وَزِدْنَاهُمْ هُدًى


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-04

النسخة: 2014


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 الفهرس

5

الفهرس

13

الدرس  الأول: كمال الإنسان

15

نص الموعظة القرآنية

17

لقاء الله تعالى

19

حضور الله في حياتنا

21

أثر حضور الله في حياتنا

22

الشهداء هم أهل الحضور واللقاء

23

كيف يصبح الله حاضراً في حياتنا؟

24

1- المراقبة

25

2- المحاسبة


5


1

الفهرس

 

27

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال ) الإيمان - الهجرة الجهاد)

29

نص الموعظة القرآنية

29

تمهيد

29

أسس الطريق

30

الإيمان واللقاء

33

الهجرة في سبيل الله

35

الجهاد في سبيل الله

38

تلازم الهجرة والجهاد

41

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

43

نصُّ الموعظة القرآنية

44

الإيمان الحقيقي

45

أهميّة التّسليم

46

اختبار الشّيعة بالتّسليم

47

ما يُسْتكمل به الإيمان

48

السيّدة زينب عليها السلام نموذج للإنسان المسلّم

51

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

53

نصُّ الموعظة القرآنية

53

حقيقة الموت

55

حالة الإنسان عند الموت

56

كيف نغتنم أعمارنا؟

58

هكذا استثمر لحظات عمرك

 

6


2

الفهرس

 

59

وصيةٌ من أب عجوز يريد بكم خيراً

62

وفي الختام قصةٌ وعِبْرَة

63

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

65

نصُّ الموعظة القرآنية

65

في رحاب الآية الكريمة

66

ما هي حقيقةُ الخسارة

67

من هم الأخسرون أعمالاً

70

كيف نحقّق الإخلاص

71

مراتب الإخلاص

72

آفات الإخلاص

73

علاج هذه الآفة

75

خاتمة المطاف

77

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

79

نصُّ الموعظة القرآنية

79

قانون الاختيار في أفعال البشر

 

7


3

الفهرس

 

82

الآثار العقدية المترتّبة على العدل الإلهي واختيار الإنسان

82

1- لغوية الوعد والوعيد مع الإجبار

83

2- بطلان الثواب والعقاب مع الجبر

84

3- انتفاء الحاجة لإرسال الأنبياء

84

الإيمان بالاختيار وأثر ذلك على التفاعل مع التكاليف الإلهية

85

1- آثاء عقيدة الإختيار على المستوى الأخلاقي

86

2- آثار عقيدة الإختيار على المستوى الإجتماعي

87

الاختيار وعلاقته بقدرة الله المطلقة

89

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

91

نصُّ الموعظة القرآنية

91

العناصر المؤثّرة في الشخصية

92

أصالة فطرة الإنسان

92

لماذا يطغى الإنسان؟

93

طغيان الإنسان وتكبّره

94

آثار الطغيان والتكبّر

95

المؤمن يُوَبَّخ ويُعَاتَب

96

عتبُ الله تعالى على المؤمن بقدر محبّته له

97

في التوبيخ والعتاب صلاح أولى الألباب

99

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

101

نصُّ الموعظة القرآنية

101

الرفق واللين، واللطف هو الهدف

102

الرفق هداية الخلق إلى الحق

 

8


4

الفهرس

 

103

أهمية الرفق واللين في حياة المسلمين

104

الرفق في الروايات الشريفة

105

الله رفيق يحب الرفق

108

منظومة العلم والحلم والرفق

109

الرفق في حقوق المؤمنين

110

ارفق يُرفق بك

110

الرفيق من يرفقك على صلاح دينك

110

نتائج عدم الرفق بالنفس

111

خاتمة المطاف

113

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

115

نص الموعظة القرانية

115

تمهيد

116

القرض الحسن وآثاره الاجتماعية

117

أقسام القرض

117

يُقرض الله تعالى

118

ما هو القرض الحسن؟

121

العبرة من القصّة

121

فيضاعفه أضعافاً كثيرة

123

يقبض ويبسط

125

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

127

نصُّ الموعظة القرآنية

 

9


5

الفهرس

 

127

العناصر المؤثّرة في الشخصية

128

أصالة فطرة الإنسان

130

لماذا يطغى الإنسان؟

130

مفردات في الآيات

131

طغيان الإنسان وتكبّره

133

آثار الطغيان والتكبّر

135

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

137

نص الموعظة القرآنية

137

تمهيد

138

حتمية الإيمان بالمنقذ في الديانات السماوية

139

حتمية ظهور المصلح في المدارس الفكرية

140

عقيدة الإمامية بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

141

آداب العلاقة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

141

1- معرفة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

142

2- الثبات على الدين والولاية لأهل البيت عليهم السلام

144

3- ذكر فضائل الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف وموالاته في غيبته

144

4- الصبر على المحن والبلاء

145

5- الدعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف والدعاء بتعجيل الفرج

145

6- إظهار محبته عليه السلام

146

7- إهداء ثواب الأعمال العبادية المستحبّة له عليه السلام

146

8- الصلاة على الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف والسلام عليه

 

10


6

الفهرس

 

147

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

149

نص الموعظة

149

تمهيد

149

مفهوم الانتظار

150

الإنتظار السلبيّ والإيجابيّ

150

الانتظار العبادة

151

1- طاعة الله وتنفيذ الأحكام الشرعية

152

2- توحيد الأمة وقوّتها

152

التمهيد للظهور

153

1- الإيمان بالغيب

153

2- حزب الله

154

3- الصبر على الأذى

154

4- جهوزية أصحاب الحجّة

155

5- تمنّي الشّهادة

155

6- الإرتباط بالله تعالى

155

كيف نعزّز الارتباط الروحي بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؟

157

أ- دعاء العهد

157

ب- دعاء الندبة

157

ج- دعاء ليلة النصف من شعبان

157

الزيارة

158

إحياء أمره بين الناس

 

11


7

المقدمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعد.
 
إنّ الإسلام ليس منهج اعتقاد وإيمان في القلب فحسب، بل هو منهج حياة إنسانية واجتماعية واقعية، يتجسّد فيها الاعتقاد والإيمان ممارسة عملية في جميع جوانب الحياة ومتطلّباتها الفردية والاجتماعية، وذلك على مبدأ التناصح والإحسان والتضحية والإيثار، قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾1، وهذا ما يلزم الناس بالكثير من الواجبات تجاه بعضهم البعض كأفراد، وتجاه المجتمع ككيان اجتماعي يحتضن الجميع، ومن أهم هذه الواجبات السعي الدائم إلى تحصين المجتمع من كل الآفات، وحمايته من كل المفاسد والمضار بقلع الأسباب وإيجاد البيئة السليمة، للتمكّن من التربية الصالحة لأفراده.
 
وهذا ما نجده في القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾2. فالتقيّد بهذا الأمر الإلهي يعصم الإنسان عن التقصير في واجباته، وفي مراعاة حقوق المجتمع وعلى رأسها تحصينه من الآفات، وقد حثّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل مسلم ليكون مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، من خلال الاهتمام بأمور 



1 سورة المائدة، الآية:2.
2 سورة النحل، الآية: 90.
 
 
13

8

المقدمة

 المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم"1. وذلك لأنّ التكافل الاجتماعي جزء من عقيدة المسلم والتزامه الديني، وهو نظام أخلاقي يقوم على الحب والإيثار ويقظة الضمير ومراقبة الله عزَّ وجل، ولا يقتصر على حفظ حقوق الإنسان المادية, بل يشمل أيضاً المعنوية، و غايته التوفيق بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد.

 
وبناءً على هذه الأسس يستمرّ مركز نون للتأليف والترجمة في إعداد وإصدار سلسلة الدروس الثقافية، التي تزخر بالعديد من المفاهيم التربوية والأخلاقية والاجتماعية...، بغية تقديم الثقافة الأصيلة في تربية الفرد وبناء المجتمع.
 
والحمد لله رب العالمين
مركز نون للتأليف والترجمة



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2 ، ص163.
 
 
14

9

الدرس الأول: كمال الإنسان

 الدرس الأول: كمال الإنسان



مفاهيم محوريّة:
- لقاء الله تعالى.
- حضور الله في حياتنا.
- أثر حضور الله في حياتنا.
- الشهداء هم أهل الحضور واللقاء.
- كيف يصبح الله حاضراً في حياتنا؟
 
 
15

10

الدرس الأول: كمال الإنسان

 نص الموعظة القرآنية:

يقول الله تعالى: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾1.
 
لقاء الله تعالى
لا يوجد كمالٌ للإنسان أجلّ وأرفع من لقاء الله سبحانه وتعالى، وهو من أسمى مقامات الإنسانية الشامخة. ولا سعادة أكبر للمؤمن من التقرّب إلى الله تعالى صاحب الكمال المحض، والقدرة اللامحدودة، والعلم المطلق، ولا راحة أعلى من اليقين بأنّ الإنسان لا محالة راجعٌ إلى ربٍّ ودودٍ رحيمٍ.
 
وقد بشّر عزّ وجلّ المؤمنين بلقائه، فقال ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾2.
 
ووعد الذين يرجون لقاءه بأنّ لهم ما يأملون ﴿ومَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾3.



1 سورة الرعد، الآية: 2.
2 سورة البقرة، الآية: 223.
3 سورة العنكبوت، الآية: 5.
 
 
17

11

الدرس الأول: كمال الإنسان

 ووصف تعالى المكذّبين بلقائه بأنّهم خاسرون وغير مهتدين ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾1.

 
وأنّ الكافرين بلقائه هم في الحقيقة يائسون من رحمة الله، ولهم عذابٌ أليم ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾2.
 
وأنّه تعالى سوف يكلهم إلى أنفسهم ويذرهم في عماهم ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾3.
 
أما أهل الإيمان والخشوع فإنّهم على يقينٍ بلقاء ربّهم وأنّهم إليه راجعون ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾4.
 
بل وإنّ قلوبهم وجلةٌ وفرحةٌ برجوعهم إليه سبحانه تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾5.
 
لأنّهم على يقينٍ أنّ الله تعالى لم يخلقهم عبثاً ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾6.
 
بل يعلمون علم اليقين أنّه اصطنعهم لنفسه ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾7.



1 سورة يونس، الآية: 45.
2 سورة العنكبوت، الآية: 23.
3 سورة يونس، الآية: 11.
4 سورة البقرة، الآيتان: 45 – 46.
5 سورة المؤمنون، الآية: 60.
6 سورة المؤمنون، الآية: 115.
7 سورة طه، الآية: 41.
 
 
18

12

الدرس الأول: كمال الإنسان

 لذا تكون نفوس المؤمنين مطمئنةً بالرجوع إلى ربِّها ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾1، راضيةً بالدخول في عباده الصالحين والوفود إلى جنّة لقائه ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾2.

 
حضور الله في حياتنا
لقاء الله تعالى على نحوين، لقاءٌ في الدنيا ولقاءٌ في يوم القيامة عند البعث والحساب. وكلامنا الآن يتمحور حول لقاء الله في الدنيا قبل الآخرة. وليس المقصود بلقاء الحق تعالى اللقاء الحسّي ورؤيته تعالى بالبصر المادي، لأنّ الله تعالى ليس بجسمٍ، ولا يحدّه مكان، ولا يُرى بالعين، فإنّه ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾3. بل المراد به اللقاء المعنوي، بمعنى حضوره تعالى الدائم في حياتنا، وعدم الغفلة عنه أبداً، والتوجّه إليه باستمرار، ومشاهدة آياته وآثار قدرته تعالى في كلّ شيءٍ. فلا نعبد غيره، ولا ندعو سواه، ولا نطلب حوائجنا إلّا منه. فالإنسان عندما يدرك أنّ الله تعالى خالقه، ومالك كل شيء، وبيده الأمر كله، وهو في السماء إله،ٌ وفي الأرض إله، وهو ربّ العالمين، فمن الطبيعي أن يتوجّه إليه بالعبوديّة له والتسليم.
 
والوصول إلى هذه المنزلة الإنسانية الرّفيعة، من لقاء الحق والحضور في محضره إنِّما يصبح ميسوراً في حالةٍ واحدةٍ فقط، وهي عندما يصبح الله تعالى حاضراً دائماً في حياة الإنسان، فيرى الإنسان خالقه حاضراً وموجوداً في جميع شؤون حياته، ويشاهد نفسه دائماً في مشهد الله العظيم وفي ساحة حسابه يوم القيامة.



1 سورة العلق، الآية: 8.
2 سورة الفجر، الآيتان: 27 - 30.
3 سورة الأنعام، الآية: 103.
 
 
19

13

الدرس الأول: كمال الإنسان

 وكيف لا يكون ذلك وهو تعالى معه أينما ولّى وجهه ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾1.

 
وهو أقرب إليه من حبل الوريد ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾2.
 
وهو شاهدٌ على كلّ حركةٍ يقوم بها وكلّ لفظةٍ ينطق بها ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾3.
 
فالإنسان إذا أراد أن يحصل على مقعد صدقٍ عند الله، ينبغي له في البداية أن يرى الله حاضراً وناظراً إليه في جميع شؤونه، ثم بعد ذلك يؤدّي على أساس هذا الشهود جميع الأعمال خالصةً لوجه الله. فممّا أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر رضوان الله عليه أن قال له: "يا أبا ذرّ إنك منّا أهل البيت، وإني موصيك بوصيّة فاحفظها، فإنّها جامعة لطرقِ الخير وسبلِه، فإنك إن حفظتها كان لك بها كفلان، يا أبا ذرّ اعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك، واعلم أن أول عبادة الله المعرِفة به"4. وهذه الحالة تحصل للإنسان في هذه الدنيا نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس. وقد سأل رجلٌ يقال له ذعلب أميرَ المؤمنين عليه السلام: "هل رأيت ربك؟ قال عليه السلام: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربّاً لم أره. فقال: يا أمير المؤمنين: كيف رأيته؟ قال عليه السلام: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائقِ الإيمان"5.



1 سورة الحديد، الآية: 4.
2 سورة ق، الآية: 16.
3 سورة يونس، الآية: 61.
4 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 76.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 138.
 
 
20

14

الدرس الأول: كمال الإنسان

 أثر حضور الله في حياتنا

إذا أدرك الإنسان أنّه في محضر الله تقدّست ذاته، وأنه مطّلعٌ على جميع حركاته وسكناته، فلن يقوم بالأعمال التي لا ترضي الله، ولن يعصيه أبداً، بل سوف يسعى دائماً لأن يجعل كلّ أعماله موافقةً لإرادته تعالى وخالصةً لوجهه سبحانه. فالله تعالى يرى ويشاهد أعمال الإنسان، وليس هو وحده وإنما رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومون عليهم السلام شاهدون على أفعالنا أيضاً ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾1. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "تُعرَض الأعمال على رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم أعمالُ العبادِ كلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروها، وهو قول الله تعالى ﴿اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ﴾، وسكت"2. وعندما سئل عليه السلام عن "المؤمنون" في الآية الكريمة قال عليه السلام: "هم الأئمة".
 
فإذا أدرك الإنسان هذه الحقيقة وهي أن كل أعماله مشهودةٌ عند الله وملائكته الذين يكتبون كل شيء، وكذلك الأئمة المعصومين عليه السلام، عندها سوف يسعى لاجتناب المعاصي وفعل الصّالحات. أما إذا لم يطّلع الإنسان على أصل أن "الله معه" دائماً، وظنّ أنه غائبٌ عنه، فإنّه سوف يغرق بالغفلة، وسوف يتهاون في أداء الأعمال الواجبة عليه، ولن 
يهتمّ باجتناب المحرّمات. بخلاف ما إذا أدرك أنّ الله تعالى محيطٌ به ووجد نفسه دائماً في مشهده ومحضره، فإنه يسعى لأداء كل الأعمال طبق الإرادة الإلهية. وهذه الأعمال التي تؤدّى وفق إرادة الله هي أعمالٌ مقرّبةٌ إلى الله، كالصلاة مثلاً التي هي "قربان كل تقي"3 كما ورد عن الإمام الرضا عليه السلام. وإذا وصل الإنسان إلى هذا الحدّ فاعتقد أنّ الله ناظرٌ إلى أعماله، راعى الخلوص أيضاً في كل أعماله. 



1 سورة التوبة، الآية: 105.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 219.
3 (م.ن)، ج 3، ص 265.
 
 
21

15

الدرس الأول: كمال الإنسان

 فهو من جهةٍ يؤدّي الأعمال بحسب أوامر الله، ومن ناحيةٍ ثانية يكون مخلصاً في القيام بأعمال البرّ والخير. وهذه منزلةٌ رفيعةٌ يصل إليها الإنسان وهي متيسّرة للجميع، فما أخسر الذين يبيعون أنفسهم للدنيا وهم مدعوّون للوصول إلى هذا المقام الرفيع.

 
الشهداء هم أهل الحضور واللقاء
إنّ أكثر من يستشعر هذه المعاني السامية جيداً، ويتوق إلى هذه المنازل الرفيعة، ويصبو إليها دائماً هو ذلك الإنسان العاشق للشهادة في متراس الحرب وثغور الجهاد، لأنّ قلبه لم يتعلّق بشيءٍ إلا بالله تعالى الحيّ الذي لا يفنى.
 
فالمجاهد تعني الحضور، ويقابلها الغيب والضياع، وهي عبارةٌ عن حضور الإنسان في المحضر الإلهي باختياره وإرادته حيث يصل المجاهد في عشقه لله إلى درجةٍ من الشوق والوله للقاء المحبوب لا يرى معها الدنيا إلا سجناً وقيداً ومانعاً من الوصول إلى السعادة المطلقة، فيرفع حجاب الجسم المادّي عن وجه الروح وحياتها الأبدية.
 
فالشهيد عندما يدرك أنّ الله تعالى محيطٌ به، ومعه دائماً، وأقرب إليه من نفسه، فإنّه لا يتورّع عن تقديم كل وجوده في سبيله. الشهيد هو الذي عرف أسرار الحياة، فشهد الدنيا بعين الحقيقة, أنها دار الغرور والقرية الظالم أهلها، ولم يغفل عن الآخرة التي هي دار الحيوان أي الحياة الحقيقية، ﴿وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾1. فصار الموت عنده أمنيةً، لأنّه باب الوصول إلى تلك الحياة الحقيقية، وباتت الدنيا ساحة جهادٍ دؤوبٍ للقاء المحبوب، فهو يتمنّى الموت طلباً للآخرة، ويرى الدنيا حجاباً ومانعاً من الوصول إلى غايته الكبرى. فاختار أن يسلك الطريق الأسرع والأقصر للقاء الله ونيل رضوانه، وهل من طريقٍ أسرع إلى رضوان الله من بذل المهج وخوض اللجج والقتل في سبيله؟! وهو غاية منى العاشقين وأقصى مراد الطالبين!


1 سورة العنكبوت, الآية:64.
 
 
 
22

16

الدرس الأول: كمال الإنسان

 لذا كان الشهداء في مقامهم العالي عند الله وليس عند أحدٍ سواه، أحياء في كنفه بالحياة الحقيقية، لهم رزقٌ لا حدّ له، وعطاءٌ غير مجذوذ، ﴿وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾1، ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾2. لا معنى للخوف أو الحزن لديهم، لأنّ الإنسان إنما يحزن ويغتمّ على المفقود والزائل، وهم إنّما تعلّقت قلوبهم بالحيّ الذي لا يزول ولا يفنى، لذا لا يطرق الخوف أو الحزن ساحتهم على الإطلاق بل ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾3، لأن الشهداء جسّدوا في حياتهم كل معاني التضحية والوفاء والصبر والإقدام والصدق والإخلاص والعشق والفناء في المحبوب، فكان لهم ما أرادوا ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾4. لذا كان عيد الإمام الخميني قدس سره هو اليوم الذي يرزقه الله تعالى الشهادة في سبيله: "إن يوم فرحتنا وسعادتنا هو يوم نرتاح من هذه الدنيا الملوّثة والمليئة بالآلام والعذاب والبلاء. إن عيدنا ويومنا السعيد هو الشهادة"5.

 
كيف يصبح الله حاضراً في حياتنا؟
إذا كان كمال الإنسان وسعادته الحقيقيّة تكمن في التقرّب إلى الكمال المحض وصيرورته عند الله كما هو حال الشهداء، فإن تحقّق ذلك إنّما يكون من خلال أمرين أساسيّين هما: المراقبة والمحاسبة. فالإنسان إذا أدرك أنه في محضر الله لا بد له من مراقبة أعماله والانتباه لتصرّفاته من جهة، ومن جهةٍ أخرى عليه أن يحاسب نفسه باستمرار. فالمراقبة الدائمة والحساب المستمرّ هما اللذان يوصلان الإنسان 



1 سورة الحديد:الآية 19.
2 سورة آل عمران: 169.
3 سورة آل عمران، الآية: 170.
4 سورة النساء، الآية: 69.
5 صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 1، ص 196.
 
 
 
23

17

الدرس الأول: كمال الإنسان

 إلى المكان الذي لا ينظر فيه إلا إلى الله. ويبيّن القرآن الكريم هذين الأصلين في سورة الحشر المباركة بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾1. فهذه الآية تدعونا إلى أصلين أخلاقيين، الأوّل المراقبة، والثاني المحاسبة. فكلّ إنسانٍ مكلّفٌ بمراقبة نفسه ومحاسبتها، فيراقبها في أفعالها وتصرّفاتها وأقوالها ويحاسبها، فإذا عمل خيراً شكر الله، وإذا عمل سوءاً استغفر الله وتاب إليه.

 
1- المراقبة:
معنى المراقبة مشتقّ من "الرقبة"، فالذي يرفع رقبته ليشاهد أكثر يكون مراقباً. وعلى الإنسان أن يراقب كلّ شيء في حياته من الكلام والفعل والنّظر وغيرها... لكي لا يقع فيما لا يرضي الله، وما يخالف أمره، فهو عزّ وجلّ ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾2، ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾3، وهو مستعدّ وجاهز ليسجّل كلّ شيء ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾4، والإنسان الذي يراقب نفسه باستمرار سوف يحرص على أن لا يرتكب أية مخالفة، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبة له قال: "فرحم الله من راقب ربه، وخاف ذنبه، وجانب هواه، وعمل لآخرته، وأعرض عن زهرة الحياة الدنيا"5. ومما وصّى به إمامنا الصادق عليه السلام: "واقصد في مشيِك, وراقب الله في كل خطوة، كأنّك على الصراط جائز، ولا تكن لفّاتا"6.



1 سورة الحشر، الآية: 18.
2 سورة غافر، الآية: 19.
3 سورة ق، الآية: 18.
4 سورة يس، الآية: 12.
5 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 18.
6 (م.ن)، ج 73، ص 167.
 
 
 
24

18

الدرس الأول: كمال الإنسان

 2- المحاسبة:

وأما المحاسبة فأن يحاسب الإنسان نفسه من خلال البحث والتدقيق في أعماله ليرى إن كان قد أدّى التكاليف الإلهية على أكمل وجه أم لا، فإذا اكتشف أنه ارتكب ما يخالف أمر ربّه استغفر وأناب إليه نادماً عازماً على أن لا يعود إلى معصيته مطلقاً، وسعى مباشرة لإصلاح الأمر وجبران ما فاته. وإذا اكتشف أنّه أدّى ما عليه حمد الله وشكره على ما وفّقه إليه، وهو مدرك أنّه لا مجال للمقارنة بين طاعاته ونعم الله السابغة عليه، لذا يجد نفسه مقصّراً دائماً في محضر الحق، ولا يفتأ عن إظهار العجز والضّعف أمام ساحته، فلا يبتعد عن العبودية له قيد أنملة، ولا يجد نفسه في محضره إلّا عبداً. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض خطبه قال: "أيها الناس لا يشغلنّكم دنياكم عن آخرتكم، فلا تؤثروا هواكم على طاعة ربكم، ولا تجعلوا أيمانكم ذريعة إلى معاصيكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهّدوا لها قبل أن تعذّبوا، وتزوّدوا للرحيل قبل أن تُزعَجوا، فإنّها موقِفُ عدل، واقتضاء حقّ، وسؤالٌ عن واجبٍ، وقد أبلغ في الإعذار من تقدّم بالإنذار"1.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ووازنوها قبل أن توازنوا، حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها"2.



1 بحار الأنوار، ج74، ص183.
2 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 12، ص 154.
 
 
25

19

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال (الإيمان - الهجرة - الجهاد)



مفاهيم محورية:
- أسس الطريق.
- الإيمان واللقاء.
- الهجرة في سبيل الله.
- الجهاد في سبيل الله.
- تلازم الهجرة والجهاد.
 
 
 
27

20

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 نص الموعظة القرآنية:

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1.
 
تمهيد
كان بحثنا في الدرس السابق يدور حول عدم وجود كمالٍ للإنسان أرفع من لقاء الله والحضور الدائم في محضره. فأيّ سعادة أكبر للإنسان من التقرّب إلى الكمال المحض؟ وأيّ مقام أرفع له من صيرورته عند الله؟! فإذا كان كمال الإنسان في التقرّب إلى الله فما هو الطريق الموصل إلى ذلك؟ وإذا كانت سعادة الإنسان في أن يكون الحقّ تعالى حاضراً دائماً في حياته فلا يغيب عنه طرفة عين أبداً، فما هو السّبيل إلى ذلك؟
 
أسس الطريق
إنّ الآية الكريمة التالية من كتاب الله العزيز تبيّن لنا جوانب هذا الطريق الأساسيّة والتي بمراعاتها يضع الإنسان قدمه على الصّراط الإلهي المستقيم،



1 سورة البقرة، الآية: 218.
 
 
 
29

21

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 يقول تعالى في محكم كتابه ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾1. فالآية تشير بشكل واضح إلى أنّ الإيمان، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، من العوامل الأساسيّة التي تمهّد الأرضيّة للقاء الحق والوصول إلى درجةٍ عظيمة عنده كما قال عزّ اسمه: ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ﴾، ليكون في نهاية المطاف من الفائزين ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾. إذاً، فشرط التقرّب إلى الله وصيرورة الإنسان عند الله كما هو حال الشّهيد هو في أن يتحلّى المجاهد بالإيمان الصّحيح والواعي، ثم يشمّر عن ساعد الهمّة ليهاجر إلى الله ورسوله، ثم ينزل إلى ميدان المجاهدة ومقارعة الأعداء بهمّةٍ عالية وبأسٍ شديد حتى ينال شرف القتل في سبيل الله، فيصل إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيناجي ربه قائلاً: "إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة، فلا تطمئنّ القلوب إلّا بذكراك، ولا تسكن النفوس إلّا عند رؤياك"2.

 
الإيمان واللقاء
الإيمان هو من شؤون البشر وميولهم التي خلقت معهم، فأن نقول "إنسان" فهذا يعني أنّنا أمام كائن يمتلك ميلاً طبيعياً نحو الإيمان بشيء ما، فلا يخلو إنسان من هذا الميل أو الشعور. والإيمان هو نوع من الإذعان أو التّسليم لحقيقة أو لشيء نعتقد أنه حقيقة، والنّفس التي تؤمن به تعيش حالة من الخضوع أو التّسليم له. والإيمان في الإسلام يقابل الكفر وهو الذي يكون حساب البشر في يوم القيامة على أساسه، وهو الإيمان بالله الواحد الأحد الذي خلق كلّ شيء وهو ربّ العالمين. فالإيمان



1 سورة التوبة، الآيتان: 20-21.
2 الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجادية، مناجاة الذاكرين.
 
 
 
30

22

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 الإسلامي يختلف عن أيّ إيمان آخر، وبمعرفته يمكن أن نقول إنّ كلّ إيمان آخر هو الكفر الحقيقيّ الذي سوف يظهر في يومٍ من الأيام.

