صدى الآيات


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-04

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

المقدمة

9

كيف أدعو الله؟

11

في كنف الآية

13

شروط استجابة الدعاء

14

أهل استجابة الدعاء

16

كيف أتمسّك بالقرآن؟

21

 في كنف الآية

23

عَظَمة القرآن الكريم

23

العمل بالقرآن

24

آداب القرآن

25

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

31

في كنف الآية

33

هكذا أتَّبعهم

34

أوّلاً: معرفة الأئمّة عليهم السلام

34

ثانياً: الثبات على الولاية

25

ثالثاً: الالتزام بالأحكام الشرعيّة

35

رابعاً: البراءة من أعدائهم عليهم السلام

35

خامساً: ذكر فضائلهم

36

 سادساً: طلب العلم

36

سابعاً: قبول أحاديثهم عليهم السلام

36

ثامناً: طاعة الوليّ الفقيه

37

كيف أكون عبداً؟

41

في كنف الآية

43

شروط العبادة

44

أمور تؤثّر في العبادة

45

أنواع العبادة

46

متى لا تُقبل العبادة؟

47

مَن يَعبُد غيرَ الله؟

47

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

51

 

5


1

الفهرس

 

في كنف الآية

53

سلاح اليقظة

54

متى يَعجَزُ الشيطان؟

55

ما يُؤلِم الشيطان؟

55

كيف أعرف أولياء الله؟

59

في كنف الآية

61

خصال الأولياء

62

ولايتهم

64

آثارهم

64

كيف أقوم بالتكليف؟

67

في كنف الآية

69

الطاعة والتسليم روح الإسلام

70

‏صور التكليف الشرعيّ

71

كيف أعمر المسجد؟

75

في كنف الآية

77

فضل المسجد

78

ما المراد من العمارة؟

78

ثمرات المسجد

81

كيف أصون الأمانة؟

85

في كنف الآية

87

الأمانة أفضل الإيمان

88

آثار الأمانة

89

لا تأمن هؤلاء

90

لا تؤخّر الأمانة

91

كيف أكون في المجتمع؟

93

في كنف الآية

95

الحقوق الإنسانيّة

96

تقسيم اللحظات والنظرات

98

عدل الخطاب

98

ملعون يصلّي

99

كيف أنظر إلى اليهود؟

101

في كنف الآية

103

 

6


2

الفهرس

 

صفات بني إسرائيل

104

قتلة الأنبياء عليهم السلام

104

قساة القلوب

104

جبناء أذلّاء

105

مفسدون في الأرض

105

أهل مكرٍ وخداع

106

كيف أنجح في العمل؟

111

في كنف الآية

113

الأمر الأوّل: الحسن في العمل

114

الأمر الثاني: التقوى مع العمل

115

الأمر الثالث: الدوام في العمل

115

الأمر الرابع: السداد في العمل

115

الأمر الخامس: الإحكام في العمل

115

الأمر السادس: البعث على العمل

116

الأمر السابع: إتمام العمل

116

الأمر الثامن: النظم في العمل

116

 

7


3

المقدمة

 المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة، سيّدنا ومولانا خاتم الأنبياء محمّد وعلى آله الأصفياء أدلّة الأرض والسماء.

بعد أن عمدت الوحدة الثقافيّة المركزيّة إلى إصدار سلسلة الدروس الشهريّة، وأخذت بعين الاعتبار الملاحظات المقدّمة من قِبَل الأخوة المدرّسين والمهتمّين بالشأن الثقافيّ، ها هي تقوم - كما وعدت - بإصدار نتاج جديد، وتضع بين أياديكم الكريمة كتاباً يضمّ بين دفّتيه اثني عشر درساً، تهدف إلى استنطاق آيات القرآن الكريم، وبيان كيفيّة تمثُّل مضامينها في السلوك الإنسانيّ. ولذا كان الاسم "صدى الآيات"، على أن يترك هذا الكتاب صداه ويحقّق أهدافه المرجوّة؛ بلحاظ استجابته للحاجات الثقافيّة للمؤمنين والمؤمنات.
 
 
8

4

المقدمة

 ونحن، إذ نعد بالاستمرار في هذا الطريق، ندعو المهتمّين إلى أن لا يبخلوا علينا بملاحظاتهم ونصائحهم، علّنا نصل وإيّاهم إلى الأهداف المثلى. وإن بلغت هذه الصفحات غايتها، فليس بمجهودنا ولا منّة لنا، وإنّما بتوفيق الله تعالى وعونه؛ وهو من وراء القصد.


مركز نون للتأليف والترجمة
 
 
9

5

كيف أدعو الله؟

 1-                      كيف أدعو الله؟

 
 
 
قال تعالى:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾1.
 

 
1- البقرة: 186.
 
 
10

6

كيف أدعو الله؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• شروط استجابة الدعاء
• أهل استجابة الدعاء
 
في كنف الآية

روي أنّه سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله سبحانه؛ قريب ربّنا فنناجيه، أم بعيد ليدعوه بصوت مرتفع؟ فنزلت الآية1؛ لتبيّن قرب الله تعالى المعنويّ من عباده.


إنّ الدعاء من أفضل العبادات؛ وهو نوع من الخضوع والطاعة، يزداد الإنسان من خلاله ارتباطاً بالله تعالى، وله آثار تربويّة جمّة؛ نفسيّة واجتماعيّة. بحيث يُسهم بقوّة في بناء الإنسان المؤمن، وصناعة شخصيّته الروحيّة، ويُشكّل سلاحه ومفتاح نجاحه، ومخّ العبادة؛ كما جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومخّ كلّ شي‏ء: 
خالصه، والدعاء كذلك؛ لأنّه أصل العبادة وخالصها؛ لما فيه من امتثال أمر الله سبحانه، وقطع الأمل عمّا سواه، واللجوء إليه، والاعتماد عليه. وفي حديث آخر مرويّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "الدعاء: سلاح المؤمن،
 
 

 
1- الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين، ط1، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، 1415 هـ.ق /1995م، ج2، ص18.
 
 
 
12

7

كيف أدعو الله؟

 وعمود الدين، ونور السماوات والأرض"1. وتوجد منزلة عند الله عزّ وجلّ لا تُنال إلّا بالدعاء والمسألة، كما توجد منزلة لا تُنال إلّا بالشهادة، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ عند الله عزّ وجلّ منزلة لا تُنال إلّا بمسألةٍ"، ونحن حينما ندعو فإنّا نصل أنفسنا بقوّة لا متناهية تربط جميع الكائنات بعضها بالبعض الآخر، وقد وعدنا الله تعالى بالإجابة إذا دعوناه، غير أنّنا كثيراً ما نبادر إلى ارتكاب بعض الآثام والخطايا التي تشكّل موانع تحجزنا عن نيل استحقاق الإجابة فنحرم من الخير الكثير؛ بما قدّمت أيدينا. فما هي هذه الموانع؟



ويتّضح الجواب من خلال ذكر شروط استجابة الدعاء الّتي تكشف لنا كثيراً من الحقائق الغامضة، وتبيّن الآثار البنّاءة للدعاء.
 
شروط استجابة الدعاء

هي كثيرة؛ لأنّها ترجع إلى حالات الداعي أو الدعاء، أو المكان، أو الزمان، أو غير ذلك.


الشرط الأوّل: معرفة الربّ‏ (المدعوّ):
روي عن الإمام الكاظم عليه السلام: "قال قوم للصادق عليه السلام: ندعو فلا يُستجاب لنا؟
قال عليه السلام: لأنّكم تدعون من لا تعرفونه"2.


الشرط الثاني: الإقبال بالقلب‏: 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت؛ فأقبل بقلبك، ثمّ استيقن بالإجابة"3.
 

 
1- الكليني، محمد بن يعقوب:الكافي، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط4، طهران، دار الكتب الإسلامية، مطبعة حيدري، 1365 هـ.ش، ج2، كتاب الدعاء، باب أنّ الدعاء سلاح المؤمن، ج1، ص 468.
2- ابن بابوية، محمد بن علي بن الحسين(الصدوق): التوحيد، تحقيق وتعليق هاشم الحسيني الطهراني ، لاط ، قم المقدّسة، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدسّة ، لات، باب أدلّة توحيد الصانع، ج7، ص288 - 289.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الدعاء، باب الإقبال على الدعاء، ج1، ص473.
 
 
13

8

كيف أدعو الله؟

 الشرط الثالث: حسن الظنّ بالله تعالى بالإجابة:

روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة"1، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا دعوت فظنّ أنّ حاجتك بالباب"2.


الشرط الرابع: حصر الرجاء بالله‏ تعالى:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئاً إلّا أعطاه، فلييأس من الناس كلّهم ولا يكون له رجاء إلّا عند الله، فإذا علم الله عزّ وجلّ ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئاً إلّا أعطاه"3.


الشرط الخامس: الثناء والتمجيد قبل الدعاء:
ويُستفاد ذلك من الأدعية المرويّة عن المعصومين عليهم السلام ، وخصوصاً أدعية الصحيفة السجّاديّة على صاحبها آلاف السلام.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربّه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة؛ حتّى يبدأ بالثناء على الله عزّ وجلّ، والمدح له، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ يسأل الله حوائجه"4.


الشرط السادس: الصلاة على النبيّ وآله قبل الدعاء وبعده‏:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال الدعاء محجوباً؛ حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد"5.


الشرط السابع: الإقرار بالذنب والاستغفار منه قبل الدعاء:
 
 

 
1- العلّي، ابن فهد: عدّة الداعي ونجاح المساعي، تصحيح أحمد الموحدي القمي، لاط، قم المقدّسة، مكتبة وجداني، لات، ص132.
2- الكليني، الكافي، م.س ج2، كتاب الدعاء، باب اليقين في الدعاء، ج1، ص473.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الاستغناء عن الناس، ج2، ص 148.
4- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الثناء قبل الدعاء، ج1، ص484. 
5- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الدعاء، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ، ج1، ص 491.
 
 
 
14

9

كيف أدعو الله؟

 روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّما هي المِدْحًة، ثمّ الثناء، ثمّ الإقرار بالذنب، ثمّ المسألة؛ إنّه والله ما خرج عبد من ذنب إلّا بالإقرار"1.



الشرط الثامن: التعميم في الدعاء:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا دعا أحدكم فليُعمَّ؛ فإنّه أوجب للدعاء"2. والمراد منه: أن يُشمل الآخرين بدعائه، ولا يقتصر على نفسه.


الشرط التاسع: ترك التعجيل المؤدّي إلى اليأس‏:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يزال المؤمن بخير ورجاء؛ رحمة من الله عزّ وجلّ؛ ما لم يستعجل؛ فيقنط ويترك الدعاء، قلت له: كيف يستعجل؟ قال: يقول: قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة"3.


الشرط العاشر: ترك الظلم:‏
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: " قال الله عزّ وجلّ: وعزّتي وجلالي، لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة ظُلمِها؛ ولأحدٍ عنده مثلُ تلك المظلمة"4.
وغيرها شروط كثيرة عدّها البعض عشرين شرطاً، لم نذكرها هنا مراعاةً لعدم الإطالة، يمكن مراجعتها من مصادرها.
 
أهل استجابة الدعاء
إنّ هناك أصنافاً من الخلق يحملون مواصفات تؤهّلهم لأن لا يردّ الله عزّ وجلّ دعاءهم ويستجيب لهم؛ كلّما دعوه مخلصين مسلّمين له، ومن هؤلاء:
 
 


1- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الاعتراف بالذنوب والندم عليها، ج4، ص427.
2- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الدعاء، باب العموم في الدعاء، ج1، ص 487.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الدعاء، باب من أبطأت عليه الإجابة ، ج8، ص490.
4- ابن بابوية، محمد بن علي بن الحسين:ثواب الأعمال، تقديم محمد مهدي الخرسان ، ط2، قم المقدّسة، منشورات الشريف الرضي، مطبعة أمير، 1368ه.ش، باب عقاب من ظلم، ص272.
 
 
 
15

 


10

كيف أدعو الله؟

1- الإمام المقسط الّذي يحكم بما أنزل الله تعالى.

2- المظلوم الّذي سُلِب حقَّه.
3- الولد الصالح لوالديه.
4- الوالد الصالح لولده.
5- المؤمِّن لأخيه بظهر الغيب1.
6- الغازي في سبيل الله.
7- المريض الّذي يكابد الآلام2.
8- المعتمر حتّى يرجع.
9- الصائم حتّى يفطر3.
10- الغائب حين يدعو لغائب مثله4.
11- الطفل إذا لم يقارف الذنوب، حيث روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دعاء أطفال أمّتي مستجاب ما لم يقاربوا الذنوب"5.
12- المتختّم بالفيروزج، فعن مولانا الإمام الصادق عليه السلام ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله سبحانه: إنّي لأستحي من عبد يرفع يده وفيها خاتم فيروز ج؛ فأردّها خائبة"6.
 
 

 
1- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الدعاء، باب من تستجاب دعوته، ج2، ص509.
2- أنظر:الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الدعاء، باب من تستجاب دعوته، ج1، ص509.
3- الكليني، الكافي، م.س، كتاب الدعاء، باب من تستجاب دعوته، ج6، ص510.
4- أنظر:الكليني، الكافي، م.س، كتاب الدعاء، باب من تستجاب دعوته، ج7، ص510.
5- صحيفة الإمام الرضا عليه السلام:تحقيق مؤسّسة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف ، إشراف محمد باقر الموحّد الأصفهاني، لاط ، قم المقدّسة، مؤسّسة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف ، مطبعة أمير 1408هـ.ق/ 1366هـ.ش ، ج69، ص113.
6- المجلسي، محمد باقر:بحار الأنوار، تحقيق إبراهيم الميانجي، محمد باقر البهبودي، ط2، بيروت، مؤسّسة الوفاء ، 1403هـ.ق/1983 هـ.ش ، ج90، باب 17، ج32، ص321.
 
 
 
16

11

كيف أدعو الله؟

 خلاصة الدرس

أ - الدعاء من أفضل العبادات وهو يُسهم بقوّة في البناء الروحيّ للإنسان ودوام اتّصاله بخالقه سبحانه وهو سلاح المؤمن ومفتاح نجاحه.
ب - الاستجابة مرهونة بشرائط عديدة تعود في بعض الأحيان إلى نفس الداعي، أو إلى الدعاء، أو إلى الزمان، أو المكان أو غير ذلك.
ج - هناك طائفة من الناس لا يردّ الله دعاءهم؛ وذلك لكونهم يحملون مواصفات جعلتهم في هذه المنزلة؛ كالمظلوم، والصائم، وغيرهما.

للمطالعة

قد أُجيبت الدعوة!

نُقل أنّ رجلاً رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامه؛ وهو يقول: امضِ إلى فلان المجوسيّ، وقل له: قد أُجيبت الدعوة، فامتنع الرجل من تبليغ الرسالة لئلّا يظنّ المجوسيّ أنّه يتعرّض له، وكان الرجل في دنيا واسعة، فرأى الرجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثانياً وثالثاً، فأصبح، فأتى المجوسيّ وقال له في خلوة من الناس: أتى رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليك وهو يقول لك: قد أُجيبت الدعوة، فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم. قال: فإنّي أُنكر دين الإسلام ونبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: أنا أعرف هذا وهو الّذي أرسلني إليك مرّة ومرّة ومرّة.
فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا أهله وأصحابه... ثمّ قال لي: أتدري ما الدعوة؟ فقلت: لا والله، وإنّي أريد أن أسألك الساعة. فقال: لمّا زوّجت ابنتي صنعت طعاماً، ودعوت الناس؛ فأجابوا؛ وكان إلى جانبنا قوم أشراف فقراء لا مال لهم، فأمرت غلماني أن يبسطوا لي حصيراً في وسط الدار، فسمعت صبيّة لهم
 
 
 
17

12

كيف أدعو الله؟

  تقول لأمّها: يا أُمّاه لقد آذانا هذا المجوسيّ برائحة طعامه. قال: فأرسلت إليهنّ بطعام كثير، وكسوة ودنانير للجميع، فلمّا نظروا إلى ذلك، قالت الصبيّة للباقيات: والله ما نأكل حتّى ندعو له، فرفعن أيديهنّ وقلن: حشرك الله مع جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّن بعضهن؛ فتلك الدعوة الّتي أُجيبت1.

 


1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج42، باب15، ح12، ص14.

 
 
 
18

13

كيف أتمسّك بالقرآن؟

 1-                      كيف أتمسّك بالقرآن؟

 
 
قال تعالى:
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾1.
 

