مظاهر الرحمة


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-05

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف السفراء وأفضل الأنبياء أبي القاسم محمّد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
 
يقول تعالى في كتابه المجيد: ﴿وما أصابكُم مِّن مُّصِيبةٍ فبِما كسبتْ أيْدِيكُمْ ويعْفُو عن كثِيرٍ1
 
المعصومون عليهم السلام معدودون بأسمائهم، أمّا نحن فليس أحدّ منّا لا يقع في الذنب، وتجدنا نهتمّ بأجسامنا لكي نتجنّب الأمراض ونحافظ عليها، وهذا ما يؤكّد عليه ديننا القويم، لكنّه يؤكّد أيضاً على شيء أهمّ من الجسد وهي الروح، وهي التي بها يكون الإنسان إنساناً، يؤكّد على الروح من أن تتلوّث بالمعاصي، وتتأثّر بالذنوب، المهلكات، فلماذا لا نهتمّ بها؟ 
 
نعم، نحن قد أُعطينا الفرصة في هذه الأيّام المحدودة التي نعيشها، وما زالت مفتوحة أمامنا. لكن تعالوا نتعرّف على آثار الذنوب، في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة. عسى أن تكون المعرفة مانعة لنا من اقترافها، أو من التفكير بها والحذر منها، لأنّ المعرفة أحد أهمّ الأسباب التي ينبغي توفّرها في طريق الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا تعرّفنا إلى الذنب وآثاره وما يترتّب عليه بعُدنا عنه، ونكون بذلك قد تحلّينا بالصفات التي يجب توفّرها في الإنسان الذي جعله الله خليفة له في الأرض وفضّله


1- الشورى:30.
 
 
 
5
 

1

المقدمة

على كثيرٍ من الملائكة.
 
هذا ما نتعرّض له في هذا الكتاب، الذي عمل عليه مركز نون للتأليف والترجمة، عسى الله أن يتحف به الأساتذة الكرام والقرّاء الأعزّاء، والاستفادة منه قبل حلول أشهر النور، على أمل أن يكون 

موعدنا فيها مع كتابٍ جديد حول شرحٍ وتعليقٍ لأهمِّ فقرات دعاء أبي حمزة الثماليّ، بما يتناسب مع الموعظة الأخلاقيّة، ضمن سلسلة كتب المواعظ، الموسومة بـ "حياة القلوب"
 
ونسأله أيضاً أن يتقبّل منّا أجمعين، ويجعلنا من العاملين، ويعجّل فرج وليّه صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه إنّه نعم المولى ونعم المجيب.

مركز نون للتأليف و الترجمة
 
 
6
 

 


2

الدعاء إجابة أم احتجاب

من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"الحمد لله الذي أدعوه فيُجيبني وإن كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني، والحمد لله الذي أناديه كلّما شئت لحاجتي، وأخلو به حيث شئت لسرّي، بغير شفيعٍ فيقضي لي حاجتي، الحمد لله الذي لا أدعو غيره ولو دعوتُ غيره لم يستجب لي دعائي".
 
 
 
 
8
 

3

الدعاء إجابة أم احتجاب

الدعاء وأهميـّته
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ادْعُونِي أسْتجِبْ لكُمْ إِنّ الّذِين يسْتكْبِرُون عنْ عِبادتِي سيدْخُلُون جهنّم داخِرِين﴾1.
 
الدعاء عبادة يُمارسها الإنسان في جميع حالاته. وهو عبارة عن كلام المخلوق مع خالقه، ويُترجم عمق الصلة بين العبد وربّه، ويعكس حالة الافتقار المتأصّلة في ذات الإنسان إلى الله سبحانه، 

والإحساس العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده.
 
فالدعاء مفتاح الحاجات ووسيلة الرغبات، وهو الباب الّذي خوّله تعالى لعباده، كي يلجوا إلى ذخائر رحمته وخزائن مغفرته، وهو الشفاء من الداء، والسلاح في مواجهة الأعداء، ومن أقوى الأسباب 

الّتي يُستدفع بها البلاء ويُردّ بها القضاء. ولذلك، فإنّنا نجد الدعاء من أبرز القيم الرفيعة عند الأنبياء والأوصياء والصالحين عليهم السلام، ومن أهمّ السنن المأثورة عنهم، قال رسول الله صلى الله 

عليه وآله وسلم: "ألا أدلّكم على سلاح يُنجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟".

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: "تدعون ربّكم بالليل والنهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"2.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الدعاء مخّ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد"3.
 

1- غافر:60.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 468، ح 3.
3- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسيّ، ج 300، ص93.
 
 
9
 

 


4

الدعاء إجابة أم احتجاب

وفي الحديث القدسيّ: "يا موسى، سلني كلّ ما تحتاج إليه، حتّى علف شاتك، وملح عجينك"1.

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الدعاء ترس المؤمن، ومتى تُكثر قرع الباب يُفتح لك"2.

وعن الرضا عليه السلام أنّه كان يقول لأصحابه: "عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدعاء"3.
 
من آداب الدعاء: الابتداء بالحمد
ومن المعلوم أنّ لكلّ أمر عباديّ آدابه وشروطه، والدعاء واحد من أهمّ العبادات في حياة الإنسان، لا سيّما الإنسان المؤمن، فله آدابه الظاهريّة والباطنيّة، ومنها:
 
تقديم المدحة لله والثناء عليه قبل المسألة: فقد روى الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إيّاكم إذا أراد أن يسأل أحدكم ربّه شيئاً من حوائج الدنيا حتّى يبدأ بالثناء 

على الله عزّ وجلّ والمدحة له، والصلاة على النبيّ (وآله)، ثمّ يسأل الله حوائجه"4.
 
وقال عليه السلام: "إنّ رجلاً دخل المسجد وصلّى ركعتين، ثمّ سأل الله عزّ وجلّ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعجل العبد ربّه، وجاء آخر فصلّى ركعتين ثمّ أثنى على الله عزّ 

وجلّ وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سل تعطه"5
 
وعن عيص بن القاسم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "إذا طلب أحدكم الحاجة فليثنِ على ربّه وليمدحه، فإنّ الرجل إذا طلب الحاجة من السلطان هيّأ له من
 
 

1- عدّة الداعي، ابن فهد الحلّي، ص 123.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 468، ح 4.
3- م. ن، ص 469، ح5.
4- م. ن، ص 484، ح 1.
5- م. ن، ص 484، ح 5.
 
 
10

 

5

الدعاء إجابة أم احتجاب

الكلام أحسن ما يقدر عليه، فإذا طلبتم الحاجة، فمجّدوا الله العزيز الجبّار وامدحوه وأثنوا عليه..."1.
 
قد لا يستجاب الدعاء
لكن مع رعاية الكثير من الآداب الظاهرية والباطنيّة، والإلحاح بالدعاء، نجد أنّ الله سبحانه وتعالى لا يستجيب دعاءنا، ولا تتحقّق آمالنا، فما السرّ في ذلك؟ والجواب عن هذا السؤال أن السرّ يعود 

لعدّة أسباب:
أ- هناك أشخاص لا يُستجاب دعاؤهم أبداً مهما دعوا:
 
روى جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أربعة لا يُستجاب لهم دعوة: 
 
1- رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني. فيُقال له: ألم آمرك في الطلب؟

2- ورجل كانت له امرأة فاجرة، فدعا عليها. فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟

3- ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللّهمّ ارزقني. فيقال له: ألم آمرك بالإصلاح (أي الاقتصاد). ثمّ قال: ﴿والّذِين إِذا أنفقُوا لمْ يُسْرِفُوا ولمْ يقْتُرُوا وكان بيْن ذلِك قوامًا2.

4- ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة. فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟"3.
 
ب- من دعا بقلب قاسٍ أو لاهٍ:
 
وهذه من أعظم المصائب الّتي يُبتلى بها الإنسان المؤمن، بحيث يُسلب منه لذيذ مناجاة الله سبحانه، فهو يدعو بلسانه، وقلبُه معلّق بالدنيا ومشاغلها، فكيف يتوقّع
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 485، ح 6.
2- الفرقان:67.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص511،ح2.
 
 
 
11

 

 


6

الدعاء إجابة أم احتجاب

استجابة دعائه وهو لا يلتفت لما يدعو ومن يدعو؟! بل عليه أن يلتفت بكلّه لمسبّب الأسباب، ويتوجّه بقلبه إلى ربّ الأرباب، حتّى يتوقّع الإجابة.
 
روى سليمان بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلبٍ ساهٍ، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة"1.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ قاسٍ"2.
 
ج- من لم يتقدّم في الدعاء لم يُسمع منه إذا نزل به البلاء:
 
كثيرٌ من الناس لا يعرف الدعاء إلّا بعد حلول البلاء عليه، وبعد نزول المصائب، فأين كان أيّام الدعة والرخاء؟ ولم لم تكن الملائكة تسمع صوته عندما كان معافى وغنيّاً وآمناً؟! فإذا أراد الإنسان أن يُستجاب دعاؤه عند نزول الشدائد والمصائب والابتلاءات - وهذه هي حال الدنيا - فعليه أن يدعو الله سبحانه على كلّ حال، ويستعجل بالدعاء وهو في أمن وأمان، وصحّة وسلام، وغنى وإنعام، 

فليس الدعاء لدفع الضرر فقط، وإنّما هو لاستدرار الخير أيضاً، وعلى الإنسان أن يلتفت إلى أنّ الشرور والمصائب الّتي يدفعها الله عنه كثيرة جدّاً، ونِعم الله عليه لا تُحصى. فحريّ به أنْ يدعوه 

ويشكره على كلِّ حال.
 
روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من تقدّم في الدعاء استُجيب له إذا أُنزل به البلاء، وقيل: صوت معروف ولم يُحجب عن السماء، ومن لم يتقدّم في الدعاء، لم يُستجب له 

إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة: إنّ هذا الصوت لا نعرفه"3.
 

1- عدّة الداعي، ابن فهد الحلّي، ص 126.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 474، ح4.
3- م. ن، ص 472، ح1.
 
 
 
12
 

7

الدعاء إجابة أم احتجاب

د- من دعا وهو مصرّ على المعاصي لا يُستجاب دعاؤه:
 
كيف يتوقّع الداعي أنْ يستجيب الله له وهو مصرّ على معصيته!؟ وكيف يتوقّع الخير وهو لا ينفكّ عن فعل الشرّ!؟ 
 
عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، في وصيّته له قال: "يا أبا ذرّ، يكفي من الدعاء مع البرّ ما يكفي الطعام من الملح، يا أبا ذرّ، مثل الّذي يدعو بغير عمل كمثل الّذي يرمي بغير 

وتر. يا أبا ذرّ إنّ الله يُصلح بصلاح العبد ولده وولد ولدِه، ويحفظه في دويرته والدور حوله ما دام فيهم"1.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رجل من بني إسرائيل يدعو الله تعالى أنْ يرزقه غلاماً، ثلاث سنين، فلمّا رأى أنّ الله لا يُجيبه قال: يا ربّ، أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب فلا تُجيبني؟ فأتاه آتٍ في منامه قال: إنّك تدعو الله منذ ثلاث سنين بلسانٍ بذيء وقلبٍ عاتٍ غير نقيّ، ونيّة غير صافية (صادقة)، فأقلع عن بذائك، وليتّق الله قلبُك، ولتحسِّن نيّتك، ففعل الرجل ذلك عاماً فولد له غلام"2.
 
وروى علي بن أسباط عن أبي عبد الله عليه السلام: "من سرّه أنْ تُستجاب دعوته فليطيّب مكسبه"3.
 
وقال عليه السلام: "ترك لقمة الحرام أحبّ إلى الله من صلاة ألفي ركعة تطوّعاً"4.
 
وعنه عليه السلام: "ردّ دانق حرام يعدل عند الله سبعين حجّة مبرورة"5.
 
وفيما وعظ الله به عيسى عليه السلام: "يا عيسى، قل لظلمة بني إسرائيل: غسلتم وجوهكم ودنّستم قلوبكم، أبي تغترّون، أم عليّ تجترئون؟ تتطيّبون بالطيب لأهل
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، آل البيت، ج7، ص 85، ح 3.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 325، ح7.
3- وسائل الشيعة الحرّ العاملي، آل البيت، ج7 باب استحباب ملازمة الداعي للصبر، وطلب الحلال، ح 2.
4- عدّة الداعي، ابن فهد الحلّي، ص 129.
5- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 90، ص 373.
 
 
13

 

8

الدعاء إجابة أم احتجاب

الدنيا وأجوافكم عندي بمنزلة الجيف المنتنة، كأنّكم أقوام ميّتون.
 
يا عيسى، قل لهم: قلّموا أظفاركم من كسب الحرام، وأصمّوا أسماعكم عن ذكر الخنا (الفحشاء)، وأقبلوا عليّ بقلوبكم، فإنّي لست أريد صوركم.
 
يا عيسى قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني والسحت تحت أقدامكم، والأصنام في بيوتكم، فإنّي آليت (أقسمت) أن أُجيب من دعاني، وإنّ إجابتي إيّاهم لعناً لهم حتّى يتفرقوا"1.
 
ظُلم الناس
كيف تأمل أن يستجيب لك الله وأنت تظلم أحداً من عباده، وأنت تظلم أخوتك، أو زوجتك، أو أولادك، أو المسؤول عنهم، أو جيرانك أو أحداً من أهل ملّتك ومذهبك وهم ليس لهم ناصرٌ ولا معين غير 

الله؟ أتظنّ أنّه يُقدِّم دعاءك على دعائهم وأنت تعلم أنّ دعاء المظلوم لا يحجبه عن الله حاجب؟ فلنتّق الله، ولنُحاسب أنفسنا على تعاملنا مع الآخرين قبل يوم الحساب، ولنُسارع إلى رفع مظلمتنا عنهم، 

عسى أن يقبل الله توبتنا، ونجوز على الصراط إلى جنّات النعيم.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنّ ربّك لبِالْمِرْصادِ2 قال: "قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة"3.
 
عن أبي حمزة الثماليّ، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "لما حضر علي بن الحسين عليهما السلام الوفاة ضمّني إلى صدره، ثمّ قال: يا بُنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين 

حضرته الوفاة وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به.
 
قال: يا بُنيّ إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلّا الله"4.
 

1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، آل البيت، ج7، ص 145، ح 6.
2- الفجر:14.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 331، ح 2.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 331، ح 5.
 
 
 
14

 


9

الدعاء إجابة أم احتجاب

 من لا يردّ دعاؤه
عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان أبي عليه السلام يقول: خمس دعوات لا تحجبن عن الربّ تبارك وتعالى:

1- دعوة الإمام المقسط (العادل).
2- ودعوة المظلوم، يقول الله عزّ وجلّ: لأنتقمنّ لك ولو بعد حين.
3- ودعوة الولد الصالح لوالديه.
4- ودعوة الوالد الصالح لولده.
5- ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب، فيقول: ولك مثله"1.
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إيّاكم ودعوة المظلوم، فإنّها تُرفع فوق السحاب حتّى ينظر الله عزّ وجلّ إليها فيقول: ارفعوها حتّى أستجيب له، وإيّاكم ودعوة الوالد فإنّها أحدُّ من السيف"2.
 
عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا استُجيب له"3.
 
وعن عبد الله بن طلحة النهديّ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربعة لا تُردُّ لهم دعوة حتّى تُفتح لهم أبواب السماء وتصير إلى العرش:
 

1- الوالد لولده.
2- والمظلوم على من ظلمه.
3- والمعتمر حتّى يرجع.
4- والصائم حتّى يُفطر"4.
 
 
15
 
 
1- م. ن، ص 509، ح 1.
2- م. ن، ح 3.
3- م، ن، ح 5.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 509، ح 6.
 

 


10

الدعاء إجابة أم احتجاب

المفاهيم الأساس 
الدعاء عبادة يُمارسها الإنسان في جميع حالاته، وهو عبارة عن كلام المخلوق مع خالقه، يترجم عمق الصلة بين العبد وربّه، ويعكس حالة الافتقار المتأصِّلة في ذات الإنسان إلى الله سبحانه.
 
من آداب الدعاء: تقديم المدحة لله والثناء عليه قبل المسألة.
 
قد لا يستجيب الله سبحانه وتعالى دعاءنا لأسباب:
 
أ- هناك أشخاص لا يستجاب دعاؤهم أبداً مهما دعوا.
ب- من دعا بقلب قاسٍ أو لاهٍ.
ج- من لم يتقدّم في الدعاء لم يُسمع منه إذا نزل به البلاء.
د- من دعا وهو مصرّ على المعاصي لا يُستجاب دعاؤه.
 
ظلم الناس من المعاصي الّتي تمنع إجابة الدعاء.
 
وفي المقابل هناك أشخاص لا يُردّ دعاؤهم، ولا يحجبهم عن الله أحد، كدعاء الوالد لولده، والمظلوم على من ظلمه.
 
 
 
 
16
 
 

11

الدعاء إجابة أم احتجاب

للمطالعة 
 
من هو أبو حمزة الثماليّ؟
هو ثابت بن دينار، المكنّى بأبي حمزة الثماليّ الكوفيّ، رجل العلم الشهير. صحِب أربعة من أئمّة أهل البيت عليهم السلام ولازمهم ونشر آثارهم: الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الكاظم (عليهم جميعاً سلام الله).
 
قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام بشأنه: "أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه" وكفى به مدحاً وثناءً عليه.
 
وقال الإمام أبو الحسن الرضا عليه السلام بشأنه: "أبو حمزة في زمانه كلقمان في زمانه. وذلك أنّه خدم أربعة منّا: عليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد، وبرهة من عصر موسى بن جعفر عليهم السلام".
 
وسأل الإمام الصادق عليه السلام أبا بصير عن أبي حمزة، فقال: خلّفته عليلاً. قال الإمام عليه السلام: "إذا رجعت إليه فأقرأه منّي السلام..." قال أبو بصير: جُعلت فداك، والله 

لقد كان فيه أُنس وكان لكم شيعة! قال عليه السلام: "صدقت. ما عندنا خير له...". والثناء بشأنه عن لسان الأئمّة كثير، الأمر الّذي ينبئ عن انقطاعه إلى أبوابهم الرفيعة والاستقاء 

من فيض أحاديثهم الشريفة في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية العريقة، وقد اشتُهِر الدعاء الّذي رواه هو عن الإمام باسمه، فأصبح معروفاً بدعاء أبي حمزة الثماليّ.1
 
 

1- راجع خلاصة الأقوال للعلامة الحلي، ص 86.
 
 
18 


 





 

12

البكاء

 من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"وأعنّي بالبكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف (التأخير) والآمال عمري، وقد نزلت نفسي منزلة الآيسين من خيري، فمن يكون أسوء حالاً منّي إن أنا نُقلت على مثل حالي إلى قبرٍ لم أمهّده لرقدتي، ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي. وما لي لا أبكي! ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تُخادعني، وأيّامي تُخاتلني (تُخادعني عن غفلة) وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فما لي لا أبكي أبكي لخروج نفسي، أبكي لحلول رمسي (قبري وما يُحثى عليه من التراب) أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً، حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرّة عن يميني، وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير شأني ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يوْمئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يوْمئِذٍ مُّسْفِرةٌ * ضاحِكةٌ مُّسْتبْشِرةٌ * ووُجُوهٌ يوْمئِذٍ عليْها غبرةٌ * ترْهقُها قترةٌ﴾ وذلّة"..
 
 
 
19
 

13

البكاء

الحزن والبكاء

تمهيد:
لا يُمكن الحديث عن البكاء دون الحديث عن الحزن، لأنّ البكاء وليد المرتبة الشديدة للحزن، لذلك نبدأ ببيان مختصر للحزن:
 
الحزن: هو حالة نفسانيّة أودعها الله سبحانه وتعالى في النفس الإنسانيّة، في مقابل الفرح والسرور، وللحزن مناشئ متعدّدة:
 
1- فتارة ينشأ عن التأسّف على أمور ممتنعةٍ لا يُمكن إعادتها أو تداركها، كمن يحزن على موت حبيب أو عزيز عليه. وهذا النوع من الحزن لا إراديّ، ولكن لا بُدّ من توجيهه كي لا يخرج عن 

حدّ الاعتدال.
 
2- وثانيةً ينشأ عن التوجُّع على أمرٍ قد فات وانقضى، لكن يُمكن تداركه أو التعويض عنه بالتوبة مثلاً أو بالقضاء. وهذا النوع لا بُدّ من استغلاله والاستفادة منه كي يوصل صاحبه إلى الكمال 

الإنسانيّ.
 
3- وثالثة قد ينشأ عن الخوف من أمرٍ دنيويّ أو أخرويّ مجهول لنا.
 
فوائده: ومهما كان منشأ الحزن فإنّه لشدّة تفاعل الإنسان معه يولّد البكاء والدموع، وقد يدفع بالإنسان نحو الكمال، ونحو تدارك الأمور في المورد الّذي يُمكن تداركه، كما أنّ السرور والفرح الزائد 

والشديد يُميت القلب ويبعث على التميّع واللامبالاة، ويُسبّب الأشر والبطر، ويؤدّي للبعد عن الله سبحانه وتعالى، وهو من أعظم المهلكات.
 
 
 
 
21
 


 
 

 


14

البكاء

لكن قد يشلّ الحزن بعض الناس عن العمل الاجتماعيّ، وعن الانشراح أمام الإخوان والأهل والناس أجمعين، ما ينعكس على حياته فينقبض الناس في المقابل عنه وتتغيّر حياة هذا الشخص الاجتماعيّة. 
 
البكاء لا يفضح
لو كان كلّ شخصٍ يبكي على ذنب اقترفه، أو معصية اقترفها، لما بكى أحدٌ من الناس خوف الفضيحة، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أخفى سرّ البكاء في قلوب الناس، وجعل للبكاء أسباباً متعدّدة، فمنهم من يبكي ممّا جنت يداه وارتكبت من خطيئة، ومنهم من يبكي من خشية الله، ومنهم من يبكي فرحاً وقرباً، ومنهم من يبكي استزادة وتطلّعاً، وقد أجاد الشاعر في هذا المضمون حيث قال: إلهي بكت للقرب منك عصابةٌ وما كلّ من يبكي لديك له ذنب وبهذا نُفسّر بكاء الأولياء المعصومين عليهم السلام، فإنّه نوع من البكاء لا يُدرِك معناه إلا هم، ولا يشعر بلذّته غيرهم.
 
حزن أم فرح؟
والّذي يدعو إليه أهل البيت عليهم السلام هو الاعتدال في الأمور، فعن أمير الكلام علي بن أبي طالب عليه السلام في النهج الشريف وهو يصف الإنسان المؤمن: "المؤمن بشره في وجهه1، وحزنه في قلبه. أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً2. يكره الرفعة، ويشنؤ السمعة. طويلٌ غمّه. بعيدٌ همّه. كثيرٌ صمته. مشغولٌ وقته"3. فنُلاحظ الاعتدال في أوصافه، لأنّ الحزن وحده يؤدّي بصاحبه إلى الانقباض في المجتمع، وبالتالي بُعده عن الناس وبُعد الناس عنه، وكذلك البِشْر والسرور وحده يوصل صاحبه إلى الترف
 

1- البشاشة والطلاقة، أي لا يظهر عليه إلا السرور وإن كان في قلبه حزيناً. كناية عن الصبر والتحمّل.
2- ذلّ نفسه لعظمة ربّه وللمستضعفين من خلقه وللحقّ إذا جرى عليه. وكراهته للرفعة:بغضه للتكبّر على الضعفاء، ولا يحبّ أن يسمع أحد بما يعمل لله، فهو يشنؤ أي يبغض السمعة، وطول غمّه خوفاً ممّا بعد الموت. وبُعد همّه لأنّه لا يطلب إلاّ معالي الأمور.
3- نهج البلاغة، الحكمة 333، ص 78ـ 79.
 
 
 
22
 

15

البكاء

والبطالة والاستهتار بالأمور، ولكن متى ما اجتمع الحزن مع الفرح في قلب واحد، بمعنى أن يكون الحزن الإلهيّ في القلب، حزن على تقصيره وما قدّم في حياته، وفي نفس الوقت يُظهر البِشْر والفرح والسرور للناس، لأنّه مأمور بذلك أمام الناس، عندها تظهر حالة الاعتدال لهذا الإنسان، ويكون كلٌّ من هاتين الصفتين (الحزن والفرح) كمالاً للإنسان، في مجتمعه ودينه ودنياه وآخرته.
 
صفة المتّقين
وعنه عليه السلام في صفة المتّقين: "قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة. وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أيّاماً قصيرةً أعقبتهم راحة طويلة.

تجارة مربحة 
يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يُريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً. يُحزِّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم"1.
 
ومن الواضح في كلام الأمير عليه السلام أنّ هؤلاء المتّقين يكون الحزن في قلوبهم، لا يظهر على وجوههم، ولا تعرف في سيماهم الحزن، لأّنّ متطلّباتهم خفيفة، وأنفسهم تزهد عن التطلّع إلى ما في أيدي الناس فهي عفيفة، لذلك لا أحد يضجر منهم.
 
بُكاء الخشية
هناك روايات عديدة تمدح بعض أنواع البُكاء لما يترتّب عليه من آثار معنويّة، في الدنيا والآخرة، منها البُكاء من خشية الله سبحانه وتعالى، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي قال: "ومن ذرفت عيناه من خشية الله كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصر في الجنّة، مكلّل بالدرّ والجوهر، فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"2
 

1- نهج البلاغة من خطبة له في وصف المتّقين، الخطبة 193، ص162.
2- وسائل الشيعة، آل البيت، الحرّ العامليّ، ج 11، الباب 15 من جهاد النفس، ح 1.
 
 
23
 

16

البكاء

ولا استغراب ولا تعجّب من أن تؤثّر قطرةٌ واحدةٌ هذا الأثر العظيم، لأنّ هذه القطرة الذارفة من خشية الله نابعة من وجود إنسان يتحلّى حينها بأمرين:
 
1- تحوّل عظيم في نفسه، فهو أثناء الحزن وما يُرافقه من انسكاب الدمعة متفاعلٌ بشكلٍ كاملٍ مع الله سبحانه، مع أوامر الله ونواهيه، فتتجلّى عظمة الله في القلب ليتحوّل إلى الخشوع، ويُرافقه 

الندم والتأسُّف على ما فرّط في ساحة القدس الإلهيّة، وعلى ما ارتكبه من معاصٍ، وهذا الندم يوجب غفران الذنوب، فقد ورد عن الحسن بن عليّ العسكريّ، عن آبائه عليهم السلام قال: قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنّة أكثر ممّا بين الثرى إلى العرش، لكثرة ذنوبه، فما هو إلّا أن يبكي من خشية الله عزّ وجلّ ندماً عليها حتّى يصير بينه وبينها أقرب من جفنه إلى مقلته"1. وكأنّ هذا البكاء ملازم لتحقّق سائر شرائط التوبة.
 
2- اقتراب عاطفيّ كبيرٌ من الله جلّ ثناؤه، ما يعني تفاعل النفس أكثر من ذي قبلٍ مع الله سبحانه، لذا على الباكي أن يستغلّ هذه النفحة الإلهيّة، ويغتنم هذه الفرصة الّتي يكون فيها حزيناً باكياً، لأنّها لا تحصل دائماً ومتى شاء.
 
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "ما من شيءٍ إلّا وله كيلٌ ووزن، إلّا الدموع، فإنّ القطرة تُطفئ بحاراً من نار، فإذا اغرورقت العين بمائها لم يُرهق وجهه قترٌ ولا ذلّة، فإذا فاضت حرّمها الله على النار، ولو أنّ باكياً بكى في أمّة لرُحموا"2.
 
وعن أبي أيوب، عن الرضا عليه السلام قال: "كان فيما ناجى الله به موسى عليه السلام أنّه ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي، وما تعبّد لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي، ولا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدنيا عمّا يهمّ الغنى عنه.
 

1- م. س. الوسائل، ح 10.
2- م. ن. ح 11.
 
 
24
 

17

البكاء

فقال موسى عليه السلام: يا أكرم الأكرمين فما أثبتهم على ذلك؟
 
فقال: يا موسى أمّا المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يُشركهم فيه أحد، وأمّا المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فإنّي أُفتّش الناس عن أعمالهم ولا أُفتّشهم حياءً منهم، وأمّا المتزيّنون لي بالزهد في الدنيا فإنّي أُبيحهم الجنّة بحذافيرها، يتبوّؤن منها حيث يشاؤون"1.
 
وعن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طوبى لصورةٍ نظر الله إليها تبكي على ذنب من خشية الله لم يطّلع على ذلك الذنب غيره"2.
 
بُكاء الخوف
وهذا نوع من البُكاء موجود عند كلّ الناس، حيث إنّ النفس البشريّة جُبلت على الراحة والدعة والطمأنينة، فهي تسعى لذلك في كلّ حالاتها، وإذا ما فكّرت بالمجهول خافت واضطربت، لذلك عندما تُفكّر بما سيكون مصيرها تفزع وتبكي، فلو فكّرت بالموت من رؤية ملك الموت إلى تقطّع الأوصال، إلى نزع الروح، إلى فراق الدنيا والأهل والأحباب، إلى خسارة العمر وما كان فيه من التسويف والآمال، ومن ثمّ لو فكّرت بالقبر وضيقه وظلمته، وبسؤال منكر ونكير، وبما سيجري على الجسد في القبر، وبالبعث والنشور للحساب، وبالوقوف بين يدي جبّار السماوات والأرض، وبالحساب والصراط، لو فكّرت بهذه الأمور واحدة تلو الأخرى لخرجت عن طورها، وخافت واضطربت، وبالتالي ستبكي لأنّ مصيرها في كلّ هذه الأمور مجهول لديها، وهذا الإمام (سلام الله عليه) يصف هذه الحال في دعاء السحر المشهور: "وأعنّي بالبُكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري، وقد نزلت منزلة الآيسين من خيري، فمن يكون أسوأ حالاً منّي، إن أنا نُقلت على مثل حالي، إلى
 

1- م. س، الوسائل، ح 9.
2- م. ن. ح7.
 
 
25

 

 


18

البكاء

قبرٍ لم أمهّده لرقدتي، ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي، وما لي لا أبكي وما أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تُخادعني، وأيّامي تُخاتلني، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فما لي لا أبكي؟ أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكرٍ ونكيرٍ إيّاي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري...".
 
﴿أُوْلئِك الّذِين أنْعم اللهُ عليْهِم مِّن النّبِيِّين مِن ذُرِّيّةِ آدم ومِمّنْ حملْنا مع نُوحٍ ومِن ذُرِّيّةِ إِبْراهِيم وإِسْرائِيل ومِمّنْ هديْنا واجْتبيْنا إِذا تُتْلى عليْهِمْ آياتُ الرّحْمن خرُّوا سُجّدًا وبُكِيًّا1.
 

 1- مريم:58.
 
 
26
 
 

 

19

البكاء

للمطالعة

﴿ولا على الّذِين إِذا ما أتوْك لِتحْمِلهُمْ قُلْت لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ عليْهِ تولّواْ وّأعْيُنُهُمْ تفِيضُ مِن الدّمْعِ حزنًا ألاّ يجِدُواْ ما يُنفِقُون1.
 
