الفقه المقارن

من الواضح بروز الاختلاف في الآراء والفتاوى بين الفقهاء تبعاً للاختلاف في المباني الأصولية والفقهية والحديثية المعتمدة عند كل فقيه...


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-07

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة

 

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد بن عبد الله  صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله الطيّبين الطاهرين وبعد.

 

يُمثّل الفقه الإسلامي عصارة الأبحاث والدراسات والتحقيقات العلمية على مدار قرون من الزمان، ونتيجة لاعتماد الفقه على منهج الاجتهاد، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى تطوّر النظريات والقواعد التي تُغني منهج العلم على المستوى النظري والبحثي، وترفد العلم نفسه بالأبحاث والدراسات المعمّقة والمعاصرة والحيّة.

 

ومن الواضح - بناءً على المباني الاجتهادية- بروز الاختلاف في الآراء والفتاوى بين الفقهاء تبعاً للاختلاف في المباني الأصولية والفقهية والحديثية المعتمدة عند كل فقيه. وهكذا ظهرت المباحث الفقهية المقارنة، وكانت الحاجة إلى دراسة الفقه المقارن داخل المذهب الواحد، وبين المذاهب الإسلامية.

 

وللفقه المقارن فوائد كثيرة أهمّها:

- محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الإسلاميّ من أيسر طرقه وأسلمها، وهي لا تتضح عادة إلّا بعد عرض مختلف وجهات النظر فيها، وتقييمها على أساس موضوعيّ.

 

- الاستفادة من نتائج التلاقح الفكريّ، والتعرّف على أفكاره وآرائه الفقهية.

 

- إشاعة روح تقبّل الآخر بين الدارسين والباحثين، ومحاولة التخفيف من مختلف النزعات العاطفيّة وإبعادها عن مجالات البحث العلميّ.

 

- تقريب شقّة الخلاف بين المسلمين، والحدّ من تأثير العوامل المفرّقة الّتي كان من أهمّها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر، ما ترك

 

9

 


1

المقدّمة

المجال واسعاً أمام تسرّب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم، والتقوّل عليهم بما لا يؤمنون به1.

 

هذا الكتاب "الفقه المقارن" مجموعة من الدروس الفقهية الخلافية بين المذاهب الإسلامية، بالإضافة إلى مدخل في نشأة الفقه المقارن، ومميّزاته، بطريقة علمية استدلالية مبسّطة، تهدف إلى بلورة ثقافة فقهية مقارنة، والتقريب بين المسلمين، وإبعاد عوامل التفرقة التي تُمزّق الأمّة، وأصوات النشاز ممّن ينفخ في بوق الفتنة من علماء السوء، وفقهاء السلاطين، راجين من الله العلي القدير أن نكون قد وفِّقنا في هذا المسعى.

 

                                                                              والحمد لله ربّ العالمين

مركز المعارف للمناهج والمتون التعليمية

 


1- الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ط 2، (د. م)، مؤسسة أهل البيت  عليهم السلام، 1390هـ ، ص14.

 

10


2

الدرس الأول: ما هو الفقه المقارن

الدرس الأول

ما هو الفقه المقارن

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى علم الفقه المقارن وموضوعه وأهمّيته.

2- يعرف الفرق بين الفقه المقارن وعلم الفقه.

3- يتعرّف إلى المعالم الفقهية الأساسية لمدرسة أهل البيت  عليهم السلام.

 

11


3

الدرس الأول: ما هو الفقه المقارن

تعريف الفقه

الفقه لغة: الفهم والفطنة، وقد استعملها القرآن الكريم فيهما، قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾1, ويمكن أن نلمس استعمال كلمة فقه بمعنى الأحكام الشرعية في روايات أهل البيت  عليهم السلام، كما في وصية الأمير  عليه السلام لولده الحسن  عليه السلام: "وتفقّه يا بني في الدين..."2، وعن مصادف قال: سألت أبا عبد الله  عليه السلام: تحجّ المرأة عن زوجها؟ قال: "نعم، إذا كانت فقيهة مسلمة، وكانت قد حجّت، ربّ امرأة خير من رجل"3.

 

الفقه اصطلاحاً: هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلّتها التفصيلية: وهي الكتاب، والسنّة والإجماع، والعقل.

 

والفقيه هو: العالم المجتهد المستنبط للأحكام الشرعية الفرعية من أدلّتها التفصيلية.

 

تعريف الفقه المقارن

هو جمع الآراء الفقهية المختلفة، وتقييمها، والموازنة بينها بالتماس أدلّتها، وترجيح بعضها على بعض، وهو بهذا المعنى أقرب إلى ما كان يُسمّيه الباحثون القدامى بعلم الخلاف أو علم الخلافيات - كما يتّضح ذلك من تعريفهم له -4.

 


1- سورة الأعراف، الآية 179.

2- الشاهرودي، علي النمازي، مستدرك سفينة البحار، ج 8، تحقيق: ش. حسن بن علي النمازي، قم، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، 1419 ، ص 287.

3- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، تحقيق: السيد حسن الموسوي الخرسان، ط4، دار الكتب الإسلامية، 1365 .ش، ج5، ص413.

4- الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 13.

 

13


4

الدرس الأول: ما هو الفقه المقارن

موضوعه

آراء المجتهدين في المسائل الفقهية من حيث تقييمها، والموازنة بينها، وترجيح بعضها على بعض1.

 

الفارق بين الفقه المقارن وبين علم الفقه

- موضوع علم الفقه هو نفس الأحكام الشرعيّة أو الوظائف العمليّة من حيث التماسها من أدلتها، بينما موضوع الفقه المقارن هو التقييم والموازنة بين آراء المجتهدين في الأحكام الشرعية والوظائف العملية.

 

- في علم الفقه، الفقيه غير ملزم بعرض آراء الآخرين ومناقشتها، بل يكتفي بعرض أدلّته الخاصّة التي التمس الحكم منها، بينما في الفقه المقارن يكون الفقيه ملزماً باستعراض مختلف الآراء، والأدلّة، وإعطاء الرأي فيها.

 

الأمور التي ترتكز عليها عملية المقارنة

هناك صفات ينبغي أن يتحلّى بها الباحث في مجال الفقه المقارن، لكي يتيسّر له الخوض في هذا المجال، وأهمّ هذه الصفات:

أ- الموضوعية: أن يلج الموضوع المعالج بعد تخلّيه عن الأحكام المسبقة، ويُذعن لما توصل إليه الحجّة والبرهان عند المقارنة، سواء وافق ذلك مسبقاته الفكرية أم خالفها.

 

ب- معرفة أسباب الاختلاف بين الفقهاء: وهي من أهمّ الأسس الّتي يجب أن يرتكز عليها عمل الشخص المُقارن.

 

ج- الخبرة بأصول الاحتجاج: وذلك من خلال معرفة مفاهيم الحجج من خلال أدلّتها، ومواقع تقديم بعضها على بعض، ليصحّ له الخوض في مجالات الموازنة بين الآراء، وتقديم أقربها إلى الحجيّة، وأقواها دليلاً2.

 


1- الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 16.

2- (م. ن)، ص 15.

 

14


5

الدرس الأول: ما هو الفقه المقارن

تعريف بالمذاهب المقارَن بينها

مذهب أهل البيت عليهم السلام:

المعالم الفقهيّة الأساس لمدرسة أهل البيت  عليهم السلام يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- القرآن الكريم: وهو كتاب الله الذي أنزله على نبيّه محمد  صلى الله عليه وآله وسلم ألفاظاً، ومعاني، وأسلوباً، دون أن يكون للنبي  صلى الله عليه وآله وسلم دخل في انتقاء ألفاظه أو صياغتها1، وهو المصدر الأوّل للتشريع، لكونه حجّة من جهة السند، لقطعية صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتواتره بين طبقات المسلمين جيلاً بعد جيل. كما أنّه من حيث الدلالة إمّا أن تكون آياته من المحكمات أو من المتشابهات.

 

المحكم: وهو البيّن الدلالة، وينقسم إلى النص، والظاهر.

 

النص: وهو قطعي الدلالة، فيجوز العمل به.

 

الظاهر: وهو الطرف الراجح من دلالة اللفظ على معناه، وينقسم إلى:

أ- الظاهر المقترن بما يفيد القطع، فهو حجّة كالنص.

ب- الظاهر غير المقترن، وهو اللفظ الظنّي الدلالة.

 

المتشابه: وهو الذي لا يفهم معناه إلا بردّه إلى المحكم عن طريق ما يؤثر عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمة أهل البيت  عليهم السلام من تفسير أو تأويل صحّ اعتبارهما.

 

وينقسم المتشابه إلى قسمين:

أ- المجمل: وهو اللفظ الذي ليس له ظهور مقصود من معناه.

ب- المؤوّل: وهو اللفظ المرجوح من حيث دلالة اللفظ على معناه.

لا إشكال في جواز العمل بمحكمات القرآن الكريم، وإرجاع المتشابه إليها، لأنّها بيّنة الدلالة سواء كانت نصّاً من المطلوب أم ظاهرة الدلالة مقترنة بما يُفيد القطع.

 


1- الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 99.

 

15


6

الدرس الأول: ما هو الفقه المقارن

وأمّا الظاهر الظنّي الدلالة، فهو حجّة بدليل سيرة العقلاء، وسيرة المسلمين التي جرت على التعامل بظاهر الآيات، والأخبار، والاعتماد عليها مع تتبُّع القرائن النقلية، والأدلّة العقلية.

 

2- السنّة الشريفة: وهي قول أو فعل أو تقرير المعصوم المتمثّل في النبي  صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الاثني عشر  عليه السلام لا غيرهم.

 

والسنّة الشريفة إمّا أن تكون قطعية كما في الخبر المتواتر، أو ظنّية الدلالة ومنزّلة منزلة العلم كما في خبر الثقة، أو الخبر الموثوق به، ولا يشترط في ذلك أن يكون الراوي إماميّاً.

 

استنباط الحكم الشرعي

إن استنباط الحكم الشرعي في فقه أهل البيت عليهم السلام يمكن أن يتمّ بواحدة من هذه المراحل بشكل طولي:

أ- ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي بالعلم الوجداني بنحو البتّ والجزم، وهي المستلزمات العقلية - وتُسمّى بالقواعد العقلية - كمقدّمة الواجب، ومبحث الضد، ومبحث اجتماع الأمر والنهي، ومبحث النهي في العبادة...الخ.

 

ب- ما يوصل إلى معرفة الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي بالعلم الجعلي التعبُّدي كمباحث الحجج، والأمارات.

 

ج- الأصول العملية الشرعية: كالاستصحاب، والبراءة، والاشتغال، حيث يبحث منها عن الوظيفة العملية الشرعية للمكلّف في مقام الامتثال، وذلك عند العجز عن معرفة الحكم الواقعي، أو اليأس عن الظفر بأيّ دليل اجتهادي من عموم، وإطلاق من الكتاب الكريم أو السنّة القطعية.

 

د- الأصول العملية العقلية: كالبراءة العقلية، والاحتياط العقلي، والتخيير، حيث يبحث المكلّف عن الوظيفة العملية العقلية في مرحلة الامتثال،

 

16


7

الدرس الأول: ما هو الفقه المقارن

على فرض فقدان ما يؤدّي إلى الوظيفة الشرعية من دليل اجتهادي أو أصل عملي شرعي.

 

بالطبع يمكن ملاحظة أنّ المراحل المذكورة في عملية استنباط الحكم الشرعي هي مراحل طولية، فمع فقد المرحلة السابقة، يُمكن الانتقال إلى المرحلة اللاحقة.

 

ه- انفتاح باب الاجتهاد واستمرار حركته في فقه أهل البيت عليهم السلام، وحرمة تقليد مجتهد لمجتهد آخر، كما أنّه على كلّ مكلف إمّا أن يجتهد أو يُقلّد مرجعاً حيّاً لا ميّتاً. ولو مات المرجع الذي يُقلّده، وأراد أن يبقى على تقليده، فعليه أن يرجع إلى مرجع حيّ يجوّز له البقاء على تقليد الميت، أي يبقى على تقليد الميت بإذن الحي، وهذا معناه أنّ التقليد لا بُدّ وأن يبدأ بالمرجع الحيّ دائماً، وهذا ما يجعل الفقه الشيعي فقهاً ذا حركة سيّالة متّصلة تواكب كل جديد.

 

و- على الرغم من حجيّة فتوى الفقيه الجامع لشرائط التقليد بالنسبة إلى نفسه وإلى مقلّديه، إلّا أنّ هذا لا يقتضي أنّ فتواه ورأيه يُمثل حكم الله الواقعي، بل هو من نوع الحكم الظاهري - حسب المصطلح الأصولي- الذي قد يكون غير مطابق للحكم الشرعي الواقعي، فلا تصويب لآراء الفقهاء والمجتهدين في فقه الإمامية. وحجّيتها في حقّهم وحقّ مقلّديهم لا تقتضي أكثر من المعذّريّة لهم في مقام العمل، وهذا يختلف عن التصويب المعمول به في دائرة الفقه السنّي.

 

17


8

الدرس الأول: ما هو الفقه المقارن

الأفكار الرئيسة

- الفقه لغة: الفهم والفطنة، وتُستعمل في روايات أهل البيت  عليهم السلام بمعنى الأحكام الشرعية.

 

- الفقه اصطلاحاً: العلم بالأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية.

 

- يُطلق الفقه المقارن ويُراد به جمع الآراء الفقهية المختلفة، وتقييمها، والموازنة بينها من خلال التماس أدلّتها، وترجيح بعضها على بعض.

 

- موضوع الفقه المقارن: آراء المجتهدين في المسائل الفقهية من حيث تقييمها، والموازنة بينها، وترجيح بعضها على بعض.

 

- من فوائد الفقه المقارن إشاعة روح تقبّل الآخر بين الباحثين.

 

- أهمّ الصفات التي يجب على الباحث في مجال الفقه المقارن التحلّي بها هي:

أ - الموضوعية: وهي التخلّي عن الأحكام المسبقة، والإذعان لما توصّل إليه الحجّة والبرهان عند المقارنة.

 

ب - معرفة أسباب الاختلاف بين الفقهاء: وهي من أهمّ الأسس الّتي يجب أن يرتكز عليها عمل الشخص المُقارن.

 

ج – أن يكون على علم بأصول الاحتجاج، والمقارنة من خلال معرفة مفاهيم الحجج، وأدلّتها، والموازنة فيما بينها، وتقديم أقواها دليلاً.

 

 

18


9

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

الدرس الثاني

مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

 

 

أهداف الدرس:

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرّف إلى أهمّ المذاهب المقارن بينها.

2- يستذكر المعالم الفقهية الأساسية للمذاهب المقارن بينها.

3- يبيّن أهمّ الفروق الفقهية الأساسية بين تلك المذاهب ومدرسة أهل البيت عليهم السلام.

 

19


10

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

مدخل

المذهب لغة يطلق على الطريق، ومكان الذهاب وزمانه.

 

واصطلاحاً، هو الاتّجاه الفقهي الذي ينتهجه المجتهد في فهم الشريعة، وكيفيّة استنباط أحكامها. فيكون مذهبه الفقهي هو ما ذهب إليه من مبان وأحكام.

 

فالمذهب إذن، هو مجموع الأصول والمباني الاستدلالية والأحكام الشرعية التي ذهب إليها مجتهد ما، وتبنّاها.

 

المذاهب السنية

قد ظهر في تاريخ الفقه عند أهل السنة الكثير من المذاهب التي زال واندثر معظمها، وبقي منها أربعة مذاهب متّبعة، هي: الحنفي، المالكي، الشافعي والحنبلي.

 

المذهب الحنفي:

مؤسِّسه (أبو حنيفة النعمان بن ثابت)، كوفي، نشأ في الكوفة ويُعدّ من أتباع التابعين، والمعروف أنّه ولد سنة 80 من الهجرة، ومات ببغداد سنة 150 من الهجرة.

 

وينقل الشيخ الطوسي عن الآلوسي أنّ أبا حنيفة تتلمذ على الإمام الصادق عليه السلام، وأنّه افتخر بالسنتين اللتين صحب فيهما الإمام بقوله: "لولا السنتان لهلك النعمان"1.

 

واستقى أبو حنيفة فقهه من أستاذه حمّاد بن أبي سليمان الكوفي (... – 120ه)2.

 


1- الشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف، ج 1، قم، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، 1407هـ ، ص 33.

2- من أشهر كتب فقه الحنفيّة:

1. المبسوط، للسرخسي، (490هـ). 2. بدائع الصنائع، للكاساني، (587هـ). 3. الهداية شرح بداية المبتدئ، للمرغيناني، ( 596هـ). 4. (الاختيار) شرح المختار، للموصلي، (683هــ). 5. (تبيين الحقائق) شرح كنز الدقائق، للزيلعي، (743هــ). 6. شرح فتح القدير، السيواسي الحنفي، (861هـ).

 

21

 

 


11

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

المذهب المالكي:

نسبة إلى مالك بن أنس الأصبحي (93 - 169هـ)، ولد بالمدينة المنوّرة وعاش حياته بها، شيخه في الفقه ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بـ (ربيعة الرأي)، ويُعدّ أيضاً من تلاميذ الإمام الصادق  عليه السلام، حيث يقرّ هو بذلك ويقول: "جعفر بن محمد، اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلٍّ، وإمّا صائم، وإمّا يقرأ القرآن"[1]، له كتاب (الموطّأ) في الحديث، والفقه[2].

 

المذهب الشافعي:

نسبة إلى مؤسّسه محمد بن إدريس الشافعي (150 - 204هـ)، ولد في غزّة بفلسطين، وتوفّي في مصر، نشأ في مكّة ثم ارتحل إلى المدينة، وتفقّه على مالك وسمع منه الموطّأ، وارتحل إلى اليمن ثمّ إلى بغداد عام (183هـ)، حيث صنّف كتابه القديم المسمّى "بالحجّة" الذي ضمنّه مذهبه القديم، ثمّ ارتحل إلى مصر عام (200هـ)، حيث أنشأ مذهبه الجديد وتوفّي بها3.

 

المذهب الحنبلي:

نسبة إلى أحمد بن حنبل الشيباني (164 - 241هـ)، ولد ببغداد ونشأ بها، وتوفّي فيها، وكانت له رحلات إلى مراكز العلم كالكوفة، والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن.

 

 


1- الشيخ الطوسي، الخلاف، ج 1، ص 33.

2- ومن مصادر المالكيّة الفقهيّة ما يلي:

1ـ الإشراف على مسائل الخلاف، المالكي، (422هـ). 2ـ الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر، (463هـ). 3ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد القرطبي، (595هـ). 4ـ الذخيرة، للقرافي، (684هـ). 5ـ القوانين الفقهيّة، لابن جُزَي الكلبي الغرناطي، (751هـ). 6ـ شرح الزرقاني على مختصر خليل، لعبد الباقي بن يوسف الزرقاني، (1099هـ).

3- ومن كتب الفقه الشافعي ما يلي:

1ـ الأُم، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي إمام المذهب، (204هـ). 2ـ الأحكام السلطانية، للماوردي، (450هـ). 3ـ (الحاوي الكبير) في شرح مختصر المزني، للماوردي البصري، (450هـ). 4ـ (المهذّب) في فقه الإمام الشافعي، للشيرازي، (476هـ). 5ـ (فتح العزيز شرح الوجيز)، للرافعي القزويني، (623هـ). 6ـ (المجموع في شرح المهذّب)، للنووي، (676هـ).

 

22


12

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

تفقّه على الشافعي حين قدم بغداد، ثم استقلّ في اجتهاده وأكبّ على الحديث يجمعه ويحفظه، وله كتاب "المسند" في الحديث.

 

لم يؤلّف أحمد في الفقه كتاباً، وإنّما أخذ أصحابه مذهبه من أقواله، وأفعاله، وأجوبته وغير ذلك1.

 

هذا وقد برزت المذاهب الأربعة من منتصف القرن الرابع إلى حين سقوط بغداد سنة (656هـ)، فسرت روح التقليد للأئمة الأربعة سرياناً عاماً اشترك فيها العلماء وجمهور الناس.

 

المنهج الفقهي عند المذاهب السنّية الأربعة

1- القرآن الكريم.

2- السنّة النبوية.

3- سنّة الصحابة.

 

وهي قول أو سلوك الصحابي الذي صدر منه أو تعبّد به فيما ليس فيه نصّ صريح من كتاب أو سنّة، ولم يُعرف له مستند2. اعتبر السلفيّون فتوى الصحابي من الأصول التي يُمكن العمل بها، وهي مقدَّمة على القياس ما لم يُعلم مخالف لها، وأمّا إذا اختلف الصحابة في أقوالهم أو فتاويهم اجتهاداً ولم يتّفقوا، فإنّ الفقيه يتخيّر أقرب أقوالهم إلى الكتاب أو السنّة أو الإجماع ولا يخرج عنها3، وذهب الأشاعرة، والشافعي في أحد قوليه،

 

 


1- ومن أشهر كتب الفقه الحنبلي ما يلي:

1ـ الأحكام السلطانية، لأبي يعلى الفرّاء، (458هـ).

2ـ (المقنع) في فقه أحمد، لموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي، (458هـ).

3ـ (المغني) على مختصر المزني، لموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي، (458هـ).

4ـ (الكافي) في فقه الإمام أحمد، لموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي، (458هـ).
5ـ (الشرح الكبير)-الشافي على المقنع-، لشمس الدين عبد الرحمن بن قدامة، (482هـ).

6ـ (الفروع) في فقه الإمام أحمد، لشمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، (763هـ).

2- الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص139.

3- السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد، أصول السرخسي، ج 2، ط 1، لبنان، دار الكتب العلمية، 1993م، ص 107 – 108.

 

23


13

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، والكرخي إلى أنّه ليس بحجّة1 على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين، بينما ذهب مالك بن أنس، والرازي، والشافعي على قول، وأحمد في رواية له إلى أنّه حجّة مقدَّم على القياس2، وذهبت الإمامية إلى عدم حجّية سنّة الصحابة.

 

4- الإجماع:

لغة: هو الاتفاق.

اصطلاحاً: هو الاتفاق الخاصّ، وهو في المدارس السنّية إمّا أن يكون اتفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعي، أو اتفاق أهل الحل والعقد من المسلمين على حكم ما، أو اتفاق أمّة محمد على حكم ما، ومهما اختلفت هذه التعبيرات فإنّها ترمي إلى معنى جامع بينها وهو: اتفاق جماعة لاتفاقهم شأن في إثبات الحكم الشرعي3، ويعتبر الإجماع في هذه المدارس مهما كان نوعه، أحد الأدلّة الأربعة على الحكم الشرعي، وهو غير قابل للخطأ.

 

في مدرسة آل البيت  عليهم السلام، جعل الإجماع أحد الأدلّة على الحكم الشرعي مجاراة للمنهج السنّي في الدراسات الأصولية، أي هو دليل من الناحية الشكلية والاسمية فقط، والسبب: أنّ الإجماع في هذه المدرسة يُعتبر من الأدلّة التي لها خاصّية الكشف عن السنّة، فهو مجرّد أداة كاشفة عن وجود الدليل، وراوي لحكم من أحكام الآيات والروايات.

 

5- القياس:

هو أحد أشكال الأدلّة التي استخدمها الذهن البشري في الاستدلال على مطالبه، وقد يحلو للبعض تسمية القياس بالعقل، والقياس إمّا أن يرتكز في الاستدلال على مطالبه على مقدّمات يقينية فيُسمّى بالقياس البرهاني، لاعتماده على مقدّمات يقينية كالأوليّات، والفطريّات...الخ، فتكون النتيجة يقينيّة، وقد اعتبر هذا النوع من القياس حجّة في علم الأصول، لكون مقدّماته علّة النتيجة.

 


1- الآمدي، الأحكام في أصول الأحكام، ط 2، دمشق، المكتب الإسلامي، 1402هـ ، ج 4، ص 149.

2- (م. ن)، ج 4، ص 149.

3- المظفر، محمد رضا، أصول الفقه، ط 4، مركز إنتشارات دفتر تبليغات إسلامي حوزة علمية، 1370هـ ، ج 2، ص 85.

 

24


14

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

وأمّا إذا كان القياس يرتكز على مقدّمات جميعها أو بعضها مظنونة، أو مشهورة، أو مسلّم بها، فإنّ القياس يُفضي إلى نتيجة ظنّية، فتحتاج إلى دليل لإثباتها.

 

وللقياس أركان أربعة وهي:

- الأصل: وهو المقيس عليه، المعلوم ثبوت الحكم له بالنص.

 

- الفرع: وهو المقيس، المطلوب إثبات حكم الأصل فيه.

 

- العلّة: وهي الجهة المشتركة. الوصف المشترك. بين الأصل والفرع، والتي اقتضت ثبوت حكم الأصل في الفرع، وتُسمّى جامعاً.

 

- الحكم: وهو نوع الحكم الثابت للأصل، ويُراد إثباته في الفرع.

 

في القياس، يقوم مستعمل القياس بالتركيز على صفات حالة جزئية واحدة، هذه الحالة يُراد إثباتها للفرع عبر طرق أو مسالك تُسمّى بمسالك العلّة.

 

وقد وقفت المدارس الأصولية من القياس مواقف متعدّدة:

ففي مدرسة أهل البيت عليهم السلام: اقتصر العمل بالقياس على القياس المنصوص العلّة، وقياس الأولوية، وقياس المناسبة، لكونها تُفيد القطع واليقين بالحكم الشرعي، بينما رفض أهل الظاهر، والأخباريون من الشيعة العمل بالقياس، في حين عملت به الأشاعرة، ومدرسة الرأي والقياس السنّية إلى أبعد الحدود.

 

6- الاستحسان:

لغة: استحسن الشيء عدّه حسناً، ومنه الاستحسان عند أهل الرأي1.

 

أصولياً: للاستحسان معانٍ ثلاثة:

أ- هو الذي يسبق إلى فهم ما يستحسنه المجتهد بعقله2.

 


1- الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، تحقيق أحمد الحسيني، ط 2، (د. م)، مؤسسة أهل البيت  عليهم السلام، (د. ت)، ج 1، ص 438.

2- الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، المستصفى في علم الأصول، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417هـ ، ص 171.

 

25


15

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

ب- هو دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تُساعده العبارة عنه، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره1، أو هو معنى خفي تضيق العبارة عنه2.

 

ج- هو العدول بحكم مسألة عن نظائرها بدليل من الكتاب أو السنة3.

 

وقد اختلف الأصوليون السنّة في حجيّة الاستحسان:

أ- أصحاب أبو حنيفة، وأحمد بن حنبل عملوا به.

 

ب- الشافعي والباقون أنكروه وقالوا: من استحسن فقد شرّع4، فوافقوا بذلك مسلك مدرسة آل البيت عليهم السلام.

 

ج- وقال مالك: الاستحسان تسعة أعشار العلم5.

 

7- المصالح المرسلة:

المصلحة: هي جلب منفعة، ودفع مضرّة6، وهي عبارة عن محافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع في الخلق خمسة، وهي: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة هو مصلحة، وكل ما يفوّت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، فالمصلحة لها جانبان: جانب إيجاد المنفعة، وجانب دفع المفسدة. وتقسم المصالح إلى: المصالح المرسلة، والمصالح الملغاة.

 

وذهب مالك، وأحمد7 ومن تابعهما إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الأحكام، وأنّه يمكن الاستدلال به وبناء الحكم عليه فيما لا نصّ فيه ولا إجماع، بينما ذهبت الشافعية، والحنفية إلى عدم حجيّة الاستصلاح.

 


1- الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، المستصفى في علم الأصول، بيروت، دار الكتب العلمية، 1417هـ ، ص 173.

2- (م. ن)، ص 476.

3- (م. ن)، ص 173.

4- الآمدي، علي بن محمد، الأحكام في أصول الأحكام،ج4، ص 156.

5- الدسوقي، شمس الدين محمد بن عرفه، حاشية الدسوقي، (د.م)، دار إحياء الكتب العربية، (د. ت)، ج 2،ص 47.

6- الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ص 173.

7- (م. ن)، ص 383.

 

26


16

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

مدرسة آل البيت عليهم السلام: لا تقول بالمصالح المرسلة إلّا ما رجع منها إلى العقل على سبيل القطع، فالاستحسان ليس أصلاً بحدّ ذاته بل يُمثِّل صغرى حجيّة العقل.

 

8- سدّ الذرائع:

لغة الذريعة: الوسيلة، وقد تذرّع فلان بذريعة، أي توسّل، والجمع الذرائع1. غلب إطلاق اسم الذرائع على الوسائل المفضية إلى المفاسد حتى إذا قيل: هذا من باب سدّ الذرائع، أي من باب منع الوسائل المؤدّية إلى مفاسد.

 

والمفهوم من سدّ الذرائع، أنّها ترتكز على الأفعال، والأقوال، أي أنّنا عندما نقول: منع الوسائل، يكون المراد منه منع الأفعال، والأقوال المؤدية إلى مفاسد.

 

اصطلاحاً: هي التوسّل بما هو مصلحة ويتوصّل به إلى مفسدة أو حرام2، بمعنى: هي الوسائل المباحة التي تُفضي إلى مفاسد، وهي على أنواع:

أ- الوسائل الموضوعة للمباح، ويُحتمل أنّها تُفضي إلى مفسدة، ولكن مصلحتها أرجح من مفسدتها ككلمة حقّ تُقال عند سلطان جائر، وقبول خبر المرأة في انقضاء عدّتها أو عدم انقضاء عدّتها مع احتمال عدم صدقها. فالمصلحة في هذه الأمور راجحة، ومفسدتها مرجوحة، ولهذا لا يُعتد بالمرجوح مع وجود الراجح، وهذا النوع من الذرائع متّفق على حلّيته بين المذاهب الأربعة.

 

ب- الوسائل الموضوعة للأمور المباحة والتي لم يقصد فاعلها التوصّل بها إلى مفسدة، ولكنّها تؤدّي إلى مفسدة غالباً، ومفسدتها أرجح من مصلحتها، كبيع السلاح لمن يتيقن عدوانه على الآمنين.

 

ج- الوسائل الموضوعة للأمور المباحة إلا أنّ فاعلها استعملها وتوسّل بها لغير ما وضعت له، فاستعملها في المفسدة، كمن يتوسّل بالبيع للوصول إلى الربا.

 


1- الجوهري، إسماعيل بن حماد، الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، ط 4، بيروت، دار العلم للملايين، 1407هـ ، ص 1711.

2- الغرناطي، إبراهيم بن موسى، الموافقات، بيروت، دار المعرفة، (د. ت)، ج 4،ص 199.

 

27


17

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

النوع الثاني، والثالث مختلف فيه بين علماء السنّة:

أ- الحنابلة، والمالكية ذهبوا إلى منعها، لإفضائها إلى مفسدة، حيث اعتبروا سدّ الذرائع أصلاً من أصول التشريع، ودليلاً تُبنى عليه الأحكام، لأنّ الشريعة جاءت لمنع ما فيه مفسدة راجحة، فسدّت وسائله والطرُق المؤدية إليه، وأباحت ما فيه مصلحة راجحة1.

 

ب- أبو حنيفة، والشافعي ذهبا إلى عدم منعها2، لكونها مباحة، فإذا كانت مباحة، فلا تصير ممنوعة لاحتمال إفضائها إلى مفسدة ضرر، فالأصل في محتمل الضرر الإباحة.

