الحكومة الإسلامية في فكر الإمام الخميني


الناشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

تاريخ الإصدار: 2015-07

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


الفهرس

 

مقدّمة

11

تمهيد عام

15

بداهة ولاية الفقيه

17

أسباب غربة الأمـّة عن مبدأ ولاية الفقيه

17

مشاكل القوانين الوضعيـّة:

24

العوامل الداخليـّة والخارجيـّة لضعف الأمـّة

27

الدين محور لكلّ الحياة

32

الفصل الأوّل

35

ضرورة المؤسـّسات التنفيذيـّة

37

سيرة الرسول الأعظم

38

 

 

 

 

5


1

الفهرس

 

ضرورة استمرار تنفيذ الأحكام

39

حقيقة قوانين الإسلام وتنوّعها

41

أ ـ الأحكام الماليـّة:

43

ب ـ أحكام الدفاع:

45

ج ـ أحكام الحدود والديـّات والقصاص:

46

ضرورة الثورة السياسيـّة

47

ضرورة الوحدة الإسلاميـّة

48

ضرورة إنقاذ المظلومين والمحرومين

50

ضرورة تشكيل الحكومة في الأحاديث

51

الفصل الثاني

55

خصائص نظام الحكم الإسلاميّ

57

شروط الحاكم الإسلاميّ

61

الحاكم في زمن الغيبة

64

ولاية الفقيه

65

الولاية الاعتباريـّة

66

 

 

 

 

 

6

 


2

الفهرس

 

الولاية التكوينيـّة

68

الحكومة الإسلاميـّة وسيلة لتحقيق الأهداف السامية

70

صفات الحاكم الّذي يـُحقِّق هذه الأهداف

72

ولاية الفقيه في الأحاديث الإسلاميـّة

73

الفقهاء حصون الإسلام

80

الفقهاء أمناء الرسل

84

أهداف الرسالات

85

أهليـّة الفقهاء لقيادة الأمـّة

87

أمانة الفقهاء لتطبيق القانون

88

أهميـّة منصب القضاء في الإسلام

91

القضاء من شؤون الفقيه العادل

92

مكاتبة إسحاق بن يعقوب

95

آيات من القرآن المجيد

99

مقبولة عمر بن حنظلة

105

تحريم التحاكم إلى حكّام الجور

106

علماء الإسلام هم مرجع الأمور

107

 

 

 

 

 

7


3

الفهرس

 

العلماء منصوبون للحكم

107

هل عـُزل العلماء عن منصب الحكم؟

109

منصب العلماء محفوظ دائماً

110

صحيحة قدّاح

112

رواية أبي البختري

112

مؤيـّدات أخرى

120

الفصل الثالث‏

139

سبل السعي من أجل تشكيل حكومة إسلاميـّة

141

وظيفة العلماء أمام هجمة أعداء الإسلام‏

143

إحياء روح الجماعة في الأمـّة

148

تبليغ الإسلام الحقيقيّ للناس‏

150

المقاومة على المدى الطويل‏

152

إصلاح الهيئات الدينيـّة

155

إزالة آثار العدوان الاستعماريّ الفكريّ والخلقيّ‏

156

إصلاح المتقدِّسين

163

 

 

 

 

 

 

8


4

الفهرس

 

تطهير المراكز الدينيـّة

165

أطردوا فقهاء السلاطين

168

تدمير الحكومات الجائرة

170

 

 

 

 

 

9


5

مقدمة

 المقدمة


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أول ولي وحاكم في الإسلام رسول الله محمد وعلى آله الطاهرين.

"ولاية الفقيه فكر علمي واضح قد لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أن من عرفَ الإسلامَ يرى بداهتها، ولكن وضعَ المجتمعِ الإسلامي ووضع مجامعنا العلمية على وجه الخصوص يضع هذا الموضوع بعيداً عن الأذهان حتى عاد اليوم بحاجة إلى برهان...".

بهذا الوضوح في التعبير والقوة في الموقف والبيان صدّر الإمامُ الخميني "قدس سره" كتاب الحكومةِ الإسلامية. الذي هو عبارة عن ثلاثةَ عشر محاضرة ألقاها سماحته على طلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف في العام 1969 للميلاد وذلك تحت عنوان "ولاية الفقيه".

وكان لهذه المحاضرات الأثرُ الفعال والمهمُ جدا في ذلك الوقت.حيث أعادت إلى الواجهة القضيةَ الأولى في الإسلام وهي الحكم والحكومة.

وفي عام 1970 طبعت هذه المحاضرات في بيروت من قبل أنصار الإمام، ومن ثم أرسلت إلى إيران بشكل سري كما وأرسلت في الوقت نفسه إلى أوروبا وأمريكا وصولا إلى أفغانستان وباكستان.
 
 
 
 
 
 
 
11

6

مقدمة

 وفي عام 1977 طبع في إيران ولكن تحت اسم: "رسالة من الإمام الموسوي كاشف الغطاء".


ومن الطبيعي أن تكون كتبُ الإمام "قدس سره" محظورةَ الطباعة والتوزيع وحتى القراءة آنذاك، واحتل موقعَ الصدارة منها كتابُ الحكومة الإسلامية. حيث انه وبالفعل سجن وعذب الكثير بجريمة طبع الكتاب 

وتوزيعه بل حتى قراءته واقتنائه. ووصلت بعض الأحكامِ إلى الستة أشهر بجريمة الاقتناء.

ولكن يأبى الله إلا أن يتمّ‏َ نورَه. فقد انتشر الكتابُ بسرعة كبيرةٍ معيداً الاعتبار إلى فكرة تشكيلِ الحكومة الإسلامية على أساس مبدأ ولايةِ الفقيه.

واعتبر بحق الأساسُ الأيديولوجي الذي قامت عليه الثورةُ الإسلامية في إيران فيما بعد وعصارةُ فكرِ الإمام "قدس سره" في مجال حاكمية الإسلام.

وهذه المحاضرات ألقيت في الأساس باللغة الفارسية، وقد تم ترجمتها إلى العربية أكثر من مرة، وقد اعتمدنا في هذه النسخة الترجمة القديمة لما تتميز به تلك الترجمة من وضوح في التعبير ضمن سبك متقن.

واعتمدنا تعليقات مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني "قدس سره" في طهران في طبعتها الأخيرة للكتاب (2002م) وأضفنا إليها بعض التعليقات المناسبة.
 
 
 
 
 
 
 
12

7

مقدمة

 وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نذكر صاحب هذا الكتاب الإمام الخميني "قدس سره" الذي علم فعمل، ولم يتوقف عند تقديم النظرية بل انطلق حتى حقق النموذج العملي الذي حسر الجدال بعد وجود التجربة في العيان، وقد أسفر الصبح لذي عينين!.


وهذه هي الطبعة الثالثة، مصحّحة ومنقّحة وبإخراج جديد، نضعها بين يدي قرّائنا الأعزّاء، آملين من المولى أن يوفّقنا وإيّاهم لما فيه صلاح الأمّة وخيرها.
 
مركز نون للترجمة والتأليف
 
 
 
 
 
 
13

8

مقدمة

 تمهيد عام


ولاية الفقيه

بداهة ولاية الفقيه.

أسباب غربة الأمّة عن مبدأ ولاية الفقيه:

أ ـ الحركة اليهوديّة والتبشير الاستعماريّ.

ب ـ شبهات المستعمرين والمستشرقين حول الإسلام:

ـ الشبهة الأولى: فصل الإسلام عن نظام الحكم.
ـ الشبهة الثانية: نقص الإسلام وخشونة أحكامه القضائيّة.
ـ الشبهة الثالثة: لا حكومة في الإسلام تضمن التنفيذ.

الدين محورٌ لكلِّ الحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
15

9

مقدمة

 القصل الاول: ولاية الفقيه 

 
بداهة ولاية الفقيه‏
 
ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أن من عرف الإسلام، أحكاماً، وعقائد، يرى بداهتها. ولكن وضع المجتمع الإسلامي، ووضع مجامعنا العلمية على وجه الخصوص، يضع هذا الموضوع بعيداً عن الأذهان، حتى لقد عاد اليوم بحاجة إلى البرهان.
 
أسباب غربة الأمة عن مبدأ ولاية الفقيه‏‏
 
أ- الحركة اليهودية والتبشير الإستعماري:
 
ابتليت الحركة الإسلامية من أول أمرها باليهود، حينما بدأوا نشاطهم المضاد، بالتشويه لسمعة الإسلام، والوقيعة فيه، والافتراء عليه، واستمر ذلك إلى يومنا هذا. ثم كان دور كبير لفئات يمكن أن تعتبر أشد بأساً من إبليس وجنوده. وقد برز ذلك الدور في النشاط الاستعماري الذي يعود تاريخه إلى ما قبل ثلاثة قرون1. وقد وجد المستعمرون في العالم الإسلامي ضالتهم المنشودة، وبغية الوصول
 
 

1- منذ أواسط القرن السادس عشر الميلادي، انطلق البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون وغيرهم، لاستعمار البلاد الإسلامية، إذ استعمروا أولاً البلدان الأفريقية، ومن ثم استعمرت الدول الآسيوية.
 
 
 
 
 
 
 
17

10

مقدمة

  إلى مطامعهم الاستعمارية سعوا في إيجاد ظروف ملائمة تنتهي بالإسلام إلى العدم. ولم يكونوا يقصدون إلى تنصير المسلمين بعد إخراجهم من الإسلام، فهم لا يؤمنون بأي منهما، بل أرادوا السيطرة والنفوذ، لأنهم أدركوا دائماً وفي أثناء الحروب الصليبية1، إن أكبر ما يمنعهم من نيل 

مآربهم، ويضع خططهم السياسية على شفا جرف هار هو الإسلام: بأحكامه، وعقائده، وبما يملك الناس به من إيمان. لأجل هذا تحاملوا عليه وأرادوا به كيداً. وتعاونت على ذلك أيدي المبشرين، والمستشرقين، ووسائل الإعلام، وكلها تعمل في خدمة الدول الاستعمارية، من أجل تحريف حقائق الإسلام، بشكل جعل كثيراً من الناس، والمثقفين منهم بشكل خاص، بعيدين عن الإسلام، ولا يكادون يهتدون إليه سبيلاً.
 
ب- شبهات المستعمرين والمستشرقين حول الإسلام:
 
فالإسلام هو دين المجاهدين الذين يريدون الحق والعدل، دين الذين يطالبون بالحرية والاستقلال، والذين لا يريدون أن يجعلوا للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
 
ولكن الأعداء أظهروا الإسلام بغير هذا المظهر. فقد رسموا 
 
 
 

1- الحروب الصليبية سلسلة من الحروب دارت ما بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر للميلاد بين مسيحي أوروبا والمسلمين لانتزاع (بيت المقدس) من أيدي المسلمين وقد بدأت الحرب عام 1096م 498ه( بفتوى البابا أوربان الثاني وكانت على ثمان مراحل وانتهت بموت سان لويس ملك فرنسا 1270م 669ه) وقد اشتهر المسيحيون فيها بجيش الصليب أو الصليبيون لأنهم كانوا يضعون على كتفهم الأيمن قطعة قماش حمراء على شكل صليب.
 
 
 
 
 
 
18

11

مقدمة

 له صورة مشوهة في أذهان العامة من الناس، وغرسوها حتى في المجامع العلمية، وكان هدفهم من وراء ذلك إخماد جذوته، وتضييع طابعه الثوري الحيوي، حتى لا يفكر المسلمون في السعي لتحرير أنفسهم، وتنفيذ أحكام دينهم كلها، عن طريق تأسيس حكومة تضمن لهم سعادتهم في ظل حياة إنسانية كريمة.


الشبهة الأولى: فصل الإسلام عن نظام الحكم

فقالوا عن الإسلام: أن لا علاقة له بتنظيم الحياة والمجتمع، أو تأسيس حكومة من أي نوع، بل هو يعنى فقط بأحكام الحيض والنفاس، وقد تكون فيه أخلاقيات، ولا يملك بعد ذلك من أمر الحياة وتنظيم المجتمع شيئاً. ومن المؤسف أن تكون لهذا كله آثاره السيئة ليس في نفوس عامة الناس فحسب، بل لدى الجامعيين، وطلبة العلوم الدينية أيضاً.

فهم يخطئون فهمه، ويجهلونه، حتى لقد عاد بينهم غريباً، كما يبدو الغرباء من الناس، وقد غدا صعباً على الداعية المسلم أن يعرِّف الناس بالإسلام، وفي مقابله يقف صف من عملاء الاستعمار، ليأخذوا عليه الآفاق عجيجاً وضجيجاً.

الحل: مسؤولية الإسلام لجميع جوانب الحياة

ولكي نميز بين واقع الإسلام، وبين ما عرفه عامة الناس عنه، أحب أن أوجه أنظاركم إلى التفاوت بين القرآن وكتب الحديث من جهة، 
 
 
 
 
 
 
 
19

12

مقدمة

 وبين الرسائل العملية من جهة أخرى. القرآن، وكتب الحديث، وهما من أهم مصادر التشريع يمتازان عن الرسائل التي كتبها المجتهدون والفقهاء امتيازاً شديداً، لما في القرآن وكتب الحديث من الشمول لجميع جوانب الحياة. فالآيات ذات العلاقة بشؤون المجتمع تزيد اضعافاً مضاعفة عن الآيات ذات العلاقة بالعبادات خاصة. وفي أي كتاب من كتب الحديث الموسّعة لا تكاد تجد أكثر من ثلاثة أبواب، أو أربعة تعنى بتنظيم عبادات الإنسان، وعلاقاته بربه، وأبواب يسيرة أخرى تدور في الأخلاق، وما سوى ذلك فذو علاقة قوية بالاجتماع، والاقتصاد، وحقوق الإنسان، والتدبير، وسياسة المجتمعات.


أنتم الشباب جنود الإسلام. عليكم أن تتعمقوا فيما أوجزه من الحديث، وتعرّفوا الناس طوال حياتكم بأنظمة الإسلام وقوانينه، بكل وسيلة ميسورة: كتابة، وخطابة، وعملاً. علِّموا النَّاس بما أحاط 
بالإسلام من أول أمره من بلايا ومصائب وأعداء. لا تكتموا الناس ما تعلمون، ولا تدعوا الناس يتصورون أن الإسلام كالمسيحية الحالية، وأن لا فرق بين المسجد والكنيسة، وأن الإسلام لا يملك أكثر من تنظيم علاقة الفرد بربه.

في الوقت الذي كان يسيطر فيه الظلام على بلاد الغرب، وكان الهنود الحمر يقطنون أمريكا، وكان في الإمبراطورية الرومانية والفارسية حكم مطلق يمارس فيه التسلط والتمييز العنصري، وتستخدم فيه القوة إلى مدى بعيد من غير اهتمام برأي الشعب، أو 
 
 
 
 
 
 
 
20

13

مقدمة

 بالقانون آنذاك وضع اللَّه قوانين صدع بها النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليولد في ظلِّها الإنسان.

 
 لكل شي‏ء آداب وقوانين. ومن قبل تكوّن الإنسان، وإلى حين نزوله في حفرته، وضعت له قوانين تحكمه. ورسمت العلاقات الاجتماعية، ونظمت الحكومة، إلى جانب ما رسم من وظائف العبادات. والحقوق في الإسلام ذات مستوى عال، ومتكامل، وشامل. وكثيراً ما اقتبس الحقوقيون من أحكام الإسلام وأنظمته، في معاملاته، وحدوده1، وقصاصه2، وقضائه، وتنظيمه العلاقات بين الدول والشعوب، وقواعد الحرب والسلم، وحقوق الناس. وهكذا يكون الإسلام قد عالج كل موضوع في الحياة، وأعطى فيه حكمه. ولكن الأجانب وسوسوا في صدور الناس والمثقفين منهم خاصة: "إن الإسلام لا يملك شيئاً، الإسلام عبارة عن مجموعة أحكام الحيض والنفاس. طلبة العلوم الدينية لا يتجاوزون في تخصصهم هذه المواضيع". صحيح أن بعض الطلبة لا يهتم بأكثر من هذا، وهم مقصِّرون، وفي هذا ما يُعين الأعداء أحياناً على نيل مقاصدهم. وفي هذا ما يدعو إلى ابتهاج المستعمرين الذين عملوا منذ مئات السنين على غرس بذور الاهمال في مجامعنا العلمية، وصولاً إلى أهدافهم فينا، وفي ثرواتنا وخيرات بلادنا.
 
 

1- يطلق الحد في الشرع الإسلامي على مجموعة العقوبات البدنية المفروضة على جنح خاصة، ويتم تعيين حدود هذه العقوبات من قبل الشارع.
2- القصاص في الفقه الإسلامي هوتطبيق الجناية ذاتها في حق الجاني بحكم القانون، سواء كانت الجناية قتلاً أو قطع عضو أو ضرباً أو جرحاً. وذلك حينما يطالب المجني عليه أو أولياؤه بالقصاص ويمتنعون عن أخذ الدية.
 
 
 
 
 
 
21

14

مقدمة

 الشبهة الثانية: نقص الإسلام وخشونة أحكامه القضائية.


أحياناً يوسوسون إلى الناس: "إن الإسلام ناقص. أحكامه في القضاء ليست كما ينبغي".

وإمعاناً في خداع الناس وتضليلهم سعى عملاء الإنكليز بتوجيهٍ من سادتهم إلى استيراد القوانين الوضعية الأجنبية. وذلك في أعقاب الثورة السياسية المشهورة وإقامة حكم دستوري في إيران. فحينما أرادوا وضع القانون الأساسي أي الدستور للبلاد، عمد هؤلاء العملاء إلى القوانين البلجيكية، التي استعاروها من السفارة البلجيكية، وقام عدة منهم ولا أريد تسميتهم باستنساخها، مع ترميم نواقصها من مجموعة القوانين الفرنسية والإنكليزية، وأضافوا إليه بعض الأحكام الإسلامية تمويهاً وخداعاً. إنّ البنود الخاصة بتحديد نظام الحكم في الدستور، والتي تقرّ الملوكية والحكم الوراثي كنظام حكم للبلاد، مستوردة من إنكلترا وبلجيكا، ومأخوذة من دساتير الدول الأوروبية، وهي غريبة عن الإسلام ناقضة له.

هل توجد في الإسلام ملوكية أو حكم وراثي أو ولاية عهد؟! كيف يكون هذا في الإسلام، ونحن نعلم أن النظام الملكي يناقض الحكم الإسلامي ونظامه السياسي. لقد أبطل الإسلام الملكية وولاية العهد، واعتبر في أوائل ظهوره أن جميع أنظمة السلاطين في إيران ومصر واليمن والروم، غير شرعية. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قد كتب إلى ملك
 
 
 
 
 
 
22

15

مقدمة

 الروم (هرقليس)1 وملك فارس2: يدعوهم إلى الكف عن استعباد الناس، ويدعوهم فيها إلى إرسال الناس على سجاياهم، ليعبدوا اللَّه وحده، لأن له السلطان وحده3. إن الملكية وولاية العهد هو أسلوب الحكومة المشؤوم الباطل الذي نهض سيد الشهداء الحسين "عليه السلام" لمحاربته والقضاء عليه. وإباءً للضيم، واستنكافاً من الخنوع لولاية يزيد4 وملكه، قام بثورته التاريخية، ودعا المسلمين جميعاً إلى مثل ذلك. فليس في الإسلام نظام ملكي وراثي. وإذا كان هذا نقصاً في اعتبارهم، فليقولوا: إن الإسلام ناقص.

 
يضاف إلى ذلك النقص: أن الإسلام غفل عن تنظيم تعاطي الربا، وأهمل تنظيم معاقرة الخمور، وتنظيم الفحشاء والمنكر، ومن أجل سد 
 
 

1- هرقل الأول (641 575م) امبراطور الروم الشرقيين.
2- هنرو الثاني المعروف بخسرو برويز (628م) الملك الساساني.
3- بعث نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، في السنة السادسة للهجرة، رسلاً إلى حكّام البلاد المجاورة يدعوهم إلى الإسلام والتوحيد. فبعث عبد اللَّه بن حذافة السهمي إلى خسرو برويز، ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر الروم. وكان نص رسالته إلى خسرو برويز الآتي: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللَّه إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللَّه ورسوله وشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. أدعوك بدعاية اللَّه، فإني أنا رسول اللَّه إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس". وكان نص رسالته صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد بن عبد اللَّه إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك اللَّه أجرك مرتين. فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين. "ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللَّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" (آل عمران/64). مكاتيب الرسول، ج‏1، ص‏90 و105.
4- المقصود هو الطاغية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (64 25ه.ق).
 
 
 
 
 
 
 
23

16

مقدمة

 هذه النواقص، ومل‏ء هذه الفراغات، فقد اضطرت السلطات الحاكمة ربيبة الاستعمار إلى تشريع قوانين تنظم تلك الأمور، مقتبسة ذلك من إنكلترا، وفرنسا، وبلجيكا، وأمريكا. ونحن نعلم أن ذلك كله حرام في شريعتنا، وأن من مفاخر إسلامنا أن تعدم فيه تنظيمات خاصة بهذه الأمور.


مشاكل القوانين الوضعية:

وقد بذل الاستعمار البريطاني في أوائل ما يسمى بالعهد الدستوري جهوداً كان الهدف منها أمران: أحدهما دحر النفوذ الروسي في إيران، وثانيهما إخراج الإسلام وطرده من ميدان التطبيق، واستيراد القوانين الغربية، وإحلالها محل قوانين الإسلام.

وقد سببت هذه القوانين الأجنبية للمجتمع المسلم مشاكل جمة. فذوو الخبرة من الحقوقيين متذمرون منها. وكل من ألمت به مشكلة قضائية، أو حقوقية، في إيران، أو الدول المشابهة، لا بد أن يقضي عمراً مديداً، من أجل كسبها. قال لي أحد مهرة المحامين، وهو يحاورني: أنا أستطيع أن أعالج قضية بين متخاصمين في المحاكم طيلة عمري، ومع ذلك فقد يغلب على ظني أن ابني سيخلفني فيها من بعدي. هذه حقيقة موجودة، الآن، يستثنى من ذلك ما يكسبه ذوو النفوذ من قضاياهم كسباً سريعاً غير مشروع، بما يجيدونه من المكر والاحتيال والرشوة وأساليب الغش والخداع. ونحن نرى أن القوانين القضائية اليوم لا
 
 
 
 
 
 
 
24

17

مقدمة

  تريد بالناس إلا العسر. والقضية التي كان يبت فيها قاضي الشرع في يومين أو ثلاثة، تستغرق اليوم عشرين عاماً. وفي هذه المدة يشيب الشباب من كثرة مراجعة دوائر القضاء صباحاً ومساءً والدوران في أروقتها بغير أمل، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها.

 
يكتبون أحياناً في كتبهم وصحفهم: أحكام الإسلام قاسية ذات خشونة. حتى لقد تجرأ أحدهم بكل وقاحة، وقال: "خشونة هذه الأحكام مستمدة من خشونة البداوة، خشونة العرب هي التي سببت خشونة هذه الأحكام".
 
أنا أعجب لهؤلاء كيف يفكرون؟ هم ينفذون حكم الاعدام بحجة القانون في عدة أشخاص لتهريبهم (10 غم هيروئين). وقد بلغني أنهم أعدموا قبل حين، عشرة أشخاص، ثم واحداً آخر، من أجل تهريب (10 غم هيروئين). حينما يشرعون هذه القوانين اللاإنسانية بحجة منع الفساد، لا يرون فيها خشونة. أنا لا أبيح التعامل بالهيروئين، ولكني أنكر أن يكون الاعدام جزاء تعاطيه. بل لا بد من مكافحة ذلك، ولكن على أساس مناسب لحجم الجريمة1.
 
جلد شارب الخمر (80 سوطاً) فيه خشونة، وإعدام الأشخاص بسبب تهريب (10 غم هيروئين) لا خشونة فيه! في حين أن أكثر المفاسد الاجتماعية إنما يسببها الخمر. حوادث الاصطدام 
 
 

1-اعتراض الإمام له دافع آخر وهو عدم مراعاة العدالة.
 
 
 
 
 
 
 
25

18

مقدمة

 في الطرقات، وحوادث الانتحار، وحتى الإدمان على الهيروئين كما يقول البعض من عواقب السكر ومعاقرة الخمور. ومع ذلك فهم لا يحظرون الخمر، لأن الغرب قد أباح هذا، ولهذا فهم يتعاطون بيعها وشراءها بحرية تامة. الويل للإسلام منهم إذا أراد أن يجلد شارب الخمر ثمانين سوطاً، أو يجلد الزاني غير المحصن مائة جلدة، أو يرجم المحصن أو المحصنة1، ها هم يصرخون: إنها أحكام قاسية ذات خشونة مستمدة من خشونة العرب. في حين أن أحكام العقوبات الجنائية في الإسلام قد جاءت لمنع الفحشاء والمنكر والفساد في أمة كبيرة مترامية الأطراف. وها هو الفساد قد ظهر إلى حد ضاع فيه شبابنا، وتاهوا، لأن هذا الفساد قد مهد له، ودعي إليه، وتوفرت له التسهيلات اللازمة. وإذا أراد الإسلام في هذه اللحظة أن يتدخل، ويجلد شارب خمر بحضور طائفة من المؤمنين2، فإن أولئك سيتهمونه بالخشونة والقسوة. وفي مقابل 

 
 

1- في القوانين الجزائية الإسلامية ثبوت الاحصان من شروط رجم الزاني والزانية.
2- من جملة التقاليد المتبعة في معاقبة الخاطئ في قانون الإسلام، حضور عدد من المؤمنين أثناء اجرا الحدود. وقد شدد فقهاء الشيعة على ضرورة المحافظة على هذه السنة عند إقامة حدود الزنا والقذف مصداقاً لقوله تعالى في سورة النور (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، لعل الآخرون يعتبرون بذلك.
 
 
 
 
 
 
26

19

مقدمة

 هذا لا ينبغي الاعتراض على ما يجري في فيتنام1 من مجازر دموية منذ خمسة عشر عاماً على يد سادة هؤلاء الحكام، على ما في ذلك من نفقات باهظة تستنزف من جيوب الشعوب. أما إذا أراد الإسلام أن يفرض الدفاع عن نفسه، ويعلن الحرب لقطع دابر الفساد، فإنهم يصرخون: لم قامت هذه الحرب؟

 
العوامل الداخلية والخارجية لضعف الأمة
 
التقاعس أمام المخططات الموجَّهة:
 
كل هذه خطط صممت ورسمت قبل مئات السنين، وهم ينفذونها
 
 
 

1- بعد سنوات طويلة من النضال ضد المستعمرين الفرنسيين واليابانيين، خاضت فيتنام عام 1960 حرباً شاملة ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وفي هذه الحرب، التي انتهت عام 1973 بهزيمة وانسحاب القوات الأمريكية، لحقت بالشعب الفيتنامي خسائر فادحة. والأرقام الموثقة التالية وإن كانت قاصرة عن الوصف الدقيق لميزان الخسائر والأضرار التي خلفتها هذه الحرب غير أنه بإمكانها أن تعبر عن الوقائع المرة للتأريخ المعاصر. فحتى عام 1965 حيث اتسعت دائرة الحرب لتشمل فيتنام الشمالية، كانت خسائر الشعب الفيتنامي الجنوبي كالآتي: 170 ألف قتيل و800 ألف جريح و400 ألف أسير. وفي الوقت ذاته كان عدد الأشخاص الذين أرسلوا إلى مخيمات الأسر التي كانوا يسمونها (الوحدات الزراعية) قد تجاوز خمسمائة ألف. ونقلاً عن إذاعة صوت أمريكا (6 كانون الثاني 1963)، هاجم الطيران الأمريكي القرى الواقعة خارج حدود (القرى الحكومية) خمسين ألف مرة خلال عام 1962. وبناءً على اعترافات الجنرال هاركينز، قتل في تلك السنة ثلاثون ألف من القرويين. ووصلت الطلعات الجوية للقوات الأمريكية فوق مناطق فيتنام الجنوبية إلى ثلاثين ألف طلعة في الشهر. ووفقاً لما أفاده تقرير صحيفة نيويورك تايمز، أبيدت في العمليات المشتركة لقوات الولايات المتحدة وحكومة سايغون حوالى 1400 قرية من مجموع 2600 قرية جنوبية بقنابل النابالم والأسلحة الكيمياوية بشكل كامل. وذكر تقرير منظمة الصليب الأحمر الحر لفيتنام الجنوبية أن آلاف الأشخاص من سكان الجنوب أصيبوا بأمراض مختلفة سيما الأمراض الجلدية نتيجة استعمال التركيبات السامة في المناطق المكتظة بالسكان، وعانى هؤلاء المصابون الآلام والمتاعب الناشئة عن هذه الأمراض لفترات طويلة، وفيما عدا ذلك هلك الكثير من قطعان البقر والأنعام، كما أبيدت الفواكه والخضار والزهور، وكذلك مزارع الأرز بشكل كامل.
 
 
 
 
 
 
 
27

20

مقدمة

  تدريجياً. في البدء أسسوا مدرسة في مكان ما، ولم نحرك ساكناً، وغفلنا، وغفل أمثالنا عن منع ذلك، وزادت تدريجياً. والآن ترون أن لهم دعاة في جميع القرى، وقد عملوا على إبعاد أطفالنا عن دينهم. وتتمثل بعض خططهم في إبقائنا على تخلفنا وضعفنا، وبؤسنا، ليستفيدوا هم من ثرواتنا ومعادننا وأراضينا، وقوانا البشرية. هم يرون أن نبقى بؤساء مساكين من غير اطلاع ومعرفة لما شرعه الإسلام في معالجة الفقر، وليعيشوا هم وعملاؤهم وأذنابهم في قصور وبروج، في حياة ناعمة يرفلون. وقد تركت خططهم آثارها حتى في مجامعنا الدينية والعلمية، بحيث أن أحداً لو أراد التحدث في موضوع حكومة الإسلام، فلا بد أن يستعمل التقية، أو يجابه أذناب الاستعمار، حتى أن هذا الكتاب حينما صدر في طبعته الأولى أثار عملاء الشاه في العراق، وكشف عنهم بما أبدوه من حركات يائسة لم تجدهم نفعاً.

 
نعم، وصل بنا الأمر إلى حد أن بعضاً منا يعتبر لباس الحرب والقتال منافياً للمروءة، والعدالة1، في حين كان أئمتنا يلبسون للحرب لامتها، ويأخذون للقتال آلته، وكانوا يخوضون غمار الحروب، وكان أمير المؤمنين علي "عليه السلام" يرتدي لباس الحرب ويحمل سيفاً 
 
 

1- العدالة كما يراها البعض صفة نفسانية راسخة تبعث على ملازمة التقوى، أي ترك المحرمات وإتيان الواجبات. والعدالة من شرائط المفتي والقاضي وإمام الجماعة. والمروءة تعني اتباع العادات الحسنة والاجتناب عن التصرفات القبيحة حتى الأمور المباحة التي لا تكون مقبولة في نظر الناس. وقد عدَّ البعض المروءة من شروط تحقق العدالة، وفي حاشية كتاب شرح اللمعة، ج‏1، ص‏98، الفصل 11 في صلاة الجماعة، اعتبر ارتداء الزي العسكري منافياً للعدالة والمروءة.
 
 
 
 
 
 
28

21

مقدمة

 له حمائل، وهكذا كان الحسن "عليه السلام" وهكذا كان الحسين "عليه السلام"، ولو سنحت الفرص لجرى على ذلك الإمام محمد الباقر "عليه السلام" ومن بعده. كيف يكون ارتداء زي الحرب منافياً للعدالة الإجتماعية والمروءة، ونحن نريد تشكيل حكومة إسلامية، فهل نحقق ما نريد بالعمة والعباءة، لأن غير ذلك ينافي المروءة والعدالة؟

 
ما نقاسيه الآن إنما هو من آثار تلك الدعايات المضلّة التي انتهى بها أصحابها إلى ما يريدون، وأحوجتنا إلى بذل جهود كبيرة كي نثبت أن في الإسلام مبادى‏ء وقواعد لتشكيل الحكومة.

هذا وضعنا. وها هم الأعداء قد رسخوا تلك الأباطيل في نفوس الناس بالتعاون مع عملائهم، وأخرجوا قوانين الإسلام القضائية، والسياسية عن حيز التنفيذ، واستبدلوا بها قوانين أوروبا، تحقيراً للإسلام، وطرداً له من المجتمع، وقد انتهزوا في ذلك كل فرصة سانحة.

هذه مخططات الاستعمار التخريبية، وإذا أضفنا إليها عوامل الضعف الداخلية لدى بعض أفرادنا، نتج عن ذلك أن هذا البعض أخذ يتضاءل ويحتقر نفسه في مقابل التقدم المادي لدى الأعداء. فحينما تتقدم دول صناعياً وعلمياً، يتضاءل بعضنا، ويظن أن قصورنا عن ذلك إنما يعود إلى ديننا، وأن لا سبيل إلى مثل هذا التقدم إلا في اعتزال الدين وقوانينه، والمروق عن التعاليم والعقائد الإسلامية. وعند ذهابهم إلى القمر تصور هؤلاء أن الدين مانعهم عن هذا!!
 
 
 
 
 
 
 
29

22

مقدمة

  أحب أن أقول لهؤلاء: ليست قوانين المعسكر الشرقي أو الغربي هي التي أوصلتهم إلى القمر وإلى هذا التقدم الرائع في غزو الفضاء الخارجي، فقوانين هذين المعسكرين مختلفة تماماً. ليذهبوا إلى المريخ، وإلى أي مكان يشاؤون، فهم لا يزالون متخلفين في مجال توفير السعادة للإنسان، ومتخلفين في نشر الفضائل الخلقية، وفي إيجاد تقدم نفسي روحي مشابه للتقدم المادي. ولا يزالون عاجزين عن حل مشاكلهم الاجتماعية، لأن حل تلك المشاكل ومحو الشقاء يحتاج إلى روح عقائدية وأخلاقية، والمكاسب المادية في مجال تذليل الطبيعة وغزو الفضاء، لا تستطيع النهوض بذلك. الثروة والطاقات، والامكانيات بحاجة إلى الإيمان والعقيدة، والأخلاق الإسلامية حتى تتكامل، وتتعادل، وتخدم الإنسان، وتدفع عنه الحيف والبؤس. ونحن وحدنا نملك هذه العقائد والأخلاقيات والقوانين، وعلى هذا فلا ينبغي لنا بمجرد أن نرى أحداً يذهب إلى القمر أو يصنع شيئاً، أن نطرح ديننا وقوانيننا التي تتصل اتصالاً مباشراً بحياة الإنسان، وتحمل نواة إصلاح البشر، وإسعادهم في الدنيا والآخرة.


الشبهة الثالثة: لا حكومة في الإسلام تضمن التنفيذ:

من الأفكار التي نشرها الاستعماريون في أوساطنا، قولهم: "لا حكومة في التشريع الإسلامي، لا مؤسسات حكومية في الإسلام، وعلى فرض وجود أحكام شرعية مهمة، فإنها تفتقر إلى ما يضمن لها التنفيذ، وبالتالي فالإسلام مشرِّع لا غير". ومن الواضح أن 
 
 
 
 
 
 
 
30

23

مقدمة

 هذه الأقاويل جزء لا يتجزأ من الخطط الاستعمارية، يراد بها إبعاد المسلمين عن التفكير في السياسة والحكم والإدارة.

 
الحل: الولاية في الإسلام تضمن تنفيذ الأحكام:
 
هذا الكلام يخالف معتقداتنا الأولية. نحن نعتقد بالولاية، ونعتقد ضرورة أن يعين النبي خليفة من بعده، وقد فعل1. ماذا يعني تعيين الخليفة؟ هل يعني مجرد بيان الأحكام؟ بيان الأحكام وحده لا يحتاج إلى خليفة. كان يكفيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبثها في الناس، ثم يودعها في كتاب 
يتركه في الناس، ليرجعوا إليه من بعده. فالحاجة إلى الخليفة إنما هي من أجل تنفيذ القوانين، لأنه لا احترام لقانون من غير منفذ، وفي العالم كله لا ينفع التشريع وحده، ولا يؤمن سعادة البشر، بل لا بد من سلطة تنفيذية يكون افتقادها في أية أمة عامل نقص وضعف. ولهذا فقد قرر الإسلام ايجاد قوة تنفيذية من أجل تطبيق أحكام اللَّه. ولي الأمر هو الذي يتصدى لتنفيذ القوانين. وهكذا فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولو لم يفعل فما بلغ "رسّالّتّهُ"2. وكان تعيين خليفة من بعده، ينفذ القوانين، ويحميها، ويعدل بين الناس عاملاً متمماً ومكملاً لرسالته. النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يكتفي في أيامه ببيان الأحكام وإبلاغها، بل كان 
 
 
 

1- صرح نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بخلافة علي "عليه السلام" في مواضع عديدة منها: حديث يوم الدار، وحديث المنزلة، وآية الولاية (عندما تصدق الإمام بخاتمه لفقير ونزلت الآية الكريمة)، وحديث غدير خم، وحديث الثقلين. راجع التفسير الكبير، ج‏12، ص‏28 و53 ذيل الآيتان 55 و67 لسورة المائدة... وسيرة ابن هشام، ج‏4، ص‏520... وتأريخ الطبري، ج‏2، ص‏319 و322... وكتاب الغدير، ج‏1 و2 و3.
2- سورة المائدة، الآية/67.
 
 
 
 
 
 
31

24

مقدمة

 ينفذها. فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم منفذ قانون. كان يعاقب، فيقطع يد السارق، ويجلد ويرجم1، ويحكم بالعدل. الخليفة يراد لأمثال هذا. الخليفة ليس مبلغ قوانين، أو مشرعاً، وإنما الخليفة يراد للتنفيذ. هنا تبدو أهمية تشكيل الحكومة، وإيجاد المؤسسات التنفيذية وضرورة تنظيمها. والإيمان بضرورة تشكيل الحكومة وإيجاد تلك المؤسسات جزء لا يتجزأ من الإيمان بالولاية. والعمل والسعي من أجل هذا الهدف هو مظهر من مظاهر ذلك الإيمان بالولاية.