شأن النزول:
نزلت في البكّائين، وهم سبعة نفر: عبد الرحمن بن كعب، وعتبة بن زيد، وعمرو بن غنمة، وهؤلاء من بني النجّار، وسالم بن عمير، وهرم بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو بن عوف، وعبد الله بن معقل، من مزينة، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله! احملنا فإنّه ليس لنا ما نخرج عليه. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه2.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين كانت أوّل امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إلى المدينة على قدميها وكانت من أبرِّ الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،... فبينما هو ذات يوم قاعد إذ أتاه أمير المؤمنين عليه السلام وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما يُبكيك؟ فقال: ماتت أمّي 

فاطمة، فقال رسول الله: وأمّي والله وقام مُسرعاً حتى دخل فنظر إليها وبكى، ثمّ أمر النساء أن يغسلنها وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إذا فرغتنّ فلا تُحدِثن شيئاً حتّى تُعلِمنني، فلمّا فرغن أعلمنه بذلك، فأعطاهنّ أحد قميصيه الّذي يلي جسده وأمرهنّ أن يُكفّنّها فيه، وقال للمسلمين: إذا رأيتموني قد فعلت شيئاً لم أفعله قبل ذلك فسلوني لِم فعلته، فلما فرغن من غسلها وكفّنّها دخل صلى الله عليه وآله وسلم فحمل جنازتها على عاتقه، فلم يزل تحت جنازتها حتى أوردها قبرها، ثم وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه، ثمّ قام فأخذها على يديه حتّى وضعها في القبر ثمّ انكبّ
 

1- التوبة:92.
2- تفسير مجمع البيان، الطبرسي، ج5، ص 104.
 
 
 
27

 

20

البكاء

عليها طويلاً يناجيها ويقول لها: ابنك، ابنك، ابنك ثمّ خرج وسوّى عليها، ثمّ انكبّ على قبرها فسمعوه يقول: لا إله إلا الله، اللّهمّ إنّي أستودعها إيّاك ثمّ انصرف، فقال له المسلمون: إنّا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم فقال: اليوم فقدت برّ أبي طالب، إن كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها وإنّي ذكرت القيامة وأنّ الناس يُحشرون عراة، فقالت: وا سوأتاه، فضمنت لها أن  يبعثها الله كاسية وذكرتُ ضغطة القبر فقالت: وا ضعفاه، فضمنت لها أن يكفيها الله ذلك، فكفّنتها بقميصي واضطجعت في قبرها لذلك، وانكببت عليها فلقّنتها ما تُسأل عنه فإنّها سُئلت عن ربّها فقالت وسُئلت عن رسولها فأجابت وسُئلت عن وليّها وإمامها فارتجّ عليها، فقلت: ابنك، ابنك، ابنك1.
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 454.
 
 
28
 
 

21

ذكر الله شفاء للقلوب

من دعاء أبي حمزة الثماليّ:

"اللهمّ أشغلنا بذكرك وأعذنا من سخطك وأجرنا من عذابك وارزقنا من مواهبك وأنعم علينا من فضلك وارزقنا حجّ بيتك وزيارة قبر نبيّك صلواتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليه وعلى أهل بيته إنّك قريب مجيب، وارزقنا عملاً بطاعتك وتوفّنا على ملّتك وسُنّة نبيّك صلى الله عليه وآله وسلم".
 
 
 
29
 

22

ذكر الله شفاء للقلوب

تمهيد:
لقد منّ الله سبحانه وتعالى على الأمّة الإسلامية بأن لم يجعل لها وقتاً محدّداً ومنحصراً للاتصال به، كما ولم يحصر ذلك في مكان معيّن، وإنّما هو حبيب وجليس من ذكره، وهو مجيب من دعاه وذكره، فقد ورد في الحديث أنّ جبرائيل عليه السلام قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى يقول: أعطيت أمّتك ما لم أُعطه أمّة من الأمم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: وما ذاك يا جبرائيل؟ قال عليه السلام: قوله تعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ ولم يقل هذه لأحد من الأمم"1.
 
ومن المعلوم أنّ طبيعة الإنسان تميل إلى الاجتماع، وتحبّ المؤانسة والصحبة، وتهرب من الوحدة والفراغ، لذلك نجد الإنسان دائماً يسعى ليكون عنده صديق أو رفيق أو جليس. ويسعد الإنسان كلّما كثر جلساؤه ورفقاؤه، ولكن عليه أن ينتبه من أنّ الجلساء على نحوين، منهم من هو ذاكر لله سبحانه، ومنهم من هو غافل عن ذكره، وخير من نصح ابنه في ذلك لقمان الحكيم حيث قال له: "يا بنيّ اختر المجالس على عينك، فإن رأيت قوماً يذكرون الله عزّ وجلّ فاجلس معهم، فإن تكن عالماً نفعك علمك، وإن تكن جاهلاً علّموك، ولعلّ الله أن يظلّهم برحمته فيعمّك معهم، وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإن تكن عالماً لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلاً يزيدوك جهلاً، ولعلّ الله أن يظلّهم بعقوبة فيعمّك معهم"2.
 

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 5، ص 286.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 39، باب مجالسة العلماء.
 
 
31

 

23

ذكر الله شفاء للقلوب

أهمية ذكر الله
إنّ قيمة ذكر الله وأهميّته كبيرة جدّاً. والله تبارك وتعالى قال في محكم كتابه العزيز: ﴿ولذِكْرُ اللهِ أكْبرُ1.
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تختارن على ذكر الله شيئاً فإنّه يقول: ﴿ولذِكْرُ اللهِ أكْبرُ﴾"2.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس عمل أحبّ إلى الله تعالى ولا أنجى لعبد من كلّ سيّئة في الدنيا والآخرة من ذكر الله. 

قيل: ولا القتال في سبيل الله؟ 

قال صلى الله عليه وآله وسلم: لولا ذكر الله لم يؤمر بالقتال"3.

لذا فإنّ ذكر الله تعالى بلا شكّ خير عمل نقوم به في هذه الدنيا الفانية، وهو أفضل ما ندّخره لساعة السؤال، وأثقل ما نجده في الميزان يوم الحساب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: 

"ألا أُخبركم بخير أعمالكم لكم، أرفعها في درجاتكم، وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من الدينار والدرهم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم ويقتلوكم؟ فقالوا: بلى، فقال: ذكر الله عزّ وجلّ كثيراً"4.

أما حقيقة الذكر فقد عبّر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "من أطاع الله عزّ وجلّ فقد ذكر الله وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن"5.
 

1- العنكبوت:45.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج74، 107.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص965.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 499.
5- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج74، ص87.
 
 
 
32

 

24

ذكر الله شفاء للقلوب

ذكر الله بُكرةً وأصيلا
وكفيل لهذا الذكر بأن يمحو السيّئات الّتي يقترفها الإنسان بين مطلع الشمس وغروبها، وذلك ما لو ذكر الله في الصباح، وذكره أيضاً في المساء، ففي تفسير العيّاشي: عن جابر، عن أبي جعفر عليه 

السلام، قال: "قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ الملك يُنزل الصحيفة أوّل النهار وأوّل الليل، يكتب فيها عمل ابن آدم، فأمّلوا في أوّلها خيراً، وفي آخرها خيراً، فإنّ الله يغفر لكم ما بين ذلك، إن شاء الله، فإنّ الله يقول: "فاذكروني أذكركم"1.
 
قال تعالى: ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كثِيرًا * وسبِّحُوهُ بُكْرةً وأصِيلًا﴾2، وقال:﴿واذْكُرِ اسْم ربِّك بُكْرةً وأصِيلًا﴾3.
 
بل ذكرُ الله حسنٌ على كلِّ حال، حال القيام والقعود، حال الحزن والسرور، حال الضيق والفرج… قال تعالى: ﴿إِنّ فِي خلْقِ السّماواتِ والأرْضِ واخْتِلافِ اللّيْلِ والنّهارِ لآياتٍ لِّأُوْلِي الألْبابِ * الّذِين يذْكُرُون الله قِيامًا وقُعُودًا وعلى جُنُوبِهِمْ﴾4 ومن وصايا الإمام علي عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام - عند الوفاة - قال: "وكن لله ذاكراً على كل حال"5
 
أقم الصلاة لذكري
إنّ الذاكر بمنزلة المصلّي والقائم بين يدي الله تعالى: ﴿إِنّنِي أنا اللهُ لا إِله إِلّا أنا فاعْبُدْنِي وأقِمِ الصّلاة لِذِكْرِي﴾6.
 

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 5، ص 295.
2- الأحزاب:41-42.
3- الإنسان:25.
4- آل عمران:190-191.
5- أمالي الطوسي، ص 8.
6- طه:14.
 
 
33

 

25

ذكر الله شفاء للقلوب

يقول الإمام الباقر عليه السلام: "لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر الله، قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً، إن الله تعالى يقول: ﴿الّذِين يذْكُرُون الله قِيامًا و...﴾1". 
 
"اللهم.. أسألك بحقّك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالي عندك مقبولة، حتّى تكون أعمالي وأورادي كلُّها ورداً واحداً، وحالي في خدمتك سرمداً"2.
 
خصوصيّة ذكر الله في بعض المواقف
هناك بعض المواقف والأوضاع قد خصّها الله تعالى بذكره والاستعانة به، منها: 
أ - عند لقاء العدو وقتاله، قال تعالى: ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُواْ إِذا لقِيتُمْ فِئةً فاثْبُتُواْ واذْكُرُواْ الله كثِيرًا لّعلّكُمْ تُفْلحُون3، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "إذا لقيتم عدوّكم في الحرب فأقلّوا الكلام واذكر الله عزّ وجلّ"4.
 
ب - عند دخول الأسواق والتبضّع، ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "أكثروا ذكر الله عزّ وجلّ إذا دخلتم الأسواق عند اشتغال الناس، فإنّه كفّارة للذنوب وزيادة في الحسنات، ولا تُكتبوا في الغافلين"5.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من ذكر الله في السوق مخلصاً عند غفلة الناس وشغلهم بما فيه كتب الله له ألف حسنة ويغفر الله له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر"6.
 
ج - عند الهمّ والحكم والقسمة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اذكر الله عند همِّك إذا هممت،
 

1- أمالي الطوسي، ص 79.
2- من دعاء الإمام علي عليه السلام ، الذي علّمه لكميل.
3- الأنفال:45.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص42.
5- الخصال، الشيخ الصدوق، ص614.
6- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 86، ص130.
 
 
34
 

26

ذكر الله شفاء للقلوب

وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت"1
 
د - عند الغضب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه: ابن آدم، اذكرني عند غضبك أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق"2.
 
هـ - في الخلوات وعند اللّذّات، قال الإمام الباقر عليه السلام: "في التوراة مكتوب:... يا موسى... اذكرني في خلواتك وعند سرور لذّاتك أذكرك عند غفلاتك"3، وعن الإمام  الصادق عليه السلام قال: "شيعتنا الّذين إذا خلوا ذكروا الله كثيراً"4.
 
صفات أهل الذكر
1- ذكرُ الله سبحانه من سجيّة المتّقين المؤمنين وشيمهم، قال الإمام عليّ عليه السلام: "ذكرُ الله شيمة المتّقين"5، وعنه عليه السلام: "ذكرُ الله سجيّة كلّ محسن وشيمة كلِّ مؤمن"6
 
2- المؤمن هو في ذكر دائم وتفكير مستمرّ، قال الإمام عليّ عليه السلام: "المؤمن دائم الذكر، كثير الفكر، على النعماء شاكر، وفي البلاء صابر"7

بل لا تلهي المؤمنين عن ذكر الله تعالى ملذّات الدنيا وهمومها، قال تعالى: ﴿رِجالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجارةٌ ولا بيْعٌ عن ذِكْرِ اللهِ وإِقامِ الصّلاةِ وإِيتاء الزّكاةِ يخافُون يوْمًا تتقلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والْأبْصارُ﴾8.
 
قال الإمام الباقر عليه السلام: "كأنّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة، لم يُصمّهم
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ،، ج74، ص171.
2- م. ن، ج72، ص321.
3- أمالي المفيد، ص210.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص500.
5- غرر الحكم، الآمدي، ح 3615.
6- غرر الحكم، الآمدي، ح 3617.
7- غرر الحكم، ح 1533.
8- النور:37.

 
35


 

27

ذكر الله شفاء للقلوب

عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم، ولم يُعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزينة"1.
 
3- الذاكرون لا يملّون من ذكره، قال الإمام الباقر عليه السلام - في صفة أبناء الآخرة -: "لا يملّون من ذكر الله"2

وقد يعيش المؤمن حالة الصمت الطويل إلّا من ذكر الله تعالى، قال الإمام عليّ عليه السلام: "طوبى لمن صمت إلّا بذكر الله"3.

قال أمير المؤمنين عليه السلام، في صفة المؤمن التقيّ: "إن كان في الغافلين، كُتب من الذاكرين، وإن كان في الذاكرين، لم يُكتب من الغافلين".
 
4- حبُّ مجالس الذكر والتزوّد منها، كمجالس ذكر نعم الله تعالى وعظمة إعجازه في الخلق، فضلاً عن حضور مجالس ذكر محمّد وآل محمّد عليهم السلام الّذين هم الوسيلة إلى ذكر الله سبحانه وطاعته، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارتعوا في رياض الجنّة. 
 
قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنّة؟
قال: مجالس الذكر"4.
 
في كتاب الإرشاد: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الملائكة يمرّون على حلق الذكر، فيقومون على رؤوسهم، ويبكون لبكائهم، ويؤمّنون على دعائهم، فإذا صعدوا إلى السماء، يقول الله: يا ملائكتي أين كنتم؟ وهو أعلم، فيقولون: يا ربّنا، إنّا حضرنا مجلساً من مجالس الذكر، فرأينا أقواماً يُسبِّحونك ويُمجِّدونك ويُقدِّسونك، يخافون نارك، فيقول الله سبحانه: يا ملائكتي أذودها عنهم، وأُشهدكم أنّي قد غفرت لهم، وأمنتهم
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج70، ص36.
2- م. ن، ج75، ص166.
3- غرر الحكم، ح 3623.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ،، ج90، ص163.

 
36
 

28

ذكر الله شفاء للقلوب

ممّا يخافون، فيقولون: ربّنا، إنّ فيهم فلاناً، وإنّه لم يذكرك، فيقول الله سبحانه: قد غفرت له بمجالسته لهم، فإنّ الذاكرين من لا يشقى بهم جليسهم"1.
 
مقام الذاكرين عند الله
1- إنّ الذاكر لله تعالى يكون أخصّ عباد الله المقرّبين إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وقد قال رجل أمامه: أُحبُّ أن أكون أخصّ الناس إلى الله تعالى -: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثرْ ذكر الله تكن أخصّ العباد إلى الله تعالى"2.
 
2- إنّ الذاكر لله تعالى هو من المكرّمين بل هو أكرم خلق الله جلّ جلاله، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال - لما سُئِل: من أكرم الخلق على الله؟ -: قال عليه السلام: "أكثرهم ذكراً لله وأعملهم بطاعته"3.
 
3- ومن مقامات الذاكرين لله سبحانه نيلهم وسام شرف ذكر الله جبّار السموات والأرضين، قال عليه السلام - أيضاً -: "يا من ذكره شرف للذاكرين، ويا من شكره فوز للشاكرين، ويا من طاعته نجاة للمطيعين، صلِّ على محمد وآله، وأشغِل قلوبنا بذكرك عن كلِّ ذِكر"4.
 
4- يُعتبر الذاكر جليس الله، قال الإمام عليّ عليه السلام: "ذاكر الله سبحانهُ مُجالِسُه"5 وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "قال موسى: يا ربّ، 
أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأُناديك؟ 
 
فإنّي أُحسّ صوتك ولا أراك، فأين أنت؟


1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 5، ص 289.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص965.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج75، ص247.
4- الصحيفة السجادية،الدعاء 11.
5- غرر الحكم، ح 3651.
 
37

 

29

ذكر الله شفاء للقلوب

فقال الله: أنا خلفك وأمامك وعن يمينك وعن شمالك. 

يا موسى، أنا جليس عبدي حين يذكرني، وأنا معه إذا دعاني"1.

وهو القائل عزّ وجلّ: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ واشْكُرُواْ لِي ولا تكْفُرُونِ﴾2.

يقول الإمام زين العابدين عليه السلام - في الدعاء - "إلهي أنت قلت وقولك الحق.. (فاذكروني أذكركم) فأمرتنا بذكرك ووعدتنا عليه أن تذكرنا تشريفاً لنا وتفخيماً وإعظاماً، وها نحن ذاكروك كما أمرتنا، فأنجز لنا ما وعدتنا يا ذاكر الذاكرين"3.
 
آثار ذكر الله على المؤمن
1- قلوب الذاكرين هي دوماً مطمئنة، لأنّها تحيا بذكر الله تبارك وتعالى ولا تخلو منه، قال تعالى: ﴿الّذِين آمنُواْ وتطْمئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ألا بِذِكْرِ اللهِ تطْمئِنُّ الْقُلُوبُ﴾4.

جاء في دعاء للإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جُمعت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلا بذكراك، ولا تسكن النفوس إلا عند رؤياك"5.
 
2- يعيش الذاكرون لذّة الذكر الإلهيّ وعشقه ومحبّته.. فهنيئاً لمن ينال هذا الأثر العظيم، قال الإمام عليّ عليه السلام: "الذكر لذّة المحبّين"6، وعنه عليه السلام: "ذكر الله مسرّة كلِّ متّقٍ ولذّة كلِّ موقن"7. وعنه عليه السلام: "الذكر مفتاح الأنس"8.
 
وقد أوضح الأمير عليه السلام هذا الأثر بشكل عمليّ حينما قال: "إذا رأيت الله يؤنسك
 

1- ميزان الحكمة، ج2، ص968.
2- البقرة:152.
3- الصحيفة السجّاديّة، ص420.
4- الرعد:28.
5- الصحيفة السجّاديّة، ص419.
6- غرر الحكم، ح 3649.
7- م. ن، ح 3653.
8- م. ن، 3648.
 
 
38

 

 


30

ذكر الله شفاء للقلوب

بذكره فقد أحبّك، إذا رأيت الله يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد أبغضك"1.
 
وعنه عليه السلام: "يقول الله عزّ وجلّ: إذا كان الغالب على العبد الاشتغال بي، جعلت بغيته ولذّته في ذكري، فإذا جعلت بغيته ولذّته في ذكري عشقني وعشقته، فإذا عشقني وعشقته رفعت الحجاب فيما بيني وبينه، وصيّرت ذلك تغالباً عليه، لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقّاً"2
 
3 - إنّ في ذكر الله تعالى صلاح الروح والقلب وشفاءهما من مرض الذنوب والآثام، فضلاً عن تحسين السلوك والأفعال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ذكر الله شفاء القلوب"3، وفي دعاء كميل: "يا من اسمه دواء وذكره شفاء".
 
وقال الإمام عليّ عليه السلام: "من عمّر قلبه بدوام الذكر حسنت أفعاله في السرّ والجهر"4
 
وعنه عليه السلام: "أصل صلاح القلب اشتغاله بذكر الله"5.
 
وأيضاً عنه عليه السلام: "مداومة الذكر قوت الأرواح ومفتاح الصلاح"6. بل من الآثار المباركة لذكر الله تعالى حياة القلوب ونورها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "في الذكر حياة القلوب"7، وعنه عليه السلام: "عليك بذكر الله، فإنّه نور القلوب"8.
 
4 - إنّ في ذكر الله تبارك وتعالى هداية العقول وتبصرتها نحو طريق الحقّ، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الذكر جلاء البصائر ونور السرائر"9، وعنه عليه السلام:
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص970.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص970.
3- م. ن، ج2، ص972.
4- م. ن، ص970.
5- م. ن، ص969.
6- غرر الحكم، ح 368.
7- ميزان الحكمة، الريشهري، ح2، ص969.
8- غرر الحكم، ح 3643.
9- م. ن، ح 3642.
 
 
40

 

 


31

ذكر الله شفاء للقلوب

هذه المجالس، وهو يُحبّ أصحابها، هي مجالس الذكر لا الغفلة، ومجالس العلم لا الجهل، ومجالس القرب لا البعد، هي مجالس الحديث مع الله، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا ربّ وددت أنّي أعلم من تُحبّ من عبادك فأُحبّه، فقال: إذا رأيت عبدي يُكثر ذكري، فأنا أذنت له في ذلك، وأنا أُحبّه، وإذا رأيت عبدي لا يذكرني، فأنا حجبته، وأنا أُبغضه"1.
 
ما يؤدي إلى الغفلة عن ذكر الله تعالى
1- أن يعيش الإنسان طول الأمل ويتوهّم أنّه سيبقى إلى الأبد، الأمر الّذي يجعله غارقاً في بحر الغفلة عن ذكر الله تعالى، قال الإمام عليّ عليه السلام: "إعلموا أنّ الأمل يُسهي العقل، ويُنسي الذكر. فأكذبوا الأمل، فإنّه غرور، وصاحبه مغرور"2.
 
2- إرتكاب المحرّمات والذنوب والآثام يوقع الإنسان تحت سيطرة الشيطان ويُبعده عن رضا الله تعالى، قال المولى عزّ وجلّ: ﴿إِنّما يُرِيدُ الشّيْطانُ أن يُوقِع بيْنكُمُ الْعداوة والْبغْضاء فِي الْخمْرِ والْميْسِرِ ويصُدّكُمْ عن ذِكْرِ اللهِ وعنِ الصّلاةِ فهلْ أنتُم مُّنتهُون﴾3.
 
3- الانشغال بملذّات الدنيا وشهواتها، وهذا ما حذّر منه المولى تبارك وتعالى: ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ عن ذِكْرِ اللهِ ومن يفْعلْ ذلِك فأُوْلئِك هُمُ الْخاسِرُون﴾4. يقول الإمام عليّ عليه السلام: "ليس في المعاصي أشدّ من اتّباع الشهوة، فلا تُطيعوها فتُشغلكم عن الله".
 
وفي دعاءٍ للإمام زين العابدين عليه السلام: "وأستغفرك من كلِّ لذّة بغير ذكرك، ومن
 

1- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 5، ص 293.
2- نهج البلاغة، ج1، ص151.
3- المائدة:91.
4- المنافقون:9.
 
 
41

 

32

ذكر الله شفاء للقلوب

كلِّ راحة بغير أنسك، ومن كلِّ سرور بغير قربك، ومن كلِّ شغل بغير طاعتك"1.
 
تبعات الغفلة
إنّ الغفلة عن ذكر الله تعالى هي خسارة عظمى للإنسان في الدنيا والآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من ساعة تمرُّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلّا حسر عليها يوم القيامة"2.
 
وفي الخبر: "إنّ أهل الجنّة لا يتحسّرون على شيء فاتهم من الدنيا، كتحسُّرهم على ساعة مرّت من غير ذكر الله"3.
 
كما إنّه من تبعات الغفلة وأثارها السلبيّة على الإنسان الابتلاء بقسوة القلب، قال: "أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى عليه السلام: 
 
"لا تفرح بكثرة المال، ولا تدع ذكري على كلِّ حال، فإنّ كثرة المال تُنسي الذنوب، وترك ذكري يُقسّي القلوب"4.
 
والويل ثمّ الويل لمن اشتغل بذكر الناس وفضائلهم عليه ونسي ذكر الله وفضله، قال الإمام عليّ عليه السلام: "من اشتغل بذكر الناس قطعه الله سبحانه عن ذكره"5
 
أمّا النتيجة المترتّبة على الإعراض عن ذكر الله تعالى، فهي كما جاء في الكتاب العزيز: ﴿ومنْ أعْرض عن ذِكْرِي فإِنّ لهُ معِيشةً ضنكًا ونحْشُرُهُ يوْم الْقِيامةِ أعْمى * قال ربِّ لِم حشرْتنِي أعْمى وقدْ كُنتُ بصِيرًا * قال كذلِك أتتْك آياتُنا فنسِيتها وكذلِك الْيوْم تُنسى6
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج91، ص151.
2- كنز العمال، ح 1819.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 5، ص 288.
4- م. ن، ج 5، ص 287.
5- غرر الحكم، ح 3665.
6- طه:124 - 126.
 
 
42

 

33

ذكر الله شفاء للقلوب

اللهم نجِّنا برحمتك من الغفلة عن ذكرك…
 
"اللهم صلِّ على محمد وآله، ونبّهني لذكرك في أوقات الغفلة، واستعملني بطاعتك في أيام المهلة، وانهج لي إلى محبتك سبيلاً سهلة أكمل لي بها خير الدنيا والآخرة"1.
 
المفاهيم الأساس
1- إنّ أهميّة ذكر الله تعالى وحقيقته تكمن في ذكره قبل كلّ شيء وفي كلّ حال من الأحوال.
 
2- إنّ من صفات المؤمن المداومة على ذكر الله سبحانه والتفكّر في عظمة خلقه.
 
3- إنّ أخصّ عباد الله تعالى والمقرّبين منه هم الذاكرون، وإنّ أبعد الناس عن الله تعالى هم الغافلون عن ذكره.
 

1- الصحيفة السجادية، الدعاء 20.
 
 
43

 

34

ذكر الله شفاء للقلوب

للمطالعة
 
بيوت الذكر:
قال ربّ العزّة والكبرياء في محكم كتابه المبارك: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِن اللهُ أن تُرْفع ويُذْكر فِيها اسْمُهُ يُسبِّحُ لهُ فِيها بِالْغُدُوِّ والْآصالِ﴾1.

روي أنّه لمّا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: ﴿فِي بُيُوتٍ أذِن اللهُ أن تُرْفع﴾

قام إليه رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ 


قال صلى الله عليه وآله وسلم: "بيوت الأنبياء،

فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها بيت عليّ وفاطمة؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم من أفاضلها2.

نعم، الله تبارك وتعالى يرفع ويُعظِّم تلك البيوت الّتي يُسمع فيها ذكر الله تعالى ويُسبّح بحمده فيها في الليل والنهار..

ولكنّه تعالى لا يُعظّم تلك البيوت التي لا يُذكر فيها اسمه، والّتي يعلو فيها صوت الغناء والفحشاء والمنكر..!
فهنيئاً للبيوت الّتي يُذكر فيها الله جلّ جلاله فيعظّمها.. وبئساً للبيوت الّتي ابتعدت عن ذكر الله سبحانه فابتعد عنها لطفه ورحمته.. 
 

1- النور:36.
2- الدر المنثور، ج5، ص50.
 
 
 
44

 

 


35

تراحم المؤمنين

 من دعاء أبي حمزة الثماليّ:

"اللّهُمّ اغفِر لِلمُؤمِنِين والمُؤمِناتِ، الأحياءِ مِنهُم والأمواتِ، وتابِع بيْننا وبينهُم بِالخيراتِ. اللّهُمّ اغفِر لِحيِّنا وميِّتِنا، وشاهِدِنا وغائِبِنا، ذكرِنا وأُنثانا، صغِيرِنا وكبِيرِنا، حُرِّنا ومملُوكِنا...".
 
 
 
45
 

36

تراحم المؤمنين

تمهيد:
ورد في محكم الكتاب العزيز قوله تعالى: ﴿مُّحمّدٌ رّسُولُ اللهِ والّذِين معهُ أشِدّاء على الْكُفّارِ رُحماء بيْنهُمْ﴾1. حيث تؤكّد هذه الآية الكريمة على مسألة التراحم بين المؤمنين والمؤمنات في حياتهم اليومية، وذلك بغية المحافظة على أواصر الأخوّة الإيمانية وتعزيز روح المحبّة والتعاطف فيما بينهم، والتأكيد على استمرارية الترابط والتواصل بين المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، الكبير والصغير، الحاضر والغائب، كُلّاً على حدٍّ سواء. 
 
وإلى جانب ذلك تؤكّد الشريعة الإسلامية على تجنّب إساءة أو إهانة أو إيذاء المؤمنين بعضهم لبعض، وذلك بغية التخلّص من حالات الحسد والكراهية والحقد والتباغض وغيرها من السلوكيّات الخاطئة الّتي تقع بين أفراد المجتمع الإسلاميّ. فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه، ويحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمؤاساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض، حتّى تكونوا كما أمركم الله عزّ وجلّ: (رحماء بينكم)..2"3
 
عظمة حقّ المؤمن على أخيه
يُعتبر أداء حقوق المؤمنين من أفضل العبادات الّتي تُقرِّب العبد إلى الله سبحانه
 

1- الفتح:29.
2- إشارة إلى سورة الفتح:29.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 175.
 
 
 
47

 

37

تراحم المؤمنين

تعالى، حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما عُبد الله بشيء أفضل من أداء حقّ المؤمن"1. ولذا يكشف الإمام الصادق عليه السلام عن حقيقة وعظمة الأخوّة بين المؤمنين، حينما يقول: "المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإنّ روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها"2
 
ولكنّ ذلك الجسد الواحد الّذي يجمع المؤمنين ويصل بين أرواحهم بروح الله سبحانه وتعالى، لا معنى لكثرة العدد فيه ما دام لا يغفر المؤمنون بعضهم لبعض، ولا يُفشى التواسي والمودّة فيما بينهم.
 
فقد روي عن أبي إسماعيل "قال: قلت لأبي جعفر الكاظم عليه السلام: جعلت فداك إنّ الشيعة عندنا كثير. 

فقال عليه السلام: فهل يعطف الغنيّ على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء، ويتواسون؟

فقلت: لا.

فقال عليه السلام: ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا"3.
 
ولا بدّ أن نُدرك أنّ أهميّة الأخوّة بين المؤمنين، والّتي أرادها أهل البيت عليهم السلام لنا، تتجلّى مصاديقها بصدق وإخلاص أكثر وقت الضيق والشدّة وحين وقوع البلاء والمصيبة على بعض المؤمنين، حينها نسأل أنفسنا: هل نحن كالجسد الواحد؟ وهل بالفعل المؤمنون أخوة؟ وذلك بخلاف وقت الرخاء والسعة وبحبوحة العيش.


1- م. س، ج2، ص 170، ح 4.
2- م.ن، ج2، ص 166، ح 4.
3- م.ن، ج2، ص 173، ح 11.
 
 
 
48
 

38

تراحم المؤمنين

 قال الشاعر:
 أخلّاء الرخـاء هُـمُ كـثـيـرٌ             ولـكـن في الـبـلاء هُـمُ قـلـيـلُ
 
مظاهر الأخوّة بين المؤمنين
لقد جسّدت السيرة العطرة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام النموذج المثاليّ في إبراز مظاهر الأخوّة الإيمانية بين المؤمنين، ولعلّ أبرز تلك النماذج قد تجلّت عندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة، فكان من بين سلسلة الإجراءات الإستراتيجيّة الّتي قام بها صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك، من أجل وضع اللبنة الأولى للمجتمع الإسلاميّ وبناء الدولة الرساليّة المحمّديّة، هو المؤاخاة بين المسلمين وتوثيق عرى التعاون بينهم. 
 
فقد روي أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "آخى بين الناس، وترك عليّاً للأخير، حتّى لا يرى له أخاً.
 
فقال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك وتركتني؟
 
فقال: إنّما تركتك لنفسي، أنت أخي، وأنا أخوك، فإن ذكرك أحد، فقل: أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يدّعيها بعدك إلّا كذّاب. والّذي بعثني بالحقّ، ما أخّرتك إلّا لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، وأنت أخي ووارثي"1.
 