 
لقد خلق الله الإنسان لكي يصل إلى هدفٍ واقعيّ تتحقّق عنده سعادته المطلقة وكماله النهائي، وهو لم يطالبه بالإيمان إلا لدخالته في تحقّق الهدف النهائي. ويمثّل لقاء الله ودخول جنّته هذه السعادة المطلقة التي هي هدف الإنسان ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾1، وما لم يدخل هذا الإنسان إلى الجنّة فهو من أصحاب النار والشّقاء الأبدي. وبمراجعة الآيات التي تحدّثت عن شروط الفوز بالجنّة والنّجاة من العذاب، نجد أنّ الإيمان بالله عزّ وجلّ هو العامل الأساسيّ بل الوحيد، لأن كلّ العوامل الأخرى لا تقف إلى جانبه بل تنبع منه ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾2. وكذلك إذا راجعنا جميع الآيات التي تحدّثت عن سبب الدّخول إلى جهنّم والعذاب الإلهي والحرمان من لقاء الحق تعالى، نجد أنّ السّبب الوحيد هو الكفر بالله سبحانه ﴿قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾3. وسرّ ذلك أنّ الإيمان والكفر هما الموجّه لمسيرة الإنسان فما يؤمن به الإنسان ويعتقد به هو الذي سيكون هدفه النهائي، وأولئك الذين آمنوا بالله حقاً، وتوجّهوا إليه وطلبوه، وسلكوا الطريق المؤدّي إليه، كانت عاقبتهم الوصول إليه ودخول جنّته التي هي مقام لقائه. فلا إمكانية للوصول إلى هذه المنزلة الرّفيعة إلا بعد الإيمان به تعالى وبإمكانية لقائه ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ 



1 سورة الانشقاق، الآية: 6.
2 سورة الأنعام، الآية: 158.
3 سورة آل عمران، الآية: 12.
 
 
 
31

23

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 رَاجِعُونَ﴾1، ﴿وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ﴾2. والقرآن الكريم يحدّثنا ويؤكّد لنا على أنّ سعادة الأفراد والمجتمعات تكمن في إيمانها، وأنّ شقاءهم حاصل كفرهم، فالخير يبدأ من الإيمان وينمو معه، والشرّ مستبطن في الكفر ويستشري به. أمَا أولئك الذين آمنوا بغير الله الواحد الذي بيده كلّ خير، فسيتحرّكون نحو كمالات وهميّة، وأشياء يظنّون الخير فيها والسعادة المنشودة منها، ولكنّهم في النهاية سيدركون أنّ ما آمنوا به لم يكن الإله الحقيقيّ أصل كلّ خير ومفيض كلّ نعمة.

 
ولا شكّ أنّ الإيمان وحده لا يكفي للوصول إلى السعادة، فالإيمان إذا لم يصل إلى درجةٍ يحرّك معها الإنسانَ نحو مفيض الخير والكمال فإنّه لن يكون مؤثّراً. بل الإيمان الذي يولّد السّعي هو الذي سيكون مؤثّراً، وأعظم أثرٍ للإيمان الواقعي هو أنّه يجعل قلب صاحبه متوجّهاً ومقبلاً إلى الله سبحانه وتعالى، بينما يكون الكفر إعراضاً وإغلاقاً لهذا القلب 
أمام كلّ خير وسعادة ينشرها الرحمن في عباده ومخلوقاته. إذاً، ما ينبغي أن يتعلّق به الإيمان ليكون إيماناً إسلاميّاً، هو الإله الذي بيده كلّ خير وكمال وسعادة يصبو إليها الإنسان.

وهذا هو التّوحيد ومعنى أن يكون المرء موحّداً. فالتوحيد ليس مجرّد اعتقاد بأنّ الله خالق كلّ شيء وأنه لم يشرك معه أحداً في خلقه، بل يعني أيضاً الاعتقاد بأن كلّ خير نريده أو نحتاج إليه فهو موجود عند الله، وعلينا أن نطلبه منه. ونفس هذا الاعتقاد يعدّ درجةً من درجات الإيمان، وهو إذا استولى على قلب الإنسان، فأخرج كلّ ما ينافي هذا الاعتقاد الحقيقيّ من قلبه، فإنّ صاحبه يصل إلى أعلى درجات الإيمان. لأنّ الإيمان الكامل هو الذي يكون القلب معه لله وحده دون سواه،



1 سورة البقرة، الآية: 46.
2 سورة هود، الآية: 29.
 
 
32

24

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 فتكون جميع تحرّكات هذا الإنسان إلهية، وعندها يصبح في أعلى درجات الاستعداد لاستقبال ألطاف الحق ومواهبه السنيّة.

 
وأمّا الوسيلة الفضلى لنيل هذه الدرجة من الإيمان وتعميقها وترسيخها في القلب فهي العمل الصّالح ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾1. وأهمّ هذه الأعمال المقرّبة إلى الله والهادية إليه الهجرة والجهاد في سبيل الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾2.
 
الهجرة في سبيل الله
من كان يريد الله تعالى فعليه أن يهاجر إليه. والهجرة إلى الله هي التعبير العمليّ عن الإيمان به، لذا قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ﴾3. فالخطوة الثانية بعد الإيمان بالله والاعتقاد العقلي والقلبي به هي الهجرة في سبيله، والإنسان ما دام حيّاً فهو مكلّف بهذه الهجرة، وهي على أنواع ومراتب:
 
منها: أن يهاجر الإنسان من بلاد الكفر والمشركين إلى ديار الإسلام، التي يستطيع أن يؤدّي فيها تكليفه، ويأمن فيها على دينه، ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾4.



1 سورة طه، الآية: 75.
2 سورة الأنفال: ، الآية: 74.
3 سورة الأنفال، الآية: 72.
4 سورة النساء، الآية: 100.
 
 
 
33

25

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 منها: أن يترك الدّناءة، ويهجر الخبائث، ويتجنّب المعاصي التي تحول بينه وبين لقاء ربه والظّفر بجنّته، وهي قوله تعالى في كتابه العزيز، ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾1.

 
منها: الهجرة بالبدن عن مخالطة أهل العصيان والفسوق، ومجالسة أهل البغي والطغيان، وأبناء الدنيا الذين يعيقونه عن التوجّه للآخرة. والهجرة بالقلب عن المودّة لهم والميل إليهم، وترك العادات والتقاليد المخالفة للشرع، والاعتبارات الوهميّة التي تمنع الإنسان من سلوك طريق الآخرة، وتكون عائقاً من السّفر إلى الله. ففي المجتمع المادّي يتقيّد الإنسان بعادات وهميّة اعتاد عليها أهل الدنيا حتى أصبح قياس النّفع وميزان الخسارة مبيناً عليها. كما جرت العادة أن ينسب الجهل إلى كلّ من يلتزم الصّمت في المجالس العلميّة أو غير العلميّة، أو أن يعتبر التّهافت إلى الجلوس في صدر المجلس دليلاً على الرّفعة والمنزلة العالية، أو أن يعتبر أن التصّنع في الكلام والتشدّق به دليلٌ على سعة الاطّلاع والفهم، وخلافه دليل على الحقارة والضّعة وضعف الموقف والشخصيّة. بل على الإنسان المؤمن حقاً أن يغضّ النظر عن كل هذه الأمور وأن يهجرها دون أيّ خوف أو وجل، وهي قوله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾2.
 
منها: أن يهجر الإنسان أنانيّته، ويخرج من بيت نفسه المظلم، وحبّه لذاته، بهدف القضاء على أهواء النّفس حتى يقدر أن يضع قدمه على بساط التّوحيد، ويدخل عندها في مضمار ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾3. وهذه هي الهجرة الحقيقيّة إلى الله حيث يدوس الإنسان على أهوائه وأنانيّته وييمّم وجهه شطر الإله والمعبود الأوحد، وهي الهجرة التي قال الله تعالى فيها: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي



1 سورة المدّثر، الآية: 5.
2 سورة المزمل، الآية: 10.
3 سورة البقرة، الآية: 156.
 
 
 
34

26

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾1. وجاء في بعض التفاسير في تفسير قوله تعالى ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ﴾2، أنّ البيت في الآية يُحمل على معنيين, على البيت الظاهري وهو المنزل، وعلى البيت الباطني وهو بيت النفس. فكلّ من يهاجر من بيت النفس الأمّارة بالسوء بهدف التوجّه إلى الله قاصداً لقاءه، فإنّ أجره وثوابه على الله، وهو سوف يوفّيه إيّاه حتماً حتى ولو أدركه الموت في الأثناء.

 
الجهاد في سبيل الله
على الإنسان الذي يبحث عن السّبيل الأسلم لتعميق الإيمان وتثبيته في النّفس طمعاً في الهداية، أن يبحث عن أفضل الأعمال التي تبرهن عن صحّة وسلامة مقاصده وأهدافه. فليس كلّ من ادّعى ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾3 صحّت هجرته إلى ربّه، بل عليه أن يقدّم الأدلّة التي تثبت صحّة نيّته وصدقه في الطلب. وأفضل وسيلة لإثبات هذا المدّعى هو انتخاب أفضل الأعمال التي تقرّبنا إلى الله وتدنينا منه. ويُعتبر الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال وأحمزها، فقد سُئل إمامنا الصادق عليه السلام ذات مرّة: أي الأعمال أفضل؟ فقال عليه السلام: "الصّلاة لوقتها وبرّ الوالدين والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ"4. وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض"5، وهو أشرف الأعمال أيضاً كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام، وهو قوام الدين، والأجر فيه عظيم"6.



1 سورة النساء، الآية: 100.
2 سورة الصافات، الآية: 99.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 158.
4 (م. ن)، ج 5، ص 3.
5 (م. ن)، ج 5، ص 36.
6 الشيخ الكليني، الكافي، ج 5، ص 8.
 
 
 
35

27

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 ومنشأ هذه العظمة والأهمّية, أنه ما صلحت دنيا ولا دين إلّا بالجهاد. فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إن الله عزّ وجلّ فرض الجهاد وعظّمه، وجعله نَصْرَهُ وناصِرَه،ُ والله ما صلَحت دنيا ولا دين إلا به"22. وكيف لا تكون له هذه العظمة وهو من أركان الإيمان كما قال عليه السلام: "الإيمان أربعة أركان الصّبر واليقين والعدل والجهاد"1. وقد حدّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنهج العملي للإسلام واختصره بكلمةٍ واحدة في الجهاد في سبيل الله حيث قال: "سياحة2 أمّتي الجهاد"3. فمن أراد اتّباع سبيل الحق لا طريق له إلى ذلك إلّا بالجهاد.

 
والجهاد في سبيل الله على قسمين كما أخبر بذلك رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث رُوي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم استقبل سريّة كان قد بعثها للقتال فقال لها بعد عودتها: "مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل له: وما الجهاد الأكبر، قال: جهاد النفس"4. الجهاد الأصغر وهو مواجهة العدوّ الخارجي من الكفّار وأعداء الإسلام، الذين يمنعون إقامة حكم الله تعالى على الأرض، وهذه المواجهة لها أشكالٌ عديدة: عسكرية وأمنية وسياسية وثقافية واقتصادية وغيرها... وهذا الجهاد الأصغر هو درع الله الحصينة وجنّته الوثيقة، 
كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وسوّغهم كرامة منه لهم ونعمة ذخرها. والجهاد هو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء"5.



1 الميرزا النوري، مستدرك ‏الوسائل، ج11،ص16.
2 السياحة: تعني الطريق والمنهج.
3 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج11، ص14.
4 (م.ن)، ص137.
5 الشيخ الكليني، الكافي، ج5، ص4.
 
 
36

28

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 أما الجهاد الأكبر فهو محاربة العدوّ الباطني، وهو الأهواء والنفس الأمّارة. ووظيفة المجاهد الأساسيّة القضاء على هذا العدوّ الباطني والانتصار عليه، وهو أشدّ فتكاً وخطراً من العدوّ الخارجي بل ومن أخطر الأعداء على الإطلاق كما أخبر عن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى قائلاً: "الله الله في الجهاد للأنفس فهي أعدى العدوّ لكم، إنه تبارك وتعالى قال إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وإنّ أوّل المعاصي تصديق النفس، والركون إلى الهوى"1.

 
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الجهاد بالأكبر، لأنّ الهزيمة فيه هي الهزيمة الحقيقية، والانتصار فيه هو الانتصار الأكبر. فالهزيمة في ساحة الجهاد الأصغر ليست هزيمة في الحقيقة بل هي نيل إحدى الحسنيين، أمّا في ساحة الجهاد الأكبر فإنّ الإنسان إذا فشل في محاربة النّفس الأمّارة بالسّوء، فإنها ستسيطر عليه وتصبح هي الآمر والناهي في مملكة وجوده، فيخرج بذلك من ميدان العبوديّة لله ليدخل في ميدان عبوديّة النّفس والطاعة لها فيسقط في أسفل سافلين ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾2، وربما لا يتمكّن من جبران هذه الخسارة بعدها أبداً.
 
فالنفس جرّاء التعلّق بزينة الدنيا وشهواتها تصبح مشغوفة بها، فتدعو صاحبها لارتكاب الخطايا وتزيّن له السيّئات، وهي لا تزال على هذا المنوال حتى تصبح أمّارة بالسوء لا يهدأ لها خاطر إلا إذا دعت وأمرت بالسيّئات. وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة بقوله ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾3. فالّنفس إذا تركت وشأنها وأهملت تربيتها تكون مبادرة إلى المعاصي وتأمر بالسوء دائماً، 



1 الميرزا النوري، مستدرك ‏الوسائل، ج11، ص138.
2 سورة الجاثية، الآية: 23.
3 سورة يوسف، الآية: 53.
 
 
37

29

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 والاستثناء هو ما خرج برحمة الله تعالى بالتربية والمجاهدة. وعليه نصل إلى هذه النتيجة, أن من آمن بالله حقّ الإيمان، وهاجر إليه، وجاهد في سبيله، فهو في أعظم درجة عند الله، وهو من الفائزين ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾1.

 
تلازم الهجرة والجهاد
الهجرة والجهاد هما الركنان الأساسيّان اللذان يستند إليهما الإسلام من الناحية الاجتماعية والتربوية، وقد حرص القرآن الكريم على إحاطتهما بقدسيّة خاصّة كلّما تحدّث عنهما، كما أنه عظّم وقدّس درجة المهاجرين والمجاهدين أكبر تعظيم وتقديس.
 
الهجرة تعني التخلّي عن البيت والأهل والوطن والابتعاد عنها والتوجّه إلى ديار الإيمان حفظاً للدّين من الضّياع. وفي كثير من الآيات القرآنية نرى كلمتي الهجرة والجهاد قد ذكرتا معاً, ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾2 في الصدر الأول للإسلام، كان المسلمون ينقسمون إلى قسمين هما: المهاجرون والأنصار. فالأنصار هم سكّان المدينة - يثرب - الذين آووا ونصروا، والمهاجرون هم الذين هجروا ديارهم وقدموا إلى المدينة إنقاذاً لدينهم.
 
والهجرة هي كالجهاد، حكم غير ثابت في الشرع الإسلامي، ولكنه من أركانه الأساسيّة وأحكامه الحيّة، بمعنى أنّ من المحتمل أن تطرأ ظروف تصبح معها الهجرة واجباً شرعيّاً وفرضاً يجب على المسلم أداؤه.



1 سورة التوبة، الآية: 20.
2 سورة الأنفال، الآية: 74.
 
 
 
38

 


30

الدرس الثاني: الطريق نحو الكمال( الإيمان - الهجرة – الجهاد)

 ولقد ورد للهجرة وكذلك الجهاد تفسير آخر غير ما تقدّم، فقد فسّرت الهجرة بهجر المعاصي والذنوب والابتعاد عنها. إذاً، المهاجر من هجر السيّئات. فما هو نصيب هذا التفسير من الصّحة يا ترى؟ وهل أنّ من تلوّثت نفسه بالذنوب ثم تاب وأصلح واغتسل بماء التوبة المطهّر سيصبح بذلك مهاجراً لأنه هجر الذنوب وابتعد عنها؟ لو أخذنا بهذا التفسير لأصبح جميع التائبين في العالم مهاجرين لأنهم هجروا الذنوب والمعاصي ونأوا عنها، أمثال فضيل بن عياض، وبشر الحافي وغيرهما كثير... ولهذا المنحى في تفسير الهجرة شبيه في باب الجهاد أيضاً، حيث إنّ "المجاهد من جاهد نفسه"1، والمجاهد هو من يجاهد النفس الأمّارة بالسّوء وأهواءها الداخلية، ومعروف أنّ الصراع الداخلي موجود باستمرار، قائم بين النفس وأهوائها من جهة، والعقل من جهة أخرى. يقول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام: "أشجع الناس من غلب هواه"2.




1 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج15، ص163.
2 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 394.
 
 
 
39

31

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 الدرس الثالث: وبشّر المخبتين


مفاهيم محورية:
- الإيمان الحقيقي.
- بيان أهمية التسليم.
- اختبار الشيعة بالتسليم.
- ما يُستكمل به الإيمان.
- لسيدة زينب عليها السلام نموذج للإنسان للمسلم.
 
 
41

32

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 نصُّ الموعظة القرآنية:

قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾1.
 
وقد قيل في سبب نزول هذه الآية المباركة: أَنَّه وقع خصامٌ بين الزبير بن العوام ـ وهو من المهاجرين ـ وبين رجل من الأنصار على سقي نخيلهما التي كانت متقاربة في المكان، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إِنَّ نخيل الزبير كانت أعلى مكاناً من نخيل الأنصاري، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للزبير: "اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ". وقد كانت هذه هي العادة في البساتين المتجاورة آنذاك. فغضب الأنصاري من حكم النبي العادل هذا، وقال: يا رسول الله لئن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انزعاجاً من موقف الأنصاري وكلامه، فنزلت الآية الحاضرة تحذّر المسلمين من مثل هذه المواقف2.
 
وقد ذكرت بعض التفاسير أسباباً أخرى لنزول الآية تتشابه فيما بينها إلى درجة كبيرة، ولا مانع من تعدّد أسباب النزول 
في الآية الواحدة بتعدُّد الوقائع والأحداث، ولا ينافي ذلك عمومية مفهوم الآية وصلاحيتها لكلّ زمان ومكان.



1 سورة النساء، الآية: 65.
2 الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير الأمثل، في تفسير هذه الآية.
 
 
43

33

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 الإيمان الحقيقي

لقد أقسم الله تعال في الآية الكريمة بأنَّ الأفراد لا يمكن أن يمتلكوا إيماناً حقيقياً إلا إذا تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقضائه، ولم يتحاكموا إلى غيره، بل عليهم أنْ يرجعوا إليه في كلّ ما يشجر بينهم ويختلط عليهم أمره.
 
فالآية الحاضرة تبيّن علائم الإيمان الواقعي الراسخ في ثلاث مراحل:
المرحلة الأُولى: أن يتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه النابع من الحكم الإلهي فيما اختلفوا فيه، كبيراً كان أم صغيراً، لا إلى الطواغيت وحكّام الجور والباطل.
 
المرحلة الثانية: أن لا يشعروا بأيّ انزعاج أو حرج في نفوسهم تجاه أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقضائه العادل التي هي - في الحقيقة - الأوامر الإلهية نفسها، ولا يسيئوا الظن بهذه الأحكام.
 
المرحلة الثالثة: أن يطبّقوا تلك الأحكام - في مرحلة تنفيذها - تطبيقاً كاملاً، ويسلّموا أمام الحقّ تسليماً مطلقاً, فالإنسان قد يسلّم في مقام النظّر بالحكم الصادر من المولى أو رسوله، ولكنّه في مقام العمل لا يصدر منه أيّ شيءٍ.
 
ومن الواضح أَنَّ القبول بأيّ دين وأحكامه فيما إذا كانت في مصلحة الإنسان، وكانت مناسبة لمنافعه وتطلّعاته الشخصية، لا يمكن أن يكون دليلاً على إيمانه بذلك الدين، بل يثبت ذلك إذا كانت تلك الأحكام في الاتّجاه المعاكس لمنافعه وتطلّعاته ظاهراً، وإن كانت مطابقة للحقّ والعدل في الواقع، فإذا قَبِل بمثل هذه الأحكام، وسلّم لها تسليماً كاملاً كان ذلك دليلاً على إيمانه ورسوخ اعتقاده.
 
ومن الآيات التي تدلّ على معنى قريبٍ من معنى هذه الآية التي صدّرنا الموعظة بها قوله تعالى من السورة ذاتها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾1.



1 سورة النساء، الآية: 59.
 
 
 
44

34

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 أهميّة التّسليم

التسليم بذل الرضا بقبول قول الله تعالى وفعله وقول الرّسول وأوصيائه وأفعالهم عليهم السلام، وتلقّيها بالبشر وطلاقة الوجه وإن لم يكن موافقاً للطبع ولم يعلم وجه المصلحة، وهو من فروع العدالة وعلامة الإيمان.
 
المطالع للآيات والروايات يجد كمّاً هائلاً منها يتحدّث عن التسليم لأمر الله تعالى ولأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولأمر أهل بيته عليهم السلام.
 
حتّى أَنَّ بعضها نزّلت الإنسان العابد والعامل بالطاعات غير المسلّم منزلة المشرك، بل جعلته مشركاً صراحةً، ففي الخبر عن مولانا الصادق عليه السلام جاء فيه: "لَوْ أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا الله وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَقَامُوا الصَّلَاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ وحَجُّوا الْبَيْتَ وصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا لِشَيْ‌ءٍ صَنَعَهُ الله أَوْ صَنَعَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أَلَّا صَنَعَ خِلَافَ الَّذِي صَنَعَ، أَوْ وجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ، لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾ ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام عَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ"1.
 
ففي هذه الرواية دلالةٌ واضحةٌ وصريحةٌ على أَنَّ ذرّة الاعتراض على صنيع الله سبحانه وتعالى وأنبيائه وأوصيائه كفيلةٌ بإخراج المؤمن العابد لله، والعامل بالطاعات، عن حريم التوحيد إِلَى ساحة الشرك.
 
وقد كان الأئمّة عليهم السلام ينتهزون كلّ فرصةٍ ومناسبةٍ ليبيّنوا لأصحابهم أهمّية التسليم، فقد روي أَنَّ زيداً الشّحّام قال لأبي عبد الله عليه السلام: "إِنَّ عِنْدَنَا رَجُلاً يُقَالُ لَهُ كُلَيْبٌ، فَلَا يَجِي‌ءُ عَنْكُمْ شَيْ‌ءٌ إِلَّا قَالَ أَنَا أُسَلِّمُ فَسَمَّيْنَاهُ كُلَيْبَ تَسْلِيمٍ، فَتَرَحَّمَ



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص390.
 
 
 
45

35

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا التَّسْلِيمُ؟ فَسَكَتْنَا. فَقَالَ: هُوَ والله الْإِخْبَاتُ قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ﴾1"2.

 
كم منّا في هذا الزّمن يكون مثل (كُلَيْب) يدخل في سلك الَّذِي آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إِلَى ربّهم.
 
هل نحن كذلك؟!
أمّ أَنَّنا تخلّقنا بأخلاق بني إسرائيل الَّذِين كانوا يسلّمون بالأحكام التي يرونها متناسبة مع أهوائهم ومنافعهم الشخصية، ويرفضون تلك التي لا تناسبهم، حتّى قال الله تعالى عنهم في كتابه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾3!!
 
اختبار الشّيعة بالتّسليم
كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام ينتهزون الفرص والمناسبات لامتحان أصحابهم ومريديهم بهذا الأمر، فقد روى مأمون الرقي قال: "كنت عند سيدي الصادق عليه السلام، إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلّم عليه، ثمّ جلس فقال له: يا ابن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقٌّ تقعد عنه، وأنت تجد من شيعتك مئة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له عليه السلام: اجلس يا خراساني، رعى الله حقك! ثمّ قال: يا حنفية اسجري التنور، فسجرته حتى صار كالجمرة وابيّضّ علوه، ثمّ قال: يا خراساني، قم فاجلس في التنور!. فقال الخراساني: يا سيدي، يا ابن رسول الله، لا تعذّبني بالنار، أقلني



1 سورة هود، الآية: 23.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 391.
3 سورة البقرة، الآية: 85.
 
 
 
46

36

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 أقالك الله. قال عليه السلام: قد أقلتك. فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكيّ، ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال له الصادق عليه السلام: ألق النعل من يدك. واجلس في التنور قال: فألقى النعل من سبابته، ثمّ جلس في التنور. وأقبل الإمام عليه السلام يحدّث الخراسانى حديث خراسان حتى كأنّه شاهدٌ لها، ثمّ قال: قم 

يا خراساني، وانظر ما في التنور. قال: فقمت إليه فرأيته متربّعاً، فخرج إلينا وسلّم علينا. فقال له الإمام عليه السلام: "كم تجد بخراسان مثل هذا؟" فقلت: والله، ولا واحداً! فقال عليه السلام: لا والله ولا واحداً، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت"1.
 
ونحن في هذا الزمان الذي كثرت فيه الشبهات يجب أن نكون حريصين جداً على التسليم، وإن خفيت علينا حِكم الأشياء، لـ "إِنَّ دِينَ الله لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يُصَابُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ، فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ وَمَنِ اهْتَدَى بِنَا هُدِيَ"2، وكلّ عقل دون عقل الإمام فهو عقل ناقص، وكلّ طريقٍ لم يخطّه أهل البيت عليهم السلام هو طريق ضلال وعمى.
 
ما يُسْتكمل به الإيمان
وعلينا لكي نستكمل الإيمان أن نعمل بما روي عن إمامنا الصادق عليه السلام حيث قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْإِيمَانَ كُلَّهُ فَلْيَقُلِ: الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا، وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ، وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي"3.
 
ولنعلم أَنَّ هذا التسليم المطلق لله تعالى وأولياء أمورنا يرجع علينا بالنفع والفائدة في الدنيا والآخرة، كيف والأحكام الإلهية صادرة من منبع الخير والحكمة المطلقة!



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص123.
2 (م. ن)، ج 2، ص 303.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص391.
 
 
 
47

37

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 فقد يكون الإنسان المسكين معتقداً بمصلحةٍ له في أمرٍ ما، وهي في الواقع مفسدةٌ له، والعكس صحيحٌ أيضاً، كما دلّ على ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾1.

 
وعليه، فإذا كنّا نؤمن بحكمة ربّنا وبتدبيره، وأنَّ نبيّه وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين لا يتجاوزون ربّهم في أفعالهم وأقوالهم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾2، فلا مجال إِلَّا لأنّ نكون مسلّمين لهم في كلّ صغيرةٍ وكبيرة.
 
السيّدة زينب عليها السلام نموذج للإنسان المسلّم
إذا أردنا أن نذكر شخصيّةً بلغت القمّة في التسليم لأمر الله تعالى، فإنّه تتراءى أمامنا شخصية سيدتنا ومولاتنا زينب عليها السلام, وذلك لأنّ العقيلة قد عاشت فقدان جدّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قد دعت الله عزّ وجلّ أن يشفي جدها، ولكنَّ أمر الله كان مفعولا، وعاشت فقدان أمّها الصديقة الطاهرة عليها السلام وكانت قد دعت الله أن يشفي أمها، ولكنّ الزهراء عليها السلام استشهدت، وعاشت سيدتنا زينب فقدان أخيها الحسن عليه السلام وكانت قد دعت الله أن يشفي أخاها الحسن عليه السلام ولكنّ أخاها استشهد، عاشت سيدتنا زينب عليها السلام فقدان الأخ والكفيل والأبناء والأقرباء في يوم واحد، وكانت قد دعت الله أن يسلِّمهم، ولكنّهم استشهدوا.
 
نعم، سيدتنا زينب في كلّ هذه الموقف دعت الله أن يبقي أحبّتها، ولكنّها عندما لم يستجب الله دعاءها لم تقل كما يقول بعض الناس إذا لم يستجب الله دعاءهم في مسألة معيّنة (الله لا يحبّني)، بل قالت صلوات الله عليها عندما خاطبها ذلك 



1 سورة البقرة، الآية: 216.
2 سورة النجم، الآيات: 3 - 5.
 
 
 
48

38

الدرس الثالث: وبشّر المخبتين

 اللعين ابن زياد مستهزءاً كيف رأيت صنع‏ الله‏ بأخيك وأهل بيتك؟! فقالت عليه السلام: "مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً"1.