 
عليكم أن تظهروا الإسلام كما ينبغي أن يظهر. عرّفوا الولاية للناس كما هي، قولوا لهم: إننا نعتقد بالولاية، وبأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استخلف بأمر من اللَّه، ونعتقد كذلك بضرورة تشكيل الحكومة، ونسعى من أجل تنفيذ أمر اللَّه وحكمه، ومن أجل إدارة الناس، وسياستهم، ورعايتهم. 
 
النضال من أجل تشكيل الحكومة توأم الإيمان بالولاية. اكتبوا وانشروا قوانين الإسلام، ولا تكتموها. وخذوا على أنفسكم تطبيق حكم إسلامي، واعتمدوا على أنفسكم، وثقوا بالنصر.
 
الدين محور لكل الحياة
 
المستعمرون قبل أكثر من ثلاثة قرون أعدوا أنفسهم، وبدأوا من نقطة الصفر، فنالوا ما أرادوا. لنبدأ نحن الآن من الصفر. لا تمكنوا الغربيين واتباعهم من أنفسكم. عرّفوا الناس بحقيقة الإسلام، كي لا يظن جيل الشباب أن أهل العلم في زوايا النجف وقم يرون فصل
 
 

1- وسائل الشيعة، ج‏18، ص‏376 و509.
 
 
 
 
 
 
 
32

25

مقدمة

  الدين عن السياسة، وأنهم لا يمارسون سوى دراسة الحيض والنفاس، ولا شأن لهم بالسياسة. المستعمرون أشاعوا في المناهج المدرسية ضرورة فصل الدين عن الدولة، وأوهموا الناس بعدم أهلية علماء الإسلام للتدخل في شؤون السياسة والمجتمع. وردد هذا الكلام أذنابهم وأتباعهم. في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل كان الدين بمعزل عن السياسة؟ هل كان يومذاك أشخاصاً مختصون بالدين، وآخرون مختصون بالسياسة؟ وفي زمن الخلفاء، وفي زمن الإمام أمير المؤمنين علي "عليه السلام" هل فصلت السياسة عن الدين؟ هل كان يوجد جهاز للدين، وجهاز آخر للسياسة؟


لقد تفوه المستعمرون وأذنابهم بهذه العبارات كي يبعدوا الدين عن أمور الحياة، والمجتمع، ويبعدوا ضمناً علماء الإسلام عن الناس، ويبعدوا الناس عنهم، لأن العلماء يناضلون من أجل تحرير المسلمين واستقلالهم. وعندما تتحقق أمنيتهم في هذا الفصل والعزل، يستطيعون أن يذهبوا بثرواتنا ويتحكموا فينا. وأنا أقول لكم أنه إذا كان همنا الوحيد أن نصلي، وندعوا ربنا ونذكره ولا نتجاوز ذلك، فالاستعمار وأجهزة العدوان كلها لا تعارضنا. ما شئت فصل، ما شئت فأذن، وليذهبوا بما آتاك اللَّه، والحساب على اللَّه ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، وعندما نموت فأجرنا على اللَّه! وإذا كان هذا تفكيرنا فلا شي‏ء علينا، ولا خوف علينا.

قيل أن أحد قادة الاحتلال البريطاني للعراق حينما سمع المؤذن
 
 
 
 
 
 
33

26

مقدمة

 سأل عن الضرر الذي يسببه هذا الآذان للسياسة البريطانية، فلما أخبر بأنه لا ضرر من ذلك قال: فليقل ما شاء ما دام لا يتعرض لنا. وأنت إذا كنت لا تمس السياسة الاستعمارية، وكنت في دراستك للأحكام لا تتجاوز النطاق العلمي فلا شأن لهم معك. صل ما شئت. هم يريدون نفطك، أي شأن لهم بصلاتك؟ هم يريدون معادننا. يريدون أن يفتحوا أسواقنا لبضائعهم ورؤوس أموالهم. لذا نرى الحكومات العميلة تحول دون تصنيع البلاد، مكتفية في بعض الأحيان بمصانع التجميع لا غير. هم يريدون أن لا نرتفع إلى مستوى الآدميين، لأنهم يخافون الآدميين. وإذا وجدوا في مكان ما آدمياً فهم يرهبونه لأنه هذا الآدمي تقدمي متطور، يستطيع التأثير في الناس والمجتمع تأثيراً يهدم جميع ما بناه العدو ويزلزل الأرض تحت عروش الظلم والخيانة والعمالة. ولهذا فإنهم إذا وجدوا آدمياً في وقت من الأوقات، ائتمروا به ليقتلوه، أو يثبتوه أو يخرجوه. أو يتهموه بأنه سياسي. هذا العالم سياسي!! ولكن ألم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سياسياً؟ هل في ذلك عيب؟ كل ذلك الكلام يقوله عمال العدو وعملاؤه ليبعدوكم عن السياسة، وعن التدخل في شؤون المجتمع، ويمنعوكم من مكافحة سلطات الخيانة والجور، ليصفو لهم الجو، فيعملوا ما شاؤوا، وينهبوا ما شاؤوا من غير معارض أو عائق.

 

 

 

 

34


27

الفصل الأوّل

 الفصل الأول: أدلة ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية


 
ضرورة المؤسـّسات التنفيذيـّة
سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
ضرورة استمرار تنفيذ الأحكام
حقيقة قوانين الإسلام وتنوّعها
ضرورة الثورة السياسيـّة
ضرورة الوحدة الإسلاميـّة
ضرورة إنقاذ المظلومين والمحرومين
ضرورة تشكيل الحكومة في الأحاديث
 
 
 
 
 
 
 
35

28

الفصل الأوّل

 ضرورة المؤسـّسات التنفيذيـّة


مجموعة القوانين والتشريعات لا تكفي لإصلاح المجتمع. ولكي يكون القانون مادّة لإصلاح وإسعاد البشر، فإنّه يحتاج إلى السلطة التنفيذيّة.

لذا فإنّ الله عزَّ وجلَّ قد جعل في الأرض ـ إلى جانب مجموعة القوانين ـ حكومةً وجهاز تنفيذٍ وإدارة. الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع الإسلاميّ. وإضافة إلى مهام التبليغ والبيان وتفصيل الأحكام والأنظمة، كان قد اهتمّ بتنفيذها، حتّى أخرج دولة الإسلام إلى حيّز الوجود. في حينه كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي بتشريع القانون الجنائيّ مثلاً، بل كان يسعى إلى تنفيذه. كان يقطع اليد، ويجلد، ويرجم، ومن بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانت مهام الخليفة لا تقلّ عن مهام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ولم يكن تعيين الخليفة لبيان الأحكام فحسب، وإنّما لتنفيذها أيضاً.

وهذا الهدف هو الّذي أضفى على الخلافة أهميّة وشأناً، بحيث كان يُعتبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لولا تعيينه الخليفة من بعده غير مبلّغ لرسالته. فالمسلمون حديثو عهد بالإسلام وهم بأمسّ الحاجة إلى من يُنفِّذ القوانين، ويُحكِّم أمر الله وإرادته في الناس، من أجل ضمان سعادتهم 
 
 
 
 
 
 
 
37

29

الفصل الأوّل

 في الدنيا والآخرة.


وفي الحقّ إنّ القوانين والأنظمة الاجتماعيّة بحاجة إلى منفّذ. في كلّ دول العالم لا ينفع التشريع وحده، ولا يضمن سعادة البشر، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ، فهي وحدها الّتي تُنيل الناس ثمرات التشريع العادل. لهذا قرّر الإسلام إيجاد سلطة التنفيذ إلى جانب سلطة التشريع، فجعل للأمر وليّاً للتنفيذ إلى جانب تصدّيه للتعليم والنشر والبيان.

سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم

نستفيد من سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته ضرورة تشكيل الحكومة.

أمّا أوّلاً: فلأنّه هو بدوره قد شكّل الحكومة. والتاريخ يشهد بذلك وكان قد تزعّم إدارة المجتمع، وأرسل الولاة، وكان يجلس للقضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويُرسل إلى أنحاء البلاد من يقضي بين الناس بالعدل. وكان يُرسل السفراء إلى خارج حدود دولته، إلى رؤساء القبائل، وإلى الملوك، وكان يعقد المعاهدات، ويقود الحروب، وبالتالي كان يُنفِّذ جميع أحكام الإسلام.

أمّا ثانياً: فقد استخلف بأمرٍ من الله من يقوم من بعده على هذه المهام، وهذا الاستخلاف يدلّ بوضوح على ضرورة استمرار الحكومة من بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وبما أنّ هذا الاستخلاف كان بأمرٍ من الله، فاستمرار الحكومة وأجهزتها وتشكيلاتها، كلّ ذلك بأمرٍ من الله أيضاً.
 
 
 
 
 
 
 
38

30

الفصل الأوّل

 ضرورة استمرار تنفيذ الأحكام

 
بديهيّ أنّ ضرورة تنفيذ الأحكام لم تكن خاصّةً بعصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بل الضرورة مستمرّة، لأنّ الإسلام لا يُحدّ بزمانٍ أو مكان، لأنّه خالد فيلزم تطبيقه وتنفيذه والتقيّد به إلى الأبد1. وإذا كان حلال محمّد حلالاً إلى يوم القيامة، وحرامه حراماً إلى يوم القيامة، فلا يجوز أن تُعطّل حدوده، وتُهمل تعاليمه، ويُترك القصاص، أو تتوقّف جباية الضرائب الماليّة، أو يُترك الدفاع عن أمّة المسلمين وأراضيهم. واعتقاد أنّ الإسلام قد جاء لفترةٍ محدودة أو لمكانٍ محدود، يُخالف ضروريّات العقائد الإسلاميّة. وبما أنّ تنفيذ الأحكام بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى الأبد من ضرورات الحياة، لذا كان ضروريّاً وجود حكومة فيها مزايا السلطة المنفِّذة المدبِّرة. إذ لولا ذلك لساد الهرج والمرج والفساد الاجتماعيّ، والانحراف العقائديّ والخُلقي، فلا سبيل إلى منع ذلك إلّا بقيام حكومة عادلة تُدير جميع أوجه الحياة.
 
فقد ثبت بضرورة الشرع والعقل أنّ ما كان ضروريّاً أيّام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي عهد الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام من وجود الحكومة ـ لا يزال ضروريّاً إلى يومنا هذا.
 
ولتوضيح ذلك أتوجّه إليكم بالسؤال التالي: قد مرّ على الغيبة
 
 
 

1-راجع: الآية 52 من سورة إبراهيم، والآية 2 من سورة يونس، والآية 49 من سورة الحج، والآية 40 من سورة الأحزاب، والآية 70 من سورة يس.
 
 
 
 
 
 
 
39

31

الفصل الأوّل

 الكبرى1 لإمامنا المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أكثر من ألف عام، وقد تمرّ ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، في طول هذه المدّة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطّلة؟ يعمل الناس في خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ القوانين الّتي صدع بها نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وجهد في نشرها وبيانها وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين عاماً، هل كان كلّ ذلك لمدّةٍ محدودة؟ هل حدّد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً؟ هل ينبغي أن يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كلّ شيء؟! الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأنّ الإسلام منسوخ! فلا يستطيع أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول: إنّه لا يجب الدفاع عن ثغور الوطن، أو إنّه يجوز الامتناع عن دفع الزكاة أو الخمس وغيرهما أو يقول بتعطيل القانون الجزائيّ في الإسلام، وتجميد الأخذ بالقصاص والديّات. إذن، فإنّ كلّ من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلاميّة فهو يُنكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها، وهو يُنكر بالتّالي شمول وخلود الدين الإسلاميّ الحنيف.

 
 

1-كانت غيبة الإمام الثاني عشر من أئمّة الشيعة الإمام محمّد بن الحسن عجل الله تعالى فرجه الشريف، سنة 260هـ وظلّ الشيعة منذ ذلك الوقت إلى سنة 329هـ على علاقة به من خلال نوّابه الأربعة (عثمان بن سعيد ومحمّد بن عثمان، والحسين بن روح، وعليّ بن محمّد)، وتُسمّى هذه المرحلة بالغيبة الصغرى الّتي تلتها فيما بعد الغيبة الكبرى.
 
 
 
 
 
 
 
40

32

الفصل الأوّل

 الحكومة في عهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام:


لم يكن أحدٌ من المسلمين يشكّ في ضرورة استمرار وجود الحكومة من بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. الكلّ متّفقون على ذلك، وإنّما وقع الاختلاف في شخص من يتولّى ذلك. فقد كانت الحكومة موجودة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي زمن الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام خاصّة، بجميع مؤسّساتها الإداريّة والتنفيذيّة، من غير شكّ.

حقيقة قوانين الإسلام وتنوّعها

ماهيّة قوانين الإسلام دليل آخر على ضرورة تشكيل الحكومة، فهي تدلّنا، على أنّها جاءت لتكوين دولة، تكون فيها إدارة، ويكون فيها اقتصاد سليم، وثقافة عالية.

أوّلاً ـ أحكام الشرع تحتوي على قوانين متنوِّعة لنظام اجتماعيّ متكامل. وتحت هذا النظام تُسدّ جميع حاجات الإنسان، أخذاً من علاقات الجوار، وعلاقات الأولاد والعشيرة، وأبناء الوطن، وجميع جوانب الحياة العائليّة الزوجيّة، وانتهاءً بالتشريعات الّتي تخصّ الحرب والسلم، والعلاقات الدوليّة، والقوانين الجزائيّة، والحقوق التجاريّة، والصناعيّة، والزراعيّة، كما يُنظِّم النكاح المشروع، ويُنظِّم ما يأكله الزوجان حالة الزواج، وفي فترة الرِّضاع يُنظِّم الإسلام واجبات الأبوين الّذين يُعهد إليهما بتربية الأولاد، وعلاقة الزوج بزوجته، وعلاقتها به، وعلاقة كلٍّ منهما بالأولاد. في جميع هذا يملك الإسلام قوانين وأنظمة من أجل تربية إنسانٍ كامل فاضل،
 
 
 
 
 
 
41

33

الفصل الأوّل

  يُجسِّد القانون ويُحييه ويُنفِّذه، ويعمل ذاتيّاً لأجله. ومعلوم إلى أيّ حدٍّ اهتمّ الإسلام بالعلاقات السياسيّة والاقتصاديّة للمجتمع، سعياً وراء إيجاد إنسان مهذَّب فاضل.

 
القرآن المجيد، والسنّة الشريفة، يحتويان على جميع الأحكام والأنظمة الّتي تُسعد البشر، وتنحو به نحو الكمال.
 
يوجد في كتاب (الكافي)1 فصل تحت عنوان: (بيان جميع ما يحتاج الناس إليه في الكتاب والسنّة)2 وفي الكتاب (تبيان كلّ شيء)3 والإمام يُقسم ـ كما ورد ذلك في بعض الأحاديث ـ أنّ جميع ما يحتاجه الناس موجودٌ في الكتاب والسنّة من غير شكّ4.
 
ثانياً ـ عند إمعان النظر في ماهيّة أحكام الشرع يثبت لدينا أنْ لا سبيل إلى وضعها موضع التنفيذ إلّا بواسطة حكومة ذات أجهزة مقتدرة، وأذكر لكم أمثلةً يسيرة، وعلى الأخوة المؤمنين استقصاء الباقي.
 
 
 

1-الكافي كتاب حديثيّ لمؤلّفه: محمّد بن يعقوب الكليني (رض)، ينقسم إلى قسمين أصول وفروع، وهو أحد الكتب الأربعة، لدى الشيعة أحاديثه نحو ستّة عشر ألف حديث، راجع: الطهراني، آقابزرك، الذريعة ج6، ط1، طهران، ﭽاﭙخانه بانك ملى إيران، 1389هـ، ص21.
2-أصول الكافي، ج1، ص76 ـ 80، كتاب فضل العلم "باب الرد إلى الكتاب والسنّة... وجميع ما يحتاج الناس إليه إلّا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة".
3-إشارة إلى الآية 89 من سورة النحل: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾ .
4-عن مرازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا وقد أنزل الله فيه". الكافي، ج1، ص59.
 
 
 
 
 
 
 
42

34

الفصل الأوّل

 أـ الأحكام الماليـّة:

 
الضرائب الماليّة الّتي شرّعها الإسلام، ليس فيها ما يدلّ على أنّها قد خُصِّصت لسدّ رمق الفقراء، أو السادة منهم خاصّة، وإنّما هي تدلّ على أنّ تشريعها كان من أجل ضمان نفقات دولة كبرى ذات سيادة.
 
مثلاً: الخمس موردٌ ضخم يدرُّ على بيت المال1 أموالاً طائلة تُشكِّل النصيب الأكبر من بيت المال، ويُؤخذ الخمس على مذهبنا من جميع المكاسب والمنافع والأرباح سواءً في الزراعة أو التجارة أو المعادن والكنوز، ويُساهم في دفع ضريبة الخمس: بائع الخضروات إذا حصل عنده ما يزيد على مؤونته السنويّة المنسجمة مع تعاليم الشرع في الصرف والإنفاق، كما يُساهم في ذلك ربّان السفينة، ومستخرج الكنوز والمعادن، ويُدفع خمس فائض الأرباح إلى الإمام أو الحاكم الإسلاميّ ليجعله في بيت المال.
 
وبديهيّ أنّ هذا المورد الضخم إنّما هو من أجل تسيير شؤون الدولة الإسلاميّة، وسدّ جميع احتياجاتها الماليّة.
 
وإذا أردنا أن نحسب أخماس أرباح المكاسب في الدولة الإسلاميّة أو العالَم كلّه ـ إذا كان يدين بالإسلام ـ لتبيّن لنا أنّ هذه الأموال الطائلة ليست لرفع حاجات سيّد أو طالب علم، بل لأمرٍ أكبر وأوسع من هذا،
 
 
 

1-بيت المال: خزانة الدولة: المكان الّذي تجتمع فيه الأموال العامّة للدولة، وتجتمع الأموال في بيت المال من موارد كثيرة، بواسطة الجباية وهي جمع المال المترتّب في ذمم الرعيّة من الزكاة والخمس والجزية والخراج، راجع: معجم لغة الفقهاء، (م.س)، ص112 و159.
 
 
 
 
 
 
 
43

35

الفصل الأوّل

  لسدّ احتياجات أمّة بأكملها. وعندما تتحقّق دولة إسلاميّة، فلا بُدّ لها في تسيير شؤونها من الاستعانة بأموال الخمس والزكاة والجزية والخراج.

 
السادة، متى كانوا بحاجة إلى مثل هذا المال؟ خُمس سوق بغداد يكفي لاحتياجات جميع السادة، ولجميع نفقات المجامع العلميّة الدينيّة، ولجميع فقراء المسلمين، فضلاً عن أسواق طهران وإسلامبول والقاهرة وغيرها. فميزانيّة بمثل هذه الضخامة إنّما تُراد لتسيير أمّة كبرى، ولإشباع الحاجات الأساسيّة المهمّة للناس، وللقيام بالخدمات العامّة الصحيّة، والثقافيّة، والتربويّة، والدفاعيّة، والعمرانيّة.
 
والتنسيق الّذي فرضه الإسلام في جمع وحفظ وصرف الأموال يضمن السلامة من الحيف والإجحاف بالخزانة العامّة، فليست لرئيس الدولة أو الموظّفين أو أعضاء الحكومة أيّة امتيازات قد يُساء استغلالها، بل الناس في خزانة الأمّة شرعٌ سواء.
 
هل نُلقي بهذه الثروة الواسعة في البحر؟ أو ندسّها في التراب حتّى ظهور الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف؟1 أو نوزّعها على خمسين هاشميّاً أو خمسمائة ألف هاشميّ؟ وإذا دُفع إليهم هذا المال أليس يُذهلهم ويُحيّرهم؟ ألا نعلم أنّ حقّ الهاشميّين في هذا المال إنّما هو بمقدار ما يحتاجون إلى إنفاقه بقصدٍ واعتدال. كلّ ما في الأمر أنّ الهاشميّين يتناولون حاجتهم من الخمس دون سواه، وقد ورد في الحديث أنّ هؤلاء يُعيدون
 
 

1-اختلفت آراء الفقهاء الإماميّة حول مصرف الخمس سيّما نصفه المسمّى "بسهم الإمام" فبعضهم يقول إنّه ملك لشخص الإمام المعصوم، ويجب أن يُدفن في الأرض ويُحفظ إلى حين ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف، المقنعة، ص285، 286، وشرح اللمعة، ج1، ص184.
 
 
 
 
 
 
 
44

36

الفصل الأوّل

 إلى الإمام ما فضل عن مؤونة سنتهم، كما أنّ الإمام يُعينهم حين لا يكون ما تناولوه من بيت المال وافياً بمؤونة سنتهم1.

 
وإذا نظرنا في الأموال الّتي تُجبى من الجِزية والخراج لوجدنا ثروة ضخمة لا يُستهان بها، فعلى الحاكم أو الوالي أن يفرض على الذميّين من الجزية ما يتناسب مع قدرتهم الماليّة. وكذلك يفرض الخراج على الأراضي الخَراجيّة المستثمرة بإشراف الدولة، ويكون خراجها في بيت المال. وهذا كلّه يستلزم تشكيل دوائر خاصّة، وحسابات دقيقة، وتدبير وتدوين، وبُعد نظر، حتّى لا يكون فوضى. كلّ ذلك يدلّ بوضوح على ضرورة تشكيل حكومة، لأنّه لا يُمكن لتلك التشريعات الماليّة أن تتحقّق عمليّاً إلاّ بعد استكمال واستقرار التشكيلات الحكوميّة.
 
ب ـ أحكام الدفاع:
 
ومن جهة أخرى نرى أنّ أحكام الجهاد والدفاع عن حياض المسلمين لضمان استقلال وكرامة الأمّة، تدلّ هي الأخرى على ضرورة تشكيل هذه الحكومة.
 
حكم الإسلام بوجوب الإعداد والاستعداد والتأهّب التامّ حتّى في وقت السلم بموجب قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن
 
 
 

1-عن العبد الصالح عليه السلام: "وله نصف الخمس كملاً، ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فَسهمٌ ليتاماهم، وسهمٌ لمساكينهم، وسهمٌ لأبناء سبيلهم، يُقسم بينهم على الكتاب والسنّة ما يستغنون في سنتهم، فإن فضل عنهم شيءٌ فهو للوالي، وإن عجز أو نقص عن استغنائهم ، كان على الوالي أن يُنفق من عنده بقدر ما يستغنون به، وإنّما صار عليه أن يموّنهم لأنّ له ما فضل عنهم". أصول الكافي، ج2، ص291، كتاب الحجة (باب الفيء والأنفال)، حديث 4، والتهذيب، ج4، ص281، كتاب الزكاة، باب 37، حديث 2، والتهذيب، ج4، ص127، كتاب الزكاة، باب 36، حديث 5.
 
 
 
 
 
 
 
45

37

الفصل الأوّل

 رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾1. وإذا كان المسلمون ملتزمين بمدلول هذه الآية، ومستعدّين للقتال تحت ِ كلّ الظروف، لم يكن في ميسور حفنة من اليهود احتلال أراضينا، وتخريب مسجدنا الأقصى وإحراقه من غير أن يُقابل ذلك بأيّة مقاومة. وكلّ ذلك إنّما تمّ كنتيجة حتميّة لتقاعس المسلمين عن تنفيذ حكم الله، ولتهاونهم في تشكيل حكومة صالحة مخلصة. وإذا كان حكّام المسلمين الحاليّين يسعون في تطبيق أحكام الإسلام، نابذين كلّ خلافاتهم، وتاركين شقاقهم وتفرّقهم، مكوّنين من وحدتهم يداً واحدة على من سواهم 2، في هذه الحال لم يكن باستطاعة شراذمة اليهود، وصنايع أمريكا وبريطانيا أن ينتهوا إلى ما انتهوا إليه مهما أعانتهم أمريكا وبريطانيا. فسبب ذلك يعود بالطبع إلى عدم أهليّة حكّام المسلمين ولياقتهم.

 
آية ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ...﴾ تأمر بالقوّة والاستعداد والتأهّب الكامل، حتّى لا يسومنا الأعداء سوء العذاب، لكنّنا لم نتّحد بل تحسبنا جميعاً وقلوبنا شتّى، ولم نستعدّ، فتعدّى الظالمون حدودهم وبغوا علينا وظلمونا.
 
ج ـ أحكام الحدود والديـّات والقصاص:
 
ولا يُمكن لهذه الأحكام أن تُقام بدون سلطات حكوميّة. فبواسطتها تُؤخذ الديّة من الجاني، وتُدفع إلى أهلها، وبواسطتها
 
 
 

1-سورة الأنفال، الآية: 60.
2-تعبير مستفاد من حديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "وإنّ المسلمين يدٌُ واحدة على من سواهم" بحار الأنوار: ج28، ص104، كتاب "الفتن والمحن"، باب 3، حديث 3.
 
 
 
 
 
 
 
46

38

الفصل الأوّل

  تُقام الحدود، ويكون القصاص تحت إشراف ونظر الحاكم الشرعيّ.

 
ضرورة الثورة السياسيـّة
 
في صدر الإسلام سعى الأمويّون ومن يُسايرهم لمنع استقرار حكومة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام مع أنّها كانت مُرضية لله وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وبمساعيهم البغيضة تغيّر أسلوب الحكم ونظامه وانحرف عن الإسلام. لأنّ برامجهم كانت تُخالف وجهة الإسلام في تعاليمه تماماً. وجاء من بعدهم العبّاسيّون، ونسجوا على نفس المنوال. وتبدّلت الخلافة، وتحوّلت إلى سلطنة وملكيّة موروثة، وأصبح الحكم يُشبه حكم أكاسرة فارس، وأباطرة الروم، وفراعنة مصر، واستمرّ ذلك إلى يومنا هذا.
 
الشرع والعقل يفرضان علينا ألّا نترك الحكومات وشأنها. والدلائل على ذلك واضحة، فإنّ تمادي هذه الحكومات في غيّها يعني تعطيل نظام الإسلام وأحكامه. في حين توجد نصوص كثيرة تصف كلّ نظام غير إسلاميّ بأنّه شرك، والحاكم أو السلطة فيه طاغوت1. ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم، وإبعادها تماماً عن حياتنا. وفي نفس الوقت نحن مسؤولون عن تهيئة الجوّ المناسب لتربية وتنشئة جيل مؤمن فاضل يُحطِّم عروش الطواغيت، ويقضي على سلطاتهم غير الشرعيّة، لأنّ الفساد
 
 

1-يُطلق اسم الطاغوت على كلّ ظالم وكلّ معبود غير الله سبحانه.
 
 
 
 
 
 
 
47

39

الفصل الأوّل

 والانحراف ينمو على أيديهم، وهذا الفساد ينبغي إزالته ومحوه وإنزال العقوبة الصارمة بمسبّبيه. وقد وصف الله في كتابه المجيد فرعون ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾1.

 
وفي ظلِّ حُكمٍ فرعونيّ يتحكّم في المجتمع ويُفسده ولا يُصلحه، لا يستطيع مؤمن يتّقي الله أن يعيش ملتزماً ومحتفظاً بإيمانه وهديه. وأمامه سبيلان لا ثالث لهما: إمّا أن يُقْسَرَعلى ارتكاب أعمال مُردية3، أو يتمرّد على حُكم الطاغوت ويُحاربه، ويُحاول إزالته، أو يُقلِّل من آثاره على الأقل. ولا سبيل لنا إلّا الثاني، لا سبيل لنا إلّا أن نعمل على هدم الأنظمة الفاسدة المفسدة، ونُحطِّم زمر الخائنين والجائرين من حكّام الشعوب.
 
هذا واجب يُكلَّف به المسلمون جميعاً أينما كانوا، من أجل خلق ثورة سياسيّة إسلاميّة ظافرة منتصرة.
 
ضرورة الوحدة الإسلاميـّة
 
ومن جهة أخرى فقد جزّأ الاستعمار وطننا، وحوّل المسلمين إلى شعوب. وعند ظهور الدولة العثمانيّة كدولة موحّدة سعى المستعمرون إلى تفتيتها. لقد تحالف الروس والإنكليز وحلفاؤهم وحاربوا
 
 

1-سورة القصص، الآية: 4.
2-يقصر بمعنى يجبر.
3-مُردية: أي مهلكة.
 
 
 
 
 
 
 
48

40

الفصل الأوّل

 العثمانيّين، ثمّ تقاسموا الغنائم كما تعلمون1. ونحن لا ننكر أنّ أكثر حكّام الدولة العثمانيّة كانت تنقصهم الكفاءة والجدارة والأهليّة، وبعضهم كان مليئاً بالفساد، وكثير منهم كانوا يحكمون الناس حُكماً مَلكيّاً مطلقاً. ومع ذلك كان المستعمرون يخشون أن يتسلّم بعض ذوي الصلاح والأهليّة ـ من الناس وبمعونة الناس ـ منصّة قيادة الدولة العثمانيّة على وحدتها وقدرتها وقوّتها وثرواتها، فيبدّد كلّ آمال الاستعماريّين وأحلامهم. لهذا السبب ما لبثت الحرب العالميّة الأولى أن انتهت حتّى قسّموا البلاد إلى دويلات كثيرة، وجعلوا على كلّ دويلة منها عميلاً لهم، ومع ذلك فقد خرج قسم من هذه الدويلات بعد ذلك عن قبضة الاستعمار وعملائه.

 
ونحن لا نملك الوسيلة إلى توحيد الأمّة الإسلاميّة وتحرير أراضيها من يد المستعمرين، وإسقاط الحكومات العميلة لهم، إلّا أنّنا نسعى إلى إقامة حكومتنا الإسلاميّة، وهذه بدورها سوف تتكلّل أعمالها بالنجاح يوم تتمكّن من تحطيم رؤوس الخيانة، وتدمّر الأوثان والأصنام البشريّة والطواغيت الّتي تنشر الظلم والفساد في الأرض.
 
تشكيل الحكومة إذن يرمي إلى الاحتفاظ بوحدة المسلمين بعد 
 
 

1-بدأ انحطاط الإمبراطورية العثمانيّة منذ أوائل القرن التاسع عشر. ففي حرب اتحاد البلقان، الّتي انتهت بمعاهدة لندن (عام 1913م)، فقدت هذه الدولة جميع ممتلكاتها الأوروبيّة تقريباً مع بحر إيجه. وعقب انتهاء الحرب العالميّة الأولى، والتوقيع على اتفاقيّة لوزان (سنة 1932م)، خرجت البلاد العربيّة: العراق وسوريا والسعوديّة والأردن وفلسطين من تحت سيطرتها، لتنتقل إلى هيمنة الدول الأوروبيّة، ومن ثمّ استقلّت المناطق التركية، وانحصرت بتركيا الحالية.
 
 
 
 
 
 
 
49

41

الفصل الأوّل

 تحقيقها، وقد ورد ذلك في خطبة السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام: "... وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة..."1.

 
ضرورة إنقاذ المظلومين والمحرومين
 
وقد استعان المستعمرون بعملاء لهم في بلادنا من أجل تنفيذ مآربهم الاقتصاديّة الجائرة. وقد نتج عن ذلك وجود مئات الملايين من الناس جياعاً، ويفتقدون أبسط الوسائل الصحيّة والتعليميّة، وفي مقابلهم أفراد ذوو ثراء فاحش وفساد عريض. والجياع من الناس في كفاحٍ مستمر من أجل تحسين أوضاعهم، وتخليص أنفسهم من وطأة جور حكّامهم المعتدين، ولكنّ الأقليّات الحاكمة وأجهزتها الحكوميّة هي الأخرى تسعى إلى إخماد هذا الكفاح. أمّا نحن فمكلّفون بإنقاذ المحرومين والمظلومين. نحن مأمورون بإعانة المظلومين ومناوأة الظالمين, كما ورد ذلك في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لولديه: "وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"2.
 
وعلماء الإسلام مكلّفون بمناضلة المستغلِّين الجشعين لئلّا يكون في المجتمع سائلٌ محروم، مقابل مرفّه جشع أصابه بطر. أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها 
 
 

1-كشف الغمّة، ج1، ص483.
2-الإمام عليّ عليه السلام، نهج البلاغة، تحقيق وشرح الشيخ محمّد عبده، بيروت، دار المعرفة، ج3، ص76، رقم 47 من وصيّة للإمام الحسن والحسين عليهما السلام.
 
 
 
 
 
 
 
50

42

الفصل الأوّل

 على غاربها، وسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"1.

 
كيف يسوغ لنا اليوم، أن نسكت عن بضعة أشخاص من المستغلِّين والأجانب المسيطرين بقوّة السلاح، وهم قد حرموا مئات الملايين من الاستمتاع بأقلّ قدر من مباهج الحياة ونعمها. فواجب العلماء وجميع المسلمين أن يضعوا حدّاً لهذا الظلم، وأن يسعوا من أجل سعادة الملايين من الناس، في تحطيم الحكومات الجائرة وإزالتها، بتأسيس حكومة إسلاميّة عاملة مخلصة.
 
ضرورة تشكيل الحكومة في الأحاديث
 
تقدّم ثبوت ذلك بضرورة العقل والشرع، وبسيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبسيرة أمير المؤمنين عليه السلام، وبمفاد كثير من الآيات والأحاديث.
 
وكمثال على ذلك، نذكر رواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النيسابوري العطّار، قال: حدّثني أبو الحسن عليّ بن محمّد بن قتيبة النيسابوريّ، قال: قال أبو محمّد الفضل ابن شاذان النيسابوريّ: إن سأل سائل فقال: أخبرني هل يجوز أن يكلّف الحكيم... فكان من جواب الإمام عليه السلام فإن قال قائل: ولم جعل أولي الأمر، وأمر بطاعتهم؟ قيل لعلل كثيرة، منها أنّ الخلق لمّا وقفوا على حدٍّ محدود، وأُمروا أن لا يتعدّوا تلك الحدود، لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك، ولا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيها أميناً يأخذ بالوقف عندما أُبيح لهم، ويمنعهم عن
 
 

1-م.ن، ج1، خطبة 3، المعروفة بالشقشقيّة، ص36 ـ 37.
 
 
 
 
 
 
51

43

الفصل الأوّل

 التعدّي على ما حظر عليهم، لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحدٌ لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره ـ هكذا في النسخة، والصحيح: لما كان أحدٌ يترك لذّته ـ ومنها أنّا لا نجد فرقة من الفرق، ولا ملّة من الملل بقوا وعاشوا إلّا بقيّم ورئيس، لما لا بُدّ لهم منه في أمر الدِّين والدنيا. فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق لما يعلم أنّه لا بُدّ لهم منه، ولا قِوام لهم إلّا به، فيُقاتلون به عدوّهم ويُقسِّمون به فيئهم، ويُقيمون به جمعهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم. ومنها أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيّماً حافظاً مستودعاً, لدرست الملّة، وذهب الدِّين، وغُيّرت السنن والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقّص منه الملحدون، وشبّهوا ذلك على المسلمين، إذ قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتّت حالاتهم. فلو لم يجعل قيّماً حافظاً لِما جاء به الرسول الأوّل، لفسدوا على نحو ما بيّناه، وغُيّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين"1.

 
فأنتم ترون أنّ الإمام يستدلّ بوجوهٍ عدّة على ضرورة وجود وليّ الأمر2 الّذي يقوم بحكومة الناس. وتلك العلل الّتي ذكرها موجودة في كلّ زمان، ويترتّب على ذلك ضرورة تشكيل الحكومة الإسلاميّة في كلّ وقت. لأنّ التعدّي عن حدود الله، والسعي وراء اللذّة الشخصيّة، ونشر الفساد في الأرض، وهضم حقوق الضعفاء، كلّ ذلك موجود 
 
 
 

1-الصدوق، علل الشرائع، النجف المطبعة الحيدرية، ص253 ـ 254.
2-المقصود أنّ ما ورد في ضرورة تشكيل الحكومة وهداية الناس يُعبِّر عنه عنوان "وليّ الأمر" وهو الّذي يستجمع مجموعة صفات كالفقاهة، والعدالة، والكفاءة، وبناءً عليه فإدارة النظام الإسلاميّ في كلّ عصر هي من وظائف الشخص الّذي ينطبق عليه عنوان "وليّ الأمر".
 
 
 
 
 
 
52

44

الفصل الأوّل

 في كلّ زمان، وليس في زمان دون زمان، فاقتضت الحكمة الإلهيّة أن يعيش الناس بالعدل في الحدود الّتي حدّها الله لهم. وهذه الحكمة مستمرّة وأبديّة. وعلى هذا فوجود وليّ الأمر القائم على النظم والقوانين الإسلاميّة ضروريّ، لأنّه يمنع الظلم والتجاوز والفساد، ويتحمّل الأمانة، ويهدي الناس إلى صراط الحقّ، ويُبطل بدع الملحدين والمعاندين. ألم تكن خلافة أمير المؤمنين عليه السلام قد انعقدت لأجل هذا؟ تلك العلل والضرورات الّتي جعلت الإمام عليّاً عليه السلام يتولّى الناس هي الآن موجودة بفارقٍ واحد هو أنّ الإمام منصوص عليه بالذّات. بينما حُدّدت شخصية الحاكم الشرعيّ في أيّامنا هذه بتحديد ماهيّته وصفاته ومؤهّلاته تحديداً عامّاً.


فإذا أردنا تخليد أحكام الشرع عمليّاً، ومنع الظلم والاعتداء على حقوق الضعفاء من الخلق ومنع الفساد في الأرض، ومن أجل تطبيق أحكام الشرع بشكلٍ عادل، ومحاربة البدع والضلالات الّتي تُقرّرها المجالس النيابيّة ـ البرلمانيّة ـ المزيّفة، ومنع نفوذ وتدخّل الأعداء في شؤون المسلمين، من أجل ذلك كلّه لا بُدّ من تشكيل الحكومة. لأنّ ذلك كلّه ممّا تنهض بأعبائه الحكومة بقيادة حاكم أمين صالح، لا جور عنده، ولا انحراف، ولا فساد.