هذا بالإضافة إلى العدد الكبير من الروايات والأحاديث الواردة عنهم عليهم السلام، والّتي أكّدوا فيها على أن تسود مضامين الأخوّة الإيمانية ومظاهرها المفترضة في المجتمع الإسلاميّ وفي كلّ زمان ومكان، ونذكر على سبيل المثال: 
 
أ- الشمولية في الدعاء للمؤمنين والمؤمنات:
 
لقد أولت الشريعة الإسلامية أهميّة خاصّة لبعض فئات المجتمع الإسلاميّ بغية


1- تاريخ ابن عساكر، ج 6، ص 21.
 
 
49

 

 


39

تراحم المؤمنين

تعزيز روح التكافل الاجتماعيّ وبثّ روح المحبّة والاحترام. لذا نلاحظ في دعاء أبي حمزة الثماليّ، أنّ الإمام السجاد عليه السلام لم يقتصر في طلب الدعاء والمغفرة للمجتمع المؤمن بشكل شموليّ، بل قد عدّد بعض فئات المجتمع وخصّصهم بالدعاء والمغفرة، فشمل أموات المؤمنين والمؤمنات، حينما قال "اللّهُمّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِين والْمُؤْمِناتِ، الأحْياءِ مِنْهُمْ والأمْواتِ، وتابِعْ بيْننا وبيْنهُمْ بِالْخيْراتِ. اللّهُمّ اغْفِرْ لِحيِّنا وميِّتِنا..". وروي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه قال: "ما من مؤمن يدعو للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إلا كتب الله له بكلّ مؤمن ومؤمنة حسنة منذ بعث الله آدم إلى أن تقوم الساعة"1
 
أمّا عن كيفيّة الدعاء لهم وزيارتهم فهو كما ذكر الإمام الصادق عليه السلام: ".. اللّهم جافِ الأرض عن جنوبهم، وصاعد إليك أرواحهم، ولقّهم منك رضواناً، وأسكن إليهم من رحمتك ما تصل به وحدتهم، وتونس به وحشتهم، إنّك على كلّ شيء قدير".2
 
هذا وقد قرن الإمام علي عليه السلام بين زيارة الأموات وطلب قضاء الحوائج، في قوله عليه السلام: "زوروا موتاكم فإنّهم يفرحون بزيارتكم، وليطلب الرجل حاجته عند قبر أبيه وأمّه بعدما يدعو لهما".3
 
 ويتابع الإمام السجّاد عليه السلام في دعائه، قائلاً: "اللّهُمّ اغْفِرْ لِحيِّنا وميِّتِنا، وشاهِدِنا وغائِبِنا…". إنّ الإمام عليه السلام يدعو بالمغفرة ليس للمؤمنين الحاضرين والشاهدين فقط، بل الدعوة بالمغفرة تشمل حتّى الغائب، سواء كان الغائب مسافراً أم سجيناً أم غير ذلك. وهذا المظهر من مظاهر المغفرة بين المؤمنين قد أكّدت عليه روايات أهل البيت عليه السلام، فقد روي عن أبي جعفر الكاظم عليه السلام قال: "أوشك دعوة وأسرع إجابة دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب".4


1- ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص161.
2- وسائل الشيعة، ج3، ص228.
3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج، 10، ص 97.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص507.
 
 
 
50

 

40

تراحم المؤمنين

 وعنه عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: ﴿ويسْتجِيبُ الّذِين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ ويزِيدُهُم مِّن فضْلِهِ1 قال: "هو المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب فيقول له الملك: آمين ويقول الله العزيز الجبّار: ولك مثل ما سألت وقد أُعطيت ما سألت بحبّك إيّاه".2
 
فئات المجتمع 
بالإضافة إلى ذلك فقد خصّص الإمام السجّاد عليه السلام الدعاء بالمغفرة أيضاً إلى الكبير والصغير "اللّهُمّ اغْفِرْ لـ.. صغِيرِنا وكبِيرِنا"، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من وقّر ذا شيبة في الإسلام آمنه الله عزّ وجلّ من فزع يوم القيامة"3. وعن أبي عبد الله عليه السلام: "ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا". 4
 
بل قد ذكر عليه السلام حتّى المملوك في ذلك الزمان "اللّهُمّ اغْفِرْ لـ.. حُرِّنا وممْلُوكِنا"، ولم يغفله الإمام عليه السلام وجعله متساوياً في حقّ الدعاء والمغفرة له كما هو حال بقيّة فئات المجتمع الإسلاميّ. وهذا يكشف لنا عن عظمة الإسلام المحمّدي الأصيل الّذي لا يُفرّق بين الناس إلّا بالتقوى كما جاء في قوله تعالى: ﴿... إِنّ أكْرمكُمْ عِند اللهِ أتْقاكُمْ﴾5.
 
ويُمكن أن نُضيف إلى مظاهر الأخوّة بين المؤمنين، الإحسان إلى الجيران والدعاء لهم، فقد رويّ عن الإمام الحسن عليه السلام قال: "رأيت أمّي فاطمة عليه السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم، وتُكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أمّاه، لم لا تدعون لنفسك كما تدعون لغيرك؟ 

فقالت: يا بنيّ، الجار ثمّ الدار".6
 

1- الشورى:25.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص507.
3- م. ن، ج2، ص 658.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص165.
5- الحجرات:13.
6- وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج7، ص 113.
 
 
 
51
 

41

تراحم المؤمنين

تسبيح الدودة العمياء:
روي أنّ سليمان بن داود عليه السلام جلس يوماً على ساحل البحر فرأى نملة في فمها حبّة حنطة تذهب إلى البحر، فلمّا بلغت إليه خرجت من الماء سلحفاة وفتحت فاها، فدخلت فيه النملة ودخلت السلحفاة الماء وغاصت فيه. 
 
فتعجّب سليمان من ذلك وغرق في بحر التفكّر، حتّى خرجت السلحفاة من البحر بعد مدّة وفتحت فاها وخرجت النملة من فيها، ولم يكن الحنطة معها، فطلبها سليمان وسألها عن ذلك. 
 
قالت: يا نبيّ الله، إنّ في قعر هذا البحر حجراً مجوّفاً وفيه دودة عمياء، خلقها الله تعالى فيه وأمرني بإيصال رزقها، وأمر السلحفاة بأن تأخذني وتحملني في فيها، إلى أن تبلغني إلى ثقب الحجر، فإذا بلغته تفتح فاها فأخرج منه وأدخل الحجر حتّى أوصل إليها رزقها، ثمّ أرجع فأدخل في فيها فتوصلني إلى البرّ. 
 
فقال سليمان: سمعت عنها تسبيحاً قطّ؟

قالت: نعم، تقول: يا من لا ينساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجّة برزقك، لا تنس عبادك المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين1.
 
ب - التراحم والتعاطف بين المؤمنين:
 
إنّ التراحم والتعاطف والمحبّة بين جميع الناس هي من المظاهر المهمّة في تعزيز تماسك المجتمع الإسلاميّ، والّتي حثّ الإسلام عليها وأكّد على عدم قطعها أو التكاسل والتهاون في الالتزام بها، لا سيّما في جانب حقّ القرابة أو ما يُعرف بـ(صلة الرحم)، حيث يُعتبر في الشريعة الإسلامية قطع صلة الرحم من الذنوب الكبيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ القوم ليكونون فجرة ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتُنمى أموالهم
 

1- راجع لآلئ الاخبار.
 
 
 
52


 

42

تراحم المؤمنين

وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة)1. فالحدّ الأدنى من صلة الرحم في ظلّ حياتنا اليومية المليئة بالعمل وتزاحم المشاغل، هو (التحيّة والسلام)، فقد قال الإمام عليّ عليه السلام: "صلوا أرحامكم ولو بالتسليم، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿واتّقُواْ الله الّذِي تساءلُون بِهِ والأرْحام إِنّ الله كان عليْكُمْ رقِيبًا﴾"2
 
وكما أنّ قطيعة الرحم لها آثار سلبيّة دنيويّة وأخرويّة كذلك لصلة الرحم آثار إيجابيّة، يقول الإمام الكاظم عليه السلام: "صلة الأرحام تُزكّي الأعمال، وتدفع البلوى، وتُنمي الأموال، وتُنسئ له في عمره، وتوسّع في رزقه، وتُحبّب في أهل بيته، فليتقّ الله وليصل رحمه"3.
 
د- السعي في قضاء حوائج المؤمنين:
ومن مظاهر الرحمة الإلهية الّتي منّ بها الله سبحانه على الإنسان المؤمن، التوفيق نحو السعي في قضاء حوائج الناس وتفريج الكرب عنهم، فعن أبي الحسن عليه السلام يقول: "من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة، مغفوراً له أو معذّباً، فإن عذره الطالب كان أسوأ حالاً"4.
 
بل إنّ السّاعين في قضاء حوائج المؤمنين هم من الآمنين والمسرورين يوم القيامة، قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة، ومن أدخل على مؤمن سروراً فرّح5 الله قلبه يوم القيامة"6.
 
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام قال: "من نفّس عن مؤمن كربة نفّس الله عنه كُرب 
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 155.
2- م.ن، ج2 ص 155.
3- م.ن، ج2، ص 153.
4- م.ن، ج2، ص197.
5- في بعض النسخ (فرّج).
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 197.
 
 
 
53

 

43

تراحم المؤمنين

الآخرة وخرج من قبره وهو ثلِج الفؤاد1، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنّة، ومن سقاه شربة سقاه الله من الرحيق المختوم2"3
 
ي - الاهتمام بأمور المؤمنين والنصيحة لهم:
لقد شدّد الإسلام كثيراً على مسألة الاهتمام بأمور المسلمين، وتتبُّع شؤونهم الاجتماعية والسياسية وغيرها، والعمل على تقديم النصيحة والمشورة لهم قدر المستطاع، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"4.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "عليك بالنُّصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه"5
 
النهي عن أذيّة المؤمنين وخذلانهم
إنّ حثّ الإسلام على التعاطف والتراحم والتعاون بين المؤمنين قد اقترن مع النهي عن توجيه الإساءة أو الإهانة للمؤمنين وخذلان بعضهم لبعض، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال الله عزّ وجلّ: ليأذن بحرب منّي من آذى عبدي المؤمن، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن... الحديث"6. وعنه عليه السلام قال: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الصدود لأوليائي؟ فيقوم قوم ليس على وجوههم لحم فيُقال: هؤلاء الّذين آذوا المؤمنين ونصبوا لهم وعاندوهم وعنّفوهم في دينهم، ثمّ يُؤمر بهم إلى جهنّم"7.
 
وعنه عليه السلام - أيضاً - قال: "ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله الله في الدنيا والآخرة"8.
 

1- أي فرح القلب مطمئناً واثقاً برحمة الله.
2- "الرحيق المختوم"الرحيق من أسماء الخمر يريد خمر الجنة والمختوم:المصون.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص199.
4- م. ن، ج2، ص 163.
5- م. ن.
6- وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج 12، ص264.
7- م. ن، ج 12، ص265.
8- وسائل الشيعة، الشيخ الحر العاملي، ج16، ص 268.
 
 
54

 

44

تراحم المؤمنين

المفاهيم الأساس
لقد أكّد الإسلام على ضرورة تعزيز روح التراحم والتواصل بين جميع فئات المجتمع الإسلاميّ: الفقير والغنيّ، الزوج والزوجة، الحاكم والمحكوم..
 
وقد شدّد الإسلام - أيضاً - على مضاعفة الاحترام المتبادل والتراحم المتواصل تجاه الكبير والصغير، وعدم قطع صلة الرحم وسواء كان هؤلاء الأرحام والأقارب من الأحياء أم الأموات.
 
إنّ من أبرز مظاهر الأخوّة الإيمانية:
-  الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
-  التراحم والتعاطف بين المؤمنين.
-  السعي في قضاء حوائج المؤمنين وتفريج الكرب عنهم.
-  الاهتمام بأمور المؤمنين والنصيحة لهم.
-  النهي عن أذيّة المؤمنين وخذلانهم.
 
 
 
55
 

 

45

تراحم المؤمنين

للمطالعة
 
حقوق المؤمنين
إنّ أداء حقوق المؤمنين هو أداء للواجب الشرعيّ المكلّف به الإنسان، لذا يُعتبر تضييعها بمثابة الخروج عن ولاية الله وطاعته، فقد سأل معلّى بن خُنيس الإمام الصادق عليه السلام، قائلاً: "ما حقّ المسلم على المسلم؟ قال له عليه السلام: سبعة حقوق واجبات ما منهنّ حقّ إلا وهو عليه واجب، إنْ ضيّع منها شيئاً خرج من ولاية الله وطاعته ولم يكن لله فيه من نصيب، قلت له: جُعلت فداك وما هي؟ قال عليه السلام: يا معلّى إنّي عليك شفيق أخاف أن تُضيّع ولا تحفظ وتعلم ولا تعمل، قال: قلت له: لا قوّة إلا بالله، قال عليه السلام:
- أيسر حقّ منها أن تُحبّ له ما تُحبّ لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك، 
- والحقّ الثاني أن تجتنب سخطه وتتبّع مرضاته وتُطيع أمره،
- والحقّ الثالث أن تُعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك، 
- والحقّ الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته، 
- والحقّ الخامس أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى،
- والحقّ السادس أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويُمهّد فراشه، 
- والحقّ السابع أن تبرّ قسمه1، وتُجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإذا علمت أنّ له حاجة تُبادره إلى قضائها ولا تُلجئه أن يسألكها ولكن تُبادره مبادرة، 


1- الظاهر أنّ قسمه بفتحتين وهو اسم من الأقسام وأن المراد ببر قسمه قبوله:وأصل البرّ الإحسان ثمّ استُعمل في القبول، يُقال برّ الله عمله إذا قبِله كأنّه أحسن إلى عمله بأن قبِله ولم يردهّ، وقبول قسمه وإن لم يكن واجباً شرعاً لكنّه مؤكّد لئلا يكسر قلبه ولا يُضيّع حقّه.
 
 
 
56
 

46

تراحم المؤمنين

فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك"1. وفي رواية أخرى: "... فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايتنا وولايتنا بولاية الله عزّ وجلّ"2
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص169.
2- م. ن، ج2، ص 174.
 
 
 
57
 

47

النعم الإلهية

 من دعاء أبي حمزة الثماليّ:

"اللهم وأعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرّة العين في الأهل والمال والولد والمقام في نِعمك عندي، والصحّة في الجسم، والقوّة في البدن، والسلامة في الدين، واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلواتك عليه وآله أبداً ما استعمرتني".
 
 
59
 

48

النعم الإلهية

تمهيد:
قال تعالى: ﴿ما يُرِيدُ اللهُ لِيجْعل عليْكُم مِّنْ حرجٍ ولـكِن يُرِيدُ لِيُطهّركُمْ ولِيُتِمّ نِعْمتهُ عليْكُمْ لعلّكُمْ تشْكُرُون * واذْكُرُواْ نِعْمة اللهِ عليْكُمْ ومِيثاقهُ الّذِي واثقكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سمِعْنا وأطعْنا واتّقُواْ الله إِنّ الله علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ1.

إنّ من أعظم النعم الإلهيّة على الإنسان نعمة الإسلام وولاية الله عزّ وجلّ، حيث صفاء القلوب وطهارة الأعمال، ولا سيّما إذا عرفنا أنّ من هذه النعمة العظمى تشعّ كلّ النعم الإلهيّة على العالمين.  

ولذا أخذ الله سبحانه ميثاقاً على الإنسان لكي يتذكّر هذه النعمة العظمى ويشكره عليها،﴿وسيجْزِي اللهُ الشّاكِرِين2، وشكر الله سبحانه على هذه النعم يزيد في نماء النعم الإلهية وتكاثرها على الإنسان  ﴿لئِن شكرْتُمْ لأزِيدنّكُمْ3، ولكن من المحزن أن يكون الشاكرون لله سبحانه هم قلّة بين الناس ﴿وقلِيلٌ مِّنْ عِبادِي الشّكُورُ﴾4.

نِعمُ الله لا تُحصى
لقد منّ الله عزّ وجلّ بِنِعم يعجز الإنسان عن أن يُحصيها أو يعدّها، قال تعالى: ﴿وآتاكُم مِّن كُلِّ ما سألْتُمُوهُ وإِن تعُدُّواْ نِعْمت اللهِ لا تُحْصُوها إِنّ الإِنسان لظلُومٌ كفّارٌ﴾5،


1- المائدة:6 - 7.
2- آل عمران:144.
3- إبراهيم:7.
4- سبأ:13.
5- إبراهيم:34.
 
 
61
 

49

النعم الإلهية

وقال تعالى: ﴿وإِن تعُدُّواْ نِعْمة اللهِ لا تُحْصُوها إِنّ الله لغفُورٌ رّحِيمٌ﴾1.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "الحمد لله الّذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يُحصي نعماءه العادون"2.
 
وعنه عليه السلام - أيضاً -: "أصبحنا وبنا من نعم الله وفضله ما لا نُحصيه، مع كثير ما نُحصيه، فما ندري أيّ نعمة نشكر أجميل ما ينشر أم قبيح ما يستر؟!"3.
 
أنواع النِّعم الإلهيّة
تُقسم النِّعم الإلهيّة على الإنسان بين نِعمٍ ظاهريّة ونِعمٍ باطنيّة، قال عزّ وجلّ: ﴿ألمْ تروْا أنّ الله سخّر لكُم مّا فِي السّماواتِ وما فِي الْأرْضِ وأسْبغ عليْكُمْ نِعمهُ ظاهِرةً وباطِنةً ومِن النّاسِ من يُجادِلُ فِي اللهِ بِغيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُّنِيرٍ4.
 
وورد عن ابن عبّاس في تفسير هذه الآية الكريمة، "قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله تعالى: (ظاهرة وباطنة). فقال: يا بن عبّاس! أمّا ما ظهر فالإسلام، وما سوّى الله من خلقك، وما أفاض عليك من الرزق. وأمّا ما بطن فستر مساوئ عملك ولم يفضحك به. يا بن عبّاس إنّ الله تعالى يقول: ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن ولم تكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله، وجعلت له ثلث ماله أُكفِّر به عنه خطاياه، والثالث: سترت مساوئ عمله ولم أفضحه بشيء منه ولو أبديتُها عليه لنبذه أهله فمن سواهم.5... 
 
من مظاهر النِّعم الإلهيّة
إنّ نِعم الله عزّ وجلّ على الإنسان كثيرة لا تحصى- كما أشرنا مسبقاً- نذكر هنا
 

1- النحل:18.
2- نهج البلاغة، الخطبة 1.
3- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص210.
4- لقمان:20.
5- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج8، ص 88.
 
 
62

 

50

النعم الإلهية

بعض مظاهرها وتجلّياتها في حياة الإنسان المؤمن، والّتي من أبرزها وأعظمها:
 
1ـ نعمة خلق الإنسان وأصل إيجاده في عالم الوجود، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: "قل ما أوّل نعمة أبلاك الله عزّ وجلّ وأنعم عليك بها؟ قال: أنْ خلقني جلّ ثناؤه ولم أك شيئاً مذكوراً، قال: صدقت"1.
 
2ـ نعمة الولاية وهي من النِّعم العظيمة الّتي منّ بها الله تبارك وتعالى على شيعة أهل البيت عليهم السلام، وجعلها من تمام الدين: ﴿الْيوْم أكْملْتُ لكُمْ دِينكُمْ وأتْممْتُ عليْكُمْ نِعْمتِي ورضِيتُ لكُمُ الإِسْلام دِينًا﴾2.
 
وقد جاء في حديث الغدير أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أيّها الناس ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ﴿النّبِيُّ أوْلى بِالْمُؤْمِنِين مِنْ أنفُسِهِمْ﴾3. قالوا: بلى، قال: "من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره"4.
 
وورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "حدّثنا الحسن بن عليّ عليه السلام أنّ الله عزّ وجلّ بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه، بل رحمة منه، لا إله إلّا هو، ليميز الخبيث من الطيّب، وليبتلي ما في صدوركم، وليُمحِّص ما في قلوبكم، ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنّته، ففرض عليكم الحجّ، والعمرة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والولاية، وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأوصياء من ولده عليهم السلام كنتم حيارى كالبهائم، لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تُدخل قرية إلا من بابها، فلمّا منّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم
 

1- تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج4، ص 214.
2- المائدة:3.
3- الأحزاب:6.
4- غاية المرام، السيد هاشم البحراني، ج1، ص 157.
 
 
 
63

 

51

النعم الإلهية

 قال: ﴿الْيوْم أكْملْتُ لكُمْ دِينكُمْ وأتْممْتُ عليْكُمْ نِعْمتِي ورضِيتُ لكُمُ الإِسْلام دِينًا﴾ ففرض عليكم لأوليائه حقوقاً وأمركم بأدائها إليهم، ليحلّ لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم، وأموالكم، ومآكلكم، ومشاربكم، ويُعرّفكم بذلك البركة، والنماء، والثروة، ليعلم من يطيعه منكم بالغيب، ثمّ قال عزّ وجلّ: ﴿قُل لّا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْرًا إِلّا الْمودّة فِي الْقُرْبى﴾1 "2.
 
ولذا، فإنّ وجوب الإطاعة يدور مدار الولاية في تفسير قوله تعالى: ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُواْ أطِيعُواْ الله وأطِيعُواْ الرّسُول وأُوْلِي الأمْرِ مِنكُمْ3. كما إنّ الطاعة توجب النِّعم الإلهيّة والحشر يوم القيامة مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، قال تعالى: ﴿ومن يُطِعِ الله والرّسُول فأُوْلـئِك مع الّذِين أنْعم اللهُ عليْهِم مِّن النّبِيِّين والصِّدِّيقِين والشُّهداء والصّالِحِين وحسُن أُولـئِك رفِيقًا﴾4

ونحن نُردّد يومياً في صلواتنا: ﴿اهدِنــــا الصِّراط المُستقِيم * صِراط الّذِين أنعمت عليهِمْ غيرِ المغضُوبِ عليهِمْ ولا الضّالِّين﴾5.
 
3- ومن نِعم الله تعالى على الإنسان الرزق والسعة في المال "اللّهمّ اعطني السعة في الرزق". وهنا لا بدّ أن يقطع الإنسان بأنّ مصدر الرزق هو الله تعالى ﴿وما مِن دآبّةٍ فِي الأرْضِ إِلاّ على اللهِ رِزْقُها﴾6، بالتالي لا بدّ أن يسعى الإنسان نحو الرزق الحلال الطيّب وأن يكون السؤال والطلب من الله سبحانه، ونحن نقرأ في تعقيب صلاة العشاء: "اللّهُمّ إِنّهُ ليْس لِي عِلْمٌ بِموْضِعِ رِزْقِي، وإِنّما أطْلُبُهُ بِخطراتٍ تخْطُرُ على قلْبِي، فأجُولُ فِي طلبِهِ الْبُلْدان، فأنا فِيما أنا طالِبٌ كالْحيْرانِ، لا أدْرِي أفِي سهْلٍ هُو أمْ فِي جبلٍ، أمْ فِي أرْضٍ أمْ 
 

1- الشورى:23. 
2- الأمالي للشيخ الطوسي، ص 655.
3- النساء:57.
4- النساء:69.
5- الحمد:6 - 7.
6- هود:6.

 
64

 

52

النعم الإلهية

فِي سماءٍ، أمْ فِي برٍّ أمْ فِي بحْرٍ، وعلى يديْ منْ ومِنْ قِبلِ منْ، وقدْ علِمْتُ أنّ عِلْمهُ عِنْدك وأسْبابهُ بِيدِك، وأنْت تقْسِمُهُ بِلُطْفِك وتُسبِّبُهُ بِرحْمتِك.اللّهُمّ فصلِّ على مُحمّدٍ وآلِهِ، واجْعلْ يا ربِّ رِزْقك لِي واسِعاً، ومطْلبهُ سهْلًا، ومأْخذهُ قرِيباً، ولا تُعنِّتْنِي بِطلبِ ما لمْ تُقدِّرْ لِي فِيهِ رِزْقاً، فإِنّك غنِيٌّ عنْ عذابِي، وأنا فقِيرٌ إِلى رحْمتِك، فصلِّ على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّدٍ، وجُدْ على عبْدِك بِفضْلِك، إِنّك ذُو فضْلٍ عظِيمٍ"1.
 
ولكنّ الأفضل من الرزق والسعة فيه هو "الصحّة في الجسد والقوّة في البدن"، قال الإمام الصادق عليه السلام: "العافية نعمة خفيّة إذا وُجدت نُسيت، وإذا فُقدت ذُكرت والعافية نعمة يعجز الشكر عنها"2. وأمّا أفضل من كلّ ذلك وأهمّ هو (السلامة في الدين)، أي تقوى القلوب وإخلاصها إلى الباري عزّ وجلّ. وهذا ما أكّد عليه الإمام عليّ عليه السلام حينما قال: "إنّ من النِّعم سعة المال، وأفضل من سعة المال صحّة البدن، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلب"3.
 
4ـ نعمة الأمان في الوطن، وهي من النِّعم الأساس في حياة الفرد والمجتمع. وإذا كانت نعمة الأمان في الدنيا هي نعمة مطلوبة ومهمّة، فإنّ أمان يوم القيامة ويوم الفزع الأكبر هو أكثر أهميّة من أمان الدنيا والوطن. وهنا نسأل أنفسنا: هل تهيّأنا واستعددنا لذلك اليوم؟ وما هو المطلوب منّا لننال نعمة الأمان والرحمة الإلهيّة يوم القيامة؟
 
إن أهل الأمان يوم القيامة هم المحسنون في الدنيا، وأهل العمل الصالح، قال تعالى: ﴿من جاء بِالْحسنةِ فلهُ خيْرٌ مِّنْها وهُم مِّن فزعٍ يوْمئِذٍ آمِنُون4.
 

1- مفاتيح الجنان، عبّاس القمي، ص 70.
2- روضة الواعظين، النيسابوري، ص472.
3- نهج البلاغة، ج4، ص 93.
4- النمل:89.
 
65

 

53

النعم الإلهية

روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لمّا كلّم الله عزّ وجلّ موسى بن عمران عليه السلام، قال موسى: إلهي، ما جزاء من شهد أنّي رسولك ونبّيك، وأنّك كلّمتني؟ قال: يا موسى، تأتيه ملائكتي فتبشّره بجنّتي. 
 
قال موسى عليه السلام: إلهي، فما جزاء من قام بين يديك يُصلّي؟ 

قال: يا موسى، أُباهي به ملائكتي راكعاً وساجداً، وقائماً وقاعداً، ومن باهيت به ملائكتي لم أُعذِّبه. 

قال موسى عليه السلام: إلهي، فما جزاء من أطعم مسكيناً ابتغاء وجهك؟ 

قال: يا موسى، آمر منادياً يُنادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: إنّ فلاناً بن فلان من عتقاء الله من النار. 

قال موسى عليه السلام: إلهي، فما جزاء من وصل رحمه؟ 

قال: يا موسى، أُنسئ1 له أجله، وأهوّن عليه سكرات الموت، ويُناديه خزنة الجنّة: هلمّ إلينا فادخل من أيّ أبوابها شئت… 

إلى أن يقول عليه السلام: 
"إلهي، فما جزاء من صبر على أذى الناس وشتْمِهم فيك؟ 
قال: أُعينه على أهوال يوم القيامة. 
قال: إلهي، فما جزاء من دمعت عيناه من خشيتك؟ 
قال: يا موسى، أقي وجهه من حرّ النار، وأومنه يوم الفزع الأكبر..."2.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام - أيضاً - قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:.. يا عليّ، أنت
 
 

1- نسأ الشيء:أخّره.
2- أمالي الصدوق، ص 276.
 
66
 

54

النعم الإلهية

وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم، وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش، يفزع الناس ولا تفزعون، ويحزن الناس ولا تحزنون، فيكم نزلت هذه الآية: ﴿إِنّ الّذِين سبقتْ لهُم مِّنّا الْحُسْنى أُوْلئِك عنْها مُبْعدُون﴾1 وفيكم نزلت ﴿لا يحْزُنُهُمُ الْفزعُ الْأكْبرُ وتتلقّاهُمُ الْملائِكةُ هذا يوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعدُون2"3.
 
5- نعمة الزوجة والأولاد والحياة الأُسريّة السعيدة كما يدعو الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللّهمّ وأعطني… قرّة العين في الأهل والمال الولد". ومعنى قرّة العين: أنّ الإنسان تكون عينه هادئة مسرورة، وهو كناية عن الحياة السعيدة بين الزوج والزوجة والأولاد. وهذا ما أكّد عليه المولى عزّ وجلّ: ﴿.. ربّنا هبْ لنا مِنْ أزْواجِنا وذُرِّيّاتِنا قُرّة أعْيُنٍ واجْعلْنا لِلْمُتّقِين إمامًا4.
 
وهنا لا بدّ أن نسأل: كيف تكون الحياة الزوجيّة والأُسريّة سعيدة بنظر الإسلام العزيز؟
 
نُلاحظ أنّ روايات أهل البيت عليهم السلام جاءت بالعديد من النصائح والتوجيهات لكلا الزوجين، ودعتهم للأخذ بها عند الإقبال على بناء بيت الزوجية، بُغية التمتّع بنعمة الحياة الأُسريّة المليئة بالحبّ والعاطفة والسعادة. فعلى سبيل المثال ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ خير نسائكم الولود الودود العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرِّجة مع زوجها، الحصان على غيره، الّتي تسمع قوله وتُطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما يُريد منها"5.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من سعادة المرء الزوجة الصالحة"6.
 

1- الأنبياء:21.
2- الأنبياء:21. 
3- أمالي الصدوق، ص657.
4- الفرقان:74.
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص324.
6- م. ن، ص327.
 
 
 
 
67


 

55

النعم الإلهية

وفي المقابل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا جاءكم من ترضون خُلقه ودينه فزوّجوه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"1.
 
وممّا سبق نستنتج: أنّ رؤية الإسلام للحياة السعيدة في الأُسرة لا تقوم على المال فقط ولا على الجمال فقط، بل الحياة السعيدة هي الّتي تجمع بين الجانب الماديّ والجانب الأخلاقيّ معاً. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا تزوّج الرجل المرأة لجمالها أو مالها وُكِل إلى ذلك، وإذا تزوّجها لدينها رزقه الله الجمال والمال"2، ولذا كان دعاء سيّد الساجدين عليه السلام جامعاً: "اللهم وأعطني… قرّة العين في الأهل والمال الولد".
 
وقد قدّم الإمام عليّ والسيّدة فاطمة عليه السلام نموذجاً جميلاً يعكس جماليّة الحياة السعيدة في الإسلام، حيث كانت فاطمة عليه السلام تعجن وتطبخ وتطحن، في حين كان عليّ عليه السلام يحتطب ويكنس البيت. روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يحتطب ويستقي ويكنس، وكانت فاطمة عليه السلام تطحن وتعجن وتخبز"3.
 
