وصايا الأولياء


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-04

النسخة: 2014


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

المقدمة

9

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

13

نصّ الوصية

15

وصيّةٍ استثنائيّة وموعظةٍ فريدة

15

خصوصية وصية المعصوم إلى المعصوم

16

مضمون الوصيّة

17

كشف العيوب وإفشاء الأسرار

17

الظلم والبغي

19

المكر والغدر والخديعة

20

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

23

نصٌّ الوصية

25

تمهيد

25

الأخ القديم: يعني عمراً من المحبة

27

الأخ القديم: تجربة حياة

27

الأخ القديم: ثروة نفسية

28

الأخ القديم: صديقٌ في وقت الضيق

28

الأخ القديم: أندر من الكبريت الأحمر

29

بين القديم والجديد

31

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

33

نصُّ الوصية

35

تمهيد

35

مرغوبية البخل في موردين

36

بادر إِلَى طلب المؤاخاة

37

 

5

 


1

الفهرس

 

وأمّا المؤاخاة مع الأتقياء

38

لماذا الأتقياء دون غيرهم

28

المشاق في سبيل الهدف الأسمى

39

طلبٌ أغلى من العمر

40

تبصرةٌ وذكرى

41

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

43

نصُّ الوصيّة

45

تمهيد

45

وصايا المعصومين عليهم السلام خطابٌ مباشرٌ لنا

46

الغفلة عن كلامهم توجب أذيتهم عليه السلام

46

قضاء حوائج المؤمنين من أعظم الجهاد

47

الاستهانة بحقوق الإخوان توجب عذاب الأمة

49

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

53

نصُّ الوصيّة

55

خصائص هذه الوصية

55

ظلم مَنْ لا ناصر له

57

جزاء الظلم في العاجلة قبل الآجلة

58

قصّةٌ فيها عبرة (هند والحجّاج)

59

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

63

نصُّ الوصيّة

65

وقفةٌ مع لغة الموعظة

65

وقفةٌ تأمّليّة في مضمون الموعظة

66

اللسان ترجمان القلب

68

لماذا الحثّ على الصمت؟

69

الأعضاء والجوارح تستكفي اللّسان

69

اللّسان أكثر الجوارح عذاباً

70

لماذا الحثُّ الكبير على الصمت؟!!

70

 

6


2

الفهرس

 

استقامة اللسان

71

الصمت دليل الحكمة

71

الكلام في خير أفضل من الصمت

72

العبرة النّهائية

73

وفي الختام قصةٌ وعِبْرَة

73

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

75

نصُّ الوصية

77

اللسان ترجمان القلب

77

مزالق اللسان ومعاصيه

78

أهم محرمات اللسان

79

تأثيرها على المجتمع

80

الحذر عن فضول الكلام

81

الحثّ على قول الخير

82

الكلام أفضل من السكوت

83

الدرس الثامن:  الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

85

نصُّ الوصية

87

ربانيّة المنهج التربوي عند النبي -ص وأهل بيته

87

اليأس عما في أيدي الناس، والطمع بما في أيديهم

88

صل صلاة مودع

90

إياك وما تعتذر منه

91

وأحب لأخيك ما تحب لنفسك

92

الدرس التاسع: قسوة القلب

95

نصُّ الوصية

97

تمهيد

97

أسباب قسوة القلب

98

نقد العهد والميثاق

98

طول الأمل والاطمئنان بالحياة الدنيا

99

 

7


3

الفهرس

 

كثرة الذنوب

101

كثرة الكلام بغير ذكر الله

102

أكل المال الحرام

102

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

105

نصُّ الوصية

107

الموازنة بين الدنيا والآخرة

107

الدُّنيا الملعونة ودنيا البلاغ

109

خطورة حب الدنيا وعلاجه

109

مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ

110

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

112

نصُّ الوصية

115

أَهميّة الوصيّة

117

ما هو التدبّر؟

117

تدبّر العاقبة

118

بين المال والعقل والتّدبّر

119

التَّثَبُّت والسَّلامة

121

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوصينا

121

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

122

نصُّ الوصيّة

125

في رحاب الوصية

127

مفهوم البرّ

129

البرُّ لا يبلى

129

الذنب لا ينسى

130

الإنسان مخيّر في انتخاب الطريق

132

كما تدين تدان

132

 

8


4

المقدمة

 المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطاهرين وبعد.
 
ذكر أرباب معاجم اللّغة أنّ لفظ (الوصيّة) مأخوذ من قولهم: أَوْصى النَّبْتُ، أي: كَثُرَ فاتّصل بعضه ببعض1. ثمّ استُعير هذا اللّفظ لـ (الوصيّة) بحسب معناها المتعارف، قالوا2: ذلك لأنّ الموصِي يُوصِل جلّ أمره إلى الموصَى إليه، فكأنّ الموصِي ـ ببركة الوصيّة ـ قد اتّصل بالموصَى إليه. معنى ذلك: أنّ الموصِي، وهو فاعل الوصيّة وصاحبها، يُودع خلاصة تجاربه أو مشاعره أو همومه أو رؤاه عند الموصَى إليه، وهو الشخص المتلقّي للوصيّة والمخاطَب بها، فكأنّ الوصيّة جاءت لتبني صلةً، وعلاقةً، وارتباطاً بين الطرفين.
 
ولقد دأب أنبياء الله تعالى وأولياؤه على الوصية بالخير إلى الناس عامة وخاصة، وهذا ما نرى أمثلة له في القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾3.
 
وهكذا كان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام وكذلك درج على ذلك علماؤنا الأبرار، والمثال البارز في هذا المقام وصايا الإمام الخميني العامة 



1 ابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 395، مادّة (وصي)، ط نشر أدب الحوزة، قم، إيران، 1405 هـ.
2 الطوسيّ، شيخ الطائفة، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 473، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العامليّ، الطبعة الأُولى، ط دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، لبنان.
3 سورة البقرة، الآية: 132.
 
 
9

5

المقدمة

 والخاصة، وإن ننسى لا ننسى وصايا الشهداء التي تهزّ مشاعر الإنسان هزّاً.


إنّ الوصيّة التي تحمل هذه الأهمية من رجال الله تتطلّب وجود حالةٍ لدى الموصَى إليه يُقابل بها ما أبرزه الموصِي من العطف والشفقة والحرص والمحبّة، وتُسمّى هذه الحالة - حسب تعبير الإمام الصادق عليه السلام: "يَا بُنَيَّ اقْبَلْ وَصِيَّتِي وَاحْفَظْ مَقَالَتِي" - قبولاً، وحفظاً.

فأمّا القبول: فهو أن يكون الموصَى إليه مستعدّاً - على المستوى القلبيّ - لإنفاذ وصيّة الموصِي، ولا يكون ذلك إلّا بعد معرفةٍ ويقين منه بأنّ الموصِي قد قرّبه وأدناه وأنزله من نفسه منزلةً عظيمةً، بحيث اختصّه بهذا المقام، مقام مَنْ يرى فيه محلّاً للأمانة، وأهلاً لأن يُودِعه ما لديه من خلاصة عمره وتجاربه ومعارفه ومشاعره وتطلّعاته ورؤاه، ولأنّه يراه كذلك، فقد فتح له شغاف قلبه، وأقبل عليه بخالص حبّه، ونفخ فيه من روح عمره. وعندما يحصل للموصَى إليه هذا اليقين، وهذه المعرفة، فلن يكون بمقدوره إلّا أن يُقابل الموصِي بمثل ما ابتدأه به، بأن يفتح ـ هو الآخر ـ قلبه لتلقّي 
الوصيّة منه، ويعلن استعداده للعمل بمضمونها.

وأمّا الحفظ: فهو - بالنسبة إلى الموصَى إليه - يمثّل الجانب العملانيّ والتطبيقيّ, فإنّ قبول الموصَى إليه للوصيّة، بمثابة 
عهدٍ قطعه على الموصِي بأن يُنفذ وصيّته، ويضعها أمانةً في عنقه، ووديعةً عنده. ومن قطع عهداً على نفسه كان لزاماً 
عليه الصدق والوفاء به، ومن أعلن جهوزيّته لتحمّل الأمانة وجب عليه أن يؤدّيها ويؤدّي حقّها. ومعلوم أنّ أداء الأمانة، والوفاء بالعهد، لا يكفي فيه الالتزام والاستعداد القلبيّ، بل هو يستدعي أيضاً مراقبةً عمليّة دائبةً ومستمرّة، 
مراقبةً تترافق معه في جميع ظروفه وأحواله، حركاته وسكناته، ساعات ليله وآنات نهاره. فحفظ الوصيّة لا يكون إلّا بالالتزام العمليّ والمسلكيّ بها، بجعلها طريقة عيشٍ وأسلوب حياة.

فإنْ فَعَل ذلك، كان أميناً، وفيّاً، صادقاً.

وإن فَعَل ذلك، عاش سعيد, لأنّه بذلك ينال ما احتوت عليه الوصيّة من الخير، 
 
 
10

6

المقدمة

 ويُدرك ما فيها من المصلحة والمنفعة العائدة إليه.

 
وإن فَعَل ذلك، مات حميداً، أي: محموداً، يمدحه الناس في الدنيا، ويحمدون سيرته، ويذكرون خصاله وأمانته، ويشيدون بصدقه وفضائله. ثمّ عندما يقضي نحبه وتتوفّاه الملائكة، تتوفّاه صادقاً مع نفسه غير ظالمٍ لها، ويسلّم روحه إلى بارئها وقد صدق ما عاهد الله عليه، فيكون محموداً في آخرته كما كان في دنياه، ويعلو في أهل السماء ذكره كما كان حَسَن السيرة والسلوك في أهل الأرض. وذلك هو قول الإمام الصادق عليه السلام: "يا بنيّ! اقبل وصيّتي، واحفظ مقالتي, فإنّك إنْ حَفِظْتَها تَعِشْ سعيداً، وتَمُتْ حميداً"1.
 
ونظراً لما في هذه الوصايا من قيمة علمية وتربوية، وأثر في النفس فإنّنا خصّصنا هذا الكتاب بمجموعة من هذه الوصايا العميقة في أثرها على الفرد والمجتمع.
 
 
مركز نون للتأليف والترجمة
 



1 المجلسيّ، المولى مُحَمَّد باقر، بحار الأنوار، ج 75، ص 201، تحقيق علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية المصحّحة، ط مؤسّسة الوفاء، بيروت، لبنان، 1983 م.
 
 
11

7

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع




مفاهيم محورية:
- وصيّةٍ استثنائيّة وموعظةٍ فريدة.
- خصوصية وصية المعصوم إلى المعصوم.
- مضمون الوصيّة:
1- كشف العيوب وإفشاء الأسرار.
2- الظلم والبغي.
3- المكر والغدر والخديعة.
 
 
13

8

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 نصّ الوصية:

الإمام جعفر الصادق عليه السلام فيما أَوْصَى وَلَدَهُ مُوسَى عليه السلام في وصية طويلة جاء فيها: "يَا بُنَيَّ اقْبَلْ وَصِيَّتِي وَاحْفَظْ مَقَالَتِي فَإِنَّكَ إِنْ حَفِظْتَهَا تَعِشْ سَعِيداً وَتَمُتْ حَمِيداً يَا بُنَيَّ مَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِهِ انْكَشَفَ عَوْرَاتُ بَيْتِهِ وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِهِ وَمَنِ احْتَفَرَ لِأَخِيهِ بِئْراً سَقَطَ فِيهَا"1.
 
وصيّةٍ استثنائيّة وموعظةٍ فريدة
وأمّا ما يرتبط بالموصِي والموصَى إليه في هذه الوصيّة التي بين أيدينا:
- فالموصِي هو إمامنا جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، ذلك الإمام الذي علّم الأجيال، وربّى الفقهاء، ونشر العلم والفقه في الأرجاء والأصقاع، وهو الذي ننتسب وتنسبنا الناس إليه.
- والموصَى إليه هو إمامنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، ذلك الإمام الهمام الذي عاش في الناس عابداً، واعظاً، محسناً، كاظماً لغيظه، ثمّ هزّ عروش أعتى طغاة الأرض مقيّداً في أغلاله وأصفاده، وهذّب سجّانيه ساجداً في مطمورة سجنه.


1 المجلسيّ، المولى مُحَمَّد باقر، بحار الأنوار، ج 75، ص201، تحقيق علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية المصحّحة، ط مؤسّسة الوفاء، بيروت، لبنان، 1983 م.
 
 
15

9

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 وهذا يجعلنا أمام وصيّةٍ استثنائيّة وموعظةٍ فريدة، قلّ في الوصايا نظيرها، وعزّ في المواعظ مثيله, فهي:

أ- وصيّة الإمام المعصوم إلى الإمام المعصوم.
ب- وصيّة والدٍ شفيق، إلى ولدٍ بوالديه بارّ ورفيق.
 
ومَنْ أحْرَصُ من الوالد على خير ولده وسعادته ليوصيه بوصاياه؟!
ومَنْ أكثر استحقاقاً لوصيّة الوالد من ولده؟!
 
فكيف ـ إذاً ـ لو كان هذا الوالد الموصِي إماماً معصوماً، ومن نسل معصومين؟!
وكيف ـ إذاً ـ لو كان هذا الولد الموصَى إليه إماماً معصوماً، ومن نسل معصومين أيضاً؟!
 
ومَنْ أرْفَقُ مِنَ المعصوم، نبيّاً كان أم إماماً، بحال ولده المعصوم أيضاً؟!
 
خصوصية وصية المعصوم إلى المعصوم
إنّ وصيّة الإمام المعصوم إلى الإمام المعصوم:
1- تتجاوز الطابع الفرديّ والآنيّ الذي ربما يكون هو الغالب على وصايا عامّة الناس، فالمعصوم قائد الأمّة، وهاديها، ومرشدها، والقائم على تربية نفوس أبنائها، وتكميل عقولهم، لا بل هو أبو هذه الأمّة، كما يُستفاد من قول رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة"1، والمسلمون أبناؤه، فإن انقطعوا عنه كانوا أيتامه، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "أشدّ من يُتْم اليتيم الذي انقطع من أمّه وأبيه يُتْم يتيمٍ انقطع عن إمامه، ولا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حُكْمه فيما يُبتلى به من شرائع دينه"2. فوصيّة المعصوم



1 الشيخ الصدوق، محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه، عيون أخبار الرضا، ج1، ص91، تحقيق وتصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلميّ، ط مؤسّسة الأعلميّ، بيروت، لبنان، 1404 هـ.
2 الطبرسيّ، أحمد بن عليّ بن أبي طالب، الاحتجاج، ج1، ص7، تحقيق وتعليق: السيّد محمّد باقر الخرسان، ط دار النعمان للطباعة والنشر، النجف الأشرف، 1966م.
 
 
 
16

 


10

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 وصيّةٌ لجميع أبنائه، فهم ـ جميعاً ـ معنيّون بمضمونها، مخاطَبون بمقالتها، مأمورون بقبولها وحفظها. وهي نافذة سارية المفعول في كلّ عصرٍ وزمان، لا يختصّ بها وقت دون وقت.

 
2- تهدف إلى إعداد المعصوم الموصَى إليه لتسلّم أعباء الإمامة، ليكون خير خلفٍ لخير سلف، بل ربما كان من جملة دواعيها وأهدافها: أن يُعلن المعصوم الموصِي أمام الملأ أنّ الموصَى إليه هو المعصوم الموكَل إليه أمر الناس في دينهم ودنياهم من بعده. فهي ـ لهذا ولذاك ـ تحظى بأهمّيّةٍ استراتيجيّة وغير عاديّة.
 
مضمون الوصيّة
احتوت هذه الوصيّة الشريفة على ثلاث نصائح هامة وهي:
1- "مَنْ كَشَفَ حجاب غيْره انكشفَتْ عَوْرات بيته".
2- "ومَنْ سَلَّ سيف البغي قتلَه".
3- "ومن احتفر لأخيه بئراً سَقَط فيها".
 
إنّ هذه النصائح الثلاث تشترك في التعبير عنها بالجملة الشرطيّة، بما تدلّ عليه الجملة الشرطيّة من ترتيبٍ للجزاء على الشرط. فهذه النصائح ـ في حقيقة أمرها ـ إنّما تشير إلى حتميّات كونيّة وتاريخيّة واجتماعيّة ثلاث، أو فقل: إلى ثلاث سنن إلهيّة أجراها الله في خلقه، ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾1.
 
1- كشف العيوب وإفشاء الأسرار:
كلّ إنسان في هذه الدنيا ـ إلّا من عصمه الله تعالى ـ يعاني نقصاً ما وانحرافاً على الصعيد الخُلُقيّ، بحيث تميل نفسه الأمّارة بالسوء بطبعها عن جادّة 


1 سورة فاطر، الآية: 43.
 
 
 
17

11

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 الحقّ، وطريق الوسط والاعتدال، وتنحرف إلى إحدى المُهلكتين: الإفراط أو التفريط. كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾1، وكما قال إمامنا زين العابدين عليه السلام في بعض أدعية الصحيفة السجّاديّة: "إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرّضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل..."2.

 
هذا النقص الخُلُقيّ، وهذا الميل الطبعيّ للنفس الإنسانيّة إلى الانحراف، يجعل في شخصيّة الإنسان عيوباً. ومن الطبيعيّ أن يميل الإنسان، كلّ إنسان، نحو إخفاء عيوب نفسه عن الآخرين، فهو يسعى جهده لأن يُعمي عيون الآخرين عنها، ويضرب عليها حجاباً سميكاً، ويظلّ في قلقٍ من أن يكتشف الآخرون عورات نفسه، وما يُخفيه من عيبه.
 
وفي الحقيقة، إنّ من يضرب هذا الحجاب على عيوب العبد وعوراته ومعاصيه هو الله تبارك وتعالى، ذلك أنّ "الله حييّ كريم"3، كما ورد في الحديث، فحياء الله تعالى، وغيرته على المؤمن، يجعلان عيوب العبد وذنوبه مستورةً بسترٍ من الله، فستر العيوب صفة من أوصاف الله سبحانه. ورد في الحديث: "إنّ الله تعالى إذا ستر على عبدٍ عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة، وإن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها أُخرى"4.
 
وإذا كان الأمر كذلك، فمن أطاع شيطانه ونفسه الأمّارة وتصدّى لكشف حجاب غيره، فقد بارز الله تعالى بالتحدّي، قبل أن يبارز ذلك الغير، وقد أقدم على هتك 



1 سورة يوسف، الآية: 53.
2 الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، ص 403، في مناجاة الشاكين، تحقيق: السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحيّ الأصفهانيّ، الطبعة الأُولى، ط مؤسّسة أنصاريان للطباعة والنشر، قم، إيران، 1411 هـ.
3 العلّامة المجلسيّ، المولى مُحَمَّد باقر، بحار الأنوار، ج91، ص296.
4 المولى النراقي، الشيخ محمّد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص209، تحقيق وتعليق: السيّد محمّد كلانتر، الطبعة الرابعة، ط مطبعة النعمان، النجف الأشرف.
 
 
 
18

12

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 حجاب الله وستره، قبل أن يهتك الحجاب الذي ضربه العبد على نفسه. ومن بارز الله بالتحدّي، وانتهك حرمةً من حرمات الله، وكشف حجاباً ضربه الله، قَصَم الله ظهره، وحقّت عليه العقوبة سريعةً معجّلة، وعرّض حرمة نفسه للهتك، فيرفع الله حجابه عن عيوب نفسه، وعن عورات بيته، فتنكشف للآخرين.

 
وقديماً قيل:
إذا شئْتَ أن تَحْيَى سليماً من الأذى       وذنبك مغفورٌ وعِرْضك صَيِّن
لسـانَك لا تـذكرْ به عـورة امرىءٍ            فكلّك عورات وللناس ألسن
 
2- الظلم والبغي:
لا نحتاج إلى كثيرٍ من الكلام للحديث عن قبح الظلم والبغي والعدوان على الآخرين وعاقبته السيئة، فالقرآن الكريم حافل بقصص الأنبياء، ومواجهتهم التاريخيّة مع الظلم والظالمين، وهي كلّها ـ هذه المواجهات ـ كان لها نهاية واحدة، هي: محق الظالمين، وقصْم ظهرهم، وأخذهم أخذاً وبيلاً.
 
ولا يختصّ الأمر بعصر الأنبياء عليهم السلام ومواجهاتهم فحسب، بل ما من ظالمٍ إلّا وانتهى أمره سريعاً إلى الوبال والهلاك، وما من باغٍ على الناس إلّا وانتقم الله منه، وكانت عاقبة أمره ويلاً وثبوراً.
 
كلّ تلك الحقائق تؤكّد لنا: أنّ من سلّ سيف الظلم والبغي والعدوان على الناس قتله ظلمه وبغيه وعدوانه، فمن شهر سيف الظلم والبغي، فهو إنّما يشهره ويسلّه على نفسه, إذ هو مَن يُقتل به، دون سواه.
 
فأمّا المظلوم، فله أجره عند ربّه، فهو إنّما انتقل بسيف الظالم إلى رحمة ربّه.
وأمّا الظالم، فإنّما قتله سيفه الذي هو سلّه وأرداه، وأركسه إلى غضب الله وسخطه.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ أعجل الشرّ عقوبةً البغي"1.


1 الكلينيّ، ثقة الإسلام، الشيخ محمّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص327، تحقيق وتصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة الرابعة، ط دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1365 هـ ش.
 
 
 
19

13

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 وقديماً قيل: إنّ فرس الباغي عَثور، وعلى الباغي تدور الدوائر.

 
3- المكر والغدر والخديعة:
المؤمن أخو المؤمن، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾1، والأخ لا يغدر بأخيه، ولا يمكر به، ولا يكيد له المكائد، ولا يحفر له الحُفَر، ولا يتآمر عليه، ولا يتربّص به الدوائر، ولا يخونه، ولا يخدعه.
 
قال بعضهم: ثلاث خصالٍ مَنْ كُنّ فيه كُنّ عليه:
1- المكر، قال تعالى: ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾2.
2- النكث، قال تعالى: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾3.
3- البغي، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم﴾4.
 
فهذه الخصال الثلاث هي من أسباب دمار أهلها، والعلاقة وثيقة بين الأسباب والمسبّبات، وبين المقدّمات ونتائجها، وهلكة الماكر والباغي أمر يقينيّ محتوم، ومهما طال الأمد فهي مسألة وقت ليس أكثر.
 
بل إنّ المكر والخديعة، ونظراً لما يكشفان عنه من خبثٍ في النفس، وخسّةٍ في السريرة، ودناءةٍ في الطويّة، فإنّ الله يمقتهما، ولا يطيقهما، فمن ثمّ يبادر هو بنفسه إلى التنكيل بالماكر، وردّ مكره إلى نحره. قال عزّ من قائل: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾5.
 
فمن أراد أن يُردي أخاه، وترصّد به، وحفر له حفيرة، أنجى الله أخاه من تلك الحفيرة - فمن حفر حفرة لأخيه وقع فيها - وارتدّ الأمر على الماكر، فابتلاه الله بمكره وأذلّه وأخزاه.


1 سورة الحجرات، الآية: 10.
2 سورة فاطر، الآية: 43.
3 سورة الفتح، الآية: 10.
4 سورة يونس، الآية: 23.
5 سورة الأنفال، الآية: 30.
 
 
 
 
20

14

الدرس الأول: السنن الإلهية في بناء المجتمع

 الوصية: يا بُنَيَّ اقْبَلْ وَصِيَّتِي وَاحْفَظْ مَقَالَتِي فَإِنَّكَ إِنْ حَفِظْتَهَا تَعِشْ سَعِيداً وَتَمُتْ حَمِيداً يَا بُنَيَّ مَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِهِ انْكَشَفَ عَوْرَاتُ بَيْتِهِ وَمَنْ سَلَّ سَيْفَ الْبَغْيِ قُتِلَ بِهِ وَمَنِ احْتَفَرَ لِأَخِيهِ بِئْراً سَقَطَ فِيهَا. 

