حسن المآب


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-05

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


مقدمة

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد الرسل, الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، سيدنا أبي القاسم محمد بن عبد الله, وعلى آله الأطهار البررة ﴿الذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب﴾1
 
إن دعاء التوبة من الأدعية القيمة التي رويت عن إمامنا زين العابدين عليه السلام في صحيفته السجادية, وقد تضمن أعلى ما يمكن تصوره من معاني الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بعد البعد عنه.
ونحن إذ نقف أمام هذه المضامين العالية بالشرح والبحث عما وراء هذه الكلمات النورانية, نسأل الله العفو أن يجعلنا من التائبين المنيبين ويرزقنا الزلفى لديه وحُسنُ المآب, وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.
مركز نون للتأليف والترجمة

1- سورة الرعد , الآية:29.
 
 
5

1

أهمية التوبة

 من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام في ذكر التوبة:

اللهُم يَا مَنْ لا يَصِفُهُ نَعْتُ
 الْوَاصِفِينَ، وَيَا مَنْ لاَ يُجَاوِزُهُ
 رَجَاءُ الراجِينَ، وَيَا مَنْ لاَ يَضِيعُ 
لَدَيْهِ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ.
 
7
 

2

أهمية التوبة

 تمهيد:
 
عندما يجلس الكاتب أمام الحاسوب, ويبدأ بطباعة ما يجول في خاطره على صفحات حاسوبه, ويتعثر فكره في أية فكرة, فإنه مباشرة ينتقل إلى خيار التراجع عما كتب, ليقوم بتصحيح الفكرة, أو تصحيح الجملة التي كتبها بشكل خاطئ.
 
وعندما يشتر ي الواحد منا حاجة من حاجاته, ويرجع بها إلى بيته مسروراً ليجد أنه قد أخطأ في خياره إذا بان عيبها, فإنه مباشرة يعود إلى الكفالة ليستعملها في التراجع عن الشراء.
 
وحين يتقدم الجيش في المعركة إلى أرض تصل إليه فيها نار الأعداء ولا يجد مفراً ولا ملاذاً للاحتماء منها, فإنه سرعان ما يتراجع إلى الوراء حفاظاً على قوته, ولإعادة الهجوم بشكل أفضل.
 
وكذا الإنسان في كل مواقف حياته, كحين يتفوه بكلمة تسيء لصديق, فإنه يسارع للتراجع عنها ومحاولاً توضيح موقفه, وقد يعتذر عما صدر منه.
 
وكثير من هذه الأمثلة تمر في حياة الإنسان. ولو تأملنا بشكل دقيق في تفاصيل حياتنا فإننا نجد أننا دائماًً ما نحتاج لخيار التراجع هذا.
 
وفي علاقتنا مع الله تعالى, لا بد لنا من هذا الخيار أيضاً. فلماذا نحتاج لذلك؟
 
الحاجة للتوبة 
 
دعانا القرآن الكريم إلى التوبة, واستعمل في الدعاء إليها كلمات ملؤها الرحمة, مع علمنا جميعا بأن الله تعالى غني عن عذابنا, وغني أيضاً عن عبادتنا, لنتأمل في قوله تعالى:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ
 
9
 

3

أهمية التوبة

 جَمِيعًا إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُم لَا تُنصَرُونَ﴾1 .
 
هنا دعوة بلسان الرحمة، فقول الله تعالى: "يا عبادي" دائماًً ما يُشعر بالرحمة, كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَني فَإِني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعِ إِذَا دَعَانِ﴾2 .
 
وقوله تعالى:﴿قُل لعِبَادِيَ الذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاَةَ﴾3 .
 
وقوله تعالى: ﴿نَبىءْ عِبَادِي أَني أَنَا الْغَفُورُ الرحِيمُ﴾4 .
 
وهذا خطاب يستعلمه الله تعالى لخطاب المؤمنين, ويُشعرَ المستمع له بالرحمة, فلماذا يدعونا الله تعالى بهذا الخطاب؟
 
إن دعوة الله تعالى لنا للتوبة والإنابة لأجل أمور:
 
1 - أنه رحيم بنا, ومن صفات الرحيم أن يقبل عذر المعتذر ويقيل عثرة المستقيل, وهذا معنى قوله تعالى:﴿إِنهُ كَانَ فَرِيقٌ منْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبنَا آمَنا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الراحِمِينَ﴾5 .
 
2 – أن التوبة هي بوابة الأمل للمؤمن المتعثر, ولولاها لهيمن القنوط على كل البشر, لأن كل البشر خطاؤون إلا من عصم الله, وقد نهى الله تعالى عن القنوط من رحمته. يقول عز من قائل:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحِيمُ﴾6
 
وفي الرواية أن الإمام أبا عبد الله الصادق عليه السلام استقبل القبلة قبل التكبير وقال: "اللهم لا تؤيسني من روحك ولا تقنطني من رحمتك ولا تؤمني مكرك فإنه لا يأمن
 

1- سورة الزمر:الآية 53، 54.
2- سورة  البقرة: الآية  186.
3- سورة إبراهيم: الآية 31.
4- سورة الحجر: الآية 49.
5- سورة المؤمنون: الآية 109.
6- سورة الزمر:الآية 53.
 
10
 

4

أهمية التوبة

 مكر الله إلا القوم الخاسرون" قلت(أي الراوي): "جعلت فداك ما سمعت بهذا من أحد قبلك"، فقال عليه السلام :"إن من أكبر الكبائر عند الله اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله"1 .
 
وفي رواية أخرى عن إمامنا الرضا علي بن موسى عليه السلام قال: "سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول: دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله عليه السلام فلما سلم وجلس عنده تلا هذه الآية قول الله عز وجل:﴿الذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾2 ثم أمسك فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ما أسكتك؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل، فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله، يقول الله عز وجل: ﴿إِنهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنةَ وَمَأْوَاهُ النارُ وَمَا لِلظالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾3 ، وبعده اليأس من روح الله، لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن روْحِ اللهِ إِنهُ لاَ يَيْأَسُ مِن روْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾4 ..."5 .
 
فلا بد إذاً من بوابة يتخلص بها الإنسان من عذاب الضمير الذي يحل به حينما يرتكب الذنب, وإلا فإنه سيقضي عمره ملازماً للشعور بالألم والذنب, وهذا ما سيكون معرقلاً له في الحياة, فضلاً عن الخسران اللاحق في الآخرة, إذ لا مفر من الحساب, ولكن مع وجود التوبة يقطع الطريق أمام اليأس وينفتح به باب الإنابة, وفتح الصفحات البيضاء الجديدة.
 
دعاء التوبة للإمام السجاد عليه السلام 
 
بعد أن عرفنا مكان التوبة وحاجة الإنسان لها، نقول إن للتوبة في كلمات أهل البيت عليهم السلام إرثاً كبيراً, فقد تركوا لنا الكثير من الأدعية التي نستدر بها عطف الله

1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة، ج 2 ص 545.
2- سورة النجم: الآية 32.
3- سورة المائدة: الآية 72.
4- سورة يوسف: الآية 87.
5- الشيخ الصدوق،  عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج 2 ص 257.
 
11
 

5

أهمية التوبة

 ورحمته, ونخاطب بها رب العزة بما يليق بالعبيد في خطاب سيدهم ومالك أمرهم, ومن أجمل هذه الأدعية وأغزرها ما جاء في الصحيفة السجادية لإمامنا السجاد زين العابدين عليه السلام . 
 
فدعاؤه عليه السلام في طلب التوبة قد حوى فن الاستغفار والتضرع إلى الله تعالى, وفيه من غزارة المضامين العالية ما يجعلنا نقف أمامه طويلاً في محاولة لسبر أغواره وفهم الحالة التي يريد منا الإمام عليه السلام أن نكون عليها في حالة التوبة.
 
تمجيد الله تعالى 
 
ابتدأ الإمام عليه السلام الدعاء بتمجيد الله تعالى. وهذا من أهم آداب الدعاء. فقد حثت الروايات الكثيرة على أهمية البدء بالتمجيد والثناء قبل ذكر الحاجة. فقد قال أبو عبد الله عليه السلام لأبي بصير: "إن خفت أمراً يكون أو حاجة تريدها فابدأ بالله ومجده واثنِ عليه كما هو أهله وصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم"1 .
 
فلهذا بدأ الإمام عليه السلام دعاءه بقوله: "اللهُم يَا مَنْ لا يَصِفُهُ نَعْتُ الْوَاصِفِينَ" أي يا من لا يصف حقيقة ذاته وجميل صفاته أكثر الناس قدرة على الوصف, "وإنما لا يصفه سبحانه نعت الواصفين لأن الإحاطة بمعرفة كنه صفاته سبحانه وتعالى غير مقدورة لغيره عز وجل"2 
 
وهذا تمجيد له سبحانه وتعالى, ثم قال عليه السلام : "وَيَا مَنْ لاَ يُجَاوِزُهُ رَجَاءُ الراجِينَ", والرجاء الأمل, "المعنى: أنه غايةُ كل رجاء، لا مرجو فوقه فيتعدى إليه رجاءُ الراجين، بخلافِ مَن سواه من المرجوين، إذ لا مرجو سواه إلا وفوقه مرجو يتجاوز إليه الرجاء، حتى ينتهي إليه سبحانه فيقف عنده إذ لا غايةَ وراءه"3 .
 
ثم قال عليه السلام : "وَيَا مَنْ لاَ يَضِيعُ لَدَيْهِ أَجْرُ الْمُحْسِنِينَ", "وإنما لا يضيع لديه سبحانه 

1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،  ج 2   ص 483.
2- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
3- م.ن.
 
12
 

6

أهمية التوبة

 أجر المحسنين، لأن إضاعة الأجر إنما يكون للعجز أو للجهل أو للبخل، وكل ذلك ممتنع في صفته تعالى, وفيه تلميح إلى قوله تعالى ﴿إِن اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾1 2
.
ثم قال عليه السلام : "وَيَا مَنْ هُوَ مُنْتَهَى خَوْفِ الْعَابِدِيْنَ", فالعابدون الحقيقيون لا يخشون أحداً كما يخشون الله تعالى, وما يبدر منهم في الدنيا كخوف إنما هو الحذر والاحتراز, ولا يصل لمقام الخوف الذي يكون بين العبد والله تعالى, كقوله تعالى في وصف نبيه موسى عليه السلام :﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقبُ قَالَ رَب نَجنِي مِنَ الْقَوْمِ الظالِمِينَ﴾3 4 .
 
ثم قال عليه السلام : "وَيَا مَنْ هُوَ غَايَةُ خَشْيَةِ الْمُتقِينَ", والفرق بين الخوف والخشية أن الخوف هو توقع حصول المكروه, والخشية: خوف يشوبه تعظيم المخشي مع المعرفة به، ولذلك قال تعالى: ﴿إِنمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾5 .

1- سورة التوبة: الآية 120.
2- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
3- سورة القصص: الآية 21.
4- يراجع الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 12 ص 204.
5-  المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
 
13
 

 


7

أهمية التوبة

 المفاهيم الأساس 
 
1. التوبة حاجة للإنسان لكي لا يصل لمرحلة القنوط من الرحمة. 
2. التوبة رحمة من الله تعالى ودعوة منه للعباد للعودة إلى الصراط المستقيم.
3. التمجيد لله تعالى من آداب الدعاء وينبغي أن يكون قبل ذكر الحاجة. 
 
14
 

8

أهمية التوبة

 للمطالعة 
ذكر الشهيد آية الله دستغيب (رضوان الله عليه) في كتابه "الاستعاذة": بعد أن دعا نوح (على نبينا وآله السلام) على الكفار من قومه وأخذهم الطوفان، ظهر له مَلَك - وكان النبي نوح يعمل في صناعة الجرار؛ فكان يصنع الجرة من الطين، وبعد أن تجف يبيعها - فكان المَلَك يشتري منه الجرار واحدة فواحدة ويكسرها أمامه.. فغضب نوح وسأله عن سبب فعله هذا.. فقال له: الأمر لا يعنيك فأنا قد اشتريتها وأمرها إلي.

فقال له نوحعليه السلام : صحيح، ولكن أنا الذي صنعتها، وهي من صنعي.

قال له الملك: أنت صنعتها ولم تخلقها ومع هذا فقد غضبت على كسرها، فكيف دعوت على كل عباد الله فهلكوا، مع أن الله خلقهم ويحبهم؟ فبقي من بعد هذه القضية يبكي وينوح حتى سُمي نوحاً لكثرة نياحه.

والغرض من هذه القصة هو الإشارة إلى شفقة الخالق، فهو تعالى يحب مخلوقه.. وهنا يعاتب نبيه: لِمَ دعوت على كل هؤلاء الناس فهلكوا؟.. ويستفاد من هذا أن الله تعالى يحب عبده، وهو في القرآن يحذر عباده من الشيطان ويوصيهم بعدم الاغترار بالدنيا لأنها دار خداع الشيطان.

يستفاد من هذه الآيات والروايات أن من يقترف الذنوب والمعاصي ثم يندم على عمله ويعود إلى ربه تائباً يفرح الله بتوبته لأنه يحب عباده ولا يريد لهم العذاب بالنار.
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
 
15
 

9

اعتراف وندم

وكان من دعائه عليه السلام:


هَذا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذنُوبِ، وَقَادَتْهُ أَزِمةُ الْخَطَايَا،

وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشيْطَانُ، فَقَصرَعَما أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطَاً، وَتَعَاطى

مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَعْزِيراً، كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ

إحْسَانِكَ إلَيْهِ، حَتى إذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدَى، وَتَقَشعَتْ عَنْه

ُ سَحَائِبُ الْعَمَى أَحْصَى مَا ظَلَمَبِهِ نَفْسَهُ، وَفَكرَ فِيمَا خَالَفَ بِهِ

رَبهُ، فَرَأى كَبِيْرَ عِصْيَانِهِ كَبِيْراً،وَجَلِيل مُخالفَتِهِ جَلِيْلاً.

 

17

 

10

اعتراف وندم

 تمهيد:
بعد أنْ مجد الإمام عليه السلام الله تعالى وأثنى عليه, بدأ بالاعتراف له تعالى بما فعل بحق نفسه, مع الإشارة إلى أن الإمام بهذا يعلمنا, ومن المعلوم لدينا أن الإمام معصوم لا يرتكب الذنوب, إلا أن بعض المسائل التي تخالف المحبة بين أهل القرب يعتبرونها- بالنسبة إلى مقام قربهم- من المعاصي, وهذا حالهم مع الله تعالى.
فبعد التمجيد اعتراف, فلماذا الاعتراف, والإقرار له تعالى بما فعلنا؟ أليس هو العليم الخبير العالم بالسرائر, وما نفعله في إعلاننا وإسرارنا؟
هذا ما سنجيب عنه هنا وذلك ضمن عناوين عديدة, وسنتطرق في نهاية الدرس إلى شرح مبسط للجمل الواردة في هذا المقطع من الدعاء المبارك.

ما هو الإقرار؟

أن يملك المرء جرأة الإقرار بما أقدم عليه من العمل الشائن أمر يتطلب كسراً لكبرياء النفس, أن تقف أمام الصديق الذي أسأت بحقه لتقول له سامحني فقد اقترفت بحقك كذا وكذا لهي مسألة لا يستطيعها الكثيرون.
جرأة الاعتراف هذه لا مفر منها أمام الله تعالى, فما هي كبرياء الناس أمام كبريائه؟ وما هي عظمة النفس أمام عظمة ذاته جل وعلا؟
قد يبرر بعض الناس هروبه من الإقرار بالذنب أمام الناس, لكن لا مجال لتبرير ذلك أمام الله تعالى.
ثم إن الإقرار بالذنب هو اعتراف، وهو أيضاً ضرب من ضروب الاعتذار, كما روي
 
 
19

11

اعتراف وندم

ذلك عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الإقرار اعتذار، والإنكار إصرار"1
 
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: "رُب جرم أغنى عن الاعتذار عنه الإقرار به"2
 
وهذا المقطع الذي قدمنا به الدرس هو أرقى أنواع الاعتراف لله تعالى بما ارتكبه الإنسان من ظلم بحق نفسه, ولكن هل يكفي الإقرار فقط؟
 
إقرار وندم 
 
إن الإقرار لا يعني شيئاً فيما لو كان الإنسان مقراً بما فعل وهو في نفس الوقت مفتخر به, لذا فإن المطلوب زيادة عن الإقرار الندم, وهو إظهار حالة الأسى والحسرة على سوء ما ارتكبه. وبدون الندم فإن الإقرار يُعتبر مجاهرة وجرأة على الذي قد عُصيَ أمره.
 
وهذا ما أشار له أمير المؤمنين علي عليه السلام في الحديث المشهور: "إن الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان ٍ: أولها الندم على ما مضى. .."3
 
هل من مهلة؟
 
على المذنب أن يتوب, وأن يحقق معنى التوبة الكامل بالإقرار والندم وسائر الشروط التي سنمر على ذكرها لاحقاً, ولكن هل للتوبة مهلة؟
 
في الأساس على المذنب أن يتوب بعد ذنبه مباشرة, ولكن لو أخر التوبة فإن الله تعالى برحمته ترك له باب التوبة مفتوحاً حتى آخر لحظات عمره, وقد جاء في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تاب قبل موته بسنة قبلَ الله توبته، ثم قال: إن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر قبلَ الله 

1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 3  ص 1860.
2- م.ن.
3- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،  ج2 ص 431.
 
20
 

12

اعتراف وندم

 توبته،ثم قال: "إن يوماً لكثير، من تاب قَبْلَ أن يعاين قَبِلَ الله توبته"1
 
وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر أو الصادق عليه السلام2 قال: "إن آدم عليه السلام قال: يا رب سلطت علي الشيطان وأجريته مني مجرى الدم، فاجعل لي شيئاً، فقال: يا آدم جعلت لك أن من هم من ذريتك بسيئة لم تُكتب عليه، فإن عملها كُتبت عليه سيئة، ومن هم منهم بحسنة فإن لم يعملها كُتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له عشراً، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفر له غفرت له، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو قال: بسطت لهم التوبة - حتى تبلغ النفس هذه، قال: يا رب حسبي"3.
 
وقفة مع الإقرار
 
يقول عليه السلام في هذا المقطع: "هَذا مَقَامُ مَنْ تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الذنُوبِ". وكأنه شبه الإنسان بالدمية التي تتراماها الأيدي, فمن يدٍ إلى أخرى, وكذا من يلجأ للذنوب على أنواعها فينتقل من معصية إلى أخرى.
 
ثم قال عليه السلام: "وَقَادَتْهُ أَزِمةُ الْخَطَايَا". والانقياد هو المشي خلف الشيء. والذنوب حقيقتها انجرار الإنسان وراء الشهوة والغضب وتركه نهي العقل والشرع عن المسارعة في تلبية نداء الهوى.
 
