زقاق نقاشها


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-09

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للترجمة

مركز متخصص بنقل المعارف والمتون الإسلامية؛ الثقافية والتعليمية؛ باللغة العربية ومنها باللغات الأخرى؛ وفق معايير وحاجات منسجمة مع الرؤية الإسلامية الأصيلة.


إشارة

إشارة

 

الترعرع في زقاق نقّاشها، حمامات السيّد باقر، صفاء ننه بري، شهامات السيّد أبو تراب وصوت السلام الذي كان يُسمع ردّه على بعد عدّة أزقّة من تلك الناحية. صوت مجالس العزاء، جرس نوادي رياضة الفتوّة (الزورخانة)، صوت الانهيار الثلجي، صوت العشق في ليلة ماطرة، صوت فاطمة خانم.

 

صوت أزيز الرصاص والشظايا، برد الجبال، حرارة الصحارى، عيون الوالدة وفاطمة القلِقة.

 

مروءة شباب المحلّة، جبين علي أصغر أرسنجاني، ذكريات قاسم ده باشي، ليالي الجنوب الحافلة بالقنابل المضيئة، شباب الهيئة خلف الساتر، تَشَكُّل كتيبة لا تلطم تحت أيّ راية سوى...

 

كلّ هذه الذكريات والأصوات، کانت لا تزال تتردّد في زوايا حنجرة السيّد أبي الفضل كاظمي كما حبيبات المطر التي تبقى في ساق سنبلة القمح؛ وها نحن الآن نقرأها كلّها أو معظمها في هذا الكتاب زقاق نقّاشها [الرسّامين]، الذي خطّته أنامل السيّدة راحلة صبوري، حيث انتقت هذه الذكريات والأصوات الجميلة من أصل حنجرة السيّد، وجمعتها باقات جميلة في معابر هذا الكتاب.

 

إنّنا الآن نجتاز معابر هذه الحياة، ونعود [بالذكرى] إلى سنوات ليست بعيدة منّا كثيراً. سنوات تطلع كالشمس من خلف هذه الكلمات والأسطر، لنتعرّف فيها إلى شخصيّات كثيرة، في مقدّمتهم شخصيّة السيّد أبي الفضل؛ فهو الذي ترعرع وأصبح رجلاً في زقاق نقّاشها، ينقلنا اليوم بكلماته إلى تلك السنوات.

 

مكتب أدب وفنّ المقاومة

حوزه هنري خريف1388ش(2009م)

 

 

7

 

 


1

مقدمة الترجمة

مقدمة الترجمة

 

مدهش أن يسرح وجدان شابٍ نحو ظلال يعشقها ولا يسمح بتلاشيها من كيانه، حتى لو وقف أمام النار وحديد الدبابات، من دون أن يُقعِده الخوف والقلق. فما يرويه السيد أبو الفضل كاظمي، في زقاق نقاشها يحفّزك لاكتشاف الدّوافع، فتعرفها في طيات صفحاته واحدةً بعد أخرى.

 

ستمضي مترويّا في التفاصيل، ومُرتويًا من صورها ومستغرقًا في أبعادها الروحية، متنقلًا بين أحداث وشخصيات تبدو متناقضة ظاهرًا، لكنها متآلفة باطنًا.

 

هنا يحكي عن قبضايات الأزقة وفتوّاتها، ذوي الألقاب والوشوم والمقالب والدرّاجات!

 

وهناك يكشف عن رياضات وقبسات لطفٍ مخبوء، تجلّى بهؤلاء الشباب المتسكّعين في أزقة الجبهة وعلى مائدة العمليات وطيب الرفقة، وبمكامن الصفاء في نفوسهم.

 

في الكتاب، ثمة خواطر تلمع كخاتم عقيق ومنديل عزاء. لا يتخلّى عنهما، ذاك المحب الضاحك، رغم معارك كابد فيها جراح البدن وآلام الروح، وعاشر شخصيات رفيعة وقائدة. وتراه يومض بإشارات عن دور زوجته في دربه؛ من اللقاء الأول وعلى امتداد الزمن السردي والنفسي. وفيما يخبرنا أبو الفضل عن أصدقاء الجبهات، منذ ما قبل الثورة، الى

 

8

 


2

مقدمة الترجمة

تلك اللحظات الجاذبة، نعرف كيف تلتقي رغبة الرفض والمعارضة لأجل الإصلاح، مع الترحال إلى محافل فداء عامرة.

 

هي يوميات قُسّمت على معابر لتشقّ المسير بنا إلى كواكب سابحة في المسارات الحسينية. وأي مسارات! وأي خيط موصول!

 

من إشراق حب الرفيق الأوحد إلى حب سبيله والمسلك إلى رضوانه، محمد وآله عليهم السلام.

 

هذا الكتاب..

في خضم أضواء هذه المشاهد، وضمن مجموعة أدب الجبهة يسرّنا أن نقدّم الترجمة العربية لكتاب زقاق نقاشها؛ الإصدار الـ23 في سلسلة سادة القافلة؛ وقد صدّرناه[1] بعناوين وأشعار تتلألأ بين المراحل.

 

نقدّمه بين يديّ الشباب؛ الناهلين من ينابيع القراءة، الناظرين في قدراتهم، والمؤمنين بأنهم يستطيعون التغيير وقادرون، فيتركون أثرًا مما يبدعون.

 

هكذا لا تضيع كنوز الجهاد، كما يلفت الامام القائد الخامنئي بقولهإن الهاجس الذي أحمله في ذهني هو هاجس ضياع ثقافة الحرب وثقافة الثورة، وفي الحقيقة روحية الثورة؛ تلك الروحية التي أوجدَتْ في الحرب ساحةً للرشد والتكامل[2].

 

ولا يسعنا في هذه الإشارة إلا أن نتقدّم بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إنجاز هذا العمل فريق الترجمة الحاجة فاطمة شوربا والأخت إيمان صالح. والسيد محمد جعفر المسكي الذي وضع المادة الأولى لترجمة مجموعة من المعابر.

 

فريق المراجعة والتحرير في مركز المعارف. ونخصّ السيدة

 


[1]  تعميمًا للفائدة وتمييزًا لفصول الكتاب قمنا بوضع عنوان لكلّ معبر؛ مضافًا إلى حكمة أو مثل مختصر مقتطع من بيت شعري ورد في نصوص المعبر نفسه.

[2]  يراجع كتاب نسائم الذكريات الندية؛ المقدّمة؛ الإصدار الـ(14) من السلسلة نفسها.

 

9


3

مقدمة الترجمة

نجوى الموسوي في مراجعة وتقديم الكتاب.

 

المدقق اللغوي الأستاذ عدنان حمود.

 

المصمّم الفني الأخّ علي عليق.

 

ناشر النسخة العربية دار المعارف الإسلامية الثقافية.

 

ولا ننسى مؤسّسة (سوره مهر) ومعدّي النسخة الفارسية الراوي القدير وصاحب الذكريات السيد أبو الفضل كاظمي؛ الكاتبة راحلة صبوري؛ ومكتب أدب وفن المقاومة.
 

 


مركز المعارف للترجمة

13 رجب الأصبّ1439ه.المحرّر

 

 

10

 


4

مقدمة الكتاب

قصّة هذا الكتاب

 

في إحدى ليالي فصل الربيع من العام 2006[1]، كنّا في زيارة عائلية، حين سمعتُ وصفًا لأحد قدامى المقاتلين، حيث جرى حديثٌ مشوّق تناول أسلوب حياته ونمط معيشته، وشجى حديثه وذكرياته بطريقة شعرتُ معها بأنّنا نفتقد لمثل هذه الذكريات بين كتب مذكّرات الدفاع المقدس[2].

 

كنت سعيدةً جدًّا في تلك الليلة لأنّني عثرتُ على موضوعٍ ممتعٍ لكتاب جديد، فقررت الذهاب للالتقاء بهذا المقاتل، إلا أنني لم أكن أعرف عنوانه، وجلّ ما كنت أعرفه أنّه كان قائد كتيبة ميثم في يوم من الأيام. وعلى هذا الأساس قصدتُ لأيامٍ متوالية، بعض الأماكن التي احتملت بأنه معروف فيها.

 

ذهبت إلى مسجد أرك، وإلى مراكز الهيئات التي شهدت اجتماعات قدامى المجاهدين، لكنّني في كل محاولة كنت أرجع خالية الوفاض، إلى أن ذهبت مع أخي في غروب أحد أيام الصيف الحارّة من عام 2007م إلى تكية[3] في شارع (فدائيان إسلام)، الواقعة في الجهة المقابلة لمسجد

 

 


[1]  موافق للعام 1385 هجري شمسي.

[2]  أي حرب السنوات الثمانية المفروضة على الجمهورية الاسلامية في ثمانينات القرن العشرين.

[3]  جمعها تكايا؛ أول تأسيسها يعود إلى عهد العثمانيّين، وهي مكان لإقامة مراسم العبادة والعزاء أو المراسم الدينيّة الأخرى.

 

11


5

مقدمة الكتاب

(فيروز آبادي)، في أحد أزقة طهران القديمة، التي على الرغم من ضيقها لا تُشعر بانقباض الصدر. عند غروب ذلك اليوم كان الناس يستعدّون لأداء الصلاة والدعاء مفترشين الأرصفة، وإذا برجل أربعيني ينهض من بين الجموع ويتوجّه إلينا بمجرد أن وقع نظره علينا، حيث ظهر جليًّا أننا غرباء عن المنطقة.

 

سألني من تريدين، يا أختاه؟.

 

قلت له أبحث عن السيد أبي الفضل كاظمي، قائد كتيبة ميثم، أتيت لكي أجري معه مقابلة.

 

فور سماعه باسم السيد أبي الفضل، ابتسم وبان السرور على ملامحه، وبلحن مليء بالمحبة والاعتزاز قال أعرفه جيدًا. كان قائدي أيام الحرب. اذهبا إلى شارع (صدر الأشراف) وخُذَا عنوانه من مسجد (التوفيق).

 

قصدنا شارع صدر الأشراف، ونحن في قمة السعادة لمحالفة الحظّ لنا. عندما وصلنا إلى مسجد (التوفيق) كان الظلام قد حلَّ، رافقنا أحد الشبان الواقفين أمام المسجد إلى منزل السيد أبي الفضل.

 

عندما فُتح الباب وقع نظري على رجل خمسيني، طويل القامة وذي نظرة حادّة وثاقبة.

 

دعانا بمحبة لكي نحُلَّ عليه ضيوفًا في هذه الليلة، وكأنه يعرفنا منذ زمنٍ طويل، لكن في تلك الليلة وفي زقاق نقاشها نفسه تحدّثت معه بشكل مختصرٍ عن فكرة جمع ذكريات الحرب، وأجّلت توضيح التفاصيل إلى جلسةٍ أُخرى بعد أن أعطيته رقم هاتفي ليعاود الاتصال بي.

 

في طريق عودتي إلى المنزل لم تكن تفارقني صورة نعله الحريري، فمنذ زمن طويل لم أرَ مثل هذا النعل في قدم أحد، وكذلك لم يفارقني خاتمه ولا طريقة كلامه.

 

12

 

 


6

مقدمة الكتاب

بعد أن مضى أسبوع أو أسبوعان على لقاء تلك الليلة، أظهر أخيرًا شجاعته وشهامته المعهودة باتصالٍ هاتفي أبلغني فيه استعداده للمقابلة.

 

وفي اليوم نفسه حدّدنا موعدًا للمقابلة والتعارف في مكتب أدب وفن المقاومة، وأُجريت المقابلة الأولى.

 

كان راوينا يتكلّم بطلاقة باللهجة الطهرانية الأصيلة الممزوجة بأدبيّات الأبطال (القبضايات)، بعيدًا عن التكلف الأدبيّ المعاصر؛ بحيث إنني وجدت نفسي وبعد الانتهاء من المقابلة أمام كمّ هائل من المصطلحات والكلمات الخاصة.

 

في بداية الأمر، ظننت أن كلماته وعبارته لن تتسع لها سطوري وأوراقي، ولن أستطيع أن أفرغ محتوى كلامه ليصل إلى القارئ بالشكل المناسب واللائق، لكن على أي حال، هو لم يكن بمنزلة موضوع تحقيقي حول التاريخ الشفهي للحرب؛ بل اخترته كممثل لذلك الجيل الذي تُبعدني عدة فراسخ عن أدبه وثقافته.

 

كنت أجري المقابلات يومًا بين يومين ولمدة ساعتين كل مرة، وانتهيت منها بعد ثلاثة أشهر. وكان حاصلَها تسجيلٌ صوتيٌّ مدته أربع وستون ساعة، وما يقارب العشرين ساعة محادثة تلفونية. بعد ذلك تمّ تفريغ أشرطة المقابلات المسجّلة؛ كلمة كلمة.

 

بدأت بتدوين وكتابة الذكريات منذ ربيع العام 2008م. في البداية سعيت إلى أن أعرض الأحداث بعيدًا عن أي شكل من أشكال التنميق الخيالي والتكلّف الأدبي المعروف في كتابة الذكريات، حتى أكون قد أدّيت حق الأمانة، ونقلت بشفافية الكلام الذي تلقفته لمدة ساعات من المقابلات، إلى مقصده سليمًا.

 

بعد الانتهاء من تدوين نص الرواية كاملة قرأها الراوي مرتين، حيث

 

13

 


7

مقدمة الكتاب

قام بالإصلاحات التي يراها مناسبة، وإزالة الغموض عن بعض المضامين، وأحيانًا ذكّرني بتقديم وتأخير بعض الأحداث، وكان خلاصة كلّ ذلك هذه الرواية التي بين أيدينا.

 

وهنا أرى أنه لا بد من ذكر نقطة مهمة، وهي أن هذه المذكرات نقلت على لسان قائد الكتيبة الوحيد الذي خدم في الجبهة كتعبوي ومتطوّع في الفرقة 27 محمد رسول الله، والذي شارك طيلة أيام الحرب في عمليات عدة كعنصر حرّ، وفي عمليات كربلاء 5 وكربلاء8 بصفته قائدًا لكتيبة ميثم. وفي العمليات المختلفة كان عرضةً بشكل مستمر لرصاص العدو وشظاياه، فأصيب بجروح خطيرة بل ومميتة، ما زالت آثارها وأعراضها إلى اليوم في جسده وحياته. فقد أُدخل مرتين إلى مستشفى ساسان بسبب عوارض صحية ناشئة عن استنشاق الغازات الكيميائية السامة أثناء الحرب، ولكنه ظلّ يشارك ويتابع جلسات المقابلة بفضل ثقته بنفسه، وإرادته القوية التي يتمتع بها مجاهدو هذا البلد.

 

تستحقّ ذكريات هذا السيد التأمّل والاهتمام من حيث إنّه كان قائد كتيبة وكان على تواصل وارتباط بمراكز القرار والقيادات الرفيعة المستوى في الحرب، كما كان على معرفة بخطط الحرب والخرائط، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، كان على احتكاك وتواصل وثيق بالعناصر داخل المجموعات القتالية وقوات الهجوم. فكان يتقدّم ليلة الهجوم مع ثلّة من المجاهدين إلى عمق جبهة العدو ويقاتلوا الأعداء وجهًا لوجه. إنّ عرض وحكاية مشاركته وحضوره في هاتين الساحتين المعقّدتين، دفعاني إلى البحث والتحقيق في تاريخ حرب السنوات الثماني وعملياتها.

 

كانت نتيجة هذه التحقيقات بنظري مهمة جدًّا، لأنني كلّما بحثت في خطط الحرب وخرائطها والكتب البحثية والتحليلية حولها، تحقّقت من هذه النقطة أكثر، وهي أنّ لحن الكلام العذب والجذّاب لرواية ذكريات

 

14

 

 


8

مقدمة الكتاب

الحرب، ومعرفة الثقافة والعلاقات الاجتماعية والإنسانية الحاكمة على جمع المجاهدين في فترة الحرب، أكثر أهمية وجاذبية من الدراسات والتحاليل العسكرية الجافة.

 

في الختام أقول إذا ما استطعت من خلال تدوين هذا الكتاب أن أعكس صورًا من زوايا الحرب المفروضة وتضحية مجاهدي كتيبة ميثم، فإنني أعزو ذلك إلى ألطاف الله الرحمن، وتسديد شهداء الحرب العظام.

 

وهنا لا بدّ من أن أشكر جميع الأشخاص الذين ساعدوني بلهفة لإنجاز هذا الأمر الهام. وخاصة

- جناب السيد مرتضى سرهنكي مدير مكتب أدب وفن المقاومة الذي كان الداعم الأساس لإنجاح هذا العمل.

- عائلة السيد أبي الفضل كاظمي، لتعاونها الجدّي.

- عوائل الشهداء الكرام الشهيد علي أصغر أرسنجاني، حسن بهمني، حاج قاسم دهباشي، عائلة حجة الإسلام الشيخ محمد علي نجفي، لتقديمهم صور شهدائهم الأعزاء وسيرهم الذاتية.

- المجاهدين المضحّين دومًا جناب السيد محمد الله صفت، مجيد عابدي، داوود محمدي، الحاج أمير صفري، لرفدهم إيّاي بصور بعض الشهداء.

- الفريق الفني لمكتبة الحرب التخصصية، وبالخصوص السيد عسكر عباس نجاد، لتقديمه المصادر والمعلومات العسكريّة والحربيّة.

- السيد محمد سليمان حشمتي، لتعريفه براوي هذا الكتاب.

- زوجي المضحّي وابني العزيز بوريا، لمحبتهما ومعاونتهما اللتين لا تُنسيان.

- وكل من مدّ لي يد العون.

 

راحلة صبوري

حزيران 2009

 

15

 


9

ظل أبي تراب

ظلّ أبي تراب

 

..والإحرام الحقيقي في البحث عن الحبيب

 

ولدت في زقاق نقاشها[1] الواقع بين شارعي صفاري وخراسان في منطقة محطة الترامواي[2] في طهران. والدي السيد أبو تراب كاظمي طباطبائي، كان من جماعة القبعات المخملية[3]. أمضى أيام شبابه في بلدة زواره الزراعيّة، قرب مدينة أصفهان، وتُعرف تلك البلدة بمدينة السادة لأنّ أغلب أهلها من السادة الهاشميّين.

 

بلغني عن والدي الكثير من المديح، وأنّه عُرف في قريته ومحيطها بالتسامح والصفح والكرم والإحسان. وعلى الرغم من كونه أحد وجهاء البلدة، لكنّه لم يتعلّق بحطام هذه الدنيا الفانية. كان نبيلًا شهمًا[4] ومضيافًا،


[1]  أي الرسامين أو الدهّانين؛ وقد عُرف بهذا الاسم (حي أو زقاق نقاشها) فأبقيناه كما هو اسمَ علمٍ في الكتاب.

[2]  بالفارسية كارد ماشين دودى.

[3]  القبعات المخملية نوع من القبعات لا حواف لها مصنوعة من المخمل، غالبًا ما يرتديها أصحاب المروءة والشهامة الذين لا يخيبون سائلًا ولا يردون طالبًا. وآخرهم كان الحاج مهدي قصاب الذي قام مع جماعته إبان الحرب العالمية وهجوم الحلفاء على إيران بتأمين الحماية للنساء والأطفال بالقرب من مطابخ ومراكز توزيع الطعام. (من كتاب فرهنك عاميانه، للمؤلف أبو الحسن نجفي والراوي).

[4]  بالفارسية جوانمرد؛ جوانمردي الفتوة (أو الشهامة)، كانت في الأزمنة السالفة مسلك وديدن مجموعة من الشباب يطلق عليهم اسم الفتيان أو الفتية. دأبهم إعانة الناس وتدبير أمورهم، واستضافتهم والاغداق عليهم، عملًا بمبدأ الكرم والسخاء. وقد فصّل عنصر المعالي في - قابوس نامه - في حديثه عن الفتوة. وبدأ كلامه بالقول اعلم يا بني أن الفتوة هي ثلاثة من صفات الناس.          

 

17


10

ظل أبي تراب

وما انفكّ يستقبل على مائدته المدعوّين وغير المدعوّين، ويلازمه في الليل والنهار شخصان أو ثلاثة من الأقارب والأصدقاء والكسبة، يحلّون ضيوفًا عنده على مائدة الغداء أو العشاء.

 

بعد سنوات، ولأسباب عدة، ترك والدي زوجته الأولى في زواره قاصدًا طهران من أجل تحسين الدخل والمعيشة، مصطحبًا معه أولاده الثلاثة الذين شبّوا واشتد عودهم، وهناك وفّق للعمل في نُزلٍ يستقبل المسافرين، يملكه يهودي يدعى عبادي، ويقع عند البوابة القديمة لحرم الشاه عبد العظيم الحسني المعروفة ببوابة حضرتي (وهي حاليًا في أول شارع صاحب جمع).

 

عاشت عائلة والدتي الثريّة أيضًا في بلدة زواره، وقد امتلك جدّي ضيعةً[1] وعددًا من الأراضي يعمل فيها الفلاحون، وكان محبًّا للفن والشعر. ولكنّ الزمان غدر به ففقد ثروته وتبدّلت أحواله؛ ما اضطر أمي وإخوتها الثلاثة لترك القرية والرحيل إلى طهران على أمل أن يجدوا حياة أفضل. أحد هؤلاء الإخوة خالي السيد عباس، استطاع أن يعمل عند والدي في نزل عبادي، كانت تربط العائلتين معرفة قديمة ووثيقة.

 

في أحد الأيام، ولأمر ما، ذهب والدي إلى منزل أهل والدتي، فوقع في حبها من النظرة الأولى، ولم تَحُلْ الأعوام الثلاثون التي شكّلت الفارق العمريّ بينهما دون زواجهما. فوالدتي كانت شابة يافعة وحيوية، على عكس أبي الذي كان كبيرًا في السن، وكان قد زوّج ولدين من أولاده؛ لهذا أظن أن والدتي قد ضحّت وآثرت مصلحة إخوتها على نفسها في هذا الارتباط. بعد زواجهما اشترى والدي منزلًا في منطقة محطة الترامواي حيث انتقلت أمي وعائلتها للعيش فيه، وفي ذلك المنزل القديم ولدتُ أنا

 

 


[1]  مزرعة وبساتين.

 

18


11

ظل أبي تراب

العبد الفقير، أبو الفضل.

 

مرضت والدتي وأدخلت المستشفى في العام الذي ولدتني فيه (1956م)، وكنت الابن الخامس بين إخوتي السبعة. وفي خضم تلك الفترة وأحداثها، أعطى والدي إحدى غرف المنزل لزوجين ليسكناها بشكل مؤقت، إذ كان متعارفًا في ذلك الوقت أنّ من عنده غرف إضافية، يقدّم إحداها لذي عفّة من المحتاجين، من دون أي مقابل، فيسكنها أحيانًا لسنوات عديدة مجانًا ويعيشون مع بعضهم البعض كعائلة واحدة.

 

من هؤلاء، أتى العم بهرام وزوجته معصومة آينه دار التي صاروا ينادونها في منزلنا بري[1]. قبل قدومهما، كانا يعملان في بيت أحد أصحاب النُزل، وقد قادهما القدر إلى والدي. كانت السيدة بري تبلغ من العمر اثنين وأربعين أو ثلاثة وأربعين عامًا، متوسطة القامة، مدبّرة، ذكية ومؤمنة. وأدّى مجيئها المترافق مع مرض والدتي إلى تقرّبي منها بعفوية، وقد زاد تعلقي بها يومًا بعد يوم، حتى أصبحت أمًّا ثانية لي، أو بتعبير آخر كالمربية التي أُرسلت إليّ من السماء حتى ترعاني، وعندما كبرتُ قليلًا، صرت أناديها ماما بري.

 

وكما قيل لي لاحقًا، إنّ ماما بري ظلّت تحملني في قماطي كلّ يوم وتأخذني إلى المستشفى لأرضع حليب أمي، ومن ثمّ تعيدني ظهرًا إلى المنزل. ولأن ماما بري وزوجها لا ينجبان فقد أحباني كثيرًا. في عمر الثلاث أو الأربع سنوات كانت ماما بري تجلسني في حجرها وتعلّمني سورة الحمد وآية الكرسي، وعندما أقرأها كلها بشكل صحيح عن ظهر قلب، تعطيني جائزة تشجيعية عبارة عن الزبيب والقضامة[2]. وفي وقت

 


[1]  Perri

[2]  الحمص المجفف والمحمص.

 

19


12

ظل أبي تراب

الصلاة كانت تضع لي تربةً إلى جانب سجادتها حتى أقلّدها وأتعلّم منها أداء الفريضة. وكم غفوت في الليل وهي تسرد لي قصصها. تعلّقت بها إلى درجة أنّي صرت أتناول غدائي وعشائي في غرفتها، وكلما طبخت مرق اللحم تضع في غطاء القدر قطعة من اللحم والشحم، ومن ثمّ تفصل اللحم عن العظم وتطعمني إياه؛ فقد كنتُ أحبّ هذا الطبق كثيرًا. في إحدى المرات، عند الغداء، ولشدّة ولعي ونهمي رحت أدور حول قصعة مرق اللحم، فانسكبتْ على قدمي وأحرقتْها.

 

أما العم بهرام فكان رجلًا كادحًا، وقد اهتمّ بي كثيرًا ولم ويقصّر معي، وكلما عاد من عمله ليلًا، أفرغ كلّ ما جناه خلال يومه على السجادة، فأسرع نحوه لأجمع التومانات، ولا أعيد إليه المال حتّى يعطيني تومانًا ترضية ومكافاة.

 

اعتادت ماما بري الذهاب مرة أو مرتين خلال الأسبوع للزيارة، فتأخذني معها لأنني -بحسب قولها- كنتُ الأكثر لباقة والأفضل حديثًا من بين الأولاد، لكأني فيهم المغرّد كالبلبل. وكانت زيارة قبر ابن بابويه وقبر السيد والشاه عبد العظيم وسيلة من وسائل التسلية بالنسبة لنا في تلك الأيام. فقد راقني في طفولتي الذهاب للزيارة وقضاء بعض الوقت والاستمتاع بمشاهدة حيّنا.

 

كان حيُّنا يُعرف بـساحة الحفرة، لأنّ أطرافه مليئة بالشقوق والحفر، ويشبه ساحة دائرية الشكل أفرغ التراب منها. في تلك الفترة كانت منطقتنا مليئة بحانات الترياق والطرب والقمار.

 

في ما مضى، غالبًا ما أُدخلت صفات الأشخاص والأماكن في إطلاق الأسماء عليها، كنتَ تجد أن كلّ اسم يحمل علامة خاصة عن ذاك المكان أو الشخص، إذ ساد بين الطهرانيّين إطلاق الألقاب والكنى؛ فاسم العائلة

 

 

20

 


13

ظل أبي تراب

في ذلك الوقت لم يكن متداولًا بينهم. ولنفرض أنّ أحدهم ترك شاربيه ينموان حتى أذنيه، أو أنّ الزمان أفقده شعر رأسه فصار أصلع، فإنّهم حتمًا سيضعون إلى جانب اسمه لقب أبو شنب، أو الأصلع، كتذكرة بالشاربين أو بالصلع.

 

أما ذلك الترامواي الذي لم أحظَ بركوبه، ولكنّني أدركت آخر أيامه، كان يُسمّى بـسيارة الدخاني[1] لكثرة الدخان الأسود والغليظ المنبعث منه والناتج عن احتراق الوقود، فقد دخل مرحلة التقاعد عندما صرت أستطيع أن أميّز بين الحسن والقبيح، وشيئًا فشيئًا أصبح يُعدّ من الماضي. فالناس سابقًا استخدموا ذلك الترامواي للانتقال من أعلى ساحة شوش إلى حرم الشاه عبد العظيم، وهو المتنزّه خارج المدينة، فمن أراد أن يبلغه مشيًا لن يصل إليه إلا بشقّ الأنفس، خاصة عندما يذهب مع العائلة. وبعد فترة من توقفه عن العمل وضعوه في وسط الحديقة العامة كمعلمٍ جميل مقصود للمشاهدة، وكلّ طفل كان يولد في محيط ذلك الحي يُلقّب مباشرةً بابن محلة الدخاني.

 

في ذلك الزمن، ركبت يومًا مع ماما بري في عربة يجرّها ثلاثة أحصنة من محطة الترامواي الواقعة في أول شارع خراسان، وقصدنا مدفن السيدة ملك خاتون. وهي زوجة طغرل أحد ملوك إيران القدامى، لم تكن من السادة، ولكنها كانت امرأةً جديرة ولائقة، لطالما قدّمت المساعدة لأهالي مدينة ري. وهم في المقابل وفّوها الجميل بإطلاق لقب السيدة، واتّخاذ المحبّين قبرها مزارًا.

 

في ذلك اليوم، سلكت العربة طريقًا ترابيًّا، ولكثرة الحفر فيه؛ كانت

 

 


[1]  ماشين دودى.

- باماشين.

 

21


14

ظل أبي تراب

تهتزّ وتصدر الكثير من الأصوات، حينها كنت أتناول المثلجات التي اشترتها لي ماما بري بسعادة لا تُقدّر. ومن سوء حظي أنّني لم أكد أنهيها حتى أصابني ألم حادّ في أسناني لا يمكن وصفه، فصرت أصرخ من أعماق قلبي ووصل صراخي إلى عنان السماء. وضعت رأسي في حجر ماما بري أبكي وأتلوّى من الألم. مسحت بيدها على رأسي وهمست بشيء في أذني، وفجأة اختفى الألم. مسحت دموعي بكمِّ قميصي وسألتها ماذا فعلتِ حتى ذهب الوجع؟، قالت لا شيء يا بني، فقط قرأت سورة الإخلاص ونفخت في وجهك.

 

مع مرور الأيام أدركت كم أن الخالة بري امرأة نقية، مؤمنة، صبورة، قنوعة، طاهرة ومحافظة على الوضوء والذكر وصلاة الليل بشكل دائم. وأشهد الله أنها لم تتفوّه يومًا بكذب أو غيبة أو نميمة أو شكوى. وغالبًا ما كانت صامتة أو مشغولة بالذكر والتسبيح. علّمتني الخالة بسيرها وسلوكها، الإيمان والعرفان العملي، وأضفت على حياتي بركة ورحمة. وتلك الأطعمة التقليدية، والسماور[1] الفحمي، والموقد النفطي، كانت تُظهر منتهى القناعة بالنسبة لامرأة.

 

مهما كان شأن الإنسان وعمره فهو بحاجة لناضج كبير في السن يرشده. فدائمًا ما يبحث الناس عن مرشد لهم في المدارس المختلفة، وقد يُغفلون وجود أشخاص حولهم أنقياء الباطن، مخلصين، مؤمنين، يستطيعون أن يبيّنوا لهم الطريق المستقيم حتى لا يتيهوا عن جادة الصواب. هؤلاء أنفسهم مصابيح الطريق وهداة الدرب يعلّموننا أشياء لا نجدها لا في كُتّاب ولا في مدرسة.

 

منذ اليوم الذي تعرّفت فيه إلى ماما بري حتى اليوم الذي أُقعِدت فيه،

 


[1]  إناء لإعداد الشاي، كان يعمل على الفحم، ومن ثم صنعت أنواع منه تعمل على الغاز والكهرباء.

 

22


15

ظل أبي تراب

بقيتْ تخدمنا من غير منّة أو توقّع لمقابل. في تلك الأيام لم تنعم البيوت بوجود المياه الساخنة، ولا التمديدات الصحية، فكانت تأتي بالمياه من البئر، وتغسل الثياب والأمتعة في الحوض، وتطهو الطعام على البابور[1].

 

ما زلت أذكر جيدًا في أيام طفولتنا أنّهم لكثرة ما كانوا يغسلون الثياب والأمتعة في حوض الماء يصبح آسنًا في نهاية الأسبوع، وإذا لم ينظّف بسرعة ويزال الوحل منه تستوطنه الديدان والبعوض، ولا يمكن للأسماك الحمراء أن تعيش فيه، عندها يأتي دور محمد منظف الأحواض؛ فيرفع بنطاله إيذانًا ببدء عملية إفراغ الماء الآسن من الحوض. وأنا أقيم مهرجانًا من الفرح كلّما حضر، أجلس في الزقاق إلى جانب القناة حيث يفرغ محمد مياه الحوض دلوًا دلوًا؛ فأضع يدي فيها إلى المرفق لألتقط الأسماك الصغيرة الحمراء، وألعب بها. وأبقى ألعب وأغوص في تلك المياه الآسنة إلى أن تأتي ماما بري وتجرني إلى الغرفة.

 

إلى جانب قيامها بأعمال المنزل، كانت ماما بري تعتني بي وبإخوتي، الكبار منهم والصغار، ما فسح المجال أمام أمي لتقوم بالأعمال الخيرية، وتأخذ دور المصلحة والمرشدة في المنزل والحي. وما يزال زقاق نقاشها شاهدًا على مئات الأعمال الخيرية التي قامت بها، وترسّخت في الذاكرة. مكانة والدي ومسلكه وأخلاقه أدّت إلى أن تكون لوالدتي مكانة ومنزلة لدى الجيران. وكلما أرادوا أن يخيطوا عباءة بيضاء(تشادور) لعروس كانوا يأتون بالقماش والمقص حتى تقصّ أمي القصّة الأولى تبرّكًا، لأنها من السادة.

 

لم تقصد أمي مدرسة، ولكنّها ترعرعت وسط عائلة عريقة في الشعر والأدب. كانت تقرأ أشعار حافظ وسعدي، وكأنّها قد حصلت على إجازة جامعية. وفي كل سؤال أسأله أو مسألة أستشيرها بها كانت تختم

 


[1]  موقد يعمل على الكاز.

 

24


16

ظل أبي تراب

حديثها ببيت من الشعر. في إحدى المرات سألتها أنت لا تجيدين القراءة ولا الكتابة فكيف تعرفين كلّ هذه الأشعار؟.

 

فأجابتني في صغري، كان يأتي إلى منزلنا في زواره الميرزا هدايت قريب والدي، وهو شاعر أيضًا، في الليل كنا نتحلّق حوله ويعزف الموسيقى على آلة التار[1]، ويقرأ أشعار حافظ والشاهنامه[2]، وأنا جالسة إلى جانبه، فأحفظ كلّ ما يقرأه عن ظهر قلب.

 

وعن كرم والدتي حدِّث ولا حرج، كانت تقول دائمًا يجب أن يظلّ باب بيت الرجل مشرّعًا دائمًا للضيوف، فالناس يقصدون المنزل الذي يستقبلهم أهله بوجه حسن، لا فقط بالسفرة الممدودة. ولهذا لم تنزعج قطّ من ضيوف والدي في أي وقت. وكان من عادتها إقامة مجلس عزاء في اليوم الحادي عشر من شهر محرم كل سنة، وبقيت على هذه العادة حتى بعد مرور خمسين عامًا، وبقيت تزور بمفردها بيوت بعض جيران الحي الذين بالكاد نذكرهم نحن أو نزورهم.

 

أدركت والدتي طباع والدي أكثر من أيّ أحد، ولهذا استمرّا على وفاق، فحافظت على غرفة استقبال الضيوف مرتبة ونظيفة. في كل يوم وفق عادته عند الظهيرة، كان أبي يأتي إلى المنزل مصطحبًا معه بعض المعارف والضيوف، فيقول يا الله يا الله، ويدخل مباشرة إلى الغرفة، المعدّة لاستقبالهم.

 

كان بيتنا مؤلّفًا من طابقين، وخمس غرف، وغرفة استقبال هي الأكبر والأوسع والأنظف من بقية الغرف. ولأنّ إعداد الطعام لمثل هذا

 

 


[1]  البزق أو العود التركي.

[2]  كتاب الملوك أو ملحمة الملوك كتاب شعري تراثي للشاعر الفارسي المشهور فردوسي، وهو بمنزلة ملحمة وطنية جمعت في قالب الشعر القصص الحقيقية والخرافية. ساهمت هذه الملحمة في الحفاظ على التراث واللغة الفارسية.

 

24


17

ظل أبي تراب

العدد من الضيوف ليس بالأمر السهل أبدًا؛ فكلّما زاد ضيوفه أوكل أمر الطعام لأمي وللسيدة شيرين، التي عمل ابنها حارسًا في النزل. وفي الصباح يقول للسيدة شيرين أعدّوا طعامًا لعشرة أشخاص! يجب أن يكون الطعام جاهزًا عند الظهيرة والمائدة محضّرة لاستقبال الضيوف.. كنّا ننادي السيدة شيرين بالعمة. هي من كرمانشاه، وتتحدث باللهجة الكرمانشاهية العذبة، وصاحبة ذوق رفيع، ومدبرة منزل مرتبة وفطنة. أما طبخها اللذيذ فلا يُعلى عليه، كما كان بإمكانها الطهو لخمسين شخصًا في آن واحد.

 

بعد أن يذهب الضيوف يأتي دورنا مع أمّنا لنتحلّق حول والدي. وعلى الرغم من مرور السنوات فإنّ هيبة والدي ما تزال حاضرة في المنزل. كان طويل القامة، عريض المنكبين، قوي البنية، هيبته تجبرك على الإصغاء إلى كلامه والعمل وفقه. فإذا رأى مصلحةً في تزويج شابّ وشابة بتّ الأمر برفع الصلوات، وهكذا كان يضع لهما حجر الأساس لحياة مشتركة، فلا رأي يعلو على رأيه. وإذا ما حصل خلاف أو شجار بين أفراد عائلة يكون هو المصلح بينهم. يقول كثيرون إنّ السيد تراب كان حلّال المشاكل. لكن، بسبب صغر سني لم أستطع أن أدرك أيامه وأعرفه جيدًا. وحتى عن مدينة طهران القديمة فإنّي لا أذكر سوى أشياء مبهمة عن شكلها، وكلّ ما علمته عنها هو ما سمعته من أمي، ولكنّ الراسخ في ذهني أنّها عُرفت منذ القدم كعاصمة التجارة والعمل والرزق. وكل من كانت قدماه تطآن طهران، وامتلك القليل من الحنكة والدراية، لا يكاد يمضي عام على إقامته فيها حتى يجمع مالًا، ويصبح ميسور الحال، ويعيش في بحبوحة ورخاء. ولأجل ذلك أصبح متداولًا على الألسن يكفي أن تمشي في شوارع طهران لتجمع الأموال. ما دفعهم لبناء أسوار وبوابات ضخمة

 

25


18

ظل أبي تراب

في أطرافها للحفاظ على الأمن من جهة، ولتسهيل تردّد التجّار والعمّال، من جهة أخرى.

 

عندما هاجر والدي من زواره إلى طهران. كان لتلك المدينة ستّ بوابات، وعلى كل بوابة برجٌ وسور وحارس. مع غروب الشمس تغلق البوابات، ومن يأتي بعد ذلك، عليه الانتظار خارجًا إلى صباح اليوم التالي.

 

وفي زمان الشاه ناصر الدين بلغ عدد البوابات اثنتي عشرة بوابة، وقد شُقّت طرق ترابية تصل مداخل المدينة بمركزها. كما حفروا عددًا من الخنادق والأخاديد في محيط طهران، واستخدموا ترابها في البناء.

 

بعد ذلك أصبحت هذه الحفر ملجأ للمدمنين والسارقين والمجرمين. كل ما ذكرته كان إبَّان حكم رضا خان[1]، وقد ذهب وتلاشى بعد أن توسّعت مدينة طهران، ولم يبقَ منه سوى الاسم وبعض المعالم المندرسة.

 

شُيّدت بالقرب من تلك البوابات نُزُل كثيرة لاستراحة المسافرين ومبيتهم. وفي أول شارع صاحب جمع كان هناك محطة لتفريغ حمولة الجمال، حيث عُرفت بمحطة الجمّالين، ولأنه لم يكن يُسمح للجمال بالتجوال داخل المدينة، كان عليهم إفراغ حمولتها من البضائع هناك، فيأتي النقّالون والحمّالون لوضعها على البغال والعربات التي تجرّها الخيول، ونقلها إلى داخل المدينة.

 

في تلك الحقبة، بُنيت محطات القوافل (النُّزل) الکبیرة والصغيرة من اللّبن والطوب، وكان هناك شيء مشترك فيما بينها؛ أنها محاطة بحجرات مبنية من اللّبن، وفيها دواوين ومصاطب مرتفعة قليلًا عن مستوى

 

 


[1]  الشاه والديكتاتور، مؤسس الدولة البهلوية الطاغوتية (1925ـ1941)؛ وجاء ابنه محمد رضا بعده؛ وقد أطاحت الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني بمملكتهم إلى الأبد.

 

26


19

ظل أبي تراب

الأرض، ومعدّة لاستراحة المسافرين. أما سقف الديوان فكان مقبّبًا بهدف دفع الحرارة والبرودة، أو لإعطائه شكلًا جميلًا، أو لعلّ بعضهم (في ذلك الزمن) لم يكونوا يعرفون صناعة شكل آخر من الأسقف. أما الجانب الآخر من المحطة فكان يضمّ مشارب للمياه ومستودعًا للقش والقمح. ومنذ الصباح الباكر يبدأ صانعو العجلات والسكّافون والحدّادون بالعمل في الجهة الأخرى من المحطة بجد ونشاط، ولكلّ واحد منهم حجرته التي يدفع أجرتها لوالدي. كما كان على مالكي الجمال والتجار أيضًا دفع المال مقابل إيداع أحصنتهم وعرباتهم وإنزال بضائعهم هناك.

 

لم تكن إدارة المحطة (النُّزل) في ذلك الوقت بالأمر السهل، فهي تحتاج إلى التحلّي بالأمانة والحنكة والكياسة والخبرة. وكانت تعدّ من الأعمال المهمة والمربحة، وليس بمقدور أي شخص حديث العهد بهذه المهنة أن يصبح أمينًا عند أصحاب السوق والتجار. واستطاع والدي بإيمانه وصدقه في العمل أن يحتلّ مكانة في قلوب أهل المنطقة والتجار والكسبة.

 

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي أمسكتُ فيه يد والدي وذهبت معه إلى النُزل. وفي الطريق رأيت رجلًا جالسًا عند الحائط يبكي من مصيبة ألمــّت به. أرسل والدي أحد عماله الذي يثق به في إنجاز أعماله وقال له انظر ما بال هذا الشخص. فرجع العامل قائلًا لا شيء سيدي، أصيب بداء السل، ويجب أن يذهب إلى المستشفى، ولكنه لا يملك المال. فما كان من والدي إلا أن أخرج من جيبه مالًا وأعطاه للعامل وهمس في أذنه شيئًا لم أفهمه.

 

ولأنني سبق وسمعت أنّه كان لدى والدي زوجة(أولى) وأولاد، لذلك ظننت في أيام طفولتي أن ذلك الرجل المصاب بالسلّ هو أخي غير الشقيق أو أحد أقربائنا حتى أعطاه المال من دون تردّد. ولكنّني في ما بعد أدركت

 

27

 

 


20

ظل أبي تراب

أنه كان إنسانًا غريبًا، وحينها تعلمت من أبي ألف باء الرحمة والسخاء والشهامة.

