وصـايا الأمير عليه السلام


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-06

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

 المقدمة


 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسل رحمة للعالمين وعلى وصيه وخليفته علي أمير المؤمنين. 
إن كتاب نهج البلاغة بحر فياض لا تنتهي كنوزه ولا تضمحل غنائمه، يمثل القيم الإنسانية، والرسالة الإلهية، والأنوار المحمدية،  بأبعادها المختلفة، كيف لا ؟! وهو يحوي كلمات باب العلم، ودليل الهداية، وميزان الحق والباطل، ماء القلوب ونور الأبصار...

ومن درره العظيمة، وصيته عليه السلام التي كتبها لابنه الإمام الحسن عند انصرافه من صفين، هذه الوصية التي تمثل مدرسة عظيمة، يجتمع فيها تراكم التجارب الإنسانية، وعصارة الرسالة الإلهية، في قالب سبكه فارس البلاغة، وأمير البيان، وسيد الكلمة.

وفي هذا الكتاب الماثل بين يديك، ضمن سلسلة الدروس الثقافية، حاولنا أن نتتلمذ في هذه المدرسة العظيمة، بحسب ما تسعفنا أفهامنا، فقسمنا هذه الوصية إلى دروس، نركز الضوء في كل درس على فكرة أساسية، نستنير بقبسها، ونواجه ببركتها تقلبات الدهر، وفتن الدنيا، وإن كنا نعي أن أفهامنا قاصرة عن الإحاطة بكلماته النورانية، ولكن كما في المقولة المشهور: “ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّهُ”. 
 
 
 
 
5

1

المقدمة

 نسأل الله تعالى أن يلهم قلوبنا فهم هذه الكلمات لتزهر بربيع المعرفة، ويوفق ابصارنا للاستفادة من نورها. 


والحمد لله أولاً وآخراً
جمعية المعارف الاسلامية الثقافية
 
 
 
 
6

2

تمهيد

 نهج البلاغة
خطب الامام علي عليه السلام
 
 

من وصية للإمام علي بن أبي طالب لابنه الإمام الحسن عليه السلام، كتبها إليه بحاضرين منصرفاً من صفين: "من الْوالد الْفان، الْمُقرّ للزّمان، الْمُدْبر الْعُمُر، الْمُسْتسْلم، للدُّنْيا، السّاكن مساكن الْموْتى، الظّاعن عنْها غداً، إلى الْموْلُود الْمُؤمّل ما لا يُدْركُ، السّالك سبيل منْ قدْ هلك، غرض الْأسْقام رهينة الْأيّام، ورميّة الْمصائب، وعبْد الدُّنْيا، وتاجر الْغُرُور, وغريم الْمنايا، وأسير الْموْت، وحليف الْهُمُوم،قرين الْأحْزان، ونُصْب الْآفات، وصريع الشّهوات، وخليفة الْأمْوات. أمّا بعْدُ، فإنّ فيما تبيّنْتُ منْ إدْبار الدُّنْيا عنّي، وجُمُوح الدّهْر عليّ، وإقْبال الْآخرة
 
 
 
 
 
7

3

تمهيد

 إليّ، ما يزعُني عنْ ذكْر منْ سواي، والْإهْتمام بما ورائي، غيْر أنّي حيْثُ تفرّد بي دُون هُمُوم النّاس همُّ نفْسي، فصدفني رأْيي، وصرفني عنْ هواي، وصرّح لي محْضُ أمْري، فأفْضى بي إلى جدٍّ لا يكُونُ فيه لعبٌ، وصدْق لا  يشُوبُهُ كذبٌ. ووجدْتُك بعْضي، بلْ وجدْتُك كُلّي، حتّى كأنّ شيْئاً لوْ أصابك أصابني، وكأنّ الْموْت لوْ أتاك أتاني، فعناني منْ أمْرك ما يعْنيني منْ أمْر نفْسي، فكتبْتُ إليْك كتابي هذا، مُسْتظْهراً به إنْ أنا بقيتُ لك أوْ فنيتُ. فإنّي أُوصيك بتقْوى الله أيْ بُنيّ ولُزُوم أمْره، وعمارة قلْبك بذكْره، والْإعْتصام بحبْله، وأيُّ سبب أوْثقُ منْ سبب بيْنك وبيْن الله عزّوجلّ إنْ أنْت أخذْت به! أحْي قلْبك بالْموْعظة، وأمتْهُ بالزّهادة، وقوّه بالْيقين، ونوّرْهُ بالْحكْمة، وذلّلْهُ بذكْر الْموْت، وقرّرْهُ بالْفناء، وبصّرْهُ فجائع الدُّنْيا، وحذّرْهُ صوْلة الدّهْر وفُحْش تقلُّب اللّيالي والْأيّام، واعْرضْ عليْه أخْبار الْماضين، وذكّرْهُ بما أصاب منْ كان قبْلك من الْأوّلين، وسرْ في ديارهمْ وآثارهمْ، فانْظُر فيْما فعلُوا عمّا انْتقلُوا، وأيْن حلُّوا ونزلُوا! فإنّك تجدُهُمْ قد انْتقلُوا عن الْأحبّة، وحلُّوا ديار الْغُرْبة، وكأنّك عنْ قليلٍ قدْ صرْت كأحدهمْ. فأصْلحْ مثْواك، ولا تبعْ آخرتك بدُنْياك، ودع الْقوْل فيما لا تعْرفُ، والْخطاب فيما لمْ تُكلّفْ، وأمْسكْ عنْ طريقٍ إذا خفْت ضلالتهُ، فإنّ الْكفّ عنْد حيْرة الضّلال

 

 

 

8


4

تمهيد

 خيْرٌ منْ رُكُوب الْأهْوال، وأْمُرْ بالْمعْرُوف تكُنْ منْ أهْله، وأنْكر المُنكر بيدك ولسانك، وباينْ منْ فعلهُ بجُهْدك، وجاهدْ في الله حقّ جهاده، ولا تأْخُذْك في الله لوْمةُ لائمٍ، وخُض الْغمرات للحقّ حيْثُ كان، وتفقّهُ في الدّين، وعوّدْ نفْسك التّصّبْر على الْمكْرُوه، ونعْم الْخُلُقُ التّصبُّرُفي الْحقّ ! وألْجىءْ نفْسك في أُمُورك كُلّها إلى إلهك، فإنّك تُلجئُها إلى كهْفٍ حريز، ومانعٍ عزيزٍ، وأخْلصْ في الْمسْألة لربّك، فإنّ بيده الْعطاء والْحرْمان، وأكْثر الْاسْتخارة، وتفهّمْ وصيّتي، ولا تذْهبنّ عنْك صفْحاً، فإنّ خيْر الْقوْل ما نفع. واعْلمْ أنّهُ لا خيْر في علْمٍ لا ينْفعُ، ولا يُنْتفعُ بعلْمٍ لا يحقُّ تعلُّمُهُ. أيْ بُنيّ، إنّي لمّا رأيْتُني قدْ بلغْتُ سنّاً، ورأيْتُني أزْدادُ وهْناً، بادرْتُ بوصيّتي إليْك، وأوْردْتُ خصالاً منْها قبْل أنْ يعْجل بي أجلي دُون أنْ أُفْضي إليْك بما في نفْسي، أوْ أنْ أنْقُص في رأْيي كما نُقصْتُ في جسْمي، أوْ يسْبقني إليْك بعْضُ غلبات الْهوى وفتن الدُّنْيا، فتكُون كالصّعْب النّفُور. و إنّما قلْبُ الْحدث كالْأرْض الْخالية ما ألْقي فيها منْ شيءٍ قبلتْهُ. فبادرْتُك بالْأدب قبْل أنْ يقْسُو قلْبُك، ويشْتغل لُبُّك، لتسْتقْبل بجدّ رأْيك من الْأمْر ما قدْ كفاك أهْلُ التّجارب بُغْيتهُ وتجْربتهُ، فتكُون قدْ كُفيت مؤُونة الطّلب، وعُوفيت منْ علاج التّجْربة، فأتاك منْ ذلك ما قدْ كُنّا نأْتيه، واسْتبان لك ما رُبّما أظْلم عليْنا منْهُ. أيْ بُنيّ، إنّي وإنْ

 

 

 

9


5

تمهيد

 لمْ أكُنْ عُمّرْتُ عُمُر منْ كان قبْلي، فقدْ نظرْتُ في أعْمالهمْ، وفكّرْتُ في أخْبارهمْ، وسرْتُ في آثارهمْ، حتّى عُدْتُ كأحدهمْ، بلْ كأنّي بما انْتهى إليّ منْ أُمُورهمْ قدْ عُمّرْتُ مع أوّلهمْ إلى آخرهمْ، فعرفْتُ صفْو ذلك منْ كدره، ونفْعهُ منْ ضرره، فاسْتخْلصْتُ لك منْ كُلّ أمْر نخيلتهُ،توخّيْتُ لك جميلهُ، وصرفْتُ عنْك مجْهُولهُ، ورأيْتُ حيْثُ عناني منْ أمْرك ما يعْني الْوالد الشّفيق، وأجْمعْتُ عليْه منْ أدبك أنْ يكُون ذلك وأنْت مُقْبلُ الْعُمُر مُقْتبلُ الدّهْر، ذُونيّة سليمة، ونفْس صافية، وأنْ أبْتدئك بتعْليم كتاب الله عزّ وج لّ وتأْويله، وشرائع الْإسْلام وأحْكامه، وحلاله وحرامه، لا أُجاوز ذلك بك إلى غيْره. ثُمّ أشْفقْتُ أنْ يلْتبس عليْك ما اخْتلف النّاسُ فيه منْ أهْوائهمْ وآرائهمْ مثْل الّذي الْتبس عليْهمْ، فكان إحْكامُ ذلك على ما كرهْتُ منْ تنْبيهك لهُ أحبّ إليّ منْ إسْلامك إلى أمْرٍ لا آمنُ عليْك به الْهلكة، ورجوْتُ أنْ يُوفّقك اللهُ فيه لرُشْدك، وأنْ يهْديك لقصْدك، فعهدْتُ إليْك وصيّتي هذه. واعْلمْ يا بُنيّ، أنّ أحبّ ما أنْت آخذٌ به إليّ منْ وصيّتي تقْوى الله، والْإقْتصارُ على ما فرضهُ اللهُ عليْك، والْأخْذُ بما مضى عليْه الْأوّلُون منْ آبائك، والصّالحُون منْ أهْل بيْتك، فإنّهُمْ لمْ يدعُوا أنْ نظرُوا لأنْفُسهمْ كما أنْت ناظرٌ، وفكّرُوا كما أنْت مُفكّرٌ، ثُمّ ردّهُمْ آخرُ ذلك إلى الْأخْذ بما عرفُوا، والْإمْساك  عمّا لمْ يُكلّفُوا، فإنْ

 

 

10


6

تمهيد

 أبتْ نفْسُك أنْ تقْبل ذلك دُون أنْ تعْلم كما علمُوا فلْيكُنْ طلبُك ذلك بتفهُّمٍ وتعلُّمٍ، لابتورُّط الشُّبُهات، وعُلق الْخُصُومات. وابْدأْ قبْل نظرك في ذلك بالْإسْتعانة بإلهك، والرّغْبة إليْه في توْفيقك، وترْك كُلّ شائبة أوْلجتْك في شُبْهة، أوْ أسْلمتْك إلى ضلالة. فإنّ أيْقنْت أنْ قدْ صفا قلْبُك فخشع، وتمّ رأْيُك واجْتمع، وكان همُّك في ذلك همّاً واحداً، فانْظُرْ فيما فسّرْتُ لك، وإنْ لمْ يجْتمعْ لك ما تُحبُّ منْ نفْسك، وفراغ نظرك وفكْرك، فاعْلمْ أنّك إنّما تخْبطُ الْعشْواء، وتتورّطُ الظّلْماء، وليْس طالبُ الدّين منْ خبط أوْ خلّط، والْإمْساكُ عنْ ذلك أمْثلُ. فتفهّمْ يا بُنيّ وصيّتي، واعْلمْ أنّ مالك الْموْت هُو مالكُ الحياة، وأنّ الْخالق هُو الْمُميتُ، وأنّ الْمُفْني هُو الْمُعيدُ، وأنّ الْمُبْتلي هُو الْمُعافي، وأنّ الدُّنْيا لمْ تكُنْ لتسْتقرّ إلاّ على ما جعلها اللهُ عليْه منْ النّعْماء، والْابْتلاء، والْجزاء في الْمعاد، أوْ ماشاء ممّا لا تعْلمُ، فإنْ أشْكل عليْك شيْءٌ منْ ذلك فاحْملْهُ على جهالتك، فإنّك أوّلُ ما خُلقْت جاهلاً ثُمّ علمْت، وما أكْثر ما تجْهلُ من الْأمْر، ويتحيّرُ فيه رأْيُك، ويضلُّ فيه بصرُك ثُمّ تُبْصرُهُ بعْد ذلك ! فاعْتصمْ بالّذي خلقك ورزقك وسوّاك، ولْيكُنْ لهُ تعبُّدُك، وإليْه رغْبتُك، ومنْهُ شفقتُك. واعْلمْ يا بُنيّ أنّ أحداً لمْ يُنْبىءْ عن الله سُبْحانهُ كما أنْبأ عنْهُ الرّسُولُ صلّى الله عليْه وآله فارْض به رائداً، وإلى النّجاة قائداً،

 
 
 
 
11

7

تمهيد

 فإنّي لمْ آلُك نصيحةً. وإنّك لنْ تبْلُغ في النّظر لنفْسك وإن اجْتهدْت مبْلغ نظري لك. واعْلمْ يا بُنيّ، أنّهُ لوْ ك أن لربّك شريكٌ لأتتْك رُسُلُهُ، ولرأيْت آثار مُلْكه وسُلْطانه، ولعرفْت أفْعالهُ وصفاته، ولكنّهُ إلهٌ واحدٌ كما وصف نفْسهُ، لا يُضادُّهُ في مُلْكه أحدٌ، ولا يزُولُ أبداً ولمْ يزلْ، أوّلٌ قبْل الْأشْياء بلا أوّليّة، وآخرٌ بعْد الْأشْياء بلا نهايةٍ. عظُم عنْ أنْ تثْبُت رُبُوبيّتُهُ بإحاطة قلْبٍ أوْ بصرٍ. فإذا عرفْت ذلك فافْعلْ كما ينْبغي لمثْلك أنْ يفْعلهُ في صغر خطره، وقلّة مقْدرته، وكثْرة عجْزه، عظيم حاجته إلى ربّه، في طلب طاعته، والْخشْية منْ عُقُوبته، والشّفقة منْ سُخْطه، فإنّهُ لمْ يأْمُرْك إلاّ بحسنٍ، ولمْ ينْهك إلاّ عنْ قبيحٍ. يا بُنيّ، إنّي قدْ أنْبأْتُك عن الدُّنْيا وحالها، وزوالها وانْتقالها، وأنْبأْتُك عن الْآخرة وما اُعدّ لأهْلها فيها، وضربْتُ لك فيهما الْأمْثال، لتعْتبر بها، وتحْذُو عليْها. إن ّما مثلُ منْ خبرٍ الدُّنْيا كمثل قوْمٍ سفْرٍ، نبا بهمْ منْزلٌ جديبٌ، فأمُّوا منْزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحْتملُوا وعْثاء الطّريق، وفراق الصّديق، وخُشُونة السّفر، وجُشُوبة الْمطْعم، ليأتُوا سعة دارهمْ، ومنْزل قرارهمْ، فليْس يجدُون لشيْءٍ منْ ذلك ألماً، ولا يروْن نفقةً مغْرماً، ولا شيْء أحبُّ إليْهمْ ممّا قرّبهُمْ منْ منْزلهمْ، وأدْناهُمْ منْ محلّهمْ. ومثلُ من اغْترّ بها كمثل قوْمٍ كانُوا بمنْزلٍ خصيبٍ، فنبا بهمْ إلى منْزلٍ جديب، فليْس شيْءٌ أكْره إليْهمْ 

 

 

 

12


8

تمهيد

 ولا أفْظع عنْدهُمْ منْ مُفارقة ما كانُوا فيه، إلى ما يهْجُمُون عليْه، ويصيرُون إليْه. يا بُنيّ اجْعلْ نفْسك ميزاناً فيما بيْنك وبيْن غيْرك، فأحْببْ لغيْرك ما تُحبُّ لنفْسك، واكْرهْ لهُ ما تكْرهُ لها، ولا تظْلم كما لا تُحبُّ أنْ تُظْلم، وأحْسنْ كما تُحبُّ أنْ يُحْسن إليْك، و اسْتقْبحْ منْ نفْسك ما تسْتقْبحُهُ منْ غيْرك، وارْض من النّاس بما ترْضاهُ لهُمْ منْ نفْسك، ولا تقُلْ ما لا تعْلمُ وإنْ قلّ ما تعْلمُ، ولا تقُلْ ما لا تُحبُّ أنْ يُقال لك. واعْلمْ، أنّ الْإعْجاب ضدُّ الصّواب، وآفة ُالْألْباب. فاسْع في كدْحك، ولا تكُنْ خازناً لغيْرك، وإذا أنْت هُديت لقصْدك فكُنْ أخْشع ما تكُونُ لربّك. واعْلمْ، أنّ أمامك طريقاً ذا مسافةٍ بعيدةٍ، ومشقّةٍ شديدةٍ، وأنّهُ لا غنى بك فيه عنْ حُسْن الْإرْتياد، وقدْر بلاغك من الزّاد، مع خفّة الظّهْر، فلا تحْملنّ على ظهْرك فوْق طاقتك، فيكُون ثقْلُ ذلك وبالاً عليْك، وإذا وجدْت منْ أهْل الْفاقة منْ يحْملُ لك زادك إلى يوْم الْقيامة، فيُوافيك به غداً حيْثُ تحْتاجُ إليْه، فاغْتنمْهُ وحمّلْهُ إيّاهُ، وأكْثرْ منْ تزْويده وأنْت قادرٌ عليْه، فلعلّك تطْلُبُهُ فلا تجدُهُ، واغْتنمْ من اسْتقْرضك في حال غناك، ليجْعل قضاءهُ لك في يوْم عُسْرتك. واعْلمْ، أنّ أمامك عقبةً كؤوداً، الْمُخفُّ فيها أحْسنُ حالاً من الْمُثْقل، والْمُبْطىءُ عليْها أقْبحُ حالاً من الْمُسْرع، وأنّ مهْبطك بها لامحالة إمّا على جنّة أوْ على نارٍ، فارْتدْ لنفْسك قبْل 

 

 

13


9

تمهيد

نُزُولك، ووطّىء الْمنْزل قبْل حُلُولك، فليْس بعْد الْموْت مُسْتعْتبٌ، ولا إلى الدُّنْيا مُنْصرفٌ. واعْلمْ، أنّ الّذي بيده خزائنُ السّموات والْأرْض قدْ أذن لك في الدُّعاء، وتكفّل لك بالْإجابة، أمرك أنْ تسْألهُ ليُعْطيك، وتسْترْحمهُ ليرْحمك، ولمْ يجْعلْ بيْنك وبيْنهُ منْ يحْجُبُك عنْهُ، ولمْ يُلْجئْك إلى منْ يشْفعُ لك إليْه، ولمْ يمْنعْك إنْ أسأْت من التّوْبة، ولمْ يُعاجلْك بالنّقْمة، ولمْ يُعيّرْك بالْإنابة، ولمْ يفْضحْك حيْثُ الْفضيحةُ بك أوْلى، ولمْ يُشدّدْ عليْك في قبُول الْإنابة، ولمْ يُناقشْك بالْجريمة، ولمْ يُؤْيسْك من الرّحْمة، بلْ جعل نُزُوعك عن الذّنْب حسنةً، وحسب سيّئتك واحدةً، وحسب حسنتك عشْراً، وفتح لك باب الْمتاب،باب الْاسْتعتاب؛ فإذا ناديْتهُ سمع نداك، وإذا ناجيْتهُ علم نجْواك، فأفْضيْت إليْه بحاجتك، وأبْثثْتهُ ذات نفْسك، وشكوْت إليْه هُمُومك، واسْتكْشفْتهُ كُرُوبك، واسْتعنْتهُ على أُمُورك، وسألْتهُ منْ خزائن رحْمته ما لا يقْدرُ على إعْطائه غيْرُهُ، منْ زيادة الْأعْمار، وصحّة الْأبْدان، وسعة الْأرْزاق. ثُمّ جعل في يديْك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه منْ مسْألته، فمتى شئْت اسْتفْتحْت بالدُّعاء أبْواب نعمه، واسْتمْطرْت شآبيب رحْمته، فلا يُقنّطنّك إبْطاءُ إجابته، فإنّ الْعطيّة على قدْر النّيّة، ورُبّما أُخّرتْ عنْك الْإجابةُ، ليكُون ذلك أعْظم لأجْر السّائل، وأجْزل لعطاء الْآمل. ورُبّما سألْت الشّيْء فلا تُؤْتاهُ،

 

 

 

14


10

تمهيد

 وأُوتيت خيْراً منْهُ عاجلاً أوْ آجلاً، أوْ صُرف عنْك لما هُو خيْرٌ لك، فلرُبّ أمْرٍ قدْ طلبْتهُ فيه هلاكُ دينك لوْ أُوتيتهُ، فلْتكُنْ مسألتُك فيما يبْقى لك جمالُهُ، ويُنْفى عنْك وبالُهُ، فالْمالُ لا يبْقى لك ولا تبْقى لهُ. واعْلمْ يا بُنيّ أنّك إنّما خُلقْت لآخرة لا للدُّنْيا، وللْفناء لا للْبقاء، وللْموْت لا للْحياة، وأنّك في قُلْعةٍ، ودار بُلْغةٍ، وطريقٍ إلى الْآخرة، وأنّك طريدُ الْموْت الّذي، لا ينْجُو منْهُ هاربُهُ، ولا يفُوتُةُ طالبُهُ،ولا بُدّ أنّهُ مُدْركُهُ، فكُنْ منْهُ على حذر أنْ يُدْركك وأنْت على حال سيّئةٍ، قدْ كُنْت تُحدّثُ نفْسك منْها بالتّوْبة، فيحُول بيْنك وبيْن ذلك، فإذا أنْت قدْ أهْلكْت نفْسك.


أكْثرْ منْ ذكْر الْموْت، وذكْر ما تهْجُمُ عليْه، وتُفْضي بعْد الْموْت إليْه، حتّى يأْتيك وقدْ أخذْت منْهُ حذْرك، وشددْت لهُ أزْرك، ولا يأْتيك بغْتةً فيبْهرك. وإيّاك أنْ تغْترّ بما ترى منْ إخْلاد أهْل الدُّنْيا إليْها، وتكالُبهمْ عليْها، فقدْ نبّأك اللهُ عنْها، ونعتْ لك نفْسها، وتكشّفتْ لك عنْ مساويها، فإنّما أهْلُها كلابٌ عاويةٌ، وسباعٌ ضاريةٌ، يهرُّ بعْضُها بعْضاً،يأْكُلُ عزيزُها ذليلها، ويقْهرُ كبيرُها صغيرها، نعمٌ مُعقّلةٌ، وأُخْرى مُهْملةٌ، قدْ أضلّتْ عُقُولها،ركبتْ مجْهُولها، سُرُوحُ عاهةٍ بوادٍ وعْثٍ، ليْس لها راع يُقيمُها، ولا مُسيمٌ يُسيمُها، سلكتْ بهمُ الدُّنْيا طريق الْعمى، وأخذتْ بأبْصارهمْ عنْ منار الْهُدى، فتاهُوا في 
 
 
 
 
15

11

تمهيد

 حيْرتها، وغرقُوا في ن عْمتها، واتّخذُواها ربّاً، فلعبتْ بهمْ ولعبُوا بها، ونسُوا ما وراءها.