فليتخيل الواحد منا نفسه. أنا ذو الجاه وأنا ذو المنصب, وأنا المعروف بين الناس بالتقوى, ولكن الله يعلم بحالي حينما أسعى نحو الشهوات ذليلاً تقودني رغباتي الجامحة أسيراً لها, وأنا أدعي في العلن أني من عباده المؤمنين. أليس هذا بالمؤسف والمشين؟!
 
ثم قال عليه السلام: "وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشيْطَانُ". والاستحواذ مرحلة أشد من الانقياد, فقد

1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،  ج 2 ص 440.
2- الترديد من الراوي.
3- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،  ج 2 ص 440.
 
 
21
 

13

اعتراف وندم

 لا يكون الانقياد كلياً, وقد تكون حالة الانقياد في حالة الضغط الشديد, لكن الاستحواذ هو الهيمنة الكاملة على كامل القوة العقلية بحيث تغلب الشهوات العقل بشكل لا تترك له بعد ذلك مجالاً للتحرك في خلافها ومعارضتها.
 
ثم يتابع الدعاء: "فَقَصرَ عَما أَمَرْتَ بِهِ تَفْرِيطَاً، وَتَعَاطى مَا نَهَيْتَ عَنْهُ تَغرِيراً".
 
وهذا هو الاعتراف بالتقصير أولاً فيما أمر الله تعالى بأدائه, والإقدام على ما نهى سبحانه عن الإقدام عليه.
 
والتفريط هو التقصير وتضييع الأمر, والتغرير: بمعنى أنه غرر بنفسه فأقدمها على ما أمر فيه خطر عليها1
 
وقفة مع الندم
 
ثم تابع الدعاء: "كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ، أَوْ كَالْمُنْكِرِ فَضْلَ إحْسَانِكَ إلَيْهِ، حَتى إذَا انْفَتَحَ لَهُ بَصَرُ الْهُدَى، وَتَقَشعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الْعَمَى، أَحْصَى مَا ظَلَمَ بِهِ نَفْسَهُ، وَفَكرَ فِيمَا خَالَفَ بِهِ رَبهُ".
 
هنا كان توقف لمعاتبة النفس، فبعد أن اعترف بما اقترف, واستيقظ الضمير ليعاتب حامله, واستعاد المذنب عقله محرراً من أسر الشهوات, وجد نفسه من العصاة, وعرف أنه أرتكب أمرين لا أمراً واحداً, الأول ظلمه لنفسه إذ جعلها نفساً آثمة ميالة لكل دني, وثانياً جرأته على من وهبه كل خير وفتح له كل دروب الهداية فعصاه وخالف أمره.
 
وأما التشبيه بالجاهل في قوله عليه السلام"كَالْجاهِلِ بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ" فالمراد من هذا التشبيه الاعتراف باجترائه على ما ارتكب مع العلم بقدرة الله عليه، والاعتراف بفضل إحسانه إليه حتى كأنه جاهل أو منكر لذلك، وحاصله: "مزيد من الإقرار بالذنب والعصيان، المندوب2 إليه عند طلب العفو والغفران"3

1- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
2- المندوب بمعنى المستحب  وقد تقدم أنه من آداب الدعاء.
3- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 387.
 
22
 

14

اعتراف وندم

 ومن ثم قال: "فَرَأى كَبِيْرَ عِصْيَانِهِ كَبِيْراً، وَجَلِيل مُخالفَتِهِ جَلِيْلاً".
 
الكبير هنا بمعنى العظيم, أي فرأى عظيم معصيته وأن ما ارتكبه ليس بالأمر السهل والعادي، وهذا ما أوحى به الشيطان قبل إقدامه على المعصية, لكي يوقعه فيها ويجرئه عليها. 
والمعنى: أنه بسبب إحصائه ما ظلم به نفسه، وتفكره فيما خالف به ربه، علم كبر كبيرِ عصيانه أو كثرة كثيره، وعلم جلالة جليل مخالفته، بعد جهله بذلك أو غفلته عنه، لعدم ضبطه له وتفكره فيه1

1- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 395.
 
23
 

15

اعتراف وندم

 المفاهيم الأساس 
 
1. بعد تمجيد الله تعالى ينبغي الاعتراف بالذنب أمامه جل وعلا.
2. بعد الاعتراف لا بد من الشعور بالندم أيضاً, لأن من لا يندم فإنما هو متجرئ على الذنب 
3. لا بد من الاستعجال بالتوبة, ومن أخرها فإن الله برحمته ترك بابها مفتوحاً إلى آخر لحظات عمر الإنسان.
4. كيف أعصي الله تعالى بما أنعم علي من النعم, وأتجرأ عليه كالجاهل بأني أعصيه بما قدرني عليه؟!
 
24
 

16

اعتراف وندم

 للمطالعة 
كان في بني اسرائيل شاب عَبَدَ الله عشرين سنة، ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال: 

إلهي!.. أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟.. فسمع قائلاً يقول:
أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت قبلناك.

هذه الرحمة الإلهية كانت لجميع الأمم، ولهذه الأمة أكثر من تلك ألف مرة.
و على كل حال يجب أن يكون للمرء أمل بالله.

أوصى لقمان الحكيم ابنه: "يا بني خف الله خوفاً لو أتيت يوم القيامة ببر الثقلين خفت أن يعذبك، وارجُ الله رجاءً لو وافيت القيامة بإثم الثقلين رجوت أن يغفر الله لك". 
يقول أبو بصير: سألت الصادق عليه السلام: ما معنى التوبة النصوح التي أمرنا؟.. قال: "يتوب العبد من ذنب ثم لا يعود فيه"
قلت: وأينا لا يعود؟.. 
فقال: "يا أبا محمد!.. إن الله يحب من عباده المفتن التواب". 

جاء في "حقائق الأسرار" أن رسول الله صلى الله عليه وﺁله قال: 
"... يا بن ﺁدم !.. إنك إن تذنب حتى يبلغ ذنبك عنان السماء ثم تستغفرني أغفر لك ولا أبالي". 

قال الشاعر:

ألا مَن لنفسي بالهوى قد تمادتِ             إذا قلت قد مالت عن الجهل عادت ِ
وحسب امرئ شراً بإهمال نفسه            وﺇمكانها من كل شيء أرادتِ 
تزاهدت في الدنيا وإني لراغب               أرى رغبتي ممزوجةً بزهادتي

من كتاب (هكذا تاب التائبون)
 
25
 

17

القلب المؤمل

 وكان من دعائه عليه السلام:
 
فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَملاً لَكَ، مُسْتَحْيِيَاً مِنْكَ،
وَوَجهَ رَغْبَتَهُ إلَيْكَ ثِقَةً بِكَ، فَأَمكَ بِطَمَعِهِ يَقِيناً،
وَقَصَدَكَ بِخَوْفِهِ إخْلاَصَاً، قَدْ خَلاَ طَمَعُهُ مِنْ كُل
مَطْمُوع فِيهِ غَيْركَ، وَأَفْرَخَ رَوْعُهُ مِنْ كُل مَحْذُور
 مِنْهُ سِوَاكَ.
 
27
 

18

القلب المؤمل

 تمهيد:
 
عندما أتخذُ القرار بالعودة والتراجع والتوبة إلى الله تعالى فلماذا أتخذُ هذا القرار؟
 
لا بد أن أحد هذه الدوافع هو الذي حدا بي للعودة إلى الجادة الصواب:
 
1 - علمي اليقيني بأني في مكان غير صحيح، ولا بد من تصحيح الوضع القائم. فكوني عبداً لله يحتم علي الالتزام بأوامر مولاي, وانسجاماً مني مع نفسي التي تحب الاستقامة.
2 – خوفي من العقوبة الإلهية، والتي أوعد الله تعالى بها العاصين من العباد, وهذا الدافع هو أكثر الدوافع التي تُلجئ العاصين لطلب المغفرة.
 
وقد تكون هنالك دوافع أخرى غير تلك التي ذكرناها. ولكن حالة التائب في حال التوبة لا تختلف بين دافع وآخر, فكل التائبين لهم حالات قلبية خاصة، وقد ذكرها دعاء التوبة، وسنتعرض لها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
 
الحياء من الحق
 
يقول عليه السلام: " فَأَقْبَلَ نَحْوَكَ مُؤَملاً لَكَ, مُسْتَحْيِيَاً مِنْكَ".
 
الحياء من الله تعالى هو أكبر الموانع التي تمنع الإنسان من الوقوع في الذنب, ولذا ربط الكثير من الروايات الشريفة الحياء بالإيمان, فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"1 .
 
وقد يُظن أن الحياء المقصود في الرواية الشريفة هو الحياء من الناس, وهو الحالة 

1-  الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،   ج 2 ص 106.
 
29
 

19

القلب المؤمل

 النفسية التي تحصل بين رجل وامرأة, إلا أن هنالك حياء آخر وهو الحياء من الله سبحانه وتعالى، وقد أشار له العديد من الروايات الشريفة أيضاً, فقد روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أكلكم يحب أن يدخل الجنة؟" قالوا: نعم يا رسول الله ! قال صلى الله عليه وآله وسلم: "قصروا من الأمل، وثبتوا آجالكم بين أبصاركم، واستحيوا من الله حق الحياء"1 .
 
وفي شرح عميق لمعنى الحياء أشار الإمام الصادق عليه السلام له فيما روي عنه: "الحياء نور جوهره صدر الإيمان، وتفسيره التثبت عند كل شيء ينكره التوحيد والمعرفة"2 .
فإذا كان الواحد منا يعمل في مكان وقد نبهه صاحب العمل إلى أمور لا ينبغي الإقدام عليها في عمله, فحينما يخالف أمره يردعه الحياء عن ذلك, ولو تجرأ وخالف الأمر وطالبه رب العمل وساءله عن تصرفه لأحس بالخجل والحياء منه, فهذه المقاربة البسيطة توضح الحد الأدنى من الحياء المطلوب من العبد أمام ربه, فكيف إذا كان الله تعالى هو صاحب المنة علينا بكل ما ننعم به في الوجود, بل مدينون له تعالى بأصل الوجود, وفي استمرار الوجود, وتوالي النعم؟ أفلا يجدر بالعبد أن يستحيي ممن أفاض عليه كل تلك النعم التي لا تحصى؟
 
ولهذا أكدت الروايات العديدة على الحياء من الله تعالى على وجه الخصوص، كما يستحيي الواحد من جيرانه من التضييق عليهم, أو التسبب بأذاهم, فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيِ من الله استحياءك من صالحي جيرانك، فإن فيها زيادة اليقين"3 .
 
بل هو أفضل الحياء وأشرفه، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أفضل الحياء استحياؤك من الله"4 .

1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 1 ص 427.
2- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج8، ص464.
3- م.ن.
4- م.ن.
 
30
 

20

القلب المؤمل

 وهذا الحياء يكون من خلال الترجمة العملية لما يستتبعه ويلحق به ليتحقق معناه الحقيقي الذي أشارت له الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء، فقيل: يا رسول الله ومن يستحيي من الله حق الحياء؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من استحيا من الله حق الحياء فليكتب أجله بين عينيه، وليزهد في الدنيا وزينتها، ويحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ولا ينسى المقابر والبلى"1 .
 
والحياء من الله بعد الذنب مطلوب أيضاً, لا سيما في طلب التوبة منه تعالى, وكأن الإنسان يخاطب ربه وقد طأطأ رأسه حياء منه قائلاً: يا إلهي إني خجل منك ومن نفسي لأني قد وضعت نفسي في موضع سخط, ولكن الشيطان قد غلبني هذه المرة, فتب علي يا خير الراحمين. وهذا النوع من الحياء ألمح له أمير المؤمنين عليه السلام فيما روي عنه: "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا"2 .
 
الطمع المحمود
 
يقول عليه السلام: "قَدْ خَلاَ طَمَعُهُ مِنْ كُل مَطْمُوع فِيهِ غَيْرِكَ".
 
الطمع في المغفرة هي الحالة التي يشير إليها الإمام عليه السلام في هذا المقطع من الدعاء. ولعل الطمع هنا يتجلى بأفضل ما يمكن تصويره, فالمتبادر من لفظ الطمع غالباً هو ذلك المعنى السيئ المعروف المرادف للجشع, أما هذا الطمع فهو الطمع المحمود, وهو الأمل الوحيد لدى العاصي في إزالة آثار ما ارتكبه من الذنوب.
 
حينما يقع الإنسان في ورطة ما أو مشكلة لا يقدر على الفكاك منها, يتوجه دائماًً لأقرب الناس إليه الأب أو الأم أو الأخ أو الصديق, وقد يلجأ للجار, وقد يفكر بمن هو أقدرهم على تخليصه مما وقع فيه, ولكن حين يظلم نفسه ويقحمها في دائرة السخط الإلهي, فإلى مَن يلتجئ؟

1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 1 ص 719.
2- م.ن.
 
31
 

21

القلب المؤمل

 لن يفيدك الصديق شيئاً، ولا قرابة أحد ستنفعك. إن أكبر قوة في الدنيا لن تغنيك حينها ولن تستطيع غفران ذنبك.
 
فقط من اجترأت عليه, قادر على الاقتصاص منك، يستطيع أن يعفو عنك, فلا تفكر في اللجوء لغيره. أخلِ قلبك من الآخرين, لأنهم لن يغنوا عنك شيئاً. لن يدرأوا عنك العذاب, ولن يتحملوا عنك وخز الضمير, ولن يشفعوا لك لأنهم يحتاجون لمن يشفع لهم, توجه بكلك إلى الله تعالى الذي قال:﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلكُمْ تُفْلِحُونَ﴾1 .وقال أيضاً:﴿إِن اللهَ يُحِب التوابِينَ﴾2  نعم هو يحبك حينما تلجأ إليه لتعتذر من جرمك, يحبك حينما لا تتمادى في إشباع رغباتك فيما حرم عليك, ويحبك حينما يرى ضميرك ما زال يقظاً وحياً, فعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق)عليه السلام: "﴿يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحًا﴾3 قال عليه السلام: هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً. قلت: وأيـنا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمد إن الله يحب من عباده المفتن التواب"4
 
بل إن الله تعالى يفرح بتوبتنا كما في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها"5 .

1- سورة النور: الآية  31.
2- سورة  البقرة: الآية  222.
3- التحريم: 8.
4- الحر العاملي، محمد  بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.،  ج 16 ص 72.
5- م.ن. ج 16 ص 73, وعقب قدس سره على الحديث قائلاً: أقول: الفرح هنا مجاز وهو ظاهر.
 
32
 

22

القلب المؤمل

 المفاهيم الأساس
 
1. استحيِ من الله تعالى كما تستحي من رب عملك حين تخالف أمره.
2. الحياء من الحق من الموانع التي تصد المرء عن الوقوع في الذنب.
3. اطمع بالله فقط, ولا تطمع بكل من لا يقدر على نفعك حين الحساب.
4. لا تخشَ من طلب التوبة, فالله تعالى يحب التوابين.
 
33 
 

23

القلب المؤمل

 للمطالعة
 
اعلم أن التوبة عند رؤية اَيات العذاب، وعند دنو الأجل غير مقبولة، وهي كتوبة فرعون عند غرقه اذ لم يقبل توبته، كما جاء في الاَية الشريفة:
 
﴿وَلَيْسَتِ التوْبَةُ لِلذِينَ يَعْمَلُونَ السيئَاتِ حَتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِني تُبْتُ الآنَ﴾1 
 
وكما يستفاد أيضاً من قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا ماذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُم إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾2
 
إن أبواب التوبة تغلق عند نزول العذاب، ومثل هذه التوبة توبة اضطرارية ولا تقبل.. قال محمد الهمداني: سألت الإمام الرضا عليه السلام: لأي علة أغرق الله فرعون، وقد اَمن به وأقر بتوحيده؟.. قال: "لأنه آمن عند رؤية البأس، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول"3
 
إذاً يجب على المرء أن يبادر للتوبة عما سلف من ذنوبه قبل أن يرى آيات العذاب، وقبل أن ينزل به الموت.
 
قال الشاعر: 
 
سبحان ربك ما أراك تتوب                   والرأس منك بشيبه مخضوب
سبحان ربك ذي الجلال أما ترى              نوَبَ الزمان عليك تنوب
سبحان ربك كيف يغلبك الهوى              سبحانه إن الهوى لغلوب 
سبحان ربك ما تزال ومنك                   عن إصلاح نفسك فترة ونكوب 
سبحان ربك كيف يلتذ امرؤ                  بالعيش وهو بنفسه مطلوب
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
 
 

1- سورة النساء: الآية 18.
2- سورة يونس: الآيتان50، 51.
3- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6 ص23.
 
34
 

24

سيماء التائبين

 وكان من دعائه عليه السلام :
 
فَمَثلَ بَيْنَ يَدَيْـكَ مُتَضَرعـاً، وَغَمضَ بَصَرَهُ إلَى الأرْضِ مُتَخَشعَاً،
وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزتِكَ مُتَذَللاً، وَأَبَثكَ مِنْ سِرهِ مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ
خَضُوعاً، وَعَددَ مِنْ ذُنُوبِهِ مَا أَنْتَ أَحْصَى لَهَا خُشُوعاً وَاسْتَغَاثَ
بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ وَقَبِيحِ مَا فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ
مِنْ ذُنُوب أدْبَرَتْ لَذاتُهَا فَذَهَبَتْ، وَأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ.
 
35
 

25

سيماء التائبين

 تمهيد:
عندما نسير في الحياة ونعاشر الناس فإننا لا يمكن أن نعاشرهم بدون مراعاة لأخلاقيات المخالطة, والآداب التي يراعيها الناس فيما بينهم, إذ لا بد من ضوابط وأصول لكي لا يصبح أفراد المجتمعات الإنسانية ذئاباً ينهش بعضها بعضاً, ومن ذلك آداب الاعتذار.

فحينما يخطىء الواحد منا ويلجأ للاعتذار من الآخر، لا بد وأن يراعي في ذلك آداباً خاصة, وكمثال على ذلك تخيل لو أن رجلاً قد أخطأ بحقك, وجاء إليك ليعتذر وقد رفع رأسه ونظر إليك من طرفي عينيه, وقد شمخ بأنفه, وأظهر لك عدم المبالاة، وقال لك من طرف لسانه: آسف، ومشى.

إن أي واحد منا لو حصل هذا معه، سيُعتبر هذا النوع من الاعتذار إهانة جديدة, ولن يقبل هذا النوع من التصرف المشين.