 
ونختم حديثنا برواية لطيفة عن التسليم، ذكرها الشَّيْخ الكليني قدس سره في كتابه بإسناده إِلَى كَامِلٍ التَّمَّارِ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: "(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أَتَدْرِي مَنْ هُمْ؟ قُلْتُ أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسَلِّمُونَ، إِنَّ الْمُسَلِّمِينَ هُمُ النُّجَبَاءُ، فَالْمُؤْمِنُ غَرِيبٌ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ".
 
جعلنا الله جميعاً من المسلّمين لله ولرسوله ولأوليائه صلوات الله عليهم أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص166.
 
 
 
49

39

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!



مفاهيم محورية:
- حقيقة الموت.
- حالة الإنسان عند الموت.
- كيف نغتنم أعمارنا؟
- هكذا استثمر لحظات عمرك.
- وصية من أب عجوز.
- قصة وعبرة.
 
 
 
51

40

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 نصُّ الموعظة القرآنية:

قال تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾1.
 
حقيقة الموت
يُجمعُ بنو البشر على حقيقةٍ قطعيّةٍ غير قابلةٍ للإنكار، ألا وهي الموت ووقوع انقطاع حياة الإنسان في هذه الدنيا، في حين يقع الاختلاف والافتراق في تحديد حقيقة وماهيّة هذا الهادم للّذات وطبيعته ولابدّيّة وحتميّة وقوعه، وهنا ينقسم الآدميّون إلى معسكرين، الأوّل وهو المعسكر المادي والإلحادي المُنكر لوجود الباري عزّ وجل، والمؤمن بأنَّ الكون والخلق إنّما كانا صنيعة الصدفة والانفجارات الكونيّة!! وهؤلاء يُنكرون كُلَّ ما جاءت به الشرائع والديانات من بيانٍ لفلسفة الموت وحقيقته وما وراءه من إيابٍ وحساب وثواب وعقاب، وبعبارةٍ أخرى هم لا يعتقدون بقضية المعاد والعالم الثاني من رأس، ولهذا عمدوا إلى البحث عن حقيقة الموت لتفادي وقوعه وحدوثه وتخليداً لحياتهم المهدّدة بالانقطاع والانهدام. وفي هذا السياق انتشرت



1 سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.
 
 
 
53

41

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 المئات من الأبحاث العلميّة والنظريّات التحليليّة الموصلة ـ وبحسب المعتقد المادي المعتمد على التجربة والأبحاث المخبريّة ـ إلى أنَّ الموت عبارة عن نتيجةٍ حاصلة من حالاتٍ مَرَضيّة تصيب خلايا وذرّات البدن وتودي بالجسد إلى فقدان مناعته وفاعليّته وذلك من خلال أسباب عديدة منها انتشار السموم والبكتيريا الخفيّة في أنحاء الأنسجة المكوّنة لأعضاء الجسد، وانتشار المواد الهلاميّة الزلاليّة الساكنة وغير الفاعلة في الجسد مكان المواد الموّلدة للطاقة (الروح)، ويحدث من جرّاء ذلك خمودٌ في أنحاء البدن، وتوقفٌ عن الحركة والتفاعل وهذا هو (الموت).

 
وفي الحقيقة يسعى أصحاب هذه المقولات من خلال هذه الأبحاث والدراسات للوصول إلى أمرين أساسييّن:
الأوَّل: التشكيك في حتميّة ظاهرة الموت، والقول إنَّهُ أمرٌ غير قطعيّ ويقينيّ الوقوع والحدوث.
والثاني: السعي إلى إيجاد حلول تحول دون حصول هذه الأمراض منعاً لوقوع الموت وسعياً للوصول إلى الخلود الدائم الأبدي المنشود.
 
أمَّا الطرف المقابل للمعسكر الأوّل وهم أصحاب الفكر الديني، فإنَّهم يُقدّمون قراءةً ومقاربةً أخرى حول قضية الموت، هي نظرة الإسلام إلى الموت بغَضّ النظر عن مقولة الماديّين وأصحاب وأتباع الديانات الأخرى.
 
فالإسلام في نفس الوقت الذي يتحدّث فيه عن حتميّة ولابدّيّة وقوع الموت كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾1، ممّن يسعى للنجاة والمفرّ منه، كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾2، ويقدّم مقاربةً فكريّةً 



1 سورة آل عمران، الآية: 185.
2 سورة النساء، الآيتان: 78.
 
 
 
54

 


42

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 عميقة لحقيقة الموت نستخلص منها ـ ولضرورة إيجاز المقال والاقتصار على الاختصار بحسب ما يتيحه المجال ـ أنَّ الموت عبارةٌ عن تحريرٍ للروح من أسر الجسد, لتلقى جزاءها وحسابها، وأنَّهُ عبارة عن قنطرةٍ من دار ممر إلى دار مقر، فالإنسانُ في حياته الدنيا تحت اختبارٍ وامتحانٍ وابتلاء، لتظهر نتائج أعماله وأفعاله يوم الحساب التالي لسفر الموت، وفي هذا قال تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾1، وقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾2.

 
فإذاً، قضية حتميّة الموت، والنشر والحشر، والمعاد والحساب، والثواب والعقاب، من الأمور التي لا تقبل الإنكار في الإسلام، وكثيراً ما تحدّث القرآن الكريم عن هذه الحقائق بشكل لا يبقي أي مجالٍ للتشكيك بحقانيّتها وصدقها.
 
حالة الإنسان عند الموت
من جملة الأمور التي وردت في الكتاب الكريم حالة الإنسان عند مواجهته الواقعيّة للموت فيراه رأي العين، ويذكر لنا القرآن الكريم نوعاً من الخطاب والحوار بين هذا الإنسان الذي وصل إلى هذه الحقيقة التي لا مفرّ منها، وبين خالقه وبارئه صاحب السلطة والقدرة على محاسبته ونشر كتابه بما يحوي من صالح الأعمال وطالحها.
 
يقول تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾3، لكن يتفاجئ الإنسان ويصطدم باستحالة العودة، فاليوم حسابٌ ولا عمل، وقد أغفل عُمُراً كاملاً من إمكانيّة العمل دون حساب، فيأتيه الجواب: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا﴾، والنتيجة: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * 



1 سورة الأنبياء، الآية: 35.
2 سورة الغاشية، الآيتان: 25 - 26.
3 سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.
 
 
55

43

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾1، وهنا يكرّر الله عزّ وجلّ الاستنكار لأهل التمرّد والعصيان، فيسألهم سؤال مستنكر: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾2، فيكون جوابهم واعترافهم بشقائهم وضلالهم راجين الله عزّ وجلّ أن يخرجهم من ورطتهم وعذابهم، واعدين إيّاه عدم العود إلى الظلم والمعصيّة، ليأتيهم الجواب كالصاعقة المحرقة لآمالهم والباعثة لآلامهم: ﴿قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾3.

 
بعد هذا الحوار الصريح والباعث للخوف والرهبة، ينبغي لكُلّ عاقلٍ أن يقف مليّاً عند هذه الآيات الكريمات، فالمحتمل بل المقطوع به خطيرٌ جداً، ألا وهو جهنم والنيران وبئس المهاد والخزي العظيم.
 
كيف نغتنم أعمارنا؟
لو أراد المرءُ النجاة ـ ولو وفق قاعدة عبادة التجار ـ فما عليه إلا أن يغتنم عمره في هذه الدنيا بالعمل الصالح، فأوّل شيءٍ يحاسب عليه هو عمره، حيث يقال له في أيّ شيء أفنيت عمرك؟ فإن قال: في المعاصي والملاهي وليس له جواب غير هذا، كان مستحقاً أن يكون نزيل جهنم خالداً فيها,ليكون هو ومن معه ﴿يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾4، فيأتيهم الجواب: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم...﴾?!! ﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾5 وإن قال: في العبوديّة لله تعالى والطاعة له كان في عداد ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾6.



1 سورة المؤمنون، الآيتان: 102 - 103.
2 سورة المؤمنون، الآية: 105.
3 سورة المؤمنون، الآية: 108.
4 سورة فاطر، الآية: 37.
5 سورة فاطر، الآية: 37.
6 سورة الزمر، الآية: 20.
 
 
56

 


44

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 ولقد ورد هذا المعنى في الكثير من الروايات الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، فعن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّهُ قال: "لَا تَزُولُ قَدَمُ عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ..."1، ومن هذا المنطلق ينبغي على كُلِّ عاقلٍ ضنينٍ بنفسه من الهلاك والعذاب أن يحرص على عمره وأيامه التي منحها الله عزّ وجلّ له في هذه الحياة فيستنفذها في زراعة الخير والصلاح فيها ليحصد الفلاح والنجاح في الآخرة، فقد "علم أرباب القلوب أنَّ الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها،والقلب المستغرق بالدنيا كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر، ويوم القيامة الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلّما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينبو بذر في أرض سبخة..2.

 
من هنا لا ينبغي أن يغفل المرء عن أيامه المتصرِّمة فتسير به دون أن يدري بمسيرها ومقصدها، وإنّما يجب أن يحسبها حساباً دقيقاً لا يفوت معه لحظةٌ، حساباً أشدّ وأحرص من حساب ماله وربحه وتجارته, وفي هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كُنْ عَلَى عُمُرِكَ أَشَحَّ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ وَدِينَارِك"3, لأنَّه كُلُّ رأس ماله بل كُلُّه الذي ينقضي بانقضائه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّهُ قال: "إِنَّمَا أَنْتَ عَدَدُ أَيَّام، فَكُلُّ يَوْمٍ يَمْضِي عَلَيْكَ يَمْضِي بِبَعْضِكَ"4، وعنه عليه السلام أيضاً، قال: "إِنَّ الليْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ فَاعْمَلْ فِيهِمَا، وَيَأْخُذَانِ مِنْكَ فَخُذْ مِنْهُمَا"5، فعمرك مجموع أيام وكلّما انقضى منه يومٌ نقص عمرك وذهب جزءٌ منك.


1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج27، ص 103.
2 (م. ن)، ج67، ص353.
3 الري شهري، محمّد، ميزان الحكمة، ج3، ص 2112.
4 (م. ن).
5 (م. ن).
 
 
 
57

45

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 هكذا استثمر لحظات عمرك

العمر أيّها العزيز! ساعاتٌ معدودات مقسّمةٌ على الأيام، واليوم ليلٌ ونهار، ليلٌ تنامه ونهارٌ تقضي فتراته في أشغال وأعمال شتى، وساعات الاغتنام والاكتساب للآخرة قليلةٌ جدّاً ولهذا ينبغي وكما قيل أن يكون لك في كلّ شيءٍ نيّة تتقرّب بها إلى الله عزّ وجلّ، في نومك وعملك وعبادتك وساعات أكلك وسهرك وسمرك واستراحتك، بل في كُلِّ شؤونك وحالاتك، وعليك أن تستفيد من الفراغ تثقيلاً لميزانك، بالعمل والمواظبة والمراقبة تعود عليك العوائد وتستفيد لنفسك الفوائد، وإلّا حقّ عليك أن تكون ملوماً ومغبوناً، فإتلاف العمر والإصرار على تضييعه وتفويته خسارةٌ لا تعوّض وسفهٌ بنظر العقلاء، أعاذنا الله وإيّاك من السفه والخسران.
 
والوقت يا أخي! كالسيف إن لم تقطعه ـ بالاستفادة منه ـ قطعك بالمضي والتجاوز عنك، فاغتنم وقتك بالعمل، واختر لنفسك أفضل الأعمال وأنفعها.
 
اجعل وقتاً للطاعة والعبادة والذكر والمناجاة, فإنَّهُ من أقبل على الله عزّ وجلّ أقبل الله عليه، واعمل لدنياك بما فيه صلاحك ونجاحك ومرضاة ربّك، من درسٍ وتحصيلٍ وبناءٍ لحياةٍ شخصيّة وتأسيسٍ لعائلةٍ وتربيةٍ للأبناء بما يعود بالفائدة 
عليك وعلى محيطك العائلي ومجتمعك الأوسع.
 
لا تجعل للفراغ وضياع الوقت والعمر سبيلاً إليك, فإنَّ في ذلك بغضاً من الربّ وشدّةً في الحساب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله يبغض الصحيح الفارغ، لا في شغل الدنيا ولا في شغل الآخرة"1، وقال: "أشدّ الناس حساباً يوم القيامة المكفي الفارغ"2، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ"3، وعن سيّد 



1 الري شهري، محمّد،ميزان الحكمة، ج3، ص 2412.
2 (م. ن).
3 (م. ن).
 
 
 
58

46

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 الساجدين عليه السلام في دعائه: "وَاشْغَلْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ، وَأَلْسِنَتَنَا بِشُكْرِكَ عَنْ كُلِّ شُكْرٍ، وَجَوَارِحَنَا بِطَاعَتِكَ عَنْ كُلِّ طَاعَةٍ. فَإِنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغْلٍ فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلَامَةٍ لَا تُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ، وَلَا تَلْحَقُنَا فِيهِ سَأْمَةٌ، حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرِ سَيِّئَاتِنَا، وَيَتَوَلَّى كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ بِمَا كَتَبُوا مِنْ حَسَنَاتِنَا"1.

 
واعلم أنَّ الندم على ما فات لا يرجعه ولا يعوّض الخسارة، ومقولة: لو أنَّ الزمان يعود لفعلت كذا، وليت الشباب يعود يوماً لأجتهد في تحصيل الطاعة والثواب ليومٍ لا ينفع مالٌ ولا بنون لا إمكانيّة لترجمته وحصوله، ومن هذا المنطلق الأجدر بنا أن نعمل اليوم وأن نسعى لأن يكون يومنا أحسن حالاً من أمسنا، وأن يكون غدنا أحسن من يومنا، وأن نقيّم أحوالنا ونحاسب أنفسنا، وأن لا نركن إليها ونغفل عنها طرفة عين أبداً، فإنَّ أنفسنا شيطانٌ باطنيٌّ وهو أعدى أعدائنا، وإبليس الرجيم من خلفها ظهير، يساندها ويسوّل لها.
 
وصيةٌ من أب عجوز يريد بكم خيراً 
يقول العارف الكامل والعالم العامل الإمام الراحل الخميني المقدّس ـ أعلى الله مقامه:
1- اقضوا أعماركم بالأعمال الحسنة:
"إنَّ الجنَّة والنار من أعمالنا، ولذلك، عليكم أن تقضوا العمر الشريف الذي منحكم الله تبارك وتعالى إيَّاه بالأعمال الحسنة ولا تهدروه! ولمّا كان الله تبارك وتعالى مطّلعاً على الحقائق من أنّ أيّ عمل يعمله الإنسان هنا سيراه هناك ـ هداكم للقيام بالأعمال المفيدة للمجتمع ولأنفسكم ـ لذا، فإنّ عقل الإنسان



1 الإمام علي بن الحسين، زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجاديّة، الدعاء، (11) و(20).
 
 
 
59

47

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 يقضي بألّا يُهدر العمر، والأفضل من ذلك ألا ينفقه المرءُ في طريق الشرّ فيكون هناك وبالاً عليه!"1.

 
2- حيل الشيطان مع الكهول والشباب:
"كم يحدث أن يتّبع الشيطان الباطني معنا ـ نحن الكهول ـ خدعاً تختلف عن تلك التي يتبعها معكم أنتم الشباب. إنَّهُ يتّبع معنا سلاح اليأس من الحضور وذكر الله، ويلفتنا أنَّهُ لا فائدة من العمل ما دام العمر قد انقضى ولا يمكن إصلاحنا، وأنَّ أيام الشباب التي هي أيام التجوّل والتحرّك قد انتهت، وأنَّ أيام الضعف والكهولة قد حلّت ولا يمكن فيها الإصلاح, لأنَّ جذور الأهواء والمعاصي متغلغلة في جميع أركان الإنسان، ومدّت فروعها وجذورها فيه، وبذلك يحول دون توفيقك للحضور في ساحته جلّ وعلا، ويحدثك أن لا جدوى من العمل، والأفضل أن تستفيد أكثر من ملذات الدنيا في هذه الأيام المعدودة والأخيرة التي بقيت من عمرك! وأحياناً يتّبع معنا ـ نحن الكهول ـ الأساليب نفسها التي يتّبعها معكم أنتم الشباب، حيث يقول لكم: أنتم شباب ولا بدَّ أن تتصرّفوا في هذه المرحلة من العمر ـ وهي مرحلة الشباب مرحلة التمتع بالملذات ـ طبقاً لشهواتكم‏ وستتوبون‏ إن‏ شاء الله‏ في‏ أواخر العمر، وأنَّ باب رحمة الله مفتوح، وأنَّ الله أرحم الراحمين، وأنَّهُ مهما تكن الذنوب أكبر وأكثر فإنَّ فُرَصَ الندم والعودة إلى الحقّ في أواخر العمر تكون أكبر، وسيزداد التوجّه نحو الله المتعال وسيتضاعف الاتصال به، وكم من الناس قد تمتّعوا بملذات الشباب عندما كانوا في سن الشباب، وقضوا أيام كهولتهم وأواخر عمرهم بالعبادة والذكر والأدعية وزيارة الأئمّة عليهم السلام والتوسّل وطلب الشفاعة منهم، ورحلوا عن هذه الدنيا بسعادة!!كذلك فإنّنا نواجه أيضاً 



1 الإمام الخميني، روح الله، صحيفة الإمام، من خطاب ألقاه في نوفل لو شاتو في باريس، خلال لقائه جمعاً من الطلبة الجامعيين والإيرانيين المقيمين في الخارج‏، ج4، ص29، الطَّبعة الأولى 1430هـ، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، الشؤون الدوليّة، إيران.
 
 
60

48

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 بمثل هذه الوساوس، وهي: أنَّهُ لا يعرف بالضبط أنَّك ستموت قريباً، وأنَّ الفرصة لا زالت أمامك فتمتّع بها حتّى الأيام المعدودة الأخيرة من عمرك، وآنذاك يمكنك أن تتوب لأنَّ باب شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفتوح، وأنَّ المولى أمير المؤمنين عليه السلام لن يدع أحباءه يتعذّبون يوم القيامة، وستراه عند لحظات الموت، وسيأخذ بيدك في تلك اللحظات، والكثير من هذه الأقوال التي تطرق أذن الإنسان دوماً!!

 
3- التوبة في مرحلة الشباب:
ولدي: "الآن وأنا أتحدَّث معك، وأنت شاب، ينبغي أن تعرف أنَّ التوبة في مرحلة الشباب أسهل، وأنَّ إصلاح النفس 
وتهذيب الروح يكون أسرع في هذه المرحلة. لأنَّ التأثّر بالأهواء النفسيّة واللهاث وراء الجاه والغرور والتكبّر على الآخرين 
يكون أكثر وأشدّ عند الكهول مقارنة بالشباب، حيث إنَّ روح الشباب لطيفة وسهلة التغيير، كما أنَّ الشباب يتأثرون 
أكثر من الكهول بالمواعظ التي تلقى في مجالس الوعظ والإرشاد والأخلاق، لذا يجب على الشباب أن ينتبهوا كثيراً ولا 
ينخدعوا بالوساوس الشيطانيّة والنفسيّة، فالموت قريب من الشباب بقدر ما هو قريب من الكهول، فأي شاب يمكنه أن يطمئن أنه سيصل إلى مرحلة الكهولة؟ وأي إنسان مصون من حوادث الدهر"؟
 
4- اصلاح النفس مرحلة الشباب:
بني: "لا تدع الفرصة تفوتك، واسع إلى إصلاح نفسك وأنت في مرحلة الشباب. كذلك يجب على الكهول أن يعلموا أنَّهم ما داموا أحياء في هذه الدنيا فإنَّ بإمكانهم التكفير عن ذنوبهم ومعاصيهم، ولو انتقلوا من هذه الدنيا فإنَّ الأمور تخرج من أيديهم"1.



1 الإمام الخميني، روح الله، المظاهر الرحمانيّة، رسائل الإمام الخميني قدس سره العرفانيّة، 29/30، الطَّبعة الأولى1995م، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدس سره، الشؤون الدوليّة، إيران.
 
 
61

49

الدرس الرابع: فيما أفنيت عمرك؟!

 وفي الختام قصةٌ وعِبْرَة

يروى أنَّ روح الله عيسى بن مريم (على نبيّنا وآله وعليهما الصلاة والسلام) كان ماشياً في جبل، فرأى رجلاً يتعبّد تحت صخرةٍ، فقال له عيسى عليه السلام: ألا بنيت لك بيتاً تتعبّد فيه؟، فقال له الرجل: وهل هذا العمر القصير يستحق أن أضيّعه في البناء؟!! لقد قال لي أحد الأنبياء إني سأعيش سبعمائة سنة، وهذه مدّةٌ قد لا تكفيني لأحرز فيها رضا ربّي!!!

فقال له عيسى عليه السلام: وكيف بك إذا رأيت أهل آخر الزمان لا يعيشون أكثر من سبعين سنة وهم يفنون أعمارهم ببناء القصور؟!! فقال الرجل: ما أشدّ جهلهم! لو أدركت زمانهم لجعلته سجدةً واحدةً!!
 
 
 
62

50

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً



مفاهيم محورية:
- ما هي حقيقة الخسارة؟
- من هم الأخسرون أعمالاً؟
- كيف نحقّق الإخلاص؟
- مراتب الإخلاص.
 
 
63
 

51

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 نصُّ الموعظة القرآنية:

يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾1.
 
في رحاب الآية الكريمة
إِنَّ من أفضل أساليب تنبيه المخاطب وجذبه هو طرح الاستفهام المباشر عن شيء لا يعرفه، خصوصاً وأنَّ الآية الشريفة صدّرت السؤال بـ ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ﴾، حيث إِنَّ النبأ لا يكون إلا للإخبار بما لا يعلمه المخبر، مع كون المخبَر به أمراً عظيماً بليغاً، ويجوز أن يكون المخبَر بما يعلمه وبما لا يعلمه, ولهذا يقال: (تخبرني عن نفسي)، ولا يقال: (تنبئني عن نفسي)، وكذلك تقول: (تخبرني عما عندي)، ولا تقول: (تنبئني عما عندي)، وفي القرآن: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾2 3.
 
هذا، والآمر بالسؤال هو اللهُ تعالى، والمأمورُ هو النبيُّ المصطفى محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، والمعلومة التي يُراد الإنباء عنها صادرةٌ مِمّن وصف نفسه في كتابه: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾4.



1 سورة الكهف، الآيتان: 103 – 104.
2 سورة الشعراء، الآية: 6.
3 الفروق اللغوية لابن هلال العسكري: 528.
4 سورة فاطر، الآية: 14.
 
 
 
65

52

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 و﴿الْأَخْسَرِينَ﴾ الواقعة بعد الاستفهام مباشرةً والمنبأ عنهم، يشوّق السامع لمعرفة الأمر والبحث عنه، خصوصاً وأنّ المنبئ هو الله عزّ وجل، وينبئ عن الأخسرين في الآخرة، فقد يكون الأخسر في الدنيا من الفائزين في الآخرة، وقد يكون العكس، فالله عزّ وجل صرّح بأنَّ ﴿الْأَخْسَرِينَ﴾ هم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم لا يعلمون بذلك، بل يعلمون العكس، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

 
ما هي حقيقةُ الخسارة؟!
ومَنْ هو الخاسِرُ؟! بل مَنْ هو أخسَرُ الناس؟!
وهل هو مَن خسِرَ تجارتَهُ؟! هل هو من خسِرَ مالَهُ؟!
مَن اعتاد على عالم الدُّنيا، ولم ينظر إِلَى ما وراء عالم الماديات قد يظنُّ ولا يُفكِّر إلا بما يرتبط بالخسارة الدنيويّة... لكن هل هذه هي الخسارة الحقيقيَّة التي يتكفّل الجبّار بأنْ يخبرنا عنها؟!
 
قطعاً الأمر ليس كذلك,وذلك لأنَّ خسائرَ الدنيا تتّصف بأنَّها:
محدودة.
قابلة للتعويض والزوال.
 
وليتعظ الإنسان بما يراه من تجارب يومية، بل قد يعيش هو نفسه بعض هذه التجارب، فكم من مرّةٍ نخسر ونفقد كلّ ما لدينا، ثم نقوم من جديد.
 
وعليه، فما كان شأنه محدوداً وقابلاً للتعويض، ليس هو الخسارة الحقيقية.
 
بل قد تكون نتيجةُ هذه الخسارة الدنيويَّة نعمةً من نِعَمِ الله تعالى على الإنسان، فيما لو تلقّاها بصبر، قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ 
 
 
66
 

53

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾1، ومع الصبر على هذه الابتلاءات يأتي وعد الله وبشارته قائلاً: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾، فبشّرهم بالخير الكثير: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.

 
فليست الابتلاءات الدنيوية والخسائر التي تحصل فيها هي المقصودة من الآية الكريمة... فما هي هذه الخسائر المشار إليها إذن؟!!
 
من هم الأخسرون أعمالاً؟
الأخسرونَ أعمالاً ـ بحسب هذه الآية الشريفة ـ هم الذين اتصفوا بصفتين:
الصفة الأولى ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾:
وليعلم أَنَّ ضلالَ السعيِ في الحياة الدنيا سبَبُهُ ضلالٌ وخللٌ كبيرٌ في العقيدة، ونفوذٌ من الشيطان إلى صلبِها، فلو لم تكن العقيدةُ فاسدةً ولم يعترِها خَلَلٌ، لما ضلَّ سعيُهُم في الحياة الدنيا, لأنَّ العقيدةَ الفاسدةَ تجعلُ صاحبَها في ضلالٍ كبير.
 
والضلال والخلل في العقيدة على مراتب:
أ- فتارة يكون ذلك باختلال العقيدة من أساسها، وأصحاب هذه المرتبة ليس لهم قيمة عند الله تبارك وتعالى، كما نصّ على ذلك في كتابه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾2.
 
ب- وأُخرى يكون بضلال السعي عملياً، وهذا ناشئٌ ـ كما أسلفت ـ من نقصٍ في العقيدة ولو على سبيل الشرك والرياء، فيحبط الله عمله أيضاً, لأنّ الآتي إنما أتى به لغيرالله تعالى، يقول تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾3.



1 سورة البقرة، الآية: 155.
2 سورة الكهف، الآية: 105.
3 سورة الزمر، الآية: 65.
 
 
 
67

54

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 ج- وثالثة يكون ضلال السعي عملياً متأخّراً عن العمل، فيحبطه بعد الإتيان به، وفي هذا ضل قومٌ كثيرون، وذلك بأنْ يكمِل العبادةَ على الإخلاصِ المحضِ والنية الصالحة ويكتبها الله في ديوانِ المخلصينَ، لكن يعرضُ له بعدَ ذلك ما يدفعُهُ لإظهارها, ليحصل له بعضُ الأغراضِ الدّنيويّةِ الرخيصةِ، فينضمُّ إلى ما حصّله بها من الخير الآجلِ خيراً آخرَ عاجلاً قد زيّنه له الشيطانُ، فيحدِّث به ويُظهره لذلك، فهذا أيضاً مفسدٌ للعمل وإن سبق، كما يفسده العجب المتأخر.

 
وقد روي أَنَّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: صُمتُ الدهرَ يا رسولَ الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا صُمتَ وَلَا أَفْطَرْتَ"1، فهذا من زمرة الأخسرين أعمالاً.
 
الصفة الثانية ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾:
فهم يحسبونَ أنَّهم يُحسنونَ صنعاً وما ظنُّوا حسنَ أعمالهم وأفعالهم المخالفةِ للشرع إلَّا لجهلهم بحقوق الله عز وجل وعظمته، ولضعف بصيرتهم، وهم أصناف:
الأول: الكفار بالله، واليوم الآخر، والأنبياء, فإنَّ الله زيّن لكلّ أمة عملها، إنفاذاً لمشيئته، وحكماً بقضائه، وتصديقاً لكلامه.
الثاني: أهل التأويلِ الفاسدِ الذين أخبر الله عنهم بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾2، كأهل حروراء والنهروان، ومن عمل بعملهم في يومنا هذا، وخطرهم الآن على المسلمين أشدّ من أعداء الدين، فهم مثلهم وشرٌّ منهم.