وفي السابق لم نعمل، ولم ننهض سويّاً لتشكيل حكومة تُحطِّم الحكّام الخائنين المفسدين، وبعضنا قد أبدى فتوراً حتّى في المجال النظريّ وتقاعس بعضنا عن الدعوة إلى الإسلام ونشر
 
 
 
 
 
 
53

45

الفصل الأوّل

  أحكامه، ولعلّ بعضنا قد انشغل بالدعاء لهم، ونتيجةً لكلّ ذلك وُجدت هذه الأوضاع وقلّ نفوذ حكم الإسلام في مجتمع المسلمين، وابتُليت الأمّة بالتجزئة والضعف والانحلال، وتعطّلت أحكام الإسلام، وتبدّلت الحال، وانتهز المستعمرون ذلك فرصةً سانحة فاستقدموا قوانين أجنبيّة لم يُنزل الله بها من سلطان، ونشروا ثقافاتهم وأفكارهم المسمومة وأذاعوها في المسلمين. كلّ ذلك لأنّنا فقدنا القائد القائم على شؤون المسلمين، وفقدنا تشكيلات الحكومة الصالحة. وهذا من الواضحات.

 

 

 

54


46

الفصل الثاني

  الفصل الثاني: نظام الحكم الإسلامي

 

خصائص نظام الحكم الإسلاميّ
شروط الحاكم الإسلاميّ
الحاكم في زمن الغيبة
أهمية منصب القضاء في الإسلام 
مفهوم الحديث
الفقهاء أمناء الرسل
أهداف الرسالات
 
 
 
 
 
 
 
55

47

الفصل الثاني

 خصائص نظام الحكم الإسلاميّ

 
الحكومة الإسلاميّة لا تُشبه الأشكال الحكوميّة المعروفة. فليست هي حكومة مطلقة1 يستبدّ فيها رئيس الدولة برأيه، عابثاً بأموال الناس ورقابهم. فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام وسائر الأئمّة ما كانوا يملكون العبث بأموال الناس ولا برقابهم، فحكومة الإسلام ليست مطلقة وإنّما هي دستوريّة، ولكن لا بالمعنى الدستوريّ المتعارَف الّذي يتمثّل في النظام البرلمانيّ أو المجالس الشعبيّة، وإنّما هي دستوريّة بمعنى أنّ القائمين بالأمر يتقيّدون بمجموعة 
 
 
 

1-قد وردت في هذه الصفحة مجموعة من مصطلحات مختلفة من الإمام حول أنحاء الحكومات الدارجة في العالم منها حسب تعبيره قدس سره:
أ ـ الحكومة المطلقة، ب ـ الحكومة الدستوريّة الملكيّة، ج ـ الحكومة الدستوريّة الجمهوريّة.
النحو الأوّل:الحكومة المطلقة الاستبداديّة: وهي أن يتسلّط الفرد بالقهر والغلبة وبقوّة العسكر والسلاح، فيحكم بالعباد بما يهوى ويُريد.
وهذا النوع أشار له القرآن بقوله: ﴿ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.
النحو الثاني: الحكومة الدستوريّة الملكيّة: هذا النحو فرقه عن الأول أنّه يرجع إلى الدستور، ولا يقصد منها الملكيّة المشروطة المستحدثة، "كالحكم في انكلترا" بل يقصد به نحو من الحكم يرجع فيه التمثيل إلى الملك، لأنّه فرق بينها وبين النحو الثالث: بأنّ الثالث ممثّلي الشعب، وهذا النحو ممثّلي الملك وهي قريبة من "أرستوقراطيّة".
النحو الثالث: الحكومة الدستورية الجمهورية وهي المعبّر عنها بالحكومة الانتخابيّة الديموقراطيّة العامّة التي يمتلك فيها الشعب السيادة و... بسبيل من يختاره من نوّاب وممثّلين، وبالتعبير الدقيق يُعبّر عنها بحكومة الشعب على الشعب.
 
 
 
 
 
 
57

48

الفصل الثاني

 الشروط والقواعد المبيّنة في القرآن والسنّة، والّتي تتمثّل في وجوب مراعاة النظام وتطبيق أحكام الإسلام وقوانينه، ومن هنا الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون الإلهيّ. ويكمن الفرق بين الحكومة الإسلاميّة والحكومات الدستوريّة الملكيّة منها والجمهوريّة في أنّ ممثّلي الشعب أو ممثّلي الملك هم الّذين يُقنِّنون ويُشرِّعون، في حين تنحصر سلطة التشريع بالله عزَّ وجلَّ، وليس لأحدٍ أيّاً كان أن يُشرِّع، وليس لأحدٍ أن يحكم بما لم يُنزل الله به من سلطان. لهذا السبب فقد استبدل الإسلام بالمجلس التشريعيّ1 مجلساً آخر للتخطيط، يعمل على تنظيم سير الوزارات في أعمالها وتقديم خدماتها في جميع المجالات.

 
وكلّ ما ورد في الكتاب والسنّة مقبول، مطاع في نظر المسلمين، وهذا الانصياع يسهّل على الدولة مسؤوليّاتها، في حين أنّ الحكومات الدستوريّة الملكيّة أو الجمهوريّة إذا شرّعت الأكثريّة فيها شيئاً، فإنّ الحكومة بعد ذلك تعمل على أن تحمل الناس على الطاعة والامتثال بالقوّة إذا لزم الأمر.
 
فحكومة الإسلام حكومة القانون، والحاكم هو الله وحده، وهو المشرِّع وحده لا سواه، وحكم الله نافذٌ في جميع الناس، وفي الدولة نفسها. كلّ الأفراد: الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاؤه وسائر الناس يتّبعون ما شرّعه لهم الإسلام, الّذي ينزل به الوحي ويبيّنه الله في القرآن أو
 
 

1-المجلس التشريعيّ هو واحد من ثلاث سلطات توجد في جميع الدول في العصور الحديثة وهذه السلطات هي: السلطة التشريعيّة، والسلطة القضائيّة، والسلطة التنفيذيّة (الوزارة).
 
 
 
 
 
 
 
58

49

الفصل الثاني

 على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 
والرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وقد استخلفه الله في الأرض ليحكم بين الناس بالحقّ ولا يتّبع الهوى، قد كلّمه الله وحياً, أن يُبلِّغ ما أُنزل إليه فيمن يخلفه في الناس1، وبحكم هذا الأمر فقد اتّبع ما أُمر به، وعيّن أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام للخلافة، ولم يكن مدفوعاً إلى ذلك بحكم أنّه صهره، أو أنّ له يداً لا تُنسى وخدمات جليلة، بل لأنّ الله أمره بذلك.
 
أجل، فالحكومة في الإسلام تعني اتّباع القانون، وتحكيمه. والسلطات الموجودة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولاة الأمر الشرعيّين من بعده إنّما هي مستمدّة من الله. وقد أمر الله باتّباع النبيّ وأولي الأمر من بعده: ﴿وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾2. فلا مجال للآراء والأهواء في حكومة الإسلام وإنّما النبيّ، والأئمّة، والناس يتّبعون إرادة الله وشريعته.
 
وحكومة الإسلام ليست ملكيّة ولا شاهنشاهيّة3، ولا امبراطوريّة، لأنّ الإسلام منزّه عن التفريط والاستهانة بأرواح الناس وأموالهم بغير حقّ، ولذلك لا يوجد في حكومة الإسلام نظير ما يكثر وجوده عند السلاطين والأباطرة من قصور ضخمة، وخدم وحشم، وبلاط ملكيّ،
 
 
 

1-إشارة إلى واقعة غدير خمّ المترتّبة على نزول هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...﴾ سورة المائدة، الآية: 67، كتاب الغدير، ج1، ص214 ـ 229.
2-سورة النساء، الآية: 59.
3-شاهنشاهيّة: أي الملكيّة والشاه بالتعبير الفارسيّ يعني الملك.
 
 
 
 
 
 
59

50

الفصل الثاني

  وديوان لوليّ العهد، وأمثال ذلك من المستلزمات التافهة الّتي تلتهم نصف أو غالبيّة ثروة البلاد.

 
حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم كانت في منتهى البساطة كما تعلمون، بالرغم من أنّه كان يرأس الدولة ويُسيّرها ويحكمها بنفسه. واستمرّت هذه السيرة من بعده إلى حدٍّ ما، إلى ما قبل استيلاء الأمويّين على السلطة.
 
وكانت حكومة عليّ بن أبي طالب عليه السلام حكومة إصلاح كما تعرفون، وكان يعيش ببساطة تامّة، وهو يُدير دولة مترامية الأطراف، تكون فيها إيران ومصر والحجاز واليمن مجرّد ولايات وأقاليم تابعة لحكمه. ولا أظنّ أنّ أحداً من فقرائنا يستطيع أن يُمارس أسلوب العيش الّذي كان عليه الإمام عليه السلام، فقد نُقل أنّه عندما اقتنى ثوبين أعطى أجودهما لخادمه(قنبر)1 وارتدى الآخر، وإذا وجد في ردائِهِ فضلاً قطعه2.
 
ولو كانت تلك السيرة مستمرّة إلى الآن لعرف الناس طعم السعادة، ولما نُهبت خزائن البلاد لتُصرف في الفحشاء والمنكر، ومصارف ونفقات البلاط. وأنتم تعلمون أنّ أكثر مفاسد مجتمعنا يعود سببها إلى فساد الأسرة الحاكمة والعائلة المالكة.
 
ما هي شرعيّة هؤلاء الحكّام الّذين يُعمِّرون بيوت اللهو والفساد والفحشاء والمنكر ويُخرِّبون بيوتاً ﴿أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾؟
 
 

1-قنبر: مولى أمير المؤمنين عليه السلام، راجع: خلاصة الأقوال، العلامة الحلي، ص231. وعن الكشّي: قتله الحجّاج على حبّه لعليّ عليه السلام.
2-حسب ما ينقل العلاّمة المجلسيّ في كتابه بحار الأنوار، ج40، ص324.
 
 
 
 
 
 
 
60

51

الفصل الثاني

 ولولا ما يُبذِّره البلاط، وما يختلسه لما دخل ميزانيّة البلاد أيّ عجز يحمل الدولة على الاستدانة من أمريكا وانكلترا بما يُصاحب ذلك من ذلٍّ ومهانة. فهل قلّ نفطنا؟ أم هل نضبت معادننا المذخورة تحت هذه الأرض الطيّبة؟ نحن نملك كلّ شيء، ولا نفتقر إلى مساعدة من أمريكا وغيرها، لولا نفقات البلاط وإسرافه في أموال الشعب.


هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك دوائر في الدولة لا حاجة إليها، وهي تستهلك أموالاً وطاقات وورقاً وأدوات، وذلك إسرافٌ محرّم في شريعتنا، لأنّ ذلك يزيد في مشاكل الناس، ويأخذ عليهم وقتاً وجهداً، ويستنزف منهم أموالاً هم أحوج ما يكونون إليها.

ففي الإسلام ـ أيّام حكمه ـ كان يجري القضاء، وتُقام الحدود، والتعزيرات، ويُفصل في النزاعات، ببساطة تامّة. كان القاضي يكتفي ـ ليقوم بكلِّ ذلك ـ ببضعة أشخاص، يُضاف إلى ذلك قلم وقليل من الحبر والورق، ومن وراء ذلك كان يُوجِّه الناس إلى العمل من أجل حياة شريفة فاضلة.

أمّا الآن فالله يعلم عدد دوائر العدل ودواوينها وموظّفيها، وكلّها عقيمة لا تُقدِّم للناس نفعاً سوى ما تُسبِّبه لهم من أتعاب ومصاعب، وتضييع للأوقات والأموال، وبالتّالي تضييع للقضايا والحقوق.

شروط الحاكم الإسلاميّ

والشروط الّتي ينبغي توفّرها في الحاكم نابعة من طبيعة الحكومة الإسلاميّة. فإنّه بصرف النظر عن الشروط العامّة كالعقل والبلوغ
 
 
 
 
 
 
 
61

52

الفصل الثاني

 وحسن التدبير، هناك شرطان مهمّان، هما:

 
1 ـ العلم بالقانون الإسلاميّ.
2 ـ العدالة.
 
1 ـ بما أنّ الحكومة الإسلاميّة هي حكومة القانون، كان لزاماً على حاكم المسلمين أن يكون عالماً بالقانون ـ كما ورد ذلك في الحديث. وكلّ من يشغل منصباً أو يقوم بوظيفة معيّنة فإنّه يجب عليه أن يعلم في حدود اختصاصه وبمقدار حاجته، والحاكم أعلم من كلّ من عداه. وكأنّ أئمّتنا قد أثبتوا جدارتهم بأمانة الناس بما سبقوا إليه من العلم1.
 
وما أخذه علماء الشيعة على غيرهم من مؤاخذات، إنّما يدور أكثر ذلك حول المستوى العلميّ الّذي بلغه أئمّتنا وقصّر عنه سواهم2.
 
فالعلم بالقانون والعدالة من أهمِّ أركان الإمامة. وإذا كان الشخص يعلم الكثير عن الطبيعة وأسرارها ويُحسن كثيراً من الفنون، ولكنّه يجهل القانون، فليس علمه ذاك مؤهِّلاً إيّاه للخلافة ومقدِّماً إيّاه على غيره ممّن يعلم القانون ويعمل بالعدل. وقد أصبح من المسلَّمات لدى المسلمين من أوّل يومٍ وحتّى يومنا هذا أنّ الحاكم أو الخليفة ينبغي أن يتحلّى بالعلم بالقانون، وعنده ملكة العدالة مع سلامة الاعتقاد
 
 

1-قد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة، الخطبة 172، أنّه قال: "أيها الناس إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه".
2-كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلاّمة الحلّي، المقصد الخامس، المسألة السادسة.
 
 
 
 
 
 
62

53

الفصل الثاني

 وحسن الأخلاق. وهذا ما يقتضيه العقل السليم، خاصّةً ونحن نعرف أنّ الحكومة الإسلاميّة تجسيدٌ عمليّ للقانون، وليست ركوب هوى، فالجاهل بالقوانين لا أهليّة فيه للحكم، لأنّه إن كان مقلِّداً في أحكامه، فلا هيبة لحكومته وإن لم يُقلِّد فإنّه يعجز عن تنفيذ الأحكام مع فرض جهله التّام بها.

 
ومن المسلّم به: "الفقهاء حكّام على الملوك"1. وإذا كان السلاطين على جانب من التديُّن فما عليهم إلّا أن يصدروا في أعمالهم وأحكامهم عن الفقهاء، وفي هذه الحالة فالحكّام الحقيقيّون هم الفقهاء، ويكون السلاطين مجرّد عمّال لهم.
 
وطبيعيّ أنّه ليس واجباً على كلّ موظّف أيّاً كانت وظيفته أن يُحيط علماً بجميع القوانين، ويتفقّه فيها، بل يكفيه أن يتبصّر بما يهمّه منها في شغله أو عمله أو المهمّة الّتي عُهد بها إليه. بهذا جرت السيرة على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عهد أمير المؤمنين عليه السلام، فالحاكم الأعلى يُحيط بجميع الأحكام الإسلاميّة، ويكتفي المبعوثون والمرسَلون والعمّال والولاة بالعلم بما يتّصل بمهمّتهم من أحكام وتشريعات، ويرجعون فيما لا يعلمون إلى مصادر التشريع المرسومة لهم.
 
2 ـ وعلى الحاكم أن يتحلّى بأقصى حدٍّ من كمال العقيدة، وحسن الأخلاق مع العدل والنزاهة من الآثام. لأنّ من يتصدّى لإقامة الحدود وإنفاذ الحقوق، ويُنظِّم موارد بيت المال ومصارفه، لا
 
 

1-قال الإمام الصادق عليه السلام "الملوك حكّام على الناس، والعلماء حكام على الملوك". بحار الأنوار، ج1، ص183، كتاب العلم، باب 21، حديث 92.
 
 
 
 
 
 
63

54

الفصل الثاني

  ينبغي أن يكون ظالماً، لأنّ الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾1.

 
فالحاكم إذا لم يكن عادلاً فإنّه لا يؤمَن أن يخون الأمانة، ويحمل نفسه وذويه وآله على رقاب الناس.
 
فرأي الشيعة فيمن يحقّ له أن يلي الناس معروف منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحتّى زمان الغيبة، فالإمام عندهم فاضل عالِم بالأحكام والقوانين، وعادل في إنفاذها، لا تأخذه في الله لومة لائم.
 
الحاكم في زمن الغيبة
 
وإذا كنّا نعتقد أنّ الأحكام الّتي تخصّ بناء الحكومة الإسلاميّة لا تزال مستمرّة، وأنّ الشريعة تنبذ الفوضى، كان لزاماً علينا تشكيل الحكومة. والعقل يحكم بضرورة ذلك، خاصّةً فيما إذا دهمنا عدوّ، أو اعتدى علينا معتدٍ لا بُدّ من جهاده ودفعه. وقد أمر الشرع بأن نُعدّ لهم ما استطعنا من قوّة نُرهب بها عدوّ الله وعدوّنا، ويُشجّعنا على أن نردّ من اعتدى علينا بمثل ما اعتدى علينا، وكذلك يدعو الإسلام إلى إنصاف المظلوم واستخلاص حقّه، وردع الظالم. وكلّ ذلك يحتاج إلى أجهزة قويّة. وأمّا نفقات الحكومة الّتي يُراد تشكيلها من أجل خدمة الشعب ـ مجموع الشعب ـ فمن بيت المال الّذي تكون موارده من الخراج والخمس والزكاة وغيرها.
 
واليوم ـ في عهد الغيبة ـ لا يوجد نصّ على شخصٍ معيّن يُدير شؤون 
 
 
 

1-سورة البقرة، الآية: 124.
 
 
 
 
 
 
64

55

الفصل الثاني

 الدولة، فما هو الرأي؟ هل نترك أحكام الإسلام معطّلة؟ أم نرغب بأنفسنا عن الإسلام؟ أم نقول إنّ الإسلام جاء ليحكم الناس قرنين من الزمان فحسب ليُهملهم بعد ذلك؟ أو نقول إنّ الإسلام قد أهمل أمور تنظيم الدولة؟ ونحن نعلم أنّ عدم وجود الحكومة يعني ضياع ثغور المسلمين وانتهاكها، ويعني تخاذلنا عن حقّنا وعن أرضنا. هل يُسمح بذلك في ديننا؟ أليست الحكومة ضرورة من ضرورات الحياة؟ وبالرغم من عدم وجود نصٍّ على شخص من ينوب عن الإمام عليه السلام حال غيبته، إلّا أنّ خصائص الحاكم الشرعيّ لا يزال يُعتبر توفّرها في أيّ شخص مؤهّلاً إيّاه ليحكم في الناس، وهذه الخصائص الّتي هي عبارة عن: العلم بالقانون، والعدالة، موجودة في معظم فقهائنا في هذا العصر، فإذا أجمعوا أمرهم كان لدى ميسورهم إيجاد وتكوين حكومة عادلة عالميّة منقطعة النظير.

 
ولاية الفقيه
 
وإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالِم عادل، فإنّه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويُطيعوا. ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصّة. لأنّ فضائلهم لم تكن تُخوِّلهم أن يُخالفوا تعاليم الشرع، أو يتحكّموا في الناس بعيداً عن أمر الله. وقد فوّض الله الحكومة الإسلاميّة الفعليّة المفروض تشكيلها في
 
 
 
 
 
 
 
65

56

الفصل الثاني

 زمن الغيبة نفس ما فوّضه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام من أمر الحكم والقضاء والفصل في المنازعات، وتعيين الولاة والعمّال، وجباية الخراج، وتعمير البلاد، غاية الأمر أنّ تعيين شخص الحاكم الآن مرهون بمن جمع في نفسه العلم والعدل.

 
الولاية الاعتباريـّة
 
ولا ينبغي أن يُساء فهم ما تقدّم فيتصوّر أحد أنّ أهليّة الفقيه للولاية ترفعه إلى منزلة النبوّة أو إلى منزلة الأئمّة لأنّ كلامنا هنا لا يدور حول المنزلة والمرتبة، وإنّما يدور حول الوظيفة العمليّة. فالولاية تعني حكومة الناس، وإدارة الدولة، وتنفيذ أحكام الشرع، وهذه مهمّة شاقّة، ينوء بها من هو أهلٌ لها من غير أن ترفعه فوق مستوى البشر. وبعبارةٍ أخرى فالولاية تعني الحكومة والإدارة وسياسة البلاد، وليست ـ كما يتصوّر البعض ـ امتيازاً أو محاباة أو أثرة، بل هي وظيفة عمليّة ذات خطورة بالغة.
 
ولاية الفقيه أمرٌ اعتباريّ1 جعله الشرع، كما يعتبر الشرع واحداً منّا قيّماً على الصغار، فالقيّم على شعب بأسره لا تختلف مهمّته عن القيّم على الصغار إلّا من ناحية الكمّية. وإذا فرضنا 
 
 
 

1-الأمور الاعتباريّة مقابل الأمور التكوينيّة. وتُطلق على الأمور الّتي توجد بالجعل والوضع، وتُنسب إلى واضعها وجاعلها. فإذا كان واضعها الشارع سمّيت "الاعتبار الشرعيّ". وإذا كان واضعها الناس (العقلاء) لأجل إدارة أمور حياتهم سمّيت "بالاعتبار العقلائيّ".
 
 
 
 
 
 
66

57

الفصل الثاني

 النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام قيّماًعلى صغار فإنّ مهمتهما في هذا المجال لا تختلف كمّاً ولا كيفاً عن أيّ فرد عاديّ آخر إذا عُيّن للقيمومة على نفس أولئك الصغار. وكذلك قيمومتهما على الأمّة بأسرها من الناحية العمليّة لا تختلف عن قيمومة أيّ فقيه عالم عادل في زمن الغيبة.

 
وإذا فُرض فقيه عادل متمكّناً من إقامة الحدود، فهل يُقيمها على غير الوجه الّذي كانت تُقام عليه أيّام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هل كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يجلد الزاني غير المحصن أكثر من مائة جلدة؟ وهل على الفقيه أن يُنقص منها مقداراً، كي يثبت تفاوت بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟ كلّا! لأنّ الحاكم ـ نبيّاً كان أم إماماً أم فقيهاً عادلاً ـ ليس إلّا منفّداً لأمر الله وحكمه.
 
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يجبي الضرائب: الخمس والزكاة والجزية والخراج. هل هناك تفاوت بين ما يُجبيه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وما يُجبيه الإمام عليه السلام أو فقيه العصر؟
 
فالله جعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وليّاً للمؤمنين جميعاً، وتشمل ولايته حتّى الفرد الّذي سيخلفه، ومن بعده كان الإمام عليه السلام وليّاً، ومعنى ولايتهما أنّ أوامرهما الشرعيّة نافذة في الجميع، وإليهما يرجع تعيين القضاة والولاة، ومراقبتهم وعزلهم إذا اقتضى الأمر.
 
 
 

1-الحضانة هي إدارة وحفظ الطفل أو المجنون. وحضانة الطفل في الدرجة الأولى تكون في عهدة أبويه، فإن لم يكونا على قيد الحياة، أو كانا غير مؤهّلين، يتولّى الإمام والحاكم الإسلاميّ تعيين شخص للقيام بذلك.
 
 
 
 
 
 
 
67

58

الفصل الثاني

 نفس هذه الولاية والحاكميّة موجودة لدى الفقيه، بفارقٍ واحد هو أنّ ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين لا تكون بحيث يستطيع عزلهم أو نصبهم، لأنّ الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهليّة.

 
بعد هذا، ينبغي للفقهاء أن يعملوا فرادى أو مجتمعين من أجل إقامة حكومة شرعيّة، تعمل على إقامة الحدود، وحفظ الثغور وإقرار النظام. وإذا كانت الأهليّة لذلك منحصرة في فرد، كان ذلك عليه واجباً عينيّاً1، وإلّا فالواجب كفائيّ. وفي حالة عدم إمكان تشكيل تلك الحكومة، فالولاية لا تسقط، لأنّ الفقهاء قد ولاّهم الله، فيجب على الفقيه أن يعمل بموجب ولايته قدر المستطاع، فعليه أن يأخذ الزكاة والخمس والخراج والجزية إن استطاع، ليُنفق كلّ ذلك في مصالح المسلمين، وعليه إن استطاع أن يُقيم حدود الله. وليس العجز المؤقّت عن تشكيل الحكومة القويّة المتكاملة يعني بأيّ وجهٍ أن ننزوي بل إنّ التصدّي لحوائج المسلمين، وتطبيق ما تيسّر تطبيقه فيهم من الأحكام، كلّ ذلك واجب بالقدر المستطاع.
 
الولاية التكوينيـّة
 
وثبوت الولاية والحاكميّة للإمام عليه السلام لا تعني تجرُّده عن منزلته
 
 
 

1-الواجب "العينيّ" هو الّذي يكون إتيانه واجباً على كلّ فرد من المكلَّفين، وإنّ إتيان بعضهم به لا يُسقطه عن الآخرين كالصلاة والصوم. أمّا الواجب "الكفائيّ" فهو الذي إذا أتى به البعض سقط عن الآخرين، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
 
 
 
 
 
 
 
68

59

الفصل الثاني

 الّتي هي له عند الله، ولا تجعله مثل من عداه من الحكّام. فإنّ للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية، وخلافةً تكوينيّة تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرّات هذا الكون. وإنّ من ضروريّات مذهبنا أنّ لأئمّتنا مقاماً لا يبلغه ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌّ مرسل.

 
وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام كانوا قبل هذا العالَم أنواراً فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلّا الله1. وقد قال جبرئيل ـ كما ورد في روايات المعراج ـ: "لو دنوت أنملة لاحترقت"2
 
وقد ورد عنهم عليهم السلام: "إنّ لنا مع الله حالات لا يسعها ملكٌ مقرّب ولا نبيٌّ مرسل"3.
 
ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراءعليها السلام لا بمعنى أنّها خليفة أو حاكمة أو قاضية، فهذه المنزلة شيء آخر وراء الولاية والخلافة والإمرة، وحين نقول: إنّ فاطمة عليها السلام لم تكن قاضية أو حاكمة أو خليفة فليس يعني ذلك تجرّدها عن تلك المنزلة المقرّبة، كما لا يعني ذلك أنّها امرأة عاديّة من أمثال ما عندنا.
 
 
 

1-بصائر الدرجات، ج1، ص20، باب 10، وبحار الأنوار، ج25، ص130.
2-بحار الأنوار، ج18، ص382، "باب إثبات المعراج ومعناه وكيفيّته".
3-الأربعون، العلامة المجلسي، ص177، شرح حديث 15، والكلمات المكنونة، ص101، بتغيير يسير في العبارة، وبصائر الدرجات، ص23، باب 11.
4-علل الشرائع، ج1، ص123، الحديث 1، ومعاني الأخبار، ص64 و107، وبحار الأنوار، ج43، ص12.
 
 
 
 
 
 
 
69

60

الفصل الثاني

 وإذا قال قائل: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقد أقرّ له بمرتبة هي فوق كونه وليّاً أو حاكماً على المؤمنين. ونحن لا نعارض في هذا، بل نُؤيّده، وإن كان ذلك ممّا استأثره الله بعلمه.

 
الحكومة الإسلاميـّة وسيلة لتحقيق الأهداف السامية 
 
والقيام بشؤون الدولة لا يُكسب القائمين بالأمر مزيد شأنٍ ورفعة، لأنّ الحكومة وسيلة لتنفيذ الأحكام وإقرار النظام الإسلاميّ العادل، وتتجرّد الحكومة عن أيّة قيمة إذا اعتُبرت هدفاً مقصوداً يُطلب لذاته.
 
أمير المؤمنين عليه السلام قال ذات مرّة لابن عباس ـ وقد كان بيد الإمام عليه السلام نعل يخصفه ـ: ما قيمة هذه النعل؟
 
قال ابن عباس1: لا قيمة لها.
 
قال الإمام عليه السلام: "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً"2.
 
والإمام عليه السلام غير مُتهافت على الإمرة ولا مشغوف بها، وهو الّذي يقول: "أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أنْ لا يُقارّوا 
 
 
 

1-عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب (السنة الثالثة قبل الهجرة ـ 68هـ)، هو ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام، وقد أخذ التفسير عن عليّ عليه السلام واشتهر بـ"رئيس المفسّرين" و"حبر الأمّة". وكان من أعوان وقادة جيش الإمام عليّ عليه السلام في حروب الجمل وصفّين والنهروان.
2-نهج البلاغة، (م.س)، خطبة 33، ص80.
 
 
 
 
 
 
 
70

61

الفصل الثاني

 على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، وسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"1.

 
فالحكم ليس غاية في نفسه، وإنّما هو وسيلة تكون له قيمة ما دامت غايته نبيلة، فإذا طُلب باعتباره غاية واتُّخذت لنيله جميع الوسائل، فقد تدنّى إلى درك الجريمة، وأصبح طلّابه في عداد المجرمين.
 
ولم تسنح الفرص لأئمّتنا للأخذ بزمام الأمور، وكانوا بانتظارها حتّى آخر لحظة من الحياة، فعلى الفقهاء العدول أن يتحيّنوا هم الفرص وينتهزوها من أجل تنظيم وتشكيل حكومة رشيدة, يُراد بها تنفيذ أمر الله، وإقرار النظام العادل، وإن كان ذلك يُحمّلهم جهوداً ومساعي غير يسيرة، ولا عذر يُقبل في ذلك، لأنّ نفس تولّي الفقيه لأمور الناس بالقدر المستطاع، يُمثِّل بدوره انصياعاً لأمر الله، وأداءً للوظيفة الشرعيّة الواجبة.
 
وللاستدلال على أنّ الحكومة وسيلة ليست هدفاً نذكر ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له خطبها في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد بيعة الناس له: "اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في
 
 
 

1-نهج البلاغة، الخطبة الشقشقية.
 
 
 
 
 
 
71

62

الفصل الثاني

  بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطّلة من حدودك"1.

 
صفات الحاكم الّذي يـُحقِّق هذه الأهداف
 
وفي نفس خطبته هذه يُشير إلى الصّفات الّتي ينبغي توفّرها في الحاكم الّذي يُريد تحقيق الأهداف السامية الّتي سبق أن ذكرها الإمام عليه السلام في خطبته، فهو يقول: "اللّهمّ إنّي أوّل من أناب وسمع وأجاب، لم يسبقني إلّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة. وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج، والدماء، والمغانم، والأحكام، وإمامة المسلمين، البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيُضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطِّل للسنّة فيُهلك الأمّة"2.
 
وهذا يدور ـ كما ترون ـ حول علم الحاكم وعدالته، وهما شرطان ينبغي وجودهما في الحاكم الإسلاميّ، فهو يُشير بقوله: ولا الجاهل فيُضلّهم بجهله إلى الشرط الأوّل، وبباقي الحديث إلى العدالة الّتي تعني أن يكون الحاكم في حكمه وعلاقاته، وعشرته للناس آخذاً بسيرة أمير المؤمنين 
 
 

1-نهج البلاغة، ج2، خطبة 131، ص13.
2-نهج البلاغة، ج2، ص14.
 
 
 
 
 
 
 
72

63

الفصل الثاني

 عليه السلام وبما ورد عنه في عهده الّذي عهد به إلى مالك الأشتر1 واليه على مصر، ويُمكننا أن نرى في عهده هذا عهداً إلى جميع الولاة والعمّال والحكّام والفقهاء في كلّ عصر ومصر.

 
ولاية الفقيه في الأحاديث الإسلاميـّة
 
قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللّهمّ ارحم خلفائي، ـ ثلاث مرات ـ قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الّذين يأتون من بعدي، يروون حديثي، وسنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي"2.
 
يذكر الشيخ الصدوق3 رحمه الله هذه الرواية في جامع الأخبار4، وعيون أخبار الرضا5، والمجالس6 في خمسة أسناد، أو أربعة على
 
 
 

1-مالك بن الحارث النخعي المعروف بالأشتر (ت 37هـ)، من قادة الجيش الإسلاميّ، وكان معروفاً بالشجاعة، وقاتل في حربيّ الجمل وصفّين إلى جانب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. وولّاه الإمام عليه السلام مصر غير أنّه استشهد بدسّ السمّ إليه وهو في طريقه إليها بدسيسة من معاوية، وتُعتبر رسالة الإمام لمالك المعروفة بعهد مالك الأشتر، والمذكورة في نهج البلاغة (الرسالة رقم 53) أحد أشهر النصوص في الإدارة والحكم.
2-ذكر صاحب وسائل الشيعة هذا الحديث في كتاب القضاء في الباب 8 من أبواب صفات القاضي الحديث 50، وكذلك في الباب 11 الحديث 7 مرسلاً. وورد هذا الحديث في معاني الأخبار والمجالس بسندين يشترك بعض رجالهما في الاسم. وفي عيون أخبار الرضا بثلاثة طرق مختلفة في كلّ رجالها والّذين كانوا يعيشون في أماكن متباعدة (مرو) نيشابور (بلخ) "المؤلف".
3-محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القميّ المكنّى (بأبي جعفر) والمعروف بـ"الصدوق" وابن بابويه ت 381هـ من كبار علماء الإماميّة ومشايخ الحديث وفقهاء الشيعة.
4-جامع الأخبار، من مؤلّفات الشيخ الصدوق، جمع فيه الأحاديث الواردة في تفسير أحاديث وأخبار المعصومين عليهم السلام.
5-عيون أخبار الرضا عليه السلام: عبارة عن مجموعة من الأخبار المأثورة عن الرضا عليه السلام.
6-كتاب الأمالي المعروف بالمجالس أو "عرض المجالس" للشيخ الصدوق (رض)، وهو مرتّب في 97 مجلس.
 
 
 
 
 
 
 
73

64

الفصل الثاني

 أقلِّ تقدير بسبب الاشتراك في أسماء راويين في طريقين من هذه الطرق. وإذ تُذكر هذه الرواية مرسلة1 فهي تخلو من جملة "فيعلّمونها الناس من بعدي" وإذ تُذكر مسندة2 بعدّة أسناد ففي بعضها جملة "فيُعلّمونها الناس" وفي البعض الآخر "فيُعلّمونها"3 فقط.

 
وحديثنا حول هذا الحديث سيدور حول افتراضين:
 
1ـ لنفرض أنّ هذا من أخبار الآحاد، وقد زيدت فيه جملة "فيعلّمونها..." أو كانت موجودة وسقطت ـ وهذا الاحتمال أقرب إلى الواقع ـ لأنّنا لا يُمكننا اتهام الرواة، لأنّهم ثلاثة لا تربط بينهم أيّة روابط وكان أحدهم يسكن بلخ والآخر من نيشابور، والثالث من مرو، ومن البعيد جدّاً أن يتواطأ هؤلاء ـ على ما بينهم من البعد وعدم التعارف ـ على زيادة هذه الجملة ـ إذن، نحن يُمكننا أن نقطع بأنّ جملة "فيعلّمونها..." في الرواية المنقولة بطريق الصدوق، قد سقطت من قلم النسّاخ، أو أنّ الصدوق قد نسيها.
 
2 ـ نفرض أنّ هناك روايتين، إحداهما تخلو من جملة "فيعلّمونها" والأخرى تشتمل عليها. ولنفرض أنّ هذه الجملة موجودة، فالحديث لا يشمل ـ قطعاً ـ أولئك الذين يكون شغلهم الشاغل 
 
 
 

1-المسند هو الحديث الّذي ذكر جميع رواته انتهاءً بالمعصوم عليه السلام.
2-وردت في المجالس، ص152، مسندة بـ"يعلّمونها" وفي عيون أخبار الرضا مسندة بـ"يعلّمونها الناس"، ينظر أيضاً من لا يحضره الفقيه، ج4، ص302، باب النوادر، الحديث 95.
 
 
 
 
 
 
 
 
74

65

الفصل الثاني

  نقل الحديث فقط، من دون إمعان، ونظر، واجتهاد واستنباط وقدرة على التوصّل إلى الحكم الواقعيّ، فلا يُمكننا أن نصف أمثال هؤلاء الرواة بأهليّتهم للخلافة ما داموا مجرّد نقلة للحديث أو كتبة له، يسمعون الرواية فينقلونها إلى الناس، هذا مع اعترافنا بقيمة خدمتهم الّتي يُقدِّمونها للإسلام، فمجرّد نقل الأحاديث وروايتها ليس أمراً يُؤهِّل الناقل أو الراوي لخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ بعض الرواة والمحدِّثين قد يكون مصداقاً لعبارة "رُبَّ حامل فقه غير فقيه"1.

 
وهذا لا يعني أنّه لا يوجد في المحدِّثين والرواة أيّ فقيه، فما أكثر المحدِّثين الفقهاء كالكلينيّ2، والشيخ الصدوق وأبيه3، فإنّهم كانوا فقهاء يُعلِّمون الناس. وحين نُفرِّق بين الشيخ الصدوق والشيخ المفيد4، لا نقصد أنّ الشيخ الصدوق ليس بفقيه، أو أنّه أقلّ فقاهة
 
 
 

1-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى خطبه في مسجد الخيف: "فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه. ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه". أصول الكافي، ج2، ص258، كتاب الحجّة، باب ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصيحة لأئمّة المسلمين، الحديث 1.
2-محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكلينيّ الرازيّ (ت 328 أو 329هـ) المعروف بثقة الإسلام، من كبار محدّثي الشيعة، وشيخ مشايخ أهل الحديث، هو أوّل مؤلّف من مؤلّفي "الكتب الأربعة" عند الشيعة، حيث جمع كتابه العظيم (الكافي) خلال سنوات طويلة في ثلاثة أقسام: "الأصول" و"الفروع" و"الروضة".
3-عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه (ت 329هـ) فقيه ومحدّث شيعيّ جليل، نُسبت إليه كتب كثيرة منها: التوحيد، الإمامة والتبصرة من الحيرة، الصلاة، الإخوان والشرائع.
4-أبو عبد الله محمّد بن محمّد النعمان (336 أو 338 ـ 413هـ) الملّقب "بالشيخ المفيد" "وابن المعلّم". من فقهاء ومتكلّمي ومحدّثي الشيعة المشهورين. تولّى الرئاسة العلميّة ببغداد في عصره، من أشهر طلّابه السيّد المرتضى علم الهدى، والسيّد الشريف الرضي، والشيخ الطوسيّ، والنجاشيّ، ترك حوالى 200 مؤلّف صغير وكبير أشهرها: الإرشاد، الاختصاص، أوائل المقالات، الأمالي، المقنعة.
 