وكذا الحال بين الإنسان وربه، فإن للتوبة أصولاً وآداباً، ينبغي مراعاتها لكي تكون التوبة بالشكل الذي يرضي الله تعالى, ولا يزيد من سخطه علينا، فما هي هذه الآداب؟

آداب التائب 

إن التوبة هي فعل يتضمن الدعاء إلى الله تعالى؛ لغفران الذنب والصفح عما سلف, ولذا ينبغي مراعاة أدب الدعاء عند طلب التوبة من الله تعالى, ومن هذه الآداب:

1- إقبال القلب:

بمعنى أن يكون التوجه لله تعالى بكل الفكر والقلب, لا أن يكون الترديد باللسان
 
 
37

26

سيماء التائبين

 والشفتين لكلمات والقلب في غفلة عما يقول, ففي الرواية عن كميل بن زياد أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام : " العبد يصيب الذنب فيستغفر الله، فقال عليه السلام : يا ابن زياد، التوبة، قلت: ليس؟ قال عليه السلام : لا، قلت: كيف؟ قال عليه السلام : إن العبد إذا أصاب ذنباً قال: أستغفر الله بالتحريك، قلت: وما التحريك؟ قال عليه السلام : الشفتان واللسان يريد أن يتبع ذلك بالحقيقة، قلت: وما الحقيقة؟ قال عليه السلام : تصديق القلب وإضمار أن لا تعود إلى الذنب الذي استغفر منه..."1 .
 
و عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: " قال أمير المؤمنين عليه السلام : لا يقبل الله عز وجل دعاء قلب لاه ٍ"2
 
2- الاستيقان بالإجابة:
 
بأن تكون على يقين بأن الله تعالى قد وعد العباد بقبولهم في حال توبتهم وندمهم, فلا يدخل اليأس إلى قلبك، فبدل أن تحصل على التوبة تكون قد ارتكبت إحدى الكبائر وهي اليأس من روح الله تعالى, وقد جاء في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : " إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة"3 .
وعنه عليه السلام أنه قال: " إذا دعوت فأقبل بقلبك وظُن حاجتك بالباب"4
 
3- البكاء:
كما دعت لذلك الروايات الشريفة, فإن البكاء أجلى مظاهر الندم الحقيقي, وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: " ما من عين إلا وهي باكية يوم القيامة، إلا عيناً بكت من خوف الله، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله عز وجل, إلا حرم

1- الحر العاملي، محمد  بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.، ج 16 ص 78.
2- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،  ج 2   ص 473.  
3- م.ن.
4- م.ن.
 
38
 

27

سيماء التائبين

 الله عز وجل سائر جسده على النار، ولا فاضت على خده فرهق ذلك الوجه قترٌ ولا ذلةٌ, وما من شيءٍ إلا وله كيلٌ ووزنٌ إلا الدمعة، فإن الله عز وجل يطفئ باليسير منها البحار من النار، فلو أن عبداً بكى في أمةٍ لرحم الله عز وجل تلك الأمة ببكاء ذلك العبد"1
 
وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: " ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرة دموع في سواد الليل مخافةً من الله لا يراد بها غيره"2
 
4- الثناء على الله:
 
وقد تقدم في الدرس الأول سبب استهلال الإمام عليه السلام دعاء التوبة بالتمجيد, ونضيف على ما مر روايتين فعن الإمام الصادق عليه السلام : إن في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام : " إن المدحة قبل المسألة فإذا دعوت الله عز وجل فمجده"3 .
وعنه عليه السلام في رواية أخرى: " إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئاً من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله عز وجل والمدح له والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلمثم يسأل الله حوائجه"4
وكذا الصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الكرام فإنها من آداب الدعاء أيضاً كما في الرواية السابقة.
 
5- الاستغفار في الأسحار:
 
فهذا الوقت محبوب لدى الله تعالى, وبارك الله تعالى في المستغفرين فيه, وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : " قال أبي عليه السلام : قال أمير المؤمنين عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله جل جلاله إذا رأى أهل قرية قد أسرفوا في المعاصي وفيها

1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،  ج 2   ص 482  .  
2- م.ن.  
3- م.ن, ج2 ص484.  
4- م.ن.
 
 
39

28

سيماء التائبين

 ثلاثة نفر من المؤمنين ناداهم جل جلاله: يا أهل معصيتي لولا مَن فيكم من المؤمنين المتحابين بجلالي، العامرين بصلاتهم أرضي ومساجدي والمستغفرين بالأسحار خوفاً مني لأنزلت بكم عذابي ثم لا أبالي"1 .
 
وعن الإمام الكاظم, عن أبيه، عن علي عليه السلام: " إن الله عز وجل إذا أراد أن يصيبَ أهلَ الأرض بعذاب قال: لولا الذين يتحابون بجلالي ويعمرون مساجدي ويستغفرون بالأسحار لأنزلت عذابي"2 .
 
بين سطور الدعاء 
 
يقول عليه السلام : " فَمَثلَ بَيْنَ يَدَيْـكَ مُتَضَرعـاً، وَغَمضَ بَصَرَهُ إلَى الأرْضِ مُتَخَشعَاً، وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزتِكَ مُتَذَللاً" .
فهذه هي الآداب الظاهرية للتائب من إظهار الذل والعبودية والندم أمام المعبود, وقوله متضرعاً إشارة لقوله تعالى: ﴿ادْعُواْ رَبكُمْ تَضَرعًا وَخُفْيَةً إِنهُ لاَ يُحِب الْمُعْتَدِينَ﴾3, " وذلك لما فيه من الاعتراف بذل العبودية وعزة الربوبية"4 .
 
وقوله عليه السلام : " وَطَأطَأَ رَأسَهُ لِعِزتِكَ مُتَذَللاً" : والطأطأة هي خفض الرأس, والعزة هي الرفعة والامتناع والشدة والغلبة، وفي التنزيل: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزةَ فَلِلهِ الْعِزةُ جَمِيعًا﴾5 ،أي: من كان يريد بعبادة غير الله العزة فإنما العزة لله وحده لا لغيره، عزة الدنيا وعزة الآخرة جميعاً، فليطلبها منه لا من غيره6 .
وقوله عليه السلام : " وَاسْتَغَاثَ بِكَ مِنْ عَظِيمِ مَا وَقَعَ بِهِ فِي عِلْمِكَ وَقَبِيحِ مَا فَضَحَهُ فِي حُكْمِكَ مِنْ ذُنُوب أدْبَرَتْ لَذاتُهَا فَذَهَبَتْ، وَأَقَامَتْ تَبِعَاتُهَا فَلَزِمَتْ" .

1- الحر العاملي، محمد  بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة أهل البيت، الطبعة الثانية 1414 ه.ق.،  الحر العاملي، ج 16 ص 92.
2- م.ن، ج 16 ص91.
3- سورة الأعراف، الآية: 55.
4- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 401.  
5- سورة فاطر، الآية: 10.
6- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 401.
 
40
 

29

سيماء التائبين

 فساعة اللذة تنتهي, وحينها تأتي ساعات الندامة، اللذة الدنيوية التي غالباً ما تتبعها قذارة البدن, وقذارة السمعة أحياناً تنتهي بثوان ٍ أحياناً, ولكن قد تكون هذه الثواني القليلة مفتاح جهنم, حيث لا تنفع الندامة، لأن الذنب ما لم يُستغفر منه لزم، واللزوم هو الثبات والدوام1 , فهل نشتري اللذة الفانية بالذنب اللازم في الرقاب المانع من نزول الرحمة الإلهية؟!

1- المدني الشيرازي، السيد علي خان، رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام، ج 4 ص 401.
 
41
 

30

سيماء التائبين

 المفاهيم الأساس
 
1. للدعاء آداب خاصة ولا بد من مراعاة خطاب يليق بالله تعالى.
2. من آداب الدعاء للتوبة: إقبال القلب, الاستيقان بالإجابة, البكاء, الثناء على الله, الاستغفار في الأسحار. 
المفاهيم الأساس
 
42

31

سيماء التائبين

 للمطالعة
 
ذكر المرحوم الشيخ البهائي رضوان الله عليه في شرح الأربعين: 
 
لا شك في وجوب الإسراع في التوبة.. فالمعاصي كالسموم للأبدان، وكما أن من يتناول السم عليه الإسراع إلى المعالجة لكي لا يموت، فكذا الخائف من موت الأبد يجب عليه التعجيل في ترك الذنب والمبادرة إلى التوبة.
 
و المذنب المتهاون في التوبة ويرجئها إلى وقت آخر، يجعل نفسه بين خطرين إذا نجا من أحدهما وقع في الآخر:
 
أولهما: حلول الأجل بغتة، بحيث لا تتسنى له اليقظة من سبات الغفلة، إلا أن يرى أجله قد حان، كما جاء في القراَن الكريم:
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾1
 
وقال تعالى أيضاً في كتابه الكريم:
 
﴿وَأَنفِقُوا مِن ما رَزَقْنَاكُم من قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَب لَوْلَا أَخرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصدقَ وَأَكُن منَ الصالِحِينَ *وَلَن يُؤَخرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾2
 
قيل في تفسير هذه الآية إن المحتضر يقول لملك الموت: أمهلني يوماً لأتوب من ذنوبي، وأعد نفسي للآخرة، فيقول له: قُضي أجلك، أي أن باب التوبة يغلق بوجهه، وتخرج روحه من بدنه، فتأخذه الحسرة والندم على ما فرط فيه من عمره، وحتى أن أصل الإيمان قد يتعرض في مثل هذه المواقف للخطر. 

1- سورة الأعراف: الآية 97.
2- سورة المنافقون: الآيتان 10، 11.
 
43
 

32

سيماء التائبين

 وثانيهما: إنه إذا لم يطهر قلبه من الذنوب - عن طريق التوبة - فإن الاَثام تتراكم على قلبه حتى لا يعود من الممكن تطهيره، لأن كل معصية يقترفها الإنسان تجعل حجاباً من الظلمة على قلبه، كالنَفس على المرآة يُعتم على صفوها.
 
وإذا تراكمت الذنوب على القلب زادته كدورة، وتتصلب الكدورة تدريجياً حتى تصبح طبقة صلبة، وتغدو في عداد طباع الإنسان، بحيث يطبع عليه ولا تعد له قدرة على استيعاب الحق أو القبول به.. أي أنه يفقد على أثر تراكم الذنوب صفاءه ونقاءه.
 
أجل، مثل هذا القلب يسمى في الروايات بالقلب المنكوس أو القلب الأسود.. قال الإمام الباقر عليه السلام : " ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته. إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب فتصير أعلاه أسفله"1
و قال في حديث آخر: " لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً"2
 
و هذا يدل على أن صاحب مثل هذا القلب لا يكف عن ذنوبه ولا يتوب منها، وإذا قال بلسانه: تبت، فهو مجرد كلام يجري على لسانه، ولا يترتب عليه أي أثر، وهو كمن يدعي أنه غسل ثيابه ؛ فمثل هذا الادعاء لا يؤدي إلى طهارة ثيابه أبداً. وقد يكون شخصاً كهذا على درجة من اللامبالاة في دينه حتى أن أساس إيمانه يكون عرضة للخطر، وتنتهي عاقبته إلى الشر.
 
قال الشاعر:
 
مضى أمسك الباقي شهيداً معدلاًر            وأصبحت في يومٍ عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً              فثن بإحسان وأنت حميد
و لا تُرجِ فعل الخير يوماً إلى غد              لعل غداً يأتي وأنت فقيد
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
 

1- أصول الكافي، ج2 ص268 ح1، بحار الأنوار: ج73 ص312ح1.
2- أصول الكافي، ج2 ص273ح20 
 
44
 

33

طلب العفو

 وكان من دعائه عليه السلام:
 
لا يُنْكِرُ يَا إلهِي عَدْلَكَ إنْ عَاقَبْتَهُ، وَلا يَسْتَعْظِمُ عَفْوَكَ
إنْ عَفَوْتَ عَنْهُ وَرَحِمْتَهُ; لأِنكَ الرب الْكَرِيمُ الذِي
لا يَتَعَاظَمُهُ غُفْرَانُ الذنْبِ الْعَظِيم. اللهُم فَهَا أَنَا ذَا قَدْ
جئْتُكَ مُطِيعاً لأمْرِكَ فِيمَا أَمَرْتَ بِهِ مِنَ الدعَاءِ، مَتَنَجزاً
وَعْدَكَ فِيمَا وَعَدْتَ بِهِ مِنَ الإجَابَةِ إذْ تَقُولُ ﴿أدْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾.
 
45
 

34

طلب العفو

 تمهيد:
 
في مشهد رائع من مشاهد الحج, حينما يرتدي جميع الناس بكل ألوانهم وأجناسهم ومذاهبهم لباساً واحداً, ولوناً واحداً, ويتوجهون إلى بارئهم الواحد:" لبيك اللهم لبيك".
 
وتسمى هذه الشعيرة بالتلبية, وبها يتم الإحرام للعمرة أو الحج. ولكن وراء جملة "لبيك اللهم لبيك" ما وراءها, فما معنى التلبية هنا؟ وهل لها مداليل أبعد من مداليل مناسك الحج والعمرة, لعل نقل ما كانت عليه حالة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام حالة التلبية يشير إلى المغزى الأعمق من وراء هذه الكلمات التي قد يرددها اللسان أحياناً ولا يعيها القلب, فقد روي عمن رأى الإمام الصادق عليه السلام "وهو محرم قد كشف عن ظهره حتى أبداه للشمس وهو يقول: لبيك في المذنبين لبيك"1 .
 
وفي رواية عنه عليه السلام قال: التلبية: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك ذا المعارج لبيك, لبيك داعياً إلى دار السلام لبيك, لبيك غفار الذنوب لبيك، لبيك أهل التلبية لبيك، لبيك ذا الجلال والإكرام لبيك، لبيك مرهوباً ومرغوباً إليك لبيك، لبيك تبدئ والمعاد إليك لبيك، لبيك كشاف الكرب العظام لبيك، لبيك عبدك وابن عبدك لبيك، لبيك يا كريم لبيك"2 .

1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،  ج 4 ص 336.
2- م.ن.  ج 4 ص 335.
 
47
 

35

طلب العفو

 دعوة الله
 
يقول الله تعالى في محكم آياته:﴿وَقَالَ رَبكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِن الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنمَ دَاخِرِينَ﴾1.
 
وعد إلهي ذكرته الآية الكريمة, والله تعالى حينما يعد لا شك بأن وعده هو الحق, يقول عز وجل في آية أخرى:﴿وَعْدَ اللهِ حَقا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾2 .
 
فإذا قال تعالى: ادعوني أستجب لكم, يعني أنه حتى المذنب وعده بقبول توبته كما تدل على ذلك آيات أخر كقوله تعالى:﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَن اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدَقَاتِ وَأَن اللهَ هُوَ التوابُ الرحِيمُ﴾3 .
 
فتأمل كيف أن الله تعالى وهو الغني المطلق وكل ما في الوجود محتاج إليه, والذي خلقنا عبيداً تجب علينا طاعته, نسيء الخدمة ونعصيه, وهو في المقابل يمنحنا الفرصة تلو الفرصة, ويعدنا بقبول الذنب, وفي المقابل فإننا نتمادى ونتجرأ ونستثمر ما أنعم به علينا في عصيانه, وهو يترك الباب لنا مفتوحاً لنلج منه ساعة أردنا, ويزيد في فرصنا ويرغبنا في التوبة حتى تصل الروح إلى الحلقوم.
 
"أنا الذي أمهلتني فَما ارْعَوَيْتُ، وَسَتَرْتَ عَلَي فَمَا اسْتَحْيَيْتُ، وَعَمِلْتُ بِالْمَعاصي فَتَعَديْتُ، وَأسْقَطْتَني مِنْ عَيْنِكَ فَما بالَيْتُ، فَبِحِلْمِكَ أمْهَلْتَني وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَني حَتى كَأنكَ أغْفَلْتَني، وَمِنْ عُقُوباتِ الْمَعاصي جَنبْتَني حَتى كَأنكَ اسْتَحْيَيْتَني..."4 
 
هذه دعوة الله فكيف يستجيب العبد لها؟
 
إجابة العبد
 
بعد أن يمعن العبد في مخالفة مولاه, ويستفيق من غفلته لن يجد أمامه من عمل

1- سورة غافر: الآية 60.
2- سورة النساء: الآية 122.
3- سورة التوبة: الآية  104.
4- من دعاء أبي حمزة الثمالي، مفاتيح الجنان.
 
48
 

36

طلب العفو

 يمحو به ما ارتكبه سوى التوبة, فهي الطريق المفتوح دائماً, وهي الملاذ الأول والأخير في هذه الدنيا وقبل انقطاع العمل, فحينئذ سيتخذ القرار بالتوبة.
 
ولكن هذا القرار بالتوبة يكون بعد توالي الحلم الإلهي, وقد يكون بعد ملل الإنسان من الذنب, وقد يكون بعد تجرؤٍ على خالقه, ورغم هذا كله سيقدم على التوبة عالماً أن الله الحليم وعد بقبولها ولن يخلف وعده.
 
ولكن التوبة ليست كلمة تقال, لن يقول: يا رب اغفر لي وتنتهي المسألة هنا, لا بد من أمور كثيرة لتحصل التوبة, وأول أمر يمكن لنا أن نسأله هنا: هل كل من طلب التوبة يستحقها؟
في غالب الأحيان كل التوبات تُقبل بتحقيق شرائطها التي سنمر عليها بالتفصيل إنْ شاء الله تعالى, ولكن على الإنسان أن يلتفت إلى أمر هو غاية في الخطورة, وهو أن الله تعالى وإن كان أرحم الراحمين, وأن رحمته وسعت كل شيء, وهذا ما لا يناقش فيه أحد إذ يقول سبحانه وتعالى واصفاً نفسه: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرحْمَةَ﴾1 , لكن الإنسان قد يصل لمقام لا يستحق فيه الرحمة الإليهة, فكيف يصل الإنسان لهذه الحالة؟
 
الحرمان الأكبر
 
بل هي الحقيقة المرعبة التي لا يحب أي منا أن يكون أحد أفرادها. إن رحمة الله تعالى كنور الشمس الساطعة على الأرض, فكل ما تخترقه الشمس ينال نصيبه من النور, فأصل نورها ليس بخيلاً ولا يمتنع عن الوصول لأي شيء, إلا أن بعض الأماكن المحجوبة بالجدران والأسقف لا تدخلها خيوط النور, ليس لأن النور بخيل أو الشمس بخيلة, بل المانع والحاجز هو من منع دخول النور لما تحته.
 
وكذا رحمة الله العميمة التي ترسل بأشعتها على كل الموجودات إلا من وضع بينه وبينها حاجباً وحاجزاً, وهذا ما أشارت له الرواية عن أبي بصير قال: "سمعت أبا عبد

1- سورة الأنعام: الآية  12.
 
49
 

37

طلب العفو

 الله عليه السلام يقول: إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً"1.
 