رُويْداً يُسْفرُ الظّلامُ، كأنْ قدْ وردت الْأظْعانُ، يُوشكُ منْ أسْرع أنْ يلْحق! واعْلمْ يا بُنيّ أنّ منْ كانتْ مطيّتُهُ اللّيْل والنّهار، فإنّهُ يُسارُ به وإنْ كان واقفاً، ويقْطعُ الْمسافة وإنْ كان مُقيماً وادعاً. واعْلمْ يقيناً، أنّك لنْ تبْلُغ أملك، ولنْ تعْدُو أجلك، وأنّك في سبيل منْ كان قبْلك، فخفّضْ في الطّلب، وأجْملْ في الْمُكْتسب، فإنّهُ رُبّ طلب قدْ جرّ إلى حربٍ، فليْس كُلُّ طالبٍ بمرْزُوقٍ، ولا كُلُّ مُجْملٍ بمحْروُمٍ. وأكْرمْ نفْسك عنْ كُلّ دنيّةٍ وإنْ ساقتْك إلى الرّغائب، فإنّك لنْ تعْتاض بما تبْذُلُ منْ نفْسك عوضاً. ولا تكُنْ عبْد غيْرك وقدْ جعلك اللهُ حُرّاً. وما خيْرُ خيْرٍ لا يُنالُ إلاّ بشرٍّ، ويُسْرٍ لا يُنالُ إلاّ بعُسْرٍ ؟! وإيّاك أنْ تُوجف بك مطايا الطّمع، فتُوردك مناهل الْهلكة، وإن اسْتطعْت ألاّ يكُون بيْنك بيْن الله ذُونعْمة فافْعلْ، فإنّك مُدْركٌ قسْمك، وآخذٌ سهْمك، وإنّ الْيسير من الله سُبْحانهُ أعْظمُ و أكْرمُ من الْكثير منْ خلْقه وإنْ كان كُلٌّ منْهُ.

وتلافيك ما فرط منْ صمْتك أيْسرُ منْ إدْراكك ما فات منْ منْطقك، وحفْظُ ما في الْوعاء بشدّ الْوكاء، وحفْظُ ما في يديْك أحبُّ إليّ منْ طلب ما في يديْ غيْرك. ومرارةُ الْيأْس خيْرٌ من الطّلب إلى النّاس، والْحرْفةُ مع الْعفّة خيْرٌ من الْغنى مع الْفُجُور، والْمرْءُ أحْفظُ لسرّه،
 
 
 
 
16

12

تمهيد

 ورُبّ ساع فيما يضُرُّهُ! منْ أكْثر أهْجر، ومنْ تفكّر أبْصر، قارنْ أهْل الْخيْر تكُنْ منْهُمْ، وباينْ أهْل الشّرّ تبنْ عنْهُمْ، بئْس الطّعامُ الْحرامُ! وظُلْمُ الضّعيف أفْحشُ الظُّلْم، إذا كان الرّفْقُ خُرْقاً كان الْخُرْقُ رفْقاً. رُبّما كان الدّواءُ داءً، والدّاءُ دواءً، ورُبّما نصح غيْرُ النّاصح، وغشّ الْمُسْتنْصحُ. وإيّاك والْاتّكال على الْمُنى، فإنّها بضائعُ النّوْكى، والْعقْلُ حفْظُ التّجارب، وخيْرُ ما جرّبْت ما وعظك. بادر الْفُرْصة قبْل أنْ تكُون غُصّةً، ليْس كُلُّ طالبٍ يُصيبُ، ولا كُلُّ غائب يؤُوبُ، ومن الْفساد إضاعةُ الزّاد، ومفْسدةُ الْمعاد، ولكُلّ أمْر عاقبةٌ، سوْف يأْتيك ما قُدّر لك. التّاجرُ مُخاطرٌ، ورُبّ يسيرٍ أنْمى منْ كثيرٍ! لا خيْر في مُعينٍ مهينٍٍ، ولا في صديقٍ ظنينٍ، ساهل الدّهْر ما ذلّ لك قعُودُهُ، ولا تُخاطرْ بشيءٍ رجاء أكْثر منْهُ، وإيّاك أنْ تجْمح بك مطيّةُ اللّجاج. احْملْ نفْسك منْ أخيك عنْد صرْمه على الصّلة، وعنْد صُدُوده على اللّطف والْمُقاربة، وعنْد جُمُوده على الْبذْل، وعنْد تباعُده على الدُّنُوّ، وعنْد شدّته على اللّين، وعنْد جُرْمه على الْعُذْر، حتّى كأنّك لهُ عبْدٌ، وكأنّهُ ذُونعْمة عليْك. وإيّاك أنْ تضع ذلك في غيْر موْضعه، أوْ أنْ تفْعلهُ بغيْر أهْله، لا تتّخذنّ عدُوّ صديقك صديقاً فتُعادي صديقك، وامْحضْ أخاك النّصيحة، حسنةً كانتْ أمْ قبيحةً، وتجرّع الْغيْظ، فإنّي لمْ أر جُرْعةً أحْلى منْها عاقبةً، ولا ألذّ مغبّةً، ولنْ لمنْ غالظك، فإنّهُ 

 

 

 

17


13

تمهيد

 يُوشكُ أنْ يلين لك، وخُذْ على عدُوّك بالْفضْل فإنّهُ أحْلى الظّفريْن، وإنْ أردْت قطيعة أخيك فاسْتبْق لهُ منْ نفْسك بقيّةً يرْجعُ إليْها إنْ بدا لهُ ذلك يوْماً مّا، ومنْ ظنّ بك خيْراً فصدّقْ ظّنهُ، ولا تُضيعنّ حقّ أخيك اتّكالاً على ما بيْنك وبيْنهُ، فإنّهُ ليْس لك بأخٍ منْ أضعْت حقّه، ولا يكُنْ أهْلُك أشْقى الْخلْق بك، ولا ترْغبنّ فيمنْ زهد فيك، ولا يكُوننّ أخُوك أقْوى على قطيعتك منْك على صلته، ولا تكُوننّ على الْإساءة أقْوى منْك على الْإحْسان. ولا يكْبُرنّ عليْك ظُلْمُ منْ ظلمك، فإنّهُ يسْعى في مضرّته ونفْعك ، وليْس جزاءُ منْ سرّك أنْ تسُوءهُ. واعْلمْ يا بُنيّ، أنّ الرّزْق رزْقان: رزْقٌ تطْلُبُهُ، ورزْقٌ يطْلُبُك، فإنْ أنْت لمْ تأْته أتاك، ما أقْبح الْخُضُوع عنْد الْحاجة، والْجفاء عنْد الْغنى! إنّما لك منْ دُنْياك، ما أصْلحْت به مثْواك، وإنْ كُنْت جازعاً على ما تفلّت منْ يديْك، فاجْزعْ على كُلّ ما لمْ يصلْ إليْك. اسْتدلّ على ما لمْ يكُنْ بما قدْ كان، فإنّ الْأُمُور أشْباهٌ، ولا تكُوننّ ممّنْ لا تنْفعُهُ الْعظةُ إلاّ إذا بالغْت في إيلامه، فإنّ الْعاقل يتّعظُ بالْآدب، والْبهائم لا تتّعظُ إلاّ بالضّرْب. اطْرحْ عنْك واردات الْهُمُوم بعزائم الصّبْر وحُسْن الْيقين، منْ ترك الْقصْد جار، والصّاحبُ مُناسبٌ، والصّديقُ منْ صدق غيْبُهُ، والْهوى شريكُ الْعمى، رُبّ بعيدٍ أقْربُ منْ قريبٍ، وقريبٍ أبْعدُ منْ بعيدٍ، والْغر يبُ منْ لمْ يكُنْ لهُ حبيبٌ، منْ تعدّى الْحقّ ضاق مذْهبُهُ، ومن

 

 

 

18


14

تمهيد

 اقْتصر على قدْره كان أبْقى لهُ، وأوْثقُ سبب أخذْت به سببٌ بيْنك وبيْن الله سُبْحانهُ، ومنْ لمْ يُبالك فهُو عدُوُّك، قدْ يكُونُ الْيأْسُ إدْراكاً، إذا كان الطّمعُ هلاكاً، ليْس كُلُّ عوْرةٍ تظْهرُ، ولا كُلُّ فُرْصةٍ تُصابُ، ورُبّما أخْطأ الْبصيرُ قصْدهُ،أصاب الْأعْمى رُشْدهُ. أخّر الشّرّ، فإنّك إذا شئْت تعجّلْتهُ، وقطيعةُ الْجاهل تعْدلُ صلة الْعاقل، منْ أمن الزّمان خانهُ، ومنْ أعْظمهُ أهانهُ، ليْس كُلُّ منْ رمى أصاب، إذا تغيّر السُّلْطانُ تغيّر الزّمانُ. سلْ عن الرّفيق قبْل الطّريق، وعن الْجار قبْل الدّار. إيّاك أنْ تذْكُر من الْكلام ما يكُونُ مُضْحكاً، وإنْ حكيْت ذلك عنْ غيْرك.


وإيّاك ومُشاورة النّساء، فإنّ رأيهُنّ إلى أفْنٍ، وعزْمهُنّ إلى وهْنٍ.

واكْفُفْ عليْهنّ منْ أبْصارهنّ بحجابك إيّاهُنّ، فإنّ شدّة الْحجاب أبْقى عليْهنّ، وليْس خُرُوجُهُنّ بأشدّ منْ إدْخالك منْ لايُوثقُ به عليْهنّ، وإن اسْتطعْت ألاّ يعْرفْن غيْرك فافْعلْ. ولا تُملّك الْمرْأة منْ أمْرها ما جاوز نفْسها، فإنّ الْمرْأة ريْحانةٌ، وليْستْ بقهْرمانةٍ. ولا تعْدُ بكرامتها نفْسها، ولا تُطْمعْها أنْ تشْفع لغيْرها. وإيّاك والتّغايُر في غيْر موْضع غيْرةٍ، فإنّ ذلك يدْعُو الصّحيحة إلى السّقم، والْبريئة إلى الرّيب. واجْعلْ لكُلّ إنْسانٍ منْ خدمك عملاً تأْخُذُهُ به، فإنّهُ أحْرى ألاّ يتواكلُوا في خدْمتك. وأكْرمْ عشيرتك، فإنّهُمْ جناحُك الّذي به تطيرُ، وأصْلُك الّذي إليْه تصيرُ، ويدُك الّتي بها تصُول ُ. 
 
 
 
 
19

15

تمهيد

 أسْتوْدع الله دينك ودُنْياك، وأسْألُهُ خيْر الْقضاء لك في الْعاجلة والْآجلة، والدُّنْيا والْآخرة، والْسّلامُ". 

 

 

 

20


16

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 الدرس الاول

الإنسان في هذه الدنيا
 
 
 
من الْوالد الْفان، الْمُقرّ للزّمان، الْمُدْبر الْعُمُر، الْمُسْتسْلم، للدُّنْيا، السّاكن مساكن الْموْتى، الظّاعن عنْها غداً، إلى الْموْلُود الْمُؤمّل ما لا يُدْركُ، السّالك سبيل منْ قدْ هلك، غرض الْأسْقام رهينة الْأيّام، ورميّة الْمصائب، وعبْد الدُّنْيا، وتاجر الْغُرُور، وغريم الْمنايا، وأسير الْموْت، وحليف الْهُمُوم، قرين الْأحْزان، ونُصْب الْآفات، وصريع الشّهوات، وخليفة الْأمْوات. 
 
 
 
 
 
21

17

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 تمهيد


عندما أراد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يشرع بالوصية لابنه الإمام الحسن عليه السلام، كان من الطبيعي أن يبدأ بتعريف هذه الدنيا التي تمثل الساحة التي يعيش فيها الإنسان، ما هي ظروف هذه الساحة ومخاطرها وعلاقة الإنسان بها؟ فإن الإنسان إذا عرف هذه الساحة وطبيعتها ومقدار علاقته بها، فإن ذلك كله سيحدد له السلوك والمسار في هذه الدنيا، وهذا في الحقيقة تأسيس لكل ما يأتي بعد ذلك في الوصية.
وفي شرح الإمام عليه السلام لهذه الدنيا وطبيعتها وعلاقة الإنسان بها أشار إلى جوانب متعددة نشرحها فيما يلي:

أولاً: مخاطر الحياة 

إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يواجه العديد من التحديات التي تواجهه، وهي تحديات متعددة ومتنوعة، ومعرفتها بداية الطريق لتجهيز النفس لمواجهتها، فمن هذه الأمور التي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام : 

- رهينة الأيام 
الرهينة هو الأسير، فالإنسان أسير لهذه الأيام، تتحكم به وبمصيره، فكما أن الأسير لا يعلم ما يكون مصيره، بل أمره بيد آسره، فكذلك حال الإنسان في هذه الدنيا، هو أسير لما يمرّ عليه من الأيام.

- غرض الأسقام
الإنسان كالهدف لآفات الدنيا وأعراضها، ومن النادر أن يسلم من الإصابة بمرض ما، بل ونحن نعيش اليوم رغم التطور الطبي حالات مرضية جديدة، وأمراضاً لم نكن نسمع بها من قبل. 

ولكن لماذا يمرض الإنسان؟ لا شك في وجود عوامل وأسباب طبيعية وتكوينية
 
 
 
 
23

18

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 للمرض، ولكنها ليست السبب الوحيد في مرض الإنسان وموته، ولذا ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام جوابا منه للزنديق الذي سأله عن المرض قال له الإمام: "تزعم أن من أحسن السياسية لبدنه وأجمل النظر في أحوال نفسه وعرف الضار مما يأكل من النافع لم يمرض... قد مات أرسطاطاليس معلم الأطباء، وأفلاطون رئيس الحكماء وجالينوس شاخ ودق بصره، وما دفع الموت حين نزل بساحته".

 
وفي نفس هذه الرواية يذكر الإمام عليه السلام أن المرض على ثلاثة أنواع: مرض بلوى، ومرض العقوبة، ومرض جعل عليه الفناء1
 
- نصب الآفات
الآفة هي العاهة والتي يصاب بها الإنسان فتعطل له بعض حواسه ولا يتمكن من العيش كسائر الناس، وكل إنسان هو في معرض الإصابة فيها، فلذا كان الإنسان نصبها أي لا يفارقها.
والآفات هي من الأمور التي يبتلي بها الله عز وجل عباده ليختبرهم فيعرف درجات إيمانهم، ومقدار صبرهم.
 
- رمية المصائب
أما الرمية فهي عبارة عما يرمى، فالمصائب تجعل من هذه الإنسان أداة ترمي بها، والمصائب التي تحل على هذا الإنسان عديدة وكثيرة، تعظم أحيانا وتصغر أخرى، ولكنها جميعها تقذف هذا الإنسان إلى حيث لا يحب ولا يريد.
 
لماذا المصائب والآفات والأمراض؟
 
إن في هذه المصائب التي يرمى بها الإنسان حكمة ربانية وقد نص عليها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله: "ما كان اللّهُ ليذر الْمُؤْمنين على ما أنْتُمْ عليْه 
 
 

1- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 9، ص 126.
 
 
 
 
24

19

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 حتّى يميز الْخبيث منْ الطّيّب1.

 

 
ولكن ما هو الموقف الذي على المؤمن أن يسير عليه عندما ترمي به المصائب والابتلاءات؟ إنه الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، وتكرار الآية الكريمة: ﴿الّذين إذا أصابتْهُمْ مُصيبةٌ قالُوا إنّا للّه وإنّا إليْه راجعُون2 والوعد الذي يصل إليه الإنسان نتيجة ثباته على البلاء على ما ورد في كتاب الله: ﴿أُوْلئك عليْهمْ صلواتٌ منْ ربّهمْ ورحْمةٌ وأُوْلئك هُمْ الْمُهْتدُون3.

 

 
ثانياً: ماذا نربح من الدنيا؟
 
تحدثنا عن كون الإنسان في الدنيا هدفاً للمصائب والابتلاءات، وهذه نظرة لزاوية من زوايا الدنيا، ولكن في الدنيا أيضاً الكثير من الأمور التي يحبها الإنسان ويطلبها، بل ربما يصرف عمره كله في طلبها، فتستحوذ على قلبه ونفسه، فهل لهذه الأمور الدنيوية قيمة حقيقة؟ 
 
- تاجر الغرور.
إن الإنسان المتعلق بهذه الدنيا هو كالتاجر الذي يظن الربح فيما يقوم به في هذه الدنيا، فهو يحسب أن ما يقوم به مما فيه مكاسب دنيوية هو أمر خالد وسيبقى، مع أن الدنيا كلها فانية لا بقاء لها. وخير شاهد على كون هذا الشخص ممن اغتر، هو أنه يخاف الموت، وذلك لأنه يرى فيه انقطاع كل ما سعى إليه، وبذل في سبيله كل غال ونفيس.
 
ومن أفضل الأوصاف لذلك، هذه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام : "إنكم إن رغبتم في الدنيا أفنيتم أعماركم فيما لا تبقون له ولا يبقى لكم"4.
 
 

1- آل عمران:179
2-البقرة:156
3- البقرة:157
4- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 3، ص 297.
 
 
 
 
 
25

20

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

- حليف الهموم وقرين الأحزان

الهم يصيب الإنسان عندنا يتملكه القلق والخوف من فقدان محبوب ومرغوب، فالغني يحمل هم وخوف الخسارة والفقر، وصاحب المكانة الاجتماعية يحمل هم خسارتها... ويتملكه أيضاً عندما يستهدف تحصيل هذا المحبوب والمرغوب، فهو بين هم فقدان ما لديه لأنه رهينة الأيام، وهم تحصيل ما يستهدفه لأن الدنيا كماء البحر الذي لن يشبع منه ولن يتوقف عند حدود معينة من الطلب، بل سيبقى يركض ويلهث وراء ما لم يحصل عليه حتى الآن...، وهو قرين الأحزان، لشعوره بالنقص والخسارة، فالذي لا يملك يحزن لأنه لا يملك، والذي يملك ويخسر يحزن لخسارته، والذي لا يملك ولم يخسر بعد يحزن لعدم ملكه ما هو خارج عن يده... 

فالإنسان في هذه الدنيا كأنه متحالف مع الهموم ومقترن مع الأحزان، في أي موقع كان وضمن أي إطار. 

ثالثاً: التعلّق بالدنيا

رغم كون الدنيا مكان المصائب والابتلاءات ورغم كونها لا ربح دنيوياً حقيقياً فيها، نجد أن الكثير من الناس ارتبطوا بهذه الدنيا وتعلقوا بها بشكل يتنافى مع صفاتها الحقيقية، وكان وصف أمير المؤمنين عليه السلام لهذه العلاقة بعدة عبارات: 

- عبد الدنيا
إنه أعظم وصف لهذا الإنسان الذي يتعلق بهذه الدنيا، إنه يتعلق بها إلى حد العبودية لها فهو على استعداد تام للقيام بكل ما يسهّل له سبيل الوصول إلى إدراكها ونيلها.
ولكن المأساة إنه يعبد ما لا ينفعه إلا بنحو مؤقت، بل يعبد ما هو في ظاهرة جميل وفي باطنه قبيح إلى حد وصف أمير المؤمنين عليه السلام لها بقوله: "جيفة قد افتضحوا بأكلها".
 
 
 
 
 
26

21

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 ويصف الإمام علي عليه السلام هذا الشخص العابد لهذه الدنيا بقوله: "قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها، ولمن في يديه شيء منها، حيثما زالت زال إليها، وحيثما أقبلت أقبل عليها..."1.

 
وأما أفضل وسيلة للتحرر من هذه العبودية للدنيا فهي الابتعاد عن لذائذها، وقد ذكر ذلك الإمام الخميني في الأربعون حديثا: "إعلم أن ما تناله النفس من حظ في هذه الدنيا يترك أثرا في القلب.. وهو السبب في تعلقه بالدنيا، وكلما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها، إلى أن يتجه القلب كليا نحو الدنيا وزخارفها"2.
 
- صريع الشهوات
إنه الإنسان المستسلم لشهواته فهو قد صارعها بنفسه لمّا دعته إليه، ولكن الغلبة والنصر كانت للشهوة وللنفس الأمّارة، على العقل وعلى النفس المطمئنة، إنه العقل، متى انهزم أمام الشهوة أصبح أسيراً، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: "كم من عقل أسير تحت هوى أمير"3
 
ويكفي للإنسان لكي ينصر النفس المطمئنة على النفس الأمارة، وليجعل من الشهوة صريعة، أن يفكر في عاقبة الشهوة، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "أول الشهوة طرب، وآخرها عطب"4.
 
رابعاً: الدنيا ممر 
 
إن أجلى وأوضح حقيقة للدنيا أنها غير دائمة، وأنها زائلة، وأن الإنسان مهما سعى وحصّل فيها واغتر بمفاتنها، فإنه في نهاية الأمر سيتركها بل ويدخل في تلك
 
 

1- نهج البلاغة، الخطبة 109.
2- الإمام الخميني، الأربعون حديثا، ص 123، الحديث السادس.
3- نهج البلاغة، الحكمة 211. 
4- غرر الحكم: 2745، 3133، 2746
 
 
 
 
27

22

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 الحفرة الصغيرة نافضاً يديه من كل ما فيها، فالإنسان في الحقيقة هو: 

 
- غريم المنايا وأسير الموت
إن حال الإنسان مع الموت، هو حال الشخص المديون، الذي حل وقت أدائه للدين، ولكنه يسعى للفرار من الدائن، ويخاف أن يلتقي به. فالموت هو أشد ما يخاف منه الإنسان، وهو الذي يلاحق هذا الإنسان، ﴿قُلْ إنّ الْموْت الّذي تفرُّون منْهُ فإنّهُ مُلاقيكُمْ ثُمّ تُردُّون إلى عالم الْغيْب والشّهادة فيُنبّئُكُمْ بما كُنتُمْ تعْملُون1

 

 
- خليفة الأموات 
إنها أوجز عبارة تدفع الإنسان لترك التعلق بهذه الدنيا، فإذا فكر الإنسان في أن كل ما يصل إليه كان مع من سبقه وهو ورثه منه، وأما ذلك الميت فقد انقطع عنه، ولم يعد ينتفع بها عرف كيف يحسن التصرف فيه بما يكون نفعه له في يوم القيامة. فالميت يرحل ويرثه حي آخر وهذه سنة البشر منذ أن خلق الله عز وجل آدم وإلى يوم القيامة.
 
- هل الدنيا هدفك النهائي؟
 
كل هذه الصفات التي أوردها أمير المؤمنين عليه السلام ليصل بنا إلى نتيجة باتت واضحة، خلاصتها أن هذه الدنيا ليست أهلاً لأن تكون هدفاً نهائياً للإنسان، ربما تكون متاعاً يستفيد منه في أيامه هذه، وطريقاً يسلك به إلى آخرته التي تنتظره، ولكنها بالتأكيد ليست الهدف الذي ينبغي على الإنسان أن يدور في فلكه.
 
وإذا حدد الإنسان هدفه هانت المسيرة بعد ذلك.
 
 

1- الجمعة:8
 
 
 
 
 
28

23

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 خلاصة الدرس

 
ـ يصف الإمام علي (ع) حال الإنسان في هذه الدنيا باعتبار ما يمر عليه فيرى أنه:

أ ـ غرض الإسقام: والمرض على أنواع ثلاثة: مرض بلوى، ومرض العقوبة، ومرض جعل عليه الفناء.
ب ـ أسير الأيام: فالأيام تتحكم به فلا يعلم ما سيصير إليه في غده.
ج ـ رمية المصائب: فهي ترمي به حيث لا يحب ولا يريد.
د ـ عبد الدنيا: وهو وصف الناس الذين تكون الدنيا هي همهم حتى لو كانت بمعصية الله.
هـ تاجر الغرور: فهو يظن الربح وينسى عن أن كل ما يناله في هذه الدنيا مصيره إلى الزوال.
و ـ خليفة الأموات: وهذا ما ينبغي أن يتدبر به الإنسان فكل ما يتنعم به كان في يد من سبقه إلى الموت. 
 