 
 
 
 
 
 
75

66

الفصل الثاني

  من المفيد، كيف وقد نُقل عن الشيخ الصدوق أنّه بيّن الأصول والفروع المذهبيّة في مجلسٍ واحد1. لكنّ الفرق بينهما أنّ الشيخ المفيد أكثر اجتهاداً في الاستنباط، وأشدّ إمعاناً ودقّة نظر في الروايات.

 
فالحديث يُقصد به أولئك الّذين يسعون في نشر علوم الإسلام وأحكامه، ويُعلِّمونها الناس، كما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام يُعلِّمون، وينشرون ويتخرّج على أيديهم الألوف من العلماء. وإذا قلنا: إنّ الإسلام دين العالَم ـ وهذا واضح وبديهيّ ـ كان لزاماً على علماء الإسلام أن ينشروا ويبثّوا ويُذيعوا أحكام هذا الدين في العالَم كلّه.
 
ولنفرض أنّ جملة "يُعلّمونها الناس..." ليست من ضمن الحديث فلننظر ماذا يعني قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهمّ ارحم خلفائي... الّذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنّتي"2؟
 
وفي هذا الغرض، فالحديث أيضاً لا يعني الرواة من غير ذوي الفقه، لأنّ سنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هي سنّة الله، ومن أراد نشرها فعليه الإحاطة بجميع الأحكام الإلهيّة، مميّزاً بين الأحاديث صحيحها وغير صحيحها، ويطّلع على العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، ويجمع بينها جمعاً عرفيّاً عقلائيّاً، ويعرف الروايات الصادرة في ظروف التقيّة الّتي كانت تُفرض على الأئمّة عليهم السلام بحيث كانت تمنعهم من إظهار الحكم
 
 
 

1-الأمالي أو المجالس، المجلس 93، ص 509 ـ 520، بحار الأنوار، ج10، ص393 ـ 405، وكتاب الاحتجاج، الباب 25.
2-وقد روى المحدّث النوريّ الحديث بهذه الطريقة: يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللّهمّ ارحم خلفائي"، ثلاثاً، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الّذين يأتون بعدي يروون حديثي" خاتمة مستدرك الوسائل، ج2، ص9.
 
 
 
 
 
 
 
 
76
 

67

الفصل الثاني

  الواقعيّ في تلك الحالات. فالمحدِّث الّذي لم يبلغ مرتبة الاجتهاد، وهو مكتفٍ بنقل الحديث لا يستطيع التوصّل إلى حقيقة السنّة، وهو في نظر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غير ذي بال. ومن المعلوم أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يُريد للناس أن يكتفوا بـ"قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" أو "عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم" بغضّ النظر حتّى عن طريق الرواية وسندها، وإنّما كان يُريد أن تُنشر السنّة على حقيقتها.

 
ورواية "من حفظ على أمّتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً"1 وغيرها من الروايات الّتي تُمجِّد من يسعى في نشر الأحاديث، لا تعني المحدِّث الّذي لا يفقه ما ينقل، ولعلّه ينقل إلى من هو أفقه منه، وإنّما تعني من يؤدّي إلى الناس أحكام الإسلام الواقعيّة، ويستنبطها من مصادرها على الموازين الّتي رسمها له الإسلام نفسه، والأئمّة أنفسهم. هؤلاء المجتهدون هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحقّون أنْ يدعو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرحمة من عند الله.
 
فلا شكّ إذن أنّ رواية: "اللّهمّ ارحم خلفائي..." لا علاقة لها بنقَلة الحديث ورواته المجرّدين عن الفقه، لأنّ كتابة الحديث وحدها لا تُؤهّل الشخص لخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل المقصود هم فقهاء الإسلام الّذين يبسطون تعاليم الإسلام وآدابه، والّذين يجمعون إلى فقههم وعلمهم ـ العدالة والاستقامة في الدِّين.
 
 
 

1-بحار الأنوار، ج2، ص156. وهناك اختلاف في ألفاظ هذا الحديث ـ بعض الروايات ـ أضافت "عالماً" في آخر الحديث، وبعض آخر ـ عبّر ـ في زمر الفقهاء، والعلماء، وغير ذلك من اختلافات لا تضرّ في أصل دلالة الحديث.
 
 
 
 
 
 
 
77

68

الفصل الثاني

 الفقيه يُميّز بين الرجال الّذين يصحّ الأخذ عنهم، وبين من لا يصحّ الأخذ عنهم. ففي الرواة من يفتري على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث لم يقلها. ولعلّ راوياً كسمرة بن جندب1 يفتري أحاديث تمسّ من كرامة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، ولعلّ راوياً لا يمتنع أن يروي آلاف الأحاديث في فضل الحكّام الجائرين وحسن سلوكهم عن طريق أعوان الظلَمة وعلماء البلاط، تمجيداً بالسلاطين، وتزكيةً لأعمالهم.

 
ومثل هذا ـ كما ترون ـ واقع الآن. وما أدري لماذا يتمسّك بعض الناس بروايتين ضعيفتين في مقابل القرآن الّذي أمر الله فيه موسى بالنهوض في وجه فرعون2، وهو أحد الملوك، وفي مقابل كلِّ ما ورد من الأحاديث الكثيرة الآمرة بمحاربة الظالمين ومقاومتهم3 فالكسالى من الناس هم الّذين يطرحون كلّ ذلك جانباً ليتمسّكوا بروايتين ضعيفتين تُزكّي الملوك وتُبرِّر التعاون معهم، ولو كان هؤلاء متديّنين لرووا إلى جانب تلك الروايتين
 
 
 
 

1-أبو عبد الرحمن، سمرة بن جندب بن هلال بن جريح (ت 58هـ)، روى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً. تولّى البصرة فترة من الزمن بعد موت زياد إلى أن عزله معاوية. يقول الطبريّ: أمر سمرة بقتل ثمانية آلاف شخص فترة تولّيه البصرة، وعندما أتى الكوفة سأله زياد: ألا تخشى أن تكون قد قتلت بريئاً؟ فقال: لو قتلت أكثر من ذلك لما خفت. ووفقاً لما نقله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة (ج4، ص73)، فقد طلب منه معاوية أن يروي أن آية ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (سورة البقرة، الآية: 204) نزلت في الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وأن آية ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ) (سورة البقرة، الآية: 207) نزلت في ابن ملجم مقابل مئة ألف درهم، وأنّ سمرة وافق على جعل هذه الرواية مقابل أربعة أضعاف هذا المبلغ.
2-سورة الأعراف، الآية: 103، سورة يونس، الآيتان: 75 ـ 58، سورة طه، الآيتان: 24 ـ 43، سورة المؤمنون، الآية: 45 ـ 47. سورة النازعات، الآية: 17.
3-وسائل الشيعة، ج11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الأبواب 1، 5، 26، 46، 47. وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبها، الأبواب 1، 3، 8.
 
 
 
 
 
 
 
 
78

 


69

الفصل الثاني

  الضعيفتين مجموعة من الروايات المناهضة للظلمة وأعوانهم.

 
مثل هؤلاء الرواة لا عدالة لهم، لما بدر منهم من انحياز إلى أعداء الله، وابتعادهم عن تعاليم القرآن والسنّة الصحيحة. بطنتهم دعتهم إلى ذلك لا العلم، وفي البطنة وفي حبّ الجاه ما يدعو إلى السير في ركاب الجائرين.
 
إذن، فنشر أحكام الإسلام وعلومه مهمّة يقوم بها الفقهاء العدول الّذين في ميسورهم التمييز بين الحقّ والباطل، ويعرفون ظروف التقيّة الّتي كان يعيشها الأئمّة عليهم السلام، هذه التقيّة الّتي كانت تُتّخذ لحفظ المذهب من الاندراس، لا لحفظ النفس خاصّة.
 
ولا مجال للشكّ في دلالة الرواية على ولاية الفقيه وخلافته في جميع الشؤون. والخلافة الواردة في جملة "اللّهمّ ارحم خلفائي، لا يختلف مفهومها في شيء عن الخلافة الّتي تُستعمل في جملة عليّ خليفتي".
 
وجملة "الّذين يأتون من بعدي ويروون حديثي" تُبيّن شخصيّة الخليفة، وليس فيها توضيح لمعنى الخلافة، لأنّ الخلافة كانت في صدر الإسلام من المفاهيم الواضحة، وهي واضحة حتّى عند السائل الّذي لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن معنى الخليفة أو الخلافة، وإنّما سأله بقوله: ومن خلفاؤك؟
 
ولم يكن أحدٌ يُفسِّر منصب الخلافة على عهد أمير المؤمنين عليه السلام وبالنسبة إلى الأئمّة عليهم السلام من بعده بأنّه منصب الإفتاء فقط، وإنّما
 
 
 
 
 
 
 
79

70

الفصل الثاني

 فسّر المسلمون هذا المنصب بأنّه الولاية والحكومة، وتنفيذ أمر الله، واستدلّوا على ذلك بما يطول ذكره. ولكن لماذا يتوقّف بعضنا في معنى جملة "اللّهمّ ارحم خلفائي"؟

 
لماذا يظنّ هذا البعض أنّ خلافة الرسول محدودة بشخصٍ معيّن؟ وبما أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا هم خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فليس لغيرهم من العلماء أن يحكم الناس ويسوسهم، وليبق المسلمون بلا حاكم شرعيّ، ولتبق أحكام الإسلام معطّلة، وثغوره مفتوحة للأعداء. هذا الظنّ وهذا الموقف بعيد عن الإسلام، لأنّه انحراف في التفكير يبرأ الإسلام منه.
 
الفقهاء حصون الإسلام
 
محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عليّ بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول: "إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة، وبقاع الأرض الّتي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء الّتي كان يصعد فيها بأعماله، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء، لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها"1.
 
في نفس الباب من كتاب الكافي رواية أخرى ورد فيها: "إذا مات المؤمن الفقيه..."2.
 
 
 

1-أصول الكافي، (م.س)، ج1، ح3، ص38.
2-م.ن، ص 38، تكملة الحديث: "ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء".
 
 
 
 
 
 
80

71

الفصل الثاني

 في حين يخلو صدر الرواية الأولى من كلمة الفقيه، لكن يُستفاد من ذيل روايتنا السابقة الّتي ورد فيها: "لأن المؤمنين الفقهاء..." أنّ كلمة الفقيه سقطت من صدر الرواية، لأنّها تتناسب وقوله: "ثلم في الإسلام" وقوله "حصن" وأمثالها من كلّ ما يتناسب وشأن الفقهاء المؤمنين.

 
مفهوم الحديث
 
قوله عليه السلام: "لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام...".
 
تكليف للفقهاء أن يحفظوا الإسلام بعقائده وأحكامه وأنظمته، وليس هذا التعبير صادراً من الإمام ثناءً أو إطراء أو على سبيل المجاملة المتعارفة فيما بيننا حينما أقول لك حجّة الإسلام، وتقول لي مثل ذلك.
 
وإذا اعتزل الفقيه الناس وأمورهم، وقبع في زاويةٍ من داره، ولم يُحافظ على قوانين الإسلام، ولم ينشرها، ولم يعمل في إصلاح شؤون المجتمع، ولم يهتم بالمسلمين، فهل يُمكن اعتباره حصناً للإسلام أو سوراً له؟
 
إذا أرسل رئيس الحكومة شخصاً إلى ناحية صغيرة وأمره أن يحفظها ويرعاها، فهل يسمح له واجبه أن يُغلق عليه أبواب داره، ليرتع العدوّ، ويعيث في تلك الناحية فساداً، أم أنّ وظيفته تحمله على أن يبذل كلّ ما بوسعه في سبيل حفظ ورعاية ما ولّي عليه؟
 
إذا قُلتم: نحن نحتفظ ببعض الأحكام فأنا أتوجّه إليكم بهذا 
 
 
 
 
 
 
 
 
81

72

الفصل الثاني

  السؤال:

 
ـ هل تُقيمون الحدود، وتُنفّذون قانون العقوبات في الإسلام؟
 
ـ لا!
 
فأنتم هنا قد أحدثتم صدعاً في بناء الإسلام، كان يجب عليكم رأبه ورتقه، أو منع حدوثه من أوّل الأمر.
 
ـ هل تُدافعون عن الثغور، وتُحافظون على سلامة أرض الإسلام واستقلالها؟
 
ـ لا! نحن ندعو الله أن يفعل ذلك.
 
وهنا قد انهار جانب آخر من البناء إلى جانب ما انهار سابقاً.
 
ـ هل تجمعون حقوق الفقراء الّتي فرضها الله في أموال الأغنياء وتُؤدّونها إلى أصحابها تنفيذاً لما أُمرتم به في ذلك؟
 
ـ لا! ذلك ليس من شأننا. إن شاء الله يتحقّق ذلك على يد غيرنا.
 
ماذا بقي من البناء؟ لقد أوشك البناء كلّه على الخراب، مثلكم في ذلك كمثل شاه سلطان حسين1 وأصفهان.
 
أيّ حصن للإسلام أنتم؟ ما يكاد يُعهد إلى أحدكم بحفظ جانب إلّا اعتذر منه! هل المراد من حصن الإسلام هو هذا الّذي أنتم عليه؟!
 
فقوله عليه السلام: "الفقهاء حصون الإسلام" يعني أنّهم مكلّفون بحفظ الإسلام بكلّ ما يستطيعون.
 
 

1-الشاه سلطان حسين الصفويّ الموسويّ الحسينيّ، وهو آخر سلاطين الدولة الصفويّة ومدّة ملكهم أزيد من مائتين وعشرين سنة وكان السلطان حسين ملكاً ضعيفاً يفتقر إلى اللياقة المطلوبة، دخل إلى الحكم سنة 1105هـ.
 
 
 
 
 
 
 
 
82

73

الفصل الثاني

 وحفظ الإسلام من أهمّ الواجبات المطلقة بلا قيدٍ ولا شرط1.

 
وهذا ممّا يجب على المجامع والهيئات العلميّة الدينيّة أن تُفكّر في شأنه طويلاً, لتُجهّز نفسها بأجهزةٍ وإمكانات وظروف يُحرس فيها الإسلام ويُصان ويُحفظ: أحكاماً وعقائداً وأنظمة، كما حافظ عليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الهداة عليهم السلام.
 
نحن اكتفينا بمقدارٍ يسير من الأحكام نبحث فيه خلفاً عن سلف، وطرحنا الكثير من مسائله وجزئيّاته ومفرداته. كثيرٌ من مسائله غريب علينا. والإسلام كلّه غريب، ولم يبق منه إلّا اسمه، فقد أُغفلت عقوباته. والعقوبات الواردة في القرآن تُقرأ كآيات، فلم يبق من القرآن إلّا رسمه.
 
نحن نقرأ القرآن لا لشيء إلّا لنُحسن إخراج الحروف من مخارجها الطبيعيّة، أمّا الواقع الاجتماعيّ الفاسد، وانتشار الفساد في طول البلاد وعرضها تحت سمع الحكومات وبصرها أو بتأييدٍ منها للفجور والفحشاء وإشاعتها، فذلك أمرٌ لا شأن لنا به. حسبنا أن نفهم أنّ الزاني والزانية قد جُعل لهما حدّ معين. أمّا تنفيذ ذلك الحدّ وغيره من الحدود فليس ذلك من شأننا!
 
نحن نسأل: أهكذا كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟ هل كان يكتفي بتلاوة القرآن وترتيله من غير إقامةٍ لحدوده، وتنفيذٍ لأحكامه؟ هل كان خلفاؤه 
 
 
 

1-لو كان وجوب ما غير مشروط بشيء آخر، يكون "واجباً مطلقاً" بالنسبة له. مثلاً وجوب الصلاة بالنسبة للوضوء. وأما إذا كان وجوب واجب ما مشروطاً بشيء ما، فيكون "واجباً مشروطاً" بالنسبة له، مثلاً وجوب الحج بالنسبة إلى الاستطاعة.
 
 
 
 
 
 
 
83

74

الفصل الثاني

 من بعده يكتفون بإبلاغ الأحكام الشرعيّة إلى الناس ثمّ يتركون الحبل على الغارب بعد ذلك؟ ألم يكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده يقيمون حدّ الجلد والرجم والحبس والنفي؟ عودوا إلى دراسة باب الحدود والقصاص والديّات لتجدوا أنّ جميع ذلك من صميم الإسلام.


الإسلام جاء لتنظيم المجتمع بواسطة الحكومة العادلة الّتي يُقيمها في الناس.

نحن مكلّفون بحفظ الإسلام، وهذا من أهمِّ الواجبات ولعلّه لا يقلّ أهميّة عن الصلاة والصوم. وهذا هو الواجب الّذي أُريقت في سبيل أدائه دماء زكيّة. فليس أزكى من دم الحسين عليه السلام وقد أُريق في سبيل الإسلام.

علينا أن نفهم هذا ونُفهّمه الناس. أنتم تكونون خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا علّمتم الناس وعرّفتموهم بالإسلام على واقعه. لا تقولوا ندع ذلك حتّى ظهور الحجّة |! فهلّا تركتم الصلاة بانتظار الحجّة؟! لا تقولوا كما قال بعضٌ: ينبغي إشاعة المعاصي كي يظهر الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف! بمعنى أنّ الفواحش إذا لم تنتشر فإنّ الحجّة لن يظهر! لا تكتفوا بالجلوس هنا للتباحث في أمورٍ خاصّة، بل تعمّقوا في دراسة سائر الأحكام. انشروا حقائق الإسلام. اكتبوا، وانشروا فذلك سيؤثّر في الناس بإذن الله، وقد جرّبت ذلك بنفسي.

الفقهاء أمناء الرسل

عليّ عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
84

75

الفصل الثاني

  قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل: يا رسول الله: وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم"1.

 
ولا يسعنا تتبّع الرواية بتمامها، فذلك يستلزم بحثاً طويلاً. علينا أن نُمعن النظر في جملة: "الفقهاء أمناء الرسل".
 
لا بُدّ أوّلاً من معرفة واجبات ووظائف وصلاحيّات ومجموعة أعمال الأنبياء والرسل، لنتوصّل بعدها إلى معرفة التكاليف الّتي كلّف بها الفقهاء الّذين ائتمنهم الرسل.
 
أهداف الرسالات
 
بحكم ضرورة العقل لا ينحصر الهدف من بعثة الرسل في بيان وتوضيح الأحكام والشرائع الّتي يتلقّونها بالوحي. فلم يكن الأنبياء قد عيّنوا لأداء هذه الأحكام إلى الناس بأمانة تامّة فحسب، ولم يعهدوا إلى الفقهاء أن يكتفوا ببيان المسائل الّتي أخذوها عنهم للناس. ولا تعني جملة "الفقهاء أمناء الرسل" أنّهم مؤتمنون على النقل عنهم.
 
فقد كان أهمّ ما كلّف به الأنبياء هو إقرار النظام العادل في المجتمع وتنفيذ الأحكام. وقد يُستفاد ذلك كلّه من قوله
 
 

1-الكافي (م.س)، كتاب فضل العلم، الباب 13، الحديث 5، وهذا من جملة ما رواه النراقي. وقد رواه المرحوم النوري في كتاب مستدرك الوسائل (م.س)، في الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8 نقلاً عما ورد في كتاب النوادر للراوندي بسند صحيح عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام وكذلك نقلاً عن كتاب دعائم الإسلام في الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5 عن الإمام جعفر بن محمّد عليهما السلام وفي الكافي نفسه رواية أخرى بهذا المضمون عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "العلماء أمناء، والأتقياء حصون، والأنبياء سادة".
 
 
 
 
 
 
 
85

76

الفصل الثاني

 تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾1.

 
فقد كان الهدف الحقيقيّ من بعثة الأنبياء هو إقامة العدل والقسط في الناس، وتنظيم حياتهم بموجب الموازين الشرعيّة، ولا يتمّ ذلك إلّا بالحكومة الّتي تُنفِّذ الأحكام وهذه الحكومة كما تتمثّل في شخص النبيّ أو الرسول، تتمثّل كذلك في الأئمّة عليهم السلام وفي الفقهاء العلماء المؤمنين العدول من بعدهم. لأنّ القيام على الناس واقرار الحقّ والنظام العادل فيهم مطلوبٌ على كلّ حال.
 
حينما يقول الله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾2 ويقول: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾3، وغير ذلك من الأوامر، فلا يعني ذلك أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكلّفٌ بابلاغ ذلك إلى الناس فحسب، بل هو مأمورٌ بالعمل به وتنفيذه، مأمورٌ أن يجبي هذه الضرائب من أهلها ليصرفها في مصالح المسلمين، ومأمورٌ أن يُشيع العدل فيهم، ويُقيم حدود الله ويحفظ ثغور المسلمين، ويمنع البلاد من الأعداء، ويمنع خزانة الأمّة أن يحيق عليها أحد.
 
وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾4.
 
 

1-سورة الحديد، الآية: 25.
2-سورة الأنفال، الآية: 41.
3-سورة التوبة، الآية: 103.
4-سورة النساء، الآية: 59.
 
 
 
 
 
 
 
86

77

الفصل الثاني

 وذلك لا يعني وجوب التصديق بما أخبرونا به فحسب، وإنّما يُقصد من ذلك العمل والاتباع، فإنّ في ذلك مجلبة لرضا الله، لأنّ الله تعالى يقول في موضع آخر من كتابه: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ)فإطاعة الرسول إطاعةٌ لله لأنّ الرسول لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحيٌ يوحى.

 
فإذا أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالالتحاق ببعثة أسامة2، فلا يحقّ لأحد أن يتخلّف أو يُراجعه في ذلك، لأنّ في ذلك معصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد فوّض إليه أمر المسلمين فهو يُدير شؤونهم ويُرشدهم ويوجّههم، ويُعيّن لهم الولاة والحكّام والقضاء، ويعزل منهم إذا لزم الأمر.
 
أهليـّة الفقهاء لقيادة الأمـّة
 
والحديث السابق الّذي يؤتمن فيه الفقهاء من قبل الرسل يشترط على الفقهاء ألّا يدخلوا في الدنيا، لأنّ الفقيه إذا كان همّه أن يجمع الحطام لم يكن عادلاً، ولم يعد مؤتمناً للرسول، ومنفّذاً لأحكام شريعته، فالفقهاء العدول وحدهم المؤهّلون لتنفيذ أحكام الإسلام وإقرار نُظمه، وإقامة حدود الله، وحراسة ثغور المسلمين. وعلى كلّ حال فقد فوّض إليهم الأنبياء جميع ما فُوّض إليهم، وائتمنوهم على 
 
 
 

1-سورة الحشر، الآية: 7.
2-أسامة بن زيد بن حارثة (ت 54هـ)، ولد بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أبواه ممن أعتقهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نصّبه صلى الله عليه وآله وسلم أواخر أيامه (سنة 10هـ) أميراً على جيش من المهاجرين والأنصار للتوجّه إلى الشام وفلسطين لمحاربة الروم، وآنذاك لم يكن أسامة قد بلغ العشرين من عمره.
 
 
 
 
 
 
 
87

78

الفصل الثاني

 ما أؤتمنوا هم عليه، فهم يجبون الضرائب، ليُنفقوها في مصالح المسلمين، وهم يُصلحون كلّ فاسدٍ من أمور المسلمين.


وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكلّفاً بتطبيق الأحكام وإقرار النظام. كذلك الفقهاء، فإليهم الحكم، وعليهم يقع عبء تنفيذ الأحكام، وإقامة حدود الله، ومحاربة أعدائه، والقضاء على كلّ منشأ للفساد.

أمانة الفقهاء لتطبيق القانون

وبما أنّ حكومة الإسلام هي حكومة القانون، فالفقيه هو المتصدّي لأمر الحكومة لا غير. هو ينهض بكلّ ما نهض به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يزيد ولا ينقص شيئاً، فيُقيم الحدود كما أقامها الرسول ويحكم بما أنزل الله، ويجمع فضول أموال الناس كما كان ذلك يُمارس على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويُنظّم بيت المال، ويكون مؤتمناً عليه.

وإذا خالف الفقيه أحكام الشرع ـ والعياذ بالله ـ فإنّه ينعزل تلقائيّاً عن الولاية، لانعدام عنصر الأمانة فيه. فالحاكم الأعلى في الحقيقة هو القانون، والجميع يستظلّون بظلّه، والناس أحرار من يوم يولدون فيه في تصرّفاتهم المشروعة، فليس لأحدٍ على غيره أيّ حقّ، وليس لأحدٍ ـ بعد تنفيذ القانون ـ أن يقسر أحداً على الجلوس في مكان معيّن، أو الذهاب إلى مكان معيّن بغير حقّ.
فحكومة الإسلام تُطمئن الناس وتؤمنهم، ولا تسلبهم أمنهم واطمئنانهم، شأن الحكومات الّتي تُشاهدون أنتم، كيف يعيش المسلم تحت بأسها خائفاً يترقّب، يخشى في كلّ ساعة أن يهجموا على داره
 
 
 
 
 
 
 
88

79

الفصل الثاني

 وينتزعوا منه روحه وأمواله وكلّ ما لديه؟!


وقد حدث مثل ذلك في أيّام معاوية، فقد كان يقتل الناس على الظنّة والتهمة ويحبس طويلاً، وينفي من البلاد، ويُخرج كثيراً من ديارهم بغير حقّ إلّا أن يقولوا ربّنا الله. ولم تكن حكومة معاوية تُمثّل الحكومة الإسلاميّة أو تُشبهها من قريب ولا بعيد. وإذا قدّر الله للحكومة الإسلاميّة أن تقوم ـ وليس ذلك على الله ببعيد ـ فالكلّ آمن على نفسه وماله وأهله وما يملك، لأنّه لا يحقّ لحاكمٍ أن يخطو في الناس بما يتنافى وما قُرّر في الشرع الإسلاميّ الحنيف، وهذا هو ما ترمي إليه كلمة "أمين"، ومعلوم ـ كما سبق ـ أنّ الأمانة لا تقتصر على الأمانة في النقل أو الرواية أو الإفتاء فحسب، وإنّما تشمل الأمانة في العمل والتطبيق والتنفيذ، وإن كانت أمانة النقل والإفتاء ذات شأن كبير.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام يقولون ويعملون، وقد ائتمنهم الله على رسالته، وقد ائتمن الرسل الفقهاء على أن يقولوا ويعملوا ويُقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويسيروا في الناس بالقسط. فالإسلام يعتبر القانون آلةً ووسيلة لتحقيق العدالة في المجتمع، وسبيلاً إلى تهذيب الإنسان خُلقيّاً وعقائديّاً وعمليّاً وكانت مهمّة الأنبياء هي تجسيد القانون والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأن يسوسوهم، ويقودوهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

لقد تقدّم في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام قوله: "لو لم يجعل
 
 
 
 
 
 
89

80

الفصل الثاني

 لهم إماماً قيّماً حافظاً مستودعاً لدرست الملّة..."1.

 
وفي نفس هذه الرواية يقول: "الفقهاء أمناء الرسل"، ويُستفاد من مجموع القضيّتين2 أنّ الفقهاء هم الّذين ينبغي أن يقودوا مسيرة الناس لئلّا يندرس الإسلام. واندراس الإسلام فعلاً وتعطّل حدوده يرجع إلى أنّ الفقهاء في بلاد المسلمين لم يتمكّنوا من ولاية الناس، وقد أثبتت التجربة رأي الإمام عليه السلام في قوله: "لو لم يجعل لهم إماماً... لدرست الملّة".
 
ألم يندرس الإسلام؟
 
أليس الإسلام مندرساً الآن؟
 
ألم تُعطّل أحكامه في بلاد الإسلام العريضة؟
 
هل تُراعى تشريعاته ويُتّبع نظامه؟
 
أليس الأمر فوضى؟
 
هل الإسلام هو هذا الحبر على الورق؟
 
أفحسبتم أنّ ديننا، حسبه في الحياة أن تُجمع أحكامه في كتاب الكافي ويوضع بعد ذلك على الرفّ؟ هل يُحفظ الإسلام إذا قبّلنا القرآن ووضعناه فوق رؤوسنا وتلونا آياته بصوتٍ حسنٍ أناء الليل وأطراف النهار؟
 
وقد انتهى الإسلام إلى هذه النهاية المفجعة لأنّنا لم نُفكِّر في تنظيم المجتمع، وإسعاده بواسطة حكومةٍ إسلاميّة.
 
 
 

1-علل الشرائع، (م.س)، ج1، ص172، حديث 9.
2-الأول "الفقهاء أمناء الرسل"، والثانية "إنّ الناس يحتاجون إلى إمام وقيّم أمين".
 
 
 
 
 
 
 
90

81

الفصل الثاني

 وقد استُعملت بحقّ المسلمين قوانين فاسدة جائرة تُجافي تعاليم الإسلام، لأنّ الله لم يكن لينزل بها من سلطان.

 
وقد كان الإسلام يندرس في أذهان بعض السادة الأجلّاء، وكاد يُنسى إلى حدّ حمل البعض على تفسير قوله عليه السلام "الفقهاء أمناء الرسل" بأنّ ذلك يعني الأمانة في حفظ المسائل، ويُفسّر آيات القرآن والأحاديث الدالة على ولاية الفقهاء للناس في عصر الغيبة، يؤوّل كلّ ذلك بتولّي بيان المسائل وشرح الأحكام! هل هذه هي الأمانة؟!
 
أليس على الأمين المؤتمن أن يحفظ أحكام الإسلام حيّة حياةً واقعيّة، ويحرسها من الإهمال والتعطيل؟
 
أليس من واجب الأمين على بلد أن لا يترك المعتدين يتحرّكون بدون جزاء؟ أليس عليه أن يمنع الفوضى ويُحارب البدع والضلالات، ويضرب على أيدي العابثين بأموال الناس وأرواحهم؟ أجل هذا ما تقتضيه الأمانة، ويقتضيه ائتمان الرسل إيّاهم.
 
أهميـّة منصب القضاء في الإسلام
 
عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن يحيى بن مبارك، عن عبد الله بن جميلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه لشريح: يا شريح، قد جلست مجلساً لا يجلسه (ما جلسه) إلّا نبيّ،
 
 
 
 
 
 
91

82

الفصل الثاني

 أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ"1.

 
وكان شريح2 هذا قد شغل منصب القضاء قرابة خمسين عاماً وكان متملّقاً لمعاوية، يمدحه، ويُثني عليه، ويقول فيه ما ليس له بأهل، وكان موقفه هذا هدماً لما تبنيه حكومة أمير المؤمنين عليه السلام إلّا أنّ عليّاً عليه السلام لم يستطع عزله، لأنّ من قبله قد نصّبه، ولم يكن عزله، بسبب ذلك، في متناول أمير المؤمنين، إلّا أنّه عليه السلام اكتفى بمراقبته، وردعه عن الوقوع فيما يُخالف تعاليم الشرع.
 
القضاء من شؤون الفقيه العادل
 
لئن كان قد وقع في مسألة الولاية خلاف، فذهب بعض العلماء كالمرحوم النراقيّ والمرحوم النائينيّإلى أنّ للفقيه جميع ما للإمام من الوظائف والأعمال في مجال الحكم والإدارة والسياسة،
 
 
 

1-وسائل الشيعة، كتاب القضاء، الباب 3، الحديث 2 من لا يحضره الفقيه، الجزء 3، ص4، رواه مرسلاً.
2- أبو أميّة، شريح بن الحارث الكنديّ (ت 78هـ)، أصله من اليمن، ولد قبل ظهور الإسلام، ولم يدرك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا لا يعدّ من الصحابة. وكان قاضياً على الكوفة في عهد عمر، وعثمان، وأمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية. ويقال أنّه وقف في واقعة عاشوراء إلى جانب ابن زياد، ودعا الناس للخروج لقتال الإمام الحسين عليه السلام.
3-لمولى أحمد النراقيّ، ولد في قرية نراق من قرى كاشان، في 14 جمادى الآخرة سنة 1185هـ.ق، الموافق لسنة 1150هـ.ش له مؤلّفات كثيرة منها: مستند الشيعة، عوائد الأيام، توفّي (رحمه الله) في 23 ربيع الآخر، عام 1245هـ.
راجع: مقدّمة مستند الشيعة.
4-النائينيّ: حسين النائينيّ (1273 ـ 1355هـ)، نسبة إلى نائين من نواحي يزد من أعمال أصفهان، ولد سنة 1273 وتوفي في النجف في 26 جمادى الأول، من تصانيفه: تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة، رسالة لعمل المقلّدين، أجود التقريرات في أصول الفقه وغير ذلك.
راجع: كحالة، عمر، معجم المؤلفين، بيروت، مكتبة المثنى، ج4، ص16.
 
 
 
 
 
 
92

83

الفصل الثاني

 وذهب بعض إلى أنّ ولاية الفقيه ليست من الشمول بحيث تكون ولاية الإمام عليه السلام، لئن كان قد وقع في ذلك خلاف، فلا أرى أنّ خلافاً وقع في أنّ منصب القضاء من مختصّات الفقيه العادل. نظراً إلى أنّ الحديث شمل بالذكر "النبيّ، والشقيّ، والوصيّ". ومعلوم أنّ الفقهاء ليسوا أنبياء، ولا شكّ أنّهم ليسوا في عداد الأشقياء فبالضرورة يصدق عليهم أنّهم "أوصياء". وبسبب غلبة استعمال كلمة "الوصيّ" في الوصيّ الأوّل أمير المؤمنين عليه السلام، لذا يُرى البعض لا يأخذ بهذه الرواية كدليل على موضوعنا.


وقد سبق أن قلنا أنّه لا ينبغي أن يتوهّم متوهّم أنّ منصب الحكم كان يرفع من منزلة الأئمّة عليهم السلام، إذ سياسة الناس والحكم فيهم لم يكن كلّ ذلك إلّا قياماً بالواجب، وإحقاقاً للحقّ، وتقويماً للمجتمع ونشراً للعدالة بين الناس. وقد كانت للأئمّة مراتب عالية، ومنازل لا يعلمها إلّا الله، ولا يكون لتعيينهم للخلافة أو عدم تعيينهم لها في تلك المراتب مزيد أثرٍ أو نقصان، لأنّ هذا المنصب ليس هو الّذي يرفع من شأن الإنسان، أو يُكسبه شأناً، بل إنّ من يكون ذا شأنٍ وفقهٍ وصلاح يكون مؤهّلاً لإشغال هذا المنصب كجزء من واجباته الحياتيّة.

وعلى كلّ حال، فنحن نفهم من الحديث أنّ الفقهاء هم أوصياء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من بعد الأئمّة وفي حال غيابهم، وقد كُلِّفوا بالقيام بجميع ما كُلِّف الأئمّة عليهم السلام القيام به. وحديثٌ آخر يؤيّد موضوعنا، ولعلّه أرجح من الأوّل سنداً ودلالة. وقد ورد عن الكلينيّ بطريق
.
 
 
 
 
 
93

84

الفصل الثاني

  ضعيف، إلّا أنّ الصدوق رواه عن طريقٍ سليمان بن خالد، وهو صحيحٌ ومعتبر.

 
وعن عدّة من أصحابنا، عن سهيل بن زياد، عن محمّد بن عيسى، عن أبي عبد الله المؤمن، عن ابن مكان، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "اتقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالِم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبيٍّ (كنبيّ) أو وصيّ نبيّ"1.
 
ورواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن خالد.
 
فأنتم ترون أنّ من يحكم أو يقضي بين الناس لا بُدّ أن يكون إماماً عالِماً بالقوانين والأحكام، وأن يكون عادلاً، وهذه الشروط لا تكون إلّا في نبيٍّ أو وصيّ نبيّ. وقد بيّنت من قبل أنّ من البديهيّات الفقهيّة أنّ منصب القضاء لا يحقّ إلّا للفقيه العادل أن يُمارسه، والفقيه يعني العالِم بالعقائد والأحكام والأنظمة والأخلاق الإسلاميّة، أي محيطاً بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
 
وقد حصر الإمام عليه السلام القضاء بمن كان نبيّاً أو وصيّ نبيّ، وبما أنّ الفقيه ليس نبيّاً، فهو إذن وصيّ نبيّ، وفي عصر الغيبة يكون هو إمام المسلمين وقائدهم، والقاضي بينهم بالقسط، دون سواه.
 
 
 

1-الوسائل، (م.س)، كتالب القضاء، الباب 3، الحديث 3، 18 ـ 7.
 
 
 
 
 
 
94

85

الفصل الثاني

 مكاتبة إسحاق بن يعقوب

 
الرواية الثالثة توقيع1 صدرعن الإمام الثاني عشر القائم المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وسنعرضه مع بيان كيفيّة الاستفادة منه:
 
في كتاب "إكمال الدين وإتمام النعمة"عن محمّد بن محمّد بن عصام، عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمريّ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أُشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف: "أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك ـ إلى أن قال ـ: وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله، وأمّا محمّد بن عثمان العمري، فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل، فإنّه ثقتي، وكتابه كتابي"3.
 
وطبيعيّ أنّ المقصود من الحوادث الواقعة ليس هو المسائل والأحكام الشرعيّة، فالسائل كان يعرف مرجعه في هذه المسائل والأحكام، وكان الناس يرجعون إلى الفقهاء إذا أُشكلت عليهم مسألة من مسائل الشرع وأحكامه، وقد كان ذلك يحدث حتّى في زمن الأئمّة عليهم السلام أنفسهم إذا كان الناس بعيدين عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف،
 
 
 

1-التوقيع أو "التوقيعات"، هو الاسم الّذي اشتهر في كتب التأريخ والحديث لرسائل المعصومين R وخصوصاً تلك الصادرة عن الإمام المهدي | الّتي أبلغها أحد نوّابه الأربعة.
2-"اكمال الدين واتمام النعمة" المشهور باسم "كمال الدين وتمام النعمة"، من مؤلّفات الشيخ الصدوق (ت 381هـ)، وقد أُلّف حول غيبة إمام الزمان | والمسائل المرتبطة بها.
3-الوسائل 18 ـ 101، كتاب القضاء، الباب 11، الحديث 9، رواه الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة)، ورواه الطبرسي في (الاحتجاج).
 
