الفقه المقارن


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم‏

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين 

وبعد‏...
 
فان هذا الكتاب يحتوي على مجموعة من البعوث القيمة التي تعالج اللهم المسائل الفقهية الخلافية التي يدور حولها جدل فقهي بين المذاهب الإسلامية، تم عرضها بطريقة علمية استدلالية بهدف تحقيق تفاهم فقهي اكبر بين الفرق الإسلامية، وبلورة ثقافة فقهية معتقة في فروع خلافية هامة من الفقه الإسلامي.

وقد جمعنا معظم هذه البحوث من مؤلفات العالم الكبير آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره وخاصة مما كتبه في رسالته الوجيزة المعروفة بـ مسائل فقهية، وفي كتابه القيم،لنص والاجتهاد،اللذين عالج فيهما بعض المسائل الفرعية المختلف فيها بروح علمية وموضوعية معتمداً. في ترجيح رأي على آخر. على الحجة القوية والبراهين الجلية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. 
 
 
5

 


1

المقدمة

 ولذلك فقد امتازت هذه المباحث بالأسلوب الواضح المتين، والموازنة بين الآراء، المختلفة بموضوعية، والاحترام للرأي الآخر، والدقة التامة في المعالجة، "وهي تكشف بوضوح عن أن فرقة الامامية الاثنا عشرية لا تختار فرعاً من الفروع الفقهية ولا تعتمد رأيا إلاَّ ان تكون على بينة من أمرها ودقة بالغة في اختيارها، فالاعتماد دوماً على الآيات المحكمة من كتاب الله والروايات الصحيحة من سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فعليهما المعول واليهما المفزع يأخذان بالاعناق إلى ما تذهب إليه". 

لقد أبقينا على نفس المطالب كما وردت في مصادرها من دون أدنى تصرف، لا ني الشكل ولا في المضمون، والتصرف الوحيد الذي قمنا به هو في تنظيم وترتيب البحوث من حيث التقديم والتأخير لضرورات فنية ومنهجية، واخترنا للكتاب عنوان "الفقه المقارن" لانطباق هذا العنوان على جميع بحوثه حيث إن الفقه المقارن "هو جمع الآراء الفقهية المختلفة وتقييمها والموازنة بينها بالتماس أدلتها وترجيح بعضها على بعض".

والله نسأل أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه لله وهو ولي التوفيق.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين‏.
 
 
6

2

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء 


اختلف علما، الإسلام في نوع طهارة الأرجل من أعضا، الوضوء،فذهب فقها، الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى وجوب الغسل فرضاً على التعيين، وأوجب داود بن علي، والناصر للحق من أئمة الزيدية الجمع بين الغسل والمسح1 ورب قائلٍ منهم بالتخيير بينهما2 والذي عليه الامامية تبعاً لأئمة العترة الطاهرة مسحها فرضاً معيناً3.

حجة الامامية

هي قوله تعالى: "وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ"4.

وقد كفانا الأمام الرازي بيان الوجه في الاحتجاج بهذه الآية بما صدع به مفصلاً إذ قال: حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين 
________________________________________
1- نقل عنهما فخر الدين الرازي حول آية الوضوء، من تفسيره الكبير وكأنهما وقعا في حيرة فالتبس الأمر عليهما بسبب التعارض بين الآية والأخبار، فأوجبا الجمع عملاً بهما مع.
2- كالحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري فيما نقله عنهما الرازي وغيره وكأنهما حيث كان كل من الكتاب والسنة حقاً لا يأتيه الباطل رأياً ان كلأ من المسح والغسل حق وان الواجب أحدهما على سبيل التخيير.
3- وهذا مذهب ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي والإمام ابي جعفر الباقر فيما ذكره الرازي في تفسيره نقلاً عن تفسير القفال. قلت وعليه سائر أئمتنا عليهم السلام.
4- سورة المائدة، الآية: 6.
 
 
7

3

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 المشهورتين في قوله وأرجلكم قال: فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم _ في رواية أبي بكر عنه _ بالجر، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم _ في رواية فص عنه _ بالنصب قال: فنقول: أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل، قال: فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار؟ كما في قوله: جحر ضب خرب وقوله: كبير أناس في بجاد مزمل، قلنا: هذا باطل من وجوه: 


الأول: ان الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر وكلام الله يجب تنزيهه عنه.

وثانيها: أن الكسر على الجوار إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: جحر ضب خرب، فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.
وثالثها: أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب قال: وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً أنها توجب المسح وذلك لأن قوله: وامسحوا برؤوسكم، فرؤوسكم في محل النصب _ بامسحوا لأنه المفعول به _ ولكنها مجرورة لفظاً بالبا، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس1 وجاز الجر عطفاً على الظاهر قال: إذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه 

________________________________________
1- وهذا في كلامه كثير، قالو: ليس فلان بعالم ولا عاملاً و.نشد بعضهم: 
معاوي أننا بشر فاسجح                           فلسنا بالجبال ولا الحديدا
 وقال تأبط شراً:
هل أنت باعث على دينار لحاجتنا               أو بعد رب أخا عون بن مخراق
بنصف عبد عطفا على موضع دينار.
 
 
8

4

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 يجوز أن يكون عامل النصب في قوله وأرجلكم هو قوله وامسحوا1 ويجوز أن يكون هو قوله فاغسلوا2 أ لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان أعمال الأقرب أولى3. قال: فوجب أن يكون عامل النصب في قوله وأرجلكم هو قوله وامسحوا. قال: فثبت أن قراءة وأرجلكم بنصف اللام توجب المسح أيضاً. قال: ثم قالوا ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد4 ونسخ القرآن بخبر الواحد لايجوز.


هذا كلامه بلفظه5 لم يتعقبه، ولكنه قال: إن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه6. قال: وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها... الخ.

قلت: أما أخبار الغسل فستعلم رأي أئمة أهل البيت وأوليائهم فيها قريباً إن شاء الله تعالى.

وأما قوله بأن الغسل مشتمل على المسح فمغالطة واضحة بل هما حقيقتان لغة وعرفاً وشرعاً7 فالواجب إذا هو القطع بأن غسل الأرجل لا 
________________________________________
1- بل يجب ذلك، ولا يجوز كون العامل فأغسلوا لما ستسمعه.
2- بل لا يجوز ذلك قطعاً لاستلزامه عطف الأرجل على الوجوه، وهذا ممنوع باتفاق اهل اللغة لعدم جواز الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بمفرده فضلاً عن الجملة الأجنبية.
3- ليس هنا إلاَّ عامل واحد وهو وامسحوا لما بيناه.
4- بل هي مما لم يثبت عندنا أصل.
5- فراجعه في ص 37، من الجز، الثالث من تفسيره الكبير حول آية الوضو، من المائدة.
6- لا يأتي الاحتياط إلاَّ بالجمع بين المسح والفسل لكونهما حقيقتين مختلفتين.
7- لأن الغسل مأخوذ في مفهومه سيلان الم، على المغسول ولو قليلاً والمسح مأخوذ في مفهومه عد م السيلان والاكتفاء بمرور اليد على الممسوح.
 
 
9

5

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 بنصف عبد عطفاً على موضع دينار.


يقوم مقام مسحها، لكن الإمام الرازي وقف بين محذورين هما مخالفة الآية المحكمة ومخالفة الأخبار الصحيحة في نظره فغالط نفسه بقوله ان الغسل مشتمل على المسح وأنه أقرب إلى الاحتياط وأنه يقوم مقام المسح ظناً منه بأنه قد جمع بهذا بين الآية والأخبار، ومن أمعن في دفاعه هذا وجده في ارتباك ولولا أن الآية واضحة الدلالة على وجوب المسح ما احتاج إلى جعل الغسل قائماً مقامه فأمعن وتأمل ملياً.

وعلى هذا المنهاج جرى جماعة من جهابذة الفقه والعربية منهم الفقيه البحاثة الشيخ إبراهيم الحلبي إذ بحث الآية في الوضوء من كتابه - غنية المتملي في شرح منية المصلي على المذهب الحنفي _ فقال: قرئ في السبعة بالنصب والجر، والمشهور ان النصب بالعطف على وجوهكم والجر على الجوار. قال: والصحيح ان الأرجل معطوفة على الرؤوس في القراءتين، ونصبها على المحل، وجرها على اللفظ، قال: وذلك لامتناع العطف على وجوهكم للفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي (وامسحوا برؤوسكم ). قال: والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلاً عن الجملة. قال: ولم نسمع في الفصيح ضربت زيداً ومررت ببكر وعمراً بعطف عمراً على زيداً. قال: وأما الجر على الجوار فإنما يكون على قلة في النعت كقول بعضهم: هذا جحر ضب خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر: 

يـا صــاح بلــغ ذوي الزوجات كلهم      *      أن ليـس وصـل لم ذا انحلت عري الذنـب

بجر كلهم على ما حكاه القراء قال: وآما في عطف النسق فلا يكون 
 
 
10

6

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 لأن العاطف يمنع المجاورة هذا كلامه بنصه1.


وممن نمج هذا المنهاج الواضح أبو الحسن الإمام محمد بن عبد الهادي المعروف بالسندي في حاشيته على سنن ابن ماجة إذ قال: (بعد ان جزم بأن ظاهر القرآن هو المسح) وإنما كان المسح هو ظاهر الكتاب لأن قراءة الجر ظاهرة فيه وحمل قراءة النصب عليها بجعل العطف على المحل أقرب من حمل قراءة الجر على قراءة النصب كما صرَّح به النحاة. قال: لشذوذ الجوار واطراد العطف على المحل. قال: وأيضاً فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه فصار ظاهر القرآن هو المسح هذا نصه2 لكنه كغيره أوجب حمل القرآن على الأخبار الصريحة بالغسل.

وتفلسف الإمام الزمخشري في كشافه حول هذه الآية إذ قال: الأرجل من بين الأعضاء المغسولة الثلاثة تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ،ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها. قال: وقيل إلى الكعبين فجي، بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة.

هذه فلسفته ني عطف الأرجل على الرؤوس وني ذكر الغاية من الأرجل، وهي كما ترى ليت في شي، من استنباط الأحكام الشرعية عن 
________________________________________
1- فراجعه في ص 16 من غنية المتملي المعروف بحلبي كبير وهو موجود أيضاً في مختصره المعروف بحلبي صغير وكلاهما منشور مشهور.
2- في تعليقه على ما جاد في غسل القدمين ص 88 من الجزء الأول من شرح سنن ابن ماجه والذين صرحوا بما صرح به الرازي والحلبي والسندي كثيرون لا يسعنا استقصاؤهم فحسبنا هؤلاء الأئمة الثلاثة عليهم رحمة اله تعالى
 
 
11

7

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 الآية المحكمة ولا شي، من تفسيرها ولا الآية بدالة على شي، منهابشي، من الدوال وإنما هي تحكم في تطيق الآية على مذهبه بدلاً من استنباط المذهب من الأدلة ،وقد أغرب في تكهنه بما لا يصغي إليه إلاَّ من كان غسل الأرجل عنده مفروغاً عنه بحكم الضرورة الأولية أما مع كونه محل النزاع فلا يؤبه به ولا سيما مع اعترافهم بظهور الكتاب في وجوب المسح وحسبنا في ذلك ما توجبه القواعد العربية من عطف الأرجل على الرؤوس الممسوحة بالإجماع نصاً وفتوى.


نظرة في أخبار الغسل

أخبار الغسل قسمان: 

منها: ما هو غير دال عليه ،كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قال - كما في الصحيحين _ تخلَّف عنا النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في سفر سافر ناه معه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى: ويل للأعقاب من النار1

وهذا لو صح لاقتضى المسح إذ لم ينكره صلى الله عليه وآله وسلمعليهم بل أقرَّهم عليه كما ترى وإنما أنكر عليهم قذارة أعقابهم، ولا غرو فإن فيهم أعراباً حفاة جهلة بوَّالين على أعقابهم ولا سيما في السفر نتوعَّدهم بالنار لئلاَّ يدخلوا في الصلاة بتلك ألأعقاب المتنجسة.

ومنها: ما هو دال على الغسل ،كحديث حمران مولى عثمان بن عفان إذ قال: رأيت عثمان وقد أفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه ني الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر، 
________________________________________
1- هذه الكلمة _ ويل للأعقاب من النار _ جاءت أيضاً في حديث كل من عمرو وعائشة وأبي هريرة صحيحة على شرط الشيخين.
 
 
12

8

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 الحدث1. وقد جاء فيه: ثم غسل كل رجل ثلاثاً. ثم قال: رأيت النبي  صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ نحو وضوئي. ومثله حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وقد قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفدعا بإناء فأكفأ منها على يديه، الحديث2. وفي آخره: ثم غسل رجليه إلى الكعبين. ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إلى غير ذلك من أخبار جاءت في هذا المعنى.


وفيها نظر من وجوه: 

أحدها: أنها جاءت مخالفة لكتاب الله عزَّ وجل ولما أجمعت عليه أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام3 والكتاب والعترة ثقلا رسول الله(ص)لن يفترقا أبدا ولن تضل الأمة ما إن تمسكت بهما فليضرب بكل ما خالفهما عرض الجدار.

وحسبك في انكار الغسل ووهن أخباره ما كان من حر الأمة وعيبة الكتاب والسنَّة عبد الله بن عباس إذ كان يحتج للمسح فيقول4: افترض الله غسلتين ومسحتين الا ترى أنه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين.

وكان يقول5: الوضوء غسلتان ومسحتان6، ولما بلغه أن الربيع 

________________________________________
1- أخرجه البخاري.
2- أخرجه مسلم.
3- أجمعوا عليهم السلام على وجوب المسح وتلك نصوصهم في وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة وفي سائر المؤلفات في فقههم وحديثهم.
4- كما في صفحة 103 من الجزء الخامس من كنز العمال وهو الحديث 2213.
5- كما في ص103 من الجزء الخامس من كنز العمال هو الحديث 2211.
6- ومنه أخذ الإمام الشريف بحر العلوم في منظومته الفقهية (درة النجف ) إذ يقول: 
الوضوء غسلتان عندنا                ومسحتان والكتاب معنا 
فالغسل للوجه ولليدين                والمسح للرأس وللرجلين
 
 
 
13

9

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 بنت معوذ بن عفرا، الأنصارية تزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلمتوضَّأ عندها فغسل رجليه، أتاها يسألها عن ذلك وحين حدَّثته به قال _ غير مصدق بل منكراً ومحتجا _ ان الناس أبوا إلأ الغسل ولا أجد في كتاب الله إلا المسح1.


ثانيها: أنها لو كانت حقا لا ربت على التواتر لأن الحاجة إلى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة عامة لرجال الأمة ونسائها أحرارها ومماليكها وهي حاجة لهم ماسة في كل يوم وليلة، فلو كانت غير المسح المدلول عليه بحكم الآية لعلمه المكلفون في عهد النبوة وبعده ،ولكان مسلمّاً بينهم، ولتواترت أخباره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل عصر ومصر فلا يبقى مجال لانكاره ولا للريب فيه، ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر لنا الوهن المسقط لتلك الأخبار عن درجة الاعتبار.

ثالثها: أن الأخبار في نوع طهارة القدمين متعارضة بعضها يقتضي الغسل، كحديثي حمران وابن عاصم وقد سمعتها، وبعضها يقتضي المسح ،كالحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، وروه كل من أحمد وابن أبي شيبة وابن أبي عمر والبغوي والطبراني والماوردي كلهم من طريق كل رجاله ثقات 2 عن أبي الأسود عن عباد بن تميم عن أبيه قال: رأيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ ويمسح على رجليه.

وكالذي أخرجه الشيخ في الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين عن 

________________________________________
1- أخرجه ابن ماجه فيما جاء في غسل القدمين من سننه وغير واحد من أصحاب المسانيد.
2- وصفهم بكونهم كلهم ثقات ابن حجر العسقلاني حيث أورد هذا الحديث في ترجمة تميم بن زيد من القسم الأول من الإصابة نقلاً عمن ذكرناهم من أصحاب المسانيد.
 
 
14

10

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 الباقر عليه السلام أنه حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفمسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء.


وعن ابن عباس أنه حكى وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفمسح - كما في مجمع البيان - على قدميه.

وحيث تعارضت الأخبار كان المرجع كتاب الله عزَّ وجلَّ لا نبغي عنه حولاً.

نظرة في احتجاجهم هنا بالاستحسان:

ربما احتج الجمهور على غسل الأرجل أنهم رأوه أشد مناسبة للقدمين من المسح ،كما أن المسح ،أشد مناسبة للرأس من الغسل ،إذكان القدمان لا ينقى دنسهما إلا بالغسل غالباً بخلاف الرأس فإنه ينقى غالباً بالمسح.

وقد قالوا: إن المصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسباباً للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيها معنيين معنى مصلحياً ومعنى عبادياً، وعنوا بالمصلحي ما يرجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما يرجع إلى زكاة النفس.

فأقول: نحن نؤمن بأن الشارع المقدس لاحظ عباده في كل ما ينههم إلأ عما فيه مفسدة لهم، لكنه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك كلفهم به من أحكامه الشرعية فلم يأمرهم إلاَّ بما فيه مصلحتهم ولم تكن تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد بل تعبدهم بأدلة قويمة عينها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة عنها الى ما سواها، وأول تلك الأدلة الحكيمة كتاب الله عز وجل وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أما نقا، الأرجل من الدنس فلا بد 
 
 
 
15

11

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

  من احرازه قبل المسح عليها عملاً بأدلة خاصة دلت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه1، ولعلَّ غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمرجليه المدعي في أخبار الغسل إنما كان من هذا الباب، ولعله كان من باب التبرد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء والله تعالى أعلم.


تنبيه: 

أخرج ابن ماجة فيما جاء في غسل القدمين من سننه من طريق أبي اسحاق عن أبي حية قال: رأيت علياً توضأ لغسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: أردت أن أريكم طهور نبيكم.

قال السندي - حيث انتهي إلى هذا الحديث في تعليقته على السنن _هذا رد بليغ على الشيعة القائلين بالمسح على الرجلين حيث الغسل من رواية علي قال: ولذلك ذكره المصنف من رواية علي وبدأ به الباب ولقد أحسن المصنف وأجاد في تخريج حديث علي في هذا الباب، جزا ه الله خيرا. قال: وظاهر القرآن يقتضي المسح كما جاء عن ابن عباس، فيجب حمله على الغسل2، هذا كلامه بلفظه عفا الله عنه وعن الإمام ابن ماجة وسائر علما، الجمهور فإنهم يعلمون سقوط هذا الحديث بسقوط سنده من عدة جهات.

الأولى: أن أبا حية راوي هذا الحديث نكرة من أبهم النكرات، وقد 

________________________________________
1- ولذا ترى حفاة الشيعة والعمال منهم كاهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة الطهارة إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثم توضأ وا فمسحوا عليها نقية جافة.
2- تطبيقاً للقرآن على مذهبه بدلاً عن استنباط المذهب من القرآن.
 
 
16

12

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 أورده الذهبي في الكنى من ميزانه فنصَّ على أنه: لا يعرف، ثم نقل عن ابن المديني وأبي الوليد الفرضي النص على أنه: مجهول، ثم قال: وقال أبو زرعة: لا يسمى، قلت: أمعنت بحثاً عن أبي حية فما أفادني البحث إلاَّ مزيد الجهل به، ولعلَّه إنما اختلقه مختلق حديثه والله تعالى أعلم.


الثانية: أن هذا الحديث تفرَّد به أبو اسحاق1 وقد شاخ ونسي واختلط فتركه الناس2 ولم يروه عنه إلاَّ أبو الأحوص وزهير بن معاوية الجعفي3 فعابهم الناس بذلك4 ولا غرو فإن المحدث إذا اختلط سقط من حديثه كل ما لم يحرز صدوره عنه قبل الاختلاط، سوا، أعلم صدوره بعد الاختلاط كهذا الحديث أم جهل تاريخ صدوره، لأن العلم الإجمالي في الشبهات المحصورة يوجب اجتناب الأطراف كلها كما هو مقرر في أصول الفقه.

الثالثة: أن هذا الحديث يعارض الأحاديث الثابتة عن أمير المؤمنين وعن أبنائه الميامين أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل، ويخالف كتاب الله عزَّ وجلّ فليضرب به عرض الجدار.

________________________________________
1- كما نص عليه الذهبي حيت أورد إباحية في الكنى من ميزانه فقال: تفرد عنه أبو اسحاق بوضوء علي فمسح رأسه وغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاث.
2- كما هو مذكور في أحواله - واسمه عمر بن عبد الله السبعي _ من معاجم التراجم كميزان الاعتدال وغيره.
2- كما نصَّ عليه الذهبي إذ أورد اباحية وحديثه هذا في ميزان الاعتدال.
4- حتى قال الامام أحمد وقد ذكر زهير بن معاوية هو ثبت فيما يرويه عن المشايخ (قال ): وفي حديثه عن أبي اسحاق لين سمع منه بآخرة انتهى. وقال أبو زرعة: زهر بن معاوية ثقة إلاَّ أنه سمع من أبي اسحاق بعد الاختلاط.. ه. وقال الذهبي (بعد أن نقل عن أحمد وأبي زرعة ما قد سمعت ) قلت : لين روايته عن أبي اسحاق من قبل أبي اسحاق لا من قبله
 
 
17

13

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 إلى الكعبين 


الكعبان في آية الوضوء، هما: مفصلا الساقين عن القدمين1 بحكم الصحيح عن زرارة وبكير ابني أعين إذ سألا الإمام الباقر عنهما2 وهو الظاهر مما رواع الصدوق عنه أيضاً3 وقد نصَّ أئمة اللغة على أن كل مفصل للعظام كعب4

وذهب الجمهور إلى أن الكعبين هنا إنما هما العظمان الناتئان في جانبي كل ساق، واحتجوا بأنه لوكأن الكعب مفصل الساق عن القدم لكان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا فكان ينبغي أن يقول: وأرجلكم إلى الكعاب.. كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً قال: وأيديكم إلى الموافق.

قلت: ولو قال هنا إلى المرفقين لصحَّ بلا إشكال، ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى مرفقي كل منكم، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين من كل منكم، فتثنية الكلمتين في الآية وجمعهما في الصحة سوا، وكذلك جمع إحداهما وتنثية الأخرى ولعل التفنن في التعبير قد اقتضاه.

هذا إذا كان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً، أما إذا كان الحاصل 

________________________________________
1- وقيل هما قبتا القدمين والأول أحوط وأقوى.
2- في حديث رواه الشيخ الطوسي بسنده الصحيح اليهما وقد قالا للإمام فأين الكعبان ؟ قال عليه السلام: هاهنا يعني المفصل دون الساق.
3- روى الصدوق عن الباقر وقد حكى صفة وضوء رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ومسح على مقدم رأسه وظهر قدميه دون عظمي الساقين.
4- ومعاجم اللغة تعلن ذلك فراجع
 
 
18

14

الدرس الاول: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

 في كل رجل كعبين فلا يبقى لكلامهم وجه، وقد أجمع علما، التشريح على أن هناك عظماً مستديراً مثل كعب البقر والغنم تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم يسمى كعباَ أيضاً1. وعليه فمسح كل رجل ينتهي إلى كعبين اثنين هما المفصل نفسه والكعب المستدير تحته، وفي تثنية الكعب في الآية دون المرفق نكتة لطيفة وإشارة إلى ما لا يعلمه إلاَّ علما، التشريح فسبحان الخلاَّق الحكيم.

 
________________________________________
1- وقد ذهب محمد بن الحسن الشيباني والأصمعي إلى ان الكعب في آية الوضوء إنما هو هذا العظم تحت الساق. وكان الأصمعي يقول: إن العظمين الناتئين في جانب الساق يسميان المنجمين، وظن الرازي أن هذا هو مذهب الامامية فردَّ عليهم بأن العظم المستدير الموضوع تحت الساق شي ،خفي لا يعرفه إلاَّ المشرحون بخلاف الناتئين في طرفي كل ساق فانهما محسوسان. قال: ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمراً ظاهراً لا خفياً والجواب: ان الرازي لما رأى الامامية يمسحون إلى مفصل الساق ظنهم يقولون بما قُاله الشيباني والأصمعي ولم يدر أن الكعب عندهم هو المفصل نفسه المحسوس المعلوم لكل حد.
 
 
19
 

15

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين 


اختلف فقها، الإسلام في المسح على الخفين والجوربين اختلافاً كثيراً لا يحاط به في هذ، العجلة، وبالجملة فالبحث عنه يتعلق بالنظر في جوازه وعدم جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفة محله، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه.

أما الجواز ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: الجواز مطلقاً سفراً وحضراً.

ثانيها: الجواز في السفر دون الحضر.

ثالثها: عدم الجواز بقول مطلق لعدم ثبوته في الدين.

والأقوال الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك1.

وأما تحديد محله فاختلفوا فيه أيضاً بين قائل بأن الواجب من ذلك مسح أعلى الخف وان مسح أسفله مستحب2 وقائل بأن الواجب مسح ظهورها وبطونه3 وقائل ثالث بأن الواجب مسح الظهور دون البطون فإن مسح البطون لا واجب ولا مستحب4. وربّ قائلٍ بالتخيير بين مسح
________________________________________
1- نص على هذا الإمام الفقيه الأصولي الفيلسوف ابن رشد في ص 14 من الجز، الأول من كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
2- هذا رأي الشافعي.
3- هذا مذهب ابن نافع.
4- هذا مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة آخرين.
 
 
21

16

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

  الباطن والأعلى فأيهما مسح كان واجباً1.


وأما نوع المحل فإن القائلين بالمسح على الخفين اختلفوا في المسح على الجوربين فأجازه قوم ومعه آخرون2.

وأما صفة الخف فقد اختلفوا في المسح على الخف المخرق، فمنهم من قال بجواز المسح عليه ما دام يسمى خفاً وان تفاحش خرقه3، ومنهم من منع أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو يسيرا4، ومنهم من أجاز المسح عليه بشرط أن يكون الخرق يسيراً5.

وأما التوقيت فقد اختلفوا فيه، فمنهم من ذهب إلى أنه غير مؤقت وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة6، ومنهم من ذهب إلى أن ذلك مؤقت بوقت خاص للحاضر ووقت آخر للمسافر7، ولهم ها اختلاف في وصف السفر واختلاف في مسافته. 

وأما شرط المسح على الخفين فهو أذ تكون الرجلان طاهرتين عند لبس الخفين بطهر الوضوء وهذا الشرط قال به أكرهم، لكن روي عن مالك عدم اشتراطه8، واختلفوا في هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس 

________________________________________
1- هذا رأي أشهب.
2- أجازه سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني ومنعه أبو حنيفة والشافعي وآنوون
3- هذا مروي عن سفيان.
4- هذا أحد قولي الشافعي في المسألة .
5- هذا مروي عن مالك وأصحابه وحدد الخرق أبو حنيفة بأن يكون أقل من ثلاثة أصابع.
6- هذا مروي عن مالك
7- هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.
8- ذكر ذلك ابن لبانة في المنتخب وقد روي عن ابن القاسم عن مالك.
 
 
 
22

17

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 خفيه ثم أتم وضوءه على أن يكتفي بما كان منه من غسل رجليه تبل لبسهما أم لا بد من المسح عليها فهنا قولان1.


وأما النواقض المختلف فيها فمنها نزع الخف، نقد تال توم ببقاء طهارته إذ نزع خفيه، حتى يحدث حدثاً ينقض الوضوء وليس عليه غسل رجليه2، وقال بعضهم بانتقاض طهارته بمجرد نزع خفيه3، وقال آخرون ببقاء طهارته إذ غسل قدميه بعد نزع الخفين، أما إذا صلى ولم يغسلهما أعاد الصلاة بعد غسلهما4 إلى غير ذلك من أقوال لهم مختلفة، ومذاهب تتعلق بالمسح على الخفين متباينة، لسنا الآن في صدد تفصيلها.

ولذي عليه الامامية خلفاً عن سلف _ تبعاً لأئمة العترة الطاهرة عليهم السلام _ عدم جواز المسح على الخفين، سوا، أكان ذلك في الحضر أم في السفر، وحسبنا حجة على هذا قوله عزَّ من قائل: " وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ"5، لاقتضائه فرض المسح على الأرجل أنفسها، فمن أين جاء المسح على الخفين ؟ أنسخت هذه الآية ؟ أم هي من المتشابهات ؟ كلا بل هي _ إجماعاً وقولاً واحداً _ من المحكمات اللاتي هن أم الكتاب، وقد أجمع المفسرون6 على أن لا منسوخ في سورة المائدة المشتملة على آية الوضوء إلاَّ آية واحدة هي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

________________________________________
1- فمن قال بالاكتفاء أبو حنيفة، وممن قال بعدمه الشافعي.
2- وممن قال بهذا القول داود وابن ليلى.
3- هذا رأي الحسن بن حي.
4- فمن قال بذلك الشافعي وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقه، التابعين.
5- سورة المائدة، الآية: 6.
6- نقل هذا الإجماع فخر الدين الرازي ص 37من الجزء3من تفسيره الكبير.
 
 
23

18

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ"1 إذ قال بعضهم بنسخها دون ما سواها من آيات تلك السورة المباركة.


أما الأخبار الدالة على الترخيص بالمسح على الخفين فلم يثبت منها شي، على شرطنا، وقد دلنا على وهنها مضافاً إلى ذلك أمور:

احدها: أنها جاءت مخالفة لكتاب الله عز وجل، والمأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قال:، إذا روي لكم مني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه و إلاَّ فردُّوه2.

ثانيها: أنها جاءت متعارضة في أنفسها، ولذا كثر الاختلاف بين مصححيها العاملين على مقتضاها كما علمته مما أشرنا إليه قريبا، فإنهم إنما تعارضوا في أقوالهم لتعارضها إذ هي مستندهم في تلك الأقوال3.

ثالثها: إجماع أئمة العترة الطاهرة علي وبنيه الأوصياء عليهم السلام على القول بعدم جواز المسح على كل حائل سوا، في ذلك الخف والجورب 

________________________________________
1- سورة المائدة،الآية: 2.
2- تجد هذا الحديث في آخر ص 371من الجز، الثالث من تفسير الرازي.
3- كما اعترف به ابن رشد في أول صفحة 15 من الجز، الأول من بدايته حيث ذكر اختلافهم في تحديد محل المسح. فقال: وسبب اختلافهم تعارض الأخبار في ذلك،واعترف به أيضا في ص 16 حيث  ذكر اختلافهم في توقيت المسح إذ قال: والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك قال: وذلك ~نه ورد في هذا ثلاثة أحاديث ثم.وردها بنصها فكان الأول فيها صريحا في كون الوقت ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومأ وليلة للمقيم، وكان الثاني نصاً في الترخيص بالمسح على الخفين ما بدا للمكلف أن يمسح من غير توقيت لا في الحضر ولا في السفر وكان نص الثالث مخالفا لسابقيه.ومن أراد التوسع في معرفة اختلاف الأئمة الأربعة حول هذه المسألة فعليه بكتاب الفقه على المذهب الأربعة الذي أخرجته وزارة الأوقاف المصرية تحقيقا لرج، الملك فؤاد الأول.
 
 
24

19

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 والحذاء وغيرها من سائر الأجناس والأنواع1، وأخبارهم صريحة بالمعارضة لأخبار الجمهور2 الدالة على الجواز، والقاعدة المسلمة في الأخبار المتعارضة تقديم ما وافق منها كتاب الله عز وجل هذا إذا تكافأت سندا ودلالة وأنى يكافأ ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإعدال كتاب الله تعالى وسفن نجاة الأمة وباب حطتها وأمانها من الاختلاف.


رابعها: أنها لو كانت حقا لتواترت في كل عصر ومصر لأن الحاجة إلى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة _ كما قلنا سابقا _ عامة لرجال الأمة ونسائها وهي حاجة لهم ماسة في كل يوم وليلة من أوقات حضرهم وسفرهم، فلو كانت غير المسح المدلول عليه بالآية لعلمه المكلفون في عهد النبوة وبعده ولكان مسلما بينهم في كل خلف ولا سيما مع مجيئه عبادة محضة غير معقولة المعنى3 غريبة في باب العبادات تستوجب الشهرة بغرابتها، ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر لنا وهن أخبارها المسقط لاعتبارها.

خامسها: أنه لو فرض صحتها لوجب أن تكون منسوخة بآية المائدة، لأنها آخر سورة نزلت وبها أكمل الله الدين وأتم النعمة ورضي الإسلام دينا، فواجبها واجب إلى يوم القيامة وحرامها حرام إلى يوم القيامة 

________________________________________
1- روى إجماعهم عليهم السلام على هذا غير واحد من أعلام الامامية احدهم الإمام السيد علي الطباطبائي في كتابه البرهان القاطع، وأعلام الامامية يدينون الله متقربين إليه بالعمل على ما يقتضيه مذهب أئمة اهل البيت في الفروع والأصول منذ عهدهم عليهم السلام إلى يومنا فهم اعرف الناس بفقههم وحديثهم ومرهم وعلانيتهم.
2- أخبارهم المعارضة لأخبار الجمهور في هذه» المسالة كثيرة حتى قال الإمام الطباطبائي في برهانه القاطع حيث ذكره: ولا يبعد تواتره.
3- لكن الإمام أبا حنيفة يرى ان الوضوء من الواجبات التوصلية لا تتوقف محته على نية كغل الثوب المتنجس وهذا الرأي في المسح على الخفين في الخوص كما ترى. 
 
 
25

20

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 كما نصت عليه أم المؤمنين عائشة وقد قالت لجبير بن نفير _ إذا حجَّ فزارها _ يا جبير تقرأ المائدة ؟ قال: نعم. قالت: أما أنها أخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه1.


لكن الجمهور يتشبثون في بقا، حكم المسح على الخفين بعد نزولها بحديث جرير: إذ بال فتوضأ فمسح على خفيه. فقيل له: تفعل هذا؟ قال:نعم رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بال ثم توضأ فمسح على خفيه.

روى مسلم وروى أن هذا الحديث كان يعجبهم، وعلل ذلك بأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة2.

قلت: بل أسلم قبل نزول المائدة بدليل حضوره حجة الودع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أمره صلى الله عليه وآله وسلم يومئٍذ_كما في ترجمته من الاصابة نقلاً عن الصحيحين _أن تستنصت الناس.

فاسلامه لا بد أن يكون قبل تلك الحجة، ونزول المائدة لم يكن قبليا يقين3.

________________________________________
1- أخرجه الحاكم في أول تفسير صورة المائدة ص 314 من الجز، الثاني من المستدرك، ثم أخرج نحوه عن عبدالله بن عمرو بن العاص وقال بعد إيراد كل من الحديثين: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد أورده الذهبي في تلخيصه مرمزا إلى صحته على شرط الشيخين.
2- قال النووي في تعليقه على هذا الكلام: معناه أنا الله تعالى قال في سورة المائدة: { فاغسلوا وجوهكم و.يديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين }. فلو كان إسلام جرير متقدماً على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخاً بآية المائدة فلما كان إسلامه متأخراً علمنا )ن حديثه يعمل به.. إلى آخر كلامه. قلت: من أين لنا العلم بتأخره وقد بينا في الأصل تأخر المائدة.
3- وحسبك ما أخرجه البخاري من نزول بعض آياتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عرفة وهو على راحلته في حجة الوداع. 
 
 
 
26

21

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 وأيضاً أخرج الطبراني عن جرير _كما في ترجمته من الاصابة _قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أخاكم النجاشي قد مات، وموت النجاشي إنما كان قبل نزول المائدة إذ لا كلام في أنه مات قبل السنة العاشرة.


وللقسطلاني هنا تشبث آخر غريب اذ قال _ حول المسح على الخفين - وليس المسح بمنسوخ لحديث المغيرة الصريح بمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم خفيه في غزوة تبرك وهي آخر غزواته، والمائدة نزلت قبلها في غزوة المريسيع.. إلى آخر كلامه.

قلت: غزوة المريسيع هي غزوة بني المصطلق كانتا لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس، وقيل: سنة أربع كما في البخاري نقلاً عن ابن عقبة وعليه جرى النووي في الروضة، وقيل: سنة ست للهجرة، وقد نزلت بعدها المائدة وكثير من السور، وإنما نزلت فيها آية التيمم وهي قوله تعالى في سورة النساء: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا1.

 


والرواية في ذلك ثابتة عن عائشة أخرجها الواحدي في كتابه أسباب النزول فراجع لتكون على يقين من أن القسطلاني قد اشتبهت عليه آية الوضوء بآية التيمم، على آن المغيرة وجريراً ممن لا نحتج بهم وعن قريب تقف على ما أرابنا في المغيرة، ولجرير سيرة مع الوصي أوجبت لنا الريب فيه أيضاً.

سادسها: أن عائشة أو المؤمنين كانت - على مكانتها من السنة والفطنة ومكانها من مهبط الوحي والتشريع _ تنكر المسح على الخفين أشد 

________________________________________
1- سورة النساء، الآية. 43. 
 
 
 
27

 


22

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 الإنكار، وابن عباس. وهو حبر الأمة وعيبة الكتاب والسنة لا يدافع – كان من أشد المنكرين أيضاً، وقد بلغا في إنكارهما أبعد غاية يند فع فيها المنكر اندفاع الثائر، ألا تمعن معي في قوله1: لأن تقطع قدماي أحب إلي من أن امسح على الخفين. وفي قوله: لأن أمسح على جلد حمار أحبُّ إلي من أن أمسح على الخفين.


بجدك هل يجتمع هذا الشكل من الانكار مع اعتبار تلك الأخبار؟! كلا بل لا يجتمع مع احترامها، واذا كانت هذه أقوال المشافهين بها العارفين بغثها وسمينها فكيف يتسنى لنا الركون إليها على بعدنا المتنائي عنها قروناً وأحقاباً.

ومن أمعن محرراً في إنكار الأدنين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كزوجته وابن عمه وسائر الهداة القادة من عترته اضطره ذلك إلى الريب في تلك الأخبار.

ومن هنا تعلم أن القول بتواترها إسراف وبزاف، أتبلغ حد التواتر ثم يجهلها هؤلاء السفرة البررة ؟ ! أم يتجاهلون بها ؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم.

بل لو كانت متواترة ما أنكرها عبد الله بن عمر2 والإمام مالك في إحدى الروايتين عنه3 ولا غيرهما من السلف الصالح صالح المؤمنين.

________________________________________
1- تجد قولها هذا في أول صفحة 371 من الجز، الثالث من تفسير الرازي، وهناك كلمة ابن عباس.
2- قال عط، كما في ص 372من الجز» الثالث من تفسير الرازي: كان ابن عمر يخالف الناس في المح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم. قلت: وإنكاره على سعد إذ رالله يمسح على خفيه ثابت في صحيح البخاري.\
3- تجد الروايتين عنه في ص 372 من الجز، الثالث من تفسير الرازي وفي مظان ذلك من الكتب الفقهية. 
 
 
 
28

23

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 وأجحف كل الإجحاف من قال: أخاف الكفر على من لا يرى المسح الى الخفين1، روي أن المسح على الخفين لا هو من فصول الدين ولا هو من الضروريات من فروعه ولا هو مما افترضه الكتاب ولا هو _ بإجماع الأمة _ مما أوجبته السنة، وإنما هو مجرد رخصة عند قوم من المسلمين دون آخرين منهم فأي جناح بتركه عملاً بما افترضته أية الوضوء؟ وقد أجمع اللهل القبلة على صحة العمل بمقضتاها وتصافقوا على استباحة الصلاة بذلك بخلاف المسح على الخفين فإن صحة الوضوء معه ورفع الحدث به واستباحة الصلاة فيه محل خلاف بين المسلمين فهل يخشى الكفر على من أخذ بالاحتياط؟! وما رأيكم في عائشة وعلي وابن عباس وسائر أهل البيت إذ لم يروا المسح على الخفين يا مسلمون؟!


________________________________________
1- فمن قال ذلك الكرخي كما نقله عنه القسطلاني في صفحة 4 من الجز، الثاني من ارشاد الساري.
 
 
 
29

24

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 المسح على العمامة


ذهب علماؤنا إلى عدم جواز المسح على العمامة، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك،وخالف الإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام والأوزاعي والنوري1، والخلاف منقول عن غيرهم أيضاً ،قالوا بالجواز قياساً على الخف، وعملاً بحديث المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة، وفي بعض طرقه أنه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية.

وحسبنا كتاب الله عز وجل ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وسنة رسوله مسحه بناصيته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مسلم لا يحتاج إلى بيان، والاجماع منعقد عليه منقولاً ومحصلاً والحمد لله رب العالمين.

ولا حجة لهم بالقياس على الخف، لأن دين الله لا يصاب بالقياس ،على أن المسح على الخف ممنوع كما علمت.

أما حديث المغيرة، فباطل وإن أخرجه مسلم، وقد قال فيه أبو عمر بن عبد البر: انه حديث معلول2. قلت: ولعل أبا حنيفة والشافعي ومالكاً إنما لم يأبهوا به لكونه معلولاً عندهم أيضاً.

وللمغيرة سيرة مكر وخدع وتقلب واحتيال وارتماس في الموبئات 

________________________________________
1- هذا الخلاف نقله ابن رشد في بدايته عن أحمد وأبي ثور والقاسم ونقله الرازي في تفسيره عن الاوزاعي والثوري وأحمد.
2- نقله عنه ابن رشد في ص 1، من الجز، الأول من بدايته.
 
 
31

25

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 وانغماس في الشهوات وانطلاق في الغدر وتجاوز للحدود فيما يحب وفيما يكره، ولا سيما مع من يواليهم من أعدا، آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع من يعاديهم من أوليا، الله ورسوله.


دخل في الإسلام حقناً لدمه من بني مالك، وذلك أنه وفد مع جماعة من أشرافهم على المقوقس وهو في الإسكندرية، ففاز المالكيون دونه بجائزة الملك، فحمله الطمع بها على الغدر بهم فدعاهم إلى الشراب وهم مستسلمون لصحبته فجعل يسقيهم حتى إذا أخذ السكر مأخذه من مشاعرهم عدا عليهم فقتلهم عن آخرهم فصفيت له أموالهم، وحيث لم يجد معتصماً من أهلهم غير الالتحاق بالإسلام وفد على رسول الله ،وهو في المدينة فدخل عليه يشهد أن لا إله إلاّ الله وان محمداً رسول الله، فقبل إسلامه جرياً على سنته في ذلك مع المؤمنين ومع المنافقين، وحين عرض عليه أموال بني مالك ترفع عنها وكان له أخذها لأنها من أموال المحاربين المستحلين منه ما حرم الله تعالى، لكن لما كان أخذها غدراً أبت نفسه القدسية قبولها فأوفرها علي1، هذا إسلامه يعطيك صورة من مبادعه ودواهيه، وقد شهد عليه أبو بكرة _ وهو من فضلا، الصحابة _وأصحابه بما يوجب الحد في قضية مشهورة من حوادث سنة 17 للهجرة2 فكيف نعارض القرآن الحكيم بحديثه يا أولى الألباب؟!

________________________________________
1- أخرج هذه القضية ابن سعد في ترجمة المغيرة ص 25من الجزء الرابع من كتاب الطبقات يسنده إلى المغيرة نفسه قال: كنا قوماً من العرب متمسكين بديننا ونحن سدنة اللات ذراني لو رأيت قومنا قد أسلموا ما تبعتهم لكن أجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس في جمعت الخروج معهم. الحديث قد سمعت مضمونه.
2- تجد تفصيلها في ترجمة يزيد بن زياد الحميري من وفيات الأعيان لابن خلكان وأشار إليها أصحاب المعاجم في التراجم إذ ترجموا المغيرة والشهود عليه وهم: أبو بكرة وشبل بن معبد الصحابيان ونافع بن الحارث بن كلدة وزياد بن أبيه وهي مما لا يخلو منها كتاب يشتمل على حوادث سنة 17للهجرة.
 
 
32

26

الدرس الثاني: هل المسح على الخفين والجوربين

 هل لمسح الرأس حد؟


ذهب علماؤنا إلى أنه لا حد في مسح الرأس لا للماسح ولا للممسوح، بل يكفي عندهم مسماه ولو بأقل مصاديقه العرفية1، وهذا مذهب الشافعي أيضاً.

وذهب الامامان مالك وأحمد وجماعة آخرون إلى ان الواجب مسح الرأس كله.

وذهب الامام أبر حنيفة إلى أن الواجب مسح ر بعه بثلاثة أصابع حتى أن مسحه بأقل من ذلك لا يجزي عنده.