فهل يا ترى ما زالت قلوبنا تحتفظ بصفائها؟ هل ما زال زجاجها نظيفاً, ولم تنطبع عليه أصابع المعاصي, هل أن مرآة قلوبنا ما زالت تستطيع عكس النور, أم أننا جعلنا الذنوب تترك عليها بصماتها لتتراكم وتصبح حاجباً بيننا وبين الرحمة؟
 
وقفة بين السطور
 
قال عليه السلام: "لا يُنْكِرُ يَا إلهِي عَدْلَكَ إنْ عَاقَبْتَهُ، وَلا يَسْتَعْظِمُ عَفْوَكَ إنْ عَفَوْتَ عَنْهُ وَرَحِمْتَهُ؛ لأِنكَ الرب الْكَرِيمُ الذِي لا يَتَعَاظَمُهُ غُفْرَانُ الذنْبِ الْعَظِيم".
 
هنا اعتراف باستحقاق العقوبة بما اقترفت اليد, وأن العقوبة ليس انتقاماً مني, بل هي عين العدل, فالله تعالى يحب العبد المؤمن, حتى لو كان عاصياً فإنه لا يبادر لرميه في نار جهنم، بل كما جاء في الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أخرج عبداً من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها، إما بسقم في جسده، وإما بضيق في رزقه، وإما بخوف في دنياه، فإن بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت، وعزتي وجلالي لا أخرج عبداً من الدنيا وأنا أريد أن أعذبه حتى أوفيه كل حسنة عملها، إما بسعة في رزقه, وإما بصحة في جسمه، وإما بأمن في دنياه، فإن بقيت عليه بقية هونت عليه بها الموت"2
 
ويقول عليه السلام: "اللهُم فَهَا أَنَا ذَا قَدْ جئْتُكَ مُطِيعاً لأمْرِكَ فِيمَا أَمَرْتَ بِهِ مِنَ الدعَاءِ، مَتَنَجزاً وَعْدَكَ فِيمَا وَعَدْتَ بِهِ مِنَ الإجَابَةِ إذْ تَقُولُ ﴿أدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾".
 
ولكن عليه تحقيق شروط التوبة التي سيأتي شرحها وتفصيلها في الدروس القادمة إنْ شاء الله تعالى.

1- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،   ج 2 ص 271.
2- م.ن.  ج 2 ص 444.
 
50
 

38

طلب العفو

 المفاهيم الأساس
 

1. الوعد الإلهي بقبول التوبة وعد يقيني وحتمي وباب التوبة مفتوح دائماًً.
2. على الإنسان أن يقرر بنفسه دخول باب التوبة.
3. قد تكون كثرة الذنوب مانعاً من قبول التوبة وحاجباً لنور الرحمة الإلهية.
4. قبول التوبة فضل من الله علينا وتكرم منه, ولو عاملنا بالعدل لهلكنا.
 
51
 

39

طلب العفو

 للمطالعة
جاء في كتاب الإقبال، في باب أعمال شهر ذي القعدة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه في يوم الأحد من شهر ذي القعدة: 
"يا أيها الناس !.. من منكم يريد التوبة؟.. قلنا: كلنا نريد التوبة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اغتسلوا ... وتوضأوا .. وصلوا أربع ركعات، واقرأوا في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وقل هو الله أحد ثلاث مرات، والمعوذتين مرة.. ثم استغفروا سبعين مرة، ثم اختموا بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قولوا: "يا عزيز .. يا غفار... اغفر لي ذنوبي، وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد من أمتي فعل هذا إلا نودي من السماء:يا عبد الله ... استأنف عملك فإنك مقبول التوبة، مغفور الذنب.. وينادي ملك من تحت العرش: أيها العبد .. بورك عليك وعلى أهلك وذريتك.. وينادي مناد آخر: أيها العبد .. ترضى خصماؤك يوم القيامة.. وينادي ملك آخر: أيها العبد ... تموت على الإيمان ولا أسلب منك الدين، ويُفسح في قبرك، وينور فيه.. وينادي مناد آخر: أيها العبد .. يرضى أبواك وإن كانا ساخطين، وغفر لأبويك ذلك ولذريتك، وأنت في سعة من الرزق في الدنيا والآخرة.. وينادي جبرائيل عليه السلام: أنا الذي آتيك مع ملك الموت عليه السلام، وآمره أن يرفق بك ولا يخدشك أثر الموت، إنما تخرج الروح من جسدك سلاً.. قلنا:يا رسول الله ... لو أن عبداً يقول في غير الشهر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: مثل ما وصفت، وإنما علمني جبرائيل عليه السلام هذه الكلمات أيام أسري بي". عن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمو سلم يستغفر الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة، ويتوب إلى الله عز وجل سبعين مرة 
 
52
 

40

طلب العفو

من غير ذنب.. وكان لا يقوم من مجلس حتى يستغفر الله عز وجل خمساً وعشرين مرة".
 
وقال أيضاً: "إذا أكثر العبد من الاستغفار، رُفعت صحيفته وهي تتلألأ".

وعن الإمام الرضا عليه السلام: "مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه". 
 
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
 
53

41

الثبات على التوبة

 وكان من دعائه عليه السلام:
 
اللهُم إني أَتُوبُ إلَيْـكَ فِي مَقَامِي هَذَا مِنْ كَبَائِرِ
ذُنُوبِي وَصَغَائِرِهَا، وَبَوَاطِنِ سَيئآتِي وَظَوَاهِرِهَا،
وَسَوالِفِ زَلاتِي وَحَوَادِثِهَا، تَوْبَةَ مَنْ لا يُحَدثُ
نَفْسَهُ بِمَعْصِيَة، وَلاَ يُضْمِرُ أَنْ يَعُودَ فِي خَطِيئَة.
 
55
 

42

الثبات على التوبة

 تمهيد:
كثيراً ما تتراجع الجيوش عن أراضٍ احتلتها, وليس من الضرورة أن يكون الانسحاب جُبناً، إذ قد يكون انسحاباً تكتيكياً, ويكون ذلك تمهيداً لاحتلاله بطريقة أفضل تقل فيها الخسائر.
هذه الحالة تنطبق أيضاً على الإنسان الذي يعود عن الذنوب بسبب عذاب الضمير، فيتراجع عنها ويتوب, وفي نيته أن يعود لها.

ومن ثم يعود ليرتكب ذنباً قد يكون أعظم من سابقه ! فما هو التقييم لمثل هذا النوع من التوبة؟

الندم والثبات حليفان

تقدم أن على التائب أن يقر ويعترف بذنبه أمام ربه لينال بذلك غفران الذنب, إلا أنه لو كان يضمر في نفسه العود، فإن ذلك سيثير أسئلة الاستفهام عن معنى التوبة, فلماذا يتوب في المرة الأولى ما دام ناوياً على إعادة الفعل المحرم؟

بعض الناس يريد ذلك لكي يتخلص من وخز الضمير, والتفكير في العذاب الآتي, فيقدم على التوبة لتخففه عنها, ومن ثم يقدم على ذات المعصية, ولكن هذا العمل يتضمن العديد من السلبيات: 

1- انكسار الحاجز عن الحرام

تنكسر الحواجز بين الإنسان والمحرم, وذلك أن أول ما يقدم عليه الإنسان من الذنوب فيما يحذر الاقتراب منه، يلازم الحذر والخوف الشديدان من العواقب. 
 
57
 

43

الثبات على التوبة

 ثم بعد هذا يبدأ الإنسان بتحطيم الخوف من خلال اعتياده على المكروه, ويصل لمرحلة يتجاوز فيها الحد إلى الجرأة على الشبهات التي لا يعرف إن كانت تدخل في حيز الحرام أو الحلال.
 
وبعد أن يعتاد على ذلك يصبح مهيئاً نفسياً لاقتحام الحرام, ومثال هذا في حياتنا مشاركة المرء في مجالس أهل الفسق والباطل، الذين أمرنا الله تعالى بعدم الجلوس إليهم والإعراض عنهم حيث يقول جل وعلا:﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾1 , وكأن الله تعالى يقول: "إن الذي يكتسبه هؤلاء الخائضون من الإثم لا يُحمل إلا على أنفسهم ولا يتعداهم إلى غيرهم، إلا أن يماثلوهم ويشاركوهم في العمل أو يرضوا بعملهم فلا يحاسب على عمل إلا عامله، ولكن نذكرهم لعلهم يتقون، فإن الإنسان إذا حضر مجلسهم وإن كان لا يجاريهم فيما يخوضون ولا يرضى بقلبه بعملهم، وإن كان لا يعد حضوره عندهم إعانة لهم على ظلمهم، تأييداً لهم في قولهم، لكن مشاهدة الخلاف ومعاينة المعصية تهون أمر المعصية عند النفس. وتصغر الخطيئة في عين المشاهد المعاين. وإذا هان أمرها أوشك أن يقع الإنسان فيها، فإن للنفس في كل معصية هوى. ومن الواجب على المتقي بما عنده من التقوى والورع عن محارم الله أن يجتنب مخالطة أهل التهتك والاجتراء على الله، كما يجب ذلك على المبتلين بذلك الخائضين في آيات الله؛ لئلا تهون عليه الجرأة على الله وآياته فيقربه ذلك من المعصية فيشرف على الهلكة، ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه"2 .
 
2 – عدم التوفيق للتوبة
 
إذاً بتسويف التوبة من وقت لوقت يحصل التمادي الذي لا يعرف متى سيتوقف قطاره, وقد لا يقف إلا عند الموت، وهذا أسوأ شيىءٍ في هذه القضية، حيث يكون

1- سورة الأنعام: الآية  68.
2- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن،  منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، ج 7 ص 141. 
 
58

44

الثبات على التوبة

 الخسران المبين, ولو نطق بالتوبة حينها فليس من المعلوم أن تكون توبته توبة نصوحاً أو عن اعتقاد, كما حصل لفرعون حين تاب عند غرقه وعندما عاين الموت ولعل "عدم قبول توبة فرعون لأنه تاب حين رأى البأس"1.
 
إذاً أخطر ما في هذه التوبة بهذه النية عدم التوفيق للتوبة لاحقاً, نسأل الله تعالى أن يعيذنا جميعاً من سوء الخاتمة.
 
وهناك صنف من الناس حينما يتوب لا يضمر العودة, ولكنه يخشى أن تتغلب شهوته عليه مرة أخرى فيعود للذنب. هذا النوع من الخوف أمر طبيعي فالإنسان معرض دائماً لبلاء الشهوات، والدنيا مقبلة بزينتها دوماً وهي تعرض نفسها في كل يوم على المؤمن, وإن لحظة ضعف واحدة قد تؤدي بالمؤمن إلى أن تزل قدمه ويغرق في وحلها.
 
نفاذ البصيرة درع حصينة
 
أحد أكبر أسباب وقوع الإنسان في المعصية وارتكابه للذنوب هو عدم نفاذ البصيرة، بالإضافة إلى ما تقدم من عرض الدنيا وشهواتها لنفسها أمامه. ولكن ضعف البصيرة لدى الإنسان هو العامل الأكبر في ذلك، فما المراد من نفاذ البصيرة وضعفها؟
 
يقول الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ التِي فِي الصدُورِ﴾2 .
 
عمى القلوب عن الحق مثال عن عدم نفاذ البصيرة وضعفها الشديد، بحيث لا يرى فيها الإنسان من خلال التأمل والتدبر آيات الله الناطقة في آثاره, وهذا ما أشار له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه: "ليس الأعمى من يعمى بصره، إنما الأعمى من تعمى بصيرته"3 , وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "ليست الرؤية مع الإبصار، فقد تكذب العيون أهلها، ولا يغش العقل من استنصحه"4 .

1-النمازي، علي،  مستدرك سفينة البحار، مؤسسة النشر الإسلامي، ج 1 ص 495.
2- سورة الحج: الآية  46.
3- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 1 ص 266.
4-ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج19 ص173.
 
59
 

45

الثبات على التوبة

 فبهذه البصيرة التي تحصل من خلال الإيمان بالله تعالى والعبادة له, والإخلاص له تتفتح الآفاق أمام الإنسان، فيرى كثيراً من الحقائق التي لا يراها الكثيرون, يرى الدنيا على حقيقتها عجوزاً قد حفرت على وجهها آثار الزمن الغابر، لا تزداد مع الأيام إلى قبحاً, ويرى طلابها مغبونين في ما شروا به أنفسهم ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنهُمْ آمَنُواْ واتقَوْا لَمَثُوبَةٌ منْ عِندِ الله خَيْرٌ لوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾1 .
 
وجاء في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "أبصر الناس من أبصر عيوبه، وأقلع عن ذنوبه"2 .
 
فمن يخلصون لله تعالى يتخذون القرار الصائب دوماً وكأنهم يرون عواقب الأمور, وهذا ما كان جلياً في حركات أهل البيت عليهم السلام, وفي علمائنا الأبرار لا سيما الإمام الخميني المقدس.
 
فما أهون أن يفقد الإنسان بصره في الحياة، ويعاني من جراء ذلك ويكتسب الحسنات في صبره على البلاء, أمام فقدان البصيرة الذي يعمى فيه الإنسان عن رؤية درب الحق, فلا يهتدي لخير, سلام الله عليك يا أبا الحسن يا علي بن أبي طالب إذ تقول: "فقد البصر أهون من فقدان البصيرة"3 .
 
بصائر من ربكم
 
لنقف مع أنفسنا لنتلو هذه الآية الكريمة من كتاب الله تعالى:﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن ربكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾4.
إن طريق رضى الله تعالى واضح بين لكل من أراد الوصول إليه جل وعلا, وقد أنعم علينا بكل ما ينور لنا طريق الحق, فوهبنا العقول﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ

1- سورة  البقرة: الآيتان 102، 103.
2- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 1 ص 266.
3- م.ن.
4- سورة الأنعام: الآية  104.
 
60
 

46

الثبات على التوبة

 لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾1 , وأرسل لنا الأنبياء عليهم السلام وخاتمهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, ثم الأئمة الأطهار عليهم السلام, وجعل بين أيدينا كتاباً فيه الهداية لمن تمسك به وتحذير مما نخاف منه على آخرتنا, وكلهم ناطقون بما فيه خيرنا وصلاحنا, وآخذون بأيدينا إلى ما فيه سعادة الدارين, فأي نوع من الناس نكون حينما ندير ظهورنا بجفاء, ونصم أسماعنا عن سماع النداء, ونتخذ من مقالات أهل الضلال مبرراً لما نورد به أنفسنا ديار الشقاء, ونركض وراء لذات فانية قذرة, تشوبها القذارة وتعقبها الندامة؟
 
هل هذا تصرف من جعله الله تعالى خليفة له على الأرض وكرمه على سائر الخلق؟!
 
وهذا هذا هو الرد على الآية الكريمة التي تتحدث عن البصائر التي تركها الله لنا؟!
 
نعم حينما يرى الواحد منا الذنب أمامه, وهو يفكر بكل ما وهبه الله تعالى من النعم وما يسره له منا سبل الهداية, فيتركها ويرتكب الذنب، سيكون إما مستخفاً بما جاء من السماء, أو راداً على الله وكتابه, أو شاكاً في وعيده وعقابه, أجارنا الله من كل سوء.

1- سورة الحج: الآية  46.
 
61
 

47

الثبات على التوبة

 المفاهيم الأساس 
 
1. الإقرار والاعتراف لا يكفيان بدون نية الثبات.
2. الحذر من انكسار الحاجز بين الإنسان والمعاصي.
3. الحذر من عدم التوفيق للتوبة.
4. البصيرة ونفاذها يبينان للإنسان المؤمن حقائق الأمور.
 
62
 

48

الثبات على التوبة

 للمطالعة
توبة شاب فاسق 

جاء في كتاب (كيفر كردار أوجزاء الأعمال) أن رابعة العدوية قالت: كان هنالك شاب في غاية الجمال، وقد استدرجه أصدقاء السوء إلى مهاوي الفحشاء والرذيلة، حتى صار في عداد الفسقة والأشقياء، وأصبح همه مطاردة النساء وإغواء الفتيات، حتى بلغ أذاه جميع الناس. 

ذهبت لزيارته يوماً فوجدته قد افترش سجادته وانشغل بالصلاة، وهو في غاية الخشوع والخضوع، ويكثر من البكاء، تعجبت من وضعه وقلت في نفسي: ما لهذا الفاسق العاصي وهذه العبادة والخشوع والتقوى، وكيف صار عتبة بن علام إلى هذا الحال؟!..

انتظرت حتى انتهى من صلاته ثم قلت له: هذا أنت يا بن علام؟!.. أنت الذي كنت غارقاً في الشهوة والشراب والمعاصي، كيف أعرضت عن كل ذلك وتوجهت إلى الله؟ وكيف تبت مما كنت فيه من المعاصي؟.. 
قال: أنت تعلمين أنني كنت في شبابي كثير المعاصي ومولعاً بالنساء، وكما تعلمين أن أكثر من ألف امرأة في البصرة كن واقعات في شباك غرامي، وأنني كنت مسرفاً في غروري ذاك وطيش الشباب. 
وفي أحد الأيام وقع بصري عندما خرجت من داري على امرأة لا يظهر منها إلا عيناها، إذ كانت مستورة بثيابها.. فوسوس لي الشيطان وأغراني بها وصار قلبي وكأن ناراً اضطرمت فيه ؛ فسرت وراءها لأكلمها فأعرضت عني، وكلما دنوت منها تجاهلتني.
فاقتربت منها وقلت: ويحك ألا تعرفينني؟.. أنا عتبة الذي يهواني أكثر نساء البصرة، فما لي أكلمك فتعرضين؟..
قالت: ماذا تريد مني؟.. قلت: ضيفيني. 
قالت: ويحك يا رجل !.. كيف عشقتني وتدعي محبتي، وأنا ارتدي ثياباً تستر كل أعضاء بدني؟..
للمطالعة

توبة شاب فاسق 

جاء في كتاب (كيفر كردار أوجزاء الأعمال) أن رابعة العدوية قالت: كان هنالك شاب في غاية الجمال، وقد استدرجه أصدقاء السوء إلى مهاوي الفحشاء والرذيلة، حتى صار في عداد الفسقة والأشقياء، وأصبح همه مطاردة النساء وإغواء الفتيات، حتى بلغ أذاه جميع الناس. 

ذهبت لزيارته يوماً فوجدته قد افترش سجادته وانشغل بالصلاة، وهو في غاية الخشوع والخضوع، ويكثر من البكاء، تعجبت من وضعه وقلت في نفسي: ما لهذا الفاسق العاصي وهذه العبادة والخشوع والتقوى، وكيف صار عتبة بن علام إلى هذا الحال؟!..