 
 
 
 
 
95

86

الفصل الثاني

  وفي مصر غير مصره، فالسائل المعاصر لأوائل غيبة الإمام عجل اله تعالى فرجه الشريف وهو على اتّصال بنوّابه، ويُراسل الإمام ويستفتيه ـ لم يكن يسأل عن المرجع في الفتوى، لأنّه كان يعرف ذلك جيّداً، إنّما كان يسأل عن المرجع في المشكلات الاجتماعيّة المعاصرة، وفيما يجد من تطوّرات في حياة الناس. فهو إذ تعذّر عليه الرجوع في تلك الأمور إلى الإمام، بسبب غيبته، يُريد أن يعرف المرجع في تقلّبات الحياة وتطوّرات المجتمع والحوادث الطارئة، وهو لا يدري ماذا يفعل. وقد كان سؤاله عامّاً لا يخصّ جهة معيّنة بالذكر فكانت الإجابة عامّة كذلك، مناسبة للسؤال.

 
وكان الجواب كما عرفتم: ارجعوا إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله.
 
حجّة الله تعني ماذا؟ ماذا تفهمون منها؟ هل تعني خبر الواحد 2؟ هل معنى "حجّة الله" أنّ صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف إذا أخبر عن الرسول بخبر فعلينا أن نأخذ به كما نأخذ بخبر زرارة3 ؟ هل هو حجّة الله في بيان المسائل والأحكام فقط؟ إذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إنّي جعلت عليّاً عليه السلام
 
 
 

1-خبر الواحد هو الرواية الّتي لم تبلغ حدّ التواتر، أي لم يكن عدد رواتها قد بلغ درجة تفيد القطع واليقين النوعيّ، وفي حال كون ناقلي الخبر محلّاً للاعتماد يسمّى "معتبراً"، ويمكن الاستناد إليه في الأحكام الشرعيّة، والمراد بحجّية خبر الواحد هو أنّ العمل بمقتضاه واجب، وإن لم يكن من الأصول فإنّ العامل به معذور.
 2-زرارة: أبو الحسن زرارة بن أعين، واسمه عبد ربّه وزرارة لقب له وكان أعين بن سنسن عبداً روميّاً، من تصانيفه: كتاب الاستطاعة، وكتاب الجبر وكتاب العهود.
3-راجع: ابن شهر آشوب، معالم العلماء، قم، ص87، ويكفي في علو شأنه ان نروي حديث الإمام الصادق عليه السلام "لولا زرارة ونظراؤه لظننت أنّ أحاديث أبي ستذهب".
 
 
 
 
 
 
 
96

87

الفصل الثاني

 حجّة عليكم، فهل معنى ذلك: إنّني سأذهب واخلف فيكم عليّاً يبيّن لكم المسائل والأحكام ويوضّحها؟ أم ماذا؟


حجّة الله تعني أنّ الإمام مرجع للناس في جميع الأمور، والله قد عيّنه، وأناط به كلّ تصرّف وتدبير من شأنه أن ينفع الناس ويُسعدهم، وكذلك الفقهاء، فهم مراجع الأمّة وقادتها.

فحجّة الله هو الّذي عيّنه الله للقيام بأمور المسلمين، فتكون أفعاله وأقواله حجّة على المسلمين، يجب إنفاذها، ولا يُسمح بالتخلّف عنها، في إقامة الحدود، وجباية الخمس والزكاة والخراج والغنائم وإنفاقها، وذلك يعني أنّكم إذا راجعتم ـ مع وجود الحجّة ـ حكّام الجور فأنتم محاسَبون على ذلك ومعاقَبون عليه يوم القيامة.

فالله ـ سبحانه ـ يحتجّ بأمير المؤمنين عليه السلام على الّذين خرجوا عليه، وخالفوا عن أمره، كما يحتجّ على معاوية وحكّام بني أميّة وبني العباس وأعوانهم ومساعديهم، بما غصبوه من الحقّ، وبما أشغلوه من المنصب الّذي ليسوا له بأهل.

والله يُحاسب حكّام الجور وكلّ حكومة منحرفة عن تعاليم الإسلام ويأخذهم بما كانوا يكسبون، ويُحاسبهم على أموال المسلمين فيما أنفقوها ويُحاسبهم على ما بدّدوه من الأموال في حفلات التتويج،
 
 
 
 
 
 
 
 
97

88

الفصل الثاني

  وفي حفلات مرور 25 قرناً على حكم السلاطين في إيران1، ماذا سيقول عند الحساب؟

 
لعلّه يعتذر ويقول: إنّ ظروفنا الخاصّة كانت تُحتّم ذلك، وتدعو إلى بناء أضخم القصور، وإلى الإسراف والتبذير بغير حسابٍ في حفلات التتويج وأمثالها من أجل الشهرة وذيوع الصيت في العالم!
 
فإنّه يُقال له: ألم يكن لك في عليّ عليه السلام أسوة حسنة؟
 
ألم يكن حاكماً للمسلمين، وأميراً على أمّة مترامية الأطراف؟
 
هل كنت تفعل للناس أكثر ممّا فعله أمير المؤمنين عليه السلام لهم؟
 
هل كنت تًريد أن ترفع للإسلام شأناً لم يرفعه عليّ عليه السلام؟!
 
 
 

1- أقام محمّد رضا بهلوي (الشاه المخلوع) في خريف عام 1971، في موقع (برسبوليس) احتفالاً ضخماّ بمناسبة مرور 2500 عام على الإمبراطورية الفارسيّة، شارك فيها أكثر من عشرين ملك وأمير عربي، وخمس ملكات، وواحد وعشرين أميراً، وستة عشر رئيس جمهوريّة، وثلاثة رؤساء وزارة، وأربع نوّاب لرؤساء جمهوريّات، ووزيري خارجية، حضروا من تسعة وستين بلداً. استمرّت هذه الاحتفالات أسبوعاً كاملاً، وبلغت تكاليفها أكثر من مئتي مليون دولار إلا أنّهم أعلنوا في الصحف أن تكاليفها بلغت 133 مليون تومان فقط، وقد تمّت استضافة المدعوين في ثلاث خيم عظيمة، وخمسين خيمة كبيرة أخرى نصبت في مكان الاحتفال. واستعمل ستّة آلاف ميل من الأسلاك لتأمين الكهرباء من طهران وشيراز لمحل الاحتفال، وكانت الأطعمة المقدّمة في هذا الاحتفال الملكي تشتمل على أفخر المأكولات من شتى أنواع لحوم الطيور والظأن والأسماك والكافيار، بالإضافة إلى الحلولايات الإيرانيّة والأجنبيّة الّتي جلبت خصيصاً من خارج البلاد كما تمّ استدعاء خبير فرنسي مع مجموعة من 159 شخصاً من الطباخين وخبراء الطبخ، والكثير من الخدم، قبل الاحتفال بعشرة أيّام ليتولّوا أمر الضيافة، وقد أرسل أحد المطاعم المشهورة في باريس واسمه (مكسيم للأطعمة والمشروبات) للضيوف خمسة وعشرين ألف زجاجة شراب خاص به، وحضر الاحتفالات ستمائة مراسل ومصوّر صحفي من مختلف أنحاء العالم، وأرسلوا مليون كلمة من التقارير حول هذه الاحتفالات إلى أنحاء العالم، كما بثَّت شبكة التلفزيون الأمريكية N.B.C. تلك المراسم عن طريق الأقمار الاصطناعيّة لعشرات ملايين المتفرّجين في الولايات المتحدة. ينظر "تاريخ سياسي 25 ساله إيران" لغلام رضا نجاتي، ج1، ص348 ـ 351. وشكست شاهانه، لماروين زونيس، ترجمة عباس مخبر، ص123.
 
 
 
 
 
 
 
98

89

الفصل الثاني

 أيّ الدولتين أكبر، دولتك أم دولته؟ دولتك لم تكن إلّا ولاية من ولايات دولته إلى جانب مصر والعراق والحجاز واليمن، ومع كلّ هذا ألم تعرف أنّ ديوانه كان في المسجد، ودكّة قضائه كانت في إحدى زواياه؟ وهو يعقد ألوية الجيوش والعساكر في المسجد ليبدأ انطلاقها وتحرّكها من المسجد؟

 
ألم تر أنّهم كانوا يذهبون إلى الحرب على يقينٍ من أمرهم، والصلاة تملأ جوانحهم؟ ألم تعرف كيف كانوا يتقدّمون ويزحفون، ويفتح الله على أيديهم الفتوح؟
 
فالفقهاء اليوم هم الحجّة على الناس، كما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حجّة الله عليهم، وكلّ ما كان يُناط بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقد أناطه الأئمّة بالفقهاء من بعدهم، فهم المرجع في جميع الأمور والمشكلات والمعضلات، وإليهم قد فوّضت الحكومة وولاية الناس وسياستهم والجباية والإنفاق، وكلّ من يتخلّف عن طاعتهم، فإنّ الله يؤاخذه ويُحاسبه على ذلك.
هذه الرواية الّتي نقلناها واضحة في دلالتها، فإن لم تبلغ مرتبة الدليل على رأينا في الموضوع فهي على الأقل مؤيّدة ومساندة لما نراه ونذهب إليه.
 
آيات من القرآن المجيد
 
هناك رواية أخرى تؤيّد موضوع بحثنا، بل تدلّ عليه، وهي
 
 
 
 
 
 
 
99

90

الفصل الثاني

 مقبولة1 عمر بن حنظلة، وقد وردت فيها آية من الذكر الحكيم. فلنعرض الآن بعض الآيات، وندرسها إلى حدٍّ ما لننتقل بعدها إلى ذكر تلك الرواية وغيرها.

 
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
 
﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾2.
يعتقد البعض أنّ المراد من الأمانة هو ما يودع عند الفرد من مال الناس، وما أودعه الله عند الناس من أحكام شرعيّة يكون العمل بموجبها والالتزام بها ردّاً للأمانة إلى أهلها، فتلك أمانة الناس، وهذه أمانة الله3.
 
ويُفسّر آخرون الأمانة بالإمامة4، وقد ورد ذلك في مضامين بعض الأحاديث إذ يُبدي الإمام أنّ المقصود من هذه الآية نحن الأئمّة5، 
 
 
 

1-"المقبولة" هي الحديث الّذي يقبل العلماء مضمونه، ويعملون وفقه، دونما التفات إلى صحّة سنده أو عدمها، مثل مقبولة عمر بن حنظلة.
2-سورة النساء، الآيتين: 58 ـ 59.
3-مجمع البيان، تفسير سورة النساء، ذيل الآية: 58.
4-مجمع البيان، تفسير سورة النساء، ذيل الآية 58، وتفسير البرهان، وتفسير الدر المنثور، ذيل الآية نفسها.
5-أصول الكافي، ج2، ص22 ـ 24، كتاب الحجّة، باب أنّ الإمام عليه السلام يعرف الإمام الّذي يكون من بعده... وكذلك تفسير مجمع البيان، وتفسير البرهان، وتفسير نور الثقلين ذيل الآية المذكورة.
 
 
 
 
 
 
 
100

91

الفصل الثاني

 فقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بردّ الأمانة ـ أي الإمامة ـ إلى أهلها وهو أمير المؤمنين عليه السلام وعليه هو أن يردّها إلى من يليه وهكذا...

 
وفي ذيل الآية الأولى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ خطاب إلى من يُمسكون بأيديهم أزمّة الأمور، وليس ذلك خطاباً خاصّاً بالقضاة وإن كان يصدر منهم الحكم, لأنّ القضاة جزء من الحكومة المهيمنة على أمور الناس، وليسوا هم الحكومة كلّها.
 
ومن المعروف في الدول الحديثة وجود ثلاث سلطات تتشكّل منها الحكومة وأجهزة الدولة، هي السلطة القضائيّة والسلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة. فقوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُم...) خطاب عامّ شامل لكلّ من تتألّف منه الحكومة من أفراد هذه السلطات.
 
فالحكومة العادلة من مفردات الأمانة الّتي يجب تسليمها إلى أهلها، ويجب على أهلها القيام عليها أحسن قيام.
 
فهذه الحكومة تعمل بموجب موازين القانون والشرع الشريف، والقاضي فيها يحكم بالعدل والإنصاف لا بالجور والظلم، مستمدّاً أحكامه من الدِّين الحنيف.
 
والسلطة التشريعيّة فيها تدور في فلك التعاليم الشرعيّة والأحكام والقوانين الإسلاميّة العامّة الشاملة ولا تتعدّاها ولا تتجاوزها، وتعمل السلطات التنفيذيّة كما يُريد لها الدِّين أن تعمل في الناس بما يُسعدهم ويُبعد عنهم شبح الفقر والجوع والتخلّف، وتعمل كذلك على إقامة الحدود وحفظ الأمن والنظام، كلّ ذلك باعتدال وتوازن من 
 
 
 
 
 
 
 
101

92

الفصل الثاني

 غير إفراط أو تفريط.

 
كان أمير المؤمنين عليه السلام بعد قطعه يد السارق يعطف عليه، ويرفق به، ويُعالج يده، ويحسمها بالزيت، حتّى ليعود المقطوع من أشدّ الناس محبّة له1.
 
وحين يبلغه أنّ جيش معاوية قد أغار على "الأنبار" وأنّ الرجل منهم ليأتي الذميّة والأخرى المعاهدة فينزع عنها قرطها وخلخالها ـ كان يتفطّر حزناً وألماً ويقول: "فلو أنّ امرء مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً"2.
 
ومع هذه العواطف الجيّاشة، كان يحمل سيفه إذا لزم الأمر ليضعه في رقاب المفسدين الّذين يعيثون في الأرض فساداً. هذه هي العدالة!
 
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاكم عادل، فهو إذا أمر باحتلال موقع، أو القضاء على طائفة مفسدة من الناس فقد حكم بالعدل، لأنّه إن لم يفعل فقد خالف العدل، وذلك لأنّ حكمه منسجم دائماً مع ضرورات صالح المسلمين، بل مع ضرورات الحياة البشريّة كلّها.
 
فالحاكم الأعلى لا بُدّ أن يكون نظره في المصالح العامّة، ولا يعبأ بالعواطف، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولذا نرى أنّ كثيراً من المصالح الخاصّة ذات الأثر قد قُضي عليها رعاية للمصلحة العامّة. ونرى أنّ الإسلام حارب طوائف من الناس لما يصدر عنهم من الضرر، فقد 

 
 

1-فروع الكافي، ج7، ص264، بحار الأنوار، ج4، ص281.
2-نهج البلاغة، (م.س)، ج1، خطبة 27، ص69.
 
 
 
 
 
 
102

93

الفصل الثاني

 أتى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على يهود بني قريظة1 عن آخرهم لما لمسه منهم من الإضرار بالمجتمع الإسلاميّ وبحكومته وبجميع الناس. فجرأة الحاكم وشهرته في الله عند تنفيذ أمره وإقامة حدوده من غير خضوع لعاطفة أو انسياق لهوى، وكذلك عطفه ورأفته وحنانه وشفقته بالناس، هاتان الصفتان تجعلان من الحاكم كهفاً يلجأ الناس إليه.

 
وأمّا هذا الّذي نراه من خوفٍ وقلق في أيّامنا هذه، فإنّما هو بسبب عدم شرعيّة الحكومات الفعليّة، لأنّ الحكومة اليوم تُعطي مفهوم التسلّط والأثرة والتجبّر. أمّا في مثل حكومة أمير المؤمنين عليه السلام أو في أيّة حكومة إسلاميّة حقيقيّة، فلا خوف على الناس ولا هم يحزنون، وللإنسان أن يأمن كلّ الأمن ما لم يخن أو يظلم أو يتجاوز حدود الله.
 
وقد ورد في الحديث أنّ قوله تعالى: ﴿أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ يتعلّق بالأئمّة عليهم السلام وقوله: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ...﴾ يتعلّق بالأمراء، وقوله: ﴿وأَطِيعُواْ اللهَ...﴾ خطاب عامّ للمسلمين جميعاً يأمرهم فيه أن يتّبعوا أولي الأمر ـ أي الأئمّة ـ ويأخذوا عنهم التعاليم ويُطيعوا أوامرهم2.
 
 
 

1-"بني قريظة" إحدى القبائل اليهوديّة الّتي كانت تسكن ضواحي المدينة، وكانوا قد وقّعوا معاهدة عدم اعتداء مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لكنّهم نقضوها أثناء حرب الأحزاب (الخندق) وتحالفوا مع قريش وغطفان على المسلمين، وسلبوا الأمن من المدينة، وبعد انتصار المسلمين قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمحاصرتهم، فرضوا بالتسليم لحكم سعد بن معاذ، فحكم عليهم بقتل مقاتليهم، وأسر نسائهم وأطفالهم، وتقسيم أموالهم بين المسلمين. السيرة النبويّة لابن هشام، ج3 و4، ص223 ـ 246. وتأريخ الطبري، ج2، ص245.
2-أصول الكافي، ج1، ص276، كتاب الحجّة، باب أنّ الإمام عليه السلام يعرف الإمام الّذي يكون من بعده... الحديث 1. وتفسير البرهان، ج1، ص379 ـ 386، ذيل الآيتان 1 و4.
 
 
 
 
 
 
103

94

الفصل الثاني

 وقد عرفتم سابقاً أنّ المقصود من طاعة الله، اتّباع أمره في كلّ الأحكام الشرعيّة، العباديّة وغيرها، وطاعة الرسول تعني اتّباع أوامره كلّها بما فيها ممّا يتّصل بتنظيم المجتمع وتنسيقه وتهيئة القوى المعنويّة والماديّة للدفاع عن كيانه، وإن كان ذلك طاعة لله أيضاً. فطاعتك للرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو امتثالك لأوامره الصادر إليك، فلو فرض عليك أن تلتحق بجيش أسامة، أو تُرابط في الثغور، أو تدفع الضرائب أو تجبيها أو تُعاشر الناس بالّتي هي أحسن، لم يكن لك في كلّ ذلك أن تتخلّف. وقد أمرنا الله أن نأخذ ما آتانا الرسول وننتهي عمّا نهانا عنه، كما أمرنا أن نأخذ من أولي الأمر الّذين هم الأئمّة عليهم السلام، مع العلم أنّ إطاعة الرسول وإطاعة أولي الأمر هي إطاعة لله، لأنّ إطاعتنا إيّاهم امتثال لأمر الله إيّانا باتباعهم.

وفي ذيل الآية يقول: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾.
 
والنزاع بين الناس قد يكون على أمور حقوقيّة يعمل فيها القاضي بموجب البيّنات والأيمان، وقد لا يكون ذلك النزاع اختلافاً على شيء حقوقيّ، بل القضيّة قضيّة جزائيّة، قضيّة ظلم أو عدوان أو قتل أو سرقة وغيرها. في مثل هذه الحال يُرفع الأمر إلى الجهات المسؤولة لتبدأ عملها في مثل هذه القضايا الجزائيّة او المزدوجة ـ أي الحقوقيّة الجزائيّة ـ أحياناً. وتُصدر أحكامها في ذلك الشأن قاضية فيها بما أمر الشرع أن يُقضى به.
 
 
 
 
 
 
 
104

95

الفصل الثاني

 فالقرآن يأمرنا بردّ كلّ هذه القضايا حقوقيّةً كانت أم جزائيّة، إلى الرسول باعتباره رئيس الدولة، وهو بدوره مأمورٌ أن يُحقّ الحقّ ويُبطل الباطل، ومن بعده الأئمّة عليهم السلام ومن بعدهم الفقهاء العدول.

 
وبعد ذلك يقول عزَّ وجلَّ: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾1.
 
 
مقبولة عمر بن حنظلة
 
والآن لننظر ماذا تقوله هذه المقبولة وما المقصود منها:
 
محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة: "قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْنٍ أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلُّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يُحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان
 
 
 

1-سورة النساء، الآية: 60.
 
 
 
 
 
 
 
105

96

الفصل الثاني

 حقّاً ثابتاً له, لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يُكفر به، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾، قلت كيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا... فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً..."1.

 
تحريم التحاكم إلى حكّام الجور
 
لقد نهى الإمام في مقام جوابه عن سؤال السائل، عن الرجوع إلى حكّام الجور في المسائل الحقوقيّة أو الجزائيّة نهياً عامّاً. وهذا يعني أنّ من رجع إليهم فقد رجع إلى الطاغوت في حكمه وقد أمر الله أن يُكفر به.
 
فالشرع يأمر أن لا نأخذ بما حكم به حكّام الجور "فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له"، فيحرم على المسلم أن يترافع إليهم في دَين له على أحد، فيستوفي دينه بأمرهم وحكمهم، فلا يجوز له التصرّف فيما أُعطي. ولقد قال بعض الفقهاء بأنّه حتّى في الأمور العينيّة لا يجوز أخذ العين المملوكة2 ـ كالعباءة ـ والتصرّف فيها إذا كان استردادها بأمرهم وحكمهم.
وكانت هذه المقبولة حكماً سياسيّاً يحمل المسلمين على ترك
 
 
 

1-لوسائل، (م.س)، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، ح1، ج18، ص98.
2-إذا ادّعى شخص على آخر مالاً أو شيئاً ما، ولم يكن المطالب به معيّناً ومشخّصاً، وإنّما كان يطالب بحقّ كلّي يُسمّى مورد المطالبة هنا "بالعين الكليّة". أمّا إذا ادّعى مالاً أو شيئاً معيّناً موجوداً بيد المدّعى عليه وتحت تصرّفه فيسمّى مورد المطالبة "بالعين الشخصيّة".
 
 
 
 
 
 
106

97

الفصل الثاني

  مراجعة السلطات الجائرة وأجهزتها القضائيّة، حتّى تتعطّل دوائرهم إذا هجرها الناس، ويفتح السبيل للأئمّة عليهم السلام ومن نصّبهم الأئمّة عليهم السلام للحكم بين الناس. والغرض الحقيقيّ من هذه الرواية هو أن لا يكون حكّام الجور مرجعاً للناس في أمورهم، لأنّ الله قد نهى عن رجوع الناس إليهم، وأمر بتركهم واعتزالهم والكفر بهم وبحكمهم, بسبب ظلمهم وجورهم وانحرافهم عن سواء السبيل.


علماء الإسلام هم مرجع الأمور

بموجب ما ورد عن الإمام عليه السلام فالمرجع هو من روى حديثهم وعرف حلالهم وحرامهم، ونظر بدقّة في أحكامهم بموجب ما لديه من الموازين الاجتهاديّة. والإمام في جوابه عن السؤال الوارد في الرواية لم يترك غموضاً أو إبهاماً، واشترط في المرجع إلى جانب روايته الحديث أن تكون له معرفة بالحلال والحرام ونظر دقيق وتبصّر، فناقل الحديث من غير نظر ومعرفة ليس مرجعاً.

العلماء منصوبون للحكم

يقول عليه السلام: "فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً" فعلى الناس أن يرضوا به حاكماً يرجعون إليه في قضاياهم ومنازعاتهم، ولا يحقّ لهم الرجوع إلى غيره. ففي الفصل في الدعاوى يرجع إلى من عيّنه الإمام دون غيره، وهذا الحكم الشرعيّ يعمّ المسلمين جميعاً وليس مشكلة
 
 
 
 
 
 
 
107

98

الفصل الثاني

  تخصّ عمر بن حنظلة ليكون الجواب الصادر عن الإمام جواباً خاصّاً به. وكما كان أمير المؤمنين عليه السلام يُعيّن الولاة ويأمر الناس بالرجوع إليهم وطاعتهم، فكذلك الإمام الصادق عليه السلام باعتباره وليّاً وحاكماً على المسلمين وعلى العلماء والفقهاء، فقد عيّن في أيّام حياته ولما بعد وفاته حكّاماً وقضاة.

 
وذلك ما عبّر عنه بقوله عليه السلام: "جعلته عليكم حاكماً". والحكم هنا لا يقتصر على الأمور القضائيّة، بل يشتمل عليها وعلى غيرها. ويُستفاد من هذه الآية والآيات المتقدّمة والرواية أنّ جواب الإمام لا يخصّ تعيين القضاة فقط، وإنّما هو شيء أعمّ من ذلك. والرواية من الواضحات ولا تشكيك في سندها أو دلالتها. ولا شكّ أنّ الإمام قد عيّن الفقهاء للحكومة والقضاء، وألزم المسلمين كافّة أن يأخذوا ذلك بنظر الاعتبار.
 
ومن أجل جلاء الموضوع وإيضاحه أكثر، ننتقل إلى رواية أبي خديجة:
 
محمّد بن حسن بإسناده عن محمّد بن عليّ بن محبوب، عن أحمد بن محمّد عن حسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة1، قال: "بعثني أبو عبد الله عليه السلام إلى أحد أصحابنا فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء،
 
 
 

1-سالم بن مكرم بن عبد الله الكناسيّ المكنّى بأبي خديجة وأبي سلمة، كان من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام وروى عن كليهما. وثَّقه ابن قولويه، وعليّ بن فضّال، وعبَّر عنه الرجاليّ الكبير النجاشيّ بالثقة.
 
 
 
 
 
 
108

99

الفصل الثاني

  أن تُحاكموا إلى أحدٍ من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يُخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر"1.

 
والمقصود من الفسّاق: القضاة الّذين نصّبهم ولاة الأمور في ذلك الوقت. وفي حديث سابق نهى عن الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاة الجور، وفي هذا الحديث نصّب القاضي الّذي ينبغي الرجوع إليه، وفي مقبولة حنظلة نصّب الحاكم المنفّذ والقاضي أيضاً. ويظهر من ذيل الحديث أنّ السلطان كان مرجعاً لبعض المخاصمات غير ما كان القضاة مراجعاً لها.
 
هل عـُزل العلماء عن منصب الحكم؟
 
نتساءل الآن عن الحكّام والقضاة الّذين عيّنهم الإمام عليه السلام أيّام حياته بموجب الأحاديث، وحديث عمر بن حنظلة بشكلٍ خاصّ، وأوكل إليهم أمور الحكم والقضاء بين الناس، هل عُزلوا عن مناصبهم بعد وفاة الإمام عليه السلام أم لا؟
 
نحن نعلم أنّ أوامر الأئمّة عليهم السلام تختلف عن أوامر غيرهم.
 
وعلى مذهبنا فإنّ جميع الأوامر الصادرة عن الأئمّة في حياتهم نافذة المفعول، وواجبة الاتباع حتّى بعد وفاتهم، فما هو الرأي بالنسبة إلى من عيّنهم الإمام عليه السلام بصفة خاصّة أو عامّة كحكّام أو قضاة؟
 
في الدول سواء الملكيّة منها أو الجمهوريّة أو أيّ شكلٍ آخر، إذا
 
 
 

1- وسائل الشيعة، (م.س)، ح2، ج18، ص100.
 
 
 
 
 
 
109

100

الفصل الثاني

 توفّي الرئيس أو الملك أو حدث انقلابٌ فإنّ ذلك كلّه لا يؤثّر على الرتب والمناصب العسكريّة والإداريّة تلقائيّاً وإن كان بإمكان النظام الجديد أو الحاكم الجديد أن يُغيّر ويُبدّل في ذوي المناصب إلّا أنّ هذه الرتب لا تُلغى تلقائيّاً.
 
ونحن نرى أنّ بعض الأمور تزول تلقائيّاً كما لو أنّ فقيهاً وكّل شخصاً في بلدٍ معيّن أو منح إجازة حسبيّة1 لشخصٍ فإنّ ذلك يزول ويرتفع تلقائيّاً بموت الفقيه، ولكنّ الفقيه إذا عيّن قيّماً على صغير، أو ولّى أحداً على وقف، فإنّ ذلك لا يتأثّر بوفاة الفقيه، وإنّما يبقى الأمر على حاله باستمرار.
 
فمن أيّ نوع يكون تعيين الفقهاء للحكم والقضاء بين الناس؟
 
منصب العلماء محفوظ دائماً
 
نحن نعتقد أنّ المنصب الّذي منحه الأئمّة عليهم السلام للفقهاء لا يزال محفوظاً لهم، لأنّ الأئمّة الّذين لا نتصوّر فيهم السهو أو الغفلة، ونعتقد فيهم الإحاطة بكلّ ما فيه مصلحة للمسلمين، كانوا على عِلمٍ بأنّ هذا المنصب لا يزول عن الفقهاء من بعدهم بمجرّد وفاتهم، وإذا كان الإمام يعرف أنّ أمر هذا التعيين منوط بحياته لكان ينبغي له أن يُلفت أنظار الناس إلى ذلك، بأن يبيّن لهم أنّ منصب هؤلاء الفقهاء موقوت
 
 
 

1-"الأمور الحسبيّة" هي الأمور المنشودة الّتي يتطلّع الشرع إلى تحقيقها في المجتمع، ومع قيام البعض بها تسقط عن الآخرين. ومن جملة مصاديق الأمور الحسبيّة يُمكن ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع والقضاء. ويعدّ التصدّي لهذه الأمور في عصر الغيبة من مهام الفقيه العادل، الّذي بمقدوره أن يكلّف شخصاً لائقاً للتصدّي لها.
 
 
 
 
 
 
 
110

101

الفصل الثاني

 بحياة الأئمّة، وبعدها يكون الفقهاء معزولين.


إذن، فالعلماء بموجب هذه الرواية، قد عُيّنوا من قبل الإمام للحكومة والقضاء بين الناس، ومنصبهم لا يزال محفوظاً لهم. ولا نحتمل أن يكون الإمام الّذي تلا الإمام الصادق عليه السلام قد عزل الفقهاء عن هذا المنصب، لأنّ هذا الاحتمال ضعيف وغير وارد، وأنّ الإمام عليه السلام نفسه ينهى عن الرجوع إلى سلاطين الجور وقضاته، ويعتبر الرجوع إليهم رجوعاً إلى الطاغوت، ويتمسّك بالآية الشريفة الّتي أمر الله فيها أن يُكفر بالطاغوت.

فإذا كان الإمام اللّاحق قد عزل هؤلاء الفقهاء ولم يُعيّن آخرين، فإلى من يرجع المسلمون في خلافاتهم ومنازعاتهم؟ هل يرجعون إلى الفسّاق والظلمة، وحكم الطاغوت، أم يكون فوضى وضياع للحقوق وأكل للمال بالباطل، وتعدٍّ لحدود الله من غير رادع؟!

نحن على يقينٍ من أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لا يُمكن أن ينقض ما جاء به الإمام الصادق عليه السلام في هذا الموضوع وفي غيره. ولا يُمكن أن يمنع من الرجوع إلى الفقهاء العدول، أو يأمر بالرجوع إلى حكم الطاغوت أو يرضى بضياع الحقوق والأموال والأنفس. فالإمام لا ينقض الأسس العامّة الّتي بيّنها وأرشد إليها سلفه، إلّا أنّ بإمكانه التبديل والتغيير في أشخاص الحكّام والقضاة في أيّام حياته لمصلحة عامّة تقتضي ذلك، وذلك لا يُعتبر نقضاً لما تبنّاه سلفه.

وإليكم رواية أخرى مؤيّدة، وقد كانت الروايات السابقة شديدة
 
 
 
 
 
 
 
111

102

الفصل الثاني

 الظهور والوضوح، وكلّها تآزرت على إثبات ما ذهبنا إليه.

 
صحيحة قدّاح
 
عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن القدّاح (عبد الله بن ميمون) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العِلم رضاً به، وإنّه يستغفر لطالب العِلم من في السماء ومن في الأرض حتّى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العِلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر"1.
 
الحديث صحيح، وحتّى أبو علي بن إبراهيم2 (إبراهيم بن هاشم) فهو من كبار الثقاة في نقل الحديث. وقد وردت هذه الرواية باختلافٍ يسير في النصّ، بطريقٍ آخر ضعيف، أي أنّ السند فيه من هو ضعيف وإن كان باقي السند صحيحاً، وهذا الحديث ينتهي إلى أبي البختري، وهو ضعيف، وبسببه يُضعّف الحديث.
 
رواية أبي البختري
 
عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد، عن أبي البختري.
 
 

1-الكافي، (م.س)، ج1، باب ثواب العالم والمتعلم، ص34.
2-عليّ بن إبراهيم بن هاشم القمّي، محدِّث، ومفسّر.
 
 
 
 
 
 
 
112

103

الفصل الثاني

 عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورِّثوا درهماً، ولا ديناراً، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"1.

 
مقصودنا من نقل هذا الحديث الّذي تمسّك به المرحوم النراقي2 هو توضيح معنى جملة "العلماء ورثة الأنبياء" الواردة هنا في هذا الحديث وهنا بحوث:
 
1ـ ما هو المراد بالعلماء؟
 
احتمل البعض أن يكون المراد هم الأئمّة، والصحيح أنّ المقصود هو علماء المسلمين، بدليل أن الأئمّة لا يُتصوّر أنّ من مناقبهم أن يُقال فيهم مثل ذلك، ولا يكون هذا الحديث معرّفاً لهم بأيّ حال.
 
وفي رواية أبي البختري ورد بعد جملة "العلماء ورثة الأنبياء" قوله: "فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه" ولا يُتصوّر هذا في الأئمّة عليهم السلام، لأنّ من اطّلع على ما ورد في شأنهم ومنزلتهم عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع بأنّ المقصود من العلماء في الروايتين ليس الأئمّة وإنّما العلماء.
 
وهذه المنقبة للعلماء ليست كثيرة عليهم ولا غرابة فيها، لكثرة ما 
 
 

1-المازندراني، محمّد صالح، شرح أصول الكافي، ج2، ص25.
2-عوائد الأيام، ص186، (في تحديد ولاية الحاكم)، الحديث 1.
 
 
 
 
 
 
113

104

الفصل الثاني

 ورد في شأنهم من الإعظام والتبجيل، من قبيل: "علماء أمّتي كسائر الأنبياء قبلي"1 و"علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل"87 ، وعلى كلّ حال فالمراد من العلماء هم علماء الأمّة الإسلاميّة.

 
2ـ لعلّ معترِضاً يقول: لا تُستفاد ولاية الفقيه من جملة "العلماء ورثة الأنبياء" لأنّ هذه الوراثة قد تكون باعتبار ما أُوتي الأنبياء من عِلمٍ بالسنن والأحكام، وهذا الاعتبار لا يتضمّن ولاية شؤون الناس، لأنّ ولايتهم أو إمامتهم وقيادتهم إنّما تثبت باعتبارٍ آخر غير الاعتبار الأوّل. ولم يكن الحديث صريحاً كصراحة قولنا: "العلماء بمنزلة موسى وعيسى"، حتّى تُستفاد من ذلك ولاية الفقهاء.
 
في ردّ هذا الاعتراض أقول: إنّ المقياس في فهم الروايات أخذاً بظواهر ألفاظها، هو العُرف والفهم المتعارَف، وليس التحليل العلميّ والفحوص المخبريّة.
 
ونحن نصدر في فهمنا عن العُرف. وإذا قُدِّر لفقيه أن يستعمل التحليل العلميّ والدقّة الفلسفيّة، فإنّه قد تفوته أشياء كثيرة.
 
وإذا رجعنا إلى العُرف في فهم عبارة: "العلماء ورثة الأنبياء" 
 
 
 

1- الصدوق، جامع الأخبار، ص45، الفصل العشرون، وفي جامع الأخبار ما لفظه (فإنِّي افتخر يوم القيامة بعلماء أمّتي، فأقول: علماء أمّتي كسائر الأنبياء قبلي).
2-الأحسائي، ابن أبي جمهور، عوالي اللئالي، ط1، قم، سيد الشهداء، 1983م، ج4، ح77، ص67.
وفي عوائد النراقي عن الفقه الرضوي أنه عليه السلام قال: "منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل".
 
 
 
 
 
 
114

105

الفصل الثاني

 وسألنا العُرف هل أنّ هذه العبارة تعني أنّ الفقيه بمنزلة موسى وعيسى عليهما السلام؟ لأجاب: نعم! لأنّ هذه الرواية تجعل العلماء بمنزلة الأنبياء، وبما أنّ موسى وعيسى من الأنبياء، فالعلماء بمنزلة الأنبياء، وإذا سألنا العُرف: هل أنّ الفقيه وارث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ لأجاب: نعم، لنفس ما سبق.

 
فنحن لا نأخذ معنى النبوّة على أنّه مجرّد تلقّي الوحي أو العِلم بالسنن والأحكام، ولئن كان هذا الاحتمال وارداً في صيغة المفرد فهو غير محتمل في كلمة "الأنبياء" بصيغة الجمع، فورود كلمة الأنبياء بصيغة الجمع، إنّما يُقصد به كلّ الأنبياء، لا بما هم أنبياء مجرّدين عن غير تلقّي الوحي، بل بما هم أولياء أيضاً. لأنّ تجريد الأنبياء عن كلّ صفةٍ وكلّ شأن غير العِلم والوحي، وتنزيل العلماء منزلتهم في العِلم بالأحكام والسنن والشرائع فقط فهم خاطئ مخالف لعُرف العقلاء.
 
3 ـ وحتّى لو نزّلنا العلماء منزلة الأنبياء بوصفهم أنبياء فإنّه ينبغي إعطاء جميع أحكام المشبّه به للمشبّه. مثلاً: إذا قُلت: فلان بمنزلة العادل، ثُمّ قُلت: يجب إكرام العادل، فنحن نفهم أنّ هذا الّذي نُزِّل منزلة العادل يجب إكرامه، فنحن نستطيع أن نستفيد من قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾1 أنّ منصب الولاية ثابت للعلماء أيضاً، ببيان أنّ المراد من الأولويّة في أقلّ
 
 
 

1-سورة الأحزاب، الآية: 6.
 
 
 
 
 
 
115

106

الفصل الثاني

 تقدير هي الولاية والإمرة كما ورد ذلك في مجمع البحرين تعقيباً على هذه الآية في حديثٍ عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "أنّها نزلت في الإمرة"1 يعني في الإمارة.

 
فالنبيّ وليٌّ للمؤمنين، وأميرٌ عليهم، وكلّ ذلك ثابت للعلماء، مع أنّ الآية ذكرت النبيّ بما هو نبيّ من غير إضافة اعتبار آخر.
 
4 ـ ولعلّ هناك من يقول أنّ ميراث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منحصرٌ في الأحاديث الّتي تركها، ومن أخذ منها فقد ورث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يثبت بذلك وراثة الفقيه منصب الولاية والإمرة العامّة. والحديث لا يزيد على توريث العِلم، وحديث أبي البختري يقول: "إنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم".
 