حجتنا قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ إذ المراد الصاق المسح بالرأس مطلقاً، وهذا كما يتحقق بالاستيعاب وبالربع يتحقق بأقل مسمى المسح ولو بجز، من أصبع ممرً له على جز، من الرأس، ولا دليل على شي، مما قالوه بالخصوص، ولو أراد الاستيعاب لقال سبحانه: وامسحوا رؤوسكم كما قال: فاغسلوا وجوهكم، ولو كان المراد قدراً مخصوصاً لبينه كما فعله في غسل اليدين إذ قال إلى المرافق وفي مسح الرجلين إذ قال إلى الكعبين.

________________________________________
1- وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على مقدم رأسه اختصوه بالمسح اقتصارا على القدر المتيقن.  
 
 
33

27

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 الدرس الثالث :مسح الأذنين وستة فروع 

  
ا- مسح الأذنين هل هو من الوضوء؟

أجمع الامامية - تبعاً لأئمة العترة الطاهرة عليهم السلام - على ان مسح الأذنين ليس من الوضوء في شي، ، إذ لا دليل عليه من كتاب أو سنة او إجماع، بل صريح الكتاب أن الوضوء غسلتان - للوجه ولليدين - ومسحتان: للرأس وللرجلين.

وقال الحنابلة: بافتراض مسح الأذنين مع صماخيهما، ونقل ابن رشد هذا القول عن أبي حنيفة وأصحابه1.

وقال الشافعي ومالك مسحهما سنة، واختلفوا في تجديد الماء لهما وعدم تجديده، وشذ قوم منهم فذهبوا الى أنهما يغسلان مع الوجه، وقال آخرون: يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه.

والشافعي يستحب فيهما التكرار كما تستحبه في مسح الرأس.

احتجوا بأخبار واهية لم يثبت شي، منها عندنا، والشيخان البخاري ومسلم لم يأبها في شي، منها، وإنما اعتبرها معتبروها مع ضعفها عندهم لجبرها بشهرة العمل فيما بينهم.
 ________________________________________
1- راجح من كتابه بداية المجتهد ص 11 من جزئه الأول تجده ينقل ذلك عن أبي حنيفةوأصحابه.
 
 
35

28

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 لكن أئمة الهدى من ثقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأبهوا بها، وهم أهل بيت النبوة وأهل البيت أدرى فيه وحسبنا الثقلان.


2- هل يجزئ غسل الرأس بدلاً عن مسحه ؟

أهل المذاهب الأربعة متفقون على أن غسل الرأس في الوضوء يكفي عن مسحه، غير أنهم اختلفوا في كراهة ذلك وعدم كراهته، فالحنفية والمالكية قالوا: بكراهته محتجين بأنه خلاف ما أمر الله به، والشافعية قالوا: إنه ليس بمكروه لكنه خلاف الأولى، والحنابلة قالوا: إنه إنما يجزئ الغسل هنا بدل المسح بشرط امرار اليد على الرأس.

أما الامامية فمجمعون على عدم الأجزا، لأنه خلاف ما أمر الله به، وخلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسح ناصيته الشريفة دون غسلها، وإذن يكون تشريعاً في العبادة باطلاً في نفسه مبطلاً لها، وقد علمت مما قلماه آنفاً أن الغسل والمسح حقيقتان مختلفتان لا يغني أحدهما عن الآخر.

3- الترتيب في الوضوء

أجمع الامامية _ تبعاً لأئمة العترة الطاهرة عليهم السلام - على اشتراط الترتيب في أفعال الوضوء على نسق ما هو مرتب في آيته الكريمة1.

وذهب المالكية والحنفية وسفيان الثوري وداود إلى عدم اشتراطه وعدم وجوبه واعتبروه سنة لا يبطل الوضوء بمخالفته، وقالوا بصحة وضوء المتوضئ إذا ابتدأ بغسل رجله اليسرى منتهياً من الوضوء بغسل وجهه على عكس. الآية في كل أفعاله.

________________________________________
1- واشترطوا الترتيب في نفس الأعضاء ، فأوجبوا غسل الأعلى قبل الأسفل اقتداء بأئمتهم وعملاً بنصوصهم عليهم السلام.
 
 
36

29

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 حجتنا: الكتاب والسنة. أما الكتاب: فلتبادر الترتيب منه وإن كان العطف فيه بالواو، لا بثم ولا بالفاء، لأن الواو كثيراً ما يعطف بها الأشياء المرتبة ولا تجوز في ذلك وهذا ثابت باستقراء كلام العرب لا ريب فيه لأحد، ولذا قال الكوفيون من النحاة بأنها حقيقة في الترتيب والنسق بالخصوص، وإن كانت ثم والفاء أظهر منها في ذلك.


وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح المشهور: إنما الأعمال سواء أكان وضوؤه لأحدى الفرائض الخمس أم كان لغيرها من واجب أو ندب، وقد كان مدة حياته صلى الله عليه وآله وسلم على طهارة يسبغ الوضوء كلما انتقض، ويسبغ الوضوء على الوضوء، وربما قال: انه نور على نور. وقد أجمعت الأمة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتوضأ قط إلاَّ مرتباً، ولولا اشتراط الترتيب وافتراضه في الوضوء لخالفه ولو مرة واحدة، أو صدع بجواز المخالفة بياناً للحكم كما هي سنته، وحيث لم يخالف الترتيب، ولم يصدع بجواز المخالفة علمنا عدم جوازها، على أن الأصل العملي يوجب هنا احراز الشيء المشكوك في شرطيته واستصحاب الحدث جار مع عدم إحرازه.

4- الموالاة

ذهب علماؤنا _ تبعاً لأئمتهم عليهم السلام _ إلى أن الموالاة بين أفعال الوضوء شرط في صحته، وضابطها أن لا يجف العضو السابق- عند اعتدال الزمان والمكان ومزاج المتوضئ _ قبل الفراغ من العضو اللاحق.

وذهب الشافعية والحنفية إلى أن الموالاة ليست بفرض ولا بشرط ولا بواجب ونما هي سنة فيكره عندهم التفريق بين الأعضاء إذا كان بغير عذر أما للعذر فلا يكره وذلك كما إذا كان ناسياً أو فرغ الماء المعد لوضوئه فذهب ليأتي بغيره ليكمل به وضوءه.
 
 
37

30

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 وذهب المالكية إلى أن الموالاة فرض مع الذكر والقدرة، ساقطة مع النسيان ومع العذر.


حجتا: فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان يوالي في وضوئه كما كان يرتبه ولم يرو عنه التراخي في أفعال الوضوء مطلقاً كما لم يرو عنه عدم ترتيبها، ولولا اشتراط الموالاة لتركها ولو مرة واحدة، أو صدع بجواز تركها بياناً للحكم الشرعي جرياً على سنته في التشريع عن الله تعالى، وحيث لم يفعل علما عدم الجواز.

على أنه لا خلاف في صحة الوضوء جامعاً لهذه الشرائط، أما إذا لم يكن جامعاً لها فصحته محل النزاع، وأئمة أهل البيت عليهم السلام لا يرونه حينئذ رافعاً للحدث ولا مبيحاً للصلاة فاحتط لدينك، والاحتياط هنا مما لا بد منه، لأن الأصل العملي يوجب إحراز الشيء المشكوك في شرطيته، واستصحاب الحدث جار مع عدم إحرازه كما أسلفناه.

5-النية

أجمح الامامية _ تبعاً لأئمة الثقلين عليهم السلام _ على اشتراط النية في صحة الوضوء والغسل لكونهما من العبادات التي أمر الله بها ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وداود وأبي ثور وكثير من أئمة الجمهور.

وقال الحنفية: إن وجوب الوضوء والغسل بالماء المطلق ليس إلاَّ توصلياً إلى الطهارة التي تحصل بمجرد سيلانه على الأعضاء، سوا، أكان ذلك عن نية أم لم يكن عن نية بل ولا عن اختيار نظير غسل الثوب المتنجس لأن الماء مطهر بطبعه، وقالوا إذا سقط شخص بالماء بدون اختيار أو دخل الماء عابثاً أو بقصد التبرد أو النظافة أو كان حاكياً لفعل 
 
 
38

31

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 غيره أو مرائياً فشمل الماء أعضاء وضوئه صح له أن يملي بهذا الوضوء حتى لو كان مد دخول الماء كافراً، فأسلم عند خروجه، إذ لم يشترطوا الإسلام في صحة الوضوء.

 


نعم اشترطوا النية في صحة التيمم، لأن الصعيد غير مطهر بطبعه وإنما طهوريته تعبدية، فلا بد في التيمم به من نية، وكذا الوضوء والغسل بنبيذ التمر أو سؤر الحمار أو البغل، لأن طهورية هذا النبيذ والسؤرين وبالجملة فصلوا في الوضوء والغسل بين ما كان منهما بنبيذ تمر أو سؤر الحمار أو بغل وبين ما كان بغير ذلك من المياه المطلقة، فاعتبروا الأول عبادة غير معقولة المعنى فأوجبوا لها النية كالتيمم واعتبروا الثاني من الواجبات التوصلية إلى النظافة المحسوسة كالطهارة من النجاسة.

وما أدري من أين علموا ان غرض الشارع من الوضوء والغسل ليس إلاَّ الطهارة المحسوسة التي يوجدها سيلان الماء بمجرد طبعه ؟! وقد علم كل مسلم ومسلمة أن الوضوء والغسل إنما هما لرفع اثر الحدث استباحة للصلاة ونحوها مما هو مشروط برفعه، وهذا غير محسوس ولا مفهوم لولا التعبد بالأوامر المقدسة الصادرة من لدن حكيم مطلق، بكل حقيقة ودقيقة تخفى على الأنس والجن والملائكة وسائر المخلوقات، نعم نؤمن بأن الوضوء لرفع أثر الحدث الأصغر وان الغسل لرفع الحاث الأكبر تعبداً كما نؤمن بفرائض الصلاة والصوم والزكاة والحج كيفاً وكماً ووقتاً.

ومجرد حصول النظافة المحسوسة بالوضوء، والغسل في كثير من الأوقات لا يجعلهم توصليين إليها كما أن إنعاش مستحقي الزكاة بأدائها إليهم لا يخرجها عن العبادة فيجعلها توصيلة إلى إنعاشهم، وكذلك 
 
 
 
39

32

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 الخمس والكفارات وسائر الصدقات والعبادات المالية، ولو كان الغرض من الوضوء والغسل مجرد الطهارة المحسوسة لما وجبا على المحدث إذا كان في غاية النظافة والنقاء وهذا خارج لإجماع المسلمين مخالف لما هو ثابت عن سيد النبيين إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ". وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول".


وقد يستدل على اشتراط النية هنا بالكتاب والسنة مضافاً إلى ما يقتضيه الأصل العملي من وجوب احراز الشرط المشكوك في شرطيته واستصحاب بقا، الحد في صورة التوضؤ بغير نية.

أما الكتاب: فمجموع آيتي المائدة والبينة فإن آية المائدة وهي: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ1 إلى آخرها تثبت الصغرى في شكل القياس وهي أن الوضوء والغسل مما أمرنا به، وآية البينة وهي: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ2 تثبت كبرى الشكل وهي كل ما أمرنا به يجب الإخلاص لله فيه، لكن في هذا الاستدلال نظراً بل إشكالاً.

 


وأما السنة: فوضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذ كان ملتزماً فيه بالترتيب وبالنيات بنا، على أن التقدير إنما صحة الأعمال كائنة بالنيات، لكن للحنفية أن يقولوا: تقديره إنما كمال الأعمال بالنيات، وحينئذ لا يصلح دليلاً على ما نقول، وقد يقال في جوابهم: إن التقدير الأول أولى، لأن الصحة أكثر لزوماً للحقيقة الكمال، فالحمل عليها أولى لأن ما كان 

________________________________________
1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- سورة البينة، الآية: 5.
 
 
40

33

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 ألزم للشيء كان أقرب خطوراً للذهن عند اطلاق اللفظ. ومع ذلك فإن فيه تأملاً.


ونحن الامامية في كل ما ندين الله به تبع لأئمة العترة الطاهرة عليهم السلام ومذهبهم عندنا حجة بنفسه، لأنهم أعدال كتاب الله وعيبة سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسفن نجاة الأمة يسلم من ركبها ويغرق من تخلف عنها، وباب حطة يأمن من دخلها، والعروة الوثقى لا انفصام لها، وأمان الأمة من الاختلاف وأمنها من العذاب، وبيضة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تفقأت عنه
وأولياؤه وأوصياؤه ووارثوا علمه وحكمه، وأولى الناس به وشرائعه عن الله تعالى كما مبرهن عليه في محله من مراجعاتنا الأزهرية وغيرها.

6- الوضوء بالنبيذ

أجمع الامامية- تبعاً للائمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم – على اشتراط لاطلاق في ما، الوضوء والغسل، سواء أكان في الحضر أم في السفر ,وأجمعوا أيضاً على أنه إن تعذر الماء تعين على المكلف تيمم الصعيد طيباً، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم.

وذهب الامام أبو حنيفة وسفيان الثوري إلى جواز الوضوء والغسل بنبيذ التمر1 في السفر مع فقد الماء2 وكرهه الحسن البصري وأبو العالية رفيع بن مهران وقال عطا، بن أبي رباح: التيمم أحب إلي من الوضوء 

________________________________________
1- النبيذ: فعيل بمعنى مفعول، وهو الماء الذي ينبذ فيه نحو التمر والزبيب لتخرج حلاوته إلى الماء وهو نوعان: مسكر وغير مسكر» ومحل النزع هنا إنما هو غير المسكر» أما المسكر فلا خلاف في عدم جواز الوضوء به نبيذا كان أم غير نبيذ.
2- هذا القول متواتر عن أبي حنيفة وقل نقله عنه ابن رشد في بداية المجتهد والامام الرازي حول آية التيمم ص 375من الجزء3من تفسيره الكبير وأورده السندي في بابه الوضوء بالنبيذ من تعليقته على سنن ابن ماجة نقلا عن أبي حنيفة والثوري.
 
 
41

34

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 بالحليب واللبن1 وجوَّز الأوزاعي الوضوء والغسل بسائر النبيذ2 بل بسائر المائعات الطاهرة (3).


حجة الامامية ومن يرى في هذه المسألة رأيهم _ مضافا إلى الأصول العملية _كتاب الله عز وجل، وستة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وإجماع الأمة.

آما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ3 إذ أطلق الأمر بالتيمم مع فقد الماء ولم يجعل وسطاً بينه وبين الصعيد.

 


وأما السنة: فحسبنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم الصعيد الطيب وضوء المسلم إن لم يجد الماء، الحديث. وهو كالآية في الإطلاق وعدم الواسطة.

وأما الاجماع: فلأن أهل القبلة كافة في هذه المسألة على رأي واحد ومن خالف فيه فإنما هو شاذ خارق لإجماع المسلمين لا يعبأ بشذوذه كمن شذ بقوله لا يجوز الوضوء بما، البحر81 مثلا.

احتج أبو حنيفة والثوري ومن رأى رأيهما بما روي عن ابن مسعود من طريقين:

أولهما: عن العباس بن الوليد بن صبيح الخلال الدمشقي، عن 

________________________________________
1- نقل البخاري في )ول باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر من صحيحه عن كل من الحسن البصري وأبي العالية وعط، ها قد نقلناه في الأصل عنهم فراجع.
2- كما نص عليه القسطلاني في ص 47 من الجز، الثاني من إرشاد الساري. كما نقل ذلك عنه الامام الرازي في ص 775 من الجزء7 من تفسيره إذ قال: ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بسائر المائعات الطاهرة.
3- سورة المائدة،الآية: 6.
4- كان عبد الله بن عمرو بن العاص لا يجيز الوضوء بم، البحر كما هو مشهور عنه. وقد نقل الرازي عنه ذلك حول آية الوضوء من سورة المائدة. 
 
 
42

 


35

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 مروان بن محمد الطاطري الدمشقي، عن عبد الله بن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصناعي، عن عبد الله بن عباس، عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال له ليلة الجن: معك ماء؟ قال: لا إلا نبيذا في سطحية1 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تمرة طيبة وما، طهور صب علي! قال: فصببت عليه فتوضأ به".


أخرج هذا الحديث من هذا الطريق محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في باب الوضوء بالنبيذ من سننه ولم يخرجه من هذا الطريق أحد من أصحاب السنن سواه فيما أعلم، لظلماته المتراكم بعضها على بعض، فإن العباس بن الوليد لم يكن بثقة ولا مأمونا وقد تركه جهابذة الجرح والتعديل حتى سئل عنه أبو داود - كما في ميزان الاعتدال _ فقال: كان عالما بالرجال والأخبار لا أحدث عنه. وأنت تعلم أنهم إنما تركوه لوهنه، أما شيخه مروان بن محمد الطاطري فقد كان من ضلال المرجئة، وأورده العقيلي في كتاب الضعفاء، ومرح بضعفه ابن حزم تعلم هذا كله من ترجمته في ميزان الاعتدال، على أن شيخه عبد الله بن لهيعة ممن ضعفه أئمتهم في الجرح والتعديل فراجع أقوالهم في أحواله من معاجم التراجم كميزان الاعتدال وغيره تجده مشهودا عليه بالضعف من ابن معين وابن سعيد وغيرهما، وهناك مغامز أخر في غير هؤلاء الثلاثة من رجال هذا الطريق لسنا في حاجة إلى بيانها.

أما الطريق الثاني من طريقي الحديث فينتهي إلى أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له ليلة 

________________________________________
1- السطيحة: من أواني الماء ما كان من جلدين، قوبل.حدهما بالآخر فسطح عليه ؟ تكون صغيرة وكبيرة
 
 
43

36

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

الجن: عندك طهو؟ قال: لا إلا شي، من نبيذ في أداوة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ به.


أخرجه ابن ماجة والترمذي وأبو داود، وليس فيما رواه أبو داود "فتوضأ به". 

وهذا الحديث باطل من هذا الطريق أيضا كما هو باطل من طريقه الأول. وحسبك في بطلانه ان مداره على أبي زيد مولى عمرو بن حريث وهو مجهول عند أهل الحدث كما نص عليه الترمذي وغيره، وقد ذكره الذهبي في الكنى من ميزانه فنص على أنه لا يعرف، وأنه روى عن ابن مسعود وأنه لا يصح حديثه، وان البخاري ذكره في الضعفاء، وان متن حديثه: ان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بالنبيذ، وان الحاكم قال: انه رجل مجهول. وانه ليس له سوى هذا الحدث (الباطل).

وبالجملة فإن علما، السلف أطبقوا على تضعيف هذا الحديث1 بكلا طريقيه، على أنه معارض بما أخرجه الترمذي في صحيحه وأبو داود في باب الوضوء من سننه وصححه الأئمة كافة عن علقمة أنه سأل ابن مسعود فقال له: من كان منكم مع رسول الله ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه أحد منا.

ولو فرض صحته وعدم معارضته لكانت آية التيمم ناسخة له، لأن ليلة الجن كانت في مكة قبل الهجرة وآية التيمم مدنية بلا خلاف2.
________________________________________
1- كما نص عليه القسطلاني والشيخ زكريا الأنصاري في شرحيهما للبخاري فراجع باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر ص 47والتي بعدها من الجزء» الثاني من كل من الشرحين المطبوعين مع.
2- كان الوضوء قبلها سنة مستحبة ولم يكن التيمم مشروعاً حتى نزلت آيته بعد الهجر ة.
 
 
44

37

الدرس الثالث: مسح الأذنين وستة فروع

 ويجوز حمل الحديث - لو فرضت صحته. على أنه كان في الاداوة مع الماء تميرات قليلة يابسة لم تخرج الماء عن الاطلاق وما غيرت له وصفا.


واحتج الأوزاعي والأصم ومن رأى رأيهما في الوضوء والغسل بسائر المائعات الطاهرة وان الله تعالى إنما أمر بالغسل والمسح وهما كما يتحققان بالماء المطلق يتحققن بغيره من المائعات الطاهرة.

والجواب: أن الله عز وجل أوجب التيمم عند عدم الماء فتجويز الوضوء بغيره يبطل ذلك وهذا ما يجعل الغسل المأمور به في الآية مقيدا بالماء كما هو واضح والحمد لله على الفهم.

ولعل الحنفية إنما جوزوا الوضوء باللبن الممزوج بالماء فيما حكي عنهم1 استنادا إلى ما استند إليه الأوزاي والأصم حاتم بن عنوان البلخي.

________________________________________
1- ممن حكى ذلك عنهم الامام القسطلاني في باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر ص 44من الجز، الثاني من إرشاد الساري واليك نصه بلفظه،قال: و.ما اللبن الخالص فلا يجوز التوضؤ به اجماعاً فإن خالطه م، فيجوز عند الحنفية.
 
 
45

38

الدرس الرابع: زيادة "الصلاة خير من النوم" في الآذان

الدرس الرابع: زيادة "الصلاة خير من النوم" في الآذان

 
وذلك إنا تتبعنا السنن المختصة بفصول الأذان والإقامة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن فيها (الصلاة خير من النوم) بل لم يكن هذا الفصل على عهد أبي بكر، كما يعلمه جهابذة السنن ونقدة الحديث، وإنما أمر به عمر بعد مضي شطر من خلافته، حيث استحبه واستحسنه في أذان الفجر فاشترعه حينئذٍ وأمر به، والنصوص في ذلك متواترة عن أئمة العترة الطاهرة. 

وحسبك من غيرها ما تراه في سنن غرهم من حفظة الآثار كالامام مالك في موطئه: "إذ بلغه ان المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه بصلاة الصبح فوجده نائما، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في ندا، الصبح". انتهى بلفظه. 

قال الزرقاني في تعليقته على هذه الكلمة من شرحه للموطئ مما هذا لفظه1. هذا البلاغ أخرجه الدار قطني في السنن من طريق وكيع في مصنفه، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر قال وأخرج عن سفيان عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر أنه قال لمؤذنه: إذا بلغت حي على الفلاح في الفجر فقل: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم. 
 ________________________________________
1- راجع منه ما جاء في النداء للصلاة ص 25من جزئه الأول.
 
 
47

39

الدرس الرابع: زيادة "الصلاة خير من النوم" في الآذان

 قلت وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث هشام بن عروة، ورواه غير واحد من إثبات أهل السنة والجماعة. 


ولا وزن لما جاء عن محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن اسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشار الناس لما يهمهم إلى الصلاة فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى،فأري النداء في تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب، فطرق الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلاً فأمر رسول الله بلالاً فأذن به. 

قال: قال الزهري: وزاد بلال في ندا، صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم، فأقرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. .. (الحديث). أخرجه ابن ماجة في باب الأذان من سننه. 

وحسبك في بطلانه أنه من حديث محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي الذي قال فيه يحيى: كان رجل سوء، وقال مرة: هو لا شيء،وقال ابن عدي: أشد ما أنكر عليه أحمد ويحيى روايته عن أبيه، ثم له مناكير غير ذلك، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال يحيى بن معين:محمد بن خالد بن عبد الله كذاب إن لقيتموه فاصفعوه. 

قلت: وذكره الذهبي في ميزانه فنقل عن أئمة الجرح والتعديل ما قد ذكرناه فراجع. 

ونحو هذا الحديث في البطلان ما قد جاء عن أبي محذورة، إذ قال: قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان، قال: فمسح مقدم رأسي وقال: تقول "الله أكبر" "الله أكبر" ترفع بها صوتك، ثم تقول: "أشهد أن لا إله إلاَّ الله" "أشهد أن لا إله إلاَّ الله"، "أشهد أن محمداً رسول الله" أشهد أن 
 
 
48

40

الدرس الرابع: زيادة "الصلاة خير من النوم" في الآذان

 محمداً رسول الله"، تخلص بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة "أشهد أن لا إله إلاَّ الله" "أشهد أن لا إله إلاَّ الله"، "أشهد أن محمداً رسول الله" "أشهد أن محمداً رسول الله"، "حيَّ على الصلاة"، "حي على الصلاة"، "حي على الفلاح"، "حي على الفلاح"، فإن كانت لصلاة الصبح قلت: "الصلاة خير من النوم"، "الصلاة خير من النوم"، "الله أكبر" "الله أكبر"، "لا إله إلا الله". أخرجه أبو داود عن أبي محذورة من طريقين:


(أحدهما): عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه، عن جده. ومحمد بن عبد الملك هذا ممن لا يحتج بهم بنص الذهبي إذ أورده في ميزان الاعتدال. 

(ثانيهما): عن عثمان بن السائب، عن أبيه. وأبوه من النكرات المجهولة بنص الذهبي حيث أورده الميزان. 

على أن مسلما أخرج هذا الحديث1 بلفظه عن أبي محذورة نفسه، ولا أثر فيه لقولهم: الصلاة خير من النوم. 

وستسمع قريبا ما أخرجه أبو داود وغيره، عن محمد بن عبد الله بن زيد من فصول الأذان الذي تام به بلال يمليه عليه عبد الله بن زيد، وليس فيه "الصلاة خير من النوم"، مع أنه إنما كان لصلاة الصبح. 

على أن أبا محذورة إنما كان من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم في الإسلام بعد فتح مكة، وبعد أن قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حنين منتصراً على هوازن، ولم يكن شي، أكره إلى أبي محذورة يومئذ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا مما يأمر به، وكان يسخر بمؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحكيه رافعاً صوته استهزاء، لكن صرة الفضة التي اختصه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغنائم حنين 

________________________________________
1- في باب صفة الأذان من صحيحه.
 
 
49

41

الدرس الرابع: زيادة "الصلاة خير من النوم" في الآذان

 التي أسبغها على الطلقاء من أعدائه ومحاربيه، وأخلاقه العظيمة التي وسعت كل من اعتصم بالشهادتين من أولئك المنافقين مع شدة وطأته على من لم يعتصم بها، دخول العرب في دين الله أفواجاً، كل ذلك ألجأ أبا محذورة وأمثاله إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، ولم يهاجر حتى مات في مكة1 والله يعلم بواطنه. 


على أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمة قالها لثلاثة: أبي محذورة، وأبي هريرة، وسمرة بن جدب، حيث أنذرهم بقوله أخركم موتا في النار2

وهذا أسلوب حكيم من أساليبه صلى الله عليه وآله وسلم في إقصاء المنافقين عن التصرف في شؤون الإسلام والمسلمين، فانه صلى الله عليه وآله وسلم لما كان عالما بسوء بواطن هؤلاء الثلاثة أراد أن يشرب في قلوب أمته الويب فيهم، والنفرة منهم، إشفاقا عليها أن تركن إلى واحد منهم في شي، مما يناط بعدول المؤمنين وثقاتهم، فنص بالنار على واحد منهم وهو آخرهم موتا، لكنه، صلى الله عليه وآله وسلمأجمل القول فيه على وجه جعله دائرا بين الثلاثة على السواء، ثم لم يتبع هذا الإجمال بشي، من البيان، وتمضي الأيام والليالي على ذلك، ويلحق صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى ولا بيان، فيضطر أولي الألباب من أمته إلى إقصائهم جميعا عن كل أمر يناط بالعدول والثقات من الحقوق المدنية في دين الإسلام، لاقتضاء العلم الإجمالي ذلك بحكم القاعدة العقلية في الشبهات المحصورة، فلولا أنهم في وجوب الإقصاء على السواء لاستحال عليه -وهو سيد الحكماء- عدم البيان في مثل هذا المقام. 
________________________________________
1- كل ها نقلناه هنا عن أبي محذورة موجود في ترجمته من الإصابة وغيرها وهو مما لا خلاف فيه.
2- كما في ترجمة سمرة من الاستيعاب والاصابة وغيره.
 
 
50

42

الدرس الرابع: زيادة "الصلاة خير من النوم" في الآذان

 فأن قلت: لعله صلى الله عليه وآله وسلمسن هذا الأجمال بقرينة خفيت علينا بتطاول المدة. 


قلنا: لو كان ثمة قرية ما كان كلأ من هؤلاء الثلاثة في الوجل من هذا الانذار على السواء1

على أنه لا فرق في هذه المشكلة بين عدم البيان واختفائه بعد صدوره لاتحاد النتيجة فيهما بالنسبة الينا، إذ لا مندوحة لا عن العمل بما يوجبه العلم الاجمالي من تنجيز التكليف في الشبهة المحصورة على كلا الفرضين. 

فإن قلت: إنما كان المنصوص عليه بالنار منهم مجملا قبل موت الأول والثاني ويسبقهما إلى الموت تبين وتعين أنه إنما هو الباقي بعدهما بعينه دون سابقيه وحينئذ لا إجمال ولا إشكال. 

قلنا: أولا: إن الأنبياء عليهم السلام كما يمتنع عليهم ترك البيان مع الحاجة إليه يستحيل عليهم تأخيره عن وقت الحاجة، ووقت الحاجة هنا متصل بصدور هذا الانذار لو كان لواحد من الثلاثة شي، من الاعتبار، لأنهم منذ أسلموا كانوا محل ابتلا، المسلمين في الحقوق المدنية شرعا كالإمامة في الصلاة جماعة، وقبول الشهادة في المرافعات الشرعية ونحوها، وكالإفتاء والقضاء، مع استجماعهم لشروطهما، ونحو ذلك مما يشترط فيه العدالة والورع، فلولا وجوب إقصائهم عنها ما أخر صلى الله عليه وآله وسلم البيان اتكالا على صروف الزمان، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقصي أحدا عن حقه طرفة عين، ومعاذ الله أن يخزي من لا يستحق الخزي ثم يبقيه على خزيه حتى 

________________________________________
1- كما يعلمه متتبعوا شؤونهم حول هذا الوعيد.
 
 
51

43

الدرس الرابع: زيادة "الصلاة خير من النوم" في الآذان

 يموت مخزيا إذ لا نعرف براءته -بنا، على هذا الفرض الفاسد- إلا بتقديم موته. 


وثانيا: أننا (شهد الله) بذلنا الطاقة بحثا وتنقيبا فلم يكن بالوسع أن نعلم أيهم المتأخر موتا، لأن الأقوال في تاريخ وفياتهم بين متناقض متساقط1 وبين مجمل متشابه لا يركن إليه كما يعلمه المتتبعون. 

وثالثاً: لم يكن من خلق رسول انه صلى الله عليه وآله وسلم -وهو العزيز عليه عنت لمؤمنين الحريص عليهم الرؤوف بهم الرحيم لهم- أن يجابه بهذا القول من يحترمه، وما كان وإنه لعلى خلق عظم ليفاجئ به غير مستحقه، ولو أن في واحد من هؤلاء الثلاثة خيرا ما أشركه في هذه المفاجئة القاسية، والمجابهة الغليظة، لكن اضطره الوحي إلى ذلك نصحا لله تعالى وللأمة ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى2

 


________________________________________
1- ما تناقضها فلان بعضها نص بموت سمرة منة ثمان وخمسين وموت أبي هريرة سنة تسع وخمسين وهذا منقوص بالقول بأن موت أبي هريرة كان سنة سبع وخمسين وهكذا بقية الأقوال في موت الثلاثة. وأما المجمل المتشابه منها فكالقول بموت الثلاثة كلهم في سنة تسع وخمسين، من غير بيان الساعة واليوم والشهر الذي وقع فيه الموت.
2- لهذا الكلام بقية فلتراجع في خاتمة كتاب (أبو هريرة ) للسيد عبد الحسين شرف الدين.
 
 
52

44

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

الدرس الخامس: تشريع الآذان والإقامة 


أن من عرف رأي إخواننا - من أهل المذاهب الأربعة- في بدء، الأذان والإقامة واشتراعها لا يعجب من استسلامهم للزيادة فيهما أو للقيمة مهما، فانهم - هدانا الله وإياهم - لا يرون أن الأذان والاقامة مما شرعه الله تعالى بوحيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مما ابتدأ به النبي صادعاً به عن الله عز وجل كسائر النظم والأحكام، وإنما كان طيف رآه، بعض الصحابة في المنام كما صرحوا ه ونقلوا الاجماع عليه ورووا فيه أحادث صححوها وادعوا تواترها.

وإليك منها ما هو من أصحها عندهم، فعن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: أهتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها.فقيل له: أنصب راية فإذا رأوها أذن بعضهم فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القبع - يعني الشبور شبور اليهود - فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، فذكروا له الناقوس، نقال هو من أمر النصارى - وكأنه كرهه أولا ثم أمر به فعمل من خشب - فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأري الأذان في منامه. قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره نقال له: يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذا أتاني آتٍ فأراني لأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومأ، ثم خبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بلال قم فانظر ما  
 
 
53

45

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله، قال: فأذن بلال.. (الحديث)1


وعن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري، عن أبيه عبد الله بن زيد قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمعهم للصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت له: أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به ؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى. فقال: تقول الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله2. قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، لا إله إلا الله.

فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها لرؤيا حق إن شا، الله تعالى، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به أندى صوتا منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي 
________________________________________
1- أخرجه أبو داود في باب بد، الأذان من الجز، الأول من سننه، ورواه غير واحد من أصحاب السنن والمسانيد وأرسله أهل السير والأخبار منهم إرسال المسلمات فراجح.
2- هذا الأذان كان _ بزعم المحدثين به عن عبد الله بن زيد _ أول أذان في الإسلام وهو كما تراه ليس فيه (الصلاة خير من النوم ) مع كونه إنما كان لصلاة الفجر فمن أين جاء هذا الفصل يا مسلمون؟!
 
 
 
54

46

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى... (الحديث )1.


واختصره الامام مالك في ما جاء في النداء للصلاة من موطأه، فحدث عن يحيى بن سعيد أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يتخذ خشبتين2 يضرب بهما ليجمع الناس للصلاة، فأري عبد الله بن زيد الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج خشبتين في النوم، فقال: إن هاتين الخشبتين لنحو مما يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع به الناس للصلاة، فقيل
له: ألا تؤذنون للصلاة ؟ وأسمعه الأذان، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله بالأذان. انتهى ما في الموطأ مختصرا مرسلاً3.

وقال الامام ابن عبد البر: روى قصة عبد الله بن زيد هذه في بدا الأذان جماعة من الصحابة بألفاظ مختلفة، ومعان متقاربة، والأسانيد في ذلك متواترة وهي من وجوه حسان. هذا كلامه بلفظه4.
قلت: في ثبوت هذه الأحاديث نظر من وجوه: 

أحدها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليؤآمر الناس في اشتراع الشرائع الإلهية، وإنما كان يتبع فيها الوحي ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ 
________________________________________
1- أخرجه أبو داود السجستاني في باب كيف الأذان من سننه، والترمذي في صحيحه وقال: حسن صحيح، ورواه كل من ابن حيان وابن خزيمة وصححاه وابن ماجة في باب بد، الأذان من سننه وغير واحد من أصحاب السنن والأخبار.
2- قال الزرقاني في تعليقه على هذا الحديث من شرحه للموط: هما الناقوس وهي خشبة طويلة تضرب بخشبة أصفر منها فيخرج منهما صوت (قال ) كما في الفتح وغيره. قلت: وللزرقاني هنا (حول حديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة ) كلام الفت اليه الباحثين فليراجعوه في ص 12، الى منتهى ص 125 من الجزء الأول من شرح الموط.
3- والتفصيل في شرح الزرقاني فليراجع.
4- نقله الزرقاني عنه فيما تقدمت الإشارة اليه من شرح الموط.
 
 
55

47

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى1. والأنبياء كلهم صلوات الله وسلامه عليهم لا يؤآمرون أممهم فيما يشترعون ﴿... بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ2. وحسبنا قوله عز وجل لعبده وخاتم رسله: ﴿... قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ3 ﴿... قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم4﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِين5. وقد حظر (عز سلطانه) عليه العجل ولو بحركة اللسان فقال جل وعلا: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه6. وأثنى (جل ثناؤه ) على قول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال وهو أصدق القائلين: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ7﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ8.

 


ثانيهما: أن الشورى المذكورة في هذه الأحاديث لمما يحكم العقل مستقلا بعدم اعتبارها في تشريع الشرائع الإلهية، فالعقل بمجرده يحيل 
________________________________________
1- سورة النجم ؟ الآية: 7.
2- سورة الأنبياء ؟ الآية: 26.
3- سورة الأعراف ؟ الآية: 207.
4- سورة يونس ؟ الآية: 15.
5- سورة الاحقاف ؟ الآية 9.
6- سورة القيامة ؟ الآية: 16_19.
7- سورة الحاقة ؟ الآية :، 4.
8- سورة التكوير ؟ الآية: 19.
 
 
56

 


48

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 وقوعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهل رأي الناس فيها إلاَّ تقول محض على الله تعالى؟ ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين1.

 


نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتألف أصحابه بمشورتهم في أمور الدنيا، كلقاء العدو ومكائد الحرب ونحوها عملا بقوله تعالى: ﴿... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ...2. وفي مثل ذلك يجوز عليه ان يتألفهم بمشاورتهم فيها مع استغنائه بالوحي عن آرائهم لكن شرائع الدين لا يجوز فيها عليه إلا إتباع الوحي المبين.

 


ثالثها: إن هذه الأحاديث تضمنت من حيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يجوز على مثله من المتصلين بالله عز وجل، حتى مثلته وقد ضاق في أمره ذرعا فات ج إلى مشورة الناص، وأنه كره الناقوس أولاً، ثم أمر به بعل تلك الكراهة، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أمر به عدل عنه إلى ما اقتضته رؤيا عبد الله بن زيد، وان عدوله عن الناقوس كان قبل حضور وقت العمل به، وهذا من البدا، المستحيل على الله تعالى وعلى موضع رسالته، ومختلف ملائكته، ومهبط وحيه وتنزيله، وسيد أنبيائه وخاتم رسله.

على أن رؤيا غير الأنبياء لا يبتني عليها شي، من الأشياء بإجماع الأمة.

رابعها: ان في أحاديثهم هذه من التعارض ما يوجب سقوطها، وحسبك منها الحديثان اللذان أوردناهما آنفا - حديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، وحديث محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه - 
________________________________________
1- سوره الحاقة، الآية: 44.
2- سوره آل مران ؟ الآيه: 129.
 
 
57

49

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 فأمعن فيما يتعلق منهما برؤيا عمر تجد التعارض بينا بأجلى مظاهره.


وأيضا فإن هذين الحديثين المشار اليهما يقصران الرؤيا على ابن زيد وابن الخطاب، ولكن حديث الرؤيا للطبراني في الأوسط صريح في صدورها من أبي بكر أيضا، وهناك من أحاديثهم ما هو صريح بأن تلك الرؤيا كانت من أربعة عشر رجلا من الصحابة، كما في شرحه التنبيه للجبيلي، وروي أن الرائين تلك الليلة كانوا سبعة عشر من الأنصار، وعمر وحده من المهاجرين، وفي رواية أن بلالا ممن رأى الأذان أيضا وثمة متناقضات في هذا الموضوع، أورد الحلبي منها ما يورث العجب العجاب، وحاول الجمع بينها فحبط عمله1.

إذ قـــال يجمــــع شمــلاً غيــر مجتمـــــع      *      منهـــا ويجيـــر كســـراً غيــــر مجبـــــــر 

خامسها: أن الشيخين - البخاري ومسلما - قد أهملا هذه الرؤية بالمرة فلم يخرجاها في صحيحيهما أصلاً، لا عن ابن زيد، ولا عن ابن الخطاب، ولا عن غيرهما، وما ذاك إلا لعدم ثبوتها عندهما. نعم أخرجا في باب بد، الأذان من صحيحيهما عن ابن عمر، قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يومأ في ذلك، فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل بوق اليهود. فقال عمر: ألا تبعثون رجلا ينادي للصلاة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بلال قم فناد الصلاة. فنادى بالصلاة.

هذا كل ما في صحيحي البخاري ومسلم مما يتعلق ببد، الأذان 
________________________________________
1- فلتراجع في باب بد» الأذان ومشروعيته من الجز، الثاني من سيرته الحلبية، فان هناك ما يوجب العجب والاستغراب. 
 
 
58

50

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 ومشروعيته، وقد اتفق الشيخان على إخراجه كما اتفقا على إهمال ما عداه مما يتعلق بهذا الموضوع، وكفى به معارضا لما رووه من أحاديث الرؤيا كلها، لأن مقتضى هذا الحديث أن بد، الأذان إنما كان برأي عمر لا برؤياه، ولا برؤيا عبد الله بن زيد ولا غيرهما، ومقتضى تلك أن بدأه وبدء الإقامة إنما كان بالرؤيا التي سبق فيها عبد الله بن زيد، عمر بن الخطاب، ولذلك يدعى عندهم برائي الأذان، وربما قالوا صاحب الأذان.


وأيضا فان حديث الشيخين هذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم إنما أمر بلالا - بالند، للصلاة - في مجلس التشاور، وعمر حاضر عند صدور الأمر منه صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك الأحاديث - أحاديث الرؤيا كلها- صريحة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أمر بلالاً بالنداء، عند الفجر إذ قص ابن زيد عليه رؤياه، وذلك بعد الشورى بليلة في أقل ما يتصور، ولم يكن عمر حينئذ حاضرا وإنما سمع الأذان هو في بيته فخرج آنذاك يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى.

بجدك قل لي هل يمكن الجمع بين هذا وتلك ؟ كلا. وشرف الإنصاف، وعلو الحق، وعزة ربنا عز سلطانه.

على ان الحاكم قد أهمل أحاديث رؤيا الآذان والاقامة، فلم يرو في مستدركه منها شيئا أصلا كما أهملها الشيخان فلم يرويا في الصحيحين شيئا منها بالمرة، هذا مما يلمسك سقوطها عن درجة الصحة عندهما، وذلك لان الحاكم قد أخذ على نفسه أن يستدرك عليهما كل ما لم يخرجاه في صحيحيهما من السنن الصحاح من شرطهما، وقد قام في مستدركه بما أخذه على نفسه أتم قيام، وحيث، أنه مع ذلك كله - لم يخرج من أحاديث الرؤيا في المستدرك شيئا، علمنا انه لم يثبت منها على شرط الشيخين 
 
 
 
59

51

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 شي، لا في صحيحهما ولا في غير الصحيحين كما لا يخفى.


وللحاكم هنا كلمة تفيد جزمه ببطلان أحاديث الرؤيا وأنها كأضاليل، ألا وهي قوله: وإنما ترك الشيخان حديث عبد الله بن زيد في الأذان والرؤيا لتقدم موت عبد الله. قلت: هذا لفظه بعينه1.

ويؤيد ذلك: أن ابتداء الأذان عند الجمهور إنما كان بعد وقعة أحد. وقد أخرج أبو نعيم في ترجمة عمر بن عبد العزيز من كتاب حلية الأولياء بسند صحيح2 عن عبد الله الصميري، قال: دخلت ابنة عبد الله بن زيد بن ثعلبة على عمر بن عبد العزيز فقالت له: أنا ابنة عبد الله بن زيد شهد أبي بدرا وقتل بأحد، فقال سلي ما شئت فأعطاها. قلت: لو كان عبد الله بن زيد كما يقولون أنه رأى الأذان لذكرت ابنته ذلك عنه كما نقلت حضوره بدرا وشهادته في أحدكما لا يخفى.

سادسها: أن الله عز وجل حظر على الذين آمنوا أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله، وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وأنذرهم بحبوط أعمالهم الصالحة إذا ارتكبوا شيئامن ذلك، فقال عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُون3

 

________________________________________
1- فراجعه في باب رد الصدقة ميراثا ، من كتاب الفرائض ص 748من جزئه الرابع.
2- صرح بصحته ابن حجر العسقلاني إذ نقله عن الحلية في ترجمة عبد الله بن زيد الانصاري في إصابته فراجع.
3- سورة الحجرات، الآية. 1.
 
 
60

52

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 وكان سبب نزولها أن قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركب من بني تميم يسألونه أن يؤمر رجلا منهم، فقال أبو بكر- فيما أخرجه البخاري في تفسيرالحجرات من الجز، الثالث من صحيحه ص 117 يا رسول الله أمر عليهم القعقاع بن معبد متقدما بقوله هذا ومبادراً برأيه، فقال عمر على الفور من قول صاحبه: بل أمر الأقرع بن حابس أخا بني مجاشع يا رسول الله. فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، وتماريا جدالا وخصومة، وارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآيات الحكيمة بسبب تسرعهما في الرأي، وتقدمهما فيه بين يدي رسول الله ورفع أصواتهما فوق صوته صلى الله عليه وآله وسلم 


خاطب المؤمنين كافة بهذه الآيات لتكون قانونهم المتبع وجوبا في آدابهم وأخلاقهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.وهذه الآيات كلها كما تراها قد منعت كل مؤمن ومؤمنة عن كل افتئات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل إقدام على أمر بين يديه، فان معنى قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ1 أن لا تفتشوا عندهما برأي ما حتى يقضي الله على لسان نبيه ما شاء، وكان المقترحين المتقدمين بين يديه كانا قد جعلا لأنفسهما وزنا ومقدارا ومدخلا في الشؤون العامة، فنبه الله المؤمنين على طاهما فيما رأياه، وأوقفهما على حدهما الذي يجب أن يقفا عليه.