 
1- الإسراء: 9.
 
 
20

14

كيف أتمسّك بالقرآن؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• عَظَمة القرآن الكريم
• العمل بالقرآن
• آداب القرآن

في كنف الآية
إنّ كلمة (أَقْوَمُ) صيغة أفعل تفضيل، بمعنى الأكثر ثباتاً واستقامة واعتدالاً، فالقرآن الكريم هو كذلك من جميع جوانب الوجود والحياة، وهو من أعظم النِّعم على البشريّة الّتي لو قضى الإنسان عمره كاملاً في السّجود شكراً لله تعالى ما أدّى حقّ هذه العطيّة الإلهيّة الخالدة. والقرآن هو الميزان الّذي على وفاقه تحصل البشرى والفوز بالجنّة، وعلى شقاقه يقع الخسران ودخول النار.

عَظَمة القرآن الكريم
إنّ القرآن هو الثقل الأكبر الّذي أُمرنا بالتمسّك به، والسير على هديه، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي قد تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا
 
 
 
22

15

كيف أتمسّك بالقرآن؟

  بعدي، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله؛ حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي؛ أهل بيتي"1. وهو منار الحكمة، وربيع القلوب، وحبل الله المتين، ومنهج التعاليم الإلهيّة الّتي تصنع الإنسان وتربّيه. عن أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن: "جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومَحاجّاً لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة"2. فإذا عرفنا عظمته وحقيقته؛ وجب علينا تعظيمه، وإجلاله، واحترامه؛ لأنّه كلام الخالق العظيم، لا أن نعلّقه على جدار، أو نضعه زينة في خزانة التحف، وقد غطّى الغبار دفّتيه، بل أن نرتّله؛ مع فهمنا لآياته، وعملنا بمضمونه، ونصغي آذاننا له بكلّ شوق ولهفة؛ بما يجسّد العلاقة الوثيقة به، والرجوع إليه في كلّ صغيرة وكبيرة، وبالخصوص في الفتن والمحن، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم؛ فعليكم بالقرآن"3.

 
ويحصل الرجوع إلى القرآن عبر العلماء المنتهلين من منبع الثقل الآخر أهل بيت العصمة عليهم السلام ؛ ففي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إيّاك أن تفسِّر القرآن برأيك؛ حتّى تفقهه عن العلماء"4.
 
العمل بالقرآن
إنّ المرء قد يحترم بعض الناس كأبيه، غير أنّه يخالفه، ولا يعمل بإرشاداته؛ وما ذلك إلّا لأنّ نفسه وهواه يأمرانه ويقودانه إلى مخالفته. وهذا في واقع الأمر ليس احتراماً حقيقيّاً، ولا تقديراً صادقاً، وإنّما الاحترام والإجلال الحقيقيّان يحصلان بالعمل بإرشادات الأب وإطاعته، لا الاستهانة بأمره، وهكذا بالنسبة إلى
 

 
1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج23، باب فضائل أهل البيت عليهم السلام ، ج7، ص106.
2- الموسوي، (الشريف الرضي): نهج البلاغة الجامع لخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ورسائله وحكمه، شرح محمد عبده، ط1، قم المقدّسة، دار الذخائر، مطبعة النهضة، 1412ه.ق/1370هـ.ش، ج2، الخطبة 198،ص178.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب فضل القرآن، باب في تمثّل القرآن، ج2، ص599.
4- ابن بابوية، التوحيد، م.س، ص264.
 
 
23

 


16

كيف أتمسّك بالقرآن؟

  القرآن الكريم، فكما هو مطلوب من المسلم أن يقدّسه مطلوب منه - أيضاً - أن يتمثّل تعاليم القرآن في عمله وحياته وسائر شؤونه، ولا يدعه وراء ظهره في مواضع الابتلاء بمغريات الدنيا أو رغبات النفس الأمّارة بالسوء؛ وإلّا مع عدم العمل بتعاليم القرآن واتّباعه لا يتحقّق التعظيم والاحترام، ولا يصدق التمسك به، وحينما لا يكون المسلم متمسّكاً به سيضلّ الطريق القويم؛ بمقتضى حديث الثقلين، حيث إنّه لا يمكن الأمن من الضلال؛ إلّا بالتمسّك بالقرآن وأهل البيت عليهم السلام ، لا التخلي عنهما ولا الانفراد بأحدهما دون الآخر، فترك العمل بالقرآن؛ معناه: الضلال والانحراف عن الخط الّذي أرادنا الله تعالى أن نكون عليه.

 
آداب القرآن
1- تَعلُّمه وتعليمه:
روي عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه"1، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم - أيضاً -:"إنّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلّموا مأدبته ما استطعتم"2.


2- تعظيمه واحترامه:
روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "القرآن أفضل من كلّ شي‏ء دون الله، فمن وقّر القرآن؛ فقد وقّر الله. ومن لم يوقّر القرآن؛ فقد استخفّ بحرمة الله"3. لذلك حُرِّم تنجيسه واستُحِبَّ جعله في مكان خاصّ يوضَع فيه.


3- تدبّره والاستفادة منه:
يقول تعالى:﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾4.
 

1- الطوسي، محمد بن الحسن:الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلامية في مؤسّسة البعثة، ط1، قم المقدّسة، دار الثقافة، 1414هـ.ق، ص357.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج89، ص19.
3- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج89، ص19.
4- محمد: 24.
 
 
 
24

17

كيف أتمسّك بالقرآن؟

 وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "أصدق القول وأبلغ الموعظة وأحسن القصص؛ كتاب الله"1.



لذلك، من الأفضل في التلاوة أن تكون بالشكل الأمثل؛ وهو الّذي يقترن بالتدبّر، والتفكّر، ويستتبع التأثّر والتفاعل مع معاني الآيات؛ في وعدها ووعيدها، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام واصفاً المتّقين: "وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغَوْا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم؛ فاقشعرت منها جلودهم، ووجلت قلوبهم، فظنّوا أنّ صهيل جهنّم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، وإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت أنفسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم"2.


4- الطهارة عند تلاوته (أن يكون على وضوء).


5- عدم مسّ كلمات القرآن إلّا بعد الوضوء؛ وهو من الشروط اللازمة.


6- استقبال القبلة عند القراءة.


7- ابتداء السور القرآنيّة بقول:
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، أو "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم"، ثمّ البسملة.


8- أن تكون القراءة ترتيلاً؛ كما ورد الأمر بذلك في القرآن: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾3.


9- أن تكون القراءة في المصحف، لا في غيره؛ ممّا اشتمل على بعض الآيات؛ ككتب الأدعية الّتي يطبع عادة جزء من القرآن الكريم في أوّلها، أو القراءة غيباً وظاهراً.


روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "القراءة في المصحف أفضل من القراءة ظاهراً"4.


وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "النظر في المصحف عبادة"5.
 
 

 
1- المجلسي، بحارالأنوار، م.س، ج74، ص114.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، م.س، ج2 الخطبة 193، ص160.
3- المزّمّل: 4.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج89، ص20.
5- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب فضل القرآن ، باب قراءة القرآن في المصحف ، ج5، ص613.
 
 
 
25

18

كيف أتمسّك بالقرآن؟

 خلاصة الدرس



أ- إنّ معنى قوله سبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾1؛ أي: هو أكثر استقامة وثباتاً واعتدالاً في كلّ شؤون الوجود والحياة.
ب- القرآن هو الثقل الأكبر، ومنار الحكمة، وحبل الله المتين، وربيع القلوب، والمنهج الإلهيّ الّذي يصنع الإنسان.
ج- المهمّ هو العمل بالقرآن لا معرفة الاسم والرسم حيث ورد في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام: "الله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم".
د- ينبغي مراعاة الآداب المتعلّقة بالقرآن؛ كتعظيمه، والتّدبّر فيه، والاستعاذة قبل تلاوته، وعدم تنجيسه، وغير ذلك.
 
 
للمطالعة
ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلّا بالقرآن!


يروي أحدهم يقول: انقطعت في البادية، فوجدت امرأة، فقلت لها: من أنتِ؟
فقالت: ﴿وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾2.
فسلّمت عليها وقلت لها من أنتِ؟
قالت: ﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ﴾3.
فقلت: أمن الجنّ أنتِ أم من الإنس؟
قالت: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ﴾4.
 
 

 
1- الإسراء: 9.
2- الزخرف: 89.
3- الزمر: 37.
4- الأعراف: 31.
 
 
 
26

19

كيف أتمسّك بالقرآن؟

 فقلت: من أين أقبلتِ؟

قالت: ﴿يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾1.
فقلت: أين تقصدين؟
قالت: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾2.
فقلت: متى انقطعت؟
قالت: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾3.
فقلت: أتشتهين طعاماً؟
قالت: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ﴾4.
فأطعمتها ثمّ قلت: هرولي وتعجّلي.
قالت: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾5.
فقلت: أأردفكِ؟
قالت: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾6.
فنزلت فأركبتها فقالت: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا﴾7.
فلمّا أدركنا القافلة قلت لها: ألكِ أحد فيها؟
قالت: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ﴾8، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ﴾9،
 
 

 
1- فصّلت: 44.
2- آل عمران: 97.
3- ق: 38.
4- الأنبياء: 8.
5- البقرة: 286.
6- الأنبياء: 22.
7- الزخرف: 13.
8- ص: 26.
9- آل عمران: 144.
 
 
 
27

20

كيف أتمسّك بالقرآن؟

  ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾1، ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ﴾2.

فصحتُ بهذه الأسماء، فإذا بأربعة شبّان متوجّهين نحوها، فقلت: من هؤلاء منكِ؟
قالت: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾3.
فلمّا أتوها، قالت: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾4.
فكافؤوني بأشياء.
فقالت: ﴿وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ﴾5.
فزادوا لي، فسألتهم عنها، فقالوا: هذه أمّنا فضّة جارية الزهراء عليها السلام ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلّا بالقرآن6.
 
 
 

1- مريم: 12.
2- القصص: 30.
3- الكهف: 46.
4- القصص: 26.
5- البقرة: 261.
6- ابن شهر آشوب، محمد بن علي مناقب آل أبي طالب، تحقيق لجنة من أساتذة النجف الأشرف، لاط، النجف الأشرف، مطبعة الحيدري، 1376هـ.ق /1956م، ج3، ص121-122.
 
 
 
28

21

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

 3- كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾1.
 
 

1- الشورى: 23.
 
 
30

 


22

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• عَظَمة القرآن الكريم
• العمل بالقرآن
• آداب القرآن

في كنف الآية
تبيّن لنا الآية أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد أجراً ولا جزاءً على إبلاغ الرسالة إلّا مودة أهل بيته عليهم السلام. ومودّتهم ترتبط بقضيّة الولاية وقبول قيادتهم عليهم السلام ، الّتي تُعدّ -في الحقيقة- استمراراً لقيادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وللولاية الإلهيّة. ومن الواضح أنّ قبول هذه الولاية والقيادة -كقبول نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - ستكون سبباً لسعادة البشريّة نفسها، وستعود بنتائجها عليها، وتعبّد الطريق أمامها للوصول إلى كمالها المنشود.

وكون المودّة المطلوبة بمستوى الرسالة؛ دليل واضح على أنّ المراد بالمودّة ليست مجرّد
 
 
 
32

23

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

  المحبّة فقط، بل المحبّة الّتي تستلزم وجوب الطاعة والانقياد للمحبوب والتسليم بولايته الإلهيّة.



وعلى هذا الأساس إنّ الآية تفيد استمرار الرسالة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ بوساطة الأئمّة عليهم السلام الّذين هم جميعاً قرابته ومن عائلته، ولأنّ المودّة أساس هذا الارتباط أشارت لها الآية بصراحة.


والّذي نبحثه في هذا الدرس كيف نتمسّك بخطّ أهل البيت عليهم السلام ، ونتّبعهم اتّباعاً حقيقيّاً صادقاً، ونُكتَب من الدعاة لهم، والسائرين على نهجهم والمسلّمين لأمرهم؟ هذا ما نجيب عنه من خلال تحديد الوظائف والواجبات الّتي توصلنا إلى أن نحقّق في أقوالنا وأفعالنا حقيقة الولاية للأئمّة الأطهار عليهم السلام.
 
هكذا أتَّبعهم
أوّلاً: معرفة الأئمّة عليهم السلام 
ينبغي علينا أن نعرفهم لا بأسمائهم، وأنسابهم، وزمان الولادة، ومكان الشهادة فقط، بل بمعرفة مقاماتهم ومراتبهم الّتي رتّبهم الله فيها، وسيرتهم العمليّة؛ لنقتدي بهم. وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "وأدنى معرفة الإمام أنّه عدل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (إلّا درجة النبوّة) ووارثه، وإنّ طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والتسليم له في كلّ أمر، والردّ إليه، والأخذ بقوله"1. وأمّا مع عدم معرفتهم كذلك، فينتفي الإيمان. روي عن أحدهما عليهما السلام الإمامين الصادقين عليهما السلام : "لا يكون العبد مؤمناً حتّى يعرف الله، ورسوله، والأئمّة كلّهم، وإمام زمانه، ويردّ إليه، ويسلّم له"2.
 
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج4، ص552.
2- الكليني ، الكافي، م.س، ج1، كتاب الحجّة، باب معرفة الإمام عليه السلام ، ج2، 180.
 
 
 
33

24

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

 ثانياً: الثبات على الولاية

روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إنّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أن ينادي بهم الباري جلّ جلاله، فيقول: عبيدي وإمائي! آمنتم بسرّي، وصدّقتم بغيبي، فأبشروا بحسن الثواب منّي، أي عبيدي وإمائيّ حقّاً منكم أتقبّل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع عنهم البلاء. لولاكم لأنزلت عليهم عذابي"1.
 
ثالثاً: الالتزام بالأحكام الشرعيّة
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء، والأمانة وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكّون أموالهم، ويحجّون البيت، ويجتنبون كلّ محرّم"2.
 
رابعاً: البراءة من أعدائهم عليهم السلام 
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ! والّذي بعثني بالنبوّة، واصطفاني على جميع البريّة، لو أنّ عبداً عبد الله ألف عام ما قُبِلَ ذلك منه إلّا بولايتك، وولاية الأئمّة من وُلدِك، وإنّ ولايتك لا تُقبل؛ إلّا بالبراءة من أعدائك، وأعداء الأئمّة من وُلدك، بذلك أخبرني جبرئيل، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"3.
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س ، ج55، ص145.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج65، 167.
3- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج27، ص63.
 
 
 
34

25

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

 خامساً: ذكر فضائلهم

وهو من الأمور الّتي ينبغي أن لا يتوانى الواحد منّا عن القيام بها في أي مجتمع يتواجد فيه؛ سواء بين أقاربه وجيرانه، أم في الجامعة، أم في المدرسة، أم في مكان العمل، أم في السيّارة. وذِكْر فضلهم ممّا يبعد الشيطان عن الإنسان. روي عن مولانا الإمام الكاظم عليه السلام: "وإنّ المؤمنَيْن يلتقيان، فيذكران الله، ثمّ يذكران فضلنا أهل البيت؛ فلا يبقى على وجه إبليس مضغة لحم إلّا تخدّد، حتّى إنّ روحه تستغيث من شدّة ما يجد من الألم"1.
 
سادساً: طلب العلم
إنّ طلب العلم من الأمور اللّازمة على أتباع أهل البيت عليهم السلام في كلّ زمان ومكان، والتعلّم أمر لا بدّ منه في موالاتهم والسير في ركبهم، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالِم، ومتعلّم، وغُثاء، فنحن العلماء، وشيعتنا المتعلّمون، وسائر الناس غُثاء"2. والعمل بدون علم سبب للإفساد والضياع، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من عمل على غير علم كان ما يُفسد أكثرَ ممّا يُصلح"3.
وهم صلوات الله عليهم معادن العلم، وأصول الحكم، روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "شرِّقا وغرِّبا لن تجدا علماً صحيحاً؛ إلّا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت"4.
 
سابعاً: قبول أحاديثهم عليهم السلام 
إنّ الأحاديث الّتي يرويها الثقات عن أهل البيت عليهم السلام هي حجج شرعيّة لا يجوز
 
 

1- الكليني، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر ، باب إدخال السرور على المؤمنين، ج7، ص188.
2- الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلّم، ح4، ص34.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، ج3، ص44.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج2، ص92.
 
