كُن صادقاً


الناشر: دار المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2018-07

النسخة: 2018


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين، وبعد...

الصدق من المفردات التربويّة التي لها صلة وثيقة بإيمان الإنسان وعلاقته بالله، وبسلوكه الاجتماعيّ في علاقته مع الناس والمجتمع. وقد اعتبره القرآن الكريم من صفات الأتقياء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾1, واعتبرته الروايات الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام رأس الإيمان ودعامته، ولباس الدين، وروح الكلام، وفيه صلاح كلّ شيء.
 

1- سورة التوبة، الآية119.
 
 
 
 
7

1

المقدمة

 والصدق ضدّ الكذب، وغالباً ما يكون في القول، ولا بدّ لتحقّقه في القول وغيره من مطابقة ظاهر الإنسان، من قول وفعل، لباطنه. ولا بدّ أولاً من بيان قبح الكذب ومفاسده وأضراره، باعتبار أنّ تشريع التربية على الصدق والإلزام بها وحثّ القرآن الكريم والسنّة الشريفة، يأتي في سياق تربية الأفراد والمجتمعات على عدم الكذب.


هذا الكتاب، "كن صادقاً"، من سلسلة زاد الواعظين، عبارة عن مجموعة دروس في تبيان مفهومَي الصدق والكذب، وأثرهما في سلوك الفرد والمجتمع، ودورهما في تعزيز بنية المجتمع أو هدم أركانه.

والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
 
 
 
 
8

2

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 الدرس الأوّل

 

فضيلة الصِّدق


محاور الموعظة:
• فضيلة الصدق في الروايات.
• فضيلة الصدق في القرآن.

تصدير الموعظة:
عَنْ أَبِي كَهْمَسٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام: عَبْدُ اللَّه بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، قَالَ: عَلَيْكَ وعَلَيْه السَّلَامُ، إِذَا أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّه فَأَقْرِئْه السَّلَامَ، وقُلْ لَه: إِنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ لَكَ: انْظُرْ مَا بَلَغَ بِه عَلِيٌّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فَالْزَمْه، فَإِنَّ عَلِيّاً إِنَّمَا بَلَغَ مَا بَلَغَ بِه عِنْدَ رَسُولِ اللَّه بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ1.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص104، باب الصدق وأداء الأمانة، ح5.
 
 
 
9

3

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 أوّلاً: فضيلة الصدق في الروايات

إنّ الصدق من أجَلِّ الأخلاق وأعظمها، وهو منبع كثير من الفضائل الخُلقيّة، وقد أمر الله المؤمنين بالصدق في جميع أحوالهم، جاء فِي وَصيَّةِ النَّبِيِّ لِعَليٍّ أنْ قالَ: "يَا عَلِيُّ، أوصيكَ في نَفْسِكَ بِخِصالٍ فَاحْفَظْهَا عَنِّي، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، أَعِنْهُ! أمَّا الأَولى فَالصِّدْقُ، وَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنْ فيكَ كِذْبةٌ أبَداً..."1.

أوّلاً: يُستفاد من تقديم رسول الله لهذه الوصيّة على الوصايا الأخرى، أنّ هذه الوصيّة أهمّ من الوصايا الأخرى كافّة، وهي صفة أساسيّة بالنسبة للمؤمن.

ثانياً: قد وردت روايات كثيرة في أهمّيّة الصدق، نذكر منها:
عن أبي عبد الله، قال: "كـُونُوا دُعاةً لِلنّاسِ بِالخَيْرِ بِغَيْرِ ألْسِنَتِكُمْ، لِيَرَوْا مِنْكُمُ الاجْتِهَادَ وَالصِّدْقَ وَالوَرَعَ"2.
 
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 79، وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ح33.
2- م.ن، ج2، ص 105، باب الصدق وأداء الأمانة، ح10.
 
 
 
 
10

4

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 عن رسول الله، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ: "إِنَّ أَقْرَبَكُمْ مِنّي غداً وَأوْجَبَكُمْ علَّي شَفَاعَةً، أصْدَقُكُمْ لِسَاناً، وأدَّاكم لِلأمَانةِ، وَأحْسَنَكُمْ خُلُقاً، وَأقْرَبُكُمْ مِنَ النَّاسِ"1.


ثالثاً: إنّ الكذب من أخطر الصفات التي يجب على المؤمن أن يبتعد عنها، فإذا كان الصدق في قمّة الفضائل فإنّ الكذب في قمّة الرذائل.

عن الإمام الباقر: "إنَّ اللهَ عزّ وجلّ جَعَلَ لِلشَّرِّ أقفالاً، وَجَعَل مَفاتيحَ تِلْكَ الأقْفالِ الشَّرابَ، وَالكِذْبُ أشَرُّ مِنَ الشَّرَابِ"2.

وعنه أيضاً، قالَ: "الكِذْبُ هُوَ خَرَابُ الإيمان"3.

وعن الإمام الرضا، قال: "سُئِلَ رَسُولُ الله: يَكُونُ المؤمِنُ جَبَاناً؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: وَيَكُونُ بَخيلاً؟ قالَ: نَعَمْ، قِيلَ: ويَكُونُ كَذَّاباً؟ قال: لا"4.
 
 

1- الشيخ الصدوق، محمّد بن بابويه: الأمالي، ص 598، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة، مؤسّسة البعثة، قمّ، الناشر: مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، 1417ه، ط1.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص 339، باب الكذب،ح3.
3- م.ن، ح4.
4- العامليّ، الحرّ: وسائل الشيعة آل البيت-، ج12، ص246، تحقيق: مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، قمّ، مهر، 1404ه، ط2، باب تحريم الكذب،ح11.
 
 
 
 
11

5

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 ثانياً: فضيلة الصدق في القرآن الكريم

الصدق من أعظم الأخلاق التي طرحها القرآن على الإطلاق، فهذا الخُلق العظيم الذي قلّ أن يتّصف به إنسان إلّا وقد حسُنتْ أخلاقُه، فهو من الصفات التي تقوم عليها كثيرٌ من الأخلاق، كما أشرنا إليه.

وقد تحدَّث القرآنُ العظيم عن موضوع الصدق بأساليبَ عدّة، وعالجه من جوانبَ شتّى، وما ذلك إلّا لأهمّيّته.

وبتتبّع آيات القرآن الواردة في هذا الموضوع، نستخلص مجموعةً من المسائل، أذكر منها الآتي:
1- الصدق من صفات الله:
قال تعالى: ﴿قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾1, وقال: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾2, وقال:
 
 

1- سورة آل عمران، الآية 95.
2- سورة النساء، الآية 122.
 
 
 
12

6

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 ﴿اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا﴾1, وغير ذلك من الآيات.


2- الصدق من صفات الرسل:
من أعظم صفات الرسل الصدقُ، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾2, وقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾3, وقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾4, وقال: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ5.

3- الصدق من صفات عباد الله المؤمنين:
وصَف الله تعالى عباده المؤمنين بصفات عديدة، وخِصالٍ حميدة، مِن أعظمِها صفة الصدق، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
 

10- سورة النساء، الآية 87.
11- سورة مريم، الآية 41.
12- سورة مريم، الآية 54.
13- سورة مريم، الآيتان 56 – 57.
14- سورة يوسف، الآية 46.
 
 
 
 
13

7

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾1, وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾2.


4- الصدق جامع كلِّ صفات البِرّ:
قال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ
 

1- سورة الأحزاب، الآيتان 23 – 24.
2- سورة الحجرات، الآية 15.
 
 
 
 
14

8

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾1, وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ فقد أطلق الصدق ولم يُقيّده بشيءٍ من أعمال القلب والجوارح، فهم مؤمنون حقّاً، صادقون في إيمانهم. وهو وصف جامع لجمل فضائل العلم والعمل، فإنّ الصدق خُلق يصاحب جميع الأخلاق، من العفّة والشجاعة والحكمة والعدالة وفروعها. فإنّ الإنسان ليس له إلّا الاعتقاد والقول والعمل، وإذا صدق تطابقت الثلاثة، فلا يفعل إلّا ما يقول ولا يقول إلّا ما يعتقد. والإنسان مفطور على قَبول الحقّ والخضوع له باطناً، وإن أظهر خلافه ظاهراً، فإذا أذعن بالحقّ وصدق فيه، قال ما يعتقده، وفعل ما يقوله، وعند ذلك تمّ له الإيمان الخالص والخلق الفاضل والعمل الصالح2.

 


1- سورة البقرة، الآية 177.

 

2- الطباطبائيّ، محمّد حسين: تفسير الميزان، ج1، ص 430، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة.

 

 

15


9

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 5- تقسيمُ القرآن الناسَ إلى صادق ومنافق:

قال تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾1, فدلّتِ الآيةُ على أنَّ الناس صنفان: صادقون ومنافقون. والإيمان أساسه الصدقُ، والنفاق أساسه الكذبُ، فلا يجتمع كذبٌ وإيمان إلّا وأحدُهما محارِبٌ للآخر.

والمراد بالصادقين في القرآن: هم الذين أثبتوا صدقهم وإخلاصهم في ميادين حماية دين الله، والجهاد، والثبات والصمود أمام المشاكل، وبذل الأرواح والأموال، كما تقدّم في سورة الحجرات.

6- عِظَم جزاء أهل الصدق:
لقد وعَد الله الصادقين بأعظم الجزاء، وأفضل الثواب، وما ذلك إلّا لعِظَم هذه الخَصلة التي تحلَّوْا بها، والصفة التي اتّصَفوا بها، بل إنّ اللهَ جعَل مرتبة الصِّديقين بعد
 
 

1- سورة الأحزاب، الآية 24.
 
 
 
16

10

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 مرتبة النبيّين، وجعَلهم من المنعَم عليهم، الذين وعَد اللهُ أهلَ طاعتِه وطاعةِ رسوله، أي أهل الولاية، برفقتِهم في الجنّة، قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾1.


تقسّم الآية الذين أنعم الله عليهم إلى أربعة مجاميع: الأنبياء، والصِّدّيقين، والشهداء، والصالحين.

لعلّ ذكر هذه المجاميع الأربعة، إشارة إلى المراحل الأربع لبناء المجتمع الإنسانيّ السالم، المتطوّر، المؤمن.

المرحلة الأولى: مرحلة نهوض الأنبياء بدعوتهم الإلهيّة.

المرحلة الثانية: مرحلة نشاط الصِّدّيقين، الذين تنسجم أقوالهم مع أفعالهم، لنشر الدعوة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الجهاد والشهادة بوجه العناصر المضادّة الخبيثة في المجتمع.
 
 

1- سورة النساء، الآية 69.
 
 
 
17

11

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 المرحلة الرابعة: هي مرحلة ظهور "الصالحين" في مجتمع طاهر ينعم بالقيم والمُثل الإنسانيّة، باعتباره نتيجة للمساعي والجهود المبذولة.


والمؤمنون يوميّاً، في سورة الحمد، يطلبون من الله، صباحاً ومساءً، أنّ يجعلهم في خطّ هذه المجاميع الأربعة: خطّ الأنبياء، وخطّ الصدّيقين، وخطّ الشهداء، وخطّ الصالحين. ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض، في كلّ مرحلة زمنيّة، بمسؤوليّتنا، ونؤدّي رسالتنا1.

وتبيّن الآية الكريمة من سورة النساء الذين أنعم الله عليهم، إذْ يقول تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾2.
 

1- الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص 59.
2- سورة النساء، الآية 69.
 
 
 
18

12

الدرس الأوّل: فضيلة الصِّدق

 والآية - كما هو واضح - تُقسِّم الذين أنعم الله عليهم إلى أربعة مجاميع: الأنبياء، والصِّدّيقين، والشهداء، والصالحين.


كما ذكرنا...، ومن الواضح أنّ علينا أن ننهض في كلّ مرحلة زمنيّة بمسؤوليّتنا1.
 

1- الشيرازي، ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج1، ص 59.
 
 
 
 
19

13

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 الدرس الثاني

 

مفهوم الصدق وعلامات الصادقين


محاور الموعظة:
• مفهوم الصدق.
• حسن الصدق.
• علامات الصادقين.

تصدير الموعظة:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ1.
 

1- سورة هود، الآية 18.
 
 
 
21

 


14

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام، قَالَ: "لَا تَغْتَرُّوا بِصَلَاتِهِمْ ولَا بِصِيَامِهِمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ رُبَّمَا لَهِجَ بِالصَّلَاةِ والصَّوْمِ حَتَّى لَوْ تَرَكَه اسْتَوْحَشَ، ولَكِنِ اخْتَبِرُوهُمْ عِنْدَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وأَدَاءِ الأَمَانَةِ"1.


1- مفهوم الصدق
الصدق أشرف الفضائل النفسيّة، والمزايا الخُلقيّة، وذلك لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامّة في حياة الفرد والمجتمع. وإنّ التحلّي به في القول، وفي العمل، هو أهمّ صفة لبناء المجتمع الإنسانيّ، لأنّ الصدق من أهمّ الدعائم التى تستقيم بها حياة الفرد، وتصلح بها العلاقات الاجتماعيّة، وتقوى بها الروابط بين الناس فى المجتمع.

ما هو المراد بالصدق؟
ورَد الصِّدق في القرآن الكريم، بمشتقَّاته في (127) موضعًا، والصدق هو التماميّة، والصّحّة من الخلاف، والكون على حقّ2.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص، 104، باب الصدق وأداء الأمانة، ح2.
2- المصطفوي، حسن: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج6، ص 217، مؤسّسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، 1417ه، ط1.
 
 
 
22

15

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 وهو قول الحقّ الذي يواطئ فيه اللسانُ القلبَ، والقلبُ اللسانَ. وقيل: القول المطابق للواقع والحقيقة.


ويقابله الكذب، فهو ما يخالف الواقعيّة والحقّ. كما أنّ الصدق هو ما يكون على حقّ وعلى واقعيّة، وهذا إمّا في قول، وإمّا في عمل، وإمّا في أمر خارجيّ أو معنويّ، والجامع عدم كون الأمر على واقعيّة وحقّ.

والأمر الأساس في تعريف الصدق هو الحقّ، فالصِّدق هو ملازمة الحقّ في النيّة والقول والعمل، فقد يكون الإنسان صادقاً في شيء، ولكنّه عاصٍ ومذنب ومخالف للحقّ فيه، كما في الغيبة والنميمة، فذكر العيب المستور بلا زيادة هو موافق للواقع، ولكنّه معصية ومخالف للحقّ. ولذا، الصدق المطلوب هو ملازمة الحقّ في النيّة والقول والعمل، لا مطابقة الواقع وحَسبْ.

2- حُسن الصدق
حُسن الصدق عقلاً من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى شرح أمّا نقلاً فقد وردت روايات متعدّدة، منها:
 
 
 
 
23

16

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله، ما عمل أهل الجنّة؟ قال: "الصدق، إذا صدق العبد بَرَّ، وإذا برَّ آمن، وإذا آمن دخل الجنّة"1.


عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، قال: "تحرَّوا الصدق، فإن رأيتم فيه الهلكة، فإنّ فيه النجاة"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "عليكم بالصدق، فإنّه من البرّ، وإنّه في الجنّة"2.

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنَّ الكذب ريبة، وإنَّ الصدق طُمأنينة"، أي ما يُشكِّك، ويُوجِدُ فيك الريبة، وهي في الأصل قلق النفس واضطرابها، ألا ترى كيف قابلها بالطُمأنينة، وهي السكون، وذلك أنّ النفس لا تستقرّ متى شكّت في أمر، وإذا أيقنته سكنت واطمأنّت3.
 