1 النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات ج 2، ص 303.
2 سورة آل عمران، الآية: 7.
 
 
 
68

55

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 ورد في كتاب الاحتجاج عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: "خَطَبَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي...، فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْواً؟ قَالَ الرِّيَاحُ قَالَ فَمَا الْحَامِلَاتُ وِقْراً؟ قَالَ السَّحَابُ قَالَ فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْراً؟ قَالَ السُّفُنُ قَالَ فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْراً؟ قَالَ الْمَلَائِكَةُ... قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ قَالَ كَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ فَابْتَدَعُوا فِي أَدْيَانِهِمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِ ابْنِ الْكَوَّاءِ ثُمَّ قَالَ يَا ابْنَ الْكَوَّاءِ وَمَا أَهْلُ النَّهْرَوَانِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أُرِيدُ غَيْرَكَ وَلَا أَسْأَلُ سِوَاكَ قَالَ فَرَأَيْنَا ابْنَ الْكَوَّاءِ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ فَقِيلَ لَهُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ بِالْأَمْسِ تَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا سَأَلْتَهُ َ أَنْتَ الْيَوْمَ تُقَاتِلُهُ؟ فَرَأَيْنَا رَجُلًا حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ"1.

 
الثالث: وهم الذين أفسدوا أعمالهم بالرياء، وضيّعوا أحوالهم بالإعجاب، ويلحق بهؤلاء أصناف كثيرة، وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب الخسيس. وقد نبّه الباري تعالى على هذا بقوله: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾2.
 
والمهمّ في المقام أَنَّه حتى نتجنب الخسران المبين علينا أن نعرف حقيقة الأعمال التي تؤدّي إليه، وحقيقة الأعمال التي تجنبنا الوقوع في الخسران والندم. ولَّما أشارت الآية إلى لزوم ترك الشرك: كبيره وصغيره، كان علينا أن نعرف الإخلاص وكيفية تحقيقه حتى نتمكن من تحصيله والعمل به والحفاظ عليه.



1 الطبرسي، الاحتجاج، ج1، ص 260.
2 سورة الكهف، الآية: 110.
 
 
 
69

56

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 كيف نحقّق الإخلاص

انطلاقاً من الآية السابقة ندخل إلى أهمّ مسألة في عبادة الله، ألا وهي الإخلاص، يقول تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾1.
 
وينبغي أن يعلم أَنَّه لمَّا كانت طرق الباطل كثيرة ومتنوِّعة، وطريق الحقّ واحداً، وهو الطريق المستقيم الَّذِي جاء به سيّد المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله، فحينئذٍ تكون الأبواب المشرّعة أمام الشيطان إِلَى قلب الإنسان كثيرة، ويدعم الشيطان في ذلك ميل النفس البشرية نحو الشهوات، وعسر انقيادها للحقّ، كلّ ذلك يضع العبد المسكين في موضع لا يحسد عليه، قال الشاعر:



1 سورة البينة، الآية: 5.
 
 
 
70

57

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 إنّي بليت بأربعٍ ما سُلطت                 إبليس والدنيا ونفسي والهوى 

إبليس يسلك في طريق مهالكي             وأرى الهوى تدعو إليه خواطري 
وزخارف الدنيا تقول أما ترى              إِلَّا لأجل شقاوتي وعنائي
كيف الخلاص وكلُّهم أعدائي               بي والنفس تأمرني بكلّ بلائي
في ظلمة الشبهات والآراء                 حسني وفخرَ ملابسي وبهائي
 

فربما يزيّن الشيطان طريق الحقّ فيغوي بالمرء ويوقع به ويعرض الشر في موضع الخير، بحيث يظن أنّه من إلهامات النَفَس الرحماني، لا وسوسة الشيطان وإغوائه، فيهلك ويضل من حيث لا يعلم، فلا يزال الشيطان يوسوس للإنسان بأمور ويثبتها في لوح نفسه، فيعمر يومه ويخرب أمسه، ويخالف الله ويظن أنّه في طاعته، فيدخل في جملة الأخسرين أعمالاً.

وفي هذا المجال يقول المولى النراقي قدس سره: "لما كانت طرق الباطل كثيرة وطريق الحق واحدة، فالأبواب المفتوحة للشيطان إلى القلب كثيرة، وباب
 
 
 
 
71

 


58

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 الملائكة واحدة, ولذا روي أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطّ يوماً لأصحابه خطّاً وقال: "هذا سبيل الله"، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمينه وشماله فقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثمّ تلا قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾1. ثمّ لسهولة ميل النفس إلى الباطل وعسر انقيادها للحق تكون الطرق المؤدية إلى الباطل التي هي أبواب الشيطان جلية ظاهرة، فكانت أبواب الشيطان مفتوحة أبداً، والطرق المؤدية إلى الحق التي هي باب الملائكة خفية، فكان باب الملائكة مسدوداً دائماً، فما أصعب بالمسكين ابن آدم أن يسد هذه الأبواب الكثيرة الظاهرة المفتوحة ويفتح باباً واحداً خفياً مسدوداً"2.

 
هذا، والسبيل أمام الإنسان إِلَى النجاة هو الإخلاص, فإنّ الإخلاص الحقيقي هو تجريد القصد من الشوائب كلها. وهو ضد الرياء والشرك، فمن جاء بطاعة ليراه الناس فهو مراء مطلق، ومن جاء بها وانضم إلى قصد القربة قصدُ غرضٍ دنيويٍ انضماماً تشريكياً ففعله مشوب غير خالص.

مراتب الإخلاص
ثمّ الإخلاص على مراتب، فأعلى مراتبه: الإخلاص المطلق، وهو إخلاص الصدّيقين وإرادة محض وجه الله سبحانه من العمل، دون توقّع غرض في الدارين، كمن يعبد الله حراً, لأنّه أهلٌ لذلك، مستغرق الهمّ والفكر بعظمته وجلاله، ويتوقّف تحصيله على أن يتعاظم الله في أنفسنا ليصغر ما دونه في أعيننا، وبالتالي تنقطع النفْسُ عن الطمع بالدنيا، بحيث ما يغلب ذلك على القلب والتفكّر والاشتغال بمناجاته حتى يغلب على قلبه نور جلاله وعظمته، ويستولي عليه حبّه وأنسه.



1 سورة الأنعام، الآية: 153.
2 النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات، ج1، ص 146.
 
 
 
72

59

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتقين: "عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"1.

 
وفي المقابل كم من عمل يتعب الإنسان فيه نفسه، ويظن أنّها أعمال خالصة لوجه الله تعالى، ويكون فيها مغروراً, لعدم عثوره على وجه الآفة فيها، كما حكي عن بعضهم أنّه قال: (قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتُها في المسجد جماعة في الصف الأول, لأنّي تأّخرت يوماً لعذر وصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني، فعرفت أَنَّ نظر الناس إليّ في الصفّ الأوّل كان يسرّني، وكان سبب استراحة قلبي من ذلك من حيث لا أشعر).
 
وهذا مطلبٌ دقيقٌ غامض، وقلما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ مَنْ يتنّبه له، والغافلون عنه يرون حسناتهم في الآخرة كلّها سيئات، وهم المرادون بقوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا﴾2.
 
آفات الإخلاص
ذكر المولى النراقي في كتابه الجليل جامع السعادات أَنَّ الآفات التي تكدّر الإخلاص وتشوّشه لها درجات في الظهور والخفاء:أجلاها الرياء الظاهر.
 
الأُولى: وهو أجلاها، وتحصل بتحسين العبادة والسعي في الخشوع فيها في الملأ دون الخلوة, ليتأسّى به الناس، ولو كان عمله هذا خالصاً لله لم يتركه في الخلوة, إذ من يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرتضي لغيره تركه، فكيف يرتضي ذلك لنفسه في الخلوة؟!



1 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة: 225، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
2 سورة الجاثية، الآية: 33.
 
 
 
73

60

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 الثانية: الرياء الخفيّ، وهو يحصل بتحسينها في الخلوة أيضاً بقصد التسوية بين الخلوة والملأ، وهذا من الرياء الغامض, لأنّه حسّن عبادته في الخلوة ليحسّنها في الملأ، فلا يكون فرقٌ بينهما في التفاته فيهما إلى الخلق دون الخالق, إذ الإخلاص الواقعي أن تكون مشاهدة الخلق لعبادته كمشاهدة العجماوات والجمادات، من دون تفاوت أصلاً، فكأنّ نفسه لا تسمع بإساءة العبادة بين أظهر الناس، ثمّ يستحي من نفسه أن يكون في صورة المرائين، ويظنّ أَنَّ ذلك يزول باستواء عبادته في الخلوة والملأ، وليس كما ظنّه, إذ زوال ذلك موقوف على عدم التفاته إلى الخلق في الملأ والخلوة، كما لا يلتفت إلى الجمادات فيهما مع أنّه مشغولُ الهمّ بالخلق فيهما جميعاً.


الثالثة: وهو أَخفاها، وتحصل هذه الدرجة بأن يقول له الشيطان ـ وهو في العبادة في الملأ بعد يأسه عن المكائد السابقة: (أنت واقفٌ بين يدي الله سبحانه، فتفكّر في جلاله وعظمته، واستحى من أن ينظر إلى قلبك وهو غافل عنه! فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه).

وهذا أخفى مكائد الشيطان وخداعه، ولو كانت هذه الخطرة ناشئة عن الإخلاص لما انفكت عنه في الخلوة ولم يخص خطورها بحالة حضور غيره.

علاج هذه الآفة
وعلامة الأمن من هذه الآفة: أن يكون هذا الخاطر مِمَّا يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير سبباً لحضوره، كما لا يكون حضور بهيمة سبباً له، فما دام العبد يفرّق في أحواله وأعماله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة، فهو بعدُ خارجٌ عن صفو الإخلاص مُدَنّس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشرك أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على
 
 
 
74

61

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 الصخرة الصماء، كما ورد به الخبر، ولايسلم منه إلا من عصمه الله بخفيِّ لطفه, إذ الشيطان ملازم للمتشمّرين لعبادة الله، لا يغفل عنهم لحظة.

 
يقول تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾1، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾2.
 
وهذا لا يكون إلا بتوفيق من الله تعالى، فبيده الأمر من قبل ومن بعد، ففي دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام: "أَنْتَ الَّذِي أَشْرَقْتَ الْأَنْوَارَ فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ وَأَنْتَ الَّذِي أَزَلْتَ الْأَغْيَارَ عَنْ قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِوَاكَ".
 
مراد الآية: بقاء المؤمن بين الخوف والرجاء
لما كشفت الآية الشريفة عن حالة مَرَضية في المجتمع وعن أشخاص يظنّون أنّهم على الصراط المستقيم، وهم عند الله في ضلال مبين.
 
ولمّا لم تحدّد مَنْ هم هؤلاء إلا بالوصف والانطباق، يبقى المؤمن هنا خائفاً إلى آخر عمره، فيعيش بين الخوف والرجاء، لا هو مأمون الجانب فيستريح، ولا مأيوس المصير فيقنط، بل ويبقى شاعراً بالتقصير, إذ قد يكون من الأخسرين أعمالاً طيلة هذه المدة وهو غافلٌ عن حقيقة أمره، فهذه الحالة تحفّزه لإتقان العمل وأدائه على أكمل وجه، بل وعدم الرضا ما دام في معرض القبول والردّ، من دون أن يعيش الإحباط واليأس.
 
وبالتالي يتجنّب الغفلة التي تتهدّده دائماً، وقد تعرضه فعلاً من حين لآخر، فلا يُحَسب من الغافلين، ولا تنوبه تبعات الغفلة, لأنّ مَنْ أغفل قلبه قال عنه تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾3.
 
وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾4.



1 سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3.
2 سورة البينة، الآية: 5.
3 سورة الكهف، الآية: 28.
4 سورة يونس، الآيتان: 7 – 8.
 
 
 
75

62

الدرس الخامس: الأخسرون أعمالاً

 خاتمة المطاف

الله تبارك وتعالى أعطى الناس قلباً قابلاً للترقيات إلى مراتب الكمالات التي لا تتناهى من المحبة والمعرفة والزهد والفناء والبقاء وهم ضيّعوه بمحبة الدنيا، والرياء، والعجب، والكبر والبغض وأمثالها من الرذائل. والقلب أمير البدن، فلو راقبه وكان دائباً في إصلاحه وتحصيل كمالاته أفاض الله تعالى عليه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
 
ولو اشتغل العبد بإصلاح نفسه لكفى به شغلاً عن العالمين، ولكنّ الغالب على العالمين الاشتغال بالدنيا الفانية, إمّا بالمال وإمّا بالجاه وقبول القلوب، ومتى حصل ذلك لا يحتاجون إلى الإصلاح بل ينالون العواقب التي رتَّبها الله تعالى للأخسرينَ أعمالاً بقوله تعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾1.
 
ولنعم ما أوصى به إمام الثورة والأخلاق والعرفان الإمام الخميني قدس سره: "فاجتهد لأن يكون سرّك داعياً وباطنك طالباً، حتى ينفتح لقلبك أبواب الملكوت، وينكشف لسرّك أسرار الجبروت، ويجري فلكُ عقلِك في بحار الخير والبركات، حتى تصل إلى ساحل النجاة، وتنجو من ورطة الهلكات، وتطير بجناحيك إلى عالم الأنوار، عن هذه القرية الظلمانية ودار البواروإيّاك وأن تجعل الغاية لهذه الصفات الحسنى والأمثال العليا ـ التي بها تقوم السماوات والأرضون، وبنورها نوّر العالمين ـ الشهوات الدنيّة واللذات الداثرة البالية، والأغراض الحيوانية، والكمالات البهيمية والسبعية. وعليك بطلب الكرامات الإلهية والأنوار العقلية، والكمالات اللائقة بالإنسان بما هو إنسان"2.
 
اللهمَّ إنِّي أسألُك رضاك، والتوفيق لطاعتك، وحسن العاقبةِ يا ربّ العالمين...



1 سورة الكهف، الآية: 105.
2 الإِمام الخميني، روح الله الموسوي، شرح دعاء السحر: 11، نشر: مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، الطبعة الأُولى 1416، طهران.
 
 
 
76

63

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه



مفاهيم محورية:
- قانون الاختيار في أعمال البشر.
- الآثار المترتّبة على اختيار الإنسان.
- أثر الاختيار على الالتزام بالتكاليف الإلهية.
- أثر عقيدة الاختيار في أخلاق الإنسان.
- الاختيار وعلاقته بقدرة الله المطلقة.
 
 
 
77

64

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 نصُّ الموعظة القرآنية:

﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾1.
إِنَّ مسألتي العدل الإلهي واختيار الإنسان من أهمّ المسائل الاعتقادية, إذ تشكّلان واحدة من أهمّ دعائم عقيدة المسلم، بل من أهمّ ركائز الفكر الإسلامي بشكل عام، وتترتّب على هذه العقيدة آثارٌ مهمّة على المستوى المسلكي، الأخلاقي والاجتماعي. ونظراً لأهمّيتها تعرّض القرآن لها في الكثير من المواضع بين تصريح وتلميح، وظهر ذلك بشكلٍ جليٍّ أيضاً في الأخبار الواردة عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
 
وسنتناول في هذا الدرس عدّة أمور لها ربط بمطلبي العدل الإلهي والاختيار، انطلاقاً من الآية المباركة المذكورة أعلاه، وذلك ضمن العناوين الآتية:
قانون الاختيار في أفعال البشر
هذه الآية المباركة وقعت في سياق الكلام على محاربة الكفار والمشركين وتكذيبهم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وكفرهم بآيات الله، ليختم جلّ وعلا هذه الفقرة بقانون عام،



1 سورة فصّلت، الآية: 46.
 
 
 
79

65

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 وهو قانون الاختيار في أفعال البشر، وأنَّ الله قد بيّن لهم أحكامه عبر إرسال الأنبياء بالكتب السماوية، وبعد كونهم مختارين, فإنّ عملهم هو الذي سيحدّد مصيرهم من سعادة أو شقاء.

 
هذا على مستوى السياق، وأمّا إذا أتينا إِلَى نصّ الآية فنجدها مؤلّفة من جملتين شرطيتين تليهما جملة بمثابة تعليل للشرطيتين.
 
الشرطية الأولى: وهي قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾، أي إِنَّ الإنسان أوّلاً هو الذي يعمل، فهو مختار، فإنْ كان عمله صالحاً موافقاً لما يحبُّه المولى وما يأمر به، فهو الذي سيستفيد من آثار ونتائج هذا العمل الصالح والحسن في الدنيا والآخرة، وبالتالي هو مَنْ سيرسم طريق سعادته من خلال عمله.
 
الشرطية الثانية: وهي قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا﴾, أيْ إِنَّ الإنسان إذا لم يمتثل أمر مولاه فهو الذي سيتكبّد آثار وتبعات عمله، وبالتالي سيخطّ بذلك مسيره إِلَى جهنم.
 
وأمّا الجملة التي تلي الشرطيتين فهي قوله عزّ من قائل: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾، وهي بمثابة تعليل للشرطيتين, وذلك لأنّ المولى جلّ وعلا عادلٌ يعطي كلّ ذي حقّ حقَّه، ولا يظلم أحداً، فلا يضيع عنده أجر المحسنين العاملين، ويكون عمل كلّ إنسان هو الذي يحدّد مصيره الأخروي من النعيم أو الجحيم.
 
وعليه، فلنا القول: إِنَّ الآية دليل على نفي الجبر, إذ إنّه لا يعني إلا أنّ الله قد أجبر الناس على ارتكاب الذنوب ومع ذلك عاقبهم، وهذا معناه أَنَّه ظالمٌ لعبيده، والحال أَنَّ هذه الجملة الأخيرة تنفي ذلك، وتردّ على تلك العقيدة الفاسدة، وتكذّبها.
 
فالله ـ بحسب الآية ـ قد أعطى القدرة للبشر ليختاروا بين الخير والشرّ، فإن خالفوا واختاروا الشرّ عاقبهم، وإن أطاعوا واختاروا الخير أثابهم. فهو لا يجبرهم على ارتكاب القبائح والذنوب ثمّ يعاقبهم عليها، وإلا لكان ظالماً لهم، وإلى هذا 
 
 
 
80

66

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 المعنى أشار الخبر الوارد عن الرضا عليه السلام عندما سُئِل من قِبَل أحد أصحابه: هل يجبر الله عباده على الذنب؟ فأجابه عليه السلام: "لا، بل يخيّرهم ويمهلهم ليتوبوا"، فسأله كذلك فهل يكلّفهم ما لا يطيقونه؟ فأجابه عليه السلام: "كيف يفعل ذلك، وهو يقول: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾"1.

 
وبالاستفادة من هذا الخبر نكون قد أجبنا على السؤال الذي قد يُطرح حول السبب الكامن في تعبيره جلّ وعلا: ﴿بِظَلَّامٍ﴾, إذ لو لم يعطِ الله عباده القدرة والاختيار، ومع ذلك عاقبهم على المعصية، لكان ظلّاماً تعالى عن ذلك علوّاً كبيرا.
 
وهذه العقيدة القرآنية ممّا يرشد إليها العقل أيضاً, إذ مع كون الإنسان مجبراً غير مختار يكون عقابه ظلماً, إذ هو غير قادر على الفعل أو الترك، وتكليف غير القادر ظلم، وهو قبيح بحكم العقل، والمولى جلّ وعلا لا يفعل القبيح.
 
وإن شئتَ فقل: إِنَّ الفاعل للظلم لا يخلو عن أربع صور، والله منزهٌ عنها جميعا:
الصورة الأولى: أن يكون الظلم قد صدر منه، وهو جاهلٌ بأنّه ظلم.
الصورة الثانية: أن يصدر منه مع علمه به، ولكنّه مجبورٌ على فعله.
الصورة الثالثة: أن يصدر منه مع علمه به وقدرته على تركه، فيفعله لاحتياجه إليه.
الصورة الرابعة: أن يصدر منه مع علمه به وقدرته على تركه وعدم الحاجة إليه، ولكنّه يفعله عبثاً ولهواً.
 
وربّنا تبارك وتعالى عالمٌ، وفاعلٌ مختارٌ مقتدر، وغنيٌّ عن العالمين، وحكيمٌ لا يفعلُ ما فيه لهوٌ ولعب.



1 الشَّيْخ الصدوق، عيون أَخبار الرضا عليه السلام، ج 1، ص 113.
 
 
 
81

67

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 فلمّا انتفت كلّ أسباب الظلم في حقّه تعالى، وكان إثبات أيٍّ منها له مستلزماً للنقص فيه، مع أنّه محض الكمال، نكون قد أثبتنا بطريق عقلي أنّه تعالى عادل.

 
ونثبت بعد ذلك اختيار الإنسان بقولنا: بما أَنَّ الله عادلٌ فلا يعقل أن يكون الإنسان مجبوراً, إذ لو عاقبه على معصيته كان ظلماً، والمفروض أَنَّه عادلٌ ليس بظلام للعبيد، وتتناسب هذه العقيدة أيضاً مع وجدان الإنسان القائل بأنّ الإنسان مختار. وهذا ما يدركه كلٌّ منّا بوجدانه. وتشير الروايات الواردة عن أهل بيت العترة عليهم السلام إلى هذا المعنى، وإليك نموذجاً منها:
- ما رواه الشَّيْخ الصدوق بإسناده إِلَى الصَّادِقِ عليه السلام أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَسَاسَ الدِّينِ التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ وَعَلَمَهُ كَثِيرٌ، وَلَا بُدَّ لِعَاقِلٍ مِنْهُ, فَاذْكُرْ مَا يَسْهُلُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ وَيَتَهَيَّأُ حِفْظُهُ، فَقَالَ: "أَمَّا التَّوْحِيدُ فَأَنْ لَا تُجَوِّزَ عَلَى رَبِّكَ مَا جَازَ عَلَيْكَ، وَأَمَّا الْعَدْلُ فَأَلَّا تَنْسُبَ إِلَى خَالِقِكَ مَا لَامَكَ عَلَيْهِ"1.
 
وما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام عندما سُئِل عن التوحيد والعدل: "التَّوْحِيدُ أَلَّا تَتَوَهَّمَهُ، وَالْعَدْلُ أَلَّا تَتَّهِمَهُ"2.
 
الآثار العقدية المترتّبة على العدل الإلهي واختيار الإنسان
1- لغوية الوعد والوعيد مع الإجبار:
الوعد هو ما ذكره الله من خيرات تنتظر المطيعين كإدخالهم إلى الجنّة، والوعيد هو ما ذكره الله من عذابات تنتظر العاصين كإدخالهم إلى النار، ولو لم يكن الإنسان مختاراً فلا معنى للوعد والوعيد, لعدم مؤاخذة المجبور على الفعل في فعله.



1 الشَّيْخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 11، نشر: مكتب النشر التابع لجماعة المدرسين 1403.
2 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص 501.
 
 
 
82

68

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 2- بطلان الثواب والعقاب مع الجبر:

لولم يكن الإنسان مختاراً لما كان معنى للثواب والعقاب, إذ المحسن حينها مجبورٌ على إحسانه والمسيء مجبور على إساءته.
وإلى هذين الأمرين أشار أمير المؤمنين عليه السلام في الخبر المرويّ عنه في الكافي: "كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ صِفِّينَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، أَبِقَضَاءٍ مِنَ الله وَقَدَرٍ؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَجَلْ يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَلَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ الله وَقَدَرٍ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: عِنْدَ الله أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ يَا شَيْخُ، فَوَ الله لَقَدْ عَظَّمَ الله الْأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ وَفِي مَقَامِكُمْ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ، وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْ‌ءٍ مِنْ حَالاتِكُمْ مُكْرَهِينَ وَلَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ وَكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْ‌ءٍ مِنْ حَالاتِنَا مُكْرَهِينَ وَلَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ وَكَانَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مَسِيرُنَا وَمُنْقَلَبُنَا وَمُنْصَرَفُنَا؟! فَقَالَ لَهُ: وَتَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً حَتْماً وَقَدَراً لَازِماً؟! إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالزَّجْرُ مِنَ الله، وَسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ وَلَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ، وَلَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالْإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ وَلَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ، تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَخُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ وَقَدَرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمَجُوسِهَا"1.
 
ومثله ما رواه في الاحتجاج: "فَأَخْبِرْنِي عَنِ الله عَزَّ وَجَلَّ، كَيْفَ لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُطِيعِينَ مُوَحِّدِينَ وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ قَادِراً؟ قَالَ عليه السلام: لَوْ خَلَقَهُمْ مُطِيعِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ثَوَابٌ, لِأَنَّ الطَّاعَةَ إِذَا مَا كَانَتْ فِعْلَهُمْ لَمْ يَكُنْ جَنَّةٌ وَلَا نَارٌ، وَلَكِنْ خَلَقَ 



1 الشيخ الكُلَيْني، الكافي، ج 1، ص 155.
 
 
 
83

69

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 خَلْقَهُ فَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِرُسُلِهِ، وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِكُتُبِهِ, لِيَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يُطِيعُونَ وَيَعْصُونَ وَيَسْتَوْجِبُونَ بِطَاعَتِهِمْ لَهُ الثَّوَابَ وَبِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ الْعِقَابَ" قَالَ: فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ الْعَبْدِ هُوَ فِعْلُهُ، وَالْعَمَلُ الشَّرُّ مِنَ الْعَبْدِ هُوَ فِعْلُهُ؟ قَالَ: "الْعَمَلُ الصَّالِحُ مِنَ الْعَبْدِ بِفِعْلِهِ وَالله بِهِ أَمَرَهُ، وَالْعَمَلُ الشَّرُّ مِنَ الْعَبْدِ بِفِعْلِهِ وَالله عَنْهُ نَهَاهُ" قَالَ ـ أيْ: الزنديق ـ أَلَيْسَ فِعْلُهُ بِالْآلَةِ الَّتِي رَكَّبَهَا فِيهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِنْ بِالْآلَةِ الَّتِي عَمِلَ بِهَا الْخَيْرَ قَدَرَ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ". قَالَ: فَإِلَى الْعَبْدِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‌ءٌ؟ قَالَ: "مَا نَهَاهُ الله عَنْ شَيْ‌ءٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يُطِيقُ تَرْكَهُ وَلَا أَمَرَهُ بِشَيْ‌ءٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ فِعْلَهُ, لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ الْجَوْرُ وَالْعَبَثُ وَالظُّلْمُ وَتَكْلِيفُ الْعِبَادِ مَا لَا يُطِيقُونَ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَهُ الله كَافِراً أَيَسْتَطِيعُ الْإِيمَانَ وَلَهُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ الْإِيمَانَ حُجَّةٌ؟ قَالَ عليه السلام: "إِنَّ الله خَلَقَ خَلْقَهُ جَمِيعاً مُسْلِمِينَ أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَالْكُفْرُ اسْمٌ يَلْحَقُ الْفِعْلَ حِينَ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ وَلَمْ يَخْلُقِ الله الْعَبْدَ حِينَ خَلَقَهُ كَافِراً، إِنَّهُ إِنَّمَا كَفَرَ مِنْ بَعْدِ أَنْ بَلَغَ وَقْتاً لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ مِنَ الله فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْحَقَّ فَجَحَدَهُ، فَبِإِنْكَارِهِ الْحَقَّ صَارَ كَافِراً"1.

 
3- انتفاء الحاجة لإرسال الأنبياء:
لو لم يكن الإنسان قادراً على اتّباع الأنبياء ومختاراً في ذلك فلا معنى لإرسالهم أصلا.
 
الإيمان بالاختيار وأثر ذلك على التفاعل مع التكاليف الإلهية
من الواضح أنّه مع الإعتقاد بكون الإنسان غير مختار فلا معنى للتكليف والبعث والزجر وعليه، فالإنسان عندما يكون معتقداً بأنّه مجبرٌ على أفعاله غير قادر على تحديد مصيره فمهما وصل إليه أمرٌ أو زجرٌ من مولاه، فإنّ ذلك لن يحرّكه أبداً, لأنّه يقول مصيري محدّدٌ ونتيجتي محسومة مهما فعلت، وأنا مجرّد أداة لتنفيذ الخطّة المعدّة مسبقاً لي، فلِمَ أُتعب نفسي وأشقّ عليها فهذا لا تأثير له.