 
 
أسئلة حول الدرس
 
1ـ ما هي انواع المرض الذي يقع على الإنسان على ما ورد في الرواية واشرح ذلك؟
2ـ لماذا يبتلي الله الإنسان بالمصائب والبلاءات؟
 
 
 
 
 
29

24

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 3ـ كيف يصبح الإنسان عبدا للدنيا؟

4ـ ما معنى كون الإنسان صريع الشهوات؟ 
 

للحفظ 
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنكم إن رغبتم في الدنيا أفنيتم أعماركم فيما لا تبقون له ولا يبقى لكم".
عنه عليه السلام قوله: "أول الشهوة طرب، وآخرها عطب".  
 
للمطالعة
 
البلاء والثبات على الإيمان

يروى أن أحد العلماء العظام قدس الله اسرارهم الزكية , أبتلي بالقثر الشديد , وقد وصل به الأمر إلى الإجهاد والتعب الشديدين بسبب ما أصابه من الجـوع والهـزال، حتى تداركه أحد المؤمنين ببعض الطعام، أعاد له شيئاً من صحته. 

وفي الأثناء دخل عليه أحد رجال الدين يسأله شيئاً من المال. فاستوى العالم المذكور قائماً ودسّ يده فـي صندوق وضع في كوّة الحجرة، واستخرج منه بعض المال أعطاه للسائل. 

ولم يلبث غير قليل حـتى دخل عليه آخر كان ينتسب إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت عليه آثار الحاجـة بادية، فأعطاه كما أعطى سابقة. 

تعجب بعض الحاضرين، وقال: كيف يكون عندك كل هذا المال، ويحلّ بك ما 
 
 
 
 
30

25

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

 حلّ بك من الجوع والفاقة؟ 


أجاب العالم: هذه الأموال ليست لي، وإنما هي أمانة وضعها الناس عندي، لكي أوصلها إلى مستحقيها. ولو تصرّفتُ بها لكنت خائناً للأمانة، وإنّ أعظم الخيانة خيانة الأمانة. 
 
 
 
 
 
31

26

الدرس الثاني: حياة القلب

الدرس الثاني

حياة القلب
 
 
 
أحْي قلْبك بالْموْعظة، وأمتْهُ بالزّهادة، وقوّه بالْيقين، ونوّرْهُ بالْحكْمة، وذلّلْهُ بذكْر الْموْت، وقرّرْهُ بالْفناء، وبصّرْهُ فجائع الدُّنْيا، وحذّرْهُ صوْلة الدّهْر وفُحْش تقلُّب اللّيالي والْأيّام، واعْرضْ عليْه أخْبار الْماضين، وذكّرْهُ بما أصاب منْ كان قبْلك من الْأوّلين، وسرْ في ديارهمْ وآثارهمْ، فانْظُر فيْما فعلُوا عمّا انْتقلُوا، وأيْن حلُّوا ونزلُوا! فإنّك تجدُهُمْ قد انْتقلُوا عن الْأحبّة، وحلُّوا ديار الْغُرْبة، وكأنّك عنْ قليلٍ قدْ صرْت كأحدهمْ. 
 
 
 
 
33

27

الدرس الثاني: حياة القلب

 تمهيد 


لقد اهتمّ الإسلام بقلب الإنسان اهتماماً بالغاً، حتى نزلت الكثير من آيات القرآن الكريم لتشرح أهمية القلب ودوره.
فالقلب هو المعيار المميز بين الإنسان الصالح وغيره، يقول تعالى: ﴿ومن النّاس من يُعْجبُك قوْلُهُ في الْحياة الدُّنْيا ويُشْهدُ اللّه على ما في قلْبه وهُو ألدُّ الْخصام1

 

وببركة هذا القلب يستطيع الإنسان أن يميّز بين الحق والباطل ﴿هُو الّذي أنزل عليْك الْكتاب منْهُ آياتٌ مُّحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكتاب وأُخرُ مُتشابهاتٌ فأمّا الّذين في قُلُوبهمْ زيْغٌ فيتّبعُون ما تشابه منْهُ ابْتغاء الْفتْنة وابْتغاء تأْويله وما يعْلمُ تأْويلهُ إلاّ اللّهُ والرّاسخُون في الْعلْم يقُولُون آمنّا به كُلٌّ مّنْ عند ربّنا وما يذّكّرُ إلاّ أُوْلُواْ الألْباب2.

 


وأما من أصاب قلبه المرض فإنه سيسلب التوفيق، وسيزداد مرضاً وبعداً عن الله تعالى حتى يصل إلى العذاب الأليم ﴿في قُلُوبهم مّرضٌ فزادهُمُ اللّهُ مرضاً ولهُم عذابٌ أليمٌ بما كانُوا يكْذبُون3

 


وكذلك من قسا قلبه، فتسلب عنه كل بركة ﴿ثُمّ قستْ قُلُوبُكُم مّن بعْد ذلك فهي كالْحجارة أوْ أشدُّ قسْوةً وإنّ من الْحجارة لما يتفجّرُ منْهُ الأنْهارُ وإنّ منْها لما يشّقّقُ فيخْرُجُ منْهُ الْماء وإنّ منْها لما يهْبطُ منْ خشْية اللّه وما اللّهُ بغافلٍ عمّا تعْملُون4.

 


وبالنتيجة فإنه سيخسر آخرته وسيستحق الغضب الإلهي والعذاب الأليم، ﴿إنّ الّذين كفرُواْ سواءٌ عليْهمْ أأنذرْتهُمْ أمْ لمْ تُنذرْهُمْ لا يُؤْمنُون * ختم اللّهُ على
 
 
 

 
1- البقرة:204
2- آل عمران:7
3- البقرة: 10
4- البقرة: 74
 
 
 
 
 
35

28

الدرس الثاني: حياة القلب

 قُلُوبهمْ وعلى سمْعهمْ وعلى أبْصارهمْ غشاوةٌ ولهُمْ عذابٌ عظيمٌ1

 

 
وأما صاحب القلب الحي فإنه كالأرض الصالحة الزكية التي تثمر فيها أشجار السعادة وتحيى بربيع دائم ﴿وإذا ما أُنزلتْ سُورةٌ فمنْهُم مّن يقُولُ أيُّكُمْ زادتْهُ هذه إيمانًا فأمّا الّذين آمنُواْ فزادتْهُمْ إيمانًا وهُمْ يسْتبْشرُون * وأمّا الّذين في قُلُوبهم مّرضٌ فزادتْهُمْ رجْسًا إلى رجْسهمْ وماتُواْ وهُمْ كافرُون2.

 

 
فالقلب إذاً له الكلمة الفصل في مصير سلوك الإنسان في الدنيا ومصيره في الآخرة، وقد علمنا الله تعالى في كتابه الكريم أن ندعو بثبات هذه القلوب على الحق ﴿ربّنا لا تُزغْ قُلُوبنا بعْد إذْ هديْتنا وهبْ لنا من لّدُنك رحْمةً إنّك أنت الْوهّابُ3، من هنا كيف نستطيع أن نبعد هذا القلب عن مهالكه، ونؤمّن له ما يحميه ويقوي دوره الصحيح في حياتنا؟ يكون ذلك من خلال منع أسباب الظلمات، وبعث النور في القلب من جديد، وتقويته في مواجهة الفتن والتحديات. 

 

 
الأمر الأول: أسباب الظلمات ورفعها:
 
هناك العديد من الأمور التي تتسبب بالظلمات في القلب، أشار إليها أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته هذه، أو أشارت إليها الآيات القرآنية، لا بد من التعرف عليها لرفعها، والوقوف بوجهها، لما تشكله من خطر على هذا القلب، ومن هذه الأمور: 
 
1- حب الدنيا: 

 

﴿واصْبرْ نفْسك مع الّذين يدْعُون ربّهُم بالْغداة والْعشيّ يُريدُون وجْههُ ولا تعْدُ عيْناك عنْهُمْ تُريدُ زينة الْحياة الدُّنْيا ولا تُطعْ منْ أغْفلْنا قلْبهُ عن ذكْرنا واتّبع هواهُ وكان أمْرُهُ فُرُطًا4

 

 
 

1- البقرة: 6-7
2- التوبة:124-125
3- آل عمران: 8
4- الكهف: 28
 
 
 
 
 
36

29

الدرس الثاني: حياة القلب

 إن التعلق بالدنيا وحبها يفسد القلب، ويجعله ساحة سهلة أمام زمر الشيطان، من هنا لا بد للإنسان المؤمن من أن يقطع هذا التعلق بالدنيا الذي يجعلها هدفاً وغاية بدل الآخرة، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله "وأمته بالزهادة" فلإماتة هذا الافتتان بالدنيا طريق هو عبارة عن الزهد، والزهد يحصل من خلال المعرفة، أي الإدراك والإيمان بأن هذه الدنيا ليست هي الهدف والغاية، بل هي منقطعة وليست سوى طريق للآخرة، وقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "أعرفُ الناس بالزهادة من عرف نقص الدنيا"1

 
وهناك رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يشرح فيها معالم الزهد: "الزهد مفتاح باب الآخرة، والبراءة من النار، وهو تركك كل شيء يشغلك عن الله، من غير تأسف على فوتها، ولا اعجاب في تركها، ولا انتظار فرج منها، ولا طلب محمدة عليها، ولا عوض منها، بل ترى فوتها راحة وكونها آفة، وتكون أبداً هارباً من الآفة، معتصماً بالراحة"2.
 
2- ارتكاب المعاصي:
سلوك الإنسان يؤثر في القلب أيضاً، فإن كان سلوكاً سيئاً يخالف حكم الله تعالى وإرشادات الإسلام، فإنه سيملأ القلب ظلاماً وحجباً، وهذا ما تؤكده العديد من الآيات القرآنية، كالآيات التالية: ﴿كلّا بلْ ران على قُلُوبهم مّا كانُوا يكْسبُون3.

 

 

 

﴿أولمْ يهْد للّذين يرثُون الأرْض من بعْد أهْلها أن لّوْ نشاء أصبْناهُم بذُنُوبهمْ ونطْبعُ على قُلُوبهمْ فهُمْ لا يسْمعُون4

 

 

 

﴿فأعقبهم فأعْقبهُمْ نفاقًا في قُلُوبهمْ إلى يوْم يلْقوْنهُ بما أخْلفُواْ اللّه ما وعدُوهُ وبما كانُواْ يكْذبُون5.

 

 
 

1- علي بن محمد الواسطي- عيون الحكم والمواعظ- ص 122.
2- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 2 ص 1168.
3- المطففين: 14
4- الأعراف:100
5- التوبة:77
 
 
 
 
 
37

30

الدرس الثاني: حياة القلب

3- ترك الجهاد في سبيل الله:

 

﴿وإذآ أُنزلتْ سُورةٌ أنْ آمنُواْ باللّه وجاهدُواْ مع رسُوله اسْتأْذنك أُوْلُواْ الطّوْل منْهُمْ وقالُواْ ذرْنا نكُن مّع الْقاعدين * رضُواْ بأن يكُونُواْ مع الْخوالف وطُبع على قُلُوبهمْ فهُمْ لا يفْقهُون1

 

 
إن التخلف عن الجهاد في سبيل الله والقعود عن نصرة دينه وترك مواجهة الظالمين، له تبعات خطيرة جداً في الدنيا والآخرة، وما يهمنا الإشارة إليه الآن أثره في القلب، حيث تصرح هذه الآية الكريمة، أن هؤلاء القاعدين المتخلفين عن الجهاد طُبع على قلوبهم. ومن الطبيعي أن الذي يعيد الحياة للقلب، المشاركة في الجهاد،لذلك نجد الإنسان المجاهد أكثر نوراً، وألين قلباً، وأقرب إلى الله تعالى. 
 
4- التخلي عن الفرص الإلهية:
إن الله تعالى يوفق الإنسان خلال حياته للكثير من الفرص التي لو استغلها لجعلته أقرب إلى ساحة رضا الله تعالى، وترك الفرص بالإضافة إلى كونه خسارة لفرصة قد لا تعود، هو أيضاً سبب من أسباب موت القلوب وظلامها. يقول تعالى ﴿تلْك الْقُرى نقُصُّ عليْك منْ أنبآئها ولقدْ جاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالْبيّنات فما كانُواْ ليُؤْمنُواْ بما كذّبُواْ من قبْلُ كذلك يطْبعُ اللّهُ على قُلُوب الْكافرين2.

 

 
ثانياً: بعث النور في القلب من جديد
 
للقلب حياة وموت، فكم من إنسان حي ببدنه يعيش في هذه الأرض ولكنه ميت القلب، لا يشعر بالآخرة ولا يرى أمامه سوى هذه الدنيا. وأما لو كان القلب حياً فإن سائر أعضاء هذا الجسد سوف تنبض بالحياة لأنه هو الموجه لها وهي مطيعة له ولذا ورد في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده"3.
 
 

1- التوبة:86 - 87
2- الأعراف:101
3- كنز العمال: 1223، 1205.
 
 
 
 
 
38

31

الدرس الثاني: حياة القلب

 إن كل مكان تركته زمر الشيطان، علينا أن نسلط جنود الرحمان عليه من جديد، وكل مكان أزلنا أسباب الظلام عنه، يجب أن نفتح أبوابه أمام شعاع النور.

وبعد أن عرضنا شيئاً من أسباب الظلام وموت القلوب لمنعها، نستعرض أموراً تساعد على بعث النور في القلب وإحياءه من جديد. 
 
1ـ ذكر الله: 
هذا الذكر الذي يتجلى ألفاظاً على اللسان هو أيضاً بحقيقته يقين في القلوب، هذا اليقين الذي يقوي القلب ويبعث فيه النور "قوه باليقين" ﴿إنّما الْمُؤْمنُون الّذين إذا ذُكر اللّهُ وجلتْ قُلُوبُهُمْ وإذا تُليتْ عليْهمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيمانًا وعلى ربّهمْ يتوكّلُون1.

 

 
واليقين: هو درجة شديدة من الإيمان، فقد ورد في الرواية الترتيب التالي: عن أبي جعفر عليه السلام : "إنما هو الإسلام، والإيمان فوقه بدرجة والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين"2.
 
من هنا نعلم كيف يعطي اليقين قوة القلب لدى هذا الإنسان، إنه الإدراك التام لما يترتب على الأفعال من مصالح ومفاسد، ولذا فإن صاحب اليقين لا يقدم على التجاوز عن ذلك للمعرفة التامة. فمن يتيقن بأن النار محرقة لن يقدم على رمي نفسه فيها.
 
2- الحكمة: 
"ونوره بالحكمة": قال تعالى: ﴿يُؤْتي الْحكْمة منْ يشاءُ ومنْ يُؤْت الْحكْمة فقدْ أُوتي خيْراً كثيراً وما يذّكّرُ إلاّ أُوْلُوا الألْباب3.

 

فالحكمة أولاً هي من عند الله، وكل ما كان من عند الله فلا بد وأن يكون خيراً 
 
 

1- الأنفال:2
2- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج 4 ص 3714.
3- البقرة:269
 
 
 
 
 
39

 


32

الدرس الثاني: حياة القلب

 لأنه مصدر كل خير، وقد وصف الله عز وجل هذا الخير بأنه كثير، فإذا كان الوصف القرآني له بهذا النحو فهذا يعني أنه من الكثرة ما لا يتصوره الإنسان.

 
وأما ما هي الحكمة؟ فهذا ما يفسّره الإمام الصادق عليه السلام كما في الرواية: "إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم".
 
وفي رواية لبيان طريق نيل الحكمة، ورد في حديث المعراج: "يا أحمد ! إن العبد إذا أجاع بطنه وحفظ لسانه علمته الحكمة، وإن كان كافراً تكون حكمته حجة عليه ووبالاً، وإن كان مؤمناً تكون حكمته له نوراً وبرهاناً وشفاءً ورحمةً، فيعلم ما لم يكن يعلم ويبصر ما لم يكن يبصر، فأول ما أبصره عيوب نفسه حتى يشتغل عن عيوب غيره، وابصره دقائق العلم حتى لا يدخل عليه الشيطان"1.
 
3ـ  الموعظة: 
في الوصية "أحي قلبك بالموعظة... وذلّله بذكر الموت، وقرره بالفناء. وبصره فجائع الدنيا".
 
والموعظة هي التذكير بالآخرة وبالمصير الذي لا بد وأن يصل إليه كل إنسان، فإذا سمع ذلك الإنسان لجأ إلى التوبة، وبها حياة القلب، ولذا نقرأ في دعاء الإمام السجاد عليه السلام : "إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي، وجللني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي".
 
 
ثالثاً: تقوية القلب 
 
على الإنسان أن يصنع للقلب دفاعات وحواجز تقيه وتحرسه في مواجهة تحديات الدنيا، ويكون ذلك من خلال بعض الأمور التي أشار إليها الإمام عليه السلام في وصيته: 
 
 

1- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج 1 ص 673
 
 
 
 
40

33

الدرس الثاني: حياة القلب

 1- التذكير: 

"اعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم".
 
تتضمن هذه الكلمات بيانا لأفضل طريق يمكن أن يسلكه الإنسان في تربية النفس في حالاته كافة، فإن كان غنياً قد أنعم الله عليه، ونظر إلى من كان قبله من الأغنياء والمترفين من الأمم السالفة علم أن مصير ذلك كله إلى زوال. وإن كان فقيراً أو مبتلى علم بأن هذه الدنيا لا تدوم لأحد ولم يكن الخلود نصيب أحد فيها.
 
قال تعالى﴿قدْ خلتْ منْ قبْلكُمْ سُننٌ فسيرُوا في الأرْض فانْظُروا كيْف كان عاقبةُ الْمُكذّبين1.

 

 
إن لله في الأمم سننا لا تختص بهم، بل هي قوانين وسنن عامة في الحياة تجري على الحاضرين كما جرت على الماضين سواء بسواء، وهي سنن للتقدم والبقاء، وسنن للتدهور والاندحار، التقدم للمؤمنين المجاهدين المتحدين الواعين، والتدهور والاندحار للأمم المتفرقة المتشتتة الكافرة الغارقة في الذنوب والآثام.
 
وفي موضع آخر من نهج البلاغة يقول الإمام علي عليه السلام :
"واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم، ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة واللزوم للألفة والتحاض عليها، والتواصي بها، واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم وأوهن منتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي..."2
 
 

1- آل عمران:137
2- نهج البلاغة: الخطبة 192
 
 
 
 
 
41

34

الدرس الثاني: حياة القلب

 2- التحذير: 

"وحذره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيام": لا يعيش الإنسان في حياته بدوام السرور بل تتقلب به الأيام وتعصف به يميناً ويساراً، فتارة يكون بأتمّ الصحة وأخرى تجده يعاني الأمرين من المرض، وتارة تجده غنياً موفور النعمة وأخرى تجده فقيراً معدماً، وهكذا... تتقلب به الأيام من حال إلى حال، وهذا الاختلاف يصفه أمير المؤمنين بأنه يكون فاحشاً، أي كبيراً وعظيماً، لا يسيراً وسهلاً.
 
والإمام يدعو لتربية النفس على تحمّل هذه التقلبات التي يصاب بها الإنسان، بنحو لا تخرجه عن طاعة الله إلى معصيته أو عن الإيمان إلى الكفر. 
وعن الإمام الصادق عليه السلام : "ما أعطي عبد من الدنيا إلا اعتبارا، وما زوي عنه إلا اختبارا"1
 
خلاصة الدرس
 
الموعظة: هي التي يحيا بها القلب، وهي التذكير بالآخرة وبالمصير الذي لا بد وأن يصل إليه كل إنسان، فإذا سمع ذلك الإنسان لجأ إلى التوبة وبها حياة القلب.
ـ لإماتة القلب عن التعلق بالدنيا طريق آخر وهو عبارة عن الزهد في الدنيا وترك التعلّق بها.
ـ بيان طرق إحياء القلب:
أ ـ اليقين: يعطي اليقين قوة القلب لدى هذا الإنسان، لإنه الإدراك التام لما يترتب على الأفعال من مصالح ومفاسد.
ب ـ الحكمة هي المعرفة والتفقه في الدين.
 
 

1- الكليني الكافي - دار الكتب الإسلامية ,آخونديالطبعة الثالثة - ابن بابويه - علي - فقه الرضا - مؤسسة أهل البيت: ج2 / ص 261 / حديث 6
 
 
 
 
42

35

الدرس الثاني: حياة القلب

 أسئلة حول الدرس

 
1ـ ما المراد من حياة القلب؟ وكيف تكون حياته؟
2ـ ما هو اليقين؟ وكيف يعطي قوة للقلب؟
3ـ ما المراد من الحكمة؟ وكيف وصفها الله عز وجل في كتابه؟
4ـ ما هي فائدة التعرض لأخبار الماضين؟
 
 
للحفظ 
 
يقول الله تعالى في محكم آياته:
 

 

﴿هُو الّذي أنزل عليْك الْكتاب منْهُ آياتٌ مُّحْكماتٌ هُنّ أُمُّ الْكتاب وأُخرُ مُتشابهاتٌ فأمّا الّذين في قُلُوبهمْ زيْغٌ فيتّبعُون ما تشابه منْهُ ابْتغاء الْفتْنة وابْتغاء تأْويله وما يعْلمُ تأْويلهُ إلاّ اللّهُ والرّاسخُون في الْعلْم يقُولُون آمنّا به كُلٌّ مّنْ عند ربّنا وما يذّكّرُ إلاّ أُوْلُواْ الألْباب24. 

 

  
 

1- آل عمران:7
 
 
 
 
43

36

الدرس الثاني: حياة القلب

 للمطالعة

 
من أخبار العلماء الماضين 

يقول أحد العلماء: لقد كنت أؤمن بوجود التقوى كنظرية في بطون الكتب فقط، وكنت أنكر وجودها على صعيد الواقع العملي فـي هذا الزمن الرديء، الذي طغت على الناس فيه مظاهر المادة والمنكر والفساد، واعتادت فيه بطونهم وأنظارهم على الحرام ومشاهده. 

كان هذا هو اعتقادي، إلى أن قيّض لي أن عاشرت رجلـين اثنـين بدّلا تفكيري، وقلّبا ذلك الاعتقاد عندي. أحدهما في مدينة قم المقدسة وهو الشيخ أبو القاسم، والآخـر فـي مدينـة النجـف الأشرف وهـو السيد مرتضى الكشميري. 

ثم ذكر العالم المذكور بعض أحوال الشيخ أبي القاسم فقال: ذات ليلة، أرسل "صمصام" رئيس شرطة قم كيساً فيه مبلغ كبير من المال إلى الشيخ، غير إن الشيخ رفض تسلًّم المبلغ، وأمر ابنه أن يعيده. 

ولما أن رأى من ابنه الممانعة في رده، والتعذر بأنهم في أمس الحاجة إلى ذلك المال، قال له الشيخ إن الله سبحانه، قد منّ علينا يا ولـدي بالعقل. وهذا المال هو في أحسن الأحوال ديْنٌ وجميلٌ للقـوم علينا. وأنت تعلم أنهم لايعطون شيئاً من دون مقابل، ولعلهم يطلبون منا أشياء فيما بعد، لا يجوز لنا أن نلبيها لهم. 

فاقتنع الابن وأعاد الأموال إلى مرسلها. 

ومما ذكر العالم المذكور في حق الشيخ إنه كان يمر على باب دار الشيخ عبد الكريم الحائري "مؤسس الحوزة العلمية في قم" ويقول: " إن النظر إلى باب داره ثواب، والحضور في درسه ثواب". 
 