 

1- الطبرسيّ، ميرزا حسين النوري: مستدرك الوسائل، ج8، ص 457، تحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، بيروت، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408- 1988م،ط2، باب وجوب الصدق،ح (9997) 16.
2- م.ن-، ح (9998) 17.
3- المجلسيّ، محمد باقر: بحار الأنور، ج71، ص 214، تحقيق: السيّد إبراهيم الميانجي، محمّد الباقر البهبوديّ، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، ط3، 1403ه، 1983م.
 
 
 
24

17

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 3- علامات الصادقين

قال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾1.

ذكر اللَّه سبحانه في هذه الآية أموراً، اعتبرها أركاناً للبرّ والتقوى والصدق في الإيمان، ومن هذه الأمور ما يتعلّق بالعقيدة، ومنها ما يتعلّق ببذل المال، ومنها بالعبادة، ومنها بالأخلاق.

وفيما يأتي العلامات الستّ الأساسيّة التي ذكرتها الآية الكريمة، وهي:
الأولى: الإيمان باللَّه والنبوّة واليوم الآخر.
 

1- سورة البقرة، الآية 177.
 
 
 
25

18

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 الثانية: الإنفاق بعد الإيمان، وهو قوله: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾.


الثالثة: قوله: ﴿وَأَقَامَ الصَّلاةَ﴾ وبعد الإنفاق ذكر الركن العباديّ الأوّل للبرّ، وهو إقامة الصلاة.

الرابعة: وبعد إقام الصلاة، ذكر الركن العباديّ الثاني، وهو أداء الزكاة والحقوق الماليّة الواجبة: ﴿وَآتَى الزَّكَاةَ﴾.

الخامسة: وأشار إلى الركن الأخلاقيّ، وهو الوفاء بالعهد: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ﴾، فالثقة المتبادلة رأس مال الحياة الاجتماعيّة، وترك الوفاء بالعهد من الذنوب التي تزلزل الثقة، وتُوهن عرى العلاقات الاجتماعيّة. من هنا، وجب على المسلم أن يلتزم بثلاثة أمور تجاه المسلم والكافر، وإزاء البرّ والفاجر، وهي: الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، واحترام الوالدين.

السادسة: الصبر في الشدائد: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ﴾، وهو من الأخلاق الحميدة التي هي
 
 
 
 
 
26

19

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 من أركان البرّ. والمراد بالبأساء الفقر، والضرّاء المرض، وما إليه، وحين البأس شدّة الحرب، وإنّما خصّ اللَّه هذه الثلاث بالذكر، مع أنّ الصبر محمود في جميع الأحوال، لأنّ هذه الثلاث أشدّ البلاءات جميعاً، فمن صبر فيها كان في غيرها أصبر1.


ثمّ تؤكّد الآية أهمّيّة الأسس الستّة وعظمة من يتحلّى بها، فتقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.

السابعة: كتمان المصائب.
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: إنّي إذا أحببت عبداً ابتليته ببلايا لا تقوم لها الجبال، لأنظر كيف صدقه، فإنْ وجدته صابراً اتّخذته وليّاً وحبيباً، وإن وجدته جزوعاً يشكوني إلى خلقي خذلته ولا أبالي2.
 

1- ينظر: مغنية، محمد جواد: التفسير الكاشف، ج1، ص 270 - 273، بيروت، دار العلم للملايين، 1981م، ط3.
2- الكاشانيّ، الملا محسن: المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، ج8، ص 148، تحقيق: علي أكبر الغفاريّ، مطبعة الحيدريّ، قمّ، الناشر: مكتب الانتشارات الإسلاميّة جماعة المدرّسين في قمّ، ط2.
 
 
 
27

20

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 الثامنة: الموافقة بين الظاهر والباطن.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "الصدق سيف الله في أرضه وسمائه، أينما هوى به يقدّه، فإذا أردت أن تعلم: أصادق أنت أم كاذب؟ فانظر في صدق معناك، وعقد-غور- دعواك، وعيّرهُما بقسطاس من الله، كأنّك القيامة، قال الله تعالى: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾1, فإذا اعتدل معناك بدعواك ثبت لك الصدق، وأدنى حدّ الصدق أنْ لا يخالف اللسان القلب ولا القلب اللسان"2.

التاسعة: البذل والتضيحة.
من علامات الإيمان الصادق أنّه يدفع المؤمن إلى البذل والتضحية، أمّا من يدّعِ الإيمان يبخلْ عن البذل في سبيل الله، ويجبنْ عن الجهاد لإعلاء كلمة الله. فلمّا كانت قلوب
 

1- سورة الأعراف، الآية 8.
2- مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، المنسوب للإمام الصادقعليه السلام، ص 35، بيروت، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات 1400 - 1980 م، في الصدق.
 
 
 
28

21

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 المنافقين خالية من الإيمان، قال عنهم الله: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾1.


وفي قصّة تُروى، تدلُّ على البذل والعطاء الحقيقيّ، أنّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النبيّ، فآمن به واتّبعه، ثمّ قال: أُهاجر معك فأوصى به النبيّ بعض أصحابه، فلمّا كانت غزوة، غنِمَ النبيّ سبياً، فقسّم، وقسَم له، فأعطى أصحابه ما قسمَ له، وكان يرعى ظهرهم، فلمّا جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسْمٌ قسمه لك النبيّ، فأخذه، فجاء به إلى النبيّ، فقال: ما هذا؟ قال: قسمتُه لك، قال: ما على هذا اتّبعتك، ولكنّي اتّبعتك على أن أُرمى إلى ههنا (وأشار إلى حلقه) بسهم فأموت، فأدخل الجنّة فقال: إنْ تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثمّ نهضوا في قتال العدوّ، فأُتيَ به
 

1- سورة التوبة، الآية 81.
 
 
 
29

22

الدرس الثاني: مفهوم الصدق وعلامات الصادقين

 النبيّ يُحمَلُ، قد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبيّ: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثمّ كفّنه النبيّ في جبّته صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ قدّمه فصلّى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهمّ، هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك1.

 


1- النسائي: سنن النسائي، ج4، ص 61، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1348 - 1930 م، ط1.

 

 

 

 

30


23

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 الدرس الثالث

 

لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق


محاور الموعظة: 
• لسان صدق.
• قدم صدق.
• مقعد صدق.

تصدير الموعظة:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ1، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ! فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"2.
 

1- أي يبالغ فيه ويجتهد.
2- البخاريّ: صحيح البخاريّ، ج7، ص 95، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401 - 1981 م.
 
 
 
31

24

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 منظومة الصدق المتكاملة

1- مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ:
لقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مُدخله ومُخرجه على الصدق، فقال: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾1, فمُدخل الصدق ومُخرج الصدق، أن يكون دخوله وخروجه حقّاً ثابتاً بالله.

وهكذا يدعو المؤمنون ربّهم، أن يُدخلهم مُدخل صدق، ويخرجهم مُخرج صدق، لأنّ ذلك وسيلة إلى نعمة كبيرة، هي أن يجعل الله لهم من لدنه سلطاناً نصيراً. الإنسان يريد أن يبلغ النتائج من دون جهد كافٍ في المقدّمات، يريد علماً بلا تعلّم، ومالاً بلا جهد، ومنعة بلا تضحية، وهذا قد يحصل، ولكنّه غير نافع كثيراً، وغير حاصل دائماً، إنّما الرشد في أن تحصل على نعمة العلم والمال والعزّة،
 

1- سورة الإسراء، الآية 80.
 
 
 
32

25

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 وأنت تستحقّها بجدارة، لأنّك بذلت جهداً كافياً لها، وقد وصلت إلى غايتك بعد أن توفّرت فيك المؤهِّلات الكافية.


وهذا صحيح بالنسبة إلى النعم كلّها، ولعلّه أصدق ما يكون بالنسبة الى نعمة الرئاسة، إذ إنّ أكثر الناس يتمنّونها من دون أن يوفّروا في أنفسهم مؤهِّلاتها. ويبدو أنّ خاتمة الآية تشير الى أنّ السلطان والنصرة يستحقّها من يوفّقه الله سبحانه، ليدخل مُدخل صدق ويخرج مُخرج صدق.

2- لسان الصدق:
قال سبحانه: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ1. وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾2.

أولاً: المراد بلسان الصدق، ما يردّده الناس جيلاً بعد جيل، من حسن الثناء على الأنبياء، وإذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل، الذي لا كذب فيه، والعليُّ هو الرفيع،
 

1- سورة الشعراء، الآية 84.
2- سورة مريم، الآية 50.
 
 
 
33

26

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 والمعنى: وجعلنا لهم ثناءً جميلاً صادقاً رفيع القدر1.


ثانياً: إنّ هذا في الحقيقة إجابة لطلب إبراهيم ودعائه الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء، فإنّ أولئك كانوا يريدون طرد إبراهيم وأسرته وإبعادهم من المجتمع الإنسانيّ، بحيث لا يبقى لهم أيّ أثر أو خبر، ويُنسَون إلى الأبد، إلّا أنّ الذي حدث هو عكس ذلك، فإنّ الله سبحانه قد رفع ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة، التي كانت مُلقاة على عاتقهم، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم، ويُعرَفون كأسوة ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى ومقارعة الباطل2.

واللسان الصادق قد يكون لك، وقد يكون عليك، فاذا كنت صالحاً، فإنّ ذلك اللسان يمدحك بصدق، وإلاّ فإنّه لا يمدحك، بل قد يذمّك -لا سمح الله-. ولعلّ هذا هو
 
 

1- تفسير الميزان، محمّد حسين الطباطبائيّ، مصدر سابق، ج 14، ص 62.
2- ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 9، ص 464.
 
 
 
34

27

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 السبب الذي يدعو المؤمنين إلى طلب لسان الصدق، أي أنْ يعملوا عملاً صالحاً، ثمّ يراه الصادقون من عباد الله، ويُثنون عليهم بما عملوه من صالح الأعمال.


ونستفيد من الآية: إنّ من التطلّعات المشروعة للبشر، أن يثني عليهم الذين يأتون من بعدهم، ولكن ينبغي أن يكون الثناء عليهم بما فعلوه من صالح الأفعال، أمّا إذا أحبّ الإنسان أن يُمدَح بما لم يفعل، فإنّه رذيلة، قال الله سبحانه: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾1.

3- قدم صدق:
بشّر الله عباده بأنّ لهم عنده قدمَ صدق، فقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾2.
 

1- سورة آل عمران، الآية 188.
2- سورة يونس، الآية 2.
 
 
 
35

28

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ "قَالَ وَلَايَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ"1.


أيْ بشِّرِ الذين آمنوا بولاية عليٍّ، بأنّ لهم قدماً صادقةً في مَقام المجاهدة مع النفس والأعداء عند ربّهم، ويمكن أن تجعل كناية عن أنّ لهم مرتبة سابقة، هي مرتبة الإقرار بالولاية في عالم الميثاق2. ولعلّ المراد ولايتهم، أو شفاعتهم، أو المراد بالقدم المُتقدّم في العزِّ والشرف، أو لهم منزلة رفيعة بما قدّموا من أعمالهم، هذه الأمور كلّها وردت في الروايات3.

يبدو أنّ القدم قد تزلّ عند الابتلاء، وقد تثبت، فإذا ثبتت فإنّها قدم صدق.

أمّا لماذا أضيفت كلمة الصدق إلى القدم؟ فلأنّ أقدام
 
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 422، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية،ح50.
2- المازندراني، محمد صالح: شرح أصول الكافي، ج7، ص 83، ضبط وتصحيح: السيّد علي عاشور، مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعراني، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، 2000م، ط1،باب معرفة الإمام والردّ إليه،ح50.
3- ينظر: العلامة محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 24، ص 40 - 41، ح1و2و3.
 
 
 
36

29

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 المؤمنين لا تزلّ في الدنيا عن قواعد الدين، ولا تزلّ في الآخرة عن الصــراط، والله يثبّت الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، حيث قال سبحانــه: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء1.


والمؤمنون يسألون ربّهم أن يثبّت أقدامهم، ويقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾2.

فالقدم الثابتة قدم صدق، لأنّ الصدق هو المطابق للواقع. وإذا وضعت رجلك في موقع مناسب، بحيث استقرّت فيه أو تطابقت مع الأرض، فقد تثبت ولا تزول.

ومن هنا، لا بدّ من أن يكون عندنا ثبات في الولاية، وفي كتاب أخطب خوارزم، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الصراط صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأمّا صراط
 

 
 
 
 
 
37

 


30

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 الدنيا، فهو عليّ بن أبي طالب، وأمّا صراط الآخرة، فهو جسر جهنّم، من عرف صراط الدنيا جاز صراط الآخرة"1.


وقد وصف أمير المؤمنين النبيّ في دعاء الصباح: "وَالثَّابِتِ القَدَمِ عَلى زَحالِيفِها فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ"، والزُحلفة (بضمّ الزاء)، هي آثار تزلّج الصبيان من فوق التلّ إلى أسفله، وهي مكان منحدر يملس، لأنّهم يزحلفون فيه، والزحلفة كالدحرجة والدفع، يُقال: زحلفته فتزحلف" في الزمن، أي الزمان "الأوّل"، المراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي ثبّت قدمه على المواضع التي هي مظانّ مزلّة القدم، قبل النبوّة أو في أوائل زمان النبوّة2.

4- مقعد صدق:
قال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾3, قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾، أي مجلس
 

1- الشيرازيّ، محمّد طاهر القمّيّ: كتاب الأربعين، 78، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، المطبعة: أمير،1418ه، ط1.
2- العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ص253، ج91.
3- سورة القمر، الآيتان: 54-55.
 
 
 
38

31

الدرس الثالث: لسان صدق وقدم صدق ومقعد صدق

 حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وقيل: وصفه بالصدق لكونه رفيعاً مرضيَّاً، وقيل: لدوام النعيم به، وقيل: لأنّ الله صدق وعد أوليائه فيه ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾، أي عند الله سبحانه، فهو المالك القادر الذي لا يعجزه شيءٌ، والعنديّة عنديّة مكانة، لا عنديّة مكان، لاستحالتها عليه تعالى. وحينئذٍ، فالمعنى أنّهم يكونون في مقعد صدق، بحيث يكونون مقرّبين منه تعالى قرباً معنويّاً1.


والمقعد الصدق هو الذي يستقرّ بصاحبه ويطابقه ويناسبه، فلا يزعج عنه. وإذا دخل الإنسان مدخلاً يناسبه، دخله بثبات قدم، وبجهد كافٍ، وبحكمة بالغة، فإنّه قد دخل مدخل صدق، أمّا إذا دخل في موقع لا يناسبه، أو لم يبذل الجهد الكافي للعمل الذي دخل فيه، أو خرج منه قبل أن يستكمل العمل، فإنّه قد دخل مدخلاً غير صدق، وخرج مخرجاً غير صدق.
 

1- ينظر: العلامة محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص 103.
 
 
 
39

32

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 الدرس الرابع

 

ثمرات الصدق


محاور الموعظة:
• ثمرات الصدق.
• البعد الدينيّ.
• البعد الدنيويّ.
• البعد الأخرويّ.

تصدير الموعظة:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "ألاَ فاصْدُقوا، فإنّ الله مع مَن صَدَق"1.
 

1- الشيخ الطوسيّ: الأمالي، ص217، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة، مؤسّسة البعثة، 1414ه، قمّ، دار الثقافة، ط1،ح 380/30.
 
 
 
40

33

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 ثمرات الصدق

يمكن تقسيم ثمرات الصدق بلحاظ الأبعاد:
1- ثمرات الصدق في البعد الدينيّ.
2- ثمرات الصدق في البعد الدنيويّ.
3- ثمرات الصدق في البعد الأخرويّ.