1 الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 341.
 
 
 
84

70

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 وأمّا لو كان الإنسان سوياً في اعتقاده، متّبعاً لحكم عقله القطعي بأنّه مختار، وبأنّ الله عادلٌ لا يفعل الظلم، فإنّه لا محالة سيتحرّك وينبعث وينزجر تبعاً لأوامر المولى ونواهيه، بل سيكون لديه حافزٌ أكبر للطاعة، كلّما ازداد معرفةً بعدالة ربّه واستشعر رقابة خالقه أكثر اقترب من الطاعة أكثر، وابتعد عن المعصية أكثر، وقد أشارت الرواية المتقدّمة الواردة عن أمير المؤمنين عليه السلام إِلَى ذلك في قوله: "إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالزَّجْرُ مِنَ الله".

 
1- آثار عقيدة الاختيار على المستوى الأخلاقي:
الأخلاق عبارة عن مجموعة من الصفات الحسنة أو السيئة، أو فقل السجايا الذاتية للإنسان. وعلم الأخلاق هو العلم المبحوث فيه عن أسس اكتساب الصفات الحسنة، وطرق محاربة الصفات السيئة. وهذا العلم مبتنٍ على ركيزة أساسية، وهي إمكانية تغيير الصفات السيئة الموجودة في الإنسان أو تنمية الصفات الحسنة، فلو لم تكن قابلة للتغيير والتطوير لأصبحت كلّ تعاليم الأنبياء بلا فائدة. والقول بإمكانية تغيير أخلاق الإنسان أو تطويرها مساوق للقول بأنّه مختارٌ. فالمجبور لا يستحقّ مدحاً ولا ذمّاً من جهة، ويتذرّع دائماً بأنّه لا يستطيع تغيير نفسه وسجاياه, لأنّه غير مختار. فكما أَنَّ عقيدة الاختيار وأنّ الإنسان يحدّد مصيره بعمله خير دافع للسير والسلوك ولتهذيب النفس الإنسانية ونزع الرذائل منها وغرس الفضائل فيها، كذلك فإنّ عقيدة الجبر في المقابل تشكّل ذريعة للفاسدين والمفسدين ليتفلّتوا من تهذيب أنفسهم وتحسين سجاياهم. ولعلّه إِلَى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين عليه السلام في قوله المتقدم: "فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ وَلَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ".
 
فإذاً، لو لم نعتقد بالاختيار لبطلت المنظومة الأخلاقية من أساسها، ولما كان ثمّة معنى لما ورد عن خير الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ"1، ولما كان معنى للروايات الكثيرة الحاثة على مجاهدة النفس وتحسين الخلق.



1 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 11، ص 187.
 
 
85

71

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 2- آثار عقيدة الاختيار على المستوى الاجتماعي:

المجتمع هو تكتّل بشري يجمع أفرادَه انتماءٌ فكريٌّ أو مكانيٌّ، وهو محلٌّ للظواهر والتغيّرات، وقد ألقيت على عاتق المجتمع بما هو كذلك أو على الأفراد بلحاظ انتمائهم إليه كثيرٌ من الوظائف والتكاليف الشرعية، كفريضة الجهاد وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدّت هاتان الفريضتان من أهمّ الأمور التي قام بها الدين، ولكنّ كثيراً من هذه التكاليف لا يجدها الإنسان متوجّهة إليه مالم يكن مؤمناً بأنّه مختار, إذ مَنْ يعتقد بأنّ الله قد أجبر العصاة على فعل المعاصي والمطيعين على فعل الطاعة كيف يستوعب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فكيف يأمر بالمعروف من قد أُجبر على فعل المنكر؟! وكيف يُنهى عن فعل المنكرات من يفعلها عن غير اختيار؟!

ثمّ كيف ينصر المظلوم من يعتبر الظالم مجبوراً على فعل الظلم؟! وكيف ـ مع توفر الشروط والظروف المناسبة ـ يقوم على الدولة الجائرة من يعتبر الخليفة مجبوراً على الجور وغير مختار في أفعاله.

وإذا نظرنا إلى التاريخ فإنّنا نجد أَنَّ حكومة معاوية ويزيد وغيرهم من حكام بني أمية وبني العباس يعملون ليل نهار للترويج لعقيدة الجبر, ليبررِّوا أفعالهم الشنيعة، ولتخضع الرعية لهم, إذ لا يرونهم ـ حينئذٍ ـ مقصّرين فيما يفعلون.

وأمّا الإنسان المعتقد بالاختيار فيرى نفسه مسؤولاً في الأمور الاجتماعية والسياسية، فيسعى ليرفع الظلم بقدر استطاعته، ولتطبيق حكم الله على الأرض بحسب مقدوره.

الاختيار وعلاقته بقدرة الله المطلقة
ينبغي الالتفات إلى أنّنا حينما كنّا نقول بأنّنا نعتقد بكون الإنسان مختاراً لم يكن القصد عزله عن خالقه كلياً، وتفويض الأمر إليه من دون أن يكون لله دخل في خلقه، بل المقصود من قولنا بأنّا نؤمن بالاختيار: أَنَّ الله منحهم الاختيار، وهو المالك لما 
 
 
 
86

72

الدرس السادس: اختيار الإنسان وأثره على أعماله وسلوكه

 ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، من دون أن يكون قد أجبرهم. فأفعالنا من جهة هي أفعالنا الحقيقية ونحن أسبابها الطبيعية، وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله جل وعلا, لأنّه معطي الوجود، فنحن لم نجبر على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي, إذ لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوّض خلق أفعالنا حتى تكون قد خرجت عن سلطانه بالكلية. وقد ورد هذا عن أئمّة الهدى عليهم السلام، وأكتفي بذكر نموذجين من ذلك:

أحدهما: الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ: سَأَلْتُهُ فَقُلْتُ: الله فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: "اللهُ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ" قُلْتُ: فَجَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ: "اللهُ أَعْدَلُ وَأَحْكَمُ مِنْ ذَلِكَ"، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "قَالَ الله: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا أَوْلَى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَوْلَى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي، عَمِلْتَ الْمَعَاصِيَ بِقُوَّتِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِيكَ"1.
 
ثانيهما: ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْجَبْرُ وَالتَّفْوِيضُ, فَقَالَ إِنَّ الله لَمْ يُطَعْ بِإِكْرَاهٍ وَلَمْ يُعْصَ بِغَلَبَةٍ وَلَمْ يُهْمِلِ الْعِبَادَ فِي مُلْكِهِ، هُوَ الْمَالِكُ لِمَا مَلَّكَهُمْ، وَالْقَادِرُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِ ائْتَمَرَ الْعِبَادُ بِطَاعَةٍ لَمْ يَكُنِ الله عَنْهَا صَادّاً وَلَا مِنْهَا مَانِعاً، وَإِنِ ائْتَمَرُوا بِمَعْصِيَةٍ فَشَاءَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ وَفَعَلُوهُ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ عليه السلام: مَنْ يَضْبِطْ حُدُودَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ خَصَمَ مَنْ خَالَفَهُ"2.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 157.
2 الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 414.
 
 
 
87

73

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ)


مفاهيم محورية:
- بين الوعد والوعيد.
- ما الذي مقته الله في المؤمنين؟
- الصف المرصوص.
- كبر مقتاً.
- المؤمن يوبَّخ ويُعاتَب.
- عتب الله على المؤمن بقدر محبته له.
 
 
 
89

74

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 نصُّ الموعظة القرآنية:

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾1.
 
بين الوعد والوعيد
إِنَّ كلّ مَن يتأمّل في هذه الآية وما تلاها تأمّل وعي وبصيرة يلتفتُ إِلَى أَنَّها ترمي إِلَى تحقيق غرضين:
أـ الترغيب في الجهاد في سبيل الله، ومقاتلة أعدائه وأعداء دينه، وتحرّضهم على ذلك، وعلى ضرورة أنْ يشدُّوا العزم، ويعقدوا الهمم على هذا الأمر المهم والخطير، وهو القتال في سبيل الله.
 
فالآية ذكرت وبشكلٍ صريح: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾، ولا شكّ في أَنَّ ما يحبّه الله عزّ وجلّ فإنَّه يرغّب المؤمن في القيام به وارتكابه.



1 سورة الصف، الآيات: 2 - 4.
 
 
 
91

75

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 ب- كما أَنَّ الآية بيّنت جانباً سلبياً في حياة المؤمنين، وهو: أَنَّ عليهم أنْ لا يقولوا ما لا يفعلون، ولا يُخلِفوا فيما يعِدون, فإنّ هذا يستوجب مقتاً من الله وغضباً شديداً، وبالتالي، قد ينجرّ الأمر إِلَى الطرد من رحمته الواسعة.

 
سبب النزُّول
من أسباب نزول هذه الآيات: أَنَّ جماعةً من المؤمنين كانوا يقولون: إذا لقينا العدو لن نفرَّ ولن نرجع عنهم، إِلَّا أَنَّهم لم يَفُوا بما قالوه يوم أُحد، حتّى شُجَّ وجهُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكُسِرت رباعيّته المباركة1.
 
ومن هنا يُعرف الوجه في اجتماع الحديث عن الجهاد مع الاتّصاف بصفة القول بما لا يفعلون في هذه الآيات المباركة.
 
ما الَّذِي مقته الله في المؤمنين؟
عرفنا أَنَّ سبب النزول كان يرتبط بالجهاد في سبيل الله، وفرار كثيرٍ من المؤمنين في غزوة أُحد، حيث لم يلتزموا بما التزموا به على أنفسهم، إِلَّا أَنَّ الآية المباركة يستفاد منها أَنَّها بصدد التوبيخ على أيّ تخلُّفٍ في الفعل عن القول، الأمر الَّذِي يعني: ضرورة أنْ يكون قولُ المؤمن توأمَ عمله، فيبقى ثابتاً في مواقفه، لا يتزلزل أو يحيد عمّا قاله والتزم به، ولا يُخلف وعده، أو ينقض بعهده، أو يتثاقل عن الخروج إِلَى ساحات الوغى نصرةً لدينه وإعزازاً لشريعته، وما إِلَى ذلك من أشباه هذه الالتزامات2.
 
فكم وكم مراراً ضربنا على صدورنا، وأخذنا على عاتقنا في مجالس السّهر والسّمر، ولّبَّيْنا بالقول: لبَّيْك لبَّيْك، ولكن ما إنْ تحِنْ ساعةُ الجدّ حتى ترى كُعُوبَنا تضربُ برؤوسنا لسرعة الفرار من الواجب.



1 مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 18، ص 275.
2 (م.ن)، ص 276.
 
 
92

76

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 وما أبْعَدَ ما بين هؤلاء وبين سبعةٍ من فقراء الأنصار جاؤوا إِلَى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا منه أنْ يزوّدهم بما يمكّنهم من الاشتراك في الجهاد، فاعتذر منهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعدم وجدانه ما يطلبون، فتوَلَّوا وأعينهم تفيضُ من الدمع، فعُرفوا بالبكائين، ونزل فيهم قوله تعالى: ﴿وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾1.

 
فهؤلاء يحزنون ويتحسّرون ويتأسّفون على ما امتنع في حقّهم ولم يقدّم إليهم، والحال أَنَّ رغبتهم الحثيثة كانت على المضي إِلَى الجهاد وساحات الوغى، وهذا آية الإيمان، وعلامة الشوق إِلَى الخير، وإلى الله سبحانه وتعالى، وإلى إطاعة أوامره والاجتناب عن نواهيه. ويسبّب هذا الحزنُ دفعَ الإنسان ـ دائماً ـ إِلَى جهة الكمال2.
 
الصّف المرصوص
هل المطلوب القتال كيفما اتّفق؟ وكيفما شئنا؟
نلاحظ في الآية أَنَّ التأكيد ليس على القتال بما هو قتال، وكيف اتّفق، بل على قتالٍ من نوعٍ خاص تتجلّى فيه مظاهر الوحدة والانسجام التّام، كالبنيان المرصوص في مواجهة الأعداء القتال الَّذِي يعكس وحدة القلوب والأرواح، ويعكس العزائم الحديدية الراسخة في مشهدٍ متراصٍّ ليس فيه تصدّع أو خلل.
 
وما دام أَنَّ العدو يزحف كالسيل العارم المدمّر والهادر، فإنّه لا نجاة لنا من تبعاته إِلَّا بأنْ نشكّل سدّاً محكماً في وجهه، وأنْ لا نتساهل مع كلّ جزءٍ جزءٍ من هذا السدّ, فإنّ أيّ ثغرةٍ يُحدثها العدوّ في هذا السدّ فسوف يكون لها آثارٌ خطيرةٌ ووخيمة.
 
أجل، هكذا ينبغي أنْ يكون القرآن حاضراً بيننا، نبثّه وَجَعَنا وشكوانا، فيغدق علينا تِرياق الحياة الشامخة والعزيزة.



1 سورة التوبة، الآية: 92.
2 الحائري، كاظم، تزكية النفس، ص 301 (بتصرّف).
 
 
 
93

77

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 أجل، لو فتحنا مغاليق هذه الآية لوجدنا أَنَّها ركّزت على مسألة مهمّة: وهي لا بدّية أنْ يكون الجسم الجهادي بكافّة أقسامه ومتفرّعاته بمنزلة بنيان محكم، يشدّ بعضُه أزر بعض, فاليد اليسرى عونُ اليد اليمنى، وإحدى العينين تُرْفِدُ الأخرى، والحركة الجهادية متوزّعة بين القدمين ومتّكئةٌ عليهما، والقاعدة الشعبية مرتبطةٌ ارتباطاً عضوياً مع أُولي الأمر والنهي الَّذِين يمثّلون الرأس من الجسد.

 
هذا النمط الجهادي الَّذِي دعا إليه الله ورغّب فيه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
 
كما قد حذّر من المشهد المضاد بقوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾1، في أجمل تعبيرٍ يمكن أن يخطر على البال، فالتنازع يؤدّي إِلَى الفشل، والفشل مصيره إِلَى ذهاب صولتكم وقوّتكم وشوكتكم ودولتكم.
 
كَبُرَ مقتاً
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.
تعرّضت هذه الآية المباركة لذكر واحدةٍ من الصِّفات المذمومة التي ينبغي للمؤمن تجنُّبها والتنزّه عنها، وهي: (أنْ لا يقف المؤمن عند قوله)، فكأنّ الكلام لا يزال في وثاق المؤمن ما دام لم يخرج من فيه، فإذا خرج صار رهينَ كلامه وأسيرَ أقواله، على حدّ ما يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْكَلَامُ فِي وِثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وِثَاقِهِ"2، وقال أيضاً: "إِذَا تَكّلَّمْتَ بِالْكَلِمَةِ مَلَكَتْكَ، وَإِذَا أَمْسَكْتَهَا مَلَكْتَهَا"3.



1 سورة الأنفال، الآية: 46.
2 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص 485، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
3 غرر الحكم، ص 4084.
 
 
 
94

78

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 المؤمن يُوَبَّخ ويُعَاتَب

تكفّلت هذه الآية توبيخاً مغلّظاً واستنكاراً عالي اللهجة للمؤمنين: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾1.
 
والسبب في ذلك: اشتمال بعضهم على أخلاق وصفات بطبيعتها تُبعِد المرءَ عن الله تعالى، وهي: قولهم: ما لا يفعلون.
 
وهذه أَخلاق لا تتلاءم مع المؤمن الَّذِي يعيش دوماً في محضر الله... فإنَّ العالَم كلَّه في محضر الله... والذي يفترض به أن لا يكون غافلاً عنه تعالى، وأنْ يكون شاعراً بمعيّته له، وأنّه تعالى معه في كلّ حركاته وسكناته وأفعاله وأقواله، قال تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾2.
 
- أليس من أَحبّ شخصاً كان دائم التفكير فيه؟!
- ألا يسعى دوماً لجعل أفعاله مطابقةً لما يقرّبه من محبوبه؟!
- هل يحسن أن يتكلّم بكلام يجعل المحبوبَ يُعرضُ عنه ويَحْرَدُ عليه؟!
- أبداً... هذا بعيدٌ من ساحة العشق.
 
إذاً، فما بالُ بعضنا يلتزم على نفسه أمامَ الله وأمامَ الناس، ثمّ لا يلبث أنْ يتراجع عمّا قال هل يبغي من عمله هذا معاداة الله؟!
 
أيّها العزيز!
إِنَّ من السّمات الأساسية للمؤمن الصادق هو الانسجام التّام بين أقواله وأفعاله، وكلّما ابتعد الإنسان عن هذا الأصل كان أبعدَ من حقيقة الإيمان.



1  سورة الصف، الآيتان: 2 – 3.
2 سورة الحديد، الآية: 4.
 
 
 
95

79

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 عتبُ الله تعالى على المؤمن بقدر محبّته له

من الغريب حقّاً والملفت للنظر طريقة مخاطبة الله تعالى الشريحةَ الواسعةَ مِمَّن آمن به واعترف بألوهيته وأقرَّ بعبوديته. فإنّ الحقّ تعالى اسمه قد صدّر بما يربط ويجمع بين الله والمؤمنين، وبما يُمَتِّن العلاقة بينهما، فخاطبهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، مقدّماً في خطابه محاسن العباد، وحسناتِ أفعالهم، ومعترفاً بالقَدْر الَّذِي أَتَوا به اتّجاه خالقهم ومربِّيهم من الإيمانِ به عزّ اسمه.
 
ثُمّ عقَّب بعد هذا بذكر ما قاموا به مِمَّا كان موضعَ سخطه، ومحطّ غضبه، ومعرضَ توعّده وتهديده مستنكراً عليهم: ﴿أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، فإنَّه ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾, فهو من الأعمال الممقوتة والمبغوضة لديه تعالى بغضاً شديداً، وفاعله مستحقُّ جنهّم.
 
ولعلّ السرّ في تقديم المحاسن على قبائح الأفعال أمران:
الأوّل: إِنَّ القرآن الكريم لمّا كان كتابَ هداية وتربية يعمل على تغذية الروح وتربيتها كما يعمل على تغذية الفكر والعقل، هَدَفَ من خلال هذا التوبيخ المغلّظ أنْ يقول لهؤلاء المؤمنين: يا أيُّها الَّذِين يُفترض أَنَّكم آمنتم بي!
 
لا تتعرّضوا لسخطي وغضبي...
 
لا تتشبّهوا بأهل النفاق الَّذِين يقولون ما لا يفعلون, فإنّ لأهل الإيمان سلوكاً وعلامات، ولأهل النفاق سلوكاً وعلامات، وإنّما يستدلّ على الصالحين بعلاماتهم وسلوكهم، وعلى المنافقين بعلاماتهم وسلكهم، والتي منها: أنْ يقولوا ما لا يفعلون.
 
ناداهم بوصف الإيمان تعريضاً بأنَّ الإيمان من شأنه أنْ يردع المؤمن عن أنْ يخالفَ فعلُهُ قولَه فيما وعد به من خير وإحسان والتزام تجاه الفرد أو المجتمع.
 
الثاني: الإشارة إِلَى معنى خفيّ ولطيف, وذلك أَنَّ الإنسان في مسيرته في الحياة ربما يتعثّر، أو يخطئ هنا أو هناك، بل ربّما يتعمّد في بعض الأحيان.
 
 
 
96

80

الدرس السابع: مطابقة الأقوال للأفعال

 وكلّ ذلك لا ينبغي أنْ يجعلنا نتناسى الماضي، وما قدّمه من خير وعمل صالح، بل لا بدّ من تذكيره بماضيه الإيماني، والصلاح الَّذِي كان عليه قبل مساوئ الأخلاق وذميم الصفات, أيْ على قاعدة: (إنْ كان ولا بدّ، فاسقه ماءً ثمّ اذبحه).

 
في التوبيخ والعتاب صلاح أولى الألباب
كما أَنَّ الخضر عليه السلام خرق السفينة وكان في ذلك صلاحُ حال أهلها، واستقامة أمورهم، كذلك الآية المباركة تهدف من خلال هذا التعنيف والتوبيخ والخرق المعنوي لسفينة النفس الأمارة بالسوء، أنْ تصلح حال العباد، فيما يرتبط بأمور دنياهم وآخرتهم.
 
قال العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان:
"والصالحون من هؤلاء المؤمنين إِنَّما صَلُحوا نفساً، وجَلُّوا قَدْراً بالتربية الإلهية التي تتضمّنها أمثال هذه التوبيخات والعقابات المتوجهة إليهم تدريجاً، ولم يتّصفوا بذلك من عند أنفسهم"1.
 
فإنّ المؤمن يُصنعُ على عين الله تعالى وتحت نظره، يرعى مولاه شؤونه، ويربّيه على حدّ قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾2.
 
إلهي، خصّني برحمةٍ من عندك جامعةٍ مانعةٍ، أبلغ بها خيرَ الدّنيا والآخرة.
 
من أين لي النجاة يا ربّ ولا تُستطاع إِلَّا بك...
 
إلهي، أصلح حالي، أفعالي وأقوالي...


1 الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 19، ص 248.
2 سورة طه، الآية: 39.
 
 
 
97

81

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم



مفاهيم محورية:
- الرفق واللين واللطف هو الأصل.
- الرفق هداية الخلق إلى الحق.
- مدح الرفق في الروايات.
- الله رفيق يحب الرفق.
- منظومة العلم والحلم والرفق.
- الرفق في حقوق المؤمنين.
 
 
99

82

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 نصُّ الموعظة القرآنية:

خاطب الله سبحانه نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾1.
 
الرفق واللين، واللطف هو الهدف
الخُرُق والعنف ظاهرتان سلبيتان في طبيعة الإنسان ويُقابلهما ملكة اللين والرفق، وأصل الرفق في اللغة: النفع، ومنه قولهم: أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به. ورفيق الرجل: من ينتفع بصحبته، ومرافق البيت: المواضع التي ينتفع بها2.
 
والذي يعنينا من الرفق هنا، هو ما يحمل لنا معاني اللين واللطف والسهولة واليسر، لما لها من دور مهم في حياة المؤمن الرسالي، وما يؤدّيه من مهام وأدوار في حركته الرسالية الواعية بين أفراد وشرائع المجتمع بكلّ أطيافه، وما لها من تأثير جميل يدلّ على حسن وجمال المتلبّس به، واستقامة ذاته واعتدال تصرّفاته, إذ إِنَّ الرفق ليس مستهدفاً للغير في مهمته وتأثيراته فحسب، بل هو يبدأ من الذات ليشمل



1 سورة آل عمران، الآية: 159.
2 الرازي، أبو بكر محمد بن يحيى بن زكريا، مختار الصحاح، ص251،طبع: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
 
 
 
101

83

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 غيرها من الأفراد والمجتمعات، ويوصل إليها رسالة التكافل الاجتماعي بأبهى صورة.

 
وقد أكّد الإسلام العزيز على هذه السجية الفاضلة والخصلة النبيلة داعياً أتباعه ومحبّيه إلى التحلّي بها وتجسيدها في أرض الواقع العملي, لتؤدّي إلى الأهداف المطلوبة. والذي صنعه الإسلام على صعيد العنصر الأخلاقي بجميع أركانه ومظاهره كالصدق والأمانة والبرّ والإحسان والرفق والعفو والرحمة والحبّ والسلام وغير ذلك...، إنّما هو على نحو التقدير والتنظيم والإحياء، لا على نحو الفرض المتعالي على الطبيعة البشرية, لأنّ العنصر الأخلاقي عنصر فطري ثابت في الفطرة التي فطر الله عليها عباده، ولا تبديل لخلق الله، فمهما حاولت الأفراد أو الشعوب في زمن من الأزمان لأجل قلب القيم وتجاهل أصالتها فإنّها لا تستطيع أن تدعو بوضوح إلى إشاعة الكذب والخيانة والخسّة والدناءة, لأنّ المبدأ الأخلاقي أصالة في الفطرة.
 
الرفق هداية الخلق إلى الحق
اللّين في المعاملة هو الرفق، ففي آية الموعظة يكون المعنى:أَنَّ لَيْنَكَ يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم سببٌ يوجب دخولهم في الدين, لأنّك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين1.
 
فلولا هذا الرفق الذي اعتمده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مَنْ أرسل إليهم لما تمكّن من استقطاب الناس حول رسالته, إذ أنّ الفظاضة والغلظة المناقضة للرفق واللين إذا ما اعتُمدت خياراً منهجياً في التبليغ والدعوة إلى الحق فإنَّ مردودها سيكون عكسياً، فالناس بحاجة إلى كنف رحيم، ورعاية فائقة، وبشاشة سمحة، وإلى ودٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، وهم بحاجة إلى قلبٍ كبيرٍ يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنّيهم بهمّه، ويجدون عنده دائماً 



1 انظر: الطبرسي، أبو علي فضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 2، ص 869.
 
 
 
102

84

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضا.

 
وتعميقاً لروح الرفق واللين التي يريدها الله تعالى في الدعوة إلى الحق، جاء التأكيد في تلك الآية المباركة نفسها على ما يجسّد حالة الرفق واللين العملي بين يدي المؤمنين، في جملة مكارم الأخلاق التي اهتمّ الإسلام بتحقيقها على النحو الأكمل وإشاعتها بين الناس، فهي تأمر بالعفو لمن يُسيء والغفران لمن يُخطئ, ليتجلّى الرفق ويتمظهر اللين في حركة التغيير والإصلاح على منهجية المبلغ الرسالي ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾.
 
ولمزيد من الرفق أمرت الآية المتقدّمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومن يقتدي به من باب أوْلى أن يشاور أولئك الذين صدر عنهم الفرار من الزحف وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع نفر قلائل من أصحابه، فقال عزّ وجل ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، وبعد ذلك يُمضي ما يراه الأصوب في ذلك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، والآية واضحة تشير إلى الرفق بكلّ أبعاده، ليضع الأثر الذي يريده الله تعالى في درب التكامل البشري من خلال رسالته السامية.
 
أهمية الرفق واللين في حياة المسلمين
ويحظى الأمر باللين والرفق والرحمة في هذا الموضع بالذات بوقع خاص، يجلّي أهميّة هذه القيم على نحو قد يظهره موضع آخر, إذ جاء ذلك على أثر مخالفة المسلمين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، تلك المخالفة التي أدّت إلى أسوأ النتائج, إذ دهمهم العدو، فلم يجدوا في أنفسهم ثباتاً، فانقلبوا منهزمين يلوذون بالجبل، وتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع نفر يسير من أصحابه حتى أثخنته الجراح وكُسرت رباعيته وشُجّ وجهه وهو صامد يدعوهم، فلم يفيئوا إليه حتى انكشف العدو، فلمّا رجعوا لم يعنّفهم ولم يُسمعهم كلمة ملامة، ولا ذكّرهم بأمره الذي خالفوه فتحمّلوا بخلافهم مسؤولية كلّ ما وقع، بل رحّب بهم وكأن شيئاً لم يكن، وكلّمهم برفق ولين، وما هذا 
 
 
 
103

85

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 الرفق واللين إلا رحمة الله بنبيّه وعون له على رباطة الجأش، وإذا مدح الله نبيه بكظم الغيظ والرفق بأصحابه على إساءتهم له، فبالأولى أن يعفو الله ويصفح عن عباده المسيئين، ثم بيّن سبحانه الحكمة من لين جانب نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بخطابه له: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾، وشمت العدو بك وطمع فيك ولم يتمّ أمرك وتنتشر رسالتك.

 
وأنّ المقصود من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هداية الخلق إلى الحق، وهم لا يستمعون إلا إلى قلبٍ رحيمٍ كبيرٍ كقلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي وسع الناس، كلّ الناس، وما ضاق بجهل جاهل أو ضعف ضعيف1.
 
