منار الهدى


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2014-09

النسخة: 1


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


القسم الأوّل: التشيّع والمقاومة+المقدّمة

 المقدمة

 
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ أن يولد الإنسان يظلّ متعطّشاً يبحث عن مفقود، فعندما تتفتّق مواهبه يتطلّع بحب عميق للجمال، وهكذا حينما تتفاعل في نفسه الأحاسيس الجيّاشة شاباً، أو حينما يتعلّم أو يتنعّم أو يتألّم فإنّه يظلّ يبحث عن شيء ضائع لا يعرف كيف يهتدي إليه، ويتفقّد محبوباً لا يدري كيف الوصول إليه، فيبحث عن حبيب مفقود ليس بغائب، وعن غائب هو شاهد وفوق كل شاهد وهو الله - سبحانه وتعالى - الذي هو أمنية الإنسان والحلم الذي ينشده. وفي أكثر الأحيان يُضلّ الإنسان الطريق إليه - تعالى -، والقليل من الناس هم الذين يحظون بمعرفة الحبيب، ففي التعرّف عليه تكمن السعادة الحقيقية والحبّ العميق الذي يبعث في الفرد عشق الشهادة واختيار الموت، رغم أنّ الموت ليس بالشيء العادي عند الإنسان.
 
ترى عمّ يبحث الإنسان؟ وماذا يريد من حياته؟ وإلى ما يطمح؟
فتراه عندما يجوع يزعم أنّ سعادته في كسرة خبز يسدّ بها رمقه، فإذا ما نالها ظنّ أنّ هناءه في شربة ماء تطفئ ظمأه، ولكنّه في الحقيقة ما يزال بعيداً عن هدفه، فالطريق وعر طويل. ويظلّ لا يدري عم يبحث، عن الراحة؟ إنّه ينام، فإذا استيقظ وجد نفسه ما يزال باحثاً، عن الرئاسة؟ كلا، فهو إذا أصبح رئيساً هانت الرئاسة عنده... 
 
لهذا يبقى الطريق إلى السعادة الحقيقية واحداً، وهو في أن يصل قلب الإنسان إلى ربّ القلوب، وحبيب النفوس، وأنيس العارفين، وحبيب قلوب الصادقين، فعندئذٍ يجد القلب منيته، ويرضى إذ يجد بغيته.
 
يقدّم مركز نون للتأليف والترجمة هذا الكتاب "منار الهدى" ليشكّل خطوةً هامّةً على طريق المعرفة للوصول إلى الارتباط القلبي والعملي بالله تعالى.
 
وهو يتضمّن على صفحاته دروساً تمهيدية في ثقافة المقاومة والمعارف والثقافة الإسلامية، وقد قُسِّمت ثلاثة أقسام، القسم الأول يضمّ ستّة عشر درساَ في تاريخ المقاومة والتشيّع، ويضمّ القسم الثاني سبعة دروس في سيرة الإمام علي عليه السلام, ويضمُّ القسم الثالث ثلاثين درساً في الثقافة والمفاهيم والأخلاق الإسلامية.
 
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.

مركز نون للتأليف والترجمة
 9

1

القسم الأوّل: التشيّع والمقاومة+المقدّمة

  القسم الأوّل:

 
 
 
 
 
التشيّع والمقاومة
دروس في تاريخ المقاومة عند شيعة لبنان
 
 
10

2

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

الدرس الاول: 

تاريخ التشيّع في لبنان (1) - جبل عامل

 

 

 

أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرف تاريخ الوجود الشيعي في بلاد الشام.

2- يعرف تاريخ الشيعة في جبل عامل.

3- يدرك الخصائص الفكرية والسياسية في جبل عامل.

 

 

3

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

التشيّع في بلاد الشام 

يعود الوجود الشيعيّ في بلاد الشام إلى ما قبل القرن العاشر الميلاديّ، حيث يستفاد من مجموعة من الأدلّة والقرائن التاريخية وجود الشيعة في هذه البلاد منذ القدم، فيذكر المؤرّخون أنّ ناصر خسرو - الرّحّالة الإيرانيّ - قد مرّ حدود القرن العاشر الميلادي في هذه البلاد، فذكر أنّ سكّانها من الشيعة. وفي سنة 1184م بدأ الرحّالة إبن جبير رحلته التي وصل بها إلى دمشق، وذكر أنّ الشيعة في هذه البلاد عظيمو الشأن, قد نشروا عقيدتهم في كلّ مكان. هذا ويذكر المؤرِّخون أنّ قسماً من شيعة الشام كان يعبِّر بوضوح عن معارضة سياسية للحكّام العباسيين في بغداد.

 

أمّا في أوائل العصور الوسطى[1] فكان سكّان لبنان من الشيعة، ما خلا بعض الجيوب المسيحية في الأودية الشمالية. وكانت حلب مركزاً للعلوم الشيعية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين، رغم أنّ عدد الشيعة حينها كان في تناقص نتيجة السياسة التي اتّبعتها دولة المماليك - التي قامت على أنقاض الدولة الأيوبية - في محاربة الشيعة حيث اعتبروهم من الفرق الخارجة على الإسلام بناءً لفتوى ابن تيمية، فكانت مذابح كسروان التي سُمّيت "بالفتوح"[2]. ما أدّى - بعد هذه المذابح المروّعة - إلى أن يلتجىء من نجا من الشيعة إلى منطقتي بعلبك وجزّين، وبعدها أخذ الموارنة يتكاثرون في المنطقة التي أضحت شبه خالية من سكّانها (الشيعة).

 

ومع هذا فإنّ الجيوب الشيعية القليلة في بلاد الشام، أثناء الحكم العثمانيّ، احتَوت

 

 

 


 

[1] العصور للوسطى: يطلق على الفترة الممتدة من القرن العاشر وحتى عام 1517 ميلادي.

[2] سيأتي تفصيل ذلك في الدروس اللاحقة.

14

4

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

أسراً كبيرة من الأشراف، واستمرّت إلى يومنا هذا. إلا أنّه في المقابل انقطع التقليد القائم على التعليم الدينيّ الشيعيّ، 

وانقطعت سلالات العلماء، في معظم تلك المناطق.

 

تسمية جبل عامل

جبل عامل أو جبل الجليل أو جبل الخليل أو بلاد بشارة، تلك هي الأسماء المتعدّدة التي عُرف بها قديماً جبل عامل.

 

يجمع عدد كبير من المؤرّخين أنّ هذه التسمية أتت نسبةً لقبيلة عاملة بن سبأ اليمنيّة, هذه القبيلة التي هاجرت من اليمن إلى أطراف الشام بعد حادثة سيل العرم وانهيار سدّ مأرب.

 

وذكر المؤرّخون أيضاً أنّ عاملة هاجرت إلى بلاد الشام، وإلى الهضاب الواطئة المتصلة بشاطئ البحر المتوسّط في أواخر القرن الرابع... ويظهر من المصادر والدراسات التاريخية أنّ قبيلة عاملة حتى زمن متأخِّر لم تُلحق منطقة معنية باسمها، ولهذا كانت صفة عاملي في ذلك الوقت تعني القبيلة وليس المنطقة ولكنّه من سكان تلك المنطقة أعني بيسان في فلسطين، أو من سكان حمص أو من سكان هذه الجبال الواطئة الممتدة من تخوم وادي التيم إلى سواحل البحار...

 

كما عُرفت هذه المنطقة ببلاد بشارة نسبة إلى أحد الزعماء الذي تعدّدت الآراء حول نسبه، وذكر بعض المؤرّخين أنّه الأمير بشر بن معن، وقال آخرون إنّه بشارة بن مقبل القحطاني، لكنّ المشهور والأقرب إلى الصحّة أنّه الأمير حسام الدين بشارة بن أسد الدين بن مهلهل بن سليمان بن أحمد بن سلامة العاملي[1].

 

وقد عرف هذا الجبل ببلاد (المتاولة)، لكون معظم سكّانه من (المتاولة) حسب التسمية المعروفة في لبنان, أي الشيعة[2] 

وهذا اللقب وهذه اللفظة هي جمع لكلمة

 

 

15


 

[1] علي الزين: المرجع السابق, ص166.

[2] احمد رضا: المتاولة و الشيعة في جبل عامل ،مجلة العرفان المجلد الثاني ج2،ص241.

 

 


5

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

 متوالي، مشتقّ على غير قياس من تولّى, أي اتخذ وليّاً ومتبوعاً، من ولائهم لأهل البيت النبوي الطاهر عليه السلام الذي هو الركن في مذهب الشيعة، أو مشتقّ على القياس من توالى, أي تتابع، من تتابعهم واسترسالهم خلفاً عن سلف في موالاة آل البيت عليهم السلام[1]. 

 
تاريخ الشيعة في جبل عامل
يتّفق المؤرّخون على انتساب العامليين إلى قبيلة عاملة بن سبأ، يقول آل صفا: "وسكّانه (جبل عامل) عرب خلّص بنسبهم، ولغتهم وعاداتهم متحدّرون من عاملة بن سبأ بن يشجب بن قحطان، وهي قبيلة هاجرت من اليمن إلى أطراف الشام قبل الميلاد بثلاثمئة سنة على وجه التقريب بعد حادثة سيل العرم، وانهيار سد مأرب وضياع مملكة سبأ المعروفة في التاريخ"[2]. 
 
وعن عروبة سكّان جبل عامل يقول السيد محسن الأمين: "عريقون في العروبة، ولهم من العادات ما يكفي لتوضيح نسبهم العربي، وأمّا لغتهم فهي العربية، وألفاظها أقرب إلى الفصحى من كلّ لفظ"[3].
 
وكانوا من معتنقي الدين الإسلاميّ بعد الفتح الإسلاميّ لبلاد الشام، وتمازجوا مع غيرهم من الوافدين، من عرب وعجم. ويذكر المؤرّخون أنّ ولاء شيعة جبل عامل للإمام عليّ عليه السلام قديم، ويعود ذلك - حسبما يذكره العلماء 
- إلى الفترة التي نزل فيها الصحابيّ الجليل أبو ذرّ الغفاريّ في بلاد الشام. فمنذ ذلك الزمان بدأت بذرة الموالاة لعليّ عليه السلام في تلك البلاد وما زالت حتّى يومنا هذا.
 
وقد أشار السيد محسن الأمين إلى هذه الرابطة الوثيقة لعاملة مع الصحابي أبي ذر الغفاري، الذي نفاه معاوية إلى جبل 
عامل، ولا يزال هناك مسجدان يعرفان باسمه، الأوّل في ميس الجبل، والثاني في بلدة الصرفند[4].
 
 
 

 
[1] علي الزين: المرجع السابق, ص166.
[2] محمد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل ، بيروت دار متن اللغة (د.ت) ، ص25.
[3] السيد محسن الأمين:خطط جبل عامل ص53.
[4] بتصرّف: السيد محسن الأمين: خطط جبل عامل ص65و66.
 

6

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

 قد مرّ في طرفه ناصر خسرو - الرّحالة الفارسي المعروف - سنة 437 هجري (1020)م. فقال عن صور: "إنّ أكثر 

أهلها شيعة إمامية، ومن بلدانه تبنين وهونين وقدس والشقيف، وأكبر مدنه صيدا ثمّ صور، وأكبر قراه النبطية 
وبنت جبيل والخيام"[1].
 
وقد عاش أبو ذرّ في الشام مدّة طويلة، ربّما نافت على العشر أو الأربع عشرة سنة، استطاع خلالها نشر مذهب الحق في الموالاة لعليّ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام.
 
واستمرّ المذهب الإماميّ سائداً في جبل عامل، كما يظهر من العديد من المسائل الشرعيّة التي كانت ترسل إلى مراجع الإماميّة. إذ إنّ هناك أكثر من تصنيف يحمل اسم "جواب المسألة الواردة من صيدا" أو "جوابات المسائل الصيداوية".
 
الأهميّة التاريخية 
اكتسب جبل عامل أهمّيته التاريخية من خلال عدّة أمور، هي:
كان مهداً لدعوات الأنبياء.
قربه واتّصاله بفلسطين.
خروج العلماء العظام منه.
الأحداث الجسام التي حدثت على أراضيه.
سكّانه الأتقياء والأذكياء والأشدّاء في الحروب.
تقدّمهم في التشيّع والولاء لأهل بيت النبوة عليهم السلام.
 
ويضاف إلى ذلك ما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام, حيث وُجد بخطّ الشهيد الأوّل كما ذكر الحرّ العامليّ في كتاب أمل الآمل، نقلاً عن ابن بابويه، عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سُئِل كيف يكون حال الناس في حال قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف وفي حال
 
 
17

 
[1] السيد محسن الأمين: أعيان الشيعة ج1 ق2 ص240 .
 

7

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

غيبته؟ ومَن أولياؤه وشيعته؟ ومن المصابون منهم، الممتثلون أمر أئمّتهم والمقتفون لأثارهم والآخذون بأقوالهم؟ قال عليه 
السلام: "بلدة الشام"، قيل: يا ابن رسول الله إنّ أعمال الشام متّسعة! قال: "بلدة بأعمال الشقيف أرنون"، وبيوت 
وربوع تُعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال، قيل: يا ابن رسول الله، هؤلاء شيعتكم؟ قال عليه السلام: "هؤلاء شيعتنا 
حقاً، وهم أنصارنا وإخواننا والمواسون لغريبنا والحافظون لسرّنا، والليّنة قلوبهم لنا، والقاسية قلوبهم على أعدائنا، وهم كسكّان السفينة في حال غيبتنا، تمحل البلاد دون بلادهم، ولا يصابون بالصواعق، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعرفون حقوق الله، ويساوون بين إخوانهم، أولئك المرحومون، المغفور لحيّهم 
وميّتهم، وذكرهم وأنثاهم، ولأسودهم وأبيضهم، وحرّهم وعبدهم، وإنّ فيهم رجالاً ينتظرون، والله يحبّ المنتظرين"[1]. 
 
كثرة قبور ومشاهد الأنبياء والأولياء والصالحين والعلماء المنتشرة في قراه وهضابه منذ أمد طويل.
 
انتشار الشيعة في السواحل والجبال
كانت جبال لبنان الحصينة منذ زمن بعيد ملجأً للحركات المعارضة للسلطة، ولذا نجد بأنّ الجماعات الشيعيّة التي اضّطُهدت ولُوحِقت في مختلف العهود والأقطار، كان لديها سبب كافٍ للهجرة ناجية بنفسها إلى مكان غامر وحصين كجبال لبنان. ومن ذلك وجود الشيعة في جبال "الضنيّة" التي كانت تعرف قديماً بـ "جبال الظنين" في أعالي شماليّ "لبنان" التي يرى بعض المؤرّخين أنّها أخذت اسمها من فرقة شيعيّة عمّرتها في الماضي، وكذلك وجودهم التاريخيّ في الجبال المجاورة لمنطقة "زغرتا" حيث لا تزال أعقابهم حتّى اليوم.
 
 
18

 
[1] أمل الآمل، ص 15 - 16.
 
 

 


8

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

 كما أنّه لا شكّ في أنّ الشيعة كانوا منتشرين في السواحل اللبنانية، أو في ثلاثة من حواضرها على الأقلّ قبل قيام الدولة الفاطمية بزمن طويل (قامت: 358هـ/ 968م). وكان أهل طبريا والقدس وأكثر عمّان شيعة.

 
والحقّ أنّ التشيّع الذي ازدهر، وقارب أن يستكمل شخصيّته، في الساحل اللبناني خصوصاً في طرابلس، قد ضُرب على 
يد الصليبين دون سواهم، ومن عبث الزمان أنّ المماليك الذين دمّروا الإمارات الصليبية، التي قامت على أنقاض الشيعة، لم يكن لهم همّ بعد ذلك، إلا تجريد الحملات على المنطقة الوحيدة التي استعصت في تلك البقاع على الصليبيين, أعني بها جبال "كسروان"، فجرّوا عليها الحملة تلوَ الحملة، إلى أن دخلوها عام 1305م فخرّبوها، وقتلوا 
أهلها دون تمييز وقطعوا كرومها وبساتينها، وأحرقوا غاباتها، الأمر الذي أثار استنكار السلطان في مصر. نتيجة تلك التطورات السياسية جلا الشيعة عن شمال لبنان ساحلاً وجبلاً وعن كسروان، ولم يبقَ منهم إلّا الذين رابطوا في قراهم البعيدة. وظلّ جبل عامل والجبال التي تتاخمه شرقاً، جبل الشيعة الإمامية، وكذلك منطقة بعلبك والبقاع البعلبكي. 
 
ومن حسن حظّ جبل عامل أنّ العمليات العسكرية أيّام الصليبيين كانت تجري على أطرافه وحافّاته. وهذا أمر يمكن تصوّره من توزيع القلاع والحصون التي أقيمت آنذاك، وكانت بمثابة مراكز حربية في بانياس وهونين وتبنين وشقيف أرنون. وبعد أن استعاد صلاح الدين قلعة هونين من أيدي الصليبيين في السنة 1188م، ولّى على المنطقة أميراً محلّياً، 
هو حسام الدين بشارة بن أسد الدين العامليّ. وكان من حسن أثره وجميل سيرته، أن حملت المنطقة اسمه، فصارت تُعرف بـ "بلاد بشارة" وظلّت سلالته في الحكم حتّى الفتح العثمانيّ، وكانوا شيعة. وقد أتاح النظام الإقطاعيّ المستقلّ 
إلى حدّ ما، لأهل جبل عامل أن يعيشوا في جبالهم مستقلّين استقلالاً مادّياً وثقافياً معاً.
 
19 

9

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

 الخصوصية الفكرية والسياسية

قامت في جبل عامل والمناطق المجاورة له من سهل البقاع مراكز علمية يمكن القول إنّها كانت مشروعاً سياسياً، أنجزته تلك المراكز العلمية، متمثّلة بالفقهاء، ثمّ حملوه مهاجرين، إلى الجوار العربيّ القريب والبعيد وإلى أقطار العالم الإسلاميّ البعيدة. وفي أعماق أسباب الهجرة تكمن الخصوصية الفكرية والسياسية معاً. ويمكننا أن نسمّي هذه الخصوصية بالمسألة الأولى. أمّا المسألة الثانية: فهي الأرضيّة التي تفاعلت مع الأفكار أو المشروع الذي حمله المهاجرون معهم بكامل عناصره الثقافية والاجتماعية أيضاً.
 
أضف إلى ذلك امتياز سكّانه بالذكاء واعتدال القرائح، ولعلّ هذا ناشئ عن الأمر الأوّل لتأثير الإقليم في الطباع واعتدال الهواء في اعتدالها. ويشهد بذلك أنّه ما حلّ العامليون في قطر من الأقطار إلا و تعلّموا لغة أهله بأقرب وقت، وتكّلموا بلهجتهم بحيث لا يمتازون عنهم، ولا يظنّهم السامع غرباء، بل يخالهم من أهل تلك البلاد[1].
 
وكَثُر من نبغ فيه من العلماء، فبعد بدايات الفتح الإسلامي بمدّة نبغ في العامليين الشعراء و العلماء والقادة والأمراء. فلقد نبغ فيه من القرن السادس الهجري أو قبله إلى اليوم علماء كبار في كلّ فنّ وعلم، هذا فضلاً عن الشعراء والأدباء والكتّاب...، وقد كثرت مؤلّفاتهم في كلّ فنّ، حتى أن أفران عكّا بقيت تشتعل منها ستة أيام في حادثة الجزار المشؤومة، ولم ينجُ منها إلا ما أخذه أهل فلسطين من نفائسها، وما حمله الهاربون إلى بلاد غير بلادهم. ولم ينقطع منه العلم من ذلك الحين إلى وقتنا هذا[2].
 
وحسبك في فضل جبل عامل أن يجتمع في جنازة سبعين مجتهداً، (في عصر الشهيد الثاني) والعلماء هم ورثة الأنبياء. وحسبك في فضل جبل عامل أن يضع صاحب أمل الآمل كتابه في علماء جبل عامل، ويعترف بعدم الاستقصاء، وأن 
يقصده الطلّاب والعلماء من العراق وإيران وأن يبلغ عدد طلاب مدرسة المحقّق الميسي أربعمئة طالب[3].
 
 
 
20

 
[1] خطط جبل عامل ص72.
[2] خطط جبل عامل ص 73.
[3] المرجع السابق ص 74.
 

10

الدرس الأوّل: تاريخ التشيّع في لبنان (1) جبل عامل

 المفاهيم الرئيسة

 
1- يعود الوجود الشيعيّ في بلاد الشام إلى ما قبل القرن العاشر الميلاديّ بحسب الأدلة والقرائن التاريخية.
 
2- في أوائل العصور الوسطى كان سكّان لبنان من الشيعة، ما خلا الجيوب المسيحية في الأودية الشمالية. وقد ظلّت حلب مركزاً للعلوم الشيعية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين.
 
3- إنّ الجيوب الشيعية القليلة في بلاد الشام أثناء الحكم العثمانيّ احتوت أُسَراً كبيرة من الأشراف، واستمرّت إلى يومنا هذا.
 
4- يتّفق المؤرّخون على انتساب العامليين إلى قبيلة عاملة بن سبأ، التي هاجرت من اليمن إلى أطراف الشام قبل الميلاد بثلاثمئة سنة على وجه التقريب.
 
5- عاش أبو ذرّ في الشام مدّة طويلة، ربما نافت على العشر أو الأربع عشرة سنة، استطاع خلالها نشر مذهبه في الموالاة لعليّ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام.
 
6- سُمّي جبل عامل أو عاملة في الكتب القديمة، وأطلق عليه (بلاد بشارة)، ودُعي بجبل الخيل وجبل الخليل وجبل الجليل في العهود السالفة.
 
7- اكتسب جبل عامل أهمّيته التاريخية من خلال: أنّه كان مهداً لدعوات الأنبياء، قربه واتّصاله بفلسطين، وخروج العلماء العظام منه.
 
8- لا ريب أنّ الجماعات الشيعيّة التي اضطهدت ولوحقت في مختلف العهود والأقطار، كان لديها سبب كافٍ للهجرة، ناجية بنفسها إلى مكان غامر وحصين كجبال لبنان. 
 
21

11

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 الدرس الثاني: 

 
تاريخ التشيّع في لبنان (2) – بعلبك
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1 - يدرك الأهمّية التاريخية لوجود التشيّع في بعلبك.
2 - يعرف تاريخ الوجود الشيعي في بعلبك.
3 - يعرف دور ابن مِلّي البعلبكي في الدفاع عن الشيعة.
 
 
 

 


12

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 تاريخ الوجود الشيعي في بعلبك

لم يأتِ الشيعة إلى منطقة بعلبك في فترة تاريخيّة واحدة ولا من مكان واحد، بل يمكن الحديث عن فترات زمنية متفرّقة، وأمكنة متعدّدة، ويمكن تصنيف ما ورد في الروايات والدراسات التاريخية  في تاريخ الوجود الشيعي في بعلبك إلى قسمين:
الأول: ما ترشدنا إليه بعض المصادر التاريخية، أنّ تاريخ الوجود الشيعي في بعلبك يعود إلى القرن الأول الهجري، بحسب بعض التحقيقات العلمية التاريخية[1].
 
الثاني: ما تدلّ عليه الكثير من الدراسات والتحقيقات العلمية ولعلّه القول الأشهر، حيث تعتبر أنّ شيعة بعلبك قد هاجروا إليها من مناطق جبيل وكسروان في جبل لبنان، ومن الجبال المجاورة، وهي السفوح المطلّة على السهل والمحاذية لسلسلة الجبال السوريّة.
 
تاريخ الوجود الشيعي في بعلبك:
يذهب هذا القول إلى أنّ الوجود الشيعي في بعلبك يعود إلى القرن الأول الهجري، وتفصيل القضية كما يذكر الشيخ د.جعفر المهاجر[2]: إنّه في وقتٍ ما من العقد السادس من القرن الأوّل الهجري/ العقد التاسع من القرن السابع الميلادي 
هبط أولئك المهاجرون من همدان وعبد القيس، القادمون من "الكوفة"، أو بعضهم، أرض
 
 
 
 

 
[1] يراجع: المهاجر. ش.جعفر، شيعة لبنان والمنطلق الحقيقي لتاريخه، ص35 وما بعد، دار بهاء الدين العاملي للنشر والتوزيع، بعلبك، ط. أولى 2013.
[2] المهاجر. ش.جعفر، شيعة لبنان والمنطلق الحقيقي لتاريخه، ص35 وما بعد، دار بهاء الدين العاملي للنشر والتوزيع، بعلبك، ط. أولى 2013.
24

13

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 "لبنان" قسمٌ منهم نزل أطراف "بعلبك"، والثاني نزل الهضاب المشرفة والمجاورة لمدينة "طرابلس"

 
ويستند هذا القول على مجموعة قرائن هامة تتمحور حول نص تاريخي يعود إلى القرن التاسع الميلادي يقول فيه: "إنّ 
بعلبك قومها من الفرس، وفي أطرافها قوم من اليمن"[1]. 
 
وهذه بعض القرائن التي يستند عليها هذا القول:
الأولى: ورد في عبارته في النص: "وفي أطرافها (يعني بعلبك) قوم من اليمن" ومن الواضح أنّ هذه العبارة تشير إلى أساس وجود الشيعة في المنطقة، خلافاً لكلّ تهيّؤاتها الذاتيّة. 
 
والعبارة هي لابن واضح اليعقوبي (ح: 292هـ/ 905م) في كتابه (البلدان)[2]. ونحن نأخذ من نصّه النادر إجمالاً أنّه في 
أواسط القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي كان سكّان أطراف "بعلبك" من أهل "اليمن".  والطرف من الشيء أو 
الجسم ما يكون متّصلاً به دون أن يكون منه؛ أي إنّ "أطراف بعلبك" ما ليس من جسم المدينة، ولكنّه من ضواحيها
 أو جوارها. وفي هذا إشارة إلى أنّهم لم ينزلوا المدينة.
 
الثانية: قوله: "قومٌ من اليمن" نصٌّ واضحٌ أيضاً، ولكنّه عامٌّ غير محدّد للمعنيٍّ به، ويوجد قرينة هامّة تساعدنا على معرفة أنّ هؤلاء القوم هم من الشيعة الوافدين، وهي أنّ أحد أبواب مدينة "بعلبك" كان يحمل اسم "باب همدان" وقد ورد ذكره كثيراً في المصادر. هذا الباب كان بالتحديد جنوب المدينة، حيث اليوم وكان دائماً متنزّه "رأس العين" المعروف، الذي يسمّى في بعض المصادر "الميدان الأخضر" "في الميدان الأخضر، خارج باب همدان ببعلبك".
 
 
 
 

 
[1] ابن واضح اليعقوبي، البلدان، نقلاً عن: جعفر المهاجر: التأسيس لتاريخ الشيعة (بيروت: دار الملاك، 1992م)، الصفحة 117.
[2] اليعقوبي بلدانيٌّ ثَبْثٌ، المعروف بين أهل البحث أنّه من كبار العارفين في زمانه بأقطار "الشام" وبلدانه وعمّارها، وأنّه لا يصدر فيما يقوله إلا عن معرفة مباشرة.
25

14

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

واسم هذا الباب - كما يُفهم من القرائن - قرينة على أنّه كان يفضي إلى حيث يقيم تجمّعٌ سكّانيٌّ من بني همدان. وأنّ 

هذا التجمّع كان من كثرة العدد بحيث كان الأبرز في المكان الذي يسامت ذلك الباب، بحيث أطلق عليه الناس اسمه المنسوب إلى همدان.

 

إذاً، كانت هناك منازل همدان في "أطراف بعلبك"، التي استدعت تسمية باب المدينة المؤدّي إليها باسمهم. واحتفظ الباب باسمه هذا حتى أوائل القرن الثاني عشر للهجرة/ الثامن عشر للميلاد على الأقلّ، ثمّ ضاع ونسي مع كرّ الأيام.

 

لذا فقوله في النص من اليمن،  يعني هم أنفسهم الذين سكن بعضهم في أطراف المدينة، ويعود أصلهم إلى قبيلة همدان[1] اليمنيّة، وهم من الشيعة. ذلك أنّ همدان كانت ديارهم في اليمن، ولمّا جاء الإسلام تفرّقوا فرحل من رحل، وبقي من بقي. وأهل همدان شيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام[2]، تفرّقت من اليمن، ونزل بعضها في 

بلاد الشام، ونالت بعلبك نصيباً من حركة هذا النزوح، وسكنت فيها، حتى سُمّي أحد أبوابها باسم باب همدان نسبة 

إلى أهلها، وهو الباب الذي ذكره ابن عساكر في تهذيب تاريخ ابن عساكر بقوله: "في الميدان الأخضر خارج باب همدان بعلبك"[3] نسبةً إلى هويّة القاطنين في تلك الجهة من المدينة.

 

 

 

 


 

[1] همْدان: قبيلةٌ يمانيّة. ديارُها الأصليّةُ شرقُ "اليمن"؛ أي "حضرموت" وبظهورِ أمرِ الإسلام باينَ شطرٌ كبير منها برابعَه، وتفرّق في الرُّقعة الإسلامية الآخذة في التوسّع. وكانت "الكوفة" مركز التجمّع الرئيس لهذه القبيلة خارج "اليمن". بحيث إنّه لدى تمصيرها فازت همدانُ بسُبع المدينة الجديدة. ومن المعلوم المشهور أنّ صلةً متينةً جداً قامت بين همدان والإمام علي عليه السلام. وأنّ هذه الصّلة تعود إلى تاريخ مُبكّر. حيث النبي صلوات الله عليه وآله بعث ابن عمّه إلى "اليمن"، يدعو أهلها إلى الإسلام؛ فأسلمت همدانُ على يده. وأنّه أقام بينهم مدّة سنة تقريباً، فتفقّهوا في الدين عليه. هذا، بالإضافة إلى شخصية الإمام المؤثّرة، فقد بنى وشيجةً خاصّةً لبني همدان معه. فكانت عمادَ عسكره في "صفين"، وكان منها قوّاتُ النُّخبة لديه المسمّاة (شرطة الخميس). أصابت همداُن فترتها الذهبيّة مع ارتفاع شأن "الكوفة"، بعد أن اتّخذها الإمام عاصمةً له. في تلك الفترة الحافلة بالأحداث الجِسام، صارت همدانُ صاحبة الدّور المنيف، الذي لا يُدانيه دورُ أيّ قبيلة أخرى في معسكر "العراق" وعندما انفرط عقد نظامه إثر داهية التحكيم، فخرج منها المُحكّمة (الخوارج)، ومال قسم ضمناً إلى معاوية، ظلّت همدانُ على صلابتها وإخلاصها. في هذه الفترة الفاصلة اكتسبت همدانُ الصورة التي دخلت بها التاريخ وأذهان الناس، بوصفها قبيلةً شيعيّةً خالصة. وذلك ما صنع تاريخها في الزمن الآتي. وكان لنا في "لبنان" من هذا التاريخ نصيب.

[2] أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1987م)، الجزء 1، الصفحة 380.

[3] علي بن الحسن بن عساكر، تهذيب تاريخ ابن عساكر، الجزء 4، نقلاً عن: جعفر المهاجر، التأسيس لتاريخ الشيعة، مصدر سابق، الصفحة 119.

 26

15

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 ويعود السبب التاريخي لهجرتهم إلى هذه المنطقة، ما حصل بعد معركة صفّين، من ظلم واضطهاد، ولاسيما اغتيال الإمام الحسن عليه السلام. 

 
وهكذا خرجت تلك الجموع من "الكوفة" لتنزل منازل جديدة متباعدة. بحيث إنّ بعض همدان نزل "مصر" و"الأندلس" ولكنّ أكثرها، فيما تدلّ عليه الدلائل، نزل بقاعاً معلومةً من أرض "الشام".
 
هجرات الشيعة من كسروان وغيرها إلى بعلبك:
يتّفق المؤرّخون أنّ أكثر العائلات والعشائر الشيعيّة في منطقة بعلبك الهرمل، هوجر إليها من مناطق جبيل وكسروان، 
حيث تميّز تاريخها هناك بالصدامات مع السلطات المركزيّة، بدءاً من المماليك وحتى الأمراء الشهابيّين. ونتيجةً للظروف 
غير المؤاتية، وفدت إليها عائلات أخرى من المناطق المحيطة، ومن مناطق أخرى في لبنان.
 
وما يهمّنا هنا هو رصد حركة العائلات الشيعيّة التي اتّجهت نحو منطقة بعلبك - الهرمل من مناطق مختلفة في لبنان، ولعلّ أكثرها أهميّة هو الجبل الذي نزحت منه العشائر الحماديّة وعائلات أخرى سكنته منذ قرون، فأقامت في كسروان وجبيل وركّزت فيها سلطتها، لكنّها اندفعت باتّجاه منطقة بعلبلك - الهرمل نتيجة الظروف السياسيّة غير المناسبة.
 
فثمّة ما يشبه الإجماع بين المؤرّخين، أنّ أسباب نزوح العشائر الحماديّة من مناطق كسروان تعود إلى الظروف السياسيّة غير المناسبة التي تعرّض لها الشيعة طيلة مراحل تاريخيّة متعدّدة، ما يعني أنّ هذا النزوح لم يحصل دفعة واحدة، بل على مراحل حيث استُكملت حركة النزوح هذه في نهاية القرن الثامن عشر، وما إن أطلّ القرن التاسع عشر حتى انتهت من عملية تشكّلها في جرود الهرمل.
 
وهناك عدد كبير من المؤرّخين أكّدوا على أنّ أسباب النزوح تعود إلى الحروب التي دارت في الجبل في العهد المملوكيّ، 
حيث أورد ابن يحيى في كتابه "تاريخ بيروت" أنّ العسكر المملوكيّ نجح في اجتياح كسروان بعد محاولات فاشلة كثيرة، 
فقتل من أهلها 
 
27 
 

16

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

من قتل، ونفى أو شرّد قسماً آخر اتّجه صوب بعلبك[1].

 

 وفي عام 1291م جرّد الملك الأشرف خليل بن قلاون حملةً من العساكر إلى جبل كسروان لكسر شوكة العشائر الممتنعة عن قبول سلطة الدولة هناك، وكان أهالي كسروان قد بقوا حتى ذلك الوقت خارج سطوة ملوك دمشق وحكّامها. ولم تؤدِّ هذه الحملات إلى سيطرة كاملة للمماليك على جرود كسروان، فلم تمضِ سنوات حتى عاد أهل المنطقة إلى تحدّي النظام القائم.

 

ويذكر كمال الصليبي أنّه في عام 1305م، سار الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من دمشق لقتال أهل كسروان، بعد أن 

قدم إليها عام 1304م الفقيه الحنبليّ ابن تيميّة لمفاوضتهم، ولمّا لم ينجح في مهمّته، دعا إلى القضاء عليهم نهائياً،

فدارت معركة وأعمل فيهم السيف حتى تفرّقوا في جزّين وبلادها، وبلاد بعلبك، وبعضهم أعطوا الدولة أمانتهم[2].

 

الحراك العائليّ في السلسلة الشرقيّة

بالإضافة إلى الظروف السياسيّة التي دفعت العشائر الحماديّة للنزوح إلى المناطق الجرديّة في الهرمل هرباً من السلطة المركزية، كانت هناك حركة نزوح من السلسلة الجبليّة الشرقيّة المحاذية لسوريا من قبل عدد من العائلات التي ترجع بأصولها إلى تلك السفوح، ومنها عائلة الحرفوش التي ترجع أصلاً - كما يعتبر الشيخ جعفر المهاجر في كتابه التأسيس 

لتاريخ الشيعة - إلى قريتي "الجبّة" و"عسال الورد" ويرجع أسباب قدوم هذه العائلات إلى فقدان التكافؤ بين القدرة 

الإنتاجيّة لتلك الجبال والتكاثر السكانيّ[3]. ويضاف إليها عوامل أخرى تتعلّق بالأسباب الثأريّة، حيث لا تزال 

 

 

 

 


 

[1] صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، ورد في كتاب جعفر المهاجر، التأسيس لتاريخ الشيعة، مصدر سابق، الصفحة 115.

[2] كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، مصدر سابق، الصفحتان 136 - 137.

[3] جعفر المهاجر، التأسيس لتاريخ الشيعة، مصدر سابق، الصفحات من 115 إلى 117.

28

17

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 ذاكرة المعمّرين تحتفظ برواية تُرجع أسباب نزول العديد من العائلات من القريتين المذكورتين إلى الحادثة الثأريّة التي وقعت بين "مرعي البقداني" (نسبة إلى قرية بقدانة المجاورة لعسال الورد)، وعائلات إحدى القرى المجاورة وهم من أهل 

السنّة، ففرّ بعد أن قتل عدداً منهم مع عائلته إلى بعلبك، وكذلك فعلت عائلات كثيرة في القرى المجاورة خوفاً من أن 
يطالها الانتقام. ومن بين هذه العائلات عوائل ياغي، الطفيلي، العوطة، علاء الدين، حسن، طالب، عباس[1]، وهي
من العائلات التي لا تزال تسكن المدينة حتى يومنا هذا.
 
النزوح من جبل عامل باتّجاه بعلبك
وإلى جانب النزول من السلسلة الشرقيّة، ثمّة حركة نزوح من مناطق أخرى، ولكن هذه المرّة بدافع سياسي هرباً من السلطة المركزيّة، تمثّلت بحركة النزوح من جبل عامل باتّجاه بعلبك طلباً للأمن. وكما يروي محمد جابر آل صفا في تاريخ جبل عامل، أنّه في فترة حكم الأمير فخر الدين، نزحت بعض العائلات إلى بعلبك، حيث كان يتسلّم زمام السلطة فيها الحرافشة عام 1616م بعدما طلب الأمير فخر الدين من مشايخ تلك البلاد دفع أموال متأخّرة عليهم خمس سنين، فنزح آل الصغير أمراء تلك البلاد، ومعهم آل شكر[2]. وكذلك أورد السيّد محسن الأمين، بأنّه لمّا استولى الجزَّار على جبل عامل بعد قتل ناصيف نصّار، أخذ يقتل العلماء الشيعة فهرب جماعة منهم إلى بعلبك[3].
 
 
 
 

 
[1] مقابلة مع الأستاذ عباس حسن، باحث في تاريخ قدوم العائلات إلى منطقة بعلبك - الهرمل، أجريت في 5/11/1997م.
[2] محمد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل، الطبعة 2 (بيروت: دار النهار للنشر، 1984م)، الصفحة 44.
[3] السيّد محسن الأمين، أعيان الشيعة (بيروت: دار التعارف)، المجلد 5، الصفحة 430.
29

18

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 الفقيه الكبير ابن ملّي الأنصاريّ البعلبكيّ يتصدّى للتتار

إنّه نجم الدين أحمد بن مُحَسِّن بن ملّي الأنصاريّ البعلبكيّ[1] أوّل فقيه شيعيّ إماميّ أنجبته بعلبك، وأحد أذكياء الرجال وفضلائهم في الفقه والأصول والطبّ والفلسفة والعربية والمناظرة. كان متبحّراً في العلوم، كثير الفضائل، أسداً في المناظرة، فصيح العبارة ذكيّاً متيقّظاً، حاضر الحُجّة، حادّ القريحة، مقداماً. إلّا أنّ النقطة المضيئة في سيرته إلى حدّ السّطوع والتألّق ما كان يتحلّى به من صفات وخصوصاً الإقدام والشجاعة. وقد نجح في أن يكون ضمير قومه، بل أمّته في لحظة من أشدّ اللحظات وأقساها يوم اجتاح التتار "دار الإسلام" من مشرقها، ذلك الاجتياح المهول، للمنطقة الشاميّة، ومنها وطن ابن ملّي "بعلبك". فنظّم وقاد حرب عصابات شعبيّة ناجحة في وجههم في بعلبك وجبالها، في وقت تهاوت العروش، ولم تثبُت الجيوش النظامية، من تركستان إلى أبواب مصر. وتلك مبادرة فريدة في تلك الأيام السوداء، وذلك درس حقيق أن يُقرأ اليوم ويُستعاد.
 
نجح ابن ملّي في نقل الشيعة في وطنه إلى موقع متقدّم على طريق الجهاد، وحقّق نقلة نوعية كبيرة تختلف كثيراً عن الوضع الخامد المتلقّي الذي كانوا فيه. فقد نجح في
 
 
 
 

 
[1] ابن ملي في موسوعة طبقات الفقهاء للشيخ جعفر السبحاني (14/1031-1032) :
ابن ملّي (617- 699 هـ): أحمد بن محسّن بن ملّي بن حسن الأنصاري، العلامة، الإمامي، المتفنّن، نجم الدين أبو العباس البعلبكي. قال الذهبي: كان أحد أذكياء الرجال وفضلائهم في الفقه والأصول والطب والفلسفة والعربية والمناظرة.
ولد المترجم له في بعلبك سنة سبع عشرة وستمئة، وتتلّمذ في بلده وفي دمشق وحلب. سمع من: محمد بن الحسين بن عبد الله بن رواحة الحموي الشافعي (المتوفّى 642 هـ)، وزكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، وآخرين. وأخذ النحو عن ابن الحاجب، وفقه الشافعية عن عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي. ولازم الفقيه الإمامي أحمد بن علي بن معقل الحمصي البعلبكي في الفقه وغيره. وتقدّم في العلوم و اشتهر، حتى صار- كما يقول اليونيني - إماماً في مذهب الشافعي، وكذلك مذهب الشيعة، يقتدى به. وكان جريئًا، مقدامًا. غادر بعد استيلاء التتر على الشام (658 هـ) مدينة بعلبك، واتّخذ من جبالها مقرًّا له ولأتباعه من المجاهدين، وتسمّى بالملك الأقرع، وقاد حرب عصابات شعبية ضد التتر.
ولما دالت دولة التتر، اختفى ابن ملي خوفًا من اعتقاله، ثمّ ظهر في مدينة إسنا (بصعيد مصر)، ثم انتقل منها إلى مدينة أسوان، فاستقرّ فيها مدّة يدرس في المدرسة الباباسيّة. وقد دخل مصر غير مرّة، وأقام ببغداد مدّة معيداً بالمدرسة النظامية. وكان قويّ الحافظة، درّس، وأفتى، وناظر، ومات في قرية بخعون (بشمال لبنان) سنة تسع وتسعين وستمئة.
30

19

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 تنظيم الشيعة لأوّل مرّة بعد أن اضطرب وضعهم بسبب الغزو الصليبيّ وما تلاه. وذلك هو المغزى التاريخيّ الكبير لأعماله الجهادية الذي يستحقّ أن يدخل التاريخ؛ لأنّه قام بأوّل مبادرة جماعية ذات معنى وبعد سياسيّ وجهادي، اتّخذها الشيعة من أهل الشام بعد كل ما تعرّضوا له من ظلم وقتل. 

 
فعندما استولى التتار على الشام كان ابن ملّي بجبال بعلبك، وقد جمع له عشرة آلاف نفر، تسمّى بالملك الأقرع، وكانوا 
يتخطّفون التتر في الطرقات وخصوصاً في الليل.
 
والجدير بالذكر أنّنا لا نقرأ في تاريخ تلك الأيام السوداء أيّ ذكر لعمل دفاعيّ شعبّي، لوقف التتار الزاحفين، أو عرقلة حركتهم وقد ابتعدوا عن أوطانهم الأصلية. وتلك الظروف نموذجية لحرب الكرّ والفرّ التي نسمّيها اليوم "حرب العصابات". وقد تحقّقت الشروط الأساسية النظرية لنهوض مقاومة شعبية مسلحة، في وجه الغزاة التتار في بعلبك ومنطقتها على يده، خصوصاً أنّه كان يتمتّع بموقع بين الشيعة من أهل بعلبك وجوارها. ومع ذلك فإنّ التجربة التي خاضها الشيعة في بعلبك وجوارها تحت قيادته، لا يمكن أن تكون قد ضاعت وضاع أثرها مثل نفخة ريح. 
 
 
31 

20

الدرس الثاني: تاريخ التشيّع في لبنان (2) بعلبك

 المفاهيم الرئيسة


1- لم يأتِ الشيعة إلى بعلبك في فترة تاريخيّة واحدة، ولا من مكان واحد.
 
2- الكثير من الدراسات والتحقيقات العلمية تعتبر أنّ شيعة بعلبك قد هاجروا إليها من مناطق جبيل وكسروان في جبل لبنان.
 
3- ما يكاد يُجمع عليه المؤرّخون أنّ أكثر العائلات والعشائر الشيعيّة في هذه المنطقة جاءت من بلاد جبيل وكسروان.
 
4- ذكر اليعقوبي نصّاً يعود إلى القرن التاسع الميلاديّ يقول فيه: "إنّ بعلبك قومها من الفرس، وفي أطرافها قوم من اليمن".
 
5- يذكر الشيخ د.جعفر المهاجر أنه في وقتٍ ما من العقد السادس من القرن الأوّل الهجري/ العقد التاسع من القرن السابع الميلادي هبط مهاجرون من همدان وعبد القيس في أطراف بعلبك.
 
6- قدم المهاجرون إلى لبنان من "الكوفة"، قسمٌ منهم نزل أطراف "بعلبك"، والثاني الهضاب المشرفة والمجاورة لمدينة "طرابلس".
 
7- نجح ابن ملّي في نقل الشيعة في وطنه إلى موقع متقدّم على طريق الجهاد، وحقّق نقله نوعية كبيرة تختلف كثيراً عن الوضع الخامد المتلقّي الذي كانوا فيه. وقد نجح ابن ملّي في تنظيم الشيعة لأوّل مرّة في تأريخهم في المنطقة.
 
8- كان ابن ملّي بجبال بعلبك، وجمع له عشرة آلاف نفر، وكانوا يتخطّفون التتر في الطرقات، وخصوصاً في الليل. تحقّقت الشروط الأساسية النظرية لنهوض مقاومة شعبية مسلحة، في وجه الغزاة التتار في بعلبك ومنطقتها على يده، خصوصاً أنّه كان يتمتّع بموقع بين الشيعة من أهل بعلبك وجوارها.
 
 
32

21

الدرس الثالث: تاريخ التشيّع في لبنان (3) بلاد كسروان

 الدرس الثالث:

تاريخ التشيّع في لبنان (3) - بلاد كسروان
 
 
 
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1 - يعرف أسباب لجوء الشيعة إلى كسروان فبعلبك.
2 - يدرك أسباب جهاد الشيعة في كسروان.
3 - يعرف نتائج جهاد الشيعة الكسروانيين.
 
 

22

الدرس الثالث: تاريخ التشيّع في لبنان (3) بلاد كسروان

 تاريخ الشيعة في كسروان

اختلفت روايات المؤرّخين وآراؤهم في سكّان كسروان من غير الشيعة، فمنهم من رأى أنّهم كانوا دروزاً، ومنهم من رأى أنّهم كانوا موارنة، بينما رأى آخرون أنّهم كانوا من النصيريّة. ولا يوجد خلاف بين المؤرّخين - من الصديق والخصم والعدو - على أنّ الشيعة كانوا من سكان هذه المناطق، ولكنّ الخلاف هو في أصل هذا الوجود وأسبقيته. وحسبُنا في هذا المجال، التركيز على بعض المرويّات والقرائن التاريخية, كرسالة ابن تيميّة عام 1340م وما تضمّنته من وصف سكّان كسروان، وما جرى له معهم، ومرويّات المؤرّخين الذين أشاروا إلى غلبة الوجود الشيعيّ في هذه المناطق.
 
فكمال الصليبي يغلّب وجود الشيعة خلال حكم المماليك من خلال تأكيده للمعارك التي جرت بينهم وبين السلطة المملوكية عام 1291م، معلّلاً ذلك ببقاء الشيعة خارج سلطة ملوك دمشق وحكّامها[1].
 
أمّا محمد علي مكّي، فيؤكّد هذا الوجود، من خلال بعثة ابن تيميّة وفتواه، والنزوح إلى البقاع وجزّين، واستخدامه مصطلح الرافضة الذي عُرف به الشيعة[2]. ولكن عارف الزين يرى أنّ هذا المصطلح استخدم من قبل ابن تيميّة بحقّ كلّ من خالف مذهبه، سواء أكان الروافض من الشيعة أم من الموارنة أم من الدروز أم من النصيريّة. ولتحديد المصطلح بشكل دقيق، يمكن العودة إلى رسالة ابن تيميّة - وقد ذكرنا نصّها في هذا
 
 
 

 
[1] كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، الطبعة 2، (بيروت: دار نوفل، 1992م)، الصفحة 134.
[2] محمد علي مكّي، لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثمانيّ (بيروت: دار النهار، 1985م)، الصفحة 229.
34

23

الدرس الثالث: تاريخ التشيّع في لبنان (3) بلاد كسروان

 الكتاب -  ونصّ الرسالة طويل، وفيه الكثير من العناصر الهامّة عن مذهب الكسروانيين الذين أفتى ابن تيميّة بقتالهم، 

وفيها مقطع لا يترك مجالاً للشكّ في أنهم من الاثني عشريّة، وهذا الأمر تجلّى بذكره لإيمانهم واعتقادهم بالإمام المهديّ 
المنتظر، وبأنّه حجّة الله على أرضه، كما تُحدّد الرسالة مناطق انتشارهم. وبذلك تكون رسالة ابن تيميّة التي بعثها إلى الملك الناصر، والتي برّر فيها قتلهم وتخريب ديارهم، ما يؤكِّد أرجحيّة الوجود الشيعيّ في كسروان حتى أوائل القرن الرابع 
عشر للميلاد، حين اصطدموا مع الجيش المملوكيّ. وبقي هذا الوجود حتى أواخر القرن السابع عشر، ثمّ امتدّ إلى مناطق أخرى، على قاعدة تسلُّم السلطة. وكما يقول كمال الصليبي: "إنّه منذ أواخر القرن السابع عشر، وقعت مناطق بشرّي والبترون وجبيل المارونيّة، ومنطقة الكورة الملكيّة الأرثوذكسيّة، تحت نفوذ آل حمادة الشيعة الذين تولّوا أمر هذه المناطق عن ولاة طرابلس، ولم تكن للأمراء الشهابيين في البدء سيادة عليهم"[1].
 
ومن الواضح في التاريخ  أنّ الكثير من العائلات الشيعيّة اتّجهت نحو منطقة بعلبك - الهرمل من مناطق مختلفة في لبنان، ولعلّ أكثرها أهميّة هو الجبل الذي نزحت منه العشائر الحماديّة وعائلات أخرى سكنته منذ قرون، فأقامت في كسروان وجبيل وركّزت فيها سلطتها، لكنّها اندفعت باتّجاه منطقة بعلبلك - الهرمل نتيجة الظروف السياسيّة غير المناسبة، وقد فصّلنا ذلك في الدرس السابق.
 
كسروان قلعة الشيعة الحصينة
بعد سقوط المدن اللبنانية الساحلية بأيدي الصليبيين، انتقل الوجود الإسلاميّ إلى الجبال المجاورة (كسروان)، علماً أنّ هذه المناطق كانت إسلامية قبل ذلك. 
 
وقد استمرّ هذا الوجود كقلعة حصينة للإسلام إلى عام 1305م، حيث انتكس
 
 
 

 
[1] كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة 7 (بيروت: دار النهار للنشر، 1991م)، الصفحة 32.
35

24

الدرس الثالث: تاريخ التشيّع في لبنان (3) بلاد كسروان

 هذا الوجود انتكاسة خطيرة ومؤسفة على أيدي المماليك، نتيجة للتعصّب المذهبيّ، ولسيطرة وعّاظ السلاطين على عقول الأمراء. 

 
وقد اعتمد المماليك سنّة دينية متعصّبة, ومن أجل هذا الهدف عمدوا إلى الضغط والإرهاب والتنكيل بأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى.
 
وكان الناس إذا أرادوا أن يكيدوا لشخص دسّوا عليه من رماه بالتشيّع, فتصادر أملاكه وتنهال عليه العقوبات والإهانات حتى يُظهر التوبة عن التشيع. 
 
وعندما تكون القضيّة كبيرة، وتشمل منطقة بأكملها، كانت دولة المماليك تتستّر، وتختلف حججاً مختلفة، كالاتّصال بالصليبيين أو المغول أو الأيوبيين لإسقاط حكم المماليك. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما حدث في كسروان من معارك رافقها العنف والتدمير، بالإضافة إلى فتاوى ابن تيمية في هدر دماء الكسروانيين.
 
جهاد الشيعة في كسروان وجبيل
الحملة الأولى:
استفاد الشيعة من مناعة مناطقهم الجبلية في كسروان، وتمتّعوا باستقلال تامّ عمّن يجاورهم من الصليبين في المدن الساحلية، وعمّن يجاورهم جنوباً وشرقاً من مذاهب أخرى. وبعد استرجاع المدن الساحلية من أيدي الصليبيين تردّد الشيعة الكسروانيون بشأن الخضوع الكامل للسلطة الجديدة, ما دفع المماليك لاتّخاذ قرارٍ بتصفية الشيعة في كسروان، حيث يبدو واضحاً من خلال العديد من النصوص التاريخية أنّ ملك الأمراء لاجين المملوكي نائب دمشق أخبر عساكره وأتباعهم أنّه من نهب امرأة منهم كانت له جارية أو صبياً كان له مملوكاً، ومن أحضر منهم رأساً فله دينار. وقد وجّه قائده سنقر لاستئصال شأفتهم[1] ونهب أموالهم وسبيهم مع ذراريهم، وكان ذلك عام 1285م. لكنّ الشيعة في كسروان تصدّوا ببسالة واستماتة لهذه الحملات المتتالية.
 
 
 

 
[1] الشأفة: الأصل.
 

25

الدرس الثالث: تاريخ التشيّع في لبنان (3) بلاد كسروان

 الحملة الثانية:

أراد الكسروانيون الشيعة أن يثأرو, فتجدّد القتال سنة 1203م، فسارع المماليك إلى إرسال قوّة كبيرة إلى كسروان والجُبيليين، فوقعت معركة كبيرة عند مدينة جبيل، فحمل الكسروانيون على جيش المماليك، فقتلوا أكثره وغنموا أمتعتهم 
وأسلحتهم، وأخذوا أربعة آلاف من خيلهم، وهزموا الأكراد الذين قدِموا لنجدتهم. حاولت دولة المماليك أن تصلح الوضع بعد هزيمة جيشها على يد شيعة كسروان، ولعلّها أرادت بذلك أن تستفيد من هدنة ما، ريثما تعيد تنظيم الأمور والاستعداد لجولة قاصمة تستأصل من خلالها الوجود الشيعيّ في تلك الناحية.
 
فعمد ابن تيمية إلى إصدار فتوى بهدر[1] دماء الشيعة الكسروانيين وهدم بيوتهم 
 
 
 

 
[1] ابن تيميّة، وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس النميري، ولقبه "شيخ الإسلام". ولد يوم الإثنين 10 ربيع الأول 661 هـ، أحد علماء الحنابلة، ولد في حرّان, وهي بلدة تقع حالياً في جزيرة الشام، بين الخابور والفرات في ما يعرف حالياً بمنطقة الجزيرة السورية، وحرّان حالياً تقع داخل الحدود التركية، وهي على مقربة من الحدود السورية. وحين استولى المغول على بلاد حرّان وجاروا على أهلها، انتقل مع والده وأهله إلى دمشق سنة 667 هـ. كانت جدته لوالده تسمى تيميَّة، وعرف بها.
وله فتاوى كثيرة، منها فتواه الشيعة العلوية، فقال: وسُئِل رحمه الله تعالى: ما تقول السادة العلماء أئمّة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على إظهار الحقّ المبين وإخماد شعب المبطلين، في "النصيرية" القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم وإنكار البعث والنشور والجنّة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأنّ "الصلوات الخمس" عبارة عن خمسة أسماء، وهي: علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة. فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقيّة شروط الصلوات الخمسة وواجباتها... وبعد أن ساق العديد من الصفات والنعوت إلى الشيعة وهم براء منها، أعلن فتواه، فقال:... وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام، وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقّق أحوالهم كلّ من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامّة الناس أيضاً في هذا الزمان, لأنّ أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية, فلمّا جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم. والابتلاء بهم كثير جداً. فهل يجوز لمسلم أن يزوّجهم أو يتزوّج منهم؟ وهل يحلّ أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا؟ وما حكم الجبن المعمول من إنفحة ذبيحتهم؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا؟ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم؟ أم يجب على وليّ الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة وهل يأثم إذا أخّر طردهم؟ أم يجوز له التمهّل مع أنّ في عزمه ذلك؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم، هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم؟ وإذا صرفها وتأخّر لبعضهم بقيّة من معلومه المسمى, فأخّره وليّ الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقّين أو أرصده لذلك، هل يجوز له فعل هذه الصور؟ أم يجب عليه؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال أم لا؟ وإذا جاهدهم وليّ الأمر أيّده الله تعالى بإخماد باطلهم وقطعهم من حصون المسلمين وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وألزمهم بالصوم والصلاة ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار: هل ذلك أفضل وأكثر أجراً من التصدّي والترصّد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد سيس وديار الإفرنج على أهلها؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا؟ ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكبر أجرا؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم، فلعلّ الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام، وأن يجعل من ذريّتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم، أم يجوز التغافل عنهم والإهمال؟ وما قدر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والملازم عليه؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى، إنّه على كل شيء قدير, وحسبنا الله ونعم الوكيل.
 
37

26

الدرس الثالث: تاريخ التشيّع في لبنان (3) بلاد كسروان

وحرق أشجارهم، وأنّ قتالهم (الكسروانيين) وقتال النصيرية (العلويين) أولى من قتال الأرمن, لأنّهم عدوّ في دار الإسلام، وشرّ بقائهم أضرّ.

 

الحملة الثالثة:

وبناءً على هذه الفتوى جهّز آقوش سنة 1305م جيشاً كبيراً، بلغ خمسين ألف محارب، وبدأ بغزو المناطق الكسروانية من الشمال، فعرفت بالفتوح[1] (فتوح كسروان) وسقطت كسروان بعد أحد عشر يوماً من القتال. فخرّب آقوش ضياعهم وقطّع كرومهم ومزّقهم، وملك الجبل عنوة، ووضع فيه السيف، وأسر ستمئة رجل، وغنمت العساكر منهم مالاً كثيراً، والسالم منهم تفرّق في جزّين وبلادها والبقاع وبلادها بعلبك، وبعضهم أعطته الدولة أماناً. وكانت أولى النتائج لتفريغ هذه المنطقة من سكّانها الشيعة، أن بدأت الهجرة المارونية إليها على نطاق واسع من شماليّ لبنان، لتغدو فيما بعد منطقة مارونية إلى يومنا هذا. وقد أصبحت جزّين مركزاً هامّاً للتجمّع الشيعيّ المستتر بالشافعية، خلال القرن الرابع عشر.

 

نتائج الحملات

لقد نتج عن هذه الحملات والحروب عدّة أمور انعكست على الشيعة ومناطقهم، منها:

- ازدهار بعلبك بالزراعة والصناعة والتجارة والعلم.

 - ظهور مقدّمية جزّين التي كانت نواة لنهضة علمية شيعية كبيرة فيما بعد، ومقدّمية أخرى في مشغرة على أيدي عائلة صبح. 

 

منع الشيعة من ممارسة شعائرهم الدينية, فاعتمدوا مبدأ التقيّة، وأعلنوا انتماءهم للمذهب الشافعيّ، واستمرّ هذا الوضع حتّى قيام الحركة الشيعية على يد الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ سنة 1383م.

 

 

 


 

 [1]أي عرفت منطقة كسروان بـ: "فتوح كسروان".

38

27

الدرس الثالث: تاريخ التشيّع في لبنان (3) بلاد كسروان

 المفاهيم الرئيسة

 
1- بعد سقوط المدن اللبنانية الساحلية بأيدي الصليبيين انتقل الوجود الإسلاميّ إلى الجبال المجاورة (كسروان).
 
2- كان الناس إذا أرادوا أن يكيدوا لشخص دسّوا عليه من رماه بالتشيّع, فتصادر أملاكه وتنهال عليه العقوبات والإهانات حتى يُظهر التوبة عن التشيع.
 
3- استفاد الشيعة من مناعة مناطقهم الجبلية في كسروان، وتمتّعوا باستقلال تامّ عمّن يجاورهم من الصليبيين في المدن الساحلية، وعمّن يجاورهم جنوباً وشرقاً من مذاهب أخرى.
 
4- أراد الكسروانيون الشيعة أن يثأرو, فتجدّد القتال سنة 1203م، فسارع المماليك إلى إرسال قوّة كبيرة إلى كسروان والجُبيليين، فوقعت معركة كبيرة عند مدينة جبيل.
 
5- عمد ابن تيمية إلى إصدار فتوى بهدر دماء الشيعة الكسروانيين، وهدم بيوتهم وحرق أشجارهم، وأنّ قتالهم (الكسروانيين) وقتال النصيريّة (العلويين) أولى من قتال الأرمن, لأنّهم عدوّ في دار الإسلام، وشرّ بقائهم أضرّ.
 
 
 
39 
 

28

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 الدرس الرابع:

مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف واقع الشيعة في ظلّ الدولة العثمانية والنظام الإقطاعيّ.
2- يدرك دور آل حرفوش والعامليين في حفظ الحضور الشيعي في لبنان.
3- يفهم جوانب من ومقاومة آل حرفوش والعامليين للدولة العثمانية.
 
41 

29

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 أصول آل الحرفوش

ترجع أعراق بني الحرفوش إلى المنطقة الجبليّة شرق "بعلبك" - كما ورد في نصٍ فريدٍ -  في منطقة "الجُبّة" و"عسال الورد" (داخل الحدود السوريّة اليوم) في القرن التاسع الهجري، حيث كانوا مقدّميها[1]. وقد كانوا على خصام دائم على المقدّميّة مع أسرةٍ شيعيّة أخرى، هم بنو العوطة. وقد بدأت الأسرتان بالهبوط نحو السهل. فاستقرّ بنو العوطة في الهضاب الشرقيّة المشرفة عن قربٍ على "بعلبك"، حيث ما يزالون حتى اليوم. أمّا بنو الحرفوش فقد سلكوا الدروب الملتوية في الأعالي الجنوبيّة، ليستقرّوا في بلدة "سرعين" جنوب "بعلبك" مدّة من الزمن. ومنها تابعوا هبوطهم إليها، ليتّخذوها قاعدة لإمارتهم التي حكمت المنطقة عدّة قرون.
 
وعندما انهارت دولة المماليك أمام سطوة الجيش العثماني، بقي بنو الحرفوش على إمارتهم في "بعلبك" وما والاها ثمّ إنّ الأمير موسى الحرفوشي - أوّل من نعرفه باسمه من أمرائهم - شارك جان بردي الغزالي ثورته على سادته العثمانيين, كما خاض مع أحد قادة الغزالي، المسمّى قانصوه المقرقع، معركة "جوسيّة" ضدّ العثمانيين، على الحدود اللبنانيّة - السوريّة اليوم، سنة 924هـ/ 1518م, أي بعد الفتح العثماني بسنتين. ولكن لا شكّ أنّ هذا الأمر لم يكن الأوّل من بيته، بل سبقه غيره ممّن ضاعت أسماؤهم. والحقيقة أنّ الأمير عليّاً بن موسى (حكم: 944 - 999هـ/ 1537 - 1590م) هو الذي أرسى دعائم بيته في سُدّة الإمارة، حيث انتزع
 
 
 

 
[1] المهاجر، ش جعفر، شيعة لبنان والمنطلق الحقيقي لتاريخه (م.س).
42

30

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 أوّل أمره الإمارة انتزاعاً من السلطات العثمانيّة. ثمّ إنّه أثناء مدّة حكمه الطويلة مضى بالدهاء والحنكة فضمّ إلى منطقة حكمه، بالإضافة إلى "بعلبك"، لواء "حمص" ولواء "تدمر". وجعلها جميعها ولايةً مستقلّة عن باقي ولايات "الشام"

بل وفرض أن تكون وحدةً إداريّةً تحت حكمه، لا يحقّ للدولة اقتطاع أيّ جزءٍ منها، وأن يُعفى التجّار والزعماء فيها من الخدمة العسكريّة الإلزاميّة. والمتأمِّل في عناصر هذه السياسة المفروضة يستنتج بسهولة أنّه عمل على تكوين كيانٍ سياسيٍّ وإداريٍّ بحكمه يتمتّع بحظٍ من الاستقلال الداخليّ، خلافاً لكلّ الولايات التابعة للدولة. ولم تتمكّن الدولة من
 القضاء عليه إلا غدراً، بعد أن نزل "دمشق" ضيفاً على واليها محمد بن سنان باشا، فقبض عليه، وأمر بقتله, فضُرِبت عنقه في قلعتها، وحُمل رأسه إلى "استامبول".
 
آل حرفوش أمراء بعلبك
بعد الأمير علي المؤسّس تعاقب على الحكم في "بعلبك" ثلاثون أميراً حرفوشيّاً عدّاً، مدّة زهاء ثلاثة قرونٍ ونصف. أبرزهم الأمير يونس بن حسين (حكم: 1017 - 1035هـ/ 1608 - 1625م)، الذي يذكّرنا، ببعد نظره وحنكته السياسيّة وشجاعته، بجدّه الأمير علي بن موسى. وهو الذي بنى أوّل مسجد للشيعة في "بعلبك". وهذا أمرٌ له دلالته السياسيّة والاجتماعيّة غير الخفيّة. كما عمل على وصل شيعة "بعلبك" جغرافياً بإخوانهم في "جبل عامل".
 
الشيعة والدولة العثمانية
لم يكن حال الشيعة في عصر الأتراك بالإجمال أسعد حالاً وأنعم بالاً من بقية الطوائف وأهل المقاطعات، بل كانت وطأة الترك عليهم أشدّ وقعاً، وظلمهم أعظم أثراً. وقد نال الشيعة من أذاهم وأضرارهم الشيء الكثير بسبب الفروق المذهبية
 
43

31

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

والتعصّب الديني، فنكّلوا بعلمائهم واستحلّوا دماءهم وشتّتوا شملهم وصادروا مكتباتهم وجعلوا مؤلّفاتهم طعاماً للنار، وساروا بالبلاد على سياسة الافتقار والتدمير وجمع الأموال.
 
مساوئ النظام الإقطاعيّ
وكان من مساوئ النظام الإقطاعيّ ونظام المِلل أنّ الولاة والحكام راحوا يبنون علاقاتهم وتصرّفاتهم على أساس الرّبح الشخصيّ، فكانوا ينهبون أموال المسلمين ويستحلّون أعراضهم ويتلفون مزروعاتهم. وهنا يظهر بوضوح دليل إجبار المسلمين الشيعة في عهد الإمارة المعنية والإمارة الشهابية على هجرة مناطقهم وقراهم في البترون وبشرّي وجبيل ومناطق
 واسعة من جبل لبنان مرّة أخرى بعد نكبة كسروان في عهد المماليك, فهذا الأمير أحمد المعني مثلاً يتحالف مع الأتراك 
- جيش الدولة - ضدّ أبناء جبل عامل في معركة عيناثا سنة 1659م ومعركة النبطية سنة 1666م ومعركتي أنصار ووادي الكفور سنة 1667م.
 
الصراع العثماني – الصفوي وتأثيره على شيعة لبنان
نال الشيعة في لبنان من أذى العثمانيين الشيء الكثير، خصوصاً عندما كانت تنشب الحروب بين العثمانيين والصفويين، وعندما يكون الصلح قائماً بين الطرفين كان الشيعة ينعمون بشيء من الحرّية. حاول الشيعة في جبل عامل الاستفادة من هذا الوضع القائم، فقد تقرّبوا من الدولة العثمانية، لكنّهم لم يفكّوا عُرى التعاون مع الصفويين, فالشهيد الثاني الشيخ زين الدين الجبعي العاملي كان يدرّس في بعلبك بعد أخذ الإذن من الدولة العثمانية، في الوقت الذي كان العلماء العامليون يتقاطرون على
 
 
44
 

32

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 بلاط الصفويين الإيرانيين، ويتولّون مناصب الإفتاء والتدريس[1]. هذا الترابط ترك آثاره في علاقة العامليين الشيعة بالدولة العثمانية.

 
 
 

 
[1] كالمحقّق الكركي: الشيخ علي بن الحسين بن عبد العالي الكركي العاملي (ت 868 - 940هـ.ق.، يعرف بالمحقّق الثاني، ولد في كرك نوح التي كانت معقلاً للشيعة في البقاع من لبنان منذ الفتح الإسلامي، بسبب وجود بعض القبائل الموالية للإمام علي عليه السلام مع الجيوش التي فتحت بلاد الشام، ودخلت البقاع أمثال الهمدانيين وخزاعة. ولد المحقّق الثاني في هذا البلد العريق في تشيّعه، فدرس الفقه على المذهب الشيعي في بلده على شيوخ العلم في زمانه، كالشيخ علي بن هلال الجزائري، ثم خرج طالباً لعلوم الفرق الإسلامية، فهاجر إلى مصر، لدراسة فقه المذاهب الأربعة، فأخذ هناك من علمائها، وحصّل الإجازات من شيوخها بالرواية، خصوصاً الصحاح الستّة، وبالأخصّ صحيح البخاري وصحيح مسلم وموطّا مالك ومسند أحمد بن حنبل. وبعد ظهور الدولة الصفوية، احتاجت في أوّل أمرها إلى فقهاء يعلّمون الناس أمور دينهم، ويتولّون منصب القضاء لإدارة شؤون الناس، وكان لعلماء جبل عامل السهم الأوفر في هذا المضمار، فقد هاجروا إلى إيران وتولّوا أمور الدولة، وكانت بلدة المحقّق الكركي تعجّ بالعلماء، حيث كان فيها أكثر من ثلاثين عالماً، فهاجروا إلى إيران، وفوّض الشاه الصفوي إليهم تنظيم شؤون الدولة، حسبما يقتضيه الشرع الحنيف، وقد شغل علماء جبل عامل في الدولة الصفويّة مناصب حسّاسة ومهمّة، منها: الأمير وشيخ الإسلام ونائب الإمام والمفتي ومروّج المذهب. وكان الشيخ الكركي على رأس المهاجرين في أوّل نجاح الشاه إسماعيل، فوّلاه منصب شيخ كرك وجبل عامل يحثّهم على النهوض إليه للجهاد في نشر الدين الحنيف، ولمّا توافر لديه عدد من رجال الدين، عيّن في كلّ بلد وقرية إماماً يعلّم الناس شرائع الإسلام، ويؤمّهم في الصلاة، ثم نصّب نفسه لتعليم كبار رجال الدولة كالأمير جعفر وزير الشاه، وأمدّه الشاه إسماعيل بسبعين ألف دينار شرعي سنوياً ليصرفها على المدارس، ولمّا تولّى الشاه طهماسب سنة 930، قرّب المحقق الكركي ولقّبه نائب الإمام، وكان علماء الكرك يبعثون الرسائل إلى إخوانهم في كرك وبعلبك وجبل عامل يحثّونهم على الالتحاق بأصفهان، فالمحقق الكركي أرسل إلى الشيخ حسين بن عبد الصمد، والد الشيخ البهائي، وأغراه بالسفر إليه. ثم لعب الكركيون دوراً فعالاً في تنظيم الحياة العلميّة والثقافيّة والاقتصادية والعمرانية في إيران, إذ فتحوا المدارس وصرفوا على الطلاب، ونظّموا الخراج والقضاء، وضبطوا اتّجاه القبلة في أكثر بلاد العجم، وهندسوا المساجد والمآذن والقباب، وألّفوا الكتب في الدفاع عن مذهبهم، وردّوا على علماء السنّة ورهبان النصارى.
قال المحقق البحراني: جعل (الشاه طهماسب) أمور المملكة بيده (المحقق الكركي)، وكتب رقماً إلى جميع الممالك بامتثال ما يأمر به الشيخ المذكور، وكتب أيضاً أن أصل الملك إنّما هو للمحقق الكركي, لأنّه نائب الإمام عليه السلام. وقال السيد نعمة الله الجزائري في كتابه "شرح غوالي اللآلي": "مكّنه السلطان، العادل الشاه طهماسب من الملك والسلطان وقال له: أنت أحقّ بالملك, لأنّك نائب عن الإمام، وإنّما أكون من عمّالك أقوم بأوامرك ونواهيك" وأكّد أيضاً "أنّ معزول الشيخ لا يستخدم ومنصوبه لا يعزل".
وكتب الشاه طهماسب، أيضاً، بخطّه في جملة ما كتبه في حق هذا المولى: "... حيث إنّه يبدو ويتضّح من الحديث الصحيح النسبة إلى الإمام الصادق عليه السلام "انظروا إلى من كان منكم، قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته حاكماً، فإذا حكم بحكم فمن لم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ وهو رادّ على الله وهو على حدّ الشرك"، وأوضح أنّ مخالفة حكم المجتهدين الحافظين لشرع سيّد المرسلين، هو والشرك في درجة واحدة, لذلك فإنّ كلّ من يخالف حكم خاتم المجتهدين ووارث علوم سيّد المرسلين، نائب الأئمّة المعصومين، لا زال اسمه العلّي عليّاً عالياً، ولا يتابعه فإنّه لا محالة ملعون مردود وعن مهبط الملائكة مطرود سيؤخذ بالتأديبات البليغة والتدبيرات العظيمة... كتبه طهماسب بن شاه إسماعيل الصفوي الموسوي. فالمحقّق الكركي يعتبر باعث النهضة الشيعية في إيران ومجدّد المذهب وواضع الأسس الشرعيّة الدستورية للدولة الصفوية.
45

33

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 آل حرفوش3 ومشروع الإمارة الشيعية الكبيرة

وبالعودة إلى التمركز السكّاني الشيعي في لبنان، فإنّ عائلة شيعية (آل حرفوش) ذات جذور عربية خزاعية تمركزت منذ الفتح الإسلامي الأوّل في البقاع، وبرزت إلى الواجهة السياسية في القرن السادس عشر الميلادي، عندما تسلّموا حكم البقاع بعد مقتل منصور الفُريخ على يد والي دمشق العثماني بوشاية فخر الدين الثاني عام 1593م، ولمع اسم الأمير موسى الحرفوش الذي اشترك في قتل ابن فريخ، ثمّ تسلّم حكم البقاع مكانه الأمير يونس الحرفوش الذي كان له شأن كبير في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، وكان على وفاق مع الأسر الشيعية في جبل عامل "ولبنان"، وكان يحسن وفادتهم في أيام ضيقهم. وقد برز من هذه العائلة أيضاً عدد من الأمراء والعلماء، ثم راحوا يتطلّعون لمدّ نفوذهم إلى مناطق خارج بعلبك والبقاع ما سيؤدّي إلى نزاع وتخاصم بينهم وبين المعنيين، خصوصاً في عهد فخر الدين. وقد برز 
الدور الريادي لآل حرفوش في تجميع الشيعة، بعد تدهور نفوذ الأمير المعني فخر الدين، فتوحّد آل حمادة وآل حرفوش بعد مهاجمة فارس شهاب بعلبك، فهُزم الشهابيّ المذكور.
 
 

34

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 معركة عنجر

وفي عهد الأمير يونس الحرفوش كانت العلاقات مع الأمير المعني فخر الدين قد تطوّرت، وتمّت المصاهرة بين الأسرتين، بعد زواج أحمد يونس الحرفوش بفاخرة كريمة فخر الدين عام 1618م. لكنّ هذا التقارب سرعان ما تعكّر عندما حاول الأمير يونس الحرفوش مدّ نفوذه جنوباً نحو سنجقية صفد، ومن ضمنها جبل عامل, ما دفع الأمير فخر الدين إلى الإيقاع بيونس الحرفوش والعمل على ضربه، خصوصاً أنّ فخر الدين شعر بالتعاطف القويّ المتبادل بين العامليين والحرافشة. هذا التقارب أقلق فخر الدين الذي أخذ يعدّ العدّة ضدّ حلفاء الأمس، إلى أن جاءت سنة 1618م، فقرّر صهر فخر الدين الأمير أحمد يونس الحرفوشي بناء قصر في "مشغرة"، وصار يراسل المشايخ المتعيّنين من بني داغر وأولاد علي الصغير وابن منكر، ما أقلق فخر الدين وأدّى إلى معركة عنجر الشهيرة سنة 1623م والتي أُسِر فيها الوالي الذي كان حليفاً للأمير الحرفوشي، وانتهى البقاع إلى فخر الدين حتّى سنة 1633م عندما اعتُقِل فخر الدين ونُقل إلى الأستانة، وسرعان ما استعاد آل حرفوش في نهاية القرن السابع عشر الميلادي قوّتهم على بلاد البقاع.
 
آل حرفوش ملاذ شيعة لبنان
وبالتقييم العام يمكننا أن نستنتج أنّ آل حرفوش كانوا ملاذاً لإخوانهم الشيعة، سواء في بلاد جبيل من آل حمادة أم للعامليين من آل منكر. وقد لاقت رغبة يونس الحرفوش بمدّ نفوذه إلى أبعد من البقاع تجاوباً لدى العامليين الذين كانوا يتوُقون للتخلّص من سيطرة آل معن. ويبدو أنّ العامليين كانوا يتّصلون بالحرافشة على أساس الجامعة المذهبية فقط، فإنّ العامليين والبعلبكيين يشتركون في اعتناق التشيّع منذ العهد الأوّل، وهكذا كان تطلّع العامليين ناحية آل حرفوش، ضمن السياق العامّ الذي تطلَّع من خلاله العامليون إلى من يخلّصهم من تحكّم المعنيين.
 
47

35

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 كيف قاوم العامليون تسلّط الأمراء والحكّام وولاة الدولة وظلمهم؟

أصيب الشيعة في لبنان عامّة وفي جبل عامل خاصّة بالبلاء والمحن جراء الاضطهاد التركيّ والاستعانة بأهل المقاطعات المجاورة من أنصارهم، فأصبحت بلاد عاملة عرضة للغارات من كلّ حدب وصوب، فاشتبك العامليون – يقودهم علماؤهم وزعماؤهم – مع أعدائهم في حروب دامية، رخصت فيها النفوس واستُهينت الأرواح.
 
لقد كان توالي تلك الحروب الطاحنة، وتألّب الطوائف المجاورة على أبناء جبل عامل لاختلافهم عنهم، سبباً أوّليّاً لوقوفهم وقفة الأبطال دفاعاً عن أوطانهم، وحفظاً لكيانهم. وقد خلق منهم هذا الإرهاق الشديد شعباً حربيّاً باسلاً يهزأ بالمنايا ويرى الموت حياة خالدة تحت شفار السيوف. وانصرف الشعب العامليّ كلّه في ذاك العهد لممارسة فنون الحرب، وكان لا همّ له في فترات السلم إلّا شحذ السيوف وتسديد المرمى والكرّ على ظهور الخيل يعلّمونه أولادهم منذ الصغر لا يعبؤون بذهب يُجمع أو ذخر يُرفع أو قصر يُبنى أو غرس يُجنى، ولم يكن فخرهم إلا بعدوٍّ يُغلب.
 
وكان الشعب العامليّ مدرّباً على الطاعة، ينفرون كباراً وصغاراً في حالة الخطر للدفاع عن وطنهم، والانضواء تحت لواء القادة عند أوّل إشارة. وكانت قصائدهم وأهازيجهم وشعرهم الزجليّ حماسية محضة، تكاد تكون مقصورة على التباهي بالنصر والظفر والحثّ على خوض المنايا والموت في سبيل الذود عن الوطن والكيان. وزادهم عزّة في نفوس جيرانهم الظفر الخاطف والسريع الذي كانوا يحقّقونه في المعارك التي يخوضونها.
 
دور حكّام المقاطعات العاملية
كانت سلطة الدولة العثمانية سلطة اسمية، لا يهمها إلّا تحصيل الضرائب. وكان حكّام المقاطعات العاملية مطلقي اليد 
في مقاطعاتهم، لا رقيب على أعمالهم سوى سلطة العلماء. لم يكن العامليون في زمن الأمراء الشهابيين أحسن حالاً ممّا 
كانوا عليه
 
48

36

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 في زمن من سبقهم من الأمراء المعنيين. ثمّ إنّ السلطة العثمانية كانت عبر ولاتها وموظّفيها من الأمراء والمقدَّمين وغيرهم ترى أنّ الأوضاع تقتضي أن لا يبرز فقهاء شيعة أو حكّام ومشايخ، لأنّ ذلك يتواصل في المبدأ مع مفهوم الشرعية المعلن عند عدوّتها اللدود، الدولة الصفوية، التي استعان حكّامها بالفقهاء المجتهدين في إدارة شؤون البلاد في الكثير من المواقع[1]، في مقابل مبدأ الخلافة عند العثمانيين. ومن أجل ذلك أرهقت الدولة العثمانية العامليين بالحروب المتواصلة والذرائع التعسّفية كي لا تقوم لهم قائمة، وهذا ما جعل العديد من علمائهم الكبار يهاجرون إلى إيران. ورغم ذلك فإنّ العامليين اتّصفوا بالشجاعة والإقدام والتضحيات ومكافحة المعتدي الدخيل وردّ الغارات. وكانوا إذا هاجمهم الأعداء أو أراد بهم حاكم أجنبي عن بلادهم شرّاً، هبّت المقاطعات كلّها هبّة رجل واحد، واتّحدت كلّها لصدّ المعتدي بقوّة السلاح، لا فرق بين صغير وكبير وغني وفقير.

 
وخير دليل على ذلك ما خاضه العامليون من معارك دفاعاً عن أنفسهم وأرضهم وعائلاتهم وعقيدتهم.
 
محاولات اقتلاع الشيعة من أرضهم
وفي المقابل فقد استمرّ النهج السابق للولاة والأمراء وبتنسيق محكم لإضعاف الشيعة واقتلاعهم من أرضهم، تماماً كما حدث في كسروان من قبل. وإلّا فما معنى الذريعة التي تذرّع بها ملحم الشهابي من أنّه يفتّش عن خصمه علي علم الدين، فيهاجم قرية أنصار سنة 1743م والقوم عزّل من السلاح، ويذبح منهم ألفاً وأربعمئة رجل، وهم يؤدّون صلاة الجمعة، ثمّ أتبع ذلك بمعارك مرهقة في مرجعيون ودير قانون.
 
 
 

 
[1]  سكنوا بعلبك وكرك نوح، ومن أشهرهم الأمير علي بن موسى الحرفوش(1537-1590م)"إنّ الوثائق العثمانية الرسمية تؤكّد، من خلال ذكر بعض أخبار الأمير علي والمراسلات المتعلّقة به، أنّه كان من أعظم أمرآء بلاد الشام سلطاناً ونفوذاً في عصره، وربّما في العصور العثمانية اللاحقة. واستمرّوا في الحكم إلى العام 1868 م (منتصف القرن التاسع عشر) حيث فتكت بهم الدولة ونفتهم خارج بلادهم، وذلك عام 1868 - 1869، وعيّنت لهم معاشات، ثمّ سكنوا اسطنبول، ودخلوا في وظائف الدولة العليا حتى صار منهم رئيس شورى الدولة المشير نصرت باشا، وبقي منهم بقيّة في تمنين وسرعين وشعث والنبيّ رشادي في قضاء بعلبك. ثمّ ما لبث أن عاد معظمهم على دفعات، وبقي بعضهم في تركيا (ذريّة أمين بن قبلان) وبعضهم الأخر انتقل من إسطنبول الى مصر (من ذريّة كلّ من حسين ومحمد أولاد الأمير أحمد الحرفوش حصراً).
ورد اسم ابن الحرفوش لأوّل مرّة كنائب عن بعلبك في حوادث سنة 390هـ 1497م، فكان في عداد المشاركين في حصار دمشق مع الدوادار أقبردي الذي ناصره من المقدّمين شيخ بلاد نابلس حسن إسماعيل، و نائب بعلبك ابن الحرفوش، ومقدّم الزبداني ومقدّم التيامنة ابن بشارة، ومنذ ذلك التاريخ حتى وقت مبكر من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ستبقى سلالة هذا النائب بارزة في جميع التطورات التي شهدتها مدينة بعلبك وبلادها. وبذلك تكون مدّة حكمهم ما يقارب ثلاثة قرون ونصف القرن من عام 1497م حتى 1865 م تاريخ القبض على الأمير سلمان، اتّسمت خلالها في كثير من الأحيان بالنزاع فيما بينهم والعصيان على الدولة وتبديل التحالفات فيما بينهم وبين الأسر الحاكمة المحيطة بهم. كما جاء في كتاب الثورة الشيعية في لبنان لسعدون حمادة أنّ أوّل إشارة لهم وردت في يوميّات الرحالة المملوكي ابن طوق عام 1480م، عن كتاب التأسيس لتاريخ الشيعة، المهاجر ص 113. وقد ذهبت تواريخهم مع الحوادث، ولم يبقَ منها إلا النزر اليسير.
4-   فقد فوّض الشاه طهماسب الصفوي الفقهاء، وعلى رأسهم المحقّق الكركي (الفقيه العاملي) سلطةً واسعةً في بلاد إيران في القضاء  والفتيا وإقامة الجمعات، وجمع الأخماس والزكوات، والنصب والعزل كما فصّلناه سابقاً...
49

37

الدرس الرابع: مقاومة آل حرفوش والعامليين للعثمانيين وغيرهم

 المفاهيم الرئيسة

 
1- لم يكن حال الشيعة في عصر الأتراك بالإجمال أسعد حالاً وأنعم بالاً من بقيّة الطوائف وأهل المقاطعات. وقد نال الشيعة من أذاهم الشيء الكثير بسبب الفروق المذهبية والتعصّب الديني.
 
2- كان من مساوئ النظام الإقطاعي ونظام المِلل أنّ الولاة والحكام راحوا يبنون علاقاتهم وتصرّفاتهم على أساس الرّبح الشخصي، فكانوا ينهبون أموال المسلمين ويستحلّون أعراضهم.
 
3- الشهيد الثاني الشيخ زين الدين الجبعي العاملي كان يدرّس في بعلبك بعد أخذ الإذن من الدولة العثمانية، في الوقت الذي كان العلماء العامليون يتقاطرون على بلاط الصفويين الإيرانيين.
 
4- إنّ عائلة شيعية ذات جذور عربية خزاعية تمركزت منذ الفتح الإسلاميّ الأوّل في البقاع.
 
5- برز الدور الريادي لآل حرفوش في تجميع الشيعة، بعد تدهور نفوذ الأمير المعني فخر الدين، فتوحّد آل حمادة وآل حرفوش بعد مهاجمة فارس شهاب بعلبك، فهُزم الشهابي المذكور.
 
6- في عهد الأمير يونس الحرفوش كانت العلاقات مع الأمير المعني فخر الدين قد تطوّرت، وتمت المصاهرة بين الأسرتين. وسرعان ما استعاد آل حرفوش في نهاية القرن السابع عشر الميلادي قوّتهم على بلاد البقاع بعد سقوطها في معركة عنجر الشهيرة.
 
7- أصيب الشيعة في لبنان عامّة وفي جبل عامل خاصّة بالبلاء والمحن من جراء الاضطهاد التركيّ.
 
8- كان الشعب العاملي مدرّباً على الطاعة، ينفرون كباراً وصغاراً في حالة الخطر للدفاع عن وطنهم، والانضواء تحت لواء القادة.
 
50

38

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 الدرس الخامس:

شيعة لبنان في مواجهة الغزو الصليبي

 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف أسباب مواجهة شيعة لبنان للغزو الصليبيّ.
2- يعرف أساليب مواجهة العامليين للغزو الصليبيّ.
3- يدرك آثار ونتائج مواجهة الشيعة للغزو الصليبيّ.
 
51

39

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 كيف بدأت الحركة الصليبية؟

بدأت الحركة الصليبية في جنوبيّ فرنسا منذ أواخر القرن الثالث الهجريّ/ التاسع الميلاديّ، وكانت موجّهة في البداية ضدّ الأندلس والمماليك الإسلامية الأوروبية. وفي عام 1088م اعتلى العرش البابويّ "أربانوس الثاني" وهو من بابوات الحيّ اليهوديّ... وقد اعتلى إحدى المنصّات في مدينة "كليرمونت" الفرنسية ليزفّ للجماهير نبأ إعلان الحروب الصليبية، وقد ابتدأ بالقول: "انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم تستخدمونها ضدّ إخوانكم، ووجّهوها ضدّ أعدائكم، أعداء المسيحية. قاتلوا أعداءكم الذين استولوا على مدينة القدس"[1]... وهكذا بدأت الحملة الصليبية الأولى.
 
بدأت هذه الحملة اجتياحها لبلاد الشرق الإسلاميّ بعد أن اجتازت القسطنطينية، وهزمت السلاجقة المسلمين، وأسّست أوّل إمارة صليبية في الرّها، ثمّ خرجوا إلى أنطاكية واحتلّوها، وأسّسوا فيها إمارة صليبية ثانية، واندفعوا نحو بلاد الشام مروراً بالساحل الشماليّ للبنان.
 
 
 

 
[1] لمّا عادت للبابوية قوّتها بعد موت هنري الرابع "Henri iv"، تطلّعت البابوية إلى تأسيس حكومة في الشرق تجمع بين السلطتين الزمنية والدينية, ولذلك حرّضت البابوية على الحروب الصليبية، حيث اتّخذ البابا أربانوس الثاني "urbanus ll1099" ـ م1088، المعروف بتعصّبه ضد المسلمين عندما كان راهباً لدير كلوني، والذي غذّى حرب المسلمين في الأندلس، وادعى أنّ الحجاج المسيحيين يلاقون الاضطهاد والأذى أثناء زيارتهم إلى بيت المقدس، اتّخذ من ذلك ذريعة لحرب المسلمين، وكان هذا البابا يرى بأنّ وظيفة البابوية الأساسية هي القيادة العليا للحرب المقدّسة، ثمّ إنّ الحروب الصليبية هي بمثابة سياسة البابوية الخارجية، فهي التي تديرها وتتحرّك وفقها، والبابوات هم الذين نظّموا الحرب ووجّهوها.
52

 


40

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 كيف واجه الشيعة الغزو الصليبيّ؟

وأوّل من اعترض هذه الحملة مدينة صيدا والقرى المجاورة لها، فقد تعرّضوا للصليبين أثناء زحفهم نحو بيت المقدس. وصمدت مدينة صيدا، وظلّت تنعم بالهدوء والاستقرار بحماية الأسطول الفاطميّ من البحر، وقوّات طغتكين أتابك دمشق السلجوقيّ[1]. لكنّ طرابلس، التي استبسلت بالدفاع عن نفسها زمن حكم "بني عمار"[2] لها، جعل الصليبيون يضيّقون الخناق والحصار براً وبحراً عليها, فسقطت عام 1109م بعد انقطاع الإمدادات عنها. وكان لسقوط طرابلس وقع كبير على بقيّة المدن اللبنانية الساحلية, فسقطت بيروت عام 1110م، ثمّ صيدا في آخر العام نفسه. وبسقوطها تكون المنطقة الجنوبية من لبنان الحاليّ قد أصبحت، ما عدا مدينة صور، بأيدي الصليبيين.
 
 
 

 
[1] أتابك (الأصل آتا = أبٌ، بك = سيّد)لقب تركي أطلقة السلاجقة على بعض رجال البلاط والوزراء والقادة، يعني القائد أو الحاكم العسكري. تمكّن بعض الأتابكة من السيطرة على الحكم في القرن 12 في بلاد فارس وبلاد الشام. أشهرهم أتابكة آذربيجان وفارس وسلالة بوري بن طغتكين في دمشق والزنكيون في الموصل والشام (1104-1128).
[2] يرجع نسب بني عمار إلى قبيلة كتامة الأمازيغية البربرية المغربية الأفريقية، وقد اعتنق الكتاميون الإسلام في بداية القرن الثامن الميـلادي (710م) مع وصول الفتح الإسلامي إلى مناطقهم، بعدمـا تفهّموا أهـداف الفاتحين الجدد غير المادية، ومبادئهم غير المعقدّة عكس من سبقوهم، فتعاونـوا جميعًـا على طـرد البيزنطيين والرومـان وتحرير البلاد نهائيًا. وأدّى اندمـاج مبادءهم العنصرين إلى تكويـن مجتمع جديـد على أسـس ونهج جديـدين، ونتج عن ذلك قيام ممالك بربريـة معروفة. وقد خضعت أقاليـم كتامـة لسيطـرة الأغالبـة، ثمّ الزيريين(ثم الحماديين ثم الموحدين). وقد كانت لهـم ممالك مستقلّـة وقادة عظمـاء في تلك الفترة. وعندما قامت الدولة الفاطمية اعتنق الكتاميون المذهب الشيعي الإسماعيلي، ولم يُعلم زمن انتقالهم إلى المذهب الجعفري بالتحديد، والظاهر أنّ هذا الأمر حصل بعد انتقالهم إلى الشام، والقدر المتيقّن أنّهم عندما استقلّوا بدولتهم فيها كانوا على مذهب الشيعة الاثني عشرية. وبقيت طرابلس بأيديهم نحوًا من 40 سنة، حتى انتزعها منهم الصليبيون سنة 502 هجرية، وكان أهلها في ذلك العصر شيعة اثني عشرية.
قال السيد محسن الأمين (ره) في أعيانه: طرابلس أو أطرابلس بالهمزة، مدينة في ساحل بحر الشام، كان أهلها شيعة في عصر الشيخ الطوسي في القرن الرابع وما بعده (...) ثمّ انقرض منها التشيّع بالعداوات والضغط، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشيعية.
ويقول ناصر خسرو في كتابه سفرنامة عندما زار طرابلس في القرن الخامس الهجري: وسكّان طرابلس كلّهم شيعة، وقد شيّد الشيعة مساجد جميلة في كلّ البلاد.
ويقول المستشرق آدم متز في كتاب "الحضارة الإسلامية": "وإذا كان ناصر خسرو قد وجد أهل طرابلس في عام (428هـ - 1037م) شيعة، فقد جاء ذلك من أنّ بني عمار، وهم إحدى الأسرات الصغيرة الكثيرة على الأطراف، كانوا هناك على مذهب الشيعة".
53

41

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 صمود مدينة صور

بنى الصليبيون قلعةً كبيرةً في بلدة "تبنين" لمراقبة حصار صور. وبقيت منطقة جبل عامل بعد سنة 1110م المنطقة الوحيدة التي تربط دمشق بميناء بحريّ هو صور, لذلك كان طغتكين أتابك دمشق يهتمّ كثيراً بإبقاء المنطقة نقطة ضعف 
مستمرّة، وأصبح تاريخها بعد سقوط صيدا مرتبطاً بمعركة ومصيرها مدينة صور.
 
تميّزت هذه المرحلة بتركّز الأعمال على الدفاع عن حاضرة جبل عامل الكبرى، مدينة صور، من أن تسقط بيد الفرنج. وذلك في ظلّ حالة الإحباط التامّ الشبيه بالشلل، التي كانت عليها القوّة السياسية والعسكرية في العالم الإسلاميّ بعد أن نجحت الحملة الصليبية الأولى في اختراقه والوصول إلى قلبه، لتحتلّ مدينة القدس وترتكب فيها واحدة من أبشع المجازر في التاريخ. الأمر الذي كشف كم كان العالم الإسلاميّ آنذاك هشّاً عاجزاً، لا حول له ولا قوة.
 
ولم يكن في وسع أبناء جبل عامل أن يُنظِّموا طاقاتهم الضئيلة، بالقياس إلى قوّة الأعداء، في سبيل الدفاع عن حاضرتهم (صور) دون سند خارجيّ. والحقّ أنّ الفضل في صمود المدينة زهاء ربع القرن يرجع أولاً: إلى استماتة أهلها في الدفاع عنها بكلّ ما وصلت إليه أيديهم من أدوات سياسية وعسكرية، وثانياً: ما تلقّوه من عون مباشر من إخوانهم أبناء جبل عامل في الملمَّات، وثالثاً: الدعم الذي تولّاه في تلك الأيام العصيبة الأفضل بن أمير الجيوش وزير الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وظهير الدين طغتكين أمير دمشق. والحقّ أنّ صور لم تسقط أخيراً بعد ذلك الصمود الطويل، إلّا بعد مقتل الوزير الأفضل، وعجز طغتكين وحده عن حمايتها في وجه تحالف كافّة القوى الصليبية، من محلية متعاونة وغازية، 
تحالفاً يهدف إلى إخضاع واحتلال المدينة بالذات.
 
فلقد كان لصمود صور ربع قرن من الزمن أثر كبير في نفوس المسلمين، لكنّ سقوطها بعد هذا الصمود المجيد ترك وهناً عظيماً فيهم، وبسقوطها غدا "جبل عامل" كلّه تحت الاحتلال الصليبيّ.
54 
 

42

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 جبل عامل منطلق الجهاد

بعد خمس وستّين سنة من الاحتلال الصليبيّ التامّ لجبل عامل، بدأ مجرى الأحداث، شيئاً فشيئاً ينعكس سوءاً على المحتلّين. والحقيقة أنّ هذا الانعكاس أخذ يتعاظم كلّما تقدّمت الأيام ليشكّل هجوماً مضادّاً على الاحتلال الصليبيّ، لكنّ هذا لم يحقِّق اتّصالاً بالأرض العاملية إلّا على يد خليفة نور الدين زنكي ووارث سلطانه صلاح الدين الأيوبي، حيث شهد سهل مرجعيون أوّل صدام كبير بين عسكر صلاح الدين والصليبيين، فتحقّق أوّل نصر كبير على القوات الصليبية المنظّمة والمتأهّبة، لكنّ الانعطاف الأكبر في تاريخ جبل عامل باتّجاه التحرير هو ما نشأ عن معركة حطّين[1] في تموز 1187م.
 
وما حدث كان أكبر بكثير من نصر عسكريّ، فهذه المعركة لم تتمخّض عن قتل قادة وأسر آخرين فقط، بل أنهت مملكة القدس التي استمرّت أربعاً وثمانين عاماً، كما تركت أمارات ومعاقل الصليبين في جنوبي الشام، ومنه جبل عامل، جسماً مشلولاً عاجزاً عن الدفاع عن نفسه، فتهاوت قلاعه الواحدة تلو الأخرى، وهكذا تحرّرت قلاع "الشقيف" و"تبنين" و"هونين" ومدينتا صيدا والصرفند. ومع هذا يرى المؤرِّخ السيد حسن الأمين أنّ صلاح الدين لم يستغلّ هذا النصر بالشكل المناسب، بل وأضاع نتائجه، ويعود ذلك لعدّة أسباب، منها: عدم مواصلة الكفاح بعد تحرير القدس، لتحرير باقي أرجاء الوطن. وأنّ صلاح الدين، كما يذكر المؤرِّخون، آثر الراحة بعد العناء، والتسليم بعد التمرّد، ولهذا أنهى حالة الحرب مع الإفرنج، واعترف بوجودهم، وسمّى ذلك هدنة. وأعاد إليهم بموجبها عدّة مدن مثل حيفا ويافا، وغيرهما[2].
 
 
 

 
[1] معركة حطّين معركة فاصلة بين الصليبيين وقوات صلاح الدين المسلمة، وقعت في يوم السبت 25 ربيع الثاني 583 هـ الموافق 4 يوليو 1187 م، بالقرب من قرية المجاودة، بين الناصرة وطبرية، انتصر فيها المسلمون، ووضع فيها الصليبيون أنفسهم في وضع غير مريح استراتيجياً في داخل طوق من قوّات صلاح الدين، أسفرت عن سقوط مملكة القدس، وتحرير معظم الأراضي التي احتلّها الصليبيون.
[2] الأمين، حسن، مستدركات أعيان الشيعة، ج2، الصفحة 356 (بتصرّف واختصار).
55

43

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 حسام الدين بشارة، البطل العامليّ المجهول

هو حسام الدين بشارة، بن أسد بن عامر بن مهلهل بن سليمان بن أحمد بن سلامة العامليّ. والمرجّح أنّ هذا الأمير وعسكره اشتركوا في معركة حطّين. وما ذلك الارتفاع واكتساب المكانة إلّا لأنّه أثبت كفاءته في ميدان القتال. وقد ولّاه صلاح الدين على عكا.
 
وغدت المنطقة الممتدّة من عكّا إلى صيدا محرّرة، بما في ذلك الأعالي الشرقية التي منها جبل عامل. ولم يبقَ بيد الصليبيين سوى حاضرة الجبل الساحلية "صور". وفي شهر رمضان 586هـ - 1190م غدا حسام الدين والياً على "بانياس"، ومع صفة حسام الدين الرسمية، إذ كان يعرف بـ "صاحب بانياس"، فإنّه كان يتّخذ قلعة تبنين مركزاً لعمليّاته 
العسكرية، لتضييق الخناق على صور المحتلة، ويتولّى وعسكره العامليّ حراسة البلاد الإسلامية من جانبها. وقد توفّي هذا
 البطل العامليّ بعد حياة مليئة بالجهاد في 598هـ - 1201م. وعلى الرغم من كلّ ما جرى، فإنّ المؤرِّخين يؤكّدون أنّ 
حسام الدين بشارة وعسكره الذي خاض به الحروب، هم عامليون. وقد نجح أولاده من بعده في إدارة إرث، أبيهم وكانت أمارتهم تضمّ: 
 
- "جبل هونين"، وقاعدتها بنت جبيل.
- ناحية تبنين، وقاعدتها تبنين.
- ساحل قانا، وقاعدتها قانا.
- ساحل معركة، وقاعدتها صور.
 
أي إنّها كانت تشمل القسم الأكبر من جبل عامل. وكذلك نجحوا في الاحتفاظ بإمارتهم طيلة العهد المملوكيّ, أي طيلة ثلاثة قرون ونيّف.
 
56

44

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 جزّين أرض حرّة

وكما أنّها ستصبح حاضرة علميّة، باعثة لنهضة عاملية متكاملة، كذلك كان لها دورها في الجهاد ومقاومة الاحتلال، وإن يكن دوراً منكوراً. وسوف نقف على هذا الدور وما فيه من جهاد وسعي إلى التحرير، وذلك عندما وصلها الإفرنج من الطور (قلعة شرقيّ عكا) وكان عددهم خمسمئة، وهم من أبطال الفرنج, فأخلاها أهلها ونزل الفرنج فيها، 
فتحدّر أهالي جزين من الجبل، أخذوا خيولهم وقتلوا عامّتهم وأسروا قائدهم وهرب من بقي منهم إلى صيدا، ولم يفلت منهم سوى ثلاثة.
 
يؤخذ من هذه الحادثة التي أُوجزناها باختصار أنّ جزين بقيت أرضاً طاهرة، لم يدنّسها الصليبيون، ولم تطرقها قدم محتلّ، وما كان من هؤلاء الناس، من أهل جبل عامل في مقارعة الاحتلال الصليبي وفي النصر، إشارة واضحة إلى تلك الواقعة الجليلة التي انتصر فيها أهل جزّين على عدوّهم بالذكاء والشجاعة والتصميم وحسن التخطيط.
 
وخلاصة القول: إنّ العامليين تغلّبوا على محنة الاحتلال، واستطاعوا أن يؤسّسوا مدارسهم، وأن يحتفظوا بوجودهم كاملاً، لا ينقصه الجهل المؤدّي إلى الذوبان والانحلال، وأن يظلّوا أمناء على رسالتهم الفكرية الأصيلة، "فحرسوا اللغة العربية وصانوا علومها في ذلك البحر الفرنجيّ الطاغي، وحرسوا علوم الشريعة وحفظوها وأورثوا الأجيال الآتية أمانة خالدة"[1].
 
 
 
 
 

 
[1] وعلى ما كان لأهل جبل عامل من أثر كبير في الجهاد، فإنّ دورهم جرى طمسه والتعتيم عليه.
57

45

الدرس الخامس: شيعة لبنان في مواجهةالغزو الصليبي

 المفاهيم الرئيسة

1- ابتدأ إعلان الحروب الصليبية بمجموعة شعارات منها: "انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم تستخدمونها ضدّ إخوانكم ووجّهوها ضدَّ أعدائكم، أعداء المسيحية. قاتلوا أعداءكم الذين استولوا على مدينة القدس".
 
2- بدأت هذه الحملة اجتياحها لبلاد الشرق الإسلاميّ بعد أن اجتازت القسطنطينية وهزمت السلاجقة المسلمين، وأسّست أوّل إمارة صليبية في الرّها، ثمّ خرجوا إلى أنطاكية واحتلّوها.
 
3- أوّل من اعترض هذه الحملة مدينة صيدا والقرى المجاورة لها، أثناء زحفهم نحو بيت المقدس، حيث تركّزت الأعمال على الدفاع عن حاضرة جبل عامل الكبرى، مدينة صور، من أن تسقط بيد الفرنج.
 
4- لم يكن في وسع أبناء جبل عامل أن يُنظِّموا طاقاتهم الضئيلة، بالقياس إلى قوّة الأعداء، في سبيل الدفاع عن حاضرتهم، دون سند خارجيّ.
 
5- لقد كان لصمود صور ربع قرن من الزمن أثر كبير في نفوس المسلمين، لكنّ سقوطها بعد هذا الصمود المجيد ترك وهناً عظيماً في المسلمين. وبسقوطها غدا "جبل عامل" كلّه تحت الاحتلال الصليبيّ.
 
6- شهد سهل مرجعيون أوّل صدام كبير بين عسكر صلاح الدين والصليبيين، حيث حقّق أوّل نصر كبير على القوات الصليبية المنظّمة والمتأهّبة.
 
7- غدت المنطقة الممتدّة من عكا إلى صيدا محرّرة، بما في ذلك الأعالي الشرقية التي منها جبل عامل. ولم يبقَ بيد الصليبيين سوى حاضرة الجبل الساحلية "صور".
 
8- بقيت جزّين أرضاً طاهرة لم يدنّسها الصليبيون، ولم تطرقها قدم محتل. وفي مشاركة هؤلاء الناس من أهل جبل عامل في مقارعة الاحتلال الصليبيّ إشارة واضحة إلى تلك الواقعة الجليلة التي انتصر فيها أهل جزّين على عدوّهم بالذكاء.
 
58

46

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 الدرس السادس:

دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع
 
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف سيرة الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي الجزيني.
2- يتعرّف إلى نشاطه العلميّ وتأثيره في تثبيت التشيّع.
3- يعرف دوره السياسي وجوانب من جهاده.
 
59 

47

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 قبس من سيرته

هو الشيخ محمّد بن مكّي (جمال الدين) بن محمّد (شمس الدين) بن حامد بن أحمد المطلبيّ الحارثيّ الهمداني النَّباطي الجزّيني (موطناً)، المعروف بالشهيد الأوّل.
 
ولادته ونشأته: ولد الشهيد الأوّل عام 734هـ في جزّين – جبل عامل -، والدته سيّدة علوية (من العراق)، والده الشيخ مكّي بن محمد بن حامد العامليّ، درس على والده، وتلقّى مبادئ العربية والفقه، كما تتلمذ في جزّين على الشيخ (أسد الدين الصائغ) الجزّيني أبي زوجته وعمّ أبيه. 
 
هجراته العلمية وأساتذته: لم يكتفِ الشهيد بالعلوم التي تلقّاها في مسقط رأسه جزّين، فرحل إلى الحِلّة وكربلاء وبغداد ومكّة والمدينة المنوّرة والشام والقدس. وكان قدس سره قد بدأ مسيرته العلمية تلك ولم يتجاوز سبع عشرة سنة من عمره. 
 
كلمات العلماء فيه: كان الشهيد الأوّل عالماً ماهراً، فقيهاً، محدّثاً، مدقّقاً، ثقة، متبحِّراً كاملاً، جامعاً لفنون العقليات 
والنقليات، زاهداً عابداً، وَرِعاً، شاعراً، أديباً، منشئاً، فريد دهره، وعديم النظير في زمانه.
 
وبإمكان القارىء أن يلمس مكانة الشهيد العلمية في نفوس الفقهاء من أساتذته وتلاميذه والمتأخّرين عنه من ما كتبه أستاذه (فخر المحقّقين) في حقّه، حيث قال: "الإمام الأعظم، أفضل علماء العالم، وسيد فضلاء بني آدم، مولانا شمس الحقّ والدين محمّد بن مكّي بن حامد أدام الله أيّامه!".
 
ويقول عنه الشيخ محمّد بن يوسف الكرمانيّ القرشيّ الشافعيّ في إجازته للشهيد: 
 
60

48

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

"المولى الأعظم الأعلم، إمام الأئمّة، صاحب الفضلين مجمع المناقب والكمالات الفاخرة، جامع علوم الدنيا والآخرة".

 

ويقول الشهيد الثاني فيه: "شيخنا وإمامنا المحقّق البدل النحرير المدقّق الجامع بين منقبة العلم والسعادة ومرتبة العمل والشهادة، الإمام السعيد أبو عبد الله الشهيد محمد بن مكي أعلى الله درجته، كما شرَّف خاتمته"[1].

 

شخصيّته وإنجازاته 

انحسرت الحالة الشيعية في مصر والشامّ منذ تسلّم الأيوبيين الحكم من الفاطميين. وجاء من بعدهم المماليك ليواصلوا السياسة نفسها. وكانت أيامهم من أشقّ الفترات على الشيعة وبلاد الشام. في هذه الظروف حاول الشهيد الأوّل أن يوصل جبل عامل بمدرسة الحِلَّة وينقل إليها العلم والفقاهة والفكر... فكانت مدرسة جزّين، التي راحت تخرّج الطلاب من مختلف أصقاع العالم الإسلاميّ بالتفقّه على المذاهب الخمسة.

 

وعُرِف الشهيد الأوّل بانفتاحه الثقافيّ والعلميّ. وكان قد قرأ على عدد من مشايخ أهل السنّة، وروى عن أربعين شيخاً من علمائهم، وكان على صلة وثيقة بالاتّجاهات الفكرية السُنيَّة، وعلى معرفة تامّة بآرائها وأفكارها، ولم يكن منطوياً على نفسه فكرياً.

 

وقد عمل الشهيد على تنظيم علاقة الأمّة بالفقهاء من خلال شبكة الوكلاء الذين ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شؤون الناس في دينهم ودنياهم، كما يقومون بجمع الحقوق الشرعية لتوزيعها على مستحقّيها بنظر الفقيه. 

 

كان الشهيد خلال عمله في جزّين يتردّد على بيت له في دمشق، وكان عامراً بالعلماء وطلبة العلم من مختلف الطبقات والمذاهب.

 

 

 


 

[1] الآصفي، محمد مهدي، مقدمة الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج1.