 


وقوله تعالى: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي2 نهى عن القول المشعر بأن لهم مدخلاً في الأمور، أو وزناً عند الله ورسوله، لأن من رفع صوته فوق صوت غيره فقد جعل لنفسه اعتباراً خاصاً، وصلاحية 

 

________________________________________
1- سورة الحجرات، الآية: 1
2- سورة الحجرات،الآية: 1.
 
 
 
61

53

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 خاصة، وهذا مما لا يجوز ولا يحسن من أحد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


ومن أمعن في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ1، وقوله عز من قائل: ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ2 علم الحقيقة بكنهها. 

 


ومن علم أن الله أقرَّ أبا بكر الصديق وعمر الفاروق على تقدمهما بين يدي الله ورسوله لا يقران الناس على تشاورهم في اشتراع شرائعه، ونظمه وأحكامه، بطريق أحق لو كان قومنا يعلمون.

سابعها: أن الأذان والإقامة من معدن الفرائض اليومية نفسه، فمنشئها هو منشئ الفرائض نفسه، بحكم كل نسابة للألفاظ والمعاني،خبير بأساليب العظماء وأهدافهم، وأنهما لمن أعظم شعائر الله عز وجل، امتازت بهما الملة الإسلامية على سائر الملل والأديان، إذ جاءت آخرا ففاقت مفاخرا فليمعن معي الممعنون من أولي الألباب بما في فصولهما من بلاغة القول وفصاحته، وفخامة المعاني وسموها، وشرف الأهداف، وإعلان الحق بكل صراحة - الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن حمداً رسول الله، مع الدعوة إليه، بكل ترغيب فيه، وكل ثنا، عليه، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، لا تأخذ الداعي لومة لائم ولا سطوة مخالف غاشم.

تلك دعوة حية - كما قال عنها بعض الأعلام - كأنما تجد الإصغاء والتلبية من عالم الحياة بأسرها، وكأ نما يبدأ الإنسان في الصلاة من ساعة مسراها إلى سمعه، ويتصل بعالم الغيب من ساعة إصغائه إليها. 

________________________________________
1- سورة الحجرات، الآية: 1.
2- سورة الحجرات، الآية: 1.
 
 
 
62

 


54

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 دعوة تلتقي فيها الأرض والسماء، ويمتزج فيها خشوع المخلوق بعظمة الخالق، وتعيد الحقيقة الأبدية إلى الخواطر البشرية في كل موعد من مواعيد الصلاة، كأنها نبأ جديد.


الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله لا إله إلا الله.

تلك هي دعوة الأذان التي يدعو بها المسلمون إلى الصلاة، وتلك هي الدعوة الحية التي تنطق بالحقيقة الخالدة ولا تومي إليها، وتلك هي الحقيقة البسيطة غاية البساطة، العجيبة غاية العجب، لأنها أغنى الحقائق عن التكرار في الأبد الأبيد، وأحوج الحقائق الى التكرار بين شواغل الدنيا وعوارض الفناء.

المسلم في صلاة منذ يسمعها تدعوه للصلاة، لأنه يذكر بها عظمة الله، وهي لب لباب الصلوات.

وتنفرج عنها هدأة الليل فكأنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة الحية تلبيها الأسماع والأرواح وينعت لها الطير والشجر، ويخف لها الماء والهواء، وتبرز الدنيا كلها بروز التأمين والاستجابة منذ تسمع هتفة الداعي الذي يهتف بها... إلى آخر كلامه1 

وبالجملة نون الأذان والإقامة لمما لا يأتي به البشر ولو اجتمعوا له، فنعوذ بالله من مخ الحقائق الناصعة ولا سيما لم إذا كانت من شرائع الله السائغة، وآياته البالغة.

ثامنها: ان سنهم في بد، الأذان والإقامة كلها يناقض المأثور الثابت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، ولا وزن عندنا لما خالف الثابت عنهم من رأي أو رواية مطلقاً.
________________________________________
1- فراجعه في ص 136 الى ص 141 من كتاب - داعي السماء - لكاتب الشرق الأستاذ العقاد.
 
 
63
 

55

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 ففي باب الأذان والإقامة من كتاب وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة بالسند الصحيح عن الأمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام، قال: لما هبط جبرائيل على رسول الله بالأذان أذن جبرائيل وأقام، وعندها أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً أن يدعو له بلالاً فدعاه فعلمه رسول الله الأذان وأمره به، وهذا ما رواه كل من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني، والصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، وشيخ الامامية محمد بن الحسن الطوسي، وناهيك بهؤلاء صدقا وورعا، وروى شيخنا الشهيد السعيد محمد بن مكي في كتابه (الذكرى) أن الصادق - الامام جعفر بن محمد الباقر - ذم قوما زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الأذان عن عبد الله بن زيد الأنصاري، فقال: ينزل الوحي به على نبيكم فتزعمون أنه أخذه عن عبد الله بن زيد! 


وعن أبي العلا، - كما في السيرة الحلبية - قال: قلت لمحمد بن الحنفية: إنا لنتحدث أن بد، الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعاً شديداً، وقال عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنه كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام، قال: فقلت له هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال :هذا والله هو الباطل.. إلى آخر كلامه.

وعن سفيان بن الليل، قال: لما كان من الحسن بن علي ما كان قدمت عليه المدينة قال: فتذاكروا عنده الأذان، فقال بعضنا إنما كان بدء الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، فقال له الحسن بن علي: إن شأن الأذان أعظم من ذلك، أذن جبرائيل في السماء مثنىً مثنىً وعلمه رسول الله، وأقام مرة
 
 
64

56

الدرس الخامس:تشريع الآذان والإقامة

 مرَّة فعلَّمه رسول الله... ( الحديث )1.


وعن هارون بن سعد، عن الشهيد زيد بن الأمام علي بن الحسين، عن آبائه، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم الأذان ليلة: أسري به وفرضت عليه الصلاة2.
________________________________________
1- أخرجه الحاكم في كتاب معرفة الصحابة من المستدرك ص 17 من جزئه الثالث.
2- أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار، وابن مردويه فيما نقله المتقي الهندي ص 277 من الجز، السادس من كنز العمال وهو الحديث 397من أحاديث الكنز
 
65

57

الدرس السادس: إسقاط "حي على خير العمل" من الآذان والإقامة

 الدرس السادس: إسقاط "حي على خير العمل" من الآذان والإقامة  


وذلك أن هذا الفصل كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزءا من الأذان ومن الاقامة، لكن أولي الأمر على عهد الخليفة الثاني كانوا يحرصون على أن تفهم العامة ان خير العمل انما هو الجهاد في سبيل الله ليندفعوا إليه، وتعكف هممهم عليه، ورأوا أن النداء على الصلاة بغير العمل مقدمة لفرائضها الخمس ينافي ذلك.

بل أوجسرا خيفة من بقا، هذا الفصل في الأذان والاقامة أن يكون سببا في تثبيط العامة عن الجهاد، إذ لو عرف الناس أن الصلاة خير من العمل مع ما فيها من الدعة والسلامة لاقتصروا في ابتناء الثواب عليها، واعرضوا عن خطر الجهاد المفضول بالنسبة اليها.

وكانت همم أولي الأمر يومئذٍ منصرفة إلى نشر الدعوة الإسلامية، وفتح المشارق والمغارب، وفتح الممالك لا يكون إلا بتشويق الجند الى التورط في سبيله بالمهالك، بحيث يشربون في قلوبهم الجهاد، حتى يعتقدون أنه خير عمل يرجونه يوم المعاد.

ولذا ترجح في نظرهم اسقاط هذا الفصل تقديما لتلك المصلحة على التعبد بما جاء به الشرع الأقدس، فقال الخليفة الثاني وهو على المنبر _ فيما نص عليه القوشجي1 في أواخر مبحث الامامة من شرح التجريد،
 ________________________________________
1- القوشجي هو علا ، الدين علي بن محمد ذكره طاش كبري زاده في كتابه (الشقائق النعمانية ) وغير واحد من أصحاب المعاجم فذكروا أنه قرأ على علم، سمرقند، وأخذ العلوم الرياضية عن المولى الفاضل القاضي زادة الرومي وعلى الأمير الغ بيك . ثم ذهب الى بلاد كرمان فقرأ على علمائه، ثم عاد الى سمرقند ثم أتى القسطنطينية على عهد السلطان محمد خان فأكرمه وأعطاه مدرسة أيا صوفيا ورتب له في كل يوم مائتي درهم، وعين لكل من أولاده وأتباعه منصب. وله من التصانيف شرح التجريد المشهور بالشرح الجديد في علم الكلام، والرسالة المحمدية في علم الحساب نسبها إلى السلطان محمد خان، والرسالة الفتحية في علم الهيئة سماها بذلك لفتح السلطان محمد خان عراق العجم، وله حاشية على أوائل شرح الكشاف للتفتازاني وقد جمع عشرين متناً في عشرين علما سناه محبوب الحمائل. كان بعض تلامذته يحمله ولا يفارقه. أما شرحه للتجريد تجريد الخواجه نصير الدين الطوسي أعلى الله مقامه – فمن أحسن الشروح علما وهو منتشر بطبعه ،وتوفي القوشجي في القسطنطينية سنة 879 ودفن بجوار أبي أيوب الانصاري رضي الله عنهما.
 
 
 
67

58

الدرس السادس: إسقاط "حي على خير العمل" من الآذان والإقامة

 وهو من أئمة المتكلمين على مذهب الأشاعرة _: ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهن، وأحرمهن، وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل1.


وتبعه في اسقاطها عامة من تأخر عنه من المسلمين، حاشا أهل البيت ومن يرى رأيهم، " احي على خير العمل " من شعارهم، كما هو بديهي من مذهبهم، حتى أن شهيد فخ _ الحسين بن علي بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام _ لما ظهر بالمدينة أيام الهادي من ملوك العباسيين، أمر المؤذن أن ينادي بها ففعل. نص على ذلك أبو الفرج الأصبهاني حيث ذكر صاحب فخ ومقتله في كتابه مقاتل الطالبيين2.

وذكر العلامة الحلبي في باب بد، الأذان ومشروعيته ص 11، على الجز، الثاني من سيرته أن ابن عمر رضي الله عنه والأمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام ، كانا يقولان في الأذان – بعد حي على الفلاح – حي على خير العمل.

قلت: وهذا متواتر على أئمة أهل البيت، فراجع حديثهم وفقههم لتكون على بصيرة من رأيهم وروايتهم عليهم السلام .
 

________________________________________
1- واعتذر بعد أن أرسله عنه ارسال المسلمات بأنه قد اجتهد في ذلك.
2- وكل من ذكر شهيد فخ _ وثورته المبرورة على الظلم والظالمين _نص على ذلك.  
 
 
 
68

59

الدرس السابع: الشهادة لـ علي عليه السلام بالولاية في الآذان والإقامة

الدرس السابع: الشهادة لـ علي عليه السلام بالولاية في الآذان والإقامة 

فصول الأذان عندنا ثمانية عشر، الله أكبر أربعا، أشهد أن لا إله إلاَّ الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، الله أكبر، لا إله إلاَّ الله. كل منها مرتان.

وفصول الإقامة سبعة عشر، هي فصول الأذان غير أنها مثنى مثنى إلاَّ "لا إله إلاَّ الله" فمرَّة واحدة، ويزاد فيها "يعد الحيعلات الثلاث قبل التكبير" قد قامت الصلاة، مرتين. 

ويستحب الصلاة على محمد وآل محمد بعد ذكره صلى الله عليه وآله وسلم كما يستحب إكمال الشهادتين بالشهادة لعلي بالولاية لله تعالى وإمرة المؤمنين في الأذان والإقامة.

وقد أخطأ وشذ من حرم ذلك وقال بأنه بدعة، فان كل مؤذن في الإسلام يقدم كلمة للأذان يوصلها به، كقوله: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا...1، أو نحوها، ويلحق به كلمة يوصله بها كقوله: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) أو نحوها، وهذا ليس من المأثور عن الشارع في الأذان، وليس ببدعة ولا هو محرم قطعا، لأن المؤذنين كلهم لا يرونه من فصول الأذان، وإنما يأتون به عملا بأدلة عامة تشمله، وكذلك الشهادة لعلي بعد الشهادتين في الأذان، فإنما هي عمل بأدلة عامة تشملها.

على ان الكلام القليل من سائر كلام الآدميين لا يبطل به الأذان ولا الاقامة ولا هو حرام في أثنائها، فمن أين جاءت البدعة والحرام؟ وما الغاية بشق عصا المسلمين في هذه الأيام؟
 ________________________________________
1- سوره الاسراء، آلاية: 111
 
 
 
69

60

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 الدرس الثامن:الجمع بين الصلاتين 


لا خلاف - بين أهل القبلة من أهل المذاهب الإسلامية كلها – في جواز الجمع بعرفة وقت الظهر بين الفريضتين - الظهر والعصر - وهذا في اصطلاحهم جمع تقديم، كما لا خلاف بينهم في جواز الجمع في المزدلفة وقت العشاء بين الفريضتين1 - المغرب والعشاء - وهذا في الاصطلاح جمع تأخير2، بل لا خلاف في استحباب هذين الجمعين وأنهما من السنن النبوية، وإنما اختلفوا في جواز الجمع بين الصلاتين فيما عدا هذين.

ومحل النزع هنا: إنما هو جواز الجمع بين الفريضتين بأدائهما معا في وقت أحداهما تقديما على نحو الجمع بعرفة، أو تأخيرا على نحو الجمع بالمزدلفة.

وقد صدع الأئمة من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجوازه مطلقا غير أن التفريق أفضل، وتبعهم في هذا شيعتهم في كل عصر ومصر فإذا هم يجمعون غالبا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء سفرا وحضرا لعذر أو لغير عذر، وجمع التقديم وجمع التأخير عندهم في الجواز سواء.

أما الحنفية: فمنعوا الجمع فيما عدا جمعي عرفة والمزدلفة بقول
 ________________________________________
1- إنما انعقد إجماع أهل القبلة على جوازز الجمع بعرفة والمزدلفة للحجاج خاصة , أنا غيرهم فمحل خلاف.
2-  وذلك لتأخير الصلاة عن وقتها وجمعها مع العشاء في وقتها كما أن الجمع في عرفة إنما كان جمع تقديم لتقديم صلاة العصر عن وقتها وجمعها مع الظهر في وقته.
 
 
71

61

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 مطلق مع توفر الصحاح الصريحة بجواز الجمع ولا سيما في السفر، لكنهم تأولوها على صراحتها فحملوها على الجمع الصوري وسيتضح لك بطلان ذلك قريبا إن شاء الله تعالى.


وأما الشافعية والمالكية والحنبلية: فأجازوه في السفر على خلاف بينهم فيما عداه من الأعذار كالمطر والطين والمرض والخوف وعلى تنازع في شروط السفر المبيح له1.

حجتنا التي نتعبد فيما بيننا وبين الله سبحانه في هذه المسألة وفي غيرها إنما هي صحاحنا عن أئمتنا عليهم السلام، وقد نحتج على الجمهور بصحاحهم لظهورها فيما نقول، وحسبنا منها ما قد أخرجه الشيخان في صحيحيهما، واليك ما أخرجه مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من صحيحه إذ قال :

حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا2 في غير خوف ولا سفر.

قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن ديار،عن أبي الشعثاء جابر بن زيد،عن ابن عباس قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً. قال عمرو بن ديار قلت: يا أبا 

________________________________________
1- وذلك أن منهم من اشترط سفر القربة كالحج والعمرة والغزو ونحو ذلك دون غيره، ومنهم من اشترط الإباحة دون مفر المعصية، ومنهم من اشترط ضربا خاصا من السير، ومنهم من لم يشترط شيئا فأي سفر كان وبأي صفة كان يراه مبيحا للجمع، والتفصيل في فقههم.
2- لعلك لا تجهل أن اصطلاحهم في الجمع بين الصلاتين إنما هو إيقاعهما معا في وقت إحداهما دون الأخرى جمع تقديم أو جمع تأخير. هذا هو مراد المتقدمين منهم والمتأخرين من عهد الصحابة إلى يومنا هذ، وهذا هو محل النزاع كما سمعته في الأصل.
 
 
72
 

62

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

   لك، أتعلمنا بالصلاة كنا نجمح بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.


قلت: وللنسائي عن طريق عمرو بن هرم، عن أبي الشعثاء: أن ابن عباس صلى في البصرة الظهر والعصر ليس بينهما شي، فعل ذلك من شغل، وفيه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم1.

قال مسلم: وحدثا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعا، عن زهير، قال ابن يونس: حدثا زهير، حدثنا أبو الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر2. قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لم فعل ذلك ؟ فقال :سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته.

قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية، وحدثنا أبو كريب، وأبو سعيد الأشج واللفظ لأبي كريب قالا - يعني أبا كريب وأبا معيد - حدثنا وكيع وأبو معاوية كلاهما، عن الأعمش،عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر.

قال: وفي حديث وكيع قال: قلت لابن عباس لم فعل ذلك ؟ قال كيلا يحرج أمته. وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك ؟ قال: أراد ان لا يحرج أمته.

قال: وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد بن الحرث، 
________________________________________
1- كما نقله الزرقاني في الجمع بين الصلاتين من شرح الموطأ ص 267من جزئه الأول.
2- وهذا الحديث مما أخرجه مالك في باب الجمع بين الصلاتين من الموطأ ؟ والامام أحمد عن ابن عباس في مسنده.
 
 
74

63

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 حدثنا قرة بن خالد، حدثنا أبو الزبير، حدثنا سعيد بن جبير، حدثنا ابن عباس: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال سعيد نقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك ؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.


قال: حدثنا يحيى بن حبيب، حدثنا خالد بن الحرث،حدثنا قرة بن خالد،حدثنا أبو الزبير، حدثنا عامر بن وائلة أبو الطفيل، حدثنا معاذ بن جبل قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. قال فقلت: ما حمله على ذلك ؟ فقال: أراد أن لا يحرج أمته.

قلت: هذه الصحاح صريحة في أن العلة في تشريع الجمع إنما هي التوسعة بقول مطلق على الأمة وعدم إحراجها بسبب التفريق رأفة بأهل الأشغال وهم أكثر الناس،والحديثان الأخيران - حديث معاذ والذي قبله. لا يختصان بموردهما. اعني السفر. إذ علة الجمع فيهما مطلقة لا دخل فيها للسفر من حيث كونه سفرا، ولا للمرض والمطر والطين والخوف من حيث هي هي وإنما هي كالعام يرد في مورد خاص،فلا يتخصص به بل يطرد في جميع مصاديقه، ولذا ترى الإمام مسلما لم يوردهما في باب الجمع في السفر إذ لا يختصان به وإنما أوردهما في باب الجمع في الحضر ليكونا أدلة من جواز الجمع بقول مطلق وهذا من فهمه وعلمه وإنصافه.

وصحاحه - في هذا الموضوع. التي سمعتها والتي لم تسمعها كلها على شرط البخاري، ورجال أسانيدها كلهم قد احتج البخاري بهم في صحيحه، فما المانع له يا ترى من إيرادها بأجمعها في صحيحه ؟ وما الذي 
 
 
 
75

64

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 دعاه إلى الاقتصار على الزر اليسير منها ؟ ولماذا لم يعقد في كتابه باباً للجمع في الحضر ولا بابا للجمع في السفر؟ مع توفر الصحاح - على شرطه - الواردة في الجمع، ومع أن أكثر الأئمة قائلون به في الجملة، ولماذا اختار من أحاديث الجمع ما هو أخسها دلالة عليه ؟ لم وضعه في باب يوهم صرفه عن معناه ؟ فإني أربأ بالبخاري وأحاشيه أن يكون كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه،أو الذين يكتمون الحق وهم يعلمون.


وإليك ما اختاره في هذا الموضوع، ووضعه في غير موضعه، إذ قال- في باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه1: حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد،عن عمرو بن دينار،عن جابر بن زيد،عن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطرية، قال: عسى. قلت: إن يتبعون إلا الطن.

وأخرج في باب وقت المغرب عن آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال: صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعا جميعا وثمانيا جميعاً.

________________________________________
1- تعقبه شيخ الإسلام الأنصاري عند بلوغه إلى هذا الباب من شرحه – تحفة الباري – فقال: المناسب للحديث باب: صلاة الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء , ففي التعبير بما قاله تجوز وقصور إلى أن قال: وتأويل ذلك بأنه فرغ من الأولى فدخل في وقت الثانية فصلاها عقبها خلاف الظاهر , انتهى بلفظه في آخر 293 في الجزء الثاني من شرحه إرشاد الساري: وتأوله على الجمع الصوري بأن يكون آخر الظهر إلى آخر وقتها وعجل العصر في أول وقتها ضعيف لمخالفة الظاهر وهكذا قال أكثر علمائهم ولا سيما شارحو صحيح البخاري كما ستسمعه في الأصل إن شاء الله.
 
 
76

65

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 وأرسل في باب "ذكر العشاء والعتمة" عن ابن عمر، وأبي أيوب، وابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب والعشاء - يعني جمعهما - في وقت أحداهما دون الأخرى.


وهذا النزر اليسير من الجم الكثير من صحاح الجمع كاف في الدلالة على ما نقول كما لا يخفى، ويؤيده ما عن ابن مسعود إذ قال: جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم - يعني في المدينة - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء فقيل له ذلك، فقال: صنعت هذا لئلا تحرج أمتي. أخرجه الطبراني1.

والمأثور عن عبد الله بن عمر2 إذ قيل له: لم ترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع ين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مقيما غير مسافر،أنه أجاب بقوله :فعل ذلك لئلا تحرج أمته.

وبالجملة فإن علما، الجمهور كافة ممن يقول بجواز الجمع وممن لا يقول به متصافقون على صحة هذه الأحاديث وظهورها فيما نقول من الجواز مطلقا،فراجع ما شئت مما علقوه عليها يتضح لك ذلك3. نعم 

________________________________________
1- كما في أواخر ص 263من الجز، الأول من شرح الموطأ للزرقاني قال: وإرادة نفي الحرج تقدح في حمله على الجمع الصوري لأن القصد إليه لا يخلو عن حرج.
2- في حديث تجده في صفحة 242 من الجز، الرابع من كنز العمال عدده في تلك الصفحة 5، 78 مسنداً إلى عبد الله.
3- وحسبك تعليق النووي شرحه لصحيح مسلم، والزرقاني في شرحه لموطأ مالك، والعسقلاني والقسطلاني وزكريا الانصاري في شروحهم لصحيح البخاري، وسائر من علق على أي كتاب من كتب السنن يشتمل على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين
حيث صححوه بكل طرقه التي نقلناها عن صحيحي مسلم والبخاري واستظهروا منها جواز الجمع في الحضر لمجرد وقاية الأمة من الحرج، وما أدري والله ما الذي حملهم على الإعراض عنه، ولعل هذا من حظ أهل البيت عندهم.
 
 
77

66

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 تأولوها حملا لها على مذاهبهم، وكانوا في تأولها على غمة وفي ليل من الحيرة مظلم، وحسبك ما نقله النووي عنهم في تعليقه على هذه الأحاديث من شرحه لصحيح مسلم إذ قال - بعد اعتبارها ظاهرة في الجمع حضرا -: وللعلماء، فيها تأويلات ومذاهب.


فمنهم: من تأولها على أنه جمع لعذر المطر. قال: وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدمين1. قال: وهو ضعيف بالرواية الثانية عن ابن عباس من غير خوف ولا مطر. 

قال: ومهم: من تأولها على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وظهر أن وقت العصر دخل فصلاها فيه2 3. قال: وهذا أيضا باطل، لأنه إذ كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء،. 

قال: ومنهم: من تأولها على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت العصر فصلاها فيه فصار جمعه للصلاتين صورياً4. قال: وهذا ضعيف أيضا أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. 

قال: وفعل ابن عباس حين خطب فناداه الناس الصلاة الصلاة ! وعدم مبالاته بهم واستدلاله بالحديث لتصويب فعله بتأخيره صلاة 

________________________________________
1- كالإمامين مالك والشافعي وجماعة من أهل المدينة. 
2- على أنه بعيد عن اللفظ غاية البعد ولا قرينة عليه.
3- هذا خرط ومجازفة ورجم بالغيب.
4- وقد تعلم أن أبا حنيفة وأصحابه تأولوا صحاح الجمع حضرا وسفرا بحملها كلها على الجمع الصوري فقالوا بمنع الجمع مطلق، وهذا غريب منهم إلى.بعد غاية وقد كفانا مناقشتهم والبحث معهم عدة من الأعلام تسمع في الأصل كلامهم.
 
 
 
78

67

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 المغرب إلى وقت العشاء، وجمعهما جميعا في وقت الثانية وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في رد هذا التأويل. 


قلت: ورده ابن عبد البر والخطابي وغيرهما بان الجمع رخصة فلو كان صوريا لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة (قالوا) ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته (قالوا) وأيضا فصريح إخبار الجمع بين الفريضتين إنما هو بأدائهما معا في وقت أحداهما دون الأخرى إما بتقديم الثانية على وقتها وأدائها مع الأولى في وقتها أو بتأخير الأولى عن وقتها إلى وقت الثانية وأدائهما وقتئذ معا. (قالوا) وهذا هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الجمع في السنن كلها وهذا هو محل النزاع.

قال النووي: ومنهم: من تأولها فحملها على الجمع لعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه. قال: وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا، واختاره الخطابي والمتولي ولروياني من أصحابنا، وهو المختار في تأويلها، لظاهر الأحاديث.

قلت: لا ظهور في الأحاديث ولا دلالة فيها عليه بشي، من الدوال، والقول به تحكم كما اعترف به القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري1. وقد تعقبه الأعلام أيضاً إذ قال: وقيل إن الجمع كان 

________________________________________
1- فراجع من شرحه إرشاد الساري باب تأخير الظهر إلى العصر تجد في ص 293 من جزئه الثاني ما هذا لفظه: وحمله _ أي حديث ابن عباس في الجمع حضرا _ بعضهم على الجمع للمرض، وقواه النووي، فتعقبوه أنه مخالف لظاهر الحديث، وتقييده به ترجيح بلا مرجع وتخصيص بلا مخصص.
 
 
 
79

68

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 للمرض، وقواه النووي، وفيه نظر: لأنه لو جمع للمرض لما صلى معه إلا من به المرض، والظاهر أنه صلى الله عليه وآله وسلم جمع بأصحابه، وبه صرح ابن عباس في رواية ثابتة عنه. انتهى1.


قلت: ولما لم يكن لصحاح الجمع تأويل يقبله العلماء، رجح قوم من الجمهور إلى رأينا في المسألة تقريبا من حيث لا يقصدون، وقد ذكرهم النووي بعد أن زيف التأولات بما سمعت فقال: وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال ألشاشي الكبير من أصحاب الشافعي، وعن أبي إسحاق المروزي، وعن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر قال: ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته، إذ لم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم هذا كلامه2 وبه صرح غير واحد من أعلامهم3

ولعل المحققين منهم في هذا العصر على رأينا كما شافهني به غير واحد منهم، غير أنهم لا يجرأون على مبادهة العامة بذلك، وربما يمنعهم الاحتياط، فإن التفريق بين الصلوات مما لا خلاف فيه، وهو أفضل بخلاف الجمع، لكن فاتهم أن التفريق قد أدى بكثير من أهل الأشغال إلى 

________________________________________
1- فراجعه في ص 267من الجز، الأول من شرح الزرقاني لموطأ هالك في باب الجمع بين الصلاتين.
2- في ص 455 من الجز، الرابع من شرحه لصحيح مسلم المطبوع في هامش إرشاد الساري وتحفة الباري شرحي صحيح البخاري ولا يخفى ميل النووي إليه في آخر كلامه إذ أيده بقول ابن عباس وعلق على قول ابن عباس قوله فلم يعلله بمرض ولا غيره فكان آخر كلامه ناقصا لتأويله.
3- كالزرقاني في شرحه للموطأ وسائر من علق على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين ممن شرح الصحاح والسنن العسقلاني والقسطلاني وغيرهما 
 
 
 
80

69

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 ترك الصلاة كما شاهدناه عيانا، بخلاف الجمع فإنه أقرب إلى المحافظة على أدائها، وبهذا يكون الأحوط للفقها، أن يفتوا العامة بالجمع وأن ييسروا ولا يعسروا ﴿... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...1، ﴿...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...2 والدليل على جواز الجمع مطلقا موجود والحمد لله سنة صحيحة صريحة كما سمعت، بل كتابا محكما مبينا، ألا تصغون لأتلو عليكم من محكماته ما يتجلى به أن أوقات الصلوات المفروضة ثلاثة فقط، وقت لفريضتي الظهر والعصر مشتركا بينهما، ووقت لفريضتي المغرب والعشاء على الاشتراك بينهما أيضا،وثالث لفريضة الصبح خاصة، فاستمعوا له وأنصتوا ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا3.

 


قال الأمام الرازي حول تفسيرها - من سورة الإسراء، ص 428 من الجزء الخامس من تفسيره الكبير - ما هذا لفظه: فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب4 وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات: وقت الزوال، ووقت أول المغرب، ووقت الفجر. قال: وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين، وأن يكون أول المغرب وقتا للمغرب والعشاء، فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين. قال: فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين 

________________________________________
142- سورة البقرة، آية: 185.
143- سورة الحج، آية: 78.
144- سورة الإسراء، آية: 78.
145- هذا المعنى نقله الرازي _ حول الآية من تفسيره الكبير - عن ابن عباس وعط، والنضر بن شميل، ونقله الإمام الطبرسي _ في مجمع البيان - عن ابن عباس وقتادة.
 
 
 
81

 


70

الدرس الثامن: الجمع بين الصلاتين

 المغرب والعشاء، مطلقا1، قال: إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر وعذر المطر وغيره.


قلت: أمعنا بحثاً عما ذكره من دلالة الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فلم نجد له - شهد الله - عينا ولا أثرا، نعم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع في حال العذر، وقد جمع أيضا في حال عدمه لئلا يحرج أمته، ولا كلام في أن التفريق أفضل، ولذلك كان يؤثره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا لعذركما هي عادته في المستحبات كلها صلى الله عليه وآله وسلم.
  
________________________________________
1- أما إذا فسرنا الفسق بتراكم الظلمة وشدتها نصف الليل _ كما عن الصادق عليه السلام فوقت الفرائض الأربع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ممتد من الزوال إلى نصف الليل ،فالظهر والعصر يشتركان في الوقت من الزوال إلى الغروب إلا أن الظهر قبل العصر، ويشترك المغرب والعشاء، من الغروب إلى نصف الليل غير أن المغرب قبل العشاء،أما فريضة الصبح فقد اختصها الله بوقتها المنوه به في قوله سبحانه: (وقرأن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ).
 
 
 
82

71

الدرس التاسع: تكبيرة الإحرام

الدرس التاسع: تكبيرة الإحرام  


أجمع الامامية - تبعا لأئمة العترة الطاهرة عليهم السلام- على أن تكبيرة الإحرام ركن من كل فريضة وكل نافلة لا تنعقد الصلاة إلا بها: وصورتها "الله أكبر" خاصة، فلو افتتح المصلي صلاته بتسبيح الله أو تهليله أو بقول "الله كبير" أو "الله الأكبر" أو "الله أعظم" أو نحوها لا يصح، فضلا عن رطانتها بإحدى اللغات الأعجمية، وحسبنا في ثبوت افتراضها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفتتح صلاة من صلواته كلها إلا بها، وقد عرفت قريبا أن الأصل فيما يفعله في صلاته صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو الوجوب لقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". 

على أن افتراضها ثابت في الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، قال الله تعالى: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وقد انعقد الإجماع على أن المراد به تكبيرة الإحرام لأن الأمر للوجوب، وغيرها ليس بواجب اجماعاً. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" رواه أبو داود في سننه.

وقال الحنفية أن التحريم ليس ركناً في الصلاة، وإنما هو متصل بالقيام الذي هو ركن، فيجب فيه استقبال القبلة وستر العورة والكون على طهارة لا لنفسه بل لاتصاله بالركن، وقالوا لا يشترط فيها اللغة العربية واكتفوا بترجمتها بأي لغة شاء المصلي، سواء أكان عاجزا عن العربية أم قادرا عليها فتعقد الصلاة عندهم بقول المصلي: "خدا بزرك" مثلاً عوضاً 
 
 
83

72

الدرس التاسع: تكبيرة الإحرام

 عن الله أكبر، قالوا ويصح الإحرام بالتسبيح أو التهليل وبكل اسم من أسمائه تعالى بدون أن يزاد عليه شيء، كأن يفتتحها بقول "الله" أو "الرحمن" أو نحو ذلك من أسمائه الحسنى مجردة مع الكراهة، هذا مذهبهم لا يختلفون فيه، وحجتهم إنما هي الاستحسان كما سمعت، والجواب هوا لجواب والله الموفق للصواب.

 

84


73

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 الدرس العاشر:القراءة في الصلاة 


 اختلف الفقهاء في القراءة في الصلاة، فذهب أبو بكر الأصم وإسماعيل بن علية وسفيان بن عيينة والحسن بن صالح إلى أنها ليست بفرض في صلاة ما وإنما هي مستحبة.

وهذا شذوذ في الرأي وخروج على الأدلة وخرق لإجماع الأمة.

احتجوا بما رواه أبو سلمة ومحمد بن علي، عن عمر بن الخطاب إذ صلى المغرب فلم يقرأ فيها، فقيل له في ذلك فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسن. فقال: لا بأس إذا.

والجواب: أنه إذ لم يرفعه فهو رأيه، ولعله كان ممن يرى أن ترك القراءة سهوا لا يبطل الصلاة والله أعلم.

وذهب الحسن البصري وآخرون إلى أن القراءة إنما تفرض في ركعة واحدة. وهذا كسابقه في الشذوذ وخرق الإجماع.

احتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب متشبثين بأن الاستثناء من النفي إثبات، وأنه إذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة ولو مرة واحدة وجب القول بصحتها بحكم الاستثناء.

والجواب: إن هذا الحديث غير ناظر - يحكم العرف - إلى حال الصلاة حين تكون مع الفاتحة ولا هو حاكم عليها - وهي في تلك الحال - بإيجاب ولا بسلب وإنما هو ناظر إليها حين تكون خالية من الفاتحة وحاكم 
 
 
 
85

74

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 عليها بأنها - وهي في تلك الحال -ليست بصلاة نظير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا صلاة إلا بطهور" اهتماما منه بالفاتحة وهي جز، الصلاة وبالطهور وهو شرطها، ونظائر هذا في الكلام كثير، ألا ترى أنه لو قيل لا "سكنجبين" إلا بخل مثلا، لا يفهم أحد من ذلك أن مسمى الخل ولو قطرة أو دونها كاف، أو ليس بكاف وإنما يفهمون أن السكنجبين مركب وأن الخل من مهمات أجزائه فإذا انتفى الخل ينتفي السكنجبين.


على أنه لو تم استدلالهم بهذا الحديث على ما زعموا لاطردت دلالته على عدم وجوب شي، من أفعال الصلاة وأقوالها إذا حصلت فيها قراءة الفاتحة كما هو واضح لمن أمعن.

وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: لا تفرض قراءة الفاتحة بخصوصها في صلاة ما وإنما يفرض في الصلوات مطلق القراءة واكتفى أبو حنيفة بقراءة أية آية من القرآن ولو كانت كلمة واحدة نحو "مدهامتان" لكن صاحبه أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني إنما اكتفيا بثلاث آيات قصار نحو: "ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر " أو بآية واحدة تعادل ثلاث آيات قصار أو تزيد عليها وعلى هذا عمل الحنفية1.

وأباح أبو حنيفة ترجمة ما يقرأ من الصلاة في القرآن بأية لغة من اللفات الأعجمية حتى لمن يحسن العربية2، واكتفى من القراءة بدلا من الفاتحة والسورة بقول: "دوبلك سبز" - ترجمة مدهامتان بالفارسية - لكن 

________________________________________
1- فراجع فقههم وحسبك غنية المتملي الكبير والصفير المنتشران كرسائل عملية.
2- هذا متواتر عنه، وممن نقله فخر الدين الرازي أول صفحة 1، 8من الجز، الأول من تفسيره الكبير ثم قال: واعلم أن مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة بعيد جدا ولهذا السبب فإنالفقيه أبا الليث السمرقندي والقاضي أبا زيد الدبوسي صرحا بتركه.
 
 
 
86

75

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 صاحبيه إنما أجازا الترجمة للعاجز عن العربية دون القادر عليها وعلى هذا عمل الحنفية.


والقراءة تفرض عندهم في الركعتين الأوليين من كل ثنائية كصلاة الجمعة والصبح وظهر المسافر وعصره وعشاءه، أما غير الثنائيات كصلاة المغرب وعشا، المقيم وظهره وعصره فإنما تفرض القراءة عندهم في ركعتين من كل منها لا على التعيين فللمصلي أن يختار القراءة في الأوليين أو الأخريين أو الأولى والثالثة أو الأولى والرابعة أو الثانية والثالثة أو الثانية والرابعة فإذا قرأ في الأولين – مثلاً – كان في الأخريين مخيراً إن شا، قرأ وإن شا، سبح وإن شاء سكت بقدر تسبيحة، هذا مذهبهم منتشراً في فقههم. 

احتجوا لكفاية مطلق القراءة في الصلاة بحديث أبي هريرة الموجود في الصحيحين1 إذ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أن رد رسول الله عليه السلام قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وعليك السلام، ارجع فصل فانك لم تصل حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا فعلمني. فقال صلى الله عليه وآله وسلم إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى 

________________________________________
1- واحتجوا أيضا بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة إلا بقراءة حيث أطلق القراءة وهذا ما يدعون. والجواب أن هذا لو صح لوجب حمله على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب , ولا غرو فإن المطلق يحمل على المقيد إجماعاً وقول واحد.
 
 
87

76

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك قي صلاتك كلها.


ومحل الشاهد منه قوله: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن لظهوره في دعواهم.

والجواب: أن أبا هريرة ممن لا نقيم لحديثه وزنا كما بيناه مفصلاً وأقمنا عليه الحجج القاطعة عقلية ونقلية في كتاب منتشر له فأردناه ليراجعه كل مولع بالبحث عن الحقائق الساطعة.

وحديثه هذا قد لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوروده في مقام يجب فيه البيان، وقد أمعنا فلم نجد ثمة من البيان ما يليق بالأنبياء عليهم السلام لخلوه من كثير مما أجمعت الأمة على وجوبه في الصلاة كالنية والقعود في التشهد الأخير وترتيب أركان الصلاة وكذا التشهد الأخير والصلاة على النبي والتسليم وغيرها، على أن تركه ثلاث مرات يصلي صلاة فاسدة مما لا يتلاءم مع خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد لا يجوز ذلك عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

وأبو داود أخرج هذه القصة – في باب صلاة من لا يقيم صلبه قي الركوع والسجود من سننه – بالإسناد إلى رفاعة بن رافع1 الأنصاري -وهو من أهل بدر – وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للرجل الذي لم يحسن صلاته: إذا قمت وتوجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ. 

وأخرج هذه القصة أيضاً بن حنبل وابن حبان بسنديهما إلى 

________________________________________
1- شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد معه بدر أخواه خلاد ومالك ابنا رفاعة، وشهد رفاعة هذا أمير المؤمنين الجمل وصفين وكان من أشد أوليائه له نصرة بالقول والفعل ، يعلم ذلك من ترجمته في الإصابة وغيرها من المؤلفات في أحوال الصحابة.
 
 
88

77

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 رفاعة بن رافع وفيها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لذلك الرجل المسي، صلاته ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت، الحديث1.


ومن المعلوم: أن أبا هريرة ممن لا يوازن رفاعة ولا يكايله في قول لا في عمل، فحديثه مقدم على حديث أبي هريرة عند التعارض بلا كلام، ولذلك ترى القسطلاني في فتح الباري يتأوّل ما جاء في حديث أبي هريرة بحمله على ما جاء في حديث رفاعة، ومن تتبع أقوال السلف والخلف فيما جاء في حديث أبي هريرة من قوله: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن، تجدهم جميعا "غير الحنفية" بين مفند2 ومتأوّلودونك إن شئت كلامهم حول حديث أبي هريرة هذا من شروح الصحيحين كلها4.

على أن أبا هريرة نفسه عارض حديثه هذا بما صح عنه إذ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تجزي، صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب5 وقال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرني ان أخرج فأنادي في المدينة أن 

________________________________________
1- تجده في آخر باب وجوب القراءة للأمام والمأموم في الصلاة كلها صفحة 441 من الجزء الثاني من إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري أثن، شرحه لحديث أبي هريرة هذا بنقلهعن كل من أبي داود وأحمد وابن حبان. 
2- كبعض المعتزلة والشيعة.
3- كأعلام غير الحنفية من الجمهور .
4- قال الامام النووي حول حديث أبي هريرة هذا في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرح صحيح مسلم. وأما قوله: اقرأ ما تيسر معك من القرآن فمحمول على الفاتحة فإنها متيسرة أو على ما زاد على الفاتحة أو على من عجز عن الفاتحة.وقال الامام السندي أثن، كلامه في حديث أبي هريرة هذا من تعليقه على صحيح البخاري ما هذا لفظه: قوله اقرأ ما تيسر معك كأنه قال له ذلك بن، على أن المتيسر لمثله هي الفاتحة قال: على أنه ورد في بعض الروايات أنه عين له الفاتحة.
5- أخرجه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بسند صحيح وكذا رواه أبو حاتم بن حبان ونقله عنهما مصرحا بصحته الإمام النووي في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرحه لصحيح مسلم
 
 
 
89

78

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد1. وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من صلى صلاة لا يُقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج2.


بقي الأمر الذي نتساءل عنه أعني السبب بأخذ فقها، الحنفية بظاهر قوله في حديث أبي هريرة "فاقرأ ما تيسر معك من القرآن" دون نصوصه الصريحة بوجوب الطمأنينة قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، على أن ما أخذوا به معارض بصحاح صريحة، ومخالف لجمهور المسلمين، وما لم يأخذوا به مؤيد بالصحاح وعليه الجمهور.

وربما استدل الحنفية على رأيهم في هذه المسألة بقوله تعالى﴿.... فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ...3.

 


والجواب: ان هذه الآية لا دخل لها فيما نحن فيه من القراءة في الصلاة قطعاً، يشهد بذلك سياقها في سورة المزمّل فليراجعها من شاء وليمعن فيما قاله المفسرون حولها تتضح له الحقيقة.

واحتج الحنفية لجواز ترجمة ما يقرأ في الصلاة من القرآن باللغات الأجنبية بوجه:

أحدها: أن ابن مسعود أقرأ بعض الأعاجم: إن شجرة الزقوم طعام 

________________________________________
1- أخرجه أبو داود في باب من ترك القراءة في صلاته من السنن وأخرج ثمة عن أبي هريرة أيضا من طريق آخر قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي لا صلاة إلا بقر، ة الفاتحمة فما زاد
2- أخرجه أبو داود في الباب الآنف الذكر ومسلم عن أبي هريرة من طرق كثيرة في باب وجوب قراءة الفاتحة من كل ركعة من صحيحه.
3- سورة المزمل، الآية: 20.
 
 
 
90

79

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 الأثيم، فكان الأعجمي يقرأ طعام اليتيم. فقال له: قل طعام الفاجر، ثم قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ: الحكيم، مكان العليم، بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب.


والجواب: إن هذا أجنبي عما نحن فيه، لا دلالة به على المدعي بشي، من الدوال، على أنه لو صح لكان رأياً لابن مسعود مقصوراً عليه لا تثنيه به حجة.

الثاني: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ1 ومثله: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى2

 


ووجه الاستدلال بهذه الآيات: أن الأمة مجمعة على أن القرآن لم يكن بألفاظه العربية في زبر الأولين ولا في صحف إبراهيم وموسى، وإنما كانت فيها معانيه بألفاظ العبرانية والسريانية. 

والجواب: إن هذا كسابقه في عدو الدلالة على المدعي بل هو أبعد وأبعد بكثير.

الثالث: أنه تعالى قال: ﴿.. وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ .... والأعاجم لا يفهمون اللفظ العربي إلا أن يذكر لهم معناه بلفتهم فيكون الإنذار بها. 