 
 
 
44

37

الدرس الثاني: حياة القلب

 ولم يكن الشيخ أبو القاسم يتصرف في سهم الإمام عليه السلام ، مع ما كان عليه من ضعف الحال، وضيق ذات اليد، إلى درجة أنه لم يكن يجد أحياناً ما يأكله، كما نقل أولاده. 


وحينما تدرّ عليه السماء برزقها تجده لا يدخر وسعاً فـي دعـوة الفقراء والمحتاجين ليشاركوه في سرائه ونعمته.. ثم يشكر الله سبحانه على رزقه وما أجراه من الخير على يديه.
 
ومما ذكره بعضهم في أحواله إنه كان يكنّ احتراماً فائقاً وواضحاً لزوجته الكريمة، وذلـــك بسبب انتسابها إلــى الرســول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، ففي السرّاء كان يغدق عليها في العطاء، وفي الضراء كان يطعم نفسه رغيف الشعير من أجل أن تهنأ زوجته برغيف الحنطة. 
 
 
 
 
 
45

38

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 الدرس الثالث

النصيحة وضرورة استماعها
 
 
 
"بادرْتُ بوصيّتي إليْك، وأوْردْتُ خصالاً منْها قبْل أنْ يعْجل بي أجلي دُون أنْ أُفْضي إليْك بما في نفْسي، أوْ أنْ أنْقُص في رأْيي كما نُقصْتُ في جسْمي، أوْ يسْبقني إليْك بعْضُ غلبات الْهوى وفتن الدُّنْيا، فتكُون كالصّعْب النّفُور. وإنّما قلْبُ الْحدث كالْأرْض الْخالية ما ألْقي فيها منْ شيءٍ قبلتْهُ. فبادرْتُك بالْأدب قبْل أنْ يقْسُو قلْبُك، ويشْتغل لُبُّك، لتسْتقْبل بجدّ رأْيك من الْأمْر ما قدْ كفاك أهْلُ التّجارب بُغْيتهُ وتجْربتهُ، فتكُون قدْ كُفيت مؤُونة الطّلب، وعُوفيت منْ علاج التّجْربة، فأتاك منْ ذلك ما قدْ كُنّا نأْتيه، واسْتبان لك ما رُبّما أظْلم عليْنا منْهُ".
 
 
 
 
 
47

39

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 تمهيد

 
النصيحة هي من أهم ما يمكن أن يهديه الإنسان لأخيه المؤمن، فهي تصدر عنه من خالص المحبة ولذا ورد في الحديث: "ناصحك مشفق عليك، محسن إليك، ناظر في عواقبك، مستدرك فوارطك، ففي طاعته رشادك، وفي مخالفته فسادك"1، والنصيحة إن جاءت من الأب لولده كانت أزيد شفقة ومحبة من النصيحة التي تأتي من غيره، والإمام عليه السلام في الوقت الذي يوجه النصيحة لولده الإمام الحسن عليه السلام، يمهّد لذلك بذكر الأسباب التي دعته إلى اختيار ذلك الوقت لأجل توجيه النصيحة لولده، مبيّنا أنه لو تأخر في أداء تلك النصيحة عن ذلك الوقت، فإن ذلك سوف يؤدي إلى ضياع النصيحة، لأنها سوف تتأخر عن وقتها الذي كان ينبغي أن تؤدى فيه، ولذا يشير الإمام إلى موانع الاستماع إلى النصيحة.
والنصيحة والأدب هما من التربية الواجبة على الأهل، ومن حق الطفل على أبيه أن يحسن أدبه وتربيته. وهذا ما ورد في كتاب الله عز وجل حيث قال: ﴿يا أيُّها الّذين آمنُوا قُوا أنفُسكُمْ وأهْليكُمْ ناراً وقُودُها النّاسُ والْحجارةُ2.

 

 
فقد ورد في الرواية أنه عليه السلام: لما نزلت الآية، قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلنا؟ قال: اعملوا الخير وذكّروا به أهليكم وأدبوهم على طاعة الله 3.
 
موانع الاستماع إلى النصيحة
 
أ- "يسبقني إليك بعض غلبات الهوى وفتن الدنيا".
 
إنها مسابقة بين الدعوة إلى الحق والدعوة إلى الباطل, فالشاب في مقتبل العمر إذا لم تؤد له النصيحة في وقتها وسبقت دعوة الباطل دعوة الحق لتطرق مسامع
 
 

1- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 4 ص 3279.
2- التحريم: 6.
3- المحقق النوري - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل- مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث -الطبعة الأولى –: 12 / 201 / 13881 و ح 13882
 
 
 
 
 
49

40

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 أذنه، وتتحدث مع شغاف قلبه، فإنه سوف يبتعد عن الاستماع إلى النصيحة، وسوف يكون التقصير من الأهل الذين لم يبادروا إلى ذلك.

 
وقد بيّن الإمام سبب ذلك، وهو أن الشاب في أوائل شبابه يشعر بفراغ يحتاج إلى أن يملأه ويبادر إلى ملئه بما يجده في متناوله، ولذا قال عليه السلام: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما القي فيها من شئ قبلته".
 
ب- "فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك".
 
الخطوة التي تلي النصيحة هي الأدب، والأدب مرحلة أشد من النصيحة، لأنه يتضمن بعض الأساليب التي تحمل نوعا من الفرض والعقوبة مع فرض التخلف عن ذلك والمعصية، وهذه المرحلة لها أيضا وقتها الذي ينبغي أن يبادر الأهل إلى أدائها في ذلك الوقت وعدم تأخيرها بنحو لا يعود من الأدب نفع ولا فائدة.
 
والمانع من تأثير النصيحة كما يذكر الإمام عليه السلام ذلك في هذه الرواية هو قسوة القلب. 
 
ولقسوة القلب أسباب عديدة ومن هذه الأسباب أن يعيش الإنسان طول الأمل، والشاب في مقتبل العمر مُعرّض لأن يرى من نفسه القوة والقدرة على كل شيء، وأن ينظر إلى الناس من حوله فلا يرى لهم من حق عليه سوى أنه أقدر منهم وأقوى على نيل ما يريد وهذا الأمر يورث قسوة القلب، ففي الرواية، فيما ناجى الله عز وجل به موسى عليه السلام: "يا موسى، لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك"1.
 
ج- ويشتغل لبك
 
المانع الثالث من الاستماع إلى النصيحة هو أن يكون الشاب في حداثة سنه ومقتبل عمره حاملا لهمّ ما، كما لو كان يطلب الوصول إلى غاية من الغايات ويسعى للوصول إليها مهما كلفه ذلك، فإن ذلك سوف يكون مانعا من الاستماع إلى
 
 

1- الكليني، الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي-الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت: 2 / 329.
 
 
 
 
50

41

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 النصيحة، فهو ونتيجة حرصه على الوصول إلى غايته سوف يطلب أسرع الطرق والتي قد لا تكون مضمونة، ولو وجهت إليه النصائح المتتالية بأن هذا الطريق يضر به ولا يفيده فإنه لن يبادر إلى الاستماع إلى النصيحة.

 
ثمرة النصيحة
 
1- "لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته".
 
إن من أهم فوائد النصيحة هي أن يتحرز الإنسان عن الوقوع في الخطأ، فإذا وقف الإنسان أمام خيارات متعددة وبدل أن يخوض غمار التجارب والتي قد تكون فاشلة وفيها الخسارة، يعتبر بمن سبقه من الناس إلى تجربة تلك الطرق، وبهذا يأمن الوقوع في الضرر، وهذه هي فائدة النصيحة. 
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "التجارب علم مستفاد"1.
 
إذا الثمرة الأولى هي الإحاطة بالأمر واختيار الأفضل.
 
2- "فتكون قد كفيت مؤونة الطلب".
 
وهنا يشير الإمام عليه السلام إلى الثمرة الثانية للاستفادة من نصيحة الآخرين، وهو أن أصحاب التجربة إذا أشاروا إليك في أمر من الأمور، فعملت بنصيحتهم في فعل أو في ترك، جعلوك في راحة من أن تسعى لترى ذلك بنفسك، فخففوا عنك أعباء قد تضطر إلى تحملها لو أردت تجربة ذلك بنفسك، وحفظوا لك وقتك وطاقاتك لتستنفذها في مكانها المثمر ثماراً جديدة.
 
3- "عوفيت من علاج التجربة".
الوقاية خير من العلاج كما يقال، وهذه هي الثمرة الثالثة من الأخذ بالنصيحة، إنها الوقاية من الوقوع في الداء الذي يحتاج إلى علاج. والتجربة إذا خاضها
 
 

1- غرر الحكم: 1036.
 
 
 
 
51

42

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 الإنسان بنفسه قد توقعه في أمر لا بد له فيه من العلاج، ولكنه لو اعتمد على تجارب الآخرين أمن من الضرر. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة التجربة حسن الاختيار"1.

 
4- "فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه". 
 
الثمرة الرابعة من الرجوع إلى النصيحة أن يصل الإنسان إلى ما يريده بيسر وسهولة، فمن سبقنا إلى الأمر قد تجشم العناء في الوصول إليه، والسعي لنيله، وأما نحن فيصلنا صافيا وفي معافاة من أمرنا.
 
5- "واستبان لك ما ربما أظلم علينا منه".
 
الثمرة الخامسة هي في أن الصورة لدينا تكون أوضح وأجلى، فإننا متى شاهدنا التجارب التي خاضها الآخرون، ولاحظنا حجم المعاناة التي عانوا منها فأخذنا بالتجارب المتعددة، والصور المختلفة التي يحكيها أصحاب التجارب، ونصائحهم التي ينظر فيها كل واحد منهم إلى جهة من الجهات، اجتمعت لدينا جهات متعددة من النظر والرأي، وهذا يؤدي إلى تكوين صورة أفضل وأجمع وأشمل.
 
خلاصة الدرس
 
ـ النصيحة للإخوان تنطلق من المحبة لهم، وللنصيحة وقتها الذي ينبغي أن تؤدى فيه.
 
ـ أسباب التعجيل بالنصيحة:
 
أ ـ الحذر من سبق دعوة الباطل.
ب ـ الحذر من الابتلاء بقسوة القلب.
 
 

1- غرر الحكم: 4617. 
 
 
 
 
 
52

43

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 ج ـ اشتغال البال.


وأما ثمرة النصيحة فهي:
أ ـ الابتعاد عن الوقوع في الخطأ من خلال ملاحظة تجارب الآخرين.

ب ـ التخفيف على الإنسان من عبء التجربة.

ج ـ عدم الوقوع في مضار التجربة.

د ـ نيل المطلوب بيسر وسهولة.

أسئلة حول الدرس
 
1ـ كيف تفسّر قوله تعالى: ﴿يا أيُّها الّذين آمنُوا قُوا أنفُسكُمْ وأهْليكُمْ ناراً وقُودُها النّاسُ والْحجارةُ؟
2ـ كيف تشكل قسوة القلب عاملا مانعا من الاستماع إلى النصيحة؟
3 ـ اذكر واحدة من فوائد الاستماع إلى النصيحة؟
4ـ كيف تفسر قول الإمام عليه السلام : فاستبان لك ما ربما أظلم علينا منه؟
 
 
للحفظ 
 
فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى عليه السلام: "يا موسى، لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك".
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "التجارب علم مستفاد".

وعنه عليه السلام: "ثمرة التجربة حسن الاختيار".
 
 
 
 
 
53

44

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 للمطالعة

 
النصح بالعمل سيرة أهل البيت عليهم السلام 

كتب زرارة بن أعين، وعبد الله بن بكير، ومحمد بن مسلم، وأبو بصير وآخرون إلى الإمام الصادق عليه السلام يتبرّمون له من تصرفات المفضّل بن عمرو الجعفي، وذلك لما لاحظوه على المفضّل من معاشرة بعض الأشخاص غير الملتزمين، مثـل شاربي الخمر، واللاعبين بالطيور. وتمنّـوا على الإمام عليه السلام أن يكتب إليه رسالة ينهاه عن أعماله غير اللائقة تلك. 

وهكذا كان، فكتب الإمام الرسالة وختمها، ثم سلّمها إليهم، وأوصاهم أن يسلّموها إلى المفضّل. 

وفي الكوفة فضّ المفضّل الرسالة، وتلاهـا عليهم، ففوجئوا بـأن الإمام عليه السلام لم يأت على ذكر طلبهم لا من قريب ولا من بعيد‍. وإنما وجدوا الإمام فيها يأمر المفضّل بشراء أشياء تحتاج إلى مبالغ طائلة. 

قال لهم المفضل: علينا أن نتعاون في جمع المبلغ. 

قالوا: إن ذلك يحتاج إلى الوقت.. وإلى العمل الحثيث. 

ثم عزموا الخروج، لكن المفضّل استوقفهم ودعاهم لتناول طعام الغداء معه. وعلى الأثر أرسل شخصاً في طلب عددٍ من الذين شكوا المفضّل بسببهم. 

وحينما حضروا عرض عليهم المفضّل الأمر، فاستأذنوا في الخروج، وعادوا بعد قليل ومعهم عشرة آلاف درهم هي المبلغ المطلوب، ثم سلموها للمفضّل والحضور يشهدون. 

وعند تناول الطعام توجه المفضّل نحو أصحابه وهو يقول: أفكنتم تريدون أن 
 
 
 
 
 
54

45

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

 أترك أشخاص كهؤلاء، فأعجز عن أداء الأمور الضرورية. 


عند ذلك تبين للقوم مغزى قصد الإمام عليه السلام من وراء كتابه، وهو إعلامهم بأن القائد بحاجة إلى جميع أصناف الناس، مادام دينه فـي مأمن من الخطر والزلل، وإن معاشرة المفضّل لأولئك كان من الصواب والحكمة، وهو مؤيد في ذلك من الإمام عليه السلام.
 
 
 
 
55

46

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 الدرس الرابع

 

حال المؤمن في الدنيا
 
 
 
"إن ّما مثلُ منْ خبرٍ الدُّنْيا كمثل قوْمٍ سفْرٍ، نبا بهمْ منْزلٌ جديبٌ، فأمُّوا منْزلاً خصيباً وجناباً مريعاً، فاحْتملُوا وعْثاء الطّريق، وفراق الصّديق، وخُشُونة السّفر، وجُشُوبة الْمطْعم، ليأتُوا سعة دارهمْ، ومنْزل قرارهمْ، فليْس يجدُون لشيْءٍ منْ ذلك ألماً، ولا يروْن نفقةً مغْرماً، ولا شيْء أحبُّ إليْهمْ ممّا قرّبهُمْ منْ منْزلهمْ، وأدْناهُمْ منْ محلّهمْ. ومثلُ من اغْترّ بها كمثل قوْمٍ كانُوا بمنْزلٍ خصيبٍ، فنبا بهمْ إلى منْزلٍ جديب، فليْس شيْءٌ أكْره إليْهمْ ولا أفْظع عنْدهُمْ منْ مُفارقة ما كانُوا فيه، إلى ما يهْجُمُون عليْه، ويصيرُون إليْه".
 
 
 
 
 
57

47

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 تمهيد

 
يصف الإمام عليه السلام في وصيته هذه لولده حال الإنسان المؤمن وحال الإنسان الكافر في هذه الدنيا وكيف يعيش كل منهما.
 
حال المؤمن
 
- "قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأموا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً"
 
المؤمن في هذه الدنيا والذي يكون همه الآخرة، هو كالمسافر الذي أراد السفر من أرض قاحلة جدباء لا نبات فيها ولا ثمر ـ كناية عن الدنيا ـ إلى أرض مثمرة وخصبة ـ كناية عن الآخرة ـ ويعاني المؤمنون في سفرهم هذا الصعاب ولكنهم يملكون القدرة على تحمل ذلك لأنهم يريدون الوصول إلى حيث النعم الوافرة.
 
وتشبيه حال الإنسان في هذه الدنيا بالمسافر، ورد في العديد من الروايات:
 
فعن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا"1.
 
وعن الإمام علي عليه السلام: "هؤلاء أنبياء الله وأصفياؤه تنزهوا عن الدنيا... ثم اقتص الصالحون آثارهم... وأنزلوا الدنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحل لأحد أن يشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النفس وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتنها، فكل من مر بها أمسك على فيه، فهم يتبلغون بأدنى البلاغ..."2.
 
ولذا يصف الإمام حال المؤمن بالتالي:
 
1- "احتملوا وعثاء الطريق"
 
الدنيا محفوفة بالمخاطر والمصاعب، وهذه المخاطر ليست هي خصوص المخاطر المادية أو الابتلاءات الجسدية، بل من أعظم هذه المخاطر هو الاغترار
 
 

1- نهج البلاغة: الكتاب 55.
2- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ج 73 / ص90 / حديث 61.
 
 
 
 
 
59

48

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 بهذه الدنيا، فهي تزين نفسها للناس، وتدعوهم إليها، وترغبهم بها، وأشدهم مقاومة لها هو الذي ينتصر عليها، وأعظم تشبيه ورد في وصف صعوبة هذه الدنيا، هو وصفها بالسجن، ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الدنيا لا تصفو لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه".

 
وعن الإمام الكاظم عليه السلام: "مثل الدنيا مثل ماء البحر، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشا حتى يقتله"1.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النار"2.
 
2- وفراق الصديق.
 
ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل"3.
 
 
المؤمن في هذه الدنيا غريب، لا يرى صديقا يسير معه في هذا الطريق لأنه طريق معاناة ومشقة. وعدم وجود رفيق لهذا الإنسان في سفره هذا يزيد من مشقته ويجعله يعاني المزيد من الصعاب، ولكنه مع ذلك يصبر في سبيل الوصول إلى الآخرة والمستقر الأبدي.
 
3- وخشونة السفر
 
إذا علم المؤمن أن هذه الدنيا هي دار ممر وأنه في سفر، علم أنه لا قرار له
 
 

1- الحراني - ابن شعبة - الوفاة: ق 4- تحف العقول- الطبعة: الثانية - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة: 396.
2- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي-الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت ­ع - الشيخ الكليني - ج 2 ص 90.
3- نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 2 ص 181.
 
 
 
 
 
60

49

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 فيها، وتحمل ما فيها من خشونة وصعاب، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو كأنك عابر سبيل، وعد نفسك في أصحاب القبور"1.

 
وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إن الدنيا دار خبال ووبال، وزوال وانتقال، لا تساوي لذاتها تنغيصها، ولا تفي سعودها بنحوسها، ولا يقوم صعودها بهبوطها"2.
 
4ـ "وجشوبة المطعم"
 
الطعام الجشب هو الطعام الغليظ الذي لا تميل إليه النفس ولا ترغب به. والمؤمن وإن كان يستفيد من هذه الدنيا ولا ينسى نصيبه منها، ولكن هذه الأمور ما دامت ليست هدفاً له، فإنها لا تحتل الأولوية أمام أهدافه الحقيقية، وبالتالي فهو يصبر على تركها إذا وقفت عائقاً أمامه لتحصيل رضا الله تعالى.
 
وكثرة الطعام توقع صاحبها في الابتعاد عن الله عز وجل، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة"3.
 
إن الطعام متى كان من الملاذ تناول الإنسان منه ما يزيد عن حاجته فابتلي بكثرة الأكل، وأما لو كان الطعام من غير ما تميل إليه النفس وتلتذ به فإنه سوف يكتفي منه بقدر الحاجة، ومن الروايات المحذرة من كثرة الطعام، ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للبدن ومورثة للسقم ومكسلة عن العبادة"4.
 
5ـ رضا النفس عند المؤمن
 
ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم فليس يجدون لشيء من ذلك ألما ولا يرون نفقة فيه مغرما ولا شيء أحب إليهم مما قربهم من منزلهم وأدناهم من محلتهم.
 
 

1- الطوسي – محمد بن الحسن - الوفاة: 460- الأمالي - دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع - قم: 381 / 819.
2- غرر الحكم: 3480، 1206، 409.
3- المحقق النوري - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل- مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث -الطبعة الأولى –: 12 / 94 / 13615.
4- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: 62 / 266 / 41.
 
 
 
 
61

50

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 بعد أن أوضح الإمام عليه السلام حال المؤمن في هذه الحياة الدنيا، أراد بيان حالة الرضا عند المؤمن بما هو عليه، فالمؤمن لا يتحمل كل هذه الصعاب والمشقات وهو مكره عليها، بل يؤديها وهو شاكر لله عز وجل وراض بما يقوم به، لأنه لا يشعر بالألم ولا بالخسارة في فعل كل ما يقربه إلى مقصوده الأساسي، ألا وهو رضا الله عز وجل، والفوز بالجنة. بل إن هذه المصاعب والمشقات أحب إليه من الرخاء والهناء إذا كانت من أسباب القرب إلى نيل مراده. ولذا يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام أيضا بقوله: "صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسرها لهم ربهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها. وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها"1.

 
حال الكافر المغتّر بهذه الدنيا
 
"ومثل من اغتر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب"
 
إنها صورة معاكسة لحال المؤمن، فالدنيا هي جنة الكافر، فهو يرى نفسه في سفر ولكنه في سفر من النعيم إلى الجحيم. وهذا ما يفسره لنا كراهة الموت لدى هذا الإنسان، فمن لم يضع نصب عينيه سوى هذه الدنيا فإنه سوف يرى في فنائها فناءه، وفي زواله نهاية كل شيء لديه، وعن لإمام الحسن عليه السلام: "أعظم سرور يرد على المؤمنين إذ نقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نقلوا عن جنتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد"2.
 
إنهم ولشده حبهم لهذه الدنيا يصعب عليهم فراقها، بل هو من أصعب ما يعانون منه، ولذا وصفهم الإمام عليه السلام بقوله: "فليس شيء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه ويصيرون إليه".
 
وعن الإمام زين العابدين في وصف حال الموت وفراق الدنيا للمؤمن وللكافر يقول عليه السلام: "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفك قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال 
 
 

1- نهج البلاغة، خطبة المتقين.
2- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 4 ص 2959.
 
 
 
 
 
62

51

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب"1.

 
خلاصة الدرس
 
ـ المؤمن في هذه الدنيا عبارة عن مسافر، يتحمل المشاق بغرض الوصول إلى المكان الذي يريده.
 
ـ المصاعب التي قد يتعرض لها المؤمن هي عبارة عن تحمّل وعثاء الطريق، وفراق الصديق، ومشاق السفر، وأكل الطعام الذي لا ترغب به النفس. والمؤمن يُقدم على تحمّل ذلك مع رضا من نفسه بذلك.
 
ـ حال الكافر في هذه الدنيا حال من يريد الرحيل من النعيم إلى الجحيم.
 
أسئلة حول الدرس
 
1ـ ما هو مراد الإمام الباقر عليه السلام من كون الجنة محفوفة بالمكاره؟
2ـ كيف يشكّل الإيمان بالآخرة عاملا مساعدا للمؤمن على تحمّل مشاقّ الدنيا؟
3ـ لماذا يقدم الإنسان على تحمّل الصعاب وهو في حال رضا من النفس؟
4ـ لماذا يشق على الكافر الانتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة؟
 
 

1- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 4 ص 2959.
 
 
 
 
63

52

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 للحفظ 

عن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا".

وعنه عليه السلام: "هؤلاء أنبياء الله وأصفياؤه تنزهوا عن الدنيا... ثم اقتص الصالحون آثارهم... وأنزلوا الدنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحل لأحد أن يشبع منها إلا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النفس وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتنها، فكل من مر بها أمسك على فيه، فهم يتبلغون بأدنى البلاغ...".

للمطالعة
 
تعلق القلب بالدنيا

كان المرحـوم الشيخ أحمد النراقـي قدس سره من العلماء الأجلاّء والأغنياء الموفوري الحال، كان له فـي ما يملك بستان واسع زاخر بالخيرات والنعم.

وذات يوم التقاه صوفي، عند دخوله الحمام. قال الصوفي للنراقي: كيف تدّعي لنفسك الزهد والدين، ولك ما لك من الأملاك مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين؟!