21


15

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء




مفاهيم محورية
- الأخ القديم: يعني عمراً من المحبة.
- الأخ القديم: تجربة حياة.
- الأخ القديم: ثروة نفسية.
- الأخ القديم: صديقٌ في وقت الضيق.
- الأخ القديم: أندر من الكبريت الأحمر.
- بين القديم والجديد.
 
 
23

16

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 نصٌّ الوصية:

رُوي أَنَّ داوود النبيّ على نبيّنا وآله وعليه آلاف التحية والثناء قال لابنه سليمان عليه السلام: "لَا تَسْتَبْدِلَنَّ بِأَخٍ قَدِيمٍ أَخاً مُسْتَفَاداً مَا اسْتَقَامَ لَكَ وَلَا تَسْتَقِلَّنَّ أَنْ يَكُونَ لَكَ عَدُوٌ وَاحِدٌ وَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ أَنْ يَكُونَ لَكَ أَلْفَ صَدِيقٍ"1.
 
تمهيد:
يُبيّن هذا الحديث الشريف حلقةً من الحلقات الذهبية التي ينبغي أَنْ تقوم عليها العلاقة النظيفة والمخلصة بين أفراد المجتمع المتديّن, حيث ركّز على قاعدة مهمّة من اللازم سلوكها وعدم الغفلة عنها، فبيّن أَنَّ: من القبيح جداً أن نستبدل بالأخ القديم، ومَن تربطنا به صداقةٌ وثيقةٌ وعلاقةٌ حميمة، أخاً جديداً، إذا كان الأخ القديمُ مستقيمَ النيّة، قائماً بما يترتّب عليه من واجبات وحقوق، لا يطعن بالظهر، ولا يؤذي إذا حضر.
 
وهذا الحديث من حيث المضمون موافقٌ لبعض الآيات القرآنية, حيث يقول تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ﴾2.



1 المجلسي، محّمَّد باقر، بحار الأنوار، ج71، ص264، الطَّبعة الثَّالثة 1403، دار إحياء التُّراث، بيروت.
2 سورة الرحمان، الآية: 60.
 
 
 
25

17

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 ونحن كلّما استنطقنا القرآن وتدبّرناه عرفنا كم تحتوي آياته من قيمٍ وقوانين لو اتبعناها وعملنا بها, لصدق علينا قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾1، ولكنّا ـ وللأسف ـ نعمل بالمقطع الآخر من الآية: ﴿وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾2.

 
فآية الإحسان الكريمة تشير إِلَى قاعدةٍ عامّةٍ وقانونٍ كليّ، وهو أَنَّ كلّ مَنْ يحسن إليك لا يكون جزاؤه إِلَّا مبادلته بالإحسان، والصديق القديم المحافظ على ودّه لك، لا يكون الإحسان إليه باستبداله بأخٍ جديد لم يُجرّب، بل بالتمسُّك به وردّ تحيّته بتحيّة أفضل. واللازم علينا كأفراد مسلمين متدينين أنْ نرسم سلوكنا وأخلاقنا على ضوء سلوكيّات وأخلاق القرآن الكريم، وكلّ من جسَّد تعاليمه، وهم النبيّ محمدٌ وآله الطيبين الطاهرين.
 
قيل لبعض أُمهات المؤمنين: أخبريني بِخُلِقِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: "كَانَ خُلُقُه القُرآن"3، كيف! وهو لا يتخطّى في أقواله وأفعاله ما يريده الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾4، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾5.
 
ومن هنا تنبع أهمية أن يكون للقرآن الكريم حضورٌ فاعلٌ في حياتنا، بحيث إذا تحرّكنا كان القرآنُ هو المتحرّك قبلنا.
والمجتمع الإيماني بحاجةٍ ماسّة ـ خصوصاً عندما تتكالب فيه الأعداء من كلّ حدب وصوب ـ إِلَى تفعيل تلك المفردات الإيمانية، من قبيل: الصداقة، والأخوة، والتعاطف والانسجام.روي عن أمير المؤمنين: "أعجز الناس من عجز عن اكتساب 



1 سورة الأعراف، الآية: 96.
2 سورة الأعراف، الآية: 96.
3 ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، ج6، ص91، دار صادر، بيروت.
4 سورة النجم، الآيتان: 3 – 4.
5 سورة الأحزاب، الآية: 21.
 
 
26

18

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ضفر به منهم"1.

 
الأخ القديم: يعني عمراً من المحبة
مَنْ منّا لم يشعر بحاجته إِلَى صديق يركن إليه يبثّه شكواه ويبادله النُّصح عند الحاجة إليه؟! ولا سيّما إذا كانت هذه الصداقة ممزوجةً بمحبّةٍ عمرُها سنين.
 
لا يخفى على كلّ ذي مسكةٍ من عقلٍ ما للتنافر والقطيعة والعلاقة الفاترة بين الإخوان من مضارّ ومفاسدَ اجتماعية, فإنّه عندما تُعْدَمُ المحبّة مِن القلوب، وبالتالي يُعْدَم النّور، فسوف تبدأ الصفات المذمومة بالتغلغل شيئاً فشيئاً إِلَى القلب، حتى يحلّ عليه ظلامٌ مُطبِق.
 
وأيُّ عاقلٍ يستبدل نور المحبّة بظلام العداوة والبغضاء؟!
 
فالله الله في المحبّة... والله الله في حفظ الصديق القديم... روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا وإن ود المؤمن من أعظم سبب الإيمان"2.
 
الأخ القديم: تجربة حياة
لقد عاش هذا الأخُ القديمُ الحياةَ بحلوها ومرّها، كما عِشْتَ أنت الحياة ـ أيضاً ـ بحلوها ومرّها:
- أَلَمْ تشعر يوماً أَنَّه أسدى إليك نصيحةً صادقة؟
 
- ألم تشعر يوماً أَنَّ الدنيا ـ على رحبها وسعتها ـ قد ضاقت وضاقت ولم تجد متنفساً وحلاً لبعض المشاكل إِلَّا بمعونة الصديق؟ روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمنون خدم بعضهم لبعض،...يفيدُ بعضهم بعضاً"3. بل وأكثر من ذلك:
 
- ألم تضع رِجلَك في موضوع حساس وخطير وأنت مضطرب البال، فإذا بأخيك 


1 نهج البلاغة، ج4، ص4.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص280..
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص167.
 
 
 
27

19

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 يرفدك بتجارب هي زبدة الحياة، وبمخاض لبنٍ استُخلص من بين دمٍ وفرثٍ لبناً خالصاً؟

 
عشتما معاً... خضتُما عُباب الحياة معاً...
 
فهلّا تكملان الدربَ معاً؟ فإنّ خير الأعمال بالإكمال.
 
الأخ القديم: ثروة نفسية
نورَ عيني... وأخي في الله...
استمع لما قاله ربّانيُّ هذه الأُمة الإِمام عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: "قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ"1، فمن أحسن صناعة الشعر والأدب مثلاً، كانت قيمته الشعر والأدب، ومن أتقن صناعة البناء كانت قيمته ذلك، وهلّم جرّا...
 
فما بالك بمن أحسن معرفة الحياة الصادقة والنبيلة، والاستقامة للصديق؟! أفَهَلْ ستكون قيمته دراهمَ معدودة، ونكون فيها من الزاهدين؟!
 
أبداً... إِنَّ الأخ القديم والصديق العتيق ثروةٌ نفسيةٌ يلزم التمسّك بها، فإنّ الذهب كلّما كان أعتق... كان ثمنه أغلى.
 
روي عن الصادق عليه السلام: "المؤمنُ أخو المؤمِن, عينهُ ودليلهُ لا يخونهُ ولا يظلمهُ ولا يغشُّه، ولا يعِدُه عدةً فيخلِفهُ"2.
 
الأخ القديم: صديقٌ في وقت الضيق
قيل لبعضهم: كم لك من صديق؟ قال: لا أدري, لأنّ الدنيا عليّ مُقْبِلة، فكلّ مَنْ يلقاني يُظهر لي الصداقة، وإنّما أُحصيهم إذا ولّت الدنيا عنّي.
 
كشفت لي الأيامُ كلَّ خبيئةٍ    فوجدتُ إخوانَ الصفا قليلا 


1 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص419، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص166.
 
 
 
28

20

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 عن الحسن بن كثير قال: شكوت إِلَى أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام الحاجة وجفاء الإخوان، فقال: "بِئْسَ الأَخُ أَخٌ يَرْعَاكَ غَنِيّاً وَيَقْطَعُكَ فَقِيراً"، ثُمّ أمر غلامه، فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم، وقال: "اسْتَنْفِقْ هَذِهِ فَإِذَا نَفَذَتْ فَأَعْلِمْنِي"1.

 
الاستقامة معنىً لا يدخله الاعوجاج أبداً، وليس في قاموس الاستقامة اعوجاج، فالأخ المستقيم باذلٌ خدمته لأخيه الآخر ما استطاع لذلك سبيلاً.
 
إِنَّ عطرَ الأخوّة القديمة تفوحُ أكثر فأكثر حينما تحتاج في بعض المواقف إِلَى مدّ يدِ العون، وإذا بعطر الأخ القديم يفوح وقت الضيق والحاجة. روي عن الإمام علي عليه السلام "وعليكَ بإخوانِ الصدقِ فأكثرْ من اكتسابِهم فإنَّهم عدّةٌ عندَ الرخاءِ وجُنّةٌ عندَ البلاءِ"2.
 
الأخ القديم: أندر من الكبريت الأحمر
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمنة أعز من المؤمن والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر..."3.
قد تنشأ بين الأشخاص علاقاتٌ على أساس المصلحة، فيقرّ كلّ واحدٍ منهما بهشاشة هذه العلاقة, لأنّها مرهونة بمقدار ما أنتفعُ منك دنيوياً، وتنتفع بي، فمتى عُدِمتِ المنفعةُ لم يعد هناك موجب لبقائها، وتزول بعد ذلك تلقائياً.
 
وهناك علاقاتٌ تنشأ على أساس الأُخوّة وعشقِ الإنسان لأخيه الإنسان, لما فيه من جهاتِ الخير المودعة في الشخص، فإذا فجّر الأخ القديم كلّ يوم شيئاً من طاقاته فسوف يزرع الدفء في هذه العلاقة، وما دام هذا الدفء والطاقة الخيّرة


1 الشيخ المفيد، الإرشاد، ج 2، ص 166.
2 الشيخ الصدوق، الأمالي،ص380.
3 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص242.
 
 
 
29

21

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 موجودين في الإنسان، فمن غير المعقول أن يستبدل العاقلُ هذه الطاقات الخيّرة والمستقيمة التي تعرّفها في هذا الشخص لصالح شخص لم يعرف ما هو حاله، ولا كيف سيكون مآله.

 
وبكلمةٍ:
الأخ القديم يعني عمراً من الاستقامة، في زمن قلّ فيه المستقيمون...
نعم، هذه عقليةُ بني إسرائيل الَّذِين يستبدلون الَّذِي هو أدنى بالذي هو خير.
إِنَّها عقليةٌ ناشئةٌ عن عدم الصبر والتحمّل، وعدم وصول هذه النفس إِلَى مقاماتٍ عالية. فبنو إسرائيل حيث لم يصبروا على طعام واحدٍ هو (المنّ والسلوى) طلبوا طعاماً آخر، مِمّا أدّى إِلَى أنْ يستنكر الله عليهم ذلك.
 
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾1.
 
وفي الحقيقة هذه الآية تقرّر مطلباً عقلائياً مركوزاً في النفوس مؤدّاه أمران:
1- المرجوح ليس كفءً للراجح.
2- لذا لا يُستبدل الراجحُ بشيء.
فإنّ ذلك من السفه وقلة العقل.
 
وللأسف الشديد! هناك ظاهرةٌ بارزة في مجتمعاتنا, حيث نرى أَنَّ شخصين في أيّام الصبا إِلَى بداية فورة الشباب يكونان من أشدّ الناس صداقةً وأخوّة، وتمرّ عليهما الأيام يضطرا إِلَى أَنْ يذهب كلُّ واحدٍ منهما إِلَى مكان، وبعد سنين يرجعان فيلتقيان، فإذا بأحدهما قد صار له في هذه الدُّنيا منصباً أو مقاماً وجاهاً، فيكون ذلك حاجزاً بينهما في إحياء تلك الصداقة القديمة، التي كانت مبنيةً على الحبّ 


1 سورة البقرة، الآية: 61.
 
 
 
30

22

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 والوئام، وهذا يدعونا إِلَى استذكار قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾1.

 
فمرجع هذه الظاهرة إِلَى أَنَّ طبيعة الإنسان في هذه الدُّنيا أَنَّه إذا استغنى بماله ومنصبه وجاهه، يعدُّ نفسه مرتفعاً عن الآخرين الَّذِين هم ليسوا مثله في الموقع والمنصب والجاه.
 
بين القديم والجديد 
الرواية الشريفة التي تلوناها في أوّل هذه الموعظة، تؤكّد على لزوم المحافظة على الأخ القديم ما دام مستقيماً لك، لكنّها في الوقت نفسه لا تمنع من السعي نحو اكتساب أصدقاء وإخوة جدد، فقد ورد في ذيلها الحث على إقامة العلاقات الصحية الطيّبة داخل الجسم الإيماني، حيث قال: "وَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ أَنْ يَكُونَ لَكَ أَلْفَ صَدِيقٍ"، كما ورد فيها الحثّ على تجنّب العداوات، فقال عليه السلام: "وَلَا تَسْتَقِلَّنَّ أَنْ يَكُونَ لَكَ عَدُوٌ وَاحِدٌ"، وفي هذا المعنى ينسب إِلَى أمير المؤمنين عليه السلام بيتٌ من الشعر:
وليس كثيراً ألفُ خلٍّ وصاحبٌ      وإنَّ عدواً واحداً لكثيرُ
 
إِنَّ عدواً واحداً يكفي لينغّص عليك العيش، وربّما نحتاج إِلَى أكثر من ألف صديق حتّى نشكّل خلية عمل... تحوّل مرّ الحياة إِلَى عسل.


1 سورة العلق، الآية: 6.
 
 
31

23

الدرس الثاني: الأخَوّة بين الاستبدال والإبقاء

 

 

32


24

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء



مفاهيم محورية
- مرغوبية البخل في موردين.
- لماذا الأتقياء دون غيرهم؟
- المشاق في سبيل الهدف الأسمى.
- طلبٌ أغلى من العمر.
- طلبٌ أغلى من العمر.
- تبصرةٌ وذكرى.
 
 
33

25

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 نصُّ الوصية:

رُوي عن صادق آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّه قال في وصيةٍ له: "وَاطْلُبْ مُؤَاخَاةَ الأَتْقِيَاءِ وَلَوْ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَإِنْ أَفْنَيْتَ عُمُرَكَ فِي طَلَبِهِمْ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْلِ عَلَى َوجْهِ الأَرْضِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَمَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى العَبْدِ بِمِثْلِ مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنَ التَّوْفِيقِ بِصُحْبَتِهِم"[1].
 
تمهيد:
لله درّ الأتقياء ماذا فعلوا حتّى صاروا قِبلةً يحجُّ إليها أصحاب الهمم العالية، والنفوس الشامخة؟
 
لله درّهم أيّ سرٍّ أُودع فيهم! أيُّ جمالٍ هذا الَّذِي قد غشيهم حتى صاروا محطَّ عشق الوالهين!
 
هل امتزجت نفوسهم بعَبَقِ أريجٍ إلهي، فعرف قدرهم مَنْ كان له ذوقٌ في شمِّ نسمات نسيم القرب؟! فضرب إِبْطَ مطايا الرّحال في سفرٍ ربما كلّفه صرفَ لئالئ عقد العمر, ليرتشف من أُنس صحبتهم.


1 مصباح الشريعة المنسوب للإمام الصادق عليه السلام، ص150، الطبعة الأُولى 1980، نشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
 
 
 
35

26

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 إِنَّها النفس التوّاقة لعالم الطهر والقداسة حيث الكمال المنقطع النظير.

 
أخي في الله!
إِنَّ عمر الإنسان محدودٌ لن يتجاوز أحدٌ ما قدّر له: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾1.
 
وإنَّ الساعات تخترم الأعمار، وتقرّب من الفناء والبوار، قال سيّد الفصحاء والبلغاء أمير المؤمنين عليه السلام: "مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ وَأَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ‌"2.
 
وهناك حقيقةٌ مرّة نعلمها، لكن لا نريد أنْ نصدّق بها ونعمل على أساسها، هي: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾3، فنحسب أَنَّ الموت على غيرنا كُتب، أو كأنّه لا يتربّص بنا، ونعدّ تشييع الأموات حَدَثاً باقياً للذكرى، لا للتذكر والعبرة، وأنّ عمر الإنسان ينقضي ولا نشعر إِلَّا بعد فوات الأوان، ولات ساعة مندم.
 
مرغوبية البخل في موردين
لا يخفى أَنَّ البخل عادة سيّئة ومذمومة, فإنّ البخيل بعيدٌ من الله، بعيدٌ من الناس، بعيدٌ من الجنّة. لكنّ المسألة إذا تعلّقت بواحدٍ من أمرين: إمّا عمر الإنسان، وإمّا عِرضه، فقد ورد في بعض الروايات أَنَّه حينئذٍ يكون أمراً مرغوباً فيه ومطلوباً.
 
أمّا ما يرتبط بعمر الإنسان، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ كُنْ عَلَى عُمُرِكَ أَشَحَّ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ وَدِينَارِكَ"4، أي: ابخل بعمرك ولا تفرّط به، ولا تشتغل بما لا ينفع، فشرُّ ما شغل به المرء وقته: الفضول. 
فإنّ اشتغال النفس بما لا


1 سورة الأعراف، الآية: 34.
2 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص282، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
3 سورة القصص، الآية: 88.
4 شيخ الطَّائفة، مُحَمَّد بن الحسن الطُّوسي، الأمالي، ص527، المجلس التاسع عشر، تحقيق: قسم الدَّراسات الإسلاميَّة في مؤسسة البعثة، الطَّبعة الأُولى 1414، نشر: دار الثقافة للطَّباعة والنَّشر والتَّوزيع، قم.
 
 
 
36

 


27

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 يصحبها بعد الموت، أو بما تصحبها حسرةُ التفريط دليلُ وهنِ العقل وعدم إدراكه ما ينبغي أن يعمل لأجله.

 
وأمّا ما يرتبط بعرضه وشرفه، فإنّه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّه قال: "رَحِمَ اللهُ أَخِي سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ مَا كَانَ أَبْخَلَهُ"1، وورد في تفسيره: "مَا كَانَ أَبْخَلَهُ بِعِرْضِهِ وَسُوءِ الْقَوْلِ فِيهِ"، فنفسه لا تسمح له أنْ يسمع في عِرضه شيئاً، فضلاً عمّا هو أكبر من ذلك, لأنّ مَنْ جاد بماله جلّ، ومَنْ جاد بعرضه ذلّ. وورد أَنَّ "أَبْخَلَ النَّاسِ بِمَالِهِ أَجْوَدُهُمْ بِعِرْضِهِ"2، لأنّ حرصه على المال يجعله لا يتورّع عن سلوك أيّ طريق يؤمّن له المال ولو كان عِرضه، نعوذ بالله مِمَّن يصون ماله بعرضه، فالعرض لا يهدى ولا يباع ولا يشترى.
 
والعمر الذي ينبغي أن تكون شحيحاً فيه، عليك أن تستثمر بالأمور الإيجابية، ومن الأمور الإيجابية مؤاخاة الأتقياء فاطلب مؤاخاتهم ولو أفنيت عمرك.
 
بادر إِلَى طلب المؤاخاة
(وَاطْلُبْ مُؤَاخَاةَ الأَتْقِيَاءِ)...
لا تنتظر الفرصة حتّى تسنح، فربما تؤخذ على حين غرّة، والوصية المذكورة تطلب بصراحة من المؤمن أنْ يسعى في طلب الأتقياء والبحث عنهم، وأنْ يجدّ في ذلك، فإنّ الغرض نبيل، وهو العمل على إيجاد رابطة معنوية وعلاقة روحية بينه وبين الأتقياء.
 
أيُّها الأحبة!
لقد وصف الله العلاقة بين المؤمنين عامّة بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾3، إِنَّها 


1 الشَّيْخ الصَّدوق، مُحَمَّد بن علي، علل الشّرائع، ج1، ص71، تقديم: السَّيِّد مُحَمَّد صادق بحر العلوم، منشورات مكتبة الحيدرية 1385ه. ق، النّجف الأشرف.
2 ابن أبي الحديد المعتزلي الشّافعي، شرح نهج البلاغة، ج20، ص328، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، مصوّرة عن الطَّبعة الثَّانية 1385لدار إحياء الكتب العربيّة، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النَّجفي 1404.
3 سورة الحجرات، الآية: 10.
 
 
 
37

28

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 علاقةٌ يجب أن تكون عند توفّر الإيمان ولو بحدّه الأدنى.

 
وهذه العلاقة المذكورة لقربِ تحقّق حصولها، وسهولة الوصول إليها، فكأنّ الله أخذها أمراً مفروغاً عنه في الأوساط المتديّنة، فأخبر عنها بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.
 
وأمّا المؤاخاة مع الأتقياء
فإنّها درجة رفيعة، لا ينالها الشخص بمجرّد أنْ يدخل في رِبقة الإيمان, فإنّ المؤاخاة المقصودة: أشبهُ بعقدٍ يلتزم به طرفان، 
كلّ واحدٍ يؤاخي الآخر، فيسعى التقيّ ليكون قدوةً في العمل، ومناراً في الفكر، وناراً يقتبسُ منها الأخُ جذوةً تنير له درب الحياة الشائكة، والمتلوِّنة حالاً بعد حال.
 
ويسعى الأخُ الطالب للمؤاخاة: أنْ يضبط إيقاع دقّات قلبه على حبّ الله، ونظرات عينه على ما حلّله الله، وحركات جوارحه على طاعة الله، وطرز فكره على ما يحقّق له الفوز بالجنّة، والنجاة من النار، قال تعالى ذكره: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾1.
 
فالناس أجناسٌ... ومعادن كمعادن الذهب والفضّة والحديد... فمنهم من يطلب الدنيا ببيع الآخرة، ومنهم من يطلب الآخرة ببيع الدنيا، ومنهم من يرى أَنَّ الدنيا بُلغةُ الآخرة، وقنطرةٌ موصلةٌ للسعادة الأبدية، وأنّ محلّه ينبغي أن يكون مع الأتقياء والأولياء.
 
فَلْنَسْعَ لنكونَ مع هؤلاء لأجل مؤاخاتهم.
 
لماذا الأتقياء دون غيرهم
بصراحةٍ لأنّ الأتقياء دون غيرهم مشاعِل عالم الأنس، وقادةُ قافلة الوجود، وحلقة الربط بين المادة وما وراءها.



1 سورة آل عمران، الآية: 185.
 
 
 
38

29

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 هم العلماءُ الَّذِين تذكّرك رؤيتهم بالله، فما دُمتَ بينهم... معهم... فأنت مع النُّور السرمدي الأبدي، في حياةٍ لا غفلة فيها عن المعبود: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾1.

 
وبكلمةٍ جامعةٍ لأمير المؤمنين عليه السلام في بيان وصف المتقين: "لِلْمُتَّقِي هُدًى فِي رَشَادٍ وَتَحَرُّجٌ عَنْ فَسَادٍ وَحِرْصٌ فِي إِصْلَاحِ مَعَاد"2.
 
فالمتقي:
1- له هدى ممزوج برشاد وحكمة ومعرفة.
2- يتحرّز ويتجنّبُ الفساد.
3- كما أَنَّه حريصٌ على إصلاح معاده، وإصلاح يومٍ تُرْجَعُ فيه النفوس إِلَى بارئها.
 
المشاق في سبيل الهدف الأسمى
(وَلَوْ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ)...
ما أعظم هذه المؤاخاة للأتقياء، حتى صرتَ مأموراً بطلبها على كلّ حال,
- حتى لو كان الأتقياء في ظلمات الأرض ومتوارين عن الأنظار.
- أو كان طلبك لهم يستلزم منك أن تقطع ظلمات الأرض.
 
