المقدّمة
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على أشرف أنبيائه المرسلين محمّد بن عبد الله وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، والتابعين لهم من المؤمنين، الّذين جعلوا القرآن لهم منارة هدى ومحجّة صلاح وتربية، ومسلكاً ومنهاجاً، يقول تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾1.
وانطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾2.
فقد دأب مركز نون للتأليف والترجمة، وطوال مسيرته التأليفيّة الهادفة، إلى اعتماد القرآن الكريم مستنداً أساساً في كلّ فكرة أو طرح يقدّمه، وقد كانت هذه السلسلة الثقافيّة الفصليّة باكورة هذه التآليف الهادفة، المنطلقة من القرآن والمتمسّكة بأهل البيت عليهم السلام كمرجع وعِدْل للقرآن لا ينفصل عنه.
وبعد كتاب "وموعظة للمتّقين" أردنا متابعة المسيرة التربويّة الّتي تعالج مواضيعَ هي محلّ ابتلاء في المجتمع، نجد أنفسنا في قبالها مكلّفين ببذل ما أمكن لمواجهتها وتصويب مسار الأفراد نحو البيئة الخُلُقيّة الصافية. ومن يراجع العناوين المطروحة
1- سورة المائدة، الآية: 48.
2- سورة الاسراء، الآية: 89.
5
1
المقدّمة
في هذا الكتاب يجد فيها أموراً أمست اليوم حديث كلّ مؤمن اهتمّ بصلاح نفسه وعائلته ومجتمعه وبرضا ربّه, من العفّة والحياء إلى الحياة الزوجية، فالتربية للأبناء إلى التهجّد في الليل والإنفاق وغير ذلك.
ونحن حاولنا بما أمكن لهذا الكتاب أن يحويه، معالجة هذه الأمور الهامّة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا وجميع المؤمنين لما فيه الخير والصلاح والعافية، إنّه سميع مجيب.
مركز نون للتأليف والترجمة
6
2
العفــّة والحياء
الدرس الاول: العفة والحياء
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾1
1- سورة القصص، الآية: 23.
7
3
العفــّة والحياء
قوى النفس وأهميّة تهذيبها
كلُّ إنسان إذا رجع إلى نفسه ووجدانه وتأمّل سيجد أنّ فيه عدّة قوى: قوّة الغضب، وقوّة الشهوة، وقوّة الوهم، وقوّة العقل.
هذه القوى في الواقع هي الّتي من شأنها التحكُّم بقرارات الإنسان وبالتالي بمصيره في الدنيا والآخرة، وهي متصارعة فيما بينها، أيّها يكون الآمر المطاع والمسيطر، لأنّ كلّ قوّة تريد إثبات مقتضاها دون أن تأبه بما يقتضيه غيرها ولذا يقع التصادم في مقتضياتها.
والإنسان مأمور أن يُحكِّم القوّة العاقلة لتكون هي السلطان، وهي الآمر والناهي، وتخضع لها القوى الأخرى، فتُقدم عندما تأمرها القوّة العاقلة، وتنزجر عندما تزجرها، فتكون القوى الأخرى بمثابة الجنود المطيعة لسلطة واحدة هي سلطة العقل.
وحيث إنّ هذه القوى قد تجمح إلى الإفراط، وقد تميل إلى التفريط، وقد تعتدل، فلا بُدّ من بذل الجهد لردّها إلى الاعتدال، وهو أمر في غاية الصعوبة ويستلزم جهداً عظيماً في طريق تحقيقه والوصول إليه، إلا أنّه في غاية القداسة أيضاً بل هو غاية بعثات جميع الأنبياء عليهم السلام، وهو هدف الأوصياء عليهم السلام ومبتغى الحكماء، بل هو غاية الخلقة.
وقد صرّح خاتم الأنبياء المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك بقوله: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"1.
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 16، ص 210.
9
4
العفــّة والحياء
والاعتدال يتمثّل بالأخذ بالأواسط من الأمور، وهو ما يأمر به العقل السليم ويُرشد إليه الشرع المبين، وكلّ سير باتّجاه أحد الطرفين مذموم، والوصول إلى أحدهما هو الوقوع في الرذيلة.
معنى العفّة
من القوى الأساس المكوّنة للنفس الإنسانية والتي أُمر الإنسان بتهذيبها وردّها إلى الاعتدال:
القوّة الشهويّة ويُطلق عليها القوّة البهيميّة لأنّ مقتضاها يشترك فيه الإنسان مع الحيوانات من التلذُّذ بشهوتي البطن والفرج.
ولا تعني هذه التسمية أنّ هذه القوّة سلبيّة، أو لا فائدة من وجودها، بل إنّ الله تعالى قد خلقها لمنفعة نوعيّة مهمّة للإنسان، ولكن عندما لا تُهذّب تأخذ ذلك الطابع السيّئ وتتحوّل إلى إحدى المهلكات للإنسان.
ففائدة القوّة الشهويّة الإبقاء على البدن والنسل، فالبدن هو آلة النفس في هذه النشأة المادّيّة فتُحفَظ الروح بحفظه، والقوّة الشهويّة تدفع الإنسان نحو الغذاء والنكاح من خلال شهوتي البطن والفرج ليدوم البدن والنسل، وكذلك الشهوات الأخرى لها منافعها بشرط اعتدالها وتهذيبها.
فتحصيل فائدة القوّة الشهويّة لدى الإنسان بنظر الشرع والعقل مشروط بتهذيبها، فلا بُدّ من بذل الوسع لردّها إلى الاعتدال كي تتحقّق غايتها فتزكو النفس ويحيا صاحبها الحياة الإنسانية الّتي هي غاية الخلق.
فإذا هُذِّبت "القوّة الشهويّة" واعتدلت وصارت تأتمر بأوامر العقل والشرع تُصبح عفيفة، وانتُزع منها معنى في غاية الحسن والفضيلة نُطلق عليه عنوان العفّة.
فالعفّة إذاً هي صفة تلحق نفس الإنسان بعد تهذيبه للقوّة الشهويّة وردّها إلى الاعتدال من غير إفراط فيها ولا تفريط أي من غير شَرَه ولا خمود.
10
5
العفــّة والحياء
القوّة الشهويّة خطرة وتهذيبها من الجهاد الأكبر
وبما أنّ من أعظم الشهوات شهوتي البطن والفرج فإنّ خطر هاتين الشهوتين عظيم إلى درجةٍ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يُصرِّح بالخوف منهما على أمّته:
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث أخافُهنّ على أمّتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلّات الفتن، وشهوة البطن والفرج"1.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثر ما يلج به أمّتي النار الأجوفان: البطن والفرج"2.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من وقي شرّ لقلقه (لسانه) وذبذبه (فرجه) وقبقبه (بطنه) فقد وجبت له الجنّة"3.
وأيضاً بما أنّ مقتضاهما قويّ جدّاً فإنّ تهذيبهما وردّهما إلى الاعتدال شاقٌّ جدّاً ويستلزم جهاداً مريراً مع النفس، وهو العفّة، ولكن أفضل الأعمال أحمزها وأشقّها، فمن قام بهذه المهمّة ووصل إلى فضيلة العفّة يكون في درجة عالية عند الله من حيث المقام والقرب، ومن حيث الثواب والأجر، فلذلك ورد في الروايات أنّه ما عُبد الله تعالى بأفضل من عفّة بطن وفرج.
يقول الإمام الباقر عليه السلام: "ما من عبادة أفضل من عفّة بطن وفرج"4.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة"5.
وعنه عليه السلام: "أفضل العبادة العفاف"6.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 79.
2- م.ن.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج63، ص315.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 80.
5- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، ص 233.
6- لكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 79.
11
6
العفــّة والحياء
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عشق وكتم وعفّ وصبر، غفر الله له وأدخله الجنّة".
وعن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال لرجلٍ عندما قال له: إنّي ضعيف العمل قليل الصيام، ولكنّي أرجو أن لا آكل إلا حلالاً: "أيُّ الاجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج؟"1.
وفي نقل المحاسن قال الرجل:إنّي قليل الصلاة قليل الصوم ولكن أرجو أن لا آكل إلّا حلالاً، ولا أنكح إلّا حلالاً، فقال: "وأيُّ جهاد أفضل من عفّة بطن وفرج؟!"2.
يتبيّن من هذه الروايات الشريفة أمران:
1- أنّ التعفُّف والارتداع عن الشهوات المذمومة من موجبات الأجر والدرجات الرفيعة عند الله تعالى.
2- كم هو صعب وشاقّ هذا الأمر حتّى يوضع في مصافّ الشهادة !
ولماذا ليس الشهيد أعظم أجراً من الّذي قدر فعفّ؟
إنّ الشهيد يُقدِّم نفسه في سبيل الله تعالى، والمتعفِّف يدوس على نفسه ويقتل فيها دوافعها غير المشروعة مرّات ومرّات ما دام له شعور في هذه الحياة، فإذا كان الشهيد يُقتل مرّة فالعفيف يقتل دوافع نفسه السيّئة مراراً!
درجات العفّة
الأولى: فالعفّة اللازمة الواجبة هي العفّة عن المحذورات الشرعيّة المتعلِّقة بالشهوات، فبالنسبة لعفّة البطن في هذه المرتبة هي أن يرتدع المكلَّف عن أكل الأشياء المحرّمة، أو شرب المشروبات المحرّمة كأكل لحم الخنزير أو اللحوم غير المذكّاة التذكية الشرعية أو كشرب الخمر وكلّ مسكر أو أكل النجس، وكذلك يرتدع عن أكل الأموال المحرّمة الّتي تكون نتاجاً للمعاملات المحرّمة كالربا والغشّ والنصب والاحتيال والقمار....
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، باب العفّة، ص 79.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 68، ص 273.
12
7
العفــّة والحياء
الثانية: وأمّا العفّة بالمرتبة الثانية فهي التورّع عن المذمومات والمكروهات في الشريعة، مثلاً: إذا ترك الامتلاء من الطعام أو ترك الطعام في المواضع العامّة، أو دافع شهوة الطعام كي لا تذهب مروءته فهي عفّة بمرتبة ومقام آخر.
الثالثة: والعفّة في مرتبة ومقام آخر تتجلّى في أن يترك ما اشتبه عليه من الطعام فهو الورع، مثلاً: إذا اشتبه في اللحم هل هو مذكّى أم لا فإنّه لا يأكله، وإذا اشتبه في المكسب أنّه ربا أم لا فإنّه يتورّع ويتعفّف عنه مع أنّه قد يُقال إنّ الأصل العمليّ البناء على الحلّيّة.
هذه العفّة في الطعام وفي الأموال والكسب.
وأمّا العفّة في شهوة الفرج ومتعلّقاتها
فالمرتبة الأولى: أن يكون عفيفاً عن الحرام بأن لا يزني ولا ينظر النظر الحرام إلى الأجنبية ولا يسمع الكلام المثير الحرام، ولا يخلو بالأجنبية..
والمرتبة الثانية: أن يترك المكروهات ممّا يتعلّق بهذه الشهوة فهذه درجة أرقى من العفّة، كأن يترك النظر إلى ما يُكره النظر إليه من المرأة أو الأفلام والمسلسلات غير المحرّمة ولكنّها مكروهة، وتترك المرأة بعض التصرّفات كمضاحكة الرجال والمزاح معهم ومباسطتهم الحديث وإن لم يصل إلى الحرام، ويترك الاستماع والاختلاط إلا مع الضرورة فإنّ الاختلاط قد يكون محرّماً وقد يكون مكروهاً فهذا كلُّه تعفُّف بشأن شهوة الفرج وهو بدرجة أرقى من الدرجة السابقة لأنّ هذه الدرجة تشتمل على المرتبة السابقة وزيادة.
والمرتبة الثالثة: من عفّة الفرج هي ترك ما يُشتبه به بأنّه محرّم، مثلاً: لو لبست المرأة الحجاب بطريقة معيّنة تكون من ناحية مغطّية لتمام الجسم ومن ناحية ثانية يكون اللباس ملتصقاً بالجسم بحيث قد يوجب الإثارة أو مثلاً الحجاب مع بعض الألوان الملفتة ونمط الخياطة الخاصّ.
13
8
العفــّة والحياء
فالخلاصة: العفّة ليست مرتبة واحدة وإنّما هي مراتب متعدِّدة، كلّما ارتقى المكلَّف مرتبة تكون درجة عفّته أرقى وأعظم، ومقامه عند الله أكبر، وتكون العفّة أشقّ وأجهد.
وامنن على نسائنا بالحياء والعفّة
ومن الملفت في دعاء للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف أنّه يدعو لمجمل أصناف الأمّة، كلٌّ بما يُناسبه ويقوّمه ويحتاج إليه، إلى أن يصل إلى الدعاء للنساء فيدعو لهنّ بقوله عليه السلام: "وامنن على النساء بالحياء والعفّة"، فلم يدعُ لهنّ بالتقوى مثلاً أو بالعلم أو بالغنى، وإنّما بالحياء والعفّة, لأنّ هاتين الخصلتين في غاية الأهميّة للمرأة على صعيدها الشخصيّ الذاتيّ في التزامها وورعها وقربها من خالقها، وعلى صعيد صلاح المجتمع الّذي تُشكّل المرأة أحد مكوّناته الأساس، تأمّل في النكتة الّتي ذكرتها لك لترى مدى أهميّة أن تكون المرأة عفيفة وتمتلك الحياء:
".. وتفضّل على علمائنا بالزهد والنصيحة، وعلى المتعلِّمين بالجهد والرغبة، وعلى المستمعين بالاتّباع والموعظة، وعلى مرضى المسلمين بالشفاء والراحة، وعلى موتاهم بالرأفة والرحمة، وعلى مشايخنا بالوقار والسكينة، وعلى الشباب بالإنابة والتوبة، وعلى النساء بالحياء والعفّة... "1.
إنّ حياء المرأة وتعفُّفها هما بمثابة المكابح في وجه الشهوة العارمة الّتي قد تجتاح المجتمع فتقضي على كلّ قيمه الإنسانية وتذره مجتمعاً منحلّاً مهشّماً ضعيفاً مهترئاً تطمع فيه الأعداء ويستهين به المتربّصون بالقيم.
إنّ الشهوة عند الرجل بمثابة الدافع القويّ الّذي يجعله يُقدم ويتجرّأ ويقتحم ويتوثّب، ولكنّ المرأة بتعفُّفها وحيائها هي الّتي تكبح جماحه، وتردعه، فتصوَّر لو أنّ المكابح فسدت والوقود يتوهّج بسبب المهيّجات والمثيرات الّتي باتت لا تُحصى عدداً ولا تُدرك كيفاً، والسير بمنحدر سحيق.
1- صحيفة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، جمع الشيخ جواد القيومي، ص 18.
14
9
العفــّة والحياء
ماذا يُتوقّع مع هذا التوصيف للواقع؟!
من الطبيعيّ الحكم بالهلاك على الفرد ويتبعه المجتمع !
ومن أروع الصور الّتي يرسمها القرآن الكريم للحياء والعفّة من ناحية وللشهامة والرجولة والمروءة من ناحية أخرى، ما يذكره تعالى في سورة القصص عمّا جرى بين كليم الله موسى عليه السلام وبين ابنتي نبيّ الله شعيب عليه السلام1:
﴿ وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ﴾ وهو بئر كانت لهم ﴿وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ أي: جماعة من الرعاة يسقون مواشيهم الماء من البئر.﴿ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان﴾ أي: تحبسان وتمنعان غنمهما من الورود إلى الماء، أو تكفّان الغنم عن أن يختلط بأغنام الناس ﴿قَالَ﴾ موسى لهما: ﴿مَا خَطْبُكُمَا﴾ أي: ما شأنكما، وما لكما لا تسقيان مع الناس، وطبعاً هذا مظهر شهامة ورجولة يُعلِّمنا كيف لا نقف مكتوفي الأيدي إذا واجهنا ضعيفاً يحتاج إلى المساعدة بل نبادر إلى إعانته ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي﴾ عند المزاحمة مع الناس ﴿حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء﴾ أي حتّى ينصرف الناس، فإنّا لا نطيق السقي، فننتظر فضول الماء، فإذا انصرف الناس سقينا مواشينا ﴿وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ لا يقدر على أن يتولّى السقي بنفسه من الكبر، ولذلك احتجنا، ونحن من النسوة، أن نسقي الغنم. وإنّما قالتا ذلك اعتذاراً إلى موسى في الخروج بغير محرم، فإنّ المرتكز في ذهنيهما أنّ الفتاة لا ينبغي أن تكون في هذا الظرف والموقف، وهو كلام يُعبّر عن التربية النبوية، وعن الفطرة غير المتحوّلة في مسألة احتجاب المرأة، وعدم الاختلاط بالرجال، فهذا هو الّذي شعرت البنتان بحاجتهما إلى الاعتذار لأجله ﴿ فَسَقَى لَهُمَا﴾ قيل: رفع لأجلهما حجراً عن بئر، كان لا يقدر على رفع ذلك الحجر عنها إلا عشرة رجال، وسألهم أن يعطوه دلواً، فناولوه دلواً، وقالوا له: انزح إن أمكنك. وكان لا ينزحها إلا عشرة، فنزحها وحده، وسقى أغنامهما، ولم يستق إلا ذَنوباً واحداً، حتّى رويت الغنم.
1- راجع: سورة القصص، الآيات: 23ـ 28.
15
10
العفــّة والحياء
قال ابن إسحاق: فرجعتا إلى أبيهما في ساعة كانتا لا ترجعان فيها، فأنكر شأنهما، وسألهما، فأخبرتاه الخبر، فقال لإحداهما: عليّ به، فرجعت الكبرى إلى موسى لتدعوه، فذلك قوله ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء﴾ أي: مستحيية معرضة على عادة النساء الخفرات، وقيل: أراد باستحيائها أنّها غطّت وجهها بكمّ درعها.
وعن الحسن، قال: "فوالله ما كانت ولّاجة، ولا خرّاجة، ولكنّها كانت من الخفرات اللاتي لا يُحسنّ المشي بين أيدي الرجال، والكلام معهم".
وهذا أيضاً يُدلِّل على مدى الحياء والخجل الّذي هو من شأن المرأة فطرياً، وهو ما ينبغي تعميمه بين بناتنا وأخواتنا ونسائنا، وهو ما يدعو به إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف لنساء المسلمين "الحياء والعفة".
﴿قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ أي: ليُكافئك على سقيك لغنمنا.
فلم تقل إنّي أدعوك أو إنّا ندعوك بالجمع، بل نسبت الدعوة لأبيها، وهذا أيضاً يُضيء على جانب من جوانب أدب تعاطي المرأة مع الرجل الأجنبيّ.
قال أبو حازم: لما قالت: ﴿ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾، كره ذلك موسى، وأراد أن لا يتبعها، ولم يجد بدّاً من أن يتبعها، لأنّه كان في أرض مسبعة، وخوف. فخرج معها، وكانت الريح تضرب ثوبها، فتصف لموسى عجزها. فجعل موسى يعرض عنها مرّة، ويغضّ مرّة، فناداها: يا أمة الله ! كوني خلفي، وأرني السمت بقولك..
﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا﴾ أي: إحدى ابنتيه، واسمها صفورة، وهي الّتي تزوّج بها، واسم الأخرى ليا. وقيل: إنّ اسم الكبرى صفراء، واسم الصغرى صفيراء ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ﴾ أي: اتّخذه أجيراً، ولعلّها كانت ترغب فيه زوجاً ولكن بيّن القرآن الكريم ما ينبغي للمرأة من عدم التصريح عند إرادتها لرجل واستبدال التصريح بالتعريض والتلويح، فهي مطلوبة بالفطرة والرجل طالب.
16
11
العفــّة والحياء
﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ أي: خير من استعملت من قوي على العمل، وأداء الأمانة. قال شعيب عليه السلام: وما علمك بأمانته وقوّته؟
قالت: أمّا قوّته فلأنّه رفع الحجر الّذي لا يرفعه كذا وكذا. وأمّا أمانته: فإنّه قال لي: إمشي خلفي، فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك، فتصف لي عجزك. وقيل الأمين في غضّ طرفه عنهما، حين سقى لهما، فصدرتا، وقد عرفتا قوّته وأمانته. فلمّا ذكرت المرأة من حاله ما ذكرت زاده ذلك رغبة فيه.
فانظر أيُّها المؤمن لهذه العفّة العظيمة للنبيّ الكريم فإنّه تعفّف حتّى عن النظر غير المقصود الّذي قد يقع عندما يُطلق طرفه، وإنّه تعفّف عن النظر إلى جسم المرأة حتّى من وراء الحجاب والثوب.
في الرواية: "إذا استطعت أن لا تنظر إلى ثوب امرأة فافعل".
﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ﴾ أي: أزوِّجك ﴿ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ﴾. وفي هذا الكلام من النبيّ شعيب عليه السلام درس آخر من دروس مراعاة حياء المرأة وكرامتها، حيث ردّد الأمر بين الابنتين لكي لا يخدش حياء البنت المتكلِّمة.
17
12
العفــّة والحياء
للمطالعة
شابٌّ قدوة للشباب في العفّة:
روي عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال:
"خرجت امرأة بغيّ على شباب من بني إسرائيل فأفْتَنَتْهُم.
فقال بعضهم: لو كان العابد فلاناً رآها أفتنته.
وسمعت مقالتهم، فقالت: والله لا أنصرف إلى منزلي حتّى أفتنه.
فمضت نحوه في الليل، فدقّت عليه.
فقالت: آوي عندك، فأبى عليها.
فقالت: إنّ بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي، فإن أدخلتني، وإلا لحقوني وفضحوني. فلمّا سمع مقالتها، فتح لها، فلمّا دخلت عليه، رمت بثيابها، فلمّا رأى جمالها، وهيئتها وقعت في نفسه. فضرب يده عليها، ثمّ رجعت إليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدر له، فأقبل حتّى وضع يده على النار.
فقالت: أيّ شيء تصنع؟
فقال: أحرقها لأنّها عملت العمل.
فخرجت حتّى أتت جماعة بني إسرائيل، فقالت: الحقوا فلاناً، فقد وضع يده على النار. فأقبلوا، فلحقوه وقد احترقت يده!"1.
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج14، ص 492.
18
13
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
الدرس الثاني: المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾1
1- سورة الروم، الآية: 21.
19
14
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
المودّة والرحمة
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ﴾ أي: جعل لكم من شكل أنفسكم "أزواجاً".
وإنّما منَّ سبحانه علينا بذلك، لأنّ الشكل إلى الشكل أميل ﴿لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ أي: لتطمئنّوا إليها، وتألفوا بها، ويستأنس بعضكم ببعض. ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ يريد بين المرأة وزوجها، جعل سبحانه بينهما المودّة والرحمة، فهما يتوادّان ويتراحمان، وما شيء أحبّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما. والمودّة هي المحبّة الّتي تستتبع عملاً بمقتضاها ولا تقتصر على مجرّد الشعور القلبيّ، والرحمة: الشفقة. ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي: في خلق الأزواج مشاكلة للرجال لَآيَاتٍ أي: لدلالات واضحات ﴿لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في ذلك.
لأنّهم إذا تفكّروا في الأصول التكوينية الّتي تبعث الإنسان إلى بناء المجتمع من الذكورة والأنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزليّ والمودّة والرحمة الباعثتين على الاجتماع المدنيّ والأنس ثمّ ما يترتّب على هذا الاجتماع من بقاء النوع واستكمال الإنسان في حياتيه الدنيا والأخرى، لعثروا من عجائب الآيات الإلهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر عقولهم ويدهش أحلامهم، فالإنسان يسدّ من خلال الزواج حاجات ودوافع فطرية منغرسة في حاقّ نفسه وأعماق فطرته، لا بُدّ له من قضائها وإلا يبقى في حالة اضطراب داخليّ وبحث باطنيّ عمّا يسدّها ولو كان بطرق غير إنسانية، فهذا في الواقع نفع دينيّ شخصيّ ومجتمعيّ، وهو أكبر مساعد على عفّة النظر وعفّة الفرج اللذين هما من أفضل العبادة.
لكي نتكلّم عن مقوّمات الحياة الزوجية إسلاميّاً وبالمنظار الإلهي لا بُدّ لنا أوّلاً أن نُلقي نظرة على كيفية نظرة الإسلام والقرآن لبناء البيت الزوجي والعلاقة الزوجية، إلى أيّ حدٍّ يُقدِّر ويحترم هذا البناء وهذه العلاقة؟
21
15
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
إنّ تقدير الإسلام للعلاقة الزوجية يُصنّف في أعلى درجات التقديس والاحترام وذلك من خلال عدّة أمور:
أوّلاً: نجد الآية القرآنية تجعل خلق الزوج لزوجه آيةً من آياته تعالى ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم ﴾ إذاً هي أمر يُعطيه الخالق أهميّة مميّزة حيث جعله آية من آياته.
ثانياً: ختم الآية سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي أكّد كون العلاقة الزوجية آية ودعا إلى التفكّر والتدبّر في مكتنفات هذه الآية لما لها من أبعاد لطيفة جديرة بأن تُستنبط عن طريق التفكّر.
ثالثاً: الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بُني بناء في الإسلام أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من التزويج"1.
وهذا يؤكّد على أنّ الأبنية الكثيرة الّتي هي ضمن الإطار الإسلاميّ، بعضها أحبّ إلى الله تعالى من بعض وأحبّها على الإطلاق التزويج، وهذا من أعظم التعابير عن الأهمية والتقدير من قبل الله تعالى للبيت الزوجيّ!
وفي رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها، وتُطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله"2.
إذا كانت أهمية هذه المؤسّسة العائلية لهذا الحدّ، وهذه المرتبة السامية بالنظر الشرعيّ الإسلاميّ فلا بُدّ أن نعرف كمؤمنين متديّنين عظم المسؤولية فيها، وذلك من خلال عدّة أمور:
أ- المؤمن يُحبّ ما أحبّ الله، فإذا كان البناء الزوجيّ أحبّ الأبنية الإسلامية إلى الله، فالمؤمن لا بُدّ أن يُحبّه ويكون لديه من أحبّ المؤسّسات، وإذا كان كذلك فإنّه سيعتني به، ويُعطيه أهمية قصوى ليكون بناءً متيناً قويّاً ومحقِّقاً للأهداف الإلهية الّتي سنذكرها فيما سيأتي.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 20، ص 15.
2- م.ن، ص 41.
22
16
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
ب- سيكون حذراً دائماً من إلحاق أيّ ضرر بهذه المؤسّسة المحترمة غاية الاحترام لدى الله سبحانه وتعالى، لأنّه لو قصّر أو تهاون أو حقّر ـ لا سمح الله ـ هذا البناء فإنّه سيكون قد وضع ما رفعه الله، وحقّر ما عظّمه الله تعالى وهذا سيكون من المهلكات..!
كيف إذا رأيت أحداً يريد تخريب بناء مقدّس كالمسجد، فإنّك تعتبره خاطئاً بل مجرماً، فكذلك العلاقة الزوجية هي بناء محترم غاية الاحترام في الإسلام بل بنصّ الرواية: "ما بني بناء في الإسلام أحبّ إلى الله من الترويج" فإنّ من أراد تخريبه وإلحاق الضرر به فإنّه سيكون قد ارتكب إحدى الموبقات.
وهذا طبعاً يُحمِّل المؤمن مسؤولية كبرى، كيف يرعى؟ كيف يحمي؟ كيف يكون حكيماً في معالجة الأمور الموهنة للحياة الزوجية؟ كيف يُعطي وقتاً ويبذل طاقة ويولي أهمية لهذه الحياة العائلية، ولا يكون مستصغراً لقدرها ولا متهاوناً بشأنها؟
وهذا بدوره يحتاج إلى علمٍ وحكمة وفنٍّ في التعامل ومهارة في التعاطي وتغافل عن السفائف والصغائر وتعقّل وتحمُّل وتصبُّر.
رابعاً:إنّ الله تعالى قد أمر الإنسان المكلَّف بأن يقي نفسه النار، وقرن هذا الأمر بأمرٍ آخر في نفس السياق وهو أمره بأن يقي أهله النار أيضاً، وهذا يعني تكليفاً إلزامياً وجوبياً يُحمِّل الإنسان الّذي يتّخذ أهلاً "من خلال بناء الأسرة والحياة الزوجية" مسؤولية عظمى تجاههم، وهذه المسؤولية الكبيرة شعر بها بعض المؤمنين بعد نزول الآية وعبّر عن ذلك للرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لمّا نزلت هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾1 جلس رجل من المؤمنين يبكي وقال: أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي".
1- سورة التحريم، الآية: 6.
23
17
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك"1.
وفي رواية عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في قوله: ﴿ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾ قال عليه السلام: "علِّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم"2.
فإذاً لاحظوا المسؤولية الملقاة على عواتق المؤمنين تجاه عوائلهم.
فعلى المؤمن أن يأمرهم بما يأمر به نفسه، وينهاهم عما ينهى عنه نفسه، يعني إذا رأيت ابنك يتكلّم كلام الفحش فتكليفك أن تنهاه، وإذا رأيته يُصاحب أصدقاء السوء فعليك أن تُبادر إلى نصيحته بالامتناع عن مصاحبة الفاسدين، وإذا رأيته يتهاون في صلاته فعليك أن تأمره بأداء الصلاة والاهتمام بأوقاتها وشرائطها، فإذا رأيته مثلاً لا يستيقظ لصلاة الفجر فعليك أن تُبادر إلى أمره بالاستيقاظ لأدائها، وكذلك عليك أن تنهاه عن الكذب والنميمة والغيبة والظلم والعقوق، ومُرْه بأضدادها، فإذاً القضيّة ليست بالسهولة الّتي نتصوّرها، بل هي مسؤوليّة دفعت بعض المؤمنين الّذين يستشعرون المسؤوليّة الرساليّة بكلّ أبعادها إلى أن يبكي.
وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام يُحمِّلنا هذه المسؤولية بالبعد التعليميّ للخير "علّموا أنفسكم وأهليكم الخير". فلا تبخل على أهلك بالعلم الّذي تعلّمته، ولا تقل مللت من الكلام، ولا أجد عندي طاقة للحديث والموعظة، وتكفيني همومي المعيشية وهموم الحياة.
فهذا واجب عليك يأمرك به أمير المؤمنين عليه السلام.
وبالبعد التأديبيّ "وأدّبوهم" أي اذكروا لهم الآداب وتابعوهم لكي يتحلّوا بها.فالتعليم ليس هو التأديب، فقد يلقي شخص المعلومة إلى آخر ويتلقّاها الآخر، إلا أنّه لا يعمل ولا يتخلّق بها، فهذا تعليم وليس تأديباً. فالتأديب هو تعليم وزيادة، هو
1- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 62.
2- كنز العمّال، المتّقي الهندي، ج 2، ص 540.
24
18
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
تعليم الآخر الآداب ومتابعته بتكرارها والتذكير بها ومداومة الحثّ عليها حتّى تُصبح جزءاً ملتصقاً به تصدر تصرّفاته عنها فيكون مؤدّباً حينئذ.
