيّين، وابقَ حتى حلول الليل ثمّ ارجع، هل لديك أي مشكلة؟".
- كلا.

أمضيت طوال ذلك اليوم على صارية السفينة ألتقط صورًا لمواقع العدوّ وتجهيزاته ثمّ عدت أدراجي مساءً.

كان العدوّ يقظًا وأمطر سطح مياه "أروند" بوابل من الرصاص الخطّاط الملوّن. ابتعدنا عن سفينة الشعير وسبحنا باتّجاه خطّ دفاع العراقيّين. ساهم المدّ الكبير للمياه بتغطية جميع العوائق الحديديّة والأسلاك الشائكة وأعمدة الحديد المضادّة للحوّامات (المائية).
 
 
 
 
 
502

491

نهر الجنة

 كانت المياه قد اخترقت جذوع النخل التي رصفها العراقيّون أفقيًّا كاللّبِن فوق بعضها البعض حتى وصلت إلى قمّة الساتر الترابي والدّشم! تغيّر مشهد الخطّ الدفاعي بالكامل ولم يبقَ مجال للمواصلة، فاضطررنا إلى الرجوع حتى نفكّر في طريقة أخرى للوصول إلى خطّ العدوّ الدفاعي! وبعد إجراء اتصال لاسلكيّ وتحديد المطلوب، تمّ إعلان الخطّة الجديدة لاختراق الخطّ الساحلي للعدو: ليس لدينا فرصة لاقتحام المحاور.. لقد تبدّلت الخطّة.. على الجميع الوصول إلى شاطئ العدوّ عبر الزوارق.. عودوا الآن إلى شاطئنا..


بعد مضيّ ساعة استقرّت مجموعات مؤلّفة من اثني عشر إلى خمسة عشر عنصرًا في الزوارق الآليّة تحت النخل المحترق على شاطئنا. نظرتُ إلى ساعة اليد الليليّة.
- إنّها الواحدة والنصف!

أدنى حامل اللاسلكيّ في فصيلتنا السمّاعةَ من أذني بانتظار صدور أمر الانطلاق.أمّا أنا فسرح نظري في الشبّان الجالسين داخل الزوارق وهم يلهجون بالدعاء. كنت أرى في كلّ فرد منهم الصفاء والليونة المشهودَين ليالي العمليّات. كانوا يذرفون الدمع بهدوء ويتعاهدون بالشفاعة لبعضهم البعض إن رُزقوا الشهادة. وقد أخذ عدد منهم عهد الشفاعة يوم القيامة خطّيًا في دفاتر مذكّراتهم. لفت نظري أحد الغوّاصين وهو ينوح ويندب رفاقه الذين قذفهم التيّار المائيّ لنهر "أروند" إلى عمق مياه الخليج الفارسي قبل ساعة.

أمّا من بقي من الغوّاصين الذين دخلوا مثلنا مياه أروند قبل ساعة على أنهم الفوج الأوّل للهجوم، فعلى الرغم من تمكّنهم من الوصول إلى مواقع العراقيّين المحصّنة لكنّهم لم يفلحوا في قطع الأسلاك الشائكة والموانع الحديديّة وتعطيل عمل الألغام وبالتالي في فتْحِ الطريق أمام
 
 
 
 
503

492

نهر الجنة

 الزوارق المليئة بالكتائب، أما الآن فقد التحقوا بمهاجمي كتيبة الفجر بقيادة مرتضى جاويدي. بقي الشبّان إلى حينٍ يعانقون بعضهم بعضًا ويتضرّعون مردّدين آية "أمّن يجيب المضطرّ" للبقاء مخفيّين عن عيون العدوّ ولأجل نجاح العمليّة. ناداني عامل الإشارة: "أخ حسن، إنّه العمّ مرتضى!". تناولتُ سمّاعة جهاز (PRC) اللاسلكي.

- مرتضى، أرسل.
- إشراقي، شغّلوا محرّكات الزوارق، سوف ننطلق.. استعدّوا.. فلتنطلق زوارق سريّة مسلم أولًا.

ما إن أصدرتُ الأوامر حتى شغّل مديرو الدفّات الخمس محرّكات زوارقهم الملفوفةَ ببطّانيّات.

كان نهر أروند هائجًا، وقد أضاءت سماءه قنبلة ضوئيّة جديدة، فضلًا عن الرعب الذي ولّده هدير حركة مياه النهر في جنح الليل. قُبيل أن نهمّ بالانطلاق أحسستُ بيد استقرّت على كتفي.
- السلام عليك يا سيد حسن! ما الأخبار؟

التفتُّ إلى الخلف، فدُهشتُ لدى رؤيتي مرتضى وجعفر أسدي قائد اللواء. تضاعفت معنويّات العناصر. دبّت حماسة وشوق عجيبان في نفوس الجميع الذين باتوا ينتظرون بفارغ الصبر لحظة بدء الهجوم على خطوط دفاع الفاو! ركب كلٌّ من مرتضى وعزيز بابائي في زورقنا. قال عزيز: "بما أنّ منسوب المياه قد وصل إلى دشم العدوّ فمن الأفضل أن نذهب عبر نهر "بهشت"، وبمشيئة الله سوف نصل إلى عُقر دارهم عبر الزورق!".

انطلقنا على متن الزورق نحو ساحل الفاو. شيئًا فشيئًا بدت علامات المواجهات من الجهة المقابلة. عبرت الزوارق مياه "أروند" وتقدّمت
 
 
 
504

493

نهر الجنة

 سريعًا. فجأة لفتَ انتباهي أضواء مصابيح عدد من الغوّاصين الذين تمكّنوا من البقاء على شاطئ العدو! عندما توسّطنا نهر "أروند" أشار مرتضى إلى نيران الرشّاش الثقيل قبالتنا.

- ماذا سنفعل بالرشّاش الثقيل!

قال عزيز: "علينا أن ننهي أمره بأنفسنا!".

أخذ الزورق ذو المحرّك الملفوف ببطّانيّة عسكريّة يشقّ العباب متّجهًا نحو نهر "بهشت". إلى جهة الشمال كانت نيران أحد الرشّاشات تُطلَق من دون انقطاع على المحاور الأخرى. بدت فوّهة الرشاش في تلك العتمة متوّردة كحمرة الجمر! أمّا الجنود العراقيّون المتمترسون في تلك المحاور فقد أشعلوا السماء والأرض بنيران الرصاص الخطّاط والقنابل الضوئيّة. 

بدت سماء نهر أروند وكأنّها تتزيّن بالألعاب الناريّة، فيما بدأت سحب من البخار والدخان تغطي تدريجيًّا أجواء ذلك النهر العظيم. وعلى الرغم من أنّ المدّ الكبير للنّهر أفشل خطّتنا الأولى إلّا أنّ ارتفاع منسوب المياه التي غطّت الأسلاك الشائكة والموانع الحديديّة، ساهم في اجتيازنا تلك الحواجز والحفر الموجودة على طول الساحل. عندما رأيت الزورق وقد وصل إلى أعلى جذوع النخل، ناديت: "الله أكبر.. اقفزوا داخل الماء!".

بُغِت العدوّ بحيث لم يتمكّن رشّاشه الثقيل الموجود على محورنا إلّا من إطلاق ثلاث رصاصات، ما لبث أن غدا طُعمة لقذيفة (B7) أطلقها مرتضى. استطعنا بيُسر أن نعبر مياه نهر "بهشت" الغزيرة حتى وصلنا إلى أطراف الدشمة والساتر الترابي للعدو، ثمّ ترجّل عناصر الحرس والتعبئة من الزوارق وانقضّوا على رؤوس العدوّ كالصاعقة. قفزتُ من الزورق مُكبّرًا ودخلت الماء. غصتُ تحت الماء وعمتُ فوقه عدّة مرّات إلى أن وطئتْ قدماي قعر النهر! كانت حرب
 
 
 
 
505

494

نهر الجنة

 ضروس قد اشتعلت على الشاطئ الذي تمّت السيطرة عليه!


أخذ العراقيّون المرعوبون يطلقون النيران بشكل عشوائيّ. أمّا أنا فتركت عامل الإشارة وطفقتُ أطلق نيران رشاشي متقدّمًا نحو الدشم، فرميتُ رمّانة في كلّ واحدة منها. وقبل انبلاج ضوء الصباح تمّت السيطرة سريعًا على خطّ الدفاع العراقيّ، بعد ذلك صافحنا سريّتي اليمين واليسار في كتيبة الفجر!
 
 
 
 
506

495

خور

 خور1 عبد الله 12/آذار/1986


صباح اليوم الأول للعمليّات كنت مستقرًّا خلف الدّشمة على مقربة من خور "عبد الله"2. كان قد سقط لنا عدد لا يتجاوز أصابع اليدين من الشهداء والجرحى. على الجبهة المقابلة أبدى العراقيّون مقاومةً شديدة بالدبابات وناقلات الجند بغطاء من نيران المدفعيّة. قلتُ لعامل الاشارة: "اتّصل بأشلو!".
- سيّد "دهقان"، أشلو على الخطّ.

تناولتُ سمّاعة اللاسلكي وقلت: "يا عم، إنّ العراقيّين يقاومون بشدّة. إن بقيتْ الأمور على هذا المنوال سنضطرّ إلى الانسحاب. لقد أُنهِك عناصرنا. نريد قوّات مساندة!".

فقال كلمتين بنبرة حاسمة: "سآتي بنفسي!". 

همهمتُ مع نفسي: "سآتي بنفسي!! ماذا يعني.. طلبتُ قوّات مساندة لا قائد كتيبة.. !"
 
وصل في لمح البصر.
- عافاك الله يا أخي رحيم! ما المشكلة؟

بدا واضحًا من وجهه النحيف المصفرّ أنّه قد طوى عدّة ليالٍ ساهرًا. سقطت قذيفة بقربي فانحنيت، ثمّ استويتُ وتسلّقتُ الساتر
 
 

1- الخور أو مصبّ النهر هو مسطّح مائيّ ساحلي يأخذ شكل خليج شبه مغلق، يصب فيه نهر أو مجرى مائيّ من جهة، ويتّصل بالبحر من الجهة الأخرى، تمتزج فيه المياه المالحة بالمياه العذبة.
2- خور عبد الله، يقع في شمال الخليج الفارسي ما بين جزيرتي "بوبيان" و"وربة" وشبه جزيرة الفاو مشكّلاً خور الزبير الذي يقع عليه ميناء أم قصر العراقي.
 
 
507

496

خور

 الترابي بحيطة مشيرًا إلى الدبّابات والمدرّعات العراقيّة.

- إنّهم يفوقوننا عددًا بأضعاف، ونيران المدفعيّة تؤذينا!

أشرتُ إلى عناصر سريّتي المنهكين الذين كانوا يقاومون برشّاشاتهم الخفيفة خلف الساتر الترابي.
- إنّهم متعبون، إنّك ترى الأوضاع!

وقفتُ بشكٍّ وارتياب أرقُب المعجزة التي سيُحدِثها لحلّ هذه المعضلة: لقد سمعتُ أنّه حلّال مشاكل الحرب.. الكرة في ملعبه الآن، لنرَ ماذا سيفعل! كنت لا أزال أفكّر فيه فإذا به يخلع حذاءه الخفيف. التفتَ إلى يمينه حيث همَّ شابّ تعبويّ، يحمل قاذف (B7)، بتسلّق الساتر. خلع قميصه الكاكي ذا الجَيبَين بحركة سريعة وسار نحو التعبويّ عاري الصدر. أخذ منه القاذف مع قذيفته ووضعه على كتفه.
- ستبقى معي أمانة، إن استطعت أوصل إليّ القذائف!

تحت نيران العدوّ تسلّق مرتضى الساترَ بخفّة النّمر. بُهِت جميع العناصر بحركاته المتألّقة. توقّعتُ أن يطلق القذيفة من الأعلى، إلّا أنّه انحدر إلى الأسفل ثم دوّى صوته في قلب الساتر كالرعد: "يا علي!".

صرختُ: "يا عمّ..!".
اعتراني الخوف عوضًا عنه! أحسستُ أنّي جبانٌ إلى أقصى الحدود. لكنّ غبار الشكّ زال منّي وصرختُ في نفسي: رحيم دهقان، إنّ الحدود التي تفصلك عنه كانت حتى أعلى الساتر! من الآن فصاعدًا عليك أن تحني جبهتك أمام توكّل مرتضى وشجاعته.. إلهي لا تُخزِني أكثر من هذا! كان الشاب التعبويّ يقف مبهوتًا وبيده القذائف، ركضتُ نحوه، وأخذتُ عددًا منها. 

تسلّقتُ الساتر الترابي، وانحدرتُ خلف مرتضى باتّجاه الدبابات. فجأة وقف وصوّب نحو دبّابة احتمى بها
 
 
 
 
 
508

497

خور

 جنود عراقيّون يتقدّمون باتّجاهنا. وصلتُ إليه متقطّع الأنفاس. أطلق القذيفة عامدًا بين الجنود العراقيّين، فناولته القذيفة التالية.

- تفضّل يا أشلو!

أخذها وبدّل موضعه واضعًا القذيفة الثّانية في فوّهة قاذف الـ(B7). شددتُ رُكَبي وصرخت في نفسي مجدّدًا: تحرّك يا رحيم، لقد تخلّفتَ عن القافلة، لا تدع الفاصلة تكبر أكثر فتخزى! ناديت: "يا حسين!". وصلتُ إليه مجدّدًا ووضعت القذيفة بقربه.
- سأعود يا عمّ!

لم أدرِ كيف حرّكتُ جسمي الرياضيّ الضخم. ركضتُ إلى الخلف كالريح: عليّ أن أساعده. أحسستُ وكأنّ الأرض قد شُحنت بالطاقة وأنها سرَتْ في جسمي عبر باطن قدميّ. كنت أتصبّب عرقًا حتى تبلّل شعر رأسي بالكامل. لم أعِ كيف أخذتُ قاذف (هاون 60) فوضعتُ قذائفها داخل عَربة وعبرتُ من خلال فتحة في الساتر الترابي حتى وصلت إلى مرتضى ثانية. وكلّما سنحت الفرصة وضعتُ قذيفة في فوّهة القاذف وأطلقتها نحو العدو. عندما التفتُّ إلى نفسي وجدتُ عناصر سريّتي المتعبين كأنّهم قوّاتٌ جديدة ذات معنويّات عالية وقد انحدروا إلى أسفل الساتر وأخذوا يستهدفون العدوّ بما لديهم من ذخائر وأسلحة.

أمّا العدوّ المبغوت فقد أصيب بالحيرة ولاذ بالفرار سريعًا، فيما أخذ عناصرنا يتعقّبون جنوده ودبّاباته! اقترب مرتضى منّي ضاربًا على كتفي.
- يا بطل، دع العربة واحمل الرشاش المتوسط(BKC)!

لم أصدّق ما جرى، لقد وصلت إلى خطّ العدوّ! تركتُ العربة حيث هي، وحملتُ الرشاش المتوسط غنيمةً، فيما أجبرْنا العراقيّين على
 
 
 
 
509

498

خور

 التراجع حتى خور عبد الله. كان جسدي ما يزال يرتعش من الإثارة والحماس. حينها أحسستُ بتحوّل عذب جميل وخفيّ قد وُلد في داخلي.

 

 

 

 

 

510


499

العقدة المستعصية

 العقدة المستعصية - 12/آذار/1986


عصرًا نادى قائدُ اللواء، الموجود في المقرّ التكتيكيّ لمدينة "الفاو"، قائدَ الكتائب ووحدات العمليّات. 
- .. الخطّ الدفاعي، مصنع الملح.. العراقيّون يقاومون بشدّة في هاتين النقطتين ويَحُولون دون تثبيت الخط.. ينبغي كسر مقاومة العدوّ في هاتين النقطتين الليلة.

رفعتُ إصبعي.
- يا حاج أسدي، ما هو عديد العراقيّين في هاتين النقطتين؟
- حوالي أربع سرايا من المُشاة!

أردف القائد: "سيّد جلال اعتمادي، هل لديك خطّة ما؟".

في تلك الأوضاع والفوضى لم يخطر في ذهني أدنى فكرة. تكلّم مرتضى عوضًا عنّي: "حاج أسدي، هل شُنّ أيّ هجوم على العدوّ في هاتين النقطتين حتى الآن؟".

أشار القائد بالمسطرة إلى النقطتين الموسومتين على الخارطة قائلًا: "لم يتمّ ذلك في هذين المحورين، لكنّ العدوّ صدّ هجمتنا مرتين في هذه النقاط".

سرح الجميع بفكرهم، أمّا أنا فانتظرت حلّ مرتضى الذي لم يخيّب ظنّي.
- يا حاج، لقد كان سلاح التوكّل ضعيفًا في هاتين النقطتين! علينا أن نقوّيه!
 
 
 
 
511

500

العقدة المستعصية

 قلت: "سلاح التوكّل؟!".


ربّت على كتفي متبسّمًا.
- سيّد جلال، التوكّل هو أكثر أسلحة المؤمن تطوّرًا!

بعد ذلك قال بحزم: "أعتقد أنّه يمكن السيطرة على تلكما النقطتين بواسطة سريتين".

قال القائد لي: "يا اعتمادي، انظر من هي كتيبة الاحتياط الآن؟".

قال مرتضى: "يا حاج، إنّ كتيبة الاحتياط ليس لديها الخبرة الكافية لإنجاز هذا العمل، دع هذا الأمر على كتيبة الفجر!".
- لكنّ عناصرك متعبون!
- ولكنّهم في المقابل مدرّبون وذوو تجربة!

عند المساء نادى كلًا من حيدر يوسف بور ومسلم رستم زاده. طلب بعض المعلومات عن السريتين، ثمّ قال: "علينا أن نسيطر على النقطتين الليلة!".

قال يوسف بور: "أين يا عم!".

فتح مرتضى خارطة منطقة العمليّات وأخذ يشرح للرجلين، وقسّم العمل عليهما.
- خذوا العتاد والذخائر.. نظّموا جهاز اللاسلكي على موجتي.. تحدّثوا بالرموز.. المسافة قريبة والعدو يتنصّت.. كما إنّ العراقيّين لديهم رادار "رازيت" في المحور، عليكم أن تتوخّوا الحذر..