فلم يجبه النراقي، حـتى إذا فرغا من الحمّام توجه إلى صاحبه قائلاً: أيّها المرشد! هل ذهبت إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء؟ 

أجاب الصوفي بالنفي، فدعاه النراقي لصحبته إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام 
 
 
 
 
 
64

53

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

 وافق الصوفي وانطلقا معاً، وبعد عـدّة خطوات طلب الصّوفـي من النراقي أن يمهله عدّة لحظات حتى يعود! 


قال النراقي: لماذا؟ 

قال الصوفـي بعد أن ضرب يده بالأخرى: لقد نسيت كشكولي فـي الحمّام، ولابّد أن أصحبه معي. 

قال النراقي: أيها الصوفي، إنك شهدت بأن لـي ثروة طائلـة، وأموالاً كثيرة، لكنني أودعتها عند ربّي حينما عزمت على السفر إلى العتبات المقدّسة، وأخرجت حبّها من قلبي، وأما أنت فلم تستطع أن تترك كشكولاً واحداً ولم تملك أن تنـزع حبّه من قلبك، فإن الزهد كما عن الإمام علي عليه السلام "أن لا يملكك شيء لا أن لا تملك شيئاً".
 
 
 
 
65

54

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

 الدرس الخامس

قواعد التعامل مع الناس
 
 
 
"يا بُنيّ اجْعلْ نفْسك ميزاناً فيما بيْنك وبيْن غيْرك، فأحْببْ لغيْرك ما تُحبُّ لنفْسك، واكْرهْ لهُ ما تكْرهُ لها، ولا تظْلم كما لا تُحبُّ أنْ تُظْلم، وأحْسنْ كما تُحبُّ أنْ يُحْسن إليْك، واسْتقْبحْ منْ نفْسك ما تسْتقْبحُهُ منْ غيْرك، وارْض من النّاس بما ترْضاهُ لهُمْ منْ نفْسك، ولا تقُلْ ما لا تعْلمُ وإنْ قلّ ما تعْلمُ، ولا تقُلْ ما لا تُحبُّ أنْ يُقال لك. واعْلمْ، أنّ الْإعْجاب ضدُّ الصّواب، وآفة ُالْألْباب. فاسْع في كدْحك، ولا تكُنْ خازناً لغيْرك".
 
 
 
 
 
67

55

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

 القاعدة العامة في المعاملة 


اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك.

بهذه الكلمات المختصرة والموجزة يبيّن الإمام علي عليه السلام الطريقة الصحيحة في التعامل مع الناس، وهي طريقة العدل والإنصاف، بأن تجعل نفسك معيارا بينك وبين الآخرين.
وقد وردت العديد من الروايات في آداب التعامل مع الناس، وأفرد العلماء في كتب الحديث بابا خاصا تحت عنوان "آداب العشرة" بينوا فيه الطرق العامة لمعاشرة الناس وحسن المعاملة معهم بالنحو الذي يعكس فيه المؤمن التعاليم الصحيحة.

وقد قرن الله عز وجل الأمر بعبادته وتوحيده بالأمر بالإحسان إلى الناس سواء ما ارتبط بالوالدين أو بالأصحاب قال تعالى:﴿واعْبُدُوا اللّه ولا تُشْركُوا به شيْئاً وبالْوالديْن إحْساناً وبذي الْقُرْبى والْيتامى والْمساكين والْجار ذي الْقُرْبى والْجار الْجُنُب والصّاحب بالْجنْب وابْن السّبيل وما ملكتْ أيْمانُكُمْ إنّ اللّه لا يُحبُّ منْ كان مُخْتالاً فخُوراً1.

 


تطبيقات القاعدة

بعد أن ذكر الإمام عليه السلام هذه القاعدة العامة في العشرة، ذكر بعض التطبيقات لهذه القاعدة، والتي من خلال سلوكها يتمكن الإنسان من اتباع تعاليم الإسلام:

أ- أحبب لغيرك ما تحب لنفسك.

لكل إنسان طريقة خاصة في التعامل معه، فكما تحب أن يعاملك الآخرون عليك أن تلجأ إلى التعامل معهم. وهذا لا يختص بالأخ أو بالصديق بل يشمل الناس كافة، فأنت تحب من أخيك وصديقك أن يخلص لك في صداقته بأن يبذل لك كل ما 

 
 

 
1- النساء:36.
 
 
 
 
 
68

56

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

 تطلبه منه من مال أو خدمة، فعليك ان تبادله ذلك، بأن تبذل له ما يطلبه منك.

 
وأنت كذلك تحب من عدوك ومن قامت الخصومة بينك وبينه أن يعاملك بالعدل والإنصاف بأن لا يتجنّى عليك ولا يتهمك بهتانا مهما كانت عداوتك معه، فعليك ان تعامله بذلك، بأن تظهر عداوتك له في ظلمك به ولا تتعدى عن ذلك فتتهمه بما لم يفعله أو تتقول عليه بما لم يقله.
 
وأما سائر الناس فإن غاية ما تحبه منهم هو أن يقابلوك بوجه رحب وطليق، وان يبادروا إلى إلقاء التحية عليك، وإظهار الاحترام لك، فبادرهم بذلك، فرحّب بهم، وبادرهم بالتحية، وتعامل معهم باحترام.
 
وهذا ما ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "ابذل لأخيك دمك ومالك، ولعدوك عدلك وإنصافك، وللعامة بشرك وإحسانك"1.
 
ب- اكره له ما تكره لها. 
 
وكما هو الحال في الحب، كذلك الحال في الكره والبغض، فكل ما تكرهه لنفسك عليك ان تكرهه للآخرين. فإذا كنت تكره أن يتحدث عنك الآخرون بالسوء فعليك أن تتجنب الحديث عنهم بالسوء. وإذا كنت تكره أن يأخذ الآخرون حقا من حقوقك فعليك أن تحذر من الأخذ بحقوق الآخرين.
 
فالقاعدة التي تحكم علاقة الاخوان تتضمن نوعا من المبادلة، ولذا ورد في الرواية عن الإمام الهادي عليه السلام: "لا تطلب الصفا ممن كدرت عليه، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنك إليه، فإنما قلب غيرك لك كقلبك له"2.
 
فغيرك ينظر إليك ويعاملك كما تعامله، فإن كنت تكره منه أمرا فلا تعامله به.
 
ج- لا تظلم كما لا تحب أن تظلم.
 
إن أكثر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان هو ما يكون فيه ظلم للغير. فليضع الإنسان
 
 

1- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ج 78 / ص 50.
2- المجلسي محمد باقر بحار الأنوار مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: ج 74 / ص 182.
 
 
 
 
 
69

57

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

 نفسه مكان المظلوم ليجد كم أن الظلم صعب وعسير. وقد ورد التحذير من الظلم لا سيما وأنه يذهب بحسنات المؤمن ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنه ليأتي العبد يوم القيامة وقد سرته حسناته، فيجئ الرجل فيقول: يا رب ظلمني هذا، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الذي سأله، فما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة، فإذا جاء من يسأله نظر إلى سيئاته فجعلت مع سيئات الرجل، فلا يزال يستوفى منه حتى يدخل النار"1.

 
د- أحسن كما تحب أن يحسن إليك.
 
قال تعالى: ﴿وابْتغ فيما آتاك اللّهُ الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك منْ الدُّنْيا وأحْسنْ كما أحْسن اللّهُ إليْك2.

 

 
إذا تذكر الإنسان أن وجوده وما بين يديه من النعم هو من فضل الله وإحسانه إليه، علم أن عليه ان يبادر إلى الإحسان إلى الناس، وهذا ما تدل عليه الآية المباركة.
 
وعن الإمام علي عليه السلام: "أحق الناس بالإحسان من أحسن الله إليه، وبسط بالقدرة يديه"3.
 
هـ- استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك.
 
كثيرا ما ينظر الإنسان إلى بعض ما يصدر عن الغير بعين السخط، ويراه قبيحا، ولكن قبل أن يصدر حكمه على ذلك الغير فليرجع إلى نفسه، وليضع نفسه مكان ذلك الشخص، وفي الظروف التي يعيشها ذلك الشخص، ولينظر هل سيقوم بفعل ذلك الذي يراه قبيحا أو لا؟ المشكلة تكمن في إننا ننظر إلى ما يقوم به الآخرون بعين أنفسنا لا بعين غيرنا.
 
 

1- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج 2 ص 1771.
2- القصص:77.
3- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج 1 ص 640.
 
 
 
 
 
70

58

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

 لا تنه عن خلق وتأتي مثله         عار عليك إذا فعلت عظيم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها        فإذا انتهت منه فأنت حكيم
 
و ـ أرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك.
 
قد يرى الإنسان جفاء في تعامل بعض الناس معه، ولا يرضى منهم ذلك، فلينظر إلى نفسه، هل يعاملهم هو أيضا بجفاء، أو أنه يبادر إلى الإحسان إليهم.
 
ز- لا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم.
 

 

﴿ولا تقْفُ ما ليْس لك به علْمٌ إنّ السّمْع والْبصر والْفُؤاد كُلُّ أُولئك كان عنْهُ مسْؤُولاً1.

 

 
إن أخطر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان هو أن يدّعي العلم فيقول ما لا يعرف، ويتحدث بما لا يعلم.
 
بل ورد التحذير في الروايات عن قول كل ما يعلم فكيف بقول ما لا يعلم؟
 
ففي الرواية: "لا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم، فإن الله فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة"2.
 
وإنما أوصى الإمام بهذه الوصية لأن الإنسان إذا قال ما لا يعلم فإنه سوف يوقع غيره فيما يكره ولا يحب. وذلك لأن غيره قد يعتمد على قوله عندما يقدم على أمر من الأمور، فإذا أخبره بما لا يعلم أوقعه في الضرر.
 
 
 

1- الإسراء:36.
2- الريشهري محمد ميزان الحكمة دار الحديث , الطبعة الأولى ج 3 ص 2404.
 
 
 
 
 
71

59

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

 خلاصة الدرس

 
ـ القاعدة العامة في التعامل مع الناس أن تعاملهم كما تحب أن يعاملوك.

ـ تطبيقات هذه القاعدة العامة هي في:

أ ـ أن تحب لغيرك ما تحب لنفسك.

ب ـ أن تكره لهم ما تكره لنفسك.

ج ـ لا تظلم الناس كما لا تحب أن يظلمك الناس.

د ـ أحسن إلى الناس كما تحب أن يحسن الناس إليك.

هـ ـ لا تفعل ما تراه قبيحا إذا فعله غيرك.

د ـ لا تقل ما لا تعلم.

أسئلة حول الدرس
 
1ـ ما هي القاعدة العامة في التعامل، بيّن ذلك مفصلاً؟
2 ـ كيف تعامل عدوك بما تحب أن يعاملك به؟
3ـ ما هو مراد الإمام عليه السلام من قوله: استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك؟
4ـ لماذا نهى الإمام عليه السلام عن قول ما لا علم لنا به؟
 
 
 
 
72

60

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

 للحفظ 

 

يقول الله تعالى في محكم آياته:

 

﴿واعْبُدُوا اللّه ولا تُشْركُوا به شيْئاً وبالْوالديْن إحْساناً وبذي الْقُرْبى والْيتامى والْمساكين والْجار ذي الْقُرْبى والْجار الْجُنُب والصّاحب بالْجنْب وابْن السّبيل وما ملكتْ أيْمانُكُمْ إنّ اللّه لا يُحبُّ منْ كان مُخْتالاً فخُوراً1.  

 

 
للمطالعة
 
سئل أحد العلماء عن مسألة، فقال: لا أعلم.
 
قال أحد الحضور وفي حالة استنكار: وأي جواب هذا؟ 
 
هلاّ ورّيت أو أجملت ؟ أو لا تستحي من قول لا أعلم؟ 
 
فأجاب ذلك العالم في هدوء: ولماذا أستحي من شيء لم تستح منه الملائكة، حينما قالوا: ﴿سُبْحانك لا علْم لنا إلاّ ما علّمْتنا2.

 

 
ومن المعروف عن الشيخ الأنصاري قدس سره الشريف أنه كان إذا سئل عن مسالةٍ لا يعلمها أن يرفع صوته قائلاً:
 
لا أعلم لا أعلم.
 
ولمّا سئل عن ذلك أجابهم أن هذا من باب تأديب النفس على الإعتراف بعدم المعرفة إذ أن النفس البشرية تميل لعدم الإشارة إلى النقص الموجود فيها.
 
 

1- النساء:36.
2- البقرة:32.
 
 
 
 
 
 
73

61

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 الدرس السادس

الله رؤوف بالعباد
 
 
 
قدْ أذن لك في الدُّعاء، وتكفّل لك بالْإجابة، أمرك أنْ تسْألهُ ليُعْطيك، وتسْترْحمهُ ليرْحمك، ولمْ يجْعلْ بيْنك وبيْنهُ منْ يحْجُبُك عنْهُ، ولمْ يُلْجئْك إلى منْ يشْفعُ لك إليْه، ولمْ يمْنعْك إنْ أسأْت من التّوْبة، ولمْ يُعاجلْك بالنّقْمة، ولمْ يُعيّرْك بالْإنابة، ولمْ يفْضحْك حيْثُ الْفضيحةُ بك أوْلى، ولمْ يُشدّدْ عليْك في قبُول الْإنابة، ولمْ يُناقشْك بالْجريمة.
 
 
 
 
 
74

62

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 تمهيد

 
من الأسماء الإلهية الحسنى التي تكرر وصف الله عز وجل بها هي صفة الرأفة والرحمة، كيف وقد قرن الله عز وجل اسمه بصفة الرحمن الرحيم في البسملة، وفي ابتداء كل سورة من سور القرآن الكريم.
 
ومظاهر الرحمة الإلهية ترافق هذا الإنسان منذ خلقته وإلى يوم القيامة، وهذه هي الرحمة التكوينية، والتي ترتبط بالنحو الذي خلقه الله عز وجل عليه، وبما وهبه من النعم المادية التي يتمكن من خلالها من الاستمرار في هذه الحياة والسير في الأرض.
 
ولكن الرحمة الإلهية لا تقتصر على ذلك، بل فتح باب الرحمة الخاصة، والتي ترتبط بالآخرة وما يقع فيه هذا الإنسان من تجاوز او معصية للأوامر الإلهية. وهنا يذكر الإمام علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن بعد مظاهر هذه الرحمة الخاصة.
 
- أذن لك في الدعاء وتكفل لك بالإجابة
 
أبواب الله عز وجل مفتوحة للسائلين، يطلبون منه حوائج الدنيا والآخرة، وأما الإجابة فهي مضمونة لهم من الله عز وجل، وهذا ما ورد به القرآن الكريم فقال تعالى: ﴿وقال ربُّكُمْ ادْعُوني أسْتجبْ لكُمْ1.

 

 
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يدخل الجنة رجلان كانا يعملان عملا واحدا، فيرى أحدهما صاحبه فوقه، فيقول: يا رب بما أعطيته وكان عملنا واحدا؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني"2.
 
- أمرك أن تسأله ليعطيك
 
الإمام الصادق عليه السلام: "ادع ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة"3.
 
 

1- غافر: 60.
2- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج2، ص 868..
3- الكليني، الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية, آخوندي - الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي - فقه الرضا - مؤسسة أهل البيت: 2/ 466.
 
 
 
 
 
76

63

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 إذا الكثير من النعم الإلهية، أو البلاءات لا ترتفع إلا من خلال الدعاء.

وعن الإمام علي عليه السلام: "اعلم أن الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفل لإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وهو رحيم كريم، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه... ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب خزائنه"1.
 
- وتسترحمه ليرحمك.
 
الإنسان معرّض في هذه الحياة للإصابة بأنواع الابتلاءات، ومن هذه الابتلاءات ما لا يمكن للإنسان أن يدفعه عن نفسه من خلال التمسك بوسائل دنيوية ومادية، ولا يجد من سبيل للخلاص منه إلا من خلال الرجوع إلى الله عز وجل.
 
ورد في الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام: "عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله، والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجل وسئل صرف البلاء صرفة"2.
 
الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: "هل تعرفون طول البلاء من قصره؟ قلنا: لا، قال: إذا الهم أحدكم الدعاء عند البلاء فاعلموا أن البلاء قصير"3.
 
وهذا الأمر لا يختص بالبلاء إذا نزل بل هو يشمل البلاء الذي لم ينزل على العبد بعد، ولذا ورد في الرواية: عن الإمام علي عليه السلام: "ادفعوا أمواج البلاء بالدعاء، ما المبتلى الذي استدر به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء"4.
 
 

1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة- دار الحديث, الطبعة الأولى - ج 2 ص 868
2- الكليني، الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية, آخوندي - الطبعة الثالثة - ابن بابويه - علي - فقه الرضا - مؤسسة أهل البيت: 2/ 469.
3- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج2، ص 870.
4- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج2، ص 871.
 
 
 
 
 
77

64

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 - ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك.

 

 

﴿وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أُجيبُ دعْوة الدّاع إذا دعان فلْيسْتجيبُواْ لي ولْيُؤْمنُواْ بي لعلّهُمْ يرْشُدُون1.

 

 
إن شرط إجابة الدعاء هو التوجه الخالص لله عز وجل، وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال اليأس عن أي سبب لقضاء الحاجة من الأسباب الدنيوية. وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قلبه لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه"2.
 
- ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه.
 
وقد ورد في كلام للإمام عليه السلام في نهج البلاغة قوله: "فاستفتحوه واستنجحوه، واطلبوا إليه واستمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، ولا أغلق عنكم دونه باب. وإنه لبكل مكان، وفى كل حين وأوان، ومع كل إنس وجان، لا يثلمه العطاء، ولا ينقصه الحباء، ولا يستنفده سائل، ولا يستقصيه نائل".
 
فالشفاعة والواسطة إنما يحتاج إليها الإنسان إذا كان لا طريق له للإتصال المباشر بمن يريد ان يرفع حاجته إليه، وأما بالنسبة إلى علاقة الإنسان بربّه فإنها علاقة مفتوحة ومباشرة. فلا باب ولا حاجب بين الإنسان وربه.
 
- ولم يمنعك إن أسأت من التوبة.
 
باب فتحه الله عز وجل لعباده، ومظهر من مظاهر رحمة الله ورأفته، فلا يعني إذا زلت قدم العبد ان ييأس من الرجوع إلى الله عز وجل بل ورد في الروايات الحث الشديد على التوبة فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله تعالى أشد فرحا
 
 

1- البقرة: 186.
2- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية, آخوندي - الطبعة الثالثة - ابن بابويه - علي - فقه الرضا - مؤسسة أهل البيت: 2/ 148.
 
 
 
 
 
78

65

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها"1.

 
- ولم يعاجلك بالنقمة.
 
من مظاهر الرحمة الإلهية إمهال الله عز وجل خلقه وعدم التعجيل بعقابهم. وكما ورد في الآية الكريمة: ﴿ولوْ يُؤاخذُ اللّهُ النّاس بما كسبُوا ما ترك على ظهْرها منْ دابّةٍ ولكنْ يُؤخّرُهُمْ إلى أجلٍ مُسمًّى فإذا جاء أجلُهُمْ فإنّ اللّه كان بعباده بصيراً2.

 

 
وفي الحديث: "إن الله يمهل ولا يهمل"3.
 
ولم يمهل الله عز وجل عباده لعجز والعياذ بالله بل هو الجبار المنتقم، ولكن رحمة منه بهم ليفتح لهم باب الرجوع إليه.
 
- ولم يعيرك بالإنابة.
 
ورد في العديد من الروايات الحث على التوبة، وقد عبّرت الروايات عن التائبين بعبارات المدح والثناء لا التعيير او الوقيعة فيهم، ففي رواية عن لإمام علي عليه السلام في وصف التائبين: "غرسوا أشجار ذنوبهم نصب عيونهم وقلوبهم وسقوها بمياه الندم، فأثمرت لهم السلامة، وأعقبتهم الرضا والكرامة".
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"4.
 
- ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى
 
الإنسان المذنب الذي يتجاوز عما فرضه الله حق، على الله عز وجل ان يفضحه ويستحق ذلك، ولكن الله عز وجل يستر عليه ذلك، وفي الرواية عن الإمام
 
 

1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج1، ص 338.
2- فاطر: 45.
3- علي خان المدني الشيرازي - رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه السلام - مؤسسة النشر الإسلامي- ج3، ص 120.
4- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة- دار الحديث, الطبعة الأولى - ج1، ص 338.
 
 
 
 
 
79

66

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 الصادق عليه السلام وقد سمعه معاوية بن وهب يقول: "إذا تاب العبد المؤمن توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة. قلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب... فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب"1.

 
وعن الإمام علي عليه السلام: "من تاب تاب الله عليه، وأمرت جوارحه أن تستر عليه، وبقاع الأرض أن تكتم عليه، وانسيت الحفظة ما كانت تكتب عليه".
 
- ولم يشدد عليك في قبول الإنابة.
 
ورد في الرواية عن لإمام الباقر عليه السلام: "لا والله ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم".
 
بهذا تنال المغفرة، ولكن شرط ان لا يعود إلى ارتكاب الذنب.
 
- ولم يناقشك بالجريمة.
 
إن من أصعب مواقف الذل التي قد يقع فيها الإنسان، هو أن يقف في موقف ذلّ الحساب، ولعله يكون أصعب من العقاب، وهذا ما يمكن للإنسان التخلص منه من خلال التوبة، فإذا عفا الإنسان عن المسيء له فإنه لن يمانع من توجيه اللوم له او العتاب، ولكن الله عز وجل إذا عفى عن الذنب عفا عن اللوم والعتاب أيضاً. وقد ورد في دعاء الإمام زين العابدين طلب الرحمة في هذا الموقف: "ارحم في هذه الدنيا غربتي وعند الموت كربتي وفي القبر وحدتي وفي اللحد وحشتي وإذا نشرت للحساب بين يديك ذلّ موقفي".
 
 

1- المجلسي - محمد باقر - المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة – الأنوار- مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة: 6 / 28.
 
 
 
 
80

67

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 خلاصة الدرس

 
ـ من مظاهر الرحمة الإلهية، الرحمة التكوينية وترتبط بخلقة الإنسان والنعم المادية التي وهبها له الله عز وجل.

ـ من مظاهر الرحمة الإلهية الرحمة الخاصة، والتي ترتبط بالآخرة وما يقع فيه هذا الإنسان من تجاوز او معصية للأوامر الإلهية.

ـ الرحمة الخاصة تتمثل في الدعاء مع ضمان الإجابة، الأمر بالسؤال لتتم العطية، الأمر بطلب الرحمة لتنزل عليه الرحمة. 

ـ لا حجاب بين الله وبين خلقه، كما لا حاجة إلى الشفعاء في الطلب. 

ـ من مظاهر الرحمة الإلهية فتحه باب التوبة، وعدم تعجيل العقوبة للعاصين من عباده، وستره على عباده. 

أسئلة حول الدرس
 
1ـ ما هي الرحمة التكوينية وما هي الرحمة الخاصة؟
2ـ ما هو معيار طول البلاء أو قصره بحسب ما ورد في الرواية؟
3ــ هل يهمل الله عز وجل معاقبة عباده العصاة، وكيف تفسّر تأخيره للعقوبة؟
4ـ كيف تفسّر قوله: "ولم يناقشك بالجريمة؟".
 
 
 
 
 
81

68

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 للحفظ 

عن النبي صلى لله عليه وآله وسلم: "يدخل الجنة رجلان كانا يعملان عملاً واحداً، فيرى أحدهما صاحبه فوقه، فيقول: يا رب بما أعطيته وكان عملنا واحداً؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني".

الإمام الصادق عليه السلام: "أدعُ ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة".
 