وهذا قد يستدعي تنويعاً في الأساليب، وحشد الأمور الإقناعيّة، وتقريبها من فهمه وذهنه، وتحريك دوافعه الحسنة، وتشجيعه، وقد يستدعي بعض الأحيان الحزم، والتقريع، والتأنيب، إلى أن يصل الأمر إلى العقاب.
ما هو المنطلق للحياة الزوجية؟
إنّ المنطلق الأوّل والأساس هو الوصول إلى رضا الله تعالى والتقوى للنجاة من عذاب الله تعالى. هذا الضابط الأوّلي والمنطلق الأساس الّذي من خلاله تُبنى الحياة الزوجية وإليه ترجع وبه تنضبط. فكلٌّ من الرجل والمرأة عليه أن يكون همُّه قبل الزواج وبعد الزواج هو تحقيق ما يُريده الله عزّ وجلّ، وأن يحكّم تعاليم الشريعة في حياته مع الطرف الآخر، وأن يخاف الله تعالى من التجاوز أو التغطرس أو الظلم أو الاستضعاف أو الاحتيال لهدر حقوق الآخر أو خيانته. فهناك رسالة عائلية منبثقة من الدِّين الحنيف لا بُدّ من تحمُّلها بأحسن وجه والعمل على إنجاحها والوقوف سدّاً منيعاً في وجه إفشالها وإحباطها بقدر ما يسع الحال، يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾1.
فالإنسان يتزوّج لكي يُنفِّذ رغبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الّذي أمر بالتزويج وجعله من سنّته ويؤسّس عائلة عنوانها الأساس تقوى الله في علاقاتها فيما بين أفرادها، الزوج مع الزوجة، والأب وألام مع الأولاد، والأولاد مع الوالدين، والأخ مع أخيه. كلّ هذه الصنوف من العلاقات يجب أن يحكمها قانون تقوى الله والطاعة له والخوف من مخالفته، وينبغي أن نتحمّل المسؤولية في ذلك على أكمل وجه.
1- سورة التحريم، الآية: 6.
25
19
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
مقوّمات الحياة الزوجية إسلامياً
وهناك مقوّمات أساس للوصول إلى الهدف المنشود دينياً من الحياة الزوجية:
1- السكينة والطمأنينة
"فكلّ واحد من الزوجين ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر ويحصل من المجموع "الزوج والزوجة" واحد تامّ من شأنه أن يلد وينسل. ولهذا النقص والافتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر حتّى إذا اتّصل به سكن إليه، لأنّ كلّ ناقص مشتاق إلى كماله وكلّ مفتقر مائل إلى ما يُزيل فقره، وهذا هو الشبق المودع في كلٍّ من هذين القرينين"1.
فالأصل أن يسكن الزوج إلى زوجه، وهذا لا يكون إلا بالانسجام. فمن يطمع بالأنس بمن لا ينسجم معه يكون طامعاً في غير مطمع. وهذا يحتاج إلى رفع العوائق والمنفّرات الّتي تمنع من الانسجام. وهذا يُرجعنا إلى الشعور بالمسؤولية وعدم الاستهانة بالحياة الزوجية، سواء من قِبَل الزوج أو الزوجة، فالانسجام له أسبابه الموضوعية ولا يأتي هكذا من قدرة قادر.
فعلى كلٍّ من الرجل والمرأة أن يُسخّر وقتاً لفهم الآخر، فالأمزجة تختلف، والعادات، والمرتكزات، وأساليب مقاربة الأمور، وكيفية مواجهة الأحداث السارّة أو المحزنة.
والخلاصة: الانسجام الّذي يولّد السكن والاطمئنان والأنس له ثمن ولا يأتي بالمجّان.
2- المودّة
وهي المحبّة المصاحِبة للتعبير الفعليّ.
وأيضاً هذا الأمر لا يتحقّق إلا بالعمل الدؤوب المشتمل على الإحسان إلى الآخر والتضحية
1- تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 16، ص 166.
26
20
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
في سبيله، والتحمُّل منه، والموافقة، وعدم المنافرة، وعدم التعاكس المستمرّ، والعمل الدائب وبذل قصارى الوسع للوصول إلى الاتّفاق بأسرع وقت ممكن عند الاختلاف في الرأي وعدم إطالة فترة المنازعة والاختلاف، فإنّه مما يُمرض المودّة. فينبغي عدم تكثير التنازع وتكراره، فلا نستطيع أن ننفي الاختلاف في الآراء من رأس لأنّه أمر غير ممكن واقعاً، ولكن لا بُدّ من الذكاء والمهارة والفنّ في التعامل للتخطّي السريع والوصول إلى الاتّفاق بسرعة، ولا بُدّ من التغافل عن كثير من صغائر الأمور، فعن إمامنا الباقر عليه السلام:
"صلاح حال التعايش والتعاشر ملء مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل"1.
وتلاحظون هذه الأمور كم هي شاقّة، فيها جهاد للنفس الّذي هو الجهاد الأكبر.
3- الرحمة
من كلٍّ من الرجل والمرأة للآخر. ورحمة كلٍّ منهما لها مواردها الخاصة.
فالرجل يرحم المرأة:
إذا تسرّعت فيغفر لها، كما ورد في الحديث أنّ من حقّها عليه أن يغفر لها إذا جهلت.
ويرحم ضعفها إذا قصّرت في القيام ببعض حقوقه.
ويرحمها في مواطن حاجتها إليه.
والرحمة من لوازمها عدم القسوة والخشونة سواء في الكلام أم في المواقف، فإنّه من المؤسف أن نرى بعض الرجال يستعرض عضلاته، ويختبر قوّته في قبال زوجته.
والمرأة ترحم زوجها
عندما تراه منهكاً وتعباً من عناء العمل ومعاركة الحياة، تُبادر إلى التخفيف عنه.
وعندما تراه مهموماً لتكاليف الحياة الصعبة الّتي تثقل الكاهل.
وإذا قصّر في قضاء بعض حوائج المنزل لانشغاله في عمله والكدّ على معيشته ومعيشة كلّ العيال.
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 241.
27
21
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
وإذا تعسّر عليه عمله وقصّر الإنتاج عن النفقة، تصبر عليه وترحمه ولا تعيّره ولا تجرح شعوره، بل تعينه وتشجّعه وتحثّه على القيام بما يُصلح شأن عمله.
وكلّ هذا يحتاج إلى توفيق من الله تعالى واستعانة به، ودعاء مستمرٍّ بنيّة مخلصة، لكي يجعل الله تعالى البركة في الحياة الزوجية، ويشمل الزوجين بألطافه لكي يقدرا على تحمُّل هذه المسؤولية.
لا تبدأ حياتك الزوجية بالحرام
لكي يُنزل الله تعالى البركة على البيت الزوجيّ يلزم من كلا الزوجين أن يتبعا تعاليم الشرع المبين الّتي توجب الرحمة من الله تعالى، أفلا نقول في الدعاء "اللّهمّ إنّي أسألك موجبات رحمتك" إذاً للرحمة موجبات ولنزول البركة موجبات، وللتوفيق بين الزوجين موجبات، وكذلك يوجد ما يمنع هذه المعاني كلّها، ويأتي بأضدادها، من الشؤم والنكد، وعدم المحبة والمودّة، وعدم الاتّفاق والانسجام...
والعاقل يتعرّض من بدء حياته الزوجية، من أوّل يوم، بل من أوّل خطوة يخطوها لنفحات الرحمن سبحانه، ولبركاته، وذلك من خلال القيام بالمستحبّات وترك المكروهات، والدعاء للتوفيق..
بينما الجاهل يبدأ من أوّل يوم في حياته الزوجية بالأعراس المحرّمة الّتي تشتمل على الغناء والموسيقى والرقص الّذي يتعدّى فيه الشرع المبين، وباللباس غير المحتشم للنساء مما لا تُسيغه مرتكزاتنا الدينية ولا أخلاقنا الإنسانية.
بالله عليكم أيّ موجبات رحمة يقوم بها مثل هذا.
وأيّ نفحات رحمانية وألطاف إلهية يتعرّض لها؟
وأيّ بركة من هذا الزواج يرجوها وهو يعصي الله تعالى جهاراً.
وفي الرواية: إنّ البيت الّذي يُسمع فيه الغناء لا تدخله الملائكة، ولا يُستجاب فيه الدعوة، ولا يأمن الفجيعة، وإنّ الغناء عشّ النفاق...إلى ما هنالك من مضامين تُشنّع على الغناء وسامعيه.
28
22
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
ويتذرّع الإنسان بكلمات واهية غالباً ينطق بها الشيطان عن لسانه، كأن يقول: هي ليلة في العمر وتمضي!
عجيب، يعني إذا كانت مرّة واحدة يجوز لي أن أعصي؟
وفي الرواية: "إذا هممت بمعصية فلا تفعلها لعلّ الله ينظر إليك ويقول لا أغفر لك أبداً".
وإذا كان هذا المنطق سليماً؛ فإذاً يستطيع العبد أن يعصي الله بكلّ المعاصي، ولكن يعصي بكلّ معصية مرّة واحدة والأمر يمضي، يقتل مرة واحدة، يزني مرة واحدة، يسرق مرة واحدة....
هل هذا منطق سليم؟!
أو يقول: إنّ أهل زوجتي، أو إنّ بعض أهلي يريدون أن يفرحوا لنا.
أو إنّ العرف جارٍ هكذا فلا نقدر على مخالفة التقليد.
أو إنّ الناس تعيب علينا وتقول إنّ عرسكم كان مثل مأتم.
أقول: المؤمن لا يفرح بالمعصية بل المعصية هي مأتم وعزاء له، ولا ينبغي لعاقل مؤمن أن تغلبه العادات والأعراف إذا كانت مخالفة لرضا الله تعالى.
ويمكن القيام بمظاهر الفرح، فإنّ الإسلام لم يمنع من الفرح بل أباحه وخصوصاً في الأعراس، غاية الأمر أن لا تُمارس المعاصي بحجّة الفرح.
وهل الفرح لا يكون إلا بمعصية الله؟! هناك أساليب شرعية تُعبّر خير تعبير عن الفرح والسرور.
نسأل الله التوفيق والرحمة والبركة في كلِّ شؤوننا.
29
23
المسؤوليَّة في الحياة الزوجيَّة
للمطالعة
كلّ هذا الضجيج من أجل المأكل والمشرب
نستفيد من الآيات القرآنية كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾1 وقوله تعالى: ﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى﴾2 وقوله تعالى: ﴿َأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾3 وقوله تعالى: ﴿ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾4 أنّ جميع الفساد والإفساد والقيل والقال والضجيج الّذي كان على سطح الأرض وما زال وسيبقى كلّه من أجل هذا المأكل والمشرب، لأنّ التكاليف تتناول الغضب والشهوة، وتناول الطعام والشراب من موجباتهما وأسبابهما.
الويل لنا نحن الّذين نعتبر أنفسنا أشرف المخلوقات بينما نحن في الواقع أسفل من الحيوانات، وإلّا فإنّ جميع هذه النفقات من أجل المعاشرات والتقلّبات غير المشروعة لا معنى لها. وإذا ما اعتدلنا في مأكلنا ومشربنا فكم ستعتدل ميول الغضب والشهوة لدينا؟ والله يعلم كم ينفق الكفّار من أموال طائلة في سبيل جرّ المسلمين والمؤمنين نحو الفساد. ونحن نقف في المقابل كأنّنا نرى أنفسنا مضطرّين وعاجزين، فهل نحن ـ مع هذا الضعف والجوع الّذي نُعانيه ـ محتاجون إلى كلّ هذا الفساد الأخلاقي والاختلاطات المضرّة وغير المشروعة، وكلّ هذا الصراع من أجل الرئاسة والقتل والظلم؟!
في مدرسة الشيخ بهجت قدس سره، ج1، ص98.
1- سورة البقرة، الآية 35، سورة الأعراف، الآية: 19.
2- سورة طه، الآية: 117.
3- سورة طه، الآية: 119.
4- سورة الأعراف، الآية: 20، سورة طه، الآية: 120.
30
24
الولد الصالح
الدرس الثالث: الولد الصالح
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿...قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾1.
﴿... رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾2.
1- سورة آل عمران، الآية: 38.
2- سورة الفرقان، الآية: 74.
31
25
الولد الصالح
طلب الذرّيَّة
ضمن تأسيس العائلة والبيت الزوجيّ الّذي قلنا إنّه يجب أن يكون رسالة على عهدة المؤمن أداؤها، توجد مسؤولية لا يجوز التقصير بشأنها ولا التهاون بها، وهي المسؤولية من الوالدين تجاه الأولاد، فلا بُدّ أن نعرف نظرة الإسلام إلى هذا الشقّ من المسؤولية وذلك من خلال عدّة نقاط:
أوّلاً: ماذا يُمثّل الولد بالنسبة للوالدين؟ وكيف يجب أن يُنظر إليه؟
لا ينبغي النظر إلى مسألة الولد بالمنظور العاطفيّ فحسب، أو على أساس أنّ الوالدين وجدا نفسيهما مجبورَين على حضانته بعد جريهما على العادة بالزواج والإنجاب في المجتمع كغيرهما، أو انسياقاً وراء الدافع الغرائزيّ والميل الفطريّ لأن يكون الرجل أباً وتكون المرأة أمّاً دون أن يكون لهما دافع رساليّ في ذلك.
بل ينبغي أن يكون الإنجاب ثمّ الرعاية، والتربية، والتنشئه على الصلاح من صلب الأمور الّتي يفرضها الالتزام الدّينيّ والخطّ الرساليّ على من يريد تأسيس عائلة في إطار الخطّ الإلهيّ الدِّيني.
نعم توجد رسالة عائليّة متّصلة بحكمة الله تعالى من إبقاء النسل لتتحقّق معرفته تعالى وعبادته ولكي تثقل الأرض بلا إله إلا الله.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبيّ الله إنّ لي ابنة عمٍّ قد رضيتُ جمالها وحسنها ودينها، ولكنّها عاقر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزوّجها، إنّ يوسف بن يعقوب لقي أخاه، فقال: يا أخي كيف استطعت أن تزوّج النساء بعدي؟
33
26
الولد الصالح
فقال: إنّ أبي أمرني، قال: إن استطعت أن يكون لك ذرية تثقل الأرض بالتسبيح، فافعل"1.
وعن جابر عن الإمام الباقر عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ الله يرزقه نسمة تُثقل الأرض بلا إله إلا الله"2.
وكذلك تتّصل الرسالة العائلية الّتي منها الإنجاب بالجري على مراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتنفيذ ما حثّ عليه وأحبّه ورغب فيه وهو التناسل.
ـ فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تناكحوا تناسلوا، أباهي بكم الأمم يوم القيامة"3.
- وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تزوّجوا بكراً ولوداً، ولا تزوّجوا حسناء جميلة عاقراً، فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة"4 .
وكذلك يضع في الحسبان المنافع الأخروية للأولاد بعد الموت لأنّهم إن توفّوا قبل أن يبلغوا فإنّهم شفعاء للأبوين.
فعن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل:.."أما علمت أنّ الولدان تحت العرش يستغفرون لآبائهم يحضنهم إبراهيم، وتربّيهم سارة في جبل من مسك وعنبر وزعفران؟"5.
وإن مات الآباء قبلهم فإنّهم يبقون كالصدقة الجارية في الأرض ينتفع آباؤهم بهم بعد موتهم، كما ورد في روايات متعدّدة من أنّه: "إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له"6.
1- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 333.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 20، ص 15.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 41، ص 153.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 41، ص 33.
5- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 334.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 2، ص 23.
34
27
الولد الصالح
وما يترتّب من الأجر والثواب على الإنفاق والتوسعة على العيال، والقيام بما يُصلحهم مادّيّاً ومعنويّاً فإنّها مثوبات عظيمة جدّاً لا يُضاهيها شيء من عمل البرّ لو أردنا أن نسردها لطال بنا الكلام.
فإذاً الأولاد هم من موجبات الثواب ورفع درجات المرء عند الله تعالى.
وبكلمة واحدة: الإنجاب يجب أن يندفع إليه المرء من خلال إيمانه وعقيدته وارتباطه بالخالق تعالى، وبأنّه مسؤولية يُثاب عليها ويُعاقب، كما صرّح إمامنا زين العابدين عليه السلام:
"فاعمل في أمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه"1.
ويقول عليه السلام: "وإنّك مسؤول عمّا وليته من حسن الأدب والدلالة على ربّه"2.
ثانياً: انطلاقاً من هذه المسؤولية ولكي نؤدّي هذه المهمّة ونفي لهذه الرسالة، لا بُدّ أن نعرف ما كلّفتنا به الشريعة المقدّسة تجاه أولادنا، من الواجبات والمستحبّات والمحظورات..
حقّ الولد على أبيه
يقول الله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ ﴾3.
هناك كارثة عدم الشعور بتلك المسؤولية الّتي ذكرناها في النقطة السابقة، وبالتالي عدم معرفة ما يجب أن نفعله تجاه أولادنا، نعم نحن نُهيّئ لهم الخبز والجبن واللحم، ولكن ليس بالخبز فقط يحيا الإنسان.
فلنلقِ نظرة على ما ينبغي تقديمه للأولاد جرياً على مقتضى ما قدّمناه من رسالية
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 15، ص 176.
2- م.ن، ج 5، ص 176.
3- سورة النساء، الآية: 11.
35
28
الولد الصالح
في بناء وتشكيل الأسرة، ولنستفد من حقّ الولد الوارد في رسالة الحقوق لإمامنا زين العابدين عليه السلام، يقول عليه السلام:
"وأمّا حقّ ولدك فتعلم أنّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشرّه، وأنّك مسؤول عمّا ولّيته من حسن الأدب والدلالة على ربّه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه، فمثاب على ذلك ومعاقب، فاعمل في أمره عمل المتزيّن بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا، المعذر إلى ربّه فيما بينك وبينه بحسن القيام عليه والأخذ له منه ولا قوّة إلا بالله"1.
أوّلاً: يذكِّرك الإمام عليه السلام بأنّ الولد بما هو ولد وبما فيه من خير أو حتّى شرّ هو منسوب ومضاف إليك. يقول الإمام علي في وصيّته للإمام الحسن عليهما السلام : "وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي حتّى كأنّ شيئاً لو أصابك أصابني"2.
فليس لك أن تتبرّأ منه كما قد يتفق وتتبرأ من صاحب أو صديق، بل لا بُدّ أن يبقى الأمل دائماً بإصلاحه والشعور بالمسؤولية تجاهه لردِّه إلى الرشد والصلاح - طالما أنّه لم يتحوّل إلى عدوٍّ لله وللدِّين وإلا فإنّ خطاب "إنّه ليس من اهلك" ـ الّذي نزل بشأن ابن النبيّ نوح عليه السلام ـ سوف يشمله وينطبق عليه، يقول الإمام علي عليه السلام:
"الولد غير الصالح كالإصبع الزائد إن قطعته آلمك وإن تركته شانك".
وإنّما قال عليه السلام في رسالة الحقوق: "في عاجل الدنيا" لأنّه في الآخرة تنقطع الإضافات والأنساب: ﴿فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾3.
ثانياً:إنّك مسؤول عن عدّة أمور ترجع إلى السعادة الدنيوية والأخروية وهي كالتالي:
أ- إنّك مسؤول عمّا ولّيته من الأدب، فإنّه كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 15، ص 176.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 200.
3- سورة المؤمنون، الآية: 101.
36
29
الولد الصالح
ميراث كالأدب". والأدب هو الأمور الّتي تجعل الإنسان متميّزاً عن السوقة والجهلة والسفهاء والحمقى، بأن يأتي الإنسان في كلّ موقف بما يُناسبه ممّا يستحسنه العقلاء ويُقرّه الشرع والحكماء، فللكلام أدبه، وللجلوس، وللطعام، وللمشي، وللضحك، وللصوت... لكلّ فعل، أو موقف، أو حديث، أدبه الخاصّ به، فأنت مسؤول عن توليته هذه الآداب، فاسأل نفسك هل تعتبر ذلك تحت نطاق مسؤوليتك، أم أنّك لو تعطّفت بالالتفات إلى العائلة والأولاد يقتصر انعطافك على تأمين الطعام والكسوة وأمثال ذلك من الأمور البدنية؟!
وأمّا الأمور المعنويّة الّتي منها تلقين الآداب لأولادك فهذا ليس من الأولويات عندك؟
ب- أنت مسؤول عن دلالة أولادك على ربِّهم تعالى، فهل تُلقّنهم دروس التوحيد والعقيدة يا تُرى بحسب ما تقتضيه أعمارهم منذ الصغر، تغرس في نفوسهم الإيمان بالله تعالى حتّى ينشؤوا ويترعرعوا وقد تغلغل الإيمان في أعماقهم وجرى في دمائهم؟
أنت مكلّف أن تُهيّئ لأولادك الثقافة والعلم والأجواء الفكرية والاجتماعية من صداقات ولقاءات وغيرها لكي يصلوا إلى العقيدة الصلبة في معرفة الله تعالى، وأيضاً ما يقوّيها ويُساعد على تثبيتها، ولا يجوز تركهم بلا دلالة، فأنت الدالّ ويجب عليك تهيئة الدليل وتقريبه إليهم لكي يصلوا إلى الدلالة الواضحة على الله تعالى. نعم الوالدان مكلّفان بذلك ولا يجوز لهما إهمال هذا الجانب. وللأسف قد يكون الأمر بالعكس بأن يُترك الأولاد وشأنهم يُخالطون الفاسدين المفسدين الّذين يؤثِّرون سلباً على عقيدتهم.
ج- المعونة لابنك على طاعة الله تعالى معرفته لله تعالى، فأنت تأخذ بيده إلى معرفة الله تعالى، ومعلوم أنّ المعرفة تستدعي الطاعة، فعليك بمساعدته أيضاً على أن يكون تقياً مطيعاً لله تعالى.
37
30
الولد الصالح
وهذه الطاعة لها جنبتان
الأولى: طاعة الله فيك أي تُساعده على برِّك، فقد ورد أنّه رحم الله من أعان ولده على برِّه، فعن يونس بن رباط عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله من أعان ولده على برِّه.
قال "الراوي": قلت: كيف يُعينه على برِّه؟
قال: يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يُرهقه، ولا يخرق به، فليس بينه وبين أن يصير في حدٍّ من حدود الكفر إلا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم"1.
أي عليك أن لا تحمّله أكثر مما يُمكن له أن يحمل بل تقبل منه ما تيسّر، ولا تُتعبه، فعليك أن تكون واقعياً في النظر إلى قابليّاته لا أنّك دائماً تُطالبه بالأمور الكبيرة وتُعيّره وتؤذيه بالقول له: إنّك غير نافع وغير مجدٍ وأمثال تلك العبارات.. لأنّه لم يأت بما قد رسمته أنت له في نفسك ومخيّلتك.. وبالتالي تُحرجه وتُخرجه عن إطار رضاك عنه وتكون قد اضطررته إلى عقوقك وبالتالي إلى معصية الله تعالى.
الثانية: أن تُعينه على طاعة الله في نفسه، أي تُساعده على أن يكون تقيّاً مطيعاً لله تعالى بينه وبين ربِّه، وذلك بتحفيزه على فعل الطاعات وترك المحظورات والمحرّمات والتدرُّج بمراتب التقوى.
ولا بُدّ من الالتفات إلى ما أراد الإمام عليه السلام التنبيه عليه وهو أنّ هذه المسؤوليات ليست مجرّد أمور مستحبّة، لك تركُها، بل أنت معاقب إذا فرّطت فيها ومثاب على مراعاتها وتعاهدها، وذلك نفهمه من قوله عليه السلام: "فمثاب على ذلك ومعاقب..فاعمل بأمره عمل من يعلم أنّه مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه".
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 50.
38
31
الولد الصالح
وأيضاً من حقِّ الولد على والده:
أن يختار أمّه.
أن يُحسِّن اسمه.
أن يُعلِّمه القرآن.
أن يزوّجه إذا بلغ.
أن يعلم بأنّه أمانة في عنقه يتمّ حفظها بتربيته تربية إيمانية بما ذكرنا آنفاً.
أن يرزقه طيّباً، أي "يُطعمه رزقاً حلالاً ولا يُطعمه من مال حرام".
أن يدعو له فيما بينه وبين الله تعالى.
أن يُكرمه، "أكرموا أولادكم"1.
المبادرة إلى التربية قبل فوات الأوان: "بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة"2.
تعليمهم الصلاة أبناء سبع، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "علِّموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعاً واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً"3.
أن يضعه موضعاً صالحاً.
ثالثاً: بعد معرفة مسؤوليّتنا الكبرى تجاه أبنائنا، وأنّ الشريعة كلّفتنا تهيئة الأجواء الصالحة والمناخات الملائمة لهم لكي يكونوا صالحين، وتربيتهم على المبادئ والقيم الحميدة، وصدّهم عن كلّ ما يكون مظنّة فساد أو انحراف ديني أو خُلقي، بعد معرفة هذا لا بُدّ من التعرُّف إلى أساليب التربية الصالحة الّتي من خلالها نصل إلى الغاية المنشودة، وهذا يستدعي اهتماماً كبيراً ومتابعة مستمرّة، ومراقبة وعناية غير منقطعة، وهذه المسؤولية لا تتلاءم أبداً مع اللامبالاة والتهاون.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 21، ص 476.
2- م.ن، ج 21، ص 477.
3- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج 1، ص 56.
39
32
الولد الصالح
للمطالعة
إنّما نال مقام المرجعية ببركة دعاء والديه
ذكر السيّد عادل العلويّ في سياق حديثه عن المرجع السيّد المرعشيّ النجفيّ قدس سره قال:
لقد نشأ سيّدنا الأستاذ في بيت العلم والسيادة والشرف في أسرة مرموقة في أعين الناس.
حدّثني يوماّ أنّه كان والده يأخذه إلى درس المحقِّق الآخوند عليه الرحمة وهو لم يبلغ الحلم.
وعندما كانت والدته تطلب منه أن يوقظ والده، يصعب عليه أن يُناديه، فكان يمسح بوجهه وخدّه باطن قدم والده فيستيقظ بعد دغدغة لطيفة ويرى هذا الموقف المتواضع من ولده البار.
فتدمع عيناه رافعاً يديه إلى السماء ويدعو لولده بالتوفيق.
وكان سيّدنا الأستاذ كثيراً ما يقول: إنّما نلت هذا المقام وزاد الله في توفيقي ببركات دعاء والديّ عليهما الرحمة.
40
33
نظرة الإسلام الى المال
الدرس الرابع: نظرة الإسلام إلى المال
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾1
1- سورة الفجر، الآية: 20.
41
34
نظرة الإسلام الى المال
فلسفة حبّ الإنسان للمال
عندما نُريد التحدُّث عن أيّ مفهوم لا بُدّ أن نُخضعه للنظرة الشرعية الواقعية، ثمّ بعد ذلك نُرتِّب الآثار السلبية والإيجابية بعد وضوحه على مستوى المفهوم الواقعيّ بحدوده الطبيعية، فكيف ينظر الإسلام إلى المال؟ وكيف يُقيّمه إيجاباً وسلباً؟
أوّلاً: إنّ القرآن الكريم يُعبِّر عن شيء مرتكز ومنغرس في نفس نوع الإنسان وهو حبّه للمال حبّاً كبيراً، يقول تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾.
﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾1. وفُسِّر الخير بالمال.
وخلفية حبّ الإنسان للمال هي أنّ الإنسان يُحبّ وجوده، ويُحبّ كلّ شيء يقوّي وجوده، ويدفع النقص والخطر عنه. ولا شكّ أنّ المال من مقوّيات الوجود ومن المساعدات على رفع النقص والدفاع والذبّ عنه، فإذاً سيتفرّع حبّ المال على حبّ الذات ويكون قوياً ومنسجماً مع درجة حبّها، وبما أنّ حبّ الذات من أعظم الغرائز لدى بني البشر فحبّ المال المتفرّع عنها طبيعيٌّ أن يكون من أقوى ما يُحبّه الإنسان ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾.
إذاً، هذا الحبّ عميق ونحن مأمورون أن لا نجري على مقتضى هوانا في التعامل مع المال، بل أن نُخضع علاقتنا به لحكم الشرع والعقل من خلال تعديل ذلك الميل الجنونيّ والعشق الكبير له، فالضابط والميزان للوصول إلى هذا الاعتدال هو الشرع
1- سورة العاديات، الآية: 8.
43
35
نظرة الإسلام الى المال
المبين المدعوم بحكم العقل والعقلاء، فتعال لنرى نظرة القرآن والسنة إلى المال وبماذا يأمران.
إنّ الإسلام يعتبر المال أمراً مهمّاً مصلحاً لشؤون الخلق ولا يرفضه بالمعنى التصوفيّ السلبيّ بل هو وسيلة مهمّة جدّاً، وتحصيله والكدّ في سبيل كسبه من الحلال هو من أفضل العبادة، فكما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"1.
ولكن ككلّ وسيلة إذا تحوّلت إلى غاية فإنّها ستنحرف عن الصواب وقد توصل إلى الهلاك، فإنّ المال يجب أن يبقى في إطار الوسيلة، وإذا ما اعتقد الإنسان بأنّه غاية وتعامل معه كذلك فإنّه يكون من أخطر الأشياء عليه.
وللأسف الكثير من البشر وقعوا في فخّ المال وتحوّل حبّهم له إلى غاية، وذلك للأمر الجبلّيّ فيهم كما ذكرنا، مع طول الأمل وحبّ الحياة وما يترتّب على ذلك من خوف الفقر والحاجة، وتقدير التعرّض المستقبليّ للنقص والفقدان والفاقة.
وبالتالي فإنّ الإنسان يلجأ إلى الكنز والادّخار وحجب المال عن المستحقّين.
كيف ينظر الدِّين للمال وكيف يُقيّمه؟
فلنلقِ نظرة على كيفيّة تقييم الإسلام للمال:قال أبو عبد الله عليه السلام: "إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجّهها الله ولم يُعطكموها لتكنزوها"2.
- وعنه عليه السلام عن أبيه أبي جعفر عليه السلام أنّه سُئِل عن الدنانير والدراهم وما عمل الناس فيها، فقال أبو جعفر عليه السلام:
"هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه وبها تستقيم شؤونهم
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 12، ص11.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 32، وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 6، ص 17.
44
36
نظرة الإسلام الى المال
ومطالبهم، فمن أكثر له منها فقام بحقّ الله فيها وأدّى زكاتها فذاك الّذي طابت وخلصت له، ومن أكثر له منها فبخل بها ولم يؤدِّ حقّ الله فيها واتّخذ منها الآنية فذاك الّذي حقّ عليه وعيد الله عزّ وجلّ في كتابه، يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾"1
- وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "المال مال الله عزّ وجلّ، جعله ودائع عند خلقه، وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويلبسوا منه قصداً، وينكحوا منه قصداً، ويركبوا منه قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدّى ذلك كان ما أكله حراماً، وما شرب منه حراماً وما لبسه منه حراماً، وما نكحه منه حراماً، وما ركبه منه حراماً"2.