 

ومن أجل هذه الرحمة والكرم ونصرة الضعيف التي كان يبديها تجاه الآخرين، أحبّه واحترمه الصغار قبل الكبار، وأحنى الشباب والشيبة رؤوسهم أمامه. فكلّ وجيه خسر رأس ماله وكسدت بضاعته وأصبحت مروءته وسمعته على المحك كان يطرق باب أبي، وهو على يقين بأنّه لن يرجع خائبًا. هكذا ظلّت أخلاقه؛ فهو لا يبالي إذا ما كان المحتاج إنسانًا جيدًا أو سيئًا، المهم عنده قضاء حاجة هذا الإنسان، فلم يكن يحفل لماضي المحتاج وسوابقه؛ فالأمر سيّان عنده أكان من أصحاب السوابق أو الأشقياء، المدمنين أو المسجونين الفارّين من وجه العدالة، أو كان رجلًا عاديًّا؛ فكل من يطلبه لحاجة تراه يندفع بكلّ وجوده لقضاء حاجته.

 

اشتغل لدى والدي عشرون سائقًا، بعضهم كان يحمّل الفواكه والخضار من النزل بواسطة العربات ليأخذها إلى المدينة، إمّا للبيع أو لتسليمها لتجار السوق، والبعض الآخر، وظيفتهم نقل الركاب بالعربات والحافلات، فيخرج الجميع في الصباح الباكر إلى العمل ليعودوا ليلًا ويضعوا حافلاتهم وعرباتهم عند حارس النزل.

 

أما أنا فاندفعت بفضولي الطفولي وحبّ الاطلاع إلى معرفة ورؤية أصغر التفاصيل في النزل، وسعدت بمشاهدة السكّافين والحدّادين، كلّما رأيت حصانًا أو بغلًا كنت أرميهما بأي شيء يقع في يدي من حجر أو قطع خشب.

 

اعتاد والدي أن يذهب يوميًّا عند الظهيرة إلى قهوة مش[1] علي

 

 


[1]  مخفّف مشهدي، لقب يطلق على من زار مدينة مشهد المقدسة.

 

28


21

ظل أبي تراب

التي تقع مقابل النزل. فيستقبله صاحب القهوة ويضع له متكأً ويهتم به ويُكرمه. كان والدي يدخّن النرجيلة ويتحدّث عن المواضيع اليومية والأحداث في ذلك الزمان، والجميع هناك من عمّال أو عاطلين كانوا يُسِرّون له بعض أمورهم ويشكون همومهم.

 

في ذلك الوقت زُرع الخشخاش (الأفيون) في القرى، وغالبًا ما دخّن كبار السنّ الترياق، لم يُعتبر الأمر عيبًا على الإطلاق، بل بدا أمرًا متعارفًا عليه ورائجًا، وربما كان يوحي بشيءٍ من الأبهة أو كدلالة على الغنى. كما وُجد أشخاص يشكون من آلامٍ مبرحة في القدمين والظهر واستسلموا للضعف. فيقوم الطبيب حينها بإعطائهم الترياق لتسكين آلامهم فيصبحوا مدمنين عليه إلى آخر العمر.

 

في ذلك الوقت كان المدمنون على الأفيون والحشيشة يبرّرون إدمانهم ويقولون لكلّ شيء سلطان، وسلطان النشوة الهرويين[1]، وأثر الترياق مقارنة به لا شيء يذكر، وهو بمنزلة عشبة طبية.

 

في أحد الأيام، جاء أحدهم إلى والدي وهو جالس في قهوة مش علي وقال له يا سيد تراب لست أملك قوت يومي. فأخرج أبي تومانين من جيبه وأعطاه إياهما من دون أي سؤال.

 

فقال أحد الجالسين قرب والدي سيدي لا تعطه شيئًا هذا الشخص مدمن.

 

فسأله والدي هل أنت واثق من كلامك؟.

- أجل أنا والجميع يعلم أنه مدمن.

 

 


[1]  الهرويين محضّر من عصارة زهرة الخشخاش بعد حرقها وغليها بالماء، وهو مخدر قوي المفعول يفوق الأفيون بكثير.

 

29


22

ظل أبي تراب

- حسنًا، وإن يكن مدمنًا، اذهب وناده.

 

وعندما استدعاه قال له والدي لم أكن أعلم أنك مدمن، خذ هذين التومانين الآخرين لأجل إدمانك، وما أعطيتك إياه سابقًا هو نصيب زوجتك وأولادك.

 

وكثيرًا ما تداول الناس مثل هذه القصص المؤثّرة عن والدي، معظمهم انتقل إلى رحمة الله تعالى، وما زال الأحياء يشهدون على ذلك. بين العامين 1951 و1961م، كان كل من يأتي إلى طهران من زواره والقرى المجاورة لها يسأل عن نزل عبادي والسيد تراب، فلا يطل الوقت حتى يصبح مالك حجرة بكلّ لوازمها، وكل ذلك بفضل جود أبي وكرمه.

 

قبل الغروب كان والدي يقضي ساعة إلى ساعتين بجرد الحسابات، ثم يذهب إلى المنزل فيخلع معطفه ويعلقه على الجدار، ثم يجلس ويبدأ بالتسبيح واضعًا يده على ركبته المثنية.

 

كانت أمي تقول له يا سيد، إن دخلنا اليومي سبعة أو ثمانية تومانات ألا يتوجب علينا الحج؟.

 

فيجيب وما مكة غير حجر يرشدنا إلى الصراط المستقيم[1]، أما إذا استطعتِ إدخال الفرح على قلب أحد، أو حفظ ماء وجهه، فكأنك زرتِ مكة ألف مرة، هذا ليس بأقلّ من زيارتها، بل ربما إن الثواب الذي تكسبينه أكثر من ثواب الحج بمئات المرات.

 

في طفولتي كنت أجلس إلى جانب والدي، أو على ركبته، وأستمع لحديثه وحديث كبار العائلة. كنت أُذهَل بسبحته الصفراء اللون (السندلوس)

 

 


[1]  مصرع من بيت شعر وترجمته وما مكة غير حجر يرشدنا إلى الصراط المستقيم والإحرام الحقيقي هو في البحث عن الحبيب.

 

30


23

ظل أبي تراب

المصنوعة من الكهرب الألماني، فمادّتها تلمع كلما وقع عليها الضوء، وكان يعجبني خاتمه العقيق، ومن ذلك الحين تمنّيت لو أني أمتلك سبحة وخاتمًا مثلهما.

 

في أحد الأيام عند الظهيرة ذهبتُ إلى النُزل ممسكًا بيد والدي، وكان العمال في الديوان العلوي قد طبخوا مرق اللحم لأنفسهم، لا أعرف لأي سبب وغاية توجّه والدي نحو القدر، وفجأة رفع غطاءه ومن ثم أدار وجهه نحو العامل وسأله من أين أتيت بحبات الليمون المجفف الكبيرة هذه؟. فأجاب العامل لقد تمزّق أحد أكياس الليمون، ووقعت منه بعض حبات الليمون فأخذت أربعًا منها ووضعتها في القدر. لم يكد العامل ينهي كلامه حتى غضب والدي وقام بركل القدر بقوة فسقط من أعلى الديوان ووقع في باحة النزل، وانتشرت حبات الحمص والفاصولياء في كل مكان. وقع العامل المسكين أرضًا، ولشدّة خوفه لم يعد يستطيع أن يتزحزح من مكانه، شتمه والدي ببعض الشتائم، ثم أخذ بيدي وخرجنا من النزل.

 

وعندما شاهده السيد عبادي مالك النزل، تبعه مسرعًا وقال يا سيد تراب!! ما حدث ليس بالأمر الجلل، لقد أساء العامل التصرف، لقد أخطأ...

 

لم يستمع والدي لهذا الكلام، وظلّ يمشي بسرعة وهو يقول لو آمن الإنسان بالموت والقبر ويوم الحساب، لما مدّ يده إلى مال غيره، لا يمكنني أن أكون شريكًا مع هؤلاء في أكل المال الحرام. وهذه الحادثة أدت إلى أن يترك والدي نزل السيد عبادي إلى الأبد. لم يمض وقت حتى قام والدي بعقد اتفاق مع شخص نسيت كنيته، لكن، ما زلت أذكر اسمه ما شاء الله، وهو معروف باسم ما شاء الله كور، وينصّ العقد بينهما على أن يتولّى والدي إدارة النزل، وتكون الأرباح بينهما مناصفة. يقع نُزل ما شاء الله كور بالقرب من ميدان شوش وجرف عش النحل، إلى الأعلى

 

31


24

ظل أبي تراب

منه يقع نُزل حسين بلند. هذا الجرف مثل أغلب حفر وأجراف طهران فيه جحور عديدة ومختلفة الحجم حيث كان يتسكع فيه المشرّدون والسارقون وقطّاع الطرق والمدمنون ويتّخذون منه وكرًا لهم، ولأن جحوره كانت كثيرة عرف بجرف عش النحل. كان ميدان شوش يتّصل أيضًا بشارع ترابي عريض انتشرت مستودعات القش والقمح والحظائر على جانبيه، ثمّ تحوّل فيما بعد إلى سوق بيع الزجاج، وما زال هناك حتى يومنا هذا. وفي تلك السنة اشترى والدي شاحنة من طراز انترناشيونال ليسهّل عملية نقل البضائع من النزل إلى السوق. وكان سائقها الأخ أكبر، وبفضل الله بدأت عجلة الزمان تدور كما يتمنى والدي ويشتهي، وتحسّن وضعه المالي كثيرًا.

 

كان والدي شديد التعلق بالعائلة، ومشغولًا على الدوام بإقامة السهرات واستقبال الضيوف وزيارة الأعمام والأرحام القريبين والبعيدين منهم. في تلك السنة، في يوم الطبيعة[1]، اجتمع ما يقارب الأربعين أو الخمسين عائلة من أقاربنا، وكان أكثرنا يمتلك شاحنات، فركبناها وذهبنا في نزهة إلى جادّة مشهد. كانت تلك المنطقة تتمتع بسهول خضراء جميلة وتكثر فيها الأشجار والمزروعات التي تسمح للأولاد باللّعب، وللكبار بالهدوء والاسترخاء. كان الرجال يلعبون لعبة دق الحابي[2] وكرة القدم، ويقضون وقتهم بالتنازع منِ الفائز ومنِ الخاسر. كان الحاج محمد رحمتي أحد الأقارب البعيدين، وهو بطل العائلة، مفتول العضلات، قوي البنية، وحين يضرب الخشبة الصغيرة بالمضرب تطير ما يقارب السبعين مترًا. وعند

 


[1]  يوم الطبيعة وهو الثالث عشر من أول شهر في السنة الهجرية الشمسية.

[2]  دق الحابي لعبة من الألعاب الشعبية، وهي عبارة عن غصن شجرة طويل وآخر قصير يوضع على حجرين، وعلى أحد اللاعبين قذفه بواسطة الغصن الطويل إلى أبعد مسافة ممكنة ،كي لا يتمكن أحد أفراد الخصم من الإمساك به.

 

32


25

ظل أبي تراب

تقسيم الفِرَقْ، كانت كل فرقة تريد الحاج محمد معها.

 

أما حسن خان عامري، عاشق الضحك وإضحاك الآخرين، فينتقل من حلقة إلى أخرى، يشرب الشاي، ويلقي الدعابات والطرائف فيغشى على الجميع من شدة الضحك. وهكذا، فقد طغت على الجميع علاقات المودة والألفة، فلا تكبّر ولا استعلاء.

 

وضمن أجوائهنّ، كانت النساء يضربن على الدفّ والطبلة، ويصنعن مناسباتهنّ الخاصة، وفي الختام توضع الأطعمة التي جيء بها على السفرة، ويتناول الجميع الطعام هنيئًا مريئًا.

 

وكان في العائلة والمعارف أشخاص (قد توفّوا الآن، وهنيئًا لأرواحهم)، إذ لم يُرَ أو يُسمع عنهم أنهم اغتابوا أحدًا، أو تناقلوا النميمة وغيرها. وكانوا جميعًا شاكرين للنعم الإلهية.

 

تسليتنا الأخرى كانت خلال الذهاب في أيام الصيف إلى قرية حصار حسن بك[1] التي تتميّز بهوائها العليل ومياهها العذبة، وتقع بالقرب من مدينة ورامين، ومختارها السيد حسين، وهو من أقارب والدي البعيدين؛ كان يتلعثم في نطق الكلمات، فيستغرق ساعة حتى يقول جملة واحدة. فكنا نلقّبه بـالسيد حسين الرز بحليب[2]. ولكن، يشهد الله أنه كان رجلًا مؤمنًا، كريمًا وطيبًا، كان يكرمنا ويقدّم لنا من فاكهة بستانه، ويعطينا صناديق العنب والتفاح والإجاص، أو يرسلها لنا.

 

عندما جاءت ابنة السيد حسين إلى مدينتنا أعطتها أمي إحدى غرف المنزل، وبقيت ضيفة في منزلنا مدة طويلة. كنت دائمًا أنظر إليها نظرة الأخ إلى أخته.

 

 


[1]  حصار حصن أو قلعة. (حصن حسن بك).

[2]  تشبيهه بحلويات الأرز بالحليب لأنّه رخو الكلام كما الأرز بالحليب.

 

33


26

هيئاتٌ وطيب

هيئاتٌ وطيب

إن أخذوا.. فقد أخذنا

 

كان عمري ست سنوات حين التحقت بمدرسة "جمشيد" في شارع "درخشنده". اعتدت أن أصرف يوميًّا شاهيًّا[1] واحدًا، أشتري مروحة ورقية وقطعة قمر الدين، أستمتع بتذوقّها وأنا في طريقي إلى المنزل. في بعض الأيام كنت أرمي شاهيًّا في صندوق الحظ، فيحالفني الحظ أحيانًا لأربح قرانًا، وأحيانًا أخرى كنت أرمي عشر شاهيّات ولا أربح شيئًا!

 

اعتدتُ على وضع دفاتري وكتبي في غرفة الخالة بري، حيث كنتُ أنجز فروضي بسرعة البرق وأنطلق إلى الحي، لألعب كرة القدم، الحرامي والبوليس، والسلّم والأفعى حتى غروب الشمس. كانت دراستي جيدة حتى الصف الرابع. تحلّى الأساتذة باللطف، وبعضهم كانوا عديمي الرحمة يضربون التلاميذ بالكابل والخرطوم.

 

لطالما بدا بوّاب مدرستنا "نركيسان"، عجوزًا عبوس الوجه بخيلًا سيّئ الخلق، لا أحد من التلاميذ يطيق رؤيته. كان يبيع على عربته في باحة المدرسة المثلجات والنقولات صيفًا، والشمندر والفول الساخن شتاءً. في

 

 


[1]  ترتيب النقد في طهران في زمن الكاتب شاهي ثم قران ثم تومان.

 

35


27

هيئاتٌ وطيب

وسط باحة المدرسة بُنيت بركة مستطيلة؛ كلّما اقترب عيد رأس السنة، يقوم نركيسان بإفراغ الحوض ليستقبل السنة الجديدة بماءٍ نظيفٍ حسب قوله. كان قاع الحوض إسمنتيًا منخفضًا، ويوجد وسطه منخفض آخر صغير، فابتكر نركيسان لعبة، ووضع وعاءً فيه وقال لنا: "كل من يستطع أن يرمي شاهيًّا داخل الوعاء، يربح تومانين".

 

حتى تلك السنة حيث كنتُ في الصف الرابع لم يفلح أحد في رمي النقود في ذلك الإناء، وإن أفلح، لم يحصل على شيء، لأن جناب نركيسان كان يفلت من الجائزة بشتى الأعذار. كانت مصدر كسب جيد له، فكل يوم يرمي الأطفال عشرات النقود، وفي النهاية تصبح كلها من نصيب نركيسان. بعض التلاميذ الأغنياء كانوا يرمون قرانًا، ولكن لا يربحون شيئًا.

 

وقد حان الوقت ليلقّنه أحدهم درسًا. في إحدى الليالي رحتُ أروي الحكاية لإخوتي، السيد مهدي والسيد باقر -أخويّ الأكبر مني سنًا- وكلاهما درس في مدرسة جمشيد. على الرغم من أنّ السيد مهدي أصغر سنًّا من السيد باقر إلّا أنّ فطنته وذكاءه جعلاه يصبح في السنة الدراسية نفسها مع السيد باقر. كان حاذقًا فطنًا قوي الشخصية[1]، وكان يُعرف في الحي بـ"مهدي السبع" لأنه كان يأخذ أربعةً من أقرانه ويقف في وجه الأشقياء من متسكّعي حيّنا، ولا يعرف الخوف طريقًا إلى قلبه. كما بات ماهرًا ومحترفًا في كرة القدم وألعاب الشرط وكان الفوز حليفه دومًا.

 

قام مهدي بثقب قطعة نقود معدنية من طرفها بمسمار ومرر خيطًا في الثقب وعقده وقال: "إن رميتها هكذا ستدخل في الإناء مئة في المئة". وفي اليوم التالي وقفت إلى جانب الحوض في باحة المدرسة صوّبت على الهدف بدقة ورميت القطعة المعدنية، وما إن تجاوزت الإناء حتى سحبت الخيط

 


[1]  عبّر تيغ دار؛ أي شخصية نافذة.

 

36


28

هيئاتٌ وطيب

فسقطت في وسطه. فارتفعت أصوات التصفيق والتشجيع من الطلاب الذين تجمعوا حولي، وتحولت الأنظار إلى نركيسان الذي استشاط غضبًا واشتعل قهرًا. قال ناظر المدرسة الذي كان يراقبنا من بعيد لنركيسان: "هذه المرة لن تفلت من تقديم جائزة التومانين".

 

في صباح اليوم التالي، اصطفّ كلّ التلاميذ حول حوض الماء وفي حوزتهم قطع نقدية مربوطة بخيطان. ما دفع نركيسان لإزالة الإناء والتخلي عن هذه التجارة. ومنذ ذلك الموقف ونركيسان لا يطيق رؤيتي ويعبس في وجهي.

 

وبما أني ذكرت اسم إخوتي، لا بأس في أن أتحدث عن السيد باقر قليلًا؛ هو الابن الأول في عائلتنا. كانت أمي تردد دائمًا: "السيد باقر هو الأكثر شبهًا بأخلاق والده من بين أبنائي". صدقت أمي؛ فالسيد باقر رجلٌ شجاع سخي وكريم، وعُرف في الحي بحذاقته وذكائه، وبسبب أخلاقه الجميلة هذه؛ تعلقتْ به كثيرًا وأحبته بشدة. لكنّه لم يمتنع عن الدخول في بعض الشجارات لأنه لا يقبل الضيم والمذلة. كان خدومًا للناس محبًّا للعائلة والأصدقاء، وخادمًا بين قدمي أمي. كما كان كثير المرح والمزاح، فعندما يشرع في الحديث يلتفّ الجميع حوله حبًّا لحديثه. والأجمل من ذلك أنه لم يحبّ يومًا أن يأكل أو يمشي بمفرده. فإذا ما وُجد في جيبه خمسة تومانات دعا خمسة أشخاص لتناول الطعام معه.

 

كان السيد باقر يملك سبعين أو ثمانين طيرًا من الحمام الجميل، ولم يكن يتفوّق عليه أحدٌ في تربيتها. صرت أتباهى في حيّنا بطيوره، وأردت أن أصبح مثله خبيرًا في نموّها، فكنت أصعد كلّ يوم إلى السطح وأجلس إلى جانب أقفاصها وأشاهده يلعب معها ويروّضها، ولكنّني لم أصل إلى مستواه أبدًا. وقد أصبح شديد الحب والتعلق بطيوره، إلى درجة أنه حفظ

 

37


29

هيئاتٌ وطيب

اسم كل واحد منها برغم شبه بعضها ببعض.

 

تربية الحمام متجذّرة في تراث الطهرانيّين، وخاصة في جنوب المدينة، حيث تجد على أسطح أكثر المنازل أقفاص الطيور، لأنهم يعتقدون أن الإبقاء على كائن حي في المنزل ضروريٌّ لدفع البلاء، وإذا عملنا على تكثير النسل الجيد من الحمام فكأنّنا نزيد من النسل الطيب للبشر، وإذا ذبحنا السيّئ منها فكأنّنا قلّلنا من النسل السيّئ للبشر.

 

ضمّت منطقتا دولاب وغياثي أفضل مربّي الحمام وأشهرهم من قبيل محمود آهنكر، أصغر سماورساز، وايرج زاغي، ومحمد مرغي، وما شاء الله سوري، وحميد فخريان الماهر في كرة القدم أيضًا. فكلٌّ بحسب إمكاناته كان يربّي ويُكثر من الحمام ما استطاع. بعضهم اهتم بالعصافير والدجاج والديوك أيضًا. إلا أنّ أي طائر لا يأخذ مكانة الحمام، وليس كل من امتلك الحمام أصبح مربّيًا له. فمربّي الحمام الحقيقي يتفانى في سبيل طيوره. كان السيد باقر يقول: "يجب أن تحرق الشمس وجه مربّي الحمام وتسمّر بشرته، وعليه أن يضحّي ويترك الحياة وملذّاتها، ليقضي الوقت مع الحمام، وإلا فلن يكون مربّيًا حقيقيًّا".

 

عندما كنت أصعد إلى السطح كان يعطيني حفنة من القمح ويقول لي: "إنّ طعم القمح لذيذ، عندما تأكله الحمامة تصبح مطيعة لصاحبها". وبدوري كنت أرمي القمح وأنادي: تعالي تعالي، فتتجمّع الحمامات بكلّ أنواعها من حولي: جَموح وسرور وبيضاء الرأس والمطوقة وسوداء الذيل.

 

امتلكت حمامة في منتهى الجمال تسر العيون وتسحر الألباب، هي سرورالذهبية، لونها كلون الذهب المعرّق بخيوط سوداء، وكانت عندي تعادل الدنيا بما فيها؛ وقد أسرّت فؤادي وتعلّقت بها كثيرًا. كنت أستيقظ من الخامسة فجرًا لأجلها، وأصعد إلى السطح لإطعامها.

 

38

 


30

هيئاتٌ وطيب

للطيور بعض الصفات المرتبطة بنسلها تمامًا كالبشر؛ بعضها صالح وبعضها طالح. حمامات سرور التي كنا نرعاها كانت من النسل الجيد، جميلةً وفريدةً من نوعها، وكنّا نسميها سرور النارية وسرور الذهبية وسرور السريعة وسرور الزعفرانية و...

 

كلّ مُربّي الحمام في حيّنا كانوا يطلبون إحدى بيوض هذا النوع حتى يكثروا منها فراخًا. وبما أنّ السيد باقر لا يستطيع أن يرد أو يخَيّب طالبًا، وفي الوقت نفسه لم يكن يرغب في أن يشاركه أحد في امتلاك حمام السرور؛ كان يثقب البيضة بإبرةٍ فيدخل إليها الهواء فلا تفقس ولا يخرج منها فرخ.

 

احتضن السيد باقر الطيور وكأنها أطفاله، يتفحص عيونها ويعزل الحولاء والقبيحة منها حتى لا تضر بنسل طيوره. الحمامة الجيدة يجب أن تكون ذات منقار جميل وعينين كبيرتين. فكان يزاوج بين الحمامات الجيدة والجميلة ويستخرج منها فراخًا أجمل وأجمل. الحمامة الجيدة هي التي تعود إذا ابتعدت، ولا تُذهب تعب صاحبها سدى. وحتى إن ضلّت طريقها وجاعت وعطشت لا تخون صاحبها وتحطّ على أسطح الجيران، بل تبقى تحلّق وتبحث حتى تجد طريق العودة.

 

كان الكثيرون في طهران يقضون وقتهم في تربية الحمام بسبب البطالة. والبعض كانوا أثرياء ويملكون الكثير من المال فيستأجرون مربّيًا يرعى طيورهم على السطح. وهنا لا يصح أن نسمّيه مربّي حمام أو عاشقًا لها. والبعض الآخر كان يؤمّن رزقه من بيع الطيور وشرائها.

 

عليك أن ترى الفراخ وهي تخرج من البيوض، فهنا تبدأ حكاية العشق. قبل عيد رأس السنة (الهجرية الشمسية بداية الربيع) بشهرين

 

39


31

هيئاتٌ وطيب

يبدأ الريش بالظهور على الفراخ، وبعدها عليك أن تجعل الفرخ يقوم بجولة طيران برفقة حمامة قديمة مُروضة ومتمرسة على الطيران والعودة، فيقومان بجولة صغيرة ويعودان. وما إن يحطّا حتى نقصّ جناح الطائر اليافع، فإن لم نفعل بقي يطير في الجو حتى يضلّ طريق العودة.

 

كان السيد باقر مولعًا ببعض الحمامات: "الأميرات"، وهنّ في غاية الجمال، كنّا نسمّي الحمام البني الأبيض الرأس بالأميرة. لم أرَ أحدًا بمهارة السيد باقر في تربية الطيور*[1].

 

دعوا روحي تكمل لكم الحديث:

في صفّي الأول، ذات ليلة من ليالي الشتاء البارد، كنت نائمًا تحت كرسي التدفئة في غرفة الخالة "بري"، وإذا بي أستيقظ على صوت صراخ أمي فركضت إلى غرفتها. رأيت أبي ممدّدًا على الأرض وسط الغرفة، كانت أمي تبكي، ووضعت يدها على وجه أبي وأغمضت عينيه. كنت شبه نائم ولم أعِ ما الذي يجري. جلست على ركبتي عند الباب وحدقت إلى والدي. إلى أن أتت خالتي وأعادتني إلى غرفتها ووضعتني في فراشي. هي أيضًا كانت تبكي، وقد احمرّ وجهها من شدّة البكاء.

 

في صباح اليوم التالي، ارتديت ملابسي كالمعتاد وذهبت إلى المدرسة وكأن شيئًا لم يحدث ليلة الأمس. ولكنّ الصمت كان يعم أرجاء المنزل.

 

 


[1]  قد يقول أحدهم إنّه هدر للوقت، ولكنّها شغلت السيد باقر عن انشغالات غيره من الشباب. صحيح أن السيد باقر لم يكن من أهل المساجد والمنابر، ولم يتردّد إليها كثيرًا، إلا أنّه كفى الناس شرّه وشرّ لسانه، ولم يؤذِ أحدًا قط. لم يملك شيئًا إلا وتقاسمه مع الجميع بكلّ كرم ورجولة.

ولكنّ الشيء الذي أفسد حياة الناس في بلدنا هو البخل والحسد. فقد كان أصدقاء السيد باقر هم السبب في هلاكه، لِما كان يتحلّى به من ذكاء وجمال. فقد ترك عمله ورزقه وضلّ الطريق، وفي النهاية توفي بنوبة قلبية في العام 1997م- رحمة الله عليه، وما زالت دموع أمي تنهمر لفراقه بمجرد أن يُذكر اسمه.

 

40


32

هيئاتٌ وطيب

في الحصة الثانية طلبني ناظر المدرسة. ذهبت إلى مكتبه، فرأيت أمي تتحدث إليه: "لقد توفي أبوه، واليوم دفنه، جئت لآخذ أبا الفضل..".

 

فقابلها الناظر بكلّ عناد قائلًا: "ومن أين لهذا الصغير أن يفهم معنى موت أبيه، أنتِ تتسبّبين بتخلّفه عن المدرسة والدراسة، تخيّلي حائطًا فقد أحد أحجار أساسه ألن يُبنى مائلًا؟". أنا لم أفهم ما دار من حولي، ولكني أذكر أمي جيدًا، كلما أصرت أكثر زاد عناد الناظر أكثر، وفي النهاية لم أحضر جنازة والدي.

 

في اليوم الثالث أو السابع من يُتمي، لست أذكر بدقة، ألبسوني قميصًا أسود اللون وذهبنا جميعًا إلى قبره، حيث دفن في مقبرة الولي عبد الله.

 

ما برحت أمي تبكي وتذكر حسناته وفضائله وطبعه الكريم والمضياف وحنانه ورأفته. ولم تكن الوحيدة التي وصفته بذلك، بل كان ذلك حديث كل النساء والرجال من عائلتنا وأقربائنا. كثيرٌ من أصحاب المرائب المعروفين في يومنا هذا يدَّعون شخصيًا أنهم تربوا على يد والدي وتعلموا منه الشهامة والمروءة.

 

من بين هؤلاء، السيد حسن خدائيان (رحمه الله) الذي ردّد دائمًا: "يجب أن تمرّ قرون حتى يخرج من رحم الزمان قرين للسيد تراب؛ كان مأوًى وملجأً للضعفاء والمساكين. مئات من المشاكل والعقد حُلّت على يديه من دون أن يُحدث أي جلبةٍ أو يُعلم أحدًا. إنّ السيد تراب كان مصدرًا للبركة في الحي وفي العائلة"...

 

نعم، وافته المنية ودفن تحت التراب

                             ويا لسعد من جاء الدنيا طاهرًا ورحل عنها طاهرًا.

 

انتقل والدنا إلى رحمة الباري، وشيئًا فشيئًا صار الزمان يظهر وجهه

 

41

 

 


33

هيئاتٌ وطيب

الآخر ويكشّر عن أنيابه، ولم نعد نعيش الرفاه والأمان المعهودين. لم نعد نرى الضيوف أو نشهد موائد الطعام الممدودة في كل يوم. فقط العمّة شيرين واظبت على زيارتنا. كانت أمي تقول: "إنّ كبير العائلة كخيط السبحة، إذا انقطع تتلاشى العائلة، وحينها تصبح سبحة الشاه مقصود[1] التي لا تُقدّر بثمن، لا تساوي قرانًا".

 

عقد العمّ "ما شاء الله كور" برجولته ومروءته وشهامته المعهودة اتفاقًا مع أخي غير الشقيق، بأن يدير النُّزل ويعطي نصف الأرباح شهريًا لوالدتي لتؤمّن حاجات المنزل. ولكنّ أخي -سامحه الله- كان يعطي أمي بعد منّةٍ وأذًى مبلغًا بسيطًا لا يكفي حتى لشراء خبز أطفالها اليتامى السبعة.

 

فغالبًا ما أمسى خالي السيد عباس يتحمّل هذا العبء الثقيل، أعزّه الله بحق السيدة الزهراء. لقد كان يغطي نفقات منزلنا من دون أي تلكّؤ أو تذمّر. خاصّةً وقد تحسّن وضعه المادي وتيسّرت أموره بعد عمله مع والدي في النُّزل. فاشترى مخزنًا في ساحة الإعدام[2] قد مُلئ أرزًّا وزيوتًا وحبوبًا.

 

كانت أمي ترسلني إليه مرة أو مرتين شهريًّا، فما إن يراني حتى يضع يده على كتفي ويقول: "ما بك يا فتى؟ لماذا تعبس في وجهنا؟" ثم يرسل معي عربة أو دراجة نارية*[3] محملة بكيس أرز وتنكة زيت وعدة كيلوات من الحبوب، ومقدارًا من المال لوالدتي. خمسون تومانًا في ذلك الزمان تُعتبر مبلغًا لا بأس به، وفضلًا عن ذلك كان يعطيني بعض النقود مصروفًا لي، ويرسلني إلى المنزل.

 

 


[1]  سبحة الشاه مقصود سبحة باهظة الثمن بحبات خضر وشفافة، وكلما زادت شفافيتها زاد ثمنها.

[2]  ساحة الإعدام هي ساحة محمدية، بنيت في زمان محمد شاه قاجار بالقرب من مرقد السيد نصر الدين ثم سميت بوابة الغار، ثم ساحة الإعدام، لأنهم نصبوا في وسطها منصة وأعدموا فيها المحكومين.

[3]  عربة ذات ثلاث عجلات.

 

42


34

هيئاتٌ وطيب

ومع ذلك بقيت دائمًا أفكّر بأن أجد لي عملًا ومصدر كسب. في الصيف كنت أشتري الذرة والكرز من السوق وأبيعها في الحي. وعندما ازدادت خبرتي في البيع والشراء وتذوّقت حلاوة جمع النقود، أخذت من مصطفى بائع المثلجات عربةً، وبدأت أبيع المثلّجات في مدخل الحي يوميًا من فترة الظهيرة إلى ما قبل الغروب، الواحدة بشاهي واحد. بعد عدة أشهر أحضرتُ اثنين من صبية الحي الذين يصغرونني سنًا ويطيعونني جيدًا. وأعطيت كلًّا منهما عربة ليبيعا المثلجات في مدخل الحي، وأنا وقفتُ أبيع في المدخل الآخر.

 

بالمجموع كنت أحصل يوميًّا على تومان واحد، أعطي شاهيًّا واحدًا لكلٍّ من الصبيين، وأدّخر عند خالتي بري خمسة ريالات. فكانت خالتي تحضّر لي بنفسها فطور يوم الجمعة بهدف التشجيع وتعدّ البيض المطهو مع الطماطم، وتجلب لي مشروبًا غازيًّا. لا أنسى طعم ذاك الفطور. كانت خالتي تقول: "بالتأكيد سيكون فطورًا شهيًّا، لأنّ ماله من كدّك وعرق جبينك أنت يا أبا الفضل".

 

في أحد الأيام كنّا جالسين نتناول الغداء فقصّت لنا خالتي حادثة خلع الحجاب وقالت: "كان شرطة الشاه يهاجمون كل امرأة يرونها في الأزقة، وينزعون حجابها ويمزّقونه ويدوسونه تحت أقدامهم. لذلك كنا نخشى أن نضع قدمنا خارج المنزل، وكنّا نخرج فقط في الليل. فمثلًا إذا أردنا أن نذهب إلى زيارة أو دعوة؛ يقف الرجال للحراسة على مدخل الزقاق، وكنّا نحن نخرج من بيت وندخل آخر، ثم نركض ونختبئ في البيت التالي، وهكذا إلى أن نصل إلى مقصدنا".

 

عندما توفي والدي كان خالي "السيد علي" قد تزوج حديثًا وانتقل إلى منزله الجديد، فصار يأتي إلى بيتنا ليصطحبني معه كلما أراد أن يذهب

 

43


35

هيئاتٌ وطيب

من أهل الخير والعمل الصالح.

 

كان خالي السيد علي يقف في الوسط، وكان هادي المظلومين[1] في هيئة "قاسم أبو شنب". وفنون هذا العمل يجب أن تنبع من طبيعة المرء ومعدنه فهو لا يُعلّم في مدرسة أو معهد. فهادي المظلومين يقود اللاطمين، وينظّم الصفوف، وأحيانًا يحمّسهم ببعض الأدعية والشعارات التي يطلقها بصوت أعلى من الجميع. وكانت بنية خالي تساعده في هذا العمل، فهو طويل القامة عريض المنكبين، قويّ مفتول العضلات، وحامل راية الهيئة. وحين يقف في الوسط ويقود اللاطمين يتجاوزهم جميعًا طولًا. كان عاشقًا متيّمًا بالإمام الحسين عليه السلام، أبيض القلب وسخيّ الدمع. في هذه الهيئة؛ هيئة قاسم أبو شنب، شدَّ خالي مئزرًا على خصري وكانت تلك المرّة الأولى التي ألطم فيها على صدري العاري. خلع خالي أيضًا قميصه ووقف بجانبي يلطم. لقد غرس خالي حب الإمام الحسين عليه السلام في قلبي وجعلني متعلّقًا إلى الأبد بحب سيّد الشهداء عليه السلاموعشقه.

 

وبالمناسبة، في السنة ذاتها التي اعتدت فيها على الهيئة وكثر تردّدي إليها، أصبح حيُّنا مركزًا للمراسم العاشورائية حيث نصبت الخيام وأقيم العزاء. كان خالي السيد علي يهدي اللاطمين واقفًا في وسط المسيرة، وينظّم حركة اللطميّة ومسارها.

 

اشتهر في تلك الحقبة رواديد معروفون، منهم الشاه حسين، وأكبر ناظم، وأحمد شمشيري، والرادود باقر، والرادود اسمال، والسيد عباس، والسيد كمال حسيني وحسن ذو الفقاري. وعندما كان هؤلاء يعتلون

 

 


[1]  اللاطمون على الصدور في عزاء الإمام الحسين عليه السلام نموذج للمظلومين في كربلاء. كان يُطلق على المسؤول الذي يقف في الوسط وينظم صفوف اللاطمين لقب هادي المظلومين. ولمرتادي الهيئات قصص سنكتشفها في هذا الكتاب، وتشهد على عمق أثرها- المحرر.

 

45


36

هيئاتٌ وطيب

المنبر ويقرأون العزاء وأشعار المدح والرثاء تنهمر الدموع مدرارة على وجوه الناس. كانوا بكلماتهم يقربون العبد من الخالق. من العادات التي كانت سائدة بين الناس آنذاك، أنه إذا ابتُلي أحدهم بمرض عضال لا علاج طبيًّا له، أو إذا كان لهم حاجة، يلقون قميص المريض أو صاحب الحاجة تحت أقدام اللاطمين ليشفى. إذ كانوا يعتقدون أنّ أقدام اللاطمين ودموعهم تشفي المرضى وتكشف الكرب. كثير من العادات والتقاليد كانت تجري في الهيئات: بعضها ما زال ساريًا، وكثير منها زال مع الزمن.

 

عرفت رجالًا كثرًا من أمثال خالي السيد علي وخالي السيد حبيب اللذين اتّبعا عادات وسجايا جيدة في حياتهما، فكانا قدوةً لي ولأمثالي.

 

أما خالي السيد حبيب فكان من المحبوبين بين أهل حيّنا، ومن اللطيف أن أتحدّث عنه قليلًا. هو أيضًا تأثّر بأخلاق والدي، ويُعدّ من نتاج تربيته، وسعى لأن يكون مثله سخيًّا وكريمًا مع الناس. شهرة والدي وفضائله وحسناته التي ذاع صيتها بين الناس أدّت إلى أن يُكِنَّ الناس الاحترام والتقدير نفسيهما لأخوالي، ويتوقّعون منهم الأخلاق والسلوك عينه.

 

في السنة ذاتها التي انتقل فيها خالي حبيب من "زواره" إلى طهران، استأجر دكانًا في ساحة بائعي الجملة وبدأ العمل ببيع الجملة. وأخبرني قائلًا: "في السابق عندما كنا نذهب إلى "جهرم وجيرفت" لجلب البضاعة، ولم يكفِ المال الذي بحوزتنا كنا ننتف خصلة شعر من شاربنا ونضعها أمانة لدى بائع الجملة، ونقول: هذا شاربي أمانة لديكم، وهذه البضاعة لي عندما أبيعها أسدّد ديني، فيقبل بذلك. لماذا؟ لأن كلمة الرجل كانت كلمة ووعده وعدًا. وكأنّ شعيرات الشارب كانت الضمانة لكلمة الرجل. بشكل عام إذا أردت أن تكون رجلًا ينبغي أن تكون عند كلمتك، ووفيًّا بعهدك ووعدك الذي قطعته، فتموت ولا تخلف بوعدك. فالرجولة

 

46

 


37

هيئاتٌ وطيب

والشهامة تعني الوفاء بالوعد، وقضاء حاجات الناس.

 

كان لخالي السيد علي والسيد حبيب أصدقاء كثر في حيّنا، وكانت علاقتهما بأهل الحي قويّة ومتجذّرة. وفي منطقتنا وطّدت التقاليد الجيدة هذه العلاقة وباركتها. على سبيل المثال، كان كل كسبة الحي، وخاصة من هم من أهل رياضة الـ"زورخانه" يذهبون جميعًا إلى نادي الـ"زورخانه" الواقع في زقاق غريبان[1]، بقصد ممارسة الرياضة الجماعية عند الساعة السادسة صباحًا، وبعدها يذهبون إلى المسجد الجامع ليحضروا درسًا في فقه التجارة لتكون تجارتهم حلالًا ومطابقة للأحكام الشرعية. وفي تمام الثامنة يفتحون دكاكينهم.

 

من بين الأصدقاء الذين لازموا خالي السيد حبيب على الدوام: محمد باقريان. ولشدة جماله وحسن وجهه ووسامته وبنيته الرياضية عُرف في حيّنا بـ"محمد عروس". عندما كان يمرّ في الحي نقف ونتأمل عضديه ومنكبيه العريضين وجسمه الرياضي وعضلاته المفتولة وقامته الطويلة. عيناه الكبيرتان وشعره المجعد وهيبته ووقاره وهدوؤه في مشيته كانت تسحر عيون الناظرين. دائمًا ما كان يذهب برفقة خالي حبيب إلى المسجد والهيئة، وكلما رآني نظر إلي بمحبة وحنان.

 

اعتدت بسرعة على قضاء الوقت في الحي. منذ الصباح كنت ألعب بالدّحل وكرة القدم والسلّم والحيّة، وأراقب ذهاب الناس وإيابهم، والحوادث والشجارات والخلافات العائلية أو الاجتماعية، وبعبارة أخرى كل أخبار الحي الجديدة توافرت لديّ. كنا ننشغل باللعب فلا نشعر بانقضاء الوقت وحلول الظلام. وفي الليل غالبًا ما كنت أذهب إلى المسجد والهيئة، وهناك إلى جانب الإفادة من التعاليم الدينية سنحت لي الفرصة

 

 


[1]  تقع في سوق طهران في زقاق المسجد الجامع في زقاق غريبان.

 

47


38

هيئاتٌ وطيب

للتعرف إلى أشخاص جدد، وتكوين صداقات كثيرة. إلى جانب ذلك لم يخلُ الأمر من الخلافات والشجارات بين الأصدقاء أو مع الأشقياء في الحي. وحماية الصديق، والوقوف إلى جانبه، وعدم التخلي عنه كانت الأهم في علاقاتنا.

 

إحدى الحوادث التي شهدتها في حيّنا تعود لشهر خرداد في صيف العام 1342[1963م]، حيث كنت ألعب كرة القدم تحت حرّ الشمس. ومن مكان اللعب، أي في أول شارع "أنبار كندم" وساحة "أمين السلطان"، كان بإمكاني أن أرى دكاكين بائعي الجملة والشاحنات والعربات التي تفرغ أو تُحمِّل الخضار والفواكه والبضائع، وأسمع العاملين لدى بائعي الجملة يمزّقون حناجرهم من الصياح لجذب الزبائن. فجأة خرجت مجموعة من الناس وسط السوق تحمل العصيّ وتردّد الهتافات، وقد بدت عصيّهم بثخانة عصا الرفش، وأعتقد أنهم اشتروها من شارع "صاحب جمع". كانت هتافاتهم دفاعًا عن السيد الخميني: "خميني يا حبنا/ نبذل الدم إذا أمرتنا" و "الخميني أو الموت". وقد لاقوا تشجيعًا من الناس الذين تجمعوا حولهم. خرج المتظاهرون من الساحة واتجهوا نحو ساحة الشاه، ولم تمض دقائق حتى وصلت سيارات الشرطة، ترجل منها رجال الشرطة والمخابرات وبدأ الصدام وإطلاق الرصاص. أنا وأصدقائي وقفنا نراقب من بعيد مذهولين وخائفين من الاقتراب. ذلك اليوم رأيت "محمد عروس" وسط المتظاهرين يركض ويهتف.

 

بعد عدة أيام، سمعت من خالي السيد حبيب أنّ الشرطة اعتقلت "محمد عروس" وعددًا من رؤوس الثورة، وألقوا بهم في السجن. في تلك الحادثة، كنت للمرة الأولى أسمع باسم السيد الخميني. فثورة خرداد عام 1342[حزيران 1963م] ضد الشاه بدأت من هناك، ولذلك سميت ساحة

 

48


39

هيئاتٌ وطيب

الشاه بساحة "قيام"*[1]، وبقيت على هذا الاسم وأصبحت منطلقًا للثورة الإسلامية. محبتي لمحمد عروس ومكانته لدي، جعلتني أتابع حادثة ذلك اليوم وأتقصى أخبارها، وأدّت إلى نشوء صداقة حميمة وقوية بيني وبين محمد. ولذلك أود هنا أن أكمل قصة "محمد عروس".