ربّت على كتفي وقال لمسلم رستم زاده: "اعتمادي هو نائبي، ورأيه رأيي! يا عليّ!".

عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل انطلقت برفقة سرية مسلم
 
 
 
 
512

501

العقدة المستعصية

 رستم زاده الذي تسلّم المحور الأصعب. في غضون نصف ساعة وصلنا أسفل المحور العراقيّ. وبالتنسيق عبر لاسلكيّ مرتضى بدأنا الهجوم من الجناحين. على الرغم من أنّ هجومنا كان مباغِتًا إلّا أنّ العدوّ أبدى مقاومة شديدة بسبب استقراره في دشم مناسبة، بالإضافة إلى الإسناد الناري الثقيل، فاضطررنا إلى الانسحاب بعد أن سقط منّا عدد من الجرحى والشهداء. أمّا حيدر بور فتمكّن من السيطرة على المحور والاستقرار فيه خلال ساعة واحدة.


في تلك الليلة الشتويّة الباردة كان العدوّ متيقّظًا، فأمطر المحور الشرقي لبحيرة الملح بقنابل ضوئيّة، وأخذ يطلق نيرانه على عناصر السرية من ثلاث جهات لدى أدنى تحرّك.

اتّصل مرتضى بنا.
- مسلم.. مسلم.. مرتضى.. الموقعيّة(الأوضاع)! أرسل..

فأجاب مسلم بالرموز: "مرتضى.. مرتضى.. مسلم.. لقد تعقّد الأمر، ولا نستطيع الحركة..".
- مسلم.. ماذا كنتم تفعلون خلال هذه الساعات.. لقد استقرّ حيدر على هدفه منذ وقت طويل!
- يا عم، إنّ العراقيين يطلقون علينا النيران من ثلاث جهات، وأرى أنّه من المستحيل أن نتمكّن من التقدّم!

قال مرتضى: "أعطِ السمّاعة لاعتمادي".

تناولت اللاسلكيّ.
- في خدمتك يا عم.
- ما الخطب يا جلال؟
- إنّ مسلمًا محقّ!
 
 
 
 
513

502

العقدة المستعصية

 - قل لمسلم بأن لا يدعهم يعيقون حركتكم.. سأصل إليكم سريعًا!


صُعق مسلم لسماعه جملة مرتضى الأخيرة.
- تسوّد وجهي! قال إنّه سيأتي بنفسه. عليّ أن أنهي الأمر قبل وصوله!

باءت محاولة مسلم للتقدّم بالفشل مجدّدًا. نادى حاملُ اللاسلكي: "إنّه العم مرتضى!".

لقد أضفى حضوره قوّة عجيبة في مسلم وعناصر كتيبته. كأننا جميعًا اعتدنا على أنّه متى ما واجهتنا عقدة مستعصية في الحرب كان مرتضى لها. وصل مرتضى بزيّه الكاكي وكوفيّته الملفوفة حول عنقه. ناداني ومسلمًا وأخذنا إلى خلف الساتر الترابي قائلًا: "موقعيّة العراقيّين؟".

مدّ مسلم يده وقال: "هناك.. خلف الساتر.. عدّتهم وعديدهم ومواقعهم..".

تناول مرتضى الخارطة الملفوفة من الفتى حامل اللاسلكي، ومدّها على الأرض، ووضع على زواياها أمشاط الأسلحة. وجّه عليها نور المصباح وأخذ يدرس الوضعيّة الجديدة. استخبر عن عديد قوّات العدو وتجهيزاتهم الدفاعيّة بدقّة. ثم أجرى اتّصالًا لاسلكيًّا مع جهة لا أعلمها وطلب استشارتهم. وفي النهاية أجرى حسابات شاملة كما الحاسوب المتنقّل ثم نهض. 
- حضِّر عناصرك!

مكث هنيهة.
- لا، سأوجّههم بنفسي. علينا أن نسيطر على مواقع العدوّ قبل شروق الشمس، وإلّا فسيضطرّ حيدر إلى الانسحاب من موقعه أيضًا!
 
 
 
 
 
 
514

503

العقدة المستعصية

 تحت نيران مدفعيّة العدوّ الثقيلة وقذائفه أخذ يدور على عناصر السرية مُثبتًا حضوره بينهم. ثم قال: "سنبدأ الهجوم مع التكبير الأوّل، ومع التكبير الثالث سنجمع الأسرى!". 


قسّم عناصر السرية إلى عدّة مجموعات بغية الهجوم على العدوّ من ثلاث جهات. قاد بنفسه رأس الهجمة. سلّمني قيادة الجناح الأيسر وسلّم مسلمًا الجناح الأيمن. أخذ القوّات الأساسيّة وبدأ الهجوم بنفسه. ولا أبالغ إن قلت إنّني لو وضعت مسطرة لوجدت أنّ مرتضى وقاذف الـ (B7) الذي يحمله كانا يتقدّمان الجميع!

استطاع عناصرنا، بمساندة مرتضى، التقدّم والسيطرة على مواقع العدو من خلال مواجهة سريعة وبأقلّ عدد من الضحايا. كأنّ جنود العدوّ أنفسهم عرفوا أنّ مرتضى قد حضر، وأن لا فائدة من المقاومة.
 
 
 
 
 
515

504

سكر حافظ

 سكر حافظ - 13/آذار/1986


استعدادًا للمرحلة الثانية من عمليات "والفجر 8" توجّهتُ بصحبة عدد من عناصر سريّتي، في سيّارة من نوع "إيفا"، باتّجاه تقاطع "الموت". كنت لا أزال أجادل نفسي إثر ما قام به مرتضى البارحة: إنّ الحضور في ركب أشلو يتطلّب لياقة! الآن فهمتُ ما قاساه العراقيّون من هذا الرجل في تلّة "بردزرد". إنّ تصرّفاته لَتنفذ في أعماق نفوس الشباب وتسلب ألبابهم بحيث ينسون أنفسهم.. أنا سعيد بكوني قائد سريته! إلهي لا تسلبني نعمة الحضور في ركابه حتى الموت! استفقتُ من ذهولي جرّاء حدّة النيران العراقيّة.
- ما العمل يا سيّد رحيم؟

سأل سائق السيّارة الذي أصيب بالحيرة بسبب اشتداد القصف. خفّف سرعته قرب تقاطع الموت. بدا متردّدًا. ملأ الدخان والغبار الفضاء فيما فلقت الشظايا الصغيرة والكبيرة الهواء.

قلت: "إن توقّفتَ فسنستحيل والسيّارةَ إلى دخانٍ!

على تقاطع الموت اصطدمت سيّارتا إسعاف ببعضهما البعض نتيجة اشتداد النيران فبادرت على الفور جرّافة بإزالتهما عن الطريق. أمّا سائق السيّارة فقد أصيب بصدمة إثر انسداد طريق التقاطع، فتوقّفت السيّارة عن الحركة، وباتت هدفًا لرصاص العدو!

أصيب شخصان أو ثلاثة ببعض الشظايا كما انكسر الزجاج الخلفي للسيّارة. كان تقاطع الموت تحت مرمى الرصاص العراقيّ المباشر من ثلاث جهات. بِتنا على شفا حفرة من الهلاك وإذ بصوت مرتضى يطرق سمعي: "يا دهقان البطل، لماذا لا تتحرّك؟".
 
 
 
 
 
516

505

سكر حافظ

 كأنّه ملاك نجاة نزل عليّ. قلت: "لقد انطفأ محرّك السيّارة!".

- اجلس بنفسك خلف عجلة المقود!

سحبتُ السائق نحوي. كانت رجلاه قد جمدتا من الخوف والتصقتا بالدوّاسة. أخرجت رجليه بصعوبة وجلستُ خلف المقود. حاولت أن أشغّل السيّارة لكن عبثًا حاولت. أحسستُ أنّ شيئًا يدفع السيّارة إلى الأمام. نظرتُ فإذا بمرتضى قد جلس خلف مقود الجرّافة وجعل يدفع بها. في النهاية دار محرّك السيّارة جرّاء الحركة وعبرنا تقاطع الموت متّجهين نحو مصنع الملح في مدينة الفاو! سألني السائق بعد أن سيطر على خوفه: "من هو ذاك الرجل؟".
- إنّه حافظ!.

فقال السائق الذي كان مأمورًا من قسم آليات اللواء: "هل أنت تحت تأثير عصف انفجار ما؟! أو لعلّك سكران!".
- في أقصى درجات السّكر! إنّ قصّتي مع ذلك الرجل تشبه قصّة ذلك الشاعر الذي أنشد أبياتًا من الشعر ثمّ قال لنفسه: إنّ أشعاري لا تقلّ عن أشعار حافظ! فرأى ذات ليلة في المنام أنّه دخل مسجدًا قد امتلأت جوانبه بجِرار من شرابٍ طهور. ناداه شخص وناوله كأسًا من ذلك الشراب ليشربه. وما إن أدنى الشاعر الكأس من فمه واخترقت رائحة الشراب أنفه حتى غشي عليه! عندما أفاق قال له الرجل الغريب: "أيّها الشاعر، لقد احتسى حافظ كلّ هذه الجرار دفعة واحدة من دون أن يرفّ له جفن، وأنت شممت رائحته فغُشي عليك!".

عندما رأيت دهشة السائق وحيرته قلت: "هذه القصّة تشبه قصّتي مع ذاك الرجل الذي رأيتَه!".

قلب السائق شفتيه مجدّدًا وأمسك شاربه الغليظ الأسود.
- ألم أقل لك إنّك تعاني من تأثير عصف الانفجار!
 
 
 
 
517

506

عاد المطر

 عاد المطر - 16/آذار/1986


في اليوم السادس للمعارك في الفاو، وعقب السيطرة على شرق بحيرة الملح، التحقت كتيبة الفجر بكتيبة من لواء سيّد الشهداء التابع لطهران، وتمّ تثبيت خطّ الدفاع.

غير أنّه ومع شروع الهجمات المرتدّة الثقيلة من قِبَل العراقيّين تغيّرت ظروف اللّعب على طاولة الشطرنج! فقد بدأ العدوّ هجماته المرتدّة مستعينًا بدبّابات حديثة مدرّعة من نوع (T- 72) روسيّة الصّنع! كانت كتيبتنا أولى الكتائب التي وقفت بعد الهجوم متصدّية للهجمة العراقيّة المرتدّة. لكنّ المسألة التي أقلقت مرتضى صارت مدار همس عناصر كتيبة الفجر: إنّ دبّابة (T- 72) مضادّة لقذيفة الـ(B7).. كيف السبيل إلى تدميرها؟!

في البداية وقعت الاشتباكات بين حمَلة الـ(B7) من دفعة مدينة "زرقان" ودبّابات (T- 72) الروسيّة! عندما أصابت قذائف الـ(B7) الوسائد اللولبيّة المحيطة بالدبّابات أيقنتُ أنّ تلك الدبّابات مجهّزة بالدروع حقًّا. كان مسلم رستم زاده من بين رماة الـ(B7) أيضًا. أخذت الدبابات التي اتّخذت شكل الرقم سبعة تقترب أكثر فأكثر تتقدّمها دبابة (T- 72)، لكنّ مسلمًا عاجلها بقذيفة عطّلت سلاسلها فصارت هدفًا ثابتًا له، ما لبثت قمرة قيادتها أن تطايرت إثر القذيفة التالية! قطع مرتضى اتّصاله اللاسلكي وصرخ قائلًا: "لقد أصابت نيران مسلم قلب العراقيّين!".

فعرض مسلم عضلات ساعده.
 
 
 
 
 
518

507

عاد المطر

 - هكذا نحن.


وقبل أن ينهي كلامه مرّت قذيفة دبابة فوق رأسه فالقةً الهواء. أحنى رأسه.
- كنت أقصد: الله! 

أدّى تدمير دبابة (T- 72) إلى تبدّل الأوضاع برمّتها. قطع مرتضى الاتّصال اللاسلكي وجاء إلينا. قلت: "ما العمل يا عمّ؟".

فقال ببشاشة وتبسّم: "حاج كاظم رضائي، لا مجال لهذا السؤال هنا، علينا أن نذهب لاستقبال الدبابات!".

تناول من الأرض قاذف (B7) وحمله على كتفه. كنت أعلم طريقة عمله. حذا الآخرون حذوه وتبعناه إلى أعلى الساتر الترابي، ثم انحدرنا مستهدفين الدبابات، وتمكنّا في اللحظات الأولى من تدمير دبابتين أو ثلاث فيما لاذ ما تبقى منها بالفرار.

عند المساء جلستُ، برفقة مرتضى وأحد مجاهدي فيلق "بدر" المعارض لنظام البعث العراقي، داخل دشمة التكتيك، وأخذنا نشاهد التلفاز الذي غنمناه، والذي كان يعمل بواسطة المولّد الكهربائي. كانت القناة العراقيّة تبثّ أخبارًا وتقارير مصوّرة عن الهجمة المرتدّة التي حصلت صباحًا قرب بحيرة الملح. أتت مذيعة التقرير على ذكر اسم مرتضى جاويدي مرّات عدّة. جعل المجاهد العراقي يترجم بيان النظام العراقيّ لمرتضى ضاحكًا: في هذا الهجوم البطولي أصيب قائد لواء المهدي، مرتضى جاويدي، ما أدّى إلى قتله أو جرحه..

ضحك مرتضى.
- هؤلاء يظنّون أنّ "صدّام" وحده لديه رجل بديل، ولا يعلمون أنّ لمرتضى ملايين البدائل!
 
 
 
 
519

508

عاد المطر

 في اليوم التالي، أرسلني مرتضى إلى مركز التكتيك لكي أُطلِع قائد المركز، حسين أعلائي، على الأوضاع الحساسة لجبهة مصنع الملح. عند الظهر دخلتُ المركز فشعرتُ بقلق كلٍّ من قائد لواء المهدي وحسين أعلائي إذ كانا يتناجيان. كأنّ شيئًا ما قد حدث خلال تلك الساعات القليلة التي غبت فيها عن الجبهة.

- إنّ هجمة العراقيّين المضادّة في جادّة "أم القصر" ومصنع الملح مثيرة للقلق!
- إن لم نجد حلًّا فقد تصبح الجزيرة بكاملها عُرضة للخطر!

أنصتُّ للمكالمة اللاسلكيّة بين مرتضى وحسين أعلائي.
- مرتضى، ما هي الأوضاع؟
- ليست على ما يرام يا حاج حسين، لقد أصبحوا على بعد مئتي متر جنوب مصنع الملح!
- مرتضى، مئتا متر ليست بقليلة، عليكم أن تَحولوا دون تقدّم العدوّ!
- كلّما دمّرنا دبابة جاءت الأخرى ورمتها جانبًا ثمّ فتحت طريقها!
- أشلو، اقصفوهم قدر ما استطعتم ولا ترحموهم!
- يا حاج، لا أبالغ إن قلت إنّهم مستعدّون لأن يكونوا عرضة للقصف ولا يتراجعوا!
- حاولوا المقاومة حتى المساء على الأقلّ، عند حلول الليل سيوقفون هجماتهم!
- لم يسبق لهم أنّ شنّوا هجومًا في الليل حتى الآن، لكنّ شباب التنصّت يقولون إنّ من المقرّر أنّ يهجموا الليلة أيضًا!
 
 
 
 
520

509

عاد المطر

 - أشلو، ما أخبار جناحيك اليمين واليسار؟

- على الجهة اليمنى منعت فرقة "الرسول" صلى الله عليه وآله وسلم العدوَّ من التقدّم خطوة واحدة، وهم يقاومون جيّدًا، ومقاومة فرقة علي بن أبي طالب عليه السلام على الجهة اليسرى لا بأس بها أيضًا.
- مرتضى، إنّ أملنا معلّق عليك، عليك أن تتولّى الأمر بطريقة ما!
- الاتّكال على الله، سنقوم بما نستطيع القيام به، لكنّ مركز التكتيك الخاص بكم قريب من الخطّ، تراجعوا للاحتياط إلى الخطّ الخلفيّ!
- مرتضى، هل تعني أنّ الأوضاع..
- أجل يا حاج حسين..يبدو أنّ هؤلاء العراقيّين مختلفون!
- كيف هي أوضاع قوّاتك؟
- لدينا عدد كبير من الشهداء والجرحى! جميعهم سقطوا بقذائف الدبّابات. كلّما دمّرنا دبابة ظهرت مكانها أخرى. ليس لدينا فرصة لنقل الشهداء والجرحى الآن!
- أشلو، ازرعوا ألغامًا على جادّة "أمّ القصر"، وإن لزم الأمر فجِّروا الجادّة بلغم بحري لكي تمنعوا الدبابات من العبور!
- مسير الدبابات ليس مرهونًا بالجادة، إنّهم يتقدّمون من كلّ مكان!
- مرتضى، إن واصلوا التقدّم على طريق أم القصر سيقع جميع قوّاتنا تحت الحصار! فإن أحسنتَ أحسنت لنفسك!
- الخير فيما اختاره الله يا حاج حسين!

كان مرتضى يتكلّم عبر اللاسلكي بهدوء وثقة بالنفس كبيرين. وحين انقطع الاتصال قال أسدي لأعلائي: "إنّ بقاءك هنا خطِر! من
 
 
 
 
 
521

510

عاد المطر

 الأفضل أن تغادر وتُخْلي مركز التكتيك!".


خاطب حسين أعلائي أسدي قائلًا: "ما قولك في قائدك؟". 
- حاج حسين، إذا كان من المقرّر أن يصدّ أحدٌ هجوم العراقيّين فهو مرتضى! إنني على ثقة بأنّه سيحارب حتى آخر نفس إن لزم الأمر. إن أراد العراقيّون مواصلة الهجمات المرتدّة ليلًا فعلينا أن نفكّر في طريقة للانسحاب.

اضطررتُ بأمر من أسدي لقضاء الليل قرب الجهاز اللاسلكي، وكما توقّعنا فإنّ العدوّ لم يوقف هجماته ليلًا، فتمكّن من التقدّم مئة متر على الجادّة، وأحدث خرقًا في محور كتيبة الفجر. كانت النهاية وشيكة وأخذتُ أتمتم بالدعاء: أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء.. أخذت القوّات تستعدّ لإخلاء المركز وإذ بمرتضى يتّصل.
- جعفر جعفر، مرتضى!
- أشلو أرسل!
- جعفر، هل تمطر السماء هناك؟!