 

رأي الإمامية: تندرج مسألة سدّ الذرائع في أصول الفقه الإمامي ضمن مسألة مقدِّمة الواجب، فمقدِّمة الواجب تابعة في حكمها لحكم ذيها.

 

9- التصويب الأشعري:

في الواقعة التي لا نصّ فيها، يعقتد الأشاعرة بأنّه ليس هناك حكم معيّن فيها ليطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع ظنّ المجتهد وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب عليه ظنّه3، أي أنّ حكم الله في حقّ كل مجتهد ما أدّى إليه اجتهاده4، واجتهاد المجتهد يّصيب الواقع وعلله التي ينشأ عنها الحكم5.

 

مدرسة أهل البيت عليهم السلام: تذهب إلى القول: بأنّ "ما من واقعة إلّا ولله فيها حكم حتى أرش الخدش"، وهذا يعني:

 


1- البهوتي، منصور بن يونس، كشف القناع،، بيروت، دار الفكر، 1402هـ ، ج 1، ص 440.

2- الشوكاني، محمد بن عليّ، إرشاد الفحول، ط 1، (د. م)، دار الفكر، 1992م، ص 411 – 412.

3- الغزالي، المستصفى في علم الأصول، ص 352.

4- الآمدي، الأحكام في أصول الأحكام، ج 4، ص 183.

5- يقول الغزالي: أمّا من قال بأنّ كل مجتهد مصيب، فليس في الأصل وصف معيّن هو العلة عند الله تعالى حتى يُخطئ أصلها أو وصفها، بل العلّة عند الله تعالى في حقّ كل مجتهد ما ظنّه علّة، فلا يتصوّر الخطأ، ولكنّه يحتاج إلى إقامة الدليل في هذهـ ، وإن كانت الأدلّة ظنّية.

 

28

 


18

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

وفي الواقعة التي لا نصّ فيها، فإنّ المجتهد إمّا أن يُعمل فيها القواعد الأصولية أو الأصول العملية التي أُصِّلت قواعدها من قِبَل أئمة أهل البيت  عليهم السلام، ولا يُباح له استنباط الأحكام الشرعية برأيه الذوقي أو الشخصي أو بواسطة مسالك العلّة، لأنّ دين الله لا يُصاب بالعقول كما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.

 

29


19

الدرس الثاني: مبادىء الاستنباط عند المذاهب السنّية الأربعة

الأفكار الرئيسة

 

يمكن تلخيص المعالم الفقهية الأساسية للمذاهب الأربعة بما يلي:

- القرآن الكريم.

 

- السنة النبوية، وسنة الصحابة، وقد اختلفوا في سنة الصحابة.

 

- الإجماع: غير أن حقيقة هذا الإجماع لم تكن واضحة المعالم. وأما الإجماع في مدرسة آل البيت  عليهم السلام، وهو دليل من الناحية الشكلية، والإسمية فقط، وهو لا يكون إلّا كاشفاً عن السنة وعن وجود الدليل، وتحدد معالمه إمّا بالإجماع الدخولي، أو المنقول، أو المحصل.

 

- القياس: القدر المشترك من القياس بين المذاهب جميعاً بما فيها مدرسة أهل البيت عليهم السلام، هو القياس المنصوص العلة، وقياس الأولوية، وقياس المناسبة، بينما عملت المدارس السنية بأشكال أخرى من القياس تفيد الظن.

 

- الاستحسان: وللإستحسان معانٍ ثلاث:

1- ما يسبق إلى فهم ما يستحسنه المجتهد بعقله.

2- أو هو دليل ينقدح في نفس المجتهد.

3- أو هو العدول بحكم مسألة عن نظائرها بدليل من الكتاب أو السنة.

 

- المصالح المرسلة: وهي عبارة عن جلب منفعة، ودفع مفسدة، والمحافظة على مقصود الشرع.

 

- سدّ الذرائع: وهي الوسائل المفضية إلى المفاسد في الأفعال، والأقوال من المصالح المباحة ووسائلها.

 

- التصويب الأشعري: والمراد به: أن الواقعة التي لا نص فيها، ليس فيها حكم معين عند الله ليطلب بالظن في مرحلة الإنشاء.

 

أنكرت مدرسة أهل البيت عليهم السلام هذا النوع من الاستنباط، وحصرت عمل المجتهد في مرحلة الوصول والتنجيز.

 

30


20

الدرس الثالث: الوضوء

الدرس الثالث

الوضوء

 

 

أهداف الدرس 

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد فرائض الوضوء.

2- يبيّن الخلاف في حد الوجه.

3- يتبيّن حكم غسل اللحية.

 

31


21

الدرس الثالث: الوضوء

مدخل

الوضوء لغة معناه الحسن والنظافة، وشرعاً هو غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والقدمين بكيفية مخصوصة.

 

وفرائض الوضوء هي أجزاؤه التي بها تتكوّن حقيقة الوضوء الشرعيّة، وقد اختلف في عدّها أئمة المذاهب الأربعة فيما بينهم، وكذلك اختلفوا مع المذهب الجعفري، ولكن الثابت في كتاب اللَّه تعالى أربعة: أحدها: غسل الوجه، ثانيها: غسل اليدين إلى المرفقين، ثالثها: مسح الرأس كلاًّ، أو بعضاً، رابعها: مسح الرجلين إلى الكعبين أو غسلهما، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾1. وهذا القدر متّفق عليه بين جميع المذاهب. نعم اختلفوا في كيفية مسح الرأس، وفيما هو الفرض في الرجلين من المسح أو الغسل، وقد زاد بعض الأئمة فرائض على هذه الأربعة دون بعض.

 

المذهب الجعفري:

أفعال الوضوء (أجزاؤه) أربعة:

الأوّل: غسل الوجه.

الثاني: غسل اليدين.

الثالث: مسح الرأس.

الرابع: مسح الرجلين2.

 


1- سورة المائدة، الآية 6.

2- السيد اليزدي، العروة الوثقى، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1417، ط 1، ج 1، ص 384.

 

33


22

الدرس الثالث: الوضوء

وهي ما صرّح بها القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَين1. وهي تدلّ على أنّ أجزاء الوضوء أربعة، وأمّا النيّة، والموالاة، والترتيب وما شاكلها، فهي من شرائط الوضوء التي لها صلة وثيقة بتلك العبادة، ثبت وجوبها بأدلّة الشروط الخاصّة.

 

المذاهب الاربعة:

اتّفق الأئمّة الأربعة على الفرائض الأربع المذكورة في القرآن الكريم، وهي: غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس كلّاً أو بعضاً، وغسل الرجلين إلى الكعبين، ولم تزد الحنفية على ذلك شيئاً، خلافاً للأئمّة الثلاثة2 (فقد عدّوا بعض الشرائط كالنية والترتيب من الفرائض). وعليه فالمذهب الحنفي وافق المذهب الجعفري في عدد الفرائض.

 

كيفيّة الفرائض

توجد هنا عدّة اختلافات تتعلّق بكيفيّة الفرائض منها، الموارد التالية: الوجه، واللحية، وحدّ الوجه:

اتفق جميع فقهاء المسلمين من الإمامية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة على أنّ غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾3. والمراد من غسله، إسالة الماء عليه، ولكن اختلفوا في حدّ الوجه الذي يجب غسله، فذهبت الإمامية إلى أنّ حدّ الوجه الذي يجب غسله في الوضوء طولاً من قصاص شعر الرأس إلى منتهى الذقن، وهو مختار الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وذهب الشافعي منفرداً إلى وجوب غسل ما تحت الذقن أيضاً.

 

وإذا كانت اللحية طويلة، فهي تتبع الوجه عند المالكية، والحنابلة، والشافعية، فقالوا بغسلها إلى آخرها، بينما ذهب الحنفي، والشافعي في أحد قوليه، إلى عدم وجوب غسل ما

 

 


1- سورة المائدة، الآية 6.

2- الجزيري، الغروي، مازح، الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت عليهم السلام، دار الثقلين، 1419هـ - 1998م، ط 1،ج1، ص138.

3- سورة المائدة، الآية 6.

 

34


23

الدرس الثالث: الوضوء

استرسل من اللحية، وذهب أتباع مدرسة آل البيت عليهم السلام إلى كون اللحية خارجة تخصُّصاً عن حدّ الوجه.

 

وأمّا حدّ الوجه عرضاً، فعند الإمامية، والمالكية، والحنابلة ما دارت عليه الإبهام والوسطى، والصدغين، والبياض الذي فوق وتدي الأذن من الرأس، بينما ذهبت الحنفية، والشافعية إلى القول بأنّ حدّ الوجه من أصل الأذن إلى أصل الأذن، والبياض الذي فوق وتدي الأذن من الوجه فيجب غسله.

 

والسبب الذي أدّى إلى اختلاف المذاهب الأربعة في هذه المسألة، تنازعهم في تحديد مفهوم الوجه، بينما حدَّده آل البيت عليهم السلام بشكل جلي واضح.

 

حكم حد الوجه عند المذهب الجعفري:

وحدّه – الوجه - من قصاص الشعر إلى الذقن طولاً، وما اشتمل عليه الإبهام والوسطى عرضاً، والأنزع، والأغم، ومن خرج وجهه أو يده عن المتعارف يرجع كلّ منهم إلى المتعارف1، والدليل على ذلك صحيحة زرارة عن الإمام الباقر  عليه السلام قال له: أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي أن يوضّأ، فقال: "الوجه الذي... أمر الله عزّ وجلّ بغسله، الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، وإن نقص منه أثم: ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديراً - عرضاً - فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه". فقال له الصدغ2 من الوجه؟ فقال: "لا"3.

 

وقال السيد الخوئي: إنّ هذه الصحيحة وغيرها ممّا وردت في هذا المقام، إنّما هي بصدد توضيح المفهوم المستفاد من الوجه لدى العرف4، فثبت تحديد الوجه شرعاً على ما هو معناه المرتكز لدى العرف. فالتحقيق: أنّه لا شكّ في صدق الوجه عُرفاً على المقدار المحدّد شرعاً.

 

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 371.

2- الشعر المتدلّي جنب الأذن.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت  عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرفة، 1414، ط 2، باب حدّ الوجه، ج 1، ص 403.

4- الغروي، شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي)، ج 5، ص 39.

 

35


24

الدرس الثالث: الوضوء

قال الفيومي: الوجه لغة: مستقبل كلّ شيء1، فيصدق الاستقبال والمواجهة على المعنى المحدّد في الوجه شرعاً، وعرفاً. وقال المحقّق صاحب الجواهر نقلاً عن الفقهاء: أنّ هذا التحديد هو مذهب آل البيت عليهم السلام2.

 

وعلى المذهب المالكي:

حدّ الوجه طولاً: من منابت شعر الرأس المعتاد إلى منتهى الذقن. وقال في تحديد الوجه عرضاً: إنّ البياض الذي فوق وتدي الأذن المتّصل بالرأس من أعلى، لا يجب غسله، بل مسحه، لأنّه من الرأس لا من الوجه، ومثله شعر الصدغين، فإنّه من الرأس لا من الوجه3.

 

وقال ابن قدامة: قال مالك: ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه، ولا يجب غسله، لأنّ الوجه ما تحصل به المواجهة وهذا لا يواجه به4.

 

فلا اختلاف بين المذهبين هنا إلا أنّ المالكيّة قالوا بغسل اللحية، قال أبو البركات: الأولى غسل جميع الوجه طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد إلى آخر الذقن أو اللحية5.

 

حكم غسل اللحية

قال ابن قدامة: ويجب غسل ما استرسل من اللحية، واستدل بما روي عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم من أنّه رأى رجلاً غطّى لحيته في الصلاة، فقال: اكشف وجهك، فإنّ اللحية من الوجه. ولأنّ اللحية نابته في محلّ الفرض، فتدخل في اسمه ظاهراً، فأشبه اليد الزائدة، ولأنّها يواجه بها فتدخل في اسم الوجه6. وخالف فيه الحنفي، قال ابن قدامة: وقال أبو حنيفة، والشافعي

 


1- الفيومي، أحمد بن محمد المقري، المصباح المنير، (د. م)، دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع، (د. ت)، ص 649.

2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، ط 2، تحقيق: الشيخ عباس القوجاني، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365هـ.ش، ج 2،ص 138.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 133.

4- عبد الله بن قدامه، المغني، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع - بيروت - لبنان، لا.ت، طبعة جديدة بالأوفست،ج 1، ص 97.

5- أبو البركات، الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه ، لا.ت، لا.ط،ج 1، ص 95.

6- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 101.

 

36


25

الدرس الثالث: الوضوء

في أحد قوليه: لا يجب غسل ما نزل منها - أي اللحية - عن حدّ الوجه طولاً وعرضاً، لأنّه شعر خارج عن محلّ الفرض، فأشبه ما نزل من شعر الرأس عنه. وروي عن أبي حنيفة: أنّه لا يجب غسل اللحية الكثيفة، لأنّ الله تعالى إنّما أمر بغسل الوجه، وهو اسم للبشرة التي تحصل بها المواجهة، والشعر ليس بشرة، وما تحته لا تحصل به المواجهة1.

 

المذهب الجعفري:

الشعر الخارج عن الحدّ، كمسترسل اللحية في الطول، وما هو خارج عن ما بين الإبهام والوسطى في العرض، لا يجب غسله2، وذلك لانتفاء الحكم بانتفاء الموضوع، ولعلّه واضح.

 

واستدل المحقّق صاحب الجواهر بالإجماع فقال: الظاهر أنّ إجماع الطائفة منعقد على عدم وجوب غسل ما استرسل من اللحية - كما نصّ عليه فقهاؤنا - لعدم دخوله في مسمّى الوجه، أو لخروجه عن التحديد الوارد في رواية زرارة كما هو المفروض3. ومهما يكن فلا دليل على وجوب غسل اللحية الطويلة شرعاً، ولا عقلاً.

 

منشأ الاختلاف:

تبيّن لنا بكلّ وضوح أنّ الاختلاف في حدّ الوجه ناشئ عن الاختلاف في مفهوم الوجه سعةً وضيقاً بحسب الاجتهاد، ولم يرد نصّ صريح في تحديد الوجه إلا ما ورد بنص زرارة عن طريق آل البيت عليهم السلام كما مرّ بيانه، فتكون الشبهة في هذا المورد شبهة مفهومية دائرة بين الأقل والأكثر، والقدر المتيقن منها هو الأقل كما في الرواية.

 


1- (م. ن)، ج 1، ص 100.

2- اليزدي، العروة الوثقى، ص 373، مسألة (2).

3- الشيخ الجوهري، الجواهر، ج 2، ص 15.

 

37

 


26

الدرس الثالث: الوضوء

الأفكار الرئيسة

- أجزاء الوضوء - فرائضه - أربعة: الغسلتان والمسحتان على المذهب الجعفري والمذهب الحنفي. وستّة: على المذهب الحنبلي والمذهب الشافعي. وسبعة: على المذهب المالكي.

 

- حدّ الوجه في الغسل هو من قصاص الشعر إلى الذقن طولاً وما اشتمل عليه الإبهام والوسطى عرضاً، على المذهب الجعفري والمذهب المالكي والمذهب الحنبلي.

 

- وحدّ الوجه على المذهب الحنفي والشافعي، طولاً هو ما عند المذاهب الأخرى، وأمّا عرضاً، فهو البياض الموجود بين الذقن وبين الأذن من الوجه إلا أنّ الشافعي انفرد بوجوب غسل ما تحت الذقن.

 

- لا يجب غسل ما استرسل من اللحية على المذهب الجعفري، والحنفي، ويجب على المذاهب الأخرى.

 

38


27

الدرس الرابع: الوضوء (غسل اليدين)

الدرس الرابع

الوضوء

(غسل اليدين)

 

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يحدّد الخلاف في كيفية غسل اليدين.

2- يناقش آية غسل اليدين.

3- يبيّن منشأ الاختلاف في كيفية الغسل.

 

39


28

الدرس الرابع: الوضوء (غسل اليدين)

مدخل

اختلفت الآراء بالنسبة إلى كيفيّة الغسل من حيث المبدأ والمنتهى، فعند الإمامية يجب ابتداء غسل اليد من المرفق إلى رؤوس الأصابع ولا يجوز النكس، بينما لدى الجمهور، فإنّ السنّة عندهم يكون الابتداء من الكفين والانتهاء بالمرفقين، وتفصيل الاختلاف كما يلي:                                    

المذهب الجعفري:

يجب غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع مقدّماً لليمنى على اليسرى، ويجب الابتداء بالمرفق والغسل منه إلى الأسفل عرفاً، فلا يجزئ النكس1، والحكم متسالم عليه.

ويدلّنا على ذلك،- أي الحكم -، التسالم، والإجماع القطعيّان، والروايات البيانيّة الحاكية عن وضوء رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، أضف إلى ذلك صحيحة زرارة وبكير عن الإمام الباقر  عليه السلام، عند حكاية فعل رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "... ثم غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرفق، ثمّ غمس كفّه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، وصنع بها مثل ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه، وقدميه ببلل كفّه، لم يحدث لهما ماءً جديداً..."2. فإنّ اهتمامهما، أي زرارة وبكير، بحكاية عدم ردّ الإمام الباقر  عليه السلام يده إلى المرفق، أقوى دليل على أنّ ذلك من الخصوصيّات المعتبرة في الوضوء، ثمّ إنّه لا تنافي بين ما ذكرنا وبين الآية المباركة: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾3.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 376.

2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، ص 388.

3- سورة المائدة، الآية 6.

 

41


29

الدرس الرابع: الوضوء (غسل اليدين)

وهنا لا بدّ من بيان أمرين:

1- معنى اليد: لليد إطلاقات كثيرة:

أ- فقد تطلق على خصوص الأصابع والأشاجع كما في آية السرقة.

ب- وقد تطلق على الزند كما في آية التيمّم.

ج- وقد تطلق على المرفق كما في آية الوضوء.

د- وقد تطلق على المنكب كما هو الحال في كثير من الاستعمالات العرفيّة.

 

2- جاء التعبير ب (إلى) في الآية الكريمة، لبيان الحدّ والمقدار الذي يجب غسله وهو من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ولم يأت على توضيح كيفية الغسل وأنها من الأعلى إلى الأسفل أو من الأسفل إلى الأعلى، والمراد بالمقدار هنا المسافة والكمية التي أراد الله أن يحدّدها، ويبيّن أنّ ما لا بدّ من غسله في اليد إنّما هو بهذا المقدار. إذاً لم تبين الآية كيفية غسل اليد، وإنّما تركت بيان ذلك إلى السنّة، وسنّة النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمّة  عليهم السلام قد دلّتا على أنّ اليد لا بدّ من أن تغسل من المرفق إلى الأصابع، فالسنّة قد بيّنت ما لم يكن مبيّناً في الآية المباركة.

 

أقوال المذاهب الأربعة في كيفية الغسل:

اتّفق الأئمّة على غسل اليدين إلى المرفقين، أي المفصلين1، ولم يتعرّض إلى دليل تجاه الكيفيّة، فالنقل كالإرسال المسلّم. قال الفخر الرازي: السنّة أن يصبّ الماء على الكفّ، بحيث يسيل الماء من الكفّ إلى المرافق، فإن صبّ الماء على المرفق حتّى سال الماء إلى الكفّ فقال بعضهم: هذا لا يجوز، لأنّه تعالى قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾, فجعل المرافق غاية الغسل، فجعْلهُ مبدأ الغسل خلاف الآية، فوجب أن لا يجوز. وقال جمهور الفقهاء: أنّه لا يخلّ بصحّة الوضوء، إلا أنّه يكون تركاً للسنّة2. وعليه: لا يجب غسل اليدين

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 123.

2- الرازي، التفسير الكبير، ط 3، ج 11، ص 160.

 

42


30

الدرس الرابع: الوضوء (غسل اليدين)

منكوساً على مذهب جمهور الفقهاء. وإنّما هو المستحبّ كما قال الدمشقي الشافعي: إن صبّ لنفسه الماء، فيستحبّ الابتداء من الأصابع، وإن صبّ غيره، فالابتداء من المرافق.

 

- إنّ الاختلاف هناك ناشئ عن الاختلاف في فهم المعنى من آية الوضوء، وركيزة الاختلاف هي كلمة (إلى) المذكورة في الآية ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾.

 

مَنْ استدل على وجوب الابتداء من المرافق في غسل اليد قال:

أوّلاً: أنّ آية الوضوء حدّدت المقدار المغسول من اليد، ولم تتعرّض إلى كيفية الغسل. وعليه: تكون كلمة (إلى) غاية للمغسول وليست غاية للغسل. وقال الفخر الرازي: إيجاب الغسل، - بمقتضى الآية -، محدود بهذا الحدّ، فبقي الواجب هو هذا المقدار فقط، أمّا نفس الغسل، فغير محدود بهذا الحدّ1.

 

إذاً: التحديد في الآية الكريمة يرتبط (بكميّة) العمل ولا يتعلّق (بكيفيّة) العمل كما لو أمر المولى عبده قائلاً: بيّض الجدار إلى النصف، فإن الأمر يدل على أنّ المقدار الذي لا بدّ من تبيضه هو هذا الحدّ، - النصف -، ولا دلالة له على كيفيّة التبييض قطعاً.

 

ثانياً: يقال إنّ كلمة (إلى) قد تكون بمعنى (مع)، فلا تدلّ على الانتهاء مطلقاً. قال ابن قدامة: فإنّ (إلى) تستعمل بمعنى (مع)، قال الله تعالى: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ2. أي مع قوّتكم، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾3, وقوله: ﴿... مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ ...﴾4, فكان فعل النبي  صلى الله عليه وآله وسلم هو المبيّن. وأمّا قولهم: بأنّ (إلى) تفيد الغاية، فيمكن الرد عليه: بأنها يمكن أن تكون بمعنى (مع)5، وممَّا يؤكِّد ذلك: أنّ كلمة (إلى) إنّما تدلّ على الانتهاء، إذا كان في بداية الكلام كلمة (من) كقولنا: (سرتُ من النجف إلى قم)، وإلّا فلا دلالة لها على الانتهاء. ولما كانت الآيات السالفة ذكرت كلمة (إلى) بدون كلمة (من)، فتكون بمعنى (مع)، ولا دلالة لها على الانتهاء، وهذا ما نجده في (آية الوضوء) أيضاً، حيث ذكرت كلمة (إلى) وحدها بدون كلمة

 

 


1- الرازي، التفسير الكبير، ج 11، ص 160.

2- سورة هود، الآية 52.

3- سورة النساء، الآية 2.

4- سورة آل عمران، الآية 52.

5- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 107.

 

43


31

الدرس الرابع: الوضوء (غسل اليدين)

 (من)، فتكون بمعنى (مع)، وتدلّ على أنّه يجب غسل اليد (مع) المرفق، وهو المطلوب. وكذلك كلمة (إلى) المذكورة في تحديد الرجل (إلى الكعبين)، لا تدلّ على كيفية الغسل. وعليه: لم يلتزم أحد من القائلين بغسل الرجلين أنّ الغسل هناك يبتدئ من الأصابع وينتهي إلى الكعبين، لأنّ الآية إنّما تكون في جهة بيان (كميّة) العمل، ولم تكن في جهة بيان (كيفيّة) العمل، ومن الطبيعي أنّ (الكيفيّة) تتحدد معالمها من خلال مراجعة النصوص.

 

ثالثاً: ورد عن طريق آل البيت عليهم السلام نص صريح يحدد معالم كيفيّة الغسل، - كما مرّ بنا سابقاً -، حيث حدّد كيفية غسل اليد، وأنه يبتدئ من المرفق وينتهي إلى الأصابع، مضافاً إلى أنّ صورة الغسل على هذا المنهج صورة طبيعيّة تنطبق على ما هو المتعارف بين الناس، وأمّا الغسل منكوساً، بأن يبتدئ من الأصابع وينتهي بالمرفق، فهو على خلاف الأسلوب الطبيعي المتعارف. والذي يسهّل الخطب، أنّ جمهور الفقهاء من أبناء السنّة يقولون: إنّ تلك الكيفيّة لم تكن واجبة، - وقد مرّ بنا بيان قولهم -. وعليه: يحكم بصحة الوضوء، - الذي هو غسل اليدين من المرافق إلى الأصابع -، على كافة المذاهب، وهذا موافق مع المذهب الجعفري، وموافق للاحتياط، وأوثق المناهج.

 

44


32

الدرس الرابع: الوضوء (غسل اليدين)

الأفكار الرئيسة

 

منشأ الاختلاف في كيفية الغسل:

إنّ الاختلاف هناك ناشئ عن الاختلاف في فهم المعنى من آية الوضوء، وركيزة الاختلاف هي كلمة (إلى) المذكورة في الآية ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾.

 

- اختلفت الآراء بالنسبة إلى كيفيّة الغسل من حيث المبدأ والمنتهى.

 

قال السيد الطباطبائ اليزدي: غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع مقدّماً لليمنى على اليسرى، ويجب الابتداء بالمرفق والغسل منه إلى الأسفل عرفاً.

 

قال السيد الخوئي: ويدلّنا على ذلك، - أي الحكم -، التسالم، والإجماع القطعيّان، والروايات البيانيّة الحاكية عن وضوء رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، أضف إلى ذلك صحيحة زرارة وبكير.

 

- جاء التعبير ب (إلى) في الآية الكريمة، لبيان الحدّ والمقدار الذي يجب غسله وهو من رؤوس الأصابع إلى المرفق، ولم يأت على توضيح كيفية الغسل.

 

قال الجزيري: اتّفق الأئمّة على غسل اليدين إلى المرفقين، أي المفصلين1، ولم يتعرّض إلى دليل تجاه الكيفيّة.

 

- إنّ الاختلاف هناك ناشئ عن الاختلاف في فهم المعنى من آية الوضوء، وركيزة الاختلاف هي كلمة (إلى) المذكورة في الآية ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 123.

 

45


33

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

الدرس الخامس

الوضوء

(المسح على الرأس والقدمين)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يحدّد مقدار المسح على الرأس.

2- يناقش أدلّة المذاهب على المسح.

3- يستدلّ على الفرض المتعلّق بالرجلين.

 

47


34

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

مدخل

اتفق جميع الفقهاء المسلمين على أن مسح الرأس فرض الوضوء، لقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾, لأنّ المسح أمر مغاير للغسل عرفاً، والآتي بالغسل لا يصدق عليه أنّه آتٍ بالمسح، ولكن اختلفوا في المقدار المجزئ من المسح، فذهبت الإمامية إلى القول بمسمى المسح على مقدّم الرأس، وذهبت المالكية إلى مسح جميع الرأس، ومسح الأذنان مع الرأس عند الحنابلة، بينما ذهبت الحنفية، والشافعية إلى مسح بعض الرأس ولو يسيراً عند الشافعي أو مقدار الربع عند الحنفي.

 

المذهب الجعفري:

يجب مسح الرأس بما بقي من البلّة في اليد، ويجب أن يكون بكفّ اليد على الربع المقدّم من الرأس، ويكفي المسمّى1.

 

وقال المحقّق الحلّي: والواجب منه (المسح) ما يسمّى به مسحاً، ويختصّ المسح مقدّم الرأس، ويجب أن يكون بنداوة الوضوء2.

 

والحكم يكون كذلك إجماعاً كما عن مجمع البيان، وهو الذي يقتضيه إطلاق رواية زرارة الواردة عن الإمام الباقر  عليه السلام قال: قلت لأبي جعفر  عليه السلام: ألا تخبرني من أين علمت وقلت أن المسح ببعض الرأس... فضحك وقال: "يا زرارة، قاله رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ، لأن الله عزّ وجلّ قال: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ فعرفنا حين قال برؤوسكم، أن المسح ببعض الرأس، لمكان الباء..."3.

 


1- الحائري، مرتضى، شرح العروة الوثقى، ط 1، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1429هـ ، ج 3، ص 187.

2- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ط 2، تحقيق: السيد صادق الشيرازي، قم، مطبعة أمير، 1409هـ ، ج 1، ص 17.

3- السيّد محسن الحكيم، مستمسك العروة، إيران، قم، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، 1404هـ ، ج 2، ص 364.

 

49


35

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

ويمكننا أن نقول: أنّ مسمّى المسح في مقدّم الرأس بنداوة الوضوء هو القدر المتيقّن من الأدلة، والأكثر مشكوك به.

 

قال المحقّق صاحب الجواهر: لا ريب في أنّ ما ذكره، - المحقّق الحلّي بأنّ الواجب من مسح الرأس ما يسمّى مسحاً، هو الأقوى، للأصل - أصالة عدم الزائد -، وظاهر النصّ في قوله تعالى: ﴿... وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ ...﴾1، أنّ المراد بعض الرأس، لمكان الباء كما ورد في رواية زرارة أعلاه.

 

وهناك أدلّة أخرى تدلّ على أن المسح يكون على مقدّم الرأس، ومنها مصحح زرارة عن الإمام الباقر  عليه السلام، قال: "المرأة يجزئها من مسح الرأس أن تمسح مقدّمة قدر ثلاثة أصابع ولا تلقى عنها خمارها"2، وهي تدلّ دلالة تامّة على تعيين محلّ المسح من الرأس، ومقداره.

 

ومنها: صحيحة زرارة الأخرى عن الإمام الباقر  عليه السلام، قال: "إنّ الله وتر، يحبّ الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، واثنتان للذراعين، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى"3. وهذه الصحيحة تامّه من حيث الدلالة. وإلى هذا الرأي ذهب الشافعي حيث قال: يجزئ مسح ما يقع عليه الاسم4.

 

دليل المخالف:

قال ابن قدامة: واحتجّ من أجاز مسح بعض الرأس: بأنّ عثمان مسح مقدّم رأسه بيده مرّة واحدة، ولم يستأنف له ماء جديداً، وذلك حينما حكى وضوء النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم، - رواه سعيد -، ولأنّ من مسح بعض رأسه يقال: مسح برأسه، كما يقال: مسح برأس اليتيم، وقبّل رأسه.

 


1- سورة المائدة، الآية 6.

2- السيّد الحكيم، مستمسك العروة، ج 2، ص 365.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 2، ص 388.

4- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 113.

 

50


36

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

وزعم بعض من ينصر ذلك أنّ الباء للتبعيض فكأنّه قال: وامسحوا بعض رؤوسكم  ... وهو غير صحيح. ويتابع ابن قدامه كلامه فيقول: ودليلنا على وجوب مسح كامل الرأس، قول الله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾, والباء للإلصاق، فكأنّه قال: وامسحوا رؤوسكم، فيتناول الجميع... ولأن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، في رواية مرسلة، لمّا توضّأ، مسح رأسه كله.

 

ونحن بدورنا نسأل: ما المراد بالإلصاق؟، هل المراد به مسمى اللصق، أم اللصق الكامل؟

 

والجواب: هنا شبهة مفهومية دائرة بين الأقل والأكثر، والقدر المتيقن منها هو الأقل، أي مسمى اللصق.

 

منشأ الاختلاف:

تبيّن لنا أنّ الاختلاف في مسألة المسح ناشئة عن الاختلاف في تحديد مقدار المسح على الرأس من قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾، وموضع (الباء) في قوله تعالى (برؤوسهم)، فاختلف التطبيق تبعاً لاختلاف المسلك في ذلك، فجماعة الإمامية ذهبت باتجاه تبنّي ما قاله أئمة أهل البيت  عليهم السلام، بينما ذهبت المدارس السنية الأربعة إلى تبنّي ما ورد عن الصحابة رغم تضارب أقوالهم، فأعملوا فيه الاجتهاد بالرأي.