 

عام 1356ه.ش [1977م]. علمت من خالي السيد حبيب بخروج "محمد عروس" بعد ثلاثة عشر عامًا من السجن. ولأني كنت مهتمًّا بأخباره ذهبت لرؤيته، خاصّةً أنّ الوقوف ضد الشاه في تلك الحقبة كان حديث الناس، وأنّ أشخاصًا أمثال محمد عروس من الذين ذاقوا مرارة سجون الشاه حتمًا لديهم الكثير ليتحدثوا عنه.

 

ظلّ محمد كسابق عهده وسيمًا حسن الوجه وقوي البنية، لكن، بدا عليه الانكسار. تحدثنا ساعات، ومن الأشياء الممتعة التي قالها: "في السجن، كان معنا عدد من العلماء المعمّمين، فأرسل نظام الشاه بعض المجرمين من أصحاب السوابق إلى زنزانتنا نفسها، ليتسبّبوا بأذيّتهم وإهانتهم. وكان هؤلاء المجرمون إذا تحاذق عليهم أحدٌ أوقعوا به، وقد وضعوا قواعدهم وقوانينهم الخاصة في السجن، ومنها قانون ينص على أنه لا بقاء لشخصين بيننا: الأول الخائن، والثاني قليل الشرف، أي الشخص الذي ينظر إلى أعراض الناس. ولكنهم لم يطبّقوا أيًّا من قوانينهم على أنفسهم".

 

سألته: "في ذلك اليوم عندما نزل بائعو الجملة إلى الساحة في شهر حزيران من العام 1963م.كنت ألعب مع أصدقائي في الزقاق. أود بشدة أن أعرف ما حصل بعد ذلك".

 

تحدّث السيد محمد عن حادثة ذلك اليوم: "بعد أن هاجمنا رجال

 

 


[1]  النهضة والثورة.

 

49


40

هيئاتٌ وطيب

الشرطة والسافاك قيّدونا واقتادونا إلى مقر الشرطة، كان الحاج إسماعيل رضائي، والحاج حسين شمشاد، وحسين كادري، والحاج توسلي، والحاج علي نوري، والحاج علي حيدري ومرتضى طاري قد تظاهروا معنا، فاعتُقِلوا أيضًا. وكلهم كانوا من بائعي الجملة في السوق، ولكنّهم نزلوا معنا إلى الشارع وهتفوا من أجل السيد الخميني، وكان الأبرز بينهم "طيب". بعد ساعات من اعتقالنا أحضروا طيب حاج رضائي[1] مكبّلًا وألقوه في زنزانتنا.

 

عندما أخذونا إلى سجن "باغ شاه"، كان طيب معنا أيضًا. لم أقترب منه، لأنّه كان من أتباع الشاه، ودائمًا ما أُحيط بأصحاب السوابق وعُرف بالقدرة والبطش. إلى درجة أنه عندما رُزقت "فرح بهلوي" بابنها الأول وأنجبت رضا بهلوي، قام طيب بإضاءة الزقاق والحي بكامله. ولذلك ما إن رأيت طيب لم أبالِ بحاله وأدرتُ له ظهري. كان مكبّل اليدين، سلّم وقال: "يا محمد، أنا لست كما تظنون". لم أجبه؛ لكني كنت أعلم أن السافاك تنوي أن تستغل "طيب" لتشوه صورة وسمعة السيد الخميني بين الناس. في ذلك الزمان، وقع شجار بين طيب وشعبون[2]. وكلاهما

 


[1]  طیب حاج رضایي من الكسبة وبائعي الجملة المعروفين في طهران حيث كان دكانه في ساحة أمين السلطان. تعود أصوله إلى قزوين. ولكنه ترعرع في طهران وعمل بدايةً في صناعة الصابون. أبوه حسين قره قوني -طبقًا لما نقله أصدقاء طيب وزملاؤه- من الكسبة وبائعي الحطب. بعد أن أمضى طيب الخدمة العسكرية ألقي به في السجن على أثر شجار في كرمنشاه. ومن بعد ذلك عُرف بالعراك والتهوّر. ذات مرة نُفي إلى بندر عباس ثلاث سنوات بتهمة القتل، وعاد بعد أن ثبتت براءته ليترك الشجارات والمشاكل وينشغل بالتجارة والعمل. كان رجلًا شجاعًا شهمًا محبًّا لفعل الخير والعمل الصالح وأمضى حياته في خدمة الناس. كان يساعد المسنين في مأوى كهريزك والمساجين في سجن القصر واليتامى والمشردين. ولم يصب أبدًا بالرياء والكبر والغرور. لقد حمل في قلبه محبة وعلاقة خاصة بالإمام الحسين وأهل البيت عليه السلام. فكانت المسيرة التي يقودها في العشر الأوائل من محرم أكبر مسيرة في طهران، أوّلها في شارع انبار کندم وآخرها في ساحات الشاه ومولوي وتقاطع سيروس. كان طيب يقيم مجلس العزاء في منزل الحاج علي نوري، ولكن ثورة الخامس عشر من خرداد غيرت مصيره (من كتاب سيرة الفتوّات لحسام عزيزي).

[2]  شعبان (شعبون) شعبان جعفری (وكان يلقب بشعبان عديم المخ).

 

50


41

هيئاتٌ وطيب

كانا من [المشكلجيين] الأقوياء في جنوب طهران ولديهما أتباع كثُر. كان شعبون من الرياضيين ومن أتباع الشاه؛ وأما طيب فكان كاسبًا كادحًا وبائع جملة كريمًا سخيًّا وراعيًا للأيتام. مع أنّنا سمعنا دائمًا عن تأييد وحب طيب للشاه، لكن سرعان ما انقلبت الآية وأصبح ضد الشاه. الله وحده يعلم بما يعتمل في قلب طيب، من ثورة وانتفاضة. لقد عقد المسؤولون في طهران جلسة كي يجبروا طيب بأن يدَّعي أن الخميني أعطاه المال كي يُحرِّض الكسبة في السوق. ذلك اليوم في المحكمة نظر طيب إلى الضابط نصيري وقال: "إذا سلّمنا أنكم تقولون الحق؛ في قانون الرجولة لدينا، نحن لا نقف في وجه أبناء السيدة الزهراء عليها السلام. أنا لا أعرف هذا السيد؛ لكني لن أقف في وجهه".

 

وفي النهاية حكمت محكمة الشاه على إسماعيل حاج رضائي، وطيب حاج رضائي وعليَّ وعلى الحاج علي نوري بالإعدام، وعلى الإخوة كاردي وشمشاد والبقية بالسجن مدة عشر أو خمس عشرة سنة.

 

وبعد إعلان الحكم، نقلونا إلى زنزانتنا. وفي وسط الليل أتى ضابط الشرطة وأيقظنا بالضرب على باب السجن وقال: "محمد باقري وحاج علي نوري، جلالة فخامة الشاه أصدر عفوًا ملكيًّا وخفّف حكمكم درجة واحدة".

 

قالوا ذلك كي يغضب طيب ويخشى الإعدام ويطمع بالعفو، فيرجع عن كلامه ويقبل بأن يقول إنّ الخميني حرّضني بالمال؛ لكنّ طيب الذي حُبس في زنزانة أخرى صاح بصوت عال: "قل هذا الكلام لأمك! قلتها مرة، وسأعيدها مرة أخرى؛ أنا لا أقف في وجه ابن السيدة الزهراء".

 

في الليلة التالية، سمعنا أصواتًا من زنزانة طيب. عرفنا أنه أُخذ للإعدام. عندما كانوا يجرونه ضرب على قضبان زنزانتي وقال: "يا محمد، اذا رأيت

 

51


42

هيئاتٌ وطيب

كانا من [المشكلجيين] الأقوياء في جنوب طهران ولديهما أتباع كثُر. كان شعبون من الرياضيين ومن أتباع الشاه؛ وأما طيب فكان كاسبًا كادحًا وبائع جملة كريمًا سخيًّا وراعيًا للأيتام. مع أنّنا سمعنا دائمًا عن تأييد وحب طيب للشاه، لكن سرعان ما انقلبت الآية وأصبح ضد الشاه. الله وحده يعلم بما يعتمل في قلب طيب، من ثورة وانتفاضة. لقد عقد المسؤولون في طهران جلسة كي يجبروا طيب بأن يدَّعي أن الخميني أعطاه المال كي يُحرِّض الكسبة في السوق. ذلك اليوم في المحكمة نظر طيب إلى الضابط نصيري وقال: "إذا سلّمنا أنكم تقولون الحق؛ في قانون الرجولة لدينا، نحن لا نقف في وجه أبناء السيدة الزهراء عليها السلام. أنا لا أعرف هذا السيد؛ لكني لن أقف في وجهه".

 

وفي النهاية حكمت محكمة الشاه على إسماعيل حاج رضائي، وطيب حاج رضائي وعليَّ وعلى الحاج علي نوري بالإعدام، وعلى الإخوة كاردي وشمشاد والبقية بالسجن مدة عشر أو خمس عشرة سنة.

 

وبعد إعلان الحكم، نقلونا إلى زنزانتنا. وفي وسط الليل أتى ضابط الشرطة وأيقظنا بالضرب على باب السجن وقال: "محمد باقري وحاج علي نوري، جلالة فخامة الشاه أصدر عفوًا ملكيًّا وخفّف حكمكم درجة واحدة".

 

قالوا ذلك كي يغضب طيب ويخشى الإعدام ويطمع بالعفو، فيرجع عن كلامه ويقبل بأن يقول إنّ الخميني حرّضني بالمال؛ لكنّ طيب الذي حُبس في زنزانة أخرى صاح بصوت عال: "قل هذا الكلام لأمك! قلتها مرة، وسأعيدها مرة أخرى؛ أنا لا أقف في وجه ابن السيدة الزهراء".

 

في الليلة التالية، سمعنا أصواتًا من زنزانة طيب. عرفنا أنه أُخذ للإعدام. عندما كانوا يجرونه ضرب على قضبان زنزانتي وقال: "يا محمد، اذا رأيت

 

51


43

هيئاتٌ وطيب

الخميني يومًا، أبلغه سلامي وقل له: كثيرون رأوك فبايعوك؛ نحن لم نرك لكننا بايعناك"[1].

 

وبعد نصف ساعة، سمعنا صوت إطلاق رصاص فعرفنا أنه انتقل إلى رحمته تعالى. كان طيب مثالًا للرجولة وأضحت عاقبته خيرًا. وما زلتُ إلى الآن متحيّرًا مما فعله طيب".

 

عندما ذكر محمد هذه القصة، سالت الدموع على وجنتيه وقال: "كلما تذكرت تلك الليلة، اعتصر قلبي ألمًا. لقد عذّبوا "طيب" كثيرًا حتى يطلب العفو من الشاه؛ لكنّ الله إذا أراد أن يهدي أحدًا فلا مضلّ له. سيبقى اسم طيب والحاج إسماعيل رضائي خالدًا إلى يوم القيامة".

 

استمعت ذلك اليوم لما قاله محمد بدقة، وكنت أفكر دائمًا من يكون هذا الخميني حتى يضحّي طيب بنفسه من أجله؟ كلام محمد الذي لا مثيل له جعلني أتشوّق لمعرفة المزيد. ومنذ ذلك الحين صرت أكثر من الذهاب إليه ورؤيته.

 

لقد بذل السيد محمد جهدًا كبيرًا لإنجاح هذه الثورة. فقد تحمل مرارة الحبس في سجون "قزل قلعه"، و"بندر عباس" و"سيرجان"، وأمضى مرحلة شبابه فيها، ولكنهم لم ينصفوه حقّه. وكذلك كثيرٌ من حاملي راية ثورة خرداد 1963م. الذين انتقلوا إلى رحمة الله، بقيت أسماؤهم مجهولة.

 

في عام 1984م. عندما أُصبت، أتى السيد محمد لعيادتي وليطمئن إليّ، وكان ذلك لطفًا منه وشرفًا لي. ظلّ بسيطًا متواضعًا ولم يحمِّل أحدًا مِنّة ما

 


[1]  بعد انتصار الثورة، ذهب محمد مع عدة من رجال الثورة لزيارة الإمام الخميني والتقطوا معه صورة تذكارية. وعندما نقل محمد رسالة طيب للإمام، قال الإمام طيب، حرٌّ آخر.

 

52

 

 


44

هيئاتٌ وطيب

تحمّله من أجل الثورة وما قاساه في غياهب السجون، فلم يطالب بأجرٍ أو مقابلٍ، ولم يقل يومًا: إنّ هذه الثورة ثورتي لأني قد قدّمت الكثير من أجلها، وأمضيت سنيّ عمري في السجن. بل بقي متواضعًا، حسن السيرة لم ينتظر يومًا ردّ الجميل من أحد.

 

عام 1993م. أرسل "الشيخ رفسنجاني" رسالة عن طريق "السيد رضا طلا" بأنه يريد أن يلتقي بمحمد عروس. وقمت أنا بمساعدة رضا طلا بتنسيق موعد اللقاء، وأخذت محمد عروس إلى الشيخ رفسنجاني. وما إن رآه الشيخ رفسنجاني حتى دمعت عيناه وضمّه إلى صدره وفرح لرؤيته كثيرًا. في ذلك اليوم قال الشيخ: "لا تستهينوا بمحمد هذا. إنه رجل عظيم. في تلك السنة عندما زُجّ بي وبالشيخ ناطق نوري وعدد من المعمّمين في السجن، قام الشاه بوضع بعض المجرمين وأصحاب السوابق معنا في الزنزانة نفسها حتى يقوموا بأذيّتنا وإهانتنا. هناك وقف الأخ محمد بكلّ رجولة وشجاعة في وجههم جميعًا، ولم يسمح لأحدٍ بالتعرّض لنا. إنّنا جميعًا مدينون له".

 

ثم نظر إلى محمد وقال: "أين أنت الآن وماذا تصنع؟".

 

فقال محمد: "عندي دكان في سوق الخضار".

- الدكان ملك لك؟

- نعم.

 

فقلت: "لا يا سيدي هو مستأجر".

 

على الفور كتب الشيخ رفسنجاني رسالةً، أمرَ فيها بإعطاء دكان لمحمد ليجني منه رزقه. ولكنّ غدر الزمان أجبر السيد محمد على بيع شقته ليؤمّن ثمن هذا الدكان. ففي ذات الوقت الذي حصل فيه المتفرجون

 

 

53

 


45

هيئاتٌ وطيب

على الثورة على القصور، أصبحت زوجة محمد المؤمنة الصابرة بلا مأوى وانكسر قلبها.

 

وبعد معاناة كبيرة أعطوه ذلك الدكان. وفي عام 1997م أُصيب الأخ محمد بنوبة قلبية جعلته عليلًا طريح الفراش عامًا كاملًا، كنتُ دائمًا أزوره في بيته إلى أن انتقل إلى دار الحق، رحمة الله عليه. نعم هذه لعبة القدر؛ ولكن:

"عش في هذه الدنيا وإذا ما فارقت

الحياه يبقى ذكرك حيًّا بين الناس".

 

54


46

للرياضة ترانيم

للرياضة ترانيم

 

..وكل الأماكن بيوت عشق

 

في الثانية عشرة من عمري، ذهبت إلى ثانوية جهان. في تلك الفترة، بدأت أتعلم مفاهيم الرجولة وأتخذ قراراتي في الحياة. كنت أدرس صباحًا وأعمل بعد الظهر عند خالي السيد علي في المقهى الذي يقع على حافة الطريق في بداية شارع "محطة الترامواي"، ويتألّف من حديقة صغيرة نُصبت فيها عدة مصاطب، بعضها في الداخل وبعضها في العراء.

 

كنت أتقاضى تومانًا واحدًا يوميًّا، فأنا المدلّل ولا أقوم بالأشغال الصعبة، أكثر الأعمال أُلقيت على عاتق عاملين اثنين في المقهى، فيما يجلس خالي خلف الصندوق ويأخذ الأموال.

 

عند الظهيرة، يمتلئ المقهى بروّاده من مختلف أصناف الناس: العوام، والمثقّفين، والأمّيّين، والعاطلين من العمل، والكسبة، والفتوّات[1]، والأشراف، والأعيان وأصحاب القبعات المخملية الذين يأتون للاستراحة والحديث وشرب الشاي. نعم، كان الجميع يأتون من كل حدبٍ وصوب ومن كل الطبقات، الأثرياء والفقراء، خاصةً أولئك الذين تعبوا وملّوا من أجواء

 

 


[1]  أصحاب الشهامة والمروءة؛ ومشهورون بذلك؛ بغضّ النظر عن تديّنهم أو عدمه؛ ومن المعروف أن رواد رياضة الزورخانة وأبطالها هم من هذه الجماعة أيضًا.

 

55


47

للرياضة ترانيم

المنزل وضجيج الأولاد، حيث يجدون متنفّسًا لهم.

 

كان القهوجي[1] في تلك الفترة يحمل بخبرته ومهارته عشرين "استكانة[2]" شاي على كفه ومعصمه وساعده حتى مرفقه ويوزعها على الزبائن: وثمن "الاستكانة" عشر شاهيّات، وقد راجت أنواع شاي "كلكته" و"لاهيجان".

 

إذا كان الشاي خفيفًا أو ثقيلًا أو قديمًا، سكب الزبون الشاي في الصحن ووضعه جانبًا؛ ويعتبر هذا الفعل أشدّ من مئة شتيمة بذيئة للقهوجي، فيسارع معتذرًا إلى تبديل كوب الشاي للزبون. أما النرجيلة فلم تكن تُقدّم للجميع، إنّما للأثرياء فقط، حيث تُعدّ بالتبغ "الخونساري" المعروف.

 

كنّا من الساعة الثانية عشرة إلى الواحدة والنصف نقدم "الديزي[3]"، فتملأ رائحتها أرجاء الحي. فمن أراد أن يأكلها ويعقبها بتدخين الترياك، توجّه ليجلس على الأرائك في الخارج. وبعد انصراف الأثرياء أو الناس العاديّين الذين يدفعون ثمن الطعام، يجمع القهوجي الأواني الفارغة ليغسلها ويجففها، وبعدها يحين وقت البؤساء والفقراء والمتسولين ليأكلوا الديزي بالمجان. ومن هؤلاء: "ابرام لره، وغلام هفت رنك، وعلي شله، ورمضون، وبرات، وأمير كيريج"، الذين كانوا يتسكعون قرب المقهى من قبل الظهيرة بساعة حتى يحين دورهم لتناول الغداء.

 

فكنّا نضع الأرائك بجانب بعضها بعضًا ونفترش سفرة واحدة، يجتمعون عليها لتناول الطعام بالمجّان. ومن بين هؤلاء "محمد كاوميش" الذي كان يأتي ليأكل بالمجان مع أنه يملك سيارة مرسيدس من طراز 180، يركبونها بعد

 

 


[1]  قهوجي كل من يعمل في المقهى.

[2]  استكانة الشاي أصغر أكواب الشاي حجمًا وتكون ذات خصر.

[3]  ديزي صنف طعام قديم يعد من اللحم والدهن والطماطم والبطاطس والحمص، تطهى وتقدم في إناء خاص من الفخار يوضع داخل التنور، مع نوع خاص من الخبز.

 

56


48

هيئاتٌ وطيب

الغداء متوجّهين إلى نبعة علي للاستحمام، وكانت هذه عادتهم في كل يوم.

 

عباس الخياط صاحب دكان بجوار مقهى خالي، كان يجادله في هذا الأمر دائمًا، ويقول: "إلى متى ستجمع هؤلاء الاستغلاليّين هنا، إذا كان محمد كاوميش لا يملك المال، فمن أين له هذه السيارة؟"، فيجيبه خالي قائلًا: "هوّن عليك يا عم. هذه الدنيا لا تستحق كل هذا الاهتمام. إذا أخذوا منا قليلًا من الطعام فقد أخذنا منهم كثيرًا من الثواب..".

 

من بين هذه المجموعة البائسة والمستغلة نسبيًّا، كان "أبرام لره[1]" أكثرهم فطنة ومهارة في عمله. حيث استفاد من عدة أماكن ومراتع للكسب والاستغلال. فكان بثيابه البالية والممزقة وحذائه المهترئ يستعطف ويستجر شفقة كل من رآه. لعله لُقّب بـ"لره" لبساطته وصدقه وتلعثمه في الكلام، ولكنه لم يكن هكذا بنظري.

 

أحد الأماكن التي واظب "أبرام" على التسوّل فيها والكسب منها، هو حمّام "جال أبو القاسم". كنت أذهب مع خالي علي أسبوعيًا إلى حمّام جال، فقد اعتاد خالي أن يأخذ قيلولة ما بعد الظهر هناك، حيث المكان بارد كالسرداب، فيذهب أوّلًا إلى غرفة تبديل الملابس الواقعة في السرداب من خلال النزول عشر درجات للأسفل.

 

كان أبرام يخفي نفسه في زوايا الحمّام ويتوارى عن أنظار الزبائن. وعندما يهم أحدهم بالخروج ودفع أجرة الحمّام، يظهر فجأةً ويقف بجانبه. فيشفق الزبون ويسأله: "أهلًا أخي أبرام، ماذا كنت تصنع؟" فيقول أبرام: "مـ مـمـ ماء وص صص صابون..." فيقوم الزبون المسكين الذي لا يعرف شيئًا من حيل أبرام بدفع أجرة الحمّام عنه. وهكذا يدفع

 

 


[1]  لره أي من قوم اللر، وهم قوم يقطنون جنوب ووسط إيران يعرفون بالبساطة والطيبة والصدق.

 

57


49

للرياضة ترانيم

سبعة أو ثمانية أشخاص يوميًّا أجرة حمّام أبرام الذي لم يستحم ولا مرة. وعند الغروب يأخذ صاحب الحمام حسابه ويعطي الباقي لأبرام. فقد اعتاد مثل باقي البؤساء على هذه الحياة الخاطئة. وحتى لو أصبح أثرى الأثرياء، لبقي ينتظر المغفلين كلّ يوم في حمّام "جال" ويعيش حياته كالمتسوّلين، فهذه هي طبيعته.

 

بعد مرور سنوات، أغلق خالي المقهى واستأجر مقصف[1] أحد المعاهد الفنيّة. أظن أن سخاء خالي هو السبب في عدم نجاح المقهى، ما اضطره لإغلاقه. ومهما يكن، فبعد أن أتى خالي إلى المعهد صرت أعمل في وقت الاستراحة خلف الصندوق، وأتقاضى خمسة تومانات يوميًا. كنت معروفًا بالفطنة والذكاء والحذاقة. كان المعهد مختلطًا للشباب والشابات، وكان في صفّنا فتاتان. لم أكن أهتم للأمر، فقد كنت من أهل الهيئات والمجالس الحسينية، وأخلاقي وتربيتي لم تكونا لتسمحا لي بالانخراط في أجواء كهذه. كان خالي يقول دائمًا: "الرجل الحقيقي، يصون أعراض الناس، ويعتبرها مثل عرضه، فيتعامل معها بالمقدار نفسه من الغيرة والتعصّب".

 

في العام 1967م. ومن بعد هيئة "كُلْ قاسم" الأكثر شهرة في حيّنا، انطلقت هيئة جديدة باسم "نوباوكان باب الحوائج" (صغار باب الحوائج) وارتادها شباب زقاق "نقاشها" والزقاق الخلفي من أمثال: محمد مشهدي باقر، وأمير عطري، وحسين محمودي، وداوود نيازي، ورضا طلا، ومرتضى عرب زاده، وناصر كلهر، وحاج علي جمشيدي، والجميع كانوا يكبرونني بسنتين أو ثلاث، وقد سبقوني في الانضمام إلى الهيئة والمشاركة في مراسم العزاء واللطم. مؤسّس الهيئة وحيدرها كان "أبو القاسم كاظم ده باشي"، الصديق الحميم لأخي السيد مهدي؛ وهو

 

 


[1]  مقصف محل عمومي للأكل والشرب واللهو في أوقات الفراغ.

 

58


50

هيئاتٌ وطيب

شابٌّ طويل القامة، حسن الوجه، أنيق ودائم الابتسامة. يكبرني بعدة سنوات؛ ولكنّ نقاءه وصفاءه ومودّته جعلت أفئدة الشباب في حيّنا تهوي إليه؛ بحيث إنّك تنجذب إليه من اللقاء الأوّل، وتودّ ملازمته بمجرد أن ترى مروءته ومسلكه. وقد شكّل فريقًا لكرة القدم بمساعدة السيد مهدي وشباب الحي، وأسموه "عوامر". فكانوا يشاركون في المسابقات ويدرّبون الأولاد على أصول اللعبة. وفيما بعد أدركت أنّ "قاسم" شكل فريق كرة القدم كذريعة ليلمّ شملنا ويجمعنا، فكان يلعب معنا المباراة في النهار، ويقيم دروس القرآن والأخلاق في الليل، بالإضافة إلى بعض المسابقات الدينية[1]، وتقديم بعض الجوائز المحبوبة والجاذبة من قبيل ثياب أديداس الرياضية والأحذية الرياضية. فقد أراد بهذه الطريقة أن يشدّ الشباب نحو الأمور الدينية ويبعدهم عن جو الفساد السائد حينها. فكلّما ذُكِرَتْ كرة القدم دب النشاط في عروقنا، وكنا نشارك في التحدّيات بين مدارس المدينة بفريقنا المؤلّف من شباب الحي، واسمه "كاوه". ويقوم "عزت جان ملكي" من اللاعبين القدامى ولاعب الدفاع في فريق "استقلال" بتنسيق وترتيب جلسات التدريب. حينها أيضًا كان الانقسام بين مشجّعي فريقي طهران قائمًا، فالبعض من مناصري الأحمر[2] والبعض من مشجّعي الأزرق، وقاسم من الفئة الأولى. وكان أسبوعيًّا يستأجر باصًا ويأخذنا إلى ملعب "أمجديه" لنتدرب أو لنشاهد مباريات كرة القدم.

 

في إحدى المباريات المحلّية، قابل فريقنا في الملعب فريق حي آخر. لم أكن ذا خبرة في كرة القدم، ولكنّي حبًّا بقاسم شاركت في جميع المباريات

 

 


[1]  كان الحاج قاسم يكتب الأسئلة الدينية على أوراق يوزعها بين الشباب. ثم يصحّح إجاباتنا ويعلن النتائج والفائزين. ومعرفة تلك المعلومات الدينية حينها كانت مهمة وضرورية بالنسبة إلينا. إحدى تلك المسابقات وُثقت بصورة وضعت في آخر الكتاب.

[2]  الأحمر لون ثوب فريق بيرسبوليس والأزرق لون ثوب فريق استقلال، الفريقان ما زالا يلعبان بلون الثياب نفسه إلى يومنا هذا.

 

59


51

للرياضة ترانيم

والتمرينات. تقدّمنا عليهم في تلك المباراة بهدفين لهدف واحد. فنادى قاسم قائد الفريق قائلًا: "نحن ضيوف على هذا الحي، ومن السيّئ أن يخسروا [على أرضهم]. دع النتيجة تنتهي بالتساوي، افعل ما استطعت حتى لا تريق ماء وجوههم".

 

في ذلك الزمان، لم يكن أحدٌ يملك تلفازًا سوى عائلة "محمد كاظم بورها"، وكانت من العوائل الكبيرة، الأصيلة، المضيافة والكريمة، وتملك مغسلة سجاد. وفي كل أسبوع عندما كانوا يحجزون "نبعة علي"، كنّا ندخل بينهم ونذهب معهم للتنزه. وعندما بدأت مباريات كأس العالم في مكسيكو سيتي اجتمع ما يقارب الأربعين شخصًا وقت الغروب عند باب "كاظم بورها". وصرنا عندما يفتحه ندخل جميعًا ونشاهد التلفاز إلى آخر الليل، كانت الزوجة تقدّم لنا الضيافة، ولم تعبس مرة في وجهنا، بل ظلّت ودودة. رحم الله روح محمد ومهدي كاظم بورها وأبويهما، وأسكنهما فسيح جناته.

 

عندما قويت علاقتي بالحاج قاسم وصارت أكثر حميمية، صرنا نذهب ليلاً إلى المسجد ونتحدث طوال الطريق، حيث كان يقدّم لي النصائح بصوته الهادئ والودود. لا أذكر أنه تحدث يومًا بسوء أو سلبية عن أحد في حيّنا، أو حاول أن يُبعدني عن أحدٍ من شباب الحي، كان يعرف أنني متعصّب لأصدقائي، ولم يأتِ يومًا على ذكر مساوئ أيّ منهم.

 

لقد أتى قاسم ليُحدث ثورة! أتى إلى حيٍّ كان أكثر شبابه من لاعبي القمار وشاربي الخمور. لكنّه لم يدخل يومًا يده في جيب أحدٍ ليفتش عن ورق اللعب والممنوعات. وعندما كان يُدرّسنا الأخلاق لم يقلها مباشرةً أتيت لأحارب القمار. وفي الوقت الذي كان الجميع يقولون لا تفعلوا هذا، هذا سيّئ. أتى قاسم ليقول لنا ماذا نفعل، لنفعل الخير والصلاح، وما هي

 

60

 

 


52

للرياضة ترانيم

الأعمال الصالحة، ولم نعهد لذلك مثيلًا من قبل.

 

كان يردّد دائمًا: "يلجأ للقمار من لا يحسن القيام بأي عمل، لكن، حتى الفوز بالقمار خسارة. ولا ثمرة له، ليس سوى هدرًا للعمر وإتلافًا للوقت".

 

لقد فجّر بإنجازاته وسلوكه هذا ثورةً في أرواحنا ووجداننا من حيث لا ندري. ولقد أعطى الله "قاسم" هيبةً جعلت أفئدة حتى شاربي الخمور والأشقياء والفتوّات والفاسدين تميل إليه، فأصبحوا يحلفون باسمه، ويعتبرونه قدوة في الصدق والأمانة والإيمان. ولم يكن هذا بالشيء الهيّن أو البسيط في ذلك الزمان.

 

لم تعجب أخلاق قاسم هذه الكثيرين، وكانوا ينتقدونه بأنه لماذا يصاحب حفنة من الفتوّات وأصحاب السوابق ويأتي إلى المسجد، ولماذا يتعامل في الأساس بوجه حسن مع أشخاص كهؤلاء.

 

أما أنا فكنت حينها شابًّا طائشًا، وقد توافرت لديّ الأرضية للقيام بأي خطيئة، أي إنّ المحيط الذي عشت فيه كان من الممكن أن يقودني إلى الهاوية، ولكن بفضل قاسم تبدلت نظرتي للحياة ورحت أرى البعد المعنوي فيها، وأهتم بتهذيب النفس وتزكيتها. عندما كنا نذهب مع الشباب خلف قاسم إلى المسجد، لم يكن أحدٌ يأتي على ذكر القمار ولعب الورق، فاحترامًا لقاسم الذي دخل في قلوبنا وأحببناه وأطعناه كنا نقدّس حرمة بيت الله والمسجد الذي يأخذنا إليه.

وبفضل هيبة قاسم وروحه وأخلاقه الحسنة غدونا نستمع إليه ونطيعه داخل المسجد وخارجه. إن الإنسان في مرحلة الشباب يكون محفوفًا بالمخاطر، مستعدًّا للانسياق وراء أهوائه وشهواته وملذات دنياه، لذلك من الضروري أن يجد إلى جانبه من يرشده، ويضيء طريق الصلاح أمام

 

61

 

 


53

للرياضة ترانيم

ناظريه. إنّ قصة شبابي كانت أعقد من ذلك: فقد كاد الجو المسموم من حولي أن يأخذني ويُغرقني في الفساد. خلال فترة مليئة بالحيرة والضياع؛ توجّب عليّ الاختيار بين أن أصبح فاسدًا، من أهل الفتوّات، متجبّرًا ومتكبّرًا شديد البطش، أو أن أكون ضعيفًا خاضعًا للأقوياء. كما كان للفتوّة في ذلك الزمن آدابها وعاداتها.

 

في ذلك الزمان أدّى البعض مثل "ناصر ملك مطيعي" دور الرجال الشرفاء الغيارى على أعراض الناس، ومثل "بهروز وثوقي" الفادي أصدقاءه بروحه؛ كانا قدوة للرجال.

 

من بين الشباب والأصدقاء، كنت أبحث عن الأقوياء والأذكياء، لأني أكره الجبناء الضعفاء، وأحب مرافقة الأقوياء. إلى أن تعرفت إلى "أحمد أُورند".

 

أحمد شابٌّ من أبناء منطقتنا، ومن أولئك الحاذقين الأذكياء المتميزين، وكان عاشقًا للممثّل "بهروز وثوقي". ومن بعد مشاهدة فيلمه "قيصر"، أصبحت حركاته مثل قيصر، حتى إنّه انتعل حذاءً قيصريًّا وراح يقلده في مشيته، وقصّة شعره، بحيث صار يُعرف شيئًا فشيئًا بـ"أحمد قيصر".

 

قال لي الجميع آنذاك إنّ أحمد صديق سوء ويجب عليّ الابتعاد عنه؛ ولكنّني عرفته نقيّ القلب، يمتلك بذرة طيبة ونواة للتدين. وتيقّنتُ من ذلك؛ لأني كنت الأكثر قربًا منه، رغم أنّه من مربّي الحمام والمقامرين المهرة، ولم يقوَ عليه أحد في القمار. كلما رمى النرد جاء ستة مزدوجة، فلم يستطع أحد أن يتفوّق عليه، فصاروا يأتون بالمقامرين الماهرين من بقية الأحياء ليتباروا معه.

 

سألته ذات مرة: "يا أحمد، كيف تعلمت كل هذه الألاعيب والخدع،

 

62


54

للرياضة ترانيم

وكيف تحصل على ستة مزدوجة دائمًا؟".

 

- إذا قلت سرّي للجميع، فلن أكون الملك في هذه اللعبة؛ لكنّ الأمر أكثر ما يرتبط بحظ الفرد، وبعضه يعود للخبرة، وكما يقال: أعطني الحظ وارمني في البحر.

 

خلال فترة صداقتي لأحمد، تعلّمت منه مختلف الحيل والألاعيب، ومرّرت كل ما تعلّمته من الخدع أثناء لعبي[1].. استغرقت وقتًا طويلًا حتى استطعت أن أفهم رغم ذكائي أن أحمد كان يضع قليلًا من مادة الرصاص في النرد الذي يستخدمه، فيصبح أحد أطرافه أثقل وكلّما رماه حصل على العدد ستة.

 

مذ أتى قاسم إلينا، أصبح أحمد قيصر يتردّد إلى المسجد، وبات مولعًا بمروءة قاسم وأخلاقه. وفجأة انقلب رأسًا على عقب، وتغيرت أخلاقه، وأصبح أحمد شخصًا آخر.

 

في وقت تردّد بعضهم إلى مقهى "أحمد باده" في أول شارع ري، أو مقهى "ماه طاووس"، ليشربوا كؤوس الخمر ويلهوا ويسكروا، كان قاسم يمنعني عن ذلك ويقول: "لا تلحق بهؤلاء. إنهم كالطوفان، وحذار أن يُغرقوك معهم..". ونستعيض بالذهاب إلى شارع ري، نشرب "السفن آب" المخلوط بعصير الليمون الحامض ونتحدث ونمرح. بات قاسم يمنعني عن

 


[1]  فصرت أربح الجوكر والطرنيب والتركس بكل سهولة. أحيانًا عندما كنا نجتمع لنلعب، أجلس بجانب أحمد وأرى كيف يكشف خطط منافسه ويتنبّأ بخطواته. مثلًا كنا نضع شرطًا بأن ورقة الآس بعشر تومانات، فهي الورقة الأهم في اللعبة. ثم نعد ورق كلٍ منا ومن كانت عنده ورقة الآس يربح الجولة... إحدى ألاعيبي كانت الضغط بأظافري على طرف ورقة الآس فيبقى فيها خط نافر، أتلمسه في الجولة القادمة من اللعب عند توزيع الأوراق، فأعرف من خلاله أنها ورقة الآس فأربح في الجولة.

بعض الخبراء الماهرين بلعب الورق والقمار كانوا يضعون خاتمًا مخصوصًا للّعب في يدهم؛ يوجد في طرفه مرآة يرون من خلالها أوراق الخصم. كانت هناك خدع أخرى لم أعد أذكرها جميعها.

 

63


55

للرياضة ترانيم

فعل الأشياء السّيئة الّتي يقوم بها الآخرون.

 

كان قاسم يقول: "إن لدى أحمد بذرة طاهرة طيبة، ولكنها بحاجة إلى من يرويها، وأحمد بحاجة إلى شخص يأخذ بيده ويضيء له طريقه. أنا على يقينٍ بأنّ عاقبته ستكون خيرًا. في هذه الدنيا، كلٌّ يبحث عن صاحبٍ له، فهذا يذهب إلى أماكن اللهو وذاك يذهب إلى المسجد. وهذا يربي الحمام والطيور، وآخر يجالس الناس ويقضي حوائجهم".

 

"كلٌّ يبحث عن صاحب، أكان صاحيًا أو سكرانَ..

وكل الأماكن بيوت عشق، أكانت مساجد أو أماكن لهو"

 

أعترف اليوم أنه لو لم يدخل قاسم حياتي أو بالأحرى لو لم أتبعه، لكان مصيري مجهولًا. وكان من حسن حظي أنّ قاسم ظهر في حياتي في مرحلة صباي، فدخلت في الهيئة وفي جوٍّ ديني، قلّل من إمكانية أن أصبح أسيرًا للمفاسد.

 

استقرت كلمات قاسم في أعماق قلبي، كما حبّبني بأساتذة الأخلاق والعرفان. فكنّا نذهب في بعض الأيام مع "حسين محمودي" -من شباب هيئة باب الحوائج- إلى مجلس الشيخ "حق شناس"[1]، وهو من كبار أساتذة الأخلاق، وصديق والد حسين "الحاج محمد"، ومن المؤمنين الأتقياء. وكلاهما من العارفين والأولياء الصالحين، ولديهما أتباع ومريدون

 


[1]  الميرزا عبد الكريم حق شناس (التهراني) ولد عام 1919 في طهران. درس المقدّمات والنحو والعرفان عند الشيخ الحاج محمد رضا تنكابني وآية الله الشاه آبادي. درس الفقه والأصول في قم عند الشيخ آية الله بروجردي. عام 1953 قصد طهران لحل مشاكل الناس في الدين والأمور الشرعية، وعمل في مسجد أمين الدولة على تهذيب وتربية الشباب بمختلف أطيافهم من أهل العلم أو الكسبة أو طلاب الحوزة العلمية. شغل منصب مدير مدرسة فيلسوف الدولة المعروفة سابقًا بـسبه سالار وحاليًّا بمدرسة الشهيد مطهري لبرهة من الزمن، ودرّس فيها المكاسب والكفاية والفقه والأصول ومنظومة السبزواري في الحكمة. كان المجاهدون يحبّونه حبًّا خاصًّا، فكنت تجد أكثرهم يؤمّون دروسه في الأخلاق والعرفان. وقد توفي فضيلته في عام 2007م.

 

64


56

للرياضة ترانيم

كثر، فكانا يقدّمان لهم غذاء الروح والكمال المعنوي، وخاصةً للشباب الذين كانت أرواحهم ظمأى للمعرفة والإيمان.

 

في أحد الأيام، حضرت برفقة حسين في مجلس الشيخ حق شناس، فتحدث سماحته عن جبل حجر العقيق وكرامة العقيق قائلًا: "العقيق هو أول جبل أقرّ بأحقيّة الإمام علي...".

 

وبما أني كنت مولعًا بالخواتم والسبحات، حفظت أقواله. ومن هناك عدنا إلى والد حسين محمودي، وقصصت على الحاج محمد ما سمعنا عن العقيق والأحجار الكريمة. عندها أخذني الحاج إلى قبو المنزل، وأخرج من صندوقه العتيق خاتمًا حجره كحبة الرمان وألبسني إياه، ثم قال: "هذا الخاتم تذكار لك، أنت سيد؛ سوف ينفعك، ويجلب لك النور والهداية".

 

كان ذلك الخاتم بالفعل جميلًا وجذابًا[1]؛ لون حجره كلون حبات الرمان الأحمر، يلمع ويتلألأ، فيخطف بريقه الأنظار. إطاره من الفضة ومنحوت عليه باللون الأسود. كان الخاتم الذي لطالما حلمت به. مساء ذلك اليوم، في مسجد أمين الدولة، رأى الشباب الخاتم في يدي، فقالوا: "من أين جئت بهذا الخاتم الثمين؟ كأنّه حيٌّ وفيه روح، ويتحدث إلى ناظره!! الجميع يتمناه، لكنه لا يليق إلا بيد السادة".

 

غير الذين ذكرتهم، سكنتْ في حيّنا عوائل كثيرة أخرى متديّنة ومعروفة. فتاريخ زقاق "نقاشها" يعود لستين عامًا. ومن هؤلاء عباس كاكا زعيم النادي الرياضي لألعاب القوى في الحي، والذي سلك أكثر الشباب نهجه. "الحاج غفور خياط" إمام الصلاة في مسجدنا، لم يكن شيخًا معمّمًا، لكنه كان ذا علم وتقوى وصلاح، وله هيبة المعمّم بين أهل الحي. "الحاج

 


[1]  واستمرّ تعلقي به في ظروف لم أكن أتوقعها قط حينها..- (المحرّر).

 

65


57

للرياضة ترانيم

حسين طلا" من المؤمنين الزاهدين، كان يقيم موائد الطعام على حب الإمام الحسين في ليلة ولادته؛ ويطهو مقدارًا من الأرز ويطعم ثلاثمئة شخص، فيحتار الجميع من بركة تلك الليالي. وفي ليالي السبت ظلّت مجالس الذكر قائمة وحافلة في دار "ناد علي". كما كنّا ننعم ببركة بعض الأفاضل الطيّبين من قبيل الحاج قيصر، والحاج حسن صفوي، الخلوقين، المؤمنين وفاعلَي الخير.

 

وقد أسّسا في الحي برفقة السيد "جوليده نيشابوري" منظمة شعراء الإسلام، فأقاموا الجلسات والندوات الشعرية والثقافية. كل هؤلاء كانوا من قاطني زقاق "نقاشها" لما يقارب الستين أو السبعين عامًا. وبسبب إيمانهم وورعهم وعبوديتهم وببركة أنفاسهم، ساد جو من الإيمان والروحانية في حيّنا. ولأني كنت أحب الشعر والشعراء والهيئات، أدخلني الحاج كمال حسيني بينهم على الرغم من صغر سني، فقد امتلكتُ موهبة وأرضية خصبة في الشعر. فتعلّمت القصائد والبحور والقوافي والأوزان، ورحت أكتب الأشعار الدينية، فكنت أؤلف اللطميات وأعطيها ليلًا للرادود ليقرأها في المجلس.

 

في إحدى الليالي أُقيم المجلس في منزل "الحاج أكبر إقبال فر"، وكان للحاج أكبر عينان كعينيّ الغراب، لهذا لقبوه بأكبر الغراب[1]. وهو من بائعي الجملة في ساحة "أمين سلطان" الذين اعتُقلوا في أحداث حزيران من العام 1963م، لكنه هرب في ما بعد إلى مشهد. ثم ظهر بعد أن هدأت الأوضاع، ولا أعلم إن عاد لمزاولة أمور الثورة في الخفاء.