 
 
للمطالعة
 
الصبر على البلاء وحسن العاقبة
 
كان الملا محمد صالح المازندراني رحمه الله فقيراً جداً وخالي اليد، وكان يرتدي الملابس العتيقة الممزقة، فكان لا يشارك في مجلس الدرس خجلاً وحياءً، بل كان يجلس خارج المدرسة ويستمع إلى درس الأستاذ، وكان يكتب تحقيقاته على أوراق الأشجار، وقد ظن سائر الطلاب أن هذا الرجل شحاذ فقير جاء ليستجدي.

وقد أشكلت على الأستاذ الملا محمد تقي المجلسي رحمه الله مسألة في أحد الأيام، وأحال حلها إلى اليوم الثاني، وفي اليوم الثاني لم يتوصل إلى حل المسألة، فأحيلت إلى اليوم الثالث.
وفي هذه الأثناء دخل أحد طلاب المدرسة على الملا صالح فوجد أمامه أوراق الصفصاف فأخذ اثنين أو ثلاثة من أوراق الصفصاف فوجد فيها حل المشكلة
 
 
 
 
 
82

69

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

 المعضلة، فذهب في اليوم الثالث إلى مجلس الدرس، وطرحت المسألة ولم يتمكن أحد من إيجاد الحل لها، ثم بدأ ذلك الطالب ببيان حل المسألة، فتعجب الملا محمد تقي المجلسي وأصر على القول: بأن هذا الجواب ليس من عندك بل هو من شخص آخر تعلمته منه فمن هو؟


وأخيراً، نقل ذلك الطالب قضية الملا محمد صالح، ولما اطلع الآخوند المجلسي على كيفية حال الملا محمد صالح، ورآه جالساً خارج معهد الدرس، أرسل على الفور أن يحضروا له الملابس، وطلب منه أن يدخل معهد الدرس، واستمع منه حل هذا الإشكال شفاهاً، وبعد ذلك عين له المجلسي حقوقاً شهرية. وقربه واشتهر بالعلم والفضل.
 
 
 
 
 
83

70

الدرس السابع: ذكر الموت

 الدرس السابع

ذكر الموت
 
 
 
"أكْثرْ منْ ذكْر الْموْت، وذكْر ما تهْجُمُ عليْه، وتُفْضي بعْد الْموْت إليْه، حتّى يأْتيك وقدْ أخذْت منْهُ حذْرك، وشددْت لهُ أزْرك، ولا يأْتيك بغْتةً فيبْهرك. وإيّاك أنْ تغْترّ بما ترى منْ إخْلاد أهْل الدُّنْيا إليْها، وتكالُبهمْ عليْها، فقدْ نبّأك اللهُ عنْها، ونعتْ لك نفْسها، وتكشّفتْ لك عنْ مساويها".
 
 
 
 
85

71

الدرس السابع: ذكر الموت

 أثر ذكر الموت

الموت هذه الحقيقة التي إليها يكون مصير كل إنسان، وهو في الحقيقة انتقال من دار البلاء والامتحان إلى دار الأجر والجزاء، فمن أحسن عملاً أحب وقت الجزاء، ومن أساء العمل خاف من ذلك اليوم، وقد ورد في الرواية عن لإمام الباقر عليه السلام: "لا يبلغ أحدكم حقيقة الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: حتى يكون الموت أحب إليه من الحياة"1.
 
ولا شك أن لذكر الموت أثراً على روحية الإنسان ومسلكيته في هذه الدنيا، والناس بالنسبة لذكر الموت قسمان:
 
القسم الأول هم الأشخاص الغافلون عن الآخرة، والذين تشكل أيامهم المعدودة في هذه الحياة الدنيا كل همّهم، وتتلخص أهدافهم بمتطلبات هذه الأيام المعدودة، وهذا النوع من الناس يشكل الموت بالنسبة إليهم نهاية كل شيء، نهاية الأمل ونهاية الهدف ونهاية الوجود، وبالتالي فمن المنطقي أن يكون ذكر الموت بالنسبة لهم يبعث على اليأس والإحباط، لذلك تجدهم كثيراً ما يتجنبون ذكر الموت وينزعجون من التلفظ باسمه.
 
والقسم الثاني هم عرفوا الله تعالى وعرفوا أن هناك يوم حساب ويوم جزاء، وبالتالي فالدنيا بالنسبة لهم ليست إلا قنطرة وجسراً يعبرونها للوصول إلى تلك الحياة الحقيقية والأساسية فهدفهم الحقيقي لا يتوقف عند هذه الأيام والأنفاس المعدودة، وطموحاتهم لا تنحصر بمتطلبات هذه الأيام المحدودة، فهم وإن لم ينسوا نصيبهم من الدنيا إلا أن هدفهم الأساسي هو الآخرة، يبنون لها ويمهدون لأنفسهم للوصول إلى تلك المرحلة على أفضل حال، وهذا النوع من الناس سيكون ذكر الموت بالنسبة لهم له فوائد متعددة، فهو:
 
 

1- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج1، ص 193.
 
 
 
 
86

72

الدرس السابع: ذكر الموت

 أ- باعث على الجد والنشاط للاستفادة من فرصة هذه الدنيا على أكمل وجه للتأسيس للآخرة، فلحظات هذه الفرصة محدودة.

 
ب– يرسّخ الهدف الحقيقي - المتمثل بالآخرة - أكثر في النفوس، ويجعل هذا الهدف حاضراً بشكل أكبر وآكد. وبالتالي يصوّب مسيرة الإنسان بالاتجاه الصحيح.
 
ج– يساعد الإنسان للسيطرة على ميوله النفسية وشهواته، فيهذّبها ويجعلها ضمن الإطار الإيجابي والصحيح.
 
وقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا ذكر الموت، فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم"1.
 
الحذر من الموت
 
"حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك".
 
إن مشكلة الإنسان في هذه الدنيا تتمثل في الحجب التي تتالى على قلبه فتمنعه من ذكر الله عز وجل، وتكون هذه الحجب سبباً في ابتعاده عن الله، وذكر الموت هو أحد الأسباب التي تشكل عاملاً مساعداً على إزالة هذه الحجب، ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت، وتلاوة القرآن"2.
 
وأما كيف يؤدي ذكر الموت دوره في رفع هذه الحجب؟ فهو من جهة شعور الإنسان بأن مصير كل ما يعيشه الإنسان في هذه الدنيا إلى الزوال لا البقاء. وقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "إن الموت هادم لذاتكم، ومكدر شهواتكم، ومباعد طياتكم، زائر غير محبوب، وقرن غير مغلوب، وواتر غير مطلوب، قد
 
 

1- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج4، ص 2965.
2- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج3، ص 2616.
 
 
 
 
87

73

الدرس السابع: ذكر الموت

 أعلقتكم حبائله... فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله"1.

 
وهذا الموت الذي يتيقن كل إنسان في هذه الدنيا أنه سوف يأتيه في يوم من الأيام، تجد الإنسان يتعامل مع معاملة الشيء المشكوك وهذا ما نبّه عليه الإمام علي عليه السلام في رواية قال: "ما رأيت إيمانا مع يقين أشبه منه بشك على هذا الإنسان، إنه كل يوم يودع إلى القبور، ويشيع، وإلى غرور الدنيا يرجع، وعن الشهوة والذنوب لا يقلع، فلو لم يكن لابن آدم المسكين ذنب يتوكفه ولا حساب يقف عليه إلا موت يبدد شمله ويفرق جمعه ويوتم ولده، لكان ينبغي له أن يحاذر ما هو فيه بأشد النصب والتعب"2.
 
وهل لإنسان أن يطمع بالخلود في هذه الدنيا، قد تجد من الناس من يحب ذلك ويرغب به ولكن الناس كافة تؤمن يقينا بأنه لا سبيل إلى ذلك وفي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لو أن أحدا يجد إلى البقاء سلما أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الذي سخر له ملك الجن والإنس مع النبوة، وعظيم الزلفة، فلما استوفى طعمته واستكمل مدته رمته قسي الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساكن معطلة، وورثها قوم آخرون"3.
 
الاستعداد لتلك الرحلة
 
"وشددت له أزرك".
إن كل من يقدم على سفر من الأسفار يتجهز لهذا السفر بما يحتاج إليه ومنها أن يكون له من القدرة والقوة ما يمكنه من طي هذا السفر بنحو يصل إلى مقصوده، وهكذا حال الإنسان في هذه الدنيا، فإنه لا بد له وأن يتجهز في هذه الدنيا بما يعينه على الآخرة.
 
وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "احذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدوا له عدته،
 
 

1- نهج البلاغة: الخطبة 230.
2- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج4، ص 2957.
3- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج،4 ص 2957.
 
 
 
 
 
88

74

الدرس السابع: ذكر الموت

 فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه شر أبداً، أو شر لا يكون معه خير أبداً، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها! ومن أقرب إلى النار من عاملها"1.

 
"ولا يأتيك بغتة فيبهرك".
 
ورد في الروايات ذكر صورة الموت للمؤمن وصورة الموت للكافر، وإنما تحصل البغتة للكافر، قال تعالى: ﴿قدْ خسر الّذين كذّبُوا بلقاء اللّه حتّى إذا جاءتْهُمْ السّاعةُ بغْتةً قالُوا يا حسْرتنا على ما فرّطْنا فيها وهُمْ يحْملُون أوْزارهُمْ على ظُهُورهمْ ألا ساء ما يزرُون2.

 

 
صورة موت المؤمن
 
تتلخص صورة موت المؤمن بما يلي:
 
أ- ملك الموت: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى، فيقوم وأصحابه لا يدنو ن منه حتى يبدأه بالتسليم ويبشره بالجنة"3.
 
ب- خروج الروح: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أشد شيعتنا لنا حبا يكون خروج نفسه كشرب أحدكم في يوم الصيف الماء البارد الذي ينتفع به القلوب، وإن سائرهم ليموت كما يغبط أحدكم على فراشه كأقر ما كانت عينه بموته"4.
 
ج- البشارة: أول ما يبشر به المؤمن روح وريحان وجنة نعيم، وأول ما يبشر به المؤمن أن يقال له: أبشر ولي الله برضاه والجنة ! قدمت خير مقدم، قد غفر الله لمن شيعك، واستجاب لمن استغفر لك، وقبل من شهد لك5.
 
 

1- نهج البلاغة: الكتاب: 27.
2- الأنعام: 31.
3- الصدوق"381ه." – من لا يحضره الفقيه - جامعة المدرسين – الطبعة الثانية 1404 هـ.: 1 / 135.
4- المجلسي - محمد باقر - المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة – الأنوار - مؤسسة الوفاء, الطبعة الثانية المصححة: 6/ 162.
5- الريشهري- محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث, الطبعة الأولى - ج4، ص 2961.
 
 
 
 
 
 
89

75

الدرس السابع: ذكر الموت

 صورة موت أهل النار

 
تتلخص صورة موته بما يلي:
 
أ- ملك الموت: قال تعالى: "ولوْ ترى إذْ يتوفّى الّذين كفرُوا الْملائكةُ يضْربُون وُجُوههُمْ وأدْبارهُمْ وذُوقُوا عذاب الْحريق" والمراد من الآية أن نزع الملائكة لروح الكافر يترافق مع ضربه من أمام ومن خلف. عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إذا أراد الله قبض روح الكافر قال: يا ملك الموت انطلق أنت و أعوانك إلى عدوي، فإني قد ابتليته فأحسنت البلاء، ودعوته إلى دار السلام فأبى إلا أن يشتمني، وكفر بي وبنعمتي، وشتمني على عرشي فاقبض روحه حتى تكبه في النار، قال: فيجيئه ملك الموت بوجه كريه كالح، عيناه كالبرق الخاطف، صوته كالرعد القاصف، لونه كقطع الليل المظلم، نفسه كلهب النار رأسه في السماء الدنيا ورجل في المشرق و رجل في المغرب، وقدماه في الهواء معه سفود كثير الشعب، معه خمسمائة ملك معهم سياط من قلب جهنم، تلتهب تلك السياط وهي من لهب جهنم، ومعهم مسح أسود وجمرة من جمر جهنم، ثم يدخل عليه ملك من خزان جهنم يقال له: سحقطائيل فيسقيه شربة من النار، لا يزال منها عطشاناً حتى يدخل النار، فإذا نظر إلى ملك الموت شخص بصره وطار عقله، قال: يا ملك الموت ارجعون، قال: فيقول ملك الموت: "كلا إنها كلمة هو قائلها"1.
 
ب- خروج الروح: وقد ورد في الرواية وصف ذلك عن أبي جعفر الصادق عليه السلام قال: "فيجيئه (الكافر) ملك الموت بوجه كريه كالح، عيناه كالبرق الخاطف، صوته كالرعد القاصف، لونه كقطع الليل المظلم، نفسه كلهب النار رأسه في السماء الدنيا ورجل في المشرق و رجل في المغرب، وقدماه في الهواء"2.
 
ج- المصير السيئ: يقول تعالى "ولوْ ترى إذ الظّالمُون في غمرات الْموْت
 
 
 

1- المفيد – محمد بن محمد بن النعمان – الاختصاص- دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان - ص 359.
2- المفيد – محمد بن محمد بن النعمان – الاختصاص- دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان - ص 359.
 
 
 
 
 
90

76

الدرس السابع: ذكر الموت

 والْملآئكةُ باسطُواْ أيْديهمْ أخْرجُواْ أنفُسكُمُ الْيوْم تُجْزوْن عذاب الْهُون بما كُنتُمْ تقُولُون على اللّه غيْر الْحقّ وكُنتُمْ عنْ آياته تسْتكْبرُون1.

 

 
خلاصة الدرس
 
الأثر التربوي لذكر الموت هو تمحيص الذنوب والزهد في هذه الدنيا.
 
ـ ذكر الموت هو أحد الأسباب التي تشكل عاملا مساعدا على إزالة الحجب، ففي رواية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت.
 
ـ من فوائد ذكر الموت أن يجهّز الإنسان نفسه للآخرة، ويشد أزره لما فيه مستقره الأبدي.
 
ـ من فوائد ذكر الموت أن لا يأتي الموت بغتة على الإنسان فيبهته فلا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً.
 
أسئلة حول الدرس
 
1ـ ما هو الأثر التربوي المترتب على ذكر الموت؟
2ـ كيف يساعد ذكر الموت على إزالة الحجب؟
3ـ ما هي الصورة التي يحضر فيها ملك الموت لنزع روح المؤمن؟
4ـ لماذا يباغت الكافر بالموت؟ 
 
 

1- الأنعام: 93.
 
 
 
 
 
91

77

الدرس السابع: ذكر الموت

 للحفظ 

ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكثروا ذكر الموت، فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم".

وعن الإمام علي عليه السلام: "إن الموت هادم لذاتكم، ومكدر شهواتكم، ومباعد طياتكم، زائر غير محبوب، وقرن غير مغلوب، وواتر غير مطلوب، قد أعلقتكم حبائله... فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله، واحتدام علله".
 

للمطالعة
 
ميتة السوء
 
اشتهر الحجّاج بن يوسف الثقفي بولعه في قتل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام أمثال كميل بن زياد، و سعيد بن جبير وغيرهم.

و كان للحجاج في القتل و سفك الدماء و العقوبات غرائب لم يُسمع بمثلها، وكان يُخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب القتل.

كانت نهاية هذا الطاغية بمرض الأكلة التي وقعت في بطنه، فدعا الطبيب لينظر إليه فأخذ لحماً وعلّقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير، وسلّط الله عليه الزمهرير، فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها، فشكا ما حاله و ما يعاني
 
 
 
 
92

78

الدرس السابع: ذكر الموت

 من شدة الألم إلى الحسن البصري.


فقال له الحسن البصري: قد كنت نهيتك ألا تتعرّض إلى الصالحين فلحجت.

فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسأل الله أن يفرّج عنّي، و لكني أسألك أن تسأله أن يُعجّل قبض روحي و لا يطيل عذابي. 
 
 
 
 
 
93

79

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

 الدرس الثامن

المؤمن عزيز
 
 
 
"وأكْرمْ نفْسك عنْ كُلّ دنيّةٍ وإنْ ساقتْك إلى الرّغائب، فإنّك لنْ تعْتاض بما تبْذُلُ منْ نفْسك عوضاً. ولا تكُنْ عبْد غيْرك وقدْ جعلك اللهُ حُرّاً. وما خيْرُ خيْرٍ لا يُنالُ إلاّ بشرٍّ، ويُسْرٍ لا يُنالُ إلاّ بعُسْرٍ ؟! وإيّاك أنْ تُوجف بك مطايا الطّمع، فتُوردك مناهل الْهلكة، وإن اسْتطعْت ألاّ يكُون بيْنك بيْن الله ذُونعْمة فافْعلْ، فإنّك مُدْركٌ قسْمك، وآخذٌ سهْمك، وإنّ الْيسير من الله سُبْحانهُ أعْظمُ و أكْرمُ من الْكثير منْ خلْقه وإنْ كان كُلٌّ منْهُ. وتلافيك ما فرط منْ صمْتك أيْسرُ منْ إدْراكك ما فات منْ منْطقك، وحفْظُ ما في الْوعاء بشدّ الْوكاء، وحفْظُ ما في يديْك أحبُّ إليّ منْ طلب ما في يديْ غيْرك. ومرارةُ الْيأْس خيْرٌ من الطّلب إلى النّاس، والْحرْفةُ مع الْعفّة خيْرٌ من الْغنى مع الْفُجُور".
 
 
 
 
 
95

80

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

 المؤمن لا يُذل

 
"أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً".
 
ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن أعظم حرمة من الكعبة"1.
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله عز وجل أعطى المؤمن ثلاث خصال: العز في الدنيا والدين، والفلاح في الآخرة، والمهابة في صدور العالمين"2.
 
الله عز وجل أعطى لهذا المؤمن العزة، ولكن الإنسان قد تدعوه رغبة من رغباته إلى فعل ما لا يليق به تلبية لرغبته تلك، فيقع في إذلال نفسه ويضحي بما وهبه إياه الله عز وجل، وهنا يرشدنا الإمام إلى أن ما نناله جراء التضحية بهذه العزة والكرامة الموهوبة من الله عز وجل لا يعادل ما نأخذه من حطام. فإن من يقدم على ذلك لمغبون، لأنه يبذل الشيء الغالي والنفيس في سبيل الفاني والرخيص.
 
بل ورد في الرواية أن المؤمن لا ولاية له على أن يُذل نفسه. في سبيل ذلك فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا، أما تسمع الله تعالى يقول: ﴿...وللّه الْعزّةُ ولرسُوله وللْمُؤْمنين ولكنّ الْمُنافقين لا يعْلمُون3"4.

 

 
فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، إن المؤمن أعز من الجبل، لأن الجبل يستفل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستفل من دينه بشيء.
 
وعنه عليه السلام: "المؤمن إذا سئل أسعف، وإذا سأل خفف"5.
 
 

1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج1، ص205.
2- المجلسي - محمد باقر - المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار - مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة – الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 67 / 71.
3- المنافقون: 8.
4- الطوسي – تهذيب الأحكام - دار الكتب الإسلامية – طهران -: 6 / 179.
5- غرر الحكم: 1933.
 
 
 
 
 
96

81

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

 المؤمن حر

 
"لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". هذه العبارة من الإمام عليه السلام أصبحت من الأمثال التي سار بها الناس، فالمؤمن هو عبد لله عز وجل فقط ولا يمكنه أن يكون عبداً لغيره لأن في ذلك ذلّه، وقد وردت الروايات بالنهي عن أن يؤجر الإنسان المؤمن نفسه عن عمل من الأعمال ولو كان ذلك لأجل الرزق ففي رواية عن لإمام الصادق عليه السلام: "من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق". وفي رواية أخرى: "وكيف لا يحظره؟! وما أصاب فيه فهو لربه الذي آجره".
 
الغاية والوسيلة
 
"وما خير خير لا ينال إلا بشر، ويسر لا ينال إلا بعسر".
 
هل الغاية تبرر الوسيلة؟ الجواب الذي تتضمنه هذه الوصية هو النفي، فالإمام عليه السلام يؤكد على أن الخير الذي يصل إليه الإنسان عن طريق الشر، لا يكون خيراً، بل هو من الشر، فالمال الذي يحصل عليه الإنسان ولو كان لفعل الخير إذا كان من خلال إذلال المؤمن لنفسه فإنه سوف يكون موجباً لكون ذلك الخير من الشر.
 
موجبات العزة
 
أ- طاعة الله:
 
عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أخرجه الله من ذل المعاصي إلى عز التقوى، أغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا بشر"1.
 
ومن الطاعة التسليم لله عز وجل فيما أمر ونهى، وقد نهي المؤمن عن إذلال نفسه، وإذلال النفس إمّا أن يكون لأجل الحاجة إلى المال، او إلى العشيرة او إلى الصداقة والرفقة، فلو أطاع الله لسلك في هذه الثلاثة سبل الطاعة فكان عزيزاً فيها.
 
 

1- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص1958.
 
 
 
 
 
97

82

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

 وهذا ما يمكن أن يستفاد من الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة"1.

 
ب- اليأس عما في أيدي الناس
 
إنما يذل الإنسان نفسه لغيره من الناس متى عاش على أمل أن يجد ما يطلبه عندهم وأما لو قطع الأمل من ذلك في نفسه، وعلق أمله بالله عز وجل فقط فإنه لن يلجأ إلى إذلال نفسه، ولذا ورد في الرواية عن لقمان عليه السلام - لابنه وهو يعظه -: "إن أردت أن تجمع عز الدنيا فاقطع طمعك مما في أيدي الناس، فإنما بلغ الأنبياء والصديقون ما بلغوا بقطع طمعهم"2.
 
ج- نصرة الحق
 
إن العزة هي في نصرة الحق، وأما لو تخلى الإنسان عن نصرة الحق فإنه سوف يكون مصيره إلى الذل، وقد ورد في الرواية عن الإمام العسكري عليه السلام: "ما ترك الحق عزيز إلا ذل، ولا أخذ به ذليل إلا عز"3.
 
وعن الإمام علي عليه السلام: "فرض الله... والجهاد عزاً للإسلام"4.
 
د- إكرام الناس
 
إن من موجبات كرامة النفس عند النفس ان يتعامل الإنسان بإكرام مع سائر الناس، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "إن مكرمة صنعتها إلى أحد من الناس إنما أكرمت بها نفسك وزينت بها عرضك، فلا تطلب من غيرك شكر ما صنعت إلى نفسك"5.
 
 

1- غرر الحكم: 4056.
2- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص1959.
3- المجلسي - محمد باقر - بحار الأنوار - مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 78 / 374.
4- نهج البلاغة: الحكمة: 252، الخطبة 198.
5- غرر الحكم: 3542.
 
 
 
 
 
98

83

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

 خلاصة الدرس

 
- لا ينبغي للمؤمن أن يبذل نفسه في سبيل الوصول إلى بعض الأمور الدنية، فإن بذل النفس في ذلك هو من الغبن، لأنه من بذل الغالي للحصول على الرخيص.

- من كمال الحرية أن تكون العبودية خالصة لله عز وجل دون غيره.

- يؤكد الإمام عليه السلام على أن الخير الذي يصل إليه الإنسان عن طريق الشر، لا يكون خيرا، بل هو من الشر.

- من موجبات العزة:

أ- طاعة الله.

ب- اليأس عما في أيدي الناس.

ج- نصرة الحق.

د- إكرام الناس. 

