دروس قرآنية


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2014-09

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

 المقدمة

 
﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ  ﴾ 1
 
جميلة هي آي القرآن الكريم، مرآة لضياء الله، ونور هدى لا ينطفئ، وشفاء لما في الصدور، وزينة للمؤمن، ودستور حياة طيّبة، ومنجاة من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
 
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن> فإنّه شافع مشفّع وماحل مصدّق, ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار, وهو الدليل يدلّ على خير سبيل"2
 
فما أحوجنا في هذا الزمان - حيث القابض على دينه كالقابض على الجمر- إلى القرآن الكريم، وما فيه من هدى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾3.
________________________________________
1- سورة الحشر، الآية: 21.
2- الكافي، الكليني، ج2، ص 599.
3- سورة الإسراء، الآية: 9.
11

1

المقدّمة

 من هنا دأب مركز نون للتأليف والترجمة في جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة على العمل على وضع مجموعة من الكتب القيّمة الّتي تتعرّض لما في القرآن الكريم من دروس وعبر ومفاهيم، ضمن مستويات متعدّدة، بين يديّ القارئ الكريم، والطالب للمنهج القويم.

ويضمّ هذا الكتاب بين دفّتيه جملة من المواضيع الّتي راعينا فيها الإشارة إلى أهمّ المطالب والمباحث القرآنيّة، ضمن منهجيّة واضحة تنطلق بالطالب من مرحلة الإدراك لأهميّة القرآن إلى حبّ التلاوة، فالتلاوة الصحيحة، ومعرفة مخارج الحروف واصطلاحات الضبط وأسرار الرسم القرآنيّ، فآداب التلاوة الظاهريّة والباطنيّة، ثمّ مناهج التفسير، وفهم معاني بعض الآيات والسور القِصار.
 
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن يوم القيامة معنا وأن يكون شافعاً لنا، وأن يتقبّل منّا هذا العمل المتواضع، إنّه سميع مجيب.
 
﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴾ 4
 
مركز نون للتأليف والترجمة 
 
________________________________________
4-سورة النمل، الآية: 92.
12 
 

2

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 

الدرس الأول
القرآن منهاج حياة
 




أهداف الدرس
 
1-أن يتبيّن الطالب أنّ القرآن منهاج للحياة.
2- أن يتعرّف إلى المعجزة الخالدة.
3- أن يتعرّف إلى خصائص القرآن الكريم
 
13
 

3

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 منهاج الحياة

 
يشتمل الدين الإسلاميّ على أتمّ المناهج للحياة الإنسانيّة، ويحتوي على ما يسوق البشر إلى السعادة في الدارين. هذا الدين عُرفت أسسه وتشريعاته من طريق القرآن الكريم والسنّة الشريفة، فالقرآن الكريم ينبوعه الأوّل ومعينه الّذي يترشّح منه.
 
والقوانين الإسلاميّة الّتي تتضمّن سلسلة من المعارف الاعتقاديّة والأصول الأخلاقيّة والعمليّة، نجد منابعها الأصيلة في آي القرآن العظيم.
 
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾.5
 
وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾.6
 
فلو دقّقنا النظر في النقاط التالية نُدرك كيف اشتمل القرآن الكريم على المناهج الحياتيّة الّتي لا بدّ من توفّرها للإنسان: 
________________________________________
5- سورة الإسراء، الآية: 9.
6- سورة النحل، الآية: 89.
 
15

4

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 1ـ  السعادة غاية الإنسان: 

 

يهدف كلّ إنسان في هذه الحياة الدنيا للحصول على السعادة. ولكن يختلف البشر في تحديدها وتشخيص الموارد الّتي يمكن أن تحقّقها فبعضٌ يظنّ السعادة في المال، وآخر في الجاه والمنصب وغيرهم في الشهرة وهكذا... والسعادة الحقّة يوم القيامة في الجنّة، وقد قال تعالى: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.7

 

2ـ  ضرورة القوانين والأنظمة: 

 

لا بدّ للإنسان من هدف خاصّ في أفعاله الفرديّة والاجتماعيّة. وللوصول إلى ذلك الهدف ينبغي استناد أعماله إلى قوانين وآداب خاصّة موضوعة من قِبل دين أو غيره.

 

والقرآن الكريم نفسه يؤيّد هذه النظريّة حيث يقول: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾8. 


3ـ  ضرورة موافقة القوانين للفطرة الإنسانيّة: 

 

ينبغي أن تكون القوانين والأنظمة والآداب موافقة للفطرة السليمة، وليست نابعة من العواطف والاندفاعات الفرديّة أو الاجتماعيّة.

 

هذا شأن الكون كلّه، سعادته وكماله، باتّباع ما فطره وخلقه الله عليه.

 

يقول تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾9.

 

ويقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾10.  ويقول: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا  *قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا  * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾11.

________________________________________

7- سورة الأعلى، الآية 17

8-سورة البقرة، الآية: 148.

9-  سورة طه، الآية: 50.

10- سورة الأعلى، الآيتان: 2 ـ 3.

11- سورة الشمس، الآيات: 7 ـ 10.

 

16

 

 

 


5

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 ويقول: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾12.

 
ويقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ﴾13.
 
ويقول: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾14. 
 
وبعد وضوح هذه المقدّمات، نشير إلى أنّ القرآن الكريم وضع مناهج الحياة للإنسان: 
 
فقد جعل أساس المنهج معرفة الله، وجعل الاعتقاد بوحدانيّته أوّل الأصول الدينيّة. ومن طريق معرفة الله دلّه على المعاد، والاعتقاد بيوم القيامة؛ الّذي يُجازى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وجعله أصلاً ثانياً. ثمّ من طريق الاعتقاد بالمعاد دلّه على معرفة النبيّ لأنّ الجزاء على الأعمال لا يمكن إلّا بعد معرفة الطاعة والمعصية والحسن والسيّئ. ولا تتأتّى هذه المعرفة إلّا من طريق الوحي والنبوّة، وجعل هذا أصلاً ثالثاً.
 
واعتبر القرآن الكريم هذه الأصول - الاعتقاد بالتوحيد والنبوّة الّتي يتفرّع منها الإمامة والمعاد والّذي يتفرّع منه العدل- أصول الدين الإسلاميّ.
 
وبعد هذا بيّن أصول الأخلاق المُرضية والصفات الحسنة الّتي تُناسب الأصول الثلاثة، والّتي لا بدّ أن يتحلّى بها كلّ إنسان مؤمن، ثمّ شرّع له القوانين والأنظمة العمليّة الّتي تضمن سعادته الحقيقيّة، وتنمّي فيه الأخلاق الطيّبة.
ونتيجة القول: إنّ القرآن الكريم يحتوي على منابع أصول الإسلام الثلاثة كما يلي: 
________________________________________
12- سورة الروم، الآية: 30.
13- سورة آل عمران، الآية: 19.
14- سورة آل عمران، الآية: 85.
17

6

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 1- أصول العقائد، وهي تنقسم إلى أصول الدين التوحيد والنبوّة المعاد.

 
2 - الأخلاق.
 
3 - الأحكام الشرعيّة والقوانين العمليّة الّتي بيّن القرآن أسسها، وأوكل بيان تفاصيلها إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل النبيّ بيان أهل بيته  عليهم السلام بمنزلة بيانه كما يُعرف ذلك من حديث الثقلين المتواتر نقله عند السُنّة والشيعة.
 
القرآن معجزة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الخالدة: 
 
يصرّح القرآن الكريم في عدّة مواضع بأنّه كلام الله المجيد؛ يعني أنّه صادرعن الله تعالى بهذه الألفاظ الّتي نقرأها، وقد تلقّاها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الألفاظ بواسطة الوحي.
 
ولإثبات أنّه من كلام الله تعالى وليس ممّا أبدعه البشر؛ تحدّى الله سبحانه في آي من القرآن الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله بل بعشر سور مثله بل بسورة واحدة من مثله، ولو كان الإنس والجنّ متظاهرين معاً عليه، وهذا دليل على إعجاز القرآن، قال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ*  فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ﴾15.
 
وقال: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾16.
 
وقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾17.
 
وقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾18.
 
وقال: ﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾19.
________________________________________
15- سورة طور، الآيتان: 33 ـ 34.
16- سورة الإسراء، الآية: 88.  
17-سورة هود، الآية: 13.
18- سورة يونس، الآية: 38.
19- سورة البقرة، الآية: 23.
18 
 

7

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 والملاحظ أنّ التحدّي الإلهيّ للمشركين- وقد كانوا من أفصح العرب وأبلغهم-تدرّج من مجموع القرآن إلى بعض منه، دون أن يُحدّد بزمان، بل كان وقت التحدّي مطلقاً، فلو كان هؤلاء قادرين على المواجهة لفعلوا ولكنّهم كانوا أعجز من ذلك، فثبت أنّ هذا الكلام إلهيّ موحى من الله سبحانه وتعالى أنزله على نبيّه نوراً وهدى للناس وتصديقاً بنبوّة الرسول الخاتم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾20. 

 
والمتتبّع يرى أنّ ما كان يمنع هؤلاء من الإقرار بنبوّته صلى الله عليه وآله وسلم وبأحقّيّة ما جاء به ليس إلّا الهوى والحميّة الجاهليّة لا غير.
 
قال الله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾21.
 
وقال سبحانه: ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ﴾22.
 
وقد أشار الجاحظ إلى ذلك حيث قال: "بعث الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم أكثر ما كانت العرب شاعراً وخطيباً، وأحكم ما كانت لغة، وأشدّ ما كانت عدّة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجّة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الّذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحميّة دون الجهل والحيرة، حملهم على حظّهم بالسيف، فنصب لهم الحرب، ونصبوا له..."23. 
 
هذا وللحديث عن إعجاز القرآن وجهات إعجازه كتب وبحوث كثيرة، ولا يتسنّى لنا في هذا المختصر التفصيل فيه.
________________________________________
20-سورة يونس، الآية: 37.  
21-سورة النمل، الآية: 14.
22-سورة المدثر، الآية: 16.
23- نقله عنه السيوطي في الإتقان:  ج 2، ص 117.
19 
 

8

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 من خصائص القرآن الكريم


1ـ سلامته من التحريف: 
 
من الخصائص المهمّة للقرآن الكريم أنّه محفوظ عن التحريف، وهذا بخلاف الإنجيل والتوراة الّلذَين حُرِّفا حذفاً وإضافة، يقول سبحانه: ﴿مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ِ...﴾24.
 
وهناك كتب وبحوث كثيرة أثبتت تحريفهما ما أزال صفة الوحي والقدسيّة عنهما.
 
أمّا القرآن الحكيم فقد بقي مصوناً محفوظاً بحفظ الله ورسوله، وإليكم بعض ما يدلّ على بقائه كما أنزله الله تعالى: 
 
1ـ القرآن نفسه: وذلك لتواتره بين المسلمين، وعدم الاختلاف فيه، وقد نزل على قلب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في 23 سنة دون تراجع أو تقدّم في البلاغة والفصاحة وحسن البيان، يقول تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾25.
 
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ*َ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾26 ، وبهذه الآية المتواترة القطعيّة ثبت أن لا زيادة فيه، فهل فيه نقيصة؟
 
يقول تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾27. 
 
فالذكر هنا هو القرآن، والمراد من حفظه إبقاؤه على ما كان عليه وكما نزل 
________________________________________
24- سورة النساء، الآية: 46.
25- سورة النساء، الآية: 82.  
26-سورة فصّلت، الآيتان: 41 ـ 42.
27-سورة الحجر، الآية: 9.
 
20

 


9

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. فلو فرض إسقاط آية منه فلا يكون حينئذ محفوظاً من قبل الله، جلّ الله عن ذلك وعلا علوّاً كبيراً.

 
2- الروايات الصحيحة عن بيت العصمة والطهارة، حيث تدلّ على أنّ ما بين الدفّتين تمام ما أنزل، من دون نقيصة أو تحريف، وهي على أنواع، منها: 
 
أ ـ الأخبار الواردة في بيان الثواب لسور القرآن الكاشفة عن عدم تحريف السور لأنّه لا معنى للثواب على قراءة السور المحرّفة.
 
ب ـ الأخبار الدالّة على لزوم عرض الأخبار مطلقاً، أو عند تعارضها، على كتاب الله، حيث إنّه لا معنى لعرض الأخبار على القرآن المحرّف، ما يكشف عن صحّته وعدم وقوع التحريف فيه.
 
ج ـ الأخبار الدالّة على وجوب التمسّك بالقرآن، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي"28. وأسانيدها لا تقبل المناقشة عند أحد من المسلمين. فلو كان الكتاب محرّفاً لما كان للتمسك به معنى.
 
3- إنّه لو سقط من القرآن شيءلم تبقَ ثقة في الرجوع إليه.
 
4 - إنّ شدّة الاهتمام والضبط في عصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعده في حفظ الكتاب أخرج سقوط شيء منه عن مجرى العادة.
 
2ـ القرآن كتاب عالميّ: 
 
لا يختصّ القرآن بالعرب أو بالمسلمين،إنّما هو كتاب لكلِّ الناس بجميع ألوانهم وأعراقهم، يقول تعالى:﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾29.
 
ويقول سبحانه: ﴿إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ  * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ﴾30.
________________________________________
28-سنن الترمذي:  ج 5 ص 662 ح 2786 و 2788، صحيح مسلم:  ج 4 ص 1874 ح 36 و 37، ينابيع المودة:  ج 1 ص 95 ح 126، الكافي:  ج 2 ص 415 باب أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أو كافرا أو ضالا من كتاب الإيمان والكفر ح 1، وغيرها من مصادر الفريقين.
29- سورة ص، الآية: 87.
30- سورة المدّثر، الآيتان: 35 ـ 36.
21 
 

10

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

3ـ القرآن كتاب شامل:

 

ففيه كلّ ما يحتاج إليه الإنسان في سيره التكامليّ نحو السعادة من أسس العقائد إلى تنظيم المجتمع )وأخلاق المعاملة وأدب العبادة وتنظيم حياة الناس. يقول تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ  31.

 

4- القرآن كتاب لكلّ زمان ومكان: 

 

يقول تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ *  إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ﴾32. 

 

القرآن هدفه تعريف الإنسان بنفسه وبربّه ودنياه وآخرته والسبل الآيلة لخلوصه من هذه الدنيا سعيداً وحياته فيها معافى، وهذا غير متعلّق بزمان أو مكان، ففي القرآن الحقائق الثابتة، الّتي لا يتطرّق إليها البطلان ولا تنسخ بمضيّ القرون والأعوام، يقول تعالى: ﴿ َبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾33.

 

________________________________________

31-سورة النحل: الآية 89.  

32-سورة الطارق، الآيتان: 14 ـ 15.

33-سورة الإسراء، الآية: 105.

 

22 

 

 

11

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 خلاصة الدرس

 
رسم القرآن مناهج الإنسان الحياتيّة باعتماد المقدّمات التالية: 
 
1ـ السعادة غاية الإنسان.
2ـ ضرورة القوانين والأنظمة.
3ـ ضرورة موافقة القوانين للفطرة الإنسانيّة.
 
وجعل أساس المنهج معرفة الله، وجعل الاعتقاد بوحدانيّته أوّل الأصول الدينيّة، ومنه تفرّعت باقي الأصول. 
 
ويحوي القرآن الكريم منابع أصول الإسلام الثلاثة كما يلي: 
 
1- أصول العقائد، وهي تنقسم إلى أصول الدين التوحيد والنبوّة المعاد وما يتفرّع عليها من الإمامة والعدل.
2- مكارم الأخلاق.
3- الأحكام الشرعيّة والقوانين العمليّة.
 
والقرآن معجزة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الخالدة الّتي تحدّى الله تعالى بها المشركين المكذبين تحدّياً دائماً ليوم القيامة فقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾34.

من خصائص القرآن الكريم
 
1ـ سلامته من التحريف.
2ـ القرآن كتاب عالميّ.
3ـ القرآن كتاب شامل.
4ـ القرآن كتاب لكلّ زمان ومكان.
________________________________________
34-سورة يونس، الآية: 38.
 
23

12

الدرس الأوّل: القرآن منهاج حياة

 للمطالعة

 

القرآن والإتقان في المعاني

 

تعرّض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد، متباعدة الأغراض من الإلهيّات والمعارف، وبدء الخلق والمعاد، وما وراء الطبيعة من الروح والملك وإبليس والجنّ، والفلكيّات، والأرض، والتاريخ، وشؤون فريق من الأنبياء الماضين، وما جرى بينهم وبين أممهم، وللأمثال والاحتجاجات والأخلاقيّات، والحقوق العائلية، والسياسات المدنيّة، والنُّظُم الاجتماعيّة والحربيّة، والقضاء والقدر، والكسب والاختيار، والعبادات والمعاملات، والنكاح والطلاق، والفرائض، والحدود والقصاص وغير ذلك. وقد أتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة، الّتي لا يتطرّق إليها الفساد والنقد في أيّة جهة من جهاتها، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة من البشر - ولا سيّما ممّن نشأ بين أمّة جاهلة لا نصيب لها من المعارف، ولا غيرها من العلوم - ولذلك نجد كلّ من ألّف في علم من العلوم النظريّة، لا تمضي على مؤلّفه مدّة حتّى يتّضح بطلان كثير من آرائه. فإنّ العلوم النظريّة كلّما ازداد البحث فيها وكثر، ازدادت الحقائق فيها وضوحاً، وظهر للمتأخّر خلاف ما أثبته المتقدّم. والحقيقة - كما يقولون - بنت البحث، وكم ترك الأوّل للآخر، ولهذا نرى كتب الفلاسفة الأقدمين، ومن تأخّر عنهم من أهل التحقيق والنظر، قد صارت عرضة لسهام النقد ممّن تأخّر، حتّى أنّ بعض ما اعتقده السابقون برهاناً يقينيّاً، أصبح بعد نقده وهماً من الأوهام، وخيالاً من الأخيلة.

 

والقرآن مع تطاول الزمان عليه، وكثرة أغراضه، وسموّ معانيه، لم يوجد فيه ما يكون معرّضاً للنقد والاعتراض، اللهمّ إلّا أوهام من بعض المكابرين، حسبوها من النقد35.

________________________________________

35- البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ص 67 - 68.

 

24

 

13

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 الدرس الثاني

أسماء القرآن وعلومه ومعارفه
 




 أهداف الدرس
 
1- أن يتعرف الطالب إلى أسماء القرآن.
2- أن يتبين علوم القرآن.
3- أن يستذكر معارف القرآن؟
 
25

14

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 أسماء القرآن 

 
القرآن الكريم الّذي هو كتاب المسلمين الأوّل، والّذي حاز الاهتمام البالغ من قِبَلهم، والّذي هو المعجزة الخالدة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والّذي هو وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمبالمحافظة عليه مع العترة الطاهرة، له أوصاف وأسماء عدّة، نذكر منها:
 
1- القرآن: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾1 . وتشير تسميته بـ(القرآن) إلى حفظه في الصدور نتيجة لكثرة قراءته، وترداده على الألسن، لأنّ القرآن مصدر القراءة، وفي القراءة استذكار واستظهار للنصّ.
 
2- الكتاب: قال تعالى ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾2 .
 
وفي تسمية الكلام الإلهيّ بـ(الكتاب) اشارة إلى الترابط بين مضامينه ووحدتها في الهدف والاتّجاه، بالنحو الّذي يجعل منها كتاباً واحداً.
 
3- الفرقان: قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾3 .
________________________________________
1- سورة يونس، الآية: 37.
2- سورة البقرة، الآية: 2.
3-سورة الفرقان، الآية: 1.
27

15

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 فالقرآن يفرق بين الحقّ والباطل، باعتباره مقياساً إلهيّاً مائزاً بين موضوعات الحياة.

 

4- الذِّكر: ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾4 ، ومعناه الشرف، ومنه قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾5 .

 

وهناك ألفاظ عديدة أُطلقت على القرآن الكريم على سبيل الوصف لا التسمية كالمجيد، والعزيز، والعليّ، في قوله تعالى ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴾6 ، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾ 7، ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾8 .

 

والنور، والموعظة، والتنزيل، والحقّ، والبيان، والمنير، والقصص، والسراج، والبشير، والنذير وغيرها الواردة في آي القرآن نفسها أو في الأحاديث.

 

تعظيم القرآن مكانة العلم والحثّ على طلبه

 

قال الله تعالى: ﴿قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ  ﴾9 .

 

هذه الآيات هي على المشهور؛ أوَّل ما نزل من القرآن الكريم على رسول الله محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم. والملفت للانتباه أنّها تأمره أوَّل ما تأمره بالقراءة. فماذا يعني أن تضمَّ الآيات الخمس الأولى ستَّ عبارات تتعلّق بالقراءة والكتابة، والعلم والتعليم؟ إنّ هذه الآيات تشكِّل افتتاحيَّة وحي السماء، وهذا يعني اهتمام القرآن الكريم بالعلم والمعرفة.

 

لقد عظّم القرآن الكريم مكانة العلم تعظيماً لم يسبق له مثيل في الكتب 

________________________________________

4- سورة الأنبياء، الآية: 50.

5- سورة الأنبياء، الآية: 10.

6- سورةالبروج، الآية:21.

7- سورة فصّلت، الآية:41.

8-سورةالزخرف، الآية:4.  

9-سورة العلق، الآيات: 1-5.

 

 

28

 

16

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 السماويّة الأخرى، ويكفي أنّه نعت العصر العربيّ قبل الاسلام بـ"الجاهليّة"، وفيه مئات من الآيات يذكر فيها العلم والمعرفة وفي أكثرها ذُكرت جلالة العلم ورفيع منزلته، وقد ذُكر جذر "علم" 484 مرّة...

 
قال تعالى ممتنّاً على الانسان: ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾.
 
وقال: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ 10.
 
وقال: ﴿ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾11 .
 
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي تشير إلى فضل العلم. 
 
وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام شواهد لا تُحصر في الحثّ على طلب العلم وأهمّيّته وعظيم شأنه. ولا شكّ أن للعلوم مقامات متفاوتة، ولا شكّ أيضاً أنّ من أشرفها مقاماً علوم القرآن.
 
علوم القرآن
 
لشدّة اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم واعتمادهم عليه، كمصدر أساس للعلم والمعرفة، وكمرجع أوّل للفصل والقول الحقّ، نشأت علوم مختلفة محورها وموضوعها القرآن الكريم، لكن على علم يبحث عن جهة معيّنة، كان الجامع بينها تصنيف واحد هو علوم القرآن الكريم.
 
وهي جميع المعلومات والبحوث الّتي تتعلّق بالقرآن الكريم. وتختلف هذه العلوم في الناحية والجهة الّتي تتناولها من الكتاب الكريم.
 
فالقرآن له اعتبارات متعدّدة. وهو بكلّ واحدة من تلك الاعتبارات موضوع لبحث خاصّ.
________________________________________
10-سورة المجادلة، الآية: 11.
11- سورةالزمر، الآية: 9.  
29 
 

17

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 1- علم التفسير:

 
وأهمّ تلك الاعتبارات: القرآن بوصفه كلاماً دالّاً على معنى، والقرآن بهذا الوصف موضوع لعلم التفسير.
 
فعلم التفسير يشتمل على دراسة القرآن باعتباره كلاماً ذا معنى، فيشرح معانيه، ويفصّل القول في مدلولاته، ومقاصده.
 
ولأجل ذلك كان علم التفسير من أهمّ علوم القرآن وأساسها جميعاً.

2- آيات الأحكام:
 
ويُعتبر القرآن مصدراً من مصادر التشريع، وبهذا الاعتبار يكون موضوعاً لعلم آيات الأحكام. وهو علم يختصّ بآيات الأحكام من القرآن، ويدرس نوع الأحكام الّتي يمكن استخراجها بعد المقارنة بجميع الأدلّة الشرعيّة الأخرى من سنّة، وإجماع، وعقل.

3- علم الإعجاز:
 
وقد يؤخذ القرآن بوصفه دليلاً على نبوّة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون موضوعاً لعلم إعجاز القرآن، وهو علم يعتبر: أنّ الكتاب الكريم وحي إلهيّ ويستدلّ على ذلك بالصفات والخصائص الّتي تميّزه عن الكلام البشريّ.
 
4- إعراب القرآن:
 
وقد يؤخذ القرآن باعتباره نصّاً عربيّاً جارياً وفق اللغة العربيّة فيكون موضوعاً لعلم إعراب القرآن، وعلم البلاغة القرآنيّة. وهما علمان يشرحان مجيء النصّ القرآنيّ وفق قواعد اللغة العربيّة في النحو والبلاغة.
 
5- أسباب النزول:
 
وقد يؤخذ القرآن بوصفه مرتبطاً بوقائع معيّنة في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيكون موضوعاً لعلم أسباب النزول.
30 
 

18

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 6- رسم القرآن:

 

وقد يؤخذ القرآن باعتبار لفظه المكتوب، فيكون موضوعاً لعلم رسم القرآن، وهو علم يبحث في رسم القرآن، وطريقة كتابته.

 

7- القراءات والتجويد:

 

وقد يُعتبر بما هو كلام مقروء، فيكون موضوعاً لعلم القراءة أو تجويد القرآن، وهو علم يبحث في ضبط حروف الكلمات القرآنيّة وحركاتها، وطريقة قراءتها.

 

إلى غير ذلك من البحوث الّتي تتعلّق بالقرآن، فإنّها جميعاً تلتقي وتشترك في اتّخاذها القرآن موضوعاً لدراستها، وتختلف في الناحية الملحوظة فيها من القرآن الكريم.

 

تاريخ علوم القرآن

 

كان الناس على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يستمعون إلى القرآن، ويفهمونه بذوقهم العربيّ الخالص، ويرجعون إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في توضيح ما يشكل عليهم فهمه، أو ما يحتاجون فيه إلى شيء من التفصيل والتوسّع.

 

فكانت علوم القرآن تؤخذ وتُروى عادة بالتلقين والمشافهة، حتّى مضت سنون على وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتوسّعت الفتوحات الإسلاميّة، وبدرت بوادر تدعو إلى الخوف على علوم القرآن، والشعور بعدم كفاية التلقّي عن طريق التلقين والمشافهة، نظراً إلى بعد العهد بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نسبيّاً واختلاط العرب بشعوب أخرى، لها لغاتها وطريقتها في التكلّم والتفكير، فبدأت لأجل ذلك حركة في صفوف المسلمين الواعين لضبط علوم القرآن ووضع الضمانات اللّازمة لوقايته وصيانته من التحريف.

 

وقد سبق الإمام عليّ عليه السلام غيره في الإحساس بضرورة اتّخاذ هذه 

 

31

 

19

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 الضمانات، فانصرف عقيب وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة إلى جمع القرآن.

 
ففي الفهرست لابن النديم، أنّ عليّاً عليه السلام حين رأى من الناس عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما رأى؛ أقسم أنّه لا يضع على عاتقه رداءه حتّى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيّام، حتّى جمع القرآن. وسيأتي الكلام عن ذلك في البحث عن جمع القرآن. وما نقصده الآن من ذلك، أنّ الخوف على سلامة القرآن والتفكير في وضع الضمانات اللّازمة، بدأ في ذهن الواعين من المسلمين، عقيب وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأدّى إلى القيام بمختلف النشاطات. وكان من نتيجة ذلك (علوم القرآن)، وما استلزمته من بحوث وأعمال.
 
وهكذا كانت بدايات علوم القرآن، وأُسُسها الأولى على يد الصحابة والطليعة من المسلمين في الصدر الأوّل، الّذين أدركوا النتائج المترتّبة على البعد الزمنيّ عن عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاختلاط بمختلف الشعوب.
 
فأساس علم إعراب القرآن وُضع تحت إشراف الإمام عليّ عليه السلام، اذ أمر بذلك أبا الأسود الدؤليّ وتلميذه يحيى بن يعمر العدوانيّ، رائدَي هذا العلم والواضعَين لأُسُسه؛ فإنّ أبا الاسود هو أوّل من وضع نقط المصحف. وتُروى قصّة في هذا الموضوع، تشير إلى شدّة غيرته على لغة القرآن، فقد سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: ﴿إَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾12 فقرأها بجرّ اللام من كلمة (رسوله) فأفزع هذا اللحن أبا الأسود الدؤليّ وقال: عزَّ وجه الله أن يتبرّّأ من رسوله، فعزم على وضع علامات معيّنة تصون الناس في قراءتهم من الخطأ، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله، وجعل علامة الضمّة نقطة بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين13 .
________________________________________
12-سورة التوبة، الآية: 3. 
13-علوم القرآن، السيّد محمّد باقر الحكيم، ص22.  
32

20

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 معارف القرآن

 

يدعو القرآن الكريم في كثير من آياته إلى التفكّر في الآيات السماويّة والنجوم المضيئة، والاختلافات العجيبة في أوضاعها والنظام المتقن الّذي تسير عليه.

 

ويدعو إلى التفكّر في خلق الأرض والبحار والجبال والأودية وما في بطون الأرض من العجائب، واختلاف الليل والنهار وتبدّل الفصول السنويّة.

 

ويدعو إلى التفكّر في عجائب النبات والنظام الّذي يسير عليه وفي خلق الحيوانات وآثارها، وما يظهر منها في الحياة.

 

ويدعو إلى التفكّر في خلق الإنسان نفسه والأسرار المودعة فيه، بل يدعو إلى التفكّر في النفس وأسرارها الباطنيّة وارتباطها بالملكوت الأعلى. كما يدعو إلى السير في أقطار الأرض والتفكّر في آثار الماضين والفحص في أحوال الشعوب والجوامع البشريّة وما كان لهم من القصص والتواريخ والعبَر.

 

بهذا الشكل الخاصّ يدعو القرآن إلى تعلّم العلوم الطبيعيّة والرياضيّة والفلسفيّة والأدبيّة وسائر العلوم الّتي يمكن أن يصل إليها الفكر الإنسانيّ. يحثّ على تعلّمها لنفع الإنسانيّة وإسعاد القوافل البشريّة.

 

وهذه بعض الشواهد الَّتي حفَّزت المسلمين الأوائل على سلوك المنهج العلميّ، وتتبُّع طرائقه: 

 

يقول سبحانه وتعالى في سورة فاطر: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء﴾، إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ 14...

 

وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة الذاريات: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴾15 نجدها دعوة لتقصِّي علوم طبقات الأرض (الجيولوجيا).. ثمَّ يتبع تعالى ذلك 

________________________________________

14-سورة فاطر، الآيتان: 27 ـ 28.  

15-سورة الذاريات، الآية: 20.

 

 

33

 

21

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 قوله: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾16 لتكون دعوة للاستزادة والتوسّع في علوم الطبِّ والتشريح, بل وفي علم النفس أيضاً. 

 
وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾17 ، وكذلك في قوله تعالى في سورة يونس: ﴿وَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾18 ، نجد في كلُّ ذلك نداء لعلماء الفلك, للمضيِّ قُدُماً في متابعة هذا العلم... 
 
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي تفتح للعلماء آفاقاً علمية ومعرفية واسعة في كافّة مجالات العلم...
نعم يدعو القرآن إلى هذه العلوم شريطة أن تكون سبيلاً لمعرفة الحقّ والحقيقة ومرآة لمعرفة الكون الّتي في مقدّمتها معرفة الله تعالى.
 
وأمّا العلم الّذي يشغل الإنسان عن الحقّ والحقيقة فهو في قاموس القرآن مرادف للجهل، قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ُ﴾19 .
 
وقال سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾20 .
 
فالقرآن الكريم بترغيبه في تعلّم مختلف العلوم، يعلّم دورة كاملة من المعارف الإلهيّة وكلّيّات الأخلاق والفقه الإسلاميّ.
________________________________________
16-سورة الذاريات، الآية: 21.  
17-سورة آل عمران، الآية: 190.  
18-سورة يونس، الآية: 5.
19- سورة الروم، الآية: 7.
20- الجاثية، الآية: 23.
 
34

22

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 خلاصة الدرس

 
من أسماء القرآن: القرآن، الفرقان، الذكر، والنور وغيرها...
 
عظّم القرآن الكريم مكانة العلم تعظيماً لم يسبق له مثيل في الكتب السماويّة الأخرى. ولا شكّ أنّ للعلوم مقامات متفاوتة، ولا شكّ أيضاً أنّ من أشرفها مقاماً علوم القرآن.
 
وعلوم القرآن هي جميع المعلومات والبحوث الّتي تتعلّق بالقرآن الكريم. وتختلف هذه العلوم في الناحية الّتي تتناولها من الكتاب الكريم.
 
ومن هذه العلوم القرآنيّة: علم التفسير، علم آيات الأحكام، علم إعجاز القرآن، وعلم رسم القرآن، وغيرها...
 
كانت بدايات علوم القرآن وأسسها الأولى على يد الصحابة والطليعة من المسلمين في الصدر الأوّل ـ وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليه السلام ـ الّذين أدركوا النتائج المترتّبة على البعد الزمنيّ عن عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والاختلاط بمختلف الشعوب.
 
يدعو القرآن الكريم إلى التفكّر وطلب المعارف كما ويكشف العديد من الأسرار الكونيّة ويدعو للبحث عنها وفيها، ويعلّم دورة كاملة من المعارف الإلهيّة وكلّيّات الأخلاق والفقه الإسلاميّ.
 