 


والجواب: إن هذا إنما يصلح دليلا على جواز تفسير القرآن بلغاتهم ليأخذوا بحكمه وآدابه وأوامره وزواجره وهذا شيء، والرطانة في الصلاة المأمور فيها بقراءة القرآن شي، آخر، وأي عربي أو عجمي لا يتبادر إلى ذهنه من لفظ قراءة الفاتحة تلاوة أم الكتاب بألفاظها المدونة في 

________________________________________
1- سورة الشعراء، الآية: 196.
2- سورة الأعلى. الآية: 18، 19.
 
 
91

80

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 المصاحف، وأي ذي ذوق لايصح عنده سلب لفظ قراءة الفاتحة وقراءة القرآن عن الرطانة بهما في الفارسية أو غيرها من اللغات الأجنبية شرقية وغربية.


وللأمام الرازي في تزييف هذه الوجوه – إذ نقلها من الحنفية – كلام آخر فليراجع. 

وأنا أربأ بالامام أبي حنيفة أن يخفق في استدلاله هذا الاخفاق أو يسف فيه إلى هذا الحضيض، لكنه عول في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية على القياس والاستحسان، ومن هنا أتي الرجل، وكأنه استحسن للأعاجم أن تترجم لهم القراءة في الصلاة بلغاتهم، إذ وجد ذلك اقرب إلى فهمهم لمعانيها وأرجى لخشوعهم فيها، وهنه قاس قراءة الأعجمي بلغته على سماعه الموعظة وتلقيه دروس العلم بلغته، وهذه نظرية أتاتورك في الصلاة لم يأخذها من أبي حنيفة وإنما هي خواطر متواردة، وساعد أتاتورك على هذه النظرية انه لا يقدر الأدلة الشرعية بل لا يعرفها ولا يتعرف عليها فيما يستحسنه من وجوه الإصلاح في نظره، ولو كان في الأدلة الشرعية ما يساعد على جواز العمل بالاستحسان لكان لما رأوه وجه، وقد أبته وحظرته فهيهات هيهات.

وذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى افتراض قراءة الفاتحة باللغة العربية في جميع ركعات الفرض والنفل، ودليلهم على ذلك: حديث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي لم يحسن صلاته لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث علمه الصلاة فأمره بالقراءة ثم قال له: "إفعل ذلك في صلاتك كلها"1.

________________________________________
1- قال الامام النووي الشافعي في باب وجوب قراءة الفاتحة من شرحه لصحح مسلم: والذي عليا جمهور العلماء من السلف والخلف وجوب الفاتحة في كل ركعة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم للإعرابي الذي لم يحسن صلاته: افعل ذلك في صلاتك كله. قلت: وقد تعلم أن النووي والشافعي وغيرهما ممن يوجب قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة لا يسنى له اعتبار حديث أبي هريرة إلا بعمل قوله فيه: فاقرأ ما تيسر معك من القرآن على خصوص الفاتحة.
 
 
 
92

81

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 وقد عرفت رأينا في هذا الحديث إذ قلنا أنا لا نقيم له وزنا.. 


والذي عليه الامامية - تبعا لأئمة العترة الطاهرة عليهم السلام - أن قراءة الفاتحة بالعربية الصحيحة فرض في الركعتين الأوليين من كل فرض ونفل1 على المنفرد والامام، أما المأموم فيتحمل القراءة عنه إمامه2، وأما الركعتان الأخريان فيجب فيهما إما قراءة الفاتحة أو التسبيح على سبيل التخيير بينهما ولا يتحمل الإمام فيهما عن المأموم قراءة ولا تسبيحا. 

وحجتنا على هذا كله: نصوص أئمتنا - وهم اعتدال الكتاب عليهم السلام - 
________________________________________
1- يجب عندنا في كل من الركعتين الأوليين من الفرائض الخمس قراءة سورة كاملة بعد الفاتحة لثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي قتادة وقد أخرجا البخاري في صحيحه وأخرجه غيره، ويجوز عندنا ترك السورة في بعض الأحوال بل قد يجب مع ضيق الوقت ونحوه من موارد الضرورة، أما النافلة فيجب فيها الفاتحة فقط ومعنى وجوبها فيها أنها شرط في صحته.
2- لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، وهذا حديث مأثور عند الجمهور من عدة طرق تجده في مبحث قراءة الفاتحة من كتاب الفقه على المذاهب الأربعة وتجد ثمة القول بمنع المأموم عن القراءة مأثورا عن أمير المؤمنين والعبادلة في ثمانين من كبار الصحابة، بل تجد القول بفساد صلاة المأموم إذ قرأ خلف لم أمامه مأثورا عن عدة أخرى من الصحابة. والأحوط عندنا بل الأقوى للمأموم ترك القراءة في الركعتين الأوليين من الاخفاتية ،وكذا في الأوليين من الجهرية إذا سمع من صوت إمامه ولو الهمهمة عملا بقولا تعالى: (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلك ترحمون ). إما إذا لم يسع حتى الهمهمة جاز للمأمون بل استحب له القراءة.
 
 
 
93

82

الدرس العاشر:القراءة في الصلاة

 على أن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب ثابت في الصحاح والمسانيد كلها من حديث أبي قتاد الحرث بن ربعي وغيره، والأصل فيما بفعله في صلاته صلى الله عليه وآله وسلم هو الوجوب1، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي، ولئن ثبت عنه قراءة الفاتحة في الركعتين الأخريين فقد بت عنه أيضاً الذكر فيهما، وصورته: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، مأثورة من طرق الأئمة من عترته الطاهرة، وقد يشهد له حديث سعد بن أبي وقاص الموجود في صحيح البخاري وغيره من الصحاح والمسانيد إذ شكاه أهل الكوفة إلى عمر حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي، فقال سعد: والله لقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله ما أخرم عنها ،فأركد – أطيل القيام بقراءة الفاتحة والسورة – في الركعتين الأوليين، وأخف في الركعتين الأخريين – أي أسرع فيها اقتصاراً على التسبيح أو الفاتحة مجردة عن غيرها – والله تعالى أعلم.


________________________________________
1- كما نص علبه الإمام السندي في تعليقه على حديث سعد من صحيح البخاري الذي أشرنا إليه في الأصل. 
 
 
94

83

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

  
وهل تقرأ في الصلاة؟

اختلفت آراء أهل الرأي من المسلمين في ذلك، فذهب مالك والأوزاعي إلى أنها ليست من القرآن ومنعا من قراءتها في الفرائض بقول مطلق سوا، أكانت في افتتاح الحمد أم في افتتاح السورة بعدها، وسواء قرئت جهرا أم اخفاتاً، نعم أجازا قراءتها في النافلة1.

أما أبو حنيفة والثوري وأتباعهما فقرأوها في افتتاح أم القرآن، لكن أوجبوا اخفاتها حتى في الجهريات، وهذا يشعر بموافقتهما لمالك والاوزاعي وربما كان دالاً عليه إذ لا نعرف وجهاً لا خفاتهما في الجهريات سوى أنها ليست من أم الكتاب.

لكن الشافعي قرأها في الجهريات جهرا وفي الاخفاتيات اخفاتاً وعدها آية من فاتحة الكتاب، وهذا قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وأبي عبيد، واختلف المنقول عن الشافعي في أنها آية من كل سورة عدا براءة أم أنها ليست بآية من غير أم الكتاب فنقل عنه القولان جميعا، لكن المحققين 
 
________________________________________
1- نقل ابن رشد هذا كله عن مالك في صفحة 96 من الجزء الأول من كتابه بداية المجتهد، وقال الرازي حول البسملة في تفيسره الكبير صفحة 100 من جزئه الأول ما هذا نصه : قال مالك والأوزاعي أنها ليست من القرآن إلا في سورة النهل ولا تقرأ في الصلاة لا سرا ولا جهرا إلا في قيام شهر رمضان .
 
 
95

84

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 من أصحابه قد اتفقوا على أن البسملة قرآن من سائر السور1 وتأولوا القولين المنقولين عن إمامهم الشافعي2.


أما نحن - معشر الإمامية - فقد أجمعنا - تبعا لأئمة الهدى من أهل بيت النبوة عليهم السلام - على أنها آية تامة من السبع المثاني ومن كل سورة من القرآن العظيم ما خلا براءة، وان من تركها في الصلاة عمدا بطلت صلاته سوا، أكانت فرضا أم كانت نفلاً، وأنه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة وأنه يستحب الجهر بها فيما يخافت فيه3 وأنها بعض آية من سورة النمل، ونصوص أثمتنا في هذا كله متضافرة متواترة تواترا معنويا وأساليبها ظاهرة في الإنكار على مخالفيهم فيها، كقول الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام4 ما لهم ؟! عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله عز وجل فزعموا أنها بدعة إذا ظهروها وهي بسم الله الرحمن الرحيم. 

وحجتنا من طريق الجمهور صحاحه وهي كثيرة: 

أحدها: ما هو ثابت عن ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ5. قال: فاتحة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب 

 


________________________________________
1- نقل اتفاقهم هذا وتأولهم لقولي أمامهم جماعة من الإعلام احدهم الرازي حول البسملة من تفسيره الكبير صفحة ، 4 1 من جزئه الأول .
2- وذلك أنهم قالوا لم يختلف النقل عنه في أصل المسألة وإنما اختلف النقل عنه في أنها آية تامة من سائر السور أو إنها بعض آية من كل سورة .
3- ان للامام الرازي حول البسلة من تفسيره الكبير عدة حجج على الجهر بها وقد نقل في الثالثة منها أن عليا رضي الله عنه كان مذهبه الجهر بسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات . وقال : ان هذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة .
4- نقله عنه الامام الطبرسي حول البسملة من الجز ، الأول من مجمع البيان .
5- سورة الحجر ، آية : 87.
 
 
96

85

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 العالمين وقرأ السورة. قال ابن جريح: فقلت لأبي: لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس أنه قال: بسم الله الرحمن الرحيم آية ؟ قال: نعم. وهذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في تلخيصه وصرحا بصحة إسناده1


ثانيها: ما صح عن ابن عباس أيضا. قال: ان النبي صلى الله وعليه وآله وسلم كان إذا جاءه جبرائيل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة2.

ثالثها: ما صح عن ابن عباس أيضا. قال: كان النبي صلى الله وعليه وآله وسلم لا يعلم ختم السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم3.

رابعها: ما صح عنه أيضا. قال: كان المسلمون لا يعلمون السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت بسم الله الرحيم علموا أن السورة قد انقضت4.

خامسها: صح عن أم سلمة قالت: كان النبي صلى الله وعليه وآله وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها يقطعها حرفاً حرفا5.

________________________________________
1- فراجع تفسير سورة الفاتحة من كتاب التفسير من المستدرك للحاكم ومن تلخيصه للهذبي صفحة 257من جزئهما الثاني تجد الحديث منصوصا على صحته من الحاكم والذهبي كليهما .
2- أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من ستدركه صفحة 231من جزئه الأول فقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . 
3- أخرجه الحاكم في كتاب الصلاة من مستدركه وأورده الذهبي في التلخيص مصرحين بصحته على شرط الشيخين فراجع صفحة 231 من الجزء الأول من المستدرك وتلخيصه المطبوعين معا . 
4- أخرجه الحاكم في صفحة 232من الجزء الأول من المستدرك ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وصححه الذهبي على شرطهما أيضاً إذ أورده في التلخيص .
5- أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في تلخيص مصرحين بصحته على شرط الشيخين فراجع من المستدوك وتلخيصه صفحة 232من جزئهما الأول .
 
 
 
97

86

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 وعن أم سلمة أيضاً من طريق آخر قالت: رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية، الحمد لله رب العالمين آيتين ،الرحمن الرحيم ثلاث آيات، مالك يوم الدين أربع، إياك نعبد وإياك نستعين فجمع خمس أصابعه. الحديث1.


سادسها: ما صح عن نعيم المجمر. قال: كنت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ ولا الضالين قال آمين، فقال الناس آمين،2 فلما سلم قال والذي نفسي بيده اني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم3.

وعن أبي هريرة أيضا قال: كان رسول الله يجهر – في الصلاة – ببسم الله الرحمن الرحيم4.

سابعها: ما صح عن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة فقرأ فيها بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة، 

________________________________________
1- أخرجه الحاكم عن أم سلمة بعد حديثها السابق شاهداً له .
2- ليس من مذهبنا قول آمين عند انتهاء الفاتحة من الصلاة لا للمنفرد ولا للمأموم ولا للامام لكونه ليس منها ولا من القرآن في شي ، إجماعا وقولا واحدا ، ولم يرو فيه أثر من طريقنا ولم ينقل عن أحد من أثمتنا ، بخلاف الجمهور فانه من شعارهم وقد رووا فيه أخبارا صحاحا على شرطهم ، وحديث أبي هريرة هذا من جملتها فهو من السنن أثنا ، الصلاة عندهم .
3- أخرجه الحاكم في المستدرك بعد حديثي أم سلمة بلا فصل ، وأورده الذهبي ثمة ني تلخيصه مصرحين بصحته على شرط الشيخين .
4- أخرجه الحاكم بعد الحديث المتقدم شاهدا له وأخرجه البيهقي في السنن الكبيرة كما في صفحة 1 ، 5 من الجزء الأول من تفسير الرازي .
 
 
98

87

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان: يامعاوية أسرقت الصلاة أم نسيت ؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن. الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم1، وأخرجه غير واحد من أصحاب المسانيد كالإمام الشافعي في مسنده2 وعلق عليه تعليقة يجدر بنا إيرادها، إذ قال3: إن معاوية كان سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة فلولا أن الجهر بالتسمية كان كالأمر المقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.


ولنا تعليقة على هذا الحديث ألفت إليها كل بحاثة فأقول: إن من أمعن في هذا الحديث وجده من الأدلة على مذهبنا في البسملة وفي عدم جواز التبعيض في السورة التي تقرأ في الصلاة بعد أم القرآن، إذ لا وجه لانكارهم عليه إلاَّ بنا، مذهبنا في المسألتين.

ثامنها: ما صح عن أنس أيضاً من طريق آخر قال: سمعت رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم يجهر – في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم 4 

تاسعها: ما صح عن محمد بن السري العسقلاني. قال: صليت 

________________________________________
1- وأورده الذهبي في تلخيص المستدرك وصححه على شرط مسلم وجعله الحاكم والذهبي علة ونقيضا لحديث قتادة عن انس . إذ قال : مليت خلف النبي(ص ) وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع احد منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ،وهذا باطل كما سنوضحه في الأصل قريبا إنشاء الله تعالى وقد أخرجه الحاكم وما بعده تزييفا له وشواهد لبطلانه .
2- راجع من مسنده صفحة 13 .
3- فيما نقله عنه الرازي في الحجة الرابعة من حججه على الجهر بالبسلة صفحة 1 ، 5 من الجزء الأول من تفسيره الكبير .
4- أخرجه الحاكم وأورده الذهبي في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من كتابيهما وقالا : رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضا لحديث قتادة عن أنس .
 
 
99

88

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها - للسورة - وسمعت المعتمر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم1. قلت: آنت من هذا الحديث وغيره أنهم كانوا يقرأون بعد أم القرآن سورة تامة من بسملتها حتى منتهاها كما هو مذهبنا ويدل عليه كثير من الأخبار2.


وعن قتادة، قال: سئل أنس بن مالك كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم ؟قال: كانت مداً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد الرحمن ويمد الرحيم.

وعن حميد الطويل، عن أنس بن مالك. قال: مليت خلف النبي صلى الله وعليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي فكلهم كانوا يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم.

أخرج هذه الأحاديث كلها وما قبلها أمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري في مستدركه ثم قال بعد الأخير منها ما هذا نصه: إنما ذكرت هذا الحديث شاهدا لما تقدمه. ففي هذه الأخبار التي ذكرناها معارضة لحديث قتادة الذي يرويه أثمتنا عنه - ولفظه عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله وعليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم -.

________________________________________
1- أخرجه الحاكم في المستدرك وأورده الذهبي في التلخيص ونصا على أن رواته عن آخرهم ثقات وجعلاه علة ونقيضا لحديث قتادة عن أنس ، الباطل .
2- فعن ابن عمر : أنه كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن وللسورة التي بعدها . أخرجه الامام الشافعي في صفحة 13 من مسنده .
 
 
 
100

89

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 ثم قال الحاكم: وقد بقي في الباب عن أمير المؤمنين عثمان ،وعلي، وطلحة بن عبد الله، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر،والحكم بن عمير الثمالي، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب ،وبريده الاسلمي، وعائشة بنت الصديق (ض)، كلها مخرجه عندي في الباب تركتها إيثاراً للتخفيف واختصرت منها ما يليق بهذا الباب وكذلك ذكرت في الباب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من الصحابة والتابعين وأتباعهم رضي الله عنهم. انتهى كلامه1


قلت: وذكر الرازي في تفسيره الكبير2 أن البيهقي روى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في سننه عن عمر بن الخطاب، وابن عباس وابن عمر ابن الزبير ثم قال الرازي ما هذا لفظه: وأما ان علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يهجر بالتسمية فقد ثبت بالواتر ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى. قال: والدليل عليه قول رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم "اللهم أدر الحق مع علي حيث دار". 

وحسبنا حجة - على أن البسملة آية قرآنية في مفتتح السور كلها ما خلا براءة - أن الصحابة كافة فالتابعين أجمعين فسائر تابعيهم وتابعي التابعين في كل خلف من هذه الأمة منذ دون القرآن إلى يومنا هذا مجمعون إجماعا عمليا على كتابة البسملة في مفتتح كل سورة خلا براءة.  

كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميزة، مع أنهم كافة متصافقون على أن لا يكتبوا شيئاً من غير القرآن إلا بميزة بينة حرصا منهم على أن لا يختلط فيه شي، من غيره، ألا تراهم كيفه ميزوا عنه أسماء سوره 

________________________________________
1- فراجعه في صفحة 234الجزءالأول من المستدرك .
2- أثناء الحجة الخامسة من حججه على الجهر بالبسملة صفحة501 من جزئه الأول .
 
 
101

90

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 ورموز أجزائه وأحزابه وأرباعه وأخماسه وأعشاره فوضعوها خارجة عن السور على وجه يعلم منه خروجها عن القرآن احتفاظا به واحتياطا عليه، ولعلك تعلم أن الأمة قل ما اجتمعت بقضها وقضيضها على أمر كاجتماعها على ذلك، وهذا بمجرده دليل على أن بسم الله الرحمن الرحيم أية مستقلة في مفتتح كل سورة رسمها السلف والخلف في مفتتحها والحمد لله على الاعتدال. 


وأيضاً فإن من المأثور المشهور عن رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم قوله: كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع1، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أو أجذم2، ومن المعلوم أن القرآن أفضل ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله وان كل سورة منه ذات بال وعظمة، تحدى الله بها البشر فعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، فهل يمكن أن يكون القرآن أقطع ؟! تعالى الله وتعالى فرقانه الحكيم وتعالت سوره عن ذلك علواً كبيراً.

والصلاة هي الفلاح وهي خير العمل كما ينادى به في أعلى المنائر والمنابر ويعرفه البادي والحاضر لا يوازنها ولا يكايلها شي، بعد الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسوله واليوم الآخر، فهل يجوز أن يشرعها الله تعالى بترا، جذما، ؟ إن هذا لا يجرا على القول به بر ولا فاجر، لكن الأئمة البررة مالكاً والأوزاعي وأبا حنيفة (رضي الله عنهم) ذهلوا عن هذه اللوازم ،وكل مجتهد في الاستنباط من الأدلة الشرعية معذور ومأجور إن أصاب وإن أخطأ.

________________________________________
1- أخرجه بهذا اللفظ الشيخ عبد القادر الرهاوي في اربعينه بسنده إلى أبي هريرة ، ورواه السيوطي ني حرف الكاف من جامعه الصغير صفحة 91 من جزئه الثاني، وأورده المتقي الهندي في صفحة 193 من الجز ، الأول من كنز العمال وهو الحديث 2497.
2- أرسله الأمام الرازي بهذا اللقط حول البسلة من الجز ، الأول من تفسيره . 
 
 
102

91

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 حجه مخالفينا في المسألة 


احتجوا بأمور: 

أحدها: أنها لو كانت آية من الفاتحة للزم التكرار فيها بالرحمن الرحيم، ولو كانت جزءاً من كل سورة للزم تكرارها في القرآن مئة وثلاث عشرة مرة.

والجواب: ان الحال قد تقتضي ذلك اهتماما ببعض الشؤون العظمى وتأكيدا لها وعناية بها، وفي الذكر الحكيم من هذا شي، كثير وحسبك سورة الرحمن وسورتا المرسلات والكافرون، وأي شأن من أهم مهمات الدنيا والآخرة يستوجب التأكيد الشديد ويستحق أعظم العنايات كاسم الله الرحمن الرحيم، وهل بعثت الأنبياء وهبطت الملائكة ونزلت الكتب السماوية إلاَّ باسم الله الرحمن الرحيم والهداية إليه عز وجل ؟ وهل قامت السماوات والأرض ومن فيهن إلاَّ باسم الله الرحمن الرحيم؟﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ2

 


ثانيها: ما جاء عن أبي هريرة مرفوعا إذ قال: يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، 

________________________________________
1- فالمؤمن يفتتح أعماله باسم الله الرحمن الرحيم فإذا أكل أو شرب أو قام أو قعد دخل أو خرج أو أخذ أو أعطى أو قرأ أو كتب أو أملى أو خطب أو ذبح أو نحر قال : بسم الله الرحمن الرحيم .والقابلة إذا أخذت الولد حين ولادته تقول : بسم الله . وإذا مات قال بسم الله ، وإذا دخل القبر قيل بسم الله ، وإذا قام من قبره قال بسم الله ، وإذا حضر الموقف قال بسم الله ، وهل منجى يومئذٍ أو ملجأ إلا بالله ؟ ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
2- سورة فاطر ، الآية : 3 .
 
 
 
103

92

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 يقول الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم، يقول الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين، يقول الله تعالى: مجدني عبدي. وإذا قال: إيك نعبد وإياك نستعين، يقول الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي. الخبر.


ووجه الاستدلال به أنه لم يذكر في آيات الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم ولو كانت آية لذكرها. 

والجواب: ان هذا معارض بخبر ابن عباس مرفوعا، وفيه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فإذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: دعاني عبدي... الحديث1 وهو طويل، وشاهدنا فيه أنه قد اشتمل على البسملة، فنقض حديث أبي هريرة، على أن أبا هريرة روى عن رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وكان هو يجهر بها ويقول: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم وقد مر عليك حديثاه في ذلك2

ثالثها: ما جاء عن عائشة: أن النبي صلى الله وعليه وآله وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين.

ولا حجة لهم به، لأنها جعلت الحمد لله رب العالمين اسماً لهذه السورة كما تقول: قرأت قل هو الله أحد، وقرأ فلان إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، وما أشبه ذلك، فيكون معنى الحديث: أنه صلى الله وعليه وآله وسلم كان يفتتح الصلاة 

________________________________________
1- نقله المتقي الهندي حول البسملة صفحة 32 ، من الجزء الأول من الكنز عن شعب الإيمان للبيهقي .
2- فراجع الحديث السادس والذي بعده من حججنا .
 
 
104

93

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 بالتكبير وبقراءة هذه السورة التي أولها بسم الله الرحمن الرحيم1


رابعها: خبر ابن مغفل إذ قال: سمعني أبي وأنا أقرأ باسم الله الرحمن الرحيم قال: يا بني إياك والحدث فإني صليت مع رسولصلى الله وعليه وآله وسلموأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع رجلا منهم يقرأها2

والجواب: أن أئمة الجرح والتعديل لا يعرفون ابن مغفل ولا أثر لحديثه عندهم، وقد أورده ابن رشد حول البسملة من كتابه "بداية المجتهد"3 فأسقطه بما نقله عن أبي عمر بن عبد البر من النص على أن ابن مغفل رجل مجهول.

خامسها: خبر شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك4 قال: صليت مع رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. ونحوه حديث حميد الطويل عن أنس أيضاً5 قال: قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. 

والجواب: أنك سمعت في حججنا ما صح عن أنس مما يناقض 



________________________________________
1- هذا ملخص ما قاله الإمام الشافعي في الجواب عن احتجاجهم بهذا الحديث .
2- حديث ابن مغفل هكذا أورده الإمام الرازي في حجج مخالفيه في المسألة صفحة 106 من الجزء الأول من تفسيره . ثم قال: إن أنساً وابن مغفل خصصا عدم ذكر بسم الله الرحمن الرحيم بالخلفاء الثلاثة ولم يذكرا عليا وذلك يدل على ان عليا كان يجهر بسم الله الرحمن الرحيم. 
3- صفحة 97 من جزءه الأول.
4- أخرجه مسلم عن طريقين عن شعبة عن انس في باب حجة من قال : لا يجهر بالبسملة من صحيحه .
5- فيما أخرجه مالك في العمل في القراءة من موطئه .
 
 
 
105

 


94

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

 هذين الخبرين فأمعن فيما أسلفناه، وقد أورد الإمام الرازي خبر أنس هذا في حجج مخالفيه، ثم قال: والجواب عنه من وجوه: 


الأول: قال الشيخ أبو حامد الاسفرايني: روي عن أنس في هذا الباب ست روايات، أما الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات:

إحداها: صليت خلف رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين.

وثانيتها: قوله: أنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم.

وثالثتها: قوله: لم أسمع أحداً منهم قال: بسم الله الرحمن الرحيم. 

فهذه الروايات الثلاث توافق قول الحنفية قال: وثلاث أخرى تناقضه:

إحداها: حديثه في أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وهذا يدل أن الجهر بالبسملة كان كالأمر المواتر عندهم المسلم فيما بينهم. 

قال: وثانيتها: روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم1 

قال: وثالثتها: أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال: لا أدري هذه المسألة قال: فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى غيرها من سائر الأدلة. قال الأمام الرازي: وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي أن عليا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت 
________________________________________
1- وقد أوردنا في حججنا رواية حميد الطويل عن أنس قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعثمان وعلي فكلهم كانوا يجهرون بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم . 
 
 
106

95

الدرس الحادي عشر: هل البسلمة آية قرآنية؟

   الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر بها سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام1 قال: فلعل أنسأ خاف منهم فلهذا السبب اضطربت أقواله، قال: ونحن مهما شككنا في شي، فلا نشك في أنه إذا وقع التعارض بين قول أمثال أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمره فإن الأخذ بقول علي أولى. قال: فهذا جواب قاطع في المسألة إلى أن قال: ومن اتخذ عليا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه إلى أخر كلامه2 قلت: فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. 


________________________________________
1- هذه سيرتهم مع أمير المؤمنين وبنيه في كثير من شرائع الله تعالى حتى التبس الحق بالباطل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
2- فراجعه في صفحة 106 وآخره في صفحة 107 من الجزء الأول من تفسيره الكبير.
 
 
 
107

96

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة


إن قبض اليد اليسرى باليمنى مما اشتهر ندبه بين فقها، أهل السنة.

فقالت الحنفية: إن التكتف مسنون وليس بواجب، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى تحت سرته، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.

وقالت الشافعية: يسن للرجل والمرأة، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرة مما يلي الجانب الأيسر.

وقالت الحنابلة: أنه سنة، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، ويجهلها تحت السرة.

وشذت عنهم المالكية فقالوا: يندب إسدال اليدين في الصلاة الفرض، وقالت به جماعة أيضاً قلبهم، منهم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن جريح، والنخعي، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة من الفقهاء.

والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل2.

وأما الشيعة الإمامية، فالمشهور أنه حرام ومبطل، وشذ منهم من 
 
________________________________________
1- أخذنا هذا البحث من كتاب سبع مساثل فقهية للشيخ جعفر السبحاني.
2- محمد جواد مغنية ، الفقه على المذاهب الخمسة : 110 - ولاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد : 5.
 
 
109

97

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 قال بأنه مكروه، كالحلبي في الكافي3.


ومع أن غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصوبوا وتصعدوا في المسألة، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة، فضلاً عن كونه مندوباً، بل يمكن أن يقال: ان الدليل على خلافهم، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبين صلاة الرسول خالية عن القبض، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها، وإليك نموذجين من هذه الروايات: أحدها من طريق أهل السنة، والآخر من طريق الشيعة الامامية، وكلاهما يبينان كيفية صلاة النبي، وليست فيها أية إشارة على القبض فضلاً عن كيفيته.

أ- حديث أبي حميد الساعدي

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدثين، نحن نذكر بنص البيهقي، قال: أخبرناه أبو علي عبد الله الحافظ.

فقال أبي حميد الساعدي: انا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: لم، ما كنت أكثرنا له تبعا، ولا أقدمنا له صحة ؟! قال: بلى ،قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام الى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقر كل عضو منه في موضعه معتدلا، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، حتى يعود كل عظم منه إلى موضعه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه فيثني رجله 

________________________________________
1- النجفي ، جواهر الكلام 11: 15-16.
 
 
110

98

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يعود، ثم يرفع فيقول: الله أكبر، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلا حتى رجع أو يقر كل عظم موضعه معتدلا، ثم يصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما فعل أو كبر عن افتتاح صلاته، ثم يصنع من ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقه الأيسر، فقالوا جميعا: صدق هكذا كان يصلي رسول الله1.


والذي يوضح صحة الاحتجاج الأمور التالية: 

1-تصديق أكابر الصحابة2 وبهذا العدد لأبي حميد يدل على قوة الحديث، وترجيحه على غيره من الأدلة.

2-أنه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين على ذلك، لأنهم لم يسلموا له أول الأمر أنه أعلمهم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل قالوا جميعاً: صدقت هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي، ومن البعيد جداً نسيانهم وهم عشرة، وفي مجال المذاكرة.

3-الأصل في وضع الدين هو الإرسال، لأنه الطبيعي فدل ّ الحديث عليه.

4-لا يقال آن هذا الحديث عام وقد خصصته أحاديث القبض، لأنه
________________________________________
1- البيهقي، السنن 2: 72-73، 101 – 102 - أبو داود، باب افتتاح الصلاة ، الحديث 730-736-الترمذي2: 98باب صفة الصلاة.
2- منهم أبو هريرة ، وسهل الساعدي، وأبو أسيد الساعدي، وأبو قتادة الحارث بن ربيعة ، ومحمد بن مسلمة.
 
 
112

99

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 وصف وعدد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة ،وهو في معرض التعليم والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه وعنهم.


5- روى بعض من حضر من الصحابة أحاديث القبض، فلم يعترض، فدل على أن القبض منسوخ، أو على أقل أحوال بأنه جائز للاعتماد لمن طول صلاته، وليس من سنن الصلاة، ولا من مندوباتها، كما هو مذهب الليث بن سعد، والأوزاعي، ومالك1

هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي، وقد روي عن طريق أهل السنة، وقد عرفت وجه الدلالة، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية.

ب – حديث حمّاد بن عيسى 

روى حماد بن عيسى عن الامام الصادق عليه السلام قال، قال: "ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة" ؟، قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلمني الصلاة، فقام أبو عبد الله مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه، قد ضم أصابعه وقر ب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه جميعا لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: الله أكبر، ثم قرأ الحمد بترتيل، وقل هو الله أحد، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم، ثم قال: الله أكبر، وهو قائم، ثم ركع وملا كفيه من ركبتيه مفرجات، ورد ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره، حتى لو صُب عليه قطرة ما، أودهن لم تزل لاستواء ظهره 

________________________________________
1- الدكتور عبد الحميد ، رسالة مختصرة في السدل: 11.
 
 
112

100

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 وتردد ركبتيه إلى خلفه، ونصب عنقه، وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل وقال: سبحان رتبي العظيم وبحمده، ثم استوى قائما، فلما استمكن من القيام قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر وهو قائم، ورفع يديه حيال وجهه، وسجد، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه فقال: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاث مرات، ولم يضع شيئاً من بدنه على شي، منه، وسجد على ثمانية أعظم: الجبهة، والكفين ،وعيني الركبتين، وأنامل إبهامي الرجلين، والأنف، فهذه السبعة فرض، ووضع الأنف على الأرض سنة، وهو الإرغام، ثم رفع رأسه من السجود فلما استوى جالسا قال: الله أكبر، ثم قعد على جانبه الأيسر، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، وقال: استغفر الله ربي وأتوب إليه، ثم كبر وهو جالس وسجد الثانية وقال: كما قال في الأولى ولم يستعن بشي، من بدنه على شي، منه في ركوع ولا سجود، وكان مجنحا ،ولم يضع ذراعيه على الأرض، فصلى ركعتين على هذا. 


ثم قال: " يا حماد هكذا صل، ولا تلتفت، ولا تعبث بيدك وأصابعك، ولا تبزق عن يمينك ولا عن يسارك ولا بين يديك"1

ترى أن الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس، وليست فيهما أية إشارة إلى القبض أقسامه المختلفة، فلو كان سنة لما تركه الإمام في بيانه، وهو بعمله يجسد لنا صلاة الرسول، لأنه أخذها عن أبيه الإمام الباقر،وهو عن أبيه عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن الرسول الأعظم - صلوات الله عليهم أجمعين - فيكون القبض بدعة ،لأنه إدخال شي، في الشريعة وهو ليس منه. 

________________________________________
1- الحر العاملي ، الوسائل الجزء 4، البا1 من أبواب أفعال الصلاة ،الحديث 1_ ولاحظ الباب 17 ، الحديث ا و2.
 
 
113

101

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 ثم إن للقائل بالقبض أدلة على دراستها: 


إن مجموع ما يمكن الاستدلال به على أن القبض سنة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة:

1- حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.
2- حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقله البيهقي بأسانيد ثلاثة.
3-  حديث عبد الله بن مسعود. رواه البهقي في سننه. وإليك دراسة كل حديث:

ج – حديث سهل بن سعد 

روى البخاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم1.

قال إسماعيل2: ينمى ذلك ولم يقل ينمي.

والرواية متكفلة لبيان كفيقة القبض إلا إن الكلام في دلالتها بعد تسليم سندها. لكنها لا تدل عليه بوجهين.

أولاً: لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله: "كان الناس يؤمرون"؟ أو ما كان الصحيح عندئذ أن يقول: كان النبي يأمر؟

________________________________________
1- ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح ، 224:2 باب وضع اليمنى على اليسرى _ ورواه البيهقي في السنن الكبرى 28:2 ، باب وضع اليمنى على اليسرى الصلاة.
2- المراد: إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي ، لاحظ فتح الباري 325:5
 
 
 
114

102

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 أوليس هذا دليلا على أن الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم، حيث إن الخلفاء وأمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيل أنه أقرب للخشوع ؟ ولأجله عقد البخاري بعده بابا باسم باب الخشوع. قال ابن حجر: حكمه في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع عن العبث، وأقرب إلى الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقبه بباب الخشوع. 


وثانيا: إن في ذيل السند ما يؤيد أنه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال: قال إسماعيل: "لا أعلمه إلا ينمى ذلك إلى النبي بنا، على قراءة الفعل بصيغة المجهول. 

ومعناه أنه لا يعلم كونه أمراً مسنونا في الصلاة، غير أنه يعزى وينسب إلى النبي، فيكون ما يرويه سهل بن سعد مرفوعاً.

قال ابن حجر: ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي: ينميه، فمراده: يرفع ذلك إلى النبي1.

هذا كله إذا قرأناه بصيغة المجهول، وأما إذا قرأناه بصيغة المعلوم ،فمعناه أن سهلاً ينسب ذلك إلى النبي، فعلى فرض صحة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع، يكون قوله: "لا أعلمه إلا..." معرباً عن ضعف النسبة، وأنه سمعه عن رجل آخر ولم يسم.

د – حديث وائل بن حجر 

وقد روي هذا الحديث بصور:

ا- روى مسلم، عن وائل بن حجر: إنه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ثم التحف بثوبه، ثم ووضع يده اليمنى على 

________________________________________
1-المصدر السابق ، هامش رقم 1 
 
 
115

103

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 اليسرى، فلتا أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع..1..


والاحتجاج بالحديث احتجاج بفعل النبي وهو متوقف على تمام دلالته على ذلك، لأن ظاهر الحديث أن النبي جمع أطراف ثوبه فغطى صدره به، ووضع يده اليمنى على اليسرى ،أما هل فعل ذلك لكونه أمراً مسنوناً في الصلاة، أو فعله لئلا يسترخي الثوب بل يلصق بالبدن ليقي به نفسه من البرد ؟ والفعل أمر مجهول العنوان، لايكون حجة إلا إذا علم أنه فعل ذلك به لكونه مسنوناً. ثم إن النبي الأكرم صلى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتاً من النبي لكثر النقل وذاع، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين.

نعم روي بصور أخرى ليس فيه قوله: "ثم التحف بثوبه" وإليك صورته: 

2- روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير: حدثني علقمة بن وائل عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه، ورأيت علقمة يفعله2

________________________________________
1- مسلم ، الصحيح 1 : 782 ، الباب 15 من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، وفي سند الحديث: همام ولو كان المقصود ، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه : كان يحيى القطان لا يعبأ بـ همام وقال عمر بن شيبة : حدثنا عفان قال: كان يحي بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم : ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري 1: 449.
2- سنن البيهقي 2/ 28، وفي سند الحديث عبد الله بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشي ، ، وقال النسائ : مترو ، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جز عليه ، متفق على ضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسه المظفر 1: 87. 
 
 
116

104

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 وبما أنه إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فالثانية هي المتعينة، فيلاحظ على الرواية بما لوحظ على الأولى، وهو أن وجه الفعل غير معلوم فيها. فلو كان النبي مقيما على هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع ان قوله: ورأيت علقمة يفعله، يعزب عن أن الراوي تعر ف على ألسنة من طريقه. 


3- رواه البيهقي أيضاً بسند آخر عن وائل بن حجر1 ويظهر الإشكال فيه بنفس ماذكرناه في السابق.

هـ - حديث عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه 

روى البيهقي مسندا عن ابن مسعود رضوان الله عليه أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده اليمنى على اليسرى2

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد الله بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنه من السابقين في الإسلام: أن هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس3.

ولأجل ذلك نرى أن أئمة أهل البيت كانوا يتحرزون عنه، ويرونه أنه من صنع المجوس أمام الملك. 

روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر عليهما السلام قال: قلت له: 

________________________________________
1- المصدر نفسه وفي سنده عبد الله بن رجاء ، قال عمرو بن علي الفلاس : كان كثير الخلط والتصحيف، ليس بحجة، لاحظ هدى الساري ا: 437.
2- سنن البيهقي: 2: 28 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى.
3- هدى الساري: ا: 449.
 
 
 
117

 


105

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 الرجل يضع يده في الصلاة – وحكى – اليمنى على اليسرى؟ فقال: ذلك التكفير، لا يفعل.


وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفر، فإنما يصنع ذلك المجوس.

وروى الصدوق بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال: وعليك بالإقبال على صلاتك ولا تكفر فإنما يصنع ذلك المجوس. 

وروى الصدوق باسناده عن علي عليه السلام: أنه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته، وهو قائم بين يدي الله عز وجل، يتشبه بأهل الكفر - يعني المجوس -1

وفي الختام نلفت نظر القارئ الى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس: فهو بعدما نقل آراء، الفقا، الفريقين، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله: "وأولئك الذين ذهبوا الى التحريم والإبطال، أو التحريم فقط، يمثلون التعصب المذهبي وحب الخلاف، تفريقا بين المسلمين"2. 

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنة إلى أن القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم، وكان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنه جز، من الصلاة فرضا أو استحبابا، فقد أحدث في الدين ما ليس منه، أفهل جزا، من اجتهد أن يرمى بالتعصب المذهبي وحب الخلاف؟!.

ولو صح ذلك، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به ؟ لأنه كان يكره 
 
________________________________________
1- الحر ألعاملي : الوسائل 4 : الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 1 و2و7.
2- فقه الشيعة الإمامية ومواضع ألخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة : 187.
 
 
 
118

106

الدرس الثاني عشر: التكتف في الصلاة1

 القبض مطلقاً، أو في الفرض، أفهل يصح رمي إمام دار الهجرة بأنه كان يحب الخلاف؟.


أجل، لماذا ياترى لايكون عدم الإرسال ممثلاً للتعصب المذهبي وحب الخلاف بين المسلمين؟!..
 
 
 
119

107

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض1 


لعل من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلل من قبل المخلوف خالقه، هو السجود، وبه يؤكد المؤمن عبوديته المؤكدة لله تعالى، ومن هنا فإن البارئ عز اسمه يقدر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه، لذا روي في بعض المأثورات "أقرب ما يكون العبد إلى ربه حال سجوده".

ولما كانت الصلاة من بين العبادات معراجا يتميز بها المؤمن عن الكافر، وكان السجود ركنا من أركانها، فليس هناك أوضح في إعلان التذلل لله تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى، لما فيه من التذلل شي، أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري، فضلا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضة، وان كان الكل سجوداً، إلا أن العبودية تتجلى في الأول بما تتجلى في غيره.

والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولا يعدلون عنها إلا إلى ما أنبت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس، ولا يرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنة المتواترة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر – في ثنايا البحث - أن الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبت، كان هي السنة 
 
________________________________________
1- أخذنا هذا البحث من كناب الاعتصام بالكتاب والسنة للشيخ جعفر السبحاني.
 
 
 
121

108

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 بين الصحابة، وأن العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخرة. ولأجل توضيح المقام نقدم أمورا: 


1- اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه 

اتفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مر تين، ولم يختلفوا في المسجود له، فإنه هو الله سبحان الذي له يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرهاً1 وشعار كل مسلم قوله سبحانه: ﴿... لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ...2 وإنما اختلفوا في شروط المسجود عليه - أعني ما يضع الساجد جبهته عليه - فالشيعة الأمامية تشترط كون المسجود عليه أرضا أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غرهم من المذاهب، وأليك نقل الآراء:

 


1- قال الشيخ الطوسي3 – وهو يبين آراء الفقهاء -: لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتته الأرض مما يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقها في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك – إلى أن قال -: لا يجوز السجود على شي، هو حامل له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكم القميص، وبه قال الشافعي، وروي ذلك عن علي عليه السلام وابن عمر، 

________________________________________
1- إشارة إلى قوله سبحانه: {ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدُوَّ والآصال} سورة الرعد، الآية: 15.
2- سورة فصلت، الآية: 37. (3) من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلفات ولد 785هـ وتوفي عام، 46هــ من تلاميذ الشيخ المفيد 776-417هــ، والسيد الشريف المرتضى 755-476هــ رضي. الله عنهما.
3- من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلفات ولد سنة 385 هـ. وتوفي عام 460 هـ. من تلاميذ الشيخ المفيد 336- 413 هـ. والسيد الشريف المرتضى 335- 436هـ. رضي الله عنهما.
 
 
122

 


109

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 وعبادة بن الصامت، ومالك، وأحمد بن حنبل. 


وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه أجزأه. 

وإن سجد على ما لا يفضل منه مثل أن يفترش ويسجد عليها أجزأه لكنه مكروه، وروي ذلك عن الحسن البصري1.

وقال العلامة الحلي2 - وهو يبين آراء الفقهاء فيما يسجد عليه -: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولامن نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجيع، وأطبق الجمهور على الجواز: 

وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين ونحن نكتفي هنا بإيراد شي، مما روي في هذا الجانب: 

روى الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنه قال لأبي عبد الله عليه السلام أخبرني عتا يجوز السجود عليه، وعما لا يجوز؟ قال: "السجود لا يجوز إلا على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس". فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ 

قال: "لأن السجود خضوع لله عز جل فلا ينبعي أن يكون على ما يؤكل ويلبس؟ لأن أبنا، الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عز وجل، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبنا، الدنيا الذين اغتزوا بغرورها"3


________________________________________
1- الخلاف: 1 كتاب الصلاة / 358.357، المسالة 12 ا -113.
2- الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي 141. 726هـ وهو زعيم الشيعة في القرن السابع، لا يسمح الدهر بمثله إلا في فترات خاصة.
3- الوسائل: ج 3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، وهناك روايات بمضمونه. والكل يتضمن أن الغاية من السجود التي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرها فلاحظ.
 
 
123

110

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذالم يكن مأكولا ولا ملبوساً اقتداء بأئمتهم، على أن ما رواه أهل السنة في المقام، يدعم نظرية الشيعة، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، ويتضح أن السنة كانت هي السجود على الارض، ثم جاءت الرخصة في الحصر والبراري فقط، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك. 


روى المحدث النوري في المستدرك عن دعائم الإسلام: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليه السلام، أن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم: قال: "إن الأرض بكم برة، تتيتمون منها، وتصلون عليها في الحياة (الدنيا) وهي لكم كفاة في الممات، ذلك من نعمة الله، له الحمد، فأفضل ما يسجد عليه المصلي الأرض النقية". 