أوّلاً: لا بُدّ من التوجّه بالنظرة الإيجابية للمال لا بالنظرة التصوّفية السلبية كما مرّ وذكرنا، أي من الخطأ الاعتقاد بأنّ المال بما هو مال سيّىء وشرّ، وبالتالي من القبيح أن نحوزه ونُحصّله.
هذا ليس صحيحاً، بل المال كما صرّح الإمام عليه السلام بالرواية الآنفة:"هي" أي الأموال "مصلحة لخلقه، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم"3
وإنّما الخطر في الأمر هو ما يُمكن أن يترتّب على حبّه والتعلّق به من لوازم وآثار سيّئة ومهلكة كما سنبيّن فيما سيأتي.
ثانياً:المال ليس ملكاً حقيقياً للإنسان وإنّما هو عارية ووديعة وملك اعتباريّ، فلو دقّقنا في النصوص نجد التصريح بذلك، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى
1- سورة التوبة، الآية: 35.
2- وسائل الشيعة، "الإسلامية"، الحرّ العاملي، ج 6، ص 17.
3- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 4، ص 2994.
45
37
نظرة الإسلام الى المال
كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ﴾1. فلم تقل الآية تركتم ما "ملّكناكم"، بل عبّرت بـ "خوّلناكم"، ومعلوم أنّ تخويل الشيء أعمّ من تمليكه، فقد أخوّلك التصرّف بشيء لي دون أن أملِّكك إيّاه.
وكذلك التعبير في الرواية السابقة بقوله عليه السلام: "المال مال الله" فإنّما أضاف الملكية الحقيقية إلى ذاته المقدّسة ولم يُضفها إلى الإنسان، وقوله عليه السلام: "جعله ودائع عند خلقه" فلم يقُل عليه السلام ملّكه الله لخلقه...
فلا بُدّ للعاقل أن يعتقد بذلك، أي بأنّه مخوّل بالتصرُّف بهذا المال وممتحن به، وأنّه مسؤول عنه مكسباً وإنفاقاً، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت"2. ولا يدخل في وهم أحد أنّه أصبح مالكاً له، فله صنع ما أراد به وينسى أنّه محاسب حتّى على الدرهم والقطمير منه.
وكذلك إذا اعتقد أنّ مالكه الله تعالى وأنّه مجرّد عبد ممتحن به، فإنّه سوف لا يمنع حقّ الله تعالى فيه، بل يبذله بطيب نفس، فهل يبخل الإنسان بملك غيره؟
ثالثاً:إذا كان المال هو مال الله وهو وديعة عند الخلق لا غير مخوّل بالتصرُّف فيه فلا بُدّ أن نسأل ماذا يُريد الله تعالى منّا بشأن هذه الوديعة وهذا الشيء الّذي امتحننا فيه؟
هل يُريد منّا التباري بجمعه فمن يجمع أكثر فهو الفائز وله الغلبة عنده "تعالى" وبالتالي له التفاخر على غيره بفوزه المظفّر عليهم لأنّه فاقهم في الكنز والادّخار منه؟!
1- سورة الأنعام، الآية: 94.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 93.
46
38
نظرة الإسلام الى المال
الجواب: كلا، بل كلّفنا عزّ وجلّ أن نوجّهه حيث وجّهه ولا نكنزه، كما عن مولانا الصادق عليه السلام: " إنّما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجِّهوها حيث وجّهها الله ولم يُعطكموها لتكنزوها"1.
فالمال إذاً ليس للكنز ولا للادّخار، بل جعله الله خواتيم في أرضه ليُصلح الناس به أمورهم، ويُديروا شؤونهم، ويتوصّلوا به إلى مقاصدهم، ليتوجّهوا بعد سدّ حوائجهم إلى الدوافع الأساس السامية، فمن يتوقّف عند جمع المال وكنزه ومن ثمّ يطلب به الكمالات الدنيوية كما عبّرت الرواية الشريفة "واتخذ منها الآنية" فإنّه من التائهين في الضلال ومن الهالكين إن كان قد بخل بحقّ الله تعالى، أو أسرف في إنفاقه.
وإن كان قد أدّى حقّ الله تعالى فيها فليس عليه جناح من الناحية الفقهية، ولكن من الناحية السلوكية فقد يُقال إنّ من يجمع ويكنز فهو من المنشغلين بالدنيا ومن الغافلين، وإنّه ما اجتمع مال إلا من شحٍّ أو حرام كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، ولذلك ألمحت الرواية السابقة إلى أنّ الشيء الّذي يكون مَرضيّا في إنفاقه هو القصد في كلِّ شيء، في المأكل والمشرب والملبس والمسكن..
"وأمرهم أن يأكلوا منه قصداً، ويشربوا منه قصداً، ويلبسوا منه قصداً، وينكحوا منه قصداً، ويركبوا منه قصداً، ويعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين، فمن تعدّى ذلك كان ما أكله حراماً، وما شرب منه حراماً وما لبسه منه حراماً، وما نكحه منه حراماً، وما ركبه منه حراماً"2.
فلا بُدّ من حمل الرواية على ما ذكرنا، فإما أن نقول أنّه حرام لأنّه لم يؤدِّ حقّ الله تعالى فيه، أو لأنّه أسرف في الإنفاق، أو لأنه ما اجتمع مال إلا من شحّ أو حرام، أو المقصود بالحرام الوارد الأعمّ من الحرام الفقهيّ و الأخلاقيّ العرفانيّ المعنويّ.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 32.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 13، ص 52.
47
39
نظرة الإسلام الى المال
حبّ المال أداة مهلكة
وبعد التعريف بالنظرة الشرعية للمال، وبأنّها نظرة واقعية إيجابية "مع الالتزام بالحدود الشرعية للجمع والإنفاق كمّاً وكيفاً" وليست سلبية، فلا بُدّ أن نذكر الأمور الّتي تجعل حبّ المال أداة مهلكة بيد صاحبها إذا لم يُضبط بما يُريده الشرع المبين والعقل الرصين:
فأوّلا:ً من لوازم ذاك العشق للمال, الشُّحّ:
﴿ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ﴾1.
﴿ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا ﴾2.
ثانياً: حبّ الاستزادة والطمع والحرص الشديد على الكنز والادّخار:
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً"3.
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا"4.
ثالثاً: الطغيان: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى*أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾5.
من الخطأ أن يأمن الإنسان جانب نفسه، فإنّها كثيراً ما تخدعه، وتعده بأشياء ولا تفي عند التمكّن "وخدعتني الدنيا بغرورها، ونفسي بخيانتها"6، وخاصّة فيما يتعلّق بالمال، فإنّه قبل حصوله في يد الإنسان قد يتكلّم كلام الزاهد في تملّكه والحرص عليه، الّذي لا يعتني بشأنه، ولا يقيم له وزناً، إلا أن يقضي به حوائجه وحوائج الناس من أقاربه وإخوانه المؤمنين. إلّا أنّه بمجرّد أن يحصل على قدرٍ منه فقد يتغيّر نمط تفكيره، بل حتّى قد يتغيّر لحن كلامه، فهذا ثعلبة بن حاطب الّذي
1- سورة النساء، الآية: 128.
2- سورة الإسراء، الآية: 100.
3- ميزان الحكمة، ج 3، ص 2639. مسند أحمد، ج 5، ص 117.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 1، ص 182.
5- سورة العلق، الآيتان: 6ـ 7.
6- مصباح المتهجِّد، الشيخ الطوسي، ص 845.
48
40
نظرة الإسلام الى المال
عاهد الله لئن آتاه الله من فضله ليصّدقن وليكونن من الصالحين، فأيّ عهد هذا الّذي قطعه على نفسه وجهاً لوجه مع رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم، والّذي أكّده بعدّة تأكيدات! إنّه لو وُزن مع جبال الدنيا لرجح عليها من ثقله! ومع ذلك لمّا آتاه الله من فضله بخل وتولّى وهو معرض، فأعقبه ذلك البخل والخلاف للعهد والكذب نفاقاً في قلبه إلى يوم يلقى الله سبحاته، بل على ما في النقل لقد كان تعبيره "ما هذا إلّا اخت الجزية" فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة"1.
وهذه الآيات المباركات الّتي روي أنّها نزلت فيه ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ*فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ*فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾2.
فعجباً لهذا الإنسان الّذي يلهج بالكرم وحبّ البذل، وبأنّه إذا حاز مالاً سوف لا يردّ سائلاً، ولا يدعّ محتاجاً، ولا فقيراً إلا وينيله من كرمه وفضله وبذله، ولكنّه بمجرّد أن يحوز المال، ويتمكّن منه، يصبح شخصاً آخر، همّه تبرير حرصه وبخله، وليت الأمر يقتصر على هذا الحدّ، فإنّه يطغى ويتجاوز الحدود وينتهك الحرمات بالمال، الّذي هو مادّة الشهوات، ويظهر عليه البطر والترف والبذخ، وينسى أنّ هذا المال هو مال الله قد جعله وديعة عنده ليختبره به، ويتبجّح بحذاقته وذكائه في جمعه، وينسى من أنعم به عليه، ورزقه إيّاه، وأفضل مثال على هذا الصنف من البشر قارون.
وأخيراً فإنّ التخلُّص من هذه الآثار السلبيّة لحبّ المال بحاجة إلى تدريب وتهيئة لهذه النفس يؤدي إلى تزكيتها وذلك باستشعار رقابة الله تعالى، واستذكار نعمه وأنّه في أيّة لحظة قادر على سلبها واسترجاعها فهي فضلٌ من الله تعالى ومتى شاء استعاده، بل هي امتحان واختبار يسقط فيه كثيرون، وعليه نسأل الله أن لا يفتنّا بالدنيا وما حوت وأن لا يمتحننا بما لا نقدر على النجاة منه، إنّه سميع مجيب.
1- تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج 9، ص 352.
2- سورة التوبة الآيات: 75 - 77.
49
41
نظرة الإسلام الى المال
للمطالعة
عجب قارون بنفسه وطغيانه على كليم الله عليه السلام
يقول تعالى في سورة القصص:
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ*وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ*وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُون*َ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِين *َوَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾1.
هذا ذكر مجمل ما حصل لهذا الرجل الّذي أطغاه المال:
... لمّا قطع موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة "وهي رياسة المذبح وبيت القربان" لهارون، فكان بنو إسرائيل يأتون بهديّتهم ويدفعونها إلى هارون، فيضعه على المذبح فتنزل النار من السماء فتأكله، فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك وأنا أقرأ للتوراة منكما. لا صبر لي على هذا.
1- سورة القصص، الآيات: 76ـ 82.
50
42
نظرة الإسلام الى المال
فقال موسى عليه السلام: والله ما أنا جعلتها لهارون بل الله تعالى جعلها له.
فقال قارون: والله لا أصدّقك في ذلك حتّى تُريني بيانه.
فجمع موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل وقال: هاتوا عصيّكم فجاؤوا بها فخرمها وألقاها في القبّة الّتي كان يعبد الله تعالى فيها، وجعلوا يحرسون عصيّهم حتّى أصبحوا، فأصبحت عصى هارون عليه السلام قد اهتزّ لها ورق أخضر، وكانت من شجرة اللوز.
فقال موسى: يا قارون أترى هذا؟
فقال قارون: والله والله ما هذا بأعجب ممّا تصنع من السحر. فذهب قارون مغاضباً واعتزل موسى بأتباعه، وجعل موسى يُداريه للقرابة بينهما، وهو يؤذيه في كلّ وقت ولا يزيد كلّ يوم إلا كبراً ومعاداة لموسى عليه السلام، حتّى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب. وكان الملأ من بني إسرائيل يميلون إلى مجالسته ومضاحكته. ثمّ إنّ الله سبحانه أنزل الزكاة على موسى عليه السلام فصالح قارون على أن يُعطي عن كلّ ألف دينار ديناراً وعن كلّ ألف شاة شاة وعن كلّ ألف شيء شيئاً، فرجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيراً، فلم تسمح بذلك نفسه.
فجمع بني إسرائيل وقال لهم: إنّ موسى قد أمركم بكلّ شيء فأطعتموه وهو الآن يُريد أن يأخذ أموالكم فقالوا له أنت كبيرنا وسيّدنا فمرنا بما شئت.
فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغية فنجعل لها جعلاً على أن تقذفه بنفسها. فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل، ورفضوه فاسترحنا منه. فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم، وقيل: طشتاً من الذهب. وقال لها: إنّي أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل.
فلمّا كان الغد جمع قارون بني إسرائيل فخرج إليهم موسى فقام فيهم خطيباً فوعظهم وقال: من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ومن زنى وله امرأة رجمناه حتّى يموت.
فقال له قارون: وإن كنت أنت؟
51
43
نظرة الإسلام الى المال
فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنّك فجرت بفلانة.
قال: دعوها فإن قالت فهو ما قالت، فلمّا أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة أأنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟
وعظّم عليها وسألها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة، فلمّا ناشدها تداركها الله بالتوفيق، وقالت في نفسها لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله، فقالت: لا ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي. فلمّا تكلّمت بهذا الكلام نكّس قارون رأسه وعرف أنّه وقع في مهلكة، وخرّ موسى ساجداً يبكي ويقول: يا ربّ إنّ عدوّك قد آذاني وأراد فضيحتي، اللّهمّ فإن كنتُ رسولك فاغضب لي وسلّطني عليه، فأوحى الله سبحانه إليه: إرفع رأسك ومر الأرض بما شئت تُطعك.
فقال موسى: يا بني إسرائيل إنّ الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، ومن كان معه فليثبت معه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا قارون ولم يبق معه إلا رجلان. ثمّ قال: يا أرض خُذيهم فأخذتهم إلى كعابهم، ثمّ قال: يا أرض خُذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، ثمّ قال: يا أرض خُذيهم، فأخذتهم إلى حقوتهم، ثمّ قال يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أعناقهم. وقارون وأصحابه في كلّ ذلك يتضرّعون إلى موسى عليه السلام ويُناشد قارون الله والرحم، حتّى ناشده سبعين مرّة، وموسى في جميع ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه، ثمّ قال: يا أرض خُذيهم فأطبقت عليهم الأرض.
فأوحى الله إلى موسى: ما أظنّك استغاثوا بك سبعين مرّة فلم ترحمهم ولم تُغثهم، أما وعزّتي وجلالي لو إياي دعوا مرّة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً. فلمّا خسف الله تعالى بقارون وصاحبيه أصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أنّ موسى إنّما دعا على قارون ليأخذ داره وأمواله وكنوزه، فدعا الله تعالى موسى حتّى خسف بداره وأمواله الأرض....1
1- قصص الأنبياء، الجزائري، ص 319.
52
44
التطفيف
الدرس الخامس: التطفيف
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ﴾1
1- سورة الأعراف، الآية: 85.
53
45
التطفيف
تمهيد
من المعلوم أنّ كلّ نبيّ من الأنبياء الكرام عليهم السلام غايته نشر التوحيد عقيدة، وإرساء الأخلاق الفاضلة سلوكاً، والأحكام الإلهية شريعة ومنهاجاً. ولكن نجد أنّ بعض الأنبياء عليهم السلام قد أكّدوا على بعض الجوانب وسلّطوا الضوء عليها كأولوية للمعالجة باعتبارها أدواء مستشرية بين الناس، ومن هذه الأدواء المعضلة المهلكة والمفسدة للمجتمع الإنسانيّ التطفيف، وعدم إيفاء الكيل والميزان، والذي كان مستشرياً وسارياً في زمن نبيّ الله شعيب عليه السلام. وقد بيّن القرآن الكريم هذا الأمر في كلامه سبحانه عن النبيّ الكريم شعيب عليه السلام في عدّة من الموارد والسور.
وقد أُرسل شعيب عليه السلام إلى مدين الّتي هو من أبنائها، وإلى الأيكة الّتي كانت بقرب مدين. يقول القرآن الكريم: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾1 حيث نعته بالأخ لأهل مدين، دون أن ينعته بذلك عند الحديث عن أصحاب الأيكة بل قال تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ*إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾2 دلالة على أنّه عليه السلام لم يكن من أهل الأيكة، وكان التأكيد في كلا المهمّتين بشكل كبير على المشكلة الاجتماعية المستفحلة الّتي تجذّرت وتأصّلت في كلا المجتمعين "مدين والأيّكة"، طبعاً بعد الدعوة إلى التوحيد لأنّهم كانوا يعبدون الأصنام.
وقد بالغ النبيّ شعيب عليه السلام بالكلام والمواعظ لمن أُرسل إليهم، حتّى دُعي بخطيب الأنبياء، كما ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنّه للأسف لم يُجبه القوم
1- سورة العنكبوت، الآية: 36.
2- سورة الشعراء، الآيتان:176- 177.
55
46
التطفيف
إلا بالرّد والعصيان، وهدّدوه بالرجم والطرد من بينهم، وبالغوا في إيذائه وإيذاء من آمن معه وهم قلّة قليلة، وبقوا على ذلك حتّى سأل الله أن يقضي بينه وبينهم فأهلكهم الله تعالى.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾1. فقد خصّص الله تعالى بالذكر هذه المعصية ونهى عنها من بين معاصيهم الأخرى بعد الأمر بالتوحيد، لما ذكرناه من شيوعها بينهم وإقبالهم عليها بحيث قد بان إفسادها للمجتمع الإنسانيّ بشكل واضح ممّا استوجب شدّة الاهتمام بالردع عنها.
وقد عقّب القرآن الكريم النهي عن التطفيف بقوله ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾2 وفيه دلالة على أنّ البخس في الميزان والتطفيف من عناصر الإفساد للمجتمع الإنسانيّ.
كيفية إفساد التطفيف للمجتمع الإنسانيّ
لا بُدّ أن نستحضر مدى حاجة أفراد المجتمع لبعضهم بعضاً، فبمجرّد أن تفترض مجتمعاً إنسانياً لا بُدّ أن تتصوّر التبادل للمنافع فيه بين أفراده ومكوّناته، فكلّ فرد يُعطي ما هو مستغن عنه في مقابل أن يستجلب ما هو بحاجة إليه، وهذا واضح في الأموال والأمتعة، وخاصّة ما يكون لها أحجام أو أوزان، فإنّ الإنسان بدأ يتبادلها مع غيره بشكل فطريّ، فأنا إذا كان عندي تمر كثير وأنت عندك قمح فائض فإنّي أعطيك صاعاً من تمر لتعطيني صاعاً من قمح، بلا أن يكون هناك ربح في الحسبان.
ثمّ تطوّرت الأمور، فصار الإنسان يُبدِّل الأمتعة بالأثمان فصارت التجارة حرفة ومهنة ثمرتها ادّخار المال وجمعه، وذلك من خلال الحصول على أنواع البضائع ثمّ عرضها على ذوي الحاجات وبيعهم إياها في مقابل ربح يُزاد على رأس مالها، وذلك
1- سورة هود، الآية: 84.
2- سورة الشعراء، الآية: 183.
56
47
التطفيف
مقابل الجهد الّذي يبذله البائع للحصول على الأجناس وعرضها، وهذا الربح رضي به الناس وذلك لأنّه يوفّر عليهم البحث والطلب، ويُسهِّل عليهم الحصول والوصول إلى احتياجاتهم، فإذاً هذا ربح مشروع رضي به الناس للبائع بفطرتهم، وهو فرصة للجمع والثروة.
يقول تعالى: ﴿ بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾1.
والمراد أنّ الربح الّذي هو بقيّة إلهيّة هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الّذي تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين.
فإنّ المؤمن إنّما ينتفع من المال المشروع الّذي ساقه الله إليه من الطريق الحلال، وأمّا غير ذلك ممّا لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.
هذا حال المجتمع الإنسانيّ في الاحتياج إلى المبادلة بين أفراده وعدم الاستغناء عنها لكي يضمن سدّ حاجاتهم، فإذا ساد التطفيف في ذلك المجتمع حصل الفساد من ناحيتين:
الأولى: أنّه يُفسد التقدير ويبطل التدبير، فإذا كان مقدّراً حاجته بالمقدار الكذائيّ فإنّه قد أُعطِيَ الأقل، وكذلك إذا كان مقدّراً بأنه سيبادل على المقدار الكذائيّ المعيّن فإنّه أيضاً يتبيّن أنّه قد أعطى الزائد على ما أخذ.
ومن الطبيعيّ عند اختلال التدبير فإنّه سيلزم الفساد باختلال نظام المعيشة الاقتصاديّ.
الثانية: وهي في غاية الأهميّة، وهي فقدان الثقة بين أفراد المجتمع الإنسانيّ، وحصول التزلزل وعدم الاطمئنان، فتضطرب العلاقات، ويجنح المجتمع إلى الانحراف والتحايل والمكر والخديعة وإفساد القيم الإنسانية فيه، وينساق إلى
1- سورة هود، الآية: 86.
57
48
التطفيف
التعاسة بدل التعاون بين أفراده للسير به إلى شاطئ الأمان والاطمئنان والسعادة الإنسانية.
قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾1.
التطفيف من الكبائر
لا إشكال بأنّ البخس في المكيال والميزان هو من المحرّمات. وقد دلّت على ذلك الأدلة الأربعة، القرآن والسّنة والإجماع والعقل، بل هو من الكبائر.
ولو نظرنا إلى سورة المطفّفين لرأيناها تعتبر المطفِّف غير آبه بيوم البعث والحساب، وأنّه غير شاعر بمحضر الله تعالى الّذي يراه ويسمعه، فهو غير مغفول عنه وإن كان قد نجح في استغفال صاحبه الّذي بخسه الكيل والميزان.
يقول تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*َوَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾2.
وقد ورد في الروايات أنّه ما طفّف قوم الكيل إلا مُنعوا النبات وأُخذوا بالسنين، وأنّ المطفِّف في الوزن يكون في قعر جهنّم مشغولاً دائماً بوزن جبلين من نار يوضع بينهما.
ويقول مالك بن دينار: كان لي جار احتضر فكان يصرخ ويقول: ينتظرني جبلان من نار! فقلت له: هذا يُخيّل إليك، فقال: لا، بل هو كذلك فقد كان لي ميزان أُعطي بالقليل منهم وآخذ بالزائد....
1- سورة الإسراء، الآية: 35.
2- سورة المطففين، الآيات: 1ـ 5.
58
49
التطفيف
وكان أمير المؤمنين عليه السلام يخصّ هذا الأمر بأهميّة قصوى حيث كان يأتي سوق الكوفة ويقول: "يا أيّها الناس اتقوا الله، ﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾1 2".
ما هو التطفيف؟
إنّ المصداق الأوضح للتطفيف هو أن يُعطي المطفِّف للطرف الآخر أقل ممّا اتفقا عليه وزناً أو كيلاً، كما إذا اتّفقا على عشرة "كلغ" فأعطاه تسعة ونصف الكيلوغرام.
التطفيف الحكميّ
وهو أن يُعطي عشرة ولكن يجعل فيها مقدار كيلوغرام من غير المتّفق عليه ممّا لا قيمة له، فهنا في الواقع بخس الميزان لأنّه بحكم من أعطى تسعة "كلغ" لا عشرة، كما لو خلط الحنطة بالتراب، أو اللبن بالماء.
وكذلك يلحق بالتطفيف حكماً نقصان المبيع عدّاً أو قياساً ومساحة، كما لو اشترى عشر بيضات فأقبضه تسعاً، أو عشرة أذرع من القماش فأعطاه تسعة ونصفاً فإنّ هذا وأمثاله ملحق بالتطفيف المحرّم.
التطفيف في العلاقات
صحيح أنّ حرمة التطفيف والبخس في الميزان كحكم شرعيّ فقهيّ يتعلّق بمعاملة البيع والشراء، إلا أنّ روح الآيات تستدعي من الإنسان أن لا يُطفِّف في جميع معاملاته وأحكامه بشأن الآخرين.
فحقيقة التطفيف هو أن تستوفي حقّك كاملاً من الآخرين، وأمّا إذا أردت أن تُعطي فإنّك تُعطي ناقصاً وأقلّ ممّا يستحقّ!
1- سورة هود، الآية: 85.
2- انظر: جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج16، ص 724.
59
50
التطفيف
إذا كان هذا هو ملاك وحقيقة التطفيف فانظر إلى علاقاتك ومعاملاتك فإنّك قد يصدق عليك مفهوم المطفِّف.
التطفيف في العلاقة بالله تعالى
مثلاً انظر إلى علاقتك بربِّك تبارك وتعالى فأنت تطلب من الله تعالى أن يهبك كلّ ما تبتغيه وتُريده وترى أنّ من حقِّك ذلك، بحيث إذا قتّر عليك من رزقك حصل في نفسك اعتراض، وكذلك إذا مرضت، أو دعوت الله تعالى في أمر ولم يُستجب لك...إلخ.
فإنّك تُريد استيفاء تمام النعم، وبالفعل نعم الله علينا لا يحصى عددها، ولكن في المقابل، أنت ماذا أعطيت لدينك ولشريعة الله تعالى؟!
أنت تُعطي القليل وتطلب من الله الكثير، تُقصِّر ولا تفي بواجب شكر النعم ومع ذلك تطلب الاستزادة منها، ألست تبخس حقّ الله تعالى بالتفريط بالكثير ممّا يطلبه منك؟!
فإنّ مناط التطفيف متحقِّق إذاً في علاقاتنا بالخالق عزّ شأنه وجلّ ثناؤه.
وقد ورد التعبير عن هذا في بعض الأدعية كما في دعاء السحر للإمام السجّاد عليه السلام: "الحمد لله الّذي أدعوه فيجيبني وإن كنت بطيئاً حين يدعوني..".
بل بعض الناس ليس بطيئاً فحسب بل أصلاً لا يُجيب داعي الله تعالى، ومع ذلك يطلب منه تعالى كلّ شيء ويجد في نفسه أنّ له الحقّ على الله بذلك.
"والحمد لله الّذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني.."
وهنا إشارة لطيفة في المقابلة بين ما أطلب من الله تعالى وما يطلبه تعالى منّي، فأنا أطلب حينما أطلب أن يُعطيني، بينما هو تعالى يطلب أن يستقرضني أي يطلب قرضاً، والقرض يتضمّن استعادة الشيء المقترض، فالله تعالى جواد في العطاء بلا طلب استرداد، بينما العبد حتّى في الشيء الّذي وعد الله تعالى بإعادته
60
51
التطفيف
إليه وبالأضعاف المضاعفة هو بخيل ببذله ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾1.
أليست هذه المعاملة مع الخالق عزّ شأنه وجلّ ثناؤه معاملة تطفيف؟
نسأل الله تعالى أن يتجاوز عنّا ويرحمنا ويتلطّف بنا ويترحّم على عجزنا وضعفنا إنّه أرحم الراحمين.
التطفيف في العلاقة مع الناس
إذا كان التطفيف هو استيفاء حقّك كاملاً من الآخرين وبالمقابل عدم إيفائهم تمام حقوقهم منك، فإنّه يصدق على الإنسان في معاملته لأخيه الإنسان.
وهذا يكون في شتّى العلاقات الإنسانية، وعلى سبيل المثال:
- علاقة الابن بوالديه فإنّه يطلب منهما أن يكونا مثالين ونموذجين في عاطفتهما تجاهه، وفي دوام التفكير في مصالحه ومنافعه وتأمين ما يحتاج إليه ويستأنس به ويرتاح إليه، وإن قصّرا في النموذجية في علاقتهما به فإنّه يتبرّم وينتقدهما لأنّهما لم يكونا بالمستوى المطلوب من الأبوين.. كلّ ذلك لأنّه يُريد أن يرى من جانبهما تطبيقاً مثالياً لا يُقصِّر بأي تفصيل ولو عن غير قصد.
ولكن هذا الابن قد يكون غافلاً بالكلّية عن أنّ عليه هو الآخر واجبات مثالية نموذجية تجاههما، فكم يا ترى هو باذل ومهتمّ ومضحٍّ في سبيل برّهما وطاعتهما والقيام بحوائجهما؟
فإنّه إن أنصف لحَكَمَ على نفسه، حيث إنه يطلب الأخذ دون التفات الى العطاء فيأتي عطاؤه على فرض حصوله منقوصاً، أليس هذا روح التطفيف في المعاملة؟!
وفي دائرة الحياة الزوجية قد يُطالب الزوج زوجته بأدقّ المستحبّات ويستشهد
1- سورة البقرة، الآية: 245.
61
52
التطفيف
لها بأشدّ الروايات الّتي هي بصدد بيان مرتبة راقية بل أرقى مراتب الزوجة المؤمنة الصالحة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من خير نسائكم... العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها"1. من نفسه أن يكون الزوج النموذجيّ والمؤمن الكامل الّذي يمتثل لقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"2.
أو كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: "...إذا غضب عليها زوجها لم تكتحل بغمض حتّى يرضى"3.
أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"4 إلى غير ذلك من التكاليف الّتي هي من صفات المؤمنة الكاملة.
ولكن بالمقابل لا يطل
ويتغافل عن قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾5.
ويضرب صفحاً عن قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾6.
فيُسيء العِشْرَة بالقول والفعل ويُسيء الخُلق، فتكون النتيجة أنّه يُريد أخذ تمام الحقّ من غيره ولكن، إذا أعطى فإنّه يُعطي منقوصاً، وهذا بخس في الكيل في المعاملة الزوجية.
ونفس الكلام يجري على الزوجة عندما تُطالب زوجها بكلّ ما تُريد فإذا ألجأته الحياة إلى تقصير ما في التوسعة أو في أمر من الأمور الّتي تعتقد الزوجة بأنّها من حقّها فإنّها تخرج عن طورها وتبدأ بالتقريع وإلقاء اللوم والتعنيف..
بينما نجدها مضيّعة لأبسط حقوق الزوج غير حافظة لقدسيّة الحياة الزوجية،
1- تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 7، ص 400.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 325.
3- م.ن، ج 5، ص 508.
4- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 20، ص 171.
5- سورة البقرة، الآية: 288.
6- سورة النساء، الآية: 19.
62
53
التطفيف
غير مستعدّة للتضحية في سبيل زوجها بل مفرِّطة فيما عليها تجاهه. وهذا بخس في الميزان في العلاقة الزوجية من قِبَل الزوجة.
وكذلك في سائر العلاقات الأخرى ينبغي للمؤمن أن يتحرّى الإنصاف مع الآخرين، وقد عبّرت الروايات عن أخذ الحقّ وإعطائه وعن عدم البخس في ميزان العلاقات الإنسانية بالإنصاف، وشدّدت بشأنه أيّما تشديد، حيث ورد في رواية شريفة عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه من أشدّ ما فرض الله على العباد: " إنصافك الناس من نفسك"1.
وإذا سألت عن قاعدة جامعة وميزان كامل للإنصاف في المعاملة فخذها كلمة من أمير الفصاحة والبلاغة أمير المؤمنين عليه السلام في سياق وصيته للإمام الحسن عليه السلام: "يا بُنيّ اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تُحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس ما ترضاه لهم من نفسك"2.