 
 
35

 


26

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

  رفضها وردّها، ومن يردّها؛ فإنّما يردّ عليهم عليهم السلام ، والرادّ عليهم رادٌّ على الله تعالى. ومن وصايا مولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف عدم التشكيك بهذه الأحاديث، فضلاً عن عدم الردّ، جاء في توقيعه الشريف: "لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يؤدّيه عنّا ثقاتنا"1.

 
ثامناً: طاعة الوليّ الفقيه
وهي من الأمور الثابتة، والمهمّ فيها هو الاجتماع تحت رايته؛ حيث أرادنا أهل البيت عليهم السلام مجتمعين غير متفرّقين متحابّين متباذلين؛ أفضل ما يكون عليه الأخوان في الله تعالى، ملتزمين بأوامر الوليّ الفقيه، مسلِّمين له؛ ليأخذ بأيدينا في غيبة مولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف ؛ كي لا تتفرّق بنا السبل، فمن ردّ عليه ردّ عليهم عليهم السلام ، وحينئذٍ كيف يكون تابعاً لهم؟! ومن تمرّد على من أوجبوا طاعته والتسليم لأمره ونهيه كيف يرضون عنه؟! ويُعتبر عامل الاتّحاد والاجتماع على طاعة الوليّ الفقيه من أهمّ الأسباب والشروط لظهور إمام الزمان عجل الله فرجه الشريف ؛ كما صرّح بذلك قائلاً: "لو أنّ أشياعنا وفّقهم الله بطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة"2.
 
هذه جملة من الأمور الّتي يلزم علينا مراعاتها، والالتزام بها حين نريد اتّباع أهل البيت عليهم السلام اتّباعاً حقيقيّاً يرضيهم عنّا، ويجعلنا من المتمسّكين بولايتهم. وهناك أمور أخرى تتفرّع ممّا تقدّم، يَرِدُ ذِكرُها في ما بعد، إن شاء الله تعالى.
 
 

1- معجم رجال الحديث، ج‏2، ص‏356.
2- البحار، ج53، ص177.
 
 
 
36

27

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

 خلاصة الدرس

أ- تُعَدّ آية المودّة أحد الأدلّة القرآنيّة على استمرار الرسالة الإلهيّة؛ بولاية الأئمّة الأطهار عليهم السلام.
ب- إنّ اتّباع أهل البيت عليهم السلام حقيقة تستوجب الالتزام بعدّة أمور، هي: معرفتهم، والثبات على ولايتهم، وإطاعة الله في كلّ صغيرة وكبيرة، والبراءة من أعدائهم، وذكر فضائلهم، وطلب العلم، وقبول أحاديثهم، وطاعة الوليّ الفقيه والاتّحاد والاجتماع تحت رايته. وملخّص القول: فعل ما يحبّونه عليهم السلام ، واجتناب ما يكرهونه عليهم السلام ؛ هو جوهر اتِّباعهم عليهم السلام.

للمطالعة
أعمال شيعتنا تُعرَض علينا

قال موسى بن سيّار: كنت مع الرضا عليه السلام ، وقد أشرف على حيطان طوس، وسمعت واعية فاتّبعتها، فإذا نحن بجنازة، فلمّا بصرت بها، رأيت سيّدي يلوذ بها؛ كما تلوذ السخلة بأمّها، ثمّ أقبل عليّ، وقال: يا موسى بن سيّار، من شيّع جنازة وليّ من أوليائنا؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، لا ذنب عليه، حتّى إذا وُضع الرجل على شفير قبره، رأيت سيّدي قد أقبل، فأفرج الناس عن الجنازة، حتّى بدا له الميت، فوضع يده على صدره، ثمّ قال: يا فلان بن فلان، أبشر بالجنّة؛ فلا خوف عليك بعد هذه الساعة.

فقلت: جُعلت فداك، هل تعرف الرجل؟ فوالله إنّها بقعة لم تطأها قبل يومك هذا.
فقال لي: يا موسى بن سيّار، أما عَلِمْت أنّا معاشرَ الأئمّة تُعرَض علينا أعمال
 
 
 
37

28

كيف أتَّبع أهل البيت عليهم السلام ؟

  شيعتنا صباحاً ومساءً، فما كان من التقصير في أعمالهم سألنا الله تعالى الصفح لصاحبه، وما كان من العلوّ سألنا الله الشكر لصاحبه 1.

 

1- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب عليه السلام ، م.س، ج3، ص452.
 
 
 
38

29

كيف أكون عبداً؟

4-     كيف أكون عبداً؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾1.
 
 

1- الذاريات: 56.
 
 
 
40

30

كيف أكون عبداً؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• شروط العبادة
• أمور تؤثّر في العبادة
• أنواع العبادة
• متى لا تُقبل العبادة؟
• مَن يعبُد غير الله؟

في كنف الآية
تبيّن لنا الآية أنّا خُلِقنا لعبادة الله، وتعدّها هدفاً أصليّاً للخلق، والسؤال الّذي ينبغي الإجابة عنه، هل المراد من العبادة أداء المراسم والمناسك اليوميّة؛ كالصلاة، أو الصوم وغيرهما من العبادات فقط، أم المطلوب أمر آخر؟
 
 
 
42

31

كيف أكون عبداً؟

 وللإجابة عن ذلك، ينبغي معرفة معنى العبد والعبوديّة.



فالعبد: هو الإنسان المتعلّق بمولاه، وإرادته تابعة لإرادة مالكه، ولا يطلب شيئاً إلّا تبعاً لطلب سيّده، فهو لا يملك شيئاً؛ لأنّه وما عنده مُلْكٌ للمولى، وليس له أن يقصّر في طاعته أو يتمرّد على أمره.


والعبوديّة: هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، والتسليم له، وامتثال الطاعة والانقياد له، بلا قيد ولا شرط. والمعبود الوحيد الّذي له حقّ العبادة على الآخرين؛ هو الّذي بذل منتهى الإنعام والإكرام؛ وليس ذلك سوى الله سبحانه. وبناءً على ذلك، تشكّل العبوديّة قمّة التكامل الإنسانيّ واقتراب الإنسان من الله، وسيره نحو الكمال المطلق؛ الذي يّعدُّ الهدف النهائيّ من خلقه.


فمعنى أن أكون عبداً؛ أي لا أقوم بأيّ فعل حتّى أعلم حكم الله فيه، وأن لا تكون لي إرادة في مقابل إرادة الخالق، وإنّما لا أريد إلّا ما أراده، ولا أرى لنفسي حولاً ولا قوّة على شي‏ء إلّا بتوفيقه تعالى ومنّه. رُوي عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام لمّا سُئِل عن حقيقة العبوديّة: "ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد في ما خوّله الله ملكاً؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله، يضعونه حيث أمرهم الله تعالى به، ولا يدبِّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله في ما أمره الله تعالى به ونهاه عنه... فهذا أوّل درجة المتّقين"1.
 
شروط العبادة
إنّ الشرط الأهمّ والأوّل؛ هو: معرفة الله تعالى؛ لأنّه كيف أعبد مَن لا أعرفه؟ وتتمّ هذه المعرفة عبر معرفة النفس في الحديث: من عرف نفسه فقد عرف ربّه. وأصل المعرفة توحيده سبحانه، روي عن الإمام الرضا عليه السلام: "أوّل عبادة الله معرفته، وأصل 
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج1، ص225.
 
 
 
43

32

كيف أكون عبداً؟

 معرفة الله توحيده"1.



وأمّا سائر الشروط فقد جاء ذكرها في حديث المعراج: "يا أحمد! هل تدري متى يكون لي العبد عابداً؟ قال: لا يا ربّ، قال: إذا اجتمع فيه سبع خصال:
1- ورع يحجزه عن المحارم.
2- وصمت يكفّه عمّا لا يعنيه.
3- وخوف يزداد كلّ يوم من بكائه.
4- وحياء يستحي منّي في الخلاء.
5- وأكل ما لا بدّ منه.
6- ويبغض الدنيا لبغضي لها.
7- ويحبّ الأخيار لحبّي إيّاهم2.
 
أمور تؤثّر في العبادة
الأوّل: الهوى:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام "كيف يجد لذّة العبادة من لا يصوم عن الهوى"3.
 
الثاني: حبّ الدنيا:
عن النبيّ عيسى بن مريم عليهما السلام: "بحقّ أقول لكم: إنّه كما ينظر المريض إلى طيّب الطعام فلا يلتذّه، مع ما يجده من شدّة الوجع، كذلك صاحب الدنيا لا يلتذّ بالعبادة، ولا يجد حلاوتها، مع ما يجد من حبّ المال"4.
 
 

1- ابن بابوية، التوحيد، م.س، ص34.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج74، ص30.
3- الواسطي الليثي، علي بن محمد:غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق حسين الحسيني، ط1، لام، دار الحديث، لات، ص384.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج14، ص310.
 
 
 
44

33

كيف أكون عبداً؟

 الثالث: الهمّ والغمّ:

في ما أوحى الله تعالى إلى نبيّه داود عليه السلام: "ما لأوليائي والهمّ بالدنيا، إنّ الهمّ يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود! إنّ محبّتي من أوليائي أن يكونوا روحانيّين لا يغتمّون"1.
 
أنواع العبادة
إنّ للعبادة أنواعاً حسب ما ورد على لسان أهل البيت عليهم السلام ، وهي ثلاثة:
1- عبادة التجّار أو الأُجَراء.
2- عِبادة العبيد.
3- عبادة الأحرار الكرام.
 
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قوماً عبدوا الله رغبة؛ فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة؛ فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً؛ فتلك عبادة الأحرار"2.


والنوع الثالث هو أفضل العبادة الّتي كان عليها أئمتنا عليهم السلام ، يقول مولى المتّقين عليه السلام: "ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ؛ فتلك عبادة الكرام؛ وهو الأمن؛ لقوله عزّ وجلّ: ﴿وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾3"4، ويقول سيّد الساجدين عليه السلام: "إنّي أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلّا ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطمع، إنْ طمع عمل، وإلّا لم يعمل، وأكره أن لا أعبده إلّا لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء، إن لم يخف لم يعمل، قيل: فلمَ تعبده؟ قال: لما هو أهله؛ بأياديه عليّ؛ وإنعامه"5؛ أي يعبده شكراً وطاعةً.
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج79، ص143.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج41، ص14.
3- النمل: 89.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج67، ص18.
5- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج67، ص198.
 
 
 
45

 


34

كيف أكون عبداً؟

 متى لا تُقبل العبادة؟

إنّ العبادة لا تُقبَل مع تضييع الحقوق وانتهاكها، كما في الحديث: "من اكتسب مالاً حراماً؛ لم يقبل الله منه صدقة، ولا عتقاً، ولا حجّاً، ولا اعتماراً، وكتب الله عزّ وجلّ بعدد أجر ذلك أوزاراً، وما بقي منه بعد موته؛ كان زاده إلى النار، ومن قدر عليها، فتركها مخافة الله عزّ وجلّ؛ دخل في محبّة الله عزّ وجلّ ورحمته، ويؤمر به إلى الجنّة"1.
 
مَن يَعبُد غيرَ الله؟
عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس العبادة هي السجود والركوع، إنّما هي طاعة الرجال، من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده"2.


لذلك كان مَن يخضع لأوامر أهل الدنيا؛ من الزعماء والسلاطين ويأتمر بأوامرها فإنّه يعبد غير الله، وفي المقابل من يلتزم بالتكليف الصادر عن الوليّ الفقيه، ويصغي له، ويطيعه؛ فإنّما يطيع الله بذلك ويمتثل أمره بالرجوع إليه، ولا يجوز له الردُّ عليه؛ كما جاء في الحديث: "فإذا حكم بحكمنا، فلم يُقبَل منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادُّ علينا؛ كالرادِّ على الله"3.


من هنا، نفهم أنّ الّذي يخالف التكليف الشرعيّ لا يكون عبداً حقيقيّاً، وإنّما يكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والعترة الطاهرة عليهم السلام.
 
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج73، ص362.
2- المجلسي ، بحار الأنوار، م.س، ج69، ص94.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ج10، ص67.
 
 
 
46

35

كيف أكون عبداً؟

 خلاصة الدرس

أ- العبوديّة هي منتهى الخضوع والتسليم للخالق المنعم سبحانه، وليس المراد منها الصلاة والصوم فقط، بل الانقياد التامّ للوصول إلى الكمال، وعدم القيام بأيّ فعل دون معرفة حكم الله فيه.
ب- الشرط الأوّل للعبادة هو معرفة الله. وتتمّ هذه المعرفة بمعرفة النفس. وأصل المعرفة التوحيد.
ج- إنّ هناك أموراً تفقد العبادة أثرها، منها: الهوى، وحبّ الدنيا، والهمّ، والغمّ.
د- العبادة ثلاثة أنواع: عبادة التجّار، وعبادة العبيد، وعبادة الأحرار.
هـ- لا تُقبَل العبادة مع تضييع الحقوق، وأكل المال بالباطل.
و- طاعة المخلوق الّذي تحرُم طاعته عبادةٌ لغير الله، وطاعة من تَجِب طاعته؛ كوليّ الأمر طاعةٌ لله.

للمطالعة
لو كان عبداً لاستحى من الله!

بِشْر الحافي اسم عرفته بغداد؛ بالسكر، والغناء، وملاحقة الأعراض أزعج الناس، وأتعبهم، إلى أن شكوه إلى الإمام الكاظم عليه السلام ، فقرّر الوقوف على حقيقة الأمر بنفسه، وقبل أن يصلَ الإمام عليه السلام إلى داره انفتح الباب، فخرجت جارية حسناء، بيدها طبق ملي‏ء ببقيّة الفواكه الّتي تُوضَع عادة على مائدة الخمر، تريد رميها في الخارج، فسألها الإمام قائلاً: "لِمن الدار؟".

قالت: الدار لسيّدي، قال الإمام: "سيّدكِ حُرٌّ أم عبد"؟ قالت: لا... بل حرّ!

قال عليه السلام: "صدقتِ، لو كان عبداً لله لاستحى من الله".

فنزلت الكلمة؛ كالصاعقة على قلب الفتاة، فعادت داخل الدار ترتجف، فسألها 
 
 
 
47

36

كيف أكون عبداً؟

 بشر: ما بالكِ ترتعدين هكذا؟ فقالت: إنّ رجلاً عليه سِمَة الإيمان والصلاح قال لي: كذا وكذا... ولمّا وصفته؛ عرف بشر أنّه الإمام الكاظم عليه السلام فخرج من داره مسرعاً في أثر الإمام عليه السلام ؛ حتّى أدركه وسط الطريق، وتعلّق بأذياله، قائلاً: سيّدي كيف تقول إنّني لست عبداً لله؟ أجابه الإمام عليه السلام في هدوء وحزم: "لو كنت عبداً لله لِخْفت الله، ولكنّك لم تعبد الله، وإنّما عبدت شهواتك وأهواءَك".


إنّ العبوديّة لله؛ هي أن تخشى الله، وتتوب إليه، ولا تلطّخ نفسك بالمعاصي. وفعَلَت هذه الكلمات فعلتها في قلب بشر؛ فتساقط على قدمي الإمام يقبِّلهما، ويمرّغ وجهه بالتراب، والدموع تجري من عينيه، وهو يقول: أنا تائب، أنا تائب، سيّدي هل ترى لي من توبة؟!

قال عليه السلام: "أجل إن تبت تاب الله عليك". وبالفعل تحوّل بشر إلى أكبر عابد، وأعمق زاهد في بغداد؛ لا تخلو منه المساجد، وصار يُنادَى بين الناس بالشيخ بشّار.
 
 
 
48

37

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

 5-      كيف أُحارِبُ الشيطان؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾1.
 
 

1- فاطر: 6.
 