35

23

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

للمطالعة

الاستقامة في أساليب القرآن


... أحسّت العرب بهذه الاستقامة في أساليب القرآن، واستيقنت بذلك بلغاؤهم. وإنّ كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسّر لنا ذلك، حيث قال، حين سأله أبو جهل أن يقول في القرآن قولاً: 

 

"فما أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم في الأشعار منّي ولا أعلم برجزه منّي، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ. والله ما يشبه الّذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنّ لقوله لحلاوة، وإنّه ليحطّم ما تحته، وإنّه ليعلو ولا يُعلى.

قال أبو جهل: والله لا يرضى قومك حتّى تقول فيه.

 

قال الوليد: فدعني حتّى أفكّر فيه، فلما فكّر. قال: 

هذا سحر يأثره عن غيره"21 ..

 

وفي بعض الروايات قال الوليد: 

 

"والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ومن كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وما يقول هذا بشر"22 .

 

وإذا أردت أن تحسّ ذلك من نفسك فانظر إلى الكتب المنسوبة إلى الوحي، فإنّك تجدها متناقضة المعاني، مضطربة الأسلوب، لا تنهض ولا تتماسك. وإذا نظرت إلى كتب العهدين، وما فيها من تضارب وتناقض، تجلّت لك حقيقة الأمر، وبان لك الحقّ من الباطل. وهنا نذكر أمثلة ممّا وقع في الأناجيل من هذا الاختلاف: 

________________________________________

21- تفسير الطبري، ج 29، ص 98.

 22-تفسير القرطبي، ج 19، ص 72.

 

36

24

الدرس الثاني: أسماء القرآن وعلومه ومعارفه

 1- في الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متّى، والحادي عشر من لوقا: أنّ المسيح قال: "من ليس معي فهو عَليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرّق". وقال في التاسع من مرقس، والتاسع من لوقا: "من ليس علينا فهو معنا". 

 

2 - وفي التاسع عشر من متّى، والعاشر من مرقس، والثامن عشر من لوقا: أنّ بعض الناس قال للمسيح: "أيّها المعلّم الصالح. فقال: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلّا واحد وهو الله". وفي العاشر من يوحنّا أنّه قال: "أنا هو الراعي الصالح... أمّا أنا فإنّي الراعي الصالح". 

 

3 - وفي السابع والعشرين من متّى قال: "كان اللّصّان الّلذان صُلبا معه - المسيح - يعيّرانه"، وفي الثالث والعشرين من لوقا: "وكان واحد من المذنبين المعلّقين يجدّف عليه قائلاً: إن كنت أنت المسيح فخلّص نفسك وإيّانا، فأجاب الآخر وانتهره قائلاً: أوَ لا تخاف الله؟ إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه".

 

4 - وفي الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنّا: "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقّاً". وفي الثامن من هذا الانجيل نفسه أنّه قال: "وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حقّ". 

 

هذه نبذة ممّا في الأناجيل - على ما هي عليه من صغر الحجم - من التضارب والتناقض. وفيها كفاية لمن طلب الحقّ، وجانَبَ التعصّبَ والعناد23 

  

________________________________________

23- البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ص 56 - 58.

37 

 

 

 

25

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 الدرس الثالث

فضل القرآن وتلاوته
 



أهداف الدرس
 
1- أن يتبين الطالب فضل القرآن في القرآن.
2- أن يتبين فضل القرآن في كتاب العترة.
3- أن يتعرف إلى صفة القرآن الكريم.
 
 
39 
 

26

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب، وأن يتصاغر أمام هذه العظمة، وقد يكون الاعتراف بالعجز خيراً من المضيّ في البيان. 

 
ماذا يقول الواصف في عظمة القرآن، وعلوّ كعبه؟ وماذا يقول في بيان فضله، وسموّ مقامه؟ وكيف يستطيع الممكن أن يدرك مدى كلام الواجب؟ وماذا يكتب لكاتب في هذا الباب؟ وبمَ يتفوّه الخطيب؟ وهل يصف المحدود إلّا محدوداً؟
 
القرآن في القرآن
 
وحسبُ القرآن عظمة، وكفاه منزلةً وفخراً أنّه كلام الله العظيم، ومعجزة نبيّه الكريم، وأنّ آياته هي المتكفّلة بهداية البشر في جميع شؤونهم وأطوارهم في أجيالهم وأدوارهم، وهي الضمينة لهم بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾1.

﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾2. 
﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾3. 
________________________________________
1-سورة الإسراء، الآية: 9.
 2-سورة إبراهيم، الآية: 1.  
3-سورة آل عمران، الآية: 138.  
41

 


27

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 القرآن في كلام العترة

 
وقد ورد في الأثر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه"4.
 
نعم من الخير أن يقف الإنسان دون ولوج هذا الباب، وأن يَكِلَ بيان فضل القرآن إلى نظراء القرآن أهل البيت عليهم السلام، فإنّهم أعرف الناس بمنزلته، وأدلّهم على سموّ قدره، وهم قرناؤه في الفضل، وشركاؤه في الهداية، أمّا جدّهم الأعظم فهو الصادع بالقرآن، والهادي إلى أحكامه، والناشر لتعاليمه. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"5. فالعترة هم الأدلّاء على القرآن، والعالمون بفضله. 
 
فمن الواجب أن نقتصر على أقوالهم، ونستضيء بإرشاداتهم. ولهم في فضل القرآن أحاديث كثيرة جمعها شيخنا المجلسيّ في (البحار)المجلّد التاسع والثمانين منه. نذكر منها: 
 
قال الحارث الهمدانيّ: "دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث فدخلت على عليّ عليه السلام فقلت: ألا ترى أن أناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال عليه السلام: قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال عليه السلام: أما إنّي قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قالعليه السلام: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الّذي مَن تركه من جبّار قصمه الله، ومَن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الّذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَق عن
________________________________________
4-بحار الأنوار، ج 19، ص 6، صحيح الترمذي بشرح ابن العربي، ج 11، ص 47، أبواب فضائل القرآن.
5-رواه الترمذي، ج 13، ص 200 ـ 201.  
 
42

28

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه. وهو الّذي لم ينته الجنّ إذ سمعته أن قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾6 ، هو الّذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُديَ إلى صراط مستقيم"7.

 

قبسات من الحديث

 

وفي الحديث مغازٍ جليلة يحسن أن نتعرّض لبيان أهمّها. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "فيه نبأ ما كان قبلكم. وخبر ما بعدكم" والّذي يحتمل في هذه الجملة وجوه: 

 

الأوّل: أن تكون إشارة إلى أخبار النشأة الأخرى من عالمَي البرزخ والحساب والجزاء على الأعمال. ولعلّ هذا الاحتمال هو الأقرب، ويدلّ على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته: "فيه نبأ من كان قبلكم والحكم فيما بينكم وخبر معادكم". 

 

الثاني: أن تكون إشارة إلى المغيّبات الّتي أنبأ عنها القرآن، ممّا يقع في الأجيال المقبلة. 

 

الثالث: أن يكون معناها أنّ حوادث الأمم السابقة تجري بعينها في هذه الأمّة، فهي بمعنى قوله تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾8.

 

أمّا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تركه من جبّار قصمه الله" فلعلّ فيه ضماناً بحفظ القرآن من تلاعب الجبّارين، بحيث يؤدّي ذلك إلى ترك تلاوته وترك العمل به، وإلى جمعه من أيدي الناس كما صنع بالكتب الإلهيّة السابقة. فتكون إشارة إلى حفظ القرآن من التحريف. وهذا أيضاً هو معنى قوله في الحديث: "لا تزيغ به الأهواء" بمعنى لا تغيّره عمّا هو عليه، لأنّ معاني القرآن قد زاغت 

________________________________________

6-سورة الجن، الآية 1.

7- بحار الأنوار، ج89، ص24. 

8-سورة االانشقاق، الآية: 19.  

 

 

43

 

29

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 بها الأهواء فغيّرتها. وأشار الحديث إلى أن أبناء الأمّة لو رجعوا إلى القرآن في خصوماتهم، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لأوضح لهم السبيل، ولوجدوه الحكم العدل، والفاصل بين الحقّ والباطل.

 
فلو أقامت الأمّة حدود القرآن، واتّبعت مواقع إشاراته وإرشاداته، لعرفت الحقّ وأهله، وعرفت حقّ العترة الطاهرة الّذين جعلهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قرناء الكتاب، وأنّهم الخلفاء على الأمّة من بعده، ولو استضاءت الأمّة بأنوار معارف القرآن، لأمنت العذاب الواصب، ولما تردّت في العمى، ولا غشيتهم ليالي الضلال، ولا ضُيّع سهم من فرائض الله، ولا زلّت قدم عن الصراط السويّ، ولكنّها أبت إلّا الانقلاب على الأعقاب، واتّباع الأهواء، والانضواء إلى راية الباطل حتّى آل الأمر إلى أن يكفّر بعض المسلمين بعضاً، ويتقرّب إلى الله بقتله، وهتك حرمته، وإباحة ماله، وأيّ دليل على إهمال الأمّة للقرآن أكبر من هذا التشتّت العظيم؟! !
 
صفة القرآن
 
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن: 

"ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يُدرك قعره، ومنهاجاً لا يضلّ نهجه، وشعاعاً لا يظلم ضوءه، وفرقاناً لا يُخمد برهانه، وتبياناً لا تُهدم أركانه، وشفاءً لا تُخشى أسقامه، وعزّاً لا تُهزم أنصاره، وحقّاً لا تُخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافيّ الإسلام وبنيانه، وأودية الحقّ وغيطانه، وبحر لا يُنزفه المنتزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون، جعله الله ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجَّ لطرق الصلحاء، ودواءً ليس بعده داء، ونوراً
44 
 

30

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

  ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزّاً لمن تولّاه، وسلماً لمن دخله، وهدى لمن ائتمّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلّم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآيةً لمن توسّم، وجُنّة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى وحكماً لمن قضى"9. 

 

وقد استعرضت هذه الخطبة الشريفة كثيراً من الأمور المهمّة الّتي يجب الوقوف عليها، والتدبّر في معانيها. فقوله: 

 

1- "لا يخبو توقّده" خبت النار: خمد لهبها. يريد بقوله هذا وبكثير من جمل هذه الخطبة أنّ القرآن لا تنتهي معانيه، وأنه غضّ جديد إلى يوم القيامة. فقد تنزل الآية في مورد أو في شخص أو في قوم، ولكنّها لا تختصّ بذلك المورد أو ذلك الشخص أو أولئك القوم، فهي عامّة المعنى. 

 

عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنّ القرآن حيّ لم يمت، وإنّه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا"10. 

 

2- "ومنهاجاً لا يضلّ نهجه": إنّ القرآن طريق لا يضلّ سالكه، فقد أنزله الله تعالى هداية لخلقه، فهو حافظ لمن اتّبعه عن الضلال.

 

3- "وتبياناً لا تهدم أركانه": المحتمل في المراد من هذه الجملة أحد وجهين: 

 

الأوّل: أنّ أركان القرآن في معارفه وتعاليمه، وجميع ما فيه من الحقائق. محكمة لا تقبل التضعضع والانهدام. 

________________________________________

9-نهج البلاغة، ج2، ص178.  

10-بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج35، ص404.

 

45

 

31

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 الثاني: أنّ القرآن بألفاظه لا يتسرّب إليه الخلل والنقصان، فيكون فيها إيماء إلى حفظ القرآن من التحريف. 


4- "ورياض العدل وغدرانه": الرياض جمع روضة، وهي الأرض الخضرة بحسن النبات. العدل بمعنى الاستقامة، والغدران جمع غدير وهو الماء الّذي تغدره أي تنتجه السيول. معنى هذه الجملة: أنّ العدل بجميع نواحيه من الاستقامة في العقيدة والعمل والأخلاق قد اجتمع في الكتاب العزيز، فهو مجمع العدالة وملتقى متفرّقاتها.
 
5- "وأثافي الإسلام": الأثافيّ كأمانيّ جمع أثفيّة - بالضمّ والكسر - وهي الحجارة الّتي توضع عليها القدر. ومعنى ذلك: أنّ استقامة الإسلام وثباته بالقرآن كما أنّ استقامة القِدر على وضعها الخاص تكون بسبب الأثافيّ. 
 
6- "وأودية الحقّ وغيطانه": يريد بذلك: أنّ القرآن منبت الحقّ، وفي الجملة تشبيه القرآن بالأرض الواسعة المطمئنّة، وتشبيه الحقّ بالنبات النابت فيها. وفي ذلك دلالة على أن المتمسّك بغير القرآن لا يمكن أن يصيب الحقّ، لأنّ القرآن هو منبت الحقّ، ولا حقّ في غيره.

7- "وبحر لا ينزفه المنتزفون": نزف ماء البئر: نزح كله. ومعنى هذه الجملة والجمل الّتي بعدها: أنّ المتصدّين لفهم معاني القرآن لا يصلون إلى منتهاه، لأنّه غير متناهي المعاني، بل وفيها دلالة على أنّ معاني القرآن لا تنقص أصلاً، كما لا تنضب العيون الجارية بالسقاية منها. 
 
8-"وآكام لا يجوز عنها القاصدون": والآكام جمع أكم، كقصب، وهو جمع أكمة، كقصبة، وهي التلّ. والمراد أنّ القاصدين لا يصلون إلى أعالي الكتاب ليتجاوزوها. وفي هذا القول إشارة إلى أنّ للقرآن بواطن لا تصل إليها أفهام أولي الأفهام. 
 
46

32

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 وقد يكون المراد أنّ القاصدين إذا وصلوا إلى أعاليه وقفوا عندها ولم يطلبوا غيرها، لأنّهم يجدون مقاصدهم عندها على الوجه الأتمّ.

 

فضل قراءة القرآن 

 

القرآن هو الناموس الإلهيّ الّذي تكفّل للناس إصلاح الدين والدنيا، وضمن لهم سعادة الآخرة والأولى، فكلّ آية من آياته منبع فيّاض بالهداية ومعدن من معادن الإرشاد والرحمة، فالّذي تروقه السعادة الخالدة والنجاح في مسالك الدين والدنيا، عليه أن يتعاهد كتاب الله العزيز آناء الليل وأطراف النهار، ويجعل آياته الكريمة قيد ذاكرته، ومزاج تفكيره، ليسير على ضوء الذكر الحكيم إلى نجاح غير منصرم وتجارة لن تبور. وما أكثر الأحاديث الواردة عن أئمّة الهدى عليهم السلام وعن جدّهم الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في فضل تلاوة القرآن منها: 

 

عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال: "القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية"11 وقال عليه السلام: "ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتّى يقرأ سورة من القرآن فيُكتب له مكان كلّ آية يقرأها عشر حسنات، ويُمحى عنه عشر سيّئات؟"12. وقال: "عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: إقرأ وارقَ، فكلّما قرأ آية يرقى درجة"13. 

 

وقد جمعت كتب الأصحاب من جوامع الحديث كثيراً من هذه الآثار الشريفة من أرادها فليطلبها. وفي الجزء التاسع عشر من كتاب بحار الأنوار الشيء الكثير من ذلك. 

________________________________________

11- الكافي، ج2، ص609.

12-م.ن، ج2، ص611.

13- الوسائل، الحرّ العاملي، ج6، ص190.

47 

 

 

 

33

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 القراءة في المصحف

 
دلّت جملة من الآثار على فضل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب. ومن هذه الأحاديث قول إسحاق بن عمار للصادق عليه السلام: "جعلت فداك إنّي أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال لي: لا. بل أقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل. أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة؟"14.
 
وقال عليه السلام: "من قرأ القرآن في المصحف مُتّع ببصره، وخُفِّف عن والديه وإن كانا كافرين"15.
 
وفي الحثّ على القراءة في نفس المصحف نكتة جليلة ينبغي الالتفات إليها، وهي أنّه لو اكتُفيَ بالقراءة عن ظهر القلب لهُجرت نسخ الكتاب، وأدّى ذلك إلى قلّتها، ولعلّه يؤدّي أخيراً إلى انمحاء آثارها.
 
على أنّ هناك آثاراً جزيلة نصّت عليها الأحاديث لا تحصل إلّا بالقراءة في المصحف، منها قوله: "متّع ببصره" وهذه الكلمة من جوامع الكلم، فيراد منها أنّ القراءة في المصحف سبب لحفظ البصر من العمى والرمد، أو يراد منها أنّ القراءة في المصحف سبب لتمتّع القارئ بمغازي القرآن الجليلة ونكاته الدقيقة، لأنّ الإنسان عند النظر إلى ما يروقه من المرئيّات تبتهج نفسه، ويجد انتعاشاً في بصره وبصيرته.
 
وكذلك قارئ القرآن إذا سرّح بصره في ألفاظه، وأطلق فكره في معانيه وتعمّق في معارفه الراقية وتعاليمه الثمينة يجد في نفسه لذّة الوقوف عليها، ومتعة الطموح إليها، ويشاهد هشّة من روحه وتطلّعاً من قلبه. 
________________________________________
14- الكافي، ج2، ص614.  
15-هذه الروايات في أصول الكافي، كتاب فضل القرآن، ج2، ص596. 
48 
 

34

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 فضل القراءة في البيوت

 
وقد أرشدتنا الأحاديث الشريفة إلى فضل القراءة في البيوت. ومن أسرار ذلك إذاعة أمر الإسلام، وانتشار قراءة القرآن، فإنّ الرجل إذا قرأه في بيته قرأته المرأة، وقرأه الطفل، وذاع أمره وانتشر. أمّا إذا جعل لقراءة القرآن أماكن مخصوصة فإنّ القراءة لا تتهيّأ لكلّ أحد، وفي كلّ وقت، وهذا من أعظم الأسباب في نشر الإسلام. ولعلّ من أسراره أيضاً إقامة الشعار الإلهيّ، إذا ارتفعت الأصوات بالقراءة في البيوت بكرة وعشيّاً، فيعظم أمر الإسلام في نفوس السامعين لما يعروهم من الدهشة عند ارتفاع أصوات القراء في مختلف نواحي البلد.
 
ومن آثار القراءة في البيوت ما ورد في الأحاديث: "إنّ البيت الّذي يُقرأ فيه القرآن ويُذكر الله تعالى فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب الدرّيّ لأهل الأرض، وإنّ البيت الّذي لا يُقرأ فيه القرآن، ولا يُذكر الله تعالى فيه تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين"16.
________________________________________
16- الكافي، ج2، ص 499.  
 
49

35

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 خلاصة الدرس

 

لقرآن كلام الله العظيم، ومعجزة نبيّه الكريم وهو الضامن للبشر بنيل الغاية القصوى والسعادة الكبرى في العاجل والآجل. يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾17.

 

وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". 

 

هناك العديد من الآيات الكريمة الّتي تتحدّث عن فضل القرآن، كما أنّ هناك الكثير من الروايات الواردة عن الرسول والعترة الطاهرة عليهم السلام. 

 

إنّ أبناء الأمّة لو رجعوا إلى القرآن في خصوماتهم، وما يلتبس عليهم في عقائدهم وأعمالهم لأوضح لهم السبيل. ولوجدوه الحكم العدل، والفاصل بين الحقّ والباطل. 

 

القرآن هو الناموس الإلهيّ الّذي تكفّل للناس إصلاح الدين والدنيا، وضمن لهم سعادة الآخرة والأولى، فكلّ آية من آياته منبع فيّاض بالهداية ومعدن من معادن الإرشاد والرحمة.

 

وقد دلّت جملة من الأخبار على فضل القراءة في المصحف على القراءة عن ظهر القلب. كما أرشدتنا الأحاديث الشريفة إلى فضل القراءة في البيوت وتعاهد كتاب الله بالتلاوة الدائمة.

 

________________________________________

17-سورة الاسراء، الآية: 9.

 

 

50

 

36

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

للمطالعة


ما تكلّمَتْ إلّا بالقرآن

 

قال بعضهم: انقطعت في البادية عن القافلة فوجدت امرأة، فقلت لها: من أنت؟ فقالت ﴿وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾18 فسلّمت عليها، فقلت: ما تصنعين ههنا؟ قالت: ﴿وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ ﴾19 فقلت: أمن الجنّ أنت أم من الإنس؟ قالت:﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ﴾20 فقلت: من أين أقبلت؟ قالت: ﴿يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ﴾21 فقلت: أين تقصدين؟ قالت: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ  ﴾22 فقلت: متى انقطعت؟ قالت: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾23 فقلت: أتشتهين طعاماً؟ فقالت: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾24. فأطعمتها، ثم قلت: هرولي ولا تعجلي، قالت: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾25. فقلت: أردفك؟ فقالت: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾26. فنزلت فأركبتها، فقالت: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا﴾27. فلما أدركنا القافلة قلت: ألك أحد فيها؟ قالت: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾28. ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ﴾29. ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ ﴾30.

________________________________________

18-سورة الزخرف، الآية: 89. 

19-سورة الزمر، الآية: 37.  

20-سورة الأعراف، الآية: 31.  

21-سورة فصّلت، الآية: 44.

22- سورة آل عمران، الآية:97.

23- سورة ق، الآية: 38.  

24-سورة الأنبياء، الآية: 8.  

25-سورة البقرة، الآية: 286.  

26-سورة الأنبياء، الآية: 22.

27- سورة الزخرف، الآية: 13. 

28- سورة ص، الآية: 26.

29-سورة آل عمران، الآية: 144.  

30-سورة مريم، الآية: 12.  

 

 

51

 

37

الدرس الثالث: فضل القرآن وتلاوته

 ﴿يَا موسى إني أَنَا رَبُّكَ﴾31. فصحت بهذه الأسماء، فإذا أنا بأربعة شباب متوجّهين نحوها، فقلت: من هؤلاء منك؟ قالت: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾32. فلم أتوها قالت: ﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾33. فكافوني بأشياء فقالت: ﴿وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء﴾34. فزادوا عليّ، فسألتهم عنها.

 
فقالوا: هذه أمّنا فضّة جارية الزهراء عليها السلام ما تكلّمت منذ عشرين سنة إلّا بالقرآن35.
 
 
________________________________________
31-سورة طه، الآيات: 11 ـ 13. 
32-سورة الكهف، الآية: 46.
33- سورة القصص، الآية: 26.
34- سورة البقرة، الآية: 261.
35- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 43، ص 86 – 87.
 
52

38

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 الدرس الرابع

الآداب الظاهرية لتلاوة القرآن

 

 


أهداف الدرس

 

1- أن يتعرف الطالب إلى أجر القارئ للقرآن الكريم.

2- أن يعدد الآداب الظاهرية لتلاوة القرآن.

 

 

53

 

39

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 تمهيد

 
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ َ﴾1 .
 
لا غنى للمسلم عن مصاحبة القرآن وتلاوته، حيث يعيش الإنسان فيه مع الله تعالى ويقتبس من نوره. والتلاوة عبادة يُثاب عليها المؤمن ويؤجر على كلّ حرف يقرأه. ولكن كيف نقرأ القرآن، وكيف نستفيد من آياته؟ هل نقرؤه لمجرّد التلاوة؟ أم نقرأه لنجعله نوراً لنا في ظلمات الجهل والدنيا يسدّد وجهتنا ويحسّن مسلكنا؟ ألم يقرع أسماعنا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كم من تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه لأنّه أقام حروفه وضيّع حدوده؟"2 .
 
والأجر يتفاوت على قدر ما في التلاوة من تدبّر، وعلى قدر ما يؤدّي التدبّر إلى الغاية المطلوبة والهدف المراد الّذي يشير إليه تعالى في قوله:﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ 
________________________________________
1-سورة فاطر، الآية: 29.
2- البحار، ج89، ص184.
55
  
 

40

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء﴾3 . 

 

فالمطلوب أن تتحوّل تلاوة القرآن والاستماع لآياته إلى تأثّر وخشوع وخضوع لحضرة الباري سبحانه وتعالى يتجلّى في مقام العمل هدياً وسلوكاً والتزاماً بأوامر الله عزَّ وجلَّ ونواهيه.

 

وقد تعرّفنا في الدرس السابق‏ إلى فضل القرآن وفضل تلاوته، فيا ترى كيف تكون هذه التلاوة؟ وما هي شروطها؟ وكيف نحصّل الغاية القصوى من منافعها؟


القرآن نور

 

ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نوّروا بيوتكم بتلاوة القرآن"4 .

 

وفي المواظبة على التلاوة ورد عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قرأ عشر آيات في ليلة لم يُكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آية كُتب من الذاكرين، ومن قرأ مائة أية كُتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية كُتب من الخاشعين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كُتب من الفائزين، ومن قرأ خمسمائة آية كُتب من المجتهدين، ومن قرأ ألف آية كُتب له قنطار من تبر..."5 . 

 

ولا شكّ أنّ هذا الأجر المذكور ليس لمن يقرأ القرآن ويمرّ عليه مروراً دون أن يتأثّر به قلباً وقالباً، فإذا عرض عليه عارض من الدنيا نسي القرآن وصاحب القرآن، نعوذ بالله من ذلك، بل الأجر لمن قرأ وتدبّر بتأدّب وتأمّل وعلم أنّ الّذي يخاطبه هو الله سبحانه الّذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. من هنا 

________________________________________

3-سورة الزمر، الآية: 23.  

4-الكافي، الكليني،  ج‏2، ص‏610. 

5- م.ن، ج2، ص612.  

 

56

 

 

41

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

  كان حقيقاً علينا أن نلتفت ونهتمّ ببعض الآداب الّتي ينبغي أن تقترن بتلاوتنا للقرآن، ونرجو من خلالها أن يكون تعبّدنا هذا موضعاً للقبول من حضرة الباري سبحانه وتعالى. وقد ذُكرت آداب متعدّدة لتلاوة القرآن بعضها يُعدّ ظاهريّاً وبعضها باطنيّاً، وفي هذا الدرس ستتعرّف للآداب الظاهريّة، وهي كثيرة، على رأسها:

 
1- الطهارة: 
 
والمقصود بالطهارة الخلوّ من الحدث الأكبر والأصغر بالوضوء أو الغسل أو التيمّم بدلاً عنهما. وقد جعل المولى ثواب قراءة القرآن ثواباً مضاعفاً، ففي الحديث: "من استمع القرآن كتب له بكلّ حرف حسنة ومن قرأ على وضوء كان له بكلّ حرف خمس وعشرون حسنة"6 .
 
وقد صرّح الفقهاء بكراهة قراءة ما زاد على سبع آيات للجنب، مضافاً إلى حرمة قراءته آيات السجدة من سور العزائم الأربع: "العلق" و"النجم" و"فصّلت" و"السجدة".
 
2- تنظيف الفم: 
 
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّي لأحبّ للرجل إذا قام بالليل أن يستاك وأن يشمّ الطيب فإنّ الملك يأتي الرجل إذا قام بالليل حتّى يضع فاه على فيه، فما خرج من القرآن من شي‏ء دخل جوف ذلك الملك"7 .
 
فالفم هو طريق القرآن، ولا يليق بطريق القرآن إلّا أن يكون طيّباً نظيفاً, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نظّفوا طريق القرآن" قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طريق
________________________________________
6-الفصول المهمّة، الحر العاملي، ج3، ص320.  
7-المحاسن، ص559، والبحار، ج77، ص343.  
57 
 

42

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 القرآن؟ قال: "أفواهكم" قيل: بماذا؟ قال: "بالسواك"8 . 

 
وفي حديث آخر: "طيّبوا أفواهكم بالسواك فإنّها طرق القرآن"9. 
 
3- استقبال القبلة والإقبال التامّ على التلاوة: 
 
ينبغي لقارى‏ء القرآن أن يستقبل القبلة، ويجلس بتأدّب وخشوع، ويقبل على التلاوة متفرّغاً لها، وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: 

"قارى‏ء القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خالٍ. فإذا خشع لله قلبه فرّ منه الشيطان الرجيم"10 .
 
4- البدء بالاستعاذة: 
 
قال تعالى: ﴿َإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾11 .
 
من كمال الأدب أن يشرع القارئ في القراءة بالاستعاذة، ويقصد بها تطهير القلب من تلوّثات الوسوسة الصارفة عن ذكر الله تعالى.
 
وختم القراءة بقوله: صدق الله العليّ العظيم. ويدعو بالمأثور في بدء التلاوة وبعد الفراغ منها كما كان يفعل الأئمّةعليهم السلام.
 
5- قراءة القرآن في المصحف: 
 
وفي بعض الروايات ما يفيد أفضليّة قراءة القرآن مطالعة على قراءته حفظاً. وتظهر هذه الأفضليّة في الآثار المترتّبة، وقد ذكرنا في الدرس السابق بعضاً منها ونضيف ما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل عبادة أمّتي تلاوة القرآن نظراً"12 .
________________________________________
8-م.ن. ص558.
9-ميزان الحكمة، ج2، ص1397.
10-مستدرك الوسائل، ج4، ص241.  
11-سورة النحل، الآية: 98.
12- المحجة البيضاء، ج2، ص231.
 
57

43

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 6- الترتيل بصوت حسن: ‏

 
قال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ 13.
 
والترتيل هو بيان الحروف وإظهارها وحفظ الوقوف.
 
والمراد بحفظ الوقوف أن لا يقف القارئ كيفما كان، بل يقف حيث يكون الوقف حسناً. والمراد ببيان الحروف أن يُخرج الحروف كما ينبغي من جهر وهمس وإطباق واستعلاء على ما ذكره علماء التجويد.
والترتيل كما في بيان الإمام الصادق عليه السلام هو: "أن تتمكّث فيه وتحسّن به صوتك"14 .
 
فتقرأ بإمعان من غير استعجال بحيث لو أراد السامع أن يعدّ الحروف لأوشك أن يعدّها. وتحسّن به الصوت في خشوع وخشية.
 
وقال عليه السلام أيضاً: "زيّنوا القرآن بأصواتكم"15 .
 
والمقصود من حسن الصوت ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الّذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله"16 .
 
ويستفاد من الروايات أنّ الصوت الحسن يترك أثراً في قلب القارئ والمستمع على حدّ سواء، الأمر الّذي يساهم في تليين القلوب القاسية، فإنّ كلام الله شفاء من كل مرض قلبيّ.
________________________________________
13-سورة المزمل: الأية 4.  
14-بحار الأنوار، ج89، ص191.  
15-ميزان الحكمة، ج3، ص2525.
16- م.ن. ج3، ص2525.  
59 
 

44

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 خلاصة الدرس

 
لا غنى للمسلم عن مصاحبة القرآن وتلاوته، حيث يعيش الإنسان فيه مع الله تعالى ويقتبس من نوره. والتلاوة عبادة يثاب عليها المؤمن ويؤجر على كلّ حرف يقرأه. فللقراءة القرآنيّة آداب لا بدّ أن نلتزم بها حتّى نحصّل أقصى درجات الأجر من الباري سبحانه وتعالى. وقد ذُكرت آداب متعدّدة لتلاوة القرآن بعضها يُعدّ ظاهريّاً وبعضها باطنيّاً.
 
والآداب الظاهريّة كثيرة، على رأسها: 
 
1- الطهارة. 
2- تنظيف الفم. 
3- استقبال القبلة والإقبال التام على التلاوة. 
4- البدء بالاستعاذة. 
5- قراءة القرآن في المصحف. 
6- الترتيل بصوت حسن. ‏
60 
 

45

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 للمطالعة


القرآن وأسرار الخليقة

 

أخبر القرآن الكريم في غير واحدة من آياته عمّا يتعلّق بسنن الكون، ونواميس الطبيعة، والأفلاك، وغيرها ممّا لا سبيل إلى العلم به في بدء الإسلام إلّا من ناحية الوحي الإلهيّ. وبعض هذه القوانين وإن علم بها اليونانيّون في تلك العصور أو غيرهم ممّن لهم سابق معرفة بالعلوم، إلّا أنّ الجزيرة العربيّة كانت بعيدة عن العلم بذلك. وإنّ فريقاً ممّا أخبر به القرآن لم يتّضح إلّا بعد توفّر العلوم، وكثرة الاكتشافات. وهذه الأنباء في القرآن كثيرة. 

 

وقد أخذ القرآن بالحزم في إخباره عن هذه الأمور، فصرّح ببعضها حيث يحسن التصريح، وأشار إلى بعضها حيث تحمد الإشارة، لأنّ بعض هذه الأشياء ممّا يستعصي على عقول أهل ذلك العصر، فكان من الرشد أن يشير إليها إشارة تتّضح لأهل العصور المقبلة حين يتقدّم العلم، وتكثر الاكتشافات.

 

ومن هذه الأسرار الّتي كشف عنها الوحي السماويّ، وتنبّه إليها المتأخّرون ما في قوله تعالى: ﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ﴾17 .

 

فقد دلّت هذه الآية الكريمة على أن كلّ ما ينبت في الأرض له وزن خاصّ، وقد ثبت أخيراً أنّ كل نوع من أنواع النبات مركّب من أجزاء خاصّة على وزن مخصوص، بحيث لو زيد في بعض أجزائه أو نقص لكان ذلك مركّباً آخر. وإن نسبة بعض الأجزاء إلى بعض من الدقّة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقاً بأدقّ الموازين المعروفة للبشر. 

 

ومن الأسرار الغريبة الّتي أشار إليها الوحي الإلهيّ حاجة إنتاج قسم من

________________________________________

17-سورة الحجر، الآية: 19.  