هذا الاعتراض غير صحيح، لأنّه قائمٌ على أساس امتناع وراثة الولاية والإمارة. ونحن ـ كما تعرفون ـ نصدر في فهمنا عن العُرف، فإذا سألنا عقلاء الدنيا عن وارث العرش الفلانيّ فهل يكون جوابهم: أنّ وراثة العرش غير ممكنة؟ أم يذكرون لنا وريث العرش والتاج؟ والولاية كغيرها يُمكن انتقالها إلى الآخرين في نظر عُرف العقلاء.
 
وإذا نظرنا في قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ وتأمّلنا في قوله عليه السلام: "العلماء ورثة الأنبياء" 
 
 
 

1-شرح أصول الكافي، (م.س)، ج6، ح2، ص115.
والحديث هذا لفظه عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزَّ وجلَّ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ) فيمن نزلت؟ قال: "نزلت في الإمرة، إنّ هذه الآية جرت في ولد الحسين عليه السلام من بعده، فنحن أولى بالأمر وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المؤمنين والمهاجرين والأنصار...".
 
 
 
 
 
 
 
 
116

107

الفصل الثاني

 عرفنا أنّ الولاية من الأمور الاعتباريّة الّتي يُمكن انتقالها، وذلك غير مستحيل عُرفاً.

 
وحتّى لو فرضنا أنّ جملة "العلماء ورثة الأنبياء" واردة في الأئمّة عليهم السلام على حدّ ما جاء في بعض الروايات فلا يُراودنا الشكّ في أنّ المراد بهذه الوراثة هي وراثة الأئمّة للأنبياء في جميع الأمور1، لا في الأحكام والعلوم فحسب.
 
وعلى هذا فإذا أخذنا بجملة "العلماء ورثة الأنبياء" وأعرضنا عن صدر الرواية وذيلها، كنّا مع ذلك على يقين من أنّ جميع شؤون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قابلة للانتقال والوراثة، ومن جملتها الإمارة على الناس، وتولّي أمورهم من كلّ ما ثبت للأئمّة عليهم السلام من بعده وللفقهاء من بعد الأئمّة عليهم السلام، يُستثنى من ذلك ما اختصّ به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، بدليلٍ خارجيّ، ونحن نستثني ما استثناه الدليل، ليكون كلّ ما لم يُستثن باقياً على حاله، ويكون العموم حجّة فيه.
 
وعمدة ما يُقوّي الشبهة السابقة أنّ جملة "العلماء ورثة الأنبياء" وردت ضمن جمل تصلح أن تكون قرينة على أنّ المراد من الميراث فيها هو ميراث الأحاديث لا غير، كما ورد في صحيحة قدّاح: "إنّ الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورّثوا العلم" وفي رواية أبي البختري: "لم يُورِّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنّما أورثوا أحاديث"، وأنّ الأنبياء لم يتركوا ميراثاً سواها، خاصّة مع استعمال كلمة (إنّما)
 
 
 

1-أصول الكافي، ج1، ص321 ـ 343، كتاب الحجة، (إنّ الأئمّة ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً) إلى باب ( ما عند الأئمّة من سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقامه).
 
 
 
 
 
 
117

108

الفصل الثاني

 في الحديث الأخير وهي تُستعمل في الحصر. وهذه الشبهة واهية، لأنّه إن كان ما ورَّثه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الأحاديث دون سواها، فإنّ ذلك يُخالف ضرورة المذهب، لأنّ رسول الله الّذي كان يلي من أمور الناس كلّ شيء، قد عيّن من بعده والياً على الناس, أمير المؤمنين عليه السلام، واستمرّ انتقال الإمامة والولاية من إمامٍ إلى إمام إلى أن انتهى الأمر إلى الحجّة القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 
يُضاف إلى ذلك أنّ كلمة "إنّما" لم يثبت استعمالها للحصر دائماً، وكلمة "إنّما" غير موجودة في صحيحة قدّاح، ولكنّها جاءت في رواية أبي البختري، وقد تقدّم أنّها ضعيفة من ناحية السند.
لننظر في الصحيحة لنرى هل أنّ فيها قرينة تدلّ على انحصار الوراثة في الأحاديث أم لا؟
 
"من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنّة"1.
 
في هذه الجملة ثناءٌ على العلماء. وفي تعريف العالِم ارجعوا إلى ما ورد في الكافي من بيان صفاته ووظائفه لتعلموا أنّ هذا الوصف لا يُطلق على أيٍّ كان بمجرّد نيله قسطاً يسيراً من العِلم، بل إنّ هناك شروطاً وقيوداً تجعل الأمر صعباً.
 
"وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العِلم رضاً به".
 
وهذا كناية عن الاحترام والإكبار والإجلال2.
 
 
 

1-لكافي، ج1، ص34.
2-الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص414 ـ 416، الحديث 26.
 
 
 
 
 
 
118

109

الفصل الثاني

 "وإنّه ليستغفر لطالب العِلم من في السماء ومن في الأرض حتّى الحوت في البحر...".

 
هذه الجملة بحاجة إلى توضيح مفصّل خارج عن نطاق بحثنا.
 
"وفضل العالِم على العابد، كفضل القمر على ساير النجوم ليلة البدر..." ومعناها واضح.
 
"وإنّ العلماء ورثة الأنبياء...".
 
وهذا من فضائل العلماء ومناقبهم بالإضافة إلى ما تقدّم من شأنهم في هذا الحديث. ووراثة العلماء للأنبياء إنّما تكون فضيلة إذا حلّوا محلّ الأنبياء في ولاية الناس وإدارة جميع شؤونهم.
 
وأمّا ذيل الحديث الّذي ورد فيه: "إنّ الأنبياء لم يُورِّثوا ديناراً ولا درهماً..."1، فليس يعني أنّهم لم يُورِّثوا سوى العِلم والشريعة والأحكام، وإنّما تعني هذه الجملة أنّ الأنبياء بالرغم ممّا تولّوه من شؤون الناس، وما في أيديهم من السلطة والإمرة، لم يكن عندهم من الجشع ما يحملهم على الانشغال بطيّبات الحياة وجمع الحطام، والاهتمام بزخارف الحياة. وهذا الأسلوب الحياتيّ البسيط الّذي عاشه الأنبياء على ما لديهم من الأمر، يختلف تماماً عن التّرف والبطر والبذخ الّذي يُمارسه السلاطين وأعضاء الحكومات الحاليّة الّتي يكون تولّي الأمور فيها سبيلاً إلى الإثراء الفاحش غير المشروع.
 
 

1-تكملة الحديث: "ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر" (انتهى).
 
 
 
 
 
 
 
119

110

الفصل الثاني

 وقد كانت حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في منتهى البساطة، لم يملك لنفسه فيها شيئاً من المال، وقد ترك عِلماً هو أشرف من المال، علماً مصدره الوحي الإلهيّ المباشر، وإنّما ذكر العِلم أو الحديث في هذه الروايات، في مقابل المال وحطام الحياة.

 
مؤيـّدات أخرى
 
وإذا فرضنا أنّ ما تقدّم من الروايات يدلّ على ميراث العِلم بالسنن والأحكام فقط، ولم يُورِّث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم غير ذلك وحتّى لو قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليّ وارثي، فلنفرض أنّها لا تدلّ على خلافته وإمرته وحكومته، فنحن في هذا الغرض مضطّرون للرجوع إلى النصوص الأخرى الّتي تدلّ على خلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعلى ولاية الفقهاء.
 
مؤيـّد من الفقه الرضويّ
 
في عوائد1 النراقي ص 186 الحديث 7 عن الفقه الرضويّ وردت هذه الرواية: "منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل".
 
وبالطبع فنحن لا نعتبر كلّ ما ورد في الفقه الرضويّ صحيحاً، ولكن نأخذ الحديث كمؤيّد لموضوع بحثنا.
 
المراد من أنبياء بني إسرائيل هم الفقهاء المعاصرون لموسى
 
 

1-عوائد الأيام، تأليف المولى أحمد النراقي، وقد قال النراقي في مقدّمة كتابه: "عوائد الأيّام من مهمّات أدلّة الأحكام وكليّات مسائل الحرام والحلال، وما يتعلّق بهذا المرام...".
راجع: النراقي، أحمد، عوائد الأيام، قم، بصيرتي، ص1.
 
 
 
 
 
 
120

111

الفصل الثاني

  عليه السلام ولعلّهم كانوا يُسمّون أنبياء لجهةٍ من الجهات، وكانوا يتّبعون موسى ويأخذون بسيرته في سلوكهم وأعمالهم، وكان حينما يبعثهم في وجه، يولّيهم شؤون الناس في وجههم ذاك، ونحن لا نملك معرفة دقيقة مفصّلة عن أحوالهم، ولكنّنا نعرف أنّ موسى عليه السلام نفسه كان نبيّاً من أنبياء بني إسرائيل، وكلّما كان رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم قد كلّف به، فقد كلّف به موسى عليه السلام من قبل ـ على تفاوتٍ في الرتبة والشرف ـ فنحن نفهم من عموم كلمة المنزلة الواردة في الرواية، إنّ ما كان يتولّاه موسى من أمر الحكومة وولاية الناس فهو ثابت للعلماء أيضاً.

 
مؤيـّد آخر
 
في جامع الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "أفتخر يوم القيامة بعلماء أمّتي، وعلماء أمّتي كساير الأنبياء قبلي"1.
 
في مستدرك الوسائل نُقلت رواية عن (الغرر) بهذا المضمون: "العلماء حكّام على الناس"2، ونقلت أيضاً بلفظ: "حكماء على الناس"3، ولا أظن ذلك صحيحاً، لأنّ ما جاء منقولاً عن (الغرر) كان بلفظ "حكّام على الناس". وهناك مؤيّدات أخرى من هذا النوع.
 
 
 

1-عوائد النراقي، نقلاً عن جامع الأخبار، ص186، الحديث 6.
2-الواسطي، عليّ بن محمد الليثي، عيون الحكم والمواعظ، ط1، قم، دار الحديث، 1376هـ.ش، ص25، ج9.
3-النازي، عليّ، مستدرك سفينة البحار، ج9، ط1، قم، جماعة المدرّسين، 1419هـ، ص443.
 
 
 
 
 
 
121

112

الفصل الثاني

 في تحف العقول1 تحت عنوان: "مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء"2 رواية مطوّلة.

 
القسم الأول منها ينقل الإمام الحسين عليه السلام عن أبيه أمير المؤمنين ما قاله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
والقسم الثاني خطاب وجّهه سيّد الشهداء الحسين عليه السلام إلى الناس في (منى) في شأن ولاية الفقيه وواجباته في محاربة الظلمة ودولهم، والقضاء عليها، وإحلال الحكومة الإسلاميّة الشرعيّة محلّها، وذكر فيه أسباب إعلانه الجهاد ضدّ الدولة الأمويّة الجائرة. ويُستفاد من هذه الرواية أمران: أحدهما: ولاية الفقيه.
 
والآخر: ضرورة قيام الفقهاء بفضح حكّام الجور، وزلزلة عروشهم، وإيقاظ الناس وتوعيتهم ثُمّ الوصول إلى تحطيم الكيان الجائر، وإقامة كيانٍ حكوميّ إسلاميّ شرعيّ محلّه، والسبيل إلى ذلك هو الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا هو النصّ:
 
اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ 
 
 
 

1-تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تأليف، أبو محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحراني، من أعلام القرن الرابع الهجري، جمع فيه روايات النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته بعنوان (ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما روي عن الإمام العسكريّ عليه السلام.
2-الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول، ص238.
المجلسيّ، بحار الأنوار، ج97، ص80، والرواية طويلة وهي من كلام للإمام الحسين عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرويه عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أوّله "اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه..." إلى قوله في آخر الخطبة: "وعملوا في اطفاء نور نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير".
 
 
 
 
 
 
122

113

الفصل الثاني

 السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾1، وقال: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ـ إلى قوله ـ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾2.

 
وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلَمة الّذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممّا يحذرون والله يقول: ﴿ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾3، وقال: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾4.
 
فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت، استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها. وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها.
 
ثُمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعِلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مُهابة, يهابكم الشريف، ويُكرمكم الضعيف، ويُؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر.
 
أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ الله
 
 
 

1-سورة المائدة، الآية: 63.
2-سورة المائدة، الآيتان: 78 ـ 79.
3-سورة المائدة، الآية: 44.
4-سورة التوبة، الآية: 71.
 
 
 
 
 
123

114

الفصل الثاني

 وإن كنتم عن أكثر حقّه تُقصِّرون؟ فاستخففتم بحقّ الأمّة، فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتم، ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها، ولا عشيرة عاديتم في ذات الله. أنتم تتمنّون على الله جنّته ومجاورة رسله وأماناً من عذابه.


لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على الله أن تحلّ نقمة من نقماته لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلةً فضّلتم بها، ومن يعرف بالله لا تُكرمون، وأنتم بالله في عباده تُكرمون.

وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محقورة، والعمي والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من فيها تُعينون، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون.

كلّ ذلك ممّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون. وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسمعون. ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.

فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، ما سُلبتم ذلك إلّا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى، وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع ولكنّكم مكّنتم الظّلمة من منزلتكم وأسلمتم أمور الله في أيديهم, يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات. سلّطهم على ذلك
 
 
 
 
 
 
 
 
124

115

الفصل الثاني

 فراركم من الموت وإعجابكم بالحياة الّتي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور وبين مستضعَف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجبّار، في كلّ بلدٍ منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبّارٍ عنيد وذي سطوةٍ على الضعفة شديد مطاع لا يعرف المبدئ والمعيد، فيا عجباً ومالي لا أعجب والأرض من غاش غشوم ومتصدّق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم. فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا..
 
"اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فُضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإن لم تنصرونا وتُنصفونا، قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير"1.
 
فهو عليه السلام يقول: "اعتبروا أيّها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار"2.
 
 

1-هذا آخر كلام الإمام الحسين عليه السلام في الخطبة المتقدّمة، الّتي قلت إنّ أولها كان "اعتبروا أيها الناس...".
2العقول (م.س)، ص237.
 
 
 
 
 
125

116

الفصل الثاني

 وهذا الخطاب لا يخصّ من واجههم الإمام وشافههم من حاضري مجلسه، أو الموجودين في (منى) أو الناس كلّهم في ذلك العصر، وإنّما هو عامٌّ يشمل جميع الناس في كلّ زمان ومكان وهو من ناحية عمومه وشموله نظير خطابه تعالى المتكرِّر في القرآن بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾. والمقصود بالأولياء في هذه الفقرة هم أهل الله المتّجهون إليه الّذين يتحمّلون مسؤوليّاتهم المعروفة، وليس المقصود من ذلك الأئمّة عليهم السلام.

 
"إذ يقول: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾1".
 
وبديهيّ أنّ هذا اللوم والتوبيخ لا يخصّ علماء اليهود والنصارى فقط، بل يشمل علماء الإسلام أيضاً إذا سكتوا على ما يرون من أعمال الجور والظلم. وبديهيّ أنّ هذا اللوم لا يخصّ جيلاً سابقاً من العلماء، فقط، وإنّما الأجيال الماضية والحاضرة والّتي ستوجد، هم في ذلك سواء.
 
فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام يستشهد بالقرآن ليذكّر علماء الإسلام ويحملهم على الاعتبار واليقظة وأداء ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكار الظلم ومنع إقراره والسكوت عليه. ويشير الإمام في استشهاده بالآية الكريمة إلى نقطتين:
 
1 ـ إنّ تقاعس العلماء وسكوتهم أشدّ ضرراً من تقاعس من سواهم،
 
 

1-سورة المائدة، الآية: 63.
 
 
 
 
 
 
126

117

الفصل الثاني

 فالمخالفة أو المعصية الصادرة من شخصٍ عاديّ، لا يتجاوز ضررها في الغالب نفسه، بينما يكون فيما يصدر عن العالِم من مخالفة ومعصية أو سكوت على الظلم ضررٌ عظيم على الإسلام كلّه، وإذا عمل بواجبه على الوجه الأكمل وتكلّم حيث ينبغي التكلّم، فإنّ نفع ذلك يعود على الإسلام كلّه أيضاً.

 
2 ـ إعطاء أهميّة بالغة لقول الإثم وأكل السحت، باعتبارهما من المنكرات البشعة، ولعلّهما أشدّ خطراً من سائر المنكرات ويجب محاربتهما بشدّة، فبعض ما يصدر عن أجهزة حكّام الجور من كلامٍ أو تصريح قد يكون أشدّ ضرراً وخطراً على الإسلام وسمعته من سياستهم المنحرفة وأعمالهم الشرّيرة وغير المشروعة.
 
فالله في هذه الآية يلوم كلّ من يسكت على قول الإثم ولا يُنكره أو يُحاول تغييره، وهو يدعو إلى تكذيب كلّ من يدّعي خلافة الله بغير حقٍّ أو يدّعي أنّه يُمثّل الدِّين في تصرّفاته وأفعاله المخالفة لأحكام الدِّين أو يدّعي العدالة لنفسه في حين تبرأ العدالة منه.
 
وقد ورد في الحديث: "إذا ظهرت البدع في أمّتي فليُظهر العالِم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"1.
 
فمخالفة العالِم لأهل البدع، وبيانه لأحكام الله وتعاليمه المناهضة للمبدعين والظلمة والعصاة، يحمل عامّة الناس على اكتشاف الفساد الاجتماعيّ، الناتج عن مظالم الحكّام الخائنين الفاسقين الكافرين،
 
 
 

1-الكافي، ج1، ص54، كتاب فضل العلم، باب البدع.
 
 
 
 
 
 
127

118

الفصل الثاني

  ويحملهم بعد ذلك على مقاومتهم ومقاطعتهم أو التمرّد عليهم وعلى أوامرهم الصادرة عن مواقف الخيانة والظلم والفساد.


فالعالِم في مواقفه المتصلّبة الشديدة يقود عمليّة النهي عن المنكر الّتي تستتبع أن يقتدي الناس به بمجموعهم وجماهيرهم ضدّ السلطة المنحرفة، حتّى إذا لم ترجع السلطة عن غيّها، ولم تلتزم بما أمر الله، وعمدت إلى استخدام السلاح في وجوه الناس، اعتبرها الناس حينذاك فئة باغية يجب على الناس قتالها حتّى تفيئ إلى أمر الله.

وأنتم اليوم لا تملكون القدرة على مقاومة بدع الحكّام، أو دفع هذه المفاسد دفعاً تامّاً، ولكن لماذا السكوت؟ هؤلاء يُذلّونكم فاصرخوا في وجوههم على الأقل، واعترضوا، وأنكروا، وكذّبوهم، لا بُدّ في مقابل ما يملكون من وسائل النشر والإعلام أن يكون في جانبكم شيء من تلك الوسائل حتّى تُكذّبوا ما ينشرون وما يبثّون, من أجل أن تُظهروا للناس أنّ ما يدّعونه من العدالة ليس من العدالة الإسلاميّة في شيء. فالعدالة الإسلاميّة الّتي منحها الله للفرد والمجتمع والعائلة قد دُوِّنت وشُرِّعت بكلّ دقّة من أوّل يوم. يجب أن يكون لكم صوت مسموع حتّى لا تتّخذ الأجيال القادمة من سكوتكم ما يُبرِّر أعمال الظلمة من قول الإثم وأكل السحت، وأكل أموال الناس بالباطل.

وما أشدّ ضيق التفكير لدى بعض الناس حين يتصوّر أنّ المراد من
 
 
 
 
 
 
 
128

119

الفصل الثاني

  أكل السحت لا يكاد يتجاوز النقص في الميزان والبخس في المكيال ـ والعياذ بالله ـ ولا يدور في خلده ما يجري من أكل السحت بالأشكال الفظيعة الأخرى، من اختلاس أموال الشعب كلّها، وابتلاع بيت المال كلّه. هؤلاء يسرقون نفطنا، ويبيعونه في أسواق الاحتكارات الأجنبيّة تحت اسم الاستثمارات، وعن هذا الطريق يصلون إلى الإثراء غير المشروع. وتتعاون على نفطنا عدّة دول أجنبيّة تستخرجه وتُسوّقه1، وتُعطي قباله أجراً زهيداً تُسلّمه إلى عملائها من الحّكام، ليُعاد إليها مرّة أخرى بكلّ وسيلة ممكنة، وإذا وصل إلى خزينة الدولة شيء فلا يعلم إلّا الله, كيف يُصرف وكيف يُنفق ومتى وأين؟

 
هذا أكلٌ للسحت على نطاقٍ عالميّ، وهو منكرٌ فظيع خطر، ليس هناك ما هو أشدّ منه فظاعةً وخطراً ونكراً.
 
تأمّلوا في أوضاع مجتمعنا، وفي أعمال الدولة وأجهزتها لتتبيّن لكم أشكال فظيعة من أكل السحت. فإذا حدثت زلزلة في مكانٍ ما من
 
 

1-في سنة 1280هـ.ش عقدت اتفاقيّة بين الشاه مظفّر الدين القاجاري والبريطاني وليام فاكس داريس، تنصّ على إعطاء امتياز التنقيب عن النفط واستخراجه للإنجليز، وكانت مدّة الاتفاقيّة ستون عاماً، وحصّة إيران من الأرباح الصافية 16 بالمئة فقط، وقد تمّ رفع هذه النسبة لدى تجديد الاتفاقية بعد 32 عاماً إلى 20 بالمئة. وبعد سقوط مصدّق، تمّ تشكيل كنسرسيوم جديد عام 1954، يتألّف الكنسرسيوم الجديد من شركة النفط الإيرانيّة والشركة الإنكليزيّة بنسبة 40 بالمائة من الأسهم، وخمس شركات أمريكية هي "اكسون، وموبيل، وغولف، وشورون، وتكزاكو" بنسبة 40 بالمئة من الأسهم، وشركة النفط الفرنسية بنسبة 6 بالمئة من الأسهم. وبناءً على الاحصاءات المتوفرة تمّ تصدير 7800 ـ 194 ـ 589 ـ 20 برميل نفط و000 ـ 090 ـ 212 ـ 152 ـ 10 قدم مكّعب من الغاز إلى الغرب ما بين الأعوام 1954 ـ 1978م، أي خلال 24 سنة.
راجع: "نفت از آغاز تا به امروز" توزيع مكتب العلاقات العامّة في وزارة النفط. و"ظهور وسقوط سلطنت بهلوي"، مؤسسة الدراسات والتحقيقات السياسيّة، وهي مصادر باللغة الفارسيّة.
 
 
 
 
 
 
 
129

120

الفصل الثاني

  البلاد غنم بذلك الحكّام قبل المنكوبين أموالاً طائلة. في المعاهدات والاتفاقيّات المعقودة بين الحكّام الخائنين مع الدول أو الشركات الأجنبيّة، تنصبّ في جيوب الحكّام ملايين كثيرة، وتنصبّ ملايين أخرى في جيوب الأجانب، من دون أن يحصل أبناء الشعب على شيءٍ من ثروات بلادهم.


هذه أشكالٌ من أكل السحت تجري بمسمعٍ منّا ومرأى، وما لا نعلمه كثير. ونظير ذلك يقع في الاتفاقيّات التجاريّة وامتيازات التنقيب عن النفط واستخراجه، وامتيازات استثمار الغابات، وسائر الموارد الطبيعيّة، والاتفاقيّات العمرانيّة أو ما يتّصل بالمواصلات وشراء الأسلحة من الاستعماريّين الغربيّين او الشيوعيّين.

يجب علينا أن نُقاوم أكل السحت وانتهاب الثروات الوطنيّة، وهذا واجب على جميع الناس، ولكنّ مهمّة العلماء في هذا أشدّ وطأة وأكثر أهميّة، ونحن يجب علينا في هذا الجهاد المقدّس والواجب الخطير أن نسبق سائر الناس بحكم مهمّتنا وموقفنا، ولئن كنّا اليوم نفقد القدرة على المقاومة وصدّ الخائنين وآكلي السحت ومنتهبي أموال الشعب، وإنزال العقوبة بهم، فإنّه يجب علينا أن نسعى لتحصيلها بجميع الوسائل المشروعة، وعلينا أن لا نُفرِّط على الأقل ـ ونحن في مسيرتنا هذه نحو القوّة ـ بإظهار الحقائق، وفضح عمليّات السلب والنهب الّتي تتعرّض لها البلاد، وإذا وصلنا إلى القوّة فإنّنا لا نكتفي بتحسين الاقتصاد. والحكم بين الناس بالقسط، بل نُذيق هؤلاء الخونة
 
 
 
 
 
 
 
130

121

الفصل الثاني

 المجرمين سوء العذاب بما كانوا يعملون.

 
لقد أحرقوا المسجد الأقصى، ونحن نصرخ: دعوا آثار الجريمة ، في حين يفتح نظام الشاه اكتتاباً في البنوك لإعادة بناء وترميم المسجد الأقصى، وعن هذا الطريق يملأ جيوبه وخزائنه ويزيد في أرصدته، وبعد ترميم المسجد يكون قد غطّى وستر كلّ آثار الجريمة1 الصهيونية.
 
هذه مصائب أحاطت بالأمّة، ووصلت بها إلى هذا المصير، ألا ينبغي أن يقول العلماء في ذلك رأيهم، ويصرخوا ويُنكروا ويُقاوموا؟ (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)2
 
ثمّ يقول الإمام: "وإنّما عاب الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من
 
 
 

1-في 21 آب عام 1969، أقدم الصهاينة على إحراق المسجد الأقصى، قبلة المسلمين الأولى، غير أنّ الصحافة الإيرانيّة لم تُسلّط الضوء على أبعاد هذه الجريمة الّتي أثارت غضب المسلمين بنحو جيّد، وقد بذل رجال الشاه، الّذين كانوا يُراقبون نشر الأخبار في إيران، جهدهم للحيلولة دون نشر ما يُثير النقمة ضدّ إسرائيل، وكانت وزارة البلاط قد أصدرت بياناً في المناسبة أعلنت فيه عن أسفها للحادث لكنّها لم تُشر أدنى إشارة إلى مرتكبيه ومسبّبيه. كما خصّص الشاه مبلغ مئة ألف تومان إيراني لترميم المسجد الأقصى، ودعا هو والملك فيصل إلى عقد مؤتمر إسلاميّ لتبادل وجهات النظر حول هذا الحادث، وفي اليوم السابع من الحادث قام ملايين المسلمين في البلاد الإسلاميّة بالتظاهر والاعتصام، واعتبروا إسرائيل هي الّتي تقف وراء ارتكاب هذه الجريمة الكبرى الّتي هزّت العالم الإسلامي. أمّا في إيران فقد منع نظام الشاه أبناء الشعب من التظاهرات، ممّا ووجه باعتراض المراجع آنذاك. ويومئذ نشرت صحيفة الجمهوريّة الصادرة في بغداد كلام الإمام الخمينيّ حول الحادث قائلة: اعتبر الإمام ـ وخلال دعوته المسلمين للاتحاد ـ مؤتمر "الرباط" محاولة للتغطية على هذه الجريمة. ووسيلة لصرف أذهان المسلمين عن جناية الصهاينة، وقال: ما دامت فلسطين محتلّة من قبل اليهود، ينبغي عدم ترميم المسجد الأقصى، والإبقاء على آثار هذه الجريمة، كذلك وجّه مجلس الأمن أيضاً انتقاده لإسرائيل بسبب هذا العمل.
2-سورة المائدة، الآية: 63.
 
 
 
 
 
 
 
131

122

الفصل الثاني

 الظلمة الّذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك, رغبةً فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً ممّا يحذرون"1.

 
فالله يعيب على المفرّطين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً وطمعاً ويقول: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾2.
 
لماذا الخوف؟ فليكن حبساً، أو نفياً، أو قتلاً، فإنّ أولياء الله يشرون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾3.
 
ثمّ يقول عليه السلام: "فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه, لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها، وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى الإسلام، مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها"4.
 
ولهذه العظائم شرّع الإسلام وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا لصغار الأمور فقط ممّا نرى ونسمع يوميّاً، وإن وجب إنكارها والردع عنها.
 
ماذا يضرّ لو هبّ العلماء وصاروا يداً واحدة في وجه الظلم؟ ما ضرّهم لو اعترضوا جميعاً وأرسلوا البرقيّات من جميع أنحاء العالم 
 
 
 

1-تحف العقول، ص237.
2-سورة المائدة، الآية: 44.
3-سورة التوبة، الآية: 71.
4-تحف العقول، ص237.
 
 
 
 
 
 
132

123

الفصل الثاني

 الإسلاميّ، يستنكرون فيها الأعمال الجائرة الّتي تقوم بها السلطات؟ إذن لتراجعوا تحت تأثير ذلك الضغط الهائل، فهم جبناء كما أعرفهم، ولكنّهم حين عرفوا فينا الضعف جالوا وصالوا.

 
أيّام كان العلماء يداً واحدة ومن ورائهم الشعب في كلّ أنحاء البلاد تراجعت السلطة عن مواقفها1، ثُمّ عادت لتغرس فينا بذور الشقاق والخلاف. ونتج عن ذلك أن تجرّأت السلطة فكانت بعدها تعمل ما تشاء وتختار ما كان لأحد من الناس الخيرة في أمره.
 
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم، فينبغي توجيه أكبر قدر من الأمر والنهي إلى العابثين بأرواح الناس وأموالهم وممتلكاتهم.
 
وقد تطفو على سطح بعض الصحف بعض أعمال السلب والاختلاس فيما يتعلّق بالتبرّعات الخاصّة بإغاثة منكوبي الفيضانات والسيول أو الزلازل.
 
أحد علماء "ملاير" كان يقول: في حادثة ذهب ضحيّتها الكثيرون أرسلنا سيارة شحن مليئة بالأكفان. إلّا أنّ المسؤولين كانوا يمانعوننا في إيصالها، ويُريدون أن يأكلوها! لأجل هذا وأمثاله من الآثام قد ورد
 
 
 

1-إشارة إلى قضيّة اللائحة المسمّاة بـ"لائحة المجالس المحليّة" الّتي صادقت عليها الحكومة في 8/10/1962م، والّتي نصّت على إلغاء قيد (الإسلام) من شروط الناخب والمرشّح، وإدراج القَسم بالكتاب السماوي بدلاً من القَسم بالقرآن، وقد انتقد الإمام الخمينيّ قدس سره هذه اللائحة ورفضها، كما رفضها المراجع الآخرون فيما بعد. وأدّى التأييد والدعم الشعبيّ لموقف الإمام وأوامره القاطعة، وإصدار البيانات من قبل مراجع التقليد، إلى إلغاء الدولة لهذه اللائحة رسميّاً في كانون الأول من نفس العام. أنظر كتاب "دراسة وتحليل نهضة الإمام الخمينيّ"، ص141 ـ 216.
 
 
 
 
 
 
133

124

الفصل الثاني

 التأكيد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


الآن أسألكم: ألا نعتبر بخطاب الإمام حين يقول: أيّها الناس؟ ألسنا من الناس؟ أليس الخطاب شاملاً لنا؟ هل كانت خطابات الإمام مقصورة على أصحابه ومعاصريه؟

وقد قلت سابقاً أنّ تعاليم الأئمّة كتعاليم القرآن لا تخصّ جيلاً خاصّاً وإنّما هي تعاليم للجميع في كلّ عصر ومصر وإلى يوم القيامة يجب تنفيذها واتّباعها. فكما يُلام الأحبار والربّانيّون على سكوتهم الّذي لا مبرّر له كذلك يُلام العلماء إذا سكتوا على الضيم ولم يُنكروه أو يُحاولوا تغييره بكلّ ما أوتوا من قوّة.

ثُمّ يُوجّه خطابه إلى فئة من علماء الإسلام: "عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفس الناس مُهابة، يهابكم الشريف ويُكرمكم الضعيف ويُؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر، أليس كلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ الله.

وإن كنتم عن أكثر حقّه تُقصّرون، فاستخففتم بحقّ الأمّة، فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه ولا نفساً خاطرتم بها للّذي خلقها ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله. أنتم تتمنّون على الله جنّته ومجاورة رسله وأماناً من عذابه. لقد خشيت عليكم أيّها المتمنّون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته لأنّكم بلغتم
 
 
 
 
 
 
 
134

125

الفصل الثاني

  من كرامة الله منزلةً فُضّلتم بها ومن يعرف بالله لا تُكرمون، وأنتم بالله في عباده تُكرمون. وقد ترون عهود الله منقوصة فلا تفزعون وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمّة رسول الله مخفورة".

 
ويستمر الإمام في التحدّث إلى الناس وتوجيه بعض اللوم إليهم فيقول: "والعمي والبكم والزُّمن1 في المدائن مهملة لا ترحمون"2.
 
أتظنّون أنّ ما تضجّ به أجهزة الإعلام صحيح كلّه؟ اذهبوا إلى القرى والأرياف فلا تكادون تجدون في كلّ مائة قرية أو مائتين مصحّاً أو مستشفى واحداً! لم يُفكّروا في الجياع العراة، ولم يدعوهم يُفكّروا، ولم يدعوا الإسلام يحلّ معضلتهم. فالإسلام ـ كما تعرفون ـ حلّ مشكلة الفقر وقرّر في أوّل الأمر: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء...﴾3.
 
وقد رتّب الإسلام ذلك ونظّمه، ولكنّهم لا يتركون للإسلام إلى المسلمين سبيلاً.
 
الأمّة تعيش حالة الشظف4، والسلطات تُمعن إسرافاً في الأموال، وتُمعن في زيادة الضرائب، تشتري طائرات الفانتوم ليتدرّب عليها الإسرائيليّون، وبما أنّ إسرائيل في حالة حرب مع المسلمين فكلّ من يُساعدها ويُساندها يكون هو بدوره في حالة حرب مع المسلمين، وقد بلغ النفوذ الإسرائيليّ في بلدنا حدّاً لا يُطاق، حتّى أنّ العسكريّين 
 
 
 

1-الزمن: العاهة.
2-تحف العقول، ص238.
3-سورة التوبة، الآية: 60.
4-الشظف: ضيق العيش وشدّته.
 
 
 
 
 
 
135

126

الفصل الثاني

  الإسرائيليّين يتخذون من أراضينا قواعد لهم، وأسواقاً لبضائعهم ممّا سيؤدّي إلى اندحار أسواق المسلمين تدريجيّاً.

 
وهكذا ترون أنّ الحديث كلّه يدور حول العلماء بالله عامّة، ولا يخصّ مفهوم "العلماء بالله" الأئمّة عليهم السلام، لأنّ علماء الإسلام علماء بالله وربّانيّون وحافظون لحدود الله وأمناء على حلاله وحرامه.
 
وحين يقول عليه السلام: "إنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه"1 فهو لا يقصد علماء ذلك الجيل خاصّة، بل إنّما يقصد علماء أمّة بأكملها.
 
وإذا كان العلماء أمناء على الحلال والحرام، وجمعوا إلى علمهم العدالة وحسن السيرة كان بإمكانهم تولّي الأمور وإقامة الحدود، وإقرار نظام الدِّين، فلا بؤس ولا مسكنة ولا مسغبة ولا تعطيل للأحكام.
 
هذه الرواية من مؤيّدات بحثنا، ولولا ضعف سندها لاعتبرناها من أقوى أدلّة موضوعنا إن لم نقل أنّ مضامينها تدلّ على صحّة صدورها عن المعصوم عليه السلام.
 
إلى هنا ننتهي من بحث موضوع ولاية الفقيه. ولا حاجة إلى الدخول في فروع البحث من رسم كيفيّة جباية الضرائب، وعلى أيّ نحو تُقام الحدود، فتلك بحوث فرعيّة لا يتّسع لها صدر هذا البحث. وقد بحثنا أصل الموضوع وهو ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلاميّة، وتبيّن لنا أنّ ما ثبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام فهو ثابت للفقيه. ولا شكّ يعتري 
 
 

1-تحف العقول، (م.س)، ص238.
 
 
 
 
 
 
 
136

127

الفصل الثاني

 هذا الموضوع، وليس الموضوع جديداً ابتدعناه، وإنّما المسألة بُحثت من أوّل الأمر.

 
عندما حكم المرحوم الميرزا الشيرازي1 بحرمة التنباك كان صادراً في حكمه عن موقف ولاية الفقيه العامّة على الناس والفقهاء الآخرين، وكان فقهاء إيران ـ باستثناء قلّة منهم ـ قد التزموا بهذا الحكم. ولم يكن حكمه ذاك قضاءً في نزاع أو خلاف بين اثنين، وإنّما كان حكماً حكوميّاً روعيت فيه مصالح المسلمين بحسب الوقت والظروف والملابسات وبارتفاع تلك الظروف ارتفع الحكم.
 
المرحوم ميرزا محمّد تقي الشيرازي2 حين أفتى بالجهاد ـ الدفاع ـ واتّبعه العلماء في ذلك، كان حكمه صادراً عن موقف حكومته وولايته الشرعيّة العامّة.
 
وقد ذكرت لكم أنّ المرحوم النراقيّ ـ من المتأخّرين ـ يرى أنّ جميع شؤون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثابتة للفقهاء، مع استثناء ما استُثني من شؤونه الخاصّة. وكان المرحوم الشيخ النائينيّ يقول: إنّ هذا الموضوع يُستفاد كلّه من مقبولة (عمر بن حنظلة).
 
وعلى كلّ حال فالموضوع ليس جديداً، وقد اكتفينا بتقريب موضوع 
 
 
 

1-محمّد حسن الشيرازي من أبرز وأهم تلامذة الشيخ مرتضى الأنصاري، وصاحب الفتوى الشهيرة بتحريم التنباك في العصر القاجاري، ت 1312هـ 
2-محمّد تقي الشيرازي: محمّد تقي بن محبّ عليّ بن محمّد عليّ كلشن الحائري الشيرازي: مجتهد إمامي، من أركان الثورة العراقيّة على الإنجليز سنة 1920م، وأوّل من دعا إليها من رجال الدين، ولد بشيراز، ونشأ في الحائر، وأقام بسامراء... وأصدر فتواه في (أنّ المسلم لا يجوز له أن يختار غير المسلم حاكماً عليه).
راجع: الزركلي، خير الدين، الأعلام، ج6، ص63.
 