انتظرت حتى انتهى من صلاته ثم قلت له: هذا أنت يا بن علام؟!.. أنت الذي كنت غارقاً في الشهوة والشراب والمعاصي، كيف أعرضت عن كل ذلك وتوجهت إلى الله؟ وكيف تبت مما كنت فيه من المعاصي؟.. 
قال: أنت تعلمين أنني كنت في شبابي كثير المعاصي ومولعاً بالنساء، وكما تعلمين أن أكثر من ألف امرأة في البصرة كن واقعات في شباك غرامي، وأنني كنت مسرفاً في غروري ذاك وطيش الشباب. 
وفي أحد الأيام وقع بصري عندما خرجت من داري على امرأة لا يظهر منها إلا عيناها، إذ كانت مستورة بثيابها.. فوسوس لي الشيطان وأغراني بها وصار قلبي وكأن ناراً اضطرمت فيه ؛ فسرت وراءها لأكلمها فأعرضت عني، وكلما دنوت منها تجاهلتني.
فاقتربت منها وقلت: ويحك ألا تعرفينني؟.. أنا عتبة الذي يهواني أكثر نساء البصرة، فما لي أكلمك فتعرضين؟..
قالت: ماذا تريد مني؟.. قلت: ضيفيني. 
قالت: ويحك يا رجل !.. كيف عشقتني وتدعي محبتي، وأنا ارتدي ثياباً تستر كل أعضاء بدني؟..
 
63
 

49

الثبات على التوبة

 قلت: عشقت منك هاتين العينين الجميلتين. 
قالت: صدقت لقد كنت غافلة عنهما حقاً، إذاً لا تكف عني وتعال أقضِ حاجتك.. ثم إنها سارت فتبعتها إلى أن دخلت دارها فدخلت وراءها، ولكن لم أجد في دارها أثاثاً ولا متاعاً.. قلت: أليس لك في الدار متاع؟.. 
قالت: نقلنا متاعنا من هذا الدار.. قلت: إلى أين؟.. قالت: ألم تقرأ في القرآن قوله تعالى: 
﴿تِلْكَ الدارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتقِينَ﴾1 
 
لقد نقلنا كل ما لدينا إلى الدار الآخرة وهي دار الخلود، أما هذه الدنيا فزائلة.. فاخش ربك أيها الرجل وتب من عملك هذا، وإياك أن تبيع الجنة الباقية بالدنيا الفانية، والحور بالنساء. 
 
قلت: دعكِ من هذا الكلام واقضي حاجتي. 
نصحتني المرأة كثيراً ولكن لم تجد عندي أذناً صاغية.. فقالت لي: هل علي أن أقضي حاجتك إذا لم تدع عنك هذا؟.. قلت: نعم.. رأيتها دخلت غرفة أخرى وتركتني لحالي، وشاهدت عجوزاً جالسة في تلك الغرفة.. نادت تلك البنت: أن ائتوني بماء لأتوضأ، فجاؤوها بالماء وتوضأت ووقفت تصلي حتى منتصف الليل.. وبقيت أفكر مع نفسي أين أنا؟.. ومن هؤلاء النسوة؟.. ولماذا أطالت علي هكذا؟..
 
إلى أن سمعت صوتها فجأة تنادي: أحضروا لي قطناً وطبقاً.. فأخذت لها العجوز ما أرادت.. بعد دقائق سمعت العجوز صرخت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. وثبت مذعوراً فوجدت أن الفتاة قد قلعت عينيها بالسكين ووضعتهما على قطن في طبق، ولما جاءتني العجوز بالطبق وجدت العينين لا زالتا تتحركان في الشحمة على القطن. 
 
قالت لي العجوز وهي في غاية الارتياع: هذا ما كنت تعشقه خذه لا بارك الله لك فيه، لقد حيرتنا حيرك الله، ووضعت الطبق أمامي فذعرت وجف فمي، ولم أعد قادراً على الكلام، فما هذا الذي فعلته هذه الفتاة؟.. 

2- سورة القصص: الآية: 83.
 
 
64

50

الثبات على التوبة

 قالت العجوز وهي باكية: كنا عشر نساء اعتكفنا في هذه الدار لا نبرحها، وكانت هذه الفتاة هي التي تشتري لنا ما نحتاج إليه.. إلا أنك جلبت علينا الحيرة والألم.. أهذا هو مرادك؟.. خذ هاتين العينين اللتين عشقتهما. وما إن سمعت كلام العجوز حتى أغمي علي ولما استعدت الوعي بقيت تلك الليلة غارقاً في التفكير، وندمت على ما سلف من أعمالي، وقلت: الويل لي لقد كنت أعصي الله طوال عمري ولم أندم على شيء من ذلك، إلا أن هذه الفتاة أدبتني بعملها هذا.. فذهبت إلى داري ووقعت في فراش المرض أربعين يوماً.. فكان ذلك سبباً لندمي وتوبتي.
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
65
 

51

الإقلاع عن الذنوب

 وكان من دعائه عليه السلام:


وَقَدْ قُلْتَ يَا إلهِي فِي مُحْكَمِ كِتابِكَ إنكَ تَقْبَلُ
التوْبَةَ عَنْ عِبَادِكَ وَتَعْفُو عَنِ السيئاتِ وَتُحِب
التوابِينَ، فَاقْبَلْ تَوْبَتِي كَمَا وَعَدْتَ وَاعْفُ عَنْ
سَيئاتِي كَمَا ضَمِنْتَ، وَأَوْجِبْ لِي مَحَبتَكَ كَمَا
شَـرَطْتَ، وَلَـكَ يَـا رَب شَـرْطِي أَلا أَعُودَ
فِي مَكْرُوهِكَ، وَضَمَانِي أَلا أَرْجِعَ فِي مَذْمُومِكَ،
وَعَهْدِي أَنْ أَهْجُرَ جَمِيعَ مَعَاصِيكَ.
 
 
67

52

الإقلاع عن الذنوب

 تمهيد:
 
يتحدث شاب مبتلى بالذنوب ويقول: أعينوني, كيف أترك الذنوب؟ كيف أقدر على ذلك؟ أنا لا أقدر فلو تركتها هل من بديل؟
صرخة من أعماق النفس، صرخة صادقة يصرخها الكثيرون أيضاً من أمثال هذا الشاب المبتلى، فهل لها من جواب؟
هذا ما سنجيب عنه في هذا الدرس بشكل دقيق سائلين الله تعالى أن يوفقنا ويعصمنا إنه خير موفق ومعين.
 
المعرفة أساس العمل
 
إن السؤال الذي سأله الشاب المبتلى بالذنوب هو سؤال طبيعي وصادق جداً, فلو كان الشاب عارفاً بطريقة تركه للذنوب لما اضطر إلى هذا التساؤل, وهذا يقودنا لتسليط الضوء على أهمية المعرفة والثقافة الدينية لدى الإنسان.
 
فالمعرفة هذه أو التي اصطلح عليها بالثقافة في أيامنا لها الدور الأكبر في بناء شخصية الشاب وقيادته لنفسه, وبغياب الثقافة الدينية لا يأمن الشاب من الانحراف, وفي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما استرذل الله تعالى عبداً إلا حُرم العلم"1 .
 
وقد جاءت الروايات الشريفة لتبين لنا بشكل مباشر أن من ثمار العلم التقوى وكل ما يتبعها من صفات حسنة, فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "رأس العلم التواضع... ومن ثمراته التقوى، واجتناب الهوى، واتباع الحق، ومجانبة الذنوب، ومودة الإخوان،

1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،  ج 3   ص 2064.
 
69
 

53

الإقلاع عن الذنوب

 والاستماع من العلماء والقبول منهم، ومن ثمراته ترك الانتقام عند القدرة، واستقباح مقاربة الباطل، واستحسان متابعة الحق، وقول الصدق، والتجافي عن سرور في غفلة، وعن فعل ما يعقب ندامة، والعلم يزيد العاقل عقلاً، ويورث متعلمه صفات حمد، فيجعل الحليم أميراً، وذا المشورة وزيراً، ويقمع الحرص، ويخلع المكر، ويميت البخل، ويجعل مطلق الفحش مأسوراً، ويعيد السداد قريباً"1 .
 
هذا على صعيد الصفات النفسية والدينية, أما على الصعيد الأخروي، فإن مقام العالم وذي المعرفة والثقافة أرفع من مقام المحروم من نعمة العلم, ﴿أَمنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنمَا يَتَذَكرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾2
 
﴿يَرْفَعِ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾3.
 
فلو أن ذلك الشاب المبتلى درس العلم وقرأ كتب تهذيب النفس لما اضطر لتلك الصيحة المدوية, فماذا قال علماء الأخلاق في مسألة ترك الذنوب؟
 
الرقابة الأخلاقية الذاتية
 
 1- المشارطة
  
المشارطة هي أن يعاهد الواحد منا ربه في كل يوم على أن يجعل هذا اليوم عيداً, ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في بعض الأعياد: "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد"4 . وواضح أن ترك ما يخالف أوامر الله تعالى ليوم واحد أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بكل سهولة أن يلتزم به مع قليل من الإرادة والعزم, وإن اختلفت درجات يسره من شخص

1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،  ج 3   ص 2090 .
2- سورة الزمر:الآية: 9.
3- سورة المجادلة: الآية: 11.
4- نهج البلاغة، خطب الإمام علي ، ج 4  رقم 428.
 
70
 

54

الإقلاع عن الذنوب

 لآخر إلا أنه في النهاية أمر يسير, فاعزم وشارط نفسك وجرب، وانظر كيف أن الأمر سهل يسير, فإن الله تعالى إذا رأى من العبد سعياً للتقرب إليه أخذ بيده ويسر له أمره ﴿فَسَنُيَسرُهُ لِلْيُسْرَى﴾1, ولو صور لك الشيطان أن الأمر صعب وعسير فاستعذ بالله منه وقل لنفسك لن أسقط في أول اختبار. حاول أن تكون رجلاً ليوم واحد وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، واعلم علم اليقين أن الله تعالى سيسددك إن نويت ذلك.
 
2- المراقبة
 
بعد المشارطة عليك أن تنتقل إلى "المراقبة"، وهي أن تنتبه طوال اليوم إلى عملك، في كل صغيرة وكبيرة, بل حتى كل حرف تنطق به حاول أن تفكر فيه للحظات فقط, ولن تخسر وقتاً كبيراً لو فكرت لثانيتين قبل القول, وإذا حصل - لا سمح الله - حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، وهذا أمر متوقع الحدوث لأن الشيطان وجنده لن يدعوك تهزمهم بهذه السهولة، فقل للشيطان:"إني اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم - وهو يوم واحد - بأي عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو ولي نعمتي ومالك أمري وإليه مفزعي أستعيذ به منك، فقد أنعم وتلطف علي بالصحة والسلامة ونِعَمٍ لا تُحصى فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا". والمراقبة لا تتعارض مع أي من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة2
 
3- المحاسبة
 
وأما "المحاسبة" فهي عندما تغفو العيون في الليل وتنهي كل أعمالك اليومية لتخلد للراحة, ساعة أو أقل منها، ربما ربع ساعة، لتجري مراجعة صغيرة تحاسب نفسك لترى هل أديت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن ولي نعمتك في هذه المعاملة 

1- سورة الليل: الآية: 7.   
2-الأربعون حديثاً للإمام الخميني قدس سره الحديث الأول بتلخيص وتصرف .
 
71
 

55

الإقلاع عن الذنوب

 الصغيرة؟ وقد رويَ عن أمير المؤمنين عليه السلام: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ووازنوها قبل أن توازنوا، حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها والأخذ من فنائها لبقائها"8 , وعنه عليه السلام: "ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يحاسب فيها نفسه فينظر فيما اكتسب له وعليها، في ليلها ونهارها"1 .
 
فإذا كنت قد وفيت حقاً فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسر لك سبحانه التقدم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، لأن النفس مطواعة لعقل الإنسان كالشمع في يديه.
 
وإذا حدث - لا سمح الله - في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكل شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانية. 
 
لا تترك الخزان فارغاً
 
سيارتك التي تستخدمها في حياتك لا تتركها فارغة؛ خوفاً من أن تحتاج إليها في لحظة قد تكون محطات الوقود فيها مقفلة. وكذا نفسك تحتاج لأن تملأها دوماً بوقودها الخاص وهو الموعظة, لأنها حاجتها الدائمة. هذه الموعظة تجدها في كتب الأخلاق، الإرث الكبير الذي كلف علماءنا الأبرار سنين طويلة, املأ خزان قلبك بقليل من هذا الوقود كل ليلة ولو لعشر دقائق، تصفح كتاباً أخلاقياً, لتجد فيه عالماً يحذرك دوماً من عيوب نفسك ويعظك بذكر الموت وأهواله, ويشير لك إلى الزوايا التي يقبع فيها الشيطان متربصاً للفتك بك.

1- الميرزا  النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، بيروت، لبنان، ج 12 صفحة 153. 
2- م.ن.ج 12 صفحة 154. 
 
72
 

56

الإقلاع عن الذنوب

 المفاهيم الأساس
 
1. المعرفة أساس كل الفضائل, وهي العامل الأهم للحماية من الذنوب.
2. يلزم مشارطة النفس ومراقبتها ومحاسبتها في كل ليلة كعلاج لترك الذنوب.
3. الثقافة الدينية أمر في غاية الأهمية, والمطالعة هي محطة التغذية للنفس.
 
 
73

57

الإقلاع عن الذنوب

 للمطالعة
 
 عاقبة حب الدنيا وبغضها

اعلم أنه لا يبلغ مع العبد عند الموت إلا صفاء القلب، أعني ظهارته عن أدناس الدنيا وحبه لله وأنسه بذكره. وصفاء القلب وطهارته لا يحصل إلا بالكف عن شهوات الدنيا، والحب لا يحصل إلا بالمعرفة. والمعرفة لا تحصل إلا بدوام الفكرة. والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله والمواظبة عليه. وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت، وهي الباقيات الصالحات.

أما طهارة القلب عن أدناس الدنيا، فهي الجنة بين العبد وبين عذاب الله، كما ورد في الخبر: "إن أعمال العبد تناضل عنه، فإذا جاء العذاب من قِبَل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه، وإذا جاء من قبل يديه جاءت الصدقة تدفع عنه...".

وأما الحب والأنس، فهما يوصلان العبد إلى لذة المشاهدة واللقاء. وهذه السعادة تتعجل عقيب الموت إلى أن يدخل الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، وكيف لا يصل صاحب الصفات الثلاث بعد موته غاية البهجة ونهاية اللذة بمشاهدة جمال الحق، ولا يكون القبر عليه روضة من الرياض الخلد، ولم يكن له إلا محبوب واحد، وكانت العوائق تعوقه عن الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله، وبالموت ارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه، فقدم عليه مسروراً سالماً من الموانع آمناً من الفراق؟ وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غُصبت منه وحيل بينه وبينها، وسُدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه؟ وليس الموت عدماً، إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله، فإذن سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث، وهي: الذكر، والفكر، والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها.

( من كتاب محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، الجزء الثاني)
74
 

58

تبعات الذنوب

 وكان من دعائه عليه السلام:
 
اللهُم إنكَ أَعْلَمُ بِمَا عَمِلْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا عَلِمْتَ،
وَاصْرِفْنِي بِقُدْرَتِكَ إلَى مَا أَحْبَبْتَ. اللهُم وَعَلَي
تَبِعَاتٌ قَدْ حَفِظْتُهُن، وَتَبِعَاتٌ قَدْ نَسيتُهُن،
وَكُلهُن بِعَيْنِكَ التِي لاَ تَنَـامُ، وَعِلْمِكَ الذِي لا
يَنْسَى، فَعَوضْ مِنْهَا أَهْلَهَا، وَاحْطُطْ عَني وِزْرَهَا،
وَخَففْ عَني ثِقْلَهَا، وَاعْصِمْنِي مِنْ أَنْ اُقَارِفَ مِثْلَهَا.
 
75
 

59

تبعات الذنوب

 تمهيد:
  
لا ريب أن لكل عمل نقوم به أثراً, وهذا قانون الأسباب في الكون. وإن أهون تصرف من الإنسان له أثر. ويختلف الأثر بقدر سببه. وأعمال الإنسان التي يُسأل عنها أمام الله تعالى لها آثار أيضاً. وهذه الآثار تنقسم إلى قسمين: آثار في الدنيا وآثار في الآخرة, فإذا طالعنا الآيات القرآنية الكريمة وجدناها تفصل هذين الأثرين.
 
 يقول سبحانه وتعالى في وصف المانعين لذكره في المساجد والساعين في خرابها:﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمن منَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلا خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾1 .
 
ويقول في المرتد عن الدين:﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾2 .
وكذلك في الروايات الشريفة, وسنشير إلى بعض هذه الموارد, لنصل بعد ذلك إلى كيفية التوبة من الذنوب والتخلص من تبعاتها الدنيوية والأخروية.
 
الآثار الدنيوية للذنوب
 
قبل الحديث عن الآثار الدينيوية للذنوب من المناسب أن نشير إلى أمرين هامين:
 
1- إن وجود آثار دنيوية للذنوب لا يعني بتاتاً أنه لا يوجد أثر أخروي, بل إن بعض الذنوب لشدتها وشدة مبغوضيتها يعجل الله تعالى بها العذاب في الدنيا، ومن ثم يكون للعذاب تتمة في الآخرة، وقد تكون التتمة الأكبر للعذاب.

1- سورة  البقرة: الآية  114.
2- سورة  البقرة: الآية  217.
 
77
 

60

تبعات الذنوب

 2- إن الله تعالى بكرمه وعطفه عجل عقوبة بعض الذنوب في الدنيا لكي لا يؤخذ به المؤمن في الآخرة, وقد أشارت لهذا المعنى روايات عديدة منها ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إن الله عز وجل إذا كان من أمره أن يكرم عبداً وله ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك له ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل به ذلك شدد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب، قال: وإذا كان من أمره أن يهين عبداً وله عنده حسنة صحح بدنه، فإن لم يفعل به ذلك وسع عليه في رزقه، فإن هو لم يفعل ذلك به هون عليه الموت ليكافيه بتلك الحسنة"1 .
 
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أُخرج عبداً من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه حتى أستوفي منه كل خطيئة عملها، إما بسقم في جسده وإما بضيق في رزقه وإما بخوف في دنياه فإن بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت..."2 .
 
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام في قول الله عز وجل: ﴿وَمَا أَصَابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾3 : ليس من التواء عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم ولا خدش عود إلا بذنب. ولما يعفو الله أكثر، فمن عجل الله عقوبة ذنبه في الدنيا فإن الله أجل وأكرم وأعظم من أن يعود في عقوبته في الآخرة"4 .
ومن الذنوب التي عجل الله تعالى بها العقوبة في الدنيا:
 
1- ترك تأديب الناشئة:
 
أي الشباب الصاعدين فبتركنا تأديبهم بنهيهم له عن الولوج في ما منع الله تعالى عنه نستحق بذلك العقوبة المعجلة، كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: " أيما 

1- المازندراني، مولى محمد صالح، شرح أصول الكافي، ج 10 ص 189.
2- م.ن.
3- سورة الشورى: الآية 30.
4- المازندراني، مولى محمد صالح، شرح أصول الكافي،  ج 10 ص 190.   
 
78
 

61

تبعات الذنوب

 ناشئٍ نشأ في قومه ثم لم يؤدب على معصيته فإن الله عز وجل أول ما يعاقبهم به أن ينقص من أرزاقهم"1 .
 