 

61

 

 

46

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

  الأشجار والنبات إلى لقاح الرياح. فقال سبحانه:﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾18 .

 
فإنّ المفسّرين الأقدمين وإن حملوا اللّقاح في الآية الكريمة على معنى الحمل، باعتبار أنّه أحد معانيه، وفسّروا الآية المباركة بحمل الرياح للسحاب، أو المطر الّذي يحمله السحاب، ولكنّ التنبيه على هذا المعنى ليس فيه كبير اهتمام، ولا سيّما بعد ملاحظة أنّ الرياح لا تحمل السحاب، وإنّما تدفعه من مكان إلى مكان آخر.
 
والنظرة الصحيحة في معنى الآية بعد ملاحظة ما اكتشفه علماء النبات تفيدنا سرّاً دقيقاً لم تدركه أفكار السابقين، وهو الإشارة إلى حاجة إنتاج الشجر والنبات إلى اللّقاح، وأنّ اللّقاح قد يكون سببه الرياح، وهذا كما في المشمش والصنوبر والرمّان والبرتقال والقطن، ونباتات الحبوب وغيرها، فإذا نضجت حبوب الطلع انفتحت الأكياس، وانتثرت خارجها محمولة على أجنحة الرياح فتسقط على مياسم الأزهار الأخرى عفواً.
 
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أنّ سنّة الزواج لا تختصّ بالحيوان، بل تعمّ النبات بجميع أقسامه بقوله: ﴿وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ﴾19 .
 
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ﴾20 .
 
ومن الأسرار الّتي كشف عنها القرآن هي حركة الأرض، فقد قال عزَّ من قائل: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا ﴾21 .
 
تأمّل كيف تشير الآية إلى حركة الأرض إشارة جميلة لم تتّضح إلّا بعد قرون،
________________________________________
18-سورة الحجر، الآية: 22.  
19-سورة الرعد، الآية: 3. 
20- سورة يس، الآية: 36.
21-سورة طه، الآية: 53، وسورة الزخرف، الآية: 10.
62 
 

 


47

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 وكيف تستعير للأرض لفظ المهد الّذي يُعمل للرضيع، يهتزّ بنعومة لينام فيه مستريحاً هادئاً, وكذلك الأرض مهد للبشر وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعيّة والانتقاليّة. وكما أنّ تحرّك المهد لغاية تربية الطفل واستراحته، فكذلك الأرض، فإنّ حركتها اليوميّة والسنويّة لغاية تربية الإنسان بل وجميع ما عليها من الحيوان والجماد والنبات. تشير الآية المباركة إلى حركة الأرض إشارة جميلة، ولم تصرّح بها لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها، حتّى أنّه كان يعدّ من الضروريّات الّتي لا تقبل التشكيك.

 
ومن الأسرار الّتي كشف عنها القرآن قبل أربعة عشر قرناً: وجود قارّة أخرى. فقد قال سبحانه وتعالى:﴿َبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴾22 .
 
وهذه الآية الكريمة قد شغلت أذهان المفسّرين قروناً عديدة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتّى. فقال بعضهم: المراد مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرباهما، وحمله بعضهم على مشرقَيّ الصيف والشتاء ومغربيّهما. ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها الإشارة إلى وجود قارّة أخرى تكون على السطح الآخر للأرض يلازم شروق الشمس عليها غروبها عنّا، وذلك بدليل قوله تعالى:﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴾23 . 
 
فإنّ الظاهر من هذه الآية أنّ البعد بين المشرقين هو أطول مسافة محسوسة فلا يمكن حملها على مشرقَي الشمس والقمر ولا على مشرقي الصيف والشتاء، لأنّ المسافة بين ذلك ليست أطول مسافة محسوسة، فلا بدّ من أن يراد بها المسافة الّتي ما بين المشرق والمغرب. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر من الكرة الأرضيّة ليصحّ هذا التعبير، فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الّذي لم يُكتشف إلّا بعد مئات من السنين من نزول القرآن. 
________________________________________
22-سورة الرحمن، الآية: 17.
23- سورة الزخرف، الآية: 38. 
63

48

الدرس الرابع: الآداب الظاهريـّة لتلاوة القرآن

 فالآيات الّتي ذكرت المشرق والمغرب بلفظ المفرد يراد منها النوع كقوله تعالى: ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾24 .

 

والآيات الّتي ذكرت ذلك بلفظ التثنية يراد منها الإشارة إلى القارّة الموجودة على السطح الآخر من الأرض.

 

والآيات الّتي ذكرت ذلك بلفظ الجمع يراد منها المشارق والمغارب باعتبار أجزاء الكرة الأرضيّة كما نشير إليه25 .

  

 

 ________________________________________

24- سورة البقرة، الآية: 115.  

25-البيان في تفسير القرآن، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ص70 - 74.

 

 

64

49

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

الدرس الخامس

الآداب الباطنية لتلاوة القرآن

 


 أهداف الدرس

 

1- أن يتعرف الطالب إلى الآداب الباطنية لتلاوة القرآن.

2- أن يتبين موانع الإستفادة ليتخلص منها.

 

 

65

 

50

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 تلاوة القرآن حقّ تلاوته‏: 

 
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾1.
 
فللقرآن حقّ علينا وينبغي أن نوفيه حقّه برعاية جملة من الآداب أثناء تلاوته والاستماع إليه. وفي تفسير الآية يقول الإمام الصادق عليه السلام: "يرتّلون آياته ويتفهّمون معانيه ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخشون عذابه ويتمثّلون قصصه ويعتبرون أمثاله ويأتون أوامره ويجتنبون نواهيه.."2.
 
وأفضل التلاوة تلك الّتي تحقّق الهدف القرآنيّ الأوّل وهو الهداية، يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾3.
 
ولحصول الهداية هناك أمور ينبغي مراعاتها، أهمّها: 
 
1- الإخلاص في القراءة: 
 
من الآداب المفيدة في تلاوة القرآن الكريم الإخلاص. وقد وردت بذلك روايات كثيرة. منها ما رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام: "قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ 
________________________________________
1- سورة البقرة، الآية: 121.
2- ميزان الحكمة، ج3، ص2526.
3-  سورة البقرة، الآية: 2.
67
 
 

51

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 القرآن فاتّخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس. ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن. ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبّار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء، وبأولئك ينزّل الله الغيث من السماء، فوالله لَهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر"4.

 

2- التدبّر في القرآن‏: 

 

قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾5.

 

فالقراءة الّتي لا تدبّر فيها لا خير فيها. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾6.

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنّي لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن"7.

 

وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"8.

 

وعنه عليه السلام أنّه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جُعلت فداك، تصف جابراً بالعلم وأنت أنت؟ فقال عليه السلام: "إنّه كان يعرف تفسير قوله تعالى: إنّ الّذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد.."9.

________________________________________

4-  أصول الكافي، ج2، ص604.

5- سورة محمد، الآية:24.

6- سورة الحديد، الآية: 16.

7-ميزان الحكمة، ج3، ص2532.

8-بحار الأنوار، ج2، ص49.  

9- قريب منه في تفسير القمي، ج2، ص147.

 

68

 

 

52

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 وعن الزهريّ قال سمعت عليّ بن الحسين عليه السلام يقول: "آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزائنه فينبغي لك أن تنظر فيها"10.

 
3- التفكّر: 
 
من الآداب المهمّة لقراءة القرآن التفكّر. وقد كثرت الدعوة إلى التفكّر في القرآن الشريف.
 
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾11.
 
وقال تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾12.
 
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
 
والروايات أيضاً في التفكّر كثيرة، فقد نُقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا نزلت الآية الشريفة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ﴾13.
 
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها"14.
 
4- التأثّر والخشية: 
 
قال تعالى: ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً  * وَيَخِرُّونَ خُشُوعًا ﴾15.
 
وهذه أحوال المستمع لتلاوة القرآن المتدبّر فيه فكيف بمن يتلوه بنفسه؟
 
قال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾16.
________________________________________
10- بحار الأنوار، ج92، ص219.  
11-سورة النحل، الآية: 44.  
12-سورة الأعراف، الآية: 176.  
13-سورة آل عمران، الآية: 190.
14- زبدة البيان، المحقّق الأردبيلي، ص140.
15- سورة الإسراء، الآيات: 107 ـ 109.  
16-سورة الحشر، الآية: 21.   
69 
 

53

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 5- البكاء والحزن‏:

 
فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأ القرآن ولم يخضع لله ولم يرقّ قلبه ولا يكتسي حزناً ووجلاً في سرّه، فقد استهان بعظيم شأن الله تعالى، فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك ومنشور ولايتك، وكيف تجيب أوامره ونواهيه وكيف تمتثل حدوده؟"17.
 
وورد في الخبر: "اقرأوا القرآن بالحزن"18.
 
وفي نهج البلاغة: "الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم"19.
 
والقرآن كلام الحقّ ومن الأدب حين نقرأ هذا الكلام أن نكبره ونعظّمه؛ فلا نستهين بأوامره ونواهيه وإنذاره ووعيده وما ينبى‏ء عنه من حقائق وأسرار.
 
فإنّ عظمة الله تعالى وقدرته المطلقة تجلّت لعباده في القرآن الكريم. ومن كمال الأدب ونحن نقرأ القرآن أن نستحضر الحزن في قلوبنا والدمعة في عيوننا، والخوف والشفقة في نفوسنا كما هو حال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حين كان يستمع إلى القرآن الكريم، فقد كانت عيناه تفيضان بالدمع. وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما من عين فاضت من قراءة القرآن إلّا قرّت يوم القيامة"20.
 
ومن لم يجد في نفسه خشية وانكساراً فليتباكَ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا"21.
 
وعن أمير المؤمنين في وصف المتّقين"يُحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نُصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم"22.
________________________________________
17-البحار، ج82، ص43.
18-ميزان الحكمة، ج3، ص2528.  
19-نهج البلاغة، ج3، ص77.
20-ميزان الحكمة، ج3، ص2529.
21- الأمالي، السيد المرتضى، ج1، ص25.
22- نهج البلاغة، خطبة المتقين، ج2، ص161.  
70 
 

54

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 6- التطبيق: 

 
ومن الآداب المهمّة لقراءة القرآن الّتي تنيل الإنسان نتائج كثيرة واستفادة غير محدودة: التطبيق.
 
فمن أراد أن يأخذ من القرآن الشريف الحظّ الوافر فلا بدّ له أن يطبّق كلّ آية شريفة على حالات نفسه حتّى يستفيد استفادة كاملة، مثلاً يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾23.
 
فلا بدّ للسالك أن يلاحظ هذه الأوصاف الثلاثة منطبقة عليه، وهل قلبه يَجِلُ إذا ذُكر الله ويخاف؟ وإذا تُليت عليه الأيات الشريفة هل يزداد إيماناً في قلبه؟ وهل اعتماده وتوكّله على الله تعالى أم أنّه محروم من ذلك؟
 
فإذا كان محروماً فليسعَ لتحصيل هذه الصفات. وهكذا كلّ آية يمرّ عليها يطبّقها خارجاً، فالقرآن كتاب تطبيق لا كتاب ترتيل فحسب.
 
فكما أنّ خُلُق الرسول كان القرآن، فينبغي على القارئ المؤمن أن يكون خُلُقه القرآن.
 
القرآن يخاطبنا 
 
وعلى كلّ مؤمن أن يستصحب في وعيه دائماً أنّ قضايا القرآن ومفاهيمه ومواعظه ليست من قضايا الماضي الّذي كان، إنّما هي قضيّة اللّحظة وكلّ لحظة، إنّها قضيّتنا نحن، والخطاب فيها هو لنا نحن بالذّات لا لقوم آخرين كانوا، أو لغيرنا، بل لنا ولكلّ فرد فينا. وينبغي أن يستشعر القارىء للقرآن أنّه هو المخاطَب بالذّات وأنّ القرآن ليس كتاب مطالعة يقرأ فيه عن عصر من التاريخ فات.
________________________________________
23-سورة الأنفال، الآية: 2.  
 
71

55

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

وعندما يتفكّر القارئ للقرآن في كلّ آية من آياته الشريفة ويطبّق مفادها على حاله ونفسه فإنّه يرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه به. فعندما يقرأ مثلاً قصّة إبليس وطرده من مقام القرب مع تلك السجدات والعبادات الطويلة ويتساءل لماذا كان ما كان؟ يجد أنّ مقام القرب الإلهيّ هو مقام المطهّرين، ومع التلبّس بالأوصاف والأخلاق الشيطانيّة لا يمكن القدوم إلى ذلك القرب، فيبادر إلى التخلّص منها ليحصّل مقامَ القرب، بحيث نشعر دائماً بحياة القرآن وأنّه حيّ دائماً، ليهب الحياة إلى قلوبنا وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدس الله تعالى.

 

مهجوريّة القرآن الكريم

 

يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾24.

 

إنّ مهجوريّة القرآن لها مراتب، ولعلّنا متّصفين بالعمدة منها. أترى أنّنا إذا جلّدنا المصحف الشريف جلداً نظيفاً وقيّماً أو إذا قرأناه أو استخرنا به وقبّلناه ووضعناه على أعيننا، لا نكون هاجرين له؟ أترى إذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده والاهتمام في جهاته اللغويّة والبيانيّة والبديعيّة، ما اتّخذناه مهجوراً؟ هل أنّنا إذا تعلّمنا القراءات المختلفة ما اتخذناه مهجوراً؟

 

إنّ عمدة هجر القرآن هي عدم تطبيقه في حياتنا الخاصّة والعامّة. ونحن للأسف قد نكون متّصفين بهذه المرتبة من الهجر، حيث لا نأخذ تعاليم القرآن في حسباننا!.

 

رفع موانع الاستفادة: 

 

ويُعبّر عن هذه الموانع بالحجب بين المستفيد والقرآن، وهي كثيرة نذكر منها: 

________________________________________

24-سورة الفرقان، الآية: 30.  

 

72 

 

 

56

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 1- حجاب رؤية النفس: 

 
بحيث يزيّن الشيطان للإنسان الكمالات الموهومة ويرضيه ويقنعه بما فيه ويسقط من عينه كلّ شي‏ء سوى ما عنده.
 
فنبيّ الله موسى عليه السلام مع ما عنده من المقام العظيم والعلم، لم يكتفِ بما عنده، وبمجرد أن لاقى شخصاً كاملاً كالخضر عليه السلام قال له: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾25.
 
فلا ينبغي لكلّ أهل العلم، باختلاف اهتماماتهم، أن يكتفوا بما يرضيهم ويشبع نهمهم الخاصّ، فلا يكتفي أهل التفاسير بوجوه القراءات والآراء المختلفة ولا أهل البلاغة بفنون المجاز والكناية، بل عليهم أن يعتبروا أنفسهم معنيّين بالدعوات الإلهيّة إلى المزيد ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾26.

2- حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة: 
 
وهو ناشىء في الغالب من التبعيّة والتقليد.
 
فمثلاً قد جاءت الآيات الكثيرة الواردة في لقاء الله ومعرفته، ولكن لمّا رسخ في ذهن الناس وانتشر بينهم أنّ طريق معرفة الله مسدود بالكلّيّة، وقاسوا باب معرفة الله على مسألة التفكّر في الذات الممنوع عنه والممتنع أصلاً، والّتي لا يدرك كنهها إلّا هو، قاموا بسدّ هذا الباب من المعرفة، وهو معرفة الله الذي هو غاية بعثة الأنبياء عليهم السلام، فقد سدّوه على أنفسهم بحجّة أن التفوّه به محض الكفر والزندقة.
________________________________________
25-سورة الكهف، الآية: 66.
26- سورة طه، الآية: 114.
 
73

57

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 3- حجاب المعاصي: 

 
فالمعاصي تمنع من الاستفادة من معارف هذا الكتاب السماويّ وتحجب القلب عن إدراك حقائقه. ويمكن أن يكون قوله تعالى: ﴿ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾27 مشيراً إلى ذلك. فكما تدلّ الآية على حرمة مسّ ألفاظ القرآن الكريم من دون طهارة ظاهريّة كالوضوء فكذلك تشير إلى أنّ معانيه العالية والّتي هي أبعد ممّا تشير إليه ظواهر الألفاظ، لا يدركها إلّا من صفت نفسه وارتقت، وتطّهرت من دنس المعاصي.
 
كما أنّ هناك حجباً أخرى طوينا عنها... تُلتمس في مظانّها.
 
خلاصة الدرس
 
للقرآن حقّ علينا وينبغي أن نوفّيه حقّه برعاية جملة من الآداب أثناء تلاوته والاستماع إليه، ومن هذه الآداب: 
 
الإخلاص والتدبّر، فالقراءة الّتي لا تدبّر فيها لا خير فيها، ثم يأتي التفكّر فالتأثّر والخشية من الله تعالى فالبكاء والحزن‏. ولعلّ أهم آداب القرآن تطبيقه على حياتنا كما كان رسول الله يوصف بأنّ خُلُقه القرآن. فإنّ خُلُقنا ينبغي أن يكون مشابهاً. وإنّ عمدة هجر القرآن هو عدم تطبيقه في حياتنا الخاصّة والعامّة. ونحن للأسف قد نكون متصفين بهذه المرتبة من الهجر، حيث لا نأخذ تعاليم القرآن في حسباننا!.
 
ولا بدّ من رفع موانع الاستفادة المعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن، وهي كثيرة نذكر منها: 
 
1- حجاب رؤية النفس
2- حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة
3- حجاب المعاصي
 
________________________________________
27- سورة الواقعة، الآية:79.
74 
 

58

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

 للمطالعة


النبع الفيّاض‏

 

يقول الإمام الخميني قدس سره"أوصي الأخوة الأعزاء أن لا يغفلوا... عن الاستئناس بالقرآن الكريم، هذه الصحيفة الإلهيّة وكتاب الله الهادي، فكلّ ما عند المسلمين وما سيكون عندهم خلال عصور التاريخ الماضية والقادمة إنّما هو من البركات المغدقة لهذا الكتاب المقدّس. وبهذه المناسبة أطلب من كلّ العلماء الأعلام وأبناء القرآن والعلماء العظام أن لا يغفلوا عن هذا الكتاب المقدّس الّذي فيه تبيان كلّ شي‏ء،...

 

والآن فإنّ الصورة المدوّنة لهذا الكتاب المأخوذ عن لسان الوحي بعد النزول قد وصلت إلى أيدينا كاملة دون زيادة حرف أو نقصان حرف، فالحذر الحذر من هجره لا سمح الله.

 

نعم، الأبعاد المختلفة لهذا الكتاب بكلّ آفاقها ليست في متناول البشر العاديّين لكن على أهل المعرفة والتحقيق في الفروع المختلفة أن ينهلوا بقدر علمهم ومعرفتهم وكفاءاتهم من هذا الكنز العرفانيّ الإلهيّ الفيّاض والبحر الموّاج النازل على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ويقدّموه بتعبيرات مختلفة قريبة للأذهان إلى الآخرين... والمتّقون التوّاقون إلى الهداية عليهم أن يحملوا بارقة ممّا أخذوه من نور التقوى عن هذا النبع الفيّاض بالهدى للمتّقين إلى العشّاق الوالهين إلى الهداية الإلهيّة.

 

وأخيراً على كلّ مجموعة من العلماء الأعلام والمفكّرين العظام أن يشمّروا عن ساعد الجدّ لتناوُلِ بعدٍ من الأبعاد الإلهيّة لهذا الكتاب المقدّس، ويقدّموا بأقلامهم ما يحقّق آمال عشّاق القرآن.

 

ولتنفقوا أوقاتكم في الأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة

 

75 

 

 

59

الدرس الخامس: الآداب الباطنيـّة لتلاوة القرآن

  والعسكريّة والثقافيّة في القرآن، وما فيه من مسائل الحرب والسلم، ليتبيّن أنّ هذا الكتاب مصدر كلّ شي‏ء من عرفان وفلسفة وأدب وسياسة...

 
فيا أيّتها الحوزات العلميّة والمحافل الدراسيّة الجامعيّة، انهضي وأنقذي القرآن من شّر الجاهلين المتنسّكين والعلماء المتهتّكين الّذين يهتكون حرمة القرآن عن عمد وجهل. وأقول عن جدّ لا عن مجاملة إنّي آسف على ما فات من عمري في خطأ وجهل. وإنّكم يا أبناء الإسلام الغيارى في الحوزات والجامعات ابعثوا في الحوزات والجامعات يقظة تدفعها إلى الاهتمام بشؤون القرآن وأبعاده المختلفة الكثيرة.
 
اجعلوا تدريس القرآن نصب أعينكم في جميع أبعاده، كي لا تندموا وتأسفوا لا سمح الله على ما فات من شبابكم حين يهجم عليكم ضعف الشيب في آخر العمر، مثل كاتب هذه السطور"28.
   ________________________________________
28-صحيفة الإمام الخميني قدس سره ، ج20، ص81
76

60

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 الدرس السادس

صيغ الكلمات القرآنية

 


أهداف الدرس

 

1- أن يتعرف الطالب على الحركات الإعرابية في القرآن.

2- أن يميز بين مخارج الحروف العامة. 

3- أن يحدد بعض صفات الحروف الأساس.

 

77

 

 

61

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

الحركات الإعرابيّة


تتألّف الحركات الإعرابيّة في اللغة العربيّة من أربع حركات هي: 

 

الفتحة -َ والضمّة -ُ والكسرة -ِِِ والسكون -ْ. 

 

وكان أوّل من وضعها الخليل بن أحمد الفراهيديّ، حيث رمز إلى الفتحة بنقطة أوّل الحرف، وإلى الكسرة بنقطة تحت الحرف، وإلى الضمّة بنقطة آخر الحرف، وإلى السكون بنقطتين.

 

ولا تخلو كلمات القرآن الكريم من الحركات الظاهرة على كلّ كلمة وحرف. ولا بدّ للطالب المبتدئ أنّ يلمّ بها ليتمكّن من النّطق بها نطقاً صحيحاً.

 

والحرف إمّا متحرّك أو ساكن. والحركة إمّا ضمّ أو فتح أو كسر. وهي تدلّ على اتّجاه الصوت وامتداده. ويلحق بالحركات الواو بعد ضمّة والألف بعد فتحة والياء بعد كسرة، إلّا أنّها تدلّ على امتداد في الصوت ضعفَي ما تدلّ عليه الحركات، مثل: يقول ـ قال ـ قيل...

 

كذلك التنوين وهو عبارة عن نون ساكنة لفظاً تلحق آخر الأسماء وتكتب على صورة ضمّتين -ٌ فوق الحرف، أو فتحتين -ً فوق الحرف، أو كسرتين -ٍ تحت الحرف، مثال: كتابٌ ـ كتاباً ـ كتابٍ.

79 

 

62

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 كما لا بدّ من الالتفات إلى أنّ "الشدّة" هي عبارة عن تكرار الحرف, شرط أن يكون الحرف الأوّل ساكناً والثاني متحرّكاً, كي يتمّ دمجهما بحرف واحد مشدّد: دْ + دَ = دَّ.

 
وإنّ للسكون أشكالاً ورسماً خاصّاً بالقرآن الكريم يظهر في الأشكال التالية: 
 
- سكون شكله كرأس الحاء -ْ للدلالة على إظهار الحرف، نحو: ﴿مَنْ آمَنَ ﴾
 
- سكون مستدير الشكل -ْ للدلالة على زيادة الحرف وإلغائه وعدم النطق به، نحو: ﴿ اتَّقُواْ , أُوْلَئِكَ، قَالُواْ﴾.
 
- حرف خالٍ من الحركة تماماً، وبالواقع هو حرف ساكن لكن أهملت السكون عليه للدلالة على أنّ هناك واحداً من الحكمين السابقين إمّا إخفاء أو إدغام.
 
- سكون مستطيل الشكل للدلالة على إثبات الحرف وقفاً وإلغائه وصلاً، وقد وردَ في مواضع سبعة في القرآن الكريم عُرفت بالألفات السبع، هي: 
 
1- ألِف "أناْ" ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾2.
 
2- ألف "لكنّاْ" ﴿لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾3.
 
3- ألف "الظنوناْ" ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾4.
________________________________________
1-سورة البقرة، الآية:62.
2- سورة الكهف، الآية: 34.
3-سورة الكهف، الآية: 38.
4- سورة الأحزاب، الآية: 10.  
80 
 

63

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 4- ألف "الرسولاْ" ﴿َوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ﴾5.

 
5- ألف "السبيلاْ" ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ﴾6.
 
6- ألف "سلاسلاْ" ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﴾7.
 
وفي مثال سلاسلا يجوز عند الوقف حذف الألف والوقف على اللام الساكنة، أو الوقف على اللام ألف.
 
- سكون مستطيل "" الشكل ظهر في موضعين اثنين فقط: 
 
1- فوق الحرف للدلالة على الاتمام: والاتمام كمن يريد النطق بضمة ولا ينطق بها ﴿مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾8.
 
2- تحت الحرف للدلالة على الإمالة: والإمالة هي إمالة الفتحة إلى كسرة والألف إلى ياء ﴿ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾9.
 
- سكون مملوء الوسط –ْ للدلالة على التسهيل كمن يريد المدّ ولا يفعل، وقد وردت في موضع واحد في القرآن الكريم ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾10.
 
مخارج الحروف
 
الحروف الهجائيّة عددها ثمانية وعشرون حرفاً مجموعة في كلمات: 
 
"أبجد هوّز حطّي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ". وقد جمعها أحد الشعراء في هذا البيت: 
________________________________________
5-سورة الأحزاب، الآية: 66.  
6-سورة الأحزاب، الآية: 67. 
7-سورة الإنسان، الآية: 4.  
8-سورة يوسف، الآية: 11.
9-سورة هود، الآية: 41.  
10-سورة فصّلت، الآية: 44.  
 
81

64

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 مزرفنّ الصدغ يسطو لحظه عبثاً        بالحلي جذلان إن تشكو الهوى ضحكا

 
ومن اعتبر الألف حرفاً مستقلّاً غير الهمزة يصبح عدد الحروف تسعة وعشرين حرفاً. ولكلّ حرف من هذه الحروف مخرج أو محلّ يخرج منه في الفم عند النطق به ويميّزه عن غيره, ويُعرف مخرج الحرف بأن تُسكّن الحرف وتُدخل عليه همزة قطع ثمّ تلفظه فحيث انقطع الصوت كان مخرجه الواقعيّ، نحو: أبْ، أمْ مخرج الباء والميم من الشفتين.
 
المخارج العامّة:
 
وتقسم مخارج الحروف إلى مخارج عامّة ومخارج خاصّة، لكن في درسنا هذا سنتناول المخارج العامّة فقط كون المخارج الخاصّة هي لأهل الاختصاص وشاغلي فنّ وعلم التجويد والترتيل.
 
1- المخرج الأوّل, الجوف: وهو الفراغ الممتدّ ممّا وراء الحلق إلى الفم، وتخرج منه ثلاثة أحرف بشروطها هي:
 
الألف الساكنة المفتوح ما قبلها، والواو الساكنة المضموم ما قبلها، والياء الساكنة المكسور ما قبلها ( -َا، -ُو، -ِي). وتسمّى هذه الحروف بالجوفيّة لأنّها تخرج من جوف الفم وليس لها حيّز تنتهي إليه بل تنتهي بانتهاء الهواء. كذلك تسمّى الحروف الهوائيّة أو المدّية. وعند تحريك هذه الحروف لها مخارج أخرى تخرج منها.
 
2- المخرج الثاني, الحلق: ويخرج منه ستّة أحرف هي: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء (ء- هـ - ع - ح - غ - خ) وتسمّى حروفه بالحلقيّة.
 
3- المخرج الثالث, اللّسان: ويخرج منه ثمانية عشر حرفاً هي: ( ق - ك - ي - ش - ج - ض - ل - ن - ر - ت - د - ط - ز - ص - س - ث - ذ - ظ).
 
4- المخرج الرابع, الشفتان: وتخرج منهما أربعة حروف هي: (ب - م - ف - واو غير مديّة).
 
82
 

65

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 5- المخرج الخامس, الخيشوم: لا يخرج من الخيشوم أيّ حرف هجائيّ، وإنّما يخرج منه صفة لحرف وهي الغنّة، والغنّة صوت لذيذ يخرج من الطرف الأعلى للأنف دون أنّ يكون للّسان دخل به، ومقدارها حركتان، والحركة هي وحدة زمنيّة خاصّة بعلم القراءة تقدّر بوقت رفع الإصبع أو خفضه.


الصفات الأساس للحروف


معنى صفات الحروف

 

بعد أن تعرّفنا إلى مخارج الحروف العامّة، سنذكر الصفة العامّة لكلّ حرف. والمقصود بالصفة العلامة الّتي تميّز الحرف عن سواه في أذن المستمع. ولكلّ حرف من حروف الهجاء بالحدّ الأدنى خمس صفات، وبالحدّ الأقصى سبع صفات. 

 

صفات لها ضدّ وصفات لا ضدّ لها: 

 

وتقسم صفات الحروف إلى صفات لها أضداد وصفات لا أضداد لها. لكن ما نوّد تناوله هنا هو الصفات الأساس لبعض الحروف، وهي محلّ الابتلاء والخطأ لدى العديد من المبتدئين، وهي: 

 

1- الاستعلاء: هو تفخيم مخرج الحرف عن النطق به في الفم وذلك في الحروف السبعة التالية المجموعة في قول: 

 

"خصّ ضغط قظ". سواء كانت ساكنة أم متحرّكة، لكن يقلّل من تفخيمها حالة الكسر. ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾11.

 

2- الهمس: جريان النفس عند النطق بأحد الحروف العشرة التالية المجموعة في قول:

________________________________________

11-سورة النحل، الآية: 4.  

 

 

83

 

66

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 "فحثّه شخص سكت". لضعف الاعتماد على المخرج، ويشترط فيها السكون، لذا فإنّها تأتي في منتصف وآخر الكلام، ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴾12.

 
3- القلقلة: ارتعاد مخرج الحرف عن النطق به، وهي صغرى في وسط الكلام وكبرى في آخره، وحروفها خمسة مجموعة في كلمتي:
 
"قطب جد". ويشترط فيها السكون. ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾13 ، ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾.
 
4- الصفير: صوت زائد يخرج عند النطق بأحد الحروف الثلاثة التالية: السين - الصاد ـ الزين (س - ص- ز) ويشترط فيها السكون أو التشديد، مثال: ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾14.
 
5- اللثويّة: وهي الحروف الّتي تخرج من خارج اللّثّة وتتعلّق بالمخارج وليس بالصفات، لكن نظراً لكثرة الأخطاء الّتي يقع فيها مبتدئو القراءة أوردناها للاستفادة، وعددها ثلاثة حروف هي: "الثاء ـ الذال ـ الظاء" سواء جاءت ساكنة أم متحّركة. ﴿ انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ﴾15.
 
6- الاستطالة: صفة تطلق على حرف الضاد، لامتداد الصوت من أوّل حافّة اللسان إلى آخرها، وتظهر جليّة في الضاد الساكنة، نحو: الضالّين ـ فمن اضطّر ـ خضتم ـ أفضتم.
 
7- الضحوك: صفة تطلق على حرف العين الساكن، وذلك لاتّساع الفم عند النطق به، نحو: يعْلمون ـ تعتدوا...
________________________________________
12-سورة يس، الآية: 75.  
13-سورة الفلق، الآية: 1.
14- سورة الكهف، الآية:  40.
15-سورة المرسلات، الآية: 30.
84 
 

67

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 8 ـ التعطّش: صفة تطلق على حرف الجيم سواء كان ساكناً أو متحرّكاً، وذلك لإشباع النطق به عند خروجه من الفم، نحو: اجتمعوا ـ رجساً ـ الحجّ ـ الجبال...

9ـ التفتيش: صفة تطلق على حرف الشين الساكنة أو المشدّدة، لانتشار النفس في الفم عند النطق به، نحو: اشْتراه ـ الشمس...
10ـ الغنّة: صفة لحرفين هما الميم المشدّدة والنون المشدّدة، ومقدار الغنّة حركتان، نحو: الجنّة ـ النّاس – ثمّ – همّاز..

للمطالعة

في رحاب الإمام قدس سره 
 
يترجم الإمام الخمينيّ قدس سره احترامه للناس ورعاية مشاعرهم بأفعاله وتصرّفاته الحكيمة دائماً. فعندما كان الإمام في باريس، نزل في إحدى مناطقها في منزل أحد الجامعيّين أوّلاً، وكان البيت في الطبقة الرابعة. ولكثرة الذهاب والإياب إليه، وعدم راحة الجيران بسبب ذلك، قرّر الإمام أخذ مكان لا يزعج فيه أحداً، فكان بيت نوفل لوشاتو.
 
وفي باريس، وفي ليلة ميلاد السيّد المسيح عليه السلام، وزّع على جيرانه المسيحيّين هدايا مؤلّفة من بعض الحلويّات الإيرانيّة والمكسّرات إضافة إلى باقة ورد لكلّ بيت.
 
وفي نوفل لوشاتو يُمنع ذبح الحيوانات خارج المسلخ حسب القانون، وفي أحد الأيّام ذبحوا في مكان سكن الإمام خروفاً.. ومع أنّ الإمام كان في ديار الكفر، قال: لأنّ ذلك مخالف لقانون الحكومة، فلن آكل من هذا اللحم.
 