 

مسح الرجلين أو غسلهما

اختلفت الآراء بالنسبة إلى الفرض الذي يتعلق بالرجلين مسحاً، وغسلاً، حيث ذهبت الإمامية إلى لزوم مسحهما، بينما ذهب أئمة المذاهب الأربعة السنية إلى وجوب غسلهما، في حين قال قوم من العامة، وإمام الزيدية الناصر بالجمع ما بين المسح والغسل.

 

هذا الخلاف بين الفقهاء إنما نشأ عن خلافهم في تفسير الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾1, حيث وردت في كلمة (أرجل) قراءتان:

 


1- سورة المائدة، الآية 6.

 

51


37

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

1- النصب: عطفاً على المغسول وهو (أيديكم)، فتكون ظاهرة في الغسل، وبالتالي اختار رؤساء المذاهب الأربعة وجوب الغسل.

 

2- الجر: عطفاً على الممسوح وهو (رؤوسكم) لفظاً، أو النصب عطفاً على محل (برؤوسكم)، فتدل في كلا التقديرين على وجوب مسح الرجلين، وهذا مختار الإمامية كما عن أهل البيت عليهم السلام.

 

المذهب الجعفري:

يجب مسح الرجلين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، وهما قبّتا القدمين، والمفصل بين الساق والقدم، وهو الأحوط، ويكفي المسمى عرضاً، والأفضل أن يكون بمقدار عرض ثلاثة أصابع، وأفضل من ذلك مسح تمام ظهر القدم، ويجزئ الابتداء بالأصابع، وبالكعبين، والأحوط الأوّل. كما أنّ الأحوط تقديم الرجل اليمنى على اليسرى، وإن كان الأقوى جواز مسحهما معاً1.

 

وقال السيد الخوئي: يجب مسح الرجلين، للآية المباركة، والأخبار المتضافرة، بل لا يبعد دعوى تواترها، أمّا الآية المباركة، فقوله عزّ من قائل: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾, (بالجرّ) أو (النصب) على اختلاف القراءتين، فإنَّ ﴿أَرْجُلَكُمْ﴾ (بالجرّ) تكون معطوفة على لفظ رؤوسكم، ومعناها: فامسحوا برؤوسكم، وامسحوا بأرجلكم. وإذا قرأنا (بالنصب) كما هو قراءة عاصم في رواية حفص، وهو الذي كتب القرآن على قراءته، فتكون معطوفة على (محلّ) ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾، فيصبح المعنى حينئذ: وامسحوا برؤوسكم، وامسحوا أرجلكم، وعلى كلا التقديرين، تدلنا الآية المباركة على وجوب مسح الرجلين.

 

إشكال:

يمكن أن يُقال: بأن لفظ ﴿... وَأَرْجُلَكُمْ ...﴾, على قراءة النصب تكون معطوفة على ﴿... وَأَيْدِيَكُمْ...﴾، و﴿وُجُوهَكُمْ﴾, فيصبح معنى الآية المباركة: واغسلوا وجوهكم، وامسحوا برؤوسكم، واغسلوا أرجلكم.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 139.

 

52


38

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

الرد على الإشكال:

هذا ممّا لا يناسب الأديب، لعدم جواز الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة الأجنبيّة، فضلاً عن كلام الخالق الذي هو في أرقى درجات البلاغة والإعجاز.

 

وأمّا الأخبار، فقد ورد الأمر بالمسح على الرجلين كما في صحيحة زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، واثنان للذراعين، وتمسح ببلّة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلّة يمينك، ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى"1، وهذه الصحيحة هي تامّة من حيث الدلالة.

 

قال المحقّق صاحب الجواهر: من فروض الوضوء مسج الرجلين، إجماعاً محصّلاً، ومنقولاً عند الإمامية، بل هو من ضروريّات مذهبهم، وأخبارهم به متواترة، بل في الانتصار،عن السيد علم الهدى، أنّها أكثر من عدد الرمل والحصى، بل رَووه مخالفوهم، أبناء السنّة، أيضاً.

 

والدليل على ذلك، قوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ (بالجرّ)، في قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وحمزة، وفي رواية أبي بكر عن عاصم، بل قيل أنّها مُجمع عليها، وأنّها هي القراءة المنزلة، بخلاف قراءة (النصب) فإنّها مختلف فيها.

 

ويؤيّد ذلك خبر غالب بن الهذيل قال: سألت أبا جعفر الإمام الباقر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾، على الخفض هي أم على النصب؟، فقال: "بل هي على الخفض"2.

 

نعم، إذا سلمنا قراءة النصب، كما نقل عن نافع، وابن عامر، والكسائي، وفي رواية حفص عن عاصم، فهنا أمران:

1- أنه يمكن القراءة بالعطف على لفظ (رؤوسكم)، الذي يكون مجروراً.

 

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 2، ص 388.

2- الطبرسي، حسين النوري، مستدرك الوسائل، ط 1، لبنان، بيروت، مؤسسة آل البيت، 1987م، ح 3، باب 23، وجوب المسح على الرجلين،ج 1، ص 319.

 

53


39

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

2. أنه يمكن العطف على محل (رؤوسكم) فيكون منصوباً بعنوان أنه مفعول به للفعل (امسحوا).

 

النتيجة: يكون حكم الأرجل، والرؤوس واحد وهو المسح بمقتضى العطف على (رؤوسكم) لفظاً أو محلاً.

 

المذاهب الأربعة:

اتّفق الأئمّة الأربعة على غسل الرجلين إلى الكعبين1.

 

قال ابن قدامة: غسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن ابن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم على غسل القدمين2.

 

منشأ الاختلاف:

تبيّن لنا مما سبق، أنّ الاختلاف في مسألة غسل الأرجل أو مسحها، ناشئ عن الاختلاف في فهم المعنى من آية الوضوء، نتيجة لتعدّد القراءات.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 122.

2- ابن قدامة، المغني، ج1، ص120.

 

54


40

الدرس الخامس: الوضوء (المسح على الرأس والقدمين)

الأفكار الرئيسة

مسح الرأس:

- على المذهب الجعفري، يجب مسح الرأس بنداوة الوضوء في مقدّم الرأس، ويكفي المسمّى، ولا خلاف فيه، والأمر كذلك على المذهب الشافعي.

 

- وعلى المذهب الحنفي، يجب المسح في مقدّم الرأس بمقدار كفّ اليد.

 

- وعلى المذهب الحنبلي، والمالكي، المسح يكون لجميع الرأس، والأذنان داخلان في ضمن الرأس عند الحنابلة، فيجب مسحهما.

 

مسح الرجلين أو غسلهما:

- يجب مسح الرجلين من الأصابع إلى الكعبين وفق المذهب الجعفري.

 

- يجب غسل الرجلين، وفق المذاهب الأربعة.

 

55


41

الدرس السادس: نواقض الوضوء

الدرس السادس

نواقض الوضوء

 

 

 

أهداف الدرس 

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يوضح الخلاف في ناقضيّة لمس المرأة للوضوء.

2- يشرح رأي الحنفية في ناقضيّة لمس العورة.

3- يشرح الاختلاف في الشكّ في الحدث.

 

57


42

الدرس السادس: نواقض الوضوء

مدخل

يقال في اللغة: "حدث أمر" أي وقع، والحدوث هو كون شيءٍ لم يكن1. وفي الاصطلاح الفقهي هو الأثر الحاصل للمكلّف وشبهه عند عروض أحد أسباب الوضوء، والغسل، المانع من الصلاة2.

 

وقد اتّفق المسلمون على ناقضية أحداث عديدة للوضوء كخروج البول والغائط. لكن ثمّة اختلافات هامّة بالنسبة إلى ناقضيّة بعض الأحداث، ومن هذه الأمور: لمس المرأة ومسّ الفرج.

 

كما اختلفوا في تحديد الوظيفة العملية للمكلّف عند الشك في الحدث من وجوب التطهر أو البناء على الطهارة.

 

لمس المرأة

اختلفت الآراء حول ناقضيّة اللمس بالنسبة إلى المرأة، وتفصيل الاختلاف بما يلي:

المذهب الجعفري:

ذكر جماعة من العلماء استحباب الوضوء عقيب المذي، والودي، والقيء، والرعاف، والتقبيل بشهوة، ومسّ الفرج ولو فرج نفسه... والضحك في الصلاة، لكنّ الاستحباب في هذه الموارد غير معلوم3، لعدم الدليل هناك.

 


1- أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)، معجم مقاييس اللغة، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404، لا.ط، ج2، ص36.

2- الشهديد الثاني، الروضة البهية، تحقيق: كلانتر، الطبعة: الأولى، 1410هـ ، مطبعة أمير – قم، ج1، ص251.

3- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 349.

 

59


43

الدرس السادس: نواقض الوضوء

وعليه: لا ينتقض الوضوء بواسطة لمس المرأة، وذلك للنصوص الواردة في الباب ومنها: صحيحة زرارة عن الإمام الباقر  عليه السلام قال: "ليس في القُبلة، ولا المباشرة، ولا مسّ الفرج وضوء"1، حيث دلّت على المطلوب دلالة تامّة.

 

وأمّا الملامسة التي تنقض الطهارة على أساس قوله: ﴿... أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ...﴾2, فهي عبارة عن المواقعة.

 

كما وروي في رواية أخرى عن الإمام الباقر  عليه السلام أنّه قال: "وما يعني بهذا ﴿... أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ...﴾ إلّا المواقعة في الفرج"3.

 

المذهب الحنفي:

وأمّا رأي المذهب الحنفي، فكما أورد ابن قدامة، عن أحمد رواية: لا ينقض اللمس بحال. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وبه قال أبو حنيفة، لما روي أنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم قبّل امرأة من نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضّأ، (رواه أبو داود وهو حديث مشهور)، ولأنّ الوجوب لا يكون إلّا من قِبل الشرع، ولم يرد بهذا شرع، ولا هو في معنى ما ورد الشرع به. وأمّا قوله تعالى: ﴿... أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ...﴾، فأراد به الجُماع، بدليل أنّ المسّ أريد به الجُماع في آيات الطلاق، وكذلك اللمس هنا، ولأنّ ذكره بلفظ المفاعلة، والمفاعلة لا تكون أقلّ من اثنين4.

 

وعليه: لا خلاف بين هذين المذهبين بالنسبة إلى الحكم المستفاد من الآية، إلّا أنّ معنى المواقعة على المذهب الحنفي أوسع، فإنّ تلاصق الفرجين، مع انتشار القضيب يُعتبر من المواقعة، وينقض الوضوء5.

 

المذاهب الثلاثة الأخرى:

قال ابن قدامة: وعن أحمد رواية ثالثة: أنّ اللمس ينقض بكلّ حال، وهو مذهب الشافعي، لعموم قوله تعالى: ﴿... أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ...﴾، وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين6.

 

 


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 1، ص 271.

2- سورة المائدة، الآية 6.

3- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 1، ص 271.

4- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 188.

5- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 162.

6- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 188.

 

60


44

الدرس السادس: نواقض الوضوء

واختلفت آراء المذاهب الثلاثة بالنسبة إلى مصداق اللمس الناقض للوضوء، والمقصود من اللمس الناقض للوضوء على المذهب المالكي، هو اللمس مع قصد اللذّة، وأمّا على المذهب الشافعي، والحنبلي، فيشترط في اللمس الناقض أن يكون الملموس عارياً، أو مستوراً بساتر خفيف1.

 

وقال المالكي: بأنّ الناقض هو المس من بالغ وليس من صغير، ولو راهق، ووطؤه من جملة لمسه، فلا ينقض، وإن استحب الغسل2.

 

منشأ الاختلاف:

تبيّن لنا أنّ الاختلاف ناشئ عن الأسباب التالية:

1. النصوص الواردة عن طريق آل البيت  عليهم السلام والصحابة.

2. النصوص الواردة عن طريق الصحابة بشكل متضارب.

3. فهم المعنى من آية ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾ بتفصيل مرّ بنا بيانه.

 

مس الفرج

اختلفت الآراء بالنسبة إلى ناقضيّة مسّ الفرج للوضوء، إيجاباً أو سلباً، وتفصيل الاختلاف كما يلي:

المذهب الحنفي:

قال الحنفيّة: مسّ الذكر لا ينقض الوضوء ولو كان بشهوة، لأنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قال - جواباً عن سؤال حول ناقضيّة المسّ -: هل هو إلّا بضعة منك فكان كسائره3.

 

أمّا وجهة نظر المذهب الجعفري فقد مرّت بنا رواية صحيحة عن الإمام الباقر  عليه السلام في تصريحها بعدم انتقاض الوضوء بالمسّ.

 

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 160.

2- أبو البركات، الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاهـ ، لا.ت، لا.ط،ج 1، ص 119.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 163.

 

61


45

الدرس السادس: نواقض الوضوء

الشكّ في الحدث

قال المالكيّة: ينتقض الوضوء بالشكّ في الحدث، أو سببه، كأن يشكّ بعد تحقّق الوضوء هل خرج منه ريح، أو مسّ ذكره مثلاً أم لا؟ فكلّ ذلك ينقض الوضوء، لأنّ الذمّة لا تبرأ إلّا باليقين، والشاكّ لا يقين له.

 

وقال الجزيري: على الرغم من ذلك لا ينتقض الوضوء بالشكّ في الحدث، فإنّ المكلّف، إذا علم أنّه توضّأ بيقين، ثمّ شكّ هل أحدث بعد ذلك الوضوء أو لا؟ فهذا الشكّ لا ينقض وضوئه، لأنّه شكّ في حصول الحدث بعد الوضوء، والشكّ لا يزيل يقين الطهارة، هذا كلّه إذا شكّ في الوضوء بعد تمامه. وأمّا إذا شكّ أثناء الوضوء في عضو، فإنّ عليه أن يعيد تطهير العضو الذي شكّ فيه1.

 

وأمّا حكم الشكّ في الحدث، على المذهب الجعفري، فهو كما يلي:

من تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة تطهّر. ولو تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث بنى على الطهارة2، وذلك بناء على قاعدة الاستصحاب الثابتة بالنصّ، والإجماع.

 

ولو شكّ في فعل من الأفعال قبل الفراغ منه، أتى به، لقاعدة الاستصحاب. وأمّا لو شكّ بعد الفراغ منه، لم يلتفت3، وذلك لقاعدة الفراغ الثابتة بالنصّ، والإجماع.

 

المذاهب الثلاثة الأخرى:

من تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث، أو تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة، فهو على ما تيقّن بهما4.

 

منشأ الاختلاف:

الاختلاف في حكم الشكّ ناشئ عن الاختلاف في النصّ والاجتهاد.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 166.

2- السيد السيستاني، منهاج الصالحين، ج 1، ص 52.

3- السيد السيستاني، ج 1، ص 52.

4- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 193.

 

62


46

الدرس السادس: نواقض الوضوء

الأفكار الرئيسة

- لا ينتقض الوضوء بواسطة لمس المرأة، ومسّ الذكر، على المذهب الجعفري.

 

- الحكم في لمس المرأة، ومس الذكر متفاوت بالنسبة إلى المذاهب الأربعة.

 

- لو شكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل الفراغ منه، أتى به على المذهب الجعفري، لقاعدة الاستصحاب. وأمّا لو شكّ بعد الفراغ منه، لم يلتفت، وذلك لقاعدة الفراغ.

 

- لو شكّ في فعل من أفعال الوضوء، أو شكّ في الحدث أو سببه، أو خروج ريح منه، أو مس ذكره، فإنّ الشكّ ينقض الوضوء على المذهب المالكي.

 

- وأمّا على المذاهب الأخرى الثلاثة، فمن شكّ في فعل من الأفعال، فإذا تيقن الطهارة وشكّ في الحدث، أو تيقن الحدث وشكّ في الطهارة، فهو على ما تيقن بها.

 

 

63


47

الدرس السابع: التيمّم

الدرس السابع

التيمّم

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر أدّلة التيمّم، وكيفيته.

2- يعرّف الصعيد.

3- يحدّد مصداق الحاجب الواجب رفعه حال التيمّم.

 

65


48

الدرس السابع: التيمّم

مدخل

اتّفق فقهاء المسلمين على وجوب التيمّم عند عدم القدرة على استعمال الماء، كما اتّفقوا على أنّ أعضاء التيمّم هي الوجه واليدين. ولكن اختلفوا في الحدّ الواجب مسحه من الوجه واليدين. فذهب علماء الإمامية إلى القول بكفاية مسح الجبهة في الوجه وبوجوب المسح على الكفين إلى الزندين. بينما ذهبت المذاهب الأربعة، في الجملة، إلى وجوب مسح تمام الوجه واليدين إلى المرفقين.

 

كما اختلفوا في معنى الصعيد وفي لزوم إزالة الحاجب عن أعضاء التيمّم.

 

أدلة وجوب التيمّم

أستدل لوجوب التيمّم بوجوه

الأوّل: قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾1.

 

الثاني: قول الرسول الكريم  صلى الله عليه وآله وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"2.

 

الثالث: ما روي في حديث عمران الحصين: أنّ رسول الله رأى رجلاً معتزلاً لم يصلّ مع القوم، فقال: "يا فلان، أما يكفيك أن تصلي مع القوم"، فقال الرجل: يا رسول الله، أصابني جنابة ولا ماء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "عليك بالصعيد، فإنّه يكفيك"3، وغيره من الأحاديث المروية في كتب الحديث للشيعة، والسنة.

 

الرابع: الإجماع.

 


1- سورة النساء، آية 43.

2- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 236.

3- م.ن، ج 1، ص 239.

 

67


49

الدرس السابع: التيمّم

كيفيّة التيمّم

اختلف آراء الفقهاء بالنسبة إلى كيفيّة التيمّم، بالتفصيل التالي:

المذهب الجعفري:

يجب في التيمّم أمور:

الأوّل: ضرب باطن اليدين معاً دفعةً على الأرض.

الثاني: مسح الجبهة بتمامها والجبينين بهما، من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى وإلى الحاجبين، والأحوط مسحهما أيضاً، ويعتبر كون المسح بمجموع الكفين على المجموع.

الثالث: مسح تمام ظاهر الكف اليمنى بباطن كف اليسرى، ثم مسح ظاهر اليسرى بباطن اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع1، والدليل على ذلك عدّة نصوص، منها: موثقة زرارة قال: سألت أبا جعفر الإمام الباقر عليه السلام عن التيمّم، فضرب بيده على الأرض ثمّ رفعها فنفضها، ثمّ مسح بها جبينه وكفيه مرّة واحدة2.

 

ومن المعلوم أن الوجه يصدق على الجبهة والجبينين، لأن الشخص الذي يقع على ناصيته يُقال له: وقع بوجهه على الأرض. أضف إلى ذلك أن التعفير هو التتريب بين الجبهة والجبينين، وقد حدّدت الروايات التيمّم بالتحديد الصحيح كما مرّ.

 

المذهب الحنبلي:

إنّ الفرض مسح اليدين إلى الكوعين، وأما المرفقين فهو سنّة3. قال علماء الحنابلة:

الفرض الأوّل: مسح جميع وجهه، ولحيته لقوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾4, واللحية من الوجه، لمشاركتها له.

 

والفرض الثاني: مسح يديه إلى كوعيه، لقوله تعالى: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ﴾، وإذا علق حكم بمطلق اليدين، لم يدخل فيه الذراع، لقطع السارق، ومسّ الفرج، ولحديث عمار قال:

 

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 347.

2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 3،ص 359.

3-الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 248.

4- سورة المائدة، الآية 6.

 

68


50

الدرس السابع: التيمّم

بعثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد ماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثمّ أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنّما يكفيك أن تقو بيديك هكذا، ثمّ ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثمّ مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه، ووجهه، متفق عليه. وفي لفظ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالتيمّم للوجه، والكفين، صحّحه الترمذي1.

 

ومن حسن الحظ أن الرواية المتلوة رويت عن طريق آل البيت  عليهم السلام بالنصّ التالي: عن زرارة، - بسند موثق ، عن أبي جعفر الإمام الباقر عليه السلام، قال: "أتى عمار بن ياسر رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي أجنبت الليلة... إلى أن قال: فضرب بيديه على الأرض، ثمّ ضرب إحداهما على الأخرى، ثمّ مسح بجبينيه، ثمّ مسح كفيه كل واحدة على الأخرى"2.

 

المذهب الحنفي:

لا يجب مسح ما طال من اللحية، ويجب مسح اليدين، ومسح المرفقين3. قال السمرقندي: قال علمائنا بأن التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.

 

والصحيح مذهبنا (الحنفي)، لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين"4، وأنّه بدل الوضوء.

 

قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: ﴿... وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى ...﴾, وروي عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه تيمّم، فمسح، وجهه، وذراعيه (قال): ومعقول إذا كان التيمّم بدلاً عن الوضوء على الوجه واليدين أن يؤتى بالتيمّم على ما يؤتى بالوضوء عليه، وعن ابن عمر أنه قال: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه تيمّم فمسح وجهه وزراعيه5.

 

معنى الصعيد

اختلف المذهب المالكي والمذاهب الأخرى بالنسبة إلى معنى الصعيد كما يلي:

 


1- البهوتي، كشاف القناع، ج 1، ص 205.

2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 3، ص 361.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 248.

4- السمرقندي، تحفة الفقهاء، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، 1414هـ - 1993م، ط 2،ج 1، ص 35.

5- المزني، اسماعيل، مختصر المزني، لبنان، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر (د. ت)، ص 6.

 

69


51

الدرس السابع: التيمّم

المذهب المالكي:

المراد بالصعيد: ما صعد، أي ظهر من أجزاء الأرض، فيشمل التراب، وهو أفضل من غيره، والرمل، والحجر، وكذا الثلج، لأنّه وإن كان ماء متجمداً، إلّا أنّه أشبه بالحجر الذي هو من أجزاء الأرض1.

 

المذهب الجعفري:

لا يصحّ التيمّم بالثلج2، وذلك لعدم كون الثلج من أجزاء الأرض، فلا يصدق عليه اسم الصعيد قطعاً، وما عثرنا على اختلاف فيه إلّا عن المالكية.

 

رفع الساتر

اختلفت الآراء بين الحنفية والمذاهب الأخرى بالنسبة إلى رفع الساتر عن موضع التيمّم كما يلي:

المذهب الحنفي:

يجب أن ينزع ما ستر شيئاً منها من اليد كالخاتم، والأساور، ويجب أن يمسح ما تحته، فلا يكفي تحريكه في التيمّم، بخلاف الوضوء.

 

وقال بعض الحنفية: تحريك الخاتم الضيق، والسوار يكفي في التيمّم أيضاً، لأنّ التحريك مسح لما تحته، والفرض هوا المسح لا وصول الغبار3.

 

أمّا في المذهب الجعفري، فقال السيد الطباطبائي اليزدي: الخاتم حائل، فيجب نزعه حال التيمّم4، وقال السيد الخوئي: وهو (نزع الخاتم) من الظهور بمكان، وإنّما تعرض له (السيد اليزدي) تنبيهاً للعوام5.

 

منشأ الاختلاف:

الاختلاف بالنسبة إلى المسائل الجزئية التي تتصل بالتيمّم، ناشئ عن الاختلاف في النصّ والاجتهاد.

 

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 247.

2- الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، ج 1، ص 108.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 248.

4- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 349.

5- الغروي، شرح العروة الوثقى، (موسوعة الإمام الخوئي)، ج 10، ص 300.

 

70


52

الدرس السابع: التيمّم

الأفكار الرئيسة

- التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين، على المذهب الجعفري، والحنبلي، والمالكي. ويجب مسح اليدين مع المرفقين على المذهب الحنفي، والشافعي.

 

- مسح الوجه: هو عبارة عن مسح الجبهة والجبينين على المذهب الجعفري. وهو عبارة عن مسح جميع الوجه على المذاهب الأربعة، مع اختلاف في اللحية المسترسلة.

 

- يجب نزع الخاتم حال التيمّم على المذاهب إلا عند الحنفية، فإنّهم قالوا بكفاية تحريك الخاتم.

 

71


53

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

الدرس الثامن

أوقات الصلاة (1)

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يحدّد وقت صلاتي الظهرين.

2- يذكر الدليل على وقت الظهرين.

3- يناقش إمكان الجمع بين صلاتي الظهرين.

 

73


54

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

مدخل

يقول الله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾1.

 

تدلّ الآية الكريمة بوضوح على شرطيّة الوقت للصلاة، وأن وقتها من الدلوك إلى غسق الليل، هذا بالنسبة إلى غير صلاة الصبح، وأمّا صلاة الصبح فوقتها من طلوع الفجر الصادق إلى شروق الشمس، هذا إجمال ما تدلّ عليه الآية الكريمة2.

 

وقع الخلاف بين المفسِّرين في المقصود من الدلوك، فقيل: هو الزوال، وسمي بذلك لأن الناظر إلى الشمس يدلك عينيه لشدّة ضيائها، وقيل: هو الغروب، لأن الناظر يدلك عينيه ليتبيَّنها.

 

كما ووقع خلاف حول المقصود من الغسق، فقيل: هو الظلمة الصادقة من بدايتها وأولها، وقيل: ليس هو مطلق الظلمة بل شدّتها وأوجها، وينحصر مصداقه بمنتصف الليل3.

 

 


1- سورة الإسراء، الآية 78.

2- وتجدر الإشارة إلى نكتة جانبية، وهي أنه يظهر من خلال بعض الروايات أن مسألة تحديد أوقات الصلاة كانت تشريعاً من قبل النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، قد فُوّض إليه ذلك، والآية الكريمة جاءت لإمضاء ذلك التشريع، ويظهر أيضاً من خلال الروايات أن هذه المسألة كانت مطروحة بين أصحاب الأئمة  عليهم السلام ومحل خلاف بينهم، فقد روى زرارة في الخبر الصحيح: "كنت قاعداً عند أبي عبد الله  عليه السلام أنا وحمران بن أعْيَن، فقال له حمران: ما تقول فيما يقوله زرارة وقد خالفته فيه؟، فقال أبو عبد الله  عليه السلام: ما هو؟، قال: يزعم أن مواقيت الصلاة كانت مفوّضة إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي وضعها، فقال أبو عبد الله  عليه السلام: فما تقول أنت؟، قلت: إن جبرئيل أتاه في اليوم الأول، بالوقت الأول، وفي اليوم الأخير بالوقت الأخير، ثم قال جبرئيل  عليه السلام: ما بينهما وقت، فقال أبو عبد الله  عليه السلام: يا حمران إن زرارة يقول: أن جبرئيل إنما جاء مشيراً على رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، وصدق زرارة، إنما جعل الله ذلك إلى محمد  صلى الله عليه وآله وسلم فوضعه، وأشار جبرئيل عليه به". وسائل الشيعة (آل البيت) 3: 10، الباب 7 من أبواب المواقيت، الحديث (2). والحديث يوحي بثبوت السلطة التشريعية له  صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه حدّد الأوقات بإشارة من جبرئيل عليه السلام.

3- البروجردي، شرح العروة الوثقى (موسوعة الإمام الخوئي)، ج 11، ص 119.

 

75


55

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

وقد وردت روايات عن أهل بيت العصمة  عليهم السلام مفسّرة للدلوك بالزوال، وللغسق بمنتصف الليل، ففي حديث الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾، قال: "دلوك الشمس: زوالها، وغسق الليل: انتصافه، وقرآن الفجر: ركعتا الفجر"1.

 

وفي ضوء هذا التفسير للزوال والغسق تكون الآية الكريمة متعرضة إلى أوقات الصلوات الخمس، فأربع أشارت إليها بفقرة ﴿لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾، وواحدة وهي صلاة الفجر أشارت إليها بفقرة: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾، ولا يتمّ هذا إلّا إذا كان وقتهما هو طلوع الفجر.

 

وقت الظهرين

اختلفت الآراء بالنسبة إلى وقت صلاة الظهر والعصر اختصاصاً واشتراكاً، كما يلي:

المذهب الجعفري:

وقت الظهرين ما بين الزوال والمغرب، ويختصّ الظهر بأوّله مقدار أدائها بحسب حاله، ويختصّ العصر بآخره كذلك2، وذلك للنصوص الواردة في الباب، ومنها: معتبرة عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق  عليه السلام سئل عن وقت الظهر والعصر، فقال: "إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر والعصر جميعاً، إلّا أنّ هذه قبل هذه، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس"3، حيث دلّت على المطلوب بتمامه وكماله.

 

ووقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ الظلّ الحادث بعد الانعدام، أو بعد الانتهاء كالشاخص، ووقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين4، وذلك للنصوص الواردة في الباب، ومنها: صحيحة البزنطي قال سألته، - للإمام -، عن وقت صلاة الظهر والعصر، فكتب: "قامة للظهر وقامة للعصر"5، حيث دلّت على المطلوب دلالة تامّة.


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 4، ص 159.

2- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 366.

3- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 4، ص 126.

4- اليزدي، العروة الوثقى، ج 1، ص 366.

5- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 4، ص 144.

 

76


56

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

وقد ألّف الشيخ أحمد الصديق الغماري، - من كبار علماء السنّة -، كتاباً في جواز الجمع بين الصلاتين، سمّاه: "إزالة الخطر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر".

 

وأمّا جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، فهو مفتى به على المذاهب الأربعة1.

 

المذاهب الأربعة:

يدخل وقت الظهر عقب زوال الشمس مباشرةً، فمتى انحرفت الشمس عن وسط السماء، فإنّ وقت الظهر يبتدئ ويستمرّ إلى أن يبلغ ظلّ كلّ شيء مثله.

 

وأضاف المالكي: بأنّ هذا وقت الظهر الاختياري، وأمّا وقته الضروري، فهو من دخول وقت العصر الاختياري ويستمرّ إلى وقت الغروب، لقاعدة، - من أدرك -، ويبتدئ وقت العصر من زيادة ظلّ الشيء عن مثله، بدون أن يحتسب الظلّ الذي كان موجوداً عند الزوال، وينتهي إلى غروب الشمس.

 

وأضاف الحنبلي، والمالكي بأنّ للعصر وقتان: ضروري، واختياري:

أمّا وقته الضروري، فيبدأ باصفرار الشمس في الأرض على المذهب المالكي، وبعد أن يبلغ ظلّ كلّ شيء مثليه على المذهب الحنبلي، ويستمرّ إلى الغروب على المذهبين.

 

وأمّا وقته الاختياريّ، فهو في زيادة الظلّ عن مثله على المذهبين، ويستمرّ إلى اصفرار الشمس على المذهب المالكي، وينتهي إذا بلغ ظلّ كلّ شيء مثليه على المذهب الحنبلي2.

 

أمّا التحديد بالاصفرار، فهو لحديث عبد الله بن عمر أنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم قال: "وقت العصر ما لم تصفر الشمس" (رواه مسلم).

 

وأمّا التحديد ببلوغ المثلين، فهو لحديث جابر: الوقت ما بين هذين من المثل إلى المثلين. قال الجزيري: المشهور أنّ بين الظهر والعصر اشتراكاً في الوقت بقدر أربع ركعات في الحضر، واثنتين في السفر، وهل اشتراكهما في آخر وقت الظهر أو في أوّل وقت العصر؟، قولان مشهوران3.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 260.

