وذكرى للمؤمنين


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-05

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
 
﴿ المص* كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾1 .
 
﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾2.
 
القرآن الكريم دواء كلّ داء، وشفاء لما في الصدور، أنزله الله سبحانه وتعالى على قلب النبيّ الأكرم صلى اله عليه وآله وسلم، لينذر به الناس قاطبة، ومن هنا كان القرآن الكريم مليئاً بالمواعظ والعبر. مليئاً بالآيات الّتي تُذكّر المؤمنين وتزيدهم قرباً إلى الله تعالى، كان القرآن حقّاً في وجوده، حقّاً في نزوله، حقّاً في تبليغه، حقّاً في كلّ شيء فيه، ولم يبقَ سوى أن ينهل طالبو الحقّ والمعرفة منه، ويستفيد روّاد الهداية من معينه، ويرتوي كلّ عطاشى اليقين من مواعظه وعبره، فهو الموعظة والذكرى للمؤمنين.
 
 

1- سورة الأعراف، الآيتان: 1 ـ 2.  
2-سورة هود، الآية: 120. 
 
 
 
5

1

المقدّمة

 وبعد ملاحظة ما لكتاب الموعظة من أثر في النفوس، وما كان له من صدى إيجابيّ في المساجد، كان هذا الكتاب الّذي بين يدي القرّاء الأعزّاء متناولاً لبعض الآيات القرآنيّة، في محاور ثلاثة: عقائديّ، وأخلاقيّ، ومفاهيميّ، عسى أن يكون له أثر في قلوب المؤمنين، فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين، وعسى أن ننال به رضى صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإنّ في رضاه رضى الله سبحانه وتعالى، والحمد لله ربّ العالمين.


مركز نون للتأليف والترجمة 
 
 
 
 
6

2

هدفيّة الخلق

 المحور الأول


- هدفية الخلق
- الشرك الجلي والشرك الخفي
- التوكل على الله
 
 
 
7

3

هدفيّة الخلق

 الدرس الاول: هدفية الخلق
 
 
 
 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِين﴾(الأنبياء:16)
 
2- ﴿ َيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران:191)
 
3- ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون:115)
 
 
 
 
 
9

4

هدفيّة الخلق

 الكون مخلوق بحكمة ولهدف

 
إنّ من الضروري للمسلم أن يعرف أنّ هذا الكون لم يُخلق عبثاً ولهواً ولعباً بعيداً عن الحكمة، وهذا ظنُّ الّذين كفروا من الملحدين المادّيين، الّذين لا يعترفون بهدف للخلق؛ لأنّهم يعتقدون أنّ الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي الّتي ابتدأت الخلق، بصدفة عمياء، ولهذا فإنّهم يؤيّدون اللغويّة وعدم الفائدة في مجموعة الوجود.
 
فليس غريباً مع هذه النظرة العبثيّة أن يكون الغرب المادّيّ ـ الّذي لا إيمان له بوجود هدف وغاية من الخلق ـ مجتمعاً عبثيّاً لا همّ له إلّا الأكل والشرب واللهو واللعب واللغو والغناء والملذّات وإضاعة الوقت في الأمور غير المفيدة.
 
وهذه النظرة ليست جديدة بل لها جذور تاريخيّة، وقد كانت الجاهليّة الأولى تؤمن بهذه العبثيّة، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَ يَظُنُّونَ﴾1 .
 
نظرة الإسلام إلى الخلق
 
أمّا نظرة الإسلام إلى الخلق فهي ظاهرة من قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾2.
 
وقوله سبحانه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾3.
 
 

1- سورة الجاثية، الآية: 24.   
2- سورة الأنبياء، الآيات: 16ـ 17ـ 18.
3- سورة المؤمنون، الآية: 115.   
 
 
 
 
11

5

هدفيّة الخلق

 وقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾1.

 
فما هو الهدف إذن من الخلق؟
 
الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق تعالى، فهو غنيٌّ عن خلقه، وإنّما يعود إلينا نحن المخلوقين الناقصين.
 
يُمكن القول إنّ الهدف من خلقنا هو تكاملنا وارتقاؤنا وذلك يحصل بمعرفتنا لخالقنا وبعبادته أي طاعته.
 
فبطاعته نتكامل ونسلك طريق الحكمة، وبعصيانه نتسافل إلى الحيوانيّة والشهوانيّة واللغويّة واللاهدفيّة.
 
يقول تعالى مشيراً إلى غاية خلق الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ﴾2.
 
﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾3.
 
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾4.
 
لغو الكفّار ولهوهم
 
وحيث كان الكفّار ينظرون إلى الدنيا نظرة عابثة لاغية لاهية انعكس ذلك على سلوكهم، فإنّهم يأخذون الأمور حتّى المهمّة منها ـ كمسألة الدّين المصيريّة ـ مأخذاً لهويّاً، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ﴾5.
 
 

1- سورة القيامة، الآية: 36.
2- سورة الذاريات، الآية: 56.  
3- سورة الطلاق، الآية: 12.   
4- سورة الملك، الآية: 2.
5- سورة المائدة، الآيتان: 57ـ 58. 
 
 
 
 
12

6

هدفيّة الخلق

 نُلاحظ في هذه الآيات أنّ الكافرين يتعاملون مع الدّين وهو مسألة مهمّة وخطيرة, لأنّه يمثِّل مصير الإنسان باستهزاء ولعب.

 
والهزو: هو الكلام المصحوب بحركات تُصوّر السخرية، ويُستخدم للاستخفاف والاستهانة.
 
واللعب: هو الّذي يصدر عبثاً وبدون هدف صحيح، أو خالياً من أيِّ هدف, وسُمّيت بعض أفعال الصبيان لعباً لنفس السبب.
 
يُنقل عن أبي جهل ـ رأس الكفر زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه كان يقف على قريش ويقول: أتُريدون أن أُطعمكم من الزّقوم الّذي يتهدّدنا به محمّد؟ ثمّ يبعث فيحضرون الزبد والتمر، فكان يقول: هذا هو الزّقوم، وبهذا الأسلوب كان يستهزأ بآيات الله، ويستهين بأمور الدّين الخطيرة.
 
يُروى عن لقمان الحكيم: "...وللغافل ثلاث علامات السهو، واللهو،والنسيان"1.
 
ويُروى عنه محذّراً ابنه من مجالس اللهو وطالباً مجالسة أهل الحكمة والذكر: "اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإن تكن عالماً ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعلّ الله تعالى أن يظلّهم برحمة فيعمّك معهم"2.
 
تصحيح رؤية الكفّار وتنبيه المؤمنين
 
ومن أجل أن يحوِّل القرآن أفكار الكفّار العبثيّة اللاغية من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع، يُبيّن لهم حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة الّتي لا يؤمنون بها، يقول سبحانه: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 13، ص 415، كتاب النبوّة، ح 8.
2- الكافي، ج1، ص39، ح1.  
 
 
 
 
13

7

هدفيّة الخلق

 الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾1.

 
ومعنى اللهو: كلّ عمل يصرف الإنسان عن مسائل الحياة الأساسيّة. أمّا اللعب: فيطلق على الأعمال الّتي فيها نوع من النظم الخياليّ، والهدف الخياليّ، ففي اللعب مثلاً يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثالث قائداً للجيش، والرابع سارقاً، وبعد انتهاء اللعب المؤقّت يعود كلُّ شيء إلى مكانته.
 
ولا تنسَ نصيبك من الدنيا
 
ما مرّ من كلام قد يوحي لبعض الناس بأنّ حياة المؤمن قاتمة، سوداء، جادّة إلى أبعد الحدود، لا ترفيه، لا لعب، لا تسلية، لا سياحة، بل فقط عليه أن ينظر إلى ما وراء الدنيا، إلى الموت والقبر والقيامة والآخرة، ويترك الدنيا لأهلها ومحبّيها...
 
في الحقيقة ليس الأمر كذلك، فالإسلام دين يُحاكي فطرة الإنسان وطبيعته، ويُعطي لكلِّ شيء حقّه، فالإنسان ليس ملكاً من الملائكة بل فيه جنبة مادّيّة لا بدّ من مراعاتها، وإلّا إذا لم تُراعَ أدّت إلى ردّة فعل عكسيّة.
 
وقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "روّحوا قلوبكم فإنّها إذا أُكرهت عميت"2.
 
وروي عنه أيضاً: "إنّ للقلوب شهوة وكراهة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من إقبالها وشهوتها فإنّ القلب إذا أُكره عمي"3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ينبغي للعاقل إذا كان عاقلاً أن يكون له أربع ساعات من النهار: ساعة يُناجي فيها ربّه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يأتي أهل العلم الّذين يُبصّرونه في أمر دينه وينصحونه، وساعة يُخلّي بين نفسه ولذّتها من أمر الدنيا فيما يحلّ ويحمد"4.
 
 
 

1- سورة العنكبوت، الآية: 64.  
2- عوالي اللآلي، ج 3، ص 111.  
3- غرر الحكم، ج 1، ص 24.
4- بحار الأنوار، ج 1، ص 131.
 
 
 
 
14

8

هدفيّة الخلق

 هذا وقد شاهدنا وسمعنا عن أناس كانوا ملتزمين بالإيمان إلّا أنّهم انقلبوا على أعقابهم, لأنّهم فهموا الدِّين أو أُفهموه بشكل قاتم سلبيّ، ممّا أدّى إلى ردّة فعل عكسيّة، فتركوا الالتزام والعمل الصالح.

 
اللهو الهادف
 
لقد مرّت معكم آيات عديدة تذمّ حالة اللهو اللاغي، وإليكم بعض الأحاديث الّتي تذمّ هذه الحالة الّتي تُنسي الإنسان مسؤوليّاته الجادّة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "اللهو من ثمار الجهل"1. وعنه عليه السلام: "المؤمن يعاف اللهو ويألف الجدّ"2 "لا يُفلح من وَلِه باللعب واستهتر باللهو والطرب"3.
 
وفي المقابل هناك أحاديث تُشير إلى نماذج من اللهو الهادف الّذي يُرفِّه الإنسان المؤمن به عن نفسه، وإليكم بعضها.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بالرمي فإنّه خير لهوكم"4.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنّها نعمة كفرها"5.
 
إذن على الإنسان المؤمن أن يكون جادّاً حكيماً في الحياة، ولكن لا يعني ذلك ترك الدنيا وإعمارِها وبنائِها.
 
وننهي كلامنا بدعاءٍ للإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي أشكو إليك نفساً بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة...، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسّها الشرُّ تجزع، وإن مسّها الخير تمنع، ميّالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو... "6.
 

1- غرر الحكم، ج 1، ص 314.  
2- م. ن، ج 1، ص 314.  
3- م. ن، ج 1، ص 314.
4- ميزان الحكمة، ج 4، ص 124.   
5-م. ن، ج 4، ص 1120.   
6-الصحيفة السجاديّة، مناجاة الشاكين.
 
 
 
 
15

9

هدفيّة الخلق

 للمطالعة 

 
طول الأمل
 
يحسن بنا أن نُفكّر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين والنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل والطغيان، لكي نُقارن بين حالنا وحالهم. إنّ معرفتهم بطول السفر ومخاطره قد سلبت الراحة منهم، وإنّ جهلنا أوجد النسيان والغفلة فينا.
 
إنّ نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم قد روّض نفسه كثيراً في عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله حتّى ورمت رجلاه، فنزلت الآية الكريمة تقول له: ﴿ طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾1. وعبادات علي عليه السلام وتهجّده وخوفه من الحقّ المتعال معروف للجميع.
 
إذاً، اعلم أن الرحلة كثيرة المخاطر، وإنّما هذا النسيان الموجود فينا ليس إلّا من مكائد النفس والشيطان، وما هذه الآمال الطوال إلّا من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقّظ أيّها النائم من هذا السبات وتنبّه، واعلم أنّك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنّك راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت. فإذا تهيّأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يُصبك شيء من عناء السفر، ولا تُصاب بالتعاسة في طريقه، وإلّا أصبحت فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّة لا عزّة فيها وفقر لا غناء معه وعذاب لا راحة منه. إنهّا النار الّتي لا تنطفئ والضغط الّذي لا يُخفّف، والحزن الّذي لا يتبعه سرور، والندامة الّتي لا تنتهي أبداً.
 
انظر أيّها الأخ إلى ما يقوله الإمام في دعاء كميل وهو يُناجي الحقّ عزَّ وجلَّ:
 
"وَأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاَءِ الدُّنْيَا وَعُقُوبَاتِهَا" إلى أن يقول: "وَهذَا مَا لا تَقُومُ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ". تُرى ما هذا العذاب الّذي لا تطيقه السماوات 
 
 

1- سورة طه، الآيتان: 1  و 2.
 
 
 
 
 
16

10

هدفيّة الخلق

 والأرض، الّذي قد أُعدّ لك؟ أفلا تستيقظ وتنتبه، بل تزداد كلّ يوم استغراقاً في النوم والغفلة؟

 
فيا أيّها القلب الغافل! انهض من نومك وأعدّ عدّتك للسفر، "فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ"1، وعمّال عزرائيل منهمكون في العمل ويُمكن في كلّ لحظة أن يسوقوك سوقاً إلى العالَم الآخر. ولا تزال غارقاً في الجهل والغفلة؟
 
"اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإِنَابَةَ إِلَى دارِ السُّرُورِ والاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ"2.
 
 
الأربعون حديثا،الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص169ـ171.
 
 

1-نهج البلاغة  الخطبة  204  (الشيخ صبحي الصالح).  
2-مفاتيح الجنان، دعاء ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان.
 
 
 
 
17

11

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 الدرس الثاني: الشرك الجلي والشرك الخفي

 

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌِ﴾(لقمان:13)
 
2- ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًاِ﴾(النساء: 48)
 
3- ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًاِ﴾(النساء:116)
 
 
 
 
 
19

12

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 أنواع الشرك

 
الشرك له أشكال مختلفة:
 
لقد بدأ لقمان الحكيم وعظه لابنه بمسألة أساسيّة لانطلاق الإنسان نحو الكمال، وهي أنْ لا يُشرك بالله ووصفه بأنّه ظلمٌ عظيم: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
 
والشرك له معانٍ وأشكال عديدة نذكر منها:
 
الشرك في الذّات، بأنّ يعتقد أنّ هناك إلهاً آخر مع الله جلّ وعلا.
 
الشرك في الصّفات، بأنْ يعتقد بأنّ صفات الله زائدة على الذات، وليست عين ذاته.
 
الشركُ في الربوبية، بأنْ يعتقد أنّ هناك شريكاً لله تعالى في حركة العالم، والحال أنّه تعالى هو مسبّب الأسباب وعلّة العلل، فلا مؤثّر في الوجود إلّا الله سبحانه. يقول 
تعالى:  ﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾1.
 
الشرك في التقنين والتشريع
 
يقول سبحانه:  ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ﴾2.
 
فلمّا ثبت أنّه سبحانه الخالق والمدبِّر، فليس لأحد غيره صلاحيّة التشريع والتقنين، فهو أعلم بما خلق، يعلم ما يصلحهم وما يفسدهم. فلا سهم لغيره في تدبير العالم 
 
 

1- سورة الرعد، الآية:16.   
2- سورة الأنعام، الآية: 57.  
 
 
 
 
21

13

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 العلويّ أو السفليّ كي يستطيع أنْ يضع قوانين منسجمة مع نظام التكوين.

 
فلا بُدَّ للمجتمع البشري من حكومة، لأنّ الحياة الاجتماعيّة تتطلّب ذلك، فلا يُمكن بدون حكومة أنْ تقسّم المسؤوليات، وتُنظّم المشاريع، ويُحال دون الظلم والتعدّي والتجاوز.
 
ومن جهة أخرى، يُقرِّر مبدأ الحريّة أن لا أحد له حقّ الحكومة على أحد، إلّا إذا سمح بذلك المالك الأصلي والحقيقي، وهو الله خالق كلّ شيء وربّ العالمين.
 
من هنا يرفض الإسلام كلّ حكومة لا تنتهي إلى الحكومة الإلهيّة، وهو أيضاً يرى شرعيّة الحكم للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمّة المعصومين عليهم السلام ثُمّ للفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
الشرك في العبادة:
 
فلا يجوز عبادة غير الله، ولا يستحقّ غيره ذلك، لأنّ العبادة يجب أن تكون لمن هو كمال مطلق. ومطلق الكمال، لمن هو غنيٌّ عن الآخرين، ولمن هو واهب النِّعم وخالق كلّ شيء، وهذه صفات لا تجتمع إلّا في ذات الله سبحانه.
 
والهدف الأصلي للعبادة هو الاقتراب من ذلك الكمال المطلق، والوجود اللامتناهي، هو السعي لإنارة النفس بقبسٍ من صفات كماله وجماله، وينتج عن ذلك الابتعاد عن الأهواء والشهوات الجامحة والاتّجاه نحو بناء النفس وتهذيبها وتكاملها.
 
الشرك الخفيّ، الرياء:
 
ومن الشرك الخفيّ الرياء، عن أبي عبد الله عليه السلام: "كلّ رياء شرك، إنّه من عمل للنّاس كان ثوابه على النّاس، ومن عمل لله، كان ثوابه على الله"1.
 

1- أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الرياء، ص 293،  ح 3.   
 
 
 
 
22

14

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 وعن الإمام الباقر عليه السلام: كان فيما وعظ به لقمان ابنه أنْ قال: "يا بُنيّ، لا تُرِ الناس أنّك تخشى الله وقلبك فاجر"1.

 
فكلُّ عملٍ صالح لا يُراد فيه الله تعالى فهو رياء، فالصلاة والصوم والزّكاة والحجّ والجهاد والأخلاق الحسنة والعقائد الحقّة والمواقف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة العادلة ، ينبغي أنْ تكون لله ربِّ العالمين الكامل المطلق، لا للناس الضعفاء الّذين لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً.
 
وفي وصيّة لقمان لابنه، قال: "يا بُنيّ، إذا صُمت فاغسل وجهك، وادهن رأسك، وارفع صوتك في الملأ كي لا يعلموا أنّك صائم ولا تراءِ الناس بصومك وصلاتك فتهدِم بنيانك وتغُرّ غيرك فإنّ الّذي يعمل لله في السِّر يُجزيه في العلانية ويرفع درجاته في الآخرة والخلود في داره والنظر في وجهه ومرافقة أنبيائه"2.
 
دقّة أمر الرياء
 
ربما الكثير منّا يعرف قبح الرياء ولكن قد يقع الكثير فيه وهو لا يشعر ولا يدري, لدقّة أمر الرياء وخفائه، فهو من الأمور النفسيّة الباطنيّة المتعلّقة بنيّة الإنسان وقلبه، لا يطّلع عليها إلّا الله سبحانه، ونحن نشير إلى بعض النماذج والأمثلة على دقّة أمر الرّياء:
 
في صلاة الجماعة:
 
قد يدخل الرياء إلى المأموم كأن يجلس رجل محترم ذو جاه في الصفِّ الأخير، وكأنّه يُريد أنْ يقول للحاضرين: إنّي بمقامي هذا قد أعرضت عن الدنيا وليس لدي هوى في النفس، فقد جئت وجلست في الصفِّ الأخير.
 
ولا يكتفي الشيطان بمن يصلّي جماعة، بل يأخذ بزمام بعض المصلّين المنفردين
 

1- بحار الأنوار، ج 13، ص 418، ح 11.
2- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 85  86.
 
 
 
23

15

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 عن الجماعة، في زاوية المسجد، حيث يفرش سجّادته منفرداً، ويُصلّي في حضور الناس ويُطيل السجود والركوع والأذكار الطويلة، هذا الإنسان وكأنّه يُريد أنْ يقول للناس: "إنّني متديّن ومحتاط إلى درجة ترك صلاة الجماعة لكي لا أُبتلى بإمام غير جامع للشرائط".

 
وهذا الأخير مضافاً إلى أنّه مبتلى بوساوس الشيطان فقد أوقعه في مخالفة التكليف الشرعي وأبطل صلاته، لما يراه مراجعنا العظام أنّه إذا كانت هناك صلاة جماعة قائمة 
وصلّى منفرداً بشكل يُسيء بها إلى الإمام أو إلى الجماعة فصلاته باطلة.
 
صلاة الليل:
 
قد يتحدّث بعض الناس عن صلاة الليل أو يُكثر السؤال عن مسائل صلاة الليل، وكأنّه يُريد أن يُوحي إلى الناس بأنّه من أهل صلاة الليل.
 
الصدقة:
 
قد يُعطي بعض الناس الصدقة في الخفاء، ولكن يُحاول جهده أن يُظهر للناس أنّه تصدّق خفاءً، ليرى الناس فضيلته، مضاعفة، أي الصدقة وفي الخفاء.
 
علامات الرياء:
 
عن الإمام الصادق عليه السلام: قال لقمان لابنه: "للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان الناس عنده، ويتعرّض في كلّ أمر للمحمدة"1.
 
من علامات الإنسان المرائي أنّه يُشاهد في نفسه إعراضاً عن الطاعات عندما يكون وحده، وإذا تعبّد فمع كلفة أو من منطلق العادة من دون إقبال وتوجّه وخشوع، ولكن 
عندما يحضر في المحافل العامّة ينشط ويزداد إقبالاً وخشوعاً.
 