85
 
 
 

68

الدرس السادس: صيغ الكلمات القرآنيـّة

 فإنّ الإمام وإن كان في منطقة غير مسلمة، ولكنّه كان يُظهر فيها أخلاق الإسلام، واحترام الرسالة المحمّدية للإنسان، كيف لا يكون كذلك وهو المتعلّم من نبع الطهارة؟

 
كانوا مسيحيّين، ولكنّه رفض إزعاجهم في سكنه، بسبب تردّد الزائرين إليه. لم يكونوا مسلمين. ولكنّه شاركهم وهنّأهم في عيدهم بميلاد رسول ما قبل الإسلام. فبعث إليهم بهدايا كعلامة مشاركة في هذا العيد.
 
ونفهم ممّا مضى كلّه من خدمة الإمام للناس، وحرصه على أن لا يخدمه أحد، كما يذكر الأخ سليماني: أنّ الإمام كان شديد الحرص، ويقول لنا دائماً عندما نقوم بأيّ شيء من أجله: "لا تزعجوا أنفسكم". ومع ذلك نراه يخدم الناس، ويرى ذلك لا يقلّ ثواباً عن الزيارة.
 
 
86 
 

69

الدرس السابع: أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

 الدرس السابع

أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

 

 

 أهداف الدرس

 

1- أن يتعرّف إلى أحكام أل التعريف ولفظ الجلالة.

2- أن يميّز بين همزة الوصل وهمزة القطع في القرآن.

 

87

 

 

70

الدرس السابع: أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

 أحكام أل التعريف

 
لام التعريف هي لام زائدة على بنية الكلمة، ومختصّة بالدخول على الأسماء النكرة فقط لتعريفها، نحو: مؤمنون (اسم نكرة) ـ المؤمنون (اسم معرفة).
 
وتدوّن لام التعريف بوجود همزة وصل لتسهيل النطق بها عند الابتداء كونها ساكنة، حيث تقلب همزة الوصل إلى همزة قطع مفتوحة عند الابتداء.
 
وتدخل "ال" التعريف على جميع الحروف الهجائيّة فينتج حالتان أو حكمان هما: 
 
1- الإظهار القمريّ: هو إبانة "ال" التعريف عندما يأتي بعدها أحد الحروف القمريّة الأربعة عشر، المجموعة في كلمات: 
 
"إبغ حجّك وخف عقيمه".على نحو إظهار أل التعريف في كلمات (القمر ـ الأوّل ـ الباسط ـ الغفور ـ الحكيم ـ الجليل ـ الكريم ـ الودود ـ الخبير ـ الفصل ـ العليم ـ القاهر ـ اليقين ـ الملك ـ الهادي...).
 
2- الإدغام الشمسيّ: هو حذف "ال" التعريف لفظاً عندما يأتي بعدها أحد الأحرف الشمسيّة الأربعة عشر. المجموعة في أوائل كلم هذا البيت: 
 
طب ثمّ صل رحماً تفز صف ذا نعم            دع سوء ظنٍّ زر شريفاً للكرم
 
89

71

الدرس السابع: أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

 على نحو إدغام أل التعريف في كلمات: 

 
الشمس، الطارق، الصابرين، الرحمة، الظالمين، السماء، الزكاة، الشياطين...
 
ملاحظة: 
 
1- أكثر ما يقع الخطأ في حرف الجيم، فيلفظه كثير من الناس عند إدخال أل التعريف عليه بالإدغام (حرف شمسيّ)، بينما يجب إظهار أل التعريف كونه حرف قمريّ.
2- لام الموصول: كالّذي والّتي لا توصف بكونها شمسيّة أو قمريّة، كذلك اللّام في لفظ الجلالة "الله" لأنّها من أصل بُنية الكلمة.
 
أحكام لفظ الجلالة.
 
لفظ الجلالة "الله" هو اسم قائم بذاته، لا تعتبر "ال" التعريف مزيدة عليه، له حالات: التفخيم والترقيق.
 
1- التفخيم: تفخّم لام لفظ الجلالة في المواضع الخمسة التالية: 
 
1- إذا كان مبدوءاً به، نحو: ﴿اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾1 .
 
2- إذا سبقه ضمّ، نحو: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾2 .
 
3- إذا سبقه فتح، نحو: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾3 .
 
4- إذا سبقه ألف ساكن مفتوح ما قبله، نحو: ﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾4 .
________________________________________
1-سورة آل عمران، الآية: 2.
2- سورة البقرة، الآية: 229.
3-سورة الطلاق، الآية: 1.  
4-سورة الشورى، الآية: 53.  
90 
 

72

الدرس السابع: أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

 5. إذا سبقه واو ساكنة مضموم ما قبلها، نحو: ﴿ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ..﴾5 .

 
2- الترقيق: ترقّق لام لفظ الجلالة في المواضع الثلاثة التالية: 
 
1. إذا كان مسبوقاً بكسر، نحو: ﴿ِبِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾، ﴿يَفْتَحِ اللَّهُ﴾6 . 
 
2. إذا كان مسبوقاً بياء ساكنة مكسور ما قبلها، نحو: ﴿َفِي اللّهِ شَكٌّ ﴾7 . ـ ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ..﴾8 .
 
إذا كان مسبوقاً بتنوين، نحو: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾9 . ﴿ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  *اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾10 .
 
همزتا الوصل والقطع
 
الهمزة إمّا أن تكون همزة وصل أو همزة قطع.
 
أ- همزة القطع: هي الّتي تَثبت وصلاً وبدءاً، وتقع في أوّل الكلمة ووسطها وطرفها، على نحو: أنزل ـ يسأل ـ سماء.
 
ب - همزة الوصل: هي الّتي تَثبت في الابتداء وتسقط في الوصل. والقاعدة أن العرب لا تبدأ بساكن, فأوّل الكلمة إنّ كان ساكناً يحتاج إلى همزة وصل لنتمكّن من لفظها, وتتحوّل همزة الوصل إلى همزة قطع عند الابتداء، وترسم على هيئة ألف "ا"، وتحذف عندما تدخل عليها الأحرف المزيدة على نحو:﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ  ﴾11 ، ﴿ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ  ﴾ 12...، وتحذف لفظاً عند
________________________________________
5-سورة آل عمران، الآية: 135.
6- سورة فاطر، الاية: 2.  
7-سورة إبراهيم، الآية: 10.  
8-سورة الزمر، الآية: 61.  
9-سورة الأعراف، الآية: 164.
10- سورة الإخلاص، الآيتان: 1 ـ 2.
11- سورة الأنعام، الآية: 32. 
12-سورة الأعراف، الآية 180.
 
 
91 
 

73

الدرس السابع: أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

  الوصل: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ - ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾13 وعلامتها أن تذكر (واو) قبلها ثمّ تلفظ الكلمة فإن احتاجت إلى لفظ حركة عليها فهي قطع نحو(وأجمع)، وإن لم تحتج إلى لفظ حركة فهي وصل نحو:﴿وَاعْلَمْ﴾ ، وتكون همزة الوصل في الأسماء والأفعال: 

 
1- همزة الوصل في الأسماء: 
 
- همزة الوصل في الأسماء النكرة: تكسر همزة الوصل دائماً عند الابتداء، وقد وردت في سبعة أسماء في القرآن الكريم هي: 
 
1- بن: ﴿عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾14 .
 
2- بنة: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ﴾15 .
 
3- مرئ: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ﴾16 .
 
4- مرأة: ﴿ِإذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ ﴾ 17.
 
5- ثنان: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ 18.
 
6- ثنتان: ﴿ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ ﴾ 19.
 
7- سم: ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، ﴿ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ﴾20 .
 
- همزة الوصل في الأسماء المعرّفة: تفتح الهمزة دائماً عند الابتداء، نحو: الحمد لله، الرحمن، الرحيم، السموات، الأرض، القرآن، الإنسان...
________________________________________
13-سورة آل عمران، الآية 189.
 14-سورة النساء، الآية: 157.
15-سورة التحريم، الآية: 12.  
16-سورة النساء، الآية: 176.
17-سورة آل عمران، الآية: 35.  
18-سورة النحل، الآية: 51.
19- سورة النساء، الاية: 176.
20- سورة آل عمران، الاية: 45.
 
92

74

الدرس السابع: أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

 2- همزة الوصل في الأفعال: 

 
يتمّ النظر إلى عين الفعل، أي ثاني حرف منه، فإذا كان مكسوراً أو مفتوحاً يبدأ بهمزة الوصل مكسورة دائماً. نحو: استغفر، اذهب، اضرب، انطلق، استخلف، استكباراً، اعلم، ارجع...
 
أمّا إذا كان عين الفعل مضموناً ضمّاً لازماً فيبدأ بالهمزة مضمومة. نحو: انظر، اعبد، اخرج...
 
أمّا إذا كان عين الفعل مضموماً ضمّاًَ عارضاً فيبدأ بالهمزة مكسورة. نحو: امشوا، ابنوا، اقبضوا...
 
93

75

الدرس السابع: أل التعريف وهمزتا الوصل والقطع

 للمطالعة


علماؤنا أسوتنا

 

كتب رجل بعيد عن الآداب الإسلاميّة إلى العالم العظيم الخواجة نصير الدين الطوسيّ قدس سره كتاباً خشناً، وكان في جملة ما كتب فيه: (يا كلب).

 

فأجابه الخواجة الطوسيّ قدس سره في كتاب بجواب ليّن، وكان في جملة ما كتب فيه: وأمّا خطابك لي بالكلب، فإنّي لست بذلك، فإنّ الكلب منحني الظهر، وأنا مستقيم القامة أمشي على رجلين. وما أشبه هذه العبارات، وذلك بكل هدوء ورفق، وبدون أيّ خشونة وخُرق، ما أدّى إلى خجل الكاتب والاعتذار منه.

 

ويُحكى أنّه وقع قحط في بغداد أيّام مرجعيّة السيّد المرتضى علم الهدى قدس سره، وحيث إنّ السيّد كان يُجري على طلبة العلم ورجال الدين الّذين يحضرون درسه في بغداد المرتّب الشهريّ، احتال يهوديّ للتوصّل إلى المرتّب الشهريّ والحصول عليه بإظهار الإسلام، والانضمام إلى صفوف الطلبة. فأظهر اليهوديّ الإسلام وجاء إلى درس السيّد، وذلك في تلك الأيّام العجاف، والقحط الشديد، فقبله السيّد وأجرى له مرتّباً شهريّاً كما يجريه لبقيّة طلبته، وأحسن معاشرته.

 

فلمّا رأى اليهوديّ حسن معاشرة السيّد، وطيب معاملة المسلمين، أسلم قلباً وآمن حقيقة، وبقي يواصل دراسته عند السيّد، ولم يفارقه حتّى الموت - وذلك بعد أن هدى إلى الإسلام جماعة من أقربائه وذويه اليهود - وهذا كان من بركة حزم السيّد  قدس سره وحسن تقديره.

 

 

94 

 

 

 

 

76

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

 الدرس الثامن

اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة
 




أهداف الدرس
 
1- أن يتعرف الطالب إلى اصطلاحات الضبط.
2- أن يتبين الحركات وسجدات التلاوة.
 
 
95
 

77

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

 اصطلاحات الضبط

 
اصطلاحات الضبط هي عبارة عن رموز اصطلاحيّة، أدرجها علماء التجويد تسهيلاً على القارئ. وهي ليست موجودة في جميع المصاحف، بل تختلف بين مصحف وآخر، لذلك عمد العلماء إلى ذكر هذه الاصطلاحات في نهاية كلّ مصحف مع شرح وتعريف لها.
 
1- وضع ميم صغيرة (م) فوق النون الساكنة بدون السكون، أو بدل الحركة الثانية من المنوّن يدلّ على قلب التنوين أو النون ميماً، نحو: ﴿مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾   1 ، ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾   2 ، ﴿فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا ﴾3...
 
2- تركيب حركات التنوين (ضمّتين أو فتحتين أو كسرتين) بالشكل التالي (أ) ـٌـ، ــًـ، ـٍـ، يدل على إظهار التنوين، نحو ﴿ سَمِيعٌ عَلِيمٌ -  وَلَا شَرَابًا - وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾   .
________________________________________
1-سورة البقرة، الآية: 27.
2-سورة آل عمران، الآية: 119.  
3-سورة الواقعة، الآية: 6.
 
 
97 
 

78

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

 وتتابعها مع عدم التشديد يدلّ على الإدغام، نحو: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ...﴾ 4 أو على الإخفاء، نحو: ﴿شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾ 5.

 
3- الحروف الصغيرة (و، ي، ن، ا) وضعت للدلالة على النطق بالحروف المتروكة، نحو: 
 
﴿مَا وُورِيَ ﴾6 - ﴿إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ ﴾7 - ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم ﴾8 - ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ﴾9 - ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾10 - ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ ْ...﴾11.
 
4- أمّا إشارة (~) فهي للدلالة على لزوم المدّ الزائد والتفصيل عند علماء التجويد.
 
5- اصطلاحات الوقف هي: 
 
- (ﻣ) تفيد لزوم الوقف، نحو: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾12.
 
- (لا) تفيد النهي عن الوقف، نحو: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾13.
 
- (صلى) علامة وقف لكن الوصل أولى، نحو: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾14.
________________________________________
4- سورة الأعراف، الآية 196.  
5-سورة الحجر، الآية: 18.
6-سورة الأعراف، الآية: 20.
7- سورة قريش، الآية: 2.
8-سورة آل عمران، الآية: 78.
9-  سورة الأعراف، الآية: 196.  
10-سورة الأنبياء، الآية: 88.  
11-سورة الأنبياء، الآية: 88.
12- سورة الأنعام، الآية: 36.  
13-سورة النحل، الآية: 32.  
14-سورة الإنفطار، الآية: 19.
 
98

79

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

 - (قلى) يمكن الوصل عندها لكن الوقف أولى، نحو: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ﴾15.

 
- (ج) جواز الوقوف أو الوصل، نحو: ﴿رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾16.
 
- () تعانق الوقف يعني جواز الوقف بأحد الموضعين وليس في كليهما، نحو: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾17.
 
6- قاعدة لفظ فواتح السور: فواتح السور هي الحروف الّتي تبدأ بها 29 سورة فقط من سور القرآن الكريم، نحو: ﴿ ﴾   .
 
ويشترك فيها أربعة عشر حرفاً فقط بعد حذف المتكرر مجموعة في القول: "صراط عليّ حقّ نمسكه" أو في: "نصّ حكيم قاطع له سر".
 
ويمكن تقسيم هذه الحروف إلى ثلاثة أقسام: 
 
1- القسم الأوّل يضمّ حرفاً واحداً هو الألف، يلفظ كما يكتب "ألف". 
 
2- القسم الثاني يضمّ خمسة حروف مجموعة في كلمتي: "حيّ طهر"، هجاء كلّ حرف حرفان، أي "حا يا طا ها را"، فتلفظ كما هجاؤها أي تُمدّ حركتين.
 
3- القسم الثالث يضم ثمانية حروف مجموعة في كلمتَي: "نقص عسلكم"، هجاء كلّ حرف ثلاثة حروف، أي "نون، قاف، صاد، عين، سين، لام، كاف، ميم"، فتلفظ بمدّ الحرف الوسطيّ مقدار ستّ حركات.
________________________________________
15- سورة الأنبياء، الآية: 26.
16- سورة ق، الآية: 11.  
17-سورة البقرة، الآية: 2.  
99 
 

80

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

 السكتات وسجدات التلاوة

 
1- السكت: هو حبس النفَس زمناً يسيراً يقدّر بمقدار حركتين بنيّة إكمال القراءة لا بنيّة الإعراض، ومن دون أخذ نفَسٍ جديدٍ، ويُرمز له بحرف سين صغيرة فوقه، وذلك في أربعة مواضع في القرآن الكريم هي: 

- ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا *قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾18.

- ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾19.

- ﴿ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ﴾20.

- ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾21 
 
وهناك سكتة خامسة، وهي في قوله تعالى: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ  *  هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ  ﴾22 يجوز فيها الوجهان: أحدهما إظهار الهاء في "ماليه" مع السكت، وثانيهما إدغامهما متماثلين. لكنّ السكت مقدّم وأولى.
 
2- سجدات التلاوة: هي سجدة واحدة بعد تلاوة آية سجدة، وهي واجبة في بعض الآيات، ومستحبّة في الباقي، وتجب على القارئ والمستمع، على وضوء أو غيره، بنيّة.
 
3- كيفيّة سجود التلاوة: 
 
- النيّة: أسجد قربةً إلى الله تعالى.
 
- يستحبّ أن تقول أثناء السجود: "لا إله إلّا الله حقّاً حقّاً، لا إله إلّا الله إيماناً وتصديقاً، لا إله إلّا الله عبوديّة ورقّاً، سجدت لك ربّي تعبّداً ورِقّاً، لا
________________________________________
18-سورة الكهف، الآيتان: 1 ـ 2. 
19- سورة يس، الآية: 52.  
20-سورة القيامة، الآية: 27.
21- سورة المطفّفين، الآية:14.  
22-سورة الحاقة، الآيتان: 28 ـ 29.
100
  
 

 


81

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

مستنكفاً ولا مستكبراً بل أنا عبد ذليل خائف مستجير"23.

 

- والسجدات الواجبة أربع وآياتها هي: 


﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾24.


﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾25.


﴿ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾26.


﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾27.

 

- والسجدات المستحبّة عددها 11 سجدة وآياتها هي: 

 

1- ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾28.


2- ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾29.


3- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾30.


4- ﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾31.

________________________________________

23-وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج2، ص245، باب 46 من أبواب قراءة القرآن.  

24-سورة السجدة، الآية: 15. 

25- سورة فصّلت، الآية: 37.  

26-سورة النجم، الآية: 62.  

27-سورة العلق، الآية: 19. 

28- سورة الأعراف، الآية: 206.  

29-سورة الحجّ، الآية: 18.  

30-سورة الحجّ، الآية: 77.  

31-سورة الرعد، الآية: 15.  

 

101 

 

 

82

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

 5-﴿وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾32.


6- ﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴾33.

7- ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾34.

8- ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾35.

9- ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ﴾36.

10- ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ 37.

11- ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾38. 
 
تنبيه: 
ويشار في القرآن الكريم بخطّ - يوضع فوق فعل السجود للدلالة على وجود سجدة في الآية المباركة، ويتمّ وضع علامة () في نهاية الآية الّتي فيها فعل السجود.
________________________________________
32-سورة النحل، الآية: 49.  
33-سورة الإسراء، الاية: 107.  
34-سورة مريم، الآية: 58.  
35-سورة الفرقان، الآية: 60. 
36- سورة النمل، الآية: 25.  
37-سورة ص، الآية: 24.
38- سورة الانشقاق، الآية: 21.
 
 
102 
 

83

الدرس الثامن: اصطلاحات الضبط وسجدات التلاوة

 للمطالعة


علماؤنا أسوتنا
 
يُنقل أنّه كان قد طرق سمع (ناصر الدين شاه) كلمات إطراء حول مؤلّف كتاب (المنظومة) في المنطق والحكمة، الحاج هادي السبزواريّ، فأحبّ أن يراه عن كثب، ولذلك عزم على السفر إلى خراسان - سفراً غير رسميّ - حتّى يتوفّق لرؤيته.
 
فلمّا وصل في طريقه إلى نيشابور، زاره فيها العلماء وشخصيّات البلد، ولم يكن فيما بينهم الحاج هادي السبزواريّ، فاضطرّ أن يذهب وحده إلى سبزوار علّه يحظى هناك بزيارته.
 
ولمّا وصلها توجّه إلى داره ودخل عليه بلا خبر مسبق، فرآه جالساً على حصير عاديّ في بيت متواضع، خالٍ من كلّ زخارف الحياة ومباهجها، فتعجّب من ذلك.
 
لكن زاد تعجّبه لمّا صار وقت تناول طعام الغداء، حيث جاء إليه خادمه بطبق فيه قرصان يابسان من الشعير، وقليل من الملح الجريش، ومقدار من اللبن الحامض، وملعقتان من خشب، ووضعه أمامهما.
عندها توجّه السبزواريّ إلى الملك وقال: تفضّل على اسم الله.
 
  
103

84

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 الدرس التاسع

الرسم القرآني وأسراره
 




أهداف الدرس
 
1- أن يتعرف الطالب إلى أقسام الرسم القرآني.
2- أن يميّز بين بعض كلمات الرسم العثماني والرسم القياسي.
 
 
105
 

85

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 قال الله تبارك وتعالى: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾1

 
أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بلسان العرب, وذلك لأنّ كلّ نبيّ أُنزل كتابه بلسان قومه، والقرآن الكريم ليس أمراً ونهياً وكلمات ومعاني فقط، بل هو رسم أيضاً.
 ومن المعلوم أنّ للقرآن الكريم منهجاً خاصّاً في الكتابة، يختلف نوعاً ما عن الكتابة الّتي أَلِفَها الناس.
 
أقسام الرسم القرآنيّ
 
قسّم العلماء الرسم الكتابيّ ـ الخطّ الإملائيّ ـ إلى قسمين رئيسين.
 
الأوّل: أطلقوا عليه اسم الرسم القياسيّ، ويقصدون به كتابة الكلمة كما تُلفظ، مع الأخذ بعين الاعتبار حالتي الابتداء بها والوقف عليها.
 
الثاني: أطلقوا عليه اسم الرسم التوقيفيّ، ويقصدون به الرسم العثمانيّ، إذ هو الرسم الّذي كُتبت به المصاحف.
________________________________________
1-سورة الزخرف، الآيات: 1 ـ 3.
 
107

86

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 وقد صنّف العلماء في هذا المجال ما عُرف بـ "علم الرسم القرآنيّ" ووضعوا كتباً خاصّة في هذا الموضوع، منها، على سبيل المثال لا الحصر، كتاب "المقنع في معرفة رسم مصاحف الأمصار" لأبي عمرو الداني، وكتاب التنزيل لأبي داود سليمان نجاح.

 
متباينات الرسم العثمانيّ والرسم القياسيّ
 
إنّ الرسم العثمانيّ يخالف الرسم القياسيّ من بعض الوجوه، أهمّها خمسة وجوه، نذكرها فيما يأتي مع التمثيل لها: 
 
الوجه الأول، الحذف: 
 
وهو كثير، ويقع في حذف الألف، والواو، والياء.
 
فمن أمثلة حذف الألف، قوله تعالى ﴿الْعَالَمِينَ﴾2: حيث حُذفت الألف بعد العين، وقد كُتبت كذلك في جميع مواضعها في القرآن، والأصل في كتابتها حسب الرسم الإملائيّ (العالمين).
 
ومن أمثلة حذف الواو، قوله تعالى:  ﴿وَالْغَاوُونَ ﴾3 ، وقد وردت في موضعين من القرآن، والأصل فيها (الغاوون).
 
ومن أمثلة حذف الياء، قوله تعالى:  ﴿النَّبِيِّينَ َ﴾4 ، وقد وردت كذلك في جميع مواضعها في القرآن، وعدد مواضعها ثلاثة عشر موضعاً، والأصل في كتابتها (النبيّين).
 
ومن وجوه حذف الأحرف أيضاً، حذف اللام والميم.
________________________________________
2- سورة الفاتحة، الآية: 2.  
3-سورة الشعراء، الآية: 94.  
4-سورة البقرة، الآية: 61.  
108 
 

87

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

فمثال حذف اللام، قوله تعالى: ﴿ اللَّيْلِ﴾5 ، وقد كتبت كذلك في جميع مواضعها، وعددها ثلاثة وسبعون موضعاً، والأصل فيها (الليل).

 

ومثال حذف النون  ﴿ نُنجِي ﴾6 والأصل فيها (ننجي).

 

1- كلمة "اسم": 

 

قال الله تعالى  ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ 7، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ 8

 

2- كلمة (سموات – سماوات).

 

وردت كلمة ﴿السَّمَاوَاتُ﴾ بهذا الرسم بدون ألف صريحة 189 مرّة في القرآن الكريم... ووردت مرّة واحدة فقط بألفٍ صريحة بعد حرف (و) بالرسم القرآنيّ ﴿سَّمَاوَاتُ﴾ وذلك في الآية الكريمة رقم 12 من سورة فصّلت ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾9. 

 

3- كلمة (الميعاد ـ الميعد).

 

وردت كلمة (الميعاد) وذلك بألف صريحة في وسط الكلمة 4 مرّات في القرآن الكريم... وكلّها تتكلّم عن الميعاد الأخروي الّذي وعده الله سبحانه وتعالى.. لذلك جاء الميعاد واضحاً وصريحاً ولا ريب فيه مثال ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾10، ولمّا تحدّث القرآن عن لقاء

________________________________________

5-سورة آل عمران، الآية: 190.

6- سورة الأنبياء، الآية: 88. 

7-سورة الواقعة، الآيتان: 95 ـ 96.  

8-سورة العلق، الآية: 1.

9- سورة فصّلت، الآية: 12.  

10-سورة آل عمران، الآية: 9.  

 

109 

 

 

88

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 المسلمين بالكفّار في المعركة جاءت الكلمة بلا ألف صريحة: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾11.

 
4- كلمة (سعوا ـ سعو).
 
وردت سعوا بشكلها العادي مرّة واحدة:﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾12 ، ووردت (سعو) ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾13 بشكلها غير العادي بدون ألف في آخرها مرّة واحدة أيضاً في القرآن الكريم. 
 
5- كلمة (صحب ـ صاحب).
 
في الآية 34 من سورة الكهف يقول القرآن الكريم على لسان مالك الجنّتين: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا ﴾14، بألف متروكة.
 
غير أنّ الردّ يأتيه من صاحبه المؤمن في الآية 37 من نفس سورة الكهف: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾15 باستخدام الألف الصريحة، والمدّ بالألف المتروكة.
 
6- حذف حرف الواو من بعض الأفعال.
 
ورد أنّه تمّ كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:
 
﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.
________________________________________
11-سورة الأنفال، الآية: 42.  
12-سورة الحجّ، الآية: 51.
13- سورة سبأ، الآية: 5. 
14- سورة الكهف، الآية: 34.  
15-سورة الكهف، الآية: 37.
 
110

 


89

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 7- كلمة (وسئل ـ فسئل).

 
ورد في القرآن الكريم كلّه فعل الأمر من (سأل) ناقصاً حرف(أ) في البداية. ونذكر فيما يلي نماذج من الآيات الكريمة الّتي ورد فيها هذا الفعل: 
 
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾16.
 
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ﴾17.
 
8- كلمة (أيد ـ أييد).
 
وردت كلمة (أيد) وهي جمع يد مرّتين في القرآن الكريم بهذا الرسم العاديّ، وذلك في الآيتين التاليتين: 
 
قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾18
 
غير أنّها وردت مرّة واحدة برسم مختلف يزيد حرف (ي) في منتصفها، وذلك في الآية الكريمة الآتية: 
 
﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾19
 
الوجه الثاني: الزيادة
 
وتكون في الألف، والواو، والياء، فمثال الزيادة في الألف قوله تعالى: (وجِاىء)، والأصل فيها (وجيء).
 
ومثال الزيادة في الواو قوله تعالى ﴿سَأُرِيكُم﴾20 ، والأصل فيها (سأريكم).
________________________________________
16- سورة يوسف، الآية: 82.
17- سورة النحل، الآية: 43.  
18-سورة ص، الآية: 17.  
19-سورة الذاريات، الآية: 47.  
20-سورة الأعراف، الآية: 145.  
111 
 

90

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 ومثال الزيادة في الياء قوله تعالى ﴿ بِأَيْدٍ﴾21 ، وهو الموضع الوحيد في القرآن، والأصل فيها (بأيدٍ).

 
الوجه الثالث، الهمز: 
 
حيث وردت الهمزة في الرسم العثمانيّ تارةً برسم الألف، وتارة برسم الواو، وتارة برسم الياء.
 
فمن أمثلة ورودها ألفاً، قوله تعالى ﴿ لَتَنُوءُ﴾22 ، وهو الموضع الوحيد، والأصل فيها (لتنوء).
 
ومن أمثلة ورودها واواً قوله تعالى: ﴿يَبْدَؤاُ﴾23 ، وهي كذلك في مواضعها الستّة من القرآن، والأصل فيها (يبدأ).
 
ومن أمثلة مجيئها ياءً، قوله تعالى ﴿وَإِيتَاء﴾24 ، وهو الموضع الوحيد من ثلاثة مواضع، والأصل فيها (وإيتاء). 
 
الوجه الرابع، البدل: 
 
ويقع برسم الألف واواً أو ياء، فمن مجيئها واواً قوله تعال:﴿ الصَّلاةَ﴾ 25، وهي كذلك في جميع مواضعها الأربعة والستّين، والأصل (الصلاة) ومثلها (الزكاة).
 
ومن صور رسمها ياءً، قوله تعالى: ﴿ يَا أَسَفَى﴾26 ، والأصل فيها (يا أسفا).
________________________________________
21-سورة الذاريات، الآية: 47.  
22-سورة القصص، الآية: 76.  
23-سورة يونس، الآية: 4.  
24-سورة النحل، الآية: 90.  
25-سورة البقرة، الآية: 3. 
26- سورة يوسف، الآية: 84.  
 
112

91

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 ومن ذلك أيضاً، قوله تعالى ﴿ وَالضُّحَى ﴾27 ، ولم ترد إلّا في هذا الموضع، والأصل فيها (والضحا).

 
الوجه الخامس، الفصل والوصل: 
 
فقد رسمت بعض الكلمات في المصحف العثمانيّ متّصلة مع أنّ حقّها الفصل، ورسمت كلمات أخرى منفصلة مع أنّ حقّها الوصل، فمن أمثلة ما اتّصل وحقّه الفصل ما يلي: 
 
- (عن) مع (ما) حيث رسمتا في مواضع من القرآن الكريم متّصلتين، من ذلك قوله تعالى: ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ 28 ، وقد وردت كذلك في جميع المواضع.
 
- (بئس) مع (ما) رسمتا متّصلتين في مواضع، من ذلك قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ ْ﴾ 29، وهي كذلك في مواضعها الثلاثة.
 
- (كي) مع (لا) رسمتا متّصلتين في مواضع، من ذلك قوله تعالى ﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ ﴾ 30، وهي كذلك في مواضعها الأربعة.
 
ومن أمثلة ما انفصل وحقّه الوصل ما يلي: 
 
- قوله تعالى: ﴿ ُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾31 ، وقد جاءت كذلك في ثلاثة مواضع، وجاءت متّصلة على الأصل في خمسة عشر موضعاً.
 
- قوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا﴾32 ، وقد جاءت كذلك في ثمانية مواضع، وجاءت متّصلة على الأصل في أربعة مواضع.
________________________________________
27-سورة الضحى، الآية: 1.
28- سورة البقرة، الآية: 74.  
29-سورة البقرة، الآية: 90.  
30-سورة آل عمران، الآية: 153.  
31-سورة النساء، الآية: 91.  
32-سورة البقرة، الآية: 148.  
 
113

92

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 هذه الوجوه الخمسة الّتي أتينا على ذكرها، مع شيء من التمثيل لها، هي أهمّ الوجوه الّتي فارق فيها الرسم العثمانيّ الرسم الإملائي.


للمطالعة

من اكتشافات القرآن العلميّة

دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس 
 
يقول التاريخ إنَّ غاليليو الإيطاليّ كان أوّل من اكتشف دوران الأرض حول نفسها قبل نحو أربعة قرون، بينما كان العلماء قبله يؤمنون بنظرية بطليموس المصريّ القائلة إنّ الأرض هي مركز الكون وإنَّ جميع الأجرام الأخرى تدور حولها.
 
وكان جزاء غاليليو على اكتشافه العلميّ هذا أنْ حكمت الكنيسة بكفره، ولم ينجُ من الموت إلاّ باظهار الندم على اكتشافه ذاك. غير أنّ علماء آخرين تابعوا نظريته واكّدوها بحيث إنّها أصبحت اليوم من الأُمور الّتي لا يختلف فيها اثنان، بل لقد ثبت بالتجارب الملموسة أنَّ الأرض تدور حول نفسها، وخاصّة بعد التحليقات الفضائية الأخيرة. 
 
وعليه فقد فقدت الأرض مركزيّتها بالنسبة للكون بعد أنْ تبيّن أنَّنا كنّا من قبل ضحيّة خطأ حواسّنا، فكنّا نخلط حركة الأرض بحركة مجموعة الثوابت والسيّارات. إنَّنا نحن الّذين نتحرّك، وكنّا نعتبرها هي الّتي تتحرّك.
على كلّ حال، لقد سيطرت نظريّة بطليموس نحو ألف و خمسمائة سنة على عقول العلماء. 
 
وعند ظهور القرآن لم يكن أحد يجرؤ على القول بخلاف ذلك. 
 
ولكنّنا إذا رجعنا إلى آيات القرآن نجد أنَّه في الآية 88 من سورة "النمل" يتحدّث الله تعالىعن حركة الأرض فيقول عز من قائل: 
114 
 

93

الدرس التاسع: الرسم القرآنيّ وأسراره

 ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾   .

 
هذه الآية تشير بوضوح إلى حركة الجبال مع أنَّنا نراها ساكنة جامدة. إنَّ تشبيه حركتها بحركة السحاب يفيد السرعة مع الهدوء.
 