2- (م.ن)، ص 275.

3- (م.ن), ص 280.

 

77

 


57

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

قال اسحاق: آخر وقت الظهر وأوّل وقت العصر يشتركان في قدر الصلاة. وحكي ذلك عن ابن المبارك، لقول النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن عباس: "صلّى،- أي جبرئيل -، بين الظهر لوقت العصر بالأمس"1.

 

وقال مالك: وقت الاختيار إلى أن يصير ظلّ كلّ شيء مثله، ووقت الأداء إلى أن يبقى من غروب الشمس قدر ما يؤدّي فيه العصر، وذلك لأنّ النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر في الحضر2.

 

الجمع بين الصلاتين

قال مالك: إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر، فإذا مضى بقدر ما يصلّى فيه أربع ركعات دخل وقت العصر، فكان الوقت مشتركاً بين الظهر والعصر إلى أن يصير الظلّ قامتين، لظاهر حديث إمامة جبرئيل، فإنّه ذكر أنّه صلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى العصر في اليوم الأوّل، وهذا فاسد عندنا، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يدخل وقت صلاة حتّى يخرج وقت صلاة أخرى"3.

 

وقال أحمد بن حنبل: يجوز الجمع بينهما (الصلاتين) في الحضر من غير عذر السفر، واحتجوا بحديث معاذ، أنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر في سفره (قاصداً السفر) إلى تبوك. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الصلاتين إذا جدّ به السفر. وعن ابن عباس قال: صلّينا مع رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم سبعاً جمعاً، وثمانياً جمعاً، فالمراد بالسبع المغرب والعشاء، وبالثمان الظهر والعصر. وعن ابن عباس أيضاً قال: جمع رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير عذر.

 

وقال السرخسي: دليلنا على عدم جواز الجمع قوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ

 


1- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 384.

2- (م. ن)، ج 1، ص 382.

3- السرخسي، المبسوط، ج 1، لبنان، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، ص 143.

 

78


58

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

والصَّلاَةِ الْوُسْطَى﴾1, أي في مواقيتها، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾2، أي فرضاً موقتاً.

 

وقال عمر: إنّ من أكبر الكبائر الجمع بين الصلاتين، وتأويل الأخبار، الدلالة على الجمع، أن الجمع بينهما كان فعلاً لا وقتاً. وتأويل حديث إمامة جبرائيل إنّه أراد بيان وقت استحباب الأداء.

 

وعن علي  عليه السلام أنّه فعل مثل ذلك (الجمع، عملاً بما صنعه الرسول، فكان) عنده بين وقت الظهر والعصر تداخلاً. وعند (الحنفيّة) لا تداخل، بل كلّ واحدة منهما مختص بوقته، ودليلنا ما روينا: "لا يدخل وقت الصلاة حتّى يخرج وقت صلاة أخرى"3.

 

والتحقيق: أن ما ادعاه السرخسي من عدم جواز الجمع بين الصلاتين، لا يمكن الالتزام به، وذلك:

أوّلاً: ما استدل به من القرآن، - الصلاة الوسطى، وكتاباً موقوتاً -، يدلّنا على توقيت الصلاة بوقت، - مختص أو مشترك -، ولا يدل على عدم جواز الجمع.

 

ثانياً: ما استدل به من الحديث: "لا يدخل وقت الصلاة..."، يدلنا على أنّه لا يدخل وقت صلاة الخاص حتّى يخرج وقت الصلاة الأخرى، وهذا هو المفتي به عند الفقهاء. أضف إلى ذلك أن هذا الحديث هو خبر واحد، وهو معارض بأخبار كثيرة، فيسقط عن الاعتبار.

 

ثالثاً: الروايات بالنسبة إلى جواز الجمع كثيرة ومعتبرة.

 

وما بادر إليه السرخسي من تأويل حديث جبرئيل، لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لأنّ إمامة جبرئيل بحسب مناسبة الحكم والموضوع، لم تكن في مقام بيان استحباب الأداء.

 


1- سورة البقرة، الآية 238.

2- سورة النساء، الآية 103.

3- السرخسي، المبسوط، ج 1، ص 143.

 

79


59

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

رابعاً: أنّ إنكار الجمع على خلاف عمل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعمل ابن عباس، وعمل ابن عمر حسب ما اعترف به، وهذا إجتراء على أوثق الطرق وأجودها، وذلك لأنّه لم يأمر، ولم يعمل علي  عليه السلام إلّا بما أمر وعمل به الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم.

 

خامساً: أنّ السرخسي صرّح بأنّ الجمع بين الصلاتين كان فعلاً، أي واقعاً، فتحقّق الجمع بحسب الواقع، وبالتالي فما صار إليه لا ينتهي إلى نتيجة إيجابية.

 

منشأ الاختلاف:

إنّ الاختلاف هناك ناشئ عن اجتهاد الحنفيّة الخاصّ، وعدم التقريب بين المذاهب، وعدم التفاهم بين الفقهاء.

 

80


60

الدرس الثامن: أوقات الصلاة (1)

الأفكار الرئيسة

- لا خلاف بين المذاهب الخمسة بالنسبة إلى الوقت المشترك بين الظهرين.

 

- هناك عدّة روايات من طريق أبناء السنّة تدلّنا على جواز الجمع بين الصلاتين، ومنها رواية إمامة جبرئيل المشهورة.

 

- هناك دلالة من الكتاب على جواز الجمع بين الصلاتين.

 

- ثبت أن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلاتين في المدينة.

 

- الدليل الوحيد الذي نقل على عدم جواز الجمع، هو ما نُقل عن عمر الخطاب بأنّه قال: الجمع من أكبر الكبائر.

 

81


61

الدرس التاسع: أوقات الصلاة (2)

الدرس التاسع

أوقات الصلاة (2)

 

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر الدليل على وقت صلاتي العشائين.

2- يوضح الشبهة المفهومية لمفهوم المغرب.

3- يناقش إمكان الجمع بين صلاتي العشائين.

 

83


62

الدرس التاسع: أوقات الصلاة (2)

مدخل

اتّفقت المذاهب كلّها على أنّ وقت المغرب يبتدئ من غروب الشمس،وهو عبارة عن غياب الشمس الظاهر، واختلفت الآراء بالنسبة إلى تطبيق مفهوم الغروب كما يلي:

ما يعرف به المغرب

المذاهب الأربعة:

يتحقّق غروب الشمس، باختفائها عن البصر، ذلك لصدق الغيبة بحسب فهم العرف.

 

المذهب الجعفري:

المعروف في المسألة قولان:

الأوّل: أنّ الغروب يتحقق باستتار القرص وغيبوته عن النظر. ذهب إلى هذا القول جمع من الأعلام.

 

الثاني: أنّ العبرة بذهاب الحمرة المشرقيّة عن قمّة الرأس، فلا يكتفي مجرّد الاستتار عن الأفق الحسي، بل اللازم بلوغ الشمس تحت الأفق إلى درجة معيّنة يكشف عنها ذهاب الحمرة المشرقية عن سمت الرأس1، وهذا هو أشهر القولين.

 

ومنشأ الاختلاف هو اختلاف الروايات الواردة في المقام، وقد ذهب السيد الخوئي رحمه الله إلى أنّ الأقوى هو القول الأوّل. فالروايات التي استدلّ بها للقول الأشهر، وإن كثرت، لكن شيئاً منها لا تدلّ على مطلوبهم، لضعفها سنداً أو دلالة، ونستعرض اثنتين منها:

 


1- السمت: الطريق، الناحية أو الجهة، الزاوية التي يحتمل أن يكون الشيء واقعاً في حدودها.

 

85


63

الدرس التاسع: أوقات الصلاة (2)

فمنها: رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر  عليه السلام، قال: "إذا غابت الحمرة من هذا الجانب، يعني من المشرق، فقد غابت الشمس من شرق الأرض وغربها"1.

 

ومنها، ما رواه علي بن أحمد بن أشيم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: "وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق وتدري كيف ذلك؟" قلت: لا. فقال: "لأنّ المشرق مطلّ على المغرب هكذا، ورفع يمينه فوق يساره فإذا غابت ها هنا ذهبت الحمرة من ها هنا"2.

 

وذهب جماعة من المحقّقين، منهم المحقّق وصاحب المدارك، إلى القول المشهور من "دخول الوقت بسقوط القرص واستتار الشمس تحت الأفق، وقد دلّت عليه جملة وافرة من النصوص فيها الصحاح والموثّقات"3.

 

فمن جملة الروايات المعتبرة، صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول: "وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها"4.

 

ومنها: صحيحة زرارة، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: "وقت المغرب إذا غاب القرص، فإن رأيت بعد ذلك وقد صلّيت أعدت الصلاة ومضى صومك وتكفّ عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئاً"5.

 

ومّما ذكر في علاج التعارض بين الطائفتين:

1- إنّ روايات اعتبار ذهاب الحمرة أوضح دلالة وأبعد عن التأويل فتكون مقدَّمة على روايات سقوط القرص.

2- إنّ المورد من موارد الإطلاق والتقييد، فإنّ روايات السقوط تدل بإطلاقها على تحقّق المغرب بالاستتار سواء انعدمت الحمرة أم لا، في حين أنّ روايات الحمرة تحدّد المغرب بالاستتار وزيادة وهي انعدام الحمرة، فيكون ذلك على وزن (جاءني الأمير) فإنّه لا يمتنع تقييده بما دلّ على مجيء الأمير مع أتباعه.

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 172.

2- م.ن، ج 4، ص 173.

3- الشيخ مرتضى البروجردي، مستند العروة الوثقى، ج 1، الصلاة، ص 167.

4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 172.

5- م.ن، ج 4، ص 178.

 

86


64

الدرس التاسع: أوقات الصلاة (2)

3- إنّ روايات الاستتار لموافقتها للعامّة محمولة على التقيّة.

 

4- ترجيح روايات الحمرة من جهة أنّ اعتبار انعدام الحمرة كاد يكون من شعارات الشيعة.

 

5- ترجيح روايات الاستتار لأنّ روايات الحمرة ضعيفة سنداً أو دلالة أو كليهما، ومع التنزّل والتسليم بتماميّة السند والدلالة يمكن القول بأنّها لا تقاوم روايات الاستتار فإنّها صريحة في كفاية الاستتار، بخلاف روايات الحمرة فإنّها ظاهرة في اعتبار زوال الحمرة، ومعلوم أنّه عند تعارض النصّ والظاهر يلزم تأويل الظاهر بقرينة النصّ وذلك بالحمل على إرادة الطريقة التكوينية لإحراز تحقّق الاستتار أو غير ذلك، ولكن الاحتياط لا ينبغي تركه. وممّا تقدم يتّضح أنّ الوجوه الأربعة (الأولى) تكون نتيجتها تقديم روايات الحمرة فتكون الفتوى موافقة لرأي المشهور، أمّا الوجه الخامس فيكون مخالفاً للمشهور ولكنّه يحتاط بعدم المخالفة1.

 

انتهاء المغرب

المشهور عند الفقهاء السنّة، أنّ وقت المغرب ينتهي بمغيب الشفق.

قال ابن قدامة: أمّا دخول وقت المغرب بغروب الشمس، فإجماع أهل العلم، لا نعلم بينهم خلافاً فيه، والأحاديث دالّة عليه، وآخره مغيب الشفق2.

 

وقال ابن قدامة: إنّ الشفق الذي يخرج به وقت المغرب ويدخل به وقت العشاء هو الحمرة، وهذا قول ابن عباس، ومالك، والشافعي3.

 

وعن أنس: الشفق، البياض، وبه قال أبو حنيفة، وروي عن ابن مسعود قال: رأيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي هذه الصلاة، - العشاء -، حين يسودّ الأفق4.

 


1- للمزيد راجع: الإيرواني، محمّد باقر، دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي، ج1، ص183- 185.

2- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 390.

3- (م. ن)، ج 1، ص 392.

4- م.ن.

 

87


65

الدرس التاسع: أوقات الصلاة (2)

وقال ابن منظور: قال الخليل: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الأخيرة.

 

وكان البعض (الحنفي) يقول: الشفق: البياض، لأنّ الحمرة تذهب إذا أظلمت1.

 

والتحقيق: أنّ الشفق بحسب اللغة والاصطلاح، هو الحمرة الحاصلة بعد غروب الشمس، وأمّا البياض على رأي الحنفي، فهو أثر الشفق الوجودي. وعليه: لا بدّ أن يذهب البياض حتّى يتحقّق مغيب الشفق.

 

والذي يسهّل الأمر أنّ فترة البياض بعد مغيب الشفق قليلة جداً، ولا بأس بها. قال الجزيري: قال المالكيّة: لا امتداد لوقت المغرب الاختياري، بل هو مضيّق، ويقدّر بزمن يسع فعلها، وتحصيل شروطها، أمّا وقتها الضروري، فهو عن عقب الاختياري، ويستمرّ إلى طلوع الفجر2.

 

وقال ابن قدامة: قال مالك، والشافعي: ليس لها،– للمغرب –، إلّا وقت واحد: عند مغيب الشمس، لأنّ جبرئيل صلّاها بالنبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم في اليومين لوقت واحد3، في بيان مواقيت الصلاة.

 

والتحقيق: أنّ توقيت المغرب من أوّل الغروب بقدر ما يتّسع لإقامة الصلاة مع شروطها، ومقدّماتها، لا ينافي التوقيت من الغروب إلى مغيب الشفق، ذلك لأنّ الشفق لا يدوم أكثر من ذلك، - أي إقامة الصلاة مع شروطها، ومقدّماتها -، ولهذا، فلا اختلاف إلّا لفظيّاً.

 

جواز تأخير المغرب عن الوقت الخاصّ

اختلفت الآراء بالنسبة إلى جواز تأخير المغرب عن أوّل وقتها إلى وقت العشاء الآخرة وعدم جوازه، كما يلي:

المذهب الجعفري:

وقت فضيلة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق، ووقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق إلى ثلث الليل، ويكون لهما وقتا إجزاء قبل ذهاب

 


1- ابن منظور، لسان العرب، (د. م)، (د. ن)، 1405هـ ،ج 10، ص 180.

2- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 280.

3- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 389.

 

88


66

الدرس التاسع: أوقات الصلاة (2)

الشفق، وبعد الثلث إلى النصف1، ذلك للنصوص الواردة في الباب.

 

واعتبر السيد الخوئي أنّ مقتضى ما نطقت به النصوص المتعدّدة، جواز تأخيرها – المغرب - عن سقوط الشفق مطلقاً، ولو في غير حال السفر والمرض، ومعه لا مجال للقول بأنّ وقت صلاة المغرب مطلقاً ينتهي بذهاب الشفق، هذا مضافاً إلى أنّ ذلك خلاف ظاهر الآية المباركة: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾2، لأنّ إطلاقها يقتضي جواز تأخير المغرب عن سقوط الشفق حتّى مع الاختيار، لأنّ الغسق بمعنى نصف الليل. إذاً، بمقتضى تلك الروايات، وإطلاق الآية المباركة، لا بدّ من حمل قوله  عليه السلام في صحيحة زرارة، وفُضيل: "وقت فوتها سقوط الشفق" على أنّ الأفضل أن يؤتي بها إلى زمان السقوط، وأن لا يؤخّر عنه.

 

نعم، تأخير الصلاة عن أوّل وقتها، لا بدّ له من مرجّحات، لأنّ الأفضل أن يؤتي بها أوّل الوقت3.

 

المذاهب الأربعة:

قال مالك، والشافعي: ليس لها – صلاة المغرب – إلّا وقت واحد وهو عند مغيب الشمس، قال النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزال أُمّتي بخير ما لم يؤخّروا المغرب إلى أن يشتبك النجم"، ولأنّ المسلمين مجمعون على فعلها في وقت واحد في أوّل الوقت .وعن طاوس لا تفوت المغرب والعشاء حتى الفجر ونحوه عن عطاء... ودليلنا – الحنابلة – حديث بريدة: "أنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم صلّى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق". وفي لفظ رواه الترمذي، فأخّر المغرب إلى أن يغيب الشفق، والنصوص كثيرة، وهي صحيحة لا يجوز مخالفتها بشيء محتمل، ولأنّها إحدى الصلوات، فكان لها وقت متّسع كسائر الصلوات، ولأنّها إحدى صلاتي جمع، فكان وقتها متّصلاً بوقت التي تجمع إليها كالظهر والعصر. وأحاديثهم محمولة على الاستحباب، والاختيار، وكراهة التأخير4.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 2، ص 251.

2- سورة الإسراء، الآية 78.

3- السيد الخوئي، كتاب الصلاة، ط 3، قم، دار الهادي للمطبوعات (د. ت)،ج 1، ص 167.

4- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 391.

 

89


67

الدرس التاسع: أوقات الصلاة (2)

الأفكار الرئيسة

- لكلّ واحدة من الصلوات الخمس وقت محدّد خاصّ، كالعشائين مثلاً، ووقت مشترك أيضاً.

 

- لا خلاف بين المذاهب بالنسبة إلى مبدأ الأوقات إلّا يسيراً، وهو الاختلاف بالنسبة إلى معنى غروب الشمس.

 

- أكثر الاختلافات وثيقة الصلة بمنتهى الأوقات الخمسة.

 

- منشأ الاختلاف بين الفقهاء، هو اختلاف الروايات الواردة في المصادر الروائيّة بصفة عامّة.

 

90


68

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

الدرس العاشر

الآذان والإقامة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1-  يبيّن معنى الآذان.

2- يعدّد صيغ الآذان.

3- يشرح مسألة التثويب.

 

91


69

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

مدخل

اتّفقت المذاهب الإسلامية على مطلوبيّة الأذان والإقامة في الجملة، ولكنهم اختلفوا في فصول كلّ واحد منهما، ولا سيما في مسألة التثويب. ولا بأس بتبيين بعض المسائل قبل البحث في محل الخلاف.

1- المعنى اللغوي للأذان:

اللغة: عبارة عن الإعلام، تقول: أذنت بكذا وكذا، أي أعلمت بكذا وكذا، وآذنني فلان بكذا، أي أعلمني به. فالأذان عبارة عن الإعلام، ومنه أذان لإعلام الناس فيه بدخول وقت الصلاة، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ﴾1.

 

2- المعنى الاصطلاحي للأذان:

الأذان في الشرع عبارة عن الإعلام بأوقات الصلاة بألفاظ خاصّة.

 

3- زمان تشريع الأذان:

شرِّع الآذان في العام الأوّل من الهجرة في المدينة المنورة، وهذا متّفق عليه بين علماء المسلمين، وإنّما وقع الخلاف بينهم في سبب تشريعه وكيفيّته.

 


1- سورة التوبة، الآية 3.

 

93


70

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

فعند الإمامية أنّ أمين الوحي هبط به من جانب الله على النبي الكريم  صلى الله عليه وآله وسلم، وعند السنّة أنّ عبد الله بن زيد رأى صورة الأذان في منامه، فعرض رؤياه على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأقرّها كما رآها في منامه1.

 

وبالعودة إلى الكتاب والسنّة، نرجّح القول الأوّل، لاستفادة الأمور الشرعية من الوحي، لقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾2.

 

ولما روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال مستنكراً: "ينزل الوحي على نبيّكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد"3؟!.

 

حكم الآذان، والإقامة

اختلفت الآراء بالنسبة إلى حكم الأذان والإقامة فرضاً وسنّةً كما يلي:

المذهب الجعفري:

لا إشكال في تأكّد رجحانهما في الفرائض اليوميّة، وذهب بعض العلماء إلى وجوبهما4.

 

المذاهب الأربعة:

اتّفق الأئمّة على أنّ الأذان سنّة مؤكّدة ما عدا الحنابلة، فإنّهم قالوا: إنّه فرض كفاية5.

 

وبما أنّه اتّفقت المذاهب كلّها على مطلوبيّة الأذان والإقامة، وعدم جواز تركهما حال الاختيار، لم يتحقّق الاختلاف من ناحية عمليّة، فيمكننا أن نقول: أنّه ليس ثمّة اختلاف بحسب الواقع.

 


1- ابن حجر، فتح الباري، ط 2، لبنان، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، (د. ت)، ج 2، ص 66.

2- سورة النجم، الآيتان 3 ـ 4.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 5، ص 370.

4- اليزدي، العروة الوثقى، ج 2، ص 409.

5- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 441.

 

94


71

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

صيغ الأذان والإقامة

اختلفت الآراء بالنسبة إلى عدد فصول الأذان والإقامة، كما يلي:

المذاهب الأربعة:

ألفاظ الأذان هي التكبير أربع مرّات، والشهادتين مرّتين، وحيّ على الصلاة وحيّ على الفلاح مرّتين، والتكبير والتهليل مرّة واحدة،وهذه الصيغة متّفق عليها بين ثلاثة من الأئمّة، وخالف المالكيّة فقالوا: يكبّر مرّتين لا أربعاً1.

 

وقال ابن قدامة: أنّ تلك الصيغة من الأذان هي أذان بلال، وجاء في خبر عبد الله بن زيد أن الآذان خمس عشرة كلمة، إلّا أنّ مالكاً قال: التكبير في أوّله مرّتان فحسب، واستدلّ مالك بأنّ ابن محيرز قال: كان الآذان الذي يؤذّن به أبو محذورة، كان التكبير فيه مرّتين، متّفق عليه.

 

ودليلنا: حديث عبد الله بن زيد، والأخذ به أولى، لأنّ بلالاً كان يؤذّن به مع رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم دائماً، سفراً، وحضراً، وأقرّه النبي  صلى الله عليه وآله وسلم بعد أذان أبي محذورة2.

 

وقال الجزيري: ويزاد في أذان الصبح، بعد حيّ على الفلاح،الصلاة خير من النوم، مرّتين ندباً، ويكره ترك هذه الزيادة، باتّفاق3.

 

وقال ابن قدامة: يُسنّ أن يقول في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) مرّتين بعد قوله: حيّ على الفلاح، ويسمّى التثويب، روى النسائي بإسناده عن ابن محذورة، قال في حديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإن كان في صلاة الصبح قلت: "الصلاة خير من النوم" مرّتين.

 

قال إسحاق: هذا شيء أحدثه الناس، وقال أبو عيسى: هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم، وهو الذي خرج منه ابن عمر من المسجد لمّا سمعه.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 440.

2- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 416.

3- (م. ن)، ج 1، ص 440.

 

95


72

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

وقال أبو حنيفة: التثويب بين الأذان والإقامة في الفجر أن يقول: حيّ على الصلاة مرّتين، وحيّ على الفلاح مرّتين1. قال الشافعي في قوله الجديد: أنّه لا تثويب فيه (في الفجر)2.

 

التثويب المحدث

قال أبو بكر الكاشاني: وأمّا التثويب المحدث... إنّما سماه محدثاً (أحد علماء العامة)، لأنّه أحدث في زمن التابعين، ووصفه بالحَسَن، لأنّهم استحسنوه، وقد قال النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح".

 

وأمّا محل التثويب، فقبل صلاة الفجر عند عامة العلماء3.

 

والتحقيق: أنّه لا شكّ في أنّ التثويب لم يكن من الأذان في النصوص، ولم يكن له عين ولا أثر في زمن الرسول، وصرّح أبو بكر الكاشاني أنّه أحدث في زمن التابعين، والإحداث في العبادات من قبل الناس هو بدعة في الشرع، ولما كان التثويب بدعة، فهو ليس من الشرع بل من الاستحسان.

 

وأمّا حديث ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، فلا يمكن الاعتماد عليه، وذلك:

أوّلاً: لم يثبت اعتبار ذلك الحديث من حيث السند.

 

ثانياً: يعارض ذاك الحديث بأحاديث أخرى واردة عن أهل البيت عليهم السلام كقول الإمام علي بن الحسين  عليه السلام بأن: "دين الله لا يصاب بالعقول"4.

 

ثالثاً: هناك اختلاف حول مسألة التثويب كما ألمحنا إليها، فمن الناس من يحسِّنه، ومنهم من قال عنه بأنّه مكروه، فلم يتحقّق إجماع حوله.

 

 


1- ابن قدامة، المغني، ص 420.

2- السمرقندي، تحفة الفقهاء، ج 1، ص 110.

3- الكاشاني، أبو بكر، بدائع الصنائع، ط 1، باكستان، المكتبة الحبيبية، 1989م، ج 1،ص 148.

4- الطبرسي، مستدرك الوسائل، ج 17،ص 262.

 

96


73

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

الإقامة

وأمّا ألفاظ الإقامة، فهي بالصيغة الآتية: قال ابن قدامة: قال الخرقي شيخ الحنبلي: الإقامة: التكبير مرّة، والشهادتين مرّة، وحيّ على الصلاة، وحيّ على الفلاح مرّة، وقد قامت الصلاة مرّتين، ثمّ التكبير والتهليل مرّة، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة1: الإقامة مثل الأذان، ويزيد في الإقامة. وقد قامت الصلاة مرّتين، لحديث عبد الله بن زيد: إنّ الذي علّمه الأذان أمهل، ثمّ قام فقال مثلها، (رواه أبو داود).

 

وقال مالك: الإقامة: عشر كلمات، يقول: قد قامت الصلاة مرّة واحدة، لما رواه أنس حيث قال: أمر بلالاً أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة (متّفق عليه)2.

 

ودليل الحنابلة، ما روى عبد الله بن عمر أنّه قال: إنّما كان الأذان على عهد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم مرّتين مرّتين، والإقامة مرّة مرّة، إلّا أنّه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، أخرجه النسائي3. قال السمرقندي: قال عامة العلماء: الإقامة مثنى مثنى كالأذان4.

 

المذهب الجعفري:

فصول الأذان ثمانية عشر، (الله أكبر) أربع مرّات، ثمّ (أشهد أن لا إله إلّا الله)، ثمّ (أشهد أنّ محمّداً رسول الله)، ثمّ (حيّ على الصلاة)، ثمّ (حي على الفلاح)، ثمّ (حيّ على خير العمل)، ثمّ (الله أكبر)، ثمّ (لا إله إلّا الله) كلّ فصل مرّتان، وكذلك الإقامة، إلّا أنّ فصولها أجمع مثني مثني إلّا التهليل في آخرها فمرّة، ويزاد فيها بعد الحيعلات قبل التكبير، (قد قامت الصلاة) مرّتين، فتكون فصولها سبعة عشر، وتستحبّ الصلاة على محمّد وآل محمّد عند ذكر اسمه الشريف، وإكمال الشهادتين بالشهادة لعليّ عليه السلام بالولاية وإمرة المؤمنين في الأذان وغيره5.

 


1- الكاشاني، بدائع الصنائع، ج 1، ص 148.

2- ابو البركات، الشرح الكبير، ج 1، ص 398.

3- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 418.

4- السمرقندي، تحفة الفقهاء، ج 1، ص 110.

5- السيّد الحكيم، منهاج الصالحين، ج 1، ص 208.

 

97


74

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

وقال السيد الطباطبائي الحكيم: فصول الأذان ثمانية عشر، بالمنهج المذكور: إجماعاً، وعليه عمل الأصحاب، ويدّل عليه خبر الخضرمي، وكليب الأسدي جميعاً عن الإمام الصادق عليه السلام: أنّه حكي لهما الأذان فقال  عليه السلام: الله أكبر، بالصياغة التي تسالم عليها الأصحاب إلى، لا إله إلّا الله1، والإقامة كذلك. وفي صحيح زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام: "يا زرارة، تفتح الأذان بأربع تكبيرات، وتختمه بتكبيرتين، وتهليلتين"2. وأمّا لفظ الإقامة، فهو أيضاً مذهب العلماء، وأنّه لا يختلف فيه الأصحاب، وأنّ عليه عمل الأصحاب. وأمّا لفظ الشهادة بالولاية، فلا بأس بالإتيان به بقصد الاستحباب المطلق، لما في خبر الاحتجاج، إذا قال أحدكم: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فليقل علي أمير المؤمنين3. بل ذلك في هذه الأعصار معدود من شعائر الإيمان، فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد يكون واجباً ولكن ليس بعنوان الجزئية في الأذان.

 

منشأ الاختلاف:

وعليه: منشأ الاختلاف يرجع إلى إختلاف النصوص الواردة عن الطريقين، والاجتهاد.

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 5، ص 416.

2- (م. ن)، ج 5، ص 414.

3- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 1، ص 60.

 

98


75

الدرس العاشر: الآذان والإقامة

الأفكار الرئيسة

- لا خلاف في معظم فصول الأذان، والإقامة إلّا من حيث العدد، حيث تختلف الآراء في ثلاثة فصول منها وهي:

1- الشهادة بالولاية، فإنّها تستحب على المذهب الجعفري، ولا تستحبّ على المذاهب الأخرى.

 

2- التثويب، فإنّه يندب في أذان الصبح على المذاهب الأربعة، وليس كذلك على المذهب الجعفري.

 

3- زيادة (حيّ على خير العمل) في الأذان، والإقامة على المذهب الجعفري وليس كذلك على المذاهب الأخرى.

 

99


76

الدرس الثاني عشر: أفعال الصلاة

الدرس الثاني عشر

أفعال الصلاة

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفرّق بين التكتّف، والاسترسال حال القيام في الصلاة.

2- يعرف حكم قول آمين بعد سورة الفاتحة إثباتاً أو نفياً.

3- يستدلّ على مشروعية القنوت في الصلوات اليومية.

 

101


77

الدرس الثاني عشر: أفعال الصلاة

مدخل

اختلف فقهاء المذاهب الإسلامية في مشروعيّة بعض الأفعال في الصلاة، ومنها التكتّف، وقول آمين بعد الفاتحة، والقنوت.

 

ففي حين اتّفقت مذاهب أهل السنة على كون التكتّف وقول آمين من سنن الصلاة، ذهب المذهب الجعفري إلى القول بوجوب الاسترسال، بل عدّ التكتّف وقول آمين من مبطلات الصلاة.

 

أمّا القنوت، فقد ذهب المذهب الجعفري إلى استحبابه في كلّ الفرائض والنوافل، في حين قالت المذاهب الأخرى بأنّه سنّة في الوتر فقط.

 

التكتّف، والاسترسال

اختلف الآراء حول جواز التكتّف حال القيام وعدم جوازه، وهل هو مبطل للصلاة أم لا؟ كما يلي:

المذهب الجعفري:

من مبطلات الصلاة: التكفير، بمعنى وضع إحدى اليدين على الأخرى1، في غير التقية عند الإمامية.

 

والحكم كان كذلك على المشهور عند علماء الإمامية، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه، والعمدة فيه من النصوص: صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما (أي الصادقين عليهما السلام)، قلت: الرجل يضع يده في الصلاة، وحكى اليمنى على اليسرى، فقال  عليه السلام: "ذلك التكفير، لا تفعل"2.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 3، ص 6.

2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 7، ص 266.

 

103


78

الدرس الثاني عشر: أفعال الصلاة

وفي صحيح زرارة عن الإمام الباقر  عليه السلام: "ولا يكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس"1.

 

ولا يبعد البناء على الكراهة الذاتيّة، لظاهر تعليل النهي بأنّ فيه تشبيهاً بالمجوس2. أضف إلى ذلك أنّ التكتّف خلاف الأصل، وخلاف الحالة الطبيعيّة يحتاج إلى الدليل الخاصّ، وقصد التذلّل منه استحساناً، لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ العبادات توفيقيّة، ولهذا فالتكتف على خلاف الاحتياط.