61

49

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 عصر الشهيد الأول وجهادُهُ

لكي ندرس الجانب السياسيّ من حياة الشهيد ودوره في الجهاد وإنجازاته ينبغي أن نطلّ قبل ذلك على الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها الشهيد، والاتّجاهات الدينية والسياسية السائدة في عصره، وأهمها:
انحلال الدولة الإسلامية
 اتّخذ بنو العبّاس سياسة قاسية تجاه الشيعة والعلويين. وغالى في هذا السلوك المتوكّل العباسي بشكل فظيع. وإذا علمنا أنّ العلويين والشيعة عامّة كانوا من أهمّ عوامل ظهور الدولة العبّاسية وانحلال الحكم الأمويّ، عرفنا كم كانت الشيعة تعاني من هذا السلوك في ظلال الحكم العبّاسي، وكم كان يخالجهم الشعور بالندم على إسناد الحكم العبّاسي وتدعيمه والاغترار بوعود العبّاسيين. 
 
وهذا ما حدا بهم إلى التفكير في الاستقلال عن حكومة بغداد العباسية. ولكن قوّة الحكم العبّاسيّ وامتداد سيطرة العباسيين إلى أطراف البلاد كان يمنع الشيعة من القيام بأيّة محاولة للانفصال والاستقلال، حتّى إذا ظهر الضعف في جهاز الحكم العبّاسي وضعفت سيطرته على البلاد انفصل كثير من البلدان عن الحكومة الأم في بغداد، وكان أصلح الأقطار الإسلامية للاستقلال والانفصال عن الحكم العبّاسيّ إيران والأندلس وإفريقيا.
 
أمّا الأندلس فقد انفصلت عن الحكم العباسي، حيث فرّ إليها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، وملكها من يد عبد الرحمن بن يوسف الفهريّ، وبقي فيها عاماً يخطب للسفّاح، حتّى إذا استقام به الأمر ولحقه أهله من بني أميّة، استقلّ في الحكم، وألغى ذكر بني العبّاس في الخطبة، وكان ذلك سنة 138هـ. وبقيت الأندلس تحت حكم الأمويين إلى سنة 422هـ.
 
أمّا في إيران وإفريقيا فكان طابع النشاط السياسيّ هو التشيّع، واستطاع الشيعة في
 
62

50

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 هذين القطرين بشكل خاصّ أن يقوموا بوجوه مختلفة من النشاط السياسي، ويُظْهِروا انفصالهم عن بغداد.

 
فقد عرف الشيعة في تاريخ الإسلام بالحركة والنشاط الدائمين، ومقاومة الطغيان والاستبداد والانحراف في أجهزة الحكم، الأمر الذي دفع بالسلطان إلى ملاحقتهم في كلّ مكان، ومراقبة حركاتهم ومكانهم أشدّ المراقبة. وحين أخذت الحكومة العبّاسية بالانحراف، ومضت في الضلال، خرج حسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن السبط مع جماعة من أهل بيته منهم إدريس ويحيى، واستولى على المدينة المنورة، وطرد عنها عامل الهادي العبّاسيّ، وكان الموسم موسم حجّ، فخرج هو وأصحابه إلى الحجّ، حتّى إذا بلغوا موقعاً قريباً من مكّة يقال له فخ، أرسل إليهم الحاكم العبّاسيّ جيشاً وضع فيهم السيف حتى قتل جمعاً كثيراً منهم، وفيهم حسين الفخّ نفسه، وكان ذلك في يوم التروية[1]، ونجا منهم فيمن نجا إدريس بن عبد الله ويحيى بن عبد الله, أمّا يحيى ففرَّ إلى الديلم والتفّ حوله الناس، فأرسل الرشيد إليه جيشاً بقيادة الفضل بن يحيى، فكاتبه الفضل وأعطاه الأمان، فآثر يحيى السلم على الحرب، وذهب إلى بغداد فأكرمه الرشيد، ثمّ غدر به[2].
 
دولة الأدارسة (375 - 172)
وقد فرّ إدريس إلى مصر، ومنها إلى المغرب، واجتمعت حوله قبائل البربر وغيرهم، واشتدّ أمره واستمرّ حكم الأدارسة قرنين وثلاث سنين، وامتدّت سلطتهم في المغرب، وكانت حاضرة ملكهم مدينة فاس[3].
 
وقد استطاع الأدارسة في هذه الفترة أن يخدموا المغرب كثيراً، وأن يخلّفوا تراثاً حضارياً ومدنياً قيّماً، وأن ينشروا التشيّع في هذا القطر من الأرض.
 
 
 

 
[1] راجع: الطبري، ج 10: 24 - 32، وابن كثير 10: 40 وابن أثير 6: 32 - 34.
[2] راجع: مقاتل الطالبيين: 463 - 483.
[3] راجع: الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام ، ج 3، ص162 - 167.
63

 


51

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 الفاطميون

وفي سنة 286هـ بعدما ضعفت الدولة العباسية أخذ أبو عبد الله الشيعيّ يدعو لعبيد بن المهدي في "إفريقيا" وأخذ البيعة له، وانتزع أفريقيا من بني الأغلب، واستولى عليها وعلى المغرب الأقصى والشام، واقتطعوا سائر هذه الأقطار من العبّاسيين، واستمرّ حكمهم إلى سنة 567 وامتدّ نفوذهم إلى مصر والحجاز واليمن.
 
وكان الفاطميون شيعة إسماعيلية، سعوا كثيراً لنشر التشيّع في مصر وإفريقيا والأقطار الأخرى التي كانت تحت يدهم.
وربما جاز لنا أن نقول: إنّ ظهور الفاطميين واستيلاءهم على الحكم وحرصهم على نشر "التشيّع" ومعارضة المذاهب الأخرى كان ردّ فعل طبيعياً للعنف والضغط الذي كانت الشيعة تنوء به أيام الحكم العباسيّ.
 
دول مستقلّة أخرى
استقلّ "الحمدانيون" في الموصل وحلب، وامتدّ حكمهم من 317 هـ إلى هـ 394 هـ. وظهر باليمن يحيى بن الحسن بن القاسم "الرسي"، وهو ابن إبراهيم طباطبا، وملك صعدة وصنعاء. وظهر "القرمطيّ" بنواحي البحرين وعُمان، وسار إليهما سنة 279 هـ أيام المعتضد العبّاسي، واستمرّ حكمهم إلى القرن الرابع.
 
واستقلّ "بنو بويه" في الحكم من سنة 334 هـ، واستمرّ حكمهم إلى سنة 447 هـ، وامتدّ سلطانهم إلى جزء كبير من الوطن الإسلاميّ من "فارس" و"أهواز" و"كرمان" و"بغداد" وغيرها، وقد خدم البويهيون التشيّع أيام حكمهم، ونشروا المذهب في إيران والعراق، وخلّفوا تراثاً فكرياً قيّماً من بعدهم، ولسنا بصدد الحديث عنه.
 
وتأسّست "الدولة الأيوبية" سنة 564 هـ، وامتدّ سلطان الأيوبيين أيام "صلاح الدين" من النيل إلى دجلة، وفي أيّامهم وقعت الحروب الصليبية المعروفة بين 
 
64

52

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 المسلمين والمسيحيين، وعُرِفت "الدولة الأيوبية" بطابعها السنّي المجافي للشيعة.

 
خلف الأيوبيون في الحكم "المماليك". وهذه السلسلة غريبة في وضعها، فقد تعاقب الحكم عليها عبيد من جنسيات مختلفة، واستمرّ سلطانهم نحواً من قرنين وثلاثة أرباع قرن. وكانوا بشكل عام سفّاكين وغير مثقفين[1].
 
ويقسم المماليك إلى المماليك البحرية "1250م - 1390م" والمماليك البرجية "1382م - 1517م" فالبحرية 
سُمّوا بذلك نسبة إلى النيل، إذ كانت ثكناتهم تقوم على جزيرة صغيرة في نهر النيل، وكانوا في أكثرهم من الترك والمغول. أمّا البرجية فكانوا في الغالب من الجراكسة.
 
برقوق
كان "برقوق" أوّل عبد وأتابك خاصّ للملك الصالح الحاجي ابن الأشرف بن شعبان، وهو الرابع عشر من ملوك الأتراك مماليك الأيوبية المغلّبين عليهم. وقد تولّى "الحاجي" الحكم وهو ابن عشر سنوات، ولم يكن له من الأمر غير الاسم، فألزم "برقوق" الأمراء بخلعه، ونصّب نفسه للحكم سنة أربع وثمانين وسبعمئة.
 
ولكن الأمر لم يصفُ له، فقد انشقّ عليه بعد حين من الزمان أمراء عصره، فخرج عليه "تمريغ الأفضلي" و"بليغ العمري"، ونزعا عنه الحكم، وملكا مصر، وأُعيد حاجي إلى الحكم مرّة أخرى، وحبس "برقوق" بالكرك. ولم يطل الأمر ببرقوق، فقد خرج من السجن وكرّ ثانياً على أعدائه، وجمع الجيوش وتمكّن منهم وأزاحهم عن المسرح، واستقلّ بالأمر إلى أن توفّي سنة 801 هـ[2].
 
 
 

 
[1] راجع: فليب حتى، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ،ج 2، ص267.
[2]  راجع: سمط النجوم العوالي، ج 4، ص 32.
65

53

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 جهاد الشهيد الأوّل وحضوره الفاعل في دمشق

قضى "الشهيد" الشطر الأخير من عمره في دمشق أيّام حكومة برقوق من "ملوك الجراكسة" على مصر والشام، وكانت حكومة دمشق يومئذٍ بيد "بيدمر" مندوب برقوق. ويبدو من كتب التاريخ أنّ حكومة "الشام" لم تكن مرتبطة بحكومة "مصر" إلّا اسمياً، فقد كان حاكم دمشق يستقلّ في الحكم والإدارة من غير أن يراجع المركز في شيء من شؤون الإدارة والحكم.
 
ومهما يكن من شيء فقد قضى "الشهيد" جزءاً كبيراً من عمره في دمشق إحدى "حواضر العالم الإسلامي" في وقته.
 
وقُدّر للشهيد أن يكوِّن لنفسه في الشام مكانة اجتماعية وفكرية كبيرة، ويفرض نفسه على مجتمع "دمشق" بشكل خاصّ ومجتمع سوريا بشكل عامّ، وأن ينفذ إلى جهاز الحكم - كما سنجد - ويستغلّه لغاياته الإصلاحية, فقد كان الشهيد في دمشق على اتّصال دائم بالحكّام والأمراء والشخصيات السياسية البارزة في وقته، ونعرف ذلك من إقناع "الشهيد" الحكومة بمحاربة "اليالوش" المتنبّي الذي سنبحث عنه فيما يأتي من هذه الرسالة. وكان بيته ندوة عامرة لأصحاب الفضل والعلم وطلّاب المعرفة وعلماء دمشق والأقطار المجاورة الذين كانوا يزورون دمشق بين حين وآخر، أو يمرّون عليها، فكان لا يخلو بيته على الدوام من الزوّار من أصحاب الفضل وأصحاب الحاجة الذين كانوا يقصدونه للتوسّط لتيسير حاجاتهم لدى المراجع الحكومية. وعلى الرغم من توتّر العلاقات بين الشيعة والسنّة فقد كان "الشهيد" 
يحتلّ مكانة علمية مرموقة بين "علماء السنّة"، فكانوا يحضرون مجلسه في بيته للاستفادة والمناقشة، ولحلّ مشكلات الفقه والكلام في كثير من الأحيان.
 
66

54

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 حرص الشهيد الأوّل على الوحدة

ومن حِرص "الشهيد" على توحيد الكلمة كان يتجنّب في مجلسه الخوض في مسائل الخلاف بين "الشيعة" وإثارة الخلافات الكلامية فيما بينهم على صعيد الجدل، فكان يخفي ما كان بيده من كتابه حين كان يزوره أعلام السنّة في مجلسه، حتى أنّه عُدَّ من كراماته أنّه حينما ابتدأ بكتابة "اللمعة الدمشقية" لم يمرّ عليه زائر من علماء السنّة ووجهاء دمشق إلى أن تمّت كتابة هذه الرسالة في سبعة أيام. وهذه الرواية تدلّ على حرص "الشهيد" أولاً على عدم إثارة المسائل الخلافية، والمحافظة على وحدة الكلمة بين المسلمين في ظروف اجتماعية مضطربة ذكرنا بعض ملاحمها فيما تقدّم من هذا الحديث، وتدلّ ثانياً على أنّ بيت "الشهيد" كان آهلاً بمختلف الطبقات من علماء ووجهاء وشيعة وسنّة من دمشق وخارجها.
 
ولم يبقَ الشهيد هذه الفترة الطويلة في "دمشق" دون عمل ونشاط، بل عمل على الإصلاح، والتوجيه وتوحيد الكلمة، والضرب على أيدي العابثين والمغرضين، فأخمد ثورة "اليالوش" المتنبّي، وملأ الفجوات التي كانت تفصل الشيعة عن السنّة، وقلّص حدود الخلافات المذهبية والطائفية. وقد كان الخلاف في وقته قائماً على قدم وساق بين "السنّة" و"الشيعة"، ومن ورائها كانت الصليبية تغذّيها وتلهمها بمختلف الوسائل. وكانت الحكومات تجد في ذلك كلّه إلهاءً لذهنية المسلمين وتخديراً لنفوسهم.
 
فتنة اليالوشي: إنّ اضطراب الوضع السياسيّ والاجتماعيّ في البلدان الإسلامية حمل نواة ظهور البدع في التفكير والعقيدة. فقد ظهر من جبل عامل شخص يسمّى محمد اليالوشي، وراح يدعو إلى مذهب يغلب عليه طابع التصوّف، ويبدو أنّه كان متكلِّماً بارعاً وخطيباً حذقاً، ومشعوذاً، حيث استطاع أن يشدّ دعوته بعدد من السّذّج، فأربك الوضع. وخاف الشهيد أن تشيع هذه البدعة الجديدة وتتّسع، فاتّصل بالبلاط وأقنع دولة المماليك بضرورة تلافي الأمر قبل أن يستفحل، فَجُهِّزَ جيش اصطدم بعسكر
 
67

55

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 اليالوشي في النبطية الفوقا، فهُزِموا وقتل اليالوشي وتمزّق شمل أتباعه. لكنّ هذه الهزيمة لم تكن كافية للقضاء على هذه الظاهرة, فقد انتقلت زعامة الدعوة الجديدة إلى تقيّ الدين الجبلي الخيامي، ثمّ إلى يوسف بن يحيى، وكان لهذين أصبع في مقتل الشهيد الأوّل وذلك بالوشاية عليه إلى حاكم دمشق المملوكيّ بتدمر، وكذلك قضاة بيروت وحلب ودمشق.

 
استشهاده 
وشى رجال اليالوشي بمحاضر تشتمل على مقالات شنيعة بحقّ الشهيد الأوّل، واتّهموه بميله للنُّصيّريَّة وإباحته الخمر، وغيرها من الافتراءات, بهدف التخلّص منه، وأتوا بأكثر من سبعين شاهداً من أنصار اليالوشي، ثمّ أتوا به إلى قاضي الشام، ويذهب بعضهم إلى أنّ موقف القاضي ضدّ الشهيد الأول كان منبعه الحسد، حيث أفحم الشهيد القاضي ابن جماعة في مجمع علمائيّ على مسامعهم، ويقال أيضاً، إنّ هذا القاضي كتب العرائض وأشهد عليها العلماء ورفعها إلى حاكم دمشق حقداً على الشهيد بعد أن أفحمه في المناظرة أمام العلماء، ويقال أيضاً: إنّ العريضة كُتبت بإيعاز من حاكم دمشق بعدما رأى اتّساع أمر الشهيد وقدرته على التأثير في الأوساط العلمية والدينية والاجتماعية، لما كان للشهيد من مكانة علمية وسياسية واجتماعية بين أتباعه. وكان استشهاده في التاسع من جمادى الأولى 786هـ، حيث أفتى برهان الدين المكّي وعباد بن جماعة بقتله بالسيف، ثمّ صلبوه، ثم رجموه، ثمّ أحرقوا جثمانه الطاهر.
 
وكان لاستشهاده رنّة في قلوب العامليين، فأطلقت عليه الذاكرة الشَّعبيَّة في جبل عامل لقب الشهيد الأوّل لأنّه كان أوّل, شهيد يقتل في سبيل العقيدة والمذهب في جبل عامل.
 
68

56

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 المفاهيم الرئيسة

1- ولد الشهيد الأوّل عام 734هـ في جزّين - جبل عامل. والدته سيّدة علوية (من العراق) ووالده الشيخ مكّي بن محمّد بن حامد العامليّ.
 
2- لم يكتفِ الشهيد بالعلوم التي تلقّاها في مسقط رأسه جزّين، فرحل إلى الحِلّة وكربلاء وبغداد ومكة والمدينة المنوّرة والشام والقدس.
 
3- كان الشهيد الأوّل عالماً ماهراً، فقيهاً، محدّثاً، مدقّقاً، ثقة، متبحّراً كاملاً، جامعاً لفنون العقليات والنقليات. وقد أورد الحرّ العامليّ في كتابه "أمل الآمل" أسماء ما يفوق على العشرين من تلامذته الكبار الذين تصدّروا مقام الاجتهاد.
 
4- كان الشهيد يقوم بجهد علميّ في جزّين، ونشاط سياسيّ في دمشق وعمل اجتماعيّ واسع في بلاد الشام وخراسان.
 
5- انحسرت الحالة الشيعية في مصر والشام منذ تسلّم الأيوبيين الحكم من الفاطميين، وجاء من بعدهم المماليك ليواصلوا السياسة نفسها وكانت أيّامهم من أشقّ الفترات على الشيعة.
 
6- عرف الشهيد الأوّل بانفتاحه الثقافي والعلمي. وكان قد قرأ على عدد من مشايخ أهل السنّة. وعمل الشهيد على تنظيم علاقة الأمّة بالفقهاء من خلال شبكة الوكلاء الذين ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شؤون الناس في دينهم ودنياهم.
 
7- إنّ اضطراب الوضع السياسيّ والاجتماعيّ في البلدان الإسلامية حمل نواة ظهور البدع في التفكير والعقيدة. فقد ظهر من جبل عامل شخص يسمّى محمد اليالوشي، وراح يدعو إلى مذهب يغلب عليه طابع التصوّف والاعتقاد بوحدة الوجود.
 
8- وشى رجال البالوشي بمحاضر تشتمل على مقالات شنيعة بحقّ الشهيد الأوّل،
 
69

57

الدرس السادس: دور الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ في حفظ التشيّع

 واتّهموه بميله للنُّصيّريَّة وإباحته الخمر... وأتوا بأكثر من سبعين شاهداً من أنصار اليالوشي، ثمّ أتوا به إلى قاضي الشام، حيث أفتى برهان الدين المكي وعباد بن جماعة بقتله بالسيف، ثمّ صلبوه، ثمّ رجموه، ثمّ أحرقوا جثمانه الطاهر.

 
 
70

58

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 الدرس السابع:

الشيعة في مواجهة العثمانيين - المقاوم الشيخ ناصيف النّصّار
 
 
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1 - يتعرّف إلى تاريخ جبل عامل الجهاديّ في وجه العثمانيين.
2 - يتعرّف إلى شخصية الشيخ ناصيف النصّار الجهادية.
3 - يتعرّف إلى نكبة العامليين على يد الجزّار.
 
71

59

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 معركة بحيرة الحولة

إنّ طموح علي بك الكبير[1] حاكم مصر وطموح ظاهر العمر[2] جَعلَهما حليفين قويّين، حيث أعدّا جيشاً كبيراً يؤازره حكّام مقاطعات جبل عامل وعلى رأسهم الشيخ ناصيف النصّار[3]، واستعدّوا لقتال باشَويّة الشام بقيادة عثمان باشا والي دمشق. لكن هذا الأخير أقنع قائد جيش مصر محمد أبو الذهب سرّاً أن ينسحب بجيشه كي لا يهرق السلطان دمه إذا ما فرغ من حرب الروس، ففعل ذلك وترك الشيخ ظاهر العمر وحلفاءه وعاد إلى مصر.
 
اندفع عثمان باشا يجمع الجيوش للقضاء على ظاهر العمر والعامليين، وعَسْكَرَ على بحيرة الحولة في (30 آب 1771م). وعسكَرَ الشيخ ناصيف بجنوده في جوار مقام النبيّ يوشع (جنوبيّ شرقيّ جبل عامل)، وعقد الشيعة ديوان مشورة ورتّبوا خطة بالهجوم على تلك الجيوش، وانتَدَب الشيخ ناصيف فرقة لا تزيد عن خمسمئة فارس،
 
 
 

 
[1] علي بك الكبير, مملوكي حكم القاهرة كشيخ البلد (أي حاكم) أيام العثمانيين، وقد استغلّ فرصة انشغال الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، فاستصدر أمراً من الديوان بعزل الوالي العثماني، وتولى هو منصب القائمقام بدلاً من الوالي المخلوع.
[2] ظاهر العمر، كان أحد حكّام فلسطين في فترة الحكم العثماني.
[3] الشيخ ناصيف بن نصّار العاملي، شيخ مشايخ جبل عامل، المعروف بالشيخ ناصيف النصّار، قُتل سنة 1195هـ في الحرب التي جرت بينه وبين عسكر الجزّار قرب قرية يارون، ودُفِن فيها.
يقال له الشيخ ناصيف النصار جرياً على العادة في إدخال الألف واللام على اسم الأب حين إرادة نسبة الابن إليه. ولفظ الشيخ أحد ألقاب الأمراء في بلاد الشام. فأمراء جبل عامل والأمراء الحماديون وغيرهم كانوا يلقبون بالمشايخ والحرافشة والشهابيون كانوا يوصفون بالأمراء وكانت أمرة جبل عامل لثلاث طوائف فإمرة بلاد بشارة لآل علي الصغير وإمرة بلاد الشقيف للصعبية وإمرة إقليم الشومر لآل منكر وكان يطلق على ناصيف شيخ المشايخ أي أمير الأمراء وكان الشيخ ظاهر العمر الصفدي قد تغلب على إمارة بلاد فلسطين وخلع طاعة الدولة العثمانية وامتدت إمارته أكثر من سبعين سنة كما أن الشيخ ناصيف وباقي أمراء جبل عامل استقلوا بها وكانوا قبل ذلك تابعين لحاكم صيدا مع استقلالهم الداخلي وباعتبار أن بلاد ظاهر مجاورة لمحل أمارة ناصيف كانت تجري بينهما حروب ومنازعات ثم تحالفا.
 
72

60

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 من أبسل فرسانه وأوفرهم شجاعة، فبيّتت العدوّ، وزحفت إليه ليلاً، فأحاطت به من جهات ثلاث، وأعملت فيهم السيف، ولم ينجُ من القتل إلا من ألقى نفسه في البحيرة، وفرَّ الوالي عثمان باشا منهزماً.

 
معركة كفر رمّان، النبطية
لم يتّعظ عثمان باشا من هذه الهزيمة، فأوغر صدر الأمير يوسف الشهابي أمير جبل لبنان، وأقنعه بمهاجمة جبل عامل، فدخله في 29 تشرين الأول 1771م من جهة صيدا وجباع متّجهاً نحو النبطية مركز جبل عامل الشماليّ، وراح يحرق القرى ويجتثّ الأشجار حتى وصل إلى مشارف النبطية، فتصدّى له الشيخ علي الفارس، وكتب إلى الشيخ ناصيف يستنجده، شارحاً الخطر الذي تتعرّض له الطائفة الشيعية، وسرعان ما لبّى الشيخ ناصيف، ودارت معركة ضارية ما بين كفر رمّان والنبطية، شارك فيها مشايخ جبل عامل كلّهم بما فيهم الشيخ ناصيف والشيخ علي الفارس والشيخ محمود النّصار والشيخ حيدر الفارس. وانتصر الشيعة بثلاثة آلاف مقاتل على جيش تعدّه المصادر التاريخية بأكثر من عشرين ألفاً. وقبل أن تشارف المعركة على نهايتها وصلت النجدة من الشيخ ظاهر العمر بألف مقاتل، ووقع الأمير يوسف الشهابي أسيراً بيد الشيخ ناصيف النّصار ثمّ عفا عنه. لكنّ انهزام عثمان باشا في معركة بحيرة الحولة وفشل يوسف الشهابي في معركة النبطية، شجّع الشيخ ناصيف والشيخ ظاهر العمر على الاستيلاء على صيدا مركز الولاية، وطردوا واليها درويش باشا ابن عثمان باشا، إلا أنّ درويش هذا، تحقّق أنّه لا طاقة له بمقابلة زعماء جبل عامل وحليفهم الشيخ ظاهر العمر، فرفع عريضة إلى الدولة العثمانية، يذكر فيها تمرّدهم، وتملّكهم صيدا، لكنّ الوقائع التي تلت هذه الشكاوى لم تؤدِّ إلى ما يرضي عثمان باشا, لأنّ الدولة كانت عاجزة أولاً، ومشغولة بحربها مع الروس ثانياً.
 
73

61

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 جبل عامل والجزّار

نكبة جبل عامل على يد الجزّار: شاءت الأقدار أن يصبح الجزّار والياً على صيدا ودمشق وعكّا بعد اغتيال الشيخ ظاهر العمر ما بين 1776م - 1785م. ولمّا استفحل أمر الجزّار ودانت له فلسطين بأكملها، حوّل نظره إلى جبل عامل يريد أن يخضعه لسلطته. وكان جبل عامل يومئذٍ أمنع من عقاب الجوّ، وكان زعيمه الأكبر الشيخ ناصيف النصّار من أشجع رجال عصره. وبنهاية الشيخ ظاهر العمر استولى الأميرال العثماني حسن باشا على عكّا، وسلّمها لأحمد باشا الجزّار فقام هذا الأخير بالاستفادة من تحصيناتها، وسعى إلى التخلّص من أخصامه, فقضى أولاً على أولاد الشيخ ظاهر العمر، وحين رأى العامليون ما حلّ بأبناء ظاهر توقّعوا أن تكون الحملة التالية على بلادهم، فبدؤوا بملء حصونهم بالمقاتلين والسلاح، واستعدّوا للقتال. وبالفعل فقد صدق حدسهم، فما لبث القبطان حسن باشا أن اتّفق مع والي صيدا الجديد على تجهيز حملة على جبل عامل، لتهديم قلاعه وحصونه وجمع السلاح، لكنّه خشي انتشار القلاع والحصون في ربوعه، وما عرف عن سكّانه من شجاعة وفروسية ومهارة في القتال وتعلّق بالحرية.
 
قرار الانتقام من العامليين
شهدت الفترة الممتدّة من 1776م إلى 1781م سلسلة من الفتن الداخلية في جبل لبنان، استفاد منها مشايخ جبل عامل, فامتنعوا عن دفع الميري المتوجّبة على بلادهم، فصدر فرمان سلطاني إلى والي صيدا يأمره بالسير إلى جبل عامل وتدميره للأسباب الآتية:
- تمرّدهم أيام ظاهر العمر، ودورهم في هزيمة عثمان باشا والي دمشق.
- غزواتهم على منطقة دمشق.
 
74

62

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 - امتناعهم عن دفع الميري (الضريبة).

 
- استيلاؤهم سابقاً على أماكن متعدّدة من ولاية صيدا، مثل شفاعمرو وحيفا وعكا.
 
على أثر ذلك قرّر الجزّار الاستفادة من الفرمان السلطانيّ لتحقيق مكاسبه باستعمال القوّة والحزم للأسباب الآتية:
أولاً: تعزيز مركزه وزيادة قوّته وإقامة حكم مركزيّ فعّال في الولاية.
 
ثانياً: القضاء على مراكز القوى المستقلّة, لأنّ ذلك يعيق مخطّطاته.
 
ثالثاً: تحقيق مكاسب مادّية بالسيطرة على جبل عامل الغني بموارده الزراعية والتجارية، والاستيلاء على ثروات مشايخه.
 
معركة يارون، واستشهاد الشيخ ناصيف
ونظراً لما يعلمه الجزار عن مدى كفاءة وشجاعة السكّان القتالية، ووعورة البلاد وما تتضمّنه من حصون وقلاع، قرّر تجهيز حملة قويّة قادرة على تحقيق آماله. ولمّا دخلت قوّات الجزّار البلاد، خرج الشيخ ناصيف النصّار من قلعة تبنين على رأس ألف فارس للتصدّي للحملة، والتقى العساكر المهاجمة عند قرية يارون الداخلة ضمن بلاد بشارة، وجرى اقتتال بين الفريقين في 23 أيلول 1781م. وأثناء القتال زلّت قدم جواد الشيخ ناصيف على بلاطة يارون فعاجله بعض الجنود بإطلاق الرصاص فخرّ قتيلاً، وقد قُتِل معه أربعمئة من فرسانه، في حين خسر الجزّار ثلث قوّاته، ثمّ تقدّم بعساكره في بلاد بشارة لتحطيم القلاع السبع الرئيسة فيه (هونين، وتبنين، وميرون - ديركيفا - وميس، وصربا، وجباع، وشمع) واستولت العساكر على ميناء صور.
 
75

63

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 نكبة العامليين على يد الجزّار

خشيَ مشايخ جبل عامل أن يتعرّضوا للذبح والقتل والإهانة، ففرّوا بعيالهم وأنصارهم من الشيعة، واختفى بعضهم في بلاد بعلبك لدى مشايخ آل حرفوش، وبعضهم الآخر في بلاد عكّار لدى محمد بيك المرعبي (الأسعد)، في حين صمد الشيخ حيدر الفارس برجاله الستّمئة في قلعة الشقيف، وفشلت جميع جهود الجند لاحتلال تلك القلعة. من ناحية ثانية اكتسح جنود الجزّار البلاد، وأحرقوا القرى ودمّروا المنازل، ثم شُحنت المكتبات من جبل عامل إلى عكا على ظهور الجمال، وكانت أعظم حادثة، إحراق تلك الكتب النفيسة، كمكتبات آل الأمين في شقرا، وكتب آل سليمان في مزرعة مشرف، وآل خاتون في جويا. وكان يكفي سبباً لإتلاف هذه الكتب كونها مختصّة بالشيعة، بل كونها من كتبهم وإن لم تختصّ بهم. وقد أسرف رجال الجزّار في الشعب قتلاً وذبحاً، وقبض الجزّار على فريق من الوجهاء فأماتهم خنقاً في سجون عكّا. ثمّ هاجم قلعة الشقيف، وكان قائد حاميتها الشيخ حيدر الفارس من الأمراء الصَّعبيّة، حاصره شهرين ثمّ دخلها بالأمان، فقتل جميع من فيها غدراً. ثمّ هاجر العلماء وأهل الفضل للبلاد الإسلامية النائية كالهند والعراق وإيران وبلاد الأفغان، وخدموا فيها الإسلام.
 
وقد أقفرت قرى عديدة في جبل عامل، وخلَت من سكّانها، وأصبحت أثراً بعد عين.
 
حرب العصابات 
هذه النكبات القاسية، التي تجرّعها العامليون ضروباً من التعسّف والشقاء، حملتهم على الاستبسال والاستماتة في سبيل الدفاع عن حوزتهم، فثار الزعماء وأبناء العشائر وألّفوا العصابات الثورية. وفي عام 1783م اجتمع في قرية شحور جماعة من أعيان البلاد، وقد أعياهم أمر الجزّار وأرهقهم جوره وما أصاب البلاد من شروره، 
 
76

64

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 فأجمع رأيهم على الكفاح وإنقاذ البقيّة الباقية من وطنهم من الدّمار, فألّفوا فرقة من رجالهم الأشدّاء للفتك بعمّال الجزّار وجنوده التي كانت ترابط في مناطق عاملة وتحتلّها احتلالاً عسكرياً صارماً، وتلزمها بنفقاتها وعلف خيولها وإعاشتها واحتمال أضرارها وأذاها.

 
وقد جمعهم الجزّار من شذّاذ الآفاق. وكان على رأس الثورة الشيخ حمزة بن محمد النصّار، ومدير شؤونها الشيخ علي الزين صاحب شحور. وهاجمت الفرقة حاكم البلاد العامّ في تبنين من طرف الجزّار فذبحوه ذبح النّعاج، وأثخنوا أعوانه وجنده، وأخذوا الخزينة الأميرية.
 
معركة شحور
أرسل الجزار جنوده وزبانيته تتعقّب الثوّار، فداهموهم في قرية شحور، وثارت بينهما حرب دامية استشهد فيها الشيخ حمزة النصار وفرّ من بقي حيّاً. وسار الشيخ علي الزين وإخوانه إلى العراق، وواصل الشيخ عليّ سيره إلى إيران، ثمّ أتى الهند، فاستَوْزَرَهُ أحد ملوكها. ولم تهدأ الأحوال في جبل عامل إلّا بعد هلاك الطاغية الجزّار سنة 1804م. لكنّ حرب العصابات اتّسعت، وامتدّت سلطة الثوار فشملت عكّا وصفد. عندها أيقن الوالي الجديد أنّ جنده سيصابون بالفشل نتيجة اتّساع سيطرة الثوار, فاستدعى إلى عكّا الشيخ علي الفارس ليقيمه حاكماً على جبل عامل من قبله، فأبى إلّا بعد الاتّفاق مع الثوّار وإجلاء جيش الأتراك والأرناؤوط عن البلاد وعودتها إلى حالها قبل فتن الجزار. وأخيراً استجاب الوالي سليمان باشا بعد أن عُقد اجتماع بحضور بشير الشهابي، حضره أيضاً الشيخ فارس الناصيف النصّار ممثّلاً جبل عامل وعُفي عن الثوّار وأُعيدت الأملاك المصادرة إلى أصحابها، واستقرّ الوضع حتّى مجيء، إبراهيم باشا المصري سنة 1832م.
 
77

65

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 تحالف محمّد علي باشا مع الأمير بشير، ومضايقة العامليين

حملة إبراهيم باشا المصري: كان محمّد علي باشا صديقاً للأمير بشير الشهابي، وحليفاً لفرنسا التي أيّدت قيام أمبراطورية (عربية)، تابعة لسياستها ومشاريعها. وقد سقطت سوريا كلّها بيد الجيش المصريّ، وقسّمها الفاتح الجديد إلى مقاطعات ومتسلّميات، وألحق جبل عامل بجبل لبنان، وأميره يومئذٍ الأمير بشير الشهابي الثاني. وقد ولّى هذا الأخير ولده مجيداً إدارة شؤون مقاطعات جبل عامل. وكان شاباً غُرّاً فصبّ جام غضبه على المسلمين الشيعة في جبل عامل وأرهقهم ظلماً، وساق منهم المئات إلى السُّجون. فكان من جرّاء هذا التعسّف أن ثار المسلمون الشيعة في بعلبك وجبل عامل. وكان قائد الثورة في بعلبك الأمير جواد الحرفوشي، وفي جبل عامل حسين شبيب الفارس الصعبي وشقيقه محمد. 
 
لقد صوّر الشهابيّون جبل عامل في عيون المصريين بلاداً ثائرة وشعباً متمرّداً، يجب أن يُحكم بالشدّة والبطش، فصبّوا جامّ غضبهم، ونكّلوا بالزعماء والأعيان، وزجّوا معظمهم في السجون. ومن أجل ذلك كلّه قامت الثورات في جبل عامل ودافع العامليون عن كراماتهم، وقاتلوا قتال المستميت. لكنّ القوات المصرية عادت فألقت القبض على حسين شبيب وعلى عشرة من أتباعه، وأعدمتهم.
 
أمّا جواد الحرفوش فكان قد التجأ إلى بشير الثاني مستأمناً، فقام هذا بتسليمه إلى السلطات المصرية في دمشق، وبوصوله إليها أمر شريف باشا نائب إبراهيم باشا بإعدام ستّة من أعوانه، بينهم رجل من جماعة شبلي العريان.
 
مؤتمر دمشق السرّيّ
عقد هذا المؤتمر للنظر في استقلال سوريا سنة 1877م عندما دارت الدائرة على الدولة العثمانية. فقام وجهاء من جبل عامل وبيروت وصيدا ودمشق بالتعاون مع
 
78

66

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 علماء من الطائفة الشيعية في جبل عامل، بعدد من الاتّصالات والاجتماعات للبحث في مصير البلاد الشامية، عندما كان الوضع في الدولة العثمانية مضطرباً، والوعي القومي النامي في سوريا، حافزَين أهابا بأهل البلاد ليتداولوا فيما يجب عمله لتجنّب المصير السيّئ، ومن أفجع صوره وقوع احتلال أجنبيّ.

 
وأسفرت اللقاءات الأولى والاتّصالات عن تشكيل وفد للتباحث مع زعماء دمشق، وعلى رأسهم الأمير عبد القادر الجزائري وكذلك أُرسلت رسل ووفود إلى حماة وحمص وحلب واللاذقية وحوران، وتمّ الاتّفاق على إجراء احتماعات سرّية في بيروت لوضع الخطط اللازمة، ثمّ انتقل المجتمعون إلى دمشق لإكمال البحث والمداولة في دار السيد حسن تقي الدين الحمصي. وانتهت هذه الاجتماعات بعدد من المقررات.
 
اختيار عبد القادر الجزائري ليكون رأس هذه الحركة.
 
الاعتراف بالخلافة العثمانية (أي بقاء السلطان العثماني خليفة للمسلمين).
 
إقرار مبدأ السعي لتحقيق استقلال بلاد الشام، وتأجيل البتّ في مدى هذا الاستقلال إلى انتهاء الحرب الروسية – العثمانية، وانجلاء وضع الدولة ومصيرها.
 
وكان من نتيجة هذا الاجتماع أن فرضت السلطات العثمانية إقامة جبرية على زعماء الحركة في مناطق نائية، كما نفت السيد محمد الأمين أحد أركان الحركة إلى طرابلس.
 
دور العامليين في الحفاظ على الدولة العثمانية وكيانها
لقد أسهم العامليون إسهاماً فعلياً، كما كان يسهم غيرهم في المنطقة، بصياغة منحى سياسيّ عامّ في دولة المسلمين القائمة، وكانوا على المستوى القوميّ يعملون لما فيه دوام الدولة وتقدّمها. ورغم سمة العامليين الشيعية، فإنّهم لم يختلفوا عن غيرهم من مسلمي السلطنة في تطبيق السياسة العليا للدولة رغم سمتها الإسلامية السنيّة. وإنّ شعورهم المذهبيّ لم يكن ليميّز تطلّعهم السياسيّ عن غيرهم من العرب
 
79

67

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 أو المسلمين السنّة، لأنّهم كانوا كغيرهم من المسلمين من مختلف الأعراق، لا يكادون يشعرون بغير الجنسيّة الدينية، وظلّوا يعتبرون أنفسهم ككلّ العرب في القرون الأربعة الأولى من عمر السلطنة العثمانية مسلمين وعرباً في آنٍ معاً.

 
 

68

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 المفاهيم الرئيسة

1- جمع عثمان باشا الجيوش للقضاء على ظاهر العمر والعامليين، وعسكر على بحيرة الحولة.
 
2- انتدب الشيخ ناصيف فرقة من أبسل فرسانه وأوفرهم شجاعة لا تزيد عن خمسمئة فارس فبيّتت العدو وزحفت إليه ليلاً، فأحاطت به من جهات ثلاث وأعملت فيهم السيف، ولم ينجُ من القتل إلا من ألقى نفسه في البحيرة.
 
3- لم يتّعظ عثمان باشا من هذه الهزيمة، فأوغر صدر الأمير يوسف الشهابي أمير جبل لبنان وأقنعه بمهاجمة جبل عامل، فتصدّى له الشيخ علي الفارس، وكتب إلى الشيخ ناصيف يستنجده، شارحاً الخطر الذي تتعرّض له الطائفة الشيعية، وسرعان ما لبّى الشيخ ناصيف، ودارت معركة ضارية ما بين كفررمّان والنبطية.
 
4- شاءت الأقدار أن يصبح الجزّار والياً على صيدا ودمشق وعكّا بعد اغتيال الشيخ ظاهر العمر، ونظراً لما يعلمه الجزّار عن مدى كفاءة وشجاعة السكان القتالية، قرّر تجهيز حملة قويّة قادرة على تحقيق آماله.
 
5- لمّا دخلت قوّات الجزّار البلاد خرج الشيخ ناصيف النصّار من قلعة تبنين على رأس ألف فارس للتصدّي للحملة، والتقى العساكر المهاجمة عند قرية يارون.
 
6- خشيَ مشايخ جبل عامل أن يتعرّضوا للذبح والقتل والإهانة، ففرّوا بعيالهم واختفى بعضهم في بلاد بعلبك لدى مشايخ آل حرفوش. وهاجر العلماء وأهل الفضل إلى البلاد الإسلامية النائية كالهند والعراق وإيران وبلاد الأفغان، وخدموا فيها الإسلام.
 
81 

69

الدرس السابع: الشيعة في مواجهة العثمانيين

 7- أرسل الجزّار جنوده وزبانيته تتعقّب الثوار، فداهموهم في قرية شحور وثارت بينهما حرب دامية استشهد فيها الشيخ حمزة النصّار وفرّ من بقي حياً. ولم تهدأ الأحوال في جبل عامل إلّا بعد هلاك الطاغية الجزّار سنة 1804م.

 
8- صوّر الشهابيّون جبل عامل في عيون المصريين بلاداً ثائرة وشعباً متمرّداً يجب أن يُحكم بالشدّة والبطش. ومن أجل 
ذلك كلّه قامت الثورات في جبل عامل، ودافع العامليون عن كراماتهم وقاتلوا قتال المستميت.
 
82

70

الدرس الثامن: الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ

 الدرس الثامن:

 الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ


أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف الظروف السياسية المؤثّرة على الشيعة في تلك الفترة.
2- يعرف الظروف المحيطة بالشيعة بعد الحرب العالمية الأولى.
3- يدرك موقف العامليين من الاحتلال الفرنسيّ.
 
83

 


71

الدرس الثامن: الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ

 لبنان في الحرب العالمية الأولى

ولمّا اشتعلت نار الحرب العالمية الأولى، سيق الناس للجندية أفواجاً وبدون تمييز، واشتدّ البلاء، وعمّت الفوضى البلاد، واشتدّ نفور الشعب من الدولة، وتربّصوا بها الغوائل. وكان الناس موقنين أنّ أمر الدولة العثمانية سيؤول إلى الخسران, لأنّ قوّتها كانت ضعيفة، وجندها جائع، ولأنّ القابضين على زمام الأحكام وذمّة السياسة لا خُلق لهم ولا ضمير ولا وطنية، دأبهم الكيد والدس لبعضهم والاستئثار بالأموال والنفوذ، فكان حتمياً أن تسير هذه الدولة إلى الاضمحلال والتدهور السريع.
 
أما أئمّة المساجد، وهم علماء البلاد وأبرارها، فلم تعترف سلطات السَّوق بإمامتهم, إذ لم يكن ثمّة ما يثبّتها رسمياً، وبذلك أجمعت على سوقهم إلى الجندية مع سواد الناس بكلّ شدّة، وأمعنت في طغيانها تتعقّبهم لا تدّخر في ذلك وسعاً، فذعروا وتواروا، وهال الطائفة أمرهم. ويورد السيّد عبد الحسين شرف الدين في مذكّراته أنّه سعى برفع العرائض إلى العاصمة الآستانة للنظر في ظلامة أئمّة مساجد الشيعة إلى أن فاز بمطلبه، وصدر قرار إعفاء أئمّة المساجد الشيعية من التجنيد الإجباريّ.
 
جبل عامل بين فيصل والفرنسيين
تمخّضت الحرب العالمية الأولى عن هزيمة الدولة العثمانية، ودخلت جيوش الشريف حسين[1] والحلفاء دمشق في أول تشرين الأول سنة 1918م، ورفع فيصل[2] علمه على المدن
 
 
 

 
[1]  الحسين بن علي: مؤسّس الدولة الحجازية الهاشمية والحاكم قبل الأخير لمكة من الأشراف الهاشميين. أوّل من نادى من الحجاز باستقلال العرب، كان أميراً أو شريفاً لمكة إبان حكم الإمبراطورية العثمانية. ولد في إسطنبول سنة 1270هـ ـ 1854م وذلك لأن والده نفي إليها. عاد إلى مكة وعمره ثلاث سنوات. قاد الثورة العربية الكبرى التي حرّرت بلاد الحجاز وبلاد الشام والعراق من الدولة العثمانية بتحالف مع الإنجليز ولقّب بملك العرب.
[2] الملك فيصل الأول بن حسين بن علي الهاشمي (20 مايو 1883 - 8 سبتمبر 1933) ثالث أبناء شريف مكة حسين بن علي الهاشمي وأول ملوك المملكة العراقية (1921-1933) وملك سورية (مارس 1920- يوليو 1920). ولد في مدينة الطائف وتربى مع إخوته بكنف أبيه حسين بن علي الهاشمي.  تعامل مع جمال باشا بشكل حذر جداً حتى لا يثير شكوكه وارتيابه في حركة التمرّد التي كان يخطّط لها والده بالتعاون مع بريطانيا. وعلى الرغم من توتّر العلاقة بين فيصل وجمال باشا فقد استأذنه فيصل للعودة إلى مكة، فوافق جمال باشا على طلبه. فعاد إليها فيصل قبل قيام الثورة العربية بشهر.
84

72

الدرس الثامن: الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ

 الرئيسة في سوريا، وشُكّلت فيها حكومات عربية، فكان لذلك صدى كبير في جبل عامل. وقد ظهر ذلك من خلال الحماس الذي شهدته المنطقة بعد التخلّص من النير التركيّ، وفي مظاهر البهجة التي عمّت المنطقة عامّة، حيث لم يُخْفِ المواطنون، كلّ المواطنين، ارتياحهم لهزيمة الأتراك... لأنّ سكان المنطقة عامّة عانوا من ظلم الأتراك ومن تعصّبهم المذهبيّ والطائفيّ، حيث كان الشيعة والمسيحيون يُعتبرون مواطنين من درجة ثانية وثالثة.

 
وقد غادر الأتراك منطقة جبل عامل بعد أن تركوا مستودعاتهم في صور مملوءة بالأسلحة والذخائر والمواد الغذائية الخاصّة بالعسكر... فاستولت عليها عائلة آل الخليل، ووزّعوها على الأهالي، والمؤونة كانت تكفي لأكثر من سنة.
 
الحلفاء يحتلّون البلاد
لم يتأخّر الحلفاء بدخول البلاد، فوصلت الحملة العسكرية بقيادة المارشال هنري اللنبي إلى صور قادمة من فلسطين باتّجاه صيدا وبيروت فحلب. وبدأت نوايا المستعمرين الجدد تظهر جليّة من خلال منعهم للاجتماعات العامّة والمظاهرات والتهديد بالجزاء للمخالفين.
 
وبدأ العرب يشعرون أنّ وعود الحلفاء لم تكن سوى سراب يحسبه الظمآن ماءً. وقد أشار السيد عبد الحسين شرف الدين إلى ذلك بقوله: "في أعقاب تلك الحرب... انتهت فلسطين إلى الاحتلال الإنكليزيّ، وانتهت دمشق إلى الإمارة الهاشمية برئاسة فاتحها فيصل، وكان نصيبنا من التقسيم يومئذٍ نصيباً لم تجرِ فيه الرياح كما كنّا نشتهي، وكما كنّا نقدّر، ولكن ابتدأ نشاطنا على كلّ حال وفق آمالنا التي كنّا نعلّقها على ما بعد الحرب، وبدأ العمل في هذه البلاد بإنشاء حكومات مؤقّتة تحفظ الأمن باسم الملك حسين، وكان هذا باتّفاق معه... فأنشأنا في صور يومئذٍ حكومة على هذا الغرار. لكن الإنكليز أبطلت هذا التدبير الذي رجوناه لمستقبل عربيّ مستقلّ. وإذا اجتاحت في مرورها ما بنيناه من هذا الكيان الناشىء، ولم تعترف بشيء من هذا الجهد المؤمّل، وبذلك شُطب على الخطوة الأولى، ومُهّد لفرنسا أن تسيطر وتحتلّ باتّفاق مع عصبة الأمم التي كانت توجّه السياسة العالمية. ولكن ما كان لنا ولسائر المخلصين للدين والقومية والوطنية أن نستكين للقوّة".
 
85

73

الدرس الثامن: الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ

تنبّه العامليين لسياسة الحلفاء
عندما دخل الفرنسيون والإنكليز إلى جبل عامل، اعتبر الوطنيون العامليون أنّ الحلفاء سيمنحونهم الاستقلال التامّ، خصوصاً بعد أن شجّعوا على إقامة حكومات محلّية في سوريا والعراق. لكن هذه الحكومات أصبحت منشأ صراع بين أطراف الإقطاع السياسيّ والزعامات المحلّية التقليدية. إلّا أنّ هذا الصراع لم يمنع السياسيين في جبل عامل من معارضة فرنسا والمطالبة بالاستقلال عنها. وعندما تكشّفت نوايا الحلفاء، وراحت فرنسا تكيد للسوريين واللبنانيين بمن فيهم العامليين، اندلعت الحروب والمعارك في جبل عامل، وبدأت الفرق الفرنسية بالتقهقر في بعض المواقع، وحصرت عساكرها في المدن الهامّة.
 
سايكس - بيكو، مؤامرة فرنسية - إنكليزية لتقسيم البلاد[1]
ويظهر من خلال تسارع الأحداث أنّ غورو[2] حاول أن يثني العامليين عن توجّههم وعزيمتهم بالانضمام إلى الحكومة العربية الفيصلية في سوريا، خصوصاً أنّ رفع العلم العربي في بيروت لأوّل مرّة كان له ردّة فعل إيجابية لدى معظم المواطنين، وردّة فعل سلبية لدى الحلفاء الذين لم يرتضوا برفع علم عربيّ فوق أرض عربية يعتبرونها
 
 
 

 
[1] اتفاقية سايكس بيكو: كانت تفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الإمبراطورية العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى. تم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين نوفمبر من عام 1915 ومايو من عام 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس. تم الكشف عن الاتفاق بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917، ما أثار الشعوب التي تمسّها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا.
تم تقسيم الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سوريا ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسّعاً بالاتجاه شرقاً لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريا. كما تقرّر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا وروسيا.
[2] غورو: الجنرال هنري جوزيف أوجين غورو، بالفرنسية: (Henri Joseph Eugène Gou raud) ولد في باريس انتسب إلى المدرسة العسكرية في سان سير Saint-Cyr وتخرج فيها برتبة ضابط عام 1888م، وهو القائد العسكري الفرنسي الذي قاد الجيش الفرنسي في نهاية الحرب العالمية الأولى في الحرب التركية الفرنسية (1919 -  1923). واشتهر الجنرال غورو بكونه المندوب السامي للانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، وبكونه من تولّى إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 بعد فصله عن سوريا بموجب اتفاقية سايكس- بيكو بين فرنسا وبريطانيا.
 
86

74

الدرس الثامن: الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ

 هم تحت سيطرتهم ومسرحاً لتحقيق أحلامهم واستغلال ثروتها، وطلب قائد القوات البريطانية من شكري الأيّوبي أن ينزل العلم العربي وينسحب، وهكذا حُلّت الحكومات العربية المؤقّتة في النبطية وصور وصيدا. ولما احتجّ فيصل على ذلك، أجابه اللنبي بأنّ هذه الإجراءات ستكون مؤقّتة, فسحب فيصل الحكّام والممثلين الذين كان قد أرسلهم إلى أقضية ولاية بيروت ولبنان، لكنّه سرعان ما تفاجأ بورود بَرْقيّة من اللنبي يطلب فيها تسليم أقضية بعلبك والبقاع وراشيا 

وحاصبيا إلى المنطقة الفرنسية.
 
اتّحاد العامليين حول فيصل 
وقد عبّر جبل عامل عن تأييده لفيصل في اجتماع حاشد عقد في دار الحكومة في دمشق، وكذلك عن تأييده للثورة العربية الكبرى، وذلك من خلال الوفد الكبير الذي أرسله العامليون إلى دمشق. وقد مثّل جبل عامل في التعبير عن موقفه الشيخ عبد الحسين صادق، الذي قال: "إنّني باسم أهل جبل عامل أبايعك على الموت"... والواضح أنّ كلام الشيخ هذا هو خير تعبير عن مدى اندفاع العامليين على طريق الوحدة السورية. وفي هذه الفترة كانت الولايات المتّحدة الأميركية قد اقترحت تأليف لجنة تحقيق مكلّفة باستقصاء مطالب الناس المعنيين بهذا الأمر، فإنّ عصبة الأمم كانت قد صدّقت على نظام الانتداب، ولم يكن فيصل قد توصّل إلى توقيع اتّفاق مع كليمنصو. 
 
وفي أثناء ذلك كانت قد نشبت معارك عديدة بين القوّات العربية والقوّات الفرنسية. وبدأت العصابات المسلّحة (الثوار) بالظهور وارتفعت حدّة التوتر. ليس هذا فحسب، بل جاءت البيعة لفيصل على لسان معظم زعامات جبل عامل ووجهائه السياسيين والدينيين على حدٍّ سواء، حيث إنّ السيد عبد الحسين شرف الدين بعث بخطاب للأمير فيصل يؤكّد فيه على مبايعته بالإمارة وتهنئته بالعودة، وذلك باسمه وباسم جبل عامل. أمّا بشأن الحكومة العربية المستقلّة، فإنّ العامليين كانوا يظاهرون فيصل على إنشائها.
 
87

75

الدرس الثامن: الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ

 موقف العامليين من الاحتلال الفرنسيّ

كان استقبال جبل عامل للاحتلال الفرنسيّ، استقبالاً صاخباً محتجّاً، يواجهه بالرفض والمصارحة، والميل عنه ميلاً لا هوادة فيه ولا لين.
 
وفي هذه الأثناء كانت لجنة كينغ كراين[1] قد وصلت إلى صور للتحقّق من رأي العامليين، فكانت مواقفهم واضحة ومميّزة أمام هذه اللجنة. ويذكر السيد شرف الدين: "أنّ بلاد عاملةِ أجمعت على أن يمثّلها لدى اللجنة اثنان، هما شيخ العلماء المقدّس الشيخ حسين مغنية والسيد عبد الحسين شرف الدين".
 
ومنعاً لكلّ لبس لدى المترجم، ودفعاً لأيّ تقوّل من الذين يحرّفون الكلام عن مواضعه، قدّم السيد مذكرة جبل عامل للجنة كينغ – كراين، وجاء فيها ما يلي:
أولاً: لا نرضى بغير استقلال سوريا التامّ الناجز بحدودها الطبيعية التي تضمّ قسميها الجنوبيّ (فلسطين) والغربيّ (لبنان)، وكلّ ما يعرف ببلاد الشام دون حماية أو وصاية.
ثانياً: تكون الدولة ملكية، ذات عدالة ومساواة، يستوي فيها جميع الناس كافّة في الحقوق والواجبات.
ثالثاً: الأمير فيصل بن الحسين هو مرشّح العرب الطبيعيّ لملك سوريا، لما له من جهاد في سبيل القضية العربية.
رابعاً: لا حقّ إطلاقاً لما تدّعيه فرنسا في أيّ بقعة من سوريا، ولا تُقبل أيّ مساعدة منها. 
خامساً: إذا كان لا بدّ لسورية من مساعدة فإنّ الرئيس ولسن قد فتح باباً معقولاً لطلب المساعدة من أميركا وذلك بإعلانه أنّ القصد من دخول الحرب إنّما كان للقضاء على فكرة الفتح والاستعمار.
 
 
 

 
[1] لجنة كينغ - كراين (بالإنجليزية: King-Crane Commission): هي لجنة تحقيق عيّنها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919م، للوقوف على آراء أبناء سورية وفلسطين في مستقبل بلادهم. وقد اختار ويلسون لرئاسة هذه اللجنة هنري كينغ، رئيس كليّة أوبرلين بولاية أوهايو، وتشارلز كراين، وهو رجل أعمال بارز من شيكاغو. وبعد أن طافت هذه اللجنة في مختلف المدن السورية (وبضمنها مدن فلسطين) ما بين 10 حزيران و 21 تموز وضعت تقريراً أعلنت فيه أنّ الكثرة المطلقة من العرب تطالب بدولة سوريّة مستقلّة استقلالاً كاملاً، وترفض فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
88

76

الدرس الثامن: الشيعة بين الحرب العالمية الأولى والاحتلال الفرنسيّ

 المفاهيم الرئيسة

1- لمّا اشتعلت نار الحرب العالمية الأولى، سيق الناس للجندية أفواجاً وبدون تمييز. ولم تعترف سلطات السَّوق بإمامة أئمّة المساجد, إذ لم يكن ثمّة ما يثبّتها رسمياً وبذلك أجمعت على سوقهم مع سواد الناس.
 
2- تمخّضت الحرب العالمية الأولى عن هزيمة الدولة العثمانية، ودخلت جيوش الشريف حسين والحلفاء دمشق.
 
3- لم يتأخّر الحلفاء بدخول البلاد، فوصلت الحملة العسكرية إلى صور قادمة من فلسطين نحو صيدا وبيروت فحلب.
 
4- بدأ العرب يشعرون أنّ وعود الحلفاء لم تكن سوى سراب يحسبه الظمآن ماءً.
 
5- عندما دخل الفرنسيون والإنكليز إلى جبل عامل، اعتبر الوطنيون العامليون أنّ الحلفاء سيمنحونهم الاستقلال التامّ.
 
6- يظهر من خلال تسارع الأحداث أنّ غورو حاول أن يثني العامليين عن توجّههم وعزيمتهم بالانضمام إلى الحكومة العربية الفيصلية في سوريا.
 
7- لقد عبّر جبل عامل عن تأييده لفيصل في اجتماع حاشد عقد في دار الحكومة في دمشق، وكذلك عن تأييده للثورة العربية الكبرى.
 
8- أرسل العامليون وفداً كبيراً إلى دمشق، وقد مثّل جبل عامل في التعبير عن موقفه الشيخ عبد الحسين صادق.
 
9- كان استقبال جبل عامل للاحتلال الفرنسيّ استقبالاً صاخباً محتجّاً، يواجهه بالرفض والمصارحة، والميل عنه ميلاً لا هوادة فيه ولا لين.
 
 
89

77

الدرس التاسع: مقاومة شيعة لبنان للاحتلال الفرنسيّ

 الدرس التاسع:

مقاومة شيعة لبنان للاحتلال الفرنسيّ
 
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أسباب قيام ثورة جبل عامل ضد الفرنسيين.
2- يعرف الدور الجهاديّ لِـ "صادق حمزة" في مواجهة الفرنسيين.
3- يعرف الدور الجهاديّ لِـ "أدهم خنجر" في مواجهة الفرنسيين.
 
91
 
 

78

الدرس التاسع: مقاومة شيعة لبنان للاحتلال الفرنسيّ

 توتّر الأوضاع بين الفرنسيين والعامليين

تكشّفت نوايا الفرنسيين عندما راحوا يكيدون للسوريين واللبنانيين معاً، واندلعت الحروب والمعارك في جبل عامل، بين الثوار العامليين بقيادة صادق حمزة الفاعور[1] وأدهم خنجر[2] 
 
 
 

 
[1] صادق حمزة الفاعور: أحد قادة حركة المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى. برز اسمه مع المناضل الآخر أدهم خنجر، وقد حضر مؤتمر وادي الحجير الذي دعى إليه العلامة عبد الحسين شرف الدين. و قد استشهد صادق حمزة الفاعور عام 1926. ويعتبر الشهيد صادق رمزاً للتعبير عن معاناة العامليين الذين أرهقتهم السلطات العثمانية، وكان أيضاً معبّراً عن رفض العامليين للاستعمار الفرنسي وعملائه. والشهيد من مواليد دبعال عام 1894م، وهو ابن الشيخ علي حمزة الفاعور الذي كان يعلّم القراءة والكتابة في منزله. وقد تميّز منذ صغره بصدقه ووفائه وشجاعته وحبه للضعفاء وعندما كبر ورأى كيف أن قريته والقرى المجاورة تتعرض لاعتداءات الأتراك بسلب المحاصيل والحرّيات والتجنيد الإجباري للشباب، ترك هذا الأمر في نفسه تأثيراً عظيماً وجعله يلجأ إلى المقاومة في البراري والكهوف والوديان. وبدأ الشهيد مقاومته في البداية حين كان يتولى رعي قطيع له إذا به مداهماً من قبل جنديين تركيين أسراه وساقاه إلى مدينة صور ليلتحق بالجيش التركي. ولكنّه سرعان ما هزمهم على الطريق وفر منه بعد أن جرّدهم من أسلحتهم، والتحق هو بالمقاومة والتي كان فيها أخوه حسين يقود بعض المجموعات، وما لبث أن أصبح أحد قادتها في جبل عامل، وعندما اشتدّت قوته لم تعد تجرأ القوات التركية على دخول مناطق نفوذه، ولم يعد يجرأ مأمورو المالية والدرك على الدخول إلى منطقته، وأصبح يفرض الضرائب على المهاجرين والأغنياء، ويغير على قوافل الجيش التركي، فيصادر منها ما تحمل من مؤن ويوزّعها على الفقراء، خاصّة أيام المجاعة سنة 1915. وعندما دخل الحلفاء لبنان قام الفرنسيون بمحاولة إغرائه للتعامل معهم، إلا أنّه رفض, فطاردوه وكانت بينهم وبينه عدّة معارك. 
ونشأت خلال هذه المرحلة الجديدة عدّة فرق مسلحة قاومت الغزو الفرنسي، منها فرقة محمود أحمد بزّي من بنت جبيل، وأخرى بقيادة أبي زكي، وأخرى بقيادة شبلي، وفرقة أدهم خنجر.
[2]  أدهم خنجر الصعبي: إسّمه أدهم بك خنجر, وتربطه علاقة قربى وثيقة بحسن بك الدرويش, أحد كبار مقاومي الجنوب اللبناني, ورجالات النضال ضدّ الاستعمار الفرنسي. وهو مقاوم وثائر لبناني من جنوب لبنان. قاد حركة المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي لبلاد الشام، تكبّد خلالها الفرنسيون خسائر جسيمة، وذلك بالتنسيق مع الثائر العاملي الآخر صادق حمزة الفاعور. ولد أدهم خنجر ونشأ في بلدة المروانية قضاء صيدا منطقة الزهراني. وقد بدأ شرارة المقاومة عقب مؤتمر وادي الحجير, في جبل عامل (جنوب لبنان) عام 1920م الذي ألقى فيه العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين خطبة تاريخية تدعو لمقاومة الاحتلال الفرنسي ووأد الفتن جاء فيها: "أيّها الفرسان المناجيد, إنّ لهذا المؤتمر ما بعده، وسيطبق نبؤه الآفاق السورية ويتجاوب صداه في الأقطار العربية، ويتجاوزها إلى عصبة الأمم، وقد امتدت به إليكم الأعناق، وشخصت الأبصار، فانظروا ما أنتم فاعلون. يا فتيان الحميّة المغاوير, الدين النصيحة، ألا أدلّكم على أمر إن فعلتموه انتصرتم، فوّتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته، واخمدوا بالصبر الجميل الفتنة, فإنّه والله ما استعدى فريقاً على فريق إلا ليثير الفتنة الطائفية، ويشعل الحرب الأهلية حتى إذا صدق زعمه وتحقّق حلمه، استقرّ في البلاد تعلّه حماية الأقليات. ألا وإنّ النصارى إخوانكم في الله وفي الوطن وفي المصير, فأحبّوا لهم ما تحبّون لأنفسكم، وحافظوا على أرواحهم وأموالهم كما تحافظون على أرواحكم وأموالكم، وبذلك تحبطون المؤامرة، وتخمدون الفتنة وتطبّقون تعاليم دينكم وسنّة نبيّكم... إخواني وأبنائي, إنّ هذا المؤتمر يرفض الحماية والوصاية، ويأبى إلا الاستقلال التام الناجز... فاركبوا كلّ صعب وذلول صادقي العزائم، متساهمي الوفاء، وما التوفيق إلا بالله، يؤتي النصر من يشاء... عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير". حاول أدهم خنجر اغتيال الجنـرال هنري غورو, المندوب السامي للاحتلال الفرنسي على لبنان وسوريا, في الثاني والعشرين من شهر حزيران لعام 1921م أثناء مروره في القنيطرة, إلا أن الرصاصات التي أطلقها أدهم خنجر استقرّت في ذراع الجنرال غورو الاصطناعية وتسبب ذلك في نجاته. ولجأ أدهم خنجر إلى سلطان باشا الأطرش, الذي كان في رحلة صيد. لكنّ الفرنسيين اعتقلو أدهم بك خنجر في 7 تموز 1922م في غياب سلطان باشا, ممّا اغضب سلطان باشا الأطرش عندما علم بأمر ضيفه، فكان اعتقال خنجر دافعاً جديداً فجّر غضب رجال الثورة السورية الكبرى والثوار الدروز في جبل العرب ضدّ الاستعمار الفرنسي. أعدم الفرنسيون الثائر البطل في العام 1922م في بيروت. ولا يزال البيت الذي نشأ فيه أدهم خنجر في المروانية قائماً حتى يومنا هذا.
 
92

79

الدرس التاسع: مقاومة شيعة لبنان للاحتلال الفرنسيّ

 من جهة، والفرنسيين وأتباعهم المحلّيين من جهة ثانية. وبدأت الفرق الفرنسية بالتقهقر في بعض المواقع، وحصرت عساكرها في المدن الهامّة. وفي هذا الخضمّ استقبل الناس في جبل عامل نبأ تتويج فيصل ملكاً على سوريا المستقلّة، في 

3 آذار سنة 1920م، استقبالاً حسناً. أمّا الفرنسيون فقد حاولوا جمع العرائض لصالحهم قبل أن ينقضي موعد مؤتمر سان ريمو[1]. ولا بدّ أنّهم اغترّوا بنجاحهم الأخير، فتوجّهوا إلى حلفائهم من بعض الشيعة، وطلبوا منهم أن يقوموا بحملة توقيع اعتراضاً على مملكة فيصل، إلّا أنّهم لاقوا الرفض ورفضوا أن يمرّروا العريضة, إذ لم يكن باستطاعة هؤلاء - وهم من الزعماء - أن يخالفوا الشعور السائد لدى الناس. ولئن كان تتويج فيصل، وهو من الهاشميين، حدثاً سياسياً، فقد اتّخذ صبغة دينية في نظر العامليين, فكيف للمؤمنين العاديين أن يفضّلوا دولة أجنبية على ملك عربيّ، وله فوق ذلك صفة مقدّسة؟
 
صادق حمزة الفاعور وأدهم خنجر يقودان الثورة ضدّ المستعمر
العصائب[2] العاملية في مواجهة الفرنسيين: تزامن انفجار الثورة في جبل عامل سنة 1920م ضدّ الفرنسيين مع انفجار الثورة في العراق ضدّ الإنكليز. وما إن اندلعت
 
 
 

 
[1] معاهدة سان ريمون: في عام 1920م، تم توقيع معاهدة سان ريمو، التي حدّدت مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية في المشرق العربي. ونتيجة لموقف إنكلترا وفرنسا من مقرّرات المؤتمر السوري العام المنعقد في 1920م فقد انعقد المجلس الأعلى للحلفاء، الذي يعتبر امتداداً لمؤتمر لندن المنعقد في (فبراير) 1920م في مدينة سان ريمو الإيطالية، في المدّة ما بين 
التاسع عشر والخامس والعشرين من نيسان (أبريل) 1920م للبحث في شروط الحلفاء للصلح مع تركيا طبقاً لمعاهدة سيفر، والمصادقة عليها بعد إعلان سوريا استقلالها ومناداتها بالأمير فيصل ملكاً عليها في المؤتمر السوري العام في الثامن من آذار (مارس) 1920م. وقد بحث المؤتمر:معاهدة سيفر التي رسمت مستقبل المنطقة العربية التي تضمّ العراق وسوريا بما فيها لبنان والأردن وفلسطين.
والتقسيمات والانتدابات حسب مصالح دول الحلفاء، بحيث تقسم سوريا الكبرى أربعة أقسام: سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين.
وتكون سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والأردن تحت الانتداب البريطاني، بالإضافة إلى العراق. وقد تسبّب وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، في اندلاع صدامات واسعة بين اليهود والعرب في مدينة القدس. فكان ملخّص نتائج المعاهدة ما يلي:
1 -وضع سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي.
2 -وضع العراق تحت الانتداب الإنكليزي.
3 -وضع فلسطين وشرقي الأردن تحت الانتداب الإنكليزي، مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور.
4-  العصابة بكسر العين، من عصب الشيء إذا شدّه ليقوى، جمع عصائب.
5- كانت أقوى العصابات برئاسة صادق الحمزة الذي رفع العلم العربيّ في عديسة وبليدا والطيبة. وقد حظي بالشهرة إذ قام بالكثير من الأعمال الباهرة.
[2] العصابة بكسر العين، من عصب الشيء إذا شدّه ليقوى، جمع عصائب.
93

80

الدرس التاسع: مقاومة شيعة لبنان للاحتلال الفرنسيّ

 المعارك في جبل عامل بين الثوّار والفرنسيين حتّى أصدر المراجع الكبار في النجف الأشرف الفتاوى بضرورة التصدّي للاستعمار الإنكليزيّ في العراق. وقد خرجت ثلّة من المجاهدين العامليين بقيادة صادق وأدهم بعد الوقفة العلمائية المشرّفة، التي أكّدت على حضور الجهاد العامليّ الإسلاميّ العميق الجذور الممتدّ إلى كربلاء الإمام الحسين عليه السلام. لقد استجابت عصبة من الطلائع المؤمنة المجاهدة في جبل عامل، وحملت ما تيسّر من السلاح للدفاع عن حياض الجبل الأشمّ، حماية لدينهم، وصوناً لكراماتهم وأعراضهم وحرماتهم، مستلهمين بذلك ماضي الأجداد المشرّف في مواقع: البحرة وكفر رمّان وسهل الغازيّة ويارون وصور وأنصار وعيناثا، وغيرها من ساحات الشرف والعزّ، سائرين على خطاهم, لأنّهم ما استكانوا يوماً لفاتح، ولا استسلموا لغاصب أو معتدٍ، وكانت حياتهم ترخص دون كراماتهم وحريتهم، لا يأبهون بالنوائب إن وقعت، ولا بالحروب، حتّى وإن كثرت عدّتها أو عددها، وراحوا يرابطون في شعب الأودية وعلى مفارق الطرقات، يكيلون بالعدوّ ضرباً ونكيلاً، رافضين تسلّطه وما يسمى استعماره[1].

 
دور العصائب العاملية
إنّ هذه العصائب كانت التعبير الحسّي عن ثورة العامليين، وإن كانت قد اتّخذت أشكالاً من الفوضى في بعض المراحل الزمنية حيث يكن لها زعيم يروّضها ولا مفكّر يرشدها ولا أدوات لتنظيمها. وقد أدّى تطوّر هذه العصائب إلى تغيير حقيقيّ في تقسيمات المناطق في جبل عامل لناحية النفوذ والسيطرة. وكانت عصائب صادق حمزة منظّمة تنظيماً جيّداً، حيث أنشأت حكومات صغيرة مستقلّة، كانت تحكم في حماها، وظلّت فرق الإمداد في جيش فيصل تدعم هذه العصابات طالما كانت تقاتل
 
 
 

 
[1] كانت أقوى العصابات برئاسة صادق الحمزة الذي رفع العلم العربيّ في عديسة وبليدا والطيبة. وقد حظي بالشهرة إذ قام بالكثير من الأعمال الباهرة.
94

 


81

الدرس التاسع: مقاومة شيعة لبنان للاحتلال الفرنسيّ

 لحساب الحكومة العربية، فكانت تمدّها بالسلاح وتُلحق بها ضابط ارتباط. لم تكن هذه الظاهرة منفردة، بل إنّها كانت تخضع لاستراتيجية مفادها أنّ الحكومة العربية كانت في وضع لا يسمح لها بإعلان الحرب رسمياً على الفرنسيين، فرأت أن تدعم العصائب التي كانت تجهز عليهم تدريجياً. أضف إلى ذلك أنّ العصائب العاملية كانت تناضل في وجه الاحتلال، وتلقى دعم عصابات البدو في منطقة سهل الحولة في فلسطين والجولان الواقعة تحت السيطرة البريطانية.

 
95

82

الدرس التاسع: مقاومة شيعة لبنان للاحتلال الفرنسيّ

 المفاهيم الرئيسة

1- تكشّفت نوايا الفرنسيين عندما راحوا يكيدون للسوريين واللبنانيين معاً. واندلعت الحروب والمعارك في جبل عامل، بين الثوّار العامليين بقيادة صادق حمزة الفاعور وأدهم خنجر من جهة والفرنسيين وأتباعهم المحلّيين من جهة ثانية.
 
2- تزامن انفجار الثورة في جبل عامل سنة 1920م ضدّ الفرنسيين مع انفجار الثورة في العراق في ضدّ الإنكليز. 
 
3- ما إن اندلعت المعارك في جبل عامل بين الثوّار والفرنسيين حتّى أصدر المراجع الكبار في النجف الأشرف الفتاوى بضرورة التصدّي للاستعمار الإنكليزي في العراق.
 
4- كانت أقوى العصائب برئاسة صادق الحمزة الذي رفع العلم العربي في عديسة وبليدا والطيبة. وقد حظي بالشهرة, إذ قام بالكثير من الأعمال الباهرة.
 
5- إنّ هذه العصائب كانت التعبير الحسّي عن ثورة العامليين، وإن كانت قد اتّخذت أشكالاً من الفوضى الوطنية التي لم يكن لها زعيم يروّضها ولا مفكر يرشدها ولا أدوات لتنظيمها. 
 
6- أدّى تطور هذه العصائب إلى تغيير حقيقيّ في تقسيمات المناطق في جبل عامل.
 
96

83

الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير

 الدرس العاشر:

العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير
 
 
أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف ظروف وأسباب عقد مؤتمر وادي الحجير.
2- يعرف دور السيد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير.
3- يدرك النتائج التي ترتّبت على مقرّرات مؤتمر وادي الحجير.
 
97
 

84

الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير

 لماذا عُقِد مؤتمر وادي الحجير[1]؟

اختير وادي الحجير مكاناً لاجتماع العامليين بكل شرائحهم: الزعماء والعلماء والوجهاء، نظراً لتوسّطه البلاد العاملية، ولأنّ الثوّار كانوا يسيطرون عليه، زيادة على أنّه كان صعب المنال على الجيش الفرنسي وقد تداعوا للبحث في الموقف السياسيّ من جميع جوانبه، والنظر في مصير البلاد العاملية على نحو تطمئنّ إليه الجماعة القلقة. ففي يوم السبت 24 نيسان سنة 1920م عُقد المؤتمر. وكان العلماء والزعماء والثوّار حاضرين، وقد ألقى العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين خطاب الافتتاح مذكّراً بالموقف الحرج. وكان لخطابه أثره في النفوس رفضاً وكرهاً لسياسة فرنسا المتّبعة.
 
التداول والمقرّرات
لقد كان كلام السيد عنيفاً ويهدف إلى تعبئة العواطف ضدّ الفرنسيين. وقد عبّر بذلك عن وجهة نظر المؤتمرين حول استقلال جبل عامل ضمن المملكة السورية التي دعوا إليها باسم الوحدة السورية. ثمّ حثّ على التضامن والاتّحاد، وبيّن عاقبة
 
 
 

 
[1] مؤتمر وادي الحجير: هو الاجتماع الحافل الذي دعا إليه العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين، وحضره وجهاء وثوّار جبل عامل في نيسان/ابريل من العام ألف وتسعمئة وعشرين ميلادية. وانعقد المؤتمر في منطقة وادي الحجير، أو ما بات يعرف بمقبرة الميركافا الإسرائيلية بعد عدوان 2006م على لبنان، وذلك بعيداً عن أعين الاحتلال الفرنسي. وكان الهدف منه إطلاق المقاومة ضدّ الانتداب وضدّ تقسيم الوطن العربي. والمعروف جداً لدى العامّة أنّ السيد عبد الحسين شرف الدين كان محور ورجل مؤتمر الحجير الذي قرّر الاستقلال التّام والانضمام إلى الوحدة السورية بزعامة الأمير فيصل. ولكنّ المجهول عند عامّة الناس أيضاً الجهود الحثيثة التي بذلها السيد عبد الحسين شرف الدين على قدميه لاستنهاض الجماهير لجمع التواقيع. وكان من الحضور المناضلان أدهم خنجر الصعبي و صادق حمزة الفاعور.
 
98

85

الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير

الاختلاف والفوضى التي تفسح المجال للقول إنّنا لا نستطيع التمرّس بالحكم الذاتي، ومن هنا يأخذ المستعمر طريقه إلينا. وحثّ على المحافظة على الأمن في البلاد عامّة وتأمين المسيحيين، ثمّ تناول مصحفاً من جيبه، وأخذ اليمين على العلماء والزعماء.

 

وفي نهاية المؤتمر انتخب الشيخ حسين مغنية رئيس العلماء ليرأس وفداً إلى دمشق، لمناقشة ما اتّفق عليه مع فيصل، لكنّه اعتذر لكبر سنه، فانتُدب السيد عبد الحسين شرف الدين والسيد عبد الحسين نور الدين بالإضافة إلى السيد محسن الأمين الذي كان نزيل دمشق والذهاب معاً للقاء فيصل. وقد صُدِّق بالإجماع على الوثيقة المقرّرة في المؤتمر، والتي تضمّنت الموافقة على القرارات الصادرة عن المؤتمر السوري, أي استقلال سوريا الشامل بإمرة فيصل، بلا تقسيم ولا حماية فرنسية.

 

والتحاق جبل عامل بسوريا في إطار الاستقلال الإدراي.

 

وقبل انطلاق الوفد إلى دمشق، طلب العلماء والزعماء من صادق حمزة ورجاله أن يعدهم للفرنسيين، فانصاع صادق لطلبهم واستثنى من كان (إلباً) للفرنسيين, أي عوناً على الوطن واستقلاله مجاهراً بذلك مع الغاصبين المحتلين، مسلماً كان أو مسيحياً, لأنّ جهاده كان حسب قوله: "سياسياً لا دينياً".

 

ماذا بعد المؤتمر؟

نتيجة للمبالغات التي أعقبت عقد مؤتمر وادي الحجير، وبسبب نقل وقائع المؤتمر مشوّهة أو محرّفة والتي كان من شأنها إثارة عواطف المسيحيين واستعداؤهم، وتشجيع المستغلّين لمثل هذه الأحداث، فإنّ التوتر ازداد في جبل عامل بين الشيعة والمسيحيين، وساءت الأحوال. وزاد في الأمر سوءاً، ما فعله الفرنسيون الذين ذرّوا على الجرح ملحاً فسلّحوا أهل 

عين إبل من جهة، وأظهروا عجزهم إزاء العصيان المدني الشامل الذي لجأ إليه العامليون، وقد سوّل المستعمر لأهل عين إبل, فاغترّوا بحصانة موقعهم وبقوّة أسلحتهم، وابتدروا من مكانتهم منصلتين بالعداوة والمجاهرة بالاعتداء، فكانت هذه 

 

99

86

الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير

 حركة استفزازية، قابلها الفتيان العامليون بالاستياء والحفيظة. إذ لا بدّ من القول إنّ القرى التي هوجمت كان يسكنها مسيحيون لم يخفوا انتصارهم لفرنسا، وكان سكّان عين إبل، أكثر القرى المصابة، قد استقبلوا الجنرال غورو بفرحةٍ عارمة، وهم يردّدون هتافات عن تعلّقهم ببلده، لذلك أوفدوا شخصاً لطلب الحماية الفرنسيّة من الضابط المقيم في صور، فاكتفى بتزويدهم بالسلاح، نظراً لعجزه عن إجابة طلبهم، كما أنّهم رفضوا طلب موفد صادق حمزة بإعطاء المتمرّدين سلاحاً ومالاً وبرفع راية فيصل. ومن البديهيّ أنّ سكّان هذه القرى كانوا بذلك يعرّضون أنفسهم لتهمة التعاون مع الفرنسيين أو العمالة لهم من قبل الشيعة. وفي الخامس من أيار سنة 1920م، هاجمت كتيبة محمود أحمد بزّي، يصاحبها وجهاء من آل بزّي، آخر قرية مسيحية في قضاء صور، وهي عين إبل القريبة من بنت جبيل. أمّا صادق حمزة فقد اتّخذ هدفه موقع صور الفرنسي. وقد تابعت كتائب انتشارها في جبل عامل، يشجّعهم في ذلك الوطنيون في دمشق، إذ أرسلوا إلى صادق حمزة رسائل التهنئة يصفونه فيها بأنّه قائد جبل عامل.

 
حملة نيجر التدميرية
في النصف الثاني من شهر أيار انطلقت مفرزتان بأمرة العقيد نيجر من النبطية وصور، والتقتا في تبنين، ثمّ تابعتا سيرهما نحو بنت جبيل، وهما تضمّان أربعة آلاف جندي. والحقيقة أنّ المعركة كانت شرسة فصدّها صادق ورجاله عن التقدّم حتّى نفدت ذخيرتهم، ولم يموّلهم أحد بمدد فتراجعوا. وكان من شجاعة الثوّار أنّ أحدهم اقتحم برج مصفّحة فقتل سائقها، ورجع سالماً!
 
وفي الوقت نفسه كانت فرقة أدهم تتصدّى للحملة على طريق المصيلح. وعند قدومها آتية من الزهراني أمطرها الثوّار بكثافة، لكنّ الحملة كانت مسلّحة تسليحاً كاملاً بالدبابات والمدافع وعربات الجنود فقتل من الحملة عدد لا يستهان به، ثمّ انسحب الثوّار باتّجاه النبطية حتّى منطقة مرجعيون، وهناك التقت مجموعتا صادق
 
100

87

الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير

 وأدهم، ثمّ انتقلتا إلى سهل الحولة، فانضمّت إليهما مجموعات الثوّار هناك، وبدؤوا بمهاجمة الفرنسيين في مرجعيون وضواحيها.

 
تدابير نيجر القمعية ضدّ العامليين
كانت تدابير القمع بحقّ الثوّار وقُراهم قد أثّرت تأثيراً عميقاً في العامليين، ما يسمح بالقول إنّ الفلاحين أصيبوا بالرعب. وما زالت ذكرى قصف القرى الشيعية بالطائرات تُتناقل إلى اليوم في الأحاديث الشفهية. وكان الوجهاء الشيعة كلّهم في نظر الفرنسيين متورّطين فمن لم يفرّ منهم بسبب حكم عليه، وقد استدعى العقيد نيجر في 5 حزيران 
سنة 1920م عشرة منهم إلى مطرانية الروم الكاثوليك في صيدا. وقد وبّخهم بحضور الوجهاء السنّة والمسيحيين، ثمّ ألزم 
الشيعة بتوقيع شروط مفروضة عليهم، وإلّا نفاهم، ومنها أن يدفع الشيعة غرامة مالية قدرها مئة ألف ليرة ذهبية، وأن تدفع الضرائب، وأن يُسلّم المحكومون، وأن يُنشر الأمن في القرى المسيحية، وأن يُسمح لهم بالعودة إلى قراهم. لقد فهم الشيخ أحمد رضا، أنّ هذه السياسة تهدف إلى إفقار الطائفة الشيعية، وقد عانت بالفعل الكثير من الصعوبات في إنعاش اقتصادها بعد هذه الاضطرابات، كما أنّه أشار إلى أنّ شيعة جبل عامل لم ينالوا من الوطنيين أيّة مساعدة، بل كانوا موضع سخريتهم اللاذعة. ولقد كشفت القسوة في قمع العامليين من جهة، وعزلتهم من جهة أخرى "سقوط الجبل" بتعبير السيد عبد الحسين شرف الدين، أي جبل عامل، وقد اعتبر ذلك أساسياً في سقوط القضيّة السورية.
 
101

88

الدرس العاشر: العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين في مؤتمر وادي الحجير

المفاهيم الرئيسة

1- اختير وادي الحجير مكاناً لاجتماع العامليين بكلّ شرائحهم: الزعماء والعلماء والوجهاء.

 

2- ألقى العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين خطاب الافتتاح مذكّراً بالموقف الحرج، وكان لخطابه أثره العظيم والكبير في توجيه النفوس ضدّ سياسة فرنسا المتّبعة.

 

3- كان كلام السيد شرف الدين عنيفاً يهدف إلى تعبئة العواطف ضدّ الفرنسيين. وقد عبّر بذلك عن وجهة نظر المؤتمرين باستقلال جبل عامل ضمن المملكة السورية التي دعوا إليها باسم الوحدة السورية.

 

4- انتخب الشيخ حسين مغنية رئيس العلماء ليرأس وفداً إلى دمشق لمناقشة ما اتّفق عليه مع فيصل، لكنّه اعتذر لكبر سنه.

 

5- صُدِّق بالإجماع على الوثيقة المتّخذة في المؤتمر، والتي تضمّنت الموافقة على القرارات الصادرة عن المؤتمر السوري، أي استقلال سوريا الشامل بإمرة فيصل، بلا تقسيم ولا حماية فرنسية.

 

6- نتيجة للمبالغات التي أعقبت عقد مؤتمر وادي الحجير، وإلى نقل وقائع المؤتمر مشوّهة أو محرّفة والتي كان من شأنها إثارة عواطف المسيحيين واستعداؤهم، فإنّ التوتّر ازداد في جبل عامل بين الشيعة والمسيحيين.

 

7- كانت تدابير القمع بحقّ الثوار وقراهم قد أثّرت تأثيراً عميقاً في العامليين ما يسمح بالقول إنّ الفلاحين أصيبوا بالرعب.

 

 

102

89

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

الدرس الحادي عشر:

جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني



أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرف دور الشيعة في الثورة السورية.

2- يعرف موقف العامليين من الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين.

3- يدرك دور العامليين الجهادي في انتفاضتي بنت جبيل والقسّام في فلسطين.

 

103

90

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 مواقف العامليين الوطنية

جبل عامل بين لبنان الكبير ومعاهدة[1] 1936م: 
صحيح أنّ الانتداب الفرنسيّ استطاع، ولأسباب عديدة داخلية وخارجية، ولعدم التكافؤ في القوى بين العامليين والفرنسيين، أن يوجّه ضربة قوية وقاسية للعمل الوطنيّ في جبل عامل ممثّلاً "بالعصائب" الوطنية التي وقفت بوسائلها المعروفة وبإمكانياتها المتواضعة والمتوافرة ضدّ الفرنسيين والمتعاونين معهم في المنطقة، إلا
 
 
 

 
[1] معاهدة 1936م: المعاهدة البريطانية المصرية لعام 1936م، هي معاهدة وقعت في 26 أغسطس 1936م بين بريطانيا ومصر في قصر الزعفرانة. وقد جاءت المعاهدة بعد إصدار بيان الحكومة بوفاة الملك فؤاد وارتقاء ابنه الملك فاروق العرش، وتمّ تعيين مجلس وصاية نظراً لصغر سنّه، ثمّ شكّل حزب الوفد الوزارة نظراً لفوزه في الانتخابات البرلمانية، وطالب بإجراء مفاوضات مع بريطانيا بشأن التحفّظات الأربعة، ولكن الحكومة البريطانية تهرّبت, فقامت الثورات وتألّفت جبهة وطنية لإعادة دستور 1923م بدلاً من دستور 1930م ولذلك اضطرت بريطانيا للتراجع، واضطرت للدخول في مفاوضات بقيادة السير مايلز لامبسون المندوب السامي البريطاني ومعاونيه وهيئة المفاوضات المصرية المصرية، ولقد اشترطت إنجلترا أن تكون المفاوضات مع كلّ الأحزاب حتّى تضمن موافقة جميع الأحزاب وبالفعل شاركت كلّ الأحزاب عدا الحزب الوطني الذي رفع شعار (لا مفاوضة إلا بعد الجلاء). وبدأت المفاوضات في القاهرة في قصر الزعفران في 2 مارس، وانتهت بوضع معاهدة 26 أغسطس 1936م في لندن. وكانت بنود المعاهدة الآتي:
1.انتقال القوّات العسكرية من المدن المصرية إلى منطقة قناة السويس، وبقاء الجنود البريطانيين في السودان بلا قيد أو شرط.
2.تحديد عدد القوّات البريطانية في مصر، بحيث لا يزيد عن 10 آلاف جندي و400 طيّار مع الموظّفين اللازمين لأعمالهم الإدارية والفنّية, وذلك وقت السلم فقط، أمّا حالة الحرب فلإنجلترا الحقّ في الزيادة، وبهذا يصبح هذا التحديد غير معترف به.
3.لا تنتقل القوّات البريطانية للمناطق الجديدة إلا بعد أن تقوم مصر ببناء الثكنات وفقاً لأحدث النظم.
4.تبقى القوّات البريطانية في الإسكندرية 8 سنوات من تاريخ بدء المعاهدة.
5.تظلّ القوّات البريطانية الجويّة في معسكرها في منطقة القنال ومن حقّها التحليق في السماء المصرية، للطائرات المصرية الحقّ نفسه.
6.في حالة الحرب تلتزم الحكومة المصرية بتقديم كلّ التسهيلات والمساعدات للقوّات البريطانية، وللبريطانيين حقّ استخدام مواني مصر ومطاراتها وطرق المواصلات بها.
7.بعد مرور 20 عام من التنفيذ للمعاهدة، يبحث الطرفان فيما إذا كان وجود القوّات البريطانية ضرورياً، لأنّ الجيش المصري أصبح قادرا على حرية الملاحة في قناة السويس وسلامتها فإذا قام خلاف بينهما فيجوز عرضه على عصبة الأمم.
8.حقّ مصر في المطالبة بإلغاء الامتيازات الأجنبية.
9.إلغاء جميع الاتّفاقيات والوثائق المنافية لأحكام هذه المعاهدة، ومنها تصريح 28 فبراير بتحفّظاته الأربعة.
10.تحويل إرجاع الجيش المصري للسودان، والاعتراف بالإدارة المشتركة مع بريطانيا.
11.حريّة مصر في عقد المعاهدات السياسية مع الدول الأجنبية، بشرط إلا تتعارض مع أحكام هذه المعاهدة.
12.تبادل السفراء مع بريطانيا العظمى.
 
104

91

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 أنّ الفرنسيين لم يستطيعوا أن يقضوا نهائياً على الروح الوطنية المتجذّرة في صدور العامليين وفي أفكارهم ومنطلقاتهم كذلك. والدليل على ذلك أنّ أهالي جبل عامل وممثليهم، لم يفوّتوا فرصة سانحة دون إبراز مواقفهم الأساسية، الممثلّة بدعوتهم الدائمة والمستمرة إلى تأكيد العلاقة مع سوريا وفي رفض الانتداب الفرنسي. وقد عبّرت مجلّة العرفان عن هذه الطموحات من خلال ما ورد فيها عام 1921م: "إنّ الوحدة السورية أنجح دواء لأدوائنا، وأفضل واسطة تجمع قلوبنا، ولا يستحسن ضمّ لبنان الكبير لهذه الوحدة فقط، بل حبّذا ضمّ فلسطين وما وراء الأردن، وما ذلك بعزيز لو صحّت العزائم".

 
إنّ ما جرى في جبل عامل سنة 1920م، كان تمهيداً لما سيجري بعد ذلك في سوريا، حيث كان الفرنسيون يخطِّطون 
بعد احتلال المنطقة إلى إكمال طريقهم لاحتلال الشام، وذلك لإكمال مخطّط سايكس - بيكو.
 
ويشاء القدر أن يكون اعتقال أحد قادة العصائب (أدهم خنجر) من قبل الفرنسيين، الشرارة الأولى التي ألهبت منطقة جبل العرب بأسرها، لتنطلق الثورة السورية الكبرى بعد ذلك.
 
القمع الفرنسيّ ضدّ العامليين
لقد تعرّض العامليون لأساليب القمع الفرنسي المختلفة، وعلى رأسها إعدام البطل العاملي أدهم، فقد صادف وجود أدهم ذات يوم في منزل سلطان باشا الأطرش[1] 
 
 
 

 
[1] سلطان الأطرش: والمعروف باسم سلطان باشا الأطرش (1891م - 1982م) قائد وطني ومجاهد ثوري سوري درزي القائد العام للثورة السورية الكبرى 1925م، ضد الانتداب الفرنسي، أحد أشهر الشخصيات الدرزية في العصر الحديث، عرف بوطنيته وشجاعته ورفضه لتجزئة سورية.
ولد سلطان باشا الأطرش في قرية القريّا في محافظة السويداء منطقة صلد، في الجمهورية العربية السورية في العام 1891م وتوفي في 26/3/1982م، لدى عائلة الأطرش الدرزية الشهيرة. والده ذوقان بن مصطفى بن إسماعيل الثاني مؤسس المشيخة الطرشانية 1869م، كان مجاهداً وزعيماً محلّياً، قاد معركة ضارية في نواحي الكفر عام 1910م، وهي إحدى معارك أبناء الجبل ضدّ سامي باشا الفاروقي، والتي كانت تشنّها السلطنة العثمانية على جبل الدروز لكسر شوكته وإخضاعه لسيطرتها، أعدمه الأتراك شنقاً بسبب تمرده عام 1911م. أماّ والدة سلطان فهي شيخة بنت إسماعيل الثاني.
هو كبير إخوته علي ومصطفى وزيد، وله أختان سمّية ونعايم تزوّج في سن التاسعة عشر من عمره من ابنة عمّه فايز غازية، لكنّها توفّيت بعد فترة قصيرة دون أن يرزق منها أطفالاً. و بعد عودته من الخدمة الإجبارية تزوّج من ابنة الشيخ إبراهيم أبو فخر من بلدة نجران، واسمها تركية ورزق، منها جميع أولاده الذكور: طلال وفواز ويوسف وجهاد توفوا جميعاً، ومنصور وناصر وطلال والإناث: غازية، وبتلاء وزمرد وتركية ونايفة وعائدة ومنتهى.
105

92

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 فقبض الفرنسيون عليه بوشاية، وحُمل إلى السويداء، ثمّ إلى بيروت، وأُعدم هناك. وقد لعب المجاهدون العامليون دوراً بارزاً في دعم الثورة السورية، وكانت الثورات تتلاقى بين سوريا ولبنان، خاصة ثورة سنة 1925م، التي لعب فيها المجاهدون الشيعة في جنوبي لبنان دوراً بطولياً رائعاً. وفي غضون 1927م كانت الثورة السورية ما تزال مشتعلة، أو قبيل 

انتهائها بفترة وجيزة، وخوفاً من انتقال عدوى هذه الثورة مجدّداً إلى منطقة جبل عامل، فقد لجأت السلطات الفرنسية 
إلى جمع السلاح من المنطقة، وكلّفت الجندرمة المحلّية بالتفتيش عنها، وهدّدت باستعمال أقصى العقوبات بحقّ كلّ من يدلي بتصريحات ناقصة أو كاذبة، بقصد الحؤول دون جمع السلاح من صور ومنطقتها.
 
موقف العامليين من دستور سنة 1926م والاستيطان
بعدما وضع الدستور اللبناني سنة 1926م، قابله فريق بالارتياح وآخر بالارتياب، فقد اعتبره الفريق الأوّل بدايةَ الخلاص من الاستعمار الفرنسي، وأنّه ضرب من ضروب التحرّر والانعتاق. لكنّ الفريق الثاني كان يعي أنّ الدستور لا يلبّي الحاجات والمطالب القومية المطلوبة. في الوقت الذي كان أبناء جبل عامل عامّة لا يعرفون المصير الذي سيؤولون إليه، فهم ما زالوا يفكّرون بالانضمام إلى سوريا، وبقوا ينادون بشعار الوحدة السورية ويعملون من أجل تحقيقه.
 
إضافة إلى المواقف العاملية التي برزت حتى عام 1927م فإنّ المواقف نفسها تتكرّر أثناء مؤتمر القدس، بهدف لفت الرأي العام الإسلاميّ إلى خطر الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وقد شارك فيه قيادات سياسية إسلامية وكبار رجال دين مسلمون من 22 دولة، وقد تمثّل جبل عامل بوفد مؤلّف من رياض الصلح، أحمد رضا، الشاعر محمد علي الحوماني والشيخ سليمان ظاهر. وجاءت مشاركة العامليين نتيجة قناعة راسخة بأنّ الخطر الصهيوني لا يطال فلسطين فقط، بل
 
106

93

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 يمتدّ إلى جبل عامل. وكان لمشاركة العامليين وقع مهمّ على المهتمّين بإنجاح المؤتمر. هذا، ولم تتوقّف الاجتماعات والمؤتمرات العاملية أو التي شارك فيها عامليون لإثبات أنّه كان جزءاً من سوريا، وأنّ العامليين لم يكونوا أبداً من طلّاب 

الانتداب الفرنسي.
 
انتفاضة بنت جبيل
في عام 1936م انفجر الوضع في بنت جبيل على أثر تلزيم زراعة التبغ في جبل عامل لشركة فرنسية "الريجي". يومها احتجّ عدد من شبّان البلدة فاعتقلتهم السلطات الفرنسية، فانضمّت القرى المجاورة وعلى رأسها عيناثا إلى مظاهرات صاخبة للمطالبة بإخراج المعتقلين من سجن بنت جبيل، فوقع عدد من المحتجّين صرعى وجرحى, وأعلن جبل عامل الإضراب العام وعمّت المظاهرات الجبل بكامله من أقصاه إلى أقصاه، ولم تنفع أساليب القمع. فكان من نتائج هذه الانتفاضة أنّ السلطة شعرت أنّ جبل عامل بكلّ أهله يقف وقفة واحدة ضدّها وضدّ احتكار شركة الريجي، ودعماً للوحدة السورية والمطالب الوطنية.
 
الشيعة والقضية الفلسطينية
منتصف العام 1936م كان التوتّر على أشدّه في البلاد الخاضعة للانتداب، في أواسط العقد الرابع من القرن العشرين. فقامت الثورات في المناطق الريفية، في أماكن مختلفة من فلسطين، ولا سيما في الجليل الأدنى، حيث قام الشيخ عزّ الدين
 
107

94

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

القسّام[1] بحرب على البريطانيين إلى أن استشهد في ساحة القتال في تشرين الثاني 1935م. واستمرّ العنف إلى بداية الحرب العالمية الثانية. وقد عُزّز بإضراب في المدن دام ستة أشهر. وكان العامليون في الجهة المقابلة من الحدود التي رسمتها سلطات الانتداب، يتابعون هذه الأحداث عن قرب. وكانت العلاقات التي تربط العامليين الجنوبيين بفلسطين أقوى بكثير من تلك العلاقة التي كانت تربطها بالمدن اللبنانية، خاصّة صيدا وبيروت وغيرهما، إلى درجة أن العملة الفلسطينية كانت الأكثر تداولاً في معظم أسواق الجنوب وبلداته. أمّا على الصعيد السياسيّ، فالعلاقة بين الحركة الوطنية في كلّ من القطرين كانت قوية لدرجة أنّها كانت علاقة بين جناحين لحركة وطنية واحدة وهكذا كانت العلاقة أيضاً مع الحركة الوطنية السوريّة التي كانت تقارع الاستعمار الفرنسي.
 
تخوّف العامليون من حلول الاستعمار الاستيطاني الصهيوني على الحدود الفلسطينية, ومن هنا وجدوا أنفسهم معنيين فعلاً بالثورة التي أعلنتها الجماهير الفلسطينية سنة 1936م، حيث كان الثوار الفلسطينيون يتلقّون المعونة المادّية والدعم المعنويّ من وطنيي جبل عامل. ونمت العلاقة الوثيقة بين بنت جبيل ومنطقة صور من جهة والثوار الفلسطينيين من جهة ثانية، حتّى أنّ شهداء عامليين استشهدوا، وهم يقاتلون إلى جانب إخوانهم في فلسطين.
 
 
 

 
[1] القسّام: هو عزّ الدين عبد القادر مصطفى يوسف محمد القسّام (19 نوفمبر 1871م - 20 نوفمبر 1935م)، وُلِد في مدينة جبلة في محافظة اللاذقية في سوريا. ينسب إليه الجناح العسكري لحركة حماس. والده عبد القادر بن محمود القسّام. كان القسّام منذ صغره يميل إلى العزلة والتفكير. تلقّى دراسته الابتدائية في كتاتيب بلدته جبلة، ورحل في شبابه إلى مصر حيث درس في الأزهر، وكان من عداد تلاميذ الشيخ محمد عبده والعالم محمد أحمد الطوخي. كما تأثّر بقادة الحركة النشطة التي كانت تقاوم المحتل البريطاني بمصر.
ولمّا عاد إلى بلاده سوريا عام 1903 م تولّى الخطابة في جامع السلطان إبراهيم، وأقام مدرسة لتعليم القرآن واللغة العربية في مدينة جبلة. في عام 1920م عندما اشتعلت الثورة ضدّ الفرنسيين شارك القسّام في الثورة فحاولت السلطة العسكرية الفرنسية شراءه وإكرامه بتوليته القضاء، فرفض ذلك، وكان جزاؤه أن حكم عليه الديوان السوري العرفي بالإعدام. قاد أوّل مظاهرة تأييداً للليبيين في مقاومتهم للاحتلال الإيطالي، وكوّن سرية من 250 متطوعاً، وقام بحملة لجمع التبرعات.
108

95

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 دفاع علماء الشيعة عن فلسطين

غادر عدد كبير من أبناء فلسطين بلادهم بعد المذابح الرهيبة التي كان الصهاينة يرتكبونها، فوقف أبناء جبل عامل من إخوانهم موقفاً مشرّفاً وقدّموا لهم البيوت والفرش والطعام. وباعتراف فوزي القاوقجي نفسه في مذكّراته فإنّ المعارك الحامية تلك التي دارت على أرض جبل عامل دفاعاً عن القضية الفلسطينية، كانت من أشدّ ما عرفته فلسطين من معارك. ولعلّ الحماسة الدينية والقومية المتجذّرة في قلوب العامليين مردّها إلى مواقف المراجع والعلماء. فها هو السيد محسن الأمين يعلن الجهاد المقدّس في فلسطين، ويوجّه نداءً يقول فيه: "أيّها العرب، أيّها المسلمون، إنّ لكم في فلسطين تراثاً، وإنّ لكم في كلّ غور ونجد وحزن وسهل فيها دماً عُجن به ترابها، واختلط به ماؤها ونباتها، وإنّ
إخوانكم في فلسطين قد أقضّ مضاجعهم ما هم فيه من محنة وبلاء، وأسهر عيونهم وبرّح أجسامهم ما يلاقونه 
من كيد الخصوم، وإنّ بني أبيكم ليقدمون إقدام الأتيّ ويدافعون دفاع المستميت، فلا تظنّوا عليهم ببذل التافه الحقير وهم بذلوا الجليل العظيم...".
 
ومِثْلُه السيد عبد الحسين شرف الدين يستصرخ الأمّة بنداء آخر: "أيّها المسلمون، أيّها العرب، هذا شهر المحرّم الدامي الذي انتصرت فيه عقيدة، وبُعث فيه مبدأ. ألا إنّ قتلة الحسين عليه السلام بكر في القتلات، فلتكن قدوتنا فيه بكراً في القدوات، ولنكن نحن في فلسطين مكان سيّد الشهداء من قضيّته، ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من حياة ومجد وخلود.

أيّها العرب، أيّها المسلمون، لقد حُمَّ الأجل وموعدنا فلسطين، عليها نحيا وفيها نموت والسلام عليكم يوم تموتون شهداء، ويوم تبعثون أحياء".
 
109

96

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 جبل عامل والقضية الفلسطينية

بعد ضياع فلسطين قضمت الدولة الصهيونية آلاف الدونمات من أراضي قرى جبل عامل، وضمّتها إليها، كما اقتطعت بريطانيا من قبل قرى طربيخا وصلحا وقدس والنبيّ يوشع وهونين والمالكية[1] وآبل والمنصورة وغيرها من المزارع والقرى الصغيرة. وبعد الهزيمة التي مُني بها العرب عام 1967م، أصبحت قرى جبل عامل على موعد دائم مع الاعتداءات الإسرائيلية والقذائف والصواريخ. 
 
وما كانت الثورة الفلسطينية لتثبت أقدامها في لبنان لولا الدفق الجماهيري المؤيّد لها، حيث كانت تمتلك أرضية صلبة في الجنوب اللبناني. ولقد كان للشعارات والنداءات التي أطلقها السيد موسى الصدر دويّ قويّ في أوساط المسلمين اللبنانيين عامّة وأهالي جبل عامل خاصّة "إنّ التعامل مع إسرائيل حرام" وشعار "إسرائيل شرّ
 
 
 

 
[1] القرى السبع: بعد نكبة فلسطين في العام 1948م، استمرّت الأعمال التوسّعيّة الصهيونية، فاحتلّت 17 قرية، وقد وصل لواء كرملي الإسرائيلي إلى وادي دوبا في الغرب وإلى نهر الليطاني في الشمال. وارتكب الصهاينة في بلدة حولا مجزرة ذهب ضحيّتها حوالي 81 شخصاً حسب مصادر الأهالي، لكنّ الضغوط السياسية الفرنسية فرضت على بريطانيا وبالتالي إسرائيل التراجع إلى ما سمّي بخط الهدنة. لكنّ أجزاءً واسعة من القرى السبع بقيت ضمن حدود فلسطين المحتلة، تتسع وتضيق حسب ما استقرّ عليه وضع هذه الحدود، فمن أصل 12840م دونماً في هونين، تحرّر 2900 دونم، وهذه الأراضي تتداخل مع قرى: مركبا، رب ثلاثين، عديسة، وحولا، وبقيت من أراضي قدس البالغة 1200 دونم، 200 دونم متداخلة مع أراضي: عيترون في منطقة أبو شوارب. وبالنسبة لتربيخا التي تبلغ مساحتها 35000 دونم، هناك 5000 دونم داخل الجزء المحرّر وهو يتداخل مع: راميا، عيتا الشعب، يارين، ومروحين. وكذلك الأمر بالنسبة إلى صلحا التي تبلغ مساحتها 10 آلاف دونم، هناك 444 دونما في المنطقة المحرّرة المتداخلة مع: مارون الراس، يارون وعيترون، أمّا قرية النبيّ يوشع فمساحتها 2000 دونم، لكن ليس لها أرض مشتركة مع الجوار، غير أنّ آبل القمح البالغة 17 ألف دونم، فلها 10 آلاف دونم داخل الأراضي المحرّرة، وبالنسبة للمالكية التي تقدّر مساحتها بـ 12 ألف دونم، هناك 25 دونم في الجزء المحرّر وتتداخل مع أراضي عيترون.
مزايا القرى السبع: تميّزت القرى الجنوبية السبع، والتي اختصرت هذه التسمية القرى والبلدات والمزارع المحتلة في أصبع الجليل، بموقعها الاستراتيجي، فشكّلت مركزاً أمنياً متقدّماً يحمي المستوطنات الشمالية، فهذه المنطقة تضمّ مرتفعات بالغة الأهمّية تشرف على كلّ الأراضي الجنوبية، وقد سبق لبريطانيا أن اعتمدتها في استراتيجيتها العسكرية فأنشأت على طول الحدود ثكنات عسكرية عبارة عن أبراج عالية، لمراقبة تحرّكات الثوار، ورصد أيّ عمل عسكري عربي أو غيره. وشجّعت على بناء المستوطنات الصهيونية لتكريس الاحتلال، وتحويل هذه المستوطنات إلى معسكرات لمنع تسلل المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب إلى فلسطين.
واحتفظ أهالي القرى الجنوبية السبع بهوية دولة لبنان الكبير، التي حصلوا عليها في العام 1920م، وحتى دخول اتفاقية نيو كومب ـ بوليه حيز التنفيذ في 30 آب/أغسطس 1924م عندما ضُمّت القرى إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة، إلا أنّه من الواضح أنّ هذه القرى لم تُسلخ عن لبنان رسمياً إلا بموجب اتفاق القدس بتاريخ 2 شباط/فبراير 1926م الموقع بين بريطانيا وفرنسا، والمسمّى بـ "اتّفاق الجوار" والذي تنازلت فيه الثانية للأولى عن الأراضي اللبنانية في الحولة وجوارها، وذلك مقابل منح شركة فرنسية امتياز تجفيف المستنقعات.
110

97

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 مطلق" وشعار "بعمامتي هذه سوف أحمي الثورة الفلسطينية" وشعار "إنّ شرف القدس يأبى أن يتحرّر إلا على أيدي الشرفاء"، وغيرها من الشعارات التي جعلت كلّ القوى والتيّارات الوطنية والإسلامية تتعاطف مع الثورة الفلسطينية. وكان للإضرابات والمظاهرات المسلّحة التي تقسم بالله على مواصلة الجهاد أثرها على الساحة السياسية وامتداد العمق الجماهيري للثورة. كما لاقت دعوة "المحرومين في وطنهم والمحرومين من وطنهم"، التفاف الجماهير المسلمة حيث ربط السيد بين الظلم الذي يحيط باللبنانيين في وطنهم والوضع البائس الذي يعيشه الفلسطينيون خارج وطنهم، فكانت (حركة المحرومين) التي مدّت نظرها للمحرومين والمستضعفين دون الالتفات لهويّتهم ومذهبهم.

 
وها هو السيد موسى الصدر يتطلّع إلى واقع البلاد والأمّة وحاضرها ومستقبلها في مهرجان بعلبك في 19 آذار 1974م، ويطالب الدولة بإنشاء مخيّمات التدريب فقال:  "... أنا سأطلب منكم إنشاء مخيّمات التدريب، مخيّمات في البقاع والجنوب، وأنا سأتدرّب معكم. لا تعتقدوا أنّ المعركة مع إسرائيل قاربت نهايتها، وأنّ العالم العربي سينام مرتاحاً. نربّي جيلاً يتمكّن من حمل السلاح... نحن مضطرون إلى تدريب أولادنا وتسليحهم لكي نحفظ كرامة بيوتنا ونحفظ أعراضنا ونؤدّي دورنا في صيانة الوطن".
 
الاجتياح الإسرائيلي سنة 1978م
سبق الاجتياح الإسرائيلي لجبل عامل عام 1978م عملية فدائية جريئة قامت بها مجموعة من الفدائيين في عمق الأراضي الإسرائيلية على شواطئ حيفا، فما كان من حكّام إسرائيل إلا أن اتّخذوا من هذه العملية ذريعة لاجتياح جبل عامل.
 
وفي الخامس عشر من آذار سنة 1978م بدأ اليهود هجومهم الواسع النطاق على طول الحدود مع لبنان من الناقورة غرباً حتى راشيا شرقاً، على جبهة يبلغ طولها مئة
 
111

98

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 كيلو متر تقريباً. وقد بدأ الهجوم البريّ بعد التغطية بالقصف الجويّ والمدفعي البعيد المدى المكثف، ثمّ دفعوا بقوّاتهم المحمولة تدعمها الآليات الضخمة، وقد قدّر مجمل المشتركين في هذه الهجمة بـِ 28 ألف جندي تقريباً، و50 دبابة وأربعة ألوية مدرّعة، تساندها المدفعية الصاروخية.