 
 
50

38

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• سلاح اليقظة
• متى يعجَزُ الشيطان؟
• ما يُؤلم الشيطان؟

في كنف الآية
إنّ عداوة الشيطان للإنسان ليست جديدة، وهي تعود بجذورها إلى أوّل يوم خُلِقَ فيه آدم عليه السلام ، وطُرِدَ فيه إبليس من قُربِ الله وجواره؛ بسبب عدم تسليمه للأمر الإلهيّ؛ بالسجود لآدم عليه السلام ، حيث أقسم وتوعّد بأن يتّخذ طريق العداء لآدم عليه السلام وبنيه، حتّى إنّه دعا الله تعالى أن يمهِلَه ويطيل في عمره لذلك الغرض، وقد التزم بما قال، ولم يفوّت أدنى فرصة لإبراز عدائه، وإنزال الضربات ببني آدم، فهل يُتَعقَّل منّا أن لا نتّخذه عدوّاً لنا، أو أن نغفل عنه ولو لحظة واحدة؟! فإلى أيّ حدّ نريد اقتفاء خطوات الشيطان يا ترى؟! ألا يجب الحذر الدائم من هذا العدوّ الّلدود الّذي يُحْكِمُ
 
 
 
52

39

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

  صياغة الفتن، وصناعة المصائد، ويدفع بأتباعه الّذين استحوذ عليهم؛ بما زيّن لهم من اتّباع الشهوات إلى الدرك الأسفل من النار والخسران في الآخرة؟ وكيف يمكن أن ننتصر عليه في هذه الحرب؛ إذا لم نتعامل معه بوصفه عدوّاً، ولم نتعامل معه بوصفه صديقاً وصاحباً شفيقاً؟ يقول تعالى: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾1.

 
سلاح اليقظة
إنّ السلاح الأوّل الّذي ينبغي أن يتسلّح به المؤمن أثناء حربه مع الشيطان؛ هو: الانتباه، والذكر الدائم، واليقظة. وذلك مطلوب منه ذلك في طول خطّ حياته الّتي ستشهد على وُسعها ساحة هذا الصراع في جميع الميادين والاتّجاهات. وممّا يؤكّد ذلك قوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾2 وفيه إشارة إلى حقيقة أنّ الوساوس الشيطانيّة تُلقِي حجاباً على بصيرة الإنسان؛ حتّى لا يعرف العدوّ من الصديق، ولا الخير من الشرّ، إلّا أنّ اليقظة وذكر الله يكشفان الحجب، ويخلّصان الإنسان من هذا الانحراف بما يؤدّي إلى زيادة البصيرة لديه والقدرة على معرفة الحقائق والواقعيّات. والفارق بين الحالتين في غاية الوضوح، ويمكن تقريبه بالقياس على الحروب العسكريّة؛ فإنّ الغافل عن عدوّه يمكن لعدوّه أن يستحكم عليه أكثر ويبطش به بسهولة، بينما الّذي يُبقي عدوَّه حاضراً في ذهنه، وقد أعدّ لحربه العدّة؛ وهو في حالة جهوزيّة تامّة يمكنه خوض هذه الحرب والانتصار فيها. وهكذا حالنا مع الشيطان، وعلينا أن نكون دائمي الحذر والترقُّب
 
 

2- الكهف: 50.
3- الأعراف: 201.
 
 
 
43

40

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

  والتسلُّح في مواجهته؛ بما يساعدنا على طرده وإبعاده، وإلّا فمع الغفلة عنه؛ فإنّ ألاعيبه ومهمّاته ستنجح، وينفذ إلى داخلنا. وما من شكّ، أنّ الغافل لا يمكنه محاربة الشيطان، بل هو مِن الّذين يسيرون في ركبه، على غير معرفة منهم بما يفعلون.

 
متى يَعجَزُ الشيطان؟
باستطاعة أيّ واحد منّا أن يقطع الطريق على الشيطان، ويجعله عاجزاً لا يملك حيلة في الوصول إليه، وإحكام قبضته عليه؛ وذلك عبر التحلّي ببعض المواصفات، وهي:
روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال إبليس لعنه الله: خمسة ليس لي فيهنّ حيلة، وسائر الناس في قبضتي: مَنْ اعتصم بالله عن نيّة صادقة، واتّكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره، ومَن رضي لأخيه المؤمن ما يرضاه لنفسه، ومَن لم يجزع على المصيبة حتّى تصيبه، ومَن رَضِي بما قسم الله له ولم يهتمَّ لرزقه"1.


ويمكننا القول: إنّ الإنسان حينما يكون عبداً مُخلصاً لله تعالى لا يحرّك ساكناً حتّى يعلم حكم الله في ذلك، ويقبله الله ويتّخذه من المخلَصين لديه؛ لا يمكن -عندها- للشيطان أن يكون له طريق، إليه أو سلطان عليه، يقول عزّ من قائل: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾2.
 
ما يُؤلِم الشيطان؟
ورد على لسان العترة الطاهرة عليهم السلام ذكر بعض الأمور الّتي تشكّل وقاية من الحبائل الشيطانيّة وتؤلم الشيطان، وهي:
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج66، ص378.
2- الإسراء: 65.
 
 
 
54

41

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

 1- ذكر الله:

يدلّ على ذلك ما يأتي في الأمر الثالث.
 
2- إطالة السجود:
في الحديث: "أطل سجدتك، فلا شي‏ء أقسى على إبليس وأصعب من رؤية ابن آدم في حال سجوده؛ لأنّه كان مأموراً بالسجود لآدم، لكنّه تمرّد على أمر الله، وهذا ابن آدم مأمور بالسجود، ومنفِّذ لهذا الأمر، وقد ظفر بالنجاة"1.


3- ذكر فضيلة أهل البيت عليهم السلام:
في الحديث: "إذا التقى مؤمنان، أو زار أحدهما الآخر؛ وردّدا على ألسنتهما ذكر الله، وفضيلة أهل البيت عليهم السلام ؛ لا يجد إبليس مكاناً له بينهما.. وتعتريه قشعريرة، وترتعد أنفاسه؛ حتّى ليستنجد ويستغيث"2.
 
4- الصوم والصدقة و...:
وروي النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أخبركم بشي‏ء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبُّ في الله، والمؤازرة على العمل الصالح؛ يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينَه"3.
 
5- وجود المصحف في المنزل:
روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "حينما أرى مصحفاً في المنزل أطمئنّ إلى أنّ الشيطان مطرود منه؛ للبركة في هذا المصحف"4.
 
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج6، ص202.
2- البحار، ج‏6، ص‏202.
3- الكليني ، الكافي، م.س، ج4، كتاب الصيام، ما جاء في فضل الصوم، ج2، ص62.
4- الكافي، ج‏2، ص‏446.
 
 
 
55

42

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

 خلاصة الدرس

أ- بدأت عداوة الشيطان للإنسان منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام ، وقد أمرنا الله أن نتَّخذه في هذه الحياة عدوّاً، لا أن نغفل عن عداوته؛ كي لا نصبح من جنده من غير أن نشعر بذلك.
ب- السلاح الأهمّ في محاربة الشيطان، هو: الذكر الدائم؛ بأنّ الله حاضر وناظر إلينا، واليقظة المستمرّة من ألاعيب إبليس، وإلّا مع الغفلة؛ فإنّ الهزيمة ستحلّ بنا لا محالة.
ج- هناك مواصفات ذكرها أهل البيت عليهم السلام ، إذا تحلّى بها المؤمن، قطع الطريق على الشيطان.
د- يوجد عدّة أمور تَقِي الإنسان من وساوس الشيطان، منها: الذكر، وإطالة السجود، وذكر فضائل العترة عليهم السلام ، والصوم، والصدقة، والحبّ في الله، والمؤازرة، والاستغفار.

للمطالعة
شجرة تُعبَد يا إبليس؟!

يُروى أنّ رجلاً مرّ بشجرة تُعبَد من دون الله تعالى، فأخذ فأسه، وركب حماره، وتوجّه نحو الشجرة؛ ليقطعها، فلقيه إبليس في الطريق على صورة إنسان، فقال: إلى أين؟

فقال الرجل: هناك شجرة تُعبَد من دون الله تعالى، فعاهدت الله على أن أركب حماري، وآخذ بفأسي، وأتوجّه نحوها؛ لأقطعها، فقال له إبليس: ما لك ولها؟ دعها.
 
 
 
56

43

كيف أُحارِبُ الشيطان؟

فلم يرجع، فقال له إبليس: ارجع، وأنا معطيك كلّ يوم أربعة دراهم، فترفع طرف فراشك وتأخذها. فقال له: أوَ تفعل ذلك؟

 
قال: نعم، ضَمِنْت لك ذلك كلّ يوم. فرجع إلى منزله، فوجد ذلك المال تحت فراشه يومين أو ثلاثة، فلمّا أصبح بعد ذلك رفع طرف فراشه، فلم يرَ شيئاً، ثمّ جاء يوم آخر فلم يرَ شيئاً، فأخذ الفأس، وركب الحمار، وتوجّه نحو الشجرة، فلقيه إبليس على صورة إنسان، فقال له: أين تريد؟
 
قال: شجرة تُعبَد من دون الله تعالى أريد أن أقطعها، قال له إبليس: لا تطيق ذلك، أمّا أوّل مرّة فكان خروجك من غَضَبِك لله تعالى، فلو اجتمع أهل السماء والأرض ما ردّوك عنها، وأمّا الآن فإنّما خروجك من حيث لم تَجِدْ الدراهم، فإن قَدِمْتَ لأدقّنَّ عنقك1.
 
 

1- الفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى:المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط2 قم المقدّسة، مركز النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة، مطبعة حيدري، لات، ج8، ص126-127.
 
 
 
57

44

كيف أعرف أولياء الله؟

6-        كيف أعرف أولياء الله؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾1.
 
 

1- يونس: 62.
 
 
 
58

45

كيف أعرف أولياء الله؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• خصال الأولياء
• ولايتهم
• آثارهم
 
في كنف الآية
الأولياء: جمع وليّ، وهي مأخوذة من مادّة: ولِيَ، يلي؛ بمعنى عدم وجود وساطة بين شيئين، وتقاربهما وتتابعهما. ولهذا يُطلق على كلّ شي‏ء له نسبة القرابة والقرب من شي‏ء آخر؛ سواء أكان من جهة المكان أم الزمان، أم النسب، أم المقام. واستعملت هذه الكلمة بمعنى: الرئيس، والصديق، وأمثال ذلك. وبناءً على هذا، فإنّ أولياء الله هم الّذين لا يوجد حاجب وحائل بينهم وبين الله، فزالت الحجب عن قلوبهم، وهم في سطوع نور المعرفة والإيمان والعمل الخالص، يرون بعيون قلوبهم بحيث لا يجد الشكّ طريقاً إلى تلك القلوب الوالهة. وبالنظر إلى معرفتهم بالله؛ الّذي هو الوجود الأزليّ،
 
 
 
60

46

كيف أعرف أولياء الله؟

  والقدرة اللّامحدودة، والكمال المطلق؛ فإنّ كلّ شي‏ء سوى الله في نظرهم فانٍ لا أهميّة له؛ مثلهم كمثل الذي يعرف المحيط؛ فإنّه لا قيمة لقطرة الماء في نظره، أو مَن يرى الشمس فلا يهتمّ لشمعة لا نور لها أمام سطوع أشعّة الشمس، وهم المعنيّون بقول أمير المؤمنين صلوات الله عليه: "إنّ أولياء الله هم الّذين نظروا إلى باطن الدنيا؛ إذا نظر الناس إلى ظاهرها، واشتغلوا بآجلها؛ إذا اشتغل الناس بعاجلها"1؛ فاستحقُّوا مكانة رفيعة عند الله عزّ وجلّ، حدّثنا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ قائلاً: "إنّ من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء؛ لمكانهم من الله، فقيل مَن هم يا رسول الله، قال: الّذين يتحابّون بروح الله من غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطون بينهم، وإنّ على وجوههم لنوراً، وإنّهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزنوا ثمّ تلا هذه الآية ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾2"3.

 
خصال الأولياء
روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث خصال من صفة أولياء الله: الثقة بالله في كلّ شي‏ء، والغناء به عن كلّ شي‏ء، والافتقار إليه في كلّ شي‏ء"5.


ولنأخذ بشرح هذه الخصال واحدة تلو الأخرى.


أمّا الخصلة الأوّلى: فهي نابعة من أنّهم لا يرَوْن وجوداً حقيقيّاً لغير الله سبحانه؛ حتّى يركنوا إليه في مواطن ضعفهم، أو أوقات أزماتهم ومصائبهم. فحسن ظنّهم بالله تعالى وتوكّلهم عليه، وإدراكهم بأنّه ما مِن شي‏ء إلّا بأمره سبحانه؛ دعاهم إلى
 
 

1- الشريف الرضي، نهج البلاغة ، م.س، ج4، الحكمة432، ص101.
2- يونس: 62.
3- النوري حسين:مستدرك الوسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، بيروت، 1408هـ.ق /1988م، ج12، ح13944، ص 224.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج100، ص20.
 
 
 
61

47

كيف أعرف أولياء الله؟

  هذا الوثوق اللّامحدود، والتفويض في كلّ صغيرة وكبيرة من فصول حياتهم إليه جلّ وعلا؛ وذلك نتيجة إدراكهم الصحيح، ونظرتهم القلبيّة، وقربهم منه، والزهد في كلّ شي‏ء من دونه، وعليه يستحيل أن يعتري صفاء نفوسهم وجلاء عقولهم سوء الظنّ به، أو التعويل على شي‏ء غيره.



وأمّا الخصلة الثانية: فهي عائدة إلى حقيقة "ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك"؛ فإنّ أولياء الله الحقيقيّين وأحبّاءه متحرّرون من كلّ أشكال الارتباط والتعلّق بعالم المادّة؛ لأنّهم أغنياء به سبحانه. ولذلك لا يجزعون من فقدان الممتلكات الزائلة، ولا يخافون من المستقبل، ولا يشغلون أفكارهم بمثل هذه المسائل، فليس هناك غموم ومخاوف تجعلهم في حال اضطراب وقلق دائم لأنّه لا سبيل لها إليهم؛ كما في قوله عزّ من قائل: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾1، فلم يتعلّقوا بذلك اليوم الّذي كانوا يمتلكون فيه، ولا يصيبهم غمّ في اليوم الّذي سيفارقونه، فإنّ روحهم أكبر، وفكرهم أسمى؛ من أن تؤثّر فيهم مثل هذه الحوادث؛ في الماضي والمستقبل.


وأمّا الخصلة الثالثة: فهي مرتكزة على واقع الإنسان القائم على الاحتياج الدائم، والافتقار المستمرّ إلى الخالق سبحانه؛ فهم لا يرون لأنفسهم حولاً ولا قوّة؛ حيث لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، فلا يقيمون وزناً لعمل صادر عنهم؛ وإن بلغ في العظمة محالّها العليا؛ على أنّه باستقلالٍ وقدرة لهم، بل يرونه صغيراً، وإنّما كَبُرَ بتوفيق الله تعالى وتأييده.
والحاصل أنّ روح الافتقار إليه عزّ وجلّ حيّة في سلوكهم، ومترجمة لكلّ أفعالهم وأقوالهم، وشاهدة على أنّه لم تدخل إليهم آفّة النسبة إلى ذواتهم والاعتماد على مقدراتهم؛ بعين الاستغناء والعياذ بالله.
 
 

1- الحديد: 23.
 
 
 
62

48

كيف أعرف أولياء الله؟

 ولايتهم

إنّ مِن شَطَطِ الفكر، وضلال الرأي الاعتقاد بأن يصبح أحد وليّاً من أولياء الله تعالى الّذين لا خوف عليهم ولهم الأمن والبشرى وغير ذلك؛ وهو غير متمسّك بولاية الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، أو معتقد بإمامة غيرهم، وأنّ الله سبحانه يُؤتَى من غير طريقهم عليهم السلام ؛ فإنّ ذلك غير جائز عقلاً وشرعاً. لذلك فالأولياء هم أهل الولاية كما جاء في الحديث: "تلا أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الآية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ ......﴾ ثمّ سأل أصحابه: أتعلمون مَن هم أولياء الله؟ فقالوا: أخبرنا بهم يا أمير المؤمنين، فقال: هم نحن وأتباعنا، فمن تبعنا من بعدنا طوبى لنا، وطوبى لهم... قالوا: ألسنا نحن وهم على أمر؟ قال: لا، إنّهم حملوا ما لم تحملوا عليه، وأطاقوا ما لم تطيقوا"1. ومنه يظهر أنّهم أهل تحمّل العناء والجهاد، وليسوا أهل القعود والرخاء.


وفي حديث آخر يرتبط بالانتظار والتمهيد والنصرة عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء الله الّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"2. وعليه، يكون أنصار المهديّ القائم عجل الله فرجه الشريف هم أولياء الله سبحانه.
 
آثارهم
يقول النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: ".. إنّ أولياء الله سكتوا، فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومشَوْا فكان مشيهم بين الناس بركة، لولا الآجال الّتي كُتِبَت عليهم لم تَقَرَّ أرواحهم في أجسادهم؛ خوفاً من العذاب،
 
 

1- المجلسي ، بحار الأنوار، م.س، ج65، ص35.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج52، ص150.
 