أولاً: البعد الدينيّ
وهو يقسم إلى عدّة أبعاد:
الصدق والإيمان:
صحيح أنّ الإيمان هو الاعتقاد القلبيّ، ولكنّ قيام الإنسان بارتكارب المعاصي والأعمال المنكرة، يعني عدم الحضور العمليّ للإيمان، فهو إيمان صوريّ ليس إلّا، أو هو إيمان فاقد لآثاره العمليّة، ومن هنا ربطت الروايات بين الإيمان والصدق، فالمؤمن الحقيقيّ من يَصدُقُ قوله عمله، ولذا ورد في الآثار أنّ المؤمن لا يكذب.

عن النبيّ، وقد سأله أبو الدرداء: "هل يسرق المؤمن؟
 
 
 
42

34

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 قال: قد يكون ذلك، قال: فهل يزني المؤمن؟ قال: أجل، وإن كره أبو الدرداء، قال: هل يكذب المؤمن؟ قال: إنّما يفتري الكذب من لا يؤمن، إنّ العبد يزلّ الزلّة ثمّ يرجع إلى ربّه، فيتوب، فيتوب الله عليه"1.


عن الإمام الصادق عليه السلام، وقد سأله الحسن بن محبوب: "يكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، قلت: فيكون جباناً؟ قال: نعم، قلت: فيكونُ كذّاباً؟ قال: لا، ولا خائناً، ثمّ قال: يُجبل المؤمن على كلّ طبيعة، إلّا الخيانة والكذب"2.

الإمام عليّ عليه السلام: "جَانِبُوا الْكَذِبَ، فَإِنَّه مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ، الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وكَرَامَةٍ، والْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ ومَهَانَةٍ"3.
 
 

1- المتقيّ الهنديّ، كنز العمال، ج3، ص 874، ح8994.
2- الشيخ المفيد، الاختصاص، ص213، تحقيق: علي أكبر الغفاريّ، السيّد محمود الزرندي، بيروت، دار المفيد، 1414 - 199 م، ط2.
3- نهج البلاغة، ص117، 86 ومن خطبة له عليه السلام وفيها بيان صفات الحقّ جلّ جلاله، ثمّ عظة الناس بالتقوى والمشورة.
 
 
 
43

35

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إِنَّ الْكَذِبَ هُوَ خَرَابُ الإيمان"1.


عن الإمام عليّ عليه السلام: "الإيمان أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ، عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ"2.

عنه عليه السلام: "الصدق أقوى دعائم الإيمان"3.

عنه عليه السلام: "الصدق عماد الإسلام، ودعامة الإيمان"4.

الصدق والعلاقة بالله:
العلاقة بالله تعالى لا يمكن تصوّرها من دون صدق، الصدق وحده يجعل الإنسان صدِّيقاً.

عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ الْخَزَّازِ، عَنْ جَدِّه الرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: "يَا رَبِيعُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَه اللَّه صِدِّيقاً"5.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص339، باب الكذب، ح4.
2- نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 458، ص 556.
3- محمّد الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص1573، الصادق، 2190.
4- (م.ن)، ص1573.
5- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص105، باب الصدق وأداء الأمانة، ح8.
 
 
 
44

36

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّه مِنَ الصَّادِقِينَ، ويَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّه مِنَ الْكَاذِبِينَ، فَإِذَا صَدَقَ، قَالَ اللَّه عزّ وجلّ: صَدَقَ وبَرّ،َ وإِذَا كَذَبَ، قَالَ اللَّه عزّ وجلّ: كَذَبَ وفَجَرَ"1.


فالصدق يقوم على معنى المطابقة. والمطابقة تعني: توافق ما لدى الإنسان من قول أو فكر أو قصد أو عمل مع الواقع الخارجيّ. إذاً، فالصدق يرتبط بمفهوم الانسجام والعلاقة الصحيحة بالله عزّ وجلّ، وبالنفس، وبالعالم. وهذا المعنى ما نفهمه من خطابٍ للإمام أمير المؤمنين في قوله: "الصدق مطابقة المنطق للوضع الإلهيّ، الكذب زوال المنطق عن الوضع الإلهيّ"2.

والصدق يجعل المؤمن وفيّاً في علاقته مع الله، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ﴾3.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص105، باب الصدق وأداء الأمانة، ح9.
2- الريشهري، ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج2، ص1572.
3- سورة الأحزاب، الآية 23.
 
 
 
45

37

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 الصدق والعبادة:

العبادة لا تصدق إلّا إذا كانت صافية من كلّ شوب، لأنّ العبادة من غير صدق ستكون موبوءة بالرياء والعجب والنفاق.

فالصدق ركن أساس في العبادة، لأنّ العبادة لها ثلاثة أركان:
1- الإخلاص: وترك الإخلاص يبطل العبادة. والإخلاص - باختصار - هو أن تكون دوافع الإنسان خالية من أيّ نوع من أنواع الشوائب، ويمكن أن نسمّي الإخلاص ب‍ "توحيد النيّة"، يعني التفكير بالله وبرضاه في جميع الأمور والحالات1.

عن الإمام عليّ عليه السلام: "صدق إخلاص المرء: يُعْظِم زُلفتَه، ويُجزِل مثوبته"2.
 

1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل، مصدر سابق، ج9، ص 394- 395. (بتصرف).
2- الواسطي، عليّ بن محمّد الليثي: عيون الحكم والمواعظ، ص309، تحقيق: الشيخ حسين الحسينيّ البيرجندي، دار الحديث، ط1.
 
 
 
46

38

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 2- الصدق: ونريد به الصدق في العزيمة، بأن يبذل العبد جهده في امتثال أمر الله واجتناب نهيه، والاستعداد للقائه، وترك العجز، وترك التكاسل عن طاعة الله.


3- متابعة الرسول وأهل البيت عليهم السلام والإتيان بالعبادة بما أمر به ونهى عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ثانياً: البعد الدنيويّ
هناك ثمرات جمّة ننالها ببركة الصدق، نذكر منها:
1- طُمأنينة النفس: لقول الرسول: "الصدق طمأنينة، وإنّ الكذب ريبة"1.

2- البركة في المال: قال صلى الله عليه وآله وسلم : "البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما"2. فإنّ صدق كلّ واحد منهما في الإخبار عمّا يتعلّق به، وبيّن كلّ واحد منهما لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه، كثر نفع المبيع
 

1- الترمذيّ: سنن الترمذيّ، ج4، ص77، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، 1403 - 1983 م، بيروت، دار الفكر، ط2.
2- البخاريّ: صحيح البخاريّ، ج3، 1401 - 1981 م، دار الفكر.
 
 
 
47

39

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 والثمن، وإن كتم البائع عيب السلعة والمشتري عيب الثمن، أو كذّبا، مُحقِت البركة، وهو النقصان. وقيل: هو أن يذهب الشيء كلّه حتّى لا يرى منه أثر1.


3- قوّة الحجّة: يقول أمير المؤمنين: "من صدقت لهجته، قويت حجّته"2.

4- مروءة الرجل: وقَالَ عليه السلام: "قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِه، وصِدْقُه عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِه"3. ومعنى المروءة يجمع بين الإيجاب بفعل ما يستوجب المدح والثناء، وبين السلب بترك ما يستدعي اللوم والذمّ، أمّا الصدق هنا فليس المراد به مطابقة الكلام للواقع، بحسب اعتقاد المتكلّم وكفى، بل المراد به حسن السلوك الذي لا يُشاب بعيب ونقص، وهو بهذا المعنى مرادف للمروءة أو لازم لها، ولذا يُستدلّ على الصدق بالمروءة، وبها عليه4.
 

1- ينظر: العينيّ: عمدة القاري، ج11، ص 195، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ. (بتصرف).
2- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 449.
3- نهج البلاغة، حكم أمير المؤمنين عليه السلام، مصدر سابق، رقم 47، ص 477.
4- مغنية، محمد جواد: في ظلال نهج البلاغة،ج4، ص 246، مطبعة ستار، الطبعة انتشارات كلمة الحقّ، 1427ه، ط1.
 
 
 
48

40

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 5- التوفيق: قال صلى الله عليه وآله وسلم : "إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثمّ نهضوا في قتال العدوّ، فأُتي به النبيّ يحمل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبيّ: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثمّ كفّنه النبيّ في جبّته صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ قدّمه فصلّى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهمّ هذا عبدك، خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك"1.


6- الصدق يبيّض الوجه: يا عليّ، إيّاك والكذب! فإنّ الكذب يسوّد الوجه، ثمّ يكتب عند الله كذّاباً، وإنّ الصدق يبيّض الوجه، ويكتب عند الله صادقاً، واعلم أنّ الصدق مبارك والكذب مشؤوم 2.

7- النصر: عن أمير المؤمنين: "فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ"3.
 

1- البيهقيّ، أحمد بن الحسين: السنن الكبرى، ج4، ص16.
2- الحرانيّ، ابن شعبة: تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ج4، ص 14، تحقيق: عليّ أكبر الغفاري، 1404 - 1363ش، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقمّ المشرّفة، ط2، وصيته صلى الله عليه وآله وسلم أخرى له عليه السلام.
3- نهج البلاغة، مصدر سابق، 56 ومن كلام له عليه السلام يصف أصحاب رسول الله وذلك يوم صفّين حين أمر الناس بالصلح، ص92.
 
 
 
49

41

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 8- العدل: وعنه عليه السلام: "الصدق أخو العدل"1.


9- العزّ: عن الإمام الحسين: "الصدق عزّ، والكذب عجز"2.

10- التكريم: عن الإمام عليّ: "إنّ الصادق لَمُكرَم جليل، وإنّ الكاذب لَمُهان ذليل"3.

ثالثاً: البعد الأخرويّ:
1- دخول الجنّة: عن رسول الله: عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتّى يكتب عند الله صِدّيقاً4.

عن الإمام عليّ عليه السلام: "الميت من شيعتنا صِدّيق شهيد، صدّق بأمرنا، وأحبّ فينا، وأبغض فينا، يريد بذلك الله عزّ وجلّ، مؤمن بالله وبرسوله، قال الله عزّ وجلّ:
 
 

1- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج2، ص1575، الصدق (2) 2189.
2- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ، ج2، بيروت، دار صادر، مقتل الحسين بن عليّ، ص 246.
3- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج2، ص1573، الصادق، 2191.
4- الإمام مالك: الموطأ، ج2، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، 1406 - 1985م، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، باب ما جاء في الصدق والكذب، ح16، ص989.
 
 
 
50

42

الدرس الرابع: ثمرات الصدق

 ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾2,1.


2- منزلة الشهداء: عن رسول الله: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه"3.
 

1- سورة الحديد، الآية 19.
2- الشيخ الصدوق: الخصال، 636، تحقيق: عليّ أكبر الغفاريّ، قمّ المشرّفة، 18 ذي القعدة الحرام 1403 - 1362 ش، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين.
3- النسائيّ: السنن الكبرى، مصدر سابق، ج3، مسألة الشهادة، ص 25، تحقيق: عبد الغفّار سليمان البنداريّ، سيّد كسروي حسن، 1411 - 1991 م، ط1.
 
 
 
 
51

 


43

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 الدرس الخامس

 

أنواع الصدق


محاور الموعظة:
• الصدق مع النفس، والله، والناس.
• الصدق في النيّة، والأقوال، والأعمال، والمقامات.

تصدير الموعظة:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الصدق أشرف خلائق الموقن"1.
 

1- الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 295.
 
 
 
 
53

44

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 أنواع الصدق

ينبغي للمؤمن أن يكون صادقاً مع نفسه، ومع ربّه، ومع الناس، وفي نيّته، وأقواله، وأفعاله، ولذا الصدق على أنواع، نذكرها على الشكل الآتي:
الأوّل: الصدق مع النفس
عبارة عن الصراحة والوضوح مع النفس، فالمؤمن الصادق لا يخدع نفسه، ويعترف بعيوبه وأخطائه، ويصحّحها، فهو يعلم أنّ الصدق طريق النجاة. وما لم يكن الإنسان صادقاً مع نفسه فلا يمكنه أن يحقّق أيّ نوع من أنواع الصدق. والصدق مع النفس بداية التغيير، يقول الأديب الروسيّ تولستوي: "كلّ واحد يفكّر في تغيير العالم، ولكن لا أحد يفكّر في تغيير نفسه". 

وهناك عدّة خطوات للوصول إلى الصدق مع النفس، نذكر منها:
1- معرفة النفس:
عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: "العارف مَن عرف
 
 
 
 
54

45

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 نفسه فأعتقها ونزّهها عن كلّ ما يبعدها ويوبقها"1، وقال: "مَن عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها"2. وقال: "مَن لَم يَعرِف نَفسَهُ بَعُدَ عَن سَبيلِ النَّجاةِ، وخَبَطَ فِي الضَّلالِ والجَهالاتِ"3.


2- التمييز بين الأمور السيّئة والحسنة:
ومعرفة أنّ السيّئة مصدرها العبد، والحسنة مصدرها الله، قال سبحانه: ﴿مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ4, عَنْ الإمام الرِّضَا، قَالَ: سَأَلْتُه، فَقُلْتُ: اللَّه فَوَّضَ الأَمْرَ إِلَى الْعِبَادِ، قَالَ: اللَّه أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، قُلْتُ: فَجَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ: اللَّه، أَعْدَلُ وأَحْكَمُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "اللَّه يَا ابْنَ آدَمَ! أَنَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ وأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، عَمِلْتَ الْمَعَاصِيَ بِقُوَّتِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِيكَ"5.
 

1- الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص53.
2- م.ن، ص453.
3- الريشهري، محمّد: ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج3، ص 1876.
4- سورة النساء، الآية 79.
5- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص 157،باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، ح3.
 
 
 
55

46

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 3- تخصيص وقت معين للمحاسبة:

احرص على تخصيص وقت معيّن كلّ يوم للتفكير بشكل عميق في أفعالك وحاسب نفسك، قال الله تعالى: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا1, قال الإمام الصادق عليه السلام: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ رَبَّه شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاه فَلْيَيْأَسْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ولَا يَكنْ لَه رَجَاءٌ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّه عَزَّ ذِكْرُه، فَإِذَا عَلِمَ اللَّه عزّ وجلّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِه لَمْ يَسْأَلْه شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاه، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ لِلْقِيَامَةِ خَمْسِينَ مَوْقِفاً، كُلُّ مَوْقِفٍ مِقْدَارُه أَلْفُ سَنَةٍ، ثُمَّ تَلَا: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ3,2.

الثاني: الصدق مع الله
ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو تمحيض النيّة وتخليصها لله، بألّا يكون له باعث في طاعاته، بل في جميع حركاته
 

1- سورة الإسراء، الآية 14.
2- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص 143، حديث النفس، ح108.
3- سورة السجدة، الآية 5.
 
 
 
 
56

 


47

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 وسكناته، إلّا الله. فالشوب يبطله ويكذّب صاحبه1. فمن عمل عملاً لم يخلص فيه النيّة لله، لم يتقبّل الله منه عمله، والمسلم يخلص في جميع الطاعات بإعطائها حقّها وأدائها على الوجه المطلوب منه.


قال تعالى: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾2, فقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾3.

قال تعالى: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾4, وقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ5.
 
 

1- النراقي، ملا محمّد مهدي: جامع السعادات، ج2، ص 258، تحقيق: السيّد محمّد كلانتر، تقديم: الشيخ محمّد رضا المظفر، النجف الأشرف، مطبعة النعمان، ط4.
2- سورة محمد، الآية 21.
3- سورة الأحزاب، الآية 23.
4- سورة محمد، الآية 21.
5- سورة الحشر، الآية 8.
 