صدقاً هذه الكلمات المتألّقة لو أنّها تُنقش على لوح القلب لتكون دائماً هي المعيار في علاقاتنا وتكون حافزاً لأخذ المواقف والقرارات على طبقها ومؤدّاها لصلحت أخلاق الناس ولعشنا في المدينة الفاضلة، فإنّها جمعت شتات مسائل الأخلاق.
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾3:
وحيث إننّا نتكلّم عن حرمة التطفيف، وقبح الكيل بمكيالين، فمن المفيد أن نُلفت النظر إلى صورة من البخس في الميزان هي موجودة عند بعض الناس للأسف وهي أنّ الإنسان لحبّه لذاته وأنانيّته يحبّ أن يُقدِّر الآخرون له أيّ عمل أو جهد أو إنجاز
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 66، ص 405.
2- نهج البلاغة، الشريف الرضي، شرح الشيخ محمّد عبده، ج 3، ص 45.
3- سورة الأعراف، الآية: 85.
63
54
التطفيف
قام به، ويتوقّع منهم الثناء الجميل والتكريم، ويرى أنّه جدير بذلك ومستحقّ له، وقد تسمع منه مبالغة في وصف ما حقّقه وتحسينه وإبراز مميّزاته..
بينما إذا قام غيره بما يُماثل عمله بل وحتّى بما هو خير من عمله وأكمل، نجده لا يُعطيه الحدّ الأدنى من التحسين والثناء عليه، بل قد يقوم ببعض ما يحطّ من قيمته بالقول أو الفعل، بالصراحة أو بالتعريض والتلميح..!
فصاحب هذا السلوك المشين عليه أن يتذكّر قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ﴾.
وليعد عن هذا الخُلق السيّئ، وليُنصف الآخرين في جهودهم وإنجازاتهم وما بذلوه ليحقّقوا ما حقّقوه، وليُحبّ لغيره ما يُحبّه من الآخرين لنفسه.
وهذا له مصاديق كثيرة نترك لكم تحديدها بعد أن لفتنا النظر إلى أصل هذا المرض العضال.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإنصاف وأن يُجنّبنا كلّ بخس وتطفيف
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن طاب خلقه، وطهرت سجيّته، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه"1.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإنصاف أفضل الفضائل"2.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 15، ص 284.
2- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 51.
64
55
التطفيف
للمطالعة
أن يكون الإنسان مظلوماً أفضل من أن يكون ظالماً
سؤال: إذا تعرّض الإنسان لهجوم من شخص ما واحتمل أو قطع بأن يؤدّي هذا الهجوم إلى قتله إن لم يدافع عن نفسه، فهل يجوز في هذه الصورة دفع المهاجم أو قتله؟
الجواب: إذا كان متمكّناً من الهروب فيجب عليه الإفلات. في البداية قُتل العمّ الأكبر للبشر "هابيل" بيد أخيه " قابيل"، وقتل ابن ملجم اللعين أفضل الأوصياء، بل أفضل الأنبياء والأوصياء عليهم السلام.
نسأل الله أن لا يبتلينا بالضلالة، وإذا ـ لا سمح الله ـ ابتُلينا بذلك فنسأله أن لا يجعلنا مضلّين للآخرين، وإذا صرنا مضلّين فنسأله ألا يستمرّ إضلالنا البشر إلى يوم القيامة.
مَن الّذي يقدر أن يجيب عن كلّ هؤلاء الناس الّذين أضلّهم هذان الرجلان (وأبعدهم) عن طريق القرآن والعترة؟!
إذا دار الأمر بين أن يكون الإنسان ظالماً أو يكون مظلوماً فـ " أقدموا على الله مظلومين ولا تقدموا عليه ظالمين".
في مدرسة الشيخ بهجت قدس سره، ج1، ص 107.
65
56
الربا والقرض
الدرس السادس : الربا والقرض
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾1.
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾2
1- سورة آل عمران، الآيتان: 130ـ 131.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
67
57
الربا والقرض
تمهيد
إنّ الربا من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب في الشريعة المحمّدية. ومن يتدبّر في الآيات والروايات يجد أنّه قد شدّد القرآن الكريم في تحريم الربا ما لم يُشدِّد في أيّ ذنب من الذنوب "ما خلا تولّي أعداء الله"، وهذا ما يستظهره العلامة الطباطبائيّ في تفسيره.
يقول قدس سره: ".. وأمّا سائر الكبائر فإنّ القرآن وإن أعلن مخالفتها وشدّد القول فيها، فإنّ لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتّى الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم وما هو أعظم من ذلك كقتل النفس الّتي حرم الله... فجميع ذلك دون الربا..."1.
وطبعاً عندما تسمع بهذا التشديد والتغليظ بشأن الربا لا بدّ لك أن تتساءل: ما السبب في ذلك؟! لماذا يكون الربا أعظم من الزنا، بل حتّى الزنا بالمَحرم، وأعظم من القتل؟!
نقول لا بُدّ أن تعرف أنّ التشديد في شيء أو الدفع نحو شيء في الشريعة ليس أمراً انتقائياً ومن دون خلفيات واقعية قد تُعلم لدينا وقد لا تكون معروفة. هذه الخلفيات تُسمّى ملاكات الأحكام, فكلّ حكم له مصلحة ينشأ عنها إن كان وجوبياً أو ندبياً استحبابياً، وله مفسدة إن كان تحريمياً أو فيه كراهة.
وعليه فشدّة الحرمة للربا لها خلفيتها الّتي يمكن إدراكها من خلال الروايات أو الاستنباط والتجربة والتحليل الّذي يخضع إلى كلّيّات الشريعة المقدّسة.
1- تفسير الميزان، السيّد الطباطبائي، ج 2، ص 409.
69
58
الربا والقرض
نقول إنّ الكبائر الأخرى كالسرقة والزنا... تلحق بالفرد وقد تتعدّى لأفراد محدّدين إلا أنّ الربا قد تعمّ بلواه فتصل إلى محق الدِّين وطمس الفطرة الإنسانية ويفسد نظام النوع الإنسانيّ ككلّ، وقد يؤدّي إلى الحروب العالمية كما قد ذكر بعض المفكرين. ولنذكر بعض ما يترتّب على الربا ويلازمه من آثار خطيرة على المجتمع الإنساني وعلى الدِّين.
الربا في القرض
الربا في القرض هو أن أُقرضك مالاً إلى أجل فتُعيده إليّ بشرط الزيادة.
فإذاً هو يفترض إنساناً مستغنياً يُعطي ويقرض وآخر محتاجاً، وصاحب المال يضمن من المستقرِض على أيّ حال ربحاً وفائدة سواء عمل أم لم يعمل وربح المستقرِض أم لم يربح بل حتّى لو فَقَد كلّ المال.
فهناك طرف ضامن للفائدة على ماله وطرف محتاج تترتّب الفائدة عليه على كلّ الأحوال، وكلّما طال أجل القرض تراكمت الفوائد على المدين المحتاج. وطبعاً هذا يترتّب عليه:
أوّلاً: انقسام الناس إلى غنيّ ثريّ، ومعدم فقير. وهذا خلاف العدالة الاجتماعية، فالكلّ له الحقّ بالحياة الكريمة، ولذلك يقول تعالى: ﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ 1 .
وهذا يلزم منه:
أ ـ الربح من غير عمل يُقابله، أي تكون الثروة هي الّتي تدرّ على أصحابها الأرباح وهم عطّالون بطّالون، يعبثون ويلهون ويلعبون، وفي المقابل يكون الطرف الآخر في جدٍّ وتعب وجهد وضنك، وهذا يزداد يوماً بعد يوم، وتتّسع الهوّة بين الشريحتين.
1- سورة الحشر، الآية: 7.
70
59
الربا والقرض
ب ـ عند اتّساع الشرخ بين أصحاب الأموال وبين شريحة الفقراء تنبعث مشاعر: الحقد، والكراهية، وحبّ الانتقام، والبغض الشديد من الفقراء للأثرياء.
ج ـ هذا يؤدّي إلى الانتقام الفعليّ وتتفشّى ظواهر هذا الانتقام بصور مختلفة، من السرقة، والاختلاس، والخيانة، والاحتيال... وقد تصل إلى القتل..
وطبعاً هذا يُساهم في تفشّي الرذيلة والابتعاد عن الفضيلة.
وهذا ما ألمحنا إليه من أنّه قد يكون الربا من الأسباب لحصول الحروب العالمية كما قاله بعض المفكّرين، فإن إفساده يعمّ ويتّسع ويكبر.
ثانياً: في البيع والتجارات تكون احتمالات الربح والخسارة، والربح القليل والربح الكثير، كلّها موجودة وواردة، ويكون التعلّق بالله تعالى ودعاؤه لنيل البركة والتوفيق للأسباب المؤدّية للنموّ والربح موجوداً وفعّالاً، بخلافه في المعاملة الربوية, فالاعتماد عند المرابي على الفائدة، ولا حاجة عنده للالتجاء إلى الله والدعاء بنظر المرابي, لأنّ الفائدة متحقِّقة على أيّ حال.
ثالثاً: تنتفي العاطفة الإنسانية بين بني البشر, لأنّ المرابي همّه تحصيل المال الربويّ أبقيَ الطرف الآخر المسكين على قيد الحياة أم مات، فليس هذا من شأنه، ولا يعني له الأمر شيئاً، لذلك يَنقل التاريخ أنّ الّذي كان يعجز في الجاهلية عن الالتزام بمقتضى المعاقدة الربوية كان يضطّر إلى أن يدفع لصاحب المال ابنه فيكون عبداً ورقّاً له مقابل الربا المتراكم.
وعليه فأين التوادّ والتراحم وعاطفة الإنسان على أخيه الإنسان، هذا الّذي أراده الإسلام أن ينمو ويكبر ويعظم من خلال الصدقات والهبات والهدايا والإقراض بلا مقابل؟
رابعاً: ينتفي الثواب المترتّب على القرض حيث إنّ عليه ثواباً عظيماً أعظم من ثواب الصدقة، فالصدقة بعشرة والقرض كما ورد في الرواية بثمانية عشر،فإنّ
71
60
الربا والقرض
الإنسان سيُحرم من هذا الثواب الكبير إذا استبدل القرض الحسن بالقرض الربويّ، وبالتالي سينقطع طريق المعروف...
عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّي رأيت الله عزّ وجلّ قد ذكر الربا في غير آية وكرّره، فقال عليه السلام: "أوَ تدري لم ذاك؟ قلت: لا. قال عليه السلام: لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف"1.
وكذلك الثواب على الإمهال للمقترض، فقد ورد أنّه إذا أمهل صاحب المال المدين كان له بكلّ يوم يُمهله ويصبر عليه ثواب الصدقة بذلك المال.
هذه بعض اللوازم الشنيعة للربا.
ـ وتجدر الإشارة إلى أنّ الربا يكون في القرض ويكون في معاملة البيع، وباختصار شديد لأن بحثنا ليس بحثاً فقهياً نقول:
الربا في القرض: هو أن يحصل الاقتراض إلى أجل مع اشتراط الفائدة عليه عند إرجاعه إلى المقرِض، سواء كانت الفائدة عينية أو منفعة أو غير ذلك.
الربا في المعاملة: أي في البيع يُشترط أن يكون الثمن والمثمّن من جنس واحد، وأن يكون ذلك الجنس من المكيل أو الموزون دون المعدود ودون المقدّر بالمتر أو الهكتار "كالقماش والعقار" فإذا كان المبيع والثمن من جنس واحد وكانا من المكيل أو الموزون وكان أحدهما أزيد من الآخر كان البيع ربوياً، دونما إذا كان معدوداً كالبيض "كما في بعض البلدان" فإنه لا ربا مع الزيادة، وكذلك مع اختلاف الثمن والمثمّن في الجنس ولو مع الزيادة كبيع الحنطة بالأرز.
الفرق بين الربا والمضاربة
الإسلام لم يقفل باب الحلال في جني الأموال، فكما أنّه حرّم الربا فإنّه في المقابل حلّل كثيراً من المعاملات ومنها معاملة المضاربة.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 146.
72
61
الربا والقرض
فبعض الناس لا يُفرِّق بين الربا وبين المضاربة بالمال، فالمضاربة أن يكون هناك صاحب مال يضع ماله عند عامل يتّجر ويضارب به، فهو يُقدِّم العمل ويبذل نفسه وصاحب المال يُقدِّم المال، ويُفرّق هذا عن الربا:
أوّلاً: في المضاربة يجب تحديد نسبة الربح لصاحب المال أي النسبة المئوية، 20% أو 30% من الربح، بينما في المعاملة الربوية لا يوجد تحديد نسبة للربح، بل تُحدّد مقطوعية لصاحب المال يأخذها سواء حصل ربح كثير أم قليل بل حتّى لو لم يحصل ربح.
ثانياً: الخسارة في المضاربة تكون على الطرفين "صاحب المال والعامل" بينما في الربا تكون الخسارة على المقترِض العامل بالمال.
فإذاً لكي ننقل المعاملة من الربا الحرام إلى المضاربة الحلال يجب تحديد نسبة الربح، ويكون التباني على أن الخسارة على الطرفين معاً.
بعض ما ورد من النصوص في التغليظ بشأن الرّبا:
1- حرب من الله ورسوله
المرابي المصرّ على الربا هو مصرّ على الحرب مع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾1.
2- الخلود في النار
المرابي المصرّ على الربا غير التائب إذا مات على ذلك فإنّه من المخلّدين في النار، يقول تعالى: ﴿ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾2.
1- سورة البقرة، الآيتان: 278ـ 279.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
73
62
الربا والقرض
3- من أكبر الذنوب
وأمّا في الأحاديث: فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "الربا سبعون جزءاً، فأيسره مثل أن ينكح الرجل أمّه في بيت الله الحرام"1.
ـ وعن الإمام الصادق عليه السلام: "درهم ربا أشدّ عند الله من سبعين زنية كلّها بذات محرم"2.
4- لعن الرسول له
ـ ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فعن الإمام علي عليه السلام: "لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الربا وآكله وبايعه، ومشتريه، وكاتبه، وشاهديه"3.
5- معاقبته في الدنيا
ـ لو يتمكّن الإمام الصادق عليه السلام من المرابي لضرب عنقه، قال عليه السلام: "لئن أمكنني الله تعالى منه لأضربنّ عنقه"4. طبعاً معاقبة المرابي من وظيفة الإمام أو الحاكم الشرعيّ وليست وظيفة كلّ أحد.
6- لم يُقبل له عمل
ـ وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من أكل الربا ملأ الله بطنه ناراً بقدر ما أكل منه، فإن كسب منه مالاً لم يقبل الله شيئاً من عمله، ولم يزل في لعنة الله والملائكة ما دام عنده منه قيراط"5.
7- كيف يُحشر آكل الربا؟
عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "لما أُسري بي إلى السماء رأيت أقواماً يُريد أحدهم أن يقوم
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 58.
2- التفسير الأصفى، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 131.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العاملىّ، ج 12، ص 430.
4- م.ن، ج 12، ص 429.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 13، ص 332.
74
63
الربا والقرض
ولا يقدر عليه لعظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً ويقولون ربّنا متى تقوم الساعة؟"1.
وفي رواية قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل: "... يُحشر أصناف من أمّتي أشتاتاً، قد ميّزهم الله من المسلمين وبدّل صورهم... وأمّا المنكسون على رؤوسهم فأكلة الربا"2.
فيا أيها الأخ المؤمن انتبه إلى مكسبك ودقّق فيما تُدخله إلى بطنك وبطون عيالك، ولا يغرّنّك حفنة من مال عن دِينك، ولا يغرّنّك بالله الغرور من شياطين الجنّ والإنس، فالدنيا كلّها زائلة فانية لا تستأهل أن تجني على نفسك فيها وتقتحم الهلكة من خلال أكل الربا كان ما كان، والله تعالى بيّن في كلامه العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنّه سيمحق الربا، فالمرابي سيجد في الدنيا قبل الآخرة أنّه لا بركة في ربحه بل سيتعجّب من طريقة ذهابه من حيث لا يشعر بل قد يُبتلى بأشياء عظيمة، وإليك هذه القصة، فإنّها عبرة لمن اعتبر.
عاقبة المرابي في الدنيا قبل الآخرة
يقول الشيخ المظاهري: كان هناك رجل في أصفهان معتدٍ كان يتعاطى الربا والاحتكار رغم الغلاء الشديد، فكان يمتصّ دماء الناس.. وعندما أصاب القحط البلاد وقد شحّ القمح وغلا ثمنه توجّه خبّازو أصفهان إليه وطلبوا منه أن يبيع القمح الّذي يختزنه، فقال: كم تشترون؟ قالوا بكذا.
قال: بل بكذا وحدّد سعراً أرفع، وهكذا كلّما اقترحوا قيمة للقمح كان يرفع السعر، لذلك لم يتّفقوا، وقال: اصبروا إلى يوم غد كي أفكر، إلا أنّه بالنتيجة لم يُعطِ القمح للناس، ومرّت فترة الشدّة ومات من مات وجاع من جاع.. ولم تمرّ فترة طويلة من
1- انظر: بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 18، ص 324.
2- مجمع البحرين، الشيخ الطريحي، ج 3، ص 435.
75
64
الربا والقرض
الزمن حتّى ابتُلي بألم في ساقه وعُرض على أطباء فلم تتحسّن صحّته، وأخيراً قرّر الأطباء بعد التشاور أنّ قدمه لا بُدّ أن تُقطع، إلا أنّه من أين تُقطع؟!
وضع يده إلى طرف الساق الأسفل قائلاً: إذا كان لا بُدّ فمن هنا، فقال الطبيب: لا، من هنا لا يُفيد ارتفع إلى الأعلى، يا سبحان الله. كما كان يطلب لسعر القمح دائماً الأعلى والأرفع، ابتلاه الله بنفسه، بنفس المبدأ الّذي تسبّب فيه بآلام الكثير بل بموت بعضهم، وأخيراً دفع كلّ ماله وقطعوا ساقه.
وضلّ أولاده من بعده يعانون من المصائب والمتاعب1.
للمطالعة
طريق السعادة غير مسدود
يقولون: إنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قد رحل من بين ظهرانينا، وإنّ إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف غائب أيضاً، ولا يمكن الوصول إليه ونيل غوثه، وعلى هذا فنحن مستضعفون ومحرومون من السعادة ولا حيلة لنا.
فهل الأمر كذلك؟
كلا، ليس الأمر كما يقولون, لأنّ العقل والشرع يثبتان لنا أنّ الإنسان المتديّن والعاقل يستطيع إدارة شؤونه الدينية, إذ إنّ دفتر الدِّين وقوانينه الشرعية تحت أيدينا. وإذا لم نكن نعلم بها أو نتمكّن منها، فيجب علينا بحكم العقل والعقلاء سؤال الآخرين الّذين يعلمون، وتشخيص صحّة وخطأ الجواب من طريق العقل والدِّين. فهذا مقتضى كون الإنسان عاقلاً. وفي كلّ موضع لم يتّضح له الطريق فالاحتياط بالنسبة له هو طريق النجاة. وعليه فطريق السعادة للإنسان ليس مغلقاً في أيّ مكان أو زمان.
في مدرسة الشيخ بهجت قدس سره، ج1، ص 44.
1- جهاد النفس، المظاهري، ص 108.
76
65
الإجارة ضوابطها وآدابها
الدرس السابع:الإجارة ضوابطها وآدابها
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾1.
1- سورة الزخرف، الآية: 32.
77
66
الإجارة ضوابطها وآدابها
تمهيد
من المسلّم به الواضح لكلّ إنسان يعقل أنّ الناس تحتاج لبعضها بعضاً لتسيير أمورها وقضاء حوائجها. فالإنسان لا يستغني عن الآخرين، ولا يقدر على ذلك حيث إنّ حوائجه كثيرة ولا يقدر على سدِّها بمفرده. ففي الطعام والشراب والمسكن واللباس وغيرها من الحاجات، يوجد العديد من المهن والصنائع والحرف فكيف له بامتهانها جميعاً؟!
هذا غير متيسّر لشخص بمفرده، فاحتاج بنو البشر لأجل التكامل فيما بينهم أن يبنوا مجتمعاً تتبادل الناس فيه الحاجات، فأنا أعطيك عملي في حرفتي وأنت تُعطيني نتاج جهدك في صنعتك وهكذا..
ومن هذا المنطلق احتاج الناس أيضاً إلى بعضهم بعضاً في الاستخدام فهناك صاحب عمل وهو يحتاج إلى عمّال سواء في الزراعة أم في الصناعة أم في التجارة، فلا تصلح الحياة الاجتماعية بأن يكون كلّ الناس أرباب عمل واحد. ومن هنا كانت حكمة الله تعالى في التباين بين الخلق في الهمم والطموحات والإرادات والعزائم..
وهذا ما يُشير إليه سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام عندما يُبيّن ما تتضمّنه الآية القرآنية المتقدِّمة من حقائق والتي منها الحكمة في خلق الناس بقابليّات متفاوتة، ومنها الحكمة في تسخير بعض الناس لبعضهم بعضاً، وكون بعضهم مستخدِماً والآخر مستخدَماً.
فإنّه عليه السلام استدلّ بالآية الشريفة على كون الإجارة من وجوه المعاش، وأنّها مشروعة وثابتة في الدِّين والشرع المبين وعلى أنّها لا بُدّ منها، وأنّ أمور الخلق
79
67
الإجارة ضوابطها وآدابها
ومعايشهم لا تستقيم بدونها. فقد نقل السيّد المرتضى قدس سره عن تفسير النعماني بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان معايش الخلق، قال عليه السلام:
وجه الإجارة
- "وأمّا وجه الإجارة فقوله عزّ وجلّ:
﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾1.
فأخبرنا سبحانه أنّ الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرّفاته وأملاكه.
ولو كان الرجل منّا يضطرّ إلى أن يكوّن بنّاء لنفسه، أو نجّاراً، أو صانعاً في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه، ويتولّى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب وما يحتاج إليه من الملك فمن دونه، ما استقامت أحوال العالم بتلك، ولا اتّسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنّه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم وكلّ ما يطلب مما تنصرف إليه همّته ممّا يقوم به بعضهم لبعض، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش الّتي بها صلاح أحوالهم"2.
فلا كلام إذاً في مشروعية الإجارة، وحاجة الخلق إليها وإلا تعسّرت الحياة على الإنسان..وإنّما الكلام في عدّة نقاط مهمّة في طيّات أبحاث الإجارة من شروط وآداب، قد يُبتلى بها الناس بالإخلال بها وهم لا يدرون، وربّما سبّب هذا الإخلال خللاً في العلاقات ما بين المؤمنين، مما استدعى ذكرها لتعلّمها وتطبيق الشريعة المقدّسة، لما فيها من درء لتلك المناكفات والمخاصمات الّتي قد تتطوّر لتفقد
1- سورة الزخرف، الآية: 32.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 19، ص 103.
80
68
الإجارة ضوابطها وآدابها
الإنسان تقواه وتوقعه في التهلكة.
فإذا كانت الإجارة من العقود والمعاملات الّتي شُرّعت لصلاح معايش العباد، فلا ينبغي أن يتخلّلها ما يُفسد علاقاتهم ويتطرّق بالتالي إلى إفساد الودّ والألفة فيما بينهم، فهذا ينقض الغرض، ولذلك جعلت الشريعة ضوابط وآداباً لتنظيم هذه المعاملة، وتلافي ما يُمكن أن يحدث من منازعات بين المتعاملين قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه سواء على صعيد الدنيا أم الآخرة، ومنها:
1- دفع الغرر
يجب دفع الغرر وذلك بمعلومية كلٍّ من المنفعة والعوض عليها من دون أن يشوبهما إبهام، وتحديد المدّة. ومن هنا تبنّى مشهور الفقهاء تعريف الإجارة بأنّها: "عبارة عن تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم "1, وقالوا: ثمرتها نقل المنافع بعوض معلوم مع بقاء الملك على أصله2.
وهذا واضح الدلالة والحكمة، فإنّ التغرير بالآخرين هو الّذي يفتح باب المنازعة وطريق الشيطان إلى القلوب.
2- استحباب مقاطعة الأجير
حثّت الشريعة بشكل كبير على مقاطعة الأجير قبل العمل "أي الاتّفاق معه قبل العمل", وفي رواية الإمام الرضا عليه السلام مبالغة في التأكيد على الاتّفاق بشأن الأجرة قبل الشروع في العمل.
فقد روى سليمان بن جعفر الجعفريّ قال:
كنت مع الرضا عليه السلام في بعض الحاجة فأردت أن أنصرف إلى منزلي فقال لي: "انصرف معي فبِتْ عندي الليلة"، فانطلقت معه فدخل إلى داره مع المغيب فنظر
1- القواعد الفقهية، السيّد البجنوردي، ج 4، ص 61.
2- قواعد الأحكام، العلامة الحلّي، ج 2، ص 281.
81
69
الإجارة ضوابطها وآدابها
إلى غلمانه يعملون في الطين أواري "والأريّ بتشديد الياء وبدون التشديد محبس الدابّة" الدوابّ وغير ذلك وإذا معهم أسود ليس منهم، فقال:
"ما هذا الرجل معكم؟"
قالوا: يعاوننا ونُعطيه شيئاً.
قالعليه السلام: "قاطعتموه على أجرته؟"
قالوا: لا، هو يرضى منّا بما نُعطيه، فأقبل عليهم (يعنّفهم) وغضب لذلك غضباً شديداً، فقلت: جعلت فداك لم تدخل على نفسك؟ فقال: " إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة أن يعمل معهم أحد (أجير) حتّى يقاطعوه على أجرته.
واعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة ثمّ زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على أجرته إلا ظنّ أنّك قد نقّصته أجرته، وإذا قاطعته ثمّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّة عرف ذلك لك، ورأى أنّك قد زدته"1.
ولا يخفى ما في كلام الإمام عليه السلام من تشديد بهذا الشأن، فلا ينبغي التفريط به حتّى لو كان الاعتماد على الثقة بين الطرفين وأنّهما لا يختلفان وذلك لقطع منبت الفساد من جذوره.
وطبعاً هناك روايات أخرى تؤكّد وتُشدّد على هذا الأمر:
- فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا استأجر أحدكم أجيراً فليعلمه أجره"2.
- وعن الإمام عليّ عليه السلام: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يستعمل أجير حتّى يعلم ما أجرته"3.
- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن
1- وسائل الشيعة "الإسلامية"، الحرّ العاملي، ج 31، ص 245.
2- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج 1، ص 26.
3- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 4، ص 10.
82
70
الإجارة ضوابطها وآدابها
أجيراً حتّى يعلمه ما أجره" 1
ويندرج هذا الأمر وهو الحثّ على المقاطعة بين المستأجر والأجير تحت المبدأ الّذي ذكرناه وهو ضمان عدم المنازعة بعد العمل، أو قل تقليص فرصها إلى أقصى الحدود.
فالدِّين الحنيف يعمل في أحكامه وتشريعاته وإرشاداته على رفع مقتضيات التنازع وإرساء موجبات الودّ والرضا لكي يحفظ الحياة الإنسانية بأرقى صورها وأجلى قيمها وأبهى حللها، فتتوطّد العلاقات وتسود المحبّة والألفة بين المؤمنين، وتغيب مظاهر التنازع والشحناء وما يتعقّبها من حقد وتباغض..
إذاً، من المندوب شرعاً أن نتكلّم بالأجرة سواء كنت أجيراً لأحد، أم كنت مستأجراً له، ولا تستخفّ بهذا المستحبّ، فمثلاً:
- إذا استأجرت سيارة لتقلّك إلى مكان، حدّد المنطقة بشكل واضح، واتّفق مع السائق على الأجرة، ولا تقل تلك المقولة الّتي يردّدها أكثر الناس: "سوف لا نختلف" إلّا أنّهم وللأسف كثيراً ما يختلفون عند انتهاء العمل.
- إذا استأجرت بنّاء ليبني لك، أو حدّاداً، أو نجّاراً أو أيّ عامل لأيّ حرفة، اتّفق معه على قدر الأجرة.
- لا تقل إنّي أستحيي أن أقاطعه، فتبدأ بالعمل قبل أن تُحدِّد الأجرة.
تذكّر أنّ الاتّفاق على الأجرة قبل العمل هو من الأحكام الشرعية المستحبّة فطبّقه ولا تتخلّف عن امتثاله ولك ثواب عليه.
3- مراعاة جانب العامل
فقد ورد في الكتاب الكريم على لسان يعقوب عليه السلام أنّه قال لموسى عليه السلام: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ﴾2.
1- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 289.
2- سورة القصص، الآية: 27.
83
71
الإجارة ضوابطها وآدابها
هذه الآية يُستفاد منها بيان استحباب تسهيل المستأجِر المعاملة على العامِل فلا ينبغي التشديد عليه ولا أن يشقّ عليه، فقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ المؤمن: "سهل القضاء وسهل الاقتضاء"1، ومن السهولة في القضاء:
- عدم تأخير إعطائه أجره.
وهذا من الأمور الهامّة أيضاً الّتي أكّدت عليها الشريعة المقدّسة، وهنا أيضاً بالغت الشريعة في الحثّ على التعجيل وعدم التأخير حيث إنّها لم تكل ذلك إلى الصدق العرفيّ كما هو ديدنها في الكثير من العناوين والمفردات الشرعية بل حدّدت هي المصداق لعدم التأخير، فقالت على لسان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه"2.
"أعطوا الأجير أجره ما دام في رشحه"3.
ولا يخفى على منصف ما لهذا الحكم الشرعيّ من أبعاد أخلاقية راقية، ومراعاة لأدقّ المشاعر والظروف، وتفكير بالآخرين.
أ - كأنّ السرور الّذي يُحدثه استيفاء الأجير لأجره مباشرة عقب العمل وقبل جفاف عرقه يُذهب عنه عناء كدِّه في ذلك العمل.
ب - إنّ الإيفاء السريع يستجلب المودّة بين العامل وصاحب العمل؛ فمع أنّ العامل لا يأخذ إلا حقّه إلا أنّ الوفاء السريع بنفسه هو نوع إحسان، وهذا ما بيّنه الإمام الرضا عليه السلام بقوله: ".. ثمّ أعطيته أجرته حمدك على الوفاء"4، فإذا سألت: لماذا الحمد على شيء يستحقّه؟ أجابك: على الوفاء.
1- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 196.
2- الخلاف، الشيخ الطوسي، ج 3، ص 486.
3- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج 1، ص 26.
4- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 5، ص 289.
84
72
الإجارة ضوابطها وآدابها
ج- هذا يشجّع العامل على العمل مع المستأجر مرّة أخرى، فإذا ساد هذا الخُلق ساهم في تسهيل التعامل، وبالتالي في تسهيل الحركة الاقتصادية في المجتمع، بخلاف ما لو كان المستأجِر معروفاً بالمماطلة في الدفع فإنّ كلّ شيء ينعكس.
د- لعلّ العامل يكون فقيراً لا يدّخر من المال شيئاً، فهو يحتاج إلى أجرة عمله يوماً بيوم، فمع عدم استيفاء أجرته قد يضطرّ إلى الاقتراض، أو إلى تأخير الحصول على احتياجاته.