أسئلة حول الدرس
 
1- لماذا كانت الصفقة التي يبذل فيها المؤمن نفسه صفقة خاسرة؟
2- ما المراد من قول الإمام عليه السلام في الوصية، وما خير خير لا ينال إلا بشر؟
3- كيف تكون طاعة الله من موجبات العزة؟
4- لماذا فرض الله عز وجل الجهاد؟
 
 
 
 
 
99

84

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

 للحفظ 

عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله عز وجل أعطى المؤمن ثلاث خصال: العز في الدنيا والدين، والفلاح في الآخرة، والمهابة في صدور العالمين".

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع الله تعالى يقول: "وللّه الْعزّةُ ولرسُوله وللْمُؤْمنين ولكنّ الْمُنافقين لا يعْلمُون"". 
 
للمطالعة
 
عزة نفس الشريف الرضي

حكى أبو إسحاق الصابي قال: كنت عند الوزير أبو محمد المهدي ذات يوم فدخل الحاجب واستأذن للشريف الرضي، وكان الوزير قد أبتدأ بكتابة رقعة فألقاها ثم قام كالمندهش حتى استقبله من دهليز الدار، واخذ بيده وأعظمه وأجلسه في دسته، ثم جلس بين يديه متواضعا وأقبل عليه بجميعه، فلما خرج الرضي خرج معه وشيعه إلى الباب ثم رجع، فلما خف المجلس قلت: أيأذن الوزير لي أعزه الله تعالى ان أسأله عن شيء قال: نعم وكأنك تسأل عن زيادتي في أعظام الرضي فإنه بلغني ذات يوم انه ولد له غلام، فأرسلت إليه بطبق فيه ألف دينار فرده وقال: قد علم الوزير إني لا أقبل من أحد شيئا، فرددته وقلت: إني إنما أرسلته للقوابل، فرده ثانية وقال، قد علم الوزير إنّا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنما
 
 
 
 
100

85

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

 عجايزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا، ولسن ممن يأخذن أجرة، ولا يقبلن صلة، فرددته إليه وقلت: يفرقه الشريف على ملازميه من طلبة العلم، فلما جاءه الطبق وحوله الطلبة، قال: ها هم حضور فليأخذ كل أحد ما يريد، فقام رجل واخذ ديناراً، فقرض من جانبه قطعة وأمسكها ورد الدينار إلى الطبق، فسأله الشريف عن ذلك فقال: إني احتجت إلى دهن السراج ليلة، ولم يكن الخازن حاضراً، فاقترضت من فلان البقال دهناً، فأخذت هذه القطعة لأدفعها إليه عوض دهنه، وكان طلبة العلم الملازمون للشريف الرضي في دار قد اتخذها لهم سماها دار العلم وعين لهم فيها جميع ما يحتاجون إليه، فلما سمع الرضي أمر في الحال ان يتخذ للخزانة مفاتيح بعدد الطلبة، ويدفع إلى كل منهم مفتاحاً ليأخذ ما يحتاج إليه، ولا ينتظر خازناً يعطيه، ورد الطبق على هذه الصورة، فكيف لا أُعظّم من هذه حاله؟!
 
 
 
 
 
 
101

86

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

 الدرس التاسع

العلاقة مع الإخوان "1"
 
 
 
 
 "احْملْ نفْسك منْ أخيك عنْد صرْمه على الصّلة، وعنْد صُدُوده على اللّطف والْمُقاربة، وعنْد جُمُوده على الْبذْل، وعنْد تباعُده على الدُّنُوّ، وعنْد شدّته على اللّين، وعنْد جُرْمه على الْعُذْر، حتّى كأنّك لهُ عبْدٌ، وكأنّهُ ذُو نعْمة عليْك. وإيّاك أنْ تضع ذلك في غيْر موْضعه، أوْ أنْ تفْعلهُ بغيْر أهْله، لا تتّخذنّ عدُوّ صديقك صديقاً فتُعادي صديقك، وامْحضْ أخاك النّصيحة، حسنةً كانتْ أمْ قبيحةً".
 
 
 
 
 
103

87

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

 تمهيد

 

كما حث الإسلام الناس على اكتساب الإخوان حتى جعل ذلك من علامات القدرة والقوة، فقد ورد في رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم"1.
 
كذلك وردت الرواية وتعاليم أئمة أهل البيت عليهم السلام بتحديد قواعد العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الإخوان، والتي تحفظ هذه المودة التي تكون بينهم. وهذه القواعد هي التي يوصي بها الإمام عليه السلام ولده.
 
وقد ورد في التشريع الأخلاقي الإسلامي بيان مجموعة من الحقوق الثابتة بين الإخوان، وقد ورد في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع هذه الحقوق والتي تصل إلى ثلاثين حقاً: "للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً، لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو! يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضه، ويشهد ميته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر أنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليه، ولا يعاديه، وينصره ظالما ومظلوما، فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوما فيعينه على أخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه"2.
 
عدم قطيعة الإخوان
 
إن ارتباك علاقة المؤمنين ببعضهم مما أكد عليه الإمام عليه السلام، ومن مفردات العلاقة الحسنة:
 
 

1- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 74 / 278.
2- المجلسي-محمد باقر -المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة – الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة –، ج 74، ص 236.
 
 
 
 
104

88

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

 1 - "إحمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة".

الصرم هو الصد والقطيعة، هل أبادر إذا قاطعني أي أخ من الأخوان بسبب مبرر أو دون سبب مبرر إلى مقاطعته أيضاً؟ إن العداوة تستمر وتكبر بسبب المبادرة إلى المقابلة بالمثل وهذا لا ينبغي ان يكون عليه الحال بين الإخوان، فمبدأ المقابلة بالمثل هو بين الأعداء لا بين الإخوان.
 
عن الإمام علي عليه السلام: "لا تتبع أخاك بعد القطيعة وقيعة فيه، فيسد عليه طريق الرجوع إليك، فلعل التجارب ترده عليك"1.
 
وعنه عليه السلام: "لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته"2.
 
2- "وعند صدوده على اللطف والمقاربة".
قد تجد لدى أخيك نوعاً من الجفاء والصدود، ومقابل ذلك عليك ان تبادر إلى مودته وإظهار اللطف به، ويكفي فائدة في ذلك أن تقصد به وجه الله عز وجل كما ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "النظر إلى الأخ توده في الله عز وجل عبادة"3.
 
3- "وعند جموده على البذل".
لو وجدت من أخيك نوعا من الاحجام عن الكرم او الانفاق، او شيئا من البخل فلا تبادله ذلك بالبخل عليه او الجمود بل بادر بالبذل له فإنك بذلك تخرجه عن تلك الحالة إلى حالة الكرم.
 
4- "وعند تباعده على الدنو".
قد لا يبادر الأخ إلى القطيعة ولكنه يبتعد، فلا تبادر بدورك إلى الابتعاد، بل بادر إلى الدنو والاقتراب منه، فلعله يعاني من مشكلة لم يحب أن يطلعك عليها، فإذا وجد أنك لم تبادله بالبعد، بل بقيت على دنوك منه بادر إلى إطلاعك، فكنت عونا له للخلاص من مما يعانيه.
 
 

1- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 77 / 209.
2- نهج البلاغة: الكتاب 31.
3- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 74 / 279.
 
 
 
 
 
105

89

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

 5- "وعند شدته على اللين".

الإنسان خاضع لما يحيط به من ظروف وما يعيشه من حالات، فقد يبادر إلى استعمال القسوة او الشدة مع إخوانه وسواء كان ذلك مبرراً له او غير مبرر، فإن ما ينبغي لنا المبادرة إليه هو ان نعامله بلين ونحمل فعل الشدة منه على العذر.
 
6- "وعند جرمه على العذر حتى كأنك له عبد وكأنه ذو نعمة عليك".
 
إذا أساء لك أخوك فلا تبادره بالإساءة بل بادره بالإحسان محتملا له العذر، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام - في وصيته لمحمد بن الحنفية -: "لا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب، لعل له عذرا وأنت تلوم به".
 
الحذر في العلاقة
 
1- "إياك أن تضع ذلك في غير موضعه أو أن تفعله بغير أهله".
 
الإمام الصادق عليه السلام: "الإخوان ثلاثة: فواحد كالغذاء الذي يحتاج إليه كل وقت فهو العاقل، والثاني في معنى الداء وهو الأحمق، والثالث في معنى الدواء فهو اللبيب"1.
 
وعنه عليه السلام: "الإخوان ثلاثة: مواس بنفسه، وآخر مواس بماله، وهما الصادقان في الإخاء، وآخر يأخذ منك البلغة، ويريدك لبعض اللذة، فلا تعده من أهل الثقة"2.
 
2- "لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك".
 
لا شك في أن الإنسان لا يمكنه أن يصادق عدوه، أو أن يصادق عدو صديقه، لأن مجرد صداقة العدو تجعل من النفس تستريب وتشك في أن تكون الصداقة غير خالصة، بل مشوبة بنوع من النفاق.
 
 

1- الحراني - ابن شعبة - الوفاة: ق 4- تحف العقول- الطبعة: الثانية - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة- 323.
2- الحراني - ابن شعبة - الوفاة: ق 4- تحف العقول- الطبعة: الثانية - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - ص 323.
 
 
 
 
106

90

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

 3ـ "وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة".

النصيحة للأخ كما تكون بطلب من ذلك الأخ، وذلك متى وقع في مشكلة او أراد أمرا وطلب النصيحة فيه، وإما أن تكون ابتداء متى وقع الأخ فيما لا يرضى به الله عز وجل، أو ابتعد عن طريق الحق، فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من رأى أخاه على أمر يكرهه فلم يرده عنه وهو يقدر عليه فقد خانه"1.

وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام قال: "أما حق أخيك، فأن تعلم أنه يدك وعزك وقوتك، فلا تتخذه سلاحا على معصية الله، ولا عدة للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على عدوه والنصيحة له، فان أطاع الله وإلا فليكن الله أكرم عليك منه، ولا قوة إلا بالله".


خلاصة الدرس
 
- أوصى الأئمة عليهم السلام بمجموعة من القواعد التي يضمن اتباعها حفظ المودة بين الإخوان، وما ورد في وصية الإمام علي عليه السلام هو التالي:

أ- عدم المبادرة إلى قطيعة الأخ وإن صدرت القطيعة منه، بل مقابلة القطيعة بالصلة.
ب- مبادرة صد الأخ باللطف والإحسان.
ج- مقابلة البخل لو صدر من الأخ بالكرم والعطاء.
د- مقابلة الابتعاد بالدنو والاقتراب.
هـ- مقابلة الشدة والقسوة بالرحمة واللين.
 
 
 

 
1- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة: 75 / 65.
 
 
 
 
 
107

91

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

 و- مقابلة الإساءة بحمله على وجود عذر له في فعله ذلك.


- بعد ان يوضع الإمام هذه القواعد يحذر من أن يقع ذلك في غير موضعه أي مع غير أهله.

أسئلة حول الدرس
 
1- هل يصح التعامل بمبدأ المقابلة بالمثل بين الإخوان؟
2- كيف ينبغي مبادلة أي نوع من البخل عند الأخ؟
3- من هو الذي يستحق التعامل معه بالقواعد الأخلاقية التي وردت بها الآيات؟
4- لماذا يصف الإمام الصادق عليه السلام عدم نصيحة الأخ بالخيانة؟
 
 
 
للحفظ 
 
عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
 
"للمسلم على أخيه ثلاثون حقا، لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو ! يغفر زلته، ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضه، ويشهد ميته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر أنعامه، ويصدق أقسامه، ويوالي وليه، ولا يعاديه، وينصره ظالما ومظلوما، فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوما فيعينه 
 
 
 
 
108

92

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

 على أخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه".

 
للمطالعة
 
لا تغضب

عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام في حديث قال:

"سمعت أبي يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل بدوي فقال: إني أسكن البادية فعلمني جوامع الكلم، فقال آمرك أن لا تغضب، فأعاد عليه الاعرابي المسألة ثلاث مرات حتى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شئ بعد هذا ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسلم إلا بالخير، قال: وكان أبي يقول: أي شئ أشد من الغضب إن الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرم الله، ويقذف المحصنة".
.
 
 
 
109

93

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

 الدرس العاشر

العلاقة مع الإخوان "2"
 
 
 
 
"وإنْ أردْت قطيعة أخيك فاسْتبْق لهُ منْ نفْسك بقيّةً يرْجعُ إليْها إنْ بدا لهُ ذلك يوْماً مّا، ومنْ ظنّ بك خيْراً فصدّقْ ظّنهُ، ولا تُضيعنّ حقّ أخيك اتّكالاً على ما بيْنك وبيْنهُ، فإنّهُ ليْس لك بأخٍ منْ أضعْت حقّه، ولا يكُنْ أهْلُك أشْقى الْخلْق بك، ولا ترْغبنّ فيمنْ زهد فيك، ولا يكُوننّ أخُوك أقْوى على قطيعتك منْك على صلته، ولا تكُوننّ على الْإساءة أقْوى منْك على الْإحْسان".
 
 
 
 
 
111

94

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

 تمهيد

 
بعد أن نهت التعاليم الأخلاقية الإسلامية عن القطيعة، ودعت إلى عدم اللجوء إليها بين الإخوان، أراد الإمام أن يعالج ما قد يقع خارجا من قبل الناس من القطيعة أحيانا، فلعل مشكلة ما أو سببا ما يؤدي إلى حصول القطيعة بين أخوين، فهل ينبغي أن تكون هذه القطيعة لا رجعة فيها؟ والجواب بالنفي فهذا هو الذي يحذّر منه الإمام عليه السلام فيحث في وصيته على أن يبقي الإنسان شيئا من الصلة لعل القلوب تعود إلى صفائها فتكون في تلك البقية فرصة لإعادة العلاقة الأخوية.
 
ومن طرق ذلك أن لا يلجأ الإنسان بعد قطيعة أخيه إلى الوقيعة فيه بأن يبدأ بكيل الاتهام إليه أو بيان بعض عيوبه أو مثالبه، بل لو لجأ بعد القطيعة إلى الصمت وتجنب التعرّض له بالسوء فإن ذلك سوف يبقي أمامه خط العودة إلى سابق العهد وهذا ما وردت به الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تتبع أخاك بعد القطيعة وقيعة فيه، فيسد عليه طريق الرجوع إليك، فلعل التجارب ترده عليك"1.
 
كن عند حسن ظن أخيك
"ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه".
 
إن من أهم الأسباب المؤدية إلى العداوة والقطيعة أن يطلب الأخ من أخيه شيئا فلا يستجيب له أو أن يتوقع منه المبادرة إلى أمر فلا يبادر إلى ذلك، كما لو وقع في ضيق أو حاجة فلم يجد استجابة أو مبادرة، وكلما استحكمت العلاقة واشتدت الصداقة، زاد توقع الإنسان من أخيه وزاد أمله فيه.
 
من هذه النقطة بالذات ينطلق الإمام ليدعو في وصيته إلى أن يكون الإنسان عند حسن ظن أخيه، من خلال الاستجابة لطلبه او المبادرة إلى رفع حاجته.
 
وقد وردت الروايات لتنهى بشدة عن التخلف عن الاستجابة لقضاء حوائج
 
 

1- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: 77 / 209.
 
 
 
 
 
112

95

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

 الإخوان ففي الرواية عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا به في بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه - فقد قطع ولاية الله عز وجل"1.

 
وكذلك ورد الحث في الروايات على المبادرة إلى رفع ما يقع فيه الأخ من الضيق وعدم انتظار طلبه لذلك ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "لا يكلف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته"2.
فالطلب أمر صعب، ومن النفوس من تتحرج من ذلك مهما بلغت بها الحاجة، فلا ينبغي انتظار ذلك منهم، بل يسعى لقضاء حوائجهم بما لا يوقعهم في أي حرج.
 
راع حق أخيك
 
"ولا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه".
 
لكل صلة وعلاقة تقوم في هذه الدنيا نوع من الحقوق، فللأب حق وللأم حق، وللأخوة حق. وما لا بد منه هو الحذر من تضييع حقوق الإخوان. 
 
وقد وردت الرواية التي تحذّر من ذلك، ففي رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا، فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له وعليه"3
 
فالتقصير في حقوق الإخوان لا يؤدي إلى سقوطها.
 
والسبب في التقصير في حقوق الإخوان كما يكون أحيانا عن سبق تصميم، قد يصدر أحيانا من خلال التهاون والاتكال على الصداقة والأخوة، وهذا ما يحذّر
 
 

1- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي-الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت: 2 / 336.
2- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 1 ص 49.
3- المجلسي-محمد باقر -المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية ( .. ) المصححة – الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة –: 74 / 236.
 
 
 
 
 
113

96

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

 منه الإمام عليه السلام، وأن الأخوة لا تعني إطلاقا التقصير في أداء الحقوق فإن ذلك سوف يؤدي إلى حدوث القطيعة.

 
وأدنى هذه الحقوق بحسب ما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: عنه عليه السلام في بيان حقوق المؤمن على المؤمن: "أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك"1.
 
الحرص على العلاقة
 
1- "ولا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته".
 
كما يصل الإنسان رحمه عليه أن يصل إخوانه، وصلة الإخوان ممكنة من خلال اللجوء إلى طرق متعددة وقد وردت الروايات ببيان بعض هذه الطرق، منها ما ورد عن لإمام الكاظم عليه السلام: "إن من واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا تنفعه به لأمر دنياه وآخرته، ولا تحقد عليه وإن أساء، وأجب دعوته إذا دعاك، ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك، وعده في مرضه"2.
 
فهذه المفردات التي تعرضت لها الرواية هي عبارة عن أنواع من الصلة، والتقصير فيها او فعل ما يقابلها هو عبارة عن القطيعة. 
 
فلو فرض أن أخاً لك بادر إلى التقصير في واحدة منها، فلا تجعله أقوى منك بل عليك ان تسعى لأن تكون لك الغلبة بأن تبادر إلى صلته، ومواجهة تقصيره بأداء الواجب معه، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يفترق رجلان على الهجران إلا استوجب أحدهما البراءة واللعنة، وربما استحق ذلك كلاهما، فقال له معتب: جعلني الله فداك هذا الظالم فما بال المظلوم ؟. قال: لأنه لا يدعو أخاه إلى صلته"3.
 
 

1- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي-الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت: 2 / 169.
2- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية ,آخوندي-الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت: 8 / 126.
3- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 4 ص 3436.
 
 
 
 
114

97

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

 وورد في رواية أخرى تحديد قطيعة الأخ وهجرانه بثلاثة أيام فعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة"1.

 
وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا وبرئت منهما في الثالثة، فقيل له: يا بن رسول الله هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقال عليه السلام: ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول: أنا الظالم حتى يصطلحا؟!"2.
 
2- "ولا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان"
 
الإحسان إلى الناس فضيلة بحد ذاته، وقد وردت الآيات والروايات بالحث عليه فورد قوله تعالى: ﴿إنّ اللّه يأْمُرُ بالْعدْل والإحْسان وإيتاء ذي الْقُرْبى وينْهى عنْ الْفحْشاء والْمُنكر والْبغْي يعظُكُمْ لعلّكُمْ تذكّرُون3.

 

 
بل وردت الروايات بالحث على الإحسان حتى لمن أساء، وهذا هو المراد من وصية الإمام عليه السلام بأن يكون المؤمن أقوى على الإحسان من غيره على الإساءة، ففي رواية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "اجعل جزاء النعمة عليك، الإحسان إلى من أساء إليك"4.
 
ولمبادلة الإساءة بالإحسان أثر تربوي مهم تعرضت له الروايات وهو عبارة عن إصلاح المسيء وردعه عن الإساءة وتكرارها ففي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "أصلح المسيء بحسن فعالك، ودل على الخير بجميل مقالك"5.
 
 

1- الريشهري- محمد- ميزان الحكمة- دار الحديث , الطبعة الأولى - ج 4 ص 3437.
2- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: 75 / 188.
3- النحل: 90.
4- غرر الحكم: 2273.
5- غرر الحكم: 2273.
 
 
 
 
 
115

98

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

 خلاصة الدرس

 
ـ لو وقعت القطيعة بين الإخوان، فلا ينبغي قطع كافة قنوات الود والمحبة، بأن يبدأ بكيل الاتهامات او ذكر عيوب أخيه، بل عليه أن يلجأ إلى الصمت لعله يأتي يوم وتعود العلاقة إلى سابق عهدها.

ـ يدعو الإمام عليه السلام في وصيته إلى أن يكون الإنسان عند حسن ظن أخيه، من خلال الاستجابة لطلبه او المبادرة إلى رفع حاجته.

ـ لا بد من الحذر من الوقوع في التهاون أو التقصير في حقوق الإخوان.

ـ لا بد وأن يبادر الإنسان إلى الإحسان، حتى لمن أساء له فإن لذلك أثر تربوي مهم يتمثل في هداية المسيء إلى طريق الحق.

أسئلة حول الدرس
 
1ـ كيف ينبغي التعامل بين الإخوان لو فرض وقوع القطيعة بنيهم؟
2ـ اذكر رواية تدل على أهمية قضاء حوائج الإخوان.
 
 

للحفظ 
 
عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: "من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرا به في
 
 
 
 
 
116

99

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

 بعض أحواله فلم يجره بعد أن يقدر عليه - فقد قطع ولاية الله عز وجل".


وعن الإمام علي عليه السلام: "لا يكلف أحدكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته".
 
 
للمطالعة
 
روي أن شامياً رأى الإمام الحسن عليه السلام راكباً فجعل يلعنه والحسن عليه السلام لا يرد، فلما فرغ أقبل الحسن عليه السلام فسلم عليه وضحك، فقال: أيها الشيخ أظنك غريبا ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا وكنت ضيفا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعا وجاها عريضا ومالا كثيرا. فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحب خلق الله إلي، وحول رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقداً لمحبتهم.
وحكى أن مالك الأشتر رضي الله عنه كان مجتازا بسوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة منه فرآه بعض أهل السوق فازدرى بزيّه فرماه ببندقة تهاوناً به.

فمضى ولم يلتفت فقيل له ويلك أتدري بمن رميت فقال: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين عليه السلام فارتعد الرجل ومضى إليه ليعتذر منه فرآه وقد دخل المسجد وهو قائم يصلى، فلما انفتل أكبّ الرجل على قدميه ليقبلها فقال: ما هذا الأمر فقال: اعتذر إليك مما صنعت فقال: لا بأس عليك فوالله ما دخلت المسجد إلا لأستغفر لك. 
 
 
 
 
117

100

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 الدرس الحادي عشر

القناعة في الرزق
 
 
 
 
"واعْلمْ يا بُنيّ، أنّ الرّزْق رزْقان: رزْقٌ تطْلُبُهُ، ورزْقٌ يطْلُبُك، فإنْ أنْت لمْ تأْته أتاك، ما أقْبح الْخُضُوع عنْد الْحاجة، والْجفاء عنْد الْغنى! إنّما لك منْ دُنْياك، ما أصْلحْت به مثْواك، وإنْ كُنْت جازعاً على ما تفلّت منْ يديْك، فاجْزعْ على كُلّ ما لمْ يصلْ إليْك".
 
 
 
 
 
119

101

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 تقسيم الرزق

- "الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك".
 
كلنا عاش هذه التجربة، فقد تتوقع أن يأتيك رزق من مكان ما فتسعى إليه وتبذل جهدك في الوصول إليه، ولكنك لا تصل إليه، ولكن رزقاً لا تحسب له حساباً ولا تتوقعه يبحث عنك ليصل هو بنفسه إليك.
 
وانقسام الرزق إلى هذين القسمين، هو باب من أبواب معرفة الله عز وجل حيث يصل الإنسان إلى حالة اليقين بأن الرزق بيد الله فقط.
 
وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل من نعمه ثم لا يعرف الله حق معرفته"1.
 