1- بحار الأنوار، ج 13، ص 415، ح 8.
 
 
 
 
24

16

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 ثُمّ تراه يرغب في أنْ يمدحه الناس على كلِّ عمل عمله، فتجد أذنه متوجِّهة إلى ألسن الناس وقلبه عندهم، لكي يسمع من يمدحه، بقوله: ما أشدّ تديّن والتزام هذا الإنسان، إلى آخر لائحة المديح الّتي يطرب لها.

 
علاج الرياء
 
للرياء علاج علميّ وعمليّ:
 
أمّا العلميّ:
 
العلم بأنّ الله حاضر وأنّه أقرب إليك من حبل الوريد، وبهذا العلم تستحي إنْ عملت لغير الله الحاضر.
 
ومن الآيات الّتي تدلّ على حضور الله وعلمه بكلِّ شيء، قول لقمان لابنه وهو يعظه: ﴿ ِيَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾1.
 
العلم بأنّ الله هو مالك القلوب، وليس رياؤك هو من يأخذ بالقلوب، بل الناس تمقت المرائي.
 
العلم بأنّ لا فائدة تُجنيها من حبِّ الناس الضعاف أو بغضهم، وهم لا يملكون شيئاً من دون الله تعالى، وأنت تقول في صلاتك "الله أكبر" فاعمل للأكبر لا للأصغر.
 
يقول الإمام الخميني رحمه الله: "إذاً أيُّها العزيز، اطلب السمعة والذكر الحسن من الله، التمس قلوب الناس من مالك القلوب، اعمل أنت لله وحده فستجد أنّ الله تعالى ـ فضلاً عن الكرامات الأخرويّة ونعم ذلك العالم ـ سيتفضّل عليك في هذا العالم نفسه بكرامات عديدة، فيجعلك محبوباً، ويُعظّم مكانتك في القلوب، ويجعلك مرفوع الرأس ـ وجيهاً ـ في كلتا الدّارين. ولكن إذا استطعت فخلّص قلبك
 

1-  سورة لقمان، الآية 16.
 
 
 
 
 
25

17

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 بصورة كاملة بالمجاهدة والمشقّة، من هذا الحبّ أيضاً، وطهّر باطنك، كي يكون العمل خالصاً من هذه الجهة، ويتوجّه القلب إلى الله فقط، وتنصع الروح، وتزول أدران النفس... "1.

 
الإلتفات إلى أنّ الله تعالى لا يقبل عمل المرائي. ففي الحديث القدسيّ "أنا خير شريك، من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله إلّا ما كان خالصاً لي"2. فلا ينال المرائي غير الخسران في الدنيا والآخرة.
 
وأمّا العمليّ:
 
فأن تحاول العبادة في السرّ، فإن أصبحت عبادتك في السرّ لا تختلف عن العلن بل أفضل، فهذا يُشير إلى أنّ عبادتك سليمة إنْ شاء الله.
 
وإنْ رأيت أنّ عبادة العلن لا تزال أفضل من السرّ، فهذا يُشير إلى خلل في عبادتك عليك إصلاحه بالاستمرار في العبادة سرّاً.
 

1- الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، دار التعارف، ص 50.
2-  الوسائل، ج 1، الباب 8، من أبواب مقدّمة العبادات، ص 44 ، ح 9.
 
 
 
 
26

18

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 للمطالعة 


إنّ الإنسان يرغب أن يتفرّد في استيعاب معضلة علميّة وحلّها لدى محضر العلماء والرؤساء والفضلاء، ويبتهج أكثر، كلّما كان توضيحه للمسألة العلميّة أحسن، ولفت انتباه الحاضرين أكثر. لأنّه يُحبّ أن ينتصر على كلّ من يُناظره. إنّه يشعر بنوعٍ من الدلال العلميّ والتفوّق، وإذا اقترن ذلك بتصديق من إحدى الشخصيّات، لكان نور على نور. إنّ هذا المسكين غافل عن أنّه أحرز هنا موقعاً لدى الفضلاء والعلماء ولكنّه سقط من عين ربّهم ومالك ملوك العالَم، وأنّ عمله قد تُرك بأمر الحقّ المتعال في سجّين. ثمّ إنّ عمله هذا من الرياء ممزوج بعدّة معاصٍ أخرى، مثل فضحه وإذلاله وإيذائه أخاً له في الإيمان، وأحياناً التجرّؤ على مؤمن وهتكه، وكلّ واحد من هذه الأعمال هي من الموبقات وكافية وحدها لإدخال الإنسان في جهنّم. وإذا ألقت النفس مرّة أخرى شباك كيدها، لتقول لك: إنّ هدفي هو إعلان الحكم الشرعيّ وإظهار كلمة الحقّ وهو من أفضل الطاعات، وليس لإظهار العلم والتكبّر وحبّ الظهور، فاسأل نفسك في الباطن أنّه لو كان زميلي المساوي لي في الدرجة العلميّة هو الّذي قال ذلك الحكم الشرعيّ وهو الّذي حلَّ تلك المعضلة وكنتِ أنتِ مغلوبة في ذلك المحضر، أكان ذلك على حدٍّ سواء عندك؟ إذا كان كذلك فأنت صادق. وإذا لم تترك كيدها وقالت لك: إنّ إظهار الحقّ فضيلة، وله ثواب عند الله تعالى، وأنا أُريد أن أنال هذه الفضيلة، وأُعمّر دار الثواب، فقل لها: لنفرض أنّ الله تعالى أنعم عليكِ بتلك الفضيلة نفسها في حالة مغلوبيّتك وتصديقك بالحقّ، فهل تبقين طالبة للغلبة؟ فإذا رجعتم إلى باطنكم ورأيتم أنّكم ما زلتم تميلون إلى الغلبة، والاشتهار بين العلماء بالعلم والفضل، وأنّ بحثكم العلميّ كان لأجل الحصول على المكانة في قلوب أولئك، إذاً، فاعلموا أنّكم مراؤون في هذا البحث العلميّ الّذي هو من أفضل الطاعات والعبادات وأنّ عملكم هذا ـ بحسب الرواية الشريفة في كتاب 
 
 
 
 
 
27

19

الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

 (الكافي) هو في "سجّين"، وأنّكم مشركون بالله. وإنّ هذا العمل هو لأجل حبّ الجاه والشرف وهما ـ بحسب الرواية ـ أشد ضرراً على الإيمان من ذئبين أُطلقا على قطيعٍ بلا راعٍ.


إذاً، فعليكم أنتم أهل العلم المتكفّلين بإصلاح الأمّة والإرشاد إلى الآخرة الأطبَّاء للأمراض النفسيّة، أن تُصلحوا أنفسكم أوّلاً وتجعلوا مزاجكم النفسيّ سالماً، كي لا تكونوا في زمرة "العالِم بلا عمل" وهو صنف معلوم الحال والعاقبة.

اللّهمّ طهّر قلوبنا من كدر الشرك والنفاق، وصفِّ مرآة قلوبنا من صدأ حبّ الدنيا وهي منشأ جميع هذه الأمور. اللّهمّ رافقنا، وخذ بأيدينا نحن المساكين المبتلين بهوى النفس وحبِّ الجاه والشرف في هذا السفر المملوء بالخطر وفي هذا الطريق المليء بالمنعطفات والصعاب والظلمات إنّك على كلّ شيء قدير.

الأربعون حديثاً،الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص56ـ 58.
 
 
 
 
28

20

التوكّل على الله

الدرس الثالث: التوكل على الله

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾.(الفرقان: 58)
 
2- ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.(الطلاق: 3)
 
3- ﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾.(آل عمران: 159)
 
 
 
 
29

21

التوكّل على الله

 التوكُّل

 
الأصل في التوكّل إظهار العجز والإعياء، والتوكّل على الله هو انقطاع العبد إليه في جميع ما يأمله من المخلوقين1.
 
والتوكُّل على الله تعالى، هو سبيل الراشدين، وديدن العقلاء والمؤمنين، وهو الطريق الطبيعي المنطقي، باعتبار أنّ الله تعالى هو المتّصف بكلّ الصفات الكماليّة، فهو الخالق والعالم والقوي والغني.
 
وقيل: "لو أنّ رجلاً توكّل على الله بصدق النيّة لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم.."2.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: محذّراً من الإتِّكال على غير الله سبحانه: "لا تتّكل إلى غير الله فيكلك إليه"3.
 
وعن لقمان الحكيم: "يا بُنيّ... ومن ذا الّذي توكّل على الله فوكله إلى غيره؟!"4.
 
وعنه أيضاً: "وعليك ـ يا بُنيّ ـ باليأس عمّا في أيدي الناس والوثوق بوعد الله، واسع فيما فُرض عليك، ودع السعي فيما ضمن لك، وتوكّل على الله في كلِّ أمورك يكفك"5.
 
 
 

1- مجمع البحرين، ج4، ص546
2-روضة الواعظين، ص 426. 
3-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 689، ح2229 
4-بحار الأنوار، ج 13، ص 432، ح 24.
5- إرشاد القلوب، الديلمي، ص 73.
 
 
 
 
31

22

التوكّل على الله

 التوكّل والأسباب الطبيعيّة

 
هل أنّ الاعتماد على الله سبحانه يعني ترك الأسباب الطبيعيّة في الحياة؟ وهل يعني الانزواء عن الناس وتجنُّب الخوض في معترك الحياة، والاكتفاء بالتضرّع والدعاء؟
 
بالطبع لا، فإنّ هذا التفسير هو تواكل لا توكّل، وانّما التوكّل هو استسلام لله سبحانه واعتماد عليه لأنّ بيده كلّ الأمور. 
 
وعلى الإنسان أن يسير وفقاً للأسباب الّتي وضعها الله سبحانه، ولكن مع هذا عليه أن يستشعر في نفسه أنّه ضعيف ولا استقلال له في إرادة أموره من دون الله، وأنّ الأسباب العاديّة باستقلالها لا تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد، بل عليه أن يلتجئ في أموره إلى الله تعالى، العالِم بكلّ تفاصيل الكون، المطّلع على عباده، مسبّب الأسباب، ومقلّب القلوب.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ردّاً على سؤال: "يا رسول الله أعقلها1 وأتوكّل، أو أُطلقها وأتوكّل؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: اعقلها وتوكّل"2.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا تدع طلب الرزق من حلّه فإنّه عون لك على دينك واعقل راحلتك وتوكّل"3.
 
اذهب أنت وربّك فقاتلا:
 
عندما خرج النبيّ موسى عليه السلام من الأرض المقدّسة، واجهته مهمّة إعداد قومه للدخول إليها مرّةً أخرى. فما كان منهم حين أمرهم بدخول الأرض المقدّسة إلّا أن قالوا: 
 
 

1- أي أعقل الناقة وأربطها.
2- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 685، ح 22277.
3- وسائل الشيعة، ج17، ص34، ح7.
 
 
 
 
32

23

التوكّل على الله

 ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ*قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾1 .

 
وأجاب المنطق اليهودي المتخاذل المشبع بالذلّ: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾2.
 
ويبدو أن غاية ما فهمه قوم موسى من التوكُّل هو ما يفهمه بعض الناس اليوم إلقاء الكلّ على الله تعالى، وتفويض الأمر إليه بالمعنى السلبيّ، بحيث يعيشون الاتّكال والقعود والكسل دون سعي نحو امتلاك أسباب القوّة والعمل والفعاليّة.
 
وهذا بخلاف المنطق القرآنيّ الّذي يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمَْ﴾3.
 
معطيات التوكُّل وآثاره الإيجابيّة:
 
للتوكُّل على الله تعالى آثار إيجابيّة عديدة منها:
 
1ـ الاعتماد على الذّات والإقدام والقوّة:
 
بما أنّ المتوكِّل على الله يُعلِّق أمله بالقدرة المطلقة اللامتناهية، فإنّ أوّل أثر إيجابي يصيغه التوكُّل هو أن يثير في نفسه الشعور بالقوّة والنصر والتغلُّب على المحن والحوادث الكبيرة في حركة الحياة.
 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على الله"4.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "كيف أخاف وأنت أملي وكيف أضام وأنت متّكلي"5.
 
 

1- سورة المائدة، الآيتان: 22 23. 
2- سورة المائدة، الآية: 24. 
3- سورة الأنفال، الآية: 60. 
4- ميزان الحكمة، ج 10، ص 681، ح 22245. 
5- بحار الأنوار، المجلسي، ج 19، ص 229. 
 
 
 
 
33

24

التوكّل على الله

 وعنه عليه السلام: "من توكَّل على الله لا يُغلب، ومن اعتصم بالله لا يُهزم"1.

 
وعنه عليه السلام: "أصل قوّة القلب التوكّل على الله"2.
 
2ـ الشعور بالعزّة والكرامة والغنى:
 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الغنى والعزّ يجولان فإذا ظفر بموضع التوكُّل أوطنا"3.
 
فمن يتوكّل على الله يكون قد هيّأ الأرضيّة واستعدّ لفيض الله سبحانه، فهو الغنيُّ الّذي يُعطي الغنى، وهو العزيز الّذي يُعطي العزّة، فيُعطيهما لمن توكّل عليه ولم يتوكّل على غيره.
 
3ـ يُساعد العقل على التفكير:
 
فإنّ التوكُّل على الله يزيد من ذكاء الإنسان وقدرة الذهن على التفكير، ويفتح آفاقه المعرفيّة، فيرى الأشياء بوضوح، لأنّ التوكُّل يُشعر الإنسان بالاطمئنان ويُبعد عنه القلق والاضطراب، ومع الطمأنينة النفسيّة يكون الحكم العقليّ الهادئ.
 
عن الأمير عليه السلام: "من توكَّل على الله أضاءت له الشّبهات وكُفي المؤونات وأمن التبعات"4.
 
4ـ الراحة والسرور:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "الاتّكال على الله أروح"5.
 
وعنه عليه السلام: "من وثق بالله أراه السرور... "6.
 
 

1-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 4، ص 3659، ح 22547. 
2-م . ن، ص 681، ح 22248. 
3- بحار الأنوار، ج 68، ص 126.
4-شرح غرر الحكم، ج 5، ص 414، ح 8985. 
5-ميزان الحكمة، ج 10، ص 682، ح 22257. 
6-م . ن، ص 682، ح 22265. 
 
 
 
 
34

25

التوكّل على الله

 وعنه عليه السلام: "الثقة بالله أقوى أمل"1.

 
يقول الأمير عليه السلام: "ليس لمتوكّل عناء"2.
 
6ـ الكفاية والرزق:
 
﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من توكَّل على الله كفاه مؤنته ورزقه من حيث لا يحتسب"4
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "كان فيما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بُنيّ، ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيّته في طلب الرزق، أنّ الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال، ضمن أمره، وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، إنّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة: أمّا أوّل ذلك فإنّه كان في رحم أمّه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حرٌّ ولا برد، ثمّ أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقاً من لبن أمّه، يكفيه به، ويُربّيه ويُنعشه، من غير حول به ولا قوّة.
 
ثمّ فُطم من ذلك، فأجرى له رزقاً من كسب أبويه، برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتّى أنّهما يؤثرانه على أنفسهما، في أحوال كثيرة، حتّى إذا كبر وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظنٍّ ويقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بُنيّ"5.
 
 

1-ميزان الحكمة، ج 10، ص 682، ح 22264.
2- شرح غرر الحكم، ج 5، ص 72، 7451.
3- سورة الطلاق،الآية: 3.
4- ميزان الحكمة، ج 10، ص 683، ح 22267.
5- بحار الأنوار، ج 2، ص 155.
 
 
 
 
35

26

التوكّل على الله

 وممّا نظم في التوكّل 

ما نُسب إلى الإمام عليّ عليه السلام:

رضيت بما قسم الله لي          وفوّضت أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى        كـذلـك يُحسن فيما بقي


وممّا نُسب إلى الإمام الحسين عليه السلام:
 
إذا ما عضّك الدهر فلا تجنح إلى خلق       ولا تسأل سوى الله تعالى قاسم الـرزق
فلو عشت وطوّقت من الغرب إلى الشرق    لما صادفت من يقدر أن يُسعد أو يُشقي

ويقول أحد الشعراء:

كن عن همومك معرضا                وكل الأمور إلى القضـا 
فـلربّ أمـر مسخـط لك                 فـي عواقبه رضـا 
ولربّما اتّسع الـمضيق                 وربّـما ضـاق الفضـا
الله يـفعل مـا يـشاء                    فـلا تـكـن معترضـا
الله عـوّدك الـجميـل                    فقس على ما قد مضـى
 
 
 
 
36

27

التوكّل على الله

 للمطالعة

 
الفرق بين "التوكُّل" و"الرضى"


اعلم أنّ مقام "الرضى" غير مقام "التوكُّل"، وهو أسمى منه وأرفع. وذلك لأنّ المتوكِّل يطلب الخير والصلاح لنفسه، فيوكِّل الحقّ تعالى، بصفته فاعل الخير، للحصول على الخير والصلاح. أمّا الشخص "الراضي" فيكون قد أفنى إرادته في إرادة الله، فلا يختار لنفسه شيئاً. ولقد سُئِل أهل السلوك:

"مَا تُرِيدُ؟". فَقَالَ: "أُرِيدُ أَنْ لا أُرِيدَ".

فمطلوبه هو مقام الرضى. أمّا ما جاء في الحديث الشريف: "فَمَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ عَنْهُ رَاضِياً" فإنّه لا يعني مقام الرضى، ولذلك جاء بعد ذلك قوله: "تَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَأْلُوكَ خَيراً وَفَضلاً"، وكأنّه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يوجد في السامع مقام التوكُّل، وذلك بوضع المقدّمات، فقال أوّلاً: "تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً" ثمّ قال: "تعلم أنّ الحكم في ذلك له" طبيعيٌّ أنّ من يعلم أنّ الله تعالى قادرٌ على كلّ شيء، وأنّه لا يفوّت على نفسه خيره وفضله، فإنّ مقام التوكُّل يحصل له.... إذاً، تكون نتيجة المقدّمات المذكورة المطوية والمعلومة هي أنّ ما يفعله الحقّ تعالى يبعث على الرضى والسرور. إذ إنّ فيه الخير والصلاح، وبذلك يحصل مقام التوكُّل.

الأربعون حديثا،الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص210
 
 
 
 
37

28

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 المحور الثاني




- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
- الصبر والامتحان
- ذكر الله
- إقامة الصلاة
 
 
 
 
39

29

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 الدرس الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 
 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:104)
 
2- ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾(آل عمران:110)
 
3- ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(التوبة:71)
 
 
 
 
41

30

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 تمهيد

 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الفرائض الإسلاميّة، حيث يهدف إلى إصلاح المجتمع الإنسانيّ والحفاظ على الشريعة الإسلاميّة من التمزيق والتبديل، فالنهي عن المنكر يُحصّن الفرد والمجتمع والأمّة من الانحرافات السلوكيّة والروحيّة، والأمر بالمعروف يُكسب الفرد والمجتمع والأمّة الفضائل السلوكيّة والروحيّة.
 
وهو ضمانة بقاء تعاليم الدِّين وقيمه حيّة، فبه انتشر الدِّين الإسلامي في أصقاع الأرض، وبه أُقيمت أركان الدِّين وفروعه.
 
وهذا ما يؤكِّده كثير من الآيات والروايات، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "قوام الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود"1.
 
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب الفلاح
 
وقد اهتمَّ القرآن الكريم بهذه الفريضة؛ قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾2.
 
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخلاق الله سبحانه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه"3.
 
وماذا يعني أنّهما خلقان من أخلاق الله سبحانه؟ 
 
 

1- ميزان الحكمة، ج 6، ص 255.
2- سورة آل عمران، الآية: 104. 
3-نهج البلاغة، خطبة 156.
 
 
 
 
43

31

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 الجواب: إنّ في صفات الله سبحانه أنّه يأمر بالمعروف كما قال في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾1.

 
وقال أيضاً: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾2.
 
وفي المقابل خلق الشيطان هو عكس خلق الله سبحانه حيث إنّ الشيطان يأمر بالفحشاء وفعل السيّئات، يقول سبحانه: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾3.
 
ويقول تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾4.
 
وسمة المنافقين الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، يقول تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾5.
 
فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق الله، وعكسه خلق الشيطان والمنافقين فحريٌّ بنا أن نكون متخلِّقين بأخلاق خالقنا وتاركين لأخلاق أعداء الله وأعدائنا الشياطين والمنافقين.
 
دور الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والصالحين:
 
وقد تخلّق الأنبياء العظام والأئمّة عليهم السلام والصالحون بأخلاق الله، فكانوا المصلحين والآمرين بالمعروف والعدل والناهين عن المنكر والظلم.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام "واصطفى سبحانه من ولده (آدم) أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم"6.
 

1- سورة النحل، الآية: 90.
2- سورة الأعراف، الآية: 29.
3- سورة البقرة، الآية: 268. 
4- سورة البقرة، الآيتان: 168و 169. 
5- سورة التوبة، الآية: 67. 
6- نهج البلاغة، الخطبة: 1. 
 