وروى أيضاً جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال "ينبغي للمصلي أن يباشر بجبهته الأرض، ويعفر وجهه في التراب، لأنه من التذلل لله"1.

وقال الشعراني – ما هذا نصه -: المقصود إظهار الخضوع بالرأس حتى يمس الأرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه، سوا، كان ذلك بالجبهة أو الأنف والكبرياء، فإذا وضعه على الأرض، فكأنه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي الله تعالى إذ الحضرة الالهية محرم دخولها على 

________________________________________
1- مستدرك الوسائل: 4 باب 1، من أبواب ما يسجد عليه. ولعل الحديث ورد في أوائل الهجرة وقد كان المسلمون آنذاك يسجدون على الأرض فقط ولا منافاة بينه وبين ما يأتي من الرخصة بالنسبة إلى ما أنبتته الأرض.
 
 
 
124

111

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 من فيه أدنى ذرة من كبر فإنها هي الجنة الكبرى حقيقة وقد قالصلى الله عليه وآله وسلم: يدخل الجنة من في قلبه مثال ذرة من كبر"1.


نقل الامام المغربي المالكي الروداني: عن ابن عباس رفعه: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته2

2-الفرق بين المسجود له والمسجود عليه 

كثيرا ما يتصور أن الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة ويتخيل الحجر المسجود عليه وثناً، وهؤلاء هم الذين لا يفرقون بين المسجود له والمسجود عليه، ويزعمون أن الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلي وثنا يعبده المصلي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، ولم يفرق بين الأمرين، وزعم المسجود عليه مسجوداً له، وقاس أمر الموحد بأمر المشرك بحجة المشاركة في الظاهر، فأخذ بالصور والظواهر، مع أن الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر، فالوثن عند الوثني معبود ومجسود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له، ولكن الموحد الذي يريد إن يصلي في إظهار العبودية إلى نهاية مراتبها، يخضع لله تعالى سبحانه ويسجد له، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى، مظهرا بذلك مساواته معها عند التقييم قائلا: أين التراب ورب الأرباب. 

نعم: الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلل إلى ربه بالسجود 

________________________________________
1- اليواقيت والجوزاهر في عقائد الأكابر: عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المصري المعروف بالشعراني (من أعيان علماه القرن العاشر): 1/ 164» الطبعة الأولى.
2- محمد بن محمد بن سليمان المغربي (المتوفى عام 1049): جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد: 1/ 214برقم 1515.
 
 
125

112

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 عليها، ومن توهم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، وسيؤدي إلى إرباك كل المصلين والحكم بإشراكهم، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لا بد أن يكون عابداً لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب !!


3- السنة في السجود في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعده 

إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدة لا يستهان بها، محتملين شدة الرمضاء، وغبار التراب، ورطوبة الطين، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل وعلى الحصر والبواري والخمر، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبة، هو تبريد الحصى بأكفهم ثم السجود عيها، وقد شكى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شدة الحر، فلم يجبه، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر، فوسع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود، وعلى ضوء هذا فقد مرت في ذلك الوقت على المسلمين مرحلتان لا غير:

ا - ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين، ولم تكن هناك أية رخصة لغيرها.

2- المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصى والبواري والخمر، تسهيلاً للأمر، ورفعاً للحرج والمشقة، ولم تكن هناك أية مرحلة أخر توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدعيه البعض، وإليك البيان:
 
 
126

113

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 المرحلة الأولى: 


السجود على الأرض 

روى الفريقان عن النبي الأكرمصلى الله عليه وآله وسلمأنه قال: "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"1

والمتبادر من الحديث أن كل جز، من الأرض مسجد وطهور يسجد عليه ويقصد للتيمم، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين: السجود تارة، وللتيتم أخرى. 

وأما تفسير الرواية بأن العبادة والسجود لله سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الأرض كلها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصوا العبادة بالبيع والكنائس، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه، فإنه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجدا للمصلي فيكون لازمه كون الأرض كلها مالحة للعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، ويعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» وجعلهما مفعولين لــ "جعلت" والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين: كونه مسجدا وكونه طهورا، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال: إن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهوراً2.

ومثله غيره شرّاح الحديث.

تبريد الحصى للسجود عليها

1- عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم 


________________________________________
1- صحيح البخاري: 1/ ا 9 كتاب التيتم الحديث 2 وسنن البيهقي: 2/ 433 باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.
2- أحكام القرآن للجصاص: 2/389 نشر بيروت.
 
 
127

114

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 الظهر، فآخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفي ثم أحولها الى الكف الأخرى حتى تبرد ثم أضعها لجبيني، حتى أسجد عليها من شدة الحر1.


وعلق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: ولو جاز االسجود على ثوب متصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود2

ونقول: ولو كان السجود على مطلق الثياب سوا، كان متصلا أم منفصلا جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى، ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.

2- روى أنس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شدة الحر فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه3.

3- عن خباب بن الارت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شدة الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكن4.

قال ابن الأثير في معنى الحديث: إنهم لما شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم5.

هذه المأثورات تعرب عن أن السنة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط، حتى أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتصلة أو المنفصلة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه 

________________________________________
1- مسند أحمد: 3/ 327من حديث جابر وسنن البيقهي: 1/327 باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحر.
2- سنن البيهقي:2/1، 5.
3- السنن الكبرى: 2/ 1، 6.
4- سننن البيهقي: 2/ 1، 5 باب الكشف عن الجبهة.
5- ابن الأثير: النهاية: 2/ 497مادة شكى.
 
 
128

115

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 بالمؤمنين رؤوفاً رحيما أوجب عليهم مس جباههم الأرض، وإن آذاهم شدة الحر.


والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض، وعن إصرار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد، ما روى من حديث الأمر بالترتيب في غير واحد من الروايات.

الأمر بالتتريب

ا - عن خالد الجهني: قال: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صهيبا يسجد كأنه يتقي التراب فقال له: "ترب وجهك يا صهيب"1.

2- والظاهر أنّ صهيبا كان يتقي عن التتريب، بالسجود على الثوب المتصل والمنفصل، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري و الأحجار الصافية، وعلى كل تقدير، فالحديث شاهد على أفضلية السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مر من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على الأرض.

3- روت أم سلمة رضي الله عنها عنها: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلاما لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد، فقال: "يا أفلح ترب"2.

4-  وفي رواية: "يا رباح ترب وجهك"3.

5- روى أبو صالح قال: دخلت على أم سلمة، فدخل عليها ابن 
________________________________________
1- المتقي الهندي: كنز العمال: 7/ 465برقم 19810.
2- المصدر نفسه: 7/ 459 برقم 19776.
3- المتقي الهندي: كنز العمال: 7/ 459برقم 19777.
 
 
129

116

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 أخ لها فصلى في بيتها ركعتين، فلما سجد نفخ التراب، فقالت أم سلمة: ابن أخي لا تنفخ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لغلام له يقال له يسار - ونفخ -: ترب وجهك لله1.


الأمر بحسر العمامة عن الجبهة

1- روي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته2.

2- روي عن علي أمير المؤمنين أنه قال: "إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن وجهه"، يعني حتى لا يسجد على كور العمامة3.
3- روى صالح بن حيوان السبائي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يسجد بجبه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبهته4.

4- عن عياض بن عبد الله القرشي: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: "ارفع عمامتك" وأومأ إلى جبهته5.

هذه الروايات تكشف عن أنه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلا السجود على الأرض، ولم تكن هناك أية رخصة سوى تبريد الحصى، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، ولما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتتريب، وحسر العمامة عن الجبهة. 

________________________________________
1- المصدر نفسه: 7/ 465، برقم 1981، ومسند أحمد: 6/ 3، 1 ( 2) ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/ 151كما في السجود على الأرض 41.
2- ابن سعد الطبقات الكبرى 1/151 كما في السجود على الأرض 41.
3- منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند: 7/ 194.
4- البيهقي: السنن الكبرى: 2/ 1، 5.
5- المصدر نفسه.
 
 
130

117

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 المرحلة الثانية:


الترخيص في السجود على الخمر والحصر

هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها، وأنهم كانوا لا يعدلون عنه، وإن صعب الأمر واشتد الحر، لكن هناك نصوصاً تعرب عن ترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم – بإيحاء من الله سبحانه إليه – السجود على ما أنبتت الأرض، فسهل لهم بذلك أمر السجود، ورفع عنهم الأصر والمشقة في الحر والبرد، وفيما إذا كانت الأرض مبتلة، وإليك تلك النصوص:

ا- عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحمرة1.

2-عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحمرة وفي لفظ: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الخمرة2.

3-عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحمرة3.

4-عن أنم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحمرة4.

5-عن ميمونة: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحمرة فيسجد5.

________________________________________
1- أبو نعيم الأصفهاني: أخبار اصبهان: 2/ 141.
2- مسند أحمد: 1/269 - 3 0 3 – 3 0 9 و358.
3- المصدر نفسه: 6/ 179 وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد: ناوليني الخمرة.
4- المصدر نفسه: 3 0 2 (5) مسند أحمد: 6/ 331- 335.
5- مسند أحمد 6/331- 335.
 
 
131

118

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 6- عن أم سلمة قالت: كان "رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" يصلي على الخمرة1.


7- عن عبد الله بن عمر: كان رسول الله يصلي على الحمر2.

السجود على الثياب لعذر

قد عرفت المرحلتين الماضيتين، ولو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنما هي مرحلة جواز السجود على غير الأرض، وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أن هذا الترخيص جاء متأخرا عن المرحلتين لما عرفت أن النبيصلى الله عليه وآله وسلملم يجب شكوى الأصحاب من شدة الحر والرمضاء، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحملين الحر والأذى، ولكن الباري عز اسمه رخص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة، وإليك ما ورد في هذا المقام:

1- عن أنس بن مالك: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يستطيع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

2- وفي صحيح البخاري: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضح أحدنا طرف الثوب من شدة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه.

3-وفي لفظ ثالث: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود3

________________________________________
1- المصدر نفسه: 377.
2- المصدر نفسه: 2/92-98.
3- صحيح البخاري: 1/ 101، صحيح مسلم: 2/109 مسند أحمد: 1/100، السنن الكبرى: 2/106.
 
 
132

119

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 هذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضا. وذلك لان رواية أنس نص في أنهم كانوا يفعلون ذلك حالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات، واليك بعض ما روي في هذا المجال:


1- عبد الله بن محرز عن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على كور عمامته1.

إن هذه الرواية مع أنها معارضة لما مر من نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السجود عليه، محمولة على العذر والضرورة، وقد صرح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال: قال الشيخ: «وأما ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السجود على كور العمامة فلا يثبت شي، من ذلك، وأصح ماروي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم 2.

وقد روي عن ابن راشد قال: رأيت مكحولاً يسجد على عمامته فقلت: لما تسجد عليها ؟ قال أتقي البرد على أسناني3.

2- ما روي عن أنس: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسجد أحدنا على ثوبه4

والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، وبما رواه عنه البخاري: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا 
________________________________________
1- كنز العمال 8/130 برقم 22238.
2- البيهقي: السنن 2/106.
3- المصنف لعبد الرزاق: 1/ 400 كما في سيرتنا وسنَّتنا، والسجدة على التربة 93.
4- البيهقي: السنن الكبرى 2/1 106 باب من بسط ثوباً فسجد عليه.
 
 
133

120

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 أن يمكن وجه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه1.


ويؤيده ما رواه النسائي أيضا: كنا إذا صلينا خلف النبيصلى الله عليه وآله وسلمبالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر2.

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدل إلا على أن النبيصلى الله عليه وآله وسلمصلى على الفرو. وأما أنه سجد عليه فلا دلالة عليه.

3-عن المغيرة بن شعبة: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الحصير والفرو المدبوغة3.

الرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجود عليه، ولعله صلى الله عليه وآله وسلم وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين. 

حصيلة البحث 

إن المتأمل في الروايات يجد وبدون لبس أن قضية السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاث مراحل ففي المرحلة الأولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يرخص للمسلمين السجود على غيرها، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أخرى إلا جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقا فمحمولة على 
________________________________________
1- البخاري: 2/ 64كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.
2- ابن الأثير: الجامع الأصول: 5/ 468برقم 3660.
3- أبو داود: السنن: باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.
 
 
134

121

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 الضرورة، أو دلالة لها على السجود عليها، بل غايتها الصلاة عليها.


من ها يظهر بوضوح أن ما التزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنة النبوة، ولم تحرف عنه قيد أنملة، ولعل الفقهاء أدرى بذلك من غيرهم، لأنهم الأمناء على الرسالة والأدلاَّء في طريق الشريعة، ونحن ندعو إلى قليل من التأمل لإحقاق الحق وتجاوز البدع.

ما هو السر في اتخاذ تربة طاهرة ؟

بقي ها سؤال يطرحه كثيرا إخواننا أهل السنة حول سبب اتخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربما يتخيل البسطاء - كما ذكرنا سابقاً - أن الشيعة يسجدون لها لا عليها، ويعبدون الحجر والتربة، وذلك لأن هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة، والسجود لها.

وعلى أي تقدير فالإجابة عنها واضحة، فإذ المستحسن عد الشيعة هو اتخاذ تربة طاهرة طيبة ليتيقن من طهارتها، من أي أرض أخذت، ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلا مثل التزام المصلي بطهارة جسده وملبسه ومصلاه، وأما سر الالتزام في اتخاذ التربة هو أن الثقة بطهارة كل أرض يحل بها، ويتخذها مسجداً، لا تتأتى له في كل موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حله وترحاله، بل وأنى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أضاف مختلفة من البشر، مسلمين كانوا أم غيرهم، ملتزمين بأصول الطهارة أم غير ذلك، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته لا يجد مناصا من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئن بها وطهارتها، يسجد عليها لدى صلاته حذرا من السجود على الرجاسة والنجاسة، والأوساخ 
 
 
 
135

122

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 التي يتقرب بها إلى الله قط ولا تجوز السنة السجود عليهما ولا يقبله العقل السليم، خصوصا بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها: 


المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبه1.

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها، فقد روي: أن التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه بن أبي شيبة في كتابه المصنف، باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أن مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها2.

إلى هنا تبين أن التزام الشيعة باتخاذ التربة مسجدا ليس إلا لتسهيل الأمر للمصلي في سفره وحضره خوفا من أن لا يجد أرضا طاهرة أو حصيرا طاهرا فيصعب الأمر عليه، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمم عليها.

وأما السرّ في التزام الشيعة استحبابا بالسجود على التربة الحسينية فإن من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها، أن يتذكر المصلي باصطحابه تلك التربة، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث "أقرب ما 
________________________________________
1- العلامة الأميني: سيرتنا وسنَّتنا 158-159.
2- أبو بكر بن أبي شيبة: المصنف: 1/ 400كما في السجدة على التربة 93.
 
 
136

123

الدرس الثالث عشر: السجود على الأرض

 يكون العبد إلى ربه حال سجوده، فيناسب آن يقتدي بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية، بأولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق، وارتفعت أرواحهم إلى الملا الأعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة، وزخارفها الزائلة، ولعل هذا هو المقصود من أن السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر، فيكون حينئذٍ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى رب الأرباب1.


وقال العلامة ألأميني: نحن نتخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنورة يسجد عليها، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، ومعلم السنة بها، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسف أو شي، يضاد نداء القرآن الكريم أن يخالف سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

وليس اتخاذ تربة كربلاء مسجدا لدى الشيعة من الفرض المحتَّم، ولا من واجب الشرع والدين، ولا مما ألزمه المذهب، ولا يفرق أي أحدمنهم منذ أؤل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم، وإن هو عندهم إلاَّ استحسان عقلي ليس إلا، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت، وكثير من رجال المذهب يتَّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء مما يصح السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو حمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم 2.

________________________________________
1- الأرض والتربة الحسينية: 24.
2- لعلامة الأميني: سيرتنا وسنتنا: 166-167 طبعة النجف الأشراف.
 
 
137

124

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره  


تشريع التقصير

تقصد الفرائض الرباعية في السفر إلى ركعتين، سوا، أكان ذلك في حال الخوف أم كان في حال الأمن، إجماعا من الأمة المسلمة وقولاً واحداً.

قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ...1.

 


وعن يعلي بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته. أخرجه مسلم في صحيحه.

وعن ابن عمر - فيما أخرجه مسلم في الصحيح أيضا - قال: إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله. ثم صحبت عثمان فلم يزد على
 
________________________________________
1- سورة النساء:101
 
 
139

125

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 ركعتين حتى قبضه الله. وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ...1.

 


وعن أنس بن مالك - فيما أخرجه الشيخان في صحيحيهما - قال:خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة.

وعن ابن عباس. فيما أخرجه البخاري في صحيحه - قال: أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة تسعة عشر يقصر، الحديث. قلت: وإنما قمر مع إقامته تسعة عشر يومأ لعدم نية الإقامة.

وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصلي بأهل مكة إماما بعد الهجرة فيسلم في الرباعيات على رأس الركعتين الأوليين، وكان قد تقدم إلى القوم بأن يتموا صلاتهم أربع ركعات معتذرا عن نفسه وعمن جاء معه بأنهم قوم سفر. 

وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن خيار أمتي من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ،والذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا وإذا سافروا قصروا". 

وعن أنس - فيما أخرجه ملم في صحيحه من طريقين - قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر في المدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحلية - مسافرا - ركعتين، إلى كثير من الصحاح الصراح بأن الله عز وجل قد شرع التقصير في السفر. 

________________________________________
1- سورة الأحزاب:21
 
 
140

 


126

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 تشريع الإفطار


لا كلام في أن الله عز وجل شرع الإفطار في شهر رمضان لكل من سافر فيه سفرا تقصر فيه الصلاة ،وهذا القدر مما أجمعت الأمة المسلمة عليه ،والكتاب والسنة يثبتانه بصراحة.

قال الله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ...1 الآية.

 


وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر في شهر رمضان يفطر ويعلن للناس إفطاره، وقد عد الصوم في السفر معصية وأكدها وقال: "ليس من البر أن تصوموا في السفر"، وستسمع ذلك كله بنصه صلى الله عليه وآله وسلم .

وجاء في حديث آبي قلابة - وهو في الصحاح - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من بني عامر: "إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطره الصلاة".

ومن تتبع السنن وأقوال الأئمة حول صلاة المسافر وصومه وجد النص والفتوى وإجماع الأمة على أن القصر والإفطار سفرا مما شرعه الله عز وجل في دين الإسلام، وان المقتضي من السفر لأحدهما هو بعينه المقتضي للآخر بلا كلام.

حكم التقصير 

اختلف أئمة المسلمين في حكم القصر في السفر على أقوال: 

فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه وهذا قول 

________________________________________
2- سورة البقرة:185
 
 
141

127

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 الإمامية تبعا لأثمتهم، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم1


ومنهم من رأى القصر والإتمام كلاهما فرض على التخيير كالخيار في واجب الكفارة، وهذا قول بعض أمحاب الشافعي. 

ومهم من رأى أن القصر سنة مؤكدة، وهذا قول مالك في أشهر الروايات عنه.

ومنهم من رأى أن القصر رخصة وأن الإتمام أفضل، وبه قال الشافعي في أشهر الروايات عه، وهو المتصور عند أصحابه. 

والحنابلة قالوا بجواز القصر وهو أفضل من الإتمام ولا يكره الإتمام. 

حجتنا 

احتج الامامية لوجوب التقصير بصحاح من طريق الجمهور، ونصوص ثابتة عن أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام.

فمن صحاح الجمهور: ما أخرجه مسلم - في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من صحيحه - عن ابن عباس من طريقين قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. 

وهذا صريح بأن المسافر إنما أمر بأداء الظهر والعصر والعشاء 
________________________________________
1- أجمع الحنفية على أن قصر الصلاة واجب على المسافر ولا يجوز له الإتمام، فإذا أتم صلاته اعتبروه آثما لتأخير السلام عن نهاية القعود المفروض وهو القعود الأول في هذه الحال، ومع ذلك فهو متنفل عندهم بالركعتين الأخيرتين، لأن الفرض إنما هو الركعتان الأوليان، ولذا يحكمون ببطلان الصلاة إن ترك القعود الأول في هذه الصورة لأنه ترك فرضا من فرائض الصلاة.
 
 
142
 

128

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 ركعتين، كما أن الحاضر إنما أمر بأدائها أربع ركعات، وإذاً لا تصح من المسافر إلا أن تكون ركعتين حسبما فرضت عليه، كما لا تصح من الحاضر إلا أن تكون أربعا كما فرضت عليه لأن صحة العبادة إنما هي مطابقتها للأمر.


وفي صحيح مسلم أيضا، بالإسناد إلى موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألت ابن عباس كيفه أصلي بمكة - مسافرا -؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم .

فأرسل الجواب بكونها ركعتين، وكونها سنَّة أبي القاسم ارسال المسلمات ،وهذا من الظهور بتعيين القصر بمثابة لا تخفى على أهل العرف.

وأخرج مسلم أيضا في صحيحه من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن الصلاة فرضت أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: انها تأوَّلت كتأول عثمان.

وفي صحيح مسلم عن عائشة من طريق آخر قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ثم أتمها في الحضر فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.

قلت: من البديهي إذا كان هذا صحيحا أن لا تصح من المسافر رباعية إذا لم يتوجه إليه من الشارع أمر بها، وإنما أمر من أول الأمر بأدائها ركعتين وأقرها الله على ذلك فلو.أداها المسافر أربعا كان مبتدعا، كما لو أدى فريضة الصبح أربعا، وكما لو أدى الحاضر فرائضه الرباعيات مثنى مثنى مثنى. 
 
 
143

129

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 ومن نصوص أئمة الهدى عليهم السلام، ما صح عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم إذ سألا الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام: فقالا له: ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي، وكم هي؟ قال: إن الله سبحانه يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَة1

 


فالتقصير واجب في السفر كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا انه قال: "لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة"، ولم يقل: قصروا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام ؟ قال: أوليس قال تعالى في الصفا والمروة: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا2 ألا ترى أن الطواف واجب مفترض لأن الله تعالى ذكره في كتابه، وصنعه نبيه، وكذا التقصير في السفر شي، صنعه رسول الله وذكره الله في الكتاب، قالا: قلنا فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال: "إن كانت قرأت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه" قال عليه السلام: "والصلاة في السفر كل فريضة ركعتان إلاَّ المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول صلى الله عليه وآله وسلم في السفر والحضر ثلاث ركعات".

 


قال الإمام الطبرسي بعد إيراد هذا الخبر: وفي هذا دلالة على أن فرض المسافر مخالف لفرض المقيم. قال: وقد أجمعت الطائفة على ذلك، وأجمعت على أنه ليس بقصر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "فرض المسافر ركعتان غير قصر"، انتهى ما قلناه عن مجمع البيان.

وفي الكشاف حول آية التقصير، قال: وعند أبي حنفية القصر في 

________________________________________
1- سورة النساء:101
2- سورة البقرة:158
 
 
144

130

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

  السفر عزيمة غير رخصة لا يجوز غيره. قال: وعن عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم1


حجه الشافعي ومن لا يوجب القصر 

احتجوا بأمور: 

أحدها: الظاهر من قوله تعالى: ﴿... فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ...2. لان الجناح وهو الإثم إنما يوجب بمجرده الإباحة لا الوجوب.

 


وقد عرفت الجواب بنص الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام، وكأن الناس يومئذٍ ألفوا الإتمام فكانوا - كما أفاده الإمام الزمخشري في كشافه - مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه.

ثانيها: أن عثمان وعائشة كانا يتمان في السفر.

والجواب: أنهما تأولا أدلة التقصير فأخطآ، وقد فسر بعض علماء الجمهور تأولهما هذا بأن عثمان كان أمير المؤمنين وعائشة كانت أمهم فهما من سفرهما في حضر مستمر، على اعتبار أنهما حيث ما كانا مسافرين فهما في أهل ودار ووطن، وهذا اجتهاد طريف نرى وجه الطرافة فيه بانكشافه عن غربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: في دنيا المؤمنين إذ لم يرو عنه في السفر التقصير وكذلك أبو بكر وعمر وعلي غربا، لهم الله على هذا الأساس. 

________________________________________
1- إذا كانت صلاة السفر ركعتين وكانت بالركعتين تماما غير قصر وكان ذلك كله على لسان نبينا بشهادة عمر فكيف يصح آن تكون رباعية ؟ وهل تصح العبادة إذا وقعت على خلاف ما شرعها الله عز وجل.
2- سورة النساء:101. 
 
 
145

 


131

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

   ثالثها: أحاديث مشهورة أخرجها مسلم في صحيحه صريحة بأن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون منهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم في شهر رمضان، ومنهم المفطر فيه لا يعيب بعضهم على بعض.


والجواب: ان هذه الأحاديث لم يثبت شي، منها عن طريقنا على أنها تعارض صحاحنا المروية عن أئمتنا أعدال الكتاب، بل تعارض نفسها بنفسها كما يعلمه الملم بها وكما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى.

وما من شك في أن حديث الأوصياء من آل محمد عليهم السلام هو المقدم في مقام التعارض، ولا سيما بعد تأييده بثلة من صحاح الجمهور. 

حكم الإفطار

اختلف فقهاء الإسلام في حكم الإفطار في السفر، فذهب الجمهور إلى أنه رخصة، وأن المسافر إذا صام صح صومه وأجزأه مستدلين على ذلك بأحاديث أخرجها مسلم في صحيحه.

فمنها: ما عن أبي سعيد الخدري قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

وعنه: من طريق آخر قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره.

والجواب: أن هذه الأحاديث - لو فرض صحتها - فهي منسوخة لا محالة بصحاح من طريق الجمهور، وصحاح آخر من طريقنا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
 
 
146

132

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 وإليك ما صح في هذا الباب من طريق غيرنا عن جابر بن عبد الله قال - كما في صحيح مسلم -: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: ان بعض الناس قد صام فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أولئك العصاة أولئك العصاة.


وأخرج عن جابر أيضا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه فقال: ما له ؟ قالوا: صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس من البر أن تصوموا في السفر".

وإنما قلنا ان هذه السنن ناسخة لتلك لتأخر صدورها عنها باعتراف الجمهور، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم وغيره، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر قال: وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره.

وعن الزهري - كما في صحيح مسلم وغيره - بهذا الإسناد مثله. قال الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين، وإنما يؤخذ أمر رسول الله بالآخر فالآخر.

وعن ابن شهاب - كما في صحيح مسلم وغيره بهذا الإسناد أيضاً مثله. قال ابن شهاب: كانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم.

ومجمل الأمر أنه لو فرض صحة صوم البعض من أصحابه في السفر معه فإنما كان ذلك قبل التزامهم بالإفطار وقبل قوله صلى الله عليه وآله وسلم ليس من البر أن 
 
 
 
147

133

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 تصوموا في السفر، وقبل قوله صلى الله عليه وآله عن الصائمين: أولئك العصاة أولئك العصاة.


أما الإمامية فقد أجمعوا على أن الإفطار في السفر عزيمة، وهذا مذهب داود بن علي الامفهاني وأمحابه وعليه جماعة من الصحابة كعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير، وهو المتواتر عن أئمة الهدى من العترة الطاهرة.

وروي أن عمر بن الخطاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه. - كما هو مذهبنا ومذهب داود-.

وروى يوسف بن الحكم. قال: سألت ابن عمر عن الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل صدق فردها عليك ألا تغضب ؟ فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم فلا تردوها.

وروى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر".

وعن ابن عباس: الافطار في السفر عزيمة. 

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: "الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر في الحضر".

وعنه عليه السلام: "لو أن رجلاً مات صائماً في السفر لما صليت عليه".

وعنه عليه السلام: قال "من سافر أفطر وقصر، إلا أن يكون سفره في معصية الله عز وجل". 

وروى العياشي بسنده إلى محمد بم مسلم، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: نزلت هذه الآية ﴿... فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى
 
 
148

134

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 سَفَرٍ ...1 بكراع الغميم عند صلاة الهجير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باناء فيه ماء فشرب وأمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: قد مضى النهار ولو تممنا يومنا هنا، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: العصاة فلم يزالوا يسمون العصاة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

 


وحسبنا حجة لوجوب الافطار في السفر قوله عز وجل: ﴿... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...2 فإن في الآية دلالة على وجوب الافطار من وجوه.

 


أحدها: أن الأمر بالصوم في الآية إنما هو متوجه للحاضر دون المسافر، ولفظه كما تراه: فمن شهد منكم الشهر - أي حضر في الشهر – فليصمه، وإذا فالمسافر غير مأمور، فصومه إدخال في الدين ما ليس من الدين تكلفا وابتداعاً.

ثانيها: ان المفهوم من قوله تعالى: ﴿... فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه...3 أن من لم يحضر في الشهر لا يجب عليه الصوم، ومفهوم الشرط حجة كما هو مقرر في أصول الفقه، وإذا فالآية تدل على عدم وجوب الصوم في السفر بكل منطوقها ومفهومها.

 


ثالثها: ان قوله عز وجل: ﴿... فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ...4 تقديره فعليه عدة من أيام أخر، هذا إذا قرأت الآية برفع 

 


________________________________________
1- سورة البقرة:185.
2- سورة البقرة:185.
3- سورة البقرة:185.
4- سورة البقرة:185.
 
 
149

135

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 عدة، وإن قرأتها بالنصب كان التقدير فليصم عدة من أيام أخر، وعلى كل فالآية توجب صوم أيام أخر، وهذا يقتضي وجوب افطار أيام السفر إذ لا قائل بالجمع بين الصوم والقضاء، على أن الجمع ينافي اليسر المدلول عليه بالآية. 


رابعها: قوله تعالى: ﴿... يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...1، واليسر هنا إنما هو الافطار كما أن العسر هنا ليس إلاَّ الصوم، وإذاً فمعنى الآية يريد الله منكم الافطار ولا يريد منكم الصوم. 

 


قدر السفر المقتضي للتقصير والإفطار

اختلف أئمة المسلمين في تقديره، فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم سفر ثلاثة أيام وان القصر والإفطار إنما هما لمن سافر من أفق إلى أفق2.

وقال الشافعي ومالك وأحمد وجماعة كثيرون: تقصر الصلاة ويفطر في شهر رمضان بقطع مسافة تبلغ ستة عشر فرسخا ذهابا فقط3

وقال أهل الظاهر: القصر والإفطار في كل سفر حتى القريب.

قال ابن رشد: " في صلاة السفر من البداية والنهاية ": والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من التقصير والإفطار في السفر للفظ المنقول في هذا الباب، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر والإفطار أنه لكان المشقة فيه، وإذا كان الأمر على ذلك فإنما يكونان حيث 

________________________________________
1- سورة البقرة:185.
2- نقل ابن رشد عنهم هذا في كتابه البداية والنهاية.
3- هذه المسافة تساوي ثمانين كيلو ونصف كيلو ومائة وأربعين متراً مسيرة يوم وليلة بسير الابل المحملة بالأثقال سيراً معتدلاً، ولا يضر عندهم نقصان المسافة عن المقدار المبين بشيء قليل كميل أو ميلين.
 
 
150

136

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 تكون المشقة، وعند أبي حنيفة لا تكون المشقة إلاَّ بقطع ثلاث مراحل، وعند الشافعي ومالك وأحمد تكون بقطع ستة عشر فرسخاً قال: وأما من لا يراعي في ذلك إلأ اللفظ فقط كأهل الظاهر فقد قالوا: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص على أن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة فكل من أطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر قال: وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلاً.


وعلى هذا فإن أئمة المذاهب الأربعة لم يستندوا فيما حدوده من المسافة إلى دليل من أقوال النبي أو أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما استندوا إلى فلسفة أطلقوا عليها (المعنى المعقول ) وذلك ما لا يرتضيه أئمة أهل البيت ولا تطمئن إليه الامامية في استنباط الأحكام الشرعية. 

وكان أهل مكة - على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر - إذ خرجوا من مكة إلى عرفات يقصرون في عرفات والمزدلفة ومنى وهذا ثابت لا ريب فيه.

وأخرج الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج من مكة إلى عرفات قصر، وأن أبا بكر وعمر قصرا بعده. وان عثمان قصر أيضاً ثم أتم صلاته بعد ست سنين مضت من خلافته فأنكر الناس عليه1، وهذا هو 

________________________________________
1- تجد ذلك كله في باب الصلاة بمنى وهو أحد أبواب التقصير وأحد أبواب الحج من الجزء الأول من صحيح البخاريوتجده في كتاب صلاة المسافرين وقصرها من صحيح مسلم. وتجد في ص 178 من كتاب الاستاذ الدكتور طه حسين - الفتنة الكبرى -ما هذا لفظه: ثم عاب المسلمون المعاصرون لعثمان عليه مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الشيخين وعن عثمان نفسه في صدر من خلافته وذلك حين أتم الصلاة في منى وقد قصرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشيخان وقصرها عثمان أيضاً أعواماً، وقد ذعر المسلمون حقاً حين أتم عثمان الصلاة في منى، فسعى بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض، ثم= أقبل عبد الرحمن بن عوف على عشان فقال له: ألم تصل هما مع النبي ركعتين ؟ قال عثمان: بلى. فقال عبد الرحمن: ألم تصل مع أبي بكر وعمر ركعتين ؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: ألم تصل أنت بالناس هنا ركعتين ؟ قال عثمان: بلى. قال عبد الرحمن: فما هذا الحدث الذي أحدثته ؟ قال عثمان: فإني قد بلغني أن الأعراب والجفاة من أهل اليمن يقولون ان صلاة المقيم اثنتان، فأجابه عبد الرحمن بأن خوفك على الأعراف والجفاة في غير محله إذ صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ولم يكن الإسلام قد فشا بعدو، الآن قد ضرب الاسلام بجرانه فما ينبغي لك أن تخاف.
 
 
151

137

الدرس الرابع عشر: تقصير المسافر وإفطاره

 مستند الامام مالك من قوله بأن تقصير الحجاج في هذه الأماكن سنة مؤكدة سواء في ذلك أهل مكة وأهل الاقطار النائية، فراجع فقه المالكية1، وهذا مستندنا في التقصير بسفر مسافته ثمانية فراسخ سواء أكانت امتدادية أو كانت ملفقة من أربعة في الذهاب أو أربعة في الإياب، كالمسافة بين مكة وعرفات، وهي أقل مسافة قصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها الصلاة، وانها لحجة بالغة والحمد لله. 


________________________________________
1- وقد نقله النووي عن مالك في شرحه لصحيح مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها 
 
 
 
152

138

الدرس الخامس عشر: صلاة الجنائز

 الدرس الخامس عشر: صلاة الجنائز 

 
وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلمكان يكبر على الجنائز خمساً، لكن الخليفة الثاني راقه أن يكون التكبير في الصلاة عليها أربعاً فجمع الناس على الأربع، نص على ذلك جماعة من أعلام الأمة كالسيوطي ( نقلاً عن العسكري) حيث ذكر أوليات عمر من كتابه "تاريخ الخلفاء" وابن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر سنة 23 من كتابه "روضة المناظر" المطبوع في هامش تاريخ ابن الاثير وغيرهما من اثبات المتتبعين.

وحسبك ما في كتاب الديمقراطية لمؤلفه الاستاذ محمد خالد مما أوردناه آنفاً في مبحث الطلاق الثلاث فراجع.

وقد أخرج الامام أحمد من حديث زيد بن أرقم عن عبد الأعلى، قال: صليت خلف زيد بن أرقم على جنازة فكبر خمساً، فقام اليه أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى فأخذ بيده فقال: أنسيت ؟ قال: لا، ولكني صليت خلف أبي القاسم خليلي صلى الله عليه وآله وسلم فكبر خمساً فلا أتركه أبداً. انتهى1

قلت: وصلى زيد بن أرقم على سعد بن جبير المعروف بعد بن حبتة وهي أمه، وهو من الصحابة، فكبَّر على جنازته خمساً، فيما رواه ابن حجر في ترجمة سعد من اصابته. ورواه ابن قتيبة في أحوال أبي يوسف من معارفه، وكان سعد هذا جد أبي يوسف القاضي. 
 
________________________________________
1- راجعه في ص:370 من الجزء الرابع من المسند.
 
 
153

139

الدرس الخامس عشر: صلاة الجنائز

 وأخرج الامام أحمد من حديث حذيفة من طريق يحيى بن عبد الله الجابر، قال: صليت خلف عيسى مولى الحذيفة بالمدائن على جنازة فكبر خمساً، ثم التفت الينا فقال: ما وهمت ولا نسيت ولكن كبرت كما كبر مولاي وولي نعمتي حذيفة بن اليمان صلى على جنازة وكبر خمساً ثم التفت الينا فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الحديث)1


 ________________________________________
1- راجعه في أول ص 406 من الجزء الخامس من المسند. ورواه الحافظ الذهبي في ترجمة يحيى بن عبد الله الجابر من ميزان الاعتدال عن جرير الضبي عن يحيى الجابر.
 
 
154

140

الدرس السادس عشر: صلاة التراويح

 الدرس السادس عشر: صلاة التراويح  


وذلك أن صلاة التراويح ما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا كانت على عهده بل لم تكن على عهد أبي بكر ولا شرع الله الاجتماع لأداء نافلة من السنن غير صلاة الاستسقاء. 

وانما شرعه في الصلوات الواجبة كالفرائض الخمس اليومية،وصلاة الطواف، والعيدين، والآيات، وعلى الجنائز. 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقيم ليالي رمضان بأداء سننها في غير جماعة، وكان يحض على قيامها، فكان الناس يقيمونها على نحو ما رأوه صلى الله عليه وآله وسلم يقيمها. 

وهكذا كان الأمر على عهد أبي بكر حتى مضى لسبيله سنة ثلاثة عشرة للهجرة1 وقام بالأمر بعده عمر بن الخطاب، فصام شهر رمضان من تلك السنة لا يغير من قيام الشهر شيئاً، فلما كان شهر رمضان سنة أربع عشرة أتى المسجد ومعه بعض أصحابه، فرأى الناس يقيمون النوافل وهم ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد وقارئ ومسبح ومحرم بالتكبير ومحل بالتسليم في مظهر لم يرقه، ورأى من واجبه اصلاحه فسن لهم التراويح2
 
________________________________________
1- وكان ذلك ليلة الأربعاء لثمان بقين من ج 2وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام.
2- التراويح هي النافلة جماعة في ليالي شهر رمضان، وانما سميت تراويح للاستراحة فيها بعد كل أربع ركعات، ونحن الامامية لا تفوتنا والحمد لله نؤديها كما كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كماً وكيفاً عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي.
 
 
155

141

الدرس السادس عشر: صلاة التراويح

 أوائل الليل من الشهر وجمع الناس عليها حكماً مبرماً، وكتب بذلك الى البلدان ونصب للناس في المدينة إمامين يصليان بهم التراويح إماماً للرجال وإماماً للنساء. وهذا كله أخبار متواترة.


وحسبك منها ما أخرجه الشيخان في صحيحهما1 من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قام رمضان - أي بأداء سننه - إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم توفي والأمر كذلك - أي وأمر القيام في شهر رمضان لم يغير عما كان عليه قبل وفاته صلى الله عليه وآله وسلم - ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر.

وأخرج البخاري في كتاب التراويح أيضاً من الصحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري2 قال: خرجت مع عمر ليلة في رمضان الى المسجد فإذا الناس أوزع متفرقون، إلى أن قال: فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد كان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعمت البدعة هذه...

قال العلامة القسطلاني في أول الصفحة الرابعة من الجزء الخامس من إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري عند بلوغه الى قول عمر في 

________________________________________
1- فراجع من صحيح البخاري كتاب صلاة التراويح ص 233 من جزئه الأول. وراجع من صحيح مسلم باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح من كتاب صلاة المسافرين وقصرها ص 283والتي بعدها من جزئه الأول.
2- عبد القاري بتنوين عبد وتشديد ياء القاري نسبة إلى قارة وهو ابن ديش بن ملحم بن غالب المدني. كان هذا عامل عمر على بيت المال وهو حليف بني زهرة. روى عن عمر وأبي طلحة، وأبي أيوب، وأبي هريرة. وروى عنه ابنه محمد، والزهري، ويحيى بن جعدة بن هبيرة. مات سنة ثمانين وله ثمان وسبعون سنة.
 
 
156

142

الدرس السادس عشر: صلاة التراويح

 هذا الحديث: نعمت البدعة هذه، ما هذا لفظه: سماها بدعة لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يسن لهم، ولا كانت ي زمن الصديق رضي الله عنه ولا أول الليل، ولا هذا العدد... الخ، وفي تحفة الباري وغيره من شرح البخاري مثله فراجع.


وقال العلامة أبو الوليد محمد بن الشحنة حيث ذكر وفاة عمر ي حوادث سنة 23 من تاريخه - روضة المناظر -: هو أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد،وجمع الناس على أربع تكبيرات في صلاة الجنائز،وأول من جمع الناس من إمام يصلي بهم التراويح... الخ. 

ولما ذكر السيوطي في كتابه - تاريخ الخلفاء - أوليات عمر نقلاً عن العسكري1 قال: هو أول من سمي أمير المؤمنين، وأول من سن قيام شهر رمضان - بالتراويح - وأول من حرم المتعة،وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات... الخ.

وقال محمد بن سعد - حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من الطبقات -: وهو أول من سن قيام شهر رمضان - بالتراويح - وجمع الناس على ذلك، وكتب به الى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة، وجعل للناس بالمدينة قارئين، قارئاً يصلي التراويح بالرجال، وقارئاً يصلي بالنساء... الخ. 

وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر من الاستيعاب: وهو الذي نور شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه. 

كان هؤلاء عفا الله عنهم وعنا، رأوه رضي الله عنه قد استدرك 

________________________________________
1- العسكري هوا لحسن بن عبد الله بن سهيل بن سعيد بن يحيى يكنى أبا اللغوي له كتاب الأوائل فرغ من تأليفه يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة 395.
 
 
157

143

الدرس السادس عشر: صلاة التراويح

 (تراويحه) على الله ورسوله حكمة كانا عنها غافلين، بل هم بالغفلة - عن حكمة الله في شرائعه ونظمه - أحرى.


وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سن شهر رمضان وغيرها انفراد مؤديها - جوف الليل في بيته - بربه عز وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه، ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على أخرها ملحاً عليه، متوسلاً بسعة رحمته إليه، راجياً لاجئاً، راغباً، منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلاَّ إليه، ولا منجى منه إلاَّ به.

لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزودوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونثطت أعضاؤهم له، يتقل منهم ما يستقل، ويستكثر من يستكثر، فانها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيد البشر.

أما ربطها بالجماعة فيحدُّ من هذا النفع، ويقلل من جدواه.

أضف إلى هذا أن إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظها من البركة والشرف بالصلاة فيها» ويمسك عليها حظها من تربية الناشئة على هبها والنشاط لها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدات» وتأثيره ني شد الأبناء إليها شداً يرسخها في عقولهم وقلوبهم، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيما أفضل: الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من السجد فلأن أصلي في بيتي أحب إليَّ من أن أصلي في المسجد إلاَّ أن تكون صلاة مكتوبة. رواه احمد، وابن ماجة، وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للامام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. 
 
 
158

144

الدرس السادس عشر: صلاة التراويح

 وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة، رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه.


وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت، أخرجه البخاري ومسلم.

وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، وان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا. رواه مسلم وغيره، ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالإسناد إلى أبي سعيد، والسنن في هذا المعنى لا يسعها هذا الاملاء. 

لكن الخليفة رضي الله عنه رجل تنظيم وحزم، وقد راقه من صلاة الجماعة ما يتجلى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية التي أشبع القول علماؤنا الاعلام ممن عالجوا هذه الأمور بوعي المسلم الحكيم وأنت تعلم أن الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية، بل اختص الواجبات من الصلوات بها، وترك النوافل للنواحي الأخر من مصالح البشر ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ...  

 

 
 
 
159

145

الدرس السابع عشر: الزكاة والصدقة

 الدرس السابع عشر: الزكاة والصدقة

  
الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح1 مثل قوله تعالى: ﴿... أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ...2 أي أطهر، وما روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "زكاة الأرض يبسها"3 أي طهارتها يبسها. وقول الإمام علي عليه السلام: "العلم يزكو على الانفاق"4 أي ينمو، وقولهم: "زكا الزرع"5 إذا حصل منه نمو وبركة، وقوله تعالى: ﴿... الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ ..6 أي يمدحونها.