أمّا التعبير عن حركة الأرض بحركة الجبال، فهو لكي يبيّن أهمّيّة الموضوع، إذ لا حركة للجبال بغير حركة الأرض من تحتها، أي إنَّ حركتها هي حركة الأرض نفسها، سواء أكان المقصود دورانها حول نفسها، أم حول الشمس، أم كليهما.
 
تصوّر الآن عصراً كانت فيه جميع المحافل العلميّة في العالم والإنسان العاديّ، يؤمنون بنظريّة سكون الأرض ودوران الشمس والكواكب الأخرى حولها. ألا يكون الإخبار بحركة الأرض بهذا البيان معجزةً علميّة، خاصّة أنَّ المخبر إنسان أُمّيّ لم يدخل مدرسة، بل إنَّه نشأ في محيط متخلّف لا مدرسة فيه ولا تعليم؟ أفلا يكون هذا دليلاً على كون القرآن كتاباً سماويّاً؟33 
  
 ________________________________________
33-سلسلة دروس في العقائد الاسلاميّة، آية الله مكارم الشيرازي، مؤسسة البعثة، ط2، ص114ـ 116.
 
115 
 

94

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 الدرس العاشر

تفسير القرآن الكريم
 



 
أهداف الدرس
 
1- أن يتعرف الطالب إلى معنى التفسير.
2- أن يعدد شروط التفسير.
3- أن يميز بين المنهج التجزيئي والمنهج الموضوعي.
 
117
 

95

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 معنى التفسير 

 
التفسير لغة: البيان والكشف (لسان العرب، مادّة (فسر)). فتفسير الكلام هو الكشف عن مدلوله وبيان معناه، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم بهذا المعنى أيضاً، في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾1. 
 
وتفسير القرآن هو بيان معاني الآيات القرآنيّة والكشف عن مقاصدها ومداليلها، بالعقل والقرآن والروايات الشريفة.
 
شروط التفسير
 
نقصد بشروط التفسير الأسس والمباني الفكريّة والعقائديّة الّتي لا بدّ أن يقوم عليها التفسير من أجل أن يكون تفسيراً صحيحاً للقرآن الكريم.
 
وهنا عدّة مسائل: 
 
الأولى: الذهنيّة الإسلاميّة:
 
لا بدّ للمفسّر الّذي يريد أن يفسّر القرآن الكريم أن يفسّره بـ‍ (ذهنيّة إسلاميّة). ومعنى ذلك أن يكون لدى هذا المفسّر مجموعة من التصوّرات
________________________________________
1-سورة الفرقان، الآية: 33.
 
119

96

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 الأساسيّة يعتمد عليها الإسلام، وترتبط بالقرآن الكريم وتشكّل الإطار العامّ للتفسير, الّذي من خلاله يتمكّن المفسّر من الوصول إلى نتائج صحيحة في عمله التفسيريّ. فيكون تصوّره للقرآن أنّه وحي إلهيّ، وأنّ نسبته هي إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّ القرآن ليس نتاجاً وجهداً بشريّاً، ومن خلال هذا وحده يتمكّن من الوصول إلى نتائج صحيحة في تفسيره للقرآن الكريم.

 

الثانية: التصوّر العامّ عن القرآن:

 

بأن يكون لدى المفسّر تصوّر عامّ عن كيفيّة نزول القرآن والأسلوب الّذي اتّبعه في (عمليّة التغيير) ومنهجه في طرح القضايا والأحداث من قبيل أن يعرف المفسّر (إجمالاً) أنّ في القرآن الكريم ناسخاً ومنسوخاً، فإنّ هذه الفكرة ذات أثر كبير في فهم القرآن وإمكانيّة تفسير بعضه ببعض.

 

وأن ينظر إلى القرآن الكريم على أنّه يمثّل وبمجموعه نصّاً واحداً، وأن بعضه يشكّل قرينة على بعضه الآخر، ففيه "المطلق والمقيّد" وفيه "المجمل والمبيّّن" وفيه "المحكم والمتشابه"2 ، وأنّ القرآن الكريم وإن نزل بشكل تدريجيّ وخلال ثلاث وعشرين سنة، إلّا أنّ هناك قرائن عديدة تدلّ على أنّ هذا الشيء الّذي نزل بشكل تدريجيّ يشكّل وبمجموعه قضيّة واحدة وكلاماً واحداً، وأنّ بعضه يكمل الآخر ويوضحه. فقد أكّد أئمّة أهل البيت عليه السلام كثيراً على أهميّة هذا الموضوع في تفسير القرآن الكريم ووجّهوا انتقاداً شديداً لمجموعة من المفسّرين الّذين كانوا يتعاملون مع القرآن الكريم من دون الالتفات إلى هذه الرؤية العامّة للقرآن.

 

فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث احتجاجه على الصوفية لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الإيثار والزهد قال: "ألكم علم بناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه الّذي في مثله ضلّ من ضلّ، وهلك ومن هلك.

________________________________________

2-وتوضيح هذه المصطلحات وغيرها يأتي إن شاء الله في مباحث علوم القرآن.  

 

120

 

 

97

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 من هذه الأمّة؟ قالوا: أو بعضه فأمّا كلّه فلا. فقال لهم: فمن ههنا أُتيتم"3. وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن قال: - فبئس ما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وأحاديثه الّتي يصدّقها الكتاب المنزل وردّكم إيّاها لجهالتكم وترككم النظر في غريب القرآن من التفسير والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي - إلى أن قال عليه السلام: - دعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به، وردّوا العلم إلى أهله تُؤجروا وتُعذروا عند الله، وكونوا في طلب ناسخ القرآن من منسوخه، ومحكمه من متشابهه، وما أحلّ الله فيه ممّا حرّم، فإنّه أقرب لكم من الله، وأبعد لكم من الجهل، دعوا الجهالة لأهلها، فإنّ أهل الجهل كثير، وأهل العلم قليل، وقد قال الله: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾"4.

 
الثالثة: العقيدة الصحيحة:
 
بأن تكون المباني العقائديّة للمفسّر مبانٍ صحيحة. والمقصود من العقيدة الصحيحة هي تلك العقيدة الّتي تنتهي في سلسلة مراتبها وارتباطاتها واستنباطها إلى القرآن الكريم نفسه. فتصبح هذه العقيدة - والّتي هي قرينة على فهم المضامين القرآنيّة - نابعة من القرآن الكريم ذاته، ومن ثَمّ لا نخرج بالتفسير عن حدود نفس القرآن الكريم.

الرابعة: المعرفة باللغة العربيّة الفصحى وقواعدها:
 
يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾5. وهذا أمر مفروغ منه إذ لا يمكن لمن يريد أن يخوض غمار تفسير آي القرآن أن يكون جاهلاً باللّغة العربية وفصاحتها وبلاغتها وقواعدها الإعرابيّة.
________________________________________
3-(أُتيتم) بالبناء للمفعول أي دخل عليكم البلاء وأصابكم ما أصابكم . 
4-سورة يوسف، الآية: 76، الكافي، ج5، ص70.
5- سورة يوسف، الآية: 2.  
121 
 

98

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 تطوّر علم التفسير

 

بدأ التفسير للآيات وبيان معاني ألفاظ القرآن الكريم منذ عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان هو أوّل من أوضح مقاصده. وبعد أن ارتحل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، رجعت الشيعة إلى أهل بيته لما مرّ من حجيّة أقوالهم ولم يركنوا إلى آراء الصحابة والتابعين الّذين اعتمد أقوالهم بقيّة المسلمين، إلّا ما ثبت أنّه حديث نبويّ.

 

فكانت أوائل التفاسير عبارة عن أحاديث مأثورة عن النبيّ وأهل بيته ثمّ تطوّرت إلى أن أصبحت التفاسير تحوي علوماً عديدة.

 

وما بأيدينا من تفاسير شاهد حيّ على اتّساع أنماط التفسير وتشعّب علومه.

 

مناهج التفسير

 

ظهرت مناهج متعدّدة في تفسير القرآن الكريم عند المسلمين عامّة, نتيجة التحوّلات الفكريّة الّتي شهدتها الأجيال اللاحقة ابتداءاً من القرن الثاني الهجريّ، وذلك مع شيوع المباحث الكلامية وانتشار الفلسفة وعلم التصوّف.. 

 

1- منهج التفسير التجزيئيّ: 

 

"وهو المنهج الّذي يتناول المفسّر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف، ويفسّره بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو بلحاظ الآيات الأخرى الّتي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم، وبالقدر الّذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنيّة الّتي يراد تفسيرها والكشف عن مدلولها اللفظيّ، مع أخذ السياق الّذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار في كلّ تلك الحالات. فالهدف في كلّ خطوة من هذا التفسير هو فهم مدلول هذا المقطع أو هذه الآية

 

122

 

99

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 الّتي يواجهها المفسّر بكلّ الوسائل الممكنة، أي أنّ الهدف (هدف تجزيئيّ) لأنّه يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النصّ القرآنيّ ولا يتجاوز ذلك غالباً"6.

 
2- منهج التفسير الموضوعيّ: 
 
"وهو المنهج الّذي(...) يحاول (المفسّر)القيام بالدراسة القرآنيّة لموضوع من موضوعات القرآن العقائديّة أو الاجتماعيّة، كعقيدة التوحيد، أو النبوّة، أو سنن التأريخ في القرآن... ويستهدف التفسير الموضوعيّ من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظريّ للقرآن الكريم، ومن ثمّ للرسالة الإسلاميّة من ذلك الموضوع"7.

معاني الموضوعيّة8 : 
 
ومن أجل أن يتّضح موضوع البحث ومركز الاختلاف لا بدّ أن نفهم مصطلح (الموضوعيّة) فإنّ هناك ثلاثة معان لمصطلح (الموضوعيّة) ذكرها الشهيد الصدررحمه الله، وهي: 
 
أوّلاً: (الموضوعيّة) في مقابل (الذاتيّة) و (التحيّز). والموضوعيّة بهذا المعنى عبارة عن الأمانة والاستقامة في البحث والتمسّك بالأساليب العلميّة المعتمدة على الحقائق الواقعيّة في نفس الأمر والواقع، دون أن يتأثّر الباحث بأحاسيسه ومتبنّياته الذاتيّة ولا أن يكون متحيّزاً في الأحكام والنتائج الّتي يتوصّل إليها. وهذه (الموضوعيّة) أمر صحيح ومفترض في كلا المنهجين:(التجزيئيّ) و (الموضوعيّ) ولا اختصاص لأحدهما بها.
________________________________________
6-المدرسة القرآنيّة للسيّد الشهيد محمّد باقرالصدر  قدس سره ، المحاضرة الأولى:  9 - 11، طبعة بيروت.
7-  تفسير سورة الحمد، السيد محمد باقر الحكيم، ص 92.  
8-م.ن. ص 92 – 94.
123 
 

100

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 ثانياً: (الموضوعيّة) بمعنى أن يبدأ في البحث من (الموضوع)، الّذي هو (الواقع الخارجيّ) ويعود إلى (القرآن الكريم) لمعرفة الموقف تجاه الموضوع الخارجيّ. "فيركّز المفسّر - في منهج التفسير الموضوعيّ - نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائديّة أو الاجتماعيّة أو الكونيّة ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنسانيّ حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنسانيّ من حلول وما طرحه التطبيق التأريخيّ من أسئلة ومن نقاط فراغ، ثمّ يأخذ النصّ القرآنيّ... ويبدأ معه حواراً، فالمفسّر يسأل والقرآن يجيب، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح". "وقد يسمّى هذا المنهج أيضاً بالمنهج (التوحيديّ) باعتبار أنّه يوحّد بين (التجربة البشريّة) و (القرآن الكريم) لا بمعنى أنّه يحمل التجربة البشريّة على القرآن، بل بمعنى أنّه يوحّد بينهما في سياق واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق المفهوم القرآنيّ الّذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو المقولة الفكريّة".

 

ثالثاً: وقد يراد من (الموضوعيّة) ما يُنسب إلى الموضوع، حيث يختار المفسّر موضوعاً معيّناً ثمّ يجمع الآيات الّتي تشترك في ذلك الموضوع فيفسّرها. "ويمكن أن يسمّى مثل هذا المنهج منهجاً توحيديّاً أيضاً باعتبار أنّه يوحّد بين هذه الآيات ضمن مركب نظريّ واحد". 

 

ولا شكّ أنّ المعنى الأوّل ليس موضوع البحث إذ لا يختلف التفسير الموضوعيّ عن التفسير التجزيئيّ في ضرورة توفّر هذا الوصف فيه، ويبقى عندنا المعنى الثاني والثالث.

 

124

 

101

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 خلاصة الدرس

 
التفسير لغة: البيان والكشف، وتفسير القرآن هو بيان معاني الآيات القرآنيّة والكشف عن مداليلها، بالعقل والقرآن والروايات الشريفة.
 
كلمة التأويل لا ترادف كلمة التفسير ولا تعني مجرّد الكشف والإبانة عن المعنى، بل تعني شيئاً آخر وهو ما يؤول إليه الشيء.
 
من شروط التفسير: الذهنيّة الإسلاميّة، التصوّر العامّ عن القرآن، العقيدة الصحيحة، المعرفة باللغة العربيّة.
 
كانت أوائل التفاسير عبارة عن أحاديث مأثورة عن النبيّ وأهل بيته ثمّ تطوّرت إلى أن أصبحت التفاسير تحوي علوماً عديدة.
 
أمّا مناهج التفسير، فمنها: 
 
منهج التفسير التجزيئيّ: وهو المنهج الّذي يتناول المفسّر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف.
 
منهج التفسير الموضوعيّ: وهو المنهج الّذي يحاول القيام بالدراسة القرآنيّة لموضوع من موضوعات القرآن العقائديّة أو الاجتماعيّة.

للمطالعة

بعض من كتب التفسير
 
1ـ تفسير القميّ، تأليف: عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّيّ (متوفّى 307هـ)، وهو تفسير روائيّ.
 
2ـ التبيان في تفسير القرآن، تأليف: أبي جعفر محمّد بن الحسن بن عليّ، المعروف بالشيخ الطوسيّ(متوفّى سنة 460هـ).
 
 
125
 

102

الدرس العاشر: تفسير القرآن الكريم

 3ـ مجمع البيان في تفسير القرآن، تأليف: أبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسي من أعلام القرن السادس الهجري.

 
4- تفسير القرآن الكريم، تأليف: صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازيّ (متوفّى 1050هـ).
 
5- نور الثقلين، الشيخ عبد عليّ بن جمعة العروسيّ الحويزيّ (متوفّى 1112هـ)، وهو تفسير روائيّ. 
 
6- الميزان في تفسير القرآن، تأليف: السيد محمّد حسين الطباطبائيّ (متوفّى 1402هـ)، ينهج منهجية تفسير القرآن بالقرآن.
 
7- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: تأليف الشيخ ناصر مكارم الشيرازي تفسير يلاحظ منهجيّات التفسير عامّة ويركّز على العبر ليستفيد من الآيات الكريمة دروساً متعدّدة فكريّة واجتماعيّة. 
 
8- مفاهيم قرآنيّة: تأليف الشيخ جعفر سبحاني (معاصر) يتبع أسلوب التفسير الموضوعيّ فيعالج تفسير الآيات المرتبطة بموضوع معيّن أينما كان محلّها في القرآن الكريم. 
 
9- مواهب الرحمن في تفسير القرآن، تأليف: السيد عبد الأعلى الموسويّ السبزواريّ، اتّبع منهجيَّتَي التفسير الروائيّ وتفسير القرآن بالقرآن. 
 
10- تفسير القرآن الكريم، السيّد مصطفى الخمينيّ (رض).
 
  
 
126 
 
 

103

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 الدرس الحادي عشر

طرائق التفسير
 

أهداف الدرس
 
1- أن يعدد الطالب إلى أصول التفسير ومداركه.
2- أن يعدد طرائق التفسير.
3- أن يتبين أن القرآن مائدة لجميع النّاس.
 
 
127
 

104

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 لا بدّ للمفسّر في استكشاف مراد الله تعالى من اتّباع ظواهر الكتاب أو ما حكم به العقل الفطريّ الصحيح، أو ما ثبت عن المعصوم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام. وهذه الأمور الثلاثة هي أصول التفسير ومداركه.

 
ظواهر الكتاب‏
 
والمراد من ظاهر القرآن ما يفهمه العرف العام العارف باللّغة العربيّة الفصيحة من اللّفظ، ولم يقم على خلافه قرينة عقليّة أو نقليّة معتبرة، فالقرآن نزل بلسان يسير واضح ومفهوم، وخاطب الناس بالطريقة المألوفة، ولذا عبّر أقواله وبيانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾1.
 
وأمّا الإمام فلأنّه أحد الثقلين اللّذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسّك بهما، والأئمّة كما قال الصادق‏ عليه السلام: "ولاة أمر الله، وخزنة علم الله، وعيبة وحي الله"2.
 
كما أنّ في القرآن قواعد كُليّة ومفاهيم عامّة لا نفهم جزئيّاتها وتفاصيلها وحدودها إلّا من خلال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والعترة عليهم السلام وهذا ما يعبّر عنه بالتبيين.
________________________________________
1-سورة الحشر، الآية: 7.
2-الكافي، الكليني، ج1، ص192.  
129

105

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾3.

 

وذلك من قبيل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾.

 

فيأتي بيان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أصلّي".

 

العقل القطعي‏ّ

 

فالآيات القرآنيّة الّتي ينافي ظهورها الابتدائيّ أحكام العقل القطعيّة لا بدّ من حملها على معنى يتلاءم مع تلك الأحكام، فالعقل يقطع بوجود الإله بعد التفكّر والتدبّر وعدم جواز الجسميّة له، فقوله تعالى: ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾4، وإن كان ظاهراً ابتداءً في كون الجائي هو الربّ نفسه، المستلزم للجسميّة الممتنعة في حقّه تعالى، إلّا أنّ حكم العقل القطعيّ باستحالة ذلك (لاستلزامه حاجة الخالق لجسم ما يجعله فقيراً محتاجاً كمخلوقاته) يوجب عدم انعقاد ظهور له في هذا المعنى وهو اتّصاف الربّ بالمجي‏ء المادّي، وعليه فلا بدّ من أن يكون المقصود بالمجي‏ء معنى آخر كحضور صفة من صفات الله تعالى.

 

والمفسّر عندما يريد كشف مراد الله تعالى يتسلّح بهذه الأمور الثلاثة ويعتمد عليها فلا يجوز الاعتماد على الظنون والاستحسان، ولا على شي‏ء لم يثبت أنّه حجّة من طريق العقل، أو من طريق الشرع، للنهي عن اتّباع الظنّ وحرمة إسناد شي‏ء إلى الله بغير إذنه.

 

قال تعالى: ﴿قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ﴾5. ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾6

 

والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة من الطرفين7.

________________________________________

3-سورة النحل، الآية: 44.  

4-سورة الفجر، الآية: 33.  

5-سورة يونس، الآية: 59.  

6-سورة الإسراء، الآية: 36. 

7- البيان، ص397.  

 

130

 

 

106

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 طرائق التفسير

 
قد ظهرت طرائق متعدّدة في تفسير القرآن الكريم عند المسلمين عامّة نتيجة التحوّلات الفكريّة الّتي شهدتها الأجيال اللاحقة ابتداءاً من القرن الثاني الهجريّ فصاعداً، وذلك مع شيوع المباحث الكلاميّة وانتشار الفلسفة وعلم التصوّف وما سبق ذلك واكتنفه من ميول سلفيّة ظاهريّة؛ كالتفسير بالمأثور والتفسير الفلسفيّ والتفسير الصوفيّ والتفسير الكلاميّ والتفسير البيانيّ والتفسير اللغويّ والتفسير التاريخيّ والتفسير العلميّ. ونحن ذاكرون لكم بعضاً من هذه الطرائق: 
 
1- تفسير القرآن بالقرآن: 
 
وهو يتمّ من خلال مقابلة الآية بالآية، فما أُجمل منها في مكان يتمّ تفسيره في مكان آخر.
 
وكما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدّق بعضه بعضاً"8.
 
والقرآن كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض"9.
 
كما أنّ الأئمّة المعصومين عليه السلام كانوا يستعملون هذا الأسلوب في استدلالاتهم واحتجاجاتهم من قبيل ما ذكر في كتاب الكافي عن عليّ بن يقطين قال: سأل المهديّ(العباسيّ) أبا الحسن عليه السلام عن الخمر هل هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ فإنّ الناس إنّما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: "بل هي محرّمة".
 
فقال: في أيّ موضع هي محرّمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ يا أبا الحسن؟
________________________________________
8-الدر المنثور، 8/2. 
9- نهج البلاغة، الخطبة 131.  
 
131

107

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 فقال عليه السلام: قول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾10.

 

إلى أن قال عليه السلام: فأمَّا الإثم فإنّها الخمر بعينها، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾11.

 

فأمّا الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما كما قال تعالى"12.

 

2- التفسير الروائيّ: 

 

وهو التفسير بالأحاديث الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام. والأحاديث هذه تبلغ الآلاف من طريق الشيعة وفيها مقدار كبير من الأحاديث الّتي يمكن الاعتماد عليها. إلّا أنّ هناك آيات لم يرد فيها حديث أصلاً لا من طريق السنّة ولا من طريق الشيعة.

 

وينبغي الالتفات إلى أنّه ربّما تشير الروايات إلى المصداق الأكمل في تفسير الآية وهذا لا يمنع من تفسير الآية بطريقة أخرى توافق ظاهرها. وقد اشتهر بينهم أنّ المورد لا يخصّص الوارد13 وذلك لأنّ القرآن يجري مجرى الليل والنهار والشمس والقمر، إلّا أن تقوم قرينة قطعيّة على أنّ آية معينة قد انحصرت في موردها كما في آية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ﴾14.

 

ومن التفاسير الّتي اتّبعت هذه المنهجيّة كتاب (نور الثقلين).

________________________________________

10-سورة الأعراف، الآية: 33.  

11-سورة البقرة، الآية: 209. 

12-الكافي، الكليني، ج6، ص406.

13- بمعنى أنه إذا كان نزول الآية في مورد ومناسبة محدّدة وخاصّة، فهذا لا يعني انحصار تفسير الآية وتطبيقها على هذا المورد الخاصّ، وأنّ الوارد وهو الآية لا تفسّر بغير هذه المناسبة بل يمكن توسعة الوارد (الآية) لتفسّر وتطبّق على مجالات أخرى.

14-سورة المائدة، الآية: 55.  

 

 

132

 

108

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 3- التفسير اللغويّ: 

 
وهو تفسير مفردات القرآن واشتقاقاتها وأصولها، كتفسير (مجمع البيان) للشيخ الطبرسيّ.
 
وقد تباينت توجّهات المفسّرين واختلفت الجهات الّتي احتجّوا بها، كالجهة البلاغيّة والفقهيّة والكلاميّة والفلسفيّة والأخلاقيّة.
 
القرآن مائدة لجميع الناس‏
 
القرآن الكريم كما تقدّم واضح وميسّر للفهم. وربما احتاج إلى تعليم بعض حدود الآية الّتي لم يذكرها الله في الكتاب فأوكلها إلى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وإلّا فإنّ القرآن في نفسه هو هدى ورحمة للعالمين، وكلّ من كان أصفى فطرةً وأكثر فكراً وتدبّراً فإنّه يحظى بفهم أكبر ويكون القرآن شفاءً ومصحّحاً للآراء والأفكار الّتي يحملها.
 
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينََ﴾15.
 
فالكلّ في معرض الاستفادة من القرآن الكريم، لذلك تعدّدت الخطابات لطوائف خاصّة كبني إسرائيل، أو المؤمنين، أو الكفّار، وفي بعض الآيات يخاطب عامّة الناس وبديهيّ أنّه لا يصحّ التكلّم بما لا يكون مفهوماً وواضحاً عندهم.
وأيضاً نجد حتّى المعارف العالية يبثّها القرآن بلغة يفهمها عامّة الناس ويلقيها بشكل محسوس أو ما يقرب منه.
 
وتبقى الحقائق المعنويّة وراء ستار الظواهر فتتجلّى حسب الأفهام ويدرك منها كلّ شخص بقدر عقله ومداركه. واحتواء القرآن على معانٍ دقيقة ومفاهيم رقيقة وذلك في مثل صفاته تعالى الجماليّة والجلاليّة، ومعرفة وجود الإنسان 
 
133

 


109

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 وسرّ خِلقته، ومسائل من المبدأ والمعاد، كلّ ذلك جاء في القرآن في إشارات عابرة وفي ألفاظ وتعابير كنائيّة واستعارة ومجاز، فكان حلّها والكشف عن معانيها بحاجة إلى فقه ودراسة وتدبّر وإمعان نظر.

 
كما أنّ في القرآن إشارات إلى أحاديث غابرة وأمم خالية، إلى جنب عادات جاهليّة عارَضَها لم يبق منها سوى إشارات عابرة، ولولا الوقوف عليها لما أمكن فهم معاني تلكم الآيات.
 
هذا مضافاً إلى غرائب اللغة الّتي جاءت في القرآن على أفصحها وأبلغها، وإن كان فهمها صعباً على عامّة الناس لولا الشرح والبيان وغير ذلك من الأمور الّتي استوجبت تفسيراً، وكشفاً لما استتر ومزيداً من إمعان النظر.
 
إعداد النفس لحضور مائدة القرآن‏
 
تزكية النفس وتطهيرها من الأوساخ والأدران الخُلقيّة هو أهمّ شرط من شروط فهم القرآن، وأعظم هذه الأوساخ الأهواء النفسيّة، فما دام الإنسان أسيراً لأهوائه وغرائزه، فإنّه لا يستطيع أن يدرك القرآن الّذي هو نور، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: 
 
"فالّذين يقفون خلف حجب عديدة لا يمكنهم أن يدركوا النور.. ما دام الإنسان لم يخرج من حجاب نفسه المظلم جدّاً، وطالما أنّه مُبتلى بالأهواء النفسيّة، وطالما أنّه مُبتلى بالعجب، طالما أنّه مُبتلى بالأمور الّتي أوجدها في باطن نفسه، وتلك الظلمات الّتي (بعضها فوق بعض) فإنّه لا يكون مؤهّلاً لانعكاس هذا النور الإلهيّ في قلبه"16.
 
نعم، قد يتمكّن مثل هذا الإنسان من فهم بعض ظواهر الألفاظ، ولكنّه لن يصل إلى فهم مقاصده الأصليّة ومراميه الكلّيّة.
________________________________________
15-سورة يونس، الآية: 57.
16- القرآن في كلام الإمام الخميني قدس سره، ط4 آذار 2009م -1430هـ، ص24.
 
134

110

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 خلاصة الدرس

 

المراد من ظاهر القرآن ما يفهمه العرف العام العارف باللّغة العربيّة الفُصحى من اللّفظ، وقول المعصوم نبيّاً كان أو إماماً حجّةٌ في مقام كشف مراد الله تعالى من آيات الكتاب العزيز.‏

والآيات القرآنيّة الّتي يُنافي ظهورها الابتدائيّ أحكام العقل القطعيّة لا بدّ من حملها على معنى يتلاءم مع تلك الأحكام.

 

من طرائق التفسير

 

- تفسير القرآن بالقرآن.

 

- التفسير الروائيّ: وهو التفسير بالأحاديث الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليه السلام.

 

ـ التفسير اللغويّ: وهو تفسير مفردات القرآن واشتقاقاتها وأصولها.

 

ومع ذلك فالقرآن مائدة لجميع الناس‏، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾. ولكن لا بدّ للشخص المفسِّر من أن يطهّر نفسه من أدران الذنوب حتّى يكون مؤهّلاّ لنيل المعارف القرآنيّة ونزول النور الإلهيّ على قلبه.

 

 

 

135

 

111

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

 للمطالعة

 

ما كان يُوصي أمير المؤمنين عليه السلام به عند القتال
 
عن عقيل الخزاعيّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا حضر الحرب يُوصي للمسلمين بكلمات فيقول: تعاهدوا الصلاة وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقرّبوا بها فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً. وقد علم ذلك الكفّار حين سُئلوا ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين﴾َ17  وقد عرف حقّها من طرقها وأكرم بها من المؤمنين الّذين لا يشغلهم عنها زين متاع ولا قرّة عين من مال ولا ولد. يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاة﴾ِ18       
   
 وكان رسول الله منصّباً لنفسه بعد البشرى له بالجنّة من ربّه، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..﴾19  فكان يأمر بها أهله ويصبّر عليها نفسه. ثمّ إنّ الزكاة جُعلت مع الصلاة قُرباناً لأهل الإسلام على أهل الإسلام ومن لم يُعطها طيّب النفس بها يرجو بها من الثمن ما هو أفضل منها فإنّه جاهل بالسنّة، مغبون الأجر ضالّ العمر، طويل الندم بترك أمر الله عزَّ وجلَّ والرغبة عمّا عليه صالحوا عباد الله، يقول الله عزَّ وجلَّ:﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾20 من الأمانة فقد خسر من ليس من أهلها وضلّ عمله، عرضت على السماوات المبنيّة والأرض المهاد والجبال المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم لو امتنعن من طول أو عرض أو عظم أو قوّة أو عزّة
________________________________________
17-إشارة إلى قول الله عزَّ وجلَّ في سورة المدثر آيات 42 إلى 46 .
18-سورة النور، الآية: 38.   
19-سورة طه، الآية: 132، واصطبر أي داوم. 
20- سورة النساء، الآية: 115 (نوله ما تولى) أي نقرّبه ما تولى من الضلال ونخلّي بينه وبين ما اختاره.
 
136

112

الدرس الحادي عشر: طرائق التفسير

  امتنعن ولكن أشفقن من العقوبة21 ثمّ إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الإسلام وهو قوام الدين والأجر فيه عظيم مع العزّة و المنعة وهو الكره فيه الحسنات والبشرى بالجنّة بعد الشهادة وبالرزق غداً عند الربّ والكرامة، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا﴾22 ثمّ إنّ الرعب والخوف من جهاد المستحقّ للجهاد والمتوازرين على الضلال ضلال في الدين وسلب للدنيا مع الذلّ والصَّغار، وفيه استيجاب النار بالفرار من الزحف عند حضرة القتال يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾23 فحافظوا على أمر الله عزَّ وجلَّ في هذه المواطن الّتي الصبر عليها كرم وسعادة ونجاة في الدنيا والآخرة من فظيع الهول والمخافة فإنّ الله عزَّ وجلَّ لا يعبأُ بما العباد مقترفون ليلهم ونهارهم، لطف به علماً، وكلّ ذلك في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى، فاصبروا وصابروا واسألوا النصر ووطّنوا أنفسكم على القتال واتّقوا الله عزَّ وجلَّ فإنّ ﴿ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾  24

 
 ________________________________________
21-في النهج (ولا أعظم منها ولو امتنع شيء منها بطول أو عرض أو قوة أو عزّ لأمتنعن ولكن الخ). (أشفقن من العقوبة) أي خفن، والاشفاق: الخوف.
22-  سورة آل عمران، الآية: 169.  
23-سورة الأنفال، الآية: 15.  
24-الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 36 – 38.
137
 
 

113

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

 الدرس الثاني عشر


نماذج من التفسير الموضوعي(1)
(التوحيد)
 




 أهداف الدرس
 
1- أن يستظهر الطالب  موضوع التوحيد في القرآن.
2- أن يتبين مراتب التوحيد.
 
139
 

114

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

 التوحيد


التوحيد أساس دعوة الأنبياء: 
 
أصل التوحيد هو من أهمّ المسائل الاعتقاديّة الّتي تصدَّرت التعاليم السماويّة حيث يُعدُّ أساساً لسائر التعاليم والمعارف الإلهيّة الّتي جاء بها الأنبياء والرسل.
 
والتوحيد أصل من أصول الدين، يجب الإيمان به ومُنكره يُعتبر كافراً وخارجاً عن ملّة المسلمين.
 
معنى التوحيد: 
 
هو الاعتقاد بأنّ الله تعالى واحد لا شريك له، وأحد لا شبيه له ولا مثيل.
 
مراتب التوحيد: 
 
للتوحيد مراتب عديدة، ويؤدّي إنكارها أو بعضها إلى الخروج عن الإيمان والإسلام، ومن هذه المراتب: 
 
المرتبة الأولى: التوحيد في الذات‏
 
والمراد منه هو أنّه سبحانه واحد لا نظير له، فردٌ لا مثيل له، بل لا يمكن أن يكون له نظير أو مثيل.
 
 
141

115

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

 ويدلّ على ذلك مضافاً إلى البراهين العقليّة قوله سبحانه:﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾1 .

 
وقوله تعالى:﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  *اللَّهُ الصَّمَدُ* َلمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾2 .
 
وقوله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾3 .
 
إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّه تعالى واحد لا نظير له ولا مثيل ولا ثانيَ ولا عدل.
 
ومن ادّعى له شريكاً أو مثيلاً أو جعله ثالث ثلاثة فقد كفر، يقول تعالى :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾4 .
 
﴿ ولو كان لله تعالى شريك لاختلَّ نظام الكون وفسد ولذهب كلّ إله بما خلق كما يقول تعالى: ﴿لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾5 .
 