 
 
 
44

32

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 و عنه عليه السلام: في خصوص الرسول "بلّغ عن ربّه معذراً ونصح لأمّته منذراً"1.

 
وعنه في خصوص نفسه عليه السلام: "وما أردت إلّا الإصلاح ما استطعت.."2.
 
وكذلك أبناء أمير المؤمنين المعصومين عليهم السلام كانوا حاملين لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمثال الأوضح الإمام الحسين الشهيد عليه السلام ملهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومقولته الشهيرة ما تزال تصدح إلى يومنا الحاضر: " وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي " أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.. "3.
 
أمّا الصالحون فيحدّثنا التاريخ عن بطولاتهم في هذا الميدان، والمثال الأبرز في عصرنا الإمام الخمينيّ رحمه الله حيث حمل لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبدّل دولةً من المنكر إلى المعروف، بإسقاط الشاه رمز المنكر والفساد وإقامة الجمهوريّة الإسلاميّة.
وهل هذه الوظيفة ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ خاصّة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء؟
 
طبعاً لا فكلُّ إنسان مؤمن هو مأمور بهذه الفريضة، كلٌّ حسب استطاعته، ولا ينبغي ترك هذه الفريضة وإلّا انتشر الفساد والمنكر.
 
يقول تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾4.
 
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة: 109. 
2- م. ن، كتاب: 28.
3- بحار الأنوار، ج 44، ص 330.
4- سورةالتوبة،الآية: 71.
 
 
 
 
45

33

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 انتشار المنكر والفساد

 
لقد حذّر نبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّتنا عليهم السلام من انتشار المنكر والفساد، لما يحمل ذلك من تبعات خطيرة على الأمّة في الدنيا والآخرة.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام من قلب متوجِّع: "فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظهر الفساد، فلا منكر مغيّر، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تُجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات! لايُخدع الله عن جنّته"1.
 
وهذا الحديث ينطبق على عصرنا أيضاً، فقد انتشر المنكر والفساد وليس هناك من يُنكر إلا قليل من المؤمنين، وقد قلَّ المعروف وليس هناك من يأمر إلّا قليلٌ من الصالحين!
فليتحمّل كلُّ واحدٍ منّا مسؤوليّته حسب استطاعته، حتّى لا يعمّنا غضب الله.
 
يقول تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾2.
 
وعن أمير الكلام عليّ عليه السلام في النهج الشريف "وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضى"3.
 
ولكنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس أمراً عشوائيّاً فوضويّاً بلا قاعدة ونظام، بل هناك أسس ينبغي مراعاتها:
 
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
 
إنّ توجيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الآخرين ثقيل جدّاً عليهم،
 

1- نهج البلاغة، الخطبة: 129.
2- سورة المائدة، الآيتان: 78 و 79.
3- نهج البلاغة، ج2، ص181.
 
 
 
 
46

34

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 لأنّ ذلك يجعل المأمور والمنهي في موقع التخطئة والتقريع، الأمر الّذي يخدش عزّته وكبرياءه ويؤذي نفسه. يقول لقمان "إنّ الموعظة تشقّ على السفيه كما يشقّ الصعود على الشيخ الكبير"1.

 
من هنا علينا معرفة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقاعدة الأوّلية هي الرفق والكلمة الطيّبة، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾2.
 
1ـ فلنختر الكلمة الطيّبة الرفيقة ما وسعنا ذلك، كما يقول الأمير عليه السلام: "وارفق ما كان الرفق أرفق"3.
 
2ـ وعلينا بالتودُّد: "فالتودُّد نصف العقل"، وذلك بالبشاشة: "والبشاشة حبالة المودّة"4.
 
إذا لم تنفع هذه الخطوة والمرتبة نأتي إلى مراتب أخرى ذُكرت في الكتب الفقهيّة، وهي النهي باللسان فإن لم ينفع فالنهي باليد.
 
ولكن إذا لم تنفع كلّ المراتب ينبغي الإنكار القلبيّ الّذي يعني عدم الرضى وبغض المعصية والمنكر، وهذا الإنكار هو أضعف إنكار.
 
وحذارِ أن لا نُنكر ولو قلباً وإلّا أصبحنا راضين عن المنكر فيعمّنا غضب الله.
 
فعن الإمام علي عليه السلام: "من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه"5.
 
وعنه عليه السلام: "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضى به"6.
 
 

1- نصائح لقمان لابنه، العلّامة المجلسي، المحجّة البيضاء، ص 44. 
2-سورة النحل،الآية: 125. 
3-نهج البلاغة، كتاب 46. 
4-م.ن، قصار الكلمات 142.
5- م. ن، قصار الكلمات: 6.
6- بحار الأنوار، ج 75، ص 82، ح 79.
 
 
 
 
47

 


35

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد أوحى الله فيما مضى قبلكم إلى جبرئيل فأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفَّار والفجَّار، فقال جبرئيل: يا ربّ اخسف بهم إلّا بفلان الزاهد؟... فقال الله تعالى: بل اخسف بهم وبفلان قبلهم، فسأل ربّه، فقال ربّ عرّفني لم ذلك وهو زاهد عابد؟ قال: مكّنت له وأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وكان يتوفّر على حبِّهم... فقالوا: يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نُشاهده من منكر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليعمّكم الله بعذاب. ثمّ قال: من رأى منكراً فلينكره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنّه لذلك كاره"1.

 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها فلمّا انتهيا إلى المدينة وجدوا فيها رجلاً يدعو ويتضرَّع... فعاد أحدهما إلى الله، فقال: يا ربّ إنّي انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلاناً يدعوك ويتضرَّع إليك، فقال الله عزّ وجلّ: إمض لما أمرتك به، فإنَّ ذا رجل لم يتمعّر2 وجهه غيظاً لي قطّ"3.
 
صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
 
1ـ العلم بما يأمر وينهى
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلّا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به، عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به، عالم بما ينهى عنه"4.
 

1- بحار الأنوار، ج 14، ص 509، ح 37. 
2- في نسخة: لم يتغيّر.
3- بحار الأنوار، ج 60، ص 213، ح 48.
4-م.ن، ج 97، ص 87، ح 65.
 
 
 
 
48

36

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 نستنتج من قول رسول الله " أنّ على الآمر والناهي أن يكون عالماً بالمعروف والمنكر ليأمن من الخطأ. 

 
فكيف للجاهل أن يُعلِّم، ففاقد الشيء لا يُعطيه، والجاهل يُفسد أكثر ممّا يُصلح.
 
2ـ مؤتمراً بما يأمر منتهياً عمّا ينهى:
 
من صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن يكون مؤتمراً بما يأمر منتهياً عمّا ينهى حتّى يؤثِّر كلامه في الآخرين.
 
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾1.
 
وقال سبحانه: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾2.
 
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنّما أُمرتم بالنهي بعد التناهي"3.
 
ويقول لقمان لابنه: "يا بنيّ... وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، وابدأ بنفسك"4.
 
يقول الشاعر:
 
يا أيُّها الرَّجل المعلِّم غيره      هلّا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدّواء لذي السقام       وذي الضنى كيما يصحُّ به وأنت سقيم
وأراك تُصلح بالرشاد          عقولن أبداً وأنت من الرشاد عقيم
لا تنهَ عن خُلق وتأتيَ         مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
 

1- سورة الصف، الآية: 2. 
2- سورة البقرة، الآية: 44. 
3- نهج البلاغة، الخطبة: 105.
4- حكم لقمان، محمد الري شهري، ص 36.
 
 
 
 
49

37

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّه    فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يُقبل ما وعظت          ويُقتدى بالعلم منك وينفع التعليم
 
 
ومَثَلُ الآمر والناهي غير المأتمر والمنتهي كما قال لقمان وهو يعظ ابنه: "يا بنيَّ، لا تأمر الناس بالبّر وتنسى نفسك، فيكون مثلك مثل السراج يُضيء للناس ويُحرق نفسه"1.
 
ولقد "لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له والناهين عن المنكر العاملين به"2 كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام. وقد كان أنبياء الله والأئمّة عليهم السلام قدوة بالعمل قبل أن يقولوا فعن الأمير عليه السلام: "أيّها الناس إنّي والله، ما أحثّكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها"3.
 
3ـ الرفق:
 
ينبغي أن يكون الآمر والناهي رفيقاً، هدفه هداية الناس ونصحهم، لا تقريعهم وإحراجهم، وتنفيس غيظه وغضبه، فعليه أن يكون ناصحاً لا موبِّخاً.
 
ختام الحديث: بعد هذا العرض الوجيز لأهميّة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما يترتّب من أثر سيّء على تركها، في الدنيا والآخرة، ينبغي علينا أن نُقيم هذه الفريضة العظيمة، الّتي بها حياة أمّتنا وتطوّرها وارتقاؤها وتكاملها، وأن نتحلّى بصفات الآمرين الحقيقيّين، حتّى يكون لكلامنا أثره، ولفعلنا قبل كلامنا تأثيره.
 

1- حكم لقمان، محمد الري شهري، 126. 
2- نهج البلاغة، الخطبة: 129
3- م. ن، الخطبة، 175.
 
 
 
 
50

38

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 للمطالعة

 
سبب الغضب الإلهيّ
 
إنّ الغضب الإلهيّ الّذي نزل على الأمم السابقة كان السبب الأساس فيه تركها فريضة النهي عن المنكر, وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: " فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرون الماضية بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي, والحلماء لترك التناهي"1.
 
فعندما تركوا النهي عن المنكر نزل العذاب على الأمّة كلّها بما فيها من سفهاء وحلماء فاسقين ومتدينين ـ بحسب الظاهر ـ فاستحقّ أهل المعصية العذاب بسبب ما ارتكبت أيديهم, واستحقّ الآخرون أيضاً العذاب لأنّهم رؤوا المنكرات ولم يُحرّكوا ساكناً للإصلاح!.
 
يقول تعالى في كتابه الكريم ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾2.
 
فالعذاب سيأخذ الجميع ولن يُستثنى منه إلا فئة واحدة, فمن هي هذه الفئة؟ هل هم المتديّنون الّذين يؤدّون الصلاة والصيام ويعيشون ضمن دائرة " ما يعنيهم" دون أن يُحرّكوا ساكناً للقيام بدورهم الإيجابيّ المصلح في المجتمع؟
 
كلّا, الآية الكريمة تُأكّد أنّ الّذين ينجون هم فقط المتديّنون ﴿الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾. فالّذي التزم بفريضة النهي عن المنكر هو الّذي سينجو, وكلّ الآخرين سيشملهم العذاب سواء كانوا ممّن تلوّثت أيديهم بالمعاصي أم من الّذين لم تتلّوث أيديهم ولكنّهم رأوا المعاصي فسكنوا إليها ورضوا بها. لأنّ إصلاح الآخرين هو أيضاً تكليف, وتركه معصية. وإلى ذلك أشار الإمام الخميني قدس سره في كلماته حيث يقول: 
 
  

1- نهج البلاغة، ج2، ص 156.
2- سورة الأعراف، الآية: 165 ا
 
 
 
51

39

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

 " كما أنّ كلّ فرد مطالب بإصلاح نفسه, فإنّه مطالب أيضاً بإصلاح الآخرين"1.

 
وهذه الأمّة ليست مستثناة من ذلك فلو ترك المسلمون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استحقّوا العذاب الإلهيّ, فقد ورد عن النبيّ الأكرم ": "لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ, فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعضهم, ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"2.
 
 
إصلاح المجتمع في فكر الإمام الخميني، مركز الإمام الخميني، ط2 1424هـ ـ 2003م، ص9ـ11.
 
 

1-لكلمات القصار . ص245. 
2-بحار الأنوار، ج97، ص94، ح 95.
 
 
 
 
52

40

الصبر و الامتحان

 الدرس الخامس: الصبر والإمتحان

 
 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.(الأنفال:46)
 
2- ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.(البقرة:155)
 
3- ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.(آل عمران:142).
 
 
 
 
 
53

41

الصبر و الامتحان

 تمهيد

 
الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث، وليس كما يتصّور بعض الناس بأنّه تحمّل الشقاء وقبول الذلّة والاستسلام للعوامل الخارجيّة.
 
والصبر على ثلاثة أنحاء:
 
الصبر على الطاعة: أي المقاومة أمام المشاكل الّتي تعتري طريق الطاعة.
 
الصبر عن المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العاتية وارتكاب المعاصي.
 
الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الانهيار وترك الجزع والفزع.
 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصبر ثلاثة، صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية"1.
 
وقد أكّد القرآن الكريم على موضوع "الصبر" تأكيداً شديداً حيث ذُكر في سبعين موضعاً قرآنيّاً تقريباً، منها عشرة تختصّ بالنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
درجات الصبر
 
حسب ما يُفهم من الأحاديث الشريفة إنّ للصبر درجات. ويختلف الأجر والثواب عليه على ضوء مراتبه.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة
 

1- أصول الكافي، الكليني، ج 2، ص 91.
 
 
 
55

42

الصبر و الامتحان

 إلى الدرجة كما بين السماء والأرض، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"1.

 
ويُفهم من هذا الحديث أنّ الصبر عن المعصية أفضل من كلِّ مراتب الصبر حيث تكون درجاته أكثر، والفاصل بين درجة وأخرى كبير جدّاً.
 
الاختبار الإلهيّ
 
يقول تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾2.
 
إنّ نظام الحياة نظام تكامل وتربية، وكلُّ الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها، حتّى الأشجار تُعبِّر عن قابليّاتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإنَّ كلّ البشر، حتّى الأنبياء عليهم السلام، مشمولون بقانون الاختبار الإلهيّ.
 
لذلك فالامتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدّتها, وبالتالي تختلف نتائجها أيضاً، يقول سبحانه: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾3.
 
ويعرض القرآن نماذج لاختبارات الأنبياء عليهم السلام إذ يقول: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾4.
 
ويقول في موضع آخر بشأن اختبار النبيّ سليمان عليه السلام: ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر﴾5
 
 

1- أصول الكافي، ج 2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ص91، ح 15. 
2- سورة البقرة، الآيتان: 155 و 156. 
3- سورة العنكبوت، الآية: 2 
4- سورة البقرة، الآية: 124.
5- سورة النمل، الآية: 40.
 
 
 
 
56

43

الصبر و الامتحان

 وعن لقمان: "إنّ الذهب يُجرّب بالنار، والعبد الصالح يُجرّب بالبلاء، فإذا أحبَّ الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى, ومن سخط فله السخط"1، وعنه أيضاً: "يا بنيّ، الذهب والفضّة يُختبران بالنار، والمؤمن يُختبر بالبلاء"2.

 
وإذا كان جميع الناس مبتلين فعلى الإنسان المؤمن أن يصبر على البلاء حتّى ينجح في هذا الامتحان الإلهيّ.
 
طرق الاختبار
 
هناك مظاهر عديدة للاختبار الإلهيّ، والآية: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾3 تُشير إلى الاختبار بالخوف والجوع والأضرار الماليّة والموت.
 
ولا ينحصر الاختبار الإلهيّ بالأمور السلبيّة ـ الشرّ ـ بل يعمّ الأمور الإيجابيّة ـ الخير ـ، كما يقول سبحانه: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾4.
 
ويقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان عليه السلام: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر﴾5.
 
 
وينبغي الإشارة إلى أنّه ليس من الضروريّ أن يُختبر جميع الناس بجميع وسائل الاختبار، بل من الممكن أن يكون اختبار كلّ فئة بلون من الامتحان يتناسب مع الوضع الفرديّ والاجتماعيّ لتلك الفئة، فقد يُمتحن بعض الناس بوفرة المال، وبعض آخر بقلّة المال، وبعض بالكرسيّ والمنصب، وآخرون بالنساء، وغير ذلك من الامتحانات. أجارنا الله ممّا لا طاقة لنا به. هذا على المستوى الفرديّ، وأمّا على 
 
 

1- حكمة لقمان، محمد الري شهري، ص 81.
2- م. ن، ص 81.
3- سورة البقرة، الآية: 155.
4 -سورة الأنبياء, الآية: 35. 
5- سورة النحل، الآية: 40.
 
 
 
 
57

44

الصبر و الامتحان

 المستوى الجماعي فقد تُبتلى الأمّة كأمّة بقائد أو بإمام، أو بعدوّ ليرى مدى نجاح الأمّة كأمّة بهذا الامتحان؟ 

 
من عوامل النجاح في الامتحان الإلهيّ:
 
إذا كان الامتحان الإلهيّ عامّاً لجميع البشر، وله مظاهر وطرق، فما هو السبيل لإحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ وللجواب نقول:
 
1ـ أهم عامل للنجاح هو الصبر، ولذلك يقول تعالى في الآية: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
 
فعن الإمام علي عليه السلام: "لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمان"1.
 
وعنه عليه السلام: "حلاوة الظفر تمحو مرارة الصبر"2.
 
ويروى عن لقمان الحكيم في وصيّته لابنه: "واصبر على ما أصابك فيه من المحن، فإنّه يورث المنح"3.
 
2ـ الالتفات إلى أنّ نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة، وهذا الإدراك يجعل كلّ المشاكل والصعاب عَرَضاً عابراً وسحابة صيف . وهذا ما يؤكِّده القرآن الكريم: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾4.
 
3ـ قوّة الإيمان بالله تعالى والعلم بأنّا إليه راجعون، وأنّه يُثيبنا على صبرنا وثباتنا. ومن هنا تقول الآية: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾5, فـ ﴿إنّا لله﴾ إقرار بالإيمان بالله، و﴿راجعون﴾ إقرار بالرجوع إلى الله يوم القيامة ليُثيبنا على صبرنا.
 
فالإيمان بالله واليوم الآخر دعمٌ قويٌّ للنجاح في الاختبار.
 
 

1- نهج البلاغة، الحكمة: 153. 
2-ميزان الحكمة محمّد الري شهري، ج 2، ص 1559. 
3-حكم لقمان، محمد الري شهري، ص 36.
4- سورة الشرح، الآيتان: 4 و 5.
5-سورة البقرة، الآيتان: 155 و 156.
 
 
 
 
58

 


45

الصبر و الامتحان

 ـ الالتفات إلى أنّ الله سبحانه عالم بكلِّ مجريات الأمور، عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة.

 
فمثلاً: المتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالارتياح حينما يعلمون أنّهم في معرض أنظار أصدقائهم من الجمهور والمتفرِّجين، ويندفعون بقوّة أكثر وحماسة أشدّ في تحمُّل الصعاب.
 
إذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك، فما بالك بتأثير استشعار رؤية الله سبحانه لما يجري على الإنسان وهو في ساحة الجهاد والمحنة والاختبار؟ ما أعظم القوّة الّتي يمنحها هذا الاستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمُّل مشاق المحنة!
 
حين واجه النبيُّ نوح عليه السلام أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهيّ ليقول له: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾1.
 
وعبارة "بأعيننا" كان لها وقع عظيم في نفس هذا النبيِّ الكريم، فاستقام وواصل عمله حتّى المرحلة النهائيّة دون الالتفات إلى تقريع الكفّار واستهزائهم.
 
وقد ورد عن سيّد الشهداء الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام أنّه قال عند تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله"2.
 
5ـ التدقيق في تأريخ الأسلاف، وإمعان النظر في مواقفهم من الاختبارات الإلهيّة، عامل مؤثِّر في إعداد الإنسان لاجتياز الامتحان الإلهيّ بنجاح.
 
لو عرف الإنسان بأنّ ما أُصيب به ليس حالة شاذّة، وإنّما هو قانون عامٌّ شامل لكلِّ الأفراد والجماعات، لهان الخطب عليه، ولتفهّم الحالة بوعي، ولاجتاز المرحلة بمقاومة وثبات.
 

1- سورة هود، الآية: 37.
2- بحار الأنوار، ج 45، ص 46.
 
 
 
 
59

46

الصبر و الامتحان

 ولذلك يُثبّت الله سبحانه قلب نبيّه والمؤمنين باستعراض تأريخ الماضين، وما واجهه الأنبياء عليهم السلام، والفئات المؤمنة من محن ومصائب خلال مراحل دعوتهم، يقول سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾1.

 
ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾2.
 
وهنا نُعطي بعض النماذج ـ التاريخيّة ـ الّتي تُمثِّل الصبر والإرادة والعزيمة والمقاومة، عسى أن تكون لنا قدوة نقتدي بها في حياتنا.
 
نماذج صابرة
 
أ ـ الصبر على المصيبة: هذا النوع من الصبر يُمثِّله صبر النبيّ أيّوب عليه السلام على المرض وفقد المال والأولاد، وصبر النبيّ يعقوب عليه السلام على فراق ولده النبيّ يوسف عليه السلام.
 
ب ـ الصبر عن المعصية: لقد خلّد لنا القرآن تجربة مهمّة في هذا المجال، مرّ بها النبيُّ يوسف عليه السلام حيث صبر عن معصية الله المشرّعة أمامه حيث دعته إليها امرأة العزيز، مع ملاحظة الأسباب الّتي تقوى معها دواعي الموافقة.
 
إنّ الشباب المؤمن بحاجة ـ وخاصّة في هذه الأيّام ـ الّتي تنتشر فيها دواعي الفساد إلى الاقتداء بالنبيِّ يوسف العظيم عليه السلام، بإرادته وصبره وجهاده لنفسه فإنّه نعم القدوة والأسوة.
 