فإنّك إذا قمتَ بهذا الطلب عن نيّةٍ سليمةٍ وقلب سليم، وعن إرادة منك للوصول إِلَى الحقيقة المطلقة، فإنّ كلّ هذه المشاق لمّا كانت واقعة في صراط الطاعة, فإنّ كلّ نَفَسٍ وخطوةٍ وعمل يقوم به سيكون مكتوباً عنده تعالى في سجلّ الحسنات.
 
والسبب في ذلك يُعزى لأحد أمرين:
الأوّل: أَنَّ الشروع في المقدمات التي يتوقّف عليها المستحب، يعدُّ في الحقيقة 



1 سورة آل عمران، الآية: 191.
2 اللَّيثي الواسطي، علي بن مُحَمَّد، عيون الحكم والمواعظ، ص 403، تحقيق الشَّيْخ حسين الحسني، الطَّبعة الأُولى 1376ش، دار الحديث، قم.
 
 
39

30

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 شروعاً في المستحب نفسه عند العرف. لأجل هذا سيؤجر على البحث عن الأتقياء وطَلَبِهم الَّذِي هو مقدمة للمؤاخاة.

 
الثاني: أَنَّ العمل الواحد, تارةً: يقع في الخارج من البعض دون مشقات، كمن يحجّ وهو من أهل مكة. وأخرى: لا بدّ من تحمّل مشقاتٍ كالحج من مكانٍ بعيد.
 
لا شكّ أَنَّ الحاج من مكان بعيد يؤجر أكثر من الآخر عادة, لقاعدة: (أَنَّ أفضل الأعمال أحمزها)، وهكذا من يطلب مؤاخاة الأتقياء، وكلّفه ذلك صَرْف الجهد، وبذل المال، وتحمّل المشاق، فإنّ كلّ ذلك يؤجر عليه، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾1.
 
طلبٌ أغلى من العمر
(وَإِنْ أَفْنَيْتَ عُمُرَكَ فِي طَلَبِهِمْ)...
أيُّها العزيز! اطلب مؤاخاة الأتقياء وإنْ أفنيت عمرك في طلبهم، فإنّ عمر الإنسان هو رأس ماله الَّذِي لا يعادله شيء، ويحرص على البقاء في الدنيا عمراً طويلاً لو استطاع لذلك سبيلاً، وينفق لأجل ذلك كلّ غالٍ ونفيس.
 
وهذا الحديث يشير بصراحةٍ إِلَى أَنَّ البحث عن الأتقياء ومؤاخاتهم يستحقّ أنْ يَصْرِف المرءُ عليه تمامَ رأس ماله، وأغلى ما عنده، وهو العمر.
 
إِنَّها تجارةٌ رابحة أرشدهم إليها ربّهم، إنّه الربح الوفير، والخير العميم.
 
والسبب في هذا الجود بالعمر ما ورد في هذا الحديث: "فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْلِ عَلَى َوجْهِ الأَرْضِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ"2.



1 سورة التوبة، الآية: 120.
2 مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، (المنسوب للإمام الصادق)، ص150، ط.أولى، الأعلمي، بيروت 1980.
 
 
 
40

31

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 كما ورد فيه تعليلٌ آخر: "وَمَا أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَى العَبْدِ بِمِثْلِ مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنَ التَّوْفِيقِ بِصُحْبَتِهِم"[1].

 
وباختصار, إِنَّ الأتقياء:
1- زبدة أَهل الأرض بعد النبيين.
2- صحبتهم سببٌ ضروريّ ومهمّ للتوفيق والنعمة الكبرى.
 
ولأجل هذين السببين، لو صرف عمره في طلبهم ـ لأجل مؤاخاتهم ـ لم يكن خاسراً، بل كان هو الرابح في هذه الصفقة.
 
تبصرةٌ وذكرى
في هذه الوصية معانٍ أُخر يمكن أن تستفاد بالتأمّل والتدبّر فيها، كالحثّ على السعي لمعرفة تالي المعصوم مصداقاً، ولو كانت النسبة بينه وبين المعصوم لا تقاس علماً ومعرفة وتقى, فإنّ فعلية التوفيق متوقفة على صحبتهم.
 
والذي يظهر من (الصحبة) معنى أَكبر من مجرّد التعرُّف على اسمه ورسمه، أو قراءة بعض ما ألّف من كتب, لأنّ الصحبة قد أُخذ فيها نوعٌ من التعايش والمخالطة عن قُربٍ وما أشبه ذلك.
 
ويمكن أن تكون هذه الوصية ناظرة إِلَى بيان لزوم معرفة الإِمام في كلّ زمان, فإنّه مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية. فعندئذ يستحِقُّ من المرء أنْ يقدّم أغلى ما عنده في طلب معرفته ومؤاخاته والاستفادة منه.



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص282.
 
 
 
41

32

الدرس الثالث: مؤاخاة الأتقياء

 

42


33

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان




مفاهيم محورية:
- وصايا المعصومين عليهم السلام خطابٌ مباشرٌ لنا.
- الغفلة عن كلامهم توجب أذيتهم عليهم السلام.
- قضاء حوائج المؤمنين من أعظم الجهاد.
- قضاء حوائج المؤمنين.
- الاستهانة بحقوق الإخوان توجب عذاب الأمة.
 
 
 
43

34

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 نصُّ الوصيّة:

رَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعْبَةَ فِي تُحَفِ الْعُقُولِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ جُنْدَبٍ: "يَا ابْنَ جُنْدَبٍ الْمَاشِي فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَالسَّاعِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَاضِي حَاجَتِهِ كَالْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ الله يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَمَا عَذَّبَ الله أُمَّةً إِلَّا عِنْدَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِحُقُوقِ فُقَرَاءِ إِخْوَانِهِمْ...1.
 
تمهيد
هناك مسألة مهمة ينبغي للمؤمن أن يتنبّه إليها، وهي مسألة لها دور كبير في طريق تطوّره ورقيّه الروحي والنفسي والمعنوي، وهذه المسألة هي كيفية تعاطي الإنسان المؤمن مع النصوص الشرعية وكيفية تلقّيه لها، سيّما الأخبار والروايات والوصايا الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، فإنَّ طريقة تلقّي الإنسان المؤمن لكلام أهل البيت عليهم السلام والكيفية التي بها يسمع ويتلقف كلامهم لها دورٌ كبيرٌ وأساس في تفاوت الناس من حيث مراتب الاستفادة والتأثر والتفاعل مع كلماتهم عليهم السلام.



1 ابن شعبة الحرّاني، الحسن بن علي، تحف العقول عن آل الرَّسول، ص291، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفّاري، الطَّبعة الثَّالثة 1404، مؤسسة النَّشر الإسلامي التَّابعة لجماعة المدرّسين، قم.
 
 
 
45

35

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 وصايا المعصومين عليهم السلام خطابٌ مباشرٌ لنا

للمؤمن مع كلام أهل البيت عليهم السلام حالتان: فتارة هو يتلقّى كلام أهل البيت عليهم السلام ويستمع له من باب أنّه قصص الأولين وأنّه كلام قيل لغيره، وهو إنما يستمع إليه لما فيه من حكمة وعبرة حصلت في الزمان الغابر لا تتصل به ولا تعنيه بشكل مباشر، إلا أنّه يستأنس بها، وبما فيها من حكاية عن أحوال أهل ذلك الزمان، وفي أحسن الأحوال تراه ينقلها لأهله ومجتمعه كشواهد أخلاقية وحكايات ونصائح تحكي عن المجتمع أو الفرد المثالي.
 
وتارة يكون المؤمن ملتفتاً وفاهماً ومستوعباً إلى أَنَّ كلامهم عليه السلام يُمثّل خطاباً مباشراً له، فالإمام المعصوم عليه السلام يُخاطبه بشخصه، وناظرٌ إليه بخصوصه ومراقب له ومنتظر منه الامتثال لهذه التوجيهات التي خاطبه بها كأحسن ما يكون الانقياد والامتثال.
 
وبين هاتين الحالتين اختلافٌ كبيرٌ في كيفية التفاعل والتأثّر بكلامهم، ففي الحالة الثانية سيكون التأثير كبيراً لكلامهم عليه السلام على روحية المؤمن، بحيث يكون كلامهم عليه السلام بالنسبة إليه النور والدستور والطريق التي سوف يسير على أساسه في حياته ويتفاعل به مع مَن هم حوله، وسوف يؤدّي الانقياد التام إلى توجيهاتهم عليه السلام والشعور الدائم بأنّه تحت نظرهم ورقابتهم عليه السلام إلى السعي نحو نيل أعلى مراتب الكمال، والرقي في أشرف منازل الورع والتقوى, ليكون بذلك من المقرّبين لديهم عليه السلام.
 
الغفلة عن كلامهم توجب أذيتهم عليه السلام
أمّا في الحالة الأولى وما شابهها من حالات الغفلة والسهو عن كلام أهل البيت عليهم السلام، فإنّ المؤمن في تلك الحال يكون من أكبر الغابنين لنفسه، ومن أكثر الخاسرين لأعظم الفرص والمفرّطين بأقدس الكنوز، وفوق ذلك كلّه يكون الغافل
 
 
 
46

36

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 الساهي ممن يُسبّب الأذى للمعصومين عليهم السلام، ويُدخل الحزن على قلوبهم الشريفة، ويجعل كلامهم في معرض التوهين بإهماله وتهاونه بقداسة ما يصدر عنهم عليه السلام، وقد روي أنّه حضر عند الإمام الباقر عليه السلام ذات يوم جماعة من الشيعة، فوعظهم وحذّرهم وهم ساهون لاهون، فأغاظه ذلك، فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه إليهم فقال: "إِنَّ كلامي لو وقعَ طرفٌ منه في قلبِ أحدِكم لصار ميتاً، ألا يا أشباحاً بلا أرواح وذباباً2 بلا مصباح، كأنّكم خشبٌ مسندةٌ وأصنامٌ مريدة، ألا تأخذون الذهبَ من الحجر؟ ألا تقتبسون الضياء من النور الأزهر؟ ألا تأخذون 

اللؤلؤ من البحر؟... ويحك يا مغرور ألا تحمد مَنْ تعطيه فانياً ويعطيك باقياً... كأنّك قد نسيت ليالي أوجاعك وخوفَك، دعوته فاستجاب لك، فاستوجب بجميل صنيعه الشكر، فنسيته فيمن ذكر، وخالفته فيما أمر، ويلك! إنّما أنت لصٌّ من لصوص الذنوب، كلّما عرضت لك شهوة أو ارتكاب ذنب سارعت إليه وأقدمت بجهلك عليه، فارتكبته كأنك لستَ بعين الله، أو كأنَّ الله ليس لك بالمرصاد..."2.
 
قضاء حوائج المؤمنين من أعظم الجهاد
وبالعودة إلى وصية الإمام الصادق عليه السلام نقول: إِنَّ المتأمّل في أحكام الشريعة بشكلٍ عامّ يجد أَنَّ المولى سبحانه وتعالى قد وضع المؤمن في حالة من الجهاد دائم، فلا تكاد تخلو حالة من أحوال المؤمن لا يكون فيها على جهاد في سبيل الله، فالمؤمن إمّا مشغولٌ بالجهاد الأكبر ومنكبٌّ على محاربة نفسه التي بين جنبيه، وإمّا هو مجاهد في خدمة الدين والمجتمع والإخوان، وينبغي أنْ نلتفت إِلَى أَنَّ المؤمن لا يجدر به أن يتهاون في بعض مسائل الشريعة استصغاراً منه لها، أو ظناً بأنّها أصغر من غيرها شأناً وأقل منها قيمة وأثراً في نظر المولى تعالى، فإنَّ هذا خطأٌ 



1 في بعض النُّسخ: ذبالاً، وهي: فتيلة المصباح.
2 تحف العقول عن آل الرَّسول، ص290، مرجعٌ سابق.
 
 
 
47

37

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 كبيرٌ سببه الجهل بأحكام المولى تعالى، ووقوع المؤمن فيه شيءٌ خطيرٌ، قد يؤدّي به فيما بعد إلى ما لا تحمد عقباه، وفي 

أقل الأحوال يكون خارجاً عمّا شرّعه له مولاه ومخالفاً له في ما يحبه له ويريده منه، فضلاً عمّا فيه من مفاسد أخرى قد 
تطال الفرد والمجتمع.
 
ومن جملة هذه الأبواب العظيمة التي جعلها الله تعالى سبباً ومغنماً في الدنيا، وتوجب لمن عمل بها الأمن والنجاة في الآخرة، هي مسألة قضاء حوائج المؤمنين.
 
ولذا جاء التأكيد عليها في الكثير من الروايات منها: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "احرصوا على قضاء حوائج المؤمنين وإدخال السّرور عليهم ودفع المكروه عنهم فإنّه ليس من الأعمال عند الله عزّوجلّ بعد الإيمان أفضل من إدخال السّرور على المؤمنِين"1.
 
وهذه المسألة من ضمن المسائل التي كانت عرضة للغفلة والتهاون، حيث يغفل المؤمنون عن أهميتها أحياناً أو يقع منهم التهاون بها, ظناً منهم أَنَّ غيرها من الأمور العبادية قد تفوقها أهمية بحسب نظرهم القاصر، فاحتاج أهل البيت عليهم السلام إلى التنبيه على أهمّيتها والحثّ عليها، فجعلوها في ضمن وصاياهم التي تركوها للأمة, إشارة منهم إلى ضرورة عدم خلو المجتمع الديني منها، وبيّنوا عظيم الأثر والثواب المترتّب عليها، وعظيم الخطر والفساد المترتّب على تركها, لأنَّ أحكام الشريعة المقدّسة يكمّل بعضها بعضاً فلا تحصل النتيجة الكاملة المرجوة منها فيما لو وقع التهاون والإهمال في بعضها، فالمداومة ـ مثلاً ـ على الصلاة والصوم والحج من جهة، وإغفال قضايا الناس وحوائجهم من جهة أخرى، يُعطي نتيجة ناقصة في مجال تطبيق الشريعة، وهذا خلاف غرض الله تعالى من جعل التكاليف.
 
فقد روى الكليني قدس سره عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: "كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام فَعَرَضَ لِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا كَانَ سَأَلَنِي الذَّهَابَ مَعَهُ فِي حَاجَةٍ فَأَشَارَ إِلَيَّ فَكَرِهْتُ 



1 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ص313 ، ج71.
 
 
 
48

38

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 أَنْ أَدَعَ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام وَأَذْهَبَ إِلَيْهِ فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ إِذْ أَشَارَ إِلَيَّ أَيْضاً فَرَآهُ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام فَقَالَ يَا أَبَانُ إِيَّاكَ يُرِيدُ هَذَا، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ: هُوَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَاذْهَبْ إِلَيْهِ، قُلْتُ: فَأَقْطَعُ الطَّوَافَ، قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَإِنْ كَانَ طَوَافَ الْفَرِيضَةِ، قَالَ: نَعَمْ..."1.

 
ومن هنا ينبغي للمؤمنين إعادة النظر فيما قد يصدر عنهم في هذا المجال مما قد يكون مصداقاً لهذه الشبهة، فكثيراً ما نشاهد ونسمع من بعض المؤمنين أنّهم قد يعتذرون عن خدمة إخوانهم، فيعطّلون قضاء حوائجهم بمثل الانشغال بالصلاة أو الاعتكاف أو الزيارة وما شاكل ظناً منهم أَنَّ هذا أهمّ من ذاك، في حين أَنَّ رضا الله تعالى في هذه الحالات كان في غير ما توهّموه بحسب ما ورد في الرواية، فكيف بمن يعتذر ويتعلّل بما هو أقلّ من ذلك، فيهمل حوائج إخوانه طلباً للراحة والرخاء مثلاً ؟!!
 
الاستهانة بحقوق الإخوان توجب عذاب الأمة
إِنَّ الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي لهذا الكون، وهو سبحانه مالك الدين وصاحب الشرع، وبيده التصرُّف في الثواب والعقاب، وبيده أن يجعل الثواب الجزيل والخير الكثير على الأمور التي قد تكون بنظرنا القاصر مجرّد أمور صغيرة قليلة الأهمية، وبيده سبحانه أن يجعل العقاب الخطير والعذاب الأليم على أمور قد تكون حقيرة وتافهة بنظرنا القاصر الضعيف، ولذلك فإنَّ الميزان الصحيح الذي يعصمنا عن الخطأ في تقدير موقفنا وتكليفنا في هذا المقام هو أن ننظر ونراقب اهتمام المولى تعالى في ما يأمرنا به وينهانا عنه، ومن خلال اهتمام المولى بالشيء نستكشف أهميته في الشريعة، 
ولا يجوز لأحدٍ من المكلفين أن يستقلّوا بأن يقرّروا بأنفسهم ما هو الشيء المهم وما ليس كذلك، فمن قول الإمام عليه 
السلام: "الْمَاشِي 



1 الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص171، ح 8، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
 
 
 
49

39

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 ِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَالسَّاعِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَاضِي حَاجَتِهِ كَالْمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ الله يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَمَا عَذَّبَ الله أُمَّةً إِلَّا عِنْدَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِحُقُوقِ فُقَرَاءِ إِخْوَانِهِمْ..." نستكشف أهمية وخطورة مسألة قضاء حوائج المؤمنين عند المولى، وأنّ غرضه هو انتشار هذه الظاهرة في المجتمع الإيماني، والمبالغة في الاهتمام بها، والحثّ عليها حتى جعل لها هذه الآثار الخطيرة والكبيرة، فأعطى لمن امتثل ثواب أكبر وأقدس شهداء الإسلام، وجعلها كالتصدي للجهاد في معارك مفصلية وأساسية في تاريخ الإسلام، ولولاها لما قامت للدين قائمة، وجعل من آثار إهمالها والاستهانة بها نزول العذاب على الأُمّة التي تهمل هذه القضية الخطيرة عنده تعالى، فلا تعمل على نشرها وترويجها، وجعلها من الظواهر التي يبتني عليها المجتمع المؤمن.


بل إِنَّ الظاهر من قول الإمام عليه السلام: "وَمَا عَذَّبَ الله أُمَّةً إِلَّا عِنْدَ اسْتِهَانَتِهِمْ بِحُقُوقِ فُقَرَاءِ إِخْوَانِهِمْ" أَنَّ الاهتمام بحقوق الإخوان موجبٌ لتأخير نزول العذاب على الأمة المستحقة للعذاب، مع أَنَّ الأمم لا تستحق نزول العذاب عليها إلا بارتكابها لأشياء كبيرة وخطيرة كالكفر والتجبّر والعصيان للمولى، إلا أَنَّ المولى تعالى يعطيها المزيد من الفرص ويؤخّر عنها ما تستحقه من عذاب ما دامت محافظة على مسألة حقوق فقرائها، ويسعى أهلها في قضاء حوائج بعضهم، فإذا فرّطوا في ذلك أيضاً أنزل الله تعالى عليهم العذاب, لأنّه لم يعد بينهم وبين العذاب حاجب.

فالله تعالى قد يتجاوز ويؤخّر عقاب الكافر المشرك لأجل أن يعطيه المزيد من الفرص، وليُظهر له أنّه يحبّ له أن يدخل في الدين لأجل ما عنده من صفات حسنة يحبها الله تعالى ويحبّ أن يراها في المجتمع الإيماني، كما وقع للكافر الذي كان يتآمر مع جماعة على اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأطلع الله نبيه على ذلك، فأرسل صلى الله عليه وآله وسلم إليهم علياً عليه السلام فقاتلهم وجاء بهم أسارى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقدمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعرض الإسلام على الأول فأبى، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام بقتله فقتله، ثم عرض على الثاني 
 
 
50

40

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 كذلك فأبى، فقُتل أيضاً، فلما وصل إلى الثالث الذي أبى الإسلام أيضاً فوضعه علي عليه السلام تحت السيف ليضربه "فهبط جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد إِنَّ ربك يقرئك السلام ويقول لك: لا تقتله فإنّه حسن الخلق، سخيٌّ في قومه، فقال الرجل وهو تحت السيف: هذا رسول ربك يخبرك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، فقال: والله ما ملكت درهماً مع أخٍ لي قط إلا أنفقته، ولا تكلمت بسوء مع أخ لي، ولا قطبت وجهي في الجدب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: هذا ممّن جرّه حسن خلقه وسخاؤه إلى جنات النعيم"1




1 الشيخ الصدوق، الخصال، ص 96، ح41، تصحيح: علي أكبر غفاري، سنة الطبع 1403، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، جماعة المدرسين، قم المقدسة.
 
 
51

41

الدرس الرابع: قضاء حاجة الإخوان

 

 

52


42

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله



مفاهيم محورية:
- حقيقة الظُّلم.
- ظلم مَنْ لا ناصر له.
- جزاء الظلم في العاجلة قبل الآجلة.
- قصّةٌ فيها عبرة (هند والحجّاج).
 
 
53

43

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 نصُّ الوصيّة:

روى ثقة الإسلام الكليني قدس سره بإسناده إِلَى أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: "لَمَّا حَضَرَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام الْوَفَاةُ ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ بِمَا أَوْصَانِي بِهِ أَبِي عليه السلام حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَبِمَا ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَوْصَاهُ بِهِ، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا الله"[1].
 
خصائص هذه الوصية:
تمتاز هذه الوصيّة بمجموعةٍ من الخصائص تؤكّد على أهميّتها ولزوم العمل بها:
منها: أَنَّها صدرت عن معصوم خبيرٍ بشؤون النفس البشرية، كخبرةِ الطبيب الحاذق والحكيم الماهر، وقد جاء في نهج البلاغة لسيِّد الفصحاء والمتكلمين يصف طبيب النفوس من نبيٍّ أو وصيٍّ بأنَّه: "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ"[2]. فكما أَنَّ المريض في الأمراض



1 الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ص2، ج331، ح 5، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
2 نهج البلاغة، ص120، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
 
 
 
55

44

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 الجسدية يحاول أن يرجع إِلَى أفضل الأطبّاء في التشخيص والمعالجة، فلا بدّ له في الأمراض المعنوية والعلل النفسية أنْ يرجع إِلَى مَنْ كان مطّلعاً على خصائص النفس البشرية، ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بخالق النُّفوس، ومَنْ هو أفضلُ من المعصوم عليه السلام في ذلك؟


ومنها: تكرُّر هذه الوصيّة من أكثر من معصوم, حيث تقدّم في نصِّ الوصيّة أَنَّ الإِمام السجاد عليه السلام أوصى ولده 
بها، وأخبره أَنَّها وصيّة الإِمام الحسين عليه السلام له أيضاً. ولا يخفى ما في هذا التَّكرار من الاهتمام من قِبَلِهم عليه السلام بمضمون هذه الوصيّة، وشدّة حرصهم عليها، ورغبتهم في تحقيقها.

ومنها: أَنَّها صدرت في لحظة حضور الوفاة، تلك المرحلة التي يكون فيها الإنسان بعيداً كلّ البعد عن التأثيرات الدُّنيوية، والأهداف الشخصانية، كيف وهو مزمعٌ على الرحيل، ومنصرفٌ إِلَى المثول بين يدي الجبّار الَّذِي لا تخفى عليه خافية، وهو عليمٌ بذاتِ الصدور! وكيف إذا اجتمع ذلك مع كونه معصوماً لا ينطق عن أهواء نفسانية ووسوساتٍ شيطانية.

ومنها: كونها إشفاقية، كما يستفاد ذلك من قوله: (ضَمَّنِي إِلَى صَدْرِهِ)، ولا يخفى أَنَّ شفقة الموصي على الموصَى له أدخل في تقبُّل النفس.

ومنها: اشتمالها على التحذير، كما يفهم من تصديرها بكلمة: (إِيَّاكَ)، الأمر الَّذِي يدلُّ على خطورة مضمونها، وكونه أمراً لازم الاجتناب.

والحاصل: أيُّها الحبيب، أنت مقبلٌ على الاستماع إِلَى وصيِّةٍ صادرةٍ من إمام معصومٍ خبيرٍ بنفوسنا وطبيب لأسقامنا، يهمُّه أمرنا، ويشفقُ على حالنا، ويريد منَّا أنْ نحذر من عاقبةِ هذا الأمر الخطير الَّذِي يدعونا إِلَى الابتعاد عنه. فهلّا أقبلت بآذانٍ صاغية، وجوارح مطيعة!
 