 
وقد تعاونت الميليشيات المسيحية والصهاينة على تدمير القرى وتشريد السكّان، واقتحم رجال سعد حدّاد بالتعاون مع الصهاينة بلدة الخيام فقتلوا أكثر من ثمانين مدنياً عاجزاً، ودمّروها تدميراً شاملاً. أما قرية العبّاسية فقد هاجمها الطيران الصهيونيّ وقصف المسجد الجامع، وذلك عندما التجأ الأهالي للاحتماء به. لقد قصف قصفاً عنيفاً فدُمّر على رؤوس من كانوا فيه، ولم ينجُ منهم أحد! وقتل أكثر من سبعين شخصاً أكثرهم من النّساء والأطفال! ومارسوا المجازر نفسها في بلدات كونين والغندورية وفرون، حيث تشرّد السكان وهربوا نحو صيدا وبيروت، وأقيمت لهم المخيّمات في صيدا، وافترشوا ملاعب المدارس ومداخل البنايات في بيروت، واستقرّت القوات الإسرائيلية على مقربة من نهر الليطاني، بالقرب من برج رحال.
 
وقد سُمّيت عملية الاجتياح هذه: "عملية الليطاني", لأنّ الليطاني هو الحلم الذي يراود اليهود منذ ما قبل مطلع القرن العشرين، ووصل الجيش الإسرائيلي إلى بلدة عين بعال على مقربة من مدينة صور وبالقرب من مخيم الرشيدية جنوب صور وعلى مقربة من جسر القعقعية الواقع على نهر الليطاني.
 
112 
 

99

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 المفاهيم الرئيسة

1- استطاع الانتداب الفرنسي ولأسباب عديدة داخلية وخارجية، ولعدم التكافؤ في القوى بين العامليين والفرنسيين، أن يوجّه ضربة قوية وقاسية للعمل الوطنيّ في جبل عامل.
 
2- لم يستطع الفرنسيون أن يقضوا نهائياً على الروح الوطنية المتجذّرة في صدور العامليين وفي أفكارهم ومنطلقاتهم كذلك.
 
3- إنّ ما جرى في جبل عامل سنة 1920م، كان تمهيداً لما سيجري بعد ذلك في سوريا، حيث كان الفرنسيون يخطِّطون بعد احتلال المنطقة إلى إكمال طريقهم لاحتلال الشام.
 
4- يشاء القدر أن يكون اعتقال أحد قادة العصابات (أدهم خنجر) من قبل الفرنسيين، الشرارة الأولى التي ألهبت منطقة جبل العرب بأسرها.
 
5- بعدما وضع الدستور اللبناني سنة 1926م، قابله فريق بالارتياح وآخر بالارتياب.
 
6- في عام 1936م انفجر الوضع في بنت جبيل على أثر تلزيم زراعة التبغ في جبل عامل لشركة فرنسية "الريجي".
 
7- كان التوتّر على أشدّه في البلاد الخاضعة للانتداب، في أواسط العقد الرابع من القرن العشرين. فقامت الثورات في المناطق الريفية، في أماكن مختلفة من فلسطين.
 
8- تخوّف العامليون من حلول الاستعمار الاستيطاني الصهيوني على الحدود الفلسطينية، ومن هنا وجدوا أنفسهم معنيين فعلاً بالثورة التي أعلنتها الجماهير الفلسطينية.
 
113

100

الدرس الحادي عشر: جهاد شيعة لبنان من لبنان الكبير حتى الاستقلال اللبناني

 9- كان عدد كبير من أبناء فلسطين قد بدؤوا يغادرونها بعد المذابح الرهيبة التي كان الصهاينة يرتكبونها.

 
10- بعد ضياع فلسطين قضمت الدولة الصهيونية آلاف الدونمات من أراضي قرى جبل عامل وضمّتها إليها، كما اقتطعت بريطانيا من قبل قرى طربيخا وصلحا وقدس والنبيّ يوشع وهونين والمالكية وآبل والمنصورة.
 
11- لقد كان للشعارات والنداءات التي أطلقها السيد موسى الصدر دويّ قويّ في أوساط المسلمين اللبنانيين عامّة وأهالي جبل عامل خاصّة "إنّ التعامل مع إسرائيل حرام".

114 
 

101

الدرس الثاني عشر: دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم

 الدرس الثاني عشر:

دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف الظروف المحيطة لانطلاقة عمل الإمام موسى الصدر في لبنان.
2- يفهم دور الإمام الصدر في تنظيم شؤون الطائفة الشيعية.
3- يدرك الدور الجهاديّ والسياسي للإمام موسى الصدر.
 
115

102

الدرس الثاني عشر: دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم

 الإمام الصدر في سطور

نسبه: الإمام السيد موسى الصدر، هو ابن السيد صدر الدين بن إسماعيل بن صدر الدين بن السيد صالح شرف الدين من جبل عامل. تعرّض السيد صالح لاضطهاد الدولة العثمانية زمن الجزّار 1143هـ، وكان يملك مزرعة اسمها (شدغيت) بالقرب من قرية معركة (قضاء صور). استطاع السيد صالح الفرار من سجن عكّا، حيث وصل إلى النجف الأشرف، وأقام بها.
 
تمكّن أبناؤه من بلوغ درجة عالية من العلوم الدينية، وأحدهم جدّ السيّد موسى الصدر السيّد صدر الدين الذي انعقدت له المرجعية في العراق. قاد السيد صدر الدين والد السيد موسى حركة دينية تقدّمية في شبابه في العراق، ثمّ هاجر إلى إيران ليستقرّ أخيراً في قم المقدسة. 
نشأته وعلومه: ولد السيد موسى الصدر في 15 نيسان 1928م في قمّ. وتلقّى علومه في مدارسها الابتدائية والثانوية، كما تلقّى دراسات دينية في الحوزة العلمية في قم المقدّسة، وتابع دراسته الجامعية في كلّية الحقوق بجامعة طهران، وحاز أيضاً على إجازة في الاقتصاد. وكان يتقن اللغتين العربية والفارسية، وألمَّ باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وصار أستاذاً محاضراً في الفقه والمنطق في جامعة قم الدينية. انتقل إلى النجف الأشرف سنة 1954م. جُمعت محاضراته وأبحاثه في كتابين (منبر ومحراب) و(الإسلام عقيدة راسخة ومنهاج حياة).
 
قدومه إلى لبنان: قدم السيد موسى الصدر إلى لبنان أول مرة سنة 1955م، وحلَّ ضيفاً على قريبه السيد عبد الحسين شرف الدين. وبعد وفاة الأخير استدعت مدينة 
 
116

103

الدرس الثاني عشر: دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم

 صور السيد موسى الصدر فلبَّى الدعوة في أواخر سنة 1959م، وأقام في مدينة صور.

 
وكان ذلك بناءً على وصية العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين قدس سره، إضافة إلى تشجيع زعيم الحوزة العلمية في قم للسيّد موسى الصدر على السفر، حيث كان الإمام الصدر في إيران حينها. 
 
نشاطاته السياسية والاجتماعية
بدأ السيّد موسى الصدر نشاطاته بالرعاية الدينية والخدمات العامّة في مدينة صور، موسّعاً نطاق عمله بالمحاضرات والندوات والاجتماعات والزيارات، ثمّ راح يتحرّك في مختلف قرى جبل عامل، ثمّ في قرى منطقة بعلبك والهرمل، ثم تجوّل في باقي مناطق لبنان متعرّفاً إلى أحوالها ومحاضراً فيها ومنشئاً علاقات مع مختلف الطوائف وداعياً إلى نبذ التفرقة الطائفية، وداعياً إلى نبذ المشاعر العنصرية وإلى مكافحة الآفات الاجتماعية والفساد والإلحاد. أنشأ العديد من المؤسسات الاجتماعية وكان أهمها (مدرسة جبل عامل المهنية) في البرج الشمالي في صور، وأنشأ معهداً للدراسات الإسلامية.
 
سافر السيد إلى العديد من البلدان العربية والأفريقية والأوروبية، مساهماً في المؤتمرات الإسلامية، ومحاضراً ومتفقداً أحوال الجاليات اللبنانية والإسلامية.
 
تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى:
عقد العزم على تنظيم شؤون الطائفة الشيعية في لبنان أسوة ببقية الطوائف، فتوصّل إلى الحصول على مرسوم جمهوري 
يسمح بإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأوّل في 19/2/1967م. وانتخب السيد موسى الصدر الرئيس الأوّل للمجلس شيعي في 23/5/1969م. وقد سعى السيد موسى الصدر بعد تولّيه رئاسة المجلس الشيعي لتنظيم شؤون الطائفة الشيعية والقيام بدور إسلامي كامل، وعمل على الوحدة بين المسلمين والتعاون والتعايش مع الطوائف الأخرى، وحفظ وحدة لبنان واستقلاله
 
117

104

الدرس الثاني عشر: دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم

 وسلامة أراضيه، وعمل جاهداً لمحاربة الفقر والجهل والتخلّف والفساد الخلقي والظلم الاجتماعي، ودعا إلى دعم المقاومة الفلسطينية والمشاركة مع الدول العربية لتحرير الأراضي المغتصبة.

 
الدور الجهادي للإمام موسى الصدر
قاد الإمام حملة المطالبة بتحصين قرى الحدود وتسليح أبناء الجنوب وتدريبهم للدفاع، ووضع قانون خدمة العلم وتنفيذ المشاريع الإنمائية في جبل عامل، وقاد حملة توعية لعدم النزوح من القرى الحدودية ومجابهة الاعتداءات الإسرائيلية.
 
قاد التحرّكات الشعبية لإنقاذ الجنوب على أثر الاعتداءات الإسرائيلية منذ أوائل العام 1970م حيث توصّل إلى الاتّفاق مع الرؤساء الروحيين للطوائف في لبنان إلى تأسيس هيئة نصرة الجنوب، واستطاع أن يتوصّل إلى إنشاء مجلس الجنوب بمرسوم جمهوري في 2/6/1970.
 
ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية وتجاهل أهل الحكم بعد العام 1970م المطالب المحقّة للجنوبيين، أسّس السيد موسى الصدر عام 1974م حركة المحرومين، وَصَعَّدَ حملته من خلال المهرجانات الشعبية المتنقّلة في المناطق اللبنانية، ونجح في إرغام الحكومة على تنفيذ العديد من المطالب. لكنّ تغيّر الأوضاع السياسية في لبنان واندلاع شرارة الحرب الأهلية بعد استشهاد النائب معروف سعد وحادثة أوتوبيس عين الرمانة، اضطرّ السيد الصدر إلى إنشاء أفواج المقاومة اللبنانية أمل في 20/1/1975م.
 
موقفه من الحرب الداخلية في لبنان: بذل السيد الصدر المساعي الحميدة والجهود الحثيثة لوأد الفتنة وتهدئة الوضع، ووجّه العديد من النداءات والدعوات بوجوب المحافظة على العيش المشترك واعتماد الحوار واتّباع السُّبل والوسائل الديمقراطية لتحقيق الإصلاحات السياسية والاجتماعية، ورفض القهر الطائفي منادياً بالمحافظة
 
118

105

الدرس الثاني عشر: دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم

 على التعايش اللبناني الفلسطيني وصيانة الثورة الفلسطينية، وعمل على فكّ الحصار عن قرية القاع المسيحية في منطقة الهرمل.

 
التعايش الإسلامي المسيحي
أكّد السيد الصدر على وجوب استمرار التعايش الطائفيّ، والدعوة إلى الحوار ووقف القتال، وتبنّي مطالب تحقيق العدالة الاجتماعية، وإنصاف المحرومين، والتمسّك بالسيادة الوطنية، ورفض التقسيم ودعم القضية الفلسطنية وأعلن ورقة الحوار الوطني.
 
وبعد مجزرة السبت الأسود في 6/12/1975م أكّد أنّ ملامح تقسيم لبنان قد برزت، وحذّر من إقامة إسرائيل جديدة 
ومن تصفية القضية الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب، ودعا للتدريب وحمل السلاح دفاعاً عن النفوس ومنعاً للتقسيم.
 
نادى السيد الصدر بوجوب فصل الأزمة اللبنانية عن أزمة الشرق الأوسط، وبوضع اتّفاق جديد ينظّم العلاقات اللبنانية – الفلسطينية، ودعا الحكم اللبناني لاتّخاذ المواقف الحازمة ممّن يعرقلون مسيرة السلام والوفاق.
 
سعيه لإنقاذ جنوب لبنان
لم تدخل قوات الردع العربية جنوب لبنان، ولم تتمكّن السلطة اللبنانية من بسط سيادتها على المنطقة، واشتدّت محنة الجنوب، وباتت المنطقة مسرحاً لأحداث خطيرة تهدّد مصيرها، فيما راح السيد موسى الصدر يتابع مساعيه مع القيادات اللبنانية والعربية، ويرفع صوته بالخطابات والنداءات والأحاديث الصحفية محذّراً من كارثة في جنوب لبنان، ومن خطر تعريضه للاحتلال الإسرائيلي ولمؤامرات التوطين. وبعد تعرّض هذه المنطقة للاجتياح الإسرائيلي في 14/3/1978م قام السيد الصدر بجولة
 
119

106

الدرس الثاني عشر: دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم

 على ملوك ورؤساء بعض الدول العربية مطالباً بإبعاد لبنان عن الصراع العربي. وبعد زيارته لسوريا والأردن والسعودية والجزائر انتقل إلى ليبيا، بناءً على إشارة من الرئيس الجزائري بتاريخ 25/8/1978م.

 
إخفاؤه في ليبيا 
سافر السيد موسى الصدر في 25/8/1978م إلى ليبيا للاجتماع بالعقيد القذافي. وقد شوهد في ليبيا آخر مرّة في ظهر يوم 31/8/1978م، وبعدها انقطعت أخباره وأخبار رفيقيه، وأثيرت ضجّة عالمية حول اختفائه، وادّعى النظام الليبي أنّه سافر ورفيقيه إلى إيطاليا، فيما أنكرت هذه الدولة وصول السيد ورفيقيه إليها. وما زالت قضية إخفاء السيد الصدر ورفيقيه مبهمة حتى بعد زوال حكم القذافي، ولم يُعرف أيّ شيء عن مصيرهم إلى الآن.
 
 
120 
 

107

الدرس الثاني عشر: دور الإمام السيّد موسى الصدر في حفظ شيعة لبنان وقوّتهم

 المفاهيم الرئيسة

1- الإمام السيد موسى الصدر، هو ابن السيد صدر الدين بن إسماعيل بن صدر الدين بن السيد صالح شرف الدين من جبل عامل ولد السيد موسى الصدر في 15 نيسان 1928م في قم.
 
2- قدِم السيد موسى الصدر إلى لبنان أوّل مرة سنة 1955م، وحلَّ ضيفاً على قريبه السيد عبد الحسين شرف الدين.
 
3- بدأ السيد موسى الصدر نشاطاته بالرعاية الدينية والخدمات العامّة في مدينة صور.
 
4- سافر السيد إلى العديد من البلدان العربية والأفريقية والأوروبية، مساهماً في المؤتمرات الإسلامية ومحاضراً ومتفقّداً أحوال الجاليات اللبنانية والإسلامية.
 
5- عقد العزم على تنظيم شؤون الطائفة الشيعية في لبنان أسوة ببقية الطوائف، فتوصّل إلى الحصول على مرسوم جمهوري يسمح بإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في 19/2/1967م.
 
6- سعى السيد الصدر بعد تولّيه رئاسة المجلس الشيعي لتنظيم شؤون الطائفة الشيعية والقيام بدور إسلامي كامل، وعمل على عدم التفرقة بين المسلمين والتعاون مع الطوائف الأخرى، وحفظ وحدة لبنان واستقلاله.
 
7- مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية وتجاهل أهل الحكم بعد العام 1970م المطالب المحقّة للجنوبيين أسّس السيد موسى الصدر عام 1974م حركة المحرومين.
 
8- سافر السيد الصدر في 25/8/1978م إلى ليبيا للاجتماع بالعقيد القذافي وقد شوهد في ليبيا آخر مرّة في ظهر يوم 31/8/1978م، وبعدها انقطعت أخباره.
 
121

108

الدرس الثالث عشر: الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م

الدرس الثالث عشر:

الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م



أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرف تاريخ ولادة المقاومة الإسلامية في مواجهة الاحتلال الصهيونيّ.

2- يفهم المعادلات الجديدة التي أرستها المقاومة في مواجهة الاحتلال.

3- يدرك ردّة فعل الصهاينة وأعمالهم الإجرامية في مواجهة المقاومة.

123 

109

الدرس الثالث عشر: الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م

 مدخل

اجتاحت إسرائيل لبنان عام 1982م مخلّفة الكثير من الدمار والضحايا في مدنه وقراه وسط مباركة أميركية كاملة واكتفاء عربي ودولي بالتنديد. وكما حصل في آذار 78م كان التّبرير للاجتياح ضرب الفلسطينيين وأماكن تجمّعهم، مع 
فارق وحيد هو إصرار إسرائيل على توسيع رقعة الاحتلال وقيامها بعمليات إنزال عنيفة، استمرّت حتّى ساعات الفجر الأولى، مستهدفة منطقة الأوّلي عند حدود مدينة صيدا، وقبلها منطقة الزهراني وشواطىء صور وضواحيها[1].
 
المواجهة الخالدة
كان التيّار الثوريّ الإسلاميّ قد ترسّخ في لبنان بسبب وجود الأجواء الملائمة، وكانت التجربة الأولى على مشارف بيروت في منطقة خلدة حيث تصدّى الإسلاميون المؤمنون على الطريق الساحلي بين الناعمة وخلدة. وقد كرّرت القوّات الإسرائيلية محاولات الإنزال في منطقة خلدة أكثر من مرّة طوال يوم التاسع من حزيران عام 1982م إلّا أنّ جميع هذه المحاولات باءت بالفشل نتيجة المقاومة الشديدة التي جُوبهت بها من قبل القوات المشتركة (اتّحاد الطلبة المسلمين وشباب حركة أمل وبعض الشباب المؤمن الملتزم).
 
 
 

 
[1] حرب السادس من حزيران سنة 1982م تختلف عن حرب الخامس من حزيران سنة 1967م بشيء واحد فقط، هو الثمن الذي تدفعه إسرائيل على أبواب صور وعلى تخوم النبطية، من دمار لدباباتها، وقتل لجنودها وأسر لهم، ومن إسقاط لطائراتها، وأسر لطياريها وهو ما لم يحدث مطلقاً في حرب حزيران سنة 1967م.
124

110

الدرس الثالث عشر: الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م

 وقد أنزلت إحدى البوارج الإسرائيلية ما بين 12 و 15 آلية ودبابة برمائية. ولدى وصول الآليات والدبابات إلى الطريق شنّت القوات المذكورة هجوماً صاعقاً عليها وواجهتها بقذائف الآر بي جي، والرشقات النارية الغزيرة، فاندفعت الآليات والدبّابات باتّجاه مدينة الزهراء وهناك كانت مجموعة من عناصر حركة أمل تنتظر الغزاة فأمطرتهم بوابل من القذائف والرصاص، فاندلعت النيران في ثلاث دبابات واحترقت مع من كان في داخلها من الجنود الإسرائيليين وامتدّت 

المعركة إلى أحد المباني المجاورة الذي هرب إليه جنود إسرائيليون كانوا قد تركوا آلياتهم ولاحقتهم عناصر القوات المشتركة 
"المؤمنة" إلى داخل المبنى وقضت عليهم.
 
وفي هذه الأثناء استولى المجاهدون على إحدى المدرّعات الصهيونية وأخرجوها من ميدان المعركة وجاؤوا بها إلى داخل بيروت (بئر العبد)، فيما راح الطيران الحربيّ الصهيونيّ يدكّ أرض المعركة بالصواريخ الثقيلة، فانهارت إحدى البنايات بكل طبقاتها بينما كان يتمترس بداخلها عدد من المجاهدين، فانتقلوا إلى جوار ربّهم شهداء أبرار.
 
سقوط نظرية أمن الجليل
وما إن وصل الحرس الثوريّ الإيرانيّ إلى بعلبك بعد الغزو الإسرائيلي، حتّى باشر بتدريب الجماهير المؤمنة، المسلّحة على 
فنون القتال والقيام بعمليات عسكرية جعلت مدن وقرى جبل عامل تتضامن مع هؤلاء المجاهدين، فنشطت العمليات والكمائن والهجمات ضد جيش الاحتلال الإسلائيلي.
 
وأدّى تصاعد المقاومة في المناطق التي يحتلّها الجيش الإسرائيلي في الجنوب إلى أن تذهب أهداف الغزو أدراج الرياح، فقد اضطرت أميركا إلى الهرب هي وحلفاؤها من
 
125

 


111

الدرس الثالث عشر: الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م

 بيروت[1] للنجاة من العمليات، بعد تدمير مركز "المارينز" في بيروت ومركز المظليين الفرنسيين في بيروت.

 
ومع ارتفاع عدد القتلى والجرحى، ازداد الضغط الداخلي محذّراً من استمرار احتلال جنوب لبنان، فما كان من القادة الصهاينة إلا أن أنشؤوا (قوّات الشريط الحدودي) من العملاء والمأجورين ليكونوا سدّاً دفاعياً تتمترس من خلفه القوّات الإسرائيلية لتصبح في منجاة من العمليات للمقاومة العسكرية، وسقطت نظرية أمن الجليل.
 
وتبقى المقاومة في المواجهة
استطاعت المقاومة بإمكانياتها الذاتية المتواضعة أن تقهر الجيش (الذي لا يقهر)، وأن تربك جميع من كان في الطرف الآخر.
 
وأمام ملاحقة المجاهدين والعلماء العاملين، ورداً على تصاعد عمليات المقاومة الإسلامية في جبل عامل، قام عملاء الصهاينة باغتيال شيخ الشهداء الشيخ راغب حرب، وهاجمت قوّات أنطوان لحد بلدة سحمر في البقاع الغربي، وقتلت اثني عشر مسلماً من أبنائها وجرحت العشرات، وكذلك شهدت قرى ومدن جبل عامل مجازر رهيبة ومعارك دامية واعتقالات ومداهمات، وبالمقابل كانت العمليات الجهادية قائمة ليلاً نهاراً وفي كلّ مكان، وبدون أيّ كلل أو ملل، والمجاهدون غير آبهين بالأخطار. 
 
وأمام صمود المقاتلين المسلمين وضراوة مقاومتهم وتصدّيهم، اتّخذت الحكومة الإسرائيلية في 14 كانون الثاني سنة 1985م قراراً بالانسحاب على مراحل، فكان ردّ
 
 
 

 
[1] المارينز: بقي "المارينز" في بيروت 18 شهراً أي من نهاية أيلول 1982 إلى شباط 1984. واستقبل الأميركيون بوصفهم المخلصين رسل السلام في البداية وخرجوا من بيروت بعد سلسلة وقائع كارثية على النحو التالي:
صباح يوم الأحد 23/10/1983، دمر انفجار هائل مقر "المارينز" بجوار مطار بيروت الدولي، وأسفر الانفجار عن مقتل 241 جندياً أميركياً وجرح نحو 112 شخصاً. وبالتزامن، دمر انفجار مماثل مقر قيادة كتيبة المظليين الفرنسيين العاملة في إطار المتعددة الجنسيات فقتل نحو 60 جندياً فرنسياً وذلك على مقربة من الانفجار الأول.
وهذا الحدث سيطبع السياسات الخارجية الأميركية بطابعه خصوصاً بعدما أعلنت منظمة "الجهاد الإسلامي" مسؤوليتها عن العملية التي ستضعها الدوائر الأميركية تحت عنوان: "الإرهاب الدولي" وستبقى أمامها ماثلة للعيان بوصفها أعظم كارثة تحل بالجيش الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية بحيث انه لم يسبق أن سقط مثل هذا العدد من القتلى في حادث واحد.  ولقد شكلت وزارة الدفاع الأميركية في 7/11/1983 لجنة من خمسة أعضاء للتحقيق في حادثة التفجير وانتهى تقرير اللجنة بعد تسعين يوماً وتضمن، من جملة ما تضمنه، مقدمات ومقومات عمل المتعددة الجنسية.
126
 

112

الدرس الثالث عشر: الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م

 المقاومين المسلمين تصعيد العمليات العسكرية في كلّ مكان يوجد فيه الصهاينة، فأصيبوا بما يشبه الهستيريا، وفرضوا ما أسموه "بالقبضة الحديدية" وسرعان ما تحوّلت هذه القبضة الحديدية المزعومة إلى قبضة كرتونية أمام الخسائر الجسيمة التي كان الصهاينة قد مُنيوا بها ما أفقدهم صوابهم وباؤوا بالفشل، فانتقموا من حسينية معركة، التي كان يعتبرها العدو معقلاً من معاقل المجاهدين، وقد وضعوا عبوات ناسفة في أماكن مجهولة داخل الحسينية، ووقّتوها بالتنسيق مع عملائهم، فاستشهد عدد من المجاهدين الأبرار أمثال الشهداء: محمد سعد وخليل جرادي والحاج خليل عطوي وحسين شعيتلي، وغيرهم.

 
إجرام الصهاينة
عاد الصهاينة واجتاحوا حومين الفوقا والزرارية، وأرسلوا سيّارة مفخّخة إلى بئر العبد في بيروت، ذهب ضحيّتها أكثر من مئة شهيد وشهيدة، وعدد كبير من الجرحى. وكان ردّ المقاومة الإسلامية سريعاً، حيث اقتحم الشهيد أبو زينب[1] قافلة عسكرية
 
 
 

 
[1] "الاستشهادي أبو زينب" علامة فارقة في تاريخ المقاومة الإسلامية، وجندي مجهول في مسيرة الجهاد والمقاومة... ظلّ اسمه لغزاً حتى تحرير الأرض واندحار العدو الصهيوني.
"أبو زينب" هو اسم لاستشهاديين، كان يُفترض أن ينفذا عمليتين في وقت واحد، إحدى العمليتين تأخّرت من حيث الوقت، وكان قائدها الاستشهادي أحمد بشير الحسن، من مواليد برج البراجنة 1959م وكان يواكبه فيها الشهيد علي محمد سليمان من بلدة باتوليه. أثناء توجّههما لتنفيذ المهمة في 22 آذار 1985، حصل حادث لم نعرف حقيقته بالضبط، وانفجرت الشاحنة المليئة بالمتفجرات، واستُشهد الأخوان الحسن وسليمان. (من كلمة للأمين العام في احتفال النصر في الخيام).
أبو زينب الثاني هو الشهيد عامر كلاكش، قائد عملية بوّابة المطلّة.  قبل سنوات قليلة، تحرّر جزء من لغز "أبو زينب" الأول (أحمد الحسن)، حين خرجت صورته إلى العلن لتتصدّر الشارع الممتدّ من طريق المطار حتى تحويطة الغدير. تساءل الكثيرون: من هو هذا الشهيد الكبير الذي يحظى بهذا القدر من التكريم، وهو الذي كان مجهولاً باسمه وهويّة العملية التي نفّذها. حتى كان التحرير والنصر، فكشف الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله لغز الاستشهاديين "أبو زينب". وتشير والدته إلى "أنّ أحمد كان يتمتع بخلق رفيع، وكان مثال الشاب المؤمن والمتواضع... حتى أنّنا بعد شهادته اكتشفنا الكثير من الميزات التي كنّا نجهلها، ومنها عمله الإصلاحي والاجتماعي في محيطنا، وكثيرون جاؤوا يقولون: لقد عمل أحمد على حلّ مشاكلنا".
وكان الشاب أحمد الحسن قد خرج من منزله من دون أن يُعلِم أحداً من أسرته وجهة سيره، كعادته في كتمان ما يحيط بأعمال المجاهدين، إلا شقيقه مصطفى الذي كان مستودع أسراره، فلم يقل أكثر من أنه سيتوجّه إلى الجنوب في عمل خاصّ لزيارة أصدقائه.
اختفى أحمد، ولم يعد أحد يسمع بأخباره، فخرج الأهل يبحثون عنه ووجهتهم الجنوب، لعلمهم بما يختزنه من عشق للجهاد والمقاومة. مرّت أيام وأسابيع حتى جاء من يعلمهم بشهادته خلال المواجهات مع العدو، من دون أي تفاصيل إضافية. وأقام الأهل "أسبوع الشهيد" وتبرّكوا بمقامه الجديد.
127 

113

الدرس الثالث عشر: الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م

 بسيارته المثقلة بالمواد الشديدة الانفجار قرب المطلّة على الحدود مع فلسطين، فسقط فيها ثمانون صهيونياً بين قتيل وجريح.

 
لم يجد الصهاينة بدّاً من الهرب، فهرعوا ينسحبون إلى ما يسمّى "بالحزام الأمني" وتحرّرت أكثر مناطق جبل عامل، واستطاعت أمّتنا المجاهدة أن تقضي على أسطورة الرعب بنهجها الحسيني، فقوّضت دعائم التفوّق والجيش الذي لا يقهر، وأصبحت قوّة لبنان بشبابه المجاهد المضحّي، وليست "قوة لبنان في ضعفه"، وحوّلت قبضته الحديدية المزعومة 
إلى قبضة ورقية رقيقة واهية.
 
 
128

114

الدرس الثالث عشر: الشيعة في مواجهة الاجتياح الصهيوني الكبير للبنان سنة 1982م

 المفاهيم الرئيسة

1- اجتاحت إسرائيل لبنان مخلّفة الكثير من الدمار والضحايا في مدنه وقراه وسط مباركة أميركية كاملة واكتفاء عربيّ ودوليّ بالتنديد.
 
2- الفرق بين حرب السادس من حزيران سنة 1982م وحرب الخامس من حزيران سنة 1967م هو الثمن الذي دفعته إسرائيل على أبواب صور وعلى تخوم النبطية.
 
3- كان التيّار الثوري الإسلامي قد ترسّخ في لبنان بسبب وجود الأجواء الملائمة لذلك. وكانت الثورة الإسلامية الإيرانية قد أعطت تجربة رائعة في الاعتماد على الشعب في الثورة حتى الانتصار.
 
4- وصل الحرس الثوري الإيراني إلى بعلبك بعد الغزو الإسرائيلي، وباشر بتدريب الجماهير المؤمنة، المسلحة على فنون القتال والقيام بعمليات عسكرية واستشهادية.
 
5- أدّى تصاعد المقاومة في المناطق التي يحتلّها الجيش الإسرائيلي في الجنوب إلى أن تذهب أهداف الغزو أدراج الرياح.
 
6- استطاعت المقاومة بإمكانياتها الذاتية المتواضعة أن تقهر الجيش (الذي لا يقهر)، وأن تُفشل المفاوضات، وأن تُربك النظام الطائفي.
 
7- عاد الصهاينة واجتاحوا حومين الفوقا والزرارية، وأرسلوا سيّارة مفخخة إلى بئر العبد في بيروت، ذهب ضحيّتها أكثر من مئة شهيد وشهيدة، وعدد كبير من الجرحى.
 
8- لم يجد الصهاينة بدّاً من الهرب، فهرعوا ينسحبون إلى ما يسمّى "بالحزام الأمني"، وتحرّرت أكثر مناطق جبل عامل.
 
 
129

115

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 الدرس الرابع عشر:

الإمام روح اللّه الموسوي الخميني قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف سيرة حياة الإمام الخميني قدس سره.
2- يدرك الدور السياسي والجهادي للإمام الخميني قدس سره.
3- يدرك دور الإمام الخميني قدس سره في إحياء شيعة لبنان.
 
131
 

116

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 سيرة الإمام الخميني قدس سره

ولد الإمام الخميني قدس سره عام 1320 للهجرة (21/9/1902م) بمدينة "خُمين" جنوب غربي "طهران". ولم تمضِ على ولادته ستة أشهر حتى استُشهد والده آية الله السيد مصطفى الموسوي على أيدي طغاة الحكومة  آنذاك, وهكذا تجرّع الإمام الخميني قدس سره منذ صباه مرارة اليتم، وتعرّف على مفهوم الشهادة.‏ وأمضى الإمام فترة طفولته وصباه تحت رعاية والدته المؤمنة السيدة "هاجر"، وفي سنّ الخامسة عشر، حُرِم الإمام من نعمة وجود هذين العزيزين.‏
 
- الأسرة والأبناء‏: اقترن الإمام الخميني قدس سره عام 1929م بكريمة المرحوم آية الله الحاج الميرزا محمد الثقفي الطهراني، فرزقا ثمانية أبناء، منهم: الشهيد آية الله السيد مصطفى الخميني، والسيدة "فهيمة - زهراء مصطفوي"، والمرحوم حجّة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني. 
 
- بساطة العيش: إنّ أسلوب حياة الإمام الخميني قدس سره، وبساطة عيشه، ولكونها نابعة من معتقداته الدينية، بقيت ثابتةً لم تتغيّر في مختلف مراحل حياته، وطوال مسيرة جهاده السياسي الحافلة بالأحداث.‏ فلقد دُهِش الصحفيون الأجانب ومراسلو وكالات الأنباء العالمية، الذين سُمح لهم بعد رحيل الإمام بزيارة محلّ إقامة سماحته، دُهِشوا لمشاهدتهم 
البيت المتواضع، ووسائل المعيشة البسيطة لقائد الثورة الإسلامية الكبير. وإنّ ما رأَوه لا يمكن مقارنته بأيّ وجه مع نمط
حياة رؤساء البلدان والزعماء السياسيين والدينيين في عالم اليوم. إنّ أسلوب حياته وبساطة معيشته يعيدان إلى الأذهان 
الصورة التي كانت عليها حياة الأنبياء 
 
132

117

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 والأولياء والصالحين.‏ فمع أنّ الإمام الخميني قدس سره كان قد شارف على التسعين من عمره الشريف، إلاّ أنّه لم يتوانَ 

لحظة عن السعي في طريق رقيّ المجتمع الإسلامي، فإضافة إلى اطّلاعه اليومي على أهمّ أخبار وتقارير الصحافة الرسمية، 
وقراءة عشرات الملفّات الخبرية الخاصّة، والاستماع إلى أخبار الراديو والتلفزيون الإيراني، كان سماحة الإمام يؤمن بشدّة بالبرمجة والنظام والانضباط في الحياة، فقد كانت لديه ساعات معيّنة من الليل والنهار يتفرّغ فيها للعبادة والتهجّد وتلاوة القرآن. كما أنّ رياضة المشي، وفي ذاته ذكر الله والتأمّل والتدبّر، كانت جزءاً من برنامجه اليومي. ‏كذلك كان سماحته حريصاً على اللقاء بطبقات الشعب، ولا سيما الطبقات المحرومة والمستضعفة، فحتى الأسابيع الأخيرة من عمره المبارك كان لديه كلّ أسبوع لقاء مع عوائل الشهداء.
 
- الدراسة والتدريس‏: درس سماحة الإمام في مدينة "خُمين" حتى سنّ التاسعة عشر مقدّمات العلوم الحوزوية، وفي عام 1339 للهجرة (1921م) التحق بالحوزة العلمية في مدينة "آراك"، وبعد أن مكث فيها عاماً، هاجر إلى مدينة "قم" لمواصلة الدراسة في حوزتها. وهناك اهتمّ بدراسة علم الرياضيات والهيئة والفلسفة. وحرص على المشاركة في دروس 
الأخلاق والعرفان النظري والعملي. ‏وفي عام 1347 هـ (1929م) بدأ الإمام الخميني الراحل قدس سره التدريس، فدرّس  بحوث الفلسفة الإسلامية، والعرفان النظري والعملي، وأصول الفقه. 
 
- الآثار والمؤلّفات‏: ترك الإمام الخميني قدس سره عشرات الكتب والمصنّفات القيّمة في البحوث الأخلاقية والعرفانية والفقهية والأصولية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، منها: شرح دعاء السحر، مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية، الحاشية على شرح فصوص الحكم،‏ شرح الأربعين حديثاً،‏ سرّ الصلاة (صلاة العارفين ومعراج السالكين)، آداب الصلاة، تحرير الوسيلة، كتاب البيع (خمسة أجزاء)، الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه، الجهاد الأكبر.‏
 
133

118

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 مراحل الجهاد والثورة‏

- المواجهة الفكرية والعلمية: ابتدأ الإمام الخميني قدس سره جهاده في عنفوان شبابه، فمن خلال تأليفه ونشره لكتاب "كشف الأسرار" قام سماحته بفضح جرائم فترة العشرين عاماً من حكم رضا شاه - والد الشاه المخلوع -، وتولّى الرد على شبهات المنحرفين دفاعاً عن الإسلام وعلماء الدين. 

- المواجهة السياسية: وانطلق الإمام الخميني قدس سره في نضاله العلني ضدّ الشاه عام 1962م، وذلك حينما وقف بقوّة ضدّ لائحة "مجالس الأقاليم والمدن"، والتي كان محورها محاربة الإسلام، فالمصادقة على هذه اللائحة من قِبل الحكومة آنذاك كانت تعني حذف الإسلام كشرط في المرشّحين والناخبين، وكذلك القبول باستبدال اليمين الدستورية 
بالكتاب السماوي بدلاً من القرآن المجيد.‏ وأدّت برقيّات التهديد التي بعث بها الإمام إلى رئيس الوزراء وقتئذٍ، وخطابات
 سماحته التي فضحت الحكومة، وبياناته القاصمة، وتأييد المراجع لمواقفه، إلى إلغاء اللائحة، وتراجع الشاه عن مواقفه.‏
 
ودفعت مواصلة النضال الشاه إلى مهاجمة المدرسة "الفيضية" بمدينة "قم" عام 1963م، وما هي إلاّ فترة وجيزة حتى انتشر خطاب سماحة الإمام وبياناته حول هذه الفاجعة في مختلف أنحاء إيران. وفي عصر العاشر من محرّم الحرام عام 1383 للهجرة (3/6/1993م) فضح الإمام الخميني قدس سره عبر خطاب حماسي غاضب، العلاقات السرّية القائمة بين الشاه و"إسرائيل" ومصالحهما المشتركة.‏
 
- الاعتقال: وفي الساعة الثالثة من بعد منتصف ليل اليوم التالي، حاصرت القوّات الحكومية الخاصّة بيت الإمام قدس 
سره، وتمّ اعتقاله وإرساله مكبّلاً إلى "طهران". وبمجرّد أن سمعت الجماهير نبأ اعتقال الإمام قدس سره، نزلت إلى الشوارع منذ الساعات الأولى لفجر الخامس من حزيران 1963م، وراحت تعبّر عن استنكارها 
 
134

119

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 لعمل الحكومة في تظاهرات حاشدة، أعظمها تظاهرة "قم" المقدّسة، التي هاجمتها قوّات النظام بالأسلحة الثقيلة، وكان 

نتيجتها سقوط العديد من المتظاهرين مضرّجين بدمائهم.‏
 
ومع إعلان نظام الشاه الأحكام العرفية في "طهران"، اشتدّ قمع تظاهرات أبناء الشعب في تلك الأيام، حيث قتلت وجرحت قوّات الحكومة العسكرية الآلاف من أبناء الشعب الأبرياء. 
 
وكانت مذبحة الخامس من حزيران 1963م. ‏ونتيجة لضغط الرأي العام واعتراضات العلماء وأبناء الشعب في داخل البلاد وخارجها، اضطر إلى إطلاق سراح الإمام بعد عشرة أشهر تقريباً من المحاصرة والاعتقال.‏
 
واصل الإمام جهاده عبر خطاباته الفاضحة للنظام. وفي هذه الأثناء، تأتي مصادقة الحكومة على لائحة "الحصانة القضائية" التي تنصَّ على منح المستشارين العسكريين والسياسيين الأميركيين الحصانة القضائية، لتثير غضب قائد الثورة 
وسخطه. فما أن يطّلع الإمام الخميني على هذه الخيانة حتى يبدأ تحرّكاته الواسعة، ويقوم بإرسال مبعوثيه إلى مختلف أنحاء إيران  ليلقي سماحة الإمام خطابه الشهير آنذاك، دون أن يعبأ بتهديد النظام ووعيده. فانتقد لائحة الحصانة القضائية، وحمل بشدّة على الرئيس الأميركي وقتئذٍ.‏
 
- نفي الإمام إلى تركيا: أمّا نظام الشاه، فقد رأى أنّ الحلّ الأمثل يكمن في نفي الإمام إلى خارج إيران, فحاصرت القوّات الخاصّة والمظلّيون بيت الإمام، وذلك في سَحَر يوم الثالث من تشرين الثاني عام 1964م.‏ وبعد اعتقال سماحته، اقتيد مباشرة إلى مطار "مهر آباد" بطهران، ومن هناك، وطبقاً للاتفاق المسبّق، تمّ نفيه إلى تركيا. وقامت قوّات الأمن الإيراني والتركي المكلّفة بمراقبة سماحة الإمام، بمنعه من ممارسة أيّ نشاط سياسي أو اجتماعي.‏ استغرقت إقامة الإمام بتركيا أحد عشر شهراً. وخلال هذه الفترة، عمل نظام الشاه بقسوة لم يسبق لها مثيل على تصفية بقايا المقاومة في إيران.‏
 
135

120

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 مثّلت الإقامة الجبرية في تركيا فرصة اغتنمها الإمام في تدوين كتابه المهم "تحرير الوسيله"، حيث تطرّق لأوّل مرّة آنذاك

 في كتابه هذا - الذي يمثّل الرسالة العملية لسماحته - إلى الأحكام المتعلّقة بالجهاد، والدفاع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل المعاصرة.‏
 
-  نفي الإمام إلى العراق: في يوم 5/10/1965 م يُنقَل سماحة الإمام برفقة ابنه السيد مصطفى، من تركيا إلى منفاه الثاني بالعراق، ليقيم في مدينة "النجف الأشرف". ومن منفاه في "النجف" كان يتابع بدّقة الأحداث السياسية التي 
تشهدها إيران والعالم الإسلامي، وكان حريصاً على إيجاد قنوات الاتّصال مع الثوريين في إيران، ومع عوائل شهداء انتفاضة الخامس من حزيران.
 
-  نفي الإمام إلى باريس: وفي اللقاء الذي جمع وزيرَي خارجية إيران والعراق في نيويورك، قرّر الطرفان إخراج الإمام الخميني من العراق. وفي 24/9/1978م حاصرت القوّات البعثية منزل الإمام في "النجف الأشرف"، وأبلغت الإمام بأنّ مواصلة إقامته في العراق منوطة بإيقاف نشاطاته السياسية، والتخلّي عن النضال.‏ وأصرّ الإمام على مواصلة نضاله، 
ولم يركن للضغوطات البعثية، ممّا دفعه إلى ترك "النجف الأشرف" في 24/10/1978م، بعد ثلاثة عشر عاماً من النفي، متوجّهاً إلى الكويت. إلاّ أنّ الحكومة الكويتية، وبطلب من نظام الشاه، منعت الإمام الخميني قدس سره من دخول أراضيها, فقرّر الهجرة إلى باريس.‏ وصل سماحته باريس في 6/10/1978م، واستقرّ في "نوفل لوشاتو" في ضواحي باريس. وفي غضون ذلك، قام مبعوث قصر "الإليزيه" بإبلاغ الإمام طلب الرئيس الفرنسي "جيسكار ديستان"، بضرورة اجتناب أيّ نوع من النشاط السياسي، فكان ردّ الإمام حازماً، وأنّه لن يتخلّى عن أهدافه، حتى ولو اضطره ذلك إلى التنقل من مطار إلى آخر، ومن بلد إلى آخر.‏
 
136

121

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

ذروة الأحداث وانتصار الثورة الإسلامية‏

مثّلت شهادة آية الله السيد مصطفى الخميني (رضوان الله عليه) - الابن الأكبر للإمام قدس سره - في 23/10/1977م، ومراسم العزاء التي أقيمت في إيران، نقطة الانطلاق لانتفاضة الحوزات العلمية ثانية، وانتفاض المجتمع الإيراني المؤمن. وممّا يثير الحيرة والدهشة أنّ الإمام الخميني قدس سره وصف هذا الحادث المؤلم بأنّه من الألطاف الإلهيّة الخفيّة.‏

 

وإنّ فترة الأربعة أشهر من إقامة الإمام في باريس، جعلت من "نوفل لوشاتو" أهمّ مصدر خبري عالمي، فقد أضحت حوارات الإمام ولقاءاته المختلفة مع حشود الزوّار الذين كانوا يتدفقون على "نوفل لوشاتو" من مختلف أنحاء العالم، سبباً في أن يتعرّف العالم أكثر فأكثر على أفكار الإمام وآرائه بشأن الحكومة الإسلامية والأهداف القادمة للثورة.‏

 

أمّا الشعب الإيراني، فقد صعّد من حدّة تظاهراته، مستلهماً توجيهات سماحة الإمام قدس سره ونتيجة لاتّساع رقعة الاضطرابات، شُلّت حركة المراكز والمؤسَّسات الحكومية, في هذه الأثناء، أعلن قائد الثورة الإسلامية للشعب عن تشكيل مجلس قيادة الثورة وتعيين أعضائه. وقرّر الشاه بدوره الخروج من البلاد في 16/1/1979م، تحت ذريعة المرض والحاجة إلى الراحة.‏‏

 

العودة المظفّرة وقيام الدولة: انصاع نظام الشاه لمطالب الشعب، وفتح مطار طهران، ليصل قائد الثورة الإسلامية إلى أرض الوطن في الأوّل من شباط عام 1979م، بعد أربعة عشر عاماً من النفي.‏ و قدّر عدد المستقبلين ما بين أربعة ملايين إلى ستة ملايين شخص.‏

 

وأعلن قائد الثورة عن تشكيل الحكومة المؤقّتة، رغم وجود حكومة الشاه، والتي ما زالت تمارس مهامها. وفي 5/2/1979م، وبتعيين رئيس الوزراء، كُلّفت الحكومة

 

137

122

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

المؤقّتة بالتحضير لإجراء الاستفتاء العام وإقامة الانتخابات.‏ وفي الثامن من شباط 1979م، بايع منتسبو القوّة الجويّة الإمام الخميني قدس سره في محلّ إقامته بالمدرسة العلوية بطهران. وفي التاسع من شباط، وحيث توجّهت قوّات الحرس الشاهنشاهي الخاصّ إلى قمع انتفاضة منتسبي أهمّ قاعدة جوية بطهران، أخذ أبناء الشعب ينزلون إلى الشوارع لحماية القوّات الثورية. وفي العاشر من شباط عام 1979م، راحت مراكز الشرطة والمؤسّسات الحكومية تسقط الواحدة تلو الأخرى بأيدي أبناء الشعب. ‏وفي فجر الحادي عشر من شباط 1979م، أشرقت شمس انتصارالثورة الإسلامية.‏

 

ولم يمضِ سوى شهرين على انتصار الثورة، حتى أعلن الشعب الإيراني، في واحدة من أكثر الانتخابات حرّيةً في تاريخ إيران، عن تأييده بنسبة 98.2 بالمئة لإقامة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. وتلا ذلك الانتخابات السياسية لتدوين الدستور والمصادقة عليه، وإقامة انتخابات الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي.‏

 

الرحيل‏

ومع أنّ الإمام الخميني قدس سره كان يعاني من مرض القلب، وكان قد مكث فترة في مستشفى القلب بطهران عام 1979م، إلاّ أنّ سبب رحيله من هذه الدنيا الفانية كان مرض جهازه الهضمي، إذ أُجريت له عملية جراحية بناءً على 

نصائح الأطبّاء. وبعد عشرة أيام من معالجته في المستشفى، ودّع الإمام قدس سره هذه الدنيا الفانية في الساعة العاشرة

وعشرين دقيقة من مساء يوم السبت الثالث من حزيران عام 1989م، وشيّعت الملايين من النساء والرجال والشيوخ 

والشباب من مختلف أنحاء إيران، الجثمان الطاهر للقائد العظيم، بمشاعر من الحزن والألم التي لا توصف. 

 

الإمام الخامنئي واستمرار المسيرة‏: وفي ظلّ غياب الإمام ورحيله إلى الرفيق الأعلى، ظهر نور مشرق بالأمل، أضاء على الأمّة كلّها. وكان بمثابة عزاء للأمّة في

 

 

138

123

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 مصابها، وهو سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي دام ظله، قائد الأمّة ووليّ أمرها، هو امتداد حقيقي للإمام الراحل قدس سره، لشخصية الإمام، ولفكر الإمام، ولخطّه الأصيل.

 
علاقة الإمام الخميني قدس سره باللبنانيين
برز في مجموعة من كلمات وبيانات الإمام الخميني قدس سره اهتمامه الشديد بهذا البلد بشكل عام، وبالشيعة بشكل خاصّ، نشير إلى بعضها هنا: ففي إحدى رسائله إلى اللبنانيين يقول:
 
إخوتنا، بعد السلام والتحيّات.
إنّنا مهتمّون بأوضاع لبنان والمصائب النازلة بإخواننا فيه، ونأسف كلّ الأسف أن تجري هذه الأعمال الصهيونية اللاإنسانية بمساعدة أمريكا على المسلمين وشعب لبنان خاصّة، ودعاؤنا أن يمدّكم الله - تبارك وتعالى - بِمددِه أنتم وجميع الإخوان في هذا الموقع، وهو نصير المستضعفين والمظلومين، ونحن معكم في مواجهة إسرائيل وأمريكا، وأملنا أن يغلِب جيش الحقّ الجيوش الطاغوتية والشيطانية.
 
ومصائبكم وآلامكم ليست جديدة على الإسلام والمسلمين، فقوى الطاغوت كانت معارضة للإسلام ومكافحة له، ودعائي بنصرتكم وتوفيق كلّ المسلمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[1]. 
 
روح الله الموسويّ الخميني‏
ويقول الإمام قدس سره: وتؤكّد التحوّلات التي تشهدها الدول الإسلامية في شرق آسيا، انتصار الإسلاميين واتّساع نفوذهم. ولم يتمكّن الاستعمال المضلّل لمفردة (الأصولية) من الفتّ في العزم المتنامي للمدّ الإسلامي.
 
 
 

 
[1] صحيفة الإمام، ج‏9، ص 184.
139

124

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 ففي لبنان، التي كانت نشاطات الشيعة والجماعات الدينية والإسلامية إلى ما قبل انتصار الثورة الإسلامية، تقتصر فيها على المحافظة على عدد من المؤسّسات التعليمية والخيرية للتعبير عن وجودها، وكانت مجاهدتهم ومقاومتهم المظلومة تفقد 

بريقها في ظلّ الصخب والضجيج الذي تمارسه الأحزاب اليسارية واليمينية، باتت القوى الإسلامية اليوم لها الكلمة الفصل في السياسة الداخلية لهذا البلد وفي مواجهة الكيان الغاصب للقدس. وليس هذا فحسب، بل إنّ مواقف حزب الله‏ اللبناني اكتسبت أبعاداً دولية بوصفه أكثر القوى السياسية والدينية اقتداراً في هذا البلد، وقاد ثبات أبنائه وإمضاؤهم إلى هزيمة المشاريع الأمريكية والصهيونية في المنطقة وإحباطها[1].
 
خطاب الإمام الخميني قدس سره الموجّه إلـى أهالي الضاحية الجنوبية 
إنّ أوضاع لبنان المؤسفة والمصائب التي حلّت بإخوتنا في الإيمان، المظلومين في الضاحية الجنوبية، تبعث على التأثّر والتألّم. الآن، حيث تجتاح عشرات الآلاف من القوّات العسكرية لإسرائيل المجرمة - جرثومة الفساد - المدجّجة بالأسلحة والمدافع والدبّابات وحاملة الطائرات أراضي الجنوب اللبناني مركز إخوتنا في الإيمان، وتعمل على تشريد اللبنانيين المظلومين من منازلهم، وتخريب البيوت وإضرام النيران في المزارع، تقف الدول الإسلامية - في الغالب- غير مبالية بما يحدث من هذه الجرائم، بل تعمل أحياناً على دعمها منهمكة بالتحرّكات والمفاوضات العقيمة، تاركة المجاهدين الفلسطينيين الأبطال وحدهم يتصدّون لإسرائيل بكلّ شجاعة، ولعلّ ذلك تجسيد لمؤامرة حاكتها القوى الكبرى.
 
الآن، حيث يحترق إخوتنا وأبناؤهم المشرّدون بالنار، ويواجهون أخطاراً كثيرة ينبغي للمسلمين الخيّرين، ولا سيما أبناء 
إيران المحترمين، الذين هم سبّاقون إلى 
 
 
 

 
[1]  صحيفة الإمام ، ج‏1، ص 16.
 
140

125

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 الخيرات أن يهبّوا لنجدة المشرّدين العزل بأسرع وقت، وتقديم المساعدة لهم بكلّ وسيلة ممكنة، وأن لا يتوانوا عن تقديم كلّ أنواع الدعم والمساعدة المحترمة بوحي من إحساسهم بالمسؤولية بين أيدي الباري سبحانه وتعالى. وإذا أرادوا أن ينفقوا على المشرّدين والمهجّرين من سهم الإمام المبارك - عليه السلام - فبإمكانهم أن ينفقوا حدّ الثلث. كلّنا أمل أن يسعى زعماء الدول الإسلامية، ولا سيّما الدول العربية بوحدة الكلمة للتصدّي لإسرائيل- جرثومة الفساد- ودفعها للانسحاب، وإذا ما تسامحوا في ذلك، فإنّنا نخشى أن يحدث مثل هذا- لا سمح الله - لباقي البلدان.أسأل الله - تعالى - قطع أيدي الأجانب وعملائهم، وتحقيق استقلال الدول الإسلامية، والسلام على من اتّبع الهدى[1].

 
وقد أجاب على سؤال: (إنّ آخر سلسلة من العمليات العسكرية الإسرائيلية أدّت إلى احتلال أراضٍ عربية أُخرى, أي جنوب لبنان الذي يقطنه الشيعة... كيف تفكّرون بهذا الشأن؟) الإمام الخميني قدس سره: لابدّ لأهالي الجنوب اللبناني من العودة إلى منازلهم بأيّة وسيلة كانت، وإنّ من واجبهم النضال لاسترجاع أراضيهم قبل أن يأتي الإسرائيليون، ويُقيموا المستوطنات.
 
الإمام قدس سره يطلب نصرة شيعة جبل عامل:
قال الإمام قدس سره: أنا شخصياً طلبت من الشعب الإيراني والشيعة في العالم أن يهبّوا لمساعدة إخوتهم في جنوب لبنان، وقد كان لهذه الدعوة نتائج ملموسة، غير أنّ الحكومات وحدها التي تمتلك الوسائل اللازمة بما يتناسب واحتياجات هذا الشعب، الحكومات وحدها التي بوسعها ممارسة الضغط على إسرائيل لإجبارها على الانسحاب من هذه الأراضي[2].
 
 
 

 
[1] روح الله الموسوي الخميني‏، صحيفة الإمام ج‏3، ص 326.
[2] صحيفة الإمام، ج‏5، ص 49.
141

126

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 توجيه الشكر إلى شيعة لبنانأشكر الشعب المسلم الشيعي في جنوب لبنان الذي يناضل في سبيل استقلال بلاده وحرّيتها، ويدافع عن الشعب الفلسطيني المظلوم. أشكر له تضامنه مع الشعب الإيراني المسلم المظلوم في مظاهراته يوم تاسوعاء، وأتمنّى أن يواصلوا نضالهم بعزيمة قويّة لإسرائيل عدوة الإسلام والمسلمين، وأن يطردوا جميع المغتصبين والمستعمرين من بلادهم، ويختموا جميع أعمال التخريب والقتل والنهب بالتنسيق مع الحركة الإسلامية الأصيلة لإخوانهم المسلمين في إيران وفلسطين. أطلب من الله تعالى العزّة للإسلام والمسلمين، وأتمنّى أن تقطع أيدي الأجانب. 

 
تحية لكم يا جند الإسلام، وأتمنّى لكم التوفيق والسداد[1].
 
 
 

 
[1] صحيفة الإمام، ج‏5 ، ص127.
142

127

الدرس الرابع عشر: الإمام روح اللّه الموسوي الخمينيّ قدس سره ودوره في إحياء شيعة لبنان

 المفاهيم الرئيسة

1- ولد الإمام الخميني في 24 أيلول 1902م في عائلة من أهل العلم والهجرة والجهاد، في مدينته خمين. وفي عام 1921م توجّه الإمام الخميني إلى الحوزة العلمية في قم لدراسة العلوم الدينية. 
 
2- استثمر الإمام الخميني قدس سره شهر المحرّم ليثير الشعب الإيراني ضدّ استبداد الشاه. ففي 3 حزيران 1963 ألقى الإمام كلمة تاريخية أشعلت الانتفاضة.
 
3- تحرّك الشاه لإخماد الانتفاضة فألقى القبض على عدد كبير من أنصار الإمام. وفي ليلة 14 خرداد عند الثالثة بعد منتصف الليل ألقى القبض على الإمام، وهو في صلاة الليل ونفي بعد ذلك إلى خارج البلاد.
 
4- في لقاء جمع وزيري خارجية إيران والعراق في نيويورك، تقرّر إخراج الإمام الخميني من العراق، تلا ذلك محاصرة بيت الإمام في النجف الأشرف وفي الرابع من تشرين الأول 1978 غادر الإمام نحو الحدود الكويتية.
 
5- في شهر كانون الثاني 1979 شكّل الإمام الخميني شورى الثورة الإسلامية في إيران، أمّا الشاه فقد هرب في 16/1/1979.
 
6- في أواخر كانون الثاني 1979 ذاع خبر عودة الإمام الخميني إلى إيران، وأرسل الإمام الخميني نداءاته للشعب الإيراني أنّه يرغب في أن يكون بجانب شعبه في هذه الأيّام العصيبة.
 
7- وجّه الإمام الخميني قدس سرهعدّة رسائل وبيانات إلى شيعة لبنان، وطلب من الشعب الإيراني أكثر من مرّة مساعدتهم والدفاع عنهم.
 
8- في عام 1989 أعدّ الإمام نفسه للقاء حبيب أنفق كل عمره في سبيل تحصيل مرضاته.
 
143

128

الدرس الخامس عشر: المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود

 الدرس الخامس عشر:

المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود



أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف ظروف استشهاد السيّد عبّاس الموسوي.
2- يدرك آثار شهادة السيّد عبّاس الإيجابية على المقاومة والعمل المقاوم.
3- يفهم دور مجاهدي المقاومة في صدّ عدوانَي 1993 و1996م. 
 
145

129

الدرس الخامس عشر: المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود

 المقاومة الإسلامية تصعّد المقاومة ضدّ الصهاينة 

ظنّ الجيش الإسرائيلي بانسحابه عام 1985م من لبنان إلى داخل المنطقة اللبنانية التي اعتبرها حزاماً أمنياً أنّه سيحمي مدنه ومستوطناته، وأنّه سينعم بالراحة والاستقرار، ولكنّ المقاومين ظلّوا يلاحقون فلول جيشه وأماكن تجمّعاتهم، داخل 
الشريط الحدودي المحتلّ. وظنّ الصهاينة أنّ جيش العميل أنطوان لحد سيحميهم من الهجمات، لكنّ كثافة العمليات العسكرية والخسائر الجسيمة جعلت جيش العدوّ يفقد أعصابه, فقام بعدة عمليات انتقامية على المدنيين الآمنين في قراهم.
 
استشهاد السيد عباس الموسوي: كان الأمين العام لحزب الله السيّد عبّاس الموسوي[1] قد انطلق صبيحة السادس عشر من شباط عام 1992م إلى بلدة جبشيت
 
 
 

 
[1] ولد السيد عبّاس الموسوي عام 1952م في منطقة الشيّاح في الضاحية الجنوبية. وعاش طفولته في عائلة محافظة، وشبّ على معاينة مأساة الشعب الفلسطيني. خضع  وهو لا يزال في العاشرة من عمره، لعدّة دورات تدريب عسكري. ثمّ التحق بحوزة السيد موسى الصدر في صور، وتعمّم في السادسة عشرة من عمره، بعد ذلك غادر إلى العراق ليتابع دراسته في كنف الشهيد المرجع السيد محمد باقر الصدر.
في نهايات السبعينيات من القرن الماضي تلك المرحلة العصيبة في كلّ من النجف وجنوب لبنان، ودّع العراق، بعد تسع سنوات قضاها هناك، وكان أوّل عمل قام به جمع طلاب العلوم الدينية الذين أُبعدوا من النجف في حوزة، هي حوزة الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، في مدينة بعلبك. وفي خضمّ الإحباط والهزيمة مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 82، أرسى وجمع قليل من رفاق الحوزة حالة مخالفة تؤسّس للعمل الجهادي المقاوم لإسرائيل. وعندما بدأ الاجتياح الغاشم، غادر منزله في بعلبك متوجّهاً نحو بيروت ومنها إلى الجنوب عام 1985م، حيث استقرّ في مدينة صور، وكان يقضي وقته مع المقاومين ويتابع بشكل مباشر وميداني عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال.
وتتويجاً لمسيرته، انتُخب السيد عباس الموسوي في أيار مايو 1991م أميناً عاماً لحزب الله، مفتتحاً مرحلة جديدة من مسيرة حزب الله، هي خدمة الناس إلى جانب استمرار عمل المقاومة، وعبارته الشهيرة "سنخدمكم بأشفار العيون" لا تزال أحد أبرز شعارات حزب الله حتى اليوم.
وفي السادس عشر من شباط فبراير 1992م، ومن جبشيت بلدة رفيقه الشيخ راغب حرب وبعد كلمة ألقاها في إحياء الذكرى الثامنة لاستشهاد الشيخ راغب، غادر نحو بيروت، لكن طائرات مروحية إسرائيلية تربّصت لموكبه على طريق بلدة تفاحتا وأطلقت صواريخ حرارية حارقة على سيارته، فاستشهد مع زوجته أم ياسر وولدهما الصغير حسين. ومن جبشيت إلى بيروت إلى النبيّ شيت طاف موكبه، واستحال مرقده مزاراً، وكنيته سيد شهداء المقاومة.
146

130

الدرس الخامس عشر: المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود

 العاملية للاحتفال بالذكرى السنوية لشيخ شهداء المقاومة الشيخ راغب حرب. وبعد أن أنهى السيّد كلمته توجّه إلى بلدة الشرقية لزيارة مقبرة شهدائها، ثمّ انطلق عائداً نحو بيروت. وما إن خرج الموكب ليشرف على بلدة تفاحتا حتّى كانت ثلاث طائرات استطلاع للعدوّ تتبّع الموكب وتلاحقه، فيما كانت مروحيّتان من نوع "كوبرا" تكمنان للموكب، فأطلقت إحداهما صواريخ حرارية حارقة على سيارة السيد، فدمّرت السيارة واحترقت, وانتقل السيد وزوجته وابنه الصغير إلى جوار الله.

 
ردود الفعل – مواجهات كفرا – ياطر 
علمت إسرائيل أنّ جريمتها لن تمرّ دون عقاب، فقامت باتّخاذ الإجراءات الأمنية المشدّدة، وأخذت تلوّح بالحرب على لبنان, فاستعدّت المقاومة وأعلنت حالة الاستنفار. وبالفعل، فقد التهبت محاور القرى المحاذية للشريط الحدودي المحتلّ، فردّت المقاومة بقصف المستعمرات بستين صاروخاً، فأوقفت قصف القرى من قبل جيش العدوّ إلى أن كان صباح 20 شباط 1992م حيث تقدّمت قوّة مؤلّلة نحو بلدتي ياطر وكفرا من جهة الشريط المحتلّ وعلى مشارف البلدتين، وتدخّلت المروحيّات وسلاح الطيران الحربي. ولكن المقاومين زادوا استبسالاً وصموداً، وبدأت جموع الشباب تنتقل بالمئات من بيروت والمناطق إلى أرض المعركة للمشاركة بالقتال. واستمرّت المعركة يوماً كاملاً، فيما حاول العدوّ يائساً أن يتقدّم لاحتلال بلدة ياطر من خلال إنزال جوّي، لكنّ محاولته باءت بالفشل. ودارت معارك ضارية على محور بلدة حاريص المجاورة، فلم يستطع العدوّ اختراق طوق المجاهدين الذين كانوا يلتفّون عليه من كل حدب وصوب، ومع حلول ليل ذلك اليوم كان العدوّ يتراجع وينسحب، وراح المقاومون يطاردونه ويلاحقونه، بعد أن فقد أكثر من خمسة عشر قتيلاً وعشرات الجرحى.
 
147

131

الدرس الخامس عشر: المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود

 عدوان العام 1993م وعملية "تصفية الحسابات" 

اعتبر العدوان الإسرائيلي الذي استهدف جنوب لبنان وطال البقاع الغربي والشمال وأطراف بيروت في شهر تموز 1993م الأعنف والأكثر همجيّة ضدّ المدنيين الأبرياء في تلك المرحلة، واستمرّ أسبوعاً كاملاً من صباح 25 حتى 31 تموز 1993م. وكان هدف العدوان ممارسة الضغط على لبنان للقبول بالشروط الإسرائيلية في مفاوضات واشنطن، وإنهاء المقاومة في الجنوب. وكان من أهمّ أهداف العدوان إيجاد شرخ بين المقاومة والشعب من جهة، وبين المقاومة والسلطة اللبنانية من جهة ثانية. 
 
وعلى أثر عمليات ناجحة لرجال المقاومة في عمق الشريط المحتلّ، حشدت إسرائيل قوّاتها وآلياتها على طول الشريط المحتلّ، فيما ردّت المقاومة على هذه الحشود، بأن شنّ المجاهدون هجمات ضدّ مواقع الاحتلال والميليشيات العميلة له، وأوقعت قتلى وجرحى.
 
اعتداء 1993م
في صبيحة 25/7/1993م استهدفت قوّات الاحتلال أكثر من أربعين قرية في الجنوب والبقاع الغربي والمخيّمات الفلسطينية بقصف مدفعي عنيف وغارات جوّية، ما أدّى إلى نزوح كثيف للسكّان، وسقوط عشرات القتلى والجرحى. وفيما كانت المقاومة الإسلامية تتصدّى ببسالة كانت القوات الإسرائيلية ما تزال تزجّ إلى أرض المعركة المزيد من الجنود والدبّابات لرفع معنوّيات الجيش الإسرائيلي وسكّان المستعمرات. لكنّ كثافة إطلاق الصواريخ من رجال المقاومة على المستعمرات والمدن الإسرائيلية، اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى أن توافق على وقف إطلاق النار نتيجة اتّفاق تمّ التوصّل إليه بين الولايات المتّحدة الأميركية وسوريا وإسرائيل.
 
ورغم الدمار الذي أصاب القرى سرعان ما عاد السكّان معلنين تمسّكهم بأرضهم، وفشلت قوّات الاحتلال في تحقيق مآربها العدوانية.
 
148

132

الدرس الخامس عشر: المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود

 عدوان العام 1996م أو عملية "عناقيد الغضب"

مقدّمات العدوان: أرادت إسرائيل أن توجّه رسائل أمنية إلى كلّ من حزب الله وسوريا وإيران، وأن تكرّس زعامة بيريز، مدعوماً من الولايات المتّحدة الأميركية ومؤتمر شرم الشيخ العالمي في مصر لدعم إسرائيل في تصفية المقاومة في لبنان.
 
الحشد العسكريّ الإسرائيليّ: حشدت - إسرائيل كما عوّدتنا في حروبها السابقة - آلتها العسكرية الجوية والبحرية والبرّية، وطاقاتها الاستخباراتية، وكلّ إمكاناتها الإعلامية والدعائية، واستنفرت كلّ حلفائها وأصدقائها لتشنّ حرباً على الأراضي اللبنانية متناسية فشل الاجتياحات السابقة.
 
وبالرغم من أنّ الساحة الجنوبية كانت هادئة نسبياً، فإنّ المقاومة الإسلامية ردّت على مقتل مدنيين في ياطر وشقراء، واعتبرت أنّ مقتلهم هو خرق لتفاهم أيار 1993م الذي ينصّ على عدم الاعتداء على المدنيين.
 
وكالعادة قامت إسرائيل بقصف القرى وتهجير سكّانها، وامتدّ القصف إلى بعض ضواحي بيروت الجنوبية وضربت البوارج الحربية حصاراً على الشواطئ اللبنانية بدءاً من الجنوب وصولاً إلى العاصمة. وتصدّت المقاومة بعنف أكبر وإصرار على الصمود. وهذه المرّة فشل العدوان أيضاً, فاندفعت إسرائيل كعادتها تقصف القرى والمدن والسكان الآمنين.
 
مجزرة قانا 
ظنّ السكّان المدنيون في قانا وجوارها أنّ مركز قوّات الطورائ الدولية التابعة للأمم المتّحدة هو مكان آمن ومحايد، فلجأ عدد كبير من الأهالي مع أطفالهم إلى مركز قيادة قوّات الطوارئ الدولية التابعة للكتيبة الفيجية في قانا، هرباً من القصف المدفعي والجوّي، ولمّا شعرت إسرائيل بفشل عمليتها العسكرية، إلى جانب تصدّي المقاومين ببسالة، أقدمت على الانتقام من المكان الذي كان يأوي إليه المدنيون داخل
 
149

133

الدرس الخامس عشر: المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود

 مركز الأمم المتّحدة وقصفته بقذائف المدفعية الحارقة, فكانت مجزرة مروّعة ذهب ضحيتها مئة شهيد وشهيدان. وقد تفاخر الجنود الصهاينة الذين قصفوا المكان بحقدهم عندما قالوا: "إنّ الذين قُتلوا ليسوا إلّا مجرّد "عرابوشيم"" أي عُربان، وما الضرر في قتلهم؟ ونحن غير آسفين!".

 
نتائج العدوان
لم تستطع كلّ وسائل التدمير والعدوان أن تحقّق أهداف العدوّ، حيث أدّت إلى:
خسارة بيريز لمنصبه وفشله في الانتخابات.
تعزيز موقع المقاومة ودورها.
تعزيز الوحدة الداخلية اللبنانية.
إيجاد حركة سياسية ودبلوماسيّة ناشطة تأييداً للبنان ودعم سيادته واستقلاله.
تمتين وحدة المسارين اللبناني والسوري.
دعم لبنان مالياً واقتصادياً ومعنوياً وإعلامياً، عربياً ودولياً.
استطاع لبنان خلق رأي عامّ عالمياً مسانداً وضاغطاً على إسرائيل لتطبيق القرارات الدولية.
 
تفاهم نيسان
كرّس العدوان تفاهماً في 26 نيسان 1996م، وهو الاتّفاق الخطيّ المعقود بين إسرائيل ولبنان بمشاركة سوريا، وتوقيع 
كلّ من الولايات المتّحدة وفرنسا، وهو ينصّ على حماية السكّان المدنيين على جانبي الحدود, الأمر الذي لجم إسرائيل 
عن التمادي في اعتداءاتها، ولم يقيّد هذا الاتّفاق حركة المقاومة، بل شرّعها، ولكن في العام 2000م وبعد تسديد المقاومة ضربات موجعة للاحتلال، حاولت إسرائيل التفلّت من الاتّفاق أو تعديله، ولمّا فشلت عادت قسراً.
 
150 
 

134

الدرس الخامس عشر: المقاومة الإسلامية بين عامي (1992 - 1996) الثبات والصمود

 المفاهيم الرئيسة

1- عقب إنهاء الأمين العام لحزب الله السيّد عبّاس الموسوي خطابه في بلدة جبشيت في احتفال في الذكرى السنوية للشهيد الشيخ راغب حرب، وفي طريق العودة أطلقت مروحيّتان صواريخ حرارية حارقة على سيارة السيّد، فدمّرت السيارة واحترقت، وانتقل السيّد وزوجته وابنه الصغير إلى جوار الله.
 
2- استعدّت المقاومة وأعلنت حالة الاستنفار، والتهبت محاور القرى المحاذية للشريط الحدودي المحتلّ.
 
3- اعتبر العدوان الإسرائيلي الذي استهدف جنوب لبنان وطال البقاع الغربي والشمال وأطراف بيروت في شهر تموز 1993م الأعنف والأكثر همجية ضدّ المدنيين الأبرياء.
 
4- في صبيحة 25/7/1993م استهدفت قوات الاحتلال أكثر من أربعين قرية في الجنوب والبقاع الغربي والمخيّمات الفلسطينية بقصف مدفعي عنيف وغارات جويّة.
 
5- أرادت إسرائيل أن توجّه رسائل أمنية إلى كلّ من حزب الله وسوريا وإيران، وأن تكرّس زعامة بيريز مدعوماً من الولايات المتّحدة الأميركية.
 
6- ظنّ السكّان المدنيون في قانا وجوارها أنّ مراكز قوات الطورائ الدولية التابعة للأمم المتّحدة هي أماكن آمنة ومحايدة، فلجأ عدد كبير من الأهالي مع أطفالهم إلى مركز قيادة قوات الطوارئ الدولية التابعة للكتيبة الفيجية في قانا.
 
7- كرّس العدوان اتفاقاً في 26 نيسان 1996م وهو الاتّفاق الخطي المعقود بين إسرائيل ولبنان بمشاركة سوريا، وتوقيع 
كل من الولايات المتحدة وفرنسا، وهو ينصّ على حماية السكان المدنيين على جانبي الحدود.
 
 
151

135

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 الدرس السادس عشر:

المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات - الانتصار الكبير عام 2000م - انتصار الوعد الصادق عام 2006م



أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف مقدّمات وأسباب انتصار عام 2000م على الصهاينة.
2- يدرك دور المقاومة النوعيّة التي استخدمتها المقاومة في مواجهة عدوان 2006م.
3- يفهم مقولة "هذا زمن الانتصارات"، ويحلّلها.
 
153

136

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 المناورات التي سبقت الانسحاب "الهزيمة" 

لأوّل مرّة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تلجأ إسرائيل إلى الأمم المتّحدة لتوفير غطاء لها للانسحاب, متذرّعة بتطبيق القرار[1] 425 الذي ينصّ على هذا الانسحاب منذ العام 1978م. وحاولت إسرائيل الضغط على سوريا ولبنان، لكنّهما صمدا, لأنّ الاحتلال كان يترنّح ولا بدّ من الإجهاز عليه سريعاً. وكانت إسرائيل قد استنفدت على مدى اثنين وعشرين عاماً كلّ وسائلها العدوانية: السياسية والعسكرية والاقتصادية بمساندة الولايات المتّحدة من أجل إدخال لبنان إلى "بيت الطاعة" ووقف المقاومة وإنهائها.
 
154
 

 
[1] القرار 425: في أعقاب العملية الفدائية الفلسطينية بقيادة دلال المغربي يوم 11 مارس 1978م على حافلتين إسرائيليتين قرب تل أبيب ما أسفر عن مقتل 37 إسرائيلياً وجرح 76، دخلت القوّات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان بحجّة إزالة قواعد منظمة التحرير الفلسطينية ومناطق انطلاقها جنوب نهر الليطاني. وعندما بدأت عملية الليطاني، شرعت الولايات المتّحدة بالبحث عن صيغة لإرسال قوّة حفظ سلام تابعة للأمم المتّحدة إلى المنطقة التي استولت عليها إسرائيل، وذلك لإحداث انسحاب إسرائيلي وإقامة منطقة عازلة خالية من الفدائيين في جنوب لبنان. ونتيجة لهذه الجهود، اجتمع مجلس الأمن الدولي وقرّر تبنّي القرار رقم 425 الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب، وإلى إقامة قوّة مؤقّتة تابعة للأمم المتّحدة في لبنان (يونيفل).
نص القرار: إنّ مجلس الأمن، بعد أن اطّلع على رسالتي مندوب لبنان الدائم (س/12600 وس/12606) وعلى رسالة مندوب إسرائيل الدائم (س/ 12607)، وبعد أن استمع إلى بياني المندوبين الدائمين للبنان ولإسرائيل، وجرّاء قلقه الشديد من تدهور الوضع في الشرق الأوسط، وممّا قد يكون لذلك من عواقب على الحفاظ على السلام الدولي، ولاقتناعه بأنّ الوضع الراهن يعرقل إحراز سلام عادل في الشرق الأوسط،
1- يدعو إلى الاحترام التام لسلامة لبنان الإقليمية وسيادته واستقلاله السياسي ضمن حدوده المعترف بها دوليا.
2- ويناشد إسرائيل أن توقف فوراً عملها العسكري ضدّ السلامة الإقليمية للبنان، وأن تسحب على الفور قواتها من جميع الأراضي اللبنانية.
3- ويقرّر، في ضوء طلب الحكومة اللبنانية، تشكيل قوّة مؤقّتة تابعة للأمم المتّحدة في الحال، تخضع لسيطرتها, لتعمل في جنوب لبنان بقصد التحقّق من انسحاب القوّات الإسرائيلية، وإعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة حكومة لبنان على تأمين عودة سلطتها الفاعلة إلى المنطقة، على أن يتمّ تشكيل القوّة الدولية من أفراد من دول أعضاء في الأمم المتحدة.
4- ويطلب المجلس من السكرتير العام أن يقدّم تقريراً إلى المجلس خلال 24 ساعة حول تطبيق هذا القرار.
 

137

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 المواقف الصلبة تختصر الزمن 

استطاع لبنان بفضل قيادته الوطنية الحكيمة المتمثّلة بالرئيس أميل لحود ورئيس الحكومة سليم الحص أن يجهض كلّ المخططات الرامية إلى وقف المقاومة وجدولة الانسحاب الإسرائيلي والضمانات والاتّفاقات لحماية عملائها وإدخالهم في الجيش اللبناني والتدخّل بالشؤون الداخليه للبنان. وأمام الموقف المقاوم الصَّلب كانت خيارات الصهاينة تتقلّص شيئاً فشيئاً، وبدأت إسرائيل تعدّ العدّة للرحيل محاولة انتزاع قرار العفو عن العملاء اللحديين، ومحاولة إدخال تعديلات على مهمّات قوات الطوارئ الدولية، بهدف جعلها سياجاً أمنياً إسرائيلياً، وبما أنّ الوضع كان متفجّراً ولا يحتمل التأجيل انفرط عقد الوجود الصهيوني في لبنان، وبدأ الجيش الإسرائيلي بالتقهقر.
 
عودة المنطقة المحتلّة إلى حضن الوطن 
راحت المقاومة تطارد الجنود الصهاينة من موقع إلى آخر، ومن قرية إلى قرية، إلى أن اندحروا كلّياً خارج الحدود، تاركين وراءهم بعض العملاء الذين تحصّنوا داخل المواقع، لكنّ الرعب سرعان ما دبّ في نفوسهم عندما رأوا الجموع البشرية تزحف نحو القرى والبلدات التي كانت تخضع لسيطرتهم، فمنهم من فرّ نحو فلسطين المحتلّة، ومنهم من استسلم للمقاومين. وراحت المواقع التي أرعبت الناس وقصفت القرى وزرعت الدمار والقتل تتهاوى من عرمتى إلى البيّاضة إلى القُصير فعلمان، فدير سريان، وفُتحت الطريق أمام المواطنين للتدفّق دون خوف إلى داخل الشريط المحتلّ، لإعادته إلى حضن الوطن من جديد.
 
155

138

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 كيف بدأت الانطلاقة الأولى للتحرير؟ 

صبيحة الحادي والعشرين من شهر أيار عام 2000م شهدت الانطلاقة الأولى للتحرير، فانطلق أهالي القنطرة وجمع كبير من أهالي المنطقة المجاورة من بوّابة التحرير الأولى عندما كانوا يحتفلون بمناسة في بلدة الغندورية، تواكبهم سيّارات المقاومة، وقد حاولت قوّات الطوارئ الدولية إقفال البوابة الحديدية في وجوههم لمنعهم من المضيّ في زحفهم لكنّ جرأة المواطنين دفعتهم إلى اقتحام البوابة وفتحها فوصل الأهالي إلى بلدتهم القنطرة وسط صيحات "الله أكبر" وأقيمت صلاة الشكر لله. 
 
وكان لسقوط القنطرة أثر معنويّ كبير لدى سكّان بقية القرى, فراح المواطنون يتهافتون من كلّ مكان عبر الطرق المتعرّجة والجبال والأودية غير عابئين بالعواقب. وبدأت القرى تتهاوى من الطيبة إلى دير سريان إلى غيرهما، فأصيب العدوّ بالإرباك، فاستغلّت المقاومة الإسلامية هذا الإرباك ودفعت بعشرات المقاتلين إلى الخطوط الأمامية، ما شجّع أهالي القرى الأخرى إلى التحرّك نحو قراهم، وسارعت المقاومة إلى اقتحام مواقع الميليشيات اللحديّة، وجمع الوثائق والملفّات والأسلحة واعتقال العملاء والسيطرة على مخازن الذخيرة.
 
تحرير القطاع الأوسط 
في اليوم التالي 22 أيار عام 2000م وضعت المقاومة خطّة لضرب الفوج السبعين التابع للعملاء اللحديين، وطلبت من أهالي قرى: حولا، ومركبا، وطلوسة الساكنين في المناطق المحرّرة الانتقال فجراً إلى بلدة شقرا، ومنها الانطلاق لتحرير جميع قرى القطاع الأوسط، وهذا ما أثار حفيظة الإسرائيليين، فبدأت الطائرات والمدفعية الإسرائيلية بقصف القرى والأودية لمنع المسيرة الشعبية من المضيّ. ولمّا لاحظ الإسرائيليون واللحديون هذا الإصرار الغريب على مواصلة الزحف ازداد فرار العملاء، واستُكمل الزحف الشعبي بهجمات نيفة للمقاومة على مواقع الإسرائيليين.
 
156

139

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 حرب تموز عام 2006م (الوعد الصّادق)

تداعيات انتصار العام 2000: 
كان للانتصار الذي حقّقته المقاومة عام 2000م تداعيات كبيرة على إسرائيل, لأنّه لم يسبق لأحد من العرب أن حقّق انتصاراً على الكيان الإسرائيلي منذ تأسيسها عام 1948م. وسقطت هيبة "الجيش الذي لا يُقهر" وأدّى هذا الانتصار إلى ردّات فعل سلبيّة على المجتمع الإسرائيلي: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
 
وماذا على الصعيد اللبناني؟ 
ما بعد التحرير عام 2000م قامت المقاومة الإسلامية ببناء التحصينات والمتاريس وتعزيز قدراتها القتالية وترسانتها المسلّحة بصمت وسريّة مطلقة. أمّا على الصعيد الرّسمي اللبناني فإنّ الدولة اللبنانية بشخص رئيسها العماد أميل لحود، أيّدت المقاومة واعتبرتها شرعيّة ومحرّرة لجزء كبير من الوطن. لكنّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005م أوجد صدعاً كبيراً في الجبهة الداخلية، خصوصاً إبّان رئاسة فؤاد السنيورة، وانقسم لبنان بين ما سُمّي: المعارضة والموالاة. وأثّر ذلك على داعمة المقاومة الأولى في المنطقة سوريا، واستُصدر قرار دوليّ أدّى إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان.
 
دور الرئيس إميل لحود 
قام الرئيس أميل لحود خلال ولايته بدعم المقاومة، ورفض التدخّلات الأجنبية في شؤون لبنان الداخلية. وعندما كان قائداً للجيش اللبناني قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية عام 1998م، كان مؤيّداً للمقاومة ومتعاطفاً معها، حتّى أنّ الجيش في عهده كان يسهّل تحرّكات المقاومين، كما حدث في أماكن عديدة خصوصاً إبّان المعركة التي استشهد فيها ابن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، حيث تصدّى
 
 

140

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 الجيش اللبناني في إقليم التفاح للطائرات والقصف الإسرائيلي، وارتفع للجيش شهداء وسقط جرحى.

 
لقد وقف الرئيس لحود مع شعبه اللبناني في الجنوب أثناء العدوان الإسرائيلي عام 2006م، وكان في غمار وذروة العدوان يؤكّد على حتميّة الانتصار، ويناهض رئيس وزرائه فؤاد السنيورة الذي ساند مؤامرات الأعداء ومؤتمراتهم ضدّ المقاومين الذين كانوا يخوضون غمار أشرس حرب تمرّ فيها المنطقة حتى تاريخه. ولم تزد هذه المواقف المزرية، الرئيس لحود إلّا اتّزاناً وصلابة.
 
كيف بدأت حرب تموز عام 2006م؟ 
صبيحة الثاني عشر من تموز عام 2006م، قامت مجموعة من قوّات النخبة في المقاومة الإسلامية بعملية عسكرية جريئة وخاطفة قرب بلدة عيتا الشعب الحدودية، فقتلت ثمانية جنود صهاينة ودَمّرت آليّتين وأَسرت جنديّين، وفي اليوم نفسه أطلّ السيد حسن نصر الله على شاشة التلفزيون مهدّداً بالتصعيد إذا أقدمت إسرائيل على أيّ عدوان، مطالباً بإجراء مفاوضات عبر طرف ثالث لتبادل الأسرى. وفي الجانب الآخر اعتبرت إسرائيل أنّ الحرب قد بدأت، وقامت طائراتها بإسقاط المنشورات من الجوّ تطالب سكّان الجنوب اللبناني بالرحيل، ورافق ذلك حصار بحريّ وجوّيّ وبرّيّ للبنان، وسمّت إسرائيل العملية العسكرية "الجزاء المناسب" وتحوّلت الحرب إلى حرب تدميرية شبيهة بالحرب العالمية الثانية، وكادت الحرب أن تتحوّل إلى بداية لحرب عالمية ثالثة.
 
بدء العمليات العسكريّة 
بدأت إسرائيل تقصف الجسور، وهدّدت بإعادة لبنان عشرين عاماً إلى الوراء. وبدأت بقصف القرى الجنوبية والمنشآت الحيوية كمحطّات الكهرباء "والأوتوسترادات" والمراكز المدنية والمنازل والبنايات. ولدى الإسرائيليين عقيدة خاصّة بالقتال
 
158

141

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

يعلّمونها لرجالهم، وهي: "أنّ إسرائيل لا تتحمّل خسارة حرب واحدة, لأنّ هزيمتها تعني زوالها من الوجود" لذلك 

فهي تعتمد بالدرجة الأولى على سلاح الجوّ لسرعة طاقته التدميرية الهائلة. وعلى هذا الأساس راحت طائراتها تشنّ الغارات الجويّة المكثّفة على جميع الأراضي اللبنانية من أقصى شمالها وبقاعها حتى جنوبها، مروراً بالعاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية.

 

وفي المقابل، فإنّ حزب الله اعتمد عقيدة قتالية غير معلنة، تمزج حرب العصابات والحرب النظاميّة بالاعتماد الأكبر على طاقة الصواريخ التدميريّة إضافة إلى الكمائن، تتوّجها العقيدة الإيمانية الدينية الصلبة.

 

سير المعارك 

بعد عملية الأسر بدأت الدّبابات بالتقدّم نحو جميع القرى المحاذية للحدود مدّعمة بآلالاف الجنود على كلّ المحاور، فتصدّى المقاومون باستبسال منقطع النظير، ولم يتمكّن العدو من التقدّم، فزجّت إسرائيل بقوّات النخبة من جيشها، وبعد قتال مرير وعنيف وصلت القوّات المعادية إلى مارون الراس فاصطدمت قوات النُخبة بكمائن المقاومة. وفي صبيحة 26 تموز حاول لواء الغولاني التقدّم إلى عيناثا وبنت جبيل، فدارت المعارك الضارية، وسقط فيها عدد كبير من جيش العدوّ قتلى. وبينما كانت المعارك تدور على هذا المحور كانت القوّات المعادية تحاول التضييق على مدينة بنت جبيل من الجهة الغربية بالقرب من "صف الهوا". وفي صباح 27 تموز اشتدّ أُوارُ المعارك حول بنت جبيل وعيناثا والطيري وكونين 

وأطراف عيترون، وبدأت كمائن المقاومة تُفاجىء قوّات النخبة التي تكبّدت خسائر كبيرة. وفي خِضمّ الارتباك الصَّهيوني 

كانت المعارك الضَّارية في بنت جبيل على أشدّها، وكانت الخسائر الإسرائيلية جسيمة، ولم يتمكّن العدوّ من إحراز أيّ نصر أو تحقيق أيّ هدف. وكانت المعارك تدور أيضاً في عيتا الشعب التي دُمِّرت معظم بيوتها، ولم يتمكن العدوّ من احتلالها.

 

159

142

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 لبنان كلُّه يقاوم 

من الشمال في عكار وطرابلس إلى البقاع كلّه وبعلبك والهرمل إلى جبل لبنان وضاحية بيروت الجنوبية إلى صيدا والخيام والنبطية ومرجعيون وصور، القصف المعادي مستمرّ بلا هوادة، والمقاومة تردّ باستبسال، وصواريخها تدكّ ما بعد حيفا والعمق الصهيوني, ولأوّل مرّة يشعر الإسرائيليون بالهلع فيغادر أكثر من أربعمئة ألف يهودي المستعمرات الشمالية نحو الداخل، فيما فاجأت المقاومة العالم بتدمير بارجة حربية صهيونية، وتدمير عدد كبير من دبّابات الميركافا المتطوّرة جدّاً.

 

الصمود المذهل 

ثلاثة وثلاثون يوماً من الحرب المستمرّة، والمقاومة كانت ما تزال صادمة حيث بدأت تظهر المفاجآت المذهلة، ففي ليل 12 آب وقبل وقف إطلاق النار بيومين كانت القوّات الصهيونية قد أنزلت قوّات محمولة جوّاً في الأحراش الكثيفة غربي 

بلدة ياطر تمهيداً لاحتلالها، لكنّ رجال المقاومة فاجؤوا العدوّ بإسقاط طائرة مروحية محمّلة بالجنود والعتاد غربي البلدة، 

وكان قد سبق ذلك إنزال جويّ فاشل على طريق صور العباسية، صدّته المقاومة ورجال الجيش اللبناني دون أن يحقّق أهدافه.

 

الوعد الصادق

كان رجال المقاومة في المحاور الملتهبة قد أرسلوا برسالة إلى قائدهم السيد حسن نصر الله يعاهدونه على الاستبسال والقتال حتّى الاستشهاد، فردّ السيد برسالة تاريخية، يَعِدُهم بالنّصر، ويسمّيهم: "الوعد الصّادق".

 

وعد السيد ووفى! وانتصرت المقاومة بعد قتال مشرِّف لمدّة 33 يوماً! واندحر العدو خاسراً خاسئاً، وبدأت جبهته الداخلية بالتّداعي والانفراط.

 

 

160


143

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 المفاهيم الرئيسة

1- استطاع لبنان بفضل قيادته الوطنية الحكيمة المتمثّلة بالرئيس إميل لحود أن يجهض كلّ المخططات الرامية إلى وقف المقاومة.  ولأوّل مرّة تلجأ إسرائيل إلى الأمم المتّحدة لتوفير غطاء لها للانسحاب, متذرّعة بتطبيق القرار 425.
 
2- راحت المقاومة تطارد الجنود الصهاينة من موقع إلى آخر ومن قرية إلى قرية، حتى صبيحة الحادي والعشرين من شهر أيار عام 2000م حيث الانطلاقة الأولى للتحرير.
 
3- بتاريخ 22 أيار عام 2000م وضعت المقاومة خطّة لضرب الفوج السبعين التابع للعملاء اللحديين، وطلبت من الأهالي في قرى: حولا، ومركبا، وطلوسة الانتقال فجراً إلى بلدة شقرا.
 
4- للانتصار الذي حققته المقاومة عام 2000م تداعيات كبيرة على إسرائيل, لأنّه لم يسبق لأحد من العرب أن حقّق انتصاراً على إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948م.
 
5- صبيحة الثاني عشر من تموز عام 2006م، قامت مجموعة من قوّات النخبة في المقاومة الإسلامية بعملية عسكرية جريئة وخاطفة قرب بلدة عيتا الشعب الحدودية، فقتلت ثمانية جنود صهاينة ودمّرت آليّتين وأسرت جنديّين.
 
6- بدأت إسرائيل تقصف الجسور وهدّدت بإعادة لبنان عشرين عاماً إلى الوراء، وبدأت بقصف القرى الجنوبية والمنشآت الحيوية كمحطّات الكهرباء. 
 
7- اعتمد حزب الله عقيدة قتالية غير معلنة، تمزج بين حرب العصابات والحرب النظامية بالاعتماد الأكبر على طاقة الصواريخ التدميريّة إضافة إلى الكمائن.
 
8- بعد عملية الأسر بدأت الدّبابات بالتقدّم نحو جميع القرى المحاذية للحدود مدّعمة بـآلاف الجنود على كلّ المحاور. 
 
161

144

الدرس السادس عشر: المقاومة الإسلامية وزمن الانتصارات

 9- ثلاثة وثلاثون يوماً من الحرب المستمرّة، والمقاومة كانت ما تزال صادمة حيث بدأت تظهر المفاجآت المذهلة. وكان 

رجال المقاومة في المحاور الملتهبة قد أرسلوا برسالة إلى  قائدهم السيد حسن نصر الله يعاهدونه على الاستبسال والقتال 
حتى الاستشهاد، فردّ السيد برسالة تاريخية، يَعِدُهم بالنّصر، ويسمّيهم: "الوعد الصّادق".
 

145

القسم الثاني: دروس في سيرة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

 القسم الثاني:


دروس في سيرة الإمام علي عليه السلام



163 

 


146

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

 

الدرس السابع عشر:
سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام


أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى أبرز المحطّات في حياة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
2- يتعرّف إلى ظروف ولادة الإمام علي عليه السلام وما رافقها.
3- يتعرّف إلى أبرز فضائله وألقابه وأسمائه عليه السلام.
 
165

147

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

 تمهيد

إنّ سيرة أمير المؤمنين عليه السلام صفحة خالدة من صفحات المجد والسموّ، نقرأ فيها عالم المثل العادلة ومبادئ العظمة والاستقامة والخصائص الفريدة، نقرأ سيرة رجل عاش لله، وليس فيه شيء لغيره، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ويحب فيه، ويبغض فيه، أعظم الناس جهاداً في سبيله وأكثرهم معرفة بشريعته وعملاً بأحكامها وإحياءً لمعالمها... فجاءت سيرته تجسيداً لرسالة الإسلام، بل كانت إسلاماً يتحرّك على الأرض... إنّه الكتاب الناطق والسنّة الحية.
 
نسبه 
هو سيِّد العرب، يعسوب المؤمنين، مولى الموحّدين، أسد الله الغالب عليُّ بن أبي طالب بن عبد المطَّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان[1] القرشي، الهاشمي، المكِّي، المدني.
 
كنيته: أبو الحسن.  ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخوه، آخاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرَّتين, فإنَّ رسول الله آخى بين المهاجرين، ثُم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، وقال لعليٍّ في كلِّ واحدة منهما: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"[2].
 
 
 
 

 
[1] ابن الأثير، أسد الغابة، ج 4، ص 100، ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 223.
[2] أسد الغابة، ج 4، ص 91، تهذيب الكمال في أسماء الرجال 13: 103.
166

148

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

 وهو وزير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيُّه وخليفته في أُمَّته، وجامع فضائله وشمائله، ووارث علمه وحكمه.

 
وأوّل خليفة من بني هاشم، هاجر الهجرتين، ماشياً حافياً، وشهد بدراً وأُحداً والخندق وبيعة الرضوان والمشاهد كلَّها، إلّا معركة تبوك، فقد خلَّفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة، وكان ذلك أحد مواضع قوله له: "أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي"[1] وأبلى في جميع المعارك بلاءً عظيماً، وكان اللواء في أكثر المواضع بيده.
 
وليد الكعبة
من العجائب التي أضافت صوتاً ضارباً في التاريخ وأحداثه الفريدة التي تفتح الأعين على ما تخفيه من أسرار، أن يصطفي الله لعبد اصطفاه، حتى موضع مولده، ليجمع له ـ مع طهارة مولده ـ شرف المحلّ، محلّ الولادة، ويخصّه بمكرمةٍ 
ميَّزه بها منذ مولده عن سائر البشر.
 
هكذا كان مولد عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، في البيت العتيق في الكعبة الشريفة.
 
وكان ذلك يوم الجمعة، الثالث عشر من شهر رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة[2]، قبل البعثة بعشر سنين[3]، حوالي عام 600 م (23 قبل الهجرة)، وقيل: "ولد سنة ثمان وعشرين من عام الفيل"[4].
 
ولعلّه في مثل هذا اليوم الذي وُلِد فيه أمير المؤمنين، قد وُلِد الألوف من البشر، لكنَّ ولادته مثَّلت حدثاً عجيباً تجلَّت به الأسرار، وتلبَّست بالحكمة الربَّانية.
 
 
 

 
[1]  مسند أحمد بن حنبل 5: 64.
[2] أنظر إعلام الورى 1: 306، إرشاد المفيد 1: 5، عليٌّ وليد الكعبة، الأوردبادي: 3 منشورات مكتبة الرضوي، كشف الغمَّة، العلامة المحقِّق الأربلي 1: 5.
[3] الإصابة، ابن حجر 2: 507.
[4]  كشف الغمَّة، ج1: 59.
167

149

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

 فإنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد لمَّا جاءها الطلق، تعلِّقتْ بأستار الكعبة الشريفة، من شدّة المخاض، مستجيرة بالله وَجِلةً، خشية أن يراها أحد من الذين اعتادوا الاجتماع في أُمسياتهم في أروقة البيت أو في داخله، فانحازت ناحية وتوارت عن العيون خلف أستار البيت، واهِنةً مرتعشة أضنتها آلام المخاض, فألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول: "يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدِّقة بكلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بنى البيت العتيق، فبحقِّ الذي بنى هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني إلّا ما يسّرت عليَّ ولادتي".

 
قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشقَّ عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلى حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلك من أمر الله تعالى، ثُمَّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام[1]. 
 
وقد أنشد الحميري (ت 173 هـ) في هذه المناسبة: 
وَلدَتْهُ في حرم الإلـه وأمنـه        والبيت حيـث فناؤه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمـة        طابت وطاب وليدهـا والمولد
ما لُفَّ في خِرَقِ القوابِل مِثلُه      إلاّ ابــن آمنةَ النبيِّ محمّد 
 
يقول الألوسي: "وفي كون الأمير كرّم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنّة والشيعة... ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه كما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الكلمة عليه، وأحرى بإمام الأئمّة أن يكون وضعه في ما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يصنع الأشياء، وهو أحكم الحاكمين"[2].

 
 

 
[1] كشف الغمَّة، ج1، ص 60.
[2] الأوردبادي، علي وليد الكعبة،  ج3، ط النجف الأشرف.
168

150

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

 صفته: نشأ عليه السلام مكين البنيان، شاباً وكهلاً، حافظاً لتكوينه المكين حتى ناهز الستين من عمره الشريف، كان قويَّ البنية، ممتلئ الجسم، كثير الشعر، ربعة في الرجال لا هو بالطويل ولا بالقصير، عريض المنكبين، له مشاش كمشاش السبع الضاري، يغلظ من أعضائه ما استغلظ من أعضاء الأسد ويدقُّ منها ما استدقَّ.

 
هذا وتدلُّ أخباره ـ كما تدلُّ صفاته ـ على قوَّة جسدية، فربَّما رفع فارساً بيده فجلد به الأرض غير جاهد، وما صارع أحداً إلّا وصرعه.
 
يتكفَّأ في مشيته على نحو ما يقارب مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جعله أُسوته وقدوته منذ أن نشأ وحتَّى مات.
 
أسماؤه وألقابه 
كثيرة أسماؤه وألقابه عليه السلام، قال مجاهد: "إنَّ أُمَّه سمَّته عليَّاً عند ولادته".
وقال عطاء: إنَّما سمَّته أُمُّه حيدرة، بدليل قوله يوم خيبر: "أنا الذي سمَّتني أمِّي حيدرة"، فلمَّا علا على كتفي الرسول 
صلى الله عليه وآله وسلم وكسَّر الأصنام سُمِّي عليَّاً من العلوَّ والرفعة والشرف"[1].
 
وقد عُرف عليه السلام بألقاب كثيرة، جاء كثير منها في حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منها: "يعسوب المؤمنين". وأصل اليعسوب هو ملك النحل، ومنه قيل للسيِّد: يعسوب، والمؤمنون يتشبَّهون بالنحل، لأنَّ النحل تأكل طيباً.
 
ويلقَّب أيضاً: الوليّ، والوصيّ، والتقيّ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وشبيه هارون، وصاحب اللوى، وخاصف النعل، وكاشف الكرب، وغيرها كثير[2].
 
وكنَّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبي تراب لمَّا رآه ساجداً معفِّراً وجهه في التراب، فكان ذلك من أحبِّ ألقابه إليه. 
 
 
 

 
[1]  تذكرة الخواص: 3 ـ 4.
[2]  م. ن.
169

151

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

 وجاء في سبب تسميته ـ كما نقله ابن إسحاق عن عمَّار بن ياسر ـ أنَّه قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فلمَّا نزلها رسول الله وأقام بها، رأينا ناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم، فقال لي عليٌّ عليه السلام: "يا أبا اليقظان، هل لك في أن نأتي هؤلاء القوم لننظر كيف يعملون؟" قلت: إن شئت، فجئناهم ونظرنا إلى عملهم ساعة ثُمَّ غشينا النوم، فانطلقت أنا وعليٌّ واضطجعنا في صور من النخل على التراب اللين ونمنا، والله ما أيقظنا 

إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تترَّبنا من تلك البقعة التي نمنا فيها، ففي ذلك اليوم قال الرسول لعليٍّ عليه السلام: "ما لك يا أبا تراب"![1].
 
رواه أيضاً ابن جرير الطبري[2] في تاريخه، ثُمَّ ذكر سبباً آخر في هذه التسمية، خلاصته أنَّه قيل لسهل بن سعد الساعدي: إنَّ بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك لتسبَّ عليَّ بن أبي طالب على المنبر، وتقول له: يا أبا تراب، قال: والله ما سمَّاه بذلك إلّا رسول الله. 
 
وأخرجه أحمد بن حنبل من وجه آخر، قال: حدَّثنا ابن نمير، عن عبد الملك الكندي، عن أبي حازم، قال: جاء رجل إلى سهل بن سعد، فقال: هذا فلان يذكر علي بن أبي طالب عند المنبر، فقال: ما يقول؟ قال: يقول: أبو تراب، ويلعن أبا تراب، فغضب سهل وقال: والله ما كنَّاه به إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان اسم أحبَّ إليه منه[3].
 
ولقَّبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بأمير المؤمنين، حتَّى قال فيه: "سلِّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين"[4].
 
ومن ألقابه[5] أيضاً: المرتضى، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم النار، وصاحب اللواء، وسيِّد العرب،
 
 
 

 
[1] سير أعلام النبلاء ج 1، ص 298.
[2] تاريخ الطبري، ج 2، ص 123 بتصرّف.
[3]  تذكرة الخواص، ج 5.
[4]  أنظر: ارشاد المفيد، ج 1، ص 48.
[5] للمزيد أنظر، الخوارزمي، المناقب 40 ـ 43 ط مؤسسة النشر الإسلامي.
170

152

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

 وكشَّاف الكرب، والصدِّيق الأكبر، والهادي، والداعي، والشاهد، وباب المدينة ـ أي مدينة العلم ـ وغرَّة المهاجرين، والكرَّار غير الفرَّار، والفقَّار.

 
واجتمعت في عليِّ بن أبي طالب خلاصة الصفات التي اشتهرت بها أُسرته الهاشمية من النبل والشجاعة.. وممَّا قاله القائلون عن شجاعته: إنَّه ما عُرف عن بطل في العالم إلّا كان مغلوباً حيناً، وغالباً حيناً، إلّا عليٌّ عليه السلام فهو الغالب أبداً ودائماً، ومن هنا كان العرب يفخرون بأنَّ قريبهم قُتل بسيف عليٍّ، ويجعلون من هذا دليلاً على أنَّ صاحبهم بارز عليَّاً، وهو الموت الذي لا بدَّ منه.
 
وعُرف أيضاً بالمروءة والعلم والذكاء، وقد كان يقول: "لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب"[1]. وهو أعلم أصحاب رسول الله قاطبة بلا منازع، وفي هذا أحاديث كثيرة تشهد له، ووقائع كثيرة تصدّقه.
 
 
 

 
[1] مناقب ابن شهرآشوب، ج 2، ص 43، ينابيع المودة، القندوزي، ص65.
171

153

الدرس السابع عشر: سيرة حياة أمير المؤمنين علي عليه السلام

المفاهيم الرئيسة
 
1- إنّ سيرة الإمام عليّ عليه السلام كانت تجسيداً لرسالة الإسلام، فكان عليه السلام الكتاب الناطق والسنّة الحية.
 
2- إنّ ولادة الإمام عليّ عليه السلام في الكعبة إشارة واضحة لاصطفائه من قبل الله عزّ وجلّ ومكانته عند ربِّ الأرباب.
 
3- لقد جمع الإمام عليّ عليه السلام في شخصه الكثير من الألقاب والتسميات التي عكست صفاته وفضائله التي يتحلّى بها.
 
172

154

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

 الدرس الثامن عشر:

فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.
2- يحفظ ثلاثاً من فضائله عليه السلام.
3- يفهم معاني ودلالات الأخوّة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام.
 
173

155

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

 تمهيد

هو أقرب الناس إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخصُّهم به، نشأ في حجره، يتَّبعه اتِّباع الصبي لأمِّه وأبيه، يتلقى منه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ومفاتح العلوم وأسرار الحياة وفلسفتها.
 
فإذا قال أهل العلم بالحديث كأحمد بن حنبل وغيره: "إنَّه لم يرد في الصحاح والحسان لأحد من الصحابة ما ورد لعليٍّ"[1]، فإنَّما يقرّون حقيقة شاهدها تأريخ صدر الإسلام كلِّه، من هنا حقَّ لبعض أهل العلم القول: إنَّ الحديث عن مناقب عليٍّ لا يعدو أن يكون نافلة وفضولاً، تماماً كالحديث عن نور الشمس[2].
 
ولهذا سنقصر مادة هذا الدرس على باقة صغيرة ممَّا جاء في حقِّه عليه السلام في القرآن والحديث.
 
أولاً في القرآن الكريم
1- نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
عليٌّ أحد المدعوّين في مباهلة وفد نصارى نجران، إذ قال عزَّ من قائل: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[3]. أولئك هم
 
 
 

 
[1] انظر: المستدرك على الصحيحين 3: 107 ـ 108، الاستيعاب 3: 51، تاريخ الخلفاء: 133.
[2] سورة آل عمران، الآية 61.
[3] انظر: معالم التنزيل البغوي 1: 480، الكشَّاف، الزمخشري 1: 370، أسباب النزول، الواحدي: 74 ـ 75، دار ومكتبة الهلال بيروت 1991م، صحيح مسلم 4: 1871، 32 ـ 2404، سنن الترمذي 5: 638، 3724، سير أعلام النبلاء ( سيرة الخلفاء الراشدين ): 230.
174

156

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

 الذين اصطفاهم الله وانتخبهم رسول الله: عليٌّ وفاطمة والحسنان عليهما السلام، بهم خلَّد التأريخ حدثاً عظيماً يعدُّ إحدى معاجز الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 
وأجمع المفسِّرون على أنَّ المقصود من (أنفسنا) نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفس عليٍّ عليه السلام4.
 
2- عليٌّ عليه السلام من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخاصَّته:
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليٌّ وفاطمة والحسنان عليهما السلام هم المدعوون بأصحاب الكساء الخمسة، والمشار إليهم بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[1].
 
نزل الروح الأمين بهذه الآية المباركة، حينما جلَّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً عليهم السلام بكساءٍ حبري، وغشَّاهم به، ثُمَّ أخرج يديه المباركتين فألوى بهما إلى السماء، ثُمَّ قال: "اللَّهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً"[2]. 
 
3- القرآن الكريم يأمر بالصلاة على آل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: 
ولمَّا كان الإمام عليٌّ عليه السلام من أهل بيت محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم فله شأن في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[3]. وممَّا لا ريب فيه كانت هذه " الصلاة" من الواجبات في حال التشهد، لما ثبت بالتواتر حينما سألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: كيف نصلِّي عليك يا رسول الله؟  فقال: "قولوا: اللَّهمَّ صلِّ 
 
 
 

 
[1]  سورة الأحزاب: 33.
[2] من مصادر حديث الكساء: تفسير الرازي 8: 80، أسباب النزول: 252، مسند أحمد 4: 107 و6: 292، 304، صحيح مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة 4: 1883، 2424، مصابيح السُنَّة 4: 183، 4796، المستدرك 2,416 و3: 148، سير أعلام النبلاء 3: 283، الصواعق المحرقة، باب 11 الفصل1: 143، الخصائص: 4، شواهد التنزيل 2: 92، 637 ـ 774، أسد الغابة 4: 29، الخصائص الكبرى للسيوطي 2: 464، مجمع الزوائد 9: 167، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 9: 61، 6937.
[3] سورة الأحزاب، الآية 56.
175

157

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

 على محمدٍ وآل محمدٍ، كما صلَّيت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وآل محمدٍ كما باركت على 

إبراهيم وآل إبراهيم"[1].
 
وفي هذا الشأن أنشد الشافعي أبياته الشهيرة التي أوّلها:[2]
يا أهل بيت رسـول الله حبُّكـمُ        فـرضٌ من الله في القـرآن أنزله
كفاكــمُ من عظيـم الشأن أنَّكمُ       مَنْ لم يُصلِّ عليكم لا صلاة له
 
4- عليّ عليه السلام يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله:
تخلَّف عليٌّ عليه السلام يوم الهجرة ليبيت في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويصرف الأعداء عنه، ويؤدِّي الأمانات إلى أهلها، حتّى تكتمل رسالة الإسلام المحمَّدية، فنزل فيه قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[3]. 
 
5- عليٌّ عليه السلام وسورة الدهر:
لم يختلف أهل التفسير على أنَّ سورة "الانسان" أو "هل أتى" نزلت خاصَّةً في عليٍّ وأهل بيته عليهم السلام[4]، في قصَّة التصدُّق على المسكين واليتيم والأسير، ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ... إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا﴾[5].
 
6- بعليٍّ كفى الله المؤمنين القتال: 
في استبساله يوم وقعة الأحزاب قيل: إنَّ الآية المباركة: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾[6] نزلت في الإمام عليٍّ عليه السلام. حتى أنَّ ابن مسعود كان يقرأ الآية: ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ بعليٍّ بن أبي طالب[7].
 