نظر أعلائي وأسدي أحدهما إلى الآخر. قلبا شفتيهما قائلين: "لا بدّ أنّ مرتضى قد أصيب بعصف انفجار وهو يهذي!".

أنصتُّ إلى خارج الدشمة فسمعتُ صوت إيقاع قطرات المطر الكبيرة التي كانت تسقط على ألواح دشمة المركز!
- ماذا حدث يا مرتضى؟!
- إنّه المدد الغيبي، عاد المطر بأنغامه..

ثمّ طفق ينشد أنشودة "عاد المطر"، التي كنت قد قرأتها في كتاب اللغة الفارسيّة للمرحلة الابتدائيّة.
 
 
 
 
522

511

عاد المطر

 - عاد المطر بأنغامه بجواهره الوفيرة يسقط على سطح البيت..


وما إن أنهى قراءة الأنشودة حتى قال جملته الأخيرة ثم قطع الاتّصال.
- الحمقى، لقد غرقوا في الوحل!

ارتسمت على شفتي أسدي وأعلائي ابتسامة.

علمنا حينئذ أنّ أمطار الجنوب الغزيرة اخترقت بسرعة التراب الناعم والرقيق في منطقة مصنع الملح فحال ذلك دون تحرّك دبّابات العدوّ الثقيلة، ما عدا الدبابات التي كانت تتحرّك على الجادّة، والتي دمّر عناصر كتيبة الفجر عددًا منها، ما أدّى إلى انسداد الطريق وفشل الهجمة.
 
 
 
 
 
523

512

ليلى والمجنون

 ليلى والمجنون - 11/ك1/1986


- .. حلمتُ أنّ زينب قد ماتت!
استيقظتُ من نومي عند الصباح وتصلّبتُ في فراشي. أحسستُ بثقل في صدري وأخذ العرق يتصبّب من جبهتي. فقد رأيت في المنام مرتضى وهو يقول لي: "حلمتُ أنّ زينب قد ماتت!".

دبّ الذعر في قلبي: اللهم صلِّ على محمد وآل محمد.. أستغفر الله.

التفتّ صوب زينب ونظرتُ إلى وجهها وكانت لا تزال نائمة. وضعتُ يدي على جبهتها قلقةً. كانت حرارتها مرتفعة كالجمر!

امتلأ قلبي رعبًا واجتاحت الأوهام فكري: هل استشهد مرتضى؟! نهضتُ وناديتُ خالتي: "إنّ زينب مصابة بالحمّى.. أنا خائفة، عليّ أن آخذها إلى الطبيب!".

قالت خالتي التي حطّ على وجهها غبار الشيخوخة: "أفي هذا الطقس العاصف والممطر؟".

قلت: "يا خالتي، أنا خائفة، لقد رأيت حلمًا مزعجًا!".
- دعيني أرافقك يا ابنتي!
- لا يا خالة، سأذهب بنفسي.

نذرتُ مبلغ مئتي تومان للوليّ الصالح "شمس الدين". وضعت عباءتي على رأسي وغطّيت زينب بها وطفقت خارجة من المنزل من دون أن أتناول الفطور. كانت الأمطار تهطل بغزارة كأنّ السماء قد ثُقبت. في ذلك الجوّ البارد الممطر وصلت إلى الطريق المعبّدة. على جانبي الطريق كانت الريح تلعب بأغصان الأشجار المتدليّة من ثقل
 
 
 
 
524

513

ليلى والمجنون

 المطر الغزير.


ركبت الحافلة الصغيرة، بذهن مشوّش، وتوجّهتُ إلى "فسا". أخذت زينب إلى أقرب عيادة. بعد أن اشتريتُ دواءً لزينب من الصيدليّة وقع في قلبي أن أقصد بيت خالي لعلّي أوفّق للاتّصال بالأهواز والاستفسار عن مرتضى. لم يتوقّف المطر عن الهطول وامتلأت جميع الشوارع والأزقّة بالمياه. وصلتُ إلى بيت خالي بشقّ الأنفس.

لم أكد أنتهي من تنشيف نفسي حتى رنّ جرس الهاتف. رفع الخال السمّاعة. ثمّ ضحك وقال: "قلب المرء دليله! تعالَي، إنّ المجنون على الخطّ!".

تناولتُ السمّاعة. كان صوت مرتضى كماء بارد أطفأ النار المستعرة في أعماق نفسي. سكن روعي.
- ما حال زينب؟

أجهشتُ بالبكاء. مسحتُ دموعي بطرف إصبعي.
- بخير! أخذتها إلى الطبيب.. من أين عرفتَ أننا هنا!؟
- وهل يُعقل أن يشتمّ المجنون رائحة ليلى فلا يجدها؟ بالصدفة! قلت فلأتّصل بالخال وأنسّق معه لكي تأتي إلى بيتهم بعد أيّام، حينها سنبقى على اتّصال على الأقلّ.
- ألن تأتي إلى فسا؟
- لماذا؟!
- للحصول على قرض الإسكان لبناء البيت، هل نسيت؟
- ثمّة عرس الآن، تعلمين ماذا أقصد؟

عاد الحزن ليجثم على صدري ثانية. ففهم مرتضى وحاول تغيير الموضوع: "ما أخبار طفلنا القادم؟!".
 
 
 
 
525

514

ليلى والمجنون

 - بالمناسبة، ماذا تريد أن تسمّيه؟

- أم كلثوم، أو زهراء!
- وهل هي أنثى؟
- إن شاء الله!
- الاتّكال على الله، متى ستأتي؟ 
- انتبهي لنفسك ولأمانتَيّ! 

وضعتُ السمّاعة وأحنيتُ رأسي على مرفقي: مجدّدًا.. هجوم آخر..
 
 
 
 
526

515

المختضبون بالحنّاء

 المختضبون بالحنّاء - 22/ك1/1986


عند الظهر أشار لي مرتضى فجعلتُ أجيل نظري في الحاضرين مسجّلًا حضور وغياب قادة السرايا ومعاونيهم. نادى قائد اللواء أخاه، "صالح أسدي"، بحضور مبعوث المقرّ وقال له: "أوضح لنا آخر استطلاعاتك حول أوضاع المحور".

قام صالح وتناول خارطة محاور جزيرة "أمّ الرصاص" الواقعة في نهر "أروند"، وعلّقها على جدار دشمة المقرّ.
- أقوم برصد تحرّكات العراقيّين منذ أيّام. يعملون على زيادة العوائق ويُحكمون مواقعهم ليل نهار! لقد زادوا من حجم إمكانيّاتهم وتجهيزاتهم على ساحل "أروند" أكثر من الحدّ اللازم!

فسأله مبعوثُ المقرّ ذو البزّة الخضراء، وكان عنصرًا في الحرس الثوري: "وهل ترى في ذلك مشكلة معيّنة؟".
- إنني قلق بعض الشيء!
- مِمَّ؟
- نحتاج إلى موطئ قدم! نظرًا للاستطلاعات التي قمتُ بها في الأيّام القليلة الماضية فإنّه ليس لدينا عمق للقتال، لذا، على عناصرنا أن يواجهوا العدوّ من زوارقهم!

أخذ مبعوث استخبارات ومعلومات المقرّ يفكّر، ثم وضع إصبعه على الخارطة قائلًا: "عليكم تكثيف القتال، بعد عبوركم الساحل، على جادّة "البهار" العراقيّة. في ذلك المكان ينبغي لعناصر المشاة مواجهة دبابات العدوّ ومدرّعاته!".
 
 
 
 
 
527

516

المختضبون بالحنّاء

 ثم التفت إلى جعفر أسدي، قائد اللواء، وقال: "ما رأيك يا حاج؟".


أيّد الحاج أسدي كلام أخيه صالح وقال: "بعد البحث والتقصّي الذي تمّ فإنّ مشكلتنا الأصليّة هي عبور نهر "أروند!". لقد وضع العدوّ في جزيرة "أم الرصاص" مضادات (23 ملم) لكي يتسنّى له القصف على امتداد "أروند"، كما رفع منصّات الدبابات بحيث يتيسّر لها أن تمطر سطح "أروند" بقذائفها! وبغضّ النظر عن ذلك فقد أعدّوا خندقًا على هيئة حرف "ن"1 واجتثّوا شجر النخيل الموجود على الساحل حتى مسافة ثلاثمئة متر تسهيلًا لحركة الدبابات. زد على ذلك التحصينات الطويلة والدّشم المنيعة!". 

فقال مبعوث استخبارات المقرّ: "ينبغي أن تُؤمَّن "أم الرصاص" بواسطة وحدة عسكريّة أخرى تقوم بتدمير المضادات والرشّاشات الثقيلة! ثمّ إنّكم تمتلكون تجربة كسر خطّ الفاو!".

أجاب صالح: "ظروف جزيرة الفاو مختلفة. فقد كنّا في مواجهة خطّ دفاعي واحد هناك، وكان ذلك الخطّ بعد ساحل العدوّ! فضلًا عن ذلك، فقد كان لنا في الساحل موطئ قدم لننزل من القوارب. أمّا هنا فقد أنشأوا عدة خطوط دفاعيّة، وأوّلها جعلوه على شفير الماء!".
- ليس من المقرّر أن نخبر العراقيّين بقدومنا! إنّ ورقتنا الرابحة تكمن في عنصر المباغتة!

لكنّ صالحًا لم يقتنع.
- لم آخذ جوابي بعد!
- أيّ جواب؟
 

 1- استخدم هذا النوع من الخنادق في الحرب ويقال لها (نوني صفر) الخنادق أو المواقع النونية.
 
 
 
 
528

517

المختضبون بالحنّاء

 - أنّى لنا أن نكسر الخطّ؟

- سبق أن قلتُ: بالمباغتة! ما هي المشكلة الأصليّة؟
- إنّ نقطة ضعفنا تكمن في عدم توافر عمق لقوّات الكتيبة وبذلك سيضطرّ عناصرنا إلى القتال من داخل الزوارق كما سبق وذكرت!
- على الغوّاصين أن يؤمّنوا موطئ قدم!

في تلك المدّة كان مرتضى ساكتًا. رُفعت الجلسة ورجعنا إلى مقرّ كتيبة الفجر. وبعد انضمام قادة الفصائل تناولتُ دفتر أسماء العناصر وبادرتُ إلى تسجيل الحضور والغياب مجدّدًا.

ربّت "روح الله عبد اللهي" على كتفي.
- يا محمد جواد خوشقدم، لا تُكثر من عدّ العناصر وإلّا فسينقصون! 

وأردف "كريم آزاديان" قائلًا: "خلافًا لشُهرتك "خوشقدم"1 فإنّك لم تكن كذلك بالنسبة لنا! ليس لديك عمل سوى تقصير مدّة مأذونيّات العناصر!".

تصنّعتُ هيئة الغضبان.
- لولا أنّ ساعدي ليس على ما يرام لكنتُ!

رمقني محمد رضا بطرفه فابتلعت بقية كلامي.

أمّا مرتضى، الذي كان قلقًا حيال هذا الهجوم المرتقب خلافًا لعادته، فقد أخذ يفصّل لقادة السرايا والفصائل الأوضاعَ على خارطة العمليّات.
- لقد تمّ اختيار لواء المهدي على رأس الهجمة، سيكون هناك
 

1- أي: ميمون الطلعة.
 
 
 
 
529

518

المختضبون بالحنّاء

 محوران في جزيرة "أمّ الرصاص"..، محور اليمين لكتيبة الفجر ومحور اليسار لكتيبة كميل. 


ثمّ سكت لبرهة بعدها نادى "مسلم رستم زاده" قائد السرية الأولى: "ما الخطب يا مسلم، بمَ تفكّر؟".

تبسّم مسلمٌ.
- يا عم، خطر ببالي الآن أن أذهب لزيارة كربلاء!

فقال كريم آزاديان: "إن لم أكن مخطئًا فإنّ وجه مسلم يشعّ نورًا!".

التفت مسلم إلى كريم قائلًا: "أنا لن أستشهد قبل أن آكل من ضيافة عزائك!".

ثم نظر إلى مرتضى وقال: "تحت أمرك يا عمّ مرتضى".
- إنّ الدفعة الأولى في هذا الهجوم بعهدة سريّتك.

وضع مسلم يده على عينه فتابع مرتضى قائلًا: "على عناصرك العبور من عرض خمسمئة متر في نهر أروند وتأمين موطئ قدم في ساحل العدو حتى يصل البقيّة! عليكم الحذر من رشاش (23 ملم) الثقيل المستقرّ في جزيرة أمّ الرصاص. مسلم، بلا مجاملات، إنّ آمال مقرّ القيادة معلّقة على لواء المهدي، وآمال اللواء معلقة على كتيبة الفجر، وآمالي معلّقة على سريّتك!".

قال مسلم: "سأنطلق مع مجموعة الهجوم الأولى وسيكون "جعفر شكربور" مع المجموعة الثانية".

فقال مرتضى: "كن مع المجموعة الأولى فيطمئنّ قلبي بأنّك ستأخذ أوّل موطئ قدم، وستكون أوّل من يجمع الغنائم من سجائر بغداد!".
 
 
 
 
 
530

519

أربعة جنود

 أربعة جنود - 24/ك1/1986


مساءً، تمّ إبلاغي بالأوامر.

صالح أسدي، بصفتك أحد عناصر الاستطلاع، ستكون مشرفًا على المحور الشمالي للهجوم ضمن كتيبة الفجر..

بعد أداء الصلاة وتناول طعام العشاء أقيمت في كتيبة الفجر مراسم حفلة الاختضاب بالحنّاء. أتى "محمودي" و"كاظم زاده" بأوعية الحنّاء، أمّا "حسن مايلر" فنادى أفراد الكتيبة: "هلمّوا إلى حفلة الاختضاب بالحنّاء!".

جعل العناصر يَحضُرون الواحد تلو الآخر فيما أخذ أولئك الثلاثة يخضّبون أيديهم وأحيانًا أقدامهم بالحنّاء. 

عند منتصف الليل، وفي ذلك الجو الرطب والبرد القارس، انطلق عناصر كتيبتَي الفجر وكميل بالإضافة إلى الغوّاصين نحو الخطّ الدفاعي لنهر أروند. بدا الخطّ هادئًا على عكس حركة المياه الصاخبة. تمّ انتخاب زمان العمليّة في ليلة يستتر فيها القمر حتى السّحر! دخلت طلائع الغوّاصين مياه النّهر الباردة وبحوزتهم مصابيح غمّازة مؤّلفة من إصبعين من البطّاريّات، مصباح قليل الاستهلاك، وعين إلكترونيّة. كانت المرّة الأولى التي يُستخدم فيها مصابيح غمّازة. فنظرًا لضعف الأقراص المضيئة ليلًا، إذ سرعان ما كانت تتجلّل بالغبار والوحول خلال الهجمة، فقد بادرَ مصنع الاتصالات الخارجيّة في شيراز إلى ابتكار هذا النوع من المصابيح، وقد تميّزت بأنّها كانت تغمز منيرةً باتّجاه إيران مستمدّة الطاقة من ضوء القمر، أمّا في النهار فكانت تنطفئ!
 
 
 
531

520

أربعة جنود

 كانت أسنان الغوّاصين تصطكّ بعضها ببعض من شدّة البرد. قال "محسن ظريفكار"، مسؤول فريق الغوّاصين: "علينا وضع أربعة مصابيح غمّازة على أطراف كلّ معبر في ساحل العدوّ باتّجاه مواقعنا".


سبح الغوّاصون في الظلام الحالك نحو شواطئ العدوّ. أحيانًا، في وسط عرض النهر، كان يُرى بريق انفجار ويُسمَع ضجيجه الذي كان يطغى على صوت الأمواج الخفيفة. كأنّ العراقيّين أحسّوا ببعض التحرّكات!

قلت لنفسي عدّة مرّات : فليرحمنا الله يا صالح، ثمّة خللٌ ما! أخذتُ ألهَجُ بالدعاء.

عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل اندلعت الاشتباكات على ساحل العدوّ ولم تظهر بوادر إخمادها! أشارت عقارب ساعتي الليليّة إلى الثانية. اقتربتُ من مرتضى.
- إنّ قلبي يغلي، المواجهات على الساحل تنبئ بأنّ ثمّة خللًا ما!

نظر إليّ وقال: "لديّ الشّعور ذاته! من المفترض أن يكون الغوّاصون قد أحكموا السيطرة على رأس الجسر حتى الآن!". 

ما زاد من قلقي هو طريقة ردّ فعل العدوّ الذي بدأ دفعة واحدة. استهدفت وحدة الإسناد الناريّ في قوّاتنا الخطوط الخلفيّة لجبهة العدوّ بنيرانها. بعد مرور نصف ساعة أُعلِن عن رمز العمليّة.
- محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. تقدّموا..

أُبلِغنا عبر الجهاز اللاسلكي للواء: "فلتنطلق الدفعة الأولى!". 

نادى مرتضى عبر اللاسلكي: "محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. انطلق يا مسلم!

انطلقت الزوارق الحربيّة السريعة الموجودة على حافّة النهر، تحت
 
 
 
 
 
 
532

521

أربعة جنود

  وطأة نيران العراقيّين، باتّجاه ساحل العدو، على متن كلّ زورق منها عشرة إلى خمسة عشر جنديًّا! لفت نظري نحو السماء السوداء فوقنا صوتُ تحليق الطيران. فجأة أمطِرت السماءُ بقنابلَ مضيئة أضاءت سماء النهر، منها المنفرد المِظَليّ ومنها العنقودي. ترافق ذلك مع دويّ المضادات الجوية (23 ملم) المستقرّة في جزيرة أمّ الرصاص، مستهدفة سطح مياه "أروند" التي باتت مضيئة كالنهار. 


على متن الزورق الذي كان يجول في النهر أخذ مرتضى يحثّ العناصر على المُضيّ قُدُمًا. لم يسبق أن أُمطِر النهر بمثل هذه الكمّية من النيران، إذ كانت الدبابات تقصف قذائفها الثقيلة على طول النهر وعرضه. ملأت الانفجارات كلّ بقعة من النهر فكانت المياه ترتفع فوقنا ضعف قامتنا طولًا. بموازاة ذلك طرق سمعي أصوات أنين الشبّان الذين أصيبوا بالرصاص والشظايا. لم يتوقّف سقوط القنابل المضيئة، حيث تعاقبت الطائرات على رميها، ثمّ رمي القنابل المنفجرة على الخطّ وخلف الجبهة. 