 
 
63

49

كيف أعرف أولياء الله؟

  وشوقاً إلى الثواب"1.



وفي بعض المضامين: أنّهم أوتاد الأرض، وبركة لأهلها، فالواجب إكرامهم، وخفض الجناح لهم والقيام بخدمتهم؛ فإنّ ذلك من القربات الإلهيّة الّتي رتّب الله عزّ وجلّ عليها الثواب. وفي المقابل، فإنّ من يتعرّض لهم بالإهانة والتوهين يُكتَب في عداد من بارز الله تعالى بالمحاربة والعصيان، روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي"2. لذلك، كان واجب الاحترام عامّاً كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى.. أخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبداً من عبيد الله، فربّما يكون وليَّه وأنت لا تعلم"3.


خلاصة الدرس
أ- إنّ أولياء الله هم الّذين لا يوجد حجب بينهم وبينه، وهم في سطوع نور المعرفة والإيمان وليسوا أنبياء.
ب- أهمّ خصالهم: الثقة بالله، والغنى به، والافتقار إليه تعالى.
ج- لا يمكن أن يكون الأولياء غير تابعين لأهل البيت عليهم السلام ؛ وإلّا كانوا أشقياء وأهل ضلال.
د- من أهانهم فقد أعلن الحرب على الله تعالى وبارزه بذلك.
 
 

1- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب المؤمن...، ج25، ص227.
2- الكليني، الكافي، م.س ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب أذى المسلمين...، ح3، ص351.
3- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج72، ص155.
 
 
64

50

كيف أعرف أولياء الله؟

 للمطالعة

أَفِدْ يا مفيد
يذكر صاحب روضات الجنّات، رضوان الله تعالى عليه أنّ للشيخ المفيد رضوان الله عليه، مع صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف ، مقابلات ومكاشفات، منها:
أنّه سُئِلَ يوماً عن امرأة حبلى ماتت، فهل تُدفَن مع ولدها أم يجب إخراجه منها؟
 
فظنّ أنّ الولد مَيّت في بطنها، فقال: لا حاجة لفصله عن أمّه، بل يجوز أن يُدفَن معها؛ وهو في بطنها، فلمّا حُمِلَت إلى قبرها أتى النسوة رجل، وقال: إنّ الشيخ المفيد يأمر بشقّ بطن الحبلى، وأن يُخرَج الجنين إذا كان حيّاً منها، ثمّ يخاط الشقّ، ولا يحلّ أن يُدفَن معها، فعملت النسوة بما قيل لهنّ.
 
ثمّ أُخبر الشيخ بما وقع فسُقِطَ في يده بأنّه أخطأ في الفتوى، وأخذ يفكّر في مَن انتبه لهذا الخطأ فتداركه.
 
فسمع هاتفاً من خلفه يقول: "أَفِدْ يا مفيد، فإن أخطأت فعلينا التسديد"، فالتفت فلم يبصر أحداً، فتيقّن أنّ الهاتف، والّذي أرشد النسوة هو الإمام الغائب عجل الله فرجه الشريف 1.


ومن كراماته رضوان الله عليه: أنّ صاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف رثاه بهذه الأبيات، وكتبها على قبره بخطّ يده الشريفة 2:
لَاْ صَوَّتَ النَّاعي بفقدِكَ إِنَّهُ                      يومٌ على آلِ الرسولِ عظيمُ
إِنْ كُنْتَ قَد غُيِّبْتَ في جَدَثِ الثَّرى              فالعدلُ والتوحيدُ فيكَ مُقيمُ
والقائمُ المهديُّ يفرحُ كُلَّما                       تُلِيَتْ عليكَ مِنَ الدروسِ علومُ
 
 

1- أنظر:الخوانساري، محمد باقر:روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات، ط1، بيروت، الدار الإسلامية، 144هـ.ق/ 1991م، ج6، ص156.
2- العكبري، محمد بن النعمان(الشيخ المفيد):المقنعة، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المقدّسة، ط2، قم المقدّسة، 1410هـ.ق، ص21.
 
 
65

51

كيف أقوم بالتكليف؟

 7-     كيف أقوم بالتكليف؟

 
 
 
قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾1.
 
 

1- الأحزاب: 39.
 
 
66

52

كيف أقوم بالتكليف؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• الطاعة والتسليم روح الإسلام
• صور التكليف الشرعيّ

في كنف الآية
تُشير الآية الكريمة إلى أهمّ البرامج العامّة للأنبياء عليهم السلام ؛ وهو القيام بأداء تكليفهم في تبليغ الرسالة الإلهيّة، من دون خوف من أحد من الخلق، بحيث يمضون في الوجهة الّتي أراد الله تعالى لهم السير نحوها. وهكذا القادة الإلهيّون، وسائر أهل التقوى، كان سلوكهم -دوماً- المضي في تنفيذ تكاليفهم دون أدنى خشية من كلّ القوى المتمرّدة على الحقّ والمجنّدة لدى الباطل، فهي لا تشكّل لهم مصدر رعب وقلق، وإنّما تزداد
 
 
68

53

كيف أقوم بالتكليف؟

  عزائمهم، ويكبر إصرارهم على واجباتهم. ومن هنا، ينبغي الإلفات إلى نكتتين في الآية:

الأوّل: أنّ المراد من التبليغ هو الإبلاغ والإيصال، وعندما يتّصل برسالات الله؛ فإنّه يعني أن يعلّم الأنبياء عليهم السلام الناس ما علّمهم الله عن طريق الوحي، وأن يُنفِذُوه إلى القلوب عن طريق الاستدلال، والإنذار، والتبشير، والموعظة، والنصيحة.


الثاني: أنّ الخشية تعني الخوف المقترن بالتعظيم والاحترام، وهي تختلف عن الخوف الخالي من هذه الخاصّيّة، وبينهما فرق؛ وهو: أنّ الخوف يعني القلق والاضطراب الداخليّ من العواقب الّتي ينتظرها الإنسان؛ نتيجة ارتكابه المعاصي والذنوب، أو تقصيره في الطاعة، وهذه الحالة تحصل لأغلب الناس، وإن اختلفت درجاتها، وأمّا الخشية فهي الحالة الّتي تحصل للإنسان لدى إدراكه عظمة الله وهَيْبته، وحين الخوف من بقائه مبعداً عن أنوار فيضه، وهي لا تحصل إلّا لأولئك الّذين وقفوا على عظمة ذاته المقدّسة وجلال كبريائه وتذوّقوا طعم قربه. لذلك عدّ القرآن الكريم هذه الحالة خاصّة بعباد الله العلماء، فقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾1.
 
الطاعة والتسليم روح الإسلام
من خلال ما تقدّم في الفقرة الأوّلى، اتّضح أنّ الإنسان المؤمن هو الّذي يؤدّي تكليفه المطلوب منه بدون خوف أو تردّد. ويعود جوهر هذا الأمر إلى حقيقة الارتباط بالله سبحانه، وترجمة الإيمان به في عالمِ الأعمال، والانقياد التامّ لأوامره، والابتعاد عن نواهيه، والتسليم له. وبما أنّ الإسلام أُخِذ من مادّة التسليم؛ وهو يشير إلى هذه الحقيقة؛ فإنّ كلّ إنسان يتمتّع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه، يقول عزّ من قائل:﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ 
 
 

1- فاطر: 28.
 
 
 
69

54

كيف أقوم بالتكليف؟

 يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾1. والناس في هذه الناحية أقسام:

القسم الأوّل: وهم الّذين يسلّمون لأمر الله في الموارد الّتي تنفعهم فقط؛ وهؤلاء هم كمن قالوا: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾2.


القسم الثاني: وهم الّذين جعلوا إرادتهم تبعاً لإرادة الله، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله يغضّون الطرف عنها ويسلّمون لأمر الله؛ وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيّون.


القسم الثالث: وهم أسمى من هؤلاء؛ فهم لا يريدون إلّا ما أراد الله، وقد صبغ التوحيد كلّ وجودهم، وغرقوا في حبّ الله تعالى.


وهذه الأقسام بأجمعها جارية في التسليم لأمر المعصوم عليه السلام ؛ فعنهم عليهم السلام: "شيعتنا المسلّمُون لأمرنا"، وكذلك حال وليّ الأمر؛ بوصفه امتداداً للأئمّة عليهم السلام في أثر الطاعة والانقياد، لا المكانة والرتبة.


ومن هنا، يقول سماحة السيّد القائد لا في حديثه عن وليّ الأمر: يجب التسليم لأمره ونهيه؛ حتّى على سائر الفقهاء العظام، فكيف بمقلّديهم؟!3


وعليه، يكون التسليم لحكم وليّ الأمر ركناً وثيقاً في بناء الشخصيّة الإيمانيّة الواعيّة.
 
صور التكليف الشرعيّ
إنّ للتكليف صوراً عديدة، هي:
الصورة الأوّلى: أن يكون فتوى صادرة عن المرجع الّذي يجب على الإنسان تقليده.
 
 

1- النساء: 65.
2- النساء: 150.
3- الخامنئي، علي: أجوبة الاستفتاءات، ط1، الكويت، دار النبأ، 1415 هـ.ق/1995م، ج1، السؤال 65، ص23.
 
 
70

55

كيف أقوم بالتكليف؟

 الصورة الثانية: أن يكون حكماً من وليّ أمر المسلمين فإنّه تجب الطاعة على مقلّديه وغيرهم، وعلى الفقهاء، وسائر مراجع الدين، وإنّ عدم الأخذ بحكمه يعتبر ردّاً على الأئمّة عليهم السلام ثمّ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ على الله عزّ وجلّ، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا، فلم يُقبل منه؛ فإنّما استُخِفَّ بحكم الله، وعلينا رُدَّ؛ والرادُّ علينا؛ كالرادِّ على الله"1. ومن أجوبة سماحة السيّد القائد لا في هذا المجال: "طبقاً للفقه الشيعيّ، يجب على كلّ المسلمين إطاعة الأوامر الولائيّة الشرعيّة الصادرة عن وليّ أمر المسلمين"2.

 
الصورة الثالثة: أن يكون حكماً غير مباشر، بل عبر قنوات تنظيميّة؛ من خلال إيكال الأمر من قِبَل الوليّ الفقيه إلى أشخاص معيّنين في بلدٍ ما؛ فيعطيهم صلاحيات، ويفوِّضهم في أمور؛ بحيث تكون طاعتهم فيها طاعة للوليّ، وتُعّدُّ مخالفتهم في دائرة صلاحيّاتهم مخالفة للوليّ؛ فيكون الرادُّ عليهم؛ كالرادِّ عليه.
 
 

1- الكافي، ج‏7، ص‏412.
2- الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات، م.س، ج‏1، السؤال 65، ص‏23.
 
 
 
71

56

كيف أقوم بالتكليف؟

 خلاصة الدرس

أ- الالتزام بأداء التكليف نابع من العبوديّة الصادقة، والتسليم لأمر الله تعالى ونهيه؛ وهو روح الإسلام والصلة الدائمة بالخالق.
ب- إنّ للتسليم مراتب، أسماها: أن يصل الإنسان إلى مرحلة لا يريد إلّا ما أراده الله؛ وهو التوحيد العمليّ.
ج- للتكليف الشرعيّ صُوَرٌ، هي:
أوّلاً: فتوى المرجع.
ثانياً: حكم الوليّ المباشر.
ثالثاً: حكم الوليّ غير المباشر.

للمطالعة
نملة تؤدّي التكليف...

ذكروا أنّ سليمان عليه السلام كان جالساً على شاطى‏ء بحر، فبصر بنملة تحمل حبّة قمح تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها، حتّى بلغت الماء، فإذا بضفدع قد أخرجت رأسها من الماء ففتحت فاها، فدخلت النملة، وغاصت الضفدع في البحر ساعة، وسليمان عليه السلام يتفكّر في ذلك متعجّباً، ثمّ إنّها خرجت من الماء، وفتحت فاها، فخرجت النملة ولم تكن معها الحبّة، فدعاها سليمان عليه السلام ، وسألها عن شأنها، وأين كانت؟

فقالت: يا نبيّ الله إنّ في قعر البحر الّذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء، وقد خلقها الله تعالى هنالك، فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشها، وقد
 
 
72

57

كيف أقوم بالتكليف؟

  وكّلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وقد سخّر الله تعالى هذه الضفدع لتحملني، فلا يضرّني الماء في فيها، وتضع فاها على ثقب الصخرة فأدخلها، ثمّ إذا أوصلت رزقها إليها، وخرجت من ثقب الصخرة إلى فيها؛ أخرجتني من البحر. قال سليمان عليه السلام: وهل سمعت لها تسبيحة؟

 
قالت: نعم، تقول: يا من لا ينساني في جوف هذه اللُّجَّة برزقه، لا تنسَ عبادك المؤمنين برحمتك1.
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج14، ص98.
 
 
 
73

58

كيف أعمر المسجد؟

8-       كيف أعمر المسجد؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾1.
 
 

1- التوبة: 18.
 
 
74

59

كيف أعمر المسجد؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• فضل المسجد
• ما المراد من العمارة
• ثمرات المسجد

في كنف الآية
تحدّد الآية الكريمة مجموعة من الصفات الّتي يجب أن يتحلّى بها من يعمر مساجد الله، وهي إذا اجتمعت في إنسان أثمرت له النجاح في الحياة، والفوز بالجنان في الآخرة. وتشكّل هذه الصفات الأساس العقديّ الصحيح والأعمال الكريمة الّتي دعا إليها الإسلام؛ سواء في ما يتعلّق بالشخص نفسه أم بالمجتمع، وهي: أن لا يخشى إلّا الله، بحيث يكون قلبه مليئاً بعشق الله، وأن يحسّ بالمسؤوليّة في امتثال أمره من دون أن تقف أمامه الاعتبارات الزائفة الّتي يرسمها أهل الدنيا، وربّما يقدّسونها؛ بغية الوصول إلى أهداف واهية.
 
 
76

60

كيف أعمر المسجد؟

 فضل المسجد

المسجد أشرف مكان في الدنيا، وأَحَبّ إلى قلوب أولياء الله من الجنّة؛ وهو المدرسة الربّانيّة الّتي ينبغي أن يتربّى ويترعرع فيها الإنسان بين أجواء العبادة والعلم، والتواصل والاجتماع مع أهل التقوى والإيمان؛ عارفاً ما هي عظمة المسجد ومكانته وقداسته، وملبّياً دعوة الله تعالى وأهل البيت عليهم السلام لإتيان المسجد. روي عن الإمام الصادق عليه السلام:
"عليكم بإتيان المساجد؛ فإنّها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهّراً؛ طهّره الله من ذنوبه، وكتب زوّاره؛ فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء"1. ويبشّر الله سبحانه خاصّة الّذين يمشون إلى المساجد ويكثرون التردّد إليها، ولا سيما في الليل بأنّ لهم نورهم يوم القيامة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "مكتوب في التوراة، إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهّر في بيته، ثمّ زارني في بيتي، ألا إنّ على المَزُور كرامة الزائر، ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد؛ بالنور الساطع يوم القيامة"2.
 
ما المراد من العمارة؟
ربّما يتوهّم البعض أنّ المقصود في الآية من عمارة المسجد؛ بناؤه أو ترميمه فقط، فهو وإن كان مطلوباً؛ كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من بنى مسجداً؛ بنى الله له بيتاً في الجنّة"3، غير أنّه ليس كلَّ المقصود؛ بل جزؤه؛ لأنّ الجزء الآخر والأهمّ؛ هو: العمارة البشريّة، إضافة إلى العمارة الحجريّة؛ فإنّ عليها المدار؛ وهي الأساس في صناعة الأجيال وتربية النفوس. ويُعمَر المسجد بإدراك حقيقة العبوديّة وتجسيدها في العبادة،
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج77، ص308
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج80، ص373.
3- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج81، ص4.
 
 
 
77

61

كيف أعمر المسجد؟

  والسجود لعظمة الخالق سبحانه سواء في الدعاء أم في الصلاة أم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم في بيان أحكام الدين، أم في الاجتماع في طلب المعارف الإلهيّة مع المحافظة على كافّة الآداب الّتي لا بدّ من مراعاتها في هذا المكان المشرّف ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد سأله أبو ذرّ (رض) عن كيفيّة عمارة المساجد: "لا تُرفع فيها الأصوات، ولا يُخاض فيها بالباطل، ولا يُشترى فيها ولا يُباع، واترك اللّغوَ ما دُمت فيها، فإنْ لم تفعل؛ فلا تلومنّ يوم القيامة إلّا نفسك"1.