 

المذاهب الأربعة:

يُسنّ وضع اليد اليمنى على اليسرى، وهو سنّة باتّفاق ثلاثة من الأئمّة. وقال المالكيّة: إنْ قَصَد به التسنّن، كان مندوباً، وأمّا إن قصد الاعتماد والاتكاء فإنّه يكره3.

 

قال ابن قدامة: أمّا وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة، فمن سنّتها، أي سنّة الصلاة، في قول أكثر أهل العلم، ويروي ذلك عن أبي هريرة. وقد نقلت النصوص والأقوال حول موضع وضع اليدين، وجميعها مروي4.

 

منشأ الاختلاف:

تبيّن ممّا تقدّم أنّ الاختلاف ناشئ عن الاختلاف في النصوص والاجتهاد، ولكن ممّا يسهّل الخطب أنّ التكتّف على قول ثلاثة من الأئمّة الأربعة ليس بواجب، وعليه يمكننا أن نقول: أنّه لا مضادّة بين الآراء في التكتّف.

 

كلمة آمين في الصلاة

اختلف الآراء في قول (آمين) بعد سورة الفاتحة إثباتاً أو نفياً، وكونها مبطلة للصلاة أو عدم كونها من مبطلات الصلاة، كما يلي:

المذاهب الأربعة:

من سنن الصلاة أن يقول المصلّي، عقب الفراغ من قراءة الفاتحة، آمين، وهذا القدر متّفق

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 7، ص 266.

2- كما ورد في الحديث السابق.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 360.

4- ابن قدامه، المغني، ج 1، ص 515.

 

104

 

 


79

الدرس الثاني عشر: أفعال الصلاة

عليه بين ثلاثة من الأئمّة. وقال المالكيّة: إنّه مندوب لا سنّة1. وقال ابن قدامة: إنّ التأمين عند فراغ الفاتحة سنّة للإمام والمأموم، وقال أصحاب مالك: لا يحسن التأمين للإمام، لما روى مالك عن أبي هريرة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إذا قال الإمام: (ولا الضالين)، فقولوا: آمين".

 

ودليلنا: ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم "إذا أمّن الإمام فأمّنوا"2، حيث دلّت على المطلوب دلالة تامّة.

 

المذهب الجعفري:

من مبطلات الصلاة تعمّد قول آمين بعد تمام الفاتحة3. وقال السيد الطباطبائي الحكيم: إنّ الحكم كذلك هو على رأي المشهور، عند علماء الإمامية، وحكى الإجماع على البطلان.

 

واستدلّ بنصوص كمصحّح جميل عن الإمام الصادق  عليه السلام: "إذا كنت خلف إمام، فقرأ الحمد، وفرغ من قراءتها، فقل أنت: الحمد لله رب العالمين، ولا تقل آمين"4.

 

منشأ الاختلاف:

وعليه: الاختلاف حول كلمة آمين ناشئ عن الاختلاف بين النصوص الواردة من الطريقين، فإنّ النصوص متعارضة نفياً وإثباتاً، والأوفق بالقواعد والأصول، بعد تعارض النصوص وتساقطها، ترك قول (آمين)، لعدم إثبات مشروعيّته.

 

القنوت

اختلفت الآراء حول القنوت كمّاً وكيفاً كما يلي:

المذهب الجعفري:

القنوت مستحبّ في جميع الفرائض اليوميّة ونوافلها بل في جميع النوافل، وهو في كلّ صلاة مرّة، قبل الركوع من الركعة الثانية، وقبل الركوع في صلاة الوتر5.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 360.

2- ابن قدامه، المغني، ج 1، ص 528.

3- اليزدي، العروة الوثقى، ج 3، ص 33.

4- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 6، ص 67.

5- اليزدي، العروة الوثقى، ج 2، ص 607.

 

105


80

المقدّمة

قال المحقّق صاحب الجواهر: لا خلاف بين المسلمين في مشروعيّته في الصلاة، وفي صحيحة زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام: "القنوت في كلّ الصلوات"1. وفي خبر الأعمش عن الإمام الصادق عليه السلام: "والقنوت في جميع الصلوات سنّة واجبة، مؤكّدة، في الركعة الثانية قبل الركوع وبعد القراءة"2.

 

وقال الشهيد في الذكرى: إنّ أخبار الاستحباب كادت تبلغ التواتر، وأفتى الفقهاء بأنّه في الجهريّة آكد3. ويمكننا أن نستند في مشروعيّة القنوت إلى قوله تعالى: ﴿وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ4 بناءً على ما في مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسيرها: أي داعين في الصلاة حال القيام5، وهو تفسير يناسب المعنى الشرعي المتعارف عند المتشرّعة.

 

المذهب الحنبلي:

يكره القنوت في غير الوتر إلّا إذا نزل بالمسلمين نازلة، فيُسنّ للسلطان ونائبه أن يقنت في جميع الصلوات6.

 

المذهب الحنفي:

لا يقنت في غير الوتر إلّا في النوازل، أي شدائد الدهر، فيُسنّ له أن يقنت في الصبح7.

 

المذهب الشافعي:

يُسنّ القنوت في الركعة الأخيرة من الوتر، كما يُسنّ القنوت بعد الرفع من ركوع الثانية في صبح كلّ يوم، ويُسنّ أن يقنت للشدائد في جميع أوقات الصلاة8.

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 6، ص 261.

2- (م. ن)، ج 6، ص 262.

3- الجواهري، جواهر الكلام، ج 10، ص 356.

4- سورة البقرة، الآية 238.

5- الجواهري، جواهر الكلام، ح 10، ص 359.

6- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 398.

7- (م. ن)، ص 273.

8- (م. ن)، ج 1، ص 471.

 

106


81

الدرس الثاني عشر: أفعال الصلاة

المذهب المالكي:

لا قنوت في الوتر وإنّما هو مندوب في صلاة الصبح فقط1، وكلّ يستند إلى مستند نشير إليه بالنصّ التالي:

قال ابن قدامة: إنّ القنوت مسنون في الوتر، ووجهه: ما روي أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر، فيقنت قبل الركوع.


ويستحبّ أن يقول في قنوت الوتر: ما روى الحسن بن علي  عليه السلام قال: "علّمني رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم كلمات أقولهنّ في الوتر: اللهمّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن تولّيت"، (أخرجه أبو داود، والترمذي)، وقال: هذا حديث حسن، ولا نعرف عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في القنوت شيئاً أحسن من هذا.

 

ولا يُسنّ القنوت في الصبح، ولا في غيره سوى الوتر، وبه قال أبو حنيفة، وروي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود.

 

فإن نزل بالمسلمين نازلة، فللإمام أن يقنت في صلاة الصبح، (نصّ عليه أحمد). وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله، سئل عن القنوت في الفجر؟، فقال: "إذا نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام، وأمّن مَن من خلفه".

 

وقال مالك والشافعي: يُسنّ القنوت في صلاة الصبح في جميع الزمان، لأنّ أنساً قال: ما زال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا2.

 

منشأ الاختلاف:

اتّضح بأنّ الاختلاف ناشئ عن الاختلاف في النصوص الواردة عن الطريقين، وبما أنّ الفقهاء كلّهم اتّفقوا: على أنّ القنوت لم يكن من الفرائض، وعليه فالأمر سهل.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة،ج 1، ص 473.

2- ابن قدامه، المغني، ج 1، ص 787.

 

107


82

الدرس الثاني عشر: أفعال الصلاة

الأفكار الرئيسة

- يجب إرسال اليدين حال القيام في الصلاة على المذهب الجعفري، ويجوز ذلك على المذهب المالكي، ويُسنّ التكتّف على المذاهب الثلاثة الأخرى. وقول آمين بعد الفاتحة يُسنّ ويندب على المذاهب الأربعة، ولا يجوز على المذهب الجعفري.

 

- القنوت يستحبّ في جميع الفرائض والنوافل على المذهب الجعفري، ويستحبّ في الصبح فقط على المذهب المالكي، وفي الوتر على المذهب الحنبلي والشافعي وفي الصبح كذلك على المذهب الحنفي، ويستحبّ في الوتر والصبح على المذهب الشافعي.

 

108


83

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

الدرس الثالث عشر

مقدّمات الصلاة

لباس المصلّي- مسجد الجبهة

 

أهداف الدرس 

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتذكَّر النجاسات المعفو عنها في الصلاة.

2- يحرّر محل النزاع في منشأ العفو.

3- يستدلّ على لزوم السجود على الأرض.

 

109


84

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

مدخل

اتّفق فقهاء المسلمين على أنّ طهارة لباس المصلي وبدنه شرط في صحّة الصلاة، وقد وقع الخلاف بينهم في العفو عن بعض النجاسات كالطين المختلط بالنجاسة ورشّاش البول وما شابهها من النجاسات، حيث ذهبت بعض المذاهب السنية إلى القول بالعفو عنها دفعاً للحرج والمشقّة خلافاً للمذهب الجعفري الذي قرّر مانيعتها وفاقاً للقاعدة، وكذلك الأمر في الدماء الثلاثة إذا كان الدم يسيراً.

 

كما اتّفقت المذاهب الإسلامية على أنّ طهارة موضع الصلاة شرط في صحّتها، وبالتالي اشتراط طهارة مسجد الجبهة. إلا أنّ المذاهب السنّية اختلفت مع المذهب الجعفري فيما يصحّ السجود عليه وهو من الاختلافات الفقهية المهمّة بين الفريقين. فاشترط المذهب الجعفري أن يكون ما يسجد عليه أرضاً أو ما ينبت منها (من غير المأكول والملبوس)، بينما قالت المذاهب الأخرى بجواز السجود على كلّ شيء من الأشياء الموجودة على الأرض.

 

النجاسة، ولباس المصلي

اختلفت الآراء بالنسبة إلى ما له صلة بالعفو عن النجاسة، في لباس المصلّي كما يلي:

المذهب الحنبلي:

يُعفى اليسير من طين الشارع الذي تحقّقت نجاسته بما خالطه من النجاسة1، لقاعدة نفي الحرج.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 84.

 

111


85

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

المذهب الحنفي:

يعفى رشاش البول إذا كان رقيقاً كرؤوس الإبر بحيث لا يرى، ولو ملأ الثوب والبدن فإنّه يعتبر كالعدم، للضرورة1.

 

المذهب الشافعي:

الشعر من الكلب والخنزير غير معفو عنه إلّا بالنسبة إلى القصّاص، والراكب لمشقّة الاحتراز2، لقاعدة الحرج.

 

المذهب المالكي:

يعفى عن ما يصيب ثوب أو بدن الجزّار، ونازح المراحيض، والطبيب الذي يعالج الجروح، ويندب لهم إعداد الثوب3.

 

قال الجزيري: ما عفي عنه هو دفعاً للحرج والمشقّة، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ4.

 

المذهب الجعفري:

التحقيق: أنّه لا عفو بالنسبة إلى الموارد المذكورة، - التي صدر العفو عنها من أئمّة المذاهب الأربعة -، ذلك لعدم الدليل على العفو، ولعدم كون تلك الموارد من المشقّات الرافعة للتكليف، عدم العفو هو الأوفق بالقواعد، والأحوط في الدين.

 

وأمّا الدم المعفوّ عنه، فهو الدم الأقل من الدرهم، - وهو الذي دلّت النصوص عنه -، العفو عنها ولا خلاف فيه إلّا عن الشافعي قائلاً: المعفو عنه، الدم الذي لا يدركه البصر، وأمّا دم الفصد، والحجامة، فيعفي عن الكثير[5]، والحكم مبني على أساس الاجتهاد الخاصّ.

 

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 81.

2- (م. ن)، ج 1، ص 82.

3- (م. ن)، ج 1، ص 80.

4- سورة الحج، الآية 78.

5- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 83.

 

112


86

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

الدماء الثلاثة

اختلفت الآراء بالنسبة إلى شمول العفو للدماء الثلاثة: الحيض، والنفاس، والاستحاضة أو عدم شموله لها كما يلي:

المذهب الجعفري:

الدم الأقل من الدرهم معفوّ عنه عدا الدماء الثلاثة1، وذلك لرواية أبي بصير عن الإمام الصادق  عليه السلام قال: لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره، - أي القليل -، غير دم الحيض، فإنّ قليله وكثيره في الثوب، إن رآه أو لم يره سواء2، ولكنه حديث ضعف السند.

 

والعمدة فيه، أي عدم العفو عن الدماء الثلاثة السالفة الذكر، الإجماع المحكّى عن جماعة3.

 

المذاهب الأربعة:

يدخل في العفو بالنسبة إلى الدم اليسير، دم الحيض. قال ابن قدامة: ويعفى عن يسير دم الحيض، لما روي عن عائشة قالت: ما كان لإحدانا إلّا ثوب فيه تحيض فإن أصابه شيء من دمها، بلّته بريقها، ثمّ قطعته بظفرها، (رواه أبو داود).

 

وهذا يدلّ على العفو عنه، لأنّ الريق لا يطهر به، ويتنجس به ظفرها، وهو إخبار عن دوام الفعل، ومثل هذا لا يخفى على النبي  صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصدر إلّا عن أمره.

 

وقال في الهامش: دم الحيض، قليله، نجس بالحسّ، ونقلوا الإجماع عليه4.

 

والتحقيق: أنّ اجتناب هذه الدماء هو الأحوط، وهو الذي انعقد عليه الإجماع المنقول عن الفريقين.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ص 214.

2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3، ص 433.

3- السيّد الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج 1، ص 566.

4- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 727.

 

113


87

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

منشأ الاختلاف:

إنّ الاختلاف بالنسبة إلى العفو عن بعض النجاسات، كالعفو عن نجاسة لباس الجزّار وما شاكله، ناشئ عن الاختلاف في تحديد معنى الحرج، فمن رأي مثل المورد حرجاً، يقول بالعفو عنه لقاعدة الحرج، ومن لم يره حرجاً يقول: بعدم العفو، وقد تفرّد الشافعي في العفو عن الدم الذي لا يدركه البصر، وهو اجتهاده الخاصّ.

 

تحديد الطهارة بالنسبة إلى مكان المصلّي اختلفت الآراء في تحديد طهارة المكان الذي يصلّي فيه، بعد الاتّفاق على اشتراط الطهارة في مكان المصلّي، وتفصيل الاختلاف بما يلي:

المذهب الجعفري:

يشترط في موضع الجبهة طهارة المكان1. وعليه فنجاسة المكان إذا لم تتعدّ إلى لباس المصلّي، أو بدنه لا تبطل الصلاة، لعدم اشتراط الطهارة للمكان بحسب الذات إلّا في موضع الجبهة، لدخله في الصلاة. وذهب الحنفي إلى هذا الرأي قائلاً: إن المكان لم يكن مشترطاً بالطهارة، وأنّه يكفي في طهارة المكان طهارة موضع القدمين، وموضع الجبهة، لعدم الدليل على اشتراط طهارة المكان كلّه.

 

المذاهب الأخرى:

قال ابن قدامة: وطهارة موضع الصلاة شرط أيضاً.

 

وعليه: لا خلاف بين المذاهب في مسألة طهارة مكان الجبهة.

 

ما يصحّ السجود عليه

اختلف المذهب الجعفري مع المذاهب الأربعة بالنسبة إلى ما يصحّ السجود عليه وهو من الاختلافات المهمّة بين الفريقين، وتفصيله بما يلي:

 


1- السيّد الحكيم، مستمسك العروة، ج 1، ص 482.

 

114


88

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

المذهب الجعفري:

يشترط فيه (أي مسجد الجبهة) مضافاً إلى الطهارة، أن يكون من الأرض، أو ما أنبتته الأرض، فلا يصحّ السجود على ما خرج عن اسم الأرض1. وقال السيد الطباطبائي الحكيم: إنّ الأمر يكون كذلك إجماعاً، والنصوص الدالّة عليه وافرة، ومنها: صحيحة هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لا يجوز السجود إلّا على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض"2، ويشهد عليه عمل السلف:

1- عن نافع، أن عبد الله عمر كان إذا سجد وعليه العمامة، يرفعها حتّى يضع جبهته بالأرض3.

 

2- وعن أبي عبيدة، أن ابن مسعود كان لا يسجد إلّا على الأرض.

 

3- وعن أبو بكر ابن أبي شيبه، إن مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها4،- ومسروق بن الأجدع فقيه تابعي موثق.. ويؤكد ذلك ما روى البراء، - عن طريق الصحابة -، قال: كان رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، لم نزل قياماً حتى نراه قد وضع جبهته على الأرض ثمّ نتبعه5. ويؤيّده ما روى عن خباب،- عن طريق الصحابة -، قال: شكونا إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم حرّ الرمضاء في جباهنا، وأكفّنا، فلم يشكنا6، فلو كان السجود على اللباس، والفراش جائزاً، لم يكن المجال للشكوى. قال مالك،- لمن سجد على كور العمامة.، قال: أحب إليّ أن يرفعها عن بعض جبهته، حتّى يمس بعض جبهته الأرض7. أضف إلى ذلك أنّ معنى السجود هو وضع الجبهة على الأرض، وبدونه يحصل الشكّ في تحقّق المعنى.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 2، ص 194.

2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 5،ص 343.

3- البيهقي، السنن الكبرى، ج 2، ص 105.

4- ابن أبي شيبة الكوفي، المصنف، ج 2، ط 1، لبنان، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1989م، ص 172.

5- ابن قدامه، المغني، ج 1، ص 565.

6- (م. ن)، ج 1، ص 557.

7- الإمام مالك، المدونة الكبرى، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، لا.ت، لا.ط،ج 1، ص 74.

 

115


89

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

المذاهب الأربعة:

يجوز السجود على كلّ شيء في الأرض، وإن كان وجه الأرض مختفياً، لصدق الخضوع المتحقق في الهبوط إلى الأرض.

 

قال ابن قدامة: ودليلنا ما روى أنس: كنّا مع النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ في مكان السجود، (رواه البخاري)1. وعليه: يجوز السجود على كلّ شيء من الأشياء الموجودة على الأرض.

 

منشأ الاختلاف:

إنّ الاختلاف هنا ناشئ عن الاختلاف في فهم المعنى من السجود، والاختلاف الحاصل في النصوص، والقدر المتيقن من هذه الأمور، هو وضع الجبهة على الأرض، فالأوفق بالقواعد، والأحوط في الدين هو السجدة على الأرض نفسها، وهذا موافق للمعنى اللغوي للسجود كما قال الفيومي: سجد الرجل، وضع جبهته بالأرض، والسجدة لله تعالى في الشرع، عبارة عن هيئة مخصوصة2.

 


1- ابن قدامه، المغني، ج 1، ص 557.

2- أحمد بن محمد المقري الفيومي، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لا.ت، لا.ط،ج 1، ص 237.

 

116


90

الدرس الثالث عشر: مقدّمات الصلاة - لباس المصلّي - مسجد الجبهة

الأفكار الرئيسة

- اختلفت الآراء بالنسبة إلى ما له صلة بالعفو عن النجاسة، في لباس المصلّي.

 

قال الحنابلة: يُعفى اليسير من طين الشارع الذي تحقّقت نجاسته بما خالطه من النجاسة.

 

المذهب الحنفي: يعفى رشاش البول إذا كان رقيقاً كرؤوس الإبر.

 

المذهب الشافعي: الشعر من الكلب والخنزير غير معفو عنه إلّا بالنسبة إلى القصّاص والراكب.

 

المذهب المالكي: يعفى عن ما يصيب ثوب أو بدن الجزّار، ونازح المراحيض، والطبيب الذي يعالج الجروح.

 

قال الجزيري: ما عفي عنه هو دفعاً للحرج والمشقّة، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾1.

 

المذهب الجعفري: لا عفو بالنسبة إلى الموارد المذكورة ذلك لعدم الدليل على العفو، ولعدم كون تلك الموارد من المشقّات الرافعة للتكليف، وعدم العفو هو الأوفق بالقواعد، والأحوط في الدين.

 

- اختلفت الآراء بالنسبة إلى شمول العفو للدماء الثلاثة: الحيض، والنفاس، والاستحاضة.

 

- اختلفت الآراء في تحديد طهارة المكان الذي يصلّي فيه.

 

قال السيد الطباطبائي اليزدي: يشترط في موضع الجبهة طهارة المكان2.

 

اختلف المذهب الجعفري مع المذاهب الأربعة بالنسبة إلى ما يصحّ السجود عليه وهو من الاختلافات المهمّة بين الفريقين.

 

قال السيد الطباطبائي اليزدي: يشترط فيه، أي مسجد الجبهة، مضافاً إلى الطهارة، أن يكون من الأرض، أو ما أنبتته الأرض.

 

المذاهب الأربعة: يجوز السجود على كلّ شيء في الأرض، وإن كان وجه الأرض مختفياً، لصدق الخضوع المتحقق في الهبوط إلى الأرض.


 


1- سورة الحج، الآية 78.

2- السيّد الحكيم، مستمسك العروة، ج 1، ص 482.

 

117


91

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

الدرس الرابع عشر

صلاة الجماعة

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتذكّر أحكام صلاة الجماعة.

2- يبيّن حكم الجماعة في النوافل.

3- يستدلّ على الشروط الواجب توفّرها في إمام الجماعة.

 

119


92

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

مدخل

لا ريب في مطلوبيّة الجماعة وفضيلتها في الصلوات الواجبة، وأنّها من شعائر الدين المهمّة. قال السيد الطباطبائي اليزدي: وهي، أي الجماعة، من المستحبّات الأكيدة في جميع الفرائض خصوصاً اليوميّة منها، وقد ورد في فضلها وذمّ تاركها من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات، ففي النصّ: الصلاة في جماعة تفضل على صلاة الفذ، أي الفرد، بأربع وعشرين درجة1. غير أنّ المذهب الحنبلي ذهب أنّها مطلوبة على نحو الوجوب.

 

وقد وقع الاختلاف في بعض شروط الجماعة، ومنها عدالة الإمام، فاشترط الجعفري العدالة في كلّ الجماعة المشروعة، واقتصرت باقي المذاهب على الصلوات المفروضة. كما اشترط الجعفري طهارة المولد في الإمام بخلاف سائر المذاهب الأخرى.

 

لكنّ الخلاف الأهمّ وقع في مشروعية الجماعة في النوافل، حيث ذهب الجعفري إلى القول بعدم مشروعيتها واعتبارها بدعة، في قبال باقي المذاهب التي ذهبت إلى مشروعيتها.

 

أحكام صلاة الجماعة

اختلفت الآراء بالنسبة إلى صلاة الجماعة وجوباً وندباً كما يلي:

المذهب الحنبلي:

الجماعة واجبة في الصلوات الخمس المفروضة.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 3، ص 111.

 

121


93

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

المذاهب الأربعة الأخرى:

الجماعة من المستحبّات المؤكّدة، قال السيد السابق: صلاة الجماعة سنّة مؤكّدة، حيث وَرَد في فضلها أحاديث كثيرة1، لكلّ منهما دليل نشير إليه.

 

قال ابن قدامة (شيخ الحنابلة): الجماعة واجبة للصلوات الخمس ولو لم يوجبها مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، لقول النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة"، متّفق عليه. ولأنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على الذين قالا: صلّينا في رحالنا، ولو كانت واجبة لأنكر عليهما، ولأنّها لو كانت واجبة في الصلاة، لكانت شرطاً كالجمعة.

 

ودليلنا على الوجوب، قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ﴾2 ولو لم تكن واجبة، لرخّص فيها حالة الخوف، ولم يجز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها. وروى أبو هريرة أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب ليحتطب، ثمّ آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثمّ آمر رجلاً فيؤمّ الناس، ثمّ أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم"3، متّفق عليه.

 

اشتراط العدالة في الإمام

اختلفت الآراء حول اشتراط العدالة بالنسبة إلى إمام الجماعة.

المذهب الجعفري:

قال السيد الطباطبائي الحكيم نقلاً عن الحدائق: لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط عدالة إمام الجماعة ووافق أبو عبد الله البصري ذلك الاشتراط محتجّاً بإجماع أهل البيت عليهم السلام. ويدلّ عليه: موثّق سماعة في حديث قال الإمام  عليه السلام: "إن كان إماماً عدلاً، فليصلّ، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته"4، دلّت على اشتراط العدالة للإمام في صلاة الجماعة.

 


1- الشيخ سيد السابق، فقه السنة، لبنان، بيروت، دار الكتاب العربي، (د. ت)، ج 1، ص 227.

2- سورة النساء، ص 102.

3-ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 2.

4- السيّد الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج 2، ص 404.

 

122


94

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

وهذا هو الحكم على المذهب الحنبلي كما قال ابن قدامة: ودليلنا: ما رواه جابر، قال سمعت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم على منبره يقول: "لا تؤمّ إمرأة رجلاً، ولا فاجراً مؤمناً". ونقل عدّة من النصوص الواردة في موارد شتّى فقال: وهذه النصوص تدلّ على أنّه لا يصلّى خلف فاسق1. وقال ابن القاسم: رأيت مالكاً إذا قيل له في إعادة صلاة، من صلّى خلف أهل البدع، يقف ولا يجيب2.

 

المذهب الحنفي، والشافعي:

لا يشترط العدالة لإمام الجماعة: قال ابن قدامة: وهذا، عد الاشتراط، مذهب الشافعي، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "صلّوا خلف من قالوا: لا إله إلّا الله"3. قال الشافعي: ومن صلّى خلف واحد منهم، أي خلف ولد الزنا، والفاسق، ومظهر البدع، أجزأته صلاته ولم تكن عليه إعادة4.

 

المذهب الجعفري:

يشترط العدالة في الإمام مطلقاً في جميع الصلوات الواجبة، ولا خلاف في الحكم بين الفقهاء، الشيعة، والأمر متسالم عليه عندهم.

 

المذاهب الأربعة:

لا يشترط العدالة في غير الصلوات المفروضة قال ابن قدامة: فأمّا الجمعة والأعياد فإنّها تصلّى خلف كلّ برّ وفاجر5.

 

منشأ الاختلاف:

تقدّم بأنّ الاختلاف في وجوب الجماعة ناشئ عن رأي الحنبلي بالوجوب على أساس

 


1- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 24.

2- الإمام مالك، المدونة الكبرى، ج 1، ص 84.

3- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 22.

4- الإمام الشافعي، كتاب الأم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1403 - 1983م، ط 2،ج 1، ص 193.

5- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 25.

 

123


95

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

الاجتهاد الخاص، وأمّا الاختلاف في اشتراط العدالة، فهو ناشئ عن الاختلاف في النصوص، أضف إلى ذلك ما قد يقال: أنّ هناك وجهتي نظر متضادّتين حول تحديد الأهميّة العباديّة لصلاة الجماعة.

 

فالاتّجاه الأوّل: يري أنّ الإمامة في الصلاة كقيادة عباديّة لها خطورتها. ولهذا يجب أن يكون الإمام عادلاً، وذلك لعدم أهليّة الفاسق لهذا المقام العبادي الرفيع، وهذا الاتّجاه يذهب إليه المذهب الجعفري.

 

وأمّا الاتّجاه الثاني: فيري أنّ الجماعة ذات أهميّة كبيرة، ومن اللازم السعي في تحقّقها، ولهذا لا بأس بالاقتداء بالإمام الفاسق، وذلك حفظاً لكيان الجماعة، لأن ترك الصلاة خلف الفساق، يفضي إلى تركها بالكلّيّة1 على رأي ابن قدامة.

 

طهارة المولد

اختلفت الآراء بالنسبة إلى اشتراط طهارة المولد لإمام الجماعة، بأن لا يكون ابن زنا, وتفصيل الاختلاف بما يلي:

المذاهب الأربعة:

قال ابن قدامة: لا تكره إمامة ولد الزنا إذا سلم دينه. وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الصلاة خلفه. وكره مالك أن يتّخذه إماماً راتباً. وكره الشافعي إمامته، لأنّ الإمامة موضع فضيلة، فكره تقديمه فيها كالعبد2، وما وجدنا نصاً في هذا الحقل.

 

المذهب الجعفري:

يشترط فيه (إمام الجمعة) البلوغ، والإيمان، والعدالة، وأن لا يكون إبن زنا3.

 

وقال السيد الطباطبائي الحكيم: إنّ الحكم يكون كذلك: إجماعاً، حكاه جماعة منهم الشهيد، لعدّه فيمن لا يؤمّ الناس في جملة من النصوص ومنها: صحيحة زرارة عن الإمام

 


1- ابن قدامة، المغني، ج 2، ص 26.

2- (م. ن)، ج 2، ص 59.

3- اليزدي، العروة الوثقى، ج 3، ص 185.

 

124


96

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

الباقر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يصلينّ أحدكم خلف المجنون، وولد الزنا"1، دلّت على عدم جواز الاقتداء خلف ولد الزنا.

 

الجماعة في النوافل

اختلفت الآراء بالنسبة إلى حكم الجماعة في النوافل كما يلي:

المذهب المالكي:

الجماعة في صلاة الكسوف، والاستسقاء، والعيدين شرط لتحقّق سنيتها، فلا يحصل ثواب السنّة إلّا إذا صلّاها جماعة، أمّا باقي النوافل فإنّ صلاتها جماعة مكروهة، على المذهب المالكي، إلّا إذا كانت بجماعة قليلة، ووقعت في المنزل2.

 

وعليه: لا تكون الجماعة في النوافل مكروهة بحسب الذات، وإنّما تكره إذا كانت بعدد كبير خارج البيت، فالكراهة تتعلق بكثرة العدد المجتمع في المسجد وغيره من الأمكنة المعدّة للصلاة جماعة. قال السيد السابق: أمّا الجماعة في النقل، فهي مباحة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى ركعتين تطوعاً، وصلّى معه أنس عن يمينه3.

 

المذهب الحنفي:

تشترط الجماعة لصحّة الجمعة، والعيدين، وتكون سنّة كفاية في صلاة التراويح، والجنازة، وتكون مكروهة، على المذهب الحنفي، في صلاة النوافل مطلقاً4.

 

المذهب الحنبلي:

أمّا النوافل: فمنها ما تُسنّ فيه الجماعة، وذلك كصلاة الاستسقاء، والتراويح، والعيدين، ومنها ما تباح فيه الجماعة كصلاة التهجّد، ورواتب الصلوات المفروضة5.

 


1- الحر العاملي،وسائل الشيعة، ج 5، ص 397.

2- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 545.

3- سيد سابق، فقه السنة، ج 1، ص 227.

4- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 545.

5- (م. ن)، ج 1، ص 180.

 

125


97

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

المذهب الشافعي:

أمّا الجماعة في صلاة العيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، ووتر رمضان، فهي مندوبة عند الشافعيّة1.

 

وعليه: يظهر من هذا الاختلاف، أنّه حاصل نتيجة الاختلاف في النصوص الروائية، أو النظرات الاجتهادية.

 

المذهب الجعفري:

لا تشرّع الجماعة في شيء من النوافل الأصليّة2، وذلك لرواية معتبرة عن الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا  عليه السلام في كتاب إلى المأمون قال: "لا يجوز أن يصلّى تطوّعاً في جماعة، لأنّ ذلك بدعة"3، ويجوز الجماعة في صلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، والصلاة المعادة جماعة4.

 

منشأ الاختلاف:

أشرنا إلى أنّ الاختلاف في الرأي ناشئ عن الاختلاف في النصوص، كما اتّضح أنّ جواز الجماعة في صلاة الاستسقاء، والعيدين، والمعادة محلّ إجماع الفقهاء، وما عداها يحتاج إلى الدليل.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 546.