تواصلت الاشتباكات على ساحل العدوّ، أمّا المصابيح الغمّازة فإمّا أنّ نورها لم يكن يُرى بسبب شدّة نور القنابل المضيئة، وإمّا أنّها لم تُنصَب من الأساس. في بعض الأحيان كانت أصوات الغوّاصين تتردّد عبر أمواج لاسلكيّ مرتضى.
- العراقيّون بانتظارنا! لا يمكننا دخول الساحل.. إننا نحارب من داخل الزوارق. إن رفعنا رؤوسنا أُصِبنا.. الرشّاشات الثقيلة تعيق عملنا.. ما هي الأوامر..

مع ازدياد سقوط قذائف العدوّ على النهر ازدادت صعوبة الاتصال اللاسلكي بالغوّاصين!
 
 
 
 
533

522

أربعة جنود

 - لماذا لا يجيبون؟

- قد تكون الأجهزة اللاسلكيّة أصيبت بالرصاص أو أنّها سقطت في الماء!

لم يعد يعمل، من بين الأجهزة اللاسلكيّة، سوى لاسلكيّ مسلم.
- إننا نحارب على الماء. إنّهم يستهدفوننا بالنار من جميع الاتّجاهات! لقد أصيب معظم العناصر بالرصاص والشظايا..

لم تتمّ السيطرة على الساحل ولا فُتِح المحور! لم يكن باليد حيلة سوى السيطرة على الساحل. ثمّ صدر الأمر التالي: فلتنطلق الدفعات التالية لأخذ رأس الجسر!

اشتعل وسط نهر "أروند" كنار مضطرمة! كانت السماء فوقنا تعجّ بالقنابل المضيئة. توالى سقوط قذائف المدفعيّة والدبابات في الماء، فيما درزت الرشاشات الثقيلة (23ملم) سطح المياه برصاصها. كان رصاص تلك الرشاشات يسقط في الماء محدثًا ضجيجًا رهيبًا، محطّمًا الزوارق ومسقطًا مَن عليها في الماء. أمّا الزوارق فبعضها اشتعل بالنيران، فيما انقلب بعضها الآخر رأسًا على عقب. سالت الدماء في كل مكان. وصل إلى الساحل من كلّ عشرة أشخاص شخصان. انقطع الاتصال اللاسلكي بالقيادة من بداية الاشتباكات. بقي الجرحى وأجساد الشهداء في مياه أروند من دون أن يستطيع أحد القيام بشيء. عدتُ إلى رشدي وأنا على متن الزورق لأجدَ الشظايا قد أصابت جميع ما ظهَر خارج الزورق من أجزاء جسدي وثيابي! ما إن اقتربنا من الساحل حتى أضيف على ما سبق قذائف الـ(B7) التي أشعلت النيران في الزوارق. كأنّ جميع الجنود العراقيّين قد تحصّنوا في الدشم الموجودة على الساحل وأخذوا يطلقون النار. تحتّم علينا
 
 
 
534

523

أربعة جنود

 كسر الخطّ. علّقنا الآمال على توقّف نيران الرشّاشات الثقيلة في جزيرة أمّ الرصاص لكنّها لم تخمد لحظة واستمرّت بحصد أرواح الشباب. كدتُ أختنق حَنَقًا!

- إنّ المياه تتسرّب إلى داخل الزورق.. علينا أن نرجع وإلّا فسنغرق!

استجمعتُ تركيزي فلم أجد سوى مرتضى ومدير الدفّة! أمّا الآخرون فقد أصيبوا بالرصاص والشظايا. علت طبقة من البخار سطحَ النهر جرّاء دخان الأسلحة الثقيلة والخفيفة. تناهى إلى سمعي من بين ضجيج الانفجارات المصِمّ أنينُ جريحٍ وقع على جثمان عامل الإشارة الخاص بمرتضى. في تلك الظروف الرهيبة أُسقِط في أيدينا! كنت أشمّ رائحة الدماء فيما سبحت رجلاي في مزيج المياه والدم! غطّت سحابة غليظة وثقيلة من الدخان والبارود والبخار البارد سماء النهر. تراءت لي شرارات نيران الرصاص، ثمّ سمعتُ أنين مدير الدفّة فالتفتّ نحوه. 

أمّا هو فقد بقي يتقلّب من جنب إلى آخر حتى قضى نحبه.
- آخ.. يا عمّ..

أخذ الزورق يدور حول نفسه. أمّا مرتضى، الذي كان في تلك الأثناء منحنيًا ينظّم أمواج الجهاز اللاسلكي، صاح بي قائلًا: "صالح، استلم دفّة الزورق!".

لو لم أتحرّك لاصطدم الزورق بزورق آخر. قفزت نحو الدفّة. لم تذَر مضادات الـ (23ملم) بقعةً آمنةً على النهر، وكان من المحال أن يتمكّن أحد الزوارق من الاقتراب من الساحل العراقيّ تحت وطأة تلك النيران الكثيفة. كان العناصر يطوفون في نهر "أروند" على متن الزوارق بلا هدف، فتنال منهم، الواحد تلو الآخر، الرصاصات والشظايا،
 
 
 
 
 
535

524

أربعة جنود

 فيسقطون في النهر الذي جرفَ تيّارُه الجريحَ منهم والقتيل. لم يكن ثمة سبيل سوى العودة. انعطفتُ وهديتُ الزورق نحو ساحلنا. انتبه مرتضى فصاح: "صالح، لماذا ترجع؟".

- يا عم، إن لم أرجع فسينتهي أمرنا.. لقد انكشف أمر الهجوم!

نادى: "إذًا، الأفضل لنا أن نموت.. انعطِف وعُدْ إلى الساحل".

أشرتُ إلى الماء في قعر الزورق.
- لقد ثُقِب الزورق!

في تلك اللحظة أُبلِغنا عبر اللاسلكيّ بالانسحاب. أوقفتُ الزورق على شاطئنا لكي يتسنّى لمرتضى تفقّد أوضاع البقيّة.

عند الساعة الثالثة وصل خبر من لاسلكيّ مسلم تفاجأ مرتضى إثر سماعه.
- مسلم، مسلم، مرتضى!

أجاب مرتضى بسرعة: "مسلم، أين أنت؟".
- على ساحل العدوّ!
- على الساحل العراقيّ!
- وهل كان من المقرّر أن نذهب إلى سواحل كاليفورنيا؟!
- هل أنت متأكّد؟
- لقد أخذنا رأس الجسر، قل للشباب أن يأتوا!

تبادلتُ ومرتضى النظرات. لم نصدّق أن أحدًا قد تمكّن من الوصول إلى تلك الجهة في ظلّ ذلك الحجم الكبير من النيران وتأهّب العدو. في تلك اللحظة اتّصل إسماعيل مسعودي، أحد عناصر الاستطلاع، على جهاز لاسلكيّ آخر. ناولت مرتضى الجهاز.
 
 
 
 
 
 
536

525

أربعة جنود

 - يقول إسماعيل إنّه زرع مصباحًا غمّازًا على تلك الجهة من الساحل!


خطف مرتضى سمّاعة اللاسلكي وقال: "كم عددكم، وما هي أوضاعكم؟".
- أنا وحامل اللاسلكي (عامل الاشارة)!
- لماذا تئنّ؟
- لقد قُطِعت رجلي اليمنى، لا يهمّ، هلمّوا فحسب!
- في أيّ محور وضعتَ المصباح؟

همّ إسماعيل أن يعطينا عنوان المحور والمصباح، وإذ بصوت إطلاق نار يُسمعْ من الجهاز ثمّ انقطع الاتّصال.
- لقد انكشف موضعه .. أعتقد أنّه استشهد!

دققتُ النظر في ساحل العدوّ لكنني لم أرَ أثرًا للمصباح الغمّاز. قال مرتضى: "اتّصل بمسلم ثانية".

اتّصل مسلمٌ نفسُه.
- مسلم، مسلم، مرتضى!
- مسلم، أرسل، كيف هي الأوضاع؟
- الأوضاع ممتازة! إنّ الساحل مستهدف بدقّة من قِبل الرشّاشات "الثقيلة للإخوة من المرتزقة العراقيّين".. اسمع!

ثمّ وجّه سمّاعة اللاسلكيّ نحو رشّاش "دوشكا" تابع للعدو. كأنّ الرشّاش الثقيل كان على بُعد قَدم منهم! قال مرتضى: "كم عددكم؟".
- أربعة جنود!
- أربعة!
 
 
 
 
 
537

526

أربعة جنود

 - مسلم، أعطني عنوان مكانك بالدقّة لكي آتي إليكم!

- لا حاجة لذلك!

كان صوت مسلم مختلفًا عنه في العمليّات السابقة، حين كان يسيطر على موقع ما!
- يا عمّ، لقد سيطرتُ وكريم آزاديان على رأس الجسر، لكنّها آخر مرّة لكلَينا على ما يبدو! سأعطي السمّاعة لكريم لكي أنهي قراءة سورة الواقعة بعد إذنك.

استلم كريم الحديث. قال مرتضى: "ما الذي يقوله مسلم؟ هل تستطيعون المحافظة على موقعكم حتى أصل إليكم!".

ضغط كريم على زرّ اللاسلكي وقال: "إنّ ما يقوله مسلم صحيح يا عم! لا تُهلِك نفسك! إنّ الأوضاع هنا حرجة بحيث لو وصل جميعنا لَما كان ذلك مُجديًا! لقد كان المرتزقة البعثيّون بانتظارنا!". 

سُمع عبر الجهاز اللاسلكي دويّ زخّات رصاص، فضحك كريم.
- لقد كشفوا مكاننا. يا عمّ ليتني أحضرت معي عجلة البئر.

نظرتُ إلى مرتضى. وعلى الرغم من أنّ كلينا كان يرزح تحت ضغوط الهزيمة والخسائر الكبيرة في صفوف الكتيبة، إلّا أننا ضحكنا لا إراديًّا. ضحك مرتضى بمرارة وقال: "يا حفّار آبار الكتيبة، ماذا ستفعل بعجلة البئر في هذه الظروف؟".

علا صوت خشخشة الجهاز اللاسلكيّ تبعه صوت كريم الضعيف: "كنت سأحفر بئرًا جيّدة جميلة في الساحل العراقيّ". 
- يا حفّار الآبار، أنا متأكّد أنّ ماء بئرك ستخرج، كما العادة، مالحة جدًّا.

سمعنا صوت رصاص وأنين. صرخ مرتضى: "ماذا حصل؟".
 
 
 
 
 
538

527

أربعة جنود

 قال كريم: "عمّ مرتضى!".

- أجل يا عزيزي!
- لقد استشهد عزيزك مسلم!

حدّقتُ في وجه مرتضى فرأيت تحت نور القنابل المضيئة بريقَ الدموع في عينيه. مسح بإصبعه الدمع من طرفي عينيه وقال: "هل قرأ مسلم سورة الواقعة؟!".
- أجل، لقد أتمّ عزيزك مسلم سور الواقعة، وقد أغمضتُ عينيه.
- كريم، هل تستطيع أن تعود؟ 
- لا يا عمّ، ألا تسمع صوت "الدوشكا!". إننا على أطراف الشاطئ، تحت دشمة العراقيّين بالدقّة! يا عمّ!
- أجل يا عزيزي!
- إن انقطع الاتصال فاعلم أنّي حلّقت في السماء! عِدني بأنّك ستشفع لي في الآخرة!

ثمّ طفق يهمس منشدًا أبيات الشعر التي نظمها له الشباب:
- كريم حفّار الآبار أينما حلّ حفر بئرًا

لكن مياه بئره شديدة الملوحة..

وانقطع الاتّصال!!
 
 
 
 
 
 
539

528

الإعدام

 الإعدام - 25/ك1/1986


ألقيت نظرةً داخل النهر على جثّة إسماعيل مسعودي وجثث أخرى لعدد من الغوّاصين، التي علقت بين العوائق الحديديّة والشريط اللولبيّ الشائك على الشاطئ العراقيّ، ثمّ رفعت طرْفي نحو السماء. كانت الريح تُسرّح سريعًا قِطعَ الغيوم البنفسجيّة القاتمة الضاربة إلى الاحمرار بشعاع الفلَق، فيما أخذ النور بالانبساط شيئًا فشيئًا. أخذتُ نفسًا عميقًا: إلهي، رضًى بقضائك... 

كنت قد بدأتُ الهجوم، برفقة نفر قليل ممّن بقي من تعبويّي الكتيبة، مِن حقل القصب المتاخم للشاطئ وأشجار النخيل المقطوعة وواصلنا التقدّم حتى أطراف خندق العدوّ، ومن ثَمّ عجزنا عن مواصلة التحرّك. وجدتُ جهازًا لاسلكيًّا لا يزال يعمل وأجريت اتّصالًا.
- أشلو، أشلو.. أنا عزيز بابائي.. أشلو، أشلو..

لم أسمع جوابًا. اتّصلتُ على موجة استطلاع لواء المهدي.
- .. كاظم.. كاظم.. عزيز..

لم يكن ذلك مُجديًا. حوّلتُ نظري إلى نهر "أروند" الذي بدا خائرًا جرّاء الحرارة. لم يتمكّن من الوصول إلى الساحل سوى عدد قليل من العناصر المنهَكين أو المجروحين. وصول هؤلاء إلى الساحل كان بحدّ ذاته معجزة! أمّا العراقيّون المطمئنّون من النصر فقد كانوا يرمون طلقات متقطّعة وقنابل ضوئيّة بين الفينة والأخرى. كان عليَّ أن أجد سبيلًا للنجاة لكي لا نُقتل أو نقع في الأسر بالحدّ الأدنى. لكنّ المشكلة الرئيسة كانت تكمن في انقطاع الارتباط بالخطوط الخلفيّة وعدم اطّلاعنا على أيّ شيء! ومع كلّ ذلك، فنظرًا لكوني عنصرًا قديمًا
 
 
 
 
 
540

529

الإعدام

 في قسم الاستطلاع والمعلومات في لواء المهدي، إضافة إلى تجربة اشتراكي في العمليّات الصعبة، حاولت أن أجد طريقةً ما لأنجو ومن بقي معي. إذ سرعان ما سيكتشف العدوّ أمرنا مع طلوع ضوء النهار.


وصلتُ إلى حيث "كريم آزاديان" الذي تلقّى رصاصة قاتلة قرب جدار إسمنتي. على مقربة منه رأيت "مسلم رستم زاده" الذي اتكّأ على جدار إسمنتي لمتراس أحد الرشاشات. تقدّمتُ منه وحدّقتُ في وجهه الذي انعكس فيه نور القنابل المضيئة. كانت عينه مفتوحة وبين شفتيه سيجارة لم تشتعل أبدًا. بدا كأنّه يضحك. أمّا صدره فقد اخترقه عدد كبير من رصاص الرشاش فتجلّل بالدّماء.

عندما انقشع الظلام كاملًا هدأ صخب المعارك، ما خلا بعض المواجهات المحدودة وإطلاق نار متقطّعًا داخل الساحل. قصدتُ يرافقني جنديّان من قوّات التعبئة في كتيبة الفجر دشمةً مهجورة قد امتلأت بالماء. سمعت أصوات جنود العدوّ. كان الشابان منهكَين ولم يقويا على الحراك. صار العراقيّون على مقربة منّا. قلت لهما: "علينا الذهاب من هنا!".
- يا أخي، اذهب وحدك، سنبقى نحن. سنجد سبيلًا في النهاية..
- انهضا وإلّا أطلقت عليكما النار بنفسي!

دفعتُهما، تحت التهديد، من باب المتراس! ابتعدنا حتى وصلنا إلى طرف الساحل وأخفينا أنفسنا في حقل القصب. كان جسمي قد تجمّد جرّاء الضعف والبرد كما جعلتْ أسناني تصطكّ. لم يكن مُرافقاي أفضل حالًا منّي. فهِمنا من الجلبة والضجيج أنّ العراقيّين يمشّطون الساحل، فيُجْهِزون على عنصر جريح أو على آخر قد خارت قواه. 

كلّما مضى الوقت ضاق الخناق علينا أكثر. أمّا العراقيّون الذين غمرتهم نشوة النصر فقد واصلوا تنقيب الساحل مرتاحي البال. وقع
 
 
 
 
541

530

الإعدام

 نظري من بين القصبات على مجموعة مؤلّفة من حوالي عشرة أشخاص من عناصرنا، عرفتُ منهم "حسن نكوئي" و"إيلي"، وقد قيّد العراقيّون أيديهم. قال أحد الشابَّين التعبويّين: "ليتنا سلّمنا أنفسنا أسرى". 


لم يكد ينهي كلامه حتى قال الآخر: "يا حسين عليه السلام، يريدون إعدامهم، علينا أن نفعل شيئًا!".

قلت: "لا طائل من ذلك، ألا ترى حالنا! ثمّ إنّنا قد تجمّدنا هنا!".
- ما العمل؟ يا لهم من أوغاد!

قُسّم الأسرى إلى مجموعتين. وضِعت المجموعة الأولى وسط الساتر الترابي فيما وقف قبالة الأسرى عدد من المسلّحين العراقيّين الذين جَثَوا على ركبهم استعدادًا لإطلاق النار عليهم على مرأى من المجموعة الثانية. أطبقتُ جفني ولم أسمع سوى صوت رمي الرصاص. وقع الشباب الستّة على الأرض كأوراق الخريف. وحين أوقفوا المجموعة الثانية في صفّ بانتظار إعدامهم وصل الضابط العراقيّ فتوقّف العمل، ونشب جدال بينه وبين الضابط الذي أصدر أوامر إطلاق النار. تضرّعت إلى الله أن تكون الغلبة للضابط الذي وصل حديثًا وهذا ما حصل. 

كنت جائعًا وعطشان. سألني أحد التعبويّين ماذا سنفعل يا أخي؟".
- أنا عنصر قديم في قسم استطلاع العمليّات، اعتمدا عليّ!

ففرحا.

أردفتُ قائلًا: "إن عمِلتما بما أقول فأعدكما بأنّكما، على الأقلّ، لن تقعا في أيدي العراقيّين".

قال أَحْدَثُهُما سنًّا: "أودّ أن تسنح لي الفرصة لكي أنتقم للشهداء!". 

على الرغم من رباطة جأشي وخبرتي الاستطلاعيّة فإنّ فرصة
 
 
 
542

531

الإعدام

 نجاتنا كانت ضئيلة. قلت: "التزما بفعل ما أطلبه منكما. أمّا الأعمار فهي بيد الله!".


دللتُ الشابّين على السفينة الصينيّة الجانحة وسط مياه "أروند"، بين الخطّ الدفاعي لإيران والعراق.
- علينا أن نصل إلى تلك السفينة بأيّ طريقة ممكنة!
- كيف ذلك يا أخي؟ سيروننا!
- سنستتر حتى حلول الليل، بعد ذلك نتحرّك! 

دوّى صوت انفجار مترافق مع كلمات بالعربيّة. لم يكفّ العراقيّون عن تمشيط الساحل وحقل القصب وتطهيرهما. اخترتُ مكانًا قليل العمق في النهر بحيث وطئت أقدامنا القعر، فيما 
استترنا حتى الرؤوس بالقصب والأعشاب المائية.
- تذكّرا، لا تُصدرا صوتًا حتى لو أُصبتما برصاص أو شظايا!

نظر إليّ التعبويّان باستغراب. وحدث ما توقّعت، حيث رمى العراقيّون قنبلة يدويّة بين القصب والأعشاب. وعندما وصلوا إلينا دعوتُ الله أنْ إذا كان لا بدّ من أن يصاب أحدنا بشظايا فلأُصب أنا دونهما! فقد احتملتُ أن لا يقويا على تحمّل الألم فيُفتضح أمرنا. كانت القنابل اليدويّة تُرمى بين القصب فيفلق عصف انفجارها الهواء وتملأ شظاياها الأرجاء. أخذت الأسماك المتأثّرة بعصف الانفجارات تطفو مَيْتة على سطح الماء. أصابت أوّل شظيّة ظهري فاخترقته، ثمّ انتقل الدور إلى الشابّين اللذين اخترقت الشظايا جسديهما. بَيد أنّهما، وخلافًا لما توقّعتُ، لم ينطقا ببنت شفة! كان صبرهما وطاقتهما مثيرين للعجب. خاطبتُ مرتضى في نفسي قائلًا: "نِعمَ ما ربّيت!".

في الواقع، كأنّ هذين الشابّين، اللذين لم يتجاوز عمرهما الثمانية عشر ربيعًا، قد اتّخذا مرتضى قدوة في الصبر والثبات. لم يتوقّف
 
 
543

532

الإعدام

 العراقيّون عن رمي القنابل اليدويّة باستمرار. كنت والشابّين كمن أجرى مسابقة في الإصابة بالشظايا.


قبيل الظهر كفّ العراقيّون عن رمي القنابل وتركونا والشظايا في أجسادنا التي ما برحت تنزف دمًا. تذكّرت رفيقي لسنوات، مسلم آشنا، وكان عامل الإشارة في سريّة مسلم رستم زاده. 

سألت الشابّين: "هل لديكما خبر عن مسلم آشنا؟".

فقال أصغرهما سنًّا: "تقصد حامل اللاسلكي؟".
- أجل!
- عندما وصلنا معًا إلى متراس العراقيّين اتّصل ببديهي وقال: "وصلنا أسفل الرشاش الثقيل، ماذ نفعل؟". فقال بديهي: "ارفع صوتك قليلًا!". أجابه مسلم آشنا: "لا أستطيع أن أرفع صوتي وإلا فسيسمعني الجندي العراقيّ خلف الرشاش. فطلب بديهي منّا أن نبدأ الاشتباك فقلنا: "لا نستطيع، ليس بحوزتنا سوى قنبلتين يدويّتين". بعد ذلك ذهب نحو قائد سريته، مسلم رستم زاده، واستشهدا معًا.

عند المساء، ناديتُ الشابّين لكي ننطلق لكنّهما كانا قد استشهدا. سحبت جثّتيهما إلى الساحل، لعلّ العراقيّين يرونهما فيبادرون إلى دفنهما، وذاك خير من أن تجرفهما المياه إلى الخليج الفارسي! 

أنهيتُ عملي وسبحتُ بهدوء، يعتصرني الحزن، حتى وصلتُ إلى السفينة الصينيّة. وهناك صادفتُ سبعة أو ثمانية عناصر من الوحدات الأخرى. وفي الليل انتُخِبتُ لكي أعبر النهر بمفردي لطلب قوّة مساعدة.

سبحتُ حتى الضفّة الأخرى لأروند ووصلتُ إلى مقرّ فرقة المهدي. وهناك كان "جليل خادم صادق"، مسؤول إعلام الفرقة، قد أقام مراسم الدعاء والتوسّل مهداة إلى روحي!
 
 
 
 
 
544

533

زياد المشهدي

 زياد المشهدي - 26/ك1/1986


- أيّها المستمعون الأعزّاء نرجو الانتباه .. وردَنا من..
مجدّدًا صدع صوت الموسيقى العسكريّة المألوفة من مكبّر صوت مسجد "جليان" ودكّان بقالة "زياد المشهدي!" (مش زياد). ومعها عادت أجواء الفرح والشوق في القرية إلى جانب التكهّنات حول انتصار العمليّة والجرحى والشهداء في جليان! بدا واضحًا من طبيعة لغة البيان الذي بثّته الإذاعة أنّ العمليّة لم تتكلّل بالنجاح هذه المرّة. لم يفارقني الاضطراب والهلع لحظة، ولم يأتِ أحد على ذكر مرتضى. لم أُجِز لنفسي أن أجلس مكتوفة اليدين أتجرّع الغصص. كان عليّ أنّ أفعل شيئًا.

نهضت بعد الظهر، وحملت "زينب" وذهبتُ إلى بيت خالي في فسا. كنت آملُ أن يكون مرتضى قد اتّصل لكنّه لم يفعل، أمّا أنا فلم أعلم بمن أتّصل. في اليوم التالي اتّصل مرتضى. ما إن سمعتُ صوته حتى أجهشت بالبكاء.
- مرتضى هل أنت سالم؟
- لا أنا جاسم!! لا تبكي يا بنت خالتي..

مسحتُ دموعي وسكن روعي. أحسستُ أنّه يخفي عنّي أمرًا، فبادرني بالقول وبدون مقدّمة: "آمنة، عليّ أن أنهي المكالمة، سأعاود الاتّصال بكِ في المساء!".

بمجرّد أن علمتُ بأنّ مرتضى على قيد الحياة هدأت.

مساءً اتّصل ثانيةً.
 
 
 
 
545

534

زياد المشهدي

 - آمنة، أنتِ من الآن فصاعدًا لن تكوني امرأة عاديّة، بل مُجنّدة! 

- ماذا تقصد؟
- سأطلعك على أمر، وليبقَ سرًّا بيننا، هل تعدينني بذلك؟!
- سمعًا وطاعة!
- اسمعي آمنة، لقد فُقِد "قدمعلي!".!
- أخوك؟! أين؟
- في عمليّات (كربلاء 4)، ذهب إلى تلك الجهة من النهر ولم يعد!

أقفلتُ السمّاعة وسالت دموعي على خدّي. كان قدمعلي بمنزلة أخي. قال خالي: "والله إنّه لأمر جيّد أنّ مرتضى بخير!".

تمالكتُ نفسي بصعوبة وقلت: "إنّها دموع الفرح يا خالي!".

في صباح اليوم التالي عدتُ وخالي إلى "جليان". ما إن دخلتُ البيت حتى انهمر عليّ وابل من الأسئلة من خالتي وزوجها.
- هل هناك خبر عن "قدمعلي".. ألم يخبرك مرتضى بشيء.. لقد أشيع بأنّه في هذه العمليّة قد.. لا قدّر الله..

شكرتُ الله أنّ خالي الذي لم يكن على علم بالحقيقة أصلح الأمر بقوله: "إنّه بخير.. تحدّثت آمنة مع مرتضى عبر الهاتف.. عساه خيرًا..".

قالت خالتي: "إذًا لماذا آمنة ليست على ما يرام؟".

قلت: "لا شيء يا خالة، أشعر بالتعب قليلًا".

حملقت الخالة في وجهي.
- لقد تورّم وجهُكِ؟!

تبسّمتْ محدّقةً في عينيّ.
 
 
 
 
546

535

زياد المشهدي

 - مبارك! إنّها حامل!


شعرتُ بالخجل.
- لماذا لم تُخبريننا يا ابنتي؟ منذ متى؟
- منذ مدّة قصيرة يا خالة!
- أسأل الله أن يرزقك صبيًّا جميلًا!
- الخير فيما يختاره الله!
 
 
 
 
 
547

536

مسرحيّة التكفين

 مسرحيّة التكفين - 28/ك1/1986


شكّلت الهزيمة في عملية (كربلاء 4) ضربة موجِعة لكتيبة الفجر. فقد سقط العديد من شبابها بين شهيد وجريح، كما وقع بعضهم في الأسر فيما فُقد آخرون. في اليوم الذي تلا العمليّة تلقّينا اتّصالات على مدار الساعة من عوائل العناصر وأقربائهم ورفاقهم من زرقان، فسا، مرودشت، كازرون، وغيرها من مدن محافظة "فارس".
- ما هي أخبار ولدنا.. هل هو بخير، إن حصل له مكروه فإننا نستطيع تحمّل الخبر..، سيد جاويدي، يقولون إنّك لا تكذب.. أسألك بالله، هل حقًّا أصيب الشبّان بأذى.. إنّهم أمانة.. 

كنت أسمع مرتضى يقول لهم عبر الهاتف أو وجهًا لوجه، حذَرًا من أن يقع في الكذب: "إنّ الشبّان مع أخي قدمعلي!".

في ذلك الوقت بالذات علمتُ أنّ العمّ مرتضى كان يزور عائلات أفراد كتيبته!

في اليوم التالي رنّ هاتف الكتيبة فرفعتُ السمّاعة بنفسي فإذا بي أسمع شخصًا يبادر بالقول بصوت مرتبك وبلا مقدّمات: "ولدي مرتضى، هل لديك خبر عن "قدمعلي".. إنّهم يُشيعون أخبارًا عنه هنا.. إن أصابه مكروه فلا تخفِ عنّي.. إنّ أمّك تكاد تموت..".

عرفتُ أنّه والد مرتضى. قلت له: "أرجو المعذرة يا عم، أنا "ذبيح الله فريد بخت"، سأناديه من بعد إذنك".

ناديتُ مرتضى، فحضر ورفع السمّاعة.
- سلام.. كيف حال أمّي.. أبي، إنّ "قدمعلي" في الجهة الأخرى
 
 
 
548

537

مسرحيّة التكفين

 من النهر مع الشبّان، ولا أستطيع الاتصال به.. لا تبتئس.. لو استشهد لعلمت بالأمر..


عند منتصف الليل سمعتُ من خلف باب غرفة قائد الكتيبة أنينَ مرتضى وبكاءه وهو يناجي ربّه سرًّا.
- .. أرشدني ماذا أصنع، دُلّني.. علّمني ماذا ينبغي أن أفعل.. في أيّ طريق عليّ أن أُعمِل إرادتك.. خذ بيدي لكي أخرج من هذا الامتحان مرفوع الرأس.. إلهي، هذه ليست عمليّات "بدر" حتى أحمل الجرحى وجثث الشهداء على كتفي وأعود.. الشبّان موجودون في الجهة الأخرى من النهر وأنا في هذه الجهة..

لم تكن أرواح عناصر الكتيبة عزيزة على مرتضى فحسب، بل كان حريصًا جدًّا على جثثهم إذا ما استشهدوا. فكان لا يسامح أحدًا كان بمقدوره أن يسحب جثّة شهيدٍ وتغافل عن هذا الأمر.

بعد عمليّة (كربلاء 4) كفّ مرتضى عن الضحك والمزاح. ولم تعد تقام مراسم "حفلة البطّانيّة"1 وتكفين الموتى ودفنهم! أذكر أنّي في الليلة الأولى لخدمتي في الكتيبة، ولدى دخولي غرفة الاستراحة أُصبتُ بالصدمة! فقد وقع نظري على ميّت ممدّد وسط الغرفة فيما كان عناصر الكتيبة، وبالأخصّ مرتضى، يقيمون عزاءه ويلطمون على الرؤوس. حدّقتُ حائرًا في مراسم تكفين الميّت وعزائه حيث كانت تجري بجدّية تامّة. لقد كانوا يخمشون وجوههم وشعورهم وينوحون ويندبون كالثّكالى! كما كان لمرتضى الدّور الأساس بعنوانه صاحب العزاء. أمّا أنا فقد انخرطتُ لا شعوريًّا في مراسم التكفين والعزاء تلك. عندها أخذ الشبّان يضحكون عليّ.
- ذبيح الله فريد بخت، فلتكن ذا حظّ عظيم ، هذه مسرحيّة ليس إلّا!
 

1- اجتماع الاخوة على المزاح باللعب بالبطانيات.
 
 
 
549

538

مسرحيّة التكفين

 عندما عرفتُ أنّ تلك المراسم إنّما هي لهْو ولعب، حيث أخذ الشبّان يضحكون في النهاية، ضحكتُ من سذاجتي. فيما بعد صرتُ أشترك في تلك المراسم التي كانت تُجرى في أوقات استراحة الكتيبة في الخطوط الخلفيّة للجبهة. مراسم كانت تبدو لي بدايةً أنّها للترفيه والضحك، لكنّي أحسستُ أنّها تربطني بالموت تدريجيًّا حتى أبادت الخوف من داخلي!

 

 

 

550


539

القنّاص الثاني

 القنّاص الثاني - 8/ك2/1987


قال لي قائد اللواء: "ناطقي، اذهب الليلة برفقة مرتضى وخليل مطهرنيا لتعاينوا المحور عن كَثب استعدادًا لهجوم الغد..". 

عند المساء أُقيمت صلاة جماعة صغيرة داخل دشمة التكتيك في "شلمجه". تناولنا طعام العشاء، بعد ذلك حملتُ بدلة الغوص ومعدّاته وانطلقتُ مع الآخرين بهدوء في سيّارة "لندكروز" باتّجاه محور العمليّة. 

وصلنا بعد ساعة إلى محور مياه سدّ شلمجه. كانت بركة المياه كبيرة نسبيًّا وقد ضخّها العراقيّون بين خطّي الدفاع بعمق يصل إلى مستوى الصّدر. عمقٌ لم يكن بالإمكان اجتيازه بالزوارق، كما كان يَحُول دون تحرّك القوّات من الجنود المُشاة! 

دخلتُ مياه الشتاء الباردة خلف مرتضى وتحرّكتُ، بكيفيّة بين السباحة والمشي، نحو الموانع الحديديّة والأسلاك الشائكة وحقول الألغام العراقيّة. غاب القمر من السماء وعمّت الظلمة الأرجاء، فلم يُضَأ سطح البركة وأطرافها إلّا عند رمي القنابل المضيئة العراقيّة. أثناء الطريق شرع مرتضى يمازحنا.
- إذا وقعنا في الأسر فسأقول إنّني جندي في الخدمة العسكريّة وقد أجبروني على المجيء إلى الجبهة!

فقال مطهرنيا: "وأنا سأقول إنّني قصدتُ مجلس البلديّة في قريتنا لآخذ ثلاجة وتلفازًا، فقيل لي: عليك أن تحضر في الجبهة. وقد حضرت إلى الجبهة لأجل الثلاجة والتلفاز!". 

قال مرتضى: "ألن يقول العراقيّون: قرويّ في مهمّة استطلاع وعليه
 
 
 
 
551

540

القنّاص الثاني

 زيّ الغوّاصين! لا يمكن الجمع بينهما!".


ربّت مطهّرنيا على كتفي.
- ناطق، لماذا جئت إلى الجبهة؟
- التفتُّ إليه قائلًا: "ذهبتُ لأخطب فتاةً، فقال لي والدها: يجب أن تقضي ستة أشهر في الجبهة!".

وصلنا إلى خطّ دفاع العراقيّين وسمعنا ضجيجهم. قال مرتضى: "يا شباب، من بعد إذنكم، سأذهب إلى الجهة الأخرى من الخطّ.. سأعود سريعًا!".

فصدّقتُ كلامه وقلت: "لماذا؟".

فتبسّم قائلًا: "لعلّي أجد قدمعلي فأرجعه! إنّها منطقة عمليّة "كربلاء 4" التي ذهب فيها قدمعلي ولم يعد. لقد أعجزني "مش رضا!".

فسألتُ مستغربًا: "من هو مش رضا؟".
- إنّه أبي! 

في اليوم التالي كان لي طلب مُلِحّ من الحاج أسدي قائد اللواء.
- أريد أن أنضمّ إلى كتيبة مرتضى بعنوان قنّاص.

عند العصر دُعي جميع أفراد الكتيبة للتّجمع في المصلّى. وصلت إلى الصفّ الأوّل وجلستُ كأحد العناصر العاديين. ضرب تعبويّ شيرازيّ بمرفقه على خاصرتي.
- هل ثمّة هجوم حقًّا يا أخي؟
- أجل، إن شاء الله!

ارتفعت أصوات العناصر بالصلوات، ثمّ عمّ السّكوت. لاحت منّي التفاتة نحو باب المصلّى. دخل مرتضى يغمره النشاط والحيويّة على
 
 
 
 
552

541

القنّاص الثاني

 عكس حاله في الأيام القليلة الماضية. تبسّم.


- بسم الله.. كما قال نابليون بونابارت: في الحرب تتغيّر الظروف من لحظة إلى أخرى.. صحيح أنّ عمليّات (كربلاء 4) لم تتكلّل بالنجاح، ولكنّ في ذلك حكمة إلهيّة. لقد فُجعنا بكثير من الشهداء، شهداء من كتيبة الفجر، ممّن لا نستطيع أن ننساهم، ولا بدّ أنّ في ذلك مصلحة ما.. ما يبعث فينا الأمل، كما يقول الإمام الخميني، هو أداء التكليف والإسلام والثورة! أبشّركم اليوم أنّ زمن أداء التكليف التالي قد حلّ.. علينا أن نهجم على العدوّ.. 

ملأت تكبيراتُ أفراد الكتيبة فضاء المصلّى وزلزلت السقف والأرض! ومع كلّ تكبير كانت البندقيّات في أيدي المجاهدين تعلو وتهبط.
- الله أكبر.. الله أكبر..

امتلأت صدور الشبّان بالحيويّة والثورة. أمّا أنا فقد انعكس صفاء مرتضى وارتياحه في نفسي: على الرّغم من وجودي لسنوات في اللواء إلّا أنني عثرتُ عليه متأخّرًا.. ليت الحاج أسدي يوافق على بقائي في الكتيبة.. على أن أكون قنّاصًا!

ساد الضجيج والصخب. هتف أحدهم: لبيك يا خميني..

وردّد الآخرون وراءه.

ثمّ قال مرتضى آخر ما عنده: "بعد أن أنصرف سيضعكم قادة السرايا في أجواء العمليّة المقبلة".

أخذ قادة السرايا ومن بعدهم قادة الفصائل يشرحون للعناصر أوضاع المنطقة وسير العمليّة.

في المساء وبعد أداء الصلاة وتناول العشاء، أمضينا ساعة من
 
 
 
 
553

542

القنّاص الثاني

 الوقت لإقامة حفل الخضاب بالحنّاء، فخضّبنا أيدينا وأرجلنا بالحنّاء، ثم أخذنا نستعدّ للانطلاق.


في مقرّ التكتيك الذي يبعد ثلاثين مترًا عن محور شلمجه ركبنا شاحنات "تويوتا" كاكيّة اللون. كان مرتضى يتنقّل بين أفراد كتيبته باستمرار. لمّا وصل إليّ ربّت على كتفي قائلًا: "أنا خجل منك أيّها القنّاص.. أسألك الدعاء!".

عند الساعة العاشرة مساءً انطلقتُ في شاحنة "تويوتا" أقلّت مجموعة من العناصر باتّجاه حدود شلمجه. لقد اعترتني حال عجيبة بين شبّان الكتيبة. لم أتمالك نفسي وأخذت دموعي تسيل على خدّي بهدوء. مع اقترابنا من المنطقة ازدادت حدّة نيران العدوّ. كانت السماء مظلمة وقد غاب عنها القمر كما في معظم الأزمنة التي كانت تُنتخب للهجوم! شيئًا فشيئًا وصلت كثافة 
نيران القذائف إلى حدٍّ باتت فيه حركة الشاحنة بطيئة. كانت الطريق ترابيّة وقد امتلأت بحفر خلّفتها القذائف، فكانت عجلات الشاحنة تسقط في تلك الحفر باستمرار.

اقتربتُ من الخطّ الأوّل للجبهة. وصل مرتضى وقال: "بسرعة.. ترجّلوا، إلى خلف الساتر الترابي.. هيّا أسرعوا.. ما شاء الله..".

أخذنا قسطًا من الراحة، وعندما انتصف الليل سرنا صفوفًا عموديّة خلف عناصر الهندسة والاستطلاع من عدّة محاور، وعبرنا من شقوق الساتر باتّجاه العدوّ. وكان مرتضى، كما العادة، يتقدّم الرّتل. أحيانًا كانت القنابل المضيئة تسقط بين السواتر الترابيّة فتضيء العتمة. كنت أعلم أنّ عليّ في مثل تلك المواقع أن أسكن ثم أعاود المسير! سمعتُ صوت مرتضى: "لا ينفصل بعضكم عن بعض.. إنّ مستوى بركة الماء يصل إلى الصدر، لا تظنّوا أنّكم ستختنقون..!".

فضحكتُ.
 
 
 
 
554

543

القنّاص الثاني

 عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل أُبلغنا برمز عمليّة (كربلاء5) عبر اللاسلكي، فبدأنا الهجوم. كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إلى العراقيّين على خلاف عمليّة (كربلاء4). قلت في نفسي: يا ناطقي، لم يتصوّر العراقيّون حتى في أحلامهم أن نشنّ هجومًا آخر عليهم بعد مرور أسبوعين من هزيمتنا في (كربلاء4).. هذا وقت الانتقام لدماء الشهداء!


سيطرنا على مواقع العدوّ، الواحد تلو الآخر، بأقلّ الخسائر. في تلك العمليّة كان مرتضى يتقدّم الجميع، وكنت أراه من خلال أضواء الانفجارات والقذائف والقنابل المضيئة واقفًا على القلعة الحدوديّة يجري اتصالًا لاسلكيًا حينًا، ويطلق قذائف (B7) نحو العدوّ حينًا آخر.
 
 
 
 
555

544

خمسمئة شخص

 خمسمئة شخص - 10/ك2/1987


بعد السيطرة على مواقع العدوّ استقررنا داخل القناة الدفاعيّة. عندما وصلت الكتيبة البديلة عدتُ برفقة عناصر كتيبة الفجر المنهكين إلى معسكر الإمام الخميني في الأهواز. بقي نصف عناصر الكتيبة، البالغ عددهم خمسمئة شخص، سالمين، فيما سقط الآخرون ما بين شهيد وجريح، ووقع آخرون في الأسر. سادت بين الشبّان أجواء النصر من جهة وحزن على فقد الأصدقاء من جهة أخرى! أخذ الشبّان يتهامسون في زوايا المقرّ. 
- لقد تخلّفنا عن قافلة الشهداء.. لا بدّ أننا عصاة..

لم يعد لأحد جَلَد على المزاح أو إقامة مراسم "حفلة البطانيّة" أو تمثيل دور الميّت. اتّخذ أكثر الشبّان خلوة مع الله في أحد زوايا المقرّ.

أمّا مرتضى فقد تحمّل خلال هذا الشهر مصائب كثيرة.

قبيل الظهر ناداني. حدّقتُ في عينيه الصافيتين. فقال: "يا خوشقدم، اطلب من الشبّان أن يجتمعوا في المصلّى!".

وبعد أن تجمّع العناصر المنهكون والفاقدون لرفاق دربهم في الكتيبة داخل المصلّى، شرع مرتضى بحديثه: "فلنتسامح من بعضنا البعض.. خصوصًا أنا العبد الفقير..".

تنفّس الصعداء.
- الليلة نعزم على القيام بعمليّة مجدّدًا.. بنفس هاتين السريّتين. هناك حاجة لذلك.. والله إنني أقولها من أعماق قلبي. أنتم حتى الآن أبديتم كل شهامة ورجولة، وإنّ مكانكم في الجنّة..
 
 
 
556

545

خمسمئة شخص

 لم يستطع أن يتمالك نفسه من دون أن يبكي. أخذ نفسًا عميقًا.

- أُقسمُ مئة مرّة بأن ليس ثمّة أشجع منكم.. لذا فأنتم جميعًا مبرّأون من الجبن، لأنّكم جميعًا، شيبًا وشبّانًا، حرسًا وتعبويّين، أثبتّم شهامتكم مرارًا. أقول لكم بكلّ تأكيد: من الآن فصاعدًا، الاشتراك في العمليّات أمر اختياريّ.. كلّ من لا يريد ذلك فليصفِّ حسابه وليرجع إلى مدينته!

كان حديث مرتضى البليغ ووجهه الجذّاب كشمس أمدّت العناصر بأشعّة من المحبّة والعظمة، وأحسسنا جميعًا أننا وقعنا في أسر تلك الأشعّة. لقد أنعش بطاقته الخارقة عناصر الكتيبة الحيارى والمتعبين قولًا وفعلًا. تعالت أصوات نحيب العناصر. نهض الحاج صلواتي، ذلك العجوز السبعيني إعلاميّ اللواء، ثم نادى:
ارفعوا أصواتكم بالصلوات يا ورود بستان الخميني..
بعد الصلوات تابع قائلًا: "لقد وقّعنا على ميثاق الدم.. ماذا ظننت بنا يا عم.. هيهات منّا الذلّة..
- هيهات منّا الذلّة..

ثمّ أدلى كلّ واحد بدلوه.
- هل صدر منّا خطأ!
- لماذا تضعنا على مفترق طريقين هذه المرّة..
- لن نتخلّى عنك يا عمّ مرتضى أو نُقتل..

عندما علم مرتضى أنّ العناصر خجلون، مثله، من رفاقهم الشهداء لأنّهم ما زالوا أحياء قال: "أرجو المعذرة منكم جميعًا.. أستحلفكم بالله أن تدعوا الله لكي يتفضّل عليّ ويكرمني بالشهادة! أطلب من أولئك الذين سيبقون على قيد الحياة بعد العمليّة أن يحفظوا كتيبة الفجر، وأن لا يشوب إيمان الكتيبة وقوّتها أيّ شائبة!".

لم يستطع عناصر الكتيبة تحمّل كلام مرتضى فقطعوا كلامه وتوجّهوا نحوه وعانقوه. جعلوا يقبّلونه ولم يتركوه إلّا بشقّ الأنفس. سادت أجواء لم يسبق لها مثيل في المعسكر، أشبه ما تكون بوداعٍ دامَ لساعات.
 
 
 
 
 
557

546

اقتلوني

 اقتلوني - 10/ك2/1987


عند الغروب انطلقتُ برفقة مئتي عنصر ممّن بقي من الكتيبة على متن أربع حافلات نحو شلمجه. وقف مرتضى في مقدّمة الحافلة قرب السائق واضعًا يده على صدره وجعل يُنشد مرثيّة "آهنكران"، فيما أخذنا نلطم على صدورنا مردّدين معه:
شهيدًا وا شهيدًا وا شهيداه!
غريبًا وا غريبًا وا غريباه!
حسينًا وا حسينًا واحسيناه!

وبعد أن ردّد الشبّان خلفه أنشد مرتضى:
أنا مسلم عاشق لابن الزهراء
أنا مسلم أفدي نفسي في سبيل المولى

ثمّ تابع إنشاده والدموع تتحادر على خدّيه:
لم يرَ الزمان عاشقًا مثلي!
إنني ذاهب إلى الموت برجلي!
ارشقوا قلبي الحزين بسهم الغمّ!
إنني عاشق عاشق فاقتلوني!
إنّ روحي تزهق حزنًا عليك
يا حسين يا حسين يا حسين!

كأنّ الجميع قد أيقنوا بأنّهم سيرتفعون شهداء في هذه العمليّة، ولم يكن أحد مستعدًّا للرجوع بعدها.
 
 
 
 
559

547

اقتلوني

 مساءً ترجّل العناصر من الحافلة في مقرّ التكتيك الذي يبعد ثلاثين مترًا عن الجبهة. أدّينا الصلاة. تناولنا الأرز بالدجاج ثمّ أخذنا بالاستعداد. حضر مرتضى وأخذ يشرح قائلًا: "بما أنّ ثمّة نقصًا في كتيبتنا فقد تقرّر أن نكون قوّة مساندة لكتيبة كميل! سنستقرّ على مقربة من الخطّ بانتظار وصول الأوامر!".


عند منتصف الليل صدر أمر بالتحرّك. انطلقت سريتا كتيبتنا باتّجاه الخطّ الأمامي في شلمجه، حيث المناطق التي تمّ تحريرها في اليوم السابق خلال عمليّات (كربلاء5) التكميليّة. كنتُ جالسًا في مقدّمة السيّارة إلى جانب السائق. حين عبرنا نقطة حراسة (مخفر) الحدود العراقيّة وقرية "دوعيجي"، لاحظتُ أنّ السيّارة تصعد وتهبط كأنّها تسير على مطبّات. سألت السائق: "على ماذا تعبر العجلات؟".
- إنّها جثث قتلى العدو في مواجهات ليلة أمس والذين لم يتسنَّ له سحبهم! 

كانت نيران المدفعيّة كثيفة لم يسبق لها مثيل، إلى درجة أنّ الوصول إلى الخطّ بسلام كان يتطلّب حظًّا. في نهاية المطاف توقّفنا خلف ساتر ترابي قصير. ترجّلنا وأخذ محمد رضا بديهي يوجّه العناصر.
- .. إنّ حدود منطقة عمليّاتنا هي "قناة الأسماك"، قرب السواتر الترابيّة (النونية) التي اتّخذت شكل حرف "ن!".

سرنا خلف بعضنا البعض بحذر. تَرافق سقوط قذائف المدفعيّة مع القنابل المضيئة التي كانت تسبح في السماء. ملأتْ مشامّي رائحة الدخان والغبار. فجأة رأيتُ العمّ مرتضى على إحدى السواتر العراقيّة الكبيرة النونية الشكل، وهو يتكلّم مع محمد رضا بديهي عبر الجهاز اللاسلكي: "سيّد رضا، هيّئ جميع من لديك من رماة الـ(B7)!".
 
 
 
 
 
560

548

اقتلوني

 استقررنا على حدود تلك الدّشم. أخذنا استراحة بين النوم واليقظة حتى الفجر. تيمّمنا ثمّ أدّينا الصلاة بأحذيتنا. غطّت المنطقة سحابة رماديّة ضاربة إلى السواد جرّاء كثافة نيران المدفعيّة، بحيث حجبت ضوء الشمس عن الأرض. وصل مرتضى.

- علينا صدّ هجوم العراقيّين المضاد.. إنّهم يتقدّمون، تأهّبوا.. رماة الـ(B7)..

كانت نيران العدوّ تتساقط على كل متر من الأرض بحيث سقط في الدقائق الأولى عشرة أشخاص منّا بين شهيد وجريح. نظرًا لشدّة النيران لم يظنّ أحد أنّه سيبقى سالمًا. ناداني مرتضى: "يوسف بور!".
- أجل يا عمّ!

تبسّم ثمّ قال: "سيّد حسن، أكلتَ حلوى "أرده"1، أليس كذلك؟".

ثنيتُ يدي من المرفق وعرضتُ عضلات ساعدي كلاعبي كمال الأجسام.
- عندما عدتُ ورماة الـ(B7) مؤخّرًا من الإجازة، قمنا بجمع كلّ حلوى "أرده" الموجودة في زرقان وأكلناها. انظر إلى قوّة عضلاتي! نحن تحت أمرك!
- يوسف بور، إنّه وقت النّزال، اجمع رماة الـ(B7) وهلمّوا معي إلى السواتر النونية.

نظّمتُ مع معاوني "نظري" حَمَلة الـ(B7) في صفّ، وانطلقنا خلف مرتضى نحو الدشمة والسواتر المذكورة.

بدأ العراقيّون هجومهم المضادّ بالدبابات. نشبت مواجهات دبابات في مقابل أفراد. تقدّم مرتضى كعادته حاملًا قاذف (B7). واصلت
 

1- حلاوة الطحينة.
 
 
 
561

549

اقتلوني

 الدبابات تقدّمها يتبعها عناصر المغاوير العراقيّين حتّى وصلوا إلى حدّ معيّن، حينها نادى مرتضى: "الآن!".


وقفنا، يتقدّمُنا مرتضى، وأخذنا نستهدف الدبابات التي باتت في مرمى قذائفنا. عقِب تدمير عدد من الدبابات لم يجد العراقيّون بُدًّا من الانسحاب!
 
 
 
 
562

550

أيْ شي لونك

 أيْ شي لونك - 11/ك2/1987


- يا حاج قاسم سليماني، إنّ نيران العراقيّين شديدة لم يسبق لها مثيل، إنّهم يقصفون كلّ متر من الساتر الترابي ويتقدّمون بدبّاباتهم.

ظُهر اليوم الخامس من عمليّات (كربلاء5)، اتّصل بي لاسلكيًّا حسين تاجيك، قائد الكتيبة، الذي كان مستقرًّا على خطّ دفاع "نهر جاسم"، طالبًا منّي المساعدة. قلت له: "اصمد وإلّا فسيحاصَر لواءا المهدي والغدير! سأفكّر في حلّ ما..". 

اتّصلتُ من المقرّ التكتيكي لفرقة "41 ثار الله"، والذي كان على مسافة قصيرة من الخطّ، بمقرّ خاتم الأنبياء.
- أنا قاسم سليماني.. كتيبتي بحاجة إلى قوّة إسناد في "نهر جاسم"..
- سمعت. حاج قاسم، ينبغي الحفاظ على نهر جاسم! إن تراجعتم فسيحاصَر جناحاكم! 
- سأتقدّم بنفسي .. سأرى ما يمكنني فعله. لا تتوانوا عن إطلاق النار!

بصفتي قائد فرقة "41 ثار الله" لم أستطع الصبر بانتظار وصول عناصر الهجوم. ناديتُ عامل الاشارة قائلًا: "أحضر الجهاز اللاسلكي والدراجة النارية لكي نمضي إلى الأمام".

جلستُ على الدرّاجة الناريّة خلفه وانطلقنا باتّجاه نهر جاسم. كانت الطريق مكتظّة بجثث القتلى العراقيّين، وعبثًا حاول عامل الاشارة أن يعبر بينها، فصار يمشي عليها فيفقد السيطرة على الدرّاجة.
 
 
 
 
563

551

أيْ شي لونك

 - انتبِه يا فتى!


كانت نيران المدفعيّة والقذائف كثيفة بحيث غطّت سحابة غليظة من الدخان والغبار الأجواء، ويكاد يخيّل للرائي أنّ السماء ملبّدة بغيوم سوداء. وصلنا إلى نهر جاسم، فبحثتُ عن قائد كتيبتي "حسين تاجيك".
- هو في الجهة اليسرى من الساتر الترابي، على بعد أربعين مترًا!

استغرق الوقت ثلاثين دقيقة حتى طويتُ مسافة الأربعين مترًا تلك، وذلك بسبب كثافة نيران العدوّ الذي كان يقصف بمدفعية حديثة نمساويّة الصنع كلّ متر من الأرض! وصلتُ إلى حسين تاجيك. كان وجهه الأبيض المشرب بالحمرة قد اسودّ جرّاء الدخان والتراب، كما امتلأت أذناه بالغبار. لم أعرفه بدايةً. وضعت يدي على شعره الأغبر، تبسّمت وقلت: "عافاك الله، الآن لن يشكّ أحد أنّك ابن "بم"، ما هي الأوضاع؟".

اندفع قائلًا: "حاج قاسم، كيف جئت إلى هنا؟ سوف يسيطرون على الساتر الترابي في لحظات!".
- ما الخبر؟
- حاج قاسم، هناك مجموعة واحدة ما زالت سالمة، أمّا الآخرون فقد أصيبوا بالشظايا وتمّ نقلهم إلى الخلف! إنّ نيران المدفعيّة هي الأشدّ إيذاءً. إنّها لا تسمح لنا برفع رؤوسنا! 