 
 
56

45

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 حقيقة الظُّلم

الظُّلم الَّذِي هو من ألأم الرذائل كما ورد في الخبر1، قد اهتمّ علماء الأخلاق في تعريفه وبيان حدوده، ويمكن تلخيص 
ذلك بعبارةٍ جامعة:
إِنَّه الاعوجاج في الطريق، والخروج منه يمنةً ويسرةً، وعدم الاستقامة في العمل، ويختصر ذلك بقولهم: (جعل الشيء في غير موضعه). كما أَنَّ حقيقة العدل الَّذِي يقابله: عبارة عن الاستواء والاستقامة في جادة الشرع، وعدم الخروج منها يمنة ويسرة، وهو المعبّر عنه بـ (وضع كلّ شيء في موضعه).
 
وعليه، فالتجاوز والإضرار المحض الَّذِي لا نفع يترتّب عليه، ولا يكون لأجل دفع ضرر أعظم، في العاجل أو الآجل، يكون ظلماً.
 
والظلم بهذا المعنى يتناول جميع ذمائم الصفات والأفعال، فتمكين الظالم من ظلمه لمّا كان صفة ذميمة يكون ظلماً، كما أَنَّ تمكين الظالم من النفس والانقياد له نوعٌ من الذّلة، وهذا ظلمٌ للنفس، وظلم النفس من أقسام الظلم2.
 
ظلم مَنْ لا ناصر له
من أقبح أنواع الظلم وأشدّها عقاباً عند الباري عزّ وجلّ هو: (ظُلْمَ مَنْ لَا يَجِدُ عَلَيْكَ نَاصِراً إِلَّا الله) كما ورد في نصّ الوصية. وقد سُئِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: أَيُّ ذَنْبٍ أَعْجَلُ عُقُوبَةً لِصَاحِبِهِ؟ فَقَالَ: "مَنْ ظَلَمَ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ إِلَّا الله"3، ومن هنا رُوي عنه عليه السلام أيضاً: "ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ"4.



1 انظر: اللَّيثي الواسطي، علي بن مُحَمَّد، عيون الحكم والمواعظ، ص51، تحقيق الشَّيْخ حسين الحسني، الطَّبعة الأُولى 1376ش، دار الحديث، قم.
2 راجع: النراقي، الملا محمد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص83، تحقيق وتعليق: السَّيِّد محمد الكلانتري، تقديم: الشَّيْخ محمد رضا المظفّر، نشر: دار النعمان، الطبعة الرابعة. محاضرات في أصول الفقه (تقرير بحث السَّيِّد الخوئي) ج2، ص103، الطبعة الأولى 1419، نشر: مؤسسة النشر الإسلامية التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
3 المحدّث النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج12، ص102، نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الأُولى 1408، بيروت.
4 نهج البلاغة، ص345، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
 
 
 
57

46

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 وطبيعيٌّ جدّاً أَنَّ الباري ينصرُ المظلوم سواء كان قوياً أم ضعيفاً إِلَّا أَنَّ نصره للضعيف آكد وأشدّ، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّه قال: "الْعَبْدُ إِذَا ظُلِمَ فَلَمْ يَنْتَصِرْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَنْصُرُهُ رَفَعَ طَرَفَهُ إِلَى السَّمّاِء فَدَعَا اللهَ تَعَالَى، قَالَ جَلَّ جَلَالَهُ: لَبَّيْكَ عَبْدِى أَنْصُرَكَ عَاجِلاً وَآَجِلاً اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَى مَنْ ظَلَمَ أَحَداً لَا يَجِدُ نَاصِراً غَيْرِي"1، وقد حُكِي أَنَّ ظالماً ظلم ضعيفاً أعواماً، قال المظلوم للظالم يوماً: إِنَّ ظلمك عليَّ قد طاب بأربعة أشياء:إِنَّ الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والديّان يحكم بيننا.

 
جزاء الظلم في العاجلة قبل الآجلة
فيما رُوي من الشعر عن سيّد الساجدين الإِمام عليّ بن الحسين عليه السلام أَنَّه قال:
لا تظلِمَنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً          فالظُّلم آخره يأتيك بالندمِ
نامت عيونك والمظلوم منتبهٌ         يدعو عليك وعين الله لم تنمِ
 
والتجارب البشريّة لمسيرة الظالمين تشهد بأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يهملهم، بل ولم يمهلهم بشكلٍ تامٍّ في العقاب والعذاب إِلَى يوم الجزاء الأكبر، بل انتقم منهم في هذه الدُّنيا الزائلة، ولا أقلّ بانكشاف ظلمهم وانفضاحهم أمام الناس.
 
ولذا نجد الحثَّ على اجتناب الظُّلم ولو كان صغيراً، أو كان لغير الإنسان أَيضاً، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول صادعاً بالحقّ: "وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَن أَعْصِيَ الله فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا مَا لِعَلِيٍّ وَلَنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى"2.



1 انطر: المولى المازندراني، محمد صالح، شرح أُصول الكافي، ج9، ص360، تحقيق: أبو الحسن الشعراني، الطبعة الأولى 1382هـ، نشر: المكتبة الإسلامية، طهران.
2 نهج البلاغة، ص265.
 
 
 
58

47

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 قصّةٌ فيها عبرة (هند والحجّاج)

يُحكى أَنَّ هند بنت أبيها كانت أحسن أهل زمانها، فوصف للحجّاج حسنها. فأرسل إليها يخطبها، وبذل لها مالاً كثيراً وتزوج بها. ووضع لها صداقاً مئتي ألف درهم ودخل بها. ثُمّ إِنَّ الحجّاج رحل إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله، واطّلعت على شديد ظلمه وسوء خلقه. فدخل عليها يوماً وهي تنظر في المرآة وتنشد شعراً:
وما هند إِلَّا مهرةً عربيةً         سليلة أفراس تحلّلها بغلُ
فإنْ ولدت فحلاً فللَّه درّها     وإنْ ولدت بغلاً فجاء به البغلُ
 
فانصرف الحجّاج ولم يدخل عليها. ولم تكن قد علمت به. فأراد أن يطلّقها، فأرسل لها صداقها، وقال للرسول: "طلّقها بكلمتين ولا تزد عليهما". فدخل عليها الرسول فقال لها: "كنتِ فبنتِ" ـ أي: كنتِ زوجةً وأصبحتي بائناً ـ وهذه المئتا ألف درهم. فقالت له: اعلم يا ابن طاهر: إنَّا ـ والله ـ كنّا فما حمدنا، وبِنّا فما ندمنا، وهذه المئتا ألف درهم التي جئت بها بشارة لك بخلاصي من كلب ثقيف.
 
ثم بلغ الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان خبرها، ووُصِف له جمالها، فأرسل إليها يخطبها. فكتبت بعد الثناء عليه: "يا أمير المؤمنين ـ والله ـ لا أحلّ العقد إلا بشرط، فإنْ قلت ما هو الشرط؟ قلت: أنْ يقود الحجّاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون ماشياً حافياً بحليته التي كان فيها أولاً".
 
فلمّا قرأ عبد الملك ذلك الكتاب ضحك ضحكاً شديداً، وأنفذ أمره إلى الحجّاج وأمره بذلك فامتثل الحجّاج للأمر ولم يخالف. وسار في موكبه حتى وصل المعرّة بلد هند، فركبت هند محمل الزفاف، وركب حولها جواريها وخدمها، وأخذ الحجّاج بزمام البعير يقوده ويسير بها. فأخذت هند تقول:
 
 
 
59

48

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 وما نبالي إذا أرواحنا سلمت        بما فقدناه من مال ومن نشب

فالمال مكتسبٌ والعزّ مرتجعٌ        إذا النفوس وقاها الله من عطب
 
ولم تزل كذلك إلى أن قربت من بلد الخليفة، فرمت بدينار على الأرض ونادت: يا جمّال، إنّه قد سقط منّا درهمٌ فارفعه لنا. فنظر الحجّاج إلى الأرض فلم يجد درهماً، فقال: إنّما هو دينار. فقالت: بل هو درهم. 
 
فقال: بل دينار. فقالت: الحمد لله، سقط منّا درهم فعوّضنا الله بدينار. فخجل الحجاج وسكت1.
فانظر ـ أيّدك الله تعالى ـ لطاغيةٍ مثل الحجّاج قد أذلّه الله في الدُّنيا على يدِ امرأةٍ ضعيفةٍ لا تملك من أمرها شيئاً، بعد أنْ كان متجبّراً ظالماً، لا تأخذه في سبيل شهواته ونزواته رأفةً بأحدٍ من عباد الله.
 
وهذه هي حال كلّ ظالم في هذه الحياة الدُّنيا، وفي مقابل ذلك فإنّ الله تعالى يعطي المؤمن من عباده المظلومين في هذه العاجلة قبل الآجلة ما يعوّضه فيها عن بعض الظّلم الَّذِي وقع عليه صابراً محتسباً.
 
ومن عبر الأيام الخالدة، أنْ مرّ ـ ذات يوم ـ الأديب السوري المعروف، الأستاذ محمد المجذوب، بقبر معاوية فرآه كومة من 
التراب المهين، يغطيه الذّباب فصدم لمرآه، وقارن ذهنه بينه وبين قبر أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في النجف الأشرف، ثمّ لم يتمالك نفسه فقال مخاطباً معاوية بقصيدة عصماء أنقل بعض الأبيات منها
 
أينَ القصورُ أبا يزيد ولهوها                والصافنات وزهوها والسؤدد
أين الدهاء نحرت عزّته على                أعتاب دنيا سحرها لا ينفد
تلك البهارج قد مضت لسبيلها               وبقيتَ وحدك عبرةً تتجدد
هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه              لأسال مدمعك المصير الأسود



1 انظر: الأبشيهي، شهاب الدين محمد بن أحمد، المستطرف في كلّ فنٍّ مستظرف، نشر: دار ومكتبة الهلال.
 
 
 
60

49

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 كِتَلٌ من الترب المهين بخربة          سكر الذباب بها أفراح يعربد 

خفيت معالمها على زوّارها            فكأنّها في مجهل لا يقصد
أأبا يزيد لتلك حكمة خالق              تجلّى على القلب الحكيم فيرشد
أرأيت عاقبة الجموح ونزوة           أودى بلبّك غيّها المترصد
أغرتك بالدنيا فرحت تشنها            حرباً على الحقّ الصراح وتوقد
تعدو بها ظلماً على من حبّه           دين وبغضته الشقاء السرمد
أأبا يزيد وساء ذلك عترة              قم وارمق النجف الشريف بنظرة 
تلك العظام أعزّ ربّك قدرها           ماذا أقول وباب سمعك موصد
يرتدّ طرفك وهو باك أرمد            فتكاد لولا خوف ربك تعبد
 
 
 
61

50

الدرس الخامس: التحذير من ظلم مَنْ لا يجد ناصراً إِلا الله

 

 

62


51

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان



مفاهيم محورية:
- وقفةٌ مع لغة الموعظة.
- وقفةٌ تأمّليّة في مضمون الموعظة.
- الأعضاء والجوارح تستكفي اللّسان.
- اللّسان أكثر الجوارح عذاباً.
- لماذا الحثُّ على الصمت؟!!
- الصمت دليل الحكمة.
- الكلام في خير أفضل من الصمت.
- قصةٌ وعِبْرَة.
 
 
 
63

52

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 نصُّ الوصيّة:

روى الكليني قدس سره في الكافي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: "أَمْسِكْ لِسَانَكَ، فإنّها صَدَقةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ. ثُمَ قال:وَلا يَعْرِفُ عَبْدٌ حَقِيْقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ"1.
 
وقفةٌ مع لغة الموعظة
للإمساك معانٍ عديدة، منها: أمسكه بيده، أي: قبض عليه، وأمسك عن كذا، أي: امتنع عنه وكفّ، ويُقال: أمسك لسانك، أي: امتنع عن الكلام وكفّ عنه. وقد اعتبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الإمساك عن الكلام صدقة يتصدَّقُ بها المرءُ على نفسه، فقال: "فإنّها صدقةٌ"، والضمير راجعٌ إلى الإمساك، والتأنيث بتأويل الخصلة، أي: أنَّ خصلة وعادة الإمساك عن الكلام والصمت حين لا يلزم الكلام خصلةٌ ممدوحةٌ وصدقةٌ تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة، حالها حال الصدق في القول، فإنَّهُ يدفعُ البلايا ويُقرّبُ من الربّ، وهذا يكون عندما "يَخْزِنَ مِنْ لِسَانِهِ"، أي: يمنع ويمسك ويكفّ لسانه عن ارتكاب اللغو والكذب والنميمة والغيبة والفاحش من الكلام والشتم وما شابه ذلك من كلامٍ بغير حقّ.



1 الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص114، باب: الصمت وحفظ اللسان، ح 7، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
 
 
 
65

53

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 وقفةٌ تأمّليّة في مضمون الموعظة

تعلّقت المشيئة الإلهيّة المقدّسة بخلق الخلائق وإسكانها أرضه التي جعلها مهبطاً لهم، وقد فضَّل ـ عزّ وجلّ ـ بعض خلقه على البعض الآخر، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾1، جاعلاً هذا الإنسان المُكرّم والمفضّل خليفته في الأرض فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً...﴾2، حتّى أنَّهُ ـ تبارك وتعالى ـ جعله مسجود الملائكة، فقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾3.
 
ولو أردنا البحث عن أسباب هذا التفضيل والإكرام لوجدنا أنَّ أقوى تلك الأسباب هو العقل والفهم الذي يمتاز به الإنسان عن غيره من الحيوانات والعجماوات، ففي تعريف المناطقة للإنسان يقولون: (الإنسانُ حيوانٌ ناطقٌ)، وقالوا إنَّ 
مرادهم من (الناطقيّة) في تعريفهم هو التعقّل والتفكّر والفهم والإدراك، وبهذا يكون قوام إنسانيّة الإنسان بعقله وفكره وفهمه وإدراكه.
 
هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى قالوا إنَّ الله عزّ وجلّ كما خلق الإنسان مفطوراً على التفكير فإنَّهُ كذلك خلقه مفطوراً على النطق، بمعنى أنَّهُ يملك القدرة على التكلُّم والتعبير عن مراداته المكنونة في صقع نفسه، وأنَّه جعل اللّسان آلةً ينطق بها4، وقد ورد عن أمير البيان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنَّهُ قال: "مَا الإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ إِلَاْ صُوْرَةٌ مُمثَلَة، أو بَهِيمَةٌ مُهْمَلَةٌ"5، و"اللِّسَانُ مِيْزَانُ الإِنْسَانِ"6،



1 سورة الإسراء، الآية: 70.
2 سورة البقرة، الآية: 30.
3 سورة الأعراف، الآية: 11.
4 المظفّر، محمّد رضا، المنطق، ص11، تحت عنوان: الحاجة إلى المنطق، الطَّبعة الثَّالثة 1414، دار التعارف للمطبوعات، بيروت.
5 الآمدي، عبد الواحد التميمي، غرر الحكم، ص209، ح4029، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
6 م. ن، ص209، ح4021.
 
 
 
66

54

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 و"الإِنْسَانُ لُبُّهُ لِسَانُهُ، وَعَقْلُهُ دِينُهُ"1، و"كَلَامُ الرَجُلِ مِيْزَانُ عَقْلِهِ"2، و"يُسْتَدَلُّ عَلَى عَقْلِ كُلِّ امْرِئٍ بِمَا يَجْرِي عَلَىْ لِسَانِهِ"3.

 
واللّسان كما قيل: من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنَّهُ صغيرٌ جرمُهُ، عظيم طاعتُهُ وجُرمُهُ, إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللّسان، وما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق، متخيّل أو معلوم، مظنون أو موهوم إلا واللّسان يتناوله، ويتعرّض له بإثبات أو نفي، فإنَّ كُلّ ما يتناوله العلم يعرب عنه اللّسان إما بحقّ أو باطل، واللّسان رحب الميدان ليس له مردّ، ولا لمجاله منتهى وحدّ، (ولا يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)4 ولا يُنجي من شرّ اللّسان إلا أن يُقيّد بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة. وأعصى الأعضاء على الإنسان اللّسان، فإنَّهُ لا تعب في تحريكه ولا مؤونة في إطلاقه، وإنَّهُ أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان5.
 
ومن هذا المنطلق كان التأكيد في الشرع المقدّس على حفظ اللّسان كبيراً جداً، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام روايات كثيرة جداً في مدح الصمت وذمّ كثرة الكلام، وانعكس ذلك من خلال إفراد جمٍّ غفيرٍ من العلماء لبحوث مطوّلة حول آفات اللّسان، وفضيلة الصمت وحفظ اللّسان إلّا عن الخير والدعوة.
 
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّهُ قال: "إخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، فَإنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَيْطَانَ"6، وروي أنَّهُ جاء رجلٌ إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: "يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي،



1 المجلسي، محّمَّد باقر، بحار الأنوار، ج75، ص56، ح119، الطَّبعة الثَّالثة 1403، دار إحياء التُّراث، بيروت.
2 الآمدي، عبد الواحد التميمي، غرر الحكم، ص209، ح4032، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
3 م. ن، ص209، ح4033، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
4 الكليني، الكافي، ج2، ص115.
5 الفيض الكاشاني، محمّد محسن، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، ح3، ص127، ربع المهلكات، كتاب آفات اللّسان، الطَّبعة الأولى1426 هـ، تحقيق وإعداد مؤسسة إحياء الكتب الإسلاميّة، قم.
6 النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص112، بحثٌ حول (الصمت)، الطبعة الثانية، 1423هـ، نشر دار التفسير، قم.
 
 
 
67

55

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 فَقَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ: احْفَظْ لِسَانَكَ... وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟"1.

 
اللسان ترجمان القلب
إنَّ اللّسان ترجمان القلب، والكاشف عمّا يختزنه المرءُ في صدره وفؤاده، وهو المعبّر عن هويّة الإنسان وشخصيّته، و"المَرْءُ مَخْبُوْءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ"2، فعقل المرء وفضلُهُ مستورٌ ومخفيٌّ تحت لسانه، إذا تكلّم وتحرّك لسانُهُ انكشف وعُرف، ولهذا لا ينبغي له إلا أن يتكلّم بعلمٍ وخير وصلاح وإلا كان اللّسان سَبُعاً إن أطلقَهُ صاحبُهُ أكلَهُ وافترسه، فعن 
أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته لابنه محمّد ابن الحنفيّة: "مَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنَ الْكَلَامِ وَلَا أَقْبَحَ مِنْهُ، بِالْكَلَامِ ابْيَضَّتِ الْوُجُوهُ وَبِالْكَلَامِ اسْوَدَّتِ الْوُجُوهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ‏ في وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ فَإِنَّ اللِّسَانَ كَلْبٌ عَقُورٌ، فَإِنْ أَنْتَ خَلَّيْتَهُ عَقَرَ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً، مَنْ سَيَّبَ عِذَارَهُ قَادَهُ إِلَى كُلِّ كَرِيهَةٍ وَفَضِيحَةٍ ثُمَّ لَمْ يَخْلُصْ مِنْ دَهْرِهِ إِلَّا عَلَى مَقْتٍ مِنَ اللهِ وَذَمٍّ مِنَ النَّاسِ"3.
 
وينقل لنا التأريخ أنَّ بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع حصاةً في فمه، فإذا أراد أن يتكلّم بما علم أنَّ لله فيه رضا أخرجها، وإلّا بقي خازناً لسانه صامتاً4، فلسانُ السوء واللغو والرذيلة جديرٌ به أن يُسجن ويُحبس ويُغلق عليه، وفي هذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "مَاْ مِنْ شَيءٍ أَحَقّ بِطُوْلِ الحَبْسِ مِنَ اللِّسَانِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ 



1 النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص113، بحثٌ حول (الصمت)، الطبعة الثانية، 1423هـ، نشر دار التفسير، قم.
2 الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، نهج البلاغة، ج 4، ص138، الموعظة: 148.
3 الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة،12: 187، باب استحباب الصمت والسكوت إلا عن الخير، ح 18،الطَّبعة الثانية1414هـ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 284.
 
 
68

 


56

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 حَجَبَ اللهُ اللِّسَانَ بِأَرْبَعَةِ مَصَارِيْع لِكَثْرَةِ ضَرَرِهِ، الشْفَتَانِ مِصْرَاعَان، وَالأَسْنَان مِصْرَاعَان، وَمَعْ هَذَا انْظُر إِلَى فِعْلِهِ وَحَذِّر نَفْسَكَ مِنْ شُرُوْرِهِ"1.

 
لماذا الحثّ على الصمت؟
نعم، إنَّ قلّة الكلام وكثرة التفكّر والصمت من موجبات الفوز والنجاح والفلاح، وفي هذا ورد عن صادق أهل البيت عليهم السلام قوله: "نَجَاةُ المُؤْمِنِ فِيْ حِفْظِ لِسَانِهِ"2، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ"3، وروي عن آدم أبي البشر عليه السلام أنَّهُ لما كثر وِلْدُهُ، وولد ولده، كانوا يتحدّثون عنده وهو ساكت، فقالوا: "يَا أَبَهْ مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ عليه السلام يَا بُنَيَّ إِنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ لَمَّا أَخْرَجَنِي مِنْ جِوَارِهِ عَهِدَ إِلَيَّ وَقَالَ أَقِلَّ كَلَامَكَ تَرْجِعْ إِلَى جِوَارِي"4.
 
الأعضاء والجوارح تستكفي اللّسان
ولشدّة خطورة اللّسان ترى الأعضاءَ كافّة تستكفيه وتطلبُ منه الإمساك عن التفوّه والكلام بغير علم وحقّ، وتطالبه بالاستقامة وترك الاعوجاج, لأنَّها ستؤخذ بجريرته وتُحاسب بجريمته، وفي هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إِذَا أَصْبَحَ ابنُ آدَم أَصْبَحِتِ الأَعْضَاءُ كُلُّهَا تَسْتَكْفِي اللِّسَانَ، أي تقول: اِتَقِّ اللهَ فِيْنَا، فإنَّما نَحْنُ بِكَ،إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا"5
 
وقريبٌ منه ما عن إمامنا زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام حين يقول: "إِنَّ لِسَانَ ابْنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِهِ كُلَّ صَبَاحٍ فَيَقُولُ كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ فَيَقُولُونَ بِخَيْرٍ إِنْ تَرَكْتَنَا وَيَقُولُونَ اللهَ 



1 الحائري، محمّد مهدي، شجرة طوبى، ص397، الطَّبعة الخامسة1385 ش،منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النجف الأشرف.
2 العلامة المجلسي، بحار الأنوار 68: 283، ح36.
3 م. ن.
4 م. ن.
5 الري شهري، محمّد، ميزان الحكمة، ج 4، ح2778، سلامة الإنسان في حفظ اللّسان، الطَّبعة الأولى1416 هـ، دار الحديث، قم.
 
 
69

57

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 اللهَ فِينَا وَيُنَاشِدُونَهُ وَيَقُولُونَ إِنَّمَا نُثَابُ وَنُعَاقَبُ بِكَ"1.

 
اللّسان أكثر الجوارح عذاباً
ولما كان اللّسان أضرّ الجوارح وأكثرها خطورة على الإنسان وأعظمها هلاكاً له، كان مستحقّاً لشديد العقاب وأليم العذاب، وفي هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "يُعَذِّبُ اللهُ اللِّسَانَ بِعَذَابٍ لَا يُعَذِّبُ بِهِ شَيْئاً مِنَ الْجَوَارِحِ فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ عَذَّبْتَنِي بِعَذَابٍ لَمْ تُعَذِّبْ بِهِ شَيْئاً، فَيُقَالُ لَهُ: خَرَجَتْ مِنْكَ كَلِمَةٌ فَبَلَغَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَسُفِكَ بِهَا الدَّمُ الْحَرَامُ وَ انْتُهِبَ بِهَا الْمَالُ الْحَرَامُ وَانْتُهِكَ بِهَا الْفَرْجُ الْحَرَامُ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُعَذِّبَنَّكَ بِعَذَابٍ لَا أُعَذِّبُ بِهِ شَيْئاً مِنْ جَوَارِحِكَ"2.
 