الرفق في الروايات الشريفة
لقد مُدِح الرِّفق في الأخبار الواردة عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بكثرةٍ، وتنوّعت الأحاديث في ذلك:
- فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّه قال: "الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْخُرْقُ شُؤْمٌ"2.
فهذا الحديث يصف الرفق باليمن، أي: البركة, لما للرفق من دور حيويّ في شدّ أُزُر الناس بعضهم إلى البعض الآخر من خلال ما يزرعه في نفوسهم من المحبة والصفاء حتى يعودوا مباركين في تصرفاتهم، فيعمّ اليمن ساحتهم وتتغشّاهم بركات السماء.
 
- وفي الخبر عن مولانا الباقر عليه السلام: "إِنَّ لِكُلِّ شَيْ‌ءٍ قُفْلاً وَقُفْلُ الْإِيمَانِ الرِّفْقُ"3. والمراد: أَنَّ لكلِّ شيءٍ حافظاً له ومانعاً يردّ عنه ورود الفساد والخراب، وهذا من باب تشبيه الأمر المعنوي بالأمر المحسوس, لغرض تقريب الفكرة إِلَى الأذهان. وكأن



1 مغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف 2: 188.
2 الشيخ الكُلَيْني، الكافي، ج 2، ص 119.
3 (م.ن)، ص118.
 
 
 
104

86

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 قفل الإيمان هو الرّفق, من باب تشبيه الإيمان بالجوهر، والقلب بخزانته، والرفق بالقفل, لأنّه يحفظه عن الزوال وطروِّ الفساد, وذلك لِمَا للين الجانب والرأفة وترك العنف والجفاوة في الأفعال والأقوال على الخلق في جميع الأحوال، سواء صدر منهم بالنسبة إِلَى صاحب الرّفق ما هو مخالفٌ للآداب أم لم يصدر، من تأثير على معاملات الناس مع بعضهم البعض، الأمر الَّذِي يُؤْمَن معه من ورود المفاسد والآفات.

 
الله رفيق يحب الرفق
ويشهد لذلك خبرٌ آخر عن مولانا الصادق عليه السلام، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فَمِنْ رِفْقِهِ بِعِبَادِهِ تَسْلِيلُهُ أَضْغَانَهُمْ وَمُضَادَّتَهُمْ لِهَوَاهُمْ وَقُلُوبِهِمْ وَمِنْ رِفْقِهِ بِهِمْ أَنَّهُ يَدَعُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ يُرِيدُ إِزَالَتَهُمْ عَنْهُ رِفْقاً بِهِمْ لِكَيْلَا يُلْقِيَ عَلَيْهِمْ عُرَى الْإِيمَانِ وَمُثَاقَلَتَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَيَضْعُفُوا فَإِذَا أَرَادَ ذَلِكَ نَسَخَ الْأَمْرَ بِالْآخَرِ فَصَارَ مَنْسُوخاً"1. والتسليل إخراج الشيء برفق، تقول: سللت السيف إذا أخرجته من غمده، والضغن الحقد والعداوة والبغضاء، تقول: ضغن صدره ضغناً، أيْ: حقد، ولعل المراد بتسليلها إخراجها بالرفق والتدريج عن قلوبهم وتوفيقهم على دفعها باستعمال أسبابه وعدم تكليفهم به دفعة واحدة, لصعوبة ذلك2.
 
- عن مولانا الباقر عليه السلام: "إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ"9.
 
وفي هذا الحديث دلالةٌ على أن ملاك حسن الأخلاق وفضائل الملكات وجود مثلها أو ما يناسبها فى صفات الله تعالى، مثلاً: الله كريمٌ يحبّ الكرم، فالكرم من الملكات



1 الشيخ الكُلَيْني، الكافي ، ج28، ص118.
2 انطر: المولى المازندراني، محمد صالح، شرح أُصول الكافي 8: 325، تحقيق: أبو الحسن الشعراني، الطبعة الأولى 1382هـ، نشر: المكتبة الإسلامية، طهران.
 
 
105

87

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 الفاضلة، وحليمٌ يحبّ الحلم، والجود حسنٌ لأنّ الله جواد، والسخاء حسنة، وهكذا. وهذا معنى ما قيل: تخلقوا بأخلاق الله تعالى. وبالجملة الله هو الموجود الكامل الجامع لجميع الكمالات المنزّه من جميع النقائص، وتحصيل كلّ كمال تشبّه بالخالق تعالى.

 
- قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلَى شَيْ‌ءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا نُزِعَ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلَّا شَانَهُ"1.
 
وهذا الحديث يحكي جمالية الرفق في أنّه لبوس حسن، يزيّن مرتديه، فمن تخلّق بالرفق فإنَّ الرفق سيزينه ويزيده جمالاً ووقاراً وهيبة، فلا يلتفت الآخرون إلى ما هو عليه من عيوب ونقاط ضعف لا ينجو منها عادة إِلَّا الكُمّل من الناس، وعلى العكس من ذلك فلو أَنَّ إنساناً يستجمع من المزايا الحميدة الشيء الكثير غير أنّه لا يتخلّق بالرفق في تصرفاته، فإنَّ مثل هذا الإنسان سرعان ما ينفر الناس منه لما للرفق من دور مهمّ في الكشف عن الأخلاق العملية التي يتفاعل معها الآخرون.
 
- روى الشَّيْخ الكليني قدس سره بسند صحيح إِلَى حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نِعْمَ وَزِيرُ الْإِيمَانِ الْعِلْمُ وَنِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ وَنِعْمَ وَزِيرُ الْحِلْمِ الرِّفْقُ وَنِعْمَ وَزِيرُ الرِّفْقِ 
الصَّبْرُ"2.
 
الوزير هو مَنْ يحمل الثقل عن الأمير ويعينه في أموره، وأمّا كون العلم وزيراً للإيمان فظاهر, لأنّ العلم التفصيلي بالمعارف الإلهيّة والمسائل الدّينيّة يقوّي نور الإيمان في القلب ويدبّر أمره ويحفظ جميع القوى والأركان عن الجور والطغيان وعن صدور ما ينافي استقراره وتمكّنه.
 
وأمّا كون الحلم - وهو كون النفس مطمئنّة بحيث لا يحرّكها الغضب بتوارد المكاره بسهولة ولا تقع في شغب عند مشاهدتها - وزيراً للإيمان, فلأنّه يعين العلم ضبط 



1 الشيخ الكُلَيْني، الكافي، ج2، ص119.
2 (م. ن)، ج 1، ص48.
 
 
 
106

88

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 النفس، ولا ينفعها مجرّد العلم في ضبط الممالك الرّوحانيّة، كما أنَّ السلطان الظاهر لا ينفعه علمه بأحوال مصالح الرّعايا ومضارّهم إذا لم يكن له حلم، وكانت له نفس ظالمة آمرة له بارتكاب مضارّهم، أو وزير مائل إلى الظلم آمر له به وهو يتبعه في مفتريات أقاويله، فإنّ ذلك يؤدّي إلى فساد أحوال مملكته وزوال نظام أمور سلطنته.


وأمّا كون الرّفق وزيراً للحلم، فلأنّه يكشف عن واقعية الحلم، فلا يزول أمام أوّل امتحان واختبار، فللرفق مدخلٌ عظيمٌ في ثبات الحلم وبقاء نظامه.

‌وأمّا كون الصبر وزيراً للرفق، فلأنّ الصبر على المكاره والأمور الشاقّة على النفس سببٌ عظيمٌ ومعينٌ تامٌّ لبقاء الرفق وثباته، ولولا الصبر لزال الرّفق بورود أدنى المكاره والشدائد.

منظومة العلم والحلم والرفق
فقد استوزر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم العلم للإيمان، والحلم للعلم، والرفق للحلم، والصبر للرفق، وبهذه المنظومة المباركة بيّن لنا التماسك الحيوي بين الإيمان والعلم والأخلاق، فمن أراد الإيمان فعليه بالعلم، ومن أراد العلم الذي يفضي إلى الإيمان فعليه أن يتزيّن بالحلم الذي يجعل من العلم علماً هادفاً، لا العلم الذي يرافقه الغرور والعجب والتكبر، ومن أراد إيماناً يستند إلى العلم النافع والمستوزر بالحلم فما عليه إلا التخلّق بالرفق الكاشف عن واقعية الحلم وحقيقته.

الرفق الذي يتضمّن: السماحة واللطف والانفتاح والتواضع وتكليم الناس على قدر عقولهم، والتجاوز عن سيئاتهم والترفّع من متابعة هفواتهم، رفقاً يتجلّى فيه اللّين وتمحى من ساحته الغلظة، فلا خشونة عند التعامل، ولا جفوة بعد التخاصم، ولا طغيان عند البغي، هكذا يريدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أبعادنا العلمية والإيمانية والأخلاقية، وهكذا كان هو صلى الله عليه وآله وسلم مجسّداً لأخلاق القرآن، وسنّته العملية هي التعبير
 
 
 
107

89

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 الأدقّ لكلّ ذلك الخُلق النبوي العظيم، ولأجل هذه الحقيقة الناصعة والمحجّة البيضاء عرّفه الباري تعالى بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾1.

 
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ إِلَّا كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْراً وَأَحَبُّهُمَا إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَرْفَقَهُمَا بِصَاحِبِهِ"2.
 
الصحبة في الله عمل ممدوح باركه الإسلام كثيراً وحثّ عليه وبشّر أهله بالثواب الجزيل والمنزلة الرفيعة، لكن بين المتصاحبين في الله تفاضل، فأحدهما أرفع منزلة وأعظم أجراً من أخيه فبأي مزيّة نال هذا التفضيل؟
 
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكشف لنا عن سرّ هذه المفاضلة، وهي أَنَّها تحصل بالرفق. فالرفق هو الذي رفع أحد الصاحبين على أخيه درجة وشرّفه بمنزلةٍ من حب الله أعلى.
 
واعلم أنّ الله تعالى ليجازي عباده على مكارم الأخلاق في الدنيا فيريهم ثمراتها، كما يدّخر لهم ليوم لقائه ما هو أنمى وأبقى، فما الذي يراه المتحلّي بالرفق في دنياه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنَّ فِي الرِّفْقِ الزِّيَادَةَ وَالْبَرَكَةَ وَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ"، وقال الإمام الصادق عليه السلام: "أَيُّمَا أَهْلِ بَيْتٍ أُعْطُوا حَظَّهُمْ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ وَسَّعَ الله عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ وَالرِّفْقُ فِي تَقْدِيرِ الْمَعِيشَةِ خَيْرٌ مِنَ السَّعَةِ فِي الْمَالِ وَالرِّفْقُ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ شَيْ‌ءٌ وَالتَّبْذِيرُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْ‌ءٌ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ"3.
 
الرفق في حقوق المؤمنين
ركّز الإسلام كثيراً عنايته بحقوق المؤمنين بعضهم على بعض، حفظاً لكرامة الإنسان المؤمن وصيانة للمجتمع ورصاً لصفوفه، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾4.



1 سورة القلم، الآية: 4.
2] الشيخ الكُلَيْني، الكافي، ج2، ص120.
3 (م. ن)، ص119.
4 سورة التوبة، الآية 71.
 
 
 
108

90

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 والرّفق واحدٌ من تلك الحقوق التي ينبغي حفظها، ورسالة الحقوق التي أفاض بها الإمام زين العابدين عليه السلام أكمل دستور يتناول شِعَب الحقوق وجوانبها وألوانها، وفيها تجد للرفق حظّه المبرّز وهو يوزّعه على أولى الفئات التي ينبغي أن يحفظ لها حقها فيه، ومنها:

1- المسلمون عامة: قال عليه السلام: "وَحَقُّ أَهْلِ مِلَّتِكَ إِضْمَارُ السَّلَامَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالرِّفْقُ بِمُسِيئِهِمْ وَتَأَلُّفُهُمْ وَاسْتِصْلَاحُهُمْ وَشُكْرُ مُحْسِنِهِمْ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ"1.
 
- المستنصح: وقال عليه السلام: "حَقُّ الْمُسْتَنْصِحِ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ النَّصِيحَةَ وَلْيَكُنْ مَذْهَبُكَ الرَّحْمَةَ لَهُ وَالرِّفْقَ بِهِ"2.
 
2- الزوجة: قال عليه السلام: "وَأَمَّا حَقُّ الزَّوْجَةِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَهَا لَكَ سَكَناً وَأُنْساً فَتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ فَتُكْرِمَهَا وَتَرْفُقَ بِهَا وَإِنْ كَانَ حَقُّكَ عَلَيْهَا أَوْجَبَ فَإِنَّ لَهَا عَلَيْكَ أَنْ تَرْحَمَهَا لِأَنَّهَا أَسِيرُكَ وَتُطْعِمَهَا وَتَكْسُوَهَا وَإِذَا جَهِلَتْ عَفَوْتَ عَنْهَا"3.
 
ارفق يُرفق بك
لما كان الله تعالى رفيقٌ ويحبّ الرفق، فلا شكّ أنّه سبحانه سيقابل رفق الإنسان بأخيه الإنسان، ورفق الإنسان بالحيوان، بالرفق واللطف والسماحة والتجاوز فيما يخصّ تعامل الخالق مع مخلوقه في الدنيا أو ما يعود لمحاسبته في الأخرى. قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾4، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "كَانَ آخِرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْخَضِرُ مُوسَى عليه السلام قَالَ:... وَالرِّفْقُ بِعِبَادِ الله وَمَا رَفَقَ



1 الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 2:، ص 625.
2 (م. ن)، ص 624.
3 (م. ن)، ص 621.
4 سورة الرحمن، الآية: 286.
 
 
 
109

91

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 أَحَدٌ بِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا رَفَقَ الله بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"1، فمن أراد أن يرفق الله به فما عليه إلا أن يرفق بغيره.

 
الرفيق من يرفقك على صلاح دينك
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّمَا سُمِّيَ الرَّفِيقُ رَفِيقاً لِأَنَّهُ يُرْفِقُكَ عَلَى صَلَاحِ دِينِكَ، فَمَنْ أَعَانَكَ عَلَى صَلَاحِ دِينِكَ فَهُوَ الرَّفِيقُ الشَّفِيقُ"2، فاختر لنفسك رفيقًا يرفق بك على صلاح دينك ويعينك على تكامل سبيلك.
 
نتائج عدم الرفق بالنفس
إنّ قصة البقرة في القرآن الكريم قصة طريفة تحكي سهولة التشريع الإلهي، وتشديد الإنسان على نفسه فيما يضعه من قيود وضوابط لم يكن مُلْزَمٌ بها من قِبَل ربّه. فبنو إسرائيل بعد أن ضيّقوا على أنفسهم ضيّق الله عليهم, إذ لم يطلب منهم إِلَّا ذبح بقرة نكرة غير معروفة بوصف معيّن، كما دلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً﴾3، إلا أنّهم مارسوا اللجاجة وماطلوا كثيراً في أداء التكليف، إذ لم تكن هناك إلّا بقرة واحدة تتمتع بتلك الأوصاف النادرة، ولم يعثروا عليها إلا بشقّ الأنفس، فلو رفقوا بأنفسهم لرفق الله بهم، ولكنّهم ضيّقوا على أنفسهم فضيّق الله عليهم.
 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا ﴿وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ مَا أُعْطُوا أَبَداً، وَلَوْ أَنَّهُمْ اعْتَرَضُوا بَقَرَةً مِنَ البَقَرِ فَذَبَحُوهَا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ"4.



1 الحرّ العاملي، وسائل الشّيعة، ج 16، ص 163.
2 الآمدي، عبد الواحد بن محمد، تصنيف غرر الحكم، ج 20، ص 273.
3 سورة البقرة، الآية: 67.
4 الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص 204.
 
 
 
110

92

الدرس الثامن: الرفق في القرآن الكريم

 خاتمة المطاف

- إِنَّ نظرية الإسلام في الأخلاق الاجتماعية تقوم على الرفق والتسامح والتجاوز من غير ضعفٍ ولا مداهنة، بل من أجل الهداية للرشد والتكامل.

- إنّ القرآن الكريم يعتبر التخلّق باللين ومجانبة الفظاظة والغلظة من أهمّ عوامل استقطاب الناس والتأثير في هدايتهم إلى درب الحق.

- إِنَّ القرآن الكريم يعتبر المتخلّقين بذلك هم أولي الحظ العظيم في السجايا الفاضلة ومن أهل الكرامة والنعيم الأبدي.

- إِنَّ الأحاديث الشريفة تؤكّد أَنَّ الله رفيق ويحبّ الرفق في الأمر كلّه، وأَنّ الله تعالى يعين على الرفق.

- إِنَّ من الرفق: الرّفق بالنفس وعدم تحميلها ما لا تطيق، وإنَّ من يضيّق على نفسه يضيّق الله عليه.

اللهم أعنّا على أن نرفق بأنفسنا وبمن حولنا، ولا تحرمنا رفقك ولطفك يا أرحم الراحمين.
 
 
 
111

93

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله (القرض الحسن)



مفاهيم محورية:
- القرض الحسن وآثاره الاجتماعية.
- يقرِض الله تعالى.
- ما هو القرض الحسن؟
- فيضاعفه أضعافاً كثيرة.
 
 
 
113

94

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 نص الموعظة القرانية:

قال الله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾1.
 
تمهيد
يُحيط القرآن بكلّ ما يحتاج إليه الإنسان في حياته، ويُهيّء له سُبلَ الوصولِ إلى أهدافهِ مهمَا تعدّدت تلك الأهداف، ومهما كثرت الصّعاب الّتي تُعيق حركة الإنسان في طريقه.
 
فإذا أراد الإنسان أن يُحاور أخيه الإنسان يُريه الله تعالى طُرق التّحاور فيقول له: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾2، وإذا قرّر الإنسان القيام بعمل ما، فيقف القرآن مُنبِّهاً له: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾3، فالله يراقب أعمالنا، ويدعونا إلى العمل وفق القوانين الّتي يضعها لنا، وهكذا يحدّد لنا القرآن البوصلةَ الّتي تُنير لنَا درباً مُشْرَّعاً 



1 سورة البقرة، الآية: 245.
2 سورة النحل، الآية: 125.
3 سورة التوبة، الآية: 105.
 
 
 
115

95

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 وواسعاً للوصول إلى الغايات المنشودة.

 
ويوطِّد القرآن عُرى الرّوابط الإنسانيّة بين النّاس، فيحُثّهم على التّعاون فيما بينهم حيث يقول: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾1.
 
القرض الحسن وآثاره الاجتماعية
القرآن الكريم دستورُ حياةٍ حقيقيّة، تَراه يُرصِّع لنَا مفاهيمَ مهمّة جداً لاستقامة حياة الإنسان، ومن هذه المفاهيم مفهوم (القرض الحسن).
 
قال تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾2.
 
وقال سبحانه: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾3.
 
لنحاول معاً أن نَغْرفَ من ينبوع المعرفة، فنرى ما هو معنى القرض؟ ولماذا رَبط الله القرض بذاته المقدّسة؟ وما هو القرض الحسن؟ وكيف يُضاعف أضعافاً كثيرة؟ ولماذا يُضاعف بهذه الأضعاف؟
 
القرض في اللّغة: ما يَتَجازَى به الناسُ فيما بينهم ويَتَقاضَوْنَه، وجمعه: قرُوضٌ، وهو ما أَسْلَفَه من إِحسانٍ، والقِرْضُ بالكسر، لغة فيه حكاها الكسّائيّ4.
 
وفي الاصطلاح الفقهي عبارة عن: "معروف أثبته الشارع إمتاعاً للمحتاجين مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً"5.

فالقرض فعل خيرٍ، يؤدّيه الإنسان مع أخيه، وهو من البلاء الحسن.
 


1 سورة المائدة، الآية: 2.
2 سورة البقرة، الآية: 245.
3 سورة الحديد، الآية: 11.
4 انظر: لسان العرب، مادة (قرض).
5 الشهيد الأول، محمد بن مكي، الدروس الشرعية في فقه الإمامية، ج3، ص 318، نشر: مكتب النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين، الطبعة الثانية 1417، قم.
 
 
 
116

 


96

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 والقرض يأتي بمعنى القطع, يعني يقطتع المقرِض من نفسه وماله ما يربطه بالمقترض.

 
أقسام القرض
وقد قُسّم القرض إلى قسمين:
1- قرض حاجة: وهذا لا يُتصوَّر في حقّ الله تعالى، فهو الغنيّ المطلق غير المحتاج لأحدٍ، والكلّ محتاج إليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾1.
 
2- قرض ربحٍ: أي أنّ هذا المال المستَقرَض يرجع إلى المقرِض مع الرّبح الحلال، وهذا متصوّر في حقّه تعالى، وهو محور فكرة القرض الحسن، فيصرف المقرِض المالَ في المنافع العامّة، ومن ثمّ يعود النّفع إلى صاحبه، بشرط خضوعه للموازين الشّرعيّة.
 
والمعنى المراد في المقام: هو جميع ما يقدّمه الإنسان من أفعال خيّرة، ترجع منفعتها إلى النّفس أو المجتمع، وتعبيره تعالى بالقرض إنّما هو للتّنظير وتقريب الفكرة، وليس المراد القرض الاصطلاحيّ الّذي يُؤخذ لرفع الحاجة والعَوَز.
 
يُقرض الله تعالى
إنّما ارتبط القرض بالله تعالى في هذه الآيات الكريمة للحثّ والتّشجيع والتّرغيب على البذل والإنفاق في سبيل النّفس الإنسانيّة والمجتمع.
 
وتَتبيّنُ هذه الفكرة في قوله تعالى: ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.



1 سورة فاطر الآية: 15.
2 سورة المزمل، الآية: 20.
 
 
117

97

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 فهذه الآية توضّح لنا المراد من القرض الّذي يقدِّمه الإنسان إلى النّاس على صعيد الفرد والمجتمع.

 
والدّليل على هذا قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾، من جهة كون القرض تقدمة لنفس المقرِض عبر مساعدته للآخرين، فالمنفعة الحقيقيّة هي لصاحب القرض، وليس لمن طلب القرض والمساعدة!!
 
ولمَّا كانت رغبة الإنسان في الإنفاق ضعيفة بشكل عامّ, حثّ الله تعالى الإنسان على الإنفاق، ورَبَط القرض بذاته المقدّسة كتشجيع على فعل الخير، والبذل والعطاء لوجهه عزّ وجلّ.
 
ومن الأدلّة، ما في الخبر الصّحيح، عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ أَقْرَضَ مُؤْمِناً يَلْتَمِسُ بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلَّا حَسَبَ الله لَهُ أَجْرَهُ بِحِسَابِ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ"1.
 
فالمؤمن عندما يقرض الله تعالى، هو في حقيقة الأمر يقدّم لنفسه الخير والأجر الجزيل الّذي يفوق كلّ أجرٍ آخر، فيعتبر القرض كالصّدقة من جهة رجوع الصّدقة إلى صاحبها مضاعفة، كذلك القرض يرجع إلى صاحبه أضعافاً كثيرة، وهو في بعض الرّوايات يتخطّى الصدقة بثمانية أضعاف، فالصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر!
 
ما هو القرض الحسن؟
كلّ قرض كان مُخلَصاً لله تعالى, أي: خالٍ عن الشوائب من الشرك، والرياء، والسّمعة، ومن المنِّ والأذى، وفيه الخير والمنفعة العامّة العائدة على الصّالح العامّ، فهو من القرض الحسن. من أجل ذلك علينا أن نتنبّه إلى كمائن الشّيطان الّذي لا يترك فرصة إلّا وينتهزهَا ليُوقِعنا في شرك الرّياء والسّمعة، فنقدّم المال لأجل أن نُذكر على المنابر، أو يقال انظروا إلى فلان وفلان ما الّذي قدّمه لبناء المسجد، 



1 الشيخ الكُلَيْني، الكافي، ج 4، ص 34.
 
 
118

98

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

وغير ذلك من الحبائل الّتي قد يَحيكها إبليس بطريقة يغفل الإنسان عنها!!

 

نعم، في بعض الأحيان قد يكون من باب التّشجيع للآخرين كي يقدّموا ويَبذلوا قروضاً حسنة، فهذا شيءٌ ممدوحٌ ومطلوب، ولكن لا بدّ من الاحتياط والالتفات إلى خدع الشّيطان الّتي تَقتنص كلّ فرصة لتسقطنا في حفر المعاصي والذّنوب، فنكون من الّذين يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً، وما لهم في الآخرة من نصيب، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا  *  الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾1.

 

وفي هذا السّياق تُروى في سبب نزول آية الإقراض حادثة جرت مع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحد أصحابه، وهو أبو الدّحداح، وفيها من العبر ما ينفعنا، فإليك خلاصتها وعبرها:

"لما نزل: "مَنْ ذَا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله! إِنَّ الله يستقرضنا وهو غنيٌّ عن القرض؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم يريد أن يدخلكم الجنة به".

قال: "فإنّي إنْ أقرضتُ ربّى قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟"

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم".

قال: "فناولني يدك"، فناوله رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم يده. فقال: "إِنَّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى".

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك".

قال: "فأشهدك يا رسول الله أنّى قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة".



1 سورة الكهف، الآيتان: 103 - 104.

 
 
119
 

 


99

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 قال: "إذاً يجزيك الله به الجنة".

 
فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أمّ الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداكِ ربّي سبلَ الرشاد                 إِلَى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد                 فقد مضى قرضاً إِلَى التناد
أقرضتُه اللهَ على اعتمادي              بالطّوعِ لا منٌّ ولا ارتداد
إِلَّا رجاء الضعف في المعاد             فارتحلي بالنفسِ والأولاد
والبرُّ لا شكّ فخير زاد                 قدّمه المرء إِلَى المعاد
 
قالت أمُّ الدحداح: رَبِحَ بيعك! بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أمُّ الدحداح وأنشأت تقول:
بشّرك الله بخيرٍ وفرح                     مثلك أدّى ما لديه ونصح
قد متّع الله عيالي ومنح                  بالعجوةِ السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح            طول الليالي وعليه ما اجترح
 
"ثمّ أقبلت أمُّ الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم، حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كم من عذق1 رداح ودار فياح (أي: واسع) لأبي الدحداح"2.



1 العذق (بفتح فسكون): النخلة. وبكسر فسكون: العرجون (الغصن) بما فيه من الشماريخ. ورداح: ثقيلة.
2 القرطبي، محمَّد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 238، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، نشر دار إحياء التُّراث العربي 1405، بيروت.
 
 
 
120

100

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 العبرة من القصّة

العِبر الّتي تستفاد من هذه الحادثة الحقيقيّة التي جرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة نشير إِلَى أهمّها:
- الغِنى المطلق لله تعالى، ومع ذلك يَستقرض الله من النّاس قروضاً حسنةً لمنفعتهم.
 
- جزاء القرض ليس مكسباً دنيويًّا بل هو جزاء أخرويّ, فالنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المؤمنين للتعلّق بالآخرة من خلال أفعالنا في هذه الحياة الدّنيا.
 
- تأكيد رسول الله (الصّلاة) على أبي الدحداح بأن لا يتصدّق بكلّ ما لديه، فيبقي بستان له ولعياله، ويتصدّق بالآخر. وإن كان البستان الباقي هو صدقة أيضاً، ولكن صدقة يجريها على عياله، فالبذل على العيال صدقة، وبذلك لا يصير أبو الدّحداح عالةً على غيره, فالتّواكل على الغير وطلب المعونة من الغير مذمومٌ عند الله تعالى.
 
- الزّوجة المخلصة لله تعالى تحثّ زوجها على فعل الخير وعلى الإقراض الحسن، ولا تصدّه عن أداء المعروف مع النّاس. وانظروا إِلَى المقام الَّذِي وصلته هذا المرأة، حيث إِنَّها بمجرّد ما سمعت من زوجها أَنَّه تصدّق بكلّ ما يملك بادلته الرضا والحثّ، وسارعت إِلَى أولادها أخذت تمر الصدقة من أفواههم، خلافاً لبعض نساء هذا العصر, حيث قد تبادر زوجها بالاعتراض والقطيعة.
 