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾3.
 

1-سورة الأحقاق، الآية: 35. 
2-سورة الأنعام، الآية: 34.
3- سورة العنكبوت، الآية: 69. 
 
 
 
 
60

47

الصبر و الامتحان

 ج ـ الصبر على الطاعة: مثاله صبر النبيّ إبراهيم عليه السلام وابنه النبيّ اسماعيل عليه السلام وهذا نموذج رفيع من نماذج الصبر، حيث يُقدّم الإنسان ابنه لله فإنّ ذلك يحتاج إلى صبر وإرادة عظيمين. وأبرز مثال على ذلك صبر الإمام الحسين عليه السلام على تنفيذ أمر الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقدّم نفسه وأولاده وأرحامه وأصحابه، قرباناً لله سبحانه وطاعة لأمره.

 
ولن ننسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الّذي كان قمّة الصبر، وهو أسوتنا وقدوتنا: يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾1.
 
إنّ تاريخ الإسلام عامر بالنماذج الصابرة، ولو أردنا أنْ نُفصِّل لطال بنا المقام، ولكن أحببنا أن نُشير إلى هذه النماذج لتكون قدوةً لنا ونبراساً نهتدي به، فإنّ في العيش مع هكذا نماذج قوّة للإنسان وتسلية لقلبه.
 
قد تُحدّث الإنسان نفسه وتوسوس له أنّ هذه النماذج لأنبياء وأئمّة معصومين، وبطبيعة الحال سيصبرون على كلّ مصيبة وأمّا نحن فلا طاقة لنا بذلك.
 
لكن نقول: يوجد في التأريخ من النماذج الصابرة غير المعصومة الكثير، وفي الحاضر نماذج مهمّة في الصبر كما في المقاومين المجاهدين، الّذين نسمع عن قصص بعضهم في السجون وفي الحروب ما يُحيِّر ويُدهش العقول.
 
قصـّـة صابرة غير معصومة:
 
رُوِيَ: "أنّ أمَّ عقيل كانت امرأة في البادية، فنزل عليها ضيفان وكان ولدها عقيل مع الإبل فأُخبرت بأنّه ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فهلك، فقالت المرأة للناعي، انزل واقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرّب إلى القوم الطعام، فجعلوا يأكلون ويتعجّبون من صبرها (قال الراوي) فلمّا فرغنا 
 

1- سورة الأحزاب، الآية: 21. 
 
 
 
 
61

48

الصبر و الامتحان

 خرجت إلينا وقالت يا قوم هل فيكم من يُحسن من كتاب الله شيئاً؟ فقلت: نعم. قالت: فاقرأ عليّ آيات أتعزّى بها عن ولدي، فقرأت: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾، فقالت: السلام عليكم، ثمّ صفّت قدميها وصلّت ركعات ثمّ قالت: اللهمّ إنّي فعلت ما أمرتني فانجز لي ما وعدتني. ولو بقي أحد لأحد ـ قال فقلت في نفسي لبقي ابني لحاجتي إليه ـ فقالت لبقي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لأمّته، فخرجت"1.

 

1-سفينة البحار، ج 2، ص 7، مادة "صبر". 
 
 
 
 
62

49

الصبر و الامتحان

 للمطالعة

 
في نتائج الصبر
 
...فيا أيّها العزيز إنّ الموضوع خطير، والطريق محفوف بالمخاطر، فابذل من كلّ وجودك الجهد واجعل الصبر والثبات من طبيعتك، أمام حوادث الأيّام، وانهض أمام النكبات والرزايا، ولقّن النفس بأنّ الجزع والفزع مضافاً إلى أنّهما عيبان فادحان، لا جدوى من ورائهما للقضاء على المصائب والبليّات، ولا فائدة من الشكوى على القضاء الإلهيّ وعلى إرادة الحقّ عزّ وجلّ أمام المخلوق الضعيف الّذي لا حول له ولا قوّة. كما أُشير إلى ذلك في الحديث الشريف المنقول في الكافي: "مُحَمَّد بْنُ يَعْقُوبَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمَاعَةَ بْن مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عليه السلام قالَ: قَالَ لِي: مَا حَبَسَكَ عَنِ الحَجِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَقَعَ عَلَيَّ دَيْنٌ كَثِيرٌ وَذَهَبَ مَالِي، وَدَيْنِي الَّذي قَدّ لَزمَنِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ مَالِي، فَلَوْلاَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا أَخْرَجَنِي مَا قَدَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ، فَقَالَ لِي: إِنْ تَصْبِرْ تُغْتَبَط وإلّا تَصْبِرْ يُنْفِذِ اللهُ مَقَادِيرَهُ رَاضِياً كُنْتَ أَمْ كَارِهاً"1.
 
فاعلم بأنّ الجزع والفزع لا يُجديان، بل لهما أضرار مخيفة ومهالك تنسف الإيمان. وأمّا الصبر والجلادة فلهما الثواب الجزيل والأجر الجميل والصورة البهيّة البرزخيّة الشريفة كما ورد في ذيل الحديث الشريف الّذي نحن بصدد شرحه حيث يقول: "وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعقبُ خَيْراً فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا"2. فعاقبة الصبر إلى الخير في هذه الدنيا كما يُستفاد من التمثيل بالنبيّ يوسف عليه السلام ـ في الحديث المذكور ـ يبعث على الأجر والثواب في يوم الآخرة.
 
وفي الحديث الشريف المنقول في الكافي بسنده إلى أبي حمزة الثمالي رحمه الله قال: "مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِبَلاءٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَلْفِ شَهيدٍ"3. ووردت
 
 

1-أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ص690، ح 10.
2-م.ن. ص89،ح 6. 
3-م.ن. ص 92، ح 17.
 
 
 
 
63

50

الصبر و الامتحان

  أحاديث كثيرة في هذا المضمار.. وأمّا أنّ للصبر صورة بهيّة برزخيّة، فمضافاً إلى أنّها تتطابق مع بعض الأدلّة نجد الأحاديث الشريفة أيضاً تتحدّث عنها. كما في الكافي الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إِذَا دَخَلَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ كَانَتِ الصَّلاَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ والبِرُّ مُطلٌّ عَلَيْهِ وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ المَلَكَانَ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالبِرِّ: دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ مِنْهُ فَأَنَا دُونَهُ"1.

 
الأربعون حديثاً،الإمام الخميني، دار التعارف،1411 هـ ـ 1991م، ص250ـ 251.
 
 

1-أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ص 90، ح8.

 
 
 
64

51

ذكر الله

الدرس السادس: ذكر الله

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾.(البقرة:152)
 
2- ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾.(البقرة:32)
 
3- ﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾.(آل عمران:41)
 
 
 
 
 
65

52

ذكر الله

التفكُّر وذكر الله:

 
المقصود من ذكر الله
 
ليس ذكر الله تعالى باللسان فقط، بل اللسان ترجمان القلب، والهدف هو التوجُّه بكلِّ وجودك إلى ذات الباري تعالى والذوبان فيه والاستغراق بجلاله وكبريائه وعظمته والشعور بحضوره ورقابته وإحاطته بكلِّ كيانك، ممّا ينعكس على سلوكك وعملك وأخلاقك بحيث يصونك من الذنب ويدعوك إلى الطاعة.
 
ومن هنا ورد في أحاديث عديدة عن أئمّتنا المعصومين عليهم السلام أنّ ذكر الله ليس باللسان فحسب، فعن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير معنى ذكر الله: "مِن أشدّ ما فرض الله مع خلقه ذكر الله كثيراً، ثمّ قال: لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، وإن كان منه، ولكن ذكر الله عندما أحلّ وحرّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها"1.
 
وعليه للذكر مراتب: 
 
أ ـ الذكر اللساني.
ب ـ الذكر القلبي.
ج ـ الذكر العملي وهو ذكر الله عند الطاعة والمعصية، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها.
 

1-أصول الكافي، الكليني، ج 2، ص 80، ح 4
 
 
 
 
 
67

53

ذكر الله

 الذكر الكثير وعلى كلِّ حال:

 
وقد أمرنا الله سبحانه بالذكر الكثير وأن يكون على كلّ حال، يقول جلّ وعلا: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار﴾1.
 
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً﴾2.
 
﴿وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾3.
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾4.
 
ويُروى عن لقمان الحكيم: "يا بُنيَّ، أقِلَّ الكلام واذكر الله عزَّ وجلّ في كلّ مكان، فإنّه أنذرك وحذّرك وبصّرك وعلّمك"5.
 
وعنه: "يا بُنيَّ، أكثر ذكر الله عزّ وجلّ، فإنّ الله ذاكر من ذكره"6.
 
فالمؤمن يذكر الله كثيراً، وعلى كلّ حال، في الشدّة والرخاء، في الغنى والفقر، وهذا بخلاف المنافق الّذي لا يذكر الله وإذا ذكره كان ذكره في الضيق والبلاء، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَ قَلِيلاً﴾7.
 
ويقول جلَّ وعلا: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً﴾8.
 
ولا يكتفي المؤمن بما أوجب الله عليه من الصلاة باعتبارها تذكُّراً لله تعالى
 
 
 

1-سورة آل عمران، الآية: 41.
2- سورة النساء، الآية: 103.
3- سورة الأنفال، الآية: 45.
4- سورة الأحزاب، الآيتان: 141و 142.
5- بحار الأنوار، ج 13، ص 427، ح 22.
6-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 68، نقلاً عن محبوب القلوب، ج 1، ص 202.
7-سورة النساء: الآية: 142.
8- سورة الإسراء، الآية: 67.
 
 
 
 
68

54

ذكر الله

 بل يستمرّ على ذكر الله كما أمره الله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً﴾1.

 
ويقول سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾2.
 
من ثمرات ذكر الله
 
لذكر الله أهميّة كبرى في السير والسلوك إلى الله تعالى وإلى الكمال الإنساني، وقد جمع أحد العلماء ثمرات لذكر الله تعالى تعدّت المائة، نذكر منها ثمرة مهمّة جامعة وهي:
 
طمأنينة القلب
 
يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾3.
 
لاضطراب القلب وقلقه وخوفه عوامل:
 
أ- الجهل بالمستقبل:
 
فالإنسان يحتمل زوال النعمة، أو الأسر على يد الأعداء، أو الضعف والمرض، أو الفقر، فهذا الاحتمال يُقلق الإنسان، لكنّ ذكر الله والإيمان بأنّه القادر المتعال الرحمان الرحيم، يستطيع محو القلق من النفس.
 
ب- الخوف من الماضي:
 
فالإنسان العاصي يُفكِّر في ماضيه الأسود فيُمسي قلقاً بسبب الذنوب، ولكنّ ذكر الله والنظر إلى أنّ الله غفّار الذنوب وقابل التوبة يُزيل الاضطراب.
 

1- سورة النساء، الآية: 103.  
2- سورة العنكبوت، الآية: 45.  
3- سورة الرعد، الآية: 28.  
 
 
 
 
69

55

ذكر الله

ج ـ الخوف من كثرة الأعداء وقوّتهم:

 
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1.
 
فنُلاحظ في هذه الآية أنّ الله تعالى يأمر المجاهدين بذكر الله كثيراً ليثبتوا أمام الأعداء، ويطمئنّوا بنصر الله وتسديده.
 
د ـ الخوف من الموت:
 
وقد يضطرب بعض الناس أو أغلبهم من الموت لجهلم بحقيقته وبما سيؤول إليه مصيرهم.
 
وبما أنّ المؤمن يعتبر الموت قنطرة لحياة أخرى وليس فناءً، وأنّه سيُقدم على ربٍّ غفور رحيم، فإنّ الاضطراب والقلق سيزول أو يقلّ.
 
هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى تولّد الاضطراب والقلق في نفس الإنسان، إلّا أنّ المؤمن بالله حينما يعيش مع الله وذكره فإنّه ينفي القلق والاضطراب.
 
وفي المقابل يقول تعالى عمّن أعرض عن ذكره: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾2.
 
المعيشة الضنكة هي معيشة الاضطراب والقلق والضيق.
 
ونُلاحظ أنّ المجتمع الغربي المادّيّ يعيش اليوم الاضطراب والأمراض النفسيّة وما ذلك إلّا لبعدهم عن ذكر الله والإيمان الحقيقي به. ودياناتهم وأنظمتهم لم تطفئ لهم حالة الاضطراب والخوف والقلق.
 
وهم رغم حياتهم المادّيّة وتطوّرهم العلميّ والصناعيّ إلّا أنّهم فارغون من حيث
 
 

1-سورة الأنفال، الآية: 45.  
2-سورة طه، الآيتان: 124و 125.
 
 
 
 
70

56

ذكر الله

 الروح والمعنويات والراحة النفسيّة، وتقارير الصحف والمجلّات تؤكّد هذا الكلام.

 
يقول لقمان الحكيم لابنه: "إنّ مثل أهل الذكر والغفلة كمثل النور والظلمة"1.
 
مجالس الذكر أم مجالس النت:
 
كيف نختار مجالسنا حتّى تكون عامرة بذكر الله؟ هل يُمكن أن تكون مجالسة التلفزيون والانترنت مجالس ذكر أم هي مجالس لهو وفساد؟
 
يقول لقمان لابنه: "يا بُنيّ اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله عزّ وجلّ فاجلس معهم، فإن تكن عالماً نفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعلّ الله أن يظلّهم برحمته فيعمُّك معهم"2.
 
وكان يقول: "اللهمّ لا تجعل أصحابي الغافلين الّذين إذا ذكرتك لم يعينوني، وإذا نسيتك لم يُذكِّروني"3.
 
فكم مِن المسلمين مَن يجلس مجالس الغرب عبر إعلامهم الغافل الفاسد المفسد؟!
 
وكم مِن المسلمين مَن يعيش الضنك والاضطراب لأنّه يُقلّدهم ويجلس مجالسهم!
 
لكن نستطيع أن نستفيد من كلّ هذه الوسائل وأن نحوّلها إلى مجالس ذكر ووعي.
 
فلا نستفيد إلّا من الفضائيّات الّتي تنشر وتبثّ الخير والدِّين، ولا نستعمل الانترنت إلّا بما يُفيدنا في الدنيا والآخرة.
 
 

1-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 68.  
2-الكافي، ج1، ص39.  
3-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 69.  
 
 
 
 
71

57

ذكر الله

 موانع ذكر الله

 
هناك أمور تمنع عن ذكر الله منها:
 
أ ـ الخمر والميسر:
 
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾1.
 
وصحيح أن الآية تعرّضت للخمر والميسر وهي بعيدة نوعاً ما عن مجتمعاتنا، ولكنّ الأثر الناتج عنهما نجده بعينه مترتّباً على أمور شائعة في مجتمعنا كاللعب بالورق وما شابهه من آلات اللهو، بحيث إنّه يحين وقت الصلاة ولا يقوم اللاعبون إليها لانشغالهم باللعب واللهو.
 
ب ـ الأموال والأولاد:
 
قد تكون الأموال والأولاد مانعاً عن ذكر الله، يقول سبحانه: 
 
﴿َ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾2.
 
على الإنسان المؤمن أن لا يستغرق في جمع المال ولهو الأولاد، وليجعل للآخرة نصيباً من عمله.
 
"قل لعملك عندي صلاة، ولا تقل لصلاتك عندي عمل".
 

1-سورة المائدة، الآية: 91.
2- سورة المنافقون، الآية: 9.  
 
 
 
 
72

58

ذكر الله

 ج ـ الغناء والملاهي:

 
روي عن لقمان الحكيم قائلاً لابنه: "لا تسمع الملاهي، فإنّها تنسيك الآخرة"1.
 
ونسيان الآخرة تعني نسيان الله، فهما مرتبطان.
 
د ـ النظرة الحرام:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "ليس في الجوارح أقلّ شكراً من العين، فلا تُعطوها سؤلها فتُشغلكم عن ذكر الله"2.
 
هـ ـ الانشغال بذكر الناس:
 
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من اشتغل بذكر الناس قطعه سبحانه عن ذكره"3.
 
وليس معنى ذلك الانعزال السلبيّ عن الناس وعدم خدمة الناس، بل يعني أن لا يكون رضى الناس همّه بل رضى الله سبحانه لا بدّ أن يكون أكبر همّه.
 
 

1-حكم لقمان، الري شهري، ص 89ـ 90. 
2- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 2، ص 976.
3-م . ن، ص 976.  
 
 
 
73

59

ذكر الله

 للمطالعة

 
في فضل ذكر الله
 
في الكافي بِسَنَدٍ صَحيح عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ يَسارِ قالَ : قالَ أبُو عَبْد ِاللهِ عليه السلام: "ما مِنْ مَجْلِسٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ أبْرارٌ وَفُجّارٌ فَيَقُومُونَ عَلى غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وجلَّ إِلاّ كانَ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ"1.
 
من الواضح أنّ الإنسان عندما تنكشف عليه يوم القيامة، النتائج العظيمة لذكر الله، ويرى نفسه بعيداً عنها، ويعلم بأنّه قد حُرم من نعم كثيرة، ولا يستطيع تداركها، تستولي عليه الحسرة والندامة. فيجب على الإنسان أن يغتنم الفرصة ولا يُخلي مجالسه ومحافله من ذكر الله.

 
الكافي بِسَنَدٍ مُوَثَّقٍ عَنْ أبي جَعْفَرٍ عليه السلام: مَنْ أَرادَ أنْ يَكْتالَ بِالْمِكْيالِ فَلْيَقُلْ إذا أرادَ أنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِه. ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلينَ وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العالَمينَ﴾2.
 
وَنُقِلَ عَنِ الإِمَامِ الصَّادِقِ عليه السلام بأَنّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ عليه السلام قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكْونَ يَومَ القِيَامَةِ كَيْلَُه تَامّاً مِنَ الثَّوَابِ فَلْيَتْلُوا هذِهِ الآيَاتِ المُبَارَكةِ ـ سبحان ربّك إلى آخره ـ فِي دبرِ كُلِّ صَلاةٍ3.
 
وَعَنِ الصَّادِقِ عليه السلام مُرْسَلاً، كَفّارَاتُ المَجَالِسِ أَنْ تَقُولَ عِنْدَ قيَامِكَ مِنْهَا سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.4
 
 
الأربعون حديثا،الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م، ص277ـ 278.
 
 

1-أصول الكافي، ج2، كتاب الدعاء، باب ما يجب ذكر الله في كل مجلس، ص496، ح 1.
2- م.ن. ح 3.  
3-جامع الأحاديث، كتاب الصلاة، ح 3487.
4- وسائل الشيعة، ج 22، ص 405.
 
 
 
 
74

60

إقامة الصلاة

 الدرس السابع: إقامة الصلاة

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾(النساء:103)
 
2- ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ﴾(البقرة:238)
 
3- ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون﴾(المؤمنون:1 و 2)
 
4- ﴿َأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾(العنكبوت:45)
 
 
 
 
 
75

61

إقامة الصلاة

 الصلاة مطلب الشرائع:

 
إنّ الصلاة تُمثِّل العبوديّة بأبهى صورها وتُجسِّد الطاعة والانقياد لله تعالى أكمل تجسيد، فلذا... كانت عمود الدِّين، إن قُبلت قُبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها, وهي الموصلة إلى اطمئنان النفس، حيث تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي المؤدّية إلى دخول جنّة الله سبحانه.
 
وعلى هذا ننظر إلى فريضة الصلاة فنراها تشريعاً مشتركاً في جميع الشرائع، ممّا يكشف لنا عن أنّها من الاحتياجات البشريّة في كلّ الظروف والأجيال؛ لأنّها تنبع من طبيعة ثابتة في الوجدان البشري.
 
ففي سورة مريم يستعرض الله عزّ وجلّ عدداً من الأنبياء عليهم السلام والأمم المؤمنة في أوّليات التاريخ ثُمّ انحراف ذريّاتهم من بعدهم وتضييعهم للصّلاة فيقول سبحانه: ﴿... أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾1.
 
وإبراهيم عليه السلام كان يؤدّي الصّلاة ويُحرِّض عليها ويدعو ربّه لإقامتها: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾2.
وإسماعيل عليه السلام: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ﴾3.
 
 

1-سورة مريم، الآيتان: 58 و 59.
2-  سورة إبراهيم، الآية: 40.
3-  سورة مريم، الآية: 55.
 
 
 
 
77

62

إقامة الصلاة

وموسى وهارون عليه السلام ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾1.

 
وعيسى عليه السلام حينما كلّم الناس في المهد قال لهم ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً﴾2.
 
والنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام لطالما أوصوا بالصلاة، وكُتب الأحاديث عامرة بأوامرهم في ذلك.
 
معنى الأمر بإقامة الصلاة:
 
أمر سبحانه وتعالى بإقامة الصّلاة في كلِّ الآيات الّتي أمر فيها بالصلاة تقريباً، ومعنى الأمر بإقامة الصّلاة: تكليف الناس أنْ يُقيموا لهذه الفريضة وجوداً اجتماعيّاً بحيث يكون أداؤها والاهتمام بشؤونها ظاهرة واضحة من ظواهر مجتمعهم.
 