2- خذلان المؤمن وإذلاله:
 
وهو من أشد العقوبات لأنه يشمل العقوبة المعجلة في الدنيا والمؤجلة للآخرة. ولهجة الأحاديث الشريفة فيه قاسية جداً, فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله عز وجل: ليأذن بحرب مني من أذل عبدي المؤمن وليأمنْ غَضَبِي مَن أكرَم عبدي المؤمن"2 .
 
وأما بخصوص الخذلان فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: "ما من مؤمن يخذل مؤمناً أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة"3 .
 
3- عبادة الطاغوت:
 
وليس المقصود بالعبادة هنا الصلاة والصوم لهم, بل مجرد الركون إليهم والرضا بأفعالهم المنكرة, أو السكوت عنها. وترك فريضة النهي عن المنكر يعجل عقوبة الله تعالى، وهي من العقوبات الشديدة التي أهلك بها الله تعالى أمماً خلت كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "بينا عيسى بن مريم في سياحته إذ مر بقرية فوجد أهلها موتى في الطريق والدور فقال: إن هؤلاء ماتوا بسخطة ولو ماتوا بغيرها تدافنوا، قال: فقال أصحابه: وددنا تعرفنا قصتهم، فقيل له: نادهم يا روح الله، فقال: يا أهل القرية فأجابه مجيب منهم: لبيك يا روح الله قال: ما حالكم وما قصتكم؟ قال: أصبحنا في عافية وبتنا في الهاوية، فقال: ما الهاوية؟ فقال: بحار من نار فيها جبال من النار، قال: وما بلغ بكم ما أرى؟ قال: حب الدنيا وعبادة الطاغوت قال:
 

1- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص 223.
2- م.ن. ص 238.
3- م.ن. ص 238.
 
79
 

62

تبعات الذنوب

 وما بلغ بكم من حب الدنيا؟ قال كحب الصبي لأمه إذا أقبلت فرح وإذا أدبرت حزن، قال: وما بلغ من عبادتكم الطاغوت؟ قال: كانوا إذا أمرونا أطعناهم..."1 .
 
 الآثار الأخروية للذنوب
وتكون الآثار الأخروية إما بحرمان الشفاعة أو العذاب في النار, وشدته بشكل خاص لبعض الذنوب العظيمة، وسنشير إلى بعضها من باب التذكر والموعظة:
 
1-إشاعة الفاحشة:
 
بين المؤمنين بذكر ما يشينهم من أمور أمر الله تعالى بالستر عنها, سواء حصلت هذه الأمور فعلاً أم لم تحصل، فذلك بهتان وافتراء له عقابه الآخر, فعن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام قال: "قلت له جعلت فداك الرجل من إخواني بلغني عنه الشيء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم ثقات, فقال لي: يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك وإن شهد عندك خمسون قسامةً، وقال لك قولاً فصدقه وكذبهم ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال الله عز وجل:﴿الذِينَ يُحِبونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾2 3" .
 
2 – السؤال بغير حاجة:
 
وما دام المرء مكتفياً بالرزق الواصل إليه فلماذا سؤال الناس والطلب منهم؟ فإن ذلك:
 
أولاً: إراقة لماء الوجه, وتضييعٌ لعزة النفس, فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "المسألة طوق المذلة تسلب العزيز عزه والحسيب حسبه"4 .
ثانياً: تسولٌ مضمر وملبس بلباس الخدمة.

1- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال،  ص 254.
2- سورة النور: الآية  19.
3- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص 247.  
4- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 2  ص 1222.
 
80
 

63

تبعات الذنوب

  ثالثاً: ليس من صفات الشيعة المؤمنين الذين قال فيهم الإمام الصادق عليه السلام: "شيعتنا من لا يسأل الناس ولو مات جوعاً"1 .
 
رابعاً: التعرض لسائر المعاصي التي قد تستتبع هذا التصرف وأوله الكذب الذي له من الآثار الأخروية ما يروع له قلب الإنسان ويكفي في ذمه قول الله تعالى: ﴿إِن اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفارٌ﴾2 .
 
فمن استعمل المعاصي في سبيل الطلب بدون حاجة يكون مصداقاً لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من عبد يسأل من غير حاجة فيموت حتى يحوجه الله إليها ويثبت له بها النار"3 .
هل تمحى آثار الذنوب؟
 
بعد أن عرفنا هذا القدر من العقوبات الدنيوية والأخروية, فهل من سبيل للخلاص من هذه التبعات والآثار؟
نعم التوبة النصوح تمحو الآثار، ولكن ذلك يحتاج لتفصيل سنفصله في الدرس الآتي إن شاء الله تعالى.
 

1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 2  ص 1222.   
2- سورة الزمر:الآية3.
3- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص 276.
 
81
 

64

تبعات الذنوب

 المفاهيم الأساس
 
1. للذنوب تبعات دنيوية وأخروية
2. من الذنوب التي لها تبعات دنيوية: ترك تأديب الناشئة, خذلان المؤمن وإذلاله, عبادة الطاغوت.
3. من الذنوب التي لها عقوبات أخروية إشاعة الفاحشة, السؤال لغير حاجة.
 
 
82

65

تبعات الذنوب

 للمطالعة
 
 دخل معاذ بن جبل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باكياً، فسلم فرد عليه السلام ثم قال: ما يبكيك يا معاذ؟!.. فقال: يا رسول الله، إن بالباب شاباً طري الجسد، نقي اللون، حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك.. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أدخل علي الشاب يا معاذ... فأدخله عليه فسلم فرد عليه السلام، ثم قال: ما يبكيك يا شاب؟.. قال: وكيف لا أبكي، وقد ركبت ذنوباً إن أخذني الله عز وجل ببعضها أدخلني نار جهنم؟.. ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً.
 
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل أشركت بالله شيئاً؟..
قال: أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئاً.
قال: أقتلت النفس التي حرم الله؟.. قال: لا.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله ذنوبك، وإن كانت مثل الجبال الرواسي.
فقال الشاب: فإنها أعظم من الجبال الرواسي.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.
قال: فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق. 
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يغفر الله ذنوبك، وإن كانت مثل السماوات ونجومها، ومثل العرش والكرسي. 
قال: فإنها أعظم من ذلك.
قال: فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كهيئة الغضبان ثم قال: ويحك يا شاب !.. ذنوبك أعظم أم ربك؟..
فخر الشاب لوجهه وهو يقول: سبحان ربي !.. ما شيء أعظم من ربي، ربي أعظم يا نبي الله من كل عظيم.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهل يغفر الذنب العظيم إلا الرب العظيم؟..
قال الشاب: لا والله يا رسول الله.
ثم سكت الشاب.. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك يا شاب!.. ألا تخبرني بذنب واحد من
 
83
 

66

تبعات الذنوب

  ذنوبك؟..
قال: بلى أخبرك؛ إني كنت أنبش القبور سبع سنين، أُخرج الأموات، أنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلما حُملت إلى قبرها ودُفنت، وانصرف عنها أهلها، وجن عليهم الليل، أتيت قبرها فنبشتها ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجردة على شفير قبرها، ومضيت منصرفاً، فأتاني الشيطان فأقبل يُزينها لي، ويقول: أما ترى بطنها وبياضها، أما ترى وركيها؟.. فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها، ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها.. فإذا بصوت من ورائي يقول: يا شاب ويلك من ديان يوم الدين !.. يوم يقفني وإياك كما تركتني عريانة في عسكر الموتى، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني، وتركتني أقوم جنبة إلى حسابي، فويل لشبابك من النار !.. فما أظن أني أشم ريح الجنة أبداً. فما ترى يا رسول الله؟.. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تنح عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار !..

ثم لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليه ويقول حتى أمعن من بين يديه.. فذهب فأتى المدينة فتزود منها، ثم أتى بعض جبالها فتعبد فيها، ولبس مسحاً، وغل يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى:

يا رب !.. هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول.
يا رب !.. أنت الذي تعرفني، وزل مني ما تعلم يا سيدي !..
يا رب !.. أصبحت من النادمين.

ولم يزل على هذا الحال يدعو ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي، فأوح إلى نبيك، وإن لم تستجب دعائي ولم تغفر لي خطيئتي، وازددت عقوبتي، فعجل بنار تحرقني عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلصني من فضيحة يوم القيامة.. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه: ﴿وَالذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾. خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لأصحابه: من يدلني على ذلك الشاب؟.. فقال معاذ: بلغنا يا رسول الله أنه في موضع كذا وكذا.. فمضى رسول الله بأصحابه حتى انتهوا إليه، فإذا به يبكي وقد اسود وجهه وتساقطت أشفار عينيه.. فدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأطلق يديه من عنقه، وقال: يا بهلول!.. أبشر فإنك عتيق الله من النار، ثم قال لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول.
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
84
 

67

كيف نزيل آثار الذنوب؟

وكان من دعائه عليه السلام:

اللهُم أَيما عَبْد تَابَ إلَيْكَ وَهُوَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ
عِنْدَكَ فَاسِخٌ لِتَوْبَتِهِ وَعَائِدٌ فِي ذَنْبِهِ وَخَطِيئَتِهِ
فَإني أَعُوذُ بِكَ أنْ أَكُوْنَ كَذلِكَ، فَاجْعَلْ تَوْبَتِي
هَذِهِ تَوْبَةً لا أَحْتَاجُ بَعْدَهَا إلَى تَوْبَة، تَوْبَةً مُوجِبَة
ً لِمَحْوِ مَا سَلَفَ، وَالسلاَمَةِ فِيمَـا بَقِيَ.
 
85
 

68

كيف نزيل آثار الذنوب؟

 تمهيد:
 
أن يعود السارق لمن سُرق ماله ليقول له سامحني، ويدير ظهره ولا يُرجع له ما سرق منه تصرف لا يقبله أي منا, بل يناقض كل الأعراف, فعلى السارق إن ندم أن يعيد ما سرق. 
وكذا المسألة في التوبة, فصحيح أن التوبة كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "التوبة تجب ما قبلها"1 , وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"2 ، إلا أن بعض الذنوب ليس من هذا القبيل، فليس قول المرء (أستغفر الله تعالى) ماحٍ لكل الذنوب, فكيف نعالج هذه المسألة؟
 
الذنوب نوعان:
 
1 - الذنوب التي هي من حق الله تعالى أن يستغفره المرء عليها, ومثال هذا ترك الواجبات العبادية, كالصلاة والصوم, فهذه الذنوب لا يستطيع أي من العباد أن يطالب العاصي بها, لأنها لله تعالى. هذا النوع من الذنوب يكتفي فيه العبد بالأمور التالية:
أ- الاعتراف بالذنب.
ب- الندم.
ج - العزم على عدم العودة وهو الثبات الذي مر معنا.
د - قضاء ما فات من الصلوات والصوم.

1- الميرزا  النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، بيروت، لبنان، ج12 ص129.   
2- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،  الحديث 2117.
 
87
 

69

كيف نزيل آثار الذنوب؟

 والله تعالى حينها إن علم صدق التائب في توبته يقبلها منه برحمته، فعن الإمام علي عليه السلام: "التوبة تستنزل الرحمة"1 .
 
2 - الذنوب التي تتضمن حق الله وحق الناس, أما حق الله تعالى فقد تقدم, وأما حق الناس فعلى التائب أن يصلح ما بينه وبينهم. ومثال الذنوب المشتركة الغيبة, فهي من الكبائر وفي نفس الوقت تتعلق بذِمم الناس وكرامتهم, وكذا السرقة, وإيذاء المؤمن, ومال السحت الذي قال الفقهاء إنه بحكم مجهول المالك، فعليه أن يرجعه للولي الفقيه للتصرف فيه, فقد جاء في الرواية عن علي بن أبي حمزة قال: "كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي عند أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت له عليه فأذن له فلما أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه. فقال أبو عبد الله عليه السلام: لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم، قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: إن قلت لك تفعل؟ قال: أفعل، قال له: فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدقت به. وأنا أضمن لك على الله عز وجل الجنة، قال: فأطرق الفتى رأسه طويلاً ثم قال: قد فعلت جعلت فداك، قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه حتى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة قال: فما أتى عليه إلا أشهر قلائل حتى مرض فكنا نعوده قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السوق قال: ففتح عينيه ثم قال لي: يا علي وفى لي والله صاحبك، قال ثم مات فتولينا أمره فخرجت حتى دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فلما نظر إلي قال: يا علي وفينا والله لصاحبك، قال: فقلت: صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته"2 .

1- الميرزا  النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، بيروت، لبنان، ج12 ص129.
2- الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الخامسة،   ج5 ص 106. 
 
88
 

70

كيف نزيل آثار الذنوب؟

 نوعا التوبة
 
وكما أن للاعتذار من الصديق أساليب تتناسب مع الخطأ الذي ارتُكب بحقه, فإن الأمر كذلك مع الله تعالى. لهذا قُسمت التوبة إلى:
 
1- توبة العلن:
 
وهي التي تستدعي أن يعلن الإنسان توبته أمام الخلائق جميعاً, وتكون من الذنوب التي جاهر بها في حياته كشرب الخمر علناً والعياذ بالله تعالى .
 
2- توبة السر:
 
من الذنوب التي فعلها الإنسان بينه وبين ربه, كالنظر الحرام, وظن السوء, وسائر المحرمات, وقد جاء في الحديث عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:أحدث لكل ذنبٍ توبة: "السر بالسر والعلانية بالعلانية"1 .
 
أيها التائب العائد 
 
إنك برجوعك إلى الله تعالى مشرف على مرحلة جديدة, ومستعد للدخول في مصاف أهل الورع. ولكي تزداد حماستك وأنت مسرعٌ إليهم أنصت لما قيل في الورع:"الورع والتقوى عن الحرام أعظم المنجيات، وعمدة ما ينال به إلى السعادات ورفع الدرجات". قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير دينكم الورع". وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من لقي الله سبحانه ورعاً، أعطاه الله ثواب الإسلام كله". وفي بعض الكتب السماوية: "وأما الورعون، فإني أستحيي أن أحاسبهم". وقال الباقر عليه السلام: "إن أشد العبادة الورع". وقال عليه السلام: "ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، فاتقوا الله وأعملوا لما عند الله. ليس بين الله وبين أحد قرابة. أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أبقاهم وأعملهم بطاعته". وقال الصادق عليه السلام: "أوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم أنه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه".

1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة، ج 77 ص 137.
 
89
 

71

كيف نزيل آثار الذنوب؟

 وقال عليه السلام: "اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع". وقال عليه السلام: "عليكم بالورع، فإنه لا يُنال ما عند الله إلا بالورع". وقال عليه السلام: "إن الله ضمن لمن اتقاه أن يحوله عما يكره إلى ما يحب، ويرزقه من حيث لا يحتسب". وقال عليه السلام: "إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى". وقال عليه السلام: "ما نقل الله عبداً من ذل المعاصي إلى عز التقوى، إلا أغناه من غير مال، وأعزه من غير عشيرة، وآنسه من غير بشر".
 
 وقال عليه السلام: "إنما أصحابي من اشتد ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه: هؤلاء أصحابي". وقال عليه السلام: "ألا وإن من أتباع أمرنا وإرادته الورع، فتزينوا به يرحمكم الله، وكيدوا أعداءنا به ينعشكم الله". وقال عليه السلام: "أعينونا بالورع، قال من لقي الله تعالى منكم بالورع، كان له عند الله فرجاً. إن الله عز وجل يقول: ﴿وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم منَ النبِيينَ وَالصديقِينَ وَالشهَدَاء وَالصالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾1 2 " .
 
أفلا يجدر بنا الحماس للدخول في عداد أهل الورع؟!

1- سورة النساء: الآية 69.
2- محمد مهدي النراقي، جامع السعادات،  ج 2 ص 135.
 
90
 

72

كيف نزيل آثار الذنوب؟

المفاهيم الأساس
 
1. الذنوب نوعان نوع فيه حق الله تعالى, ونوع فيه حق الله وحق الناس.
2. لكل نوع من الذنوب طريقته الخاصة.
3. هناك نوعان من سورة التوبة: الآية توبة السر وتوبة العلن.
4. بعد محو آثار الذنوب والعزم على عدم العود يستعد الإنسان ليكون في مصاف أهل الورع.
 
91
 

73

كيف نزيل آثار الذنوب؟

 للمطالعة
 
نقل نجيب الدين، وكان من أكابر علماء عصره، يقول: كنت ذات ليلة في مقبرة، فرأيت أربعة أشخاص قادمين يحملون جنازة.. فتقدمت إليهم وأنكرت عليهم جلب الجنازة في هذا الوقت من الليل، وقلت: يبدو لي من فعلكم أنكم قتلتم إنساناً وتريدون دفنه في منتصف الليل، لكي لا يطلع أحد على أسراركم.
 
قالوا: لا تسئ الظن يا رجل، لأن أم الفتى معنا. فتقدمت إلي عجوز كانت معهم، سألتها: لماذا جئت بابنك إلى المقبرة في منتصف الليل؟.. 

قالت: كان ابني فاعلاً للمعاصي، وقبل أن يموت أوصى بعدة وصايا، منها: إذا مت ضعي في رقبتي حبلاً، واسحبيني إلى الدار وقولي: هذا عبدك العاصي الهارب وقع في قبضة الموت، وقد أحكمت وثاقه وجئتك به، فارحمه.. وأوصى إذا مات أن أدفنه ليلاً، لكي لا يرى جنازته أحد ويتذكر معاصيه فيتعذب.. وثالثاً: أن تدفنينني بنفسك وتضعيني في لحدي، لعل الله إذا رأى شيبك يرأف بي ويغفر لي.. صحيح أنني تبت وندمت على أفعالي ولكن عليك تنفيذ هذه الوصايا. 

ولما مات وضعت حبلاً في رقبته وسحبته، وبغتة سمعت هاتفاً يقول: ألا إن أولياء الله هم الفائزون لا تفعلي هذا بعبدي العاصي، فإنا نعلم ما نصنع به. 

فرحت لقبول توبته وجئت به إلى المقبرة. وطلبت منها أن تسمح لي بدفنه، فوافقت، وما إن وضعته في قبره ولحدته حتى سمعت منادياً يقول:"ألا إن أولياء الله هم الفائزون". 
ففهمت أن توبة العاصي تُقبل، وأن الله لا يرضى إهانة العاصي التائب. 