 
 
57

48

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 الآية الأولى تقول بأنّ هولاء ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾ فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإيمان، أو فلو صدقوا في إيمانهم وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ في دينهم ودنياهم من نفاقهم1.


والآية الثانية تقول: إنّ هؤلاء المهاجرين ليسوا من أصحاب الادّعاءات، بل هم رجال حقّ وجهاد، وقد صدقوا الله بإيمانهم وتضحياتهم المستمرّة. وفي مرحلة أخرى يصفهم سبحانه بالصدق، ومع أنّ الصدق له مفهوم واسع، إلّا أنّ صدق هؤلاء يتجسّد في جميع الأمور: بالإيمان، وفي محبّة الرسول، وفي التزامهم بمبدأ الحقّ2.

الثالث الصدق مع الناس
العبوديّة التي شرَّعها الإسلام هي عبوديّة إنسانيّة بكلّ معنى الكلمة، وهناك عناوين كثيرة في هذا المجال بيّنتها الروايات الشريفة، نذكر منها:
 

1- الملا فتح الله الكاشاني، زبدة التفاسير، ج6، ص 359.
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، مصدر سابق، ج18، ص 192.
 
 
 
58

49

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 1- حسن التعامل مع الناس من شروط نيل رضا الله تعالى:

قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "أربعٌ من كنَّ فيه كمُل إسلامه، ومُحِّصَتْ عنه ذنوبه، ولقيَ ربّه وهو عنه راضٍ: من وفى لله بما يجعل على نفسه للناس، وصدَق لسانه مع الناس، واستحيا من كلّ قبيح عند الله، وعند الناس، ويُحَسِّن خلقه مع أهله"1.

2- الصدق مع الناس والأمانة شرط لقبول العبادات:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحجّ والمعروف، وطنطنتهم بالليل، أنظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"2.

الرابع: الصدق في الأحوال، في النيّات:
يرتبط الصدق بالنيّة، وفي جميع الأحوال بالإخلاص لله تعالى، الذي هو غاية الدين، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
 
 

1- الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص223.
2- الصدوق، محمّد بن بابويه: عيون أخبار الرضا، تحقيق: الشيخ حسين الأعلميّ، 1404- 1984م، بيروت، مطابع مؤسّسة الأعلميّ، الناشر: مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات.
 
 
 
59

50

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 "الإخلاص غاية الدين"1، وهو أفضل العبادات، بل هو روح العبوديّة لله وجوهرها، كما أخبر عن ذلك إمامنا الصادق عليه السلام: "أفضل العبادة الإخلاص"2. وهو سرّ من أسرار الله، استودعه في قلوب من اجتباهم لقربه وولايته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخبراً عن جبرئيل عليه السلام عن الله عزّ وجلّ، أنّه قال: "الإخلاص سرٌّ من أسراري، استودعته قلب من أحببت من عبادي"3.


وحقيقة الإخلاص تخليص نيّة الإنسان وعمله من شائبة غير الله تعالى، وهو لا يتصوّر إلّا ممّن كان محبّاً لله عزّ وجلّ، ومستغرق الهمّ في الآخرة، بحيث لا يبقى لحبّ الدنيا وشهواتها وملذّاتها وسمعتها وجاهها ومناصبها في قلبه قرار، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ لكلّ حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ
 

1- الآمديّ، غرر الحكم، 1340.
2- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص249.
3- م. ن، 214.
 
 
 
60

51

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 أن يُحمد على شيءٍ من عمل لله"1. فالمخلص هو الذي لا يطلب من وراء أيّ عملٍ يقوم به سوى الله تعالى، ولا يكون له مقصد أو دافع سوى رضاه، والتقرّب إليه، ونيل الزّلفى لديه. فالأعمال مرهونة بالنيّات، وإذا لم تكن النيّات خالصةً وصادقة، فهذا يعني أنّه يشوبها الشرك، والله تعالى لا يغفر أن يشرك به: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾2, لأنّ الشّرك ظلم عظيم ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾3, وهو ما يستلزم أن تكون بواعث الأعمال والأقوال كلّها لله عزّ وجلّ، وأن يكون ظاهر العبد معبّراً عن باطنه. الصدق في الأحوال يقتضي حسن الانقياد والإذعان، والخضوع والإخلاص، والخوف والرجاء، والرضا والتوكّل والمحبّة والحياء، والإجلال، والتعظيم لله وحده...

 


1- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص304.

2- سورة النساء، الآية 48.

 

3- سورة لقمان، الآية 13.

 

 

61


52

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 الخامس: الصدق في الأقوال

الصدق في القول، وهو الإخبار عن الأشياء على ما هي عليه، وكمال هذا النوع بترك المعاريض1 من دون ضرورة، حذراً من تفهيم الخلاف، وكسب القلب صورة كاذبة، ورعاية معناه في ألفاظه التي يناجي بها الله سبحانه، فمن قال: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾2 وفي قلبه سواه، أو قال: "إيّاك نعبد" وهو يعبد الدنيا بتقيّد قلبه بها، إذ كلّ من تقيّد قلبه بشيء فهو عبد له، كما دلّت الأخبار، فهو كاذب3.

فالصدق في القول يستوجب على المؤمن أن يحفظ لسانه فلا يتكلّم إلّا بصدق ولا ينطق إلّا بحقّ، فأحسن الكلام ما صدق فيه قائله، وانتفع به سامعه، كما ورد عَنِ
 

1- ترك المعاريض، وهي جمع معراض كمفتاح، الكلمات المورّى فيها بالقصد إلى معنى غير ما يتبادر إلى الفهم من ظاهر اللفظ من غير ضرورة دينيّة أو دنيويّة.
2- سورة الأنعام، الآية79.
3- النراقي، جامع السعادات، مصدر سابق، ج2، ص258.
 
 
 
 
62

53

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قَالَ: "ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّه والْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ"1.


السادس: الصدق في الأعمال
الصدق في الأعمال: وهو تطابق الباطن والظاهر، واستواء السريرة والعلانية، أو كون الباطن خيراً من الظاهر، بألّا تدلّ أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتّصف هو به، لا بأن يترك الأعمال، بل بأن يستجرّ الباطن إلى تصديق الظاهر، وهذا أعلى مراتب الإخلاص، لإمكان تحقّق نوع من الإخلاص بما دون ذلك، وهو أن يخالف الباطن الظاهر من دون قصد، فإنّ ذلك ليس رياء، فلا يمتنع صدق اسم الإخلاص عليه2.

ويتحقّق الصدق في الأعمال بالآتي:
1- استواء السريرة والعلانية في الحقّ، بأن يكون الباطن
 

1- الكافي، الشيخ الكلينيّ، مصدر سابق، ج2، باب حق الدار، ح6، ص 667.
2- النراقي، جامع السعادات، مصدر سابق، ج2، ص259.
 
 
 
63

54

الدرس الخامس: أنواع الصدق

 مثل الظاهر، أو خيرًا منه، فتكون الأعمال الصالحة الظاهرة التي يقوم بها المسلم ترجمة صادقة لما هو مستقرّ في باطنه، أي لتكون سريرته وعلانيته واحدة.


2- الإتقان في كلّ عمل صالح يقوم به المؤمن، بأداء الأعمال والحقوق كاملة مُوَفّرة، فلا بخس ولا غشّ ولا خداع ولا ظلم.

3- الصدق في الأعمال يقتضي أن يكون العبد مطيعاً لربّه ممتثلاً لأمره، ومجتنباً لنهيه، آخذاً بكتابه مقتدياً بسنّة رسوله ونهج أهل بيته.
 
 
 
 
64

55

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 الدرس السادس

 

مقام الصدق والصادقين في القرآن


محاور الموعظة:
• أقسام الصدق في القرآن.
• مقام الصدق والصادقين في القرآن.
• من هم الصادقون؟

تصدير الموعظة:
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾1.
 

1- سورة التوبة، الآية 119.
 
 
 
65

56

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 تمهيد

الصدق سِمةٌ من سِمات المؤمنين، وخُلُق من أخلاق المتّقين، وصفةٌ من صفات أهل البيت الطاهرين، وبسببها أمرنا الله تعالى أن نكون معهم، لأنّهم هم الصادقون، وقد جُعل الصدق في القرآن الكريم علامة الإيمان، كما جُعل الکذب علامة النفاق والکفر.

• أقسام الصدق في القرآن1:
ذكر القرآن أقسام الصدق على الشكل الآتي:
1- في الاعتقاد: أن يكون مطابق الحقّ الواقع الثابت، كقوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ2.

2- في إظهار الاعتقاد: أن يكون مطابق الاعتقاد بلا نفاق، كقوله تعالى: ﴿إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ3.
 

1- ينظر: المصطفوي، الشيخ حسن: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج6، مؤسّسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، 1417ه،ط1، صدق، ص 217. بتصرّف -.
2- سورة القلم، الآية 41.
3- سورة الجمعة، الآية 6.
 
 
 
66

57

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 3- وفي القول والخبر: أن يكون مطابق المخبر عنه بلا خلاف، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا﴾1.


4- وفي القول الانشائيّ: أن يكون إنشاؤه مطابقَ قلبهِ وصميم نيّته، كقوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾2.

5- وفي العمل: أن يكون تامّاً من جميع الجهات والشرائط، كقوله تعالى: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ3.

6- وفي مطلق الأمور: بأن يكون صادقاً في الاعتقاد والقول والعمل، كقوله تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾4 والمرضيّ المطلوب في الحقيقة هو القسم الأخير، بأن يكون الإنسان في منزل صدق ومتّصفاً بالصدق قولاً وعملاً واعتقاداً في الظاهر والباطن، وهذا هو المراد بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
 

1- سورة النساء، الآية 87.
2- سورة الأحزاب، الآية 23.
3- سورة يوسف، الآية 88.
4- سورة الإسراء، الآية 80.
 
 
 
67

58

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 • مقام الصدق والصادقين في القرآن:

الصدق في القرآن الكريم من المفاهيم المحوريّة في المنظومة القيميّة التربويّة، وقد حثّ القرآن الكريم على هذه القيمة الرفيعة بأساليب متعدّدة وطرائق مختلفة، واستهدفها في مناسبات متنوّعة ومتعدّدة، وسنبيّن هذا المقام للصدق والصادقين ضمن الجدول الآتي:

الآية الاستنتاج
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾
إنّ العلّة التامّة للمجازاة الإلهيّة لهولاء الرجال هي صدقهم على عهدهم أن لا يفرّوا إذا لاقوا العدوّ، فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، والباء للسببيّة، أي ليجزي المؤمنين الذين صدقوا عهدهم بسبب صدقهم في أقوالهم وأحوالهم، ومعاملتهم مع الله، واستواء ظاهرهم وباطنهم.
 
 
 
 
68

59

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 ﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾


والمراد بهذا الصدق من الصادقين صدقهم في الدنيا وقوله: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾، فهو بيان لجزاء صدقهم عند الله فهو النفع الذي يعود إليهم من جهة الصدق والأعمال والأحوال الأخرويّة - ومنها صدق أهل الآخرة - لا يترتّب عليها أثر النفع بمعنى الجزاء، أي إنّ الأعمال والأحوال الأخرويّة لا يترتّب عليها جزاء، كما يترتّب على الأعمال والأحوال الدنيويّة، إذ لا تكليف في الآخرة، والجزاء من فروع التكليف، وإنّما الآخرة دار حساب وجزاء، كما أنّ الدنيا دار عمل وتكليف. فالصادقون في الدنيا في قولهم وفعلهم ينتفعون يوم القيامة بصدقهم، لهم الجنّات الموعودة وهم الراضون المرضيّون الفائزون بعظيم الفوز. على أنّ الصدق في القول يستلزم الصدق في الفعل، بمعنى الصراحة وتنزّه العمل عن سمة النفاق، وينتهى به إلى الصلاح.
 
 
 
 
69

60

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾


﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ سابقة ومنزلة رفيعة. سمّيت قدماً، لأنّ السبق والسعي بها، كما سمّيت النعمة يداً، لأنّها تُعطى باليد. وإضافتها إلى الصدق لتحقّقها، والتنبيه إلى أنّهم إنّما ينالونها بصدق القول والنيّة.
والمراد بقدم الصدق هو المنزلة الصادقة، كما يشير إليه قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾، فإنّ الإيمان لما استتبع الزلفى والمنزلة عند الله كان الصدق في الإيمان يستتبع الصدق في المنزلة التي يستتبعها، فلهم منزلة الصدق كما أن لهم إيمان الصدق.

﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾

والمراد بالصدق صدق المتّقين في إيمانهم وعملهم. أضيف إليه المقعد لملابسة ما، ويمكن أن يُراد به كون مقامهم ومالهم فيه صدقاً لا يشوبه كذب، فلهم حضور لا غيبة معه، وقرب لا بعد معه، ونعمة لا نقمة معها، وسرور لا غمّ معه، وبقاء لا فناء معه.
 
 
 
 
70

61

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾, 

وقال تعالى: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾

لسان الصدق: الكلمات والخطابات الَّتى تطابق الحقّ من تعليمات إلهيّة وأحكام حقّه ومعارف دينيّة تبقى إلى آخر الأزمنة، ويستفيد منها المتأخّرون فيما بعد.
وليس المراد حسن الذكر والتمجيد في ألسنتهم، فإنّ هذا المعنى أمر نفسانيّ، ولا يطابق النظر الخالص الروحانيّ.
وتدلّ على هذا المعنى الآية الآتية: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾، أي فهم متّصفون باللسان الصدق، ومتكلَّمون بالحقّ، ولا ينطقون إلَّا حقّاً وصدقاً.

﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾
 أن يكون الدخول والخروج في كلّ أمر منعوتاً بالصدق، جارياً على الحقيقة، من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضادّ بعض أجزائه بعضاً، كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله، وهو يريد بقلبه أن يسود الناس، أو يخلص في بعض دعوته لله، ويشرك في بعضها غيره.
 
 
 
 
71

62

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 • من هم الصادقون؟

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾1.

في الآية من إطلاق الأمر بالتقوى، وإطلاق الصادقين، وإطلاق الأمر بالكون معهم، - والمعيّة هي المصاحبة في العمل، وهو الاتّباع - يدلّ على أنّ المراد بالصدق هو معناه الوسيع العامّ دون الخاصّ.

فالآية تأمر المؤمنين بالتقوى، واتّباع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم، وهو غير الأمر بالاتّصاف بصفتهم، فإنّه الكون منهم لا الكون معهم، وهو ظاهر2.

الصادقون من استوت ظواهرهم وبواطنهم، أي من صدّق قوله فعله وصدّق فعله قوله وصدق اعتقاده فعله في كلّ الأحوال وعلى حدّ سواء في المستويات الثلاثة:
 
 

1- سورة التوبة، الآية 119.
2- السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، مصدر سابق، ج9، ص 402.
 
 
 
 
72

63

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 1- مستوى الاعتقاد: هم أصحاب الاعتقاد الكامل واليقين المطلق، لم يشكّوا ولم يرتابوا فيما يعتقدوا، ﴿آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا1.


2- مستوى الأعمال: هم من كانت أعمالهم كاملة لا نقص فيها وتابعين لما يعتقدون به، ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ2.

3- مستوى الأخلاق: من كانت أخلاقهم نابعة من معتقداتهم الكاملة الحقّة، ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾3.

والآية تدلّ على عدّة أمور:
1- المتّقون هم طائفة غير طائفة الصادقين، لأنّ الله أمر المتّقين بأن يكونوا مع الصادقين.
 