من الأمور التي تُديم النِّعم وتزيدها:
لقد سخّر الله تعالى جميع مخلوقاته في خدمة الإنسان والرقيّ به نحو الكمال، وهي نِعم لا تدوم ولا تزيد إلا بوجود أسبابها وأداء الواجب نحوها، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في صفة الإسلام: "فيه مرابيع النِّعم4، ومصابيح الظُلم، لا تُفتح الخيرات إلّا بمفاتيحه، ولا تُكشف الظلمات إلّا بمصابيحه"5. لذا كان لا بدّ للإنسان من أن يقوم بما يفي لهذه النِّعم الإلهيّة ولو بالقليل، كالقيام على سبيل المثال بـ:
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص347.
2- م. ن، ج5، ص333.
3- م. ن، ج5، ص86.
4- مرابيع:جمع مِرباع، بكسر الميم:المكان ينبت نبته في أوّل الربيع.
5- نهج البلاغة، الخطبة 152.
 
 
 
68

 

56

النعم الإلهية

1- أداء الشكر لله على هذه النِّعم، لأنّ الشكر يزيد في النِّعم والبركات. قال تعالى: ﴿ولوْ أنّ أهْل الْقُرى آمنُواْ واتّقواْ لفتحْنا عليْهِم بركاتٍ مِّن السّماء والأرْضِ ولـكِن كذّبُواْ فأخذْناهُم بِما كانُواْ يكْسِبُون1، ﴿ولوْ أنّهُمْ أقامُواْ التّوْراة والإِنجِيل وما أُنزِل إِليهِم مِّن رّبِّهِمْ لأكلُواْ مِن فوْقِهِمْ ومِن تحْتِ أرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمّةٌ مُّقْتصِدةٌ وكثِيرٌ مِّنْهُمْ ساء ما يعْملُون2
 
وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "من أُعطي الشكر أُعطي الزيادة يقول الله عزّ وجلّ: ﴿لئِن شكرْتُمْ لأزِيدنّكُمْ﴾".
 
2- الدوام على ذكر نِعم الله وعدم الغفلة عنها، قال تعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمت اللهِ عليْكُمْ هلْ مِنْ خالِقٍ غيْرُ اللهِ يرْزُقُكُم مِّن السّماء والْأرْضِ لا إِله إِلّا هُو فأنّى تُؤْفكُون3.
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: ﴿وذكِّرْهُمْ بِأيّامِ اللهِ﴾ (أي): "بنعم الله وآلائه"4، وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وأمّا بِنِعْمةِ ربِّك فحدِّثْ﴾5: "الّذي أنعم عليك بما فضّلك، وأعطاك وأحسن إليك، ثم قال: فحدّث بدينه وما أعطاه الله وما أنعم به عليه"6
 
- أيضاً: معناه اذكر نعمة الله وأظهرها وحدِّث بها، وفي الحديث: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله، ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، والتحدُّث بنعمة الله شُكر وتركه كُفر"، وعن الإمام الحسن عليه السلام: "تُجهل النِّعم ما أقامت، فإذا ولّت عُرِفت"7، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "أحسنوا صحبة النِّعم قبل فِراقها، فإنّها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها"8.


1- الأعراف:96.
2- المائدة:66.
3- فاطر:3.
4- الدر المنثور، للسيوطي، ج4، ص 70.
5- الضحى:11.
6- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 94.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 115.
8- علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج2، ص 464.
 
 
 
 
69

57

النعم الإلهية

3- القناعة بنِعم الله تعالى وعدم الإسراف فيها، قال الإمام الكاظم عليه السلام: "من اقتصد وقنع بقيت عليه النِّعمة، ومن بذّر وأسرف زالت عنه النِّعمة"1
 
4- السعي في قضاء حوائج الناس، قال الإمام عليّ عليه السلام: "من كثُرت نِعم الله عليه كثُرت حوائج الناس إليه، فمن قام لله فيها بما يجب فيها عرّضها للدوام والبقاء، ومن لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال والفناء"2.
 
5- الامتناع عن ظلم الناس والاستعانة بنعم الله على معاصيه لا سيّما التكبُّر على عباده، قال الإمام عليّ عليه السلام: "ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم فيها، إلّا كان حقيقاً أن يُزيلها عنه"3

وورد في زبور داود عليه السلام: يقول الله تعالى: "يا بن آدم! تسألني وأمنعك لعلمي بما ينفعك، ثمّ تُلحّ عليّ بالمسألة فأُعطيك ما سألت، فتستعين به على معصيتي"4. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يقول الله تبارك وتعالى: يا بن آدم ما تنصفني! أتحبّب إليك بالنِّعم وتتمقّت إليّ بالمعاصي، خيري عليك منزل وشرّك إليّ صاعد"5، ويقول الإمام عليّ عليه السلام: "بالتواضع تتمّ النِّعمة"6.
 
6- إظهار النِّعم الّتي أنعم الله بها على الإنسان، قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الله جميل يُحبُّ الجمال، ويُحبُّ أن يرى أثر النِّعمة على عبده"7.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أنعم الله على عبده بنعمة فظهرت عليه سُمّي حبيب الله محدِّثاً بنعمة الله، وإذا أنعم الله على عبد بنعمة فلم تظهر عليه سُمّي
 

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 3313.
2- نهج البلاغة، الحكمة 372.
3- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 482.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج70، ص 365.
5- م. ن، ج70، ص 352.
6- ميزان الحكمة، الريشهري، ج4، ص 3318.
7- الكافي، الشيخ الكليني، ج6، ص 438.
 
 
70


  

 


58

النعم الإلهية

بغيض الله مُكذِّباً بنعمة الله"1، وعنه عليه السلام: "إنّ الله تعالى يُحبُّ الجمال والتجميل، ويُبغض البؤس والتباؤس، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يرى عليه أثرها، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يُنظِّف ثوبه، ويُطيِّب ريحه، ويُجصِّص داره، ويكنس أفنيته، حتّى أنّ السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر ويزيد في الرزق"2.
 
المفاهيم الأساس
إنّ نِعم الله تبارك وتعالى على الإنسان كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى، سواء كانت نِعماً باطنة كستر عيوب الإنسان وعدم فضحه، أم كانت ظاهرة كنعمة الإسلام وولاية النبيّ وأهل بيته عليهم السلام وهي الولاية المتّصلة بالله سبحانه. ومن مظاهر النِّعم: السعة في المال، الأمن في الوطن، الراحة في الحياة الزوجيّة.

هناك العديد من الأمور التي تُديم النِّعم وتزيدها:
- شكر الله تعالى وحمده على هذه النعم.
- الدوام على ذكر نِعمِ الله وعدم الغفلة عنها.
- القناعة بنعم الله تعالى وعدم الإسراف فيها.
- السعي في قضاء حوائج الناس وعدم ظلمهم والتكبّر عليهم.
- إظهار النِّعم الّتي أنعم الله بها على الإنسان.
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج6، ص 438.
2- أمالي الطوسي، ص 275.
 
 
 
71

 

59

النعم الإلهية

للمطالعة
 
خادم الإمام الصادق عليه السلام والتاجر الخراسانيّ
كان للإمام الصادق عليه السلام خادم يُمسك له الفرس إذا أراد أن يركب أو يمشي. وفي يوم من الأيام جاء تاجر خراسانيّ، فقال للخادم: أنا تاجر في خراسان عندي بساتين عديدة وكثير من 

الجواري والأموال، أُعطيك إياها كلّها على أن تجعلني مكانك وتهبني مهنتك وأُصبح خادم الإمام الصادق عليه السلام بدلاً عنك. 

فابتهج الخادم فرحاً وقال له: قبِلت.

ثم دخل على الإمام الصادق عليه السلام وقال له: جُعلت فداك تعرف خدمتي، وطول صُحبتي، فإن ساق الله إليّ خيراً تمنعنيه؟ قال عليه السلام: أنا أُريد لك الخير من نفسي، فإذا جاءك الخير 

من غيري كيف أمنعك؟! ولكن ما هي القضيّة؟

أخبره الخادم بما حصل بينه وبين التاجر الخراسانيّ، فقال عليه السلام: إذا رغبت عنّا اذهب، وإذا رغب فينا غيرك فليأت.

تهلّل وجه الخادم فرحاً، وعندما همّ بالخروج دعاه الإمام عليه السلام قائلاً: لك علينا حقّ لطول صحبتك والمدّة الّتي خدمتني، ولا بُدّ أن أؤدي حقّك وهو النصيحة، ولك الخيار. 
فقال الخادم: قل يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال عليه السلام: إعلم إذا كان يوم القيامة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعلّقاً بنور الله، وكان أمير المؤمنين عليه السلام متعلّقاً بنور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الأئمّة متعلِّقين بأمير المؤمنين، وكان شيعتنا متعلّقين بنا يدخلون مدخلنا، ويردون موردنا.
 
 
72
 
 

 


60

النعم الإلهية

وإذا شئت الآن أن تذهب فاذهب.

فقال له الخادم: يا ابن رسول الله لا أوثر الدنيا على الآخرة، بل أُقيم في خدمتك وأوثر الآخرة على الدنيا. وخرج الخادم إلى التاجر الخراسانيّ حزيناً خجولاً، فقال له الخراسانيّ: أراك الآن خجولاً حزيناً وقد كنت دخلت فرحاً! قال الخادم: أنا لا أُفضّل الدنيا على الآخرة، ولا أقبل المبادلة دعني في خدمة الإمام الصادق عليه السلام1


1- الخرائج والجرائح، للراونديّ، ج1، ص391. (بتصرّف)

 

73

 


61

القرب من الله

 من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"سيّدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحّيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني مُعرِضاً عنك فقليتني أو لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تُحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني. فإن عفوت يا ربّ فطال ما عفوت عن المذنبين قبلي، لأنّ كرمك أي ربّ يجلُّ عن مكافأة المقصّرين وأنا عائذ بفضلك، هارب منك إليك، متنجّز ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظناً".
 
 
 
75

62

القرب من الله

تمهيد:
روي عن الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليه السلام أنّه كان يدعو الله عزّ وجلّ، قائلاً: "ربّ إنّك.. أمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين وقد أنخنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك، فامنن بذلك علينا ولا تُخيّبنا"1
 
نتعلّم من هذا الدعاء أنّ الله تعالى قد أمرنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا وأن لا نطرده، لما في ذلك من ألم وكسر لخاطر السائل، مع أنّه قد يذهب إلى غيرنا طالباً حاجته فتلبّى وربّما لا تُلبّى فيُردّ خائباً. 
 
إذا كانت هذه التعاليم الإلهيّة بين الناس، فكيف هو حال العبد المطرود من أمام باب الرحمة الإلهية، وحرمانه من النعم العظام؟! "سيّدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحّيتني…".
 
وإذا كان أحدنا قد تنقّل من باب إلى باب آخر من بيوت الناس طالباً حاجته، فإلى من اللجوء إذا طُردنا من أمام باب العطايا الإلهيّة؟! ومن نرجو؟ ومن نسأل؟
 
ألم نقرأ المناجاة المنظومة المنسوبة لأمير المؤمنين عليه السلام:
إلهي لئن خيّبتني أو طردتني              فمن ذا الّذي أرجو ومن ذا أشفع؟!2 
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج46، ص 104.
2- مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمي، ص175.
 
 
 
77

63

القرب من الله

من أسباب البعد عن الله تعالى
لا بُدّ أن نُدرك جيّداً أن هنالك العديد من الأعمال الّتي يرتكبها الإنسان فتؤدّي به إلى الطرد من رحمة الله تعالى، والابتعاد عن الله سبحانه، والإقصاء عن ساحة قدسه ولطفه، الأمر الّذي تترتّب عليه 

عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة. منها ما ورد في دعاء أبي حمزة الثماليّ: 
 
1- الاستخفاف بحقّ الله والإعراض عنه: "سيّدي.. لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك رأيتني معرضاً عنك فقليتني..". 
 
يؤكّد الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المقطع على عظمة مراعاة الحقوق الإلهيّة، والتنبيه على عدم الاستخفاف بها أو الإعراض عن ذكره سبحانه. هذا بالرغم من عجز العبد عن الوفاء 

بالحقوق الإلهيّة وشكر نعمه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ حقوق الله جلّ ثناؤه أعظم من أن يقوم بها العباد، وإنّ نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أمسوا وأصبحوا تائبين"1.
 
ويقول الإمام عليّ عليه السلام: "لكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يُطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه"2
 
ولذا لا بُدّ للإنسان أن يكون من الذاكرين لله سبحانه والمطيعين له، لما في ذلك من القرب من الله عزّ وجلّ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين"3
 
وروي أنّ الله أوحى إلى داود عليه السلام: "يا داود، إنّه ليس عبد من عبادي يُطيعني
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 77.
2- م. ن، ج 27، ص 252.
3- م. ن، ج 90، ص 323.
 
 
78

64

القرب من الله

فيما آمره إلا أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني"1
 
وها نحن نقرأ في مناجاة الذاكرين للإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جُمعت العقول المتباينة، فلا تطمئنّ القلوب إلا بذكرك.."2.
 
2- الكذب على الله:
"سيّدي.. لعلّك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني".
 
حتماً إنّ من يتّصف بصفة الكذب هو مرفوض ومطرود من ساحة الرحمة الإلهيّة، قال العزيز الجبّار: ﴿إِنّ الله لا يهْدِي منْ هُو كاذِبٌ كفّارٌ3 و﴿إِنّ الله لا يهْدِي منْ هُو مُسْرِفٌ كذّابٌ﴾4
 
وأوقح الكذّابين من يكذب على الله تعالى: ﴿ولا تقُولُواْ لِما تصِفُ ألْسِنتُكُمُ الْكذِب هـذا حلالٌ وهـذا حرامٌ لِّتفْترُواْ على اللهِ الْكذِب إِنّ الّذِين يفْترُون على اللهِ الْكذِب لا يُفْلِحُون﴾5، و:﴿فمنْ أظْلمُ مِمّنِ افْترى على اللهِ كذِبًا لِيُضِلّ النّاس بِغيْرِ عِلْمٍ﴾6، ﴿ويقُولُون هُو مِنْ عِندِ اللهِ وما هُو مِنْ عِندِ اللهِ ويقُولُون على اللهِ الْكذِب وهُمْ يعْلمُون﴾7.
 
ومن ثمار الكذب كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "ثمرة الكذب المهانة في الدنيا والعذاب في الآخرة"8. وإنّ الكذب يُسوِّد الوجه كما قال تعالى: ﴿ويوْم الْقِيامةِ ترى الّذِين
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 90، ص 276.
2- م. ن، ج91، ص 151.
3- الزمر:3.
4- غافر:28.
5- النحل:116.
6- الأنعام:144.
7- آل عمران:78.
8- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 209.
 
 
79

65

القرب من الله

كذبُواْ على اللهِ وُجُوهُهُم مُّسْودّةٌ أليْس فِي جهنّم مثْوًى لِّلْمُتكبِّرِين1، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الكذب يُسوّد الوجه"2.
 
هذا بالإضافة إلى أنّ الكذب يؤدّي إلى الحرمان من النِّعم والابتلاء بالفقر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الكذب يُنقص الرِّزق"3، وعن الإمام عليّ عليه السلام: "اعتياد الكذب يورث الفقر"4.
 
ونحن نعيش اليوم- للأسف الشديد- أكثر الأزمان الّتي عُرف فيها اعتياد الكذب والغشّ والنفاق بين الناس، بل اختلط فيه الحقّ بالباطل، وأصبح العمل بالحقّ باطلاً والعمل بالباطل حقّاً، وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يُحدِّثنا عن هكذا زمان مظلم بالباطل، حينما يقول: "إنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله"5
 
3- عدم شكر الله على نعمه:
"سيّدي.. لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني".
 
إنّ نِعم الله تعالى وجزيل عطائه على الإنسان كثيرة لا تُحصى ولا تُعدّ، بل لا تنقطع ولا تنضب، حتى عن الكافر والناكر لوجود الله وجميل صنعه عليه. ينعم الله على المؤمن والكافر بنعمة النظر والسمع وتنّفس الهواء وغيرها على حدٍّ سواء.
 
ولكن هل سألنا أنفسنا نحن المؤمنين بالله وبعظيم نعمه علينا، إن كنّا من الشاكرين لله تعالى على هذه النِّعم الجزيلة والعظيمة؟
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "في كلّ نفس من أنفاسك شكر لازم لك، بل ألف
 

1- الزمر:60.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص 2677.
3- م. ن، ج3، ص 2678.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 69، ص 261.
5- م. ن، ح 34، ص 233.
 

80

 

66

القرب من الله

وأكثر"1، وعنه عليه السلام: "ما من عبد إلا ولله عليه حجّة، إمّا في ذنب اقترفه، وإمّا في نعمة قصّر عن شكرها"2
 
وقال عليه السلام: "أوّل ما يجب عليكم لله سبحانه، شكر أياديه وابتغاء مراضيه"3.
 
بالتالي لكي تدوم نِعم المولى عزّ وجلّ علينا لا بُدّ أن نقابل نعمه بالشكر والحمد، قال الإمام عليّ عليه السلام: "أحسن الناس حالاً في النِّعم من استدام حاضرها بالشكر، وارتجع فائتها
بالصبر"4، وعنه عليه السلام: "إذا وصلت إليكم أطراف النِّعم فلا تُنفِّروا أقصاها بِقلّة الشكر"5.
 
4- الابتعاد عن مجالس العلماء وحضور مجالس البطّالين:
"سيّدي.. لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني".
 
لقد حثّ الإسلام العظيم - بشكل عامّ - على حضور المجالس الّتي يُذكر الله تعالى فيها وعدم الابتعاد عنها، لأنّها تُشكّل روضة من رياض الجنّة كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ارتعوا في رياض الجنّة، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذكر"6
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما قعد عدّة من أهل الأرض يذكرون الله إلّا قعد معهم عدّة من الملائكة"7.


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 68، ص 52.
2- أمالي الطوسي، ص 211.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1484.
4- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 124.
5- شرح نهج البلاغة، لابن أبي حديد، ج18، ص 115.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج90، ص 163.
7- م. ن، ج93، ص 163.
 
 
81

 

67

القرب من الله

ولكنّ السؤال المهمّ في هذا الصدد: من نُجالس؟ ومن هؤلاء الّذين نُجالسهم فيُذكِّرون بالله تعالى وبنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ؟
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قالوا - الحواريّون لعيسى عليه السلام -: يا روح الله فمن نُجالس إذاً؟
 
قال عليه السلام: من يُذكِّركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويُرغِّبكم في الآخرة عمله"1
 
وفي وصية لقمان عليه السلام لابنه: "يا بُنيّ! جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنّ الله عزّ وجلّ يُحيي القلوب بنور الحكمة كما يُحيي الأرض بوابل السماء"2
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "جالس العلماء يزدد علمك، ويحسن أدبك، وتزكُ نفسك"3.
 
نستنتج من وصايا أهل البيت عليه السلام لنا، أنّ أهمّ مجالس الذكر وأعظمها هي مجالس العلماء الّذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النظر إلى وجه العالم عبادة"4

ولكن أيّ عبادة هي تلك؟!
 
يُجيبنا الإمام الصادق عليه السلام قائلاً، لمّا سُئِل عن قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "النظر في وجوه العلماء عبادة -: هو العالم الّذي إذا نظرت إليه ذكّرك الآخرة، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة"5.
 

1- تحف العقول، للحراني، ص 44.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج1، ص 204.
3- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 223.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج1، ص 195.
5- تنبيه الخواطر، ج1، ص 84.
 
 
82
 

 


68

القرب من الله

في المقابل نهى الإسلام بشدّة عن حضور مجالس البطّالين وأهل السوء، قال تعالى: ﴿وقدْ نزّل عليْكُمْ فِي الْكِتابِ أنْ إِذا سمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكفرُ بِها ويُسْتهْزأُ بِها فلا تقْعُدُواْ معهُمْ حتّى يخُوضُواْ فِي حدِيثٍ غيْرِهِ1.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "لا ينبغي للمؤمن أن يجلس مجلساً يُعصى الله فيه، ولا يقدر على تغييره"2، وقال الإمام عليّ عليه السلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة"3
 
وعنه عليه السلام: "مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان، ومحضرة للشيطان"4. وعنه عليه السلام: "لا يأمن مجالسو الأشرار غوائل البلاء"5
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك ومصاحبة أهل الفسوق، فإنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم"6
 
ونُلاحظ أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثماليّ قد ذكر مسألة (الغفلة عن ذكر الله)، وهي من المسائل الخطرة الّتي قد يُبتلى بها الإنسان والّتي تُفقده الرحمة الإلهية، ففي 
 
حديث المعراج: "يا أحمد! إجعل همّك همّاً واحداً، فأجعل لسانك لساناً واحداً، واجعل بدنك حيّاً لا تغفل أبداً، من غفل عنّي لا أبالي بأيّ واد هلك"7
 

1- النساء:140.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 375.
3- م. ن، ج2، ص 378.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 403.
5- م. ن، ج1، ص 404.
6- م. ن، ج2، ص 1586.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 29.
 
 
 
83



 

 


69

القرب من الله

ويقول الإمام عليّ عليه السلام: "فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشقوة!"1.
 
بالتالي يجب علينا أن لا نعيش طول الأمل والاغترار بالحياة، فالله تعالى يُمهِل ولا يُهمِل، عنه عليه السلام: "إيّاك والغفلة والاغترار بالمُهلة، فإنّ الغفلة تُفسد الأعمال"2.
 
والمطلوب منّا أن نعيش حالة اليقظة على الدوام، ومحاسبة النفس ومراقبتها، فعن عليّ عليه السلام قال: "من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر"3.
 
5- ارتكاب الذنوب والآثام:
"سيّدي.. لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني".
 
إنّ من أبرز أسباب البُعد عن الله تعالى ارتكاب الذنوب والآثام، وتجرُّؤ العبد على هذا في حضرة المولى عزّ وجلّ.
 
ولذا لا بُدّ أن نعرف دور الذنوب وأثرها الخطير في فساد القلب والفطرة السليمة الّتي فطر الله تعالى عباده عليها، قال تعالى: ﴿كلّا بلْ ران على قُلُوبِهِم مّا كانُوا يكْسِبُون4.
 
وورد عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله"5.
 
فلا بدّ أن نعمل جاهدين للحفاظ على صفحة قلوبنا لكي تبقى بيضاء، وأن لا نترك لبقع الذنوب السوداء أن تغلب عليها، وإذا ابتُلينا بذلك علينا أن نغسلها بماء التوبة النصوح الصادقة، فقد قال الإمام الباقر 

عليه السلام: "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 42، ص 207.
2- ميزان الحكمة، للريشهري، ج3، ص 2287.
3- نهج البلاغة، ج4، ص 47.
4- المطففين:14.
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 269.
 
 
 
84

 

70

القرب من الله

تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يُغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿كلّا بلْ ران على قُلُوبِهِم..﴾1".

 
إضافة إلى ذلك فإنّ ارتكاب الذنوب والآثام يؤدّي إلى عدم استجابة الدعاء، ويُشكِّل مانعاً بيننا وبين الله تعالى، فعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لا تستبطئ إجابة دعائك وقد سددت طريقه بالذنوب"2.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطيء، فيُذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إيّاها، فإنّه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان منّي"3.
 
فلنحذر إذاً من غضب الله سبحانه، وأن لا نتمادى في ارتكاب المعاصي، فقد ورد في الزبور: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تسألني فأمنعك لعلمي بما ينفعك، ثمّ تُلحّ عليّ بالمسألة فأُعطيك ما سألت فتستعين به على معصيتي، فأهِمّ بِهتْك سِتْرِك، فتدعوني فأستر عليك، فكم من جميل أصنع معك، وكم قبيح تصنع معي؟ يوشك أن أغضب عليك غضبة لا أرضى بعدها أبداً"4.
 
ولكي نبدأ بداية صحيحة علينا ترك الذنوب أولاً، لتُفتح لنا بذلك أبواب التوبة والرحمة، قال الإمام عليّ عليه السلام: "ترك الذنب أهون من طلب التوبة"5
 
الدعاء والمناجاة
"سيّدي.. لعلّك لم تُحِبّ أن تسمع دعائي فباعدتني".
 
لقد أمرنا المولى عزّ وجلّ أن نُناجيه وندعوه: "ادعوني استجب لكم"، لما في ذلك
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 73، ص 327.
2- حلية الأولياء، لأبي نعيم، ج 10، ص 54.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 272.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 43.
5- نهج البلاغة، ج4، ص 42.
 
 
85


  


71

القرب من الله

من لذّة المناجاة وعشق العاشقين، بل وحبّ الله الرؤوف الحميد لسماع أصواتنا ومناجاتنا في الليل والنهار.

في المقابل يُبغض الله الجبّار القويّ سماع أصوات المنافقين والكافرين، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله تعالى: وعزّتي وجلالي وعظمتي وبهائي، إنّي لأحمي ولييّ أن أعطيه في دار الدنيا شيئاً يُشغله عن ذكري حتّى يدعوني فأسمع صوته، وإنّي لأُعطي الكافر مُنيته حتّى لا يدعوني فأسمع صوته بُغضاً له"1.
 
ولهذا لنكن من الّذين يُحبّ الله تعالى سماع صوتهم ومناجاتهم، لا من الّذين يُبغض أصواتهم، قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ العبد ليدعو فيقول الله عزّ وجلّ للملكين: قد استجبت له ولكن احبسوه بحاجته، فإنّي أُحبّ أن أسمع صوته، وإنّ العبد ليدعو فيقول الله تبارك وتعالى: عجّلوا له حاجته فإنّي أُبغِض صوته"2.
 
الاستحياء من الله تعالى
إنّ من أبرز علامات المؤمن الاستحياء من الله تعالى في السرّ والعلن، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "استحي من الله استحياءك من صالحي جيرانك، فإنّ فيها زيادة اليقين"3، وقال الإمام الكاظم عليه السلام: "استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس في علانيتكم"4.
 
بل أفضل الحياء هو من الله تعالى كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "أفضل الحياء استحياؤك من الله"5.
 
فالله تعالى قريب منّا في كلّ زمان ومكان، فلا نعتقد بأننا في الخفاء وفي مأمن من
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج90، ص 371.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 489.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 200.
4- تحف العقول، للحراني، ص 394.
5- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 719.
 
 
86

72

القرب من الله

 مراقبة الله سبحانه وقدرته علينا، قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "خف الله تعالى لقدرته عليك، واستحي منه لقربه منك1".
 
ولذا لا يخلو الاستحياء من الله تبارك من أثر، قال عليه السلام: "الحياء من الله يمحو كثيراً من الخطايا"2.
 
ومن هنا كان لا بدّ أن نعطي الحياء من الله جلّ جلاله حقّه، وهذا ما أوصانا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: "استحيوا من الله حقّ الحياء، فقيل: يا رسول الله ومن يستحيي 

من الله حقّ الحياء؟ 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من استحيى من الله حق الحياء:فليكتب أجله بين عينيه، وليزهد في الدنيا وزينتها، ويحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ولا ينس المقابر والبِلى"3.
 
كيف ننال العفو الإلهي؟
"سيّدي.. فإن عفوت يا ربّ فطال ما عفوت عن المذنبين قبلي، لأنّ كرمك أي ربّ يجلُّ عن مكافأة المقصِّرين وأنا عائذ بفضلك، هارب منك إليك، متنجِّز ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظناً".
 
إنّ اعترافنا بذنوبنا والإقرار بها في حضرة الباري عزّ وجلّ، يخطو بنا خطوة نحو نيل عفو الله تعالى والفوز برضوانه، فعن الباقر عليه السلام: "والله ما ينجو من الذنب إلاّ من أقرّ به"4.
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 142.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 719.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 6، ص 131.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 426.
 
 
87
 

73

القرب من الله

وكان من دعاء الإمام أمير المؤمنين عليه السلام المرويّ عن كميل بن زياد: "وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي، مُعتذِراً نادماً، مُنكسِراً مُستقيلاً، مُستغفِراً مُنيباً، مُقرّاً مُذعِناً مُعترِفاً.."1.
 
هذا ولا بدّ أن يقترن الإقرار والاعتراف بالذنوب بشروط أخرى أيضاً، كالندم على ما مضى، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "كفى بالندم توبة"2
 
والإمام زين العابدين عليه السلام أعطانا نموذجاً في مناجاة التائبين: "إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإنّي وعزّتك من النادمين.."3.
 
كما إنّه يجب علينا أن لا نكتفي بذلك، بل يجب أن نجبر الأعمال السيّئة التي ارتُكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلاً. والله الغفور الرحيم قد أبقى أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة أمام المذنبين 

العاصين، وهو القائل عزّ وجلّ: ﴿وهُو الّذِي يقْبلُ التّوْبة عنْ عِبادِهِ ويعْفُو عنِ السّيِّئاتِ ويعْلمُ ما تفْعلُون4، والقائل: ﴿فمن تاب مِن بعْدِ ظُلْمِهِ وأصْلح فإِنّ الله يتُوبُ عليْهِ إِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ﴾5.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "من تنزّه عن حُرمات الله سارع إليه عفو الله"6.
 
وعنه عليه السلام: "ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبُّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلُّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتّحاً إلى فضله، وأسباباً ذلّلاً لعفوه"7
 
فإنّ من أسماء الله الحسنى(العفوّ) وهو القائل في محكم كتابه العزيز: ﴿إِنّ الله كان
 

1- مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمي، ص 151.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 426.
3- مفاتيح الجنان، الشيخ عبّاس القمي، ص 254.
4- الشورى:25.
5- سورةالمائدة:39.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 90.
7- م. ن، ج6، ص 115.
 
 
88

74

القرب من الله

عفُوًّا غفُورًا﴾1. وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يدعو بذلك: "اللّهمّ احملني على عفوك ولا تحملني على عدلك"2.
 
وفي مناجاته عليه السلام: "إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي"3
 
قال الشاعر:
إلهي لا تُعذّبني فإنّي            مُقِرٌّ بالّذي قد كان منّي
فما لي حيلة إلا رجائي         وعفوك إن عفوت وحسن ظنّي
 
الهروب من الله والى الله
"وأنا (يا سيِّدِي) عائِذٌ بِفضْلِك، هارِبٌ مِنْك إِليْك..".. 
 
إنّ الهروب من الله تعالى ليس هروباً من ذاته عزّ وجلّ، بل الهروب من غضبه وعذابه خوفاً منه، ذلك العذاب الّذي يترتّب على فعل العبد نفسه.. ولهذا فإنّ القرآن الكريم يجعل الخوف من مقام الربّ، هو السبب المحرِّك لتهذيب النفس، كما في قوله تعالى: ﴿وأمّا منْ خاف مقام ربِّهِ ونهى النّفْس عنِ الْهوى﴾. فمقام الربّ، هو ذلك المكان الّذي يُخاف منه هيبةً ووجلاً.. والإنسان إذا كان صادقاً في الخوف من غضب الله تعالى، فلا بُدّ أن يتحرّك، ولا بُدّ أن يرحل ويمشي ويسير، ولكن إلى من يلتجئ؟.. وبمن يلوذ؟.. لا شكّ أنّ الجواب: إنّ العبد لا ملجأ له من الله تعالى إلا إليه، فهو القائل تعالى: ﴿ففِرُّوا إِلى الله﴾. فهو يُفرّ منه، إليه.. يُفرّ منه بوصف المنتقميّة والغضب، ويُهرب إليه بوصف الرحمانية والرحيمية.. فإذاً، الإنسان الّذي يعيش هذه الحقيقة من الخوف، هو في حركة مستمرّة دون انقطاع من الله وإلى الله تعالى.
 