 

تلك الليلة لفتت انتباهي صورة موضوعة على الرف في منزل "أكبر الغراب"، ولما همّ الخطيب بصعود المنبر ورأى الصورة، قال: "يا حاج،

 


[1]  قدّم الحاج أكبر إقبال فر ابنه هادي شهيدًا في الحرب.

 

66


58

للرياضة ترانيم

أنزل هذه الصورة، سوف تفضحنا".

 

"لمن هذه الصورة؟" سألت الحاج قاسم.

 

"هذا السيد الخميني، من مراجع الإسلام الكبار. وقد نفي الآن وهو يعيش في النجف الأشرف" هكذا أجابني قاسم.

 

كان "أكبر الغراب" يحتفظ بالرسالة العملية للإمام أيضًا. وفي بيته، كانت المرة الأولى التي أرى فيها صورة الإمام الخميني، لكني لم أعبأ بالموضوع لصغر سنّي.

 

في ذلك الوقت عملت في معمل لقص الورق، فقد عرّفني الحاج قاسم من خلال علاقاته ومعارفه الكثيرة في السوق إلى أحدهم لأعمل عنده.

 

معمل قص الورق مكان عملي، مجاورٌ لدكان "مرشد كبابي[1]"، وبالطبع حالفني الحظ عدة مرات ونلت في وقت الغداء سيخ كباب على رغيف خبز من يد مرشد كبابي. كان مرشد من أولياء الله الصالحين، مؤمنًا تقيًّا. اتّسمت حياته وملبسه ومأكله بالزهد والبساطة، وكان حسن المعشر يسعى في قضاء حوائج الناس. يقع دكانه خلف المسجد الجامع، ويبعد عنه خمسين مترًا. وقد كُتب على حائط دكانه: "لا تمش من دون وضوء، إن الأرض تحزن لذلك".

 

 


[1]  العارف الحكيم الحاج ميرزا أحمد عابد نهاوندي المعروف بمرشد كبابي. ولد في طهران، وبادئ الأمر افتتح في شميران برفقة السيد مصطفى كبابي مطعم كباب. وفي ما بعد انفصلا عن بعضهما البعض. فاشترى مرشد دكانًا في الجانب الشرقي للمسجد الجامع في سوق طهران حيث سوق النجارين، وبقي إلى آخر عمره يعمل هناك في تقديم وجبات الكباب مع الأرز. عرف مرشد بهذا الاسم لأنه كان متكلمًا وخطيبًا بارعًا، يتحدث بروية ويستدل أحيانًا بأبيات من الشعر، أو يقدم نصائحه وحديثه في قالب قصص وحكايا مليئة بالمفاهيم والمعاني. كانت حياته بسيطة يسيرة من دون أي تعقيدات ومشاكل، ولم يتوانَ يومًا عن مدّ يد العون للفقراء والضعفاء، يقع مزار المرحوم الحاج مرشد قرب قبر ابن بابويه في مسجد ما شاء الله. نقش أحد أشعاره على قبره اسعَ في كلا العالمين حتى تعرف سر الوجود (من كتاب بهترين كاسب قرن).

 

67


59

للرياضة ترانيم

ناهز عمر السيد مرشد حينها الخامسة والستّين، كان نحيل الجسم، ذا لحية بيضاء قصيرة، ووجه مشرق دائم الابتسامة. يقولون حتى القطط عند دكانه مقسوم رزقها لديه. ريثما يَحضر الطعام يلبس مرشد مريلة بيضاء، ويضع أمام الدكان موقدًا يعمل على النفط، يقَسّم الكباب بالملعقة إلى لقمٍ يطعمها للعاملين لدى أصحاب المهن والفقراء حتى يتذوّقوا طعمه. كتب على باب الدكان: "نقبل الدين، بقدر استطاعتنا".

 

عند الظهيرة، كنت أحيانًا أرى مرشد، يحمل ملعقةً وقدحًا من السمن البلدي الساخن الذي تفوح رائحته الشهية في الأرجاء، ويدور بين طاولات الزبائن ليسكب ملعقة من السمن على الأرز لمن أراده أكثر دسمًا، ومن ثم يُسمعهم بيتًا جميلًا من أشعاره. ومن أبيات مرشد المشهورة:

"كربلاء تعني موطن العشق الحسيني

سكانها نائمون وبالدماء مضرّجون[1]".

 

ذهب قاسم إلى الخدمة الإلزامية عام 1967م. وكانت خدمته في القوات الجوية، وسُلم هناك مخبز الجيش. عند كلّ غروب كان يحمل ما استطاع حمله من الخبز، ويطرق باب كل البيوت ويعطي رغيفين ساخنين للجميع. كثيرون أمسوا ينتظرون قاسم ليأتي ويحضر لهم الخبز. علمت من أحد أصدقائي أنّ قاسم كان على علاقة بالتجار والأثرياء، ومن خلالهم يسدّ رمق عدد من العوائل المحتاجة الفقيرة، لكنّه لا يخبر أحدًا بما يفعله من أعمال الخير. تتلمذ قاسم على يد "الشيخ شجوني"، وبقي على علاقة وارتباط به، وكان يأخذ منه الإرشاد. رحل قاسم فجأة إلى كرج لأسباب أجهلها، مع أنه من أصل طهراني، وكل عائلته تقيم في طهران، ومع ذلك

 


[1]  سرزمين كربلا يعني حسين آباد عشق ساكنانش جمله با يك بيرهن خوابيده اند.

 

68


60

للرياضة ترانيم

ذهب إلى كرج وتزوج هناك وأقام عرسًا بهيجًا في صالة "سياره"، دعاني إليه مع بعضٍ من شباب الحي.

 

أحد الأساتذة الذين تعرفت إليهم عن طريق قاسم، والذي ملأ فراغ غياب قاسم وبُعده عني، هو كبير الحي "الحاج ماشاء الله عبداللهي"، المعروف بـ"ماشاءالله عباس بربر[1]"، كان طويل القامة عريض المنكبين، رياضيًّا مفتول العضلات، حسن الوجه وسيمًا، وحسن المعشر، ومهتمًّا بأمور الناس وحاجاتهم. وفي حين ذهب كثيرون إلى مقهى "ماه طاووس"، هادرين وقتهم وعمرهم فيه، كنت أرى الحاج ماشاء الله كم يشقى ويتعب ويعمل بجد وحرقة قلب في بناء مسجد الحي وفي الأعمال الخيرية.

 

كان "الحاج ماشاء الله" و"جعفر سلاخ" من أبطال النادي الرياضي لألعاب القوى، وقد فتح لي الطريق للدخول إلى نادي "شاه مردون". ظلّ غالبًا برفقة "الحاج إسماعيل قرباني" الملقب ببطل العاصمة. وبقية أصدقائه هم عباس زندي، ومصطفى طوسي، وعباس حريري وغلام رضا تختي.

 

في ذلك الزمن، حظي البطل الرياضي والبهلواني بعظمة ومكانة وكان محطّ اهتمام بين الناس، فله الحل والفصل، وكلمته مسموعة فی الحي من بعد شيخ الجامع والرادود. أما "الحاج ماشاءالله" فقد كان من المؤمنين الصالحين، بالإضافة إلى كونه من عشاق النادي الرياضي، وقد أحبه بقدر ما أحب المسجد. ذات مرة حدّثني في طريقنا إلى النادي وقال: "إن النادي الرياضي مسجدنا الثاني، وله حرمته وقدسيّته، فلا يجب أن تدخله من دون وضوء. في النادي يذكر أمير المؤمنين؛ وببركة هذا الذكر يشفى بعض المرضى؛ ولذا فإن في الغيبة وأكل المال الحرام انتهاكٌ لحرمة

 


[1]  الحاج ما شاء الله بربر أخو الحاج عباس بربر، وكلاهما من الرياضيين والأبطال، ومن المؤمنين العابدين. أصولهم تعود إلى مشهد ولعلهم لقبوا ببربر بسبب شكل أعينهم اللوزية.

 

69


61

للرياضة ترانيم

النادي. إذا أردت أن تحمل اسم النادي وتتفاخر بهذا الاسم فعليك أن تحفظ عينك ولسانك، عش ببساطة كأي شخص عادي، ولكن، احفظ حرمات الناس وأعراضهم، وراعِ الحلال والحرام. وعليك أن تسلك الطريق نحو الله، وهو طريق البر والإحسان لعباد الله".

 

كان نادي "شاه مردون" يقع في شارع "ري" بمنطقة "انبار كندم"، وهو بناء مؤلف من طبقتين، بوابته قصيرة. في الطابق السفلي أُقيمت قاعة منخفضة للتدريب، وفي الطابق العلوي يوجد إيوان فُرش بحلبة مصارعة يتدرب ويتبارز عليها الرياضيون وأبطال المصارعة الشعبية. فيما بعد هُدم مبنى النادي وضُمّت أرضه إلى حديقة عامة.

 

كنت أنا أصغر المبتدئين في النادي. كان عرفًا سائدًا بأنه لا يحق للرجل أن تطأ قدمه داخل النادي حتى يكتمل شاربه أو كما يقولون: حتى تعلق الفرشاة في شعر ذقنه. وعندما يدخل يعتبر مبتدئًا، ويجب أن يجلس لفترة مع المتفرجين إلى حين أن يتقن فنون هذه الرياضة، وحينها يدخل بين المتدربين والرياضيين. عندما جئت إلى النادي، قام الحاج ما شاء الله بعقد الحزام على خصري؛ وهذا الحزام يُعقد على خصر المبتدئ بطريقة خاصة لا يتقنها إلا الخبيرون والمتمرسون. أما هو فكان يرتدي قميصًا وبنطالًا عريضًا وقصيرًا ويضع الحزام أيضًا. والقصد من وضع الحزام هو التشابه والتناسق في اللون والملبس بين الرياضيين. في النادي الرياضي الكل سواسية؛ فلا فضل لأبيض على أسود ولا فضل لأمير على فقير، وهذه ميزة النادي. فيما بعد خاطوا البنطال بشكل أضيق وقصّروه إلى الركبة، ثم عرّقوه وشجّروه بالتصميم الأصفهاني، فأصبح بالشكل الذي هو عليه اليوم.

 

في النادي الرياضي لا يتحدّث أحدٌ أو يتفاخر بحسبٍ أو نسبٍ أو جاه.

 

70

 

 


62

للرياضة ترانيم

فالتعامل مبني على أصل ثابت هو الصدق والإيمان. ولذلك بنوا مدخل النادي قصيرًا حتى تحني رأسك منذ اللحظة الأولى التي تخطو فيها إلى النادي، فتضع الغرور والتكبر جانبًا. فالتواضع هو أول درس يتعلمه الرياضي، ولذلك يبنون ساحة التدريب منخفضة عن سطح الأرض ومكان جلوس المتفرّجين.

 

نقش على مدخل نادي "شاه مردون" هذا البيت من الشعر:

"من الحركة والقوة تأتي الرجولة

ومن الكسل والضعف تأتي الخمولة"

 

قبل البدء بالتمارين الرياضية، كان "الحاج ماشاءالله" يعلّمنا حديثًا دينيًّا ويقول على الدوام: "الأحاديث والروايات تصونكم وتمنع عنكم المفاسد".

 

ثم يقوم المرشد أو الدليل الجالس في مكانه المخصّص، بالترحيب بكل شخص، وتقديمه إلى مكانه المخصّص حسب مرتبته. على سبيل المثال يكتفي بالتلويح بيده والقول "أهلًا وسهلًا" للترحيب بالمبتدئين. ويرحب بالمتمرسين بقرع الجرس والصلوات، وبالأبطال البهلوانيين بقرع الجرس والقول "شرّفنا البطل". ويرحب بالسادة وكبار السن بقرع الجرس والصلوات العالية ويقول: "أهلًا وسهلًا. شرفتنا.. على محبة علي: صلوات" وهكذا. وحين يستوي كلّ شخص في مكانه المحدد، يقرأ المرشد أشعارًا في مدح أمير المؤمنين، وأبياتًا من الشعر في الثناء على الله والرسول ويضرب على الدف، فيخشع المستمعون. ثم يتدربون ويتمرنون وهم يسمعون هذه المدائح، فكأنّ الفرد -كما يقولون- يهذب ويبني الروح والجسد في آن.

 

يحمل الرياضيون العصا ويرفعونها 40 مرة وهم يعُدون: "واحدٌ اللهُ

 

71

 

 


63

للرياضة ترانيم

الرحيم، اثنان لا عظيم غير الله... أربعون، صلوات على خاتم الأنبياء".

في نادي الرياضة، يجب أن تكون كل حواسنا متوجّهة إلى الله، مثل العبادة. أمّا الأداة المستعملة فهي عصا خشبية رفيعة من أحد أطرافها حيث يمسك بها الرياضي وغليظة من الطرف الآخر وهي ترمز إلى السيف، وتكون ثقيلة حتى يتدرّب بها المنتسب ويُقوّي عضده، ويَقوى على محاربة الظلم والاستغلال في زمانه.

 

بعد ذلك يأتي دور القوس الخشبي، وهو يرمز لقوس النشاب، فيوضع على الأرض ويستلقي الرياضي على بطنه ويرفع نفسه بيديه اللتين يضعهما على القوس، ويتدربون عليه ويمارسون تمارين الضغط بأشكال مختلفة، والمرشد يردد: "واحد الله واحد، اثنان لا عظيم إلا الله.".

 

ثم يحملون اللوح الخشبي الشبيه بالدرع، ويرمز إلى الدرع التي يحملها المقاتلون، ويوجد منها أوزان مختلفة تبدأ بعشر كيلوات وتصل حتى الثلاثين. رأس اللوح مقوّس، ويصنع هكذا فقط ليكون شكله أجمل لا غير، فيرفعونه ويتدربون به وأيضًا يردد المرشد: "واحد الله واحد، اثنان لا عظيم إلا الله..".

 

وفي النهاية، ينتهي التدريب بالدعاء الذي يردده المرشد: "اللهم العن الشمر، اللهم العن يزيد. إلهي بحق محمد وآل محمد، اكتبنا من محبي علي...".

 

أحد التقاليد والأعمال الجيدة في النادي التي ما زالت تقام إلى يومنا هذا، هو حلّ مشكلات وعقد من ضاقت بهم الدنيا وأصبحت سمعتهم على المحك. فتكون المراسم بالترتيب التالي، يقوم المرشد بتنظيم عرض رياضي، مثل الحفل المسمّى "كل ريزان"، ويقوم الجميع بتمارين الضغط

 

72


64

للرياضة ترانيم

وفي النهاية يحمل كيس قُنَّب، ويدور بين الجميع في النادي قائلًا: "أضاء الله في عمرك، وأبعد عنك المرض والسقم، وأنجاك من الظلم والظلمة، وحفظ ماء وجهك بين العيال والأولاد، أجرك على حبيب بن مظاهر...".

 

وحينها يضع الجميع النقود في الكيس كلٌ بقدر ما يريد، بحيث يدخل الشخص يده في الكيس فلا يُعرف المبلغ الذي تبرع به، كي لا يتسرّب الكبر والرياء إلى قلب الفرد. ثم يقدّم هذا المال للمرشد وللمستخدم في النادي ليقتات منه، أو يُقدم لمساعدة من مال عليه الزمن، وبات من ضعفاء الناس وفقرائهم.

 

أحد الأبطال الرياضيين في ذلك الزمن "شعبان جعفري" وكان اسمه أشهر من نار على علم.

 

أذكر جيدًا أنه أقام في يوم ميلاد "الشاه" احتفالًا كبيرًا لا نظير له في ناديه الواقع في "بارك شهر" وصلت أخباره إلى كل أرجاء المدينة. وقد دعا إليه كل الرياضيين؛ لكن الحاج ماشاءالله لم يأذن لنا بالذهاب حتى للتفرج، ومنعنا قائلًا: "شعبان، ليس متديّنًا، وهو على صلة بالشاه وحاشيته، لذا لا نستطيع أن نعتبره بهلوانًا ونقبل دعوته".

 

صحيح أنّ شعبان كان من روّاد نادي ألعاب القوى والمصارعة الشعبية (الزورخانه)، إلا أنه لم يكن يملك مصباحًا يضيء طريقه ويهديه إلى الصواب. وسمعت أنه أدخل الراقصات والمغنيات إلى النادي في ذلك الحفل. لم يكن دخول المرأة إلى النادي مقبولًا لدى البهلوانيين الأوائل والكبار.

 

انضممت إلى نادي أبو مسلم للمصارعة في عام 1974م، نظرًا لتعلّقي الشديد برياضة المصارعة، وكنت أذهب مرة أو مرتين أسبوعيًا للتدريب، علّمني السيد "كودرزي" فنون المصارعة وأساليبها. وفي ذلك النادي

 

73

 

 


65

للرياضة ترانيم

تعرفت إلى أصدقاء جدد، أشداء وأقوياء في المصارعة. من بينهم جعفر جنكروي، وإبراهيم هادي*[1] وأصغر رنجبران...

 

كانوا أكبر منّي بسنة أو سنتين، ويفوقوني خبرةً وتجربةً في المصارعة؛ ولكن شيئًا فشيئًا تقرّبنا من بعضنا البعض وصارت تربطنا صداقة حميمة.

 

بعد فترة جاءنا شابٌّ وسيمٌ، حسن الوجه، قوي البنية، مفتول العضلات، أسمر اللون، أسود العينين، ذو هيبة ومظهر رجولي جذاب، وبسرعة كبيرة أصبح اسمه متداولًا على ألسن الجميع؛ أحمد متوسليان.

 

بدا عليه من النظرة الأولى أنه قوي متعجرف، لذا كانوا ينادونه "أحمد الأسود".

 

قالوا إنّه طالبٌ في الجامعة، ويشارك أحيانًا في النشاطات السياسية. تدرّب في النادي على الملاكمة، وكانت علاقتي به سطحية لا تزيد عن السلام وردّ السلام. كنت أراه مرة في الأسبوع تقريبًا، ثم بدأنا نتعرف إلى بعضنا بعضًا أكثر فأكثر. هو من أبناء حي "ميدان قيام". كنتُ حينها عاشقًا للنادي وللهيئة وأمضي وقت فراغي فيهما، ولم أكن أتعاطى السياسة، لذا لم ألحق كثيرًا بالحاج أحمد.

 

في شهر محرم من عام 1975م.، في يوم عاشوراء، أقيم مجلس العزاء في منزلنا. كانت أمي وأخوالي يعدّون الأيام، متحمّسين لدورهم في هذا الإحياء، خلافًا لبعض النساء اللواتي اختلقن الأعذار والحجج حتى لا تقام المجالس في بيوتهن حينها، فاستضافة الهيئة وإقامة المجلس لم تكن بالأمر الهيّن. إذ تطلّبت الكثير من المراجعات والقيام بالعديد من الخطوات الإدارية، كأن تقدم طلبًا لمخفر الشرطة في الحي، وتأخذ موافقة رسمية

 

 


[1]  بطل قصة سلام على ابراهيم - ترجمت وصدرت عن دار المعارف في عام 2017.

 

74


66

للرياضة ترانيم

بإقامة المجلس؛ وإن لم تفعل اقتحم رجال الشرطة بيتك، وأغلقوا الهيئة وعطّلوا المجلس. في تلك السنة حين أقمنا المجلس في بيتنا، وطُلبت لمراجعة المخفر على أنني مؤسس الهيئة وصاحب المجلس.

 

ذهبت؛ وقابلتني امرأة غير محجبة جالسة خلف مكتبها، وبدأت تسألني وتستجوبني. أعطتني ورقةً وقلمًا وقالت: "أكتب من المشرف على الهيئة، ومن مؤسّسها، ومن الذي يقرأ العزاء لكم، ومن الرادود فيها".

 

أجبت عن كل هذه الأسئلة خطيًّا ووقّعت أسفل الورقة.

 

بعدها أصبحت تلقائيًّا ممثل الهيئة وأقود اللاطمين، فقد كانت هذه المهمة تناسبني، وهي متجذّرة في ذاتي ومعدني وتجري في عروقي.

 

كلّما انطلقنا في المسيرة حرص بعض عناصر الشرطة على المشي بجانبها لمراقبتنا حذرًا من أن يطلق البعض شعارات مناهضة للشاه، وتتحوّل المسألة إلى سياسيّة.

 

في إحدى المرات، نظم السيد "سازكارا" لطميةً لمجلسنا، فيها طعمٌ سياسي؛ وكان أحد أبيات اللطمية:

"بعزمنا وهمتنا بقاء الإيمان / لن يستمر سوى نظام القرآن"

 

على الفور نقل المخبرون ذلك، وانهال علينا رجال الشرطة، واعتقلوا "ناصر كلهر" والسيد "سازكارا" واقتادوهما إلى المخفر. فقام حسن قصاب، وكانت له معارف كثيرة في صفوف الشرطة والمخابرات، بإجراء بعض الاتصالات، ونجح في فك أسرهما.

 

لكنّنا لم نكن نبالي بهذه المسائل، وسعيْنا دائمًا لإقامة المراسم والمجالس بهدوء وسلام وبشكل يرضي أهالي الحي ويضمن سلامتهم.

 

75


67

بين إلزام واختيار

بين إلزام واختيار

 

لو سقط جسدي الفاني، لن أكفّ عن نُصرة الخميني

 

في شتاء العام 1977م. التحقت بخدمة العلم الإلزاميّة[1]. وجاءت خدمتي في القوات الجوية للجيش ودورتي العسكرية في مدينة تبريز. ذهبت ولم أكن أعلم ماذا ينتظرني وكيف سأتحمل البقاء هناك، ورحت أفكر في نفسي: أنا في طهران بالكاد أتدبّر أمري، فكيف بي في تبريز. إضافة إلى ذلك فسوف يجبروننا على حلق رؤوسنا، وهذا الأمر لا يعجبني ولا يروقني أبدًا.

 

كان المعسكر التدريبي خارج مدينة تبريز، ولعلّه يبعد عن المدينة حوالي خمسة عشر كيلومترًا.

 

لم أقوَ على تحمل شتاء تبريز القاسي، وبردها القارس، وصقيعها الذي يفتّ الحجر. خاصة أن الثكنة العسكرية تقع وسط صحراء قاحلة مغطاة بالثلج، وفي المسافة الفاصلة بين الثكنة العسكرية والمدينة لا يوجد أي تجمع سكني. لا أعلم كيف أمضيت اليوم الأول، لكني في اليوم الثاني هربت من الثكنة العسكرية، وبشق الأنفس وبصعوبة بالغة، تنقلت من

 


[1]  كانت تلك أوّل حبّة من سبحة حياتي العسكرية، وبعدها تعدّدت الحبّات والمعابر.- (المحرّر).

 

77


68

بين إلزام واختيار

سيارة إلى أخرى حتى وصلت إلى طهران. عندما وصلت إلى المنزل كانت أمي تطهو حساء الخضار لتقوم بتوزيعه بنية عودتي سالمًا؛ وما إن رأتني حتى صاحت: "أبو الفضل! لماذا عدت؟ ألم تذهب إلى الخدمة العسكرية؟".

 

أمضيت عدة أيام أتسكّع في الحي، ومن ثم عدت إلى تبريز؛ لكني لم أستطع أن أتحمّل المعسكر التدريبي. ولم يمض أسبوع حتى هربت مجدّدًا، لكني هذه المرة ذهبت إلى "محمود آقا كلهر"، والد أحد أبناء حيّنا في تبريز. فلفّ "السيد محمود" يدي بجبيرة من جص كعذرٍ لهروبي، ومن خلال الوساطات والتودّد إلى هذا وذاك، تمّ نقلي إلى ثّكنة "جكش" العسكرية التابعة للقوات الجوية في طهران.

 

في اليوم الأول، وأثناء التدريب الصباحي، جاء رئيس الثكنة العسكرية الضابط "خاتمي"، وقال: "اصطفوا.. بسرعة".

 

ما إن اصطففنا حتى شرع بالصياح في وجوهنا قائلًا: "هذا الولد، ابن الكلب، جاءني يقول يا سيدي، إذا أردت أن أودع مالًا في حسابك، فكيف السبيل إلى ذلك؟ كم أضع لك في حسابك شهريًّا حتى أتأخر ساعة واحدة كل صباح؟ يريدني أن أقول له مثلًا رقم حسابي 618 في بانك "ملي"، فرع "جاله". .. تظنون أنّكم إن أتيتم على أربع عجلات[1]، تستطيعون أن تشتروا ذمتي؟".

 

بقي الضابط يخطب ويصيح فينا نصف ساعة، وقد وصلت رسالته بشكل جيد. فأنا ابن طهران وقد فهمت مراده على الفور، وتلقّيت رسالته من أول الحديث، وعرفت ماهيته وهدفه. الماكر أراد أن يقول بين السطور ادفعوا لي الأموال. فالذين امتلكوا المال أو الوساطات كانوا

 


[1]  تحقيرًا للسيارات الفاخرة التي يأتي بها بعض المترفين.

 

78


69

بين إلزام واختيار

يتولّون الأعمال المكتبية والخدماتيّة. أما أبناء القرى والمدن الصغيرة، من غير الطهرانيّين فيتولّون الحراسة وأصعب الأمور.

 

في اليوم التالي، أوعز لنا بالاصطفاف، وكالفرعون وقف بشموخ وقال: "نريد 120 شخصًا للأعمال الإدارية. واحد، اثنان، ثلاثة،... 119... له له، هناك شخصٌ ناقص..".

 

وبدأ بالعدّ من جديد. فقفزت كالبرق وخرجت من صفي ووقفت في صف الـ119 الذين عدّهم فاكتمل الصف وأصبح العدد 120 شخصًا.

 

لكنّ الضابط كان حاذقًا جدًّا، وأدرك أني غيرت مكاني. فرمقني بنظراته وقال: "تعال إلى هنا. ابن من تكون؟"

 

تلعثمت في بادئ الأمر، وطأطأت برأسي إلى الأرض. دارت في رأسي أسماء كثيرة ومختلفة ولا إراديًّا، قلت له: "أنا من أقارب العقيد هويدا".

 

الضابط هويدا كان من المسؤولين الرفيعين، وذو رتبة عالية في الجيش، لم أكن أعرفه شخصيًّا، وكنت قد سمعت باسمه ذات مرة.

 

حالفني الحظ وأكل الطعم ومضى الأمر على أحسن وجه. وقد عينني المغفل في القسم الإداري لمعسكر قصر "فيروزه"، وأخذت إجازة في اليوم الأول وعدت إلى البيت سعيدًا مسرورًا.

 

امتلكت في ذلك الوقت دراجة نارية صغيرة من نوع "هوندا"، فصرت بوساطتها أذهب إلى الثكنة العسكرية وأعود منها. في أحد الأيام وأنا في الطريق إلى الثكنة لفت انتباهي بناءٌ لمستشفى قيد الإنشاء والإعمار [إلى جانب الثكنة]، ورأيت مجموعة من العمال الأكراد يعملون فيه. ركنت دراجتي النارية في زاوية ما، ثمّ تقدمت نحو العمال وسلّمت عليهم. وكان بحوزتي علبة من الشاي بزنة كيلو غرام واحد فأعطيتها لهم، فاكتسبت

 

79


70

بين إلزام واختيار

بتلك السرعة والبساطة صداقتهم.

 

ومنذ اليوم التالي صرت آتي بثيابي المدنية، أركن دراجتي في مبنى المستشفى الذي كان قيد الإنشاء، فأرتدي بدلتي العسكرية المستودعة عند الأكراد في غرفة تبديل الملابس، وأدخل المعسكر عبر شبكة ممزقة وضعت على ثغرة في الجدار الفاصل بين المعسكر والمستشفى.

 

بعد التجمّع الصباحي، غدوت أنجز وظائفي وأنهي أعمالي حتى العاشرة أو الحادية عشرة على أبعد تقدير وأهم بالهروب.

 

بعد عدة أيام انتقلت إلى قسم الحراسة في المعسكر. في اليوم الأول من الحراسة حيث كنت أرتدي البزة العسكرية وأحمل سلاحي وأؤدّي نوبة الحراسة والمراقبة، خطر ببالي أن أجول في أطراف الثكنة وأستكشف تفاصيلها وخباياها. خلف المعسكر رأيت ورشات منازل سكنيّة تابعة للمؤسسة العسكريّة. أبنية قيد الإنشاء ويطلق عليها "قصر فيروزه" الثاني، وهي تحت إشراف اللواء محمدي والنقيب آقا خاني والرقيب أوّل ميرراشد؛ ولم تكن جاهزة للسكن بعد. وكان المدعومون من قبل هؤلاء الضباط يحرسون تلك الأبنية، اثنان أو ثلاثة منهم يدهنون قطع الحديد، واثنان يقودان السيارات.

 

كلّ جندي فُرز إلى هناك، كان يحرس يومًا ويستريح في اليوم التالي. فتكلمت مع النقيب أوّل ميرراشد وقلت له إنّني دهّانٌ ماهر. وهو بدوره أرسل كتابًا إلى الملازم بهمنش. فلا أعلم إن كان الحظ قد حالفني أو الفضل يعود لشيء آخر، على كل حال تم قبول طلبي.

 

وشاء القدر وجرى القضاء بأن يصبح ابن زقاق نقاشها، دهانًا لأبواب الثكنة العسكرية وجدرانها. فصرت آتي في الصباح وبثيابي المدنية وشعري

 

80


71

بين إلزام واختيار

الطويل والمنكوش، أدهن قطع الحديد حتى الظهيرة، أتناول وجبة الغداء، ومن ثم أدير ظهري وأغادر إلى المنزل.

 

وهناك عند ظهيرة كل يوم بعد الغداء، كانت رائحة الترياق تفوح في أرجاء المبنى. رغم أنّ اللواء محمدي رجل مؤمن لا يترك فرض صلاة، لكنّه كان يدخّن الترياق. فيجتمع هو وأقرانه وزملاؤه في اللواء كل يوم يشعلون المنقل ويشرعون في تدخينه. في ذلك الوقت تقرّبت منه شيئًا فشيئًا. ووجدته لطيفًا رحيمًا مؤمنًا. لم أعبأ بعيوبه الأخرى؛ لأنه لم يكن يؤذيني في شيء. ذات يوم ناداني اللواء وقال لي: "هل تعرف قيادة السيارات؟" أجبته على الفور: "نعم سيدي، أعرف".

 

فقال: "نسّق مع أهل بيتك، وأخبرهم أنك ستبقى في العمل لعدة أيام! سنذهب إلى الشمال".

 

في اليوم التالي ذهبنا معًا إلى منزله، كان لديه سيارة من نوع "آريا" مركونة أمام منزله. جهّزناها وجلست أنا خلف المقود، واللواء جلس بجانبي، وفي الخلف زوجته وابنتاه. ذهبنا إلى مدينة "بابلسر" الساحلية. حيث يملك فيلا كبيرة هناك بجوار الشاطئ. والمكان مليء بالعمداء والضباط الذين اجتمعوا هناك. كانت معاشرتهم وقضاء الوقت معهم شيئًا ممتعًا، وتجربةً جيدة.

 

جالتْ ابنتا العميد اليافعتان في الأرجاء من دون حجاب، لكنّني لتديّني كنت أنظر إليهما بعين الأخوّة؛ ولهذا وثق اللواء بي أكثر فأكثر. فصار يأخذني معه أينما ذهب، حتى إنّه كان يوكل لي الاهتمام بابنتيه وزوجته ويذهب لقضاء بعض الأعمال. تعجبت لأمر زوجته التي كانت لا تؤخّر فريضة صلاة، وتؤدي الصلوات في أول وقتها، الأمر الذي بدا لي

 

81


72

بين إلزام واختيار

غريبًا وغير مألوفٍ من امرأةٍ تعيش في تلك الأجواء وفي ذلك الزمن.

 

ذات يوم سقط أحد المساكين من الطابق الرابع من تلك الأبنية التي كانت قيد الإنشاء ومات على الفور. لهذا نُقلت وأربعة أشخاص آخرين كنا نعمل هناك إلى خدمات الثكنة. وقالوا لنا: "ابقوا هنا ما بين العشرة والخمسة عشر يومًا، وسنعيدكم إلى حيث كنتم".

 

نُقل معنا نحن الخمسة في ذلك القسم، شخص برتبة رقيب أوّل، وأُبعد من معسكر "ورامين" إلى معسكرنا، فأصبح المسؤول علينا، وكان اسمه "كله كوهي".

 

في يومنا الثاني من مأموريتنا في القسم الجديد، ناداني "كله كوهي" أثناء التجمع الصباحي، وقال لي: "تعال إلى هنا يا بن.. لماذا لم تقصّر شعرك؟".

 

وأنا الذي كنت ابن طهران، وأعتبر نفسي ذكيًّا وحاذقًا، انزعجت منه وآذاني كلامه. بقيت أفكّر وأتأمّل: ما هذا الكلام الذي قاله لي أمام الشباب؟! إنّه الوقت المناسب لأردّ عليه وألقنه درسًا لا ينساه.

 

فاستدرت نحوه وقلت له بصوت عال وثخين: "تكلم بشكلٍ لائق".

 

لم أنتظر رده وعلى الفور هاجمته بنطحةٍ من رأسي على أنفه! وماذا حل بهذا الأنف؟ انكسر أنفه وسال الدم وامتلأ وجه "كله كوهي" دمًا.

 

انهالوا عليّ وأمسكوا بي ورموني في زنزانة في سجن القوات الجوية. بقيت في السجن مدة ثمانٍ وأربعين ساعة. وكان معي هناك خمسة أو ستة أشخاص آخرين، وكنا جميعًا مسجونين لمخالفات سلوكية وانضباطية والخوض في شجار وعراك. ما خلا سجينًا سياسيًّا وجدوا بحوزته أسلحة، وتمّت مصادرتها. كان يتحدّث على الدوام عن الإمام الخميني.

 

82


73

بين إلزام واختيار

في تلك الفترة بدأت تكثر المظاهرات ضد الشاه وتعمّ المناطق. فجأة صرت ترى كل الجدران والأبواب مكتوب عليها الموت للشاه، وشعارات مناهضة له. وأضحت رائحة الثورة تفوح في كل مكان.

 

بمجرد أن خرجتُ من السجن، قال لي أحد الشباب: "كله كوهي يطلبك، ويريدك أن تذهب إليه". ذهبت للقائه، وما إن دخلت عليه حتى قال لي: "ماذا فعلت يا ولد؟".

 

نظرت إلى أنفه الذي كان ما زال متورّمًا ومحمرًّا، ثم حدّقت في عينيه بنظرات حادة وقلت له: "لمَ نلت أنت من أمي وكِلت لها الشتائم؟".

 

تجادلنا لفترة وجيزة وردّ عليّ ورددت عليه، وكان قد فهم جيدًا من أكون وما أكون. عندما عدت إلى المنزل قصصت على أخي السيد باقر ما جرى، وكان السيد باقر حاذقًا وفطنًا. في اليوم التالي ذهبت مع السيد باقر وأحد أصدقائه الذي يدعى "حسين كاشي" إلى ورامين، وقصدنا شخصًا يَدّعي أنه أذكى أذكياء ورامين، ويُدعى "مرتضى بلنك دره اي". لن أتعبكم وأوجع رأسكم بالتفاصيل؛ يكفي أن أقول إنّ مرتضى هذا كان قد خرج من السجن مؤخرًا بعد تسع سنوات من سجنه بسبب قضية قتل. أعدّ مرتضى لنا الكباب وعندما جلسنا إلى الطعام قصّ عليه السيد باقر ما جرى معي من شجار.

 

سألني "بلنك دره اي" عن ملامح الرقيب أوّل، وطلب مني أن أصفه له، ثم تأمل قليلًا وقال: "إ..عباس كله كوهي! أعرفه جيدًا!".

 

صعدنا جميعًا السيارة وذهبنا إلى منزل الرقيب أوّل كله كوهي. وعندما سألنا عنه، قالوا إنّه ليس هنا، وقد ذهب إلى قرية جليل آباد. تبعناه إلى قرية جليل آباد. وهناك طرقنا باب أحد الوجهاء في هذا الحي فوجدنا عددًا

 

 

83

 


74

بين إلزام واختيار

من الفضلاء مجتمعين عنده في دارته عند بركة الماء، وجالسين على بساطٍ افترشوه على الأرض. ورأينا "كله كوهي" وصاحب الدار وبعض الأشخاص حول منقل الفحم. كانوا عابسين، مضطربين ومنزعجين! لكنّ أحدهم كان يخفي ابتسامته وضحكته، ثم صاح: "أحضر الخروف المشوي يا سيد".

 

جلسنا حول مائدة الطعام وصرنا أصدقاء أنا و"كله كوهي". "كله كوهي" فهم جيدًا أني شخص مدعوم، وعلم كيف يتعامل معي من حينها. وفي اليوم التالي، عينني في أفضل المكاتب الإدارية في الثكنة.

 

بعد ذلك، صرت أذهب كل صباح بالدراجة النارية إلى الأكراد وبشعري الطويل، فأبدّل ثيابي وأرتدي البزّة العسكرية، وأنجز بعض الأعمال الإدارية البسيطة، وعند الظهيرة أعود عبر الشبكة المهترئة لأرتدي ثيابي المدنيّة، وأقصد المنزل على دراجتي.

 

ترافقت هذه الأحداث مع اندلاع الثورة واحتدام الصراع، وقد أصبح اسم الإمام الخميني متداولًا على كل لسان في أرجاء البلاد، وصارت بيانات ورسائل الإمام تتناقل من يد إلى أخرى. إلى أن حل الثامن أو التاسع من تشرين الثاني عام 1978م[1] حين أصدر الإمام أمرًا للعساكر بإخلاء الثكنات والمعسكرات.

 

نحن أيضًا كنا وسط هذه الجموع وانخرطنا بين العساكر الفارين، وتركنا الثكنة العسكرية وعدنا إلى منازلنا. في ذلك الزمن، لم أكن قد انخرطتُ في ميدان السياسة بعد، مع أن الشارع حينها كان يغلي بالمظاهرات والاحتجاجات، والاعتقالات، والقبضة الأمنية كانت على أشدّها، والناس قد ملأوا الشوارع هاتفين منادين بشعارات قوية وقاسية ضد الشاه.

 

 


[1]  السابع أو الثامن عشر من شهر آذر عام 1357ه ش.

 

84


75

بين إلزام واختيار

ذات يوم، كنت واقفًا عند مدخل الحي، فرأيت على بعد زقاقين مني، امرأةً ترتدي تشادورًا أبيض اللون، ترجّلت من سيارة مرسيدس. بدت من بعيد أنها جميلة وحسنة البنية والقامة، لكن لم يكن وجهها واضحًا لي. كما بدا لي أنها غريبة وليست من أهالي ذلك الحي، وخاصةً أنها كانت تقود سيارتها. وفي تلك الأحياء من النادر أن تجد امرأة تقود سيارة أو تعرف القيادة.

 

ترجّلت السيدة ودخلت إلى الصيدلية، ولم تمض دقائق حتى خرجت منها وصعدت في سيارتها وذهبت.

 

مرّت هذه القصة وانقضت، وانخرطتُ في ميدان السياسة، ودخلت عالمها تدريجيًّا عن طريق قاسم وأصدقائه. بينما كانت نار الثورة تستعر شيئًا فشيئًا، انشغلت أنا بمجرياتها وأحداثها المتسارعة، فنسيت تلك المرأة وغابت عن بالي تمامًا.

 

وبما أنّ قاسم كان يعيش في كرج، كنا نتواصل ونبقى على تواصل دائم عن طريق هاتف "الحاج غلام" البقال في مدخل حيّنا، والذي كنتُ بحق مدينًا له ولأتعابه وأفضاله. أما الرسائل السرية والخاصة فكنت أتلقاها عن طريق أصدقاء الحاج قاسم وحلقات الوصل بيننا.

 

منذ أن هاجر قاسم إلى كرج، قلّت لقاءاتنا كثيرًا؛ فكنت أتذرّع بالذهاب إلى رياضة المشي وتسلق الجبال في أيام الخميس والجمعة حتى أراه في هذين اليومين، وذلك على طريق تشالوس البعيد.

 

كنت أحب "قاسم[1]" وأكنّ له المودة والاحترام وتعلّقت به إلى درجة أني كنت على استعداد للّحاق به حتى لو ذهب إلى مدينة أبعد من

 


[1]  وما كنت أحسب حسابا لكل المواقف والأحداث التي جمعتنا لاحقًا..- (المحرّر).

 

85


76

بين إلزام واختيار

كرج. بلغت منزلة قاسم عندي أعلى وأرفع من منزلة معلم أو صديق أو جار في الحي؛ أعلى بكثير. فمن خلال دروس القرآن والأخلاق، صقل قاسم عقلي وذهني، وساقني إلى فكرة المواجهة مع الشاه. وتحت غطاء هذه التعاليم الدينية، علّمني الشعارات والكلام الثوري الحادّ، وبدّل حياتي وقلبها رأسًا على عقب؛ حيث كان يكلمنا ويحدثنا عن أعمال نظام الشاه وممارساته التعسفية والاعتقالات والاغتيالات والظلم والفقر والجور وانعدام العدالة. أما نحن فكنا شبانًا مندفعين تتملّكنا الحماسة للثورة والمواجهة. ولما كان كلام قاسم نابعًا من العقل ومبنيًّا على المنطق والصدق والوقائع، تقبّلنا كل أقواله بقلوبنا وأرواحنا.

 

صرت أذهب كل أسبوع تقريبًا مع حسين محمودي إلى طريق تشالوس. حيث كان لقاء قاسم بنا هناك أكثر سهولة. فكنّا نحدّد نقطة إلتقاء، ونتّفق على زمان محدّد للاجتماع.

 

في أحد أيام الجمعات، ذهبت برفقة ثلاثة عشر شابًّا من شباب الهيئة إلى بستان "سي سي" المحدّد للّقاء، وهو بستان في غاية الروعة والجمال يقع بجوار طريق تشالوس.

 

وما إن وصل الحاج قاسم حتى قال لنا: "دعونا نستغلّ وقتنا ونتمشّى في المكان".

 

فبدأت نزهتنا في ذلك اليوم، حيث قطعنا ما يقارب اثني عشر كيلومترًا سيرًا على الأقدام، بين الوديان والمرتفعات، حتى بلغنا وسط جبل. فتسابقنا إلى تسلّقه لنصل إلى مرتفع فيه، فكان المشهد الرائع حيث أشرفنا على المدينة وجادة تشالوس. أخذ قاسم يصور المنظر البديع بآلة التصوير التي بحوزته، لاحظنا بالقرب منا وجود تجويف أشبه بالغار فيه فتحة

 

86


77

بين إلزام واختيار

سوداء اللون ومظلمة، لم نتمكن من تحديد عمقه. لكن، بدا لي أنه يتّسع لشخصين أو ثلاثة، كنت متيقّنًا من ذلك. دخل قاسم الغار، وبعد ربع ساعة أو عشرين دقيقة، خرج وهو يحمل على كتفه كيسًا من القنّب. ثم وضع الكيس على الأرض، قلبه رأسًا على عقب، فسقطت أمامنا خمسة مسدسات أتوماتيكية وبعض الرصاصات.