إنّ فارقاً كبيراً بين أنْ تقول: اعدل وصلِّ وتديّن بالإسلام، وبين أنْ تقول: أقم العدالة، وأقم الصلاة، وأقم الدِّين، فالتعبير الأوّل يتناول، ما يتعلّق بشخصك من أمر العدالة والصّلاة والدِّين، وأمّا التعبير الثاني فهو يلفتك إلى دورك الاجتماعي في تحقيق وجود ثابت سائد للعدالة وللدِّين وللصلاة.
 
أقم الصّلاة توجيه إلى مسؤوليّتك في الأمر بالصلاة وتعليمها للناس وتنبيه الساهين عنها وإرشاد المضيّعين لها.
 
هل الإيمان يُغني عن الصلاة:
 
تُصادف أُناساً تقول لهم: صلّوا، زكّوا، صوموا، حجّوا، جاهدوا، اعملوا صالحاً...
 
فيقولون لك بكلِّ بساطة: الإيمان بالقلب!! لكن نُلاحظ أنّ الله تعالى في القرآن 
 

1- سورة يونس، الآية: 87.
2- سورة مريم، الآيتان: 30 و 31.
 
 
 
 
78

63

إقامة الصلاة

 الكريم قرن الإيمان بالعمل الصالح في كثير من الآيات، وما ذلك إلّا لضرورة وبديهيّة أنْ يكون الإيمان مقترناً بالعمل المنسجم مع الإيمان.

 
فالإيمان هو الاعتقاد بوجود الله تعالى والتصديق بما بلّغه الأنبياء عليهم السلام، ومن الطبيعيّ والبديهيّ لهذا الاعتقاد والتصديق أن يستقطب الإنسان ويهزّ ضميره ويستجيش مشاعره ويدفعه إلى العمل بمقتضاه.
 
يقول تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾1.
 
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾2.
 
 
ومن الواضح أنّ أفضل الأعمال الصالحة هي الصلاة، فلذلك لا يصحّ الاعتماد على الإيمان القلبيّ من دون ترجمة عمليّة له في الخارج، ولذلك نجد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام لم يتركوا ولم يؤخّروا الصلاة حتّى في أشدّ الظروف وأصعبها.
 
المحافظة على الصلاة:
 
يقول تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلهِ قَانِتِينَ﴾3 والصلاة الوسطى التي أكدت الآية على المحافظة عليها هي صلاة الظهر على المشهور بين علمائنا الكرام.
 
فلماذا لا نؤدّي الصلاة في وقتها الّذي حدّده الله تعالى؟
 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه دخل المسجد وفيه أناس من أصحابه فقال: "تدرون ما قال ربّكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: إنّ ربّكم يقول: إنّ هذه الصلوات الخمس المفروضات من صلّاهنّ لوقتهنّ وحافظ عليهنّ، لقيني يوم القيامة وله عهد عندي أدخله به"4.
 
 

1- سورة البقرة، الآية: 25.
2- سورة  العصر، الآية: 3.
3- سورة البقرة, الآية: 238.
4- الوسائل، ج4، ص 110.
 
 
 
 
79

64

إقامة الصلاة

 ويقول لقمان لابنه: "يا بنيّ إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرِّها لشيء... فإنّها دَين"1.

 
وينبغي التنبيه على ضرورة إقامة صلاة الفجر وعدم الكسل عن إقامتها، فإنّ فيها بركات زائدة ليست في غيرها من الصّلوات يقول تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾2.
 
عن إسحاق بن عمّار، قلت لأبي عبد الله عليه السلام:" أخبرني بأفضل المواقيت في صلاة الفجر؟ فقال: مع طلوع الفجر إنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾ يعني صلاة الفجر تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار فإذا صلّى العبد الصبح مع طلوع الفجر أثبتت له مرتين أثبتها ملائكة الليل وملائكة النهار"3.
 
ومن الضروريّ عدم السهر الكثير بحيث يُؤثِّر ذلك على أداء صلاة الصبح.
 
فصلاتك نجاتك وسعادتك وحياتك الروحانيّة والأخرويّة.
 
حضور القلب في الصلاة
 
والاستفادة من الصلاة لا تكون إلّا بالخشوع، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾4.
 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأبي ذرّ: "يا أبا ذرّ ركعتان مقصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ"5.
 
وفي الحديث عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام قال: " إنّ العبد ليُرفع له من
 

1- نصائح لقمان لابنه، العلّامة  المجلسي، دار المحجّة البيضاء، ص 34.
2- سورة الإسراء، الآية: 78.
3- الكافي، ج 3، ص 282. 
4- سورة المؤمنون، الآيات: 1 و 2  و 9.
5- الوسائل، ج 4، ص 74.
 
 
 
 
80

65

إقامة الصلاة

 صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها فما يُرفع له إلّا ما أقبل عليه بقلبه وإنّما أمرنا بالنوافل ليتمّ لهم بها ما نقصوا من الفريضة"1.

 
تضييع الصلاة:
 
تضييع الصّلاة مسألة مُتّصلة بالكسل، فما صلاة الكسالى إلّا لوناً من ألوان إضاعة الصّلاة.
 
وإذا لاحظنا نصوص القرآن الكريم والسنّة الشريفة في إضاعة الصلاة نجد أنّها تقصد بالإضاعة معنيين: ترك الصلاة كليّة، والاستخفاف بالصلاة.
 
أمّا ترك الصلاة كلّيّاً، فقد حذّرت من خطورته نصوص كثيرة، وأهمّ حقيقتين في هذه النصوص أنّ ترك الصلاة يُعتبر قطع آخر رابطة تربط الإنسان بالله تعالى. وأنّ تركها يؤدّي بالإنسان إلى الانغماس في الشّهوات الرخيصة.
 
يقول تعالى: ﴿...فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً﴾2.
 
ويقول الله تعالى للمجرمين: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾3 أعاذنا الله أن نكون كذلك، ولكن ما هي سقر؟ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر﴾4.
 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الشيطان ذعِراً من المؤمن ما حافظ على مواقيت الصّلوات الخمس، فإذا ضيّعهن اجترأ عليه فأدخله في العظائم"5
 
 

1-الكافي، ج3،ص363، الحديث 2.
2- سورة مريم، الآيتان: 59  و 60.  
3-سورة المدّثّر الآيتان: 43 ،42.
4-سورة المدّثّر الآيات: 27،28،29،30.
5- الوسائل، ج 4، ص 112.  
 
 
 
 
81

66

إقامة الصلاة

 وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أوصني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدع الصلاة متعمّداً، فإنَّ من تركها متعمِّداً فقد برئت منه ملّة الإسلام"1.

 
وأمّا الاستخفاف بها فهو يشمل: عدم تفّهم الصلاة في أحكامها وشروطها الشرعيّة، وتأخيرها عن وقتها، وتركها جزئيّاً، وعدم التأنّي في أدائها، وعدم الخشوع والتوجّه بالقلب والتأثُّر بها حال أدائها، وإليك بعض النصوص الّتي تخصّ هذه الألوان من التضييع:
 
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس منّي من استخفّ بصلاته، لا يرد الحوض عليَّ لا والله"2.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لكلّ شيء وجه ووجه دينكم الصلاة، فلا يشيننَّ أحدكم وجه دينه"3.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال لجماعة: "والله إنّه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة، فأيّ شيء أشدّ من هذا؟ والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يُصلّي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إنّ الله لا يقبل إلّا الحسن، فكيف يقبل ما يستخفّ به"4.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد فدخل رجل فقام يُصلّي فلم يتمَّ ركوعه ولا سجوده، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا الرجل و هكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني"5.
 

1-الوسائل، ج 4، ص 42.
2-م. ن، ج 4، ص25.  
3- م. ن، ج 4، ص24.
4- م. ن، ج 4، ص24. 
5-م. ن، ج 4، ص 32.
 
 
 
 
82

67

إقامة الصلاة

 للمطالعة

التهاون بالصلاة
 
...عن أبي جعفر عليه السلام قال "بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِد إذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَلاَ سُجُودَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَم نَقرٌ كَنَقْرِ الغُرَابِ لَئِنْ مَاتَ هذَا وَهكَذَا صَلاَتُهُ لَيَمُوتنَّ عَلَى غَيْرِ دِينِي"1 بل قد يُفضي الأمر بالإنسان من جرّاء الاستخفاف بالصلاة، إلى تركها. ومن الطبيعيّ أنّ الإنسان إذ لم يُبدِ اهتماماً بشيء، لسقط من عينه ولانتهى إلى النسيان.
 
إنّنا قلّما يعترينا النسيان تجاه أمر دنيويّ سيّما في الأمور المهمّة منها، وذلك لاستعظام النفس لها، وتعلّقها بها، وتذكّرها الدائم، ومن الطبيعيّ أن لا يُنسى مثل هذا الأمر. فإذا قال لك شخص صادق في وعوده، إنّني لدى الظهر من يوم كذا، أدفع لك مبلغاً يُعدّ كبيراً ومهمّاً عندك، فإنّك لا تنسى ذلك اليوم والموعد بل تُحصي الساعات والدقائق حتّى يقترب الوقت لكي تستقبل الموعد بكلّ توجّه وحضور قلب، كلّ ذلك نتيجة أنّ حبّ النفس لذلك الشيء وإكبارها له، قد شغلك به، فلا تتهاون فيه أبداً. وهكذا يتمّ الاهتمام من جانب الإنسان في كلّ الأمور الدنيويّة حسب وضعه وشؤونه، وأمّا إذا كان الشيء تافهاً لدى الإنسان، لتوجّهت النفس لحظة واحدة ثمّ غفلت عنه.
 
إذن: هل تعرف المسوّغ لفتورنا هذا في الأمور الدينيّة؟ إنّه لأجل عدم إيماننا بالغيب وأنّ مرتكزات عقائدنا واهية، وإيماننا بالوعود الإلهيّة والأنبياء مهتزّاً ومتزلزلاً، وتكون النتيجة أنّ جميع الأمور الدينيّة والشرائع الإلهيّة عندنا تافهة 
 
 

1-وسائل الشيعة، ج 3، الباب 8 من أبواب أعداد الفرائض وأوقاتها، ص 21، ح2.
 
 
 
 
83

68

إقامة الصلاة

 وموهونة، ويُفضي هذا الوهن شيئاً فشيئاً إلى الغفلة فإمّا أنّ هذه الغفلة تُهيمن علينا، وتُخرجنا كليّاً من هذا الدِّين الشكليّ الصور يّ الّذي نعتنقه، أو تبعث على الغفلة لدى أهوال نزع الروح وشدائد اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان.


الأربعون حديثاً،الإمام الخميني، دار التعارف،1411 هـ ـ 1991م، ص 446 - 447.
 
 
 
 
84

69

مراتب الإيمان

المحور الثالث


- مراتب الإيمان
- التكبر
- الغضب
- الأمانة
- الأخوة
 
 
 
 
85

70

مراتب الإيمان

 الدرس الثامن: مراتب الإيمان

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾(آل عمران:191)
 
2- ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين﴾(التكاثر:5، 6، 7)
 
3-﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾(الواقعة:95)
 
 
 
 
87

71

مراتب الإيمان

 تمهيد 

 
الإيمان هو الاعتقاد، وسكون النفس وتصديق القلب، وكلّ من كان عارفاً بالله وبنبيّه وبكلّ ما أوجب الله عليه معرفته مقرّاً بذلك فهو مؤمن، والكفر نقيض ذلك.
 
ولكن هذه الحالة الإيمانيّة تتفاوت بين الناس وتختلف على مراتب، فمنهم من بلغ أعلى المراتب وهي اليقين، كأمير المؤمنين عليه السلام الذي روي عنه: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"، ومنهم من هو دون ذلك كما أشار إليه تعالى في كتابه:﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴾1.
 
وكلّما قوي واشتدّ إيمان الإنسان استطاع أن يسلك طريق الهدى ويصل إلى السعادة بشكل أسهل وأسلم، وإذا ضعف الإيمان كان تعرّضه للسقوط في طريق السعادة والخير أكثر وأخطر. لذلك نجد الشريعة الإسلاميّة المطهّرة قد حثّت على العلم والمعرفة ودعت إلى التفكّر في خلق الله تعالى، ليزداد الإنسان إيماناً ويقوى اعتقاده، ممّا يدعوه إلى التقوى والصلاح.
 
فعلى الإنسان المؤمن أن يُحاول جهده أن يصعد في الدرجات ولا يكتفي بدرجات الاعتقاد الأوّليّة.
 
فامتحانات وابتلاءات الدنيا كثيرة، كلّما كان الإنسان قويّ اليقين كلّما خرج منها بنجاح.
 
فعلى سبيل المثال؛ النبيُّ إبراهيم عليه السلام طلب المزيد من درجات الإيمان، كما 
 

1-سورة يوسف، الآية:106. 
 
 
 
89

 


72

مراتب الإيمان

 قال القرآن الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾1، ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾2.

 
وفي الحديث عن صفوان، سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله لإبراهيم: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ أكان في قلبه شكّ؟ قال عليه السلام "لا، كان على يقين ولكنّه أراد من الله الزيادة في يقينه"3.
 
ولقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمّته من ضعف اليقين، فقال: "ما أخاف على أمّتي إلّا ضعف اليقين"4.
 
مراتب اليقين
 
وليس اليقين على مرتبة واحدة، بل له مراتب عدّة:
 
المرتبة الأولى: علم اليقين.
المرتبة الثانية: عين اليقين.
المرتبة الثالثة: حقّ اليقين.
 
كما أشير إليها في هذه الآيات: ﴿كَلاَ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ*ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾5 ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾6.
 
وكمثال لتوضيح الفرق بين هذه المراتب نقول: لو رأينا دخاناً يتصاعد يحصل
 

1-سورة البقرة،  الآية: 26.
2-سورة الأنعام، الآية: 75.
3-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 790، ح 22725.
4-م . ن، ج 10، ص 785، ح 22683.
5-سورة التكاثر، الآيات: 5ـ 6ـ 7.
6- سورة الواقعة، الآية: 95.
 
 
 
 
90

73

مراتب الإيمان

 لنا اليقين بوجود النار. وعين اليقين: يحصل عند رؤية النار نفسها، وحقّ اليقين: يحصل عند الاحتراق بتلك النار.

 
بين اليقين العقلي والقلبي
 
نوّد الإشارة إلى أمر مهمّ وهو لماذا نرى أناساً يقولون إنّنا موقنون بالله والآخرة، ولكنّهم في نفس الوقت نراهم ضعفاء في عملهم والتزامهم بأوامر الله ونواهيه؟
 
الجواب: إنّ هناك فرقاً بين اليقين القلبي والعقلي، فهذا إبليس كان موقناً بالله عقلاً ولكن لم يترسّخ يقينه في قلبه.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إنّ الاعتقاد والعلم مغايران للإيمان، فالعلم بالله وأسمائه وصفاته وسائر المعارف الإلهيّة الّذي يوجد فينا، مغاير للإيمان وليس بإيمان.
 
والدليل على ذلك أنّ الشيطان كما يشهد له الذّات المقدّسة عالم بالمبدأ والمعاد ومع ذلك فهو كافر, لأنّه يقول: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾1 فهو إذن يعترف بالحقّ تعالى وخالقيّته، ويقول أيضاً: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾2، فيعتقد بالمعاد، وهو كذلك عالم بالكتب والرسل والملائكة، ومع ذلك كلّه خاطبه الله سبحانه بلفظ الكافر، وأخرجه من زمرة المؤمنين"3.
فالمطلوب أن ينزل العلم واليقين العقلي إلى منطقة القلب حتّى يؤثّر أثره في نفس وقلب وسلوك الإنسان.
 
وقد فرّق بعض العلماء بين الإيمان العقلي والقلبي بمثال معبِّر، حيث مثّلوا لذلك بالإنسان الّذي ينام مع ميّت في غرفة وحدهما، فقالوا: إنّ الإنسان يعلم يقيناً أنّ 
 

1-سورة الأعراف، الآية: 12.  
2-سورة الأعراف، الآية: 14.
3-الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخميني، مؤسسة الأعلمي، ط2- 1986م، ص40.
 
 
 
 
91

74

مراتب الإيمان

 الميّت لا يؤذي، ولكن يخاف أن ينام معه منفرداّ، وما ذلك إلّا لأنّ اليقين العقلي بعدم أذيّة الميّت له، لم ينزل إلى القلب.

 
أهميّة اليقين وثمراته
 
الأحاديث كثيرة في أهميّة اليقين وثمراته، نذكر بعضها:
 
1ـ رأس الدِّين وعماده:
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كلّه"1.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "اليقين رأس الدِّين"2.
 
وعنه عليه السلام: "اليقين عماد الدِّين"3.
 
2ـ قوّة العمل: 
 
قال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، العمل لا يُستطاع إلّا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعُف عمله"4.
 
3ـ شرط العبادة:
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا عمل إلّا بنيّة، ولا عبادة إلّا بيقين"5
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام "باليقين تتمّ العبادة"6.
 
4ـ إنكار المنكر (الجهاد):
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "... ومن أنكر (المنكر) بالسيف لتكون كلمة الله هي
 
 

1- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 774، ح 22629
2-م.ن، ج 10، ص 774، ح 22612.
3- م . ن، ج 10، ص 774، ح 22619.
4- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 62، نقلاً عن البداية والنهاية، ج 9، ص 270.
5- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 776، ح 22631.  
6-م.ن، ج 10، ص 775، ح 22629.
 
 
 
 
92

75

مراتب الإيمان

 العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، ذلك الّذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريقة ونوّر في قلبه اليقين"1.

 
5ـ اليقين قوّة للقلب:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين"2.
 
6ـ سعادة:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "ما أعظم سعادة من بوشر قلبه ببَرْدِ اليقين"3.
 
7ـ الصبر:
 
عن لقمان الحكيم: "الصبر عند مسّ المكاره من حسن اليقين"4.
 
8ـ الإخلاص:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إخلاص العلم من قوّة الإيمان"5.
 
9ـ الزهد:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "اليقين يتمّ الزهد"6.
 
10ـ التوكلّ والرضى:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "التوكلّ من قوّة اليقين"7.
 
وعنه عليه السلام: "بالرضى بقضاء الله يُستدل على حسن اليقين"8.
 

1-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 329، ح 20858.
2- م . ن، ج 10، ص 773، ح 22609.
3-م . ن، ص 773، ح 22603.
4- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 62 نقلاً عن ربيع الأبرار، ج 2، ص 524.
5-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 787، ح 22698.   
6-م . ن، ج 10، ص 787، ح 22702.
7-م . ن، ج 10، ص 788، ح 22711.
8- م . ن، ج 10، ص 788، ح 22713.
 
 
 
 
93

 


76

مراتب الإيمان

 1ـ الهداية:

 
وعن الإمام عليّ عليه السلام "هُديَ من دَرَعَ لباس الصبر واليقين"1.
 
ونُلاحظ في كلّ هذه الأحاديث عندما يُطلق اليقين ويترتّب عليه هذه الآثار الجليلة، فإنّ المراد منه هو اليقين الّذي امتزج مع القلب. وهو اليقين الممدوح والمطلوب، نعم اليقين العقلي مقدّمة لهذا اليقين ومساعد على تحقّقه.
 
كيف نُحصِّل اليقين؟
 
بعد أن ذكرنا هذه الثمار المهمّة لليقين، وعرفنا ما يترتّب عليه، وأدركنا أهميّته، نسأل كيف يُمكن تحصيله؟
 
الجواب: يُمكن تحصيل اليقين من خلال أمور:
 
1ـ إصلاح النفس:
 
عن الإمام الكاظم عليه السلام: "تعاهدوا عباد الله بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً، وتربحوا نفيساً ثميناً"2.
 
فإصلاح النفس وجهادها والتفكّر بما فيها من صفات حميدة أو رذيلة مذمومة يُساعد كثيراً على معرفة الهدى والرشاد، وبالتوكّل على الله ينزل هذا اليقين إلى قلبه.
 
2ـ التفكّر والتأمّل:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد... واليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأوّل الحكمة، وموعظة العبرة، وسنّة الأوّلين... "3.
 
 

1- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 789، ح 22720.
2- م . ن، ج 10، ص 790، ح 22724.
3- م . ن، ج 10، ص 789، ح 22720.
 
 
 
 
 
94

77

مراتب الإيمان

 ما يُضعِف اليقين

 
وأمّا الأمور الّتي تؤثّر سلباً على اليقين وقد تؤدّي إلى زواله فأهمّها:
 
1ـ غلبة الهوى والشهوات:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "يُفسد اليقين الشكّ وغلبة الهوى"1.
 
2ـ الحرص:
 
وعنه عليه السلام: "من كثر حرصه قلّ يقينه"2، "الحرص يُفسد الإيقان"3.
 
3ـ الصحبة الفاسدة:
 
وعنه عليه السلام: "خلطة أبناء الدنيا تشين الدِّين وتُضعف اليقين"4.
 
خاتمة
 
إذا رجعنا إلى أنفسنا عرفنا جيّداً، مدى خطورة الشكّ على النفس الإنسانيّة، حتّى في الأمور الدنيويّة؛ الشكّ صعبٌ على النفس، فكيف بالأمور المصيريّة، الّتي تؤدّي بنا إمّا إلى جنّة أو إلى نار.
 