فحريٌّ بنا جميعاً رجالاً ونساءاً أن نَعتبر من هذه الدّروس الّتي أعطانا إيّاها النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنْ نبذل ما لدينا في سبيل الله تعالى، ونكون من أهل القروض الحسنة.
 
فيضاعفه أضعافاً كثيرة
إنّ الله تعالى قد طلب منّا في أوّل هذه الآية الكريمة طلباً، فقال عزّ من قائل: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، ثمّ جاء الجواب من قِبَلِهِ سبحانه وتعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ 
 
 
121

101

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، أنْ يَا عباديَ أجيبوني، فأعطيكم من العطاء المضاعف، ومن العطاء الكثير، ما لا عين رأت، فما تقدِّمه من قرضٍ لأخيك المؤمن لا يضيع عندي، بل يعود عليك بمنافعَ ليس لها إحصاء.

 
وهنا أشار بعض أهل اللّغة إلى الفرق بين الضّعف والذي هو أداء المثل وزيادة، وبين قوله تعالى (أضعاف), فإنّ فيه تأكيداً على معنى الزيادة أكثر من كلمة (يضعّف), لأنّ معنى ضعّفت، أي: ضعفت مرّتين، بينما ضاعفت، يعني جعلته مرّتين فصاعدا.
 
وفي الصحيح عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام: "مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ، وَالْقَرْضُ‏ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ"1
 
فالقرض بثمانية عشر ضعف، والصّدقة أقلّ منه في الأجر والثّواب كما هو ظاهر الحديث الشّريف، ومع ذلك لم يكتف الله تعالى بذلك، فعقَّب التّضعيف بالكثير، أي أضعافًا كثيرة!!
 
فجزاء القرض الحسن أضعافاً كثيرة، وهذا الجزاء قد يختلف باختلاف مراتب الإخلاص في إعطاء القروض الحسنة، فتراة يكون بعشرة كما في قوله تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...﴾2 ، وتارة أخرى يكون بسبعمائة، كما في قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾3.
 
هذا هو بعض جزاء من يقرض الله قرضاً حسناً، فالله يُعطي كلّ من يُنفق في سبيله الكثير الكثير، كمثل حبّة أنبَتت سبعَ سنابلَ، وكلّ سنبلة تُعطي مائة حبّة، وبعد ذلك يضاعف الله تعالى لمن يشاء من عباده أضعافًا كثيرة!!



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 33.
2 سورة الأنعام، الآية: 160.
3 سورة البقرة، الآية: 261.
 
 
122

102

الدرس التاسع: مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله

 يقبض ويبسط

بعد كلّ العطاء الّذي قرنه الله تعالى بذاته المقدّسة، وأنّ الّذي يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له، علينا أن نبقى متيقّظين إلى أنّ ما نبذله ونقدّمه لا يساوي شيئاً أمام كرم الله تعالى علينا، ولا يُمكن في لحظة ما أن يقوم الإنسان بالتّفكير فيما بينه وبين نفسه أنّه قد فعل الكثير، وأعطى ما لا يمكن أن يعطيَه غيره.
 
من هنا كان تنبيه الله تعالى لنا عندما قال سبحانه: ﴿وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
 
لكي نضع في بَالِنا ـ وبشكل دائمٍ ـ أنّنا مهما قدّمنا يبقى تقديمنا قليلاً جداً مقابل قدرة الله القابض والباسط علينا، من نعمة الخلق، والصّحة والعافية، والأمن، والأمان في كلّ شعب حياتنا، فالله عزّ وجلّ إذا أراد منعَ عنّا كلّ شيء، وإذا أراد أعطانا كلّ شيء...
 
فيا أيّها المؤمن! أقرض الله قرضاً حسناً يُضاعفه لك أضعافًا كثيرة جدًا، ولا تغفل عن أنّ الله سبحانه هو المعطي الحقيقيّ، وهو المانع الحقيقيّ أيضاً، فإذا أراد أن يُضَيِّق علينا منع عنّا الهواء الّذي نتنفّسه.
 
هذا، وإليه المرجع والمصير، والمبدأ والمنتهى...
 
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله المعصومين.
 
 
 
123

103

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان



مفاهيم محورية:
- العناصر المؤثِّرة في الشخصية.
- أصالة فطرة الإنسان.
- لماذا يطغى الإنسان؟
- طغيان الإنسان وتكبّره.
- آثار الطغيان والتكبّر.
 
 
 
125

104

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 نصُّ الموعظة القرآنية:

قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾1.
 
العناصر المؤثّرة في الشخصية
العادات والتقاليد والمذاهب والمدارس والتعليم والأفكار والآراء المتلاطمة والمتعارضة والبيئة والمجتمع والبلاد والأهواء والوراثة و...
 
كلّ هذه الأمور والمفردات والعناصر تشكّل مجموعة من العوامل التي تتسلّل تدريجاً إلى نفس الإنسان، فتؤثّر فيها، ويبلغ تأثيرها في نفسه حدّاً بالغاً، إلى درجة أنّها تكوّن طبعاً ثانويّاً يستطيع في كثيرٍ من الأحيان أن يغلب على شخصيّته الحقيقيّة وعلى طبعه الأوّليّ الكامن في ذاته في أصل الخلقة والتكوين، والمسمّى ـ هذا الطبع الأوّليّ ـ "فطرةً".
 
فالشخصيّة النهائيّة التي يستقرّ عليها الإنسان لا تكون وليدة فطرته فحسب، وإنّما هي نتاج الفطرة منضمّاً إليها مجموعة تلك العوامل، والتي قد تكون متناقضةً فيما بينها على مستوى النتائج والتأثيرات، فضلاً عن أنّها قد تكون مناقضةً


1 سورة العلق، الآيات: 6 – 8.
 
 
 
127

 


105

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 لأحكام الفطرة نفسها. الأمر الذي يجعل من الإنسان كائناً غامضاً مليئاً بالتعقيدات والتناقضات.

 
ولكن مع ذلك، فإنّ هذا الطبع الثانويّ الذي يتشكّل في حياة الإنسان يبقى ثانويّاً, أي إنّه لا يخرج عن كونه طبعاً طارئاً، وليس هو الأساس العميق الذي تقوم عليه الشخصيّة الإنسانيّة، ولا هو الحالة الأصيلة التي يصعب أو يتعذّر زوالها، بل هي حالة قابلة للتبدّل والتعديل والإصلاح والمعالجة والتغيير والتطوير.
 
أصالة فطرة الإنسان
وتبقى الأصالة للفطرة وللطبع الأوّلي، هو الذي يمكن البناء والتأسيس عليه، وهو المرجع الذي إليه تؤول النفس عندما تحتدم لديها التناقضات الطارئة التي تقذف بها إلى أتون الحيرة والشكّ والاضطراب والتوتّر والانزعاج والضيق النفسيّ، فإذا ما عادت النفس إلى صفاء فطرتها ـ التي هي مستقيمة دائماً، وعلى حقٍّ دائماً ـ ورثت يقيناً، وعاد إليها توازنها وهدوؤها وسكينتها واطمئنانها.
 
فالفطرة وأحكامها هي الثابت الوحيد في شخصيّة الإنسان، بالرغم من أنّه يعيش في هذا العالم المليء بالمتغيّرات والتناقضات والقوى الضاغطة والمؤثّرة. الفطرة هي العنصر المتين الذي لا يمكن اختراقه، والحصن الذي لا يمكن النفوذ إليه لتخريبه من الداخل، والقطار الذي يسير نحو وجهته الحتميّة دون أن يتمكّن شيء من تعطيله أو حرف مساره عنها، أو إخراجه عن سكّته المرسومة له. قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾1.
 
وفي هذا المجال يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا بدّ أن نعرف بأنّ ما هو من أحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، من ناحية أنّها من لوازم الوجود، وقد تخمّرت في أصل الطبيعة والخلقة. فالجميع، من الجاهل والمتوحّش 



1 سورة الروم، الآية: 30.
 
 
 
128

106

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 والمتحضّر والمدنيّ والبدويّ، مجمعون على ذلك. وليس ثمّة منفذ للعادات والمذاهب والطرق المختلفة للتسلّل إليها والإخلال بها. إنّ اختلاف البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات التي توجب وتسبّب الخلاف والاختلاف في كلّ شيء، حتّى في الأحكام العقليّة، ليس لها مثل هذا التأثير أبداً في الأمور الفطريّة"1.

 
ولأنّ الفطرة كذلك، فهي الضمانة الدائمة لعودة الإنسان إلى رشده وصوابه، كلّما حاد عن سواء السبيل. والفطرة وإن لم يكن بالإمكان تبديلها وتغييرها، لكنّ الإنسان قد يحيد عنها، قد يتجاهل أحكامها، ومقتضياتها، انطلاقاً من أنّها ترتّب عليه مسؤوليّات لا تتلاءم وشهواته التي تبعث فيه رغبةً عارمةً في التفلّت من كلّ القيود التي يرى فيها حدّاً لسعادته، أو إنهاءً لها، حتّى لو كانت تلك القيود لصالحه، وحتّى لو كانت تلك السعادة وهميّة.
 
وهنا تحديداً تبرز واحدة من أخطر نقاط الضعف الإنسانيّ، والتي تتمثّل في سرعة وسهولة استسلام الإنسان لأوهامه، تلك الأوهام التي تؤجّجها وسوسات الشيطان وتلبيساته، وتسويلات نفسه الأمّارة بالسوء، والتي تجد مرعىً خصيباً لها لدى كلّ إنسان استسلم لهواه، وغفل عن ربّه ومولاه، وغيّب عقله، وعطّله، وأغمض عيون بصيرته، لصالح دنيا فانية زائلة مليئةٍ بالمنغّصات والمكدّرات. كما قال عزّ من قائل: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾2 وقال سبحانه: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾3.



1 روح الله الموسويّ، الإمام الخميني، الأربعون حديثاً: ص 222 ـ 223.
2 سورة الجاثية، الآية: 23.
3 سورة ص، الآية: 26.
 
 
 
129

107

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 لماذا يطغى الإنسان؟

وهنا نعود إلى الآيات الكريمة التي افتتحنا بها كلامنا، والتي هي موضوع هذا البحث، وهي الآيات: 6، 7، 8، من سورة العلق: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.
 
مفردات في الآيات:
وقبل أن نرد إلى أجواء هذه الفقرة من الآيات الكريمة ثمّة مفردات ثلاثة بحاجةٍ إلى أن نسلّط الضوء عليها، وهي: "الإنسان"، "الطغيان"، "استغنى".
 
1- الإنسان: الظاهر - كما ذكره المفسّرون - أنّ "أل" الداخلة على الكلمة هنا هي "أل" التي للجنس والحقيقة، والتي يُقصَد منها الإشارة إلى أنّ الحكم المذكور في خطاب المتكلّم ثابت لنوع وحقيقة ما تدخل عليه، وليس حكماً على الأفراد جميعاً، ولا على فردٍ بعينه. ففي الآية، الحكم، وهو (الطغيان) ثابت للذات وللنوع الإنسانيّ عموماً، لا لإنسانٍ معيّن، من دون أن يقتضي ذلك ثبوت الطغيان لجميع بني البشر. فالمقصود أنّ من نقاط الضعف التي قد يُبتلى بها الإنسان بفعلٍ من طبيعته الإنسانيّة الكامنة فيه: أنّه يطغى أن رآه استغنى.
 
2- الطغيان: مصدر لـ طغى يطغى، وهو - على ما ذكره أرباب المعاجم - إمّا تجاوز الحدّ المقبول مطلقاً، والاعتداء في حدود الأشياء ومقاديرها، فيكون له معنىً عامّ شامل لكلّ تجاوز وخروج عن الاعتدال، ويكون الظلم والتعدّي على حقوق الناس واحداً من مصاديق هذا المعنى العامّ، لا أنّه نفس مفهومه ومدلوله اللّغويّ، وإمّا بمعنى تجاوز الحدّ في العصيان خاصّةً، وهو الظلم، فيكون لفظ "الظلم" مرادفاً للفظ "الطغيان"، إلّا أن يُلتزم بأنّ الطغيان هو المبالغة في الظلم والاعتداء، فلا ترادف حينئذٍ، بل محض التقارب.
 
 
 
130

108

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 3- استغنى: هو استفعال من "الغنى"، والاستفعال - كما ذُكر في محلّه - يأتي على معانٍ، لعلّ الأنسب منها في المقام معنيان:

أ- الصيرورة، فـ "استغنى" بمعنى: صار غنيّاً.
ب- الحدث المجرّد، فـ "استغنى" بمعنى: غَنِيَ. فيكون الفعل قد ورد بلفظ المزيد فيه، لكنّه بنفس معنى الفعل المجرّد.
 
والمؤدّى لكلا المعنيين واحد، وإن كان الأرجح هو الثاني, لأنّهم مثّلوا للصيرورة بمثل: "استحجر الطين", أي صار حجراً أو كالحجر في صلابته، و"استأسد الجنديّ" أي صار كالأسد في شجاعته وقوّته، ونحو ذلك من الأمثلة التي فيها استحالة الشيء عن حقيقته إلى حقيقةٍ أُخرى، ومن هنا عُبّر عن هذا المعنى في بعض الكتب بـ "الصيرورة الحقيقيّة".
 
طغيان الإنسان وتكبّره
تتحدّث الآيات عن واحدةٍ من نقاط الضعف الإنسانيّ، وهي تفيد أنّ النوع الإنسانيّ عموماً يطغى، فيتكبّر ويعصي ويذهب بعيداً متجاوزاً الحدود التي لا ينبغي له أن يتجاوزها كإنسانٍ، وعندما تشتعل جذوة التكبّر الخبيثة في نفسه يبدأ ـ تدريجاً ـ بتخطّي تلك الحدود التي تبقيه إنساناً، ويخترقها واحداً تلو الآخر، حتّى لا يبقى حدٌّ يحجزه عن ارتكاب ما لا ينبغي له ارتكابه من الحرمات والقبائح. وهكذا هي عادة الشيطان الرجيم في استنزاف طاقة الإنسان وكرامته، وفي استدراجه خطوةً بعد خطوة نحو مزالق المهالك، كما يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾1، وكيف لا؟! والشيطان اللّعين هو صاحب الباع الطويل في ارتكاب معصية الطغيان والتجبّر والتكبّر، بل هو من استحدثها وسنّ سنّتها وشيّد أركانها عندما قال ردّا على أمره



1 سورة النور، الآية: 21.
 
 
131

109

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 من قِبِل الله بالسجود لآدم عليه السلام: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾1، وقال أيضاً: ﴿قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾2. وبسبب إصراره عليها افتتح مسيرة الضلال والإضلال التي كانت هي المسؤولة عن كلّ شقاءٍ ابتُلِي به مخلوق منذ ابتداء عالم الخليقة. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾3.

 
فكفر إبليس اللّعين بربّه، وإخراجه من الجنّة، وطرده عن الرحمة الإلهيّة، واستحقاقه اللّعنة والخلود في العذاب الأليم، لم يكن إلا بتكبّره وعناده وإعجابه بنفسه. وليس هذا فحسب، بل هل كَفَر من كَفَر وطَغَى من طَغَى إلّا بتكبّرهم على الله تعالى وإعجابهم بما هم عليه من نعمة وصحّة؟!
 
إنّ التكبّر والاستعلاء والطغيان كان هو المرض الخطير الحاضر بقوّةٍ في كلّ مواجهةٍ بين أهل الحقّ وأهل الباطل، وكان هو أكبر وأخطر تهديدٍ يواجهه الأنبياء والرسل في مسيرة إبلاغ رسالات الله، وقيادتها الإنسانيّة نحو برّ أمانها. كما نلاحظ هذا التأكيد في قصّة موسى عليه السلام مع فرعون، والذي تصفه آيات عديدة بأنّه "طغى"، أو بأنّه "علا في الأرض"، قال تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾4، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾5. وكذلك قصّته مع قارون ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى 



1 سورة ص، الآية: 76.
2 سورة الحجر، الآية: 33.
3 سورة الأعراف، الآيات: 11 – 16.
4 سورة طه، الآية: 24.
5 سورة القصص، الآية: 4.
 
 
 
132

110

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾1.

 
ويقصّ علينا القرآن في سور عديدة من أنباء الأمم التي خَلَتْ ما يؤكِّد هذه الحقيقة، ويفيد الإطلاق في هذا الحكم الذي يجعل الاستغناء سبباً للطغيان، حيث إنّ المستغنين الذين دفعهم الاستغناء إلى حياة الترف كانوا هم طلائع الجحود وأئمّة الكفر, ولذلك وجدناهم قادة المعارضة للدعوات الدينيّة والمحاولات التي قادها الرسل والأنبياء عليهم السلام، ففي مواجهة نبيّ الله شعيب عليه السلام وقف المترفون ينكرون التوحيد ويتمسّكون بعبادة ما كان آباؤهم، ويستندون في معارضتهم المجحفة تلك إلى ما زعموه وأملته عليه أوهامهم من أنّ لهم الحرّيّة المطلقة في التصرّف بما جمعوا من أموال دونما رقيبٍ ولا حسيب. قال تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾2، وقال في موضعٍ آخر متحدّثاً عن هذه الظاهرة عموماً: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾3.
 
آثار الطغيان والتكبّر
هذا المرض الاجتماعيّ، وهذه الخصلة الذميمة التي تفسد المجتمع الإنسانيّ عامّةً، وتورث الحرمان الإلهيّ، وتجلب الشقاء النفسيّ، له أسباب عديدة، لكنّ أسبابه في الجملة ترجع إلى شعور المتكبّر المغرور بالاستعلاء الذاتيّ على أقرانه، والرغبة في الامتياز على الآخرين، والانتفاخ، والتعالي عليهم، أو ما عبّرت عنه الآيات من سورة العلق بـ "الاستغناء": ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، فالإنسان يطغى ويكفر بأنعم الله عليه، إذا رأى نفسه مستغنياً, أي إذا عدّ نفسه غنيّاً حائزاً على كلّ مقوّمات الغنى



1 سورة القصص، الآية: 76.
2 سورة هود، الآية: 87.
3 سورة سبأ، الآيتان: 34 – 35.
 
 
 
133

111

الدرس العاشر: الاستغناء سببٌ للطغيان

 والقوّة وأدواتهما، من مالٍ وعلمٍ وقوّةٍ وخبرةٍ وأعوانٍ وأولاد وأراضٍ وعمارات وشركات و... (ولا وجه للاقتصار هنا على خصوص الغنى بالمال والثروة). وعندما يرى نفسه كذلك، عندما يسمح لهذه الرؤية أن تسيطر على تفكيره، فهذا يعني أنّه غلّب الوهم على العقل، وسمح لهواه أن يسيطر على رشده وصوابه، وعندما يعيش هذه الحالة، يقوده وهمه هذا إلى الخروج عن اعتداله، وعن طبيعته الأوّليّة كإنسان، وعن فطرته التي فطره الله عليها، فيغشى على بصيرته، وتعمى عليه الحقائق، وينسى أنّه فقير في حقيقة ذاته، لا يبارح الافتقار والاحتياج في حالٍ من أحواله، ولئن لم يكن في وقتٍ من الأوقات بحاجةٍ إلى المال والرخاء فهو في حاجةٍ إلى الصحّة والعافية، ولئن لم يكن في حاجةٍ إلى الصحّة والعافية فهو في حاجةٍ إلى الأمن وراحة البال، وهكذا... وهي كلّها أمور يقدّرها الله عزّ وجلّ، ومفاتيحها بيده وحده، كما ينسى أيضاً أنّ كلّ ما يملكه فهو من عند الله، وأنّ الذي أعطاه فأغناه هو الله، كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلّمه، وأنّ كلّ ما عنده فما هو سوى أمانات مآلها ومرجعها إلى الله سبحانه، الذي بيده أن يكثّرها وينميها، وبيده أيضاً أن يسلبها إيّاه متى شاء، دون أن يكون ذلك أمراً عسيراً عليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾1.

 
وفي الخبر عن مولانا الباقر عليه السلام ما يفيد معنى الآية: "إِذَا شَبِعَ الْبَطْنُ طَغَى".
 
ولو ذكر هذا الإنسان المسكين أنّه وجميع ما يملكه الآن عائد إلى ربّه ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾، لو ذكّر قلبه وعقله بشكلٍ متكرّر بهذه الحقيقة التي هي ماثلة أمامه، لكفى ذلك واعظاً له، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "كفى بالموت واعظاً"2.
 
والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً. 



1 سورة فاطر، الآيات: 15 – 17.
2 العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 86، ص 325.
 
 
 
134

112

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية



مفاهيم محورية:
- الإيمان بالمنقذ في الديانات السماوية.
- حتمية ظهور المصلح في المدارس الفكرية.
- عقيدة الإمامية بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
- آداب العلاقة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
 
 
135

113

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 نص الموعظة القرآنية:

روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "والله ما تركَ اللهُ أرضاً منذ قبض آدم عليه السلام إلا وفيها إمام يهتدى بهِ إلى الله وهو حجّته على عباده، ولا تبقى الأرضُ بغيرِ إمام حجّة لله على عباده"، وعنه أيضاً قال: "لو أنَّ الإمام رُفِع من الأرضِ ساعة لماجت بأهلِها، كما يموُج البحرُ بأهلِه"1.
 
تمهيد
إنّ ظهور الإيمان بفكرة حتمية ظهور المنقذ العالمي في الفكر الإنساني عموماً يكشف عن وجود أسس متينة قوية تستند إليها تنطلق من الفطرة الإنسانية. يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره: "ليس المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوانٌ لطموح اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله - على تنوع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض تحقّق فيه رسالات السماء مغزاها الكبير وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التأريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل...."2.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 179.
2 الصدر، السيد محمد باقر، بحث حول المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ص 7 - 8.
 
 
 
137

114

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 حتمية الإيمان بالمنقذ في الديانات السماوية

يعتبر الإيمان بحتمية ظهور المصلح الديني العالمي وإقامة الدولة الإلهية العادلة في كل الأرض من نقاط الاشتراك البارزة بين جميع الأديان1، والاختلاف فيما بينها إنّما هو في تحديد هوية هذا المصلح الديني العالمي الذي يحقِّق جميع أهداف الأنبياء عليهم السلام.
 
والملاحظ أنّ هذه العقيدة تمثّل أصلاً مشتركاً في دعوات الأنبياء عليهم السلام، حيث إنّ كل دعوة نبوية - وعلى الأقل الدعوات الرئيسة والكبرى - تُمثِّل خطوة على طريق التمهيد لظهور المصلح الديني العالمي الذي يحقِّق أهداف هذه الدعوات كافة2.
 
1- اليهود: الإيمان بفكرة ظهور المصلح ثابت عند اليهود مدوّن في التوراة والمصادر الدينية المعتبرة عندهم. وقد فصّل الحديث عن هذه العقيدة عند اليهود كثير من الباحثين المعاصرين خاصةً في العالم الغربي مثل جورج رذرفورد في كتابه: "ملايين من الذين هم أحياء اليوم لن يموتوا أبداً"، والسناتور الأميركي بول منزلي في كتابه: "من يجرؤ على الكلام"، وغيرهما كثير3.
 
وبغض النظر عن مناقشة صحة ما ورد من تفصيلات في هذه العقيدة عند اليهود، إلاّ أن المقدار الثابت هو أنها فكرة متأصِّلة في تراثهم الديني وبقوة بالغة مكّنت اليهودية - من خلال تحريف تفصيلاتها ومصاديقها - أن تقيم على أساسها تحركاً استراتيجياً طويل المدى وطويل النفس، استقطبت له الطاقات اليهودية المتباينة الأفكار والاتجاهات، ونجحت في تجميع جهودها وتحريكها باتجاه تحقيق ما صوّره قادة اليهودية لأتباعهم على أنّه مصداق التمهيد لظهور المنقذ الموعود.



1 زين الدين، الشيخ محمد أمين، حديث المهدي والمهدوية، ص 13.
2 الصدر، الشهيد محمد صادق، تأريخ الغيبة الكبرى 251 وما بعدها.
3 احمد الواسطي، أهل البيت في الكتاب المقدّس، ص 121 - 123.
 
 
 
138

 


115

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 2- النصارى: كما آمن النصارى بأصل هذه الفكرة استناداً إلى مجموعة من الآيات والبشارات الموجودة في الإنجيل والتوراة. ويصرِّح علماء الإنجيل بالإيمان بحتمية عودة عيسى المسيح في آخر الزمان ليقود البشرية في ثورة عالمية كبرى يعم بعدها الأمن والسلام كل الأرض كما يقول القس الألماني فندر في كتابه "ميزان الحق"1، وأنه يلجأ إلى القوة والسيف لإقامة الدولة العالمية العادلة. وهذا هو الاعتقاد السائد لدى مختلف فرق النصارى.

 
حتمية ظهور المصلح في المدارس الفكرية
الملاحظ أن الإيمان بحتمية ظهور المصلح العالمي ودولته العادلة لا يختص بالأديان السماوية بل يشمل المدارس الفكرية والفلسفية غير الدينية أيضاً. فنجد في التراث الفكري الإنساني الكثير من التصريحات بهذه الحتمية، فمثلاً يقول المفكر البريطاني برتراند رسل: "إن العالم في انتظار مصلح يُوحّده تحت لواء واحد وشعار واحد"2 ويقول ألبرت اينشتاين صاحب النظرية النسبية: "إن اليوم الذي يسود العالمَ كله فيه السلام والصفاء ويكونُ الناس متحابين متآخين ليس ببعيد"3.
 
وتحدّث المفكّر الايرلندي المشهور برنارد شو، بصراحة، بحتمية ظهور المصلح وبلزوم أن يكون عمره طويلاً يسبق ظهوره، ويرى ذلك ضرورياً لإقامة الدولة الموعودة، في وصف المصلح بأنه: "إنسانٌ حيٌّ ذو بنية جسدية صحيحة وطاقة عقلية خارقة، إنسانٌ أعلى يترقى إليه هذا الإنسان الأدنى بعد جهد طويل، وأنه يطول عمُرهُ حتى ينيف على ثلاثمائة سنة ويستطيع أن ينتفع بما استجمعه من أطوار العصور وما استجمعه من أطوار حياته الطويلة"4.



1 بشارت عهدين، ص 261، نقلاً عن كتاب ميزان الحق للقس الألماني فندر، ص 271.الشهرستاني، السيد عبد الرضا، المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه، ص 6.
2 بشارت عهدين، ص 261، نقلاً عن كتاب ميزان الحق للقس الألماني فندر، ص 271.
3 (م. ن)، ص 7.
4 آل ياسين، الشيخ محمد حسن، المهدي المنتظر بين التصوّر والتصديق، ص 81.
 
 
 
139

116

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 عقيدة الإمامية بالمهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف

يعتقد المسلمون بأن قضية المهدوية والإمام المهدي ضرورة من ضروريات الإسلام على مستوى كون إمامته امتداداً لنبوّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيادة البشرية، وعالمية دولته، وكونه الإمام المفروض الطاعة، وذلك على قاعدة أنّ الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا، ووظائفها مستمدّة من النبوّة، لناحية قيادة المجتمع وإدارة شؤون الأمة والدولة، ومرجعية دينية، وولاية أمر عامة للمسلمين كافة. وإن ما يعزّز عقيدة المسلمين بالمهدي مجموعة الأخبار التي أكّدت أن الأرض لا تخلو من حجة لله على الأرض.
 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن علياً إمام أمتي من بعدي، ومن وُلده القائم المنتظر الذي إذا ظهر يملأ الأرض عدلاً وقسطاً"1.
 
وذكر الشيخ الكليني في الكافي ثلاث عشرة رواية تتحدّث عن أن الأرض لا تخلو من حجة، عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله أجلُّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل"2.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "والله ما ترك الله أرضاً منذ قبض آدم عليه السلام إلا وفيها إمام يهتدى به إلى الله وهو حجّته على عباده، ولا تبقى الأرض بغير إمام حجّة لله على عباده"، وعنه أيضاً قال: "لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها، كما يموج البحر بأهله"3.
 