 


في الشرع: ما يخرجه الانسان من حق الله تعالى إلى مستحقيه، وتسميته بذلك لما يكون فيها رجاء البركة أو لتزكية النفس أي تنيمتها بالخيرات والبركات أو لما جميعاً فإن الخيرين موجدان فيها7.

وزكى أذى زكاة ماله.

هذا ملخص ما ذكره أهل اللغة في بيان معنى الزكاة8

________________________________________
1- راجع مادة (زكا) من نهاية اللغة لابن الاثير.
2- سورة الكهف، الآية: 19.
3- بمادة زكا من نهاية اللغة.
4- نهج البلاغة، كتاب الحكم، العدد 147.
5- مادة زكا من مفردات الراغب.
6- سورة النساء، الآية: 49.
7- راجع مادة زكا من مفردات الراغب.
8- راجمنا في هذا وما يأتي بترجمة المصطلحات الآتية الراغب في مفرداته، وابن الأير في نهاية اللغة، وابن منظور في لسان العرب ،والقاموس وشرحه مضافاً إلى تفاسير القران مثل تفسير الطبري والطبرسي وغيرهما.
 
 
161

146

الدرس السابع عشر: الزكاة والصدقة

 أما الصدقة: فقد قال الراغب في مفرداته: "الصدقة ما يخرجه الانسان من ماله على وجه القربة كالزكاة لكن الصدقة تقال في الأصل للمتطوع به والزكاة للواجب"1.


وقال الطبرسي في مجمع البيان: "الفرق بين الصدقة والزكاة أنَّ الزكاة لا تكون إلاَّ فرضاً، والصدقة قد تكون فرضاً وقد تكون نفلاً"2.

ومن ثم نرى أن الزكاة لوحظ فيها معنى الوجوب وقصد منها حق الله في المال كما لوحظ في الصدقة التطوع، إي إعطاء المال قربة إلى الله تعالى وتد تلحظ فيها الرحمة على المعطى له مثل قول إخوة يوسف: "... وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ..."3

وبما أنّ الزكاة لوحظ فيها الوجوب أي حق الله في المال نرى أنها تشمل أنواع الصدقات الواجبة والخمس الواجب وغيرها من كل ما كتب الله على الإنسان في المال.

ويشهد لهذا ما ورد في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لملوك حمير: "وآتيتم الزكاة من المغانم خمس الله وسهم النبي وصفيه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة"4.
فان لفظ "من" بعد الزكاة لبيان أنواع الزكاة المذكورة بعدها وهي:

________________________________________
1- بمادة صدق.
2- مجمع البيان ج 1/ 384بتفسير الآية 272من سورة البقرة.
3- سورة يوسف، الآية: 88.
4- يأتي ذكر مصادر الكتاب في ما بعد إن شاء الله.
 
 
 
162

147

الدرس السابع عشر: الزكاة والصدقة

 أ- من المغانم خمس الله.

ب- سهم النبي وصفيه.

ج- ما كتب الله على المؤمنين من الصدقة. أي القسم الواجب من الصدقة.

وهكذا جعل الصدقة الواجبة قسما واحدا من أقسام الزكاة. وقد حصر الله الصدقة بالمواضع الثمانية المذكورة في قوله تعالى: ﴿... إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ...1 ولم يحصر الزكاة بمورد ما، وقرنها بالصلاة في خمس وعشرين آية من كتابه الكريم2، وكلما قرنت الزكاة بالصلاة في كلام الله وكلام رسوله قصد منها مطلق حق الله في المال والذي منه: حقه في ما بلغ النصاب من النقدين والأنعام والغلّات أي الصدقات الواجبة، ومنا حقه في المغانم أي الخمس، وحقه في غيرهما.

 


وإذ قرنت في كلامهما بالخمس، قصد منها الصدقات الواجبة خاصة. وكذلك إذا أضيفت في الكلام إلى احد موارد أصناف الصدقة مثل "زكاة الغنم" أو "زكاة النقدين" قصد منها عند ذاك أيضا صدقاتها الواجبة. ويسمى العامل على الصدقة في الحديث و السيرة بالمصدق3 و لا يقال "المزكي" ويقال لمعطي الصدقة "المتصدق"4 ولا يقال المزكي أو 


________________________________________
1- سورة التوبة ؟ الآية: 60.
2- راجع مادة الزكا من المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم.
3- راجع مادة صدق بمفردات الراغب ونهاية اللغة ولسان العرب.
4- قال الله تعالى {ان المصدقين المصدقات} الحديد/ 18 0 وقال: { والمتصدقين والمتصدقات } الأحزاب / 35، وراجع أبواب الزكاة في صحيح مسلم 3/172 ،وسنن أبي داود 1/ 202. والترمذي 3/ 172. ولا يعبأ بما ورد عند بعض المتأخرين مثل المتقي في كنز العمال.
 
 
163

148

الدرس السابع عشر: الزكاة والصدقة

 المتزكي و"الصدقة" هي التي حرمت على بني هاشم1 وليست الزكاة، ولم ينتبه مسلم إلى هذا وكتب في صحيحه "باب تحريم الزكاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى اله... "2، وأورد في الباب ثمانية أحاديث تنصّ على حرمة الصدقة عليهم وليست الزكاة كما قال، وعلى هذا فكل ما ورد في القران الكريم من أمثال قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ3، فهو أولاً أمر بإقامة كل ما يسمى صلاة سواء اليومية منها أو صلاة الآيات أو غيرهما. وثانيا أمر بأداء حق الله في المال سواء حقه في موارد الصدقة الواجبة، أو حقه في موارد الخمس أو في غيرهما.

 


وكذلك المقصود في ما روي عن رسول الله انه قال: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك"4، انك إذا أديت حق الله في مالك أي جميع حقوق الله في المال فقد قضيت ما عليك، وكذلك ما روي عنه انه قال: "من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول الحول"5، أي لا حق لله في ماله. وورد في أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام: "وحق في الأموال الزكاة"6. ولعل سبب خفاء ذلك على الناس، أن الخلفاء لما اسقطوا الخمس بعد رسول الله ولم يبق مصداق للزكاة في ما يعمل به غير الصدقات، نسي الخمس متدرجاً، ولم يتبادر إلى الذهن من الزكاة في العصور الأخيرة غير الصدقات !.
________________________________________
1- يأتي تفصيله في ما بعد إن شاء الله.
2- صحيح مسلم 3/ 117.
3- راجع مادة الزكاة في المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم.
4- سنن الترمذي 3/ 97باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك.
5- سنن الترمذي 3/ 125 باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول.
6- الكافي 2/ 19 و20، وتفسير العياشي 1/ 252، والبحار 68/ 337و389.
 
 
 
164

149

الدرس الثامن عشر: الخمس

  الدرس الثامن عشر: الخمس  


الخمس في اللغة: اخذ واحد من خمسة، وخمستُ القوم: أخذت خمس أموالهم.

أما معناه الشرعي فينبغي لدركه أن نرجع أولا إلى عرف العرب في العصر الجاهلي لمعرفة نظامهم الاجتماعي يومذاك في هذا الخصوص، ثم نعود إلى التشريع الإسلامي لندرس الخمس فيه وندرس أمره بعد ذلك لدى المسلمين بالتفصيل إن شاء الله تعالى، فإلى دراستهما في ما يلي:

أولا: في العصر الجاهلي

كان الرئيس عند العرب يأخذ في الجاهلية ربع الغنيمة ويقال: ربع القوم يربعهم ربعا أي اخذ ربع أموالهم وربع الجيش أي اخذ منهم وبع الغنيمة، ويقال للربع الذي يأخذه الرئيس: المِرباع. وفي الحديث، قال الرسول لعدي بن حاتم قبل أن يسلم: "إنك لتأكل المرباع وهو لا يحل في دينك"1. وقال الشاعر:

لك المرباع منها والصفاي     *      وحكمك والنشيطة والفضول

الصفايا ما يصطفيه الرئيس، والنشيطة ما أصاب من الغنيمة قبل أن 
 
________________________________________
1- بمادة ربع من القاموس واللسان وتاج العروس ونهاية اللغة لابن الاثير وفي صحاج الجوهري بعضه. وسيرة ابن هشام 4/ 249.
 
 
165

150

الدرس الثامن عشر: الخمس

 تصير إلى مجتمع الحي، والفضول ما عجز أن يُقسّم لقلته فخصّ به الرئيس2.


وفي النهاية: "إن فلانا قد ارتبع أمر القوم، أي انتظر أن يؤمر عليهم، وهو على رباعة قومه أي هو سيدهم".

وفي مادة "خمس" من النهاية: ومنه حديث عدي بن حاتم "ربعت في الجاهلية وخمست في الإسلام" أي قدت الجيش في الحالين، لان الأمير في الجاهلية كان يأخذ ربع الغنيمة وجاء الاسلام فجعله الخمس وجعل له مصاريف، انتهى2.

ثانيا: في العصر الإسلامي 

هذا ما كان في الجاهلية، أما في الاسلام فقد فرض الخمس في التشريع الاسلامي، وذكر في الكتاب والسنة كما يلي:

أ - الخمس في كتاب الله

قال الله سبحانه: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ3.

 


هذه الآية وإن كانت قد نزلت في مورد خاص، ولكنها أعلنت حكماً 
________________________________________
1- في نهاية اللغة 2/ 62.
2- في نهاية اللغة 1/321، ومسند احمد 4/ 257، وعدى ابو طريف اسلم سنة 9هـ وشهد فتح العراق والجمل وصفين ونهروان مع الإمام وفقئت عينه بصفين. روى عنه المحدثون 66حديثا، توفي بالكوفة سنة 68هـ ترجمته بالاستيعاب وأسد الغابة والتقريب.
3- سورة الأنفال: 41.
 
 
 
166

151

الدرس الثامن عشر: الخمس

 عاماً وهو وجوب أداء الخمس من أيّ شيء غنموا - أي فازوا به - لأهل الخمس، ولو كانت الآية تقصد وجوب أداء الخمس مما غنموا في الحرب خاصة، لكان ينبغي أن يقول عز اسمه: واعلموا أن ما غنمتم في الحرب، أو أنَّ ما غنمتم من العدى وليس يقول أن ما غنتم من شيء.


في هذا التشريع: جعل الاسلام سهم الرئاسة الخمس بدل الربع في الجاهلية، وقلل مقداره، وكثر أصحابه، فجعله سهماً لله، وسهماً للرسول، وسهماً لذوي قربى الرسول، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل من فقراء أقرباء الرسول، وجعل الخمس لازماً لكل ما غنموا من شي؟ عامة ولم يمحّضه بما غنموا في الحرب، وسماه الخمس مقابل المرباع في الجاهلية. 

ولما كان مفهوم الزكاة مساوقاً لحق الله في المال كما أشرنا إليه في ما سبق، فحيث ما ورد في القرآن الكريم حث على أداء الزكاة في ما ينوف على ثلاثين آية1، فهو حث على أداء الصدقات الواجبة والخمس المفروض في كل ما غنمه الانسان، وقد شرح الله حقه في المال في آيتين: آية الصدقة وآية الخمس، كان هذا ما استفدناه من كتاب الله في شأن الخمس.

ب - الخمس في السنة

أمر الرسول باخراج الخمس من غنائم الحرب ومن غير غنائم الحرب مثل الركاز كما روى ذلك كل من ابن عباس، وأبي هريرة، وجابر، وعبادة بن الصامت، وأنس ابن مالك، كما يلي:

في مسند أحمد وسنن ابن ماجة واللفظ للأوّل، عن ابن عباس قال: 

________________________________________
1- راجح مادة الزكاة في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
 
 
 
167

152

الدرس الثامن عشر: الخمس

 "قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركاز الخمس"1


وفي صحيحي مسلم والبخاري، وسنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وموطأ مالك، ومسند احمد واللفظ للأوّل: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "العجماء جُرحها جُبار، والمعِدن جُبارة، وفي الركاز الخمس" وفي بعض الروايات عند أحمد: البهيمة عقلها جبار2.

شرح هذا الحديث أبو يوسف في كتاب الخراج وقال: كان أهل الجاهلية إذا عطب الرجل في قليب جعلوا القليب عقله، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله، وإذا قتلته معدن جعلوه عقله، فسأل سائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: العجماء جبار، والمعدن جُبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس " فقيل له: ما الركاز يا رسول الله ؟ فقال: "الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت"3 انتهى. 

________________________________________
1- مسند أحمد 1/ 314، وسنن ابن ماجة ص 839
2- صحيح مسلم 5/ 127 باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار اي هدر من كتاب الحدود بشرح النووي 11/ 225 ،وصحيح البخاري 1/ 181 باب في الركاز الخمس، و2/ 74 باب من حفر بئراً في ملكه لم يضمن من كتاب المساقاة وسنن أبي داود 2/ 254باب من قتل عمياً بين قوم من كتاب الحدود، وباب ما جاء في الركاز، 2/ 0 7، وسنن الترمذ ي 3/138 باب ما جاء في العجماء جرحها جبار وفي الركاز الخمس، وسنن ابنماجة ص 03 8 باب من أصاب وكازاً من كتاب النقطة، وموطأ مالك ج 1/ 244 باب زكاة الشركاء. ومسند أحمد ج 2/ 228 و239 و254 و274 و285 و319 و382 و386 و406و411و415و454و456و467و475و482و493و495و499و501و507، والأموال لابي عبيد ص 336.
3- أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم الانصاري ولد بالكوفة 113هـ وتلمذ على ابي حنيفة وهو أول من وضع الكتب على رأي أبي حنيفة وولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد، وتوفي منة 182هـ ونقلنا عن كتاب خراجه ط القاهرة 1346هـ ص 26 وقد وضعه لخليفة عصره الرشيد. وعطب اي هلك. والقلب: البئر لم تطو. والعقل: الدية.
 
 
 
168

153

الدرس الثامن عشر: الخمس

 وفي مسند أحمد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "السائمة جبار، والجب جبار، المعدن جبار، وفي الركاز الخمس" قال الشعبي: الركاز الكنز العادي1.


وفي مسند أحمد، عبادة بن الصامت قال: من قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن المعدن جبار، والبئر جبار، والعجماء جرحها جبار، والعجماء البهيمة من الأنعام وغيرها. والجبار هو الهدر الذي لا يغرم، وقضى في الركاز الخمس2.

وفي مسند أحمد0عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حابت فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبراً فأخذها فأتى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بذلك، قال "زنها" فوزنها فإذا مائتا درهم، فقال النبي: "هذا ركاز وفيه الخمس"3

وفي مسند أحمد: ان رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسائل جاء فيها: فالكنز نجده في الخرب والآرام فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فيه وفي الركاز الخميس"4

________________________________________
1- مسند أحمد 3/ 335و336و356و353،ومجمع الزوائد 3/ 78باب في الركاز من أصحاب رسول الله، توفي بالكوفة سنة 104هـ، أنساب السمعاني ص 336.
2- مسند أحمد 5/ 326.
3- مسند أحمد 3/ 128، ومجمع الزوائد 3/ 77 باب في الركاز والمعادن، ومغازي الواقدي ص 682.
4- مسند أحمد 2/ 186 و202و207واللفظ للأول، وفي سنن الترمذي 1/ 219باب اللقطة من كتاب الزكاة مع اختلاف في اللفظ. والأموال لأبي عبيد ص 337، وأشار الى هذه الأحاديث الترمذي في باب ما جاء العجماء جرحها جبار، وفي الركاز الخمس قال: وفي الباب عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو وعباد بن الصامت وعمرو بن عوف المزني وجابر.
 
 
 
169

154

الدرس الثامن عشر: الخمس

 وفي مادة "سيب" من نهاية اللغة ولسان العرب وتاج العروس وفي نهاية الارب والعقد الفريد وأسد الغابة واللفظ للأول. "وفي كتابه - أي كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - لوائل بن حجر: "وفي السيوب الخمس" السيوب: الركاز. 


وذكر انهم قالوا: "السيوب عروق الذهب والفضة تسيب في المعدن أي تتكون فيه وتظهر"، "والسيوب جمح سيب يريد به - أي يريد النبي بالسيب- المال المدفون في الجاهلية أو المعدن لأنه من فضل الله تعالى وعطائه لمن أصابه". 

وتفصيل كتاب رسول الله هذا في نهاية الارب للقلقشندي1

خلاصة الروايات السابقة 

خلاصة ما يستفاد من الروايات السابقة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بدفع الخمس من كل ما يستخرج من الأرض من ذهب وفضة، سواء كان كنزا أو معدنا وكلاهما ليسا من غائم الحرب، كما زعموا أنها - أي غائم الحرب - هي المقصود من "غنموا"، في الآية الكريمة، وإنما تدل تلكم الأحاديث على ما برهنا عليه أن ما "غنموا" قصد به في التشريع الإسلامي 

________________________________________
1- نهاية الارب ص 21، يرويه عن كتاب الشفاء للقاضي عياض، والعقد الفريد 2/ 48 في الوفود، وبترجمة الضحاك من أسد الغابة 3: 38وأشار الى الكتاب صاحبا الاستيعاب وأسد الغابة بترجمة وائل. ووائل بن حجر كان أبوه من أقيال اليمن وفد الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتب له عهدا جاء فيه ما أورده في المتن، بعث الرسول مع معاوية بن أبي سفيان فقال له معاوية: اردفني فقال: لست من أرداف الملوك، توفي وائل في خلافة معاوية، ترجمته بالاصابة 3: 592.
 
 
 
170

155

الدرس الثامن عشر: الخمس

 "ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم" فثبت من جميع ما سبق أن الخمس لا يخص غنائم الحرب وحدها في الاسلام، وكذلك استفاد الفقهاء من تلكم الروايات مثل القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج1 فانه استنبط من الروايات حكم وجوب أداء الخمس من غير غنائم الحرب.


قال أبو يوسف: في كل ما أصيب من المعادن من قليل أو كثيرلخمس، ولو أن رجلاً أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضة أو أقل من وزن عشرين ذهباً، فإن فيه الخمس، ليس هذا موضع الزكاة2، إنما هو على موضع الغنائم، وليس في تراب ذلك شيء، إنما الخمس في الذهب الخالص، والفضة الخالصة، والحديد، والنحاس، والرصاص، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء، قد تكون النفقة تستغرق ذلك كله، فلا يجب إذن فيه خمس عليه وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلا كان أو كثيرا، ولا يحسب له من نفقته شيء من ذلك وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة -مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرة - فلا خمس في شيء3 من ذلك إنما ذلك كله بمنزلة الطين والتراب. 

قال: ولو أن الذي أصاب شيئاً من الذهب أو الفضة أو الحديد أوالرصاص أو النحاس، كان عليه دين فادح لم يبطل ذلك الخمس عنه، ألا ترى لو أن جندا من الأجناد، أصابوا غنيمة من أهل الحرب، خمست ولم ينظر أعليهم دين أم لا، ولو كان عليهم دين، لم يمنع ذلك من الخمس. 

قال: وأما الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله عز وجل في 
________________________________________
1- الخراج ص 25-27.
2- قصد بالزكاة هنا ما يقابل الخمس أي الصدقة.
3- هذا يخالف عموم آية الخمس ويخالف ما في فقه أئمة أهل البيت.
 
 
171

156

الدرس الثامن عشر: الخمس

 الأرض يوم خلقت، فيه أيضاً الخمس، فمن أصاب كنزاً عادياً في غير ملك أحد فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب، فإن في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه، وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمس وما بقي فلهم.


قال: ولو أن حربياً وجد في دار الاسلام ركازاً، وكان قد دخل بأمان نزع ذلك كله منه، ولا يكون له منه شيء. وان كان ذمياً أخذ منه الخمس، كما يؤخذ من المسلم، وسلم له أربعة أخماسه، وكذلك المكاتب يجد ركازاً في دار الاسلام فهو بعد الخمس...

وقال أبو يوسف في "فصل ما يخرج من البحر": "وسألت يا أمير المؤمنين عما يخرج من البحر فإن في ما يخرج من البحر من حلية والعنبر الخمس"1

استعرضنا في ما سبق روايات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي أمرت بدفع الخمس عن أشياء غير غنائم الحرب، وكذلك ما استفادوه من تلك الروايات، وفي ما يلي نستعرض كتب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعهوده التي ورد فيها أمر بدفع الخمس.

الخمس في كتب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعهوده 

أ – في صحيحي البخاري ومسلم وسنن النسائي ومسند أحمد واللفظ للأول: أن وفد عبد القيس لما قالوا لرسول الله: "ان بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في أشهر حرم، فمرنا 

________________________________________
1- الخراج ص 83.، ونقل ابو عبيد في كتاب الاموال ص 345-348 قولين فيه: أ – أن فيه الزكاة. ب. أن فيه الخمس.
 
 
172

157

الدرس الثامن عشر: الخمس

   بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة وندعو إليه من وراءنا".


قل: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع ؛ آمركم بالايمان بالله، وهل تدرون ما الايمان بالله، شهادة أن لا إله إلأ الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتعطوا الخمس من المغنم... "الحديث1.

إن الرسول لما أمر وفد عبد القيس أن يعطوا الخمس من المغنم، لم يطلب اخراج خمس غنائم الحرب من قوم لا يستطيعون الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم من خوف المشركين من مضر، وإنما قصد من المغنم معناه الحقيقي في لغة العرب وهو الفوز بالشي، بلا مشقة كما سبق تفسيره، أي أن يعطوا خمس ما يربحون، أو لا أقل من أنه قصد معناه الحقيقي في الشرع وهو "ما ظفر به من جهة العدى وغيرهم".

وكذلك الأمر في ما ورد في كتب عهوده للوافدين إليه من القبائل العربية وفي ما كتبه لرسله إليهم، وولاته عليهم مثل ما ورد في فتوح البلاذري، قال:

"لما بلغ أهل اليمن ظهور رسول الله وعلو حقه، أتته وفودهم، فكتب لهم كتاباً بإقرارهم على ما أسلموا عليه من أموالهم وأراضيهم وركازهم، فأسلموا، ووجه إليهم رسله وعماله لتعريفهم شرايع الاسلام وسننه وقبض صدقاتهم، وجزى رؤوس من أقام على النصرانية واليهودية والمجوسية".

________________________________________
1- بصحيح البخاري 4/305 اباب والله خلقكم وما تعلمون من كتاب التوحيد، وج 1/ ،13 19 منه، وج 3/ 53، وفي صحيح مسلم 1/35و36 باب الأمر بالايمان عن ابن عباس وغيره، وسنن النسائي 2/، 333 ومسند أحمد 3/ 318وج 5/، 136 وعبد القيس قبيلة من ربيعة كانت مواطنهم بتهامة، ثم انتقلوا الى البحرين وقدم وفدهم على الرسول في السنة التاسعة ولفظه في ص 12 من الاموال لأبي عبيد: وان تؤدوا خمس ما غنمتم.
 
 
 
173

158

الدرس الثامن عشر: الخمس

 ثم ذكر هو وابن هشام والطبري وابن كثير واللفظ للبلاذري قال: كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن:


ب - "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ...1 عهد من محمد النبي رسول لله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى لله في أمره كله، وأن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقى البعل وسقت السماء، ونصف العشر مما سقى الغرب"2.

 


البعل: ما سقي بعروقه، والغرب: الدلو العظيمة.

ج - ومثل ما كتب لسعد هذيم من قضاعة، وإلى جذام كتاباً واحداً يعلمهم فرائض الصدقة وأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أبي وعنبسة أو من أرسلاه"3.

انّ الرسول حين طلب من قبيلتي سعد وجذام أن يدفعوا الصدقةوالخمس إلى رسوليه أو لمن يرسلاه إليه، لم يكن يطلب منهم خمس 

________________________________________
1- السورة 5 1.
2- فتوح البلدان 1/ 84 باب اليمن، وسيرة ابن هشام 4/ 265- 266، والطبري 1/ 1727 - 1729، وتاريخ ابن كثير 5/ 3، وكتاب الخراج لابي يوسف ص 85 واللفظ -واللفظ للأول وهناك رواية أخرى أوردها الحاكم في لمستدرك 1/ 395 و396، وفي كنز العمال 5/ 517. وعمرو بن حزم أنصاري خزرجي شهد الخندق وما بعدها، توفي سنة احدى أو ثلاث أو أربع وخمسين هـ بالمدينة. أسد الغابة 4/ 99.
4- طبقات ابن سعد 1/ 270، وجذام حي كبير من القحطانية، نسبهم بجمهرة ابن حزم ص 420- 421، وسعد هذيم من بطون قضاعة ينسبون الى قحطان نسبهم بجمهرة ابن حزم ص 447 أما أبي وعنبسة ففي الصحابة عدد بهذين الاسمين، ولم يميز ابن سعد رسولي النبي بكنية أو لقب أو نسب لتعرفهما.
 
 
174

159

الدرس الثامن عشر: الخمس

 غنائم حرب خاضوها مع الكفار،وإنما قصد ما استحق عليهما من الصدقة وخمس أربحهما.


د - وكذلك ما كتب لمالك بن أحمر الجذامي، ولمن تبعه من المسلمين أماناً لهم ما أقاموا الصلاة واتبعوا المسلمين وجانبوا المشركين وأدوا الخمس من المغنم وسهم الغارمين وسهم كذا وكذا، الكتاب1.

هـ - وما كتب للفجيع ومن تبعه: "من محمد النبي للفجيع ومن تبعه وأسلم وأقام الصلاة وآتى الزكاة (وأطاع)2 الله ورسوله، وأعطى من المغانم خمس الله، ونصر النبي وأصحابه، وأشهد على إسلامه، وفارق المشركين فإنه آمن بأمان الله وأمان محمد"3.

و- وما كتب للاسبذيين: "من محمد النبي رسول الله لعباد الله الاسبذيين ملوك عمان، من منهم بالبحرين أنهم إن أمنوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله، وأعطوا حق النبي، ونسكوا نسك المسلمين فانّهم أمنون وإن لهم ما أسلموا عليه، غير أن مال بيت النارثنيا لله ولرسوله، وان عشور التمر صدقة ونصف عشور الحبّ، وان للمسلمين 

________________________________________
1- بترجمة مالك من أسد الغابة 4/ 271، والإصابة 3/ برقم 7593، ولسان الميزان 3/ 20، وفي الأخير ورد اسمه مبارك بدلا من مالك، ومالك بن أحمر من جذام بن عدي، بطن من كهلان وكانت مساكنهم بين مدين الى تبوك ولما أسلم مالك سأل الرسول أن يكتب له كتابا يدعو قومه إلى الإسلام، فكتب له في رقعة ادم عرضها أربعة أصابع وطولها قدر شبر.
2- هكذا في أسد الغابة ورجح عندنا هذا على ما في طبقات ابن سعد: وأعطى.
3- بطبقات ابن سعد 1/ 304- 305، وأسد الغابة 4/ 175، والإصابة 4/ الترجمة 6960 واللفظ للأول في ذكر وفد بني البكاء وهم بطن من بني عامر من العدنانية والفجيع ابن عبد الله البكائي، ترجمته في اسد الغابة والإصابة وذكرا وفادته إلى الرسول أيضا بترجمة بشر بن معاوية بن ثور البكائي. الاصابة 1/ 160.
 
 
 
175

160

الدرس الثامن عشر: الخمس

 نثرهم ونصحهم، وان لهم ارحاءهم يطحنون بها ما شاؤوا"1.


إن المقصود من حق النبي في هذا الكتاب هو الخمس وحده أو الخمس والصفي معاً.

ز - وكذلك المقصود من "حظ الله وحظ الرسول" هو الخمس في ما كتب "لمن أسلم من حدس ولخم" وأقام الصلاة وأعطى الزكاة وأعطى حظ الله وحظ الرسول وفارق المشركين فإنه آمن بذمة الله وذمة محمد، ومن رجع عن دينه فإن ذمة الله وذمة رسول منه بريئة.. "الكتاب2.

ح - وفي ما كتب لجنادة الأزدي وقومه ومن تبعه: "ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة أو أطاعوا الله ورسوله وأعطوا من المغانم خمس الله وسهم النبي وفارقوا المشركين فإن لهم ذمة الله وذمة محمد بن عبد الله"3.

ط - وفي ما كتب لبني معاوية بن جرول الطائيين: "لمن أسلم منهم وأقام الصلاة وأتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم خمس الله 

________________________________________
1- مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد الله نقلا عن الاموال لأبي عبيد ص 52، وصبح الأعشى للقلقشندي 6/ 380. والأسبذي نسبة الى قرية بهجر كان يقال لها: الاسبذ، وما قيل: انه نسبة الى الاسبذيين الذين كانوا يعبدون الخيل لا يتفق وما ورد في كتاب الرسول لعباد الله الاسبذيين فان الرسول قد نسبهم الى عبودية الله وهذا ينافي ان ينسبهم بعده الى عبادة الخيل، راجع فتوح البلدان ص 95.
2- طباقت ابن سعد 1/ 266 وحدس بن أريش بطن عظيم من لخم من القحطانية ونسبهم بجمهرة ابن محزم ص 423.
3- طبقات ابن سعد 1/ 270 باب ذكر بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتبه، وفي ترجمة جنادة بأسد الغابة ا / 300 وراجع كنز العمال ط الأولى ج 5/ 320. وذكروا لجنادة الأزدي أربع تراجم: 1- لجنادة بن ابي امية. 2- لجنادة بن مالك. 3- لجنادة الأزدي وهذا لم يذكروا اسم أبيه. 4 -جنادة غير منسوب، وأوردوا هذا الخبر بترجمة الأخير ولعل الأربعة شخص واحد. راجع اسد الغابة 1/ 298-، 300.
 
 
 
176

161

الدرس الثامن عشر: الخمس

 وسهم النبي وفارق المشركين وأشهد على إسلامه أنه آمن بأمان الله ورسوله وأن لهم ما أسلموا عليه"1.


وكتاب آخر لبني جوين الطائيين، أو أنه رواية أخرى للكتاب الأول مع اختلاف يسير في اللفظ 2.

ي- وفي ما كتب لجهينة بن زيد: "ان لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها على أن ترعوا بناتها وتشربوا ماءها، على أن تؤدّوا الخمس، وفي التيعة والصريمة، شاتان إذا اجتمعتا فإن فرقتا فشاة شاة، ليس على أهل المثير صدقة..."3.

قال ابن الاثير في نهاية اللغة: "التبعة: اسم لأدنى ما يجب فيه الزكاة". و"الصريمة: القطيع من الابل والغنم".

وقال: "المراد بها - أي بالصريمة - في الحديث في مائة وأحد وعشرين شاة إلى المائتين، إذا اجتمعت ففيها شاتان وإن كانت لرجلين وفرق بينهما ففي كل واحدة منها شاة " انتهى. 

________________________________________
1- طبقات ابن سعد 1/269
2- طبقات ابن سعد 1/269. وجرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طي نسبهم بجمهرة ابن حزام ص 400-401.
3- روى هذا الكتاب محمد حميد الله في مجموعة الوثائق السياسية ص 142 رقم 157 عن جمع الجوامع للسيوطي. وأورد بمادة صرم قسماً من الكتاب كل من ابن الاثير في نهاية اللغة وابن منظور في لسان العرب. وجهينة بن زيد من قضاعة من القحطانية، نسبهم بجمهرة ابن حزم ص 444- 446، وذكرت المصادر الثلاثة الآنفة أن الرسول كتب الكتاب مع عمرو بن مرة الجهني ثم الغطفاني وكنيته ابو مريم. وفد الى النبي وشهد اكثر غزوات، وسكن الشام وأدرك حكومة معاوية. اسد الغابة 4/ 130، وفي الاصابة 3/ 16: انه رجع الى قومه فدعاهم الى الاسلام في سلموا ووفدوا الى رسول الله، وانه توفي في خلافة معاوية.
 
 
 
177

162

الدرس الثامن عشر: الخمس

   وأهل المثير: أهل بقر الحرث الذي يثير الأرض وليس عليهم فيه صدقة. 


ك - وقد ورد في بعض كتب الرسول ذكر "الصفي" بعد لفظ سهم النبي مثل ما ورد في كتابه لملوك حمير الآتي: "أما بعد فإن الله هداكم هدايته إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة من المغانم خمس الله وسهم النبي وصفيه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة... " الكتاب1.

ل - وما ورد في كتابه لبني ثعلبة بن عامرة: "من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وخمس المغنم وسهم النبي والصفي فهو آمن بأمان الله " الكتاب2.

م - وما ورد في كتابه لبني زهير العكليين: "أنكم إذ شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وأديتم الخمس

________________________________________
1- فتوح البلدان 1/ 85، وفي سيرة ابن هشام 4/ 258- 259بلفظ آخر وكذلك في مستدرك الحاكم 1/ 395، وراجع تهذيب تاريخ ابن عساكر 6/ 273 – 274، وكنز العمال ط الأولى 6/ 169، وص 13 من الاموال لأبي عبيد. وجمير بطن عظيم من القحطانية من بني سبأ بن يشجب، سكنوا اليمن قبل الاسلام ترجمتهم بجمهرة ابن حزم ص 234 – 438 وفدوا الى النبي في السنة التاسعة هجرية، والكتاب الى الحارث بن عبد كلال والنعمان من ملوك حمير. 
2- ورد الكتاب بترجمة صيفي بن عامر من الاصابة 2/ 186 الترجمة 4111، وأشار اليه بترجمته في كل من الاستيعاب بهامش الاصابة 2/ 186، واسد الغابة 3/ 34ووصفه ابن الأثير بسيد بني ثعلبة وبنو ثطبة بن عامر بطن من بكر بن وائل من العدنانية ونسبهم بجمهرة ابن حزم ص 316 وذكرت وفادة لبني ثطبة على رسول الله في السنة الثامنة ولست أدري أكان صيفي هذا فيهم أم لا، راجع طبقات ابن سعد 1/ 298، وعيون الاثر 2/ 248.
 
 
 
178

163

الدرس الثامن عشر: الخمس

 من المغنم وسهم النبي وسهم الصفي، أنتم آمنون بأمان الله"، الكتاب1.


ن - وما ورد في كتابه لبعض افخاذ جهينة: "من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من الغنائم الخمس وسهم النبي الصفي"2.

إن الصفي في هذه الكتب ويجمع على الصفايا، هو كل ما كانت خالصة لرسول الله من أموال وضياع وعقار، بالإضافة إلى سهمه من الخمس كما شرحناه سابقا.

وعدا ما أوردنا في ما سبق ورد ذكر الخمس أيضا في كتابين آخرين نسبا إلى، رسول الله لم نعتمدهما لما ورد في الأول أنه كتبه لعبد يغوث من بلحارث3.

ولم يكن الرسول يكتب "لعبد يغوث" ويغوث اسم صنم، بل كان يغير أسماء كهذا مثل عبدا لعزّى الذي بذله بعبد الرحمن، وعبد الحجر4.
وعبد عمرو الأصم الذي بدلهما بعبد الله5

________________________________________
1- سنن ابي داود 3/ 55 الباب 20 من كتاب الخراج وسنن النسائي 2/ 179، وطبقات ابن سعد 1/ 179، ومسند 5/ 77 و78 و363، وأسد الغابة 5/ 4 و389، والاستيعاب واللفظ لأول، وفي بعض الروايات اعطيت من المغانم الخمس وص 13 من الاموال لأبي عبيد. وزهير بن اقيش في تاج العروس 4/ 280حي من عكل كتب لهم رسول الله، وفي جمهرة ابن حزم ص 480بنو عكل بن عوف بن اد بن طابخة بن الياس بن مضر.
2- طبقات ابن سعد 1/271.
3- راجع ترجمتها باسد الغابة.
4- راجع طبقات ابن سعد ا / 305
5- طبقات ابن سعد ا / 248
 
 
 
179

164

الدرس الثامن عشر: الخمس

 والكتاب الثاني قيل، أنه كتبه لنهثل بن مالك الوائلي1 وقد بدء فيه بلفظ "باسمك اللهم " بدلا من بسم الله الرحمن الرحيم الذي كان الرسول يبدء به كتبه.


في ما مر من كتب وعهود عندما كتب الرسول لسعد هذيم "أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أو من يرسلاه" لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم حرب اشتركوا فيها، بل كان يطلب ما استحق في أموالهم من خمس وصدقة.

وكذلك في ما كتب لجهينة أن يشربوا ماء الأرض، ويرعوا أكلاءها على أن يؤدوا الخمس والصدقة لم يشترط للخوض في الحرب واكتساب الغنائم دفع الخمس، بل جعل دفع الخمس والصدقة شرطا للانتفاع من مرافق الأرض أي علمهم الحكم الإسلامي في ما يكسبون.

وكذلك عندما علم وفد عبد القيس أن يدفعوا الخمس من المغنم ضمن تعليمهم جملا من الأمر ان عملوا بها دخلوا الجنة لم يطلب منهم وهم لا يستطيعون الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم من خوف المشركين أن يدفعوا اليه خمس غنائم حرب يخوضونها ضد المشركين وينتصرون فيها، بل طلب منهم دفع خمس أرباحهم.

وكذلك في ما كتب من عهد لعامله عمرو بن حزم أن يأخذ الصدقات والخمس من قبائل اليمن، لم يعهد اليه أن يأخذ خمس غنائم حرب اشتركت القبائل فيها، وكذلك في ما كتب لتلك القبائل أو غيرها أن يدفعوا الخمس، وما كتب لغير عمرو بن حزم من عماله أن يأخذوا 

________________________________________
1- ذكره ابن سعد في الطبقات 1/ 268.
 
 
 
180

165

الدرس الثامن عشر: الخمس

   الخمس من القبائل، إن شأن الخمس في كل تلك الكتب والعهود شأن الصدقة فيها وهما حق الله في أموالهم حسبما فرضه الله في أموالهم.


ويؤكد ما ذكرناه من أن الخمس فيها ليس خمس غنائم الحرب ويوضحه، أن حكم الحرب في الإسلام يخاف ما كان عليه لدى القبائل العربية قبل الإسلام في أن يكون لكل مجموعة أو فرد الاختيار في الاغارة على غير أفراد القبيلة وغير حلفائها لنهب أموالهم كيف ما اتفق، وأنه عند ذاك يملك كل فرد ما نهب وسلب وحرب، وما عليه سوى دفع المرباع للرئيس، ليس الأمر هكذا في الاسلام ليصح للنبي أن يطالبهم بالخمس بدل الربع في ما يثيرون من حرب على غيرهم، لا، ليس لفرد مسلم في الاسلام ولا لجماعة اسلامية فيه أن يعلن الحرب على غير المسلم من تلقاء نفسه ويسلب وينهب كما يشاء ويقدر! وإنما الحاكم الإسلامي هو الذي يقدر ذلك ويقرر وفق قوانين الشرع الاسلامي،والفرد المسلم ينفذ قراره، ثم أن الحاكم الاسلامي بعد ذلك، أو نائبه، هما اللذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب، ولا يملك أحد الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً مما سلب، وإنما يأتي كل غاز بما سلب إليهما،وإلا من الغلول العار على أهله وشنار ونار يوم القيامة، والحاكم الاسلامي هو الذي يعين بعد إخراج الخمس للراجل سهمه وللفارس سهمه، ويرضخ للمرأة، وقد يشرك الغائب عن الحرب في الغنيمة ويعطى للمؤلفة قلوبهم إضعاف سهم المؤمن المجاهد.

وإذا كان اعلان الحرب واخراج خمس غنائم الحرب على عهد النبي من شؤون النبي في هذه الأمة فماذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده ذلك في كتاب بعد كتاب وعهد بعد عهد إذ لم يكن الخمس في تلك 
 
 
 
181

166

الدرس الثامن عشر: الخمس

 الكتب والعهود مثل الصدقة مما يجب في أموال المخاطبين وليس خاصاً بغنائم الحرب.


وعلى هذا فلا بدّ إذاً من حمل لفظ الغنائم والمغنم في تلك الكتب والعهود على معناهما اللغوي: "الفوز بالشيء بلا مشقة"، أو معناهما الشرعي: "ما ظفر به من جهة العدى وغيره".

أضف إلى هذا ما ذكرناه بتفسير الغنيمة في أول البحث، من أن الغنيمة أصبحت حقيقة في غنائم الحرب في المجتمع الاسلامي بعد تدوين اللغة لا قبله. ولا يصح مع هذا، حمل ما ورد في حديث الرسول على ما تعارف عليه الناس قرابة قرنين بعده، وأما ما ورد في بعض تلك الكتب والعهود بلفظ (حظ الله وحظ الرسول)، أو(احق النبي)، أو(سهم النبي)وما شابهها، فان تفسيرها في الآية الكريمة ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُول ... وفي السنة النبوية التي تبين هذه الآية وتشرحها حيث تعينان سهم الله وسهم النبي في " المغنم " وهو الخمس وهو أيضاً حقهما وحظهما.

 


وبعدما ثبت مما أوردناه في ما سبق أن النبي كان يأخذ الخمس من غنائم الحرب ومن غير غنائم الحرب، ويطلب ممن أسلم أن يؤدي الخمس من كل ما غنم عد ا ما فرض فيهن الصدقة، بعد هذا نبحث في ما يلي عن مواضع الخمس.

مواضع الخمس في الكتاب والسنة

في القرآن الكريم:

نصت آية الخمس أن الخمس لله، ولرسوله، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
 
 
 
182

167

الدرس الثامن عشر: الخمس

 فمن هم ذو القربى؟ ومن هم من ذكروا بعده ؟


أ- ذو القربى: 

إن شأن ذي القربى، والقربى، وأولي القربى، في الكلام شأن الوالدين فيه، فكما أن "الوالدين " أين ما ورد في الكلام قصد منه والدا المذكورين قبله ظاهرا أو مضمراً أو مقدراً، كذلك القربى وأولوه وذووه فمثال المذكور منها ظاهرا قبله في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى ...1

 


فالمراد من " أولي القربى" هنا أولو قربى النبي والمؤمنين المذكورين ظاهرا قبل "أولي القربى". 

ومثال المذكور مضمرا قوله تعالى: ﴿... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ...2، والمراد من ذي القربى هنا قربى مرجع الضمير في "قلتم " و"اعدلوا". 

 


ومثال المذكور مقدرا قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى ...3. والمراد قربى الميت المقدر ذكره في ما سبق من الآية، وكذلك شأن سائر ما ورد فيه ذكرى ذي القربى وأولي القربى في القرآن الكريم.

 


وقد جمع الله في الذكر بين الوالدين وذي القربى في مكانين منهما، قال سبحانه: ﴿... وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى4.

 


في الآية الأولى قصد والدا بني اسرائيل وذوو قرباهم والمذكور 
________________________________________
1- سورة التوبة: 113.
2- سورة الأنعام: 152. 
3- سورة النساء: 8.
4- سورة البقرة: 83، وسورة النساء: 36.
 
 
183
 

168

الدرس الثامن عشر: الخمس

 ظاهراً قبلهما، وفي الآية الثانية قصد والدا مرجع الضمير وذووه في(واعبدوا) و(ولا تشركوا ) وهم المؤمنون من هذه الأمة.


وإذا ثبت هذا فنقول: لما قال الله سبحانه في آية الخمس "وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ..." فلا بد أنيكون المراد من "ذي القربى" هنا ذا قربى الرسول المذكور قبله بلا فاصلة بينهما، وإن لم يكن هذا فذا قربى من قصد الله في هذا المكان؟

وكذلك المقصود من ذي القربى في قوله تعالى: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ..."1 هم قربى الرسول وهو الاسم الظاهر المذكور قبله.

وكذلك المقصود من القربى في قوله تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى2 هم قربى ضمير فاعل "اسألكم " وهو الرسول3

 


ب – اليتيم:

اليتيم هو الذي مات أبوه وهو صغير قبل البلوغ. 

ج - المسكين: 

المسكين هو المحتاج الذي تسكنه الحاجة عما ينهض به الغني.

________________________________________
1- سورة الحشر: 7.
2- سورة الشورى: 27.
3- قد يرى العلماء من بعدنا في بحثنا هذا عن ذي القربى ونظائرها توضيحاً للواضحات التي لا ينبغي صرف الوقت في شرحها ولا يعلمون ما وجدنا في عصرنا وفي أقوال نابتة عصرنا من انحراف بعيد عن فهم مصطلحات الاسلام وعقائده وأحكامه فالجأنا ذلك الى أمثال هذا الشرح والبسط.
 
 
 
184

 


169

الدرس الثامن عشر: الخمس

 د - ابن السبيل:

 


ابن السبيل هو ألمسافر المنقطع به سفره1.

ويدل سياق آية الخمس على أن المقصود يتامى أقرباء الرسول ومساكينهم وأبناء سبيلهم، وأن شأن هذه الألفاظ في الآية، شأن "ذي القربى" المذكور قبلها.