إن لم نقوّي يقيننا وإيماننا بالمبدأ والمعاد، ستكون حياتنا صعبة قلقة مضطّربة، وآخرتنا أمرّ وأدهى.
 
فلنحذو حذو النبيّ إبراهيم عليه السلام الّذي طلب من الله زيادة الاطمئنان، أو حذو الإمام عليّ عليه السلام الّذي روي عنه: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً"5.
 
 

1- ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 10، ص 784، ح 22673.
2- م. ن، ج 10، ص 784، ح 22674.
3-م . ن، ج 10، ص 784، ح 22676.
4-  م . ن، ج 10، ص 785، ح 22681.
5-  عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمّد الليثي الواسطي، ص 415.
 
 
 
 
95

78

مراتب الإيمان

 للمطالعة

 
 علامات حجـّـة اليقين
 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "مِنْ صِحَّةِ يَقينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أنْ لا يُرْضِيَ النّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلا يَلومهُمْ عَلى ما لَمْ يؤته اللهُ، فَإنَّ الرِّزْقَ لا يَسوقُهُ حِرْصُ حَريصٍ، وَلا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كارهٍ، وَلَوْ أَنَّ أحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَما يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَما يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ. ثُمَّ قالَ: إنَّ اللهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرّاحَةَ فِي الْيَقينِ وَالرِّضى، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ"1.
 
جعل الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث الشريف، علامتين على صحّة اليقين وسلامته هي: أحدهما: لا يُرضي الناس بسخط الله. الآخر: لا يلوم الناس على ما لم يؤته الله. وهاتان العلامتان من نتائج كمال اليقين. كما أنّ ما يُقابلهما يكون من آثار ضعف اليقين وسقم الإيمان ومرضه... لابُدّ وأن نعلم بأنّ الراغب في تحصيل رضى الناس، والباذل جهده للهيمنة على قلوبهم وعقولهم، إنّما يقوم بهذه المحاولات لأجل أنّه مقتنع بأنّ لهؤلاء دوراً إيجابيّاً ومؤثّراً في مطعمه ومطمحه، فالّذين يُحبّون المال ويعبدون الدينار يخضعون أمام أصحاب الثروات ويتذلّلون بين أيديهم ويتزلّفون لهم. والّذين يطلبون الرئاسة والاحترامات الظاهريّة، يتملّقون أمام الرؤساء، ويتواضعون لهم تحسّباً منهم بأنّ هذه الأساليب تستميلهم وتبعث على كسب قلوبهم، وهكذا تدور هذه العجلة،... ويخرج من هذه الدائرة الّتي تدور بين الرؤساء والمرؤوسين، خصوص الّذين هذّبوا نفوسهم من خلال ترويض النفس في كلّ من الجانبين وبذلوا ما في وسعهم لأجل تحصيل رضى الحقّ سبحانه، ولم يتزلزلوا أمام الدنيا وزخارفها بل كانوا يُفتّشون في فترة رئاستهم عن رضى الحقّ جلّ وعزّ، ويبحثون عن الحقّ والحقيقة أيّام مرؤوسيّتهم.
 
الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص497.
 
 
 

1- أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين، ص 57، ح2.
 
 
 
 
96

79

التكبّر

 الدرس التاسع: التكبر

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه: 
 
1- ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ﴾.(الجاثية:31)
 
2- ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.(لقمان:18)
 
3- ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾.(البقرة:87)
 
 
 
 
97

80

التكبّر

 التكبُّر ودرجاته

 
إذا أظهر الإنسان بقول أو فعلٍ أنّه أكبر من غيره شرفاً أو جاهاً أو نحو ذلك فقد تكبّر عليه، وعدّه صغيراً، وإذا كان لا شرف ولا كرامة لشيء على شيء إلا ما شرّفه الله سبحانه وكرّمه كان التكبّر صفة مذمومة في غيره تعالى على الإطلاق، إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر والمذلّة في أنفسهم، فليس لأحد من دون الله أن يتكبّر على أحد.
 
وللتكبّر درجات:
 
الأولى: التكبُّر على اللّه تعالى:
 
وهو أقبح وأشدّ أنواع التكبّر هلكة، وتراه في أهل الكفر والجحود، ومثاله تكبُّر النمرود وفرعون وإبليس، يقول فرعون لقومه: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾1. ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾2.
 
الثّانية: التكبُّر على أوامر اللّه تعالى، وهذا يرجع إلى التكبُّر على اللّه سبحانه.
 
ويظهر في بعض العاصين، كأن يمتنع أحدهم عن الحجّ بحجّة أنّه لا يستسيغ مناسكه، أو يترك الصلاة لأنّ السجود لا يليق بمقامه، أو لا يدخل المسجد لأنّه مكان الفقراء ولا يُناسبه.
 

1-سورة النازعات، الآية: 24.
2-سورة القصص، الآية: 38.
 
 
 
 
99

81

التكبّر

 الثالثة: التكبُّر على الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام والأولياء.

 
كثيراً ما كان يحصل في زمن الأنبياء عليهم السلام. قال تعالى على لسان الكفَّار المتكبّرين: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾1.
 
وقال سبحانه على لسان آخرين منهم: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾2 
 
الرابعة: التكبُّر على عباد اللّه تعالى:
 
وهذا النوع من التكبُّر له علائم منها: أنّ المتكبِّر يتوقّع من الناس أن يبتدؤه بالسلام، وأن لا يدخل أحد إلى المجلس قبله، وأن يجلس في صدر المجلس دائماً.
 
ويتصوّر أنّ على النّاس أن تقف خاضعة وخاشعة أمامه،وتعظّمه عند الحديث معه، بحيث لا يرون لأنفسهم شخصيّة أمامه، ولا يتكلّمون معه من موقع الانتقاد بل حتّى من موقع النصيحة والموعظة، فعليهم أن يُعظّموه دائماً، فهو فوق الانتقاد والموعظة والتوجيه والنصيحة!!
 
ومن هذا التكبُّر رفض مجالسة الفقراء، والتبختر في المشي، وأقبحه التكبُّر على العلماء الأتقياء المخلصين، بحيث لا يسمع لهم قولاً ولا يقبل موعظة ونصيحة، بل يتهكّم عليهم ويستهزئ بهم. يقول تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَاد﴾3.
 
ويقول أيضاً على لسان لقمان وهو يعظ ابنه ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾4.
 
 

1-سورة المؤمنون، الآية: 47.
2-سورة الزخرف، الآية: 31.
3-سورة البقرة، الآية: 206.
4-سورة لقمان، الآية: 18. 
 
 
 
100

82

التكبّر

 من دوافع التكبّر:

 
بعد أن تعرّفنا على التكبّر ودرجاته لابدّ من التعرّف على أسبابه ودوافعه حتّى يسهل على الإنسان اجتنابه، فمن دوافع التكبّر:
 
1ـ العمل والعبادة:
 
بحيث يرى العامل العابد أنّ له حقّاً على النّاس أن يحترموه ويقضوا حوائجه، ولا يُقيم وزناً لعبادة الآخرين وعملهم.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم الرجل يقول هلك النّاس فهو أهلكهم"1.
 
2ـ الحسب والنسب:
 
بعض من له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه علماً وعملاً، في حين أنّ الإسلام ليس فيه تفاضل إلّا بالتقوى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾2.
 
وروي عن أبي ذر أنّه قال: "قاولت رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا ابن السوداء فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر... ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل".
 
قال أبو ذر فاضطجعت وقلت للرجل: عليه السلام: "قم فطأ خدّي"3.
 
3ـ الجمال:
 
بأن يرى أنّه أجمل من سائر أصدقائه فيتكبّر عليهم، علماً أنّ الله هو الّذي أعطاه هذا الجمال ولعلّه يمتحنه به، وغالباً ما يكون هذا النوع من التكبّر بين النساء. 
 
4ـ المال:
 
وذلك يجري بين الأغنياء حيث يحتقرون الفقراء، ومن ذلك تكبُّر قارون إذ قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾4.
 
 

1- تنوير الحوالك، جلال الدين السيوطي، ص708.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.
3- المحجّة البيضاء، ج 6، ص 243.
4- سورة القصص، الآية: 79.
 
 
 
 
101

 


83

التكبّر

 5-البنون:

ومن ذلك تكبُّر بعض الناس وتفاخرهم بكثرة أولادهم وعددهم فيحتقرون من لا أولاد له، أو من قلّت ذريّته. يقول تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ*حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾1.
 
6ـ القدرة البدنيّة:
 
والتكبُّر بها على أهل الضعف، كتكبّر بعض الشباب على أصدقائه مفاخراً بعضلاته وبحجم جسمه وقوّة بدنه.
 
مفاسد التكبُّر وعواقبه:
 
إنّ لهذا الخُلق الذميم آثاراً سيّئة جدّاً وعواقب وخيمة تعرض على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره، وكذلك تعرض على المجتمع البشري، ويُمكن الإشارة إلى عدّة موارد منها:
 
1ـ التلوّث بالشرك والكفر:
 
لقد أدّى التكبّر بفرعون ونمرود إلى تكذيب الأنبياء عليهم السلام وعدم الإيمان بهم.
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله الراوي عن أقَلّ درجة الإلحاد فقال له الإمام عليه السلام: "إنّ الكبْر أدناه"2.
 
وممّا وعظ به لقمان ابنه: "يا بُنيّ، إيّاك والتجبُّر والتكبُّر والفخر فتجاورَ إبليس في داره"3.
 
2ـ الحرمان من العلم والمعرفة:
 
نقرأ في كلام الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم يقول: "إنّ الزرع ينبت في السَّهل ولا ينبت في
 

1- سورة التكاثر، الآيتان: 1و 2 . 
2- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 160.
3- م.ن، ص 160. 
 
 
 
 
102

84

التكبّر

 الصّفا فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبِّر الجبّار، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل وجعل التكبُّر من آلة الجهل"1.

 
وعن لقمان الحكيم: "إن لكلِّ شيء مطيّة ومطيّة العقل التواضع"2.
 
3ـ مصدر كثير من الذنوب:
 
لو تأمّلنا في حالات الأشخاص الّذين يعيشون الحسد، الحرص، بذاءة اللسان، وغيرها، لرأينا أنّ أصل ومصدر جميع هذه الرذائل الأخلاقيّة هو التكبُّر.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحرص والكبر والحسد دواع إلى تقحّم الذنوب"3.
 
وعنه عليه السلام: "التكبُّر يُظهر الرذيلة"4.
 
4ـ مصدر الفرقة:
 
إنّ من البلايا المهمّة الّتي ترد على المتكبرّين هو الانزواء الاجتماعي وتفرّق النّاس من حولهم.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "من تكبّر على الناس ذلّ"5.
 
وعنه عليه السلام: "ليس للمتكبِّر صديق"6.
 
علاج التكبّر:
 
أ ـ العلاج العلميّ للتكبُّر:
 
يُمكن تصويره بأن يتفكّر الأشخاص المتكبّرون في أنفسهم أنّهم من هم وأين
 

1- بحار الأنوار، ج 1، ص 153.
2- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 63.
3- نهج البلاغة، الحكمة، 371.
4- غرر الحكم، ح 523. 
5- بحار الأنوار، ج 74، ص 235. 
6- غرر الحكم، ح 7162.
 
 
 
 
103

85

التكبّر

 كانوا وإلى أين يذهبون وما هو مصيرهم في النهاية؟

 
ويتفكّرون في عظمة الله تعالى وضآلة أنفسهم.
 
ويعتبرون من التاريخ فيرون مصير الفراعنة والنمروديين والقارونيين والجبابرة من الملوك والأكاسرة والقياصرة.
 
فعن الإمام الباقر عليه السلام: عليه "عجباً للمختال الفخور وإنّما خلق من نطفة ثمّ يعود جيفة وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يُصنع به"1.
 
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: أنّه عندما وقع نزاع بين سلمان الفارسيّ وبين شخص مغرور ومتكبِّر، فقال ذلك الشخص لسلمان:
 
من أنت؟ فقال له سلمان: "أمّا أولاي وأولاك فمن نطفة قذرة، وأمّا أُخراي وأُخراك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو كريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم"2.
 
وعن لقمان الحكيم: "يا بُنيّ، ويلٌ لمن تجبّر وتكبّر، كيف يتعظّم من خُلق من طين، وإلى طين يعود، ثمّ لا يدري إلى ماذا يصير، إلى الجنّة فقد فاز أو إلى النار فقد خسر خسراناً مبيناً وخاب"3.
 
ويُروى عنه: "كيف يتجبّر من قد جرى في مجرى البول مرّتين"4.
 
ب ـ العلاج العمليّ للتكبُّر: 
 
أن يسعى الإنسان في دراسة سلوكيّات المتواضعين ويتحرّك مثلهم في تعامله الاجتماعي.
 

1-بحار الأنوار، ج 70، ص 229.
2-م.ن، ج70، ص231، ح24.
3-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 161.
4-م. ن، ص 161. 
 
 
 
 
104

86

التكبّر

 فاسجد لله تعالى على التراب قائلاً: "لا إله إلّا الله حقّاًً حقّاً سجدت تعبّداً لا مستنكفاً ولا مستكبراً".

 
وتأسّى بالنبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم فإنّه "كان يجلس على الأرض ويأكل الطعام ويقول: إنّما أنا عبد آكل كما يأكل العبد"1.
 
وتأسّى بالإمام عليّ عليه السلام الّذي اشترى قميصين أحدهما بأربعة دراهم والآخر بثلاثة دراهم ثمّ قال لغلامه قنبر: "اختر أحدهما، فاختار قنبر القميص الّذي قيمته أربعة دراهم واختار الإمام ما كان بثلاثة دراهم"2.
 
أشعار في التواضع
 
1- تواضع لربّ العرش علّك ترفعُ             فما خاب عبدٌ للمهيمن يخضع
                                    
2- تواضع تكن كالنجم لاح لناظر           على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه                 إلى طبقات الجوّ وهو وضيع
                                   
3- إذا شئت أن تزداد قدراً ورفعة             تواضع واترك الكبر والعجبا
                              
4- تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة          فإنّ رفيع القوم من يتواضع
 
 

1-المحجّة البيضاء، ج 6، ص 256.
2-بحار الأنوار، ج 76، ص 310. 
 
 
 
 
105

87

التكبّر

 للمطالعة

 
في مفاسد الكـِـبـْرِ
 
اعلم أنّ لهذه الصفة القبيحة بحدّ ذاتها مفاسد كثيرة، وهذه المفاسد تتمخّض عنها مفاسد أخرى كثيرة. إنّ هذه الرذيلة تحول دون وصول الإنسان إلى الكمالات الظاهريّة والباطنيّة والاستمتاع من الحظوظ الدنيويّة والأُخرويّة. إنّها تبعث في النفوس الحِقد والعداوة، وتحطّ من قدر الإنسان في أعين الخلق وتجعله تافهاً، وتحمل الناس على أن يُعاملوه بالمثل تحقيراً له واستهانة به.
 
جاء في "الكافي" عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "مما مِن عَبدٍ إلَّا وَفِي رَأْسِهِ حِكَمَة وَمَلِكٌ يُمْسِكهَا، فَإِذَا تَكَبَّرَ قَالَ لَهُ: اتّضعْ وَضَعَكَ اللهُ، فَلا يَزَالُ أَعْظَم النَّاسِ فِي نَفْسِهِ وَأَصْغَر النَّاسِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ. وَإِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ. ثُمَّ قَالَ: انْتَعِشْ نعشك الله، فَلا يَزَالُ أَصْغَر النَّاسِ فِي نَفْسِهِ وَأَرْفَع النَّاسِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ"1. فيا أيّها العزيز ما يحتوي عليه رأسك من الدماغ، تحتويه رؤوس الآخرين أيضاً، إذا كُنت متواضعاً، احترمك الناس قهراً واعتبروك كبيراً، وإذا تكبّرت على الناس لم تنل منهم شيئاً من الاحترام. بل إذا استطاعوا أن يذلّوك لأذلّوك ولم يكترثوا بك. وإن لم يستطيعوا إذلالك، لكُنت وضيعاً في قلوبهم، وذليلاً في أعينهم، ولا مقام لك عندهم. افتح قلوب الناس بالتواضع فإذا أقبلت عليك القلوب ظهرت آثارها عليك وإن أدبرت تكون آثارها على خلاف رغباتك.
 
فإذا فرضنا أنّك كُنت من المبتغين للاحترام والمقام الرفيع، لكان اللازم عليك أن تسلك الطريق الّذي يُفضي بك إلى الاحترام والسمو، وهو مجاراة الناس والتواضع لهم. إنّ التكبُّر يُنتج ما هو على خلاف طلبك وقصدك. إنّك لا تكسب من وراء التكبُّر، نتيجة دنيويّة مجديه، بل ستحصد من ورائه نتيجة معكوسة. ويُضاف إلى 
 
 

1-أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر، ص312،  ح 16
 
 
 
 
106

88

التكبّر

 ذلك أنّ مثل هذا الخلق يوجب الذلّ في الآخرة والمسكنة في ذلك العالَم. فكما إنّك احتقرت الناس في هذا العالَم، وترفّعت على عباد الله وتظاهرت أمامهم بالعظمة والجلال والعزّة والاحتشام، كذلك تكون صورة هذا التكبُّر في الآخرة، الهوان كما ورد في الحديث الشريف من كتاب أصول الكافي: بإسناده، عن داود بن فرقد، عن أخيه، قال: "سَمِعْتُ أبا عَبْدِاللهِ عليه السلام يقول: إِنَّ المُتَكَبِّرينَ يُجْعَلُونَ في صُوَرِ الذَّرِّ يَتَوَطّأهُمُ النّاسُ حَتّى يَفْرَغَ اللهُ مِنَ الحِسابِ"1.

 

الأربعون حديثا، الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص91ـ92.
 
 

1-أصول الكافي ، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الكبر، ص311،  ح 11.
 
 
 
 
107

89

الغضب

 الدرس العاشر: الغضب

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾.(الشورى:37)
 
2- ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾.(فصّلت:34)
 
3- ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾.(الأعراف:200 و 201)
 
 
 
 
109

90

الغضب

 تمهيد:

 
إنّ الغضب حالة نفسانيّة أودعها الله سبحانه في الإنسان للاستفادة منها في حفظ نفسه والدفاع عنها وعمّا يتعلّق به، ممّا يؤدّي إلى بقاء النوع الإنساني، ولكن هذه الحالة النفسانيّة قد تخرج عن حدّ الاعتدال عندما يُسيء الإنسان الاستفادة منها، فتُصبح صفة مذمومة تؤدّي إلى ما لا يُحمد عقباه.
 
وقد عرّف الغضب علماء الأخلاق بأنّه: " ثوران القوّة (والنفور) على الغير لقصد الانتقام والتشفّي"1.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "إعلم أنّ غريزة الغضب من النعم الإلهيّة الّتي يُمكن بها عمارة الدنيا والآخرة، وبها يتمُّ الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشري والنظام العائلي، ولها تأثير كبير في إيجاد المدينة الفاضلة ونظام المجتمع. فلولا وجود هذه الغريزة الشريفة في الحيوان لما قام بالدفاع عن نفسه ضدّ هجمات الطبيعة، ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال. ولولا وجودها في الإنسان، لما استطاع أن يصل إلى كثير من مراتب تطوّره وكمالاته...
 
إنّ القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والتعزيرات وسائر التعاليم السياسيّة الدينيّة والعقليّة، لا يكون إلّا في ظلّ القوّة الغضبيّة الشريفة وعلى ذلك فإنّ الّذين يظنّون أنّ قتل غريزة الغضب بالكامل وإخماد أنفاسها يُعدّ من الكمالات والمعارج النفسيّة إنّما يرتكبون خطيئة عظيمة،
 

1-شرح أصول الكافي، ج4، ص227.
 
 
 
 
111

91

الغضب

 ويغفلون عن حدِّ الكمال ومقام الاعتدال..."1.

 
وحديثنا عن الغضب في طرفه الإفراطي أي استعمال الغضب في غير محلِّه، وهو مفتاح الشرور ورأس الآثام، وداعية الأزمات والأخطار.
 
ومن هنا تضافرت الروايات في ذمّ هذا النوع من الغضب.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يُفسِد الإيمان كما يُفسِد الخلُّ العسل"2.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام: "مكتوب في التوارة فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى عليه السلام: يا موسى أمسِك غضبك عمّن ملّكتك عليه أكُفّ عنك غضبي"3.
 
وقال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، املك نفسك عند الغضب حتّى لا تكون لجهنّم حطباً"4.
 
وعنه أيضاً: "يا بُنيّ، إيّاك وشدّة الغضب، فإنّ شدّة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم"5.
 
كظم الغيظ:
 
إلى كثير من الروايات الّتي تذمّ الغضب الإفراطي. 
 
وفي المقابل هناك آيات وروايات كثيرة تمدح الحلم وكظم الغيظ نأتي على ذكر بعضها:
 
يقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾6.
 