فانظر أيّها المؤمن إلى ما منّ الله عليك من شريعة عذبة وجدانية، مفعمة بالقيم الأخلاقية والمعاني الإنسانية، والإحساس بالآخر ومراعاة أدقّ مشاعره وظروفه !!
فلا تُفرِّط بها وطبّق أحكامها شاكراً الله تعالى على ما هداك إليه.
4- مراعاة جانب المستأجِر
فكما أنّ الدِّين ينظر إلى الأجير بنظرة إنسانية، فكذلك ينظر إلى المستأجِر، فإنّه لا بُدّ للأجير بدوره أن يتحلّى بالأخلاق والقيم في تعاطيه مع المستأجِر، وهذا لا يكون إلا بوجود عدّة عناصر في صفاته وأخلاقه. وقد بيّنت الآية الكريمة عمدة هذه الصفات من خلال قول بنت شعيب لوالدها عليه السلام: ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾1.
- القوّة: عبارة عن الكفاءة في العمل، يقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تقبلن في استعمال عمّالك وأمرائك شفاعة إلّا شفاعة الكفاية والأمانة"2.
فالعاقل إذا أراد إنجاز عمل فإنّه يطلب ما يوصله إلى غايته على أكمل ما يكون، وهذا يتطلّب أهلية وخبرة للوصول إلى الغاية، ولا تُفيد العناصر الأخرى كالصداقة
1- سورة القصص، الآية: 26.
2- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، ص 276.
85
73
الإجارة ضوابطها وآدابها
والقرابة ولا حتّى الاستقامة والصلاح، فهذه العناصر إذا تجرّدت من الكفاءة فإنّها لا توصل إلى المقصد والهدف.
- الأمانة: من أهمّ الأمور الّتي ينبغي أن يتحلّى بها الأجير في معاملته مع المستأجر، فمثلاً:
- إذا أمّنك على صنف معيّن من البضاعة فلا تأته بصنف آخر.
- إذا أراد جودة معيّنة في العمل، أو اشترط خصوصيّة معيّنة فأتِ بها على وجهها من دون أيّ إخلال.
- إذا أنتج العمل مخلّفات وبقايا من العين المملوكة للمستأجر لا بُدّ من إعلامه به، حتّى قصاصات القماش الّتي تبقى عند الخيّاط من قماش الثوب المخاط، فإنّه لا بُدّ أن يُعيدها إلى المالك أو يتحلّل منه.
- أن يُحافظ العامل على مال المستأجِر الّذي بين يديه، ولا يُفرِّط فيه، وإذا استطاع أن يعتبره كمالِه فليفعل، كما لو استأجرت داراّ أو سيارة.
- أن يكون أميناً على الوقت، فلا يُضيّع الأوقات بلا عمل وهو يأخذ أجرة في مقابلها.
الصدق: وهو من أهمّ الصفات أيضاً الّتي يجب أن يتحلّى بها العامل الأجير، وإلا فإنّه سيكون منحرفاً عن جادّة الصواب، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ويلٌ لتجّار أمّتي من لا والله وبلى والله، وويلٌ لصنّاع أمّتي من اليوم وغدّاً"1.
أي ويلٌ لأصحاب الحرف من المواعيد الكاذبة، فيعد المتعامل معه بتسليم العمل وإنجازه اليوم ثمّ يقول إلى الغد وهكذا.. وغير ذلك من صور الكذب في المعاملة. فالنبيصلى الله عليه وآله وسلم يقول الويل لمن يكون كاذباً من أصحاب الصنائع على هذه الوتيرة.
1- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 160.
86
74
الإجارة ضوابطها وآدابها
- إذا وعدت بأنّك ستأتي في الساعة الفلانية فلا تُخلف.
- وإذا وعدت بأن تُسلّم العمل لمن استأجرك عليه في اليوم الفلاني فلا تُخلف.
- إذا وعدت بالنصيحة في العمل والتأنّي فيه فلا تُخلف.
5- ظلم الأجير أجره من الكبائر
- فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ظلم الأجير أجره من الكبائر"1.
بعض الناس من الجهلة أو من الّذين لا يخافون الله تعالى يظنّون أنفسهم أذكياء عندما يقتطعون من أجر العامل بتحايل على قانون، أو برفع دعوى باطلة يكسبونها برشوة، أو بالقوّة وتحت التخويف..
نقول لهؤلاء إنّما تفرون لحمكم والويل لكم ممّا أعدّه الله لكم من عذاب أليم، ولعنٍ وطرد عن رحمته، وهو خصمكم يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. اسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، كيف يعظِّمون هذه الخطيئة:
- فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من ظلم أجيراً أجره أحبط الله عمله وحرّم عليه ريح الجنة، وإنّ ريحها لتوجد من مسيرة خمسمائة عام"2.
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ غافر كلّ ذنب إلا من أحدث ديناً، أو أغصب أجيراً أجره، أو رجل باع حراً"3.
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ غافر كلّ ذنب إلا رجل اغتصب أجيراً أجره أو مهر امرأة"4.
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج103، ص 170، 27.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 513.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 36.
4- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 14، ص 31.
87
75
الإجارة ضوابطها وآدابها
ثمّ غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يُعطه أجره"1.
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا من ظلم أجيراً أجرته فلعنة الله عليه"2.
- عن أصبغ بن نباتة: "كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مسجد الكوفة، فأتاه رجل من بجيلة يُكنّى أبا خديجة، قال: يا أمير المؤمنين، أعندك سرٌّ من سرِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تُحدِّثنا به؟
قال: نعم، يا قنبر ائتني بالكتابة... مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم....إنّ لعنة الله وملائكته والناس أجمعين على من ظلم أجيراً أجره"3.
من آجر نفسه حظر على نفسه الرزق
هناك مطلب نريد أن نشير إليه في خاتم حديثنا وهو أنّه وإن كانت الشريعة تعتبر الإجارة في غاية الأهمية بالإطار العامّ - كما مرّ وذكرنا- لعمارة المجتمع الإنسانيّ للتوصّل إلى المآرب والمقاصد الّتي يحتاجها الإنسان ويصبو إليها، إلا أنّها من ناحية أخرى تكره للشخص أن يكون أجيراً، ويُستفاد ذلك من روايات عدّة سنذكر بعضها.
فكيف سبيل الجمع بين الضرورة للاستئجار والاستخدام وإلا فتتعسّر الحياة كما بيّنّا، وبين كراهية أن يكون الإنسان أجيراً؟
والجواب: إنّ الشريعة قد راعت أمرين مهمّين وحافظت عليهما في وقت واحد، فقد راعت الحاجة في المجتمع الإنسانيّ للاستخدام بأن شرّعت الإجارة ووضعت لها قوانينها وضوابطها، وراعت مسألة الدفع بالشخص نحو الترقّي وعدم رضاه بالمرتبة الدنيا إذا كان يمتلك قابليّة الإنتاج بالمستوى الأعلى وكان عنده طاقة فكرية إدارية تخوّله أن يكون صاحب عمل ومديراً له بنفسه، فمثل هكذا شخص لماذا يبقى أجيراً مستخدَماً؟!
1- كنز العمال: 43826.
2- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 14، ص 30.
3- م.ن، ج 14، ص 30.
88
76
الإجارة ضوابطها وآدابها
وبذلك تكون الشريعة موصلة كلّ قابلية إلى منتهى كمالها وإلى غاية ما يمكن أن تصل إليه، فمن لا يمتلك الطاقة والطموح والقابلية والهمّة تراه يبقى أجيراً ولا ضير عليه، غاية الأمر الكراهة، وحتّى الكراهة قد ينتفي موضوعها مع عدم القدرة على الأكثر والأرفع من ذلك..
ولا يخفى ما لهذه الأحكام المتناغمة فيما بينها من رؤية تكاملية جامعة تُراعي المصالح المتعدِّدة في وقت واحد من دون تناقض ولا تضارب، كما قد يتراءى من الوهلة الأولى لأصحاب الأنظار القاصرة الغافلين عن سرِّها وحكمتها.
وأيضاً لا يخفى على البصير ما تتركه هذه الآثار الشرعية على اقتصاد المجتمع الإسلامي فإنّها تحثّ على الاستزادة من الرزق والإنتاج.
فمفادها أنّ الإنسان له رزق قسَمه له الله تعالى إذا طلبه بنفسه فإنّه سيستوفيه بأكمله ويكون تحت ملكه وفي حوزته، بينما إذا آجر نفسه فإنّ أجرته ستكون محدّدة بحدٍّ لا تتجاوزه مهما اجتهد وأتعب نفسه والباقي لصاحب العمل، فيكون بذلك قد حظر على نفسه قسماً من الرزق المقسوم له فيما لو كان مستقلّاً في عمله، فإذا انفلت من عقال الإجارة لغيره وطلب الرزق فإنّه سيصله كلّ المقسوم له، أي مقدار الأجرة والجزء الآخر الّذي كان يفوِّته على نفسه فيما لو كان أجيراً.
- فعن إمامنا الصادق عليه السلام: "من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق"1.
- وفي رواية أخرى: "وكيف لا يحظره؟ ! وما أصاب فيه فهو لربّه الّذي آجره"2.
- وعن عمّار الساباطيّ: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "الرجل يتّجر فإن هو آجر نفسه أُعطي ما يُصيب في تجارته".
فقالعليه السلام: "لا يؤاجر نفسه ولكن يسترزق الله عزّ وجلّ ويتّجر، فإنّه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق"3.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 90.
2- م. ن.
3- راجع: م.ن.
89
77
الإجارة ضوابطها وآدابها
للمطالعة
هل الدعاء مشروط بالتوبة؟
السؤال: ندعو بكلّ هذه الأدعية ومع ذلك لا يُستجاب لنا، ومع هذا تقول الملائكة أيضاً: لماذا لا تدعون؟
الجواب: لأنّ شرط إجابة الدعاء هو التوبة، لذا تقول الملائكة: لماذا لا تأتون بهذا المشروط "الدعاء" مع شرطه "التوبة" حتّى يُستجاب لكم؟ ولماذا لا تدعون دعاء التائب ولا تأتون بالدعاء مع التوبة؟
لكن طبعاً هنالك فرق بين أن نقول ونحن في حالة التمرّد والعصيان: "لا نتوب ولكن أعطنا كلّ ما نُريد" لأنّ هذا خلاف العبودية، وبين أن نقول: "اللهمّ إنّي تائب توبة غير حقيقية، ولكن لا طاقة لي على البلاء أيضاً، وأريد منك أن ترفع ذلك البلاء عنّي، لقد أذنبنا ونحن نقرّ ونعترف بذنوبنا، ولكن لا يتأتّى منّا التوبة، وتوبتنا غير حقيقية وغير دائمية".
فمن المسلّم وجود فرق بين المنكر والمتمرّد وبين المقرّ والمعترف والمنقاد؛ لأنّ مثل هذه الطلبات والإجابات والعطايا يتفضّل بها الله تعالى علينا، وهي مختلفة عن باب الشرط والمشروط، وعن مشروطية الدعاء بالتوبة، وذلك بأن نقول: اللهمّ إنّنا غير مستوجبين للرحمة، ونقرّ بأنّنا لسنا أهلاً لها، ولكنّك أنت أهل لذلك وإنّك "تجد من تعذّبه غيري، ولا أجد من يرحمني سواك"1.
مدرسة الشيخ بهجت قدس سره، ج1، ص 78.
1- بحار الأنوار، ج 95، ص236- إقبال الأعمال، ص 366.
90
78
الإنفاق في سبيل الله
الدرس الثامن: الإنفاق في سبيل الله
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾1.
1- سورة الحجرات، الآية: 15.
91
79
الإنفاق في سبيل الله
الشخصيَّة الإيمانيَّة
إنّ الشخصية الإيمانية الّتي تستحقّ أن يُطلق عليها عنوان المؤمن الصادق لها مقوّمات لا تكتمل إلا بها مجتمعة مكتملة، ومع نقصان بعضها ينتقص بمقداره من صدق تلك الشخصية ومن صدق الإيمان.
وهذه المقوّمات أربعة: "الحكمة، والشجاعة، والعفّة، والعدالة".
وقد أشارت الآية الكريمة إليها:
فالإيمان بالله ورسوله وعدم الارتياب تعبير عن اليقين، واليقين إنّما هو من قوّة العقل ومنتهى الحكمة.
والجهاد بالمال هو السخاء وهو مصداق أبرز من مصاديق ضبط قوّة الشهوة وإخضاعها إلى حكم العقل والشرع وهو العفّة.
والجهاد بالنفس هو الشجاعة وهو ضبط قوّة الغضب تحت سلطان العقل والشرع.
وبنفس الجهاد بالمال والنفس فعلاً في الخارج تكون قد تحقّقت قوّة العدالة الّتي هي القوّة الرابعة والمقوّم الرابع، فإذا كانت الحكمة هي إشارة العقل الّتي قد ينصاع إليها الإنسان وقد يُخالفها، فإنّ العدالة هي تلك القوّة الّتي تدفع الإنسان نحو الجري العمليّ والتطبيق الفعليّ الخارجيّ لما أشارت إليه الحكمة نظرياً.
الإنفاق في سبيل الله من مقوّمات الشخصيّة الإيمانيّة
فظهر أنّ من مقوّمات الشخصية المؤمنة الصادقة الجهاد بالمال أي الإنفاق في سبيل الله والسخاء، فإذاً، لا بُدّ أن نعلم أنّه لا يكون المؤمن الحقيقيّ بخيلاً، حتّى وإن اكتملت فيه خصال محدّدة.
93
80
الإنفاق في سبيل الله
والآية الكريمة فيها كلمة "إنّما" الّتي تفيد الحصر، وتعني حصر الإيمان الصادق بمن يمتلك في شخصيته تلك الخصال المذكورة.
قال العلامة الطباطبائيّ في الميزان: ".. فيه قصر المؤمنين في الّذين آمنوا بالله ورسوله..الخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفاً جامعاً مانعاً فمن اتّصف بها مؤمن حقّاً، كما أنّ من فقد شيئاً منها ليس بمؤمن حقّاً"1.
وكذلك شهادة الآية في آخرها بأنّهم هم الصادقون، تعني أنّه يوجد في المؤمنين من هو صادق الإيمان ومن هو ليس بصادق، فمن افتقد صفة من الصفات الأربعة، ومنها الجهاد بالمال فإنّه يكون مندرجاً في الصنف الآخر من المؤمنين غير الصادقين في إيمانهم.
فعلى أيّ حال يجب أن يتنبّه المؤمن لهذا الأمر جيّداً ويُدخل في حساباته الإيمانية مسألة الإنفاق والبذل في سبيل الله تعالى، تماماً كما يأخذ في حسبانه إذا أراد أن يترقّى ويتقرّب من خالقه صلاة الليل، أو الحجّ، أو العمرة، أو زيارة الأئمّة عليهم السلام...
فكذلك إذا لم يكن معوّداً نفسه على الإنفاق والبذل فليفعل وليبدأ بتدريب نفسه على هذا الركن المهمّ من أركان الإيمان.
يقول العلامة الطباطبائيّ: "إذا قام السالك بتطهير يده ولسانه وسائر أعضائه وجوارحه، وأدّبها بتمام معنى الكلمة بالأدب الإلهيّ، ولكنّه لم يجاهد نفسه في مقام الإنفاق وبذل الأموال، فلن يكتمل سلوكه الإيمانيّ بل يسير إلى النقص، ويكون ذلك النقص مانعاً من الارتقاء إلى المقام الأعلى..."2.
فنحن نعرف أنّ الإيمان درجات، وهناك إيمان مكتمل وإيمان ناقص، فالذي لا يكون سخيّاً بماله يكون في درجة متدنيّة غير مكتملة من الإيمان. وقد ورد
1- تفسيرالميزان، العلامة الطباطبائي، ج 18، ص 329.
2- رسالة لبّ اللباب، السيّد الطهراني، ص 90.
94
81
الإنفاق في سبيل الله
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنكم خلقاً"1. فهذا الكلام النورانيّ من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يوضّح أنّ الإيمان منه مكتمل ومنه منتقص، وهو على درجات، وكلّما كان خلق المؤمن أحسن كان إيمانه أكمل.
وعن عبد العزيز القراطيسيّ قال: "قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا عبد العزيز إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلّم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شيء حتّى ينتهي إلى العاشرة، فلا تُسقط من هو دونك فيُسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره"2.
فإذاً، الّذي لا يكون باذلاً لماله في سبيل الله لا يكون في درجة مرتفعة من درجات الإيمان عند خالقه عزّ وجلّ.
لا يكون المؤمن شحيحاً
نعم، قد وردت بعض الروايات بلسان أنّه لا يكون المؤمن شحيحاً، فعن الإمام الباقرعليه السلام: "لا يؤمن رجل فيه الشحّ والحسد والجبن، ولا يكون المؤمن جباناً ولا حريصاً ولا شحيحاً"3.
- وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثلاث لا تكون في مؤمن: لا يكون جباناً، ولا حريصاً، ولا شحيحاً"4.
وقد يكون المقصود من هذه الروايات الّتي تنفي الإيمان عن الشحيح الّذي هو البخيل، أنّ الشحّ بالفعل يُخرج الإنسان عن الإيمان من خلال إدخاله في المخالفات الشرعية المتعدّدة ويجعله فاسقاً أو جاحداً، فمثلاً:
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 12، ص 156.
2- م.ن، ج 61، ص 162.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 301.
4- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 213.
95
82
الإنفاق في سبيل الله
قد يمنع حقّ الله في ماله الواجب عليه.
وقد يكون واجباً عليه صلة رحمه بالمال فلا يفعل.
وقد يمنع نفقة الوالدين والأهل من زوجة وأولاد وهي واجبة.
أو قد يترك الحجّ مع الاستطاعة...الخ
لذلك نجد أمير المؤمنين عليه السلام يُنكر على من جعل حال الظالم أسوأ من حال البخيل، فعن الإمام جعفر الصادقعليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سمع رجلاً يقول: إنّ الشحيح أعذر من الظالم.
فقال لهعليه السلام: "كذبت، إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ الظلامة على أهلها، والشحيح إذا شحّ منع الزكاة، والصدقة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والنفقة في سبيل الله، وأبواب البرّ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح"1.
البخل قد يُسبّب عاقبة السوء
فهذا الإنسان وإن كان مسلماً في الظاهر إلا أنّه ارتكب ببخله العديد من الكبائر الّتي تجعله في خطر شديد من خروج سكينة الإيمان من قلبه ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾2.
وقد يقوده بخله إلى خاتمة النفاق والسوء كما حدث لثعلبة بن حاطب، ولقارون... وغيرهما الكثيرين ممّن أهلكه الشحّ وأطفأ شعلة إيمانه البخل.
وبالتالي وإن كان مؤمناً بالظاهر إلا أنّ الإيمان القلبّي يُسلب منه لشحّه بالمال وعدم امتثاله للتكليف الإلهيّ بالبذل.
نستجير بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 44.
2- سورة الروم، الآية: 10.
96
83
الإنفاق في سبيل الله
فقد ورد أنّ ثعلبة كان فقيراً فعاهد الله لئن آتاني من فضله لأصّدقنّ ولأكوننّ من الصالحين، فأعطاه الله مالاً كثيراً ببركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنّه بخل وشحّ وتولّى، ولم يؤدّ ما فُرض عليه من زكاة في ماله، واعترض على حكم الزكاة بأنّه مثل العُشر الّذي كان يؤخَذ كضريبة بغير حقّ، ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُون ﴾َ1.
فإلامَ أدّى به شحّه؟
إلى النفاق وخاتمة السوء ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُون﴾َ2.
كيف نتخلّص من البخل؟
يقول الله تعالى: ﴿أُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ﴾َ3.
"الشحُّ" مرض وبيل ابتليت به النفوس البشرية لا بُدّ من التخلّص منه والقضاء عليه، وعند إتمام المهمة، فالوسام من ربّ العالمين ـ عزّ شأنه وجلّ ثناؤه ـ الفلاح الإلهيّ ﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾َ4.
فأنت عند الله ساعتئذٍ من المفلحين.
فليس الشاهد لك عبداً مثلك يُخطئ ويُصيب، بل الشهادة من الخالق تبارك وتعالى.
والقضاء على البخل يكون باكتساب صفة الكرم. وحبُّ البذل إنّما يكون من خلال معاودة الإنفاق مرّة بعد أخرى فتسكن النفس بعد ذلك ويذهب عنها خوف
1- سورة التوبة، الآيتان: 75ـ 76.
2- سورة التوبة: الآية: 77.
3- سورة النساء، الآية: 128.
4- سورة الحشر، الآية: 9.
97
84
الإنفاق في سبيل الله
الفقر، وتطرد تسويلات الشيطان من داخلها، فإنّ الشيطان يخوِّف الناس بالفقر: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْر﴾َ1 كما يقول تعالى، وخاصة بعد أن يلمس أنّ ما يُنفقه يخلف الله عليه مثله، ولعلّه مضاعَفاً في الدنيا قبل الآخرة: ﴿ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ 2.
ومن أيقن الخلف جادت يده بالعطيّة
وأيضاً من الأمور المهمّة الّتي تجعل الإنسان محبّاً للبذل ومبتعداً عن البخل، الإصغاء بالقلب لأخبار الشريعة المقدّسة، ليعلم من خلالها كم هي راقية مرتبة الإنسان السخيّ سواء في الدنيا أم الآخرة، وبالمقابل كم هو مبغوض بعيد عن الله تعالى ومذموم في الدنيا والآخرة الإنسان البخيل الشحيح، وإليك غيضاً من فيض هذه الروايات المقدّسة.
أخبار مدح السخاء والبذل وذمّ البخل
وقد وردت الأخبار الكثيرة في مدح السخاء وذمّ البخل:
- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "السخاء شجرة في الجنّة، أغصانها في الدنيا، من تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنّة. والبخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا، فمن تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى النار"3.
- وقال الإمام عليّ عليه السلام: "الجنّة دار الاسخياء"، وقال: "السخيّ قريب من الله وقريب من الجنّة وقريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنّة بعيد من الناس قريب من النار"4.
1- سورة البقرة، الآية: 268.
2- سورة سبأ، الآية: 39.
3- زبدة البيان، المحقق الأردبيلي، ص 324.
4- م. ن.
98
85
الإنفاق في سبيل الله
- وعن الإمام أبي الحسن موسى عليه السلام: "السخيّ الحسن الخلق في كنف الله لا يتخلّى منه حتّى يدخله الجنّة، وما بعث الله عزّ وجلّ نبيّاً ولا وصيّاً إلا سخيّاً، وما كان أحد من الصالحين إلا سخيّاً، وما زال أبي يوصيني بالسخاء حتّى مضى"1.
- وعنه عليه السلام قال: "أتى رجل النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيّ الناس أفضلهم إيمانا؟ً فقال: أبسطهم كفّاً"2.
- وعنه عليه السلام قال لبعض جلسائه: "ألا أخبرك بشيء يُقرّب من الله ويُقرّب من الجنّة ويُباعد من النار؟" فقال: بلى، فقال:
"عليك بالسخاء فإنّ الله خلق خلقاً برحمته لرحمته فجعلهم للمعروف أهلاً، وللخير موضعاً وللناس وجهاً يسعى إليهم، لكي يحيوهم كما يُحيي المطر الأرض المجدبة، أولئك هم المؤمنون الآمنون يوم القيامة"3.
- وعن عليّ بن إبراهيم رفعه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: "لا تقتل السامريّ فإنّه سخيّ".
- وعن جميل بن درّاج عنه عليه السلام: "خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم، ومن خالص الإيمان البرّ بالإخوان والسعي في حوائجهم، وإنّ البار بالإخوان ليحبّه الرحمن، وفي ذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران ودخول الجنان، يا جميل أخبر بهذا غرر أصحابك قلت: جعلت فداك من غرر أصحابي؟ قال: البارّون بالإخوان في العسر واليسر"4.
- وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يستغفر لهم السماوات والأرض، والملائكة، والليل والنهار: العلماء والمتعلِّمون والأسخياء.
وثلاثة لا تُردّ دعوتهم: المريض، والتائب، والسخيّ.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 21، ص 544.
2- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 4، ص 40.
3- زبدة البيان، المحقق الأردبيلي، ص 325.
4- م. ن، ص 326.
99
86
الإنفاق في سبيل الله
وثلاثة لا تمسّهم النار: المرأة المطيعة لزوجها، والولد البارّ لوالديه، والسخي يحسن خلقه"1.
قصص في السخاء
1- مع الراعي الّذي أضافه
خرج الحسن عليه السلام إلى سفر فأضلّ طريقه ليلاً، فمرّ براعي غنم فنزل عنده فألطفه وبات عنده، فلمّا أصبح دلّه على الطريق، فقال له الحسن عليه السلام:
"إنّى ماضٍ إلى ضيعتي ثمّ أعود إلى المدينة" ووقّت له وقتاً وقال له:
"تأتيني به".
فلمّا جاء الوقت شُغل الحسن عليه السلام بشيء من أموره عند قدوم المدينة، فجاء الراعي وكان عبداً لرجل من أهل المدينة فصار إلى الحسين عليه السلام وهو يظنّه الحسن عليه السلام، فقال: أنا العبد الّذي بتّ عندي ليلة كذا، ووعدتني أن أصير إليك في هذا الوقت، وأراه علامات.
عرف الحسين عليه السلام أنّه الحسن، فقال الحسين عليه السلام له:
"لمن أنت يا غلام"؟
فقال: لفلان.
فقال عليه السلام: "كم غنمك"؟
قال: ثلاثمائة، فأرسل إلى الرجل فرغّبه حتّى باعه الغنم والعبد فأعتقه، ووهب له الغنم مكافأة لما صنع مع أخيه، وقال عليه السلام: "إنّ الّذي بات عندك أخي وقد كافأتك بفعلك معه"2.
1- جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج 16، ص 184.
2- مقتل الحسين عليه السلام، الخوارزمي، ج1، ص 153.
100
87
الإنفاق في سبيل الله
2- الحسين عليه السلام مع الأعرابيّ
عن الحسن البصريّ: إنّ الحسين عليه السلام ذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلام للحسين عليه السلام اسمه صافي، فلمّا قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل الخبز، فجلس الحسين عليه السلام عند بعض النخل بحيث لا يراه الغلام، فنظر إليه الحسين عليه السلام وهو يرفع الرغيف فيرمي نصفه إلى الكلب ويأكل نصفه، فتعجّب الحسين عليه السلام من فعل الغلام، فلمّا فرغ من الأكل قال: الحمد لله ربّ العالمين، اللهم اغفر لي واغفر لسيّدي كما باركت لأبويه برحمتك يا أرحم الراحمين.
فقام الحسين عليه السلام وقال: "يا صافي"، فقام الغلام فزعاً وقال:
يا سيّدي وسيّد المؤمنين إلى يوم القيامة، إنّي ما رأيتك فاعف عنّي.
فقال الحسين عليه السلام: "اجعلني في حلٍّ يا صافي، لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك"
فقال صافي: بفضلك يا سيّدي وكرمك وسؤددك تقول هذا.
فقال الحسين عليه السلام: "إنّي رأيتك ترمي نصف الرغيف إلى الكلب تأكل نصفه، فما معنى ذلك"؟
فقال الغلام: إنّ هذا الكلب نظر إليّ وأنا آكل فاستحييت منه، وهو كلبك يحرس بستانك وأنا عبدك نأكل رزقك معاً، فبكى الحسين عليه السلام وقال:
"إن كان كذلك فأنت عتيق لله تعالى ووهبت لك ألفي دينار".
فقال الغلام: إن أعتقتني فأنا أُريد القيام ببستانك.
فقال الحسين عليه السلام: "إنّ الكريم ينبغي له أن يصدق قوله بالفعل، أوَ ما قلت لك اجعلني في حلٍّ فقد دخلت بستانك بغير إذنك، فصدقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك، فاجعل أصحابي الّذين جاؤوا معي أضيافاً وأكرمهم من أجلي أكرمك
101
88
الإنفاق في سبيل الله
الله تعالى يوم القيامة وبارك لك في حسن خلقك وأدبك".
فقال الغلام: إن وهبتني بستانك فإنّي قد سبّلته لأصحابك وشيعتك1.
3ـ سخاء أبي ذرّ رضي الله عنه
أضاف أبو ذرّ الغفاريّ ضيفاً، فقال للضيف: إنّي مشغول، وإنّ لي إبلاً، فاخرج وأتني بخيرها. فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال له أبو ذرّ: خنتني بهذه.
فقال: وجدت خير الإبل فحلها، فذكرت يوم حاجتكم إليه.
فقال أبو ذرّ: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أنّ الله يقول: ﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾2 وقال أبو ذرّ: في المال ثلاثة شركاء: القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرّها من هلك أو موت، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك، ثمّ يستاقها، وأنت ذميم، وأنت الثالث: فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن، إن الله يقول: ﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ وإنّ هذا الجمل كان مما أحبّ من مالي، فأحببت أن أقدّمه لنفسي3.
1- كلمات الإمام الحسين عليه السلام، الشيخ الشريفي، ص 625.
2- سورة آل عمران، الآية: 92.
3- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 343.
102
89
الإنفاق في سبيل الله
للمطالعة
- وفد أعرابيّ المدينة فسأل عن أكرم الناس بها، فَدُلَّ على الحسين عليه السلام، فدخل المسجد فوجده مصلياً فوقف بأزائه وأنشأ:
لم يخب الآن من رجاك ومن حرّك من دون بابك الحلقة
أنت جواد وأنت معتمد أبوك قد كان قاتل الفسقة
لولا الّذي كان من أوائلكم كانت علينا الجحيم منطبقة
قال: فسلّم الحسين عليه السلام وقال: "يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء"؟
قال: نعم، أربعة آلاف دينار.
فقال عليه السلام: "هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منّا"، ثمّ نزع برديه ولفّ الدنانير فيها وأخرج يده من شقّ الباب حياء من الأعرابيّ، وأنشأ:
خذها فإنّي إليك معتذر واعلم بأنّي عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصا أمست سماناً عليك مندفقة
لكنّ ريب الزمان ذو غير والكفّ منّي قليلة النفقة.
قال: فأخذها الأعرابيّ وبكى فقال عليه السلام له: "لعلّك استقللت ما أعطيناك".
قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك1.
1- كلمات الإمام الحسين عليه السلام، الشيخ الشريفي، ص623.
103
90
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
الدرس التاسع: التآسي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾1
1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
105
91
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
التأسّي أمر فطريٌّ في الإنسان
الأسوة هي القدوة، والتأسّي هو الاقتداء، وهو أمر فطريٌّ يميل إليه الإنسان ويبحث عنه تلقائياً، فهو يميل إلى أن يكون أمامه نموذج حيّ يقتدي به يُجسّد المفاهيم ويأخذ المواقف ويتبنّى القرارات ويجري عملياً على طبقها، بحسب ظروفها ومقتضياتها لفظاً، وعملاً، وموقفاً.