قال الشاعر: 

يا ليت شعري ما ادخرتَ      ليوم بؤسك وافتقارك
فلتنزلن بمنزل                    تحتاج فيه إلى ادخارك
 
 
92

74

كيف نزيل آثار الذنوب؟

 أفنيتَ عمرك باغترارك            ومناك فيه بانتظارك
ونسيتَ ما لابد منه              وكان أولى بادكارك 
ولو اعتبرت بما ترى              لكفاك علماً باعتبارك
لك ساعة تأتيك من              ساعات ليلك أو نهارك
فتصير محتضراً بها                  فتهي من قبلِ احتضارك
من قبل أن تُقلى وتُقصى          ثم تخرج من ديارك
من قبل أن يتثاقل                 الزوار عنك وعن مزارك
من كتاب (هكذا تاب التائبون)
 
93
 

75

الشفاعة والتوبة

 وكان من دعائه عليه السلام:
 
اللهُم لاَ خَفِيرَ لِي مِنْكَ فَلْيَخْفُرْنِيْ عِزكَ، وَلا شَفِيعَ
لِيْ إلَيْكَ فَلْيَشْفَعْ لِي فَضْلُكَ، وَقَدْ أَوْجَلَتْنِي خَطَايَايَ
فَلْيُؤْمِني عَفْوُكَ، فَمَا كُل مَا نَطَقْتُ بِهِ عَنْ جَهْل مِني
بِسُوْءِ أَثَرِي، وَلاَ نِسيَان لِمَا سَبَقَ مِنْ ذَمِيمِ فِعْلِي، وَلكِنْ
لِتَسْمَعَ سَمَاؤُكَ وَمَنْ فِيْهَـا، وَأَرْضُكَ وَمَنْ عَلَيْهَا مَا
أَظْهَرْتُ لَكَ مِنَ الندَمِ، وَلَجَـأتُ إلَيْكَ فِيـهِ مِنَ
التوْبَـةِ،فَلَعَـل بَعْضَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَرْحَمُنِي لِسُوءِ مَوْقِفِي،
أَوْ تُدْرِكُهُ الرقةُ عَلَى لِسُوءِ حَالِي فَيَنَالَنِي مِنْهُ بِدَعْوَة أَسْمَعُ
لَدَيْكَ مِنْ دُعَائِي، أَوْ شَفَاعَـة أَوْكَدُ عِنْدَكَ مِنْ شَفَاعَتِي
تَكُونُ بِهَا نَجَاتِي مِنْ غَضَبِكَ وَفَوْزَتِي بِرضَاكَ.
 
95
 

76

الشفاعة والتوبة

 تمهيد:
 
يقول الله تعالى في محكم آياته:﴿إِن رَبكُمُ اللهُ الذِي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتةِ أَيامٍ ثُم اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكرُونَ﴾1 .
 
ويقول في آية أخرى﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾2 
 
الشفاعة كلمة وإن لم تُستعمل في مفردات حياتنا اليومية، إلا أنها تُستعمل بعبارات أخرى, وتُمارس عملياً, يسميها بعضهم الواسطة, والآخر الوسيط, هي توسط بين طرفين إما لحل خلاف أو قبول في عمل, أو تيسير أمر.
 
والشفاعة فيما نحن في صدده هي أن يكون الرسول وأهل البيت عليهم السلام ومن يحق لهم الشفاعة بإذن الله تعالى وسطاء بيننا وبين الله تعالى، فبمنزلتهم لديه وقربهم منه يُنجح الله طلبتنا ويشفع لنا ما استغفرنا منه.
 
وفي دعاء التوبة فقرات تشير إلى هذا المعنى " وَلا شَفِيعَ لِيْ إلَيْكَ فَلْيَشْفَعْ لِي فَضْلُكَ ", " أَوْ شَفَاعَـة أَوْكَدُ عِنْدَكَ مِنْ شَفَاعَتِي تَكُونُ بِهَا نَجَاتِي مِنْ غَضَبِكَ وَفَوْزَتِي بِرضَاكَ ".
فما الرابط بين الشفاعة والتوبة؟ وما معنى الشفاعة؟ هذا ما سنتحدث عنه في هذا الدرس.

1- سورة يونس: الآية: 3. 
2- سورة طـه: الآية: 109.
 
97
 

77

الشفاعة والتوبة

 ما المقصود بالشفاعة؟
 
الشفاعة هي توسط بين العبد والله من خلال الأنبياء والشفعاء الذين أذن الله تعالى لهم بمقدار من الشفاعة. وقد أقرتها الشريعة الإسلامية في كتاب الله تعالى بما مر من آيات, كما أقرتها الروايات الكثيرة جداً منها ما روي عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لأشفعن يوم القيامة لمن كان في قلبه جناح بعوضة إيمان"1 .
 
وعنه في رواية أخرى: "يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً"2 .
 
ويوم القيامة تشفع الأنبياء عليهم السلام لمن آمن بهم فيكفر عن سيئاتهم, وأما أتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحينما يصل إليهم الدور يشفع لمن كان منهم أهلاً لذلك. وذلك المقام يسمى بالمقام المحمود كما جاء في الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان، اشفع، يا فلان، اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود"3 .
 
بين الشفاعة والتوسل
 
يشترك معنى الشفاعة بالتوسل فيما يختص بالتوبة, فبالتشفع والتوسل إلى الله تعالى بنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام يحمل الدعاء رصيداً كبيراً. وهذا ما حاول تعليمنا إياه أهل البيت في الكثير من أدعيتهم من خلال التشفع برسول الله وأهل بيته عليهم صلوات الله جميعاً. وفي دعاء التوبة الذي بين أيدينا فقرتان تشيران إلى معنى الشفاعة والتوسل.
 
أما الفقرة الأولى: "فَلَعَـل بَعْضَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَرْحَمُنِي لِسُوءِ مَوْقِفِي، أَوْ تُدْرِكُهُ الرقةُ عَلَي لِسُوءِ حَالِي فَيَنَالَنِي مِنْهُ بِدَعْوَة أَسْمَعُ لَدَيْكَ مِنْ دُعَائِي، أَوْ شَفَاعَـة أَوْكَدُ عِنْدَكَ مِنْ شَفَاعَتِي تَكُونُ بِهَا نَجَاتِي مِنْ غَضَبِكَ وَفَوْزَتِي بِرضَاكَ". فتشير بشكل واضح إلى هذا المعنى, وكأن العبد يقول لربه إذا لم يكن لساني الذي لهج بالمعاصي أهلاً 

1- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،  ج 2   ص 1471.
2- م.ن.
3- المتقي الهندي، الوفاة: 975، كنز العمال، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ج 14  ص 39.
 
98
 

78

الشفاعة والتوبة

 لخطابك وطلب التوبة منك, وكانت أعمالي حجبت نور رحمتك وعفوك عن أن ينالني, فإني سأعلن توبتي على أهل السماوات والأرض, ليستمعوا إلى ندمي وإقراري وتوبتي, فلعل بعضهم يرق له حالي, فيدعو الله لي بلسان لم يعصك به, أو كان ذا مكان وشأن لديك فينالني العفو ببركة دعائه, وما هذا إلا لأن دعاء الرسول دعاء مستجاب، ودعوته مقبولة، واستغاثته مستجابة، لأنه نابع من نفس طاهرة مؤمنة راضية مرضية.
 
إن التوسل بدعاء الإنسان الأمثل كان رائجاً في الرسالات السابقة، فنرى أن أبناء يعقوب بعدما كُشِفَ أمرهم وبان ظلمهم توسلوا بدعاء أبيهم النبي وقالوا له: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنا كُنا خَاطِئِينَ﴾1.
 
وقد كان هذا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فعن عثمان بن حنيف أنه قال: "إن رجلاً ضريراً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أُدعُ الله أن يعافيني فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ وهو خير. قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيُحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتُقضى، اللهم شفعه في. قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضر قط"2 .
 
أيها التائب 
 
إنك لست أعز من أنبياء الله عليهم السلام الذين استشفعوا إلى الله تعالى بنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, فهذا نبينا آدم أبو البشر قال في دعائه: "ربي أسألك بحق محمد لما غفرتَ لي، فقال الله عز وجل: يا آدم، كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: لأنك يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تُضِفْ إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك...."3 

1- سورة يوسف: الآية: 97.
2- الترمذي، الصحيح كتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3578.
3- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، ج5  ص 489  ط دار الكتب العلمية بيروت.
 
99
 

79

الشفاعة والتوبة

 شفعاء آخرون
 
1- شفاعة العمل: فتوسل إلى الله تعالى بهم ليقبل بدعائهم تقربك منه, ولكن تنبه إلى أمر مهم جداً, وهو أن أهم شفيع لديك هو عملك, 

هل تعرف كيف ذلك؟
إنك ستتوب وسيقبل الله توبتك لأنه وعد بقبولها, ولكن لا تقع في الذنب مرة أخرى, لأن حياتك ليست في يديك, وقد يدركك الموت وأنت 

من أهل الذنوب, وحينها ستحتاج إلى الشفاعة, فماذا لو لم تكن من أهل الشفاعة؟
 
لماذا لا تكون كالذين قال فيهم الإمام الصادق عليه السلام: "إذا كان يوم القيامة نشفع في المذنبين من شيعتنا، فأما المحسنون فقد نجاهم الله"1 

، يعني الذين هم في غنى عن الوصول لانتظار الشفاعة. إن عملك الحسن هو أشفع شيء لديك.
 
زيادة على ذلك أنت أيها التائب يمكن أن تكون شافعاً يوم القيامة لكثير من المذنبين, نعم بإمكانك ذلك إن كنت من :
 
2- المؤمنين الصديقين: فإن لهم شفاعة عند الله تعالى لسائر المؤمنين، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشهيد يغفر له في أول كل دفقة من دمه، ويزوج حوراوين ويشفع في سبعين من أهل بيته"2 .
 
وعنه عليه السلام عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾3 قال: "الشافعون الأئمة، والصديق من المؤمنين"4
 
3- الشهداء: فإنهم من أهل الشفاعة الذين أذن الله تعالى بشفاعتهم في سائر المؤمنين, فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشهيد يغفر له في أول كل دفقةٍ من دمه، ويزوج حوراوين ويشفع في سبعين من أهل بيته"5 .

1- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 2، ص 1474.
2- شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء  مركز المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم  ص 19
3- سورة الشعراء: الآيتان: 100-101.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة، ج 8   ص 42.
5- شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء  مركز المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم ص 19.
 
100
 

80

الشفاعة والتوبة

 المفاهيم الأساس
 

1. الشفاعة توسيط شخص في طلب أمر من طرف ثانٍ, وفي الدعاء توسيط النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام في الدعاء لنا لقبول التوبة.
2.يشفع النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته يوم القيامة لبعض الناس بإذن الله تعالى لهم.
3. الأفضل للإنسان أن يسعى ليكون من الشافعين لا المشفوع لهم يوم القيامة.
 
101
 

81

الشفاعة والتوبة

 للمطالعة
 
أقسام التائبين: 

التائبون بين من سكنت نفسه عن الشروع إلى الذنوب فلا يحوم حولها، وبين من بقي في نفسه الشروع إليها والرغبة فيها وهو يجاهدها ويمنعها. والأول بين من سكونه النزوع وبطلانه فيه لأجل قوة اليقين وصدق المجاهدة، ومن سكونه وانقطاعه بفتور في نفس الشهوة فقط. والأول من الأول أفضل من الثاني، والثاني منه أدون من الثاني، والوجه ظاهر.

 وأيضا التائبون بين من نسي الذنب من دون اشتغال بالتفكر فيه، وبين من جعله نصب عينيه ولا يزال يتفكر فيه ويحترق ندماً عليه. ولا ريب في أن التذكر والاحتراق بالنظر إلى المبتدي ومن يخاف عليه العود أفضل، لأنه يصده عنه، والنسيان بالنظر إلى المنتهي السالك والواصل إلى مرتبة الحب والأنس الواثق من نفسه أنه لا يعود أفضل، لأنه شغل مانع عن سلوك الطريق، وحاجب من الحضور بلا فائدة ولا ينافيه بكاء الأنبياء عليهم السلام وتناجيهم من الذنوب، لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بالأمة، فإنهم بُعثوا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع الأمة بمشاهدته، وأن كان نازلاً عن ذروة مقامهم.

 ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أما إني لا أنسى، ولكن أنسى لأشرع". ولا تعجب من هذا، فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء عليهم السلام كالصبيان في كنف شفقة الآباء، وكالمواشي في كنف الرعاة. والأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصغير ينزل إلى درجة نطق الصبي، والراعي لشاة أو طائر يصوت به رغاء أو صفيراً شبيهاً بالبهيمة والطائر تلطفاً في تعليمه. 

مراتب التوبة: اعلم أن التائب إما يتوب عن المعاصي كلها ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره، فيتدارك ما فرط، ولا يعود إلى ذنوبه، ولا يصدر عنه معصية إلا الزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين، وهذه التوبة النصوح، والنفس التي صاحبها هي النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية، أو يتوب عن كبائر المعاصي والفواحش ويستقيم على أمهات الطاعات، إلا أنه ليس ينفك عن ذنوب تصدر عنه في مجاري أحواله غفلة وسهوة وهفوة، لا عن
 
102
 

82

الشفاعة والتوبة

 محض العمد وتجريد القصد، وإذا أقدم على ذنب لام نفسه وندم وتأسف، وجدد عزمه على ألا يعود إلى مثله، ويتشمر للاحتراز عن أسبابه التي تؤدي إليه. والنفس التي هذه مرتبتها هي النفس اللوامة التي خيرها يغلب على شرها، فولها حسن الوعد من الله تعالى بقوله: ﴿الذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللمَمَ إِن رَبكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ وإلى مثلها الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "خياركم كل مفتن تواب".
جامع السعادات، العلامة النراقي، ج 3 ص، 64و65
 
103
 
 

83

قبول التوبة

وكان من دعائه عليه السلام:


اللهُم إنْ يَكُنِ الندَمُ تَوْبَةً إلَيْكَ فَأَنَا أَنْدَمُ اْلنادِمِينَ،

وَإنْ يَكُنِ الترْكُ لِمَعْصِيَتِكَ إنَابَةً فَأَنَا أَولُ الْمُنِيبينَ،

وَإنْ يَكُنِ الاسْتِغْفَارُ حِطةً لِلذنُوبِ فَإنَي لَكَ مِنَ

الْمُسْتَغْفِرِينَ. اللهُم فَكَمَا أَمَرْتَ بِالتوْبَةِ وَضَمِنْتَ

الْقَبُولَ وَحَثَثْتَ عَلَى الدعَـاءِ وَوَعَدْتَ الإجَابَةَ،

فَصَل عَلَى مُحَمدِ وَآلِهِ وَاقْبَلْ تَوْبَتِي وَلاَ تَرْجِعْني

مَرجَعَ الغَيبَةِ منْ رَحْمَتِك إنكَ أَنْتَ التوابُ عَلَى

الْمُذْنِبِينَ، وَالرحِيمُ لِلْخَاطِئِينَ الْمُنِيبِينَ.

 

105

 

84

قبول التوبة

 تمهيد:
 
وعد الله تعالى بقبول التوبة من التائب إليه والعائد من دار الذنوب إلى دار الطاعة والرضى, ولكن سؤالاً قد يطرأ على الذهن: ما معنى أن الله تعالى يقبل التوبة؟
فهل تمحى كل الآثار, أو يبقى شيء منها؟ وهل قبول الله تعالى للتوبة يعني أنه رضي عمن تاب إليه، أو مجرد قبول لأنه وعد بقبولها بدون الرضى الحقيقي؟
هذه الأسئلة سنجيب عنها في هذا الدرس، سائلين الله تعالى أن يجعلنا من المقبولين عنده والمحظوظين بألطافه.
 
الوعد القرآني
 
يقول الله تعالى في محكم قرآنه:﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَن اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدَقَاتِ وَأَن اللهَ هُوَ التوابُ الرحِيمُ﴾1 .
 
وفي آية أخرى:﴿غَافِرِ الذنبِ وَقَابِلِ التوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطوْلِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾2 .
 
وفي آية ثالثة:﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُم يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رحِيمًا﴾3 .
 
فالله تعالى يقبل التوبة, وحينما يقبلها برحمته فلا بد أن العفو هو عفوٌ نهائي يمحو ما سبقه من آثار المعصية, بشرط تحقيق الشروط التي مرت معنا سابقاً.

1- سورة التوبة: الآية  104.
2- سورة غافر: الآية 3.
3- سورة النساء: الآية 110.
 
107
 

85

قبول التوبة

 وفي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:"إن الله تعالى يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، وبسط اليد كناية عن طلب التوبة، وطالب التوبة يقبله البتة"1 .
 
بل حتى مع تكرر المعصية من الإنسان المؤمن, فكلما يتوب ويحقق شرط التوبة فإن الله سيقبل توبته بما كتب على نفسه من الرحمة بالمؤمنين, وفي الرواية أن الإمام الباقر عليه السلام قال لمحمد بن مسلم: "ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان"، فقال له: فإن عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب، وعاد في التوبة؟ قال عليه السلام: "يا محمد بن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته!؟"، قال: فإنه فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب ويستغفر، فقال: "كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة، وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمن من رحمة الله"2 .
 
لماذا يقبل الله التوبة؟
 
ذكر علماء الأخلاق رضوان الله عليهم تفسيرات عديدة وتعليلات لقبول الله تعالى للتوبة، مع تسليمهم بأن الأمر لا يحتاج إلى كثير من البيان لوضوحه, يقول العلامة النراقي قدس سره في جامع السعادات: "ثم الناظر بنور البصيرة لا يحتاج في هذا المعنى إلى بيان، إذ يعلم أن التوبة توجب سلامة القلب، وكل قلبٍ سليم مقبولٌ عند الله ومتنعم في الآخرة في جوار الله، ويعلم أن القلب خُلق في الأصل سليماً صافياً، إذ كل مولود يولد على الفطرة، وإنما مرِضَ واسود بِأمراض الذنوب وظلماتها ودواء التوبة يزيل هذه الأمراض، ونور الحسنات يمحو هذه الظلمات، ولا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات، كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار، ولكدورة الوسخ

1- محمد مهدي النراقي، جامع السعادات،  ج 3 ص 52.
2- م.ن.  ج 3 ص 53.
 
108
 

86

قبول التوبة

 مع بيان الصابون والماء الحار. نعم إذا تراكمت الذنوب بحيث صارت ريناً وطبعاً، وأفسدت القلب بحيث لا يقبل الصفاء والنورانية بعد ذلك، مثل هذا القلب لا تفيده التوبة، بمعنى أنه لا يرجع ولا يتوب، وإن قال باللسان تبت، إذ أوساخ الذنوب غاصت في تجاويفه وتراكمت فيه بحيث لا يقبل التطهير، ولو بولغ فيه أدى إلى انخراق القلب وهلاكه، لصيرورة الأوساخ جزءاً من جوهره، كما أن الثوب الذي غاص الوسخ في تجاويفه وخلله وتراكم فيه، لو بولغ في تطهيره بالماء والصابون أدى ذلك إلى انخراقه. وهذا حال أكثر الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله، فإنهم لا يرجعون ولا يتوبون، لصيرورة ذمائم الأخلاق ورذائلها ملكات راسخة في نفوسهم وغاصت أوساخها في تجاويف قلوبهم، بحيث لا يتنبهون ولا يتيقظون حتى يقصدوا التوبة، ولو قصدوها فإنما هو بمجرد اللسان، والقلب غافلٌ خالٍ عن الإيمان، بل تتعذر عليه التوبة لبطلان حقيقتها"1 .
 