 

1-الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، دار التعارف 1411 هـ، 1991 م، ص 132.
2- أصول الكافي، ج 2، كتاب الإيمان والكفر، باب الغضب، ص302، ح1.
3-م . ن، ص303، ح7.
4-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 86.
5-م . ن، ص 87.
6-سورة آل عمران، الآية: 134.
 
 
 
 
112

 


92

الغضب

﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾1

 
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ﴾2.
 
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أُخبركم بأشبهكم بي أخلاقاً؟ قالوا: بلى يا رسول الله فقال: أحسنكم أخلاقاً وأعظمكم حلماً وأبرّكم بقرابته وأشدّكم إنصافاً من نفسه في الغضب والرضى"4.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ المؤمن ليُدرك بالحلم واللّين درجة العابد المتهجِّد"5.
 
أسباب ودوافع الغضب
 
إنّ للغضب عوامل وأسباب مختلفة، ومعرفة هذه العوامل ضروريّة في عمليّة الوقاية والعلاج من أخطار هذه الحالة السلبيّة، ومن هذه العوامل:
 
1ـ التسرُّع:
 
يسمع الإنسان في حياته الفرديّة والاجتماعيّة بعض الأخبار غير المسرّة وقد يحكم عليها مباشرة من موقع حالة الغضب.
 
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من طبائع الجهّال التسرُّع إلى الغضب في كلِّ حال"6.
 
2ـ ضيق الأفق:
 
إنّ الأشخاص الّذين يعيشون سعة الصدر وكبر الروح وقوّة الشخصيّة وسعة 
 
 
 

1-سورة الشورى، الآية: 37.
2- سورة هود، الآية: 75.
3-سورة الأعراف، الآية: 199.
4- بحار الأنوار، ج 74، ص 152. 
5-مستدرك الوسائل، ج 11، كتاب الجهاد، ص 288.
6-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 3، ص 3264، نقلاً عن غرر الحكم، ح6325.
 
 
 
 
113

93

الغضب

 الفكر يتحمّلون الحوادث الصعبة وإساءات الآخرين بحكمة وهدوء، بخلاف ضيّقي الأفق والتفكير الّذين يغضبون لأتفه الأسباب. والحديث السابق يُشير إلى أنّ سرعة الغضب من أخلاق الجهّال.

 
3ـ التكبّر والغرور:
 
إنّ الأشخاص الّذين يعيشون روح التكبّر والغرور، ويرغبون دائماً في أن يحفظ لهم الآخرون كبرياءهم وغرورهم، يغضبون إذا ما توهّموا أنّ الآخرين لا يحترمونهم.
 
عن السيّد المسيح عليه السلام: إنّ الحواريين قالوا له: "يا معلِّم الخير، علّمنا أيّ الأشياء أشدّ؟ فقال عليه السلام: أشدّ الأشياء غضب الله عزّ وجلّ، قالوا: فيم يُتّقى غضب الله؟ قال: بأن لا تغضبوا. قالوا: وما بِدأ الغضب؟ قال عليه السلام: الكِبر والتجبُّر ومحقرة النّاس وشدّة الحرص على فضول المال والجاه..."1.
 
4ـ الحسد والحقد:
 
قد يتفجّر الحقد في الإنسان غضباً عارماً على الآخرين، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام: "الحقد مثار الغضب"2.
 
5ـ الحرص وحبّ الدنيا:
 
إنّ الّذين يهيمون بحبّ الدنيا ويملأ وجودهم الحرص على تحصيل زخارفها وزبارجها، لا يتحمّلون أيّة مزاحمة وخسارة محتملة لدنياهم، ولذلك يثورون لأتفه الأسباب فيما لو تعرّضوا لخسارة ولو قليلة. وقد ورد في ذيل الحديث المذكور آنفاً عن السيّد المسيح عليه السلام ما يشير إلى هذا العامل: "وشدّة الحرص على فضول المال والجاه".
 

1- الخصال، الصدوق، ص6، ح17، وسفينة النجاة، مادّة الغضب. 
2-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج1، ص648.  
 
 
 
 
114

94

الغضب

 الآثار السلبيّة للغضب:

 
للغضب آثار سلبيّة عديدة منها:
 
1ـ فقدان الصواب والحكم الصحيح:
 
يفقد الإنسان حين الغضب عقله ويتحوّل إلى كائن غير متّزن التصرُّفات والحركات، بحيث يتعجّب منه من حوله من النّاس، وهو نفسه بعد هدوء غضبه يتعجّب من تصرّفاته.
 
وقد يهجم الشخص في تلك الحال على أقرب المقرّبين إليه من دون أن يعيَ ماذا يفعل، وقد يتسبّب في تلوّث يده بدماء الأبرياء، فيقتل ويجرح ويُحطِّم ويسرق ويُخرِّب وكأنّه سبع ضارٍ.
 
ولذلك ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الغضب يُفسد الألباب ويُبعد من الصواب"1.
 
وعنه عليه السلام: "لا يُعرف الرأي عند الغضب"2.
 
2ـ الغضب خطر على الإيمان:
 
إنّ الغضب يؤدّي إلى اضمحلال إيمان الشخص وتلاشيه، لأنّ الشخص الغاضب يرتكب الذنوب وهي ترين على القلب ومع الرين يُخشى من زوال الإيمان.
 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يُفسد الإيمان كما يُفسِد الصبر العسل"3
 
3ـ فقدان الكلام الموزون:
 
يُفسد الغضب منطق الإنسان وكلامه، ويقوده إلى التلفّظ بالباطل والكلمات غير
 

1-مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص11.
2-بحار الأنوار، ج 75، ص 113.
3-م.ن، ج7، ص265.
 
 
 
 
115

95

الغضب

 المسؤولة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: "شدّة الغضب تُغيّر المنطق وتقطع مادّة الحجّة، وتُفرِّق الفهم"1.

 
4ـ ظهور العيوب:
 
ويُظهر الغضب العيوب الخفيّة، كما عن أمير المؤمنين عليه السلام: "بئس القرين الغضب يُبدي المعايب ويُدني الشرّ ويُباعد الخير"2.
 
5ـ تسلّط الشيطان:
 
إنّ الغضب يفتح الطريق للشيطان ليسيطر على الإنسان ويوقعه في شراكه ومصائده، ممّا يؤدي به إلى ارتكاب الذنوب والفواحش.
 
في الحديث: أنّ النبيّ نوح عليه السلام: "لمّا دعى ربّه عزّ وجلّ على قومه أتاه إبليس لعنه الله فقال: يا نوح إنّ لك عندي يداً أُريد أن أُكافيك عليه، فقال له نوح عليه السلام: إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يدٌ فما هي؟ قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم فلم يبق أحد أغويه فأنا مستريح حتّى ينسق قرنٌ آخر وأغويهم فقال نوح عليه السلام: ما الّذي تُريد أن تُكافيني به؟ قال: اذكرني في ثلاث مواطن فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن: اذكرني إذا غضبت، اذكرني إذا حكمت بين اثنين، اذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد"3.
 
علاج الغضب
 
1ـ القضاء على الأسباب:
 
كما ذكرنا سابقاً هناك جذور وأسباب للغضب، منها: الحسد والحقد، وحبّ
 
 

1- بحار الأنوار، ج 68، ص 428.
2-جامع أحاديث الشيعة، كتاب الجهاد، ج 13، ص 428.  
3-بحار الأنوار، ج 11، ص 318.
 
 
 
 
116

96

الغضب

 الدنيا والجاه، والجهل والتسرُّع في الحكم، والتكبُّر والغرور إلى غير ذلك من الأسباب، فبالقضاء على هذه الأسباب يُمكن معالجة الغضب.

 
2ـ تذكّر سلبيّات الغضب:
 
تذكُّر مساوئ الغضب وأخطاره وآثاره، وأنّها تحيق بالغاضب، وتضرّ به أكثر من المغضوب عليه.
 
وفي المقابل أن يتذكّر حسن الحلم وعواقبه الحميدة، ويرجع إلى سيرة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطاهرين عليهم السلام، كيف كانوا يواجهون أخطاء الآخرين وإساءاتهم بحلم ورويّة، فيهتدي بهديهم، ويتأسّى بهم فهم الهداة إلى الكمال.
 
3ـ ذكر الله تعالى:
 
ومن الطرق المهمّة لعلاج الغضب ذكر الله تعالى، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم، والسجود لله تعالى.
 
فقد ورد أنّ من ثارت فيه الحدّة عليه بقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"1.
 
وورد في رواية أن يقول: "لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"2.
 
وورد في رواية: "أن يضع خدّه على الأرض أو يسجد لله تعالى"3.
 
4ـ تغيير حالة الإنسان:
 
ففي الرواية: "كان النبيُّ إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غيظه"4.
 

1- سفينة البحار، مادة الغضب، والمحجّة البيضاء، ج 5، ص 307.
2-جامع الأحاديث، ج 13، ص 427.  
3-انظر المحجّة البيضاء، ج 5، ص 308.
4-م . ن، ج 5، ص 308، بحار الأنوار، ج 70، ص 272.   
 
 
 
 
117

97

الغضب

5ـ التبرّد بالماء:

 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا غضب أحدكم فليتوضّأ وليغتسل، فإنّ الغضب من النار"1.
 
قال الشاعر:
 
إيّاك والغضب الذميم فإنّه     نارٌ تُدمِّر أنفساً وقصوراً
وعليك بالحلم الجميل فإنّه    يبني الحياة محبّة وسروراً
 
 
 

1-بحار الأنوار، ج 70، ص 272.
 
 
 
 
118

98

الغضب

 للمطالعة

 
معالجة الغضب باقتلاع جذوره

من أهمّ سبل معالجة الغضب هي اقتلاع جذوره بإزالة الأسباب المثيرة له. وهي أمور عديدة....

من تلك الأسباب حبّ الذات، ويتفرّع عنه حبّ المال والجاه والشرف والنفوذ والتسلّط. وهذه كلّها تتسبّب في إشعال نار الغضب، إذ إنّ من كانت فيه هذه الأنواع من الحبّ، يهتم بهذه الأمور كثيراً، ويكون لها في قلبه مكان رفيع. فإذا اتّفق أن واجه بعض الصعوبات في واحدة منها، أو أحسّ بأنّ هناك من يُنافسه فيها، تنتابه حال من الغضب والهيجان دون سبب ظاهر، فلا يعود يملك نفسه، ويستولي عليه الطمع وسائر الرذائل الناجمة عن حبّ الذات والجاه وتُمسك بزمامه، وتحيد بأعماله عن جادّة العقل والشرع. ولكن إذا لم يكن شديد التعلّق والاهتمام بهذه الأمور، فإنّ هدوء النفس والطمأنينة الحاصلة من ترك حبّ الجاه والمقام وسائر تفرّعاته، تمنع النفس من أن تخطو خطوات تُخالف العدالة والرويّة. إنّ الإِنسان البسيط غير المتكلّف يتحمّل المنغّصات ولا تتقطع حبال صبره، فلا يستولي عليه الغضب المفرط في غير وقته. أمّا إذا اقتلع جذور حبّ الدنيا من قلبه اقتلاعاً، فإنّ جميع المفاسد تهجر قلبه وتحلّ محلّها الفضائل الأخلاقيّة السامية.

ومن الأسباب الأخرى لإثارة الغضب هو أنّ الإِنسان قد يظنّ الغضب، وما يصدر عنه من سائر الأعمال القبيحة والرذائل السافلة، كمالاً، وذلك لجهله وقلّة معرفته. فيحسب الغضب من الفضائل ويراه بعض الجهّال فتوّة وشجاعة وجرأة، فيتباهى ويطري على نفسه في أنّه فعل كذا وكذا، فيحسب هذه الصفة الرذيلة المهلكة شجاعة، هذه الشجاعة الّتي تكون من أعظم صفات المؤمنين، والصفات الحسنة. فلا بُدّ وأن نعرف بأنّ الشجاعة غير الغضب، وأنّ أسبابها ومبادئها وآثارها وخواصّها تختلف عن 
 
 
 
 
119

99

الغضب

 أسباب الغضب ومبادئه وآثاره وخواصّه. مبدأ الشجاعة هو قوّة النفس والطمأنينة والاعتدال والإيمان وقلّة المبالاة بزخارف الدنيا وتقلّباتها. أمّا الغضب فناشىء عن ضعف النفس وتزلزلها، وقلّة الإِيمان، وعدم الاعتدال في المزاج وفي الروح، وحبّ الدنيا والاهتمام بها، والتخوّف من فقدان اللذائذ البشريّة. لذلك تجد هذه الرذيلة مستحكمة في المرضى أكثر مما هي في الأصحّاء، وفي الصغار أكثر مما هي في الكبار، وفي الشيوخ أكثر مما هي في الشبّان. فالشجاعة عكس الغضب تماماً. ومن كانت فيه رذائل أخلاقيّة كان أسرع إلى الغضب ممن فيهم فضائل أخلاقيّة، إذ يكون البخيل أسرع في الغضب من غيره إذا تعرّض ماله وثروته للخطر...


فعلى الإِنسان الواعي أن لا يخلط بين هذا الخُلق الّذي يتّصف به الأنبياء والأولياء والمؤمنون، ويُعدّ من الكمالات النفسيّة. والخُلق الآخر الّذي هو من النقائص والصفات الشيطانيّة ومن وسوسة الخنّاس. إلاّ أنّ حجاب الجهل وعدم المعرفة وحبّ الدنيا وحبّ الذات، يُعمي عين الإِنسان ويصمّ أذنه ويُلقيه في المسكنة والعذاب.
وهناك أسباب أخرى ذكروها للغضب، مثل العُجب والزهو والكبرياء والمراء والعناد والمزاح وغيرها مما يُطيل البحث الدخول في تفاصيلها، ولعلّ أكثرها ينطوي تحت هذين الموضوعين المذكورين بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والحمد لله.
 
الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص138ـ 139.
 
 
 
 
120

100

الأمانة

 الدرس الحادي عشر:الأمانة

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾(النساء:58)
 
2- ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(المؤمنون:8)
 
3- ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾(البقرة:283)
 
 
 
 
 
121

101

الأمانة

 تمهيد: 

 
تُعتبر الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وقد ورد الحثّ عليها في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. وقد أولاها علماء الأخلاق والسالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذّات والشخصيّة، وعلى العكس من ذلك "الخيانة" فتُعتبر من الذّنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي.
 
الأمانة رأس مال المجتمع الإنساني والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين النّاس، في حين إنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة الّتي تُحرق العلاقات الاجتماعيّة وتؤدّي إلى الفوضى والشقاء.
 
عند الحديث عن الأمانة فإنّ أغلب النّاس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأمور الماليّة، إلّا أنّ الأمانة بمفهومها الواسع تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنعم الربّانيّة على الإنسان.
 
إنّ جميع النعم المادّيّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات إلهيّة بيد الإنسان.
 
الأموال والثروات المادّيّة والمقامات والمناصب الاجتماعيّة والسياسيّة هي أمانات بيد النّاس، ويجب عليهم مراعاتها وحفظها وأداء المسؤوليّة تجاهها.
 
الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلّاب أمانة بيد المعلِّمين، والكائنات الطبيعيّة أمانة بيد الإنسان لا ينبغي التفريط فيها.
 
وقد أطلقت الآيات القرآنيّة الأمانة على التكاليف الإلهيّة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا
 
 
 
 
123

102

الأمانة

 الأمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾1.

 
فالمقصود من الأمانة الإلهيّة هي المسؤوليّة والتكليف الملقى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحريّة والإرادة. 
 
وكذلك الروايات أطلقت الأمانة على الصلاة ، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام عندما سُئل عن سبب تغيّر حاله وقت الصلاة، قال: "جاء وقت الصلاة، وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها"2
 
وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة بعدهم صلوات الله عليهم فعرضها على السموات والأرض والجبال... (إلى أن يقول) فولايتهم أمانة عند خلقي"3.
 
ويُستفاد من أحاديث أخرى أن مفهوم خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً مصداق مهمّ من مصاديق الأمانة4.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً للأشعث بن قيس: "وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة"5.
 
وفي الحديث النبويّ أنّ: "المجالس بالأمانات"6 لأنّ في المجالس أسراراً وخصوصيّات لا ينبغي إفشاؤها.
 

1-سورة الأحزاب، الآية: 72.
2- نور الثقلين، ج 4، ص 313.  
3-بحار الأنوار، ج 26، ص 320
4- م. ن، ج 99، ص 175.
5- نهج البلاغة، الرسالة، 5.
6- الاحتجاج، ج2، ص163. 
 
 
 
 
124

103

الأمانة

 الأمانة الماليّة: 

 
أمّا الأمانة الماليّة فقد ورد الحثّ عليها كثيراً، ففي وصف الله تعالى للمؤمنين يقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾1.
 
ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾2.
 
ويقول جلّ وعلا: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ﴾3.
 
وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أُقسم لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثاً:يا أبا الحسن أدِّ الأمانة إلى البرّ والفاجر في ما قلّ وجلَّ حتّى في الخيط والمخيطِ"4.
 
وعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له"5.
 
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "عليكم بأداء الأمانة فوالّذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ عليه السلام ائتمنني على السيف الّذي قتله به لأدّيته إليه"6.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"7.
 
 

1-سورة المؤمنون، الآية: 8، وسورة المعارج، الآية: 32.
2-سورة النساء، الآية: 58.
3-سورة البقرة، الآية: 283.
4- بحار الأنوار، ج74، ص273.
5- م. ن، ج 69، ص 198.
6- م. ن، ح 72، ص 114، ح3.
7- أصول الكافي، ج 2، ص 104.
 
 
 
 
125

104

الأمانة

 وورد عن الإمام الرضا عليه السلام: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم وكثرة الحجّ والمعروف وطنطنتهم بالليل ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"1.

 
وعن لقمان الحكيم قائلاً لابنه: "... كُن أميناً، فإنّ الله تعالى لا يحبّ الخائنين"2.
 
إلى غير ذلك الكثير من الروايات الشريفة الّتي تمدح الأمانة وتذمّ الخيانة.
 
دوافع الخيانة
 
يعيش أغلب الأشخاص الّذين يخونون الأمانة ضيق الأفق ويُفكّرون في المنافع العاجلة ولا يُفكّرون في العواقب الوخيمة في الدنيا والآخرة.
 
ويُمكن اختصار دوافع الخيانة بالآتي:
 
1- ضعف الإيمان بالله واليوم الآخر.
2- غلبة الشهوات والأهواء وحبّ الدنيا.
3- تسلّط حالة الحرص والطمع على الإنسان.
4- عدم التفكّر في نتائج الخيانة دنيويّاً وأخرويّاً.
 
وحيث إنّ الخيانة معصية كبيرة تُردي الإنسان في مهاوي سحيقة في الدنيا والآخرة، اشرأبّ عنق الشيطان ليضلّ الإنسان ويوقعه في الخيانة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أؤتمن على أمانة فأدّاها فقد حلّ ألف عُقدة من عُقد النار، فبادروا بأداء الأمانة، فإنّ من أؤتمن على أمانة وكّل به إبليس مائة شيطان من مردة أعوانه ليُضلّوه ويوسوسوا إليه حتّى يُهلكوه إلّا من عصم الله عزّ وجلّ"3.
 

1- بحار الأنوار، ج 72، ص 114، ح 5.
2- م.ن، ج 13، ص 418، ح 11.
3- م.ن، ج 72، ص 114.
 
 
 
 
126

105

الأمانة

 فوائد أداء الأمانة

 
إنّ من أهمّ فوائد أداء الأمانة على المستوى الاجتماعي هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة النّاس، والحياة الاجتماعيّة مبنيّة على أساس التعاون والثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع.
 
فلولا وجود الثقة والاعتماد لساد قانون الغاب، ولحلّ التنافر بدلاً من التكاتف والتعاون والتعامل.
 
ثمّ إنّه إذا سادت الأمانة في المجتمع فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكريّة والروحيّة، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة يُسبّب القلق والخوف للأفراد بحيث يعيشون حالة من الإرباك في علاقاتهم مع الآخرين ومن الخطر المحتمل الّذي ينتظر أموالهم.
 
من هنا جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب صيانة الأمّة الإسلاميّة أداء الأمانة قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أمّتي بخير ما تحابّوا وتهادوا وأدّوا الأمانة واجتنبوا الحرام ووقّروا الضيف وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسنين"1.
 
ثمّ إنّه من عُرف بالأمانة والصدق كثُر من يتعامل معه في تجاراته ومعاملاته ممّا يؤدّي إلى تضاعف رزقه.
 
من هنا قال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، أدِّ الإمانة تسلم لك دنياك وأخرتك، وكُن أميناً تكن غنيّاً"2.
 
على المؤمن الحذر
 
والمؤمن كيّس فطن، ينبغي أن يتعامل مع أهل الأمانة، ولا يكن بسيطاً يأتمن أيّاً
 

1-بحار الأنوار، ج 72، ص 115.
2-م.ن، ج 13، ص 416، ح19.
 
 
 
 
127

106

الأمانة

 كان، ومن هنا جاء التحذير من التعامل مع بعض الناس.

 
فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من ائتمن غير أمين فليس له على الله ضمان لأنّه قد نهاه أن يأتمنه"1.
 
وعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من ائتمن شارب الخمر على أمانة بعد علمه، فليس له على الله ضمان ولا أجر له ولا خلف"2.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لم يخنك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن"3.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "من عرف من عبد من عبيد الله كذباً إذا حدّث وخلفاً إذا وعد وخيانة إذا ائتمن ثمّ ائتمنه على أمانة، كان حقّاً على الله تعالى أن يبتليه فيها ثمّ لا يخلف عليه ولا يأجره"4.
 
ويكفي في ذمّ الخيانة ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام:"رأس الكفر الخيانة"5. "رأس النفاق الخيانة"6. "جانبوا الخيانة فإنّها مجانبة الإسلام"7.
 
 

1-بحار الأنوار، ج 76، ص 127، ح 10.
2-وسائل الشيعة، ج 19، ص 84.
3- بحار الأنوار، ج 75، ص 335، ح 6.
4-الكافي، ج5، ص299.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج14، ص 15.
6-م. ن، ج 14، ص 15.
7-م. ن، ج 14، ص 15.
 
 
 
 
128

107

الأمانة

 للمطالعة

 
التشيـّـع أمانة الحقّ
 
.... وإنّ ولاية أهل بيت العصمة والطهارة، ومودّتهم، ومعرفة مرتبتهم المقدّسة، أمانة من الحقّ سبحانه. كما ورد في الأحاديث الشريفة في تفسير الأمانة في الآية ﴿إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرضِ﴾1 بولاية أمير المؤمنين عليه السلام. كما أنّ غصب خلافته وولايته، خيانة لتلك الأمانة وأنّ رفض المتابعة للإمام عليّ عليه السلام مرتبة من مراتب الخيانة.
 
وفي الأحاديث الشريفة، أنّ الشيعيّ هو الّذي يتّبع أمير المؤمنين عليه السلام اتّباعاً كاملاً وإلاّ فإنّ مجرّد دعوى التشيّع من دون الاتّباع لا يكون تشيّعاً.
 
إنّ كثيراً من الأوهام، تُعتبر من قبيل الشهوة الكاذبة يشتهي الإنسان الطعام وهو شبعان، فإذا لمسنا في قلوبنا مودّة عليّ عليه السلام وأولاده الطاهرين اغتررنا بها، وحسبنا أنّ هذه المودّة لوحدها ستبقى وتستمرّ من دون حاجة إلى تبعيّة كاملة لهم. ولكن ما هو الضمان على بقاء هذه المودّة إن لم نُحافظ عليها بل إن تخلّينا عن آثار الصداقة والمودّة الّتي هي المشايعة والتبعيّة؟ إذ من الممكن أن الإنسان ينسى عليّ بن أبي طالب عليه السلام من جرّاء الذهول والوحشة الحاصلتين من الضغوط الواقعة على غير المخلصين والمؤمنين. ففي الحديث "إنّ طائفة من أهل المعصية يتعذّبون في جهنّم وهم ناسون اسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد انتهاء فترة العذاب وحصول الطهارة والنظافة من قذارات المعاصي يتذكّرون اسم النبيّ المبارك أو يُلقى الاسم في قلوبهم، فيصرخون ويستغيثون قائلين وا محمداه صلى الله عليه وآله وسلم فتشملهم بعد ذلك الرحمة".
 
إنّنا نظنّ أنّ حادثة الموت وسكراته، تُضاهي حوادث هذا العالمَ. عزيزي إنّك 
 
 

1-سورة الأحزاب، الآية 72.
 
 
 
 
129

108

الأمانة

 عندما تُعاني من مرض بسيط، تنسى كلّ علومك وثقافاتك، فكيف بك عندما تواجه الصعاب والضغوط والمصائب والأهوال الّتي تُرافق الموت وسكراته؟ إذا تصادق الإنسان مع الحقّ سبحانه، وعمل حسب متطلّبات الصداقة، وتذكّر الحبيب وتبعه، كانت تلك الصداقة مع الوليّ المطلق، والحبيب المطلق الّذي هو الحقّ المتعالي محبوبةً لديه سبحانه، وملحوظة عنده تعالى. ولكنّه إذا ادعى المودّة ولم يعمل حسب مقتضاها بل خالفه، فمن الممكن أنّ الإنسان يتخلّى عن تلك الصداقة مع الوليّ المطلق قبل رحيله من هذه الدنيا نتيجة التغييرات والتبدّلات والأحداث المتقلّبة في هذا العالَم. بل والعياذ بالله قد يصير عدوّاً له سبحانه وتعالى. كما أنّنا شاهدنا أشخاصاً كانوا يدّعون المودّة والصداقة وبعد العِشرة اللامسؤولة، والأعمال البشعة تحوّلوا إلى أعداء وخصماء لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام. وإذا فرضنا أنّ هؤلاء رحلوا من هذا العالَم على حبّ محمد وآله، فهم على حسب الروايات الشريفة والآيات المباركة من أهل النجاة يوم القيامة ومصيرهم السعادة، ولكنّهم يكونون في معاناة لدى البرزخ وأهوال الموت وعند الحشر ففي الحديث "إِنَّنا شُفَعاؤُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلكِنْ تَزَوّدوا لَبرْزَخِكُم".


أعوذ بالله من عذاب القبر وضغطه وشدّة البرزخ وعذابه، حيث لا يُشابهه شيء في هذا العالمَ. إنّ الكوّة الّتي تُفتح من جهنّم على القبر، لو انفتحت على هذا العالمَ لهلكت كافّة الموجودات. نعوذ بالله منه.

الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص431ـ432

 
 
 
130

109

الأخوّة

 الدرس الثاني عشر:الاخوة

 

 
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
 
1- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.(المؤمنون:8)
 
2- ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾(آل عمران:103)
 
3- ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾(الحجر:47)
 
 
 
 
 
131

110

الأخوّة

 تمهيد

 
لقد بُعث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمع جاهلي مليء بالعصبيّات والنزاعات بين القبائل والعشائر، واستطاع في مدّة قليلة من حياته الشريفة أن يُطفىء نار هذه النزاعات ويحوّل المجتمع القبليّ الجاهلي إلى مجتمع متماسك تربطه أواصر الأخوّة، وتشدّه وشائج الإيمان، بحيث صنع منهم أمّة أصبحت خير أمّة أُخرجت للناس، واستطاع أن يُلغي كلّ الفوارق الّتي كانت سائدة وسبباً للنزاعات فيما بينهم، وحصر معيار التفاضل بالتقوى، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ...﴾1.
 
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام موصياً مالك الأشتر في رعيّته: "ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدِّين وإمّا نظير لك في الخلق"2.
 
فالله جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف لا لنتحارب، هذه هي القاعدة الأوّليّة في العلاقة مع الآخرين.
 
أـ العلاقات العامّة:
 
يقول تعالى في مجال العلاقة مع غير المسلمين: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾3.
 

1-سورة الحجرات، الآية: 13.
2-بحار الأنوار، ج 33، ص 600.
3- سورة الممتحنة، الآية: 8.
 
 
 
 
133

111

الأخوّة

 فنُلاحظ القرآن الكريم أنّه لم ينه عن التعامل بالحسنى مع غير المسلمين الّذين لم يُقاتلوا، ولم يُعلنوا الحرب على المسلمين، بل نجده قد حثّهم على معاملتهم بالعدل والقسط.

 
وأما علاقة المسلمين فيما بينهم، فيقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾1.
 
ويقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾2.
 
ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسْلِمْهُ"3.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"4.
 
ومن مجموع هذه الآيات والروايات نجد أنّ الاسلام قد نظر إلى المسلمين كالجسد الواحد، وأكّد على التوادّ والتراحم فيما بينهم، وشدّ عرى الأخوّة فيما بينهم، ونهى عن التنافر والتفرّق والخلاف.
 
ب ـ العلاقات الخاصّة:
 
حثّ الإسلام على اكتساب الإخوان، وجعل ذلك من الفضائل الّتي ينبغي لكلّ مؤمن أن يتحلّى بها.
 

1- سورة آل عمران، الآية: 103.  
2-سورة الحجرات، الآية: 10.
3- المحجّة البيضاء، ج 3،  كتاب الصحبة والمعاشرة، الباب الثاني، ص 332. 
4-ميزان الحكمة، محمّد الري شهري، ج 4، ص 2837.
 
 
 
 
134

112

الأخوّة

 فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استكثروا من الإخوان فإنّ لكلِّ مؤمن شفاعة يوم القيامة"1.

 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من استفاد أخاً في الله عزّ وجلّ استفاد بيتاً في الجنّة"2.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعجز النّاس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم"3.
 
وعن لقمان "يا بُنيّ، لا تعدُ بعد تقوى الله من أن تتخذ صاحباً صالحاً"4.
 
وعنه أيضاً: "يا بُنيّ، الصاحب الصالح خيرٌ من الوحدة"5.
 
أصناف الإخوان
 
إذا عرفنا أهميّة اتخاذ الإخوة، لا بُدّ لنا من معرفة أصنافهم، إذ هم ليسوا على مرتبة واحدة، فكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "الإخوان صنفان: إخوان الثقة وإخوان المكاشرة،6 فأمّا إخوان الثقة، فهم الكفُّ والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من أخيك على حدِّ الثقة، فابذل له مالك وبدنك، وصاف من صافاه وعاد من عاداه، واكتم سرّه وعيبه، وأظهر منه الحسن، واعلم أيُّها السائل أنّهم أقلّ من الكبريت الأحمر، وأمّا إخوان المكاشرة، فإنّك تُصيب لذّتك منهم، فلا تقطعنّ ذلك منهم، ولا تطلبنّ ما وراء ذلك من ضميرهم وابذل ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان"7.
 
 

1-كنز العمّال، 26442.
2- ثواب الأعمال، ج 1، ص 182.
3- نهج البلاغة، حكمة، 11.
4- حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 110.
5-بحار الأنوار، ج 13، ص 428، ح 23.
6-المكاشرة في اللغة: من الكشر وهو ظهور الأسنان للضحك، وكاشره: إذا ضحك في وجهه وباسطه.
7-الكافي، ج 2، ص 193.
 
 
 
 
135

113

الأخوّة

 فعلى الإنسان أن يكون حذراً في تشخيص الإخوان وتصنيفهم، وذلك باختبارهم قبل اتخاذهم إخواناً.

 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "قدّم الاختبار في اتخاذ الإخوان فإنّ الاختبار يُفرّق بين الأخيار والأشرار"1.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "اختبروا إخوانكم بخصلتين فإن كانتا فيهم وإلّا فاعزب ثمّ اعزب ثمّ اعزب؛ محافظة على الصلوات في مواقيتها، والبرّ بالإخوان في العسر واليسر"2.
 
وقال لقمان: "ثلاثة لا يُعرفون إلّا في ثلاثة مواضع: لا يُعرف الحليم إلّا عند الغضب، ولا يُعرف الشجاع إلّا في الحرب، ولا تعرف أخاك إلّا عند حاجتك إليه"3.
 
وعنه قائلاً لابنه: "يا بُنيّ، إذا أردت أن تُوآخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلّا فاحذره"4.
 
من تؤاخي؟
 
لقد عرفنا بشكل عام أنّ الأخوّة الحقيقيّة الصادقة هي أخوّة أهل الصلاح والثقة، ولكن ما هي معالم الأخوّة الصادقة؟
 
1ـ العالم الربّاني:
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "عجبت لمن يرغب في التكثُّر من الأصحاب كيف لا يصحب العلماء الألبّاء الأتقياء الّذين يغتنم فضائلهم وتهديه علومهم وتزيّنه صحبتهم"5.
 

1-ميزان الحكمة، ح 283.
2- م. ن، ح 286.
3- بحار الأنوار، ج 71، ص 426، ح 70.
4-حكم لقمان، الري شهري، ص 109، عن الدرّ المنشور، ج 6، ص 520.
5-ميزان الحكمة، حديث 10248.
 
 
 
 
136

114

الأخوّة

 وإن قلت أنا لست عالماً فكيف أُصاحب العلماء؟ نقول لك تُصاحبهم بحضور مجالسهم في المساجد وسماع مواعظهم، وإلّا حُرمت من بركاتهم وأعرض عنك الله تعالى وقسى قلبك، يقول الإمام السجّاد في تعليل بُعد الإنسان عن الله: "... أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني"1.

 
2ـ صحبة الحكيم الحليم:
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "صاحب الحكماء وجالس الحلماء وأعرض عن الدنيا تسكن جنّة المأوى"2.
 
من هنا يقول لقمان "عدوٌّ حليم خير من صديق سفيه"3.
 
3ـ الأخوّة في الله:
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "خير الإخوان من كانت في الله مودّته"4.
 
وعنه عليه السلام: "خير الإخوان من لم تكن على الدنيا أخوّته"5.
 
4ـ المذكِّر بالله والمعين على الطاعة:
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "المعين على الطاعة خير الأصحاب"6.
 
وعن لقمان قائلاً لابنه: "يا بُنيّ، تكلّم الحكمة عند أهلها، وعليك بمجالسة أهل الذكر، فإنّها محياة للعلم، وتُحدِث في القلوب خشوعاً"7.
 

1- من دعاء أبي حمزة الثمالي، بحار الأنوار، ج 95، ص 87.
2-ميزان الحكمة، ح 10245.
3-  بحار الأنوار، ج 71، ص 426، ح 70.
4- ميزان الحكمة، ح 264. 
5-م. ن، ح 265. 
6-م. ن، ح 13301.
7-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 110.
 
 
 
 
137

115

الأخوّة

 لا تؤاخ هؤلاء:    

 
1ـ الأحمق الكذّاب:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك وصحبة الأحمق الكذّاب، فإنّه يُريد نفعك فيضرّك، ويُقرِّب منك البعيد، ويُبعِّد منك القريب، إن ائتمنته خانك، وإن ائتمنك أهانك، وإن حدّثك كذّبك، وإن حدّثته كذّبك، وأنت منه بمنزلة السراب الّذي يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً"1.
 
2ـ صاحب الغاية الدنيويّة:
 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "احذر أن تؤاخي من أرادك لطمع أو خوف أو ميل أو للأكل والشرب، واطلب مؤاخاة الأتقياء، ولو في ظلمات الأرض، وإن أفنيت عمرك في طلبهم"2.
 
3ـ الفاجر الشرّير الفاسق:
 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تصحب الفاجر فيعلّمك من فجوره"3.
 
وقال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، استعذ بالله من شرار النّاس، وكن من خيارهم على حذر"4.
 
وقال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، لا تجالس الأشرار، فإنّك لا تصيب من مجالستهم خيراً، ولعلّه أن يكون في آخر ذلك أن تنزل عليهم عقوبة فتصيبك معهم"5.
 
4ـ البخيل:
 

1-ميزان الحكمة، ح 10280.
2- م. ن، ح 230.
3-الخصال، ص 80.
4-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص 110، عن العقد الفريد، ج 3، ص 152.
5-م.ن، ص 111، عن الدر المنثور، ج 6، ص 519.
 
 
 
 
138

116

الأخوّة

 عن الإمام الصادق عليه السلام: "إيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه"1.

 
5ـ الكافر:
 
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤاخين كافراً"2.
 
وتجدر الإشارة إلى أنّه عدم مؤاخاة الكافر غير الحربي لا تعني عدم القسط معه، فربّ كافر أسلم لحسن تعامل المسلمين معه.
 
6ـ السبَّاب الفحّاش:
 
قال لقمان "إنّ الفاحش البذيّ الشقيّ إن يُحدِّث فضحه لسانه، وإن سكت فضحه العِي ، وإن عمل أساء، وإن فعل أضاع..."3.
 
7ـ صاحب اللهو:
 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك وصحبة من ألهاك وأغراك فإنّه يخذلك ويوبقك"4.
 
فإنّ مصاحبة أهل اللهو تُسبِّب العدوى، حيث يزيّنون لأصحابهم أفعالهم، ويمضون أوقاتهم بلا نفع ولا جدوى بل في الخسران والضياع. 
 
8ـ الجبان:
 
عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا تُصادق ولا تؤاخ أربعة: الأحمق والبخيل والجبان والكذّاب (إلى أن يقول) وأمّا الجبان فإنّه يهرب عنك وعن والديه"5.
 
 
 

1- بحار الأنوار، ج 71، ص 196، ح 29.
2- م. ن، ج 71، ص 197، ح 31. 
3-حكم لقمان، محمّد الري شهري، ص111. 
4-ميزان الحكمة، ح 10276.
5-بحار الأنوار، ج 71، ص 192، ح 8.
 
 
 
 
 
139

117

الأخوّة

 9ـ ناشر المثالب والنمّام:

 
عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا تؤاخ من يستر مناقبك وينشر معايبك"1.
 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "احذر من النّاس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمَّ إليك سينمُّ عليك"2.
 
 

1- ميزان الحكمة، ح 235.  
2-م. ن، ح 10262.
 
 
 
 
140

118

الأخوّة

 للمطالعة

 
توحيد الكلمة

إنّ من الأهداف الكبيرة للشرائع الإلهيّة و الأنبياء العظام ـ سلام الله عليهم ـ مضافاً إلى كونه ـ الهدف الّذي نذكره ـ هدفاً مستقلّاً وليس بمجرّد أداة وواسطة وإنّما هي الوسيلة الّتي تبعث على إنجاز الأهداف الأساسيّة الكبيرة، وشرط ضروريّ لتحقيق المدينة الفاضلة. مضافاً على ذلك، هو توحيد الكلمة وتوحيد العقيدة والاتّفاق في الأمور الهامّة، والحدّ من ظلم الجائرين الباعث على فساد بني الإنسان ودمار المدينة الفاضلة، ولا يتحقّق هذا الهدف الكبير المصلح للمجتمع والفرد إلّا في ظلّ وحدة النفوس واتّحاد الهمم والتآلف والتآخي، والصداقة القلبيّة والصفاء الباطنيّ والظاهريّ، وتربية أفراد المجتمع على نمط يُساهم كلّهم في بناء شخص واحد، يحوّل المجتمع إلى فرد، ويجعل الأفراد بمنزلة الأعضاء والأجزاء لذلك الفرد وتُدار كافّة الجهود والمساعي حول الهدف الإلهيّ الكبير، والأمر الهامّ العقليّ العظيم ـ الوحدة والأخوّة ـ الّذي فيه مصلحة الفرد والمجتمع. ولو أنّ مثل هذه الوحدة والأخوّة ظهرت في طائفة أو نوع، لتغلّبوا على جميع الطوائف والأمم الّتي لا تحظى بالأخوّة والوحدة كما يتّضح ذلك من مراجعة التاريخ وخاصّة دراسة الحروب الإسلاميّة والفتوحات العظيمة، حيث تمتّع المسلمون لدى بزوغ القانون الإلهيّ ـ الإسلام ـ بشيء من الوحدة والاتحاد، واقترنت مساعيهم بشيء من الخلوص في النيّة، فحقّقوا في فترة قصيرة إنجازات عظيمة، وهزموا القوى الجبّارة آنذاك المتمثّلة في إيران والروم وانتصروا رغم قلّة عددهم وعُدّتهم على الجيوش المدجّجة بالسلاح وعلى المجتمعات الكبيرة.

إنّ نبيَّ الإسلام قد أجرى عقد الأخوّة في الأيّام الأولى بين المسلمين، فسادت
 
 
 
 
 
141

119

الأخوّة

 الأخوّة حسب الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾1 بين جميع المؤمنين.

 
وفي الكافي الشريف: عَنْ العَرْقُوفي قالَ: سَمِعْتُ أبا عَبْد ِاللهِ عليه السلام يقول لأصْحابه: "اتقوا اللهَ وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً فِي اللهِ مُتَواصِلينَ مُتَراحِمينَ. تَزاوَرُوا وَتَلاقَوْا وَتَذاكَرُوا أمْرَنا وَأحْيُوهُ"2.
 
وَعَنْ أبي عَبْدِاللهِ عليه السلام قالَ: "يَحِقُّ عَلَى المُسْلِمِينَ الاجتهاد فِي التواصُلِ وَالتَّعاوُنَ عَلَى التَّعاطُفِ وَالمُواسَاةِ لأَهْلِ الحاجَةِ وَتَعاطُفِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ حَتَّى تَكُونُوا كَما أمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿رُحَماءُ بَيْنَهُمْ...﴾3.
 
وعنه عليه السلام: "تَواصَلُوا وَتَبارُّوا وَتَراحَمُوا وَكُونُوا إِخْوَةً بَرَرَةً كَما أمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ"4.
 
 
الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، دار التعارف،1411هـ ـ 1991م،ص288ـ290.
 
 
 

1-سورة الحجرات، آية: 10.
2- أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب التراحم والتعاطف، ص175، ح 1.
3-م.ن، ح 4.
4- م.ن ، ح 2.
 
 
 
 
142

120

الفهرس

 

المقدّمة

5

المحور الأول

هدفيّة الخلق

9

 الشرك الجليّ والشرك الخفيّ

9

التوكّل على الله

29

المحور الثاني

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

41

الصبر  والامتحان

53

ذكر الله

65

إقامة الصلاة

75

 

 

 

143


121

الفهرس

 

المحور الثالث

مراتب الإيمان

87

التكبّر

97

الغضب

109

الأمانة

121

الأخوّة

131

الفهرس

143

 

 

 

144


122
وذكرى للمؤمنين