وقد حدّدت الروايات المقصود بالحجّة وأنه الإمام المهدي، فعن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "إن الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف" وورد روايتان بنفس المضمون عن الإمامين الصادق والرضا عليهما السلام، وعن الإمام الصادق عليه السلام 



1 السيد المرعشي، شرح إحقاق الحق، ج 29، ص 238.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 178.
3 (م. ن)، ص 179.
 
 
 
140

117

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 قال: "لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام"1 وقال: "إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتجّ أحدٌ على الله عزّ وجل أنه تركه بغير حجّة لله عليه"2. وتؤكّد الأخبار على أن انتظار الفرج أفضل العبادة، وهو في توأمة مع الجهاد، فقد سأل شخص الإمام الصادق عليه السلام: ماذا تقول فيمن مات وهو على ولاية الأئمة بانتظار ظهور حكومة الحق؟

 
فقال عليه السلام: هو بمنزلة من كان مع القائم في فسطاطه - ثم سكت هنيئة - ثم قال: هو كمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
ونقل هذا المضمون في روايات كثيرة منها: أنّه بمنزلة المجاهد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه بمنزلة من استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف3.
 
آداب العلاقة بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
بالإضافة للواجبات الإسلامية العامة التي تقع على المكلّفين من المسلمين في جميع العصور والأزمنة كواجب الدعوة الإسلامية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة الفساد وغير ذلك من الواجبات الشرعية، هناك واجبات وآداب عديدة تختصّ بعصر الغيبة لا بد من مراعاتها في علاقتنا بالإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
1- معرفة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف:
عن رسول الله: "من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية"4. يستفاد من الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام أنّ لمعرفة الإمام أهمية عظيمة وأنها أساس لمعرفة الله، وأنّ طريق الهداية للحق والثبات على الصراط المستقيم لا يتم إلا 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج1،ص 180.
2 (م. ن)، ص 180.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج52، ص125.
4 غيبة النعماني، ص 130، الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 21.
 
 
 
141
 

118

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

بمعرفة الإمام المعصوم واقتفاء أثره والسير على خطاه والاستضاءة بنوره والثبات على ولايته. فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البيت، ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منا أهل البيت فإنّما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالاً.!"1. وما دام لمعرفة الإمام كل هذه الأهمية الكبرى فليس المراد منها هو معرفة اسمه ونسبه فقط …! بل يتحتم أن يكون المقصود بالمعرفة شيئاً آخر أكبر وهذا ما يجيب عنه الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: ".. وأدنى معرفة الإمام أنّه عدل النبي إلا درجة النبوة ووارثه، وأنّ طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله والتسليم له في كل أمر والرد إليه والأخذ بقوله، ويعلم أنّ الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم أنا ثم من بعدي موسى ابني ثم من بعده ولده علي وبعد علي محمد ابنه وبعد محمد علي ابنه وبعد علي الحسن ابنه والحجة من ولد الحسن"2. وعن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾3. فقال: "يا فضيل اعرف إمامك فإنّك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدّم هذا الأمر أو تأخّر، ومن عرف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره.. لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه"4.
 
2- الثبات على الدين والولاية لأهل البيت عليهم السلام:
من أهم تكاليفنا الشرعية في عصر الغيبة هو الثبات على موالاة أهل البيت عليهم السلام والثبات على العقيدة الصحيحة بإمامة الأئمة الاثني عشر وخصوصاً 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 181، ح 4.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 120.
3 سورة الإسراء، الآية:71.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 371، غيبة النعماني، ص 329، غيبة الطوسي، ص 276.
 
 
 
142

 


119

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 خاتمهم وقائمهم المهدي محمد بن الحسن عليه السلام. كما يتوجّب علينا عدم التأثّر بموجات التشكيك وتأثيرات المنحرفين مهما طال زمان الغيبة أو كثرت ضروب المشكّكين. فعن رسول الله قال: "والذي بعثني بالحق بشيراً ليغيبنَّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه مني حتى يقول أكثر الناس ما لله في آل محمد حاجة ويشك آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسّك بدينه ولا يجعل للشيطان إليه سبيلاً يشكّكه فيزيله عن ملّتي ويخرجه من ديني"1. وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "للقائم منا غيبة أمدها طويل، كأنّي بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقسُ قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة"2.

 
3- ذكر فضائل الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف وموالاته في غيبته:
من جملة مصاديق الثبات على الولاية ذكر فضائل الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وإشاعتها بين الناس والبراءة من أعدائه. كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتّم به في غيبته قبل قيامه ويتولّى أولياءه ويعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودّتي وأكرم أمتي علي يوم القيامة"3. ولقد جاء في الروايات الحث على تجديد العهد والبيعة مع الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في كل يوم كما جاء في دعاء العهد الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام: "اللهم إنّي أُجدّد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهداً وعقداً وبيعةً له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبداً …"4.



1 الشيخ الصدوق، كمال الدين، ج 1، ص 51، العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 68، ح 10.
2 (م. ن)، ص 303، ح 14، الطبرسي، إعلام الورى، ص 400.
3  غيبة الطوسي، ص 275، الشيخ الصدوق، كمال الدين، ج 1، ص 286.
4 السيد ابن طاووس، مصباح الزائر، ص 169، الشيخ إبراهيم الكفعمي، البلد الأمين، ص 82، الشيخ الكفعمي، المصباح، ص 550.
 
 
 
143

120

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 4- الصبر على المحن والبلاء:

حيث إنّ عصر الغيبة الكبرى يتميّز بتعاظم الجور والظلم والفساد بشكل ملحوظ. لذلك جاء الكثير من الأحاديث التي تؤكّد على مبدأ الصبر وتحثّ عليه وخصوصاً في زمن الغيبة وتتحدّث عن عظم أجر الصابرين كما في الأحاديث التالية: عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم"1. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "وانتظار الفرج بالصبر"2. وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أما سمعت قول الله عز وجل: ﴿وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ وقوله: ﴿فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾ فعليكم بالصبر فإنّما يجيء الفرج على اليأس"3. ولذلك حينما سمع الإمام الصادق عليه السلام بعض أصحابه يتذاكرون جماعة منهم وقد ماتوا ولم يدركوا زمان القائم وهم يتحسّرون على ذلك قال لهم: "من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كان كمن هو مع القائم في فسطاطه، ثم قال: لا بل كان كالضارب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف. وفي رواية أخرى كمن استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"4.
 
5- الدعاء للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف والدعاء بتعجيل الفرج:
الدعاء له عجل الله تعالى فرجه الشريف بتعجيل فرجه، فقد ورد من الناحية المقدّسة على يد محمّد بن عثمان في آخر توقيعاته عليه السلام: "وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلك 



1 صحيح الترمذي، ج 2، ص 437، المتقي الهندي، كنز العمال، ج 11، ص 118، الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 7، ص 282.
2 الكلبايكاني، الشيخ لطف الله ، منتخب الأثر، ص 498، الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 19، ص 75.
3 العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج 2، ص 20، الشيخ الصدوق، كمال الدين، ج2، ص 645.
4 الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة ج 2، ص 338، ح 11، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ص 174، غيبة النعماني، ص 200، ح 15.
 
144

121

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 فرجكم"1. ومن ذلك الدعاء المعروف "اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن..."2، وهناك أدعية كثيرة للإمام تراجع في مصادرها... فنحن مأمورون بالدعاء للإمام كما جاء ذلك في كثير من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام ولعل ذلك من أجل بقاء الصلة والرابطة مع الإمام ولعل لذلك أيضاً آثاراً أخرى نحن لا نعلمها. فعن يونس بن عبد الرحمن قال: إن الرضا عليه السلام كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا الدعاء: "اللهم ادفع عن وليك وخليفتك وحجتك على خلقك ولسانك المعبّر عنك بإذنك الناطق بحكمتك وعينك الناظرة في بريّتك وشاهدك على عبادك الجحجاح المجاهد العائذ بك العابد عندك،... الخ"3.

 
يقول السيد ابن طاووس الحسني رضوان الله عليه بهذا الخصوص: "فإيّاك ثم إيّاك أن تقدّم نفسك أو أحداً من الخلائق في الولاء والدعاء له بأبلغ الإمكان وأحضر قلبك ولسانك في الدعاء لذلك المولى العظيم الشأن، وإياك أن تعتقد أنني قلت هذا لأنه محتاج إلى دعائك هيهات هيهات..!... فإذا دعوت لهذا المولى الخاص عند مالك الأحياء والأموات يوشك أن يفتح أبواب الإجابة لأجله فتدخل أنت في الدعاء لنفسك ولمن تدعو له في زمرة فضله وتتسّع رحمة الله جل جلاله لك وكرمه وعنايته بك لتعلّقك في الدعاء بحبله"4.
 
6- إظهار محبّته عليه السلام:
وتحبيبه إلى الناس، وإظهار الشوق إلى لقائه عليه السلام ورؤيته، والبكاء والإبكاء والتباكي والحزن على فراقه، والتصدّق عنه عليه السلام بقصد سلامته.



1 كمال الدين وتمام النعمة، ص 485، الغيبة للشيخ الطوسي، ص 293، الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 284.
2 السيد ابن طاووس، الإقبال، ص 85، مصباح الكفعمي، ص 146.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 92، ص 333، الشيخ الطوسي، مصباح المتهجّد، ص 409.
4 السيد ابن طاووس، فلاح السائل، ص 45.
 
 
 
145

122

الدرس الحادي عشر: المهدوية أمل الإنسانية

 7- إهداء ثواب الأعمال العبادية المستحبّة له عليه السلام:

كالحجّ والطواف عنه عليه السلام، والصوم والصلاة، وزيارة مشاهد المعصومين عليهم السلام، أو بذل المال لنائب ينوب عنه في أداء تلك الأعمال.

8- الصلاة على الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف والسلام عليه:
جاء في دعاء العهد:
"اَللّـهُمَّ بَلِّغْ مَوْلانَا الإمام الْهادِيَ الْمَهْدِيَّ الْقائِمَ بأمرك صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وعَلى آبائِهِ الطّاهِرينَ عَنْ جَميعِ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ في مَشارِقِ الأرض وَمَغارِبِها سَهْلِها وَجَبَلِها وَبَرِّها وَبَحْرِها، وَعَنّي وَعَنْ والِدَيَّ مِنَ الصَّلَواتِ زِنَةَ عَرْشِ اللهِ وَمِدادَ كَلِماتِهِ، وَما أحصاه عِلْمُهُ وأحاط بِهِ كِتابُهُ...".
 
 
 
146

123

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج




مفاهيم محورية:
- مفهوم الانتظار.
- الانتظار العبادة.
- الارتباط الروحي بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
- الدعاء للإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.
- زيارته عجل الله تعالى فرجه الشريف وإحياء أمره.
 
 
147

124

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 نص الموعظة:

روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "انتظروا الفرجَ ولا تيأسوا من روح الله فإنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله عزَّ وجلَّ انتظار الفرج"1.
 
تمهيد
كثرت الروايات الّتي تتحدَّث عن انتظار الفرج وفضله، كالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل جهاد أُمَّتي انتظار الفرج"2.
 
فما هو هذا الانتظار الذي يعتبر من أحبِّ الأعمال وأفضل العبادات كما عبَّرت بعض الروايات؟ وكيف يكون؟
 
مفهوم الانتظار
الانتظار في اللَّغة بمعنى الترقُّب3، والتربُّص4، وهو "حالة نفسانيَّة ينبعث منها التهيّؤ لما تنتظره، وضدّه اليأس، فكلَّما كان الانتظار أشدّ كان التهيّؤ آكد..."5.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج52، ص 123.
2 (م. ن)، ج 77، ص 143.
3 ابن منظور، لسان العرب، ج1، ص 424.
4 (م.ن)، ج7، ص 39.
5 الأصفهاني، ميرزا محمَّد تقي ، مكيال المكارم، ج2، ص 136.
 
 
 
149

125

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 وإنَّ معرفة كيفيّة الانتظار أمر مهمّ جدًّا لأنَّنا نتحدَّث عن فترة طويلة استمرّت قروناً حتَّى الآن ومرَّت فيها أجيال وأجيال، ضمن ظروف مختلفة وفرص متفاوتة، ولا يمكن ترك هذه الأجيال بلا تكليف واضح ومحدَّد، فما هو تكليف هذه الأجيال في هذه الفترة؟ وكيف من المفترض أن يكون انتظارها لظهور الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف لتحقّق الفرج على يديه؟


الإنتظار السلبيّ والإيجابيّ
هناك نهجان مختلفان ومتناقضان متصوّران لكيفيّة الانتظار، في زمان الغيبة الكبرى للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف:
أ- الانتظار السلبيّ: والمقصود منه أن يبقى الإنسان جالساً بدون أيِّ حراك أو فعاليَّة تذكر، وبدون أن يقوم بأيِّ عمل تغييريّ، ويكتفي بمراقبة علامات الظهور، وما تحقّق منها, ليزداد أمله بقرب الظهور، كما لو استشعر تحقّق شيء منها، وهذا يعني أنَّ الوظيفة الأساسيّة للمؤمنين في عصر الغيبة هي أن يعيشوا أمل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بدون أن يسعوا لتغيير الواقع الاجتماعيِّ والسياسيِّ.

ب- الانتظار الإيجابيّ: والمقصود منه أن لا يقف الإنسان مكتوف اليدين ساكناً، حتَّى يتحقّق الفرج بظهور الإمام، وإنَّما يقوم بالواجبات الشرعيَّة الملقاة على عاتقه سواء كانت فرديّة أم اجتماعيَّة، أو لها علاقة بالنظام والحكم...

فأيُّهما هو الانتظار الصحيح والمطلوب شرعاً؟

الانتظار العبادة
عند مراجعة الروايات الشريفة، لا شكَّ أنَّنا سنصل إلى نتيجة قطعيَّة تقول: إنَّ المطلوب من الأجيال في عصر الغيبة الكبرى لا يمكن أن يكون مجرَّد السكون والجلوس في البيت، والتخاذل عن الوظائف الشرعيَّة الممكنة، والّتي فيها مصلحة
 
 
 
150

126

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 الأمَّة، بل هناك العديد من الأدوار الأساسيَّة الّتي لا بدَّ من تنفيذها، يمكن أن نختصرها فيما يلي:

1- طاعة الله وتنفيذ الأحكام الشرعيّة:
عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف...: "ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته على اجتماع من‏ القلوب في الوفاء بالعهد لَما تأخَّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقِّ المعرفة وصدقها منهم بنا"...1.
 
فاتِّحاد المؤمنين حول قضية الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هو سبب مباشر لتعجيل الظهور، وليس المطلوب مجرَّد الاتِّحاد العقائديّ, لأنَّ ذلك حاصل منذ زمن بعيد، وإنَّما المطلوب الاتِّحاد على المستوى العمليِّ. وعندما نتحدَّث عن اتِّحاد، فهذا يعني أنَّهم كالجسد الواحد الّذي له رأس واحد يديره ويقوده، هذا الرأس الّذي عبَّرت عنه مكاتبته عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله"2، وهو الوليُّ الفقيه في عصر الغيبة.
 
ويكون همُّ المؤمنين تطبيق أحكام الله تعالى والتمسّك بطاعته، كما طلب وأكَّد عليه الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف في ما ورد عنه: "فاتَّقوا الله جلّ جلاله، وظاهرونا على انتياشكم3 من فتنة قد أنافت4 عليكم، يهلك فيها من حمَّ أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف5 حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾"6،.7



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 53، ص 177.
2 الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 27، ص 140.
3 انتياشكم: انتشالكم.
4 أناف على الشيء: طال وارتفع عليه.
5 الأزوف: الاقتراب.
6 سورة الصف، الآية: 8.
7 الميرزا النوري، خاتمة المستدرك، ج 3، ص 225، من رسالة للشيخ المفيد.
 
 
 
151

127

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 2- توحيد الأُمَّة وقوّتها:

فالإمام الصادق عليه السلام يتحدَّث بشكل واضح أنَّ حفيده المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف: "ما يخرج إلّا في أولي قوَّة"1.
 
والقوَّة لها جانبان، قوَّة ماديَّة تأتي من خلال التجهيز والاستعداد والتدرُّب... وهذا يفترض أنَّ هناك تحرُّكاً قويًّا في هذا الاتجاه قبيل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف, وقوَّة في القلب والإرادة، وهذه تنتج من الثبات أمام الابتلاءات، وهناك رواية تصفهم: "إنَّ قلب رجل منهم أشدّ من زبر الحديد لو مرُّوا بالجبال الحديد لتدكدكت، لا يكفُّون سيوفهم حتى يرضى الله عزَّ وجلَّ"2.
 
التمهيد للظهور
هناك العديد من الروايات تتحدَّث عن أشخاص ورايات تظهر قبيل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وتقوم بتهيئة الأرض له والتمهيد لظهوره، كالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يخرج ناس من المشرق فيوطِّئون للمهديِّ"3. بل إنَّ أمنية كلِّ مؤمن أن يكون في ركب جنود القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف عند ظهوره. وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "فيا طوبى لمن أدركه وكان من أنصاره"4. والمخلصون يعملون على التمهيد لظهوره، وتهيئة الأرض ومواءمة الظروف لتحقيق شرائط الظهور، وتحقيق اليوم الموعود، وفي رواية أنَّه سئل الإمام محمَّد التقيُّ‏ عليه السلام: "لِمَ سُمِّيَ القائم؟ فقال: "لأنَّه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته. فقيل له: وَلِمَ سُمِّيَ المنتظر؟ فقال: لأنَّ له غيبة يكثر أيّامها، ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون، وينكره المرتابون،



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 323.
2 القندوزي، ينابيع المودة، ج 3، ص 177.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 241.
4 النعماني، الغيبة، ص 240.
 
 
 
152

128

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 ويستهزىء بذكره الجاحدون، ويكذِّب بها الوقَّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلّمون"1.

 
فما هي صفات المخلصين للحجَّة في غيبته الممهِّدين له؟ وما هي صفات أصحابه عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ هذا ما سنلقي الضوء عليه خلال هذا الدرس، إنْ شاء الله تعالى.
 
1- الإيمان بالغيب:
في الرواية سئل الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ: 
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾2 فقال: "المتّقون شيعة عليّ عليه السلام والغيب فهو الحجّة (الغائب) وشاهد ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾"3. 4



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 30.
2 سورة البقرة، الآيتان: 1 - 2.
3 سورة يونس، الآية: 20.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 124.
 
 
 
153

129

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 إنَّ وجود الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف أصبح من الغيب نتيجة غيبته، والإيمان به إيمان بالغيب، والإيمان بالغيب هو من صفات المتَّقين، لذلك كان الإيمان بالإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف متيسّراً على المتَّقين.


2- حزب الله:
عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: في حديث طويل عندما سئل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن أوصيائه، فعدَّهم النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قال: "ومن بعده (أي بعد الحسن العسكريّ) ابنه محمَّد، يدعى بالمهديّ والقائم والحجّة، فيغيب ثمَّ يخرج، فإذا خرج يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبَّته أولئك الذين وصفهم الله في
 
 
 
154

130

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 كتابه وقال: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾1، وقال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾3،2.

 
3- الصبر على الأذى:
لا شكَّ أنَّ زمن الغيبة زمن ابتلاءات وامتحانات صعبة تحتاج للكثير من الثبات والصبر، وهذا ما أكَّدت عليه الروايات أيضاً، ففي الرواية عن الإمام الحسين عليه السلام: "أما أنَّ الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بالسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"4.
 
4- جهوزيّة أصحاب الحجّة:
وأمَّا بعد ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، فسيكون ظهوره بين أصحاب لهم صفاتهم الخاصّة أيضاً، ومن هذه الصفات الاستعداد والجهوزيّة، ففي الرواية عن الإمام محمَّد الباقر عليه السلام والإمام جعفر الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾5 أنّهما قالا: "الأمّة المعدودة هم أصحاب المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في آخر الزمان ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً كعدَّة أهل بدر،



1 سورة البقرة، الآيتان: 2 - 3.
2 سورة المجادلة، الآية: 22.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 143.
4 الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 318.
5 سورة هود، الآية: 8.
 
 
155

131

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 يجتمعون في ساعةٍ واحدةٍ كما يجتمع قزع الخريف"1.

 
فمن الملاحظ في هذه الرواية كيف يجتمع أصحاب الإمام في ساعةٍ واحدةٍ، ما يشير إلى الجهوزيَّة التامَّة الّتي يتمتَّع بها هؤلاء الأشخاص بحيث لم ينشغلوا بتجهيز المقدِّمات وتهيئة الأمور لتلبية النداء، بل كانوا جاهزين وحاضرين تماماً.
 
5- تمنّي الشهادة:
عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق‏ عليه السلام قال: "يَدْعُوْنَ بالشهادة ويتمنَّوْنَ أنْ يُقتلوا في سبيل الله"2.
 
6- الارتباط بالله تعالى:
يتميَّز أصحاب الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف بارتباطهم بالله سبحانه وتعالى وعبادتهم له وتهجُّدهم في اللَّيل، وقد ورد في الحديث: "رجال لا ينامون اللَّيل لهم دويٌّ كدوِيِّ النحل، يبيتون قياماً على أطرافهم ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنَّهار، وهم من خشية الله مشفقون"3.
 
كيف نعزّز الارتباط الروحي بالإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
إن الارتباط بالإمام الحجّة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس مجرّد ارتباط بفكرة عقيديّة غيبيّة بل بإنسان كامل حيٍّ جسداً وروحاً يعيش بيننا يرانا ونراه يعرفنا ولا نعرفه يسدّدنا ويوجّهنا إلى حيث مصلحتنا ومصلحة الأمّة وهو إمام الإنس والجنّ بل إمام الكون وقوامه، فلولا وجود الإمام لساخت الأرض بأهلها، فهو أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء كما ورد في الأحاديث المأثورة عنهم عليهم السلام وهذا يعني



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 9، ص 103.
2 الشيخ عليّ النمازي الشاهرودي، مستدرك سفينة البحار، ج 6، ص 190.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 308.
 
 
 
156

132

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لو سحب ألطافه ولم يتدخّل في بعض الشؤون، ولم يعمل على رعاية الأُمّة وتسديدها في حركتها ومواقفها فالله وحده يعلم كيف سيصبح حال المجتمع الإسلاميّ وإلى أيّ درجة من الانحطاط والضياع يمكن أن يصل. لهذا علينا أن نحافظ على علاقة وصلة وثيقة بإمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف. وهناك الكثير من الأمور الّتي تقوّي أواصر العلاقة بإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ومنها الدعاء، نشير هنا إلى قسمين من الدعاء:

 
1 - الدعاء لمعرفته والثبات على ولايته، باعتباره حجّة الله تعالى على خلقه.
2 - الدعاء له عليه السلام لحفظه ونصرته.
 
وفي المجالين أدعية كثيرة نقتصر هنا على ذكر المختصر منها محيلين في غيره إلى المصادر المختصّة.
فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: يا زرارة إن أدركت ذلك الزمان - زمان الغيبة - فأدم هذا الدعاء: "اللَّهمَّ عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللَّهمَّ عرّفني رسولك فإن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللَّهمَّ عرّفني حجّتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني"[1].



1 القمّي، الشيخ عباس، منتهى الآمال، ج2، ص 866.
 
 
 
157

133

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 وعن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: ستصيبكم شبهة فتبقون بلا عَلَم يُرى وإمام هدى ولا ينجو إلّا من دعا بدعاء الغريق قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: "يا الله، يا رحمن يا رحيم، يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"1.

 
أ- دعاء العهد:
وينبغي التنبيه على أنّ هذا الدعاء المتقدّم غير دعاء العهد المشهور وإن اشترك معه في أكثر ألفاظه. ولا يتسع المجال هنا لإيراد "دعاء العهد" فنكتفي بالتأكيد على أهميّته حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "من دعا بهذا الدعاء أربعين صباحاً كان من أنصار القائم عليه السلام وإن مات قبل ظهوره أحياه الله تعالى حتّى يجاهد معه ويكتب له بعدد كلّ كلمة ألف حسنة ويمحى عنه ألف سيئة"2.
 
ب- دعاء الندبة:
وهو مذكور في مختلف كتب الأدعية والمشهور أنه يقرأ كلّ يوم جمعة... وأضاف المحدّث صاحب المستدرك في "تحيّة الزائر" استحباب قراءته في الأعياد الأربعة3.
 
ج- دعاء ليلة النصف من شعبان:
وهي ليلة عظيمة تضاهي ليلة القدر... وقد ورد أنّ الله جعلها لأهل البيت عليهم السلام في مقابل ليلة القدر للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم4.
 
الزيارة
ومن الأمور الّتي تقوّي العلاقة بصاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف أيضاً الزيارة له، وقد ورد الحثّ عليها في الكثير من الموارد.
 
قال الكفعميّ رحمه الله: "يُستحبّ زيارة المهدي في كلّ مكان وزمان والدعاء



1 الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 352.
2 الأصفهاني، مكيال المكارم، ج 2، ص 234.
3 النوري، الميرزا حسين، تحية الزائر، ص 226.
4 الكفعمي، مصباح المتهجّد، ص 762.
 
 
 
158

134

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 بتعجيل فرجه صلوات الله عليه... "1.

 
وزياراته عليه السلام أيضاً كثيرة نكتفي هنا بذكر بعضها مع الإشارة إلى بعضها الآخر:
 
زيارة بعد صلاة الفجر: أوردها السيّد الجليل ابن طاووس رضي الله عنه2.
 
يوم الجمعة: أورد السيّد الجليل ابن طاووس عليه الرحمة هذه الزيارة للإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في يوم الجمعة3.
 
زيارة سلام الله الكامل: قال المحقّق السيّد عليّ خان رضوان الله عليه: استغاثة إلى صاحب الزمان من حيث تكون تصلّي ركعتين بالحمد وسورة وقم مستقبل القبلة تحت السماء وقل: سلام الله الكامل التامّ الشامل الخ4.
 
زيارة سلام على آل يس: وهي زيارة معروفة جدّاً كسابقتها ويُستفاد من كلام بعض أهل العبادة أنّ هاتين الزيارتين طريق إلى التشرّف بلقائه عليه السلام.
 
وهذه الزيارة موجودة في مفاتيح الجنان وقد ورد في روايتها قول الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف: "إذا أردتم التوجّه بنا إلى الله تعالى وإلينا فقولوا: سلام على آل يس الخ"5.
 
وهناك العديد من الزيارات في أماكن مشرفة وأوقات مباركة فلتطلب من مظانها.
 
إحياء أمره بين الناس
لا بدّ من العمل لتعريف الناس بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف وإحياء أمره بينهم وذلك عن طريق:



1 الكفعمي، البلد الأمين، ص 309.
2 حيدر الكاظمي، عمدة الزائر، ص359 -360.
3 المحدث النوري، النجم الثاقب، ص 467.
4 حيدر الكاظمي، عمدة الزائر، ص 131
5 (م. ن)، عمدة الزائر، ص 345.
 
 
 
159

135

الدرس الثاني عشر: أفضل عبادة أمتي انتظار الفرج

 زيارة المجاهدين في مواقعهم الجهاديّة وغيرها وعيادة الجرحى منهم باعتبارهم جنوده عليه السلام وقد ورد عنهم عليهم السلام: "من لم يقدر على زيارتنا فليزر صالحي موالينا يُكتب له ثواب زيارتنا".


- إقامة مجالس الدعاء والزيارة له عليه السلام خصوصاً دعاء الندبة.
- إقامة الندوات والاحتفالات أو المشاركة بالحضور فيها.
- نظم الشعر.
- تأليف الكتب وكتابة المقالات.
- الاهتمام بإحياء ليلة النصف من شعبان.
- تعميم مظاهر الزينة والابتهاج في يوم مولده المبارك في 15 من شعبان.
- الاهتمام بشؤون الفقراء والمحتاجين دائماً باسمه عليه السلام.
- إلى غير ذلك من الأساليب الّتي تشترك جميعها في تحقيق هذا الهدف.
 
 
 
160

136
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى