المقدّمة
المقدّمة
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
سُئل الإمام الباقر عليه السلام: فكيف يعزّي بعضُنا بعضًا؟ قال عليه السلام: "تقولون: أعظم الله أجورنا بمُصابنا بالحسين! وجعلنا وإيّاكم من الطالبين بثاره مع وليّه الإمام المهديّ من آل محمّد عليهم السلام!"[1].
إنّ في هذا الحديث رسالةً لكلِّ مؤمنٍ موالٍ، تتمحور حول عنوانين رئيسيّين:
الأوّل، يتعلّق بالبعد العاطفيّ لذكرى عاشوراء وتعزية الموالين بعضهم بعضاً بالمُصاب الجلل الذي حلّ بالإمام أبي عبد الله عليه السلام وأهل بيته وأصحابه.
والثاني، يتطلّع نحو المستقبل، وبالتحديد نحو الهدف الاستراتيجيّ للثورة الحسينيّة، والذي سوف يتحقّق على يدِ وليّه الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، آخذًا بثأر جدّه سيّد الشهداء عليه السلام.
[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص773.
9
1
المقدّمة
ولأنّ للمبلّغين الأعزّاء دورَهم المحوريّ في هذا المشروع الإلهيّ، وفي صناعة النصر والهدف الربّانيّ، بما يمتلكونه من قدرةٍ على قراءةِ التاريخ بأحداثه ومواقفه، وقدرةٍ على التخطيط لمستقبل بيئة المنتظرين، فقد كانت سلسلة "زاد عاشوراء"، إحدى وسائل رفدِ هؤلاء المبلّغين الأعزّاء بالمادّة الثقافيّة المناسبة لاحتياجات مجتمعنا في أيّامنا الراهنة، والتي دأب مركز المعارف للتأليف والتحقيق على إعدادها بما يتوافق مع الأهداف الثقافيّة السنويّة العامّة لهذا العامّ.
وقد تميّز هذا الإصدار بربط أكثر موضوعاته ومواعظه بالإمام المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، مشفوعة بعددٍ من الشواهد المعاصرة المناسبة، بالإضافة إلى الشواهد المتعلّقة بالإمام الحسين عليه السلام وثورته المباركة، بغية تسليط الضوء عليها أمام الموالين والمحبّين، مع التأكيد على ضرورة ربط أحداث عاشوراء بالواقع المعاصر.
هذا، ونسأل المولى -سبحانه وتعالى- أن تكون هذه السلسلة طريقًا من طرق تحقيق الهدف الاستراتيجيّ للثورة الحسينيّة المباركة على مرّ السنين.
والحمد لله ربِّ العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
10
2
المقدّمة
السياسات والتوجيهات العامّة للخطاب العاشورائيّ
أوّلاً: السياسات العامّة
1. تأكيد أهمّيّة الجانب المعنويّ الذي يحقّقه الارتباط بالله تعالى والتوكّل عليه، وأهمّيّة هذا الجانب في استنزال المدد الإلهيّ للنصر على الأعداء، وإنْ قلَّ المؤمنون وكَثُر أعداؤهم.
2. ربط الناس بالتكليف الإلهيّ، على قاعدة كونه الموجِّه لموقف الفرد والأمّة.
3. توجيه الناس نحو العمل للآخرة، لضمان استمرار الحياة بسعادة باقية، وإبراز دور الشهادة في تحقيق ذلك.
4. غرس روح التضحية في أبناء الأمّة، فمعركة الحقّ ضدّ الباطل لا بدّ لها من تضحيات، وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء دليل واضح على ذلك.
5. الإرشاد إلى دور الولاية في توجيه الأمّة وترشيدها، وإلى أنّ وحدة الوليّ والقائد هي الضمان لوحدة الأمّة وعزِّها.
6. تأكيد ضرورة وحدة المسلمين صفّاً واحداً أمام أعدائهم.
7. تحديد طواغيت العصر ويزيديّيه المتمثّلين اليوم في الدرجة
11
3
المقدّمة
الأولى بأمريكا وإسرائيل، والتطرّق إلى الممارسات الإرهابيّة التي يمارسها هؤلاء الطواغيت ضدّ مسلمي العالم ومستضعفيه.
8. بيان تكليف الأمّة في نصرة المظلومين.
9. التشديد على ضرورة الثبات في معركة الحقّ ضدّ الباطل، ودورها في تحقيق النصر الإلهيّ.
10. إبراز التشابه بين ثورة الإمام الحسين عليه السلام ومعركتنا ضدّ الباطل، سواء على مستوى الأهداف وممارسات الأعداء، أو على مستوى مشاركة الشرائح المتنوّعة في المجتمع لنصرة الحقّ (من شبّان، وشيوخ، ونساء، وأطفال، وطبقات اجتماعيّة متفاوتة).
11. اللفت إلى ضرورة التكافل الاجتماعيّ في الأمّة بما يؤمِّن القوّة الداخليّة للمجتمع في معركته ضدّ الباطل.
12. تقوية علاقة الناس بصاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وبيان مسؤوليّتهم في التمهيد لظهوره المبارك، واستعدادهم لاستمرار التضحية بين يديه.
ثانياً: التوجيهات العامّة
نقتبس من كلام الإمام الخمينيّ (قدس سره) بعض التوجيهات المهمّة للمحاضرين والخطباء الحسينيّين، وهي:
1. دعا (قدس سره) إلى تفعيل مجالس الإنشاد للشعر الحسينيّ والاستماع إليها، فقال: "فلْتُقم مجالس ذكرى سيّد المظلومين والأحرار بجلال أكثر وحضور أكثر، فهي مجالس غلبة قوى العقل على الجهل،
12
4
المقدّمة
والعدل على الظلم، والأمانة على الخيانة، وحكومة الإسلام على حكومة الطاغوت".
2. اعتبر(قدس سره) أنّ البكاء في ثقافة عاشوراء سلاح جاهز على الدوام يمكن رفعه عند الحاجة بوجه الظالمين. والدموع هي لغة القلب، والبكاء هو صرخة عصر المظلوميّة، قال الإمام الخمينيّ: "إنّ البكاء على الشهيد إحياء للثورة، وإحياء لمفهوم أنّ فئة قليلة تقف بوجه إمبراطور كبير... إنّهم يخشون هذا البكاء، لأنّ البكاء على المظلوم صرخة بوجه الظالم"، و"لترتفع راياتُ عاشوراء المدمَّاة أكثرَ فأكثر معلنةً حلول يوم انتقام المظلوم من الظالم".
3. وفي توجيهه المباشر للخطباء الحسينيّن، قال الإمام الخمينيّ (قدس سره):
- إنّ على الخطباء أن يقرؤوا المراثي حتّى آخر الخطبة، ولا يختصروها، بل ليتحدّثوا كثيراً عن مصائب أهل البيت عليهم السلام.
- ليهتمّ خطباء المنابر ويسعوا إلى دفع الناس نحو القضايا الإسلاميّة، وليعطوا التوجيهات اللازمة في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة.
- يجب التذكير بالمصائب والمظالم التي يرتكبها الظالمون في كلّ عصر ومصر.
- أوّل شيء يجب أن تهتمّوا به هو رسالة الثورة في المصيبة، وفي المدح وفي الأخلاقيّات والوعظ.
13
5
المقدّمة
وعن كيفيّة إقامة مراسم العزاء يتحدّث الإمام الخميني قائلاً: إنّه سؤال موجَّه إلى جميع من يشعر بالمسؤوليّة في هذه القضيّة، وباعتقادي أنّ هذه المجالس يجب أن تتميّز بثلاثة أمور:
1. تكريس محبّة أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم في القلوب، لأنّ الارتباط العاطفيّ ارتباط قيِّم ووثيق.
2. إعطاء صورة واضحة عن أصل قضيّة عاشوراء، وإظهارها للناس من الناحية الثقافيّة والعقائديّة والنفسيّة والاجتماعيّة.
3. تكريس المعرفة الدينيّة والإيمان الدينيّ، والاعتماد على آية شريفة أو حديث شريف صحيح السند، أو رواية تاريخيّة ذات عبرة.
4. على أيّ منبر صعدتم وأيّ حديث تحدّثتم، بيّنوا للناس يزيد هذا العصر وشمر هذا العصر ومستعمري هذا العصر.
وكذا نجد في كلمات الإمام الخامنئيّ (دام ظله) الكثير من التوجيهات المتعلّقة بالمضمون الفكريّ للمجالس، حيث يقول:
1. من الخطأ أن يواظب المرء في مجلس العزاء أو في الهيئة المقيمة للعزاء، على أن لا يدخل في مواضيع الإسلام السياسيّ. ولا يعني هذا الكلام أنّه كلّما وقعت حادثة سياسيّة وجب أن نتكلّم فيها في مجالس العزاء.
2. إنّ فكر الثورة والفكر الإسلاميّ، والخطّ المبارك الذي أرساه الإمام (قدس سره) في هذا البلد، وتركه لنا هو ما ينبغي أن يكون حاضرًا في إحياء هذه المراسم.
14
6
المقدّمة
3. إنّ أكثر من يليق به القيام بإحياء عزاء سيّد الشهداء، هم هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، هؤلاء المحاربون (المقاتلون)... هؤلاء الشّباب، وعليكم أنتم أن تعرفوا قدر هذا الأمر، وأن تعملوا على توجيهه، اعملوا على التوجيه.
4. الالتفات إلى أنّ ثورة الإمام الحسينعليه السلام كانت لتأدية واجب عظيم، وهو إعادة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ إلى الخطّ الصحيح أو الثورة ضدّ الانحرافات الخطيرة في المجتمع الإسلاميّ، وهذا الواجب يتوجّه إلى كلّ فرد من المسلمين عبر التاريخ، وهو أنّه على كلّ مسلم لزوم الثورة حال رؤية تفشّي الفساد في جذور المجتمع الإسلاميّ.
5. الالتفات إلى أنّ الإمام الحسينعليه السلام أحيا بثورته خطّ جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونهجه، وهو معنى قول النبي(صلى الله عليه وآله): "حسينٌ منِّي وأنا من حسين".
15
7
الموعظة الأولى: آية المودّة
الموعظة الأولى:
آية المودّة
"ﺣﺐّ أﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ وذرﻳﺘﻲّ اﺳﺘﻜﻤﺎل اﻟﺪﻳﻦ"
الهدف العام:
تعظيم حبّ أهل البيت عليهم السلام ومودّتهم في القلب والسلوك.
المحاور الرئيسة:
المودّة في القربى
وجوب المودّة
حقيقة الحبّ
حبّ أهل البيت عليهم السلام
بين الحبّ والمودّة
آثار حبّ آل البيت عليهم السلام
حبّ الإمام الحسين عليه السلام
17
8
الموعظة الأولى: آية المودّة
تصدير الموعظة:
قال الله عزّ وجلّ: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾.
من القيم الجماليّة التي تمثّلت في مدرسة كربلاء "قيمة الحبّ"، هذه القيمة التي عبّر عنها عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، أحد أنصار الإمام الحسين عليه السلام، عندما قال: "حبّ الحسين أجنّني". حديثنا في هذه الليلة عن قيمة الحبّ، وذلك من خلال عناوين عدّة.
المودّة في القربى
المراد بالمودّة في القربى، مودّة قرابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهم عترته من أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم. وقد وردت روايات من طرق أهل السنّة، وتكاثرت الأخبار من طرق الشيعة على تفسير الآية بمودّتهم وموالاتهم عليهم السلام، ويؤيّده الأخبار المتواترة من طرق الفريقين على وجوب موالاة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم .قال الله عزّ وجلّ: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾[1].
من القيم الجماليّة التي تمثّلت في مدرسة كربلاء "قيمة الحبّ"، هذه القيمة التي عبّر عنها عابس بن أبي شبيب الشاكريّ، أحد أنصار الإمام الحسين عليه السلام، عندما قال: "حبّ الحسين أجنّني". حديثنا في هذه الليلة عن قيمة الحبّ، وذلك من خلال عناوين عدّة.
المودّة في القربى
المراد بالمودّة في القربى، مودّة قرابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهم عترته من أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم. وقد وردت روايات من طرق أهل السنّة، وتكاثرت الأخبار من طرق الشيعة على تفسير الآية بمودّتهم وموالاتهم عليهم السلام، ويؤيّده الأخبار المتواترة من طرق الفريقين على وجوب موالاة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم[2].
[1] سورة الشورى، الآية 23.
[2] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1417ه، ط5، ج18، ص46.
18
9
الموعظة الأولى: آية المودّة
روى السيوطيّ وغيره -في تفسير هذه الآية- بالإسناد إلى ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت هذه الآية: ﴿قُل لَّآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾، قالوا: يا رسول الله، مَنْ قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودّتهم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "عليّ وفاطمة وولداها"[1].
وعن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "فينا في آل حم آية، لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن" ثمّ قرأ: ﴿قُل لَّآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾ [2] [3].
وإلى هذا أشار الكميت الأسديّ بقوله:
وَجَدْنَا لَكُمْ في آلِ حم آيةً
تَأوَّلَهَا منَّا تَقِيٌّ ومُعْرِب[4]
وجوب المودّة
استدلّ الفخر الرازيّ على ذلك بثلاثة أوجه، فبعد أن روى الحديث عن الزمخشريّ، قال: "فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإذا ثبت هذا، وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيدٍ من التعظيم، ويدلّ عليه أوجه:
الأوّل: قوله تعالى: ﴿إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾.
[1] السيوطيّ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج6، ص7.
[2]سورة الشورى، الآية 23.
[3] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج23، ص230.
[4] المصدر نفسه، ص231.
19
10
الموعظة الأولى: آية المودّة
الثاني: لا شكّ في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحبّ فاطمة (عليها السلام)، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها"[1]، وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يحبّ عليًّا والحسن والحسين، وإذا ثبت ذلك وجب على الأمّة كلّها مثله، لقوله تعالى: ﴿وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾[2]، ولقوله تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ﴾[3].
الثالث: إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جُعل هذا الدعاء خاتمة التشهّد في الصلاة، وهو قوله: "اللّهمّ، صلِّ على محمّد وآل محمّد"، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل، فذلك كلّه يدلّ على أنّ حبّ محمّد وآل محمّد واجب[4].
وأشار الشافعيّ إلى نزول آية المودّة في أهل البيت عليهم السلام بقوله:
يا آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حبُّكُمُ
فرضٌ مِنَ اللهِ في القرآنِ أنزلَهُ[5]
[1] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج23، ص234.
[2] سورة الأعراف، الآية 158.
[3] سورة النور، الآية 63.
[4] الفخر الرازيّ، فخر الدين محمّد بن عمر، مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (تفسير الرازيّ)، لا.ن، لا.م، لا.ت، ط3، ج27، ص166.
[5] الهيتميّ المكّيّ، أحمد بن حجر، الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف، مكتبة القاهرة، مصر، 1385ه - 1965م، ط2، ص148.
20
11
الموعظة الأولى: آية المودّة
حقيقة الحبّ
الحبّ هو الانجذاب نحو الكمال، فمن يحبّ شخصًا مثلًا، فإنّه يرى فيه كمالًا من جمال أو قوّة أو علم.
والإنسان خُلق مفطورًا على حبّ الكمال والسعي لاكتسابه، وإنّ هذا الحبّ يمثّل درجةً شديدةً في وجوده، فهو أمرٌ وجوديّ ذاتيّ شديد، فلا يحتاج إلى تعليل.
وفي ضوء ذلك، يتبيّن لنا أنّ الموارد والمواطن الكماليّة جميعها تقع هدفًا أمام سير الإنسان التكامليّ، يتزوّد بحسب مراتبها للوصول إلى الغاية العُليا، وهي الكمال المطلق، إذا أضفنا إلى ذلك أنّ الإنسان بذاته هو مظهر من مظاهر أسماء الله الحُسنى، حيث تجلّت فيه القدرة الإلهيّة والعلم والحياة والإبداع وغير ذلك.
ولاشكّ في أنّ الإنسان كلّما حاز كمالاتٍ أكثر، ومراتبَ أعلى وأشدّ وأكبر، فإنّ مظهريّة الأسماء الحسنى فيه تشتدّ، والعكس بالعكس.
ولاشكّ في أنّ كلّ إنسان حائز كمالات يكون محلّ جذبِ واستقطاب الآخرين له، هذا فضلًا عمّن حاز كمالات أكثر وأشدّ وأكبر، فكيف بمن خلت ساحته من أيّ قصور أو نقص سوى الفقر إلى الله تعالى، فلا ريب أنّه سوف يكون قطب الرحى، والنقطة الفريدة في مركز دائرة عالم الإمكان!
21
12
الموعظة الأولى: آية المودّة
حبّ أهل البيت عليهم السلام
إذا تبيّن لنا، كما ثبت في الذكر الحكيم والسيرة الشريفة، أنّ أهل البيت عليهم السلام هم المصداق الأوّل والأشدّ لما تقدّم كلّه، وأنّهم حازوا الكمالات الوجوديّة السامية كلّها، وأنّهم الأقرب إلى الكمال المطلق، والفاقدون لكلّ مفقود سوى الفقر للغنيّ المطلق، عُلم أنّ متابعة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم قضيّة فُطر الناس عليها، فالمتمسّك بهم، والداعي لهم يكون عاملًا في ضوء فطرته الأولى.
وهكذا يتّضح لنا سبب حبّ أهل البيت عليهم السلام، وأنّه أمرٌ وجوديّ فينا، تبعًا لحبّ الكمال المتّصل بهم، وعندئذٍ ينقطع السؤال عن سبب هذه المحبّة، كانقطاعه عن أصل طلب الكمال وحبّه.
وسيتّضح لنا اشتراط الإقرار بالنبوّة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والإمامة لعليّ وأهل بيته عليهم السلام على سائر الأنبياء السابقين، والالتزام بولايتهم، كما جاء في الأخبار المستفيضة[1].
ففي الحديث النبويّ المعتبر: "يا عليّ، أنت قسيم النار، تقول هذا لي وهذا لك"[2]، وفي رواية أخرى: "أنتَ قسيم الجنّة والنار في يوم القيامة، تقول للنار: هذا لي وهذا لكِ"[3].
[1] قال الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يوم أُسري به: «أتاني ملك، فقال لي: يا محمّد، سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا على ما بُعثوا؟ قلت: على ما بُعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب". انظر: الحاكم النيسابوريّ، معرفة علوم الحديث، منشورات دار الآفاق الحديث، لبنان - بيروت، 1400 - 1980م، ط4، ص96. وغيره الكثير.
[2] عليّ بن إبراهيم القمّيّ، تفسير القمّيّ، تصحيح وتعليق وتقديم السيّد طيّب الموسويّ الجزائريّ، مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، إيران - قم، 1404ه، ط3، ج2، ص389.
[3] ابن حجر، الصواعق المحرقة، مصدر سابق، ص126.
22
13
الموعظة الأولى: آية المودّة
فهو الكمال المأمول، من بلغه كان نصيبه الجنّة، فطوبى لمن تمسّك بركبه وسار على نهجه، وذلك هو الفوز العظيم.
بين الحبّ والمودّة
الفرق بين المحبّة والمودّة هو كالفرق بين المؤثِّر وأثره، فالمحبّة: صفة نفسيّة، والمودّة: صفة عمليّة، فالحبّ: هو المؤثّر، والمودّة: هي الأثر، فالمحبّة تستتبع من ورائها المودّة، التي هي علامة عليه، إذًا، الحبّ صفة نفسيّة وعاطفة قلبيّة، وأمّا المودّة فهي أثر سلوكيّ وعمليّ متفرّع على الحبّ.
عبّر القرآن عن علاقة المسلم بأهل البيت بالمودّة ولم يعبّر بالمحبّة، قال الله تعالى: ﴿قُل لَّآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِي ٱلۡقُرۡبَىٰۗ﴾[1]، فليس المطلوب من المسلم تُجاه أهل البيت مجرّد حرارة عاطفيّة وإقبال قلبيّ، بل المطلوب منه سلوك عمليّ، أي المودّة، وليس مجرّد المحبّة.
فالمودّة تكون بإحياء أمرهم، ونشر علومهم وحديثهم، وذكر فضائلهم، وإقامة عزائهم، وزيارة مراقدهم الشريفة...
فالله -جلّ وعلا- فرض حبّهم بنحوين:
الأوّل: لأنّ في آل البيت عليهم السلام مجموعة من الفضائل والقيم، فيكون حبّهم حبًّا للفضائل والقيم، فأمر القرآن بحبّهم أمر
[1] سورة الشورى، الآية 23.
23
14
الموعظة الأولى: آية المودّة
بالاستقامة على الفطرة، والمشي على الفطرة من حبّ الفضائل والقيم.
الثاني: إنّ حبّهم طريق لمرجعيّتهم التشريعيّة، فالله -سبحانه- يريد من المسلمين أن يرجعوا إلى أهل البيت في تفسير القرآن، وفي الفقه، وفي الحكم، هذه المرجعيّة التي أكّدها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الثقلين: "إنّي أوشك أن أُدعى فأجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله -عزّ وجلّ- وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بِمَ تخلفوني فيهما"[1].
آثار حبّ آل البيت عليهم السلام
1. الطاعة والورع
عن الإمام الصادق عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام: "مَنْ أحبّنا، فليعمل بعملنا وليستعن بالورع، فإنّه أفضل ما يُستعان به في أمر الدنيا والآخرة"[2].
[1] أحمد بن حنبل، المسند (مسند أحمد)، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج3، ص17. والحديث متواتر.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص614.
24
15
الموعظة الأولى: آية المودّة
وعنه عليه السلام: "إنّما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه، واشتدّ جهاده، وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه"[1].
2. استكمال الدين
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حبّ أهل بيتي وذرّيتي استكمال الدين"[2].
3. التمسّك بالعروة الوثقى
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبًا أمير المؤمنين عليًّا عليه السلام: "يا عليّ، مَنْ أحبّكم وتمسّك بكم، فقد تمسّك بالعروة الوثقى"[3].
4. الشفاعة يوم القيامة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الزموا مودّتنا أهل البيت، فإنّه من لقي الله يوم القيامة وهو يودّنا، دخل الجنّة بشفاعتنا"[4].
5. منزلة الشهداء
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدًا، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورًا له، ألا ومن مات
[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص296.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص259.
[3] الخزاز القمّيّ، كفاية الأثر، تحقيق السيّد عبد اللطيف الحسينيّ الكوهكمريّ الخوئيّ، انتشارات بيدار، إيران - قم، 1401هـ.، لا.ط، ص71. الديلميّ، الشيخ أبو محمّد الحسن بن محمّد، إرشاد القلوب، انتشارات الشريف الرضيّ، إيران - قم، 1415ه - 1374ش، ط2، ج2، ص415.
[4] البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق السيّد جلال الدين الحسينيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1370ه - 1330 ش، لا.ط، ج1، ص61.
25
16
الموعظة الأولى: آية المودّة
على حبّ آل محمّد مات تائبًا، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنًا مستكملَ الإيمان"[1].
حبّ الحسين عليه السلام
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث صحيح مستفيض عند المسلمين كلّهم: "حسين منّي، وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسينًا، حسين سبط من الأسباط"[2].
عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أراد الله به الخير، قذف في قلبه حبّ الحسين عليه السلام وحبّ زيارته، ومن أراد الله به السوء، قذف في قلبه بغض الحسين وبغض زيارته"[3].
[1] الثعلبيّ، الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبيّ)، الإمام أبو محمّد بن عاشور، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعديّ، دار إحياء التراث العربيّ، 1422 - 2002م، ط1، ج8، ص314.
[2] الإمام أحمد ابن حنبل، مسند أحمد، مصدر سابق، ج4، ص172. ومصادر كثيرة.
[3] ابن قولويه، أبو القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّيّ، كامل الزيارات، تحقيق الشيخ جواد القيّوميّ، إيران - قم، مؤسّسة نشر الفقاهة، 1417ه، ط1، ص269.
26
17
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
الموعظة الثانية:
ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
"إنّا نريد أن نصلّيَ لربّنا الليلة ونستغفره، فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار"
الهدف العام:
الحثّ على توطيد علاقة العبد بالله عزّ وجلّ.
المحاور الرئيسة:
الارتباط بالله
التوكّل على الله
تفويض الأمر إلى الله
الرضا بقضاء الله
التسليم لأمر الله
ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
أنصار الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف رهبان الليل
27
18
الموعظة الأولى: آية المودّة
تصدير الموعظة:
قال الله عزّ وجلّ: ﴿ٱلَّذِينَ يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَٰاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَٰذَا بَٰاطِلاً سُبۡحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾[1].
عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسر أم يسر"[2].
الارتباط بالله
الارتباط بالله تعالى هو حضور الله سبحانه الدائم في حياة الإنسان، والتوجّه إليه، وعدم الغفلة عنه أبدًا، فلا يعبد غيره، ولا يرجو سواه، ولا يطلب حاجته إلّا منه سبحانه وتعالى.
وللارتباط بالله أربع مراتب:
المرتبة الأولى: التوكّل.
المرتبة الثانية: التفويض.
المرتبة الثالثة: الرضا.
المرتبة الرابعة: التسليم.
[1] سورة آل عمران، الآية 191.
[2] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفّاريّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج2، ص83.
28
19
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه عليه السلام قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: الإيمان له أركان أربعة: التوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرّضاء بقضاء الله، والتّسليم لأمر الله -عزّ وجلّ-"[1].
وأهمّ مظاهر الارتباط بالله هو العبادة، من صلاة وصوم وحجّ ودعاء، فإنّها تجسيد لشعور الإيمان، وتعبير عمليّ وتطبيقيّ عن الارتباط بالله تعالى.
التوكّل على الله
عُرّف بأنّه انقطاع العبد إليه في جميع ما يؤمّله من المخلوقين، وقيل: "هو الثقة بما عند الله، واليأس عمّا في أيدي النّاس"[2].
أو هو الاعتماد عليه والوثوق به في الرزق وغيره من الضروريّات، وقطع تعلّق القلب بغيره من الأسباب والمسبّبات، وهو يُوجب قوّة الإيمان وثباته[3].
قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ﴾[4].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص47.
[2] الشيرازيّ، السيّد عليّ خان المدنيّ، رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين (عليه السلام)، السيّد محسن الحسينيّ الأمينيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، 1415، ط4، ج7، ص391.
[3] المازندرانيّ، المولى محمّد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1421ه - 2000م، ط1، ج8، ص145.
[4] سورة الطلاق، الآية 3.
29
20
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
عن الإمام الصادق عليه السلام: "... ومن أُعطي التوكّل، أُعطي الكفاية"، ثمّ قال: "أتلوت كتاب الله -عزّ وجلّ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ﴾؟...[1].
تفويض الأمر إلى الله
في دفع شرّ الأعداء وكيد الخصماء ومكائد النفس ووسائس الشيطان، أو تفويض أمره مطلقًا إلى الله، كما فوّض مؤمن آل فرعون أمره إلى الله، ﴿وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٤٤ فَوَقَىٰهُ ٱللَّهُ سَئَِّاتِ مَا مَكَرُواْۖ﴾[2]، فإنّ من استكفاه كفاه الله، وفرغ هو لذكره وطاعته، وهو يُوجب قوّة الإيمان وثباته. والتفويض هو ثمرة التوكّل.
الرضا بقضاء الله
وهو سكون القلب إلى أحكام الله تعالى، وموافقة الضمير بما رضي واختار.
وقيل: هو فرح القلب وسروره بنزول الأحكام في الحلو والمرّ.
سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل عليه السلام عن تفسير الرضا، فقال: "الراضي هو الذي لا يسخط على سيّده، أصاب من الدنيا أو لم يصب، ولا يرضى من نفسه باليسير". والرضا من أعلى منازل المقرّبين، وأقصى مراتب السالكين، فإنّه ثمرة المحبّة[3].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص65.
[2] سورة غافر، الآيتان 44-45.
[3] المولى محمّد المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج1، ص220.
30
21
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "اعلم، أنّ مقام الرضا غير مقام التوكّل، وذلك لأنّ المتوكّل يطلب الخير والصلاح لنفسه... أمّا الشخص الراضي فيكون قد أفنى إرادته في إرادة الله..."[1].
التسليم لأمر الله
هو في الحقيقة قبول قول الله وقول الرسول والأوصياء وأفعالهم ظاهرًا وباطنًا، وتلقّيها بالبِشر والسرور، وإن كان ثقيلًا على النفس، وغير موافق للطبع، وهو أصل عظيم لرسوخ الإيمان وكماله، إذ لو انتفى استولى ضدّه -وهو الشكّ- على القلب. والشكّ ينافي أصل الإيمان فضلًا عن كماله[2].
قال الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيماً﴾[3].
وهذه مرتبة الأولياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام، ولعلّها لا تحصل لغيرهم، إلّا لمن رزقه الله تربية الإمام المعصوم، كما في العبّاس
[1] راجع: الإمام الخمينيّ، السيّد روح الله الموسويّ، الأربعون حديثًا، دار التعارف، لبنان - بيروت، 1411ه- 1991م، ص210.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «رأس طاعة الله الصبر والرضا عن الله فيما أحبّ العبد أو كره» (الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص60).
وعن الإمام عليّ بن الحسين (عليهما السلام): «الزهد عشرة أجزاء، أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا» (الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص62).
فأشار (عليه السلام) إلى أنّ الرضا فوق الجميع، ومن ثمّ كان مقام الرضا فوق جميع مقامات السالكين.
[2] المولى محمّد المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج8، ص145.
[3] سورة النساء، الآية 65.
31
22
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
بن عليّ، ولذلك نقرأ في زيارته: "أشهد لك بالتصديق والتسليم والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ المرسل والسبط المنتجب"[1]، فالعبّاس وصل إلى درجة التسليم، والمقصود من هذه الدرجة أن لا يرى لنفسه تأثيرًا، ويعدّ تمام شؤونه ملكًا لله -تبارك وتعالى-.
ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
جسّد الإمام الحسين عليه السلام أعلى درجات الارتباط بالله، فقد كان المثل الأعلى لمقامات التوكّل والتفويض والرضا والتسليم.
وفي أعظم موقف، وطفله الرضيع بين يديه، رماه حرملة بن كاهل الأسديّ بسهم فذبحه في حجر الحسين، فتلقّى الحسين عليه السلام دمه حتّى امتلأت كفّه منه، ثمّ رمى به إلى السماء، ثمّ قال: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله"، قال الإمام الباقر عليه السلام: "فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض"[2].
فالإمام الحسين عليه السلام وصل إلى مرتبة التسليم، وإلى درجة لا يرى فيها نفسه، بل لا يرى إلّا الله، يقول عليه السلام في دعاء عرفة: "متى غبتَ حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟... عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا"[3].
[1] الشهيد الأوّل، محمّد بن مكّي العامليّ، المزار، مدرسة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه)، إيران - قم، 1410، ط1، ص131.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص46. (ينقله عن ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسينيّ، اللهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص69).
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص142.
32
23
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
وهو ملقًى في آخر لحظات عمره الشريف، وقد أضعفته كثرة الجراح، وتفتّت كبده من حرارة الشمس ولهيب التراب، يناجي ربّه: "اللّهمّ، متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دُعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادرٌ على ما أردت، ومدركُ ما طلبت، وشكورٌ إذا شُكرت، وذكورٌ إذا ذُكرت، أدعوك محتاجًا، وأرغب إليك فقيرًا، وأفزع إليك خائفًا، وأبكي إليك مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا، وأتوكّل عليك كافيًا، احكم بيننا وبين قومنا، فإنّهم غرّونا وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيّك، وولد حبيبك محمّد بن عبد الله، الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا، برحمتك يا أرحم الراحمين"[1].
قال أبو مخنف: وبقي الحسين ثلاث ساعات من النهار ملطّخًا بدمه، رامقًا بطرفه إلى السماء، وينادي: "يا إلهي، صبرًا على قضائك، ولا معبود سواك، يا غياث المستغيثين"[2].
[1] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص827-828.
[2] القندوزيّ، الشيخ سليمان بن إبراهيم الحنفيّ، ينابيع المودّة لذوي القربى، تحقيق السيّد عليّ جمال أشرف الحسينيّ، دار الأسوة للطباعة والنشر، إيران - قم، 1416ه، ط1، ج3، ص82.
33
24
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
العبادة
العبادة في الإسلام اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يحبّه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهي تتضمّن غاية الذلّ لله تعالى مع المحبّة له. وهذا المدلول الشامل للعبادة في الإسلام هو مضمون دعوة الرسل عليهم السلام جميعًا، قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾[1].
ورد في الحديث القدسيّ: "... وإنّه (العبد) ليتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أُحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته"[2].
عبادة الإمام الحسين عليه السلام
ما انقطع الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام عن الاتّصال بربّه في لحظاته وسكناته كلّها، فقد بقيَ يجسّد اتّصاله هذا بصيغة العبادة لله، ويوثّق العُرى مع الخالق - جلّت قدرته -، ويشدّ التضحية بالطاعة الإلهيّة متفانيًا في ذات الله ومن أجله، وقد كانت عبادته ثمرة معرفته الحقيقيّة بالله تعالى.
[1] سورة الأنبياء، الآية 25.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص352.
34
25
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
وإنّ نظرةً واحدةً إلى دعائه عليه السلام في يوم عرفة تُبرهن على عمق هذه المعرفة، وشدّة العلاقة مع الله تعالى، يقول عليه السلام في هذا الدعاء العظيم: "يا مَنْ أذاق أحبّاءه حلاوة المؤانسة، فقاموا بين يديه متملّقين، ويا مَنْ ألبس أولياءه ملابس هيبته، فقاموا بين يديه مستغفرين..."[1].
ويقول المؤرّخون: إنّه عليه السلام قد عمل كلّ ما يقرّبه إلى الله، فكان كثير الصلاة والصوم والحجّ والصدقة وأفعال الخير[2].
حتّى أنّه في ليلة العاشر من محرّم طلب من الجيش الأُمويّ أن يمهله تلك العشيّة قائلًا: "إنّا نريد أن نصلّيَ لربّنا الليلة ونستغفره، فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار"[3].
كان عليه السلام أكثر أوقاته مشغولًا بالصلاة والصوم، وكان يختم القرآن الكريم في شهر رمضان. وتحدّث ابن الزبير عن عبادة الإمام عليه السلام، فقال: "أما والله، لقد قتلوه، طويلًا في الليل قيامه، كثيرًا في النهار صومه"[4].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص226.
[2] الشيخ باقر شريف القرشيّ، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، لا.ن، لا.م، 1394 - 1974م، ط1، ج1، ص133.
[3] فارس حسّون كريم، الروض النضير في معنى حديث الغدير، مؤسّسة أمير المؤمنين (عليه السلام) للتحقيق، إيران - قم، 1419ه، ط1، ص251. راجع: ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص54.
[4] الشيخ باقر شريف القرشيّ، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، مصدر سابق، ج1، ص133.
35
26
الموعظة الثانية: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام بالله
وكان الإمام عليه السلام كثير الحجّ، وقد حجّ خمسًا وعشرين حجّةً ماشيًا على قدميه، وكانت نجائبه تُقاد بين يديه.
وكان عليه السلام كثير البرّ والصدقة، وقد ورث أرضًا وأشياءً، فتصدّق بها قبل أن يقبضها. وكان عليه السلام يحمل الطعام في غلس الليل إلى مساكين أهل المدينة، لا يبتغي بذلك إلّا الأجر من الله، والتقرّب إليه[1].
أنصار الإمام المهديّ عليه السلام رهبان الليل
إنّ أنصار الإمام المهديّ عليه السلام، يتمتّعون بدرجات إيمانيّة عالية ويقين كبير بالله -جلّ وعلا-، كيف لا؟! ومن صفاتهم كثرة العبادة والتهجّد بالليل، بل ليس في قلوبهم مكان إلّا لله تعالى والطاعة لإمام زمانهم، وخير كلام رواية الإمام الصادق عليه السلام فيهم: "رجال لا ينامون الليل، لهم دويّ في صلاتهم كدويّ النحل، يبيتون قيامًا على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، هم أطوع له من الأمّة لسيّدها، كالمصابيح كأنّ قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مشفقون، يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين! إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى المولى إرسالاً، بهم ينصر الله إمام الحقّ"[2].
[1] الشيخ باقر شريف القرشيّ، حياة الإمام الحسين (عليه السلام)، مصدر سابق، ص135. (ينقلها عن مصادر متعدّدة)
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج52، ص308.
36
27
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
الموعظة الثالثة:
المرأة ودورها الجهاديّ
"وتؤتَون الحكمة في زمانه، حتّى إنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"
الهدف العام:
التعرّف إلى الدور الجهاديّ للمرأة في كربلاء والدولة المهدويّة، ومواجهة التحدّيات المعاصرة.
المحاور الرئيسة:
المرأة المجاهدة مع الإمام الحسين عليه السلام
المرأة في الدولة المهدويّة
تحدّيات المرأة في العصر الراهن
37
28
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
تصدير الموعظة:
عن الإمام الباقر عليه السلام في عدد قادة جيش الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف: "ويجيء -والله- ثلاثمئة وبضعة عشر رجلًا، فيهم خمسون امرأة"[1].
المرأة المجاهدة مع الإمام الحسين عليه السلام
النموذج الأوّل: إيثار زينب (عليها السلام) وجهادها
1. زينب (عليها السلام) في قلب المعركة
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): "عندما وصلت زينب إلى حيث يرقد جسد عزيزها على رمضاء كربلاء، بدل أن تبدي أيّ ردّ فعل، بدل أن تشتكي، ذهبت في اتّجاه جسد عزيزها أبي عبد الله وارتفع صوتها، وهي تخاطب جدّها: "يا رسول الله، صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينك مرمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء"[2]، أي يا جدّي العزيز، انظر نظرةً إلى صحراء كربلاء الحارقة، هذا حسين معفَّر بالتراب مخضّب بالدماء، ثمّ ينقلون أنّ زينب وضعت يديها
[1] العياشيّ، محمد بن مسعود بن عيّاش السلميّ السمرقنديّ، تفسير العياشيّ، تحقيق الحاج السيّد هاشم الرسوليّ المحلاتيّ، المكتبة العلميّة الإسلاميّة، إيران - طهران، 1422هـ، ط1، ج1، ص65.
[2] ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، المطبعة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1369 - 1950م، لا.ط، ص65.
38
29
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
تحت جسد الحسين بن عليّ وارتفع نداؤها إلى السماء: "اللهمّ، تقبّل من آل محمّد هذا القربان!"[1].
2. شجاعة زينب (عليها السلام)
عندما خاطبها ابن مرجانة قائلًا: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم، أجابته (عليها السلام) بشجاعة أبيها محتقرة له: "الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيرًا، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنَا والحمْدُ للهِ"[2].
3. تسليمها وثباتها
وكذلك عندما خاطبها مستهزئًا: كيف رأيتِ صنع الله بأخيك؟
فأجابته بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها: "ما رَأَيْتُ إلّا جَمِيلًا، هؤُلاَءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يابْنَ مَرْجَانَةَ..." [3].
وكذا عندما دخل موكب السبايا الكوفة، خرج الناس إلى الشوارع، بين مُتسائل لا يدري لمن أومأت زينب إلى الناس أنِ اسكتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: "الْحَمْدُ للهِ،
[1] من خطبة له (دام ظله) في صلاة الجمعة، في 27 أيلول 1985م.
[2] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1993م، ط2، ج2، ص115.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص116.
39
30
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
وَالصَّلاَةُ عَلىَ جَدِّي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الأَخْيَارِ، يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الْخَتْلِ والْغَدْرِ، أَتَبْكُونَ؟! فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ... أَتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! إِيْ وَاللهِ، فَابْكُوا كَثِيرًا، واضْحَكُوا قَلِيلًا، فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا..."[1].
النموذج الثاني: دور النساء السياسيّ والتعبويّ في نهضة عاشوراء
1. أمّ وهب: روي أنّه بعد نزوله إلى الميدان، رجع وهب إلى أمّه قائلًا: أمّاه، أرضيتِ أم لا؟ قالت: ما رضيت حتّى تقتل بين يدي الحسين[2]!
2. زوجة زهير: على الرغم من أنّ زوجة زهير بين القين لم تشهد واقعة عاشوراء، ولكنّها كانت هي التي بعثت زوجها لنصرة الله وحرّضته على ذلك، يروي جماعة: ... فبينا نحن جلوس نتغذّى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الحسين عليه السلام، حتّى سلّم ثمّ دخل، فقال: يا زهير بن القين البجليّ، إنّ أبا عبد الله بعثني إليك لتأتينّه، فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده، حتّى كأنّ على رؤوسنا الطير، فقالت امرأته: سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله، ثمّ لم تأتِه؟! لو أتيته فسمعت من كلامه، ثمّ انصرفت، فأتاه
[1] ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، مصدر سابق، ص87.
[2] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص46.
40
31
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرًا قد أشرق وجهه، فأمر فسطاطه فقُوِّض، وحمل إلى الحسين عليه السلام[1].
النموذج الثالث: دور النساء اللواتي قاتل أزواجهنّ ضدّ الإمام الحسين عليه السلام
الواضح للمتتبّع أنّ الكثيرات من نساء مجتمع الكوفة لم يقفن مكتوفات الأيدي تجاه ما جرى في كربلاء، وهناك شواهد كثيرة تثبت ذلك، منها:
1. زوجة خولي: يروى أنّ أبا عمرة أحاط بدار خوليّ بن يزيد الأصبحيّ، وهو حامل رأس الحسين عليه السلام إلى عبيد الله بن زياد، فخرجت امرأته إليهم، وهي النوّار ابنة مالك... وكانت مُحبّةً لأهل البيت عليهم السلام، قالت: لا أدري أين هو، وأشارت بيدها إلى بيت الخلا، فوجدوه، وعلى رأسه قوصرة، فأخذوه وقتلوه[2].
2. وجاء مالك بن نسر الكنديّ بخوذته الملطّخة بالدم المبارك للإمام الحسين عليه السلام، فطردته زوجته من البيت، ولم تسمح له بالإقامة فيه.
[1] الفتّال النيسابوريّ، الشيخ محمد بن الفتال، روضة الواعظين، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص178.
[2] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، مصدر سابق، ص118.
41
32
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
المرأة في الدولة المهدويّة
1. ذكرت بعض الروايات أنّ ثمّة عددًا من النساء في أصحاب الإمام الحجّة المقرّبين. ومن خلال ذكر بعض أسماء النساء يُفهم أنّ بعضهن ممّن يرجعن من نساء العصور السابقة... رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام: "... ويجيء - والله - ثلاثمئة وبضعة عشر رجلًا، فيهم خمسون امرأة، يجتمعون بمكّة على غير ميعاد، قزعًا كقزع الخريف، يتبع بعضهم بعضًا"[1].
2. تتميّز المرأة في عصر الظهور بمستوًى علميٍّ عالٍ، حتّى إنّها لتقضي بكتاب الله وسنّة رسوله، وهي في بيتها، كما عن الإمام الباقر عليه السلام: "وتؤتَون الحكمة في زمانه، حتّى إنّ المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله وسنّة رسول الله"[2].
تحدّيات المرأة في العصر الراهن
كثرت الدراسات من قبل الغربيّين والمسلمين المتفاعلين مع الفكر الغربيّ في قضيّة المرأة والأسرة، وبدأت هذه الأفكار بالتسلّل إلى المجتمعات الإسلاميّة بآثارها ومفاعيلها السلبيّة كلّها على المرأة والأسرة والمجتمع. ولهذا، ينبغي التحذير من هذه الثقافة، وبيان خطرها في المجتمع الإسلاميّ، ومن هذه الثقافات:
[1] العياشيّ، تفسير العياشيّ، مصدر سابق، ج1، ص65.
والقزع: السحب المتقطّعة، والمراد أنّهم يأتون متفرّقين، الواحد والاثنين وهكذا.
[2] النعمانيّ، الشيخ ابن أبي زينب محمّد بن إبراهيم، الغيبة، تحقيق فارس حسّون كريم، أنوار الهدى، إيران - قم، 1422ه، ط1، ص245.
42
33
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
1. الجندريّة: وهي القائمة على أساس تغيير، بل وإلغاء الأدوار المنوطة بكلٍّ من الرجل والمرأة، بحيث يمكن للمرأة أن تقوم بأدوار الرجل، ويمكن للرجل أن يقوم بأدوار المرأة، وهذا يعني أنّ الجندرية تتنكّر لتأثير الفروق البيولوجيّة الفطريّة في تحديد أدوار الرجال.