2- اليزدي، العروة الوثقى، ج 3، ص 115.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 8، ص 335.

4- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 1، ص 319.

 

126


98

الدرس الرابع عشر: صلاة الجماعة

الأفكار الرئيسة

- الجماعة في الصلاة واجبة على المذهب الحنبلي، ومستحبّة أكيدة على المذاهب الأربعة الأخرى.

 

- يشترط العدالة إمام الجماعة على المذهب الجعفري، والمالكي، والحنبلي، ولا يشترط العدالة للإمام على المذهب الحنفي والشافعي.

 

- يشترط في إمام الجماعة طهارة المولد على المذهب الجعفري، ولا يشترط ذلك على المذاهب الأربعة.

 

- لا مجال للجماعة في النوافل على المذهب الجعفري، ولها مجال على المذاهب الأربعة.

 

127


99

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

الدرس الخامس عشر

أحكام النظر

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتذكّر أحكام النظر إلى الغير.

2- يستدلّ على حرمة النظر إلى الأجنبي والأجنبية.

3- يبيّن ما استثني من أحكام النظر.

 

129


100

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

مدخل

اتّفق علماء المسلمين، بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية، على حرمة النظر إلى الأجنبي ولمسه، باستثناء الوجه والكفين. كما أنّهم اتّفقوا على جواز ذلك في بعض الموارد، كمقام العلاج والزواج، وإن تنوعت مداركهم في استنباط حكم تلك الموارد.

 

أقوال الفقهاء في أحكام النظر، واللمس

فقهاء الإمامية:

العلّامة الحلّي: "يجوز أن ينظر الرجل إلى مثله عدا العورة وإن كان شاباً حسن الصورة، إلّا مع الريّبة أو التلذّذ، وكذا المرأة. والملك، والنكاح، أي كونها امرأته، يبيحان النظر إلى السوأتين من الجانبين على كراهية. ويجوز النظر إلى المحارم عدا العورة، وكذا المرأة. ولا يحل النظر إلى الأجنبية إلا لضرورة كالشهادة عليها، ويجوز إلى وجهها، وكفيها مرة لا أزيد، وكذا المرأة. وللطبيب النظر إلى ما يحتاج إليه للعلاج حتى العورة، وكذا لشاهد الزنا النظر إلى الفرج، لتحمل الشهادة عليه"1.

 

المحقق السبزواري: "للرجل أن ينظر إلى جسد امرأته حتّى العورة، وكذا المرأة. والمملوكة في حكم المرأة مع جواز نكاحها... ويجوز النظر إلى المحارم ما عدا العورة، وكذا المرأة. ولا أعلم خلافاً في تحريم النظر إلى المرأة الأجنبيّة فيما عدا الوجه والكفّين من غير ضرورة، سواء كان بتلذّذ أو ريبة أم لا، ولا في تحريم النظر إلى الوجه، والكفّين إذا كان بتلذّذ أو ريبة"2.

 


1- العلّامة الحلي، قواعد الأحكام، ط 1، قم، مؤسسة النشر، 1419هـ ، ج 3، ص 6.

2- المحقّق السبزواري، كفاية الأحكام، ط 1، تحقيق مرتضى الواعظي الأراكي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، 1423م، ج 2، ص 84.

 

131


101

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

فقهاء العامة:

الشيخ محمد الحنفي: "لا ينظر إلى غير وجه الحرة وكفيها، ولا ينظر من اشتهى إلى وجهها إلا الحاكم، والشاهد، وينظر الطبيب إلى موضع مرضها، وينظر الرجل إلى الرجل عدا العورة، والمرأة للمرأة كذلك"1.

 

النظر إلى الأجنبية

يحرم النظر إلى المرأة الأجنبية ما عدا الوجه والكفين، وقد أمرها الله سبحانه وتعالى بوجوب الستر، قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾2.

 

أ- واستدل على القول بحرمة النظر بقوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾3.

 

ب- ومن الروايات بما روي عن علي بن عقبة، عن أبيه، عن أبي عبد الله  عليه السلام قال: سمعته يقول: "النظر سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة"4.

 

ج- عن محمد بن سنان، عن الرضا  عليه السلام فيما كتبه إليه من جواب مسائله: "وحرم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج، وإلى غيرهن من النساء، لما فيه من تهييج الرجال، وما يدعو إليه التهييج من الفساد، والدخول فيما لا يحل

 


1- الحنفي، محمد بن حسين، تكملة البحر الرائق، ط 1، تحقيق: زكريا عميرات، لبنان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1997م، ج 2، ص 351.

2- سورة النور، الآية 31.

3- سورة النور، الآية 30.

4- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 20، ص 191.

 

132


102

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

ولا يحمل، وكذلك ما أشبه الشعور إلّا الذين قال الله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ1, أي غير الجلباب، فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن"2.

 

د- وعن أبي جميلة، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: "ما من أحد إلا وهو يصيب حظا من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللمس، صدق الفرج ذلك أم كذب"3.

 

ه. وما ورد عن الرضا  عليه السلام، عن آبائه  عليهم السلام في حديث قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: لا تتبع النظرة النظرة، فليس لك يا علي إلا أول النظرة"4.

 

النتيجة

هذه الأخبار صريحة في بيان حرمة النظر إلى الأجنبية مطلقاً.

 

ومما استدل به أهل العامة قولهم: والعورة: هي ما عدا الوجه والكفين، لأن النظر مظنة الفتنة، ومحرك للشهوة، ولقوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾5.

 

وقول النبي لعلي بن أبي طالب عليه السلام: "يا علي: لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، والأخرى عليك"6.

 

وعن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة أول مرة، ثم يغض بصره، إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها"7.

 


1- سورة النور، الآية 60.

2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 20، ص 194.

3- (م. ن)، ج 20، ص 191.

4- (م. ن)، ج20، ص 193.

5- سورة النور، الآية 30.

6- السرخسي، المبسوط، ج 3، ص 70.

7- أحمد بن حنبل، مسند أحمد، لبنان، بيروت، دار صادر، (د. ت)، ج 5، ص 264.

 

133


103

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

والظاهر أن المراد بالنظرة، هي التي لا يترتب عليها عقاب ولا ذم، وهي ما حصلت له على جهة الاتفاق، فلو أتبعها بنظرة ثانية، ترتب عليه الذم والإثم، والظاهر أن المراد بالنظرة الثانية، هو الاستمرار على النظرة، والمداومة بعد النظرة الأولى التي حصلت اتفاقا، وكذا الثالثة، وهي طول النظر، زيادة على ذلك، واحتمال صرفه بصره، ثم عوده يمكن أيضاً.

 

وهذه الحرمة تشمل نظر المرأة للرجل الأجنبي، لاشتراك علة التحريم في الحكم بين الرجل والمرأة، لقوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾1, فالمنع من النظر متحقق بالنسبة للمرأة أيضاً، فكما لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة إلا ما استثنى، فكذلك لا يجوز لها أن تنظر إلى جسده إلا لما استثني من جواز النظر وجواز الكشف، فيجوز للرجل أن يكشف عن رأسه مثلاً، فجاز للمرأة النظر إلى شعره، حيث حددت الآيات الكريمة الموارد التي يجب على الرجل أن يسترها وهي العورة فقط، قال تعالى: ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾2.

 

النظر إلى الوجه والكفين

اتفق العلماء على القول بحرمة النظر إلى الوجه والكفين مع قصد التلذذ، أو خوف الفتنة، وذلك للآيات البيّنة، والروايات الصريحة، قال تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾3، وقد فسّر إمامنا الصادق عليه السلام هذه الجزء من الآية المباركة، حيث ورد عن الفضيل بن يسار قوله: سألت أبا عبد الله  عليه السلام عن الذراعين من المرأة، أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾، قال: "نعم، وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين"4.

 

"وما دون السوارين" يعني من اليدين، وهو ما عدا الكفين، ودون السوار بمعنى

 


1- سورة النور، الآية 31.

2- سورة النور، الآية 30.

3- سورة النور، الآية 31.

4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 20، ص 201.

 

134


104

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

تحت السوار، يعني الجهة المقابلة للعلو، فإن الكفين أسفل، بالنسبة إلى ما فوق السوارين من اليدين.

 

وعن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفراً سئل عما تُظهِر المرأة من زينتها، قال: "الوجه والكفين"1.

 

ومن الروايات التي أشارت إلى حرمة النظر مع التلذذ والريبة أو خوف الفتنة، ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "لكم أول نظرة إلى المرأة، فلا تتبعوها نظرة أخرى، وأحذروا الفتنة"2.

 

وعن ابن عمير، عن الكاهلي قال: قال أبو عبد الله  عليه السلام: "النظرة بعد النظرة، تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة"3.

 

ولقوله تعالى ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، قال ابن عباس: "وجهها، وكفيها"4.

 

وروت عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثياب رقاق، فأعرض عنها، وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا"، وأشار إلى وجهه، وكفيه5.

 

موارد الاستثناء في حرمة النظر

أولاً: مقام العلاج: حدد العلماء الموارد التي تستثنى من حرمة النظر كالمعالجة، ويدل عليه ما دل على إباحة ما حرمه الله عز وجل للضرورة، وهي التي تقدر بقدرها، فيقتصر على مقدار العلاج ولا يتعدى لغيره، فإن كان يكتفى بكشف الذراع فلا حاجة لكشف الكتف، وهكذا.

 

ويدل على ذلك أيضاً، ما روي عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إما كسر أو جراح في مكان، لا يصلح النظر إليه، ويكون الرجل

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 2، ص 202.

2- (م. ن)، ج 20، ص 194.

3- (م. ن)، ج 20، ص 192.

4- ابن قدامة، المغني، ج 1، ص 316.

5- (م. ن)، ج 7، ص 316.

 

135


105

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له أن ينظر إليها إذا اضطرت إليه، قال: "إذا اضطرت إليه فليعالجها إن شاءت"1.

 

النظر للمرأة، لحاجة، يباح للضرورة، أو للحاجة، وبقدر الحاجة نظر الرجل للمرأة الأجنبية في أحوال الخطبة، والمعاملة في بيع، وإجارة، وقرض ونحوها، والشهادة، والتعليم، والاستطباب، وخدمة مريض أو مريضة في وضوء واستنجاء وغيرهما، والتخليص من غرق، وحرق ونحوهما. وعند الحنابلة حلق عانة من لا يحسن حلق عانته ونحوها، وذلك بقدر الحاجة، لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها، فينظر عند الشافعية في المعاملة إلى الوجه فقط، وعند الحنابلة إلى الوجه والكفين، ولا يزاد على النظرة الواحدة إلا أن يحتاج إلى ثانية للتحقق، فيجوز.

 

ثانياً: المرأة التي يريد أن يتزوجها: يجوز للرجل النظر إلى امرأة يريد تزوجها، فعن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر  عليه السلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة، أينظر إليها؟، قال: "نعم، إنما يشتريها بأغلى الثمن"2.

 

ومما دل على جواز ذلك، ما روي عن هشام بن سالم، وحماد بن عثمان، وحفص بن البختري عن أبي عبد الله  عليه السلام قال: "لا بأس بأن ينظر إلى وجهها ومعاصمها إذا أراد أن يتزوجها"3.

 

وعن الحسن بن السري قال: قلت لأبي عبد الله  عليه السلام: الرجل يريد أن يتزوج المرأة يتأملها، وينظر إلى خلفها، وإلى وجهها ؟، قال: "نعم، لا بأس بأن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، ينظر إلى خلفها، وإلى وجهها"4.

 

وقد روى جابر قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"5.

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 20، ص 233.

2- (م. ن)، ص 88.

3- (م. ن)، ج 20، ص 88.

4- (م. ن)، ج 14، ص 59.

5- الجزيري، الفقه، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 22.

 

136


106

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للمغيرة وقد خطب امرأة: "لو نظرت إليها، فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما"1، أي تدوم المودة والألفة.

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ألقي في قلب امرئ خطبة امرأة، فلا بأس أن ينظر إليها"2.

 

وهنا لا بد من الانتباه إلى أن جواز النظر هذا مقيد بعدم التلذذ، عن أبي عبد الله  عليه السلام قال: قلت له: أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها فينظر إلى شعرها ومحاسنها؟، قال: "لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذاً"3.

 

نظر المماثل

يجوز نظر الرجل إلى مثله ما عدا العورة، والمرأة إلى مثلها كذلك، والرجل والمرأة إلى محارمهما ما عدا العورة كل ذلك مقيد بعدم التلذذ والريبة.

 

ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾4، فهي صريحة في وجوب حفظ الفرج من النظر.

 

روي عن أبي عمر، والزبيري، عن أبي عبد الله  عليه السلام في حديث طويل قال فيه: "فقال تبارك وتعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾، فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم، وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن يُنظر إليه، وقال: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ من أن تنظر إحداهن إلى فرخ أختها، وتحفظ فرجها من أن ينظر إليها، وقال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا، إلا في هذه الآية، فإنها من النظر"5.

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 20، ص 90.

2- الانصاري، زكريا، فتح الوهاب، ط 1، (د. م)، دار الكتب العلمية، 1998م، ج 2، ص 54.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 20، ص 88.

4- سورة النور، الآيتان 30 ـ 31.

5- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 15، ص 166.

 

137

 


107

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

وقد أجاز الله سبحانه وتعالى للنساء أن يبدين زينتهن أمام المحارم، والنساء، والرجال الذين لا حاجة لهم بالنساء، وكذا الأطفال الذين لا يمتلكون القدرة على التمييز، قال تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء﴾1.

 

وروي من طرق العامة، عن سهلة بنت سهيل، قالت: "يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا، وقد أنزل فيهم ما علمت، فيكف ترى فيه؟، فقال لها النبي  صلى الله عليه وآله وسلم (أرضعيه)، فأرضعته خمس رضعات، فكان بمنزلة ولدها"2.

 

نعم، في نظر المرأة للمرأة، ورد النهي عن أن تكشف المرأة المسلمة نفسها أمام غير المسلمة، فقد روي الحسن عن حفص، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية، والنصرانية، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن"3، و"لا ينبغي" هنا بمعني لا يجوز، لأن النهي في الآية للتحريم.

 


1- سورة النور، الآيتان 30 ـ 31.

2- ابن قدامه، المغني، ج7، ص455.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 20، ص 184.

 

138


108

الدرس الخامس عشر: أحكام النظر

الأفكار الرئيسة

- يجوز للرجل النظر إلى جميع بدن رجل مثله باستثناء العورة، بشرط أن لا يكون النظر بريبة أو تلذّذ. وكذا المرأة المسلمة بالنسبة إلى المرأة الأخرى المسلمة باستثناء العورة، بشرط أن لا يكون النظر بريبة أو تلذّذ.

 

- يجوز النظر إلى المحارم عدا العورة، بشرط أن لا يتبع ذلك النظر بريبة أو تلذّذ.

 

- لا يحلّ النظر إلى المرأة الأجنبية عدا الوجه والكفين لمرة واحدة، بدون ريبة وتلذّذ، إلا لضرورة كالإشهاد أو ما شابهه.

 

- للطبيب النظر إلى ما يحتاج إليه النظر، لأجل العلاج حتى العورة، مع فقد المماثل، أو للضرورة.

 

- للشاهد على الزنا النظر إلى الفرج، لتحمل الشهادة عليه.

 

- للرجل النظر إلى جسد امرأته حتى العورة، وكذا المرأة، والمملوكة في حكم المرأة مع جواز نكاحها.

 

- هناك نهي عن أن تكشف المرأة المسلمة نفسها أمام غير المسلمة كاليهودية، والنصرانية، بداعي أنهن يصفن جمالها لأزواجهن.

 

139


109

الدرس السادس عشر: النكاح

الدرس السادس عشر

النكاح

 

 

أهداف الدرس

إلى المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن ضرورة القصد في عقد النكاح.

2- يشرح حكم الإشهاد في العقد.

3- يناقش ثبوت ولاية أولياء العقد.

 

141


110

الدرس السادس عشر: النكاح

مدخل

حثّ الإسلام على الزواج وعدّه من النعم التي أنعم الله بها على الخلق، قال تعالى: ﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾1. وجعله من آياته، فقال عزّ من قائل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾2.

 

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ النكاح عقد لازم، بل هو من أهم العقود اللازمة، فبه تحلّ الأزواج وتطهر المواليد، ولذا اعتنت به الشريعة عناية خاصّة، فاشترط فيه ما لا يشترط في غيره من العقود كالصيغة والولي وغيرها... ولكنهم اختلفوا في اشتراط بعض الأمور.

 

فاتّفقت مذاهب أهل السنة على أنّ النكاح ينعقد ولو كان هزلاً، في حين اشترط الجعفري القصد في الصيغة. وقدّ اتفقوا على عدم جواز اشتراط الفسخ في النكاح وإن اختلفوا في كونه مفسداً للعقد.

 

كما اختلفت آراؤهم في وجوب الإشهاد عند العقد، فاتّفق ثلاثة على وجوبه، وذهب أحمد في قول والجعفري إلى عدم اشتراطه. كما اختلفوا في حدود الولاية على العقد.

 

اشتراط القصد

اختلفت الآراء بالنسبة إلى اشتراط قصد المدلول في صيغة العقد كما يلي:

 


1- سورة النحل، الآية 72.

2- سورة الروم، الآية 21.

 

143


111

الدرس السادس عشر: النكاح

المذاهب الأربعة:

اتّفقوا على أنّ النكاح ينعقد ولو كان هزلاً، لحديث: "ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ، الزواج، والطلاق، والعتق"1.

 

المذهب الجعفري:

يشترط قصد الأشياء في الصيغة، وذلك لأنّ صيغ العقود من الإنشاءات التي تتقوّم بالقصد، فلا يتحقّق الإنشاء بدون القصد، وعليه: فلا عقد مع الهزل، والإكراه، لعدم تحقّق القصد2. وأما عقد النكاح، فهو من الأمور المهمّة بين المسلمين أجمع، فلا يوجد عقد عن هزلٍ وبدون القصد، ولهذا لا اختلاف من ناحية عمليّة، بالنسبة إلى خصائص هذا العقد.

 

منشأ الاختلاف:

منشأ الاختلاف: هو التعارض بين النصّ الذي دلّ على اعتبار عقد الهازل جدّاً وبين حقيقة العقد حيث أنّه متقوّم بأمرين: الاعتبار النفساني وإبرازه خارجاً. فمن دون القصد تنتفي حقيقة العقد.

 

اشتراط الفسخ

اختلفت الآراء بالنسبة إلى اشتراط الخيار في فسخ العقد، كما يلي:

المذهب الجعفري:

لا يجوز في النكاح دواماً أو متعة اشتراط الخيار في نفس العقد، فلو شرطه بطل –أي الشرط، وفي بطلان العقد به قولان:

أ- قول للمشهور على أن العقد باطل.

ب- وقول آخر لابن إدريس على أن العقد لا يبطل ببطلان الشرط، ولا يخلو قوله من قوّة، إذ لا فرق بينه وبين سائر الشروط الفاسدة في العقد، والمشهور أن العقد

 


1- الشيخ مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة، ج 2، ص 299.

2- السيّد الخوئي، محمد تقي، الشروط أو الالتزامات التبعية في العقود، ط 1، لبنان، بيروت، 1993م، ص 146.

 

144


112

الدرس السادس عشر: النكاح

لا يبطل ببطلان شرطه1، وذلك لتعدّد المطلوب، فإنّ مدلول الشرط غير مدلول العقد، ولهذا فبطلان مدلول الشرط لا يوجب فساد العقد.

 

المذهب الحنبلي:

الشروط الفاسدة لا تفسد العقد، كما إذا شرط له الخيار، أو اشترطت هي الخيار، فكلّ هذه الشروط ملغاة لا قيمة لها، والعقد صحيح لا تؤثّر عليه بشيء2، وهذا الرأي المذهب الحنفي كذلك.

 

المذهب الشافعي:

الشروط الفاسدة تفسد العقد3.

 

وقال المالكي: اشتراط الخيار للزوج والزوجة، أو لهما معاً مفسد العقد، فإذا وقع ذلك، يفسخ العقد قبل الدخول، وأمّا إذا دخل بها، فلا يفسخ ويكون لها الصداق المسمّى4، ولهذا يصبح للدخول دور بنّاء في صحّة العقد، حيث يصحّ العقد على المذهب المالكي.

 

منشأ الاختلاف:

إنّ الاختلاف هنا ناشئ عن الاختلاف بين الفقهاء بالنسبة إلى مفسديّة الشرط الفاسد وعدمها.

 

الإشهاد على العقد

اختلفت الآراء بالنسبة إلى ضرورة الإشهاد ووجوبها عند العقد، وتفصيل الاختلاف بما يلي:

المذاهب الأربعة:

اتّفق الثلاثة على ضرورة وجود الشهود عند العقد، فإذا لم يشهد شاهدان عند الإيجاب والقبول، بطل العقد. وخالف المالكيّة فقالوا: إنّ وجود الشاهدين ضروري، ولكن لا يلزم أن يحضرا العقد بل يحضران الدخول، أمّا حضورهما عند العقد فهو مندوب5.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 5، ص 601.

2- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 121.

3- (م. ن)، ص 122.

4- (م. ن)، ج 4، ص 121.

5- (م. ن)، ج 4، ص 47.

 

145


113

الدرس السادس عشر: النكاح

قال الكاشاني: ودليلنا: ما روي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا نكاح إلّا بشهود"، وروي: "لا نكاح إلّا بشاهدين"، ولأنّ الحاجة مسّت إلى رفع تهمة الزنا عندنا، ولا تندفع إلا بالشهود.

 

وقال مالك: ليست الشهادة شرطاً وإنّما الشرط هو الإعلان. ووجه قول مالك: أن النكاح يمتاز عن السفاح بالإعلان، فإن الزنا يكون سرّاً، فيجب أن يكون النكاح علانية. وروي أنّه  صلى الله عليه وآله وسلم "نهي عن نكاح السرّ"1.

 

قال ابن قدامة: إنّ النكاح لا ينعقد إلا بشاهدين، وهذا هو المشهور عن أحمد، وروي ذلك عن عمر، وهو قول ابن عباس. وقال ابن عبد البرّ: قد روي عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "لا نكاح إلّا بوليّ وشاهدين عدلين"، (من حديث ابن عباس).

 

وعن أحمد في أحد قوليه، أنّه يصحّ بغير شهود، وفعله ابن عمر، والحسن بن علي عليهما السلام، وقال المنذر: لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر2. وهناك قول لابن أبي ليلا، وأبي ثور، وأبي بكر الأصم: لا تشرط الشهادة في الزواج ولا تلزم، لأنّ الآيات الواردة في شأن الزواج، فانكحوا، وانكحوا، لا تشرط بالإشهاد، فيعمل على إطلاقها، والأحاديث الواردة لا تصلح كمقيدة.

 

المذهب الجعفري:

لا يشترط الشهود في صحّة النكاح3، ذلك لإطلاق أدلّة النكاح، وعدم الدليل على الاستشهاد.

 

منشأ الاختلاف:

إنّ الاختلاف هنا ناشئ عن الاختلاف في الاجتهاد، حيث لم يكن هناك نصّ صحيح كمدرك تامّ للحكم.

 


1- الكاشاني، البدائع الصنائع، ج 2، ص 252.

2- ابن قدامه، المغني، ج 7، ص 339.

3- السيّد الحكيم، المنهاج الصالحين، ج 2، ص 275.

 

146


114

الدرس السادس عشر: النكاح

أولياء العقد

اختلفت الآراء بالنسبة إلى اشتراط الولاية في صحّة العقد، وتفصيل الاختلاف بما يلي:

المذاهب الأربعة:

الوليّ في النكاح هو الذي يتوقّف عليه صحّة العقد، فلا يصحّ بدونه، وهو الأب أو وصيّه، والقريب العاصب، والسلطان، وترتيب الأولياء في أحقّيّة الولاية مفصّل في المذاهب.

 

وليّ العقد على نحوين:

أ- ولي مجبر، له حقّ تزويج بعض من له عليه الولاية، بدون إذنه ورضاه كالصغير والصغيرة، والمجنون والمجنونة.

 

ب- وولي غير مجبر، ليس له ذلك بل لا بدّ منه، ولكن لا يصحّ له أن يزوّج بدون إذن من له عليه الولاية ورضاه.

 

ويختصّ الولي المجبر بتزويج الصغير والصغيرة، والمجنون والمجنونة، ويختصّ الولي غير المجبر بتزويج الكبيرة، العاقلة، البالغة بإذنها ورضاها سواء كانت بكراً أو ثيّباً، إلّا أنّه لا يشترط في إذن البكر أن تصرّح برضاها، فلو سكتت كان ذلك إذناً، أمّا الثيّب فإنّه لا بدّ في إذنها من التصريح بالرضا لفظاً، فلا يصحّ العقد بدون أن يباشره الوليّ، كما لا يصحّ للولي، غير المجبر، أن يعقد بدون إذن المعقود عليها ورضاها1.

 

قال ابن قدامة: إنّ النكاح لا يصحّ إلّا بوليّ، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليّها في تزويجها، فإن فعلت، لم يصحّ النكاح، روي ذلك عن عمر، وأبي هريرة. وروي عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا نكاح إلّا بولي". قال المروزي: سألت أحمد عن هذا الحديث فقال: صحيح. وروي عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أيّما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليّها، فنكاحها باطل، باطل، باطل"2.


 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 55.

2- ابن قدامه، المغني، ج 7، ص 338.

 

147


115

الدرس السادس عشر: النكاح

المذهب الحنفي:

قال أبو حنيفة: كلّ هؤلاء، - أي الأولياء -، لهم ولاية الإجبار على البنت والذكر في حال الصغر، أمّا في حال الكبر، فليس لهم ولاية إلّا على من كان مجنوناً من ذكر أو أنثى1. قال ابن قدامة: قال أبو حنيفة: للمرأة أن تزوّج نفسها وغيرها، وتوكّل في النكاح، لأنّ الله تعالى قال: ﴿فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾2, حيث أضاف النكاح إليهنّ، ونهي عن منعهنّ منه، ولأنّه خالص حقّها، وهي من أهل المباشرة حيث يصح منها بيع أمتها3. وقال الحنفيّة: ليس الرشد شرطاً لصحّة الزواج ولا لنفاذه، فإنّ تزوج السفيه امرأة، جاز زواجه، لأنّه من حوائجه الأصليّة وتصرفاته الشخصيّة، والحجر إنّما هو على التصرفات الماليّة المحضة، والقاعدة عندهم: أن كلّ ما لا يؤثّر فيه الهزل كالعتق والنكاح، لا يؤثّر فيه الحجر4.

 

قال الكاشاني: لا تثبت ولاية الاستبداد، الإجبار، على البالغ، العاقل، ولا على البالغة العاقلة5.

 

المذهب الجعفري:

تثبت ولاية الأب، والجدّ، والوصي لأحدهما مع فقد الآخر، على الصغير، والمجنون. ولا ولاية لهما على البالغ الرشيد، ولا على البالغة الرشيدة إذا كانت ثيّبية. واختلفوا في ثبوتها على البكر الرشيدة على أقوال، والمسألة مشكلة، فلا يترك مراعاة الاحتياط بالاستئذان منهما. نعم، لو عضلها الولي، أي منعها من التزويج للكفو، مع ميلها، سقط اعتبار إذنه. وكذا يسقط اعتبار إذنه إذا كان غائباً لا يمكن الاستئذان منه، مع حاجتها إلى التزويج6، ذلك جمعاً بين الأدلّة والنصوص. وقال المحقّق الحلّي: لا يشترط في نكاح الرشيدة حضور

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 51.

2- سورة البقرة، الآية 232.

3- ابن قدامه، المغني، ج 7، ص 337.

4- السرخسي، المبسوط، ج 18، ص 146.

5- الكاشاني، بدائع الصنائع، ج 2، ص 241.

6- اليزدي، العروة الوثقى، ج 5، ص 615.

 

148


116

الدرس السادس عشر: النكاح

الوليّ1، وذلك لإطلاق أدلّة النكاح، وعموم السلطنة، أضف إلى ذلك ورود نصّ معتبر يدلّنا على المطلوب وهو: ما نقله زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة، ولا المولّى عليها، تزويجها بغير وليّ جائز"2، والدلالة تامّة.

 

وهناك بعض الروايات الدالّة على الاستئذان، وهي تحمل على الاستحباب، ولهذا يمكننا أن نقول: أنّه يستحبّ في النكاح إذن الوليّ.

 

منشأ الاختلاف:

إنّ الاختلاف هنا ناشئ عن الاختلاف في النصوص الواردة عن طريقي آل البيت  عليهم السلام والصحابة.

 

والجدير ذكره: أنّ استئذان الرشيدة الباكرة من أبيها في عقد النكاح، عمل صالح، وسنّة حسنة، له آثار إيجابيّة كثيرة، وعليه الفتوى.

 

قال السيد الخوئي: الأحوط لزوماً في تزويج البالغة، الرشيدة، الباكرة، اعتبار إذن الولي، الأب أو الجد، وإذنها معاً، ويكفي في إثبات إذنها سكوتها3.

 


1- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 2، ص 500.

2- الحر العامالي، وسائل الشيعة، ج 20،ص 267.

3- السيّد الخوئي، منهاج الصالحين، ج 2، ص 261.

 

149


117

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

الأفكار الرئيسة

- يشترط القصد في العقد على المذهب الجعفري، ولا يشترط ذلك على المذاهب الأربعة.

 

- لا يجب الإشهاد على العقد على المذهب الجعفري، ويجب على المذاهب الأربعة.

 

- لا يصحّ العقد بدون أن يباشره الولي على المذاهب الأربعة.

 

- ولا ولاية على البالغ الرشيد، والرشيدة، والأحوط على الباكرة الرشيدة الاستئذان من الولي على المذهب الجعفري.

 

150


118

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

الدرس السابع عشر

النكاح المؤقَّت

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن سبب الاختلاف في العقد المنقطع.

 

2- يستدلّ على مشروعيّة الزواج المنقطع.

 

3- يناقش نسخ آية زواج المتعة.

 

151


119

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

مدخل

حقيقة النكاح المؤقّت أن تزوِّج المرأة (الحرّة الكاملة) نفسها للرجل بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى.

 

وهو عاقد جامع لشروط الصحّة الشرعية، فاقد لكلّ مانع شرعي من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة، أو غير ذلك من الموانع الشرعية ككونها معقوداً عليها لأحد آباء الرجل، أو كونها أختا لزوجته ونحو ذلك.

 

فإذا تمّ العقد (بشروطه) تصير المرأة زوجة للرجل إلى منتهى الأجل المسمّى للعقد، فإذا انتهى العقد تبين منه من غير طلاق، وللزوج فراقها قبل انتهاءه بهبة المدّة المعينة لها. ويجب عليها مع الدخول بها أن تعتدّ بعد انقضاء المدّة أو هبتها بقرأين إن كانت ممّن تحيض، وإلا بخمسة وأربعين يوماً عملاً بأدلّة خاصّة.

 

وولد المتعة، ذكراً كان أو أنثى يلحق بأبيه، ولا يدعى إلا له كغيره من الأبناء والبنات، وله من الإرث ما أوصى الله سبحانه به للأولاد، ولا يفترق عن المولود من النكاح الدائم، وجميع العمومات الشرعية شاملة له.