من لا تقبل توبتهم
 
ليس غريباً أن بعض الناس يصل لمقام لا تقبل منهم التوبة, وسنذكر بعض النماذج من هؤلاء مع محاولة فهم السبب الذي أودى بهم لهذه الحالة.
 
المرتدون:
 
الذين قال الله تعالى فيهم:﴿إِن الذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُم ازْدَادُواْ كُفْرًا لن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضآلونَ﴾2 . ولعل ذلك لأنه لا يوجد تفريط بنعمة كنعمة الهداية إلى الإيمان, فكون المرء مولوداً في مجتمع كافر ولم يسعَ بكل جهده ليرى الحقيقة أسهل بكثير ممن هداه الله تعالى, ومن ثم انتقل إلى الكفر. وهذا لعله من أشد أنواع الجحود والكفران.

1- محمد مهدي النراقي، جامع السعادات،  ج 3 ص54، 55.
2- سورة آل عمران: الآية 90.
 
109
 

87

قبول التوبة

 المنكرون للحق:
 
وهم في غالب الأحيان من الذين يصاحبون السلاطين فيكتمون الحق خوفاً على مصالحهم, ويرضون بأفعال السلاطين مع علمهم بقبيح فعالهم, هؤلاء الذين يعرفون الحق فيكتمونه قال فيهم الله تعالى:﴿إِن الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النارَ وَلاَ يُكَلمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الذِينَ اشْتَرَوُاْ الضلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النارِ﴾1 .
 
وهذا الصنف من الناس كما تقول الآية هو الذي اشترى العذاب بنفسه وأبعد نفسه عن نيل المغفرة بجرمه, مع علمه بأن عاقبة الأمر النار.
وبالإجمال، كل من يصر على المعاصي ويهجر التوبة عامداً متجرئاً على الله تعالى فلن يغفر الله تعالى له؛ لأنه اختار بنفسه أن لا يكون من أهل المغفرة.

1- سورة البقرة: الآيتان 174، 175.
 
110
 

88

قبول التوبة

 المفاهيم الاساس
 

1. إن قبول التوبة ومحو آثار المعاصي وعد قرآني.
2. ذكر علماء الأخلاق عللاً كثيرة لسبب قبول التوبة أو عدمه.
3. بعض الناس يختارون بسوء تصرفهم الحرمان من المغفرة.
 
111
 

89

قبول التوبة

 للمطالعة
 

اعلم أن من تاب ولا يثق من نفسه الاستقامة على التوبة فلا ينبغي أن يمنعه ذلك عن التوبة علماً منه أنه لا فائدة فيه، فإن ذلك من غرور الشيطان، ومن أين له هذا العلم، فلعله يموت تائباً قبل أن يعود إلى الذنب.

وأما الخوف من العود، فليتداركه بتجريد القصد وصدق العزم، فإن وفى به فقد نال مطلبه، وإلا فقد غُفرت ذنوبه السابقة كلها وتخلص منها، وليس عليه إلا هذا الذنب الذي أحدثه الآن. وهذا من الفوائد العظيمة والأرباح الجسيمة، فلا يمنعك خوف العود من التوبة فإنك من التوبة أبداً بين إحدى الحسنيين:

أحداهما العظمى: وهي غفران الذنوب السابقة وعدم العود إلى ذنبه في الاستقبال. 

وثانيتهما وهي الصغرى: غفران الذنوب الماضية، وإن لم يمنع العود إلى الذنب في المستقبل. 

ثم إذا عاد إلى الذنب ينبغي أن يتوب عنه دفعة، ويتبعه بحسنة لتمحوها، فيكون ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. والحسنات المكفرة للذنوب إما متعلقة بالقلب: وهي الندم، والتضرع إلى الله، والتذلل له، وإضمار الخير للمسلمين، والعزم على الطاعات، أو باللسان: وهي الاعتراف بالظلم والإساءة، وكثرة الاستغفار، أو بالجوارح: وهي أنواع الطاعات والصدقات. وينبغي ملاحظة المناسبة بين السيئة التي صدرت عنه والحسنة التي يتبعها لتمحوها.

وفي الخبر: أن الذنب إذا أتبع بثمانية أعمال كان العفو مرجواً: أربعة من أعمال القلوب، وهي: التوبة أو العزم على التوبة، وحب الاقلاع عن الذنب، وتخوف العقاب عليه، ورجاء المغفرة، وأربعة من أعمال الجوارح، وهي: أن تصلي عقب الذنب ركعتين، ثم تستغفر الله تعالى
 
112
 
 

90

قبول التوبة

  بعدهما سبعين مرة وتقول سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة، ثم تتصدق بصدقة، ثم تصوم يوماً. وفي بعض الأخبار: تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلي ركعتين، وفي بعضها: تصلي أربع ركعات. ولا تظن أن الاستغفار باللسان بدون حل عقدة الإصرار لا فائدة فيه أصلاً، بل هو توبة الكذابين، لما ورد من أن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بآيات الله لأن الاستغفار الذي هو توبة الكذابين ولا فائدة فيه أصلاً هو الاستغفار بمجرد اللسان وبحكم العادة وعلى سبيل الغفلة، أي ما يكون مجرد حركة اللسان من دون مدخلية للقلب، كما إذا سمع شيئاً مخوفاً، فيقول على الغفلة: أستغفر الله، أو نعوذ بالله، من غير شركة للقلب فيه وتأثره منه، وأما إذا انضاف إليه تضرع القلب وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص رغبة وميل قلبي إلى انقلاعه عن هذا الذنب فهي حسنة في نفسها، وإن علم أن نفسه الأمارة ستعود إلى هذا الذنب فتصلح هذه الحسنة لأن يدفع بها السيئة، فالاستغفار بالقلب وإن خلا عن حل عقدة الإصرار لا يخلو عن الفائدة، وليس وجوده كعدمه. وقد عرف أرباب القلوب بنور البصيرة معرفة قطعية يقينية لا يعتريها ريب وشبهة صدق قوله تعالى:﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرةٍ شَرا يَرَهُ﴾.1
 
 ولذا جزموا وقطعوا بأنه لا تخلو ذرة من الخير عن أثر كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر، ولو كانت كل شعيرة خالية عن أثر لكان لا يرجح الميزان باجتماع الشعيرات، فميزان الحسنات يترجح بذرات الخيرات إلى أن يثقل فتسل كفة السيئات، فإياك وأن تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها، وتستحقر ذرات المعاصي فلا تتقيها، كالمرأة الخرفاء تكسل عن الغزل تعللاً بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد، وأي غنى يحصل منه، وما وقع ذلك في الثياب، ولا تدري أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً خيطـاً، وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة ذرة، وربما ترتب على عمل قليل ثواب جزيل، فلا ينبغي تحقير شيء من الطاعات. قال الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث: رضاه في طاعته، فلا 

1- سورة  الزلزلة: الآيتان 7، 8.
 
113
 

91

قبول التوبة

 تحقروا منها شيئاً فلعل رضاه فيه. وغضبه في معاصيه، فلا تحقروا شيئاً فلعل غضبه فيه. وخبأ ولايته في عبادته، فلا تحقروا منهم أحداً فلعله ولي الله". فإذاً الاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع أصلاً، بل ربما قيل: الاستغفار بمجرد اللسان أيضاً حسنة، إذ حركة اللسان بها غفلة خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالنظر إلى السكوت عنه، وإن كان نقصاً بالإضافة إلى عمل القلب، فينبغي ألا تترك حركة اللسان بالاستغفار، ويجتهد في إضافة حركة القلب إليها، ويتضرع إلى الله أن يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير. 
  
(محمد مهدي النراقي, جامع السعادات, ج3 ص68- 69)
 
114
 
 

92

البصيرة

وكان من دعائه عليه السلام:

اللهُم وَثَبتْ فِي طَاعَتِكَ نِيتِيْ، وَأَحْكِمْ
فِي عِبَادَتِكَ بَصِيـرَتِي، وَوَفقْنِي مِنَ
الأَعْمَالِ لِمَا تَغْسِلُ بِهِ دَنَسَ الخَطَايَا
عَني، وَتَوَفنِي عَلَى مِلتِكَ وَمِلةِ نَبِيكَ
مُحَمد عَلَيْهِ السـلامُ إذَا تَوَفيْتَنِي.
 
115
 

93

البصيرة

 تمهيد:
 
أشار الإمام عليه السلام في هذه الكلمات إلى مسألة البصيرة في العبادة, والتعبير المباشر عن هذا الأمر بقوله: "وَأَحْكِمْ فِي عِبَادَتِكَ بَصِيـرَتِي" فما هو المراد من البصيرة؟ وما هو أثرها في العبادة؟
 
ما هي البصيرة؟
 
حدثنا أمير المؤمنين عليه السلام عن البصير من الناس فقال: "فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً يتجنب فيه الصرعة في المهاوي"1 .
فالبصيرة هي نوع من الرؤية الواضحة للأمور الحسنة من القبيحة, ونظرة عميقة فيما وراء الأعمال بعد التفكر في عواقبها ونتائجها, ويسمى صاحبها بالبصير أو ذي البصيرة

1- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،   ج 1 ص 266.
 
117
 

94

البصيرة

 كيف تُحصل البصيرة؟
   
ذكرت الروايات العديد من الأسباب التي ينتج منها قوة البصيرة عند الإنسان، ومن أهم هذه الأسباب:
 
التفقه في الدين 
 
أي دراسة أحكام الله تعالى الشرعية ومعرفة العقائد الحقة والاستدلال عليها بالأدلة التي تورث اليقين, ونحو هذا من الأمور التي تقرب المرء من الله تعالى وتعرفه بحق نبيه وأهل بيته عليهم السلام, فقد جاء في الرواية عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: "تفقهوا في دين الله، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرضَ الله له عملاً"1 .
 
فالتعلم الذي يوصل لرضى الله تعالى ليس بالأمر الذي يستهان فيه, ويكفي في فضله قول الله تعالى:﴿هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ وَالذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنمَا يَتَذَكرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾2 .
 
وفي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ركعتان يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد"3 .
 
والمراد بالعلم هنا العلم الموصل للآخرة الدال على الله تعالى ومرضاته لا أي علم, ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:"من أوتي من العلم ما لا يبكيه, لحقيق أن يكون قد أوتي علماً لا ينفعه, لأن الله نعت العلماء فقال عز وجل:﴿ إِن الذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرونَ لِلأَذْقَانِ سُجدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ "4 5.
 
فهذا العلم هو المورث للبصيرة التي لا بد من وجودها في العبادة

1-  المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسّسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة، ج 10 ص 247.
2- سورة الزمر، الآية:  9.  
3-العلّامة المجلسي، بحار الانوار، ج74ج ص57.
4- سورة الإسراء، الآيات: 107، 109.
5- الريشهري، محمّد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،  الحديث 13962.
 
118
 

95

البصيرة

 البصيرة والعبادة
 
ما علاقة البصيرة بالعبادة؟
 
سؤال وجيه، فلم يَطلب الإمام البصيرة في العبادة؟ والجواب عن ذلك أن العبادة مع البصيرة تختلف بشكل كبير عن عبادة بلا بصيرة, فالعبادة مع التفكر والتدبر بمضامينها لا شك بأنها أعظم أجراً وأكمل من سائر العبادات, فالصلاة بكل أشكالها بعد تحصيل شروطها صلاة مسقطة للواجب، ولكن هل كل صلاة مقبولة عند الله تعالى؟ لماذا مدح الله تعالى الخاشعين في صلاتهم بقوله:﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾1 ؟ وفي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:"إن الرجلين من أمتي يقومان في الصلاة، وركوعهما وسجودهما واحد، وإن ما بين صلاتيهما مثل ما بين السماء والأرض"2 .
 
البصيرة تقود لخاتمة الخير 
 
تأمل يا أخي في ما حولك من أشخاص تبوؤا مناصب كبيرة في الأمة, وكانوا في أيامهم الأولى من المخلصين الذين لا تشك ذرةً في إيمانهم، ولكن أين أصبحوا الآن؟ في خدمة الطاغوت, فكيف نفسر ذلك؟ هل يعقل لمن ملأ جزءاً من عمره بالتضحية والجهاد أن تنتهي حياته بعبادة الطاغوت والتزلف إليه؟
 
نستكشف من هذه النماذج أن هؤلاء لم يكونوا من أهل البصيرة, ولو كانوا لما وصل بهم الأمر إلى هذه الحال, فختم لهم بهذه الخاتمة السيئة.
 
لذلك كانت هذه الفقرة الأخيرة في دعاء الإمام عليه السلام: "وَتَوَفنِي عَلَى مِلتِكَ وَمِلةِ نَبِيكَ مُحَمد عَلَيْهِ السـلامُ إذَا تَوَفيْتَنِي".

1-  سورة المؤمنون، الآية: 1، 2. 
2-الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث, الطبعة الأولى،  ج 2   ص 1632.
 
119
 

96

البصيرة

 عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنما الأعمال بخواتيمها"1 , فما أتعس الإنسان أن يصل في نهاية عمره إلى الحقيقة المرعبة المروعة, والتي لا تنفع بعدها الندامة وهي أنه من الذين قال الله تعالى فيهم:﴿قُلْ هَلْ نُنَبئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الذِينَ ضَل سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾2 .
 
أنا وأنت لا نعلم كيف ستكون عاقبتنا, ولكن علينا الحذر الشديد من ذلك, والعمل في الدنيا بما يوافق الإخلاص, مبتعدين عن أهواء النفس وميولها التي هي أول الأسباب المؤدية لسوء العاقبة, ولتكن القاعدة لدينا والمحرك لنا للعمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له"3 .
 
فعلينا فيما تبقى لنا من أيام حياتنا التي لا نعلم تحديداً كم بقي لنا منها, أن نكون في حالة توبة دائمة, لتحسن عاقبتنا, ولنتذكر ما روي عن إمامنا الصادق عليه السلام، عن آبائه صلوات الله عليهم قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أُخذ بالأول والآخر" 4

1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة، ج 9 ص 330.
2- سورة الكهف: الآيتان 103،  104.
3- النمازي، علي،  مستدرك سفينة البحار، مؤسسة النشر الإسلامي، ج 7 ص 296.
4- م.ن. ج 7 ص 295.
 
120
 

97

البصيرة

 المفاهيم الأساس
 
 
1. البصيرة نوع من الرؤية الواضحة للأمور الحسنة من القبيحة, ونظرة عميقة فيما وراء الأعمال بعد التفكر في عواقبها ونتائجها.
2. البصيرة في العبادة ترفع من قيمة العمل وتجعله مقبولاً لدى الله تعالى
3. نظرة إلى من انتهى بهم الأمر إلى سوء العاقبة وسبب ذلك
 
121
 

98

البصيرة

 للمطالعة
 
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا 
 
اعلم أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة دالة على ثبوت المحاسبة يوم القيامة، وحصول التدقيق والمناقشة في الحساب، والمطالبة بمثاقيل الذر من الأعمال والخطرات واللحظات، قال الله سبحانه: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾1 
 
وقال: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُل شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾2 
 
 
وقال: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِما فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبكَ أَحَدًا﴾3 
 
 
وقال:﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناسُ أَشْتَاتًا ليُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرةٍ شَرا يَرَهُ ﴾4 
 
وقال: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُل نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ محْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَد لَوْ أَن بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾5 
 
 
وقال: ﴿ثُم تُوَفى كُل نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾6 
 
 
وقال:﴿فَوَرَبكَ لَنَسْأَلَنهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَما كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾7 
 
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما منكم من أحد إلا ويسأله رب العالمين، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان". وورد بطرق متعددة: أن كل أحد في يوم القيامة لا يرفع قدماً عن قدم حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه. والآيات

1- سورة  الأنبياء، الآية: 47.
2- سورة المجادلة، الآية:  6.
3- سورة الكهف، الآية: 49.
4- سورة الزلزلة، الآيات: 6، 8.
5- سورة آل عمران، الآية: 30.
6- سورة آل عمران، الآية: 161.
7- سورة الحجر، الآيتان: 92، 93.
 
 
122

99

البصيرة

 والأخبار الواردة في محاسبة الأعمال والسؤال عن القليل والكثير والنقير والقطمير أكثر من أن تحصى، وبإزائها أخبار دالة عن الأمر بالمحاسبة والمراقبة في الدنيا والترغيب عليها، وعلى كونها سبباً للنجاة والخلاص عن حساب الآخرة وخطره ومناقشته. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب، وطالبها في الأنفاس والحركات، وحاسبها في الخطرات واللحظات، ووزن بميزان الشرع أعماله وأقواله: خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه: دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي سيئاته، قال الله سبحانه: ﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ ما قَدمَتْ لِغَدٍ﴾ .
 
 والمراد بهذا النظر: المحاسبة على الأعمال، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا". قال الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد أحدكم ألا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله - تعالى - فإذا علم الله - تعالى - ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلا أعطاه فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها فإن للقيامة خمسين موقفاً. وكل موقف ألف سنة" ثم تلا:﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾. وتفريع المحاسبة على الأمر باليأس من الناس والرجاء من الله، يدل على أن الإنسان إنما يرجو الناس من دون الله في عامة أمره وهو غافل عن ذلك، وإن عامة المحاسبات إنما ترجع إلى ذلك. وذكر الوقوف في مواقف يوم القيامة على الأمر بمحاسبة النفس يدل على أن الوقفات هناك إنما تكون للمحاسبات، فمن حاسب نفسه في الدنيا يوماً فيوماً لم يحتج إلى تلك الوقفات في ذلك اليوم، وقال عليه السلام: "لو لم يكن للحساب مهول إلا حياء العرض على الله - تعالى - وفضيحة هتك الستر على المخفيات، لحق للمرء ألا يهبط من رؤوس الجبال، ولا يأوي إلى عمران، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف. ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها شدائدها قائمة في كل نفس، ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة، كأنه إلى عرصاتها مدعو وفي غمراتها مسؤول"، قال الله - تعالى -: ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾1..

1- سورة  الأنبياء، الآية: 47 
 
123
 

100

البصيرة

 وقال الإمام الكاظم عليه السلام: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله - تعالى - وإن عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه". وفي بعض الأخبار: ينبغي أن يكون للعاقل أربع ساعات: ساعة يحاسب فيها نفسه....
(محمد مهدي النراقي,جامع السعادات,  ج 3 , ص 71 – 73)
 
124
 

101
حسن المآب