 
 

 
[1] صحيح البخاري 6: 217، 291، الترمذي 5: 359، 322.
[2] الصواعق المحرقة، باب 11، فصل ج1، ص 148.
[3] سورة البقرة: 207، وانظر التفسير الكبير 5: 204.
[4] أنظر: الكشَّاف 4: 670، تفسير الرازي 30: 243، فتح الباري، الشوكاني 5: 349، روح المعاني 29: 157 ـ 158، معالم التنزيل 5: 498، تفسير أبي السعود 9: 73، تفسير البيضاوي 2: 552، تفسير النسفي 3: 628، أسباب النزول: 322.
[5] سورة الإنسان، الآيتان 11 و22.
[6] أنظر: دلائل الصدق 2: 174، ما نزل من القرآن في عليٍّ، أبو نعيم: 172، تحقيق المحمودي.
[7] سورة الأحزاب، الآية 25.
176

 


158

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

 ثانياً في الحديث الشريف 

1- أوَّلهم إسلاماً:

ومَنْ أصدق من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال لعليٍّ: "أنت أوَّل مَنْ آمن بي، وأنت أول من يصافحني 

يوم القيامة، وأنت الصدِّيق الأكبر، وأنت الفاروق تفرِّق بين الحقِّ والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين"[1].

 

2- أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره: 

من يجهل حديث المؤاخاة، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا أخوك وأنت أخي"[2]؟! فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخِّره حينما آخى بين المهاجرين والأنصار إلّا لنفسه، ليكون أخاه ووارثه، يرث منه ما ورّثت الأنبياء من قبله.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يكن له خطير ولا نظير من العباد وعليُّ بن أبي طالب أخوان في الدنيا والآخرة ﴿إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾[3]. 

 

3- وأحبُّ الخلق إلى الله:

ذات ليلة أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طير مشوي، فلم تطب نفسه أن يأكله وحده، فدعا ربَّه قائلاً: 

"اللَّهمَّ.. ائتني بأحبِّ الخلق إليك ليأكل معي هذا الطير" كان يتمنَّى أن يأكل معه أحبُّ الخلق إلى الله عزَّ وجلَّ لتتمَّ البركة ويعمَّ الفضل، وإذا طارق يحوم حول الباب، وكان هناك من يمنعه، يرجع ويعود يطرق الباب، حتى أذن له في الثالثة أو الرابعة، وإذا به عليُّ بن أبي طالب، ولمَّا رآه رسول الله قال: "ما حبسك عنِّي"؟! قال عليه السلام: "والذي بعثك

 

 

 


 

[1] إرشاد المفيد 1: 31 ـ 32، إعلام الورى 1: 360 ـ 361، مناقب ابن شهرآشوب 2: 6، أنساب الأشراف 2: 118، 74، وكذا نقله المجلسي في البحار 38: 227، 33.

[2] سنن الترمذي 5: 636، 3720، مصابيح السُنَّة 4: 173، 4769، المستدرك 3: 14، ورواه غيرهم بنصوص أُخرى انظر: مسند أحمد 1: 230، سيرة ابن هشام 2: 109، الطبقات الكبرى 3: 22، السيرة النبوية ابن حبان: 149، شرح نهج البلاغة 6: 167، جامع الأصول 9: 468، 6475، كنز العمَّال 11، 32879، عيون الأثر 1: 265، الروض الأُنف 4: 244. أُسد الغابة 2: 221 و4: 16، البداية والنهاية 7: 348، تاريخ الخلفاء: 135. 

[3] سورة الحجر، الآية 47.

 

177

 

159

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

 بالحقِّ نبيَّاً إنِّي لأضربُ الباب ثلاث مرَّات ويردَّني أنس"[1].

 

هكذا التقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أحبِّ الخلق إليه والى الله على مائدة النور.

 

4- إلّا باب عليٍّ:

لمّا كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد النبوي الشريف، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسدِّ الأبواب إلّا باب عليٍّ عليه السلام فتكلَّم الناس في ذلك، فلمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولهم، قام وخطب فيهم فقال: "أمَّا بعد.. فإنِّي أُمرتُ بسدِّ هذه الأبواب إلّا باب عليٍّ، وقال فيه قائلكم، والله ما سددته ولا فتحته، ولكنِّي أُمرتُ فاتبعته"[2]. 

 

5- الذائد عن الحوض:

إنَّه صاحب حوض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، يثبته قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "كأنِّي أنظر 

إلى تدافع مناكب أُمَّتي على الحوض، فيقول الوارد للصادر: هل شربت؟ فيقول: نعم، والله لقد شربت، ويقول بعضهم: لا والله ما شربت فيا طول عطشاه"[3].

 

وقال لعليٍّ عليه السلام: "والذي نبَّأ محمَّداً وأكرمه، إنَّك لذائد عن حوضي، تذود عنه رجالاً، كما يذاد البعير الصادي عن الماء، بيدك عصا من عوسج كأنِّي أنظر الى مقامك من حوضي"[4].

 

وفي رواية عن عليٍّ عليه السلام قال: "والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لأقمعنَّ بيدي هاتين عن الحوض أعداءنا، ولأوردنَّ أحبَّاءنا"[5].

 

 

 


 

[1] أنظر قصَّة الطائر المشوي بالمصادر التالية: سنن الترمذي 5: 636، 3721، الخصائص للنسائي: 5، فضائل الصحابة،  أحمد بن حنبل 2: 560، 945، المستدرك على الصحيحين 3: 130 ـ 132، مصابيح السُنَّة 4: 173، 4770، أُسد الغابة 4: 30، البداية والنهاية 7: 363، جامع الأصول 9: 471، الرياض النضرة 3: 114 ـ 115، وقال الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين: 46: أخرج ابن مردويه هذا الحديث بمائة وعشرين إسناداً، تذكرة الحفَّاظ: 1043.

[2] سنن الترمذي 5: 641، 2732، مسند أحمد 1: 331، فضائل الصحابة 2: 581، 985 فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7: 13، المستدرك 3: 125، مجمع الزوائد 9: 114 ـ 115، الرياض النضرة 3: 158، الخصائص للنسائي: 13، الإصابة 4: 270، جامع الأصول 9: 475، 6494، البداية والنهاية 7: 374 و379، الخصائص بتخريج الأثري ح، 23، 41. 

[3] إعلام الورى 1: 369، ونقله المجلسي في بحار الأنوار 39: 216، 6. 

[4] مناقب ابن شهرآشوب 2: 163، مناقب الخوارزمي: 60.

[5] مناقب ابن شهرآشوب 2: 162.

 

178


160

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

 6- كرَّار وليس بفرَّار:

أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر أمام الأصحاب بقوله: "والذي نفسي بيده، لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، كراراً ليس بفرَّار، يفتح الله على يديه، فأرسل إليَّ وأنا أرمد، فتفل في عينيَّ وقال: اللَّهمَّ اكفه أذى الحرّ والبرد، فما وجدتُ حرَّاً بعدُ ولا برداً"[1].
 
هذه بعض الفضائل التي ذكرها أهل المناقب والسير، في حقِّ أخي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصيِّه، ووزيره، 
وأمينه، وخليفته من بعده على أُمَّته.
 
 
 

 
[1] خصائص النسائي: 39، 14 و159، 151، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام علي عليه السلام، مجمع الزوائد 9: 122، إعلام الورى 1: 364، سنن ابن ماجة 1: 43، مسند أحمد 1: 99 و133، مستدرك الحاكم 3: 37، وانظر فرائد السمطين 1: 253، 196 و261، 201.
179

161

الدرس الثامن عشر: فضائل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام

المفاهيم الرئيسة

 

1- حظي الإمام علي عليه السلام بالكثير من المناقب والمفاخر التي شهد بها القرآن الكريم وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- من فضائله التي ذكرت في القرآن الكريم:

- أنّه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أهل بيته وخاصّته.

- الله أمرنا بالقرآن أن نصلي على آل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

- علي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.

- ذكر في سورة الدهر وفي سورة النور.

- وبعلي كفى الله المؤمنين القتال. 

- وإيمانه وجهاده عليه السلام لا مثيل له.

 

3- من فضائله التي ذكرت في الحديث: 

- أوّل الناس إسلاماً.

- أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحب الخلق إلى الله؟

- الذائد عن الحوض.

 

 

180

162

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 الدرس التاسع عشر:

أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يعرف حياة أمير المؤمنين عليه السلام مع الرسول قبل البعثة.
2- يعرف حياة أمير المؤمنين عليه السلام مع الرسول بعد البعثة.
3- يتعرّف إلى حياة الإمام علي عليه السلام في المدينة.
 
181

163

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 علي عليه السلام مع الرسول قبل البعثة 

كلُّ مولود يولد تتعاقبه وراثة الأجيال، فيأخذ من الأب والأمِّ ما يكوِّن به شخصيَّته النفسية والروحية والأخلاقية، والإمام عليٌّ عليه السلام معروف النسب، فهو ابن سادة العرب، أهل المروءة والشجاعة والكرم، توارثوا السيادة وخصالها أباً عن جدٍّ، عن أبيهم إبراهيم خليل الرحمن.
 
كما هيَّأ الله سبحانه الأسباب لعليٍّ ليكون أكثر الناس قرباً من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخصَّهم به.. بل ليكون النبيُّ أقرب إليه من أبيه وأخوته، ففي الثامنة من عمر علي عليه السلام ـ وربما كان حوالي عام 606 م ـ دخلت قريش في أزمة شديدة، وسنة مجدبة منهكة، شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها على أبي طالب شديداً، إذ كان ذا عيال كُثُر وقلَّة من المال لا يكفي  بنفقة رجل مثله، فعند ذاك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمَّيه الحمزة والعبَّاس: "ألا نحمل ثقل أبي طالب، ونخفِّف عنه عياله؟" فجاءوا إليه وسألوه أن يسلِّمهم وِلده ليكفوه أمرهم، فقال لهم: دعوا لي عقيلاً وخُذوا من شئتم، فأخذ العبَّاس طالباً، وحمزة جعفراً، وأخذ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم عليَّاً عليه السلام[1].
 
وانتقل عليٌّ عليه السلام وهو في مطلع صباه إلى كفيله محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، فرُبِّي في حجر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه، وكانت فاطمة بنت أسد كالأُمِّ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك كانت خديجة بنت 
خويلد كالأُمِّ لعليٍّ عليه السلام.
 
 
 

 
[1] الكامل في التاريخ، ج 1، ص 582.
182

164

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 فنشأ عليٌّ عليه السلام في بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرعاه وينفق عليه، فحاز بذلك من الشرف ما لم يحزه غيره. فقد نشأ يستلهم من معلِّمه معالم الأخلاق والتربية الروحية والفكرية، وكذا دقائق الحكمة والمعرفة، حتَّى أدرك من الحقائق ما لم يدركه بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد غيره، حتى تطبّع بصفات كافله، ولم تكن فيه صفة إلّا وهي مشدودة بصفات معلِّمه الأول والأخير، وما من شيء أنكره قلب محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم إلّا وأنكره قلب عليٍّ عليه السلام، وكان هذا قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. 

 
وأدرك التلميذ من معلِّمه العظيم حقائق الكون ونواميس الطبيعة، بل وأسرار الوجود، وأصبح المثل الأعلى في جميع شمائله وأفعاله، وتحلَّى بأعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي والأخلاقي. 
 
ووصف عليه السلام تلك الأيام القيِّمة مبيّناً فضلها واختصاصه بها على من سواه، فقال: "وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني إلى صدره.. وكان يمضغُ الشيء ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد كنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلِّ سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما..."[1]. 
 
علي عليه السلام مع الرسول بعد البعثة في مكة
1- أوَّل الناس إسلاماً:
أجمعت الروايات على أنَّه لم يتقدّم من عليٍّ شرك أبداً، ولم يسجد لصنم قط، وتكرَّم وجهه منذ ولادته، فلا طاف حول صنم ولا سجد له، فكانت نفسه خالصة لله
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الخطبة 192.
183

165

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 تعالى، وكان عنواناً للشرف والاستقامة، لقد صاحبته منذ الصبا صراحة الإيمان، والثقة العالية بالنفس، والشجاعة الضرورية لكل إرادة حقة، فكان إيمانه هو الحاكم المطلق، والمسيطر الأوحد على جميع حركاته وسكناته. فلا مجال لأن يتوهّم من عبارة أنّه أوّل الناس إسلاماً كونه على خلاف ذلك قبل البعثة.

 
ففي الصحيح: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البيت الحرام ليصلِّي فيه، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلِّيان خلفه، على مرأى من الناس، ولم يكن على الأرض من يصلِّي تلك الصلاة غيرهم[1].
 
وعن عفيف بن قيس، قال: كنتُ جالساً مع العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمرُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فجاء شاب فنظر إلى السماء حيث تحلَّقت الشمس، ثم استقبلَ الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلامٌ فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت: يا عبَّاس، أمر عظيم، فقال العبَّاس: أمر عظيم، فقال: أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمَّد بن عبدالله ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب ـ ابن أخي ـ أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنَّ ابن أخي هذا حدَّثني أنَّ ربَّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما على ظهر الأرض على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، قال عفيف: ليتني كنتُ رابعاً[2].
 
وبغض النظر عن الوقائع التاريخية فقد ورد عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بسند صحيح قوله: "أوَّلكم وروداً عليَّ الحوض، أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب"[3]. 
 
 
 

 
[1] المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، ج 3، ص 201، ح4842، 440، دار الكتب العلمية.
[2] تاريخ الطبري، ج 2، ص 56 ـ 57.
[3] ابن عبدالبرالقرطبي، الاستيعاب، ج 3، ص 28، مطبوع بهامش الإصابة سنة 1328هـ.ق، دار المعارف، مصر،
184

166

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 2- الدعوة الخاصة:

عليٌّ يوم الإنذار الأول:
قال جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم: "لمَّا أنزل الله على رسوله ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[1] اشتدَّ ذلك عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمَّاته يعُدنه، فقال: "ما اشتكيتُ شيئاً، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين"[2].
 
بعد ذلك عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امتثالاً لأوامر الله تعالى على إنذار آله وعشيرته ودعوتهم إلى الله، فجمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب، وكانوا أربعين رجلاً ـ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ـ وكان قد قال لعلي عليه 
السلام: "اصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن"، قال علي عليه السلام وهو ينقل هذا الحديث واصفاً قومه: "وإنَّ منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق (إناء يكتال به)"[3] ، وأراد عليه السلام بإعداد قليل من الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريِّهم ممَّا كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه[4].
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدّقيّ؟" قالوا: بلى، أنت عندنا غير متهم، وما جرَّبنا عليك كذباً، فقال: "إني نذير لكم من بين يدي عذاب شديد" فقطع كلامه عمه أبو لهب، وقال: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟! ثم عاد فجمعهم ثانية، فأعاد أبو لهب مثل قولته الأولى، فتفرّقوا، فأنزل الله 
تعالى عليه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾[5] إلى آخر السورة المباركة.
 
ثم جمعهم مرَّةً أُخرى ليكلِّمهم، وفيهم أعمامه: أبو طالب والحمزة والعبَّاس وأبو لهب، وغيرهم من أعمامه وبني عمومته، فأحضر عليٌّ عليه السلام لهم الطعام ووضعه
 
 
 

 
[1] سورة الشعراء، الآية 214.
[2] الكامل في التاريخ، ج 1، ص 584.
[3] تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 27.
[4] الإرشاد، ج 1، ص 49.
[5] سورة المسد، الآية 1.
185

167

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 بين أيديهم، وكان بإمكان الرجل الواحد أن يأكله بكامله، فتهامسوا وتبادلوا النظرات الساخرة من تلك المائدة التي لا

تقوم حسب العادة لأكثر من رجلين أو ثلاثة رجال، ثم مدُّوا أيديهم إليها وجعلوا يأكلون، ولا يبدو عليها النقص حتَّى شبعوا، وبقي من الطعام ما يكفي لغيرهم.
 
فلمَّا أكلوا وشربوا قال لهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بني عبدالمطَّلب، والله ما أعلم شابَّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به، إنِّي جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه". ثمَّ عرض عليهم أصول الإسلام وقال: "فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي ووصيِّي، وخليفتي فيكم من بعدي"؟.
 
فلم يجب أحد منهم، فأعاد عليهم الحديث ثانياً وثالثاً، وفي كلِّ مرَّةٍ لا يجيبه أحد غير عليٍّ عليه السلام، قال عليٌّ: - والرواية عنه - "فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت ـ وأنا لأحدثهم سناً: أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثُمَّ قال: إنَّ هذا أخي، ووصيِّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا".
 
قال: "فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع"[1]. فقال أبو لهب: خذوا على يَدَي صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم، فإن منعتموه قُتلتم، وإن تركتموه ذللتم.
 
فقال أبو طالب: والله لننصرنَّه ثُمَّ لنعيننَّه، يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلى ربِّك فأعلمنا حتَّى نخرج معك بالسلاح[2].
 
3- شعب أبي طالب:
اتخذت قريش شتى الأساليب لردع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعه من المسلمين، ولمَّا رأت أنّ الإسلام يفشو ويزيد، اتفقوا بعد تفكير طويل على قتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأجمع مَلَؤُها
 
 
 

 
[1] تاريخ الطبري 2: 217، معالم التنزيل في التفسير والتأويل، البغوي 4: 278، الكامل في التاريخ 1: 586، الترجمة من تاريخ ابن عساكر 1: 100، 137 و138 و139، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل،  الحاكم  الحسكاني  الحنفي ـ تحقيق محمَّد باقر المحمودي ـ مؤسسة الأعلمي بيروت 1: 372 ـ 373، 514 و420، 580، كنز العمَّال 13: 131، 36469.
[2] تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 27 ـ 28.
 
186

168

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 على ذلك، وبلغ أبا طالب فقال:[1]

والله لـن يصلـوا إليك بجمعهم        حتَّـى أُغيَّب في التراب دفينا
ودعوتنـي وزعمت أنَّك ناصِـحٌ          ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينـاً
وعرضت دينــاً قد علمتُ بأنَّه          من خير أديان البرية دينا
 
ولمَّا علمت أنَّها لا تقدر على قتله، وأنَّ أبا طالب لا يسلّمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة التي تنصُّ على مقاطعة بني هاشم واتباعهم وحصرهم في مكان واحد، وقطع جميع وسائل العيش عنهم، وألاّ يناكحوهم حتَّى يدفعوا إليهم محمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم فيقتلوه، وإلّا يموتوا جوعاً وعطشاً، وختموا على الصحيفة بثمانين خاتماً.
 
ثُمَّ علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة وحصروهم في شعب أبي طالب ست سنين[2]، وذلك في أوّل المحرم من السنة السابعة لمبعث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقيل: استمر نحواً من سنتين أو ثلاث[3]، حتَّى أنفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماله وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلى حدِّ الضرِّ والفاقة، واشتدت بهم الضائقة، حتى اضطرتهم إلى أكل الأعشاب وورق الأشجار، ومع ذلك فلم يضع أبو طالب وولده علي عليه السلام وأخوه الحمزة شيئاً في حسابهم غير النبيّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم ورعايته، حتَّى لا يتسلَّل أحد من المكِّيين ليلاً لاغتياله، وكانت هذه الخاطرة لا تفارق أبا طالب في الليل والنهار.
 
4- مؤامرة قريش في دار الندوة: 
حينما خافت قريش أن يقوى ساعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويصبح له أنصار جدد، ولا سيّما بعد أن أذن لأصحابه بالهجرة إلى يثرب ـ اجتمعت في دار الندوة، وأعدُّوا العدَّة للقضاء عليه قبل فوات الأوان، فقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات عمُّه!
 
 
 

 
[1] تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 31.
[2] م، ن.
[3] الكامل في التأريخ، ج 1، ص 604.
187

169

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 وبعد أن أعطى كلُّ واحد منهم رأيه، قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كلِّ قبيلة فتىً نسيباً ونعطي كلَّ فتىً منهم سيفاً، ثُمَّ يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، كي لا يتحمَّل قتله فرد ولا قبيلة وحدها، بل يتفرّق دمه في القبائل كلِّها، فلم يقدر آله وعشيرته على حرب قومهم جميعاً، فيصعب الثأر له.. فتفرَّقوا على ذلك بعد أن اتَّفقوا على الليلة التي يهاجمونه فيها وهو في فراشه.

 
فأتى جبرائيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بمكيدة قريش وأحلافها، كما تشير إلى ذلك الآية: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[1].
 
فلمَّا كانت العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه، وودَّع رسول الله عليَّ بن أبي طالب عليه السلام، وأمره أن يؤدِّي ما عنده من وديعة وأمانة إلى أهلها ويلحق به.
 
وفي بعض الروايات: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج فأخذ حفنةً من تراب، فجعله على رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات من ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ إلى قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾[2] ثمَّ انصرف فلم يروه[3].
 
هكذا، فإنّ القوم أحاطوا بالدار، وهم من فتيان قريش الأشدّاء، وجعلوا يرصدونه ليتأكَّدوا من وجوده، فرأوا رجلاً قد نام في فراشه التحف ببرد له أخضر.
 
أمَّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد خرج في الثلث الأخير من الليل من الدار، وكان قد اختبأ في مكان منها، وانطلق جنوباً إلى غار ثور، وكمن فيه ومعه أبو بكر، فأقاما فيه ثلاثاً.
 
ولمَّا حان الوقت الذي عيَّنوه لهجومهم على الدار، هجموا عليها، فوثب عليٌّ عليه السلام من فراشه، ففرُّوا بين يديه حين عرفوه..
 
 
 

 
[1] سورة الأنفال، الآية 30.
[2] سورة يس، الآيتات 1 ـ 9.
[3] الكامل في التاريخ، ج 2، ص 4.
188

170

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 وفي بعض الروايات أنَّهم قبل هجومهم عليه جعلوا يقذفونه بالحجارة وهو ساكن لا يتحرَّك ولا يبالي بما يصيبه من الأذى، ثُمَّ هجموا عليه بسيوفهم وشدَّ عليهم  فانهزموا أمامه إلى الخارج[1]. وسأل الرهط عليَّاً: أين ابن عمِّك؟  قال: "أمرتموه بالخروج فخرج عنكم"[2]، وقيل: إنَّه قال: "لا علم لي به"[3].

 
ولم يشرك أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المنقبة أحد من أهل الإسلام، ولا اختصَّ بنظير لها على حال، وفيه نزل قوله تعالى في هذه المناسبة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ِ[4].
 
5- عليٌّ والركب الفاطمي إلى المدينة:
بقي عليٌّ عليه السلام في مكَّة ثلاث ليال، أدَّى خلالهنّ ما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ردِّ الأمانات والودائع التي كان يحتفظ بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكَّة، ليلحق بعدها برسول الله..
 
وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليٍّ عليه السلام، يحثُّه بالمسير إليه بعد أداء ما أوصاه به، ولمَّا وصله الكتاب تهيَّأ للخروج، وردَّ كلَّ وديعةٍ إلى أهلها، وأمر من كان قد بقي من ضعفاء المؤمنين أن يتسلَّلوا إلى ذي طول ليلاً.
 
وخرج هو بالركب الفاطمي: فاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطَّلب، وفاطمة بنت حمزة، وأم أيمن، وأبو واقد الذي أخذ يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً، فقال له عليٌّ: "ارفق بالنسوة يا أبا واقد" ثُمَّ جعل يسوق بهنَّ ويقول: 
ليـس إلّا الله فارفع ظنَّكا      يكفيك ربُّ الخلق ما أهمَّكا
 
وكان يسير ليلاً، ويكمن نهاراً. وكان ماشياً غير راكب حتَّى تفطَّرت قدماه[5]. ولقد
 
 
 

 
[1] أمالي الشيخ الطوسي، ص 467، 1031، بحار الأنوار، ج 19، ص 61 ـ 62.
[2] تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 39، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 103.
[3] الطبقات الكبرى، ج 1، ص 110.
[4] سورة البقرة، الآية 207، وذكرها الرازي في تفسيره أنَّها نزلت بشأن مبيت عليٍّ عليه السلام على فراش رسول الله.
[5] تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 41، أسد الغابة، ج 4، ص 105،  الكامل في التاريخ، ج 2، ص 7.
189

171

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 ظلَّ في رحلته تلك ليالٍ أربع عشرة، يحوطهم من الاعداء ويكلؤهم من الخصماء، فلمَّا قارب ضَجَنان أدركه الطلب وكانوا ثمانية فرسان ملثمين، معهم مولى لحرب بن أُميَّة يُدعى: جناح، فقال عليٌّ عليه السلام لأيمن وأبي واقد: "أنيخا 

الإبل واعقلاها" وتقدَّم هو فأنزل النسوة واستقبل القوم بسيفه، فقالوا: أظننت يا غُدر أنَّك ناجٍ بالنسوة؟! ارجع بهن لا 

أبا لك!! فقال: "فإن لم أفعل؟!"، فقالوا: لترجعنَّ راغماً!!

 

ودنوا من المطايا، فحال عليٌّ عليه السلام بينهم، وأهوى له جناح بسيفه، فراغ عن ضربته، وضرب جناحاً على عاتقه فقدَّه نصفين، حتَّى وصل السيف إلى كتف فرسه، ثُمَّ شدَّ على أصحابه، وهو على قدميه وأنشد: 

خلُّوا سبيل الجاهد المجاهد    آليت لا أعبد إلّا الواحـد 

 

فتفرَّق القوم عنه، وقالوا: احبس نفسك عنَّا يا بن أبي طالب، ثُمَّ قال لهم: "إنِّي منطلق إلى أخي وابن عمِّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن سرَّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منِّي". ثُمَّ أقبل على أيمن وأبي واقد، وقال 

لهما: أطلقا مطاياكما، وسار الركب حتَّى نزل ضجنان، فلبث بها يوماً وليلة حتَّى لحق به نفر من المستضعفين، فلمَّا بزغ

 الفجر سار بهم حتَّى قدموا قباء[1].

 

في المدينة المنوَّرة

1- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

من الأعمال التي قام بها رسول الله بعد بناء المسجد الشريف: المؤاخاة ولقد سبق منه صلى الله عليه وآله وسلم أن آخى بين المهاجرين بعضهم ببعض قبل الهجرة، وآخى بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، هكذا رواه الترمذي والبغوي 

والحاكم[2] وفي كلِّ مرَّة كان يقول 

 

 

 


 

[1] سيرة الأئمة الاثني عشر، ج 1، ص 171 ـ 172.

[2] سنن الترمذي (الجامع الصحيح )، ج 5، ص 636 - 3720، تحقيق أحمد محمَّد شاكر، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، مصابيح السُنَّة، البغوي، ج 4، ص 173 - 4769، تحقيق د. يوسف عبدالرحمن المرعشلي، ومحمَّد سليم سمارة، وجمال حمدي الذهبي، دار المعرفة ط1 ـ 1407هـ، المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 14.

 

 

190


172

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 لعليٍّ عليه السلام: "أنت أخي في الدنيا والآخرة". ورواه أحمد في مسنده بنصِّ: "أنت أخي وأنا أخوك"[1].

 
2- زواج عليٍّ من فاطمة الزهراء عليها السلام: 
في حدود السنة الثانية من الهجرة اجتمع عليٌّ عليه السلام مع الزهراء عليها السلام في بيت الزوجية، وكان جماعة من المهاجرين قد خطبوها قبله، لكنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردَّهم ردَّاً جميلاً.  
 
عن أنس بن مالك، قال: كنت عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فغشيه الوحي، فلمّا سري عنه قال: "يا أنس، أتدري ما جاءني به جبرائيل من عند صاحب العرش؟" قال: الله ورسوله أعلم، قال: "إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ".
 
وجهزّت فاطمة[2] بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان لها غير سرير من جريد النخل، ووسادة من أدم حشوها ليف، ومنخل ومنشفة، ورحى للطحن، وجرّتان وقميص، وخمار لغطاء الرأس، وثوب له زغب، وعباءة قصيرة 
بيضاء، وجلد كبش..
 
أمَّا عليٌّ عليه السلام قد رشَّ أرض الدار برمل ناعم، ونصب في البيت خشبة من الحائط إلى الحائط، لتعليق الثياب، إذ لا خزانة ولا صندوق لثياب العروس.
 
عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام قال: "لقد تزوَّجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها"[3]. 
 
 
 
 

 
[1] مسند أحمد، ج 1، ص 230، دار الفكر بيروت.
[2] أنظر جهاز فاطمة في: الطبقات الكبرى، ج 8، ص 19، فاطمة الزهراء والفاطميون، ص 21، فضائل الإمام علي، ص 24 ـ 25.
[3] الطبقات الكبرى، ج 8، ص 18.
191

173

الدرس التاسع عشر: أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

 المفاهيم الرئيسة

 

1- نشأ الإمام عليّ عليه السلام في بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرعاه وينفق عليه فحاز بذلك من الشرف ما لم يحزه غيره حتّى تطبّع بطباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته.

 

2- بعد البعثة كان الإمام علي عليه السلام أوّل الناس إسلاماً وأوّل من آزر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الخاصّة، وفي شعب أبي طالب، وأوّل فدائيّ في الإسلام، وهو من قاد الركب الفاطميّ من مكة إلى المدينة.

 

3- بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان في كلّ مرّة يقول 

لعليّ عليه السلام: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".

 

 

 

192

 

174

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 الدرس العشرون:

جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1- جهاد الإمام علي عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى جهاد أمير المؤمنين عليه السلام.
2- يفهم مواقف وأدوار الإمام علي عليه السلام في غزوة  بدر.
3- يدرك دور الإمام علي في غزوة أحد.
 
193

175

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 تمهيد

كانت حروب وغزوات كثيرة، بلغت في حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نحو ثمانين غزوة، وليس في كلِّها كانت تقع حروب أو مناوشات، لأنَّ الكثير منها كان عبارة عن سرايا استطلاعية يبعثها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أطراف 
المدينة أو بعض النواحي التي يحتمل تسلُّل الأعداء منها.
 
وكان عدد الغزوات التي خرج فيها الرسول بنفسه 27 غزوة، وقع القتال في 9 منها، وهذه الغزوات هي التي اشتهرت في تاريخ الإسلام دون سواها.
 
وفي كلِّ الغزوات التي خـرج فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان عليٌّ عليه السلام معه، لم يفارقه في واحدة، إلّا في غزوة تبوك، لأمر أراده الله ورسوله، وفي كلِّ تلك الغزوات كان لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد عليٍّ عليه السلام[1].
 
غزوة بدر الكبرى
هي أول معركة يحارب فيها الإمام عليٌّ عليه السلام دفاعاً عن الإسلام، وقد دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المعركة رايته إلى عليٍّ، وكان عمره يوم ذاك 25 سنة، وبرز عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، ودعوا المسلمين إلى البراز، فبرز إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار، وهم من بني عفراء: معاذ ومعوذ وعوف[2]، فلمَّا وقفوا في مقابل عتبة وأخيه وولده، ترفَّعوا عن مقاتلتهم، وطلب عتبة من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسل له الأكفّاء من قريش.
 
 
 

 
[1] سير أعلام النبلاء، (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 228.
[2] ذكر ابن الأثير في تاريخه 2: 125 عوف ومعوَّذ ابنا عفراء، وعبدالله بن رواحة، كلَّهم من الأنصار.
194

176

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 فالتفت نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني عمومته، وأحبَّ أن تكون الشوكة في بني عمِّه وقومه، وقال: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة بن عبدالمطَّلب، قم يا عليَّ بن أبي طالب"، فقاموا مسرعين، يهرولون بين الجيشين 

على أقدامهم، بقلوب ثابتة، عامرة بالإيمان، ووقفوا أمام القوم، فقال عتبة: تكلَّموا نعرفكم، وكان عليهم البيض، فقال 

حمزة: أنا حمزة بن عبدالمطَّلب، أسد الله، وأسد رسوله، فقال عتبة: كُفءٌ كريم، وأنا أسد الحلفاء، من هذا معك؟ قال: عليُّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، قال: كُفآن كريمان[1].

 

فبرز عبيدة بن الحارث ـ وكان عمره سبعين سنة - إلى عتبة بن ربيعة - وقيل شيبة[2] - فضربه على رأسه، وضرب عتبة عبيدة على ساقه فقطعها، وسقطا معاً، وحمل عليٌّ عليه السلام على الوليد - وكانا أصغر القوم سنَّاً -  فضربه عليُّ بن أبي طالب عليه السلام على حبل عاتقه، فخرج السيف من إبطه، وحمل حمزة على شيبة فتضاربا بالسيف حتى انثلما، فاعتنق كلُّ واحد صاحبه، وكان حمزة أطول من شيبة، فصاح المسلمون: يا علي، أما ترى الكلب قد بهر عمَّك؟ فأقبل 

عليهما، فقال عليٌّ: "طأطئ رأسك يا عم" فأدخل حمزة رأسه في صدر شيبة، فضربه الإمام على عنقه فقطعها، ثُمَّ كرَّ 

عليٌّ عليه السلام وحمزة على عتبة فأجهزا عليه، وحملا عبيدة فألقياه بين يدي ابن عمِّه الرسول، فاستعبر وقال: "ألستُ شهيداً يا رسول الله؟" قال: "نعم".  قال: "لو رآني أبو طالب لعلم أنَّنا أحقُّ منه بقوله:[3]

ونُسْلمه حتَّى نصرَّع حولــهُ      ونذهل عن أبنائنا والحلائلِ"

 

ولم يلبث بعدها إلاّ يسيراً، وهو أول شهيد من المسلمين في تلك المعركة.

 

وبرز بعدهما حنظلة بن أبي سفيان إلى عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، فلمَّا دنا منه ضربه عليٌّ بالسيف، فسالت عيناه، وسقط كالذبيح على رمال بدر، ثُمَّ أقبل العاص بن

 

 

 


 

[1] طبقات ابن سعد، ج 2، ص 12. 

[2] ارشاد المفيد، ج 1، ص 68.

[3] الكامل في التاريخ، ج 2، ص 22.

 

 

195

177

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 سعيد بن العاص يطلب البراز، فبرز إليه عليٌّ عليه السلام وقتله.

 
ولمَّا رأت مخزوم كثرة القتلى من المشركين، أحاطوا بأبي جهل خوفاً عليه، وألبسوا لامة حربه عبدالله بن المنذر، فصمد له عليٌّ عليه السلام وقتله، ثُمَّ ألبسوها الفاكه بن المغيرة، فقتله حمزة وهو يظنُّه أبا جهل، وألبسوها بعدهما حرملة بن عمرو فقتله عليٌّ عليه السلام أيضاً، وأبى أن يلبسها أحد بعدما رأوا صنيع عليٍّ وحمزة.
 
ثمَّ التحم الجيشان، ودار بينهما أعنف قتال، فتساقطت الرؤوس وتهاوت الأجسام.
 
وقَتَلَ عليٌّ عليه السلام - فيمن قتله يوم ذاك - نوفل بن خويلد،  وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد قال فيه: 
"اللَّهمَّ اكفني ابن العدوية".
 
واشترك النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين، وكبرياء مشركي قريش تتهاوى تحت الأقدام، ثمَّ أخذ كفَّاً من التراب ورمى به إلى جهة المشركين قائلاً: "شاهت الوجوه، اللَّهمَّ أرعب قلوبهم"، فانهزموا تاركين أمتعتهم وأسلحتهم، وانجلت المعركة عن مقتل سبعين رجلاً من مشركي قريش، وكانوا سادات قريش وأبطالها، وأُسر منهم سبعون رجلاً، وفقد المسلمون أربعة عشر شهيداً ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
 
وانطوت صفحة التاريخ معربة عن أول انتصار حقَّقه المسلمون على صعيد المعارك، وتجلَّت هذه الانتصارات ببطولات بني هاشم ولا سيَّما الإمام علي عليه السلام، الذي كان متعطِّشاً لحصد أشواك الشرك وتثبيت دعائم الإسلام.
 
وقد أحصى بعض مصادر التاريخ من قتلهم عليٌّ 35 رجلاً، وذكرتهم بعض المصادر بأسمائهم[1].
 
غزوة أُحد
أخذ المشركون يعدُّون العدَّة للثأر، واستطاعوا أن يؤلِّفوا جيشاً كبيراً، يضمُّ ما يقارب ثلاثة آلاف مقاتل! وتبرَّع أبو سفيان بأموال طائلة لتجهيز هذا الجيش الذي قاده
 
 
 

 
[1] انظر إرشاد المفيد، ج 1، ص 70 ـ 71.
196

178

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 بنفسه. وقبل أن تخرج قريش إلى أُحد بعث العبَّاس بن عبد المطَّلب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بكيد قريش واستعدادها.

 
وبدأ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من ساعة وصول الرسالة يستعدُّ لملاقاة الجيش الزاحف نحوهم، وكان ذلك في شوال، في السنة التالية لمعركة بدر.
 
خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ألف رجل أو يزيدون قليلاً، وكان الإمام عليُّ بن أبي طالب عليه السلام حامل لوائه، ووزَّع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الرايات على وجوه المهاجرين والأنصار، ولمَّا كان بين المدينة وأُحد، عاد عبد الله بن أُبيّ - رأس النفاق - بثلث الجيش قائلاً: علامَ نقتل أنفسنا؟! ارجعوا أيُّها الناس، فرجع وبقيَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعمائة.
 
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه البالغ سبعمائة رجلٍ حتى بلغ أُحداً، فأعدَّ أصحابه للقتال، ووضع تخطيطاً سليماً للمعركة ليضمن لهم النصر بإذن الله، ثُم جعل أُحداً خلف ظهره، فجعل الرماة على جبل خلف عسكر المسلمين وهم خمسون رجلاً، وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير، وقال لهم: "احموا ظهورنا ولا تفارقوا مكانكم، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركونا، فإنَّما نؤتى من موضعكم هذا"[1].
 
ولمَّا التحمت المعركة تقدَّم طلحة بن أبي طلحة ـ وكان يدعى كبش الكتيبة ـ وصاح: من يبارز؟ فخرج إليه عليٌّ عليه السلام، وبرزا بين الصفَّين، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في عريش أُعدَّ له يشرف على المعركة ويراقب 
سيرها، فقال طلحة: مَنْ أنت؟ قال: "أنا عليُّ بن أبي طالب" فقال: لقد علمت أنَّه لا يجرؤ عليَّ أحدٌ غيرك، فالتحمت سيوفهم، فضرب عليٌّ عليه السلام رأس عتبة ضربة فلق فيها هامته، فبدرت عيناه وصاح صيحة لم يُسمع مثلها، وسقط اللواء من يده، ووقع يخور في دمه كالثور، وقيل: ضربه فقطع رجله، فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله 
والرحم فتركه[2].
 
فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون، وتقدَّم بعده أخوه عُثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه
 
 
 

 
[1] انظر: الطبقات الكبرى، ج 2، ص 30، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 47، الارشاد، ج 1، ص 80 باختلاف.
[2] انظر الكامل في التاريخ، ج 2، ص 47.
 
197

179

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 حمزة بن عبد المطَّلب، فضربه بسيفه ضربةً كانت بها نهايته، ورجع عنه يقول: أنا ابن ساقي الحجيج. 

 
وأخذ اللواء بعدهما أخوهما أبو سعيد بن أبي طلحة، فحمل عليه عليٌّ عليه السلام فقتله، ثُمَّ أخذ اللواء أرطأة بن شرحبيل، فقتله عليٌّ عليه السلام أيضاً، وأخذ اللواء بعد ذلك غلام لبني عبد الدار، فقتله عليُّ بن أبي طالب عليه السلام.
 
وذكر المفيد في إرشاده: أنَّ أصحاب اللواء كانوا تسعة، قتلهم عليُّ بن أبي طالب عن آخرهم، وانهزم القوم[1].
 
وتؤكِّد أكثر الروايات أنَّه بعد أن قُتل أصحاب الألوية والتحم الجيشان، لم يتقدَّم أحد من عليٍّ عليه السلام إلّا بعجه بسيفه أو ضربه على رأسه، ففلق هامته وأرداه قتيلاً، وانكشف المشركون لا يلوون على شيء، حتى أحاط المسلمون بنسائهم، ودبَّ الرعب في قلوبهم.
 
وإنَّ النصر الذي تهيَّأ للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في أُحد لم يتهيَّأ له في موطنٍ قطّ. وظلَّ النصر إلى جانب المسلمين، حتَّى خالف جماعة من الرماة توجيهات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وانصرفوا إلى الغنائم.
 
فلمَّا انهزم المشركون لا يلوون على شيء، نزل الرماة من على الجبل، بعد أن نظروا إلى إخوانهم المسلمين يتسابقون إلى الغنائم، وردعهم أميرهم عبدالله بن جبير، فأبوا الرجوع، ثُمَّ انطلقوا للسلب والنهب، ولم يبقَ مع ابن جبير إلّا عشرة رجال. 
 
ولمَّا رأى خالد بن الوليد أنَّ ظهر المسلمين قد خلا، كرَّ في مئتي فارس، على من بقي مع ابن جبير فأبادهم، وقُتل ابن جبير بعد أن قاتل قتال المستميت، وتجمَّع المشركون من جديد، وأحاطوا بالمسلمين من خلفهم، واستدارت رحاهم وحالت الريح فصارت دبوراً، وما أحسَّ المسلمون إلّا والعدو قد أحاط بهم واختلط بينهم، وأصبحوا كالمدهوشين، يتعرَّضون لضرب السيوف وطعن الرماح من كلِّ جانب، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، 
 
 
 

 
[1] ارشاد المفيد، ج 1، ص 88.
198

180

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 واشتدَّ عليهم الأمر حتَّى قتل بعضهم بعضاً من حيث لا يقصدون.

 

وفرَّ المسلمون عن نبيِّ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن عليٌّ عليه السلام يفكِّر في تلك اللحظات الحاسمة إلّا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا سيَّما وقد رأى المشركين يتَّجهون نحوه، وأصبح هدفهم الأوّل، بعد أن أصبحت المعركة لصالحهم، فأحاط به هو وجماعة من المسلمين، وقد استماتوا في الدفاع عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وحمزة يهذُّ الناس بسيفه هذَّاً، وعليٌّ عليه السلام يفرِّق جمعهم كالصقر الجائع حينما ينقضّ على فريسته، فيشتِّتهم إرباً إرباً بسيفه البتَّار، وهو راجل وهم على متون الخيل، فدفعهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتَّى انقطع سيفه.

 

وقاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً شديداً، وقد تجمَّع عليه المشركون وحاولوا قتله بكلِّ سبيل، ورماه ابن قمئة فكسر أنفه ورباعيته السفلى، وشقَّت شفته، وأصابته ضربة في جبهته الشريفة، وسال الدم على وجهه الشريف، وغلب عليه الضعف.

 

روى عكرمة قال: سمعت عليَّاً عليه السلام، يقول: "لمَّا انهزم الناس يوم أُحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحقني من الجزع عليه ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره فقلت: ما كان رسول الله ليفرَّ، وما رأيته في القتلى، فأظنُّه رُفع من بيننا، فكسَّرت جفن سيفي وقلت في نفسي: لأقاتلنَّ به عنه حتَّى أُقتل، وحملت على القوم فأفرجوا، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وقع على الأرض مغشيَّاً عليه، فقمت على رأسه، فنظر إليَّ فقال: ما صنع الناس، يا عليُّ؟ فقلت: كفروا يا رسول الله وولَّوا الدبر وأسلموك، فنظر إلى كتيبة قد أقبلت فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ردَّ عنِّي يا عليُّ هذه الكتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتَّى ولَّوا الأدبار، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أما تسمع مديحك في السماء، إنَّ ملكاً يقال له رضوان ينادي: لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا عليُّ، فبكيتُ سروراً وحمدتُ الله على نعمه"[1].


 

 


 

[1]  إعلام الورى، ج 1، ص 378.

 

199

 

 

181

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 وفي هذه الوقعة قُتل حمزة بن عبدالمطَّلب، رماه وحشيّ - وهو عبد لجبير بن مطعم - بحربة، فسقط شهيداً، ومثَّلت به هند بنت عتبة بن ربيعة، وشقَّت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حزناً شديداً، وقال: "لن أُصاب بمثلك".

 
ولمّا يئس المشركون من قتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم برغم جميع المحاولات، فترت همَّتهم وقفلوا راجعين، بعد أن قُتل من المسلمين ثمانية وستُّون رجلاً، ومن المشركين اثنان وعشرون رجلاً، وكفى الله المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليه السلام.
 
وقفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه راجعين إلى المدينة يوم السبت، فاستقبلته فاطمة عليها السلام ومعها إناء فيه ماء، فغسل وجهه، ولحقه الإمام وقد خضَّب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار، فناوله فاطمة عليه السلام فقال: "خذي السيف فقد صدقني اليوم" وقال: 
"أفاطمُ هاكِ السيف غيـر ذميـم          فلسـتُ بــرعديـد ولا بمليـمِ
لعمري لقد أعذرت في نصر أحمدٍ      وطاعــة ربٍّ بالعبـاد عليمِ" 
 
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خذيه يا فاطمة، فقد أدَّى بعلك ما عليه، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش"[1]. 
 
 
 

 
[1] إعلام الورى، ج 1، ص 379.
 
200

182

الدرس العشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -1-

 المفاهيم الرئيسة

1- شارك الإمام عليّ عليه السلام في كلِّ غزوات ومعارك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا غزوة تبوك بأمر أراده الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
2- غزوة بدر أوّل حروب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأوّل معركة شارك فيها الإمام علي عليه السلام، وكانت راية 
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه عليه السلام حيث قتل عليه السلام 35 رجلاً من صناديد قريش.
 
3- بعد هزيمة المشركين في بدر أعدّوا العدّة للثأر فجهّزوا ثلاثة آلاف مقاتل وخرجوا إلى أحد، فقتل الإمام علي عليه السلام كل حملة الرايات وعددهم 9.
 
4- بعد مخالفة المسلمين لأمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان علي عليه السلام همّه الوحيد حماية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتى نادى المنادي من السماء "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي".
 
 
201

183

الدرس الواحد والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 الدرس الواحد والعشرون:

جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2- جهاد الإمام علي عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (2)

 


أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى غزوات الإمام علي عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

2- يفهم دور الإمام علي عليه السلام في فتح مكة.

3- يذكر بعض أسباب حمل الإمام علي عليه السلام راية المسلمين في الحروب.

 

203

 

184

الدرس الواحد والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 وقعة بني النضير

غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير في شهر ربيع الأول سنة أربع على رأس سبعة وثلاثين شهراً من مهاجره[1]. وبنو النضير هم فخذٌ من جذام إلّا أنَّهم تهوَّدوا، ونزلوا بجبل يقال له: النضير، فسُمُّوا به.
 
وجاء في سبب هذه الغزوة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشى إلى كعب بن الأشرف ووجهاء بني النضير، يستقرضهم في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أُمية الضمري، فقالوا: نعم، نعينك على ما أحببت، ثُمَّ خلا بعضهم ببعض وتآمروا على قتله، فنزل جبرائيل عليه السلام وأخبره بما همَّ به القوم من الغدر، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الخبر، وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم، وكانت رايته مع عليِّ بن أبي طالب عليه السلام[2]، فتحصَّن اليهود في الحصون، وأرسل إليهم عبدالله بن أُبي وجماعة معه أن اثبتوا وتمنَّعوا، فإنَّا لن نسلمكم...
 
وروي أنَّ الإمام عليَّ عليه السلام فُقد في إحدى ليالي حصار بني النضير، فقال رسول الله: "إنَّه في بعض شأنكم" وبعد قليل جاء عليّ برأس "عزوك" أحد أبطال بني النضير، وقد كمن له الإمام حتى خرج في نفر من يهود يطلبون غرَّة من المسلمين، وكان شجاعاً رامياً، فكمن له عليٌّ عليه السلام فقتله، وفرَّ اليهود، فأرسل نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا دجانة وسهل بن حنيف، في عشرة من رجالات المسلمين، فأدركوا اليهود الفارِّين من سيف الإمام عليٍّ عليه السلام، وطرحت رؤوسهم في الآبار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
 
 
 

 
[1] الطبقات الكبرى، ج 2، ص 43 ـ 44.
[2] م. ن، ص 44، وابن الأثير في تاريخه، ج 2، ص 174.
204

185

الدرس الواحد والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 أن يُجليهم ويكفَّ عن دمائهم - بعد أن خذلهم ابن أُبي - فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمَّد بن مسلمة إليهم: أن يخرجوا من بلادهم ولهم ما حملت الإبل من خُرثي متاعهم، ولا يخرجون معهم بذهب ولا فضة ولا سلاح[1]. وأجّلهم في الجلاء ثلاث ليال[2]. 

 
وقعة ذات السلاسل
وتسمَّى أيضاً وقعة وادي الرمل. وكان سببها أنَّ عدداً من الأعراب قد اجتمعوا لغزو المدينة ـ في وادي الرمل ـ على حين غفلة من أهلها، فوفد أعرابي على نبيِّ الله وأخبره بالأمر، وخرج أمير المؤمنين ومعه لواء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فمضى عليه السلام نحو القوم، يكمن النهار ويسير الليل، حتى وافى القوم بسحر، وصلَّى بأصحابه صلاة الغداة، وصفَّهم صفوفاً واتَّكأ على سيفه وانقضَّ بمن معه على القوم على حين غفلة منهم، وقال: "يا هؤلاء، أنا رسولُ رسولِ الله، أن تقولوا: لا إله إلّا الله محمَّد رسول الله، وإلا ضربتكم بالسيف".  فقالوا له: ارجع كما رجع صاحباك. قال: "أنا أرجع! لا والله حتَّى تسلموا، أو لأضربنَّكم بسيفي هذا، أنا عليُّ بن أبي طالب بن عبد المطَّلب"[3].
 
فاضطرب القوم، وأمعنوا بهم قتلاً وأسراً، حتَّى استسلموا له، وتمَّ الفتح على يده. 
 
وعن أمّ سلمة قالت: كان نبيُّ الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً في بيتي، إذ انتبه فزعاً من منامه، فقلت: الله جارك، قال: "صدقت، الله جاري، ولكن هذا جبرائيل يخبرني أنَّ عليَّاً قادم". ثمَّ خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليَّاً، وقام المسلمون صفَّين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلمَّا بصر به عليٌّ عليه السلام ترجَّل عن فرسه، وأقبل عليه يقبِّله. 
 
فقال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "اركب، فإنَّ الله ورسوله عنك راضيان" فبكى عليٌّ عليه السلام فرحاً وانصرف إلى منزله.
 
ونزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سورة العاديات لهذه المناسبة[4].
 
 
 

 
[1] تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 49.
[2] إعلام الورى، ج 1، ص 188.
[3] الإرشاد، ج 1، ص 113 ـ 116، إعلام الورى، ج 1، ص 382.
[4] انظر: إعلام الورى، ج 1، ص 383، إرشاد المفيد، ج 1، ص 116 ـ 117.
 
205

186

الدرس الواحد والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 فتح مكَّة

كان الفتح في شهر رمضان، سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[1]. وكان سبب هذه الواقعة: أنَّ 
قريشاً نقضت الوثيقة التي وقّعتها مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، وتمادت في ذلك، حتى ذهبت إلى تحريض حلفائها بني الدؤل من بني بكر على خزاعة حلفاء النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، واستطاع هؤلاء أن يتغلَّبوا على خزاعة بمساعدة قريش، فلمَّا وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عزم على أن ينصر خزاعة...
 
فجهّز جيشه وأكّد رغبته في التكتيم على هذا الأمر، لمداهمة قريش في مكة قبل أن تتجهّز لحرب، وكان يقول: "اللَّهمَّ خُذ على أبصارهم فلا يروني إلّا بغتةً"[2] وكان الأمر قد تسرّب إلى حاطب بن أبي بلتعة، فكتب كتاباً إلى أهل مكَّة 
يطلعهم فيه على سرِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسير إليهم، وأعطى الكتاب امرأة سوداء وأمرها أن تأخذ 
على غير الطريق، فنزل بذلك الوحي.
 
فدعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام وقال: "إنَّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكَّة يخبرهم بخبرنا وقد سألت الله أن يعمّي أخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها" وبعث معه الزبير بن العوَّام.
 
فمضيا على غير الطريق، فأدركا المرأة، فسبق إليها الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرته، وحلفت أنَّه لا شيء معها، وبكت، فقال الزبير: يا أبا الحسن، ما أرى معها كتاباً. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "يخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها وتقول: إنَّه لا كتاب معها"!
 
ثمَّ اخترط السيف وقال: "أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنَّك ثُمَّ لأضربنّ عنقك".
 
 
 

 
[1]  الطبقات الكبرى، ج 2، ص 102.
[2]  م، ن.
206

187

الدرس الواحد والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 فقالت له: إذا كان لا بدَّ من ذلك، فأعرض يا ابن أبي طالب عنِّي بوجهك. فأعرض عنها، فكشفت قناعها فأخرجت الكتاب من عقيصتها، فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام وصار به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[1].

 
ثمَّ مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكَّة في عشرة آلاف مقاتل، وأعطى الراية سعد بن عبادة، وأمره أن يدخل بها مكَّة، فأخذها سعد وجعل يقول: 
اليوم يوم المَلحمَه     اليوم تسبى الحُرُمَه
 
فسمعها رجل من المهاجرين، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة" ثم قال لعليِّ بن أبي طالب: "أدركه فخذ الراية منه، وكن أنت الذي تدخل بها"[2].
 
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع الطريق باتجاه مكَّة ودخلها عنوةً بهذا الجيش الهائل، الذي لم تعرف له مكَّة نظيراً في تاريخها من قبل، وأعلن العفو وهو على أبواب مكَّة، وقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
 
وأباح دم ستة رجال، ولو كانوا متعلِّقين بأستار الكعبة، وأربع نسوة، هم: عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، ومِقيس بن صُبابة الليثي، والحويرث بن نُقيذ، وعبدالله بن هلال بن خطل الأدرمي، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتان كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[3].
 
فمضى عليُّ بن أبي طالب عليه السلام يجدُّ في طلب أولئك الذين أهدر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دماءهم فقتل منهم اثنين هما: الحويرث بن نقيذ، وسارة.
 
وأجارت أمُّ هانئ بنت أبي طالب حموين لها: الحارث بن هشام، وعبدالله بن ربيعة، فأراد عليٌّ عليه السلام قتلهما، فقال رسول الله: "يا عليُّ قد أجرنا من أجارت أمُّ هانئ"[4]. 
 
 
 

 
[1]  الارشاد، ج 1، ص 57.
[2] إعلام الورى، ج 1، ص 385، وانظر ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 122.
[3] طبقات ابن سعد، ج 2، ص 103، وانظر الكامل في التاريخ، ج 2، ص 123، وفيه ثمانية رجال وأربع نسوة.
[4]  تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 59، وانظر الطبقات لابن سعد، ج 2، ص 110.
207

188

الدرس الواحد والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 وتفرّق الباقون، ثم وفد بعضهم على النبيّ بعد أن أخذ الأمان.

 
ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنماً داخل الكعبة وخارجها إلّا وحطَّمه تحت قدميه أمام قريش.
 
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو بمكَّة - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح. فقالوا: إنَّا لا نأخذ السلاح على الله ولا على رسوله ونحن مسلمون، قال: ضعوا السلاح، قالوا: إنَّا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية، فانصرف عنهم وأذَّن القوم وصلَّوا، فلمَّا كان في السحر شنَّ عليهم الخيل فقتل منهم ما قتل وسبى الذرية.
 
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "اللَّهمَّ إنِّي أبرأ إليك ممَّا صنع خالد"! وبعث عليَّ بن أبي طالب عليه السلام فأدَّى إليهم ما أخذ منهم حتَّى العقال وميلغة الكلب، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودى القتلى، وبقيت معه منه بقية، فدفعها عليٌّ عليه السلام إليهم على أن يحلِّلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممَّا علم وممَّا لا يعلم. فقال رسول الله: "لما فعلت أحبُّ إليَّ من حمر النعم" ويومئذٍ قال لعليٍّ: "فداك أبواي"[1]، فتمَّ بذلك موادُّ 
الصلاح، وانقطعت أسباب الفساد.
 
 
 

 
[1]  انظر: تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 61، إعلام الورى 1: 386، إرشاد المفيد، ج 1، ص 55.
208

189

الدرس الواحد والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -2-

 المفاهيم الرئيسة

 
1- استطاع أمير المؤمنين عليه السلام بفضل شجاعته أن ينهي غزوة بني النضير بعد أن قتل أحد أبطالهم.
 
2- غزوة ذات السلاسل حصلت نتيجة تخطيط بعض الأعراب لغزوة المدينة فعلم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فأرسل عدداً من الأشخاص لقتالهم فعجزوا عنهم فأرسل علي عليه السلام فأمعن بهم قتلاً وأسراً وتمّ الفتح على يده ونزلت سورة العاديات بمناسبة هذه الغزوة.
 
3- في شهر رمضان سنة ثمان للهجرة استطاع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة على رأس جيش جرّار وكان علي عليه السلام هو حامل راية الفتح.
 
209

190

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 الدرس الثاني والعشرون:

جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3- واقعة حنين، تبوك، معركة الجمل
 

أهداف الدرس
على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى دور الإمام علي عليه السلام في واقعة حنين.
2- يدرك ظروف أسباب استخلاف الإمام علي عليه السلام على المدينة وعدم مشاركته في غزوة تبوك.
3- يفهم الظروف المحيطة بمعركة الجمل.
 
211

191

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 واقعة حنين

كانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان من الهجرة. وحنين وادٍ بينه وبين مكَّة ثلاث ليال[1].
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كبيراً تريد غزو المسلمين وقتالهم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيش عظيم عدَّتهم اثنا عشر ألفاً، فقال بعضهم: ما نُؤتى من قلَّة، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك من قولهم.
 
وكان لواء المهاجرين مع عليِّ بن أبي طالب عليه السلام[2]، ووزَّع بقية الرايات على قادة الجيش وزعماء القبائل.
 
يروى عن جابر بن عبدالله الأنصاري، أنَّه قال: "لمَّا استقبلنا وادي حُنين، انحدرنا في وادٍ أجوف حَطُوطٍ، إنّما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيّأوا وأعدّوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطُّون إلّا والكتائب قد شدَّت علينا شدَّة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد.. إلّا أنَّه قد بقي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته عليهم السلام"[3].
 
وعلى أيِّ الأحوال فلقد اتَّفق المؤرِّخون على أنَّ عليَّاً عليه السلام وأكثر بني هاشم ثبتوا 
 
 
 

 
[1] ابن سعد في طبقاته، ج 2، ص 114.
[2] طبقات ابن سعد، ج 2، ص 114.
[3] انظر الكامل في التاريخ، ج 2، ص 136.
212

192

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الأزمة[1]، كان عليُّ بن أبي طالب عليه السلام يذبُّ الناس بسيفه ويفرِّقهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كانت أكثر مواقفه في الحروب التي مضت، فلم يستطع أحد أن يدنو من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا جدله بسيفه.

 

وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء أمام الناس، فإذا أدرك رجلاً طعنه، ثُمَّ رفع رايته لمن وراءه فاتَّبعوه، فحمل عليه عليٌّ عليه السلام فقتله[2]، فكانت الهزيمة،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعبَّاس: "صِحْ للأنصار" وكان صيِّتاً، فنادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمُرة، يا أصحاب سورة البقرة! فأقبلوا كأنَّهم الإبل إذا حنَّت على أولادها، يقولون: يا لبَّيك يا لبَّيك! فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إلى قتالهم فقال: "الآن حمي الوطيس"! وهو أول من قالها، ثُمَّ قال:[3]

"أنا النبيُّ لا كذبْ أنا ابن عبد المطَّلب".

 

واقتتل الناس قتالاً شديداً.

 

وأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حفنة من تراب فرمى بها في وجوههم، فكانت الهزيمة[4]. وقيل: إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قتل منهم أربعين رجلاً[5]، واستشهد من المسلمين أيمن ابن أمِّ أيمن، ويزيد بن زَمعَة بن الأسود بن المطَّلب بن عبد العُزَّى وغيرهما[6].

 

تبوك والاستخلاف

ثمَّ كانت غزوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في رجب سنة تسع من مُهاجره[7].

 

لمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام. لغزو المسلمين في

 

 

 


 

[1] انظر: طبقات ابن سعد، ج 2، ص 115 - ابن الأثير في تاريخه، ج 2، ص 136 - تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 62 - إعلام الورى، ج 1، ص 368.

[2]  ابن الأثير في تاريخه، ج 2، ص 137.

[3] طبقات ابن سعد، ج 2، ص 115، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 137.

[4] ابن الأثير في تاريخه، ج 2، ص 137.

[5] إعلام الورى، ج 1، ص 387، وروى ذلك المفيد في الارشاد، ج 1، ص 144.

[6] الكامل في التاريخ، ج 2، ص 139.

[7] الطبقات الكبرى، ج 2، ص 125.

 

 

213

 


193

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 ديارهم، لم يتردَّد في مواجهة تلك الجيوش، فأمر الناس بالتجهُّز لغزو الروم، وأعلم الناس مقصدهم، لبعد الطريق وشدَّة الحر وقوَّة العدو.. لذلك يسمى بجيش العسرة، وهي آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير في أصحابه، حتى قدم تبوك في ثلاثين ألفاً من الناس، والخيل عشرة آلاف. واستعمل على المدينة علياً عليه السلام وقال له: (تقيم أو أقيم) "إنَّه لابدَّ للمدينة منِّي أو منّك"[1]، "إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك"[2].
 
وهذه هي الغزوة الوحيدة من الغزوات التي لم يشترك فيها عليُّ بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان بقاؤه عليه السلام في المدينة أمراً تفرضه مصلحة الإسلام، بعدما ظهر للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من أمر المنافقين، فإنَّ بقاءهم بالمدينة يشكِّل خطراً على الدعوة.
 
فأُرجِفَ المنافقون بعلي عليه السلام وقالوا: ما خلَّفه إلّا استثقالاً له! فلمَّا سمع عليٌّ عليه السلام ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره ما قال المنافقون، فقال: "كذبوا، وإنَّما خلفتك لما ورائي، أما ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنَّه لا نبيَّ بعدي"[3]. فقال: "قد رضيت، قد رضيت"[4]. ثُمَّ رجع إلى المدينة وسار رسول الله بجيشه.
 
وفي رواية الشيخ المفيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "ارجع يا أخي إلى مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"[5].
 
 
 

 
[1] إعلام الورى، ج 1، ص 243. 
[2] الارشاد، ج 1، ص 155
[3] الكامل في التاريخ، ج 2، ص 150، وانظر الاصابة في تمييز الصحابة، ج 2، ص 507 ترجمة الامام علي، وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 229، وأخرجه الترمذي 2999 و3724 وقال: صحيح غريب.وانظر طرق الحديث عن الصحابة في تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي، ج 1، ص 306 ـ 390.
[4] إعلام الورى، ج 1، ص 244.
[5] الارشاد، ج 1، ص 156.
214

194

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 معركة الجمل

رسم الإمام في سياسته الجديدة خطوط الحكم العريضة، وكان وسامها: "لا فضل لعربيّ على أعجميّ". أثارت هذه السياسة غضب المتمرِّدين على الحكم، وكان منهم ما كان من الخروج عليه، فلمَّا أدرك طلحة والزبير رَفَضَ الإمام أن يجعل لهما ميزة على غيرهما، فلا ينالان إلّا ما ينال المسكين والفقير بعطاء متساوٍ.. سكتا على مضضٍ، وأخذا يعملان للثورة ضدَّه، فانضمَّا إلى الحزب الأُموي، وبدأوا بالتخطيط لشن الحرب على أمير المؤمنين علي عليه السلام،  وهكذا كانت شرارة حرب الجمل. 

 

حيث كانت الواقعة خارج البصرة، عند قصر عبيد الله بن زياد[1]. وكان عسكر الإمام عليه السلام عشرين ألفاً، والعسكر المقابل  ثلاثين ألفاً[2].

 

ولمَّا التقى الجمعان قال الإمام لأصحابه: "لا تبدأوا القوم بقتال، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتَّبعوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثِّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً.. ولا تهيجوا امرأةً بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسَبَبنَ أمراءكم وصلحاءكم"[3].

 

وقيل: إنَّ أوَّل قتيل كان يومئذٍ مسلم الجُهني، أمره عليٌّ عليه السلام فحمل مصحفاً، فطاف به على القوم يدعوهم إلى كتاب الله، فقُتل[4].

 

ثمَّ أخذ أصحاب الجمل يرمون عسكر الإمام بالنبال، حتى قُتل منهم جماعة، فقال أصحاب الإمام: عقرتنا سهامهم، وهذه القتلى بين يديك.. 

 

 

 


 

[1] سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 254.

[2] الكامل في التاريخ، ج 3، ص 241 ـ 242.

[3] الكامل في التاريخ، ج 3، ص 242 ـ 243.

[4] سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 259.

 

215

 

195

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 عند ذلك استرجع الإمام وقال: "اللَّهمَّ اشهد"، ثُمَّ لبس درع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقلَّد سيفه ورفع راية

رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب، فدفعها إلى ولده محمَّد ابن الحنفية.
 
وتقابل الفريقان للقتال، فخرج الزبير، وخرج طلحة بين الصفَّين، فخرج إليهما عليٌّ، حتى اختلفت أعناق دوابِّهم، فقال عليٌّ عليه السلام: "لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتَّقيا الله، ولا تكونا ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا﴾[1]، ألم أكن أخاكما في دينكما؟ تُحرِّمان دمي، وأُحرِّم دمكما، فهل من حدثٍ أحلَّ لكما دمي" ؟!
 
قال طلحة: ألَّبت على عُثمان.
 
قال عليٌّ: "﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾، يا طلحة، تطلب بدم عُثمان؟! فلعن الله قتلة عُثمان، يا طلحة، أجئت بِعرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقاتل بها، وخبَّأتَ عرسك في البيت؟ أما بايعتني؟!".
 
قال: بايعتك والسيف على عنقي!
 
فقال عليٌّ عليه السلام للزبير: "يا زبير، ما أخرجك؟ قد كنَّا نعدُّك من بني عبدالمطَّلب حتى بلغ ابنك ابن السوء[2]، ففرَّق بيننا" وذكَّره أشياء، فقال: "أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بني غنم، فنظر إليَّ، فضحك، وضحكت إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك: ليس به زهوٌ، لتقاتلنَّه وأنت ظالم له؟".
 
قال: اللَّهمَّ نعم، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أُقاتلك أبداً...
 
واحتدمت المعركة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة أشدَّ منه، ثُمَّ إنَّ مروان بن الحكم رمى طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ عليه السلام! يرميه فيرديه ويقول: لا أطلب بثأري بعد اليوم[3].
 
 
 

 
[1] سورة النحل، الآية 92.
[2] يريد ابنه عبدالله.
[3] سير أعلام النبلاء (ترجمة الإمام عليٍّ): 255، وانظر، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 128.
216

196

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ، لم يرَ سوى الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي، فتتهاوى أجساد المسلمين على الأرض.

 
ولمَّا رأى الإمام هذا الموقف الرهيب من كلا الطرفين، وعلم أنَّ المعركة لا تنتهي أبداً ما دام الجمل واقفاً على قوائمه قال: "ارشقوا الجمل بالنبل، واعقروه والا فنيت العرب، ولا يزال السيف قائماً حتى يهوي هذا البعير إلى الأرض". فقطعوا قوائمه، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل بالسيف، فهوى إلى الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من كان حوله كالجراد المبثوث. وانتهت المعركة بهزيمة أصحاب الجمل.
 
ثمَّ أمر عليٌّ عليه السلام نفراً أن يحملوا هودج السيّدة عائشة من بين القتلى، وأمر أخاها محمَّد بن أبي بكر أن يضرب عليها قُبَّةً، وقال: "انظر هل وصل إليها شيء من جراحة"؟ فلمَّا كان الليل أدخلها أخوها محمَّد بن أبي بكر البصرة، 
في دار صفية بنت الحارث، ثمَّ دخل الإمام عليه السلام البصرة فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة..
 
ثمَّ جهَّز عليٌّ عليه السلام السيّدة عائشة بكلِّ ما ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك، وبعث معها كلَّ من نجا، ممَّن خرج معها، إلّا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي 
بكر[1].
 
 
 

 
[1] م. ن، ج 2، ص 144.
217

197

الدرس الثاني والعشرون:جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -3-

 المفاهيم الرئيسة

 
1- خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هوازن في جيش عظيم، وكان لواء المهاجرين مع علي بن أبي طالب عليه السلام.
 
2- ثبت عليٌ عليه السلام وجمع من الآل والأصحاب في تلك الأزمة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
3- لم يشارك الإمام علي عليه السلامفي غزوة تبوك إلتزاماً بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمّره على المدينة.
 
4- كانت معركة الجمل من أقسى وأصعب المعارك التي خاضها أمير المؤمنين عليه السلاموذلك لخصوصية الطرف الآخر وشدّة احتياط أمير المؤمنين عليه السلام في دماء المسلمين.
 
218 
 

198

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

 الدرس الثالث والعشرون: 

جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4- صفين والنهروان


 


أهداف الدرس

على الطالب مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى معارك أمير المؤمنين عليه السلام.

2- يدرك السبب الرئيس لخروج الناس على بيعة علي عليه السلام.

3- يفهم الأسباب الكامنة وراء معركتي صفين والنهروان.

 

 

219

 

199

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

حرب صفِّين
لمَّا انتهت حرب الجمل استعدَّ الإمام إلى حرب معاوية، فوجد حماساً وتجاوباً من أهل الكوفة، حيث كان قسم كبير منهم قد اشتركوا معه في معركة الجمل، وهم الآن يريدون أن يضيفوا نصراً جديدا للإسلام.
 
ثمَّ إنَّ الإمام وقبل حرب صفِّين كان قد أرسل إلى معاوية السفراء والكتب يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل المسلمون من قبله، لكنَّه لم يستجب لطلبه، بل أظهر الشدَّة والصلافة في 
ردِّه على رسائل الإمام، واختار القتال على الصلح والمسالمة.
 
في هذه الأثناء تجهَّز معاوية بجيشٍ ضخمٍ واتَّجه به صوب العراق، ولمَّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام خبره جهَّز جيشه، واتَّجه نحو الزحف، ليقطع عليهم الدخول إلى أرض العراق، لما في ذلك من قتل ونهب وفساد كبير.. فكان من ذلك حرب صفِّين.
 
ونزل معاوية بمن معه في وادي صفِّين، وأخذ شريعة الفرات، وجعلها في حيِّزه، وبعث عليها أبا الأعور السُّلمي يحميها ويمنعها... وبعث أمير المؤمنين عليه السلام صعصعة بن صوحان إلى معاوية، يسأله أن يخلِّي بين الناس والماء، فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فبعضهم قال: امنعهم الماء، كما منعوه ابن عفَّان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله، لكنَّ عمرو بن العاص حاول أن يقنع معاوية بأن يخلِّي بين القوم وبين الماء، فرجع صعصعة فأخبره بما كان، وأنَّ معاوية قال: سيأتيكم رأيي، فسرَّب الخيل إلى أبي الأعور ليمنعهم الماء.
 
ولمَّا سمع عليٌّ عليه السلام ذلك قال: "قاتلوهم على الماء"، فأرسل كتائب من عسكره، فتقاتلوا واشتدَّ القتال، واستبسل أصحاب الإمام أشدَّ استبسالٍ، حتى خلَّوا بينهم وبين
 
220

200

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

 الماء، وصار في أيدي أصحاب عليٍّ عليه السلام.

 
فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام!  فأرسل عليٌّ عليه السلام إلى أصحابه أن: "خذوا من الماء حاجتكم وخلُّوا عنهم، فإنَّ الله نصركم بغيِّهم وظلمهم"[1]. 
 
بهذا الخُلق الكريم عامل أمير المؤمنين عليه السلام أشدَّ مناوئيه..  ثمّ دعا عليّ عليه السلام جماعة من قادة جنده، فقال لهم: "ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله والى الطاعة والجماعة".
 
ففعلوا ما أمرهم به، لكنَّ معاوية قال لهم بعد أن سمع كلامهم: انصرفوا من عندي، فليس بيني وبينكم إلّا السيف، وغضب القوم، وخرجوا، فأتوا عليَّاً عليه السلام فأخبروه بذلك..
 
واحتدم القتال بين الطرفين، فاقتتلوا يومهم كلَّه قتالاً شديداً لم يشهد له تاريخ الحروب مثيلاً، ثُمَّ تقدَّم الإمام عليٌّ عليه السلام بمن معه يتقدَّمهم عمَّار بن ياسر، ولمَّا برز لعمرو بن العاص قال عمَّار: "لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرّات، وهذه الرابعة ما هي بأبرَّ وأنقى"[2] يعني: راية معاوية.
 
وقال حبَّة بن جُوَين العُرَني: قلتُ لحذيفة بن اليمان: حدِّثنا فإنَّا نخاف الفتن.
 
فقال: عليكم بالفئة التي فيها ابن سُميَّة، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "تقتله الفئة الباغية الناكبة (الناكثة) عن الطريق، وإنَّ آخر رزقه ضَياح من لبن"، وهو الممزوج بالماء من اللبن، قال حبَّة: فشهدته يوم قُتل وهو يقول: ائتوني بآخر رزقٍ لي في الدنيا، فأُتي بضياحٍ من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء ـ وقد تضعضع الكثيرون من أتباع ابن أبي سفيان لموقف عمَّار، لأنَّ مقولة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه لم تكن خافيةً على أحدٍ من الناس: "فطوبى لعمَّار تقتله الفئة الباغية، عمَّار مع الحقِّ يدور معه كيفما دار" وهذا كلُّه من دلائل نبوَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
 

 
[1] أنظر: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 167، وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 267 مختصراً. 
[2] م. ن، ج 3، ص 187 وانظر سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 265.
221

201

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

 رفع المصاحف.. "كلمة حقٍّ يُراد بها باطل":

لمَّا رأى عمرو أنَّ أمر أهل العراق قد اشتدَّ وخاف الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمرٍ أعرضه عليك، لا يزيدنا إلّا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلّا فرقةً؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف، ثُمَّ نقول: هذا حكم بيننا وبينكم.
 
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله عزَّ وجلَّ بيننا وبينكم، مَنْ لثغور الشام بعد أهله؟ مَنْ لثغور العراق بعد 
أهله؟ فلمَّا رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله.
 
فقال لهم عليٌّ عليه السلام: "عباد الله امضوا على حقِّكم وصدقكم وقتال عدوِّكم، فإنَّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحَّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرَف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً 
ثُمَّ رجالاً، فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلّا خديعةً ووهناً ومكيدة".  فقالوا له: لا يسعنا أن نُدعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله!  فقال لهم عليٌّ عليه السلام: "فإنِّي إنَّما أُقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنَّهم قد عصوا الله فيما أمره ونسوا عهده ونبذوا كتابه".
 
فقال له جماعة من المسلمين، الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا عليُّ، أجب إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ إذا دُعيت إليه، وإلا دفعناك برمَّتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفَّان!
 
قال: "فاحفظوا عنِّي نهيي إيَّاكم، واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوا فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم"[1].
 
لم تكن بينهم وبين معاوية إلّا بضعة أمتار، فلولا وقوع هؤلاء في الفخ الذي نصبه معاوية لاستطاع الإمام عليه السلام 
أن يسيطر على الموقف ويستأصل رأس الفتن، ولكنَّ مسألة التحكيم غيَّرت مجرى الأُمور إلى أسوأ حال، فحالت دون تحقيق الهدف المنشود، وقُدِّر لهذه المؤامرة أن تنجح وأن تجرَّ وراءها المصائب والويلات!
 
لمَّا انتهت مسألة التحكيم، قال نفرٌ من أصحاب الإمام: كيف تُحكِّمون الرجال في دين الله ؟! لا حكم إلّا لله، وكانوا 
يعترضون الإمام في خطبته بشعارهم "لا حكم إلّا
 
 
 

 
[1] أنظر: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 192 ـ 193، وسير أعلام النبلاء، ج 2، ص 264 مختصراً.
222

202

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

 لله" لذلك سُمُّوا بالمحكِّمة. فكانوا ما يقارب اثني عشر ألفاً. فنزلوا في ناحية يُقال لها: "حروراء" لأجلها سُمُّوا بالحرورية.

 
فحاججهم الإمام عليه السلام بقوله الأوَّل قبل التحكيم، ثُمَّ قال لهم: "قد اشترطتُ على الحكمين أن يُحييا ما أحيا القرآن، ويُميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما براء".
 
قالوا: أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟  قال: "إنَّا لسنا حكَّمنا الرجال، إنَّما حكَّمنا القرآن، وهذا القرآن إنَّما هو خطٌّ مسطور بين دفَّتين لا ينطق، إنَّما يتكلَّم به الرجال"[1] ثمَّ رجعوا مع الإمام عليه السلام.
 
فلمَّا التقى الحكمان: أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وخُدِع أبو موسى، إذ مكر به عمرو، قال له: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسنُّ منِّي فتكلَّم، وأراد عمرو بذلك كلِّه أن يقدِّمه في خلع عليٍّ، قال له: 
نخلع عليَّاً ومعاوية معاً، ونجعل الأمر شورى، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبُّوا.
 
فتقدَّم أبو موسى فأعلن على الملأ الحاضرين أنَّه قد خلع عليَّاً من الخلافة ثُمَّ تنحَّى. وأقبل عمرو فقام، وقال: إنَّ هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأُثبت صاحبي معاوية![2] فدُهش أبو موسى وشتم عمراً وشتمه عمرو، وانفضَّ التحكيم عن هذه النتيجة!
 
والتمس المسلمون أبا موسى فهرب إلى مكَّة، ثُمَّ انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلَّموا عليه بالخلافة.
 
مع هذه النتيجة عاد عليّ عليه السلام يعمل على إعادة نظم جيشه، استعداداً لمرحلة جديدة من الحروب، ولكن فتناً جديدة نجمت بين أصحابه ستمنع من انطلاقته صوب أهدافه..
 
 
 

 
[1] الكامل في التاريخ، ج 3، ص 203.
[2] الكامل في التاريخ، ج 3، ص 208، سير أعلام النبلاء، ج 2، ص 270 ـ 271.
223

203

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

 حرب النهروان (الخوارج) 

لمَّا بلغ عليَّاً عليه السلام قتل الخوارج لعبدالله بن خباب بن الأرت واعتراضهم الناس، وقتلهم مبعوث الإمام إليهم، قال 
المسلمون الذين معه: يا أمير المؤمنين علامَ ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا 
منهم سرنا الى عدوِّنا من أهل الشام.
 
فرجع عليه السلام بجنده الذين ذعروا على أهليهم من خطر الخوارج، والتقت الفئتان في النهروان، فلم يبدأهم الإمام عليه السلام بحرب، حتى دعاهم إلى الحجَّة والبرهان، فبعث إليهم ابن عبَّاس أمامه، فناظرهم بالحجَّة والمنطق السليم، لكنَّهم أصرُّوا على العمى والطغيان! ثُمَّ تقدَّم الإمام عليه السلام، وذكَّرهم نهيه عن قبول التحكيم وإصرارهم عليه، حتى لم يبقَ لديهم حجَّة، وحتى رجع أكثرهم وتاب، وممَّن رجع يومذاك إلى رشده: عبدالله بن الكوَّا أمير الصلاة فيهم[1]. وأبى بعضهم إلّا القتال!!
 
وتعبّأ الفريقان، ثمَّ جاءت الأنباء أنَّ الخوارج قد عبروا الجسر، فقال عليه السلام: "والله ما عبروا، ولا يقطعونه، وإنَّ مصارعهم لدون الجسر"، ثُمَّ ترادفت الأخبار بعبورهم وهو عليه السلام يحلف أنَّهم لن يعبروه وأنَّه " والله لا يفلتُ منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة"! فكان كلُّ ذلك كما أخبر به الإمام عليٌّ عليه السلام، فأدركوهم دون النهر، فكبَّروا، فقال الإمام عليه السلام: "والله ما كذبتُ ولا كُذبت"[2].
 
وكان عليٌّ عليه السلام قد قال لأصحابه: "كُفُّوا عنهم حتى يبدؤوكم"، فتنادوا: الرواح إلى الجنَّة! وحملوا على الناس[3]. 
واستعرت الحرب، واستبسل أصحاب الإمام عليه السلام استبسالاً ليس له نظير، فلم ينجُ من الخوارج إلّا ثمانية فرُّوا هنا 
وهناك، ولم يُقتل من أصحاب الإمام عليه السلام غير تسعة، وقيل: سبعة[4]. 
 
 
 

 
[1] أنظر: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 343، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 191 ـ 193، البداية والنهاية، ج 7، ص 319 ـ 320.
[2] نهج البلاغة، الخطبة 59.
[3] الكامل في التاريخ، ج 3، ص 223.
[4] م. ن، ج 3، ص 223 ـ 226، البداية والنهاية، ج 7، ص 320.
224

204

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

 وانجلت الحرب بانجلاء الخوارج وهلاكهم، وقد روى جماعة أنَّ عليَّاً عليه السلام كان يحدِّث أصحابه قبل ظهور الخوارج، 

أنَّ قوماً يخرجون ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، علامتهم رجل مُخدَج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً[1].
 
فقال الإمام عليه السلام: "اطلبوا ذي الثُديَّة"، فقال بعضهم: ما نجده، وقال آخرون: ما هو فيهم، وهو يقول: "والله إنَّه لفيهم! والله ما كذبتُ ولا كُذبتُ" وانطلق معهم يفتِّشون عنه بين القتلى حتى عثروا عليه، ورأوه كما وصفه لهم، قال: "الله أكبر، ما كذبتُ ولا كُذبت، لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قصَّ الله على لسان نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم لمن قاتلهم، مستبصراً في قتالهم، عارفاً للحقِّ الذي نحن عليه"[2].
 
وقال عليه السلام حين مرَّ بهم وهم صرعى: "بؤساً لكم! لقد ضرَّكم من غرَّكم"!
 
قالوا: يا أمير المؤمنين مَنْ غرَّهم ؟  قال: "الشيطان وأنفسٌ أمَّارة بالسوء، غرَّتهم بالأماني، وزيَّنت لهم المعاصي، ونبَّأتهم أنَّهم ظاهرون"[3].
 
فقالوا: الحمد لله ـ  يا أمير المؤمنين ـ الذي قطع دابرهم، فقال عليه السلام: "كلا والله، إنَّهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء"[4]! 
 
 
 

 
[1] أنظر أخبار المخدج في: إعلام الورى ، ج 1، ص 338 ـ 339، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 222 ـ 223.
[2] أنظر قصَّة مقتل ذي الثُديَّة في: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 222 ـ 223، البداية والنهاية، ج 7، ص 320، سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 282، وأخرج مسلم، ج 3، ص 116.
[3] الكامل في التاريخ، ج 3، ص 223.
[4] نهج البلاغة،الخطبة 60.
225

205

الدرس الثالث والعشرون: جهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام -4-

 المفاهيم الرئيسة

 
1- إن سياسة الإمام علي عليه السلام العادلة وشعاره الذي رفعه أنّه "لا فضل لعربي على أعجمي" السبب الرئيس لخروج من خرج عليه ولنكوث بيعته.
 
2- لمّا انتهت فتنة الجمل استعد الإمام عليه السلام إلى حرب معاوية وذلك بعد رسائل ودعوات منه عليه السلام إلى معاوية للدخول في الطاعة لكنّه أبى، فقاتلهم عليه السلام  قتالاً شديد وكاد يقطع رأس الفتنة لولا قضية التحكيم التي حالة دون تحقيق الهدف المنشود.
 
3- بعد قتل الخوارج لمبعوثي الإمام علي عليه السلام إليهم عزم أمير المؤمنين عليه السلام على قتالهم فخرج إليهم في النهروان بعد أن دعاهم إلى العودة إلى حكم الله وأبوا ذلك.
 
4- قال الإمام علي عليه السلام لأصحابه "كُفُّوا عنهم حتى يبدؤوكم".
 
5- انجلت الحرب بانجلاء الخوارج وهلاكهم جميعاً إلا ثمانية فرّوا هنا وهناك.
 
226 
 

206

القسم الثالث: دروس في الأخلاق والثقافة الإسلامية

القسم الثالث:

 

دروس في الأخلاق والثقافة الإسلامية

227


207

المحور الأوّل: الإيمان بالله والآخرة

المحور الأوّل: 
الإيمان بالله والآخرة
 
موضوعات المحور
24- الإيمان بالله تعالى.
25- حبّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك.
26- الخوف من الله.
27- التَّقوى وآثارها الفرديَّة والاجتماعيَّة.
28- الحياء وعلاقته بالسّلوك.
29- التَّوكُّل على الله وأثره التَّربويّ.
30- لماذا الوحشة من الموت.
 
 
229
 

208

الدرس الرابع والعشرون: الإيمان بالله تعالى

الدرس الرابع والعشرون:
الإيمان بالله تعالى



أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يشرح كيف تكون المعرفة شرطاً أساسيّاً للإيمان بالله.
2- يبيِّن أنواع المعرفة والفارق الدَّقيق بينها.
3- يعدِّد مراحل الإيمان وكيفيَّة تقوية دعائمه في النَّفس.
 
231

209

الدرس الرابع والعشرون: الإيمان بالله تعالى

 إنّ المعرفة الله عن طريق القلب هي إحساس وشعور باطنيّ وهي طريقٌ فرديٌ تماماً، ولا تقبل النَّقل للآخرين والتَّعليم والتَّعلُّم، على خلاف معرفة الله عن طريق العقل فهي ليست فرديةً وهي قابلة للتَّعليم والتَّعلُّم، ويمكن نقلها للآخرين.

 
فمعرفة الله عن طريق القلب لا يمكن إبرازها في قلب الاستدلال، وهي ليست أمراً قوليّاً بل هي أمرٌ ذوقيٌّ، وهي نوعٌ من التّجربة الباطنيّة لا يمكن نقلها للآخرين، كما أنّ المبصر لا يستطيع أن يبيِّن للأعمى اللَّون وإدراكه له ومعرفته به، وكما أنّ الإحساس بالجوع والعطش لا يقبل النَّقل للآخرين فكذلك الشَّخص الذي يستطيع أن يحسّ بالله عن طريق القلب لا يستطع أن ينقل إحساسه إلى من كان بَصَرُ قلبه أعمى. 
 
الإيمان بالله تعالى وأنواعه
يمكن تصنيف الإيمان بالله بحسب واقع النَّاس إلى أقسام عدّة: أشار القرآن الكريم إلى بعضها، وهي:
1- الإيمان الراسخ: 
وهو الإيمان الثابت الذي لا تهزُّه البلاءات والفتن: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾[1].
 
2- الإيمان الوراثيّ التَّقليديّ:
وهو ما كان تقليداً للآباء والأجداد دون دليلٍ أو برهانٍ منطقيّ، قال تعالى: ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[2].
 
 
 

 
[1] سورة الحجرات، الآية 15.
[2] سورة الشعراء، الآية 74.
232

210

الدرس الرابع والعشرون: الإيمان بالله تعالى

3- الإيمان الموسميّ:
وهو ما كان بدافع الخوف أو الطَّمع بحيث لم يتجاوز اللِّسان، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن 
قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾[1].
 
مراحل الإيمان بالله تعالى
يستفاد من الرّوايات بأنّ الإيمان بالله تعالى مرتبةٌ ـ، رفيعةٌ وخاصَّةٌ وله عدّة مراحل، فقد ورد عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، وإنَّ اليقين أفضل من الإيمان، وما من شيء أعزَّ من اليقين"[2].
 
ويمكن تقسيم المراحل بحسب الرّوايات إلى المراحل التَّالية:
1- مرحلة الإسلام:
وهو التَّصديق بالله تعالى وتوحيده قولاً ولساناً من خلال الشَّهادتين بعد المعرفة والاعتقاد بمضمون هاتين الشَّهادتين إجمالاً وهما التَّوحيد والنُّبوَّة. فعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتَّصديق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، به حُقنت الدِّماء وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة النَّاس"[3].
 
2- مرحلة الإيمان:
ويعني التَّصديق والاعتقاد العقليّ بما جاء به الدِّين الإٍسلاميّ من معتقدات وتشريعات، وتجسيد ذلك بالجوارح. روي أنَّ سماعة سأل الإمام الصَّادق عليه السلام يوماً عن الإسلام والإيمان أهما مختلفان؟ فقال عليه السلام: "إنّ الإيمان يُشارك الإسلام والإسلام لا يُشارِك الإيمان، فقلت فَصِفهُما لي فقال: الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتَّصديق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، به حقنت الدِّماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى 


 

 
[1] سورة الحجرات، الآية 14.
[2] الكافي، ج 2، ص 51.
[3] م.ن،ج 2، ص 25.
233

211

الدرس الرابع والعشرون: الإيمان بالله تعالى

ظاهره جماعة النَّاس. والإيمان الهدى وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به. والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة, إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظَّاهرِ و الإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن، وإن اجتمعا في القول والصِّفة"[1].
 
3- مرحلة التَّقوى:
وهي المرحلة التي يكون فيها المؤمن متوقّياً من كلّ ما يبعده عن الله تعالى، فيجتنب المحرَّمات ويفعل الواجبات، وجاء في الحديث: "التَّقوى فوق الإيمان بدرجة"[2]. وسُئل الإمام الصَّادق عليه السلام عن تفسير التَّقوى فقال عليه السلام: "أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك"[3].
 
4- مرحلة اليقين:
وهي أعلى المراتب وأسماها، وهي مرحلة الإيمان القلبيّ بالله تعالى، وانكشاف الغطاء والحجاب، وتحوُّل الغيب إلى الشَّهادة. يقول الإمام عليّ عليه السلام: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً"[4]. وصرَّحت الأخبار بأفضليّة اليقين على الإيمان، وأنَّه فوق التَّقوى بدرجة، وأنّ اليقين فوق التَّقوى بدرجة, عن الإمام الرِّضا عليه السلام: "الإيمان فوق الإسلام بدرجة، والتَّقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التَّقوى بدرجة، وما قُسم في النَّاس شيء أقلُّ من اليقين"[5].
 
كيف نقوِّي الإيمان بالله تعالى؟ 
لا شكّ في أنّ الإيمان بالله تعالى قابل للزِّيادة والنُّقصان، وهو خاضعٌ لجملةٍ من العوامل تؤثِّر عليه قوِّةً وضعفاً، وفيما 
يلي جملة من العوامل التي من شأنها تقوية الإيمان بالله وتعميقه، نذكر منها:
 
 
 

 
[1] الكافي، ج2، ص25.
[2] م.ن، ج 2، ص 51.
[3] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 67، تحقيق الميانجيّ البهبوديّ، ط 3، بيروت لبنان، دار إحياء التراث العربيّ، 1403هـ.ق 1983، ص 285.
[4] بحار الأنوار،  ج 66، ص 209.
[5] الكافي، ج 2، ص 51.
234

212

الدرس الرابع والعشرون: الإيمان بالله تعالى

1- التَّفكُّر:
على المؤمن أن يتأمّل في هذا الكون ليكتشف روعة عالم الخلق، واتِّقان صنعه وتنظيمه. قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا 
فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾[1].
 
2- قراءة القرآن بتدبُّر:
القرآن الكريم يمثِّل كلمات الله الّتي تتضمّن المبادئ العالية لمعرفة الله، ولتربية الإنسان وارتباطه السَّليم بالخالق تعالى. قال 
الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[2].
 
3- تطبيق الأحكام الإسلاميَّة:
تعتبر الأحكام الإسلاميَّة بمثابة الغذاء للمؤمن الَّذي ينمّي لديه قوّة الإيمان بالله ويصعد بوجوده نحو الكمال الإلهي: ومن مصاديق الشَّعائر الإسلاميَّة: الصَّلاة، الصَّوم، الزَّكاة، الحجُّ، قال تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[3].
 
4- الذِّكر:
ويتمثَّل بأنواع الدُّعاء وبألفاظ التَّهليل والتَّكبير والتَّسبيح والتَّمجيد، الَّتي تقوِّي الرَّابطة القلبيَّة والمعنويَّة بالله عزَّ وجلَّ. قال 
تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[4]. وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا﴾[5]. 
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "من أشدّ ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيراً"[6].
 
 
 

 
[1] سورة فصّلت، الآية 53.
[2] سورة الإسراء، الآية 9.
[3] سورة فاطر، الآية 10.
[4] سورة الرعد، الآية 28.
[5] سورة آل عمران، الآية 41.
[6] بحار الأنوار، ج 68، (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ)، ص 204.
 
235

213

الدرس الرابع والعشرون: الإيمان بالله تعالى

5- ذكر الموت:
تذكّرُ الموت وحساب القبر والمراحل الَّتي سوف يواجهها الإنسان في الحياة الآخرة، وما أعدّ الله للمطيعين من نعيم وما أوعد به العاصين من عذاب، كلُّها أمور تساعد على شحذ الهمَّة واتِّخاذ القرار بالرجوع إلى الله وطاعته والانقياد لشريعته, لأن الرُّجوع لا محالة صائر إليه. قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾[1].
 
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: "أكثروا ذكر الموت, فإنَّه هادم اللَّذات"[2].
 
وقد أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى ذلك بقوله: "وكفى بالموت واعظاً"[3].
 
6- التَّواضع:
بمعنى الاستشعار المستمرّ بالضَّعف والتَّقصير أمام الله تعالى اقتداءً بسيرة أهل البيت عليهم السلام, فقد ورد في مناجاة التَّائبين عن الإمام زين العابدين عليهم السلام: "إلهي أَلْبسَتْني الخطايا ثوبَ مذَلَّتي، وجلَّلَني التَّباعُدُ مِنكَ لِباسَ مَسْكَنَتي، وأماتَ قلبي عظيمُ جِنايَتي، فأَحْيِه بتوبةٍ منك يا أَمَلي وبُغيَتي"[4].
 
 
 

 
[1] سورة البقرة، الآيتان، 155-156.
[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة،  ج 2، ط 2، قم، مؤسَّسة آل البيت، 1414هـ.ق، ص 437.
[3] أصول الكافي،  ج 2، ص 275.
[4] بحار الأنوار، ج 91، (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ)، ص 142.
236

214

الدرس الرابع والعشرون: الإيمان بالله تعالى

المفاهيم الرئيسة

 

1- كمال الإنسان في الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالله متوقِّف على معرفته.

 

2- معرفة الله عن طريق القلب والإحساس، طريقٌ فرديّ تماماً، خلاف معرفة الله عن طريق العقل فهي ليست فرديّة وهي قابلةٌ للتّعليم والتعلُّم.

 

3- المعرفة القلبيَّة ملازمة للعمل والالتزام والتّقوى، ولكن المعرفة العقليَّة للعلم والتعلّم.

 

4- الإيمان بالله تعالى أنواع: الإيمان الوراثيّ، الإيمان الموسميّ، الإيمان السطحيّ.

 

5- مراحل الإيمان بالله تعالى: مرحلة الإسلام، الإيمان، التَّقوى، اليقين.

 

6- من الأمور الَّتي تقوِّي الإيمان بالله تعالى: التَّفكير في المخلوقات، قراءة القرآن بتدبُّر، ممارسة الشَّعائر الإسلاميَّة، الذِّكر، تذكُّر الموت وحساب القبر، التَّواضع.

 

 

237

215

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

 الدرس الخامس والعشرون:

حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك
 

أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّنَ مفهوم وحقيقة الحبّ الإلهيّ.
2- يعدِّد أهمَّ الصِّفات اَّلتي يحبُّها الله ويبغضها مع بعض الشَّواهد.
3- يشرح باختصار السَّبيل إلى نيل المحبَّة الإلهيَّة.
 
239

216

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

 الحبُّ والفطرة الإنسانيَّة

جاء عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام في مناجاة المحبِّين: "إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبَّتِك، فرامَ منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك، فابتغى عنك حولاً، أسألك حُبَّك، وحبَّ كلِّ عمل يوصلني إلى قُربك، وأن تجعلك أحبَّ إليَّ ممَّا سواك، وأن تجعل حبِّي إيَّاك قائداً إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك. يا أرحم الراحمين"[1].
 
من بديهيَّات الفطرة والعقل والمنطق أنّ الإنسان السويّ يحبُّ من أحسن إليه، فيسعى لإرضائه، اعترافاً بفضله، واستزادة
من معروفه، وعلى قدر الإحسان يكون الحبُّ والإخلاص، ومن هنا كان حبُّ الفرد لأبويه، واندفاعه لطاعتهما, لأنَّه يعرف فضلهما عليه، ويقدِّر جهودهما وسهرهما على راحته وحمايته من كلِّ سوء. وهكذا حبُّ التَّلميذ لمعلِّميه الذين يبذلون جهوداً مضنية من أجل تسهيل عمليَّة تعلّمه ونجاحه وبناء مستقبله. فإذا كان هذا شأن الإنسان مع والديه ومعلِّميه وكلِّ من يقدِّم له خدمات وتضحيات، فما عسى أن يكون شأنه مع خالقه الذي وهبه الحياة والعقل والحواسَّ؟
 
﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[2].
 
وما عسى أن يكون شأنه مع خالقه الذي هيّأ له النّعم الَّتي لا سبيل إلى حصرها: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ 
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 91، (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ). ص 148.
[2] سورة النحل، الآية 78.
240

217

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

 * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[1].

 
وما عسى أن يكون شأنه مع خالقه الَّذي سخّر له كلَّ خيرات الأرض وبركات السَّماء.
 
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[2].
 
وهكذا إذا أردنا أن نعدِّد نعم الله تعالى، فإنَّنا لا نستطيع حصرها والإحاطة بها، كما أشارت الآية: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[3].
 
أمام هذا الحشد الهائل من الإحسان والفضل، ألا يجدر بنا أن نحبّ الله حبّاً لا يعادله حبّ، وأن نخلص له إخلاصاً لا يشابهه إخلاص، وأن نشكره شكراً ليس له حدود، وأن نحمده حمداً أين منه حمد الآباء والمعلِّمين؟
 
على هذا الأساس يربط الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان الصَّادق بهذا الحبّ الخالص، فيقول: "لا يُمْحَضُ* رجل الإيمان بالله حتَّى يكونَ الله أحبَّ إليه من نفسه وأبيه وأمِّه وولده وأهله وماله ومن النَّاس كلِّهم"[4].
 
ما هو مفهوم حبِّ الله؟
مفهوم الحبّ يعبّر عن حالة تعلُّق خاصّ وانجذاب مخصوص بين المرء وكماله، والإنسان يعشق الأشياء, لأنّه يرى فيها سعادته. والمعلوم أنّ كمال الحبّ وجماله لا يكون لغير الله.
 
 
 

 
[1] سورة النحل، الآية 10-11.
[2]  سورة النحل، الآية 14.
[3] سورة النحل، الآية 18. (*)  مَحَضَ، يَمْحَضُ فلاناً الودَّ أو النُّصح مَحْضاً: أخلصه إيّاه فيكون معنى لا يُمْحَضُ: لا يُخلَصُ. ملاحظة الكلمة: "يمحض" غير مشكلة بالحركات في المصدر.
[4] بحار الأنوار، ج 67، ص 25، (تحقيق البهبوديّ).
241

218

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

وإذا سطع نور الحبّ على قلب الإنسان أخرج من قلبه غيرّه, ولهذا نقرأ في الدُّعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللهم إنِّي أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك، وخشية منك، وتصديقاً بكتابك، وإيماناً بك، وفرقاً منك، وشوقاً إليك"[1].
 
وعن الإمام محمَّد الباقر عليه السلام في حديث مع أحد أصحابه: "يا زياد ويحك، وهل الدِّين إلَّا الحبُّ؟ ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله﴾؟ الدِّين هو الحبُّ، والحبُّ هو الدِّين"[2].
 
صفات من يحبّهم الله تعالى
وفيما يلي بعض الآيات الّتي تتناول أولئك الّذين يحبُّهم الله تعالى:
1- المتّقون: 
﴿فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[3].
وقد فسّر الإمام الصَّادق عليه السلام التَّقوى: "بأن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك"[4]. والتَّقوى لها 
مراتب تبدأ من الاستقامة في جادّة الشَّرع: بأن يفعل العبد ما فُرض عليه ويترك ما نُهي عنه، وتنتهي بالتَّنَزُّه عمّا يشغل 
قلبه عن الحقّ وهو أعلى المراتب.
 
2- المجاهدون في سبيل الله:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾[5].
 
3-  المتوكِّلون على الله:
﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[6]. والتَّوكُّل هو أن تعتمد على الله وتجعله نائباً عنك في أعمالك وأفعالك.
 
 
 

 
[1] أصول الكافي،  ج 2، ص 586.
[2]  بحار الأنوار، ج 66، ص 238. (تحقيق: البهبوديّ).
[3]  سورة آل عمران، الآية 76.
[4] شرح أصول الكافي، المولى محمّد صالح المازندراني،ج1، تحقيق أبو الحسن الشعراني، ط 1، بيروت لبنان، دار إحياء التُّراث العربيّ، 1421هـ 2000م، ص 118.
[5] سورة الصفّ، الآية 4.
[6] سورة آل عمران، الآية 159.
242

219

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

4- التَّائبون:

﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ . التَّوبة هي الرُّجوع إلى الله سبحانه بالنَّدم على الذَّنب والعزم على عدم العود والتَّدارك للتَّفريط. 

 

5- المحسنون: 

﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ . الإحسان فوق العدل, وذلك أنّ العدل هو أن يُعطي ما عليه ويأخذ ما له. والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ ممّا له. فالإحسان زائد على العدل، فتحرّي العدل واجب وتحرّي الإحسان ندب وتطوُّع ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ , ولذلك عظّم الله تعالى ثواب المحسنين فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ .

 

6- الصّابرون:

﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ .

 

7- العادلون:

﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ . وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرَّحمن، وكلتا يديه يمين ـ، الّذين يعدلون في حكمهم  وأهليهم وما وَلوُا" .


 

   سورة البقرة، الآية 222.
  سورة البقرة، الآية 195. 
  سورة النحل، الآية 90.
   سورة العنكبوت، الآية 69.
  سورة آل عمران، الآية 146.
  سورة المائدة، الآية 42.
  الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبيّ، ج5، تحقيق: أطفيش، لا. ط، بيروت لبنان، دار إحياء التُّراث العربيّ 1405هـ.ق 1985م، ص 258.
243

220

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

 صفات من لا يحبّهم الله تعالى

كما أنّه تعالى بيّن صفات من يحبّ, فإنّه أيضاً بلطفه بيّن صفات من لا يحبّ، لكي يطوي السَّالك طريق المحبّة على بصيرة وفهم ومعرفة ودراية، فيمتثل ما يحبّه خالقه, ويفرّ ويبتعد عمّا لا يحبّه، فينال بذلك غاية مراده، ويصل إلى منتهى أُمنِيَتِه، وهو حبُّ الله سبحانه له. ومن الصِّفات الَّتي لا يحبّها الله تعالى:
1- الكفر: 
 قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾[1]، الكفر هو الجحود والإنكار وهو ضدُّ الإيمان. فالكافر لا يعتقد بوجود الله ولا بأنبيائه ورسله وكتبه, لذا هو مبغوض عند الله تعالى. 
 
2- الظُّلم:
 قال تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[2]. فلا تظلم نفسك بعصيانها لخالقها، ولا تظلم غيرك من النَّاس, فإنّ الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة. لا تظلم أجيرك، ولا زوجك، ولا جارك، ولا أخاك، ولا أولادك، ولا أحداً من النَّاس، قريباً كان أم بعيداً, فإنّك مسؤول عن ذلك كلّه.
 
3- الإسراف: 
 قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[3]. لا ريب في أنّ النِّعم الموجودة على الكرة الأرضيَّة كافية لساكنيها، بشرط 
أن لا يبذّروا هذه النِّعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط وإسراف.
 
4- الإفساد:
 قال تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾[4]. فالله تعالى يحبّ الإصلاح لا 
 
 
 

 
[1] سورة آل عمران، الآية 32. 
[2] سورة آل عمران، الآية 57.
[3] سورة الأنعام، الآية 141.
[4] سورة المائدة، الآية 64.
244

221

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

الإفساد، والأنبياء عليهم السلام دعوتهم الإصلاح ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[1]. فعلى الإنسان أن يعوِّد نفسه في كلّ حياته على أن يكون مصلحاً أينما حلَّ حتَّى تصلح به الأمور, ويتصالح به المختلفون، ويلتقي به المفترقون, ويتقارب به المتباعدُوّن, ولا يكن من الَّذين يفسدون فتفسد بهم الأمور, فإنّ الله لا يحبُّ الفساد ولا المفسدين.
 
5- الاعتداء والتَّعدِّي:
 قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[2]. فإنَّ الله تعالى بيغض الاعتداء على حقوق الأخرين وممتلكاتهم, لما في ذلك من ظلم وسلب للحقوق الفرديَّة والاجتماعيَّة.
 
6- الاستكبار:
 قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾[3]. فالمؤمن لا يستكبر عن قبول الحقّ ولا يتكبّر على الخلق. ومن وجد في نفسه شيئاً من ذلك عليه أن يعلم أنّ هذا مُهلِك، وليبادر لاقتلاعه من نفسه, وإلّا فسوف يكون بعيداً عن محبّة الله له.
 
7- الخيانة:
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾[4]. الخيانة في الأصل معناها الامتناع عن دفع حقّ أحد مع التَّعَهُّد به، وهي ضدَّ الأمانة، والأمانة، وإن كانت تطلق على الأمانة الماليَّة غالباً، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والعسكريَّة والأخلاقية كافَّة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ﴾[5].

 
 

 
[1] سورة هود، الآية 88.
[2]  سورة البقرة، الآية 190.
[3] سورة النحل، الآية 23.
[4] سورة الأنفال، الآية 58.
[5] سورة الأنفال، الآية 27.
245

222

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

 8- التَّفاخر:

﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾[1].
 
الفخر, المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال أو الجاه أو النَّسب.
 
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ المفاخرة قد تكون محرّمة وقد لا تكون، فإن أخذ في عنوانها نفي الفضيلة عن المخاطب 
وإثبات منقصة ورذيلة عليه فلا ريب في الحرمة, وقد تكون الرِّواية التَّالية عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مشيرة إليه: 
"أربع في أمّتي من أمر الجاهليّة.. الفخر في الأحساب"[2].
 
وأمّا إن لم تستلزم ذلك ولم تمسّ كرامة أحد ـ، وإنّما أراد المفاخِر من خِلالها أن يثبت لنفسه فضيلة، أو ينفي عنها رذيلة، 
من دون تعريض بمؤمن آخر أو مساس بكرامته ـ، فلا محذور فيه طبعاً هذا من النَّاحية الفقهيَّة, وأمّا من النَّاحية الأخلاقيَّة فقد يكون مرجوحاً ساعتئذ وإن لم يصل إلى مرتبة التَّحريم.
 
روي عن البيزنطيّ قال: "...قلت له (أي للإمام الرِّضا عليه السلام): يا ابن رسول الله أشتهي أن تدعوني إلى دارك في أوقات تعلم أنّه لا مفسدة لنا من الدُّخول عليكم من أيدي الأعداء، قال: ثمّ (إنّه) بعث إليّ مركوباً في آخر يوم فخرجت وصلَّيت معه العشاءين، وقعد يملي عليّ العلوم ابتداء وأسأله فيجيبني إلى أن مضى كثير من اللَّيل ثمّ قال للغلام: هات الثِّياب الّتي أنام فيها لينام أحمد البيزنطي فيها. قال: فخطر ببالي: ليس في الدُّنيا من هو أحسن حالاً منّي بعث الإمام مركوبه إليّ وجاء وقعد إليّ ثمّ أمر لي بهذا الإكرام، وكان قد اتَّكأ على يديه لينهض، فجلس وقال: يا أحمد لا تفخر 
 
 
 

 
[1] سورة النساء، الآية 36.
[2] تفسير القرطبيّ, ج 17، ص 23.
 
246

223

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

على أصحابك بذلك, فإنَّ صعصعة بن صوحان مرض فعاده أمير المؤمنين عليه السلام وأكرمه ووضع يده على جبهته، وجعل يلاطفه، فلمّا أراد النُّهوض قال: "يا صعصعة لا تفخر على إخوانك بما فعلت، فإنّي إنّما فعلت جميع ذلك, لأنّه كان تكليفاً لي"[1].
 
فلكي تحصل على محبّة الله تعالى لك، عليك أن تجتنب تلك الصَّفات الَّتي لا يحبُّها الله, وأن تتحلَّى بالصِّفات الّتي يحبّها، فعندها تكون من السُّعداء بحبّ الله تعالى لك، وهي والله سعادة الدُّنيا والآخرة.
 
كيف ننال درجةَ الحبِّ الإلهيّ؟
الطَّريق الوحيد لنيل المحبّة الإلهيَّة هو بالطَّاعة لله ولرسله الَّذين أرسلهم بالهدى ودين الحقِّ لكي يعلِّموا النَّاس معالم الدِّين، ويرشدوهم إلى سبيل النَّجاة ويأخذوا بأيديهم لما فيه خيرهم وصلاحهم في الدُّنيا والآخرة، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ 
اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2].
 
وفي الحديث القدسيّ: "ما تقرّب إليَّ أحدٌ بمثل ما تقرّب بالفرائض وإنّه ليتقرّب إليّ بالنَّوافل حتَّى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الَّذي يسمع به وبصره الَّذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده الَّتي يبطش بها"[3].

 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 49، ط 2، ص 48 49-. (تحقيق: الميانجي البهبوديّ) 
[2] سورة آل عمران، الآية 31. 
[3] الجواهر السّنيّة، الحرّ العامليّ، لا. ط، النجف الأشرف، النّعمان، 1384هـ.ق، 1964م، ص 121, الباب الحادي عشر: فيما ورد بشأن سيّدنا ونبيِّنا. 
247

224

الدرس الخامس والعشرون: حبُّ الله وارتباطه بالإيمان والسُّلوك

 المفاهيم الرئيسة

 

1- مفهوم الحبّ يعبّر عن حالة تعلُّق خاصٍّ وانجذاب مخصوص بين المرء وكماله.