 
 
 
 
 
 
137

128

الفصل الثاني

 الحكومة الشرعيّة إلى السادة الأجلّاء، واتّباعاً لأمر الله في كتابه وعلى لسان نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فقد بيّنا ما تمسّ الحاجة إليه من المواضيع الّتي نحتاجها في حياتنا، ولكنّ الموضوع هو الموضوع الّذي فهمه واقتنع به الكثيرون.


وقد طرحنا الموضوع على بساط البحث، فعلى أجيال الغد أن تتعمّق بعزمٍ وثبات وروح مثابرة لا سبيل لليأس والقنوط إليها. وسيوفّقون بإذن الله إلى التوصّل إلى تشكيل الحكومة، وتنظيم سائر الشؤون بتبادل وجهات النظر المخلصة الموضوعيّة النزيهة، وتتسلّم بإذن الله أعمال الحكومة الإسلاميّة أيدٍ أمينة عارفة خبيرة وحكيمة رساليّة ذات عقيدة راسخة، وتقطع أيدي الخونة الّتي تمتدّ إلى الحكم أو الوطن أو بيت مال المسلمين، وإنّ الله على نصرهم لقدير.
 
 
 
 
 
 
 
138

129

الفصل الثالث‏

  الفصل الثالث: سبيل تشكيل حكومة إسلاميـّة



 سبل السعي من أجل تشكيل حكومة إسلاميـّة
وظيفة العلماء أمام هجمة أعداء الإسلام‏
إحياء روح الجماعة في الأمـّة
تبليغ الإسلام الحقيقيّ للناس‏
إصلاح الهيئات الدينيـّة
إزالة آثار العدوان الاستعماريّ الفكريّ والخلقيّ‏
إصلاح المتقدِّسين
تدمير الحكومات الجائرة
 
 
 
 
 
 
 
 
139

130

الفصل الثالث‏

 سبل السعي من أجل تشكيل حكومة إسلاميـّة


علينا أن نسعى بجدّ لتشكيل الحكومة الإسلاميّة، ونبدأ عملنا بالنشاط الدعائيّ ونتقدّم فيه. ففي كلّ العالم على مرّ العصور كانت الأفكار تتفاعل عند مجموعة من الأشخاص، ثُمّ يكون تصميم وتخطيط، ثُمّ بدء العمل. ومحاولة لنشر هذه الأفكار وبثّها من أجل إقناع الآخرين تدريجيّاً، ثُمّ يكون لهؤلاء نفوذ، داخل الحكومة يُغيّرها على النحو الّذي تُريده تلك الأفكار ويُريده ذووها، أو يكون هجومٌ من الخارج لاقتلاع أسسها، وإحلال حكومة قائمة على هذه الأفكار محلّها.

والأفكار تبدأ صغيرة ثُمّ تكبر، ثُمّ يتجمّع من حولها الناس، ثُمّ تكتسب القوّة، ثُمّ تأخذ بيدها زمام الأمور، ولم تكن القوّة - كما ترون - حليفة الأفكار من أوّل يوم، وفي هذا كلّه ينبغي أن تتّخذ من الشعب بكلّ قواه قاعدة رصينة يرتكز عليها ويركن إليها، مع العمل الدائب على التوعية الجماهيريّة من أجل فضح خطط الإجرام، وكشف الانحراف
 
 
 
 
 
 
 
 
141

131

الفصل الثالث‏

  الموجود لدى السلطات الوقتيّة، ويتمّ تدريجيّاً استقطاب الجماهير كلّ الجماهير، ويتمّ الوصول بعدها إلى الهدف.


أنتم اليوم لا تملكون دولة ولا جيشاً، ولكن تملكون أن تدعوا فلم يسلبكم عدوّكم هذه القدرة على الدعوة والتوجيه والتبليغ، وعليكم إلى جانب بيان المسائل العباديّة أن تُبيّنوا للناس المسائل السياسيّة في الإسلام، وأحكامه الحقوقيّة والجنائيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، واتخذوا من هذا محوراً لعملكم. علينا من الآن أن نسعى لوضع حجر الأساس للدولة الإسلاميّة الشرعيّة، فندعوا ونبثّ الأفكار، ونُصدر تعليماتنا، ونكسب المساندين والمؤيّدين لنا، ونوجد أمواجاً من التوجيه الواعي والإرشاد المنسّق للجماهير ليحصل ردّ فعل جماعيّ تكون على أثره جموع المسلمين الواعية المتمسّكة بدينها على أتمّ الاستعداد للنهوض بأعباء تشكيل الحكومة الإسلاميّة.

وعلى الفقهاء بيان المسائل والأحكام والأنظمة الإسلاميّة وتقريبها إلى الناس من أجل إيجاد تربة صالحة تعيش على سطحها النظم والقوانين الإسلاميّة. وقد ورد في الحديث كما سبق أن علمتم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"يُعلّمونها الناس".
 
 
 
 
 
 
 
142

132

الفصل الثالث‏

 وظيفة العلماء أمام هجمة أعداء الإسلام‏


ومسؤوليّتنا اليوم، في الوقت الّذي تتعاون فيه كلّ قوى الاستعمار وعملائه من الحكّام الخونة، والصهيونيّة، والماديّة الملحدة، على تحريف وتشويه الإسلام - هذه المسؤوليّة اليوم أكبر منها في أيّ وقت مضى.

ها نحن نرى اليهود يعبثون بالقرآن ويُحرِّفون الكَلِم عن مواضعه في طبعاتٍ للقرآن جديدة ينشرونها في الأرض المحتلّة وغيرها.

علينا أن نكشف تلك الخيانة، ونصرخ بأعلى أصواتنا حتّى نُفهم الناس أنّ اليهود وسادتهم الأجانب يُريدون بالإسلام كيداً، ويُمهّدون السبيل ليسود اليهود على هذا العالَم كلّه، وأخشى ما أخشاه أن يصلوا إلى مآربهم بسبلهم الخاصّة. وبسببٍ من ضعفنا قد نُصبح ذات يومٍ لنجد حاكماً يهوديّاً يحكم بلادنا - لا سمح الله ـ.

ومن جانبٍ آخر فقد تعامل بعض المستشرقين مع المؤسّسات الاستعماريّة وعملوا سويّاً على تحريف الحقائق الإسلاميّة وهدمها. ودعاة الاستعمار جادّون في العمل من أجل تضليل شبابنا في كلّ أنحاء البلاد بأضاليلهم، ومن أجل إبعادهم عنّا. لا أقول أنّهم يحاولون تنصريهم أو تهويدهم، بل حسبهم أن يعملوا على إفسادهم، وحملهم على نبذ الدِّين، وعلى اللامبالاة، وحسب الاستعمار نجاحاً أن يتحقّق هذا وأمثاله.
 
 
 
 
 
 
 
143

133

الفصل الثالث‏

 في طهران تنتشر مراكز التبشير الكنيسيّ والصهيونيّ1 والبهائيّ ، لتضليل الناس وإبعادهم عن تعاليم الدِّين ومبادئه. أليس تحطيم هذه المراكز من واجبنا؟ هل يكفي أن نملك النجف - ونحن لا نملكها أيضاً ـ؟ هل نظلّ في "قمّ" لنكثر من مجالس العزاء؟ أم ينبغي أن نعمل على توعية الناس بكلّ جدٍّ وحزم؟
 
أنتم شباب المراكز الدينيّة، كونوا أحياءً، واعملوا على إحياء
 
 

1-"الصهيونيّة" عنوان لحركة قوميّة عنصريّة وجدت بهدف تأسيس وطن قوميّ مستقلّ لليهود، أخذت تسميتها من جبل "صهيون" في القدس حيث ضريح النبيّ داود عليه السلام وجاءت الصهيونيّة كردّة فعل على حالة العداء لليهود في البلاد الأوروبيّة. ويعدّ الكاتب الصحفيّ اليهوديّ المجريّ الأصل "ثيودور هرتزل" رائد الحركة الصهيونيّة الّذي دعا إلى إقامة المؤتمر الصهيونيّ العالميّ الأوّل عام 1897م في سويسرا. في ذلك المؤتمر عمل شخص يُدعى "وايزمن" على اقناع أعضائه باتخاذ فلسطين كوطن لليهود والحصول على موافقتهم بتوطين اليهود فيها. ومع صدور وعد "بلفور" وموافقة بريطانيا على هجرة اليهود إلى فلسطين، أتى الصهاينة بأعداد أخرى من اليهود إلى فلسطين، وقاموا بانتزاع الأراضي والمزارع والبيوت من العرب بمساعدة رؤوس الأموال الأمريكيّة، فأضحت القدرة الماليّة للمنظمة الصهيونيّة توازي أكبر الشركات في العالم. وتتّخذ الحركة من أمريكا مركزاً لها، وتقوم بقيادة أنشطة الجمعيات الصهيونيّة في أكثر من ستين بلداً في العالم، وتتزعّم الحركة الصهيونيّة ثمان عشرة منظمة عالميّة بارزة و281 منظمة وطنيّة يهوديّة، و251 اتحاداً محليّاً. كما يوجد تحت تصرّفها أنواعاً من اللجان الاستشاريّة، وصناديق النقد، والكثير من الامكانات السياسيّة والاقتصاديّة الأخرى. كذلك لدى الحركة مراكز للجاسوسيّة والاستخبارات في أكثر بلدان العالم. وتتلقّى الحركة المعونات من الوكالات العامّة في جميع أنحاء العالم. ويُهيمن الصهاينة على 1036 صحيفة أشهرها صحيفة "نيويورك تايمز".
في سنة 1260هـ ادّعى شخص يُدعى السيّد علي محمّد بأنّه (باب الإمام) ووسيلة للاتصال به، وبعد فترة ادعى المهدويّة، فاعتُقل وقُتل، غير أن شقيقين من أتباعه يُدعى أحدهما "صبح الأزل" والآخر "بهاء" ادَّعيا خلافته، وأطلق أتباع (صبح الأزل) على أنفسهم اسم "البابيّة" (الأزليّة)، فيما سمّى أتباع (بهاء الله) أنفسهم (البهائيّة)، وقامت الدولة العثمانية بنفي بهاء الله وأتباعه إلى "عكا" في فلسطين، فيما نفت الأزل وأتباعه إلى جزيرة قبرص، وفي فلسطين نمت فرقة البهائيّين بمساعدة الإنكليز واحتضان دولة إسرائيل لهم. وفي عهد محمّد رضا بهلوي احتل البهائيّون موقعاً متميّزاً في الحكم، وكان لهم تأثير أساسيّ في سياسة إيران الخارجيّة، وفي تأمين المصالح الصهيونيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
144

134

الفصل الثالث‏

 أمر ربّكم، والمحافظة على أنظمته. يا جيل الشباب اجمعوا أمركم واعملوا وسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. وتكاملوا، اتركوا توافه الأمور واعرضوا عن القشور، وانهضوا بمسؤوليّاتكم، أنقذوا الإسلام وأنجدوه، فالإسلام يستصرخكم، وخلّصوا المسلمين من الأخطار المحدقة بهم.


ها هم أولاء يُميتون الإسلام باسم الدِّين وباسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فدعاتهم من أذناب الاستعمار قد انتشروا في طول البلاد وعرضها، وغزوا الأرياف والقرى والنواحي، وعمدوا إلى الأطفال والصبيان، والشباب - وهم أمل الإسلام - فأضلّوهم السبيل.

انهضوا لإسعاف هؤلاء الأحداث التائهين، أنقذوهم، ساعدوهم، عليكم أن تبثّوا علمكم، فما ورد في العلماء من تمجيدٍ وتكريم إنّما هو بسبب ما يقوم به العالِم من تعليم الآخرين وإنقاذهم من الضلال، وعليكم أن تبذلوا قصارى جهودكم في إيصال مفاهيم الإسلام ونظمه إلى الناس عامّة.

وعلينا أن نرفع الغشاوة الّتي وضعها الأعداء على الإسلام، ونُزيل عنه ما ألحقوه به من غموض، وبدون ذلك لا يُكتب لنا التقدُّم. وعلينا أن نتواصى فيما بيننا ونُوصي الآخرين أن يوصوا غيرهم بإزالة هذا الغموض المفتعَل، والريب الّذي بثّه الأعداء خلال قرونٍ سحيقة في جميع الناس وحتّى المثقّفين منهم.

نحن نُوصي جيل الشباب أن يُبيّنوا للأجيال عالميّة الإسلام،
 
 
 
 
 
 
 
 
145

135

الفصل الثالث‏

 وتشريعاته الاجتماعيّة، وكلّ ما يحتويه من أنظمة، وأن يتحدّثوا عمّا شرّعه الإسلام في موضوع الحكومة، كي يعلم الناس ما هو الإسلام وأيّة قوانين جاء بها.


على المجامع العلميّة اليوم في "قمّ" وخراسان وفي كلّ مكان أن يدلّوا الناس إلى طريق الإسلام، ويعرضوا أفكاره تحت ضوء الشمس. الناس يجهلون الإسلام، ولا يكادون يفقهون عنه شيئاً، فعليكم أن تُعرّفوهم أنفسكم وعقيدتكم، وما ينبغي أن تكون عليه حكومتكم. عليكم أن تُعرّفوا العالَم بذلك كلّه، وتبثّوا ذلك في صفوف الجامعيّين بصورةٍ خاصّة، لأنّ أولئك أكثر تفتّحاً من غيرهم، وثقوا بأنّ وراء ذلك نتائج حسنة، وترحيباً شديداً سيُستقبل به الإسلام في رحاب الجامعيّين.

الجامعيّون أشدّ الناس عداوة للتسلّط والعمالة والخيانة وعمليّات نهب الخيرات والثروات وأكل السحت وسيجدون في الإسلام - الّذي تُبلّغونه إليهم وفي تعاليمه في مجال الحكم والقضاء والاقتصاد والاجتماع - ما يستميلهم إلى جانبه - هؤلاء الجامعيّون يمدّون أيديهم إلى النجف يستعينون بذلك على فهم حقائق دينهم!

هل يجدر بنا أن نسكت ولا نتحرّك حتّى يُنبّهنا أولئك الجامعيّون من غفلتنا ويحملونا على أداء واجبنا والقيام بدورنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! أليس هذا السكوت منّا منكراً؟ أليس عيباً علينا أن نُهمل الأمر ليواجهنا شباب من أوروبا قد ألّفوا تجمّعاً إسلاميّاً يطلبون
 
 
 
 
 
 
 
146

136

الفصل الثالث‏

 فيه منّا العون الثقافيّ والإرشاديّ والتوجيهيّ؟.

 
علينا أن نُذكّر الناس بما كانت عليه الحكومة الإسلاميّة في صدر الإسلام. علينا أن نقول لهم: أنّ دكّة القضاء كانت في إحدى زوايا المسجد في حين ترامت أطراف البلاد الإسلاميّة وشملت إيران ومصر والحجاز واليمن وغيرها. وحينما انتقل الأمر إلى الآخرين - مع الأسف - تحوّلت الخلافة والحكومة الشرعيّة إلى ملك عقيم. علينا أن نذكر ذلك كلّه ونُبيّن ملامح الحكومة الّتي ننوي تشكيلها، ونُوضِّح صفات الحاكم وواجباته واختصاصاته وأخلاقه.
 
كان قائد الأمّة وأميرها قد ردع أخاه عقيلاً، وأحمى له حديدة لئلّا يطمع في أموال المسلمين1 ، وعاتب ابنته أن استعارت من بيت المال عقداً قائلاً: لولا أنّها عارية مضمونة لكانت أوّل هاشميّة تُقطع يدها، ثُمّ أرجعه في بيت المال2. هذا هو الحاكم الّذي نُريد.
 
"لمثل هذا فليعمل العاملون. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
 
نحن نُريد حاكماً لا يأمرنا بشي‏ء إلّا وقد سبقنا إليه، ولا ينهانا عن شي‏ء إلّا وقد انتهى عنه.
 
نُريد من يساوي بيننا جميعاً أمام العدالة وفي ميادين القضاء.
 
نُريد من يساوي بين الناس فيما لهم وفيما عليهم، من غير تمييز أو تفضيل.
 
 

1-نهج البلاغة، الخطبة 215.
2-بحار الأنوار، ج4، ص337 و338، تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام باب 98، ووسائل الشيعة، ج68، ص521، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ السرقة، ج11، ص395.
 
 
 
 
 
 
 
 
147

137

الفصل الثالث‏

 نُريد من يحكم بالحقّ له أم عليه.


نُريد حاكماً لا يحمل نفسه وعائلته وذويه على رقاب الناس.

نُريد حاكماً يقطع يد ولده إذا سرق، ويجلد ويرجم قريبه إذا زنى، ويؤاخذ أخاه وأخته إذا اتّجروا بأطنان الهروئين كما يؤاخذ الآخرين إذا تعاطوا تهريب اليسير من الهروئين.

إحياء روح الجماعة في الأمـّة

كثيرٌ من الأحكام العباديّة تصدر عنها خدمات اجتماعيّة وسياسيّة، فعباديّات الإسلام عادةً توأم سياساته وتدبيراته الاجتماعيّة، فصلاة الجماعة مثلاً واجتماع الحجّ والجمعة تؤدّي - بالإضافة إلى ما لها من آثار خُلقيّة وعاطفيّة - إلى نتائج وآثار سياسيّة. استحدث الإسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها حتّى تعمّ المعرفة الدينيّة وتعمّ العواطف الأخويّة، وتتماسك عُرى الصداقة والتعارف بين الناس، وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتُبحث المشكلات السياسيّة والاجتماعيّة وحلولها.

في الدول غير الإسلاميّة تُنفق الملايين من ثروة البلاد وميزانيّتها، من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات، وإذا انعقدت فهي في الغالب صوريّة شكليّة تفتقر إلى عنصر الصفاء وحسن النيّة والإخاء المهيمن على الناس في اجتماعاتهم الإسلاميّة، ولا تؤدّي بالتّالي إلى النتائج المثمرة الّتي تؤدّي إليها اجتماعاتنا الإسلاميّة.

فقد وضع الإسلام حوافز ودوافع باطنيّة تجعل الذهاب إلى الحجّ من
 
 
 
 
 
 
 
 
148

138

الفصل الثالث‏

 أغلى أماني الحياة، وتحمل المرء تلقائيّاً إلى حضور الجماعة والجمعة والعيد بكلّ سرورٍ وبهجة، فما علينا إلّا أن نعتبر هذه الاجتماعات فُرصاً ذهبيّة لخدمة المبدأ والعقيدة، لنُبيّن فيها العقائد والأحكام والأنظمة على رؤوس الأشهاد، وفي أكبر عددٍ من الناس. فعلينا أن نفَيد من موسم الحج، ونجني منه أطيب الثمار في الدعوة إلى الوحدة، والدعوة إلى تحكيم الإسلام في الناس كافّة. وعلينا أن نبحث مشكلاتنا، ونكتشف ما وضعه لها الإسلام من حلولٍ جذريّة. علينا أن نسعى لتحرير أرض المسلمين في فلسطين وغيرها.

 
وها نحن نرى المسلمين في الصدر الأوّل يجنون من جماعاتهم وجمعاتهم وأعيادهم ومواقف حجّهم أحسن الثمار، لم تكن الخطب الّتي تُلقى في الجمعات والأعياد والمواسم الأخرى تقتصر على وعدٍ ووعيد بجنّةٍ أو نار وسورةٍ خفيفة ودعاء خفيف أو ثقيل كما نرى اليوم، بل كانت الخطب قد تصل في إيحائها وتأثيرها إلى إعداد الناس للقتال بكلّ شجاعةٍ وبأس، وقد تؤدّي إلى انطلاقهم إلى جبهات القتال من باحات المساجد والجوامع من دون أن يأخذهم في ذلك خوفٌ من فقر أو مرض أو موت أو ضياع لأنّهم كانوا يخافون الله وحده ولا يخشون أحداً إلّا إيّاه، ولمثل هؤلاء يُكتب النصر، ولمثل هؤلاء يكون الفتح! انظروا في خطب أمير المؤمنين عليه السلام1 لتعرفوا أنّها كانت تسوق المسلمين إلى ميادين الجهاد، وتحمل الناس على الفداء، وتضع أنجع الحلول لمشاكل الناس في الحياة.
 
 
 

1-نهج البلاغة، الخطب 11، 27، 29، 51، 54... والحكمة 365، وكتاب وسائل الشيعة، ج11، ص395.
 
 
 
 
 
 
 
149

139

الفصل الثالث‏

 ولو كانت الجمعة مستمرّة إلى يومنا هذا بخطبها وحماسها وروحها وآفاق التفكير فيها لما انتهى بنا الأمر إلى الحدّ الّذي ترون. علينا أن نسعى لإعادة إحياء مثل هذه الاجتماعات، ونستغلّها في التوجيه والإرشاد والتوعية والقيادة إلى الصلاح والنجاح، وبهذا يتمّ للأفكار الإسلاميّة أن تسع أكبر الميادين، وترتفع إلى أعلى الآفاق من غير أن يعلوها شي‏ء.


تبليغ الإسلام الحقيقيّ للناس‏

وكما تحتفظون بذكرى عاشوراء الحزينة، ولا تُفرِّطون بها، فلتكن المصائب الّتي جرت على دين الإسلام من أوّل يومٍ وإلى يومنا هذا عاشوراء جديداً تحيون ذكراه باستمرار، وإنّكم إذا تحدّثتم عن الإسلام بكلّ إخلاصٍ وأظهرتم الناس على أصوله وأحكامه وأنظمته الاجتماعيّة، فإنّ الناس سيُرحّبون بهذا الدِّين ويتّبعونه، والله يعلم أنّ محبّي الإسلام كُثر، ولكنّهم لأكثر أحكامه جاهلين، وقد جرّبت ذلك بنفسي.

فحين أُلقي كلمة ألمس في الناس تغيُّراً وتأثُّراً، لأنّ الناس ناقمون على أوضاعهم الّتي يعيشونها، والخوف من الظالمين يملأ جوانحهم، وهم بأمسّ الحاجة إلى من يتكلّم بشجاعةٍ وثبات.
يا أبناء الإسلام، كونوا أشدّاء أقوياء في بيان حجّتكم للناس لتغلبوا عدوّكم بكلّ أسلحته وعساكره وحرسه، بيّنوا الحقائق للجماهير، واستنهضوهم. وانفخوا في أهل السوق والشارع، وفي العامل والفلّاح، والجامعيّ روح الجهاد. والجميع سيهبّون للجهاد. الكلّ يطلب الحريّة والاستقلال والسعادة والكرامة، اجعلوا معالم الدِّين الإسلاميّ 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
150

140

الفصل الثالث‏

 في متناول الجميع، فهو للجميع وسترون أنّه سيقودهم إلى الطريق ويُنير لهم السبيل، ويُصحِّح لهم أفكارهم وعقائدهم، ويحملهم على التضحية والفداء، لتتحطّم أجهزة سياسة الجور والاستعمار، ولتقوم على قدمٍ راسخة أسس الحكومة الإسلاميّة. 

 
على الفقهاء (حصون الإسلام) أن يُبيّنوا للناس العقائد الحقّة والأنظمة الإسلاميّة وطرق الجهاد والنضال. ويقودوا الناس، فإنّ الناس تنقاد لهم تلقائيّاً إذا لمسوا فيهم الأهليّة والإخلاص ونكران الذات. وعندها سيكون في فقد أمثال هؤلاء العلماء القادة مصيبة عظمى على الناس تترك في حياتهم فراغاً مروّعاً، وتُحدث في الإسلام ثلمة لا يسدُّها شي‏ء.
 
ومثل هذا الفراغ والثلم لا يحدث بفقدي أنا أو مثلي ممّن يقبع في زاوية بيته، وإنّما يحدث بفقد الإمام الحسين عليه السلام والأئمّة من بعده عليهم السلام، ويشعر الناس بالخسارة أيضاً بفقدان الخواجه نصير الدِّين الطوسيّ1 والعلّامة2 وأضرابهم ممّن قدّم خدمات جليلة للإسلام.
 
 

1-محمّد بن الحسن الطوسيّ المعروف بـ"الخواجه نصير" والمحقّق الطوسيّ (597 ـ 672هـ)، من حكماء الإسلام وعلمائه البارزين، فاق أقرانه في الفلسفة والكلام والرياضيّات والهيئة. من تلامذته العلّامة الحلّي، وقطب الدِّين الشيرازي، والسيد عبد الكريم بن طاووس. ترك مؤلّفات قيمة منها: شرح الإشارات، تجريد الاعتقاد، تحرير اقليدس، أخلاق ناصري.
2-آية الله الشيخ جمال الدِّين حسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر الحلّي (648 ـ 726هـ) فقيه. محدّث، مفسّر، متكلّم، أديب، جامع للمعقول والمنقول، وزعيم الإمامية في عصره. يشتهر بالعلّامة. تتلمذ عند كبار علماء الشيعة والسنّة. من أساتذته: المحقّق الحلّي، الخواجه نصير الدِّين الطوسي، السيد أحمد بن طاووس، الشيخ نجيب الدين. حضر الخواجه نصير درسه في الفقه. كما تتلمذ ابنه فخر المحقّقين على يده أيضاً. من آثاره: تبصرة المتعلّمين، المختلف، القواعد، تذكرة الفقهاء في الفقه، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد في الكلام، كتاب الألفين في اثبات الإمامة، المختصر في الرجال، وتخليص الكشاف في التفسير.
 
 
 
 
 
 
 
151

141

الفصل الثالث‏

 أمّا أنا وأنت فماذا قدّمنا للإسلام حتّى ينطبق علينا مصداق الحديث؟ لا فراغ يحدث عند موت ألف ممّن يعمل على شاكلتنا، لأنّ حياتنا هي فراغ، ولا ثلم يحدث في الإسلام عند موت ألف منّا لأنّ حياتنا على ذلك النحو قد تكون هي ثلماً في الإسلام ينبغي سدّه بغيرنا.


المقاومة على المدى الطويل‏

ونحن لا نتوقّع أن تُؤتي تعليماتنا وجهودنا أُكلها في زمن قصير، لأنّ ترسيخ دعائم الحكومة الإسلاميّة يحتاج إلى وقتٍ طويل وجهودٍ مضنية، ونحن نرى كثيراً من العقلاء يضعون حجراً ليبني عليه الآخرون بناءً ولو بعد مائتي عام.

لقد سُئل أحد المعمّرين وهو يغرس فسيلاً عن نتيجة عمله الّتي سوف لا يُدركها، فقال مجيباً: غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون. وإذا كان نشاطنا لا يُؤتي ثماره إلّا في جيلٍ غير جيلنا فذلك لا ينبغي أن يُثبّط عزائمنا، لأنّ تقديم الخدمات للإنسان لا ينبغي أن يتمّ على أساس المصلحة الفرديّة، بل على أساس المصلحة العامّة للمسلمين.

فسيّد الشهداء عليه السلام الّذي ضحّى بكلّ ما يملك لو كان منطلقاً من التفكير الفرديّ لوضع يده في أيديهم وانتهى الأمر، وكانت تلك النهاية من أغلى أماني الأمويّين، ولكنّ الحسين عليه السلام كان يُفكّر في الإسلام والمسلمين وأجياله القادمة على المدى الطويل، وكان نهوضه وتضحيته وجهاده من أجل أن ينتشر الإسلام، وتظهر أحكامه السياسيّة، ونظمه الاجتماعيّة في أوساط الناس.
 
 
 
 
 
 
 
 
152

142

الفصل الثالث‏

 في رواية سابقة عن الإمام الصادق عليه السلام ترون أنّ الإمام بالرغم من ظروف التقيّة المحيطة به، وفقدانه للسلطة يُبيّن للمسلمين أو يُعيّن لهم الحاكم والقاضي، ويأمرهم بالرجوع والتحاكم إليه، وعظماء الرجال يُخطّطون للأجيال القادمة، ولا يُحزنهم أن لا يلمسوا آثار خططهم ما دام المستقبل كفيلاً بإعطاء النتائج والثمرات، ولا يُداخلهم اليأس حتّى في ذلّ الأسر وفي أغوار السجون. ومن أجل الانتصار للأهداف الكبيرة فهم يُخطّطون في السجون لما يُسعد الأجيال القادمة، وليس كلّ همّهم أن يصلوا إلى ما يُريدون. وكثيرٌ من الحركات والنهضات أخذت شكلها النهائيّ بعد تمهيدات قد ترجع في بضع الأحيان إلى ما قبل مائتين أو ثلاثمائة من السنين.


الإمام الصادق عليه السلام لم يكتف بوضع الخطوط العامّة للحكومة أو الدولة الإسلاميّة، بل عيّن حاكمها ونصّبه. وبالطبع لم يكن يُريد بذلك التعيين عصره الّذي يعيش فيه لأنّه هو الإمام وهو الحاكم الشرعيّ، ولكنّه ينظر بذلك إلى الأجيال الأخرى القادمة، وكان تفكيره في أمّته أكثر من تفكيره في ذاته وشخصه. كان يُريد أن يُصلح البشر كلّ البشر، والعالَم كلّ العالَم تحت ظل القانون الإسلاميّ العادل. وقد عيّن من يليق به الحكم حتّى إذا تحسّنت الأوضاع وعادت إلى مجراها الطبيعيّ فلا عسر ولا حرج على المسلمين فيمن سيشغل منصب الحكم والقضاء وقيادة الناس.
 
 
 
 
 
 
 
153

143

الفصل الثالث‏

 والدِّين في أصله، ومذهب الشيعة على الخصوص، وكلّ الأديان قد بدأت على شكل تعاليم، وبسبب ما اتّسم به القادة والأنبياء من عزم وثبات وحزم - كانت العقيدة تتقدّم بخطى ثابتة.


كان موسى عليه السلام راعياً وحارساً سنين طويلة، ويوم كُلّف بمجابهة فرعون لم يكن يُعينه على أمره أحد، وبما لديه من قابليّات ومواهب وقوى استطاع بعصاه أن يُبدّد ملك فرعون.
لا تتصوّروا أنّ عصا موسى لو كان بيدي أو يد أحدٍ منكم، كانت تعمل شيئاً، لأنّه ليس لدينا تدبير موسى وهمّته وجديّته في عمله، وليس ذلك متيسّراً لكلّ أحد. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صدع بالرسالة لا يملك من أسباب القوّة إلّا صبيّاً لم يتجاوز العاشرة هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام وامرأة متقدّمة في العمر هي زوجه خديجة، فقد آمنا به ونصراه وأعاناه على أمره، وكان سائر الناس يُؤذونه ويُعاندونه ويُكذّبونه، ولكنّ اليأس لم يكن له إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وناصريه سبيل. فقد ثبتوا بعزمٍ وصبر وحزم حتّى ظهر أمر الله، وخسر هنالك المبطلون، وضرب الإسلام أوتاده في شرق الأرض وغربها حتّى ليؤمن به اليوم ما لا يقل عن سبعمائة مليون مسلم.

وبدأ مذهب الشيعة من نقطة الصفر. وحين وضع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسس الخلافة قوبل بالاستهزاء والسخرية، وذلك حين جمع قومه، وأولم لهم، وقال لهم فيما قال: من يكون خليفتي ووصيّي ووزيري على هذا الأمر؟ فلم ينهض إلّا علي ّعليه السلام ولم يبلغ الحلم حينذاك، وعندئذ قال أحدهم
 
 
 
 
 
 
 
154

144

الفصل الثالث‏

 لأبي طالب محرّضاً: إنّ ابن أخيك يُريد أن تسمع لابنك وتُطيع!1 

 
وفي غدير خمّ في حجّة الوداع عيّنه النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم حاكماً من بعده، ومن حينها بدأ الخلاف يدبّ إلى نفوس قوم2. ولو كان النبي ّصلى الله عليه وآله وسلم قد عيّن أمير المؤمنين عليه السلام مفتياً ومفسّراً للقرآن ومبيّناً للأحكام فحسب، لم يُعارضه أحد! ولكنّه عورض وحورب وقوتل لأنّه الحاكم المهيمن الشرعيّ على شؤون العباد والبلاد. وأنتم إذا قبعتم في عقر دوركم فلا شي‏ء عليكم، ويوم تُريدون الظهور في المجتمع كعنصر إصلاح أو تغيير بما أنتم عليه من قوى كبيرة، فإنّ الحرب ستُعلن عليكم. وبسبب مواقف الأئمّة عليهم السلام وشيعتهم من نظريّة الحكم والإدارة في الإسلام نالهم ولا يزال ينالهم ما تعرفون من الأذى والبلاء والعناء، ولكنّهم لم ييأسوا، فما زال الأمل يملأ جوانحهم، وما زال عدد الشيعة في ازدياد حتّى أنّهم اليوم في حدود المائتي مليون شيعي.
 
إصلاح الهيئات الدينيـّة
 
قيادة الأمّة إلى الصلاح، ومعرفة الإسلام على وجهه، تستلزم صلاح أهل العلم وحملة الشريعة، بمعنى ضرورة تكامل نشاطهم التعليميّ، والاعتماد على النفس، والثقة بها، واجتناب الكسل والوهن والضعف والنكول، ومحاولة محو آثار ما يُنشر في الناس من أباطيل، وتهذيب الأفكار المتحجّرة المنفّرة في صفوف البعض منّا، وطرد 
 
 
 

1-تاريخ الطبري، ج2، ص319 ـ 322.
2-التفسير الكبير، ج12، ص53، أسد الغابة، ج4، ص28، الغدير، ج1، ص11 ـ 213.
 
 
 
 
 
 
155

145

الفصل الثالث‏

 فقهاء القصور الّذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم من صفوفنا، وإبعادهم عن زيّنا، وتعريتهم، وفضح أعمالهم.

 
إزالة آثار العدوان الاستعماريّ الفكريّ والخلقيّ‏
 
مرّت القرون وعملاء الاستعمار، وأجهزة دوائر التربية، ودوائر السياسة تنفث السموم في أفكار الناس وأخلاقهم حتّى أفسدوها، والناس في ريب من أمرنا بسبب هذه السموم ومجامعنا وهيئاتنا الدينيّة هي بدورها تحتاج إلى إصلاح، ولا بدّ كذلك من اجتثاث جذور الأفكار السقيمة الوافدة من الخارج، ومحاربة كلّ سوء وفساد وانحراف في المجتمع.
 
نحن نُلاحظ وجود الناس متأثرين بتلك السموم بين صفوفنا فنرى البعض منهم يسرّ إلى الآخر: إنّ هذه الأعمال لم تُخلق لنا ولم نُخلق لها. ما نحن وذاك؟ نحن ندعو الله ونُبيّن المسائل. هذا المنطق نتيجة ما يُلقيه الأجانب في روع الناس من مئات السنين، وهذا هو الّذي يجعل القلوب في النجف وقمّ وخراسان خائرةً هزيلة واهنة غير راشدة وحجّتها في ذلك: إنّ ذلك ليس من شأننا.
 
هذه أفكارٌ خاطئة، فهل توجد عند الحكّام الفعليّين من القابليّات والمواهب أكثر ممّا عندنا؟ أيّهم كان جديراً بزعامة الناس وقيادتهم؟ ألم يكن بعضهم أميّاً؟ أين تثقّف حاكم الحجاز؟ ألم يكن رضا خان9 من جهّال الناس؟ وها هو التاريخ يُحدّثنا عن جهّال حكموا الناس بغير
 
 

1-رضا خان والد محمّد رضا بهلوي، الشاه المخلوع، الّذي أطاحت به الثورة الإسلاميّة.
 
 
 
 
 
 
 
156

146

الفصل الثالث‏

 جدارةٍ ولا لياقة، هارون الرشيد، أيّة ثقافة حازها؟ وكذلك من قبله ومن بعده!


وعلينا أن نستفيد من ذوي الاختصاص العلميّ والفنيّ فيما يتعلّق بالأعمال الإداريّة والإحصائيّة والتنظيميّة، وأمّا ما يتعلّق بالإدارة العليا للدولة، وبشؤون بسط العدالة وتوفير الأمن وإقرار الروابط الاجتماعيّة العادلة، والقضاء والحكم بين الناس بالعدل، فذلك ما يختصّ به الفقيه، ويُفني فيه كلّ أيّام حياته، وهو يملك ما يحفظ للناس حريّتهم واستقلالهم وتقدّمهم، ضمن سياسة مستقيمة لا نفوذ فيها لأجنبيّ، ولا انحراف فيها إلى يمين أو يسار.

أُخرجوا من عزلتكم، وأكملوا برامجكم الدراسيّة والإرشاديّة واركبوا الصعاب في سبيل ذلك. وخطّطوا للحكومة الإسلاميّة، وتقدّموا في خططكم، وكونوا في ذلك يداً واحدة مع كلّ من يُطالب بالحريّة والاستقلال، فإنّكم ستصلون إلى أهدافكم يقيناً. اعتمدوا على أنفسكم. وأنتم ستزيد خبرتكم وتجاربكم في طريق نضالكم الّذي يُرعب الاستعمار ويُرهبه. وأنا على يقينٍ أنّكم قادرون على إدارة دفّة الحكم عند تقويض أسس الجور والظلم والعدوان. وكلّ ما تحتاجون إليه من قوانين ونظم فهو موجودٌ في إسلامنا، سواء في ذلك ما يتّصل بإدارة الدولة، والضرائب والحقوق، والعقوبات وغيرها. لا حاجة بكم إلى تشريعٍ جديد، عليكم أن تُنفّذوا فقط ما شُرّع لكم. وهذا يوفّر عليكم الكثير من الوقت والجهد، ويُغنيكم عن استعارة قوانين من
 
 
 
 
 
 
 
157

147

الفصل الثالث‏

  شرق أو غرب. كلّ شي‏ء - ولله الحمد - جاهز للاستعمال، ويبقى تنظيم الوزارات واختصاصاتها وأعمالها ووظائفها، وذلك يتمّ على أيدي الاختصاصيّين بأسرع وقت.


ومن حسن الحظّ أنّ الشعوب الإسلاميّة معكم والجماهير تتّبعكم وتقتفي آثاركم وتقتدي بكم، وسيشتدّ ساعدكم، وكلّما نفتقده هو "عصا موسى" وسيف عليّ بن أبي طالبعليهما السلام وعزيمتهما الجبّارة، وإذا عزمنا على إقامة حكم إسلاميّ سنحصل على عصا موسى وسيف عليّ بن أبي طالب عليهما السلام أيضاً.