ثمّ أشار بإصبعه إلى نهر جاسم.
- الدباّبات تضيّق علينا بشدّة! إنّهم يستعدّون للهجوم التالي، ومن المستبعد أن نصمد. نحتاج إلى قوّات مساندة! 

ألقيتُ نظرة على رتل دبابات "T 72" العراقيّة التي كانت تتهيّأ خلف الساتر الترابي لشنّ هجوم مضاد. كنّا على بُعد أقلّ من مئة متر
 
 
 
 
564

552

أيْ شي لونك

 من الساتر، وكان عدد الدبابات يفوق عدد عناصرنا. 


قلت: "اطلب من الجميع أن يحملوا قواذف (B7) وأعطني واحدًا منها!".

بُعيد الظهر خرجت الدبابات وعناصر المغاوير العراقيّين من شقّ في الساتر الترابي وشرعوا بالتقدّم. قلت: "لا يطلقنّ أحدٌ قذيفةَ (B7) قبل أن أطلب منكم!".

أخذت الدبابات تتقدّم مدمّرة الساتر الدفاعيّ بقذائفها. هذا ولم يتوقّف سقوط قذائف المدفعيّة لحظة. عندما صاروا على بُعد خمسين مترًا منّا هتفتُ قائلًا: "أطلقوا النار..".

اندلعت المواجهات، إلّا أنّ الدبابات لم تتورّع عن التقدّم، فيما أصيب عدد من عناصرنا بالرصاص والشظايا. أطبقت الدبابات على جهتَي الساتر الترابي وكاد الأمر أن ينتهي! وقد سدّت دبابتان طريق الجبهة الخلفيّة من الجهة اليسرى. قال حسين تاجيك: "حاج قاسم، لقد حوصرنا.. عليك أن تعود إلى الخلف بطريقة ما وإلّا..".

وقبل أن ينطق كلمته الأخيرة أصابته رصاصة مباشرة في ظهره فوقع في حِجري.
- حسين.. حسين..

كان جرحه بليغًا. وضعته على واجهة الساتر الترابي بحيث لا يلتفت العناصر إلى أنّ قائد الكتيبة قد أصيب برصاصة. 

عدتُ إلى رشدي لأرى أنّه لم يبقَ منّا سوى عدّة أشخاص. عندما زاد احتمال وقوعي في الأسر وجدتُ الموت أسهل، خصوصًا بصفتي قائد فرقة في الحرس الثوري، ناهيك عمّا سيثيره الإعلام العراقيّ! لذا كان عليّ القيام بعمل ما. خطر ببالي أن أطلب المساعدة من جناحنا الأيسر، فرقة المهدي. قلت لعامل الاشارة: "اذهب على موجة
 
 
 
 
 
565

553

أيْ شي لونك

 الحاج جعفر أسدي، قائد لواء المهدي". 


اتّصل سريعًا.
- حاج سليماني، الحاج أسدي على الخطّ.

خطفتُ سمّاعة الجهاز وضغطت على الزر.
- جعفر، جعفر.. معك قاسم!
- السلام عليك، هل حدث شيء؟
- جعفر، لقد كسر العدوّ خطّنا وبِتنا محاصرين!
- قاسم، أين أنت؟
- نهر جاسم، الساتر الترابي يسقط الآن!
- قاسم، انسحب إلى الخلف! هل تعلم ماذا سيحدث إن وقعتَ في يد العراقيّين!
- إننا محاصرون! ليس لديّ قوّات لفكّ الحصار.
- قاسم، إلى متى يمكنك أن تصمد؟
- ربما لعشر دقائق!
- حافظ على وضعيتك، سأرى ماذا يمكن أن نفعل!

قطعتُ الاتّصال ونظّمتُ العناصر، وكانوا بعدد الأصابع، بغية الدفاع.

كان الرصاص ينهمر علينا من كلّ حدب وصوب. جلست عند رأس حسين تاجيك. كان يلفظ أنفاسه. فتحتُ الكوفية الملفوفة حول عنقي، ومسحتُ التراب والدخان عن رأسه ووجهه. تبسّم بفتور.
- هل تنظّفني من أجل التشييع!

أدرتُ رأسي ومسحتُ دمعي من طرفَي عينيّ. تبسّمتُ وقلت: "على
 
 
 
 
 
566

554

أيْ شي لونك

 الرغم من أنّي من "كرمان" ولكنّي لطالما أحببتُ مدينة "بم!".

- ماذا يعجبك فيها؟
- لهجة أهل "بم" اللطيفة، صوت "إيرج بسطامي!".

تبسّم بفتور ثم قال: "أنا لست من "بم" يا حاج!".

ثمّ طفق ينشد بصوت خافت شِعر "أزهار النعناع":
يا أزهار النعناع أحرقتني نارُ القسوة
يا أزهار النعناع أحرقتني نارُ الهجران
سأواصل الإنشاد حتى السّحَر
فأنا كئيبٌ، مجنون، وروحي تتألّم
ناداني عامل الاشارة: "الحاج أسدي على الخط".

أخذتُ بسرعة سمّاعة اللاسلكي من يد الشابّ.
- أسمعُك!
- قاسم، إنّ مرتضى آتٍ لمساعدتك من الجهة اليسرى برفقة مجموعة من القوّات!
- اشلو، قائد كتيبة الفجر؟!
- أجل يا أخي!

رجعت إلى حسين تاجيك الذي كان قد أسلم روحه متبسّمًا! عدتُ إلى الساتر الترابي وشرعت بإطلاق النار.
- الله أكبر.. الله أكبر..

لم تمضِ عشر دقائق حتى حدثت ضجّة في الجناح الأيسر وعلت هتافات التكبير. التفتُّ نحو الجهة اليسرى. في غضون دقائق معدودة تحوّلت الدبابتان اللتان سدّتا الطريق إلى كُتلتي نار ملتهبتين واحترقتا. بعد ذلك وقعت عيناي على مجموعة من قوّاتنا يتقدّمهما شاب نحيف، متوسّط القامة، حافي القدمين، يحمل على كتفه قاذف (B7)، وقد
 
 
 
 
567

555

أيْ شي لونك

 ظهر من خلف ستار الدخان والغبار. هتفتُ مدهوشًا: "اشلو!".


تغيّر مشهد المعركة بقدوم مرتضى وعدد من العناصر! لقد نزلوا كالصاعقة على الدبّابتين ففتحوا الجهة اليسرى. في تلك اللحظة غبطت الحاج أسدي على وجود قائد الكتيبة ذاك في لوائه! وصل مرتضى بوجهه اللطيف، فجمع أصابع يده وأدارها قائلًا بالعربيّة: "أي شي لونك؟".

حملقتُ طويلًا في وجهه البشوش وقد غمرتني الفرحة. قلت له: "ماذا تعني هذه الكلمات؟".
- ما حال لونك ووجهك! مختصرها: اشلو!

كلّما حدّقتُ في وجه مرتضى النحيل والبريء زاد ألم فقدي لحسين تاجيك، لا أدري سبب ذلك. فقد علا وجهه ورأسه الغبار والدخان، كما ملأ التراب أذنيه اللتين يبست فيهما بضع قطرات من الدم القاتم. سالت الدموع على خدّي. قال لي: "حاج قاسم، عليك أن تتراجع إلى الخلف، سنتولّى أمر بقيّة الدبابات!".
- أشكرك لأنّك أنقذتنا! لكنّي سأبقى لصدّ الهجوم المضادّ!

فقال وقد علا قَسماتِ وجهه التصميمُ والإصرار: "أرجو المعذرة، لقد طلب منّي الحاج أسدي أن أساعدك على الانسحاب إلى الخلف! سيبقى الآخرون لمواجهة الدبابات!".

نقلتُ أوّلًا جثّة حسين تاجيك إلى الخلف، ثمّ ركبت الدرّاجة الناريّة وخرجت من دائرة الحصار بصحبة عامل الاشارة. كنت طوال الطريق أكرّر لا إراديًّا: أَيْ شَي لونك.. اشلو..
 
 
 
 
568

556

مرتضى آويني

 مرتضى آويني - 12/ك2/1987


لم يمضِ أكثر من خمسة أيام على عمليّات (كربلاء5) حتّى أخذت فرقة المهدي تستعدّ للعمليّات مجدّدًا. كان الأخ ناظم بور يهيّئ قسم الهندسة(التخزين). قصد أحدُ العناصر، وكان يؤدّي دور المراسل، كاظم الذي انشغل بالوضوء. حاول كاظم الهروب لكنّ الشبّان لم يسمحوا بذلك، وأجبروه على الوقوف أمام عدسة الكاميرا. أمّا كاظم فجعل يتهرّب من الكاميرا بصبر وابتسامة يحكيان عن خجله وعفّته، منتظرًا أن يدعوه وشأنه.

بعد كاظم جاء دور مصطفى الذي حاول في البداية أن يصرف الكاميرا عنه أيضًا. أخذ يهزّ رأسه ضاحكًا محاولًا أن يمحو تأثير الكاميرا من نفسه. وكان النّصر حليفه هو الآخر، على الرغم من أنّه تقبّل الأمر في النهاية وتكلّم بضع كلمات عن نفسه. قال له الشبّان: "قل إنّك طالب علوم دينيّة أيضًا".

علت وجهه حمرةُ الخجل بشكل جليّ، لكنّه ضحك مجدّدًا وتهرّب من هذا الحديث بذكاء، فنجا بنفسه. 

أينما اتّجهتْ عدسة الكاميرا فرّ منها الشبّان. وإن أقبل عليها أحدٌ فلم يكن يتحدّث إلّا بما ينمّ عن استقامته ووعيه.

لقد علم أولئك أنّ النّفس تمثّل حجابًا لهم، ولكي يصلوا إلى مقام القرب الإلهي عليهم أن يغضّوا الطرف عن أنفسهم. هذا الأمر وإن كان كافيًا لنيل مرادهم لكنّه ليس سهل المنال لكلّ وافد. ولا عجب إن قيل بأنْ ليس في هذا العالم أحد لديه القدرة على الإيثار وإنكار الذات كهؤلاء الأوفياء. "أكبر" حامل اللاسلكي، الحاج علي أكبر رحمانيان،
 
 
 
569

557

مرتضى آويني

 وبعدهما أحد قادة سرايا كتيبة كميل في فرقة المهدي. أينما اتّجهت عدسة الكاميرا فرّ العناصر منها. لقد حاول هؤلاء أن يخفوا أنفسهم بين الجمع، فالاسم والشهرة أثقال يفرّ منها سالكو الطريق إلى الله. ولو تكلّم أحد عن نفسه فلا يشوب حديثه أدنى علامات العجب.


في نهاية المطاف وجدنا ضالّتنا مرتضى جاويدي، قائد كتيبة الفجر. ما إن يقع نظرك عليه حتى تتذكّر تلك الأيام الأربعة والليالي الخمس التي حوصر فيها من قِبل العدوّ برفقة خمسين نفرًا من أفراد كتيبته في عمليّات (والفجر 2)، وعندما كاد أمرهم أن ينتهي قال مرتضى:
- إننا سنقاوم ولن نسمح أن تتكرّر هزيمة وقعة أُحد.

وكانت عاقبة مقاومتهم البطوليّة النصر. لم يستسلم مرتضى هو الآخر لإلحاح الكاميرا.

المرة الأخيرة التي التقينا فيها مرتضى جاويدي كانت قرب بركة تربية الأسماك. لم يكن قد مضى أكثر من ثلاث ساعات على سيطرة مجاهدي الإسلام على ذلك الخط، وكان العناصر لا يزالون يواجهون مدرّعات العدوّ بشدّة بُغية تثبيت تلك المواقع كاملًا. كان مرتضى يخطّط للتقدّم بعناصره إلى الأمام، لكنّه في الوقت عينه لم يجد سبيلًا للفرار من الكاميرا، ما اضطرّه إلى الإجابة عن أسئلتنا بعجالة وهو ينظر إلى عدسة الكاميرا نظرته التي لطالما بدت وكأنّها ترنو إلى ما لا نهاية. بعد ذلك هبّ ومضى حاملًا بيده قذيفة (B7).

كان مرتضى يُعرف في الجبهة باسم "أشلو". وإن أمعنّا النظر جيّدًا فإنّ تقدير مستقبل العالم ليس بيد ذوي الأسماء اللامعة في عالم السياسة الأسود، بل هو بيد أبطال مجهولين من أمثال مرتضى جاويدي وطمراس جكيني، وغيرهما ممّن يتولّى مهمّة تغيير العالم بعيدًا عن الاسم والشهرة.
 
 
 
 
570

558

عزيزي أبا عَجَلة

 عزيزي أبا عَجَلة - 26/ك2/1987


عند الصباح، ركنتُ سيّارة الـ"تويوتا" الكاكيّة اللون المحمّلة بالعتاد خلف ساتر ترابي هلاليّ الشّكل في منطقة شلمجه. تحت وطأة نيران العراقيّين الثقيلة أفرغتُ بمساعدة عدد من الأشخاص الحمولة ورتّبناها في دشمة المعدّات. عندما ركبت السيارة ناداني مرتضى بلقبي: "عزيزي أبا عَجَلة!".

علّقتُ نظري على عينيه اللطيفتين. كان التراب قد علا جسده من رأسه حتى أخمص قدميه حتى بدا كالعجائز. سلّمتُ عليه وأشرتُ إلى رأسه ووجهه قائلًا: "لقد أصبحت عجوزًا! ألا تريد أن تستحمّ!".

ضحك ثمّ قَضم تفاحة حمراء كانت في يده.
- لقد وضعتَ يدك على الجرح يا عزيزي أبا عَجَلة. 

سقطت قذيفة خلف الدشمة. قلت له: "يا عمّ، اركب قبل أن نُقتل!".

ركب بجنبي، وقُدتُ السيّارة على طريق شلمجه الترابي. رأيت في أذنه اليسرى دمًا يابسًا، فسألته: "لقد خرج الدم من غشاء أذنك مجدّدًا، وصارت عيناك كالدم من شدّة الاحمرار، منذ متى لم تنم؟ أين هم عناصر الكتيبة؟".

- لقد قمنا بصدّ عدد من الهجمات المرتدّة، وبقينا تحت النيران الكثيفة والمتواصلة لثلاثة أيام بلياليها في نهر جاسم. وقد أرسلت من بقي من الكتيبة إلى الأهواز لاستعادة قواهم!".
- إذًا لهذا السبب أنت قادم إلى الأهواز! ما هي أخبار العدو؟
- إنّه يلفظ أنفاسه الأخيرة! ثمّة مواجهات، رَجُلًا لرَجل على أطراف قناة الأسماك ونهر جاسم.
 
 
 
 
571

559

عزيزي أبا عَجَلة

 ثمّ فرك عينه. أمّا أنا فقُدتُ السيّارة على الجادّة المعبّدة نحو خرّمشهر. قال لي: "عزيزي أبا عَجَلة، لقد سمعتُ أنّك أقمتَ حمّامًا في الأهواز، وأنّك تغسّل فيه الشبّان غسل الشهادة!". 

- لي الشرف حاليًّا أن أكون مدلّك المجاهدين!
- متى يصل دور كتيبة الفجر؟
- في الحال! الحمّام كلّه تحت أمر العمّ مرتضى!

على الرّغم من شدّة تعبه إلّا أنّ جفنيه لم يطبقا حتى الأهواز، وبقي يتحدّث عن الشبّان ويضحك لكي يشغلني بحيث لم أدرِ متى وصلنا إلى الأهواز. 

في الأهواز أوقفت السيّارة مقابل الحمّام الذي استأجرناه. قال لي: "عزيزي أبا عَجلة، هل لديك حمّام خاصّ أيضًا؟".
- أجل يا عم مرتضى، لماذا تريد ذلك؟".
- أريد أن أغسل نفسي جيّدًا هذه المرّة!

دخلنا الحمّام معًا. قال: "هل تساعدني على الاستحمام؟".

وضعتُ يدي على عيني.
- على عيني!

شرعتُ بتدليكه وتغسيله بسرور وفرح. أمّا هو فأخذ يتبسّم ويدعو الله أن يرزقه الشهادة. قلت له: "يا عمّ مرتضى، لقد سئمت!".
- ممّ يا قاسم أبا عَجلة؟
- من أنّك طوال هذه الفترة تحارب على الجبهات ولكنّك لا تستشهد!

كان مطأطئ الرأس، فرفع رأسه وتبسّم قائلًا: "لا تبتئس يا سيّد باقر نجاد، بعد ثمانٍ وأربعين ساعة!".
 
 
 
 
 
572

560

انتهت الحرب

 انتهت الحرب - 26/ك2/1987


لم يكن لي جَلد على العمل. حملتُ أَلبوم صور مرتضى وتصفّحته. كلّما نظرتُ إلى صورة من صوره قبع جبل من الغمّ على قلبي. وقع نظري على صورة له في الجبهة وهو يضحك مع محمود، علي، علي أكبر... أمعنتُ النظر فيها فإذا جميع من فيها قد استشهد إلا مرتضى.

وجدتُ شيئًا مخفيًّا خلف إحدى الصور! مددتُ يدي وأخرجتُ الورقة، ثمّ فتحت طيّاتها. كانت وصيّة مرتضى. دبّ الذعر في قلبي ويبست شفتاي. أخذتُ نفسًا عميقًا ثمّ طفقتُ أقرأ بعض مقاطعها:.. لا أدري ماذا اقترفتُ حتى أُحرَم الشهادة. لعلّ قلبي أسود. رحم الله الحاج محمود ستوده، عندما كنّا نتحدّث معًا كنّا نقول: "إن انتهت الحرب وبقينا على قيد الحياة فماذا سنفعل؟ في الواقع لا يمكن العيش ونحن ننظر إلى وجوه عوائل الشهداء..". وهنا لا يسعني وغيري ممن تخلّف عن قافلة النور إلّا أن نقول: هنيئًا لأولئك الذين نالوا الشهادة..

سالت الدموع من مقلتيّ.

طويت الوصيّة وعزّيتُ نفسي بأنّ جميع المجاهدين يكتبون وصاياهم قبل خروجهم..

في أيّ جهة من البيت حدّقت بنظري تراءى لي وجه مرتضى.