 

2- من بديهيَّات الفطرة والعقل والمنطق أنّ الإنسان السَّويَّ يحبُّ من أحسن إليه.

 

3- إذا سطع نور الحبّ الله على قلب الإنسان خرج كلُّ ما سوى الله من قلبه.

 

4- صفات من يحبُّهم الله تعالى: المتَّقون، المجاهدون، المتوكِّلون، التَّائبون، المحسنون، الصَّابرون، العادلون.

 

5- الصِّفات الَّتي يبغضها الله تعالى: الكفر، الظُّلم، الإسراف، الإفساد، الاعتداء، الاستكبار، الخيانة، التَّفاخر.

 

6- الطَّريق الوحيد لنيل المحبَّة الإلهيَّة هو بسلوك طريق الطَّاعة والعبوديَّة لله تعالى، واتِّباع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم 

وأوصياء رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

 

 

248

225

الدَّرس السادس والعشرون: الخوف من الله تعالى

 الدرس السادس والعشرون:

الخوف من الله تعالى



أهداف الدَّرس

على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:

1- يبيّن أهميّة الخوف من الله وتأثيره في بناء النَّفس وتربيتها.

2- يفهم آثار الخوف وعلاماته الأساسيَّة.

3- يبيّن العلاقة بين معرفة الله والخوف منه.

 

 

 

249

226

الدَّرس السادس والعشرون: الخوف من الله تعالى

 مقدِّمة

قال الإمام الصَّادق عليه السلام: "خَفِ الله كأنّك تراه، فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراكَ ثمَّ استترت عن المخلوقين بالمعاصي وبرزت له بها فقد جعلته في حدِّ أهون النَّاظرين إليك"[1].
 
وقال بعض الحكماء: "مسكين ابن آدم، لو خاف من النَّار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو رغب في الجنَّة كما رغب في الدُّنيا لقاربهما جميعاً، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظَّاهر لسعد في الدَّارين جميعاً"[2].
 
الخوف شيمة المؤمنين
الخوف من الله تعالى نوعٌ من الخضوع والخشية أمام عظمة الله تعالى، وهو من خصائص المؤمنين وسمات المتَّقين، قال الإمام عليّ عليه السلام: "الخشية من عذاب الله شيمة المتَّقين"[3].
 
وقال عليه السلام: "إنّ الله إذا جمع النَّاس نادى فيهم منادٍ، أيّها النَّاس إنّ أقرب النَّاس اليوم من الله أشدّكم منه
خوفاً"[4].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج67، ص 355 -  356.(تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ)
[2] أخلاق أهل البيت، مهدي الصَّدر، دار الكتاب الإسلامي، ص 120.
[3] غرر الحكم، التَّميميّ الآيديّ، تحقيق: الدِّرايتين، ط1، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، ص 63, الحديث 3668.
[4] بحار الأنوار، ج 75، ص 41. (تحقيق: الغفّاريّ)
250

227

الدَّرس السادس والعشرون: الخوف من الله تعالى

 تربية النَّفس على الخوف

يجب أن يربّي المؤمن نفسه على الخوف من الله تعالى ليكون باعثاً له على الطَّاعة ومنفرِّاً له عن الذَّنب والمعصية. قال 
الإمام عليّ عليه السلام في وصيته لابنه الحسن عليه السلام: "أوصيك بخشية الله في سرّ أمرك وعلانيتك"[1].
 
وقال الإمام الصَّادق عليه السلام: "ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنّه يشرف على النَّار"[2].
 
ولكن ينبغي أن يتَّسم بالقصد والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط في الخوف, لأنَّ الإفراط يؤذي النَّفس ويجعلها في حالة اليأس من رَوْحِ الله تعالى، والتّفريط باعثٌ على الإهمال والتَّقصير والتَّمرُّد على طاعة الله تعالى.
 
الخوف على قدر المعرفة بالله تعالى
فكلَّما ازداد علم المرء بأسرار الحياة، ونواميس الكون وعظمة الخالق، كلَّما زاد خشوعه نتيجة معرفته هذه, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان بالله أعرف، كان من الله أخوف"[3].
 
ومثله ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أعلى الناس منزلة عند الله أخوفهم منه"[4].
 
المؤمن بين مخافتين
المؤمن في الدُّنيا ينبغي أن يوازن بين حدَّين من الخوف، خوف على مضى من حياته فهو لا يعرف إن فاته على خير أو 
لا، وخوف على ما هو آت، فهو لا يعرف ما خبَّأته له الأيَّام الآتية. 
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 42، ص 203.
[2] تفسير نور الثقلين، الحويزيّ، ج 4، تحقيق السيّد المحلاتيّ، ط 4، قم مؤسَّسة إسماعيليان، 1412هـ. ق 1370هـ. ش، ص 545.
[3] بحار الأنوار، ج 67، ص 393. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[4] م. ن، ج 74، ص 180.
 
251

228

الدَّرس السادس والعشرون: الخوف من الله تعالى

 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا إنّ المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، 

وفي الشَّيْبَة قبل الكِبَر، وفي الحياة قبل الممات فوالَّذي نفس محمّد بيده، ما بعد الدُّنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلا الجنّة أو النّار"[1].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنَّه قال: "المؤمن بين مخافتين: ذنبٌ قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلّا خائفاً ولا يصلحه إلّا الخوف"[2].
 
علامات الخائف
للخوف من الله علامات منها، انكسار القلوب وخشيتها الدَّائمة من الله، واتِّهام النَّفس دائما بالتَّقصير، وقلَّة الكلام، 
وعدم الخوف من النَّاس، والمسارعة والمسابقة نحو أفضل الأعمال الصَّالحة وعدم الرِّضا بالأعمال العاديَّة.
 
قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشية الله، فاستكفوا عن المنطق، وإنّهم لفُصحاء عُقلاء أَلِبَّاء نبلاء، يسبقون إليه بالأعمال الزاكية، لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له القليل، يرون أنفسهم أنّهم شرارٌ، وإنّهم الأكياس الأبرار"[3].
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف النَّاس"[4].
 
 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 70.
[2]  م. ن.
[3] بحار الأنوار، ج 66، ص 286 ــ 287 (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ). (*) وفي المصدر: "وأنّهم الأكياس الأبرار" ولعل الأصح "وإنّهم الأكياس الأبرار".
[4] بحار الأنوار، ج 74، ص 126. (تحقيق: الغفّاري).
 
252

229

الدَّرس السادس والعشرون: الخوف من الله تعالى

 آثار الخوف من الله تعالى ونتائجه

للخوف من الله تعالى آثارا كثيرة على سلوك الإنسان منها:
1- أنَّه ينظّم المشاعر والأحاسيس تجاه الخالق عزَّ وجلَّ.
 
2- أنّه يعوِّد النَّفس على التَّصاغر والتَّواضع أمام الله تعالى.
 
3- أنّه يُِشعر النَّفس بتقصيرها الدَّائم فلا يرضى بالقليل من العمل.
 
4- أنّه يعوِّد النَّفس على طلب الأعمال الَّتي تقرِّبه من الله تعالى.
 
5- أنَّه يحاسب نفسه دائماً.
 
6- الأمن في الآخرة. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تبارك وتعالى، وعزّتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدُّنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدُّنيا آمنته يوم 
القيامة"[1]. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "خف تأمن ولا تأمن فتخف"[2]".
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 67، ص 379. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[2] م. ن، ج 67، ص 379.
 
253

230

الدَّرس السادس والعشرون: الخوف من الله تعالى

 المفاهيم الرئيسة

1- الخوف من الله تعالى، نوع من الخضوع والخشية أمام عظمة الله تعالى، وهو من خصائص المؤمنين وسمات المتَّقين.

 

2- الخوف من الله تعالى يجب أن يكون باعثاً للإنسان على الطَّاعة ومنفِّراً له عن الذَّنب والمعصية.

 

3- ينبغي أن يتَّسم الخوف من الله تعالى بالقصد والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط في الخوف, لأنّ الإفراط يؤذي النَّفس ويجعلها في حالة اليأس من رَوْحِ الله تعالى، والتَّفريط باعث على الإهمال والتَّقصير والتَّمرُّد على طاعة الله تعالى.

 

4- كلَّما ازداد علم المرء بأسرار الحياة، ونواميس الكون وعظمة الخالق، كلَّما زاد خشوعه نتيجة معرفته هذه، فالخوف 

نتيجة المعرفة بالله تعالى.

 

5- من آثار الخوف على الإنسان، أنَّه ينظّم المشاعر والأحاسيس فلا تطغى إحداهما على الأخرى. وأنّه يعوِّد النَّفس على التَّصاغر أمام عظمة المولى.

 

 

254

 

231

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 الدرس السابع والعشرون:

التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية



أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يشرح معنى وحقيقة التَّقوى بحسب المرتكزات الشَّرعيَّة.
2- يعدِّد أهم آثار التَّقوى والموانع الأساسيَّة من حصولها.
3- يبيّن كيفيَّة تمكين ملكة التَّقوى في النَّفس.
 
255
 

232

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 مقدِّمة

عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "من أخرجه الله من ذلّ المعاصي إلى عزِّ التَّقوى، أغناه الله بلا مال، وأعزَّه بلا عشيرة، وآنسهُ بلا بشر"[1].
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّ أهل التَّقوى هم الأغنياء، أغناهم القليل من الدُّنيا فمؤونتهم يسيرة"[2].
 
التَّقوى لغة وشرعاً
توقَّى واتَّقى بمعنى (واحد). وقد توقَّيت واتَّقيت الشَّي‏ء وتَقَيْته أتَّقيه وأَتْقِيه تُقًى وَتقِيَّه وتِقاء: حَذِرْتُه، والاسم التَّقوى. قوله تعالى: "﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾[3]، أي: هو أهل أن يُتَّقَى عقابه، وأهل أن يعمل بما يؤدِّي إلى مغفرته"[4].
 
فالتَّقوى لغة تعني: الحذر، فتقوى الله تعني: الحذر والخوف من الله، والحذر من الله يعني: اتِّباع ما يرضيه واجتناب ما يسخطه، وهذه هي التَّقوى حسب المرتكزات الشرعيَّة.
 
 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 76.
[2] بحار الأنوار، ج 75، ص 166.
[3] سورة المدّثر، الآية 56.
[4]  لسان العرب، ابن منظور، ج‏15، ص‏402.
 
256

233

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 منزلة التَّقوى

التَّقوى هي روح الإسلام، وأساس الإيمان، وأحد الأهداف الكبرى لبعثة سيِّد الأنام صلى الله عليه وآله وسلم، فلا عجب أن تحوز هذه الخصلة اهتماماً بالغاً في النُّصوص الشرعيَّة، فالتَّقوى هي:
1- ميزان التَّفاضل:
لم يعترف الإسلام بالمبدأ العرقيّ أو السُّلطة أو الجاه أو المال كمعيار وأساس للتَّفاضل بين البشر، بل جعل معيار التَّفاضل التَّقوى: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ 
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[1].
 
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبة الوداع: "ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلَّا بالتَّقوى, إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[2].
 
2- غاية العبادة:
جعل الله تعالى العبادة غايةً للخلق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[3].
 
وجعل التَّقوى غايةً للعبادة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[4].
 
3- شرط القبول:
قال تعالى في مقام اشتراط قبول الأعمال:﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[5].
 
وكلّ عبادة أو عمل غير مؤسَّس على التَّقوى فهو هباء منثور, لقوله عز وجل: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ﴾[6].

 
 

 
[1] سورة الحجرات، الآية 13.
[2] مورد الحكمة، ج‏4، ص‏29 - 36.
[3] سورة الذّاريات، الآية 56.
[4] سورة البقرة، الآية 21.
[5] سورة المائدة، الآية 27.
[6] سورة التّوبة، الآية 109.
257

234

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 مراتب التَّقوى

للتَّقوى مراتب، أدناها يبدأ من:
1- ترك الحرام:
وهذه المرتبة هي الَّتي أرادها الإمام الصَّادق عليه السلام لما سئل عن التَّقوى فقال: "لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك"[1].
 
وهناك مرتبة أعلى للتَّقوى، هي:
2- ترك غير الحرام حذراً:
وقد أشار إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم بقوله): "لا يبلغ العبد حقيقة التَّقوى حتَّى يدع ما لا بأس حذراً مما به البأس"[2].
 
ومن جميل ما ورد في الاحتياط في أمور الدِّين ما ذكره بعض العابدين حينما سئل عن التَّقوى فقال: هل دخلتم أرضاً فيها شوك؟ فقيل نعم، فقال: كيف تعمل وما تصنع؟ قيل: نتوقَّى ونتحرَّز، فقال: اصنعوا في طريق الدِّين كذلك، فتوقَّوا 
عن المعاصي، كما يتوقَّى الماشي رجله من الشَّوك.
 
موانع التَّقوى
للتَّقوى موانع عديدة منها:
1- اتِّباع الهوى: فعن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يفسد التَّقوى إلَّا غلبة الشَّهوة"[3].
2- العدُوّاة والخصومة: مع النَّاس وبالخصوص المؤمنين منهم. عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "لا يستطيع أن يتَّقي الله من خاصم"[4].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 67، (تحقيق: البهبوديّ) ص 285. 
[2]  نهج السّعادة، الشيخ المحموديّ، ح 7، ط 1، النجف الأشرف، النُّعمان (مطبعة)، 1385هـ.ق 1965م. ص 58.  
[3] مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 11، ص 345.
[4]  نهج البلاغة، الخطبة 176، الحكمة 298.
258

235

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 آثار التَّقوى

ذكرت للتَّقوى آثار كثيرة وبركات جمَّة تكاد تفوق حدَّ الإحصاء، نذكر منها ما يلي:
1- باب الفرج:
قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾[1].
 
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أن السَّموات والأرض كانتا رتقا على عبد ثمَّ اتَّقى الله لجعل الله له منهما فرجاً ومخرجاً"[2].
 
ومن وصيَّة الإمام الصَّادق عليه السلام إلى رجل من أصحابه: "فإنِّي أوصيك بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فإنَّ الله قد ضمن 
لمن اتَّقاه أن يحوِّله عما يكره إلى ما يحب، ويرزقه من حيث لا يحتسب".
 
2- أصل كلِّ خير وصلاح:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[3].
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أوصيكم بتقوى الله الَّذي ابتدأ خلقكم وإليه يكون معادكم.. فإنَّ تقوى الله دواء 
داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم وجلاء غشاء أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواد ظلمتكم"[4].
 
3- الغنى الحقيقيّ:
عن الإمام الصَّادق عليه السلام قال: "من أخرجه الله من ذلِّ المعصية إلى عزِّ التَّقوى أغناه الله بلا مال، وأعزَّه بلا 
عشيرة، وآنسه بلا بشر، ومن خاف الله عزّ وجلّ أخاف الله منه كلَّ شي‏ء، ومن لم يخف الله عزّ وجلّ أخافه الله 
من كلِّ شي‏ء"[5].


 

 
[1] سورة الطلاق، الآيات  2 - 3.
[2]  نهج البلاغة، الخطبة 130.
[3]  سورة الأحزاب، الآيتين: 70 - 71.
[4]  نهج البلاغة، تحقيق: الصَّالح، ص 312, الخطبة 198.
[5]  بحار الأنوار، ج 67، ص 289. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
 
259

236

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 4- الحفظ من الأعداء:

قال تعالى: ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾[1].
 
5- غفران الذُّنوب‏:
قال تعالى: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ﴾[2].
 
6- الفوز بالجنَّة:
قال الله تعالى:﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ﴾[3].
 
وعن النبيّ ‏ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أكثر ما يدخل به الجنَّة تقوى الله وحسن الخلق"[4].
 
كيف تتحقّق التَّقوى؟
التَّقوى لله تحصل من خلال أمرين أساسيَّين:
الأوّل: الإتيان بما يصلح الإنسان من خلال الالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى.
الثَّاني: الامتناع عما يضرّ الإنسان من خلال الانتهاء عن نواهي الله.
 
وكلاهما يساعدان على بعضهما البعض، فكلَّما أطاع الإنسان الله من حيث الأوامر، كلَّما ساعده ذلك على الانتهاء عن النَّواهي، والعكس صحيح[5].
 
والتَّقوى (خوف الله والحذر منه) فرع الإيمان بالله وبالآخرة (حيث العقاب والثَّواب)، فكلَّما كان إيمان الإنسان أقوى، كلَّما كان خوفه من الله والحذر منه أقوى، ما
 
 
 

 
[1] سورة آل عمران، الآية 120.
[2]  سورة نوح، الآيتان 3  - 4.
[3] سورة آل عمران، الآية 198.
[4] الخصال، الشيخ الصدوق، ص 78.
[5] يقول الإمام الخمينيّ: ومن المعلوم أنّ ضرر المحرّمات أكثر تأثيراً في النَّفس من أي شي‏ء آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة الأمور ولهذا كانت واجبة، وأفضل من أي شي‏ء، ومقدَّمة على كلِّ هدف، وممهِّدة للتَّطوُّر إلى ما هو أحسن. إنّ الطَّريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانيَّة يمر عبر هاتين المرحلتين (الإتيان بالواجبات، الانتهاء عن المحرمات)، بحيث إنَّ من يواظب عليهما يكون من السُّعداء، وأهمُّهما هي التَّقوى من المحرّمات، وإن أهل السُّلوك يحسبون هذه المرحلة مقدَّمة على المرحلة الأولى" الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص‏202.
 
260

237

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 ينعكس على سلوك الإنسان، فيصبح مستقيماً صالحاً.

 
فالمطلوب لكي تتحقَّق صفة التَّقوى في الإنسان، أن يؤكِّد صفة الإيمان بالله وبالآخرة في قلبه.
 
وهذا المعنى، أي: ترتب التَّقوى على الإيمان بالله وبالآخرة نراه في الآية الكريمة:﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا 
أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ .
 
ومن الشُّروط الأساسيَّة لتحصيل التَّقوى وتمكينها في النَّفس أيضاً تزكية النَّفس ومحاسبتها. ففي وصيَّته لأبي ذرّ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يكون الرَّجل من المتَّقين حتَّى يحاسب نفسه أشدَّ من محاسبة الشَّريك لشريكه، فيعلم من أين مطعمه، ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه، أمن حِلٍّ ذلك، أم من حرام" .
 
ومن العوامل المؤثِّرة في ترسيخ ملكة التَّقوى في النَّفس, طلب العلم وصون اللِّسان عن اللغو في الكلام والفاضل منه, فعن الإمام عليّ عليه السلام: "رأس العلم التَّواضع، ومن ثمراته التَّقوى، واجتناب الهوى، واتِّباع الحقِّ، ومجانبة 
الذُّنوب..." . 
 

 
[1] المتقي الهندي، كنز العمّال، ج 3، ص 699، باب التقوى، ح 8501.
[2] بحار الأنوار، ج 75، ص 6. (تحقيق: الغفَّاريّ).
 
261

238

الدَّرس السابع والعشرون: التَّقوى وآثارها الاجتماعية والفردية

 المفاهيم الرئيسة

 
1- التَّقوى لغة تعني: الحذر، وتقوى الله بحسب المرتكزات الشرعيَّة تعني: الحذر والخوف من الله، والحذر منه، يعني اتِّباع ما يرضيه واجتناب ما يسخطه.
 
2- التَّقوى روح الإسلام، وأساس الإيمان، وأحد الأهداف الكبرى لبعثة سيِّد الأنام صلى الله عليه وآله وسلم.
 
3- أهميَّة ومنزلة التَّقوى تكمن في أنَّها أساس وميزان التَّفاضل بين النَّاس، وغاية العبادة، وشرط لقبول الأعمال.
 
4- للتَّقوى مراتب عديدة منها, ترك الحرام، وترك غير الحرام احتياطاً وحذراً.
 
5- موانع التَّقوى عديدة ومتنوِّعة منها, حبُّ النَّفس، حبُّ الدُّنيا، العداوة ومخاصمة الآخرين.
 
6- للتَّقوى آثار وبركات كثيرة منها, قضاء الحوائج الماديَّة والمعنويَّة، الشِّفاء من العلل الماديَّة والمعنويَّة، غفران الذُّنوب والفوز بالجنَّة، التَّحقّق بمراتب الغنى الحقيقيّ والحفظ من الأعداء.
 
7 - لكي تتحقَّق صفة التَّقوى في الإنسان، ينبغي عليه أن يؤكِّد صفة الإيمان بالله وبالآخرة في قلبه.
 
8 - طلب العلم وتهذيب النَّفس وحملها على الانقياد للأوامر والنّواهي الإلهيَّة والاتِّباع الدَّقيق والحازم للأحكام الشرعيَّة، 
كلُّها أمور تساعد على ترسيخ ملكة التَّقوى في النَّفس وتمكينها أكثر فأكثر.
 
 

239

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 الدرس الثامن والعشرون:

الحياء وعلاقته بالسلوك


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يعرف معنى وحقيقة الحياء.
2- يبيّن العلاقة الَّتي تربط الحياء بالإيمان السوي.
3- يعدِّد أنواع الحياء ومراتبه المختلفة.
 
 
263 
 

240

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 مقدِّمة

جاء رجل إلى الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام فقال له: "أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية فعظني. فقال الحسين: افعل خمسة وافعل ما شئت.
 
قال الرَّجل: هات. قال الحسين عليه السلام: لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت. قال الرَّجل: كيف ومن أين آكل، وكل ما في الكون من رزقه. قال الحسين عليه السلام: اخرج من أرض الله وأذنب ما شئت.قال الرَّجل: كيف، ولا تخفى على الله خافية. قال الحسين عليه السلام: اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت. قال الرَّجل: هذه 
أعظم من تلك، فأين أسكن. قال الحسين عليه السلام: إذا جاءك ملك الموت فادفعه عن نفسك، وأذنب ما شئت. قال الرَّجل: هذا مُحال. قال الحسين عليه السلام: إذا أُدخلت النَّار فلا تدخل فيها، وأذنب ما شئت. فقال الرَّجل: حسبك، لن يراني الله بعد اليوم في معصية أبداً"[1].
 
حقيقة الحياء
الحياء: خُلُقٌ يبعثُ على فعل كلّ مليح وترك كلّ قبيح، فهو من صفات النَّفس المحمودة الَّتي تستلزم الانصراف عن القبائح وتركها، وهو من صفات النَّفس الفضلى وهو من خُلق الكرام وسمة أهل المروءة والفضل، وهو علامة تدلُّ على 
ما في النَّفس من الخير وهو إمارة صادقة على طبيعة الإنسان فيكشف عن مقدار بيانه وأدبه.
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ح 75، ص 126. (تحقيق: الغفّاريّ).
 
264

241

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 قال الشَّاعر:

ورُبَّ قبيحة ما حال بيني     وبين ركوبها إلَّا الحياء.
 
لذلك فعندما نرى إنساناً لا يكترث ولا يبالي فيما يبدر منه من مظهره، أو قوله، أو حركاته، يكون سبب ذلك قلّة حيائه, كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا لم تستح فافعل ما شئت"[1].
 
الحياء من الإيمان
الحياء من الأخلاق الرفيعة الَّتي أمر بها الإسلام وأقرَّها ورغَّب فيها: وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الحياء والإيمان قُرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"[2]. 
 
وفي حديث آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها لا إله إلّا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطَّريق والحياء شعبة من الإيمان"[3].
 
والسرُّ في كون الحياء من الإيمان: أنَّ كلّاً منهما داع إلى الخير، مُقرّب منه، صارفٌ عن الشَّرّ مُبِّعدٌ عنه، فالإيمان يبعث 
المؤمن على فعل الطَّاعات، وترك المعاصي والمنكرات. 
 
والحياء يمنع صاحبه من التَّفريط في حقِّ الرَّبّ والتَّقصير في شكره. ويمنع صاحبه كذلك من فعل القبيح أو قوله، اتِّقاء 
الذمِّ والملامة.
 
أنواع الحياء
1- الحياء من الله تعالى:
تجرُّؤ العبد على المعاصي واستخفافه بالأوامر والنَّواهي الشَّرعيَّة، يدلَّ على عدم حيائه من الله تعالى, وذلك لأنَّه لا يشعر بحضور الله ورؤيته له وعدم تقديره لخالقه
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 336. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[2] المتّقي الهنديّ، كنز العمال، ج 3، ص 110.
[3] م. ن، ج 1، ص 199.
 
265

242

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 العظيم. فالحياء من الله يكون باتِّباع الأوامر واجتناب النَّواهي. قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾[1]. وقال تعالى: ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[2]، ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[3].

 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "استحيوا من الله حقَّ الحياء. قال الصَّحابة: يا رسول الله إنَّا نستحي والحمد لله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: ليس ذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء فليحفظ 
الرَّأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء"[4].
 
فالمقصود أنَّ الحياء من الله يكون باتِّباع أوامر الله واجتناب نواهيه ومراقبة الله في السرِّ والعلن. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استح من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصَّالح من قومك"[5]. وهذا الحياء يُسمَّى حياء العبوديَّة الَّذي يصل بصاحبه إلى أعلى مراتب الدِّين وهي مرتبة الإحسان الَّذي يحسُّ فيها العبد دائماً بنظر الله إليه وأنَّه 
يراه في كلِّ حركاته وسكناته فيتزيَّن لربِّه بالطَّاعات. وهذا الحياء يجعله دائماً يشعر بأنَّ عبوديَّته قاصرة أمام ربّه، لعلمه أنَّ 
قدر ربّه وحقوقه أعلى وأجل. 
 
2- الحياء من الملائكة:
من المعلوم أنّ الله جعل لنا ملائكة يتعاقبون علينا باللَّيل والنَّهار. وهناك ملائكة يصاحبون أهل الطَّاعات، مثل: الخارج في طلب العلم، والمجتمعين على مجالس الذّكر، والزَّائر للمريض وغير ذلك.
 
وأيضاً هناك ملائكة لا يفارقوننا وهم الحفظة والكتبة: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ 
 
 
 

 
[1] سورة العلق، الآية 14.
[2] سورة الأنعام، الآية 91.
[3] سورة النساء، الآية 1.
[4] روضة الواعظين، الفتال النيسابوريّ، تحقيق: الخرسان، لا. ط، قم، منشورات الشّريف الرضّي، لا. ت، ص 461.
[5] م. ن، ص 460.
 
266

243

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 * كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾[1]. ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾[2].

 
لذا علينا أن نستحي من الملائكة وذلك بالبعد عن المعاصي والقبائح، والأفعال المذمومة المستقبحة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله ينهاكم عن التَّعرّي فاستحيوا من ملائكة الله الذَّين معكم الكرام الكاتبين، الذَّين لا يفارقوكم إلَّا عند إحدى ثلاث حاجات: الغائط والجنابة والغسل"[3].
 
3-  الحياء من النَّاس:
وهذا النَّوع من الحياء هو أساس مكارم الأخلاق ومنبع كلِّ فضيلة, لأنه يترتَّب عليه القول الطَّيَّب والفعل الحسن والعفِّة 
والنَّزاهة، فالإنسان الَّذي يستحي من النَّاس يأخذ أجر حيائه كاملاً, لأنّه استكمل الحياء من جميع جهاته، إذ ترتَّب عليه الكفُّ عن القبائح الَّتي لا يرضاها الدِّين والشَّرع ويذمُّه عليها الخلق. فهذا النَّوع من الحياء يجنّبه الوقوع في الملامة 
والمخاصمة مع النَّاس، مع ما يستتبع هذه المخاصمة من الأذى والضَّرر على النَّفس.
 
وقد يترك الإنسان القبائح والرَّذائل حياءً من النَّاس وإذا خلا من النَّاس لا يتحرَّج من فعلها، وهذا النَّوع من النَّاس عنده حياء، ولكنَّه حياءٌ ناقصٌ ضعيفٌ يحتاج إلى علاج وتذكير بعظمة ربِّه وجلاله، فهو أحقّ أن يستحى منه, لأنَّه القادر المطلق الَّذي بيده ملكوت كلِّ شيء الَّذي أسبغ عليه نعمه، فكيف يليق به أن يأكل من رزقه ويعصيه، ويعيش في أرضه وملكوته ولا يطيعه، ويستعمل عطاياه فيما لا يرضيه.
 
أمّا الَّذي يجاهر بالمعاصي ولا يستحي من الله ولا من النَّاس، فهذا من شرّ ما منيت به الفضيلة وانتهكت به العفَّة, لأنَّ 
التَّجاهر بالمعاصي داءٌ سريع الانتقال، لا يلبث أن يسري في النُّفوس الضَّعيفة.
 
 
 

 
[1] سورة الانفطار، الآيتان 10 و 11.
[2] سورة الزخرف، الآية 80.
[3] بحار الأنوار،  ج 56، ص 200. (تحقيق: البهبوديّ).
 
267

244

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 وقد كثرت مظاهر التَّجاهر في المجتمعات المسلمة، فالنِّساء تتبرّج في الأسواق وفي الحدائق العامَّة. تخرج المرأة مبدية الزِّينة 

بكلّ جرأة لم تُجلّ خالقاً، ولم تستح من مخلوق.
 
ومن مظاهر عدم الحياء الكثيرة في المجتمع: تحدُّث المرأة بما يقع بينها وبين زوجها من الأمور الخاصَّة وذمّ الزَّوج أحياناً، 
وكثرة التَّحدث مع الرَّجل الأجنبيّ الخارج عن مقدار الحاجة أو العمل.
 
ومن المظاهر تشبُّه النَّساء بالرجال في اللِّباس، وشكل الشَّعر، والمشية والحركة، وهذا فعل مستقبحٌ تأباه الفطرة السَّليمة، 
والذَّوق، والحياء، وحرّمه الشَّرع ونهى عنه.
 
4- الحياء من النَّفس:
وهو حياء النُّفوس العزيزة من أن ترضى لنفسها بالنَّقص أو تقنع بالدُّون، ويكون هذا الحياء بالعفَّة وصيانة الخلوات وحسن السَّريرة، فيجد العبد المؤمن نفسه تستحي من نفسه، حتَّى كأنَّ له نفسين تستحي إحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء. 
 
عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: "من عمل في السِّرّ عملاً يستحي منه في العلانية، فليس لنفسه عنده قَدْر"[1].
 
والحقيقة أنّ هناك نفساً أمّارة بالسُّوء تأمر صاحبها بالقبائح, قال تعالى على لسان امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ 
النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2].
 
والنَّفس الثَّانية هي النَّفس الأمّارة بالخير، النَّاهية عن القبائح، وهي النَّفس المطمئنة.
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار،  ج 75، ص 93. (تحقيق: الغفَّاريّ)
[2] سورة يوسف، الآية 53.
 
268

245

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[1].

 
إذاً فعلينا أن نجاهد أنفسنا فلا نجعلها تفكِّر في الحرام أصلاً, لأنّ مقدِّمة الوقوع في الحرام التَّفكير فيه، حتَّى تكون نفسنا 
من النُّفوس المطمئنة الَّتي تبشَّر بجنَّة عرضها السَّموات والأرض.
 
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[2].
 
 
 

 
[1] سورة الفجر، الآيات 27 - 30. 
[2] سورة العنكبوت، الآية 69.
269

246

الدَّرس الثامن والعشرون: الحياء وعلاقته بالسُّلوك

 المفاهيم الرئيسة

1- الحياء: خُلُقٌ يبعث على فعل كلّ مليح وترك كلّ قبيح.
 
2- السِّرُّ في كون الحياء من الإيمان: أنَّ كلّاً منهما داع إلى الخير، مُقرِّب منه صارف عن الشَّر مُبعِّد عنه.
 
3- من أنواع الحياء، الحياء من الله ويكون باتِّباع أوامر الله، واجتناب نواهيه، ومراقبة الله في السِّرِّ والعلن.
 
4- من أنواع الحياء، الحياء من الملائكة، الَّتي هي معنا دائماً، ولا تفارقنا إلَّا في بعض المواقع.
 
5- من أنواع الحياء، الحياء من النَّاس، الَّذي هو أساس مكارم الأخلاق ومنبع كلّ فضيلة, لأنّه يتَرتَّب عليه القول الطَّيِّب، والفعل الحسن، والعِفَّة، والنَّزاهة.
 
6- ومن أنواع الحياء، الحياء من النَّفس، وهو حياء النُّفوس العزيزة من أن ترضى لنفسها بالنَّقص، أو تقنع بالدُّون، ويكون هذا الحياء بالعِفَّة، وصيانة الخلوات وحسن السَّريرة.
 
 
270

247

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

الدَّرس التاسع والعشرون:
التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن معنى التَّوكُّل وبعدَه المعنويّ في بناء شخصيَّة الإنسان.
2- يعدّد الآثار المعنويّة والتَّربويّة المباشرة للتّوكُّل على حياة الإنسان.
3- يعرف كيفيَّة تحصيل التَّوكُّل وموقع الثِّقة بالله من ذلك.
 
 
271

248

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

 مقدِّمة

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطَّير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً"[1].
 
التَّوكُّل على الله يعني: انقطاع العبد في جميع ما يأمله من المخلوقين، والاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والإعراض عمّا سواه، وباعثه قوّة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، وتأثّره بالمخاوف والأوهام.
 
والتَّوكُّل هو من دلائل الإيمان، وسمات المؤمنين ومزاياهم الرَّفيعة، الباعثة على عزّة نفوسهم، وترفّعهم عن استعطاف المخلوقين.
 
التَّوكُّل في الكتاب والسُّنَّة
تواترت الآيات والرّوايات في مدح التَّوكُّل والحثّ عليه، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[2].
 
وصرّح القرآن الكريم بأنَّ الله تعالى يحبُّ المتوكّلين: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[3]. وأنّه من سمات وصفات المؤمنين قال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[4].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إنّ الغنى والعزَّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التَّوكُّل أوطنا"[5].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 151. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[2] سورة الطلاق، الآية 3.
[3] سورة آل عمران، الآية 159.
[4] سورة التوبة، الآية 51.
[5] أصول الكافي، ج 2، ص 65.
272

249

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

 وفي رواية أخرى عنه عليه السلام قال: "أوحى الله إلى داود عليه السلام: ما اعتصم بي عبدٌ من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثمّ تكيدُه السَّماوات والأرض، ومن فيهنّ، إلَّا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحدٍ من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، إلّا قطعت أسباب السَّماوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبالِ بأيّ وادٍ هلك"[1].

 
وقال عليه السلام: "من أعطي ثلاثاً، لم يمنع ثلاثاً: من أُعطي الدُّعاء أُعطي الإجابة، ومن أُعطي الشكر أُعطي الزيادة، ومن أُعطي التَّوكُّل أُعطي الكفاية"[2].
 
وعنه عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام كان فيما وعظ به لقمان ابنه أن قال له: يا بنيّ، ليعتبر 
من قصر يقينه وضعفت نيّته في طلب الرّزق، أنَّ الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال من أمره، وأتاه رزقه ولم 
يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، إنّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرّابعة، أمّا أوّل ذلك فإنّه كان 
في رحم أمّه يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حرّ ولا برد ثمّ أخرجه من ذلك، وأَجرى له رزقا من لبن 
أمّه يكفيه به، ويربّيه، وينعشه من غير حول به ولا قوّة، ثمّ فطم من ذلك فأجرى له رزقاً من كسب أبويه، برأفة 
ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتّى إنّهما يؤثرانه على أنفسهما في أحوال كثيرة، حتّى إذا كبر 
وعقل واكتسب لنفسه ضاق به أمره، وظنّ الظّنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة 
إقتار رزق، وسوء يقين بالخلف من الله، تبارك وتعالى ـ، في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بنيّ"[3].

 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 14، ص 41. (تحقيق: الربّانيّ الشيرازيّ).
[2] بحار الأنوار، ج 68، ص 129. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[3] بحار الأنوار، ج 13، ص 414. (تحقيق: الربّانيّ الشيرازيّ).
(*) في المجلد 68 من البحار وردت أنّ الثانية بالفتح: (أن) (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ), وفي الخصال: وردت إنّ الأولى وإنّ الثانية كلتاهما بالكسر: الخصال، الشيخ الصّدوق، تحقيق: الغفَّاريّ، قم المقدّسة، منشورات جماعة المدرِّسين 1403 - 1362ش، ص 122.
273

250

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

 كيفيّة التَّوكُّل

ليس معنى التَّوكُّل إغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضارّ، وأن يقف المرء إزاء الأحداث والأزمات مكتوف اليدين.
 
إنّما التَّوكُّل هو: الثِّقة بالله عزَّ وجلَّ، والركون إليه، والتَّوكُّل عليه دون غيره من سائر الخلق والأسباب، باعتبار أنّه تعالى 
هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وأنّه وحده المُصرّف لأمور العباد، والقادر على إنجاح غاياتهم ومآربهم.
 
فالاعتماد التَّامّ على الأسباب والوسائل وحدها، يعد نوع من الشِّرك الناتج عن ضعف الإيمان، والثِّقة بالله تعالى، ولا ينافي ذلك سعي الإنسان، والاستفادة من الأسباب الطَّبيعيَّة، والوسائل الظَّاهريَّة لتحقيق أهدافه ومصالحه كالتَّزوُّد للسَّفر، والعمل للكسب والربح والعيش والتَّوسعة على العيال، فهذه كلّها أسباب ضروريَّة لحماية الإنسان، وإنجاز مقاصده. وقد أبى الله عزَّ وجلَّ أن تجري الأمور إلّا بأسبابها، فلا بدّ من الأخذ بأسباب الحياة والالتزام بقوانينها، ثمّ نتوكّل على الله تعالى، ونطلب منه أن يمدّنا بالتَّوفيق والعناية والعطاء الغيبيّ.
 
بيْد أنّه يجب أن تكون الثِّقة والتَّوكُّل عليه تعالى، في إنجاح الغايات والمآرب مترافقة أيضاً مع التَّعقُّل والأخّذ بالأسباب الطَّبيعيَّة, وآية ذلك أنّ أعرابيَّاً أهمل عقل بعيره، متوكّلاً على الله في حفظه، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له: "أعقل وتوكّل"[1].
 
صور وأركان التَّوكُّل
سئل أبو الحسن الأوّل عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[2]. فقال عليه السلام: "التَّوكُّل على الله درجات، منها أن تتوكّل على الله في أمورك
 
 
 

 
[1] ابن أبي جمهور الاحسائيّ، عوالي اللآلي، تحقيق السيّد المرعشيّ الحاجّ العراقيّ، ط 1، قم، مطبعة سيّد الشهداء، 1403هـ 1983، ج 1، ص 75.
[2] سورة الطلاق، الآية 3.
274

251

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

 كلِّها، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكَّل على الله بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها وفي غيرها"[1].

 
النَّاس يتفاوتون في مدارج التَّوكُّل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم، فمنهم السبّاقون والمجلّون في مجالات التَّوكُّل، 
المنقطعون إلى الله تعالى، والمعرضون عمّن سواه، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، ومن دار في فَلكهم من الأولياء.
 
ومن أروع صور التَّوكُّل وأسماها ما رويّ عن نبيِّ الله إبراهيم عليه السلام حيث إنّه: "أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة عند نهر كُوثَى من قرية قطنَانَا، وأوقد النَّار فعجزوا عن رمي إبراهيم، فعمل لهم إبليس المنجنيق فرمي به فتلقّاه جبرئيل في الهواء فقال: هل لك من حاجة، فقال: أمّا إليك فلا حسبي الله ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النَّار فإنَّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد، وأتاه ملك الرِّيح فقال: لو شئت طيّرت النَّار، قال: لا أريد، فقال: جبرئيل فاسأل الله، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي"[2].
 
ويذكر الإمام الخمينيّ قدس سره في كتابه "الأربعون حديثاً" عند الحديث عن التَّوكُّل، أربعة أركان للتَّوكُّل وهي:
1- أنّ الحقّ تعالى عالمٌ بحاجات العباد.
2- أنّه تعالى قادرٌ على تلبية تلك الحاجات.
3- أنّه ليس في ذاته المقدّسة بخل.
4- أنّ الله رحيم بالعباد رؤوفٌ بهم[3].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 129. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[2] م.ن، ص 155 - 156.
[3] الإمام الخميني قدس سره الأربعون حديثاً، الحديث الثالث عشر، التَّوكُّل.
275

252

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

 آثار التَّوكُّل

للتوكُّل على الله تعالى آثار إيجابيّة عديدة منها:
1- الإقدام والقوّة:
بما أنّ المتوكِّل على الله يُعلِّق أمله بالقدرة المطلقة اللَّامتناهية، فإنّ أوّل أثر إيجابي يصيغه التَّوكُّل هو أن يثير في نفسه 
الشُّعور بالقوَّة، والنَّصر، والتَّغلُّب على المحن، والحوادث الكبيرة في حركة الحياة.
 
فعن الإمام الرضا عليه السلام: "من أراد أن يكون أقوى النَّاس فليتوكَّل على الله"[1].
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "كيف أخاف وأنت أملي وكيف أضام وأنت متّكلي"[2].
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "من توكَّل على الله لا يُغلب، ومن اعتصم بالله لا يُهزم"[3].
 
2- الشُّعور بالعزّة والكرامة والغنى:
عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إنَّ الغنى والعزّ يجولان فإذا ظفرا بموضع التَّوكُّل أوطنا"[4].
 
فمن يتوكَّل على الله يكون قد هيّأ الأرضيّة واستعدّ لفيض الله سبحانه، فهو الغنيُّ الّذي يُعطي الغنى، وهو العزيز الّذي يُعطي العزّة، فيُعطيهما لمن توكّل عليه ولم يتوكّل على غيره.
 
3- يُساعد العقل على التَّفكير:
 التَّوكُّل على الله يزيد من ذكاء الإنسان وقدرة الذهن على التَّفكير، ويفتح آفاقه المعرفيّة، فيرى الأشياء بوضوح, لأنَّ التَّوكُّل يُشعر الإنسان بالاطمئنان ويُبعد عنه القلق والاضطراب. ومع الطُّمأنينة النَّفسيّة يكون الحكم العقليّ الهادئ. عن الإمام علي عليه السلام أنَّه قال: "من توكَّل على الله أضاءت له الشُّبهات وكُفي المؤونات وأمن التَّبعات"[5].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 143.
[2] م. ن، ج 91، ص 229. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[3] م. ن، ج 68، ص 151.
[4] م. ن، ج 68، ص 143.
[5] الليثي الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ،  تحقيق: البيرجندي، ط 1، لا. م. دار الحديث، لا. ت، ص 463.
276

253

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

 4- الراحة والسُّرور:

من الآثار الإيجابيَّة والمهمّة للتَّوكُّل أنَّه يورث الإنسان الرَوْح والرَّاحة في الدُّنيا والآخرة. فعن الإمام عليّ عليه السلام قال: "الاتّكال على الله أروح"[1].
 
5- الكفاية والرِّزق:
من بركات التَّوكُّل وآثاره الطيّبة أنَّه سبب أيضاً لكفاية الرِّزق، قال الله تعالى:﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[2].
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من توكَّل على الله كفاه مؤنته ورزقه من حيث لا يحتسب"[3]. 
 
كيف تكسب التَّوكُّل؟
من الأمور والعوامل المساعدة للتَّحلِّي بصفة التَّوكُّل:
1- الاستفادة من المفاهيم والمعاني العالية للتَّوكُّل الواردة في الآيات، والأخبار النَّاطقة بفضله وجميل أثره في كسب الطُّمأنينة والسُّكون.
 
2- تقوية الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، والثِّقة بحُسن صنعه، وحكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولطفه، وأنَّه هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وهو على كلّ شيء قدير وبكلِّ شيء عليم.
 
3- التَّنبُّه إلى جميل صنع الله تعالى، وسموِّ عنايته بالإنسان في جميع أطواره وشؤونه، من لدن كان جنيناً حتَّى آخر الحياة، وأنّ من توكَّل عليه كفاه، ومن استنجده أنجده وأغاثه.
 
4- الاعتبار بتطوّر ظروف الحياة، وتداول الأيّام بين النَّاس، فكم من فقير صار غنيّاً، وغنيٍّ صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلِّطاً.
 
5- وهكذا يجدر التَّنبُّه إلى عظمة القدرة الإلهيَّة في بسط أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم، ونحو ذلك من العبر والعظات الدَّالَّة على قدرة الله عزَّ وجلَّ، وأنَّه وحده هو الجدير بالثِّقة، والتَّوكُّل والاعتماد دون سواه.
 
 
 

 
[1] عيون الحكم والمواعظ، ص 409.
[2] سورة الطلاق،الآية 3.
[3] كنز العمّال، ج 3، ص 103.
277

254

الدَّرس التاسع والعشرون: التَّوكُّل على الله وأثره التربويّ

 المفاهيم الرئيسة

 
1- التَّوكُّل هو: الثِّقة بالله عزَّ وجلَّ، والرُّكون إليه، والاعتماد عليه دون غيره من سائر الخلق والأسباب، باعتبار أنَّه تعالى هو مصدر الخير، ومسبّب الأسباب، وأنَّه وحده المصرِّف لأمور العباد، والقادر على إنجاح غاياتهم ومآربهم.
 
2- إنَّ الباعث الأساسسيّ للتَّوكُّل في النَّفس، هما الإيمان بالله وقوَّة اليقين. 
 
3- من أركان التَّوكُّل ما يذكره الإمام الخمينيّ قدس سره:
- معرفة أنَّ الحقّ تعالى عالم بحاجات العباد.
- وأنَّه تعالى قادر على تلبية تلك الحاجات.
- وأنَّه ليس في ذاته المقدَّسة بخل.
- وأنَّ الله رحيم بالعباد رؤوف بهم.
 
4- يتفاوت النَّاس في مدارج التَّوكُّل تفاوتاً كبيراً، كتفاوتهم في درجات إيمانهم، فمنهم السَّبّاقون في مجالات التَّوكُّل، 
المنقطعون إلى الله تعالى، والمعرضون عمّن سواه، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام.
 
5- نكسب التَّوكُّل بالاستفادة من المفاهيم والمعاني العالية للتَّوكّل، الواردة في الآيات والأخبار النَّاطقة بفضله وجميل 
أثره في كسب الطُّمأنينة.
 
6- للتَّوكُّل آثار طيِّبية عديدة منها أنَّه مدعاة للقوَّة والإقدام، والرَّاحة والسُّرور، والشُّعور بالعزَّة والكرامة، بالإضافة إلى 
أنَّه عامل أساسيّ في كفاية الرِّزق وسعته أيضاً.
 
278

255

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 الدرس الثلاثون:

لماذا الوحشة من الموت


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن معنى الموت وحقيقته.
2- يشرح علّة الخوف من الموت وأهمِّ أسبابه.
3  يذكر كيفيَّة معالجة هذه الآفة وسبل التَّوعية.
 
279
 
 

256

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 ما هو الموت؟

هو آخر أيَّام الدُّنيا وأوَّل منازل الآخرة، وهو بمثابة القنطرة الَّتي يعبر عبرها الإنسان من مكان إلى آخر، والموت هو هذه القنطرة الَّتي يعبر من خلالها الإنسان من عالم الدُّنيا إلى عالم الآخرة.
 
إلى عالم لا زيف فيه حيث تبدو كلُّ الحقائق ماثلةً أمام العين، وهو ارتقاء لمرحلة أقوى وأشدّ حياة من الحياة الدُّنيويَّة الماديَّة.
 
الموت في الأحاديث الشَّريفة
وصفت الرّوايات الشَّريفة الموت بالعديد من الأوصاف، منها:
1- الجسر:
فقد وصف النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الموت بقوله: "الدُّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنّاتهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"[1]. فحريَّة المؤمن في التَّخلُّص من قيود الدُّنيا وأسرها، لعالم القرب من الله تعالى، وكلُّ ما في الدُّنيا بالنِّسبة له بلاء وامتحان, ولذلك كانت سجناً كبيراً. أمَّا بالنِّسبة للكافر فالدُّنيا هي الجنَّة, لأنَّه لم يعش فيها بهمٍّ سواها، ولم يكن يعمل لذلك اليوم، الَّذي هو أحوج ما يكون فيه لِمَا استغلَّه في دنياه الَّتي ذهبت إلى غير رجعة، ولاتَ حين مندم.
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 44، ص 297. (تحقيق: البهبوديّ).
280

257

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 2- القنطرة:

وتحدَّث الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام عن الموت فقال: "ما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم من البؤس والضَّرَاء إلى الجنان الواسعة، والنَّعيم الدَّائم، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر"[1]. فهو ليس بالنِّهاية، بل هو البداية للعالم الآخر، العالم الَّذي تتجلَّى فيه كلُّ الحقائق الَّتي لم نكن ندركها بالحواسّ المحدودة في إطار المادَّة، فهناك العالم الأرحب, ولذا شبَّهها عليه السلام بالقصر.
 
3- النَّوم الطَّويل:
 سئل الإمام الباقر عليه السلام: ما الموت؟ قال: "هو النَّوم الذي يأتيكم كلَّ ليلة إلّا أنّه طويل مدَّته، لا يُنتبه منه إلى يوم القيامة..."[2].
 
الموت سنَّةٌ عامَّةٌ في الخلق
قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾[3]. وقال تعالى في آية أخرى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ 
ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾[4].
 
الموت الحقيقة الحتميَّة الَّتي لا مفرَّ منها لأحد، مهما علا شأنه في الدُّنيا، فالبشر يموتون حتَّى الأنبياء منهم، ولو كان الخلد يحقُّ لأحد لفضل استحقَّه، لكان الأنبياء صلوات الله عليهم أحقَّ النَّاس بالخلد، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام بقوله: "ولو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سُلَّماً، أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السلام، الَّذي سُخِّر له ملك الجنِّ والإنس".

 
 

 
[1] معاني الأخبار، ص 289.
[2] م. ن، ص 289.
[3] سورة الأنبياء، الآية: 34.
[4] سورة آل عمران، الآية: 185.
281

258

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

الموت مرحلة
الموت هو المرحلة الثَّالثة من أربع مراحلَ جعل الله سبحانه وتعالى الإنسان على ميعادٍ معها:
المرحلة الأولى: حياة الأجنَّة، إذ يكون الجنين في عالم الأرحام.
المرحلة الثَّانية: هي مرحلة هذه الحياة الدُّنيا، الَّتي نتقلَّب في غمارها ونُبتلى فيها، وهي الفرصة السَّانحة لنا للتَّزوُّد فيها 
لسفر الآخرة الطَّويل والشَّاقّ.
المرحلة الثَّالثة: هي الحياة البرزخيَّة، الَّتي نحن على ميعادٍ معها عمَّا قريب.
المرحلة الرَّابعة والأخيرة: هي مرحلة الحياة الآخرة.
 
وكلُّ مرحلة من هذه المراحل الأربع أوسع من المرحلة الَّتي قبلها، فمرحلة الحياة الدُّنيا أوسع بكثير من تلك المرحلة الَّتي 
كنَّا نتقلَّب فيها حينما كنَّا في عالم الأرحام، ومرحلة الحياة البرزخيَّة هي أوسعُ بكثيرٍ وأقوى من هذه الحياة الَّتي نتقلَّب 
فيها اليوم. 
 
ما هي حقيقة الموت؟
أكّد الله تعالى في القرآن الكريم، في أكثر من موضع، أنَّ الموت ليسَ عدما، وإنَّما هو انتقال من الحياة الدُّنيويَّة هذه إلى 
الحياة البرزخيَّة التي تفصل ما بين الحياة الدُّنيا والحياة الآخرة. ولمّا كان الموت فيما أخبر عنه القرآن الكريم انفصالَ الرُّوح 
عن الجسد، فإنَّ كلَّ ما نراه من أمور عند موت الإنسان، كسكون القلب، وغياب الإحساس،... هذه الأمور وأمثالها 
ليست هي جوهر الموت، وإنَّما هي من عوارضه وآثاره.
 
وقد يؤمن أناس بأنَّ الموت هو انتهاء من الحياة إلى العدم، فأصبحت كلمة "العدم" تعبيراً عن الموت عندهم، ولكنَّ الموت، - كما أخبرَنا عنه "خالق الموت والحياة عزّ وجلّ" -، ليس عدَما، بل هو انتقال الكائن الحَيِّ من هذه الحياة الدُّنيا إلى حياة البرزخ.. ومن ثَمَّ لِما أعدّه الله له من نعيم القبر أو عذابه. يقول الإمام أمير المؤمنين
 
282

259

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: "أيّها النَّاس، إنّا خلقنا وإيّاكم للبقاء، لا للفناء لكنَّكم من دار إلى دار تنقلون"[1].

 
نعم أغلب النَّاس يتصوَّرون أنّ الموت أمر عدميٌّ ومعناه الفناء، إلّا أنّ هذه النَّظرة لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدَّلائل العقليَّة ولا توافقها أبداً.
 
أمَّا بمنطق القرآن فالموت أمر وجوديّ وليس عدميّاً، وهو إنتقال وعبور من عالم إلى آخر, ولذلك عُبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ "تُوفّي" ويعني تسلُّم الرُّوح واستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.
 
والتَّعبير في الآيات القرآنية ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾[2] هو إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، وقد جاء في بعض الآيات التَّعبير عن الموت بالخلق: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾[3].
 
وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلاميَّة، ففي رواية أنّ الإمام عليَّ بن الحسين سئل: ما الموت؟ فقال عليه السلام: "للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكِّ قيود وأغلال ثقيلة والاستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطىء* المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنَّقل عن منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثِّياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب"[4].
 
وفي حديث آخر عن الإمام الصَّادق عليه السلام عندما طلب شخص منه أن يوصِّف له الموت فقال الإمام عليه السلام: "للمؤمن كأطيب ريح يشمُّه فينعس لطيبه، وينقطع التَّعب والألم كلُّه عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشدّ"![5].
 
 
 

 
[1] المفيد، الإرشاد، ج 1، تحقيق: مؤسَّسة آل البيت، ط 2، بيروت لبنان، دار المفيد، 1414هـ 1993م، ص 238.
[2] سورة ق، الآية 19.
[3] سورة الملك، الآية 2.
(*) كذا في المصدر، ولعلّ الصحيح: "وأوطأ".
[4] بحار الأنوار، ج 6، ص 155 (تحقيق: العابديّ، مؤسَّسة الوفاء).
[5] الصَّدوق، معاني الأخبار، تحقيق: الغفَّاريّ، قم المشرَّفة، مؤسَّسة النَّشر الإسلاميّ، 1379هـ.ق 1338ش، ص 287, باب معنى الموت.
283

260

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 وقد بيّن الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه حقيقة الموت، يوم عاشوراء، عند اشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ

فقال عليه السلام: "صبراً بني الكرام، فما الموت إلّا قنطرة، تعبر بكم عن البؤس والضَّرّاء إلى الجنان الواسعة، 
والنِّعم الدائمة، فأيُّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر. وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب, إنّ أبي حدّثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ الدُّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنَّانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم"[1].
 
لماذا يستوحش الإنسان من الموت؟
إنَّ الإنسان محبٌّ للبقاء، وهذا ميلٌ طبيعيٌّ فيه، ويعبِّر عن ذلك بغريزة حبِّ البقاء، والنَّاس في الحياة الدُّنيا إزاء الموت 
على قسمين: 
الأوَّل: يستوحش منه لأنَّ كواهلهم مثقلة بعظائم الذُّنوب، فإذا فوجئوا بالموت، يلجؤون إلى التَّوبة والإنابة، ويندمون، 
ولكن لاتَ ساعة مندم.
 
الثَّاني: يشتاقون إلى الموت ويتلقَّونه بصدورٍ رحبةٍ، ووجوهٍ مشرقةٍ، وهؤلاء هم الأنبياء والأولياء والعلماء والشُّهداء، ومن 
كان يعمل صالحاً في حياته الدُّنيا من سائر المؤمنين.
 
فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يقول في أواخر لحظات حياته: "والله ما فاجأني من الموت واردٌ كرهته، ولا طالعٌ 
أنكرته، وما كنت إلّا كقاربٍ وَرَدَ، وطالبٍ وَجَدَ، وما عند الله خير للأبرار"[2].
 
ويقول عليه السلام: "والله، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطِّفل بثدي أمّه"[3]. 
 
 
 

 
[1] معاني الأخبار الصَّدوق، ص 259.
[2] نهج البلاغة، تحقيق: الصّالح، ط 1، بيروت، لا.ن، 1387هـ.ق 1967م، ص 378, باب: رسائل أمير المؤمنين، الرّسالة 23.
[3] م.ن، ص 53، باب: خطب أمير المؤمنين: الخطبة 5.
284

261

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 وللخوف من الموت عوامل وأسباب عديدة نذكر بعضها وهي:

1- ضعف الإيمان: إنّ السَّبب الأساسيَّ وراء هذا الخوف هو عدم إيمان هؤلاء بالحياة بعد الموت، أو إذا كانوا مؤمنين بذلك، فإنّهم لم يصدّقوا به تصديقاً حقيقيّاً، ولم يتمكّن من جميع أفكارهم وإحساساتهم ومشاعرهم.
 
إنّ خوف الإنسان من العدم شيء طبيعيّ، بل إنّ الإنسان يخاف من ظلمة اللّيل التي هي عدم النُّور، وأحياناً يصل بالإنسان الخوف إلى أنّه يخاف من الميِّت.
 
ولكن إذا صدَّقت النّفس أنّ "الدُّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر"[1]، وإذا أيقنت هذه النَّفس أنّ هذا البدن التُّرابيَّ إنّما 
هو سجن للرُّوح، وسور يضرب الحصار عليها، إذا آمنت بذلك حقّاً وكانت نظرة الإنسان إلى الموت هكذا، فإنّه سوف لن يخشى الموت أبداً، في نفس الوقت الَّذي يعتزّ بالحياة من أجل الارتقاء في سلّم التَّكامل.
 
لهذا نجد في قصّة عاشوراء: أنّه كلّما ضاقت حلقة الأعداء وازداد ضغطهم على الإمام الحسين وأصحابه ازدادت وجوههم إشراقاً، حتّى إنَّ الشُّيوخ من أصحابه كانت الابتسامة تطفو على وجوههم في صبيحة عاشوراء، وحينما كانوا يسألون يقولون: إنّنا سنستشهد بعد ساعات "فنعانق الحور العين"[2].
 
2- التّعلّق بالدُّنيا: السبب الآخر الَّذي يجعل الإنسان يخاف من الموت، هو التَّعلُّق بالدُّنيا أكثر من اللَّازم, الأمر الَّذي يجعله يرى الموت الشَّيء الَّذي يفصله عن محبوبه ومعشوقه، الَّذي هو الدُّنيا. ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال: "ألك مال"؟ قال: نعم. قال: "فقدّمه" قال: لا أستطيع. قال: "فإنّ قلب الرَّجل مع ماله، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه"[3].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 44، ص 298.
[2] م. ن، ج 45، ص 93. (تحقيق: البهبوديّ).
[3] الشيخ الطبرسيّ، تفسير مجمع البيان: ج 8، تحقيق: لجنة من العلماء، ط 1، بيروت لبنان، الأعلمي، 1415هـ 1995م، ص 253.
285

262

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 3- الذُّنوب والمعاصي: إنَّ كثرة السَّيِّئات وقلّة الحسنات في صحيفة الأعمال، هي السَّبب الثَّالث وراء الخوف من الموت, فقد جاء أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا رسول الله، ما بالي لا أحبّ الموت؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لك مال"؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "قد قدّمته"؟ قال: لا. قال: "فمن ثمّة لا تحبَّ الموت"[1] (لأنّ صحيفة أعمالك خالية من الحسنات). وجاء رجل آخر وسأل (أبا ذرّ) نفس السُّؤال

فأجابه أبو ذرّ قائلاً: "لأنّكم عمّرتم الدُّنيا وخرّبتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب"[2].
 
ينبغي التَّهيُّؤ لساعة الموت
اقتضت الحكمة الإلهيَّة أن يجهل النَّاس زمان ومكان موتهم. يقول سبحانه ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾[3]. ولعلَّ الحكمة في ذلك، أن يكون الإنسان على استعداد لاستقبال الموت في أيِّ وقت جاء، وهو على طاعة الله. ولو
علم الإنسان بزمن موته، فإنَّ ذلك يشجّعه على الفجور والعصيان، متَّكلاً على التَّوبة والإنابة والتَّسويف، قبل مدّة من 
حلول أجله.
 
والأسباب الأنفة الذِّكر حول الخوف من العدم، والجهل بالموت، وخوف العقاب، وغيرها من العوامل، عالجها الإسلام حيث أحيا في القلوب الإيمان باليوم بالله واليوم الآخر، وبذلك أبعد شبح الفناء والعدم من الأذهان، وبيّنَ أن الموت 
انتقال إلى حياة أبديَّة خالدة مُنَعَّمة. 
 
إذاً لعلاج مشكلة الخوف من الموت ينبغي أوّلاً أن نصحّح نظرتنا إلى الموت، ومن جهة أخرى دعا الإسلام إلى العمل الصَّالح والابتعاد عن عصيان الله تعالى، كي يبتعد
 
 
 

 
[1] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء: ج 8، ح 8، تحقيق: الغفّاريّ، ط 2، قم دفتر إنتشارات إسلامي، ص 258.
[2] م. ن، ص 258.
[3] سورة لقمان، الآية: 34.
286

263

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 الإنسان عن الخوف من العقاب. 

 
ومن هنا نعرف سرَّ شغف الإمام عليّ عليه السلام بالموت فهو عارف بحقيقة الموت وما بعده، وهو المطيع لله الَّذي لم 
يعص الله تعالى طرفة عين أبداً، وهو الشَّهيد بل شهيد المحراب الَّذي ضرَّج بدمائه الطَّاهرة وهو بين يدي الله يصلّي، 
ولذلك قال حين ضربه اللَّعين ابن ملجم: "فزت وربِّ الكعبة".
 
الموت إذا ليس فناء بل هو انتقال من دار إلى دار، وعلى الإنسان النَّبيه والفطن أن يحضّر ويجهّز بشكل جيّد للدَّار الَّتي 
سوف ينتقل إليها، حتَّى يهنأ ويسعد بنقلته، فكيف إذا كنت هذه النَّقلة سوف تحدّد وجهة الإنسان إلى الجنَّة أو إلى 
النَّار. 
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الموت الموت. ألا ولا بدَّ من الموت، جاء الموت بما فيه، جاء بالرَوْح والرَّاحة والكَرَّة المباركة إلى جنَّة عالية لأهل دار الخلود، الَّذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم، وجاء الموت بما فيه بالشَّقوة والنَّدامة وبالكَرَّة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور، الَّذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم"[1]. 
 
لذا يوصي الإمام عليّ عليه السلام بضرورة الاستعداد للموت: "وبادِروا الموت وغمراته، وامْهَدُوا له قبل حلوله، وأَعدُوّا له قبل نزوله"[2]. 
 
الإنسان الحكيم والخائف على نفسه ومصيره، لا يمكن أن يغمض عينيه عن الأمور الخطيرة والمصيريَّة المحيطة به، وأنْ 
يضع رأسه في التُّراب كما تفعل النعامة ظنّاً منها أنَّها بهذه الحالة لن يتمكَّن الذِّئب الآتي إليها أن يفترسها! فالموت مهما 
غفل عنه الإنسان وظنَّه أمراً بعيد المنال، فإنَّه عاجلاً أم آجلاً سوف يأتي ليفترسه من حيث لا يحتسب ولا يتوقَّع.
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وما بين أحدكم وبين الجنَّة أو النَّار إلّا الموت أن ينزل به، وإنَّ غاية تنقصها اللَّحظة، وتهدمها السَّاعة، لجديرة بقصر المدَّة، و إنّ غائباً 

 
 

 
[1] الكافي، ج 3، ص 257 - 258. 
[2] نهج البلاغة، تحقيق: الصَّالح، ص 281, الخطبة 190.
287

264

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 يحدوه الجديدان: اللَّيل والنَّهار، لحريّ بسرعة الأوبة، وإنّ قادماً يقدم بالفوز أو الشَّقوة لمستحقٌّ لأفضل العدَّة، فتزوَّدوا في الدُّنيا من الدُّنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً"[1]. فإذا كان الموت هكذا بهذه الخطورة والمصيريَّة 

فينبغي علينا أن نتهيَّأ لتلك السَّاعة الَّتي لا مفرَّ منها لأيِّ أحد، وأن لا نغفل عنها لحظة واحدة. وكيف يمكن أن يغفل 
الإنسان عن حقيقة صارخة كالموت؟! لذا يسأل أمير المؤمنين عليه السلام متعجِّباً من حال النَّاس كيف ينسَوْن الآخرة 
ولا يتهيَّؤُون لها: "وكيف غفلتكم عما ليس يُغفلِكم، وطمعكم فيمن ليس يُمهِلكم. فكفى واعظا بموتى عاينتموهم..."[2].

 
 

 
[1] نهج البلاغة، ص 95, الخطبة 64. 
[2] م. ن، ص 278, الخطبة 188.
 
288

265

الدَّرس الثلاثون: لماذا الوحشة من الموت

 المفاهيم الرئيسة

1- الموت آخر أيَّام الدنيا وأوَّل منازل الآخرة، وهو بمثابة القنطرة الَّتي يعبر عبرها الإنسان من مكان إلى آخر.
 
2- وصفت الرّوايات الشَّريفة الموت بالعديد من الأوصاف، منها, الجسر، القنطرة، النَّوم الطَّويل...
 
3- الموت الحقيقة الحتميَّة الَّتي لا مفرَّ منها لأحد، مهما علا شأنه في الدُّنيا، فالبشر يموتون حتَّى الأنبياء منهم.
 
4- الموت ليسَ عدما، وإنَّما هو انتقال من الحياة الدُّنيويَّة هذه إلى الحياة البرزخيَّة الَّتي تفصل ما بين الحياة الدُّنيا والحياة 
الآخرة.
 
5- أغلب النَّاس يتصوّرون أنّ الموت معناه الفناء، إلّا أنّ هذا التَّصوُّر لا ينسجم مع ما ورد في القرآن المجيد، وما تدلّ عليه الدَّلائل العقليَّة ولا توافقها أبداً.
 
6- هناك عوامل وأسباب عديدة للخوف من الموت منها, ضعف الإيمان في النَّفس، التعلُّق بالدُّنيا والذُّنوب والمعاصي.
 
7- والأسباب الأنفة الذِّكر حول الخوف من الموت عالجها الإسلام، وأبعد شبح الفناء والعدم من الأذهان، وبيّن أن 
الموت انتقال إلى حياة أبديَّة خالدة منعَّمة.
 
8- يوصي الإمام عليّ عليه السلام بضرورة الاستعداد للموت بالقول: "وبادروا الموت وغمراته، وامهَدُوا له قبل حلوله، وأعدُوّا له قبل نزوله"[1].
 
 
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة، الخطبة 190.
 
289

266

المحور الثاني: معرفة الثَّقلَيْن

 المحور الثاني:

معرفة الثَّقلَيْن
 

موضوعات المحور
31- معرفة القرآن الكريم.
32- معرفة أهل البيت عليهم السلام وعلاقتها بالعقيدة والإيمان.
33- كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشيف.
 
291

267

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 الدرس الواحد والثلاثون:

معرفة القرآن الكريم


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيِّن عظمة القرآن ومنزلته في الإسلام.
2- يعدّد أهمَّ الآثار الطيِّبة للتَّمسُّك بالقرآن الكريم.
3- يشرح كيفيَّة التَّمسُّك الصَّحيح بالقرآن الكريم.
 
293

268

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 أعظم نعمة في الوجود

يقول الله تعالى في كتابه الكريم ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ 
أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[1]. إن كلمة (أقوم) صيغة تفضيل بمعنى الأكثر ثباتاً واستقامة واعتدالاً. فالقران الكريم كذلك من جميع الجوانب، أي: في كلِّ الوجود والحياة وكافَّة القضايا, لذلك هو من أعظم النِّعم على البشريَّة الَّتي لو قضى الإنسان عمره كاملاً في سجدة واحدة ما أمكنه أن يؤدِّي حقَّ هذه العطية الإلهيَّة الخالدة، وهو الميزان الَّذي على وفاقه البشرى 
والجنَّة، وعلى شقاقه الخسران والنَّار.
 
فضل القرآن ومنزلته
لقد أرسل الله تعالى الأنبياء عليهم السلام لهداية البشريَّة إلى سواء السَّبيل، وأنزل على بعضهم كتباً لتكون منارات يستهدي بها النَّاس، ولكن للأسف حَرَّف النَّاس كتب الله تعالى، كما في التَّوراة والإنجيل، وبذلك انحرفوا عن الصِّراط 
المستقيم ووقعوا في ضلال مبين.
 
إلى أن أرسل الله تعالى نبيَّه الكريم محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم ليرجع النَّاس إلى طريق الله، ويزيلهم عن الانحراف، وينير لهم الطَّريق، فأنزل على قلبه الكتاب الكريم القرآن المجيد وحفظه تعالى من التَّحريف: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا 
لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[2].


 

 
[1] سورة الإسراء، الآية: 9.
[2] سورة الحجر، الآية 9.
294

269

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 فكان الهادي والمبين والموعظة والمنير لطريق السَّالكين إلى الله تعالى، فهو الكتاب السَّماويّ الوحيد الَّذي لم تمسُّه يد التَّحريف. يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[1].

 
﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾[2]. ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾[3]. 
 
وحسب القرآن عظمة وكفاه منزلة وفخراً وفضلاً أنّه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيّه الكريم، وأنّ آياته هي المتكفّلة بهداية 
البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم، وفي جميع أجيالهم وأدوارهم، وهي الضَّامنة لهم بنيل الغاية القصوى والسَّعادة الكبرى 
في العاجل والآجل.
 
هو كلام الله و "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه"، وهو وصيّة الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم الأولى والثقَل الأكبر الَّذي خلَّفه قائلاً: "إنّي تارك فيكم الثَّقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلُّوا ما إن تمسّكتم بهما، وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا علَيَّ الحوض"[4].
 
يصف الإمام عليّ عليه السلام كتاب الله ويبيّن منزلته حين يقول: "ثمّ أنزل عليه الكتابَ نوراً لا تُطفأ مصابيحُه، وسراجاً لا يخبو توقُّدُه، وبحراً لا يدركُ قعرُه، ومنهاجاً لا يُضِلّ نهجُه، وشعاعاً لا يُظِلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمدُ بُرهانُه، 
وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاءً لا تُخشى أسقامُه، وعزّاً لا تُهزَم أنصارُه، وحقّاً لا تُخذَلُ أعوانُه.
 
فهو معدِن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه، 
وبحرٌ لا ينَزْفَه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضلّ نهجَها المسافرون،
 
 
 

 
[1] سورة الإسراء، الآية 9.
[2] سورة إبراهيم، الآية 1.
[3] سورة آل عمران، الآية 138.
[4] الحديث متواتر رواه خمسة وثلاثون صحابياً (راجع مصادره في خلاصة عبقات الأنوار الجزء الأول والثاني), خلاصته عبقات الأنوار، السيّد حامد التّزيّ، لا. ط، طهران، مؤسَّسة البعثة، 405هـ - ق. (*)  الثَّقَل: الشيء النَّفيس الخطير.
295

270

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

وأعلامٌ لا يعمى عنها السَّائرون، وآكامٌ لا يجوز عنها القاصدون. جعله الله ريَّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، 
ومحاجَّ‏َ لطرق الصُّلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزّاً لمن
تولّاه، وسُلَّماً لمن دخله، وهدىً لمن ائتمَّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجَّ به، وحاملاً لمن حمله، ومِطيَّة لمن أعمله، وآيةً لمن توسَّم، وجُنَّة لمن استلأم، وعِلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى وحكماً لمن قضى..."[1].
 
آثار التَّمسُّك بالقرآن
القرآن الكريم كلام الله وللتَّمسُّك بكلامه آثار عدّة منها:
1- الهداية من كلِّ ضلالة: القرآن الكريم مظهر هداية الله، وسرُّ النَّجاة من الضَّلالة: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[2]). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله 
وسلم: "إني تارك فيكم الثَّقلين ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلُّوا كتاب الله وعترتي أَهل بيتي وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض"[3]. 
 
2- الارتقاء في مراتب الآخرة: كلُّ آيةٍ من آيات القرآن الكريم تمثِّلُ درجةً من درجات الجنَّة، وكلَّما تحقَّقَ الإنسانُ بآيةٍ من آيات الكتاب الإلهيّ، كلَّما ارتقى في مراتب الجنَّة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عدد درج الجنَّة عدد آيات القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنَّة قيل له, اقرأ وارق لكلِّ آية درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة"[4].
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة، ص 315 - 316, الخطبة 198، تحقيق: الصَّالح أحد الأحجار الثّلاثة بحبوحته: وسطه، وأثافيّ: جمع أُثفيّة، وهي ما يوضع عليه القِدْر، فالمراد أنه قواعد الإسلام وبنيانه. غيطانه: المستقرُّ من الأرض. الماتحون: الَّذين ينزحون الماء من البئر أو العين. لا يغيضها: لا ينضبها، غيض الماء: جفّ ونضب. معقلاً: ملجأ، ذروته: أعاليه. فلَجاً: الفلَج هو الظَّفَر والغلبة، استلأم: لبس اللَّأمة، أي: الدِّرع، والجُنّة: الوقاية، فهو وقاء لمن أراد أن يدّرع ليقي نفسه الأخطار.
[2] سورة الإسراء، الآية 9.
[3] وسائل الشيعة، ج27، ص34.
[4] الميرزا النّوريّ الطبرسيّ، مستدرك الوسائل،  ج 4، تحقيق: مؤسَّسة آل البيت، لا. ط، بيروت، مؤسَّسة آل البيت، ص 231.
296

271

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 3- الشِّفاءُ: القرآن هو الشَّافي الحقيقيُّ لأمراض النُّفوس المزيل لأمراض القلوب، وهو إكسيرُ السَّعادة في الدَّارين. فمن أراد أنْ يطهر باطنه من الأمراض والرَّذائل الأخلاقيَّة والذُّنوب المماحقة فما عليه سوى التَّمسُّك بهذا النُّور الإلهيّ. قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾[1]. وعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له قال: "واعلموا أنَّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى, فاستشفوه من أَدوائكم واستعينوا به على لأوائكم, فإنَّ فيه شفاء من أكبر الدَّاء وهو الكفر والنِّفاق والغيّ والضَّلال"[2]. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "وتعلَّموا القرآن, فإنَّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره, فإنَّه شفاء الصُّدور"[3].

 
4- حملته يحشرون مع الأنبياء عليهم السلام: من كرامة الله على حامل القرآن أنْ يرزقه ثوابَ الأنبياء ويحشرهَ معهم, فعن النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنَّ أَكرم العباد إلى الله بعد الأنبياء العلماء، ثمَّ حملةُ القرآن يخرجون من الدُّنيا كما يخرج الأنبياء، ويُحشرون من قبورهم مع الأنبياء، ويمرُّون على الصِّراط مع الأنبياء، ويأخذون ثواب الأنبياء، فطوبى لطالب العلم وحامل القرآن ممَّا لهم عند الله من الكرامة والشَّرف"[4]. 
 
5- النَّجاة من العذاب: لأنّ الله تعالى لا يعذِّبُ من تلبَّسَ برداء القرآن ظاهراً وباطناً, لأنَّه صار مظهراً للقرآن خَلقا
 وخُلقا, ولأنّ القرآن هو الجنَّة نفسها. فعن النَّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "اقرؤوا القرآن واستظهروه, فإنَّ الله تعالى لا يعذِّب قلباً وعى القرآن"[5].
 
 
 

 
[1] سورة الإسراء، الآية: 82.
[2] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، ج 15، لا. ط، قم، لا. ن، 1409هـ 1367م، ص 63.
[3] وسائل الشيعة، ج 6، ص167.
[4] مستدرك الوسائل، ج4، ص244.
[5] م. ن، ج4، ص245.
 
297

272

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 6- الخروج من الظَّلمات إلى النُّور: فهو الكتاب السَّماويّ الوحيد الَّذي يهدي إلى سبل الخير والسَّلام، وهو نور الله المتَّصل بين الأرض والسَّماء، والصِّراط المستقيم الَّذي من سلكه نجا ومن تخلَّفَ عنه هلك: ﴿قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[1]. 

 
7- الشَّفاعة: من نعم الله السَّابغة على المتمسِّكِ بالقرآن الكريم، أنْ يرزقَه الشَّفاعةَ الَّتي هي من أهمّ خصائص الأنبياء والأولياء والشُّهداء, فعن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من استظهر القرآن وحفظه، وأحلَّ حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله به الجنَّة وشفَّعه في عشرة من أهل بيته كلُّهم قد وجب له النَّار"[2].
 
8- الإيمان: تجذُّر الإيمان في النَّفس وتكامله، هو من أهمّ الآثار المترتِّبة عن التَّمسُّك الحقيقيّ بالقرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[3].
 
ينبغي العمل بالقرآن
ولأجل ما يحمل القرآن الكريم من فضل وعظمة وأهميّة, كان وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام: "فالله الله أيّها النّاس، فيما استحفظكم من كتابه، و استودعكم من حقوقه.. وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكلّ شيء، وعمّر فيكم نبيّه أزماناً، حتّى أكمل له ولكم، فيما أنزل من كتابه، دينه الّذي رضي لنفسه، وأنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال ومكارهه، ونواهيه وأوامره، وألقى إليكم المعذرة، واتّخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدي عذاب شديد"[4].




 
[1] سورة المائدة، الآيتان: 15  - 16.
[2] مستدرك الوسائل، ج4، ص245.
[3] سورة الأنفال، الآية: 2.
[4] نهج البلاغة، الخطبة 86.
298

 


273

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 والوصية بالقرآن تعني العمل به، وإلّا ما فائدة أن نقرأ القرآن لقلقة لسان، كما أنّه لا فائدة لوصفة الطَّبيب دون أن نعمل بها.

 
ومن هنا يوصي الإمام عليّ عليه السلام بالعمل بالقرآن: "والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم"[1].
 
هنا واقعاً يسأل الإنسان نفسه هذه الأسئلة:
هل نستفيد من القرآن الكريم إن زيّنّاه وألبسناه ذهباً وعلّقناه في المنزل؟!
 
هل نعطي للقرآن حقّه إن نسيناه في زوايا البيوت وعلاه الغبار؟!
 
هل إن تعلّمنا رسوم التَّجويد وحسّنّا أصواتنا في ترتيله، هل بهذا نؤدّي حقّه؟! نعم إنّ ذلك مطلوب وجيّد، ولكن ليس هو الهدف والمبتغى وما لأجله نزل القرآن الكريم.
 
هل نستفيد من القرآن المجيد إن تلوناه على الأموات، وكان مقروءاً في مناسبات الموت، أمّا في مناسبات الحياة فنحن ناسوه ومعرضون عنه؟!
 
هل إنْ طبعنا عدداً كبيراً من القرآن المجيد ووزّعناه في مناسبات الموت، ثمّ ألقينا به على الرُّفوف ليعلوه الغبار، هل نكون قد أدّينا واجبنا؟!
 
القرآن الكريم جاء للحياة لنحيا به، جاء ليسلك طريقه في الحياة الفرديَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة وكلِّ مجالات الحياة. لقد حذّرنا الإمام عليّ عليه السلام من الإعراض عن العمل بالقرآن: "ومن قرأ القرآن فمات، فدخل النّار، فهو ممّن كان يتّخذ آيات الله هزواً"[2]. ولقد نبّه الإمام عليه السلام إلى أنّه سوف يأتي يوم يبتعد فيه النَّاس عن القرآن فقال: "يأتي على النّاس زمان، لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه، ومن الإسلام إلاّ اسمه"[3].
 
 
 

 
[1] م. ن، الخطبة 47.
[2] م. ن، ص 508، باب حكم أمير المؤمنين، الحكمة 228.
[3]  نهج البلاغة، ص 540، الحكمة 369.
299

274

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

آداب العمل بالقرآن
للعمل الصَّحيح بالقرآن الكريم آداب ينبغي التقيُّد بها إذا كنَّا نتوخَّى النَّتائج الطَّيّبة والآثار النُّورانيَّة وهي:
1- الطَّهارة عند تلاوته (أن يكون على وضوء).
 
2- عدم مسِّ كلمات القرآن إلّا بعد الوضوء وهو من الشُّروط اللَّازمة.
 
3- استقبال القبلة عند القراءة.
 
4- ابتداء السُّور القرآنيَّة بقول: ﴿أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم﴾ أو ﴿أعوذ بالله السَّميع العليم من الشَّيطان الرجيم﴾ ثمَّ البسملة.
 
5- أن تكون القراءة ترتيلاً، كما ورد الأمر بذلك في القران: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾[1].
 
6- أن تكون القراءة في المصحف، لا في غيره، ممَّا اشتمل على بعض الايات ككتب الأدعية، الَّتي يطبع عادة جزء من القران الكريم في أوَّلها، أو القراءة غيباً وظاهراً. عن النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "القراءة في المصحف أفضل من القراءة ظاهراً"[2]وعن الصَّادق عليه السلام: "النَّظر في المصحف عبادة"[3].
 
7- المواظبة على التَّلاوة: ينبغي المواظبة على تلاوة القرآن الكريم ضمن برنامج واضح ومحدّد، وعدم التَّفريط بهذا البرنامج مهما كثرت الانشغالات الحياتيَّة وتنوَّعت. عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنَّه قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أنْ ينظر في عهده وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية"[4]. وقد ورد التَّأكيد على 
التَّروِّي في القراءة: جاء عن الإمام الصَّادق لما سئل عن ختم القرآن كلُّ يومٍ فقال عليه السلام "لا يعجبني أنْ تقرأه 
في أقلَّ من شهر"[5].




 
[1] سورة المزّمّل، الآية: 4.
[2] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج4، ص268. 
[3] الكافي، ج2، ص614.
[4] وسائل الشيعة، ج 6، ص 198.
[5] الكافي، ج 2، ص 617.
300

275

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 8- تعلّمه وتعليمه: عن الرَّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "خياركم من تعلَّم القران وعلّمه"[1]، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلّموا مأدبته ما استطعتم"[2].

 
9- تعظيمه واحترامه: عن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "القرآن أفضل من كلِّ شيء دون الله فمن وقّر القرآن فقد وقّر الله. ومن لم يوقّر القرآن فقد استخفَّ بحرمة الله"[3] لذلك حرم تنجيسه واستُحِبّ جعل مكان خاصّ له يوضع فيه.
 
10- تدبّره والاستفادة منه: يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[4]. وفي الحديث عن الإمام 
علي عليه السلام: "إنّ وأبلغ الموعظة وأحسن القصص كتاب الله"[5], لذلك من الأفضل في التِّلاوة أن تكون بالشَّكل الأمثل، وهو الَّذي يقترن مع التَّدبُّر والتَّفكّر ويستتبع التَّأثُّر والتَّفاعل مع معاني الآيات في وعدها ووعيدها، كما عن أمير المؤمنين عليه السلام واصفاً المتَّقين: "وإذا مرُّوا بآية فيها تخويف، أصغَوْا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم, فاقشعرَّت منها جلودهم ووجلت قلوبهم، فظنُّوا أنَّ صهيل جهنَّم وزفيرها وشهيقها في أصول أذانهم وإذا مرُّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلَّعت أنفسهم إليها شوقاً، وظنُّوا أنَّها نصب أعينهم"[6].
 
 
 

 
[1]  بحار الأنوار، ج 89، ص 186.
[2] م. ن، ج 89، ص 19.
[3] بحار الأنوار، ج 89، ص 19. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
[4] سورة محمّد، الآية: 24.
[5] بحار الأنوار، ج 88، ص 101.
[6] نهج البلاغة، تحقيق: الصَّالح، ص 36, الخطبة 193 (يصف فيها المتّقين).
301

276

الدرس الواحد والثلاثون: معرفة القرآن الكريم

 المفاهيم الرئيسة

 
1- القرآن الكريم أعظم نعمة وأكبرعطية إلهيّة، وهو الميزان، الَّذي على وفاقه البشرى، والجنَّة، وعلى شقاقه الخسران والنَّار.
 
2- حسب القرآن عظمة وكفاه منزلة وفخراً وفضلاً أنّه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيّه الكريم، وأنّ آياته هي المتكفّلة 
بهداية البشر، وهي الضامنة لهم بنيل الغاية القصوى والسَّعادة الكبرى في العاجل والآجل.
 
3- للتَّمسُّك بكلام الله آثار طبِّية منها, الهداية من كلِّ ضلال، الارتقاء في مراتب الجنَّة والكمال، الشَّفاء من كلِّ داء، 
النَّجاة من العذاب، والحشر مع الأنبياء ونيل شفاعتهم.
 
4- لأجل ما يحمل القرآن الكريم من فضل وعظمة وأهميّة, كان وصيّة المعصومين عليهم السلام بضرورة العمل به، 
والتَّقيُّد بتعاليمه وآدابه.
 
5- للتَّمسّك بالقرآن الكريم آداب عديدة منها, الطَّهارة، واستقبال القبلة، المواظبة الدَّائمة على تلاوته، النَّظر إليه نظرة 
تعظيم وتعليم، والتَّفكُّر والتّدبُّر الدَّائم في آياته.
 
302

277

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 الدَّرس الثاني والثلاثون: 

معرفة أهل البيت عليهم السلام


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن أهمّيَّة معرفة أهل البيت عليهم السلام وآثارها على الإيمان والعمل.
2- يذكر أهمَّ خصائص وصفات أهل البيت عليهم السلام والَّتي كانت سبباً لاصطفائهم.
3- يدرك أنَّ طاعة الوليّ الفقيه من طاعة المعصوم عليه السلام.
 
303

278

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 قيمة معرفة أهل البيت عليهم السلام

في الحديث المعروف بحديث الثَّقلين، والثَّابت عند جميع المسلمين، يأمر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميع النَّاس بالتَّمسُّك بالقرآن الكريم والعترة الطَّاهرة: "يا أيُّها النَّاس إنِّي تارك فيكم الثَّقلين: الثَّقل الأكبر، والثَّقل الأصغر، إن تمسكتم بهما لا تَضِلُّوا، ولا تُبَّدلُوا*، وإنِّي سألت اللَّطيف الخبير أن لا يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ الحوض فأعطيت ذلك، قالوا: وما الثَّقلَ الأكبر؟ وما الثَّقلَ الأصغر؟ قال: الثَّقلُ الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله، وسبب طرفه بأيديكم والثَّقلُ الأصغر عترتي وأهل بيتي"[1]، في هذا الحديث الشَّريف دلالة واضحة على أهمّيَّة الخطب وعظمته, فأنْ يقرن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم القرآن الكريم الهادي بالعترة الطَّاهرة المهديّة إلى يوم القيامة، وأن يكون كلاهما ثقل ولكن أحدهما أكبر من الثَّاني لدليل جليّ وقويّ على عُلَوُّ منزلة العترة وشرافة قدرها ودرجتها عند الله، وإلَّا لما صحّ هذا الاقتران. ومن هنا نفهم لماذا حثّت الآيات والرّوايات على أهمّيَّة معرفتهم (سلام الله عليهم أجمعين) وذمّت بشدَّة تركهم: 
1- في الحثّ على معرفتهم عليهم السلام: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من منَّ الله عليه بمَعرِفةِ أهلِ بيتي وولايتهم، فقد جمع الله له الخيرَ كُلّه"[2]. وقال سلمان الفارسيّ: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فلمّا نظر إليَّ قال: يا سلمان، إنَّ الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبيّاً ولا رسولاً إلَّا جعل له اثني عشر نقيباً... قُلتُ: يا رسول الله، بأبي أنتَ 
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، م.س، ج 23، ص 140. (تحقيق: البهبوديّ) (*) (ولا تَتَبدَّلُوا أو ولا تُبَدَّلُوا أو تُبْدَلوا) أبدلهُ: غيره أبدل الشيء بغيره ومنه: اتّخذ عوضاً له. بدَّل الشيءُ شيئاً آخر: جعله مكان غيره، تبدَّل: تغيَّر، تبدَّل الشيء وبه: اتّخذ منه بدلاً، وتبدل الشيء بالشيء: أخذه بدله.
[2] الشيخ الصَّدوق، الأمالي، تحقيق مؤسّسة البعثة، ط 1، قم، مؤسَّسة البعثة، 1417هـ، ص 561.
 
304

279

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 وأمِّي، ما لمن عرف هؤلاء؟ فقال: يا سَلمانُ، من عرَفَهم حقَّ معرفتهم واقتدى بهم، فوالى وليَّهم وتبَرّأ من عدُوّهم، فهُو والله مِنّا، يردُ حيثُ نرد، ويسكُن حيثُ نسكن"[1]. 

 
وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إنَّما يعرف الله عزّ وجلّ ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منَّا أهل البيت، ومن لا يعرف الله عزَّ وجلَّ و (لا) يعرف الإمام منَّا أهل البيت فإنَّما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا"[2]. 
 
2- في ذمِّ عدم معرفتهم عليهم السلام: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من مات لا يَعرِف إمامَهُ ماتَ ميتةً جاهليَّة"[3]. وعنه أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من مات وليس له إمامٌ من وُلدي ماتَ مِيتةً جاهليَّة، ويُؤخذُ بما عمل في الجاهليَّة والإسلام"[4]. 
 
أهم خصائص أهل البيت عليهم السلام
 أهل البيت عليهم السلام أفضل الخلق وأكملهم وأزكاهم وأطهرهم، وقد ذكرت أوصافهم في عشرات الرّوايات، نذكر منها:
1- الطَّهارة والعصمة: قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾[5]. 
 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعةٌ من ولدِ الحسين، مطهَّرون معصومون"[6]. 
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الأئمَّة بعدي اثنا عشر عدد نُقبَاء بني إسرائيل تسعة من صلب الحسين أعطاهم الله علمي وفهمي فالويل لمبغضيهم"[7]. 
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 53،  ص 142.
[2] الكافي، ج 1، ص 181.
[3] م.ن، ج2، ص20.
[4] الشيخ الصَّدوق، عيون أخبار الرّضا عليه السلام، ج 1، تحقيق الأعلمي، لا. ط، بيروت، مؤسَّسة الأعلميّ 1404 هـ 1984م. ج 1، ص 63.
[5]  سورة الأحزاب، الآية: 33.
[6] عيون أخبار الرّضا عليه السلام، ج 1، ص 64.
[7] بحار الأنوار،  ج 36، ص 347. (تحقيق: البهبوديّ)
 
305

280

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 وقال الإمام علي عليه السلام: "إنَّما أمَر الله عزَّ وجلَّ بطاعةِ الرسول, لأنّه معصومٌ مطهرَّ، لا يأمُر بمعصيته. وإنَّما أمر بطاعة أولي الأمر, لأنَّهم معصومون مطَّهَّرون، لا يأمُرون بمعصيته"[1]. 

 
2- عِدلُ* القرآن: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كأنّي قد دُعِيت فَأجَبْتُ وإنّي تاركٌ فيكم الثّقَلَيْنِ، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السَّماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيه"[2]. 
 
3- خزنة علم الله وتراجمة وحيه: عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "نحن خزّان علم الله، ونحنُ تراجمَةُ وحي الله"[3]. وفي عدّة روايات أنَّهم ورثة علم الأنبياء عليهم السلام.
 
4- عندهم علم الكتاب: عن الإمام عليّ عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾[4] "أنا هو الذي عِندَه علم الكتاب"[5]. 
 
5- أفضل الخلق: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فأنا وأهل بيتي صفوةُ الله وخيرته من خلقه"[6]. 
 
6- أبواب الله: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نحنُ باب الله الَّذي يُؤتى منه، بنا يهتدي المهتدون"[7]. 
 
7- أركان العالم وأمان أهل الأرض: عن النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "النُّجوم أمانٌ لأهل السَّماء، وأهلُ بيتي أمانٌ لأهل الأرض، فإذا ذَهبَ أهلُ بيتي جاء أهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدُوّن"[8]. 

 
 

 
[1] وسائل ‏الشيعة، ج 27، ص 129. 
[2] بحار الأنوار، ج 10، ص 369. (تحقيق: الشيرازيّ) (*)  العِدل: العديل، المِثل: النَّظير.
[3] الكافي، ج 1، ص 192. 
[4]  سورة الرعد، الآية: 43.
[5] بصائر الدرجات، الصّفّار، تحقيق: كوجه باغي، طهران، منشوارت الأعلمي، 1404هـ 1362ش، ص 236, ج 21.
[6] شرح إحقاق الحقّ، السيّد المرعشيّ، ج 9، تحقيق: السيّد شهاب الدّين المرعشي النَّجفيّ، لا. ط، قم إيران، منشورات مكتبة المرعشي النّجفيّ، ص 483.
[7] الشيخ الصَّدوق، فضائل الشيعة، لا. ط، طهران، كانون انتشارات عابدي، لا. ت، ص 8, الحديث: 7.
[8] القتندوزيّ، ينابيع المودَّة،  ج 1، تحقيق: السيّد عليّ الحسينيّ، ط 1، لا. م، دار الأسوة، 1416هـ، ص 71, ح 2.
 
306

281

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 8- خلفاء الله وأوصياء النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: عن النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا سيّدُ النَّبيِّين، وعليّ بن أبي طالب سيّدُ الوصيِّين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلُهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم القائم"[1]، وعن 

الإمام الرِّضا عليه السلام: "الأئمة خُلفاء الله عزّ وجلّ في أرضه"[2]. 
 
ما يتَرتَّب على معرفة أهل البيت عليهم السلام
بعد معرفتنا لمقام أهل البيت عليهم السلام عند الله ورسوله ينبغي علينا:
1- معرفة حقوقهم عليهم السلام: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "والّذي نفسي بيده لا ينفعُ عبداً عملُه إلَّا بمعرفة حقّنا"[3].
 
2- مودَّتهم عليهم السلام: قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾[4].
 
3- تحبيبهم عليهم السلام إلى النَّاس: الإمام الصَّادق عليه السلام: "رحم الله عبداً حبَّبنا إلى النَّاس ولم يُبّغِّضنا إليهم"[5]. 
 
4- طاعتهم عليهم السلام: قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾[6]. إنّ طاعة أولياء الله عزّ وجلّ فرض فرضه الله سبحانه وتعالى, لأنّه مفتاح وباب لطاعته. عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تمسَّكوا بطاعة أئمتكم ولا تُخالفوهم, فإنّ طاعتهم طاعة الله، وإنّ معصيتهم معصية الله"[7].
 
وعن الإمام أبي جعفر َ عليه السلام قال: "ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء 
 
 
 

 
[1] كمال الدين، ص 280, الباب: 24، الحديث: 29.
[2] الكافي،  ج 1، ص 193.
[3] الطوسيّ، أمالي، ط 1، تحقيق مؤسَّسة البعثة، قم، دار الثقافة، 1414هـ، ص 187.
[4] سورة الشورى، الآية23.
[5]  الكافي، ج 8، ص 229.
[6] سورة النساء، الآية 59.
[7]  الهيثميّ، مجمع الزّوائد، ج 5، لا. ط، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1408هـ 1988م، ص 220.
 
307

 


282

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 ورضا الرَّحمن تبارك وتعالى الطّاعة للإمام بعد معرفته، ثمَّ قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[1].

 
ويتحدَّث الإمام الصَّادق عليه السلام في رواية أخرى عن صفات الشِّيعة الحقيقيِّين ويذكر الطَّاعة كأوَّل وأهمّ صفة يقول عليه السلام: "يا جابر أيكتفي من ينتحل التَّشيُّع أن يقول بحبّنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلّا من اتَّقى 
الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلّا بالتَّواضع، والتَّخشُّع، والأمانة، وكثرة ذكر الله، والصَّوم، والصَّلاة، والبرّ 
بالوالدين، والتَّعاهد للجيران، من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، 
وكفُّ الألسن عن النَّاس إلّا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله ما 
نعرف اليوم أحداً بهذه الصِّفة، فقال: يا جابر لا تذهبنّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحبّ عليّاً وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً؟ فلو قال: إنّي أحبّ رسول الله فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير من عليّ َ عليه السلام ثمَّ لا يتَّبِع سيرته ولا يعمل بسنَّته ما نفعه حبّه إيّاه شيئاً، فاتَّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ (وأكرمهم عليه) أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما 
يتقرَّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطَّاعة، وما معنا براءة من النَّار، ولا على الله لأحد من حجَّة، من كان لله مطيعاً 
فهو لنا وليٌّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدُوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"[2].
 
وتجدر الإشارة إلى أنَّه ولاية الأئمَّة لوحدها لا تكفي، بل لا بدَّ من عداوة أعدائهم أيضاً، فعن الإمام الرِّضا عليه السلام قال: "كمال الدِّين ولايَتُنا والبراءة من عدُوّنا"[3]. 

 
 

 
[1] الكافي، ج 1، ص 185-186. 
[2]  الكافي،ج 2، ص 74-75.
[3] وسائل الشيعة، ج 27، ص 140.
308

283

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 التَّحذير من الغلُوّ في أهل البيت عليهم السلام

تعتبر حركة الغلاة من أخطر الحركات ضرراً على الإسلام والمجتمع الإسلاميّ, لأنَّها حركة عقائديَّة تستهدف ضرب الإسلام من الدَّاخل وبعناوين جذّابة، لهذا نجد أن مواجهة الأئمة عليهم السلام لها كانت شديدة وقاسية إلى حدِّ تكفير الغلاة. قال الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاكم والغُلُوَّ فينا، قولوا: إنّا عبيدٌ مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم"[1]. عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "احذروا على شبابكم الغُلاة لا يُفسدونهم, فإنّ الغلاة شرّ خلق الله، يُصغّرون عظمة الله ويدَّعون الرُّبوبيَّة لعباد الله. والله، إنّ الغُلاةَ أشرُّ من اليهود والنَّصارى والمجوس والَّذين أشرَكوا"[2]. 
 
وقد تبرَّأ أهل البيت من الغلاة وحكموا بهلاكهم وكفرهم، قال الإمام عليّ عليه السلام: "لا تتجاوزوا بنا العُبوديَّة، ثمّ 
قولوا ما شئتم ولن تبلُغوا، وإيّاكم والغلُوّ كغلُوِّ النَّصارى، فإنَّني بريءٌ من الغالين"[3]، وعنه عليه السلام: "هَلَكَ فيَّ 
رجلان: محبّ غالٍ ومبغض قالٍ"[4].
 
طاعة الوليّ الفقيه من طاعة الأئمّة عليهم السلام
أمَّا في عصر الغيبة، فقد نصَّب الأئمّة عليهم السلام الفقهاء من بعدهم نوّاباً لهم، هم الفقهاء الجامعون للشَّرائط، فطاعة الفقهاء هي من طاعة الأئمَّة عليهم السلام، فقد ورد في الرِّواية عن الإمام صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه 
الشريف: "وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله"[5]. فالإنسان 
الَّذي يعيش مسؤوليَّة العمل بالتَّكليف الإلهيّ، ويحمل همّ النَّجاة في يوم القيامة، عليه أن يُظهر ذلك في سلوكه بالتزامه 
بطاعة وليّ الأمر، وأن يعلم أنّه بذلك يصل إلى رضا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
 
 
 

 
[1] مستطرفات السرائر، ص 640.
[2]  الخصال، ص 614.
[3]  أمالي الطوسي، ص 650.
[4]  الإحتجاج، ج 2، ص 233.
[5]  نهج البلاغة، ص 489, باب حكم أمير المؤمنين عليه السلام, الحكمة 117، (تحقيق الصَّالح).
 
309

284

الدَّرس الثاني والثلاثون: معرفة أهل البيت عليهم السلام

 المفاهيم الرئيسة

1- إنَّ قرن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم القرآن الكريم بالعترة الطَّاهرة إلى يوم القيامة، دليل جليٌّ على عُلُوّ منزلة العترة وشرافة قدرها ودرجتها عند الله. 
 
2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من منَّ الله عليه بمَعرِفةِ أهلِ بيتي وولايتهم فقد جمع الله له الخيرَ كُلّه".
 
3- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من مات لا يَعرِف إمامَهُ ماتَ ميتةً جاهلية".
 
4- أهل البيت عليهم السلام أفضل الخلق وأكملهم وأزكاهم وأطهرهم، وقد ذكرت أوصافهم في عشرات الرّوايات منها, خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والعصمة، والعلم.
 
5- لمعرفة أهل البيت عليهم السلام لوازم وآثار عديدة منها, طاعتهم، ومودَّتهم، وتحبيب النَّاس بهم.
 
6- وقد تبرّأ أهل البيت من الغلاة وحكموا بهلاكهم وكفرهم، عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "يهلِكُ فيّ رجلان: 
مُفرط غالٍ ومُبغضٌ قالٍ".
 
7- في عصر الغيبة، نصَّب الأئمّة عليهم السلام الفقهاء الجامعون للشَّرائط من بعدهم نوّاباً لهم، فغدت طاعتهم من طاعة الأئمّة عليهم السلام.
 
310

285

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الدرس الثالث والثلاثون:

كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

أهداف الدَّرس 
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يتعرَّف إلى عقيدة المهدويَّة في الكتاب والسُّنَّة.
2- يحدّد أهمّ معالم العلاقة مع الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
3- يدرك مفهوم الانتظار وصفات المنتظرين.
 
 
311

286

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 مقدّمة

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "القائم من وُلدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي وشمائله شمائلي وسنَّته سنَّتي، يقيم النَّاس على ملَّتي وشريعتي ويدعوهم إلى كتاب ربّي عزَّ وجلَّ، من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني ومن كذَّبه فقد كذَّبني ومن صدَّقه فقد صدَّقني …"[1].
 
عقيدتنا في المهديّ والمهدويَّة
إنَّ المسلمين بكافَّة مذاهبهم يجمعون على ظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في آخر الزَّمان، وقد كثرت الرّوايات في خصوص المهدي‏ّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى حدّ يطمئن الإنسان ويتيقَّن أنَّ هذه الرّوايات 
قد نطق بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصَّادق الأمين، والأئمَّة من آل بيته عليهم السلام.
 
 وهذه العقيدة (المهدويَّة) لا تختصُّ بالشِّيعة وحدهم، بل يؤمن بها المسلمون كافَّة، ولكن لبعض الفرق كلاماً آخر في تفاصيلها وتفريعاتها. إلَّا أن أصل القَضِيَّة ينصُّ على أنَّ رجلاً من عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيقوم في وقت ما بحركة إلهيَّة جبَّارة "ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجور"، هذه القضية متواترة عند جميع المسلمين، ومقبولة لديهم كافَّة.
 
 
 

 
[1] كمال الدِّين، ص 411.
312

287

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الإمام المهديُّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في القران الكريم

ورد في تفسير آيات قرآنيَّة كثيرة، تفسيرٌ منطبقٌ على الإمام المهديِّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهنا نورد 
بعضاً منها:
1- قوله تعالى ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ 
يُنفِقُونَ﴾[1].
 
قال الإمام جعفر الصَّادق عليه السلام: "المتقون: شيعة عليٍّ عليه السلام، والغيب: فهو الحُجّة الغائب"[2].
 
2- قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[3]. ففي نهج البلاغة، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لتعطفنّ علينا الدنيا بعد شماسها عطف الضروس على ولده وتلا عقيب ذلك: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[4]". وعنه عليه السلام أيضاً في رواية أخرى قال في تفسير هذه الآية: "هم آل محمّد يبعث الله مَهْدِيّهم بعد جَهدِهم فيُعِزّهم ويذلّ عدُوّهم"[5].
 
3- ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾[6]. عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: "وقوله: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾، قال: الكتب كلُّها ذكر، وأنَّ الأرض يرثها عبادي الصَّالحون، قال: القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف وأصحابه"[7].
 
 
 

 
[1] سورة البقرة، الآيتان: 2-3.
[2] انظر: الشيخ علي الكورانيّ، معجم أحاديث الإمام المهدي، ، مجلد 5، إشراف الشيخ علي الكورانيّ، ط 1، مؤسَّسة المعارف الإسلاميّة، 1411هـ. ق، ص‏11، (حيث ذكر مصادر هذا الحديث، ومنها ينابيع المودّة، ص‏423، ومنتخب الأثر، ص‏514، وكمال الدين، ج‏2، ص‏340... وغيرها من المصادر). 
[3] سورة القصص، الآية: 5.
[4]  نهج البلاغة، (الصّالح)، ص 506, باب حكم أمير المؤمنين، الحكمة 209. 
[5] معجم أحاديث الإمام المهديّ،، ج 5، ص 231.
[6] سورة الأنبياء، الآية: 105.
[7] معجم أحاديث الإمام المهدي،، ج 5، ص 261, أيضاً: ينابيع المودة، ص‏425، وغيره.
313

288

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 الإمام المهديّ في السُّنّة الشَّريفة

لقد ورد في شأن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أحاديث كثيرة، من طرق الشِّيعة والسُّنَّة، وقد ذكرت في كثير من الكتب، سواء كانت كتباً شِّيعيَّة أم سُنّيّة، سنذكر هنا بعض الأحاديث، لتكون قطرة من بحار أنوار هذه الأحاديث المباركة.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "المهديّ رجل من وُلدي وجهه كالكوكب الدريّ"[1].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "المهديّ منَّا أهل البيت رجل من أمّتي أشمُّ الأنف يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا"[2].
 
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تنقضي الأيَّام ولا يذهب الدّهر حتَّى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي"[3].
 
عن ابن عبّاس: قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ علي بن أبي طالب إمام أمَّتي وخليفتي عليها من بعدي، ومن وُلده القائم المنتظر، الَّذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، والَّذي بعثني بالحقِّ بشيراً، إنّ الثَّابتين على القول بإمامته في زمان غيبته، لأعزُّ من الكبريت الأحمر". فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري 
فقال: يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إي وربي ليمحّص الله الَّذين آمنوا ويمحق الكافرين يا جابر إن هذا الأمر من أمر الله وسرٌّ من سرِّ الله مطويَّة عن عباده فإياك والشكَّ فإنَّ الشكَّ في أمر الله كفر"[4].
 
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "المهديّ من عترتي من ولد فاطمة"[5].
 
وعن حذيفة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر لنا بما هو كائن إلى يوم القيامة ثمَّ 
 
 
 

 
[1] كنز العمال، ج 14، ص 264.
[2] بحار الأنوار، ج 51، ص 80. (تحقيق: البهبوديّ) 
[3]  مسند أحمد بن حنبل، ج‏1، لا. ط، بيروت لبنان، دار صادر، لا. ت، ص 376 ـ 377. 
[4] إبراهيم الجويني الخراساني، فرائد السمطين، ج‏2، تحقيق: الشيخ المحموديّ، ط 1، بيروت لبنان، مؤسَّسة المحموديّ، 1400هـ 1980م، باب 61.
[5] سليمان السجستاني، سنن أبي داود، ج 2، تحقيق: سعيد اللّحام، ط 1، لا. م، دار الفكر، 1410هـ 1990م، ص 310.
314

289

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لو لم يبق من الدُّنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله عزَّ وجلّ‏َ ذلك اليوم حتَّى يبعث رجل من ولدي اسمه اسمي". فقام سلمان (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله: إنَّه من أيِّ ولدك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "هو من ولدي هذا وضرب بيده على الحسين بن عليّ ‏ عليه السلام"[1]. وفي كثير من الرّوايات أن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف من أولاد الإمام الحادي عشر الحسن بن عليّ العسكريّ عليه السلام[2].

 
كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
تستند العلاقة بالإمام المهديّ عليه السلام على ثلاثة أبعاد أساسيَّة: هي: البعد العقائديّ البعد العاطفيّ، البعد العمليّ.  
 
الأوّل: البعد العقائديّ: 
ويتحقّق بالعقيدة السَّليمة بالدِّين الإسلاميّ، إضافة إلى عدَّة أمور ترتبط بالعلاقة المباشرة بالإمام المهديّ عليه السلام، أهمُّها:
1-  معرفة الإمام المهديّ عليه السلام حقّ المعرفة: قال رسول الله: (من مات ولا يعرف إمامه مات ميتة جاهليَّة)[3].
 
وما دام لمعرفة الإمام كلً هذه الأهمِّيَّة، فليس المراد منها هو معرفة اسمه ونسبه فقط، بل إنّ المقصود بالمعرفة كما ورد عن 
الإمام الصَّادق عليه السلام حيث يقول: "..وأدنى معرفة الإمام أنَّه عِدل النَّبيّ إلا درجة النُّبوَّة ووارثه، وأن طاعته 
طاعة الله وطاعة 
 
 
 

 
[1] المقدسيّ، عقد الدرر الحديث (29), تحقيق: د. الحِلو، ط 1، القاهرة مكتبة عالم الفكر 1399هـ 1979م، ص 24. من الباب (1) وأخرجه أبو نعيم في صفة المهدي، وغيره.
[2] على بن محمد أحمد الحالكيّ، الفصول المهمّة،  (ابن الصّباغ، ج 2، تحقيق: سامي الغريريّ، ط 1، قم، دار الحديث, 1422هـ، ص 1102، ملاحظة: ابن حجر الهيثمي من الصواعقة من ولد الإمام العسكري قال: رفض مقولة أن الإمام المهديّ، لا حجة فيه لما زعمته الرافضة وراجع الصواعق، ص 167. وابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمّة ص‏274، وسبط ابن الجوزي الحنفي في ذكرة الخواص، ص‏277، وابن طولون الدمشقي في كتابه الأئمة الإثني عشر، ص‏117، وغيرهم، وقد ذكر صاحب كتاب المهدي الموعود المنتظر أكثر من ستين عالم من علماء السنّة قالوا بذلك.
[3]  الكافي، ج 2، ص 20-21.
315

290

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 رسول الله والتَّسليم له في كلِّ أمر والرَّدُّ إليه والأخذ بقوله، ويعلم أنَّ الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليُّ بن أبي طالب ثمَّ الحسن ثم الحسين ثمَّ علي بن الحسين ثم محمَّد بنُ عليّ ثمَّ أنا ثم من بعدي موسى ابني ثمَّ من بعده ولده علي وبعد علي محمَّد ابنه وبعد محمّد عليّ ابنه وبعد عليّ الحسن ابنه والحُجَّة 

من ولد الحسن"[1]. 
 
وعن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى
﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾[2]. فقال: "يا فضيل اعرف إمامك, فإنَّك إذا عرفت إمامك لم يضرَّك تقدُّم هذا الأمر أو تأخر، ومن عرف إمامه ثمَّ مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره.. لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه"[3]. 
 