مواضع الخمس في السنة ولدى المسلمين 

كان يقسم - الخمس - على ستة: لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض2

وعن ابي العالية الرياحي: كان رسول الله يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقى على خمسة اسهم فيكون سهم للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل.

قال: والذي جعله للكعبة هو سهم الله3.

تصرح هاتان الروايتان أن الخمس كان يقسم ستة أسهم وهذا هو الصواب لموافقته لنص أية الخمس. وما في رواية أبي العالية بأن الرسول كان يجعل سهم الله للكعبة، لعله وقع ذلك مرة واحدة، وأرى الصواب في 

________________________________________
1- راجع تفسير آية الخمس بمجمع البيان ومادة سبل من مفردات الراغب.
2- تفسير النيشابوري بهامش الطبري ج 10..
3- الاموال لابي عبيد ص 325وص 14 وتفسير الطبري ج 10/ 4 واحكام القرآن للجصاص ج 3/ 60، وفي ص 61 منه بايجاز واللفظ للأول. وأبو العالية الرياحي هو رفيع بن مهران مات سنة تسين أو بعدها، أخرج حديثه اصحاب الصحاح. تهذيب التهذيب1/ 252.
 
 
 
185

170

الدرس الثامن عشر: الخمس

 ذلك ما رواه عطاء بن أبي رباح قال: "خمس الله وخمس رسوله واحد وكان رسول الله يحمل منه ويعطى منه ويضعه حيث شاء ويضع به ما شاء1.


ومثلها ما رواه ابن جريج قال: "... أربعة أخماس لمن حضر البأس والخمس الباقي لله ولرسوله خمسة يضعه حيث شاء وخمس لذوي القربى... الحديث"2.

الصواب في رواية أبي العالية وابن جريج ما ورد فيهما أن أمر سهم الله وسهم رسوله من الخمس كان إلى رسول الله يحمل منهما ويعطي منهما ويضعهما حيث شاء ويصنع بهما ما شاء. أما ما يفهم من الروايتين أن "سهم الله وسهم الرسول واحدا " فانه يخالف ظاهر آية الخمس حيث قسم الله فيها الخمس الى ستة أسهم، إلا إذا قصدوا أن أمر السهمين واحد ولم يقصدوا أن السهمين سهم واحد.

وكذلك لا يستقيم ما روا. قتادة قال: كان نبي الله إذا غنم غنيمة جعلت أخماسا فكان خمس لله ولرسوله ويقسم المسلمون ما بقي،وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله، لرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فكان هذا الخمس خمسة أخماس، خمس لله ولرسوله. الحديث3

________________________________________
1- الاموال لابي عبيد ص 325وص 14 وتفسير الطبري ج 10/ 4 واحكام القرآن للجصاص ج 3/ 60، وفي ص 61 منه بايجاز واللفظ للأول. وأبو العالية الرياحي هو رفيع بن مهران مات سنة تسين أو بعدها، أخرج حديثه اصحاب الصحاح. تهذيب التهذيب1/ 250.
2- تفسير الطبري ج 0 1/ 5 بسندين. وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز المكي مولى بني أمية، اخرج حديثه اصحاب الصحاح توفي سنة: 15هـ أو بعدها، تهذيب التهذيب 1/520
3- تفسير الطبريج ج4/10. وقتادة بن دعامة الدوسي ابو الخطاب البصري اخرج حديثه اصحاب الصحاح مات سنة بضع عشرة ومائة، تهذيب التهذيب 2/ 123.
 
 
 
186

171

الدرس الثامن عشر: الخمس

 ويظهر من رواية ابن عباس في تفسير الطبري أن جعل السهمين سهماً واحداً كان بعد النبي، قال: "جعل سهم الله وسهم الرسول واحداً، ولذي القربى فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح"1.


وروى الطبري - أيضا - عن مجاهد أنه قال: كان آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس2

وقال: قد علم الله أن في بني هاشم الفقراء نجعل لهم الخمس مكان الصدقة3.

وقال: هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة4.

وقال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام: أما قرأت في الانفال: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى الآية.

قال: نعم.

قال: فانكم لأنتم هم؟

قال: نعم5.

كان هذا تفسير لفظ "ذي القربى" الوارد في آية الخمس وغيرها؟ أما اليتامى والمساكين، فقد قال النيسابوري في تفسير الآية: روي عن علي بن 

________________________________________
1- تفسير الطبري ج 10/ 6.
2- تفسير الطبري ج 10/ 5.
3- نفس المصدر السابق.
4- نفس المصدر السابق.
5- نفس المصدر السابق.
 
 
 
187

172

الدرس الثامن عشر: الخمس

 الحسين عليه السلام أنه قيل له: أن الله تعالى قال: "وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ". فقال: أيتامنا ومساكيننا1


وروى الطبري عن منهال بن عمرو قال سألت عبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا: هولنا.

فقلت لعلي: إن الله يقول: ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.

فقالا: يتامانا ومساكيننا2.

إلى هنا اعتمدنا كتب الحديث والسيرة والتفسير لدى مدرسة الخلفاء في ما أوردناه من أمر الخمس، وفي ما يلي مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت.

مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت عليهم السلام

تواترت الروايات عن أئمة أهل البيت أن الخمس يقسم على ستة أسهم: سهم منه لله، وسهم منه لرسوله، وسهم لذي القربى، وسهم ذي القربى في عصر الرسول لأهل البيت خاصة ومن بعده لهم، ثم لسائر الأئمة ألاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام، وأن السهام الثلاثة لله ولرسوله ولذي القربى للعنوان، وأن سهم الله لرسوله يضعه حيث يشاء، وما كان للنبي من سهمه وسهم الله يكون من بعده للامام القائم مقامه، فنصف الخمس في 
________________________________________
1- تفسير النيسابوري بهامش الطبري وتفسير الطبري ج: 10/ 7. والمنهال بن عمرو االأسدي - مولاهم - الكوفي من الطبقة الخامسة، اخرج حديثه اصحاب الصحاح عدا مسلم، تهذيب التهذيب 2/ 278. وعبد الله بن محمد بن علي بن ابي طالب توفي في السام سنة 199هـ، اخرج حديثه اصحاب الصحاح، تهذيب التهذيب 2/ 448. والامام علي بن الحسين زين العابدين توفي سنة 193 هـ، اخرج حديثه اصحاب الصحاح تهذيب التهذيب 2/34.
2- الطبري ج 10/7
 
 
 
188

173

الدرس الثامن عشر: الخمس

 هذه العصور كملاً لامام العصر، سهمان له بالوراثة وسهم مقسوم له من الله تعالى وعو سهم ذي القربى، وأن هذه الأسهم الثلاثة لامام العصر من حيث إمامته، والأسهم الثلاثة الأخرى سهم لأيتام بني هاشم وسهم لمساكينهم وسهم لأبناء سبيلهم، وهؤلاء هم قرابة النبي الذين ذكرهم الله في قوله: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ


وهم بنو عبد المطلب، الذكر منهم والأنثى، وهم غير أهل بيت النبي وملاك الاستحقاق في الطوائف الثلاث أمران:

أ - قرابتهم من رسول الله.

ب - افتقارهم الى الخمس في مؤنتهم، خلافاً لأصحاب السهام الثلاثة الأول الذين كانوا يستحقونها بالعنوان.

ويقسم نصف الخمس على الطوائف الثلاث من بني هاشم على الكفاف والسعة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء فللوالي وأن عجز أو نقص عن استغنائهم فإن على الوالي أن ينفق من عنده بقد ر ما يستغنون به، وإنما صار عليه أن يموّلهم لان له ما فضل عنهم.

ويعتبر في الطوائف الثلاث انتسابهم إلى عبد المطلب بالأبوة، فلو انتسبوا بالأم خاصة لم يعطوا من الخمس شيئاً، وتحل لهم الصدقات لأن الله يقول: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ.

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: أن المطلبي يشارك الهاشمي في سهام الخمس، ففي الحديث المروي عنع: "لو كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطلبي إلى صدقة، إن الله عز وجل جعل لهم في كتابه ما كان فيه سعتهم، ثم قال: إن الرجل إذا لم يجد شيئاً حلت له الميتة، والصدقة لاتحل لأحد منهم إلا منهم إلا ألا يجد شيئاً ويكون ممن حلت له الميتة.
 
 
 
189

174

الدرس الثامن عشر: الخمس

 وان ما قبضه واحد من افراد الطوائف الثلاث من باب الخمس وتملكه، يصبح بعد وفاته كغيره مما تركه ينتقل الى وارثه، وكذلك ما كان قد قبضه النبي أو الامام الماضي من الاسهم الثلاثة وتملكه ينتقل بعد وفاته الى وارثه على حسب ما تقتضيه آية المواريث لا آية الخمس1.


رواية واحدة تبين موضع الخمس في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

في سنن أبي داود ومسند أحمد وتفسير الطبري وسنن النسائي وصحيح البخاري واللفظ للأول في باب مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى من كتاب الخراج عن جبير بن مطعم، قال: 

لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس، فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله ! هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضح الذي وضعك الله به منهم، فما بال اخوان بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وبني المطلب لا نفترق - وفي رواية النسائي: إن بني المطلب لم يفارقوني – في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شيء واحد، وشبك بين أصابعه2.

________________________________________
1- رجعت في هذا البحث الى مصباح الفقيه للهمداني كتاب الخمس ص 44 1 - 150، واوجزت متون الاحاديث التي استشهد بها وأوردته هنابالاضافة الى رجوعي الى الموسوعات الحديثة الأخرى.
2- رواه ابو داود في سننه ج 2/ 0 5، والطبري في تفسيره 0 1/ 0 5، وأحمد في مسنده 4/ 81، ويختلف لفظهم مح لفظ البخاري في صحيحه 3/ 36 باب غزوة خبير، ومع لفظ النسائي في سننه 2/ 178، وباب قسمة الخمس من كتاب الجهاد في سنن ابن ماجة ص 961 والواقدي في مغازيه ص 696، وفيه ان ذلك كان باشارة جبرئيل، وابو عبيد في الاموال ص 331. وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وام امه ام حبيب بنت العاص بن امية وكان أبوه احد من قام بنقض صحيفة المقاطة، اسلم بعد الحديبية أو بعد الفتح. اسد الغابة 1/ 281.
 
 
 
190

175

الدرس الثامن عشر: الخمس

 وفي رواية أخرى بمسند أحمد أن ذلك كان في غزوة حنين1.


وفي رواية ثالثة بسنن أبي داود وسنن النسائي ومسند أحمد لم تعين فيها الغزوة2.

وسبب قول عثان وجبير لرسول الله ما قالا وجوابه اياهما بما مر، ان عبد مناف ولد بنين أربعة:

أ- هاشم واسمه عمرو.
ب- المطلب. 
ج- عبد شمس.
د- نوفل3.

وأجمعت بنو هاشم وبنو المطلب على نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحاربتهم قريش جميعا وكتبت عليهم صحيفة بمقاطعتهم، فدخلوا جميعاًشعب أبي طالب ومكثوا فيه سني المقاطعة خلافاً لبني عبد شمس وبني نوفل الذين شاركوا قريشاً في أمرهم، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد:

وكان مما بطأ ببني نوفل عن الاسلام ابطاء اخوتهم من بني عبد شمس، فلم يصحب النبي منهم أحد، ولا شهد مشاهده الكريمة خلافاً لبني المطلب، فقد حثهم على الاسلام فضل محبتهم لبني هاشم لأن أمر النبي كان بيناً، وإنما كان يمنع عنه الحسد والبغض ومن لم يكن فيه هذه العلة، لم يكن له دون الاسلام مانع، وشهد بدراً من بني المطلب بنو 

________________________________________
1- مسند أحمد 4/ 85.
2- سنن أبي داود 2/ 51- 52، وسنن النسائي 2/ 178، ومسند أحمد 4/ 83.
3- راجع جمهرة نسب ابن حزم ص 94.
 
 
 
191

176

الدرس الثامن عشر: الخمس

 الحارث بن المطلب كلهم: عبيدة وطفيل وحصين، ومسطح بن اثاثة بن عباد بن المطلب، وقال أبو طالب لمطعم بن عدي بن نوفر في أمر النبي لما تمالأت عليه قريش: 


جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا        *         جزاء مسيء عاجلاً غير آجل 
الأبيات – انتهى1.

ذكر الراوي في هذا الحديث وهو جبير بن مطعم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وضع "سهم ذي القربى" في بني هاشم وبني المطلب، ونحن نرى أن الذي شاهده الراوي في هذا الخبر، هو أن الرسول دفع إلى هؤلاء من سهام الخمس ولم يدفع منها إلى بني أمية وبني نوفل. أما تشخيص السهم الذي دفع الرسول منه إلى هؤلاء، فهذا ما ذكره الراوي من عند نفسه ولم يرو أن 

________________________________________
1- أوردناه باختصار من شرح النهج 3/ 486، وعبيدة عبيد في المتن محرف وطفيل وحصين امهم سخيلة بن خزاعي الثقفي اسلم عبيدة قبل دخول النبي دار الارقم، وكان لسن من النبي بعشر سنين وهاجر مع اخوته وابن عمهم مسطح الى المدينة في وقت واحد. وفي ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة، عقد له رسول الله أول لوا ء عقد وبعثه في سنين راكباً من المهاجرين فالتقوا مع الشركين ورئيسهم أبو سفيان بثنية المرة وبارز عبيدة عتبة الاموي ببدر فاختلفا ضربتين اثبت كل منهما صاحبه فذفف علي وحمزة على عتبة وحملا عبيدة الى رسول الله فوضع رأسه على ركبته وتوفي بالصفراء مرجعهم من بدر وعمره ثلاث وستون سنة - اسد الغابة 3/ 356، وتوفي الطفيل سنة احدى أو اثنتين وثلاثين وتوفي أخوه الحصين بعده باربعة اشهر. أسد الغابة 3/ 52. روى ابن الاثير بترجمة الحصين في أد الغابة 3/ 24 عن ابن عباس ان قوله تعالى: "فمن كان يرجو لقاء ربه" الآية 110 من سورة الكهف نزلت في علي وحمزة وجعفر وعبيدة والطفيل والحسين بني الحارث ومسطح بن اثاثة بن عباد بن المطلب. ومسطح امه ابنة ابي رهم بن المطنب وام امه رائطة بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر قيل توفي سنة اربع وثلاتين وقيل شهد صفين مع علي وتوفي سنة 37، اسد الغابة 4/ 354.
 
 
 
192

177

الدرس الثامن عشر: الخمس

 الرسول قال ذلك. ومن الجائز أن الرسول قد أعطى بعض أولئك من سهم الله وسهم رسوله، فإن الرسول كان يضعهما حيث يشا، كما سبق ذكره، وأنه أعطى بعضهم من سهم المساكين فإن الصدقة كانت محرمة على فقرائهم.


أوردنا بشيء من التفصيل آراء مدرسة الخلفاء في الخمس وأعمالهم فيه واستدلالهم على ما ارتأوا، وأشرنا إلى قول أئمة أهل البيت في الخمس وأنه يقسم لديهم على ستة أسهم ثلاثة منها لله ولرسوله ولذوي قرباه للعنوان، يقبض الرسول هذه الأسهم في حياته ويعود أمرها من بعده إلى الأئمة الاثنى عشر من أهل بيته، والأسهم الثلاثة الأخرى منه لفقراء بني هاشم وأيتامهم وأبناء سبيلهم مع وصف الفقر1

وقالوا أيضا: إن الخمس يجب إخراجه من كل مال فاز به المسلم من جهة العدى وغيرهم2 واستدلوا في كلتا المسألتين بعموم آية الخمس مع ما لديهم من سنة الرسول، قال فقهاء مدرستهم في مقام الاستدلال بالآية على المسألة الثانية:

إن الآية وإن كانت قد نزلت في غنائم غزوة بدر، ولكن ليس للمورد أن يخصص3 والتخصيص من غير دليل باطل4 وبيان الايراد على الاستدلال وجوابه كما يلي5

________________________________________
1- معنى بيانه في باب مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت.
2- ورد ذلك بباب الخمس في الموسوعات الحديثية والكتب الفقهية لدى مدرسة أهل البيت.
3- راجع كتاب الخمس بمستند النراقي وغير ه.
4- المنتهي للعلامة الحلي (ت 729هـ)ج 1/ 729.
5- توخينا الشرح والتبسيط في هذا الكتاب وتجنبنا المصطلحات العلمية مهما امكن ليعم نفعه إن شاء الله تعالى..
 
 
 
193

178

الدرس الثامن عشر: الخمس

 إن المورد على الاستدلال بالآية قال: إن الآية نزلت في غنائم غزوة بدر فلا تشمل ما عدا غنائم الحرب.


واجيب عنه: بأن نزول الآية في غزوة بدر لا يخصص الحكم العام الوارد في الآية - وهو وجوب أداء الخمس من المغنم - ويجعل الحكم خاضا بغنائم الحرب. ومثاله من غير هذا المورد؛ حكم جلد الشهود على الزنا إن لم يبلغ عددهم الأربعة والوارد في قصة الافك، فإن المورد وهو قصة الافك لا يخصص الحكم العام الذي ورد في الآيات وهو جلد الشهود إن لم يبلغوا أربعة بتلك الواقعة، وكذلك شأن حكم الظهار الوارد في سورة المجادلة فإنه ما خص المرأة التي جادلت وزوجها يومذاك وإن نزت الآية في شأنهما وهكذا الأمر في ما عداهما.

وقالوا في الجواب أيضا: أن تخصيص الآية وتقييدها - بغائم دار الحرب - أولى بطلب الدليل عليه1 وأن على من يخصص الآية بها اقامة الدليل2.

ومما يؤيد هذه الأجوبة ما ذكره القرطبي من مدرسة الخلفاء بتفسير الآية قال: والاتفاق - أي اتفاق علماء مدرسة الخلفاء - حاصل على أن المراد بقوله تعالى: ﴿أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر،ولا يقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بيناه3.

إذاً فتخصيص الغنائم بغنائم دار الحرب خلاف المتبادر من اللفظ 
________________________________________
1- مسالك الإفهام ج 2/ 80.
2- الخلاف للشيخ الطوسي ج 2/ 110، وج ا/ 358، وقريب منه لفظ مصباح الفقيه ص 19 من كتاب الخمس.
3- تفسير القرطبي 8/ 1.
 
 
 
194

179

الدرس الثامن عشر: الخمس

 عند أهل اللغة وقول علماء مدرسة الخلفاء التخصيص يخالف المعنى المتبادر من اللفظ عند إطلاقه.


وأجيب على الإيراد إيضاً: بأن الآية وإن كنت نازلة في مورد خاص وهو غزوة بدر،ولكن من المعلوم عدم اختصاصها بذلك المورد الخاص، حتى أن من ذهب من العامة إلى عدم وجوب الخمس في مطلق الغنائم لم يخصه بخصوص مورد الآية بل عممه إلى مطلق الغنائم المأخوذة في الحروب، مع أنا لو بنينا على الجمود في استفادة الحكم من الآية بحيث لم نتعد موردها بوجه لوجب القول بعدم وجوب الخمس إلا على من شهد غزوة بدر في ما اغتم من المشركين في تلك الغزوة، ولم يقل بهذا أحد،فلا بد من التعدي من مورد الآية لا محالة، فنحن نتعدى منه إلى مطلق ما يصدق عليه الغنيمة سواء كان مكتسباً من الحرب أو التجارة أو الصناعة أو غير ذلك1.

وبالإضافة إلى استدلالهم بآية الخمس يستدلون بما ورد عن أئمة أهل البيت في هذا الحكم كما يفعلون في سائر الأحكام فإن الرسول قد أمر بالتمسك بهم في حديث الثقلين وغيره، سواء أسند الأئمة حديثهم إلى جدهم الرسول، مثل الحديث الذي رواه الصدوق في الخصال عن جعفر بن محمد، عن ابيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في وصيته له: يا علي إن عبد المطلب سن في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل ﴿وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء2 ووجد كنزا فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عز وجل: "وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم 

 


________________________________________
1- تقريرات الحاج السيد حسين البروجردي زبدة المقال ص 5.
2- سورة النساء:22.
 
 
 
195

180

الدرس الثامن عشر: الخمس

 مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ... لما حفر زمزم... الحديث1.


ويعني هذا الحديث أن الآية تشمل غير غنائم الحرب، وقد سبق ذكر سنة الرسول في ذلك ايضاً.

هذه خلاصة أدلة اتباع مدرسة أئمة أهل البيت في هذا المقام.

 ________________________________________
1- الخصال ط. وتحقيق الغفاري ص 312.
 
 
 
196

181

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 الدرس التاسع عشر: متعة الحج 


متعة الحج عملها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بها عن الله عز وجل، وهي مما نص الذكر الحكيم بقوله عز من قائل في سورة البقرة: ﴿ ... فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ...1.

 


صفة هذا التمتع

أما صفة التمتع بالعمرة إلى الحج، فهي أن ينشئ، المتمتع بها احرامه في أشهر الحج2 من الميقات فيأتي مكة ويطوف بالبيت، ثم يسعى بين الصفا والمروة، ثم يقصر ويحل من إحرامه فيقيم بعد ذلك حلالاً، حتى ينشئ، في تلك السنة نفسها احراماً آخر للحج من مكة، 
________________________________________
 
1- سورة البقرة: 196، أي ذلك الذي تقدم ذكره حول التمتع بالعمرة الى الحج ليس لأهل مكة ومن يجري مجراهم في القرب اليها كما بيناه في الأصل.
2- وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة.
 
 
 
197

182

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 والأفضل من المسجد، ويخرج الى عرفات، ثم يفيض إلى المشعر الحرام ،ثم يأتي بأفعال الحج على ما هو مفصل في محله ،هذا هو التمتع بالعمرة إلى الحج.


قال الامام ابن عبد البر القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله تعالى: ﴿... فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي...ِ هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج1. قلت: وهو فرض من نأى عن مكة بثمانية وأربعين ميلاً من كل جانب على الأصح2.

وإنما أضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتع، أو قيل عنه: التمتع بالحج، لما فيه من المتعة: أي اللذة بإباحة محظورات الاحرام في المدة المتخللة بين الاحرامين وهذا ما كرهه عمر وبعض أتباعه، فقال قائلهم - كما أخرجه أبو داود في سننه3-: أنطلق وذكورنا تقطر؟.

وفي مجمع البيان أن رجلاً قال: أنخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر؟ وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: إنك لن تؤمن بها أبداً4.

وعن أبي موسى الأشعري أنه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك فانك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين -عمر- في 
________________________________________
1- نقل الفاضل النووي هذا القول عن ابن عبد البر في بعض بحثه عن حج التمتع من شرحه لصحيح مسلم، وشرح مسلم مطبوع على هامش شرحي البخاري فراجع منه ما هو في هامش ص 46 من الجزء السابع من الشرحين.
2- الأخبار الصحيحة الدالة عليه، وقيل يعتبر بعده عن مكة باثني عشر ميلاً من كل جانب حملا للثمانية والأربعين على كونها موزعة على الجهات الأربع.
3- سنن أبي داود مطبوعة في هامش شرح الزرقاني لموطىء مالك وهذا الحديث تجده بعين لفظه في هامش ص 103 من الجزء الثاني من شرحالزرقاني، فراجع.
4- راجع تفسير الآية 195من سورة البقرة من المجمع فمن تمتع بالعمرة إلى الحج.
 
 
 
198

183

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 النسك بعدك ،حتى لقيه أبو موسى بعد فسأله عن ذلك ،ففال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعله هو وأصحابه ،ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين في الأراك ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم1.


وعن أبي موسى من طريق آخر أن عمر قال: هي سنة رسول الله - يعني المتعة - لكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحون بهن حجاجا2

وعن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام عمر - أي بأمر الخلافة -قال: ان الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وان القرآن قد نزل منازله ،فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله4 وأبتوا نكاح هذه النساء، فإن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة3.

وقد خطب الناس ذات يوم فقال وهو على المنبر بكل حرية وكل صراحة  "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء"5

________________________________________
1- أخرجه الامام أحمد من حديث عمر في ص 50من الجزء الأول من مسنده.
2- أخرجه الامام أحمد من حديث عمر في ص 49 من الجزء الأول من مسنده.
3- ما أدري والله ما المراد بهذا الكلام فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتم الحج والعمرة على خلاف ما أمر الله ؟ !. وهل كان هو ومخاطبوه أعرف منه صلى الله عليه وآله وسلم بأوامر الله ونواهيه ؟ !.
4- راجع من صحيح مسلم الباب في المتعة بالحج ص 467 من جزئه الأول تجد هذا الحديث وتجد بعده بلا فصل حديثا آخر هو أصرح في زجره عن التمتع بالعمرة الى الحج.
5- هذا القول مستفيض عنه ( وقد نقله الامام الرازي حول تفسير قوله تعالى: (فمن تمتع بالعمرة الى الحج) من سورة البقرة، ونقله ايضا في تفسير قوله عز من قال: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهنَّ) من سورة النساء فراجع.
 
 
199

184

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 وفي رواية أخرى1 أنه قال: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهن، وأحزمهن، وأعاقب عليهن: متعة الحج، ومتعة النساء، وحي على خير العمل.


فصل:

وقد أنكر عليه في ذلك أهل البيت كافة، وتبعهم في ذلك أولياؤهم جميعاً، ولم يقره عليه كثير من أعلام الصحابة وأخبارهم في ذلك متواترة. 

وحسبك منها ما أخرج مسلم في باب جواز التمتع من كتاب الحج من صحيحه2 فان فيه عن شقيق، قال: كان عثمان ينهى عن المتعة ،وكان علي يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة، ثم قال علي: لقد علمت - يا عثمان - أنا تمتعنا على عهد رسول الله، فقال عثمان: أجل ولكنا كنا خائفين.

وفيه عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان،فكان عثمان ينهى عن المتعة والعمرة ،فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه ؟ فقال عثمان: دعنا منك. فقال علي: إني لا أستطيع أن أدعك... (الحديث).

وفيه عن غنيم بن قيس، قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة، فقال: فعلناها وهذا3 كافر بالعرش. 

________________________________________
1- أرسلها الامام القوشجي ارسال المسلمات فراجعها في أواخر مباحث الامامة من كتابه (شرح التجريد) وهو من أئمة المتكلمين من الاشاعرة، وقد اعتذر بأن هذا القول إنما كان من عمر عن اجتهاد.
2- ص 472وما بعدها الى ص 475من جزئه الأول فراجع.
3- الاشارة (بهذا) الى معاوية بن أبي سفيان إذ كان حينئذ ينهى عن المتعة بالعمرة إلى الحج تبعاً لعمر وعثمان، والمراد بالكفر هنا دين الجاهلية كما صر ح به القاضي عياض فيما نقله النووي عنه في تعليقته على هذا الحديث من شرحه للصحيح. قال: والمراد بالمتعة العمرة التي كانت سنة سبع للهجرة. قال: وكان معاوية يومئذ كافراً، وإنما أسلم بعد ذلك عام الفتح. وفي قوله وهذا كافر بالعرش مضاف اليه محذوف تقديره وهذا كافر برب العرش.
 
 
200

185

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 وفيه عن أبي العلاء، عن مطرف، قال: قال لي عمران بن حصين إني لأحدثك بالحديث اليوم، ينفعك الله به بعد اليوم، واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل أية تنسخ ذلك ،ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه، ارتأى كل امرئ بعد ما شاء أن يرتئي. 


وفيه عن حميد بن هلال، عن مطرف، قال: قال لي عمران بن حصين أحدثتك حديثاً عسى الله أن ينفعك به، ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه.. الحديث.

وفيه عن قتادة، عن مطرف، قال: بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فان عشت فاكتم عني، وإن مت فحدث بها إن شئت، واعلم أن نبي الله قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال رجل فيها برأيه ما شاء. وفيه من طريق أخر، عن قتادة عن مطرف بن الشخير، عن عمران بن حصين، قال: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنها. قال فيها رجل برأيه ما شاء.

وفيه من طريق عمران بن مسلم، عن أبي رجاء، قال: قال عمران بن حصين: نزلت أية المتعة في كتاب الله، يعني متعة الحج، فأمرنا بها 
 
 
201

186

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم ينزل آية تنسخ أية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله حتى مات. قال رجل برأيه بعد ما شاء.


قلت: ولهذا الحديث طرق أخرى في صحيح مسلم، عن عمران بن حصين اكتفينا عنها بما أوردناه، وقد أخرجه البخاري أيضاً عن عمران بن حصين في باب التمتع من كتاب الحج من صحيحه فراجعه في ص 187 من جزئه الأول.

وفيما جاء في التمتع من موطأ مالك1 عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب: أنه سمع سعد بن أبي وقاص ،والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان، وهما يذكران التمتع بالعمرة الى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل، فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعاها معه2.

وفي مسند الامام أحمد من حديث ابن عباس3 قال: تمتع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس: ما يقول عرية4. قال: يقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال 
________________________________________
1- ص 130 من جزئه الأول.
2- ان للزرقاني في ص 178 من الجزء الثاني من شرحه لموط مالك كلاما في شرح هذا الحديث لا يستغني عنه الباحثون فليراجع، صرَّح فيه بأن صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصنع أصحابه معه هو الحجة المقدمة على الاستنباط بالرأي.
3- ص 337 من جزئه الأول.
4- تصغير عروة.
 
 
202

187

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 ابن عباس: أراهم سيهلكون. أقول: قال النبي، ويقولون نهى أبو بكر وعمر1.

وعن أيوب قال: عروة لابن عباس: ألا تتقي الله؟ ترخص في المتعة ؟! قال ابن عباس: سل أمك يل عرية. قال عروة: أما أبو بكر وعمر فلم يفعلاها، فقال ابن عباس: الله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله تعالى، نحدثكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر... الحديث2.

وفي باب متعة الحج من كتاب النكاح من صحيح مسلم3 عمن سأل ابن عباس عن متعة الحج فرخص يها،وكان ابن الزبير ينهى عنها،فقال ابن عباس: هذه أم ابن الزبير تحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص فيها فادخلوا عليها، قال: فدخلنا عليها فماذا هي امرأة ضخمة عمياء، فقالت:قد رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها.

وفي صحيح الترمذي4 أن عبد الله بن عمر سئل عن متعة الحج ،قال: هي حلال، فقال له السائل: ان أباك قد نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال الرجل بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إلى 

________________________________________
1- هذا الحديث اخرجه الامام ابن عبد البر النمري الاندلسي القرطبي في سفره الجليل - جامع بيان العلم وفضله - فراجع منه باب فضل السنة ومباينتها لأقاويل علماء. وراجع هذا الباب من مختصره للعلامة المحمصاني البيروتي ص 226.
2- راجعه في الباب المذكور في التعليقة من كل من كتاب جامع بيان العلم ومختصره.
3- تجد هذا الحديث في الباب الذي عنوانه (باب في متعة الحج) من كتاب الحج ص 479من جزئه الأول، وبعد هذا الحديث حديث هو أصرح منه فليراجع.
4- ص 157 من جزئه الأول.
 
 
203

 


188

الدرس التاسع عشر: متعة الحج

 كثير من أمثال هذه الصحاح الصراح في إنكار النهي عنها.


على أن في حجة الودع بلاغاً لقوم يؤمنون، فراجع حديثها في باب حجة النبي من صحيح مسلم1 تجده صلى الله عليه وآله وسلم قد أعلنها على رؤوس الأشهاد، وكانوا أكثر من مائة الف رجالاً ونساءً من امته قد اجتمعوا ليحجوا معه من سائر الأقطار، وحين أعلن ذلك قام سراقة بن مالك بن خثعم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا التمتع أم للأبد؟ فشبك أصابعه واحد بعد الأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج، دخلت العمرة في الحج لأبد أبد.

وقدم علي من اليمن ببدن النبي فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال: فذهبتُ إلى رسول الله مستفتياً فأخبرته، فقال: صدقت صدقت... الحديث 

________________________________________
1- فواجعه في ص 467وما بعدها الى ص 470 من جزئه الاول تجد ثمة فوائد جمة لا يستغني عنها الباحثون. وممن أنكرها المأمون أيام خلافته كما في ترجمة يحي بن أكثم لابن خلكان وأمر ان ينادي بتحليلها فدخل عليه محمد بن منصور وابو العيناء فوجداه يستاك ويقول وهو متغيظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهد ابي بكر وأنا أنهى عنهما ! قال: ومن انت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله وأبو بكر؟ ! فأراد محمد بن منصور أن يكلمه فأومأ إليه أبو العيناء وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن ؟ ! فلم يكلماه، قال: ودخل عليه يحي بن أكثم فخلا به وخوفه من الفتنة، إلى آخر ما قال ابن خلكان في وفياته. 
 
 
204

189

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول  


1-حقيقته هذا نكاح 

إنما حقيقته أن تزوجك المرأة الحرة الكاملة المسلمة أو الكتابية نفسها، حيث لا يكون لك مانع في دين الإسلام عن نكاحها، من نسب أوسبب أو رضاع أو احصان أو عدة، أو غير ذلك من الموانع الشرعية،ككونها معقوداً عليها لأحد آبائك، وإن كان قد طلقها أو مات عنها قبل الدخول بها، وككونها أختاً لزوجتك مثلاً أو نحو ذلك.

تزوجك هذه المرأة نفسها بمهر مسمى إلى أجل مسمى، بعقد نكاح جامع لشرائط الصحة الشرعية، فاقد لكل مانع شرعي كما سمعت فتقول لك بعد تبادل الرضا والاتفاق بينكما: زوجتك أو أنكحتك أو متعتك نفسي بمهر قدره كذا يوماً أو يومين أو شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين مثلاً، أو تذكر مدة أخرى معينة على الضبط فتقول أنت لها على الفور: قبلت، وتجوز الوكالة في هذا العقد من كلا الزوجين كغيره من العقود،وبتمامه تكون زوجة لك، وأنت تكون زوجاً لها، إلى منتهى الأجل المسمى في العقد، وبمجرد انتهائه تبين من غير طلاق كالاجارة، وللزوج فراقها قبل انتهائه بهبة المدة المعينة لا بالطلاق- عملاً بنصوص خاصة 
 
 
205

190

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 حاكمة بذلك، ويجب عليها مع الدخول بها1 أن تعتد بعد هبة المدة أو انقضائها بقرأين، إذا كانت ممن تحيض، وإلاَّ فبخمسة وأربعين يومأ كالأمة، عملاً بأدلة خاصة تحكم بذلك.


فإذا وهبها المدة أو انقضت قبل أن يمسها فما له عليها من عدة،كالمطلقة قبل المس2 وأولات الاحمال في المتعة أجلهن أن يضعن حملهن كالمطلقات، أما عد ة المتوفى عنها زوجها في نكاح المتعة فهي عدة المتوفى عنها زوجها في النكاح الدائم مطلقاً3.

وولد المتعة ذكراً كان أو أنثى يلحق بأبيه ولا يدعى إلاَّ له كغيره من الأبناء والبنات، وله من الارث ما أوصانا الله به سبحانه بقوله عز من قائل: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ...4 ولا فرق بين ولديك المولود أحدهما منها والآخر من النكاح الدائم، وجميع العموميات الشرعية الواردة في الأبناء والآباء والأمهات شاملة لأبنا، المتعة وآبائهم وأمهاتهم، وكذا القول في العمومات الواردة من الأخوة والأخوات وأبنائهما، والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبنائهم ﴿... وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ...5 مطلقاً.

 


نعم نكاح المتعة بمجرده لا يوجب توارثاً بين الزوجين ولا ليلة، ولا 

________________________________________
1- وعدم بلوغها من اليأس الشرعي.
2- ولا عدة على من بلغت سن اليأس كالمطلقة أيضاً.
3- سواء أكانت مدخولاً بها أم لا وسواء أكانت يائساً أم لا وسواء أكانت حبلى أم حائلاً. وعدة الحبلى إذا مات عنها زوجها في كلا النكاحين، أبعد الأجلين وهما: وضح الحمل ومضي المدة وهي أربعة أشهر وعشر بعد علمها بموت الزوج.
4- سورة النساء: 11.
5- سورة الأحزاب: 6.
 
 
 
206

191

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 نفقة للتمتع بها، وللزوج أن يعزل عنها، عملاً بأدلة خاصة العمومات الواردة في هذه الأمور من أحكام الزوجات.


هذا نكاح المتعة بكنهه وهذه متعة النساء بحقيقتها، وهذا هو محل النزاع بيننا وبين الجمهور.

2- جماع الأمه على اشتراعه 

أجمع أهل القبلة كافة على أن الله تعالى شرع هذا النكاح في دين الاسلام، وهذا القدر مما لا ريب فيه لأحد من علماء المذاهب الإسلامية على اختلافهم في المشارب والمذاهب والآراء، بل لعل هذا ملحق - عند أهل العلم - بالضروريات مما ثبت عن سيد النبيين صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينكره أحد من علما، أمته، ومن ألم بما يقوله أهل المذاهب الإسلامية كلهم في حكم هذا النكاح مستقرئاً فقه الجميع، علم أنهم متصافقون على أصل مشروعيته وإنما يدعون نسخه كما ستسمعه إن شاء الله تعالى.

3- دلالة الكتاب على اشتراعه 

حسبنا حجة على اشتراعه: قوله تعالى في سورة النساء: ﴿.. فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ...1 إذ أجمع أئمة أهل البيت وأولياؤهم على نزولها في نكاح المتعة، وكان أبي بن كعب، وابن عباس وسعيد بن جبير، والسدي، يقرأونها: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى"2 وصرح عمران بن حصين الصحابي بنزول هذه الآية في 

 


________________________________________
1- سورة النساء: 24
2- أخرج ذلك عنهم غير واحد من الأعلام كالإمام الطبري حول الآية من أوائل الجزء الخامس من تفسيره الكبير، والزمخشري أرسل هذه القراء ة في كشافه عن ابن عباس ارسال المسلمات ونقل عياض عن المازري - كما في أول باب نكاح المتعة في شرح صحيح مسلم للامام النووي -: ان ابن مسود قرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل، والرازي ذكر في تفسير الآية أنه روى عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن قال: وهذا أيضاً هو قراءة ابن عباس. قال: والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة. قال: فكان ذلك اجماعاً من الأمة على صحة هذه القراء ة إلى آخر كلامه في ص 201 من الجزء 3 من تفسيره الكبير.
 
 
207

192

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 المتعة، وأنها لم تنسخ حتى قال رجل برأيه ما شاء1، ونص على نزول الآية في المتعة مجاهد أيضاً فيما أخرجه عنه الطبري في تفسيره الكبير2.


ويشهد لذلك أن الله سبحانه قد أبان في أوائل السورة حكم النكاح الدائم بقوله عز من قائل: ﴿... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ...3 إلى أن قال: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ...4 فلو كانت هذه الآية في بيان "الدائم" أيضا للزم التكرار في سورة واحدة، أما إذا كانت لبيان المتعة فإنها تكون لبيان معنى جديد، وأولو الألباب ممن تدبروا القرآن الحكيم علموا أن سورة النساء قد اشتملت على بيان الأنكحة الإسلامية كلها، فالدائم وملك اليمين تبينا بقوله تعالى: ﴿... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ5 ونكاح الاماء مبين بقوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ...6 إلى أن قال: ﴿...فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ 

 

________________________________________
1- على كلامه في هذا الشأن قريباً.
2- راجع ص 9 من جزئه الخامس.
3- سورة النساء: 3.
4- سورة النساء: 4.
5- سورة النساء: 3.
6- سورة النساء: 26.
 
 
208

193

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...1 والمتعة مبينة بآيتها هذه ﴿... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ...

 


4- اشتراعه بنصوص السنن 

حسبنا من السنة في هذا الباب: صحاح متواترة عن أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام وقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم في اشتراع هذا النكاح صحاحاً كثيرة عن كل من سلمة بن الأكوع، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي ذر الغفاري، وعمران بن حصين، والأكوع بن عبد الله الأسلمي، وسبرة بن معبد، وأخرجها أحمد بن حنبل في مسنده من حديث هؤلاء كلهم ومن حديث عمر، وحديث ابنه عبد الله، وأخرج مسلم في باب نكاح المتعة من كتاب النكاح من الجزء الأول من صحيحه عن جابر بن عبد الله، وسلمة بن الأكوع قالا: خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ان رسول الله أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء، انتهى بلفظه. والصحاح في هذا المعنى أكثر من أن تستقصى في هذا الاملاء.

5- القائلون بنسخه وحجتهم والنظر فيها 

قال أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من فقهاء الجمهور بنسخ هذا النكاح وتحريمه محتجين بأحاديث أخرجها الشيخان في صحيحيهما، وقد أمعنا فيها متجردين متحررين فوجدنا فيها من التعارض في وقت صدور النسخ ما لا يمكن الوثوق بها، فإن بعضها صريح بأن النسخ كان يوم خيبر، وفي بعضها أنه كان يوم الفتح، وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك، وفي بعضها أنه كان في حجة الوداع، وفي بعضها أنه كان في 

________________________________________
1- سورة النساء: 26.
 
 
209

194

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 عمرة القضاء، وفي بعضها أنه كان عام أوطاس، على أنها تناقض ما ستسمعه من صحاح البخاري ومسلم الدالة على عدم النسخ، وأن التحريم والنهي إنما كانا من الخليفة الثاني ببادرة بدرت على عهده من عمرو بن حريث، وكان الصحابة قبلها يستمتعون على عهد الخليفتين، كما كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وستسمع كلام عمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وأمير المؤمنين فتواه صريحاً بأن التحريم لم يكن من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان بنهي عمر، ومحال أن يكون هناك ناسخ يجهله هؤلاء وهم من علمت مكانتهم في العلم ومنزلتهم من رسول الله وملازمتهم إياه صلى الله عليه وآله وسلم. على أنه لو كان ثمة ناسخ لنبههم إليه بعض الواقفين عليه، وحيث لم يعارضهم أحد فيما كانوا ينسبونه من التحريم إلى عمر نفسه، علمنا أنهم أجمع معترفون بذلك، مقرون بأن لا ناسخ من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.


على أن الخليفة الثاني نفسه لم يدع النسخ كما ستسمعه من كلامه الصريح في اسناد التحريم والنهي إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من الله عز وجل أو من رسوله لأسند التحريم إلى الله تعالى أو إلى الرسول، فإن ذلك أبلغ في الزجر وأولى بالذكر.

وظني أن المتأخرين عن زمن الصحابة وضعوا أحاديث النسخ تصحيحا لرأي الخليفة، إذ تأول الأدلة فنهى وحرم متوعدا بالعقوبة، فقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما: متعة الحج، ومتعة النساء.

ومن غريب الأمور دعوى بعض المتأخرين أن نكاح المتعة منسوخ 
 
 
210

195

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 بقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ1 بزعم أن المتمتع بها ليست زوجة ولا ملك يمين، قالوا: أما كونها ليست بملك يمين فمسلم، وأما كونها ليست بزوجة فلأنها لا نفقة لها ولا إرث ولا ليلة.

 


والجواب: أنها زوجة شرعية بعقد نكاح شرعي كما سمعت، وعدم النفقة والارث والليلة فإنما هو لأدلة خاصة خصصت العمومات الواردة في أحكام الزوجات كما بيناه سابقاً. 

على أن هذه الآية مكية نزلت قبل الهجرة بالاتفاق، فلا يمكن أن تكون ناسخة لاباحة المتعة المشروعة في المدينة بعد الهجرة بالاجماع. 

ومن عجيب أمر هؤلاء المتكلفين أن يقولوا بأن آية "المؤمنون" ناسخة لمتعة النساء، إذ ليست بزوجة ولا ملك يمين، فإذا قلنا لهم: ولم لا تكون ناسخة لنكاح الإماء المملوكات لغير الناكح وهن لسن بزوجات للناكح ولا بملك له، قالوا حينئذ: إن سورة "المؤمنون" مكية، ونكاح الاماء المذكورات إنما شرع بقوله تعالى في سورة النساء وهي مدنية: ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ2 والمكي لا يكون ناسخاً للمدني، لوجوب تقدم المنسوخ على الناسخ، يقولون هذا القول وينسون أن المتعة إنما شرعت في المدينة، وأن آيتها في سورة النساء أيضا، وقد منينا بقوم لا يتدبرون فإنا لله وإنا إليه راجعون.

 


________________________________________
1- سورة المؤمنون: 5،6
2- سورة النساء:26.
 
 
 
211

196

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 6- صحاح تنم على الخليفة 


أخرج مسلم - في باب المتعة بالحج والعمرة من صححه1 -بالاسناد إلى أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قام عمر2 قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاءفأتموا الحج والعمرة وأبنوا نكاح هذه النساء فلو أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلآ رجمته بالحجارة 3.