 

قال الحاج قاسم: "هيا احملوها؛ لدينا اليوم تدريب على الرماية. كنت قد خبأت هذه الأسلحة في هذا المكان منذ مدة، لا تفكّروا كثيرًا في الأمر. عندما تحين الفرصة سوف أشرح لكم كل شيء".

 

ثم بدأ بالحديث عن الشاه والمواجهة معه، وهدف هذه المواجهة. وبينما كان يتحدث ويستفيض في الحديث، تعلمنا كيفية فك السلاح وتركيبه وطريقة تلقيمه، ودربنا على ذلك.

 

ومن ثم درّبنا على الرماية، فأطلق كل واحد منا حوالي 8 طلقات نارية، ونحن جالسون ومنبطحون. صوّبنا ورمينا على كل ما كان يصلح كهدف من حولنا: على الأحجار البارزة، أو الفواصل بين الأحجار في الجبل. مع أني كنت قد قضيت دورة عسكرية في خدمة العلم، وتعلمت حمل السلاح، ولكنّ المسدس كان غريبًا وجديدًا بالنسبة لي، وكانت يداي ترتجفان. فلما رآني الحاج لا أجيد الرماية، قال: "يجب أن لا ترتجف أيديكم. أولًا صوبوا على الهدف، ثم أطلقوا النار عليه بدقة". ومع كل طلقة، كان صوتها يلفّ أرجاء الجبل وينعكس صداه ويتردّد.

 

وبعد أن أمضينا حوالي الساعتين في التدريب، جمع قاسم المسدسات في الكيس نفسه، لكنّه لم يضعها في الغار، وقال: "يجب أن أغيّر مكانها، إذا بقيت في مكان واحد من الممكن أن تنكشف ويفتضح أمرنا".

 

87


78

بين إلزام واختيار

عندما عدنا إلى بستان "سي سي" كانت الشمس قد غابت، والجو قد أصبح مظلمًا. وبعد أن ودّعنا "قاسم"، عدنا أدراجنا إلى طهران، وعاد هو إلى كرج.

 

بعد أيام، ناداني الحاج غلام البقال، وقال لي: "حاج قاسم اتصل، يريد التحدّث إليك". عندما كلّمته قال لي: "تعال غدًا في الصباح الباكر إلى كرج لوحدك".

 

بعد ساعة تقريبًا رأيت "حسين محمودي" عند مدخل الحي. قال لي إنّه ذاهب إلى كرج يوم غد. لم يجرؤ أيٌّ منا أن يخبر الآخر أنّ الحاج قاسم تكلم معه وطلب منه المجيء إلى كرج، وأنه على تواصل مع الحاج ويأخذ الأوامر منه.

في اليوم التالي، اجتمعنا في بستان "سي سي"، وكان هناك حسين محمودي، وأمير عطري، وحسين شفيعي، ومحمد مشهدي باقر، والحاج داوود نيازي، التقينا بقاسم، وحدّثنا عن مقارعة الشاه ومجابهته، ومواجهة أدواته في الحكم، وقال: "النضال والمواجهة، تكليفكم الشرعي الأول والأخير، لا ينبغي عليكم أن تقعدوا صامتين ومكتوفي الأيدي أمام هذا النظام". ثم أخرج عدة أوراق ووزّعها علينا، وقال: "هذه الأوراق، بيان صدر عن السيد الخميني، إن الخميني هو حامل لواء هذه الثورة، ونحن جميعًا نتبع خطاه ونطيع أوامره. يجب أن تعلموا أن الهيئة والمجالس الحسينية والمسجد ليست مجرد أماكن للصلاة والدعاء والبكاء واللطم. إنما هي المنطلق للتصدي للظلم والجور والفساد. إن الشرط الأول والأهم في نضالنا هذا، هو أن نتعاهد ونقسم جميعًا على أن نكتم كل ما يقال من الأخبار والأسرار ونبقى على العهد، ونتمسك ونلتزم بهدفنا ونصرّ على بلوغه، ونبقى في خط الكفاح. وعند إقدامكم على أي عمل استشيروني أولًا. وإذا

 

88


79

بين إلزام واختيار

كنتم تثقون بي وتقبلون بي أخبروني واسألوني قبل القيام بأي خطوة، لكي تنجز كل الأعمال بالشكل المرجو وتسير الأمور على أحسن وجه".

 

في ذلك الوقت لم أكن أعلم بأي مجموعات يتصل الحاج قاسم وبأي تشكيلات يرتبط، ولم أسأله يومًا عن ذلك. مهما كان الأمر، فقد عشقتُ المواجهة، وهذا العشق جعلني أتبعه وأطيعه. في النهاية وفي آخر هذه النصائح والتوجيهات، أعطانا دفعًا معنويًّا وقال: "سوف يقع أمر خطير ومهم، كل منكم لديه مهمة وتكليف ودور في هذه المواجهة، ويجب أن تساهموا في هذه المرحلة بشكل فعال. أولًا اعلموا جيدًا أن تكليفكم ومهماتكم يجب أن لا يعرفها أحدٌ سواكم، حتى إذا وقعتم في الأسر وتمّ استجوابكم، لا تفضحوا البقية".

 

عند الوداع، قال الحاج قاسم لمحمد مشهدي باقر: "أنت بهذا الرأس وهذا الشعر المجعّد والطويل لافتٌ للأنظار، سيتعرّفون إليك بسرعة. والآن بعد انضمامك إلينا، اذهب على الفور وقصّر شعرك".

 

عمل فريق الحاج قاسم جاهدًا وأولى أهمية بالغة لأمر المواجهة المسلحة. كانت لديهم أهداف كبيرة. وكل أعمالهم اتسمت بالدقة والنظم وكانوا مرتبطين بمجموعات أكبر. أما أنا فقد دخلت بين هذه الجموع حبًّا بقاسم، وليس للمشاركة في أعمالهم المنظّمة. فبالنسبة لي كان يكفيني تأليف الشعارات وإطلاق الهتافات، والمشاركة مع الناس في المظاهرات. أحد الأعمال التي كانت رائجة وشائعة في المواجهات في تلك الأيام، مراقبة فرد محدّد وإبقاؤه تحت الأنظار، وعندما يتم التأكد من أنه من عملاء الشاه ومن عناصر السافاك، يوكَل أمره إلى أحد الشباب، فيبقى عند باب بيته، ويبقى يراقبه ويتبعه كظله حتى يعرف كل التفاصيل عنه، ويصل إلى كل المعلومات المرتبطة به حتى مقاس حذاء

 

89

 


80

بين إلزام واختيار

أمه! فيسجل شكل ومواصفات وعنوان بيته الدقيق، وظيفته وكل أعماله وارتباطاته وساعات ذهابه وإيابه، ويراقب كل تحركاته، ومن ثم يقررون اغتياله وتصفيته، ولا يعيرون انتباهًا لمساءلة أحد. وهذه كانت من ضمن المواجهة والتصفية ومن أركانها، وبهذه الأساليب أنهكوا السافاك وأعداء الثورة وصفّوا كثيرين من هؤلاء، وأبعدوهم من طريقها. أكثر أعمال الحاج قاسم ونشاطاته سريّة ولم يطّلع عليها أحدٌ. نحن جميعًا من محبّيه، ونكنّ له مودة ومحبة خاصة، وكنّا أبناء حي واحد؛ لكن لم يكن أحد منا ليطّلع على أعمال الحاج ونشاطاته، أو على تفاصيل مهمات أي أحد منا. وعلى سبيل المثال حسين شفيعي وأخوه كانا ماهرين في صناعة المثلثات[1]، فالحاج قاسم صار يقوم بتأمين المكان لهما ليخفوا فيه هذه المثلثات أو لصناعتها. قائلًا لهما: "خذا المثلثات إلى المنطقة الفلانية، هناك مجموعة من الشباب بانتظاركما". وتعوّدنا على هذا النحو من الأعمال، فكلٌّ منّا يكتم ما يسمع وما يؤمر به.

 

دائما ًما كان يذكر حديثين من الأحاديث النبوية الشريفة إلى جانب كلامه، فيضفي على أقواله مقبولية ومصداقية.

 

تعرّف أحد أبناء حيّنا ويُدعى "علي توكلي" إلى جماعة من تركمن صحرا*[2]؛ وعن طريقهم أصبح يجلب مسدسات ويبيعها للناس، الواحد بخمسمئة تومان. وعن طريق علي أحضر الشباب مختلف أنواع الأسلحة اللازمة لمشروعنا، وتم توزيعها في الحي، وشيئًا فشيئًا أصبح الجميع يملك سلاحًا فرديًّا، أنا أيضًا اقتنيت مسدّسًا، ولكني قلَّما استعملته، وكنت أحمله للاحتياط فقط.

 

 


[1]  المثلث أنبوب ماء معدني على شكل زاوية وثلاثة أضلاع، بقطر سنتيمترين يملأ بالمواد الشديدة الانفجار ويوضع فتيل بجانبه، وعند الاستعمال يشعل الفتيل ويرمى المثلث على الهدف.

[2]  منطقة صحراوية في شمال شرق إيران.

 

90


81

بين إلزام واختيار

من رجالات الثورة وأبطال المواجهة حينها، كان مرتضى عرب زاده، ونبي روح اللهي، وإسماعيل يداللهي، ورضا طلا وعلي برادران.

 

مضت الأيام والحاج قاسم يقودنا ويرشدنا ويزوّدنا بالتعليمات، ويخبرنا أين نجتمع، وما هي الشعارات التي يجب أن نطلقها وننشرها. فالجميع أضحى منشغلًا بالثورة، ويسعى للإطاحة بالشاه، وكنّا نحن من بين هؤلاء الناس.

 

ذات يوم قرّرنا الرحلة عند الخامسة عصرًا إلى مقام الشاه عبد العظيم للزيارة والصلاة.

 

فاجتمعنا مع الحاج قاسم في حيّنا قبل الموعد المحدّد للذهاب، وانطلقنا مع بعض الشباب وأبناء حيّنا إلى "شهر ري".

 

وعندما وصلنا إلى مقام الشاه عبد العظيم، دهشنا لمشاهدة العديد من الأشخاص في صحن الحرم يرددون شعار: "فلنحوّل كل إيران إلى فيتنام يحيا يحيا تشي غيفارا".

 

لم يحتمل الحاج هذا المنظر، وعلى الفور ركض باتجاه هذا التجمع، صعد على حافة حوض الماء. لكنّ قدمه انزلقت فجأة من على الحافة المبلّلة وسقط في الحوض وابتل سرواله حتى ركبته. تمالك نفسه وصعد ثانية على حافة الحوض وتوازن واستقر عليها، ووقف بهيبة وكبرياء، ثم رفع يده وصاح بصوت عال: "اسمع، اسمع، هذا الشعار شعار مضلّل. نحن هنا نواجه الشاه ونحاربه، ونحن أتباع أهل البيت عليه السلام، لذا يجب أن نقول جميعًا: سنحوّل إيران إلى كربلاء يحيا أبو عبد الله".

 

كنّا أوّل من ردّد هذا الشعار وكررناه، ثم تبعنا الناس وهتف الجميع به. عند الظهيرة عدنا إلى الحي، وذهبنا مباشرة إلى منزل "السيد حسن

 

91


82

بين إلزام واختيار

صفوي". كان السيد يعرف باسم قيصر الأصفهاني، وهو ابن أخت "صغير الأصفهاني" - شاعر أهل البيت عليه السلام الشهير.

 

قال الحاج قاسم: "يا سيد حسن، أرأيت كيف ألّفوا شعرًا وشعارًا يمجدون الثائر تشي غيفارا؟ أنّى للناس أن تعرف من تشي غيفارا هذا، هكذا فقط يردّدون ويكرّرون ما يسمعون".

 

جلسنا معًا ذلك اليوم، فكّرنا وبحثنا مع السيد حسن، وألفنا شعارًا دينيًا جميلًا، أذكر جزءًا منه:

حتى لو سقط جسدي الفاني لن أكف عن نصرة الخميني

الثورة حسينية والقائد خميني هل من مبارز؟!

قسمًا بروح أمك فاطمة لسنا نهاب الموت

 

وبما أننا لم نكن نملك جهازًا للطباعة والنسخ، كتبنا هذا الشعر على أوراق صغيرة، ووزعناها في اليوم التالي بين الناس، فتركت أثرًا كبيرًا، وانتشر هذا الشعار انتشارًا واسعًا.

 

ذات يوم، أخذني الحاج قاسم إلى بيتٍ يقع في شارع "ديالمه[1]"، خلف مدرسة "علوي". عندما وصلنا إلى هناك ووقفنا أمام الدار، أخرج الحاج مفتاحًا وفتح به باب المنزل، ثم وضع المفتاح في يدي وقال: "من الآن فصاعدًا كلما تواعدنا ونسّقنا لنلتقي كان الاجتماع هنا. نحن نسمّي هذا البيت بالوكر، فكلما قلت لكم تعالوا إلى الوكر، كان هو المقصود".

 

في أحد الأيام عندما طَلَبَنا الحاج قاسم، واجتمعنا في ذلك المنزل، جاء

 


[1]  شارع ديالمه كان يدعى في ذلك الزمان شارع معين السلطان.

 

92


83

بين إلزام واختيار

الشيخ محمود غفاري أيضًا. الاسم الأصلي للشيخ هو محمد قراكوزلو[1]؛ إلا أنّ الجميع كان يناديه باسمه المستعار الشيخ محمود غفاري. وقد كان من رجال الثورة والمناضلين الحقيقيّين ضدّ الشاه. في ذلك اليوم، عندما رأيته، رحت أفكّر في الالتحاق بالشباب والانضمام للأعمال القتالية والمشاركة في العمليات المسلّحة؛ لكنّ الشيخ قال: "أصبحت الأمور والأوضاع الآن على نحوٍ بحيث إنّ الأعمال الثقافية والإعلامية تفيد أكثر، وتؤثّر بشكل أكبر من الأعمال القتالية". بعد ذلك أخرج قلمه ورسم على ورقة خارطة لعدة شوارع وتقاطعات وقال: "علينا أن نجمع الناس في هذه الشوارع، ونسيّر فيها مظاهرات حاشدة".

 

منذ ذلك الحين، وحيثما تظاهرنا وكلما احتشدنا، كان الشيخ محمود يأتي ويخرج عمامته من كيس يحمله تحت إبطه، يعتمرها، ويصعد المنصّة ويبدأ بإلقاء الخطابات المتشددة والشعارات الجريئة والقوية ضد الشاه، إلى أن يصيح أحدهم: "وصل عناصر مكافحة الشغب". فيصيح الشيخ محمود بصوت أعلى: "ردّدوا الموت للشاه، الموت للشاه..."، ومن ثم ينزع عمامته ويعيد وضعها داخل الكيس، ويدخل بين الجموع ويختفي بين صفوفهم.

 

في كل يوم وكل ليلة، كان شارع "ري" وشارع "صاحب جمع" يشهدان مواجهات ومظاهرات، وإطلاقًا للرصاص على المتظاهرين. وكان جنوب ووسط المدينة، مركزًا للصدامات بين الناس المتظاهرين من جهة، وعملاء الشاه وعناصر الشرطة والمخابرات، من جهة أخرى. كنت قد خبّأت مكبّر الصوت في قفص الحمام على سطح منزلنا.

 

وفي بعض الليالي كان الشباب يجتمعون في بيتنا للنقاش والتداول في

 


[1]  استشهد الشيخ محمود في عمليات بازي دراز.

 

93


84

بين إلزام واختيار

آخر المستجدات والتخطيط. فيقوم مرتضى عرب زاده باستعمال المكبّر، ويسبّ الشاه ويشتم عملاءه وأدواته بشتائم قبيحة، فينتشر صوته في كل الحي عبر المكبر. فلا تمضي دقائق حتى تفرض قوات الأمن والشرطة طوقًا أمنيًّا، وتنتشر في الحي بحثًا عنا؛ لكنّهم لا يجدون مصدر الصوت، ولا يعرفون من أي بيت صدر. فيتخبّطون وتصيبهم الحيرة! ثم يطلقون عدة رصاصات في الهواء، وينسحبون من الحي خالي الوفاض.

 

في النصف الثاني من شباط، وفي اليوم نفسه الذي هاجم فيه الناس ثكنة "سلطنت آباد" بغية السيطرة عليها، حضرت أنا أيضًا إلى شارع الثكنة[1] مع عدد من الشباب. أطلق العسكر والحراس النار في الهواء، وكان الوضع خطيرًا جدًّا. مع كل رصاصة تطلق في الهواء كان مئة شخص يرمون بأنفسهم على الأرض وينبطحون، فالناس والمواطنون حديثو العهد بهذه الأمور، وحتى ذلك الوقت لم يكونوا قد شهدوا اشتباكات، وإطلاقًا للرصاص، ولم يروا قتلى وجثثًا ودماء. فما إن كان يُصاب أحدهم بطلق ناري، حتى تقوم القيامة، ولا تتوقف النساء عن الصراخ والعويل، وحتى بعض الرجال راحوا يبكون. فالجراح والإصابات والدماء كانت شيئًا جديدًا عليهم. ذلك اليوم في تلك الفوضى والضجة، وبين هذه الجموع رأيت "أحمد أورند" وصديقه "جواد آرداني"، وهو من المصارعين الأبطال الأقوياء وكان يعمل "لحّامًا" في الحي، رأيتهما يركضان نحو الثكنة وهما خائفان. تجاوزاني وهما يركضان، تابعتهما بناظريّ، وفجأة وقع أحمد على الأرض بعد أن أصيب بطلق ناري. ثم بدأ يصرخ: جواد جواد، ويستنجد. كان الوضع سيّئًا وصعبًا جدًّا إلى درجة أنّي لم أستطع الاقتراب من أحمد، ولم أتمكّن من إسعافه ونجدته. وبعد قليل حمل الناس جثمانه، ورفعوه

 

 


[1]  حاليا ً يدعى شارع باسداران.

 

94


85

بين إلزام واختيار

على أكفّهم، فصار جثمان الشهيد يتماوج على أكفّ الثوار ويغيب عن أنظارنا. وغدا الشهداء يتساقطون كورق الشجر، وقد حظي العديد من شباب حيّنا إضافة لأحمد وجواد بشرف الشهادة في ذلك اليوم.

 

بقيت أستذكر ذكاء أحمد ونباهته، وأترحّم على صفاء قلبه، ورجولته ومروءته، وطبعه المرح وألاعيبه وحيله البسيطة.

 

في إحدى الليالي الماطرة، نزلنا إلى شارع "ري" مع بعض من شباب الحي، ورحنا نهتف ونردّد الشعارات الثورية. وبينما كنا نسير باتجاه ساحة "تيردوقلو"، وقبل أن نبلغها لحق بنا رجال الشرطة والمخابرات، وهممنا بالفرار، فدخلنا في أحد الأزقة الضيقة. وعندما لاحظ عناصر الشرطة، أني أقود هؤلاء وأوزعهم بين الأزقة وأساعدهم على الهرب، لحقوا بنا، ودخلوا في الزقاق من خلفنا. كنت أركض وخلفي عدد لا بأس به من شبابنا، انعطفت ودخلت في زقاق مظلم ومقفل. وتبعني 5 أفراد دخلوا معي، وكل منا اختبأ في زاوية من الزقاق.

 

فجأة التفتّ ورائي ورأيت امرأة خائفة هلعة، تركض في الظلام وتبحث عن مخبأ ومأوى. من دون أي تفكير، اضطررنا كلانا للوقوف في تجويف حائط، بجانب باب أحد المنازل القديمة في الزقاق، لنختبئ من الشرطة. وقفنا في جنح الظلام وألصق كلّ منّا جسده بالحائط، حابسًا نفسه في صدره.

 

عندما وصل رجال الشرطة إلى الزقاق المغلق، ذرعوه جيئةً وذهابًا، التصقنا بالباب ودخلنا في العتم أكثر، بقوا قرابة الربع ساعة يقومون بدورياتهم ونحن مختبئان، أطلقوا عدة رصاصات في الهواء، وحين ملّوا من البحث تركوا الزقاق وذهبوا. أطللت برأسي واختلستُ نظرةً، وبعد

 

95

 

 


86

بين إلزام واختيار

أن اطمأننت إلى انصرافهم وخلوّ الزقاق منهم، قلت للمرأة الواقفة قبالي بجانب الباب: "يا سيدة، لقد ذهبوا!".

 

خرج كلانا من مخبئه ووقفنا، ما استطعت رؤية وجهها في العتمة، لكن، بدا لي أنها ترتدي عباءة بيضاء. سرنا إلى وسط الزقاق بخطوات متأنية، وفجأة وقع نظري على قدميها، فوجدتها حافية.

 

قلت لها: "إإ... يا سيدة، لماذا تسيرين حافية القدمين".

 

قالت: "بينما كنت أركض هاربة من رجال الشرطة، أفلت الحذاء من قدمي. فلم أجد فرصة للعودة لانتعاله أو حمله".

 

فورًا خلعت حذائي، حملته بيدي ووضعته أمام قدميها، وقلت لها: "انتعليه، لا يصح أن تسيري في الشارع على هذا النحو، من غير حذاء".

 

لم تقبل بادئ الأمر، لكن عندما أصررت عليها، قبلت وانتعلت الحذاء ببطء، وهي منزعجة وخجلة، بعدها سرنا معًا إلى أول الزقاق.

 

كان الجو باردًا والزقاق فارغًا، وليس فيه سوانا، والسكون يعمّ الأرجاء، ولم يكن هناك أثر لأي من المتظاهرين، فالجميع قد لاذ بالفرار. عندما اقتربنا من عمود المصباح الكهربائي، بدا لي وجه المرأة تحت الضوء. وهنا أدركت أنها المرأة نفسها التي سبق أن رأيتها منذ مدة أمام الصيدلية، وكانت تقود سيارة المرسيدس.

 

قلت: "أوف... هذه أنت؟ ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟".

 

قالت: "رأيت الناس يهتفون ويردّدون الشعارات، فانخرطت معهم ودخلت في المظاهرة؛ لكن مع قدوم رجال الشرطة ومحاصرتهم لنا، اضطررت إلى الهروب، وبينما كنت أركض وأفر من رجال الشرطة، لاحظت

 

96


87

بين إلزام واختيار

أنكم تعرفون من أين تفرّون، وظننت أنكم الأكثر ذكاءً ودرايةً بين الباقين، فتبعتكم ودخلت في الزقاق من خلفكم".

 

تلك الليلة مشيت مع هذه المرأة حتى أوصلتها إلى أمام دارها. على طول الطريق تحادثنا، وكانت هذه الصدفة فاتحة علاقتنا وبداية معرفتنا ببعضنا بعضًا. تُدعى فاطمة، وبدت لي من اللقاء الأول سيدة نجيبة طاهرة وعفيفة جدًّا. كنت أفكّر في نفسي أن هذه السيدة لديها قلب قوي وجرأة وشجاعة كبيرة، إلى درجة أنها دخلت في خضم هذه المظاهرات والمطاردات في هذا الوقت المتأخر من الليل، وبمفردها أيضًا.

 

مضت هذه القصة، ولم ألتقِ بهذه المرأة، إلى أن تواعدنا مع الشباب واجتمعنا في ساحة "جاله[1]"، في السابع عشر من شهر شهريور(8 أيلول)، عند الساعة التاسعة.

 

ذهبت إلى ميدان "جاله" في الموعد المحدد، مع أحد الشباب ويدعى عباس، بدراجته النارية الضخمة من طراز 400. عندما وصلنا كان العلامة "نوري" قد خطب في الحاضرين، وقد أنهى محاضرته للتوّ، وفجأة انهمرت علينا من الأرض والسماء، ومن جميع الجهات، طلقات الرصاص كزخّات المطر، وحيث كنا قد وصلنا إلى ساحة جاله عبر شارع "شهباز[2]" استدرنا من فورنا وعدنا عبر الشارع نفسه، وتبعنا جمهور غفير من الناس. اندفع الناس نحو شارع شهباز، في حالة تدافع شديد، وقع بعضهم أرضًا، وعلق في الزحام تحت الأيدي والأرجل، وسحق بين الأقدام، وبعضهم أصيب بالرصاص وجرح وبعضهم استشهد على الفور.

 

بين الجموع، رأيت ابن محلّتنا السيد رسول شفيعي مرميًّا على الأرض

 


[1]  ساحة الشهداء حاليًّا.

[2]  يدعى الآن شارع 17شهريور.

 

97


88

بين إلزام واختيار

وقد أصيب بطلق ناري، أعاقه عن الحراك. كان السيد رسول يعمل في صيدلية الحي. توقفت عنده لأسعفه، ولم تمض دقائق حتى وصل إلينا مرتضى كاظم بور – من أبناء حينا أيضًا – للمساعدة. أحطنا نحن الثلاثة، أنا وعباس ومرتضى برسول، حملناه معًا ووضعناه على الدراجة النارية، وجئنا به إلى مستشفى "سوم شعبان[1]". عند المدخل حملناه على أيدينا بشكل أفقي ودخلنا المستشفى. كان مزدحمًا ويعج بالمراجعين. ومدّدنا رسول في الممر بجانب الحائط. أما أنا فجلست على ركبتي ووضعت رأسه في حجري. حتى تلك اللحظة لم يتسنّ لنا أن نتفحّصه إن كان ميتًا أو حيًّا.

 

وجدنا أنّه ما زال حيًّا، راح يتأوّه ويطلب شربة ماء. كانت شفتاه يابستين، ووجهه ملطّخًا بالدماء. لم أستطع أن أحدّد مكان الإصابة، ومن أين دخلت الرصاصة، فقد كان كل بدنه ملطخًا بالدماء. بللت خرقة بالماء ووضعتها على شفتيه اليابستين. بعد دقائق وصل إلينا الطبيب، نظر إليه وأخذ بمعصمه فاحصًا نبضه، ثم قال: "لقد فارق الحياة".

 

كنت مضطربًا وهلعًا إلى درجة أني لم أدرك أن رسول قد استشهد وفارق الحياة بين يدي، حتى أخبرنا الطبيب بذلك. كنت فقط أخفّف عنه وأطمئنه بكلماتي، وأبلّل الخرقة وأمسح بها شفتيه الذابلتين ووجهه الشاحب، ولم ألاحظ عروج روحه.

 

حملنا جثة رسول بحزن وأسى، ورفعناها على الأكف، وبضجيج وصياح، وبصرخات الله أكبر خرجنا من المستشفى.

 

لم نكد نبلغ الشارع الرئيس، حتى وصل رجال الشرطة واصطفوا أمام المستشفى وبدأوا بإطلاق الرصاص، لكن بحمد الله كان أكثرها في الهواء؛

 


[1]  الثالث من شعبان.

 

98


89

بين إلزام واختيار

وإلا لما بقينا سالمين لحظة واحدة. فلما رأينا مدى صعوبة الموقف وسوء الوضع، اضطررنا إلى أن نضع جنازة رسول في الشارع على الأرض، وعدنا أدراجنا مسرعين إلى داخل المستشفى لنتحصّن في المبنى. لحق بنا رجال الشرطة ودخلوا المستشفى بحثًا عنا. كنا عشرة أفراد أو اثني عشر فردًا، وبدل أن نشيّع الشهيد، رحنا نركض في ممرات المستشفى، ونهرب باحثين عن مأوى ومخبأ. صعدنا عبر الأدراج إلى الطابق العلوي ففسح الجميع الطريق أمامنا، قلبنا المستشفى رأسًا على عقب. ثم جاء أحدهم بسلّمٍ صعدنا عليه إلى السطح عبر نافذة في السقف، وسحبنا السلّم من خلال النافذة التي أغلقناها باتجاهنا. بقينا هناك حتى الغروب، وعند الساعة الخامسة بعد الظهر تقريبًا نادانا بعض الأشخاص، وقالوا: "لقد رحل رجال الشرطة؛ هيا انزلوا".

 

في اليوم التالي، ذهبنا إلى مقبرة "بهشت زهرا"، حيث جيء بأجساد كثيرة للشهداء. وهناك بين الجموع، سمعتُ أحدهم من الخلف يسلّم عليّ. التفت، وإذا بها السيدة فاطمة تلقي التحية!

 

قالت: "جئت لكي أرى من الذي استشهد من أبناء محلّتنا".

 

وقفنا معًا في المقبرة حتى انتهى تشييع الشهداء ودفنهم، ركبنا بعدها سيارة أخي السيد باقر وعدنا إلى الحي. كانت السيارة من طراز [بي إم دبليو2001]. في الطريق تبادلنا أطراف الحديث، وتعرّفنا إلى بعضنا بعضًا أكثر.

 

بعد ذلك اليوم ازدادت لقاءاتنا، حتى أصبحنا نلتقي قليلًا في كل يوم. عندما أخبرت الحاج قاسم بموضوع فاطمة سألني: أي نوع من الفتيات هي؟

 

99

 

 


90

بين إلزام واختيار

- إنها امرأة ذاقت الحلو والمر وقاست البرد والحر، متّزنة وجديّة ولا تعرف الميوعة.

- إذًا إن كنت عازمًا فاطلبها للزواج؛ لا تقعنّ في الحرام.

 

في اليوم التالي تواعدنا لنذهب معًا إلى المسجد لأداء الصلاة، والتقينا قرب مسجد "لرزاده". وبعد الصلاة حدّثتها بموضوع الزواج وعقد القران، فوافقتني الرأي وقبلت.

 

طرحت موضوع فاطمة على ماما بري وأمي، وحدثتهما عنها. فقالت أمي: "إذا كنت تريدها، توكّل على الله، يا علي!".

 

كانت أمي تعرفني وتعرف طبعي وأخلاقي جيدًا، وتعلم أني عنيد نوعًا ما. لذلك وافقت من فورها، ولم تقل لي شيئًا، ولم أكن لأغيّر من رأيي. لطالما رددت: "يجب أن تكون كلمة الفصل والقرار النهائي في البيت، للرجل". وعملًا بهذه القاعدة لم تقل شيئًا، ولم تبد رأيًا سوى الموافقة.

 

لكنّ فاطمة بالمقابل لم تخبر عائلتها بشيء؛ فأمها كانت تتدخل في حياتها كثيرًا، وتريد أن تزوّجها من ثريٍّ ومتموّل. في نهاية الأمر بعد أن تجاوزنا مرحلة إخبار الأهل، ذهبنا في أحد الأيام إلى إحدى المحاكم في شارع "جهان بناه"، وعقدنا القران. بعد ذلك استأجرت شقة في شارع "ديالمه"، وانتقلنا للعيش فيها، وبدأنا حياتنا الزوجية ببساطة وعلى الخير والبركة، من دون أي شيء من المراسم المتعارف عليها في الأعراس.

 

ذات يوم ذهبنا على الدراجة النارية، إلى قرية "فرح زاد"، لزيارة ضريح ولي الله داوود -وهو من سلالة الأئمة الأطهار عليهم السلام-. والطريق الوحيد المؤدي إلى المزار، طريق جبلي ترابي متعرّج مليء بالالتواءات، وعر وصعب. وبينما كنا نسير على هذا الدرب ونتحدّث، فجأة تشتّت انتباهي، وتركت مقود الدراجة، فراحت تتمايل يمينًا وشمالًا ولم أستطع

 

100


91

بين إلزام واختيار

السيطرة عليها. سقطنا عنها وارتطمنا بالأرض. جُرِحت كلتا يديّ، لكنّ فاطمة بحمد الله لم تصب بأذى. اضطررت إلى ركن الدراجة إلى جانب الطريق، واستأجرنا حمارًا لإكمال الطريق الجبلي. ركبت فاطمة على الحمار، وسرت أنا مشيًا بجانبها. تجاوزنا كل الهضاب والمرتفعات الترابية التي اعترضتنا، إلى أن وصلنا إلى هضبة "السلام"؛ وهي المكان نفسه الذي ساءت فيه حال "بهروز وثوقي" وهو يؤدي دوره في فيلم "سوته دلان". ومن هذا المرتفع أصبح بإمكاننا أن نرى قبة مزار الولي داوود. تابعنا المسير ووصلنا إلى المزار، ومكثنا هناك ثلاثة أيام في ضيافة وبركة المولى. كان الجو مفعمًا بالمعنويات والروحانية. ففي الصباح الباكر نستيقظ على أصوات البغال والديكة والدجاج وزقزقة العصافير، وأجراس الماعز والمواشي. ونتناول فطورًا بسيطًا من المنتجات المحلية في القرية، بعدها نقصد الحرم الشريف للزيارة والدعاء والعبادة. وعند الغداء نأكل خبزًا ساخنًا، وكبابًا شهيًّا مع الخضروات المحلية كالريحان.

 

في شتاء العام 1979م، بدأ الجميع يتناقل نبأ عودة الإمام الخميني، وأصبح حديث الناس وصرتَ ترى فيهم حالة مدهشة من التفاعل والحماسة. أما نحن فكنّا نقضي طيلة النهار في الحي وفي الشارع، ونجتمع أكثر الليالي في المسجد ونعقد جلساتنا.

 

عمت الفوضى كل المدينة، وأصبحت الحياة العادية شبه معطلة. أحيانًا كانت تمضي أربع وعشرون ساعة وأنا خارج المنزل. فدائمًا ما يوجد مظاهرات، أو فرض حظر للتجوال.

 

في الأول من شباط، كنت راكبًا على دراجتي النارية، ومتوقفًا بالقرب من ساحة "24 إسفند" أمام مدخل الجامعة من جهة شارع "ولي عصر"، ومسدسي ملقن جاهز للأطلاق مخبأ في جيب معطفي، وتحت المعطف

 

 

101

 


92

بين إلزام واختيار

ارتديت كنزة صوفيّة وبنطالًا عريضًا ومريحًا. كان الحاج قاسم قد أوعز إلينا بأن نأتي وبحوزة كل واحد منا دراجة نارية.

أوكلت مهمة إعداد وتجهيز مراسم استقبال الإمام إلى السيد محمد البروجردي. وقد سبق والتقيته عدة مرات. كان رجلًا ذا هيبة وأهلًا للمهمات الصعبة. أمضى سنوات عديدة في لبنان، برفقة الدكتور شمران، يتعلم منه قواعد حرب المدن وحرب العصابات، ولدى عودته إلى إيران دخل في النضال والجهاد وحارب الشاه، كان الجميع يناديه باسمه الجهادي "ميرزا". عمل محمد بروجردي، على تنظيم الشباب وتوزيعهم في نقاط مهمة واستراتيجية، في كل الطرق المؤدية إلى المطار، فانتشرت مجموعاته المسلحة وأمنت كافة الطرق، لمراقبة الأوضاع وتحسبًا لأي طارئ. فقد كان من المحتمل أن يُنصب كمينٌ مسلح وتتم مهاجمة موكب الإمام الخميني بعد خروجه من المطار، أو تزرع عبوات ناسفة على طريقه؛ فوضع البلد غير مستقرّ والأمن لم يكن مستتبًا، وكان بمقدور أي شخص أن يفعل كل ما يحلو له. "مجاهدو خلق" من جهة اتخذوا خياراً آخر، ومن جهة أخرى قام حزب "توده" واليساريين ومجموعات أخرى ببعض التحركات. لكنّ الجوّ الغالب كان منسجمًا ومنقادًا لقيادة الإمام الخميني. وبدا واضحًا للجميع، أنه من بين كل الحركات والتوجهات الموجودة، ستكون الغلبة والبقاء لخط الإمام وللثورة الإسلامية.

 

انتشرت مجموعتي واستقرّت قرب المطار، وعندما كانت السيارة التي أقلت الإمام الخميني تمر من ساحة الثورة، وهي محاطة بالحشود الغفيرة من الناس، صعدت على دراجتي النارية وسرت ببطء خلف السيارة بين الناس، حتى لا أصدم أحدًا منهم.

 

بعد أن خطب الإمام الخميني في مقبرة "بهشت زهرا"، حيث دُفنت

 

102

 

 


93

بين إلزام واختيار

أجساد شهداء الثورة، قيل إنّه ذاهبٌ إلى مستشفى " الألف سرير[1]" لتفقّد جرحى الثورة، والمصابين خلال المواجهات الأخيرة؛ ولم أعلم إن تمكّن الإمام من الذهاب أم لا.

 

في اليوم الثالث أو الرابع [لوصول الإمام]، قال لنا الحاج قاسم: "حضّروا أنفسكم واستعدوا، يريد الإمام أن يذهب إلى حرم "الشاه عبد العظيم"، للزيارة".

 

سارعنا بالذهاب إلى مزار "الشاه عبد العظيم"، في عدة مجموعات وضربنا طوقاً حول الحرم وأطرافه وأغلقنا المداخل والأزقة المؤدية إليه. كان المكان يعجّ بالزائرين دومًا، والطرقات مليئة بزوّار الحرم، وكثير منهم لم يعوا أمر الثورة بعد.

 

جاء الإمام برفقة الحاج "مهدي عراقي" إلى الحرم في منتصف الليل، وهنالك تشرفت مرة أخرى بالنظر إلى وجه الإمام الخميني. كثيرون من حولنا لم يصدّقوا أن الإمام جاء للزيارة، أو لم يشعروا ويلتفتوا لقدومه. ولو علموا بأن سماحته في الحرم، لاحتشدوا وتجمعوا حوله لأخذ البركة منه!

 

مع اقتراب عيد رأس السنة الهجرية الشمسيّة(1359[2]) الجديدة، قامت الأحزاب المعارضة للجمهورية الإسلامية، برغم ضعف تمثيلها الشعبي، وبعدما رأت أنه لا مكان لها في الثورة، بالانتقال إلى مدينتي "كنبدكاووس" و"بندر تركمن"، وتحريك الناس هناك للقيام ضد الثورة. لقد قاموا بتضخيم المشاكل الصغيرة، وأغروا الناس الفقراء والبسطاء

 

 


[1]  حاليًا مستشفى الإمام الخميني.

[2]  21آذار من العام1980

 

103


94

بين إلزام واختيار

بالمال، ووعدوهم بالحرية والاستقلال، وفي أول تحرك لهم على الأرض حاصروا بلدية "كنبدكاووس". ودخلوا واختبأوا في بيوت الناس الفقراء، وشكّلوا خطرًا على حياة المدنيّين، ما استدعى التدخل بشكل مباشر، وانجرّت المسألة إلى حرب شوارع، وبدأ التفتيش والتطهير من منزل إلى منزل. كنت مع مجموعة الحاج قاسم العسكرية التي ذهبت إلى هناك. وفي نهاية الأمر جاء الشيخ خلخالي، ليضع خاتمة للأحداث، فأطاح بعدد من أعداء الثورة فور وصوله، فعلم هؤلاء حينها مدى جدّيّة الثورة، وفهموا أنّ فيها رجالًا أشدّاء لا يستهان بهم. بعدها هدأت الأوضاع هناك وعدنا إلى طهران.

 

أذكر أنّه في تلك الاشتباكات، احتفظت بمسدّس حربي، لكن قلّما أخرجته واستعملته. لم أكن لأطلق النار على الناس دون مبرر وسبب، نظرًا لفكرتي بأنّ المشاركة في الأعمال القتالية والعسكرية، تجعل القلب قاسيًا وتفقده الرقة والحنان. لكني كنت فضوليًّا، ولم أستطع أن أبقى بعيدًا عن قلب الأحداث، ولا أشترك في مجريات الأمور. كل الناس الذين غرر بهم في تلك المدينة كانوا بسطاء وفقراء، وفقرهم هو سبب في انجرار بعضهم للقيام ضد الثورة.

 

من بين الأشخاص المنضمّين لفريق الشيخ خلخالي ويرافقونه على الدوام، شخص يدعى "أصغر وصالي". كان لي شرف التعرّف إليه بشكل أكبر خلال فترة الاشتباكات. ينتمي "أصغر" إلى حي "دولاب" الواقع بين شارع "شيوا" وشارع "كرمان"، وعلى الرغم من قصر قامته وصغر جثته، بدا رحب الصدر وذا قلب كبير. وكان شهمًا شجاعًا لا يعرف الخوف طريقًا إلى قلبه، ورجلًا بكلّ ما للكلمة من معنى. سبق ورأيته مرارًا أثناء التحضير، في هيئة استقبال الإمام الخميني. حيث بدا نشيطًا وفعّالًا ويعمل بشكل

 

104

 

 


95

بين إلزام واختيار

دؤوب وكان من أصدقاء محمد بروجردي المقربين منه. وفي الاشتباكات التي دارت في "كنبد" أدّى دورًا فعالًا ومهمًّا، وأصبح شوكةً في أعين المنافقين وأعداء الثورة، وأذاقهم الويلات.

 

عرف أصغر طعم سجون الشاه، وهو يُعدّ من رجال الثورة، ومن قدامى المكافحين والمناضلين ضد الشاه. أخبرني أحد أصدقائه ذات يوم، أن أصغر كان برفقة "مسعود رجوي" في الزنزانة في فترة سجن "اوين". فاختلفا واختصما، فهاجمه أصغر ونطحه برأسه على وجهه.

 

لقد ذاع صيته منذ حبسه في سجون الشاه، وعرفه زعماء المعارضة وأعداء الثورة. ومنذ صغره وشبابه حقّق البطولات في نوادي الرياضة التراثية لألعاب القوى وصالات المصارعة الشعبية (الزورخانه). عندما كان مصارعًا في نادي "كريم سياه"، كنت أنا كذلك مصارعًا في نادي "شاه مردان" ونادي "الحاج حسن توكل". في بعض اللقاءات الرياضية في الزورخانه، كنت ألتقي به، وأسلم عليه ونتحدث. أما والد أصغر فيُدعى "حسن شرخي"، وهو بطل ماهر في الحركات الدورانية في ألعاب القوى والمصارعة الشعبية. كان أصغر قليل الكلام، كثير العمل، ويفعل أكثر مما يقول.

 

بعدما انتهت أعمال الثورة وهدأت الأوضاع، انصرف كل واحد من أبناء حيّنا إلى عمل ما. فالتحق أمير عطري، داوود نيازي، محمد مشهدي باقري وسيد محمد كشفي بالحرس الثوري. أما حسين محمودي فانشغل بالأعمال الحرة.

عندما أصبح السيد رجائي رئيسًا للوزراء، ذهب الحاج قاسم للعمل في مبنى رئاسة الوزراء، واقترح عليّ أن أعمل هناك أيضًا. قبلت عرضه؛ فمن جهة كنت متيّمًا بالحاج قاسم وأردت إكمال الطريق معه والبقاء

 

 

105

 


96

بين إلزام واختيار

بجانبه، ومن جهة أخرى حان الوقت كي أجد لي عملًا لائقًا وتتحسّن أوضاعي المعيشية.

 

عرّفني الحاج قاسم إلى السيد رجائي. رأيت رجلًا متواضعًا وزاهداً يرتدي أبسط الملابس، وقابلني بالترحاب وبوجه حسن، قبلني للعمل معه، فأصبحت موظفًا في مبنى رئاسة الوزراء، وتعاقدت على العمل براتب شهري مقداره 2800 تومان، وبطاقات لباصات خط النقل العام.

 

حينها استحدث السيد رجائي، قسمًا جديدًا في الوزارة، وأسس مكتب: "قسم إعادة الأموال الفائضة وأموال البذخ والكماليات". تسلّم السيد "تشه بور" وهو صهر أخي زوجة الحاج قاسم، رئاسة هذا القسم. وقد وظّف فيه أربعة وعشرين موظفًا، كنت أنا واحدًا منهم. في بادئ الأمر عقد جلسة توجيهية، وبيّن لنا وظائفنا ووضّح لنا خطوات العمل، وكيفية نقل الأموال الخاصة والتابعة لحكومة الشاه السابقة [إلى بيت المال]. أول أمرٍ كُلفت به كان مصادرة أموال التشريفات والمراسم في السلطة السابقة. تمّ تقسيمنا إلى اثني عشر فريقًا، كلّ فريق ضمّ شخصين. شكّلت والسيد موسوي فريقًا، وبدأنا بتنفيذ المهمة. كانت ورقة مهمّتنا تحوي أسماء خمسة أماكن؛ النادي الشاهنشاهي الليلي، ملعب آزادي، نادي الفروسية "اسب دواني"، نادي تاج[1]، ونادٍ آخر لم أعد أذكر اسمه الآن.

 

كان نادي الفروسية أول مكان قصدناه للتفتيش. وكانت المرة الأولى التي أرى فيها مكانًا كهذا. استغرق تجوالنا في المكان، داخله وخارجه ساعة كاملة. رأينا نساء القصور اللواتي جئن لركوب الخيل؛ أشكالًا وألوانًا! كنّ محترفات في ركوب الخيل، ممشوقات القامة وذوات أجسام رياضية! كانت كل واحدة منهن ترتدي معطفًا وبنطالًا ضيقًا بالكاد يحتويهن،

 


[1]  تغير اسم هذا النادي في ما بعد إلى نادي استقلال.

 

106


97

بين إلزام واختيار

ويضعن على رؤوسهن الخوذ المخصصة لركوب الخيل، ويتدربن على الأحصنة في الميدان.

 

اكتفيت في اليوم الأول بالوقوف بجانب الميدان، وسجلت كل ما كنت أراه من ممتلكات، ودوّنته على الدفتر. فجأة اقتربت مني سيدة طويلة القامة سيئة الحجاب، وهي ترتدي ثياب ركوب الخيل وتجر وراءها حصانًا جميلًا، سألتني: "أنتم تسجّلون هذه الممتلكات لمصلحة بيت المال؟".

- نعم.

- انظر قليلًا، أصغِ إلى كلامي. أترى هذا الحصان؟ اسمه "رخشه". لقد اشترى زوجي هذا الحصان بخمسمئة ألف تومان. وقبل أن يرسلوه إلينا من لندن قاموا بإخصائه حتى لا يتمكّن من الإنجاب، فهو فريد من نوعه، ولا مثيل لهذا الحصان في العالم كلّه. فكّر معي جيدًا، بماذا سيفيد هذا الحصان بيت مالكم؟ إن تفضّلت علينا وشرفتنا غدًا على الغداء، لنتحدّث أكثر في هذا الموضوع.

- حسنًا.

 

أعطتنا السيدة عنوان منزلها، وانصرفت.

 

في اليوم التالي لبّينا الدعوة، وعند الظهيرة ذهبت مع موسوي إلى منزل السيدة الكبير والفخم الواقع في شارع كامرانيه. قرعنا الجرس، فتح أحدهم الباب لنا وقال: "تفضلوا، ادخلوا".

 

دلفنا من الباب الرئيسي وتوقفنا، وإذا بالمرأة الفارسة نفسها تأتي لاستقبالنا مرتديةً قميص النوم، سلّمت علينا وأهّلت بنا. بدا عليها الذكاء والدهاء. ربما ظنت أنها تستطيع أن تستخف بعقولنا وتصبغنا، لكنها لم

 

107

 

 


98

بين إلزام واختيار

تعلم أننا أمضينا عمراً بالصباغة والدهاء وأنني من زقاق "نقاشها" بل من المحتالين بتعبيرنا! عبسنا في وجهها وقلنا لها: "لن ندخل؛ تفضلي ماذا تريدين، ما طلبك".

 

ذهبت السيدة وارتدت معطفًا ضيقًا، كالذي كانت ترتديه في نادي الفروسية، ولا يكاد يحتويها، ودعتنا إلى الداخل. جاء زوجها أيضًا، لكنّها غالبًا ما تولّت هي الحديث. أجلسونا في قاعة استقبال كبيرة ومزخرفة ومزينة. وبما أني كنت لبقًا في الحديث أكثر من موسوي، شرحت للسيّدة وزوجها، وأوضحت لهما لماذا نصادر هذه الأموال.

 

قالت المرأة: "إن هؤلاء لا يعلمون ما يفعلون. فهم لا يعرفون القيمة الواقعية لهذه الخيول. منذ عدة أيام طلبوا من كردستان أحصنة لجرّ الأحمال، وإذا بمجموعة شباب يدخلون النادي علينا ويأخذون خمسة من أفضل الأنواع هنا! مع أنّها ليست لمثل هذه الأعمال، إنها أحصنة نادرة وثمينة جدًا، وفريدة ولا يوجد في الدنيا إلا حصان واحد من كل نوع منها! فمن فضلكم، اسمحوا لنا إما أن نُخرج هذه الأحصنة من البلاد ونأخذها إلى الخارج، أو رتبوا لنا الإذن بالاستفادة من النادي للتمرن على الفروسية. ولا تمنعونا من مزاولة ركوب الخيل".

 

لم نردّ عليها بشيء، أو بالأحرى لم نستطع قول شيء؛ لأننّا كنّا مجرّد موظفين وعلينا أن نتبع التعليمات والقوانين.

 

بعد ذلك قامت وأحضرت علبتين، وضعتهما أمامنا وقالت: "هذه هدية صغيرة أحضرتها لكما!".

 

فقلت لها: "لا؛ لا نستطيع أن نقبلها".

 

قمنا وودعناهما وغادرنا؛ لكنّ السيدة كانت مسرورة جدًّا بما أننا

 

108

 

 


99

بين إلزام واختيار

أوليناها اهتمامًا واستمعنا إلى مطلبها.

 

بعد الظهر، ذهبنا إلى نادي الفروسية مرة أخرى، وهذه المرة قصدنا مسؤول النادي ويدعى الحاج أحمدي، تعرفنا إليه، وهو من أبناء منطقة "خزانه". روينا له ما جرى بيننا وبين السيدة متدربة الفروسية، واستضافتها لنا في منزلها، فأخذنا الحاج أحمدي إلى صالة بابها مقفل من الخارج بشكل محكم، فتح الأقفال ودخلنا إليها، فدهشنا وذهلنا مما رأيناه! كل أنحاء الصالة مملوءة بسروج نفيسة وثمينة، وبأدوات ووسائل للفروسية. أحد هذه السروج كان هدية أرسلت من رئيس المكسيك إلى الشاه. كما شاهدنا هناك سروجًا من ذهب، وأخرى من فضة، وأخرى مزيّنة ومرصّعة بأحجار كريمة وثمينة، وكلها في منتهى الجمال.

 

على أحد جدران الصالة، علق نصف جسم لحصان [رأسه وصدره]. ظننت في البدء أنه تمثال منحوت. لكن عندما اقتربت منه بدا طبيعيًّا، ولما لمسته تأكدت من أنه حصان طبيعي. عيناه كبيرتان في غاية الجمال، وجلدٌ أبيض ناصع كبياض الثلج. عندما رآنا مسؤول النادي معجبين بالتمثال اقترب منا وقال: "هذا الحصان، كان الحصان المفضّل لدى الشاه. اشتراه بآلاف الدولارات. وأحبّه وتعلّق به كثيرًا إلى درجة أنه لم يطق أن يراه يتقدّم في السن ويشيخ، وحفاظًا عليه عمد إلى تحنيطه وتعليقه على الحائط".

 

بعد ذلك أحصينا وسجّلنا كل الموجود في النادي بمساعدة مسؤوله وبالتنسيق معه.

 

في تلك الليلة حدّثت المسؤول الثقافي في مسجد "التوفيق" عن نادي الفروسية، وعما رأيناه هناك. فقال لي: "إذا استطعت، نسّق الأمر مع مسؤول النادي وأمّن وسيلة نقل، ولنأخذ الشباب مرة في الأسبوع للتدرّب

 

109

 

 


100

بين إلزام واختيار

على ركوب الخيل".

 

مباشرة في اليوم التالي، استأجرت باصًا صغيرًا وجئت به، جمعت شباب الحي وأخذتهم إلى نادي الفروسية. كان الجميع مسرورًا، أخذ المدرّب يساعدهم على الركوب ثم يجول بهم فردًا فردًا في الميدان.

 

أزعج قدومنا المتدربين الأصليين في النادي وأبناء القصور، وبدأوا بالتهكم وقالوا: "لقد جئتنا بمجموعة من الحفاة من ساحة "شوس" الفقيرة، هؤلاء لم يسبق لهم أن رأوا حصانًا في حياتهم، وتريد أن تعلّمهم ركوب الخيل في ساعة، ولم تجدْ لهم سوى جياد القصر الغالية الثمن هذه والتي تقدر بآلاف الدولارات!".

 

في الأسبوع التالي، جاء مسؤول النادي بأبناء حيّه "خزانه"، ليمارسوا رياضة ركوب الخيل.

 

ذات يوم، ذهبنا إلى ملعب آزادي، أحصينا ودوّنّا أموال السلطة السابقة هناك، ونقلناها إلى خزينة الدولة.

 

وفي يوم آخر ذهبنا إلى النادي الليلي الملكي "الشاهنشاهي". قابلنا مديره، وتحدثنا إليه فأخذني إلى مخزن مخفي في القبو. وجدت هناك زجاجاتٍ وكؤوسَ خمرٍ مصفوفةً فوق بعضها بعضًا حتى السقف، أخبرني أنها مصنوعة من الكريستال الصافي الأصلي في دولة تشيكوسلوفاكيا، يصل عددها دون مبالغة إلى الألفي كأس. أحصيتها كلها في الدفتر، واستغرق الأمر ثلاثة أيام.

 

عندما ذهبت برفقة السيد "تشه بور" لتقديم التقرير للسيد رجائي، دُهش ممّا سمع وقال تعليقًا على الموضوع: "بماذا يمكن أن ينفعنا كل هذا المقدار من الكريستال؟ برأيكم ماذا نصنع بها؟ علينا أن نتخلص

 

110


101

بين إلزام واختيار

منها جميعها ونتلفها، أو نعرضها في المزاد العلني. حتى إنّنا لا نستطيع أن نعيدها إلى الدولة المصنعة؛ فذلك سيكلفنا كثيرًا".

 

عقّبت على ما قاله السيد رجائي وقلت: "في هذه الأيام وفي هذه الأوضاع، حيث يخاف الأغنياء من إخراج سياراتهم من المنازل، وتجد الأثرياء دائمًا بحال ترقّب وتحسّب من مهاجمة الناس لينتقموا منهم بجرم التعامل مع الطاغوت والشاه، هل يجرؤ أحد أن يشتري كل هذا الكريستال منا؟".

 

أظن أنها عُرضت وبيعت لاحقًا في المزاد العلني، وعادت أثمانها إلى خزينة الدولة.

 

استمر عملي في قسم مصادرة الأموال عدة أسابيع فقط. فكنت منذ الصباح الباكر أذهب برفقة زميلي السيد موسوي إلى الأماكن التي حدّدت لنا، وننجز المهمة، وعند الظهيرة نعود إلى مبنى رئاسة الوزراء لتناول الغداء.

 

يتألف مبنى رئاسة الوزراء من طابقين وقبو. وقد حُوِّل القبو إلى مطبخ ومطعم. كنّا عند الظهيرة، نصطفّ في طابور الطعام، وندفع خمسة وعشرين ريالًا مقابل وجبة الطعام. كان السيد رجائي أيضًا يتناول غداءه معنا. فيقف مثلنا في صفّ الطعام، يدفع خمسة وعشرين ريالًا ويأخذ طعامه، ويجلس على أي طاولة من الطاولات ويتناول الغداء معنا. لم يكن يبالي بالمناصب، فالمدير والمسؤول والموظف والخادم عنده سواء، يجلس مع أيٍّ منهم، وكان صديقًا حميمًا للجميع.

 

ذهبنا مرة مع السيد رجائي إلى مدينة سنندج لتفقّد أوضاع الشعب ومؤسسات الدولة فيها. حينها كانت بعض الطرقات وبعض المدن لم تطهّر

 

111


102

بين إلزام واختيار

بشكل نهائي من المعارضين وأعداء الثورة. لذلك انقسمنا ليلة الخميس إلى مجموعتين أو ثلاث، وانطلقنا بسيارة إسعاف وسيارة أخرى من طراز باترول حتى لا نقع في كمين أعداء الثورة.

 

وصلنا إلى مدينة سنندج يوم الجمعة حوالي الساعة العاشرة صباحًا. كان من المقرر أن يخطب السيد رجائي بالناس قبل صلاة الجمعة.

 

فور دخولنا المدينة، توقفنا عند بركة ماء فيها نافورة، كي نستريح من عناء السفر، ونغسل وجوهنا ونلتقط أنفاسنا. جاء أحد أبناء المدينة، وملأ كوب ماء وقدّمه للسيد رجائي، ثم توجه إليه باللهجة الكردية قائلًا: "عفوًا يا سيدي، أنتم تشبهون السيد رجائي كثيرًا!".

 

ضحك السيد رجائي وأجابه: "أنا من الأقارب البعيدين للسيد رجائي".

 

فسأله الرجل: " ما هي قرابتك بالسيد رجائي؟".

 

فأجبته: "ابن عم أبيه!".

 

فضحك السيد رجائي وقال: "لا يا عزيزي، أنا رجائي نفسه، خادمكم إن شاء الله".

 

دُهش الرجل مما سمع! وارتبك في وقفته. بدا كأنه لم يصدّق الأمر. بعدها تبسّم وقال: "حسنًا سيدي! سلّمكم الله...".

 

وذهب في حال سبيله.

 

وصلنا إلى المصلى، وقبل أن يخطب إمام الجماعة خطبتي الجمعة، تحدّث السيد رجائي إلى الحشد لمدة عشرين دقيقة. ما إن فرغنا من صلاة الجمعة، حتى رأيت رجلًا يتقدّم من آخر المصلى باتجاه المنبر، ويبعد الناس من طريقه بالصراخ والصياح. دقّقت النظر وإذا به الرجل نفسه

 

112


103

بين إلزام واختيار

الذي قابلناه عند بركة الماء. وكان يتقدّم ويقول: "أريد أن أقابل الرئيس... أريد أن أرى الرئيس".

 

عندما عدنا من مدينة سنندج، دعوت السيد رجائي في إحدى السهرات، لكي يتحدّث إلى شباب الهيئة في حيّنا، ويحاضر فيهم.

 

في تلك الليلة، تفاجأت لكثرة الوافدين والمنتظرين لقدومه. وكان جمعًا غفيرًا ضمّ شباب الهيئة وعددًا من أبناء حيّنا؛ لكنّ الساعة تجاوزت التاسعة مساءً، والسيد رجائي لم يأتِ بعد!

 

اتصلت بمبنى رئاسة الوزراء، وسألتهم عنه. فقالوا: "لقد مضى على ذهاب السيد رجائي وقت طويل، يجب أن يكون قد وصل الآن".

 

في هذه الأثناء، وبينما كنت محتارًا ولا أعرف ما أصنع وأين أبحث، جاءني أحدهم وهمس في أذني قائلًا: "هناك شخص يجلس بجانبي في الخلف، يشبه السيد رجائي كثيرًا، لعلّه هو".

 

لحقت به، وإذ بي أرى السيد رجائي نفسه؛ كان جالسًا بين الناس من دون أن يعرّف بنفسه لأحد، ومن دون إحداث أي ضجة أو جلبة!

 

تقدّمت نحوه وقلت: "سيدي. السلام عليكم. أنتم جالسون هنا؟ منذ وقتٍ طويل وأنا أبحث عنكم. أين فريق المرافقة الخاص بكم؟".

- لا حاجة لفريق المرافقة. ركبتُ سيارة أجرة، وأتيت.

 

113


104

الجبهة الأولى

الجبهة الأولى

 

وقال الطود الراسخ: "إنهم يظلمون أنفسهم"

 

الدكتور مصطفى شمران من الشخصيات التي تشرّفت بالتعرّف إليها بعد انتصار الثورة. لقد قدّم بحقّ الكثير من التضحيات لهذه الثورة، وتفانى في خدمة الأمة. وكان وجوده في تلك الفترة نعمة إلهية. في الأيام الأولى لانتصار الثورة كنت قد رأيته مرات في مبنى رئاسة الوزراء، مرتديًا قبعة روسية الشكل واضعًا نظارة، وجرى بيننا سلام وكلام. ولشدة تواضعه ولين جانبه كان يسلّم على كل موظفي رئاسة الوزراء من كبيرهم إلى صغيرهم، ويُسَر كثيرًا لرؤيتهم، ويسأل عن حال الجميع وكان حينها معاونَ رئيس الوزراء، واشتهر بأنّه خرّيج جامعات أمريكا، وأنّه حارب الصهاينة والإسرائيليين في لبنان لسنوات، وخاض معهم حرب العصابات. والدكتور شمران بطبيعته إنسانٌ هادئ قليل الكلام، فعليك أن تطرق بابه وتقترب منه حتى تتعرّف إلى معنوياته وروحيته، وتعرف ما يجري بداخله، وما ينطوي في مكنونات صدره.

 

في أول أيام انتصار الثورة، تمادى أعداء الثورة والأحزاب المعارضة كثيرًا، فنفّذوا جرائم كثيرة كترويع المواطنين، وقتل الأبرياء، وإحداث الخراب والدمار، خاصة في كردستان، حيث كانت أرضًا خصبة لفوضى كهذه

 

115

 

 


105

الجبهة الأولى

منذ سنوات ما قبل الثورة. فقيام الثورة وانعدام السلطة الكاملة على كل ربوع الوطن [خلال فترة تغيير النظام]، أتاحا لأعداء الثورة الفرصة الكافية لكي يستغلوا المواطنين والناس البسطاء في كردستان أكبر استغلال، لتحقيق أهدافهم، وذلك باستخدام وسائل الترهيب، والترغيب بالاستقلال والحرية، وإعطاء الوعود الكاذبة بتأمين الخدمات والرفاهية. فجيّشوا بعض الناس، وعاثوا فسادًا في المدن والبلاد، وساد القتل والسلب والنهب.

 

كل يوم كانت تأتي الأخبار السيّئة عن الأوضاع المترديّة في مدن كردستان الحدودية، وبما أني كنت أعمل في مبنى رئاسة الوزراء، فأعرف بهذه الأخبار والأحداث قبل غيري.

 

في تلك الأثناء كانت قد انتشرت أخبار متفرّقة عن تأسيس قوات الحرس الثوري، وعن انضمام رجال كبار من قبيل محمد بروجردي، أصغر وصالي، دوزدوزاني، أبو شريف، جواد منصوري، مرتضى رضائي، إلى هذه القوات، ما أثار الخوف والقلق لدى أعداء الثورة حيث كانوا يعتبرون انضمام هؤلاء الأشخاص للحرس الثوري خطرًا كبيرًا عليهم. فأصبح هدفهم بالدرجة الأولى القضاء على الحرس الثوري. فحيثما رأوا رجلًا مرتديًا لباس الحرس الثوري، وأينما ظنّوا بأحدٍ ينتمي للحرس الثوري أو على علاقة به، قتلوه على الفور.

 

في أواخر شهر حزيران من العام 1979م، وقبل أن ننطلق باتجاه كردستان، قام أعداء الثورة في منطقة مريوان في كردستان بنحر وتقطيع رؤوس خمسة وعشرين عنصرًا من الحرس الثوري، وسط أجواء من الفرح والابتهاج، وأطلقوا عليه اسم احتفال الموت. كما حاصروا معسكر سردشت، ثم أغاروا عليه ونهبوا كل ما فيه من أسلحة وذخيرة ومؤونة، واستخدموها في السيطرة على أغلب المدن والقرى في كردستان، وألحقوا

 

116


106

الجبهة الأولى

بقوات الحرس الثوري وقوات الجيش خسائر بالغة في الأرواح والعتاد. حتى إنّهم لم يرحموا أبناء البلد نفسه، فكانوا إذا ما احتملوا بنسبة واحد في المئة أن أشخاصًا ينوون التعامل مع النظام، ويميلون قلبًا إلى الجمهورية الإسلامية، حكموا عليهم بالقتل، وكان الموت مصيرهم المحتوم.

 

وكانوا قد هدّدوا بأنهم سوف يحاصرون مدينة باوه قريبًا ويجعلونها عاصمة لهم. بناءً على هذه المعطيات، ذهب الدكتور شمران الذي كان أستاذًا في حرب العصابات، أواخر الأسبوع الثالث من تموز برفقة ناصر فرج الله والسيد رحيم صفوي إلى كردستان.

 

حينها كان السيد رحيم في عز شبابه، وقد ضيّق الخناق على أعداء الثورة في كردستان، وكان قدوة في الشجاعة والرجولة، ولا يعرف الخوف طريقًا إلى قلبه. وكان مقدامًا، فلم يُرَ يومًا يبحث عن مخبأ، ويقف دائمًا على المرتفعات ويقاتل ببسالة، لذا كانوا يسمّونه "رحيم الجبل".

 

ولما كان من طبعي أنا وقاسم أن نكون دائمًا في قلب الحدث، قصدنا كردستان حينها مع ثلاثة أو أربعة شباب من زملائي في مقرّ رئاسة الوزراء.

 

وصلنا إلى مدينة بيجار بعد الظهر، كنّا جائعين وقد سمعنا الكثير عن الكباب البيجاري، توقفنا عند أقرب مطعم كباب، وأكلنا ما لذّ وطاب.

 

كان حديث الناس في تلك الأيام وشغلهم الشاغل: أعداء الثورة وعملياتهم الإرهابية وكمائنهم التي نُصبت في كل مكان وزمان من الليل والنهار، حيث كانوا ينفّذون الهجومات المباغتة ويأسرون أيّ شخصٍ، فإما يقتل بطلق ناري على الفور، أو يأخذونه معهم ويصبح في عداد المفقودين. مع هذه الأوضاع والأحوال لم يكن من الصواب أن نبقى على الطريق بعد حلول الظلام، فقضينا الليلة في منطقة ديوان دره، ونمنا في مبنى بلديتها.

 

117


107

الجبهة الأولى

في صباح اليوم التالي، رافقنا شابّ كردي من أبناء البلدة، وكان من شباب "الكميته[1]" في "ديوان دره" ويعرف كل طرقاتها، وتعهد لنا بأن يأخذنا إلى "باوه" من طريق آمن فنصل بسلام ولا ينقص منا شيء ولو بقدر شعرة.

 

انطلقنا من "ديوان دره" بسيارتين، وضعنا فيهما خفيةً رشّاشين متوسّطين (كاليبر 50)، وثلاث قذائف هاون، وبضعة مسدسات، وعدة رشاشات من طراز G3، قنابل يدوية.

 

وصلنا إلى مدينة "سنندج" عند أذان المغرب. رأيت الوضع سيّئًا ومضطربًا جدًّا، ورائحة الحرب تفوح في أرجاء المدينة، صرنا نسير بترقّب وحذر شديدين، ونحن في كل لحظة نتوقع التعرض لهجوم، وأن يفتح علينا وابل من الرصاص. كان عدد من المسلّحين منتشرين في الشوارع بأسلحتهم، وقد افترشوا الأرصفة، وراحوا يبيعون الأسلحة والمشروبات الكحولية، ومجلات وجرائد سياسية أو غير أخلاقية وإباحية. أكثرهم كان يرتدي الثوب الكردي المحلي ويلفّ "شرشور الرصاص[2]" حول جسده.

 

وكان بينهم نساء أيضًا، كنّ يبعن المجلات وينشرن البيانات والإعلانات التي يروّج بعضها لـ"تشريكهاي فدايي[3]"، والبعض الآخر يروّج لـ"تشريكهاي كومله[4]"، ويحملون على الثورة حملة شعواء بالكلام والشعارات. وبعض

 

 


[1]  اللجنة أو الهيئة الموكلة بوظيفة لها علاقة بأعمال الثورة وإرساء الأمن والسلامة.

[2]  شريط مليء بالطلقات (مخزن الرصاص).

[3]  منظمة تشريكهاي فدايي القوات الفدائيّة الخاصة- تأسست في العام 1350 1971م. وشكلت أكبر تنظيم يساري مسلّح في إيران. كانوا يتبعون الإيديولوجية الماركسية-اللينينية، ويؤمنون بالكفاح المسلح. قام هذا التنظيم بالمواجهة المسلحة والقتال ضدّ نظام الشاه لمدة سبع سنوات. بعد انتصار الثورة حصل انقسام داخل التنظيم، بعضهم أقدم على مواجهة الثورة الإسلامية وأحدثوا الخراب والفساد في مدن عدة من كردستان، إلى أن انحل التنظيم في العام 1362 1983م. وتلاشى. (مقتبس من كتاب فرهنك أحزاب قاموس معجم الأحزاب-، المؤلف محسن مدير شانه تشي، منشورات نكاه معاصر، ص104).

[4]  جماعة الكوملة الحزب الشيوعي الكردي- والتي تُدعى أيضًا كومله جك، هي أول حزب سياسي في المناطق الكردية بإيران، والذي أسّسه أكراد مدينة السليمانية في العراق على أسس قومية وتطلعات انفصالية لتشكيل دولة كردستان المستقلة. يعتبر محمود جودت –من أبرز الناشطين الكرد في العراق- المؤسس الأصلي لهذا الحزب. وفي ما بعد، قامت هذه الجماعة بمقتضى التحوّلات السياسية في المنطقة مع مرور الزمن، بتغيير بعض البرامج والأهداف في الحزب، وحينها أطلقوا عليه اسم الحزب الديمقراطي، ومنذ ذلك الوقت عمل على معارضة ومواجهة الثورة الإسلامية في الداخل والخارج. (مقتبس من كتاب أوضاع سياسي كردستان الأوضاع السياسية في كردستان-، المؤلف مجتبى برزويي، ص 283).

 

118


108

الجبهة الأولى

المعارضين كان يلوّح في الهواء بأعلام رسم عليها شعار "المجاهدين[1]". لم يكن من المقرر أن نمكث في "سنندج"، لذلك مررنا من جوارهم ببطء ولم نُحدث أي جلبة حتى لا نلفت انتباههم، وخرجنا من المدينة.

 

لكردستان تضاريس عجيبة وغريبة. حينها كنا في فصل الصيف، وكل الغابات كانت خضراء وجميلة. وعلينا أن نعبر من قلب الجبال ونجتاز الصخور والتلال، فاحتاج المسير لسائق متمرّس من أهل المنطقة يعرف طرقاتها المتعرجة الكثيرة المنعطفات والانحناءات الخطيرة.

 

وصلنا إلى مدينة "باوه" في منتصف الليل، كان الصمت والسكون يلفّان أرجاء المدينة. فالناس إما نيام، أو أطفأوا الأنوار عمدًا، وقعدوا حبيسي بيوتهم.

 

"باوه" مدينة صغيرة تقع في قلب الجبال والمرتفعات؛ لكنّها

 

 


[1]  منظمة مجاهدو خلق الإيرانية أسست في شهر شهريور من عام 1344 1965م. على يد ثلاثة أفراد كانوا في السابق أعضاء جماعة نهضت آزادي حركة الحرية. في العام 1354 1975م، أعلنت اللجنة المركزية في المنظمة، في بيانٍ عن تغيير جذري في إيديولوجية المنظمة، من الإسلام إلى الماركسية. ومن بعد ذلك، تابعت المنظمة فعالياتها ونشاطها في شقين، شق ماركسي وشق إسلامي. الشق الإسلامي الذي سمي تنظيم المجاهدين، عمل في داخل إيران وخارجها بتنفيذ عمليات الاغتيال وزرع المفخخات وتفجير العبوات الناسفة، كما انشغل بنشر الكتيبات والكتب. قاد هذا التنظيم مسعود رجوي، واستطاع أن يوسع هذا التنظيم، وأطلق عليه اسم جنبش ملي مجاهدين حركة المجاهدين الوطنية. وبعد انتصار الثورة افتعل معارك أهلية طاحنة راح ضحيتها المئات بين قتيل وجريح. ولا يزال هذا التنظيم قائمًا ومستمرًّا في نشاطاته الإرهابية إلى يومنا هذا. (مقتبس من كتاب فرهنك أحزاب، المؤلف محسن مدير شانه تشي، مطبعة نكاه معاصر).

 

119


109

الجبهة الأولى

من الناحية العسكرية والاستراتيجية تعتبر نقطة مهمة وحساسة. وبما أنها محاطة بسلسلة من المرتفعات فيسهل تحصينها والحفاظ عليها، ومن الأفضل أن نقول هي مدينة دائرية الشكل تحيط بها مرتفعات، من الجهة الغربية تقع على الحدود العراقية، وكان هذا العامل الأهم الذي دفع أعداء الثورة ليسارعوا إلى السيطرة عليها. وهذه الخصائص أيضاً دفعتهم للتفكير بجعلها عاصمة لهم; بناءً لقول كبارهم وزعمائهم "عاصمة كردستان المستقلّة"!

 

منازلهم مؤلفة من طبقة واحدة، ومصنوعة من اللبن المجفّف وأعمدة وألواح خشبية. جلنا قليلًا في الأزقة، وسألنا أحد المارة عن محل إقامة الدكتور شمران. فأجابنا بلهجته الكردية العميقة: "في الدائرة الصحيّة أو في مركز الشرطة".

 

وجدنا الدكتور في النهاية في منزل أحد أبناء البلدة. كان أهل كردستان يؤيّدون الثورة، ويستقبلون عناصر الحرس الثوري بكلّ فخر وسرور في منازلهم. ويضعونها تحت تصرف قوات الحرس. فسُمّيت هذه البيوت فيما بعد ببيوت الحرس.

 

استقبلنا الدكتور شمران ببشاشته المعهودة وبحرارة كبيرة. وكعادته بدا ودودًا لطيفًا قريبًا من القلوب. ومع أنه كان يشغل منصبًا رفيعًا في الحكومة، لم أرَ فيه شيئًا من كِبرٍ أو غرور أو استعلاء. لا يميز نفسه عنا، بل كان كأحدنا، وتواضعه هذا جعله ينفذ إلى قلبي وقلوب كل الشباب، وجعلنا نصبح من مريديه وأتباعه. عندما رآنا، عانقنا فردًا فردًا وقال: "عشتم...رعاكم الله...".

 

كان طيب المعشر حسن الخلق ومرحًا؛ تمامًا كما كنا نحب.

 

120


110

الجبهة الأولى

عندما جلسنا للنقاش، قال أحد الشباب: "حتى الآن لا يزال الطريق إلى هنا سالكًا، ولم يُغلَق بعد؛ لكنهم قالوا إنّهم خلال أيام سيغلقونه، ويطبقون الحصار على المدينة".

 

قال آخر: "يقوم أعداء الثورة بالإغارة على قوافل المساعدات الغذائية، التي ترسلها مؤسسة "جهاد سازندكي[1]"، وعلى قوافل العتاد والأسلحة، فيسرقون كل شيء، ويقتلون شباب المؤسسة. وعندما همّ محافظ المدينة بالخروج مع زوجته وأولاده من المدينة، أوقفوه وضربوه ضربًا مبرّحًا، حتى شارف على الموت...".

 

فقال الدكتور شمران: "انظروا ماذا صنع بعض هؤلاء الأكراد بالبلد، والضرر الذي لحق بسببهم بهذه المدينة. طبعًا لا ذنب لهم؛ فهم فقراء وبسطاء وقد غُرر بهم. وانجرفوا مع التيار، والفقر والجهل وقلة الثقافة هي أسباب تلك المشاكل".

 

في اليوم التالي، التجأ إلينا قرابة المئة من أبناء البلدة بعد أن تم تهجيرهم من منازلهم؛ لكن لم تكد تمضي 24 ساعة حتى هدأت الأوضاع قليلًا وعاد نصفهم إلى منازلهم.

 

هذا يدل على أن الناس تائهون، فهم من جهة خائفون على أرواحهم وأموالهم، ومن جهة أخرى يريدون الثبات والصمود مع الثورة.

 

في تلك الفترة، ذاع صيت محمد بروجردي وأصغر وصالي في كردستان، فقد قاتلا أعداء الثورة بضراوة، وضيّقا الخناق عليهم كثيرًا. قبل مجيئنا بعدة أيام، كان أصغر وصالي قد وصل إلى مدينة "باوه" مع ستين عنصرًا من عناصر الحرس الثوري، واستقروا في مركز الحرس الثوري وسط المدينة.

 

 


[1]  مؤسسة جهاد البناء.

 

121


111

الجبهة الأولى

وخلال هذه الأيام المعدودة، سمعنا الكثير عن بطولاتهم وشجاعتهم. كان أصغر قائدًا لكتيبة من الشباب، كانوا يربطون حول أعناقهم مناديل حمراء، وكلهم من خيرة الشباب: شهامتهم وشجاعتهم وقوة قلوبهم لا توصف، وقد وضعوا أرواحهم على أكفّهم فداءً للإمام الخميني. وقد عُرفوا بمجموعة "المناديل الحمر".

 

كان شعارهم: فلتصبغ هذه المناديل بدمائهم، ولن يتوانوا عن القتال حتى الشهادة.

 

وقد عرفت أنّه بقي من مجموعة المناديل الحمر "أحمد اسليمي"، ولا أعلم الآن في أي غربة هو، حتى انقطعت كل أخباره عنا بهذا الشكل.

 

مع وجود أصغر وقواته، وصل عددنا إلى 130 عنصرًا. كان عندنا "عيون" ينقلون لنا التحركات، وهم الذين أخبرونا بأن أعداء الثورة يحشدون قواتهم تمهيدًا لمحاصرة المدينة والإطباق عليها. في تلك الآونة، لاح اختلاف بسيط في الرأي بين أصغر والدكتور شمران، لكنّهما كانا متّفقين في الهدف وهو اقتلاع أعداء الثورة من جذورهم. كان الدكتور شمران يميل إلى الصلح والمصالحة وحلحلة الأمور بالطريقة السلمية، ويرغب بالعمل الثقافي والتعليمي مع العناصر المعارضة أكثر من العمل العسكري، أراد أن يقلّل من عدد الضحايا والقتلى؛ فيما أصغر وصالي لم يؤيّد المصالحة. كان رجلًا قليل الصبر، وأراد أن يكسر شوكة أعداء الثورة من خلال هزيمتهم عسكريًّا.

 

في إحدى الجلسات قال الدكتور شمران: "أنا أريد أن أعرف شيئًا: أعداء الثورة الذين يتحدثون عن الاستقلال والحكم الذاتي صباحَ مساء، هل يعرفون معنى هذه الكلمة؟ كنت أود لو أن أحد زعمائهم، أو أحد

 

122


112

الجبهة الأولى

أفراد نواتهم المركزية، يكون حاضرًا هنا حتى أسأله عن تعريف كلمة حكم ذاتي".

 

في اليوم نفسه نصب "رضا عسكري" و"مهدي مقدم نجاد" كمينًا، وأسرا اثنين منهم، وجاءا بهما مكبلين إلى الدكتور.

 

سألهما الدكتور شمران: "لماذا تقاتلوننا؟ نحن لا نريد قتالكم ولا حرب بيننا، لم نأت إلى هنا لنحتل أو نتملّك شيئًا".

 

أجابه المقاتل الكردي: "نحن نريد الاستقلال والحكم الذاتي".

 

"وما تريد به؟" سأله الدكتور.

- أريد أن أتمكن من رش أشجاري بمبيد الحشرات وأحصّنها من الآفات. نحن نريد أن تزدهر الزراعة في مزارعنا.

 

لوى الدكتور رأسه أسفًا، وقال: "كنت أظن أنهم سيقولون مثل هذه الأشياء. وهم بالأساس لا يعلمون أنّ الحرب مع الثورة ستضر بهم بالدرجة الأولى. إنهم يظلمون أنفسهم ويظلمون عيالهم وأبناءهم".

 

عندما وصلتنا أنباء من المخبرين بأن المدينة ستحاصر في هذه الأيام، ساد جو من الترقب والحذر. بأمر من الدكتور ملأنا ما لدينا من أكياس بالرمل، وصنعنا منها سواتر ترابية عند مداخل أحياء المدينة. وانتقينا بعض المنازل واتخذناها مقرات عسكرية؛ طبعًا لم ندخلها عنوة، بل بالتوافق والتراضي مع أصحابها، وتم التنسيق معهم أنه إذا سقط المقر وألقوا القبض على صاحب المنزل، عليه أن يدّعي أننا أخذنا منزله عنوة.

 

قدنا أنا والحاج قاسم مجموعتين تتألّف كل واحدة من خمسة عشر عنصرًا، وانتشرنا على طرفي شارع "نوسود"، واستقررنا خلف السواتر

 

123


113

الجبهة الأولى

الترابية. هنالك تجلّت مظاهر التعاون والتضحية والإيثار بين كل الشباب بمن فيهم عناصر الحرس الثوري من الكرد. كان قاسم طاهري وحسين محمودي في عداد مجموعتي، وهما من طهران. فقاسم طاهري من قدامى المناضلين والشجعان في الثورة. وكان قبل الثورة من عناصر إحدى وحدات الحرس الخاص بالشاه، وتُدعى "كاردجاويدان"، لكن هداه الله ووجد طريق الصواب والتحق بالثورة، وانقلبت عاقبة أمره خيرًا. إضافة إلى الشباب المحليّين تألفت قواتنا في "باوه" من شباب كثُر من طهران وهمدان وأصفهان، لكني لم أعد أذكر أسماء الجميع. ومن خيرة الشباب الأكراد: غفور وعماد، اللذان كانا يتسابقان إلى الموت، وقد بذلا الكثير في خضم تلك المعارك. طابت ذكراهم جميعًا.

 

في تلك الليلة، لازم "هدايت كار" الدكتور شمران، ولم يرَ منه غير الهدوء والطمأنينة والسكينة، كما تعلّم منه بعض الفنون العسكرية والتكتيكات الحربية. على سبيل المثال، كان الدكتور يقول: "لا تطلقوا النار ما لم تطمئنوا، تشبّثوا جيدًا بالأرض، ثم أطلقوا النار".

 

كانت أخلاقه وسلوكه سلوك عارف. بالنسبة لنا كان درساً، أكثر وقته صامت، وإن تكلّم جملةً كان كلامه هاديًا وموجهًا. في تلك الأيام الصعبة لم أره يومًا يغضب من أحد، أو يرفع صوته في وجه أحد.

 

في تلك الليلة كان الدكتور يرتدي قميصًا وبنطالًا عسكريًّا مرقّطًا، معتمرًا القبعة الروسية، حاملًا سلاحه الكلاشينكوف الذي لازم كتفه دائمًا، ويظهر بمظهر الصلب القوي، وقد شدّ على وسطه حزامًا ملأه بالقنابل اليدوية. تجمّعنا حوله ومنعناه من الذهاب، قلنا له: "يا دكتور، إن أصابتك شظية صغيرة، قضي أمرك". لكنّه لم يصغ إلينا.

 

124


114

الجبهة الأولى

وقفتُ مذهولًا؛ كيف يستطيع أن يحافظ على سكينته ورباطة جأشه وسط كل هذا الخوف والترقّب الذي نعيشه. كان الموت بانتظارنا، والبسمة تعلو وجه الدكتور من حين لآخر.

 

أنا الذي كنت أدّعي الحذاقة والشجاعة، غدوت قلقًا مضطرب الفؤاد، ولم أكن أعلم ما الذي سيجري علينا، فأعداء الثورة يفوقوننا عدةً وعتادًا. وحتى ذلك الوقت لما يصلنا أيّ مدد من المدن الأخرى أو من الجيش. وكأنّ لا أحد في هذه الدنيا يعلم بوجودنا، أو يعرف أننا نقاتل أعداء الثورة، ونحن محاصرون في هذا المكان. صحيح أنّنا جئنا إلى هنا بملء إرادتنا، لكن من المفترض أن تصل بعض قوات الدعم حتى نتمكّن من التغلب على أعداء الثورة. كذلك سكان مدينة باوه المساكين عانوا كثيرًا، وقاسوا الخوف الذي أصابنا. لزموا منازلهم وأغلقوا الأبواب والنوافذ بإحكام، ولم نعد نسمع لهم صوتًا!

 

ارتديت في تلك الليلة قميصًا وبنطالًا ترابي اللون، ثم ربطتُ الحزام حول قميصي بشكل محكم، وعلّقت عليه ثلاث أو أربع قنابل يدوية، كما جئت بأربعة مخازن للكلاشينكوف، وبواسطة شريط لاصق ألصقتُ كلّ مخزنين ببعضهما البعض رأسًا على عقب، حتى لا أبقى من دون ذخيرة في خضم المعركة والاشتباكات، ولم أكن أضع خوذة على رأسي.

 

عند غروب أحد الأيام، أطبق أعداء الثورة الحصار على المدينة كلّها من دون أن يطلقوا رصاصة واحدة، حيث استقرّوا في النواحي والمرتفعات المحيطة، وبعدة آلاف من عناصرهم طوّقوا المدينة بالكامل. ومع حلول وقت العشيّ سمعنا أصوات إطلاق نار متفرقة تأتي من ناحية مركز الشرطة، وكانت إيذانًا ببدء المعارك، وأنّ الاشتباكات بدأت من هناك. يقع مركز الشرطة مقابل شارع نوسود، لذلك كانت الأصوات قريبة منا. ما إن نهضنا

 

125


115

الجبهة الأولى

وحملنا أسلحتنا حتى انهمر وابل رصاص من المرتفعات المطلّة علينا. كان مشهدًا مرعبًا كما يحصل في أفلام الهنود الحمر.

 

رددنا على النار بالنار، لكننا لم نستطع تحديد أماكنهم في المرتفعات بدقة، غاية ما كنا نراه جبال وصخور، يصدر من بينها بريق شرر بنادقهم وهي تطلق النار، فنحاول أن نصيبه.

 

نطقت بالشهادتين وسلّمت أمري إلى الله. سقطت حولنا بعض قذائف الآ ربي جي والهاون. سمعنا بعدها أحدهم ينادي عبر مكبّر الصوت من ناحية مركز الشرطة: "اليوم سيُعلم من هم الخونة، أيها الناس، أيها المقاتلون المحلّيّون، اتركوا الحرس الثوري ولن يصيبكم مكروه. أعداؤنا هم شمران وأصغر وصالي وعناصر الحرس، نحن نريد رؤوس هؤلاء فقط.

 

بعد هذه التهديدات، قلّ إطلاق النار من قبلهم، فالظلام لم يسمح بالتحام المقاتلين، وهدأت الأوضاع قليلًا. تفقّدتُ مجموعتي، ولم يكن بيننا أي جريح، لكن مع سماع هذه التهديدات التي كنا على يقين أنها ليست مجرد مزحة، اقشعرت أبداننا. وهم أرادوا بذلك أن يزرعوا الخوف في نفوسنا ويجبرونا على الاستسلام.

 

بقي صوت الرصاص المتفرق يسمع من عدة محاور في كل أنحاء المدينة حتى السحر.

 

تركتُ الشباب في المتاريس، وذهبت أبحث عن الحاج قاسم، أردت أن أطمئن لحاله، فوجدته خلف أحد المنحدرات غارقًا في السجود. وقفت أنظر إليه متحيّرًا لعظمة روحه؛ فوسط هذه المعمعة، وفيما نصارع بين الموت والحياة، كان هو يصلّي صلاة الليل بخشوع. وبينما كنت واقفًا أنظر إلى الحاج وهو يصلّي وأنتظر فراغه من الصلاة، عاد مكبّر الصوت

 

126


116

الجبهة الأولى

من جديد يبث التهديدات:

"نحن نريد رأس شمران فقط، سلّمونا رأس شمران وينتهي كلّ شيء. كل من يتعاون مع شمران سوف يُعدم غدًا وسط هذه الساحة شنقًا...".

 

كان صوته يبعث الخوف في القلوب، وبلا وعي رحت أردّد الآية الكريمة: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". وطلبت من الله أن يقويّني ويثبّت قلبي، وإن كان أجلي محتومًا على يد هؤلاء الـ"كومله" الأنذال، فليجعل الله موتي بعزة، وعلى أرض المعركة وأنا مرفوع الرأس. ويا لها من ليلة كانت؛ ليلة بألف ليلة، وكأنّ الصباح لم يعد يريد أن يحلّ علينا.

 

وجب عليّ أن أواجه الهلع وأقتل الخوف في قلبي حتى أتمكن من الصمود والثبات. وصرت في كل لحظة أنتظر هجومهم علينا بالسكاكين، وقطعهم لرأسي، أو أن يطلقوا عليّ الرصاص وينتهي أمري بلمح البصر، الأمر الذي فعلوه مرارًا مع رفاقنا. هذا ما كنت أتصوّره عن أعداء الثورة، ولم أكن قد رأيت منهم غير ذلك. كانوا يقتلون بكلّ وحشيّة وليس في قلوبهم ذرّة من الرحمة والمروءة.

 

بينما كان الحاج قاسم يصلّي صلاة الليل، حلّ الفجر وسمعنا صوت أذان الصبح من بيتين أو ثلاثة. بعد التهديدات المتكرّرة التي أطلقها أعداء الثورة لم يعد أحد يجرؤ على الخروج من منزله، فضلًا عن الاقتراب منا، وتقديم الماء والطعام لنا.

 

عندما أنهى قاسم صلاته، مسح بيده على وجهه وقال لي: "لم تنس ذكر الله، أليس كذلك يا سيد؟ هنا في هذه الظروف لا ينفع المرء سوى ذكره لله وصلاته، فإذا دخل الخوف والاضطراب قلبك قل "يا حي يا قيوم" اثنتي عشرة مرة، فتهدأ وتدخل السكينة قلبك".

 

127

 

 


117

الجبهة الأولى

حينها وأنا في ريعان الشباب، فكّرت في نفسي: لماذا يكتفي قاسم بهذه الأذكار ويطمئن قلبه بها؟ فيما أنا أبحث عن السلاح والرصاص والعتاد لأتمكّن من الوقوف في وجه الأعداء، حينها لم أكن مقتنعًا تمامًا بأن الإيمان والعقيدة أقوى من السلاح.

 

مع إشراقة الشمس توجّهتُ والحاج قاسم إلى مركز الشرطة، وعلى مقربة منه، رأينا جثث العديد من شباب الحرس الثوري والكرد المحلّيين ملقاة على الأرض، ولم يستطع أحد الاقتراب منها وسحبها.

 

كان شمران داخل مركز الشرطة، وقد أصيبت يده برصاصة ولفّها بضمادات وأهملها، وأكمل عمله كأنّ شيئًا لم يكن، وبمجرد أن رآنا قال لنا: "اصعدوا على ذلك المرتفع، وافتعلوا اشتباكًا معهم، وأشغلوهم قليلًا حتى تتمكن الطائرة المروحية من الهبوط، إنّها على وشك الوصول، وهي تحمل لنا العتاد والذخيرة والطعام والماء".

 

فعلنا كما أمرنا الدكتور، وصعدنا على مرتفع كالتلّ مطلّ على المدينة، لكن مهما أطلقنا النار على أعداء الثورة لم نلقَ ردًّا منهم، وبقوا متمركزين في أماكنهم كأنهم ينتظرون حلول الليل حتى يتقدموا وينتقموا منّا، والليل بحد ذاته مرعب، ويمكنهم خلاله القيام بالهجومات براحة وحرية أكبر.

 

عند الساعة الحادية عشرة صباحًا وصلت الطائرة المروحية، ونزل منها اللواء فلاحي قائد القوات البرية مع بعض عناصر الجيش، وأفرغوا منها صناديق تحوي مواد غذائية وذخيرة. تقدّم إليهم أحد شباب الحرس وسلّم اللواء مكتوبًا من طرف الدكتور شمران، فتح اللواء الورقة وقرأ ما بداخلها وركب المروحية وذهب.

 

حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر جاءت مروحيتان. وبعد أن حلقتا

 

128


118

الجبهة الأولى

حول المدينة حطتا خلف المشفى، هذه المرة جاءت بقوات دعم، فأفرغت كل منهما حمولتها وأقلعت، وأثناء ذلك رأيت النار تنبعث من إحداهما، رأيناها من بعيد وهي تشتعل، والطيار يقذف بنفسه خارجها، لكن لم أعرف مصيره؟! حينها راح الدكتور يوجه أصغر وصالي وجماعته أيضًا، حيث سمعته يقول له: "أنتم أيضًا من الأفضل أن تصعدوا المرتفعات المطلّة على المدينة، وتستقرّوا هناك وتخترقوهم من الخاصرة". سقط يومذاك في تلك الاشتباكات من مجموعة أصغر وصالي بعض الشباب بين شهيد وجريح.

 

بينما كان الدكتور يتباحث مع أصغر وصالي جاء أحدهم وأخبرنا أن بعضًا من أعداء الثورة اقتربوا كثيرًا من بوابة مركز الشرطة، وهم يحملون مناديل بيضاء ويلوّحون بها وكأنهم يريدون الاستسلام، وتوقفوا هناك بانتظار الرد منا. فتوجه شمران إلى "آيت شعباني" مسؤول البلدية الذي كان بحقّ رجلًا شجاعًا، ولائقًا بتحمّل المسؤولية، وسطّر البطولات في تلك الاشتباكات قائلًا له: "لا تنخدعوا، هذا فخّ، فلا هؤلاء الجماعة أهل للاستسلام، ولا هذا الوقت وقت استسلام".

 

وقبل أن يتحرّك شعباني ويتّخذ القرار، كانت قواته قد ذهبت باتجاه أعداء الثورة ظنًّا منهم أنهم سيوفقون لأسر العديد منهم، لكن مع اقترابهم من أعداء الثورة سقطت المناديل البيض أرضًا وارتفعت البنادق وبدأ إطلاق النار، وعلى الفور استشهد عدد من خيرة شباب مركز الشرطة. لكن بالتعاون بين آيت شعباني والملازم يوسفي، وبمشقّة كبيرة استطاعوا أن يعيدوا السيطرة على أطراف مبنى البلدية ويستعيدوا النقاط التي خسروها.

 

في تلك الأيام، انقطعت المياه والكهرباء وخطوط الهاتف، ولم يكن لدينا

 

129


119

الجبهة الأولى

أي وسيلة للاستعلام عن أحوال وأوضاع باقي أرجاء المدينة، كنّا نتلقّى الأخبار والأوامر عن طريق المخبرين أو بالتناقل شفهيًّا من شخص لآخر.

 

شيئًا فشيئًا شارفت مؤننا الغذائية والمياه على النفاد، فاضطررنا إلى تقسيم الماء والاكتفاء عند العطش بترطيب شفاهنا بخرقة مبلّلة، وكنّا نقضي أيامنا وليالينا في قلق وتوتر. وكان عون الباري عز وجل أملنا الوحيد.

 

أظنّها كانت الليلة الثالثة من الحصار حين خرجتُ مع اثنين أو ثلاثة من شباب مجموعتي من متاريسنا، وذهبنا إلى بيت الحرس لنتزوّد بالذخيرة اللازمة، وهناك وجدت الدكتور شمران، أحمد اسليمي، رضا مقدم، حاج قاسم وأصغر وصالي، في جلسة مناقشة وتشاور. هذا يقول علينا أن نكمل المعركة، وذاك يقول إنّه يفضّل الصلح والتفاوض معهم. في منتصف الجلسة جاء خبر مفاده أن أعداء الثورة هاجموا مشفى المدينة. أسرعنا جميعًا بصحبة الدكتور إلى هناك، ورأينا المشفى لم يبقَ فيه باب ولا حائط سليم؛ كلّه مدمّر بفعل قذائف الـ"B7"، وكان هذا المشفى الوحيد في مدينة "باوه"، وأشبه بالمستوصف منه بالمشفى، حيث لم يكن فيه سوى بضعة أسرّة وطاقم صغير من الممرّضين يرافقهم طبيب واحد.

 

المشهد يدمي القلوب حقيقةً، كانوا قد أخرجوا المرضى من أسرّتهم ومن مبنى المشفى إلى باحته، وقاموا بتقطيعهم ونحر رؤوسهم. داخل المبنى رأينا العديد من الجرحى المضرّجين بالدماء وأنينهم وعويلهم يملأ المكان. كان من بينهم امرأة شابة بدت كأنها ممرضة ملقاة على الأرض فاقدة للوعي، لعلّها أصيبت برصاصة في خاصرتها، وكانت تنزف بشدة. وأحد الجنود على الأرض مدمى يئنّ ويطلب المساعدة بلهجته الأصفهانية. كان مشهدًا مروعًا ومرعبًا كأن القيامة قامت، والناس والمدنيون العوام المساكين الذين جاؤوا واحتشدوا ليروا ما جرى في المشفى، كلّ منهم وقف مبهوتًا

 

130


120

الجبهة الأولى

صامتًا لهول المنظر. ضمّد الشباب جراح المرأة والجندي الأصفهاني وبقية الجرحى، وحملوهم إلى باحة المشفى ومدّدوهم على الأرض. جاء الدكتور شمران والحزن والأسى باديان عليه، وقف عند الجرحى وقال: "يجب أن نخرج هؤلاء الجرحى من المدينة بأي طريقة، وادفنوا الجثث بسرعة حتى لا يرى الشباب الأجساد بلا رؤوس فيؤثّر ذلك على نفوسهم وعزائمهم".

 

لكننا لم نتمكن من تنفيذ أوامر الدكتور شمران في ذلك الحين، فالوضع كان سيّئًا جدًّا واستمرت الاشتباكات، ولم تتح لنا الفرصة لتنفيذ المهمة.

 

بعد الظهر، جاءت مروحية الجيش وحطت في المدينة، لكنها فارغة تمامًا من أي قوات مساندة! لا أعلم لماذا أتت! كان بإمكانها أن تحمل ما لا يقل عن أربعين عنصرًا من قوات الدعم.

 

نزل الطيار الطويل القامة منها، وقام بمساعدة الناس في حمل الجرحى والمصابين وتمديدهم في الطائرة، بينما قامت اثنتان من النساء الكرد بحمل السيدة المصابة إلى المروحية. ولشدّة ما أصاب الناس من خوف ويأس ركض العديد منهم نحو الطائرة عندما همت بالإقلاع وتمسكوا بأطرافها ليلوذوا بالفرار، وبعضهم الآخر راح يترجّى الدكتور قائلًا: "اسمح لنا بصعود المروحية، وإلا سوف تقضي علينا جماعات الكوملة هذه الليلة"، بينما راح بعضهم يكيلون السباب للدكتور، ويشتمونه وهم يبكون ويصرخون، المساكين لم يكونوا في وضع نفسي وعصبي سوي، فقام عناصر الحرس الثوري بتفريقهم وإبعادهم عن المروحية حتى تتمكن من الإقلاع، ونحن المدهوشون مما نراه وقفنا جانبًا. ما إن ارتفعت الطائرة عن الأرض حتى بدأ إطلاق الرصاص عليها، وأصيبت في عدة مواضع وثُقبت وأُصيب زجاجها، لكنها لم تسقط. تموضعتْ ثم انطلقتْ مجددًا، وما إن ارتفعت عدة أمتار عن الأرض حتى علقت إحدى شفرات مروحتها بصخرة

 

131


121

الجبهة الأولى

فانحرفت وفقدت توازنها، وكأنّ الطيار قد أصيب برصاصة فلم يستطع التحكم بها وبسرعة. مالت الطائرة باتجاه الجبل وانكسرت إحدى مراوحها ووقعت على أحد شباب الحرس الأكراد وقطعت رأسه بلمح البصر. وبعد عدة دقائق حطت على تلة، ومن جديد حاولت الإقلاع، وهكذا بينما كانت تتعرض لإطلاق نار كثيف استدارت إلى اليمين وارتطمت في سفح الجبل على بعد مئة متر من المشفى ثم سقطت على الأرض محدثةً صوتًا وضجة كبيرة.

 

وعلى الفور ركضنا باتجاهها وما إن وصلنا وجدنا الطيار ومساعده وكل الجرحى قد استشهدوا داخلها. كانت جثة الفتاة معلقة من وسطها على شباك الطائرة. يداها تتأرجحان في الهواء، وشعرها المرخى الطويل الأشقر يطير يمينًا ويسارًا مع الرياح. سحبنا الأجساد من المروحية وحملناها إلى مقربة مئتي متر من الدائرة الصحيّة، وبمساعدة أهالي مدينة "باوه" حفرنا لهم قبورًا ودفناهم فيها من دون غسل أو كفن. وقام أحد عناصر قيادة الشرطة بحفر أسمائهم ومشخّصاتهم على القبور حتى لا يصبحوا مجهولي الهوية.

 

كانت المصيبة تلو المصيبة تقع على رؤوس أهالي "باوه" المساكين. في المساء بينما كنا عائدين مع الشباب إلى مواقعنا ومتاريسنا في شارع نوسود وجدنا بضعة أجساد لأشخاص باللباس الكردي، ولم أعرف إن كانوا من عناصرنا أو من أعداء الثورة، لكن من الواضح أنهم ضغطوا كثيرًا ليسيطروا على المدينة بشكل كامل. أيًا يكن ففي تلك الأثناء والأوضاع الصعبة وجدنا قذيفة الـ"B7" والسلاح الموجود بجانبهم غنيمة جيدة. قبل أن نصل إلى مواقعنا جاء أحد الشباب الكرد إلينا راكضًا وقال: "ارجعوا، الحاج أصغر يريدكم، وهو ينتظركم في بيت الحرس".

 

132


122

الجبهة الأولى

عدنا أدراجنا إلى هناك لمقابلة الحاج أصغر، حيث قال لنا: "سيهاجموننا عند شروق الشمس، وهذا الهجوم سيكون الأقوى، فعلينا أن نأخذ زمام المبادرة ونستفيد من عنصر المفاجأة ونهاجمهم قبل أن يهاجمونا، ونأخذ منهم بعض المواقع، تقدّموا وسيطروا على المرتفعات، تقدّموا وخذوا موطئ قدم لكم وأي خطوة تقدم ستكون مكسبًا لنا".

 

صلّينا الصبح ثمّ تحرّكت جميع المجموعات من أنحاء عدة في المدينة إلى خارجها وهي تطلق النار، وبينما كانت تتردد أصوات الاشتباكات وعبارات "قف"، أصيب أحد شبابنا وسقط على الأرض، سحبناه بصعوبة لنعيده إلى المتاريس، لكنه فارق الحياة في منتصف الطريق ونال شرف الشهادة. كانت خطة الحاج أصغر جيدة ومفيدة حيث إنّنا لقّنا أعداء الثورة درسًا، وجعلناهم يظنّون أنّ أعدادنا كبيرة، ولسنا مجموعة أفراد، وبهذا الهجوم أوجعناهم وسلبناهم الأمن والطمأنينة.

 

لكن في اليوم التالي، ساء وضعنا كثيرًا وواجهنا مشكلة النقص الحاد في الذخيرة، وبقينا نطلق الرصاص بشكل متفرق وعند الحاجة فقط، ونال الجوع والعطش منا، وضغط كثيرًا على قوّتنا.

 

عند الظهيرة ذهبت إلى الحاج قاسم، ورأيته جالسًا عند الحائط منكسرًا تعبًا، يردّد الأذكار ويناجي ربه.

 

نظر إليّ وقال: "رأيت اليوم شيئًا حيّرني وأذهلني، حتى النساء من أعداء الثورة رأيتهن يحملن السلاح، ويطلقن النار! انظر كيف يعاملوننا".

- نعم، شاهدت بعضهن يرتدين اللباس المحلي!

- بالله عليك هل هؤلاء إيرانيات؟

- إنّه لأمرٌ سيّئ أن يشرب الإنسان من دم ابن بلده.

 

133

 

 


123

الجبهة الأولى

كان كلانا متعبًا ومعفّرًا بالتراب، وأملنا الوحيد لطف الباري تعالى. وبقية الشباب كذلك، لم يكن وضعهم وحالهم أحسن منّا. بقيت عند الحاج قاسم حتى الليل لقد سدّدنا ضربة قاسية لأعداء الثورة من خلال أسلوب حرب العصابات، وكنا نفكّر ونتساءل على الدوام: لماذا لا يرسل الجيش قوات دعم ومساندة لينقذنا، وكأن بلدنا هذا ليس فيه جيش؟!

 

كنّا نتأرجح بين اليأس والخوف من جهة، والأمل بالله من جهة أخرى.

 

فلا عديدنا وعتادنا كان كافيًا للبقاء والصمود والمقاومة، ولا مبادئنا وحميّتنا تسمح لنا بالتقاعس والمغادرة. وهكذا، إلى أن حلّ صباح اليوم السابع والعشرين، ومن لطف الباري ومنّه علينا سمعنا صوت الطائرات تخرق جدار الصوت، فاندفعنا نحو النوافذ وإذا بأربع طائرات حربية من طراز "فانتوم" تحلق في سماء مدينة "باوه" وتستدير في الجو، ترتفع في السماء تارة وتنخفض أخرى وتخرق جدار الصوت مجدّدًا.

 

وفي الوقت ذاته ضجّت حارات "باوه" وأحياؤها وشوارعها بأصوات التكبير.

 

وانتشر خبرٌ بين الناس مفاده أنّ الإمام أنذر وأرسل بلاغًا: إذا لم تُحلّ قضية باوه خلال أربع وعشرين ساعة، فإنّه سيأتي شخصيًّا إلى هناك.

 

اغرورقت عيناي بالدموع من شدّة الفرح، وقلت في ذهني: أخيرًا والحمد لله فكّر أحدهم بهؤلاء المظلومين والمنكوبين. ومن شدّة فرحي نزلت أرضًا في مكاني وسجدت لله شكرًا.

 

مالت إحدى الطائرات للمرة الثالثة وأطلقت صاروخًا في قلب الجبل، لم تمضِ نصف ساعة حتى لاذوا جميعًا بالفرار واختفوا في الوديان والمنحدرات.

 

قال الحاج أصغر: "أنذروا الناس بأن لا يخرج أحد منهم من بيته في

 

134


124

الجبهة الأولى

هذه الفترة؛ فالطائرات ستعود بعد نصف ساعة وتقصف مرة أخرى".

 

طبعًا لم يكن لهذا الكلام أساس من الصحة، إنّما هي خدعة أطلقها الحاج أصغر لإخافة الخصم، ودبّ الرعب في قلوب أعداء الثورة.

 

في حدود السادسة عصرًا تجدّدت الاشتباكات قرب المشفى، وأصيب عدد من شبابنا، عندها عرفنا أنّ أعداءنا ما زالوا مصرّين على القتال، ولن يستسلموا بهذه السهولة.

 

وحيث كنّا عالمين بخفايا وتفاصيل المدينة، قسَّمنا القوات الجديدة التي وصلتنا، وعرّفناهم إلى النقاط الحسّاسة والمهمة والاستراتيجية في المدينة والمناطق الآمنة فيها.

 

عند الغروب طُهّرت طريق "سنندج" وفُتحَت بالكامل، فدخلتها قوات المشاة التابعة للحرس الثوري والجيش من مدخلها الأساس، وبدأت عمليات التطهير من بيت إلى بيت.

 

في آخر الليل، قام الدكتور شمران بجمع من تبقّى من القوات الخاصة والمحلية وخطب قائلًا: "إذا بقينا ننتظر الجيش، فإن فلول أعداء الثورة سيفرون منّا، الآن "باوه" قد حرّرت، لكن من دون أدنى شك سيذهبون باتجاه مدينة نوسود".

 

عند سحر اليوم الثامن والعشرين، أي اليوم الرابع من الاشتباكات، حملنا ما تبقّى من أسلحة وذخيرة وعتاد وركبنا مروحيّة أقلّتنا إلى مدينة "نوسود". كانت الطريق إليها طويلة، وكثيرة المنعطفات، ومليئة بالكمائن، فلم يكن بإمكاننا التقدّم بالسيارات.

 

عندما وصلنا إلى "نوسود"، كانت المدينة تقريبًا هادئة، توزعنا في الأزقّة، وبدأنا بتفتيش المنازل وتطهيرها واحدًا تلو الآخر.

 

135

 

 


125

الجبهة الأولى

فرح الناس لرؤيتنا، وأصبحوا بين مردّد (الله أكبر)، ومصفّق ابتهاجًا، وباكٍ فرحًا.

 

استقبلنا الناس في ذلك الصباح الباكر بحفاوة، فكلّ سكان المدينة كانوا معنا ومؤيّدين لنا، وهذا نصف النصر.

 

بالطبع، تعرّضنا لإطلاق نار من داخل بعض البيوتات، ورُميت علينا بعض القنابل. البعض قاتل بضراوة وشراسة، ولم يستسلم حتى نفدت ذخيرته، والبعض الآخر ظلّ يقاتل ويقاتل حتى قُتل؛ هكذا كان حال أعداء الثورة وطريقتهم في القتال.

 

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها في منتصف النهار، جاء من كل عشيرة عدة أشخاص ليتعرّفوا إلى جثث أبناء عشيرتهم ليأخذوها معهم.

 

في اليوم الثاني لوجودنا في "نوسود"، افترقنا عن الدكتور شمران، وذهب الحاج قاسم وبعض الشباب بسيارة مدنية إلى مدينة "كرمنشاه"، حيث عزمنا على الالتحاق بالقافلة العسكرية التي سيرسلها الجيش إلى مدينتيّ "بانه" و"سردشت"، وهذا ما حصل. قارب عددنا العشرين نفرًا، فانطلقنا بشكل مستقل إلى "سردشت". قبل ذهابنا تمّ تحذيرنا بأن المدينة شبه محاصرة، ذلك أنّ لها طريقًا ومدخلًا واحدًا، أشرف عليه أعداء الثورة.

 

كنا في أواخر الصيف والطقس مائل إلى البرودة. وصلنا منتصف الليل إلى مدخل مدينة "سردشت"، وهدفنا الوصول إلى ثكنة أبي ذر العسكرية، لأننا سمعنا أن الدكتور شمران وبقية الرفاق يقيمون هناك. لكنّ الثكنة كانت محاصرة بشكل كامل، والوصول إليها بالسيارات بدا أمرًا مستحيلًا، وقد توجّب علينا الذهاب؛ إما بالطائرات المروحية وإما سيرًا على الأقدام، لذلك أوقفنا سياراتنا وأخفيناها على بعد كيلومترين تقريبًا من الثكنة

 

136


126

الجبهة الأولى

وسرنا بهدوء تام، وبأسلحة ملقّمة ومعدّة للإطلاق.

 

ومع علمنا بأنّ أعداء الثورة قد نصبوا الكمائن على بعد 150 مترًا من الثكنة، تقدّمنا متّكلين على الله، وتابعنا المسير إلى أن وصلنا إلى خلف مبنى النادي الرياضي القريب من الثكنة وتحصّنا هناك، وبعد ساعة وصلت طائرة مروحية حطّت خلف المبنى ونقلتنا إلى الثكنة.

 

وصلنا عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فاستقبلنا الدكتور شمران بلباسه العسكريّ المرقّط من دون سلاح، رأيناه كعادته مثل الطود الراسخ.

 

دخلنا معًا إلى المبنى، فرأينا عددًا من الشباب، وقد خلعوا قمصانهم العسكرية، جالسين للاستراحة. أراد شمران كسر الحصار بأسرع وقت ممكن، وما انفكّ يبحث عن طريق لذلك.

 

وبسبب علاقة الدكتور شمران بالحاج قاسم الحميمة، كان يتحدّث معه، ويستمع لوجهة نظره وأفكاره، وحيث كنت الأصغر بينهما كنت أسمع حوارهما وأوامرهما وأنفّذ ما يطلبانه.

 

بينما انشغل شمران بالحديث وتبادل الآراء حول ما ينبغي أن نفعله وما لا ينبغي، هزّ المبنى صوت انفجارات مهولة.

 

على الفور انبطحنا أرضًا واضعين أيادينا فوق رؤوسنا ولاصقت وجوهنا الأرض، وتوالت علينا قذائف الـ"B7" وانهمرت زخّات الرصاص كالمطر على أبواب المبنى وجدرانه، حيث كنّا نتحصّن. تحطّم زجاج النوافذ، وتناثر على الأرض.

 

زحف الدكتور شمران نحو سلاحه، التقطه وتابع زحفًا نحو مدخل المبنى ونحن تبعناه زحفًا، فلو نهض أحد منّا لطار رأسه من فوره، وقد

 

137


127

الجبهة الأولى

تبعَنا بقية الجنود واحتمى كلّ منهم في زاوية، في اللحظات الأولى، أُصيب اثنان أو ثلاثة بالرصاص وطُرحوا أرضًا، ومن غزارة النيران لم نجد فرصة لتلقيم السلاح.

 

قال الدكتور: "لن يتوقفوا ولن يدعونا، علينا أن نخرج من هذا المبنى مهما كلّف الأمر، وأن نحوّل المعركة إلى الخارج، وإلا استمروا في إطلاق النار حتى الصباح، وربما فجّروا المبنى ودمّروه فوق رؤوسنا، علينا أن نأخذ زمام المبادرة".

 

انحنى هو أوّلًا وخرج يعدو من باب المبنى نحو المدخل الرئيسي، فركضنا خلفه أنا والحاج قاسم واثنان آخران، والرصاص ينهمر من فوقنا ومن بين أقدامنا.

 

ولتجنّب الإصابة، اضطررنا للركض بشكل ملتوٍ وبكلّ ما أوتينا من سرعة.

 

نجونا بأعجوبة من الموت أو الإصابة. تقدّمنا بحذر ونحن نراقب وندير السلاح إلى الأمام تارة وإلى الخلف تارة أخرى، حتى وصلنا إلى سور الأسلاك الشائكة للثكنة.

 

أردنا الخروج من الباب بسرعة، وإذا بنا نرى عدة سيارات جيب تابعة للجيش تتقدّم بسرعة نحونا وأضواؤها مطفأة، إلا واحدة منها أضاءت مصابيحها الأمامية، لكن قبل أن يصل الجيب الأمامي إلى باب الثكنة سقطت قذيفة "B7" بالقرب منه، فارتبك السائق وراح الجيب يدور حول نفسه وانحرف عدة أمتار عن الطريق.

 

انبعث الغبار والتراب من المكان، ورمى كل واحد من ركاب الجيب بنفسه في جانب. سرنا نحوهم بحذر ونحن نراقب المكان من أمامنا وخلفنا. أُصيب اثنان أو ثلاثة من الجنود بجراح. كان اللواء فلاحي من

 

138


128

الجبهة الأولى

بين ركاب الجيب أيضًا، وقد أُصيب بعصف الانفجار فكان مشوّشًا وراح يترنّح يمينًا وشمالًا.

 

بقينا نتبادل إطلاق النار حتى الفجر، حينها انسحب أعداء الثورة وهدأت الأوضاع ولا أعلم لماذا، بل العلم عند الله، ولعل السبب في ذلك هو أنه عندما خرجنا من الثكنة وأخذنا منهم المستديرة ظنّوا أنّ عددنا كبير، فانكفأوا منسحبين.

في تلك المعمعة حيث لم تكن أعيننا تبصر أمامها، وكنّا ننقل الجرحى ونحمل المصابين لندخلهم إلى الثكنة، وصل السيد صياد شيرازي الذي كان حينها ضابطًا في الجيش، برفقة الملازم عابدي وعدد من عناصره بالطائرة المروحية التي حطت في باحة الثكنة.

 

بعد دقائق وصلتنا أنباء من المخبر المحلي مفادها أن أعداء الثورة اتخذوا مقرًّا ومخزنًا للأسلحة والذخيرة في قرية "شيندرا" التي تبعد قرابة ثلاثة وعشرين كيلومترًا عنا.

 

مع إشراق الشمس جمعَنا الدكتور شمران وقال: "علينا أن نتفقّد مخزن السلاح هذا، لربّما حصلنا على غنيمة كبيرة ودسمة، وفي الوقت نفسه نكون قد وجّهنا ضربة قاصمة لظهر أعداء الثورة". لذلك صعدنا الطائرة المروحية، أنا و"صفا رستكاري" و"صياد شيرازي" والملازم "عابدي"، وقصدنا "قرية شيندرا". حطت الطائرة على تلة قريبة من القرية في منطقة خالية من البيوت، وربما كنا نبعد كيلومترين أو ثلاثة عن القرية المنشودة، فنزل الملازم عابدي، والطيار، وصياد شيرازي، وعنصر من الجيش من الطائرة، وسبقونا حتى يجدوا المُخبِر الذي كان من أبناء المنطقة، ويعرف الطريق إلى القرية وموقع مستودع الذخيرة فيها. كان المخبر على ما يبدو بانتظارهم في

 

 

139

 


129

الجبهة الأولى

المكان المحدّد. أما أنا فقد لقّمت سلاحي وتبعتهم مع أحد أفراد الجيش بحذر وترقّب لحماية ظهرهم.

 

بعد أن قطعنا مسافة قليلة انضمّ إلينا زوجان كرديّان عجوزان.

 

سأل صياد شيرازي العجوز "هل أنت متأكد من أن مخزن الذخيرة هنا؟ إن صدقتنا القول سوف نكرمك ونردّ لك الجميل". لم يكد صياد ينهي كلامه حتى انهال على رؤوسنا وابل من الرصاص والقذائف، ولم نعرف مصدرها حيث كنا في منخفض ولا نرى المرتفعات. أيًّا كان الأمر، فقد اتضح أنهم كانوا يراقبونا ويتتبّعوننا منذ أن اقتربنا من المخزن، وما إن رأوا العجوز يهم بالنطق لفضح أمرهم أطلقوا النار علينا.

 

رفع السيد صياد مسدسه وأطلق رصاصات منفردة باتجاه المرتفع وقال "ليس لدينا ذخيرة بالمقدار الكافي، حاولوا أن تختبئوا بين التعرجات والصخور ولا تطلقوا الرصاص رشًّا، بل تباعًا (دراكًا) إلى أن يصلنا المدد". فاختبأنا بدورنا خلف بلاطات صخرية، حجبت عنا الرؤية، ولربما وقع كل ما أطلقناه من رصاص على الصخور.

 

أُصيب اثنان من الجنود الذين كانوا معنا برشق ناري، ووقعا بجانب كوخ العجوزين، فيما ركض الملازم عابدي بسرعة نحو الطائرة المروحية ليخبر عن وضعنا وحالنا عبر اللاسلكي، ويستقدم لنا الدعم.

 

بينما هو عائد نحونا أصيب برصاصة في يده فتابع مسيره وأكمل طريقه راكضًا وهو ممسك جرحه بيده الأخرى، وبقينا عالقين في المنخفض نفسه.

 

بعد عدة دقائق سمعنا صوت طائرة مروحية يقترب منا، نظرنا وإذا بطائرة تتقدّم وتتبعها اثنتان على مسافة قريبة، حطّتا على الهضبة نفسها التي حطّت طائرتنا عليها منذ ساعة.

 

140


130

الجبهة الأولى

كانت تفصلنا عنهم مسافة خمسمئة متر. نزل الدكتور شمران والحاج قاسم ورحيم صفوي من الطائرة ثم جالوا قليلًا في المنطقة وتحدّثوا إلى بعضهم بعضًا، ظننا أنهم قد أتوا لمساعدتنا، لكنهم صعدوا المروحية من جديد وعادوا أدراجهم.

 

بقينا مدهوشين متحيرّين من فعلهم، خرجنا من الوادي تحت وابل الرصاص ونحن نحمل الجنديين المصابين، أصعدناهما إلى المروحية، وأرسلناهما إلى الخطوط الخلفية. ومن ثم عدنا إلى مخزن الذخيرة وعاد معنا الملازم عابدي على الرغم من إصابته، والمروحيّتان الثانيتان أقلعتا في الوقت نفسه مع مروحيتّنا، وتركونا هناك من دون إعارتنا أي اهتمام.

 

كان الموقف في غاية السوء، وكأنّهم لم يأتوا لمساعدتنا!

 

كان السيد صياد مطأطئ الرأس منكسرًا، ولم يبد أي ردّ فعل على ما جرى، ولم يفعل شيئًا حيال ذلك، وأنا ما زلت حتى الآن لا أعلم السبب الذي دفعهم لتركنا هناك على هذا النحو.

 

عند الغروب مضى العجوزان في سبيلهما من دون أن يتفوّها بكلمة واحدة. لم يعلم إلا الله معاناتهما وما تحمّلاه من تعب ومشقة وخوف. أما نحن فعدنا أدراجنا مع دليل كردي من أبناء المنطقة، كان اسمه عماد. سرنا على الأقدام باتجاه "سردشت"، وبما أن صياد شيرازي كان متدرّبًا متمرّسًا أكثر منا، تقدّم في المسير ومشى الدليل خلفه، ثم أنا، وتبعني الملازم عابدي وهكذا سرنا في خط مستقيم.

                                                                    

كان الدليل يشرح ويوضح لصياد باللغة الكردية الممزوجة ببضع كلمات فارسية عن وجهة نظره في كيفية إخراج الأسلحة والذخيرة، والطرق التي علينا أن نسلكها أثناء العودة، فقال صياد: "حتى الآن لم نرَ

 

141


131

الجبهة الأولى

الأسلحة ولا الذخيرة".

 

مرّت خمس ساعات ونحن نمشي بشكل متواصل، وعبرنا كل العوائق الطبيعية من سواقي مياه وصخور كبيرة وصغيرة، ومرتفعات وهضاب ومنخفضات ووهاد، إلى أن رأينا من بعيد وميض أضواء المصابيح في مدينة "سردشت".

تقع مدينة "سردشت" على مرتفع أشبه بالهضبة، وكنّا نحن نسير على سفح الهضبة. وصلنا إلى جسر "كلته" القريب من "سردشت"، ويوجد عنده نقطة تفتيش. أوقفونا وسألونا عن كلمة السر لكننا لم نكن نعرفها، كان بإمكان العسكري أن يوقفنا ويعتقلنا بتهمة التجسّس. ففي تلك الأيام كثُر المخبرون والجواسيس وعناصر الطابور الخامس بحيث إنّ المرء لم يكن يثق حتى بنفسه.

 

لكن "صياد" كان ذكيًا وحاذقًا سريع البديهة، قد نبّهنا قبل أن نصل إلى نقطه التفتيش وقال: "دعونا لا ننادي بعضنا بأسمائنا الحقيقية، من الممكن أن يكون أحد الجنود على نقطة التفتيش مخبرًا لأعداء الثورة فينصبون لنا كمينًا على الطريق".

 

توقفنا على بعد كيلومترين تقريبًا من نقطة التفتيش، وذهب صياد أولًا وتكلم مع مسؤول الشرطة، وبعد دقائق تمكّنا من عبور الحاجز.

 

عند الساعة الحادية عشرة ليلًا وصلنا إلى ثكنة أبي ذر العسكرية، لكن للحظة تملّكنا الشك فتوقّفنا عن متابعة المسير والدخول إلى الثكنة. لم نكن نعرف ما يجري داخل الثكنة، ومن يوجد فيها؛ أصدقاؤنا أم أعداء الثورة. ولوهلة سيطرت الهواجس على عقولنا، ورحنا نقول لعلّ أعداء الثورة اقتحموا الثكنة في غيابنا وقتلوا من فيها وسيطروا عليها.

 

 

142

 

 


132

الجبهة الأولى

توقفنا وراء الأسلاك الشائكة، وأرسلنا المخبر من أهل البلد ليتقدّم قليلًا ويقصّ أحد الأسلاك بالمقرض ويفتح لنا الطريق. وبعد ساعة أو ساعتين عاد المخبر وأدخلنا إلى الثكنة. وهناك وقعنا تحت حصار أعداء الثورة مدة أسبوعين تقريبًا.

 

كنّا مراقبين بشكل دائم بحيث إننا إذا رمينا فردة حذاء إلى الخارج أطلقوا عليها ألف رصاصه قبل أن تصل إلى الأرض، توجّب علينا أن نحارب بعدة رشاشات كلاشنكوف وعدة قنابل يدوية، ألف نفر مدجّجين بمختلف أنواع الأسلحة، وأن نقاوم ونصمد أمامهم، وصرنا يومًا بعد يوم نفقد أملنا بالحرية والخروج من الحصار.

 

في الليل لم نستطع إغماض أعيننا وجافانا النوم، فصرنا نجول في أرجاء الثكنة العسكرية، ننظر ونراقب الخارج، ونقف في مناوبات الحرس. أمّا ارتباطنا بخارج الثكنة فبقي مستمرًّا عن طريق اللاسلكي. أصبحت قلوبنا فارغة تمامًا من الأمل، وكاد اليأس أن يتملّكنا.

 

هناك وفي تلك الظروف الصعبة، عرفنا قيمة الدكتور شمران وقدره، فقد كان لنا كالأخ الأكبر وكالمعلم والمرشد. في تلك المنطقة الغريبة المترامية الأطراف، وجدناه مصدر الدفء في قلوبنا. وبالرغم من الاحترام الذي ظلّ قائمًا بيننا، كان الدكتور بمناجاته وكلامه وصمته وهدوئه نموذج العارف الكامل بالنسبة لنا.

 

لم تكن صعوبات الحرب مع أعداء الثورة مزحة. فالجبال القاسية الباردة، وقلة الطعام والغذاء، والتعب وقلة النوم كانت لتذيب الإنسان شيئًا فشيئًا. وفي كل لحظة كنّا نصارع الموت الذي يحوم حولنا ولا يفارقنا طيفه. كان الدكتور عارفًا، اعتاد على هذه الرياضة وألفها، وحين كان

 

143

 

 


133

الجبهة الأولى

الجميع يلتصق بالأرض ولا يستطيع الحراك، يقوم هو ويتقدّم أمامنا، ما يدفعنا على القيام والتحرك.

 

هكذا كانت روحيّة الدكتور! فكردستان القاسية والصعبة لم تكن تتطلّب غيره.

 

في الأسبوع الثاني لحصارنا، جاء أحد الشباب بخبر مفاده أن أعداء الثورة ينوون إقامة احتفال الموت في مدينة "بانة"، وهذا معناه أنهم أسروا عددًا من الإخوة المجاهدين في الحرس الثوري، وينوون الاجتماع كقطيع الذئاب، ليذيقوا المجاهدين مرارة الموت على وقع الرقص والدبك والتهليل. لكن بلطف المولى عزّ وجلّ كان قد مضى عدة أيام على تحرك القافلة المؤلفة من عناصر الجيش والحرس الثوري بقيادة صياد ورحيم صفوي، وقد وعدوا أنهم سيحررون "بانة" عبورًا من "سردشت". وهذا ما حصل، فقد جاؤوا واجتثوا المنافقين وأعداء الثورة واقتلعوهم من مدينة "سردشت"، وفكّوا الحصار عن الثكنة وأنقذونا.

 

قال الدكتور شمران "علينا نحن أيضًا أن نسير مع هذه القافلة إلى مدينة "بانة".

 

بينما كنّا نحضّر للمغادرة وترك ثكنة أبي ذر والانطلاق في ركب المقاتلين، التقيت للمرة الأولى بأكبر شيرودي[1]. كان طيارًا ماهرًا يقود الطائرات المروحية، وقد أوكل إليه مهمة نقل الجنود وإيصال الأسلحة والذخيرة في تلك القافلة.

 


[1]  علي أكبر شيرودي ولد عام 1955م في قرية شيرود -التابعة لمحافظة مازندران- كان قائد الطيارين في القوات الجوية وبدأ نشاطه وعمله العسكري في كردستان، ومع بداية الحرب المفروضة جاء إلى ثكنة أبي ذر العسكرية وبشجاعة وتضحية كبيرة حال دون سقوط سرݒل ذهاب وثكنة أبي ذر بيد أعداء الثورة، وبعد مشاركته في جميع العمليات التي تدخلت فيها القوات الجوية نال شرف الشهادة أثناء مشاركته في عمليات بازي دراز، في شهر نيسان من عام 1981م.

 

144


134

الجبهة الأولى

كان لأكبر بنية رياضية قويّة. طويل القامة، عريض المنكبين. أعلم أنه لا شيء يربط بين المظهر الخارجي للأفراد وتديّنهم، لكنّه كان كالنجم المتلألئ جميل المظهر ومؤمنًا في آنٍ. عندما التقينا تحدّثنا عن أوضاع كردستان وأمور الحرب، وشيئًا فشيئًا وصلنا إلى الشعر وديوان الشاعر حافظ. فقرأت أبياتٍ من أشعاره الغزليّة، بعدها سألني الأخ أكبر عن خاتمي الذي أضعه بيدي ومسبحتي، فأجبته عن لسان الشيخ حق شناس، الذي كان أستاذًا في الأخلاق وقلت له إنّ أول مكان شهد وأقرّ بولاية الإمام علي عليه السلام كان جبل العقيق الواقع في اليمن، ولذلك فالعقيق مبارك، ويفتح الآفاق لحامله.

 

لفتت انتباهي السبحة التي يحملها الأخ أكبر في يده فسألته: " أي نوع من المسابح هذه؟".

- إنها من نوع الشاه مقصود.

 

ناولني السبحة، تفحصتها جيدًا ثم قلت له: "هذه من نوع السُندلس وليست الأصلية منها بل من الدرجة الثانية، عرفتها من نظرة واحدة، إن معرفة هذه الأمور تتطلب اهتمامًا وشغفًا وأنا فيما مضى كنت مهتمًّا في هذا المجال لعدة أعوام، إن سبحة الشاه مقصود الأصلية يجب أن تكون حبّاتها شفافة تمامًا من دون أي شوائب أو خطوط وإذا نقعتها ليلًا في الماء تزداد شفافيتها أكثر فأكثر، وأيضًا فإن سبحة الشاه مقصود والسُندلس ليستا صديقتين مع الدهن، فالدهن يخرّبهما ويقلّل من بريقهما".

- "بحثت كثيرًا عن الأصلية منها ولا أزال أبحث إلى الآن. سمعت أنّ سبحة الشاه مقصود هي الأغلى ثمنًا بعد السندلس، أليس كذلك؟".

 

أجبته: "بإمكانك أن تعرف سبحة الشاه مقصود الأصلية من لونها، فهي خضراء كلون الحصرم أو السدر الفاتح. وأصل هذه الحجارة يعود

 

145

 

 


135

الجبهة الأولى

إلى الهند وباكستان. والسبحات المزيفة والمقلّدة كثيرة في الأسواق، حيث ينحتون الزجاج الأخضر ويصنعون منه كرات كالزمرد.

- "هذه الأمور بحاجة إلى حنكة وخبرة واسعة!".

- "لديّ صديق في طهران خبير في تمييز أنواع السبحات الأصلية والمزيفة، سأقصده وأجلب لك واحدة أصليّة، وأينما جمعنا القدر والتقينا من جديد سأقدّمها لك".