نعم! يوجد فينا أفراد مهملون مغمورون لا يكادون يُحسنون شيئاً، ولا يكتبون ورقة عِلم ولا يفتحون أفواههم بكلمةٍ فيها هداية، ولا يكادون يفهمون حديثاً من شؤون الحياة، وقد أذعنوا بأن لا قابليّة فيهم نتيجة لما بثّه العملاء فينا من أمثال هذه العبارات: ما أنت وذاك؟ عليك بدرسك، إذهب إلى مدرستك، وها نحن الآن نعجز عن إقناع البعض منّا بالخطأ الّذي وقعوا فيه من الاعتزال والإهمال وعدم الاهتمام بشؤون المسلمين.

بيّنوا للناس برامج الإسلام في حكومته، وضّحوا ذلك للعالَم، فلعلّ حكّام وروؤساء المسلمين أن يقتنعوا بصحّة هذا ويتّبعوه، ونحن لا نُنافسهم على الكراسي، بل نترك من كان منهم تابعاً وأميناً على التنفيذ في مكانه.

علينا أن نُشكّل الحكومة الأمينة الّتي يركن الناس إليها ويثقون
 
 
 
 
 
 
 
158

148

الفصل الثالث‏

  بها، ويُسلّموها أمورهم كلّها. نحن نُريد من ينهض بالأمر بأمانة وإخلاص ليعيش الناس في ظلّ حكمه آمنين. والله يعلم أنّ أهليّتكم وجدارتكم لتولّي أمور الناس لا تقلّ عن الآخرين، سوى أنّنا لا نملك الإقدام على القتل بغير حقّ، وعلى الجور والخسف، لأنّ ذلك ليس من اختصاصنا.

 
أحد رجال الدولة10 في إيران يُخاطبني في السجن، وكان معي السيّد القمّي11 - سلّمه الله - ولا يزال مضطّهداً: "السياسة خبثٌ وكذب ونفاق، اتركوا ذلك لنا". هذا صحيحٌ، ولئن كانت السياسة لا تعني إلّا هذه الأمور فهي بهذا المعنى من شؤونهم، ولكنّ السياسة في الإسلام والسياسة لدى الأئمّة عليهم السلام الّذين هم ساسة العباد - كما ورد في الزيارة12 - لا تعني ما قاله لي ذلك الرجل. ذلك الرجل أراد خداعنا والتمويه علينا. وفي اليوم التّالي ظهرت الصحف لتُعلن: "أنّه تمّ الاتفاق والتفاهم على أن لا يتدخّل رجال الدِّين في السياسة
 
 

10-يقصد سماحته رئيس منظمة "السافاك" آنذاك، ويدعى "باكروان" إذ جاء لمقابلته بتاريخ 2/8/1963م، عندما كان الإمام في السجن. راجع "دراسة وتحليل نهضة الإمام الخميني"، ج1، ص575.
11-المقصود السيّد حسن القمّي ابن المرحوم آية الله السيد حسين القمّي، الّذي كان يومها مع الإمام في السجن، وقد بقي منفيّاً في منطقة "كرج" حتّى انتصار الثورة حيث حرّر من النفي وعاد إلى مشهد.
12-"ساسة" جمع "سائس" بمعنى رجل السياسة ومتولّي الأمر أيضاً، وقد ورد هذا التعبير في زيارة (الجامعة الكبرى)، راجع "من لا يحضره الفقيه"، ج2، ص370، أبواب الزيارة، بار 225، الحديث 2.
 
 
 
 
 
 
 
 
159

149

الفصل الثالث‏

  بعد اليوم"1. وبعد الإفراج عنّي ارتقيت المنبر وكذّبت تلك الأنباء الصحفيّة الّتي نُشرت في حينه، وقُلت: "إنّ الرجل ليكذب، وإنّ كلّ من يقول بذلك من رجالنا يجب نفيه من البلاد"2

 
وهؤلاء - كما ترون - قد ألقوا في روعكم أنّ السياسة خبثٌ ومكر ودهاء، ليصرفوكم عنها، وليعبثوا بأمور الأمّة ما شاءت لهم أنفسهم، ولينّفذوا ما يُريدون بوحيٍ من سادتهم الإنكليز والأمريكان الّذين تزايد نفوذهم في بلادنا في الآونة الأخيرة.
 
وإذ كنت في همدان تقدّم إليّ رجلٌ فاضل وبيده خارطة وضعت عليها إشارات حمراء تُشير إلى كنوز المعادن المذخورة تحت أرض بلادنا، ولقد توصّل إلى معرفة ذلك أولئك الخبراء الأجانب فعرفوا أين يوجد الذهب، وأين يوجد النحاس، وأين يوجد النفط، وجاسوا 
 
 

1-بتاريخ 3/8/1963م نشرت الصحف الإيرانية هذا الخبر: "أفادت المعلومات الرسمية لمنظمة الأمن والاستخبارات "السافاك" بأنّه قد تمّ التفاهم بين القيادات الأمنيّة وبين حضرات السادة: الخمينيّ، والقمّي، والمحلّاتي، على ألّا يتدخلوا في الشؤون السياسيّة". راجع "نهضت الإمام الخميني" ج1، ص585، و"الكوثر" ج1، ص104.
2-في كلمة ألقاها يوم الجمعة 10/4/1964م بمنزله، قال الإمام الخمينيّ قدس سره: كتبوا في الصحف بتاريخ 3/8/1963م حين أطلقوا سراحي من السجن، ما يُفهم منه أنّ علماء الدِّين لن يتدخّلوا في السياسة. وأنا الآن أبيّن لكم حقيقة الأمر. لقد جاءني أحدهم ولا أريد ذكر اسمه. وقال لي: "أيّها السيد إنّ السياسة كذبٌ وخداع وغش ونفاق، والخلاصة أنّها بلاءٌ ولعنة، فدعوا ذلك لنا نحن". وبما أنّ الظرف لم يسمح فلم أشأ مناقشته، فقلت له: نحن منذ البداية لم نتدخّل في هذه السياسة الّتي تتكلّم عنها. والآن حيث يستلزم الظرف ذلك. فإنّي أقول: أنّ هذا ليس من الإسلام في شيء. والله إنّ الإسلام كلّه سياسة. لقد بيّنوا الإسلام بشكلٍ غير سليم، إنّ سياسة المدن تنبع من الإسلام، إنّني لست من أولئك الملالي (والمشايخ) الّذين يكتفون بالجلوس والتسبيح. أنا لست "البابا" أكتفي بتأدية بعض المراسم يوم الأحد وأنصرف بقيّة الأوقات إلى شأني دون التدخّل في الأمور الأخرى. "الكوثر" ج1، ص104 ـ 105.
 
 
 
 
 
 
 
 
160

150

الفصل الثالث‏

 خلالنا وأيقنوا أنّ العقبة الوحيدة الّتي تحول دون تنفيذ أطماعهم، هي الروحانيّة القويّة وتعاليم الدِّين الحنيف.


أولئك الأعداء عرفوا الطاقات الكامنة في الإسلام، وحسبوا لها ألف حساب، وعلّمهم التأريخ أنّ الإسلام قد انفتحت له أبواب أوروبا ليحكمها في حقبة طويلة من الزمن، إذن فالإسلام الواقعيّ لا يتلاءم وما يُريدون. ولمسوا من جانب آخر أنّ العلماء الحقيقيّين لا يُمكن أن يُسايروهم أو يواكبوهم، لهذا كلّه، فقد انصبّت محاولاتهم من أوّل يوم على إزالة هذا العائق عن طريقهم، وعلى التقليل من أهميّة الإسلام والروحانيّة، بشتّى وسائل الإعلام. وهكذا ترون كثيراً من الناس ينظرون إلى الإسلام على أنّه بضع مسائل شرعيّة، وترون بعضاً آخر لا يحسن الظن بالعلماء.

وقد سعى عملاء الاستعمار إلى اتهام العلماء وتشويه سمعتهم حتّى لقد أذاع بعضهم بكلّ وقاحة وبلا حياء: "أنّ ستمائة من علماء النجف وإيران كانوا يعملون لحساب الإنكليز. الشيخ الأنصاريّ كان يتقاضى الرواتب منهم لمدّة شهرين". ويستند هذا العميل في إذاعة ذلك إلى وثائق من وزارة الخارجيّة البريطانيّة في الهند. ما أشدّ لهفة الاستعمار إلى اختلاق مثل هذه التُّهم!

ومن جهة أخرى فقد بذلوا قصارى جهدهم في التقليل من شأن الإسلام، وتحديد وظائفه ووظائف القائمين عليه من الفقهاء والعلماء، وحصر تلك الوظائف والواجبات في حدود بيان المسائل، وفي حدود
 
 
 
 
 
 
 
 
161

151

الفصل الثالث‏

 المواعظ والإرشادات وقد صدّق بعض السذّج ذلك فتاهوا من حيث لا يشعرون. أقول لكم: إنّ هذه الاتّهامات والجهود المبذولة في تشويه السمعة تستهدف استقلال البلاد وثرواتها.

 
المؤسّسات الاستعماريّة كلّها وسوست في صدور الناس أنّ الدِّين لا يلتقي مع السياسة. الروحانيّة ليس عليها أو ليس لها أن تتدخّل في الشؤون الاجتماعيّة. ليس من حقّ الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير الأمّة. ومن المؤسف جدّاً أنّ بعضاً منّا صدّق تلك الأباطيل. وقد تحقّق بهذا التصديق أكبر أمل كانت تحلم به نفوس المستعمرين.
 
انظروا الهيئات الدينيّة، فستجدون آثار ونتائج تلك الدعايات واضحة. فهنالك البطّالون من عديمي الهمم، وهنالك الكسالى الّذين يكتفون بالدعاء، والثناء، والتحدّث في بعض المسائل الشرعيّة، وكأنّهم لم يُخلقوا لغير ذلك. وممّا يُمكن رؤيته في هذا الجوّ من تلك الآثار والنتائج هو النغم التّالي: "الكلام يتنافى ومقام العالِم".
 
المجتهد لا يليق به أن يتكلّم، ويحسن به أن يُكثر الصمت ويكتفي بقول: لا إله إلا الله، أو يكتفي باليسير جدّاً من الكلام"! هذا خطأ، وفيه مخالفة للسنّة الشريفة. فالله يُثني على البيان في سورة الرحمن بقوله تعالى: ﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾1 وهو بهذا يمنّ على عباده أن علّمهم البيان، ويُذكّرهم بفضله ونعمته المسبغة عليهم في هذا التعليم.
 
 
 

1-سورة الرحمن، الآية: 4.
 
 
 
 
 
 
 
162

 


152

الفصل الثالث‏

  فالبيان إنّما حَسُنَ لأجل تعليم الناس عقائدهم السليمة، وأحكام دينهم، وقيادتهم إلى شاطئ الإسلام. وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام أكبر أمراء البيان.

 
إصلاح المتقدِّسين
 
الأفكار البلهاء الّتي يبثّها الأعداء ممّا ذكرنا بعضها قبل قليل، يوجد فينا من يؤمن بها، وفي هذا إدامة للاستعمار والنفوذ الأجنبيّ.
 
هؤلاء جماعة من البُلهاء يُدعون بالمقدَّسين، وهم ليسوا بمقدَّسين، بل متقدِّسين يتكلّفون التقدُّس. علينا أن نُصلحهم وأن نُحدّد موقفنا منهم، لأنّ هؤلاء يمنعوننا من الإصلاح والتقدُّم والنهوض.
 
وذات يوم اجتمع في منزلي: المرحوم آية الله البروجردي1 والمرحوم آية الله حجَّت2، والمرحوم آية الله الصدر3، والمرحوم آية
 
 
 

1-آية الله العظمى السيّد حسين بن عليّ الطباطبائيّ البروجرديّ (1292 ـ 1380هـ). فقيه، أصوليّ، وزعيم الحوزة العلميّة ومرجع الشيعة في العالم. حضر دروس علماء كبار مثل: الآخوند الخراساني والسيد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني. له حواش على العروة الوثقى وكفاية الأصول ونهاية الشيخ الطوسي وكذلك تقريرات دروسه في الفقه بقلم طلابه.
2-آية الله محمّد حجّت (1310 ـ 1373هـ) من المجتهدين وأساتذة الفقه والأصول، سكن مدينة قمّ منذ سنة 1349هـ تصدّى لإدارة الحوزة العلميّة مع آية الله الصدر وآية الله الخونساري بعد وفاة آية الله الحائري. من آثاره: رسالة في الاستصحاب، رسالة في البيع وحاشية على الكفاية.
3-آية الله صدر الدين (1299 ـ 1373هـ) من تلامذة الآخوند الخراساني وآية الله النائيني. أتى إلى قمّ بدعوة من آية الله الحائري وصار مستشاراً ومساعداً لسماحته. من مؤلفاته: المهدي، خلاصة الفصول ومدينة العلم.
 
 
 
 
 
 
 
163

153

الفصل الثالث‏

 الله الخوانساري1 للتداول في أمرٍ سياسيّ2 مهمّ. فتقدّمتُ إليهم أن يُحدِّدوا موقفهم من هؤلاء المتظاهرين بالقداسة البلهاء، وأن يعتبروهم أعداءً من الداخل، لأنّ هؤلاء لا يهتمّون بما يجري، ويحولون بين العلماء الحقيقيّين وبين تسلّم السلطة والأخذ بزمام الأمور.

 
فهؤلاء يوجّهون أكبر لطمة للإسلام، ويُشكّلون أكبر خطر عليه، ويُبرزون الإسلام بصورةٍ مشوّهة بأقصى حدود التشوّه، ويوجد منهم الكثيرون في النجف وقمّ وخراسان3، ولهم تأثير على البسطاء والبلهاء من أمثالهم من الناس.
 
هؤلاء يُعارضون من يصرخ في الناس لإيقاظهم ممّا غطّوا فيه من السبات، هؤلاء يدعون الناس إلى الكسل والتخاذل، هؤلاء يُعارضون من يُعارض ويُقاوم نفوذ الإنكليز والأمريكان.
 
علينا أوّلاً أن ننصح أمثال هؤلاء أن يرجعوا عن غيّهم، ونُنبّههم إلى الخطر المحدق بالإسلام والمسلمين وأن نفتح أبصارهم تحت ضوء الشمس على الخطر الصهيونيّ والانكلو أميركي الّذي يمدّ الكيان الإسرائيليّ بمقوّمات الحياة.
 
 
 

1-آية الله السيد محمّد تقي الخونساري (1305 ـ 1371هـ). حضر دروس أساتذة عظام كالآخوند الخراساني، والميرزا النائيني، والسيد محمد كاظم اليزدي. كان في عداد المجاهدين لدى ثورة الشعب العراقي على الاستعمار البريطاني. تولّى مع آية الله حجّت وآية الله الصدر، إدارة الحوزة العلمية في مدينة قم بعد وفاة آية الله الحائري. أقام صلاة الاستسقاء حين الجفاف سنة (1363هـ) بدعوة من أهالي قم، فهطل أثرها مطر غزير.
2-وفقاً لما ذكره السيدان الخلخالي والدواني، إن الأمر السياسي المذكور كان يتمثّل في البحث حول مسألة "مجلس المؤسسين".
3- فيها مراكز وجامعات دينية كبيرة 
 
 
 
 
 
 
 
164

154

الفصل الثالث‏

 لا تُطفئوا النور وتنغمروا في أمواج الظلام كما فعل النصارى قبلكم، فقد ألهاهم البحث في التثليث والأقانيم وروح القدس والأب والابن، ولم يبق لهم شيء آخر. تيقّظوا وانظروا الحقائق كما هي. تداولوا مسائل حياة اليوم والغد.


أتتوقّعون أنتم بوضعكم هذا أن تضع الملائكة أجنحتها تحت أقدامكم إكراماً لكم؟!

ألم تكن الملائكة في شغل شاغل عنكم؟!

الملائكة تضع أجنحتها تحت أقدام أمير المؤمنين عليه السلام لسابقته وخدمته، ونشره للإسلام في الدنيا كلّها.

فالملائكة تخضع له، ويخضع له الناس حتّى الأعداء منهم، لأنّهم يخضعون للحقّ في قيامه وقعوده وفي كلامه وصمته، وفي خطبه وصلواته وحروبه. ماذا تستحقّون أنتم من ذلك التعظيم؟ لا شيء!!

نحن نُكلِّم هؤلاء المتقدِّسين بمثل هذا الكلام. فإن نفعت الذكرى فذاك ما نُريد، وإلّا كان لنا معهم حسابٌ آخر وموقفٌ آخر.

تطهير المراكز الدينيـّة

وهذه المراكز الدينيّة العلميّة الّتي تُمارس فيها عمليّات التدريس والتعليم الدينيّ والزعامة الدينيّة، وهي موطن الفقهاء العدول، ومهبط الطلبة والأساتذة من شتّى البلاد. هي معدن أمناء الله وخلفاء الرسل. ومن يكون أمين الله في عباده وبلاده لا يطمع في شيءٍ من فضول الحياة، ولا يُطيع للظالمين أمراً، ولا يُزكّي لهم عملاً، ولا يعقد لهم 
 
 
 
 
 
 
165

155

الفصل الثالث‏

 عقدة، ولا يبني معهم بناء.

 
وأنتم تعلمون ما جناه على الإسلام فقهاء السلاطين وتعلمون ما لتعامل الفقيه مع الجائرين من تأثيرٍ في الناس. فانضواء الفقيه تحت لوائهم يكون أشدّ ضرراً على الإسلام من انضواء أيّ فرد عاديّ آخر.
 
ومن هنا فقد شدّد أئمّتنا المعصومون عليهم في هذا الأمر، ونهوا أتباعهم عن أيّ نوع من التعاون والتعامل مع الحاكمين الجائرين مهما كان ذلك هيّناً، حذراً من أن ينتهي الأمر بالإسلام والمسلمين إلى مثل هذه النهاية الّتي نراها1.
 
فرض الأئمّة عليهم السلام على الفقهاء فرائض مهمّة جدّاً، وألزموهم أداء الأمانة وحفظها. فلا ينبغي التمسّك بالتقيّة في كلّ صغيرة وكبيرة. فقد شُرِّعت التقيّة للحفاظ على النفس أو الغير من الضرر في مجال فروع الأحكام.
 
أمّا إذا كان الإسلام كلّه في خطر، فليس في ذلك متّسع للتقيّة والسكوت.
 
ماذا ترون لو أجبروا فقيهاً على أن يُشرِّع أو يبتدع!.. أنّه يجوز له ذلك تمسّكاً بقوله عليه السلام التقيّة ديني ودين أبي! ليس هذا من موارد التقيّة أو من مواضعها.
 
 

1-ورد في رسالة الإمام السجاد عليه السلام إلى محمّد بن مسلم الزهريّ: "واعلم أنّ أدنى ما كتمت، وأخفّ ما احتملت، أن أنست وحشة الظالم، وسهَّلت له طريق الغيِّ، بدنوّك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دُعيت... أوليس بدعائه إيّاك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهل إليهم". تحف العقول، ص214، باب كلمات الإمام السجاد عليه السلام
 
 
 
 
 
 
 
166

156

الفصل الثالث‏

 وإذا كانت ظروف التقيّة تُلزم أحداً منّا بالدخول في ركب السلاطين، فهنا يجب الامتناع عن ذلك حتّى لو أدّى الامتناع إلى قتله، إلّا أن يكون في دخوله الشكليّ نصرٌ حقيقيّ للإسلام وللمسلمين، مثل دخول عليّ بن يقطين1، ونصير الدين الطوسيّ2 رحمهما الله.

 
وبالطبع ففقهاؤنا كما تعرفون من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا أجلّ من أن ينزلوا إلى ذلك المستوى الوضيع، وفقهاء السلاطين كانوا دائماً من غير جماعتنا، وعلى غير رأينا. وتعرّض فقهاؤنا على مرّ العصور لأبشع ألوان القسوة والاضطهاد وحملات الإبادة والمطاردة في كلّ مكان.
 
وطبيعيّ أن يسمح الإسلام بالدخول في أجهزة الجائرين إذا كان الهدف الحقيقيّ من وراء ذلك هو الحدّ من المظالم، أو إحداث انقلاب على القائمين بالأمر، بل إنّ ذلك الدخول قد يكون واجباً. وليس عندنا في ذلك خلاف، إنّما الكلام فيمن دعته بطنته واستهوته الحياة الدنيا، وباع آخرته بدنيا غيره وزيّن له الشيطان سوء عمله، فعمل في صفوف الخونة من الحاكمين وأيّدهم وآزرهم وسار من ورائهم، والله على ما يعمل ويقول شهيد.
 
 
 

1-عليّ بن يقطين بن موسى البغداديّ سكناً، وهو كوفيّ الأصل مولى بني أسد، أبو الحسن، وكان أبوه يقطين بن موسى داعية، طلبه مروان فهرب، وولد عليّ بالكوفة سنة أربع وعشرين ومائة، وكانت أمّه هربت به وبأخيه عبيد إلى المدينة حتّى ظهرت الدولة ورجعت، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة في أيّام موسى بن جعفر L ببغداد وهو محبوس في سجن هارون، بقي فيه أربع سنين. راجع: حسن بن زيد الدين "صاحب المعالم"، التحرير الطاووسي، ط1، قم، سيّد الشهداء عليه السلام ص358.
2-راجع: القمّي، عباس، الكنى والألقاب، ط1، 1359، ص250 ـ 251.
 
 
 
 
 
 
167

157

الفصل الثالث‏

  أطردوا فقهاء السلاطين

 
هؤلاء ليسوا بفقهاء. وقسم منهم قد ألبستهم دوائر الأمن والاستخبارات العمائم لكي يدعوا الله للسلطان، ويستنزلوا عليه بركاته ورحماته. وقد ورد في الحديث في شأن هؤلاء: "فاحذروهم على دينكم"1.
 
هؤلاء يجب فضحهم، لأنّهم أعداء الإسلام. يجب على المجتمع أن ينبذهم، ففي نبذهم واحتقارهم نصر للإسلام ولقضيّة المسلمين. يجب على شبابنا وأبنائنا انتزاع عمائم هؤلاء من فوق رؤوسهم.
أين شبابنا في إيران؟ هل ماتوا أم غفلوا!! لا أقول: اقتلوا هؤلاء، فلتُنزع عنهم عمائمهم على الأقل.
 
على الناس جميعاً أن يمنعوا هؤلاء من الظهور في المجتمع بملابس رجال الدِّين، لأنّ في ذلك تلويثاً وتدنيساً لهذا اللباس الطاهر الشريف.
 
وقد قلت لكم إنّ علماء الإسلام الحقيقيّين كانوا منزّهين عن مثل هذا ولا يزالون. وهؤلاء الّذين ترونهم وتسمعونهم أحياناً قد ألصقوا أنفسهم بالعلماء إلصاقاً، وليسوا من العلم والعلماء في شيء. إنّما هم جماعة من البطّالين، والناس تعرفهم، وحسابهم عند ربّي في كتابٍ لا يضلّ ربّي ولا ينسى.
 
وقد كُلّفنا أن نُهذّب أنفسنا ونُبعدها عن التهالك على حطام الدنيا.
 
 
 

1-أصول الكافي (م.س)، ج1، ص46.
 
 
 
 
 
 
168

158

الفصل الثالث‏

  وأنتم1 فأعدّوا أنفسكم لحفظ أمانة الله الّتي استودعكم إياها. كونوا أمناء على دينكم، ولا تركنوا إلى الدنيا ولا تطمئنوا إليها، وإنّكم لا تقدرون من أنفسكم على مثل ما قدر عليه إمامكم أمير المؤمنين عليه السلام الّذي كانت الدنيا عنده لا تُساوي عفطة عنز. أعرضوا عمّا ضمن لكم في هذه الحياة، وزكّوا أنفسكم، واتّقوا ربّكم واتّكلوا عليه. وإن كنتم ـ لا سمح الله ـ إنّما تدرسون علوم الدِّين لتُترفوا في الحياة، فأنا أؤكّد لكم أنّكم لا تبلغون من الله شيئاً ولا تنالون لديه مقاماً محموداً، والله سيحرمكم من التوفيق إلى فضيلة الاجتهاد والفقه والبصر في أحكام الدِّين، ولستم بذلك أمناء الرسل.

 
أعدّوا أنفسكم لخدمة دينكم، جنّدوا أنفسكم لإمام زمانكم حتّى تستطيعوا أن تبسطوا العدل في وجه البسيطة. أصلحوا أنفسكم، وتخلّقوا بأخلاق الله وأخلاق الأنبياء واتركوا زخارف الحياة، واكتفوا بعيشة الكفاف، ليقتدي الناس بكم في عفّة نفوسكم وإبائها ورفعتها، وليكون لهم فيكم أسوة حسنة. كونوا جنوداً لله، تُرفرف ألوية الإسلام في كلّ مكان على أيديكم.
 
لا أقول: اتركوا دروسكم ـ استغفر الله ـ بل ادرسوا وتفقّهوا في الدِّين وأنذِروا قومكم، وقوّموا هذه الهيئات والمجامع العلميّة ولا تتركوها تتداعى وتنهار. ولكن في خلال دراستكم بلّغوا وأرشدوا ووجّهوا وأيقظوا النفوس من سباتها. الإسلام اليوم غريب، ليس هناك
 
 
 

1-خطاب إلى طلبة العلوم الدينيّة.
 
 
 
 
 
 
 
 
169

159

الفصل الثالث‏

 من يُعرِّفه، فعليكم أن تُقرِّبوه للناس وتُوضِّحوه لهم حتّى يفهم الناس الإسلام على وجهه، بعيداً عن الشبه والشكوك والأقاويل الّتي قيلت فيه، وأُثيرت من حوله. بيّنوا للناس معنى الحكومة الإسلاميّة، بيّنوا لهم معنى الرسالة والنبوّة والإمامة. لماذا جاء الإسلام؟ وماذا يُريد؟ قليلاً قليلاً ويسكن الإسلام في القلوب والأفئدة والعقول، لتقوم بعد ذلك حكومة إسلاميّة يُمتثل فيها أمر الله ونهيه.


تدمير الحكومات الجائرة

1 ـ مقاطعة المؤسّسات التابعة للحكومة الجائرة.

2 ـ ترك التعاون معها.

3 ـ الابتعاد عن كلّ عمل يعود نفعه عليهم.

4 ـ تأسيس مؤسّسات قضائيّة، وماليّة، واقتصاديّة، وثقافيّة، وسياسيّة جديدة.

وعلينا بمحاربة حكم الطاغوت، لأنّ الله تعالى قد أمر بذلك وهو قد نهى عن طاعة الطاغوت والسير في ركابه. وعلى السلطات غير العادلة ان تُخلي مكانها لمؤسسات الخدمات العامّة الإسلاميّة، لتقوم تدريجيّاً حكومة إسلاميّة شرعيّة مستقرّة.

وقد ندبنا الله في كتابه الكريم إلى الوقوف صفّاً كالبنيان المرصوص في وجه سلاطين الجور، وأمر موسى بمعارضة فرعون ومقاومته. ووردت في ذلك أحاديث كثيرة.

وأئمّتنا عليهم السلام وشيعتهم كانوا على مدى الأحقاب يُقاومون سلطات
 
 
 
 
 
 
 
 
170

160

الفصل الثالث‏

  الجور في كلّ مكان، ولا يُهادنونها، وبسببٍ من ذلك فقد نالهم من الخسف والأذى الشيء الكثير، يظهر لنا ذلك من خلال حياتهم التي يُحدّثنا عنها التاريخ.

 
وبالرغم من أنّ الأئمّة كانوا مراقَبين، ولا يُتركون لسبيلهم، وكانوا من أجل ذلك يتّخذون الحيطة والتقيّة لحفظ الدِّين لا لحفظ أنفسهم ـ بالرغم من ذلك كلّه، فلم تخل كلماتهم من الحثّ على المقاومة، والمنع من المهادنة.
 
وكان حكّام الجور يخشون أئمّة الهدى عليهم السلام لما علموه فيهم من أنّهم إذا واتتهم الفرص فإنّهم ينهضون لأخذ زمام الأمور، ويجعلون العيش المترف على الحاكمين حراماً. فأنتم ترون "هارون" يحبس الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام سنين طويلة، والمأمون يُجبر الإمام الرضا عليه السلام على الإقامة في "مرو" تحت رقابة مشدّدة، ثُمّ يُسمّه بعد ذلك1. ولم يكن هذا الاضطهاد بسبب أنّ هؤلاء من ذريّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل لما يحمله الأئمّة من أفكار وآراء ومواقف.
 
وكان هارون والمأمون يتشيّعان، ولكنّ الملك عقيم، وهم يعلمون أنّ أولاد عليّ عليه السلام دعاة الخلافة أينما كانوا، وهم يسعون بإصرار لتشكيل حكومة إسلاميّة كجزءٍ من واجباتهم الحياتيّة.
 
وقد سأل المهديّ من خلفاء بني العباس الإمام موسى بن جعفر
 
 
 

1-الارشاد، ص290 ـ 295، وتاريخ اليعقوبي، ج2، ص146، 149، ومروج الذهب، ج3، ص440 ـ 441.
 
 
 
 
 
 
 
171

161

الفصل الثالث‏

 عليهما السلام عن حدود1 "فدك" ليردّها إليه، فحدّ له الإمام عليه السلام حدود البلاد الإسلاميّة كلّها قائلاً: حدٌّ منها جبل أُحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها سيف البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل.

 
فقال المهديّ: هذا كثير، أنظر فيه2.
 
كان الحكّام الجائرون يعلمون أنّ الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام إذا خلص منهم فإنّ الحياة تغدو عليهم حراماً، وأنّه سينهض إن وجد من ينصره، ولا يتوانى في ذلك أبداً.
 
لا تشكّوا في أن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام لو سنحت له الفرص فإنّه كان يأخذ الخلافة ليقيم بها الحقّ ويزهق بها الباطل، ويملأ الأرض بالقسط والعدل.
 
وانظروا كيف كان المأمون يُداري الإمام الرضا عليه السلام ويُولّيه العهد، ويُخاطبه: "يا ابن العم" "يا ابن رسول الله"، وكان مع ذلك يُراقب حركاته لأنّه كان يخشاه على سلطانه، لما له من نفوذ في
 
 
 

1-"فدك" قرية كانت عامرة تقع بالقرب من خيبر، صالح أهلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليها بعد معركة خيبر، فصارت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ووهبها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام بأمر من الله. راجع سيرة ابن هشام، ج3 و4، ص353. وتاريخ الطبري، ج3، ص20. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج4، ص823 ـ 874. وفدك في التاريخ للشهيد السيد محمد باقر الصدر.
2-ذكروا عن المهديّ الخليفة العباسيّ، أنّه قرر إعادة الحقوق والأموال المأخوذة من غير حقّ لأصحابها. فوصل الخبر للإمام موسى الكاظم عليه السلام فقال له: لِمَ لا تُعيد لنا حقّنا أيضاً؟ فقال المهدي: فما هو حقّكم؟ قال الإمام عليه السلام حقّنا فدك. ثُمّ عيّن حدودها بجبل أُحد، وعريش مصر، ودومة الجندل، وسيف البحر. وعندما سأل المهدي متعجّبًا عمّا إذا كانت كلّ تلك المساحة. أجاب الإمام عليه السلام أجل كلّ ذلك. راجع بحار الأنوار، ج48، ص7 ـ 56، تاريخ موسى بن جعفر عليهما السلام باب 40، الحديث 29. وينقل ابن شهر آشوب عن كتاب "أخبار الخلفاء" حصول هذه الحادثة مع هارون. وأنّ الإمام عليه السلام عدَّ حدودها: عدن وسمرقند وأفريقيا وسيف البحر (قرب أرمينيا)، مناقب آل أبي طالب، ج4، ص346.
 
 
 
 
 
 
 
172

162

الفصل الثالث‏

  القلوب ومنزلة عند الله وقربة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فالسلاطين يُريدون الملك ويفتدونه بكلّ شيء. ولو كان الإمام يسير في ركابهم ـ والعياذ بالله ـ لكان مرفّهاً ومدلّلاً، ولكانوا يُقبِّلون يديه، ويتبرّكون بأقدامه كلّ حين.

 
ورد في الحديث أنّ الإمام الرضا عليه السلام حينما أُدخل على "هارون"1 أمر أن يدخل البلاط راكباً حتّى إذا وصل الإمام إلى مقربة من منصّة الخلافة، قام إليه هارون، وسلّم عليه، وأكبره واحترمه أشدّ الاحترام، ولكنّه عندما قسم المال على الناس خصّ بني هاشم بشيءٍ قليل من المال، وكان ذلك قد أثار استغراب المأمون ـ وكان حاضراً ذلك المجلس ـ وقد شاهد ما سبق من أبيه من الاحترام والإجلال، فسأله عن سبب قلّة المال فقال له أبوه: يا بني أنت لا تدري. ينبغي أن لا يزيد سهم بني هاشم عن هذا المال، إنّ هذا الأمر لهم، وهم أولى به منّا، فلو مكّناهم لوثبوا علينا2. وهو بهذا يُريد أن يبقوا فقراء، مساجين، مبعدين مشرّدين، مقتولين، مسمومين...
 
ولم يكن الأئمّة عليهم السلام وحدهم في مقاومتهم لسلطات الجور، بل كانوا قد دعوا المسلمين جميعاً إلى مثل ما كانوا عليه.
 
 
 

1-هارون الرشيد (149 ـ 193هـ = 766 ـ 809م) هارون الرشيد بن محمّد المهدي بن المنصور العباسي، أبو جعفر، خامس خلفاء الدولة العباسية في العراق، وأشهرهم، ولد بالري، ونشأ في دار الخلافة ببغداد، استلم الخلافة سنة 170هـ.
راجع: الزركلي، خير الدين، الأعلام، ج8، ط5، بيروت، دار العلم للملايين، 1410هـ، ص62.
2-عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1، ص88 ـ 91. وبحار الأنوار، ج48، ص129، "باب مناظراته عليه السلام مع خلفاء الجور".
 
 
 
 
 
 
173

163

الفصل الثالث‏

 يوجد في كتاب "الوسائل" و"مستدرك الوسائل" ما يزيد على الخمسين حديثاً فيها أمرٌ باجتناب الظلمة والحكّام الجائرين1، وفي بعضها أمر الأئمّة عليهم السلام أن يُحثى التراب في وجوه المدّاحين وأفواههم2. وكلّ من أعانهم ولو بمدادٍ او قلم فعليه كذا وكذا من الوزر والإثم والعقاب. وعلى كلّ فقد أُمرنا بالمقاطعة وعدم التعاون بشكلٍ تامّ. وفي مقابل ذلك وردت أحاديث تدعو إلى العلم والتعلُّم وتُثني على العلم والعلماء والمتعلّمين، وفي بعضها: "مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء"3.

 
وكلّ هذا إنّما هو دعوة صريحة إلى تشكيل حكومة إسلاميّة يقودها الفقهاء العدول ـ تُنقذ الناس من وطأة الاستعمار وأذنابه وتُزيل كلّ آثاره، ويحيى الناس في ظلّ رايتها حياة الأمن والاستقرار، والسعادة تُحالفهم في الدارين.
 
ولا يصل المسلمون في أيّ وقت إلى ما يُريدون من العدل والأمن
 
 

1-وسائل الشيعة، ج12، ص127 ـ 139، كتاب التجارة، في أبواب ما يكتسب به، البابان 42، 45. ومستدرك الوسائل، ج13، أبواب ما يكتسب به. الأبواب 35 ـ 38.
33-عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث "المناهي" أنه نهى عن المدح وقال: "أُحْثُوا في وجه المدّاحين التراب". وسائل الشيعة، ج12، ص132، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 42، ط، الحديث 1. وكذلك من لا يحضره الفقيه، ج4، ص5، "باب ذكر جمل من مناهي النبيّ"، الحديث 1.
2-مقدّمة: مجموعة الرسائل، ج1، ص1، لطف الله الصافي الكلبايكاني، والحديث ورد بألفاظ مختلفة في بعض الكتب الحديثية، أكثرها بهذا اللفظ: "إذا كان يوم القيامة جمع الله عزَّ وجلَّ الناس في صعيد واحد ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء".
راجع: الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص399، والطبرسي، مشكاة الأنوار، ص241 والمجلسي، بحار الأنوار، ح144، ج7، ص226، وغيرها من الكتب الحديثية.
 والاستقرار إلّا بعد تحلّيهم بالإيمان الكامل والأخلاق الفاضلة، في ظلّ حكومةٍ عادلة تتبع قوانين الإسلام، وتستغني عمّا سواه.
 
 
 
 
 
 
 
174

164

الفصل الثالث‏

 وقد كُلّفنا بتقديم أطروحة الحكومة الإسلاميّة إلى الناس، ونتمنّى أن تُحدث هذه الأطروحة في نفوس الناس يقظةً وحماساً ووعياً ترتكز عليه أسس ودعائم الدولة الإسلاميّة الحديثة، ليستعيدوا في ظلّها سابق مجدهم وعزّتهم، ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين.


اللّهمّ كفّ عنّا أيدي الظالمين. واقطع دابر الحكّام الجائرين، وابعث العدل والرحمة والرأفة واليقظة في نفوس حكّام المسلمين، ليعملوا في صالح شعوبهم، ويتركوا ما هم عليه من الأثرة.

ووفّق الشباب، والمثقّفين والجامعيّين إلى تطبيق أهداف الإسلام المقدّسة، واجعل المسلمين جميعاً صفّاً واحداً ليتخلَّصوا ويُخلِّصوا أمّتهم والعالَم أجمع من براثن التخلُّف وآثار الاستعمار، ووفّقهم للدفاع عن وطنهم صفّاً كأنّهم بنيان مرصوص.

ووفّق اللّهمّ الفقهاء وطلّاب علوم الدِّين للعِلم والهدى والعمل الصالح، وأنجح مساعيهم في تأسيس الحكومة الإسلاميّة الراشدة، إنّك وليّ التوفيق، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
 
 
 
 
 
 
 
 
175

165
الحكومة الإسلامية في فكر الإمام الخميني