وتتحدث الآية الكريمة عن الحكمة في قبض الرزق عن بعض الناس: ﴿ولوْ بسط اللّهُ الرّزْق لعباده لبغوْا في الأرْض ولكنْ يُنزّلُ بقدرٍ ما يشاءُ إنّهُ بعباده خبيرٌ بصيرٌ2.

 

 
كما تكون الحكمة من تقدير الأرزاق وتوزيعها هو امتحان الناس بها وابتلاؤهم لمعرفة درجة إيمانهم وذلك من ناحية صبرهم على الفقر، وابتلاء لهم واختبارا لكيفية تصرفهم في الرزق فهل ينفقونه في الطاعات أو في المعاصي، فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "وقدر الأرزاق فكثرها وقللها، وقسمها على الضيق والسعة، فعدل فيها ليبتلي من أراد، بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها"3.
 
 

1- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: 4 / 54.
2- الشورى: 27.
3- نهج البلاغة: الخطبة 91.
 
 
 
 
120

102

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 قوة الدين

 

- "ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغنى".
 
مضمون هذا الوصية هو ما وردت به الآية الكريمة وهي قوله تعالى: ﴿هُو الّذي يُسيّرُكُمْ في الْبرّ والْبحْر حتّى إذا كُنْتُمْ في الْفُلْك وجريْن بهمْ بريحٍ طيّبةٍ وفرحُوا بها جاءتْها ريحٌ عاصفٌ وجاءهُمْ الْموْجُ منْ كُلّ مكانٍ وظنُّوا أنّهُمْ أُحيط بهمْ دعوْا اللّه مُخْلصين لهُ الدّين لئنْ أنْجيْتنا منْ هذه لنكُوننّ منْ الشّاكرين * فلمّا أنْجاهُمْ إذا هُمْ يبْغُون في الأرْض بغيْر الْحقّ1.

 

 
إنها الصورة التي يلجأ فيها الإنسان إلى ربه عند الحاجة وينساه عند الغنى.
 
هذه الصورة هي التي يتعجب الإمام من درجة قبحها، إن ما ورد في الآيات أعلاه غير مختص بعبدة الأوثان، بل هو قانون كلي ينطبق على كل الأفراد الملوثين من عبيد الدنيا المشغوفين بها فعندما تحيط بهم أمواج البلايا والمحن وتقصر أياديهم عن كل شئ، ولا يرون لهم ناصرا ولا معينا، فإنهم سيمدون أيديهم بالدعاء بين يدي الله سبحانه ويعاهدونه بألف عهد وميثاق، وينذرون ويقطعون العهود بأنهم إن تخلصوا من هذه البلايا والأخطار سيفعلون كذا وكذا. إلا أن هذه اليقظة والوعي التي هي انعكاس لروح التوحيد الفطري، لا تستمر طويلا عند أمثال هؤلاء، فبمجرد أن يهدأ الطوفان وتنقشع سحب البلاء، فإن حجب الغفلة ستغشي قلوبهم، تلك الحجب الكثيفة التي لا تنقشع عن تلك القلوب إلا بالطوفان. ورغم أن هذه اليقظة مؤقتة، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوثين جدا، أنها تقيم الحجة عليهم، وستكون دليلا على محكوميتهم.
 
وهكذا الحال في قوله تعالى: ﴿وإذا أنْعمْنا على الإنْسان أعْرض ونأى بجانبه وإذا مسّهُ الشّرُّ فذُو دُعاءٍ عريضٍ2.

 

 
 

1- يونس:23.
2- فصلت: 51.
 
 
 
 
 
121

103

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 النأي الابتعاد، والمراد بالجانب الجهة والمكان فقوله: "نأى بجانبه" كناية عن الابتعاد بنفسه وهو كناية عن التكبر والخيلاء، والمراد بالعريض الوسيع، والدعاء العريض كالدعاء الطويل كناية عما استمر وأصر عليه الداعي، والآية في مقام ذم الإنسان وتوبيخه أنه إذا أنعم الله عليه أعرض عنه وتكبر وإذا سلب النعمة ذكر الله وأقبل عليه بالدعاء مستمرا مصرا.

 
الدنيا فرصة للآخرة
- "إن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك".
 
إذا كان الهدف من العمل في هذه الدنيا، هو الوصول إلى هذه الدنيا ونيل بعض ما فيها، فإن في ذلك الخسران، لأنه من البذل في سبيل ما يُعلم أن مصيره إلى الفناء لا إلى البقاء، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "متاع الدنيا حطام، وتراثها كباب، بلغتها أفضل من أثرتها، وقلعتها أركن من طمأنينتها، حكم بالفاقة على مكثرها، واعين بالراحة من رغب عنها"1.
 
وفي رواية أخرى وردت بالحث على العمل في الدنيا لأجل الآخرة ورد عن الإمام علي عليه السلام: "إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا"2.
 
ولذا ورد في الروايات أيضا بيان حقيقة أن الدنيا تبلغ الغاية من الهوان عند الله عز وجل فهي ليست ذات قيمة عند الله، ففي رواية عن الإمام علي عليه السلام: "مالها عند الله عز وجل قدر ولا وزن، ولا خلق فيما بلغنا خلقا أبغض إليه منها، ولا نظر إليها مذ خلقها. ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك من حظه من الآخرة، فأبى أن يقبلها لعلمه أن الله عز وجل أبغض شيئا فأبغضه، وصغر شيئا فصغره".
 
 

1- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: 78 / 277.
2- نهج البلاغة: الكتاب 55.
 
 
 
 
122

104

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 لا تجزع من فوت الدنيا

- "وإن جزعت على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل إليك".
 
لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك، كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع والمكاسب، فإنه لا فرق بينهما، إلا أن هذا حصل، ذاك لم يحصل بعد، وهذا فرق غير مؤثر، لان الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة، وإنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته ولبسته، وأما المقتنيات والمدخرات فلعلها ليست لك.
 
إن ما يكون موجبا لقوة القلب على تحمل ما فات من المال وعدم الجزع عليه هو أحد أمرين:
 
الأول: غنى القلب
 
والمراد من غنى القلب أن لا يكون الإنسان متعلقا بما فاته من مال، فهو زاهد فيه، ولذا تجد من يضيع من أمامه حظ من هذه الدنيا هو متعلق بها في حسرة مشتت البال شارد الذهن وذلك خلافا لمن أراد الآخرة وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همه جعل الله تعالى الفقر بين عينيه وشتت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همه جعل الله تعالى الغنى في قلبه وجمع له أمره"1.
 
الأمر الثاني: حسن الثقة بالله عز وجل.
 
إن ما يهوّن على الإنسان الأمر فيما يضيع من ماله، هو حسن الثقة بالله عز وجل. فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "أصل الرضا حسن الثقة بالله"2.
 
وورد في رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي لا إله إلا هو، لا يحسن ظن
 
 
 

1- الكافي- دار الكتب الإسلامية، آخوندي-الطبعة الثالثة - ابن بابويه- علي- فقه الرضا-مؤسسة أهل البيت: 2 / 319.
2- غرر الحكم: 3085.
 
 
 
 
123

105

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن، لأن الله كريم بيده الخيرات، يستحيي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثم يخلف ظنه ورجاءه، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه"1.

 
خلاصة الدرس
 
ـ على الإنسان أن يقنع بالرزق الذي يأتيه من عند الله عز وجل، وكما تكون الحكمة من تقدير الأرزاق وتوزيعها هو امتحان الناس بها وابتلاؤهم لمعرفة درجة إيمانهم وذلك من ناحية صبرهم على الفقر، وابتلاءاً لهم واختباراً لكيفية تصرفهم في الرزق فهل ينفقونه في الطاعات أو في المعاصي.
 
ـ إن من أقبح ما يقع فيه الإنسان، هو أن يذكر الله عند الشدة وينساه في الرخاء، وقد ورد القرآن الكريم بذم هذه الحالة التي يقع فيها الناس.
 
ـ الدنيا في غاية الهوان عند الله عز وجل، فلا ينبغي للإنسان أن يبذل جهده لأجلها فهي فانية لا بقاء لها ولا دوام.
 
ـ لو صح أن يجزع الإنسان على ما وصل إليه وضاع منه لصح ان يجزع على كل شيء حتى لو لم يصل إليه أصلاً.
 
وما يرفع الجزع هو أمران، غنى القلب وحسن الثقة بالله.
 
 

1- المجلسي -محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء ,الطبعة الثانية المصححة: 70 / 366.
 
 
 
 
124

106

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 أسئلة حول الدرس

 
1ـ ما هي ثمرة وفائدة كون الرزق على نوعين وأثر ذلك على الإنسان؟
2ـ ما هي الحكمة من تقدير الأرزاق للناس؟
3ـ كيف تفسّر قول الله تعالى: ﴿وإذا أنْعمْنا على الإنْسان أعْرض ونأى بجانبه وإذا مسّهُ الشّرُّ فذُو دُعاءٍ عريضٍ؟
4ـ كيف يمكن للإنسان ان ينتصر على الجزع؟

 
للحفظ 
 
يقول الله تعالى في محكم آياته:

 

﴿هُو الّذي يُسيّرُكُمْ في الْبرّ والْبحْر حتّى إذا كُنْتُمْ في الْفُلْك وجريْن بهمْ بريحٍ طيّبةٍ وفرحُوا بها جاءتْها ريحٌ عاصفٌ وجاءهُمْ الْموْجُ منْ كُلّ مكانٍ وظنُّوا أنّهُمْ أُحيط بهمْ دعوْا اللّه مُخْلصين لهُ الدّين لئنْ أنْجيْتنا منْ هذه لنكُوننّ منْ الشّاكرين * فلمّا أنْجاهُمْ إذا هُمْ يبْغُون في الأرْض بغيْر الْحقّ.

ويقول في آية أخرى:

 

﴿وإذا أنْعمْنا على الإنْسان أعْرض ونأى بجانبه وإذا مسّهُ الشّرُّ فذُو دُعاءٍ عريضٍ 
 
 
 
 
 
125

107

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

 للمطالعة

 
رياضة عليّ عليه السلام

ذكر في كتاب ذخيرة الملوك:
أن علياً عليه السلام كان معتكفاً في مسجد الكوفة فجاء أعرابي وقت إفطاره، فأخرج علي عليه السلام من جراب سويق شعير فأعطاه منه شيئاً فلم يأكله الأعرابي، فعقده في طرف عمامته، فجاء إلى دار الحسنين عليه السلام فأكل معهما, فقال لهما: رأيت شيخا غريبا في المسجد لا يجد غير هذا السويق فترحمت عليه فاحمل من هذا الطعام إليه ليأكله، فبكيا وقالا: "إنه أبونا أمير المؤمنين علي يجاهد نفسه بهذه الرياضة".
 
 
 
 
 
126

108

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

 الدرس الثاني عشر

القرابة والرحم
 
 
 
"وأكْرمْ عشيرتك، فإنّهُمْ جناحُك الّذي به تطيرُ، وأصْلُك الّذي إليْه تصيرُ، ويدُك الّتي بها تصُول ُ".
 
 
 
 
127

109

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

 العشيرة بمفهومها الإيجابي 

 
العشيرة هي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، والعشيرة مشتقة من "العشرة" العدد المعروف وحيث أن العشرة تعتبر في نفسها عدداً كاملاً، فقد سمي أقرباء الرجل الذين يكمل بهم عشيرة. ولا شك في أن الإسلام أعطى لمفهوم العشيرة الذي كان سائداً بين العرب في عصر الدعوة بُعده الإيجابي، وأعلن رفضه لبعض المفاهيم السلبية التي كانت سائدة بين العشائر. والتي تتنافى مع التعاليم الأخلاقية والقيم الإنسانية.
 
أما البعد الإيجابي في العشيرة فهو يتمثل في ما عرف في الإسلام بصلة الرحم، فللرحم حق على المكلف أن يؤديه ولا يقصر فيه.
 
قال العلامة الطباطبائي: "كيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعي بين أفراد العشيرة مستعدة للتأثير أقوى الاستعداد ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى وأشد مما ينتجه ذلك بين الأجانب وكذلك الإساءة في مورد الأقارب أشد أثراً منها في مورد الأجانب"1.
 
والعشيرة أيضاً يمكن أن تشكل عوناً في طاعة الله تعالى وقوة للامتثال للتكليف الشرعي، وقد قال تعالى في قصة نبي الله لوط ": ﴿قال لوْ أنّ لي بكُمْ قُوّةً أوْ آوي إلى رُكْنٍ شديدٍ2.

 

 
وذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الركن الشديد بأنه العشيرة القوية والمنيعة التي تمنعكم من أذيتي.
 
وذكر في تفسير الأمثل في قوله تعالى: ﴿واعْبُدُوا اللّه ولا تُشْركُوا به شيْئاً وبالْوالديْن إحْساناً وبذي الْقُرْبى3.

 

 
(ثم أنها توصي بالإحسان إلى كلّ الأقرباء، وهذا الموضوع من المسائل التي
 
 

1- محمد حسين الطباطبائي –الميزان في تفسير القرآن - منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة - ج 4 ص 148.
2- هود: 80.
3- النساء: 36.
 
 
 
 
128

110

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

 يهتم بها القرآن الكريم اهتماماً بالغاً تارةً تحت عنوان "صلة الرحم" وأخرى بعنوان "الإحسان إلى القربى" وقد أراد الإسلام بهذا في الحقيقة أن يقوي من أواصر العلاقة الواسعة بين جميع أفراد البشر مضافاً إلى إيجاد أواصر وعلاقات أقوى وأمتن منها في الوحدات الاجتماعية التي هي أكثر انسجاماً مثل "العشيرة" و"العائلة" ليستطيعوا التعاون في ما بينهم عند ظهور المشاكل والحوادث، والتعاون على الدفاع عن حقوقهم)1.

 
وهكذا يكون الأمر بإكرام العشيرة لكي يكون للشخص قوة في عشيرته تدافع عنه لو أراد أحدهم التعدّي عليه أو سلبه حقاً من حقوقه. أي نصرته في الحالات التي يكون فيها مظلوماً. ولذا نجد الإمام علي عليه السلام يصفهم بقوله: "فإنهم جناحك الذي به تطير"، وذلك لأن من يسعى في الأرض لا بد له من تحصيل ما يكون موجباً للأمان بالنسبة إليه، فمن كان له عشيرة، كان له أمان في هذه الأرض.
 
وإكرام العشيرة لا يكون بالعصبية لهم أو بما فيه معصية الله، بل بمعاملتهم بما أمر به الله، ولذا ورد في رواية عن الإمام علي عليه السلام بيان ذلك بقوله: "فأكرم كريمهم، وعد سقيمهم، وأشركهم في أمورهم، وتيسر عند معسورهم"2.
 
فإكرام الكريم، وعيادة المريض وإعانة المحتاج هي من تعاليم الإسلام التي أمر المؤمن بأن تكون خلقاً من أخلاقه.
 
خصائص العشيرة
 
ويشير الإمام إلى بعض خصائص العشيرة فيقول: 
 
- "وأصلك الذي إليه تصير".
 
لا شك في أن الإسلام نهى عن التفاخر بالنسب، فالفضل الموجب للفخر في
 
 

1- ناصر مكارم الشيرازي - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج 3 ص 230.
2- الحراني - ابن شعبة - الوفاة: ق 4- تحف العقول- الطبعة: الثانية - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - ص 88.
 
 
 
 
 
129

111

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

 الإسلام إنما هو التقوى، ولكن الإسلام دعا الناس إلى حفظ أنسابهم، ولذا ورد النهي عن نسبة الولد المتبنى إلى متبنيه بل أمر بنسبته إلى أبيه وقد ورد قوله تعالى: ﴿ادْعُوهُمْ لآبائهمْ هُو أقْسطُ عنْد اللّه.

 
- "ويدك التي بها تصول".
 
والمراد بهذا التعبير أن العشيرة هي اليد التي يتمكن من خلالها الإنسان أن يكون صاحب سلطة وقدرة.
 
ولذا ينبه الإمام عليه السلام في كلامه من التصور الخاطئ الذي قد يظنه البعض وأن من يكون ذا مال فإنه يستغني عن العشيرة ببيان كيف تكون العشيرة يدا حتى لصاحب المال، فقد ورد في كلامه التالي: "ولا يستغنى الرجل عن عشيرته وإن كان ذا مال، فإنه يحتاج إلى دفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهي أعظم الناس حيطة من ورائه وألمهم لشعثه، وأعظمهم عليه إن نزلت به نازلة أو حلت به مصيبة، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما يقبض عنهم يدا واحدة وتقبض عنه أيد كثيرة"1.
 
المفهوم السلبي للعشيرة
 
في الوقت الذي دعا فيه الإسلام إلى التمسك بالعشيرة فيما يكون في طاعة الله وبغرض الوصول إلى رضاه، نهى عن اتباع العشيرة فيما كانت عليه العرب من عصبية ونصرة للعشيرة في حق أو باطل.
 
فقد ورد أولاً التحذير من تفضيل العشيرة على الله ورسوله والجهاد وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ إنْ كان آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعشيرتُكُمْ وأمْوالٌ اقْترفْتُمُوها وتجارةٌ تخْشوْن كسادها ومساكنُ ترْضوْنها أحبّ إليْكُمْ منْ اللّه ورسُوله وجهادٍ في سبيله فتربّصُوا حتّى يأْتي اللّهُ بأمْره واللّهُ لا يهْدي الْقوْم الْفاسقين2.

 

 
 

1- المحمودي - نهج السعادة - مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت – لبنان - ج 4 ص 333.
2- التوبة: 24.
 
 
 
 
130

112

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

 ومن هنا فإن كانت العشيرة من الأمور التي تعين على نصرة الله ورسوله فهي أمر محبب، وإلا فإن كانت من الأمور التي تكون هدفا بذاتها، دون ما يريده الله كانت مذمومة شرعاً.

 
ومن هنا نقرأ في قصة شعيب قوله تعالى: ﴿قالوا يا شُعيْبُ ما نفْقهُ كثيراً ممّا تقُولُ وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولوْلا رهْطُك لرجمْناك وما أنْت عليْنا بعزيزٍ * قال يا قوْم أرهْطي أعزُّ عليْكُمْ منْ اللّه واتّخذْتُمُوهُ وراءكُمْ ظهْريّاً إنّ ربّي بما تعْملُون مُحيطٌ1.

 

 
فقد ذكر السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية قال: "ولولا هذا النفر القليل الذين هم عشيرتك لرجمناك لكنا نراعى جانبهم فيك، وفي تقليل العشيرة إيماء إلى أنهم لو أرادوا قتله يوما قتلوه من غير أن يبالوا بعشيرته، وإنما كفهم عن قتله نوع احترام وتكريم منهم لعشيرته".
 
ومن هنا جاء رد شعيب عليهم بأنكم كيف تعززون رهطي وتحترمون جانبهم، ولا تعززون الله سبحانه ولا تحترمون جانبه وإني انا الذي أدعوكم إليه من جانبه ؟ فهل رهطي أعز عليكم من الله؟ وقد جعلتموه نسيا منسيا وليس لكم ذلك وما كان لكم إن تفعلوه ربى بما تعملون محيط بما له من الإحاطة بكل شئ وجودا وعلما وقدرة2
 
 

1- هود: 91.
2- محمد حسين الطباطبائي –الميزان في تفسير القرآن - منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة - ج 10 ص 375.
 
 
 
131

 


113

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

 خلاصة الدرس

 
ـ البعد الإيجابي في العشيرة يتمثل في ما عرف في الإسلام بصلة الرحم، فللرحم حق على المكلف أن يؤديه ولا يقصر فيه.

ـ الثمرة التي وردت في الآيات لوجود العشيرة كونها نصيرة للحق.

ـ إكرام العشيرة لا يكون بالعصبية لهم او بما فيه معصية الله، بل بمعاملتهم بما أمر به الله.

ـ نهى الإسلام عن اتباع العشيرة فيما كانت عليه العرب من عصبية ونصرة للعشيرة في حق او باطل.

أسئلة حول الدرس
 
1ـ ما هو البعد الإيجابي الذي يراه الإسلام لمفهوم العشيرة؟
2ـ اذكر نموذجا قرآنيا لمسألة الاستعانة بالعشيرة على الحق.
3ـ ما هو مراد الإمام من وصف العشيرة بأنها الجناح الذي به يطير الإنسان؟
4ـ ما هو المفهوم السلبي للعشيرة وما هو النموذج القرآني له؟
 
 
 
 
132

114

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

 للحفظ 

 

يقول الله تعالى في محكم قرآنه:

 

﴿قُلْ إنْ كان آباؤُكُمْ وأبْناؤُكُمْ وإخْوانُكُمْ وأزْواجُكُمْ وعشيرتُكُمْ وأمْوالٌ اقْترفْتُمُوها وتجارةٌ تخْشوْن كسادها ومساكنُ ترْضوْنها أحبّ إليْكُمْ منْ اللّه ورسُوله وجهادٍ في سبيله فتربّصُوا حتّى يأْتي اللّهُ بأمْره واللّهُ لا يهْدي الْقوْم الْفاسقين
 
 
للمطالعة
 
علي عليه السلام وعقيل
 
يروي أمير المؤمنين عليه السلام ما جرى بينه وبين أخيه عقيل حين أتاه طالبا منه أن يزيد في عطائه عن عطاء سائر المسلمين فيقول عليه السلام:
 
والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكداً، وكرر علي القول مردداً، فأصغيت إليه بسمعي، فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدةً، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له: ثكلتك الثواكل، يا عقيل ! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نارٍ سجّرها جبّارها لغضبه! أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟!...
 
 
 
 
133

115

الفهرس

 

المقدمة

5

الدرس الأول: الإنسان في هذه الدنيا

21

تمهيد

23

أولاً: مخاطر الحياة

23

ثانياً: ماذا نربح من الدنيا ؟

25

ثالثاً: التعلّق بالدنيا

26

رابعاً: الدنيا ممر

27

الدرس الثاني: حياة القلب

33

تمهيد

35

الأمر الأول: أسباب الظلمات ورفعها

36

ثانياً: بعث النور في القلب من جديد

38

ثالثاً: تقوية القلب

40

الدرس الثالث: النصيحة وضرورة استماعها

47

تمهيد

49

موانع الاستماع إلى النصيحة

49

ثمرة النصيحة

51

الدرس الرابع: حال المؤمن في الدنيا

57

تمهيد

59

حال المؤمن

59

حال الكافر المغتّر بهذه الدنيا

62

الدرس الخامس: قواعد التعامل مع الناس

67

القاعدة العامة في المعاملة

68

ـ تطبيقات القاعدة

68

الدرس السادس: الله رؤوف بالعباد

75

تمهيد

76

الدرس السابع: ذكر الموت

85

أثر ذكر الموت

86

الحذر من الموت

87

 

 

 

135

 

 

 


116

الفهرس

 

الاستعداد لتلك الرحلة

88

صورة موت المؤمن

89

صورة موت أهل النار

90

الدرس الثامن: المؤمن عزيز

95

المؤمن لا يُذل

96

المؤمن حر

97

الغاية والوسيلة

97

موجبات العزة

97

الدرس التاسع: العلاقة مع الإخوان «1»

103

تمهيد

104

عدم قطيعة الاخوان

104

الحذر في العلاقة:

106

الدرس العاشر: العلاقة مع الإخوان «2»

111

تمهيد

112

كن عند حسن ظن أخيك

112

راع حق أخيك

113

الحرص على العلاقة

114

الدرس الحادي عشر: القناعة في الرزق

119

تقسيم الرزق

120

قوة الدين

121

الدنيا فرصة للآخرة

122

لا تجزع من فوت الدنيا

123

الأول: غنى القلب

123

الدرس الثاني عشر: القرابة والرحم

127

العشيرة بمفهومها الإيجابي

128

خصائص العشيرة

129

المفهوم السلبي للعشيرة

130

الفهرس

135

 

 

 

136


117
وصـايا الأمير عليه السلام