 

نعم، نكاح المتعة بمجرّده لا يوجب توارثاً بين الزوجين، ولا قسمة، ولا نفقه للمتمتَّع بها.

 

وقد أجمع أهل القبلة كافّة على أنّ الله تعالى شرّع هذا النكاح في دين الإسلام، وهذا القدر ممّا لا ريب فيه لأحد من فقهاء المذاهب الإسلامية على اختلاف مسالكهم، بل لعلّ هذا ملحق عند أهل العلم -  بالضرورات - ممّا ثبت عن سيّد المرسلين، فلا ينكره أحد من علماء أمّته، فهم متّفقون على أصل مشروعيّته، وإنّما يدّعون نسخه كما سيأتي.

 

153

 

 


120

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

حكم النكاح المؤقّت

اختلفت الآراء بالنسبة إلى صحّة النكاح المنقطع وبطلانه، بحيث كان مثار جدل وخلاف بين المذاهب الأربعة والمذهب الجعفري بالتفصيل التالي:

المذاهب الأربعة:

قال الجزيري: نكاح المتعة أو النكاح المؤقّت باطل باتّفاق المسلمين، وما نقل من إباحته في صدر الإسلام، فقد كان لضرورة اقتضتها حالة الحرب والقتال، ويدلّ على ذلك: ما رواه مسلم عن سيرة قال: "أمرنا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكّة، ثمّ لم نخرج حتّى نهانا عنه"، فهذا حكم صريح في أنّه حكم مؤقّت اقتضته ضرورة القتال. وروي ابن ماجه أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا أيّها الناس، إنّي كنت أذنت في الاستمتاع، ألا وإنّ الله حرّمها إلى يوم القيامة". وإذا وقع من أحدٍ استحقّ عليه التعزيز لا الحدّ، وذلك لأنّه نقل عن ابن عباس: أنّه جائز، وتلك شبهة توجب سقوط الحدّ.

 

وقد روي من أنّ ابن عباس قال: أنّه جائز. والصحيح أنّه قال ذلك قبل أن يبلغه نسخة، وقد وقعت بينه وبين ابن الزبير مشادّة في ذلك، فقد روي أنّ ابن الزبير قال: ما بال أناس أعمى الله بصائرهم كما أعمى أبصارهم، يقولون بحلّ نكاح المتعة؟، فقال ابن عباس: إنّك جلف، جاف، لقد رأيت إمام المتّقين رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يجيزه، فقال له ابن الزبير، والله إن فعلته لأرجمنك.

 

رأي الجزيري: ظاهر وهذا أن ابن عباس لم يبلغه النسخ، فلما بلغه عدل عن رأيه1.

 

وقال الخرقي: ولا يجوز نكاح المتعة.

 

وقال ابن قدامة: نكاح المتعة نكاح باطل، نصّ عليه أحمد فقال: نكاح المتعة حرام. وقال أبو بكر (من أبناء الحنابلة) فيها رواية أخرى أنّها مكروهة غير حرام، لأنّ ابن منصور سأل أحمد عنها فقال: يجتنبها أحبّ إليّ، قال: فظاهر هذا الكراهة دون التحريم. وحكى عن ابن عباس أنّها جائزة، وعليه أكثر أصحابه كعطاء، وطاووس، وبه قال ابن جريح، وحكى

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 158.

 

 

154


121

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

ذلك عن أبي سعيد الخدري، وجابر، وإليه ذهب الشيعة، لأنّه قد ثبت أنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم قد أذن فيه، وروي أنّ عمر قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهى عنهما وأعاقب عليهما، متعة النساء، ومتعة الحجّ، ولأنّه عقد على منفعة، فيكون مؤقّتاً كالإجارة1.

 

المذهب الجعفري:

قال المحقّق الحلّي: النكاح المؤقَّت سائغ في دين الإسلام، لتحقّق شرعيّته وعدم ما يدلّ على رفعه2. ويمكن الاستدلال على جواز المتعة بالكتاب والسنّة، ومنها ما رواه أبو بصير في الصحيح قال: سألت أبا جعفر  عليه السلام عن المتعة، فقال: "نزلت في القرآن: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾3"، وهذا هو المدرك التامّ كتاباً وسنّة.

 

ومنها: صحيحة زرارة قال: جاء عبد الله بن عمر، - أو عمير -، الليثي إلى أبي جعفر  عليه السلام فقال: ما تقول في متعة النساء؟، فقال: "أحلّها في كتابه، وعلى سنّة نبيّه، فهي حلال إلى يوم القيامة"4. ويؤكّد ذلك ما نقله العلامة الأميني عن صحيحي البخاري، ومسلم، وتفسير الثعلبي عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله عز وجلّ ولم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينهانا عنها5. وعن صحيح الترمذي، أنّه سأل رجل من أهل الشام ابن عمر عن متعة النساء فقال: حلال، فقال له: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال: أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وسنّها رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم!، أنترك السنّة ونتّبع أبي!!6.

 

قال المحقّق صاحب الجواهر: قد ثبت شرعيّة المتعة في دين الإسلام باتّفاق المسلمين، وأنّ المسلمين كانوا يفعلونه من غير نكير، وكذا كان في خلافة أبي بكر، ومدّة من خلافة

 


1- ابن قدامة، الشرح الكبير، ج 7، ص 537.

2- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 2، ص 528.

3- سورة النساء، الآية 24.

4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 21، ص 6.

5- الجواهري، جواهر الكلام، ج 30، ص 144.

6- (م. ن)، ج 30، ص 145.

 

155


122

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

عمر. نعم حرّمه في المدّة الأخرى من خلافته بعد أن روى شرعيّته عن صاحب الشرع، فإنّه فيما اشتهر عنه بين الفريقين، صعد المنبر وقال: أيّها الناس، متعتان كانتا على عهد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم محلّلتين أنا أنهى عنهما، وأحرّمهما، وأعاقب عليهما: متعة الحجّ، ومتعة النساء1 وفي لفظ آخر: ثلاث كنّ على عهد رسول الله أنا أنهى عنهنّ، وأحرّمهن، وأعاقب عليهنّ وهي: متعة النساء، ومتعة الحجّ، وحيّ على خير العمل، وهو صريح في تحريمه ما روي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم شرعيّته، وجعل تحريمه أولى بالاتّباع والقبول، وتوعّد من خالفه بالعقوبة والزجر، بل في متعة النساء بالحدّ، والرجم، فعن صحيح مسلم، عن قتادة عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: تمتّعنا على عهد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، فلمّا قام عمر قال: إنّ الله كان يحلّ لرسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء بما شاء، وأنّ القرآن قد نزل منازله، فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله عزّ وجلّ، وأبتّوا نكاح هذه النساء، فلان أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته بالحجارة2، وهذا بمثابة الردّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

وقد اختلف أتباعه في الجواب عنه، حيث بنى بعضهم تحريم عمر للحكم، لكون النبي  صلى الله عليه وآله وسلم مجتهداً في الأحكام الشرعيّة!، ويجوز لمجتهد آخر مخالفته. وأما أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فقد ذهبوا إلى القول بحلية النكاح المنقطع، وناقشوا المسألة المطروحة في بعض كتب السنة حول أن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم هل كان مجتهداً في أحكام الله، أم كان مبلغاً فقط، وأن أحكام الله توقيفية؟. وتبع ذلك نقاش حول عصمة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، وما معنى العصمة؟ وهل يمكن أن يقع الخطأ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ؟ وهل يمكن لإبليس اللعين أن يُغالط النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه لأحكام الله، أو يمكن لإبليس وزبانيته التمثل بمثال جبرائيل ليخدعوا النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الوحي وأحكام الله؟

 


1- العلامة الحلي، شرائع الإسلام، ج 2، ص 528.

2- (م. ن)، ج 30، ص 140.

 

156


123

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

روى شعبة، من رواة العامة، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "لولا أنّ عمر نهى عن المتعة، لما زنى إلّا شقي"1.

 

هل نسخت آية المتعة؟

بعد ما ثبت نزول الآية في المتعة حسب فهم الأصحاب، والتابعين، والمفسرين، لجأ جمع من أتباع مدرسة الخلفاء للدفاع عن خليفة الثاني والقول بأنّ آية المتعة منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾2, ولكن جانبهم الحق، لأن هذه الآية مكيّة، وآية المتعة مدنيّة، ولا يمكن أن يكون الناسخ قبل المنسوخ للخلف. أضف إلى ذلك أن القول بالنسخ ينافي قول الخليفة الثاني المعروف. "متعتان كانتا على عهد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أنهي عنهما، وأعاقب عليهما": متعة النساء، ومتعة الحج3، فلو كان النسخ ثابتاً بآية أخرى، أو بسنة نبويّة، لم يكن مجال لتحريم الخليفة قطعاً.

 

النصوص على عدم النسخ

هناك عدة نصوص تدلنا على عدم ورود النسخ بالنسبة إلى آية المتعة:

1- عن ابن عباس: إنّ آية المتعة محكمة ليست بمنسوخة4.

 

2- وعن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى، لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، وتمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومات ولم ينهانا عنها، ثمّ قال رجل برأيه ما شاء5.

 


1- الجواهري، جواهر الكلام، ج 30، ص 145.

2- سورة المؤمنون، الآية 6.

3- الجواهري، جواهر الكلام، ج 18، ص 2.

4- الشيخ الطبسي، نجم الدين، دراسات فقهية في مسائل خلافية، ط 2، قم، مركز الطباعة والنشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، 1429م، ص 44.

5- الجزيري الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 127.

 

157


124

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

3- وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها حتّى مات، قال رجل برأيه ما شاء1.

 

زواج المسيار

قال الشيخ القرضاوي: "المسيار" كلمة عامية دارجة في بعض البلاد الخليج، ويقصدون منها المرور وعدم المكث الطويل. وقال: ليس في عقد المسيار حق النفقه، والتسوية في القسم، والإرث، باشتراط عدم مطالبتها بهذه الحقوق2.

 

والذي أعلنه القرضاوي ووافقه عليه المفتي بن باز، هو الزواج المؤقت بحسب الواقع.

 


1- السيد شرف الدين، مسائل فقهية، طهران، معاونية العلاقات الدولية في منظمة الإعلام الإسلامي، 1987م، ص 70.

2- يوسف القرضاوي، زواج المسيار حقيقته وحكمهـ ، ص 9 – 11.

 

158


125

الدرس السابع عشر: النكاح المؤقَّت

الأفكار الرئيسة

- يجوز النكاح المؤقت، - أي عقد المتعة -، على المذهب الجعفري، ولا يجوز على المذاهب الأربعة.

 

- لا خلاف في العقد المنقطع، - من ناحية عمليّة -، بين المذاهب أجمع. وإنّما الاختلاف في اللفظ والتسمية، من حيث تسميته بالزواج المنقطع، أو زواج المسيار.

 

- آية المتعة لا ينمكن أن تكون منسوخة بقوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾1, لأن هذه الآية مكيّة، وآية المتعة مدنيّة، ولا يمكن أن يكون الناسخ قبل المنسوخ للخلف.

 


1- سورة المؤمنون، الآية 6.

 

159


126

الدرس الثامن عشر: الطلاق

الدرس الثامن عشر

الطلاق

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدّد الشروط الواجبة للحكم بصحّة الطلاق.

2- يبيّن حكم تعليق الطلاق على الحلف.

3- يستدلّ على لزوم الإشهاد في الطلاق.

 

161


127

الدرس الثامن عشر: الطلاق

مدخل

قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾1.

 

الطلاق لغةً اسم للتطليق أو الإطلاق بمعنى إزالة القيد، وشرعاً إزالة قيد النكاح.

 

ومن المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق، ودين الإسلام دين اجتماعي لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة بعدما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى.

 

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثّر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة (إذا كثرت القيود قلّ الوجود)، فرأى المذهب الجعفري أنّه يشترط في الطلاق القصد فلا يقع من الهازل والساهي، وأن يكون بلفظ مخصوص فلا يقع بالكناية وبغير العربية، وأن لا يكون يكون معلّقاً على شرط، ولا يقع بالحلف به كذلك، كما اعتبر وجود شاهدين عدلين يسمعان الطلاق للضبط أولاً، والأناة ثانياً. وهذا كلّه على خلاف سائر المذاهب الإسلامية الأخرى.

 


1- سورة الطلاق، الاية 1.

 

163


128

المقدّمة

شروط الطلاق

اختلفت الآراء بالنسبة إلى اشتراط القصد، والاختيار، والعربيّة، والتنجيز، وتفصيل الاختلاف كما يلي:

1- القصد:

المذهب الجعفري:

القصد، وهو شرط في الصحّة، مع اشتراط النطق بالصريح، فلو لم ينوي الطلاق، لم يقع، ومثاله: الساهي، والنائم، والغالط1. وقال المحقّق صاحب الجواهر: إنّ الحكم كذلك بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافاً إلى الخبر المستفيض عن الصادقين عليهما السلام: "لا طلاق إلّا لمن أراد الطلاق"، وقول الإمام الباقر عليه السلام: "لا طلاق على سنة وعلى طهر بغير جماع إلا بنية"2، والنصوص مستفيضة في خصوص المقام.

 

أضف إلى ذلك أنّ الطلاق من الإنشاءات التي تتقوّم بالقصد بحسب ذاتها.

 

المذاهب الأربعة:

قال ابن قدامة: إنّ صريح الطلاق لا يحتاج إلى نيّة، بل يقع من غير قصد ولا خلاف في ذلك، ولأنّ ما يعتبر له القول، يُكتفى به من غير نيّة إذا كانت صريحاً فيه. وقال ابن المنذر: أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم على أنّ جدِّ الطلاق وهزله سواء، وأمّا غير الصريح فلا يقع الطلاق به إلّا بنيّة، أو دلالة حال3.

 

2- الاختيار:

يشترط في الطلاق الاختيار، فلا يصحّ طلاق المكره4، وقال المحقّق صاحب الجواهر: الحكم كذلك بلا خلاف، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافاً إلى النصوص العامّة مثل: "رفع

 


1- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 3، ص 580.

2- الجواهري، جواهر الكلام، ج 32، ص 212.

3- ابن قدامه، المغني، ج 8، ص 284.

4- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 3، ص 579.

 

164


129

الدرس الثامن عشر: الطلاق

عن أمّتي... ما استكرهوا عليه"1، والخاصة كحسن زرارة عن الإمام الباقر  عليه السلام، سألته عن طلاق المكره، وعتقه، فقال: "ليس طلاقه بطلاق"2.

 

المذهب الحنفي:

طلاق المكره يقع خلافاً للأئمّة الثلاثة، فلو أكره شخص آخر على تطليق زوجته بالضرب، أو السجن، أو أخذ المال وقع طلاقه3، وهذا الحكم على أساس الاجتهاد الخاص.

 

3- العربية:

المذهب الجعفري:

لا يقع الطلاق بالكناية، ولا بغير العربيّة مع القدرة على التلفّظ باللفظة المخصوصة، ولا بالإشارة إلّا مع العجز عن النطق، ويقع طلاق الأخرس بالإشارة الدالّة4، وقال الشهيد الثاني: ذلك لأنّ اللفظ العربيّ هو الوارد في القرآن، والمتكرّر في لسان الشرع5، أضف إلى ذلك أنّ الطلاق باللغة العربية هو القدر المتيقّن من الأدلّة وهو الأحوط.

 

المذاهب الأربعة:

قال ابن قدامة: وصريح الطلاق بالعجميّة: بهشتم، - هشتم -، فإذا أتى بها العجميّ، وقع الطلاق منه بغير نيّة6. وقال في القسم البائن: إذا قال العجميّ: بهشتم بسيار، طلّقت امرأته ثلاثاً، (نصّ عليه أحمد)، لأنّ معناه: أنت طالق كثيراً. وإن قال (بهشتم) فحسبت (بالفارسية)، طلّقت واحدة، إلّا أن ينوي ثلاثاً فتكون ثلاثاً7.
 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 373.

2- (م. ن)، ج 22، ص 86.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 362.

4- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 3، ص 583.

5- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، ج 9، ط 1، إيران، قم، 1416هـ ، ص 67.

6- ابن قدامه، المغني، ج 8، ص 267.

7- (م. ن) ج 8، ص 411.

 

165


130

الدرس الثامن عشر: الطلاق

4- التنجيز:

المذهب الجعفري:

يشترط في صحّة الطلاق عدم تعليقه على الشرط المحتمل الحصول، أو الصفة المعلومة الحصول متأخّراً، فلو قال: إذا جاء زيد فأنت طالق، أو إذا طلعت الشمس فأنت طالق، بطل1. وقال المحقّق صاحب الجواهر: اشتراط تجرّد الصيغة عن التعليق ممّا تحقّق الإجماع عليه، وهو الحجّة بعد ظهور نصوص الحصر2، إنّما الطلاق أن يقول لها وهي على طهر من الحيض لم يواقعها فيه: (أنت طالق)، والتعليق ينافي قاعدة عدم تأخّر المعلول عن علّته، لأن السبب الشرعي كالسبب العقليّ في ذلك إلّا ما خرج بدليل، والتعليق في الحقيقة من الشروط المخالفة للكتاب والسنّة، والمحلّلة للحرام، ضرورة أنّه بعد ظهور الأدلّة في ترتّب الأثر على السبب الذي هو الصيغة، شرعاً، فاشتراط تأخّره إلى حصول المعلّق عليه شرع جديد، مؤيّداً ذلك كلّه باستصحاب بقاء النكاح3.

 

المذاهب الأربعة:

إذا أوقع الطلاق في زمن، أو علّقه بصفة تعلّق بها، لم يقع حتّى تأتي الصفة والزمن، وهذا قول ابن عباس. وروي أنّ ابن عباس كان يقول في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إلى رأس السنة، قال: يطأ فيما بينه وبين رأس السنة، ولأنّه إزالة ملك يصحّ تعليقه بالصفات، فمتى علّقه بصفة لم يقع قبلها، كما لو قال: أنت طالق إذا قدم الحاجّ، والطلاق يجوز فيه التعليق[4]، وما عثرنا على خلاف فيه بين أبناء السنّة.

 

5- الحلف بالطلاق:

الحلف، هو تعليق الطلاق على شرط يمكن فعله أو تركه، كما لو قال: إن دخلت

 


1- الحكيم، منهاج الصالحين، ج 2، ص 312.

2- الجواهري، جواهر الكلام، ج 32، ص 78.

3- (م. ن)، ح 32، ص 79.

4- ابن قدامه، المغني، ج 8، ص 318.

 

166


131

الدرس الثامن عشر: الطلاق

الدار فأنت طالق1. وفرّعوا على الحلف بالطلاق فروعاً كثيرة، ومنها: إن قال لامرأته: إن خرجت إلى غير الحمّام فأنت طالق، فخرجت إلى غير الحمّام، طلّقت. وإن خرجت إلى الحمّام ثمّ عدلت إلى غيره، فقياس المذهب أنّه يحنث، لأنّ ظاهر اليمين المنع من غير الحمّام. ومنها: لو قال: إمرأتي طالق إن كنت أملك إلّا مائة، وكان يملك أكثر من مائة أو أقلّ، حنث2.

 

الإشهاد في الطلاق

اختلفت الآراء بالنسبة إلى اشتراط الطلاق بحضور الشهود، وتفصيل الاختلاف كما يلي:

المذهب الجعفري:

لا بدّ من حضور شاهدين يسمعان الإنشاء، وسماعهما التلفّظ شرطٌ في صحّة الطلاق، ولا يقع بشاهد واحد ولو كان عدلاً، ولا بشهادة فاسقين، بل لا بدّ من حضور شاهدين ظاهرهما العدالة.

 

ولا تقبل شهادة النساء في الطلاق لا منفردات ولا منضمّات إلى الرجال3، وذلك لقوله تعالى: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ4. إنّ التنسيق القائم بين الموضوع (الطلاق)، والحكم (ما يتصل بالطلاق)، يرشدنا إلى أن الإشهاد كأمور أخرى، - كالعدة، والخروج من البيت، وانتظار الإصلاح، والإمساك، والفرقة مما تتعلق بالطلاق -، كلّها وثيقة الصلة بالطلاق، على الأسلوب البلاغي، واحتمال تعلق الإشهاد على الرجعة خلاف الظاهر، وخلاف البلاغة. قال الشيخ الطوسي: فإن قالوا: ذلك، - أي الأشهاد -، يرجع إلى، - الإمساك على أساس تقارب الإشهاد مع الإمساك -، قلنا: لا يصح، لأنّ الفراق أقرب إليه، لأنّه قال تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ...﴾، (يعني

 


1- ابن قدامه، المغني، ج 8، ص 189.

2- (م. ن)، ج 8، ص 394.

3- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 3، ص 587.

4- سورة الطلاق، الآية 2.

 

167


132

الدرس الثامن عشر: الطلاق

الرجعة)، ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ﴾1. يعني الطلاق. وعليه: لا أرضية لما يستدل به، - أي التقارب -، على تعلق الإشهاد بالرجعة، وصرّح جمع من المحقّقين من أبناء السنة على أنّ الإشهاد يتعلق بالطلاق كما يلي:

أ- قال الفخر الرازي: وقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾، أي أمر الله أن يشهدوا عند الطلاق2.

 

ب- وقال القرطبي: ﴿... وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾، أمر بالإشهاد على الطلاق3.

 

ج- وقال ابن حزم: إنّ الإشهاد واجب بنصّ الآية المذكورة، ومن طلق ولم يشهد فهو متعدّ لحدود الله عزّ وجلّ.

 

وبالتالي فالإشهاد على الطلاق واجب على أساس كتاب الله.

 

أضف إلى ذلك أنّ الإشهاد لا يمكن أن يكون متصلاً بالرجعة من الناحية عملية، لأنّ الرجعة هي الوطي، والتقبيل، واللمس، والنظر إلى فرج الزوجة المطلقة... الخ، فهل يمكن أن يشهد شاهدين عدلين على وطء الزوج لزوجته المطلقة، أو نظره إلى فرجها!!. وعليه: لا يمكن الإشهاد على الرجعة، والنصوص الواردة في الباب قد بلغت حدّ التواتر، ومنها: صحيحة زرارة، ومحمّد بن مسلم عن الإمام الباقر، والإمام الصادق عليهما السلام في حديث قال: "وإن طلّقها في استقبال عدّتها، طاهراً، من غير جُماع، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين، فليس طلاقه إيّاها بطلاق"4، والدلالة تامّة.

 

وقال المحقّق صاحب الجواهر: إنّ الحكم يكون كذلك كتاباً، وسنّة، وإجماعاً بقسميه5.

 


1- الشيخ الطوسي، الخلاف، جماعة من المحققين، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، جمادي الآخرة 1407، لا.ط،ج 4، ص 454.

2- الرازي، التفسير الكبير، ج 30، ص 34.

3- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تصحيح: أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، لا.ت، لا.ط،ج 18، ص 157.

4- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 2، ص 21.

5- الجواهري، جواهر الكلام، ج 32، ص 102.

 

168


133

الدرس الثامن عشر: الطلاق

المذاهب الأربعة:

لا يعتبر الإشهاد في الطلاق بلا خلاف بينهم، فالمذاهب الأربعة لم تشترط الإشهاد لصحّة الطلاق بخلاف الإمامية، قال الشيخ أبو زهرة: قال فقهاء الشيعة الإماميّة الاثنا عشريّة: إنّ الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين، لقوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...1، فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق، وجواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه، وأنّ تعليل الإشهاد بأنّه (يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)، يرشّح ذلك ويقوّيه، لأنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يرجونها إلى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّه لو كان لنا أن نختار المعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي2.

 

منشأ الاختلاف في الشروط

إن الاختلاف حول الشروط بين المذهب الجعفري والمذاهب الأربعة، ناشىء عن الاختلاف في النصّ الوارد من الطريفين.

 

أضف إلى ذلك أنّ الإشهاد في الطلاق ورد في الكتاب الكريم، قال تعالى: ﴿... وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ قال الشيخ أبو زهرة: الصحيح هو إشهاد عدلين في الطلاق، كما أفتى به فقهاء الإماميّة، وهو ما يستفاد من ظاهر الكتاب، ولو كان لنا المجال لاخترنا هذا الرأي.

 


1- سورة الطلاق، الآيتان 2 – 3.

2- الشيخ مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة، ج 2، ص 415.

 

169


134

الدرس الثامن عشر: الطلاق

الأفكار الرئيسة

- يشترط (اللفظ الصريح) في الطلاق على المذهب الجعفري كما في قوله: أنتِ طالق، وأمّا على المذاهب الأربعة السنّية، فلا حاجة إليه، بل يقع الطلاق بالكناية.

 

- يشترط (القصد) إلى الطلاق على المذهب الجعفري، فلا يقع من الهازل، وأمّا على المذاهب الأربعة السنّية، فلا يشترط القصد، بل يقع من الهازل.

 

- يشترط (العربية) في الطلاق على المذهب الجعفري، ولا يشترط ذلك على المذاهب الأربعة.

 

- يشترط (التنجيز) في إنشاء الطلاق على المذهب الجعفري، ولا يشترط ذلك على المذاهب الأربعة بل يقع معلّقاً على أمر مستقبلي.

 

- يشترط (الإشهاد) في الطلاق على المذهب الجعفري، ولا يشترط الإشهاد على المذاهب الأربعة بلا خلاف بينهم.

 

- لا يصحّ طلاق (المكره) إلّا على المذهب الحنفي.

 

170


135

الدرس التاسع عشر: الميراث

الدرس التاسع عشر

الميراث

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرّف الميراث بالتعصيب ويناقشه.

2- يتذكّر شروط الميراث عند الفريقين.

3- يناقش مسألة العول ومرتكزاتها.

 

171

 


136

الدرس التاسع عشر: الميراث

مدخل

الميراث بالتعصب

تعريف التعصيب: لغةً: العَصَبَة جمع عاصب كطلبة جمع طالب، وهو مأخوذ من العَصَب وهو الطيّ الشديد، يقال: عصب برأسه العمامة، شدّها ولفّها عليه، ومع كونها جمعاً لكن تطلق على الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وتجمع أيضاً على عَصَبات.

ويطلق على الذكر من أقارب الميت الذي لم تدخل في نسبته إلى الميت أُنثى، وسُمُّوا عصبة لأنّهم أصابوا به، أي أحاطوا بالميت، فالأب طرف، والابن طرف، والأخ طرف، والعم طرف، وهؤلاء كلّهم عَصَبَة، لأنّهم يحيطون بالميت كإحاطة العمامة بالرأس.

اصطلاحاً: يقول الشهيد الثاني: التعصيب: هو توريث العصبة مع ذوي الفرض القريب، إذا لم يُحِط الفرض بمجموع التركة، كما لو خلّف بنت واحدة أو بنتين فصاعداً مع أخ، أو خلّف أختاً أو أُختين فصاعداً مع عمّ1.

وقال ابن قدامة: العصبة: هو الوارث بغير تقدير، وإذا كان معه ذو فرض أخذ ما فضل عنه قلّ أو كثر، وإن انفرد أخذ الكلّ، وإن استغرقت الفروض المال، سقط[2]. وهناك اختلاف جوهري بين السنة والشيعة حول الإرث بالتعصيب من حيث الإثبات والنفي كما يلي:

المذهب الجعفري:

لا يثبت الميراث بالتعصيب، وإذا أبقت الفريضة، فإذا كان هناك مساوٍ لا فرض له،

 


1- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، ج 3، ص 95.

2- ابن قدامه، المغني، ج 7، ص 6.

 

173


137

الدرس التاسع عشر: الميراث

فالفاضل له بالقرابة، مثل: أبوين وزوج أو زوجة، للأمّ ثلث الأصل، وللزوج أو الزوجة نصيبهما وللأب الباقي. ولو كان إخوة، كان للأمّ السدس، وللزوج النصف، وللأب الباقي. وكذا أبوان وابن وزوج. وكذا زوج وإخوان من أمّ، وأخ أو إخوة من أب وأمّ، أو من أب. وإن كان بعيداً لم يرث، وردّ الفاضل على ذوي الفروض، عدا الزوج والزوجة مثل أبوين أو إحداهما وبنت وأخ أو عمّ1.

والجملة: ليس للتعصيب دور في الميراث، وإنما يدور الميراث على الفروض، والقرابة، والسبب كالزوجية، والولاء.

قال الشهيدان: لا ميراث عندنا للعصبة على تقدير زيادة الفريضة عن السهام، إلّا مع عدم القريب، أي الأقرب منهم، لعموم آية: أولى الأرحام، قال تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ﴾2، ولإجماع أهل البيت  عليهم السلام، وتواتر أخبارهم بذلك، منها: ما رواه حسين الرزّاز قال: أمرت من يسأل أبا عبد الله عليه السلام: المال لمن هو؟، للأقرب؟، أو العصبة؟، فقال: "المال للأقرب، والعصبة في فيه التراب"3، والدلالة تامّة. والروايات مستفيضة في هذا الإطار، قال الشهيد الثاني: أمّا أصحابنا الإماميّة، فاحتجّوا على بطلان التعصيب بوجوه:

الأوّل: قوله تعالى: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا﴾4.

وجه الاستدلال: أنّه إن وجب توريث جميع النساء، والأقربين، بطل القول بالتعصيب. بيان المطلوب: أنّه تعالى حكم في الآية بالنصيب للنساء كما حكم به للرجال، فلو جاز حرمان النساء لجاز حرمان الرجال، لأنّ المقتضى لتوريثهم واحد وهو ظاهر الآية، فالآية عامّة، للأصل، وعدم ثبوت التخصيص. وإذا كان الأصل فيها العموم، لم يكف الحكم بتوريث

 


1- المحقّق الحلي، شرائع الإسلام، ج 4، ص 823.

2-سورة الأنفال، الآية 75.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 26، ص 64.

4- سورة النساء، الآية 7.

 

174


138

الدرس التاسع عشر: الميراث

بعض النساء وإلّا لجاز مثله في الرجال. ويؤيّد عمومها في توريث النساء، أنّها نزلت ردّاً على الجاهليّة، حيث كانوا لا يورّثون النساء شيئاً روى حكيم بن جابر عن زيد بن ثابت أنّه قال: "من قضاء الجاهليّة: أن يورّث الرجال دون النساء"1، وبدونها لا يتمّ الردّ.

الثاني: قوله تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ﴾2. والاستدلال بها: أنّه تعالى بأولويّة بعض الأرحام ببعض، أراد به الأقرب فالأقرب قطعاً، بموافقة الخصم. فالخصم يقول: إنّ العصبة، الأقرب يمنع الأبعد. ويقول في الوارث بآية أولوا الأرحام: إنّ الأقرب يمنع الأبعد. ونحن نقول: شبهة في أنّ البنت أقرب إلى الميّت من الأخ مثلاً، لأنّ البنت تتقرّب إلى الميّت بنفسها، والأخ إنّما يتقرّب إليه بالأب، وعموم الآية مطابق للأصل، والأصل عدم التخصيص. وأمّا قوله تعالى: ﴿فِي كِتَابِ اللّهِ ﴾، فالمراد منه: في حكم كتاب الله3، ولا يخصّص بما، - يتوهّم -، لعدم المقتضي.

الثالث: الأخبار التي رووها عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم كقوله  صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك مالاً فلأهله"، وقوله  صلى الله عليه وآله وسلم في شخص خلف بنتاً وأختاً، "إن المال كله للبنت"، ودلالة هذا الحديث على انتفاء التعصيب ظاهر.