ولهذا على من أراد تخليص نفسه من عذاب جبّار السماوات أن يلجم لسانه بلجام الصمت، وألَّا ينطق ويتفوّه إلّا بصدقةٍ أو معروفٍ أو صلح بين الناس، ومن قدر على ذلك كبح آفات اللّسان ونال رضا الرحمن، قال تبارك وتعالى: ﴿لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾3.
 
لماذا الحثُّ الكبير على الصمت؟!!
لا شكّ أنَّ الكثير من الآفات الأخلاقيّة والرذائل النفسيّة إنَّما تكون بفعل لغو الكلام وزلات اللّسان، فـ "رُبَّ لِسَانٍ أَتَى عَلَى إِنْسَانٍ"4، و"كَمْ مِنْ دَمٍّ سَفَكَهُ فَمٌ"5. وأنَّ سلامة الإنسان واستقامة الإيمان إنَّما تكون بحفظ اللّسان، ومن هنا نلحظ الحثّ الكبير على الصمت الموجب لراحة وسلامة الإنسان، وفي هذا ورد عن إمامنا الباقر عليه السلام أنَّهُ 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 115، باب: الصمت وحفظ اللسان، ح 13.
2 م. ن، ح 16.
3 سورة النساء، الآية: 114.
4 الآمدي، عبد الواحد التميمي، غرر الحكم، ص213، ح4154، الطَّبعة الأولى 1366ش، مكتب الإعلام الإسلامي، الحوزة العلميّة بقم.
5 م. ن، ح4158.
 
 
 
70

58

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 قال: "إِنَّ هَذَا اللِّسَانَ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى لِسَانِهِ كَمَا يَخْتِمُ عَلَى ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ"1، ولهذا كان التأكيد الشديد على حقّ اللّسان في "إِكْرَامِهِ عَنِ الْخَنَا وَ تَعْوِيدِهِ الْخَيْر"2 كما ورد عن إمامنا زين العابدين عليه السلام.

 
استقامة اللسان
لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنَّ أَكْثَرَ خَطَايَا ابن آَدَم فِيْ لِسَانِهِ"3، وهذا الأمر مشهودٌ ومحسوسٌ ولا يقبل الأخذ والردّ، فاللّسان مصدرُ الكذب والغيبة والفحش والسبّ والبذاءة والمراء والمجادلة والخصومة والتشدّق والكلام في ما لا يعني، والخوض في الباطل والغناء والسخرية والاستهزاء وإفشاء السّر وغيرها الكثير من الأباطيل ولغو الحديث والرذائل.
 
ومن هنا، وبما أنَّهُ من اللازم على الهداة المهديّين إرشاد العباد إلى ما يُنجيهم من مهاوي النيران ويُدخلهم إلى الروض والجنان، وهذا ما لا يكون إلّا لمستقيمي الإيمان وصِفَتُهُم كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ"4، كان لزاماً عليهم عليه السلام حثّ الناس وترغيبهم بموجبات الاستقامة ومنها حفظ اللّسان والصمت والسكوت عن غير ما فيه رضا الله ـ عزّ وجلّ ـ وصلاح الأفراد والأمم.
 
الصمت دليل الحكمة
ولا ينبغي أن يكون الصمت مجرّد سكوتٍ وسكون، وإنَّما لا بُدَّ فيه أن يكون ساحةً رحبة للتفكّر وميداناً واسعاً للتدبّر, ليستفيد المرءُ في تلك اللحظات والآنات بإعمال العقل



1 الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول، ص 298، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطَّبعة الثانية 1363ش، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة.
2 الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج15، ص172، باب جملة مما ينبغي القيام به من الحقوق الواجبة والمندوب، ح1،الطَّبعة الثانية1414هـ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
3 الطبراني، المعجم الكبير، ج10، ص197، ح 10446، الطَّبعة الثانية 1406 هـ ، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت.
4 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج68، ص287، ح42.
 
 
 
71

59

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 وإجراء الفكر في أمور الخالق والخلق، وحينها تنفتح عليه آفاق الحكمة والمعرفة، فقد أخذ الله ـ تبارك وتعالى ـ على نفسه أن يأخذ بأيدي السالكين إليه، وقال عزّ من قائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾1، ولقد ورد في الروايات عن أهل العصمة والطهارة عليه السلام: "أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ إِدْمَانُ التَّفَكُّرِ فِي الله وَفِي قُدْرَتِهِ"2.

 
هذا الصمت، وهذا التدبّر والتفكّر هو الذي يجعل من الإنسان حكيماً عارفاً، وبهذا النوع من الصمت يستحقّ المدح والثناء، كما ورد ذلك على لسان إمامنا الرضا عليه السلام عن أبيه عالم آل محمّد عليه السلام حيث يقول: "طُوبَى لِمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِكْراً وَنَظَرُهُ عَبَراً"3.
 
إضافةً إلى المدح لشخص الصامت المتفكّر والساكت المتدبّر نلاحظ الحثّ والدعوة إلى متابعته والدنو منه والاقتراب إليه, للاستفادة من رشحات ما يُفاض عليه من الحكمة، وهذا ظاهرٌ وجليٌّ في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الْمُؤْمِنَ صَمُوتاً فَادْنُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ"4.
 
الكلام في خير أفضل من الصمت
ولا ينبغي فهم ما نحاول بيانه من الحثّ على الصمت وترك الكلام على أنَّهُ هو الأفضل والأكمل في كلّ الأوقات والأحيان، كلا، الصحيح هو أنَّ تفضيل السكوت والصمت فيما لو كان الكلامُ مصحوباً بالآفات والأباطيل، أمّا لو سلم الكلام من تلك الأباطيل والرذائل فهو أفضل وأكمل، وفي بعض الموارد يكون الكلام والبيان واجباً كالصدع بكلمة الحقّ.
 
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لَا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ كَمَا أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي 



1 سورة فصلت، الآية: 53.
2 الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص55، باب: التفكّر، ح3، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
3 علي بن بابويه، فقه الرضا عليه السلام ص380، باب التفكّر والاعتبار، الطَّبعة الأولى1406هـ، نشر: المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام مشهد المقدّسة، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
4 النراقي، محمّد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص112، بحثٌ حول (الصمت)، الطبعة الثانية، 1423هـ ، نشر دار التفسير، قم.
 
 
 
72

60

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ"1، وعن إمامنا زين العابدين عليه السلام في مقام الجواب عن سؤال عن الكلام والصمت، أيّهما أفضل؟، قال: "لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آفَاتٌ فَإِذَا سَلِمَا مِنَ الْآفَاتِ فَالْكَلَامُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ، قِيلَ وَكَيْفَ ذَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ مَا بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْصِيَاءَ بِالسُّكُوتِ إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِالْكَلَامِ وَلَا اسْتُحِقَّتِ الْجَنَّةُ بِالسُّكُوتِ وَلَا اسْتُوجِبَتْ وَلَايَةُ اللهِ بِالسُّكُوتِ وَلَا وُقِيَتِ النَّارُ بِالسُّكُوتِ وَلَا تُجُنِّبَ سَخَطُ اللهِ بِالسُّكُوتِ إِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْكَلَامِ، مَا كُنْتُ لِأَعْدِلَ الْقَمَرَ بِالشَّمْسِ، إِنَّكَ لَتَصِفُ فَضْلَ السُّكُوتِ بِالْكَلَامِ وَلَسْتَ تَصِفُ فَضْلَ الْكَلَامِ بِالسُّكُوت"2.

 
العبرة النّهائية:
بعد كُلِّ ما تقدّم يتّضح لنا من وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه يُرشدنا ويدلّنا إلى طريق ترك المضرّات والرذائل ونيل المكرمات والفضائل، والذي يتمثّل بترك لغو الحديث والصمت عن فضول الكلام، وذلك من خلال ترويض اللّسان وخزنه وضبطه، فإنَّهُ وكما تقدّم آلة الشيطان في إغراق الإنسان.
 
وفي الختام قصةٌ وعِبْرَة
قيل إنَّهُ اجتمع أربعة حكماء: من الروم، والفرس، والهند، والصين، فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل. وقال الآخر: إذا تكلّمت بالكلمة ملكتني، ولم أملكها، وإذا لم أتكلّم ملكتها ولم تملكني. 
 
وقال الآخر: عجبت للمتكلّم، إن رجعت عليه كلمته ضرَّته، وإن لم ترجع لم تنفعه، وقال الرابع: أنا على ردّ ما لم أقل، أقدر منّي على ردّ ما قلت3.



1 وسائل الشيعة، ج12، ص187، باب استحباب الصمت والسكوت إلا عن الخير، ح18.
2 الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج12، ص188، باب استحباب الصمت والسكوت إلا عن الخير، ح2،الطَّبعة الثانية1414هـ، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرّفة.
3 المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج10، ص138، فصلٌ في فضل الصمت والاقتصاد في المنطق، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم.
 
 
 
73

61

الدرس السادس: فضيلة الصمت وخزن اللسان

 

 

74


62

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك





مفاهيم محورية:
- اللسان وسيلة الكمال أو الانحطاط.
- مزالق اللسان ومعاصيه.
- أهم محرمات اللسان.
- تأثيرها على المجتمع.
- الحذر عن فضول الكلام.
- الحثّ على قول الخير.
  
 
75

63

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 نصُّ الوصية:

عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فِي وَصِيَّتِهِ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: "وَمَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنَ الْكَلَامِ وَلَا أَقْبَحَ مِنْهُ بِالْكَلَامِ ابْيَضَّتِ الْوُجُوهُ وَبِالْكَلَامِ اسْوَدَّتِ الْوُجُوهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ‌فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ..."[1].
 
اللسان ترجمان القلب
اللسان هو وسيلة الإنسان المفصحة عن كنه معدنه وحقيقة أدبه وأخلاقه، وباللسان تُعرف الرجال، وتبرز المواهب والمعارف، روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ"[2].
 
ولفضله كان وسيلة شكر الله تعالى وتسبيحه وتحميده، وآلة العبادة والدعاء والمناجاة، وقوام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد، ومفتاح استقامة قلب الإنسان، وهو خادم الجوارح المعرب عن مقاصدها والموصل إلى مآربها. 
 
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إِذَا أَصْبَحَ ابنُ آدَم أَصْبَحِتِ الأَعْضَاءُ كُلُّهَا 



1 الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشّيعة، ج12، ص193، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطَّبعة الأُولى 1412، قم.
2 نهج البلاغة، ج4، ص137.
 
 
77

64

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 تَسْتَكْفِي اللِّسَانَ، أي تقول: اِتَقِّ اللهَ فِيْنَا، فإنَّما نَحْنُ بِكَ،إِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا"1.

 
ومع ذلك نجد أَنَّ الإسلام قد حذّر كلّ الحذر من إطلاق عنان اللسان، ومدح الصمت حتى اعتبره باباً من أبواب الحكمة والنجاة والإحسان، وذمّ الفحش والبذاء واعتبرهما من النفاق، وأمر الناس بخزن كلامهم كما تخزن الذهب والفضة، وأن لا يسرفوا في الكلام, لأنّه كما روي عن ريول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِنْ كَانَ فِي شَيْ‌ءٍ شُؤْمٌ فَفِي اللِّسَانِ"2.
 
مزالق اللسان ومعاصيه
(وَلَا أَقْبَحَ مِنْهُ بِالْكَلَامِ)...
إِنَّ أخطر شيء على الإنسان المؤمن هو اللسان، ومزالقه كثيرة، وحصاده وافرٌ في جميع المواسم وعلى كافة الأصعدة، وميدانه رحب ومؤونته خفيفة, لأنّه لا تعب في تحريكه ولا كلفة في إفراطه، فبإمكان العبد أن يُطْلِق عنان لسانه على عيوب الناس وزلاتها وعوراتها بأدنى كلفة وتعب، ولكنّه سيكون بعد ذلك في الدرك الأسفل من جهنم، وسيخاف الناس لسانه لما فيه من الأذية لهم، وسيكرمه الناس اتّقاء شرّ لسانه التابع للشيطان والخادم بين يديه، يقدّم له العون في مجال إفشاء عيوب الناس، وإظهار عورات بيوتهم، وكشف أسرارهم، ولكن على سالك هذا الطريق الخطر أن يسمع ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته لأمير المؤمنين عليه السلام، وهي وصية جامعة تجمل كل معاصي اللسان.
 
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "... يَا عَلِيُّ مَنْ خَافَ النَّاسُ لِسَانَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَا عَلِيُّ شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ وَشَرِّهِ"3.



1 الري شهري، ميزان الحكمة، ج4، ص2778.
2 الشيخ الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج3، ص116، تصحيح وتعليق علي أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
3 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 16، ص34.
 
 
 
78

65

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ أَبْغَضَ خَلْقِ الله عَبْدٌ اتَّقَى النَّاسُ لِسَانَه"1.

 
أيّها العبد المدّعي الأسوة بالنبي وآله صلى الله عليه وآله وسلم! لماذا لا تنظر بعين البصيرة إِلَى هذه الروايات؟ فتعلم أنّهم عليه السلام يصفون صاحب اللسان الحادّ المتسلط على عيوب الناس وزلاتهم وعوراتهم وهفواتهم ـ بحيث تخاف الناس لسانه وتُكرمه خوفاً من لسانه ـ بأبشع الأوصاف وأكثرها خطورة على مسيرتك الحتمية، فلا أرى أحداً يحبُّ أن يكون من أهل النار، أو شرّ خلق الله، أو أبغض الخلق عند الله، هذا فضلاً عن إساءته لنبيه وآله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وينبغي للإنسان المؤمن أن يكون على حذر شديد من اللسان, لأنّه آلة الشيطان إِلَى غضب الرحمن، والخسران الذي ما بعده خسران، وإذا نظرنا إِلَى المعاصي فسنجد أَنَّ اللسان أخذ منها النصيب الوافر، وهي في غاية الخطورة، خصوصاً إذا لاحظنا أنّها لا تحتاج إِلَى كلفة وتعب بل هي متيسرة لكلّ أحد أراد أن يخوض وحول بحرها الفاسد الذي ليس له نهاية إلا غضب الله تعالى، فيمكن للشخص وفي مجلس واحد أن يهتك حجاب المؤمنين ويفضح أسرارهم ويفسد معايشهم ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، وهو مع ذلك يشعر باللذة والنشوة، لكنّه لم يلتفت إِلَى عظيم ما جناه لسانه وقبيح ما حصدته أقواله فكان شريكاً للشيطان ومثالاً للسوء.
 
أهم محرمات اللسان
إذا نظرنا إِلَى تعاليم الإسلام الاجتماعية نعلم أَنَّ الله تعالى خلق الفرد ليعيش في ضمن مجتمع مترابط قائم على المحبة والتعاون والأخوة، ولا يمكن للفرد المسلم أن ينعزل عن المجتمع بل لا بدّ له من التواصل مع بني جنسه حتى تستقيم حياته, ولذا نجد أَنَّ الإسلام قد وضع قوانين تساعد على توطيد العلاقة مع الآخرين، فحرّم أموراً وأوجب أخرى، فنراه يدعوهم إِلَى النجدة والتعاون...، ونراه يحرّم 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 323.
 
 
 
79

66

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 عليهم أموراً كالغيبة والنميمة والسباب والفحش وغيرها. وإذا لاحظنا قول أمير المؤمنين عليه السلام نجده يعطي اللسان دوراً أساساً في عملية تقييم الفرد فيقول: "الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ"1، فإنّ اللسان له دور مهم في عملية بناء شخصية الإنسان، ولأجل ذلك أخذ نصيباً مهماً من الواجبات والمحرمات.

 
تأثيرها على المجتمع:
وأكثر معاصي اللسان نراها تعود بالضرر البالغ على المجتمع وعلى سلامة عيشه وترابطه وتكاتفه، مع أَنَّ الإسلام يريد مجتمعاً مليئاً بالمحبة والأخوة والتعاون، فنرى أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهانا عن السباب, لأنّه يؤدّي إِلَى العداوة والتباغض، قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا تَسُبُّوا النَّاسَ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ"2، وهكذا الأمر إذا نظرنا إِلَى الغيبة، فإنّنا سنجدها تعود بالضرر الكبير على المجتمع وعلى ترابطه، قال الإمام أَبو عبد الله الصادق عليه السلام: "مَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا رَأَتْه عَيْنَاه وسَمِعَتْه أُذُنَاه فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾"3، ولا يقلّ ضرراً عن هذين الأمرين باقي محرمات اللسان، وهي كثيرة جداً يجب أن تبحث تحت عناوين منفردة، منها التهمة والتعيير والوشاية على المؤمنين والكذب والخوض بالباطل وقول الزور والفحش والبذاء وتتبع عورات المؤمنين، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِه ولَمْ يُخْلِصِ الإِيمَانَ إِلَى قَلْبِه لَا تَذُمُّوا الْمُسْلِمِينَ ولَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّه مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَه ومَنْ تَتَبَّعَ الله تَعَالَى عَوْرَتَه يَفْضَحْه ولَوْ فِي بَيْتِه"4.
 
هذه الروايات والكثير غيرها تتوعّد مرتكب هذه المعاصي بالعذاب والفضح 



1 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص435، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص360، مرجعٌ سابق.
3 م. ن، ص357.
4 م. ن، ص354.
 
 
80

67

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 والويلات، وتشير إِلَى خطورتها على المستوى الاجتماعي للأمّة الإسلامية التي أرادها الله تعالى أن تعيش تحت سقف المحبة والتعاون، فعلى الإنسان المؤمن أن يكون على حذر من مصائد الشيطان وألاعيبه التي تجرّه إِلَى محاربة الله تعالى ورسوله والأئمة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين، ولا ينبغي للإنسان المؤمن أن يعتذر بأعذار واهية يكوّنها حول معاصي لسانه, ليتوسّل بها إِلَى إقناع ضميره ووجدانه المنكران عليه هذه المعاصي، فنراه يُبرّر معاصيه بأقوال واهية، كقوله: خرجت عن طوري وعن سجيتي، أو كنت غاضباً، أو تربّيْت في بيئة تبيح هذه الأمور فتعوّدت عليها، وغير ذلك من أعذار نسمعها من الأشخاص المرتكبين لهذه المعاصي، ولكن عليه أن يعلم أَنَّ كلّ هذه الأعذار من عند الشيطان يزيّن له قبيح عمله فيراه حسناً.

 
الحذر عن فضول الكلام
(فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ)...
لقد أكّدت الروايات على الصمت حتى أَنَّ الباحث فيها يجدها تعطي مسألة كثرة الكلام خطورة بالغة لا تخفى على المطالع للروايات، فكثرة الكلام تجرّ الندامة، وتحصد البغضاء، وتقسّي القلب، وتوقع صاحبها في الخطأ وقلّة الحياء، وتوجب عليه الاعتذار، وتسلبه الحكمة, ولذا نرى أَنَّ أمير المؤمنين عليه السلام يأمر بخزن اللسان في الرواية المتقدمة، وورد عنه أيضاً: "مَا مِنْ شَيْ‌ءٍ أَحَقَّ بِطُولِ السِّجْنِ مِنَ اللِّسَانِ"1, لأنّ في حبس اللسان النجاة والحكمة والسلامة والراحة والأمن من الكذب وستر العورة, لذا قال ما تقدّم في نصّ الوصية: "أَنَّ الْكَلَامَ ‌فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ"، وهو طريق إِلَى الإيمان حتى اعتُبر في الرواية كنزٌ وافرٌ وقد ورد عنهم عليه السلام: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"2، وعن أمير 



1 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص188.
2 م. ن، ص195.
 
 
81

68

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 المؤمنين عليه السلام: "طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ كَلَامِهِ"1، ولكننا نرى أَنَّ الناس قد عملوا بعكس هذه الرواية، فامسكوا فاضل مالهم، وأطلقوا عنان لسانهم, لتخوض مع الخائضين.

 
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَعَاشِرَ الشِّيعَةِ كُونُوا لَنَا زَيْناً وَلَا تَكُونُوا عَلَيْنَا شَيْناً قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقَبِيحِ الْقَوْلِ"2، هذه الرواية في غاية الأهمية، ينبغي للفرد الموالي لأهل البيت عليهم السلام أن ينظر إليها بتمعّن وتبصُّر ويقف على مضمونها, لأنّ الإمام عليه السلام يطلب منا أن نكون لهم زيناً ـ 
 
مع أنهم هم زينة السماوات والأرض ـ ولكنّ الإنسان المنتسب إليهم يمكن أن يجرّ الشين لهم بواسطة بذاءة لسانه وكثرة كلامه فيما لا يعنيه وأذيته للآخرين. ولا يخفى مدى خطورة هذا المطلب, لأنّ المفهوم من الرواية هو أَنَّ الإنسان الموالي إذا لم يقل للناس حسناً، وإذا لم يحفظ لسانه عن الفحش وكثرة الكلام، فإنّه سيكون شيناً على أهل البيت عليهم السلام، وهل يوجد ذنبٌ في الوجود أعظم من أن يكون الشيعي شيناً على أولياء أموره، أجارنا الله من هذه المعصية العظيمة.
 
الحثّ على قول الخير
(مَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنَ الْكَلَامِ... بِالْكَلَامِ ابْيَضَّتِ الْوُجُوهُ)...
بعث الله تعالى الأنبياء والأوصياء بالكلام لا بالسكوت، فكان الكلام وسيلة لتبليغ دين الله تعالى، وبه تُستحق الجنة وتُتّقى النار، ويُتجنّب سخط الله تعالى، وليس على الجوارح عبادة أخف مؤونة وأفضل منزلة وأعظم قدراً عند الله تعالى من الكلام, فإنَّ فيه رضا الله تعالى ومناجاته، وهو آلة لكثيرٍ من العبادات والواجبات. فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْفَقَ النَّاسُ مِنْ نَفَقَةٍ أَحَبَّ مِنْ قَوْلِ الْخَيْرِ"3.



1 العلامة المجلسي، محّمَّد باقر، بحار الأنوار، ج68، ص283، الطَّبعة الثَّالثة 1403، دار إحياء التُّراث، بيروت.
2 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص194.
3 م. ن، ج16، ص123.
 
 
 
82

69

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "قُولُوا الْخَيْرَ تُعْرَفُوا بِه واعْمَلُوا الْخَيْرَ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِه"1.

 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "كَلَامٌ فِي حَقٍّ خَيْرٌ مِنْ سُكُوتٍ عَلَى بَاطِلٍ"2.
 
الكلام أفضل من السكوت
من هنا نعلم أَنَّ الإسلام وقادته الحقيقيين قد أَوْلُوا مسألة الكلام أهمية قصوى في تعاليمهم ونصائحهم لشيعتهم، فنرى من جهة يمدحون الصمت والسكوت مدحاً بالغاً, لما عرفتَ من الخطورة البالغة في كثرة الكلام، وكثرة آفات اللسان وزلاته، والتبعات التي يجنيها على صاحبه وعلى المجتمع.
 
ومن جهة أخرى نراهم يمدحون الكلام وقول الخير ويعتبرونه قوام الدعوة إلى الله تعالى، لأجل أهمية اللسان وأنّه أفضل الوسائل الموصلة إِلَى الله تعالى، وتَعْتبر الروايات أَنَّ الكلام في الخير أفضل من السكوت، فقد ورد في الخبر أَنَّ الإمام السجاد عليه السلام سُئِلَ عَنِ الْكَلَامِ وَالسُّكُوتِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ عليه السلام: "لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آفَاتٌ فَإِذَا سَلِمَا مِنَ الْآفَاتِ فَالْكَلَامُ أَفْضَلُ مِنَ السُّكُوتِ"3.
 