1- النساء:43.
2- نهج البلاغة، ج2، ص 222.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 41، ص 12.
 
 
89
 

75

القرب من الله

المفاهيم الأساس
إنّ القرب من الله تعالى والوصول إلى رضوانه هو الهدف الأسمى من خلق الإنسان.

هناك العديد من الأمور الّتي يرتكبها الإنسان تؤدّي به إلى البعد عن الله تعالى، مثلاً: الكذب على الله تعالى، وعدم شكر النِّعم، وارتكاب الذنوب والمعاصي وغيرها.

لا بُدّ للمؤمن أن يضع نصب عينيه المعادلة التالية: "الهروب من معصية الله وعذابه، وفي الوقت ذاته الهروب إلى طاعة الله ورحمته".
 
 
 
90
 

 

76

القرب من الله

للمطالعة
 
لذيذ المناجاة
النبيّ موسى عليه السلام مع الطائر الذي يذكر الله:
في الرواية أنّ موسى عليه السلام قال يوماً: يا ربّ أُريد أن أرى خالص خلقك الّذي لا يُشغل بغيرك، فقال تعالى له: أخرج إلى ساحل البحر الفلانيّ، فخرج موسى إلى البحر فرأى طيراً على غصن شجرة مائل إلى البحر مشغولاً بذكر الربّ، فسأله موسى عن حاله.
 
فقال الطير: منذ خلقني الله كنت هنا مشغولاً بذكره، أذكره كلّ يوم كيت وكيت ذكراً ينشعب من كلّ ذكر ألف ذكر، وقوّتي هنا من لذّة ذكره تعالى.

فقال له موسى: افتمنّيت من الدنيا شيئاً قطّ.

قال: لا يا موسى ولكن في قلبي منية واحدة.

قال موسى: ما هي؟

قال الطير: أن أشرب من ماء هذا البحر قطرة. 

فتعجّب موسى من قوله، وقال: أيّها الطير ليس بين منقارك وبين الماء مسافة لِم لم تضربه على الماء؟

قال الطير: أخاف أن تمنعني لذّته لذة ذكر ربّي، وأن يُشغلني عن ذكره تعالى هذه اللحظة.

فضرب موسى يده على رأسه تعجّباً.1
 

1- راجع لآلئ الأخبار.
 
 
91
 
 

 


77

رجاء الخائفين

 من دعاء أبي حمزة الثماليّ:

"إِلهي لو قرنْتني بِالأصفادِ، ومنعتني سيبك مِن بينِ الأشهادِ ودللت على فضايِحي عُيُون العِبادِ، وأمرت بي إِلى النّار، وحُلت بيني وبين الأبرارِ، ما قطعتُ رجائي مِنك وما صرفتُ تأميلي لِلعفوِ عنك، ولا خرج حُبُّك مِن قلبي".
 
 
 
93
 

78

رجاء الخائفين

تمهيد:
روي عن الحارث بن المغيرة، أو أبيه، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قلت له: ما كان في وصية لقمان؟ قال عليه السلام: "كان فيها الأعاجيب وكان أعجب ما كان فيها أن قال لابنه: خف الله عزّ وجلّ خيفة لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك". 
 
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: "كان أبي يقول: إنّه ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وُزن هذا لم يزد على هذا"1.
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: إنّ هذا الحديث الشريف يدلّ على: "أن كلّاً من الخوف والرجاء يجب أن يصل إلى مرتبة الكمال، ولا يجوز اليأس من رحمة الله أبداً، ولا الأمان من مكره مطلقاً"2.
 
مفهوم الرجاء والخوف
الرجاء: هو الانتظار والأمل بالمستقبل، أي إذا كان المنتظر محبوباً فإنّه يتعلّق به القلب ويشعر باللذّة والارتياح فيُسمّى هذا بالرجاء. ولذا فإنّ أسباب الرجاء تؤول إلى لطف الله وجوده وسعة رحمته وعفوه وغفرانه ووفور إحسانه، وما على الإنسان المؤمن إلاّ القيام بالعمل الصالح والسعي نحو مرضاة الله تبارك وتعالى والتدرّج في الكمال الروحيّ حيث الفوز بنعيم الجنّة والرضوان.
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 67.
2- الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره ح14، ص269.
 
 
 
95

79

رجاء الخائفين

الخوف: هو الخشية والألم والاضطراب، أي إذا كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب سُمّي خوفاً وإشفاقاً ووجلاً ورهبةً. ولذا فإنّ أسباب الخوف ترجع إلى نقص العبد وتقصيره وسوء أعماله وقصوره عن الوصول إلى مراتب القرب والوصال وانهماكه فيما يوجب الخسران والوبال، فضلاً عن النظر إلى شدّة بأس الله وبطشه وما أوعد العاصين من عباده فهو أيضاً موجب للخوف.
 
المؤمن وحقيقة الرجاء
يقول أرباب القلوب: "إنّ الدنيا مزرعة الآخرة". لذا يشبِّهون قلب الانسان المؤمن بالأرض، والإيمان بالبذر فيها، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها. أمّا قلب الإنسان غير المؤمن المستغرِق في الدنيا، فهو كالأرض السبخة (الصلبة واليابسة) الّتي لا ينمو فيها البذر.
 
بالتالي فإنّ يوم القيامة هو يوم الحصاد، ولا يحصد أحدٌ إلاّ ما زرع في الدنيا، ولا ينمو زرع إلاّ من بذر الإيمان، ولا ينفع إيمان مع خُبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو بذر في أرض سبخة.
 
ولهذا ينبغي أن يُقاس رجاء العبد للمغفرة برجاء صاحب الزرع، فكلّ من طلب أرضاً طيّبة وألقى فيها بذراً جيّداً غير عفن ولا مسوِّس، ثم أمدّه بما يحتاج إليه وهو سياق الماء إليه في أوقاته ثم نقّى الأرض من الشوك والحشيش، وما يمنع نبات البذر أو يُفسده، ثم جلس منتظِراً من فضل الله رفع الصواعق والآيات المفسدة إلى أن يُثمر الزرع ويبلغ غايته، سُمِّي انتظاره رجاء. وأمّا إن بثّ البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصبّ الماء إليها، ولم يُشغل بتعهّد البذر أصلاً ثم انتظر حصاد الزرع يُسمّى انتظاره حمقاً وغروراً، لا رجاء. وإن بثّ البذر في أرض طيّبة ولكن لا ماء لها، وينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا يمتنع، سُمّي انتظاره تمنّياً لا رجاء1.
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج67، ص352 ـ 355.
 
 
 
96

 

80

رجاء الخائفين

إذاً نستنتج أن العبد المؤمن هو من بذر في قلبه بذور الإيمان، وسقاها بماء الطاعة الخالصة، وطهّر القلب من المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وأمثالهما الّتي تُعدّ بمثابة الأعشاب الضارّة العائقة لنموّ الزرع، ثمّ انتظر فضل الله ورجاءه أن يثبّته على الحقّ حتّى آخر نفس في حياته، وأن يجعل عاقبته حسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة، بذلك يكون انتظاره رجاء حقيقيّاً محموداً ومستحسناً، يقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِين آمنُواْ والّذِين هاجرُواْ وجاهدُواْ فِي سبِيلِ اللهِ أُوْلـئِك يرْجُون رحْمت اللهِ واللهُ غفُورٌ رّحِيمٌ1. عن الحسن بن أبي سارة قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو"2.
 
بينما العبد الّذي انقطع عن بذر الإيمان وتعهّده بسقيه من ماء الطاعات، أو ترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذّات الدنيا، وفيما يكرهه الله، ولا يذمّ نفسه عليه، ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بثّ البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهّده بسقي ولا تنقية ثمّ انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور، قال تعالى: ﴿فخلف مِن بعْدِهِمْ خلْفٌ ورِثُواْ الْكِتاب يأْخُذُون عرض هذا الأدْنى ويقُولُون سيُغْفرُ لنا...﴾3. وفي الكافي باسناده عن ابن أبي نجران، عمّن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قلت له: قوم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو، فلا يزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت، فقال: هؤلاء قوم يترجّحون (الترجّح: الميل، يعنى مالت بهم عن الاستقامة أمانيهم الكاذبة) في الأماني، كذبوا، ليسوا براجين، إنّ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف من شيء هرب منه"4.
 

1- البقرة:218.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص71.
3- الأعراف:169.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 68، ح5.
 
 
 
97

 

81

رجاء الخائفين

تعادل الخوف والرجاء عند المؤمنين
إنّ الخوف ليس ضدّ الرجاء، بل هو رفيق له وباعث آخر بطريق الرهبة، كما أنّ الرجاء باعث بطريق الرغبة. فلا بدّ أن يكون العبد دائماً بين الخوف والرجاء في دار الدنيا، لا يغلب أحدهما على الآخر، بل يكونان متساويين لا إفراط أو تفريط فيهما، قال الإمام عليّ عليه السلام: "خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف"1 وقال الإمام الصادق عليه السلام: "كان أبي عليه السلام يقول: ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء. ولو وُزن هذا لم يزد على هذا ولو وزن هذا لم يزد على هذا"2.
 
إذ لو رجح الرجاء لزم الأمن وهو في غير موضعه، قال تعالى: ﴿أفأمِنُواْ مكْر اللّهِ فلا يأْمنُ مكْر اللّهِ إِلاّ الْقوْمُ الْخاسِرُون﴾3. ولو رجح الخوف لزم اليأس الموجب للهلاك، قال سبحانه: 

﴿... ولا تيْأسُواْ مِن رّوْحِ اللّهِ إِنّهُ لا ييْأسُ مِن رّوْحِ اللّهِ إِلاّ الْقوْمُ الْكافِرُون﴾4.
 
يُعلِّق الإمام الخمينيّ قدس سره على هذه المسألة، قائلاً: "... يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحقّ في منتهى العظمة والجلال، وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين النظرتين دائماً في حال متوازية بين الخوف والرجاء. وحيث إنّ الأسماء الجلاليّة والجماليّة تتجلّى في قلب السالك بصورة متعادلة لا يترجّح كلٌّ من الخوف والرجاء على الآخر"5.
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 826، ح 4.
2- وسائل الشيعة، ج15، ص216، ح1.
3- الأعراف:99.
4- يوسف:87.
5- الأربعون حديثاً، ح14، ص278.
 
 
98

 

82

رجاء الخائفين

خطر اليأس من رحمة الله الواسعة وآثاره
إنّ حقيقة الرجاء- كما سبق وأشرنا إليه - ليس فقط زرع الإيمان بالله في القلب وسقيه بالطاعة والعبادة، بل لا بدّ من الاستمرار في مراقبة هذا الإيمان القلبيّ والتعهّد بعدم ارتكاب المعاصي والذنوب، وأن لا يسمح بدخول اليأس إلى حرم قلبه أبداً، لأنّ اليأس هو حالة مضادّة للرجاء ويمنع من التعهّد والاستمرار في تعلّق الأمل بالله تعالى.
 
قال تعالى: ﴿لا يسْأمُ الْإِنسانُ مِن دُعاء الْخيْرِ وإِن مّسّهُ الشّرُّ فيؤُوسٌ قنُوطٌ1.
 
وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الفاجر الراجي لرحمة الله تعالى أقرب منها من العابد المقنط"2.
 
ولذا فإنّ تورّط الإنسان في الذنوب والمعاصي يؤدّي به إلى الابتلاء بالقنوط واليأس، وهما من الآثار المدمّرة لحياة الإنسان حيث يعيش حالة من الاحباط والضياع الدائم في الدنيا والآخرة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يبعث الله المقنطين يوم القيامة مغلّبة وجوههم يعني غلبة السواد على البياض فيُقال لهم: هؤلاء المقنطون من رحمة الله"3.
 
ولكن بالرغم من ذلك فإنّ المولى عزّ وجلّ لم يُغلق باب العفو والتوبة أمام عباده، بل منّ عليهم برحمته الواسعة الّتي شملت كلّ شيء، وجعل بدل السبيل الواحد سبلاً للعودة إلى الحضرة الإلهيّة، ومن تلك السبل الاستغفار ورجاء المغفرة. يقول الإمام عليّ عليه السلام: "عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار"4. وقال الإمام الصادق عليه السلام: "أرج الله رجاءً لا يُجرّئك على معاصيه وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته"5.
 

1- فصلت:49.
2- كنز العمال، ج3، ص140، ح 5869.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج2، ص55، ح30.
4- نهج البلاغة، ج4، ص 19.
5- أمالي الصدوق، ص 65، ح5.
 
 
 
99

83

رجاء الخائفين

صفات الخائفين والراجين الله تعالى
1- لا يخافون إلا الله عزّ وجلّ، قال تعالى حاكياً عن ابن آدم عليه السلام: ﴿إِنِّي أخافُ الله ربّ الْعالمِين﴾1، وقال الإمام الصادق عليه السلام: "من خاف الله عزّ وجلّ أخاف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله عزّ وجلّ أخافه الله من كلّ شيء"2.
 
قصة لليقظة...
روي عن ليث بن أبي سليم، قال: سمعت رجلاً من الأنصار يقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستظلّ بظلّ شجرة في يوم شديد الحرّ، إذ جاء رجل فنزع ثيابه ثمّ جعل يتمرّغ في الرمضاء(الصحراء) يكوي ظهره مرّة، وبطنه مرّة، وجبهته مرّة، ويقول: يا نفس ذوقي فما عند الله عزّ وجلّ أعظم مما صنعت بك. ورسول الله ينظر إلى ما يصنع، ثمّ إنّ الرجل لبس ثيابه ثمّ أقبل فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده ودعاه فقال له: "يا عبد الله لقد رأيتك صنعت شيئاً ما رأيت أحداً من الناس صنعه فما حملك على ما صنعت؟"
 
فقال الرجل: حملني على ذلك مخافة الله عزّ وجلّ. وقلت لنفسي: يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم ممّا صنعت بك. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لقد خفت ربّك حقّ مخافته فإنّ ربّك ليباهي بك أهل السماء"، ثم قال لأصحابه: "يا معاشر من حضر أدنوا من صاحبكم حتّى يدعو لكم"، فدنوا منه فدعا لهم وقال: "اللّهمّ اجمع أمرنا على الهدى، واجعل التقوى زادنا والجنّة مآبنا"3.
 

1- المائدة:28.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 67، ص 381.
3- م. ن، ج 83، ص 52.
 
 
100
 

 

 


84

رجاء الخائفين

2- الرجاء والخشية من الله تعالى فقط، قال تبارك: ﴿وترْجُون مِن اللهِ ما لا يرْجُون1، ﴿لقدْ كان لكُمْ فِي رسُولِ اللهِ أُسْوةٌ حسنةٌ لِّمن كان يرْجُو الله والْيوْم الْآخِر وذكر الله كثِيرًا﴾2، وقال سبحانه: ﴿الّذِين يُبلِّغُون رِسالاتِ اللهِ ويخْشوْنهُ ولا يخْشوْن أحدًا إِلّا الله وكفى بِاللهِ حسِيبًا﴾3.
 
قصة للعبرة..
روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "كان عابد من بني إسرائيل فطرقته امرأة باللّيل فقالت له: أضفني، فقال: امرأة مع رجل لا يستقيم، قالت: إني أخاف أن يأكلني السبع فتأثم، فخرج وأدخلها، قال: والقنديل بيده فذهب يصعد به، فقالت له: أدخلتني من النور إلى الظلمة، قال: فردّ القنديل، فما لبث أن جاءته الشهوة، فلما خشي على نفسه قرّب خنصره إلى النار فلم يزل كلما جاءته الشهوة أدخل إصبعه النار حتّى أحرق خمس أصابع فلمّا أصبح قال: أخرجي فبئست الضيفة كنت لي"4.
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة الله عزّ وجلّ حرّم الله عليه النار، وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله ﴿ولِمنْ خاف مقام ربِّهِ جنّتانِ﴾"5.
 
3- التسابق إلى الأعمال الصالحة والتقرّب من الله تبارك، وتجنّب المعاصي والذنوب، قال تعالى: ﴿والسّابِقُون السّابِقُون * أُوْلئِك الْمُقرّبُون * فِي جنّاتِ النّعِيمِ﴾6. وفي آية أخرى قال تبارك: ﴿وأمّا منْ خاف مقام ربِّهِ ونهى النّفْس عنِ الْهوى * فإِنّ الْجنّة هِي الْمأْوى﴾7.
 

1- النساء:104.
2- الأحزاب، الآية:21.
3- الفتح:6.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج67، ص 401.
5- أمالي الصدوق، ص 515، والآية في سورة الرحمن:46.
6- الواقعة:12.
7- النازعات:41.
 
101
 

85

رجاء الخائفين

4- عدم الغفلة عن ذكر الله سبحانه، روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "في حكمة آل داود يا ابن آدم كيف تتكلّم بالهدى وأنت لا تفيق عن الردى يا ابن آدم أصبح قلبك قاسياً وأنت لعظمة الله ناسياً فلو كنت بالله عالماً وبعظمته عارفاً لم تزل منه خائفاً، ولمن وعده راجياً، ويحك كيف لا تذكر لحدك، وانفرادك فيه وحدك؟"1.
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّ المؤمن لا يُصبح إلا خائفاً وإن كان مُحسِناً، ولا يُمسي إلا خائفاً وإن كان مُحسِناً، لأنّه بين أمرين: بين وقت قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد اقترب لا يدري ما يُصيبه من الهلكات"2.
 
قصة معبّرة..
روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "مرّ سلمان (رضي الله عنه) على الحدّادين بالكوفة، فرأى شاباً قد صُعِق، والناس قد اجتمعوا حوله، فقالوا له: يا أبا عبد الله هذا الشابّ قد صُرِع، فلو قرأت في أُذُنه، قال: فدنا منه سلمان، فلما رآه الشابّ أفاق وقال: يا أبا عبد الله ليس بي ما يقول هؤلاء القوم، ولكنّي مررت بهؤلاء الحدّادين وهم يضربون المرزبات (المرزبات جمع المرزبة: عُصيّة من حديد)، فذكرت قوله تعالى: ﴿ولهُم مّقامِعُ مِنْ حدِيدٍ﴾3 فذهب عقلي خوفاً من عقاب الله تعالى، فاتّخذه سلمان أخاً، ودخل قلبه حلاوة محبّته في الله تعالى، فلم يزل معه حتّى مرض الشاب فجاءه سلمان فجلس عند رأسه وهو يجود بنفسه فقال: يا ملك الموت ارفق بأخي، قال: يا أبا عبد الله إنّي بكلّ مؤمن رفيق"4
 

1- أمالي الطوسي، ص 203، ح 48.
2- أمالي الطوسي، ج 2، ص 208، ح 7.
3- الحج:21.
4- أمالي المفيد، ص 136، ح 4.
 
 
102
 

86

رجاء الخائفين

5- عدم الرضى عن النفس، أي الخائف والراجي الله سبحانه لا يرضى بالقليل من العمل، حتّى لو عمل كثيراً فيعتبر نفسه ما زالت قاصرة ومقصّره، وهذا ما يجعله مشغولاً باستمرارية مراقبة النفس ومحاسبتها وتوبيخها على كلّ تقصير، بغية الاحتراز من تضييع أنفاسه وأوقاته في غير مرضاة الله جلّ جلاله وعبادته له. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قدسيّ عن ربّ العالمين: "لا يتّكل العاملون على أعمالهم الّتي يعملون بها لثوابي، فإنّهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين، غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي، فيما يطلبون من كرامتي والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا وفضلي فليرجوا، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا، فإنّ رحمتي عند ذلك تُدركهم وبمنّي أُبلّغهم رضواني وأُلبسهم عفوي، فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسمّيت"1.
 
وقفة تأمّل:
بعد هذه القصص المذكورة لا بُدّ أن نسأل أنفسنا:
أين هي تلك القلوب الخائفة من الله؟ وأين تلك النفوس الخاشعة لله؟ وأين تلك الأرواح الراهبة الله؟
 
وهل تتلاءم أعمالنا وما يصدر عنّا من أفعال وسلوكيّات مع الخشية من جبار الأرض والسماء؟
 
وهل يراقب الله في أعمالنا وتصرفاتنا مع الناس ومع الوالدين ومع الزوجة والزوج والأولاد؟
 
أم هل سلب الله عزّ وجلّ من قلوبنا وأفئدتنا الخشية والرهبة منه؟
 

1- أمالي الطوسي، ص 212، ح 18.
 
 
 
103

 

87

رجاء الخائفين

وهل أضحى الخوف والرجاء من الله لقلقة لسان نتشدّق بها في مساجدنا وجوامعنا وفي دعائنا وصلاتنا؟
 
وهل تطمئن قلوبنا وتستقرّ بذكر اسمه جلّ جلاله؟
 
وهل تتأثّر قلوبنا وتتفاعل أنفسنا عند سماع موعظة أو عبرة؟ أم لا نتفاعل ولا نتأثرّ وتبقى قلوبنا قاسية كالحجارة بل أشدّ من ذلك؟!
 
وهل أعددنا أنفسنا لرحلة القبر وضغطته؟ وهل نقدر على أن نُجيب عن أسئلة منكر ونكير؟
 
وهل تهيّأنا لتلك الساعة الّتي تصطك فيها الرُّكبُ وترتعش الأجسام وتقشعرّ الأبدان لهول الموقف والحساب؟
 
وهل استعددنا ليوم تشخص فيه القلوب والأبصار...؟
 
ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب! فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري! أما آن لي أن استحي من ربي؟!
 
آه.. آه... ليْت شِعْري ألِلشّقاءِ ولدتْني اُمّي، امْ لِلْعناءِ ربّتْني، فليْتها لمْ تلِدْني ولمْ تُربِّني!
 
 
المفاهيم الأساس
1- إنّ الخوف والرجاء هما من صفات المؤمن الواثق بالله تبارك وتعالى. 
 
2- من صفات الخائفين والراجين من الله تعالى:
 
 
 
104

 

88

رجاء الخائفين

- عدم اليأس من رحمة الله الواسعة لكلّ شيء.
- لا يخاف المؤمن إلا من الله تعالى
- الرجاء والخشية من الله تعالى فقط.
- التسابق إلى الخيرات والعمل الصالح وتجنّب معصية الله سبحانه.
- مراقبة النفس ومحاسبتها على أيّ تقصير أو ذنب.
- عدم الرضا بالعمل القليل، وأن يرى الإنسان نفسه دائماً في تقصير مهما عمل في حياته.
 
للمطالعة
قال طاووس الفقيه: رأيته - الإمام السجاد عليه السلام - يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فلما لم ير أحداً رمق السماء بطرفه، وقال: "إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرصات القيامة".
 
 
ثم بكى وقال: "وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟ فواسوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمخفّين جوزوا، وللمثقلين حطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي كلّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربّي؟ !" ثم
 
 
105

 

89

رجاء الخائفين

بكى وأنشأ يقول:
أتُحرقني بالنار يا غاية المنى      فأين رجائي ثمّ أين محبّتي 
أتيت بأعمال قباح زريّة            وما في الورى خلْق جنى كجنايتي
 
ثم بكى وقال:
"سبحانك تُعصى كأنّك لا تُرى، وتحلم كأنّك لم تُعص، تتودّد إلى خلقك بُحسن الصنيع كأنّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيّدي الغنيّ عنهم".
 
ثم خرّ إلى الأرض ساجداً.
 
قال (طاووس الفقيه): فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتّى جرت دموعي على خدّه، فاستوى جالساً وقال: "من الذي أشغلني عن ذكر ربي؟".
 
فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ وأمّك فاطمة الزهراء، وجدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !! 
 
قال: فالتفت إليّ وقال:
"هيهات هيهات يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأمّي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أما سمعت قوله تعالى: ﴿فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ فلا أنساب بيْنهُمْ يوْمئِذٍ ولا يتساءلُون﴾1؟ والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تُقدّمها من عمل صالح"2.
 

1- المؤمنون:101.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج46، ص82.
 
 
106
 

90

نعمة الشكر

من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"سيدي! عليك مُعوّلي ومُعتمدي ورجائي وتوكّلي، وبرحمتك تعلّقي، تُصيب برحمتك من تشاء، وتهدي بكرامتك من تُحبّ. اللّهمّ فلك الحمد على ما نقّيت من الشرك قلبي، ولك الحمد على بسط لساني، أفبلساني هذا الكالّ أشكرك أم بغاية جهدي في عملي أُرضيك وما قدر لساني يا ربّ في جنب شكرك وما قدر عملي في جنب نعمك وإحسانك إلا أنّ جودك بسط أملي، وشكرك قبل عملي".
 
 
 
107


 

91

نعمة الشكر

تمهيد:
إنّ من الحقوق الإسلامية حقّ شكر الإنسان الّذي أكرمنا، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "أمّا حقّ ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه، وتُكسبه المقالة الحسنة، وتُخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عزّ وجلّ، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّاً وعلانية، ثمّ إنْ قدرت على مكافأته يوماً كافيته"1.
 
بل شكر الناس على معروفهم وكرمهم من شكر الله تعالى، فعن الإمام الرضا عليه السلام: "من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّ وجلّ"2.
 
إذا كان الإسلام العزيز أراد منّا أن نُعزّز العلاقة والمحبّة فيما بيننا عبر أداء واجب الشكر والثناء للمخلوقين عباد الله تعالى على إكرامهم لنا، فكيف إذا كان المنعم والمكرم هو ربّ العالمين وخالق الكون وهو الله جلّ جلاله، الّذي تعجز الخلائق عن إحصاء نعمه عليهم، فضلاً عن عجزهم عن الثناء والحمد عليها؟ 
 
وهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يُعرّفنا بهذه الحقيقة في مناجاة الشاكرين: "إلهي أذهلني عن إقامة شُكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك... فآلاؤك جمّة، ضعُف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها"3.
 

1- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 568، ح 1.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، الشيخ الصدوق، ج1، ص 27، ح 2.
3- مفاتيح الجنان، الصحيفة السجّاديّة.
 
 
 
109

 

 


92

نعمة الشكر

فهل سألنا أنفسنا ما هو مقدار شكرنا وثنائنا أمام عظيم نعمه وفضله تبارك وتعالى؟ 
 
يُجيبنا الإمام عليه السلام: "إلهي، تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إيايّ ثنائي ونشري". 
 
فبالرغم من شكرنا وثنائنا وحمدنا فلا بدّ أن نعترف بصغر ذلك، وأن نعترف بتقصيرنا وإهمالنا في شكر الله تعالى على عظيم نعمه: "وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالإهمال والتضييع". بل لا بدّ أن نسأل أنفسنا مجدّداً: أليس شكرنا لله تعالى يحتاج إلى شكره على نعمة التوفيق والقدرة الّتي وهبنا إيّاها للقيام بواجب الشكر له؟ 
 
فسيّد الساجدين عليه السلام يُرشدنا – أيضاً - إلى هذه الحقيقة: "فكيف لي بتحصيل الشكر، وشُكري إيّاك يفتقر إلى شكر؟! فكلّما قلت: لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد"1.
 
وهذا ما أسماه أمير المؤمنين عليه السلام شكر الشكر في قوله: "من شكر الله سبحانه وجب عليه شُكر ثانٍ، إذ وفّقه لشكره، وهو شُكر الشكر".2
 
ولكن بأيّ لسان نشكر الله سبحانه؟! "أفبلساني هذا الكالّ أشكرك..؟".
 
الله جلّ جلاله غفور شكور
من أسماء الله الحسنى الغافر والشاكر والمحسن لمن آمن به وشكر نعمه، الّتي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده. جاء في محكم كتابه العزيز قوله: ﴿ذلِك الّذِي يُبشِّرُ اللهُ عِبادهُ الّذِين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ قُل لّا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْرًا إِلّا الْمودّة فِي الْقُرْبى ومن يقْترِفْ 
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج91، ص 146.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1487، ح 1.
 
 
 
110

 

93

نعمة الشكر

حسنةً نّزِدْ لهُ فِيها حُسْنًا إِنّ الله غفُورٌ شكُورٌ﴾1، وقوله: ﴿وقالُوا الْحمْدُ لِلّهِ الّذِي أذْهب عنّا الْحزن إِنّ ربّنا لغفُورٌ شكُورٌ﴾2.
 
جلّ ثناؤه فقد عدّ الأعمال الصالحة إحساناً من العبد إليه، فجازاه بالشكر والإحسان، وهو إحسان على إحسان، وهو القائل: ﴿هلْ جزاء الْإِحْسانِ إِلّا الْإِحْسانُ3.
 
ولهذا يعتبر السيّد الطباطبائيّ- في تفسير الميزان- إطلاق (مسمّى الشاكر) عليه تعالى أنّ المراد منه حقيقة معنى كلمة (الشاكر) لا المعنى المجازيّ4.
 
لذا نقرأ في الدعاء: "يا خير ذاكر ومذكور، يا خير شاكر ومشكور"5.
 
كيف هي حقيقة شكرنا لله تعالى؟
إنّ شكر الله تعالى حقّ شكره على عظيم نعمه وخيره لا تكون فقط بتحريك اللسان، بل حقيقة الشكر لله سبحانه تنبع من علم العبد، الفقير في كلّ شيء، بأنّه بحاجة مستمرّة لتوالي النعم عليه من الغنيّ في كلّ شيء، وأن يقطع قطع اليقين بأنّ كلّ ما يتقوّم به هذا العبد الفقير من مقوّمات الحياة: المأكل والمشرب والملبس، قيامه وقعوده، نومه واستيقاظه.. إلخ، هي من مالك السموات والأرضين ربِّ العالمين.
 
قال الإمام الصادق عليه السلام: "أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حقّ شكري. 
 
فقال عليه السلام: "يا ربّ كيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به عليّ"؟! 
 

1- الشورى:23.
2- فاطر:34.
3- الرحمن:60.
4- تفسير الميزان، ج 1، ص 386.
5- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 91، ص 396.
 
 
111

 

94

نعمة الشكر

فقال (عزّ وجلّ): يا موسى شكرتني حقّ شكري حين علمت أنّ ذلك منّي"1.
 
وعنه عليه السلام: "من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدّى شكرها"2
 
كما أنّه لا بُدّ أن يعلم هذا العبد الفقير أنّ تمام الشكر لا بُدّ أن يقترن بالاعتراف بالتقصير والعجز في القدرة على بلوغ أدنى درجات الشكر لله سبحانه، والعجز حتّى عن الثناء عليه برغم غناه عن شكرنا وثنائنا، قال الإمام الصادق عليه السلام: "تمام الشكر اعتراف لسان السرّ خاضعاً لله تعالى بالعجز عن بلوغ أدنى شكره، لأنّ التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها"3
 
هذا كلّه في جانب المعرفة القلبية، أمّا في جانب الممارسة العملية لكي يكون العبد شكوراً لله تعالى، ولكي لا يُبتلى ببلاء النفاق، فإنّه لا بدّ أن يترجم شكره عملياً ويظهره في سلوكه من خلال تجنّب محارم الله، وعدم اقتراف المعاصي والذنوب، قال الإمام علي عليه السلام: "شُكر المؤمن يظهر في عمله، وشُكر المنافق لا يتجاوز لسانه"4
 
وعنه عليه السلام: "شُكر كلِّ نعمة الورع عن محارم الله"5. 
 