 

1- سورة ق، الآية 10.
2- سورة الأنفال، الآية 72.
3- سورة البقرة، الآية 177.
 
 
 
73

64

الدرس السادس: مقام الصدق والصادقين في القرآن

 2- إنّ استخدام لفظ "مَعَ" يدلّل على أنّ المتّقين لا يمكنهم أن يكونوا من الصادقين، وفي عرض واحد معهم، بل ينبغي للمتّقين الالتحاق بالصادقين.


3- معنى أن يكون المتّقي مع الصادقين هي المعيّة الاقتدائيّة، أي أن يكون تابعاً لهم في أقوالهم واعتقاداتهم وسلوكيّاتهم.

4- الطلب من المتّقين أن يلتحقوا بالصادقين، ويكونوا معهم.
 
 
 
 
74

65

الدرس السابع: الصدق والنصر

 الدرس السابع

 

الصدق والنصر


محاور الموعظة: 
• نصر الله ورسوله.
• فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا.
• منظومة الصدق في صناعة النصر.

تصدير الموعظة:
قال أمير المؤمنين: "ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه، نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وتَسْلِيماً، ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ1 وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ2،
 

 
 
 
 
 
75

66

الدرس السابع: الصدق والنصر

 وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا، يَتَصَاوَلَانِ1 تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ2 أَنْفُسَهُمَا، أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَه كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ومَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ3، وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ"4.


نصر الله ورسوله
قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ5.

فهذه الآية عرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون، الذين استقاموا وثبتوا رغم كلّ المشاكل، وأُخرجوا من
 

1- منهج الطريق. الطريق بالتّحريك الجادّة الواضحة.
2- بفتح الأوّل والثاني أيضاً، حرقة الألم.
3- يتحاملان ويتطاولان.
4- ينتهز كلّ منهما فرصة صاحبه.
5- الصرف والإذلال.
6- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 56، ومن كلام له عليه السلام يصف أصحاب رسول الله، وذلك يوم صفين حين أمر الناس بالصلح، ص92.
7- سورة الحشر، الآية 8.
 
 
 
76

67

الدرس السابع: الصدق والنصر

 ديارهم وأموالهم، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضا الله ونصرة رسوله.


من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة، وهي أنّ الصادقين هم الذين يؤدّون تعهّداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه، دون أيّ تردّد أو تماهل، ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شكّ في أنّ لهذه الصفات درجاتٍ، فقد يكون بعض الناس في قمّتها، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين، وبعضهم في درجات أقلّ وأدنى منها1.

فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا
لقد وضع الله عزّ وجلّ على هذه الأمّة الجهاد، وجعله زينة وفخراً، وجعله باباً لخاصّة الأولياء، ومن أهمّ ما يتميّز به أهل الجهاد صِدْقهم في المواطن، فلا تتبدّل النيّات، مهما اشتدّت الفتن ومهما كثر الأعداء.
 

1- الشيخ الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج6، ص258.
 
 
 
77

68

الدرس السابع: الصدق والنصر

 والإمام يرسي قاعدة رئيسة، وهي أنّ الغلبة لم تكن للمسلم دائماً، بل نتيجة الصدق في النيّة والعزم والعمل، "فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ". إنّ اللَّه سبحانه يجري المسبّبات على أسبابها، ويربط النتائج بمقدّماتها، فمن صدق منه العزم، وعمل جاهداً مخلصاً في عمله بلغ الغاية بتوفيق اللَّه وعنايته: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى1, ومن راءى وتكاسل فمآله الخسران والخذلان: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً 3,2.


بعد ما بيّن أنّ المسلمين قاتلوا أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم من الكفّار قربة إلى اللَّه، أردف كلامه بقوله: فلمّا رأى اللَّه ... والإتيان بالفاء المفيدة للتّفريع
 

1- سورة محمد، الآية17.
2- سورة البقرة، الآية10.
3- ينظر: مغنية، محمد جواد: في ظلال نهج البلاغة، ج1، ص302، مطبعة ستار، انتشارات كلمة الحقّ، 1427ه، ط1.
 
 
 
78

69

الدرس السابع: الصدق والنصر

 للدّلالة على أنّ نصرة المسلمين وخذلان الكفّار من اللَّه تعالى، انّما كانت موقوفةً على صدقنا وصفائنا وإخلاصنا في الجهاد مع الأعداء. ثمّ إنّ غزوة بدر من أتمّ مصاديق النّصر من اللَّه للمسلمين، والكبت للمشركين، وقد دلَّت على المدّعى الآيات القرآنيّة أيضاً1.


منها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ2.
 

1- ينظر: الخراسانيّ، محمّد تقي النقوي القايني: مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة،ج7، ص191.
2- سورة آل عمران، الآيات: 123-127.
 
 
 
79

70

الدرس السابع: الصدق والنصر

 والصدق من شُعَب الجهاد، يقول الإمام علي عليه السلام: "والْجِهَادُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ والصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وشَنَآنِ الْفَاسِقِينَ، فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظَهْرَ الْمُؤْمِنِ، ومَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أَنْفَ الْمُنَافِقِ وأَمِنَ كَيْدَه، ومَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى الَّذِي عَلَيْه"1.


منظومة الصدق في صناعة النصر
الصدق منظومة متكاملة، ولكلّ جزء أو مرتبة منها مدخليّة خاصّة في صناعة النصر.

النيّة الصادقة:
المخلصة في التوجّه إلى الله عزّ وجلّ، يقول عنها أمير المؤمنين مخاطباً أصحابه: "فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ، ولْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ"2.
 
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 473، حكم أمير المؤمنين عليه السلام، حكمة 31.
2- م.ن-، ص312، 197 ومن كلام له عليه السلام ينبّه فيه على فضيلته لقبول قوله وأمره ونهيه.
 
 
 
80

71

الدرس السابع: الصدق والنصر

 أي انهضوا إلى عدوّكم بنيّات صادقة، وقلوب طاهرة سالمة من اعتراض الشكّ والرّيب والشبهة، ولا يوسوسنّكم الشيطان بكونهم من أهل القبلة والإسلام غير جايز قتلتهم وقتالهم، لأنّكم أتباع الإمام الحقّ، وهم تابعو الإمام الباطل "فَوَالَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ، وإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ" كما يشهد به الحديث النّبويّ المعروف بين الفريقين: "عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ".


ولا يخفى حسن المقابلة بين جادّة الحقّ، وبين مزلَّة الباطل، كما لا يخفى لطف إضافة الجادّة إلى الحقّ، وإضافة المزلَّة إلى الباطل، لأنّ طريق الحقّ لمّا كان واضحاً جلياً ثابتاً بالبيّنة والبرهان يوصل سالكه إلى منزل الزلفى وجنّات النعيم، وطريق الباطل لمّا كان تمويهاً وتدليساً مخالفاً للواقع يزلّ فيه قدم سالكه، ويزلق فيهوى إلى دركات الجحيم1.
 

1- الخوئيّ، حبيب الله الهاشمي: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة،ج12، تحقيق: سيّد إبراهيم الميانجي، مطبعة الإسلاميّة بطهران، بنياد فرهنگ امام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ط4.
 
 
 
81

72

الدرس السابع: الصدق والنصر

 القضيّة الصادقة:

المتمثّلة بأنّها الحقّ، أي التي تعتمد على الحقّ، يقول الإمام عليه السلام مخاطباً أصحابه في صفّين: "وقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، ولَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ، والْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِه وقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه"1.

القيادة الصادقة:
هي التي تتبّع الحقّ مع امتلاكها المعرفة والعلم، يقول الإمام عليه السلام لأصحابه: "واعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ ومَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ"2، أنتم على حقّ في هذه الحرب تماماً كما لو كنتم مع رسول اللَّه، واللَّه سبحانه يشملكم بعونه وعنايته، إذا أخلصتم التوكّل عليه، وذلك لصدق القيادة النبويّة والقيادة العلويّة، بل في معتقد الإماميّة لعصمة القيادتين.
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص248، 173 ومن خطبة له عليه السلام في رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هو جدير بأن يكون للخلافة وفي هوان الدنيا.
2- م.ن-، ص97، 66 ومن كلام له عليه السلام في تعليم الحرب والمقاتلة والمشهور أنّه قاله لأصحابه ليلة الهرير أو أول اللقاء بصفّين.
 
 
 
82

73

الدرس السابع: الصدق والنصر

 الطاعة الصادقة:

فهي أعظم ما يملكه المجاهدون أصحاب العزم والهمم، الذين لا يبالون بما يقول الناس، لأنّ ثقتهم بقائدهم لا تنال، يقول عليه السلام: "وجَاهِدْ فِي اللَّه حَقَّ جِهَادِه، ولَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّه لَوْمَةُ لَائِمٍ، وخُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ"1.

وهم أهل الثبات الذين لا يتراجعون أبداً، يقول الإمام عليه السلام: "فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ، وأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ، والله مَعَكُمْ ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ"2.

وهم أهل تحمُّل المتاعب والشدائد، الذين ينظرون إلى الله عزّ وجلّ في كلّ ما يجري عليهم، يقول الإمام عليه السلام في وصفه لهم: "وطَاِئفَةٌ عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ، فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللَّه صَادِقِينَ"3.
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص393، 31 ومن وصيّة له عليه السلام للحسن بن عليّعليه السلام - كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفّين.
2- م.ن-، ص97، 66 ومن كلام له عليه السلام في تعليم الحرب والمقاتلة والمشهور أنّه قاله لأصحابه ليلة الهرير أو أوّل اللقاء بصفّين.
3- م.ن-، ص337، 218 ومن كلام له عليه السلام في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السلام.
 
 
 
83

74

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 الدرس الثامن

 

الصدق والإيمان


محاور الموعظة:
• حقائق الصدق.
• بين الصدق والإيمان.
• شواهد الصدق.

تصدير الموعظة:
روي عن الإمام عليّ عليه السلام، أنّه قال: "قيل: يا رسول الله، ما أفضل حال أعطي للرجل؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الخلق الحسن، إن أدناكم منّي وأوجبكم عليّ شفاعة، أصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من الناس"1.
 

1- ميرزا حسين النوري الطبرسيّ، مستدرك الوسائل، ج8، ص442، (ح 9938) 3.
 
 
 
85

75

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 وعن أبي القاسم الكوفيّ في كتاب الأخلاق، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بمَ يُعرف المؤمن؟ قال: "بوقاره، ولينه، وصدق حديثه"1.


تمهيد
صدق اللسان يعكس صدق القلب، وصدق القلب ميراث الإيمان، وسلامة النفس من الأنانيّة والجهل والعقد، وصدق اللسان قرين صدق العمل، والثبات في المواقف الصعبة.

وهكذا تتّصل قيمة الصدق بكلمة الشرف الإنسانيّ الرفيع، والإحساس بالكرامة والشعور بالعزّة والاقتدار.

ما هي حقائق الصدق؟ وكيف كانت تلك الحقائق ميراث الإيمان؟
 

1- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ص455، (ح 9985) 4.
 
 
 
86

76

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 أولاً: حقائق الصدق

صدق نبيّ الله يوسف:
عندما اتّهمت زوجة العزيز يوسف الصدّيق عليه السلام بأنّه راودها عن نفسها، أنطق الله بعزّته وحكمته ورحمته طفلاً من أهلها، شهد ليوسف عند العزيز بأنّ المرأة هي التي راودته، واستشهد بأنّ قميصه قُدَّ من دبر، وهو دليل على أنّ يوسف كان يُفلت من يدها، وهي التي تتمسّك بأذياله، فقال ربّنا سبحانه: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾1.

هذا مثل للصدق، وفي مقابله مثل للكذب. فيوسف لم يراودها، بل هي التي راودته. وصدق يوسف يتمثّل في أنّ كلامه مطابق للحقيقة الواقعة، وشاهد صدقه قميصه.
 

1- سورة يوسف، الآية26.
 
 
 
87

77

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 موافقة العمل للسان:

ولكنّ الصدق لا يتحدّد عند موافقة اللسان للواقع، بل يشمل موافقة العمل للسان، فمن ?دّعى أنّه بارٌّ، فإنْ آمن فعلاً بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والرسل، وآتى المال لذوي الحاجة، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأوفى بعهده، وصبر عند الشدائد وفي الحرب، فإنّه يكون صادقاً في دعواه، أمّا إذا اكتفى بمظاهر العبادة، فإنّه ليس بصادق، لأنّ عمله يكذب لسانه، قال الله سبحانه: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ1.
 

1- سورة البقرة، الآية177.
 
 
 
88

78

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 الصادق حقّاً:

إنّما الصادق حقّاً هو الذي وفى بعهده مع الله وميثاقه، بألاّ يعبد إلاّ الله، وأن يجاهد في سبيله، وأن يكون من المؤمنين الذين وفوا بعهد الله، فمنهم من استشهد في سبيله، أو عبد الله حتّى آتاه اليقين، ومنهم من لايزال ينتظر، قال الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا1.

ونستفيد من الآية الحقائق الآتية:
1- إنّ الله هو الذي يكتب الشهادة في سبيله لرجال، والانتظار لآخرين إلى أجل مسمّى. ومن هنا، فإنّهم ما بدّلوا تبديلاً.

2- إنّ المؤمنين الموفين بعهد الله ينتظرون الشهادة، وربّما بفازغ الصبر. ثَمّ حديث دار بين النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
 

1- سورة الاحزاب، الآية 23.
 
 
 
89

79

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 والإمام عليّ عليه السلام يكشف ذلك، حيث قال الإمام: "فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ اللَّه، أَولَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ، حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، ولَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى والشُّكْرِ"1.


إذا كانت في الأمّة طائفة من المؤمنين ينتظرون الشهادة، فإنّ الأمّة لا تخشى - بإذن الله - ذلّاً ولا هزيمة، لأنّ العدوّ يهابها.

3- إنّ الوفاء بعهد الله هو الصدق العمليّ، حيث إنّ كلّ مؤمن يواثق ربّه على العمل بما يأمر به سبحانه أبداً، فإذا عمل فعلاً بميثاقه فقد صدق عمله قوله.

4- ويتجلّى الصدق العمليّ عند لقاء العدوّ، عندئذٍ تبلو
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص156، 220ومن كلام له عليه السلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم.
 
 
90

80

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 سرائر المرء، وتتوضّح حقائقه عند نفسه قبل الآخرين. وعلى الإنسان أن يزكّي نفسه بالاستعاذة بالله من الشكّ والشبهة والتردّد، حتّى لا تخونه عزماته عند المواجهة، ذلك، لأنّ الصدق عند البأس خير له عاقبة، قال الله سبحانه: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ1.


5- وقد يتدرّج المؤمن من التصديق القوليّ إلى التصديق عمليّاً بإنفاق ماله، إلى أن يوفّقه الله سبحانه للتصديق حقّاً ببذل نفسه. وهكذا سُمّي العطاء بالتصدّق، لأنّ صاحبه يصدّق بعمله ما أظهره من الإيمان بالله واليوم الآخر، قال الله سبحانه: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ
 

1- سورة محمد، الآية21.
 
 
 
91

81

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾1، وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾2. ونستفيد من القرآن، أنّ التصدّق كفّارة الذنب، وأنّ الله سبحانه يجزي المتصدّق خير الجزاء. أوليس قد صدق فعله قوله، ووفى لله سبحانه بما عاهد عليه؟


ثانياً: بين الصدق والإيمان
وكلمة الصدق ميراث كلمة التقوى، والتقوى ميراث الإيمان، قال الله سبحانه: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ3، ونستلهم من الآية، أنّ على الإنسان التصديق بالحقّ ونشره، ليصدّق به الآخرون.
 