تقدّم في الفقرة السابقة ما يرتبط بهذا العنوان، وهناك آداب أخرى لا بدّ من الالتزام بها، نذكرها على وجه الترتيب:
أوّلاً: ما يرتبط بأدب الدخول إلى المسجد، وهي أمور:
1. تقديم الرِّجْل اليمنى في الدخول، واليسرى في الخروج:
ورد عنهم صلوات الله عليهم: "الفضل في دخول المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى؛ إذا دخلت، واليسرى؛ إذا خرجت"2.


2. السكينة والوقار:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من أراد دخول المسجد؛ فليدخل على سكون ووقار؛ فإنّ المساجد بيوت الله، وأحبّ البقاع إليه"3. وعليه، فإنّ اقتراب المرء من باب المسجد؛ وهو لا يزال يجادل، أو يرفع صوته في حديث دنيويّ يختصّ بالمكاسب والأرباح الماليّة لتجارته وما شاكل هذا المعنى؛ يُعدّ من الأمور المخالفة للآداب التي ينبغي مراعاتها إسلاميّاً تجاه المسجد وتعظيماً لحرمته.


3. الاستعاذة:
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج74، ص85.
2- الكليني، الكافي، م.س، ج‏3، كتاب الصلاة، باب القول عند دخول المسجد، ح1، ص‏308.
3- ابن بابويه، محمّد بن علي بن الحسين: من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، ط2، قمّ المقدّسة مؤسّسة النشر الإسلامي، لات، ج‏1، ص‏240.
 
 
78

62

كيف أعمر المسجد؟

 روي عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا دخل العبد المسجد فقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الشيطان: إنّه كسر ظهري، وكتب الله له بها عبادة سنة، وإذا خرج من المسجد يقول مثل ذلك؛ كتب الله بكلّ شعرة على بدنه مائة حسنة ورفع له مائة درجة"1.



4. الطهارة:
والمراد منها أن يكون الإنسان متوضِّئاً قبل دخول المسجد، حيث يوصي بذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "لا تدخل المساجد إلّا بالطهارة"2.


5. الدعاء عند الباب:
روي عن مولانا الإمام العسكريّ عليه السلام: "إذا أردت دخول المسجد... وقل: بسم الله، وبالله، وعلى الله، وإلى الله، وخير الأسماء كلّها لله، توكّلت على الله، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وافتح لي أبواب رحمتك وتوبتك، وأغلق عليّ أبواب معصيتك، واجعلني من زوّارك، وعُمّار مساجدك"3.


ثانياً: ما يتعلّق بالتواجد في المسجد، وهو كذلك أمور:
1. عدم رفع الصوت.
2. عدم اللّغو والخوض في الباطل.
2. اجتناب الروائح المؤذية.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من أكل شيئاً من المؤذيات ريحها؛ فلا يقربنّ المسجد"4.
4. ترك البيع والشراء.
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج81، ص26.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج80، ص377.
3- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج81، ص22.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج10، ص108.
 
 
 
79

63

كيف أعمر المسجد؟

 5. عدم الانفراد بالصلاة والجماعة قائمة، فالصلاة بهذه الحالة فيها إشكال شرعيّ.

6. التزّين والتعطّر.
7. إبعاد المجانين عن المسجد؛ حفاظاً على مكانته وطهارته1.
8. القيام بخدمة المسجد من خلال كنسه، وإنارته، وغير ذلك؛ وهو مأثور في أيام مخصوصة -أيضاً- كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم "من كنس المسجد يوم الخميس وليلة الجمعة؛ فأخرج منه من التراب ما يذرّ في العين غفر الله له"2.


وفي حديث آخر: "من أحبّ أن يكون قبره واسعاً فسيحاً؛ فليبنِ المساجد، ومن أحبّ أن لا تأكله الديدان تحت الأرض؛ فليكنس المساجد، ومن أحبّ أن لا يُظلِمْ لحده؛ فلينوّر المساجد، ومن أحبّ أن يبقى طريّاً تحت الأرض فلا يبلى جسده؛ فليشتر بُسط المساجد"3.


ثمرات المسجد
وهي ثماني ثمرات وردت في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثماني: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردىً، أو يسمع كلمة تدلّه على هدىً، أو يترك ذنباً خشية أو حياء"4.
 
 

1- العاملي، محمّد بن الحسن: وسائل الشيعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ط2، قم المقدسة، 1414 هـ.ق، ج5، باب 27، ج1، ص233.
2- ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه، م.س، ج1، ص233.
3- النوري، مستدرك الوسائل، م.س، ج‏3، ح3847، ص‏385.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج80، ص351.
 
 
80

64

كيف أعمر المسجد؟

 خلاصة الدرس

أ- إنّ أشرف المواضع في هذه الدنيا المساجد الّتي تضمُّنا؛ كما تضمُّ الأمُّ الحنونة أولادها، وقد أعدّ الله لمن أعمرها ثواباً فوق تصوّر الإنسان.
ب- ليس معنى عمارة المسجد هو البناء الحجريّ فقط، وإنّما المقصود الأساس هو إحياؤها؛ بالصلاة، والدعاء، وسائر أشكال المراسم الدينيّة الإلهيّة.
ج- إنّ للمسجد آداباً كثيرة، منها: الطهارة، والاستعاذة، والسكينة، والوقار، وغير ذلك.
د- للمسجد ثماني ثمرات ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام.

للمطالعة
قصد المسجد للمال؟!

قدم المدينة أعرابيّ من البادية، وذهب إلى المسجد؛ كي يظفر بمال من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فرأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جالساً بين أصحابه، فدنا منه، وأظهر حاجته؛ طالباً منه أن يساعده، فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً؛ إلّا أنّ الأعرابيّ لم يقنع وعدّ ما أُعطي قليلاً، وتفوّه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالخشن البذي‏ء من الكلام؛ ما أثار نار الغضب لدى أصحابه، فقاموا للأعرابيّ يطرحونه أرضاً، فحال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وبينه، ثمّ خرج مصطحباً الأعرابيّ إلى بيته؛ فزاده شيئاً، فأظهر الرضا والامتنان؛ قائلاً بعد اعتذاره: جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّك قلت ما قلت، وفي نفس أصحابي من ذلك شي‏ء، وأنا أخشى أن يصيبك منهم أذىً، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ، حتّى يذهب ما في صدورهم عليك"، فلمّا كان الغد ذهب الأعرابيّ مجدّداً إلى المسجد، وكرّر شكره واعتذاره إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمام أصحابه.
 
 
 
81

65

كيف أعمر المسجد؟

 وهنا، التفت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه؛ ليلقّنهم الدرس الّذي عاشوه عن حسٍّ؛ قائلاً: "مَثَلي، وَمَثَلُ هذا؛ مَثَلُ رَجل له ناقة شردت منه، فاتّبعها الناس، فلم يزيدوها إلّا نفوراً، فناداهم صاحبها: خلّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق منكم بها وأعلم، فتوجّه لها بين يديها، فأخذها من قمام الأرض، فردّها؛ حتّى جاءت، واستناخت، وشدّ عليها رحلها، ثمّ استوى عليها، وإنّي لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال، فقتلتموه؛ دخل النار"1.

 
 

1- انظر: اليحجي، أبو الفضل (القاضي عيّاض): الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، لاط، بيروت، دار الفكر، 1409 هـ.ق/ 1988م، ج1، ص123 - 124.
 
 
82

66

كيف أصون الأمانة؟

9-   كيف أصون الأمانة؟

 
 
 
قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾1.
 
 

1- المؤمنون: 8.
 
 
84

67

كيف أصون الأمانة؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• الأمانة أفضل الإيمان
• آثار الأمانة
• لا تأمن هؤلاء
• لا تؤخّر الأمانة

في كنف الآية
من صفات المؤمنين البارزة الّتي ذكرها القرآن، المحافظة على الأمانة. والأمانة بمفهومها الواسع هي أمانة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أي الولاية، إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم الله على خلقه، وما سخّر لهم من المقدّرات والأرزاق العامّة أو الخاصّة؛ ومنها: الأموال، والأبناء، والمناصب الّتي بيد البشر، حيث يسعى المؤمنون في أدائها إلى أهلها، ورعاية حقّها، ويحرسونها ما داموا أحياءً، ويربّون أجيالهم
 
 
 
86

68

كيف أصون الأمانة؟

  على ذلك؛ وتتّسع الأمانة لهذا المعنى الشامل؛ لأنّ حقيقتها قائمة على المحافظة على الحقوق الّتي أمر الله بها، ولا تقتصر المحافظة على خصوص الأموال، بل على كلّ شي‏ء يمكن أن يُؤتمن عليه المرء.



يقول الإمام الصادق عليه السلام: "لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده؛ فإنّ ذلك شي‏ء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه، وأداء الأمانة"1.


وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من خان أمانة في الدنيا، ولم يردّها إلى أهلها، ثمّ أدركه الموت؛ مات على غير ملّتي، ويلقى الله؛ وهو عليه غضبان"2.
 
الأمانة أفضل الإيمان
كثيراً ما يحاول الشيطان إغراء الإنسان كي يمدّ يده إلى مال مؤتمَن عليه سواء في مركز عمله أم في مكان آخر؛ حيث تكون الأمانة الماليّة خاصّة، ويظنّ أنّه من خلال هذا التعدّي يمكنه أن يسدّ حاجة عرضت له في أمرٍ ما، أو يصبح غنيّاً عن طريق غير مشروع، لكن سرعان ما يصل إلى نهاية مؤسفة كانت بدايتها تمثّل له خروجاً عن ركب المؤمنين، وتلطّخ تاريخه بصورة بشعة لا يحبّ أن يتذكّرها، ويؤدّي ذلك إلى عذاب ضميريّ إن هو عاد عن الخيانة، وتاب ممّا سوّلت له نفسه، وهو يسمع ما رُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أفضل الإيمان الأمانة"، و "أقبح الخُلُق الخيانة"3.


وفي الحديث: "الأمانة تجلب الغناء، والخيانة تجلب الفقر"4، فالذي يريد أن يكون غنيّاً عمّا في أيدي الناس؛ عليه أن يكون أميناً صدوقاً، يؤدّي إلى كلّ ذي حقّ
 
 

1- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصدق وأداء الأمانة، ح12، ص105.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج72، ص171.
3- الآمدي، أبو الفتح: غرر الحكم ودرر الكلم، ترتيب وتدقيق عبد الحسن دهيني، ط1، بيروت، دار الهادي، 1413 هـ.ق/ 1992م، ح2905، 2906.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج72، ص114.
 
 
87

69

كيف أصون الأمانة؟

  حقّه، حتّى وإن كان بينهما عداوة وشقاق، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "اتّقوا الله، وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو أنّ قاتل أمير المؤمنين عليه السلام ائتمنني على أمانة؛ لأدّيتها إليه"1.



من هنا، نعرف أنّ وجوب أداء الأمانة ليس مقيّداً، وليس بالإمكان لأيّ فردٍ أن يتوقّف عن إيصالها إلى ذويها؛ باختلاق مسوّغات ما أنزل الله بها من سلطان. وما نسمعه من تشديد وتأكيد من العترة الطاهرة عليهم السلام في المحافظة عليها، قلّ نظيره في الأبواب الأخرى، إلى حدِّ أنّه ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: أُقسِم لَسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثاً: "يا أبا الحسن! أدّ الأمانة إلى البَرّ والفاجر؛ فيما قلّ وجلّ، حتّى في الخيط والمخيط"2.


وعنه عليه السلام -أيضاً-: "أدّوا الأمانة؛ ولو إلى قاتل ولد الأنبياء"3.


وعليه، ليس من الصواب أن يعتذر حامل الأمانة؛ بأنّ صاحبها مُنحرَفِ العقائد والمسلك؛ فإنّ الواجب أداؤها إليه كيفما كان.
 
آثار الأمانة
1- الصدق في القول والعمل:
في الحديث: "إذا قويت الأمانة؛ كثر الصدق9، والأمانة والوفاء؛ صدق الأفعال"4.
2- السلامة في الدنيا والاخرة:
من وصايا لقمان (رض): "يا بنيّ. أدِّ الأمانة؛ تسلم لك دنياك وآخرتك، وكن أميناً؛ تكن غنيّاً"5.
 
 

1- الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب الجهاد، باب أداء الأمانة، ح4، ص133.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج74، ص273.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج5، كتاب الجهاد، باب أداء الأمانة، ح3، ص133.
4- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، م.س، ح1582.
5- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، م.س، ح7932.
6- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج72، ص117.
 
 
 
88

70

كيف أصون الأمانة؟

 3- الرزق:

عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الأمانة تجرّ الرزق، والخيانة تجرّ الفقر"1.
 
لا تأمن هؤلاء
لقد كان الحديث في ما تقدّم عن وجوب الحفاظ على الأمانة وأدائها إلى صاحبها، ونتكلّم الآن عن أوصاف مجموعة من الناس نهانا الإسلام عن وضع الأمانات لديهم، وحذَّرَنا منهم؛ محدّداً بذلك المكان المناسب والشخص الّذي ينبغي ائتمانه، وإلّا كان الخلل من الطرفين؛ أي من صاحب الأمانة، ومن حاملها حين يأتمن الإنسان شخصاً، مع علمه بأنّه لا أمانة له، وليس محلّاً لها، فمن هم هؤلاء؟


إنّهم كما حدّثنا أهل البيت عليهم السلام:
1- شارب الخمر:
في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "من ائتمن شارب الخمر؛ فليس له على الله ضمان"2.


2- الكذّاب:
عن الباقر عليه السلام: "من عرف من عبد من عبيد الله كذباً إذا حدّث، وخلفاً إذا وعد، وخيانة؛ إذا ائتمن، ثمّ ائتمنه على أمانة ؛ كان حقّاً على الله عزّ وجلّ أن يبتليه فيها، ثمّ لا يخلف عليه ولا يأجره"3.


3- الخائن:
يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس لك أن تتّهم من ائتمنته، ولا تأتمن الخائن؛ وقد جرّبته"4.
 
 

1- المتقي الهندي، علاء الدين، كنز العمّال، لاط، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409 هـ.ق/ 1989م، ج3، ح5499، ص61.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج76، ص143.
3- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج100، ص85.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج72، ص194.
 
 
89

71

كيف أصون الأمانة؟

 وعن الرضا عليه السلام: "لم يخنك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن"16.

 
لا تؤخّر الأمانة
ربّما لا يعتدي الإنسان بالتصرّف في مال مُودَع عنده، غير أنّه يؤخّر إيصاله إلى صاحبه؛ استهانة منه، وتثاقلاً من خلال ما تحدّثه به نفسه، وجرّاء التسويف والكسل؛ فإن هذا -أيضاً- يعدّ تعدّياً؛ لأنّه يدخل في دائرة تأخير الحقوق عن ذويها، وربّما يؤدّي ذلك إلى تلف الأمانة إذا كانت ممّا يتلف وتنقص قيمته بمرور الزمن عليه، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منّا من يحقّر الأمانة؛ حتّى يستهلكها إذا استودعها"17.
 
خلاصة الدرس
أ- من أعظم صفات المؤمنين المذكورة في القرآن: أداء الأمانة ورعايتها؛ وهي من الواجبات الّتي لم يجعل الله تعالى رخصة فيها لأحد. ومعناها: ليس خصوص الحفاظ على الأموال فقط، بل عامّ شامل لسائر الحقوق.
ب- لا إيمان لمن لا أمانة له. والخيانة سبب للفقر والعوز.
ج- من آثار الأمانة: الصدق، والسلامة، والرزق.
د- نهانا الإسلام عن ائتمان: شارب الخمر، والكذّاب، والخائن.
هـ- يعدّ تأخير الأمانة مع القدرة على تأديتها تعدّياً، وبالخصوص إذا أدّى إلى تلفها، ونقصان قيمتها.
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج75، ص335.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج72، ص172.
 
 
 
90

72

كيف أصون الأمانة؟

 للمطالعة

مسخه الله قرداً؟!
 