هذا كلّه في الكلام المباح وكثرته، وأمّا الكلام المحرّم فميدانه واسع والنهي عنه في الروايات والآيات مؤكّدٌ لا يتطرق إليه الشك والاستثناء مهما حاول الإنسان أن يتذرّع بذرائع واهية، وقد ذكر العلماء في كتبهم تبعاً للنصوص الشرعية هذه المعاصي الكبيرة كالغيبة والنميمة والتعيير والكذب والتهمة وغيرها. وكلّ هذه المعاصي العظيمة خفيفة على اللسان، ولها حلاوة في القلب يبذر بذورها الشيطان, ليصل بالإنسان إِلَى محاربة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. 



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص225.
2 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص184.
3 م. ن، ص188.
 
 
83

70

الدرس السابع: إخزن لسانك كما تخزن ذهبك

 

 

84


71

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات



مفاهيم محورية:
- ربّانيّة المنهج التربوي عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
- الْيَأْسِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، والطمع بما في أيديهم.
- صَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ.
- إِيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ.
- وَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ.
 
 
85

72

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 نصُّ الوصية:

ورد في أمالي الشَّيْخ الطوسي قدس سره بإسناده إِلَى الإِمام الرِّضا عَنْ آَبَائِهِ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)، قَالَ: جَاءَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَنْ أَحْفَظَ. قَالَ: "أُوصِيكَ بِخَمْسٍ: بِالْيَأْسِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّهُ الْغِنَى، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ، وَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَإِيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ"1.
 
ربانيّة المنهج التربوي عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام عنوانٌ مضيءٌ وشامخٌ في حياة الإنسانية وحركة التاريخ والمسيرة الإنسانية. فهم أعلام الهدى وقدوة المتّقين، عُرفوا بالعلم والحكمة والحلم وسائر صفات الكمال في الشخصية الإسلامية، فما يصدر منهم صادرٌ عن ربّهم, ولهذا صحّ القول بأنّ منهجهم ربانيّ، كما تدلّ أحاديثهم الشريفة على ذلك أيضاً. فهذا أمير المؤمنين يقول فِي وَصِيَّتِهِ إِلَى كُمَيل: "إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم أَدَّبَهُ الله 



1  شيخ الطَّائفة، مُحَمَّد بن الحسن الطُّوسي، الأمالي، ص508، المجلس الثامن عشر، تحقيق: قسم الدَّراسات الإسلاميَّة في مؤسسة البعثة، الطَّبعة الأُولى 1414، نشر: دار الثقافة للطَّباعة والنَّشر والتَّوزيع، قم.
 
 
 
87

73

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَدَّبَنِي وَأَنَا أُؤَدِّبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُوَرِّثُ الْأَدَبَ الْمُكَرَّمِينَ"1. وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "وَاللهِ مَا نَقُولُ بِأَهْوَائِنَا وَلَا نَقُولُ بِرَأْيِنَا وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا قَالَ رَبُّنَا"2.

 
وكان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام يتّخذون من العبرة والموعظة وسيلة تربوية لتنوير العقل والقلب, إذ بهما يعي الإنسان حركة الحياة من حيث الشدّة والرخاء وأسباب التقدّم والتأخّر للمجتمعات، ويُقلع عن الممارسات المنحرفة، ويتوجّه لإصلاح نفسه لتسمو وتتكامل. وقد أثبت هذا المنهج التربوي قدرته على بناء الإنسان بناءً متكاملاً، فقد تخرّج على هذا المنهج مئات الشخصيات التي كانت قمةً في السُّمو الروحي والتكامل النفسي والسلوكي، وقدوة لجميع بني الإنسان, لاستشعارها بأنّ المنهج ربانيّ النشأة والمصدر، وعلى الرغم من ابتعاد أغلب المسلمين عن هذا المنهج التربوي إلا أنّ آثاره بقيت حاكمة على كثيرٍ من المواقف والممارسات، وكان المسلمون، خصوصاً أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، أقلّ انحرافاً من غيرهم.
 
اليأس عما في أيدي الناس، والطمع بما في أيديهم
اليأس المذكور يحصل بقطع الطمع عمّا في أيدي الناس، والطمع شعبةٌ من شعب حبّ الدنيا، ومن الرذائل المهلكة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "اسْتَغْنِ بِالله عَمَّنْ شِئْتَ تَكُنْ نَظِيرَهُ وَاحْتَجْ إِلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَسِيرَهُ وَأَفْضِلْ عَلَى مَنْ شِئْتَ تَكُنْ أَمِيرَهُ"3.
 
والأخبار في ذمّ الطمع كثيرة، وكفى به ذمّاً أَنَّ كلّ طامعٍ يكون ذليلاً مهاناً عند الناس.



1 المحدث النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج17، ص267، نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الأُولى 1408، بيروت.
2 العلامة المجلسي، محّمَّد باقر، بحار الأنوار، ج27، ص102، الطَّبعة الثَّالثة 1403، دار إحياء التُّراث، بيروت.
3 الشَّيْخ المفيد، مُحَمَّد بن النُّعمان العكبري، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج1، ص303، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التُّراث، الطَّبعة الثَّانية 1414، نشر دار المفيد، بيروت.
 
 
 
88

74

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 فعن الإمام الباقر عليه السلام: "بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ لَهُ طَمَعٌ يَقُودُهُ وَبِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ لَهُ رَغْبَةٌ تُذِلُّهُ"1.

 
وقيل للإمام الصادق عليه السلام: "مَا الَّذِي يُثْبِتُ الْإِيمَانَ فِي الْعَبْدِ؟ قَالَ: الْوَرَعُ. وَالَّذِي يُخْرِجُهُ مِنْهُ؟ قَالَ:الطَّمَعُ"2.
 
فالطامع يكون وثوقه بالناس واعتماده عليهم أكثر من وثوقه بالله, إذ لو كان اعتماده على الله أكثر من اعتماده على الناس لما نظر إليهم، بل لم يطمع من أحدٍ شيئاً إلا من الله سبحانه وتعالى.
 
وفي مقابل الطمع يأتي الاستغناء عن الناس، الذي عُدّ من الفضائل الموجبة لتقرّب العبد إلى الله تعالى، فمن استغنى بالله عن غير الله أحبّه الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العُرُوضِ إِنَّما الغِنَى غَنَى النَّفْسِ"3. وعَنْ أَبُي عَبْدِ الله عليه السلام: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ رَبَّهُ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ فَلْيَيْأَسْ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَجَاءٌ إِلَّا عِنْدَ الله فَإِذَا عَلِمَ الله عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِهِ لَمْ يَسْأَلِ الله شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ"4.
 
ورَوَى الْحَسَنُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، قَالَ: "أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ الله شَيْئاً، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّهُ الْغِنَى الْحَاضِرُ، قَالَ: زِدْنِي يَا رَسُولَ الله، قَالَ: إِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ"5.



1 الشيخ الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص320، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
2 م. ن.
3 انظر: النراقي، الملا محمد مهدي، جامع السعادات، ج2، ص83، تحقيق وتعليق: السَّيِّد محمد الكلانتري، تقديم: الشَّيْخ محمد رضا المظفّر، نشر: دار النعمان، الطبعة الرابعة.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص148.
5 الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص410، باب النوادر، ح 5762، نشر: مؤسسة النّشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، 1413هـ.
 
 
 
89

 


75

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 والطمّاع محبٌّ للدُّنيا متكالبٌ عليها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وَإِيَّاكُمْ وَاسْتِشْعَارَ الطَّمَعِ فَإِنَّهُ يَشُوبُ الْقَلْبَ شِدَّةَ الْحِرْصِ وَيَخْتِمُ عَلَى الْقُلُوبِ بِطَابَعِ حُبِّ الدُّنْيَا وَهُوَ مِفْتَاحُ كُلِّ سَيِّئَةٍ وَرَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَسَبَبُ إِحْبَاطِ كُلِّ حَسَنَةٍ"1.

 
وقطع الطمع عمّا في أيدي الناس يؤدّي بالإنسان إِلَى المراتب العالية، ففي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام: "قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَجْمَعَ عِزَّ الدُّنْيَا فَاقْطَعْ طَمَعَكَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَمَا بَلَغَ الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ مَا بَلَغُوا إِلَّا بِقَطْعِ طَمَعِهِمْ"2.
 
ويُعالَج الطمع بمعرفة أَنَّ الغنى الحقيقيّ يكون بالقناعة، وأنّ الطمع لا يدفع فاقةً ولا يمنع مصيبة، وفي الخبر عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: "مَنْ قَنِعَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ فَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ"3.
 
صل صلاة مودع
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اذْكُرْ المَوْتَ فِي صَلَاتِكَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا ذَكَرَ المَوْتَ فِي صَلَاتِهِ لَحَرِيٌّ أَنْ يُحْسِّنَ صَلَاتَهُ، وَصَلِّ صَلَاةَ رَجُلٍ لَا يَظُنُّ أَنْ يُصَلِّي صَلَاةً غَيْرَهَا"4.
 
واعلم أَيُّها العزيز أَنَّ تعامل الناس مع الدنيا على نوعين: فمنهم من وطّد علاقته بها، ورضي بالمتاع العاجل، ويصدق عليه قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾5.



1 المحدث النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج12، ص70، نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الأُولى 1408، بيروت.
2 المصدر نفسه: 69.
3 الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشّيعة، ج15، ص258، كتاب الجهاد، الباب: (23)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطَّبعة الأُولى 1412، قم.
4 الديلمي، ابن شيرويه، الفردوس، ج1، ص431.
5 سورة التوبة، الآية: 38.
 
 
 
90

76

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 ومنهم مَنْ انقطع إلى الآخرة وأهمل الدنيا، أي: لا يشتغلون للدنيا، فهم غير فعّالين فيها ولا يبالون بمجتمعهم وأسرهم، وهذا النّوع كسابقه مرفوضٌ. والكلمة الفصل في هذا المجال لأمير المؤمنين عليه السلام عندما قال: "اعْمَلْ لِدُنْيَاكَ كَأَنَّكَ تَعِيشُ أَبَداً وَاعْمَلْ لآِخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً"1.

 
وعندما يرشد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلاة المودّع لا يعني ذلك ترك الدنيا وإهمالها، بل ليكون التفكير بالموت حافزاً على العمل الخالص لله تعالى في الدنيا.
 
والمؤمن بصلاته يعرج إلى ربّه، والصلاة لها حالةٌ خاصةٌ يُشعر المؤمن نفسه بأنّها آخر صلاة خصوصاً في صلاة العشاء, فهي آخر صلاة في اليوم وبعدها سوف يعرض عليه النوم الَّذِي هو نوع من أنواع الموت: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾2. فالموت والنوم أخوان قريبان، ومن أين للإنسان الضمان أنّ الله يُرجع له الروح بعد النوم، ولهذا من الممدوح جدّاً عندما يستيقظ من النوم أن يخرّ ساجدًا ويقول: (الْحَمْدُ لِله الَّذِي أَحْيَانِي بَعْدَ مَا أَمَاتَنِي وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
 
إياك وما تعتذر منه
أيْ: لا تعرّض نفسك للمواقف الخاطئة التي تضطرك للاعتذار ممّن قد أخطأت بحقّهم، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إنساناً كثير الخطأ وكثير الاعتذار، رغم أنّ من يعتذر خيرٌ ممّن يخطئ ولا يعتذر. لكنّ العاقل لا يجعل نفسه في موضع الاعتذار، ولا بُدّ للمؤمن أن يكون متذللاً بين يدي ربّه وليس أمام البشر. وفي الخبر: "لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، قُلْتُ: مَا يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَا يَدْخُلُ فِيمَا يَعْتَذِرُ مِنْهُ"3.



1 الأشتري، ورام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج2، ص234، دار صعب ودار التعارف بيروت.
2 سورة الزمر، الآية: 42.
3 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص158.
 
 
 
91

77

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 وفي الخبر: "إِيَّاكَ وَمَا تَعْتَذِرُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُسِي‌ءُ وَلَا يَعْتَذِرُ،وَالْمُنَافِقُ يُسِي‌ءُ كُلَّ يَوْمٍ وَيَعْتَذِرُ"1. وهذا الخبر الحكمة يُبيّن لنا أهميّة اعتناء المؤمن بكرامته وعزّته. فالإنسان إذا تجاوز حدّه يسيء ويعتذر، نعم يلزم على الإنسان إذا صدرت منه معصية أن يستغفر الله تعالى منها، فقد ورد في الدعاء: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ تُبْتُ إِلَيْكَ مِنْهُ ثُمَّ عُدْتُ فِيهِ"2، وليس ذلك إِلَّا لأنّ الوقاية خيرٌ من العلاج، والدفع خير من الرفع. فوقاية المعاصي خير من علاجها، والمؤمن لا يُسيء (هذا دفعٌ) حتى لا يعتذر، والمنافق كلّ يوم يسيء (هذا مرضٌ) ويعتذر لرفع المرض. وربّما لا يوفّق الإنسان للتوبة فيأتيه ملك الموت أثناء المعصية.

 
وأحب لأخيك ما تحب لنفسك
إنّها باختصار النصيحة القيّمة التي تقول لنا: اجعلوا المقياس بينكم وبين إخوانكم أنفسكم، فالإيجابيّ بالنسبة لأنفسنا إيجابيٌ بالنسبة لهم، وكذلك السلبي. والعمل بهذه النصيحة تحوّل ساحة الحياة المزروعة بالأشواك إلى ساحة تكثر فيها الورود والأزهار، بل تحوّلها إلى جنة مصغّرة. وقد اهتمّ الإسلام بالأخوّة الإنسانية والإسلامية، وجعل لها قواعد وأسس لنجاحها، ومن تلك الأسس "وأحبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك"، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَكْرَمَ أَخَاهُ بِكَلِمَةٍ يُلَطِّفُهُ بِهَا وَمَجْلِسٍ يُكْرِمُهُ بِهِ لَمْ يَزِلْ فِي ِظِلِّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَمْدُوداً عَلَيْهِ بِالْرَّحْمَةِ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ"3. وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإنْ كان غائباً دعا له، وإنْ كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده4. والإنسان الجاهل قبل الإسلام كان منكفئاً على ذاته متقوقعاً داخل أسوار نفسه، وبفضل الإسلام غدا إنساناً اجتماعياً 



1  الحر العاملي، محمد بن الحسن، هداية الأُمة إِلَى أحكام الأئمة، ج5، ص578، نشر: مجمع البحوث الإسلامية، الطبعة الأُولى 1412هـ، مشهد.
2 الشيخ الطوسي، مصباح المتهجّد، ص219، مؤسسة فقه الشيعة، ط.أولى، 1990م.
3 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص316.
4 م. ن، ج16، ص233.
 
 
 
92

78

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 يشعر بمعاناة إخوته، يمدّ يد العون لهم، ويشاركهم في مكاره الدهر، وهذه النقلة الحضارية يشير إليها القرآن الكريم بصورة جليّة في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾1. وللسنّة النبوية الأثر البالغ في تدعيم وترسيخ مبدأ الأخوة وما يستلزمه من التزامات اجتماعية كقضاء حوائج الإخوان وإعانتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ مَشَى فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْفَعَتِهِ فَلَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الله"2.

 
وما انفكّ صادق آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوصي بمبدأ الأخوة في مختلف الأحوال والظروف، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: أَتَانِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، فَقَالَ لَهُ عِنْدَ الْوَدَاعِ: أَوْصِنِي.
 
فَقَالَ: "أُوصِيكَ بِتَقْوَى الله وَبِرِّ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، وَأَحِبَّ لَهُ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ، وَإِنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَإِنْ كَفَّ عَنْكَ فَاعْرِضْ عَلَيْهِ، وَلَا تَمَلَّهُ خَيْراً فَإِنَّهُ لَا يَمَلُّكُ، وَكُنْ لَهُ عَضُداً فَإِنَّهُ لَكَ عَضُدٌ، إِنْ وَجَدَ عَلَيْكَ فَلَا‌ تُفَارِقْهُ حَتَّى تَسُلَّ سَخِيمَتَهُ، وَإِنْ غَابَ فَاحْفَظْهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَإِنْ شَهِدَ فَاكْنُفْهُ وَاْعْضُدْهُ وَوَازِرْهُ وَأَكْرِمْهُ وَلَاطِفْهُ، فَإِنَّهُ مِنْكَ وَأَنْتَ مِنْهُ"3.



1  سورة آل عمران، الآية: 103.
2  الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج12، ص286.
3  الشَّيْخ الطوسي، أمالي، ص98.
 
 
93

79

الدرس الثامن: الوصايا النبوية الخمس في بناء الذات

 

94


80

الدرس التاسع: قسوة القلب

 الدرس التاسع: قسوة القلب



مفاهيم محورية:
- معنى قسوة القلب.
- أسباب قسوة القلب.
- نقد العهد والميثاق.
- طول الأمل.
- الذنوب.
- كثرة الكلام بغير ذكر الله.
- أكل المال الحرام.
 
 
95

81

الدرس التاسع: قسوة القلب

 نصُّ الوصية:

روى الشَّيْخ الطوسي قدس سره في أماليه بإسناده إِلَى سَعْدِ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عليهما السلام، قَالَ: "فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ:... يَا ابْنَ آدَمَ، أَصْبَحَ قَلْبُكَ قَاسِياً وَأَنْتَ لِعَظَمَةِ الله نَاسِياً، فَلَوْ كُنْتَ بِالله عَالِماً، وَبِعَظَمَتِهِ عَارِفاً، لَمْ تَزَلْ مِنْهُ خَائِفاً..."1.
 
تمهيد:
إِنَّ الكلام عن قسوة القلب وما توجبه من نتائج وما ترتكز عليه من أسباب ودواعي هو كلامٌ مهمٌّ للغاية, لما لهذه الحالة التي تصيب الإنسان من أثر سلبيّ في التعامل مع الله تعالى.
 
والمراد بقسوة القلب: صلابته وعدم رقّته وخشوعه أمام الله تعالى، قال المرحوم العلامة الطباطبائي: "القسيّ من القلوب ما لا يخشع لحقٍّ ولا يتأثّر برحمة"2.
 
ولا شكّ أنَّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين قسوة القلب وبين البُعد عن الله والغفلة وعدم الالتفات إلى عظمته تعالى, لذا فقد وصف الله تعالى بني إسرائيل في كتابه بأنّهم

 

1 شيخ الطَّائفة، مُحَمَّد بن الحسن الطُّوسي، الأمالي، ص203، المجلس السابع، تحقيق: قسم الدَّراسات الإسلاميَّة في مؤسسة البعثة، الطَّبعة الأُولى 1414، نشر: دار الثقافة للطَّباعة والنَّشر والتَّوزيع، قم.
2 الطباطبائي، مُحَمَّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج5، ص240، منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم.
 
 
 
97

 


82

الدرس التاسع: قسوة القلب

 ابتلوا بقسوة القلب نتيجة كفرهم ومعاصيهم وقيامهم بأعمال غير مرضية عنده تبارك تعالى, حيث يقول: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾1.

 
لذا لا بدّ من الإشارة إلى الأسباب التي توجب هذا المرض الخطير، الَّذِي إذا ابتلي به العبد حصل على نتائج سلبية أقلّها الطرد من رحمة الله تبارك وتعالى، إِلَّا أَنَّ الكلام في هذه الموعظة فعلاً عن الأسباب التي تقود إِلَى هذه الخصلة المهلكة.
 
أسباب قسوة القلب
تكشف الآيات القرآنية والروايات الواردة عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم عن عدد من الأسباب المؤدية لحصول هذه القسوة لدى الإنسان، يمكن أن نلخّص أهمّها فيما يلي:
1- نقد العهد والميثاق:
فقد ورد في الآية المتقدّمة: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾, حيث جعلت سبب لعنهم وجعل قلوبهم قاسية هو نقض الميثاق وتخلّفهم عما وعدوا الله تعالى به.
 
وهذا حكاية عن بني إسرائيل كما تقدمت الإشارة إليه، ومن الواضح أَنَّ القرآن وصف في كثير من الآيات بني إسرائيل وكفرهم وقتلهم الأنبياء وإفسادهم في الأرض وغيرها من الأمور التي اشتهروا بها، ولا يزالون.
 
وهذا الأمر لا يختصُّ ببني إسرائيل، بل هو شاملٌ لجميع النّاس ومنهم الَّذِين آمنوا، فإنّ المؤمن له عهودٌ ومواثيق مع ربّه تبارك وتعالى، ينبغي أنْ يحافظ عليها ولا 



1 سورة المائدة، الآية: 13.
 
 
 
98

83

الدرس التاسع: قسوة القلب

 ينقضها، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾1.

 
2- طول الأمل والاطمئنان بالحياة الدنيا:
يعتبر طول الأمل والاطمئنان بالحياة الدنيا من الأسباب الرئيسة في قسوة القلب، حيث ورد في الآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾2.
 
كما ورد أيضاً في رواية الكافي عن علي بن عيسى رفعه قال: "فِيمَا نَاجَى الله عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مُوسَى عليه السلام يَا مُوسَى لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا أَمَلَكَ فَيَقْسُوَ قَلْبُكَ وَالْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ"3.
 
وعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُوا قُلُوبُكُم"4.
 
ومن الطبيعي أَنَّ الإنسان عندما يطول أمله في هذه الدنيا ويطمئن بها وبالحياة فيها، فسوف ينسى شيئاً فشيئاً مرحلة انتقاله عنها وتركه لها، وبالتالي لن يعمل لتلك المرحلة ولن يتفاعل مع أيّ شيء يمكن أن ينقل قلبه إليها, وذلك لأنّه تمسّك بهذا العالم وعمل له وجعل أمله منحصراً فيه دون سواه. لذا نرى أَنَّ كلّ الأسباب المؤدية إلى قسوة القلب والتي سنذكرها لاحقاً تشترك فيما بينها بهذه المسألة، وهي التوجّه إلى الدنيا وترك الآخرة, فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَنْ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ 



1 سورة الأنفال، الآية: 27.
2 سورة الحديد، الآية: 16.
3 الشيخ الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص329، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
4 الشَّيْخ الصَّدوق، مُحَمَّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، ص622، تصحيح وتعليق: علي أكبر غفّاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلميّة 1403، قم.
 
 
 
99

84

الدرس التاسع: قسوة القلب

 غَداً فَإِنَّهُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً وَمَنْ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً يَقْسُو قَلْبُهُ وَيَرْغَبُ فِي الدُّنْيَا وَيَزْهَدُ فِي الَّذِي وَعَدَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى"1.

 
والعكس صحيح, فإنَّ كلّ ما يمكن أن يقلّل من توجّه الإنسان إلى الدنيا ويذكّره بالآخرة فهو يليّن القلب، كما ورد في وصية الإمام أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام: "أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ وَذَلّلْـه بِذِكْرِ الْمَوْتِ"2.
 
ولهذه الآية المتقدمة قصة جميلة حصلت مع الفضيل بن عياض، لا بأس بنقلها في المقام, حيث ينقل صاحب سفينة البحار كيف أَنَّ هذه الآية القرآنيّة التي ذكرناها قد استقرّت في أعماق وجوده فأثّرت في روحه، ومحت برنامج سنين طويلة من القتل والنهب والإغارة، فتاب وصار في صفّ أولياء الله والمقرّبين في فناء حضرته، وله حالات ومقامات وكرامات صارت سبب عبرة أهل زمانه، وقد جعله كشف الحجب الظلمانيّة ثمّ النورانيّة في زمرة العرفاء السامين الأجلّاء.
 
يقول: كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين أبِيوَرْد وسَرَخْس، وكانت القوافل تعاني منه الأمرَّين. عشق جاريةً، فبينما كان يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾3.
 
فقال والدموع تنحدر من مآقيه: آنَ، آنَ، آن والله.
 
فرجع وأوى إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل. وقال بعضهم: حتى نُصبح, فإنّ فضيلًا على الطريق يقطع علينا، فأخبرهم الفضيل بتوبته وآمنهم، وقال: اذهبوا في أمان الله لا بأس عليكم.
 