وهذا ما أخرجه أحمد بن حنبل من حديث عمر في مسنده4 عن أبي نضرة أيضاً، ولفظه عنده ما يلي: قال أبو نضرة: قلت لجابر: إن ابن الزبير ينهى عن المتعة، وان ابن عباس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر، فلما ولي عمر5 خطب الناس فقال: ان القرآن هو القرآن، وان رسول الله هو الرسول، وانهما 

________________________________________
1- صفحة 467من جزئه الأول طبع مصر سنة 1306.
2- أي فلما قام بأمر الخلافة، وهذا صريح بان هذه الأحداث: النهي والتحريم والانذار لم تكن من قبل.
3- الرجم حد من حدود الله عز وجل لا يشترعه إلاَّ نبي، على أن القائل بالمتعة مستنبط اباحتها من الكتاب والسنة، فإن كان مصيباً فبهما اخذ، وان كان مخطئاً فإنما هو مشتبه لا حد عليه لو فعلها، فإن الحدود تدرأ بالشبهات.
4- صفحة 52من جزئه الأول.
5- هذا صريح بأن تحريم المتعة الذي أشاد به الخليفة في خطابه لم يكن قبل ولايته على الناس.
 
 
212

197

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 كانتا " متعتان " على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء1.


وهذا صريح فصحيح في أن النهي إنما كان منه بعد ولايته وقيامه بأمر الخلافة.

ومثله حديث عطا ء، فيما أخرجه مسلم في باب نكاح المتعة من صحيحه2- قال: قدم جابر بن عبد الله معتمراً، فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر.

وحديث أبي الزبير - كما في الباب المذكور من صحيح مسلم - قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا نستمتع3 بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث.

وفي الباب المذكور من صحيح مسلم أيضاً عن أبي نضرة. قال: كنت عند جابر فأتاه آت فقال: ان ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين فقال جابر: فعلناهم4 على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نهانا عنهما عمر. 

وقد استفاض قول عمر على المنبر: متعتان كانتا على عهد 

________________________________________
1- لا مندوحة عن قبول روايته إذ قال: كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أما تحريمه إياهما فلرأي رآه.
2- صفحة 535 من جزئه الأول.
3- الظاهر من قوله: كنا نتمتع أن سيرة الصحابة كانت مستمرة على ذلك بعلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر قبل نهيه.
4- فعلناهما ظاهر باستمرار سيرتهم على فعلها كقوله السابق نستمتع وكقوله استمتعنا.
 
 
213

198

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما1، متعة الحج ومتعة النساء. حتى نقل الرازي هذا القول عنه محتجاً به على تحريم متعة النساء، فراجع ما حول آيتها من تفسيره الكبير.


وهذا متكلم الأشاعرة وأمامهم في المعقول والمنقول (القوشجي) يقول في أواخر مبحث الإمامة من سفره الجليل - شرح التجريد -: إن عمر قال وهو على المنبر: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهي عنهن وأحرفهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل، وقد اعتذر عنه بأنه هذا كان اجتهاداً منه وعن تأول، والأخبار في هذا ونحوه مما يضيق عنه وسع هذا الاملاء.

وقد استمتع على عهد عمر ربيعة بن أمية بن خلف الثقفي أخو صفوان فيما أخرجه مالك - في باب نكاح المتعة من الموطأ - عن عروة الزبير قال: ان خولة بنت حكيم السلمية دخلت على عمر وقالت له: إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة فحملت منه، فخرج عمر يجر رداءه فقال: هذه المتعة لو كنت تقدمت لرجمت. أي لو كنت تقدمت في تحريمها والانذار برجم فاعلها قبل هذا الوقت لرجمت ربيعة والمرأة التي استمتع بها، إذ كان هذا القول منه قبل نهيه عنها، نص على ذلك ابن عبد البر فيما نقله الزرقاني عنه في شرح الموطأ27 ولا يخفى ظهور هذا الكلام في أن التصرف في حكم المتعة إنما هو منه لا من سواه.

7- المنكرون عليه

أنكر عليه علي أمير المؤمنين ع2 ند بلوغهما إلى آية المتعة من 

________________________________________
1- لا يخفى ظهوره في أن النبي إنما هو منه لا من الله تعالى ولا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
2- حيث يشرح هذا الحديث في الموطأ.
 
 
 
214

199

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 تفسيريهما الكبيرين، إذ أخرجا بالاسناد إليه أنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاَّ شقي.


وأنكر عليه ابن عباس نقال1: ما كانت المتعة إلاَّ رحمة رحم الله بها أمة محمد لولا نهيه - أي عمر - عنها ما احتاج إلى الزنى إلا شقي – أي قليل من الناس - كما فسرها ابن الأثير في مادة شفى بالفاء من النهاية، وكان ابن عباس يجاهر بإباحتها، وله في ذلك مع ابن الزبير- حتى في أيام إمارته -حكايات هول المقام بذكرها2.

وأنكر عليه جابر كما سمعت من حديثه في ذلك.

وأنكر عليه ابنه عبد الله كما هو ثابت عنه، وقد أخرج الامام أحمد في ص 95من الجزء الثاني من مسنده من حديث عبد الله بن عمر قال – وقد سئل عن متعة النساء -: والله ما كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زانين ولا مسافحين. ثم قال: والله لقد سمعت رسول الله يقول: ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون أو أكثر.

وسئل مرة أخرى عن متعة النساء فقال - كما عن صحيح الترمذي3-: هي حلال. فقيل له: إن أباك نهى عنها. فقال: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنترك السنة ونتبع قول أبي؟!

وأنكر عليه عبد الله بن مسعود كما هو معلوم عنه، وقد أخرج 

________________________________________
1- فيما رواه عنه أبن جريج وعمر بن دينار.
2- ألفتك إلى ما كان منها في صفحة 489من المجلد 4من شرح نهج البلاغة الحميدي أحمد يدي حيث ترجم ابن الزبير أثناء شرحه لقول أمير المؤمنين عليه السلام: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم.
3- نقله عن الترمذي كل من العلامة في نهج الصدق والشهيد الثاني في مبحث المتعة من روضته
 
 
 
215

200

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري1 عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لنا شيء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معين، ثم قرأ علينا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ2. وأنت تعلم ما في تلاوة الآية من الإنكار الشديد على تحريمها كما صر ح بها شارحو الصحيحين.

 


وأنكر عليه عمران بن حصين فيما استفاض عنه، وقد نقل الرازي3 عنه أنه قال: أنزل الله في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء. قال الرازي: يريد عمر.

وأخرج البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال: نزلت أية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها حتى مات، ثم قال رجل برأيه ما شاء.

وأخرج أحمد في مسنده، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، وعملنا بها مع رسول الله، فلم تنزل آية بنسخها، ولم ينه عنها النبي حتى مات. 

وأمر المأمون أيام خلافته أن ينادي بتحليل المتعة، فدخل عليه محمد بن منصور وأبو العيناء فوجداه يستاك ويقول - فيما نقله ابن 

________________________________________
1- في الصفحة الثانية أو الثالثة من كتاب النكاح فراجع.
2- سورة المائدة: 87.
3- أثناء بحثه عن حكم متعة النساء حول آيتها من تفسيره الكبير.
 
 
216

201

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 خلكان –1 وهو متغيظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهد أبي بكر وأنا أنهى عنهما. قال: ومن أنت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر، فأراد محمد بن منصور أن يكلمه، فأومأ إليه أبو العيناء وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟! فلم يكلماه، ودخل عليه يحيى بن أكثم فخلا به وخوفه من الفتنة وذكر له أن الناس يرونه قد أحدث في الاسلام بهذا النداء حدثاً عظيماً يثير العامة والخاصة، إذ لا فرق عندهم بين النداء بإباحة المتعة والنداء بإباحة الزنى، ولم يزل به حتى صرف عزيمته إشفاقاً على ملكه ونفسه.


وممن استنكر حرمة المتعة وأباحها وعمل بها عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو خالد المكي المولود سنة ثمانين والمتوفي سنة تسع وأربعين ومائة وكان من أعلام التابعين، ترجمه ابن خلكان في وفياته، وابن سعد في ص 361 من الجزء 5 من طبقاته، وقد احتج به أهل الصحاح وترجمه ابن القيسراني في ص 14 3من كتابه (الجمع بين رجال الصحيحين) وأورده الذهبي في ميزانه فذكر أنه تزوج نحواً من تسعين امرأة بنكاح المتعة وأنه كان يرى الرخصة في ذلك قال: وكان فقيه أهل مكة في زمانه.

8- رأى الامامية في المتعة 

أجمع الامامية - تبعاً لأئمتهم الاثني عشر عليهم السلام- على دوام حلها، وحسبهم حجة على ذلك: ما قد سمعته من اجماع أهل القبلة على أن الله تعالى شرعها في دينه القويم، وأذن في الإذن بها منادي نبيه العظيم، ولم يثبت نسخها عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انقطع الوحي باختيار 

________________________________________
1- في ترجمة القاضي يحيى بن أكثم.
 
 
 
217

202

الدرس العشرون: نكاح المتعة وفيه فصول

 الله تعالى لنبيه دار كرامته، بل ثبت عدم نسخها بنصوص صحاحنا المتواترة عن أئمة العترة الطاهرة، فراجعها في مظانها من وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة. على أن في صحاح أهل السنة وسائر مسانيدهم نصوصاً صريحة في بقاء حلها واستمرار العمل بها على عهد أبي بكر وشطر من عهد عمر حتى صدر منه النهي عنها في شأن عمرو بن حريث، وحسبك من ذلك ما أوردناه في هذه العجالة، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 

 

 

218


203

الدرس الواحد والعشرون: تزويج زوجة المفقود

 الدرس الواحد والعشرون: تزويج زوجة المفقود  


قال الفاضل الدواليبي1: وكذلك اجتهد عمر في زوجة المفقود حيث حكم بأن لزوجة المفقود بعد أن يمضي أربع سنوات على فقدانه أن تتزوج بعد أن تقضي عدتها، وإن لم يثبت موت زوجها، وذلك دفعاً لضرر بقاء الزوجة مطلقة مدى العمر.

قال: وبذلك أخذ الامام مالك خلافاً لمذهب الحنفية والشافعية الذين قالوا ببقاء الزوجة في عصمة زوجها المفقود حتى تثبت وفاته آو تموت أقرانه، لان الأصل النظري في ذلك اعتبار الاستمرار في حياته حتى يقوم دليل على اتقطاعها. 

قال: غير أن عمر رضي الله عنه أجدر بالاعتبار لما فيه من دفع ضرر ظاهر عن زوجة المفقود، وفيه كما نرى اطلاق النكاح لها خلافاً لظواهر نصوص الشريعة التي أخذ بها بقية الأئمة.

قال: وما هذا إلا تغيير للاحكام تبعاً للأحوال، وذلك تقدير لظروف خاصة لا بد من تقديرها دفعاً للضرر والحرج، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لاضرر ولا ضرار. وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿... هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...2، قال: وليس ذلك فى الحقيقة تعطيل للنصوص بل إعمال لها على ضوء المصلحة والظروف، انتهى بلفظه. 

 


________________________________________
1- في ص241والتي بعدها من كتابه أصول الفقه.
2- سورة الحج، الآية: 78.
 
 
219

 


204

الدرس الواحد والعشرون: تزويج زوجة المفقود

 قلت أما نحن الامامية فان لدينا عن أئمة العترة الطاهرة نصوصاً تحكم على الأصل النظري في ذلك، لتريحها بأن المفقود إذا جهل خبره، وكان لزوجته من ينفق عليها، وجب عليها التربص إلى أن يحضر، أو تثبت وفاته، أو ما يقوم مقامهما. وإن لم يكن ثمة من ينفق عليها فلها أن ترفع أمرها إلى الحاكم الشرعي، فإن فعلت بحث الحاكم عن أمره أربع سنين من حين رفع أمرها إليه، في الجهة التي فقد فيها إن كان معينة وإلاَّ ففي الجهات الأربع، ثم يطلقها الحاكم نفسه، أو يأمر الولي، والأحوط تقديم أمر الولي به فإن امتنع طلق الحاكم لأنه مدلول الأخبار الصحيحة، وإنما يصح هذا الطلاق بعد المدة، ورجوع الرسل أو ما في حكمه، وتعتد بعده عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، وتحل بعد العدة للزواج، فإن جاء المفقود في العدة فهو أملك بها، وإلاَّ فلا سبيل له عليها، سواء أوجدها قد تزوجت أم لا. هذا مذهب الامامية في المسألة تبعاً لأئمتهم عليهم السلام.

 

 

220


205

الدرس الثاني والعشرون: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 الدرس الثاني والعشرون: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم  


وذلك أن الطلاق الثلاث الذي لا تحل المطلقة بعده لمطلقها إلاَّ بالمحلل الشرعي المعروف، إنما هو الطلاق الثالث، المسبوق برجعتين مسبوقتين بطلاقين، وذلك بأن يطلقها أولاً ثم يرجعها، ثم يطلقها ثانياً ثم يرجعها، ثم يطلقها ثالثأ وحينئذ لا تحل له حتى تأتي بالمحلل المعلوم. هذا هو الطلاق الثلاث الذي لا تحل المطلقة بعد لمطلقها حتى تنكح زوجاًغيره، وبه جاء التنزيل: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ...1 إلى أن قال عز من قائل: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ2.

 


وإليك ما قاله أئمة العربية في تفسيرها، واللفظ للزمخشري في كشافه جعله كشرح مزجي، قال: "الطَّلاَقُ" بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم "مَرَّتَانِ" أي التطليق ألشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والارسال دفعة واحدة. ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن أراد التكرير كقوله: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ3 أي كرة بعد كرة. إلى أن قال: وقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ تخيير لهم - بعد أن علمهم كيف يطلقون - بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة 

 


________________________________________
1- سورة البقرة، الآية: 229.
2- سورة البقرة، الآية: 230.
3- سورة الملك، الآية: 4.
 
 
 
221

 


206

الدرس الثاني والعشرون: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 والقيام بواجبهن، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي لهن عليهم. قال: وقيل معناه الطلاق الرجعي مرتان - مرة بعد مرة - لأنه لا رجعة بعد الثلاث.. إلى أن قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَ الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ﴾ واستوفى نصابه أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين ﴿فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ أي بعد ذلك التطليق ﴿حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ... الخ.


قلت: هذا هو معنى الآية وهو المتبادر مها إلى الأذهان وبه فسرها المفسرون كافة، ولا يمكن أن يكون قوله تعالى: "فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ" متناولاَ لقول القائل لزوجته (أنت طالق ثلاثاً) إلاَّ أن يكون قبل ذلك قد تكرر منه طلاقها مرتين بعد كل مرة منهما رجعة كما لا يخفى.

لكن عمر رأى أيام خلافته تهافت الرجال على طلاق أزواجهم ثلاثاً بانشاء واحد فألزمهم بما ألزموا به أنفسهم عقوبة أو تأديباً، والسنن صريحة في نسبة ذلك اليه.

وحسبك منها ما عن طاووس من أن أبا الصهباء قال لابن عباس:هات من هناتك ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وأبي بكر واحدة ؟ فقال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. انتهى بلفظ مسلم في صحيحه1.

وعن ابن عباس من عدة طرق كلها صحيحة، قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث 

________________________________________
1- في باب طلاق الثلاث هن كتاب الطلاق ص 575 من الجزء الأول من صحيحه. وأخرجه البيهقي ص 336 من الجزء السابع من سننه، وأبو داود في كتاب الطلاق من السنن فراجع منه الحديث الأخير من باب نسخ المراجعة بعد الثلاث تطليقات.
 
 
222

207

الدرس الثاني والعشرون: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 واحدة، فقال عمر بن الخطاب: أن الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضياه عليهم، فأمعناه عليهم. انتهى بلفظ مسلم في صحيحه1.


وأخرجه الحاكم في مستدركه مصرحاً بصحته على شرط الشيخين ،وأورده الذهبي في تلخيص المستدرك معترفاً بصحته على شرطهما أيضا2.

وأخرجه الامام أحمد من حديث ابن عباس في مسنده3.ورواه غير واحد من أصحاب السنن وإثبات السنن4.

ونقله العلامة الشيخ رشيد رضا في ص 210 من المجلد الرابع من مجلته "المنار" عن كل من أبي داود والنسائي والحاكم والبيهقي، ثم قال - ما هذا لفظه -: ومن قضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس5 قال: طلق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طلقها؟ قال: ثلاثاً. قال صلى الله عليه وآله وسلم: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت.

وأخرج النسائي من رواية مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً 

________________________________________
1- في باب طلاق الثلاث من كتاب الطلاق من جزئه الأول.
2- راجع من كل من المستدرك وتلخيصه كتاب الطلاق ص 196 من الجزء الثاني فإن هذين الكتابين مطبوعان معاً وصحائفهما متحدة.
3- راجع من المسند ص 314من جزئه الأول.
4- كالبيهقي ص 336 من الجز، السابع من سننه، والقرطبي في الجزء الثالث ص 130 من تفسيره جازماً بصحته وغير هؤلاء من أمثالهم.
5- ذكره ابن اسحاق في ص 191 من الجزء الثاني من سيرته.
 
 
223

208

الدرس الثاني والعشرون: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 فقام صلى الله عليه وآله وسلم غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ! حتى قام رجل، فقال يارسول الله ألا تقتله1؟ إلى آخر ما جاء من السنن الصحيحة صريحاً في ذلك، ولذا ترى علماء الاسلام واثباتهم يرسلونه إرسال المسلمات.


وحسبك منهم الاستاذ الكبير خالد محمد خالد المصري المعاصروقد قال في كتابه" الديمقراطية": ترك عمر بن الخطاب النصوص الدينية المقدسة من القرآن والسنة عندما دعته المصلحة لذلك، فبينا يقسم القرآن للمؤلفة قلوبهم حظاً من الزكاة ويؤديه الرسول وأبو بكر، يأتي عمر فيقول لا نعطي على الاسلام شيئاً، وبينا يجيز الرسول وأبو بكر بيع أمهات الأولاد يأتي عمر فيحرم بيعهن، وبينا الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنة والاجماع، جاء عمر فترك السنة وحطم الاجماع.

هذا كلامه بعين لفظه فراجعه في ص150 من ديمقراطيته

وقال الاستاذ الدكتور الدواليبي - حيث ذكر عمر وايقاعه الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في كتابه أصول الفقه2 ما هذا لفظه: «ومما أحدثه عمر رضي الله عنه تاييداً لقاعدة تفسير الأحكام بتغيير الزمان، هو ايقاعه الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، مع أن المطلق في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزمن خليفته أبي بكر وصدراً من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفم واحد جعلت واحدة كما ثبت ذلك في الخبر الصحيح عن ابن عباس، وقد 

________________________________________
1- وقد نقله قاسم بك أمين المصري ص 172 من كتابه - تحرير المرأة -عن النسائي والقرطبي والزيلعي لكن بالاسناد الى ابن عباس، وربما دل هذا الحديث على فساد الطلاق الثلاث بالمرة لكونه لعبأ. وبذلك قال سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين، لكن الصواب أن اللعب انما هو في قول ثلاثاً فيلغي، وأما قوله أنت طالق يؤثر أثره لأنه جد لا لعب فيه.
2- فراجع منه آخر ص 346والتي بعدها.
 
 
 
224

209

الدرس الثاني والعشرون: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 قال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم.


قال: وقال ابن القيم الجوزية في ذلك: ولكن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رأى أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم ايقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بامضائه عليهم فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي وعهد الصديق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق.. إلى أن قال: فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان1.

قال: وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به2 وصرحوا لمن استفتاهم بذلك3. قال: غير أن ابن القيم نفسه جاء فأبدى ملاحظته بالنسبة لزمنه، رغبة في الرجوع بالحكم إلى ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن الزمن قد تغير أيضاً، وأصبح إيقاع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة مدعاة لفتح باب التحليل الذي كان مسدوداً على عهد الصحابة4 وقال: بأن العقوبة إذا تضمنت مفسدة أكثر 

________________________________________
1- سبحانك اللهم إذا صح للمجتهدين تغيير أمثال هذه الفتوى بتغيير الزمان حتى في هذه الفترة الوجيزة الكائنة بين خلافة الخليفتين، فعلى أحكام الكتاب والسنة ونصوصهما السلام. وي. وي. ما أفظ هذا الخطر إذا بنى المجتهدون على مثل هذه القاعدة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
2- هذا مما لا دليل عليه، بل الأدلة قائمة على خلافه.
3- قل هاتوا برهانكم.
4- لم يكن في الزمن تغير ولا تغير الزمن يوجب تغير الحكم الشرعي المنصوص عليه في الكتاب والسنة وانما عمل ابن القيم به علمأ منه أنه حكم الله تعالى.
 
 
225

210

الدرس الثاني والعشرون: الطلاق وما أحدثوا فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

 من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحب إلى الله ورسوله1.


قال: وقال ابن تيمية: ولو رأى عمر رضي الله عنه عبث المسلمين في تحليل المبانة لمطلقها ثلاثاً لعاد الى ما كان عليه الأمر في عهد الرسول.
قال: وإن ما أبداه ابن تيمية من الملاحظات القيمة قد كان مدعاة لعودة المحاكم الشرعية في مصر الآن إلى ما كان عليه الحكم في عهد الرسول عملاً بقاعدة تغير الأزمان2.

________________________________________
1- سبحاك الله ما هذا اللاعب.
2- بل عملاً بنص الكتاب وصريح السنة.
 
 
 
226

211

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق 

 
ومما انفردت به الإمامية، القول: بأن شهادة عدلين شرط في وقوع اطلاق، ومتى فقد لم يقع الطلاق وخالف باقي الفقهاء في ذلك1.

وقال الشيخ الطوسي: كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط، فإن لا يقع. وخالف جميع الفقهاء ولم يعتبر أحد منهم الشهادة2.

ولا تجد عنواناً للبحث في الكتب الفقهية لأهل السنة وإنما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ...3. وهم بين من يجعلونه قيداً للطلاق والرجعة، ومن يخصه قيداً للرجعة المستفادة من قوله: "فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ".

 


روى الطبري عن السدي أنه فسر قوله سبحانه: "وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ" تارة بالرجعة وقال: أشهدوا على الامساك إن أمسكتموهن وذلك هو الرجعة، وأخرى بها وبالطلاق وقال: عند الطلاق وعند المراجعة. 
 ________________________________________
1- المرتضى: الانتصار: 127-128.
2- الطوسى: الخلاف: 2، كتاب الطلاق المسألة 5.
3- سورة الطلاق، الآية: 2.
 
 
227

212

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 ونقل عن ابن عباس: أنه فسرها بالطلاق والرجعة1


وقال السيوطي: أخرج عبد الرزاق عن عطاء قال: النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود.

وسئل عمران بن حصين عن رجل طلق ولم يشهد، وراجع ولم يشهد؟ قال: بس ما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة فليشد على طلاقه ومراجعته وليستغفر الله2.

قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا أمرنا بالاشهاد على الطلاق، وقيل: على الرجعة، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثم الاشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله: ﴿وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وعند الشافعي واجب في الرجعة3.

وقال الآلوسي ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبرياً عن الريبة4

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

وممن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان: أحمد محمد شاكر القاضي المصري، والشيخ أبو زهرة. قال الأول بعد ما نقل الآيتين من أول سورة الطلاق: والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلاَّ بقرينة ولا قرينة هنا تصرفه عن 

________________________________________
1- الطبري: جامع البيان: 28/ 88.
2- السيوطي: الدر المنثور: 6/ 232، وعمران بن حصين من كبار أصحاب الإمام علي عليه السلام
3- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18/ 157.
4- الآلوسي: روح المعاني: 28/ 134.
 
 
 
228

213

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 الوجوب، بل القرائن ما تؤيد حمله على الوجوب - إلى أن قال-: فمن أشهد على طلاقه، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حدود الله الذي حده له فوقع عمله باطلاً، لا يترتب عليه أي أثر من أثاره - إلى أن قال: - وذهب الشيعة الى وجوب الاشهاد في الطلاق والله ركن من أركانه، ولم يوجبووه في الرجعة، والتفريق بينهما غريب لا دليل عليه 1.


وقال أبو زهرة: قال فقها، الشيعة الإمامية الاثني عشرية والإسماعيلية: إن الطلاق لا يقع من غير اشهاد عدلين: لقوله تعالى (في أحكام الطلاق وانشائه في سورة الطلاق): ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ... فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر اشاء الطلاق وجواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه، وإن تعليل الاشهاد بانه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشح ذلك ويقويه، لأن حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها الى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى.

 


وأنه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين2.

وهذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الاشهاد الى الرجعة وحدها وبين من يقول برجوعه إليها وإلى اطلاق، ولم يقل 
________________________________________
1- أحمد محمد شاكر: نظام الطلاق في الإسلام: 118 - 119.
2- أبو زهرة: الأحوال الشخصية: 365كما في الفقه على المذاهب الخمسة: ا 17(والآية 2-3 من سورة الطلاق).
 
 
 
229

214

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 أحد برجوعه الى الطلاق وحده إلاّ ما عرفته من كلام أبي زهرة. وعلى ذلك فاللازم علينا بعد نقل النص، التدبر والاهتداء بكتاب الله إلى حكمه.


قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً1.

 


إن المراد من بلوغهن أجلهن: اقترابهن من آخر زمان العدة واشرافهن عليه، والمراد بامساكهن: الرجوع على سبيل الاستعارة، كما أن المراد بمفارقتهن: تركهن ليخرجن من العدة ويبن.

لا شك أن قوله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع ولا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل، إنما الكلام في متعلقه. فهناك احتمالات ثلاث:

ا - أن يكون قيداً لقوله: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ.
2- أن يكون قيداً لقوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.
3- أن يكون قيداً لقوله: ﴿وْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.

لم يقل أحد برجوع القيد الى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأول أو الثاني، فالظاهر رجوعه إلى الأول وذلك لأن السورة بصدد بيان 

________________________________________
1- سورة: الطلاق، الآية: ا - 2.
 
 
230

215

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 أحكام الطلاق، وقد افتتحت بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فذكرت للطلاق عدة أحكام:


1-أن يكون الطلاق لعدتهن.
2- احصاء العدة.
3-عدم خروجهن من بيوتهن.
4-خيار الزوج بين الامساك والمفارقة عند اقتراب عدتهن من الانتهاء.
5-اشهاد ذوي عدل منكم.
6- عدة المسترابة.
7- عدة من لا تحيض وهي في سن من تحيض.
8-عدة أولات الأحمال.

وإذا لاحظت مجموع آيات السورة من أولها إلى الآية السابعة تجد أنها بصدد بيان أحكام الطلاق لأنه المقصود لأصلي، لا الرجوع المستفاد من قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ وقد ذكر تبعاً.

وهذا هو المروى عن أئمتنا عليهم السلام روى محمد بن مسلم قال: "قدم رجل الى أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة فقال: إني طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أجامعها، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمرك الله؟ فقال: لا، فقال: اذهب فإن طلاقك ليس بشيء"1

________________________________________
1- الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7و3و12ولاحظ بقية أحاديث الباب.
 
 
231

216

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 وروى بكر بن أعين عن الصادقين ‘أنهما قالا: "وإن طلقها في استقبال عدتها طاهراً من غير جماع، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين ،فليس طلاقه إياها بطلاق"1.


وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام أنه قال لأبي يوسف: "إن الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك، إن الله أمر في في كتابه بالطلاق وأكد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلآ عدلين، وأمر في كتابه التزويج وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله، وأبطلتم شاهدين فيما أكد الله عز وجل، وأجزتم طلاق المجون والسكران، ثم ذكرحكم تظلل المحرم"2.

قال الطبرسي: قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة ولا الرجل الطلاق. وقيل: معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام وهذا أليق بالظاهر، لأنا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب وهو من شرائط الطلاق، ومن قال: إن ذلك راجع إلى المراجعة، حمله على الندب3.

ثم إن الشيخ أحمد محمد شاكر، القاضي الشرعي بمصر كتب كتاباً حول "نظام الطلاق في الإسلام" وأهدى نسخة منه مشفوعة بكتاب إلى العلامة الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه: إنني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وانه إذا حصل الطلاق في غير 

________________________________________
1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- مجمع البيان: 5/ 306.
 
 
 
232

217

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتد به، وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلاّ أنه يؤيده الدليل ويوافق مذهب الأئمة أهل البيت والشيعة الإمامية. وذهبت أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة، واستغربت1 من قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل له: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ واحد فيها.


وأجاب العلامة كاشف الغطاء في رسالة إليه بين وجه التفريق بينهما وإليك نص ما يهمنا من الرسالة: قال بعد كلام: "وكأتك - أنار الله برهانك - لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الامعان في غير هذا المقام، وإلا لما كان يخفى عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى أنها قد سميت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة أي لا يكون في طهر المواقعة، ولا في الحيض، ولزوم احصاء العدة، وعدم اخراجهن من البيوت ،ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال مز شأنه: ﴿إِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي إذا أشرفن على الخروج من العدة ،فلكم امساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة. ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلاّ تبعاً واستطراداً، ألا ترى لو 

________________________________________
1- مر نص كلامه حيث قال: والتفريق بينهما غريب.
 
 
 
233

218

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه واكرامه وأن تستقبله سواء جاء وحده أومع خادمه أو رفيقه، ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فإنك لا تفهم من هذا الكلام إلاّ وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه، وهذا لعمري حسب القواعد العربية والذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك وأنت خريت العربية لولا الغفلة (وللغفلات تعرض للاريب)، هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآية الكريمة.


وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها وبعد نظرها في أحكامها. وهو أن من المعلوم انه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعي اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنوع الفرقة لا سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى. 

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده عز أو قل وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً،وللتأخير والأناة ثانياً، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الالفة كما أشير إليه بقوله تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ً وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأخر، وهذا كله بعكس قضية الرجوع فإن الشارع يريد التعجيل به ولعل للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط. 

 

 
 
234

219

الدرس الثالث والعشرون: الإشهاد على الطلاق

 وتصح عندنا معشر الإمامية - بكل ما دل عليها من قول أو فعل أو إشارة - لا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق، كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرقهم، وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الاشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع وهي - أي المطلقة الرجعية - عندما معشر الامامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسله ويغسلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أن يتزوج بأختها، وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية"1 2



 ________________________________________
1- أصل الشيعة وأصولها: 163 - 165، الطبعة الثانية.
2- أخذنا هذا البحث من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة للشيخ جعفر السبحاني.
 
 
235

220

الدرس الرابع والعشرون: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها

 الدرس الرابع والعشرون: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها

  
شرح البيهقي في شعب الايمان: أن امرأة استفتت عمر فقالت له: وضعت حملي بعد وفاة زوجي قبل انقضاء العدة، فأفتاها بوجوب التربص إلى أبعد الأجلين، فعارضه أبي بن كعب بمحضر من المرأة، وروى له: ان عدتها أن تضع حملها، وأباح لها أن تتزوج قبل الأربعة أشهر والعشر، فلم يقل عمر لها سوى: اني اسمع ما تسمعين1، وعدل عن فتواه متوقفاً، لكنه بعد ذلك وافق أبي بن كعب فقال، بأنها لو وضعت ذا بطنها وزوجها على السرير لم يدفن حلت للأزواج2 وعلى هذا المنهاج سلك أهل المذاهب الأربعة إلى هذه الأيام.

لكنا نحن الامامية وجدنا في القرآن الحكيم آيتين تتعارضان في عدة المتوفي عنها زوجها وهي حبلى، وهما قوله عز من قائل: ﴿وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاً. فالحبلى المتوفى عنها زوجها إذا أخذت بالآية الاولى حلت للازواج بوضع حملها وان لم تمض المدة المضروبة في الآية الثانية، وإن أخذت بالآية الثانية حلت للازواج بمضي المدة المضروبة فيها وان لم تضع حملها، وعلى كلا 

________________________________________
1- وهذا الحديث هو الحديث 3376 في ص 166من ج 5 من كنز العمال فراجع.
2- هذه الفتوى أخرجنا عنه بالاسناد اليه كل من البيهقي وابن أبي شيبة في سننهما وهي الحديث 3379 في ص 166 من الجزء الخامس من الكنز.
 
 
237

221

الدرس الرابع والعشرون: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها

  الفرضين تكون مخالفة لإحدى الآيتين، ولا يمكنها الأخذ بكلتيهما معاً إلاَّ إذا تربصت إلى أبعد الأجلين، فإذاً لا مندوحة لها عن ذلك، وهذا هو المروي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام وابن عباس1 وعليه الامامية عملاً بنصوص أئمتهم عليهم السلام. 


فصل 

اختلف المسلمون في ابتداء عدة الوفاة التي هي أربعة أشهر وعشر، فالذي عليه الجمهور ان ابتداءها إنما هو موت زوجها سواء أعلمت بموته إذا مات أم لم تعلم لغيبته عنها أو لسبب آخر. أما ما نحن عليه من الرأي، والعمل في هذه العدة، فانما ابتداؤها علم الزوجة بوفاة زوجها فلو تأخرعلمها بذلك مهما تأخر فلا تتزوج حتى تمضي عليها - بعد علمها بالوفاة - أربعة أشهر وعشر، وحينئذ تحل للأزواج عملاً بالتربص الذي هو صريح الآية، وأخذاً بالحداد الواجب على المرأة يموت زوجها. 

________________________________________
1- رواه عنهما الزمخشري في الكشاف فراجع منه تفسير قوله تعالى (وأولات الاحمال جلهن أن يضمه حملهن) من سورة الطلاق وهذا مذهب أهل البيت عليهم السلام وهو الأحوط.
 
 
 
238

222

الدرس الرابع والعشرون: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها

 اشتراط التوارث بين الأخوة والأخوات أن لا يكون للموروث منهم ولد 


قال الله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

 


الآية صريحة في اشتراط التوارث بين الأخوة والأخوات، أن لا يكون للموروث منهم ولد، والبنت ولد لغة وعرفاً1

لكن عمر بن الخطاب حمل الولد في الآية على الذكر خاصة فواسى في الميراث بين بنت الميت وأخته لأبيه وأمه، فجعل لكل منهما النصف مما ترك، وتبعه في ذلك أهل المذاهب الأربعة.

أما أئمة العترة الطاهرة وأولياؤهم الامامية فقد أجمعوا بأن لا حق للأخوة وسائر العصبة مطلقاً مع وجود الولد ذكراً كان أم أنثى متعدداً كان أم منفرداً محتجين بهذه الآية، وبقوله تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ2 ولهم في سقوط العصبة مع وجود الولد ولو كان بنتاً واحدة، لهجة شديدة يعرفها من راجع نصوصهم في المواريث، 

 

________________________________________
1- ومعاجم اللغة كلها تشهد بذلك، وحسبك {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} وبشر بعض العرب ببنت فقال: والله ما في بنعم الولد.
2- سورة الأنفال:75.
 
 
 
239

223

الدرس الرابع والعشرون: عدة الحامل المتوفى عنها زوجها

 ودونه كتاب وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة وسائر مسانيدهم.


وقد سئل ابن عباس عن رجل توفي وترك بنته وأخته لأبيه وأمه فقال: ليس لأخته شيء والبنت تأخذ النصف فرضاً والباقي تأخذه رداً. قال السائل: فان عمر قضى بغير ذلك. فقال ابن عباس: أأنتم أعلم أم الله ؟ قال السائل: ما أدري وجه هذا حتى سألت ابن طاووس فذكرت له قول ابن عباس، فقال: أخبرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: قال الله عز وجل: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، فقلتم أنتم: لها نصف ما ترك وإن كان لها ولد1.

________________________________________
1- أخرج هذا الحديث جماعة من حفظة السنن ومو موجود في كتاب الفرائض ص 339من الجزء الرابع من مستدرك الحاكم، وقد صرح ثمة بانه صحيح على شرط الشيخين، واورده الذهبي في تلخيص المستدرك حاكماً بصحته على شرطهما ايضاً فراجع.
 
 
 
240

224

الدرس الخامس والعشرون: عول الفرائض

 الدرس الخامس والعشرون: عول الفرائض 

 
اختلف المسلمون في جواز العول وعدمه، وحقيقة العول أن تنقص التركة عن ذوي السهام كأختين وزوج فإذ للأختين الثلثين وللزوج النصف، وقد التبس الأمر فيها على الخليفة الثاني فلم يدر أيهم قدم الله ليقدمه ،وأيهم أخر ليؤخره ،فقضى بتوزيع النقص على الجميع ،لكن أئمة أهل البيت وعلماؤهم عرفوا المقدم عند الله فقدموه، وعرفوا المؤخر فأخروه، وأهل البيت أدرى بالذي فيه. 

قال الامام أبو جعفر الباقر عليه السلام: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة1 لو يبصرون وجهها. 

وكان ابن عباس يقول: من شاء باهلته عند الحجر الأسود أن الله لم يذكر في كتابه نصفين وثلثاً، وقال أيضاً: سبحان الله العظيم أترون أن الذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاًَ، هذان 

________________________________________
1- كان الناس على عهده عليه السلام يفرضون كل شيء ستة أجزاء كل جزء سدس، كما يفرضون اليوم في عرفنا أربعة وعشرين قيراطاً، وعليه فيكون مراده عليه السلام أنكم لو تبصرون وجوه السهام إذا تعارضت لم تتجاوز السهام عن الستة، وحيث أنكم لم تبصروا طرقها فقد تجاوزن عن الستة إذ أنكم تزيدون على الستة بقدر الناقص، مثلاً إذا اجتمع أبوان وبنتان وزوج فللأبوين اثنان من الستة وللبنتين أربعة منها فتمت الستة فتزيدون على الستة واحداً ونصفاً للزوج فتتجاوز السهام من الستة إلى سبعة ونصف. وهذا ممتنع ولا يجوز على الله تعالى أن يفرضه أبداً.
 
 
241

225

الدرس الخامس والعشرون: عول الفرائض

 النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ؟ فقال له: يا أبا العباس فمن أول من أعال الفرائض ؟ فقال: لما التفت الفرائض عند عمر ودفع بعضها بعضاً، قال: والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر، وما أجد شيئاً هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص، قال ابن عباس: وأيم الله لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله ما عالت الفريضة، فقيل له: أيها قدم الله وأيها أخر، فقال: كل فريضة لم يهبطها الله إلاَّ إلى فريضة، فهذا ما قدم الله وأما ما أخر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلاَّ ما بقي، فتلك التي أخر. قال: فأما التي قدم فالزوج له النصف، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء ومثله الزوجة والأم. قال: وأما التي أخر ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلاَّ ما بقي. قال: فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدئ بما قدم فأعطي حقه كاملاً فإن بقي شيء كان لما أخر. الحديث أورده شيخنا الشهيد الثاني في الروضة، قال: وإنما ذكرناه على طوله لاشتماله على أمور مهمة. 


قلت: وأخرج الحاكم في كتاب الفرائض ص 340 من الجزء الرابع من المستدرك عن ابن عباس أنه قال: أول من أعال الفرائض عمر، وأيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقيل له: وأيها قدم الله، وأيها أخر، فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل عن فريضة إلأ إلى فريضة، فهذا ما قدم الله عز وجل كالزوج والزوجة والأم، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلاَّ ما بقي فتلك التي أخر الله عز وجل كالأخوات والبنات، فإذا اجتمع من قدم الله عز وجل ومن أخر بدئ بمن قدم فأعطي حقه كاملاً، فإن بقي شيء كان لمن أخر... (الحديث )1

________________________________________
1- قال الحاكم بعد إيراده: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، قلت: والذهبي لم يتعقبه إذ أورده في التلخيص إذعاناً بصحته. ولنا حول العول في أجوبة موسى جار الله أبحاث دقيقة فليراجعها كل ولوع بتمحيص الحقيقة.
 
 
242

226

الدرس الخامس والعشرون: عول الفرائض

 وعلى هذا، فاذا اجتمع الزوج والأم والبنات بدئ بالزوج والأم فأعطيا فريضتهما الثانية الربع للزوج والسدس للأم كاملين، وأعطي الباقي للبنتين بالسواء، ولو اجتمع الأختان مع هؤلاء لم يكن لهما شيء أصلاً ،لأن مراتب الارث بالنسب عند أئمة أهل البيت وأوليائهم ثلاث:


المرتبة الأولى: الآباء والأمهات دون آبائهم وأمهاتهم، والأبناء والبنات على ما هو مفصل في محله.

المرتبة الثانية: الأخوة والأخوات والأجداد والجدات على ما هو مبين في مظانة من كتب الفقه والحديث.

المرتبة الثالثة: الأعمام والعمات والأخوال والخالات على ما هو مفصل في فقهنا وحديثنا، فلا يرث أحد من المرتبة التالية مع وجود أحد من سابقتها ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ1 هذا مذهب الأئمة من العترة التي جعلها الله ورسوله بمنزلة الكتب إلى يوم الحساب، وعليه اجماع الامامية. فالأختان من أهل المرتبة الثانية كما بيناه، فلا ترثان مع وجود الأم. والله تعالى أعلم. 

 

________________________________________
1- سورة الأنفال، الآية: 75.
 
 
243

227

فهرس

 الفهرسة الكتاب

المقدمة

5

المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء

7

حجة الامامية

7

نظرة في أخبار الغسل

12

نظرة في احتجاجهم هنا بالاستحسان

15

إلى الكعبين

18

المسح على الخفين والجوربين

21

 هل لمسح الرأس حد ؟

33

مسح لأذنين وستة فروع

35

1- مسح الأذنين هل هو من الوضوء؟

35

2- هل يجزئ غسل الرأس بدلا من مسحه ؟

36

3- الموالاة

37

4- النية

38

5- الوضوء بالنبيذ

41

*زيادة " الصلاة خير من النوم" في الآذان

47

تشريع الأذان والإقامة

53

إسقاط "حي على خير العمل "من الأذان والإقامة

67

 

 

245


228

فهرس

 

الشهادة لعلي بالولاية في الآذان والإقامة

69

الجمع بين الصلاتين

71

تكبيرة الإحرام 

83

القراءة في الصلاة

85

هل البسملة آية قرآنية

95

حجة مخالفينا في المسألة

103

التكتف في الصلاة

109

أ- حديث أبي حميد الساعدي

110

ب– حديث حماد بن عيسى

112

ج _حديث سهل بن سعد

114

د_حديث وائل بن حجر

115

هـ- حديث عبد الله  بن مسعود

117

السجود على الأرض

121

1-اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه

122

2-الفرق بين المسجود له والمسجود عليه

125

3-السنّة في السجود في عصر الرسول (ص)وبعده

126

المرحلة الأولى: السجود على الأرض

127

تبريد الحصى للسجود عليها

127

الأمر بالتتريب

129

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة

130

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخمر والحصر

131

السجود على الثياب لعذر

132

ما هو السر في اتخاذ تربة طاهرة ؟

135

 

246


229

فهرس

 

تقصير المسافر وإفطاره

139

تشريع التقصير

139

تشريع الإفطار

141

حكم التقصير

141

حجتنا

142

حجة الشافعي ومن لا يوجب القصر

145

حكم الإفطار

146

قدر السفر المقتضي للتقصير والإفطار

150

صلاة الجنائز

153

صلاة التراويح

155

الزكاة والصدقة

161

الخمس

165

أولاً:في العصر الجاهلي

165

ثانياً: في العصر الإسلامي

166

أ-الخمس في كتاب الله

166

ب- الخمس في السنة

167

الخمس في كتب الرسول (ص )وعهوده

172

مواضع الخمس في الكتاب والسنة

182

مواضع الخمس في السنة ولدى المسلمين

185

مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت (ع )

188

رواية واحدة تبين موضع الخمس في عصر الرسول (ص)

190

متعة الحج

197

صفة هذا التمتع                   

197

 

 

247


230

فهرس

 

تقصير المسافر وإفطاره

139

تشريع التقصير

139

تشريع الإفطار

141

حكم التقصير

141

حجتنا

142

حجة الشافعي ومن لا يوجب القصر

145

حكم الإفطار

146

قدر السفر المقتضي للتقصير والإفطار

150

صلاة الجنائز

153

صلاة التراويح

155

الزكاة والصدقة

161

الخمس

165

أولاً:في العصر الجاهلي

165

ثانياً: في العصر الإسلامي

166

أ-الخمس في كتاب الله

166

ب- الخمس في السنة

167

الخمس في كتب الرسول (ص )وعهوده

172

مواضع الخمس في الكتاب والسنة

182

مواضع الخمس في السنة ولدى المسلمين

185

مواضع الخمس لدى مدرسة أهل البيت (ع )

188

رواية واحدة تبين موضع الخمس في عصر الرسول (ص)

190

متعة الحج

197

صفة هذا التمتع                   

197

 

 

248


231
الفقه المقارن