2. توصّل الغرب إلى قناعة تامّة بأنّ السلاح الأمضى لمحاربة الأصوليّة الإسلامية هو في زعزعة كيان الأسرة، وتقديم بديل لنموذج العلاقة بين الرجل والمرأة، حيث إنّ الإسلام ينظر إلى الأسرة على أنّها القاعدة الصلبة التي تُبنى عليها القيم، والسور الذي يتصدّى لغزو الثقافة الرأسماليّة.
3. الحرّيّة: وهي ثمرة ثقافة الغرب الليبراليّة التي تتيح أمام الفرد خيارات مفتوحة ما دام لا يمسّ حرّيّة الآخرين، وعلى سبيل المثال، فإنّ ربط خروج المرأة من المنزل بإذن الزوج مرفوض بنظر هؤلاء، لأنّه يعدّ تحديدًا للحرّيّة، وكذلك تقريرًا للتمييز بين الجنسين، وكذا الأمر بالنسبة إلى قيمومة الرجل في الأسرة.
4. الاقتصاد: أهمّ شعار ترفعه أكثر الحركات المطالبة بحقوق المرأة، هو الاستقلال الماديّ والعمل للمرأة، فهم يرَون أنّ عمل المرأة يعزّز من ثقتها بنفسها، ويقلّل من هواجسها في المستقبل، علاوة على أنّه يحصّنهنّ ضدّ التجاوزات المحتملة للزوج.
43
34
الموعظة الثالثة: المرأة ودورها الجهاديّ
5. استحداث منظومة حقوقيّة تنظر بعين المساواة إلى الهويّة الجنسيّة، بمعنى توحيد الأحكام لكلا الجنسين في قضايا مثل القضاء، الشهادة، الإرث، الدية، الزواج، الطلاق، حضانة الأسرة، وعشرات القضايا الأخرى.
44
35
الموعظة الرابعة: دور العلماء في النهضة الإيمانيّة
الموعظة الرابعة:
دور العلماء في النهضة الإيمانيّة
"إنّ هدف حرب العدوّ الناعمة اليوم جعْل الناس غير مبالين بالمُثل العليا"
الهدف العام:
التعرّف إلى أهمّيّة طلب العلم ودور العلماء في الجهاد والنهضة.
المحاور الرئيسة:
موقعيّة العلم والعلماء
دور العلماء في النهضة الدينيّة
الحرب الناعمة واستهداف العلماء
العلماء خدّام الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف
45
36
الموعظة الرابعة: دور العلماء في النهضة الإيمانيّة
تصدير الموعظة:
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "ذلك بأنّ مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه"[1].
موقعيّة العلم والعلماء
كثرت النصوص الشريفة في فضل العلم والعلماء، فمنها ما دلّ على شرف العلم وفضيلة تعلّمه، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، فاطلبوا العلم في مظانّه، واقتبسوه من أهله، فإنّ تعلّمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة فيه تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة... به يُطاع الربُّ ويُعبَد، وبه تُوصل الأرحام، ويُعرف الحلال من الحرام، العلم إمام العمل والعمل تابعه، يُلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظّه"[2].
وحثّث مجموعة من الروايات على طلب العلم حتّى لو أدّى إلى سفك المهج وخوض اللجج، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام:
[1] الحرّاني، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرِّفة، إيران - قمّ، 1404ه - 1363ش، ط2، ص238.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص171.
46
37
الموعظة الرابعة: دور العلماء في النهضة الإيمانيّة
"لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَطَلَبُوهُ وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ وَخَوْضِ اللُّجَجِ..."[1].
ومنها ما دلّ على وجوب بذل العلم، وتعليمه، والعمل به، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "قرأتُ في كتاب عليّ عليه السلام: إنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهدًا بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهدًا ببذل العلم للجهّال، لأنّ العلم كان قبل الجهل"[2].
ومنها ما حثّ على استعمال العلم والعمل به ووجوب إظهاره عند ظهور البدع وتحريم كتمه إلّا لتقيّة أو خوف، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ظهرت البدع في أمّتي، فلْيُظهرِ العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"[3].
فالحكمة المستفادة من وجوب إظهار العلم، أنّ العلماء يجب أن يكونوا مستعدّين في الأزمان كلّها للدفاع عن الدين، ودحض الشبهات والبدع والانحرافات.
دور العلماء في النهضة الدينيّة
إنّ المتتبّع لسير العلماء على امتداد التاريخ يجد أنّهم ورثة الأنبياء والأئمّة في النهضة الدينيّة وحماية المسلمين، ويكفي أن
[1]الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص35.
[2] المصدر نفسه، ج1، ص41.
[3] المصدر نفسه، ج1، ص54.
47
38
الموعظة الرابعة: دور العلماء في النهضة الإيمانيّة
نشير إلى نماذج من جهاد العلماء وحضورهم في جميع ساحات التبليغ والجهاد.
الفقيه الكبير ابن ملّي الأنصاريّ البعلبكيّ يتصدّى للتتار
إنّه نجم الدين أحمد بن مُحَسِّن بن ملّي الأنصاريّ البعلبكيّ (617 - 699ه/ 1220 - 1299م)، أوّل فقيه شيعيّ إماميّ أنجبته بعلبك، وأحد أذكياء الرجال وفضلائهم في الفقه والأصول والطبّ والفلسفة والعربيّة والمناظرة. كان متبحّرًا في العلوم، كثير الفضائل، أسدًا في المناظرة، فصيح العبارة، ذكيًا متيقّظًا، حاضر الحُجّة، حادّ القريحة، مقدامًا، إلّا أنّ النقطة المضيئة في سيرته إلى حدّ السّطوع والتألّق، ما كان يتحلّى به من صفات، وخصوصًا الإقدام والشجاعة. وقد نجح في أن يكون ضمير قومه، بل أمّته في لحظة من أشدّ اللحظات وأقساها يوم اجتاح التتار "دار الإسلام" من مشرقها، ذلك الاجتياح المهول للمنطقة الشاميّة، ومنها وطن ابن ملّي "بعلبك". فنظّم ابن ملّي وقاد حرب عصابات شعبيّة ناجحة في وجههم في بعلبك وجبالها، في وقت تهاوت العروش، ولم تثبُت الجيوش النظاميّة، من تركستان إلى أبواب مصر. وتلك مبادرة فريدة في تلك الأيّام السوداء، وذلك درس حقيق أن يُقرأ اليوم ويُستعاد.
وقد نجح ابن ملّي في تنظيم الشيعة لأوّل مرّة بعد أن اضطرب وضعهم بسبب الغزو الصليبيّ وما تلاه.
48
39