ثمّ التحق الفضيل من هناك بصحبة الإمام الصادق عليه‏ السلام، وصار من
 



1  المحدّث النوري، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج2، ص106، نشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام، الطبعة الأُولى 1408، بيروت.
2 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة, ص336، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
3 سورة الحديد، الآية: 16.
 
 
100

 


85

الدرس التاسع: قسوة القلب

 أصحابه وخواصّه المحدِّثين عنه، يذكره جميع الكبار بالوثاقة والعدالة ويعدّون رواياته معتبرة1.

 
وهذه القصة تعطي الإنسان أملاً في أنّه مهما قسا قلبه، فإنّ الله تعالى يمكن أن يمنحه أموراً في بعض الأحيان تليّن له هذا القلب القاسي، فإن استجاب لها نجا، وإلا عاد إلى ما كان عليه من القسوة والبعد عن الله، وهذا ما تشير إليه الرواية النبوية: "إِنَّ لِله فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَرَصَّدُوا لَهَا‌"2.
 
3- كثرة الذنوب:
من أسباب قسوة القلب كثرة الذنوب، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "ما جفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب"3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يقسين القلب: استماع اللهو، وطلب الصيد، وإتيان باب السلطان"4.
 
والمراد باستماع اللهو هو استماع الغناء والموسيقى، والتي صارت شائعة وسهلة المنال في عصرنا هذا، حتى أنت ترى الكثير من الناس المتشرعين يتساهلون بهذه الأمور، ولا يرون لها أي أثر على حياتهم الدينية والسلوكية. لكن الأثر يظهر في قلب هذا المسكين، وينعكس على سلوكه وعبادته، فيشكو من عدم التوجّه في العبادة ومن قلّة التفاعل مع الدعاء، ومن جفاف الدمعة من خشية الله، فهذه كلها نتائج طبيعية لتلك المعاصي التي يبتلى بها الإنسان دون أن يشعر أو يدري.
 
وأيضاً ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ترك العبادة يقسّي القلب، ترك الذكر يميت النفس"5.



1 نقلاً عن كتاب ملكوت القرآن، ج3، ص219.
2 ابن أبي جمهور الإحسائي، محمد بن علي، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، ج1، ص296، تحقيق: مجتبى العراقي، مطبعة سيد الشهداء، قم، الطبعة الأُولى 1403هـ.
3  الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج16، ص25، باب تحريم قسوة القلب.
4 السيد البروجردي، ج17، ص206، باب تحريم استماع الغناء والملاهي.
5 الري شهري، ميزان الحكمة، ج3، ص2612.
 
 
 
101

86

الدرس التاسع: قسوة القلب

 ومن الواضح أن ترك العبادة واستماع اللهو وطلب الصيد وإتيان باب السلطان التي وردت في الروايتين الأخيرتين تشترك جميعاً في أنها معاصي، إذ كل ترك للواجب حرام ويعد معصية، وكذا ينبغي أن يكون الحال في سائر المعاصي والمحرمات الأخرى.

 
4- كثرة الكلام بغير ذكر الله:
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، إن أبعد الناس من الله القلب القاسي"1.
 
وعن عمرو بن جميع عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان المسيح عليه السلام يقول: "لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله، فإن الذين يكثرون الكلام في غير ذكر الله قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون"2.
 
والحديث عن كثرة الكلام ذو فصول، لكن نقصر النظر فيه على هذه الخصوصية التي يُقسي فيها قلبَ الإنسان ويبعده عن الله تعالى، فإن الكلام في أي شيء كان وحول أي أمر, فإما أن يكون باطلاً فهذا بنفسه مبعد عن الله ومقسٍ للقلب. وإما أن يكون لغواً لا فائدة فيه ولا طائل منه، فيكون شاغلاً للإنسان عن الله وعن ذكره عز وجل. وإما أن يكون حقاً وفي محلّه فهذا هو الذي يكون ذكراً، ولا يتنافى مع رقة القلب، لذا فقد استثناه النبي في الرواية بقوله "بغير ذكر الله".
 
5- أكل المال الحرام:
فقد ورد أن الإمام الحسين عليه السلام قام يوم عاشوراء لمخاطبة أهل الكوفة، فلم ينصتوا له، فكلّمهم وفيما قال لهم: "... كلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع قولي، فقد مُلئتْ بطونكم من الحرام، وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟"3.



1  الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج8، ص536، باب وجوب حفظ اللسان.
2   م. ن، ج12، ص196، باب كراهة كثرة الكلام.
3  العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج54، ص8.
 
 
 
102

87

الدرس التاسع: قسوة القلب

 إذ أكل المال الحرام له الكثير من الآثار والكثير من التبعات التي لا تحمد عقباها، وتبقي الإنسان رهناً بها إلى يوم القيامة. ولعل الكلام عن تأثيره على قسوة القلب بسيط بالقياس إلى تلك الآثار الأخروية التي قد لا يطيق الإنسان سماعها فضلاً عن تحملها, كالآية التي تتحدث عن أكل مال الأيتام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾1.

 
ولعل أكثر ما نبتلى به في مجتمعنا من أكل المال الحرام هو الربا والتعامل مع البنوك والشركات المساهمة التي تعطي ربا تسميه (أرباحاً)، فإن هذا المال إذا نبت عليه لحمي ودمي فسوف يترك آثاراً كبيرة في سلوكي وروحيتي لا تمحى بسهولة.
 
كما أن الكثير من الناس يُبتلون بعدم دفع حقوق الناس التي عليهم، وحقوق الله تعالى التي في ذمتهم، فيصير مالهم مختلطاً بمال غيرهم وهو ما يعطي الأثر ذاته.



1 سورة النساء، الآية: 10.
 
 
 
103

88

الدرس التاسع: قسوة القلب

 

 

104


89

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا



مفاهيم محورية:
- الموازنة بين الدنيا والآخرة.
- الدُّنيا الملعونة ودنيا البلاغ.
- خطورة حب الدنيا وعلاجه.
- مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ.
 
 
 
105

90

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 نصُّ الوصية:

ورد في الكافي الشريف عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام: "تَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا وَأَنْتُمْ تُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ وَلَا تَعْمَلُونَ لِلْآخِرَةِ وَأَنْتُمْ لَا تُرْزَقُونَ فِيهَا إِلَّا بِالْعَمَلِ..."1.
 
و عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام: "إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً وإِنَّ الآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً ولِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ ولَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَلَا وكُونُوا مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الآخِرَةِ أَلَا إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا اتَّخَذُوا الأَرْضَ بِسَاطاً والتُّرَابَ فِرَاشاً والْمَاءَ طِيباً وقُرِّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْرِيضاً"2.
 
الموازنة بين الدنيا والآخرة
إن من غرائب الإنسان رغم ما يحمل من قوة عقل وفكر انه يعطل تفكيره في الآخرة وعمله لها، ويستغرق في الدنيا فكراً وعملاً، مع أن الدنيا فانية والآخرة باقية، وبالحسابات المنطقية التفكير والعمل للدائم أولى منهما للزائل.



1 الشيخ الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص319، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
2 م. ن، الكافي، ج2، ص132.
 
 
 
107

91

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 وليس معنى ذلك أن الدين الإسلامي يمنع التفكير والعمل للدنيا ، كلا فالدين الإسلامي متوازن يحث على الاعتدال في كل شيء ، فهو دين الاعتدال.

 
يقول تعالى: ﴿...كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾1.
 
فنلاحظ أن الآية الكريمة تقول لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، وهي واضحة فيما قلناه من التوازن الإسلامي.
 
ويقول تعالى: ﴿...وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...﴾2.
 
روي عن الإمام الحسن عليه السلام: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا"3. يقول المولى صالح المازندراني قدس سره: قال الله تعالى لأهل الدنيا: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾4، ولأهل الآخرة: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾5 فطلب العمل للدنيا مع أَنَّها تنال بدونه، وترك العمل للآخرة مع أَنَّها لا تنال إِلَّا به، دلّ على نقص الإيمان، وأنّه مجرّد التقوّل باللسان.
 
وقد خاطب المسيح عليه السلام بقوله: (وَيْلَكُمْ عُلَمَاءَ سَوْءٍ): علماء الدين بالنداء، وذمّهم بترك العمل بعلومهم توقّع الأجر إنكاراً لذلك، وحثّهم على العمل بقوله: (يُوشِكُ رَبُّ الْعَمَلِ أَنْ يُقْبَلَ عَمَلُهُ)، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ.
 
(وَيُوشِكُ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ): فيجدوا ما كانوا فيه من خير وشرّ حاضراً، وفيه ترغيبٌ في ترك الدُّنيا, لقلّة مدّتها وسرعة زوال شدّتها،



1 سورة البقرة، الآيتان: 219 - 220.
2  سورة القصص، الآية: 77.
3 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج1، ص146.
4 سورة هود، الآية:6.
5 سورة النجم، الآية: 39.
 
 
 
108

92

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 وتحريضٌ على العمل لما بعدها، والأعمال الصالحة أنوارٌ تدفع ظلمات القبر والقيامة.

 
(كَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ هُوَ فِي مَسِيرِهِ إِلَى آخِرَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى دُنْيَاهُ وَمَا يَضُرُّهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّا يَنْفَعُهُ):
 ما يضرّه الدُّنيا وأعمالها المطلوب منها متاعها, وما ينفعه الآخرة وأعمالها المستلزمة رفيع درجاتها، ومن أدبر عن الثاني وأقبل إِلَى الأوّل، وأحبّ الدّنيا والاستكثار منها، وصحبة أهلها للجاه والمال، فليس بعالمٍ, وإنّما العالم من عرف الله وعظمته وعزّه وقهره وغلبته ودينه وكتابه وسنته وبعثه, ذلك على الورع والتقوى والزهد في الدنيا، ودوام الهيبة والخشية والعمل للّه وهو الّذي وصفه اللّه تعالى بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1.
 
الدُّنيا الملعونة ودنيا البلاغ
في الحديث عن الإِمام السجاد عليه السلام: "الدُّنْيَا دُنْيَاءَانِ دُنْيَا بَلَاغٌ وَدُنْيَا مَلْعُونَةٌ"2.
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: "فِي مُنَاجَاةِ مُوسَى عليه السلام يَا مُوسَى إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ عُقُوبَةٍ عَاقَبْتُ فِيهَا آدَمَ عِنْدَ خَطِيئَتِهِ وَجَعَلْتُهَا مَلْعُونَةً مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ فِيهَا لِي"3.
 
هذا معيارٌ كاملٌ للدّنيا الملعونة وغيرها، فكلّ ما كان في الدّنيا ويوجب القرب إلى الله تعالى من المعارف والعلوم الحقة والطاعات وما يتوصل به إليها من المعيشة بقدر الضرورة والكفاف، فهي من الآخرة وليست من الدّنيا، وكلّ ما يصير سبباً للبعد عن الله والاشتغال عن ذكره، ويلهي عن درجات الآخرة وكمالاتها، وليس الغرض فيه القرب منه تعالى والوصول إلى رضاه فهي الدنيا الملعونة.
 
قيل: ما يقع في الدنيا من الأعمال أربعة أقسام:
الأول: ما يكون ظاهره وباطنه لله، كالطاعات والخيرات الخالصة.



1 انظر: المولى المازندراني، محمد صالح، شرح أُصول الكافي، ج9، ص330، تحقيق: أبو الحسن الشعراني، الطبعة الأولى 1382هـ، نشر: المكتبة الإسلامية، طهران.
2 م. ن، ص317.
3 م. ن.
 
 
 
109

93

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 الثاني: ما يكون ظاهره وباطنه للدنيا، كالمعاصي وكثير من المباحات أيضاً, لأنّها مبدء البطر والغفلة.

الثالث: ما يكون ظاهره لله وباطنه للدّنيا، كالأعمال الريائية.
الرابع: عكس الثالث، كطلب الكفاف لحفظ بقاء البدن، والقوة على العبادة، وتكميل النفس بالعلم والعمل1.
 
خطورة حب الدنيا وعلاجه
إن الإقبال على الدنيا والاستغراق فيها يؤدي بالإنسان إلى الانزلاق في وحول الأخطاء والمعاصي، ورد عَنْ أَبِي عَبْدِ الله 
عليه السلام قَالَ: "رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ حُبُّ الدُّنْيَا"2, وذلك لأنّ خصال الشرّ مطوية في حبّ الدّنيا وكل ذمائم القوة الشهوية والغضبية مندرجة في الميل إليها, ولذا قال الله عز وجل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾3.
 
و يمكن التخلّص من حبّ الدنيا بأمور:
1- العلم بمقابحها ومنافع الآخرة وتصفية النفس وتعديل القوتين:
جاء في الكافي في الصحيح عن أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ لَمْ يَتَعَزَّ بِعَزَاءِ الله تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٍ عَلَى الدُّنْيَا وَمَنْ أَتْبَعَ بَصَرَهُ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ كَثُرَ هَمُّهُ وَلَمْ يُشْفَ غَيْظُهُ وَمَنْ لَمْ يَرَ لِله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ نِعْمَةً إِلَّا فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبٍ أَوْ مَلْبَسٍ فَقَدْ قَصُرَ عَمَلُهُ وَدَنَا عَذَابُهُ"[4].



1 العلامة المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار الرسول، ج10، ص235.
2 م. ن، ص315.
3 العلامة المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج10، ص228، تصحيح وتحقيق: السَّيِّد هاشم رسولي، نشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية 1404، طهران.
4 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص316.
 
 
 
110

94

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له"1.

 
2- الصبر على البلايا وما فات من الدنيا:
والحاصل أنّه من لم يصبر على ما فاته من الدنيا وعلى البلايا التي تصيبه فيها بما سلاه الله في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *  الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾2، وسائر الآيات الواردة في ذم الدنيا وفنائها، ومدح الرضا بقضائه تعالى, تقطّعت نفسه للحسرات على المصائب، وعلى ما فاته من الدنيا، وربما يحصل الحسرات على ما يحصل له عند الموت من مفارقتها.
 
3- عدم النظر إلى أهل الترف:
(وَمَنْ أَتْبَعَ بَصَرَهُ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ)، أيْ: نظر إلى من هو فوقه من أهل الدنيا، وما في أيديهم من نعيمها وزبرجها نظر 
رغبة وتحسّر وتمن (كَثُرَ هَمّهُ), لعدم تيسّرها له، فيغتاظ لذلك ويحسدهم عليها، ولا يمكنه شفاء غيظه، إلّا بأنْ يحصل 
له أكثر مِمّا في أيديهم، أو يسلب الله عنهم جميع ذلك، ولا يتيسر له شيء من الأمرين، فلا يشفي غيظه أبداً ولا يتهنّأ له العيش.
 
لذلك عليه أن ينظر إلى من هو دونه دنيوياً حتى يقنع ولا يحسد، ورد عن الامام الرضا عليه السلام: "انظر إلى من هو دونك في المقدرة ، ولا تنظر إلى من هو فوقك ، فإن ذلك أقنع لك، وأحرى أن تستوجب زيادة"3.
 
4- أن ينظر إلى النعم الإلهية غير الظاهرة:
(وَمَنْ لَمْ يَرَ لِله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ نِعْمَةً إِلَّا فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَشْرَبٍ أَوْ مَلْبَسٍ)، أيْ: مَنْ توهّم أَنَّ نعمة الله عليه منحصرة في هذه النعم الظاهرة كالمطعم والمشرب والمسكن وأمثالها فإذا فقدها أو شيئاً منها ظنّ أنّه ليس لله عليه نعمة، فلا ينشط



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص129
2 سورة البقرة، الآيتان: 155 ـ 156.
3 القمي، علي بن بابويه، فقه الرضا،ص356.
 
 
111

95

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 في طاعة الله، وإنْ عمل شيئاً مع هذه العقيدة الفاسدة وعدم معرفة منعمه لا ينفعه ولا يتقبّل منه، فيكون عمله قاصراً وعذابه دانياً, لأنَّ هذه النعم الظاهرة حقيرة في جنب نعم الله العظيمة عليه من الإيمان والهداية والتوفيق والعقل والقوى الظاهرة والباطنة، والصحة ودفع شرّ الأعادي وغيرها مما لا يحصى، وإن أردت أن تعرف نعم الله عليك فاغمض عينيك.

 
والحاصل: أَنَّ من لم يصبر أو لم يحسن الصبر والسلوة على ما رزقه الله من الدنيا، بل أراد الزيادة في المال والجاه مِمّا لم يرزقه إياه تقطعت نفسه حسرة بعد حسرة على ما يراه في يدي غيره مِمَّن فاق عليه في العيش، فهو لم يزل يتبع بصره ما في أيدي الناس، ومن اتّبع بصره ما في أيدي الناس كثر همّه، ولم يشفَ غيظه، فهو لم يرَ أَنَّ لله عليه نعمة إِلَّا نعم الدُّنيا، وإنّما يكون كذلك من لا يؤمن بالآخرة، ومن لم يوقن بالآخرة قصر عمله، وإذ ليس له من الدنيا إِلَّا قليل بزعمه، مع شدة طمعه في الدنيا وزينتها فقد دنا عذابه, نعوذ بالله من ذلك.
 
ومنشأ ذلك كلّه الجهل وضعف الإيمان. وأيضاً لمّا كان عمل أكثر الناس على قدر ما يرون من نعم الله عليهم عاجلاً وآجلاً، لا جرم مَنْ لم يرَ من النعم عليه إِلَّا القليل، فلا يصدر عنه من العمل إِلَّا القليل، وهذا يوجب قصور العمل ودنوّ العذاب.
 
مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ
في الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: "مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا مَثَلُ دُودَةِ الْقَزِّ كُلَّمَا ازْدَادَتْ مِنَ الْقَزِّ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً كَانَ أَبْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام: أَغْنَى الْغِنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِرْصِ أَسِيراً وَقَالَ لَا تُشْعِرُوا قُلُوبَكُمُ الِاشْتِغَالَ بِمَا قَدْ فَاتَ فَتَشْغَلُوا أَذْهَانَكُمْ عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا لَمْ يَأْتِ"1.
 
فأغنى الغنى يكون بترك الحرص، وليس بكثرة المال, فإنّ الحريص كلّما ازداد 
 


1 القمي، فقه الرضا، ص 356.
 
 
 
112

96

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 ماله، اشتدّ حرصه، فيكون أفقر وأحوج مِمَّن لا مال له.

 
وقد أنشد بعضهم في التمثيل بدودة القزّ:
أَلَمْ ترَ أَنَّ المرءَ طولَ حياتِهِ           حريصٌ على ما لا يزال يناسجه
كدود القزّ ينسج دائماً                 فيهلك غمّاً وسط ما هو ناسجه
 
وفي الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام، قَالَ: "مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قَسَمَ الله لَهُ وَمَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ"1.
 
وذلك لأنّه كلما يحصل له من الدّنيا يزيد حرصه بقدر ذلك، فيزيد احتياجه وفقره،لعدم قناعته التي هي كنز لا يفنى، أما الحرص فهو حسرة لا تفنى.



1 الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 319.
 
 
 
113

 


97

الدرس العاشر: العمل في الدُّنيا

 

 

114


98

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر




مفاهيم محورية:
- أَهميّة الوصيّة.
- ما هو التدبّر؟
- تدبّر العاقبة.
- بين المال والعقل والتّدبّر.
- التَّثَبُّت والسَّلامة.
 
 
 
115

99

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 نصُّ الوصية:

قَالَ الإمام الصادق عليه السلام: "إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: فَهَلْ أَنْتَ مُسْتَوْصٍ‏، إِنْ أَنَا أَوْصَيْتُكَ! ـ حَتَّى قَالَ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثاً ـ وَفِي كُلِّهَا يَقُولُ لَهُ الرَّجُلُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ الله. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: فَإِنِّي أُوصِيكَ، إِذَا أَنْتَ هَمَمْتَ بِأَمْرٍ فَتَدَبَّرْ عَاقِبَتَهُ‏, فَإِنْ يَكُ رُشْداً فَامْضِهِ, وَإِنْ يَكُ غَيّاً فَانْتَهِ عَنْهُ"1.
 
أَهميّة الوصيّة
للوصيّة دورٌ مهمٌّ في ترتِيب أولويّاتِ الإنسان المؤمن، فهي تحدّد له الاتّجاه الّذي يجب عليه أن يَبقى متوجّهاً ناحيته، فلا يَغفل بطول الأمل، فينسى الآخرة، ولا يضيع باتّباع الهوى، فيضلّ عن الطريق.
 
لأجل هذا كان طلب السائل الوصيّة من النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, فقد عَرَفَ الطّريق الصّحيح الموصل لتحقيق الغاية الأصليّة لوجوده، ومن خلال الوصيّة سيصلُ إلى هدفه بشكل أسرع.
 
فأجاب ذاك المؤمن بكلّ طمأنينة وشوق إلى ما يوصيه به النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نعم يا رسول الله، عهدي لك أنّي موفٍ بوصيتك ليَ مهما صعُبت تلك الوصيّة...



1 الشيخ الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج8، ص150، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
 
 
 
117

100

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 ما هو التدبّر؟

التَّدْبِيرُ: "أَن يَتَدَبَّرَ الرجلُ أَمره ويُدَبِّرَه أَي ينظر في عواقبه..."1. والتدبر: النظر في دبر الأمور: أي عواقبها، وهو قريب من التفكر, إلَّا أن التفكّر تصرّف بالنظر في الدليل، والتدبّر تصرّف بالنظر في العواقب1.
 
فلماذا أصرّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على تنفيذ الوصيّة؟!
وما هو موضع تأمّل وتفكّر، هو تأكيد الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم وتشديده على السائل بأنْ يؤدّي الوصيّة، وألّا يتخلّف عنها، فطلب منه الوفاء بالعهد والوعد على أن ينفّذ الوصيّة الّتي سيُوصِيهِ بها.
 
بعد معرفة مضمون الوصيّة، يتّضح لنا سبب تأكيده صلوات الله عليه وعلى آله على أداء الوصيّة، حيث ركّز على مفهوم التدبّر، وكيف أنّ التّدبّر يُعتبر الميزان الدّقيق في نجاح أفعال الإنسان وأقواله.
 
فتارة ترى الإنسان مُتسرّعاً، غيرَ متدبّر ومتفكِّر في خطواته الّتي يَقوم بها، وأخرى يُخضِع كلَّ أفعاله وأقواله للميزان الّذي أوصى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باتِّباعه.
 
فالمتَدبِّر مُتَعقِّلٌ، والمتعقِّل صاحبُ عقل، والّذي يمتلك العقل لا يمكن أن يندمَ على فعل يقوم به، وعلى كلام يَنطق به, لأنَّ لسَانَ العاقلِ وراءَ قلبه، وقلبُ الأحمقِ وراءَ لسانه.
 
بمعنى: أَنَّ العاقل يعلم الصّدق والكذب في الأقوال، والحقّ والباطل في الأفعال، ثمّ يتفكّر، ويَبني على تفكّره تحديدَ الصّدق من الكذب، والحقّ من الباطل، بينما الأحمقُ يتكلّم دون تفكّر وتدبُّر، فيفعلُ الباطل، ويقول الكذب دون أيّ رادعٍ أو مانعٍ.
 
لذا كرّرها الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرّات: (هَلْ أَنْتَ مُسْتَوْصٍ‏، إِنْ أَنَا أَوْصَيْتُكَ)، وكان يجيبه دائماً: (نَعَمْ، يَا رَسُولَ الله).



1 ابن منظور، لسان العرب، ج4، ص273.
2 د. محمود عبد الرحمن عبد المنعم، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، ج1، ص451.
 
 
 
118

101

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 تدبّر العاقبة

مجمل الكلام في التدبُّر المرتكزة عليه الوصية النبوية أنْ يُقال: "دبر كلّ أمر، وعاقبته: آخره. والتدبّر فيه النظر في آخره، وهذا اللفظ وجيزٌ جامعٌ في النصيحة. وإنَّ من فعل أمراً بالتدبر فيه لا يتوجه إليه عقوبة ولوم فى الدنيا والآخرة"1.
 