وجاء في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: "يا بُنيّ لو كان لربّك شريك، لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه...".  6فمن الطبيعيّ أنّه لو كان هناك شريك لله تعالى لظهرت آثاره ولأرسل الرسل تبشّر به وتدعو إليه. ومع عدم وجود هذه الآثار كيف نحكم بوجوده؟ فهذا يدل على عدم وجود شريك له سبحانه.
________________________________________
1- سورة الشورى، الآية: 11.  
2-سورة الإخلاص، الآيات: 1 ـ 4.
3- سورة الزمر، الآية: 4.
4- سورة المائدة، الآية: 73.  
5-سورة الأنبياء، الآية: 22.  
6-موسوعة الإمام الجواد، ج2، ص570.   
142 
 

116

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

المرتبة الثانية: التوحيد في الخالقيّة

 

والمراد منه هو أنّه ليس في الوجود خالق أصيل غير الله، ولا فاعل مستقلّ سواه، وأنّ كل ما في الكون من مجرَّات ونجوم وكواكب وأرض وجبال وبحار، وما فيها ومن فيها، وكلّ ما يُطلق عليه أنّه فاعل وسبب فهي موجودات مخلوقة لله تعالى. وأنّ كلّ ما ينتسب إليها من الآثار ليس لذوات هذه الأسباب، وإنّما ينتهي تأثير هذه المؤثّرات إلى الله سبحانه، فجميع هذه الأسباب والمسبّبات رغم ارتباط بعضها ببعض مخلوقة لله، فإليه تنتهي العلّية والسببيّة، فهو خالق العلل ومسبِّبها.

 

ويدلّ على ذلك مضافاً إلى الأدلّة العقلية قوله سبحانه: ﴿ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾7

 

وقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾8 .

 

وقوله جلّ‏َ وعلا: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾9 .

 

وقوله سبحانه: ﴿  ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾10 إلى غير ذلك آيات كثيرة تدلّ على ذلك.

 

المرتبة الثالثة: التوحيد في الربوبيّة

 

والمراد منه هو أنّ للكون مدبّراً واحداً، ومتصرّفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شي‏ء، وأنّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب إنّما هو بأمره سبحانه. وهذا على خلاف رأي بعض المشركين الّذين يعتقدون أنّ الّذي يرتبط بالله تعالى إنّما هو الخلق والإيجاد والابتداء، وأمّا التدبير فقد فوِّض إلى الأجرام السماويّة

________________________________________

7-سورة الرعد، الآية: 16.

8- سورة الزمر، الآية: 62.

9- سورة غافر، الآية: 62.

10- سورة الأنعام، الآية: 102.

 

143

117

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

 والملائكة والجنّ والموجودات الروحيّة الّتي تحكي عنها الأصنام المعبودة، وليس له أيّ دخالة في تدبير الكون وإدارته وتصريف شؤونه.

 
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾11  

﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾12 
.
فإذا كان هو المدبِّر وحده فيكون معنى قوله تعالى: ﴿ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾13 .
 
وقوله تعالى: ﴿َ و هُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً﴾14إنّ هذه مدبِّرات بأمره وإرادته تعالى، فلا يُنافي ذلك انحصار التدبير الاستقلاليّ في الله سبحانه.
 
وقد دلّ القرآن الكريم على وحدة المدبّر في العالم في آيتين: 
 
﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾15 .

﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾16 .
 
وهما يعنيان: أنّ تصوّر المدبِّر لهذا العالم على وجوه: 
 
 1- أن يتفرّد كلّ واحد من الآلهة بتدبير مجموع الكون باستقلاله، ففي هذه الصورة يلزم تعدّد التدبير؛ وهذا يستلزم طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام والنظام المشهود.
________________________________________
11- سورة يونس، الآية: 3.
12- سورة الرعد: الآية: 2. 
13- سورة النازعات، الآية: 5.  
14-سورة الأنعام، الآية: 61.  
15-سورة الأنبياء، الآية: 22.
16- سورة المؤمنون، الآية: 91.
 
144

118

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

 وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا...﴾ .

 
2- أن يدبّر كل واحد قسماً من الكون الّذي خلقه، وعندئذ يجب أن يكون لكلّ جانب من الجانبين نظام مستقلّ خاص مغاير لنظام الجانب الآخر وغير مرتبط به أصلاً، وعندئذ يلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام والنظام من الكون، في حين أنّنا لا نرى في الكون إلّا نوعاً واحداً من النظام يسير على قانون مترابط دقيق يسود كلّ جوانب الكون من الذرّة إلى المجرّة.
 
وإلى هذا الوجه أشار قوله تعالى: ﴿ ... إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ﴾ .
 
3- أن يتفضّل أحد هذه الآلهة على البقيّة ويكون حاكماً عليهم ويوحّد جهودهم وأعمالهم ويُسبغ عليها الانسجام والاتّحاد والنظام الواحد وعندئذ يكون الإله الحقيقيّ هو هذا الحاكم دون الباقين.
 
وإلى هذا يشير قوله تعالى ﴿ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ، وإلّا لو لم يكن هناك إله واحد لتصارع الآلهة وخرب الكون وفسد وفني, لأنّ كلّ واحد يُريد أن يعلو على الآخر ويتفرّد في الحكم والتدبير.
 
المرتبة الرابعة: التوحيد في العبادة: 
 
وهو أن تؤمن بأنّ المستحقّ للعبادة هو الله تعالى وحده لأنّه هو الخالق والعبوديّة من شأن الخالق الغنيّ غير المحتاج، لذلك يستحقّها وحده دون غيره، كما نقرأ في سورة الحمد ﴿  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾  فهنا القرآن الكريم حصر العبوديّة بالله تعالى ويقول: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾17 .
________________________________________
17-  سورة آل عمران، الآية: 64.  
 
145
 

119

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

 خلاصة الدرس

 
أصل التوحيد هو من أهمّ المسائل الاعتقاديّة الّتي تصدّرت التعاليم السماويّة ويُعَدّ أساساً لسائر التعاليم والمعارف الإلهيّة الّتي جاء بها الأنبياء والرسل.
 
التوحيد هو الاعتقاد بأنّ الله تعالى واحد أحد لا شريك له ولا شبيه ولا مثيل.
 
للتوحيد مراتب عديدة يؤدّي إنكارها إلى الخروج عن الإيمان والإسلام منها: 
 
1- التوحيد في الذات.
2- التوحيد في الخالقيّة.
3- التوحيد في الربوبيّة.
4- التوحيد في العبادة.
 
146

120

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

 للمطالعة

 
التوحيد
 
قال الإمام الصادق عليه السلام للمفضّل بن عمر الجعفيّ: 18

"يا مفضّل أوّل العبر والدلالة على الباري جلّ قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه، فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وخبرته بعقلك وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكلّ شي‏ء فيها لشأنه معدّ، والإنسان كالمالك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيَّأة لمأربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة وأنّ الخالق له واحد وهو الّذي ألّفه ونظمه بعضاً إلى بعض جلَّ قدسه وتعالى جدّه وكرم وجهه ولا إله غيره تعالى عمّا يقول الجاحدون وجلَّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون".

"خلق الإنسان وتدبير الجنين في الرحم".

"نبدأ يا مفضّل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث ظلمة البطن وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرّة فإنّه يجري من دم الحيض، ما يغذوه الماء والنبات، فلا يزال ذلك غذاؤه".

"كيفيّة ولادة الجنين وغذائه وطلوع أسنانه وبلوغه".

"حتّى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه وبصره على ملاقاة الضياء،
________________________________________
18-توحيد المفضل، ص16.  
147 
 

 


121

الدرس الثاني عشر: نماذج من التفسير الموضوعيّ(1) التوحيد

  هاج الطلق بأمّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتّى يولد، فإذا ولد صرف ذلك الدم الّذي كان يغذوه من دم أمّه إلى ثديها وانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمّظ19 وحرّك شفتيه طلباً للرضاع"...

 
________________________________________
19-تلمّظ: أخرج لسانه ومسح به شفتيه.
 
 
148 
 

122

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 الدرس الثالث عشر

نماذج من التفسير الموضوعي(2) 
 النصر
 

 أهداف الدرس
 
1- أن يستظهر  الطالب موضوع النصر في القرآن.
2- أن يعدد شروط النصر الإلهي.
 
 
149
 

123

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 النصر


أ- نصر الله تعالى: 
 
في القرآن الكريم كثير من الآيات الكريمة تضيف النصر إلى الله تعالى، يقول تعالى: 

﴿إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ 1.

﴿َمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾ 2.

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ 3.
 
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
 
وهذه الإضافة أي إضافة النصر إلى الله تعالى تعني أنّ النصر يحتاج إلى مدد إلهيّ، فإنّ كل شي‏ء في الوجود لا يمكن له أن يستغني عن العون والمدد والتوفيق الإلهيّ، وهي إمدادات غيبيّة ترتفع عن المسائل الحسيّة. وقبل الحديث عن أنواع الإمدادات وشروطها، نتعرّض بالإشارة إلى مصطلحين قرآنيّين: 
________________________________________
1-سورة البقرة، الآية: 214.
2- سورة آل عمران، الآية: 126.  
3-سورة التوبة، الآية: 25.  
151

124

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 1- الرحمة الرحمانيّة: 

 

هي الألطاف الإلهيّة الشاملة لكلّ‏ِ الموجودات للمؤمن وغيره، فوجود كلّ شي‏ء في هذا العالم بنفسه رحمة لذلك الموجود. وكذلك تعتبر كلّ الوسائل الّتي خُلقت لأجل وجوده والحفاظ على بقائه رحمة له أيضاً، وهذه الرحمة تُفاض وفق قوانين طبيعيّة عامّة.

 

2- الرحمة الرحيميّة:

 

هي تلك الألطاف الإلهيّة الخاصّة، الّتي تشمل المكلَّف المؤمن خاصّة لحسن طاعته وامتثاله وأدائه، وهي تُفاض وفق شروط وقوانين خاصّة ومعيّنة.

 

ونحن نطلب من الله تعالى هذا النوع الخاصّ من الرحمة يوميّاً في صلاتنا: 

 

﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ 4.

 

وتشمل هذه الألطاف الإنسان في حياته الفرديّة أو الاجتماعيّة وتُنقذه من كثير من المآزق.

 

وقد شمل الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه الألطاف حيث يقول القرآن بحقّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: 

 

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ 5.

 

فالإنسان المؤمن بحاجة إلى مثل تلك الألطاف الإلهيّة الخاصّة، والنصر من الله تعالى هو لُطف منه على عباده المؤمنين، وهو مدد غيبيّ لا يتحقّق إلّا بشروط أقرّها الله تعالى.

 

ب- شروط النصر الإلهي

 

1- الإيمان: يقول تعالى: 

 

﴿كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين﴾ 6.

________________________________________

4-سورة الفاتحة، الآية: 5.

5-سورة الضحى، الآيات: 6 ـ 8.

6-سورة الروم، الآية: 47.  

 

 

152

 

125

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 2- العمل والجهاد: قال تعالى: 

 
﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 7.
 
فقوله: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ ﴾ في هذه الآية، يُفهم منه صريحاً أنّ إعطاء ومنح النصر مشروط بمن يعمل وينصر ويجاهد في سبيل الله، والآيات الكريمة في الحثّ على الجهاد كثيرة، فليس الأمر كما قال اليهود للنبيّ موسى عليه السلام حين أمرهم بالقتال لدخول الأرض المقدّسة: 
 
﴿ ... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ 8.
 
3- الأمل والصدق: يقول تعالى: 

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾ 9.
 
فنلاحظ أنّ الله تعالى أراد للمؤمنين رغم ما بهم من ضيق وضرّ وبأساء أن يأملوا نصر الله فهو قريب.
 
ويقول أمير المؤمنين والمجاهدين الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة: 

"... ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوِّنا يتصاولان تصاول الفحلَين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منا، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل لعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتّى استقرَّ الإسلام..."10.
________________________________________
7-سورة محمد، الآية: 7.
8- سورة المائدة، الآية: 24.  
9-سورة البقرة، الآية: 214.
10- نهج البلاغة، من كلام له في وصف حربهم على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ج‏1، ص‏104، تحقيق الشيخ محمد عبده، الخطبة 56.  
153 
 

126

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 4 - في سبيل الله: أن يكون العمل والجهاد كلّه في سبيل الله، فالنصرة لا بدّ أن تكون لله: 

 
﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ ﴾ .
 
والمجاهدة لا بدّ أن تكون في الله: 
 
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 11.
 
5- إعداد العدّة: قال تعالى: 
 
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾12.
 
إذاً لا يتحقّق المدد الغيبيّ والنصر الإلهيّ عبثاً ولا مجّاناً ونحن عاكفون في البيوت كما قال اليهود لنبيّهم: 
 
﴿ ... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾13.
 
بل لا بدّ من توفّر الشروط الموضوعيّة لكي تتحقّق الألطاف الإلهيّة، وليست هذه الشروط من المستحيلات.
 
فدروس وعبر المسلمين الأوائل إلهامات مهمَّة لكي نأخذ منها المدد والدروس الواقعيّة.
 
ج- النصر ودخول الناس في الإسلام: 
 
إنّ النصر له آثار مهمّة على النّاس المنتَصر عليهم وغيرهم، من حيث تهيئتهم للدخول في الإسلام العظيم، فالناس مع المنتصر القويّ، لا مع المنهزم الضعيف.
 
________________________________________
11-سورة العنكبوت، الآية: 69.  
12-سورة الأنفال، الآية: 60.  
13-سورة المائدة، الآية: 24.  
154 
 

127

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 لذلك نرى السورة الكريمة ترتّب على النصر دخول الناس في دين الله أفواجاً.

 
د- استمراريّة النصر مشروطة: 
 
النصر تعقبه انفعالات نفسيّة خطيرة على المنتصرين كالعجب، والغرور، والتكبّر، والاقتناع بما وصلوا إليه، إلى غير ذلك من الصفات. من هنا ولكي يستمرّ النصر لا بدّ من إزالة هذه الرذائل الأخلاقيّة من نفوس المؤمنين، بالتسبيح والاستغفار والشكر، والتواضع أمام نعم الله سبحانه والاعتقاد بأنّ هذه النعمة العظيمة منه عزَّ وجلَّ، وملك له متى ما شاء أخذها، وبذلك تدوم العلاقة بالله تعالى.
 
خلاصة الدرس
 
في القرآن الكريم كثير من الآيات الكريمة تضيف النصر إلى الله تعالى، يقول تعالى: 
 
﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾14.
 
والنصر يحتاج إلى مدد إلهيّ، أمّا أسبابه فهي: الإيمان، العمل والجهاد، الأمل والصدق، في سبيل الله، وإعداد العدّة.
 
إنّ النصر له آثار مهمّة على النّاس المنتصر عليهم وغيرهم، من حيث تهيئتهم للدخول في الإسلام العظيم، فالناس مع المنتصر القويّ، لا مع المنهزم الضعيف.
 
ولكي يستمرّ النصر لا بدّ من إزالة الرذائل الأخلاقيّة من نفوس المؤمنين كالتكبّر والاستعلاء وحبّ النفس..
________________________________________
14-سورة آل عمران، الآية: 126.  
 
155

128

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 للمطالعة


سورة النصر 

بسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ .
 
شرح المفردات: 
 
1- دين الله: الإسلام.
 
2- أفواجاً: جماعة بعد جماعة وزمرة بعد زمرة.
 
3- سبِّح: نزّه.
 
محتوى السورة وفضيلتها: 
 
نزلت هذه السورة في المدينة المنوّرة بعد الهجرة، وفيها بُشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وهي تدعو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يسبّح الله ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة، وكذا سائر المؤمنين.
 
في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكنّ فتحاً بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى "فتح مكّة"، خاصّة وأنّ العرب كما جاء في الروايات كانت تعتقد أنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع أن يفتح مكّة إلّا إذا كان على حقّ... ولو لم يكن على حقّ فربُّ البيت يمنعه كما منع جيش "أبرهة". ولذلك دخل العرب في دين الله بعد فتح مكّة أفواجاً.
 
وقد نزلت هذه السورة بعد "صلح الحديبيّة" في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكّة.
 
156

129

الدرس الثالث عشر:  نماذج من التفسير الموضوعي(2) النصر

 أمّا ما ذكره بعضهم من نزول هذه السورة بعد فتح مكّة في السنة العاشرة للهجرة في حجّة الوداع فبعيد جدّاً، لأنّ عبارات السورة لا تنسجم وهذا المعنى، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي.

 
ومن أسماء هذه السورة "التوديع" لأنّها تشعر بقرب رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربّه عزّ وجلّ.
 
في الرواية أنّ هذه السورة لمّا نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العبّاس فبكى.
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما يبكيك يا عمّ؟
 
فقال: أظنّ أنه قد نُعيت إليك نفسك يا رسول الله.
 
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّه لكما تقول 15"
 
ظاهر السورة ليس فيه إنباء عن قرب رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل عن الفتح والنصر. فكيف فهم العبّاس أنّها تنعى إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه؟
 
يبدو أنّ دلالة السورة على اكتمال الرسالة وتثبيت الدين هو الّذي أوحى بقرب ارتحال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربّه.
 
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: 

"من قرأ﴿ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾16في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حرِّ جهنّم...".
 
 ________________________________________
15-مجمع البيان، ج‏10، ص 554. هذه الرواية وردت بألفاظ مختلفة: الميزان، ج‏20، ص‏532. 
16-م.ن.
 
 
157

130

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 الدرس الرابع عشر

تفسير سورة الفاتحة -1-
 




أهداف الدرس
 
1- أن يتعرف الطالب إلى خصائص سورة الفاتحة.
2- أن يتبين بعضاً من مفاهيمها.
 
 
159
 

131

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 ﴿بسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ*  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾

 
1- خصائصها: 
 
لهذه السّورة مكانة متميّزة بين سور القرآن الكريم. وتبدأ هذه السّورة - بعد البسملة - بحمد الله والثناء عليه، وتستمرّ في إقرار الإِيمان بالمبدأ والمعاد "بالله ويوم القيامة"، وبحصر العبادة والاستعانة بالله تعالى، وتنتهي بالتضرّع والطلب للهداية، والتبرّؤ من أهل الضلالة والغواية..
 
سورة الحمد أساس القرآن: فقد رويَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: "ألا أُعَلّمُكَ أَفْضَلَ سُورَة أَنْزَلَهَا اللهُ في كِتَابِهِ؟" قَالَ جَابرُ: بَلى بِأَبي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِيهَا. فَعَلَّمَهُ الْحَمْدَ أُمَّ الْكِتَابِ، وَقَالَ: "هِي شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاء، إِلاّ السَّامَ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ"1.
 
أمّ الكتاب: وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْزَلَ اللهُ
________________________________________
1-وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج6، ص232. 
161 
 

132

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 في التَّوْرَاةِ، وَلاَ في الإنجيل ولا في الزّبُورِ وَلا في الْقُرْآنِ مِثْلَهَا، وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ"2 .


2- أهميّتها: 
 
أهميّة هذه السّورة تتّضح من محتواها، فهي في الحقيقة عرض لكلّ محتويات القرآن، فجانب منها يختصّ بالتوحيد وصفات الله، وجانب آخر بالمعاد ويوم القيامة، وقسم منها يتحدّث عن الهداية والضلال باعتبارهما علامة التمييز بين المؤمن والكافر، وفيها أيضاً إشارات إلى حاكمية الله المطلقة، وإلى مقام ربوبيّته، ونعمه اللّامتناهية العامّة والخاصّة "الرحمانية والرحيمية"، وإلى مسألة العبادة والعبوديّة واختصاصهما بذات الله دون سواه.
إنّها تتضمّن في الواقع توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، وتوحيد العبادة.
 
وبعبارة اُخرى: تتضمّن هذه السّورة مراحل الإِيمان الثلاث: الاعتقاد بالقلب، والإِقرار باللسان، والعمل بالأركان. ومن المعلوم أنّ لفظ "الأُمّ" يعني هنا الأساس والجذر.
 
3- محتوى السّورة: 
 
ويُمكن تقسيم هذه السّورة، من منظار آخر، إلى قسمين: قسم يختصّ بحمد الله والثناء عليه، وقسم يتضمّن حاجات العبد.
 
وإلى هذا التقسيم يُشير الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: 
 
"قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَّمْتُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ بَيْني وَبَيْنَ عَبْدِي، فِنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سأَلَ.
________________________________________
2- مستدرك الوسائل، النوري، ج4، ص332.
 
162

133

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 إِذَا قَالَ الْعَبْدُ ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ  ﴾ قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: بَدَأ عَبدِي باسْمِي وَحَقٌّ عَلَيَّ أنْ اُتَمِّمَ لَهُ اُمُورَهُ وَاُبارِكَ لَهُ فِي أحوَالِهِ.

 

فَإذا قَالَ: ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قَالَ اللهُ جَلَّ جلالُهُ: حَمَدَنِي عَبدِي وَعَلِمَ أَنَّ النِعَمَ الَّتِي لَهُ مِنْ عِنْدِي، وَأَنَّ اْلبَلايَا الَّتِي دَفَعْتُ عَنْهُ فبِتَطَوُّلِي، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أُضِيفُ لَهُ إلى نِعَمِ الدُّنْيَا نِعَمَ الآخِرَةِ، وَاَدْفَعُ عَنْهُ بَلاَيَا الآخِرَةِ كَمَا دَفَعْتُ عَنْهُ بَلاَيَا الدُّنْيَا.

 

وَإِذَا قَالَ: ﴿ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴾ قَالَ الله جَلَّ جَلاَلُهُ: شَهِدَ لِي عَبْدِي أَنِّي اَلرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، أُشْهِدُكُمْ لأُوَفِّرَنَّ مِنْ رَحْمَتِي حَظَّهُ وَلأُجْزِلَنَّ مِنْ عَطَائِي نَصِيبَهُ.

 

فَإِذَا قَالَ: ﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ قَالَ الله تَعالى: أُشهِدُكُمْ كَمَا اعْتَرَفَ بِأَنِّي أَنَا مَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ لأُسَهِّلَنَّ يَوْمَ الْحِسابِ حِسَابَهُ، وَلأَتَقَبَّلَنَّ حَسَنَاتِهِ، وَلأَتَجَاوَزَنَّ عَنْ سَيِّئاتِهِ.

 

فَإِذَا قَالَ: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، إِيَّايَ يَعْبُدُ أُشْهِدُكُمْ لأُثِيبَنَّهُ عَلَى عِبَادَتِهِ ثَوَاباً يَغْبِطُهُ كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ في عِبَادَتِهِ لي.

 

فَإِذَا قَالَ: ﴿ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ قَالَ اللهُ تَعالى: بِيَ اسْتَعَانَ عَبْدِي، وَإلَيَّ اِلْتَجَأَ، أُشْهِدُكُمْ لأُعِينَنَّهُ عَلى أمْرِهِ، ولأُغيثَنَّهُ فِي شَدَائِدِهِ وَلآخُذَنَّ بِيَدِهِ يَوْمَ نَوَائِبِهِ.

 

فَإِذَا قَالَ: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾ إلى آخر السّورة قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَقَد اسْتَجَبْتُ لِعَبْدِي وَأَعْطَيتُهُ مَا أَمَّلَ وَآمَنْتُهُ مِمَّا مِنْهُ وَجِلَ"3 .

________________________________________

3- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج82، ص60.  

 

 

163

 

134

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 4- في رحاب سورة الفاتحة

 
1- بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
 
دأبت الأمم والشّعوب على أن تبدأ كلّ عمل هامّ ذي قيمة باسم كبير من رجالها. والحجر الأساس لكلّ مؤسّسة هامّة يوضع باسم شخصيّة مرموقة في نظر أصحابها، أي أنّ أصحاب المؤسّسة يبدأون العمل باسم تلك الشّخصيّة.
 
ولكن، أليس من الأفضل أن يبدأ العمل في أُطروحة أُريد لها البقاء والخلود باسم وجود خالد قائم لا يعتريه الفناء؟ فكلّ ما في الكون يتّجه إلى الزّوال والفناء، إلّا الذّات الأبديّة الخالدة... ذات الله سبحانه.
 
إنّ خلود ذكر الأنبياء سببه ارتباطهم بالله وبالقيم الإنسانيّة الإِلهيّة الخالدة كالعدالة وطلب الحقيقة، وخلود اسم رجل في التّاريخ مثل "حاتم الطّائيّ" يعود إلى ارتباطه بواحدة من تلك القيم هي "السّخاء".
 
صفة الخلود والأبديّة يختصّ بها الله تعالى من بين سائر الموجودات، ومن هنا ينبغي أن يُبدأ كلّ شيء باسمه وتحت ظلّه وبالاستمداد منه. ولذلك كانت البسملة أوّل آية في القرآن الكريم.
 
ولذلك جاء في الحديث النّبويّ الشريف: "كُلُّ أمْرٍ ذِي بَال لا يُذْكَرْ اسْمُ اللهِ فيه فَهُوَ أَبْتَرُ"4 .
 
وأمير المؤمنين عليه السلام بعد نقله لهذا الحديث الشريف قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَعْمَلَ عَمَلاً فَيَقُولُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَإِنَّهُ يُبَارَكَ فيهِ"5 .
 
ويقول الإِمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام: 
________________________________________
4-وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج7، ص170.
5- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج89، ص243. ا
 
164

135

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 "... وَيَنْبَغي الاتْيَانُ بِهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ أَمْر عَظِيم أَوْ صَغِير لِيُبَارَكَ فيهِ"6.

 

بعبارة موجزة: بقاء العمل وخلوده يتوقّف على ارتباطه بالله.

 

2ـ كلمة: الّله 

 

وهي علم للذات الإلهيّة المقدّسة وهي أشمل أسماء ربّ العالمين، فكلّ اسم ورد لله في القرآن الكريم وسائر المصادر الإِسلاميّة يُشير إلى جانبٍ معيّن من صفات الله. والاسم الوحيد الجامع لكلّ الصفات والكمالات الإِلهيّة أو الجامع لكلّ صفات الجلال والجمال هو "الله". 

 

ولذلك اعتُبرت بقيّة الأسماء صفات لله تعالى مثل: "الغفور" و"الرحيم" و"السميع" و"العليم" و"البصير" و"الرزّاق" و"ذو القوّة" و"المتين" و"الخالق".

 

3ـ الرّحمة الإِلهيّة الخاصّة والعامّة: 

 

المشهور بين جماعة من المفسّرين أنّ صفة "الرحمن" تُشير إلى الرحمة الإِلهيّة العامّة، وهي تشمل الأولياء والأعداء، والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضله ممدود أمام جميع الموجودات، وكلّ العباد يتمتّعون بموهبة الحياة، وينالون حظّهم من مائدة نعمه اللّامتناهية. وهذه هي رحمته العامّة الشاملة لعالم الوجود كافّة وما فيه من كائنات.

 

وصفة "الرحيم" إشارة إلى رحمته الخاصّة بعباده الصالحين المطيعين، قد شملتهم بإيمانهم وعملهم الصالح، وَحُرِم منها المنحرفون والمجرمون.

 

وفي رواية عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادقعليه السلام قَالَ:"وَالله إلهُ كُلِّ شَيْء الرَّحْمنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنينَ خَاصَّةً".

________________________________________

6-لتفسير الصافي، الكاشاني، ج1، ص82.

 

 

165

 

136

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 4- الْحَمْدُ ِللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 
بعد البسملة، أوّل واجبات العباد أن يستحضروا دوماً مبدأ عالم الوجود، ونِعَمه اللامتناهية، هذه النِّعم الّتي تُحيطنا وتغمر وجودنا، وتهدينا إلى معرفة الله من جهة، وتدفعنا إلى طريق العبوديّة من جهة اُخرى.
 
وعندما نقول إنّ النِّعم تُشكِّل دافعاً ومحرِّكاً إلى طريق العبوديّة فذلك، لأنّ الإِنسان مفطور على البحث عن صاحب النعمة حينما تصله النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه.
 
من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرّقون في بحوثهم الأوّلية لهذا العلم إلى "وجوب شكر المنعم" باعتباره أمراً فطريّاً وعقليّاً دافعاً إلى معرفة الله سبحانه.
 
وإنّما قُلنا إنّ النِّعم تهدينا إلى معرفة الله، لأنّ أفضل طريق وأشمل سبيل لمعرفته سبحانه، دراسة أسرار الخليقة، وخاصّة ما يرتبط بوجود النِّعم في حياة الإنسان.
 
خطّ التوحيد الّذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام يتميّز بنبذ فكرة الأرباب المتعدِّدين، وهداية البشريّة نحو الإله الواحد الأحد، وانطلاقاً من هذه الأهميّة القصوى للقضاء على الآلهة المتعدِّدة جاء التأكيد القرآنيّ بعد آية البسملة بقوله: ﴿ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
 
وبهذا يرسم القرآن الكريم خطّ البطلان على جميع الأرباب المزيّفين، ويغرس محلّها أزهار التوحيد والاتّحاد.
 
هذا التأكيد يتلوه الإِنسان المسلم عشر مرّات في صلواته اليوميّة ـ على الأقل ـ لتترسّخ فكرة التوحيد، وفكرة رفض ربوبيّة كلّ الأرباب المدّعاة، غير ربوبيّة الله ربّ العالمين.
 
 
166 
 

137

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 ربوبيّة الله طريق لمعرفة الله

 
كلمة (الربّ)، وإن كانت تعني في الأصل المالك والصاحب، إلّا أنّها تتضمّن أيضاً معنى الصاحب المتعهّد بالتربية والرعاية.
 
وإمعان النظر في المسيرة التكامليّة للموجودات الحيّة، وفي التغييرات والتحوّلات الّتي تجري في عالم الجماد، وفي الظروف الّتي تتوفّر لتربية الموجودات، وفي تفاصيل هذه الحركات والعمليّات، هو أفضل طريق لمعرفة الله. والتنسيق اللاإراديّ بين أعضاء جسدنا هو نموذج حيّ لذلك.
 
يقول تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾7 .
________________________________________
7- سورة فصّلت، الآية: 53.  
 
167

138

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 خلاصة الدرس

 
 
من خصائص سورة الحمد أنّها أساس القرآن وأمّ الكتاب
 
أهمّيّة هذه السّورة تتّضح من محتواها، فهي في الحقيقة عرض لكلّ محتويات القرآن من توحيد ومعاد وهداية وضلال.. تتضمّن هذه السّورة مراحل الإِيمان الثلاث: الاعتقاد بالقلب، والإِقرار باللسان، والعمل بالأركان. ويُمكن تقسيم هذه السّورة، من منظار آخر، إلى قسمين: قسم يختصّ بحمد الله والثناء عليه، وقسم يتضمّن حاجات العبد.
 
للمطالعة
 
الإعجاز العلميّ في القرآن
كلّ الكواكب متحرّكة
 
لقد أصبح أمراً ثابتاً ومؤكّداً في علم الفلك الحديث بأنّه لا وجود لكوكب ساكن في الكون وأنّه لا صحّة لفكرة تقسيم السيّارات والكواكب إلى ثابتة ومتحرّكة كما كان يقول القدماء، بل إنّه لا وجود حتّى لكوكب واحد ساكن في هذا العالم اللّامتناهي. وحتّى سنين خلت كانت السيّارات تُعدّ بحدود الـ300 مليون بينما صاروا يعجزون اليوم عن عدّها وإحصائها.
 
وقد ورد في القرآن الكريم بصراحة قول الله تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ أي أنّه لا وجود للكوكب الثابت بل إنّ كلّ واحد منها يسبح ويتحرّك في المدار الّذي حُدِّد له من قِبَل الله تعالى، في حين أنّ بطليموس كان يقول بأنّ الفلك الثامن ما هو إلّا عبارة عن فلك ثابت وأنّ الكواكب الموجودة فيه كواكب ساكنة، لكنّ القرآن الكريم يؤكّد أنّ الجميع في حالة حركة مستمرّة.
 
 
168 
 

139

الدرس الرابع عشر: تفسير سورة الفاتحة -1-

 الجبال هي المسامير المُثبتة للأرض‏

 
لقد أصبح من الأمور الثابتة اليوم كون الجبال الواقعة فوق الأرض والممتدّة جذورها في عمق الكرة الأرضيّة هي السبب في استقرار الأرض. فلولا وجود هذه الجبال فإنّ هذه الكرة الأرضيّة الّتي تقطع أربعة فراسخ في حركتها الانتقاليّة في كلّ دقيقة وأربعة فراسخ أخرى في حركتها الموضعيّة في كلّ ثانية و240 فرسخاً في حركتها الدورانيّة حول نفسها كانت في طريقها إلى الزوال والتلاشي، لكنّ هذه الجبال هي الّتي تمنع تلاشيها. وهذا الأمر سبق أن أشار إليه القرآن المجيد وأكّده قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة مضت حيث قال تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ كما جاء في سورة النبأ، الآية:
 
وكما يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في إحدى خطبه الغراء: "فطر الخلائق بقدرته ووتّد بالصخور ميدان أرضه8     
 
 ________________________________________
8-نهج البلاغة، ج1، ص41.
169
 
 

140

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

  الدرس الخامس عشر



تفسير سورة الفاتحة-2-

 

 

أهداف الدرس

 

1- أن يتبين الطالب بعضاً من معاني آيات سورة الفاتحة.

2 - أن يتعرف إلى صفات أهل الهدى والضلال.