2- الثَّبات على الدِّين في عصر غيبته عليه السلام: من أهم التَّكاليف الشَّرعيَّة في عصر الغيبة هو الثَّبات على العقيدة الصَّحيحة بإمامة الأئمة ألإثني عشر وخصوصاً خاتمهم وقائمهم المهديّ عليه السلام، كما يتوجب علينا عدم التأثُّر بموجات التَّشكيك وتأثيرات المنحرفين مهما طال زمان الغيبة أو كثرت ضروب المشكِّكين، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "والَّذي بعثني بالحقِّ بشيراً، ليغيبن القائم من ولدي بعهد معهود إليه منِّي حتَّى يقول أكثر النَّاس ما لله في آل محمد حاجة، ويشكُّ آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسَّك بدينه ولا يجعل للشَّيطان إليه سبيلا يشكِّكه، فيزيله عن ملَّتي ويخرجه من ديني"[4]. وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "للقائم منا 
غيبة أمدها طويل، كأنِّي بالشِّيعة يجولون جولان النَّعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 4، ص 55.
[2] سورة الإسراء، الآية: 71.
[3]  الكافي، ج 1، ص 371.
[4]  بحار الأنوار، ج 51، ص 68.
 
316

291

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 ولم يقسُ قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة"[1]. 

 
3- تجديد البيعة والولاية له عليه السلام: جاء في دعاء العهد الوارد عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "اللهم إنِّي أجدِّد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيَّامي عهداً وعقداً وبيعةً له في عنقي لا أحول عنها ولا أزول أبداً 
…"[2]. 
 
الثَّاني: البعد العاطفيّ: 
وذلك من خلال العلاقة العاطفيَّة والرُّوحيَّة الخاصَّة، الَّتي تتجلَّى من خلال:
1- الدُّعاء للإمام المهديَّ عليه السلام والدُّعاء بتعجيل الفرج: الدُّعاء له عليه السلام بتعجيل فرجه، فقد ورد من 
الناحية المقدّسة على يد محمّد بن عثمان في آخر توقيعاته عليه السلام: "وأكثروا الدُّعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلك 
فرجكم"[3] ومن ذلك الدعاء المعروف "اللهم كن لوليك الحجَّة بن الحسن..."[4] ، وهناك أدعية كثيرة للإمام تراجع 
في مصادرها... فنحن مأمورون بالدُّعاء للإمام كما جاء ذلك في كثير من الرّوايات عن أهل البيت عليه السلام ولعل ذلك من أجل بقاء الصِّلة والرَّابطة العاطفيَّة مع الإمام. 
 
2- إظهار محبّته عليه السلام: وتحبيبه إلى النَّاس، وإظهار الشَّوق إلى لقائه عليه السلام ورؤيته، والبكاء والإبكاء والتَّباكي والحزن على فراقه، والتَّصدُّق عنه عليه السلام بقصد سلامته. وإقامة مجالس يذكر فيها فضائله عليه السلام ومناقبه، أو بذل المال في إقامتها، والحضور في هكذا مجالس، والسعي في ذكر فضائله ونشرها.
 
الثَّالث: البعد العمليّ: 
ومن أجلى مصاديقه الانتظار الإيجابيّ لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف: تؤكّد الأخبار على
 
 
 

 
[1] كمال الدين، ص 303.
[2] مصباح الزائر ص 169، البلد الأمين، ص 82، مصباح الكفعمي، ص 550.
[3] كمال الدين، 485.
[4] السيّد ابن طاووس، الإقبال، ج 1، تحقيق: الأصفهانيّ، ط 1، لا. م، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1414هـ، ص 191, (ملاحظة: ما هو موجود في الإقبال: (اللهمّ كن لوليّك، القائم بأمرك، الحجّة، محمّد بن الحسن المهديّ،...).
 
317

292

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 أن انتظار الفرج أفضل العبادة، وهو في توأمة مع الجهاد، سئل الإمام الصَّادق عليه السلام مَا تَقُولُ فِيمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مُنْتَظِراً لَهُ، فقَالَ عليه السلام: "هو بمنزلة من كان مع القائم في فُسطَاطه ثمّ سكت هُنَيْئةً * ثمّ قال هو كمن كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"[1].

 
ونقل هذا المضمون في روايات كثيرة منها: أنه بمنزلة المجاهد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأنه بمنزلة 
من استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأنه بمنزلة من كان قاعداً تحت لواء القائم عجل الله تعالى فرجه 
الشريف[2].
 
مفهوم الانتظار
ويطلق الانتظار عادة على حالة من يشعر بعدم الارتياح من الوضع الموجود، ويسعى إلى إيجاد الوضع الأفضل والأحسن، ويمكن القول أن الانتظار مركب من أمرين: الأول عدم الانسجام مع الوضع الموجود، والآخر السعي للحصول على الأفضل، ولهذا فانتظار الإمام المهدي  عجل الله تعالى فرجه الشريف يلازمه عدم الرضا وعدم الانخراط بالواقع المنحرف أو الفاسد، والقيام بواجب الإصلاح ومواجهة كل أشكال وأنواع الفساد والانحراف والباطل، مهما غلت التضحيات، وهو ما يستدعي شمولية في تربية المنتظرين. ولهذا نلاحظ أن الرّوايات قد وصفت الانتظار بالعبادة, والمنتظرين بالمجاهدين والشهداء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج من الله عزّ وجلّ"[3]. فالانتظار الإيجابي يعني التَّمهيد لخروج حبيب قلوبنا وقائدنا المهديّ، فقد وردت العديد من الرّوايات الَّتي يفهم منها ضرورة وجود أنصار وأتباع يقومون بدور التَّوطئة والتَّمهيد للمهمَّة الكبرى الَّتي سيقوم بها الإمام  عجل الله تعالى فرجه الشريف. 
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 53، ص 96. أيضاً: المصباح، جنّة الأمان الواقية وجنّة الإيمان الباقية، الشيخ الكفعميّ، ط 3، بيروت لبنان، مؤسّسة الأعلميّ، 1403هـ 1983م، ص 551.
(*)  كذا في المصدر لعلّ هذا من خطأ الناسخ والصحيح: هُنيَّة أو هُنيهة.
[2] بحار الأنوار، ج52، ص 125-126.
[3]  م. ن، ص 122-128.
318

293

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 من صفات أنصار الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

ولقد وردت الكثير من الرّوايات الَّتي تناولت مواصفات أصحاب وأنصار المهديّ  عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكلَّما كان هؤلاء الأصحاب مهيئين كلَّما كان خروج المهديّ (أرواحنا فداه) قريباً. فمن صفاتهم ما ورد عن الإمام الصَّادق عليه السلام في رواية قال: "له كنز بالطَّالَقَان ما هو بذهب، ولا فضّة، وراية لم تُنشَر منذ طُوِيَت، ورجال كأنّ قلوبهم زُبَرُ الحديد لا يَشوبُها شكّ في ذات الله، أشدّ من الحجر لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يَقصِدون براياتهم بَلْدةً إلّا خَرّبوها، كأنّ على خيولهم الْعِقْبَانَ، يَتمَسّحون بِسَرْج الإمام عليه السلام يطلبون بذلك البرَكة، ويحفّونَ به يَقُونَه بأنفسهم في الحروب، ويَكْفونَه ما يريد، فيهم رجال لا ينامون اللّيل، لهم دَوِيٌّ في صلاتهم كَدَوِيّ النّحل، يبيتون قياماً على أطرافهم ويُصْبِحون على خيولهم، رُهبَانٌ باللّيل لُيوثٌ بالنّهار، هم أطوع له من الأَمَةِ لِسَيّدِها، كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مُشفِقون، يَدْعُونَ بالشّهادة ويتمنَّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شِعارُهم يا لثارات الحسين، إذا ساروا يسير الرّعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى المولى إرسالاّ*، بهم ينصر الله إمام الحقِّ"[1].
 
 
 

 
[1]  بحار الأنوار، ج52، ص 127-128.
(*) كذا في الأصل، ولعلّ الصحيح: أرسالاً. جاء القوم أرسالاً: يتبع بعضهم بعضاً أفواجاً وفرقاً يتلو بعضهم بعضاً. (راجع لسان العرب، وتاج العروس).
319

294

الدَّرس الثالث والثلاثون: كيف نبني علاقتنا بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف

 المفاهيم الرئيسة

1- يجمع المسلمون بكافّة مذاهبهم على ظهور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في آخر الزَّمان، وهذه العقيدة (المهدويَّة) لا تخصُّ الشِّيعة وحدهم.
 
2- ورد أحاديث كثيرة جداً حول الإمام المهديّ في السُّنَّة الشَّريفة، وهو ما يدفعنا إلى التَّيقُّن بوجود الإمام المهديّ وبقضيته العالميَّة، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "المهدي رجل من ولدي وجهه كالكوكب الدريّ".
 
3- تستند العلاقة بالإمام المهديّ عليه السلام على ثلاثة أبعاد أساسيّة: هي: البعد العقائديّ البعد العاطفيّ، البعد العمليّ.
 
4- يتحقّق البعد العقائديّ في العلاقة بالإمام المهديّ عليه السلام عبر الأمور الآتية: عبر معرفة الإمام المهديّ عليه السلام حقّ المعرفة, والثَّبات على الدِّين في عصر غيبته عليه السلام، وتجديد البيعة والولاية له عليه السلام.
 
5- يتحقَّق البعد العاطفيّ في العلاقة بالإمام المهديّ عليه السلام: وذلك من خلال العلاقة العاطفيّة والرُّوحية الخاصَّة، 
الَّتي تتجلَّى من خلال: الدُّعاء للإمام المهديّ عليه السلام والدُّعاء بتعجيل الفرج، وإظهار محبَّته عليه السلام وتحبيبه إلى 
النَّاس، وإظهار الشَّوق إلى لقائه عليه السلام ورؤيته.
 
6- يتحقَّق البعد العمليّ في العلاقة بالإمام المهديّ عليه السلام من خلال الانتظار الإيجابيّ لصاحب الزَّمان عجل الله 
تعالى فرجه الشريف والَّذي هو أفضل العبادة.
 
7- انتظار الإمام المهديِّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يلازمه عدم الرِّضا بالواقع المنحرف، والقيام بواجب الإصلاح ومواجهة كلِّ أشكال الفساد والانحراف. 
 
8- من صفات أنصار الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أنَّهم "رجال.. يبيتون قياماً على أطرافهم ويُصْبِحون على خيولهم، رُهبَانٌ باللّيل لُيوثٌ بالنّهار.. كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل.. يَدْعُونَ بالشّهادة ويتمنَّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شِعارُهم يا لثارات الحسين". 

 
320

295

المحور الثَّالث: الفضائل والرَّذائل

 المحور الثَّالث:

الفضائل والرَّذائل
موضوعات المحور
 
34- حسن الخلق
35- طلب العلم آدابه وآثاره
36- الدُّعاء
37- غضُّ النَّظر
38- الغضب
39- الحسد
40- الاستخفاف بالصَّلاة
41- العصبيَّة
42- اتِّباع الهوى
43- الشَّيطان عدوّ الإنسان
44- كيف نواجه الشَّيطان
45- آفات اللِّسان
46- الغيبة والبهتان والنّميمة
47- الصِّدق والكذب
48- الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة
49- الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب
50- جهاد النّفس
51- التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم
 
321

 


296

الدَّرس الرابع والثلاثون: حُسن الخُلق

 الدَّرس الرابع والثلاثون:

حُسن الخُلق


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيِّن فضل حسن الخلق وارتباطه بالدِّين الحنيف.
2- يستدلَّ على أهمِّيَّة حسن الخلق من سيرة الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين عليهم السلام. 
3- يذكر أهمّ الآثار الطَّيِّبة المترتِّبة على التَّخلّق بالصِّفات الحسنة والفاضلة.
 
323

297

الدَّرس الرابع والثلاثون: حُسن الخُلق

 مقدّمة

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدّين؟ فقال: "حُسن الخلق"، ثمّ أتاه من قِبَل يمينه فقال، يا رسول الله ما الدّين؟ فقال: "حُسن الخلق"، ثمّ أتاه من قِبَل شماله فقال: يا رسول الله ما الدّين؟ فقال: "حُسن الخلق"[1].
 
الخلق الحسن ثروة إنسانيَّة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّكم لا تقدرون على أن تَسَعُوا النَّاس بأموالكم فَسَعُوهُم بأخلاقكم"[2].
إنّ ثروة الأخلاق لا تعادلها ثروة في الوجود, ذلك أنّ ثروة المال مهما كانت فإنّها محدودة يمكن أن تطال فائدتها شخصاً 
في حين يبقى آخرون محرومين منها، في حين أنّ الفضيلة والطُّهر وطاعة الله وعمل الخير وما إلى ذلك من الصِّفات والخصال الإنسانيَّة الرَّفيعة، تزيّن الإنسان وتجعله محبوباً لدى الجميع دون أن يكون هناك مصلحةٌ في هذا الحبّ، فالحقيقة عندما تلجُ قلبَ الإنسان تجعله عظيماً سامياً. فهل يمكن لأحدٍ أنْ يحصر منظر النُّجوم وهي تتلألأ في السَّماء، 
أو الشَّمس وهي تسطع في النَّهار في طبقةٍ معيَّنةٍ من النَّاس؟
 
 
 

 
[1]  بحار الأنوار، ج 68، ص 293.
[2] بحار الأنوار، ج 71، ص 169. (تحقيق: البهبوديّ)
 
324

 


298

الدَّرس الرابع والثلاثون: حُسن الخُلق

 ما هو حسن الخلق؟

حُسن الخلق هو: حالةٌ نفسيّةٌ تبعث على حُسن معاشرة النَّاس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، كما عرّفه الإمام الصَّادق عليه السلام حينما سئل عن حدّه فقال: "تلين جناحك، وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببِشرٍ حسَن"[1].
 
قال النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أفاضِلُكم أحسنكم أخلاقاً، الموطّؤون أكنافاً، الَّذين يألَفون ويُؤلَفون وتُوطّأ رِحَالهم"[2].
 
وقال الإمام الصَّادق عليه السلام: "ما يقدم المؤمن على الله تعالى بعمل بعد الفرائض، أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع النَّاس بخُلقه"[3].
 
النَّبيّ محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى في حسن الخلق
وكفى بحسن الخلق شرفاً وفضلاً، أنّ الله عزَّ وجلَّ لم يبعث رسله وأنبياءه للنَّاس إلَّا بعد أن حلّاهم بهذه السَّجية الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان شخصيَّاتهم. فلقد كان سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم المثل الأعلى في حسن الخلق، واستطاع بأخلاقه العظيمة أن يملك القلوب والعقول، واستحقَّ بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عزّ من قائل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[4].
 
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وهو يصوّر أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كان أجود النَّاس كفاً، وأجرأ النَّاس صدراً، وأصدق النَّاس لهجة، وأوفاهم ذمَّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبَّه، لم أرَ مثلَه قبله ولا بعده"[5].

 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 71، ص 171.
[2] والأكناف جمع كنف، وهو: الناحية والجانب ويقال: "رجل موطأ الأكناف" أي كريم مضياف. بحار الأنوار، ج 68، ص 380.
[3] الكليني، الكافي، ج2، باب حسن الخلق، ص100. 
[4] سورة القلم، الآية 4.
[5] بحار الأنوار، ج 16، ص 231. (تحقيق: الشِّرازي)
325

299

الدَّرس الرابع والثلاثون: حُسن الخُلق

 وحسبنا أن نذكر ما أصابه من قريش، فقد تألّبت عليه، وجرّعته ألوان الغصص، حتَّى اضّطرته إلى مغادرة أهله وبلاده، فلما نصره الله عليهم، وأظفره بهم، لم يشُكُّوا أنَّه سيثأر منهم، وينكِّل بهم، فما زاد أن قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تقولون أنّي فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطُّلقاء"[1].

 
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنّ يهوديّاً كان له على رسول الله دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ ما عندي ما أعطيك. فقال: فإنِّي لا أفارقك يا محمَّد حتَّى تقضيني. فقال: أجلس معك، فجلس معه حتَّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة "الصُّبح"، وكان أصحاب رسول الله يتهدّدونه ويتوعدُوّنه، فنظر رسول الله إليهم وقال: ما الَّذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول الله يهوديٌّ يحبسك! فقال: لم يبعثني ربّي عزَّ وجلَّ كي أظلم معاهداً ولا غيره. فلمّا علا النَّهار قال اليهوديُّ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمَّداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلتُ بك الَّذي فعلت: إلَّا لأنظرَ إلى نَعْتك في التَّوراة، فإنِّي قرأتُ نعتك في التَّوراة: محمّد بن عبد الله، مولده بمكَّة، ومهاجره بطيبة "المدينة المنوَّرة"، وليس بفظّ ولا غليظ، ولا سخَّاب، ولا متزيِّن بالفحش، ولا قول الخنا، وأنا أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله، وكان اليهوديُّ كثير المال"[2].
 
أهل البيت عليهم السلام ورحابة الخُلق
وهكذا كان الأئمَّة المعصومون من أهل البيت عليهم السلام في مكارم أخلاقهم وسُمُوِّ آدابهم، وقد حمل الرُّواة إلينا صوراً 
رائعة ودروساً خالدة من سيرتهم المثاليَّة، وأخلاقهم الفذَّة.
 
 
 

 
[1] المحقّق الكركي، الخراجيات، ص62، وقد وردت هذه الرواية بصيغ متعدِّدة بحسب اختلاف المصادر التاريخية. 
[2] بحار الأنوار، ج 16، ص 216-217.
 
326

300

الدَّرس الرابع والثلاثون: حُسن الخُلق

 عن الإمام الباقر عن أبيه عليهما السلام: "إنّ عليّاً صاحبَ ذمِّيّاً، فقال الذمِّيُّ أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة، فلمّا عدل الطَّريق بالذمِّيِّ عدل معه عليٌّ، فقال له الذمِّيُّ: أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال: بلى. فقال الذمِّيُّ: فقد تركتَ الطَّريق، فقال: علمت. فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال: هذا من تمام حُسن الصُّحبة، أن يشيِّع الرَّجلُ صاحبه هنيهةً إذا فارقه، وكذلك أمرنا نبيُّنا صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له الذمِّيُّ هكذا قال؟ قال: نعم. قال الذمِّيُّ: لا جرم إنَّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهدك أنِّي على دينك، ورجع الذمِّيُّ مع أمير المؤمنين عليه السلام، فلما عرفه أسلم"[1].

 
وليس شيء أدلُّ على شرف حسن الخُلق، وعظم أثره في سُمُوِّ الإنسان وإسعاده، من الحديث التَّالي: عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "ثلاثة نفر آلُوا باللَّات والعزَّى ليقتلوا محمَّداً، فذهب أمير المؤمنين وحده إليهم وقتل واحداً منهم وجاء بالآخرين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: قدّم إليَّ أحدَ الرَّجلين، فقدَّمه فقال: قل لا إله إلا الله، واشهد أنّي رسول الله فقال: لنَقْلُ جبل أبي قبيس أحبُّ إليَّ من أن أقول هذه الكلمة.
 
قال: يا عليّ أخِره واضرب عنقه. ثم قال: قدِّم الآخر، فقال: قل لا إله إلا الله، واشهد أنِّي رسول الله قال ألحقني بصاحبي. قال: يا عليّ أخِره واضرب عنقه. فَأَخَره وقام أمير المؤمنين ليضرب عنقه فنزل جبرائيل على النَّبيُّ، فقال: يا محمَّد إنّ ربك يقرئك السَّلام، ويقول لا تقتله، فإنَّه حسنُ الخلق سخيٌّ في قومه. فقال النَّبيُّ: يا عليّ أمسِك، فإن هذا رسول ربِّي يخبرني أنّه حسن الخلق سخيٌّ في قومه، فقال المشرك تحت السَّيف: هذا رسول ربك يخبرك؟ قال: نعم. قال: والله ما ملكت درهماً مع أخ لي قطُّ، ولا قطَّبت وجهي في الحرب، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّك رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا ممَّن جرَّه حسن خلقه وسخاؤه إلى جنَّات النَّعيم"[2].
 
 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 670.
[2] بحار الأنوار، ج 41، ص 75.
327

301

الدَّرس الرابع والثلاثون: حُسن الخُلق

 الآثار المترتِّبة على الأخلاق الحسنة

للتَّخلُّق بالصِّفات الفاضلة آثار طيِّبة عديدة ومتنوِّعة نذكر منها: 
 
1- كمال الإيمان: عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"[1].
 
2- مضاعفة الحسنات وغفران السَّيِّئات: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصَّائم القائم"[2].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أثقلُ من حسن الخلق"[3].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "ما يقدم المؤمن على الله عزَّ وجلَّ بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع النَّاس بخلقه"[4].
 
وعنه: "إنَّ الخلق الحسن لَيَمِيْثُ الخطيئة كما تَمِيْثُ الشَّمسُ الجليد"[5].
 
3- الفوز بالجنَّة والنَّجاة من النَّار: قال رسول الله: "أكثرُ ما تلج به أمّتي الجَنَّة: تقوى الله، وحسن الخلق[6]".
 
4- عمران الدِّيار وزيادة الأعمار: عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إنَّ البرّ وحسن الخُلُق يعمران الدِّيار، ويزيدان 
في الأعمار"[7].
 
 
 

 
[1]  بحار الأنوار، ج 68، ص 373.
[2] م.ن، ج 68، ص 375.
[3] م.ن، ج 7، ص 249.
[4] م.ن، ج 68، ص 375.
[5] م.ن، ج 68، ص 375.
[6] م.ن، ج 68، ص 375.
[7] م.ن، ج 68، ص 395.
328

302

الدَّرس الرابع والثلاثون: حُسن الخُلق

 المفاهيم الرئيسة

 
1- حُسن الخلق حالةٌ نفسيّةٌ تبعث على حُسن معاشرة النَّاس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة.
 
2- كفى بحسن الخلق شرفاً وفضلاً، أنّ الله عزَّ وجلَّ لم يبعث رسله وأنبياءه للنَّاس إلَّا بعد أن حلّاهم بهذه السَّجيَّة الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان شخصيَّاتهم.
 
3- لقد كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام مثالا أعلى في مكارم أخلاقهم وسُمُوِّ آدابهم، وقد حمل الرُّواة إلينا صوراً رائعة ودروساً خالدة من سيرتهم المثاليَّة، وأخلاقهم الفَذَّة.
 
4- لحسن الخلق آثار عديدة عديدة منها, تكامل الإيمان، مضاعفهُ الحسنات، وغفرانُ السَّيِّئات، الفوزُ بالجنَّة والنَّجاةُ من النَّار، وصلاح المجتمع.
 
5- التَّعاليم الإسلاميَّة تحثُّ المسلم على حسن الخلق ليس مع إخوانه المسلمين فحسب, بل حتَّى مع المخالفين له في المنهج والاعتقاد.
 
329

303

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

 الدَّرس الخامس والثلاثون:

طلب العلم: آدابه وآثاره


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يفهم عظمة العلم وثواب المتعلّم من خلال الآيات والرّوايات.
2- يذكر العلم المطلوب والمنجي وأهم شروطه.
3- يبيِّن أهمَّ خصائص المتعلّم والمتفقِّه في الدِّين.
 
331

304

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

 عظمة العلم

عظَّم الله العلم وشرَّفه فكانت أول كلمة أوحاها الله لنبيِّه "اقرأ" ورفع حامله درجات فقال عزّ وجلّ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾[1].
 
وفرضه على كلِّ مسلم فقال خاتم أنبيائه صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم"[2].
 
وقارن أمير المؤمنين عليه السلام بين العلم والمال قائلاً لصاحبه: "يا كميل العلم خير من المال: العلم يحرسك، وأنت تحرس المال. والعلم حاكم، والمال محكوم عليه. والمال تنقصه النَّفقة، والعلم يزكو على الإنفاق"[3].
 
وقارن النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بين العلم والعبادة فقال: "باب من العلم نتعلَّمه أحبّ إلينا من ألف ركعةٍ تطوُّعاً"[4].
 
وأخيراً شرَّف عليٌّ عليه السلام العلم بقوله "كفى بالعلم شرفاً أن يدَّعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا انتسب إليه، وكفى بالجهل ذمّاً أن يبرأ منه من هو فيه"[5].

 
 

 
[1] سورة المجادلة، الآية: 11.
[2] الشهيد الثاني، منية المريد، تحقيق: المختاريّ، لا. م، مكتب الإعلام الإسلاميّ، 1409هـ 1368ش، ص 99.
[3] م.ن، ص 110.
[4] م.ن، ص121. 
[5] م.ن، ص 110،
332

305

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

 ثواب المتعلّم

وبيَّن أهل بيت العصمة عليهم السلام ثواباً كبيراً لسالك طريق العلم فأخبرنا نبيُّنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام أنَّه: 
1- كالصَّائم نهاره القائم ليله: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من طلب العلم فهو كالصَّائم نهاره القائم ليله وإنَّ باباً من العلم يتعلَّمه الرَّجل خير له من أن يكون له أبو قبيسٍ ذهباً فأنفقه في سبيل الله"[1]. 
 
2- تُظِلُّه الملائكة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من غدا في طلب العلم أظلَّت عليه الملائكة وبورِك له في معيشته ولم ينقص من رزقه"[2].
 
3- تستغفر له الأرض: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "طالب العلم تستغفر له كلُّ الملائكة ويدعو له من في السَّماء والأرض"[3].
 
4- بينه وبين الأنبياء درجة: عن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيِي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنّة"[4].
 
5- من عتقاء الله من النَّار: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبَّ أن ينظر إلى عتقاء الله من النَّار، فلينظر إلى المتعلِّمين، فوالَّذي نفسي بيده، ما من متعلّم يختلف إلى باب العالم المعلِّم إلَّا كتب الله له بكلِّ قدم عبادة سنة، وبنى الله له بكلِّ قدم مدينة في الجنَّة، ويمشي على الأرض وهي تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفوراً له وتشهد الملائكة أنَّه من عتقاء الله من النَّار"[5].
 
 
 

 
[1] منية المريد، ص 100.
[2] م. ن، ص 103.
[3] بحار الأنوار، ج 2، ص 44.
[4] م. ن، ج 1، ص 184.
[5] منية المريد، ص 100.
333

306

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

صفة العلم المطلوب
نبَّه أهل العصمة عليهم السلام على الاهتمام بنوع العلم وصفته حتَّى لا تملأ نفس الإنسان بما يضرُّها، أو على الأقل بما لا ينفعها، ففي وصية الخضر عليه السلام لكليم الله موسى عليه السلام: "... واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك"[1].
 
من هنا كان نافع العلم شرطاً أساسيّاً في العلم المطلوب في كلمات أهل البيت عليهم السلام. وهذا ما عبّر عنه صريحاً نبيُّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم في قصِّته المعروفة حينما دخل المسجد فإذا جماعة قد طافوا برجل، فقال: ما هذا؟ فقيل: علاَّمة، فقال، وما العلاَّمة؟ فقالوا: أعلم النَّاس بأنساب العرب ووقائعها وأيَّام الجاهليَّة، والأشعار العربيَّة. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ذاك علم لا يضرُّ من جهله، ولا ينفع من علمه"، ثمَّ قال النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّما العلم ثلاثة: آية محكمة، وفريضة عادلة، وسنّة قائمة، وما خلاهنَّ فهو فضل"[2].
 
شروط العلم المنجي
اشترط أهل بيت العصمة عليهم السلام في العلم المنجي شرطين أساسيِّين:
الأوَّل: أن يكون لأجل العمل:
ففي وصيَّة الخضر عليه السلام لكليم الله موسى عليه السلام: "يا موسى تعلّم ما تعلم لتعمل به، ولا تعلَّمه لتحدِّث 
به فيكون عليك بَوْرُه، ويكون على غيرك نُوْرُه"[3].
 
الثَّاني: الإخلاص لله تعالى:
فعن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعلَّم علماً مما يبتغى به وجه الله عزّ وجلّ، لا يتعلَّمه إلَّا ليصيب به غرضاً من الدُّنيا لم يجد عَرْف * الجنَّة يوم القيامة"[4].
 
 
 

 
[1] منية المريد، ص 140.
[2] الكافي، ج 1، ص 32.
[3] منية المريد، ص 141.
(*)  العَرْف (بفتح العين وسكون الراء): الرائحة.
[4] منية المريد، ص 134.
334

307

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

 وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أوُّل الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتَّى استشهدت قال: كذبت، ولكنَّك قاتلت ليقال: جريء، فقد قيل ذلك، ثمَّ أمر به فسحب على وجهه حتَّى أُلقي في النَّار، ورجل تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأتى به فعرَّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنَّك تعلَّمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ القرآن، فقد قيل ذلك، ثم أمر به فسحب على وجهه حتَّى ألقي في النَّار"[1].

 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما ازداد عبدٌ علماً فازداد في الدُّنيا رغبة إلّا ازداد من الله بعداً"[2].
 
وفي هذين الشَّرطين اشتهر على لسان الفقهاء قولهم: "النَّاس كلُّهم هلكى إلَّا العالمون، والعالمون كلّهم هلكى إلَّا العاملون، والعاملون كلُّهم هلكى إلا المخلصون.."[3].
 
وجوب التَّفقُّه في الدين
قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[4]. 
 
تدلّ الآية على وجوب تعلّم الأحكام لغاية الإنذار والإرشاد بالنَّسبة إلى القوم الَّذين لا يعلمون، فيجب إرشاد الجاهل 
على العالم بحكم الآية الكريمة. 
 
وورد في فضل الفقه وأهميّة التَّفَقُّه والحثِّ عليه مجموعة كبيرة من الرّوايات الَّتي تحثّ على تعلّمه والاجتهاد والعمل به، منها:
- عن رسول الله: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقَّهه في الدِّين، وألهمه رشده"[5].
 
 
 

 
[1] منية المريد، ص 134.
[2] م. ن، ص 135.
[3] الغزالي، إحياء علوم الدِّين، ج 11، بيروت، دار الكتاب العربيّ، ص 139. وروي عن الرَّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "العلماء كلُّهم هلكى إلّا العاملون" العاملون كلّهم هلكى إلّا المخلصون والمخلصون على خطر، تنبيه الخواطر، ورام الحالكيّ الأشتريّ، ج 2، ط 2، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1368ش، ص 437.
[4] سورة التوبة، الآية 122.
[5] كنز العمال، ج 10، ص 137.
335

308

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

 - وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "ما عبد الله تعالى بشيء أفضل من الفقه في الدِّين"[1].

 
- وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أُفٍّ لكلِّ مسلم لا يجعل في كلِّ جمعة (الأسبوع) يوماً يتفقَّه فيه أمر دينه، ويسأل عن دينه"[2].
 
- روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "إذا تفقّهت فتفقّه في دين الله"[3].
 
- روى إسحاق بن عمّار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "ليت السِّيّاط على رؤوس أصحابي حتَّى يتفقَّهوا في الحلال والحرام"[4].
 
- عن أبي عبد الله عليه السلام: "تفقَّهوا في دين الله، ولا تكونوا أعراباً, فإنَّ من لم يتفقَّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يُزَكِّ له عمله"[5].
 
خصائص التَّفقُّه وآثاره
 يظهر من خلال تتبُّع الرّوايات وجود العديد من الخصائص الخاصَّة بالفقيه، إلى جانب العديد من الآثار الَّتي ينبغي أن 
تنعكس على سلوك المتفقّه في دين الله تعالى منها:
- القصد في العمل: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما ازداد عبد قطُّ فقهاً في دينه إلَّا ازداد قصدا في عمله"[6]. 
 
- إصلاح المعيشة: وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من فقه الرَّجل أن يصلح معيشته..."[7]. 
 
- الورع: عن الإمام عليّ عليه السلام: "إن أفضل الفقه الورع في دين الله والعمل بطاعته"[8].
 
 
 

 
[1] كنز العمال، ج 10، ص 147.
[2] بحار الأنوار، ج1، ص 176.
[3] غرر الحكم، ص 8.
[4] البرقيّ، المحاسن، تحقيق: الحسيني (المحدث)، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1370هـ.ق، ص 229.
[5] م. ن، ص 228.
[6] كنز العمال، ج 3، ص 45.
[7] م. ن، ص 51.
[8] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص71.
336

309

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

 - عدم الغرور: عن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ من الحقّ أن تتفقَّهوا، ومن الفقه أن لا تغترُّوا"[1]. 

- الحلم والقصد في الكلام: عن الإمام الرِّضا عليه السلام: "من علامات الفقه الحلم والعلم والصَّمت"[2].
 
التَّفقُّه روح العبادة
وهو ما نجده في العديد من الرّوايات الَّتي قرنت بين التَّفقُّه والعبادة. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قليل الفقه خير من كثير العبادة"[3]. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "لا خير في عبادة ليس فيها تفقُّه، ولا خير في علم ليس فيه تفكُّر، ولا خير في قراءة ليس فيها تدبُّر"[4]. "ولا عبادة إلا بتفقُّه"[5] كما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام. 
 
إنَّ التَّفقُّه في الدِّين من القضايا الَّتي أرسل الله تعالى الأنبياء لأجلها، حيث كلّفهم بالدَّعوة إلى الدِّين، وتعليم النَّاس أحكام الله تعالى، كي يتفقّهوا في الدِّين، وينظّموا علاقتهم بالله تعالى، ويستقيم سلوكهم وعلاقتهم بالله تعالى، ولا يقصد بالتَّفقُّه أن يتفرّغ النَّاس جميعاً لدراسة العلوم الدِّينيَّة والفقه بالمصطلح المتداول، بل المراد أن يتفقّه النَّاس بالمقدار 
اللَّازم من الدِّين، فيتعلَّمون من العقيدة ما يصحّح إيمانهم واعتقادهم وفكرهم، ويتعلَّمون من الفقه ما ينظّم عباداتهم وعلاقتهم بالله والنَّاس، ومن الأخلاق ما يزكِّي النَّفس ويهذّب السُّلوك. فبهذا المقدار من التَّفقّه يمكن أن ينجو الإنسان 
يوم القيامة، ويعيش حياته الدُّنيويَّة بسعادة وانتظام.
 
 
 

 
[1] نهج السعادة، ج 3، ص 29.
[2] الشيخ المفيد، الاختصاص، ص 232.
[3] كنز العمال، ج 10، ص 155.
[4] الحرّانيّ، تحف العقول، ص 204.
[5] تفسير نور الثَّقلين، ج 1، ص 41.
337

310

الدَّرس الخامس والثلاثون: طلب العلم: آدابه وآثاره

 المفاهيم الرئيسة

1- عظَّم الله العلم وشرَّفه فكانت أوَّل كلمة أوحاها الله لنبيِّه "اقرأ".
 
2- للمتعلّم ثواب كبير عند الله تعالى حيث تُظِلُّه الملائكة وتستغفر له، وأعدَّ له من الأجر ما يدنو من درجة الأنبياء، ومقامه عند الله فوق مقام العابدين، وهو من عتقاء الله من النَّار.
 
3- نبَّه أهل العصمة عليهم السلام على الاهتمام بنوع العلم وصفته حتَّى لا تملأ نفس الإنسان بما يضرُّها.
 
4- اشترط أهل بيت العصمة عليهم السلام في العلم المنجي شرطين أساسيَّين: أن يكون لأجل العمل، وأن يكون خالصاً لوجه الله.
 
5- ورد في فضل الفقه وأهميّة التَّفقُّه والحث عليه مجموعة كبيرة من الرّوايات الَّتي تحثُّ على تعلُّمه والاجتهاد والعمل به.
 
6- التَّفقُّه روح العبادة وجوهرها، ولا خير في عبادة لا تفقُّه فيها, لأنَّ العبادة الصَّحيحة متوقِّفة على المعرفة الصَّحيحة.
 
338

311

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

 الدَّرس السادس والثلاثون:

الدُّعاء وأثره التربوي


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيِّن أهمِّيَّة الدُّعاء ومنزلته في الإسلام.
2- يذكر أهمَّ آداب الدعاء.
3- يعدّد الأسباب الَّتي تحول أحياناً دون استجابة الدُّعاء.
 
339

312

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

الدُّعاء وأهميـّته

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[1].

 

الدُّعاء عبادة يُمارسها الإنسان في جميع حالاته. وهو عبارة عن كلام المخلوق مع خالقه، ويُترجم عمق الصِّلة بين العبد وربّه، ويعكس حالة الافتقار المتأصِّلة في ذات الإنسان إلى الله سبحانه، والإحساس العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده.

 

فالدُّعاء مفتاح الحاجات ووسيلة الرَّغبات، وهو الباب الَّذي خوَّله تعالى لعباده، كي يلجوا إلى ذخائر رحمته وخزائن مغفرته، وهو الشِّفاء من الدَّاء، والسِّلاح في مواجهة الأعداء، ومن أقوى الأسباب الَّتي يُستدفع به البلاء ويُردُّ به القضاء, ولذلك، فإنّنا نجد الدُّعاء من أبرز القيم الرَّفيعة عند الأنبياء والأوصياء والصّالحين عليهم السلام، ومن أهمّ السُّنن المأثورة عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أدلّكم على سلاح يُنجيكم من أعدائكم ويدرُّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: تدعون ربّكم باللَّيل والنَّهار, فإنَّ سلاح المؤمن الدُّعاء"[2].

 

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الدُّعاء مخُّ العبادة، ولا يهلك مع الدُّعاء أحد"[3].

 

وفي الحديث القدسيّ: "يا موسى، سلني كلَّ ما تحتاج إليه، حتَّى علف شاتك، وملح عجينك"[4].

 

 

 


 

[1] سورة غافر، الآية: 60.

[2] الكافي، ج2، ص 468.

[3] بحار الأنوار، ج 90، ص 300 (تحقيق: البهبوديّ).

[4] ابن فهد الحلّي، عدّة الداعي، تحقيق: الموحّديّ القمّيّ، لا. ط، قم، مكتبة وجداني، لا. ت، ص 123.

340

313

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

 وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الدُّعاء ترس المؤمن، ومتى تُكثر قرع الباب يُفتح لك"[1].

 
وعن الإمام الرِّضا عليه السلام أنَّه كان يقول لأصحابه: "عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: الدُّعاء"[2].
 
آداب الدُّعاء
من المعلوم أنّ لكلّ أمر عباديّ آدابه وشروطه، والدُّعاء واحد من أهمّ العبادات في حياة الإنسان، لا سيّما الإنسان المؤمن، فله آدابه الظَّاهريّة والباطنيّة، ومنها: تقديم المدحة لله والثَّناء عليه والصَّلاة على محمَّد وآل محمَّد قبل المسألة. فقد روى الحارث بن المغيرة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إيّاكم إذا أراد أن يسأل أحدكم ربّه شيئاً من حوائج الدُّنيا حتَّى يبدأ بالثَّناء على الله عزَّ وجلَّ والمدحة له، والصَّلاة على النَّبيّ (وآله)، ثمَّ يسأل الله حوائجه"[3].
 
وعنه عليه السلام أيضاً أنَّه قال: "إيّاكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربّه شيئاً من حوائج الدّنيا والآخرة حتّى يبدأ بالثّناء على الله عزّ وجلّ والمدح له والصّلاة على النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ يسأل الله حوائجه"[4].
 
السِّرُّ في عدم استجابة الدُّعاء
لكن مع رعاية الكثير من الآداب الظَّاهريَّة والباطنيَّة، والإلحاح بالدُّعاء، نجد أنَّ الله سبحانه وتعالى لا يستجيب دعاءنا، ولا تتحقّق آمالنا، فما السرُّ في ذلك؟ هناك أسباب عديدة منها ما روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنَّه قال: "أربعة لا تُستجاب لهم دعوة: 
 
 
 

 
[1] عدّة الداعي، ص 12. 
[2] الكافي، ج 2، ص 468.
[3] بحار الأنوار، ج 90، ص 314.
[4] الكافي، ج2، ص 484.
341

314

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

 1- رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني. فيُقال له: ألم آمرك في الطَّلب؟

2- ورجل كانت له امرأة فاجرة، فدعا عليها. فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟
3- ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهمّ ارزقني. فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد، ألم آمرك بالإصلاح. ثمّ قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾[1].
4- ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة. فيقال له: ألم آمرك بالشَّهادة؟"[2].
 
وهناك عوامل وأسباب أخرى نذكر منها:
1-  الدُّعاء بقلب قاسٍ أو لاهٍ:
وهي من أعظم المصائب الَّتي يُبتلى بها الإنسان المؤمن، بحيث يُسلب منه لذيذ مناجاة الله سبحانه، فهو يدعو بلسانه، وقلبُه معلّق بالدُّنيا ومشاغلها، فكيف يتوقّع استجابة دعائه وهو لا يلتفت لما يدعو ومن يدعو؟! بل عليه أن يلتفت بكلِّه لمسبِّب الأسباب، ويتوجَّه بقلبه إلى ربِّ الأرباب، حتَّى يتوقَّع الإجابة.
 
روى سليمان بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلبٍ ساهٍ, فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثمّ استيقن بالإجابة"[3].
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الله، عزَّ وجلَّ, لا يستجيب دعاءً بظهر قلبٍ قاسٍ"[4].
 
2- الدُّعاء عند وقوع البلاء فقط:
كثيرٌ من النَّاس لا يعرف الدُّعاء إلّا بعد حلول البلاء عليه، وبعد نزول المصائب، فأين كان أيّام الدَّعة والرَّخاء؟! ولِمَ لم
تكن الملائكة تسمع صوته عندما كان معافى وغنيّاً وآمناً؟! فإذا أراد الإنسان أن يُستجاب دعاؤه عند نزول الشَّدائد والمصائب 
 
 
 
 

 
[1] سورة الفرقان، الآية 67.
[2] الكافي، ج2، ص 511.
[3] الكافي، ج 2، ص 483.
[4] م. ن، ص 474.
 
342

315

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

 والابتلاءات، - وهذه هي حال الدُّنيا -، فعليه أن يدعوَ الله سبحانه على كلّ حال، ويستعجل بالدُّعاء وهو في أمن وأمان، وصحّة وسلام، وغنى وإنعام، فليس الدُّعاء لدفع الضَّرر فقط، وإنّما هو لاستدرار الخير أيضاً، وعلى الإنسان أن يلتفت إلى أنّ الشُّرور والمصائب الّتي يدفعها الله عنه كثيرة جدّاً، ونِعَم الله عليه لا تُحصى. فحريّ به أنْ يدعوه ويشكره 

على كلِّ حال.
 
روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من تقدّم في الدُّعاء استُجيب له إذا نزل به البلاء، وقيل: صوت معروف ولم يُحجب عن السَّماء، ومن لم يتقدَّم في الدُّعاء، لم يُستجب له إذا نزل به البلاء وقالت الملائكة: إنّ ذا الصَّوت لا نعرفه"[1].
 
3- الإصرار على المعاصي:
كيف يتوقّع الدَّاعي أنْ يستجيب الله له وهو مصرّ على معصيته؟! وكيف يتوقّع الخير وهو لا ينفكّ عن فعل الشَّرّ؟! روي عن أبي ذرّ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، في وصيّته له قال: "يا أبا ذرّ، يكفي من الدُّعاء مع البرّ ما يكفي الطَّعام من الملح، يا أبا ذرّ، مثل الّذي يدعو بغير عمل كمثل الّذي يرمي بغير وتر. يا أبا ذرّ إنّ الله يُصلح بصلاح العبد ولدَه وولدَ ولدِه، ويحفظه في دويرته والدُّور حوله ما دام فيهم"[2].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "كان رجل من بني إسرائيل يدعو الله تعالى، أنْ يرزقه غلاماً، ثلاث سنين، فلمّا رأى أنّ الله لا يُجيبه قال: يا ربّ، أبعيد أنا منك فلا تسمعني، أم قريب فلا تُجيبني؟ فأتاه آتٍ في منامه قال: إنّك تدعو الله منذ ثلاث سنين بلسانٍ بذيء وقلبٍ عاتٍ غير نقيّ، ونيّة غير صافية (صادقة)، فأقلع عن بذائك، وليتّق الله قلبُك، ولتحسِّن نيّتك، ففعل الرَّجل ذلك عاماً فولد له غلام"[3].

 
 

 
[1] الكافي، ص 472.
[2] وسائل الشيعة، ج 7، ص 84-85.
[3] الكافي، ج 2، ص 324-325.
343

316

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

 وروى عليّ بن أسباط عن أبي عبد الله عليه السلام: "مَن سرّه أنْ تُستجابَ دعوته فليطيّب مكسبه"[1].

 
وفيما وعظ الله به عيسى عليه السلام: "يا عيسى، قل لظَلَمة بني إسرائيل: غسلتم وجوهكم ودنّستم قلوبكم، أبي تغترّون، أم عليَّ تجترئون؟ تتطيّبون بالطِّيب لأهل الدُّنيا وأجوافكم عندي بمنزلة الجيف المنتنة، كأنّكم أقوام ميّتون.
 
يا عيسى، قل لهم: قلّموا أظفاركم من كسب الحرام، وأصمّوا أسماعكم عن ذكر الخنا (الفحشاء)، وأقبلوا عليَّ بقلوبكم, فإنّي لست أريد صوركم.
 
يا عيسى قل لظلَمة بني إسرائيل: لا تدعوني والسُّحت تحت أقدامكم، والأصنام في بيوتكم, فإنّي آليت (أقسمت) أن أُجيب من دعاني، وإنّ إجابتي إيّاهم لعناً لهم حتّى يتفرَّقوا"[2].
 
4- ظُلم النَّاس:
كيف يتأمَّل الإنسان أن يستجيب له ربُّه وهو يظلم أحداً من عباده، أخوته، أو زوجته، أو أولاده، أو موظَّفيه، أو جيرانه أو أحداً من أهل ملّته ومذهبه وهم ليس لهم ناصرٌ ولا معين غير الله؟ هيهات! فإنَّ الظُّلم حاجب عن الخيرات مانع للبركات، وعدم استجابة الدُّعاء واحدة آثار ظلم الإنسان لعيال الله وخلقه.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾[3] قال: "قنطرة على الصِّراط لا يجوزها عبد بمظلمة"[4].
 
عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر عليه السلام قال: "لما حضر عليّ بن الحسين عليهما السلام الوفاة ضمّني إلى صدره، ثمّ قال: يا بُنيّ أوصيك بما أوصاني به أبي عليه السلام حين حضرته الوفاة وبما ذكر أنّ أباه أوصاه به.
 
قال: يا بُنيّ إيّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلّا الله"[5].
 
 
 

 
[1] وسائل الشيعة، ج 7، ص 84.
[2] الكافي، ج 8، ص 138.
[3] سورة الفجر، الآية 14.
[4] الكافي، ج 2، ص 331.
[5] م. ن.
344

317

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

 من لا يردّ دعاؤه

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان أبي عليه السلام يقول: خمس دعوات لا تحجبن عن الرَّبّ تبارك وتعالى:
1- دعوة الإمام المقسط (العادل).
2- ودعوة المظلوم، يقول الله (عزَّ وجلَّ): لأنتقمنّ لك ولو بعد حين.
3- ودعوة الولد الصَّالح لوالديه.
4- ودعوة الوالد الصَّالح لولده.
5- ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب، فيقول: ولك مثله"[1].
 
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إيّاكم ودعوة المظلوم, فإنَّها تُرفع 
فوق السَّحاب حتّى ينظر الله عزَّ وجلَّ إليها فيقول: ارفعوها حتّى أستجيب له، وإيّاكم ودعوة الوالد, فإنَّها أحدُّ 
من السَّيف"[2].
 
عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا استُجيب له"[3].
 
وعن عبد الله بن طلحة النَّهديّ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أربعة لا تُردُّ لهم دعوة حتّى تُفتح لهم أبواب السَّماء وتصير إلى العرش:
1- الوالد لولده.
2- والمظلوم على من ظلمه.
3- والمعتمر حتّى يرجع.
4- والصَّائم حتّى يُفطر"[4].
 
 
 

 
[1] الكافي، م. ن، ص 509. 
[2] م. ن.
[3] م. ن.
[4] م. ن.
345

318

الدَّرس السادس والثلاثون: الدُّعاء وأثره التربوي

 المفاهيم الرئيسة

 
1- الدُّعاء هو كلام المخلوق مع خالقه، يُترجم عمق الصِّلة بين العبد وربّه، ويعكس حالة الافتقار المتأصّلة في ذات 
الإنسان إلى الله سبحانه، والإحساس العميق بالحاجة إليه والرَّغبة فيما عنده.
 
2- لكلّ أمر عباديّ آدابه وشروطه، والدُّعاء واحد من أهمّ العبادات في حياة الإنسان، لا سيّما الإنسان المؤمن، فله آدابه الظَّاهريّة والباطنيّة.
 
3- الدُّعاء مفتاح الحاجات، وباب الخيرات، وهو الشِّفاء من الدَّاء، والسِّلاح في مواجهة الأعداء، ومن أقوى الأسباب الّتي يُستدفع بها البلاء ويُردّ بها القضاء.
 
4- من أُعطيَ الدُّعاء أعطي الإجابة، ولكن أحيانا قد لا يستجاب الدُّعاء أو ربَّما يؤخّر، وهذا مردّه إلى عدّة عوامل وأسباب منها على سبيل المثال, ظلم النَّاس، الإصرار على المعاصي، الدُّعاء بقلب لاه وساه. 
 
5- كما لا يُستجاب لدعاء أفراد من النَّاس بسبب بعض الموانع، تُعجَّل، في المقابل، الإجابة لآخرين، مثل: الإمام العادل، المظلوم، الولد الصَّالح،... إلخ.
 
 
346

319

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 الدَّرس السابع والثلاثون:

غضُّ النَّظر
 
 
أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يستدلَّ على مخاطر النَّظر المحرّم على قلب الإنسان وعبادته.
2- يذكر أهمَّ الآثار السَّلبيَّة والخطيرة للنَّظر المحرَّم.
3- يبيّن كيفيَّة معالجة هذه الآفة بالطُّرق العلميَّة والعمليَّة.
 
347

320

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 نعمة النَّظر

إنَّ نعم الله تعالى على الإنسان لا تحصى، ومن نعمه الإلهيَّة الكبرى العين, إذ يبصر بها ما حوله من المخلوقات والأشياء، فيرى جمال الكون وعجائبه، إلى ما هنالك من فوائد كثيرة للعين، حتَّى قيل: "إن أردت أن تعرف نعمة الله عليك فأغمِض عينيك"، مع كلِّ هذا قد تكون العين وبالاً على الإنسان في دنياه وآخرته، إذا لم يحسن استخدامها ضمن الحدود الَّتي وضعها الله تعالى لها، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"[1].
 
ولذلك نبَّهنا الله تعالى إلى خطورة أمر العين، فأرشدنا إلى استعمالها في الموارد المفيدة، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾[2]. 
 
ارتباط العين بالقلب‏
لقد حذَّرنا الله تعالى من استعمال نعمة البصر في الموارد المضِرَّة، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...﴾[3].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 293.
[2] سورة الغاشية، الآيات 17-20.
[3] سورة النور، الآيتان: 30-31.
 
348

321

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 وقد أكَّدت الكثير من الرّوايات الشَّريفة على خطورة النَّظر المحرَّم على روح الإنسان المؤمن وقلبه، لدرجة أنَّها تفسد الإيمان وتنبت الفسق في نفسه، ففي الحديث عن النبيّ عيسى عليه السلام: "إذا أبصرت العين الشَّهوة، عمي القلب عن العاقبة"[1].

 
"إياكم والنظر إلى المحذورات فإنها بذر الشهوات ونبات الفسق".
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "يا بن جندب! إنَّ عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه: إيَّاكم والنَّظرة, فإنَّها تزرع في القلب الشَّهوة وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه"[2].
 
والرِّوايتان السَّابقتان تشيران إلى حقيقة وهي أنَّ العين لها تأثير كبير على القلب, فإنَّ كلَّ ما تُمعِن به العين، لا بدَّ من أن تنطبع صورته في عقل الإنسان وقلبه، ويترك آثاراً في روحيَّته ونفسيَّته، حتَّى لو نسيه في فترات معيَّنة، إلَّا أنَّ آثاره الباطنيَّة قد تبقى لتؤثِّر بشكل غير مباشر، أو لتتفَّعل في أوقات وظروف معيَّنة, لذا فإنَّ هذا الأمر خطير على الإنسان، حيث إنّ العين باب من أبواب حصن النَّفس، وفتح هذا الباب لكلِّ طالح سيلوّث النّفس ويُكّدِّر نقاءها, لذا ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "العيون طلائع القلوب"[3].
 
من هنا كانت النَّظرة خطوة أولى من خطوات الشَّيطان، لإيقاع الانسان في الخطيئة والفاحشة الكبرى, لأنَّ الوقوع في 
الفواحش إنَّما يكون بمقدمات، يأخذ الشَّيطان الإنسان إليها خطوة خطوة, ولذلك قال ربنا: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾[4]، فالشَّيطان يستدرج الانسان دركة دركة. نظرة ثمَّ خطرة ثمَّ فكرة ثمَّ إرادة ثمَّ عزيمة ثمَّ وفي نهاية المطاف فعل.
 
 
 
 

 
[1] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص 35.
[2] الحرّانيّ، تُحف العقول، ص 305.
[3] م. ن.
[4] سورة البقرة، الآية 168، والآية 208, سورة الأنعام، الآية 142.
349

322

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 عواقب النَّظر المحرَّم‏

إنَّ جزاء النَّظر المحرَّم عند الله تعالى شديد جدّاً، وقد عبّرت بعض الرّوايات عن عواقب من يملأ عينيه من النَّظر الحرام بصور عجيبة، منها:
1- يملأ عينيه نار: ففي الرِّواية عن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من ملأ عينه من حرام ملأ الله عينه يوم القيامة من النَّار، إلَّا أن يتوب ويرجع"[1].
 
2- يؤدِّي إلى الحسرة والنَّدامة: قال الإمام عليّ عليه السلام: "كم من نظرة جلبت حسرة"[2].
 
3- الغضب الإلهيّ: فعن الرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "اشتدَّ غضب الله عزَّ وجلَّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها، أو غير ذي محرم منها"[3].
 
4- الغفلة والهوى: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وإيَّاكم وفضول النَّظر, فإنَّه يَبْذُرُ الهوى ويُوَلّد* الغفلة..."[4].
 
وقال الإمام عليّ عليه السلام: "ليس في البدن شيء أقلُّ شكراً من العين, فلا تعطوها سؤلها, فتشغلكم عن ذكر الله عزَّ وجلَّ"[5].
 
آثار غضِّ البصر
لغضِّ النَّظر آثارٌ نورانية وبركات عظيمة نذكر منها:
1- رضا الله تعالى، والثَّواب العظيم: قال الإمام الصَّادق عليه السلام: "من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السَّماء أو أغمض بصره لم يرتدَّ إليه طرفه حتَّى يزوِّجَه الله من الحور العين"[6].

 
 

 
[1] الصَّدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ط 2، قم، مؤسَّسة النَّشر الإسلاميّ، 1404هـ، ص 14.
[2] تحف العقول، ص 90.
[3] ثواب الأعمال، ص 286-287.
[4] تُحف العقول، ص 119.
(*) يُوَلّد أو يُوْلِد، مع ملاحظة أنَّ الكلمة غير مُشكَلَة في الأصل، ولعلّ الصَّحيح يُوَلّد بتشديد اللام.
[5] وسائل الشيعة، (آل البيت)، ج 20، ص 193.
[6] مستدرك الوسائل، ج 14، ص 268.
350

323

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 2- حلاوة الإيمان: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "النَّظرة سهم مسموم من سهام, إبليس فمن تركها خوفاً من الله أعطاه الله إيماناً، يجد حلاوته في قلبه"[1].

 
3- راحة القلب: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "من غضَّ طرفه، أراح قلبه"[2]. 
 
4- الأمن من وسوسة الشَّيطان: قال الإمام عليّ عليه السلام: "العيون مصائد الشَّيطان"[3].
 
5- حلاوة العبادة: في الحديث الشَّريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مسلم ينظر امرأة أوَّل رمقة
ثمَّ يغضَّ بصره إلَّا أحدث الله تعالى له عبادة يجد حلاوتها في قلبه"[4]. 
 
6- مشاهدة العظمة والجلال: وهي تحفظ الإنسان عن الوقوع في الذُّنوب. ففي الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "ما اعتصم أحد بمثل ما اعتصم بغضِّ البصر, فإنَّ البصر لا يغضُّ عن محارم الله، إلَّا وقد سبق إلى قلبه مشاهدة العظمة والجلال"[5]. 
 
كيف يغضُّ الإنسان بصره؟
غضُّ الطَّرف يحتاج إلى معرفة، وإلى عزيمة، وقوَّة إرادة. فعلى المكلَّف أن يعرف الآثار، والعواقب الوخيمة لهذه الآفة، ثمَّ
عليه أن يشحذ همّته لمخالفة النَّفس، عندما تسوّل له النَّظر إلى ما يحرم النَّظر إليه.
 
قال الإمام السَّجاد عليه السلام: "وأمَّا حقُّ بصرك فغضُّه عمَّا لا يحلُّ لك وترك ابتذاله

 
 

 
[1] بحار الانوار, ج101, ص38.
[2] مستدرك الوسائل، ج 14، ص 271.
[3]  كنز العمّال، ص 327.
[4] م. ن، ج 5، ص 372.
[5] بحار الأنوار، ج 101، ص 14. (تحقيق: البهبوديّ)
351

324

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 إلَّا لموضع عبرة، تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً, فإنَّ البصر باب الاعتبار"[1]. ويمكن أن تكون هناك بعض الأمور الَّتي تساعد على غضِّ البصر، منها:

1-  قطع النَّظر من البداية:
فالرَّجل الَّذي يتبع النَّظرة الأولى الثَّانية، ولا يغضُّ الطَّرف عمَّا حرم عليه كمثل رجل ركب فرسًا جديدًا فمالت به إلى درب ضَيِّق بحيث تنفُذ فيه هذا الفرس بصعوبة، وإذا دخلت فإنَّه لا يستطيع أن يستدير بها، فيه, فإذا همَّت بالدُّخول 
في النَّفق قام الفارس بكبحها ومنعها من الدُّخول. أمَّا لو توانى حتَّى دخلت، وساقها الفارس طوعا إلى داخل النَّفق، ثمَّ 
عمد لاحقا إلى إخراجها من النَّفق بجذبها من ذنبها، لعسر عليه ولتعذَّر عليه إخراجها. وفي نفس الوقت لن يقول عاقل 
أنَّ طريق تخليصها بسوقها إلى الدَّاخل أيضاً؟
 
فكذلك هي حال النَّظرة إذا أثَّرت في القلب، ولم يردعها الإنسان قبل أن تلج مضائق الحرام. وإن كرَّر النَّظر ونقَّب في 
محاسن الصُّورة، ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكَّنت المحبَّة وكلَّما تواصلت النَّظرات كانت كالماء يسقي الشَّجرة، فلا 
تزال شجرة الحبّ تنمى حتَّى يفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب 
المحظورات والفتن، ويلقي القلب في التَّلف. والسَّبب في هذا أنَّ النَّاظر التذَّت عينه بأوَّل نظرة, فطلبت المعاودة كأكل 
الطَّعام اللَّذيد إذا تناول منه لقمة. ولو أنَّه غضَّ أوَّلاً لاستراح قلبه وسلم.
 
2- معرفة الله ومراقبته وتقواه:
إنَّ معرفة الله تعالى، ومراقبته وتقواه، هي أمور أساسيَّة في حفظ الإنسان، وابتعاده عن المحرَّمات. فينبغي العلم بأنَّ الله 
بصير بالعباد، وأنَّه يرى وأنَّه رقيب وأنَّه يعلم السِّرَّ وأخفى، ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[2].
 
 
 

 
[1] رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام (راجع: تحف العقول، م. س، ص 257). 
[2] سورة النّور، الآية: 30.
352

325

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 وعن أمير المؤمنين عليه السلام حينما سئل: بما يستعان على غمض البصر؟ فقال: "بالخمود تحت سلطان المطلع على سرِّك"[1].

 
3- الحياء من الله تعالى:
وذلك بالمراقبة والخوف من الله عزَّ وجلَّ والعمل بوصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: 
"أوصيك أن تستحي من الله،ـ تعالى، كما تستحي من الرَّجل الصَّالح من قومك"[2].
 
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استحيوا من الله حقَّ الحياء، قيل له: يا رسول الله: إنّا لنستحيي من الله حق الحياء، فقال: ليس كذلك، من استحيا من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرَّأس وما وعى، والبطن وما حوى وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقَّ الحياء"[3].
 
4- العزم الصَّادق والإرادة القويَّة:
فالله تعالى، كما يقول في كتابه الكريم، لا يغيَّر حال النَّاس ما لم يعزموا بأنفسهم على التغيير، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾[4]. فإذا عزم الإنسان وجاهد نفسه فترة، أتاه نصر الله وهداه سواء السَّبيل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[5].
 
5- إشغال النَّظر بما هو مفيد:
 ومن مظاهر ذلك, النَّظر إلى خلق الله من السَّموات والأرض، والتَّفكُّر في عظمة الخالق، وآياته: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ 
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 101، ص 41. 
[2] روضة الواعظين، ص 460.
[3]  الكراجكي، كنز الفوائد، ط 2، قم، مكتبة المصطفويّ، 1369ش، ص 98.
(*) ملاحظة في الأصل ورد ما لفظه: "فليحفظ الرّأس وما حوى والبطن وما وعى" ولعله من سهو الناسخ, لأنّ الوعي من صفات العقل، ويؤيِّد ذلك أنه ورد في كتاب: روضة الواعظين (م. س، ص 461) ورد الحديث باختلاف يسير ولكن فيه ما لفظه: "فليحفظ الرّأس وما وعى، والبطن وما حوى.
[4] سورة الرعد, الآية:11.
[5] سورة العنكبوت، الآية: 69.
353

326

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 الْحَقُّ﴾[1]. إنَّ للتَّفكُّر بآيات الله دور كبير وحاسم في نهي النَّفس، وردعها عن الحرام, لأنَّها سوف تشغلها بالله وعظمته 

الَّتي لا حدَّ لها.
 
6- معرفة عواقب النَّظر المحرَّم:
وهو من الأمور المساعدة إلى حدٍّ كبير لمعالجة هذه الآفة المهلكة, فإنَّ لمعرفة عواقب وآثار النَّظر المحرَّم، قوَّة ردع تحظر على الإنسان أن يتساهل مع هذه المعصية، أو أن يستخفَّ بها.
 
7- الزَّواج:
لقول النَّبيِّ: "يا معشر الشَّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج, فإنَّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصَّوم, فإنَّه له وجاء"[2].
 
 
 

 
[1] سورة فُصِّلت، الآية: 53.
[2] كنز العمّال، ج 16، ص 272.
354

327

الدَّرس السابع والثلاثون: غضُّ النَّظر

 المفاهيم الرَّئيسة

1- العين من النِّعم الإلهيَّة الكبرى، الَّتي ينبغي الحرص على كيفيَّة استخدامها كي لا توردنا موارد التَّهلكة. 
 
2- أكَّد الدِّين الحنيف على خطورة النَّظر المحرَّم على روح الإنسان المؤمن وقلبه، لدرجة أنَّها تفسد الإيمان وتنسي الآخرة والحساب.
 
3- النَّظرة خطوة أولى من خطوات الشَّيطان لإيقاع الانسان في الخطيئة والفاحشة الكبرى, لأنّ الوقوع في الفواحش إنَّما يكون بمقدمات يأخذ الشَّيطان الإنسان إليها خطوة خطوة.
 
4- إنَّ جزاء النَّظر المحرَّم عند الله تعالى شديد جدّاً وقد عبّرت بعض الرّوايات عن عواقب من يملأ عينيه من النَّظر الحرام بصور عجيبة ومرعبة.
 
5- لغضِّ النظر آثارٌ نورانيّة وبركات عظيمة، نذكر منها: رضا الله، وحلاوة الإيمان في النَّفس، وراحة القلب، وحلاوة العبادة، والأمن من وسوسة الشَّيطان، والوقاية من مفاتن الشّهوات.
 
6- غضّ الطَّرف يحتاج إلى معرفة وإلى عزيمة وقوة إرادة. فعلى المكلّف أن يعرف الآثار والعواقب الوخيمة لهذه الآفة، ثمَّ عليه أن يخالف نفسه عندما تسوّل له النَّظر إلى ما يحرم النَّظر إليه.
 
7- هناك بعض الأمور الَّتي تساعد على غضِّ البصر، منها: قطع النَّظر إلى المحرّم منذ البداية، الحياء من الله الّذي يعلم السِّرَّ وما أخفى، إشغال النَّفس بما هو أنفع له من الذِّكر والتَّفكُّر بآيات الله، ويبقى الزَّواج هو الحلُّ العمليُّ في المقام.
 
355 
 

328

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 الدَّرس الثامن والثلاثون: 

الغضب


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن خصائص كلَّ من الغضب الممدوح والمذموم.
2- يعدّد أسباب الغضب وأهمَّ آثاره السَّلبيَّة.
3- يبيِّن الطَّريق النَّاجع لكيفيَّة معالجة هذه الآفة.
 
357

329

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 الغضب وأنواعه

الغضب حالة نفسانيّة أودعها الله سبحانه في الإنسان للاستفادة منها في حفظ نفسه والدَّفاع عنها وعمّا يتعلّق به، ممّا يؤدّي إلى بقاء النَّوع الإنساني، ولكن هذه الحالة النَّفسانيّة قد تخرج عن حدّ الاعتدال، عندما يُسيء الإنسان الاستفادة منها, فتُصبح صفة مذمومة تؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه.
 
وقد عرّف علماء الأخلاق الغضب بأنّه: "ثوران القوّة (والنُّفور) على الغير لقصد الانتقام والتَّشفّي"[1].
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم أنّ غريزة الغضب من النِّعم الإلهيَّة، الّتي يُمكن بها عمارة الدُّنيا والآخرة، وبها يتمُّ الحفاظ على بقاء الفرد والجنس البشريّ والنِّظام العائليّ، ولها تأثير كبير في إيجاد المدينة الفاضلة 
ونظام المجتمع. فلولا وجود هذه الغريزة الشَّريفة في الحيوان لما قام بالدِّفاع عن نفسه ضدّ هجمات الطَّبيعة، 
ولآل أمره إلى الفناء والاضمحلال. ولولا وجودها في الإنسان، لما استطاع أن يصل إلى كثير من مراتب تطوُّره 
وكمالاته...
 
إنّ القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنفيذ الحدود والتَّعزيرات وسائر التَّعاليم السِّياسيّة الدِّينيّة والعقليّة، لا يكون إلّا في ظلّ القوّة الغضبيّة الشَّريفة وعلى ذلك, فإنّ الّذين يظنّون أنّ قتل غريزة الغضب بالكامل وإخماد أنفاسها، يُعدّ من الكمالات والمعارج النَّفسيّة إنّما يرتكبون خطيئة عظيمة، ويغفلون عن حدِّ الكمال


 

 
[1] شرح أصول الكافي، ج 4، ص 227.
358

330

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 ومقام الاعتدال..."[1].

 
فالجهاد في سبيل الله وقتال المعتدين هو غضب مبارك، وما جهاد المقاومة الإسلاميَّة ضدّ أعداء الإنسانيّة، إلَّا قبسٌ من 
الغضب الإلهيّ المقدّس للأنبياء المجاهدين، والأئمة المضحّين، والأولياء المخلصين.
 
الغضب المذموم
أمَّا الغضب المذموم، أي: استعمال الغضب في غير محلِّه, فهو مفتاح الشُّرور ورأس الآثام، وداعية الأزمات والأخطار والبلايا.
 
فالغضب هذا من أخطر الحالات والانفعالات في الإنسان، الَّتي إذا لم يتصدّ الإنسان لضبطها والسَّيطرة عليها، فإنّها 
قد تظهر بشكل جنونيّ على سلوكيَّات الفرد وتفقده أيّة سيطرة على أعصابه، حتّى إنّ الكثير من السُّلوكيَّات الخطرة 
والجرائم الكثيرة في حركة الإنسان في حياته الاجتماعيَّة تكون بدافع الغضب ويترتَّب عليه دفع كفّارة وضريبة، وبعكسه، 
نرى صفة الحلم وهي من الصِّفات الأخلاقيَّة الحميدة، ونرى القرآن الكريم قد اهتمَّ بهذه الصِّفة أيّما اهتمام.
 
إنّ حالة الغضب كالنَّار المحرقة الَّتي قد تأتي على الأخضر واليابس من حياة الإنسان وتكفي شرارة صغيرة منها لإحراق بيوت ومدن كاملة وتحويلها إلى رماد.
 
وإذا تصفّحنا التَّاريخ البشريّ، فإنَّنا نجد أنّ المشكلات الكثيرة الَّتي ابتليت بها المجتمعات البشريَّة، كانت بدافع من قوّة الغضب هذه، حيث تسبَّبت في الكثير من الحوادث المؤلمة والأزمات الخطيرة، والحروب العبثيَّة والخسارة الهائلة على المستوى الفرديّ والاجتماعيّ. ومن هنا تضافرت الرّوايات في ذمّ هذا النَّوع من الغضب. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الغضب يُفسِد الإيمان، كما يُفسِد الخلُّ العسل"[2].
 
 
 

 
[1] الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً،  ترجمة السّيّد الغرويّ، لا. ط، بيروت لبنان، دار التّعارف، 1411هـ 1991م، ص 132.
[2] الكافي، ج2، ص302.
359

331

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 وعن أبي عبد الله عليه السلام: "مكتوب في التَّوراة فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى عليه السلام: يا موسى أمسِك غضبك عمّن ملّكتك عليه أكُفّ عنك غضبي"[1].

 
وقال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، املك نفسك عند الغضب، حتّى لا تكون لجهنّم حطباً"[2]. وعنه أيضاً: "يا بُنيّ، إيّاك وشدّة الغضب، فإنّ شدّة الغضب ممحقة لفؤاد الحكيم"[3]. إلى غيرها من الرّوايات الّتي تذمّ الإفراط في الغضب. 
 
الآثار السَّلبيّة للغضب
 للغضب آثار سلبيّة عديدة منها:
1-  فقدان الصَّواب:
يفقد الإنسان حين الغضب عقله، ويتحوّل إلى كائن غير متّزن التَّصرُّفات والحركات، بحيث يتعجّب منه من حوله من النّاس، وهو نفسه بعد هدوء غضبه يتعجّب من تصرّفاته. وقد يهجم الشَّخص في تلك الحال على أقرب المقرّبين إليه، 
من دون أن يعيَ ماذا يفعل، وقد يتسبّب في تلوّث يده بدماء الأبرياء، فيقتل، ويجرح، ويُحطِّم، ويسرق، ويُخرِّب، وكأنّه 
سبع ضارٍ, لذلك ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الغضب يُفسد الألباب ويُبعد من الصَّواب"[4]. وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يُعرف الرَّأي إلَّا عند الغضب"[5].
 
ولهذا السَّبب ورد في الرّوايات الإسلاميَّة: أنّه إذا أردتم أن تختبروا عقل الإنسان وحنكته ورأيه، فعليكم بالنَّظر إليه في حالة الغضب، ومدى سيطرته على نفسه من شرّ هذه القوّة الهائجة.
 
 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 303.
[2] الاختصاص، ص 336.
[3] ابن كثير، البداية والنهاية،  ج 2، تحقيق: علي شيري، ط 1، بيروت لبنان، دار إحياء التُّراث العربيّ، 1408هـ 1988م، ص 152.
[4] مستدرك الوسائل، ج 12، ص 11.
[5] البحار، ج75، ص 113.
360

332

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 2- خطر على الإيمان:

إنّ الغضب يؤدّي إلى اضمحلال إيمان الشَّخص وتلاشيه, لأنّ الشَّخص الغاضب يرتكب الذُّنوب وهي ترين على القلب ومع الرَّين يُخشى من زوال الإيمان. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الغضب يُفسد الإيمان كما يُفسِد الخلّ العسل"[1]. 
 
3- فقدان الحجَّة والمنطق:
قد يُفسد الغضب منطق الإنسان وكلامه، ويقوده إلى التَّلفُّظ بالباطل والكلمات غير المسؤولة، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "شدّة الغضب تُغيّر المنطق وتقطع مادّة الحجّة، وتُفرِّق الفهم"[2].
 
4- يظهر العيوب:
الغضب يُظهر عيوب الغاضب الخفيّة, لأنّ هذا الشَّخص في حالاته العاديَّة يتحرّك من موقع السَّيطرة على قواه النفسيَّة، فلا تتجلّى عيوبه ونقاط ضعفه للآخرين، بل تبقى مستورة ويحفظ بذلك سمعته وماء وجهه في أنظار النَّاس، 
ولكن عندما تستعر في نفسه نار الغضب، فإنّها تزيل السَّواتر والأقنعة عن واقع الإنسان وتكسر قيود العقل، وتظهر
عيوب صاحبها الخفيّة، وتؤدّي إلى سقوط شخصيَّته ومكانته بين النَّاس. عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "بئس القرين الغضب يُبدي المعايب ويُدني الشَّرّ ويُباعد الخير"[3]. 
 
5-  تسلّط الشَّيطان:
إنّ الغضب يفتح الطَّريق للشَّيطان ليسيطر على الإنسان ويوقعه في شراكه ومصائده، ممّا يؤدِّي به إلى ارتكاب الذُّنوب 
والفواحش, لأنّ الإيمان والعقل يعتبران مانعين مهمّين يصدّان هجمات الشَّيطان، ولكنّهما في حالات الغضب سينكمشان ويدركهما الضَّعف
 
 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 302.
[2] بحار الأنوار، ج68، ص 428.
[3] السّيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، ج 13، لا. ط، قم، منشورات مدينة العلم، 1407هـ، ص 467.
361

333

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 وعدم الحيلة, وبذلك ترتفع الموانع أمام الشَّيطان لينفذ بسهولة، ويصل إلى قلب الإنسان ويحكم سيطرته على

قواه، ويفعّل عناصر الشَّر في نفسه وباطنه.
 
في الحديث: أنّ النَّبيّ نوح عليه السلام: "لمّا دعى ربّه، عزّ وجلّ, على قومه أتاه إبليس (لعنه الله) فقال: يا نوح إنّ لك عندي يداً أُريد أن أُكافيك عليها، فقال له نوح عليه السلام: إنَّه ليُبَغَّضُ إليّ أن يكون لك عندي* يدٌ فما هي؟ قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم فلم يبق أحد أغويه، فأنا مستريح حتّى ينشأ قرنٌ آخر وأغويهم فقال نوح عليه السلام: ما الّذي تُريد أن تُكافيني به؟ قال: اذكرني في ثلاث * مواطن فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد، إذا كان في إحداهن: اذكرني إذا غضبت، اذكرني إذا حكمت بين اثنين، اذكرني إذا كنت مع امرأة خالياً ليس معكما أحد"[1]. 
 
أسباب ودوافع الغضب
إنّ للغضب عوامل وأسباب مختلفة، ومعرفة هذه العوامل ضروريّة في عمليّة الوقاية والعلاج من أخطار هذه الحالة السَّلبيّة، ومن هذه العوامل:
1- التَّسرُّع: يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "من طبائع الجهّال التَّسرُّع إلى الغضب في كلِّ حال"[2].
 
2- التَّكبّر والغرور: عن السَّيّد المسيح عليه السلام إنّ الحواريِّين قالوا له: "يا معلِّم الخير، أعلمنا أيّ الأشياء أشدّ؟ فقال عليه السلام: أشدّ الأشياء غضب الله عزّ وجلّ، قالوا: فيم يُتّقى غضب الله؟ قال: بأن لا تغضبوا. قالوا: 
وما بِدء الغضب؟ قال عليه السلام: الكِبر والتَّجبُّر ومحقرة النّاس"[3].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 60، ص 222. (تحقيق: البهبوديّ)
(*)  كذا في المصدر ولعلَّ الصَّحيح: "أن يكون لي عندك".
(*)  كذا في المصدر ولعلَّ الصَّحيح: ثلاثة.
[2] غرر الحكم، الحديث 6875.
[3] الخصال، ص6.
362

334

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 3- الحسد والحقد: وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام: "الحقد مثار الغضب"[1].

 
4- الحرص وحبّ الدُّنيا: وقد ورد في ذيل الحديث المذكور آنفاً عن السَّيّد المسيح عليه السلام ما يشير إلى هذا العامل: "وشدّة الحرص على فضول المال والجاه".
 
علاج الغضب
كما ذكرنا سابقاً هناك جذور وأسباب للغضب، منها: الحسد والحقد، وحبّ الدُّنيا والجاه، والجهل والتَّسرُّع في الحكم، 
والتَّكبُّر والغرور إلى غير ذلك من الأسباب، فبالقضاء على هذه الأسباب يتمكَّنُ الإنسان من معالجة آفة الغضب بشكل كبير وحاسم. وفيما يلي بعض الأمور الأخرى المساعدة أيضا، منها: 
1-  تذكُّر سلبيَّات الغضب:
إنَّ تذكُّر مساوئ الغضب وأخطاره وآثاره، وعواقبه الوخيمة على الإنسان يشكل حافزاً قويّاً لردعه، ويساهم في تقوية إرادته. كما أنَّ تذكّر فضيلة الحلم وآثارها الحميدة، والرُّجوع إلى سيرة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطَّاهرين عليهم السلام، لمعاينة كيف كانوا يواجهون أخطاء الآخرين وإساءاتهم بحلم ورويّة، كلُّ هذه الأمور يمكن أن تشكّل عاملاً يهدي الإنسان ويحمله على اجتناب الغضب.
 
في رواية أنَّه "جعلت جارية لعليّ بن الحسين عليه السلام تسكب الماء عليه، وهو يتوضّأ للصّلاة، فسقط الإبريق من يد 
الجارية على وجهه فَشَجَّهُ، فرفع عليّ بن الحسين عليه السلام رأسه إليها فقالت الجارية: إنّ، الله عزّ وجلّ, يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾، فقال عليه السلام لها: قد كظمت غيظي قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ قال 
 
 
 

 
[1] غُرر الحكم، الحديث 6776.
363

335

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 عليه السلام لها: قد عفى الله عنك قالت: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال عليه السلام: اذهبي فأنت حرّة"[1]. 

 
وذلك إشارة إلى الآية الكريمة: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[2]. 
 
2- ذكر الله تعالى:
ومن الطُّرق المهمّة لعلاج الغضب ذكر الله تعالى، والاستعاذة به من الشَّيطان الرَّجيم، والسُّجود لله تعالى. فكلَّما كان 
الإنسان ذاكرا لله تعالى كانت الإيحاءات الشَّيطانيّة بعيدة عنه، فسلوك الإنسان بدايته إيحاء وفكرة وخيال، فإذا كان 
فكرك وخيالك مشغولا بالله، فلن تدخل إليك إيحاءات الشَّيطان.
 
يقول تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ 
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾[3].
 
فقد ورد في الحديث أنّ من ثارت فيه الحدّة عليه بقول: "أعوذ بالله من الشَّيطان الرجيم"[4]. 
 
وفي رواية ورد أنَّه يقول: "لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"[5]. 
 
وورد في رواية: "أن يضع خدّه على الأرض أو يسجد لله تعالى"[6].
 
والرِّواية الأخيرة لعلَّها لعلاج داء التَّكبُّر، الَّذي يكون سببا للغضب، فبالسجود لله ووضع خده على الأرض يعرف قدره وأنَّه، مخلوق من التُّراب، ونهايته إلى التُّراب، وفي هذا ذكر للموت هادم اللَّذات.
 
 
 

 
[1] الصَّدوق، الآمالي، ص 268 - 269.
[2] سورة آل عمران، الآية 134.
[3] سورة الأعراف، الآيتان: 200-201.
[4] المحجّة البيضاء، ج 5، ص 304.
[5] جامع أحاديث الشِّيعة، ج 13، ص 472.
[6] المحجة البيضاء، ج5، ص308.
364

336

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 3- تغيير حالة الإنسان:

تغيير الحالة الفعليَّة للشَّخص إلى حالة أخرى، حيث تكون مؤثِّرة في علاج الغضب أيضاً، كما ورد في الرّوايات الإسلاميَّة أنّ الشّخص إذا تملّكه الغضب وكان جالساً فعليه أن يقوم، وإذا كان قائماً عليه أن يجلس، أو يعرض بوجهه عن مواجهة الحدث، أو يستلقي على الأرض، أو إذا أمكنه أن يبتعد عن محل الحادثة، أو يشغل نفسه بأمر آخر. وهذا التَّغيّر في الحالة الفعليَّة يوثِّر كثيراً في تهدئة الغضب والحدّة ففي الرِّواية: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إذا غضب وهو قائم جلس، وإذا غضب وهو جالس اضطجع, فيذهب غيظه"[1]. 
 
4- مجاهدة النَّفس: 
إذا تعودت النَّفس على الغضب صارت غضوبة، وإذا عوّدت على الحلم فترة، فإنَّها تصبح حليمة, لذلك ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن لم تكن حليماً فتحلّم، فإنّه قَلّ من تشبه بقوم إلَّا أوشك أن يكون منهم"[2], لذا فإن مجاهدة النَّفس وحملها على مخالفة بواعث الغضب في النَّفس، وعدم الانجرار وراء هذه النَّار المستعرة، له دور كبير وحاسم في وقف تداعيات هذه الآفة الهدّامة والخطيرة. وهذه المخالفة تبدأ بإكراه النَّفس على ما فعل الخير، وعكس ما تمليه النَّفس عند استعار نيران الغضب فيها.
 
 
 

 
[1] كنز العمّال، ج 7، ص 414.
[2] نهج البلاغة. (تحقيق الصَّالح)، ص 506.
365

337

الدَّرس الثامن والثلاثون: الغضب

 المفاهيم الرئيسة

 
1- الغضب حالة نفسانيّة أودعها الله في الإنسان, لكي يحافظ على نفسه والدِّفاع عنها وعمّا يتعلّق به، مّا يؤدّي إلى بقاء النَّوع الإنسانيّ.
 
2- الغضب صنفان: ممدوح ومذموم. الغضب المذموم: هو الَّذي يستعمل في غير محلّه، فيكون مفتاح الشُّرور ورأس الآثام، وداعية الأزمات والأخطار والبلايا.
 
3- للغضب آثار سلبيّة عديدة ومتنوِّعة منها, اضمحلال الإيمان وتلاشيه، فقدان السَّيطرة على النَّفس، انكشاف عيوب النَّفس المخفيّة، فقدان الحجَّة والمنطق، تسلُّط الشَّيطان على شخص الغاضب.
 
4- للغضب عوامل وأسباب مختلفة منها, التَّسرُّع، التَّكبُّر، الغرور، الحقد، الحسد والحرص على الدُّنيا.
 
5- معالجة الغضب، أوَّلاً: من خلال استئصال أسبابه ودواعيه من النَّفس. وثانياً: من خلال الذِّكر الدَّائم لله تعالى. ثالثاً: من خلال مجاهدة النَّفس وتهذيبها.
 
 
366

338

الدَّرس التاسع والثلاثون: الحسد

 الدرس التاسع والثلاثون:

الحسد

أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يعرف معنى الحسد وأنواعه.
2- يبيِّن الأسباب الواقعيَّة للحسد وأهمَّ آثاره.
3- يبيِّن الطَّريق العلميّ والعمليّ لمعالجة هذا المرض القلبيّ.
 
367

339

الدَّرس التاسع والثلاثون: الحسد

 تعريف الحسد

عن أبي عبد الله عليه السلام: "ليس لحاقن رأي، ولا لملول صديق، ولا لحسود غنى..."[1].
هذه الرِّواية تشير إلى أنّ‏َ الحاسد لا يصل إلى حالة الغنى الرُّوحيّ والنَّفسيّ والعقليّ والسُّلوكيّ والأخلاقيّ، مما يشير إلى خطورة صفة الحسد في النَّفس الإنسانيَّة، ومانعيتها عن الكمال الإنسانيّ.
 
الحسد حالة نفسيَّة يتمنّى صاحبها سلب الكمال والنعمة الَّتي يتصوَّرهما عند الآخرين، سواء أكان يملكها أم لا، وسواء أرادها لنفسه أم لم يردها.
 
وأمَّا قولنا: "النِّعمة الَّتي يتصوَّرها عند الآخرين" فنعني به: أنَّ تلك النَّعمة قد لا تكون بذاتها نعمة حقيقيَّة، مثلاً هناك بين النَّاس، أشخاص يحسبون الفتك بالغير وسفك الدِّماء، موهبة عظيمة, فإذا شاهدوا من هو كذلك حسدوه.
 
أو قد يحسبون سلاطة اللِّسان وبذاءته من الكمالات، فيحسدون صاحبها.
 
ويفترق الحسد عن الغبطة، في أنَّ صاحب الغبطة يريد النِّعمة الَّتي توجد لدى الغير، أن تكون لنفسه، من دون أن يتمنَّى زوالها عن الغير.
 
درجات وأنواع الحسد
للحسد درجات وأنواع حسب حال المحسود، وحسب حال الحاسد، وحسب حال الحسد ذاته.
- أمَّا من حيث حال المحسود: فمثل أن يحسد شخصاً لما له من كمالات عقليَّة، أو أخلاق وخصال حميدة، أو لما يتمتَّع به من الأعمال الصَّالحة والعباديَّة، أو لأمور
 
 
 

 
[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 301.
 
368

340

الدَّرس التاسع والثلاثون: الحسد

 خارجيَّة أخرى، مثل: امتلاكه المال والجاه والعظمة والاحتشام وما إلى ذلك، أو أن يحسد على ما يقابل هذه الحالات من حيث كونها من الكمال الموهوم.

 
- أمَّا من حيث حال الحاسد، فقد ينشأ الحسد أحياناً من العداوة، أو التَّكبُّر أو الخوف وغير ذلك من الأسباب والعوامل الَّتي سيرد ذكرها فيما بعد.
 
- أمَّا من حيث حال الحسد نفسه، فله درجات وأنواع حسب اختلاف أسبابه وآثاره وسيأتي البيان.
 
أسباب الحسد
وقد حصر بعضهم كالعلاّمة المجلسيّ (رضوان الله تعالى عليه)[1] أسباب الحسد في سبعة أمور:
الأوَّل: العداوة.
الثَّاني: التَّعزُّز، بحيث لا يطيق احتمال تكبُّر وتفاخر المحسود لعزّة نفس الحاسد.
الثَّالث: الكبْر، أن يكون في طبعه أن يتكبَّر على المحسود.
الرَّابع: التَّعجُّب، أن تكون النِّعمة عظيمة والمنصب كبيراً، فيتعجَّب من فوز مثله بمثل تلك النِّعمة، كما أخبر الله عن الأمم الماضية: ﴿مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾[2].
الخامس: الخوف، أن يخاف من فوات مقاصده، ومزاحمته في أغراضه.
السَّادس: حبّ الرِّئاسة، بحيث لا يحبُّ لغيره أن يصل إلى مركز ما.
السّابع: خبث الطِّينة.
 
والإمام الخمينيّ قدس سره بدوره يقول: "إن كلَّ هذه الأسباب، في الحقيقة، ترجع إلى رؤية ذلِّ النَّفس... ويُمكن القول: إنَّ الحسد: هو ذلك الانقباض والذُّلُّ النَّفسيّ اللَّذان تكون نتيجتهما الرَّغبة في زوال النِّعمة والكمال عن الآخرين"[3].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 70، ص 270.
[2] سورة يس، الآية 15.
[3] الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص‏108.
369

341

الدَّرس التاسع والثلاثون: الحسد

 آثار الحسد

1- ما ذكر في بداية حديثنا من أن الحاسد لا يصل إلى الغنى المعنويّ والكمال الإنسانيّ: "... ولا لحسود غنى"[1].
 
2- الحسد ربما يقضي على أساس الدِّين، قال أبو عبد الله عليه السلام: "آفة الدِّين الحسد والعُجب والفخر"[2] وعن أبي جعفر عليه السلام: "إنَّ الرَّجل ليأتي بأيِّ بادرة فَيَكْفُر*، وإن الحسد ليأكل الإيمان كما تأكل النَّار الحطب"[3].
 
3- من المفاسد الكبيرة الَّتي لا تنفكُّ عن الحسد، سخط الحسود على الخالق ووليِّ نعمته وإعراضه عن تقديراته تعالى.
 
4- ربما يصل الحاسد إلى مرحلة، يؤذي فيها المحسود إلى حدِّ القتل، وقصَّة حسد إبليس لآدم، وحسد قابيل لهابيل، 
وحسد إخوة يوسف له معروفة.
 
5- ويذكر الإمام الخمينيّ قدس سره مفسدة أخرويّة حيث يقول: "ومن مفاسد هذا الخلق الذَّميم، كما يقول العلماء, ضيق القبر وظلمته... وعلى أيِّ حال إنَّ* صاحب هذا الخلق يعيش في الدُّنيا معذباً مبتلىً، ويكون له في القبر ضيق وظلمة، ويحشر في الآخرة مسكيناً متألِّماً"[4].
 
 
 

 
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص 301.
[2] الكافي، ج 2، ص 307.
(*) (أو يُكَفرَّ, والبادرة: هي ما يسبق من الإنسان في قول أو فعل في حالة الغضب، فإذا أرخى للنّفس عِنان الغضب صدر منه، غالباً ـ، ما يصدر من الكفّار من قول كالسَّبّ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، (والعياذ بالله) أو فعل كالدَّوْس على القرآن أو إلقائه في القاذورات)، فيكون قد كفر عملياً وهذا يناسب قراءة "يكفر" أو حكم بكفره عمليّاً (بالكفر العمليّ) وهذا يناسب قراءة "يكفّر".
[3] الكافي، م. ن، ص 306.
(*) كذا في المصدر، ولعلَّ الصّحيح، هكذا: وعلى أيّ حال فإنّ... إلخ.
[4] الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، ص‏111.
 
370 
 

342

الدَّرس التاسع والثلاثون: الحسد

 علاج الحسد

لعلاج الحسد هناك طريقان، طريق علميّ وآخر عمليّ.
1- الطَّريق العلميّ: 
بأن يتأمَّل الإنسان جيّداً في أمرين:
الأوَّل: في النَّتائج السَّلبيَّة والعواقب الضَّارّة للحسد على المستوى الرُّوحي والبدنيّ. إذ من المهم أن يعلم الحسود أنَّ هذا المرض الأخلاقيّ سوف يؤدِّي إلى هلاكه في الدُّنيا والآخرة كما أخبر بذلك أمير المؤمنين عليه السلام: "ثمرة الحسد شقاء الدُّنيا والآخرة"[1]. وسيحول دون إشراق نور الإيمان في قلبه، ويسلب منه الرَّاحة والنَّوم وسيحول حياته إلى حزن 
وغمٍّ دائمين.
 
الثَّاني: أن يتأمَّل في جذور ودوافع حصول هذه الحالة في النَّفس. فإذا كان السَّبب ضعف الإيمان وعدم المعرفة الصَّحيحة بالله، فعليه أن يعمِّق أسس المعرفة والتَّوحيد والإيمان بالله في قلبه. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وليعلم من يحسد النَّاس ويتمنَّى زوال النِّعمة عن الآخرين، ويحقد في قلبه على أصحاب النِّعم، أنَّه لا إيمان له بأنَّ الله عزَّ وجلّ،‏ من باب معرفة الصَّالح أسبغ نعمه على أولئك، وأنَّ ادراكنا لذلك قاصر. وليعلم أيضاً أنَّه لا يؤمن بعدل الله تعالى ولا يرى التَّقسيم عادلاً. إنَّك في أصول العقائد تقول*: إنَّ الله عادل، وما هذا إلَّا مجرَّد لفظة على لسانك..."[2].
 
أمّا إذا كان السَّبب الشُّعور بعقدة الحقارة والدُّونية فعليه أن يعالجها في ظل الثِّقة بالله وحسنُ الظنّ به، ومن خلال الإدراك بأنَّ الكمال الحقيقيَّ هو في التَّحلِّي بمكارم الأخلاق والقرب من الله وهو ميسر لكلِّ إنسان.
 
 
 

 
[1] مستدرك ‏الوسائل، ج 12، ص 23.
[2] الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، ص‏114.
(*) كذا في المرجع، ولعلَّ الصّحيح: تقول بأنّ...", لأنَّ المراد في القول هنا الرأي.
371

343

الدَّرس التاسع والثلاثون: الحسد

 2- الطَّريق العمليّ: 

وهو أن يتكلف الحاسد بداية في إظهار المحبَّة للمحسود. فإذا كانت نفسه تدعوه لإيذائه، واعتباره عدُوّاً، وتدفعه إلى هتك حرمته، وكشف عيوبه للآخرين، فعليه أن يعمل خلاف ما تريده نفسه، فيثني عليه مثلا ويذكر صفاته الايجابيّة، 
ويحسن إليه ويدعو له بالخير ويقدمه أمامه. ومع تكرار مثل هذه الأعمال تزول آثار الحسد من النَّفس شيئاً فشيئا، ويعيش الإنسان حالة من الرِّضا والصَّفاء والسَّلام الرُّوحي مع نفسه ومع الآخرين. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في كيفيَّة هذا الطَّريق العمليَّ: "وذلك بأن تتكلَّف إظهار المحبَّة للمحسود، وترتِّب الأمور، بحيث يكون هدفك هو معالجة مرضك الباطنيّ. إنَّ نفسك تدعوك لإيذائه واعتباره عدُوّاً... ولكن عليك أن تعمل خلافاً لما تريده النَّفس، وأن تترحَّم عليه وتحترمه وتجلَّه. واحمل لسانك على أن يذكر محاسنه... وتذكّر صفاته الجميلة. صحيح إن هذا سوف يكون متكلَّفاً في بادى‏ء الأمر...ولكن بما أن الهدف هو إصلاح النَّفس... فسوف تقترب في النِّهاية من الحقيقة، ويخف تكلُّفك شيئاً فشيئاً"[1].


 

 
[1] الإمام الخمينيّ، الأربعون حديثاً، ص‏ 114-115.
372

344

الدَّرس التاسع والثلاثون: الحسد

 المفاهيم الرَّئيسة

1- الحسد حالة نفسيّة، يتمنّى صاحبها سلب الكمال والنِّعمة الَّتي يتصوَّرهما عند الآخرين، سواء أكان يملكها أم لا، وسواء أرادها لنفسه أم لم يردها.
 
2- للحسد درجات وأنواع حسب حال المحسود، وحسب حال الحاسد، وحسب حال الحسد ذاته.
 
3- للحسد أسباب ودوافع عديدة، ولكنَّ كلّ هذه الأسباب، في الحقيقة، ترجع إلى أمر واحد هو رؤية ذلِّ النَّفس، فالحسد: هو ذلك الانقباض والذُّلُّ النَّفسيُّ، اللَّذان تكون نتيجتهما الرَّغبة في زوال النِّعمة والكمال عن الآخرين.
 
4- الحسد آفة الدِّين وقد ذكرت له آثار عديدة منها: العجب والكبر والسَّخط على الله وربما تجرَّأ الحاسد على قتل النَّفس المحترمة، هذا بالإضافة إلى ما ينتظر الحاسد من العذاب في 
القبر واليوم الآخر.
 
5- علاج الحسد من خلال اتِّباع طريقين، الطَّريق العلميّ من خلال معرفة حقيقة الحسد وآثاره المهلكة، والطَّريق العمليّ من خلال المجاهدة والمخالفة الدَّائمة للنَّفس.
 
373 
 

345

الدَّرس الأربعون: الاستخفاف بالصَّلاة

 الدَّرس الأربعون:

الاستخفاف بالصَّلاة


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن معنى وحقيقة الصَّلاة في الإسلام.
2- يذكر مصاديق وآثار الصَّلاة الصحيحة وغير الصحيحة.
3- يبيّن كيفيَّة الصَّلاة الصَّحيحة وأهمَّ آدابها. 
 
375

346

الدَّرس الأربعون: الاستخفاف بالصَّلاة

 عمود الدِّين

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "الصّلاة عمود الدّين، مثلها كمثل عمود الفُسْطاط إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد 
والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طُنُب"[1]. 
 
إنَّ الصَّلاة عمود الدِّين، وخير موضوع وحصن من سطوات الشَّيطان، وميزان الإيمان، ورأس الإسلام، ومرضاة الرَّب، 
ومنهاج الأنبياء، وسبب الرَّحمة، وقرة عين النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وقربان كلِّ تقيّ، ومعراج المؤمن، وغير ذلك مما جاء في الأخبار الشَّريفة.
 
 
فلمَّا كانت بهذه الأهميَّة والمكانة، كان من الواجب الحفاظ عليها وعدم تضييعها والتَّهاون والاستخفاف بشأنها، وقد حذّر الإسلام تحذيراً شديداً من ذلك كما بيّن الحديث المتقدِّم وغيره، جاء عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا تتهاون 
بصلاتك, فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال عند موته: ليس منِّي من استخف بصلاته"[2]، وزاد في حديث آخر: "لا يرد عليّ الحوض لا والله"[3].
 
ونجد أئمَّتنا صلوات الله عليهم يؤكِّدون على قبح هذا الأمر، مع الأنفاس القدسيَّة الأخيرة في أعمارهم الشَّريفة، وما ذلك إلَّا لاعتباره آفة عظمى لا يمكن التَّغاضي عنها، بل الحثّ على التَّخلُّص منها هو من أولويَّات المهام الدِّينيَّة وأكبرها.
 
يقول أبو بصير: دخلت على حميدة أعزّيها بأبي عبد الله عليه السلام فبكت ثمَّ قالت: يا أبا محمَّد لو شهدته حين حضره الموت وقد قبض إحدى عينيه ثمّ قال: ادعوا لي قرابتي ومن لطف لي، فلمَّا اجتمعوا حوله قال عليه السلام: "إنّ 
شفاعتنا لن تنال مستخفّاً بالصَّلاة"[4].

 
 

 
[1] وسائل الشيعة، ج 4، ص 27.
[2] الكافي، ج‏3، ص‏369.
[3] الصَّدوق، علل الشرائع، تحيقيق: السيّد محمّد صادق بحر العلوم، ج 2، لا. ط، النَّجف الأشرف، منشورات المكتبة الحيدريّة، 1966م، ص 356.
[4] بحار الأنوار، ج 79، ص 235-236.
376

347

الدَّرس الأربعون: الاستخفاف بالصَّلاة

 الصَّلاة غير المقبولة

اتَّضح ممَّا سبق أنَّ الأتباع الحقيقيِّين لآل البيت عليهم السلام هم المحافظون على صلواتهم، وليسوا أولئك الَّذين يتهاونون بها، ومن باب أولى ليسوا الَّذين يُضَيِّعون الصَّلاة، والفرق بين الاستخفاف والتَّضييع، أنَّ الاستخفاف يتحقَّق بتأخير الصَّلاة عن أوَّل وقتها من دون انشغال بحاجةٍ أو ضرورة حياتيَّة، أو علميَّة أو غير ذلك، بمعنى أنَّه لا يشغله شي‏ء عن المسارعة والمبادرة إلى أداء الصَّلاة في أوَّل الوقت، سوى أنّه لا يعيرها أهميَّة، ويؤخّرها بدون داعٍ شرعيّ أو عقليّ إلى آخر الوقت لكن يصلِّيها بعنوانها الأدائيّ لا القضائيّ، وأمَّا التَّضييع فيتحقَّق أن يؤخِّر الصَّلاة إلى أن يخرج وقتها الطَّبيعي دون أن يؤدِّيها، وهذا أعظم جرماً وأقبح وجهاً من الاستخفاف، وإن كان كلاهما قبيحاً ومذموماً في الشَّرع المقدَّس.
 
وبعد أن عرفنا أنَّ المستخفَّ بصلاته يبوء بالحرمان من شفاعة الأئمَّة عليهم السلام، ويا لها من عاقبة وخيمة، نضيف هنا ما روي عن مولانا الصَّادق عليه السلام من كون صلاته غير مقبولة، وإنَّما تردّ إليه ولا ترفع، يقول عليه السلام: "والله إنَّه ليأتي على الرَّجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة، فأيُّ شي‏ء أشدّ من هذا؟ والله، إنَّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلِّي لبعضكم ما قبلها منه, لاستخفافه بها. إن الله لا يقبل إلَّا الحسن، فكيف يقبل ما يستخفُّ به"؟![1].
 
صلاة المتكاسل
ربما يستيقظ الإنسان لأداء فريضة الصُّبح استيقاظاً ظاهريَّاً وشكليّاً، ويؤدِّيها غير عارف بما قرأ وكيف وأين، وقد يشكُّ 
فيما بعد أنَّه أدّاها أو لم يؤدها، بحيث تختلط عليه الأمور, لأنَّه صلَّى مع الغفلة والتَّثاقل، وبالإمكان أن نقول: إن ذلك 
من آثار النُّعاس الغالب عليه الَّذي
 
 
 

 
[1] وسائل الشيعة، ج‏4، ص‏24.
377

348

الدَّرس الأربعون: الاستخفاف بالصَّلاة

 أفقده معرفة ما يقول، فأيّ صلاة هذه وهو واقف بين يدي الجبّار سبحانه وتعالى؟!

 
يقول عزّ من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾[1].
 
وفي تفسيرها قال الإمام الباقر عليه السلام: "لا تقم إلى الصَّلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولا متثاقلاً, فإنّها من خلل النِّفاق، وإنَّ الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصَّلاة وهم سكارى، يعني: من النَّوم"[2].
 
وفي حديث آخر: سألته عن قول الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى﴾ قال عليه السلام: "... يعني: سكر النَّوم، يقول: وبكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم، ليس كما يصف كثير من النَّاس، يزعمون أنَّ المؤمنين يسكرون من الشَّراب، والمؤمن لا يشرب مسكراً ولا يسكر"[3]. فإنَّه 
عليه السلام يعترض على تفسير الآية بالمسكر الخمريّ لأنّ الله تعالى ابتدأها مخاطباً المؤمنين.
 
وفي حديث المعراج: "يا أحمد! عجبت من ثلاثة عبيد: عبد دخل في الصَّلاة وهو يعلم إلى من يرفع يديه وقدّام
من هو، وهو ينعس‏"[4].
 
جزاء التَّهاون بالصَّلاة
عن السَّيِّدة الزَّهراء عليها السلام أنَّها سألت أباها صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرِّجال والنِّساء؟
 
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا فاطمة: من تهاون بصلاته من الرِّجال والنِّساء، ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة، ست منها في دار الدُّنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.

 
 

 
[1] سورة النساء، الآية 43.
[2] العيَّاشيّ، (ابن مسعود)، تفسير العياشي، ج 1، تحقيق: السيّد المحلّاتيّ، لا. ط، طهران، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، لا. ت، ص 242.
[3] م. ن.
[4] بحار الأنوار، ج 74، ص 22.
378

349

الدَّرس الأربعون: الاستخفاف بالصَّلاة

 فأمّا اللّواتي تصيبه في دار الدُّنيا: فالأولى: يرفع الله البركة من عمره، ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عزَّ وجلّ،‏ سيماء الصَّالحين من وجهه، وكلّ عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرفع دعاؤه إلى السّماء، والسّادسة ليس له حظ في دعاء الصَّالحين.

 
وأمّا اللَّواتي تصيبه عند موته فأولاهن: أنَّه يموت ذليلاً والثّانية: يموت جائعاً، والثَّالثة: يموت عطشاناً، فلو سقي من أنهار الدُّنيا لم يرو عطشه.
 
وأمَّا اللَّواتي تصيبه في قبره فأولاهن: يَوكل* الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثَّانية: يضيِّق عليه قبره، والثَّالثة: تكون الظُّلمة في قبره.
 
وأمّا اللَّواتي تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره، فأولاهن: أنّه يوكل* الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون
إليه، والثَّانية: يحاسبُ حساباً شديداً، والثَّالثة: لا ينظر الله إليه ولا يزكِّيه وله عذاب أليم"[1].
 
هكذا تقام الصلاة
ينبغي لمن أراد أن تُرفع صلاته بالشَّكل اللَّائق أن يراعي عدَّة أمور منها:
1- معرفة حقّ الصَّلاة: في رسالة الحقوق لمولانا زين العابدين عليه السلام: "وحقّ الصَّلاة أن تعلم أنَّها وفادة إلى الله عزّ وجلّ، وأنَّك فيها قائم بين يدي الله عزّ وجلّ، فإذا علمت ذلك، قمت مقام العبد الذَّليل الحقير الرَّاغب الرَّاهب، الراجي الخائف المستكين المتضرِّع، المعظِّم لمن كان بين يديه بالسُّكون والوقار، وتقبل عليها بقلبك وتقيمها بحدودها وحقوقها"[2].
 
2- الخشوع: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "يا كميل! ليس الشَّأن أن تصلّي وتصوم
 
 
 

 
[1] (*) في المصدر غير مشكَلَة ولعل الصَّحيح: يوَكِّل.
(*) كما مرَّ لعلَّ الصَّحيح: يُوَكِّل... إلخ. ج 3، ص 24.
 مستدرك الوسائل، ج 3، ص 24.
[2] رسالة الحقوق: حق الصلاة. (راجع: الخصال، ص 566).
379

350

الدَّرس الأربعون: الاستخفاف بالصَّلاة

 وتتصدَّق، إنَّما الشَّأن أن تكون الصَّلاة فعلت بقلب نقيّ، وعمل عند الله مرضيّ، وخشوع سويّ"[1].

 
3- حضور القلب: عن النَّبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يقبل الله صلاة عبد لا يحضر قلبه مع بدنه"[2]، والخشوع متوقِّف على الحضور.
 
4- التَّدبُّر: في الحديث: "صلاة ركعتين بتدبَّر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ"[3].
 
5- الصَّلاة أوَّل الوقت: عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "فضَّل الوقت الأوَّل على الأخير كفضل الآخرة على الدُّنيا"[4]. 
 
 
المفاهيم الرَّئيسة
 
1- الصَّلاة عمود الدِّين، وحصن من سطوات الشَّيطان، وميزان الإيمان، ورأس الإسلام، وسبب الرَّحمة، وقرَّة عين النَّبيِّ وقربان كلِّ تقيِّ.
 
2- لمَّا كانت الصَّلاة بهذه الأهميَّة والمكانة، كان من الواجب الحفاظ عليها، وعدم تضييعها والتَّهاون والاستخفاف بشأنها.
 
3- والفرق بين الاستخفاف والتَّضييع، أن الاستخفاف يتحقَّق بتأخير الصَّلاة عن أوَّل وقتها، وأمَّا التَّضييع فيتحقَّق بتأخير الصَّلاة إلى أن يخرج وقتها دون أن يؤدِّيها. 
 
4- من تهاون بصلاته ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة، ست منها في دار الدُّنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره.
 
5- ينبغي لمن أراد أن تُرفع صلاته بالشَّكل اللَّائق، أن يراعي آداب الصَّلاة وهي عديدة منها: معرفة حقِّ الصَّلاة، حضور القلب في الصَّلاة، التَّدبُّر والتَّفكُّر في الصَّلاة ومعانيها.
 
 
 
 

 
[1] محمّد بن أبي القاسم الطّبريّ، بشارة المصطفى، تحقيق: جواد الأصفهانيّ، ط 1، قم، مؤسَّسة النّشر الإسلاميّ 1420هـ، ص 57.
[2] أحمد بن محمّد البرقيّ، المحاسن، ج 1، تحقيق: الحسينيّ، لا. ط، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، 1370هـ 1330ش، ص 260 - 261.
[3] البحار، ج 81، ص 259. (تحقيق: البهبوديّ)
[4] الكافي، الشيخ الكليني، ج3، ص 274.
380

351

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 الدَّرس الواحد والأربعون:

العصبيَّة


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يشرح معنى العصبيَّة وأشكالها.
2- يبيّن أهمَّ الآثار السَّلبيَّة والقبيحة للعصبيَّة.
3- يذكر كيفيَّة التَّخلُّص من هذه الآفة الخطيرة على النَّفس والمجتمع.
 
381

352

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 العصبيَّة في القرآن الكريم

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[1].
 
ما هي العصبيّة؟
العصبيّة أن يتّخِذَ المرءُ لنفسِه جانباً معيّناً, يتبنّى نصرتَه والدِّفاعَ عنه, ويراه دائماً على الصَّواب, وذلك لصفة خاصّة موجودة فيه, سواء كان ذاك الجانب شخصيّاً, أم جهةً, أم جماعةً, دون أن يبحث عن الحقّ ويجعله دليلَه إلى الصَّواب, 
بل يجعل تلك الصِّفة الخاصّة الّتي لأجلها تبَنّى ذلك الجانب، هي المقياس للتَّبَنِّي والتَّولِّي والنُّصرة, كصفة القرابة, أو العائليَّة, أو القوميَّة, أو العِرقيَّة...إلخ.
 
وأمّا المؤمن الصَّادق بإيمانه, فإنَّه يشنأ تلك الصِّفة, ويسترذِلُها، ويباينها في اعتقاده وسلوكه مباينة المشرق للمغرب, فهو منصف في حكمه, مستقيم في سلوكه, غير متعصّب في نفسه, يَتَّبِعُ الحقّ ولو استلزم مقارعةَ أقربِ النَّاسِ إليه, إن لم يرجعوا إلى الصَّواب ويفيئوا إلى أمر الله. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "ولقد كنّا مع رسول 
 
 
 

 
[1] سورة المجادلة، الآية 22.
 
382

353

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلّا إيماناً وتسليماً ومضيّاً على اللَّقم[1] وصبراً على مضض الألم وجدّاً في جهاد العدُوّ.."[2]. 

 
والتَّعصّب قد يكون لأيّ شيء من متعلّقات الإنسان وما يتّصل به، فقد يتعصّب إنسان لبلده, أو لمدرسته، أو لأستاذه، أو لمسؤوله، أو لحزبه وتنظيمه،أو لعشيرته، أو لقريته، أو لحيّه، أو للغته، أو لعرقه وقوميّته، أو للونه...إلخ.
 
فمن أعانَ جماعتَه أو قرابتَه وقومَه على ظُلمٍ, وقوَّاهم وشجّعهم على ما هم عليه من الباطل وعدم الحقّ، دون أن يردَعَهم وينهاهُم عنه، فهو متعصّب.
 
وهنا لا بدّ من التَّنبيه على أنّ هذا لا يعني أن لا تحبّ الخير لأبناء قومك وجلدتك, بل العصبيّة هي أن تأخذ دائماً جانبهم وإن كانوا على الباطل, وتعينهم وتنصرهم على ظلمهم وباطلهم، دون أن تبحث عن الحقّ وتجعله معياراً لتأييدهم ونصرتهم.
 