ولكلِّ عملٍ عاقبته ونهايته، ولكلّ قولٍ وكلامٍ عاقبة أيضاً, من هنا كان إصرار النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على تدبّر عاقبة ما نُريد أن نقوم به، فلا نكون مِصداقاً للآية الكريمة الّتي تشير إلى عجلة الإنسان، حيث قال تعالى في محكم كتابه: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾2.
 
ليس للإنسان أن يستعجلَ، حتَّى يرى الطريق واضحاً أمامه, فإنّ الله تعالى قد وعده بأنِّي سأريك آياتي فلا تستعجل, لكيلا تضلّ الطريق، وتفشل فشلاً ذريعاً.
 
نحن وإن خُلقنَا من عجلٍ، لكنَّ العجلَ أمرٌ خاضع للتدبُّر، ويأتَمِرُ بأمره إن استطعنا أنْ نسيطر عليه، فالله تعالى لم يحسُمِ الأمرَ, لذا جعل العجلة دائمةً فينَا, بدليل قوله: ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾، وفَسَحَ المجال لعلاج هذه الخَصلة الرّديئة، فلو كانت العجلة خَصلة معجونةً في تركيبة الإنسان لمَا قال عزّ وجلّ: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾.
 
كيف يطلب الله سبحانه منَّا ألَّا نستعجل ثمّ يقول لنا: أنتم في حالة عجلة ولا يمكن لكم أن تتحكّموا بهذه العجلة، أليس هذا من التغرير والتضييع للناس؟! ولا يصحّ أن يغرّر الحكيم بعباده فيوقعهم فريسة الاستعجال.
 
وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾3.



1 انطر: المولى المازندراني، محمد صالح، شرح أُصول الكافي، ج12، ص154، تحقيق: أبو الحسن الشعراني، الطبعة الأولى 1382هـ، نشر: المكتبة الإسلامية، طهران.
2 سورة الأنبياء، الآية: 37.
3 سورة محمد، الآية: 24.
 
 
 
119

102

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 التدبّر أمر لا بدّ منه، وإنْ كنّا مخلوقين من عجل، ولكن يبقى المجال مُشرعاً أمامَنا لكي نُحسن التصرُّف، ونُدرك الخيرَ من الشَّرِّ في أفَعالنا وأقوالِنا، فمثلاً أن لا نَتهوَّر في كلام يُنقل إلينا، فنحكم على الكلام بالصّحة أو الفساد دون تبيُّنٍ واستيضاحٍ، ومعرفةٍ لحقائقِ الأمورِ.

 
كلٌّ منَّا يسَعى جاهداً لكي يَنَال أكملَ عمل يُمكن أنْ يقوم به، فإذَا أردنا ـ حقًا ـ أنْ نحصلَ على عمل ناجحٍ لا نَدَمَ فيه فعلينا بالتدبُّر.
 
والتدبّر هو التَّفكر والتأمل الدَّقيق بما نقوم به، وما نتفوَّه بهِ من كلام قد يؤدِّي بنَا وبغيرنا إلَى الدَرَكِ الأسفلِ، والخُسران المبين بسبب قلّة التدبّر والتّأمل.
 
قَالَ أمير المؤمنين عليه السلام‏: "لَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ"1.
 
فالعقل والتدبير توأمان متلازمان لا يفترقان عن بعضهما البعض, فعندما نتدبّر الأمر نصبح من أهل العقل، وعندما نتعقّل الكلام الّذي نريد أن نقوله أو نستمع إليه، نصبح من أهل التدبّر. وبالتدبُّر نميّز بين الكلام الصالح للاتباع وغيره، قال تعالى مادحاً: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾2.
 
والمال كلّ المال في العقل، فإنّه يُعطي الإنسان الغِنى الحقيقيَّ في دنياه وفي آخرته، فالعقل أَعودُ مالٍ يُمكن أن يعودَ على الإنسان بالنّفع والفوائد الجمّة، حيث إنّ المال مُضِرٌّ بصاحبه في كثير من الأحيان، وأمَّا العقل فهو المال المفيد على كلّ حال، والموصل لأفضل مآلٍ.
 
كل مالٍ يعود بضررٍ على صاحبه، ولو كان ضرراً ضئيلاً إلَّا العقلَ والتدبُّرَ والتفكُّرَ والتَّأمُلَ، فإنَّه أعود, أي: أنفع مالٍ يُمكن أن يعودَ على الإنسان بالنّجاح والفلاح الدّائمين.



1 الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص426، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
2 سورة الزمر، الآية: 18.
 
 
 
120

103

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 بين المال والعقل والتّدبّر

إذا نظرنا إِلَى الحديث الأخير نجد أَنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قد ربط بين الأُمور الثلاثة: (العقل والتدبُّر والمال)، فما 
هو سرُّ ذلك؟!
 
يمكن القول إنَّ زينة الحياة الدّنيا هي المال، وهو المسعى الدؤوب الَّذِي يفني الإنسان عمره لأجله، وهو أهمّ أسباب التفرقة بين الأرحام، فتراهم يتقاتلون ويتنافرون لأجله وبسببه.فأراد أمير المؤمنين عليه السلام أنْ يبيّن لنا أَنَّ المال الحقيقي عند أهل البصائر عبارة عن التعقّل والتدبّر, لأنّ المال الظاهري الَّذِي يسعى الناس لجمعه، ويتكالبون على كنزه، سرعان ما نفارقه إنْ لم يكن بالخسارة في هذه الدُّنيا، فلا أقلّ بالموت.
 
أما المال المعنوي أي العقل فهو أعود بالنفع على صاحبه باعتبار أنّ به غنى النفس وهو رأس مالها الَّذي به يكتسب الأرباح الباقية والكمالات المعنوية.
 
التَّثَبُّت والسَّلامة
السّلامة كامِنة ومختبئة في التثبّت، فعندما يتروّى الإنسان في العمل الّذي يُريد أن يؤدّيه يحصل على السّلامة، والنّجاح في عمله، وإنْ دوامَ الإنسانُ على التدبّر والتّثبت أصبحَ لديه ملَكةً يستطيع من خلالها أن يَدخل أيّ مُعتركٍ شَاء، وبدخوله يكون قاطعاً بالفوز والنّصر, لأنّه طبَّق القواعد الّتي أَرْسَى أساساتها الدين وشريعة سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وهذا ما نصّ عليه الإمام الصادق عليه السلام، فقال: "مَعَ التَّثَبُّتِ تَكُونُ السَّلَامَةُ، وَمَعَ الْعَجَلَةِ تَكُونُ النَّدَامَةُ، وَمَنِ ابْتَدَأَ بِعَمَلٍ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ كَانَ بُلُوغُهُ فِي غَيْرِ حِينِهِ"1.
 
هذا في السلامة، وأمّا إذا خاضَ الإنسان طريقَ العجلة، وكذلك جعلها ملكةً له، 



1 الشَّيْخ الصَّدوق، مُحَمَّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، ص100، تصحيح وتعليق: علي أكبر غفّاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلميّة 1403، قم.
 
 
 
121

104

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 صار إنساناً عجولاً, فهو لم يتدبّر ولم يلتفت إلى أهميّة القوانين الّتي كتبها النّبيّ وآل بيته عليهم السلام، فوقع في مُستنقع 

العجلة، وغَرِق في قعرٍ سَحيق من التّخبط النّفسي, لأنّه سيكون محلّ تَشْنِيع القوانين الإلهيَّةِ الَتي طلبت منه أن يَنضَوِيَ 
في كتاب التّدبَر، وأنْ يَستَقِيَ من رَحيق التّعقل، كلَّ ثِمار الخُطى الثّابتة، والدّرجات العُلى الّتي لا يمكن أنْ يَقْترب منها 
الفشل على الإطلاق. ها هو أمير المؤمنين عليه السلام يُوصينا بالتدبّر قبل العمل، حيث يقول: "التَّدْبِيرُ قَبْلَ الْعَمَلِ يُؤْمِنُكَ مِنَ النَّدَم‏"1.
 
الإنسان بين فكَّيِّ النّدامة والفشل، وعلى خلافها ونقيضها يحصل الفَلاح والسّلام والسّلامة بالتّثبت من طريق التّدبر، فالواحد منّا يتثبَّت عبرَ تفكُّره بمَا يُريد أن يُقدِمَ عليه من خطوات، وتصرّفَات قد تكون مضرّة به وبغيره من النّاس الّذين يعيشون معه في مُجتمع واحد.
 
أَلسْنَا نرى بأمِّ العين الكثيرَ من المصائب الّتي تنصبُّ على كواهل العديد من العوائل بسبب العجلة، فينهار البيت المرصوص بسبب كثرة الشكوك، وقلّة التثبّت من الكلام والأفعال.
 
ونحكم على صديق لنا قد عِشنَا معه عُمراً مديداً, لأنّنا لم نتثبّت من كلام نُقل لنَا، ولم نلتفت أو نحتمل أَنَّ الصديق قد جُمِّلَ وبُشِّع من خلال الكلام, بهدف إيجاد الفرقة أو الحسد أو غير ذلك من نيّات السوء، الكاشفة عن خبث باطن صاحبها.
 
بل أكثر من ذلك، إنّ بعض الحالات الّتي نُعانيها اليوم في مجتمعاتنا تَصلُ إلَى حدِّ القتل وإزهَاق الرُّوح بسبب قلّةِ التدبّر، أو نُدرة التدبّر والتّأملِ والتثبّت ممّا يُنقل إلينَا من كلام غير صحيح عن أُناسٍ هم أقرب النّاس إلينا، فنبتعدُ عنهم نتيجةً لتصديقنا السّريع لما يبثُّه أهل السّوء والشّر في مجتمعاتِنا وفي كلّ مكان نعيش فيه.
 
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوصينا
بَعد التأمُّل والتدبّر في وصيّة الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولَهفته علينا كَي نَصلَ إلى برّ الأمان،



1 الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص388، نشر: مؤسسة النّشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، 1413هـ.
 
 
 
122

105

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 نستنتج أنَّه صلوات الله عليه وعلى آله أرادَ منّا أن نعمل بقوّةٍ وعزيمةٍ فيما يوصينا به, بتكراره وحثّه على العمل بالوصيّة.


وألَّا نَهُمَّ بعمل قبل أن نُحسنَ ونُجيدَ التَّدبُّر فيهِ، وتدبيره بشكل مُتقَنٍ وكامل، فأوصانا جميعاً أن نصبَّ جامَّ طَاقتنا على تدبُّر أيّ عمل نُريد القيام به، وأيّ كلام نَسعى للخوض فيه.

وكذلك كانت وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الصّادق عليه السلام، بالعمل وفقَ قانون التّعقل والتدبّر، والّذي هو المال الحقيقيّ الأعود على الإنسان من كلّ مال آخر.

وهنا نَخْلُص إلى خُطوات التدبّر، وكيف يمكن أن نَعمل على طبق التّدبر:
الخُطوة الأولى: التدبّر والتعقّل فيما يرتبط بالهدف.
الخُطوة الثّانية: التدبّر والتعقل فيما يرتبط بالخطّة اّلتي توصلنا إلى الهدف.

الخطوة الثالثة: تدبّر النّتائج الّتي ستحصل، ومقارنتها مع الهدف والرؤية التي كانت قبل العمل, كي يُؤسَّس عليها الاستمرارُ، وعدمه.

الخُطوة الرابعة: تدبّر وتعقل الكلام الّذي نُريد أن نقوله، ومدى فائدتِه الآنيّة والمستقبليّة.
الخُطوة الخامسة: تدبّر وتعقّل أهميّة قِلّة الكلام وكثرتها.

الخُطوة السّادسة: تدبّر وتعقل تأثير الكلام إيجاباً وسلباً على النّفس البشريّة.

فلا نَستعجل الوصول إلَى الأهداف قبل أوانِها، ونُبحر جَميعاً في سَفينة النّجاة, سفينة التدبّر والعقل والتّفكر، ونُعْرِضُ عن تلك القوارب الصّغيرة الّتي قد تعفَّنت بِمخالفتِهَا للمفاهيم الّتي أوصَى بها الرّسول الخَاتم وآل بيته الكِرام صلى الله عليه وآله وسلم.

لذا تعالوا جميعاً، لنطبِّق وصايا الّنبيّ الخاتم وآله الأطهار عليهم السلام، ونتدبّر في شؤونِنَا الخاصّة والعامّة، فنُخْفِض نِسبة الفَشل إلى أدناها، ونرفع نسبة النّجاح إلى أعْلَى مستوياتها, لأنّهم لا يَنطقون عَن الهوى، بل يستفيدون مِمّا أوحاه الله تبارك وتعالى إِلَى نبيّه.
 
 
 
123

106

الدرس الحادي عشر: أوصيكم بالتدبُّر

 

 

124


107

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 
 
مفاهيم محورية:
- مفهوم البرّ.
- البرُّ لا يبلى.
- الذَّنْبُ لا يُنسَى.
- الإنسان مخيّر في انتخاب الطريق.
- كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.
 
 
 
125

108

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 نصُّ الوصيّة:

فيما جاء من وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه الْقُطْبُ الرَّاوَنْدِيُّ فِي لُبِّ اللُّبَابِ، قَالَ: "الْبِرُّ لَا يَبْلَى وَالذَّنْبُ لَا يُنْسَى وَالدَّيَّانُ لَا يَفْنَى فَكُنْ كَمَا شِئْتَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"1.
 
في رحاب الوصية
في هذه الكلمات القليلة نجد أَنَّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع لنا مسار الإنسانية وخريطة الطريق التي 
لا بدّ أنْ يسير عليها كلّ آدميّ من زمن تكليفه وحتى يوم رحيله عن هذه الدنيا، ولكن ببيان لطيف ومقال جامع، فإنّه 
صلوات الله عليه وعلى آله قد أعطاه الله جوامع الكلم، ونفائس البيان، وأسرار البلاغة.
 
فرسم طريقين أساسين، أوّلهما طريق الخير والنور، وثانيهما طريق الشر والظلمة، ثمّ بيّن أَنَّ هذين الطريقين تحت المراقبة والنظر الإلهي الذي لا يخطئ، فعاملُ الخير عمله محفوظ، وعامل الشرّ عمله محسوب.
 
فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق وهو يعلم بما يصلحهم وما يفسدهم، وجعلهم ضمن نظامٍ متكاملٍ راعى فيه كلّ جوانب النجاح والصلاح، من التنظيم والتخطيط



1 الحلواني، نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، ص16.
 
 
 
127

109

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 والإرشاد والتوجيه والمراقبة... وفي النهاية إمّا الفلاح وإما الخيبة، كما قال في محكم كتابه الكريم: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾1 وهذه الكلمات على الرغم من قلّتها ينطبق عليها مقولة: (خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ), إذ فيها إشارات إِلَى عدّة نقاط:

أوّلاً: ذكر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلمأَنَّ أعمال البرّ هي خير ما يقوم به بنو آدم.
ثانياً: إِنَّ عمل البرّ إذا أُريد به وجه الله، فسوف يكون محفوظاً عنده تعالى, لهذا قال: "لَا يَبْلَى"، ولا يخفى ما في هذا من التشويق والتحفيز لعامل البرّ، الأمر الَّذِي يدفعه إِلَى الاستمرار والمداومة عليه.
 
ثالثاً: التأكيد على أَنَّ كُلّ ما يقوم به الإنسان من مخالفات ومعاصي مسجّل ومحفوظ ولا يُنسى، فلا يحسبنّ أحدٌ أَنَّ الله غافلٌ عما يعمل العاملون.
 
رابعاً: التخيير في مرحلة العمل وعدم الإجبار على أحد الخيارين، فإنَّ الإنسان مخيَّر فيما يقوم به من عمل خير أو شر، فقد أعطانا الله العقل والشهوة، فمن غلب عقله على شهوته فقد أفلح ونجا، ومن غلبت شهوته على عقله فقد خاب وخسر، وهذا هو الامتحان والاختبار الحقيقي الذي يتميّز فيه المؤمن عن العاصي.
 
خامساً: هناك يومٌ معلومٌ لابدّ منه، فلا يظُنّنّ أحدٌ أنّه إذا استطاع أن يحتال أو يتجرّأ على أحكام الله ينجو ويفوز، بل هناك يومٌ توضع فيه الموازين القسط حيث لا يظلم فيه ربّك أحداً.
بعد هذه النظرة الإجمالية لا بدّ من الوقوف تفصيلاً على هذه النقاط، لنتعلّم من ملهم البشرية ورسول الإنسانية صلوات الله عليه وعلى آله.



1 سورة الشمس، الآيات: 7 – 10.
 
 
 
128

110

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 مفهوم البرّ

البرّ هو معنى جامع لأعمال الخير والطاعة والإحسان والمفاهيم الحسنة التى يدعو إليها الإسلام، وقد استخدم القرآن الكريم هذه المفردة في عدّة مواضع، أهمّها:
الأول: بمعنى التقوى، كما في قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1.
 
وقد قال الشاعر:
لعمرك إِنَّ البرَّ منْ أعظمِ التُّقى          وإنَّ عقوقَ الوالدين عظيمُ
 
الثاني: بمعنى الإيمان: ومنه قوله تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ...﴾2.
 
الثالث: بمعنى الإحسان، كما في قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾3.
 
وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استعمال البرّ في المفهوم الجامع لمعاني الخير، كما في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَوْقَ كُلِّ ذِي بِرٍّ بِرٌّ حَتَّى يُقْتَلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ الله فَإِذَا قُتِلَ فِي سَبِيلِ الله فَلَيْسَ فَوْقَه بِرٌّ"4.
 
البرُّ لا يبلى:
تحدّثت الرواية عن نقطةٍ مهمّة، وهي أَنَّ البرّ (لَا يَبْلَى)، أي: لا يفنى ولا يزول، 



1 سورة البقرة، الآية: 189.
2 سورة البقرة، الآية: 177.
3 سورة آل عمران، الآية: 92.
4 الشيخ الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج2، ص348، ح 4، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
 
 
 
129

111

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 وهذا من عظيم كرم الله سبحانه وتعالى وتفضّله علينا، فنحن نلاحظ أَنَّ كلّ ما عندنا هو من الله تعالى، وله الحكم والأمر، وقد أسبغ نعمه علينا ظاهرة وباطنة، ومع ذلك لو عملنا أدنى عمل فإنّه يعدنا بالثواب والعطاء الجزيل، والحال أَنَّه لا قيمة لأعمالنا إذا قايسناها مع نعم الله تبارك وتعالى، وقد ورد هذا المعنى في دعاء السحر الوارد عن الإِمام السجاد عليه السلام: "وَمَا قَدْرُ أَعْمَالِنَا فِي جَنْبِ نِعَمِكَ وَكَيْفَ نَسْتَكْثِرُ أَعْمَالًا نُقَابِلُ بِهَا كَرَمَكَ".

 
وبفضل هذا اللطف الإلهي على بني البشر أصبحت الحسنات مضاعفة والسيئات تسجّل كما هي، قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾1, لأنّه عمل لله، وما كان لله ينمو ولا يفنى. وكما ذكر في القرآن الكريم: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾2.
 
وهناك الكثير الكثير من الآيات والأحاديث التي تدلّ على أَنَّ الأعمال الحسنة محفوظة عند الله تعالى، ويضاعفها لمن اتّقى.
 
الذنب لا ينسى
الطريق الَّذِي يقابل الطاعة والخير والعطاء هو طريق الذنوب والمعاصي والابتعاد عن الله تعالى، فإنّ الذنوب من موجبات سخط الله تعالى ورسوله والأئمة الميامين صلوات الله عليهم أجمعين، وهذا انحرافٌ عن الجادة وابتعاد عن الصراط، والذنوب أنواع وأشكال وألوان، فمنها الباطني ومنها الظاهري، ومنها الكبير ومنها الصغير، وكلُّها تعبيرٌ عن النكران للنعمة والدخول في سلك الجحود، وفي الحقيقة الذنوب من مهلكات الأمم والشعوب، قال الله تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ 



1 سورة البقرة، الآية: 276.
2 سورة المزمل، الآية: 20.
 
 
 
130

112

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾1. والكلام حول الذُّنوب طويل وعريض، ويكفينا أنْ نعرف أَنَّها تسوِّد قلب الإنسان في الدنيا وتسوّد وجهه في الآخرة، فقد ورد في الموثق عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ: "إِذَا أَذْنَبَ الرَّجُلُ خَرَجَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ انْمَحَتْ وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ فَلَا يُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَداً"[2].

 
والأنكى من هذا وأعظم أَنَّ هذه الذُّنوب لا تُنسى،كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وَالذَّنْبُ لَا يُنْسَى)، ولا يخفى ما في هذه الفقرة من تهديد ووعيد للعاصين والخارجين عن حدود الله سبحانه وتعالى، فهو خطاب يعيد العقل إلى الصواب والرشد، ولا بدّ من التفكير ملياً في الأمر, لأنَّ الله سبحانه لا ينسى ما نقوم به، وقد وكّل ملكان عن اليمين وعن الشمال، قال عزّ شأنّه: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾3.
 
وقد ورد في الشعر المنسوب إِلَى مولانا زين العابدين عليه السلام:
لا تظلِمَنَّ إذا مَا كُنتَ مقتدراً        فالظلمُ يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبهٌ        يدعو عليك وعينُ الله لم تنم
 
وقال آخر:
النّملُ في الصخور الصمّ قدسه       والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهراً فيسترهم       والعبد ينسى وربّي ليس ينساه



1 سورة نوح، الآية: 25.
2 الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص268.
3 سورة ق، الآيات: 17 - 19.
 
 
 
131

113

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 الإنسان مخيّر في انتخاب الطريق

(فَكُنْ كَمَا شِئْتَ): على الرغم من أَنَّ طريق الخير واضح النتائج لم يجبر الباري تبارك وتعالى عبيده على السلوك فيه، والانحراف عن طريق الشرّ، بل تركهم ولهم تمام الاختيار في انتخاب واختيار الطريق الذي يشاؤون، قال تبارك تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا * إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾1. وقال في آيات أَخرى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾2، فعندما يأخذ الإنسان طريق الصلاح والطاعة والفلاح ويفضّله على طريق الفساد والمعصية والخيبة فإنّما يدلُّ على أنّه إنسان نظر نظرة ثاقبة إلى المستقبل البعيد، الذي يكون فيه سعيداً إلى الأبد،وهذا يدلّل على أنّه إنسان طاهر النفس نقيّ الفؤاد،ذو إرادة صلبة وعزيمة قويّة.
 
إِنَّ للهِ عباداً فُطَنا              طلّقوا الدُّنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلمّا علِموا         أَنَّها ليست لحيٍّ وطنا
جعلوها لجّةً واتخذوا          صالح الأعمال فيها سفنا
 
كما تدين تدان
لا يخفى ما في هذه الكلمة من التهديد والوعيد للعاصين، وفي الوقت ذاته لا تخلو من بشرى للمطيعين، فالنبيُّ الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين يريد أنْ يقول لنا أَنَّ الجزاء من جنس العمل بقوله: "كَمَا تَدِينُ تُدَانُ"، أيْ:كما تعتقد أو تعمل تُجازى، فلو كنت تفعل الخير فسيكون جزاؤك الخير، وإنْ كنت تفعل الشرّ فسيكون جزاؤك الشر، قال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ 



1 سورة الإنسان، الآيات: 3 - 5.
2 سورة الشمس، الآيات: 7 – 9.
 
 
 
132

 


114

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 رَبُّكَ أَحَدًا﴾1، وقد قال أيضاً: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾2, فيا أيُّها الإنسان لا مفر من ديان الدين إِلَّا إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، فتعال نفكّر قبل أنْ نختار، وإنْ كنّا قد سلكنا طريق الخطأ، فلنتب إلى الله الرحمن الرحيم الذي يقبل التوبة عن عباده ويبدّل سيئاتهم حسنات... 




1 سورة الكهف، الآية: 49.
2 سورة الزلزلة، الآيتان: 7 – 8.
 
 
 
133

115

الدرس الثاني عشر: دوام البر وعدم نسيان الذنب

 

 

134


116
وصايا الأولياء