 

 

171

141

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 1- مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

 
هذه الآية تُلفت الأنظار إلى أصل هامّ آخر من أصول الإِسلام، هو يوم القيامة: ﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وبذلك يكتمل محور المبدأ والمعاد، الّذي يُعتبر أساس كلّ إصلاح أخلاقيّ واجتماعيّ في وجود الإِنسان.
 
تعبير (مَالِكِ) يوحي بسيطرة الله التامّة وهيمنته المستحكمة على كلّ شيء وعلى كلّ فرد في ذلك اليوم، حيث تحضر البشريّة في تلك المحكمة الكبرى، وتقف أمام مالكها الحقيقيّ للحساب، وترى كلّ ما فعلته وقالته، بل وحتّى ما فكّرت به، حاضراً..
 
الإِيمان بيوم القيامة، وبتلك المحكمة الإِلهيّة الكبرى الّتي يخضع فيها كلّ شيء للإحصاء الدقيق، له الأثر الكبير في ضبط الإِنسان أمام الزلّات، ووقايته من السقوط في المنحدرات. وأحد أسباب قدرة الصلاة على النهي عن الفحشاء والمنكر هو أنّها تُذكِّر الإِنسان بالمُبدئ المطّلع على حركاته وسكناته، وتُذكّره أيضاً بمحكمة العدل الإلهيّ الكبرى.
 
التركيز على مالكيّة الله ليوم القيامة يُقارع من جهة أُخرى معتقدات المشركين ومنكري المعاد، لأنّ الإِيمان بالله عقيدة فطريّة عامّة، حتّى لدى 
 
 
173 
 

142

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 مشركي العصر الجاهليّ، وهذا ما يُوضّحه القرآن إذ يقول: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾1 بينما الإِيمان بالمعاد ليس كذلك، فهؤلاء المشركون كانوا يواجهون مسألة المعاد بعناد واستهزاء ولجاج: ﴿َقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ  أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾2.

 

وروي عن الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام: "أَنَّه كَانَ إذا قَرَأَ ﴿ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ يُكَرِّرُهَا حَتَّى يَكَاد أَنْ يَمُوتَ"3.

 

أمّا تعبير "يَوْمِ الدِّينِ"، فحيثما ورد في القرآن يعني يوم القيامة، وتكرّر ذلك في أكثر من عشرة مواضع من كتاب الله العزيز، وفي الآيات 17 و 18 و 19 من سورة الانفطار ورد هذا المعنى بصراحة.

 

وأمّا سبب تسمية هذا اليوم بيوم الدِّين، فلأنّ يوم القيامة يوم الجزاء، و "الدِّين" في اللغة "الجزاء"، والجزاء أبرز مظاهر القيامة، ففي ذلك اليوم تُكشف السرائر ويُحاسب النّاس عمّا فعلوه بدقّة، ويرى كلّ فرد جزاء ما عمله صالحاً أم طالحاً.

 

وفي حديث عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يقول: "يَوْمُ الدِّينِ هُوَ يَوْمُ الْحِسَابِ"4 "والدِّين" إستناداً إلى هذه الرواية يعني "الحساب".

________________________________________

1-سورة الزمر، الآية: 38. 

2-سورة سبأ، الآيتان: 7 ـ 8. 

3-وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج6، ص152. 

4-الأمثل، مكارم الشيرازي، ج1، ص48. 

 
174

 

 

143

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 

2- إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
 
في هذه الآية يتغيّر لحن السّورة، إذ يبدأ فيها دعاء العبد لربّه والتضرّع إليه. الآيات السابقة دارت حول حمد الله والثناء عليه، والإِقرار بالإِيمان والاعتراف بيوم القيامة. وفي هذه الآية يشعر الإِنسان ـ بعد رسوخ أساس العقيدة ومعرفة الله في نفسه ـ بحضوره بين يدي الله... يُخاطبه ويُناجيه، ويُقرّ أوّلاً بتعبّده، ثمّ يستمدّ العون منه وحده دون سواه: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾.
 
بعبارة أُخرى: عندما تتعمّق مفاهيم الآيات السابقة في وجود الإِنسان، وتتنوّر روحه بنور ربّ العالمين، ويُدرك رحمة الله العامّة والخاصّة، ومالكيّته ليوم الجزاء، يكتمل الإِنسان في جانبه العقائديّ. وهذه العقيدة التوحيديّة العميقة، ذات عطاء يتمثّل.
 
أوّلاً: في تربية الإِنسان العبد الخالص لله، المتحرّر من العبوديّة للآلهة الخشبيّة والبشريّة والشهويّة.
 
ثانياً: في الاستمداد من ذات الله تبارك وتعالى خاصّة دون غيره.
 
الآيات السابقة تحدّثت في الحقيقة عن توحيد الذَّات والصِّفات، وهذه الآية تتحدّث عن توحيد العبادة وتوحيد الأفعال.
 
وقد ذكرنا في درس سابق معنى هذا التوحيد الّذي يعني أنّ الله هو المؤثّر الحقيقيّ في العالم (لاَ مُؤَثِّرَ فَي الْوُجُودِ إلاَّ الله). وهذا لا يعني إنكار عالم الأسباب، وتجاهل المسبّبات، بل يعني الإِيمان بأنّ تأثير الأسباب إنّما كان بأمر الله، فالله سبحانه هو الّذي يمنح النار خاصّيّة الإحراق، والشمس خاصّيّة الإِنارة، والماء خاصّيّة الإِحياء.
 
ثمرة هذا الاعتقاد أنّ الإِنسان يُصبح معتمداً على (الله) دون سواه، ويرى أنّ الله هو القادر العظيم فقط، ويرى ما سواه شبحاً لا حول له ولا قوّة بل لا 
 
175

144

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 يرى شيئاً غير الله، وهو وحده سبحانه اللائق بالاتّكال والاعتماد عليه في كلّ الأمور.

 
وبالتّالي هو الواحد الّذي يستحقّ العبادة فلا معبود سواه.
 
3- اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيمَ
 
بعد أن يُقرّ الإِنسان بالتسليم لربّ العالمين، ويرتفع إلى مستوى العبوديّة لله والاستعانة به تعالى، يتقدّم هذا العبد بأوّل طلب من بارئه، وهو الهداية إلى الطريق المستقيم، طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإِحسان، طريق الإِيمان والعمل الصالح، ليهبه الله نعمة الهداية كما وهبه جميع النِّعم الأخرى.
 
الإِنسان في هذه المرحلة مؤمن طبعاً وعارف بربّه، لكنّه معرّض دوماً بسبب العوامل المضادّة إلى سلب هذه النعمة والانحراف عن الصراط المستقيم. من هنا كان عليه لزاماً أن يُكرِّر عشر مرّات في اليوم على الأقلّ طلبه من الله أن يقيه العثرات والانحرافات.
 
أضف إلى ما تقدّم أنّ الصراط المستقيم هو دين الله، وله مراتب ودرجات لا يستوي في طيّها جميع النّاس، ومهما سما الإِنسان في مراتبه، فثمّة مراتب أُخرى أبعد وأرقى، والإنسان المؤمن توّاق دوماً إلى السير الحثيث على هذا السلّم الارتقائيّ، وعليه أن يستمدّ العون من الله في ذلك.
 
عن الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، في تفسير ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ﴾قال: أي: "أَدِمْ لَنَا تَوْفِيقَكَ الَّذِي أَطَعْنَاكَ بِهِ فِي مَا مَضى مِنْ أيَّامِنَا، حَتَّى نُطِيعَكَ في مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِنَا"5.
 
وقال الإِمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: "يَعْني أرْشِدْنَا لِلزُومِ الطَّريقِ 
________________________________________
5-معاني الأخبار، الصدوق، ص33.  
176

145

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 الْمُؤَدّي إلى مَحَبَّتِكَ، وَالْمُبلِّغِ إلى جَنّتكَ، وَالْمَانِعِ مِنْ أَنْ نَتّبعَ أَهْواءَنَا فَنَعْطَبَ، أو أَنْ نَأْخُذَ بِآرَائِنَا فَنَهْلَكَ"6.

 
4- صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ
 
خطّان منحرفان!
 
هذه الآية تفسير واضح للصراط المستقيم المذكور في الآية السابقة، إنّه صراط المشمولين بأنواع النِّعم (مثل نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعمة العلم والعمل والجهاد والشهادة) لا المشمولين بالغضب الإلهيّ بسبب سوء فعالهم وزيغ قلوبهم، ولا الضائعين التائهين عن جادّة الحقّ والهدى.
 
ولأنّنا لسنا على معرفة تامّة بمعالم طريق الهداية، فإنّ الله تعالى يأمرنا في هذه الآية الكريمة أن نطلب منه هدايتنا إلى طريق الأنبياء والصالحين من عباده: (الَّذِينَ أَنْعَمَت عَلَيْهِمْ)، ويُحذِّرنا كذلك من أنّ أمامنا طريقين منحرفين، وهما طريق (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، وطريق (الضّالّينَ)، وبذلك يتبيّن للإِنسان طريق الهداية بوضوح.
 
1ـ من هم (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)؟
 
تُبيّن الآية الكريمة من سورة النساء من هم الّذين أنعم الله عليهم،إذ يقول تعالى: ﴿ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾7.
 
والآية تُقسِّم الّذين أنعم الله عليهم إلى أربعة مجاميع: الأنبياء، والصدّيقين، والشهداء، والصالحين.
________________________________________
6-م.ن، ص34. 
7-سورة النساء، الآية: 69. 
177

146

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 2ـ من هم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، ومن هم (الضَّالِّينَ)؟

 
يتّضح من الآية الكريمة أنّ (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) و (الضّالِّينَ) مجموعتان لا مجموعة واحدة، وأمّا الفرق بينهما: 
 
فإنّه يُستفاد من استعمال التعبيرين في القرآن أنّ "المغضوب عليهم" أسوأ وأحطّ من "الضّالّين"، أي إنّ الضّالين هم التائهون العاديّون، والمغضوب عليهم هم المنحرفون المعاندون، أو المنافقون، ولذلك استحقّوا لعن الله وغضبه.
 
قال تعالى: ﴿ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ ﴾8.
 
وقال سبحانه: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ﴾9.

(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) إذاً يسلكون ـ إضافة إلى كفرهم ـ طريق اللّجاج والعناد ومعاداة الحقّ، ولا يألون جهداً في توجيه ألوان التنكيل والتعذيب لقادة الدعوة الإِلهيّة.
 
يقول سبحانه: ﴿ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾10.
________________________________________
8-سورة النحل، الآية: 106. 
9-سورة الفتح، الآية: 6. 
10-سورة آل عمران، الآية: 112.  
178 
 

147

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 خلاصة الدرس

 
في هذه السورة المباركة يكون الإِنسان بين يدي الله، فهو مالك يوم الدِّين أي يوم الحساب، يُخاطبه ويُناجيه، يتحدّث إليه أوّلاً عن تعبّده، ثمّ يستمدّ العون منه وحده دون سواه قائلاً: "إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". ويسأله الهداية: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيم, أي طريق الطّهر والخير، طريق العدل والإِحسان، طريق الإِيمان والعمل الصالح، الّذي هو طريق الأنبياء والصالحين من عباده لا طريق المغضوب عليهم والضالّين. 
 
للمطالعة

من اسرار القرآن
 
من الأسرار الّتي أشار إليها القرآن الكريم كرويّة الأرض، قال تعالى: 

﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا 11﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ﴾12﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُون﴾13 
 
ففي هذه الآيات الكريمة دلالة على تعدّد مطالع الشمس ومغاربها، وفيها إشارة إلى كروّية الأرض، فإنّ طلوع الشمس على أيّ جزء من أجزاء الكرة الأرضيّة يُلازم غروبها عن جزء آخر، فيكون تعدّد المشارق والمغارب واضحاً لا تكلّف فيه ولا تعسّف. وقد حمل القرطبيّ وغيره المشارق والمغارب على مطالع الشمس ومغاربها باختلاف أيّام السنة، لكنّه تكلّف لا ينبغي أن يُصار إليه، لأنّ الشمس
________________________________________
11-سورة الأعراف، الآية: 137.  
12-سورة الصافات، الآية: 5. 
13-سورة المعارج، الآية: 40.  
 
179

148

الدرس الخامس عشر: تفسير سورة الفاتحة -2

 لم تكن لها مطالع معيّنة ليقع الحلف بها، بل تختلف تلك باختلاف الأراضي. فلا بدّ من أنْ يُراد بها المشارق والمغارب الّتي تتجدّد شيئاً فشيئاً باعتبار كروّية الأرض وحركتها.

 

وفي أخبار أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم السلام وأدعيتهم وخطبهم ما يدلّ على كرويّة الأرض.

 

ومن ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: 

 

"صحبني رجل كان يُمسي بالمغرب ويغلس بالفجر، وكنت أنا أُصلّي المغرب إذا غربت الشمس، وأصلّي الفجر إذا استبان لي الفجر. فقال لي الرجل: ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنّا، وهي طالعة على قوم آخرين بعد. فقلت: إنّما علينا أن نُصلّي إذا وجبت الشمس عنّا وإذا طلع الفجر عندنا، وعلى أولئك أن يُصلّوا إذا غربت الشمس عنهم"14 

 

يستدلّ الرجل على مراده باختلاف المشرق والمغرب الناشئ عن استدارة الأرض، ويُقرّه الإمام عليه السلام على ذلك ولكن يُنبّهه على وظيفته الدينيّة.

 

ومثله قول الإمام عليه السلام في خبر آخر: "إنّما عليك مشرقك ومغربك". 15

 

ومن ذلك ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه عند الصباح والمساء: 


"وجعل لكلّ واحد منهما حدّاً محدوداً، وأمداً ممدوداً، يولج كلّ واحد منهما في صاحبه، ويولج صاحبه فيه بتقدير منه للعباد16"

 

 ________________________________________

14-الوسائل، ج 1، ص 237، باب 116، أنّ أوّل وقت المغرب غروب الشمس.

15-من لا يحضره الفقيه، ج1، ص221. 

16- الصحيفة السجّادية الكاملة.

 

 

180

 

149

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 الدرس السادس عشر



تفسير سورة الضحى
 




أهداف الدرس
 
1- أن يطلع الطالب على محتوى السورة وسبب نزولها.
2- أن يتبين بعضاً من معاني آياتها.
 
 
181
 

150

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ 

وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى* وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى* وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى* أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * َوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ*وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾
 
1- في رحاب السّورة
 
هذه السّورة نزلت في مكّة. وحسب بعض الرّوايات أنَّها نزلت حين كان الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم متألّماً بسبب تأخّر نزول الوحي، وتقوُّل الأعداء نتيجة هذا الانقطاع المؤقّت، نزلت السّورة كغيث على قلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأمدّته بطاقة جديدة، وقطعت ألسن الأعداء.
 
هذه السّورة تبدأ بقَسَمَين، ثمّ تُبشِّر النّبيّ بأنّ الله لا يتركه أبداً.
 
ثمّ تُبشّره بعطاء ربّانيّ يجعله راضياً، ثمّ تعرض له صوراً من حياته السابقة تتجسّد فيها الرحمة الإلهيّة الّتي كانت تشمله دائماً وتحميه وتسنده في أشدّ اللحظات.
 
وفي نهاية السّورة تتكرّر الأوامر الإلهيّة برعاية اليتيم والسائل، وبإظهار النِّعم الإلهيّة (شكراً لهذه النِّعم).
 
183

151

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 2- سبب النّزول

 
رويَ عن ابن عبّاس قال: "احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة عشر يوماً، فقال المشركون إنّ محمّداً قد ودّعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله تعالى لتتابع عليه، فنزلت السّورة"1 .
 
3- التّفسير
 
في بداية السّورة المباركة قسَمان: الأوّل بالنّور، والثّاني بالظلمة، ويقول سبحانه: 
 
﴿ وَالضُّحَى ﴾ وهو أوّل النهار حين تغمر شمسه كلّ مكان.
 
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾أي إذا عمّت سكينته كلّ مكان.
 
وبين القَسَمين ومحتوى السّورة تشابه كبير وارتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والليل كانقطاع الوحي المؤقّت، وهو أيضاً ضروريّ في بعض المقاطع الزمنيّة.
 
وبعد القَسَمين، يأتي جواب القَسَم، فيقول سبحانه: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾.

"قلى" من "قل" ـ على وزن صدا، وهو شدّة البغض، ومن القَلو أيضاً بمعنى الرّمي. وكلا المعنيين يعودان إلى أصل واحد فكأنّ المقلوّ هو الّذي يقذفه القلب من بُغضه فلا يَقبَلُه.
 
على أيّ حال، في هذا التعبير سَكنٌ لقلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتسلٍّ له، ليعلم أنّ التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست ـ كما يقول الأعداء ـ لترك اللهَ نبيّه أو لسخطه عليه. فهو مشمولٌ دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه.
 
﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى ﴾
________________________________________
1- بحار الأنوار، ج16، ص136.
184 
 

152

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 أنت في هذه الدنيا مشمول بألطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل. أنت آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد. وباختصار أنت عزيز في الدنيا والآخرة... في الدنيا عزيز وفي الآخرة أعزّ...

وتأتي البشرى للنبيّ الكريم لتقول له: 

﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾، وهذا أعظم إكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. فالعطاء الرّبانيّ سيُغدق عليه حتّى يرضى... حتّى ينتصر على الأعداء ويعمّ نور الإِسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولاً بأعظم الهبات الإِلهيّة.
 
4- فلسفة انقطاع الوحي: 
 
يتبيّن من الآيات الكريمة في هذه السّورة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك لنفسه شيئاً إلاّ من عند الله... لم يكن له اختيار حتّى في نزول الوحي. متى ما شاء الله ينزل الوحي ومتى ما شاء ينقطع. ولعلّ انقطاع الوحي كان ردّاً على أُولئك الّذين كانوا يُطالبون النبيّ بمعاجز مقترحة وفق أذواقهم، أو كانوا يقترحون عليه تغيير بعض الأحكام والنصوص، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم: ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ...﴾2 . 
 
5- الشكر على كلّ هذه النِّعم الإلهيّة: 

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * َوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ*وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾
 
 
ذكرنا أنّ هدف هذه السّورة المباركة تسلية قلب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبيان ألطاف الله الّتي شملته. وهذه الآيات المذكورة أعلاه تُجسّد للنّبي ثلاث هبات من الهبات
________________________________________
2-سورة يونس، الآية: 15.
185 
 

153

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 الخاصّة الّتي أنعم الله بها على النّبيّ، ثمّ تأمره بثلاثة أوامر.

 
النعمة الأولى: 

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾
 
فقد كنت يا محمّد في رحم أُمّك حين توفّي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطّلب "سيّد مكّة".
 
وكنت في السادسة حين توفّيت والدتك، فزاد يتمك، لكنّني زدت حبّك في قلب "عبد المطّلب".
 
وكنت في الثامنة حين رحل جدّك "عبد المطّلب"، فسخّرت لك عمّك "أبا طالب".

النعمة الثّانية: 
 
﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾
 
نعم، لم تكن أيّها النّبيّ على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانيّة. وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضاً: ﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾3 .
 
من الواضح أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان فاقداً لهذا الفيض الإلهيّ قبل وصوله إلى مقام النبوّة، فالله سبحانه أخذ بيده وهداه وبلغ به هذا المقام. وإلى هذا تُشير الآية (3) من سورة يوسف: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾
 
من المؤكّد أنّه لولا الهداية الإلهيّة والإمداد الغيبيّ ما استطاع الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم أن
________________________________________
3-سورة الشورى، الآية: 52.
186 
 

154

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 يهتدي المسير نحو الهدف المقصود.

 

من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة "ضالّ" في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النّبيّ، بل بقرينة الآيات الّتي أشرنا إليها تعني نفي العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسّرين. لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة اهتدى إلى هذه الأُمور بعون الله تعالى. 

 

النعمة الثالثة: 

 

﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾

 

لقد جعلناك تستأثر باهتمام "خديجة" هذه المرأة المخلصة الوفيّة لتضع كلّ ثروتها تحت تصرّفك من أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرساليّة الكبرى.

ثمّ في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة. والخطاب وإن كان موجّهاً إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنّه يشمل أيضاً كلّ المسلمين.

 

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾

 

"تقهر" من القهر أي الغلبة مع التحقير، وأيضاً تُستعمل في كلّ واحد من المعنيين، ومعنى التحقير هنا هو المناسب.

 

وهذا يدلّ على أنّ هناك مسألة أهمّ من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفيّ، ولذا جاء في الحديث المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مسح يده على رأس يتيم ترحمّاً

 

187

 

155

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

له، كتب الله له بكلّ شعرة مرّت عليه يده حسنة"4.

 

كأنّ الله يخاطب نبيّه قائلاً: لقد كُنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن تهتمّ بالأيتام كلّ اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.

 

﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾

 

"نَهَرَ" بمعنى ردّ بخشونة.

 

وفي معنى "السائل" عدّة تفاسير.

 

الأوّل: أنّه المتّجه بالسؤال حول القضايا العلميّة والعقائديّة والدينيّة، والدليل على ذلك هو أنّ هذا الأمر تفريع على ما جاء في الآية السابقة: ﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾، فشكر هذه الهداية الإلهيّة يقتضي أن تسعى أيّها النّبيّ في هداية السائلين، وأن لا تطرد أيّ طالب للهداية عنك.

 

والتّفسير الآخر: هو الفقير في المال والمتاع، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.

 

والثّالث: أنّ المعنى يشمل الفقير علميّاً والفقير ماديّاً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين. وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهيّة لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، ومع إغنائه بعد عيلولته.

 

﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾

 

والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والامتنان، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل الله، إنفاقاً يُبيّن مدى هذه النعمة. هذه هي خصلة الإنسان السخيّ الكريم... يشكر الله على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، خلافاً للسخفاء البخلاء الّذين لا يكفّون عن الشكوى والتأوّه، ولا يكشفون عن نعمة ولو حصلوا 

________________________________________

4-فقه الرضا، ابن بابويه، ص172.

 

188 

 

 

 


156

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 على الدنيا وما فيها، وجوههم يعلوها سيماء الفقر، وكلامهم مفعم بالتذمّر والحسرة، وعملهم يكشف عن فقر!

 

بينما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يُحبّ أن يرى أثر النعمة عليه"5 .

 

من هنا يكون معنى الآية: بيّن ما أغدق الله عليك من نِعَم بالقول والعمل، شكراً على ما أغناك الله إذ كنت عائلاً.

 

بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ النعمة في الآية هي النعمة المعنويّة ومنها النبوّة والقرآن، والأمر للنبيّ بالإبلاغ والتبيين، وهذا هوالمقصود من الحديث بالنعمة.

 

ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى شاملاً للنعم الماديّة والمعنويّة، لذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية قوله: "حدّث بما أعطاك الله، وفضّلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك"6 .

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أُعطي خيراً فلم يُر عليه، سُمّي بغيض الله، معادياً لنعم الله"7 .

 

وعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "إنّ الله جميل يُحبّ الجمال، ويُحبّ أن يرى أثر النعمة على عبده"

________________________________________

5-كنز العمّال، ج6، ص641.

6-مجمع البيان، ج 10، ص 507.

7-تفسير القرطبي، ج 10، ص 7192، وقريب من هذا المعنى في الكافي، ج 6، كتاب الزي والتجميل، حديث 2.

8-فروع الكافي، ج6، ص 438.

 

 

189

 

 


157

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

 خلاصة الدرس

 
القرآن يتحدّى
 
يتبيّن من الآيات الكريمة في هذه السّورة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك لنفسه شيئاً إلّا من عند الله، وكما تُجسِّد للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث هبات من الهبات الخاصّة الّتي أنعم الله بها عليه: 
 
الرعاية عند اليتم، والهدى بالوحي، والغنى بعد الفقر.
 
وتتضمّن هذه السورة المباركة إشارة مضمونيّة إلى مسألة أهمّ من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفيّ.
 
الإنسان السخيّ الكريم... يشكر الله على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، ويحدّث بها حديث الشكر لا حديث الغرور.
 
 
للمطالعة
 
القرآن يتحدّى
 
عن هشام بن الحكم قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصانيّ الزنديق، وعبد الملك البصريّ، وابن المقفّع، عند بيت الله الحرام، يستهزئون بالحجّ ويطعنون بالقرآن. فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كلّ واحد منّا ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع، نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلّه، فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمّد، وفي إبطال نبوّته إبطال الإسلام، وإثبات ما نحن فيه، فاتفّقوا على ذلك وافترقوا. فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمفكّر منذ افترقنا في هذه
 
190
 

158

الدرس السادس عشر: تفسير سورة الضحى

  الآية: ﴿ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا ﴾9 فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكّر في ما سواها.

 
فقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾10 ولم أقدر على الإتيان بمثلها.
 
فقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾11 لم أقدر على الإتيان بمثلها.
 
فقال ابن المقفّع: يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾12 لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الإتيان بمثلها. 
 
قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرّ بهم جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام فقال: ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾13 فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصيّة محمّد إلّا إلى جعفر بن محمّد، والله ما رأيناه قطّ إلّا هبناه واقشعرّت جلودنا لهيبته، ثم تفرّقوا مقرّين بالعجز14 . 
 
 
 ________________________________________
9-سورة يوسف، الآية: 80.
10-سورة الحجّ، الآية: 73.
11- سورة الأنبياء، الآية: 24.
12-سورة هود، الآية: 44.
13-سورة الإسراء، الآية: 88.
14-الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 142 – 143.
 
 
 
191

159

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 الدرس السابع عشر


تفسير سورة البيّنة

 


أهداف الدرس

 

1- أن يتبين الطالب بعضاً من مفاهيم السورة المباركة.

2- أن يتعرف إلى خير البريّة وشرّها.

 

193

 

 

160

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


 لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾

1- في رحاب السورة
 
المشهور أنّ هذه السّورة نزلت في المدينة، ومحتواها يؤيّد ذلك، إذ تحدّثت في مواضع متعدّدة عن أهل الكتاب. وغالباً ما واجه المسلمون أهلَ الكتاب في المدينة.
 
أضف إلى ذلك أنّ السّورة تحدّثت عن الصلاة والزكاة، والزكاة ـ مع أنّها شُرّعت في مكّة ـ اتّخذت طابعها الرسميّ الواسع في المدينة.
 
هذه السّورة تناولت رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من دلائل بيّنة. هذه 
 
195

161

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 الرسالة الّتي كان أهل الكتاب ينتظرونها، لكن حين ظهرت، أعرض عنها فريقٌ منهم لما وجدوا فيها من خطر على مصالحهم الشخصيّة

.
والسّورة تُقرِّر حقيقة وجود الإيمان بالله والتوحيد والصلاة والصيام في كلّ الأديان ودعوات الأنبياء عليهم السلام باعتبارها أُصولاً ثابتة خالدة.
 
وفي مقطع آخر من السّورة بيان عن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام... بعضهم آمن وعمل صالحاً فهو خير المخلوقات، وبعضهم كفر وأشرك فهو شرّ البريّة.
 
ذلك دين القيّمة: 
 
في بداية السّورة ذكر لأهل الكتاب (اليهود والنصارى) ومشركي العرب قبل ظهور الإسلام، فهؤلاء كانوا يدّعون أنّهم غير منفكّين عن دينهم إلاّ بدليل واضح قاطع.
 
﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾.
 
و"البيّنة" الّتي أرادوها: رسول من الله يتلو عليهم كتاباً مطهّراً من ربّ العالمين: 
 
﴿ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ﴾.
 
وهذه الصحف فيها من الكتابة ما هو صحيح وثابت وذو قيمة.
 
﴿ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾.
 
كان هذا ادّعاؤهم قبل ظهور الإسلام، وحينما ظهر ونزلت آياته تغيّر هؤلاء، واختلفوا وتفرّقوا! وما تفرّقوا إلاّ بعد أن جاءهم الدليل الواضح والنبيّ الصادح بالحقّ.
 
﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾.
 
فالآيات الأُولى لهذه السّورة المباركة تتحدّث عن أهل الكتاب والمشركين الّذين 
 
 
196
 

162

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 كانوا يدّعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيٌّ بالدلائل الساطعة.

 
لكنّهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلاّ فريق منهم آمن واهتدى.
 
وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ  ﴾1.
 
نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور، ولا بدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الانتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة، ولكن حين تحقّقت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا باعداء الدعوة.
 
ثمّة تفسير آخر للآية هو أنّ الله لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتّى يُتمّ الحجّة عليهم ويُرسل إليهم البيّنة ويُبيّن لهم الطريق. ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم.
 
بناء على هذا التّفسير، هذه الآية تُشير إلى قاعدة اللطف الّتي يتناولها علم الكلام وتُقرّر أن يبعث الله إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم.
 
على أيّ حال، "البيّنة" في الآية هي الدليل الواضح، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص "رسول الله" وهو يتلو عليهم القرآن.
 
"صحف" جمع "صحيفة"، وتعني ما يُكتب عليه من الورق، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق.
 
و"مطهّرة" أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل، ومن تلاعب شياطين الجنّ والإنس، كما جاء أيضاً في قوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِه ﴾2.
 
جملة (فيها كتب قيّمة) إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماويّة خالٍ
________________________________________
1-سورة البقرة, الآية:89.  
2-سورة فصّلت، الآية: 42.  
197 
 

163

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 من الانحراف والاعوجاج. من هنا فإنّ هذه "الكتب" تعني المكتوبات، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من الله، لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً، كقوله تعالى:

 ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾3.
 
وبهذا يكون معنى "قيّمة" سويّة ومستقيمة، أو ثابتة ومستحكمة، أو ذات قيمة، أو كلّ هذه المعاني مجتمعة.
 
ويُحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أنّ القرآن فيه الكتب السماويّة القيّمة السابقة لأنّه يضمّ جميع محتوياتها وزيادة.
 
ويلفت النظر تقدّم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الأولى، والاقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين، بينما الآية تُريد الاثنين.
 
وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف، وكان المشركون تابعين لهم، أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً للذمِّ أكثر لما عندهم من علماء كثيرين، وبذلك كانوا ذوي مستوى أرفع من المشركين. فمعارضتهم ـ إذاً ـ أفظع وأبشع وتستحقّ مزيداً من التقريع.
 
ثمّ يتوالى التقريع لأهل الكتاب، ومن بعدهم للمشركين، لأنّهم اختلفوا في الدِّين الجديد، منهم مؤمن ومنهم كافر، بينما: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ﴾.
 
ثمّ تُضيف الآية القول: 
 
﴿ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾.
المقصود هو أنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة 
________________________________________
3-سورة البقرة، الآية: 183.  
198

164

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 والزكاة وأمثالها من التعاليم. وهذه أُمورٌ معروفة فلماذا يُعرضون عنها؟.

 

وقوله تعالى: ﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾ أي بمجموع الدِّين والشريعة، أي أنّهم أُمروا أن يعبدوا الله وأن يُخلصوا له الدِّين والتشريع في جميع المجالات، فجملة ﴿ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ تؤيّد هذا المعنى لأنّها طرحت الدِّين بمفهومه الواسع.

 

"حنفاء" جمع "حنيف"، من الفعل الثّلاثي حَنَفَ، أي عدل عن الضلال إلى الطريق المستقيم. جملة ﴿ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ إشارة إلى أنّ الأُصول المذكورة في الآية وهي: التوحيد الخالص، والصلاة "الارتباط بالله" والزكاة "الارتباط بالنّاس" من الأُصول الثابتة الخالدة في جميع الأديان، بل إنّها قائمة في أعماق فطرة الإنسان. ذلك لأنّ مصير الإنسان يرتبط بالتوحيد، وفطرته تدعوه إلى معرفة المنعم وشكره، ثمّ إنّ الروح الإجتماعيّة المدنيّة للإنسان تدعوه إلى مساعدة المحرومين.

 

من هنا، هذه التعاليم لها جذور في أعماق الفطرة، وهي لذلك كانت في تعاليم كلّ الأنبياء السابقين وتعاليم خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- خير البريّة وشرّها

 

الآيات السابقة تحدّثت عن انتظار أهل الكتاب والمشركين لبيّنة تأتيهم من الله، لكنّهم تفرّقوا من بعد ما جاءتهم البيّنة.

 

هذه الآيات تذكر مجموعتين من النّاس مختلفتين في موقفهما من الدعوة "كافرة" و"مؤمنة". تذكر الكافرين أوّلاً بالقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾.

 

وإنّما قال "كفروا" لكفرهم بالدِّين المبين، وإلّا فإنّ كفرهم ليس بجديد.

 

وعبارة ﴿ أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾ عبارة قارعة مثيرة، تعني أنّه لا يوجد بين الأحياء

 

 

199

 

 

 


165

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 وغير الأحياء موجود أضلّ وأسوأ من الّذين تركوا الطريق المستقيم بعد وضوح الحقّ وإتمام الحجّة، وساروا في طريق الضلال، مثل هذا المعنى ورد أيضاً في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾4 ، وفي قوله سبحانه يصف أهل النّار: ﴿ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾5.

 
وهذه الآية الّتي نحن بصددها تذهب في وصف هؤلاء المعاندين إلى أبعد ممّا يذهب إليه غيرها، لأنّها تصفهم بأنّهم شرّ المخلوقات، وهذا بمثابة بيان الدليل على خلودهم في نار جهنّم.
 