وإذا أراد الإنسان أن يعصي الله تعالى- والعياذ بالله- فبماذا يعصي؟ وكيف له أن يجترئ على المولى عزّ وجلّ بذلك؟
 
فإنّ كلّ الأدوات والوسائل الّتي يُريد أن يعصي بها الإنسان ربّه هي من نعم الله سبحانه، فإن عصى بلسانه أو بيده أو بنظره أو بسمعه أو بأيّ جارحة من جوارحه فكلّ الجوارح هي نعم الله عليه، وهذا ما نبّهنا عليه أمير المؤمنين عليه السلام حينما قال: "أقلّ ما يلزمكم لله ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه"6.
 

1- قصص الأنبياء للراوندي، ص 164، ح 178.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 96، ح 15.
3- بحار الأنوار، للعلّامة المجسليّ، ج 68، ص 52، ح 77.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1488، ح 2.
5- مشكاة الأنوار، علي الطبرسي، ص 77.
6- نهج البلاغة، الحكمة 330.
 
 
112

 

95

نعمة الشكر

ولذا رسم لنا الإمام عليّ عليه السلام منهجاً متدرّجاً وواضحاً لكي لا نخسر منزلة الشاكرين لله تعالى، حيث قال عليه السلام: "حقّ على من أُنعم عليه أن يُحسن مكافأة المنعِم.

فإن قصّر عن ذلك وِسْعه فعليه أن يُحسن الثناء. 

فإنّ كلّ عن ذلك لسانه فعليه بمعرفة النعمة ومحبّة المنعِم بها.
 
فإن قصّر عن ذلك فليس للنعمة بأهل"1.
 
من آثار شُكر المنعِم
هناك العديد من الآثار الحسنة الّتي تنعكس خيراً على الإنسان جرّاء أدائه واجب شُكر المنعِم والمفضِل عليه وهو الله عزّ وجلّ، وهذه الآثار الحسنة لا تقتصر على الدنيا فقط، بل تشمل حتّى الأخرى. ومن تلك الآثار الحسنة ما يلي:
 
1- الزيادة في النعمة والسعة في الرزق، قال تعالى: ﴿.. لئِن شكرْتُمْ لأزِيدنّكُمْ ولئِن كفرْتُمْ إِنّ عذابِي لشدِيدٌ﴾2. وورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه، وحمد الله ظاهراً بلسانه فتمّ كلامه، حتّى يؤمر له بالمزيد"3.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "من أُعطي الشكر لم يُحرم الزيادة"4
 
ولذا فإنّ المزيد من عطاء الله وجوده وكرمه على الإنسان لا ينقطع، إلا إذا انقطع الشكر، كما يقول الإمام الباقر عليه السلام: "لا ينقطع المزيد من الله حتّى ينقطع الشكر


1- أمالي الطوسي، ص 501، ح 4.
2- إبراهيم:7.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 95، ح 9.
4- نهج البلاغة، الحكمة 135.
 
 
113

 

 


96

نعمة الشكر

على العباد"1، ولهذا يجب أن لا نعيش حالة العجز والإهمال في شكر الله تعالى، ثمّ نبتغي الزيادة في النعم والخير من الله، وهذا ما أشار له الإمام عليّ عليه السلام حينما يقول: "لا تكن ممّن يعجز عن شكر ما أُوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي"2
 
2- القطع بأنّ كلّ النعم والخير النازل علينا هي من الله وحده، يوجب الرحمة والمغفرة الإلهية على الإنسان قبل أن نبادر بالشكر والحمد والثناء عليه تبارك وتعالى، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنّها من عند الله، إلّا غفر الله له قبل أن يحمده"3.
 
3- نفي العذاب الإلهيّ عن الشاكر لله على نعمه والمؤمن بفضله وكرمه، إذ ورد في الآية الكريمة: ﴿مّا يفْعلُ اللهُ بِعذابِكُمْ إِن شكرْتُمْ وآمنتُمْ وكان اللهُ شاكِرًا علِيمًا﴾4، بل الشاكر مأمون من غضب الله وحلول النقم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "شُكر النعمة أمان من حلول النقمة"5
 
4- إنّ الله غنيّ كلّ الغنى عن شكرنا وحمدنا وثنائنا له، بالتالي حتّى هذا الأمر أراده لنا عزّ وجلّ نعمة علينا، فالشاكر يشكر لنفسه واقعاً، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿ومن شكر فإِنّما يشْكُرُ لِنفْسِهِ ومن كفر فإِنّ ربِّي غنِيٌّ كرِيمٌ6، وفي الآية: ﴿ولقدْ آتيْنا لُقْمان الْحِكْمة أنِ اشْكُرْ لِلّهِ ومن يشْكُرْ فإِنّما يشْكُرُ لِنفْسِهِ ومن كفر فإِنّ الله غنِيٌّ حمِيدٌ﴾7.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الطاعم الشاكر له من الأجر
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1487.
2- نهج البلاغة، حكمة، 15.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 427، ح 8.
4- النساء:147.
5- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1484.
6- النمل:40.
7- لقمان:12.
 
 
114

 

 


97

نعمة الشكر

 كأجر الصائم المحتسِب، والمعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، والمعطي الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع"1
 
5- يتّصف الإنسان الشاكر لله بالقناعة والإيمان بالعدل الإلهيّ في توزيع النعم طبقاً لما تقتضيه المصلحة الإلهية، قال الإمام عليّ عليه السلام: "أشكر الناس أقنعهم، وأكفرهم للنعم أجشعهم"2، بل ينال الشاكر لله درجة أكرم الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام - لمّا سئل عن أكرم الخلق على الله - قال: "من إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر"3.
 
أما في المقابل فإنّ عدم الشكر يجعل الإنسان متّصفاً بالجشع واللؤم وعدم القناعة بما يُنعم به الله عليه، فعن الإمام الحسن عليه السلام: "اللؤم أن لا تشكر النعمة"4.
 
6- إنّ الشاكر لله تعالى يفوز بنعمة ذكر الله له، وما أعظمها من نعمة، وهنيئاً لمن يفوز بهذه النعمة الموعودة في قوله تعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ واشْكُرُواْ لِي ولا تكْفُرُونِ5.
 
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنّه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني"6، وعن الإمام الصادق عليه السلام: قال الله تعالى: "ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، أذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملائك"7.
 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال الله سبحانه: "إذا علِمتُ أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 94، ح 1.
2- الإرشاد، ج 1، ص 304
3- التمحيص، الإسكافي، ص 68، ح 163.
4- تحف العقول، الحراني، ص 233.
5- البقرة:152.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 90، ص 163.
7- المحاسن، البرقي، ج 1، ص 39، ح 44.
 
 
 
115

 

98

نعمة الشكر

نقلت شهوته في مسالّتي ومناجاتي، فإن كان عبدي كذلك وأراد أن يسهو حُلْت بينه وبين أن يسهو"1.
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: "فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان"2
 
ولهذا لا بُدّ للمؤمن أن يكون شاكراً وذاكراً لله تعالى في كلّ الأحوال والظروف الحسنة منها أو السيّئة، لأنّ لطف الله غير بعيد في كلّ هذا، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يقول إذا ورد عليه أمر يسرّه: "الحمد لله على هذه النعمة. وإذا ورد عليه أمر يغتمّ به قال: الحمد لله على كلّ حال"3
 
ومن هذا المبدأ فإنّه لا بدّ أن يكون شعار المؤمن الشكر دائماً وأبداً، وهذا ما يؤيّده قوله تعالى: ﴿بلِ الله فاعْبُدْ وكُن مِّنْ الشّاكِرِين﴾4.
 
عاقبة عدم شُكر النعمة
إنّ تكبُّر الفرد أو المجتمع على النِّعم الإلهيّة وعدم شُكر المنعِم والثناء عليه، يؤدّي إلى ترتُّب عواقب وخيمة وآثار سيّئة جداً على الجميع، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروا فصارت عليهم وبالاً، وابتلى قوماً بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة"5.
 
وعن الإمام الجواد عليه السلام: "نعمة لا تُشكر كسيّئة لا تُغفر"6
 
ونحن في عالم تتوالى النعم الإلهيّة عليه في الليل والنهار، في الحرب والسلم، في


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 90، ص 162.
2- م. ن، ص 163.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 97، ح 19.
4- الزمر:66.
5- أمالي الصدوق، ص 379، ح 4.
6- أعلام الدين، الديلمي، ص 309.
 
 
116

 

99

نعمة الشكر

الشدّة والرخاء، في المرض والعافية.. وغيرها، وكأنّنا لم نقرأ قوله تعالى: ﴿اللهُ الّذِي جعل لكُمُ اللّيْل لِتسْكُنُوا فِيهِ والنّهار مُبْصِرًا إِنّ الله لذُو فضْلٍ على النّاسِ ولكِنّ أكْثر النّاسِ لا يشْكُرُون﴾1.
 
وقوله تعالى: ﴿ثُمّ لآتِينّهُم مِّن بيْنِ أيْدِيهِمْ ومِنْ خلْفِهِمْ وعنْ أيْمانِهِمْ وعن شمآئِلِهِمْ ولا تجِدُ أكْثرهُمْ شاكِرِين﴾2.
 
وقوله سبحانه: ﴿ولقدْ مكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وجعلْنا لكُمْ فِيها معايِش قلِيلاً مّا تشْكُرُون﴾ ﴿وقلِيلٌ مِّنْ عِبادِي الشّكُورُ﴾3
 
هل هكذا جزاء الإحسان والنِّعم؟!
هل هكذا يُكرم المكرِم؟!ّ
هل هكذا يُردُّ الجميل بأجمله؟!
هل هكذا يُثنى على المعطي؟!
هل هكذا يُشكر المنعِم؟!
لعلّه تصعب علينا الإجابة!
 
ولكن هلمّوا لنستمع إلى وصية الأمير عليه السلام لنا: 
"أوصيكم بتقوى الله... فما أقلُّ من قبِلها، وحملها حقّ حملها! أولئك الأقلّون عدداً، وهم أهل صفة الله سبحانه إذ يقول: ﴿وقلِيلٌ مِّنْ عِبادِي الشّكُورُ﴾"4
 

1- غافر:61.
2- الأعراف:17.
3- الأعراف:10.
4- نهج البلاغة:الخطبة 191.
 
 
 
117

 

100

نعمة الشكر

سجدة الشكر
إنّ من أكثر حالات القرب المعنوي من الله تعالى وأعظمها- كما يُروى- حينما يضع العبد خدّه على التراب ساجداً لله باكياً راجياً جزيل فضله ورحمته، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "أقرب ما يكون العبد من الربّ عزّ وجلّ وهو ساجدٌ باكٍ"1.
 
هذا وقد أجمع العلماء على استحباب السجود لله تعالى عند تجدُّد النعم أو عند دفع البلاء، والأفضل من هذه السجدة ما كان بعد الصلاة شُكراً لتوفيق الله تعالى لأدائها. روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ علي بن الحسين عليه السلام ما ذكر لله عزّ وجلّ نعمة عليه إلّا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عزّ وجلّ فيها سجود إلّا سجد، ولا دفع الله عزّ وجلّ عنه سوءاً يخشاه إلّا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلّا سجد، ولا وفّق لإصلاح بين اثنين إلّا سجد"2.
 
ولذا سُمّي الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام بـ (السجّاد) لكثرة سجوده في جميع المواضع، واتّخذ الله تعالى- كما يقول الإمام الصادق عليه السلام - إبراهيم خليلاً، لكثرة سجوده على الأرض.
 
وعن الإمام الصادق عليه السلام - أيضاً - قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر يسير على ناقة له، إذ نزل فسجد خمس سجدات، فلمّا أن ركب قالوا: يا رسول الله إنا رأيناك صنعت شيئاً لم تصنعه.
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، استقبلني جبرائيل عليه السلام فبشّرني ببشارات من الله عزّ وجلّ، فسجدت لله شكراً لكلّ بُشرى سجدة"3.
 
كما أنّه لا يُستحبّ فقط السجود لله شكراً وحمداً عند تجدُّد النعم أو عند دفع البلاء،
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 483، ح 20.
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 304.
3- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 98.
 
 
118

 

101

نعمة الشكر

بل يُستحب هذا حتّى عند- أو بمجرّد - تذكّرهما1، فقد روى هشام بن أحمر قائلاً: "كنت أسير مع أبي الحسن عليه السلام في بعض أطراف المدينة إذ ثنّى رجله عن دابته فخرّ ساجداً، فأطال وأطال، ثمّ رفع رأسه وركب دابته. 

فقلت: جُعلت فداك قد أطلت السجود! 

فقال عليه السلام: إنّني ذكرت نعمة أنعم الله بها عليّ فأحببت أن أشكر ربّي"2
 
ولهذا أوصانا الإمام الصادق عليه السلام بذلك عندما قال: "إذا ذكر أحدكم نعمة الله عزّ وجلّ فليضع خدّه على التراب شُكراً لله، فإن كان راكباً فلينزل فليضع خدّه على التراب، وإن لم يكن يقدر على النزول للشهرة فليضع خدّه على قربوسه، وإن لم يقدر فليضع خدّه على كفّه، ثمّ ليحمد الله على ما أنعم الله عليه"3
 
أمّا منزلة الساجد لله شُكراً فهي منزلة عظيمة، ولا يعلم بجزيل أجر الشكر وثوابه إلّا الله سبحانه، ففي الخبر قال الإمام الصادق عليه السلام: "..إنّ العبد إذا صلّى ثمّ سجد سجدة الشكر فتح الربّ تعالى الحجاب بين العبد وبين الملائكة. 

فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي أدّى فرضي وأتمّ عهدي ثمّ سجد لي شُكراً على ما أنعمت به عليه. ملائكتي ماذا قال؟

فتقول الملائكة: يا ربّنا رحمتك.

ثمّ يقول الربّ تعالى وتبارك: ماذا له؟

فتقول الملائكة: يا ربّنا جنّتك؟

فيقول الربّ تبارك وتعالى: ماذا؟
 

1- تحرير الوسيلة، ج1، ح 8، ص 161.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 98.
3- م. ن.
 
 
119
 

 


102

نعمة الشكر

فتقول الملائكة: يا ربّنا كفاية مهمّة،

فيقول الربّ تبارك وتعالى: ماذا؟

قال عليه السلام: فلا يبقى شيء من الخير إلا قالته الملائكة، 

فيقول الله تبارك وتعالى: يا ملائكتي ثمّ ماذا له؟

فتقول الملائكة: يا ربّنا لا علم لنا.

قال عليه السلام: فيقول الله تبارك وتعالى: أشكر له كما شكر لي، وأُقبِل إليه بفضلي، وأُرِه رحمتي العظيمة في يوم القيامة"1.
 
المفاهيم الأساس
التوفيق لشُكر المنعِم هي نعمة عظيمة أنعمها الله سبحانه على الإنسان المؤمن، لكي يكون ذاكراً لله تعالى في كلِّ الأحوال والظروف الحسنة منها أو السيّئة.

إنّ شُكر المنعِم لا يكون فقط بالمعرفة القلبيّة، بل لا بُدّ أن يتعدّى ذلك إلى المستوى السلوكيّ لدى الإنسان المؤمن، أي تجنُّب معصية الله تعالى. 

إنّ شُكر المنعِم له آثار عظيمة في الدنيا(كالزيادة في الرزق)، وفي الآخرة (كالنجاة من عذاب الله). أمّا عدم الشكر فله عواقب وخيمة منها حلول النقمة الإلهيّة على الإنسان.
 

1- الوسائل، الحر العامليّ، ج 4، ص 1071.
 
 
120



 

 


103

نعمة الشكر

للمطالعة
 
كيفيّة سجدة الشكر:
يكفي في هذا السجود مجرّد وضع الجبهة على الأرض مع النيّة، والأحوط استحباباً فيه وضع المساجد السبعة، ووضع ما يصحّ السجود عليه، نعم يُعتبر أن لا يكون ملبوساً أو مأكولاً.
 
يُستحبّ فيه افتراش الذراعين، وإلصاق الصدر والبطن بالأرض، ولا يُشترط فيه الذكر، ويُستحب أن يقول: (شُكراً لله) أو (شُكراً شُكراً) مئة مرّة، ويكفي ثلاث مرّات، بل مرّة واحدة.
 
وأحسن ما يُقال فيه ما ورد عن مولانا الإمام الكاظم عليه السلام: "قل وأنت ساجد:
"اللّهم إنّي أُشهدك وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنّك الله ربّي والإسلام ديني ومحمد نبيّي وعليّاً وفلاناً وفلاناً إلى آخرهم أئمّتي بهم أتولّى ومن عدوِّهم أتبرّأ، اللّهم إنّي أُنشدك دم المظلوم - ثلاثاً - اللّهم إنّي أنشدك بإيوائك على نفسك لأوليائك لتظفرنّهم بعدوك وعدوّهم أن تصلّي على محمّد وعلى المستحفظين من آل محمّد اللّهم إنّي أسألك اليُسر بعد العُسر" ثلاثاً، ثمّ تضع خدّك الأيمن على الأرض وتقول: "يا كهفي حين تُعييني المذاهب وتضيق عليّ الأرض بما رحبت ويا بارئ خلقي رحمة بي وقد كان عن خلقي غنيّاً صلّ على محمّد وعلى المستحفظين من آل محمّد". 
 
ثمّ تضع خدّك الأيسر وتقول: "يا مذلّ كلّ جبّار ويا معزّ كلّ ذليل قد وعزّتك بلغ بي مجهودي" ثلاثاً، ثمّ تقول: "يا حنّان يا منّان يا كاشف الكُرب العظام" ثلاثاً. 
 
 
 
121
 
 

 

104

نعمة الشكر

 
ثمّ تعود للسجود فتقول مائة مرة: "شُكراً شُكراً" ثمّ تسأل حاجتك إن شاء الله تعالى"1.
 

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج3، ص 325.
 
 
 
122

 

105

أعمارنا مهر سعادتنا

 من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"يا خير من سُئِل وأجود من أعطى أعطني سؤلي في نفسي وأهلي ووالدي وولدي وأهل حُزانتي وإخواني فيك، وأرغِد عيشي وأظْهِر مروّتي، وأصلح جميع أحوالي، واجعلني ممّن أطلت عمره، وحسّنت عمله، وأتممت عليه نعمتك، ورضيت عنه، وأحييته حياة طيّبة في أدوم السرور وأسبغ الكرامة، وأتمّ العيش، إنّك تفعل ما تشاء ولا يفعل ما يشاء غيرك".
 
 
123
 

106

أعمارنا مهر سعادتنا

تمهيد:
يُعتبر احترام العمر واستغلال الوقت في طاعة الله تعالى من الأهداف السامية في الرؤية الإسلامية، بل العمر حقيقة هو الكنز العظيم والرأسمال الثمين الّذي يملكه كلّ إنسان منّا، والتفريط فيه خسارة كبرى لا تُعوّض أبداً، قال الإمام عليّ عليه السلام: "المرء ابن ساعته"1، وعنه عليه السلام: "ما انقصت ساعة من دهرك إلا بقطعة من عمرك"2.
 
ولذا فإنّ الإنسان يوم القيامة مُحاسب على هذه النعمة، وسوف يُسأل عن كلّ دقيقة وساعة من عمره، أين قضاها؟ وفي ماذا قضاها؟ قضاها في الخير وطاعة الله تعالى أم في السوء ومعصية الله؟!
 
قال تعالى: ﴿واللهُ خلقكُم مِّن تُرابٍ ثُمّ مِن نُّطْفةٍ ثُمّ جعلكُمْ أزْواجًا وما تحْمِلُ مِنْ أُنثى ولا تضعُ إِلّا بِعِلْمِهِ وما يُعمّرُ مِن مُّعمّرٍ ولا يُنقصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلّا فِي كِتابٍ إِنّ ذلِك على اللهِ يسِيرٌ﴾3.
 
بل الله تعالى يحتجّ علينا يوم القيامة بأعمارنا، يوم لا ينفع الندم والبكاء والحسرة، قال تعالى: ﴿وهُمْ يصْطرِخُون فِيها ربّنا أخْرِجْنا نعْملْ صالِحًا غيْر الّذِي كُنّا نعْملُ..﴾4.
 
فيأتينا الجواب الإلهيّ: ﴿أولمْ نُعمِّرْكُم مّا يتذكّرُ فِيهِ من تذكّر وجاءكُمُ النّذِيرُ فذُوقُوا فما لِلظّالِمِين مِن نّصِيرٍ﴾5.
 

1- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 3، ص 2112.
2- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 477.
3- فاطر:11.
4- فاطر:37.
5- فاطر:37.
 
 
125

 

 


107

أعمارنا مهر سعادتنا

 وهذا أمير المؤمنين عليه السلام ينبِّهنا من مصير الشقاء نتيجة الغفلة عن نعمة العمر، ويُخاطبنا بقوله: "فيا لها حسرة على كلّ ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدّيه أيّامه إلى الشقوة!"1.
 
وفعلاً نحن لو عرفنا حقيقة قيمة العمر والوقت كيف يُستثمران في أقصى حالاته الممكنة، ولو ابتعدنا في المقابل عن الإسراف والتبذير فيهما، لما حصل هذا التأخّر والتخلّف الكبيران اللذان تعيشهما الأمّة الإسلاميّة اليوم. 
 
كيف نغتنم نعمة العمر؟
بداية لا بُدّ أن ندرك أنّه لا فرق بين العمر والوقت، بل هما في الواقع حقيقة واحدة، يقول الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ عمرك وقتك الّذي أنت فيه"2.
 
بالتالي لا بُدّ للإنسان المؤمن أن يغتنم فرصة العمر والوقت جيّداً، لأنّ كلّ يوم يمضي من حياتنا يُحذف من رصيد أعمارنا المحدودة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّه لن يستقبل أحدكم يوماً من عمره إلّا بفراق آخر من أجله"3
 
وعنه عليه السلام: "إنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما"4.
 
وعنه عليه السلام - أيضاً-: "ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين (السنة) في العمر!"5.
 
ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك"6.
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 64.
2- ميزان الحكمة، ج 3، ص 2112.
3- نهج البلاغة، الخطبة 145.
4- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 7، ص 137.
5- نهج البلاغة:الخطبة 188.
6- مكارم الأخلاق، ص 460.
 
 
126

 

108

أعمارنا مهر سعادتنا

ويوصينا صلى الله عليه وآله وسلم بأن نبادر بأربع قبل أربع:
"بشبابك قبل هرمك، 
وصحّتك قبل سقمك، 
وغناك قبل فقرك، 
وحياتك قبل مماتك"1.
 
فالمطلوب منّا أن نتطلّع إلى المستقبل وإلى ما نحن مقبلون عليه، وأن لا ننشغل في ما مضى وفات، ونُضيّع بقيّة أعمارنا فيه، قال الإمام عليّ عليه السلام: "الاشتغال بالفائت يُضيِّع الوقت"2، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أُخِذ بالأوّل والآخر"3.
 
ولا بُدّ أن نُصدِّق أنّ ما فات لا يعود أبداً، وهذا ما حذّرنا منه الإمام عليّ عليه السلام: "احذروا ضياع الأعمار فيما لا يبقى لكم، ففائتها لا يعود"4.
 
فالمهمّ هو الاشتغال واغتنام فرصة العمر وما تبقّى منه بالأمور الأساسيّة والملحّة، لا بالأمور الفرعيّة وغير الضروريّة كي لا نُضيِّع بهذا ما هو أهمّ كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من اشتغل بغير المهمِّ ضيّع الأهمّ"5.
 
بذلك نكون قد خطونا الخطوة الأولى في طريق الاغتنام الصحيح والسليم لنعمة العمر وفرصة الوقت الّتي لا تُعوّض بأيّ ثمن.
 

1- الخصال، ص 239، ح 85.
2- بحار الأنوار، ج 68، ص 180.
3- أمالي الصدوق، ص 56، ح 9.
4- ميزان الحكمة، ج 3، ص 2114.
5- م. ن، ص 2114.
 
 
127
 

109

أعمارنا مهر سعادتنا

ولنعِم ما قيل:
الدهر ساومني عمري فقلت له    ما بعِتُ عمري الدنيا وما فيها
ثم اشتراه بتدريج بلا ثمن          تبّت يدا صفقة قد خاب شاريها
 
فيم نغتنم أعمارنا ونستثمرها؟
إنّ أفضل الأمور التي لا بُدّ أن نغتنم أعمارنا فيها ونستثمرها هي طاعة الله وعبادته، لأنّنا بذلك نكون قد حصّلنا مهر سعادتنا في الدنيا والآخرة كما يقول الأمير عليه السلام: "إنّ عمرك مهر سعادتك إن أنفذته في طاعة ربّك"1.
 
بل في ذلك نجاتنا وفوزنا كما يقول الأمير عليه السلام: "إنّ أوقاتك أجزاء عمرك، فلا تُنفد لك وقتاً إلّا فيما يُنجيك"2
 
فالفوز هو في الحياة الطيّبة كما وعدنا المولى عزّ وجلّ في قوله: ﴿منْ عمِل صالِحًا مِّن ذكرٍ أوْ أُنثى وهُو مُؤْمِنٌ فلنُحْيِينّهُ حياةً طيِّبةً ولنجْزِينّهُمْ أجْرهُم بِأحْسنِ ما كانُواْ يعْملُون﴾3.
 
ولذا فإنّ دعاء الإنسان بطول العمر لا بُدّ أن يقترن بالعمل الحسن والصالح، وأن يُفنيه فيما يُرضي الله تعالى ويُقرِّبه منه، لكي يُتمّ الله سبحانه عليه نعمه ويحييه حياة طيّبة ويُسبغ عليه عيشاً كريماً، فالإمام زين العابدين عليه السلام - في دعاء أبي حمزة الثماليّ- يدعو: "واجعلني ممن أطلت عمره، وحسّنت عمله، وأتممت عليه نعمتك، ورضيت عنه، وأحييته حياة طيّبة في أدوم السرور وأسبغ الكرامة وأتمّ العيش"4.
 
ومن دعائه عليه السلام في مكارم الأخلاق: "وعمّرني ما كان عمري بِذْلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك"5.


1- غرر الحكم، ميزان الحكمة، ج 3، ص 2114.
2- م. ن، ص 2114.
3- النحل:97.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 95، ص 91.
5- الصحيفة السجادية، الدعاء 20.
 
 
128

 

110

أعمارنا مهر سعادتنا

فنُلاحظ أنّ الإمام عليه السلام في نهاية الدعاء يُشير إلى مسألة في غاية الأهميّة، وهي أنّه إذا كان طول أعمارنا سيؤدّي بنا إلى أن تكون مرتعاً للشيطان، ثمّ البعد عن رضا الله عزّ وجلّ وطاعته، فالموت والفناء هو أرحم لنا. وهذا ما نبّهنا منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن طال عمره وحسُن عمله فحسُن منقلبه إذ رضي عنه ربّه، وويل لمن طال عمره وساء عمله وساء منقلبه إذ سخط عليه ربّه"1.
 
وهذا ما كانت تدعو به السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام في المناجاة: "اللّهمّ، بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي"2.

أرذل العمر!
قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿واللهُ خلقكُمْ ثُمّ يتوفّاكُمْ ومِنكُم مّن يُردُّ إِلى أرْذلِ الْعُمُرِ لِكيْ لا يعْلم بعْد عِلْمٍ شيْئًا إِنّ الله علِيمٌ قدِيرٌ3.
 
يقول السيّد الطباطبائيّ في تفسير هذه الآية الكريمة: 
كلمة (الأرذل) اسم تفضيل، أي من الرذالة وهي الرداءة والرذل الدون والرديء. والمراد بأرذل العمر بقرينة قوله: (لكي لا يعلم إلخ) سنّ الشيخوخة والهرم الّتي فيها انحطاط قوى الشعور، والإدراك العقليّ، وهي تختلف باختلاف الأمزجة وتبتدئ على الأغلب من عمر الخمس والسبعين.
 
والمعنى: ﴿واللهُ خلقكُمْ ثُمّ يتوفّاكُمْ﴾، أي الله تعالى خلق الناس ثمّ يتوفّاهم، فمنهم يتوفّاهم في عمر متوسّط، ومنهم- كما يقول تعالى-: ﴿ومِنكُم مّن يُردُّ إِلى أرْذلِ الْعُمُرِ﴾، أي يتوفّاهم في سنّ الهرم والشيخوخة، حيث ينتهي إلى أن ﴿لا يعْلم 
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 66، ص 400، ح 95.
2- م. ن، ج 91، ص 225، ح 1.
3- النحل:70.
 
 
129

 

111

أعمارنا مهر سعادتنا

بعد عِلْمٍ شيْئًا﴾ وذلك لضعف القوى الجسديّة والعقليّة لدى الإنسان1.
 
الشاهد والحكمة الإلهيّة!
فلو كانت حياتنا وموتنا وكذا شعورنا وعلمنا بأيدينا، لكنّا اخترنا الحياة والبقاء على الممات والفناء، واخترنا العلم والمعرفة على الجهل والنسيان.
 
ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد أخفى عنّا مدّة أعمارنا ومتى تنتهي، ولم يجعلها في أيدينا، وذلك لحكمة هو أرادها عزّ وجلّ. وقد أشار الإمام الصادق عليه السلام إلى مضمون هذه الحكمة الإلهيّة في حديث له مع أحد أصحابه، يقول عليه السلام فيها: 
 
"تأمّل الآن يا مفضّل ما ستر عن الإنسان علمه من مدّة حياته، فإنّه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنّأ بالعيش مع ترقّب الموت وتوقّعه لوقت قد عرفه، بل كان يكون بمنزلة من قد فني ماله أو قارب الفناء، فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر، على أنّ الّذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم ممّا يدخل عليه من فناء المال، لأنّ من يقلّ ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك، ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس. 
 
وإن كان طويل العمر ثمّ عرف ذلك وثق بالبقاء، وانهمك في اللذّات والمعاصي، وعمل على أنّه يبلغ من ذلك شهوته ثمّ يتوب في آخر عمره... 2
 
فإن قلت: وها هو الآن قد سُتِر عنه مقدار حياته وصار يترقّب الموت في كلّ ساعة يُقارف الفواحش وينتهك المحارم. 
 
قلنا: إنّ وجه التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه، فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي ولا ينصرف عن المساوئ فإنّما ذلك من مرحه (مرح الرجل: اشتدّ فرحه ونشاطه حتى جاوز القدر، وتبختر واختال) ومن قساوة قلبه، لا من خطأ في التدبير. 
 

1- تفسير الميزان، ج12، ص294.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 3، ص 83 - 84.
 
 
130

 

112

أعمارنا مهر سعادتنا

فنستنتج بشكل عام، أنّ الله تبارك وتعالى أراد لنا أن نتدبّر ونعتبر جيّداً من نعمة مرحلة الشباب والقوّة الجسديّة والعقليّة، حيث يُمكننا أن نمارس الأعمال والأنشطة، إلا أنّ هذه المرحلة كما تسبقها مرحلة ضعف الطفولة وعدم الإدراك، أيضاً تعقبها مرحلة العجز والشيخوخة، حيث تتحوّل قوّة الشباب إلى ضعف كما قال تعالى: ﴿ومنْ نُعمِّرْهُ نُنكِّسْهُ فِي الْخلْقِ أفلا يعْقِلُون1.
 