وقد سئل الإمام السجَّادُ عليه السلام عن العصبيّة, فقال: "العصبيّة الّتي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرَّجلُ شرارَ قومِهِ خيراً مِن خيارِ قومٍ آخرين, وليس من العصبيّة أن يحبّ الرَّجل قومه، ولكن من العصبيّة أن يعين قومَه على الظلم"[3].
 
مقوّمات نفي العصبيّة
الإنصاف ونفي التَّعصّب لهما مقوّماتٌ وأسس وهي جدّاً شريفةٌ، وهذه بعض تلك المقوّمات: 
1- أن يكون الهدف الأساس هو الحقّ: 
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ﴾[4], ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ
 
 
 

 
[1] اللقم بالتحريك: معظم الطريق أو جادته. 
[2] نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ عليه السلام، ج 1، تحقيق: محمّد عبده، ط 1، قم، دار الذَّخائر، 1412هـ.ق 1970، ص 104-105.
[3] الكافي، ج 2، ص 308.
[4] سورة يونس، الآية 32.
383

354

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 الْبَاطِلُ﴾[1]. وهذا يحتاج إلى تطلّع نحو العلا لنيل الهدف الأسمى وهو مرضاة الله تعالى, ولأنّ مقياسَ رضا الله تعالى هو الإنصاف والحقّ، يقول تعالى، مبيّناً للطَّريقة الّتي يرتضيها ويأمر بها للحكم والقضاء:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[2].
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾[3].
 
2- الزُّهد:
وهو المقوّم الثَّاني لنفي العصبيّة, فإذا كان نفي العصبيّة يحتاج إلى الإنصاف, فإنّ كلًّا من الإنصاف وعدم التَّعصّب يحتاج إلى الزُّهد في متاع الدُّنيا الزَّائل، وفي حظوظ النَّفس إذا تعارضت مع حكم العقل, والمنطق, والحقّ.
 
3- الوعي:
وذلك للأمن من الضَّلال والغواية, فلا بدّ من معرفة الحقّ، إذ كيف يحكم بالحقّ من يجهله؟! "اعرف الحق تعرف أهله"[4]. فبعض النَّاس قد يتعصّب ويرى أنّ ما يفعله هو الحقّ, أي: يرى أنّ التَّعصّب هو الحقّ, حتّى إذا لمته تعجّب منك: ألا يجب أن أنصر أخي أو ابن عمّي، أو ابن مدينتي وبلدتي, أو ابن قوميَّتي أو ابن جماعتي؟! إلخ.. 
 
 
 

 
[1] سورة لقمان، الآية 30.
[2] سورة النساء، الآية 135.
[3] سورة المائدة، الآية 8.
[4] روضة الواعظين، ص 31.
384

 


355

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 4- عدم الغضب:

من الأمور الّتي تساعد على نفي العصبيّة التَّحكُّم بالقوَّة الغضبيَّة، فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن يمشي مع غضبه كيف كان, فإنّ الغضب يؤدّي إلى عواقب وخيمة.
 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال رجل للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله علّمني، قال: اذهب ولا تغضب، فقال الرَّجل: قد اكتفيت بذلك (في الكافي: بذلك)، فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السِّلاح، فلمّا رأى ذلك لبس سلاحه ثمّ قام معهم، ثمّ ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تغضب، فرمى السِّلاح ثمّ جاء يمشي إلى القوم الّذين هم عدُوّ قومه فقال: يا هؤلاء ما كانت لكم من جراحة، أو قتل، أو ضرب ليس فيه أثر، فعليّ في مالي أنا أوفيكموه، فقال القوم: فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم قال: فاصطلح القوم وذهب الغضب"[1].
 
عصبيّة المؤمن للحقِّ فقط
المؤمن لا يتعصّب, لأنّه يذعن بزوال كلّ هذا العالم الماديّ الدُّنيويّ بكلّ علائقه وارتباطاته وعصبيّاته، فهي نِسَبٌ وملابسات عرَضيَّة، وليست أموراً ثابتة حقيقيَّة, والعلاقة الوحيدة الذَّاتيَّة الثَّابتة هي علاقة المخلوق مع الخالق تعالى, فهي فقط الّتي سيتّضح بعد ذلك أنّها ليست سراباً بل هي واقع حقيقيّ, وهي الّتي ينبغي للمؤمن أن يسعى لتوثيقها وتعميقها في النَّفس.
 
وإن شئت فعبِّر عن هذه العلاقة بين المخلوق وخالقه بالنَّسَب الرُّوحانيّ المعنويّ, فإنّه الّذي سوف لا ينقطع يوم القيامة حيث تتجلّى الحقائق على ما هي, وتنقطع وتبور كلّ العلائق العرضيَّة الاعتباريَّة غير الذَّاتيَّة: يقول تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ 
فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ﴾[2].

 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 22، ص 85. وكذلك الكافي، ج 2، ص 304.
[2] سورة المؤمنون، الآية 101.
 
385

356

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 روي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ حسب ونسب منقطع يوم القيامة ما خلا حسبي ونسبي"[1], لأنّه النَّسب الرُّوحانيّ المعنويّ الّذي يتّصل بإرادة الله وطاعته, والّذي مقياسه الحقّ والإنصاف، فهو غير منقطع وهو بعيد عن كلّ عصبيَّة وجاهليَّة.

 
فإذا أدرك المؤمن العاقل عدم انتفاعه بأيّ نسبة يتعصّب لها إلّا الحقّ, فإنّه سوف يرفض التَّعصّب لغير الحقّ، ويبغضه، ويبعده عن ذاته بكلّ تصميم وقوّة، وخاصّة بعد أن يدرك خطر العصبيّة على الإيمان.
 
مخاطر العصبيّة
إذا فسّرنا العصبيّة بأنّها أخذُ جانب معيّن والحكم لصالحه دائماً وفي كلّ الأحوال، فمعنى ذلك أنّنا سننصر ذاك الطَّرف المتعصَّب له في بعض الأحيان، وهو على الباطل, وهذا يعني أنّ العصبيّة ستصادم الحقّ وتعاكسه في تلك الموارد، أي: 
إنّها ستتعارض مع الإيمان, لأنّ الإيمان هو الاستقامة في جادّة الشَّرع، والعمل والسَّير على مقتضى الحقّ والانصاف, فحلول العصبيّة في القلب ينفي الحقّ والإيمان, لأنّ المتعصِّب سيأخذُ جانباً معروفاً مسبقاً ويدافع عنه حتّى وإن لم يكن على الحقّ! 
 
وقد نصَّت الرِّواية عن الإمام الصَّادق عليه السلام على ذلك: "من تَعصَّب أو تُعُصِّبَ له فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"[2].
 
فالعصبيّة خطرةٌ على الإيمان, لأنّها قد تستقرّ وتترسّخ في الإنسان وتستعر في قلبه، بحيث يصبح عدُوّاً للحقّ جهاراً، دون أن يكون مجبراً على ذلك، بل بكامل إرادته وملء اختياره ﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾[3].
 
 
 

 
[1] مستدرك الوسائل، ج14، ص 168.
[2] الكافي، ج 2، ص 307.
[3] سورة الجاثية، الآية 23.
386

357

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 ويَخرج من الدُّنيا وقد تمكَّنت هذه الصِّفة الخبيثة من نفسه، وصارت ملكةً راسخةً في قلبه, وهنا يكمن الخطر، حيث إنّ الإنسان يُحشر يوم القيامة على هيئة ملكاته وصورها، كما ورد في بعض الرّوايات[1].

 
وعليه فإذا كانت الملَكَة المتمكِّنَة من النّفس هي ملكةٌ شيطانية, فإنّ صاحبها معاذ الله يُحشر على صورة شيطانيَّة, والتعصُّب في الحقيقة هو صفة شيطانية، فهو الّذي ميَّزَ الشَّيطان عن الملائكة، وأخرجه من الجنَّة وفضَحَه, ففي الرِّواية 
عن أبي عبد الله الصَّادق عليه السلام: "إنّ الملائكة كانوا يحسبون أنّ إبليس منهم, وكان في علم الله أنّه ليس منهم. فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب فقال خلقتني من نار وخلقته من طين"[2]. 
 
ولأَنَّ أعظم النَّاس تعصّباً كانوا هم أعراب الجاهليَّة, فإنّ المتعصّب يُحشَرُ يومَ القيامَة معهم كما في الرواية: "من كان في قلبه حبّة خردل من عصبيَّة، بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهليَّة"[3].
 
إذن هناك خطران داهمان على الإنسان جراء العصبيَّة:
الأوَّل: خروج الإنسان عن الحقّ والإيمان بالعصبيَّة قبل الموت أو عند الموت. 
الثَّاني: أن يحشَرَ على صورة الشَّياطين مع أعراب الجاهلية يوم الحشر, ويوم تبلى السَّرائر وتظهر صور النُّفوس على حقيقتها.
 
فيا أيُّها المؤمن, ما أعظمهما من خطرين!! فكّر في نفسك، هل تَجعل إيمانك الّذي هو ضمانةُ نَجَاتك يومَ القيامة، في مهبّ ريحِ العصبيّة الجهنَّميّ الشَّيطانيّ الجاهليّ، أم تلتفت لنفسك وتُخرِج منها كلّ عَصبيَّة، وتكون منصفاً متّبعاً الحقّ أينما وجدتَّه، وتُنصِف النّاسَ حتّى من نفسك لتفوز في الدَّارين, في الدُّنيا يبارك الله للمنصفين في
 
 
 

 
[1] انظر: بحار الأنوار، ج 7، ص 89, باب صفة الحشر، حديث البراءة من عازب، فيما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ سورة النّبأ، الآية: 18.
[2] الكافي، ص 308.
[3] م. ن.
387

358

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 أمورهم ويكونون موردَ رعايته وألطافه, وفي الآخرة تُحشر مع الصَّادقين المنصفين محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم؟

 
فالمؤمن لا يتعصّب, ولا يوادّ أولئك الّذين حادّوا الله ورسوله، وخالفوا أحكام المولى عزّ وجلّ، ومشَوا على غير هَدي رسولِه وأهل بيته عليهم السلام, ولو كانوا أقرب الناس إليه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾[1].
 
 
 

 
[1] سورة المجادلة، الآية 22.
388

359

الدَّرس الواحد والأربعون: العصبيَّة

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- العصبيّة أن يتّخِذَ المرءُ لنفسِه جانباً معيّناً, يتبنّى نصرتَه والدِّفاعَ عنه دون أن يبحث عن الحقّ ويجعله دليلَه إلى الصَّواب.
 
2- التعصّب قد يكون لأيّ شيء من متعلّقات الإنسان وما يتّصل به، فقد يتعصّب إنسان لبلده, أو لمدرسته، أو لأستاذه، أو لحزبه، أو لعشيرته، أو لقريته، أو لعرقه، أو للونه...إلخ.
 
3- نفي التعصّب له مقوّماتٌ وأسس أهمها أن يكون الإنسان طالبا للحقّ، زاهداً في كلّ ما عداه، متَّصفا بالوعي والمعرفة الّتي تعصمه من الوقوع في الخطأ، وترك الغضب.
 
4- إذا أدرك العاقل عدم انتفاعه بأيّ نسبة يتعصّب لها إلّا الحقّ، فإنّه سوف يرفض التعصّب ويبغضه ويبعده عن ذاته بكلّ تصميم وقوّة، خاصّة إذا أدرك خطر العصبيّة على الإيمان.
 
5- العصبيّة خطرةٌ جدّاً على الإيمان وهي صفة الشَّيطان الأساسيّة، فإذا صارت العصبيّة ملَكَة متمكِّنة من النّفس، فإنّ صاحبها سيُحشر على صورة شيطانية. 
 
6- المؤمن لا يتعصّب, ولا يوادّ أولئك الّذين حادّوا الله ورسوله، وخالفوا أحكام المولى عزّ وجلّ، ومشَوا على غير هَدي رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.
 
389 
 

360

الدَّرس الثاني والأربعون: اتِّباع الهوى

 الدَّرس الثاني والأربعون:

اتِّباع الهوى



أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن علَّة كون الهوى أعدى أعداء الإنسان. 
2- يذكر رأي القرآن والسُّنَّة في موضوع الهوى.
3- يبيّن كيفيّة معالجة الهوى على ضوء الشرَّع.
 
 
391

361

الدَّرس الثاني والأربعون: اتِّباع الهوى

 معنى الهوى

الهوى: هو ميل النَّفس الأمَّارة بالسُّوء إلى مقتضى طباعها، من اللّذات الدُّنيويَّة على أنواعها حتَّى تخرج من الحدود الشَّرعية، وتدخل في مراتع القوة السَّبعيَّة والبهيميَّة[1].
 
مما لا شكّ فيه، أنَّ للنَّفس الإنسانيَّة شهوات ورغبات وغرائز وميولاً مختلفة، كلُّ واحد منها له دور وهدف وغاية محدّدة. فالشَّهوة على سبيل المثال وسيلة مهمَّة للمحافظة على الوجود، وضمان لاستمرار النَّسل، وفرصة للتَّكامل نحو 
الأفضل والأصلح دائماً، ومن دونها لا يمكن أن تستمرَّ الحياة على الأرض. ولكن هذه الغرائز يمكن أن تطغى، وأن تخرج عن المسار الطبيعيّ الَّذي خلقت من أجله, من هنا مسّت الحاجة والضَّرورة إلى إعادتها إلى مسارها الصَّحيح، وهذا يحتاج إلى قوَّة إرادة وشجاعة, لذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "أشجع النَّاس من غلب هواه"[2]. وعلى الإنسان أن يحذر من هواه كما يحذر عدُوّه, لأنّ الهوى من أعدى أعداء الإنسان، ولكن الإنسان مع الأسف لا يعلم. عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرِّجال من اتِّباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم"[3].

 
 

 
[1] شرح أصول الكافي، ج2، ص 141.
[2] مستدرك الوسائل، ج12، ص111.
[3] الكافي، ج2، ص335.
392

362

الدَّرس الثاني والأربعون: اتِّباع الهوى

 الهوى في القرآن والسُّنّة

إنَّ الهدف التكامليَّ يتحقَّق بأن لا تتجاوز الغرائز والحاجات حدّها، وتخرج عن التَّوازن والحدِّ الوسط إلى الإفراط أو التَّفريط, وذلك بالتَّمرّد على الشَّرع والعقل، وبذلك تكون سائرة مع الهوى المذموم وتابعة له.
 
فالحاجة الشَّهوانيَّة إذا خرجت عن التَّوازن إلى التَّفريط بأن لا يتزوَّج، أو إلى الإفراط بأن يلبي حاجته هذه بأيِّ شيء دون رقيب أو حسيب من دين أو عقل، بأن يزني مثلاً، والعياذ بالله، فهذا وذاك اتِّباع للهوى.
 
والحاجة إلى جمع المال إذا أبطلها الإنسان وزهد فيها زهداً سلبيّاً، أو انكب على الجمع من أيّ طريق وبأيّة وسيلة، ولو كانت من حرام كالسّرقة والغصب والاحتيال والرّبا، فهذا وذاك من اتّباع الهوى.
 
وحبُّ الاحترام والعزَّة بين النَّاس إذا أعدمه الإنسان وأذلّ نفسه، أو إذا طلب الجاه بطرق منحرفة، فكلا الحالتين من اتِّباع الهوى.
 
وحبّ الحريّة إذا أبطله الإنسان وأصبح يألف العبوديَّة للاستعمار مثلاً، أو أرخى لنفسه العنان دون ضابط، فكلاهما من اتِّباع الهوى.
 
وهكذا كلُّ حاجات الإنسان إذا خرجت عن الاعتدال فهي تتبَّع الهوى، والهوى يصدُّ عن الحقِّ, كما قال الإمام علي عليه السلام: "أيّها النّاس: إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتّباع الهوى و طول الأمل، فأمّا اتِّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة"[1].
 
وقد حذَّرنا الله تعالى، من اتِّباع الهوى في كثير من آيات القرآن، منها: قوله،ـ سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
 وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[2]. 
 
وقوله عز وجل: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة، ج 1، ص 93.
[2] سورة الجاثية، الآية 23.
393

363

الدَّرس الثاني والأربعون: اتِّباع الهوى

 فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾[1].

 
والرّوايات في ذمّه كثيرة منها: ما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "والشّقيّ من انخدع لهواه وغروره.... ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان، ومحضرة للشَّيطان..."[2].
 
وقوله عليه السلام: "عباد الله لا تركنوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا لأهوائكم، فإنّ النازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار، ينقل الرّدى على ظهره من موضع إلى موضع"[3].
 
معالجة الهوى
مشكلة الهوى أنَّ اتِّباعه لا يعرف الشَّبع ولا يقف عند حدٍّ, كما يقول يقول الإمام الخمينيُّ قدس سره: "اعلم أيها العزيز، أنَّ رغبات النَّفس وآمالها لا تنتهي ولا تصل إلى حدٍّ أو غاية. فإذا اتَّبعها الإنسان ولو بخطوة واحدة، فسوف يضطرُّ إلى أن يُتْبِع تلك الخطوة خطوات، وإذا رضي بهوى واحد من أهوائها، أجبر على الرِّضا بالكثير منها. ولئن فتحت باباً واحداً لهوى نفسك، فإنّ عليك أن تفتح أبواباً عديدة له.
 
إنَّك بمتابعتك هوى واحداً من أهواء النَّفس توقعها في عدد من المفاسد، ومن ثمَّ سوف تبتلى بآلاف المهالك، حتّى تنغلق، لا سمح الله, جميع طرق الحقّ بوجهك في آخر لحظات حياتك, كما أخبر الله بذلك في نص كتابه الكريم، وكان هذا هو أخشى ما يخشاه أمير المؤمنين وولي الأمر، والمولى، والمرشد والكفيل للهداية والموجِّه للعائلة البشريَّة عليه السلام"[4].
 
ويبقى أنَّ الحلّ في مواجهة الهوى هو في الامتناع عن موارد الحرام، ونهي النَّفس عن الاقتراب من دائرة المحرَّمات والشَّبهات على القاعدة القرآنيَّة: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾[5]. 
 
مرَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 
 
 
 

 
[1] سورة ص، الآية 26.
[2] نهج البلاغة، ص 150, الخطبة 86.
[3] م.ن، ص 201-202, الخطبة 105.
[4] الأربعون حديثاً، ج1، ص166.
[5] سورة النازعات، الآيتين 40-41.
 
394

364

الدَّرس الثاني والأربعون: اتِّباع الهوى

 بقوم يتشايلون حجرا، فقال: "ما هذا؟ فقالوا: نختبر أشدَّنا وأقوانا، فقال ألا أخبركم بأشدِّكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أشدَّكم وأقواكم الَّذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحقّ، وإذا ملك لم يتعاط ما ليس له بحقّ"[1].

 
فمجانبة الهوى هو الطَّريق الصَّحيح، وعلى الإنسان أن يبدأ بالمعالجة من اللَّحظة الأولى لاكتشاف المشكلة.
وهذا يعني أنَّ على الإنسان أن يقطع الطَّريق على الهوى من بداية الطّريق, حتّى لا يسقط في الهاوية السحيقة, لأنَّ الإنسان في البدايات هو أقدر على السَّيطرة على الأمور من المراحل المتقدِّمة فضلاً عن النِّهايات.
 
أمثلة على ذلك
1- إن قطع الطَّريق على الشَّهوة المحرّمة ينبغي أن يكون من أوَّل الطَّريق فلا ينبغي للإنسان أن يتَّبع هواه في أن ينظر النَّظر المحرَّم سواء النَّظر المباشر أو عبر الإعلام، أو يختلي بامرأة لا تحلّ له، أو يمازح امرأة لا يجوز له ممازحتها، أو يختلط مع النِّساء بشكل لا ضابط فيه، فإنَّ كلَّ ذلك مقدمات إن لم يقطعها الإنسان من أوَّل الطَّريق يخشى عليه أن يقع في 
الهاوية السَّحيقة.
 
2- وهذا مثال طبعاً لا يقع في المجتمع المؤمن ولكن نأخذه كمثال، فالذَّي كان يشعر بالنَّشوة بمقدار معين مِن المخدِّرات، لا يكفيه نفس المقدار في اليوم التَّالي لبلوغ نفس درجة النَّشوة، بل عليه زيادة الكميّة بالتَّدريج، فهذا الَّذي 
سقط في هاوية المخدِّرات كان يستطيع من أوَّل الطَّريق أن لا يبدأ في هذه الموبقة ولكن سقوطه الأوَّل أرداه في الهاوية تلو الهاوية.
 
 
 

 
[1] وسائل الشيعة، ج 15، ص 361.
395

365

الدَّرس الثاني والأربعون: اتِّباع الهوى

 3- الشَّخص الَّذي كان يكفيه في السَّابق شقَّة أو سيَّارة بمواصفات عاديَّة، يصبح إِحساسه بهذه الشَّقَّة عاديّاً، فينشد 

الزِّيادة، والخشية أن يطلب الزِّيادة عن طريق الحرام. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشَّهوة, حيث إنّها دائماً تنشد الزِّيادة, حتّى تهلك الإِنسان نفسه.

 

فإنَّ هوى النَّفس كنار جهنَّم لسان حالها على الدَّوام "هل من مزيد"، وعلى الإنسان أن يَقطع عليها طمعها في المزيد بالقناعة والرِّضا ومواساة المستضعفين.

 

وقد حذر الإمام عليّ عليه السلام من أوَّل الهوى وبداياته: "إيّاكم وتمكُّن الهوى منكم، فإنَّ أوله فتنة وآخره محنة"[1]. وعنه عليه السلام: "أوَّل الشَّهوات طرب، وآخرها عطب"[2]. 

 

وعنه عليه السلام: "كم من شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا"[3].

 

المفاهيم الرَّئيسة

 

1- الهوى: هو ميل النَّفس الأمَّارة بالسُّوء إلى مقتضى طباعها، من اللَّذات الدُّنيويَّة على أنواعها حتَّى تخرج من الحدود الشَّرعيَّة.

 

2- كلُّ حاجات الإنسان، إذا خرجت عن الاعتدال فهي تتبع الهوى, والهوى بطبيعته يصدُّ دائماً عن سبيل الحقّ.

 

3- هدف الخلقة يتحقَّق عندما لا تتجاوز الغرائز والحاجات حدّها، وتخرج عن التَّوازن والاعتدال، وذلك بالتَّمرُّد على 

الشّرع والعقل.

 

4- الآيات الكريمة والرّوايات الشّريفة ذمّت اتِّباع الهوى، وحذّرت أشدَّ التحذير منه, لأنّه باب الضلالة والزَّيغ عن 

صراط الحقّ المستقيم.

 

5- الطَّريق الوحيد لمجانبة الهوى يكمن في معرفة الآثار السلبية لهذه الآفة أوّلاً، ومن ثمَّ العمل على خلاف ما تطلبه وتأمر به.

 

 

 


 

[1] غرر الحكم، ص 212, الحديث 7030.

[2] مستدرك الوسائل، ج11، ص 343.

[3] الكافي، ج2، ص451.

 

396

 

366

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

 الدَّرس الثالث والأربعون:

الشَّيطان عدوّ الإنسان


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يشخّص بدقَّة ويستدلّ على عداوة الشَّيطان للإنسان.
2- يبيّن أنّ كيد الشَّيطان ضعيف وأن مكره لا يسلب الإنسان الاختيار.
3- يشرح أهمّ العوامل المساعدة على مقاومة الإنسان للشَّيطان.
 
397

367

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

 الشَّيطان هو العدُوّ

الإنسان المؤمن كما أنّه مدعوّ لمعرفة الله تعالى وأخلاقه ليتخلّق بها: "تخلّقوا بأخلاق الله" كذلك هو مدعوّ لمعرفة عدُوّه الشَّيطان الرَّجيم ليبتعد عن أخلاقه. والشَّيطان هو كلّ موجود مؤذٍ مغوٍ طاغٍ متمرّد، إنساناً كان أم غير إنسان، وإبليس اسم الشَّيطان الَّذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدَّوائر بأبناء آدم دوماً. والله سبحانه يحذّر جميع أبناء البشر من ذريَّة آدم من كيد الشَّيطان ومكره، ويدعو إلى مراقبته، والحذر منه، لأنّ الشَّيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التَّقوى، ولهذا يقول تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا﴾[1]. وللتعرف بهذا العدُوّ القديم أكثر 
فأكثر يضيف تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾[2].
 
ألا ترون ماذا أحلّ بأتباعه من المصائب!؟ ألم تطالعوا تأريخ من سبقكم لتروا بأعينكم أيَّ مصير مشؤوم وصل إليه من عبد الشَّيطان؟ آثار مدنهم المدمّرة أمام أعينكم، والعاقبة المؤلمة الَّتي وصلوا إليها واضحة لكلّ من يمتلك القليل من التّعقّل والتّفكّر. إذن لماذا أنتم غير جادّين في معاداة من أثبت أنّه عدُوّ لكم مرّات ومرّات؟ ولا زلتم تتّخذونه صديقاً بل قائداً ووليّاً وإماماً!!
 
إنّ العقل السليم يوجب على الإنسان أن يحذر بشدّة من عدُوّ خطر كهذا، لا يتورّع عن أيّ شيء ولا يرحم أيّ إنسان أبداً، وقرابينه في كلّ زاوية ومكان هلكى صرعى، فلا ينبغي
 
 
 

 
[1] سورة الأعراف، الآية 27.
[2] سورة يس، الآية 62.
398

368

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

 له أن يغفل عنه طرفة عين أبداً، ولنقرأ ما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

 
" فاحذروا عباد الله أن يُعْدِيَكُم بِدَائِهِ، وأن يَسْتَفِزَّكُم بِخَيْلِه ورَجِلِهِ، فلعمري لقد فَوَّقَ لكم سهم الوعيد، وأغرق لكم بالنَّزْعِ الشّديد، ورماكم من مكان قريب، وقال: ﴿رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[1]"[2].
 
والقرآن ينذر وينبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة وساوس الشَّيطان ومكائده, يقول: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾[3]. تلك العداوة الَّتي شرع بها الشَّيطان من أوّل يوم خُلق فيه آدم عليه السلام، وأقسم حين طرد من قرب الله وجواره، بسبب عدم تسليمه للأمر الإلهي بالسجود لآدم, أقسم وتوعّد بأن يسلك طريق العداء للآدم وبنيه، وحتّى أنّه دعا من الله أن يمهله ويطيل في عمره لذلك الغرض. وقد التزم بما قال، ولم يفوّت أدنى فرصة لإبراز عدائه، وإنزال الضَّربات بأفراد بني آدم، فهل يصحّ منكم يا بني آدم أن لا تعتبروه عدُوّاً لكم، أو أن تغفلوا عنه ولو لحظة واحدة،ـ فكيف الحال باتّباعه وإقتفاء خطواته, أو تعدُوّنه وليّاً شفيقاً، وصاحباً ناصحاً, ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن 
دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾[4].
 
الشَّيطان يحاصر الإنسان من كلّ الجهات
إنّه عدُوّ يهاجم من كلّ طرف وجانب، فهو نفسه "لعنه الله" يقول: على ما نقله القرآن الكريم: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾[5]. وهو يكمن لكم ويراكم ولا ترونه: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ 
مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾[6]. ويمكن أن يكون
 
 
 

 
[1] سورة الحجر، الآية 39.
[2] نهج البلاغة، ج 2، ص 139, الخطبة 192 (القاصعة).
[3] سورة فاطر، الآية 6.
[4] سورة الكهف، الآية 50.
[5] سورة الأعراف، الآية 17.
[6] سورة الأعراف، الآية 27.
 
399

369

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

 هذا التَّعبير كناية عن أنّ الشَّيطان يحاصر الإنسان من كلّ الجهات، ويتوسّل إلى إغوائه بكلّ وسيلة ممكنة، ويسعى في إضلاله، وهذا التَّعبير دارج في المحاورات اليوميَّة أيضاً، فنقول: فلان حاصرته الدُّيون أو الأمراض من الجهات الأربع.

 
وعدم ذكر الفوق والتحت، إنّما هو لأجل أنّ الإنسان يتحرَّك عادة في الجهات الأربع المذكورة، ويكون له نشاط في هذه الأنحاء غالباً. ولقد نقل في حديث مروي عن الإمام الباقر عليه السلام تفسير أعمق لهذه الجهات الأربع حيث قال: " ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾، معناه أهوّن عليهم أمر الآخرة، ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾، آمرهم بجمع الأموال والبخل بها عن الحقوق لتبقى لورثتهم. ﴿وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ﴾، أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضَّلالة وتحسين الشُّبهة. ﴿وَعَن شَمَآئِلِهِمْ﴾، بتحبيب اللذّات إليهم وتغليب الشّهوات على قلوبهم"[1].
 
العدُوّ الخفيّ
إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشَّيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء، ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ﴾[2], فلا بدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدُوّ. وفي الحقيقة عند ما تظن أنّك وحيد، فإنّه من الممكن أن يكون حاضراً معك، فيجب عليك الحذر من هذا العدُوّ الخفيّ، الّذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدُوّانه المباغت، ولا بدّ من اتّخاذ حالة الدّفاع الدّائم أمامه.
 
الخطوات الأولى نحو الشَّيطان
قد يتساءل البعض, كيف سلّط الله العادل الرَّحيم عدُوّاً بهذه القوَّة على الإنسان؟!, عدُوّاً لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان؟!, عدُوّاً يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد
 
 
 

 
[1] تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 228.
[2] سورة الأعراف، الآية 27.
400

370

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

 بتحركاته، بل إنّه، - حسبما جاء في بعض الأحاديث -، يجري من الإنسان مجرى الدّم في عروقه، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟!

 
القرآن الكريم يردَّ على هذا السؤال الاحتماليّ إذ يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾[1].
أي إنّ الشَّياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينفذوا إلى قلوب المؤمنين وأرواحهم، ما لم يكونوا على استعداد لقبول الشَّيطان والتّعامل معه. وبعبارة أخرى: إنّ الخطوات الأُولى نحو الشَّيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه، وهو الّذي يسمح للشَّيطان بأن يتسلَّل إلى مملكة جسمه. فالشَّيطان لا يستطيع اجتياز حدود الرُّوح ويعبرها، إلّا بعد موافقة من الإنسان نفسه, فإذا أغلق الإنسان نوافذ قلبه في وجه الشّياطين والأبالسة، فسوف لا تتمكَّن من النّفوذ إلى باطنه.
 
إنّ كيد الشَّيطان كان ضعيفاً
ينبغي للإنسان المؤمن أن لا يخاف إلّا الله، ولا يخاف من شياطين الإنس والجن, لأنّ هدفهم الأساسيّ هو أن يخوّفوا أولياءه, ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾[2]. فكيد الشَّيطان ضعيف أمام صلابة الإنسان المؤمن ووعيه وبصيرته, ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[3].
 
وعن الإمام الكاظم عليه السلام في وصيّته لهشام: "فله، أي: لإبليس, فلتشتدّ عداوتك، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدته لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته, فإنّه أضعف منك ركناً في قوّته، وأقلّ منك ضرراً في كثرة شرّه، إذا أنت اعتصمت بالله فقد هديت إلى صراط مستقيم"[4].
 
 
 

 
[1] سورة الأعراف، الآية 27.
[2] سورة آل عمران، الآية 175.
[3] سورة النساء، الآية 76.
[4] بحار الأنوار، ج75، ص315-316.
401

371

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

 فالشَّيطان ليس له سلطان على الإنسان، إلّا أن يساعده الإنسان على نفسه, ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[1].

 
فابرأ من الشَّيطان الضّعيف قبل أن يبرأ منك يوم لا ينفع النّدم, ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾[2].
 
الشَّيطان لا يسلب الإنسان الاختيار
يشير القرآن الكريم إلى موقف آخر من مواقف القيامة، والعقاب النّفسي للجبّارين والمذنبين وأتّباع الشَّياطين، حيث يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْوبهذا التَّرتيب فالشَّيطان وجميع المستكبرين الّذين هم قادة طرق الضَّلال، أصبحوا يلومون ويوبّخون تابعيهم البؤساء. ثمّ يضيف ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ ويستمرّ في القول ﴿فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم﴾[3]. أنتم فعلتم، فاللَّعنة عليكم!! فأنتم الذين طوّقتم أنفسكم بطوق العبودية للشَّيطان, ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾[4].
 
ونستفيد بشكل أكيد من هذه الآية أنّ وساوس الشَّيطان، لا تسلب الإنسان اختياره وحريّة إرادته, بل هي مجرّد دعوة ليس أكثر، فالنّاس هم الّذين يلبّون دعوته بإرادتهم ومن ثمّ فالأرضيّة السابقة والمداومة على الاستجابة لدعوات الشيطان قد تصلان،
 
 
 

 
[1] سورة إبراهيم، الآية 22.
[2] سورة الحشر، الآية 16.
[3] سورة إبراهيم، الآية 22.
[4] سورة النحل، الآية 100.
402

372

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

 بالإنسان إلى حالة من سلب الاختيار في مقابل وساوسه, كما نشاهد بعض المدمنين على المخدرات، ولكن نعلم أنّ السبب الأوّل كان هو الاختيار.

 

ومن ثمّ فالأرضيّة السَّابقة والمداومة على الاستجابة لدعوات الشّيطان قد تصلان بالإنسان إلى حالة من سلب الاختيار في مقابل وساوسته.

 

وعلى هذا فالشَّيطان يجيب بشكل قاطع على الّذين يعتبرونه العامل الأوّل في انحرافهم وضلالهم، وما يقوله بعض الجهلاء لتبرئتهم من ذنوبهم, فإنّ السّلطان الحقيقيّ على الإنسان هو إرادته وعمله ولا شيء غيره.

 

مقاومة الإنسان للشّيطان

إنّ الله تعالى، وإن كان ترك الشَّيطان حرّاً في القيام بوساوسه، ولكنّه من جانب آخر لم يدع الإنسان مجرّداً من الدِّفاع عن نفسه.

 

أوّلاً: وهبه قوّة العقل الّتي يمكن أن توجد سدّاً قوياً منيعاً في وجه الوساوس الشَّيطانية، خاصّة إذا لقيت تربية صالحة.

 

وثانياً: جعل الفطرة النّقيّة وحبّ التكامل في باطن الإنسان كعامل فعل من عوامل السّعادة.

 

وثالثاً: يبعث الملائكة الّتي تلهم الخيرات إلى الّذين يريدون أن يعيشوا بمنأى عن الوساوس الشَّيطانية، كما يصرّح القرآن الكريم بذلك إذ يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾[1] إنّها تنزل عليهم لتقوية معنويّاتهم بإلهامهم ألوان البشارات والتَّطمينات لهم.

 

ونقرأ في موضوع آخر: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾[2] وسدّدوا خطاهم في طريق الحق.

 

 

 


 

[1] سورة فصِّلت، الآية 30.

[2] سورة الأنفال، الآية 12.

 

403

 

373

الدَّرس الثالث والأربعون: الشَّيطان عدوّ الإنسان

المفاهيم الرَّئيسة

 

1- الإنسان المؤمن كما أنّه مدعوّ لمعرفة الله تعالى وأخلاقه ليتخلّق بها كذلك، هو مدعوّ لمعرفة عدُوّه الأوّل وهو الشَّيطان الرَّجيم, ليبتعد صفاته وأعماله.

 

2- القرآن ينذر وينبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة الشَّيطان ومكائده، مشخّصاً منذ بالبداية أنّه العدُوّ الحقيقيّ والأوّل للإنسان، ويطلب منه معاداته. 

 

3- الشَّيطان عدُوّ يهاجم من كلّ طرف وجانب، ويكمن للإنسان دائماً ويسعى لمحاصرته من كلِّ الجهات ويتوسّل لإغوائه بكلّ وسيلة ممكنة.

 

4- فيجب عليك الحذر من هذا العدُوّ الخفيّ الَّذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدُوّانه المباغت، ولا بدّ من اتّخاذ حالة الدِّفاع الدَّائم أمامه.

 

5- الشّياطين لا يسمح لهم قطّ بأن يتسلّلوا وينفذوا إلى قلوب المؤمنين وأرواحهم، ما لم يكونوا على استعداد لقبول الشَّيطان والتّعامل معه.

 

6- ينبغي للإنسان المؤمن أن لا يخاف إلّا الله، ولا يخاف من شياطين الإنس والجن, فكيد الشَّيطان ضعيف أمام صلابة الإنسان المؤمن ووعيه وبصيرته.

 

7- وساوس الشَّيطان لا تسلب الإنسان اختياره وحرية إرادته، بل هي مجرّد دعوة ليس أكثر، فالنَّاس هم الَّذين يلبّون دعوته بإرادتهم. 

 

8- إنّ الله تعالى، وإن كان ترك الشَّيطان حرّاً في القيام بوساوسه، ولكنّه من جانب آخر لم يدع الإنسان مجرّداً من الدِّفاع عن نفسه، فقد وهبه العقل والفطرة، وجنَّد له الملائكة يؤيّدونه ويسدّدون خطاه.

404 

 

374

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 الدَّرس الرابع والأربعون:

كيف نواجه الشَّيطان

أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يعرف كيف يقي نفسه من خطوات الشَّيطان التّدريجيّة في الإضلال.
2- يذكر أهمّ أعمال الشَّيطان وطرق غوايته.
3- يبيّن أهمّ صفات الشَّيطان وكيفيَّة تجنّبها.
 
 
405
 

375

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

خطوات الشَّيطان تدريجيّة

من الأمور الَّتي تساعد على مجابهة الشَّيطان معرفة خططه, ومن خططه أنّه لا يوقع الإنسان المؤمن في المعاصي الكبيرة بخطوة واحدة وبشكل مكشوف، بل يعطيه السّموم على جرعات، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ فعبارة خُطُوَاتِ الشَّيطان قد تشير إلى مسألة تربويّة دقيقة، وهي أنّ الانحرافات تدخل ساحة الإِنسان بشكل تدريجيّ، لا دفعيّ فوريّ. فتلوُّث شابٍّ بالقمار، أو شرب الخمر، أو بالمخدّرات، يتمّ على مراحل:فمثلاً يشترك أوّلاً متفرّجاً في جلسة من جلسات لعب الورق، ظانّاً أنّه عمل اعتياديّ لا ضير فيه. ثمّ يشترك في اللّعب نفسه للتّرويح عن النّفس (دون ربح أو خسارة)، أو يتناول شيئاً من المخدّرات بحجّة رفع التَّعب أو المعالجة أو أمثالها من الحجج.

 

وفي الخطوة الأخرى يمارس العمل المحرّم قاصداً أنَّه يمارسه مؤقتاً. وهكذا تتوالى الخطوات واحدة تلو الأخرى ويصبح الفرد مقامراً محترفاً أو مدمناً مريضاً. فوساوس الشَّيطان تدفع بالفرد على هذه الصورة التّدريجيّة نحو هاوية السقوط. وليست هذه طريقة الشَّيطان الأصليّ فحسب، بل كلّ الأجهزة الشَّيطانية تنفّذ خططها المشؤومة على شكل "خُطُوات", لذلك يحذّر القرآن كثيراً من اتّخاذ الخطوة الأولى على طريق الانزلاق, يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[1]. ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا 

 

 

 


 

[1]  سورة البقرة، الآية 168.

406

376

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾[1]. وعن الإمام عليّ عليه السلام: "وَاتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيطان"[2].. وعنه عليه السلام: "إنّ الشَّيطان يُسَنِّي لكم طُرُقَهُ، ويريد أن يَحُلَّ دينكم عُقدةً عُقدةً"[3].

 
بعض أعمال الشَّيطان
للشّيطان أعمال وخطط عديدة أقسم وأخذ عهداً على نفسه أن لا يألو جهداً في تنفيذها، متى سنحت له الظّروف وتهيّأت له الأسباب، نذكر نماذج منها:
1- يوسوس لأتبعاعه بأن يغيروا أصل الخلقة الإلهية: ﴿وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ﴾[4]، وهذه الجملة تشير إلى أنّ [5]الله قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقه، النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى، ولكن وساوس الشَّيطان والانجراف وراء الأهواء والنَّزوات تبعد الإنسان عن الطّريق المستقيم الصّحيح، وتحرفه إلى الطّرق المُعَوَجّة الشاذة. والشّاهد على هذا القول أيضاً الآية (30) من سورة الروم، إذ تقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾[6]. ونقل عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه فسّره بأنّ القصد من التّغيير المذكور هو تغيير فطرة الإنسان وحرفها عن التّوحيد وعن أمر الله7. وهذا الضرر الذي لا يمكن تعويضه, لأنّه يعكس للانسان الحقائق والوقائع ويستبدل بها مجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس الّتي تؤدّي إلى تغيير السّعادة بالشّقاء للنّاس.
 
 
 

 
[1] سورة النور، الآية 21.
[2]  نهج البلاغة، ج 2، ص 439، الخطبة 151.
[3]  م. ن، ج 1، ص 235، الخطبة 121.
[4] سورة النساء، الآية 119.
[5] سورة الروم، الآية 30.
[6] آية الله العظمى ناصر مكارم الشيرازي، تفسير الأمثل، ج 3، ص 334.
407

377

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 2- يأخذ من عباد الله نصيباً معيناً: ﴿وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾. فالشَّيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد الله, لأنّ من يستسلم لإرادة الشَّيطان ويخضع له، هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنّزوات، والّذين لا إيمان لهم، أو ضعاف الإيمان.

 
3- يضلّ النّاس: كما صرّح بنفسه ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ﴾.
 
4- يشغل أتباعه بالأمنيات العريضة وطول الأمل: ﴿وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾.
 
5- يدعو أتباعه إلى القيام بأعمال خرافيّة: مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات ﴿وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ﴾ وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال الّتي كان يرتكبها الجاهليون المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرّمون على أنفسهم ركوبها، بل يحرّمون أيّ نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.
 
6- يعد الشَّيطان أتباعة بالوعود الكاذبة: يستمرّ في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك، ويمنّيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنّه لا يفعل شيئاً بالنّسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع، ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا﴾[1].
 
أوصاف الشَّيطان الأساسيّة
من طبيعي أنّ الشَّيطان لا يمكنه إدخال أيّ أحد من الناس ليكون عضواً رسميّاً في حزبه، ويقوده إلى جهنّم، فأعضاء حزبه هم الّذين يتّصفون بالصّفات المذكورة في بعض الآيات القرآنيّة. وفيما يلي بعض هذه الصّفات:
1- الأنانيّة:
من الأمور الحسّاسة جدّاً الّتي تلفت النّظر في قضيّة طرد إبليس من رحمة الله، هو مدى تأثير عاملَيْ الأنانيّة والغرور على سقوط وتعاسة الإنسان, إذ يمكن القول بأنّهما من
 
 
 

 
[1] سورة النساء، الآية 120.
408

378

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 

أهمّ وأخطر عوامل الانحراف. وقد تسبّبا، في لحظة واحدة، في هدم عبادة ستّة آلاف سنة، وإنّهما كانا السّبب وراء تدنّي موجود كان في صفّ ملائكة السّماء الكبار إلى أدنى دركات الشّقاء، حتّى أنّه استحقّ لعنة الله الأبديّة. هذه الأنانيّة الّتي عبّر عنها أبليس بـ "أنا" بشكل صريح وواضح في القرآن الكريم حيث حكى تعليله عدم السجود لآدم من قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾[1]، وفي آية أخرى ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾[2]. 
 
فالأنانيّة والغرور يحجبان الحقيقة عن بصر الإنسان, فالأنانيّة مصدر الحسد, والحسد مصدر العداوة والبغضاء, والعداوة والبغضاء سبب إراقة الدماء وارتكاب الجرائم.
 
الأنانيّة تدفع الإنسان إلى الاستمرار في ارتكاب الخطأ، وتحبط، في نفس الوقت، مفعول أيّ عامل للصّحوة من الغفلة، أي: تحوّل بين ذلك العامل وبين الإنسان.
 
الأنانيّة والعناد يسلبان فرصة التّوبة وإصلاح الذّات من الإنسان، ويغلقان أمامه كلّ أبواب النَّجاة، وخلاصة الأمر أنّ كلّ ما نقوله حول خطر هذه الصّفات القبيحة والمذمومة يعدّ قليلاً.
 
2- الاستكبار والعصبية:
القرآن يكشف لنا أحد أهم أوصاف الشَّيطان والّتي كانت سبباً أساسيّاً لوقوعه في المعصية، وطرده لاحقاً وهي التَّكبر على آدم ﴿قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾[3].
 
وأمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له يذمّ إبليس (لعنه الله)، على استكباره وتركه السجود لآدم عليه السلام، ويبيّن عليه السلام أنّه أوّل من أظهر العصبيّة وتبع الحميّة، ويُحذِّر النّاس من سلوك طريقته قال عليه السلام: "فسجد الملائكة كلّهم أجمعون إلا إبليس اعتَرضَتهُ
 
 
 

 
[1] سورة الأعراف، الآية 12.
[2] سورة ص، الآية 76.
[3] سورة ص، الآية 75.
409

 


379

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 الحمِيّة فافتخر على آدم بخَلْقهِ، وتَعصّبَ عليه لأصله. فَعدُوّ الله إمام المُتعصّبين، وَسَلَفُ المستكبرين، الذي وضع أساس العصبيّة، ونازع الله رداء الجَبْرِيّةِ، وَادَّرَعَ لباس التَّعَزُّزِ، وخلع قناعَ التّذلُّل"[1], لذلك على الإنسان المؤمن أن لا يتعصّب إلّا للحقّ والدين، ويبتعد عن أيّ عصبيّة أخرى حتّى لو كان لأهله وإخوته وأقاربه.

 
3- اتّباع الهوى:
من صفات الشَّيطان اتّباع هواه، فهو يريد عبادة ربّه حسب هواه، فعن الإمام الصَّادق عليه السلام: "أمر الله إبليس بالسجود لآدم، فقال: يا ربّ وعزّتك إنْ أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنّك عبادة ما عبدك أحد قطّ مثلها، قال الله جل جلاله: إنّي أحبّ أن أطاع من حيث أريد"[2].
 
وكم نرى من النّاس من يتّصف بهذه الصّفة, حيث يريد ديناً حسب ما تشتهي نفسه، لا كما يريد ربّه, فتكون الشّريعة 
تابعة له لا هو تابع للشّريعة.
 
ما يساعد الشَّيطان على الإنسان
هناك العديد من الأمور الّتي يمكن أن تساعد على تحكّم الشَّيطان بالإنسان منها: 
1- مجالسة أهل الهوى: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "واعلمُوا أنّ يسير الرّياء شرك، ومجالسة أهل الهوى مَنْسَاةٌ للإيمانِ، محضرة للشيطان"[3].
 
2- الظّلم والبغي: عن الإمام عليّ عليه السلام أيضاً قال: "فالله الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظّلم، وسوء عاقبة الكبر، فإنَها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى، الّتي تُساور قلوب الرّجال مُساورة السّموم القاتلة"[4].
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة، ح 2، ص 138, الخطبة 192.
[2] بحار الأنوار، ج 2، ص 262.
[3] نهج البلاغة، ج 1، ص 150, الخطبة 86.
[4] م. ن، ج 2، ص 148, الخطبة 192.
410

380

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 3- الانشغال بعيوب غيره عن عيوب نفسه: عن الإمام عليّ عليه السلام: "فمن شغل نفسه بغير نفسه تَحَيَّرَ في الظّلمات، وارْتَبَكَ في الهلكات، وَمَدَّتْ به شياطينه في طغيانه، وزيّنت له سيِّئَ أعماله"[1].

 
4- الإعجاب بالنّفس وحبّ المدح: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإيّاك والإعجاب بنفسك، والثّقة بِما يعجبك منها، وحبّ الإطراء، فإنّ ذلك من أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين"[2].
 
5- الغضب: فعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "واحذر الغضب، فإنّه جُندٌ عظيم من جنوِ إبلِيس"[3]. وقال عليه السلام: "وإيّاك والغضب فإنّه طَيْرَةٌ من الشَّيطان"[4].
 
6- الإفراط في حبّ النساء وحبّ المال وشرب الخمر: عن الإمام عليّ عليه السلام: "الفتن ثلاث: حبّ النساء وهو سيف الشَّيطان، وشرب الخمر وهو فخّ الشَّيطان، وحب الدّينار والدّرهم وهو سهم الشَّيطان"[5]. وعنه عليه السلام قال: "إنّ الشَّيطان يدير ابن آدم في كلّ شيء, فإذا أعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته"[6].
 
7- العداوة والبغضاء: يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾[7].
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة، ج 2، ص 51, الخطبة 157.
[2] م. ن، ج 3، ص 108, من عهده إلى مالك الأشتر، الخطبة53.
[3] م. ن، ج 3، ص 131, الكتاب: 7 (إلى المنذر بن الجارود).
[4] م. ن، ج 3، ص 136, الكتاب: 76 (كتابه إلى أبي موسى الأشعري).
[5] بحار الأنوار، ج 2، ص 107.
[6] الكافي، ج 2، ص 315.
[7] سورة المائدة، الآية 91.
411

381

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 خاتمة

أشرنا في السّابق كيف يستطيع إبليس عبر خطوات أن يوقع الإنسان في الهاوية، ولا بدّ من التّعرّف إلى ما يساعد هذا الإنسان للتّغلّب على إبليس، فإنّ الله سبحانه أودع هذه القوّة في الإنسان، ليستطيع الوصول إلى الجنّة بعد هذا الامتحان الكبير فيستحقّ بذلك رضا الله والجنّة. ومما يساعد الإنسان على الشَّيطان أمور منها ما ذكر الإمام الصَّادق عليه السلام في رواية جامعة حيث قال: "قال إبليس: خمسة أشياء ليس لي فيهنّ حيلة وسائر النّاس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نيّة صادقة واتّكل عليه في جميع أموره، ومن كثر تسبيحه في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبه، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه"[1].
 
وللاعتصام بالقرآن والعترة الطّاهرة دوراً محورياً وحاسماً في تجنّب مكائد الشَّيطان، وعدم الدّخول في حزبه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أحبّ أن يركب سفينة النّجاة، ويستمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين، فليوالِ عليّاً بعدي، وليعادِ عدُوّه، وليأتمّ بالأئمّة الهداة من ولده, فإنّهم خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي، وسادة أمّتي، وقادة الأتقياء إلى الجنّة. حزبهم حزبي، وحزبي حزب الله عزّ وجلّ، وحزب أعدائهم حزب الشَّيطان"[2]. 
 
كما وللدُّعاء دور مهم في تحصين الإنسان من سورة الشَّيطان كما في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "أكثِر الدُّعاء تسلمْ من سورة الشَّيطان"[3].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 136.
[2] م. ن، ج 38، ص 92.
[3] م. ن، ج 75، ص 9.
412

382

الدَّرس الرابع والأربعون: كيف نواجه الشَّيطان

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- من الأمور الّتي تساعد على مجابهة الشَّيطان معرفة خططه وخطواته.
 
2- خطوات الشَّيطان تدريجيّة، وهو لا يوقع الإنسان المؤمن في المعاصي الكبيرة بخطوة واحدة وبشكل مكشوف، بل 
يعطيه السُّموم على جرعات.
 
3- أعمال الشَّيطان وخططه عديدة ومتنوعة، منها: تغيير الخلقة الإلهيّة، الإضلال واشغال النّاس بالآماني المزيّفة، والتّغرير بهم بالوعود الكاذبة والزّائفة.
 
4- أوصاف الشَّيطان الأساسيّة هي الأنانيّة، اتّباع الهوى، والتَّكبُّر.
 
5- العديد من الأمور تساعد على تحكّم الشَّيطان بالإنسان منها: مجالسة أهل الهوى، الظُّلم والبغي، الانشغال بعيوب 
غيره عن عيوب نفسه، العجب بالنّفس وحبّ المدح، الغضب،الإفراط في حبّ النساء وحبّ المال وشرب الخمر، العداوة والبغضاء.
 
6- أساليب مواجهة الشَّيطان عديدة منها: اعتصم بالله، النّيّة الصَّادقة، التَّوكُّل على الله، كثرة الذِّكر والتَّسبيح، الرِّضا 
لغيره ما يرضاه لنفسه، عدم الجزع عند المصيبة، والرِّضا بما قسم الله له.
 
413

383

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

 الدَّرس الخامس والأربعون:

آفات اللِّسان


أهداف الدَّرس 
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يتعرَّف إلى قيمة اللِّسان ودوره في بيان اعتقاد الإنسان.
2- يعرف آفات اللِّسان وعذابه في الآخرة.
3- يبيِّن وظائف اللِّسان والميزان الصحيح بين السُّكوت والكلام. 
 
 
415
 

384

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

اللِّسان, قيمته وخطره

اللِّسان من النّعم الّتي أنعم الله بها على الإنسان, ليستعين به على أمور دينه ودنياه. وقد بلغ هذا اللِّسان من الخطورة, بحيث نسبت إليه أعظم الشَّرور الدُّنيوية والأخرويَّة, فقد سأل سائل رسول الله، قال يا رسول الله أوصني، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "احفظ لسانك، وَيْحكَ وهل يَكُبُّ النّاس على مناخرهم في النّار إلّا حَصائِدُ ألسنتهم"[1].

 

وعن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: "إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه، كلّ صباح، فيقول: كيف أصبحتم فيقولون: بخير إن تركتنا، ويقولون: الله الله فينا ويناشدونه ويقولون إنّما نُثاب ونعاقب بِك"[2].

 

وعن الإمام عليّ ‏ عليه السلام: "اللِّسان سَبُعٌ إن خُلِّيَ عَقَر"[3].

 

ومثله أيضاً ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "كم من دم سفكه فم"[4].

 

وعنه عليه السلام: "إنّ أكثر خطايا ابن ادم في لسانه"[5].

 

اللِّسان والإيمان

لا شكّ في أنّ الإيمان الحقيقيّ موطنه في القلب، واللِّسان ترجمان هذا القلب، فما يظهر على اللِّسان غالباً ما يكون تجلٍّ لما يُضمر في القلب.

 

 

 


 

[1] الكافي، ج 2، ص 115.

[2] م. ن، ج 2، ص 115.

[3] نهج البلاغة، ج 4، ص 15, باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام, الحكمة 60. 

[4] غرر الحكم، الحديث (الحكمة) 4158.

[5] كنز العمّال، ج 3، ص 549.

416

385

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

 وقد قال الشّاعر:

إنّ الكـلام لـفـي الـفـؤاد وإنـّمـا        جـعـل اللِّسان على الـفـؤاد دليلا

 

هناك علاقة عكسيَّة بين اللِّسان والقلب، فاللِّسان من أشدِّ الجوارح تأثيراً في القلب وصحته ومرضه, ولذا كانت استقامة اللِّسان مفضية إلى استقامة القلب، المفضية بدورها إلى استقامة الإيمان. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه, ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه, فمن استطاع منكم أن يلقى الله،ـ سبحانه, وهو نقيّ الرّاحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللِّسان من أعراضهم فليفعل"[1].

 

آفات اللِّسان

اللِّسان جارحة لها الصّدارة في الخطورة بين الجوارح، وتعتريه الكثير من الآفات والموبقات الواجب اجتنابها والحذر منها، 

ومن هذه الآفات:

1- الخوض في الباطل: يقول المولى الكريم حكاية عن بعض أهل النَّار قولهم ﴿وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ﴾[2]، والمراد منه الدُّخول في أيّ حديث وأيّ كلام، بلا حساب ولا تدبر ولا وعي. وقد ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وآله 

وسلم: "أعظم الناس خطايا يوم القيامة هم أكثرهم خوضاً في الباطل"[3].

 

2- المراء والمجادلة: فاستكمال حقيقة الإيمان متوقّف على ترك الجدال والمماراة, كما ورد في الحديث عن الرّسول 

الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى يدع المراء، وإن كان محقّاً"[4]. 

 

 

 


 

[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 292.

[2] سورة المدثر، الآية45.

[3] كنز العمال، ج3، ص566, الحديث 7932.

[4] بحار الأنوار، ج2، ص138.

417

 

 

386

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

 3- الفحش والسّبّ واللّعن: عن الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس المؤمن بالطَّعَّان، ولا اللّعان، ولا 

الفاحش، ولا البذيء"[1]. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من شرار عباد الله، من تكره مجالسته, لفحشه"[2].
 
4- السُّخرية والاستهزاء: السُّخرية من آفات اللِّسان، وقد نهى عنها ديننا, كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ﴾[3].
 
5- إفشاء السّرّ: السّرّ من أعظم الأمانات وإفشاؤه خيانة، والله لا يحبّ الخائنين. ورد في الحديث النَّبويّ أنّ رسول الله 
صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذرّ رضوان الله عليه: "يـا أبـا ذرّ، المَجـالِس بِالأمـانَةِ، وإفشَـاءِ سرّ أَخِيكَ خِيـانَة"[4].
 
6- الكذب: وهو من أعظم الخطايا, كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أعظم الخطايا اللِّسان الكذوب"[5].
 
7- الغيبة: وقد ورد النَّهي الصّريح عنها في القرآن الكريم: ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾[6].
 
وروي عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه، وهدم مروءته, ليسقط عن أعين النّاس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشَّيطان فلا يقبله الشَّيطان"[7].
 
 
 

 
[1] مجمع الزوائد، ج 1، ص 97.
[2] بحار الأنوار، ج 22، ص 131. (تحقيق: الشّيرازيّ)
[3] سورة الحجرات، الآية 11.
[4] وسائل الشيعة، ج12، ص307.
[5] بحار الأنوار، ج74، ص135. 
[6] سورة الحجرات، الآية 12.
[7] الكافي، ج2، ص358.
418

387

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

 عذاب اللِّسان

لما كانت مساوئ اللِّسان بمستوى ما ذكر، وآفاته على هذه الدَّرجة من الخطورة، فإنّ الجوارح تستعيذ يوميّاً من شرِّه، والله تعالى، يعذِبّه عذاباً لا يعذب به جارحة غيره. فعن الإمام الصَّادق عليه السلام قال: قال رسول الله‏ صلى الله عليه وآله وسلم: "يعذِّب الله اللِّسان بعذاب لا يعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: أي ربِّ عذَّبتني بعذاب لم تعذِّب به شيئاً، فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض ومغاربها فسفك بها الدَّم الحرام، وانتهب بها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام, وعزَّتي وجلالي، لأعذِّبنَّك بعذاب لا أعذِّب به شيئاً من جوارحك"[1].
 
ما العمل مع اللِّسان؟
لم يتركنا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام حيارى في اكتشاف جواب هذا السُّؤال، بل هم أجابواعن ذلك وكان لديهم العلاج:
1- قول الخير دائماً: يقول تعالى في ذلك: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[2]. وعن رسول‏ الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت"[3].
 
2- ذكر الله: فاللِّسان آلة ذكر الله وعلى الإنسان أن يستغل لسانه بذكر الله, كما جاء الأمر في الذِّكر الحكيم، قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾[4].
 
3- التَّفَكُّر قبل الكلام: وهذا العلاج لكلِّ آفات اللِّسان, فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "وإنَّ 
لسان المؤمن وراء
 
 
 

 
[1] الكافي، ج2، ص 115.
[2] سورة الإسراء، الآية53.
[3] الكافي، ج2، ص667.
[4] سورة الأحزاب، الآية41.
419

388

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

 قلبه، وإن قلب المنافق من وراء لسانه, لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلَّم بكلام تدبَّره في نفسه, فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً واراه, وإن المنافق يتكلَّم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه"[1].

 
4- الصَّمت والسُّكوت: عن رسول الله ‏ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من صمت نجا"[2]. 
 
وعن النّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الصَّمت عبادة لمن ذكر الله"[3].
 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: "واجعلوا اللِّسان واحداً وليخزن الرَّجل لسانه, فإنّ هذا اللِّسان جموح بصاحبه, والله، ما أرى عبداً يتقى تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه"[4].
 
وقال النَّبيِّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة"[5].
 
وعن الإمام عليّ عليه السلام أنّه: "إنَّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشية الله، فأسكتتهم عن النِّطق وإنّهم لفصحاء عقلاء يستبقون إلى الله بالأعمال الزكيّة..."[6].
 
أيُّهما أفضل الكلام أم الصَّمت؟
عندما يكون الكلام دعوة حقّ وخير وتسبيح وذكر، فهو خير من السَّكوت, أمّا عندما يكون القول دعوة باطل وشرّ وغيبة ونميمة، فالسُّكوت خير منه. قال النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "السُّكوت خير من إملاء الشر وإملاء الخير 
خير من السُّكوت"[7].
 
وسئل الإمام زين العابدين عليه السلام عن الكلام والسُّكوت أيُّهما أفضل؟ فقال عليه السلام: "لكلِّ واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السُّكوت. قيل: كيف
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة (محمد عبده)، م. س، ج 2، ص 94, الخطبة 176.
[2] وسائل الشيعة، ج12، ص251.
[3] بحار الأنوار، ج 68، ص 294.
[4] نهج البلاغة، ج 2، ص 93, الخطبة 176. 
[5] الكافي، ج2، ص237. 
[6] وسائل الشيعة، ج 12، ص 199.
[7] بحار الأنوار، ج 68، ص 294.
420

389

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

 ذلك يا بن رسول الله؟ قال عليه السلام: "لأنَّ الله،ـ عزَّ وجلَّ, ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسُّكوت، إنَّما بعثهم بالكلام ولا استحقت الجنّة بالسُّكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسُّكوت ولا تُوِقِّيَتْ النَّار بالسُّكوت, إنّما ذلك كله بالكلام"[1].

 
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ألا وإنَّ اللِّسان الصَّالح يجعله الله للمرء، خير له من المال يورثه من لا 
يحمده"[2].
 
وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام في رسالة الحقوق: "وأمّا حقّ اللِّسان فإكرامه عن الْخَنَى[3]، وتَعْوِيدهُ الخَيْرَ، وحَملُهُ على الأدب، وإِجْمَامُهُ[4], إلّا لموضع الحاجة والمنفعة للدّين والدّنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشَّنِعَةِ[5] القليلة الفائدة الّتي لا يؤمن ضررها مع قلّة عائدتها، ويعدّ شاهد العقل والدّليل عليه، وتزَيّن العاقل بعقله، (و) حُسْنُ سيرته في لسانه، ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم"[6].
 
من هذه الرّوايات يتبيّن لنا أنَّ الكلام بالحقّ والعلم خير من السُّكوت.
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 68، ص 274.
[2] نهج البلاغة، ج 1، ص 233, الخطبة 120.
[3] الخنى: الفحش في الكلام.
[4] الإجمام: الإراحة.
[5] الشّنعة: القبيح.
[6] رسالة الحقوق للإمام زين العابدين. (راجع: بحار الأنوار، ج 71، ص 11).
421

390

الدَّرس الخامس والأربعون: آفات اللِّسان

 المفاهيم الرئيسة

 

1- يُعدُّ اللِّسان من النِّعم الَّتي أنعم الله بها على الإنسان, ليستعين به على أمور دينه ودنياه، وقد بلغ هذا اللِّسان من الخطورة، بحيث نسبت إليه أعظم الشُّرور الدُّنيويَّة والأخرويَّة. 

 

2- عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: "إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه, كلّ صباح، فيقول كيف أصبحتم فيقولون: بخير إن تركتنا ويقولون: الله الله فينا ويناشدونه ويقولون: إنّما نُثاب ونعاقب بِك".

 

3- الإيمان الحقيقيّ موطنه في القلب، واللِّسان ترجمان هذا القلب، فما يظهر على اللِّسان غالباً ما يكون تجلٍّ لما يُضمر 

في القلب.

 

4- اللِّسان من الجوارح الّتي لها القدرة على ارتكاب الكثير من الشُّرور، ومنها: الخوض في الباطل، المراء والمجادلة، الفحش والسَّبُّ واللَّعن، السُّخرية والاستهزاء، إفشاء السِّرّ، الكذب، الغيبة.

 

5- تستعيذ الجوارح يوميّاً من شرّ اللِّسان، ومن قدرته على القيام بالمعاصي الكبيرة، فالله تعالى يعذِّبه عذاباً لا يُعذّب به 

جارحة غيره.

 

6- من وظائف اللِّسان الشَّريفة: قول الخير دائماً، ذكر الله، التَّفكُّر قبل الكلام، الصَّمت والسُّكوت.

 

7- الميزان في معرفة وظيفة الإنسان بين الكلام والسُّكوت، هو أنّه عندما يكون الكلام دعوة حقّ وخير وتسبيح وذكر، 

فهو خير من السُّكوت, أمّا عندما يكون القول دعوة باطل وشر وغيبة ونميمة، فالسُّكوت خير منه.

 

 

422

 

391

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة


الدَّرس السادس والأربعون:

الغيبة والبهتان والنّميمة



أهداف الدَّرس 

على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:

1- يعرف معاني الغيبة والبهتان والنّميمة.

2- يحدّد معاني الغيبة والبهتان والنّميمة من خلال القرآن الكريم.

3- يبيّن أهمّ أسباب وعلاج الغيبة والبهتان والنّميمة.

 

423

392

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة

 في معاني الغيبة والبهتان والنَّميمة

الغيبة: ما يقال في غياب الشخص، غاية الأمر أنَّه بقوله هذا يكشف عيباً من عيوب النَّاس، سواء كان عيباً جسديّاً أو 
نفسيّاً أو أخلاقيّاً، أو في الأعمال أو في المقال, بل حتَّى في الأمور المتعلِّقة به كاللِّباس، والبيت، والزَّوج، والأبناء، والأجداد، والنَّسب، والحسب، وما إلى ذلك.
 
فبناء على هذا ما يقال عن الصَّفات الظّاهرة للشَّخص الآخر لا يُعدُّ اغتياباً، إلَّا أن يراد منه الذَّمُّ والعيب فهو في هذه الصُّورة حرام، كما لو قيل في مقام الذَّمِّ: إنَّ فلاناً أعمى، أو أعور، أو قصير، القامة، وما إلى ذلك.
 
فيتضح من هذا أنَّ ذكر العيوب الخفيَّة بأيِّ قصد كان يعد غيبة, وذكر العيوب الظّاهرة إذا كان بقصد الذَّمِّ أو كان فيه أذيَّة فهو حرام سواء أدخلناه في مفهوم الغيبة أم لا.
 
كلُّ هذا في ما لو كانت هذه العيوب في الطَّرف الآخر واقعيّة, أما إذا لم تكن صحيحة أصلاً فتدخل تحت عنوان البهتان، وإثمه أشدُّ من الغيبة بمراتب.
 
ففي حديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأمّا ما هو ظاهر فيه مثلُ الحدَّة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول ما ليس فيه"[1].
 
أمّا النّميمة: فهو أن ينقل شخص كلاماً سمعه من شخص واقعاً أو اخترعه من نفسه إلى شخص آخر بقصد الفتنة بين شخصين.
 
 

 
 
[1] أصول الكافي، ج‏2، ص358.
424

393

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة

 الغيبة والنَّميمة في القرآن والسُّنَّة

المستقرئ لآيات القرآن الكريم والرّوايات الشَّريفة يلاحظ أنَّ الغيبة والنَّميمة من الكبائر.
- في الآيات الكريمة:
فقد أوعد الله عليهما بالنّار فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[1].
 
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾[2].
 
فالآيات الشّريفة في مقام بيان كيفيَّة العذاب الأخرويّ للمغتاب, حيث تتجسّم الغيبة في الآخرة بصورة أكل ميتة الشَّخص المستغاب. 
 
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾[3]. وهذا وعيد من الله سبحانه لكلّ مغتاب، مشّاء بالنَّميمة، مفرِّق بين الأحبة.
 
ويقول تعالى أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[4].
 
فالمستغيب والنّمّام يقطعون ما أمر الله بوصله، ومفسدون في الأرض, إذ إنَّه يوجد الفرقة والنفرة والعداوة بين المسلمين بدل المحبّة والإلفة والوحدة بينهم.
 
ويقول تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ[5]. وفي آية أخرى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾[6]. وظاهر أنَّ الشَّخص النمَّام والمستغيب يشعلان نار الفتنة.
 
 
 

 
[1] سورة النور، الآية 19.
[2] سورة الحجرات، الآية 12.
[3] سورة الهمزة، الآية 1.
[4] سورة الرعد، الآية 25.
[5] سورة البقرة، الآية 191.
[6] سورة البقرة، الآية 217.
425

394

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة

 في الرّوايات الشَّريفة:

عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "رأيت ليلة الإسراء رجالا تُقْرَضُ شفاههم بمقاريض من نار، قيل: من هم؟ قال: الّذين يغتابون النّاس"[1].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى قال: "رأيت ليلة الإسراء قوماً يُقطَع اللّحم من جنوبهم ثمّ يُلْقَمونَهُ ويُقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الهمّازون من أُمَّتِكَ اللَّمّازون، وقال: لا يدخل الجنّة قَتَّاتٌ ولا نمّام"[2].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتَّبعوا عوراتهم, فإنَّه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته, ومن تتبع الله عورته، يفضحه في جوف بيته"[3].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الغيبة أسرع في دين الرَّجل من الأكلة في جوفه"[4].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا أنبِّئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: المشّاؤون بالنَّميمة، المفرِّقون بين الأحبَّة، الباغون للبِرَاء المعايب"[5].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أدنى الكفر أن يسمع الرّجل من أخيه كلمة فيحفظها عليه, يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم"[6].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مشى في غيبة أخيه وكشف عورته، كانت أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنّم"[7].
 
بناء على هذا, فإنَّ الغيبة والبهتان والنّميمة من الذُّنوب الكبيرة، الّتي جاء الوعيد عليها، فلا ينبغي استصغار هذه الذُّنوب.
 
 
 

 
[1] مستدرك الوسائل، ج9، ص126.
[2] م. ن، ص151-152.
[3] المحجة البيضاء، ج‏5، ص‏252.
[4] أصول الكافي، ج‏2، ص 357.
[5] دستغيب، الذُّنوب الكبيرة، ج‏2، ترجمة: صدر الدّين القبانجيّ، ط 2، بيروت، الدّار الإسلاميّة، 1408هـ 1988م، ص 278.
[6] م. ن، ص 266.
[7] م. ن.
426

395

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة

 أسباب تحريم الغيبة والبهتان والنّميمة

أوّلاً: بما أنَّ الإنسان مخلوق اجتماعيّ، فالمجتمع البشريّ الّذي يعيش فيه له حرمة يجب أن لا تقلَّ عن حرمته الشّخصيّة، وطهارة كلّ منهما تساعد في طهارة الآخر، وقبح كلّ منهما يسري إلى صاحبه، وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كلَّ عمل ينشر السُّموم في المجتمع أو يدفعه نحو الهاوية والانحطاط.
 
أوجب الإسلام ستر العيوب, والسّبب في ذلك هو الحيلولة دون انتشار الذُّنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العموميّة والشّمول.
 
ثانياً: إنَّ رأس مال الإنسان المهمّ في حياته ماء وجهه وحيثيّته، وأيّ شي‏ء يهدِّده فكأنّما يهدد حياته بالخطر.إنَّ واحدة من حِكَم تحريم الغيبة، هي أن لا يتعرَّض هذا الاعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف الذِّكر لخطر التَّمزُّق والتَّلوُّث، وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث حيثّياتهم، وهذا مقصد مهمّ تلقّاه الإسلام باهتمام بالغ.
 
ثالثاً: والأمر الآخر، أنَّ الغيبة والنّميمة والبهتان، يُولِّدون النَّظرة السَّيِّئة، ويضعفون العلائق الاجتماعيّة ويوهنون، وتتلف
 رأس مال التّعاضُد ويزلزلون قواعد التَّعاون الاجتماعي.
 
ونعرف أنَّ الإسلام أولى أهميّة بالغة من أجل الوحدة والانسجام والتّضامن بين أفراد المجتمع، فكل أمر يقوِّي هذه الوحدة فهو محلّ قبول الإسلام وتقديره، وما يؤدي إلى الإخلال بالأواصر الاجتماعيّة فهو مرفوض، والاغتياب والبهتان والنَّميمة هي من عوامل الوهن والضُّعف.
 
رابعاً: ثمَّ بعد هذا كلِّه فإنَّ الاغتياب وصاحبيه ثلاثة أمور تنثر في القلوب بذور الحقد والعداوة وربما أدَّت أحياناً إلى الفتنة والاقتتال وسفك الدِّماء.
427 
 

396

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة

 علاج الغيبة وصاحبيه

إنَّ الغيبة وصاحبيه كسائر الصِّفات الذَّميمة تتحوّل تدريجيّاً إلى صورة مرض نفسيّ, بحيث يلتذّ المغتاب من فعله ويحسُّ 

بالاغتباط والرِّضا عندما يريق ماء وجه فلان، وهذه مرتبة من مراتب المرض القلبيّ الخطير جدّاً.

 

ومن هنا فينبغي على المغتاب والنَّمّام أن يسعى إلى علاج البواعث الدّاخليّة للاغتياب، الّتي تكمن في أعماق روحه وتحضُّه على هذا الذَّنب, من قبيل البخل، والحسد، والحقد، والعداوة، والاستعلاء والأنانيّة.

 

فعليه أن يطهِّر نفسه عن طريق بناء الشّخصيّة، والتّفكير في العواقب السّيِّئة لهذه الصّفات الذَّميمة، وما ينتج عنها من نتائج مشؤومة، ويغسل قلبه عن طريق الرِّياضة النَّفسيَّة والمجاهدة الدّائمة للنّفس, ليسيطر على لسانه فلا يتلوّث بالغيبة 

وأمثالها. وهذا يحتاج إلى إرادة وعزيمة قويّة.

 

موارد الاستثناء

ما ينبغي ذكره في شأن الغيبة، أنَّ قانون الغيبة له استثناءات، من جملتها: أنَّه يتفق أحياناً في مقام الاستشارة مثلاً لانتخاب الزّوج أو الشَّريك في الكسب وما إلى ذلك، أن يسأل إنسان إنساناً آخر, فالأمانة في المشورة الّتي هي قانون 

إسلاميّ مسلّم به, توجب أن تبَيَّن العيوب إن وجدت في الشّخص الآخر, لئلا يتورّط المسلم في مشكلة, فمثل هذا الاغتياب بمثل هذا القصد لا يكون حراماً.

 

وكذلك في الموارد الأخرى الّتي فيها أهداف مهمّة كهدف المشورة في العمل أو لإحقاق الحقّ أو التَّظلُّم وما إلى ذلك.

 

وبالطّبع فإنّ المتجاهر بالفسق خارج عن موضوع الغيبة, ولو ذكر إثمه في غيابه فلا إثم على مغتابه، إلّا أنَّه ينبغي الالتفات إلى أنَّ هذا الحكم خاص بالذنب الذي يتجاهر به فحسب.

 

428

 

 

397

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة

 استماع الغيبة 

إنَّ الغيبة ليست هي حراماً فحسب، بل الاستماع إليها حرام أيضاً، والحضور في مجلس الاغتياب حرام، بل يجب طبقاً لبعض الرّوايات أن يُردَّ على المغتاب، أعني أن يدافع عن أخيه الّذي يراد إراقة ماء وجهه.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "السّامع للغيبة أحد المغتابين"[1].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من اغْتِيبَ عنده أخوه المؤمن فنصره, وأعانه، نصره الله في الدّنيا والآخرة, ومن لم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر، خذله الله وحقّره في الدّنيا والآخرة"[2].
 
 
 
 

 
[1] مستدرك الوسائل، ج9، ص133.
[2] بحار الأنوار، ج72، ص 177. (تحقيق: البهبوديّ)
429

398

الدَّرس السادس والأربعون: الغيبة والبهتان والنّميمة

 المفاهيم الرئيسة


1- الغيبة: هي ما يقال في غياب الشَّخص عن عيب من عيوبه. 
 
2- البهتان: هو ما يقال في غياب شخص عن عيب ليس من عيوبه. 
 
3- النّميمة: هي أن ينقل شخص كلاماً سمعه من شخص واقعاً أو اخترعه من نفسه، إلى شخص آخر, بقصد الفتنة بين شخصين. 
 
4- ارتكاب الغيبة والبهتان والنّميمة حرام وهو من الكبائر.
 
5- من أسباب تحريم الغيبة والبهتان والنّميمة:
- الحيلولة دون انتشار الذُّنوب في المجتمع واكتسابها طابع العموميّة والشّمول.
- الحيلولة دون هتك حرمة النّاس وشخصيّاتهم.
- الحيلولة دون إضعاف العلائق الاجتماعيّة والتّعاون الإنسانيّ.
- الحيلولة دون إشاعة الحقد والعداوة، والفتنة، والقتل بين النّاس.
- ينبغي على المبتلى يالغيبة والبهتان والنميمة، أن يسعى لعلاجها قبل أن يستفحل خطرها، وذلك عبر: 
- إزالة البواعث الدّاخليّة للغيبة وأخويه, من قبيل البخل، والحسد، والحقد، والعداوة، والأنانيّة.
- التّفكير في العواقب السَّيِّئة للغيبة وأخويه.
- التّوبة.
 
6- هناك موارد يجوز فيها الغيبة:
- في مقام الاستشارة.
- في مقام إحقاق الحقّ أو التَّظلُّم.
- المتجاهر بالفسق فيما تجاهر فيه.
 
7- لا تجوز الغيبة، وكذلك لا يجوز الاستماع إليها، وينبغي الدِّفاع عن المغتاب.
 
430

399

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 الدَّرس السابع والأربعون:

الصِّدق والكذب


أهداف الدَّرس 
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يعرف مساوئ الكذب في الكتاب والسنّة.
2- يحدّد موارد الكذب وآثاره السّلبيّة.
3- يبيّن أهميّة الصّدق وآثاره الإيجابيّة.
 
431

400

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 قبائح الكذب

الكذب حرام بضرورة العقول والأديان، ويستفاد من القرآن الكريم والرّوايات أنّه من الذُّنوب الكبيرة. والآيات والأخبار الواردة في كبر ذنب الكذب وشدّة عقوبته ومفسدته ومضرّته كثيرة منها:
1- الكذب فسق:
قال تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾[1].
 
حيث عبَّر عن الكذب بالفسوق، وأيضاً في سورة الحجرات عبَّر عن الكاذب بالفاسق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[2].
 
2- الكذب يتناقض مع الإيمان:
يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾[3]، ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾[4].
 
3- الكذب من علامات النفاق:
كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثٌ من كنّ فيه كان منافقاً وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا اؤْتُمِنَ خان وإذا حَدَّثَ كذب وإذا وعد أَخْلَفَ, إنّ الله،ـ عزّ وجلّ, قال في

 
 

 
[1] سورة البقرة، الآية 197.
[2] سورة الحجرات، الآية 6.
[3] سورة النحل، الآية 105.
[4] سورة المائدة، الآية 103.
432

401

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 كتابه ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾[1] وقال ﴿أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، وفي قوله ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾"[2]. 

 
4- الكذب منشأ جميع الذُّنوب:
عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنَّ الله عزَّ وجلَّ جعل للشرِّ أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشَّراب، والكذب شرّ من الشّراب"[3].
 
وعن الإمام العسكريّ عليه السلام أنّه قال: "جعلت الخبائث كلّها في بيت وجعل مفتاحها الكذب"[4].
 
5- الكذب سبب الخذلان الإلهيّ:
وهو سبب للحرمان من الهداية الإلهيّة كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾[5]. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾[6].
 
6- الحرمان من صلاة اللّيل:
عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الرّجل ليكذب فيحرم بها صلاة اللّيل، فإذا حرم صلاة اللّيل حُرِم بها الرِّزق"[7].
 
7- الكذب يهلك صاحبه:
كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "اجتنبوا الكذب، وإن رأيتم فيه النّجاة, فإنَّ فيه الهلكة"[8].
 
 
 

 
[1] سورة الأنفال، الآية 58.
[2] الكافي، ج 2، ص 390-391.
[3] م. ن، ص 339.
[4] بحار الأنوار، ج69، ص 263. (تحقيق: البهبوديّ)
[5] سورة الزمر، الآية 3.
[6] سورة غافر، الآية 28.
[7] بحار الأنوار، ج 69، ص 260.
[8] مستدرك الوسائل، ج9، ص88.
433

402

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 9- لا يقبل رأي الكاذب:

كما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الكذب مُجانِبُ الإيمان ولا رأي لكَذوبٍ"[1].
 
10- يسلب البهاء:
كما ورد عن النّبيّ عيسى عليه السلام قوله: "من كثر كذبه ذهب بهاؤه"[2]، بنحو ينفر عنه الناس، ولأجل قبح الكذب وخطورته كان التّحذير من مصاحبة الكذّاب.
 
11- التحذير من مصادقة الكذّاب:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ينبغي للرَّجل المسلم أن يجتنب مؤاخاة الكذّاب, إنّه يكذب حتّى يجي‏ء بالصِّدق فلا يُصدَّق"[3].
 
وعنه عليه السلام أنّه قال: "إيّاك ومصادقة الكذّاب, فإنّه كالسّراب يقرّب عليك البعيد ويبعِّد عليك القريب"[4].
 
هذا غيض من فيض ما ورد في قبح الكذب، ولقد عدّد المرحوم الشيخ النّوري أربعين نقطة من خلال القرآن الكريم 
والأحاديث في شناعة أمر الكذب، لم نذكرها للاختصار.
 
الكذب بدافع المزاح والهزل
من جملة أقسام الكذب ما يكون بدافع الهزل والمزاح لغرض التَّرفيه والضحك، مثل: أن يقال لشخص ساذج بسيط: إنّ هذا الشخص دعاك اللّيلة لوليمة أو إنّ المال الفلانيّ أعطي لك حوالة، وأمثال ذلك.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتّى يدع الكذب جِدَّهُ وهَزْلَهُ"[5].
 
 
 

 
[1] مستدرك الوسائل، ج 9، ص 88.
[2] الكافي، ج2، ص 341.
[3] م. ن.
[4] نهج البلاغة (عبده)،ج 4، ص 11.
[5] بحار الأنوار، ج 69، ص 262.
434

403

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 وعن أبي ذرّ في وصية النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم له: 

"يا أبا ذرّ من مَلَكَ ما بين فَخِذَيْه وما بين لَحْيَيْهِ دخل الجنّة، قلت: وإنّا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا، فقال: وهل يكبّ النّاس على مناخرهم في النّار إلّا حصائد ألسنتهم, إنّك لا تزال سالماً ما سكتّ فإذا تكلّمت كُتب لك أو عليك. يا أبا ذرّ، إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله عزّ وجلّ فيكتب له بها رضوانه يوم القيامة, وإنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة في المجلس, ليضحكهم بها, فيهوى في جهنَم ما بين السّماء والأرض. يا أبا ذرّ ويل للّذي يُحدِّث، فيكذب, ليضحك به القوم، ويل له ويل له ويل له. يا أبا ذرّ من صمت نجا فعليك بالصّمت، ولا تَخْرجَنّ من فيك كذبة أبداً، قلت: يا رسول الله فما توبة الرّجل الّذي يكذب متعمّداً، قال: الاستغفار وصلوات الخمس تغسل ذلك"[1].
 
الكذب الصّغير والكبير
وينبغي أيضاً اجتناب الكذب المتعارف أنّه صغير, كما تدلّ على ذلك هذه الرّواية، كان الإمام السّجاد عليه السلام يقول لولده: "اتّقوا الكذب الصّغير منه والكبير في كلّ جِدٍّ وهَزْلٍ, فإنّ الرّجل إذا كذب في الصّغير اجترأ على الكبير أَما علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما يزال العبد يَصدُق حتّى يكتبه الله صِدّيقاً، وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه الله كذّابا[2]"ً.
 
الكذب على الله والرّسول والإمام
إذا كان الكذب من الكبائر، وحذّرت الرّوايات من صغيره وهزله، فكيف بالكذب على الله تعالى، ورسوله والأئمّة, فإنَّه 
أسوأ مراتب الكذب، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا 
 
 
 

 
[1] وسائل الشيعة، ج12، ص251.
[2] م. ن، ص 250.
435

404

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[1].

 
ويقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾[2].
 
إنّ الكذب على الله،ـ جلَّ وعلا, الّذي هو أحد أسباب اسوداد الوجه يوم القيامة، له معان واسعة تصل حتّى ادِّعاء للإمامة والقيادة كذباً، فعن الإمام الصَّادق عليه السلام عندما أجاب الإمام على سؤال يتعلق بتفسير هذه الآية، وقال:
"من زعم أنّه إمام وليس بإمام، قيل: وإن كان علويّاً فاطميّاً؟ قال: وإن كان علويّاً فاطميّاً"[3].
 
وكذلك, فإنَّ من نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى الإمام المعصوم حديثاً مختلقاً اعتبر كاذباً على الله, لأنّهم لا ينطقون عن الهوى, لهذا فقد ورد في حديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "من تحدّث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوماً، فإن صدق علينا فإنّما يصدق على الله وعلى رسوله, وإن كذب علينا، فإنّه يكذب على الله ورسوله, لأنّا لا نقول: قال: فلان وقال فلان، إنّما نقول: قال الله وقال رسوله، ثمّ تلا هذه الآية ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾"[4].
 
الصّدق
بمعرفتنا لقبح الكذب نعرف حسن الصِّدق، فالصِّدق من علامات صحّة الإيمان ورأسه، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه 
السلام قوله: "الصّدق أقوى دعائم الإيمان"[5].
 
 
 

 
[1] سورة النحل، الآيتان 116-117.
[2] سورة الزمر، الآية 60.
[3] بحار الأنوار، ج7، ص176.
[4] م. ن، ج7، ص159-160.
[5] غرر الحكم، ص 140, الحديث (الحكمة) 4310.
436

405

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 وعنه عليه السلام أنّه قال: "الصّدق رأس الدِّين"[1].

 
وعنه عليه السلام أنّه قال: "الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرُّك على الكذب حيث ينفعك"[2].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرَّجل ربَّما لهج بالصَّلاة والصَّوم حتّى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"[3].
 
هذا وطريق الصّدق هو طريق الأنبياء والأولياء الربّانيّين، حيث كانوا يتجنبون كلَّ كذب وغشِّ وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم، وهذا بخلاف شياطين الإنس من الزُّعماء والرُّؤساء والملوك الّذين ديدنهم الكذب والخداع والغشّ، وهذا من أهم أسباب فشل المسلمين, ذلك أنَّهم اتبعوا الكاذبين وتركوا الصَّادقين، في حين أنَّ الله تعالى أمرنا أن نكون مع الصَّادقين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[4].
 
 
 

 
[1] غرر الحكم، ص 140, الحديث (الحكمة) 4309.  
[2] وسائل الشيعة، ج12، ص255.
[3] الكافي، ج2، ص104.
[4] سورة التوبة، الآية 119.
437

406

الدَّرس السابع والأربعون: الصِّدق والكذب

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- الكذب حرام، ويستفاد من القرآن الكريم والرّوايات أنَّه من الذُّنوب الكبيرة.
 
2- من الصِّفات الَّتي تنسب للكذب: أنّ الكذب فسق، وأنّه يتناقض مع الإيمان، وأنّه من علامة النِّفاق، ومنشأ جميع 
الذُّنوب، وأنَّه سبب الخذلان الإلهيّ، وسبب للحرمان من صلاة اللّيل، وأنّه يهلك صاحبه، ويسلب البهاء.
 
3- من موارد الكذب: الكذب بدافع المزاح والهزل لغرض التّرفيه والضحك، والكذب المتعارف أنّه صغير، والكذب على الله والرَّسول والإمام.
 
4- إذا عرفنا مساوئ الكذب وقبحه، عرفنا في المقابل إيجابيّات الصِّدق وحسنه، فالصِّدق من علامات صحّة الإيمان ورأسه، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "الصِّدق أقوى دعائم الإيمان". 
 
5- الأنبياء والأولياء الرَّبَّانيُّون كانوا يتجنَّبون في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم كلَّ كذب، وغشِّ، وخداع. والكذب من أهمّ أسباب فشل المسلمين, ذلك أنَّهم اتّبعوا الكاذبين وتركوا الصَّادقين, وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.
 
438

407

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 الدَّرس الثامن والأربعون:

الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة


أهداف الدَّرس 
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن معنى الذّنب في الإسلام.
2- يذكر أنواع الذَّنب وأقسامه الأساسيّة.
3- يعدّد أهمّ الآثار الدُّنيويَّة المترتَّبة على الذَّنب.
 
439

408

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 معنى الذُّنوب

 
1- الذَّنب لغة: الإثم والجرم والمعصية.
 
2- اصطلاحاً: ترك المأمور به من الله، وفعل المنهي عنه، وبعبارة أخرى: أن يراك الله حيث نهاك، وأن يفتقدك حيث أمرك.
 
والمأمور به من قبل الله، ـ عزّ وجلّ, إمّا أن يكون واجباً أو مستحباً، والمنهي عنه من قبله، ـ أيضاً, إمّا أن يكون محرّماً أو مكروهاً، والمراد منهما في مقام الذّنب، هو ترك الواجب وفعل المحرم. 
 
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المعصومين مخلصون من قبل الله عزّ وجلّ، وقد حصَّنهم بملكة نفسانيّة قويّة تمنعهم باختيارهم من ارتكاب المعصية، بل والتّفكير بها أيضاً, لعلمهم بقبحها ومدى خطورتها وتأثيرها.
 
ومع أنّ الشّيطان أظهر عزمه على غواية النّاس وإضلالهم جميعاً، حيث أقسم مخاطباً ربّ العزّة بقوله: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾[1]، إلّا أنّه أردف قائلاً ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾[2]، وقد أخبرنا القرآن الكريم أنّ الله تعالى، يؤيّد بنصره ويسدّد بلطفه من اتّقى باجتناب المحرّمات وأحسن بفعل الطاعات، فلا يكون للشيطان سبيل على من آمن بالله عقيدة والتزم بشريعته عملاً، فقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾[3]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾[4].

 
 

 
[1] سورة ص، الآية 82.
[2] سورة ص، الآية 83.
[3] سورة النحل، الآية 128.
[4] سورة الحج، الآية 38.
440

409

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 أقسام الذُّنوب وأنواعها

دلّ القرآن الكريم والرّوايات الشّريفة وفتاوى الفقهاء على أنّ الذُّنوب نوعان هما: الكبائر والصّغائر. ويدلّ على صحّة هذا التقّسيم الآيات الشّريفة التّالية: قوله تعالى ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾[1].
 
يستفاد من الآية أنّ الكبائر يقابلها ما هو أدنى منها رتبة، أي: الصّغائر، فالمعاصي المنهي عنها هي صغائر وكبائر، وأنّ 
السِّيئات في الآية المتقدِّمة هي الصّغائر لمناسبة المقابلة بينها وبين الكبائر وكبر المعصية إنّما يتحقَّق بأهميّة النهي عنها إذا
 قيس إلى النهي المتعلِّق بغيرها، ولا يخلو قوله تعالى،: ﴿مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ من دلالة على ذلك، والدّليل على أهميّة النَّهي هو تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النّار ونحو ذلك.
 
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ...﴾[2]. و"اللَّمَمَ" وهو عبارة عن الصّغائر أو نوع خاصّ فيها.
 
روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: (في تفسير الآية) قال: "الفواحش الزّنا والسّرقة، واللَّمم: الرّجل يلم بالذّنب فيستغفر الله منه. قلت: بين الضلال والكفر منزلة؟ فقال: ما أكثر عرى الإيمان"[3].
 
فاللِّمَم هو، يلم به العبد من ذنوب صغار بجهالة ثمّ يندم ويستغفر ويتوب فيغفر له.
 
وقوله تعالى ﴿...وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[4].
 
ومن مجموع هذه الآيات يظهر لنا أن الذُّنوب في الإسلام على نوعين: صغيرة
 
 
 

 
[1] سورة النساء، الآية 31
[2] سورة النجم، الآية 32.
[3] الكافي، ج 2، ص 278.
[4] سورة الكهف، الآية 49.
441
 
 

410

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 وكبيرة، مع أنّ كلّ ذنب مخالف للأوامر الإلهيّة يعتبر كبيراً وثقيلاً، إلّا أنّ ذلك لا ينافي كون بعض الذُّنوب من حيث آثارها الوخيمة أكبر من البعض الآخر، وبالتّالي تقسيمها إلى كبيرة وصغيرة. ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "الذُّنوب كلُّها شديدة، وأشدّها ما ينبت عليه اللّحم والدّم, لأنّه إمّا مرحوم وإمّا معذب، والجنة لا يدخلها إلّا طيب"[1].

 

آثار الذُّنوب

إنّ من يلاحظ القرآن الكريم والرّوايات الشّريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام يجد بوضوح آثاراً مهلكةً وخطيرةً 

للذُّنوب والمعاصي، في العوالم الثّلاثة: عالم الدّنيا، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة.

 

وقبل الإشارة إلى بعضها لا بدّ من التّذكير بأنّ الذّنب بمثابة السُّم القاتل، والخطير في هذا المجال هو عدم ارتباط التّأثير 

السّلبيّ للذّنب بالعلم أوالجهل، فمن يرتكب الذّنب سوف يترتب عليه الأثر الوضعيّ والتّكوينيّ، ويؤثِّر ذلك على قلبه 

وجسمه وماله وولده وغير ذلك، حتّى لو كان جاهلاً بأثر الذّنب، تماماً كمن يجهل بأثر السُّم، وهذا ما يدعونا للابتعاد 

عن المعصية والحذر من آثارها.

 

الآثار الدُّنيويـَّة

إنّ عالم الدّنيا هو عالم الابتلاء والتّكليف لعباد الله، والّذي يعدُّ أحد أهداف خلق الإنسان: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[2]، وقد وعدنا الله وتوعدنا، بأن لكلٍّ من الطّاعة والمعصية آثاره الخاصّة في الدُّنيا. فللطاعة آثارها وبركاتها العظيمة، الّتي تبعث الأمل في نفوس المؤمنين، وترغبهم في العمل الصّالح 

والإكثار منه، وفي مقابل ذلك فإنّ للمعصية والذُّنوب آثارها المهلكة

 

 

 


 

[1] الكافي، ج 2، ص 270.

[2] سورة الملك، الآية 2.

 

442

 

 


411

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 أيضاً في الدُّنيا، لعل المطَّلع عليها يحذر منها ويخاف من تبعاتها، فيحجم عنها ولا يقدم عليها. فيما يلي نذكر نبذة من هذه الآثار:

 
غضب الله
وهو من الآثار المهلكة في الدّنيا والآخرة. والغضب هنا بمعنى عقاب الله وعذابه, كما ورد في الرِّواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه سأله عمرو بن عبيد فقال له: جُعِلتُ فداك قول الله،ـ تبارك وتعالى, ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾[1] ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفر ع
ليه السلام: "هو العقاب. يا عمرو إنّه من زعم أنّ الله قد زال من شي‏ء، إلى شي‏ء فقد وصفه صفة مخلوق وإنّ الله تعالى لا يستفِزُّه شي‏ء فيُغيِّره"[2].
 
الفساد في الأرض
 قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[3]. من آثار الذُّنوب والمعاصي أنّها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد، في الماء والهواء والزَّرع والثمار وغير 
ذلك... والآية الكريمة تدعو للإتِّعاظ بما حلّ بالأمم السّابقة من المصائب الّتي ما كانت إلّا بما كسبت أيديهم، من 
الفساد والذُّنوب والآثام، أي: بأعمالهم فيوشك أن يحلّ بالمخاطبين مثل ما حل بهم بسبب ما كسبت أيديهم مثلما كسبت أيدي أولئك.
 
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "ما من سنة أقل مطراً من سنة، ولكن الله يضعه حيث يشاء، إنّ الله، ـ عزّ وجلّ, إذا عمل قوم بالمعاصي، صرف عنهم ما كان قدّر لهم من المطر في تلك السّنة إلى غيرهم، وإلى الفيافي والبحار والجبال، وإنّ 
 
 
 

 
[1] سورة طه، الآية 81.
[2] الكافي، ج1، ص110.
[3] سورة الروم، الآية 41.
443

412

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 الله ليعذب الجُعَلَ[1] في جحرها بحبس المطر عن الأرض الّتي هي بمحلها بخطايا من بحضرتها وقد جعل الله لها السّبيل في مسلك سوى محلَّة أهل المعاصي. قال: ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: فاعتبروا يا أولي الأبصار"[2].

 

العذاب الإلهي 

قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾[3]، هذه الآية وغيرها أيضاً تشير بشكل واضح إلى وجود نوع من الارتباط الوثيق بين الأعمال والذُّنوب الّتي يقترفها الإنسان وبين المصائب والبلاءات الّتي تصيبه بسبب تلك الأعمال، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾[4]. فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أنواعاً متعدِّدة من العذاب نزلت على الأقوام السّابقة والقرى جراء تماديهم في الذُّنوب والمعاصي مما جعلهم يستحقُّون ألوان العذاب، ﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا﴾[5].

 

حبط الأعمال في الدُّنيا

من الآثار السّلبيّة والخطيرة للذُّنوب أنّها تحبط الأعمال في الدُّنيا. والحبط هو سقوط ثواب العمل الصَّالح بالمعصية المتأخِّرة. قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾[6].

 

 

 


 

[1] الجُعَل، حيوان كالخنفُساء يكثر في الأماكن النديّة (المعجم الموجيز), والجُعَل كصُرَد: دويبة كالخنفُساء أكبر منها شديد السواد في بطنها لون حمرة (مجمع البحرين).

[2] الكافي، ج 2، ص 272.

[3] سورة آل عمران، الآية 137.

[4] سورة الشورى، الآية 30.

[5] سورة الطلاق، آية 8.

[6] سورة محمد، الآية 28.

444

 

 

413

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 قسوة القلب

والمراد بالقلب ذلك الجوهر الّذي تتقوُّم به إنسانيّة الإنسان، وقد أودعه الله فينا مفطوراً على التّوحيد والعبوديّة والطّاعة، 
طاهراً، سليماً، شفافاً ليس فيه أيُّ نقصٍ وفسادٍ، لكن بارتكاب المعاصي والذُّنوب والابتعاد عن الله يقسو شيئاً فشيئاً، 
حتّى يصبح أشدّ قسوة من الحجارة: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾[1]، فيتحوَّل 
إلى قلب أسود لا يفلح بعدها أبداً. ففي الخبر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ما من عبدٍ إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النُّكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السَّواد، وإن تمادى في الذُّنوب زاد ذلك السَّواد حتَّى يغطِّي البياض، فإذا غطَّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خيرٍ أبداً، وهو قول الله,ـ عزّ وجلّ,: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ 
عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[2]، "وما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة"[3]، و"ما قست القلوب إلّا لكثرة الذُّنوب"[4] كما ورد في الأخبار عن المعصومين عليهم السلام.
 
الحرمان من الرِّزق
قد يكون الرِّزق معنوياً كالتَّسديد والحفظ والتَّأييد والشَّهادة في سبيل الله. وقد يكون ماديّاً، ـ كما هو المتبادر عند عامّة النّاس, كالمال والطّعام وغير ذلك.
 
في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الرَّجل ليحرم الرِّزق بالذَّنب يصيبه"[5].
 
وورد في الحديث أيضاً عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنّ العبد ليذنب الذَّنب فيزوي عنه الرِّزق"[6].
 
 
 

 
[1] سورة البقرة، الآية 74.
[2] الكافي، ج2، ص273.
[3] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص438.
[4] وسائل الشيعة، ج16، ص45.
[5] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 528.
[6] الكافي، ج2،  ص270.
445

414

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 والظَّاهر أنّه حرمان الزِّيادة في الرِّزق, لأنّ بعض الرِّزق مضمونٌ من قبل الله لكلِّ مخلوق حيٍّ حتّى الَّفساق والكفرة والعصاة: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا﴾[1]، لا حرمان أصل الرِّزق لهؤلاء, لأنّه يعني قطع أصل الحياة 

وقبض أرواحهم.
 
وقد يكون الحرمان في رفع البركة من أرزاقهم وأموالهم وطعامهم, كما ورد في رواية عن السَّيِّدة الزَّهراء عليها السلام في تبعات وآثار ترك الصَّلاة منقولة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، مما قالته عليه السلام: "...فأمّا اللّواتي تصيبه في 
دار الدُّنيا فالأولى يرفع الله البركة من عمره ويرفع الله البركة من رزقه..."[2].
 
نقصان العمر
إنّ رأسمال الحياة الدُّنيا عند أهلها هو العمر الطّويل والرِّزق الوفير, لذا نرى أنّ غايتهم في هذا الزَّمان هو المحافظة على أبدانهم وصحَّتهم ومأكلهم ومشربهم، وإنّ الذُّنوب بشكل عامّ ممحقة لبركة العمر، وبركة الرِّزق، والقرآن الكريم يخبرنا عن هلاك الأمم السّابقة، الّذين ظلموا أنفسهم وعصوا الله، وطغوا في الأرض وقتلوا أنبياء الله: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾[3].
 
 وقد تحدّثت بعض الرّوايات عمّا يوجب زيادة العمر والرِّزق ونقصانها وعدم البركة فيها كالبر للوالدين وعقوقهما، وصلة 
الرَّحم وقطيعتها. روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "من يموت بالذُّنوب أكثر ممَّن يموت بالآجال، ومن يعش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار"[4]. 
 
وفي رواية أخرى عن الإمام الصَّادق عليه السلام قال: "مَن يموت بالذُّنوب أكثر ممن يموت بالآجال"[5].
 
 
 

 
[1] سورة هود، الآية 6.
[2] مستدرك الوسائل، ج3، ص24.
[3] سورة يونس، الآية 13.
[4] مستدرك الوسائل، ج 11، ص 327.
[5] بحار الأنوار، ج5، ص 140.
446

415

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 زوال النعم وحلول النقم

يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾[1].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام قال: "ما أنعم الله على عبد نعمةً فسلبها إيّاه حتَّى يذنب ذنباً يستحقُّ بذلك السَّلب"[2].
 
المرض
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أما إنَّه ليس من عرقٍ يضرب ولا نكبةٍ ولا صداعٍ ولا مرضٍ إلَّا بذنبٍ، وذلك قول الله،ـ عزّ وجلّ, في كتابه: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾[3] قال: ثمّ قال عليه السلام: وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به"[4].
 
نسيان العلم
وهو آفة كبرى تعيد الإنسان إلى الجهل والغفلة، بعد أن كان عالماً ذاكراً، وما ذلك إلّا لذنب ارتكبه، فقد روي عن النَّبيِّ 
الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "اتَّقوا الذُّنوب, فإنَّها ممحقة للخيرات، إنّ العبد ليذنب الذَّنب فينسى به العلم الَّذي كان قد علمه..."[5].
 
عدم استجابة الدُّعاء
الذَّنب من موانع استجابة الدُّعاء أيضاً, كما ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى
 
 
 

 
[1] سورة الأعراف، الآية 96.
[2] الكافي، ج2، ص274.
[3] سورة الشورى، الآية 30.
[4] الكافي، ج2، ص269.
[5] بحار الأنوار،ج 70، ص 377. (تحقيق: البهبوديّ)
 
447

416

الدَّرس الثامن والأربعون: الذُّنوب وآثارها الدُّنيويَّة

 وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول الله،ـ تبارك وتعالى, للملك لا تقضِ حاجته، واحرمه إيّاها, فإنّه تعرَّض لسخطي واستوجب الحرمان منِّي"[1].

 
عدم التّوفيق للعبادة
قد يحرم المذنب من ثواب العبادة وبركاتها، سيما تكفير السَّيِّئات، وتضاف سيِّئته إلى سجل أعماله، فقد روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إنّ الرَّجل ليذنب الذَّنب فيحرم صلاة اللّيل، وإنّ العمل السَّيِّئ أسرع في صاحبه من السِّكِّين في اللَّحم"[2].
 
 
المفاهيم الرَّئيسة
 
1- الذّنب لغة: الإثم والجرم والمعصية، واصطلاحاً: هو ترك ما أمر الله تعالى به والإتيان بما نهى عنه.
 
2- المأمور به من قبل الله،ـ عزّ وجلّ, إمّا أن يكون واجباً أو مستحباً، والمنهي عنه من قبله أيضاً إمّا أن يكون محرّماً أو مكروهاً، والمراد منهما في مقام الذَّنب، هو ترك الواجب وفعل المحرم. 
 
3- من مجموع هذه الآيات يظهر لنا أنّ الذُّنوب في الإسلام على نوعين: صغيرة وكبيرة، مع أنّ كلّ ذنب مخالف للأوامر الإلهية يعتبر كبيراً وثقيلاً.
 
4- من يلاحظ القرآن الكريم والرّوايات الشَّريفة يجد بوضوح أنّ هناك آثاراً مهلكةً وخطيرةً للذُّنوب والمعاصي، في العوالم الثّلاثة: عالم الدُّنيا، وعالم البرزخ، وعالم الآخرة.
 
5- من الآثار الخطير للذَّنب في الدّنيا أنّه سبب لفساد الأرض، والغضب والعذاب الإلهيّ، حبط الأعمال، قساوة القلب، نقصان العمر وغيرها...
 
 
 

 
[1] الكافي، ج2، ص271.
[2] م. ن، ص 272.
448

417

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 الدَّرس التاسع والأربعون:

الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب


أهداف الدَّرس 
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يعرف معنى كلّ من البرزخ ويوم القيامة.
2- يعدّد بعض أهوال عالم البرزخ والقيامة.
3- يعرف أهمّ الآثار الخطيرة والسّلبيّة للذُّنوب في الحياة الآخرة.
 
449
 
 

418

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 تقدم في الدَّرس السّابق أحد عشر ذنباً دنيويّاً للذُّنوب، وفي هذا الدَّرس نتعرَّض للآثار البرزخيَّة والأخرويّة.

 
ما هو البرزخ؟
البرزخ هو الحاجز والحدّ الفاصل بين الشّيئين، قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ﴾[1] فقد فسرت هذه الآية بأنّه الحاجز بين الماء المالح والماء العذب.
 
وقيل: إنّ البرزخ هو الحدّ الفاصل بين الدُّنيا والآخرة، أو بين الموت والبعث، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[2]، وفي تفسير هذه الآية قال الإمام السَّجاد عليه السلام: "هو القبر، وإنّ لهم فيه لمعيشة ضنكاً، والله، إنّ القبر لروضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النَّار..."[3].
 
وقيل: إنّه الحاجز لهم من الرُّجوع إلى الدُّنيا والإمهال إلى يوم القيامة، وكلُّ هذه المعاني متقاربة ترجع إلى معنى واحد ظاهراً.
 
 
 

 
[1] سورة الرَّحمن، الآيتان 19-20.
[2] سورة المؤمنون، الآية 99-100.
[3] بحار الأنوار، ج6، ص159.
450

419

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 عذاب البرزخ

كتب أمير المؤمنين عليه السلام لمحمّد بن أبي بكر: "يا عباد الله: ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته"‏[1]. 
 
وفيما يلي سوف نشير إلى بعض أهوال البرزخ:
وحشة القبر
إنّ الأعمال الّتي يقوم بها الإنسان في نشأة عالم الدُّنيا، تظهر آثارها في نشأة عالم البرزخ, فإذا كانت أعماله خيّرة فرح 
واستبشر، وإذا كانت سيِّئة استوحش منها واغتمّ. ووحشة القبر هي أوّل المنازل الّتي يمرُّ بها الإنسان وقد عبّر عنها في 
الرّوايات بتعابير متعدِّدة وهذه التَّعابير إمّا هي أهوال مستقلَّة بذاتها أو هي تعبِّر عن وحشة القبر ولكن بألفاظ متعدِّدة. 
روي أنَّ السَّيِّدة الزَّهراء عليها السلام لمّا احتضرت أوصت أمير المؤمنين عليه السلام فقالت: "إذا أنا متُّ فتولَّى أنت غسلي وجهِّزني وصلِّ عليَّ وأنزلني قبري وألحدني وسوِّي التَّراب عليَّ واجلس عند قبالة وجهي فأكثر من تلاوة 
القرآن والدُّعاء فإنَّها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أنس الأحياء"[2].
 
ضغطة القبر
ولا ينجو منها إلّا القليل القليل من عباد الله المؤمنين الصَّالحين. يروي أبو بصير قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال عليه السلام: نعوذ بالله منها، ما أقلّ ما يفلت من ضغطة القبر... وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في جنازة سعد وقد شيَّعه سبعون ألف ملك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه إلى السَّماء، ثمّ قال: مثل سعد يضمُّ!..."[3].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج6، ص 218.
[2] عبّاس القمّي، الأنوار البهيّة، ط 1، قم، مؤسّسة النشر الإسلامية، 1417هـ، ص 60.
[3] بحار الأنوار، ج 6، ص 261.
451

420

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 وعن الإمام الصَّادق عن آبائه عليهم السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ضغطة القبر للمؤمن كفَّارة لما كان منه من تضييع النِّعم"[1]، فالمؤمن إذا لم تكفّر جميع ذنوبه في الدُّنيا، فإنّ ضغطة القبر تكون بمثابة الرَّحمة 

له لتكفّر عنه ما بقي من سيّئاته.
 
وأهمّ أسبابها سوء الخلق مع الأهل, كما ورد في الخبر عن سبب ضغطة سعد المتقدِّم، والنَّميمة وكثرة الكلام والتّهاون في الطَّهارة.
 
وهذه الضَّغطة لا تنحصر بالأرض فقط، بل ورد أنّ الهواء له ضغطة، والماء له ضغطة أيضاً.
 
إنّ ضغطة القبر تعني التَّضييق على الميَّت وإنّ طبيعة الأعمال هي الّتي تحدّد شدّة هذا الشُّعور بالضِّيق والأذى في عالم البرزخ، وهي تحدِّد أيضاً أمد استمرار هذه الضَّغطة الَّتي قد تكون شعوراً وأذى روحيّاً مؤقَّتاً يزول بعد حين وقد يستمرّا أمداً طويلاً وقد يبقى إلى البعث والنُّشور.
 
قرين السّوء
وهو العمل السَّيِّئ الَّذي يرافق الإنسان العاصي في قبره، ويكون معه إلى يوم حشره وحسابه.
يروى عن قيس بن عاصم أنَّه قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: "... يا قيس لا بدّ لك من قرين يدفن معك وهو حيّ، وتدفن معه وأنت ميِّت، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلَّا معك، ولا تحشر إلَّا معه، ولا تسأل إلَّا عنه، ولا تبعث إلّا معه، فلا تجعله إلّا صالحاً, فإنّه إن كان صالحاً لم تأنس إلّا به، وإن كان فاحشاً لم تستوحش إلّا منه، وهو عملك..."[2].
 