في ما يُروى عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام ، في باب المحافظة على أمانة العلم، وعدم خيانتها، أنّه قال: "كان لموسى بن عمران جليس من أصحابه، وقد وعى علماً كثيراً، فاستأذن موسى في زيارة أقارب له، فقال له موسى: إنّ لصلة القرابة حقّاً، ولكن إيّاك أن تركن إلى الدنيا، فإنّ الله قد حمّلك علماً، فلا تضيّعه وتركن إلى غيره. فقال الرجل: لا يكون إلّا خير، ومضى نحو أقاربه، فطالت غيبته، فسأل موسى عنه، فلم يخبره أحد بحاله، فسأل جبرئيل عنه، فقال له: أخبرني عن جليسي فلان، ألك به علم؟ قال: نعم، هو ذا على الباب؛ قد مُسِخَ قرداً في عنقه سلسلة، ففزع موسى إلى ربّه، وقام إلى مصلّاه يدعو الله ويقول: يا ربّ! صاحبي وجليسي، فأوحى الله إليه يا موسى! لو دعوتني حتّى تنقطع ترقوتك؛ ما استجبت لك فيه، إنّي كنت حمّلته علماً؛ فضيّعه، وركن إلى غيره"1.
 
 

1- العاملي، محمّد بن الحسن: الجواهر السنية. لاط، لان، 1384 هـ، ق/ 1964م، ص76.
 
 
91

73

كيف أكون في المجتمع؟

 10-         كيف أكون في المجتمع؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾1.
 
 

1- الإسراء: 70.
 
 
92

74

كيف أكون في المجتمع؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• الحقوق الإنسانيّة
• تقسيم اللحظات والنظرات
• عدل الخطاب
• ملعون يصلّي
 
في كنف الآية
إنّ للإنسان كرامة عند الله تعالى، لم ينلها غيره من الخلق حتّى الملائكة، وقد خصّه تعالى بنعم ومقدّرات عظيمة يصعب إحصاؤها ومعرفتها، كي تعينه في مسيرة حياته، ويتقوّى بها على طاعته. ورد عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك، وجدته؛ كالبيت المبنيّ؛ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة؛ كالسقف، والأرض ممدودة؛ كالبساط، والنجوم منضودة؛ كالمصابيح.. والإنسان؛ كالمملَّك ذلك البيت؛ والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات
 
 
 
94

75

كيف أكون في المجتمع؟

  مهيّأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه"1؛ ذلك كلّه، وُضِع بتصرّف الإنسان وخدمته؛ لاستعماله في سبيل الخير والبناء، لا في طريق الشرّ والشقاء. وممّا ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في صدد هذا التكريم الإلهيّ لابن آدم: "ما شي‏ء أكرم على الله من ابن آدم، قيل يا رسول الله! الملائكة؟ قال: الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر"2، ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "لمّا أُسري برسول الله، وَحَضَرَت الصلاة؛ فأذّن وأقام جبرئيل، فقال: يا محمّد تقدّم، فقال رسول الله: تقدّم يا جبرئيل، فقال له: إنّا لا نتقدّم الآدميّين؛ منذ أُمرنا بالسجود لآدم"3.

 
الحقوق الإنسانيّة
إذا عرفنا ما تقدّم، حقّ علينا أن نسأل أنفسنا: كيف نتعامل مع مَن كرّمه الله بهذا التكريم؛ ونحن نعيش في مجتمع واحد؛ نتعارف ونتآلف؟ وما هي الحقوق الواجبة علينا تجاههم؟ والجواب: إنّ الحقوق الإنسانيّة الّتي ينبغي علينا مراعاتها تكمن في جانبين: الأوّل: مادّيّ، والثاني: معنويّ، طالما كانت روح المسؤوليّة تعيش بيننا؛ حيث يشعر كلّ واحد منّا أنّه جزء من هذا المجتمع؛ يتكامل مع الآخرين، ولا تتحكّم فيه روح الانزواء والتفرّد، بل الالتزام بالمبادى‏ء الاجتماعيّة الّتي دعانا إليها الإسلام العزيز، بحيث لا يستعلي أحد على الآخرين، ولا يستضعفهم. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الناس سواء؛ كأسنان المشط"4.


ومن وصاياه عليه السلام: "وأَشْعِر قلبك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم.. فإنّهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلق"5.
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج3، ص61.
2- الهندي، كنز العمّال، م.س، ج12، ح34621، ص192.
3- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج18، ص404.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج75، ص251.
5- الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، م.س، ج3، كتاب 53، ص84.
 
 
 
95

76

كيف أكون في المجتمع؟

 1- الحقوق المادّيّة:

إنّ التشريعات الصادرة من الشارع المقدّس بيّنت الاهتمام الإلهيّ؛ بتوفير الضرورات والحاجات المادّيّة للإنسان؛ الهادفة إلى أن تسود الأرض عدالة اجتماعيّة، ولا يهان فيها الإنسان لقاء سعيه لطلب لقمة عيشه، أو تأمين سقف يظلّله مع عائلته، أو تحصيل دراهم تعينه على شراء دواء، وما شاكل ذلك.


ومن هنا يُعدّ الممتنع عن دفع الزكوات، والأخماس، وسائر الحقوق الماليّة الشرعيّة المتوجّبة عليه؛ متعدّياً، ومنتهكاً للحقوق الإنسانيّة، ومساهماً في حرمان الآخرين وإبقائهم على الأوضاع السيئة الّتي تحيط بهم؛ بدلاً من قيامه بإعانة الضعيف منهم ومساعدته؛ لما فيه صلاح دينه ودنياه. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الخلق كلُّهم عيال الله، فأحبُّهم إلى الله عزّ وجلّ؛ أَنْفعهُم لعياله"1، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله عزّ وجلّ: الخلق عيالي، فأَحبُّهم إليّ؛ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم"2. لذلك، كان للمساعي والخدمات المبذولة في سبيل خدمة المجتمع البشريّ أهمّيّة بالغة في الدين الحنيف. هذا ما يرتبط بالواجبات العامّة؛ وهي بدورها؛ كما تفرض علينا تأمين الاحتياجات، تلزمنا -كذلك- بالمحافظة وعدم التعرّض للمقدّرات الموجودة لدى الناس؛ على اختلاف أشكالها وأنواعها، وقد أقام الإسلام على ذلك الحدود عند التعدّي؛ لتستقيم الحياة في الخطّ الّذي أراده الله سبحانه لها.


2- الحقوق المعنويّة:
إنّ الدعوة إلى رعاية الحقوق المعنويّة لا تقلّ شأناً عن الحقوق الماديّة، بل هي آكد وأوجب؛ سواء في مجالها العامّ الّذي يمكن التمثيل له؛ بتوهين أهل بلد معيّن، من خلال إهانتهم ولصق التّهم بهم، أم في مجالها الخاصّ؛ كالتعرّض لغِيبة المؤمن، أو
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج93، ص118.
2- الكليني، الكافي، م.س، ج‏2، كتاب الإيمان والكفر، باب السعي في حاجة المؤمن، ج10، ص‏199.
 
 
 
96

77

كيف أكون في المجتمع؟

  بهتانه وشتمه، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾1، وعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من آذى مؤمناً فقد آذاني"2. ومن هنا، لا يكون الحقّ المطلوب رعايته -فقط- هو عدم التعرّض للآخر بما يكره، وإنّما إضافة لذلك عدم التعرّض له في محضره، حيث يجب عليك أن تصونه وتدفع عنه كلّ ما يسقط حرمته، أو يخدشه في نفسه وحريمه وولده وسائر من يتعلّق به. لذلك، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "السامع للغيبة؛ كالمغتاب"3.



وقد رتّب الله سبحانه، على انتهاك الحقوق المعنويّة حدوداً؛ بيّنها القرآن الكريم؛ من أجل صيانة الإنسان، والحفاظ على كرامته من هذا الجانب، كما رتّب على انتهاك الحقوق الماديّة -كذلك- حدوداً؛ كحدّ السرقة وغيره.
 
تقسيم اللحظات والنظرات:
ونحن إذا قرأنا سيرة المعصومين عليهم السلام بعين البصيرة؛ وجدنا العناية الفائقة، والملاحظة الدقيقة لصغائر الأمور الّتي قد نقضي أعمارنا في الغفلة عنها، وعدم الالتفات إليها؛ حيث إنّهم صلوات الله عليهم كانوا يقسّمون لحظاتهم في النظر إلى أصحابهم؛ كما عن جدّهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فإنّه كان يقسّم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا؛ بالسويّة4.
 
عدل الخطاب
كان أهل البيت عليهم السلام قدوة لأتباعهم في مراعاة عدل الخطاب، حيث كانوا يعتنون
 
 

1- الأحزاب: 58.
2- النوري، مستدرك الوسائل، م.س، ج9، ح10337، ص99.
3- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، م.س، ح1171.
4- انظر: الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب النوادر، ح1، ص671.
 
 
97

78

كيف أكون في المجتمع؟

  بالالتزام في أن لا يعلو خطاب الخصم على خصمه، ويرتّبون على ذلك الآثار؛ كالعزل من القضاء؛ كما عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه ولّى أبا الأسود الدُؤَليّ القضاء، ثمّ عزله، فقال له: لِمَ عزلتني، وما خنت ولا جنيت؟ فقال: "إنّي رأيت كلامك يعلو كلام خصمك"1، فكيف بنا إذا قادتنا رغباتنا ونزعاتنا إلى تحطيم الآخرين، وتشويه سمعتهم، وإقناع أنفسنا بأنّه يوجد لذلك مسوّغات شرعيّة، مع جلاء حقيقة أنّ الشرع المبين بعيد عن ذلك غاية البعد، فإذا كان الاستعلاء بالكلام في محضر الآخر انتهاكاً خطيراً؛ استحقّ صاحبه العزل عن سدّة القضاء، فكيف إظهار عيوبه والكيد له في غيبته؟! أعاذنا الله تعالى من ذلك، وعصمنا من الوقوع في الشَّرك الشيطانيّ.

 
ملعون يصلّي
يُعدّ المسّ بالحقوق الإنسانيّة -بقسميها المذكورَيْن- موجباً للفسق والعصيان واستحقاق الطرد من ساحة الرحمة الإلهيّة وحلول اللّعنة. فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أوصى الله إليّ أن يا أخا المرسلين! يا أخا المنذرين! أنذر قومك لا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد من عبادي عند أحدهم مظلمة، فإنّي ألعنه ما دام قائماً يصلّي بين يديّ؛ حتّى يردّ تلك المظلمة"2.
 
 

1- النوري، مستدرك الوسائل، م.س، ج17، ح21581، ص‏359.
2- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج81، ص257.
 
 
 
98

79

كيف أكون في المجتمع؟

 خلاصة الدرس

أ- إن الله تعالى فضّل الإنسان وكرّمه حتّى على ملائكته، وسخّر له هذا الكون بتصرّفه؛ ليصل إلى هدفه الأسمى.
ب- لقد تكفّلت الشريعة الغرّاء بالحفاظ على الحقوق الماديّة والمعنويّة لبني الإنسان؛ في كلّ تفاصيل أحكامها، ودعت إلى المحافظة عليها وصيانتها. ويُعدّ التقصير فيها عصياناً للّه سبحانه.
ج- جسّدت حياة المعصومين عليهم السلام في أقوالهم وأفعالهم رعاية دقيقة لحقوق الفرد والمجتمع؛ حتّى في تقسيم لحظات النظر إلى أصحابهم.
 
للمطالعة
تلك الكعكة خلّصتك..!
 
مرّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوماً بيهوديّ يحتطب في صحراء، فقال لأصحابه: إنّ هذا اليهوديّ لَتلدغنّه اليوم حيّة ويموت، فلمّا كان آخر النهار رجع اليهوديّ بالحطب على رأسه؛ على جاري عادته، فقال له الجماعة: يا رسول الله، ما عهدناك تخبر بما لا يكون! فقال: وما ذاك؟ قالوا: إنّك أخبرت اليوم بأنّ هذا اليهوديّ تلدغه أفعى ويموت، وقد رجع، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "عَلَيَّ به، فأُتي به إليه، فقال يا يهوديّ، ضع الحطب وحُلَّه"؛ فحلّه، فرأى فيه أفعى، فقال: "يا يهوديّ ما صنعت اليوم من المعروف"؟ فقال: ما صنعت شيئاً غير أنّي خرجت ومعي كعكتان؛ فأكلت إحداهما، ثمّ سألني سائل، فدفعت إليه الأخرى، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "تلك الكعكة خلّصتك من الأفعى"، فأسلم على يده1.
 
 

1- الإحسائي، ابن أبي جمهور: عوالي اللئالي، تقديم شهاب الدين النجفي، تحقيق مجتبى العراقي، ط1، قم المقدسة، مطبعة سيد الشهداء، 1403 هـ.ق/ 1983م، ج1، ص 373.
 
 
99

80

كيف أنظر إلى اليهود؟

11-       كيف أنظر إلى اليهود؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ...... * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ......﴾1.
 
 

1- المائدة: 12-13.
 
 
 
100

81

كيف أنظر إلى اليهود؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• صفات بني إسرائيل
• قساة القلوب
• جبناء أذلّاء
• مفسدون في الأرض
• أهل مكرٍ وخداع
 
في كنف الآية
تحدّثنا الآية الكريمة عن العهد الّذي أخذه الله من بني إسرائيل على أن يعملوا بأحكامه ومضمون هذا العهد: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان برسل الله ونصرتهم، وبذل المال في سبيله تعالى؛ على أن يجزيهم الله تعالى بأمرين، هما: العفو عن السيّئات، وإدخالهم الجنّة. هذا ميثاقه تعالى الّذي بيّنه في القرآن وبعده خاطبهم بقوله: ﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾1؛ فالعاقبة هي الخزي والخذلان، لكنّ بني إسرائيل نقضوا كلّ عهد وميثاق؛ وذلك سمة لهم لا تفارقهم أبداً، كما أنّ لعنة الله عليهم لا تنفكّ عنهم أبداً؛ للتلازم بين نقض
 
 

1- المائدة: 12.
 
 
 
102

82

كيف أنظر إلى اليهود؟

  العهد واللعنة الإلهيّة، فصحّ أن يوصفوا على الدوام بأنّهم الأمّة الملعونة؛ أي المبعدة عن رحمة الله؛ وسبب ذلك: عصيانهم، ونقضهم، وطغيانهم، وعتوّهم، فَهُم لم ينكروا ما جهلوه، وإنّما أنكروا ما عرفوه وكفروا به، يقول عزّ من قائل: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ﴾1، فمن أبرز صفاتهم: العناد، والاستكبار الّذي كانوا عليه بالأمس، وهم اليوم كذلك لم يتغيّروا، حتّى صار هذا الأمر هويّة شخصيّتهم، بكلّ ما تحمل من أباطيل، وأقاويل، وافتراءات على الله وأنبيائه عليهم السلام.


 
صفات بني إسرائيل
قتلة الأنبياء عليهم السلام 
يعدّ قتلهم لأنبياء الله عليهم السلام من مثالبهم التاريخيّة؛ فهم أكثر قوم بعث الله تعالى لهم الأنبياء عليهم السلام ؛ لشدّة مكرهم، وكانوا يبادلون نعمة الله كفراً واتّباعاً لأهوائهم ومصالحهم؛ لأنّهم لا يريدون الانتهاء عمّا هم فيه من الفساد والتجبّر، يقول تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾2. ويلاحَظ: أنّ الخطاب في الآية موجّه إلى اليهود كافّة في كلّ عصر، لا خصوص الماضين منهم؛ وذلك لأنّهم رضوا بفعل أجدادهم؛ فأُضيف الفعل، ونُسب التكذيب والقتل إليهم.
 
قساة القلوب
حيث لا رحمة عندهم ولا شفقة، إلى درجة أنّهم فقدوا الإحساس الإنسانيّ في الحياة مع الآخرين، فظهر من جرائمهم ومجازرهم ما لا يمكن عدّه وإحصاؤه؛ من دير ياسين؛
 
 

1- البقرة: 89.
2- البقرة: 87.
 
 
 
103

83

كيف أنظر إلى اليهود؟

  إلى قانا، وجنّين، وغيرها، حيث يصفهم الله سبحانه، بقوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾1.

 
جبناء أذلّاء
من أبرز صفات اليهود؛ جبنهم وخوفهم؛ وما يتفرّع عن هاتين الصفتين من غدر وخيانة... ولعلّ سبب ذلك يرجع إلى:
أوّلاً: حبّهم للحياة الدنيا وشهواتها.
ثانياً: كراهية الموت.
ثالثاً: عبادتهم للمال والثروة.
رابعاً: وهَن عقيدتهم.
يقول عزّ وجلّ: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ﴾2. وشواهد جبنهم في التاريخ كثيرة، وأمّا في الحاضر، فإنّ ما شاهدناه من صراخهم وبكائهم أمام ضربات المجاهدين في لبنان، وفلسطين، سيظلّ يتكرّر كلّ يوم ما بقي الذِكْر المبين: ﴿لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ *لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ﴾3.
 