وهنا نعود ونستذكر وصيّة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، حين دعانا إلى أن نبادر بالجدِّ والعمل في شبابنا قبل هرمنا، وفي صحّتنا قبل سقمنا.. بل نعتبر ممّا مضى من أعمارنا، لكي نستفيد منها في حاضرنا ومستقبلنا، ونكون من المحافظين على نعمة العمر. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لو اعتبرت بما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي"2
 
إضافة إلى أنّه لا بُدّ أن لا ننسى أن الأعمار بيد الله سبحانه، وعلينا أن نستثمر مرحلة القوّة والنشاط لنقوم بواجباتنا ومسؤوليّاتنا بُما يرضي الله تعالى قبل نفاذ العمر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قُدِّر له، فبادروا قبل نفاذ الأجل"3.
 
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "رحم الله امرأً علم أنّ نفسه خطاه إلى أجله، فبادر عمله وقصر أمله"4
 
زيادة العمر والبرّ بالوالدين
لقد قرن المولى عزّ وجلّ عبادته وطاعته بالإحسان للوالدين وبرّهما، قال تعالى: 


1- يس:68.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 3، ص 1810.
3- م. ن، ص 2112.
4- م. ن، ص 2113.
 
 
131

 

113

أعمارنا مهر سعادتنا

﴿وقضى ربُّك ألاّ تعْبُدُواْ إِلاّ إِيّاهُ وبِالْوالِديْنِ إِحْسانًا إِمّا يبْلُغنّ عِندك الْكِبر أحدُهُما أوْ كِلاهُما فلا تقُل لّهُمآ أُفٍّ ولا تنْهرْهُما وقُل لّهُما قوْلاً كرِيمًا * واخْفِضْ لهُما جناح الذُّلِّ مِن الرّحْمةِ وقُل رّبِّ ارْحمْهُما كما ربّيانِي صغِيرًا1.
 
قال الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وبِالْوالِديْنِ إِحْسانًا﴾: "الإحسان أن تُحسِن صحبتهما، وأن لا تُكلِّفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين"2. كلّ ذلك لأنّهما جنّتنا ونارنا كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما سُئِل عن حقّ الوالدين على ولدهما: "هما جنّتك ونارك"3
 
ومن بركات البرّ بالوالدين والإحسان إليهما الزيادة في العمر والبركة فيه، كما ورد في روايات أهل بيت النبوّة عليه السلام، منها:
1- قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سرّه أن يُمدّ له في عمره ويُزاد في رزقه فليبرّ والديه، وليصل رحمه"4
 
2- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من برّ والديه طوبى له زاد الله في عمره"5.
 
3- عنه عليه السلام: "إن أحببت أن يزيد الله في عمرك فسُرّ أبويك"6.
 
4- وقال الإمام الصادق عليه السلام لحنان بن سدير: "يا ميسّر! قد حضر أجلك غير مرّة ولا مرّتين، كلّ ذلك يؤخِّر الله أجلك لصلتك قرابتك، وإن كنت تريد أن يُزاد في عمرك فبرّ شيخيك، يعني أبويه"7.


1- الإسراء:23، 24.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 157.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3674.
4- م. ن.
5- م. ن.
6- وسائل الشيعة، الحر العامليّ، ج 18، ص 372.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 71، ص 84، ح 96.
 
 
 
132

 

114

أعمارنا مهر سعادتنا

وصايا نورانيّة:
نتوقّف في هذا المقطع الأخير من حديثنا حول نعمة العمر وقدسيّته، مع وصايا أمير البلاغة والحكمة عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لعلّنا بذلك نأخذ منه قبساً مضيئاً نُنير به وعاء قلوبنا المظلمة 

بالذنوب والآثام والمعاصي:
1- قال عليه السلام: "أيُّها الناس! الآن الآن من قبل الندم، ومن قبل أن تقول نفس: يا حسرتي على ما فرّطت في جنب الله"1

2- وعنه عليه السلام: "أيُّها الناس! الآن الآن ما دام الوثاق مُطلقاً، والسراج مُنيراً، وباب التوبة مفتوحاً، من قبل أن يجفّ القلم وتُطوى الصحف"2.

3- وعنه عليه السلام: "من أحبّ البقاء فليُعدّ للمصائب قلباً صبوراً"3.
 
المفاهيم الأساس
1- إنّ من أعظم النعم الإلهيّة على الإنسان هي نِعمة العمر، الّتي تُعتبر جوهرة ثمينة ومقدّسة فلا يجوز التفريط فيها أبداً.
 
2- إنّ استغلال أعمارنا وأوقاتنا واغتنامها بشكل جيّد، لا سيّما في طاعة الله وعبادته ينتج حصولنا على مهر سعادتنا وفوزنا بحياة طيّبة في الدنيا والآخرة.
 
3- إنّ البرّ بالوالدين وصلة الرحم هما من أبواب الرحمة الإلهيّة علينا 


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 74، ص 375.
2- م. ن، ص 376.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 897.
 
 
133
 

115

أعمارنا مهر سعادتنا

ولهما بركات عديدة منها الزيادة في أعمارنا.. فلندخل إلى الرحمة الإلهيّة من أبوابها.
 
للمطالعة
قال رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم:
"يُفتح للعبد يوم القيامة على كلّ يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة عدد ساعات الليل والنهار: 
فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزِّع على أهل النار لأدهشهم عن الإحساس بألم النار، وهي الساعة الّتي أطاع فيها ربّه. 

ثمّ يُفتح له خزانة أخرى فيراها مُظلِمة مُنتِنة مُفزِعة فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قُسِّم على أهل الجنّة لنغّص عليهم نعيمها، وهي الساعة الّتي عصى فيها ربّه.

ثمّ يُفتح له خزانة أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يُسرّه ولا ما يسوؤه، وهي الساعة الّتي نام فيها أو اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها - حيث كان متمكّناً من أن يملأها حسنات - ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ذلِك يوْمُ التّغابُنِ﴾"1.
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج7، ص262.
 
 
 
134


 

116

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكسل والفشل، والهمّ والحزن، والجبن والبخل، والغفلة والقسوة، والذلّة والمسكنة، والفقر والفاقة، وكلّ بليّة والفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأعوذ بك من نفس لا تقنع، وبطن لا يشبع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يُسمع، وعمل لا ينفع، وأعوذ بك يا ربّ على نفسي وديني ومالي وعلى جميع ما رزقتني من الشيطان الرجيم، إنّك أنت السميع العليم".
 
 
 
135
 

117

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

تمهيد:
لقد تحوّل إبليس من صفوف الجنّ العابدين لله تعالى، ومن منزلة الملائكة المكرّمين الّتي أعطاه الله تعالى إياها لحسن عبادته، إلى منزلة الصاغرين والشياطين، وذلك بسبب استكباره ومنازعته لكبرياء الله العزيز الجبّار، وإصراره على رفض الأمر الإلهيّ بالسجود لآدم عليه السلام.
 
وقد سرد لنا النصّ القرآني الحوار الذي جرى بين الله تعالى وإبليس، لكي نعتبر من عواقب تمرّد إبليس على الأوامر الإلهيّة. قال تعالى: ﴿ولقدْ خلقْناكُمْ ثُمّ صوّرْناكُمْ ثُمّ قُلْنا لِلْملآئِكةِ اسْجُدُواْ لآدم فسجدُواْ إِلاّ إِبْلِيس لمْ يكُن مِّن السّاجِدِين * قال ما منعك ألاّ تسْجُد إِذْ أمرْتُك قال أناْ خيْرٌ مِّنْهُ خلقْتنِي مِن نّارٍ وخلقْتهُ مِن طِينٍ * قال فاهْبِطْ مِنْها فما يكُونُ لك أن تتكبّر فِيها فاخْرُجْ إِنّك مِن الصّاغِرِين * قال أنظِرْنِي إِلى يوْمِ يُبْعثُون * قال إِنّك مِن المُنظرِين * قال فبِما أغْويْتنِي لأقْعُدنّ لهُمْ صِراطك الْمُسْتقِيم * ثُمّ لآتِينّهُم مِّن بيْنِ أيْدِيهِمْ ومِنْ خلْفِهِمْ وعنْ أيْمانِهِمْ وعن شمآئِلِهِمْ ولا تجِدُ أكْثرهُمْ شاكِرِين * قال اخْرُجْ مِنْها مذْؤُومًا مّدْحُورًا لّمن تبِعك مِنْهُمْ لأمْلأنّ جهنّم مِنكُمْ أجْمعِين﴾1.
 
وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يدعونا إلى التأمُّل والاعتبار من هذه القصّة: "فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد الجميل، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا يُدرى أمِن سنيّ الدنيا أم مِن سنيّ الآخرة عن كِبر ساعة واحدة"2.
 

1- الأعراف:18.
2- نهج البلاغة، الخطبة 192.
 
 
137
 

118

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

عداوة الشيطان للإنسان
منذ لحظة انتماء إبليس اللعين إلى عالم الشياطين، أصبح عدوّاً للإنسان وبدأ يتوعّده بإغوائه عن طاعة الله تعالى من جميع الجهات والأحوال: ﴿قال فبِما أغْويْتنِي لأقْعُدنّ لهُمْ صِراطك الْمُسْتقِيم * ثُمّ لآتِينّهُم مِّن بيْنِ أيْدِيهِمْ ومِنْ خلْفِهِمْ وعنْ أيْمانِهِمْ وعن شمآئِلِهِمْ ولا تجِدُ أكْثرهُمْ شاكِرِين﴾1.

بل لم يكتفِ إبليس بهذا الوعيد فقط حتّى أنّه أقسم بربّ العزّة على إضلال الناس وغوايتهم، إذ قال: ﴿فبِعِزّتِك لأُغْوِينّهُمْ أجْمعِين﴾.
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الشياطين أكثر على المؤمنين من الزنابير على اللحم"2.
 
ولذا فإنّ ربّ العزّة والجلال قد حذّرنا مراراً في محكم كتابه العزيز من وسوسة الشيطان ومكائده، قائلاً: ﴿إِنّ الشّيْطان لكُمْ عدُوٌّ فاتّخِذُوهُ عدُوًّا إِنّما يدْعُو حِزْبهُ لِيكُونُوا مِنْ أصْحابِ السّعِيرِ3، وقائلاً: ﴿وقُل لِّعِبادِي يقُولُواْ الّتِي هِي أحْسنُ إِنّ الشّيْطان ينزغُ بيْنهُمْ إِنّ الشّيْطان كان لِلإِنْسانِ عدُوًّا مُّبِينً4.
 
بل قد نهانا المولى عزّ وجلّ عن اتّباع الشيطان وما يزيّنه لنا من ملذّات الدنيا وشهواتها، لأنّه عدوّنا وباتّباعه وتصديقه سوف يأمرنا بمعصية الله وارتكاب الفحشاء والمنكر: ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كآفّةً ولا تتّبِعُواْ خُطُواتِ الشّيْطانِ إِنّهُ لكُمْ عدُوٌّ مُّبِينٌ﴾5، وقال: ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُوا لا تتّبِعُوا خُطُواتِ الشّيْطانِ ومن يتّبِعْ خُطُواتِ الشّيْطانِ فإِنّهُ يأْمُرُ بِالْفحْشاء والْمُنكرِ﴾6.


1- الأعراف:16 ـ 17.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج64، ص239، ح57.
3- فاطر:6.
4- الإسراء:53. فتح القدير، الشوكاني، ج5، ص278.
5- البقرة:208.
6- النور:21.
 
 
138


 

 


119

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

هذا وقد دعانا الله تعالى إلى عبادته وحده فقط، وأن لا نعبد الشيطان: ﴿ألمْ أعْهدْ إِليْكُمْ يا بنِي آدم أن لّا تعْبُدُوا الشّيْطان إِنّهُ لكُمْ عدُوٌّ مُّبِينٌ1.
 
يروي الإمام عليّ عليه السلام: "أنّ رجلاً كان يتعبّد في صومعة، وأنّ امرأة كان لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها، فزيّنت له نفسه فوقع عليها، فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنّهم إن ظهروا عليك افتضحت، فقتلها ودفنها، فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: إنّي أنا الّذي زيّنت لك فاسجد لي سجدة أُنجيك، فسجد له، فذلك قوله تعالى: ﴿كمثلِ الشّيْطانِ إِذْ قال لِلْإِنسانِ اكْفُرْ فلمّا كفر قال إِنِّي برِيءٌ مِّنك إِنِّي أخافُ الله ربّ الْعالمِين﴾"2.
 
كما أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد نبّهنا على ذلك، عندما قال: "احذروا عدوّاً نفذ في الصدور خفيّاً، ونفث في الآذان نجيّاً"3. وكذلك ما نقرؤه في مناجاة الشاكين للإمام زين العابدين عليه السلام: "إلهي أشكو إليك عدوّاً يُضلّني، وشيطاناً يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يُعاضد لي الهوى، ويُزيّن لي حبّ الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى"4.
 
إلّا أنّه بالرغم من تكرار التحذير الإلهيّ وإرشادات أهل البيت عليهم السلام لنا وتنبيهنا من خطورة عداوة الشيطان، فإنّ الله جلّ جلاله قال في الكتاب العزيز: ﴿وقلِيلٌ مِّنْ عِبادِي الشّكُورُ5، ما يعني أن أكثرنا عرضةٌ للسقوط في مكائد الشيطان الرجيم، ومن ثمّ الانحراف عن الخطّ المستقيم، ونصبح من عداد المغضوب عليهم ومن الّذين قد ضلّوا طريق الحقّ، مع أنّنا ندعو الله سبحانه في صلاتنا اليوميّة لهدايتنا للصراط المستقيم، ونستعين به عزّ وجلّ على ذلك: ﴿إِيّاك نعْبُدُ وإِيّاك نسْتعِينُ * اهدِنا الصِّراط
 

1- يس:60.
2- الحشر:16.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1451.
4- الصحيفة السجّاديّة، مناجاة الشاكين، بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 91، ص 143.
5- سبأ:13.
 
 
139

 

120

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

المُستقِيم * صِراط الّذِين أنعمت عليهِمْ غيرِ المغضُوبِ عليهِمْ ولا الضّالِّين1.
 
ولكنّ رحمة الله تعالى ولطفه بنا أكبر من مكائد الشيطان، قال تعالى: ﴿ولوْلا فضْلُ اللهِ عليْكُمْ ورحْمتُهُ لاتّبعْتُمُ الشّيْطان إِلاّ قلِيل﴾2، وقال: ﴿ولقدْ صدّق عليْهِمْ إِبْلِيسُ ظنّهُ فاتّبعُوهُ إِلّا فرِيقًا مِّن الْمُؤْمِنِين﴾3.
 
والمؤمنون المخلصون لله تعالى لا سلطان للشيطان عليهم، كما يقول المولى تعالى: ﴿فإِذا قرأْت الْقُرْآن فاسْتعِذْ بِاللّهِ مِن الشّيْطانِ الرّجِيمِ * إِنّهُ ليْس لهُ سُلْطانٌ على الّذِين آمنُواْ وعلى ربِّهِمْ يتوكّلُون * إِنّما سُلْطانُهُ على الّذِين يتولّوْنهُ والّذِين هُم بِهِ مُشْرِكُون4
 
إلّا أنّه لا بدّ أن نخاطب أنفسنا: من هؤلاء الذين يغويهم الشيطان ويتمكّن منهم؟ وكيف يكون له ذلك؟ هل لقوّة مكر الشيطان أم لضعف إيمان الإنسان؟ أم الأمرين معاً؟!
 
مكائد الشيطان وتسلطه على الإنسان
إنّ وسوسة الشيطان ومكائده لا تقتصر فقط على المشركين والمنافقين، بل نشاطه الشيطانيّ تجاه المؤمنين بالله تعالى أكثر من غيرهم، حيث بمجرّد أن يجد نقطة ضعف لديهم، فإنّه يستغلّ الفرص، ويأتي بحيل مختلفة، فيُلقي عليهم حبال مكائده ويُسوّل لهم، وما إن يستدرجهم إلى فخّ الإغواء حتّى يُملي عليهم ما يُريده. قال تعالى: ﴿إِنّ الّذِين ارْتدُّوا على أدْبارِهِم مِّن بعْدِ ما تبيّن لهُمُ الْهُدى الشّيْطانُ سوّل لهُمْ وأمْلى لهُمْ﴾5، وقال أيضاً: ﴿الشّيْطانُ يعِدُكُمُ الْفقْر ويأْمُرُكُم بِالْفحْشاء واللهُ يعِدُكُم مّغْفِرةً مِّنْهُ وفضْلاً واللهُ
 

1- الفاتحة:5 ـ 7.
2- النساء:83.
3- سبأ:20.
4- النحل:100.
5- محمد:25.
 
 
141
 

 


121

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

صعد إبليس جبلاً بمكّة يُقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا لِم دعوتنا؟ 

قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ 

فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا، 

قال: لست لها،
فقام آخر فقال مثل ذلك، 
فقال: لست لها، 

فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها،

قال: بماذا؟ 

قال: أعدهم وأمنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتُهم الاستغفار، 

فقال: أنت لها فوكّله بها إلى يوم القيامة"1.
 
لذا لا بُدّ من المداومة على ذكر الله تعالى على كلّ حال، لكي لا نترك للشيطان وحزبه أيّ منفذ أو نقطة ضعف فينا فيستغلّها، قال الإمام الصادق عليه السلام: "ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه إلّا الذكر، فليس له حدّ ينتهي إليه، فرض الله عزّ وجلّ الفرائض فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ، وشهر رمضان فمن صامه فهو حدّه والحجّ فمن حجّ فهو حدّه، إلّا الذكر فإنّ الله عزّ وجلّ لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ثمّ تلا هذه الآية ﴿يا أيُّها الّذِين آمنُوا اذْكُرُوا الله ذِكْرًا كثِيرًا * وسبِّحُوهُ بُكْرةً وأصِيلاً﴾"2.


1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 66، ص 348.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص498، ح1.
 
 
142
 

122

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

2- إغراء الإنسان بارتكاب الذنوب والمعاصي، وذلك عبر تزيين الأعمال السيّئة على أنّها أعمال حسنة، كما قال تعالى: ﴿أفمن زُيِّن لهُ سُوءُ عملِهِ فرآهُ حسنًا..﴾1
 
أو استصغار الذنوب واستحقارها، وتصويرها على أنّ القيام بها لا يضرّ ولا يعجّل العقاب الإلهيّ وسخطه، يروي الإمام الكاظم عليه السلام: "إنّ المسيح عليه السلام قال للحواريّين: إنّ صغار الذنوب ومحقّراتها من مكائد إبليس، يُحقّرها لكم ويُصغّرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم". 
 
يقول الإمام الصادق عليه السلام: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: ائتوا بحطب. 
 
فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب. 

قال: فليأت كلّ إنسان بما قُدِّر عليه، فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض. 

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب: ﴿ما قدّمُوا وآثارهُمْ وكُلّ شيْءٍ أحْصيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ﴾.
 
ويروي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينما موسى عليه السلام جالساً إذ أقبل إبليس... 

قال موسى عليه السلام: فأخبرني بالذنب الّذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟ 

قال إبليس: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغُر في عينه ذنبه"2.
 
نُلاحظ في الرواية أنّ إبليس اللعين يتحدّث عن العُجب، وهي مسألة في غاية الخطورة، لا سيّما أنّ الشيطان لا يأتي المؤمن من جهة إغوائه بالزنا أو السرقة وما
 

1- فاطر:8.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 314، ح 8.
 
 
 
143

 

123

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

شابه ذلك، لأنّ الشيطان يُدرك أنّ المؤمن يخاف الله سبحانه ولا يُمكن ببساطة أن يعصي الله في هكذا أمور، لذا الشيطان يأتيه من باب آخر أكثر حساسيّة بالنسبة للمؤمن، وهو باب الإعجاب بالنفس والإعجاب بعبادته لله وطاعته، فضلاً عن حبّ الإطراء والمديح، ويرى نفسه مستحقّاً للثناء ويمنّ على الله بأن يعطيه الأجر والثواب، اعتقاداً منه بأنّه أصبح في مقام المقرّبين لله وخاصّته.
 
وهذا ما حذّر منه أمير المؤمنين عليه السلام - في كتابه للأشتر - قائلاً: "إيّاك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يُعجبك منها، وحبّ الإطراء، فإنّ ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين"1.
 
وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال: "أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك". 
 
ولذا لا ننس أن نردّد دوماً دعاء سيّد الساجدين عليه السلام: "اللّهمّ!... وأعوذ بك من نفس لا تقنع"، لأنّ النفس والعياذ بالله كما يصفها القرآن: ﴿.. إِنّ النّفْس لأمّارةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ ما رحِم ربِّي إِنّ ربِّي غفُورٌ رّحِيمٌ﴾2
 
3- كما إنّ من مصائد الشيطان ومكائده، خداع الإنسان ودفعه نحو حضور مجالس اللّهو والغناء، ومجالس البطّالين، ومجالس تضييع الوقت والعمر بلا فائدة تُذكر غير إحصاء عثرات الناس وكشف عوراتهم، وما انتشار ظاهرة ما يُسمّى بـ(سهرات الأرجيلة) إلّا نموذجاً سيّئاً جدّاً في أيّامنا هذه، لا سيّما أنّه اعتاد عليها- للأسف الشديد - المؤمنون والمؤمنات أكثر من غيرهم وبشكل واسع جدّاً ومستغرب، الأمر الّذي يعكس صورة سلبيّة عن كيفيّة تمضية هؤلاء لأوقات راحتهم والترفيه عن أنفسهم، تلك الأوقات المقدّسة الّتي أرادها لنا الإسلام أن تكون متنفّساً لنا من ضغوط الحياة ومشقّاتها، وأن نستعيد فيها طاقتنا الإيمانيّة 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 86.
2- يوسف:53.
 
 
144
 
 

 

124

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

والجسديّة ونجدّدهما، لكي ننطلق مجدّداً من رحاب طاعة الله إلى رحاب طاعة الله. 
 
هكذا أراد الإسلام من المؤمن، حتّى في وقت راحته أن يكون في طاعة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من ساعة تمرّ بابن آدم لم يُذكر الله فيها إلّا حسر عليها يوم القيامة"1.
 
دعونا نقرأ وصف أمير المؤمنين عليه السلام حقيقة هكذا مجالس، حينما يقول: "مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشيطان"2، وعنه عليه السلام قال: "كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر"3
 
ولعلّ هذه المجالس قد تكون مصداقاً للعمل الّذي يستعيذ منه الإمام زين العابدين عليه السلام بالله: "اللّهم!... وأعوذ بك من عمل لا ينفع".
 
إلّا أنّه كما قال هو عليه السلام أيضاً- في دعائه-: "فلولا أنّ الشيطان يختدعهم عن طاعتك ما عصاك عاصٍ، ولولا أنّه صوّر لهم الباطل في مثال الحقّ ما ضلّ عن طريقك ضالّ"4.
 
ويقول الإمام عليّ عليه السلام: "الشيطان موكّل به- أي العبد- يُزيّن له المعصية ليركبها، ويُمنّيه التوبة ليسوّفها"5.
 
4- يدعو الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثماليّ: "اللّهم!.. وأعوذ بك من بطنٍ لا يشبع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع"، الأمر الّذي يجعلنا ندرك جيّداً أنّ من مكائد الشيطان حثّنا على كثرة الأكل والإفراط فيه،
 

1- كنز العمال، ج1، ص 424، ح 1819.
2- نهج البلاغة، الخطبة 86.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 17، ص 316، ح 22640.
4- الصحيفة السجادية، الدعاء 37.
5- نهج البلاغة، الخطبة 138.
 
 
145

 

125

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

فضلاً عن كثرة النوم والفراغ.. لأنّ كلّ ذلك يؤدّي إلى فساد النفس وما يترتّب عليه من قسوة القلب وموته. 
 
ولهذا، دعونا نستيقظ من الغفلة ونحيِ قلوبنا بإمعان بصائرنا في إرشادات أولياء الله تعالى ووصاياهم لنا.. نعم لنا يُوجّه الخطاب لا للجماد والحيوان.. خطاباً يُحذّرنا كلّ التحذير من مساوئ البطنة والشبع وما ينتج عنهما، فأمعنوا النظر فيها بعين القلب والتأمّل بعين العقل ولو قليلاً:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإنّ القلب يموت كالزرع إذا كثُر عليه الماء"1

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "جاهدوا أنفسكم بقلّة الطعام والشراب، تُظلّكم الملائكة ويفرّ عنكم الشيطان"2.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم - أيضاً- قال: "لا تشبعوا فيُطفأ نور المعرفة من قلوبكم"3.

وقال السيّد المسيح عليه السلام: "يا بني إسرائيل، لا تُكثروا الأكل، فإنّه من أكثر الأكل أكثر النوم، ومن أكثر النوم أقلّ الصلاة، ومن أقلّ الصلاة كُتب من الغافلين"4.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة"5

وعنه عليه السلام - في حديث جرى بين النبيّ يحيى عليه السلام وإبليس-: "فقال له يحيى عليه السلام: ما هذه المعاليق؟ 
 

1- ميزان الحكمة، ج 1، ص 880.
2- م. ن، ص 455.
3- مستدرك الوسائل، ج 16، ص 218، ح 19646.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 88.
5- مستدرك الوسائل، ج 12، ص 94، ح 13615.
 
 
146
 

126

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

فقال إبليس: هذه الشهوات الّتي أُصيب بها ابن آدم، 
فقال عليه السلام: هل لي منها شيء؟ 
فقال إبليس: ربما شبعت فشغلناك عن الصلاة والذكر.
قال عليه السلام: لله عليّ أن لا أملأ بطني من طعام أبداً. 
وقال إبليس: لله عليّ أن لا أنصح مسلماً أبداً..
ثم قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "لله على جعفر وآل جعفر أن لا يملأوا بطونهم من طعام أبداً، ولله على جعفر وآل جعفر أن لا يعملوا للدنيا أبداً"1.
 
ثم إنّه لا يجوز التبذير والإسراف في الطعام، لكي لا نكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنّ الْمُبذِّرِين كانُواْ إِخْوان الشّياطِينِ وكان الشّيْطانُ لِربِّهِ كفُورً2.
 
لنسأل أنفسنا كم هو حجم فظاعة التبذير والإسراف على موائدنا؟ لا سيّما في شهر التدرّب على الاقتصاد والتدبير (لا التبذير، انتبه!) في شهر رمضان.. لا سيّما عندما يحلّ علينا مسؤول من هنا أو صاحب مكانة مرموقة في المجتمع من هناك!
 
حينها تقع المصيبة الكبرى، حين نشكو لله تعالى سوء فقرنا وفاقتنا!
 
وكأنّنا لم نقرأ أو نسمع قول أمير المؤمنين عليه السلام: "التبذير عنوان الفاقة"3.
 
وكأنّنا لم نُردّد في سحر ذلك الشهر الكريم، دعاء أبي حمزة الثماليّ: "اللهمّ!.. إنّي أعوذ بك من الفقر والفاقة".
 
نعم، لا بُدّ أن نُدرك جيّداً أنّ هناك فرقاً بين أن نُنفق أموالنا فيما يُرضي الله تعالى كالإنفاق على الجهاد في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، وبين الإنفاق على شيء في 
 

1- وسائل الشيعة، ج 24، ص 241، ح 30438.
2- الإسراء:27.
3- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 15، ص 266، ح 18203.
 
 
147



 

127

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

غير طاعة الله، كالإنفاق على إحياء ليلة رأس السنة الميلاديّة والاحتفاء بها بمختلف الوسائل من زينة ولباس سهرة ورقص وغناء وخمور وغيرها..
 
هذا بدل أن نجعل من رأس السنة محطّة لإجراء جردة حساب فيما قدّمناه من طاعة مزجاة بين يدي الله تعالى خلال عام مضى من عمرنا المحدود، فضلاً عن محاسبة النفس على كلّ تقصير،واستغفاره من كلّ ذنب، وشكره في الوقت ذاته على توفيقنا إلى مرضاته عزّ وجلّ..
 
روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ولا تُبذِّرْ تبْذِيرً﴾: "من أنفق شيئاً في غير طاعة الله فهو مبذِّر، ومن أنفق في سبيل الخير فهو مقتصد"1.
 
هل أنا من حزب الله أم من حزب الشيطان؟
منذ تمرّد إبليس على الأوامر الإلهيّة، انقسم العالم إلى حزبين: حزب الله وحزب الشيطان.
 
أمّا حزب الله فهم أولئك السائرون على خطّ ولاية الله تعالى ورسوله وأهل البيت عليهم السلام، والمتمسّكون بنهجهم ومدرستهم، مدرسة القرب من الله سبحانه والتزام الطاعة وأداء التكليف الإلهيّ.. فرضي الله عنهم حينما قال: ﴿رضِي اللهُ عنْهُمْ ورضُوا عنْهُ أُوْلئِك حِزْبُ اللهِ ألا إِنّ حِزْب اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾2.
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 72، ص 302.
2- المجادلة:22.
 
 
148

 

128

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

 حزب الله هم أولئك الّذين تحدّث عنهم القرآن الكريم وبشّرهم بالفوز والنصر والفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ومن يتولّ الله ورسُولهُ والّذِين آمنُواْ فإِنّ حِزْب اللهِ هُمُ الْغالِبُون﴾1.
 
وأمّا حزب الشيطان فهم أولئك البائسون الخاسرون المذنبون التائهون في ظلمات الدنيا وملذّاتها الفانية.. قال تعالى: ﴿إِنّ الشّيْطان لكُمْ عدُوٌّ فاتّخِذُوهُ عدُوًّا إِنّما يدْعُو حِزْبهُ لِيكُونُوا مِنْ أصْحابِ السّعِيرِ﴾2.
 
حزب الشيطان هم أولئك الّذين: ﴿اسْتحْوذ عليْهِمُ الشّيْطانُ فأنساهُمْ ذِكْر اللهِ أُوْلئِك حِزْبُ الشّيْطانِ ألا إِنّ حِزْب الشّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُون3.
 
هل سألنا أنفسنا يوماً إلى أيّ الحزبين ننتمي؟!
 
هل ننتمي إلى حزب الله أم ننتمي إلى حزب الشيطان؟ 
 
وإذا أردنا الجواب القاطع والحاسم وغير الملتبس، علينا أن نعود إلى المنبع الطاهر والفكر الأصيل فكر محمّد وآل محمّد عليه السلام، لنعرف نحن من أين وفي أين وإلى أين.
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبّ أن يركب سفينة النجاة، ويستمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين، فليوالِ عليّاً بعدي، وليعاد عدوّه، وليأتمّ بالأئمّة الهداة من ولده، فإنّهم خلفائي وأوصيائي... حزبهم حزبي، وحزبي حزب الله عزّ وجلّ، وحزب أعدائهم حزب الشيطان"4
 

1- المائدة:56.
2- فاطر:6.
3- المجادلة، الآية:19.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 23، ص 144، ح 100.
 
 
149
 

129

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

 ويقول وصيّ النبيّ الإمام عليّ عليه السلام: "أيسرّك أن تكون من حزب الله الغالبين؟ اتّقِ الله سبحانه وأحسن في كلّ أمورك، فإنّ الله مع الّذين اتقوا والّذين هم محسنون"1.

وعنه عليه السلام: "عليكم بالتمسّك بحبل الله وعروته، وكونوا من حزب الله ورسوله، والزموا عهد الله وميثاقه عليكم، فإنّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً"2.
 