1- سورة المائدة، الآية 45.
2- سورة يوسف، الآية88.
3- سورة الزمر، الآية 33.
 
 
 
92

 


82

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 والله يجزي الصادقين، ويعذّب المنافقين، قال الله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا1, ونستفيد من الآية أنّ الصدق علامة الإيمان، كما إنّ علامة النفاق الكذب.


وقد أعدّ الله للصادقين مغفرة وأجراً عظيماً، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا2

والدعوة التي لا ينبغي للمؤمن أن يكرّرها، هي أن يهديه الله إلى صراط الذين أنعم عليهم، فمن هم هؤلاء؟ إنّهم هم الأنبياء والصدّيقون، حيث قال
 
 

1- سورة الاحزاب، الآية 24.
2- سورة الاحزاب، الآية 35.
 
 
 
93

83

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 سبحانه: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا1.



ثالثا: شواهد الصدق
يتشابه عند الإنسان الصدق والكذب، فكيف نميّز بينهما؟ هناك شواهد ذكرها القرآن، منها:
قال الله سبحانه: ﴿عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ2, ونستفيد من الآية، أنّه ينبغي أن تترك الأحداث تجري، والفتن تتابع كما قدّرها الله، لكي تعرف معادن الناس.

نصرة الله ورسوله ودين الله سبحانه وآل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، إنّها شاهد صدق ادّعاء الإنسان الإيمان، قال الله سبحانه: ﴿لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ
 

1- سورة النساء، الآية 69.
2- سورة التوبة، الآية 43.
 
 
 
94

84

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ1.


بل احترام الرسول، والتأدّب بما أمر الله سبحانه تجاهه، دليل صدق المرء في دعوى الإيمان، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ2.

ومن شواهد الصدق حبّ لقاء الله، وقلّة الحرص على البقاء في الدنيا، بل تمنّي الموت، فلو كان المرء صادقاً في أنّه قد عمل بما فرض الله عليه، لم يخش الموت، أوليس الموت سبيله إلى الجنّة والرضوان؟ وهكذا ابتلى الله اليهود -وتحديداً أحبارهم- بأن يتمنّوا الموت إن كانوا صادقين، في أنّهم أحبّاء الله، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ
 

1- سورة الحشر، الآية 8.
2- سورة الحجرات، الآية 15.
 
 
95

85

الدرس الثامن: الصدق والإيمان

 إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ1, وقال أيضاً: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ2..

 


1- سورة البقرة، الآية 94.

 

2- سورة الجمعة، الآية 6.

 

 

 

96


86

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

الدرس التاسع
 
الكذب مفتاح الشرّ

محاور الموعظة:
• خطورة الكذب على الفرد والمجتمع.
• مفاسد الكذب.

تصدير الموعظة:
عن الإمام الباقر، قال: "إنَّ اللهَ عزّ وجلّ جَعَلَ لِلشَّرِّ أقفالاً، وَجَعَل مَفاتيحَ تِلْكَ الأقْفالِ الشَّرابَ، وَالكِذْبُ أشَرُّ مِنَ الشَّرَابِ"1.
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، باب الكذب، ص339، ح3.
 
 
 
 
97

 


87

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 خطورة الكذب على الفرد والمجتمع

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "واعلم أنّ هذه الرذيلة من الأمور التي اتّفق العقل والنقل على قبحها وفسادها، وأنّها في نفسها من الفواحش والمعاصي الكبيرة، كما تدلّ على ذلك الأخبار. وقد تترتّب عليها مفاسد أخرى لا تقلّ عن هذه الموبقة، بل قد يسقط الإنسان من أعين الناس في الوسط الاجتماعيّ على إثر كذبة واحدة عندما تُكتشف، ولا يستطيع إلى نهاية العمر أن يجبرها. فإذا اشتهر إنسان -لا قدّر الله- بالكذب، فلعلّه لا يوجد شيء آخر يسيء إلى شخصيّة الإنسان أكثر من الكذب. ومضافاً إلى ذلك، فإنّ مفاسده الدينيّة وعقوباته الآخرويّة كثيرة أيضاً. ونحن نقتصر على ذكر بعض الأحاديث الشريفة في هذا الموضوع. وحيث إنّ شناعة الكذب من الأمور الواضحة المعروفة، نبتعد عن الإسهاب في الحديث عنه"1.
 

1- ينظر: الخميني، الإمام روح، الأربعون حديثاً، ص 501، الحديث التاسع والعشرون: وصيّة النبيّ لعلي، فصل في مفاسد الكذب.
 
 
 
98

88

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 شرّ الشرور

ويقول قدس سره: "والآن تدبّر في هذا الحديث الشريف المرويّ عن عالم آل محمد عليهم السلام، والمذكور في كتاب يعدّ مرجعاً لجميع علماء الأمّة، ويتلقّى بالقبول لدى العلماء كافّةً (رضوان الله عليهم)، وانظر، هل يبقى سبيل للاعتذار؟ أليس هذا التهاون في الكذب من جرّاء الضعف في الإيمان تجاه أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام؟ نحن لا نعرف الصور الغيبيّة لأعمالنا، ولا ندرك الارتباطات الغيبيّة بين المُلك والملكوت، ولهذا نبتعد عن مثل هذه الأخبار، ونحملها على المبالغة، ولكنّ هذا المنهج باطل، وناتج من الجهل والضعف في الإيمان. فلو فرضنا أنّنا حملنا هذا الحديث الشريف على المبالغة، أليست المبالغة ذات شروط ووضع خاصّ؟ هل نستطيع أن نقول عن كلّ شيء إنّه أسوأ من الخمر، وهل يجب أن يكون الشيء ذا شرّ عظيم حتّى نتمكّن من المبالغة، ونقول: إنّه أعظم من الشرّ؟ في الحقيقة، إنّ مثل هذه الأخبار، تهزّ أعماق الإنسان، وتقصم
 
 
 
 
 
99

89

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 ظهره فإنّنا نتصوّر بأنّ الكذب من الأعمال الفاسدة، التي فقد الإحساس بقبحها نهائيّاً من جرّاء شيوعها بين الناس، ولكن سيأتي وقت ننتبه ونشعر بأنّ الإيمان الذي هو رأس مال حياة عالم الآخرة، قد زال من أيدينا من جرّاء الاستهانة بالكذب، ولم نشعر بذلك قطّ".


وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "أَرْبَى الرِّبا الكِذَبُ"1، مع أنّ التشديد في حرمة الربا وبشاعته ممّا يُذهل الإنسان.

ومن الأمور التي لا بدّ للإنسان أن يلتفت إليها، أنّ الأخبار قد استنكرت الكذب حتّى هزله ومزحه، وشدّدت على ذلك. وأفتى العلماء بحرمته أيضاً. كما ذكر صاحب الوسائل في عنوان الباب الذي هو تعبير عن فتاواه: بـَاب تَحْريم الكذِب في الصغيرِ والكبيرِ والجِدّ والهزْلِ، عدا ما استثنى2.
 
 

1- الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه، ج4، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، 1404ه.ق، ط2، ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموجزة التي لم يسبق إليها، ص377، ح 5780.
2- ينظر: الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ، ص501-502. ينظر: وسائل الشيعة ( آل البيت )، الحرّ العامليّ، ج12، ص250.
 
 
 
100

90

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 وفي الكافي الشريف، عن أبي جعفر عليه السلام، قالَ: "كانَ عَليّ بن الحُسين عليهما السلام يقولُ لِولِدِه، اتِّقُوا الكَذِبَ، الصَغيرَ مِنْه وَالكبِير فِي كلّ جِدّ وَهَزْلٍ، فَإنَّ الرَّجُلَ إذا كَذَبَ في الصَغيرِ اجْـتَرَأ في الكَبيرِ، أمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَا يَزَالُ العبَدُ يَصدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ الله صِدِّيقاً، وَمَا يَزَالُ العَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ كَذَّاباً"1.


وفي الكافي عن الأصبغ بن نباتة، قالَ: قالَ أميرُ المؤمنين عليه السلام: "لاَ يَجِدُ عَبْدٌ طَعْمَ الإيمان حَتّى يَتْرُكَ الكِذْبَ، هَزْلَهُ وَجِدَّهُ"2.

وفي وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ: "يـَا أبـَا ذَرٍّ، وَيْلٌ لِلَّذي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ!"3.
 
 

1- الشيخ الكليني، الكافي، مصدر سابق، ج2، باب الكذب، ص338، ح2.
2- (م.ن)، ص340، ح11.
3- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، مصدر سابق، ج12، ص251، ح (16228) 4.
 
 
 
101

91

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 مفاسد الكذب

1- انتفاء الإيمان:
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ1.

يقول العلّامة المجلسيّ، الأوّل في شرح قول رسول الله: "أَرْبَى الرِّبا الكَذِبُ"، أي كما أنّ الله تعالى يمحق الربا، يمحق الكذب، وما يحصل منه أشدّ محقّاً ممّا يحصل من الربا، أو عقابه أفظع من عقاب الربا، (أو) إنّ ما يحصل من الربا بحسب الظاهر المال الكثير، وبحسب الواقع نقصان الدين، ففي الحقيقة لم يحصل له شيء، وهذا المعنى في الكذب أظهر، فإنّه لا حقيقة له2.
 

1- سورة النحل، الآية105.
2- المجلسيّ (الأوّل)، محمّد تقي: روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج13، ص7، تحقيق: السيد حسين الموسويّ الكرماني والشيخ علي پناه الاشتهاردي، قم، المطبعة: العلميّة، الناشر: بنياد فرهنگ اسلامي حاج محمد حسين كوشانپور،1399ه.ق.
 
 
 
102

92

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 2- الكذب مفتاح النفاق:

قال النبيّ "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان1، وفي رواية مسلم: وإنْ صام وصلّى، وزعم أنّه مسلم2.

وقال أيضاً: "أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النفاق حتّى يدعها: إذا ائمتن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"3.

قال رسول الله: "الكذب باب من أبواب النفاق"4. وقال أمير المؤمنين: "الكذب يؤدّي إلى النفاق"5.

3- الكذب من أقبح مصاديق الظلم:
قال تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ
 

1- البخاريّ: صحيح البخاريّ، ج1، كتاب الإيمان، ص14، بيروت، دار الفكر، 1401 - 1981 م.
2- صحيح مسلم، مسلم النيسابوري، ج1، ص56.
3- صحيح البخاريّ، ج1، كتاب الإيمان، ص14.
4- المتّقيّ الهنديّ، كنز العمال، مصدر سابق، ج3، ص621، ح 8212.
5- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص29.
 
 
 
103

93

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ1.


4- قطع الهداية:
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾2. الكذب مبدأ كلّ انحراف وضلال، فإنّ الكذب في أيّ موضوع كان هو في قِبال الحقّ والواقعيّة، فالكاذب هو المحروم عن درك الحقّ والحقيقة، في اعتقاده أو في عمله أو في قوله أو مطلقاً، ومن كان كذلك فهو محروم عن بلوغ النتيجة والمقصود، وهو في ضلال دائماً3.

5- سقوط المكانة الاجتماعيّة:
الكذب يُسقط مكانة الإنسان الاجتماعيّة، فيصبحُ حقيراً، ذليلاً، مُهاناً، مبعداً عند الناس، قال أمير المؤمنين:
 

1- سورة الزمر، الآية 32-34.
2- سورة الزمر، الآية 3.
3- الشيخ حسن المصطفويّ، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مصدر سابق، ج10، ص34.
 
 
 
104

94

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 "ثمرة الكذب، المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة"1. وقال أيضاً: "الكاذب مهانٌ ذليل"2.


6- يُبْتلى بنسيان أكاذيبه:
يُبْتلى بنسيان أكاذيبه، فيختلق ما يخالفها، ثمّ يقع في تناقضات تؤدّي به الى الفضيحة بين الناس، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَقُولُ: "إِنَّ مِمَّا أَعَانَ اللَّه بِه عَلَى الْكَذَّابِينَ النِّسْيَانَ"3.

7- يُذهب بالبهاء:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "كثرة المزاح تذهب بماء الوجه، وكثرة الضحك تمحو الإيمان، وكثرة الكذب تذهب بالبهاء"4.

8- يُخرّب إيمان صاحبه ويُفقِدَه طعمه:
وقد تقدّمت أحاديثه.
 

1- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق،، ص209.
2- (م.ن)، ص39.
3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، باب الكذب، ص341، ح15.
4- الشيخ الصدوق: الأمالي، مصدر سابق، ص 344.
 
 
 
105

95

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 9- يكون باباً للدخول في الشرور والخبائث:

قال الإمام الحسن العسكريّ: "جُعِلت الخبائثُ كلّها في بيت، وجُعِل مفتاحه الكذب"1.

10- يؤدّي إلى نقصان الرزق:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "الكذب ينقص الرزق"2.

11- فساد الدين:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "كثرة الكذب تفسد الدين وتعظم الوزر"3.

12. الندم:
وعنه عليه السلام في وصيّته لابنه الحسن عليه السلام: "عاقبة الكذب الندم"4.

13. الكذّاب كالميّت:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الكذّاب والميّت سواء، فإنّ
 

1- العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج69، ح46.
2- المتقيّ الهنديّ، كنز العمال، مصدر سابق، ج3، ص623، ح 8220.
3- الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص389.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص211.
 
 
 
106

 


96

الدرس التاسع: الكذب مفتاح الشرّ

 فضيلة الحيّ على الميّت الثقة به، فإذا لم يُوثَق بكلامه فقد بطلت حياته"1.


14- يورث الفقر:
وعنه عليه السلام: "اعتياد الكذب يُورث الفقر"2.
 

1- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج3، ص2678.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج69، ص261، ح36.
 
 
 
107

97

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 الدرس العاشر

 

أنواع الكذب


محاور الموعظة:
• الكذب على الله ورسوله.
• الكذب على الناس.

تصدير الموعظة:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ، ولَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، ولَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّه تَعَالَى ورَسُولِه، ولَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ
 
 
 
109

98

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 حَقَّ تِلَاوَتِه، ولَا سِلْعَةٌ أَنْفَقَ بَيْعاً1 ولَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِه، ولَيْسَ فِي الْعِبَادِ ولَا فِي الْبِلَادِ شَيْءٌ هُوَ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، ولَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ..."2.


تمهيد
الكذب ظلمات، بعضها فوق بعض، وأودية لا يقتحمها إلاَّ هالك، ويمكن تقسيم الكذب إلى الأقسام الآتية:
أولاً: الكذب على الله ورسوله
ومن أفظع صوره تحليل ما حرَّمه الله ورسوله، أو تحريم ما أحلَّه الله ورسوله، وكذلك من يحدِّث عن رسول الله كاذبًا متعمدًا.

قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾3.
 

1- أي الرواج.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص387، خطبة لأمير المؤمنين في إنذاره بما يأتي من زمان السوء.
3- سورة الأنعام، الآية21.
 
 
 
 
110

99

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "هَلَكَ مَنِ ادَّعَى، وخابَ مَنِ افْتَرى"1.