وصل أخي وأخرجني ممّا أنا فيه.
- ما الخطب يا أختاه!
- إنّ قلبي يغلي. هلمّ لنذهب إلى بيت خالتي، لعلّ لديهم خبرًا عن مرتضى!
 
 
 
 
573

561

انتهت الحرب

 - من المقرّر أن يأتي السيّد نجفي بخبر لوالد زوجك!

- لنذهب إلى هناك يا أخي!

طالت المسافة القصيرة بين منزلينا مقدار عُمر. وهناك لم يتحدّث أحد بشيء. قلت: "لنذهب إلى فسا ونستطلع الأخبار!".

لم تقلّنا أي سيّارة في القرية! أينما وصلتُ استخبرتُ عن مرتضى. وصل ابن خالي.
- إلى أين يا أختاه!
- أريد الذهاب إلى فسا لأسأل عناصر الحرس عن مرتضى!
- ليس هناك من خبر! ارجعي إلى بيتك وسآتيك بالأخبار بنفسي!
- لا أريد يا بن خالي! تنحَّ جانبًا..

في النهاية ركبتُ الحافلة الصغيرة التي بدت لي أنّها تسير أبطأ من إنسان يمشي على قدميه. بدا لي أنّ كلّ شيء بات بطيئًا، وأن جميع الأشياء والأشخاص حولي يقومون باستفزازي!

كادت روحي أن تزهق حتّى وصلنا إلى بيت خالي. كان البيت مكتظًّا على غير العادة. وكان من بين الحاضرين والدة الشهيد "ناظم بور". سلّمتُ وسألت عن أحوالهم ثم جلست.

شرعت والدة الشهيد بالحديث:
- إنّ الشهادة آخر درجات المعرفة.. وإذا أحبّ الله عبده رزقه الشهادة. فهذا ابني..

أخذتُ أتمتم مردّدة بعض الأذكار، وعقدتُ نذرًا لسلامة مرتضى. فجأة أقامني من مكاني صوت جرس هاتف البيت.
- مرتضى..
 
 
 
 
 
574

562

انتهت الحرب

 أردتُ أن أرفع السمّاعة لكنّ أحدهم رفعها. تكرّر ذلك مرارًا. وددتُ لو أستطيع أن أبكي عاليًا. وفي المرّة الأخيرة رفعت زوجة خالي سمّاعة الهاتف بنفسها. أنصتُّ بدقّة.

- أجل، إنّ أمّ زينب هنا! السيدة آمنة!

قلت: "مرتضى؟".!

ركضت نحو الهاتف، بل طرتُ! فيما انمحت الغموم والغصص والاضطراب من قلبي. ما إن دنوتُ من الهاتف حتى أقفلت زوجة خالي السمّاعة بشكل غير متوقّع.
- لا أحد، إنّها إحدى القريبات، تسلّم عليك..

عاد الاضطراب والتوتّر والحزن. لم أدرِ ماذا عليّ أن أفعل. كدت أصاب بالجنون. نظرتُ من خلال نافذة الباحة. السماء ملبّدة بالغيوم. كانت تلك إحدى السنوات النادرة التي يهطل فيها المطر غزيرًا بهذا الشكل. أخذتُ أتحدّث مع نفسي: سأذهب إلى فسا إلى بيت خالي، إنني على يقين بأنّ مرتضى سيتّصل! هنا سيقتلني الانتظار! بيت خالي جيّد..
- آمنة.. يا ابنتي، هل أنتِ بخير..

أيقظتني زوجة خالي من عالم الخيال. تداعت إلى ذهني ذكريات الماضي الجميلة.. لم أكد أجفّف ثيابي داخل بيت خالي حتى رنّ جرس الهاتف. رفعت زوجة خالي السمّاعة.
- آمنة، إنّه مرتضى؟!

أمسكتُ السمّاعة فقالت زوجة خالي بصوت خافت: "كيف عرف أنّها هنا؟! إنّكما ليلى والمجنون!".

ضحكتُ.
 
 
 
 
575

563

انتهت الحرب

 - يا زوجة خالي، القلوب عند بعضها!


ابتعدت زوجة خالي فبادرت بالقول: "مرتضى، لقد طال غيابك هذه المرّة، ألن تأتي لقد اشتقنا لك!".
- اشتقتُم! 
- حسنًا، إنّ زينب تفقدك أيضًا!
- زينب فحسب!
- لا تمزح يا مرتضى، بالله عليك متى ستأتي؟ أريد أن أراك!
- ألا تشاهدين التلفاز؟
- ما علاقة هذا يا بن خالتي؟
- لقد بثّوا مشاهد لي قبل عدّة ليال!
- متى تأتي لأراك عن كثب؟
- قريبًا جدًّا!

أتمّ حديثه فسكتُّ. فبادر بالقول: "هل غضبتِ منّي يا بنت خالتي! لم لا تتكلّمين؟".

كنت أفكّر في كيفيّة مجيئه.
- مرتضى، عندما تأتي هذه المرّة سنكون نحن الثلاثة بانتظارك! هل ثمّة خبر عن قدمعلي؟
- إنّه مفقود!
- افعل شيئًا لأجل خالتي وأبيك المسكينَين!

قطع كلامي: "ماذا أفعل، لقد ذهب إلى الجهة الأخرى من النهر ولم يعد! تلك الجهة بيد العدوّ! الأمر ليس كما في المرّات السابقة لأحمل جسده الجريح أو جثّته على ظهري وأعود. وبالمناسبة فإنّ
 
 
 
576

564

انتهت الحرب

 أمثاله كثيرون!".

- افعل ما تراه مناسبًا!
- آمنة، انتبهي لنفسك! هل يمكنك أن تعطي السمّاعة لزينب؟

أدنيت سمّاعة الهاتف من وجه زينب. نادى مرتضى: "زينب، يا ابنتي.. أجيبيني.."، لكنّ زينب لم تجبه.
- زينب، زينب، بابا.. زينب، زينب، بابا أرسِل!

عبثًا حاول، أمّا زينب فأخذت تحملق في السمّاعة باستغراب. أخذتُ السمّاعة.
- ماذا دهاك؟ إنّها لا تستطيع أن تتحدّث!
- با ابنة خالتي، اشتقتُ لسماع صوتها. لم أرها منذ وقت طويل.
- أجل!
- اعتني بتربية زينب وطفلنا القادم جيّدًا! تحلّي بالصبر لأجل الله!

ثمّ ودّعني.
 
 
 
 
 
 
577

565

العمّ الخالد

 العمّ الخالد - 28/ك2/1987


عصرًا هدأ نهر جاسم قليلًا وتراجع العدوّ إلى مواقعه. ناداني مرتضى: "ذبيح الله!".

انتفضتُ من مكاني ووصلت إليه، حيث وقف قرب "طمراس تشكيني" في دشمة القلعة، وهو يقرأ أبياتًا من الشعر:
السماء رفعت يديها قانتة نحو قامات النجوم
أنفاسها تتساقط صوب كعبة ربّنا 
إن اخضرّت الأرض، وإن دار الفَلَك
إن أوكل الله أمر النسيم إلى المَلَك 

فذلك كلّه ليس إلّا في محبّة عليّ والزهراء عليها السلام!

تبسّم وقال: "هنا بداية العشق!".

ثمّ أردف قائلًا: "ما زلتُ حتى الآن لا أعرف شهرتك، هل هي: فريد بخت أم خوش بخت1؟". 
- ما الفرق يا عمّ، أسأل الله الحظّ السعيد!
- فريد بخت، اذهب وأحضر طعام الفطور للعناصر!

أمدّني مزاح مرتضى بالطاقة. كانت الرؤية معدومة جرّاء الدخان والنار الشديدَين. خرجت بحذر من الدشمة قاصدًا الدشمة التي كانت على شكل حرف "ن"، وأخذتُ من "مش موسى" بعض المعلّبات والكعك والعسل، ثمّ رجعتُ إلى مرتضى.
 

1- بخت : حظ، فريد بخت: حظ فريد، خوش بخت: حظ سعيد. 
 
 
 
578

566

العمّ الخالد

 - تفضّل!

- لماذا لم تُعطِ الشبّان أوّلًا؟
- أنت أقرب منهم!

أخذ مُكرَهًا بضع كعكات وعلب صغيرة من العسل ثم قال: "أوصل الفطور إلى العناصر بسرعة، فهم لم يأكلوا شيئًا منذ ليلة أمس!".

هممتُ بالانطلاق فأوقفني.
- قل للعناصر أن لا يتلكّأوا، فليهيّئوا الذخائر قبل أن يعاود العدوّ الهجوم. ليستغلّوا الفرصة ويعدّوا لأنفسهم ملاذًا آمنًا!".

قلت له: "على عيني".

توجّهت نحو العناصر فردًا فردًا فصرتُ أناولهم الفطور وأبلّغهم رسالة العمّ. عندما عُدتُ إلى مرتضى التفتُّ إلى أنّه لم يجد فرصة لتناول الكعك والعسل. وافيته بأخبار العناصر، فما كان منه إلّا أن تبسّم ثمّ فتح علبة العسل وقدّمها لي مع الكعكة قائلًا: "عافاك الله، تناول هذه أولًا!".
- يا عمّ أنت جائع ومضنى، تناوله أنت!

ففتح الثانية.
- سنأكل معًا يا سيّد ذبيح الله!

كانت فرصة لكي نجلس تحت وطأة نيران قذائف الهاون ونُدخل إصبعنا داخل علبة العسل ثمّ نأكله بنَهم واشتياق. وبعد تناول الفطور الحربي المتواضع نظر العمّ من خلال المنظار إلى 
نهر جاسم حيث استقرّ العدوّ. بعدها أجرى اتّصالًا ثمّ أطلع المقرّ من خلال الرموز(الشيفرة): "العدوّ يستعدّ لشنّ هجوم مضاد!".

بعد ذلك التفت إليّ.
- انطلق إلى جميع العناصر وقل لهم أن يستعدّوا. أبلِغني بحصيلة
 
 
 
 
 
579

567

العمّ الخالد

 الشهداء والجرحى أيضًا.


نهضتُ وانطلقتُ. لم أكد أبتعد عنه بضعة أقدام حتى رماني انفجارٌ مروّع بقوة إلى الأرض. لم أصب بمكروه. قلت في نفسي: مرتضى!!

تمدّدتُ وأدرتُ رأسي إلى الوراء ونظرتُ مذعورًا. لم أرَ من تلك الدشمة سوى الدخان والتراب! صحتُ لا إراديًّا: "يا إلهي، العمّ مرتضى!".

نهضتُ من مكاني غير آبه بالقذائف. سرتُ مترنّحًا وأنا أشعر بدوارٍ حتى دخلتُ في الدخان والتراب والبارود ألذي أحرق مجرى تنفّسي. وصلتُ إلى القلعة حيث متراس مرتضى. غطّى المكان بأسره ستار من التراب والغبار. وبعد أن سكن الغبار والتراب رأيت "تشكيني" وأحد رماة الـ(B7) غارقَين في دمائهما وقد استشهدا. بحثتُ عن مرتضى لكن كأنّه استحال دخانًا وصعد إلى السماء! أخذتُ أحدّث نفسي: ليتني بقيت وتحوّلت مثله إلى دخان! ما لبثت أن واسيت نفسي: لا بدّ أنّ العم قد خرج من الدشمة.. أجل إنّ العم خالد.. لا بدّ أنّه يعدّ العناصر لصدّ الهجوم المرتدّ..

ملأت رأسي شحنة من الأفكار السوداء: وامصيبتاه! لقد استشهد العم.. أين جثّته.. يا لتعاستنا.. لم يكن لي طاقة على النهوض ولا جرأة على البحث أكثر. أجهشت بالبكاء بلا اختيار. كانت حالي يُرثى لها، وكان عليّ أن أخبر أحدهم. خرجت من المتراس في القلعة حتى وصلتُ إلى "نظري". قلت متردّدًا: "لقد استشهد العم!".

حملق "نظري" في وجهي المصفرّ الذي علاه التراب والدموع فظنّ أنني تحت تأثير عصف انفجار.
- هل أصابك عصف الانفجار؟! إنّ "إشلو" لا يفنى.

لم يصدّق. قصدتُ "زماني" قائد قوّات "زرقان".
 
 
 
580

568

العمّ الخالد

 - أعتقد أنّ العمّ مرتضى قد استشهد!


نظر إليّ مستغربًا.
- هل رأيت ذلك بأم عينيك؟!
- لا، أجل..
- أين؟

أشرت بإصبعي نحو التحصين (القلعة).
- في القلعة، مع "تشكيني" وأحد العناصر.

لم يصدّق هو الآخر وأخذ يحدّق في رأسي الأشعث الأغبر.
- هلمّ لتدلّني على مكانه!

انطلقتُ برفقته. لم أتمالك نفسي وأخذت بالبكاء، ما أثار استغراب زماني. وقفت أسفل القلعة فيما صعد زماني إليها. قلت في نفسي: إنني مخطئ.. سينزل العمّ معه في الحال..
بعد عدّة دقائق نزل زماني والدموع قد ملأت وجهه. جلس القرفصاء قرب الساتر الترابي.
- هل رأيتَه؟

هزّ رأسه.
- إنّه في الأعلى!

لم تسعني الفرحة. صعدتُ نحو القلعة كالمجانين. دخلتُ الدشمة. كان الغبار والدخان قد سكنا. أمّا مرتضى فقد كان متّكئًا على أحد جدران الدشمة. "يا عمّ.. ". اختنق الصوت في حلقي. 

وقع نظري على رجله اليمنى التي بُترت وجسمه المليء بالشظايا. أمّا جفناه فكان قد أطبقهما وخلد إلى النوم!
 
 
 
 
 
581

569

أبو التراب

 أبو التراب - 29/ك2/1987


دخل خالي برفقة أخت مرتضى فنهضتُ وتقدّمتُ منهما.
- هل حصل شيء؟ بالله عليكما!

قال خالي: "لقد استشهد بديهي، عامل الاشارة لدى السيد مرتضى!".

أغمضتُ عينيّ، فقالت زوجة خالي: "آمنة، هل أنتِ بخير؟".

قال خالي: "لمَ أنتِ مرعوبة؟ قلت إنّ رضا قد استشهد!".
- هو فحسب!؟
- ها! أجل!!
- خذوني إلى بيت السيّد نجفي!
- إنّه ليس في البيت!

اتّصلتُ بمنزل محمد رضا بديهي.
- إيّاكِ أن تذكري شيئًا عن محمد رضا!

رفعت زوجة السيد بديهي السمّاعة.
- هل لديكِ خبر عن محمد رضا ومرتضى؟!
- لا، قبل يومين عاد السيّد يوسف بور من الجبهة وقال: إنّهما بخير!

وضعتُ السمّاعة والقلق يساورني. قلتُ لخالي: "خذوني إلى بيت يوسف بور".
- تعلمين أنّ بيته بعيد جدًّا! لن نجد سيّارة لتقلّنا!

صرفوني عن رأيي بأيّ وسيلة ممكنة.
 
 
 
 
 
582

570

أبو التراب

 - سأبقى في بيت خالي بشرط واحد: وهو أن تأتوا بأسماء الشهداء من مركز الحرس!


وافق ابن خالي وخرج من البيت، سرعان ما عاد بصحبة أخي.
- ذهبتُ، لكنّهم لم يعطونا أسماء الشهداء.

ناديتُ أخي: "اذهب أنت، أسألك بالله..".
- سمعًا وطاعة!

ذهب هو الآخر، لكنّه لم يعد!

مساءً لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء، فجعلتُ أبكي دونما سبب. تناهى إلى سمعي صوت سيّارة من الزقاق. جاءت ابنة خالتي وقالت: "أبي، حضرت سيّارة الحرس، إنّهم يريدون التحدّث إليك".

عضّ خالي على شفتيه في وجه ابنته مشيرًا إليَّ بطرف عينيه، ثمّ خرج بعجالة إلى الزقاق. لكنّه ما لبث أن عاد وانتهر ابنته قائلًا: "ماذا دهاكِ يا فتاة، لم تكن تلك سيّارة الحرس!".

أخذت ابنة خالي تقسم أيمانًا مغلّظة أنّ السيّارة كانت تابعة للحرس الثوري وأنّ بداخلها عددًا من عناصر الحرس، لكنّها قُوبلت بإنكار شديد من قبل خالي وزوجته.

كنت أشعر بألم شديد في رأسي. تركتُ زينب وشأنها. كثر دخول الناس وخروجهم. قلت لابنة خالي: "إن كان محمد رضا بديهي قد استشهد فلمَ صار بيت خالي محطّ زيارة النّاس؟!".

لم تُجب. أحضروا طعام العشاء لكنّي لم آكل. اقترب خالي منّي.
- كلي يا ابنتي!
- خالي، أنا لست طفلة، هل حدث شيء؟!
 
 
 
 
 
 
 
583

571

أبو التراب

 أخذت ركبتا خالي ترتعشان وكذلك أصابعه. خنقتني الغصّة. وبعد التي واللتيّا قال لي: "يا ابنتي، قومي واذهبي إلى جليان!".

- أريد أن أبقى لأشارك غدًا في مراسم تشييع محمد رضا! لعلّي أجد أحدًا لديه خبر عن مرتضى! خالي، لمَ لا يتّصل مرتضى؟
- لا أعلم، لا بدّ أنّه لا يعلم بوجودك هنا!
- بلى، إنّه يعلم.
- اسمعي يا ابنتي، لقد اتّصل مرتضى بمركز حرس "فسا" وتحدّث إلى السيّد نجفي. سمعتُ أنّ السيّد نجفي قد ذهب إلى جليان لرؤيتك. اذهبي إلى جليان!".

وضّبتُ أمتعتي وانطلقتُ مع ابن خالي في سيّارة أجرة. عندما وصلتُ إلى جليان كانت زينب قد غفت على كتفي، أمّا ابن خالي فعاد أدراجه بالسيّارة نفسها. عند الساعة العاشرة دخلتُ 
باحة المنزل، فتقدّم أخي منّي، قلت له: "إلى أين ذهبتَ، ألم يكن من المقرّر أن تأتيني بخبر!".

أطرق برأسه إلى الأرض ساكتًا، فيما تناهت إلى سمعي من غرفة خالتي الكبيرة ذات الأبواب الخمسة أصواتُ البكاء.
 
 
 
 
584

572
تلّة جاويدي وسرّ اشلو