ولمَ لا يكونون شرّ المخلوقات وقد فُتحت أمامهم جميع أبواب السعادة فأعرضوا عنها كبراً وغروراً وعناداً؟
 
الآية التالية تذكر المجموعة الثّانية، وهم المؤمنون وتقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾.
 
ثمّ ذكرت السورة جزاء هؤلاء المؤمنين، وما لهم عند الله من مثوبة: 

﴿ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾.
 
يُلاحظ أنّ الحديث عن المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان. وفي ذلك إشارة إلى أن ادّعاء الإيمان وحده لا يكفي، بل لا بدّ أن تشهد عليه الأعمال الصالحة. لكنّ الكفر وحده ـ وإن لم يقترن بالأعمال السيّئة ـ مبعث السقوط والشقاء. أضف إلى ذلك أنّ الكفر عادة منطلق لأنواع الذنوب والجرائم والانحرافات.
 
عبارة ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ تُبيّن بجلاء أنّ الإنسان المؤمن ذا الأعمال 
________________________________________
4-سورة الأنفال، الآية: 22.  
5-سورة الأعراف، الآية: 179.  
 
 
200 
 

166

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 الصالحة أفضل من الملائكة، فعبارة الآية مطلقة وليس فيها استثناء. والآيات الاُخرى تشهد على ذلك أيضاً، مثل آية سجود الملائكة لآدم، ومثل قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾6.

 

هذه الآية تحدّثت عن الجزاء المادّيّ الّذي ينتظر المؤمنين، وعن الجزاء المعنويّ الروحيّ لهم، وهو رضا الله عنهم ورضاهم عنه.

 

إنّهم راضون عن الله لأنّ الله أعطاهم ما أرادوه، والله راضٍ عنهم لأنّهم أدّوا ما أراده منهم، وإن كانت هناك زلّة فقد غفرها بلطفه وكرمه. وأيّة لذّة أعظم من أن يشعر الإنسان بأنّه نال رضا المحبوب ووصاله ولقاءه؟

 

نعم، نعيم جسد الإنسان جنّات الخلد، ونعيم روحه رضى الله ولقاؤه.

 

جملة ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ُ﴾ تدلّ على أنّ كلّ هذه البركات تنطلق من "خشية الله"، لأنّ هذه الخشية دافع للحركة صوب كلّ طاعة وتقوى وعمل صالح.

 

3- عليّ عليه السلام وشيعته خير البريّة

 

ثمّة روايات كثيرة من طرق أهل السنّة في مصادرهم الحديثيّة المعروفة، وهكذا في المصادر الشيعيّة، فسّرت الآية: ﴿ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ بأنّهم عليّ وشيعته.

 

فـ "الحاكم الحسكانيّ النيسابوريّ" عالم أهل السنّة المعروف في القرن الخامس الهجريّ نقل هذه الرّوايات في كتابه المشهور "شواهد التنزيل" بطرق مختلفة، ويزيد عدد هذه الرّوايات على العشرين نذكر منها على سبيل المثال ما يلي: 

 

1 ـ عن ابن عبّاس قال: عندما نزلت آية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ 

________________________________________

6-سورة الإسراء، الآية: 70.  

 

201

 

 

167

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ قال رسول الله لعليّ: "هو أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين ويأتي عدوّك غضباناً "مقمحين"7.

 
2 ـ وعن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: كنّا جالسين عند النبيّ جوار الكعبة، فأقدم علينا عليّ، وحين رآه النبيّ قال: "قد أتاكم أخي"، ثمّ التفت إلى الكعبة، وقال: "وربّ هذه البيّنة، إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة".
 
ثمّ التفت إلينا وقال: "أما والله إنّه أوّلكم إيماناً بالله، وأقومكم بأمر الله، وأوفاكم بعهد الله، وأقضاكم بحكم الله، وأقسمكم بالسويّة، وأعدلكم في الرعيّة وأعظمكم عند الله مزيّة"
 
قال جابر: فأنزل الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ فكان عليّ إذا أقبل قال أصحاب محمّد: قد أتاكم خير البريّة بعد رسول الله8.
 
بعض هذه الأحاديث رواه ابن حجر في الصواعق، ومحمّد الشبلنجيّ في نور الأبصار.
 
وجلال الدِّين السيوطيّ نقل القسم الأعظم من الرّواية الأخيرة عن ابن عساكر عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
 
3ـ في "الدرّ المنثور" عن ابن عبّاس قال: "حين نزلت آية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾، قال رسول الله لعليّ: "هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيّين".
 
باختصار هذا الحديث من الأحاديث المعروفة المشهورة المقبولة لدى أكثر علماء الإسلام، وفيه بيان لفضيلة كبرى من فضائل عليّ وأتباعه.
________________________________________
7-شواهد التنزيل، ج2، ص357، الحديث 1126.  
8-م.ن.  ص359، الحديث 1130. 
202 
 

168

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 وهذه الرّوايات تدلّ ضمناً على أنّ كلمة "الشيعة" باعتبارها اسماً لأتباع عليّ عليه السلام كانت قد شاعت منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين على لسان الرّسول نفسه. وأُولئك الّذين يخالون أنّ الكلمة هذه ظهرت في عصور متأخّرة في خطأ كبير.

 
4- منحنى الصعود والسقوط
 
من آيات هذه السّورة المباركة يُستفاد أنّ الإنسان فريد بين مخلوقات الكون في البون الشاسع الّذي يفصل بين منحنى ارتفاعه وسموّه وبين منحنى سقوطه وهبوطه. فإذا كان من الّذين آمنوا وعملوا الصالحات (عبارة "عملوا الصالحات" تشمل كلّ الأعمال الصالحة لا بعضها) فهو أفضل خلق الله؛ وإن سلك طريق الكفر والضلالة والعناد هبط إلى هوّة سحيقة وكان شرّ خلق الله.
 
هذا البون الشاسع بين الاتّجاهين ـ رغم خطورته وحساسيّته ـ له دلالة كبيرة على مكانة النوع البشريّ وقابليّته للتكامل. وطبيعيّ أن يكون إلى جانب هذه القابلية العظيمة إمكان عظيم للهبوط والسقوط.
 
203

169

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 خلاصة الدرس

 
هذه السّورة تناولت رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من دلائل بيّنة. والسّورة تُقرِّر حقيقة وجود الإيمان والتوحيد والصلاة والصيام في كلّ الأديان ودعوات الأنبياء باعتبارها أصولاً ثابتة.
 
الآيات الأولى لهذه السّورة المباركة تتحدّث عن أهل الكتاب والمشركين الّذين كانوا يدّعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إن جاءهم نبيٌّ بالدلائل الساطعة. لكنّهم أعرضوا حين ظهر، وجابهوه، إلّا فريقٌ منهم آمن واهتدى.
إنّ دين الإسلام ليس فيه سوى التوحيد الخالص والصلاة والزكاة وأمثالها من التعاليم. وذكر المؤمنين مقرون بذكر الأعمال الصالحة، باعتبارها ثمرة دوحة الإيمان. 
 
نعيم جسد الإنسان جنّات الخلد، ونعيم روحه رضا الله ولقاؤه. وخير البريّة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وشيعته.
 
للمطالعة
      
القرآن والإخبار بالغيب 
 
أخبر القرآن الكريم في عدّة من آياته عن أمور مهمّة، تتعلّق بما يأتي من الأنباء والحوادث. وقد كان في جميع ما أخبر به صادقاً، لم يُخالف الواقع في شيء منها. ولا شكّ في أنّ هذا من الإخبار بالغيب، ولا سبيل إليه غير طريق الوحي والنبوّة.
 
فمن الآيات الّتي أنبأت عن الغيب قوله تعالى: 

﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ9 ﴾
________________________________________
9- سورة الأنفال، الآية: 7. 
 
204

170

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 وهذه الآية نزلت في وقعة بدر. وقد وعد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوّهم وبقطع دابر الكافرين. والمؤمنون على ما هم عليه من قلّة العدد والعدّة، حتّى أنّ الفارس فيهم كان هو المقداد، أو هو والزبير بن العوّام والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوّة. وقد وصفتهم الآية بأنّهم ذوو شوكة، وأنّ المؤمنين أشفقوا من قتالهم، ولكنّ الله يُريد أن يُحقّ الحقّ بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوعده، ونصرهم على أعدائهم، وقطع دابر الكافرين.

 
ومنها قوله تعالى: 

﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إ ِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ10﴾  .
 
فإنّ هذه الآيات الكريمة نزلت بمكّة في بدء الدعوة الإسلاميّة. وقد أخرج البزّار والطبرانيّ في سبب نزولها عن أنس بن مالك: إنّها نزلت عند مرور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أناس بمكّة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: "هذا الذي يزعم أنّه نبيٌّ ومعه جبرئيل11" فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة الله له، وخذلانه للمشركين الّذين ناوأوه واستهزأوا بنبوّته، واستخفّوا بأمره. وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس انحطاط قوّة قريش، وانكسار شوكة سلطانهم، وظهور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهم.
 
ونظير هذه الآيات قوله تعالى: 
 
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ12 ﴾.
 
ومن هذه الأنباء قوله تعالى: 
________________________________________
10-سورة الحجر، الآيات: 94-96.  
11-لباب النقول، جلال الدين السيوطيّ، ص133.
12- سورة التوبة، الآية: 33.  
205 
 

171

الدرس السابع عشر: تفسير سورة البيـّنة

 ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ13 ﴾. 

 
وقد وقع ما أخبر به القرآن الكريم قبل أقلّ من عشر سنين، فغلب ملك الروم، ودخل جيشه مملكة الفرس.
 
ومنها قوله تعالى: 
 
﴿ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ  * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر ﴾ 14
 
فأخبر عن انهزام جمع الكفّار وتفرّقهم وقمع شوكتهم. وقد وقع هذا في يوم بدر أيضاً حين ضرب أبو جهل فرسه، وتقدّم نحو الصفّ الأوّل قائلاً: "نحن ننتصر اليوم من محمّد وأصحابه" فأباده الله وجمعه، وأنار الحقّ ورفع مناره، وأعلى كلمته، فانهزم الكافرون، وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهّم أحد بأنّ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً - ليس لهم عدّة، ولا يصحبون غير فرس أو فرسين وسبعين بعيراً يتعاقبون عليها - يظفرون بجمع كبير تامّ العدّة وافر العدد. وكيف يستفحل أمر أولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير، حتّى تذهب شوكته كرماد اشتدّت به الريح، لولا أمر الله وإحكام النبوّة وصدق النيّات؟!.
 
ومنها قوله تعالى: 
 
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾15
 
وقد تضمّنت هذه السورة نبأ دخول أبي لهب، ودخول زوجته، النار. ومعنى ذلك هو الإخبار عن عدم تشرّفهما بقبول الإسلام إلى آخر حياتهما، وقد وقع ذلك.                  
 
 ________________________________________
13-سورة الروم، الآيتان: 2- 3. 
14- سورة القمر،الآيتان:44- 45  
15-سورة المسد، الآيات: 1 ـ 3 ـ 4.  
206

172

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 الدرس الثامن عشر


تفسير سورة الجمعة
 



أهداف الدرس
 
1- أن يتبيّن الطالب بعضاً من معاني ومفاهيم سورة الجمعة المباركة.
2- أن يتعرّف إلى هدف البعثة النبويّة.
3- أن يستعلم أهميّة صلاة الجمعة.
 
207
 

173

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

  ﴿سْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

ِِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  *ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ  * مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ  *قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ  * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ* ﴾
 
209

174

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 1- في رحاب السورة: 

 

تدور هذه السورة المباركة حول محورَين أساسيَّين: 

 

الأوّل: هو التوحيد وصفات الله والهدف من بعثة الرسول ومسألة المعاد.

 

والمحور الثاني: هو الأثر التربويّ لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيّات المتعلّقة بهذه العبادة العظيمة.

 

ولكن يُمكن أن نُجمل الأبحاث الّتي وردت في هذه السورة المباركة بالنقاط التالية: 

 

1 - تسبيح كافّة المخلوقات.

2 - الهدف التعليميّ والتربويّ من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - تحذير المؤمنين وتنبيههم من مغبّة الوقوع في الانحراف الّذي وقع فيه اليهود فابتعدوا عن جادّة الصواب والحقّ.

4 - إشارة إلى قانون الموت العامّ والشامل الّذي يُمثِّل المعبر إلى عالم البقاء والخلود.

5 - التأكيد على أداء فريضة صلاة الجمعة، وحثّ المؤمنين على تعطيل العمل والكسب من أجل المشاركة فيها.

 

2- الهدف من بعثة الرسول: 

 

تبدأ هذه السورة بالتسبيح لله عزَّ وجلَّ، وتُشير إلى بعض صفات الجمال والجلال والأسماء الحسنى لله. ويُعتبر ذلك في الحقيقة مقدّمة للأبحاث القادمة، حيث يقول تعالى: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، حيث يُسبّحونه ويُنزّهونه عن جميع العيوب والنقائض، الملك القدّوس العزيز الحكيم.

 

وبناءً على ذلك تُشير الآية أوّلاً إلى "المالكيّة والحاكميّة المطلقة" لله 

 

210

 

 

175

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 سبحانه، ثمّ "تُنزّهه من أيّ نوع من الظلم والنقص" وذلك لارتباط اسم الملوك بأنواع المظالم والمآسي، فجاءت كلمة "قدّوس" لتنفي كلّ ذلك عنه جلّ شأنه.

 
وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات الله، يتحدّث القرآن عن بعثة الرسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدّوس، حيث يقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين﴾.
 
وذلك من أجل أن يطهّرهم من كلّ أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد ويُزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
 
"الأميّين" جمع (أُمّيّ) وهو الّذي لا يعرف القراءة والكتابة (نسبته إلى الأمّ باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً في معهد أو مدرسة فهو بقي على ما ولدته أمّه).
 
والجدير بالذكر أنّ الآية تؤكّد أن نبيّ الإسلام بُعث من بين هؤلاء الأميّين الّذين لم يتلقّوا ثقافة وتعليماً وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقّانيّتها، لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشريّ وفي ذلك المحيط الجاهليّ ومن شخص أميّ أيضاً، بل هو نور أشرق في الظلمات، ودوحة خضراء في قلب الصحراء، وهي بحدّ ذاتها معجزة باهرة وسند قاطع على حقّانيّته...
 
ولخّصت الآية الهدف من بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاثة أمور، جاء أحدها كمقدّمة وهو تلاوة الآيات عليهم، بينما شكّل الأمران الآخران أي (تهذيب وتزكية النفس) و (تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائيّ الكبير.
 
ولكن لم يكن الرسول مبعوثاً لهذا المجتمع الأمّيّ فقط، بل كانت دعوته عامّة لجميع الناس، فقد جاء في الآية التالية ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِم﴾1.
________________________________________
1- سورة الجمعة، الآية: 3. 
211 
 

176

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 وجاء في آخر الآية: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

 
بعد أن يُشير إلى هذه النعمة الكبيرة - أي نعمة بعث نبيّ الإسلام الأكرم وبرنامجه التعليميّ والتربويّ - يُضيف قائلاً: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
 
3- الحمار الّذي يحمل الأسفار: 
 
جاء في بعض الروايات أنّ اليهود قالوا: (إذا كان محمّد قد بُعث برسالة فإنّ رسالته لا تشملنا) فردّت عليهم الآية مورد البحث في أوّل بيان لها بأنّ رسالته قد أُشير إليها في كتابكم السماويّ لو أنّكم قرأتموه وعملتم به.
 
يقول تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾، أي نزلت عليهم التوراة وكُلّفوا بالعمل بها ولكنّهم لم يؤدّوا حقّها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾.
 
لا يشعر هذا الحيوان بمّا يحمل من كتب إلّا بثقلها، ولا يُميّز بين أن يكون المحمول على ظهره خشباً أو حجراً أو كتباً فيها أدقّ أسرار الخلق وأحسن منهج في الحياة.
 
لقد اقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها.
 
هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الّذي يُضرب به المثل في الغباء والحماقة.
 
وذلك أوضح مثال يُمكن أن يكشف عن قيمة العلم وأهمّيّته.
 
ويُعتبر ذلك تحذيراً للمسلمين كافّة من أن ينتهوا إلى ما انتهى إليه اليهود، فقد شملتهم الرحمة الإلهيّة ونزل عليهم القرآن الكريم، لا لكي يضعوه على الرفوف يعلوه الغبار، أو يحملوه كما تُحمل التعاويذ أو ما إلى ذلك. وقد لا يتعدّى اهتمام بعض المسلمين بالقرآن أكثر من تلاوته بصوت جميل في أغلب الأحيان
 
212

177

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 4- توصيف حال اليهود

 
ثمّ يقول تعالى:بئس مثل القوم الّذين كذّبوا بآيات الله، إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملاً، بل أنكروه بلسانهم أيضاً، حيث قالت الآية (87) من سورة البقرة وهي تصف اليهود: ﴿َفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾.
 
ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة: ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
 
صحيح أنّ الهداية شأن إلهيّ، ولكن ينبغي أن تُهيّأ لها الأرضيّة اللّازمة، وهي الروح التوّاقة لطلب الحقّ والبحث عنه، وهي أمورٌ يجب أن يُهيّئها الإنسان نفسه، ولا شكّ أنّ الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضيّة.
 
ومن المعروف أنّ اليهود اعتبروا أنفسهم أمّة مختارة، أو نسيجاً خاصّاً لا يُشبه غيره، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادّعوا أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وهذا ما أشارت إليه الآية (18) من سورة المائدة: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾(رغم أنّهم يقصدون الأبناء المجازيّين).
 
ولكنّ القرآن شجب هذا التعالي مرّة أخرى بقوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
 
فالأحبّاء يتمنّون اللقاء دائماً، ولا يتمّ اللّقاء المعنويّ بالله يوم القيامة إلّا عندما تزول حجب عالم الدنيا وينقشع غبار الشهوات والهوى، وحينئذ سيرى الإنسان جمال المحبوب ويجلس على بساط قربه، ويكون مصداقاً لقوله تعالى:‍﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ﴾ فيدخل إلى حرم الحبيب.
 
إنّ خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنّكم متعلّقون بهذه الدنيا وغير صادقين في ادّعائكم.
 
213 
 

178

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 ويوضِّح القرآن الكريم هذا المعنى بتعبير آخر في سورة البقرة آية (96) عندما يقول تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾.

 
ثمّ يُشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله:﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾.
 
لأنّ خوف الإنسان من الموت ناشئ من عاملين أساسيّين: 
 
الأوّل: عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت واعتقاده أنّ الموت زوال وفناء.
 
والثاني: أعماله السيّئة الّتي يعتقد أنّه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عندما تُقام المحكمة الإلهيّة.
 
وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين، وذلك لأنّ الظلم يتّسع ليشمل جميع الأعمال السيّئة والجرائم الّتي ارتكبوها، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوّثهم بمختلف المفاسد الأخلاقيّة.
 
غير أنّ هذا الخوف وذلك الفرار لا يُجدي شيئاً، فالموت أمرٌ حتميّ لا بدّ أن يُدرك الجميع، إذ يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
 
الموت قانون عامّ يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس، كلّ من عليها فانٍ ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.
 
وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهيّ لا يفلت منها أحد، إضافة إلى علم الله تعالى بأعمال عباده بدقّةٍ وبتفصيل كامل.
 
وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلّص من هذا الخوف سوى تقوى الله 
 
214

179

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 وتطهير النفس والقلب من المعاصي. وبعد أن يُخلص الإنسان لله تعالى فإنّه لن يخاف الموت حينئذ.

 
ويعبّر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن هذه المرحلة بقوله: "هيهات بعد الّلتيّا والّتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه"2.
 
فإذا صدّقت النفس أنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) وإذا أيقنت هذه النفس أنّ هذا البدن الترابيّ إنّما هو سجن للروح وسور يضرب الحصار عليها، إذا آمنت بذلك حقّاً وكانت نظرة الإنسان إلى الموت هكذا فإنّه سوف لن يخشى الموت أبداً.
 
لهذا نجد في قصّة عاشوراء أنّه كلّما ضاقت حلقة الأعداء وازداد ضغطهم على الإمام الحسين وأصحابه ازدادت وجوههم إشراقاً، حتّى أنّ الشيوخ من أصحابه كانت الابتسامة تطفو على وجوههم في صبيحة عاشوراء، وحينما كانوا يُسألون كانوا يقولون: إنّنا سنُستشهد بعد ساعات فنُعانق الحور العين3.
 
والسبب الآخر الّذي يجعل الإنسان يخاف من الموت هو التعلّق بالدنيا أكثر من اللازم، الأمر الّذي يجعله يرى الموت الشيء الّذي سيفصله عن محبوبه ومعشوقه الّذي هو الدنيا.
 
وكثرة السيّئات وقلّة الحسنات في صحيفة الأعمال هي السبب الثالث وراء الخوف من الموت، فقد جاء شخص وسأل (أبا ذرّ): ما لنا نكره الموت؟ فأجابه أبو ذرّ قائلاً: "لأنّكم عمّرتم الدنيا وخرّبتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب"4.
________________________________________
2- نهج البلاغة، ج1، ص41.  
3-مقتل الحسين، المقرم، ص 263.  ا
4-لمحجّة البيضاء، ج 8، ص 258. 
215 
 

180

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 أهمّيّة صلاة الجمعة

 
إنّ أفضل دليل على أهمّيّة هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة، الّتي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرّد سماعهم لأذان الجمعة أن يُسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل، وكلّ ما من شأنه أن يُزاحم هذه الفريضة.
 
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتّى يتوب"5.
 
وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل"6. أي غُفرت ذنوبه ويبدأ العمل من جديد.
 
وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام: "صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلّا منافق"7.
 
والروايات كثيرة في هذا المجال ولا يتّسع المجال لذكرها جميعاً، لذا نحاول أن نُنهي هذا البحث بحديثٍ آخر، حيث جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي تهيّأت عدّة مرّات للحجّ ولكنّي لم أوفّق. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "عليك بالجمعة فإنّها حجّ المساكين"8. وفي ذلك إشارة إلى أنّ ما يتضمّنه هذا المؤتمر الإسلاميّ الكبير (أي الحجّ) من بركات، موجودة في اجتماع صلاة الجمعة.
 
ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة، حتّى عُدّ 
________________________________________
5-وسائل الشيعة، ج 5، ص 7.
6-م.ن، ج5، ص3.  
7-ثواب الأعمال، الصدوق، ص233.  
8-م.ن، ج7، ص300.  ا
216

181

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 التاركون للجمعة في صفّ المنافقين عندما تكون صلاة الجمعة واجباً عينيّاً (أي في زمن حضور الإمام المعصوم عليه السلام) وأمّا في زمن الغيبة - وبناءاً على أنّها واجبة تخييراً بينها وبين صلاة الظهر - فإنّه لا يكون مشمولاً بهذا الذمّ والتقريع رغم عظمة وأهمّيتها في هذا الوقت أيضاً (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهيّة).

 
فلسفة صلاة الجمعة العباديّة والسياسيّة
 
إنّ صلاة الجمعة - قبل كلّ شيء - عبادة جماعيّة ولها أثر العبادات عموماً، حيث تُطهّر الروح والقلب من الذنوب، وتُزيل صدأ المعاصي عن القلوب، خاصّةً وأنّها تكون دائماً مسبوقة بخطبتين تشتملان على أنواع المواعظ والحكم، والحثّ على التقوى وخوف الله.
 
أمّا من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة فهي أكبر مؤتمر أسبوعيّ عظيم بعد مؤتمر الحجّ السنويّ، لهذا نجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول تلك الرواية الّتي نقلناها سابقاً حول أنّ الجمعة حجّ من لا يملك القدرة على المشاركة في الحج.
 
ويُعطي الإسلام في الحقيقة أهميّة خاصّة لثلاثة مؤتمرات كبيرة: 
 
التجمّعات الّتي تتمّ يوميّاً لصلاة الجماعة.
التجمّع الأسبوعيّ الأوسع في صلاة الجمعة.
ومؤتمر الحجّ الّذي يُعقد في كلِّ سنّة مرّة.
 
دور صلاة الجمعة
 
دور صلاة الجمعة مهمٌّ جدّاً خاصّة وأنّ الخطيب سيتحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وبذلك سيكون هذا التجمّع العظيم والمهيب منشأً للبركات والنِّعم التالية: 
 
أ - توعية الناس على المعارف الإسلاميّة والأحداث السياسيّة والاجتماعيّة المهمّة.
217 
 

182

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 ب- توثيق الاتّحاد والانسجام بين المسلمين أكثر لإخافة الأعداء.

 
ج - تجديد الروح الدينيّة ورفع معنويّات المسلمين.
 
د - إيجاد التعاون لحلّ المشكلات العامّة الّتي تواجه المسلمين.
 
ولهذا فإنّ أعداء الإسلام يخافون دائماً من صلاة الجمعة الجامعة للشرائط.
 
ولهذا ـ أيضاً - كانت صلاة الجمعة مصدر قوّة سياسيّة في أيدي حكومات العدل كحكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الّذي استثمرها أحسن استثمار لخدمة الإسلام، وكذلك كانت مصدر قوّة أيضاً لحكومات الجور كدولة بني أميّة الّذين استغلّوها لتحكيم قدرتهم وسيطرتهم وإضلال الناس.
 
وعلى مدى التاريخ نُلاحظ أنّ أيّة محاولة للتمرّد على النظام تبدأ أوّلاً بالامتناع عن صلاة الجمعة خلف الإمام المنصوب من قبل الحاكم، فقد جاء في قصّة عاشوراء أنّ بعض الشيعة اجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعيّ ثمّ بعثوا رسالة إلى الإمام الحسين من الكوفة جاء فيها ".. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نُلحقه بالشام إن شاء الله"9.
 
وفي الصحيفة السجّاديّة عن الإمام السجّاد عليه السلام: "اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك، في الدرجة الرفيعة الّتي اختصصتهم بها قد ابتزّوها"10.
 
وفي خطبة الجمعة يتمّ تبديد جميع الإشاعات الّتي كان الأعداء قد بثّوها خلال الأسبوع، وتدبّ بعد ذلك الحياة في جموع المسلمين ويبدأ دم جديد بالتدفّق.
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ فقه أهل البيت عليهم السلام ينصّ على عدم جواز إقامة
________________________________________
9-البحار، ج 44، ص 333.
10- الصحيفة السجّاديّة، دعاء 42.  
218 
 

183

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 أكثر من جمعة واحدة في منطقة نصف قطرها فرسخ، كما يجب أن يشارك في صلاة الجمعة من كان يبعد عنها بمسافة فرسخين (أي ما يعادل أحد عشر كيلو متراً).

 
كلّ هذا يعني أنّه لا يُمكن إقامة أكثر من صلاة جمعة في مدينة واحدة صغيرة أو كبيرة، مع أطرافها وضواحيها. وبناءً على هذا فسيكون هذا التجمّع هو أوسع تجمّع يُقام في تلك المنطقة.
 
ولكنّنا نجد مع الأسف أنّ هذه المراسم العباديّة السياسيّة الّتي تستطيع أن تكون مصدر حركة عظيمة في المجتمعات الإسلاميّة، نجدها بسبب سيطرة الحكومات الفاسدة على بعض الدول الإسلاميّة قد فقدت روحها ومعناها، إلى الحدّ الّذي لا تترك فيه أيّ أثر إيجابيّ، وأصبحت تُقام باعتبارها مراسم حكوميّة رسميّة لا أكثر، وذلك ممّا يحزّ بالنفس ويؤلم كثيراً
 
خلاصة الدرس
 
تدور هذه السورة حول محورين أساسيّين: 
 
الأوّل: هو التوحيد وصفات الله والهدف من بعثة الرسول ومسألة المعاد.
 
والمحور الثاني: هو الأثر التربويّ لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيّات المتعلّقة بهذه العبادة العظيمة.
 
صحيح أنّ الهداية شأن إلهيّ، ولكن ينبغي أن تُهيّأَ لها الأرضيّة اللّازمة، وهي الروح التوّاقة لطلب الحقّ والبحث عنه.
 
الموت قانون عامّ يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس.
219

184

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 إنّ السبب الأساس وراء الخوف من الموت هو عدم إيمان هؤلاء بالحياة بعد الموت أوالتعلّق بالدنيا أكثر من اللّازم أو كثرة المعاصي.

 
إنّ صلاة الجمعة - قبل كلّ شيء - عبادة جماعيّة ولها أثر العبادات عموماً، حيث تُطهّر الروح والقلب من الذنوب. أمّا من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة فهي أكبر مؤتمر أسبوعيّ عظيم بعد مؤتمر الحجّ السنويّ.
 
 
للمطالعة
 
 القرآن والاكتشافات العلميّة المعاصرة
 
لا شكّ أنَّ القرآن ليس كتاباً من كتب العلوم الطبيعيّة أو الطبيّة أو النفسيّة أو الرياضيّة. 
 
القرآن كتاب يهدي الإنسان ويصنعه، فهو لا يترك شيئاً ضروريّاً في هذا السبيل إلّا وأتى به.
 
لذلك ليس لنا بالطّبع أنْ نرى في القرآن دائرة معارف عامّة، بل لنا أن نجد فيه نور الإيمان والهداية والتقوى والإنسانيّة والأخلاق والنظام والقانون، فهو يضمّ كلّ هذه الأُمور
غير أنّ القرآن، للوصول إلى هذه الأهداف، يُشير أحياناً إلى جانب من العلوم الطبيعيّة وأسرار الخلق وعجائب عالم الوجود وخاصّةً خلال ذكر التوحيد والاستدلال بنظام الكون، فيرفع الستار عن بعض أسرار عالم الخلق ويكشف أُموراً لم يكن أحد يعرف عنها شيئاً يومذاك وفي ذلك المحيط، حتّى العلماء منهم.
 
هذه البيانات تجتمع تحت عنوان "معجزات القرآن العلميّة". نُشير إلى بعضٍ منها في ما يلي: 
220

185

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 القرآن وقانون الجاذبيّة

 
لم يكن أحد قبل نيوتن يعرف شيئاً عن قانون الجاذبيّة العامّ. من المعروف أنَّ نيوتن هذا كان يوماً جالساً تحت شجرة تفّاح، فسقطت تفّاحة من الشجرة على الأرض، فاستولى هذا الحدث الصغير على كلّ تفكيره وأمضى سنوات يُفكّر في القوّة الّتي جذبت التفاحة إليها. لماذا لم ترتفع إلى السماء؟ وبعد سنوات توصّل إلى وضع قانون الجاذبيّة الأرضيّة الّذي يقول: 
 
"تتجاذب الكتلتان بنسبة طرديّة مع حاصل ضرب كتلتيهما وعكسيّاً مع مربّع المسافة بين مركزي ثقليهما".
 
على أثر صياغة هذا القانون اتّضح وضع المنظومة الشمسيّة.
 
لماذا تدور هذه الكواكب العظيمة كلّ في مدار حول الشمس؟ لماذا لا تهرب من هذا المدار وتنطلق في كل اتّجاه؟ 
 
لماذا لا تتراكم بعضها فوق بعض؟ ما هذه القوّة الّتي تُمسك هذه الأجرام في مدارات دقيقة في هذا الفضاء الشاسع، دون أنْ تتجاوزها حتّى بمقدار رأس الإبرة؟ اكتشف نيوتن أنَّ حركة الجسم الدائريّة تجعله يبتعد عن المركز، وقانون الجاذبيّة يجذبه إلى المركز، فإذا ما تعادلت هاتان القوّتان، القوّة الطاردة عن المركز، والقوّة الجاذبة نحو المركز، أي إذا أوجدت "الكتلة" و"المسافة" من القوّة "الجاذبة إلى الداخل" والقوّة "الطاردة إلى الخارج" مقادير متعادلة، بقي الجسم يدور في مداره ولا يتعدّاه.
 
غير أنَّ القرآن قبل أكثر من ألف سنة من اكتشاف هذه القوانين قال في الآية الثّانية من سورة الرّعد: 

﴿ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾.
221 
 

186

الدرس الثامن عشر: تفسير سورة الجمعة

 

 
وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه السلام قوله: 
 
"أليس الله يقول بغير عمد ترونها؟ قلت: بلى. قال: ثَمّ عمد لكن لا ترونها"11.
 
أهناك تعبير أوضح وأبسط في الأدب العربيّ من هذا القول عن قوّة الجاذبيّة: أعمدة غير مرئية، ليفهمه عامّة الناس؟
 
وفي حديث عن الإمام عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام نقرأ: 

"هذه النجوم الّتي فى السّماء مدائن مثل المدائن الّتي في الأرض مربوطة كلّ مدينة إلى عمود من نور".
 
أليست هذه الإخبارات معجزة علميّة؟ خاصّة أنَّ الذي جاء به إنسان أُمّي لم يدخل مدرسة، بل إنَّه نشأ في محيط متخلِّف لا مدرسة فيه ولا تعليم. أفلا يكون هذا دليلاً على كون القرآن كتاباً سماوّياً؟12 
________________________________________
11-مفاهيم القرآن، السبحاني، ج10، ص23.  
12-سلسلة دروس في العقائد الاسلاميّة، آية الله مكارم الشيرازي، مؤسّسة البعثة، ط2، ص112- 114.
 
 
222

187
دروس قرآنية