فمنذ الصغر تجد الطفل الصغير ينظر إلى أبيه ويحاول تقليده وكذلك الفتاة تحاول تقليد أمها، وذلك واضح في تصرّفات شتّى تظهر منذ السنوات الأولى لا تخفى على أحد.
وطبعاً هذه الأسوة قد تكون أسوة حسنة وقد تكون أسوة سيئة، فالإنسان وإن كان يطلب التأسّي بالشيء الحسن بحسب نظره ورؤيته، إلا أنّه قد يضلّ الطريق ويشتبه عليه الأمر، فيتوهّم ما هو سيّئ أنّه حسن وما هو شرّ أنّه خير، فتكون الأسوة في الواقع أسوة سيئة وليست أسوة حسنة.
الأسوة نظريّة وعمليّة
والأسوة نظريّة وعمليّة، فالنظريّة هي المبادئ والقوانين والسنن الّتي يتعلّمها الإنسان ويتبنّاها كمعتقدات وقناعات وهذا مهمّ، والأهمّ هو أن يكون هنالك شخص تتجسَّد فيه تلك المبادئ والقيم وتتحرّك معه في كلّ مواقفه، وهذا هو الأسوة العملية الّتي يراها الناس أمامهم تُجسّد النظرية عملاً وسلوكاً، وهي أبلغ وأدعى للتأسّي والاقتداء.
107
92
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
وفي الرواية عن الإمام السجّاد عليه السلام:"نحن الصراط المستقيم " فكلّ أهل البيت عليهم السلام هم أسوة عملية حسنة للعباد، فإذا بصرتهم رأيت الاستقامة بعينها، فهم الصراط المستقيم"1 وهم الميزان، ففي الزيارة لأمير المؤمنين عليه السلام: "السلام على ميزان الأعمال"2.
وقد أكّد أهل البيت عليهم السلام على شيعتهم أن يكونوا أسوة وقدوة عملية لا فقط قولية تنظيرية عندما أوصوهم بتلك الوصايا:
- فعن الإمام عليّ عليه السلام: "..ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد"3.
- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم"4.
- وعنه عليه السلام: "كونوا لنا دعاة صامتين"5.
- وعن الإمام الرضا عليه السلام: "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً"6.
- وعن الإمام العسكري عليه السلام: "إنّ أحدكم إذا صدق في حديثه وأدّى الأمانة قيل هذا شيعيّ فيسرّني ذلك"7، إلى غير ذلك.
الفرق بين الأنبياء والحكماء الفلاسفة
ولو سألنا عن السبب في كون الأنبياء أكثر تأثيراً في بني البشر من الحكماء والفلاسفة، لربّما كان الجواب هو أنّ الحكماء كانوا منظّرين فحسب ولم يُعايشوا الناس ويُخالطوهم على الغالب، بخلاف الأنبياء فإنّهم كانوا يتحرّكون مع الناس ويعيشون معهم في جميع شؤونهم حتّى قال بعضهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1609.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 97، ص 287.
3- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 3، ص 70.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 77.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 1، ص 116.
6- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 245.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 372.
109
94
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
ويمشي في الأسواق. ففي السلم والحرب وفي الرخاء والبلاء، وفي السرّاء والضرّاء، بل وفي جميع شؤون الحياة كان النبيّ يتحرّك مع الناس ليعيش معهم كلّ المفارقات والمفاصل في الحياة والاختلافات والنزاعات ليبيّن لهم ميدانياً ومن قلب الواقعة والميدان، أين الحقّ من الباطل، وأين الصواب من الخطأ، وأين العلم من الجهل، وأين السداد من الاشتباه، يُعطي لكلّ واقعة حكمها، ولربما دفع أثماناً لوجوده في قلب الحدث، ولكن كان ذلك يصبّ في خانة التضحيات في سبيل الرسالة. ففيما ينقل عن نبيّ الله نوح عليه السلام أنّ قومه كانوا يتعمّدون عدم الاستماع إليه وكان يصل بهم التعسّف والتعدّي على حرمته المقدّسة أنّهم يضربونه حتّى يُغشى عليه ومع ذلك عندما كان يستفيق كان يأتيهم ويتابع مسيرته الرسالية بينهم. والله تعالى يبيّن أنّ إحد الأمور الّتي كانوا يعجبون منها أنّ النبيّ كيف يكون رجلاً منهم، قال تعالى في سياق الكلام عن نبيّ الله نوح عليه السلام: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾1.
فهذا يُبيّن شدّة لصوق الأنبياء الكرام بالمرسَل إليهم وقربهم منهم.
بخلاف الفلاسفة والحكماء فإنّهم في الأعمّ الأغلب منظِّرون للحقائق التجريدية عن بُعد، ولم يلتحموا بالواقع المعاش للناس ليكونوا متحرّكين عملياً أمامهم لكي يؤثِّروا فيهم من الناحية التربوية، فلم يكونوا أسوة عملية مرأية لكلّ أحد، ولهذا كان الأنبياء مؤثّرين في الناس على صعيد التهذيب والتربية والتأديب والتزكية.
فالإنسان يتأثّر بعملٍ أو موقفٍ أمامه من أسوة عملية أكثر من تأثّره بسيلٍ من الكلمات، ولهذا يؤكّد القرآن الكريم على أن يكون الرسول من جنس المرسَل إليهم فيردّ إشكال من قال إنّ النبيّ ينبغي أن يكون مَلَكاً من الملائكة بقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾2. فكيف يتأسّى
1- سورة الأعراف، الآية: 63.
2- سورة الأنعام، الآية: 9.
110
95
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
الناس بمَلَك؟ فإنّهم سيقولون هو مَلَك يمتلك من الطاقات ما لا نمتلكه فكيف يكون قدوة لنا؟ فلا بُدّ أن يكون رجلاً مماثلاً في التكوين وفي الشعور والظروف حتّى يقول المتأسّي هو مثلي ففعل كذا ويُمكن لي أن أقتفي أثره وأمشي على خطاه وأقتدي به.
السرّ في أهميّة الأسوة
قد يسأل سائل ما الحاجة للأسوة والقدوة؟ فنقول:
فضلاً عمّا ذكرنا آنفاً من كون التأسّي أمراً مرتكزاً في أعماق النفس الإنسانية فإنّه يوجد حاجة ملحّة لوجود الأسوة وللتأسّي بها، وذلك للدور الكبير الّذي تلعبه في طريق الوصول إلى الكمال المنشود للنفس الإنسانية وتزكيتها وتهذيبها، وهذه بعض الأمور المهمّة الّتي يُساهم فيها التأسّي:
1- الأسوة توفّر على طالب الحقّ عناء البحث والتمحيص والمرور بمرحلة الشكّ ووضع الاحتمالات والموازنة فيما بينها، ثمّ الاجتهاد والتعب والبحث عمّا يقوّي احتمالاً على آخر، فتُسهّل فرص الوصول إلى المبتغى من التهذيب والتكامل لأنّها تختزل من الأوّل الخيارات في خيار واحد متعيّن لا ثاني له وهو خيار الأسوة العملية الحسنة.
2- الأسوة تضمن النتيجة السديدة وعدم الخطأ في الاحتمال الصائب، بينما على فرض البحث الشخصيّ فإنّ احتمال الخطأ والاشتباه يبقى متأتياً وماثلاً.
3- الأسوة تُسرِّع الوصول إلى الغاية والهدف المراد، وهذا مترتّب على ما ذكرنا، حيث تُطوى تلك المقدّمات الّتي يحتاجها الباحث للوصول إلى الحقّ.
4- الأسوة تقوّي مقتضى الصلاح في الأفراد، فإنّ وجود الأسوة العملية المرئية يقوّي الإذعان بإمكان تجسُّد القيم النظرية في أشخاص واقعية، وهذا يُبعد تصوّر أنّ المبادئ والقيم تبقى مخطوطة بالمداد على القرطاس مع تعذُّر تجسيدها في الواقع.
أهميّة الأسوة في حياة كلّ إنسان، واختيار الأسوة الحسنة، ونبذ الأسوة السيئة:
111
96
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
لا بُدّ من التأسّي، ولكن كما ألمحنا سابقاً فإنّ الأسوة قد تكون حسنة وقد تكون سيّئة.
فميل الإنسان بفطرته إلى التأسّي يدفعه إلى أن يتّخذ أسوة، فإن لم تكن حسنة فإنها ستكون سيّئة، وإن لم تكن صالحة فستكون فاسدة، فإذاً عملية التأسّي ستكون مفروغاً منها إجمالاً، إلا أنّ المهمّ هو اختيار الأسوة الحسنة بعد تمييزها عن السيّئة، وعند حصول الاشتباه بين الحسنة والسيّئة هناك تقع الكارثة.
ولا بُدّ من بيان نظرة الشريعة المقدّسة للأمور الّتي تُصبح رموزاً يُعرف بها الكفّار، فإنّها تنهى عن تعاطيها وتُبالغ في النهي حتّى ولو كانت كلمة تُقال.
فمثلاً كلمة "راعنا" وهي تتضمّن معنى ليس فيه عيب ولا قبح إلا أنّ اليهود قد جعلوا لها معنى آخر فصارت تتضمّن معنى الاستهزاء بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فنهى الله تعالى المسلمين عن التلفّظ بها وأمر باستبدالها بكلمة "انظرنا". فحتّى كلمة لم يرض الله تعالى باستعمالها من قِبَل المسلمين لمّا تحوّلت إلى لفظ متعارف عليه لدى الكفّار فيه نيل من الحرمات، فكيف بالأعمال والمنتجات المروَّجة وكيف بالقناعات والاعتقادات والأعراف والسلوكيات، وكيف بالتقليد الأعمى لكلّ ما يقوم به الغرب الكافر؟
فإنّه من الأولى أن يكون الإسلام ناهياً المؤمنين عن التشبُّه بالكفّار في مواردها.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا ٌ﴾1.
ويقول تعالى: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾2.
1- سورة البقرة، الآية: 104.
2- سورة النساء، الآية: 46.
112
97
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
قال الطبرسيّ في مجمع البيان
"المعنى: لما قدّم سبحانه نهي اليهود عن السحر، عقّبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة، فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا﴾. كان المسلمون يقولون: يا رسول الله ! راعنا أي: استمع منّا. فحرّفت اليهود هذه اللفظة، فقالوا: يا محمد، ! راعنا، وهم يلحدون إلى الرعونة، يريدون به النقيصة والوقيعة. فلما عوتبوا قالوا: نقول كما يقول المسلمون، فنهى الله عن ذلك بقوله ﴿ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾ ﴿وَقُولُواْ انظُرْنَا﴾. وقال قتادة: إنّها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الإستهزاء. وقال عطا: هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهلية، فنهوا عنها في الإسلام.. وقال الباقر عليه السلام: هذه الكلمة سبٌّ بالعبرانية إليه كانوا يذهبون..ومعنى انظرنا: يحتمل وجوهاً أحدها: انتظرنا نفهم ونتبيّن ما تعلّمنا، والآخر: فقِّهنا وبيّن لنا يا محمّد، والثالث: أقبل علينا. ويجوز أن يكون معناه: انظر إلينا"1.
نقول: ولأهميّة الأسوة في الحياة وشدّة تأثيرها على المجتمع والحياة فإنّ أعداء الإسلام قد عمدوا إلى استبدال الأسوة الحسنة بالأسوة السيّئة وابتكروا أشياء توافق الأهواء وروّجوا لها على أنّها نماذج الكمال والجمال، وبذلوا قصارى الجهد ليُقنعوا أمّتنا بذلك من خلال أساليب الدعاية المختلفة، وهذا طبعاً يجعل فرص الاشتباه في اختيار الأسوة الحسنة كبيرة، وبالفعل نجد الكثير من شباب أمّتنا الإسلامية الّتي هي خير أمّة أخرجت للناس تسير نحو الأسوة السيّئة.
وهذا الاختيار الخاطئ للأسوة تعمل أجهزةٌ منظّمة جهنميّة لتسويقه بين شعوبنا الإسلامية وبثّه فيهم وخاصة بين شبابهم الّذين يمثّلون عصب الأمّة وقوّتها وطاقتها، وإظهاره بمظاهر المثل العليا، بعناوين متعدِّدة كالجمال والأناقة، والتجدُّد باتّباع الموديلات الّتي لا تقف عند حدّ، والبطولات الوهمية، ويقيمون المسابقات على مدار أيّام السنة بعناوين مختلفة رياضية وغيرها، فيُصبح البطل هو من يُسدِّد الكرة لتدخل
1- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 335.
113
98
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
في المرمى لا من يدافع عن كرامته وشرفه، وعزّة أمّته، وقيمها، وذلك لإلهاء شعوبنا عن القضايا الكبرى والوصول بذلك إلى استعبادهم بعد استنزاف مقدّراتهم الّتي مَنَّ الله بها عليهم.
وقد نجح أعداء الدِّين والإنسانية في تسويق هذه الأسوة السيّئة الضالّة المضِلّة كأمور مهمّة تجري المنافسة على حيازتها ويكون الفرد اللامع فيها هو من يُنظر إليه كأنموذج تنشدّ إليه الأنظار وترمقه بطرفها متمنية بشوق ولهفة الوصول إلى ما وصل ونيل ما نال، وتقف الناس إجلالاً له وتتجمهر عندما يحضر، ويأتون إليه بأشياء ليتبرّكوا من تواقيعه عليها، وتُجعل صوره على المنتجات الاستهلاكية كالألبسة وشبهها وعلى الدفاتر المدرسية والكتب، ويروِّجون له حتّى وأنت تسير في سيارتك تراه في الإعلانات والملصقات..
والكلام في ذلك يطول، وما كان مُعاشاً كفتنا رؤيته بالعين مؤونة وصفه والحديث عن تفاصيله..
أيّها الشباب..
إنّ واجبكم الشرعيّ والإنسانيّ أن تعوا وتتنبّهوا لمخاطر هذه المخطّطات الشيطانية الّتي يُمارسها أعداء الله وأعداء القيم الّذين لا يؤمنون إلا بجشعهم وحبّهم الأعمى لاستعباد الشعوب وإذلالهم لكي يكونوا عبيداً لهم بأسماء ابتدعوها وجمّلوها وزخرفوها كالحرية والديمقراطية..
وبأساليب ترويجية لأمور ليس وراءها مضمون ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان ﴾ٍ1, ليتلهّى أفراد الأمّة عن القيم الحقّة والمطالبة بها وتُستنزف طاقاتهم في قضايا ليست هي بقضايا وإنّما هي أشبه بخيال وانعكاس في المرايا، وأقرب ما تكون من ألعاب الصبيان. فتنبّهوا أيّها الشبّان
1- سورة النجم، الآية: 23.
114
99
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
ولا تكونوا في الأمّة الغربان الّتي تنعق بانحلالها ودمارها، بل تبنّوا قيمها وكونوا مدافعين عنها وعن بنيانها الشامخ الّذي شيّد صرحَه المؤمنون بعرقهم، وعمّده الشهداء بدمائهم، وغذّته آلام الأسرى وآهاتهم في زنازينهم، وقوّاه صبر الثكالى ودموع اليتامى وأنّات الجرحى..
اهجروا التقليد والتأسّي بكلّ ما يكون له نوع ارتباط بالغرب الكافر وارجعوا الى مبادئنا ومفاهيمنا..ارجعوا إلى الأسوة الحسنة.. ارجعوا إلى الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين..
ارجعوا إلى محمّد وآل بيته الأطهار عليهم السلام..
فإنّ ربّكم وهو أولى بكم قد اختار لكم أسوة حسنة، أفتختارون غير ما اختار لكم الله ربّ العالمين، حيث قال عزّ من قائل: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر﴾َ1
بعض نماذج التأسّي السيّئ في مجتمعنا
هذه بعض النماذج لأمور استفحلت في أجوائنا وبين شبابنا وفتياتنا إلى حدٍّ كبير، وقُلنا بعض النماذج لأنّ التأسّي السيّئ قد يكون مستشرياً في مجتمعاتنا في مناحٍ متعدِّدة وبأشكال وأساليب متنوّعة إلى درجة قد يصعب استقصاء نماذجها:
1ـ طريقة اللباس والتجديد للمقتنيات بحسب الموديلات
أوّلاً: يستلزم الاستهلاك المذهل الّذي يقوّي اقتصاد الغرب المستعمر وشركاتهم المصنّعة فهم المصمّمون والمنتجون ونحن المستهلكون لمنتجاتهم والمنفقون لبضائعهم. ولا خير في أمّة مستهلكة تُتلف وتُجدّد، أو حتّى تُجدّد من دون إتلاف بل فقط جرياً وهرولة وراء الموديلات الّتي هي فكرة ماكرة لترويج وبيع أكبر كمية ممكنة ممّا تُنتجه معاملهم ومصانعهم.
1- سورة الأحزاب، الآية: 21.
115
100
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
ثانياً: الخروج عن الكثير من عاداتنا ومبادئنا في اللباس وطريقته وشكله ولونه، وتطبيق ما صمّمه هؤلاء.
فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علّمنا الأمور المستحبّة الحميدة فيما يتعلّق باللباس، والألوان، وطريقة اللّبس، ومقدار ما يُنفق عليه، وكيفيته بأن يكون محتشماً، إلى غير ذلك، وبالمقابل تجد اللّباس غير المحتشم للفتيات والشباب، بل وغير العقلائيّ كأن يكون البنطال ممزّقاً من أماكن محدّدة مثلاً، أو قد زال صبغه من بعض الأماكن دون بعضه الآخر، أو يُظهر قسماً من الظهر، أو طويلاً يجعل جزءاً من أسفله ملتقطاً لما يمرّ به من أوساخ الأرض..
أو يجعل الشعر بطريقة مقزّزة تُعيد الإنسان إلى العصر الحجريّ والقرون الوسطى. والرسول الأسوة صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من اتّخذ شعراً فليحسن ولايته أو ليجزّه"1. وقال لأحدهم لم يمتشط ما مضمونه: أما عندك ممشاط! مستنكراً عليه أن يخرج إلى المجتمع من دون أن يُمشّط شعر رأسه.
2- التأسّي بالرياضيين وما يُسمّى بالفنّانين
وهذا لشدّة ما يروّج له إعلامياً يستلب الألباب عند شريحة عظمى من أبنائنا وبناتنا بل وحتى قسم من الكبار للأسف.
فترى فلاناً يُقلّد من يتّخذه المثل الأعلى له من الرياضيين أو ما يُسمّى بالفنّانين في لباسه وفي طريقة مشيه وكلامه وطريقة قصّه لشعره..الخ
ويُتلف الوقت والمال على تشجيع الفنّان، واقتناء صوره وما يتعلّق به ويرمز إليه، ويزهو بنفسه فخراً عندما يشتري سترة لا تُساوي فلسين بمبلغٍ من المال فقط لأنّها عليها اسمه أو تحمل صورته، ويدخل في المنازعات والخصومات لأجله. هل تجد أيّها العاقل تسخيفاً للعقول وتسفيهاً للأحلام أكثر من ذلك؟
1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 2، ص 129.
116
101
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
3- التأسّي بالعادات الاجتماعية أفراحاً وأتراحاً
طريقة العرس أو مناسبات الفرح وتفصيلاتها..
وهذا أيضاً لا يقلّ عن أضرابه ممّا ذكرنا، فإنّك تقضي عجباً من إنسان يعدّ نفسه في المجتمع من المثقفين، أو من المحسوبين على التديّن والمتدينين، يُصبح فجأة في موقف من المواقف الاجتماعية مرهوناً لبروتوكولات وعادات لا يُدرى مصدرها قد تعارف جملة من الناس على فعلها وتطبيقها حرفاً بحرف، وإن لم يقم بها بل وإن أخلّ بحلقة من حلقاتها فإنّه يخاف أن يُصبّ الويل والثبور عليه من الآخرين بأنّ عرسه أو مناسبته لم تكن بالمستوى المطلوب، فيجد نفسه سجين قضبان التأسّي الفارغ سواء أقنع نفسه به أم أقدم عليه خوفاً من دون اقتناع.
أليس الحريّ بالمؤمن الّذي يحترم مبادئه وقيمه أن ييمّم وجهه شطر كتاب الله وسنّة رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، فيستخرج الدرر منها ويجري على مقتضاها الّذي هو أصل الفطرة الّتي فطر الله الناس عليها، فيكتسب البركة ويجني رضا الله تعالى ويكون قد احترم نفسه وتقاليده وقيمه ولم يُقلّد تقليداً أعمى ولم يذهب إلى أسوة سيّئة؟
4- التأسّي بالمناسبات والأعياد
إنّ ديننا دين القيم والشفافية والوجدانيات والعواطف المقدّسة، دين الرقّة والأحاسيس الّتي لا تتنافى مع حكم العقل والشرع. وقد جُعلت مناسبات للتعبير عن هذه المشاعر الإنسانية الراقية الّتي ترقى فيها المعاني والمضامين السامية، فليس عندنا نقص ولا جدب ولا جفاف في مناسباتنا المعبِّرة الّتي تربطنا بالمعاني المقدّسة حتّى نستمدّ ونسترفد ونستورد من الآخرين مناسبات وتعبيرات.
فلماذا نُقلّد بمناسبة قد أسموها باسم يُعبِّر عن الحبّ "عيد العشّاق"؟ أليس قد
117
102
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
ورد عن المعصومين عليهم السلام "وهل الدِّين إلا الحبّ"1، وكم هي مناسباتنا كثيرة الّتي يُمكن أن نُعبّر فيها عن حبّنا العفيف تجاه من نحبّ.
وليس الحبّ الّذي في عقيدتنا إلا العفاف والطهر بين أطراف تجمعهم علاقات شرعية بخلاف ما وضع من قبل الآخرين، فإنّهم لم يُقيموا وزناً للعقد الشرعيّ فشمل الحبّ عندهم العلاقة غير الشرعية، نستجير بالله. فكيف تتبنّى أيّها المؤمن هكذا مناسبة موضوعة من هكذا أناس لتُعبِّر فيها عن حبّك الّذي هو الطهر بعينه؟
وكذلك فيما يُسمّى بعيد رأس السنة أو أعياد الميلاد، فما الخلفية المقدّسة للسنة الميلادية كي أتخذ ليلة رأس السنة ليلة متميّزة، أحسب لها الحساب قبل مدّة من الزمن؟ هل فقط لأنّ الكثيرين في العالَم يُحيونها فأنا عليّ أن لا أكون غيرهم؟!
هذا المنطق عجيب. فلو أنّ لهؤلاء عيداً للفاحشة هل كنت لتقول أنا عليّ أن لا أنفرد عنهم! هذا منطق الغوغاء من الناس الّذين أعاروا تفكيرهم للآخرين ولم يحترموا إنسانيتهم.
وبالفعل إنّ رأس السنة هو عيد الفواحش يكثر فيه الزنا وشرب الخمر ولعلّ أكثر ليلة يُعصى فيها الله تعالى هي تلك الليلة !
أخيراً نقول: إنّ الّذي يقبل شيئاً من دون تفكير فقد بخس الشيء الّذي أكرمه الله به وفضّله لأجله على جميع المخلوقات وهو التفكير والتعقُّل، فكما أنّ ادّعاء شيء بلا دليل قبيح وليس له قيمة، فكذلك أخذ شيء وتبنّيه من دون دليل فهو تسخيف للعقل وللإنسان.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 80.
118
103
التأسّي بالقدوة الصالحة وبالأسوة الحسنة
للمطالعة
استكبار إبليس وعاقبة السوء
لقد كان إبليس عالماً، بل من علماء الطراز الأوّل، ومع أنّه أراد أن يتحدّث بنحو منطقي جدّاً فقد قال مخاطباً ربّه: ﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين ﴾ٍ1.
وقد اعترضت الملائكة أيضاً على خلق آدم عليه السلام، ولكنّهم سألوا وسمعوا الجواب، قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾2.
وقال لهم الله تبارك وتعالى: ﴿ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾َ3.
ولم يوجد من يقول ثمّة لإبليس: لماذا قلت بنحو الجزم: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين﴾
فهل رأيت ضوءك الظاهريّ فقلت: من المحال أن يكون سواد الطين وظلامه أشرف منّي؟
والآن أيضاً نرى كثيراً من الناس يعترضون على الدِّين والأمور الدينية ويتخيَّلون أنّ أحداً لا يستطيع أن يُجيب عن شبهاتهم وأسئلتهم الدينية والعقائدية، دون أن يطلبوا الإجابة من أهلها.
لقد طلب الشيطان من الله تبارك وتعالى أنّه إنّ أعفاه من السجود لآدم فسيعبده بدل ذلك عبادة لم يعبده بمثلها أحد. ولكنّ الله تبارك وتعالى قال له: "إنّي أحبّ أن أطاع من حيث أريد"4.
لقد آل الشيطان إلى هذه العاقبة وسوء المصير بعد عبادة استغرقت ستة آلاف سنة5، فهل يمكننا الاغترار بأنفسنا؟! نعوذ بالله تعالى من ذلك.
مدرسة الشيخ بهجت قدس سره، ج1، ص 97.
1- سورة الأعراف، الآية: 12.
2- سورة البقرة، الآية: 30.
3- سورة البقرة، الآية: 30.
4- بحار الأنوار، ج 2، ص 262، ج 11، ص 145، ج 60، ص 250، قصص الأنبياء، الراوندي: ص 43.
5- نهج البلاغة، ص 287، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 13، ص 131، بحار الأنوار، ج 60، ص 214، ج 14، ص 465.
119
104
جنّة الخُلد
الدرس العاشر: جنّة الخُلد
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾1.
1- سورة النحل، الآية: 31.
121
105
جنّة الخُلد
تمهيد
إذا أردنا أن نتكلّم عن الجنّة لا بُدَّ أن يكون الكلام على صعيدين:
الأوّل: الكلام عن ضوابط وقواعد عامّة ثابتة ترتبط بمعنى السعادة الحقيقية.
الثاني: الكلام عن أوصاف تفصيلية لنِعَم أهل الجنّة الّتي ترجع إلى هذه الكليّات الّتي يُقتصر طبعاً فيها على النقل الّذي ورد في الكتاب العزيز وكلام الأنبياء النورانيّ وعلى رأسهم خاتمهم نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الأبرار عليهم السلام.
ولنتكلّم الآن في المبحث الأوّل، ونفرد للبحث الثاني كلاماً مستقلّاً فيما سيأتي إن شاء الله.
بيان معنى السعادة الحقيقية
- لا بُدَّ أوّلاً من ذكر مقدّمة مهمّة فطريّة، وهي من الحقائق الّتي ينبغي لكلِّ مؤمن أن يُدركها مع أنّه يستشعرها ويُصدّقها بمجرد تصوّرها، وهي:
إنّ كلّ إنسان يبحث في قرارة نفسه عن السعادة الحقيقية، ولكنّه قد يخطئها فيتوهّم بادئ الأمر أنّها في المحسوسات، وذلك لأنّه يبدأ بالإحساس باللذّة بوسيلة المحسوسات، ولكن بعد أن يُدرك ويقوم بسير باطنيّ عقليّ في طريق طلبه للحقيقة فإنّه سيشعر بأنّ اللذّات المحسوسة ليست هي السعادة الحقيقية بل هي لذّات عابرة منقطعة وربّما تركت بعد حصولها اكتئاباً وإحباطاً في نفس الشخص، ويذعن بأنّ السعادة الحقيقية تنبع من النفس ولا بُدَّ لها من مقوّمات يجمعها: الكمال المطلق وعدم النقصان في أيّ حاجة، والدوام من غير انقطاع ولا فقدان، والطمأنينة والأمن وعدم الخوف من أيّ شيء بما فيه خوف التصرُّم للنعم والانقطاع في زمن ما.
123
106
جنّة الخُلد
وإذا نظرت إلى الدنيا عرفت أنّ هذه المقوّمات للسعادة الحقيقية لا تتحقّق فيها، وبما أنّ الإنسان يطلبها فطريّاً فلا بُدَّ أن تكون "أي السعادة الحقيقية" متحقِّقة في صقعٍ آخر وعالم مختلف عن عالمنا الّذي نعيش فيه وهو الجنّة في الدار الآخرة.
فاللذّات في الجنّة تختلف عن لذّات الدنيا من حيثيات متعدِّدة، إذا التفتنا إليها وضممنا بعضها إلى بعض سيتولّد عندنا نعيم الجنّة الّذي لا يُمكن أن يكون في الدنيا لأنّه مخالف لمقتضى خلقتها ومدى قابليّتها له، حيث إنّها إذا اشتملت عليها انقلبت من حياة دنيوية إلى سنخٍ آخر من الحياة، وهو عكس الفرض.
فمنغِّصات الدنيا ترجع إلى فقدان الكمال في الأشياء:
فالجسد إذا فَقَدَ صحّته وكماله صار مريضاً.
والإنسان إذا افتقد ما يحتاجه في شؤونه كان فقيراً.
وإذا افتقد العلم كان جاهلاً.
وإذا افتقد نعمة "من ولدٍ أو مقام أو أيّ كمال وجوديّ" صار محبطاً متحسّراً حزيناً كئيباً.
وإذا كان في النعمة خاف فقدانها و زوالها، وخوف الفقدان بنفسه هو ألم يُباين السعادة.
وإذا نظر إلى نعمة الحياة وجد عمره فيها متصرّماً معدوداً منتقصاً يوماً بعد يومٍ وساعةً بعد ساعة.
فعلى افتراض أنّ الأمور اتّسقت له كلّها وهو فرض شبه محال فإنّ فكرة الموت والفناء ومفارقة النعيم الدنيويّ عندما تراوده تسلبه رقاده وتنغّص عليه معيشته.
فإذا أردّت أن تتصوّر الجنّة، إذاً فعليك أن تتصوّر حياة لا نقص فيها، ولا ألم، ولا خوف من الفقدان، ولا موت، ولا مرض، ولا فقر، ولا خوف على النفس من عدوٍّ أو خصمٍ، ولا حزن، ولا انقطاع، ولا كلل، ولا ملل، بل خلود في النعيم واللذّة الّتي لا
124
107
جنّة الخُلد
مقايسة بينها وبين لذّات الدنيا، بلا انقطاع، ولا اضمحلال، ولا نوع من أنواع النقص بأيّ نحو من الأنحاء، بل يتجدّد بحسب طلب الفرد وما يُريد ويشتهي، وزيادة دائمة "لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد".
وهذا بخلاف ما نجده في الدنيا: فإنّ الشخص فيها لا يجمع كلّ ما يُريد من كمالات، فهذا الفقدان يُحدث له الألم والبؤس والشقاء وفقدان السكن والاطمئنان.
والكمالات الّتي يستجمعها هي:
إمّا مشوبة بالمنغِّصات.
وإمّا في حدِّ ذاتها تتضمّن تقبُّل الاكتمال أكثر، فيكون النظر إلى الأرقى فيها تقليلاً من لذّتها.
وإن كانت مكتملة فإنّه يبقى يساوره قلق المحافظة عليها، والخوف من زوالها.
ولو فرض عدم وجود الخوف من زوالها، فإنّ الخوف من مفارقتها بالموت يكون هاجس المفكِّر العاقل..
وهذا ينطبق على المال.
وعلى الجاه والمقام.
وعلى نعمة الأولاد.
وعلى الصحة.
وعلى العمر.
بل على كلّ لذّة ونعمة.... بلا استثناء.
هذا غير فقدان الأمن على النفس من الكائدين والمنافرين والخصوم والأعداء...
فكيف يهنأ الإنسان بعد عيش هذه خواصّه وهذه صفاته، بالله عليك؟
125
108
جنّة الخُلد
بينما الحياة الهنيئة واللذّة الحقيقية غير المشوبة بأيّ ضرب من ضروب النقص، وخوف الزوال والانقطاع والفقدان، هي الحياة الحقيقية واللذّة الواقعية وهي لا تكون إلا في جنّة الله تعالى في الآخرة، يقول تعالى: ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون ﴾َ1، والحيوان هي الحياة الحقيقية.
وأضف إلى ذلك أنّ كيفية وكمّية اللذّات في الجنان تختلف بما لا يُمكن إدراكه، عن الكمّ والكيف للذّات الدنيا، وهذا ما عبّر عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.."
هذه الضوابط والكليات الّتي ينبغي أن تهتمّ بها أفكارنا في تكوين نظرتنا إلى الجنّة
وطبعاً ضمن هذه الكليات تجد الكثير من الروايات الشريفة تُبيّن مصاديق ونماذج معيّنة بما يتلاءم مع الفهم الضيّق للبشر في الحياة الدنيا، وغالباً ما تكون قاصرة عن التعبير الحقيقيّ، للقصور في القابل عن الفهم للعالم الآخر ما دمنا في هذا العالم الضيّق عالَم الطبيعة الّذي هو أضيق العوالم.
ولكن كلّ ما أشكل فهمه علينا نردّه إلى هذه الضوابط والأصول فينحلّ ما أبهم منه ولو بالتصوّر الإجماليّ.
وقد بيّن سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام هذه الضوابط بخطبةٍ له بليغة تبلغ المقاصد وتبيّن المطالب بأبلغ ما يصل إليه راغب ويطلبه طالب.
فتعالوا إلى هذا الكلام النورانيّ من الحضرة العلوّية الّذي يُبيّن فيه كلّيات السعادة الحقيقية الّتي موطنها الفارد الجنّة لا غير، قال عليه السلام في وصفه للجنّة:
"الجنّة الّتي أعدّها الله تعالى للمؤمنين خطّافة لأبصار الناظرين فيها درجات
1- سورة العنكبوت، الآية: 64.
126
109
جنّة الخُلد
متفاضلات، ومنازل متعاليات، لا يبيد نعيمها ولا يضمحلّ حبورها ولا ينقطع سرورها ولا يظعن مقيمها ولا يهرم خالدها ولا يبؤس ساكنها، آمن سكّانها من الموت فلا يخافون، صفا لهم العيش، ودامت لهم النعمة في أنهارٍ من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه وأنهار من خمر لذّة للشاربين وأنهار من عسل مصفّى ولهم فيها من كلّ الثمرات ومغفرة من ربّهم. على فرش موزونة وأزواج مطهّرة وحور عين كأنّهن اللؤلؤ المكنون، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار"1.
من صفات الجنّة
-لا يبيد نعيمها، ولا يضمحّل حبورها، ولا ينقطع سرورها
الأمر الأوّل الّذي يُنغِّص على الإنسان سعادته في الدنيا الإبادة والاضمحلال والفقدان والانقطاع للنعيم. وهذا من أكبر المنغِّصات للسعادة، فالإنسان مهما كان وبأيّ نعيم حلّ ولو جمع كلّ لذّات الدنيا ماذا يفعل عندما يأتي أجله، وميعاد مفارقتها، كما ورد في الرواية "كان أشدّ لحسرته عند فراقها"، لذلك عبّر عن الموت "بهادم اللذّات".
وهذا في الجنّة لا وجود له فإنّ النعيم والحبور والسرور لا تصرّم لها ولا زوال ولا اضمحلال.
- ولا يظعن مقيمها
فالإنسان إذا كان مقيماً في قصر منيف عدّة أيّام فإنّه يكون في لذّة ولكن حينما يتذكّر أنّه سيتركه بعد أيّام فإنّه ستتنغّص لذّته، وعندما يأتي وقت إخراجه منه يكون يوم تأسّف وألم يذهب باللذّة الّتي حصّلها في الأيّام الخالية.
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 30.
127
110
جنّة الخُلد
بينما في الجنّة لا يظعن المقيم أي لا يرتحل ولا يُفارق أبداً بل إقامته خالدة.
- ولا يهرم خالدها
والإنسان إذا بقي بقاءً طويلاً في الدنيا فإنّ هَرَمَه سينغّص عليه عمرَه ويُسئمُه الحياة كما عبّر بعضهم:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أب لك يسأم
والهرم بلوازمه يُفقد الحياة رونقها، والشهوات لذّتها..
وفي الجنّة بقاء وخلود بلا هرم وهذا من مقوِّمات السعادة الحقيقية.
- ولا يبؤس ساكنها وفي البحار/ج8/162 "لا ييأس ساكنها"
فلا بؤس ولا يأس في الجنّة، فإنّ البؤس وهو الشقاء يُباين اللذّة، وكذلك اليأس أو الملل يُخالف اللذّة والسعادة.
ونحن نجد أنّ في الدنيا ما من لذّة إلا ويشوبها البؤس واليأس والملل، ولذلك لا مقايسة للذّات الدنيا مع لذّات الآخرة في الجنّة.
- أمن سكّانها من الموت فلا يخافون
فالإنسان كما ذكرنا لو نال ما نال في الدنيا من نِعَم وكمالات بشتّى المجالات الّتي يتمنّاها فإنّ فكرة الموت بمجرّد أن تنتابه فإنّها ستسيطر على لبّه وتغلب على كيانه وتُفقده الأمن والسكينة والطمأنينة في حياته. وهذا الخوف؛ خوف فقدان النِّعَم، سيفقده السعادة..
هذا في الدنيا وأمّا في الآخرة في الجنّة فإنّ ساكنها سيكون آمناً من الموت ولا قلق عنده بل سكينة مطلقة وهذه، هي السعادة الحقيقية.
﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾1.
4- سورة الرعد، الآيتان: 23ـ 24.
128
111
جنّة الخُلد
ففي الجنّة سلام، والسلام من الملائكة، ومن ربٍّ كريم، وتحيّتهم في الجنّة سلام، وكلّ شيء فيها سلام، والسلام يقابل الشعور بعدم الأمن والقلق والخوف.
- قال ابن أبي الدنيا: حدّثني الحارث بن محمّد التميميّ عن شيخٍ، قال:
"مرّ الإسكندر بمدينةٍ قد ملكها أملاك سبعة وبادوا، فقال: هل بقي من نسل الأملاك الّذين ملكوا هذه الدنيا أحد؟ قالوا: نعم، رجل يكون في المقابر، فدعا به، فقال: ما دعاك إلى لزوم المقابر؟ قال: أردت أن أعزل عظام الملوك من عظام عبيدهم فوجدت عظامهم وعظام عبيدهم سواء. فقال له: فهل لك أن تتّبعني فأورثك شرف آبائك إن كانت لك همّة؟ قال: إنّ همّتي لعظيمة إن كانت بغيتي عندك، قال: وما بغيتك؟ قال: حياة لا موت فيها وشباب لا هرم معه وغنى لا فقر فيه وسرور بغير مكروه.
قال: لا، قال: فامضِ لشأنك ودعني أطلب ذلك ممّن هو عنده -عزّ وجلّ- ويملكه. قال الإسكندر: وهذا أحكم منّا"1.
أبلغ البيان في وصف جنّة الرحمن
أروع ما يُمكن أن تسمع في وصف الجنّة بعد كلام الخالق تعالى هو من أمير المؤمنين عليه السلام، يقول عليه السلام كما في نهج البلاغة:
"فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها، ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار غيّبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها. تحنى من غير تكلّف فتأتي على منية مجتنيها، ويطاف على نزّالها في أفنية قصورها بالأعسال المصفقة، والخمور المروقة. قوم لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتّى حلّوا دار القرار، وأمنوا نقلة الاسفار. فلو شغلت قلبك
1- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 71، ص 355.
129
112
جنّة الخُلد
أيّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقاً إليها، ولتحمّلت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالاً بها. جعلنا الله وإياكم ممّن سعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته"1.
فما أروع وما أبلغ وأبدع هذا الوصف على اختصاره، فلو دقّقت بمضمونه وخاصّة في الفقرة الأخيرة، فإنّ الإمام عليه السلام يقول لو كان عندك يقين بالفعل ووجّهت قلبك وشغلته بهمِّ الوصول إلى ما أعدّ لك فيها لزهقت نفسك أي قضيت وخرجت روحك من بدنك شوقاً إلى نعيمها، ولاخترت مجاورة أهل القبور استعجالاً في نيلها والوصول إليها.
"فلو شغلت قلبك أيُّها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لزهقت نفسك شوقاً إليها، ولتحمّلت من مجلسي هذا إلى مجاورة أهل القبور استعجالاً بها"ولزهدت نفسك في كلّ لذّات الدنيا ونعيمها.
"فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذّاتها وزخارف مناظرها"
هل نستطيع أن نتصوّر أنّ أنساناً ممكن أن يموت شوقاً للجنّة؟
نعم مع اليقين وشدّة الشوق قد يصل إنسان لذلك، كما روي عن همّام.
على أيّ حال هذا يحتاج إلى دعاء لاستنارة القلب بالبصيرة وإشراقات اليقين. وقد دعا الإمام عليه السلام ونحن ندعو بدعائه:
"جعلنا الله وإيّاكم ممّن سعى بقلبه إلى منازل الأبرار برحمته".
ما السبب في زهد أهل الدنيا بالجنّة؟!
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يتعجّب من الإنسان الّذي يزهد بجنّة قد جعلها ربٌّ كريم ويُقبل على دنيا هي بمثابة جيفة.
1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 2، ص 75.
130
113
جنّة الخُلد
تُرى ما السبب في ذلك؟!
يُبيّن عليه السلام أنّ السبب في ذلك هو العشق للدنيا، فإنّه الداء الوبيل الّذي إذا حلّ في قلب العبد جعل بصره سقيماً وسمعه سقيماً والشهوات فيها خرقت عقله ومزّقت إدراكاته السليمة الصائبة، وأماتت قلبه. والنتيجة: أنّه سوف لا يتّعظ بموعظة ولا ينزجر بزاجر بل سيكون عبداً للدنيا الّتي عشقها ولا يرى شيئاً ولا يسمع إلا منها وعنها ولا يُقدِّر إلا من يمتلك شيئاً من فتاتها. اسمع لكلامه النوراني عليه السلام:
"سبحانك خالقاً ومعبوداً بحسن بلائك عند خلقك. خلقت داراً وجعلت فيها مأدبة مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وأنهاراً وزروعاً وثماراً. ثمّ أرسلت داعياً يدعو إليها. فلا الداعي أجابوا، ولا فيما رغّبت رغبوا، ولا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبِّها، ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه. فهو ينظر بعينٍ غير صحيحة، ويسمع بأذنٍ غير سميعة. قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه. فهو عبد لها، ولمن في يده شيء منها. حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها. ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتّعظ منه بواعظ"..1
للمطالعة
اعتقادنا في الجنّة
اعتقادنا في الجنّة أنّها دار البقاء ودار السلامة، لا موت فيها ولا هرم ولا سقم ولا مرض ولا آفّة ولا زمانة ولا غمّ ولا همّ ولا حاجة ولا فقر، وأنّها دار الغناء والسعادة، ودار المقامة والكرامة، لا يمسّ أهلها فيها نصب ولا لغوب، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين وهم فيها خالدون، وأنّها دارٌ أهلها جيران الله وأولياؤه وأحبّاؤه
1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج 1، ص 211.
131
114
جنّة الخُلد
وأهل كرامته، وهم أنواع على مراتب: منهم المتنعّمون بتقديس الله وتسبيحه وتكبيره في جملة ملائكته، ومنهم المتنعّمون بأنواع المآكل والمشارب والفواكه والأرائك وحور العين، واستخدام الولدان المخلّدين، والجلوس على النمارق والزرابي ولباس السندس والحرير، كلٌّ منهم إنّما يتلذّذ بما يشتهي ويريد حسب ما تعلّقت عليه همّته، ويُعطى ما عبد الله من أجله. وقال الصادق عليه السلام: إنّ الناس يعبدون الله على ثلاثة أصناف: صنف منهم يعبدونه رجاء ثوابه فتلك عبادة الخدّام، وصنف منهم يعبدونه خوفاً من ناره فتلك عبادة العبيد، وصنف منهم يعبدونه حبّاً له فتلك عبادة الكرام1.
قال الشيخ المفيد رحمه الله:
الجنّة دار النعيم لا يلحق من دخلها نصبٌ ولا يلحقهم فيها لغوبٌ، جعلها الله داراً لمن عرفه وعبده، ونعيمها دائم لا انقطاع له، والساكنون فيها على أضرب: فمنهم من أخلص لله تعالى فذلك الّذي يدخلها على أمان من عذاب الله تعالى، ومنهم من خلط عمله الصالح بأعمال سيّئة كان يسوِّف منها التوبة فاخترمته المنيّة قبل ذلك، فلحقه ضرب من العقاب في عاجله وآجله، أو في عاجله، دون آجله، ثمّ سكن الجنّة بعد عفو أو عقاب، ومنهم من يتفضّل عليه بغير عمل سلف منه في الدنيا وهم الولدان المخلّدون الّذين جعل الله تعالى تصرّفهم لحوائج أهل الجنّة ثواباً للعاملين، وليس في تصرّفهم مشاقّ عليهم و لا كلفة، لانّهم مطبوعون إذ ذاك على المسارّة بتصرّفهم في حوائج أهل الجنّة، وثواب أهل الجنّة الابتذال بالمآكل والمشارب والمناظر والمناكح وما تُدركه حواسّهم ممّا يطبعون على الميل إليه ويدركون مرادهم بالظفر به2.
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج8، ص 200.
2- م.ن. ص 201.
132
115
من نعيم الجنــّة
الدرس الحادي عشر: من نعيم الجنــّة
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ 1
1- سورة التوبة، الآية: 72.
133
116
من نعيم الجنــّة
بعضٌ من نعيم أهل الجنّة
عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين"1.
لقد اتّضح من البحث السابق أنّنا لا نقدر على إحصاء عُشر عشير ما أعدّ الله تعالى من نعيمٍ لأهل الجنّة من المؤمنين، ولكن هذا لا يُقصينا عن الدخول في ذكر بعض النماذج من اللذائذ الّتي ورد ذكرها والإشارة إليها في الآثار الشرعية، وهذا ما خصّصنا البحث لأجله فنقول مستعينين بالله تعالى:
1- الجمال والقوّة والشباب الدائم في الجنّة
- قال ابن سلام للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: فصف لي من يدخل الجنّة، قال: "يا ابن سلام يدخلونها أبناء ثلاثين وبنات ثلاثين سنة في حُسْن يوسف وطول آدم وخُلُق محمّد"2.
2- لذائذ الآخرة لا تُقاس بلذائذ الدنيا
ثمّ المقاييس المختلفة بين ما في الدنيا وما في الآخرة بحيث يستحيل المقايسة، ممّا يُبيّن حقارة هذه الدنيا وعظمة الدار الآخرة:
- قال ابن سلام: فصف لي بعض نعيم أهل الجنّة.
1- مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج 2، ص 438.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 57، ص 257.
135
117
من نعيم الجنــّة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
- "لو أنّ رجلاً من أهل الجنّة يبصق في البحار المالحة لعذبت...!
- ولو نزل من ذؤابته من السماء إلى الأرض بلغ ضوءها كضوء الشمس و نور القمر.
- وموضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدنيا وما فيها وقرأ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلّا متاع الغرور.
- إنّ أدنى من في الجنّة - وليس في الجنّة دني ّ- لو نزل به جميع من في الأرض لأوسعهم طعاماً ولا ينقص منه شيء"1.
- وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جُعلت فداك يا بن رسول الله شوّقني، فقال: "يا أبا محمد إنّ الجنّة توجد ريحها من مسيرة ألف عام، وإن أدنى أهل الجنّة منزلاً لو نزل به الثقلان الجنّ والإنس لوسعهم طعاماً وشراباً ولا ينقص ممّا عنده شيء"2.
3- شجرة طوبى والظلّ الممدود
قال تعالى: ﴿ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾
- فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ في الجنّة شجرة يسير الراكبُ الجوادَ المضمرَ السريع مائة عام لا يقطعها، وفي أخرى يسير الراكب في ظلّها مائة سنة"3!
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام ما يقطعها فاقرؤوا إن شئتم ﴿وَظِلٍّ مَّمْدُود﴾ٍ4.
- وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "وطوبى شجرة في الجنّة أصلها في دار النبيّ
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 257.
2- م.ن، ج 8، ص 120.
3- م.ن، ج 66، ص 366.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج6، ص434.
136
118
من نعيم الجنــّة
محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من مؤمن إلّا وفي داره غصن منها، لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلا أتاه به ذلك ولو أنّ راكباً مجدّاً سار في ظلِّها مائة عام ما خرج منه ولو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتّى يسقط هرماً"1.
4- السماع في الجنّة
- عن أبي الحسن عليه السلام قال: "من نزّه نفسه عن الغناء فإنّ في الجنّة شجرة يأمر الله عزّ وجلّ الرياح أن تُحرِّكها فيسمع لها صوتاً لم يسمع بمثله ومن لم يتنزّه عنه لم يسمعه"2.
5- الحور والزوجات في الجنّة
روى العياشيّ بالإسناد إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: جُعلت فداك أخبرني عن المؤمن تكون له امرأة مؤمنة يدخلان الجنّة يتزوّج أحدهما بالآخر؟
فقال: "يا أبا محمد إنّ الله حكم عدل، إن كان هو أفضل منها خُيّر هو فإن اختارها كانت من أزواجه، وإن كانت هي خيراً منه خيّرها فإن اختارته كان زوجاً لها"3.
- وفي قوله تعالى: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ قيل: "أي نساء خيّرات الأخلاق حسان الوجوه، لسن بذربات، ولا زفرات، ولا نخرات، ولا متطلّعات، ولا متسوّمات، ولا متسلّطات، ولا طمّاحات، ولا طوّافات في الطرق، ولا يغرن، ولا يؤذين"4.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 239.
2- م.ن، ج 6، ص 434.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8، ص 105.
4- م، ن، ص 107. ذرابة اللسان: حدّته، والزفرة: التنفّس الّذي معه صوت، والزفر: أوّل صوت الحمار. والنخير: مدّ الصوت في الخيشوم، وامرأة منخار: تنخر... كأنّها مجنونة. والمتسوّمات: لعلّه من السوم بمعنى البيع أي: بيّاعات في الأسواق. والطماحات: الناظرات إلى من فوقهن أو إلى بيوت الناس.
137
119
من نعيم الجنــّة
- وروي أنّ نساء أهل الجنّة تأخذ بعضهنّ بأيدي بعضهن ويتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها:
"نحن الراضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام".
- عن أبي الحسن موسى بن جعفرعليه السلام، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام قال: "قالت أم سلمة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بأبي أنت وأمي المرأة يكون لها زوجان، فيموتون ويدخلون الجنّة لأيّهما تكون؟
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا أمّ سلمة تُخيّر أحسنهما خُلُقاً وخيرهما لأهله، يا أمّ سلمة إنّ حُسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة"1.
وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
جعلت فداك من أيّ شيء خُلقن الحور العين؟
قال عليه السلام: "من الجنّة...".
قلت: جعلت فداك ألهنّ كلام يتكلّمن به في الجنّة؟
قال عليه السلام: "نعم كلام يتكلّمن به لم يسمع الخلائق بمثله".
قلت: ما هو؟
قالعليه السلام: "يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن المقيمات فلا نظعن، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن خُلق لنا، وطوبى لمن خُلقنا له، نحن اللواتي لو عُلّق إحدانا في جوِّ السماء لأغنى نورنا عن الشمس والقمر لو أنّ قرن إحدانا عُلِّق في جوِّ السماء لأغشى نوره الأبصار"2.
وفي رواية عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنّ المؤمن ليغشاه شعاع نور وهو على
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8، ص 119.
2- م.ن، ج 8، ص 121.
138
120
من نعيم الجنــّة
أريكته ويقول لخدّامه: ما هذا الشعاع اللامع لعلّ الجبّار لحظني؟ فيقول له خدّامه: قدّوس قدّوس جلّ جلاله، بل هذه حوراء من نسائك ممّن لم تدخل بها بعد، أشرفت عليك من خيمتها شوقاً إليك وقد تعرّضت لك وأحبّت لقاءك، فلمّا أن رأتك متّكئاً على سريرك تبسّمت نحوك شوقاً إليك، فالشعاع الّذي رأيت والنور الّذي غشيك هو من بياض ثغرها وصفائه ونقائه ورقّته، فيقول ولي الله: ائذنوا لها فتنزل إليّ، فيبتدر إليها ألف وصيف وألف وصيفة يبشّرونها بذلك، فتنزل إليه من خيمتها وعليها سبعون حلّة منسوجة بالذهب والفضة، مكلّلة بالدرّ والياقوت والزبرجد، صبغهنّ المسك والعنبر بألوان مختلفة، يرى مخ ساقها من وراء سبعين حلّة، طولها سبعون ذراعاً، وعرض ما بين منكبيها عشرة أذرع، فإذا دنت من وليّ الله أقبل الخدّام بصحاف الذهب والفضة فيها الدرّ والياقوت والزبرجد، فينثرونها عليها، ثمّ يعانقها وتعانقه فلا تملّ ولا يملّ"1.
5- الدرجات في الجنّة
قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: "لا تقولنّ: إنّ الجنّة واحدة إنّ الله يقول: وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ولا تقولنّ: درجة واحدة..إنّما تفاضل القوم بالأعمال".
قال: وقلت له: إنّ المؤمنَيْن يدخلان الجنّة فيكون أحدهما أرفع مكاناً من الآخر فيشتهي أن يلقى صاحبه، قال عليه السلام:
"من كان فوقه فله أن يهبط ومن كان تحته لم يكن له أن يصعد لأنّه لا يبلغ ذلك المكان ولكنّهم إذا أحبّوا ذلك واشتهوه التقوا على الأسرّة"2.
- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"الدرجة في الجنّة فوق الدرجة كما بين السماء والأرض"!
1- بحار الأنوار، العلّمة المجلسي، ج 8، ص 160.
2- م. ن، ص 106.
139
121
من نعيم الجنــّة
وإنّ العبد ليرفع بصره فيلمع له نور يكاد يخطف بصره فيفرح، فيقول: ما هذا؟ فيقال: هذا نور أخيك المؤمن، فيقول: هذا أخي فلان كنّا نعمل جميعاً في الدنيا وقد فضّل عليّ هكذا؟
فيُقال: "إنّه كان أفضل منك عملاً، ثمّ يجعل في قلبه الرضا حتّى يرضى"1.
- وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله جلّ ثناؤه ليدخل قوماً الجنّة فيُعطيهم حتّى تنتهي أمانيهم وفوقهم قوم في الدرجات العلى، فإذا نظروا إليهم عرفوهم فيقولون: ربّنا إخواننا كنّا معهم في الدنيا فبم فضّلتهم علينا؟
فيُقال: هيهات!
إنّهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمأون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون"2.
6- ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ*الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾3.
- عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما خلق الله خلقاً إلا جعل له في الجنّة منزلاً و في النار منزلاً، فإذا سكن أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار نادى منادٍ، يا أهل الجنّة أشرفوا، فيشرفون على النار وترفع لهم منازلهم في النار ثمّ يُقال لهم: هذه منازلكم الّتي لو عصيتم ربّكم دخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنّة في ذلك اليوم فرحاً لما صرف عنهم من العذاب، ثمّ ينادون: يا معشر أهل النار ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى منازلكم في الجنّة فيرفعون رؤوسهم فينظرون إلى منازلهم في الجنّة وما فيها من النعيم، فيُقال لهم: هذه منازلكم الّتي لو أطعتم ربّكم دخلتموها، قال: فلو أنّ أحداً مات حزناً لمات أهل النار ذلك اليوم حزناً، فيورث هؤلاء منازل هؤلاء، وهؤلاء منازل هؤلاء، وذلك قول الله عزّ وجلّ: ﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ*الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾"4
1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 431.
2- م.ن، ج 1، ص 432.
3- سورة المؤمنون، الآيتان: 10-11.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8، ص 125.
140
122
من نعيم الجنــّة
7- ﴿ أوَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾
عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ لله كرامة في عباده المؤمنين في كلّ يوم جمعة، فإذا كان يوم الجمعة بعث الله إلى المؤمن ملكاً معه حلّة فينتهي إلى باب الجنّة فيقول: استأذنوا لي على فلان، فيُقال له: هذا رسول ربِّك على الباب، فيقول لأزواجه: أيّ شيء ترين عليّ أحسن؟ فيقلن: يا سيّدنا والّذي أباحك الجنّة ما رأينا عليك شيئاً أحسن من هذا بعث إليك ربّك، فيتّزر بواحدة ويتعطّف بالأخرى فلا يمرّ بشيء إلّا أضاء له حتّى ينتهي إلى الموعد، فإذا اجتمعوا تجلّى لهم الربّ تبارك و تعالى، فإذا نظروا إليه خرّوا سجّداً فيقول: عبادي ارفعوا رؤوسكم ليس هذا يوم سجود ولا يوم عبادة قد رفعت عنكم المؤونة، فيقولون: يا ربّ وأيّ شيء أفضل ممّا أعطيتنا؟ أعطيتنا الجنّة، فيقول: لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفاً، فيرجع المؤمن في كلّ جمعة بسبعين ضعفاً مثل ما في يديه، وهو قوله: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ .
قال: فيمرّ المؤمن فلا يمرّ بشيء إلّا أضاء له حتّى ينتهي إلى أزواجه فيقلن: والذي أباحنا الجنّة يا سيّدنا ما رأينا قطّ أحسن منك الساعة، فيقول: إنّي قد نظرت بنور ربّي ثمّ قال: إنّ أزواجه لا يغرن ولا يحضن ولا يصلفن"1
8- طيور الجنّة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ في الجنّة طيوراً كالبخاتي، عليها من أنواع المواشي، تصير ما بين سماء الجنّة وأرضها، فإذا تمنّى مؤمن محبّ للنبيّ وآله عليهم السلام الأكل من شيء منها وقع ذلك بعينه بين يديه، فتناثر ريشه وانشوى وانطبخ، فأكل من جانب منه قديداً ومن جانب منه مشوياً بلا نار، فإذا قضى شهوته ونهمته قال: الحمد لله ربّ العالمين عادت كما كانت فطارت في الهواء، وفخرت على سائر
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8، ص 126.
141
123
من نعيم الجنــّة
طيور الجنّة تقول: من مثلي وقد أكل منّي وليّ الله عن أمر الله؟"1.
وأورد في كتاب الدار الآخرة:
- "أنّه يقف طير من طيور الجنّة على غصن من أغصانها فيُخاطب المؤمن بصوت جميل: يا وليّ الله أنا طير خلقني الله في الجنّة ليس في الجنّة عين إلّا شربت منها ولا فاكهة إلّا أكلت منها فلحمي من هذه العيون والثمار فهل تشتهي أن تأكل لحمي؟ فيقول المؤمن نعم فيُلقي الطير نفسه أمامه ويخفق بجناحيه فتخرج من كلّ ريشة منه قطعة لحم ولكلّ قطعة طعم يأكل منها المؤمن ثمّ يطير ثانية"2.
9- ومساكن طيبة
ورد في قوله تعالى: "ومساكن طيبة " عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: قصر من لؤلؤ في الجنّة، في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كلّ دار سبعون بيتاً من زمرّدة حمراء في كلّ بيت سبعون سريراً على كلّ سرير سبعون فراشاً من كلّ لون، على كلّ فراش امرأة من الحور العين، في كلّ بيت سبعون مائدة، على كلّ مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كلّ بيت سبعون وصيفاً ووصيفة، وقال: فيعطي الله المؤمن من القوّة في غداة واحدة أن يأتي على ذلك كلّه"3.
10- كرامة أمير المؤمنين عليه السلام في الجنّة
-عن أبي جعفر محمّد بن عليّ، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لمّا أسري بي إلى السماء فصرت في السماء الدنيا حتّى صرت في السماء السادسة فإذا أنا بشجرة لم أر شجرة أحسن منها ولا أكبر منها، فقلت لجبرئيل: يا حبيبي ما هذه الشجرة؟ قال: طوبي يا حبيبي، قال: فقلت: ما هذا الصوت العالي
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8، ص 141.
2- الدار الآخرة، ص 101.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8، ص 149.
142
124
من نعيم الجنــّة
الجهوري؟ قال: هذا صوت طوبى، قلت: أي شيء يقول؟ قال: يقول: واشوقاه إليك يا عليّ بن أبي طالب - عليه السلام"1
- عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ حلقة باب الجنّة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فإذا دقّت الحلقة على الصفحة طنّت وقالت: يا عليّ"2.
11- فضلات أهل الجنّة
قال ابن سلام للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "فأخبرني عن أهل الجنّة كيف يصرفون ما يأكلون من ثمارها؟
وكيف يخرج من أجوافهم؟
قال: يا ابن سلام، ليس يخرج من أجوافهم شيء، بل عرقاً صبّاً أطيب من المسك وأزكى من العنبر، ولو أنّ عرق رجل من أهل الجنّة مزج به البحار لأسكر ما بين السماء والأرض من طيب رائحته. قال: صدقت يا محمّد".3
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8، ص 150.
2- م.ن، ج 8، ص 122.
3- م.ن، ج 75، ص 256.
143
125
من نعيم الجنــّة
للمطالعة
السلام في الجنّة
هناك ثلاثة أقسام للسلام في الجنّة:
1- سلام المؤمن على المؤمن، يقول تعالى: ﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَم ﴾ٌ1.
فإنّ تحيّة المؤمنين بعضهم بعضاً حين يلتقون في الجنّة هو السلام.
2- سلام الملائكة على المؤمنين: ﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب* سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ 2.
ورد في البحار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"...فإذا استقرّت بوليّ الله منازله في الجنّة استأذن عليه الملك الموكّل بجنانه ليهنّئه كرامة الله إياه، فيقول له خدّام المؤمن ووصفاؤه: مكانك فإنّ وليّ الله قد اتكأ على أرائكه، فزوجته الحوراء العيناء قد هبّت له فاصبر لوليّ الله حتّى يفرغ من شغله، قال: فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمتها تمشي مقبلة وحولها وصفاؤها يحيينها، عليها سبعون حلّة منسوجة بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد صبغن بمسك وعنبر، وعلى رأسها تاج الكرامة، وفي رجليها نعلان من ذهب مكلّلان بالياقوت واللؤلؤ، شراكها ياقوت أحمر، فإذا أدنيت من وليّ الله وهمّ أن يقوم إليها شوقاً تقول له: يا وليّ الله ليس هذا يوم تعب ولا نصب فلا تقم، أنا لك وأنت لي، فيعتنقان مقدار خمسمائة عام من أعوام الدنيا لا يملّها ولا تملّه، قال: فينظر إلى عنقها فإذا عليها قلادة من قصب ياقوت أحمر، وسطها لوح مكتوب: أنت يا وليّ الله حبيبي، وأنا الحوراء حبيبتك، إليك تناهت نفسي، وإليّ تناهت نفسك. ثمّ يبعث الله ألف ملك يهنّؤنه بالجنّة ويزوّجونه الحوراء، قال: فينتهون إلى أوّل باب من جنانه فيقولون للملك الموكل بأبواب الجنان: استأذن لنا على وليّ الله فإنّ الله بعثنا مهنّئين، فيقول الملك: حتّى أقول للحاجب فيعلمه
1- سورة إبراهيم، الآية: 23.
2- سورة الرعد، الآيتان: 23ـ 24.
144
126
من نعيم الجنــّة
مكانكم، قال: فيدخل الملك إلى الحاجب وبينه وبين الحاجب ثلاث جنان حتّى ينتهي إلى أوّل الباب، فيقول للحاجب: إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم ربّ العالمين جاؤوا يهنّؤن وليّ الله وقد سألوا أن أستاذن لهم عليه، فيقول له الحاجب: إنّه ليعظم عليّ أن أستأذن لأحد على وليّ الله وهو مع زوجته، قال: وبين الحاجب وبين وليّ الله جنّتان، فيدخل الحاجب إلى القيّم فيقول له: إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم ربّ العالمين يهنّؤن وليّ الله فاستأذن لهم، فيقوم القيّم إلى الخدّام فيقول لهم: إنّ رسل الجبّار على باب العرصة وهم ألف ملك أرسلهم "ربّ العالمين" يهنّؤن وليّ الله فأعلموه مكانهم، قال: فيُعلمون الخدّام، قال: فيؤذن لهم فيدخلون على وليّ الله وهو في الغرفة ولها ألف باب وعلى كلّ باب من أبوابها ملك موكّل به، فإذا أذن للملائكة بالدخول على وليّ الله فتح كلّ ملك بابه الّذي قد وكّل به فيدخل كلّ ملك من باب من أبواب الغرفة فيبلِّغونه رسالة الجبّار وذلك قول الله: ﴿ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب ﴾ يعني من أبواب الغرفة ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار ﴾1 وذلك قوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾2 يعني بذلك وليّ الله وما هو فيها من الكرامة والنعيم والملك العظيم وإنّ الملائكة من رسل الله ليستأذنون عليه فلا يدخلون عليه إلا بإذنه، فذلك الملك العظيم، والأنهار تجري من تحتها"3.
3- سلام ربّ العالمين تعالى على المؤمن:
﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ ﴾ 32.
وهذا لو تفكّرت فيه يا أخي لوجدته أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، أن يُسلِّم عليك ربّ العزة والجلال، رزقنا الله وإياكم هذه الكرامة وجعل الجنّة لنا دار مقامة.
1- سورة الرعد، الآيتان: 23-24.
2- سورة الإنسان، الآية:20.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 8 ص 128
4- سورة يس، الآية: 58.
145
127
التهجــّد في الليل
الدرس الثاني عشر: التهجــّد في الليل
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾1
1- سورة الإسراء، الآية: 79.
147
128
التهجــّد في الليل
تمهيد
ممّا لا ريب فيه أنّ الذكر والفكر مطيّتا السالك إلى الله تعالى للوصول إلى المقصد والغاية وهي المعرفة والعبادة، فمن أوتي حظّه منهما مشفعاً بتوفيق الباري عزّ وجلّ فقد حاز قصب السبق في مضمار المعرفة والطاعة والعبادة.
ومن أخلّ بأحدهما فقد خاب وخسر بمقدار ذاك الخلل والتقصير، وقصرت همّته عن إدراك الهدف.
وممّا لاشكّ فيه أيضاً أنّ الذكر له مراتب من ناحية الأهميّة والمحبوبية والمطلوبية، فمنه الواجب الّذي لم تُرخِّص الشريعة بتركه كالصلوات اليومية، ومنه المندوب الّذي أجازت الشريعة تركه.
والواجبات هي أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله تعالى. والمستحبّ وإن جوّزت الشريعة تركه إلا أنّه يحتلّ مرتبة عظمى من الأهمية بعد إتمام الفرائض لجهة تقريب العبد من خالقه وإحداث مقتضى المحبّة له، فقد ورد في الرواية - عن حمّاد بن بشير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ:
... وما تقرّب إليّ عبد بشيء أحبّ إلي ممّا افترضت عليه وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به ولسانه الّذي ينطق به ويده الّتي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته"1.
فالواجب من العبادات والأذكار مقدّم على المندوب والنوافل، حتّى ورد أنّه:
- "لا قربة بالنوافل إذا أضّرت بالفرائض"2.
1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 352.
2- نهج البلاغة، قصار الحكم، 39.
149
129
التهجــّد في الليل
- "إذا أضرت النوافل بالفرائض فارفضوها"1.
والمستحبّات أيضاً لها درجات ومراتب من حيث مدى أهمّيتها وقوّة تأثيرها على روحيّة السالك وعلى نسبة رقيّه المعنويّ والمعرفيّ، ومدى تقريبه من الغاية المنشودة وهي نيل الرضا والقرب من المعبود عزّ اسمه.
فالنوافل إذاً ينبغي للمؤمن الحكيم أن يُراعي فيها الأولويات إن أراد الوصول إلى المبتغى، فيعتني عناية شديدة بالمستحبّ الّذي ثبت تأكّده في الشريعة المقدّسة، ولا يُفرّط ولا يتهاون فيه بحال، وبعده في الدرجة المستحبّ مطلقاً.
وما لا يحتاج إلى نقاش في الشريعة المقدّسة أنّ صلاة الليل والتهجُّد والقيام فيه بالمناجاة والدعاء والذكر من آكد المستحبّات الشرعية.
وقد تلقّى السالكون العارفون من العلماء الربّانيين هذا التأكيد من الشريعة بدرجة عالية من الجدّية وبذل الوسع في الاهتمام به والمحافظة عليه، وبالغوا بدورهم بالتوصية به والحثّ عليه لكلّ من أراد أن يسلك طريق المعرفة والطاعة والقرب من البارئ عزّ وجلّ.
وسنذكر فيما يلي ما من شأنه أن يكون حافزاً قوياً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد لكي يكون في عداد المتهجّدين المداومين على صلاة الليل غير التاركين لها بحال من الأحوال، وسيكون الكلام في عدّة نقاط:
أوّلاً: فضل صلاة الليل في الآيات والروايات
قبل أن نذكر ما لصلاة الليل والتهجّد فيه من فضل لا بُدّ أن نُبيّن ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام من أنّ صلاة الليل لم يُحدِّد القرآن لها ثواباً كسائر الأعمال الصالحة وما لذلك من دلالة، حيث قال عليه السلام:
"ما من عمل حسن يعمله العبد إلا وله ثواب في القرآن إلّا صلاة الليل فإنّ الله
1- نهج البلاغة، قصار الحكم، 279.
150
130
التهجــّد في الليل
عزّ وجلّ لم يُبيّن ثوابها لعظم خطره عنده فقال جلّ ذكره:﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ "1 2.
فمن المعلوم أنّه من أساليب التعظيم لأمر ما، التعبير عنه على نحو الإطلاق من دون تقييد، وفي موردنا إنّ الله تعالى لم يُحدِّد ثواب التهجُّد بجهة أو نوع خاصّ من الثواب وإنّما نفى العلم به، ليكون منطبقاً على أيّ ضرب من ضروب الثواب وهذا غاية الفضل والعظمة والثناء.
فهذا انفراد وتمييز لهذه العبادة عن غيرها من القربات إذ لم يذكر لها ثواب محدّد في القرآن الكريم كما ذكر لكلّ من الأعمال الحسنة.
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المقام: "تُرى ما قرّة العين هذه الّتي يدّخرها الله تعالى ويُخفيها حتّى لا يعلم أحد عنها شيئاً؟
وما يُمكن أن تكون؟
فلو كانت من قبيل "أنهار جارية" و "قصور عالية" ومن نِعَم الجنّة المختلفة، لذكرها الله مثلما بيّن ما للأعمال الأخرى وأطلع الملائكة عليها.
ولكن يبدو أنّها ليست من ذلك السنخ، وأنّها أعظم من أن ينوّه بها لأحد، وخصوصاً لأحد من أهل هذه الدنيا. إنّه لا تُقارن نِعَم ذلك العالم بالنِّعَم هنا، ولا تظننّ أنّ الفردوس والجنان تُشبه بساتين الدنيا، أو ربّما أوسع وأبهى، هناك دار كرامة الله تعالى ودار ضيافته.
فكلّ هذه الدنيا لا شيء إزاء شعرة واحدة من الحور العين في الجنّة، بل ليست
1- سورة السجدة، الآيتان: 16ـ 17.
2- التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 4، ص 156.
151
131
التهجــّد في الليل
شيئاً إزاء خيط من خيوط الحلل الفردوسية الّتي أُعدّت لأهل الجنّة.
ومع كلِّ هذا الوصف لم يجعلها الله ثواب من يؤدّي صلاة الليل، وإنّما ذكرها من باب التعظيم له.
ولكن هيهات! نحن الضعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلا لما كنّا نستمرّ في غفلتنا، ونُعانق النوم إلى الصباح. ولو أنّ يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصلاة وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكّر، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى..."1.
أقول: ولو لم يكن إلا هذا لكفى لبيان قدر هذه العبادة وعظمتها عند الله تعالى، كيف وقد استفاضت الآثار الشرعية في مدحها والثناء عليها، وحثّ المؤمنين على إقامتها والمداومة عليها، وهذا بعض ما ورد بهذا الشأن:
قال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ﴾2.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾3.
قال إمامنا الصادق عليه السلام في تفسيرها: "قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزّ وجلّ ولا يريد غيره"4.
- وفي قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات ﴾ِ5.
قال عليه السلام: "صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار"6.
فما أعظمها من فائدة لعمل يمحو الله به بالليل كلّ سيئة اجترحها العبد في
1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني قدس سره, ص 323- 233.
2- سورة الإسراء، الآية: 79.
3- سورة المزمل، الآية: 6.
4- الوسائل، الإسلامية، ج5، 269.
5- سورة هود، الآية: 114.
6- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 473.
152
132
التهجــّد في الليل
النهار، فهذا لازمه أنّ الإنسان إذا أدام صلاة الليل يكون قد ضمن صفاء نفسه من آثار الذنوب المهلكة، وهيّأها لتلقّي الفيوضات الإلهية، والتنسّمات الروحانية، فالمحافظة على طهارة النفس من آثار الذنوب هي ضمانة السعادة الأبدية.
ومدح الله تبارك وتعالى المؤمن الّذي يقوم الليل ويقنت فيه، ويسجد ويسهر في عبادة ربّه حذراً راجياً بقوله تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه﴾ِ1
فعن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: "آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قال عليه السلام: "يعني صلاة الليل"2.
وقد ورد في الرواية أن مورد نزول هذه الآية هو سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: "يا عليّ عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل"3.
كرّرها ثلاثاً وهذا أيضا غاية في المبالغة والتأكيد على فعلها وعدم التهاون بشأنها.
صلاة الليل تُفيد فائدة الاستغفار بالأسحار
صلاة الليل مشتملة على الاستغفار بالأسحار، الّذي حثّ الله عزّ وجلّ عليه، وقد ذكر في كتابه العزيز المستغفرين بالأسحار بالثناء الجميل حيث قال عزّ من قائل:
﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار ِ﴾4
1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 444.
3- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 484.
4- سورة آل عمران، الآية: 17.
153
133
التهجــّد في الليل
فعن صادق أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآية الكريمة، قال عليه السلام:
"المصلّين وقت السحر"1. وقال عليه السلام: "من استغفر سبعين مرّة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية"2.
وقال تعالى في معرض توصيفه لأهل الجنة: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾3.
وعن إمامنا الصادق: قال: "استغفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الوتر سبعين مرة"4.
وعن إمامنا أبي جعفر الباقر عليه السلام: "من داوم على صلاة الليل والوتر واستغفر الله في كلّ وتر سبعين مرّة، ثمّ واظب على ذلك سنة كتب من المستغفرين بالأسحار"5.
والمستغفرون بالأسحار لهم بركات عظيمة تعمّ وتشمل حتّى أصحاب الذنوب، حيث إنّ الله تعالى يدفع بهم "المستغفرين بالأسحار" العذاب الّذي استوجبه أهل المعاصي بمعاصيهم. اسمع إلى ما ورد عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ إذا رأى أهل قرية قد أسرفوا في المعاصي، وفيها ثلاث نفر من المؤمنين ناداهم جلّ جلاله وتقدّست أسماؤه: يا أهل معصيتي لولا ما فيكم من المؤمنين المتحابّين بجلالي العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي، المستغفرين بالأسحار خوفاً منّي، لأنزلت بكم عذابي ثمّ لا أبالي"6.
فالذي يُصلّي الليل يكتبه الله تعالى من المستغفرين بالأسحار الّذين عظّمهم الله تعالى في كتابه العزيز، ويجني كلّ ما ترتّب من ثمرات وثواب على الاستغفار في السحر.
1- التفسير الأصفى، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 142.
2- م.ن.
3- سورة الذاريات، الآيتان: 17ـ 18.
4- تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ج 1، ص 165.
5- م.ن. ج1، ص 165.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 7، ص 381.
154
134
التهجــّد في الليل
ثانياً: من آثار صلاة الليل الأخروية
1- تجير من عذاب القبر ومن النار
قال الإمام الرضا عليه السلام: "عليكم بصلاة الليل فما من عبد مؤمن يقوم آخر الليل فيُصلّي ثمان ركعات وركعتي الشفع وركعة الوتر، واستغفر الله في قنوته سبعين مرّة إلا أُجير من عذاب القبر ومن عذاب النار"1.
2- مباهاة الله به الملائكة والمغفرة له
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا قام العبد من لذيذ مضجعه والنعاس في عينيه ليرضي ربه تعالى بصلاة ليله باهى الله تعالى به الملائكة، وقال: أما ترون عبدي هذا قد قام من لذيذ مضجعه لصلاة لم أفترضها عليه؟ اشهدوا أنّي قد غفرت له "2.
3- يقوم المتهجّدون يوم القيامة ويُحاسب الناس من بعدهم
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى منادٍ ليقم الّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً، فيقومون وهم قليلون ثمّ يُحاسب الناس من بعدهم"3.
ثالثاً: آثار صلاة الليل الدنيويّة
1- تحسين الوجه في النهار
قال الصادق عليه السلام: "من صلّى بالليل حسن وجهه بالنهار"4.
وسأله عبد الله بن سنان عن قوله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُود﴾ِ5 فقال عليه السلام: "هو السهر في الصلاة"6.
1- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 320.
2- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج8، ص157.
3- إرشاد القلوب، الديلمي، ص86.
4- الهداية، الشيخ الصدوق، ص 150.
5- سورة الفتح، الآية: 29.
6- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 152.
155
135
التهجــّد في الليل
وقد سُئل عليه السلام: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجهاً؟
قال عليه السلام: "لأنّهم خلوا بالله فكساهم الله من نوره"1.
2- شرف المؤمن قيام الليل
نزل جبرائيل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: "يا جبرائيل عظني فقال يا محمّد عش ما شئت فإنّك ميّت، وأحبب من شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه. شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه كفّ الأذى عن الناس"2.
3- مطردة للداء عن الأجساد
قال الإمام الصادق عليه السلام: "عليكم بصلاة الليل فإنّها... مطردة الداء عن أجسادكم"3.
4- بيوت المتهجّدين تُضيء لأهل السماء
وروى عنه الفضيل بن يسار أنّه قال: "إنّ البيوت الّتي يُصلّى فيها بالليل بتلاوة القرآن تُضيء لأهل السماء كما تُضيء نجوم السماء لأهل الأرض"4.
5- توسّع المعيشة، وتزيد في الرزق، وتُطيل العمر
قال الإمام الرضا عليه السلام: "عليكم بصلاة الليل فما من عبدٍ مؤمن يقوم آخر الليل فيُصلّي ثمان ركعات وركعتي الشفع وركعة الوتر، واستغفر الله في قنوته سبعين مرة إلا أجير من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومُدّ له في عمره ووسّع عليه في معيشته"5.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 157.
2- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 471.
3- م.ن، ص 472.
4- م.ن، ص 473.
5- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 320.
156
136
التهجــّد في الليل
- وجاء رجل إلى أبي عبد الله عليه السلام فشكى إليه الحاجة فأفرط في الشكاية حتّى كاد أن يشكو الجوع، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: يا هذا أتُصلّي بالليل؟ فقال الرجل: نعم، فالتفت أبو عبد الله عليه السلام إلى أصحابه فقال: "كذب من زعم أنّه يُصلّي بالليل ويجوع بالنهار، إنّ الله تبارك وتعالى ضمن بصلاة الليل قوت النهار"1.
- وعن أبي بصير قال: شكوت إلى أبي عبد الله عليه السلام الحاجة وسألته أن يُعلّمني دعاء في طلب الرزق فعلّمني دعاء ما احتجت منذ دعوت به، قال: قل في دبر صلاة الليل وأنت ساجد: "يا خير مدعو ويا خير مسؤول ويا أوسع من أعطى ويا خير مرتجى ارزقني وأوسع عليّ من رزقك وسبِّب لي رزقاً من قبلك، إنّك على كلّ شيء قدير"2.
6- يدفع بالدعاء في صلاة الليل شرّ الأعداء
عن يونس بن عمّار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ لي جاراً من قريش من آل محرز قد نوّه باسمي وشهرني كلّما مررت به، قال: هذا الرافضيّ يحمل الأموال إلى جعفر بن محمّد، قال: فقال لي عليه السلام:
"فادع الله عليه إذا كنت في صلاة الليل وأنت ساجد في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين فاحمد الله عزّ وجلّ ومجّده وقل: اللهم إنّ فلان بن فلان قد شهرني ونوّه بي وغاظني وعرّضني للمكاره، اللهم اضربه بسهم عاجل تُشغله به عنّي اللهم وقرّب أجله واقطع أثره وعجّل ذلك يا ربّ الساعة الساعة".
قال: فلما قدمنا الكوفة قدمنا ليلاً فسألت أهلنا عنه قلت: ما فعل فلان؟
فقالوا: هو مريض فما انقضى آخر كلامي حتّى سمعت الصياح من منزله وقالوا: قد مات3.
1- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 474
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 551.
3- م.ن، ص 512.
157
137
التهجــّد في الليل
رابعاً: تحذيران
1- يدأب الشيطان في أن يترك المؤمن قيام الليل
قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: "ما من عبد إلا وهو يتيقّظ مرّة أو مرّتين في الليل أو مراراً فإن قام وإلا لجّ فبال الشيطان في أذنه ألا ترى أحدكم إذا كان منه ذلك قام ثقيلاً كسلانَ"1.
وعن الباقر عليه السلام: "إنّ لليل شيطاناً يُقال له الرها فإذا استيقظ العبد وأراد القيام إلى الصلاة قال له: ليست بساعتك، ثمّ يستيقظ مرّة أخرى فيقول: لم يأن لك فما يزال كذلك يزيله ويحبسه حتّى يطلع الفجر فإذا طلع الفجر بال في أذنيه، ثمّ انصاع يمصع بذنبه فخراً ويصيح"2.
2- لا ينبغي للمؤمن أن يترك صلاة الليل بحال من الأحوال
قال الإمام الصادق عليه السلام: "ليس من شيعتنا من لم يصلِّ صلاة الليل"3.
وهذا معناه أنّه ليس من شيعتهم المخلصين المقرّبين، وهو غاية المبالغة في الدفع نحوها والتحفيز على القيام بها وعدم تركها.
وليس من شيعتهم أيضاً من لم يعتقد فضل صلاة الليل وأنّها سنّة مؤكّدة.
فلا ينبغي لك أيّها المؤمن أن تترك صلاة الليل في حضرٍ أو سفر، في فراغٍ أو شغل، في قوّة أو ضعف، في صحّة أو مرض، في راحة أو تعب، في شتاء أو صيف، في حرٍّ أو برد، لما لهذه الشعيرة من آثار على دين المرء ودنياه، فمن أراد النجاة من عذاب القبر ودواهيه وظلمته فإنّ قيام الليل بمثابة السراج الّذي يُنير له ذاك المقام في البرزخ، ومن أراد في الدنيا الرزق واليمن والتوسعة، والعمر المديد، فإنّ
1- روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 321.
2- م.ن، ص 321.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 8، ص 162.
158
138
التهجــّد في الليل
صلاة الليل توصله إلى ذلك كلّه، ومن أراد الآخرة والمقام المحمود فيها والنجاة من حسابها وأهوالها فعليه بصلاة الليل فإنّه واجد ذلك كلّه.
ومن علم ذلك كلّه وتهاون في هذه العبادة الجليلة فإنّ أدنى ما يقال فيه إنّه غير موفّق، وقد يُقال إنّه ضعيف اليقين والإيمان بالغيب، فعليه أن يبذل قصارى جهده لتقوية إيمانه ويقينه، ودفع الشيطان عنه، ورياضة النفس الأمارة بالسوء المحبّة للراحة والاسترخاء لكي يطوِّعها فتكون تحت حكم العقل والشرع لينال سعادة الدارين إن شاء الله.
التوسعة في البدائل
وإنّ الشريعة قد جعلت تسهيلات كبيرة جدّاً وكثيرة من خلال جعل البدائل عند الاضطرار بل حتّى اختياراً، لكي لا يتذرّع المكلّف بشيء لترك صلاة الليل، أي لتضمن إتيان المكلّف بها والمداومة عليها دون أن يكون عنده أيّ عذر لتركها.
فصلاة الليل مشروعة أداءً وقضاء وتقديماً عن وقت الأداء. وهناك تدرُّج في الفضيلة في أوقات الأداء، فأفضل أوقاتها السحر وكلّما اقتربت من الفجر كان أفضل، ويُمكن إقامتها أداءً ابتداءً من منتصف الليل، ويُمكن تفريقها بأن يؤخّر ركعتي الشفع وركعة الوتر إلى السحر قبيل الفجر.
ومن فاتته في وقت الأداء فإنّه يُستحبّ له قضاؤها، بل ورد في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول: إنّي لأحبّ أن أدوم على العمل وإن قلّ، قال: قلنا: تقضي صلاة الليل بالنهار في السفر؟ قال: نعم"1.
وعن صفوان الجمّال قال: كان أبو عبد الله عليه السلام يُصلّي صلاة الليل بالنهار على راحلته أينما توجّهت به2.
1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 4، ص 92.
2- م.ن، ص 92.
159
139
التهجــّد في الليل
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "قضاء صلاة الليل بعد الغداة وبعد العصر من سرّ آل محمّد المخزون"1.
فالقضاء مشروع في الليل والنهار وفي الليل أفضل.
والقضاء أفضل من التقديم عن منتصف الليل.
ويجوز الاقتصار على الشفع والوتر.
ويجوز تقديمها عن وقتها، أي أن يأتي بها قبل منتصف الليل، وذلك لعدّة طوائف:
الذي يخاف الاحتلام، والذي يخاف أن لا يستيقظ، والمسافر الّذي يخاف فوتها.
- وتجوز من جلوس
ولمن لا يقدر على القيام فله أن يُصلّي نافلة الليل من جلوس، بل له الصلاة من جلوس اختياراً، إلا أنّه يُستحبّ عندئذ أن يجعل كلّ ركعتين ركعة واحدة.
- يُشرع أداؤها راكباً
ويجوز أداؤها حتّى وإن كان ماشياً أو راكباً على دابّته، وإن لم يكن مستقبل القبلة، فيما إذا كان على طهارة:
- روى محمد بن مسلم قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: "صلِّ صلاة الليل والوتر والركعتين في المحمل"2.
- وعن صفوان الجمّال قال: "كان أبو عبد الله عليه السلام يُصلّي صلاة الليل بالنهار على راحلته أينما توجهت به"3.
1- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج3، 185.
2- م.ن، ج 4، ص 90.
3- م.ن، ص 92.
160
140
التهجــّد في الليل
أخي العزيز هل بقي لك من عذر بعد معرفة عظمة ثواب وآثار هذه الطاعة والموهبة الربانية، وبعد التعرُّف إلى هذه التسهيلات والخيارات المتعدِّدة الّتي أتاحتها الشريعة المقدّسة للمكلّفين كي لا تفوت عليهم آثار هذه الشعيرة الإلهية الراقية؟
أعد النظر وفكِّر واشحذ سيف الهمّة والإرادة واعزم على البدء فوراً بصلاة الليل واستعن بالله تعالى فإنّه هادٍ لمن استهداه ومعين لمن استعانه، وما توفيقنا إلّا منه تعالى عليه توكّلنا وإليه المصير.
ولا تُحي الليل باللهو واللغو على التلفاز والإنترنت، فيضيع عمرك وتضيع آخرتك.
خامساً: تأكيد العلماء الربّانيين على صلاة الليل، قولاً وعملاً
العلماء الربّانيون أكّدوا على المداومة على صلاة الليل وعلى عدم تركها، حتّى أنّهم صرّحوا بأنّ السالك لا يصل إلى المقامات الروحانية العرفانية إلا إذا كان مؤدّياً لصلاة الليل، يقول المرحوم الملكيّ التبريزيّ:
وحكى لي شيخي في العلوم الحقّة: "أنّه ما وصل أحد من طلّاب الآخرة إلى شيء من المقامات الدينيّة إلا إذا كان من المتهجّدين".
- يقول العلّامة الطباطبائيّ قدس سره: "عندما تشرّفت بالنجف الأشرف للدراسة ونظراً لقرابة الرحم، كنت أحياناً أتشرّف بزيارة المرحوم القاضي وذات يوم كنت واقفاً في مدرسة في النجف فمرّ المرحوم القاضي من هناك وعندما وصل إليّ وضع يده على كتفي وقال: يا بنيّ إذا كنت تُريد الدنيا فصلِّ صلاة الليل وإذا كنت تُريد الآخرة فصلِّ صلاة الليل.
قد أثّر فيّ هذا الكلام إلى حدّ أنّي بعد ذلك وطيلة خمس سنوات رجعت بعدها إلى إيران لم أترك مجلس السيّد القاضي".
161
141
التهجــّد في الليل
- زينب عليها السلام ليلة الحادي عشر لم تترك صلاة الليل.
سبحان الله ما أعظم هؤلاء الّذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، إنّهم أولياء الله حقّاً والحوراء زينب عليها السلام من رموزهم.
في ليلة الحادي عشر وما أدراك ما ليلة الحادي عشر؟
نساء وأطفال، أرامل ويتامى، ذعر.. رعب.. قلق.. فقدان للحامي.. فقدان للرأفة والرحمة من القلوب الجافية الغليظة الّتي لم يبق فيها ذرّة من إنسانية، جوع، عطش، نظر إلى المجهول...
أجساد مطرّحة على وجه البيداء لا تزال تنزف مزمَّلة بدمائها..
في هذه الأجواء.. الّتي بمجرّد تصوّرها يدخل الرعب، والألم، والأسى في القلب، كانت زينب عليها السلام وما أدراك ما زينب وما كان دور زينب؟
هي قائدة قافلة الأسرى والحارسة لها..
هي الراعية والحاضنة للأطفال واليتامى.. والجامعة لهم بعد أن هاموا على وجوههم في البيداء...
هي المتعثّرة بأذيالها متردّدة من جهة إلى جهة..
السياط تتلوّى على متنيها.. الأشواك تُدميها.. قلبها يلتهب ناراً..
في هذا الخضمّ وهذه الأجواء الّتي كلّ ما فيها يدعو إلى الرهبة والألم والقلق والتي كان الجهد فيها والضنك والتعب يستوعب الكيان ويهدّ الأركان توجّهت زينب إلى ربّها ولم تترك صلاة الليل، إلا أنّها كانت منهكة في جهد لا يوصف، فلم تطق بأبي وأمي أن تؤدّي صلاة ليلها من قيام، لم يكن لديها طاقة على القيام، ولكن لم يصدّها ذلك عن إقامة الصلاة، فصلّت صلاة الليل من جلوس.
سلام الله عليك يا زينب...
اللهم اجعلنا من محبّيها وارزقنا التأسّي بها واحشرنا معها يا ربّ العالمين.
162
142
التهجــّد في الليل
- الإمام الخمينيّ قدس سره وصلاة الليل
يقول أحد المقرّبين من الإمام الخمينيّ قدس سره: إنّه منذ خمسين سنة لم يترك صلاة الليل في حال الصحة أو المرض، في السجن وفي الأحوال الاعتيادية، أثناء النفي وحتى على سرير المرض كان يُصلّي صلاة الليل.
مرض قدس سره في قُمّ وبناء على أمر الأطباء كان لا بُدّ أن ينتقل إلى طهران. وكان الجو بارداً وكان الثلج والمطر يتساقطان، والجليد يُغطّي الشوارع، وبقي قدس سرهعدّة ساعات في سيارة الإسعاف، وبعد الوصول إلى مستشفى القلب صلّى أيضاً صلاة الليل.
- وفي ليلة قدومه من باريس إلى طهران كان الجميع في الطائرة نياماً بينما الإمام قدس سره كان في الطبقة العليا من الطائرة يُصلّي صلاة الليل...وكان يبكي بحيث إنّ مضيفي الخطوط الفرنسية تعجّبوا وسألوا هل هناك ما يؤذيه..
فقال أحد من كان يرافقه إنّها عادته في كلّ ليلة.
- وعندما اعتقل في قُمّ ونُقل إلى السجن زمن الشاه صلّى صلاة الليل بحيث قد أبكى بعض من كان معه..!
163
143
التهجــّد في الليل
للمطالعة
السيّد بحر العلوم يرفض متابعة التدريس
لطلّاب لا يصلّون الليل
كان قدس سره يتجوّل في كلّ ليلة في أزقّة النجف ويحمل الطعام للفقراء.. ومرّة عطّل الدرس عدّة أيّام فكلّفني الطلّاب (والكلام للمولى السلماسي أحد الملازمين للسيّد) أن
أستوضحه السبب وعندما سألته قال: لا أدرِّس.
وبعد عدّة أيّام سألته مجدّداً عن سبب تعطيل الدرس قال: لم أسمع أبداً هؤلاء الطلّاب يناجون الله تعالى في منتصف الليل ويتضرّعون ويبكون..مع أنّي أتجوّل في الليالي
في الأزقّة، هؤلاء الطلّاب لا يستحقّون أن أُدرِّسهم.
وعندما اطّلع الطلّاب على ما قاله رحمه الله انصرفوا إلى صلاة الليل والتضرّع والبكاء، واستأنف السيّد درسه.
قصص العلماء، ص173-174.
164
144