وعنه عليه السلام: "طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربّها فرضها... في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، أولئك حزب الله، ألا إنّ حزب الله هم المفلحون"3.
 
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - في جلد رجل ونشاطه، لمّا قال أصحابه فيه: لو كان هذا في سبيل الله-: "إن كان خرج يسعى على وُلده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان"4.
 
إذاً عندما نعرف كلّ هذا، وكيف السبيل إلى خطّ حزب الله، نكون في الوقت عينه تجنّبنا خطّ حزب الشيطان. عندها تُحدّد هويّتنا الحقيقيّة، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "نحن وشيعتنا حزب الله، وحزب الله هم الغالبون"5.
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 600.
2- م. ن، ج 1، ص 600.
3- نهج البلاغة، الكتاب 45.
4- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 4، ص 3415.
5- م. ن، ج 1، ص 600.
 
 
 
150

 

130

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

 كيف نستعيذ بالله من الشيطان؟
 
قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وقُل رّبِّ أعُوذُ بِك مِنْ همزاتِ الشّياطِينِ * وأعُوذُ بِك ربِّ أن يحْضُرُونِ﴾1، وقال: ﴿قُلْ أعُوذُ بِربِّ النّاسِ * ملِكِ النّاسِ * إِلهِ النّاسِ * مِن شرِّ الْوسْواسِ الْخنّاسِ﴾2.
 
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "أغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة، وافتحوا أبواب الطاعة بالتسمية"3. 
 
إنّ كلمة (الاستعاذة) هي بمعنى: العوذ، أي اللجوء والاحتماء من ضرر أو خوف وما شابه ذلك. ولذا فإنّ الله تعالى يطلب منّا أن نستعيذ به من همزات الشيطان وإغوائه، لأنّه جلّ جلاله هو القادر على أن يعصمنا من شرّ الشيطان ويدفعه عنّا. 
 
وهنا لا بُدّ أن نُدرك حقيقة أنّ الشيطان رغم امتلاكه عدّة وسائل شيطانيّة ومتنوِّعة، إلّا أنّ كيده في الواقع ضعيف وهزيل أمام الإنسان الثابت في إيمانه بالله العزيز الجبّار، والمستعين به في كلّ الأهوال والأحوال. وهذا ما أكّده القرآن الكريم لنا: ﴿.. إِنّ كيْد الشّيْطانِ كان ضعِيفً﴾4، وفي قوله: ﴿إِنّهُ ليْس لهُ سُلْطانٌ على الّذِين آمنُواْ وعلى ربِّهِمْ يتوكّلُون﴾5.
 
والشيطان الرجيم يعترف بتلك الحقيقة، كما جاء في النصّ القرآنيّ: ﴿وما كان لِي عليْكُم مِّن سُلْطانٍ إِلاّ أن دعوْتُكُمْ فاسْتجبْتُمْ لِي فلا تلُومُونِي ولُومُواْ أنفُسكُم﴾6.
 
نعم، من يتبّع الشيطان ويتولّه يكنْ للشيطان سلطان عليه، قال تعالى: ﴿إِنّما سُلْطانُهُ 
 

1- المؤمنون:97.
2- الناس:1 ـ 4.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 92، ص 216، ح 24.
4- النساء:76.
5- النحل:99.
6- إبراهيم:22.
 
151
 
 

131

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

على الّذِين يتولّوْنهُ والّذِين هُم بِهِ مُشْرِكُون﴾1، قال: ﴿إِنّ عِبادِي ليْس لك عليْهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ منِ اتّبعك مِن الْغاوِين2. بل الشيطان يتبرّأ يوم القيامة ممّن اتّبعه: ﴿وقال الشّيْطانُ لمّا قُضِي الأمْرُ إِنّ الله وعدكُمْ وعْد الْحقِّ ووعدتُّكُمْ فأخْلفْتُكُمْ3.
 
إذاً لا بُدّ أن نستعيذ بالله تعالى ونعتصم به من مكر الشيطان لكي نُبعد شرّه عنّا، وقد أرشدنا أهل البيت عليه السلام إلى عدّة أمور في هذا الصدد: 
 
فعن الإمام الصادق عليه السلام: "قال إبليس: خمسة أشياء ليس لي فيهنّ حيلة، وسائر الناس في قبضتي: 
من اعتصم بالله عن نيّة صادقة واتّكل عليه في جميع أموره.
ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره. 
ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه. 
ومن لم يجزع على المصيبة حين تُصيبه. 
ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه". 
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:"ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم تباعد المشرق من المغرب؟ 
قالوا: بلى. 
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الصوم يُسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه"4.
 

1- النحل:100.
2- الحجر:42.
3- إبراهيم:22.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 4، ص 62.
 
 
152

 

132

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

 كما لا ننسى في نهاية هذا الحديث أن نُشير إلى مسألة هامّة في حياتنا، وهي أنّ الشياطين ليسوا من الجنّ فقط، بل هناك من الإنس من تلبّسهم الشيطان، وأصبح شرّهم أعظم من شرّه، قال تعالى: ﴿قُلْ أعُوذُ بِربِّ الْفلقِ * مِن شرِّ ما خلق﴾1.
 
وهذا كليم الله موسى عليه السلام قد استعاذ بالله من شرّ وتكبّر فرعون: ﴿وقال مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِربِّي وربِّكُم مِّن كُلِّ مُتكبِّرٍ لّا يُؤْمِنُ بِيوْمِ الْحِسابِ﴾2
 
كما أنّ الإمام الخمينيّ قال كلمته المدوّية الّتي زلزلت عرش فرعون العصر أميركا وربيبتها الجرثومة السرطانيّة إسرائيل، قالها الإمام صراحةً: "أميركا الشيطان الأكبر"، بل أكّد الإمام على أنّ: "كلّ مصائبنا من أمريكا".
 
أعاذ الله أمّتنا الإسلاميّة من شرّ الشيطان الأميركيّ - الإسرائيليّ كبيره وصغيره.
 
المفاهيم الأساس
1- لا بُدّ للمؤمن أن يتّخذ الله تعالى وليّاً وأن يكون من أفراد حزبه، وأن يتّخذ الشيطان الرجيم عدوّاً ويتجنّب الوقوع في حزبه.
 
2. إنّ مكائد الشيطان عديدة، منها:
- التصدّي للمؤمن ليمنعه من ذكر الله سبحانه.
- تزيين الأعمال السيّئة على أنّها أعمال حسنة.
- استدراج الإنسان إلى مجالس الشياطين كمجالس اللهو والغناء. 
 
3- الاستعاذة بالله تعالى والسير في حزبه هو طريق الخلاص من شرّ وكيد شياطين الإنس والجنّ.

1- الفلق:1 ـ 2.
2- غافر:27.
 
 
 
153

 

133

الاستعاذة بالله سبيل النجاة من الشيطان

للمطالعة
 
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
"قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام: يا موسى! احفظ وصيّتي لك بأربعة أشياء: 
أوّلهنّ: ما دمت لا ترى ذنوبك تُغفر فلا تشتغل بعيوب غيرك. 
والثانية: ما دمت لا ترى كنوزي قد نفدت فلا تغتمّ بسبب رزقك. 
والثالثة: ما دمت لا ترى زوال ملكي فلا ترجُ أحداً غيري. 
والرابعة: ما دمت لا ترى الشيطان ميّتاً فلا تأمن مكره"1.
 

1- الخصال، ح 217، ص 41.
 
 
154


 
 

134

العفو تاج المكارم

من دعاء أبي حمزة الثماليّ:

"... اللهمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعف عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد جئتك سائلاً فلا تردّني إلا بقضاء حاجتي، وأمرتنا بالإحسان إلى ما ملكت أيماننا، ونحن أرقّاؤك فاعتق رقابنا من النار".
 
 
 
155
 

135

العفو تاج المكارم

الظلم
الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.
 
وعرفاً هو: بخس الحقّ، والاعتداء على الآخرين، قولاً أو عملاً، كالسباب، والاغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات الماديّة أو المعنويّة.
 
أنواع الظلم
يتنوّع الظلم صوراً نُشير إليها إشارة لامحة:
1ـ أوّل ما يتبادر إلى الذهن من أنواع الظلم هو ظلم الآخرين، سواء الظلم الفرديّ أو الاجتماعيّ، كأن يظلم الإنسان صديقه أو قريبه أو عائلته وأرحامه، أو كأن تظلم جماعة جماعة أخرى، أو كأن يظلم حاكم رعيّته، أو رئيس مرؤوسيه.
 
وأبشع المظالم الاجتماعيّة، ظلم الضعفاء، الّذين لا يستطعيون صدّ العدوان عنهم، ولا يملكون إلا الشكاة والضراعة إلى العادل الرحيم في أساهم وظلاماتهم.
 
فعن الباقر عليه السلام قال: لمّا حضر عليّ بن الحسين عليه السلام الوفاة، ضمّني إلى صدره، ثم قال: "يا بُنيّ أُوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه، قال: يا بُنيّ إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ اللّه تعالى"1.
 

1- الوافي، ج 3، ص 162، عن الكافي.
 
 
157
 

136

العفو تاج المكارم

2- ظلم الإنسان نفسه: وهناك نوع من الظلم لا يلتفت إليه الكثير من الناس، وهو ظلم النفس، حيث يحسب الكثير منهم أنّهم أحرار اتّجاه ذواتهم، فيُسيئون إليها بأن يضعوها في المواضع الّتي لم يُرِد الله لهم أن يضعوها فيه، وأن يبخسوا حقّها، ويعتدوا عليها.
 
وبكلمة مختصرة ظلم النفس يتحصّل بعصيان الله وعدم طاعته.
 
﴿ونفْسٍ وما سوّاها * فألْهمها فُجُورها وتقْواها * قدْ أفْلح من زكّاها * وقدْ خاب من دسّاها 1.
 
قال تعالى: ﴿.. وتِلْك حُدُودُ اللّهِ ومن يتعدّ حُدُود اللّهِ فقدْ ظلم نفْسهُ لا تدْرِي لعلّ اللّه يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرً﴾2
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ظلم نفسه من عصى الله وأطاع الشيطان"3.
 
قال الإمام الصادق عليه السلام: "كتب رجل إلى أبي ذرّ (رضي الله عنه): يا أبا ذرّ! أطرفني بشيء من العلم.

فكتب إليه: إنّ العلم كثير ولكن إن قدرت أن لا تُسيء إلى من تُحبُّه فافعل. 

قال: فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يُسيء إلى من يُحبُّه؟! 

فقال له: نعم، نفسك أحبُّ الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها"4.
 
ومن يظلم نفسه الّتي هي أحبّ إليه من أيِّ شيء سيظلم غيره، يقول الأمير عليه السلام:
 

1- الشمس:7 - 10.
2- الطلاق:1.
3- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1781.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 458، ح 20.
 
 
 
158


 

 


137

العفو تاج المكارم

"كيف يعدل في غيره من يظلم نفسه؟!"1.

"عجبت لمن يظلم نفسه كيف يُنصف غيره؟!"2.

"من ظلم نفسه كان لغيره أظلم"3
 
هذا وظلم النفس قد يغفره الله إذا اعترف الإنسان بذنبه وتاب إلى ربّه توبة نصوح، وهذا ما أكّد عليه النصّ القرآنيّ: ﴿قال ربِّ إِنِّي ظلمْتُ نفْسِي فاغْفِرْ لِي فغفر لهُ إِنّهُ هُو الْغفُورُ الرّحِيمُ﴾4.
 
ولكنّ ظلم الآخرين أكثر تعقيداً 
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله".
 
فأمّا الديوان الّذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: ﴿إِنّهُ من يُشْرِكْ بِاللهِ فقدْ حرّم اللهُ عليهِ الْجنّة﴾.
 
وأمّا الديوان الّذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربّه، من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإنّ الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء الله.
 
وأما الديوان الّذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً، القصاص لا محالة5.
 
ومن هنا كان من الحسن أن نعفو عمّن ظلمنا، لأنّنا إن لم نعفُ عنه، ابتعد عن رحمة الله، فكما تطلبون العفو من الله عن ظلم أنفسكم فاعفوا عن الناس عسى أن يغفر الله لكم.
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1781.
2- م. ن، ص 1781.
3- م. ن، ص 1781.
4- القصص:16.
5- البداية والنهاية، ج 2، ص 56..
 
 
159

 

138

العفو تاج المكارم

"اللهمّ إنّك أنزلت في كتابك العفو، وأمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد ظلمنا أنفسنا، فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا..".
 
العفو والمغفرة
إنّ الله جلّ جلاله واسع الرحمة والمغفرة، كما وصف ذاته المقدّسة في محكم كتابه الكريم: ﴿إِنّ الله كان عفُوًّا غفُورً1
 
ونحن عبيده التائهين في ظلمات الدنيا لسنا بغنى عن عفوه ومغفرته الواسعة، يقول أمير المؤمنين عليه السلام - في كتابه للأشتر لما ولّاه مصر -: "ولا تنصبنّ نفسك لحرب الله، فإنّه لا يدلّك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته"2
 
وعنه عليه السلام - في المناجاة -: "إلهي أفكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي"3
 
ولكن نحن عبيده المتجرِّئون على معصيته في حضرة قدسه، نرى خيره إلينا نازلاً وشرّنا إليه صاعداً، فهو يُقبل علينا بالعفو والمغفرة، ونحن نعصيه بل نزداد عصياناً، وكأنّنا لا نعلم بأنّ المغفرة الإلهيّة تتنزّل على من اجتنب الذنوب والمعاصي، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من تنزّه عن حُرمات الله سارع إليه عفو الله"4، وعنه عليه السلام: "وكن لله مطيعاً، وبذكره آنساً، وتمثّل في حال تولّيك عنه إقباله عليك، يدعوك إلى عفوه، ويتغمّدك بفضله، وأنت متولٍّ عنه إلى غيره!"5
 
فحقاً يا إلهيّ وسيّدي ومولاي.. أنت كما وصفك أمير البلاغة عليه السلام: "فإن عفوت
 

1- النساء:43.
2- نهج البلاغة:الكتاب 27 و 53.
3- أمالي الصدوق، ص 73، ح 9.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 90، ح 95.
5- نهج البلاغة، الخطبة 223.
 
 
160

 

139

العفو تاج المكارم

فمن أولى منك بذلك؟ وإن عذّبت فمن أعدل منك في الحُكم؟"1
 
لذا دعونا نرفع أكفّنا ونتوجّه بقلب خاشع خائف مُنكسر مُتذلّل، وبعين باكية راجية رحمة الله ومغفرته، وبلسان صدق يُردِّد مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام: "إلهي جودك بسط أملي، وعفوك أفضل من عملي... إلهي إن أخذتني بجرمي أخذتك بعفوك، وإن أخذتني بذنوبي أخذتك بمغفرتك... فلا تجعلني ممّن صرفت عنه وجهك، وحجبه سهوه عن عفوك"2
 
الصفح الجميل
أن تتّصف بصفات الله جلّ جلاله وبأخلاق بيت النبوّة عليه السلام، فهو الجميل بعينه، والله تبارك وتعالى قد حثّنا على أن نكون من أهل الصفح الجميل عمّن ظلمنا وأساء إلينا، قال سبحانه: ﴿وما خلقْنا السّماواتِ والأرْض وما بيْنهُما إِلاّ بِالْحقِّ وإِنّ السّاعة لآتِيةٌ فاصْفحِ الصّفْح الْجمِيل﴾3.
 
يقول الإمام زين العابدين عليه السلام - في قوله تعالى: ﴿فاصْفحِ...﴾-: "العفو من غير عتاب"4، وورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا"5.
 
وهذا أمير المؤمنين عليه السلام يوصينا قائلاً: "كن جميل العفو إذا قدرت، عاملاً بالعدل إذا ملكت"6، وكذلك يوصينا الإمام الصادق عليه السلام: "اعف عمّن ظلمك كما إنّك تُحبّ أن يُعفى عنك، فاعتبر بعفو الله عنك"7.
 

1- البلد الأمين، 312، 316.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 91، ص 97، ح 13.
3- الحجر:85.
4- أمالي الصدوق، ص 276، ح 14.
5- أمالي الصدوق، ص 238، ح 7.
6- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 3، ص 2014.
7- تحف العقول، ص 305.
 
 
 
161

 

140

العفو تاج المكارم

إذاً تُعتبر صفة العفو والصفح الجميل من أجمل مكارم الأخلاق الّتي يتخلّق بها المؤمن في الدنيا والآخرة، بل هي تاج المكارم كما يُعبِّر الإمام عليّ عليه السلام: "العفو تاج المكارم"1، وعن الإمام الصادق عليه السلام يقول: "ثلاث من مكارم الدنيا والآخرة: تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتحلُم إذا جُهِل عليك"2.
 
مقام العافين عن الناس عند اللّه
أن نكون من أهل العفو يعني أنّنا قد اتّصفنا بصفة أحبّها الله تعالى كما يقول رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عفوّ يُحبُّ العفو"3.
 
إضافة إلى أنّنا سنكون من المحسنين الّذين أيضاً أحبّهم الله تعالى: ﴿الّذِين يُنفِقُون فِي السّرّاء والضّرّاء والْكاظِمِين الْغيْظ والْعافِين عنِ النّاسِ واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين4، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "رأيت ليلة أُسري بي قصوراً مستوية مُشرفة على الجنة. 

فقلت: يا جبرائيل لمن هذا؟ 

فقال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يُحبُّ المحسنين"5.
 
فهنيئاً لمن فاز بهذا المقام، وهنيئاً لمن سيفوز بأجر الله تعالى الّذي وعد به في محكم كتاب العزيز: ﴿وجزاء سيِّئةٍ سيِّئةٌ مِّثْلُها فمنْ عفا وأصْلح فأجْرُهُ على اللهِ إِنّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِين﴾6.
 
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أُوقِف العباد نادى منادٍ: ليقم من أجرُه على الله وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي أجرُه على الله؟
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 1، ص 805، ح 1112.
2- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 107، ح3.
3- كنز العمال، ح 7003.
4- آل عمران:134.
5- كنز العمال، ح 7003.
6- الشورى:40.
 
162
 

141

العفو تاج المكارم

قال: العافون عن الناس"1.
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل"2.
 
كما إنّ من آثار وبركات التخلُّق بصفة العفو، أمور عدّة منها:
 
1- إنّ عفو الناس بعضهم عن بعض يُزيل الضغائن والأحقاد فيما بينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تعافوا تسقط الضغائن بينكم"3.
 
2- إنّ اتّصاف المؤمن بصفة العفو يزيده عزّاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فتعافوا يُعزّكم الله"4. ولا تحسبوا أن العفو عن الآخرين فيه ذلٌّ لكم.
 
3- إنّ كثرة العفو والصفح الجميل عمّن ظلمنا يزيد في العمر، قال نبيُّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم: "من كثُر عفوه مُدّ في عمره"5.
 
في المقابل قد حذّرنا أهل البيت من عقبات عدم اتّصافنا بصفة العفو، فعن الأمير عليه السلام: "قلّة العفو أقبح العيوب، والتسرُّع إلى الانتقام أعظم الذنوب"6.
 
وعنه عليه السلام: "شرُّ الناس من لا يعفو عن الزلّة، ولا يستر العورة"7.
 
نعم، هناك أناس لا ينبغي أن نعفو عنهم، وهم الّذين يزيدهم العفو سوءاً وتكبّراً. وقد أشارت روايات أهل البيت عليه السلام إلى نماذج من هؤلاء، فعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "العفو يُفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم"8
 

1- كنز العمال، ح 7009.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 3، ص 2013.
3- كنز العمال، 7003.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 108، ح5.
5- أعلام الدين، 315.
6- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص 2013.
7- ن. م، ص 2013.
8- كنز الفوائد للكراجكي، ج 2، ص 182.
 
 
163
 

142

العفو تاج المكارم

وعنه عليه السلام: "جازِ بالحسنة وتجاوز عن السيّئة ما لم يكن ثلماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"1.
 
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "حقُّ من أساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أنّ العفو عنه يضرّ انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ولمنِ انتصر بعْد ظُلْمِهِ فأُوْلئِك ما عليْهِم مِّن سبِيلٍ﴾"2.
 
فضيلة الإحسان
لقد أمرنا المولى عزّ وجلّ أن نكون من المحسنين ومن أهل الإحسان، وهو القائل: ﴿إِنّ الله يأْمُرُ بِالْعدْلِ والإِحْسانِ وإِيتاء ذِي الْقُرْبى وينْهى عنِ الْفحْشاء والْمُنكرِ والْبغْيِ يعِظُكُمْ لعلّكُمْ تذكّرُون﴾3

والقائل: ﴿.. وأحْسِن كما أحْسن اللهُ إِليْك ولا تبْغِ الْفساد فِي الْأرْضِ إِنّ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين﴾4.
 
كما إنّ أهل البيت عليه السلام قد حضّوا شيعتهم ومحبّيهم على التخلُّق بصفة الإحسان إلى من أساء إليهم وظلمهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أُخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ 
العفو عمّن ظلمك. 
وتصل من قطعك. 
والإحسان إلى من أساء إليك. 
وإعطاء من حرمك"5.
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 3، ص 2015.
2- الخصال، ص 570، ح1.
3- النحل:90.
4- القصص:77.
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 107، ح1.
 
 
164
 

143

العفو تاج المكارم

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "لا منقبة أفضل من الإحسان"1

وعنه عليه السلام: "من كمال الإيمان مكافأة المسيء بالإحسان"2

وعنه عليه السلام: "لو رأيتم الإحسان شخصاً لرأيتموه شكلاً جميلاً يفوق العالمين"3.
 
ولذا فإنّ من يمنع الإحسان فعاقبته وخيمة، قال الإمام عليّ عليه السلام: "من كتم الإحسان عوقب بالحرمان"4، إضافة إلى النهي عن المنّ على من نُحسن إليهم، قال الإمام عليّ عليه السلام: "جمال الإحسان ترك الامتنان"5، بل كمال الإحسان وجماله ترك المنّ به كما يقول الإمام عليّ عليه السلام: "تمام الإحسان ترك المنّ به"6.
 
إذا كان كلُّ هذا الترغيب والترهيب حول فضيلة الإحسان، فإنّه لما فيه من أجر عظيم عند الله تعالى: ﴿واصْبِرْ فإِنّ اللّه لا يُضِيعُ أجْر الْمُحْسِنِين﴾7، وعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "عليك بالإحسان، فإنّه أفضل زراعة، وأربح بضاعة"8، وعنه عليه السلام: "نِعم زاد المعاد الإحسان إلى العباد"9.
 
هذا فضلاً عن أثر المنفعة للمؤمنين فيما بينهم وصلاح شؤونهم، وإشاعة المحبّة وروح الأخوّة بفضل إحسان بعضنا إلى بعض طبقاً لما أوصانا به المحسن جلّ جلاله وأهل بيت الإحسان عليه السلام.
 

1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص 2434.
2- م. ن، ص 3722.
3- م. ن، ج 1، ص 640.
4- م. ن، ص 643.
5- م. ن، ص 416.
6- م. ن، ص 644.
7- هود:115.
8- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 640
9- م. ن، ص 640.
 
 
165
 

144

العفو تاج المكارم

 قال أمير الإحسان والمحسنين الإمام عليّ عليه السلام: "الإحسان محبّة"1، وعنه عليه السلام: "من كثُر إحسانه أحبّه إخوانه"2.
 
بل بالإحسان نملك قلوب المؤمنين كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "بالإحسان تملك القلوب"3، لذا فإنّ المحسن هو حيٌّ ولو نُقل إلى عالم الأموات، قال ابن أبي طالب عليه السلام: "المحسن حيٌّ وإن نُقِل إلى منازل الأموات"4.
 
هذا وإنّ من عظمة الإسلام العزيز أنّ رحمته لم تقتصر على المؤمنين بالله جلّ جلاله فقط، بل نعمة الإحسان وبركاتها تشمل حتّى المشركين بالله تعالى كبرياؤه، وتسري إلى أعقاب أعقابه.
 
روي عن سلمان بن عامر الضبّيّ: قلت: "يا رسول الله! إنّ أبي كان يُقري الضيف، ويُكرم الجار، ويفي بالذّمة، ويُعطي في النائبة، فما ينفعه ذلك؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم: مات مُشركاً؟ 

قلت: نعم.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنّها لا تنفعه، ولكنّها تكون في عقبه إنّهم لن يُخزوا أبداً، ولن يُذلّوا أبداً، ولن يفتقروا أبداً"5.
 
وهذا ما أشار إليه الإمام الكاظم عليه السلام - في قوله تعالى: ﴿هلْ جزاء الْإِحْسانِ إِلّا الْإِحْسانُ﴾ -: "جرت في المؤمن والكافر والبِرّ والفاجر، من صنع إليه معروف فعليه أن يُكافئ به،وليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتى ترى فضلك، فإن صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء"6.


1- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 640.
2- م. ن.
3- م. ن.
4- م. ن.
5- كنز العمال، ح 16495.
6- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج1، ص152.
 
 
166




 

145

العفو تاج المكارم

هل قابلنا إحسان اللّه بالإحسان؟
إنّ من أسماء المولى عزّ وجلّ (المحسن)، وإحسانه يشمل مخلوقاته جميعاً لا سيّما أشرفهم وأكرمهم في الخليقة وهم البشر، حيث أنعم عليهم بالخير والبركات وجعل كلّ الكائنات في خدمتهم.
ولكن نحن عبيده هل قابلنا هذا الإحسان بالإحسان كما أمرنا الله تعالى في محكم كتابه: ﴿هلْ جزاء الْإِحْسانِ إِلّا الْإِحْسانُ﴾1، أم إنّنا قابلناه بالذنوب والمعاصي والسيّئات؟! ألا نستحي من أنفسنا أن نُكافئ المحسن بجزيل النعم بالإساءة وبالإعمال القبيحة الصادرة عنّا؟
 
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "عادة اللئام المكافأة بالقبيح عن الإحسان"2، وعنه عليه السلام: "شرُّ الناس من كافأ على الجميل بالقبيح"3
 
هل نحن من اللئام..؟! وهل نحن من شرِّ الناس..؟!
 
فلنقف مع أنفسنا ولو قليلاً ونُحاسبها ونسألها إلى أين نحن ذاهبون؟! وكيف لنا أن نردّ الجميل ونُقابل الإحسان بالإحسان؟
 
لكي نعرف الجواب الصائب ونسلك الطريق الصحيح، علينا أن نعود إلى منبع الحكمة والهدى.. 
 
روى عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: "إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكلِّ حسنة سبعمائة... 
 
فقلت له: وما الإحسان؟ 
 

1- الرحمن:60.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص 2192.
3- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 295.
 
 
167

 

146

العفو تاج المكارم

قال: فقال عليه السلام: إذا صلّيت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك... وكلّ عمل تعمله لله فليكن نقيّاً من الدنس"1
 
وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن الإحسان، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك"2.
 
إذاً، لكي نكون من المحسنين لا بُدّ أن نأتي بأعمالنا على وجه حسن، أي الإخلاص لله وحده وطاعته، قال تعالى: ﴿بلى منْ أسْلم وجْههُ لِلهِ وهُو مُحْسِنٌ فلهُ أجْرُهُ عِند ربِّهِ ولا خوْفٌ عليْهِمْ ولا هُمْ يحْزنُون﴾3.
 
وبالنتيجة: إنّ الله سبحانه في غنىً عنّا ونحن الفقراء إليه، أليس هو القائل: ﴿إِنْ أحْسنتُمْ أحْسنتُمْ لِأنفُسِكُمْ وإِنْ أسأْتُمْ فلها..﴾4، ﴿ومن جاهد فإِنّما يُجاهِدُ لِنفْسِهِ إِنّ الله لغنِيٌّ عنِ الْعالمِين﴾5؟!
 
ويقول أمير المحسنين الإمام عليّ عليه السلام: "إنّك إن أحسنت فنفسك تُكرم، وإليها تُحسن، إنّك إن أسأت فنفسك تمتهن وإياها تغبن"6؟! 
 
مقام المحسن عند الله
إنّ الله سبحانه يُحبُّ المحسنين: ﴿.. وأحْسِنُواْ إِنّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِين7، بل ﴿.. إِنّ الله لمع الْمُحْسِنِين﴾8، وإنّ رحمته قريبة منهم: ﴿إِنّ رحْمت اللهِ قرِيبٌ مِّن الْمُحْسِنِين9.
 

1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 68، ص 247.
2- م. ن، ج 67، ص 219.
3- البقرة:112.
4- الإسراء:7.
5- العنكبوت:6.
6- ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 643.
7- البقرة:195.
8- العنكبوت:69.
9- الأعراف:56.
 
168
 

 


147

العفو تاج المكارم

أمّا جزاء المحسنين فالله تبارك وتعالى قد تكفّل به: ﴿وقِيل لِلّذِين اتّقوْاْ ماذا أنزل ربُّكُمْ قالُواْ خيْرًا لِّلّذِين أحْسنُواْ فِي هذِهِ الدُّنْيا حسنةٌ ولدارُ الآخِرةِ خيْرٌ ولنِعْم دارُ الْمُتّقِين﴾1 ﴿قُلْ يا عِبادِ الّذِين آمنُوا اتّقُوا ربّكُمْ لِلّذِين أحْسنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حسنةٌ وأرْضُ اللهِ واسِعةٌ إِنّما يُوفّى الصّابِرُون أجْرهُم بِغيْرِ حِسابٍ﴾2.
 
المفاهيم الأساس
1- ظلم النفس يعني التعدّي على حدود الله تعالى وحقوقه، ولكنّ الله برحمته الواسعة يعفو ويغفر لمن ظلم نفسه حينما يتوب ويؤدّي حقوق الله ويقوم بالواجبات الشرعية.
 
2- التخلُّق بصفة العفو والصفح الجميل عمّن ظلمنا وأساء إلينا لهو من الأخلاق الحميدة والكريمة.
 
3- إنّ مقام العافين والمحسنين عند الله تعالى هو مقام تشمله الرحمة الإلهيّة والقرب منه جلّ جلاله. 
 

1- النحل:30.
2- الزمر:10.س
 
 
169

 

148

العفو تاج المكارم

للمطالعة

من قصص تلامذة مدرسة أهل العفو والإحسان عليهم السلام:
كان مالك الأشتر(رضوان الله عليه) مارّاً في سوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة من خام أيضاً.. فرآه شخص عليه الطيش، فاحتقره لثيابه العادية هذه.. ورماه ببندقة من طين فلم يلتفت إليه الأشتر ومضى.
فقيل له: هل تعرف من رميت؟
قال: لا..
قيل: هذا مالك الأشتر صاحب أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد كان حديث مالك بين الناس على كلِّ شفة ولسان.
فارتعد الرجل.. وتبع الأشتر ليعتذر إليه.. فوجده قد دخل مسجداً.. وهو قائم يُصلِّي. فلمّا فرغ من صلاته وقع الرجل على قدميه يُقبِّلهما.
فقال الأشتر: ما هذا؟
قال الرجل: أعتذر إليك ممّا صنعت.
قال الأشتر: لا بأس عليك فوالله ما دخلت المسجد إلّا لأستغفر لك. 
 
(القصص العجيبة للشهيد دستغيب)
 
 
 170

 

149
مظاهر الرحمة