مفسدون في الأرض
إنّ نشر الفساد، وإشاعة الانحلال الأخلاقيّ، خاصّةً بين جيل الشباب من خلال أماكن اللّهو، ووسائل الإعلام؛ من أهدافهم الّتي لم ينكروها، وإنّما أقرّوا بها، كما
 
 

1- البقرة: 74.
2- آل عمران: 112.
3- الحشر: 13.
 
 
104

84

كيف أنظر إلى اليهود؟

  جاء في كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"؛ وما ذلك إلّا للقضاء على البناء الروحيّ لدى الإنسان.

قال تعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾1.
 
أهل مكرٍ وخداع
في سياق أعمالهم للنيل من الإسلام، أظهر جماعة من اليهود الإيمان به؛ وهم في الحقيقة يبطِنُون الكفر. وكان الهدف من ذلك: التجسّس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحرّكات المسلمين، ثمّ نَقْل أخبارهم وأحوالهم إلى مشركي بعض القبائل؛ كالأوس، والخزرج، ولا يزالون وأعوانهم على ذلك.
لذا، نهانا الله تعالى عن الاطمئنان إليهم، أو كشف الأسرار أمامهم، يقول عزّ من قائل: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً2 وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ3 قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾4.


6- الله -والعياذة بالله- فقير في نظرهم:
يقول تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ﴾5.
تعالى الله عمّا يقولون علوّاً عظيماً، وإنّ قولهم؛ سواء أكان عن اعتقاد أم عناد؛ فهو كفر، إضافة إلى قتلهم الأنبياء عليهم السلام بغير حقّ، يقول مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام، فألزمهم القتل برضاهم بما فعلوا"6.
 
 

1- المائدة: 64.
2- لايألونكم خبالاً: لا يوفِّرون أذيَّتكم.
3- ودّوا ما عنتّم: يتمنَّوْن وقوع الضرر عليكم.
4- آل عمران: 118.
5- آل عمران: 181.
6- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الدعاء، باب في صنوف أهل الخلاف، ح1، ص409.
 
 
 
105

85

كيف أنظر إلى اليهود؟

 وينسبون الكذب إلى الله سبحانه، والجهل، وخداع آدم عليه السلام في أمر الشجر1؛ كما جاء في توراتهم الموضوعة؛ إفكاً، وإثماً، وعدواناً على القداسة. أضف إلى ذلك إسنادهم بعض الصفات التي لا تليق بشأن أنبياء اللع تعالى ظلماً وعدواناً.

 

1- انظر الاصحاحين الثاني والثالث من سفر التكوين.
 
 
 
106

86

كيف أنظر إلى اليهود؟

 خلاصة الدرس

أ- إنّ نقض العهود والمواثيق من أبرز صفات اليهود الّتي جعلتهم أُمّة ملعونة على لسان الله تعالى، إضافة إلى عنادهم، واستكبارهم، وقولهم على الله غير الحقّ.
ب- ينسب اليهود إلى الله -تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً-: الجهل، والخديعة، والفقر؛ كما جاء ذلك صريحاً في توراتهم الموضوعة.
ج- لا يعتقد بنو إسرائيل بالمقامات السامية للأنبياء عليهم السلام ؛ كما يعتقد المسلمون، بل يضعون أكاذيب وأباطيل في حقّهم، لا يليق أن تصدر عن أدنى إنسان.
د- إنّ الوسائل - مهما بلغت بشاعتها - هي مشروعة في سبيل الوصول إلى الأهداف عندهم.
 
للمطالعة
قوم قردة؟!
 
وجدنا في كتاب عليّ عليه السلام: أنّ قوماً من أهل إيلة من قوم ثمود، وأنّ الحيتان كانت سِيقَت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم في ذلك، فشرعت إليهم يوم سبتهم في ناديهم وقدّام أبوابهم في أنهارهم وسواقيهم، فبادروا إليها، فأخذوا يصطادونها ويأكلونها، فلبثوا في ذلك ما شاء الله لا ينهاهم الأحبار، ولا يمنعهم العلماء عن صيدها، ثمّ إنّ الشيطان أوحى إلى طائفة منهم إنّما نُهيتم عن أكلها يوم السبت، ولم تُنهَوْا عن صيدها فاصطادوها يوم السبت وأكلوها في ما سوى ذلك من الأيّام.
 
فقالت طائفة منهم: الآن نصطادها؛ فعتت، وانحازت طائفة أخرى منهم ذات اليمين، فقالوا: ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرّضوا لخلاف أمره، واعتزلت طائفة
 
 
 
107

87

كيف أنظر إلى اليهود؟

  منهم ذات اليسار فسكتت ولم تعظهم، فقالت الطائفة الّتي وعظتهم: لِمَ تعظون قوماً اللّه مهلكهم أو معذّبهم عذاباً شديداً؟ فقالت الطائفة الّتي وعظتهم: معذرة إلى ربّكم ولعلّهم يتّقون، فقال: فقال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾1، يعني لمّا تركوا ما وُعظوا به؛ مضوا على الخطيئة، فقالت الطائفة الّتي وعظتهم: لا والله لا نجامعكم ولا نبايتكم الليلة في مدينتكم هذه الّتي عصيتم الله فيها؛ مخافة أن ينزل عليكم البلاء؛ فيعمَّنا معكم.

 
قال: فخرجوا عنهم من المدينة؛ مخافة أن يصيبهم البلاء، فنزلوا قريباً من المدينة، فباتوا تحت السماء، فلمّا أصبح أولياء الله المطيعون لأمر الله؛ غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية، فأتوا باب المدينة، فإذا هو مصمت، فدقّوا، فلم يجاوبوا، ولم يسمعوا منها حسّ أحد، فوضعوا فيها سُلَّماً على سور المدينة، ثمّ أصعدوا رجلاً منهم، فأشرف على المدينة، ؛ فنظر فإذا هو بالقوم قردةٌ يتعاونون ولهم أذناب، فكسروا الباب، فعرفت الطائفة أنسابها من الإنس، ولم يعرف الإنس أنسابها من القردة، فقال القوم للقردة: ألم ننهكم؟
 
فقال عليّ عليه السلام: "والّذي فلق الحبّة؛ وبرأ النسمة؛ إنّي لأعرف أنسابها من هذه الأمّة؛ لا ينكرون ولا يغيّرون بل تركوا ما أُمِروا به فتفرّقوا"، وقد قال الله: ﴿ فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾2، فقال الله: ﴿أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾3 4.
 
 

1- الأنعام: 44.
2- المؤمنون: 41.
3- الأعراف: 165.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج14، ص53.
 
 
 
108

88

كيف أنجح في العمل؟

12-        كيف أنجح في العمل؟

 
 
 
 
قال تعالى:
﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾1.
 
 

1- التوبة: 105.
 
 
 
110

89

كيف أنجح في العمل؟

 العناوين الرئيسة:

• في كنف الآية
• الحسن في العمل
• التقوى مع العمل
• الدوام في العمل
• السداد في العمل
• الإحكام في العمل
• البعث على العمل
• إتمام العمل
• النظم في العمل

في كنف الآية
تشير الآية إلى أنّ عمل الإنسان؛ سواء أكان في خلوته أم بين الناس في العلن، لا يخفى على الله سبحانه، ولا يغيب عن علمه، بل إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يعلمون به
 
 
 
112

90

كيف أنجح في العمل؟

  إضافة إلى علم الله عزّ وجلّ. والالتفات إلى هذه الحقيقة والإيمان بها لهما كبير الأثر في تطهير العمل وإنجاحه؛ لأنّ الإنسان -عادة- إذا أحسّ بأن أحداً ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته؛ فإنّه يحاول أن يتصرّف تصرّفاً لا نقص فيه ولا عيب؛ حتّى لا يؤاخذه عليه من يُراقبه أو يتولّى الإشراف عليه، وهذا الأمر مُتَّبَع في الحياة ومعمول به في المؤسّسات وقطاعات العمل على مستوى واسع في سائر دول العالم، فكيف إذا أحسّ وآمن بأنّ الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يطّلعون على أعماله. والمراد بالمؤمنين في الآية أوصياء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من بعده، وليس جميع المؤمنين، وعن الإمام الرضا عليه السلام: "أنّ شخصاً قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي، فقال: أولست أفعل؟ والله إنّ أعمالكم لتُعرض عليّ في كلّ يوم وليلة. يقول الراوي: فاستعظمت ذلك، فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عزّ وجلّ:﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾؛ هو عليّ بن أبي طالب"1.



ومن هنا، كيف يكون عملنا ناجحاً وخالصاً؟ وما هي شروط ذلك، ونحن نخضع لرقابة من الله، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهل البيت عليهم السلام ؟ ويتّضح الجواب من خلال بيان الأمور التالية:
الأمر الأوّل: الحسن في العمل:
يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾2.


والمراد هنا: المعيار الكيفي لا الكمّي؛ كما يوضّح معنى الآية مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "ليس يعني أكثر عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة"، ثمّ قال: "الإبقاء على العمل حتّى يخلص؛ أشدّ من العمل. والعمل الخالص الّذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزّ وجلّ"3.
 
 

1- الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب الحجّة، باب عرض الأعمال على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ح4، ص219.
2- الكهف: 7.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج1، كتاب الإيمان والكفر، باب الإخلاص، ح4، ص16.
 
 
 
113

91

كيف أنجح في العمل؟

 الأمر الثاني: التقوى مع العمل:

يوصي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذرّ (رض)، قائلاً: "يا أبا ذرّ! كن بالعمل بالتقوى أشدّ اهتماماً منك بالعمل؛ فإنّه لا يقلّ عمل بالتقوى، وكيف يقلّ عمل يُتَقَبَّل؟"1.


وإنّ قبول الأعمال مرهون بصدورها عن المتّقين، حيث قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾2.


الأمر الثالث: الدوام في العمل:
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "يا حمران!... واعلم أنّ العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند الله عزّ وجلّ من العمل الكثير على غير يقين"3. والمراد -هنا-: جوهر العمل مع المثابرة والاستمرار؛ لأنّه عليه السلام عبّر بـ"على اليقين"، وإلّا قد يُبتلى بعض الناس بالمداومة على أعمال معيّنة بدون يقين؛ وإنّما لتعوّدهم عليها، بحيث إذا تركوها استوحشوا، فهي لا تقرّبهم زلفى، بل يتحمّلون عناءها لا غير.


الأمر الرابع: السداد في العمل:
ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "سلوا الله السداد، وسلوه مع السداد؛ سداد العمل"4.
 
الأمر الخامس: الإحكام في العمل:
كثيراً ما تضيع أعمالنا بسبب عدم الاهتمام والتفريط في إحكامها؛ وإنّما نقوم بها بدون الإحاطة بالجوانب الضروريّة فيها، غافلين دراستها بالشكل الّذي يمكّننا من 
 
 

1- المجلسي، بحار الأنوار، م.س ج74، ص86.
2- المائدة: 27.
3- الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين، ح3، ص58.
4- النوري، مستدرك الوسائل، م.س، ج5، ح5562، ص161.
 
 
 
114

92

كيف أنجح في العمل؟

 الإمساك بزمامها، فإذا بها واهية غير مثمرة. في الحديث: "إنّي لأعلم أنّه سيبلى، ويصل البلى إليه، ولكنّ الله يحبّ عبداً إذا عمل عملاً أحكمه"1.



الأمر السادس: البعث على العمل:
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أفضل الأعمال؛ ما أَكْرَهت نفسك عليه"2، حيث إنّ النفس كثيراً ما ترفض بعض الأعمال؛ للاعتقاد بعدم الأهليّة والقدرة على القيام بها، أو للتسويف والتأجيل، خاصّة مع استحكام الكسل بالشخص، أو استضعافه لنفسه بأوهام لا وجود لها في حياته. ويكمن الحلّ بالحثّ، والبعث، وإكراه النفس على الإقدام لا مطاوعتها والإحجام عن العمل وبالإقدام ينتفي الخوف كما رُوي عنه عليه السلام -أيضاً-: "إذا هِبْتَ أمراً فَقَعْ فيه؛ فإنّ شدّة توقّيه أعظم ممّا تخاف منه"3.


الأمر السابع: إتمام العمل
قال النبيّ عيسى بن مريم عليه السلام: "يا معشر الحواريّينّ بحقّ أقول لكم، إنّ الناس يقولون لكم: إنّ البناء بأساسه، وأنا لا أقول لكم كذلك. قالوا: فماذا تقول يا روح الله؟ قال: بحقّ أقول لكم: إنّ آخر حجر يضعه العامل؛ هو الأساس". قال أبو فروة: إنّما أراد خاتمة الأمر4.


الأمر الثامن: النظم في العمل:
من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام: "أوصيكما وجميع وُلدي وأهلي ومن بلغه كتابي؛
 
 

1- ابن بابويه، الأمالي، م.س، ص468.
2- الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، م.س، ج4، ح249، ص54.
3- الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، م.س، ج4، ح175، ص42.
4- المجلسي، بحار الأنوار، م.س، ج14، ص322.
 
 
 
115

93

كيف أنجح في العمل؟

  بتقوى الله، ونظم أمركم"1.

 



وهذا الشرط من أهمّ أسباب النجاح والفلاح على الصعيدين الفرديّ والاجتماعيّ، وفي شؤون الدين والدنيا. وطالما كان العمل غير منتظم؛ فإنّه لا يُؤمَل منه خير على الإطلاق؛ لضرورة أنّ الإسلام يرفض العشوائيّة، ويدعو إلى التخلّص من الفوضى والغوغاء؛ لأنّه يحمل في تعاليمه السامية ومُثُلِه العليا أرقى مبادى‏ء الحضارة والنظام والعدالة، فدعوته إلى نظم الأمور شاملة وعامّة لسائرَ الشؤون العباديّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، وغيرها.


بهذا نكون قدَّمنا لك، أخي الكريم، عوامل النجاح في العمل في ضوء الكتاب والسنّة المباركة. واتّضح الجواب عن السؤال الّذي طرحناه في عنوان الدرس.


خلاصة الدرس
أ- إنّ عرض العمل على الله، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والأئمّة عليهم السلام ؛ له كبير الأثر في إنجاحه والإخلاص فيه.
ب- المراد بـ "المؤمنون" في الآية: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: الأئمّة الأطهار عليهم السلام.
ج- لنجاح العمل أسباب عديدة، هي: الحسن، والتقوى، والدوام، والسداد، والإحكام، والبعث، والإخلاص، والإتمام، والنَّظم.
 
 

1- الشريف الرضيّ، نهج البلاغة، م.س، ج3، كتاب 47، ص76.
 
 
 
116

94

كيف أنجح في العمل؟

 للمطالعة

لا يرضى الناس بما نعمل!
 
ممّا رُوِي عن لقمان في وصيته لابنه: لا تعلّق قلبك برضا الناس؛ فإنّ ذلك لا يحصل. ثمّ مَثَّل لقمان الحكيم لابنه ذلك؛ بأن أخرجه معه، ومعهما بهيم، فركبه لقمان وترك ولده يمشي وراءه، فقال قوم: هذا شيخ قاسي القلب؛ قليل الرحمة، ثمّ عكس، فاجتاز على جماعة أخرى، فقالوا: هذا بئس الوالد، وهذا بئس الولد، أمّا أبوه؛ فإنّه ما أدّب ولده، وأمّا الولد فقد عقّ والده، فركبا جميعاً، فقالت أخرى: ما في قلب هذين رحمة يركبان معاً، يقطعان ظهر الدابة، ويحمّلانها ما لا تطيق، فتركا الدابة تمشي خالية؛ وهما يمشيان، فقالت جماعة: هذا عجيب من هذين؛ يتركان دابة فارغة، ويمشيان؛ فذمّوهما على ذلك. فقال لولده: ترى في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال؟ فلا تلتفت إليهم، واشتغل برضا الله جلّ جلاله.
وهكذا، نحن يجب أن يكون معيار نجاحنا في العمل؛ هو رضا الله تعالى، وإلّا فإنّ رضا الناس أمر لا يُدْرَك، وليس هو الأساس.1 
 
 

1- ابن طاووس، علي بن موسى: فتح الأبواب، تحقيق حامد الخفّاف، ط1، بيروت، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1409 هـ.ق/ 1989م، ص307.
 
 
 
117

95
صدى الآيات