ووجه الاستدلال بالأول: أن الإناث من الأهل قطعاً، فاقتضى الخبر توريثهن جمع، وهو خلاف مذهب القائلين بالتعصيب.

المذاهب الأربعة:

قال ابن قدامة: العصبة: وهم الذكور من ولد الميّت، وآبائه، وأولادهم، وليس ميراثهم مقدّراً، بل يأخذون المال كلّه إذا لم يكن معهم ذو فرض، فإن كان معهم ذو فرض، لا يسقط بذوي الفرض، فيأخذوا الفاضل عن ميراثه كلّه، وأولاهم بالميراث أقربهم، ويسقط به من بعُد، لقول النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكراً"، وأقربهم البنون، ثمّ بنوهم وإن سفلوا، يسقط قريبهم ببعيدهم، ثمّ الأب، ثمّ آبائه وإن علوا الأقرب،

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة،ج 26، ص 85.

2- سورة الأنفال، الآية 75.

3- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، ح 13، ص 98.

 

175

 

 


139

الدرس التاسع عشر: الميراث

منهم فالأقرب ثمّ بنو الأب وهم الإخوة للأبوين، أو للأب، ثمّ بنوهم وإن سفلوا الأقرب منهم فالأقرب، ويسقط البعيد بالقريب سواء كان القريب من ولد الأبوين أو من ولد الأب وجدّه، فإن اجتمعوا في درجة واحدة، فولد الأبوين أولى، لقوّة قرابته بالأمّ، ولهذا قال الخرقي: ابن الأخ للأب والأمّ أولى من ابن الأخ للأب، لأنّهما في درجة واحدة، وابن الأخ للأب أولى من ابن ابن الأخ للأب والأمّ، لأن ابن الأخ للأب أعلى درجة من ابن ابن الأخ للأب والأم، وعلى هذا أبداً، ومهما بقي من بنى الأخ أحد وإن سفل، فهو أولى من العمّ، لأنّه من ولد الأب، والعمّ من ولد الجدّ، فإذا انقرض الإخوة وبنوهم، فالميراث للأعمام، ثمّ بنيهم على هذا النسق، وإن استوت درجتهم قدّم من هو لأبوين، فإن اختلفت قدّم الأعلى وإن كان لأب، ومهما بقي منهم أحد، وإن سفل فهو أولى من عمّ الأبّ، لأنّ الأعمام من ولد الجدّ، وأعمام الأب من ولد أب الجدّ، فإذا انقرضوا، فالميراث لأعمام الأب على هذا النسق، ثمّ لأعمام الجدّ، ثمّ بنيهم، وعلى هذا أبداً، لا يرث بنو أب أعلى مع بنى أب أقرب منه وإن نزلت درجتهم، لما مرّ في الحديث، وهذا كلّه مجمع عليه بحمد الله ومنّه1.

منشأ الاختلاف:

هذا الاختلاف في أساسه يرجع إلى النصوص كما يلي:

1- عند العامة: ترجع مسألة التعصيب إلى ما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكراً".

2- عند الإمامية: ما روي عن أئمة أهل البيت  عليهم السلام كالإمام الباقر، والصادق من ذهابهم إلى إنكار ذلك، وتكذيب الخبر، والتصريح بردّ الباقي على ذوي الفروض2.

 

ضابط الميراث عند الفريقين

إنّ الضابطة لتقديم بعض الأقرباء النسبيّين على البعض الآخر:

 


1- ابن قدامه، المغني، ج 7، ص 20.

2- الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، ج 3، ص 96.

 

176


140

الدرس التاسع عشر: الميراث

عند الإمامية:

1- كونه صاحب فريضة في الكتاب، أي أن القرآن الكريم قد فرض له قسيمة من الميراث، قال سبحانه: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا﴾1.

 

2- القربى إذا لم يكن صاحب فريضة، فالأقرب إلى الميّت، هو الوارث للكلّ، أو لما فضل عن التركة، قال سبحانه: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾2.

 

عند أهل السنّة:

الملاك بعد الفرض، هو التعصيب، - بالمعنى الذي تقدم -، بعد أصحاب الفرض، وإن بعُد عنهم، كالأخ عندما يموت عن بنت أو بنتين، أو العم عندما يموت عن أخت أو أُختين، فيرث الأخ أو العم الفاضل من التركة بما أنّهما عصبة.

 

وتظهر أهمية ذلك فيما إذا كانت العصبة بعيدة عن ذي الفرض، كالأخ فيما إذا ترك بنتاً أو بنات، ولم يكن له ولد ذكر، أو العم فيما إذا ترك أُختاً أو أخوات ولم يكن له أخ، فعلى مذهب الإمامية لا يرد إلى البعيد أبداً، سواء كان أخاً أو عمّاً، لأنّ الضابط في التقديم والتأخير هو الفرض، والقرابة، وأمّا أخوال العم فهم ليسوا من أصحاب الفروض قطعاً، كما أنّهم بعيدون عن الميّت مع وجود البنت أو الأُخت، فيرد على البنت أو الأخت الفاضل، فالبنت ترث النصف فرضاً والنصف الآخر قرابة، وهكذا الصورة الأخرى.

 

وأمّا على مذاهب أهل السنّة، فبما أنّهم حكموا بتوريث العصبة مع ذي فرض قريب، يردّون الفاضل إلى الأخ في الأوّل، والعم في الثاني.

 

العَوَل

تعريف العَوَل: هو قلّة الميراث وكثرة السهام. يقول الشهيد الثاني: المراد أن تزاد

 


1- سورة النساء، الآية 11.

2- سورة الأنفال، الآية 75.

 

177


141

الدرس التاسع عشر: الميراث

الفريضة، لقصورها عن سهام الورثة على وجه يحصل النقص على الجميع بالنسبة، سمّى عولاً من الزيادة، أو من عال إذا كثر عياله، لكثرة السهام فيها1.

اختلف الفريقان حول مسألة العَوَل كما يلي:

المذهب الجعفري:

العول باطل، لاستحالة أن يفرض الله سبحانه في مال ما لا يقوم به. ولا يكون العول إلّا بمزاحمة الزوج أو الزوجة، فيكون النقص داخلاً على الأب أو البنت أو البنتين، أو من يتقرّب بالأب والأمّ، أو بالأب من الأخت أو الأخوات، دون من يتقرّب بالأمّ، مثل زوج وأبوين وبنت، أو زوج وأحد الأبوين وبنتين فصاعداً، أو زوجة وأبوين وبنتين، أو زوج مع كلالة الأمّ وأخت، أو أخوات لأب وأمّ، أو لأب2.

وقال صاحب الجواهر: الأصل في بطلان العول، هو ما ذكره أمير المؤمنين  عليه السلام كما حكاه عنه الإمام الصادق  عليه السلام قال: "الحمد لله الذي لا مقدّم لما أخّر، ولا مؤخّر لما قدّم"، ثمّ ضرب إحدى يديه على الأخرى، ثمّ قال: "يا أيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها، لو كنتم قدّمتم من قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وجعلتم الولاية، والوراثة لمن جعلها الله، ما عال وليّ الله، ولا طاش سهم عن فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، ولا تنازعت الأمّة في شيء من أمر الله، ألّا عند عليّ علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم، وما فرّطتم فيما قدّمت أيديكم، وما الله بظلّام للعبيد"3. إلى غير ذلك من الروايات المتواترة عن الأئمّة الهداة عليهم السلام في بطلان العول، والإنكار عليهم فيه، والتشنيع به عليهم، فإنّه مستلزم لجعل الله تعالى المال نصفين، وثلثاً، وثلثين ونصفاً، ونحو ذلك ممّا لا يصدر من جاهل فضلاً عن ربّ العزّة المتعال عن الجهل، والعبث، وعمّا يقول الظالمون علوّاً كبراً، ضرورة ذهاب النصفين بالمال، فأين موضع الثلث؟، بل العول مستلزم لكون الفرائض على غير ما فرضها الله تعالى. فلو فرضنا أن الوارث أبوين وبنتين وزوجاً، وكانت الفريضة

 


1-الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، ج 13، ص 108.

2- المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج 4، ص 823.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج26، ص 78.

 

178


142

الدرس التاسع عشر: الميراث

اثني عشر، وأعلناها إلى خمسة عشر، فأعطينا الأبوين منها أربعة أسهم من خمسة عشر، فليست سدسين، بل خمس، وأعطينا الزوج ثلاثاً، فليست ربعاً بل خمس، وأعطينا البنتين ثمانية، فليست ثلث بل ثلث وخمس1.

نقل عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض في المواريث، فقال ابن عباس: سبحان الله العظيم، أترون أنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً، جعل في المال نصفاً، ونصفاً، وثلثاً، فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟، فقال له زفر بن أوس البصري: فمن أوّل من أعال الفرائض؟، فقال: عمر بن الخطّاب، لمّا التفّت الفرائض عنده، ودفع بعضها بعضاً، فقال: والله ما أدري أيّكم قدّم الله وأيّكم أّخر، وما أجد شيئاً هو أوسع من أن أقسّم عليكم هذا المال بالحصص، فأدخل على ذي سهم ما دخل عليه من عول الفرائض. وأيم الله لو قدّم من قدّم الله وأخّر من أخّر الله، ما عالت فريضة، فقال زفر: وأيّها قدّم وأيّها أخّر؟، فقال: كلّ فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله وأمّا ما أخّر: فلكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق لها إلّا ما بقي، فتلك التي أخّر، فأمّا الذي قدّم: (فالزوج) له النصف، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع، لا يزيله عنه شيء. (والزوجة) لها الربع ، فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن، لا يزيلها عنه شيء. (والأمّ) لها الثلث، فإذا زالت عنه صارت إلى السدس، ولا يزيلها عنه شيء، فهذه الفرائض التي قدّم الله.

وأمّا التي أخّر: فريضة البنات، والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ إلّا ما بقي، فتلك التي أخّر، فإذا اجتمع ما قدمّ الله وما أخّر، بُدئ بما قدّم الله فأعطى حقّه كاملاً، فإن بقي شيء، كان لمن أخّر، وإن لم يبق شيء، فلا شيء له2.

ومنها: صحيحة أبي بصير عن الإمام الصادق  عليه السلام قال: "أربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث: الوالدان، والزوج، والمرأة"3، بهذا يتمّ المطلوب.

 


1- الجواهري، الجواهر، ج 39، ص 109.

2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 26، ص 78.

3- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 26، ص 77.

 

179


143

الدرس التاسع عشر: الميراث

المذاهب الأربعة:

قال ابن قدامة: ومعنى العول: أن تزدحم فروض لا يتّسع المال لها كمسألة توريث الزوج والأخت والأمّ، فيدخل النقص عليهم كلّهم، ويقسّم المال بينهم على قدر فروضهم، كما يقسّم مال المفلس بين غرمائه بالحصص، لضيق ماله عن وفائهم، ومال الميت بين أرباب الديون إذا لم يفها، والثلث بين أرباب الوصايا إذا عجز عنها. العول هو قول عامّة الصحابة ومن تبعهم من العلماء، يروي ذلك عن عمر، والعباس، وابن مسعود، وبه قال مالك، والشافعي وسائر أهل العلم إلّا ابن عباس وطائفة شذّت يقلّ عددها، كمحمّد بن الحنفيّة، ومحمّد بن علي بن الحسين،– الإمام الباقر  عليهم السلام –، وعطاء، وداود، فإنّهم قالوا لا تعول المسائل. روي عن ابن عباس أنّه قال: في زوج وأخت وأمّ: من شاء باهلته أنّ المسائل لا تعول، إنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً، أعدل من أن يجعل في مال نصفاً، ونصفاً، وثلثاً هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟، فسمّيت هذه المسألة مسألة المباهلة لذلك، وهي أوّل مسألة عول حدثت في زمن عمر بن الخطّاب، فجمع الصحابة للمشورة فيها، فقال العباس: أري أن تقسّم المال بينهم على قدر سهامهم، فأخذ به عمر، واتّبعه الناس على ذلك حتى خالفهم ابن عباس، فروى الزهري عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة قال: لقيت زفر بن أوس البصري فقال: نمضي إلى عبد الله بن عباس نتحدّث عنده، فأتيناه، فتحدّثنا عنده، فكان من حديثه أنّه قال: سبحان الذي أحصى رمل عالج عدداً، ثمّ يجعل في مال نصفاً، ونصفاً، وثلثاً، ذهب النصفان بالمال فأين موضع الثلث؟، وأيم الله لو قدّموا من قدّم الله، وأخّروا من أخّر الله، ما عالت فريضة أبداً، فقال زفر: فمن الذي قدّمه الله ومن الذي أخّره الله؟، فقال: الذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدّمه، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي فذلك الذي أخّره الله، فقال زفر: فمن أوّل من أعال الفرائض؟، قال: عمر بن الخطّاب، فكان مذهبه أنّ الفروض إذا ازدحمت، النقص على البنات، والأخوات.

ودليلنا: أنّ كل واحد من هؤلاء لو انفرد، أخذ فرضه، فإذا ازدحموا، وجب أن يقتسموا على قدر الحقوق كأصحاب الديون، والوصايا، ولأنّ الله تعالى فرض للأخت النصف كما 

 

180


144

الدرس التاسع عشر: الميراث

فرض للزوج النصف، وفرض للأختين الثلثين كما فرض الثلث للأختين من الأمّ، فلا يجوز إسقاط فرض بعضهم من نصّ الله تعالى بالرأي والتحكّم وبما أنه لم يمكن الوفاء بها، فوجب أن يتساووا في النقص على قدر الحقوق كالوصايا، والديون، ولا نعلم اليوم قائلاً بمذهب ابن عباس، ولا نعلم خلافاً بين فقهاء الأمصار في القول بالعول بحمد الله ومنّه1.

 

منشأ الاختلاف:

تبين لنا أنّ القول بالعول ناشئ عن رأي عمر بن الخطّاب على أساس الشورى بينهم. والقول ببطلان العول ناشئ عن كلام أمير المؤمنين علي  عليه السلام موافقاً لما ورد في كتاب الله، وسنّة نبيّه في ذلك.

أحكام الميراث

يعتبر الشيخ محمد جواد مغنية أن هناك بوناً شاسعاً بين الإمامية، والمذاهب الأربعة في أحكام الميراث، ومثاله2:

1- من ترك بنتاً، وأخاً لأبوين أو لأب:

- المذاهب الأربعة: البنت والأخ .

- المذهب الجعفري: المال كلّه للبنت ولا شيء للأخ.

2- من ترك بنتاً، وأمّاً:

- المذاهب الأربعة: الأمّ، البنت، يبقى سهمان يأخذهما الجدّ لأب إن كان، وإلّا فالإخوة لأبوين، وإلّا فالإخوة لأب على ترتيب العصبات.

- المذهب الجعفري: الأمّ، البنت، ولا شيء للعصبات.

 

منشأ الاختلاف:

الاختلاف في التوريث بين الفريقين ناشئ عن الاختلاف بينهما في مسألتي التعصيب، والعول، وقد أشبعنا الكلام في هاتين المسألتين.

 


1- ابن قدامة، المغني، ج 6، ص 184 – 185.

2- الشيخ مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة، ج 2، ص 572.

 

181


145

الدرس التاسع عشر: الميراث

الأفكار الرئيسة

- التعصيب هو عبارة عن توريث العصبة مع ذوي الفروض القريبة إذا لم يُحِط الفرض بمجموع التركة، فيأخذ الفاضل على أساس الإرث بالتعصيب.

 

في المذهب الجعفري، التعصيب باطل كتاباً، وسنّة، وإجماعاً.

 

عند المذاهب الأربعة، للتوريث صلة وثيقة بالتعصيب إجماعاً.

 

- تعريف العول: هو عبارة عن تقسيم التركة للورّاث بأقلّ ما هو المقرّر فرضاً. لأجل كثرة السهام وقلّة المال.

 

على المذهب الجعفري، لا يصح العول من التوريث كتاباً، وسنّة، وإجماعاً، بينما على المذاهب الأربعة يصحّ العول عملاً بما شرّعه عمر بن الخطّاب.

 

- هناك بون شاسع بين السنّة والشيعة في أحكام الإرث تبعاً لمصدر الأحكام المأخوذة منها.

 

على المذهب الجعفري: للإرث طبقات:

1- الطبقة الأولى: الأبوان والأولاد، وهذه الطبقة عند وجودها تمنع الطبقة الثانية من أصل الإرث.

 

2- الطبقة الثانية: الإخوة والأجداد، وهذه الطبقة عند وجودها تمنع الطبقة التي تليها من الإرث.

 

3- الطبقة الثالثة: الأعمام والعمات، والأخوال والخالات...

 

4- وطبقات النسب تمنع طبقات السبب،- عدا الزوجين-، ومثال طبقات السبب: المعتق، وضامن الجريرة، والإمام  عليه السلام.

 

182


146

الدرس العشرون: سنن الأموات

الدرس العشرون

سنن الأموات

 

أهداف الدرس
 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يبيّن أنواع الوصيّة، وشروط قبولها.

 2- يشرح حكم جواز البكاء على الميت.

 3- يستدّل على جواز التوسّل بقبور الصالحين، أو زيارتهم.

 

183


147

الدرس العشرون: سنن الأموات

مدخل

الموت انقطاع تعلّق الروح بالبدن، وأوّل منازل الآخرة، وعنه تحدّث سيّد الشهداء الإمام الحسين  عليه السلام بقوله: "ما الموت إلا قنطرة تعبر بكم من البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة، الحديث..."1. فالموت في الإسلام ليس النهاية والعدم، بل هو الانتقال إلى الحياة الحقيقية التي عبر الله سبحانه عنها بقوله: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾2.

 

وإذا نزل الموت بالإنسان انقطع عن الدنيا وما فيها، وصار مصيره مرهوناً بأعماله التي قدّمها في دنياه لآخرته، إلا أنّ الله سبحانه فتح برحمته باباً للمؤمنين، ينتفع به الميت والحي على السواء، مع ما فيه من الموعظة والعبرة والتذكّر للأحياء، وقد روي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"3.

 

وروى محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق  عليه السلام: نزور الموتى؟ فقال  عليه السلام: "نعم". قلت: فيسمعون بنا إذا أتيناهم؟ قال عليه السلام: "إي والله ليعلمون بكم ويفرحون بكم ويستأنسون"4.

 


1- محمد بن الحسين، الصدوق (الشيخ)، معاني الأخبار، تصحيح علي أكبر غفاري، مؤسسة النشر الإسلامي قم، ص 288.

2- سورة العنكبوت، الآية 64.

3- النيسابوري، مسلم، صحيح مسلم، دار الفكر، بيروت، باب الوقف، ج5، ص73. ورواه أحمد في مسندهـ ، وكذا في سنن أبي داوود والترمذي... وغيرهم.

4- النوري الطبرسي، حسين (الميرزا)، مستدرك الوسائل، ج10، ص 384.

 

185


148

الدرس العشرون: سنن الأموات

وعن الصادق عليه السلام، قال: "من عمل من المؤمنين عن ميت عملاً أضعف الله أجره وينعم به الميت"1. ومثلها الكثير.

 

وقد جعل الإسلام سنناً للموت وما بعده، اتّفق عليها المسلمون، وإن أنكرها البعض لقصور اطّلاعه، ومن هذه السنن التوسل إلى الله عند قبور الصالحين وزيارة القبور، وقد اتّفق المسلمون على كراهة البناء على القبور إلا أن المذهب الجعفري استثنى قبور الأنبياء والصالحين فعدّ البناء عليها من شعائر الله، ووقع الكلام بينهم في جواز البكاء على الميت مع اتّفاقهم على حرمة النوح بالباطل.

 

اشتراط القبول في الوصية

المذهب الجعفري:

الوصية العهدية لا تحتاج إلى القبول، وأمّا التمليكية فالمشهور على أنّه يعتبر فيها القبول جزءاً، ولهذا تكون من العقود، أو شرطاً على وجه الكشف أو النقل، فيكون من الإيقاعات، ويحتمل قوياً عدم اعتبار القبول فيها بل يكون الردّ مانعاً، ولهذا تكون من الإيقاع الصريح.

 

ودعوى أنّه يستلزم الملك القهري، وهو باطل في غير مثل الإرث، مدفوعة بأنّه لا مانع منه عقلاً، ومقتضي عمومات الوصية ذلك، مع أنّ الملك القهري موجود في الوقف.

 

وقال: بناء على اعتبار القبول في الوصية، يصح إيقاع القبول قبل وفاته على الأقوى، ولا وجه لما عن جماعة من عدم صحة إيقاع القبول حال الحياة، لأنّها تمليك بعد الموت، فالقبول قبل الموت كالقبول قبل الوصية، لا محلّ له، ولأنّ القبول كاشف أو ناقل، وهما معاً منتفيان حال الحياة. إذ نمنع عدم المحل له، لأنّ الإنشاء المعلق على الموت قد حصل، فيمكن القبول المطابق له، والكشف والنقل إنّما يكونان بعد تحقق المعلق عليه، فهما في القبول بعد الموت لا مطلقاً2.

 


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج2، ص44.

2- اليزدي، العروة الوثقى، ج 5، ص 645.

 

186


149

الدرس العشرون: سنن الأموات

المذاهب الأربعة:

الحنفية قالوا: الوصية تملك مضاف إلى ما بعد الموت.

والمالكية قالوا: الوصية في عرف الفقهاء عقد.

والشافعية قالوا: الوصية تبرع بحق مضاف إلى بعد الموت.

والحنابلة قالوا: الوصية هي الأمر بالتصرف بعد الموت1.

 

ونحن نلاحظ أن هذه المصطلحات تندرج تحت القسمين: التمليكية، والعهدية، كما ألمح إليهما السيد الطباطبائي اليزدي في مبدأ البحث، حيث يشترط في الوصية القبول عند الجعفري، وأما عند السنّة، فيشترط في القبول أن يكون بعد الموت، لأنّ الوصية تمليك بعد الموت فهي معلّقة على الموت.

 

وقال بعضهم: إنّ القبول ليس بشرط، لأنّ الوصية من باب الميراث2.

 

منشأ الاختلاف:

الاختلاف في هذه المسألة ناشئ عن الاختلاف في الاجتهاد، وهو اختلاف يسير سهل المؤنة.

 

البناء على القبور

قال الجزيري: يكره أن يبنى على القبر بيت، أو قبة، أو مدرسة إذا كانت الأرض غير مسبلة، وإلّا فتحرم على المذاهب الثلاثة، إلّا أن الحنابلة قالوا: إنّ البناء مكروه مطلقاً سواء كانت الأرض مسبلة أو لا[3]. وقال ابن قدامة: يكره البناء على القبر، وتجصيصه، والكتابة عليه، لما رواه مسلم في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولأنّ ذلك من زينة الدنيا، فلا حاجة بالميت إليه، وفي هذا الحديث دليل على الرخصة في طين القبر لتخصيصه التجصيص بالنهي4. وعليه: لا يحرم البناء على القبور.

 


1- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج 3، ص 374.

2- (م. ن)، ح 3، ص 375.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج1، ص 689.

4- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 387.

 

187


150

الدرس العشرون: سنن الأموات

قال السيد الطباطبائي اليزدي: من المكروهات: البناء على القبر، - عدا قبور الأنبياء، والأوصياء، والصلحاء، والعلماء، أمّا الكراهة: فاللروايات الضعيفة سنداً1، وأمّا جواز البناء بالنسبة إلى قبور الأنبياء، فهو تعظيم لشعائر الله: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ2, ولسيرة المتدينين، وأقوى شاهد عليه: بناء قبر رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، وأوصيائه الطاهرين، وقبر الشافعي، وأبو حنيفة، والبخاري.

 

البكاء على الميت

قال الخرقي: البكاء على الميت ليس مكروهاً إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة.

 

وقال ابن قدامة: البكاء بمجرده لا يكره في حال، ثمّ استدل عليه بروايات متعددة، منها: ما روى جابر أنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أخذ إبنه فوضعه على حجره وبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتبكي!، أولم تكن نهيت عن البكاء؟، قال: لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة، وخمش الوجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان.

 

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهذا يدل على أنّه لم ينه عن مطلق البكاء وإنّما نهى عنه موصوفاً بهذه الصفات3.

 

وقال أحمد: إذا ذكرت المرأة، مثل ما حكي عن فاطمة في مثل الدعاء بما لا يكون مثل النوح، فلا بأس به، وروي عن فاطمة عليها السلام إنّها قالت: "يا أبتاه، يا مَنْ ربه أدناه يا أبتاه، إلى جبريل أنعاه، يا أبتاه، أجاب رباً دعاه". وروي عن علي  عليه السلام، أن فاطمة عليها السلام أخذت قبضة من تراب قبر النبي  صلى الله عليه وآله وسلم فوضعتها على عينها وقالت:

ماذا على من شم تربت أحمد أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليّ مصيبة لو أنّها صبت على الأيام عدن لياليا

 


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3، ص 210.

2- سورة الحج، الآية 32.

3- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 411.

 

188


151

الدرس العشرون: سنن الأموات

قال السيد الطباطبائي اليزدي: يجوز البكاء على الميت ولو كان مع الصوت، بل قد يكون راجحاً كما إذا كان مسكناً للحزن، وحرقة القلب بشرط أن لا يكون منافياً للرضا بقضاء الله1.

 

وقال: أما البكاء المشتمل على الجزع، وعدم الصبر، فجائز ما لم يكن مقروناً بعدم الرضا بقضاء الله. نعم، يوجب حبط الأجر، ولا يبعد كراهته2.

 

الشافعية، والحنابلة قالوا: البكاء على الميت برفع الصوت والصياح مباح3.

 

النوح والنياحة

قال السيد الطباطبائي اليزدي: يجوز النوح على الميت بالنظم، والنثر ما لم يتضمن الكذب[4]، للأصل، وللسيرة، وللروايات، ولعدم الدليل على الحرمة.

 

قال ابن قدامة: وظاهر الأخبار تدل على تحريم النوح، لأنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم نهي عنه في حديث جابر، لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾5, قال أحمد: هو النوح إلى أن قال: وقد صح عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ الميّت يعذب في قبره بما يناح عليه"، وفي لفظ: "إنّ الميّت ليعذب ببكاء أهله"، وروي ذلك عن عمر، وابنه، والمغيرة. وهي أحاديث متفق عليها6.

 

وقال ابن عباس: ذكرت الحديث لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لم يحدث رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه"، ولكن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه"، وقالت حسبكم القرآن: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾7.

 


1- اليزدي، العروة الوثقى، ج 2، ص 130.

2- (م. ن)، ج 2، ص 131.

3- الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ح 1، ص 683.

4- اليزدي، العروة الوثقى، ج 2، ص 131.

5- سورة الممتحنة، الآية 12.

6- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 412.

7- سورة الإسراء، الآية 15.

 

189


152

الدرس العشرون: سنن الأموات

قال السيد الخوئي: مضافاً إلى ضعف سند هذه الرواية، ليست قابلة للتصديق، لمخالفتها لصريح الكتاب، قال تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، فإنّه بعيد عن العدل الإلهي أن يعذب الميت ببكاء شخص آخر، وفعل غير الميّت (النوح) وإن ارتكب أعظم الكبائر، فلا يمكن الاعتماد عليه، وقال: روي عن الإمام الصادق  عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾، تفسيره: "أن لا يشقق جيباً، ولا يلطمن وجهاً، ولا يدعون ويلاً"1.

 

وقال السيد الطباطبائي اليزدي: يجوز النوح ما لم يشتمل على الويل والثبور2.

 

النتيجة: النوح بما هو شعر أو نثر بمجرده، أمر سائغ لا دليل على حرمته كتاباً وسُنّة، وأما شق الجيب، ولطم الخد، وجز الشعر، كل ذلك لا يجوز عند الفريقين.

 

قال السيد الطباطبائي اليزدي: لا يجوز اللطم، والخدش، وجز الشعر بل والصراخ الخارج عن حد الاعتدال على الأحوط، وكذا لا يجوز شق الثوب على غير الأب، والأخ، والأحوط تركه فيهما أيضاً3.

 

التوسل إلى الله عند قبور الصالحين

قال ابن قدامة: يستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحين، والشهداء، لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة، روى البخاري ومسلم باسنادهما أن موسى  عليه السلام لما حضره الموت، سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية حجر، قال النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: "لو كنت ثم، لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر"[4]. فتبين النتيجة: التوسل إلى الله عند قبور الصلحاء مظنة للإجابة، لكونها بقعة شريفة محاطة بلطف الله وبركاته.

 


1- التبريزي، جواد، تنقيح مباني العروة، ط 1، إيران، قم، دار الصديقة الشهيدة، 1429هـ ، ج 1،ص 407.

2- اليزدي العروة الوثقى، ج 2، ص 131.

3- (م. ن)، ج 2، ص 131.

4- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 389.

 

190


153

الدرس العشرون: سنن الأموات

زيارة القبور

قال الجزيري: زيارة القبور مندوبه، للاتعاظ، وتذكر الآخرة.

 

قال: ينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء، والتضرع، والاعتبار بالموتى، وقراءة القرآن للميّت، فإن ذلك ينفع للميّت على الأصح. إلى أن قال: يندب السفر لزيارة الموتى خصوصاً مقابر الصالحين، وأما زيارة قبر النبي  صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من أعظم القرب، كما ويندب زيارة القبور للرجال، وتندب أيضاً للنساء العجائز اللاتي لا يخشى منهنّ الفتنة1. وعليه: إذا كانت النساء مأمونة من الفتنة، وكانت محجبات بالحجاب الإسلامي، فلا مانع من زيارتهنّ للقبور بحسب الفقه.

 

قال الخرقي: ويستحب للرجال زيارة القبور، وهل يكره للنساء على روايتين:

أحداهما: الكراهة لما روت أم عطية قالت: نهينا عن زيارة القبور، ولم يعزم علينا (متفق عليه).

 

والرواية الثانية: لا يكره، لعموم قوله  صلى الله عليه وآله وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" وهو يدل على سبق النهي ونسخه، فيدخل فيها الرجال والنساء. وروى ابن أبي مليكة عن عائشة أنها زارت قبر أخيها، فقال لها: قد نهى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم عن زيارة القبور، قالت: نعم، قد نهى ثم أمر بها2.

 


1- الأميني، الغدير، ط 3، لبنان، بيروت، 1967م، ج 5، ص 180.

2- ابن قدامه، المغني، ج 2، ص 424.

 

191


154

الدرس العشرون: سنن الأموات

الأفكار الرئيسة

- تعتبر الوصية من الإيقاعات على المذهب الجعفري، ويكفي في صحتها عدم الردّ، ولا تحتاج إلى القبول. وهي من العقود على المذاهب الأربعة، ويشترط في صحتها القبول من الوصي.

 

- يكره البناء على القبور، ولا يحرم على المذاهب كلها.

 

- يستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحين، والشهداء، لتناله بركتهم، وكذلك في البقاع الشريفة.

 

- يستحب زيارة القبور، والتعذية بالمصاب على المذاهب كلها، ويجوز للمرأة زيارة القبور كذلك مع كونها مأمونة من الفتنة.

 

- يجوز البكاء على الميت ولو مع الصوت ما لم يشتمل على الويل، والثبور، واللطم، والخدش، وجز الشعر... الخ.

 

192


155
الفقه المقارن