وتروي الزَّهراء عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه وآله وسلم في رواية التّهاون في الصّلاة أنّ من آثارها في
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 6، ص 221.
[2] الديلمي، أعلام الدين، تحقيق مؤسّسة آل البيت، لا. ط، قم، مؤسّسة آل البيت، لا. ت، ص 332.
452

421

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 القبر ثلاثة: "وأمّا اللّواتي تصيبه في قبره فأولاهنّ يوكل الله به ملكاً يزعجه في قبره، والثّانية يضيق عليه في قبره، والثّالثة تكون الظلمة في قبره"[1].

 
لمَ القيامة؟
قبل الحديث عن آثار الذُّنوب الأخرويّة، لا بأس بالحديث عن الآخرة ويوم القيامة، وما أدراك ما يوم القيامة ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[2]، ويحشرون في ساحتها، وهو يوم عظيم مهول، بشر الله فيه المؤمنين الصّالحين بالأمن والأمان، وتوعد الظّالمين المجرمين بسوء الحساب، يوم ﴿يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا﴾[3]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ 
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[4].
 
لقد شدّد الله،ـ عزّ وجلّ, في القرآن الكريم على مسألة المعاد في عشرات السُّور القرآنية، حتّى قيل: إنّ ثلث القرآن يرتبط بأحوال الآخرة وما بعدها...
 
نذكر بعضاً ممّا قاله في كتابه الكريم: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[5]، ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾[6].
 
وخلاصة الكلام: إنّه بعد طيِّ منازل الآخرة وعقباتها وصراطها، فإنّ المصير إمّا إلى الجنّة أو إلى النّار، وبيد الإنسان تحديد المصير، ﴿مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾[7].

 
 

 
[1] مستدرك الوسائل، ج3، ص24.
[2] سورة المطفّفين، الآية 6.
[3] سورة المزّمل، الآية 17.
[4] سورة الحج، الآيتان: 1-2.
[5] سورة المؤمنون، الآية 115.
[6] سورة الواقعة، الآيتان 49-50.
[7] سورة الروم، الآية 44.
453

422

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 الآثار الأخرويـّة للذُّنوب

أشار الله تعالى، في القرآن الكريم والرَّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام إلى آثار كثيرة للمعاصي والذُّنوب في الآخرة, تحذيراً لنا من مغبَّة الوقوع فيها، لعلنا نرشد أو نعقل، فلا نكون من أصحاب السّعير، سنقتصر على ذكر أهمِّها:

1- عذاب النّار:

قال الله تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[1]. فمن الآثار المعروفة للذُّنوب والمعاصي أنّ مرتكبها إذا لم يتب فهو مستحقّ لدخول النّار. وقوله تعالى في آية أخرى يؤكد هذه الحقيقة ﴿وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[2].

 

2- الافتضاح:

إن الله يستر برحمته على المذنب في الدُّنيا، لعلّه يتوب ويرجع إلى ربه، ولكن الفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وأمام الخلق أجمعين، لا سيّما أمام معارفه وأقربائه. ورد في مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إلهي قد سترت عليَّ ذنوباً في الدُّنيا وأنا أحوج إلى سترها عليَّ منك في الآخرة، إلهي قد أحسنت إذ لم تظهرها لأحدٍ من عبادك الصَّالحين فلا تفضحني يوم القيامة على رؤوس الأشهاد..."[3].

 

وفي قوله تعالى ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾[4] يقول العلامة المجلسي: "الأشهاد جمع شاهد وهم الذَّين يشهدون بالحقِّ للمؤمنين وعلى المبطلين والكافرين يوم القيامة في ذلك سرور للمحقِّ وفضيحة للمبطل في ذلك الجمع العظيم..."[5].

 

 

 

 


 

[1] سورة البقرة، الآية 81.

[2] سورة النمل، الآية 90.

[3] مقطع من المناجاة الشعبانية, مفاتيح الجنان، القمّي، ط 1، بيروت لبنان، مؤسّسة الأعلمي، ص 1428هـ 2007م، ص 209. 

[4] سورة غافر، الآية 51.

[5] بحار الأنوار، ج7، ص 162. (تحقيق: العابديّ)

 

454

 

423

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 فالآية تشير إلى معنى دقيق وهو أنّ يوم الأشهاد هو اليوم الّذي يُبسَط فيه الأمر في محضر الله تعالى وتنكشف السَّرائر

والأسرار لكافّة الخلائق وهو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الإنتصار فيه أروع ما يكون، إنّه اليوم الّذي ينصر الله فيه الأنبياء ويزيد في كرامتهم، وإنّه يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظّالمين، ويوم لا يحول شيء دون افتضاح الظّالمين أمام الأشهاد[1]. 
 
لذا ينبغي على العاقل أن يخاف هذا اليوم، وأن يخاف الفضيحة أمام الله،ـ عزّ وجلّ, وأمام الأنبياء والأئمة والأولياء عليهم السلام، وأمام النَّاس أجمعين. روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "وأمّا علامة الموقن فستة أيقن بالله حقّاً فآمن به. وأيقن بأنّ الموت حقَّ فحذره. وأيقن بأن البعث حقٌّ فخاف الفضيحة. وأيقن بأنّ الجنَّة 
حقٌّ فاشتاق إليها. وأيقن بأن النَّار حقٌّ فظهر سعيه للنَّجاة منها. وأيقن بأنّ الحساب حقٌّ فحاسب نفسه"[2].
 
3- المذلّة:
﴿ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾[3].
 
بدءاً من أخذ أرواحهم: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾[4].
 
إلى الوقوف في المحشر أذلاء، سكارى غارقين في الحياء، يتصبَّب العرق من وجوههم، ﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ﴾[5]و ﴿تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾[6] ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾[7].
 
 
 

 
[1] راجع، الأمثل ، ج 15، ص 283 (بتصرّف).
[2] تحف العقول، ص18.
[3] سورة النحل، الآية 27.
[4] سورة محمّد، الآية 27.
[5] سورة عبس، الآية 40..
[6] سورة عبس، الآية 41. 
[7] سورة المعارج، الآية 44.
455

424

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 إلى دخول النّار: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾[1]، ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ﴾[2].

 
4- الحسرة والنَّدامة:
يتحَسّر الظّالم على الفترة والمهلة الّتي أعطيت له في الدُّنيا ولم يغتنمها، بل أعرض وتولَّى وكذب بآيات ربِّه ورسله واليوم الآخر، وها هو اليوم قد أيقن به حقَّ اليقين، ولسان حاله: ﴿يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ﴾[3]. ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾[4].
 
5- العمى:
العمى عن الحقِّ أحد الابتلاءات الكبرى الّتي يبتلى بها العصاة والمذنبون في دار الآخرة, كما يقول الله تعالى، مبيّناً هذه الحقيقة في القرآن الكريم ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا﴾[5]، فيأتيه 
الجواب أنّك كنت أعمى البصيرة في الدُّنيا, لذلك تحشر يوم القيامة على ما كنت عليه ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾[6].
 
6- نسيان الله له:
لا يمكن لمن عصى الله ونسي ذكره وطاعته في الدُّنيا، أن يتذكَّره في الآخرة. ونسيان الله في الحقيقة ليس سوى العذاب. ﴿قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾[7]. فلم تتذكَّر أيُّها العاصي أوامر الله ونواهيه، بل نسيت وغفلت
 
 
 

 
[1] سورة الدخان، الآية 49.
[2] سورة فصلت، الآية 16.
[3] سورة الزمر، الآية 56.
[4] سورة الفرقان، الآيات 27-29.
[5] سورة طه، الآيتان 124-125.
[6] سورة الإسراء، الآية 72.
[7] سورة طه، الآية 126.
456

425

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 واستهزءت بلقائه، فالنَّتيجة ﴿الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾[1].

 
7- الحرمان من لقاء الله:
تشير الآيات الكريمة والرّوايات الشّريفة بشكل صريح وواضح إلى أنّ المؤمن يتشرَّف يوم القيامة بلقاء الله ﴿مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[2]. ولكن حسن اللِّقاء مشروط بأمرين أساسيَّين هما، العمل الصَّالح وعدم الشِّرك بالله قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[3]. أمّا إذا أنكر الإنسان وجحد بيوم اللِّقاء ولم يلتزم بالضَّوابط والأحكام الإلهيّة، فإنّ عاقبته الخسران المبين الّذي ليس بعده خسران ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[4].
 
وهناك آثار أخرويّة أيضاً كاللّعنة، وسوء الحساب، وطول الوقوف في المحشر، وتجسيم الأعمال، والحشر بصور قبيحة بشعة، دخول النَّار، مضافاً إلى صور ومشاهد وحالات العذاب في جهنّم الّتي يعجز عن وصفها العقل البشريُّ، لم نذكرها منعاً للإطالة.
 
 
 

 
[1] سورة الجاثية، الآية 34.
[2] سورة العنكبوت، الآية 5.
[3] سورة الكهف، الآية 110.
[4] سورة السجدة، الآية 14.
457

426

الدَّرس التاسع والأربعون: الآثار البرزخيَّة والأخرويَّة للذُّنوب

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- البرزخ هو الحاجز والحد الفاصل بين الشّيئين، وقيل: إنَّ البرزخ هو الحدُّ الفاصل بين الدُّنيا والآخرة، أو بين الموت والبعث.
 
2- للقبر وعالم البرزخ أهوال عظيمة منها: الوحشة، وضغطة القبر، والعمل السّيِّئ الَّذي يلازم الإنسان في قبره ويؤذيه طوال الوقت.
 
3- يوم القيامة هواليوم الّذي يحشر فيه النّاس جميعا للحساب، وهو يوم عظيم مهول، بشَّر الله فيه المؤمنين الصّالحين بالأمن والأمان، وتوعَّد الظّالمين المجرمين بسوء الحساب.
 
4- أشار الله تعالى في القرآن الكريم إلى آثار كثيرة للمعاصي والذُّنوب في الآخرة، وحذّرنا من مغبَّة الوقوع فيها، فلا نكون من أصحاب السّعير، منها: النّار، الافتضاح، الإهانة، العمى، النّدامة، والحرمان من لقاء الله وغيرها...
 
458

427

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 الدَّرس الخمسون:

جهاد النّفس


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن أهمِّيَّة معرفة النّفس كمقدمة لمعرفة الله تعالى.
2- يعدّد مراتب النّفس والخصيصة الأساسيّة لكلِّ مرتبة.
3- يشرح كيفيّة جهاد النّفس وتزكيتها من وجهة نظر الشَّرع.
 
 
459
 

428

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 أهمية معرفة النّفس‏

الحديث عن نفس الإنسان حديث له عدّة جوانب، فمن جهة لا بدّ من الحديث عن خصائص هذه النّفس، ومن جهة يمكن الحديث عن قواها الّتي أودعها الله تعالى فيها، ومن جهة أخرى عن سبل إصلاحها. وسوف نتحدَّث عن هذه النِّقاط الثَّلاث بشيء من التَّفصيل, إذ إن معرفة هذه النِّقاط الثَّلاث أمر أساس في علم الأخلاق، ففي الحديث الشّريف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من عرف نفسه عرف ربّه"[1].
 
لذا صارت معرفة النّفس وإصلاحها من أهمّ الأمور في علم الأخلاق، بل إنّ علم الأخلاق: هو علم تهذيب النّفس بالدرجة الأولى للوصول بها إلى الكمال المرجوّ لها، ولا أدلّ على ذلك من حديث الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل عليه رجل اسمه مجاشع، فقال: "يا رسول الله! كيف الطّريق إلى معرفة الحقّ؟ فقال: معرفة النفس، فقال: يا رسول الله! 
 
فكيف الطّريق إلى موافقة الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: مخالفة النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى رضا الحقّ؟ قال: سخط النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى وصل الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: هجر النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى طاعة الحق؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: عصيان النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى ذكر الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نسيان النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى قرب الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: التّباعد من النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى أنس الحقّ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الوحشة من النّفس، فقال: يا رسول الله! فكيف الطّريق إلى ذلك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الاستعانة بالحقّ على النّفس"[2].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 2، ص 32.
[2] م.ن، ج 67، ص 72.
460

429

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 النّفس ومراتبها

تتميز النّفس الّتي أكرم الله تعالى بها الإنسان عن غيرها من المخلوقات بأنّها جمعت العقل مضافاً إلى الغريزة والشّهوة، 
خلافاً للحيوانات الّتي وضع الله فيها الغريزة والشّهوة، أو الملائكة الّتي أكرمها الله بعقل دون غريزة وشهوة، ومن هنا فإنّ 
الإنسان لا بدّ وأن يستخدم العقل في تعديل المتطلَّبات الّتي تمليها الشّهوة والغريزة حتّى يسلك حدّ الاعتدال، قال الله
تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾[1].
 
وعندما نطالع الآيات القرآنيّة الّتي تحدَّثت عن النّفس نراها تحدّثت عن ثلاث حالات من حالات النّفس، كما أنّها وصفتها بصفات مختلفة منها:
1- الأمّارة بالسّوء:
يقول الله تعالى، في محكم بيانه: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2]، فالنّفس الأمّارة بالسُّوء هي الّتي تتَّبع هواها, بحيث لا ترى أمامها سوى ما تتمنَّى الحصول عليه من الشّهوات بدون أيِّ التفات للشّريعة أو للمفاسد الدُّنيويَّة والأخرويَّة, ولذا فإنّ اتّباع النّفس الأمّارة بالسّوء يجلب الظُّلم والضَّلال، 
يقول الله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[3].
 
2- النّفس اللّوامة:
يقول الله تعالى في محكم آياته: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾[4].
 
والمراد بالنّفس اللّوامة، نفس الإنسان المؤمن الّتي تلومه في الدُّنيا على المعصية، والتَّثاقل في أداء الطّاعات[5].
 
وقد يطلق علماء النّفس عليها اسم الضّمير الّذي يؤنِّب الإنسان على ما فعله من القبائح.
 
 
 

 
[1] سورة الشمس، الآيتان 7-8.
[2] سورة يوسف، الآية 53.
[3] سورة القصص، الآية 50.
[4] سورة القيامة، الآيتان 1-2.
[5] العلامة الطبطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص 103.
461

430

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 3- النّفس المطمئنَّة:

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[1].
 
والنّفس المطمئنَّة كما وصفها العلّامة الطّباطبائي في تفسيره "هي الّتي تسكن إلى ربِّها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو وشرّ أو نفع أو ضرّ وترى الدُّنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضرّ، ابتلاءاً وامتحاناً إلهيّاً فلا يدعوها تواتر النِّعم عليها إلى الطُّغيان وإكثار الفساد والعلوُّ والاستكبار، ولا يوقعها 
الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر، بل هي في مستقَرٍّ من العبوديّة لا تنحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط...
 
وتوصيفها بالراضية, لأنّ اطمئنانها إلى ربِّها يستلزم رضاها بما قدَّر وقضى تكويناً أو حكم به تشريعاً, فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربه رضي الرّب منه, إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ‏ِ العبوديَّة, فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضا ربِّه, ولذا عقَّب قوله "راضية" بقوله: "مرضيّة"[2].
 
الحذر من النّفس الأمّارة
بعد أن عرفنا النّفس الأمّارة بالسّوء وميزتها، لا بدّ من مواجهتها وعدم الركون إليها, إذ إنَّ لبّ علم الأخلاق قهر النّفس الأمارة وكبح جماحها, لأنّها لا ترى إلّا ما تريد وتشتهي، ولو خلَّفت كلّ شي‏ء خراباً من خلفها. فإذا كانت النفس الأمارة خطيرة لهذه الدرجة، فلا بدّ من أن نجد لها علاجاً لإصلاحها وتليين طبعها الشّرس فما هي الطّرق الممكنة لإنجاز هذه المهمّة؟
 
 
 

 
[1] سورة الفجر، الآيات 27-30.
[2] تفسير الميزان،  ج20، ص285.
262

431

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 ضرورة إصلاح النّفس‏

إنّ المسالك والطُّرق إلى الله كثيرة، بل هي بعدد أنفاس الخلائق، إلا أنّها كلّها تبدأ من خلال تهذيب النَّفس وتزكيتها وإصلاحها، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[1]. 
 
فينبغي بالدّرجة الأولى على من يريد إصلاح نفسه، أن يرغِّب نفسه بالأعمال الصّالحة، ويكون ذلك من خلال التَّفكُّر في الأعمال وما تستتبع من رضا أو سخط للمولى العزيز، وما يترتَّب عليها من آثار في الآخرة، فتطمع النَّفس بثواب الآخرة، وتخاف من عقاب الأعمال القبيحة.
 
وبما أن كثيراً من النّاس يميلون إلى الرِّبح السَّريع، ويفضلون الرِّبح القريب ولو كان قليلاً وتافهاً على الرِّبح البعيد ولو كان كبيراً وعظيماً، وهذه حقيقة في الإنسان قد ذكرها الله تعالى في كتابه حيث يقول جل شأنه: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ 
* وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾[2]، ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾[3].
 
فبسب شقاء هذا الإنسان تراه يستعجل ما يتصوَّره ربحاً في الدُّنيا ويترك فوز الآخرة. وهنا يتَّضح دور العقل في السَّيطرة 
على الأهواء النَّفسيَّة السّيِّئة، فلا بدّ من التّنبيه الدّائم للنّفس على الدّوام، لما وعد به الله تعالى أهل طاعته، وحذَّر منه أهل معصيته, لأنّ مجرّد عدم الالتفات إلى الجانب الأخرويّ من الأعمال والاستغراق في أمور الدُّنيا وتفاصيلها، يدخل الإنسان في نفق الغفلة المظلم ولا يستيقظ منه إلّا بعد الموت في الكثير من الأحيان ولعلّ هذا هو المراد من قول الإمام 
عليّ أمير المؤمنين: "النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"[4].
 
 
 

 
[1] سورة الشمس، الآيات 7-10.
[2] سورة القيامة، الآيتان 20-21.
[3] سورة الإسراء، الآية 11.
[4] شرح أصول الكافي، ج8، ص 294.
463

432

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 وأمّا كيفيّة التَّفكُّر في أمر الدُّنيا وزوالها فهو كما يروى أن الإمام الباقر عليه السلام قال لصاحبه جابر في حديث طويل: "... يا جابر: إنّ المؤمنين لم يطمئنُّوا إلى الدُّنيا ببقائهم فيها ولم يأمنوا قدومهم الآخرة، يا جابر الآخرة دار قرار، والدُّنيا دار فناء وزوال، ولكن أهل الدنيا أهل غفلة، وكأنَّ المؤمنين هم الفقهاء أهل فكرة وعبرة لم يصمَّهم عن ذكر الله ما سمعوا بآذانهم، ولم يعمهم عن ذكر الله ما رأوا من الزِّينة، ففازوا بثواب الآخرة كما فازوا بذلك العلم. واعلم يا جابر أن أهل التَّقوى أيسر أهل الدُّنيا مؤنة، وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك، وإن نسيت ذكَّروك، قوّالون بأمر الله، قوّامون على أمر الله قطعوا محبّتهم بمحبة ربهم، ووحشوا الدُّنيا لطاعة مليكهم، ونظروا إلى الله تعالى، وإلى محبَّته بقلوبهم، وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه لعظيم شأنه، فأنزل الدُّنيا كمنزل نزلته ثمّ ارتحلت عنه، أو كمال وجدته في منامك واستيقظت، وليس معك منه شي‏ء"[1].

 
إذاً فإصلاح النّفس يبدأ من التَّذكُّر والخروج من نوم الغفلة عن الآخرة بالدَّرجة الأولى.
 
كيفيّة تهذيب النّفس
إنّ علاج النفس تارة يكون بإيجاد المانع فيها من فعل الذُّنوب, كأن يخوّف الإنسان نفسه بالنّار وغضب الجبار، ففي هذه الحالة يكون الدَّافع إلى الذَّنب موجوداً في النَّفس إلّا أنّه هنالك مانع من الوقوع فيه، وهو ما ذكرناه من الخوف وغيره من الموانع، وتارة يكون علاجها بإلغاء الدّافع أساساً, بحيث لا تطلب النَّفس الذَّنب, إذ لا رغبة لها فيه، والطّريقة الأولى هي من خصائص المسالك الأخرى لا مسلك الحبَّ الإلهيّ أمّا الطَّريقة الثّانية وهي قلع الدَّوافع من النّفس فهي من مختصَّات مسلك الحبّ الإلهيّ ولهذا المسلك والطّريق ركنان أساسيَّان: 
 
الأوّل: ركن المعرفة والعلم بأن يصل الإنسان من خلال علمه إلى مرحلة يدرك فيها معنى التّوحيد بكل أبعاده، ومن خلال هذه المعرفة بالتّوحيد لا يبقى أيَّ موضوع
 

 
[1] بحار الأنوار، ج70، ص 36.
464

433

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 لهذه الرَّذائل، ولن يتوجه بعد ذلك إلى النّاس، ولا يطمع بما في أيديهم, لأنّه يعرف حقّ المعرفة أنّ الغني منهم لا يملك ولا يعطي ولا يمنع إلّا بإذن الله تعالى فلا يرجوه، والقويّ منهم خارج عن قوّة الله فلا يخاف منه.

 
ولقد كان الإمام الخمينيّ قدس سره من المصاديق البارزة في هذا المضمار، إذ لم يخف طواغيت العالم، بل خاف مالك الملوك وجبَّار الجبابرة فأخاف الله تعالى منه طواغيت الأرض.
 
الثّاني: ركن العمل, إذ مجرد العلم لا يكفي في هذا المجال، فبعد أن يتعلَّم الإنسان التّوحيد يجب أن يكون توحيده عمليّاً لا نظريّاً فحسب، والطّريق إلى التَّوحيد العمليّ حبّ الله تعالى، فإنّ الإنسان إذا أحب شيئا أطاعه وعبده، بل إن من أثار الحبّ الطّاعة والتّسليم.
 
وخلاصة الأمر: أنّ على الإنسان أن يجعل قلبه متعلِّقاً بالله تعالى، وحده قال تعالى،: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾[1], إذ لا يجتمع حبّ الله تعالى وحبّ الدّنيا في قلب واحد، وإذا حصلت المحبّة في قلب الإنسان لله أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد، وانجذبت نفسه إلى التّفكير في ناحية ربِّه، واستحضار أسمائه الحسنى، وصفاته الجميلة المنزَّهة عن النَّقص والشَّيْن ولا تزال تزيد نفسه انجذاباً، وتترقَّى مراتبه حتّى صار يعبد الله كأنّه يراه...
 
فيأخذ الحبّ في الاشتداد, لأنّ الإنسان مفطور على حبّ الجميل، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾[2]، وصار يتَّبع الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم في جميع حركاته وسكناته, لأنّ حبّ الشّي‏ء يوجب حبّ آثاره، والرّسول من آثاره وآياته، كما أنّ العالم أيضاً آثاره وآياته تعالى، ولا يزال يشتدُّ هذا الحبّ ثمّ يشتدّ حتّى ينقطع إليه من كلّ شي‏ء، ولا يحب إلّا ربّه، ولا يخضع قلبه إلّا لوجهه، فانّ هذا العبد لا يعثر بشي‏ء، ولا يقف على شي‏ء وعنده شي‏ء من الجمال والحسن إلّا وجد أن ما عنده أنموذج يحكي ما عند الله من كمال لا ينفد، وجمال لا يتناهى، وحسن لا يحدّ، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء، فيستولي سلطان الحبّ على قلبه.
 
 
 

 
[1] سورة الأحزاب، الآية 4. 
[2] سورة البقرة، الآية 165.
465

434

الدَّرس الخمسون: جهاد النّفس

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- معرفة النّفس وإصلاحها من أهمّ الأمور في علم الأخلاق، بل إن علم الأخلاق: هو علم تهذيب النّفس بالدرجة 
الأولى للوصول بها إلى الكمال المرجوّ لها.
 
2- عندما نطالع الآيات القرآنيّة الّتي تحدَّثت عن النّفس نراها تحدّثت عن ثلاث حالات من حالات النّفس، هي النفس الأمَّارة, واللوامة, والمطمئنَّة.
 
3- لبّ علم الأخلاق هو قهر النفس الأمارة بالسوء وكبح جماحها، لأنّها لا ترى إلّا ما تريد وتشتهي.
 
4- إصلاح النّفس واجب ويبدأ من التّذكُّر والخروج من نوم الغفلة عن الآخرة بالدَّرجة الأولى.
 
5- مسلك الحبّ الإلهيّ أفضل طريق لتهذيب النّفس، وله ركنان أساسيّان: العلم والمعرفة من جهة، والعمل والمخالفة العمليّة للنّفس من جهة أخرى.
 
466

435

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 الدَّرس الواحد والخمسون:

التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يستدلّ على معنى وأهمّيّة التّوبة وكونها من الواجبات الشّرعيّة.
2- يذكر أهمّ آثار التَّوبة والإنابة إلى الله.
3- يفهم كيفيَّة التَّوبة وأهمّ شروطها الأساسيّة.
 
467

436

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 تمهيد

عندما يجلس الكاتب أمام الحاسوب, ويبدأ بطباعة ما يجول في خاطره على صفحات حاسوبه, ويتعثّر فكره في أيّة فكرة, فإنّه مباشرة ينتقل إلى خيار التَّراجع عمّا كتب, ليقوم بتصحيح الفكرة, أو تصحيح الجملة الّتي كتبها بشكل خاطئ.
 
وعندما يشتري الواحد منّا حاجة من حاجاته, ويرجع بها إلى بيته مسروراً, ليجد أنّه قد أخطأ في خياره إذا بان عيبها, 
فإنّه مباشرة يعود إلى الكفالة ليستعملها في التَّراجع عن الشراء. وحين يتقدّم الجيش في المعركة إلى أرض تصل إليه فيها 
نار الأعداء ولا يجد مفرّاً ولا ملاذاً للاحتماء منها, فإنّه سرعان ما يتراجع إلى الوراء حفاظاً على قوّته, ولإعادة الهجوم 
بشكل أفضل.
 
وكذا الإنسان في كلّ مواقف حياته, عندما يتفوّه بكلمة تسيء لصديق مثلاً, فإنّه يسارع للتَّراجع عنها محاولاً توضيح موقفه, وقد يعتذر عمّا صدر منه.
 
وأمثال هذه المواقف الّتي تمرّ في حياة الإنسان كثيرة. ولو تأمّلنا بشكل دقيق في تفاصيل حياتنا، فإنّنا نجد أنّنا دائماً ما 
نحتاج إلى خيار التَّراجع هذا.
 
وفي علاقتنا مع الله تعالى, لا بدّ لنا من هذا الخيار أيضاً. فلماذا نحتاج لذلك؟
 
الحاجة للتّوبة 
دعانا القرآن الكريم إلى التّوبة, واستعمل في الدّعوة إليها كلمات ملؤها الرَّحمة, مع علمنا جميعاً بأنّ الله تعالى غنيّ عن عذابنا, وغنيّ أيضاً عن عبادتنا, لنتأمّل في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ 
 
468

437

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾[1].

 
هنا دعوة بلسان الرَّحمة، فقول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ﴾ دائماً ما يُشعر بالرَّحمة, كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾[2].
 
وقوله تعالى: ﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾[3].
 
وقوله تعالى: ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[4].
 
وهذا خطاب يستعمله الله تعالى لخطاب المؤمنين, ويُشعرَ المستمع له بالرَّحمة, فلماذا يدعونا الله تعالى بهذا الخطاب؟
 
إنّ دعوة الله تعالى لنا للتّوبة والإنابة لأجل أمور:
1- إنّه رحيم بنا, ومن صفات الرّحيم أن يقبل عذر المعتذر ويقيل عثرة المستقيل, وهذا معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾[5].
 
2- إنّ التّوبة هي بوّابة الأمل للمؤمن المتعثّر, ولولاها لهيمن القنوط على كلّ البشر, لأنّ كلّ البشر خطّاؤون إلّا من عصم الله, وقد نهى الله تعالى عن القنوط من رحمته. يقول،ـ عزّ من قائل,: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾[6].
 
وفي الرّواية أنّ الإمام أبا عبد الله الصَّادق عليه السلام استقبل القبلة قبل التكبير وقال: "اللهمّ لا تؤيسني من روحك ولا تقنطني من رحمتك ولا تؤمنّي مكرك فإنّه لا يأمن 

 
 

 
[1] سورة الزمر، الآيتان، 53-54.
[2] سورة البقرة، الآية 186.
[3] سورة إبراهيم، الآية 31.
[4] سورة الحجر، الآية 49.
[5] سورة المؤمنون، الآية 109.
[6] سورة الزمر، الآية 53.
469

438

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 مكر الله إلّا القوم الخاسرون" قلت (أي: الرّاوي): "جعلت فداك ما سمعت بهذا من أحد قبلك"، فقال عليه السلام: "إنّ من أكبر الكبائر عند الله اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله"[1].

 
وفي رواية أخرى عن إمامنا الرّضا عليّ بن موسى عليه السلام قال: "سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول: دخل عمرو بن عبيد البصريّ على أبي عبد الله عليه السلام فلمّا سلّم وجلس عنده تلا هذه الآية قول الله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ﴾[2] ثمّ أمسك فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما أسكتك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزّ وجلّ، فقال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[3]، وبعده اليأس من روح الله، لأنّ الله عزّ وجلّ يقول:﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[4]..."[5].
 
فلا بدّ إذاً من بوّابة يتخلّص بها الإنسان من عذاب الضمير، الّذي يحلّ به حينما يرتكب الذّنب, وإلّا, فإنّه سيقضي عمره ملازماً للشُّعور بالألم والذَّنب, وهذا ما سيكون معرقلاً له في الحياة, فضلاً عن الخسران اللَّاحق في الآخرة, إذ لا مفرّ من الحساب, ولكن مع وجود التَّوبة يقطع الطّريق أمام اليأس ويفتح باب الإنابة والصَّفحات البيضاء الجديدة.
 
معنى التّوبة
التوبة لغةً: تعني الرُّجوع والإنابة، يُقال: تاب فلان، أي: رجع عن ذنبه فهو تائب.
 
التّوبة في المصطلح: هي ترك الذّنب علماً بقبحه، وندماً على فعله، وعزماً على ألّا 
 
 

 
 
[1] الكافي، ج2، ص544.
[2] سورة النجم، الآية 32.
[3] سورة المائدة، الآية 72.
[4] سورة يوسف، الآية 87.
[5] الكافي، ج2، ص285.
470

439

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 يعود إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءً لما ضيَّع من الفرائض, إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً 

من عقابه. وتعتبر التّوبة من الأصول المهمّة في الإسلام, لأنّها تدعو كلّ المذنبين إلى العمل لإصلاح أنفسهم والدُّخول 
في دائرة الرَّحمة الإلهيَّة، والسَّعي لجبران ما مضى.
 
وقال الإمام الخمينيّ قدس سره في التّوبة: "التوبة من المنازل المهمّة الصّعبة، وهي عبارة عن الرُّجوع عن عالم المادّة إلى روحانيّة النّفس، بعد أن حُجبت هذه الروحانيّة ونور الفطرة بغشاوات ظلمانيّة من جراء الذُّنوب والمعاصي"[1].
 
التَّوبة في الكتاب
جاء ذكر التّوبة في القرآن في أكثر من 85 موضعاً، وقد خُصَّت التّوبة بسورة "التّوبة" إضافة لسورة "غافر"، ونادراً ما 
تخلو سورة من ذكر التّوبة, كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾[2]، وقوله 
عزّ وجلّ،: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[3]، وقوله عزّ اسمه: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ 
تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا﴾[4].
 
أدلّة وجوب التَّوبة
التّوبة: هي الرجوع الاختياري عن المعصية إلى الطّاعة والعبودية لله وحده لا شريك له، وهي واجب وتكليف إلهيّ كما في قوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[5]. وقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾[6].

 
 

 
[1] الأربعون حديثاً، ص 257.
[2] سورة هود، الآية، 90.
[3] سورة النور، الآية 31.
[4] سورة هود، الآية 3، وراجع الآيات: طه، 72، والفرقان، 70، والشورى، 25، والمائدة، 74، وهود، 52، وص، 25.
[5] سورة النور، الآية 31.
[6] سورة التحريم، الآية 8.
471

440

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 ويظهر من هاتين الآيتين توجيه الخطاب إلى المذنبين من المؤمنين. أمّا المجرمون ونحوهم فإنّ الله سبحانه كثيراً ما كان يحذِّرهم في آياته عذاباً أليماً وينذرهم عاقبة أعمالهم السَّيِّئة، ثمّ يدعوهم إلى التّوبة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾[1].

 
وروي عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "التَّوبة حبل الله ومدّد عنايته، ولا بدّ للعبد من مداومة التّوبة على كلِّ حال، وكل فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السِّرِّ، وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الأصفياء من التنفُّس، وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله تعالى، وتوبة العام من الذُّنوب، ولكلِّ واحد منهم معرفة، وعلم في أصل توبته ومنتهى أمره وذلك يطول شرحه ها هنا"[2].
 
وعنه عليه السلام أيضاً: "إنّ الرَّجل ليذنب الذّنب فيدخله الله به الجنّة! قلت: يدخله الله بالذّنب الجنّة؟ قال: نعم، إنّه يذنب فلا يزال خائفاً ماقتاً لنفسه، فيرحمه الله فيدخله الجنة"[3].
 
ومن فتوى الفقهاء ما ورد في تحرير الوسيلة للإمام الخمينيّ قدس سره: "من الواجبات التّوبة من الذَّنب، فلو ارتكب حراماً أو ترك واجباً تجب التّوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه أمره بها، وكذا لو شكَّ في توبته، وهذا غير الأمر والنهي بالنِّسبة إلى سائر المعاصي، فلو شكَّ في كونه مقصّراً أو علم بعدمه لا يجب الإنكار بالنّسبة إلى تلك المعصية، لكن يجب بالنّسبة إلى ترك التَّوبة"[4].

 
 

 
[1] سورة البروج، الآية 10 وراجع سورة البقرة، الآية 16.
[2] بحار الأنوار، ج 6، ص 31.
[3] الكافي، ج 2، ص 426  
[4] تحرير الوسيلة، ج 1، ص 470.
472

441

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 آثار التّوبة وفوائدها

للتّوبة فضائل جمّة وأسرار بديعة وفوائد متعدِّدة، وبركات متنوِّعة, فيما يلي بعض هذه الآثار: 
1- التّوبة تكفِّر السَّيِّئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحاً، كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ 
آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾[1]. 
 
2- التّوبة تبدّل السّيئات حسنات: فإذا حسنت التّوبة بدَّل الله سيئات صاحبها حسنات، قال الله تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[2]. وهذه أعظم بشارة 
للتائبين بشرط أن تقترن توبتهم بالإيمان والعمل الصّالح. 
 
3- التّوبة سبب لزيادة النِّعم والبركات: قال تعالى على لسان هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾[3]. 
 
 
4- الله تعالى يحب التَّوبة والتَّوَّابين: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[4]. 
 
5- الستر على ذنوب التائب: فَيُنْسِي الله تعالى الملائكة الكاتبين ذنبه، ويأمر أعضاء بدنه بأن لا تشهد عليه. روي 
عن الصَّادق عليه السلام: "إذا تاب العبد توبة نصوحاً، أحبّه الله وستر عليه في الدُّنيا والآخرة، فقلت كيف يستر؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذُّنوب، ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه

 
 

 
[1] سورة التحريم، الآية 8.
[2] سورة الفرقان، الآية 70
[3] سورة هود، الآية 52.
[4] سورة البقرة، الآية 222.
473

442

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض اكتمي ما يعمل عليك من الذُّنوب: فيلقى الله حين يلقاه وليس عليه شيء يشهد عليه بشيء من الذُّنوب"[1].

 
أركان التَّوبة وشرائطها
حقيقة التّوبة كما ذكرنا هي رجوع العبد إلى الله تعالى، وإقلاعه عن المعاصي، ولا يتحقَّق ذلك إلَّا بمراعاة شروط التّوبة 
والالتزام بأركانها. فالتّوبة ما لم تقترن بندم حقيقيّ على الفعل الّذي هو حاجب بين العبد وربه، وتصميم على عدم العودة إلى أصلاً، والسّعي لمحو كلّ آثاره الباطنيّة، والخارجيّة من خلال إفراغ ذمّته من أيّ حقِّ متعلِّق فيها سواء الحقّ 
الإلهيّ أو حق النّاس, فإنّ التَّوبة تبقى ناقصة وغير مكتملة، ولا يتوقع منها أن تؤتي ثمارها الطّيبة والمرجوَّة. قال تعالى: 
﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[2].
 
جاء في نهج البلاغة أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لقاتل قال بحضرته: "أستغفر الله". قال عليه السلام: "ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيِّين وهو اسم واقع على ستّة معان:
أوّلها: النّدم على مضى.
والثّاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقَّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللَّحم الّذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينها لحم جديد.
 
 
 

 
[1] الكافي، ج2، ص 430-431.
[2] سورة البقرة، الآية 160.
474

443

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 والسّادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة, كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك نقول: أستغفر الله"[1].

 
وممّا تقدم في كلام الإمام عليّ عليه السلام نستنتج أن للتّوبة ركنين وأربعة شروط: ركنين وأربع شروط.
1- الركن الأول: النّدم على الذّنب.
2- الركن الثاني: العزم على ترك الذّنب وعدم العود إليه. ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن النّدم على الشّرِّ يدعو إلى تركه"[2].
 
وأمّا الشُّروط فهي على قسمين:
شروط القبول: 
1- تأدية حقوق المخلوقين بإرجاعها إلى أهلها: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيّها النّاس إنّ الذُّنوب ثلاثة, فذنب 
مغفور وذنب غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه. قيل: يا أمير المؤمنين عليه السلام فبِّيّنها لنا. قال: نعم. أمّا الذّنب المغفور فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا، فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرّتين. وأمّا الذّنب الّذي لا يغفر فظلم العباد بعضهم لبعض، إنّ الله،ـ تبارك وتعالى, إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه، فقال: وعزّتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كفّ بكفّ ولو مسحة بكفّ ولو نطحة ما بين القرناء إلى الحمّاء فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتّى لا تبقى لأحد على أحد مظلمة ثمّ يبعثهم للحساب. وأمّا الذّنب الثّالث فذنب ستره الله على خلقه ورزقه التّوبة منه، فأصبح خائفاً من ذنبه راجياً لربِّه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرَّحمة ونخاف عليه العذاب"[3].

 
 

 
[1] نهج البلاغة (عبده)، ج 4، ص 97-98.
[2] وسائل الشيعة، ج 16، ص 61.
[3] الكافي، ج2، ص 443.
475

444

الدَّرس الواحد والخمسون: التّوبة باب الرَّحمة الإلهيّة الدّائم

 2- تأدية حقوق الخالق سبحانه وتعالى: يجب على التّائب تدارك ما فوته من حقوق الله تعالى وان يعيد إلى تداركها كلِّها حسب ما قرَّرت الشّريعة الإسلاميّة فيقضي الصَّلاة، ويقضى الصّوم ويكفِّر عما فاته أيضاً إلى غير ذلك من الأمور المتعلِّقة بحقوق الله تعالى.

 
شروط الكمال:
1- إذابة اللّحم الّذي نبت على الحرام (كأكل الربا).
2- إذاقة الجسم ألم الطاعة.
 
 
المفاهيم الرَّئيسة
1- دعانا القرآن الكريم إلى التّوبة, واستعمل في الدَّعوة إليها كلمات ملؤها الرَّحمة، والدعوة للتّوبة والإنابة لأجل أمور: لإنّه رحيم بنا، ولأنّ التوبة هي بوّابة الأمل للمؤمن المتعثّر.
 
2- التوبة لغةً: تعني الرُّجوع والإنابة، واصطلاحا, هي ترك الذَّنب علماً بقبحه، وندماً على فعله، وعزماً على ألّا يعود إليه إذا قدر، وتداركاً لما يمكن تداركه من الأعمال. 
 
3- التّوبة هي الرجوع الاختياري عن المعصية إلى الطّاعة والعبوديّة لله وحده لا شريك له، وهي واجب وتكليف إلهيٌّ كما جاء في كتاب الله العزيز وسنَّة نبيّه الشَّريفة.
 
4- للتَّوبة فضائل جمَّة وأسرار بديعة وفوائد متعدِّدة، وبركات متنوِّعة منها: تكفر السَّيِّئات، وتبدّل السَّيِّئات حسنات، وفرصة للرُّجوع إلى الله والفوز بمحبته ورضاه.
 
5- للتوبة أركان وشروط، هي: النّدم، والعزم على عدم العود، تأدية الحقوق إلى أصحابها، التّوبة والاستغفار.
 
476

445

المحور الرَّابع: القيم والعلاقة مع الآخر

 المحور الرَّابع:

القيم والعلاقة مع الآخر
 
 
موضوعات المحور
52- الأخوَّة والصَّداقة.
53- صلة الرَّحم والبرّ بالوالدين.
54- الأمانة وكتمان السر.
55- خدمة المؤمنين.
56- النِّظام العامّ.
 
477

 


446

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 الدَّرس الثاني والخمسون:

الأخوّة والصّداقة


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن: 
1- يبيّن أهمّية الصّداقة وتأثيرها على تديّن الإنسان.
2- يعدّد أهمّ صفات وخصائص من ينبغي معاشرتهم.
3- يعدّد أهم صفات وخصائص من لا ينبغي معاشرتهم.
 
479
 

447

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 فضل الأصدقاء وأهمّية الصّداقة

الإنسان مدني واجتماعي بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش بمفرده منعزلا عن النّاس, لأنّ اعتزالهم باعث على استشعار الغربة والوحشة والإحساس بالوهن والخذلان، إزاء طوارئ الأحداث وملمات الزمان. من أجل ذلك كان الإنسان توَّاقاً إلى اتّخاذ الخُلَّان والأصدقاء, ليكونوا له سنداً وسلواناً يخفِّفون عنه المتاعب ويشاطرونه السَّرَّاء والضَّرَّاء. وقد تضافرت دلائل العقل والنَّقل على فضل الأصدقاء والتّرغيب فيهم، ومنها:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله"[1].
 
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "من استفاد أخاً في الله استفاد بيتاً في الجنة"[2].
 
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "عليك بإخوان الصِّدق فأكثر من اكتسابهم, فإنَّهم عُدَّة عند الرَّخاء وجُنّة عند البلاء"[3].
 
ولا شكّ في أنّ مسألة الصُّحبة واختيار الصَّديق هي من المسائل المهمَّة الّتي ينبغي أن يعتني بها الشَّباب، فينبغي عليهم 
أن ينتبهوا إلى أنّ أصدقاء مرحلة الشّباب لهم دورهم المؤثِّر في بناء شخصيَّة الإنسان وتكوين طباعه وأخلاقه، فالصَّديق 
المؤمن العاقل يستطيع أن يهدي الإنسان إلى درب الفضيلة والكمال وأمّا الصَّديق الفاسق السَّيِّئ فقد يجرُّ صاحبه إلى 
طرق الإثم، وبالتّالي سيدمِّر حاضره ومستقبله
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 75، ص 169.
[2] م. ن، ج 75، ص 78.
[3] م. ن، ص 192.
480

448

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 الدّنيويّ والأخرويّ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"[1].

 
ولخطورة الصّداقة وضع الإسلام موازين دقيقة لاختيار الصَّديق، وألفت إلى صفات أصدقاء السّوء وأصدقاء الخير.
 
صفات أصدقاء السُّوء
من الّذين لا ينبغي أن نعاشرهم كما ورد في أحاديث أهل البيت‏ عليهم السلام:
1- الأحمق الكذّاب:
عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إيّاك وصحبة الأحمق الكذّاب, فإنّه يريد نفعك فيضرّك، ويقرّب منك البعيد، ويبعّد منك القريب، إن ائتمنته خانك، وان ائتمنك أهانك، وإن حدّثك كذّبك، وإن حدّثته كذّبك، وأنت منه بمنزلة 
السَّراب الذي ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾[2].
 
إنّ هذه الأخطار الأخلاقيّة والعواقب السّيّئة الّتي عدّدها الحديث من قبيل الإضرار والخيانة والإهانة والتّكذيب، كافية 
للرَّدع عن معاشرة من يتَّصفون بهذه الصِّفات، ومعرفة أنَّ مصير العلاقة معهم هو الفشل, لأنّها ستكون هدّامة ومؤدِّية 
إلى الانحطاط لا إلى الارتقاء.
 
2- صاحب الغاية الدُّنيويَّة:
وهو الّذي يصحبك, ليستفيد منك مالاً أو جاهاً, أو غير ذلك من الأطماع الّتي لا تجعل تلك الصُّحبة قائمة على أساس التّقوى وليس فيها الصِّدق والإخلاص. وهو الذي سرعان ما يتخلَّى 
عن تلك العَلاقة حينما يصل إلى هدفه منك.
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 75، ص 193.
[2] م. ن، ج71، ص 192.
481

449

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 ورد عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "احذر أن تواخي من أرادك لطمعٍ أو خوفٍ أو ميلٍ أو للأكل والشرب، واطلب مواخاة الأتقياء، ولو في ظلمات الأرض، وإن أفنيت عمرك في طلبهم"[1].

 
3- الضَّال المُضلّ:
فمن أهمّ آثار ونتائج الصُّحبة السَّيِّئة أنَّها عامل مباشر في ضلال الإنسان وخروجه عن جادّة الحقّ والصِّراط المستقيم,
 كما قال الله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ 
لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾[2].
 
4- الفاجر:
عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "لا تصحب الفاجر فيعلّمك من فجوره"[3].
 
ثمّ‏َ قال عليه السلام: "أمرني والدي بثلاث ونهاني عن ثلاث، فكان فيما قال لي: يا بنيّ‏َ من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتّهم، ومن لا يملك لسانه يندم"[4].
 
5- الفاسق:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال لولده الباقر عليه السلام: "يا بنيّ انظر خمسة فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق...(إلى أن قال) وإيّاك ومصاحبة الفاسق, فإنَّه بايعك بأكلة أو أقلّ من ذلك"[5].
 
6- البخيل:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام في نفس الرواية السّابقة أنّه قال: "وإيّاك ومصاحبة البخيل, فإنَّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه"[6].
 
 
 

 
[1]  بحار الأنوار، ج 71، ص 282.
[2] سورة الفرقان الآيتان، 28-29.
[3] بحار الأنوار، ج 71، ص191.
[4] م. ن، ج 68، ص 278.
[5] الكافي، ج 2، ص376-377.
[6] م.ن. ص 377.
482 
 

450

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 7- القاطع لرحمه:

 لما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام في نفس الرِّواية السابقة أنّه قال: "وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه, فإنِّي وجدته ملعوناً في كتاب الله،ـ عزّ وجل, في ثلاثة مواضع: قال الله عزّ وجل: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾[1] وقال،ـ عز وجل,: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ 
بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[2]"[3].
 
8 - الكافر: 
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يواخينّ‏َ كافراً"[4].
 
9- الشِّرّير:
قال الإمام الجواد عليه السلام: "إيّاك ومصاحبة الشِّرّير, فإنَّه كالسَّيف المسلول يحسن منظره ويقبح أثره"[5].
 
10- صاحب اللهو:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "إيّاك وصحبة من ألهاك وأغراك, فإنَّه يخذلك ويوبقك"[6].
 
11- الجبان:
عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا تصادق ولا تواخِ أربعة: الأحمق والبخيل والجبان والكذاب..." إلى أن يقول عليه السلام: "وأمّا الجبان, فإنَّه يهرب عنك وعن والديه"[7].
 
 
 

 
[1] سورة محمد: الآية 22.
[2] سورة الرعد: الآية 25.
[3] الكافي، ج2، ص376.
[4] بحار الأنوار، ج ‏71، ص ‏197.
[5] م. ن، ج 71،  ص 198.
[6] غرر الحكم، ص 294.
[7] بحار الأنوار، ج71، ص 192.
483

451

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

12- ناشر المثالب[1]:

في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "لا تواخِ من يستر مناقبك وينشر مثالبك"[2].

 

13 - رهين المداراة:

وهو الّذي لا يمكن استمرار الصَّداقة معه على قواعدها السَّليمة دون الخضوع إلى كثير من التَّكلّف والتَّجمّل، وهو ما يكون مع الأشخاص الّذين هم سريعو الغضب والانفعال، وإذا ما غضبوا هم لا يغفرون. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس لك بأخٍ من احتجت إلى مداراته"[3].

 

14- مجهول الموارد والمصادر:

يقول الإمام الحسن‏ عليه السلام: "لا تواخ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره, فإذا استنبطت الخبرة ورضيت العشرة، فآخه على إقالة العثرة والمواساة في العُسرة"[4].

 

15- الزاهد بأخيه:

ورد عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا ترغبَّن فيمن زهد فيك، ولا تزهدنّ فيمن رغب فيك"[5].

 

16- صاحب البدعة:

جاء عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم, فتصيروا عند النّاس كواحدٍ منهم..."[6].

 

17- النمّام، الخائن، الظلوم:

قال الإمام الصَّادق عليه السلام: "احذر من النّاس ثلاثة: الخائن والظلوم والنمّام, لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ‏َ إليك سينمُّ عليك"[7].

 

 

 


 

[1] المثالب: العيوب.

[2] غرر الحكم، ص294, الحديث (الحكمة) 9565.

[3] م.ن، ص 284, الحديث (الحكمة) 9551.

[4] بحار الأنوار، ج75، ص105-106.

[5] م.ن،  ج71، ص166.

[6] الكافي، ج‏2، ص‏375. بحار الأنوار، ج 74، ص 138.

[7] بحار الأنوار، ج 74، ص 138.

484

452

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 18- متتبِّع العيوب:

عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إيّاك ومعاشرة متتّبعي عيوب النّاس, فإنّه لم يسلم مصاحبهم منهم"[1].

 

صفات إخوان الصّدق‏

من هم الإخوان الّذين ينبغي معاشرتهم ومجالستهم، والّذين يمكن أن نتعلّم منهم ما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا؟ إنّ أبرز 

السِّمات الّتي ينبغي أن يتحلّى بها الصَّديق الصَّدوق هي الأمور التالية:

1- الدَّاعي إلى الله تعالى:

والمراد منه من كانت دعوته بالعمل، إضافة إلى القول, كما عبّرت عن ذلك النصوص الشريفة حيث ورد عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام: "خير إخوانك من سارع إلى الخير وجذبك إليه وأمرك بالبِرّ وأعانك عليه"[2].

 

2- المعين على الطّاعة: 

الطّاعة هدف خلقة الإنسان الحقيقي في هذه الدُّنيا، وخير الأصدقاء من يعين على هذا الهدف السّامي. ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمَّا سئل من أفضل الأصحاب: "من إذا ذكرت أعانك وإذا نسيت ذكّرك"[3].

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "المعين على الطّاعة خير الأصحاب"[4].

 

وعنه عليه السلام,ـ أيضاً, أنّه قال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً جعل له وزيراً صالحاً إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه"[5].

 

 

 


 

[1] غرر الحكم، ص 284, الحديث (الحكمة) 9887.

[2] م.ن، ص284, الحديث (الحكمة) 9534.

[3] بحار الأنوار، ج 74، ص 138.

[4] غرر الحكم، ص 284, (الحكمة) 9508.

[5] بحار الأنوار، ج 74، ص 164.

485

 


453

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 3- الصَّادقون: 

وهم الّذين ينبغي معاشرتهم، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وعليك بإخوان الصِّدق فأكثر من اكتسابهم، فإنّهم عُدّة عند الرَّخاء وجُنّة عند البلاء"[1].
 
وعن الإمام الحسن عليه السلام في وصيِّته لجنادة في مرضه الّذي توفي فيه: "إصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضلٍ مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدَّها، وإن رأى منك حسنةً عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك وإن نزلت احدى الملمَّات به ساءك"[2].
 
4- من يذكرنا بالله والآخرة:
عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حينما سئل أيّ الجلساء خير؟ فقال: "من ذكّركم بالله رؤيته وزادكم في علمكم منطقه. وذكرَّكم بالآخرة عمله"[3].
 
5- مصاحبة العلماء:
أكدّت الرّوايات المباركة على صحبة العلماء ومجالستهم, لأنّهم قادة الركب الرَّبَّانيّ الّذين يأخذون بيد المرء إلى العالم العلويِّ ويصلون به إلى حيث أراد الله سبحانه، من خلال بثّ معارفهم وممارسة دورهم في الهداية والتّربية، والدِّفاع عن 
مبادى‏ء الدِّين وصيانة الشَّريعة من أن تدخلها البدع والانحرافات. ومما ورد في ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه 
قال: "جالس العلماء يزدد علمك ويحسن أدبك"[4].
 
وما في وصية لقمان لابنه: "يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك, فإنَّ الله،ـ عزّ وجلّ, يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السَّماء"[5].
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 71، ص 187.
[2] م. ن، ج 44، ص 139.
[3] م. ن، ج‏71،  ص‏186.
[4] م. ن، ج‏1، ص‏55.
[5] م. ن، ص 402.
486

454

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 وفي المقابل، فإنّ ترك مجالسة العلماء موجباً للخذلان, لأنَّ الابتعاد عنهم معناه الابتعاد عن المدرسة الإلهيّة الّتي أمر المولى سبحانه بالتَّربَّي في كنفها وتحت ظلالها، وهذا ما جاء صريحاً في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قال: "أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني"[1].

 
6- مصاحبة الحكماء والحلماء:
وهناك روايات أكدّت أيضاً على مصاحبة الحكماء ومجالسة الحلماء, لِما في هذين الصنفين من النّاس من مواصفات عالية تترك آثارها في الجنبة العلميّة والعمليّة بما يساعد الإنسان عبر العلاقة بهم في طريقه إلى الكمال.
 
فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أكثر الصَّلاح والصَّواب في صحبة أولي النُّهى والصَّواب"[2].

 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 1، ص 402.
[2] م. ن، ج 2، ص 1584.
487

455

الدَّرس الثاني والخمسون: الأخوّة والصّداقة

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- الإنسان مدنيّ واجتماعيّ بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش بمفرده, من أجل ذلك كان الإنسان توّاقاً إلى اتخاذ الخُلّان والأصدقاء, ليكونوا له سنداً وسلواناً. 
 
2- مسألة الصُّحبة واختيار الصَّديق هي من المسائل المهمّة الّتي ينبغي أن يعتني بها الشَّباب, لأنّ أصدقاء مرحلة الشّباب لهم دورهم المؤثِّر في بناء شخصية الإنسان وتكوين طباعه  وأخلاقه.
 
3- لخطورة الصّداقة، وضع الإسلام موازين دقيقة لاختيار الصّديق، وحدّد بدقَّة صفات أصدقاء السُّوء وأصدقاء الخير.
 
4- من الذين لا ينبغي أن نعاشرهم،ـ كما ورد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام: أهل الدُّنيا، الكافر، المنافق، البخيل، الجبان، المتتبِّع للعيوب، الّذي ينبغي مداراته دائما وغيره...
 
5- أبرز السِّمات الّتي ينبغي أن يتحلّى بها الصّديق الصّدوق، هي: الصَّادق، الدّاعي إلى الله والمعين على طاعته، المذكر بأيّام الله واليوم الآخر، صاحب العلم والمعرفة.
 
 
488

456

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يبيّن معنى صلة الرَّحم وفضله في الإسلام.
2- يحدِّد أهمّ الآثار السَّلبيَّة المترتِّبة على قطع صلة الرَّحم في الدُّنيا والآخرة.
3- يبيّن كيف تتحقَّق صلة الرَّحم وما هي الضابطة الأساسيّة فيها.
 
 
489
 

457

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 أبغض الأعمال‏

قطع الرَّحم من الذُّنوب الكبيرة الّذي أوعد عليه القرآن المجيد بالنّار، واعتبر صاحبه خاسراً ومورداً للعن ربِّ العالمين. كما روي عن الإمام السّجاد عليه السلام قوله: "إيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه, فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله عزّ وجلّ في ثلاثة مواضع، قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾[1]. وقال عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ 
وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾[2]. وقال عزّ وجلّ:﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[3]"[4].
 
وقد وردت في هذا الموضوع أخبار كثيرة نشير إلى بعضها:
جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "أيّ الأعمال أبغض إلى الله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: الشِّرك بالله، قال ثمَّ ماذا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قطيعة الرَّحم، قال ثمَّ ماذا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: الأمر بالمنكر والنَّهي عن المعروف".

 
 

 
[1] سورة محمد، الآيتان 22-23.
[2] سورة الرعد، الآية 25.
[3]  سورة البقرة، الآية 27.
[4] الذُّنوب الكبيرة، دستغيب، ج‏1، ص158.
490

458

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 وقد أشارت بعض الرّوايات إلى الآثار الدّنيويِّة لقطيعة الرَّحم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته: "أعوذ بالله من 

الذُّنوب الّتي تعجِّل الفناء" فقام إليه عبد الله بن الكواء، فقال: "يا أمير المؤمنين أو تكون ذنوب تعجِّل الفناء؟ فقال: نعم، وتلك قطيعة الرَّحم، إنَّ أهل البيت ليجتمعون ويتواسَون وهم فجرة فيرزقهم الله، وإنّ أهل البيت ليتفرَّقون ويقطع بعضهم بعضاً فيحرمهم الله وهم أتقياء".
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه: قال له أحدهم: "إنَّ أخوتي وبني عمّي قد ضيَّقوا عليّ الدَّار وألجؤوني منها إلى بيت ولو تكلّمت أخذت ما في أيديهم، قال: فقال لي: اصبر, لأنّ الله سيجعل لك فرجاً، قال: فانصرفت ووقع الوباء في سنة إحدى وثلاثين ومائة فماتوا،ـ والله, كلُّهم فما بقي منهم أحد، قال فخرجت فلمَّا دخلت عليه قال: ما حال أهل بيتك؟ قال: قلت له: ماتوا،ـ والله, كلُّهم فما بقي منهم أحد، فقال: هو بما صنعوا بك وبعقوقهم وقطع رحمهم بتروا"[1].
 
معنى قطع الرَّحم
قطع الرَّحم هو عبارة عن كلِّ أمر يُفهم منه في نظر العُرف قطع الرَّحم، مثل: عدم التَّحيَّة أو التَّهجم أو الإعراض أو ترك الاحترام والأداب، أو عدم جواب الرِّسالة في السَّفر أو عدم الزِّيارة والملاقاة، أو عدم عيادته إذا مرض أو إذا كان عائداً من السَّفر.
 
وقطع الرَّحم يختلف بحسب الزمان والمكان ومراتب الأرحام، وخصوصيّاتهم فيمكن أن يكون عمل ما قطعاً بالنَّسبة للرَّحم القريب، أمّا بالنسبة للرَّحم البعيد فليس قطعاً، وهكذا هو قطع بالنّسبة للرَّحم الفقير، وليس كذلك بالنسبة لغيره, ومن أقبح أقسام قطع الرَّحم أن لا يحترم الغنيُّ ذو الجاه رحمه الفقير، أو الّذي لا جاه له، ولا يعرف له قرابته ويتكبَّر عليه.
 
 
 

 
[1] نقلاً عن: الذُّنوب الكبيرة، ج‏1، ص‏159-160.
491

459

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 الحثُّ على صلة الرَّحم

هذا في الجانب السّلبيّ، أي: قطع الرَّحم، أمّا في الجانب الإيجابيّ، أي: صلة الرَّحم، فقد وردت الآيات العديدة والرّوايات الكثيرة الّتي تشير إلى أهميَّة صلة الرَّحم.
 
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى﴾[1].
 
وقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي 
الْقُرْبَى..﴾[2]. والرّوايات في صلة الرَّحم كثيرة منها:
عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "إنَّه لا يستغني الرَّجل،ـ وإن كان ذا مال, عن عترته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم وهم أعظم النّاس حيطة من ورائه وألمَّهم لشعثه، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به، ولسان الصِّدق يجعله الله للمرء في النَّاس خير له من المال يرثه غيره، ألا لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة"[3].
 
وعنه عليه السلام أنّه قال: "وأكرم عشيرتك, فإنَّهم جناحك الذي به تطير وأهلك الذي إليه تصير، ويدك الّتي بها تصول"[4].
 
آثار صلة الرَّحم
إن لصلة الرَّحم إيجابيات مهمّة على صعيد الدُّنيا كما الآخرة، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة نأتي على ذكر بعض منها:
عن الإمام الباقر عليه السلام: "صلة الأرحام تزكِّي الأعمال، وتنمِّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسِّر الحساب، وتنسى‏ء الأجل: أي: تطيل العمر"[5].

 
 

 
[1] سورة النحل، الآية 90.
[2] سورة النساء، الآية 36.
[3] نهج البلاغة (تحقيق الصالح)، ص 65.
[4] م. ن، ص 406. (وصايا شتّى لابنه الإمام الحسن عليه السلام).
[5] الكافي، ج 2، ص 150.
492

460

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 وعنه عليه السلام أنّه قال: "صلة الأرحام تحسن الخلق، وتسمح الكف، وتطيب النَّفس، وتزيد في الرِّزق وتنسى‏ء في الأجل"[1].

 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنَّ صلة الرَّحم والبرّ يهوِّنان الحساب، ويعصمان من الذُّنوب"[2].
 
وتجدر الإشارة إلى مبدأ مهم جدّاً وهو أن لا يقطع الإنسان من يقطعه, لأنّه يساهم في تفكُّك أواصر المجتمع والنَّاس 
فيما بينهم. عن الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تقطع رحمك وإن قطعك"[3]. وروي أن رجلاً جاء 
إلى أبي عبد الله الصَّادق عليه السلام فشكا إليه أقاربه، فقال عليه السلام: "اكظم غيظك وافعل، فقال: إنَّهم يفعلون 
ويفعلون. فقال عليه السلام: "أتريد أن تكون مثلهم، فلا ينظر الله إليكم"[4]. 
 
من هو الرَّحم؟
لم يرد في الشَّرع معنى خاصّ للرّحم فيكون فالمراد منه هو المعنى الّذي يفهمه العُرف والذي هو عبارة عن مطلق الأقارب، بمعنى الأقرباء من طرف الأب أو من طرف الأم، مهما كانت الواسطة. ولا فرق في الرَّحم بين الفقير والغني، 
ومع أنَّ عادة أهل الدُّنيا جرت على الاتّصال بمن كان من الأقرباء صاحب جاه ومال وإهمال الفقير والمحروم منهم، نجد 
أنّ الإسلام لم يُفرِّق في حكم صلة الرَّحم وقطعه بين الأقارب، بل كلَّما كان أقرب، وأقل واسطة كان الحكم أشدّ في حقه.
 
كذلك كلّما كان أقلَّ قدراً بمقاييس الدنيا كانت صلته أولى وأوجب, لأنّه أشدّ حاجة للصّلة من الغنيّ المقتدر.
 
 

 
 
[1] الكافي، ج 2، ص 151.
[2] م. ن، ص 157.
[3] بحار الأنوار، ج 71، ص 104.
[4] الذُّنوب الكبيرة، ج‏1، ص‏160.
493

461

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 كيف تتحقَّق الصلة؟

أيّ عمل يعتبر في العرف صلة فهو صلة للرَّحم، مهما كان صغيراً، ولو بالابتداء بالسّلام أو ردّ السّلام بالأحسن. فصلة الرَّحم لا تعني إهدار الوقت والجهد في سبيل وصل الأخرين، بل المعيار أن لا يقال،ـ عرفا: إنّ فلان قاطع لرحمه.
 
فصلة الرَّحم على مراتب ودرجات, وما لا يدرك كلّه لا يترك كلُّه. والله تعالى لا يكلّف نفساً إلّا وسعها. وإنّ أعظم مراتب صلة الرَّحم هي الصِّلة بالنَّفس، وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة. وبعده الصّلة بدفع الضَّرر، بمعنى دفع الضّرر عن الرَّحم إذا توجّه له. وبعده الصّلة بإيصال المنفعة له. وبعده صلة من تجب نفقته على الرَّحم مثل زوجة الأب وزوجة 
الأخ. وأدنى مراتب الصِّلة أداء السّلام للرَّحم، وأدنى منه إرسال السّلام له، وهكذا الدُّعاء له في غيبته، والقول الحسن حال حضوره. عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنَّ صلة الرَّحم والبرّ ليهوِّنان الحساب ويعصمان من الذُّنوب فصلوا أرحامكم وبرّوا إخوانكم ولو بحسن السَّلام وردّ الجواب"[1]. وفي حديث آخر: "صل رحمك ولو بشربة ماء"[2].
 
قطع صلة الوالدين وعقوقهما
إذا كانت صلة الرَّحم واجبة وقطعها حرام، فإنّ ذلك يتأكَّد في صلة الوالدين أو قطعهما، وقد عُدّ عقوق الوالدين من الذُّنوب الكبيرة، كما ورد التصريح بذلك فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من أسخط والديه فقد أسخط الله ومن أغضبهما فقد أغضب الله"[3].
 
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "فليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة"[4].

 

 
 
[1] الذُّنوب الكبيرة، ج‏1، ص‏166.
[2] م. ن.
[3] جامع أحاديث الشيعة، ج 21، ص 446.
[4] م. ن، ص 444.
494

462

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "من نظر إلى أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل له صلاة"[1].

 
وإذا كان هذا في حال ظلمهما له فكيف إذا كان هو ظالماً لهما؟!.
 
الإحسان للوالدين
يُستفاد من القرآن الكريم والرّوايات أنّه ليس عقوق الوالدين وحده،ـ يعني: إيذاءهما وإغضابهما, حراماً وذنباً من الذُّنوب الكبيرة، بل إن الإحسان إليهما وأداء حقهما واجب وتركه حرام شرعاً. كما في قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[2]، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾[3]، ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾[4].
 
وقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[5].
 
فالإحسان في الفعل يقابل الإساءة، وهذا بعد التّوحيد لله من أوجب الواجبات، كما أنَّ عقوقهما من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله, ولذلك ذكره بعد حكم التّوحيد وقدَّمه على سائر الأحكام المذكورة. وكذلك فعل في عدّة مواضع من كلامه تعالى.
 
ففي قوله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا﴾: تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشقّ الحالات الّتي تمرَّ على الوالدين، فيحسَّان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما، وقيامهم بواجبات حياتهما الّتي يعجزان عن القيام بها. وذلك من آمال الوالدين الّتي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم وتربيتهم في حال الصِّغر، وفي
 
 

 
 
[1] الكافي، ج 2، ص 349.
[2] سورة البقرة، الآية 83.
[3] سورة العنكبوت، الآية 8.
[4] سورة لقمان، الآية 14.
[5] سورة الإسراء، الآيتان 23-24.
495

463

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 وقت لا قدرة لهم على شي‏ء من لوازم الحياة وواجباتها. فالآية تدلّ على وجوب إكرامهما، ورعاية الأدب التّامّ في معاشرتهما ومحاورتهما في جميع الأوقات، وخاصّة في وقت تشتد حاجاتهما إلى ذلك وهو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد.

 
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من يضمن لي برَّ الوالدين وصلة الرَّحم، أضمن له كثرة المال وزيادة العمر والمحبّة في العشيرة"[1].
 
عن الإمام الباقر عليه السلام،ـ أيضاً, أنّه قال في الإحسان إلى الوالدين: "صدقة السِّرِّ تطفى‏ء غضب الرَّب، وبرّ الوالدين وصلة الرَّحم يزيدان في الأجل"[2].
 
عقاب العاقّ
إنّ أدنى ما يواجهه العاقّ لأهله هو العذاب في الدُّنيا قبل الآخرة نعوذ بالله تعالى. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله 
وسلم أنّه قال: "ثلاثة من الذُّنوب تعجَّل عقوبتها ولا تؤخَّر إلى الآخرة، عقوق الوالدين، والبغي على النّاس، وكفر الإحسان"[3].
 
وروي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر شابّاً عند وفاته فقال له: "قل: لا إله إلا الله، فاعتقل لسانه مراراً فقال: لامرأة عند رأسه: هل لهذا أم؟ قالت: نعم، أنا أمه، قال: أفساخطة أنت عليه؟ قالت: نعم ما كلمته منذ ست حجج، قال لها: ارضي عنه، قالت: رضي الله عنه برضاك يا رسول الله. فقال له رسول الله: قل: لا إله إلا الله قال: فقالها. فقال النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترى؟ فقال: أرى رجلاً أسود قبيح المنظر وسخ الثّياب منتن الرِّيح قد وليني الساعة فأخذ بكظمي، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: قل: يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل منِّي اليسير واعف عنِّي الكثير إنك أنت الغفور الرّحيم. فقالها الشّابّ، فقال له النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: انظر ما ترى؟ قال أرى رجلاً أبيض اللّون، حسن الوجه، طيِّب

 
 

 
[1] جامع أحاديث الشّيعة، ج 21، ص 427.
[2] بحار الأنوار، ج 71، ص 83.
[3] م. ن، ص 75.
496

464

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 الرِّيح، حسن الثِّياب، قد وليني وأرى الأسود قد تولى عنِّي، قال أعد، فأعاد، قال ما ترى؟ قال: لست أرى الأسود وأرى الأبيض قد وليني، ثمّ طفى على تلك الحال"[1].

 

يستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ واحداً من آثار عقوق الوالدين سوء الخاتمة وشرّ العاقبة، فيفارق الشّخص الدُّنيا بلا إيمان، وبالنتيجة يكون في العذاب الدائم.

 

فمع أنَّ الملقِّن كان هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستطع أن ينطق بالشَّهادة ما دامت أمّه غير راضية عنه، وبعد رضا أمّه وقراءة تلك الكلمات ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رضي عنه الله تعالى، وغفر له.

 

حقوق الوالدين بعد الموت

أوّلاً: حقّ للوالدين بعد الممات هو أن يؤدّي عنهما الولد ما فاتهما من الواجبات حال الحياة من قبيل الحجّ والصّلاة 

والصّيام، وكذلك إذا كانا مدينين فعليه الأداء عنهما.

 

ثانياً: العمل بوصيَّتهما.

 

ثالثاً: أن لا ينساهما إلى آخر عمره، فيسأل لهما العفو والرَّحمة، ويتصدّق عنهما، ويؤدّي الأعمال المستحبّة نيابة عنهما، وبالجملة يرسل لهما كلَّ ما يستطيع من الهدايا والتُّحف المعنويَّة.

 

عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "إنَّ العبد ليكون بارّاً بوالديه في حياتهما، ثم يموتان، فلا يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقّاً, وإنّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما وغير بارّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه الله بارّاً"[2].

 

كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: في جواب من سأله عن الوالدين بعد الموت هل لهما حقّ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "من برَّ أباه في حال حياته ولم يدع له بعد وفاته، سماه الله تعالى عاقّاً"[3].

 

 

 


 

[1] الذُّنوب الكبيرة، ج‏1، ص 138-139.

[2] الكافي، ج 2، ص 163.

[3] بحار الأنوار، ج 71، ص 77.

497

 

 

465

الدَّرس الثالث والخمسون: صلة الرَّحم والبرُّ بالوالدين

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- قطع الرَّحم من الذُّنوب الكبيرة الّتي أوعد عليها القرآن المجيد بالنار، واعتبر صاحبه خاسراً ومورداً للعن رب العالمين.
 
2- قطع الرَّحم هو عبارة عن كلّ أمر يُفهم منه في نظر العرف قطع الرَّحم، مثل: عدم التّحية، أو التَّهجُّم، أو الإعراض، أو ترك الاحترام والأداب، وهو يختلف بحسب الزمان والمكان ومراتب الأرحام.
 
3- إنّ لصلة الرَّحم إيجابيات مهمّة على صعيد الدُّنيا كما الآخرة، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومتنوِّعة.
 
4- ينبغي الإشارة إلى مبدأ مهمّ جدّاً وهو أن لا يقطع الإنسان من يقطعه, لأنّه يساهم في تفكُّك أواصر المجتمع والنَّاس فيما بينهم.
 
5- لم يرد في الشَّرع معنى خاص للرّحم، بل المراد منه المعنى الذي يفهمه العُرف، والذي هو عبارة عن مطلق الأقارب، بمعنى الأقرباء من طرف الأب أو من طرف الأمّ، مهما كانت الواسطة.
 
6- أيّ عمل يعتبر في العرف صلة فهو صلة للرّحم مهما كان صغيراً، فصلة الرَّحم لا تعني إهدار والوقت والجهد في سبيل وصل الأخرين، بل المعيار أن لا يقال،ـ عرفا,: إنّ فلان قاطع لرحمه.
 
7- إذا كانت صلة الرَّحم واجبة وقطعها حرام، فإنّ ذلك يتأكَّد في صلة الوالدين أو قطعهما، وقد عُدّ عقوق الوالدين من الذُّنوب الكبيرة. وبرهما واجب في الحياة والممات.
 
8- إن أدنى ما يواجهه العاقّ لأهله هو العذاب في الدُّنيا قبل الآخرة نعوذ بالله تعالى.
 
498

466

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 الدَّرس الرابع والخمسون:

الأمانة وكتمان السّرّ


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن: 
1- يستدلّ على أهميّة وفضيلة الأمانة في الحياة.
2- يحدّد أنواع وأنماط الأمانة ومجالاتها.
3- يبيّن خصوصيّة الأمانة الماليَّة وكتمان السِّرِّ في الإسلام. 
 
499

467

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 فضيلة الأمانة

تُعتبر الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، وقد ورد الحثّ عليها في الإسلام بشكل كبير جدّاً. وأولاها علماء الأخلاق والسّالكون إلى الله تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذّات والشّخصيّة، وعلى العكس من ذلك "الخيانة" فتُعتبر من الذُّنوب الكبيرة والرّذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعيّ.
 
فالأمانة رأس مال المجتمع الإنساني والسبّب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الرّوابط بين النّاس، في حين أنّ الخيانة بمثابة النّار المحرقة الّتي تُحرق العلاقات الاجتماعيّة وتؤدّي إلى الفوضى والشَّقاء.
 
الأمانة في القرآن والسّنَّة
ورد لفظ الأمانة والأمر بها بشكل صريح في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى، في محكم كتابه:
﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[1].
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[2].
﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾[3].
 
 
 

 
[1] سورة النساء، الآية 58.
[2] سورة المؤمنون، الآية 8.
[3] سورة البقرة، الآية 283.
500

468

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 أمّا في السّنّة الشّريفة فلم يكن التّأكيد عليها أقلّ شأنا ولا أنقص, حيث ورد من الأحاديث الشّريفة عن النّبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمّة المعصومين عليهم السلام ما يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة، حيث وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الاُصول والمباديء الأساسيّة المشتركة بين جميع الأديان السّماوية، وتارة اُخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرِّزق والثَّروة والثِّقة والاعتماد لدى النَّاس وسلامة الدِّين والدُّنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك، وفيما يلي نختار من هذه الرِّوايات الشَّريفة ما يتضمّن هذه المعاني والمفاهيم العميقة: في حديث آخر عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا إِيمـانَ لِمَنْ لا أَمـانَةَ لَهُ"[1]. وفي حديث مختصر وعظيم المعنى عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلاّ بِصِدقِ الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمـانَةِ إِلىَ البِرِّ وَالفـاجِرِ"[2].

 
الأمانة وأنواعها
عند الحديث عن الأمانة فإنّ أغلب النّاس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأمور الماليّة، إلّا أنّ الأمانة بمفهومها الواسع تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنِّعم الرّبّانيّة على الإنسان.
 
إنّ جميع النّعم المادّيّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات إلهيّة بيد الإنسان.
 
1- الأموال: الأموال والثّروات المادّيّة، والمقامات، والمناصب الاجتماعيّة، والسياسيّة، هي أمانات بيد النّاس، ويجب عليهم مراعاتها وحفظها وأداء المسؤوليّة تجاهها.
 
 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج69، ص198. (تحقيق: البهبوديّ)
[2] الكافي، ج2، ص104.
501

469

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 2- الأبناء: الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلّاب أمانة بيد المعلِّمين، والكائنات الطّبيعيّة أمانة بيد الإنسان لا ينبغي التّفريط فيها.

 

3- التَّكليف الشّرعي: قد أطلقت الآيات القرآنيّة الأمانة على التّكاليف الإلهيّة، يقول تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾[1].

 

فالمقصود من الأمانة الإلهيّة هي المسؤوليّة والتّكليف الملقَى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّا بوجود العقل والحريّة والإرادة.

 

4- الصّلاة: وكذلك الرِّوايات أطلقت الأمانة على الصّلاة، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام عندما سُئل عن سبب تغيّر حاله وقت الصّلاة، قال: "جاء وقت الصّلاة، وقت أمانة عرضها الله على السّموات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها"[2]. 

 

5- عمل الإنسان: عن أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً للأشعث بن قيس: "وإنّ عملك ليس لك بطعمة ولكنّه في عنقك أمانة"[3].

 

6- الأسرار: في الحديث النّبويّ: "المجالس بالأمانات"[4], لأنّ في المجالس أسراراً وخصوصيّات لا ينبغي إفشاؤها.

 

خصوصيّة الأمانة الماليّة

لقد ورد بخصوص الأمانة الماليّة آيات وروايات عديدة تحثّ عليها بشكل كبير، ففي وصف الله تعالى، للمؤمنين يقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾[5].

 

 

 


 

[1] سورة الأحزاب، الآية 72.

[2] نور الثقلين، ج 4، ص 313. 

[3] نهج البلاغة، (تحقيق الصّالح)، ص 366.

[4] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج 2، ص 75.

[5] سورة المؤمنون، الآية 8.

 

502

 

 

470

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[1].

 
ويقول جلّ وعلا: ﴿فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ﴾[2].
 
وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أُقسم لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي قبل وفاته بساعة مراراً ثلاثاً: يا أبا الحسن، أدِّ الأمانة إلى البرّ والفاجر في ما قلّ وجلَّ حتّى في الخيط والمخيطِ"[3]. وعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له"[4].
 
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه قال: "عليكم بأداء الأمانة، فوالّذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحقّ نبيّاً لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ عليه السلام ائتمنني على السَّيف الّذي قتله به لأدّيته إليه"[5].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر"[6].
 
وورد عن الإمام الرّضا عليه السلام قوله: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم، وصومهم وكثرة الحجّ والمعروف وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"[7].
 
وعن لقمان الحكيم قائلاً لابنه: "... كُن أميناً، فإنّ الله تعالى لا يحبّ الخائنين"[8].
 
إلى غير ذلك الكثير من الرِّوايات الشَّريفة الّتي تمدح الأمانة وتذمّ الخيانة.
 
 
 

 
[1] سورة النساء، الآية 58.
[2] سورة البقرة، الآية 283.
[3] بحار الأنوار، ج 74، ص 273.
[4] م. ن، ج 69، ص 198.
[5] م. ن، ج 72، ص 114.
[6] م. ن، ج 68، ص 2.
[7] م. ن، ج 72، ص 114.
[8] غرر الحكم، ص 223, الحديث (الحكمة) 7415.
503

471

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 كتمان السِّرِّ أمانة

كتمانُ السِّرِّ هو عدم البَوْح والإذاعة به, لما لذلك من خطر وضرر على الفرد، أو الجماعة، أو الجهة. ومن النّاحية الشّرعية، فإنّ كلّ ما يؤدِّي إفشاؤه وإذاعته إلى ضرر على الفرد، أو المجتمع، فإفشاؤه من المحرَّمات وكتمانه من الواجبات.
 
بل إفشاءُ الأسرار العسكريّة لدولة الإسلام هو من الكبائر لما فيه من مخاطر قد تؤدِّي إلى قتل النُّفوس وإباحة الممتلكات، ناهيك عن الهزيمة لجيوش المسلمين وسقوط دولتهم. وبهذا اللحاظ وردت الأدلَّة الشّرعيّة الّتي تربّي الفرد والجماعة على الكتمان.
 
قال الإمام عليّ عليه السلام: "سِرُّك أسيرك فإن أفشيته صُرت أسيره"[1]، وقال عليه السلام: "كاتم السرِّ وفيٌّ أمين"[2]. وقال عليه السلام: "ملاك السِّرِّ سَتْره"[3]. 
 
إنَّ كتمان الأسرار العسكريّة هي من الأخلاق العمليّة، التي ينبغي أن تتملَّك شخصيّة المجاهدين، لموقعهم الحسَّاس والخطر، والخطأ الّذي يرتكب هو الأوَّل والأخير، والنَّتيجة ستكون في غاية الخطورة عندئذ ومن ورائها خسارات كبرى لا تُعوَّض، من قتلٍ وأسرٍ واحتلال مواقع. وقد تؤدِّي الأمور إلى هزيمة الجيش بكامله، كما حدث في معركة أحد، وقد تؤدِّي إلى سقوط دولة الإسلام بكاملها.
 
إنَّ المجاهد أمام مسؤوليَّةٍ كبرى وبين يديه أمانةُ إخوانه المقاتلين، وأمانة الأمة التي سلَّمته ظهرها ليحرسها ويحفظ حدودها.
 
إنّ أيَّ إذاعة للسّرّ تُرتكب ولو من دون قصدٍ تُعتبر خيانة كما في الحديث عن الإمام عليّ عليه السلام: "الإذاعة خيانة"[4]. 

 
 

 
[1] م. ن، الحديث (الحكمة) 7419.
[2] م. ن، الحديث (الحكمة) 7424.
[3] م. ن، ج 13، ص 418.
[4] عيون المواعظ والحكم، الواسطيّ، ص 37.
504

472

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 ولا يمكن أن يجتمع جهاد في سبيل الله وخيانة، وهو أشبه باجتماع النَّقيضين، فإنّ المجاهد يبذل دمه في سبيل الوطن والأمّة، والإذاعة للأسرار العسكريّة هو إباحة الوطن والأمة للأعداء، ومن هنا غلَّظ الإمام عليّ عليه السلام الوصف بقوله: "من أقبح الغدر إذاعة السِّرّ"[1]. 

 
فوائد أداء الأمانة
إنّ من أهمّ فوائد أداء الأمانة على المستوى الاجتماعيّ هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة النّاس، والحياة الاجتماعيّة مبنيّة على أساس التَّعاون والثِّقة المتبادلة بين أفراد المجتمع.
 
فلولا وجود الثِّقة والاعتماد لساد قانون الغاب، ولحلّ التَّنافر بدلاً من التّكاتف والتّعاون والتّعامل.
 
ثمّ إنّه إذا سادت الأمانة في المجتمع، فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسّكينة الفكريّة والرّوحيّة, لأنّ مجرّد احتمال الخيانة يُسبّب القلق والخوف للأفراد, بحيث يعيشون حالة من الإرباك في علاقاتهم مع الآخرين من الخطر المحتمل الّذي ينتظر أموالهم.
 
من هنا جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب صيانة الأمّة الإسلاميّة أداء الأمانة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أمّتي بخير ما تحابّوا، وتهادوا، وأدّوا الأمانة، واجتنبوا الحرام، ووقّروا الضَّيف، وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزَّكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك ابتلوا بالقحط والسِّنين"[2].
 
ثمّ إنّه من عُرف بالأمانة والصِّدق كثُر من يتعامل معه في تجاراته ومعاملاته ممّا يؤدّي إلى تضاعف رزقه.
 
من هنا قال لقمان لابنه: "يا بُنيّ، أدِّ الأمانة تسلم لك دنياك وأخرتك، وكُن أميناً تكن غنيّاً"[3].

 
 

 
[1] غرر الحكم، ص 223. 
[2] بحار الأنوار، ج 72، ص 115.
[3] م.ن، ج 13، ص 416، ح19.
505

473

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 على المؤمن الحذر

المؤمن كيّس فطن، ينبغي أن يتعامل مع أهل الأمانة، ولا يكن بسيطاً يأتمن أيّاً كان، ومن هنا جاء التَّحذير من التَّعامل مع بعض النَّاس.
 
فعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من ائتمن غير أمين فليس له على الله ضمان, لأنّه قد نهاه أن يأتمنه"[1].
 
وعن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من ائتمن شارب الخمر على أمانة بعد علمه، فليس له على الله ضمان ولا أجر له ولا خلف"[2].
 
وعن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "لم يخنك الأمين، ولكن ائتمنت الخائن"[3].
 
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "مَن عرف مِن عبد مِن عبيد الله كذباً إذا حدّث، وخلفاً إذا وعد، وخيانة إذا ائتمن، ثمّ ائتمنه على أمانة، كان حقّاً على الله تعالى أن يبتليه فيها ثمّ لا يخلف عليه ولا يأجره"[4].
 
ويكفي في ذمّ الخيانة ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ: "رأس الكفر الخيانة"[5]. 

 
 

 
[1] بحار الأنوار، ج 76، ص 127.
[2] وسائل الشيعة، ج 19، ص 84. 
[3] بحار الأنوار، ج 75، ص 335. 
[4] وسائل الشيعة، ج 19، ص 88.
[5] غرر الحكم، ص 223, الحديث (الحكمة) 10520.
506

474

الدَّرس الرابع والخمسون: الأمانة وكتمان السّرّ

 المفاهيم الرَّئيسة

 
1- الأمانة رأس مال المجتمع الإنسانيّ, لأنّها تشدّ أواصر المجتمع وتقوّي الرّوابط بين النّاس، أما الخيانة فهي تُدمر العلاقات الاجتماعيّة وتؤدّي بالتّالي إلى الفوضى والشّقاء.
 
2- عند الحديث عن الأمانة فإنّ أغلب النّاس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الأمور الماليّة، إلّا أنّ الأمانة بمفهومها الواسع تستوعب جميع المواهب الإلهيّة والنِّعم الرّبّانيّة على الإنسان.
 
3- إنّ جميع النِّعم المادّيّة والمواهب المعنويّة الإلهيّة على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات إلهيّة بيد الإنسان، كالصّلاة، والأبناء، والتّكليف الشَّرعيّ، والأعمال...
 
4- كتمانُ السرِّ من الأمانات الإلهيَّة الكبرى، ومن النّاحية الشّرعيّة فإنّ كلّ ما يؤدِّي إفشاؤه وإذاعته إلى ضرر على الفرد أو المجتمع فإفشاؤه من المحرّمات وكتمانه من الواجبات.
 
5- من أهمّ فوائد أداء الأمانة على المستوى الاجتماعيّ هي مسألة التّعاضد وكسب ثقة النّاس، والحياة الاجتماعيّة مبنيّة على أساس التّعاون والثّقِة المتبادلة بين أفراد المجتمع.
 
6- إذا سادت الأمانة في المجتمع، فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسّكينة الفكريّة والروحيّة, لأنّ مجرّد احتمال الخيانة يُسبّب القلق والخوف من الخطر المحتمل الّذي ينتظرهم.
 
507

475

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

 الدرس الخامس والخمسون:

خدمة المؤمنين



أهداف الدَّرس

على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:

1- يعرف فضل خدمة النّاس والمؤمنين في الإسلام.

2- يستدلّ على أنّ خدمة النّاس أفضل أنواع العبادة.

3- يدرك بعض الثِّمار والآثار الطيّبة لخدمة النّاس.

 

 

509

 

476

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

 تمهيد

عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "تنافسوا في المعروف لإخوانكم وكونوا من أهله, فإنّ للجنة باباً يقال له 
المعروف، لا يدخله إلّا من اصطنع المعروف في الحياة الدُّنيا, فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل 
الله به ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته..."[1].
 
خدمة النَّاس رحمة إلهيَّة
من النّعم الإلهيّة الكبرى أن يوفّق الإنسان للقيام بخدمة أو معروف اتجاه إخوانه, لأنَّه لو اطلع على ما أعدّه الله تعالى له من عطاء أبدي لا ينفذ لأدرك أنّ الأمر بالعكس، بمعنى أن المحتاج والمخدوم هو الّذي يسدي خدمة للخادم والباذل, 
لأنَّه السّبب في حصوله على هذه الهبة الرّبانيّة الفريدة، وعليه ليس من الصّواب أن تتاح فرصة لأحدنا بتقديم مساعدة للآخرين وقضاء حوائجهم فيفوِّت تلك الفرصة.
 
وبالواقع من يطرق بابك محتاجاً إلى معاونتك، فقد ساق رحمة الله تعالى، إليك، وينبغي أن تستبشر خيراً وتقابله بوجه 
ملؤه البسمة والانشراح، فإن قدرت على إجابته وتلبية طلبه كان زيادة في حسناتك وذخيرة ليوم معادك، ومن غير اللّائق استقباله بوجه عبوس ومنطق غليظ وأسلوب مهين، حتَّى مع العجز عن القيام بخدمته وإيصاله إلى مطلوبه، حيث لا يسوِّغ عدم القدرة على تلبية طلبه التّعامل السَّيِّئ معه، مع كونه
 
 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 195.
510

477

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

 سبباً من أسباب الرَّحمة كما في الحديث: "أيّما مؤمن أتى أخاه في حاجة، فإنما ذلك رحمة من الله ساقها إليه وسبّبها له، فإن قضى حاجته كان قد قبل الرَّحمة بقبولها, وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها، فإنّه رد عن نفسه رحمة من الله،ـ عزَّ وجلَّ, ساقها إليه وسبَّبها له، وذخر الله تلك الرَّحمة إلى يوم القيامة، حتّى يكون المردود عن حاجته هو الحاكم فيها، إن شاء صرفها إلى نفسه، وإن شاء صرفها إلى غيره..."[1].

 
وفي الوصيَّة المتقدِّمة حدّثنا أمير المؤمنين عليه السلام عن الثَّواب الجزيل المعدّ لأهل المعروف, جزاء مشيهم وخطواتهم في حاجات إخوانهم مشيراً إلى الميدان الّذي فيه تكون هذه التّجارة الرَّابحة مع الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله عليه السلام: "من اصطنع المعروف في الحياة الدُّنيا". فعلينا اغتنام هذه الفرصة الثّمينة، وتزيين صفحات وجودنا بها، ولنا من الخالق،ـ سبحانه, خير الجزاء.
 
خدمة النَّاس هي خدمة الله‏
فيما جاء عن مولانا الصَّادق عليه السلام قوله: "من قضى لأخيه المسلم حاجة كان كمن خدم الله تعالى، عمره"[2].
 
يكشف لنا هذا الحديث الشّريف عن عمق وحقيقة الخدمة الإنسانية مبيّناً أنّها خدمة إلهيّة طالما المراد بها وجه الله تعالى، 
ونيل رضاه، وإلّا لو كانت للتّباهي وكسب مودَّة أصحاب النُّفوذ والرياء يراد بها وجه الناس، فليس هناك شكّ في عدم 
اعتبارها خدمة للَّه تعالى وإنّما خدمة للنّاس بغية نيل مكانة لديهم أو الحصول على منصب من مناصب الدُّنيا الفانية. 
 
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "ليهي‏ء الأحبّة الأعزّاء أنفسهم

 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 193.
[2] العلّامة الحلّي، الرسالة السعديّة، تحقيق: السَّيّد المرعشيّ بقّال، ط 1، المكتبة العامة لآية الله العظمى مرعشيّ نجفي، 1410هـ، ص 162.
511

478

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

 لخدمة الإسلام والشّعب المحروم وليشدوُّا الأحزمة لخدمة العباد الّتي تعني خدمة الله"[1].

 
خدمة الناس أفضل الأعمال‏
والخدمة طالما كانت خالصة لوجه الله تعالى، فهي من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عزَّ وجلّ‏َ يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا أظن أن هناك عبادة أفضل من خدمة المحرومين".
 
لقد كانت حياة الإمام قدس سره عامرة من بداياتها، إلى أن التحق بالملكوت الأعلى بخدمة المؤمنين والشعب المستضعف والعلماء والأصدقاء. ينقل بعضهم أن الإمام الخميني قدس سره بعد أن تشرّف بزيارة الإمام الرضا عليه السلام في إحدى المرّات كان يترك رفاقه في الحرم المشرّف يتعبدون إلى الصباح ويعود إلى المنزل لكي يهيى‏ء لهم الفطور ويشتري الخبز ويقوم بخدمات المنزل الذي نزلوا به وحينما سأله أحدهم: لماذا لم تبق أنت في الحرم المطهّر وتأمر أحدنا بأن يعود إلى المنزل ويقوم بتهيئة الطعام، يكون جوابه قدس سره: "لم يثبت عندي أن البقاء في حرم الإمام عليه السلام بعد الزيارة أفضل من خدمة المؤمنين"[2].
 
ويحدثنا مولانا الصَّادق عليه السلام عن هذه الحقيقة التي شاهدناها في سلوك الإمام الخميني قدس سره وحياته العملية قائلاً: "لأن أمشي في حاجة أخ لي مسلم أحب إليّ من أن أعتق ألف نسمة وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرجة ملجمة"[3].
 
 
 

 
[1] خدمة الناس في فكر الإمام الخميني، إعداد: مركز الإمام الخميني، ط 1، لا. م، مركز الإمام الخميني الثّقافي، 1429هـ 2008م، ص 12.
[2] مجلّة بقية الله، العدد 140، ص 43.
[3] الكافي، ج 2، ص 197.
512

 


479

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

 وفي حديث آخر: "قال الله عزَّ وجلّ: الخلق عيالي، فأحبهم إليّ ألطفهم بهم، وأسعاهم في حوائجهم"[1].

 
ويحدّثنا مولانا الباقر عليه السلام عن مدى حبّه وتفضيله لخدمة المحرومين حيث يقول: "لأن أعول أهل بيت من المسلمين. أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم، فأكف وجوههم عن النَّاس أحبّ إليّ من أن أحج حجَّة وحجّة ومثلها
ومثلها حتّى بلغ عشراً ومثلها ومثلها حتّى بلغ السَّبعين"[2].
 
الثّمار الطّيّبة لخدمة النّاس‏
في روايات أهل البيت بيان كافٍ ووافٍ للآثار المترتَّبة على خدمة النّاس باختلاف أشكالها وأساليبها، حتّى ورد التَّفضيل في كلّ نوع من هذه الخدمات بما لها من ثمرات، من هذه الآثار:
1- الأمن يوم القيامة: روي عن مولانا الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إنّ لله عباداً في الأرض يسعون في حوائج النّاس هم الآمنون يوم القيامة"[3].
 
2- ألف ألف حسنة: عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله كتب الله له ألف ألف حسنة"[4]. نلاحظ هنا أن هذا الأثر الأخرويّ مترتِّب على السّعي حتّى وإن لم تقض الحاجة فلو بذل الإنسان وسعه وسعى ليقضي حاجة أخيه فلم يوفّق كان له هذا الأثر فكيف لو قضيت؟ وكذلك يشير هذا الحديث الشَّريف إلى مسألة طلب وجه الله تعالى بذلك لا طلب وجه الناس والدُّنيا.
 
 
 

 
[1] الكافي، ج 2، ص 194.
[2] م. ن، ج 2، ص 195.
[3] م. ن، ص 197.
[4] م. ن.
513

 


480

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

3- ثواب عبادة تسعة آلاف سنة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "من سعى في حاجة أخيه المؤمن فكأنّما عبد الله تسعة آلاف سنة، صائماً نهاره قائماً ليله"[1].

 

4- كان الله في حاجته: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "من كان في حاجة أخيه المؤمن المسلم، كان الله في حاجته ما كان في حاجة أخيه"[2].

 

5- استغفار الملائكة له: في الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "إن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزَّ وجلّ،‏ به ملكين: واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته"[3].

 

6- ثواب المجاهدين: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مشى في عون أخيه ومنفعته فله 

ثواب المجاهدين في سبيل الله"[4].

 

7- ثواب السعي بين الصفا والمروة: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة"[5].

 

8- كمن عبد الله دهره: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من قضى لأخيه المؤمن حاجة كان كمن عبد الله دهره"[6].

 

9- الفوز بالجنة: عن الإمام الصَّادق عليه السلام أنّه قال: "ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عليّ ثوابك، ولا أرضى لك بدون الجنة"[7].

 

 

 


 

[1] البحار، ج 71، ص 315.

[2] م. ن، ص 286.

[3] الكافي، ج 2، ص 195.

[4] ثواب الأعمال، ص 288.

[5] بحار الأنوار، ج 75، ص 281.

[6] وسائل الشيعة، ج 16، ص 36.

[7] الكافي، ج 2، ص 194.

514

481

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

 10- تهون عليه سكرات الموت وأهوال القبر: في الحديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقاً على الله أن يكسوه من ثياب الجنة، وأن يهوّن عليه سكرات الموت، وأن يوسّع عليه 

قبره، وأن يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى"[1].
 
11- قبول الأعمال: عن مولانا الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إن خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلا لم يقبل منكم عمل"[2].
 
 

 
 
[1] الكافي، ج 2، ص 204.
[2] بحار الأنوار، ج 72، ص 79.
515

482

الدَّرس الخامس والخمسون: خدمة المؤمنين

المفاهيم الرئيسة

 

1- من النِّعم الإلهيَّة الكبرى أن يوفّق الإنسان للقيام بخدمة أو معروف اتجاه النّاس لما فيه من الأجر والثواب وعلوّ المنزلة عند الله.

 

2- في الواقع من يطرق بابه محتاجاً إلى معاونته فقد ساق رحمة الله تعالى، إليه، وينبغي عليه أن يستبشر خيراً ويقابله بوجه ملؤه البسمة والانشراح, لأنّه بمثابة رسول الله إليه.

 

3- تكشف لنا الأحاديث الشّريفة عن عمق وحقيقة الخدمة الإنسانية، مبيّنة بأنَّها في الواقع خدمة إلهيَّة طالما المراد بها وجه الله تعالى، ونيل رضاه، فالصَّدقة تقع في يد الله مباشرة.

 

4- خدمة النّاس إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى فهي من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، ـ عزَّ وجلّ, ولا يدانيها فضل ومنزلة.

 

5- يقول الإمام الخميني قدس سره: "لا أظنّ أن هناك عبادة أفضل من خدمة المحرومين".

 

6- لخدمة النّاس والسّعي في قضاء حوائجهم ثمار طيِّبة كثيرة منها: الأمن من العذاب يوم القيامة، تستغفر له ملائكة السّماء، قضي الله حوائجه، ويصحِّح أعماله، ويهوِّن عليه سكرات الموت وغيرها...

 

516

483

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 الدرس السادس والخمسون:

النِّظام العام


أهداف الدَّرس
على الطّالب مع نهاية هذا الدَّرس أن:
1- يُستدلّ على أهميّة وضرورة النَّظم في الحياة الشّخصيَّة والعامّة.
2- يبيّن الرؤية الدِّينيَّة والشَّرعيَّة لمسألة النِّظام في الحياة.
3- يشرح العلاقة الّتي تربط الإيمان والتَّقوى بالنِّظام والانضباط.
 
517
 
 

484

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 الإسلام دين النّظام

إن الإسلام ينظِّم الحياة البشريَّة في مختلف ميادينها الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والثَّقافيَّة والاجتماعيَّة، وقد بُنِي ديننا كلُّه على النِّظام، فالنِّظام هو محور حياة المسلم، بل الكون كلُّه يسير في نظام: البشر... الكائنات... اللَّيل والنَّهار... السَّماء... الفلَك. 
 
فخلق الله عزّ وجلّ  هذا الكون على أساس منظّم، فوضع كلَّ شيء في موضعه وجعل له مهمّة عليه أن يؤدّيها في هذه الدُّنيا، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[1]، وقوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ *  وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[2]. 
 
وكذلك نظرة الإسلام للنظام في تعاملات البشر واضحة، فالاستئذان شرط، ومن لا يؤذَن له لا يدخل: "إذا استأذن أحدكم فلم يؤذن له - ثلاثا - فليرجع". وللأكل آدابٌ منظَّمة: "سمِّ الله، وكل بيمنيك، وكل ممَّا يليك"، والالتزام 
بالعهود
 
 
 

 
[1] سورة يس، الآيات 37-40.
[2] سورة الروم، الآيات 22-24.
518

485

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 والعقود شرط: "المؤمنون عند شروطهم"[1]، وفي السفر: "إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ فليؤمِّروا أحدهم"[2] ووصل النظام إلى ضرورة اختيار اسمٍ صالحٍ للأولاد بمجرَّد ولادتهم، ثمَّ حسن تربيتهم: "إنَّكم تُدعَون يوم القيامة بأسمائكم، فأحسنوا أسماءكم"[3].

 
ووضع الإسلام كذلك قواعد في آداب التحيَّة والسلام: فيسلِّم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والمارُّ على الجالس. 
 
و في الصلاة: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسوُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجاتٍ للشيطان"[4]. 
 
وفي الجهاد: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾[5]. 
 
وحتى في بعض الكفَّارات ككفَّارة الظهار: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[6]. 
 
هذا هو الإسلام، نظامٌ في كلِّ شيء، منذ الولادة وحتى الموت، في التعامل الشخصيّ ومع الآخرين ومع الكون كلِّه.
 
 
 

 
[1] الشيخ الطوسي، الخلاف،ج2، ص9.
[2] سنن أبي داوود،ج2، ص34،باب الجهاد.
[3] كنز العمال، ج16، ص418.
[4] سنن أبي داوود،ج1، ص157.
[5] سورة الصف، الآية 4.
[6] سورة المجادلة، الآيتان 3-4.
519

486

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 النظام قرين التقوى والإيمان

أوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، بأبعادها الفردية والاجتماعية بهدف الوصول إلى حياة أفضل وتحقيق امتثال التكليف الإلهي، ويتجلى الالتزام بالنظام والانضباط بالتربية والالتزام بتعاليم الدين الحنيف التي جاءت لتنظيم الحياة الإنسانية وتأمين السعادة للمجتمع البشري كله، وهو ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في وصيته لولديه حيث قرن التقوى - التي تعبّر عن أعلى مراتب الإيمان والالتزام العملي بأحكام الشريعة وقوانينها - بالوصية بنظم الأمر، لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلى بالتقوى والإيمان دون أن يربّي نفسه على النظام، 
والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس، وإلا لابتلي بالنفاق والكذب ما يؤدي إلى ضعف الإيمان والتدين، ولا يبقى عندها أي قيمة للتقوى والإيمان. قال الإمام علي عليه السلام في وصيته لولديه الحسن والحسين "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم"[1]. 
 
الأمر بالعروف والنهي عن المنكر
فاعتبر الدين الإسلامي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من "أسمى الفرائض وأشرفها، وبهما تقام الفرائض، ووجوبهما من ضروريات الدين، ومنكره مع الالتفات بلازمه والالتزام به من الكافرين"[2].
 
فيجب الأمر والنهي على كل من تتوفِر فيه الشرائط من العلماء وغيرهم من الرجال والنساء، قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[3].. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك
 
 
 

 
[1] نهج البلاغة، الكتاب 49.
[2] الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، ج1، ص 462.
[3] سورة آل عمران، الآية 104.
520

487

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في

 السماء"[1].
 
وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله"، وما المعروف إلا كل فعل حسن أوجبَتْه الشريعة المقدّسة أو ندبت إليه، فإن كان واجباً كان الأمر به واجباً، وإن كان مستحباً كان الأمر به مستحباً، وما المنكر إلا كل فعل كرهته الشريعة فحرّمت فعله أو حثّت على التنزّه عنه وتركه، فإن كان المنكر حراماً كان النهي عنه واجباً، وإن كان مكروهاً كان النهي عنه مستحباً وراجحاً[2].
 
ومن الواضح أن الدعوة إلى الفعل الحسن وعمل الخير، والنهي عن القبائح والمفاسد يعزّز النظام والأمن والسلام والطمأنينة بين الناس في المجتمع. ولهذا يمكن للمكلّف مع توّفر الشرائط مهما كان موقعه في المجتمع أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويواجه العصاة والمنحرفين والمتمرّدين الذين يعتدون على حقوق الآخرين، بأساليب ثلاثة على نحو الترتيب، بمعنى أنه لا يجوز التعدي عن مرتبة إلى الأخرى مع إمكانية حصول المطلوب من المرتبة الدانية مع احتمال حصوله. و لما كانت الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملاً إنسانياً يهدف إلى إصلاح الآخرين، فلا عجب أن يختلف الأسلوب باختلاف الأشخاص والوقائع وأنواع الانحرافات.
 
وجوب مراعاة النظام في الفقه الإسلامي
أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقررات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلامية، تجب مراعاتها على كل حال[3] وليس لأي أحد أن يضع في الشوارع 
 
 
 

 
[1] وسائل الشيعة ج16، ص123.
[2] م. ن، ص118.
[3] الإمام الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات،ج2 ص324.
521

488

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 والطرقات العامة ما يضر بالمارة ونحوهم، ولا بد من منع ذلك بأية وسيلة ممكنة ولو بتسجيل عقوبة مادية عليه لحفظ المصالح العامة وكذا الحال في وضع القذارات فيها، ولا ينبغي لأحد مخالفة النظام ولاسيما مع لزوم الإضرار بالجار[1]. 

 
ومن الطبيعي أن المحافظة على أنظمة وقوانين مثل: شبكات الكهرباء والماء والهاتف العامة، وعلى أنظمة السير والبناء والضمان الصحي والبيئة، وغيرها مما له جنبة مصلحة وفائدة اجتماعية عامة، من المصاديق الطبيعية التي تندرج تحت النظام العام الذي أوجب الفقهاء الالتزام به ومراعاته.
 
الإسلام ووجوب مراعاة الآداب العامة
جعل الإسلام كل مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، يمارس دوره الاجتماعي من موقعه، قال رسول الله صلى الله عليه 
وآله وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"[2]، ودعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاهتمام بأمور المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: "من أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم"[3].
 
وقد أولى الآداب العامة - التي ترتبط بالمجتمع وتمسّ حياة الناس وحقوقهم - أهمية قصوى، تبرز في مختلف في مختلف مرافق الحياة منها: 
1- النظافة العامة والشخصية:
 مما أمر به الإسلام رعاية النظافة العامة والشخصية لما في ذلك من مظهر حضاري ومدني له العديد من الأبعاد التربوية 
بين الناس، عن النبيّ: "إن الله طيّب يحبُّ الطيب، نظيف يحبُّ النظافة"[4]. وفي كلام آخر له صلى الله عليه وآله وسلم: "تنظَّفوا بكلِّ ما استطعتم 

 
 

 
[1] السيد الخوئي قدس سره، مجمع المسائل، ج1، ص399، م16.
[2] جامع الأخبار، ص327.
[3] الكافي، ج 2، ص 163.
[4] كنز العمال، ج 15، ص 389.
522

489

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

فان الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ولن يدخل الجنة إلا كلّ نظيف"[1]. وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من أخلاق الأنبياء التنظف"[2].

 

وكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلما أراد الخروج إلى المسجد أو إلى لقاء أصحابه ينظر في المرآة ويرتَّب شعره ويتعطَّر وكان يقول: "إن الله يحبُّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيَّأ لهم ويتجمَّل"[3].

 

2- تنظيم الوقت: 

 إن الاستفادة الصحيحة من الوقت هي من أهمِّ الأمور التي توجب نجاح الإنسان في أموره الاجتماعية ونجاح علاقاته مع الآخرين، ويتمّ ذلك عبر قيام الإنسان بتنظيم برنامج شخصي له

للعمل، وللثقافة وللزيارات، وإن عدم وجود نظام يسير عليه الإنسان يوجب ضياع الفرص وعدم الاستفادة السليمة من طاقة الإنسان واستثمار نتائج عمله. ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات:

- ساعة لمناجاة الله.

- ساعة لأمر المعاش.

- ساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن.

- ساعة تختلون فيها للذاتكم في غير محرم"[4].

 

3- إفشاء التحية والسلام:

وضع الإسلام كذلك قواعد في آداب التحيَّة والسلام: فيسلِّم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي، والمارُّ على الجالس. 

 

 

 


 

[1] كنز العمال، ج15، ص77.

[2] الكافي، ج 5، ص567.

[3] مكارم الأخلاق، ص35.

[4] تحف العقول، ص481.

523

 


490

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 4- الامتناع عن كل ما يزعج الآخرين:

 وذلك من خلال وضع حدود للحرية، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"[1]. 
 
5- تنظيم العبادة: 
في العبادة أيضاً لا بدَّ من مراعاة النظم والإنضباط، وذلك بأداء كل عبادة في أوَّل وقتها، الصلاة جماعة، صيام شهر 
رمضان، وقضاء ما فاته من الصوم في نفس السنة التي فات فيها، أداء الخمس والزكاة في وقتهما، والحذر من الإفراط أو 
التفريط في العبادة. 
 
6- الانضباط في المصروف: 
لا بدّ للمسلم من رعاية الوسطيّة في اللباس والطعام وسائر مستلزمات الحياة وفي الاستفادة من بيت المال والأموال العامة فلا يقع في الإفراط ولا في التفريط بما يوجب الشحّ والبخل. 
 
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾[2].
 
وقد وضع الإمام الصَّادق عليه السلام مجموعة من القواعد في باب الاقتصاد، ومن هذه الكلمات قوله عليه السلام: "لا تكسل في معيشتك فتكون كلا على غيرك"[3]. ووقوله عليه السلام "ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر"[4]. 
 
 
 

 
[1] الكافي، ج2، ص234.
[2] سورة الإسراء، الآية 27.
[3] الكافي، ج5، ص86.
[4] وسائل الشيعة، ج 17، ص 61.
524

491

الدَّرس السادس والخمسون: النِّظام العام

 المفاهيم الرَّئيسة

1- الإسلام ينظّم الحياة البشرية في مختلف ميادينها الاقتصادية، والسياسية، والثقافية والاجتماعية، وقد بُنِي ديننا كلُّه على النظام، فالنظام هو محور حياة المسلم.
 
2- أوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانية، بأبعادها الفردية والاجتماعية بهدف الوصول إلى حياة أفضل وتحقيق امتثال التكليف الإلهي.
 
3- لا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً يتحلّى بالتقوى والإيمان دون أن يربّي نفسه على النظام، والالتزام بالحقوق والواجبات تجاه الله والناس، وإلا لابتلي بالنفاق والكذب. 
 
4- الدعوة إلى الفعل الحسن وعمل الخير، والنهي عن القبائح والمفاسد يعزّز النظام والأمن والسلام والطمأنينة بين الناس في المجتمع.
 
5- أولى الإسلام الآداب العامة أهمية قصوى، تبرز في مختلف في مختلف مرافق الحياة منها: النظافة، تنظيم الوقت، نظيم العبادة، الامتناع عن كل ما يزعج الآخرين، عدم الإسراف.
 
6- أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقررات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلامية، تجب مراعاتها على كل حال.
 
 
525

492
منار الهدى