الكذب والافتراء قبيح عقلاً وشرعاً، سواء كان الافتراء على اللَّه أو الرّسول أو الأئّمة أو غيرهم، إلَّا أنّ القبح الَّذى هو منشأ للعقاب الأخرويّ، له مراتب متفاوتة، فالافتراء على اللَّه ورسوله ليس كالافتراء على النّاس، من حيث القبح والعذاب، ولأجل هذا عُدّ من المبطلات للصّوم دون غيره، فإنّه ليس من المبطلات، والمفترون على اللَّه ورسوله مقرّهم في الآخرة الدّرك الأسفل من النّار. وإنّ الفرق بين الجملتين، أي "هلك من ادّعى، وخاب من افترى"، هو أنّ الإنسان إذا أثبت لنفسه ما ليس فيه، فهو المراد بالجملة الأولى، ويُعبّر عنه بالادّعاء الكاذب، أو ما ليس بأهل له وإن أثبت لغيره ما لا يكون منه، فهو من قبيل الثّاني، ويُعبّر عنه بالمفتري، وإنّما عبّر عن الأوّل بقوله: "هلك"، وعن الثّاني
 

1- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص58، 16ومن كلام له لمّا بويع في المدينة وفيها يخبر الناس بعلمه بما تؤول إليه أحوالهم وفيها يقسمهم إلى أقسام.
 
 
 
111

100

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 بقوله: "خاب"، لأنّ الأوّل يوجب هلاك صاحبه من حيث تجاوزه الحدّ، وجعله نفسه في غير حدّه، والثّاني يوجب خروجه عن الإيمان، فإنّ الافتراء أشدّ أنواع الكذب1.


عن أمير المؤمنين: "ولَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّه عَلَى عَهْدِه، حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ"2.

ثانياً: الكذب على الناس
ويمكن تقسيمه إلى قسمين:
القسم الأوّل: الكذب فيما يتعلّق بشيء من أعراض الناس وأموالهم وأنفسهم، وله صور متعدّدة، منها:
اليمين الكاذبة:
ومعنى اليمين الكاذبة أن يخبر عن الماضي أو الحاضر بخبر كاذب، ولأجـل تـأكيده أو إثـباته يقسم باللّه تعالى،
 

1- محمّد تقي النقوي القايني الخراساني، مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة، ج4، ص277.
2- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص325، 210ومن كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع - وعمّا في أيدي الناس من اختلاف الخبر.
 
 
 
112

101

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 بأن يقول مثلا: "واللّه، فعلت في اليوم الفلانيّ كذا" وهذا القسم من اليـمين عُبّر عنه في الروايات بـ (اليمين الغموس)، أي يغمس صاحبه في المعصية أو في جـهنّم، كما يعبّر عنه بــ (اليـمين الحالقة)، بمعنى أنّه كالموس التي تحلق الشعر من البدن، تذهب الدين من صاحبه.


وهي من أبشع صور الكذب، وأشدّها خطراً وإثماً، فإنّها جناية مزدوجة: جرأة صارخة على المولى عزّ وجلّ بالحلف به كذباً وبهتاناً، وجريمة نكراء، تمحق الحقوق وتهدر الكرامات.

من أجل ذلك جاءت النصوص في ذمّها والتحذير منها:
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : "إِيَّاكُمْ والْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ! فَإِنَّهَا تَدَعُ الدِّيَارَ مِنْ أَهْلِهَا بَلَاقِعَ"1 (يعني خالية مقفرة).

وعنه: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وهُوَ يَعْلَمُ أَنَّه كَاذِبٌ، فَقَدْ بَارَزَ اللَّه عزّ وجلّ"2.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص436، باب اليمين الكاذبة،ح3.
2- (م.ن)، ص435، ح1.
 
 
 
113

102

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 شهادة الزور وكاتم الشهادة:

الزُّور في اللغة هو وصفُ الشيء على خِلاف حقيقته، واصطلاحاً هو تعمُّد النكث باليمين المحلوفة، وذلك لتزوير الحقائق. ويكون منطوقاً أو مكتوباً، والهدف منها التضليل للسلطة القضائيّة، وحرف مسار قضيّة ما عن مسارها الصحيح.

فشهادة الزور تعني الإقرار بالشيء، والزور يعني الكذب أو تحسين الشيء ووصفه بخلاف ما فيه. وعليه، فشهادة الزور تعني الإقرار بالشيء على خلاف واقعه وأصله، وأمّا قول الزور فهو أعمّ وأشمل، إذ يعني كلّ باطل من القول ،كالكذب والنميمة والاستهزاء والسُّخرية، وغير ذلك.

وهي كسابقتها، جريمة خطيرة، وظلم سافر هدّام، تبعث على غمط الحقوق، واستلاب الأموال، وإشاعة الفوضى في المجتمع، بمساندة المجرمين على جرائم التدليس والابتزاز.

فقد قرن القرآن الكريم النَّهي عن قول الزور بالنَّهي عن الرجس من الأوثان، لما في ذلك من تقبيح وشناعة
 
 
 
 
 
114

103

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 الزور قولاً وشهادة، يقول الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ1. وبيَّن القرآن الكريم أنّ من صفات عباد الرحمن أنَّهم لا يشهدون الزور، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا2.


قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : "لَا يَنْقَضِي كَلَامُ شَاهِدِ الزُّورِ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ، وكَذَلِكَ مَنْ كَتَمَ الشَّهَادَةَ"3.

خلف الوعد:
الوفاء بالوعد من الخلال الكريمة التي يزدان بها العقلاء، ويتحلّى بها النبلاء، وقد نوّه اللّه عنها في كتابه الكريم، فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ
 

1- سورة الحج، الآية30.
2- سورة الفرقان، الآية 72.
3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج7، ص383، باب من شهد ثم رجع عن شهادته،ح3.
 
 
 
115

104

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 رَسُولًا نَّبِيًّا﴾1 ذلك أنّ إسماعيل عليه السلام وعد رجلاً، فمكث في انتظاره سنة كاملة، في مكان لا يبارحه، وفاءً بوعده.


قال الإمام الصادق عليه السلام: "عِدَةُ الْمُؤْمِنِ أَخَاه نَذْرٌ لَا كَفَّارَةَ لَه، فَمَنْ أَخْلَفَ فَبِخُلْفِ اللَّه بَدَأَ، ولِمَقْتِه تَعَرَّضَ، وذَلِكَ قَوْلُه:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾"3.2

الكذب الساخر:
فقد يَروق لبعضهم تلفيق الأكاذيب الساخرة، للتندّر على الناس، والسخرية بهم، وهو لهو عابث خطير، يُنتج الأحقاد والآثام.

قال الإمام الصادق: "مَنْ رَوَى عَلَى مُؤْمِنٍ رِوَايَةً، يُرِيدُ بِهَا شَيْنَه، وهَدْمَ مُرُوءَتِه، لِيَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَخْرَجَه اللَّه مِنْ وَلَايَتِه إِلَى وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ، فَلَا يَقْبَلُه الشَّيْطَانُ"4.
 
 

1- سورة مريم، الآية 54.
2- سورة الصف، الآية 2-3.
3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص363، باب خلف الوعد، ح1.
4- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص358، باب الرواية على المؤمنين، ح1.
 
 
 
116

105

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 الكذب في البيع والشراء:

وللكذب في البيع والشراء صور متعدّدة، منها أنّ إخفاء البائع عن الناس عيوب سلعته، أو يُدلّس عليهم باعتماد الحلف والقسم الكاذب، لترويج بضاعته وغير ذلك.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "اليمين الكاذبة مُنفقة للسلعة، مُمحقة للكسب"1.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيه فَقَدْ طَابَ مَكْسَبُه: إِذَا اشْتَرَى لَمْ يَعِبْ، وإِذَا بَاعَ لَمْ يَحْمَدْ، ولَا يُدَلِّسُ، وفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يَحْلِفُ"2.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يقول: "إِيَّاكُمْ والْحَلْفَ! فَإِنَّه يُنَفِّقُ السِّلْعَةَ ويَمْحَقُ الْبَرَكَةَ"3.
 

1- مسند أحمد بن حنبل، ج2، مسند أبي هريرة، ص235.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص153، باب آداب التجارة، ح18.
3- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص162، باب الحلف في الشراء والبيع، ح4.
 
 
 
117

106

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 وعنه عليه السلام قال: "يَا مَعَاشِرَ السَّمَاسِرَةِ، أَقِلُّوا الأيمان، فَإِنَّهَا مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلرِّبْحِ"1.


وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "قال رسول اللَّه: مَنْ بَاعَ واشْتَرَى فَلْيَحْفَظْ خَمْسَ خِصَالٍ، وإِلَّا فَلَا يَشْتَرِيَنَّ ولَا يَبِيعَنَّ: الرِّبَا، والْحَلْفَ، وكِتْمَانَ الْعَيْبِ، والْحَمْدَ إِذَا بَاعَ، والذَّمَّ إِذَا اشْتَرَى"2.

القسم الثاني: الكذب على الناس فيما لا يتعلّق بأعراضم وأموالهم وأنفسهم، وله عدّة صور منها:
1- الكذب في ادّعاء الفضائل، وما ليس له:
يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "من ادّعى ما ليس له فليس منّا، ولْيتبوأْ مقعده من النار"3.

2- ادّعاء المقامات العلميّة والدينيّة من غير استحقاق:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الناس ثلاثة أصناف: صنف بَيّن
 
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص162، باب الحلف في الشراء والبيع.
2- (م.ن)، ج5، ص151، باب آداب التجارة، ح2.
3- سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني، ج2، باب من ادعى ما ليس له وخاصم فيه،ح 2319.
 
 
 
118

107

الدرس العاشر: أنواع الكذب

 بنورنا، وصنف يأكلون بنا، وصنف اهتدوا بنا، واقتدوا بأمرنا، هم أقلّ الأصناف، أولئك الشيعة النجباء الحكماء والعلماء الفقهاء والأتقياء الأسخياء، طوبى لهم وحسن مآب!"1.

 


1- الهلالي الكوفي، سليم بن قيس: كتاب سليم بن قيس، ص 463، تحقيق: محمّد باقر الأنصاري الزنجاني، 1422- 1380 ش، المطبعة: نگارش، الناشر: دليل ما،ط1، كلمة أمير المؤمنين عليه السلام لخواص شيعته في أواخر أيّامه.

 

 

 

119


108

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 الدرس الحادي عشر

 

سباب الكذب وعلاجه


محاور الموعظة:
• أسباب الكذب.
• علاج الكذب.
 
 
 
 
 
121

109

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 تصدير الموعظة:

كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: "إِيَّاكُمْ والْكَذِبَ! فَإِنَّ كُلَّ رَاجٍ طَالِبٌ، وكُلَّ خَائِفٍ هَارِبٌ"1.

خطورة الكذب وقبحه حسب الرؤية القرآنيّة
قبل عرض بعض الآيات التي بيّنت خطورة الكذب، نشرح كلام الإمام المتقدّم الذي حذّر من الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى غيرهما، وفي ادّعاء الدين مع ترك العمل به، ورغّب في الصدق بأنّ الكذب ينافي الإيمان، وذلك لأنّ الكاذب لم يطلب الثواب، وكلّ من لم يطلب الثواب فهو ليس براجٍ بحكم المقدّمة الأولى، ولم يهرب من العقاب، وكلّ من لم يهرب من العقاب فهو ليس بخائف بحكم المقدّمة الثانية، ومن انتفى فيه الخوف والرجاء فهو ليس بمؤمن، كما هو المقرّر عند أهل الإيمان، ودلّت عليه الروايات، والله يعلم حقيقة كلام وليّه2.

قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ﴾3. وقال: ﴿انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص343، باب الكذب، ح21.
2- محمّد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج9، ص408.
3- سورة يونس، الآية69.
 
 
 
122

110

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا﴾1, وقال: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾2.


أولاً: لا يحصد الكاذب من كذبه سوى الخيبة والخسران، أي لا يفلحون.

ثانياً: الكذب إثم مبين، والإثم هو البطء والتأخّر، يقال: ناقة آثمة، أي متأخّرة. الإثم والآثام اسم للأفعال المُبطئة عن الثواب، وجمعه آثام3. فالإثم في أغلب استخداماته يعني البطء أو الحرمان، فالآثام التي يقوم بها الإنسان تؤدّي إلى إبطاء حركته تجاه الله تعالى. ولذا، يطلق الإثم على بعض الذنوب، كالخمر والكذب.

ثالثاً: من شدّة بشاعة قول الزور قرنه الله تعالى مع عبادة الأوثان، ونهى بكلمة واحدة عنهما، وهي الاجتناب مع تكرارها.
 

1- سورة النساء، الآية50.
2- سورة الحج، الآية30.
3- راجع: مقاييس اللغة، لابن فارس، مصباح اللغة للفيوميّ، المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهانيّ.
 
 
 
123

111

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 أسباب الكذب

الكذب له أسبابه وموجباته، أي إنّ الإنسان يكذب لسبب معيّن، أو دافع معيّن، وقد ذكرت الدراسات النفسيّة أسباباً متعدّدة نذكر منها الآتي:
1- الخوف من العقوبة: وهو من الدوافع التي تَضطَرّ الفرد إلى الكذب خوفاً من العقوبة، وإن هو صدق في قوله فلن يأمن المجازاة ممّا اقترف.

2- كثرة الضغوط: قد يلجأ الفرد إلى الكذب في بعض الموارد، حينما يشعر أنّ الصدق يجلب له الضغوط، ويعمد إلى إخفاء الحقيقة أو تبديلها.

3- الضعف والعجز: فيُضطَرّ الفرد حينها إلى اختلاق الأعذار والأكاذيب، كأنْ يدّعي عدم وجود الوقت الكافي لديه، أو أنّه لا يجيد إنجاز هذا العمل، أو يتمارض ويتظاهر بالعجز، وأمثال ذلك من الذرائع.

4- الحسد والتنافس: تنشأ بعض الأكاذيب من الحسد والتنافس، فإذا لم تكن للفرد المواصفات الكافية في
 
 
 
 
124

112

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 العمل، أو فشل في مجاراة أقرانه في المنافسة، فسيجد نفسه حينذاك مُضطرّاً لانتهاج مسلك الكذب والتصنّع.


5- لفت الأنظار: حينما يشعر الفرد بأنّه وجود منسيّ ولا حساب له، ويتصوّر أن لا مكانة له ولا وجود يستحقّ الاعتبار بين هذه الجماعة، فيبادر إلى الحديث عن مسألة لا وجود لها في الواقع، ويُضفي عليها ألواناً برّاقة من التهويل والتعظيم من أجل جلب انتباههم ولفت أنظارهم.

6- الغرور والمباهاة: تُظهر بعض التحقيقات أنّ أكثر من 15 % من أنواع الكذب منشأها المباهاة وصيانة الغرور.

7- التستّر على الخطأ: حينما يقع الفرد في أيّ خطأ أو منزلق يشعر بأنّه سيتعرّض للمهانة الاجتماعيّة بسبب الطعن والتوبيخ الذي سيلقاه على أيدي الآخرين، فيبادر إلى معالجة الموقف بالكذب في سبيل التغطية على خطئه، ولأجل الإفلات ممّا قد يتعرّض له من استهزاء واحتقار.
 
 
 
 
125

113

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 8- الآمال والأماني: وقد تعكس أكاذيب الفرد أحياناً ما يدور في مخيّلته من آمال وأمنيات فيتحدّث عن هذه الأمنية أحياناً وكأنّها واقع قائم.


9- الانتقام: ويمثّل الكذب في بعض المواقف نوعاً من الانتقام.

وإذا لاحظنا هذه الأسباب وغيرها وتمكّنّا من علاجها، فعند ذلك نفهم أنّه من خلال معالجة الكذب نعالج عشرات الأمراض النفسيّة والآفات الاجتماعيّة، ونعرف عظمة الصدق وقيمته. وسنحاول أن نبيّن علاجاً لظاهرة الكذب سواء للأسباب المشار إليها أم غيرها.

علاج الكذب
أولاً: الاستعانة بالله تعالى:
"إنّ للمَلَك لَمَّةً، وللشيطان لَمَّةً، فلَمَّةُ الملَك إيعادٌ بالخير، وتصديق بالحقّ، فمن وجد ذلك فليحمد الله، ولَمَّةُ الشيطان إيعاد بالشرِّ، وتكذيب بالحقِّ، فمن وجد من ذلك شيئاً فلْيستعذ بالله من الشيطان"1.
 

1- العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص50.
 
 
 
126

114

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 ثانياً: العمل بوصايا النبيّ وأهل البيت عليهم السلام:

النبيّ وأهل البيت يوصون في أكثر من حديث بتحرِّي الصدق وملازمة الصادقين، ويُحذِّرون من الكذب والكذَّابين، وقد مرت هذه الأحاديث في الدروس السابقة.

ثالثاً: الوقوف على فضل الصدق وحال الصادقين، وبشاعة الكذب وحال الكاذبين:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم، أضمن لكم الجنّة: اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم"1.

رابعاً: معرفة خلفيّات الكذب
لا بدّ من معالجة الدواعي التي ألجأت هؤلاء للكذب، سواء أكانو صغاراً أم كباراً، فالعلاج لا يكمن في العقوبة،
 

1- الكراجكي، أبو الفتح: كنز الفوائد، ص184، المطبعة: غدير، الناشر: مكتبة المصطفويّ، قمّ، 1369 ش، ط2.
 
 
 
127

115

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 بل بالكشف عن الأسباب والمعالجة لها بالتدرّج. وتختلف أساليب المعالجة حسب الفئة العمريّة، ومنها:

1 - عند الأطفال:
يمكن اتّباع الأساليب والوسائل الآتية:
التمرّن بشكل دائم على قول الحقيقة، وذلك باعتماد سرد القصص والحكايات التي ستجسّد للطفل فشل الإنسان الذي يتّبع أسلوب الكذب، وتبيّن نجاح الشخصيّة التي تعتمد على الحقيقة والصدق، والتركيز في قصص الأنبياء والأئمّة والعلماء والصالحين.

2- تدعيم الثقة بالنفس لدى الطفل:
أ - المرونة والتسامح: اعتماد مبدأ التسامح مع الأطفال، مع التنبيه وحَثّ الطفل على قول الحقيقة.

ب - التنبيه والتحذير: اعتماد مبدأ الترغيب والترهيب، ودراسة طبيعة الحالات، لأنّ بعضها قد يحتاج إلى العقوبة.
 
 
 
 
128

116

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 3- عند المراهقين:

أ- التربية السليمة: اعتماد أسس التربية الإسلاميّة الصحيحة ومبانيها التي لا مجال لذكرها في هذا الدرس.

ب- القدوة: يعني إيصال الخلق الحسن عن طريق السلوك الإيجابيّ. من الأدلّة التي تبيّن أهمّيّة أسلوب القدوة قوله عزّ وجلّ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾1, فالآية الكريمة بيّنت لنا المثال الأوّل الذي ينبغي أن نقتدي به، وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . ومن الأدلّة المرشدة إلى أهمّيّة هذه الوسيلة وخطورتها قوله تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، فإنّ من حِكَم النهي عن أن يخالف القول العمل إعطاء القدوة الحسنة واجتناب القدوة السيّئة.
 

1- سورة الأحزاب، الآية21.
 
 
 
129

117

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 ج - تجنّب العقاب: عدم اعتماد العقاب كمبدأ، لا إلغاء العقاب بالمطلق.


د- اختيار الأصدقاء: من الضروريّ أن يساعد الأهل أبناءهم على اختيار الأصدقاء أو ترشيد علاقات أبنائهم مع الآخرين.

4- عند الكبار:
إقناع الشخص بأنّ الكذب يعتبر من الأخلاق الذميمة، والصفات السيّئة التي تؤدّي بالإنسان إلى الهلاك وتبعده عن سمة الصلاح والتقوى.

يجب إقناع الإنسان الذي يكذب بأنّ الكذب ليس وسيلة للنجاة والخلاص من المواقف الصعبة، بل يمكن أن يزيد الكذب الأمور تعقيداً في الكثير من الأحيان.

إقناع الشخص الذي يكذب بأنّ هناك طرائق أخرى تغني الإنسان عن الكذب، من قبيل التورية وغيرها التي يذكرها الفقهاء، ولا بدّ من معرفة الضوابط الشرعيّة لهذه الوسائل لكي لا يقع الإنسان بالكذب.
 
 
 
130

118

الدرس الحادي عشر: سباب الكذب وعلاجه

 خامساً: اجتناب كثرة الكلام

عن أمير المؤمنين: "ومن كثر كلامه كثر خطؤهُ، ومن كثر خطؤهُ قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار"1.

عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تمزح فيذهب نورك، ولا تكذِبْ فيذهب بهاؤك، وإيّاك وخَصلتين: الضجر، والكسل! فإنّك إنْ ضجرت لم تصبر على حقّ، وإن كسلت لم تُؤدِّ حقّاً، قال: وكان المسيح عليه السلام يقول: من كثر همّه سقم بدنه، ومن ساء خلقه عذّب نفسه، ومن كثر كلامه كثر سقطه2، ومن كثر كذبه ذهب بهاؤه، ومن لاحى3 الرجال ذهبت مروءته"4.

ومن المهمّ جدّاً التركيز في ثقافة الصمت، يقول لقمان: "الصمت من الحكمة، وقليل فاعله"5.
 

1- ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، مصدر سابق، ص89، وصيته عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام.
2- السقط: الخطأ في القول والفعل.
3- الملاحاة: المنازعة والمخاصمة.
4- الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص636، ح853.
5- الحاكم النيسابوريّ: المستدرك، ج2، ص 423، تحقيق: إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
 
 
 
131

119

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 الدرس الثاني عشر

 

الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة


محاور الموعظة:
• أجمع آية في الأخلاق.
• المدارة والعفو والمسامحة، وصلتها بالصدق.

تصدير الموعظة:
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيه كَمُلَ إِيمَانُه، وإِنْ كَانَ مِنْ قَرْنِه إِلَى قَدَمِه ذُنُوباً لَمْ يَنْقُصْه ذَلِكَ، قَالَ: وهُوَ الصِّدْقُ وأَدَاءُ الأَمَانَةِ والْحَيَاءُ وحُسْنُ الْخُلُقِ"1.
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص100، باب حسن الخلق، ح3.
 
 
 
133

120

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 تمهيد

كما أنّ الكذب من أخطر الآفات الاجتماعيّة ويؤثّر في منظومة كبيرة من القيم، كذلك الصدق فإنّه من أعظم القيم في بناء المجتمع بل لا يقوم المجتمع الإنسانيّ والإسلاميّ إلّا على الصدق.

وكثيرة هي الأخلاق الاجتماعيّة التي أمر بها الإسلام كالمدارة، والمسامحة، والعفو... قائمة على الصدق.

أجمع آية في الأخلاق
رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "أمر الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها"1، وهي قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾2.
 

1- الشيخ الطبرسيّ: تفسير جوامع الجامع، ج1، ص732، تحقيق: مؤسّسة النشر الإسلاميّ، الناشر: مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، 1418، ط1.
2- سورة الأعراف، الآية 199.
 
 
 
134

121

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 فهذه الآية القصيرة الوجيزة تتضمّن منهجاً جامعاً واسعاً كلّيّاً في المجالات الأخلاقيّة والاجتماعيّة، بحيث يمكننا أن نجد فيها جميع المناهج الإيجابيّة البنّاءة والفضائل الإنسانيّة. وكما يقول بعض المفسّرين: إنّ إعجاز القرآن بالنسبة إلى الإيجاز في المبنى، والسعة في المعنى، يتجلّى في الآية محلّ البحث تماماً. وينبغي الالتفات إلى أنّ الآية، وإن كانت تخاطب النبيّ نفسه، إلّا أنّها تشمل جميع الأمّة والمبلّغين والقادة1. والوظائف التي ذكرتها الآية هي:

"خُذِ الْعَفْوَ" أي خذ ما عفا من أفعال الناس وتسهّل، ولا تطلب ما يشقّ عليهم من العفو الذي هو ضدّ الجهد أو خذ العفو عن المذنبين.

"وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ" بالمعروف المستحسن من الأفعال.

"وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ" فلا تُمارهم، ولا تُكافِهم بمثل أفعالهم، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق، آمرة للرسول
 
 

1- ينظر: الشيخ الشيرازي، تفسير الأمثل، مصدر سابق، ج 5، ص 341 (بتصرف).
 
 
 
 
135

122

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 باستجماعها1. وكلّ هذه الأمور المقدّسة الموجودة في الآية الشريفة متوقّفة على فضيلة الصدق بالبيان الآتي.


المدارة والعفو والمسامحة، وصلتها بالصدق:
هناك تعابير كثيرة وردت في الروايات، تكشف عن كيفيّة بناء العلاقات بين الناس، من قبيل التودّد إلى الخلق، لين الجانب، خفض الجناح، طيب الكلام، ومداراة الرجل زوجته، مداراة المرأة لزوجها، العفو، الرفق، الحلم، وغير ذلك من العناوين، نذكر منها:
قال صلى الله عليه وآله وسلم : "مدارة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش"2.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس في غير ترك حقّ"3.
 

1- الفيض الكاشانيّ، الوافي، ج4، ص 260.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص145، ح48.
3- (م.ن)، ح48.
 
 
 
136

123

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : "ثَلَاثٌ مَنْ لَمْ يَكُنَّ فِيه لَمْ يَتِمَّ لَه عَمَلٌ: وَرَعٌ يَحْجُزُه عَنْ مَعَاصِي اللَّه، وخُلُقٌ يُدَارِي بِه النَّاسَ، وحِلْمٌ يَرُدُّ بِه جَهْلَ الْجَاهِلِ"1.


عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : "أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ، كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ"2.

وقد وردت روايات كثيرة تحثّ على الرفق، وهو يعني لين الجانب، والرأفة، وترك العنف والغلظة في الأفعال والأقوال، على الخلق في جميع الأحوال، سواء صدر عنهم بالنسبة إليه خلاف الأدب، أو لم يصدر، وفي الرواية عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قُفْلاً، وقُفْلُ الإيمان الرِّفْقُ"3، وفيه تشبيه الإيمان بالجوهر النفيس الذي يعتنى بحفظه، والقلب بخزانة والرفق بالقفل، لأنّه يحفظه عن خروجه وطروء المفاسد عليه، فإنّ الشيطان سارق الإيمان،
 

1- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص116، باب المدارة، ح1.
2- الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص117، ح4.
3- (م.ن)، ج2، ص118، باب الرفق، ح1.
 
 
 
137

 


124

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 ومع فتح القفل وترك الرفق، يبعث الإنسان على أمور من الخشونة والفحش والقهر والضرب وأنواع الفساد، وغيرها من الأمور التي توجب نقص الإيمان أو زواله.


وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ1.

إنّ المشورة مع الناس من أسباب جلب القلوب ومشاركتهم للوالي في الأمور، واجتماعهم حوله وعدم انفضاضهم عنه، وليست مشاورة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معهم - وإن كان عالماً بالأمور بتعليم الله- أمراً صوريّاً ظاهريّاً، لما في هذا الأمر نفسه من المصالح كما قد يتوهّم، بل ظاهر قوله تعالى: "فَإِذا عَزَمْتَ" أنّ عزمه كان بعد الشورى. والروايات في الحثّ على هذا الأمر كثيرة جدّاً، ربّما تبلغ حدّ التواتر2.
 

1- سورة آل عمران، الآية 159.
2- الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم: بحوث فقهيّة مهمّة، ص 493. قمّ، نسل جوان، 1422ه.ق، ط1.
 
 
 
138

125

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 وإذا لاحظنا الآية، فقد تقدّم العفو على الاستغفار لهم والمشورة، باعتبار أنّ العفو من أهمّ الصفات الاجتماعيّة، والعفو صفة من صفات الله تعالى: "وهو الذي يمحو السيّئات، ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور، ولكنّه أبلغ منه، فإنّ الغفران ينبئ عن الستر والعفو ينبئ عن المحو، والمحو أبلغ من الستر، وحظّ العبد من ذلك لا يخفى، وهو أن يعفو عن كلّ من ظلمه، بل يحسن إليه كما يرى الله تعالى محسناً في الدنيا إلى العصاة والكفرة غير معاجل لهم بالعقوبة، بل ربّما يعفو عنهم بأن يتوب عليهم، وإذا تاب عليهم محا سيّئاتهم، إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وهذا غاية المحو للجناية"1.


وقال تعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ
 

1- الغزالي الطوسيّ، أبو حامد محمد بن محمد، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، ج1، ص140 تحقيق بسّام عبد الوهاب الجابي الناشر: الجفان والجابي، قبرص، 1407 – 1987، ط1.
 
 
 
 
139

126

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾1.


فقد ذكرت الآية الكريمة مجموعة من علامات المتّقين، وهي - باختصار -:
المسارعة إلى المغفرة:
حين تهمّ بالحركة في ميدان السباق، فلا هدف يتناسب مع كرامتك وعظمتك أقلّ من "مغفرة الله"، ومن بعدها جنّة عرضها السموات والأرض.

الغفران، إنّه يعني معالجة هذا الجرح وإزالة آثاره، هذا هو الغفران. ويجري هذا بتلافي ما أنزله الذنب في الروح من انتكاس، ودفعها نحو السمو والارتفاع (من جهة العبد).

أمّا بالنسبة لرب ّالعالمين فهو "الغفّار": ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى2.
 
 

1- سورة آل عمران، الآيتان 133-134.
2- سورة طه، الآية 82.
 
 
 
 
140

 


127

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 الإنفاق:

الإنفاق هو بذل المال، ولكن أن يكون البذل يسدّ حاجة حقيقيّة.

قد يكون ظاهر هذا البذل في سبيل الخيرات، لكنّه لا يسدّ ثغرة ولا يلبّي حاجة، فيكون صاحبه من الأخسرين أعمالاً في تعبير القرآن الكريم.

كظم الغيظ:
كظم الغيظ، عدم الانسياق وراء الأحاسيس، إنّه تحكيم العقل في الظروف كلّها.

الغيظ أحيانا يقترن بالعقل، فالقرآن يعبّر عن المؤمنين بأنّهم: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ1, هنا الشدّة من مظاهر الغيظ.

القرآن لا يدين غيظ الأمّة على من يجب أن تغتاظ منه، بل يطلب أن لا تنطلق مواقف الإنسان وأعماله من
 

1- سورة الفتح، الآية 29.
 
 
 
141

128

الدرس الثاني عشر: الصدق منظومة اجتماعيّة متكاملة

 الغيظ. كظم الغيظ غير ترك الشدّة في المواقف اللازمة.


العفو عن الناس:
العفو عمّا صدر من الناس من زلاّت، من مظاهر الإنسان الذي يستهدف أن يعيش في الساحة الاجتماعيّة لإنقاذ المذنبين.

العفو عن زلّات الناس هو من الإحسان1.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ، فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْه شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْه"2.

والنتيجة من كلّ ما تقدّم أنّ المدارة والصفح والعفو والمسامحة تكشف عن صدق واضح وصريح في المعاملة مع الناس، وهذه الصفات وغيرها أشدّ الموارد ارتباطاً بالصدق.
 

1- ينظر: الإمام الخامنئيّ: مشروع الفكر الإسلاميّ في القرآن، الجلسة الأولى الإيمان، ترجمة: محمّد علي آذرشب، ص 42-43، إعداد صهبا، إصدار دار المعارف الإسلاميّة، 2017م، ط1. (بتصرّف وتلخيص).
2- نهج البلاغة، حكم أمير المؤمنين، مصدر سابق، حكمة رقم 11، ص 470.
 
 
 
142

129
كُن صادقاً