 

بعد ذلك أريته سبحتي التي كانت من نوع الشاه مقصود الأصلية الرائعة وأعطيته إياها، وتبادلنا السبحات مؤقتًا.

 

سُرّ الأخ أكبر كثيرًا وقال: "إذا استشهدت يا سيد سوف أشفع لك يوم القيامة لأنك أعطيتني هذه السبحة".

 

بعد ذلك رأيته عدة مرات في أماكن مختلفة وسبحة الشاه مقصود خاصّتي في يده.

 

تابعنا مسيرنا مع القافلة التي ضمّت ألف عنصر من الجيش، وكنّا المجموعة الأخيرة فيها.

 

صعد العناصر الشاحنات العسكرية، ورافقتْ كل خمس شاحنات ناقلة جند مصفّحة عليها رشاش من العيار الثقيل، وتمّ التوافق على أن تكون المسافة بين المجموعة والأخرى خمسمئة متر، وأن نتوقف عند كل منعطف حتى نتأكد من عدم وجود كمين لأعداء الثورة، ومن ثم نكمل الطريق ونتابع.

 

أثناء المسير أُطلق علينا الرصاص مرات عدة من المرتفعات والغابات والأحراج، لكنّنا لم نردّ على مصادر النيران بناءً على الأوامر، فقط قنّاصو

 

146

 

 


136

الجبهة الأولى

الجيش تولّوا الرد.

 

بقينا يومين أو ثلاثة على الطريق، ووصلنا مع غروب اليوم الثالث إلى مضيق "خان" الذي كان يحوي عدة منعطفات خطرة وصعبة العبور، وهناك صدرت الأوامر بالتوقف. وأول ما فعلناه هو فرز عدد من الحرّاس ليحرسوا المكان، ويراقبوا المحيط، وكنّا نبدّل عناصر الحراسة كل أربع ساعات. كما أدّيت والحاج قاسم نوبات حراسة بالتناوب.

 

وهناك قام الجيش بعملية إنزال جوي، حيث أنزل مجموعة من قوات مشاته على المرتفعات المطلّة علينا، وبعد أن قاموا بجولة وتفقّدوا المنطقة جيدًا، تابعنا مسيرنا. لقد كان هذا العمل العسكري منطقيًّا وعقلانيًّا؛ فلو أن أعداء الثورة كمنوا لنا في المرتفعات لانهالوا علينا بالرصاص والقذائف وأبادونا، ولما أكملنا تقدّمنا. بنحوٍ ما أظهر الجيش حنكة ودراية عسكرية وقام بخطوة احترازية ذكية.

 

تقدّم نصف القافلة وأصبح خلف المضيق وكانت طبيعة المضيق الجغرافية بنحو أحدثت مسافة فصلت بيننا وبينهم، وتسببت في أن لا نعرف شيئًا عن الفريق الأمامي.

 

صار التواصل بيننا بالمناداة. تقدّم الدكتور شمران برفقة السيد صياد إلى الأمام، وقال لنا: "سنبقى الليلة هنا في المضيق، وعند بزوغ الفجر نتابع المسير".

 

في تلك الظروف الصعبة، حيث تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبينما كنا نقاوم النوم والجفون مثقلة بالإرهاق والنعاس، فجأة، استُهْدِفنا بقذيفة "B7" من وسط الجبال والأشجار سقطت بجانبنا، وتبعتها زخّات الرصاص من العيار الثقيل والمتوسط!

 

147

 

 


137

الجبهة الأولى

الجيش تولّوا الرد.

 

بقينا يومين أو ثلاثة على الطريق، ووصلنا مع غروب اليوم الثالث إلى مضيق "خان" الذي كان يحوي عدة منعطفات خطرة وصعبة العبور، وهناك صدرت الأوامر بالتوقف. وأول ما فعلناه هو فرز عدد من الحرّاس ليحرسوا المكان، ويراقبوا المحيط، وكنّا نبدّل عناصر الحراسة كل أربع ساعات. كما أدّيت والحاج قاسم نوبات حراسة بالتناوب.

 

وهناك قام الجيش بعملية إنزال جوي، حيث أنزل مجموعة من قوات مشاته على المرتفعات المطلّة علينا، وبعد أن قاموا بجولة وتفقّدوا المنطقة جيدًا، تابعنا مسيرنا. لقد كان هذا العمل العسكري منطقيًّا وعقلانيًّا؛ فلو أن أعداء الثورة كمنوا لنا في المرتفعات لانهالوا علينا بالرصاص والقذائف وأبادونا، ولما أكملنا تقدّمنا. بنحوٍ ما أظهر الجيش حنكة ودراية عسكرية وقام بخطوة احترازية ذكية.

 

تقدّم نصف القافلة وأصبح خلف المضيق وكانت طبيعة المضيق الجغرافية بنحو أحدثت مسافة فصلت بيننا وبينهم، وتسببت في أن لا نعرف شيئًا عن الفريق الأمامي.

 

صار التواصل بيننا بالمناداة. تقدّم الدكتور شمران برفقة السيد صياد إلى الأمام، وقال لنا: "سنبقى الليلة هنا في المضيق، وعند بزوغ الفجر نتابع المسير".

 

في تلك الظروف الصعبة، حيث تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبينما كنا نقاوم النوم والجفون مثقلة بالإرهاق والنعاس، فجأة، استُهْدِفنا بقذيفة "B7" من وسط الجبال والأشجار سقطت بجانبنا، وتبعتها زخّات الرصاص من العيار الثقيل والمتوسط!

 

148

 

 


138

الجبهة الأولى

الجيش تولّوا الرد.

 

بقينا يومين أو ثلاثة على الطريق، ووصلنا مع غروب اليوم الثالث إلى مضيق "خان" الذي كان يحوي عدة منعطفات خطرة وصعبة العبور، وهناك صدرت الأوامر بالتوقف. وأول ما فعلناه هو فرز عدد من الحرّاس ليحرسوا المكان، ويراقبوا المحيط، وكنّا نبدّل عناصر الحراسة كل أربع ساعات. كما أدّيت والحاج قاسم نوبات حراسة بالتناوب.

 

وهناك قام الجيش بعملية إنزال جوي، حيث أنزل مجموعة من قوات مشاته على المرتفعات المطلّة علينا، وبعد أن قاموا بجولة وتفقّدوا المنطقة جيدًا، تابعنا مسيرنا. لقد كان هذا العمل العسكري منطقيًّا وعقلانيًّا؛ فلو أن أعداء الثورة كمنوا لنا في المرتفعات لانهالوا علينا بالرصاص والقذائف وأبادونا، ولما أكملنا تقدّمنا. بنحوٍ ما أظهر الجيش حنكة ودراية عسكرية وقام بخطوة احترازية ذكية.

 

تقدّم نصف القافلة وأصبح خلف المضيق وكانت طبيعة المضيق الجغرافية بنحو أحدثت مسافة فصلت بيننا وبينهم، وتسببت في أن لا نعرف شيئًا عن الفريق الأمامي.

 

صار التواصل بيننا بالمناداة. تقدّم الدكتور شمران برفقة السيد صياد إلى الأمام، وقال لنا: "سنبقى الليلة هنا في المضيق، وعند بزوغ الفجر نتابع المسير".

 

في تلك الظروف الصعبة، حيث تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وبينما كنا نقاوم النوم والجفون مثقلة بالإرهاق والنعاس، فجأة، استُهْدِفنا بقذيفة "B7" من وسط الجبال والأشجار سقطت بجانبنا، وتبعتها زخّات الرصاص من العيار الثقيل والمتوسط!

 

 

149

 

 


139

الجبهة الأولى

بعضهم البعض بعدة جمل باللغة الكردية، أما خطابهم معنا فكان بلغة الضرب وبأعقاب البنادق.

 

بعد دقائق أتانا شخص آخر، وفكّ القيود من أيدينا.

 

كنت المتكلّم بين الشباب وأكثرهم تجربة نوعًا ما، فرحت أواسيهم وأصبّرهم، وقلت لهم: "لا تحزنوا يا أصدقائي، إن الله معنا، وهو القادر على كل شيء. لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا". ثم طلبت منهم أن يخلعوا قمصانهم الداخلية. فخلعناها جميعًا، وعقدنا أطرافها ببعضها البعض، وصنعنا منها ستارة عجيبة وغريبة، لكنها تفي بالغرض، وعلّقناها لنصنع ساترًا لمرحاضنا في منزلنا الجديد.

 

بعد أن خلعتُ قميصي الداخلي، أبقيتُ البدلة الترابية اللون على بدني. في الليل كان البرد قارسًا، يفتّ العظم. لذا، صرت كلّما جلست القرفصاء على الأرض الباردة والصلبة جاف النوم عينيّ. لم يكن هذا حالي أنا فقط، بل حال كل الشباب، سُلِبَ النوم منّا.

 

طبعًا وفّروا لنا في الأسر رفاهية أخرى: مثلًا في كل يوم يقومون مرة أو مرتين بتكبيل أيدينا، ويأخذون كل معتقل منا على انفراد إلى مكان ما ويبدأون بطرح الأسئلة والاستجواب والتحقيق؛ فكانوا يسألوننا مثلًا إلى أين كنتم ذاهبون؟ كم كان عددكم؟ ما كان هدفكم؟ وما إن كنا نجيبهم بما لا يعجبهم أو نحاول التهرب من الإجابة، حتى يباشروا بالمعتاد من الضرب واللكم، ويرغمونا تحت تهديد السلاح على الك أحيانًا كانت تأتينا للاستجواب نساء بلباس مدني أو بالزي العسكري، وهن يحملن السلاح، أجسامهن ضخمة وقوية، وبدا أنهن قادرات على التغلب علينا وإنهاكنا من الضرب. بعضهنّ يتزنّرن بشرشور من الرصاص لام.

 

150

 

 


140

الجبهة الأولى

حول أجسادهنّ.

 

في كل يوم نُعطى وجبة طعام واحدة: قطعة من الخبز اليابس بمقدار كفّ اليد، أما ماء الشرب فكان علينا الاكتفاء طوال النهار بسطل ماء واحد.

 

تعب الشباب من المعاناة وضاقوا ذرعًا بالأسر، وراح الجميع يبحث عن مهرب وينشد الخلاص. لكني كنت أصبّرهم وأشعرهم بالأمل وأقول لهم: "علينا أن نصبر وننتظر. سوف يحرّروننا ويتركوننا من تلقاء أنفسهم".

 

في اليوم الثالث من الأسر، قلت للمرأة التي جلست تسألني وتستجوبني: "إذا أردتِ معلومات جيدة ومفيدة، فعليكِ أن توفري لنا بعضًا مما نريد، وتستجيبي لمطالبنا".

 

أجابتني المرأة بعبوس وباللهجة الفارسية والكردية المخلوطة: "ماذا تريد؟".

- نريد مكانًا مناسبًا لنؤدّي فرض صلاتنا.

 

أشارت برأسها إلى أحد العناصر الواقفين إلى جانبها؛ لكي يذهب وينفّذ ما طلبته، فافترش لنا بساطًا قديمًا مهترئًا على الأرض خارج الزريبة. بعدها قسّمونا إلى سبع مجموعات مؤلفة من شخصين، فخرجنا اثنين اثنين معًا، فكّوا القيود عن أيدينا، وسمحوا لنا بأن نصلّي. ومن ثم رمونا في الزريبة مجدّدًا.

 

بعد الصلاة، طلبتني تلك المرأة مرة أخرى للتحقيق، وبدأت استجوابها بالقول: "الآن وقد نفّذنا مطلبك، قل لي ما عندك من معلومات".

 

وبناءً على أنّي كنت الذكي الفطن، قلت لها: "لقد جهّز الحرس الثوري خمسين ألفًا من قواته، وبدأ الزحف نحو كردستان...".

 

151

 

 


141

الجبهة الأولى

عندما أعادوني إلى الزريبة قلت للشباب: "يجب أن يكون كلامنا واحدًا ومتطابقًا. مثلًا إذا سألوا أيًا منكم ما عملك؟ ولماذا جئت إلى هنا؟ قولوا نحن معلّمون أرسلنا إلى هنا من قبل مؤسسة "جهاد سازندكي" لنقوم بالتدريس والتثقيف...".

 

صباح يوم من الأيام جاؤوا إلينا، وقالوا: "صدر حكم الإعدام بحقّكم؛ استعدّوا وجهّزوا أنفسكم، سيتم إعدامكم رميًا بالرصاص".

 

فقلت للشباب: "يا إخوان، ها وقد حُكم علينا بالقتل، وسوف نلقى الشهادة، فلنقم بعملٍ حتى لا نُظهر ضعفًا أمام هؤلاء، وتكون عزيمتنا عالية وقوية".

 

استمع الشباب لكلامي وتقبّلوه، وانشغلنا بعدها بذكر الله ومناجاته.

 

بعد حوالي نصف ساعة، جاءنا اثنان من الكرد مدجّجين بالسلاح، عصّبا أعيننا جميعًا، وكبّلا أيدينا، وسحبانا إلى الخارج. أجلسانا جنبًا إلى جنب في صف واحد، ووقف خلفنا عدد من مقاتليهم، لقّموا أسلحتهم على مسامعنا، ووضعوا فوّهات أسلحتهم خلف رؤوسنا.

 

تشهّدنا الشهادتين، وبقينا ننتظر أن يطلقوا النار. رأينا الموت بأم أعيننا وشعرنا به محتمًا علينا. في تلك اللحظات الصعبة والمصيرية، عمدتُ إلى الاسترخاء، وتوقفت عن التفكير، وكرّرت ذكر الشهادتين عدة مرات. ثم سمعتُ صوتًا بدا لي كأنّ أحدهم قام بالتحدّث عبر جهاز اللاسلكي. ومع أنّ أحد الإخوة معنا كان يعرف اللغة الكردية قليلًا ويفهمها؛ لكنّه لم يستطع أن يفهم شيئًا مما كان يقال عبر جهاز اللاسلكي؛ لعلهم كانوا يتحدّثون بالرموز وباللغة المشفّرة.

 

مضت دقائق من الانتظار والترقب والقلق، ثمّ قالوا لنا: "لقد حالفكم

 

152

 

 


142

الجبهة الأولى

الحظ. سنمهلكم وسندعكم تعيشون يومًا إضافيًّا في هذه الدنيا. من حسن حظكم وقع في أسر الحرس الثوري عدد من أصدقائنا؛ إذا قام مسؤولوكم بتحريرهم، نبادلكم بهم ونحرّركم". ومجددًا سجنونا في الزريبة، وذهبوا ولم يعودوا إلينا حتى غروب اليوم التالي. بقينا طوال الليل قلقين خائفين، نسكِّنُ أنفسنا بالذكر والدعاء. كنا في وضع لا نُحسد عليه. لقد أبقوا علينا في تلك الزريبة والخوف يسيطران علينا. عانينا ما عانيناه وواجهنا المآسي، وتحمّلنا ما لا يُحتمل.

 

في غروب اليوم التالي جاؤونا مرة أخرى، وعصبوا أعيننا وكبّلوا أيدينا، واقتادونا إلى الخارج. بعد أن مشينا حوالي الساعة، فكّوا أيدينا وأبقوا على أعيننا معصّبة، وقالوا اجلسوا. وطبعًا كما في السابق، كان أكثر كلامهم بأعقاب بنادقهم. أجلسونا ووقفوا من خلفنا كما حصل عندما أرادوا إعدامنا في المرة الأولى، لكنهم قالوا: "إننا نراقبكم، ليضع كل واحد منكم يده على كتف صاحبه، وبعد عشر دقائق تستطيعون أن تفكّوا العصبة عن أعينكم".

 

ونحن بدورنا انتظرنا جالسين عشر دقائق أو ربع ساعة، بعدها فتحنا أعيننا، تلفّتنا حولنا، فوجدنا أنفسنا وحدنا في مكان أشبه بالوادي، ولا أثر لأحد من أولئك الأكراد، أو أي شيء من معالم الأسر.

 

توجهت أنظارنا إلى ذلك الأخ الذي كان من أصول كردية ويعرف المناطق في كردستان، فقال لنا: نحن في مضيق كاران، وإلى الشمال منه تقع مدينة سقز، ويستغرق الذهاب إلى هناك ثلاث ساعات".

 

كان الوقت منتصف الليل، تبعنا ذلك الأخ، ومشينا حتى وصلنا إلى سقز مع حلول الفجر، ومباشرة أسرعنا إلى الثكنة العسكرية في سقز،

 

153


143

الجبهة الأولى

ووجدنا أصدقاءنا هناك. استحممنا وصلّينا صلاة الصبح، وجلسنا نلتقط أنفاسنا ونستريح من عناء ما لاقيناه. صار الإخوة بعدها يسألوننا عن الأسر، ونحن نجيبهم عن كل شيء. وهناك عرفنا أن الشباب في الحرس الثوري تمكّنوا من أسر سبعة عناصر بارزين في القوات الفدائيّة الخاصة وحزب الكوملة، وبذلك تم عقد صفقة تبادل بين هؤلاء السبعة وبيننا نحن الأربعة عشر. من حسن حظّنا أنّه من بين التيارات الكردية المقاتلة، قد وقعنا بيد "القوات الفدائية الخاصة". ولو كنا وقعنا في قبضة الكوملة لما أبقوا علينا أحياء، ولكانوا أعدمونا على الفور رميًا بالرصاص من دون عقد أي صفقة.

 

حينها كانت الجماعة هذه أقلّية بين الأكراد، وكان عددهم قليلًا، وفيما بعد قرّروا أن يضعوا السلاح جانبًا ويكتفوا بالقيام بالأعمال الثقافية ونشر أفكارهم. وسلكوا طريقًا مختلفًا وبعيدًا عن حزب الكوملة. في اليوم نفسه الذي تحرّرنا فيه، أقدم عناصر "الكوملة" على إعدام عشرين شابًّا أسيرًا من الحرس الثوري.

 

بعد الظهيرة، اتصلتُ عبر الهاتف بطهران، ووجدت الحاج قاسم وتكلّمت معه. قال لي: "كنا نظن أنهم قتلوكم. لقد بحثنا عنكم كثيرًا ولم نجد لكم أثرًا. تقريبًا أنجزت المهمة وانتهى عملنا، "بانه" طهّرت تمامًا وانتهى أمرها. أما أنت فسارع بالعودة إلى طهران، عائلتك قلقة جدًّا".

 

عزمت على العودة، لكني اضطررت للبقاء تلك الليلة في "سقز"؛ لأن الطرقات لم تكن آمنة، قيل لنا إنّه من الثامنة صباحًا حتى الثالثة بعد الظهر، تقوم الشرطة والجيش بالحراسة المشدّدة على طول الطريق لتأمينه، عبر نقاط تفتيش وحواجز تبعد الواحدة عن الآخرى مسافة ثلاثة كيلومترات؛ أمّا من الساعة الرابعة بعد الظهر فما بعد، لم يكن بالإمكان

 

154


144

الجبهة الأولى

التنقل بالسيارة على ذلك الطريق. كانوا يكمنون للسيارات عند مرتفعات الطريق، حيث لا تقوى السيارات على الإسراع، فتقع في الكمين لا محالة، وكانوا يهدّدونك بإطلاق النار على أطراف السيارة ويجبرونك على الترجّل منها. وإن هممت بالهروب أو فكّرت بأن تتحاذق عليهم، يُردوك قتيلًا.

 

روى لنا أحد الشباب في معسكر سقز أنّه في أحد الأيام عندما كانت السيارة التابعة للجيش ذاهبة لتجمّع العناصر، وهي تُعيد الشباب من مناوبات الحرس على نقاط التفتيش والحواجز، قام أعداء الثورة باعتراضها عند الساعة الثالثة بعد الظهر، بعد أن استطلعوا المكان وراقبوا حركة الآليّة، استحوذوا عليها وجلس مكان السائق ومعاونه اثنان من عناصرهم، وقد بدّلوا لباسهم. وهكذا بدأوا بجمع الشباب الذين كانوا في مناوبة الحراسة واحدًا تلو الآخر، وطووا الطريق من حاجز إلى آخر، وبعد أن جمعوا الشباب، أعدموهم. في الليل، أدرك الشباب أنّ كل الذين كانوا في مناوبة الحرس لم يرجعوا. وبدأ البحث والتقصّي، إلى أن وجدوا جثثهم بعد أيام مرمية هنا وهناك على قارعة الطريق وفي المنخفضات.

 

لهذا بتنا ليلتنا في المعسكر إلى أن حلّ الصباح، وعدنا إلى طهران بحافلة صغيرة.

 

155

 

 


145

..وأيّ درر

..وأيّ درر

 

قال البلبل لنسيم السحر، أرأيت ما فعل بنا فراق الوردة؟

 

بعد كل ما عانيته من متاعب أردت أن أرتاح قليلًا، فقطعت عهدًا على نفسي بأن ألتفت إلى حياتي وأكون ربّ المنزل وأقضي وقتًا أكثر مع عائلتي، فقد مرّت أشهر ولم ترَ عيناي طعم النوم والراحة، وقد مرّ زمان طويل على آخر مرة تناولت فيها طعامًا شهيًا أو استمتعت بمناجاة وصلاة في سكينة وهدوء. وكلّما هويت للسجود في صلاتي كنت أتوقع رصاصة أو قذيفة تحول بيني وبين أن أرفع رأسي منه مجدّدًا.

 

حقًّا لقد اشتقت لمنزلي، واشتقت للطعام الذي تعدّه زوجتي فاطمة، فقد كانت ذوّاقة[1] وماهرة في الطهي. حقيقةً; لا طعام يضاهي طعام المنزل.

 

في تلك الأيام بينما كنا جالسين نتناول الغداء قالت لي: "أريد أن أنضمّ إلى دورة لتعليم التزيين النسائي".

- ولم التزيين النسائي؟

- أريد أن أتكفّل بتزيين العرائس اللواتي يعانين من ضائقة مالية، ومن

 


[1]   ذات نفس طيب.

 

157


146

..وأيّ درر

غير الميسورات وهنّ كثيرات.

 

- لا مانع لديّ، برأيي على المرأة أن تتعلّم كل الفنون والحرف والمهارات; ولو كانت مهنة النجارة، كي تتمتّع بالاكتفاء الذاتي، طبعًا يجب ألا تكون سلعة ووسيلة بيد أحد، بل تُصان ويُحافَظ على مكانتها في المجتمع.

 

قلت لها هذا الكلام ووافقت على طلبها لأنني كنت أعرفها جيدًا، وأعرف أنها سيدة عظيمة صاحبة وعي ورزينة؛ وإلا فليس في قاموسي أن تخطو المرأة خارج منزلها؛ وتذهب حتى إلى البقال.

 

بعد أيام سجّلت فاطمة اسمها في أحد المعاهد، وخلال فترة وجيزة حصلت على الشهادة وبدأت بالعمل. كان لديها العزيمة والإرادة، فما إن تصمّم على عمل حتى تنجزه بشكل كامل ومتقن. لم تعرف الهزيمة والفشل، ولم تعهدهما في حياتها، وحتى في مجال التديّن والأمور المعنوية كانت أفضل مني وسبقتني بأشواط. واظبتْ على الصيام أكثر أيامها، مالئةً أوقات فراغها بقراءة القرآن. ورتّبت بالتعاون مع إمام المسجد نشاطات للنساء، ورحلات ترفيهية وتثقيفية، وقد ذاع صيتها بالأعمال الخيرية، وغدت محل ثقة أهل الحي، فالجميع يأتمنها على أمواله وصدقاته ومساهماته في الأعمال الخيرية.

 

فاطمة من عائلة غنية عاشت أجواء الترف وجرّبتها، ولا شيء من مفاتن الدنيا أغراها، كانت تقول دائمًا: "رأيت وخبرت كل شيء في عالم الترف والثراء، ولم أجد غير التصنّع والمظاهر الجوفاء، تمامًا كالمعدن الصدئ المطلي بالذهب".

 

أيُّ سرٍّ قادني إلى اللقاء بها، ونحن من عالمين مختلفين عجيبين، فنكون معًا وتصبح معلّمة أخلاق وعرفان لي.

 

158


147

..وأيّ درر

ظهيرة يوم الثاني والعشرين من شهر أيلول عام 1980، كنت جالسًا في مبنى رئاسة الوزراء، حين أُعلن عبر الراديو أنّ الجيش العراقي اجتاز حدودنا واحتلّ مدنًا حدودية، وقصف مطار "مهر آباد" الدولي في طهران أيضًا. بالمختصر المفيد، لقد بدأت الحرب. لم أصدّق ما سمعت بادئ الأمر، وبقيت مذهولًا من هول الخبر، فلم تمضِ على عودتي إلى المنزل والحياة الطبيعية سوى بضعة شهور، ومع سماعنا لهذا النبأ بدا التوتر ظاهرًا على وجوه كل الموظفين في رئاسة الوزراء، وعمّ القلق والاضطراب الجميع.

 

في اليوم التالي ناداني الحاج قاسم وسألني: "هل سمعت الأخبار؟".

- نعم.

- نحن ذاهبون إلى مدينة الأهواز، إن أردت المجيء معنا فجهّز نفسك بسرعة.

- وماذا عن الدكتور شمران؟ هل سيذهب إلى الأهواز أيضًا؟

- لقد ذهب الدكتور مع ناصر فرج الله والعقيد رستمي والسيد حسني إلى هناك منذ الصباح الباكر.

- أنا معكم.. عليّ فقط أن أجري اتصالًا بالمنزل لأخبرهم بذهابي.

- دعك من الاتصالات والبيت يا سيد، فلنذهب في الحال وفي الطريق تهاتفهم.

 

لم أستطع أن أضيف كلمةً، أدركتُ أنّه بقوله هذا يهدف إلى التقليل من تعلّقنا بالدنيا والأهل والعيال. هكذا كان الحاج قاسم دائمًا، بجملة واحدة يغيّر مسار حياة الفرد ويقلبه رأسًا على عقب.

 

قرابة الظهيرة، انطلقنا أنا والحاج قاسم وعشرون شخصًا تقريبًا من

 

159


148

..وأيّ درر

الإخوة في مبنى رئاسة الوزراء إلى مدينة الأهواز في ثلاث سيارات من دون أي متاع.

 

خلال مسيرنا توقفنا في إحدى المدن التي لم أعد أذكر اسمها لأجري اتصالًا، وفي ذلك الحين حيث لم يكن لدينا هاتفٌ في المنزل، اتصلت بمنزل جارنا الملاصق لبيتنا "رضا طلا". أجابت والدة "رضا"، وطلبت منها أن تذهب وتنادي والدتي. بعد دقائق عاودتُ الاتصال فقالت لي "أم رضا": "لم أجد والدتك، لقد رأيتها عند باب المنزل منذ دقائق لكنها اختفت فجأة ولا أعلم إلى أين ذهبت، عاود الاتصال بعد ساعة إن استطعت".

 

اضطررنا إلى إكمال مسيرنا ووصلنا بعد الظهر إلى مدينة "خرم آباد".

 

وبعد بحثٍ وجدت هاتفًا واتصلت مجدّدًا بمنزل "رضا"، ردت عليّ أمي هذه المرة، وبعد السلام والاطمئنان عن حالها وقلت لها: "إن الأمر يتعلق بالمعتدين العراقيين الذين قاموا بالهجوم علينا، وأنا ذاهب إلى الأهواز في مهمة، لذا أردت أن أخبركم حتى لا تقلقوا عليّ".

- ومن معك؟

- الحاج قاسم وبعض الإخوة من رئاسة الوزراء.

- لا بدّ من القيام بواجبك، اذهب، حماك الله.

 

ودّعتها ووضعت سماعة الهاتف وانطلقت، لم يكن عندي متّسع من الوقت لأتحدّث إلى فاطمة وماما بري، فالشباب جلسوا في السيارات بانتظاري، ويجب أن نمضي بسرعة. ركبت السيارة وأسرعنا نحو الهدف.

 

وصلنا إلى الأهواز ظهيرة اليوم التالي. كانت الشمس في كبد السماء، أشعّتها تؤذي العين، والجو حار جدًا، فحرارة الجنوب لا تُطاق وخاصة

 

160

 

 


149

..وأيّ درر

عند وقت الزوال. بينما كنا نسير، خلت الطريق باتجاه المدينة إلا من بعض السيارات، لكنّ الجهة الأخرى كانت تعجّ بالسيارات والشاحنات وعربات النقل التي ملئت بالأثاث والوسائل والحقائب، وحتى أقفاص الدجاج والديكة، حيث كانوا يُخلون المدينة.

 

والذين لم يتمكنوا من تأمين سيارة أو وسيلة نقل كانوا يغادرون سيرًا على الأقدام، فرأينا النساء والأطفال والكبار والمسنين يحملون ما استطاعوا من الأغراض ويرحلون، لكن إلى أين؟ لا أحد يعلم، ربما إلى مدينة أخرى، إلى مكان آمن.

 

داخل الأهواز، كانت المحلات مغلقة ما خلا بعض الدكاكين لبيع الشاي، وبدت المدينة مهجورة خالية، وقد دُمّر بعض منازلها، ولم يبقَ منها سوى كومة تراب.

 

اجتزنا عدة أزقة وأحياء سكنيّة ووصلنا إلى فسحة تشبه مرأب تصليح السيارات، وتوقفنا هناك؛ قال الحاج قاسم: "هنا مركز تجمّع وملتقى القوات العسكرية القادمة من طهران".

 

بتنا تلك الليلة في ذلك المرآب من شدّة التعب وعناء السفر. وفي الصباح الباكر قصدنا مبنى المحافظة وسط مدينة الأهواز الذي يقع خلف نهر "كارون"، وقد تحوّل إلى مقر قوات الدكتور شمران.

 

عند مدخل المحافظة، رأيت ناصر فرج الله، وهو من أبناء حيّنا، قد أصبح بريد الدكتور شمران ويده اليمنى. هو شاب طويل القامة، قويّ البنية، حسن الوجه والمظهر، وعطوف جدًّا، وقد لقّبه الدكتور شمران "بالمفتاح الفرنسي"[1]، لأنّه ما من عمل بحاجة إلى مهارة وحرفية إلا وكان

 


[1]  أداة تشبه الكماشة متعدّدة الاستعمالات.

 

161


150

..وأيّ درر

"ناصر" يتصدّى له.

 

تبادلنا السلام ورحت أبحث عن المعارف والأصدقاء وأبناء الحيّ في الباحة، إلى أن نادانا ناصر ودخلت مع خمسة عشر شخصًا تقريبًا للقاء الدكتور شمران.

 

وسط الغرفة، رأيت الحاج قاسم جالسًا قرب الدكتور وقد بسط الخارطة. ما إن رآنا الدكتور حتى قام من فوره وسلم علينا بحرارة، ومن دون أي مقدّمات قال: "إن القوات العراقية تتقدّم بكلّ وقاحة من جهة "خرمشهر" نحو "الأهواز"، وقوة الدرك لم تستطع أن تواجههم أو تصدّهم، الشيء الوحيد الذي نستطيع القيام به اليوم هو أن نحاربهم بطريقة حرب العصابات، فنوجّه لهم الضربات لنوقف تقدّمهم".

 

سأله أحدهم: "أين هم العراقيون الآن؟ وكم يبعدون عنا؟".

 

أجاب الدكتور: "هم على مسافة كيلومترين أو ثلاثة من مدينة "حميدية"، ومجهّزون بمختلف أنواع السلاح والعتاد، ونحن في مرمى نيرانهم، لذلك قبل كل شيء علينا أن نموّه السيارات ونغطّيها بشكل كامل بالطين والوحل، حتى لا تكون في مرآهم. ولا تقوموا بأي خطوة من دون التنسيق مع قائد المجموعة، ولا تتقدّموا نحو خطوط الأعداء قبل القيام بعمليات الاستطلاع، حتى لو تقدّمتم مترًا واحدًا، فليكن ذلك بعد الاستطلاع الكامل كي نقلّل من خسائرنا".

 

سألته: " إذًا ما هو دور الجيش؟".

 

- تحدّثت مع قائد الـ"فرقة 92 المدرّعة"، وهم الآن يحاولون أن يصدّوا العراقيين ويوقفوهم، لكنّ الجيش العراقي أكثر قوّة وتسليحًا، كما إنّ قرار جيشنا بيد بني صدر وعلينا أن ننتظر لنرى ماذا يقرّر. حاليًا هو يرى أن

 

162

 

 


151

..وأيّ درر

ندع العدو يتقدّم وبعدها نطبق عليه كفكّي الكماشة ونقطع أوصاله.

 

- ما الفائدة من محاصرته بعد أن قصف ودمّر وقتل؟ وهل من السهل إخراجه؟

 

استمر الحديث والنقاش ساعة من الزمن. بعدها خرجنا من غرفة الدكتور، وكما طلب منّا أحضر الإخوة عدة أكياس من التراب أفرغوها في الباحة، وأنا أيضًا شمّرت عن ساعديّ وبدأت العمل معهم. سكبنا الماء على التراب، وخلطناه حتى صار طينًا ووحلًا رقيقًا، وتعاونّا جميعًا على طلي السيارات وتمويهها بالوحل بشكل كامل.

 

حوالي الساعة العاشرة صباحًا نادانا ناصر هاتفًا: "يقول الدكتور شمران استعدّوا جميعًا، سنذهب إلى حميديه للاستطلاع".

 

الطريق الوحيدة التي تصل الأهواز بحميديه تستغرق ساعة واحدة وتتجه نحو سوسنكرد وهويزه. هناك شاهدنا منازل التبن والطين البسيطة التابعة للقرويّين الفقراء، وقد سوّيت بالأرض، ورأينا المزارع وأشجار النخيل قد احترقت وتفحّمت، ورأينا أكثر الناس يغادرون سيرًا على الأقدام طلبًا للملجأ والمأمن.

 

تركنا السيارات بالقرب من حميديه في مكان بعيد عن مرمى نيران العدو، وسرنا مسافة 100م على الأقدام، ثم صعدنا تلة قليلة الارتفاع نشرف منها على منطقة حميديه.

 

أخرج الدكتور منظارًا واستطلع المكان، ثم ناوله لكلّ فرد منا حتى نرى خطوط ومواقع العدو. عندما وصل الدور إليّ وضعت المنظار على عينيّ وحدّقت النظر في المنطقة برمّتها..

 

لا أراكم الله سوءًا، رأيت على بعد ستة أو سبعة كيلومترات جحافل

 

163


152

..وأيّ درر

الجيش العراقي ودباباته ومدرّعاته، وقد اصطفّت متراصّة كالألعاب البلاستيكية، وكأنّنا نقف نتفرّج على مناورة عسكرية!

 

عمّ الصمت لدقائق، وقد أصابنا الذهول من هول المنظر، فقد كانت فوّهات مدافع الدبابات مصوّبة نحونا. لم ندرِ ما علينا فعله بكلّ هذه الدبابات وما هو التكليف! الكلمة الفصل كانت للدكتور، فنحن لم نعهد من قبل معارك كهذه: حيث إنّ أيدينا فارغة وأمامنا كل هذه الدبابات!

 

من تعابير وجهي أدرك الدكتور ما يجري في داخلي من اضطراب، أخذ المنظار من يدي وقال: "حسنًا، انظروا من أين إلى أين صفّوا دباباتهم، مشكّلين جدارًا فولاذيًّا أمامنا، هم لا يخشون شيئًا وسوف يتابعون تقدّمهم من دون أي خوف، وقد قال صدام سوف نكون في الأهواز في غضون ثلاثة أيام، وبناءً على ذلك، متوقّع أن يصلوا الأهواز يوم غد، إضافة إلى ذلك فإن بعض العرب الذين يسكنون المناطق الحدودية تربطهم بالعراقيين روابط قرابة ومصاهرات، وذلك بحكم الجوار واللغة المشتركة، فقد تزوجوا بناتهم أو زوّجوهم بناتهم، ولهذا لا يمكن التعويل عليهم.

 

علينا أن نأتي بالجرافات ونستحدث سواتر ترابية متينة لصدّ تقدّم هذه الدبابات. أمّا الحكومة فقد أعلنت التعبئة العامة، وطلبت من كل الذين يستطيعون حمل السلاح أن يلتحقوا بالجبهة، وعلى سبيل المثال كل من أنهى خدمته العسكرية عام 1977 قد تم استدعاؤه".

 

ما إن قال ذلك حتى أصغت السمع، فأنا كنت قد هربت من الخدمة العسكرية، لكن بما أنّني التحقت بمنطقة القتال فلا داعي للقلق بشأن خدمتي العسكرية.

 

عدنا إلى مبنى المحافظة بعد حوالي الساعتين من استطلاع المنطقة.

 

164


153

..وأيّ درر

إنّ رؤية كل هذه الدبابات وهذا الكم الهائل من الدمار والخراب الذي حلّ بالناس أشعرتني بالأسى والغم، وأحزن قلوب الجميع.

 

كانت بعض حافلات النقل متوقفة عند بوابة مبنى المحافظة، فقد وصلت القوات المتطوعة للقتال، ووقف أحد أبناء "الكميته" في "شابور" أمام باب الباص يرشد الشباب. كان طويل القامة، يضع قبّعة خضراء، ويلفّ شالًا أخضر اللون على خصره دلالةً على أنه سيد.

 

تقدّم الدكتور "شمران" من السيد وربّت على ظهره قائلًا: "عافاكم الله، خذ الإخوة إلى آبادان ناحية الهويزة، حيث تقاتل جماعة "فدائيو الإسلام"، فهم بحاجة إلى قوات دعم أكثر منّا".

 

في اللحظة نفسها وصل عدد من شباب الحرس من معسكر حميدية، وانضمّوا إلينا، وهم من أهالي منطقة الأهواز والمدن المحيطة بالهويزة، فقال لهم الدكتور: "اذهبوا وأحضروا لنا جرافات حتى لو بحثتم عنها بين الحجر والمدر، فمن دونها لن نستطيع القيام بشيء".

 

فقال أحد الإخوة بلهجته الأهوازية: "نحن بالكاد نجد سيارة عادية، فما بالك بالجرافات".

 

قال له الدكتور: "أجريت اتصالًا بمعاونية الثورة وقلت لهم: كل من عنده سيارة فليأتِنا بها؛ سيارة عادية أو بيك آب أو سيارة ستيشن؛ مهما كان نوعها ستفيدنا هنا".

 

في اليوم التالي، أرسل الحاج قاسم عددًا من القادة إلى "كرج"، ليحضروا المتطوّعين إلى الجبهة. ومع حلول غروب اليوم التالي وصل حوالي مئة شخص، فسُرّ الدكتور كثيرًا لرؤيتهم.

 

جمعنا الحاج قاسم في باحة مبنى المحافظة، وقال: "توزّعوا على

 

165

 

 


154

..وأيّ درر

مجموعات، وانتخبوا قائدًا لكلّ مجموعة".

 

فتوزّعنا على ثلاث مجموعات، تضمّ كل واحدة 33 عنصرًا، وحينها لم يكن اختيار القائد مرتبطًا بمدى علمه أو رتبته ودرجته، بل بمدى حذاقته وقوّته وقدراته.

 

ومن ثم بسط الدكتور شمران الخارطة مشيرًا إلى الحدود مع التوضيحات؛ كانت مناطق "دب حردان، شمريه، دهلاويه، طراح، كرخه كور" الأقرب إلى الحدود مع العراق، وكان الجيش العراقي يدكّها ويقصفها بالمدافع وقذائف الهاون ألف مرة يوميًا. وبما أنّ خطّ العدو يقع خلف معسكر "حميدية"، لذا لم يكن بمقدورنا استعادة المعسكر ولو بنسبة واحد بالمئة، لكن بالمقابل في المحاور والجبهات الأخرى، وخاصة في منطقة "كرخه كور"، كانت الفرصة أكبر للقيام بالمناورة والتسلّل الليلي إلى مواقعهم.

 

ومن اليوم الثالث والرابع، ذهبت مع الحاج قاسم إلى محور "ذو الفقاري"، وهناك قسّمنا المحاور والمناطق، وضعنا الحدود، وقدْتُ الفريق الأصغر إلى محور "فرسيه"، وكان معي "محمد نجفي" و"حسين محمودي" الذي لقّبه الإخوة هناك بـ"حسين السمين" لكثرة ما كان ضخمًا وسمينًا. ويقع محور فرسيه على بعد كيلومترين من قرية "دب حردان"، وهو من جهة يطلّ على جادة أهواز - خرمشهر ومن جهة أخرى على "كوت عبد الله". هناك عملنا على حفر المتاريس والمخابئ، وعلى رصد تحرّكات العدو.

 

كنا دائمًا في مرمى نيران العدو الذي ظلّ يقصف المنطقة ليلًا نهارًا ونحن نرى تحرّكاته بوضوح.

 

في الأيام الأولى للحرب، حاول صدام جاهدًا احتلال الأهواز، ووضع ثقله للسيطرة على طريق "الأهواز-سوسنكرد" و"الأهواز - آبادان"، وتمكن في

 

166

 

 


155

..وأيّ درر

نهاية الأمر من الحصول على أجزاء منها. لكنّ الجيش العراقي كان ضعيفًا في المناطق الرمليّة، ولم يستطع التقدم فيها، وكانت الغلبة للفرقة 16 المدرّعة من قزوين.

 

وشهد محور "كرخه كور" الذي كان بيد "السيد محمد مقدم بور" أشدّ المعارك وأعنفها مقارنةً ببقية المناطق والمحاور. أما محور "سوسنكرد- ودهلاويه" فكان تحت قيادة الرائد "ايرج رستمي"، وهو من أكبر وأشجع رجالات الحرب، ومحل ثقة الدكتور شمران.

 

من حيث العتاد والسلاح، كان لدينا هاون في كل محور، إضافةً إلى رشاشين ثقيلين كان الجيش قد أعطانا إياها، واستطعنا بفضل الجرافات التي قامت بأمرٍ من الدكتور "شمران" برفع سواتر ترابية منيعة ومحكمة ابتداءً من حيّ "ذو الفقاري" ومحطة "آبادان (7)" إلى "فياضية" "وكوت السيد صالح" وصولًا إلى خلف "دب حردان وكرخه كور"، وحميديه، والتي تشرف عليها تلال "الله أكبر". وبهذا استطعنا أن نصدّ هجوم الجيش العراقي باتجاه الأهواز ونعيق حركته وتقدّمه إلى حدّ ما.

 

كنت ألتقي الدكتور "شمران" بشكل يومي تقريبًا، حين يأتي لتفقّد المحاور ومواقع المقاتلين، أو حينما أذهب أنا إلى مبنى المحافظة. وكان يقضي أكثر أوقاته في محور "كرخه كور" والقرى المجاورة له، التي تتعرّض للقصف العراقي العنيف.

 

في أحد الأيام ذهبت إلى المحافظة، وعندما رآني الدكتور قال لي: "أهلا بالسيد، ما الأخبار؟".

- نريد أن نضرب الدبابات، هل من سبيل لذلك.

- مشكلتنا الأساسية هي هذه الدبابات، فطبيعة المحاور والمسافات

 

167

 

 


156

..وأيّ درر

المتباعدة تحول دون تمكنّنا من اصطيادها بسهولة، وفي كل يوم يزداد عددها أكثر وأكثر. اليوم خطرت ببالي فكرة للتخلص منها.

- ما هي؟

- لو كان عندنا دراجات نارية للقفز (moto cross) مع سائقين محترفين وحاذقين، نستطيع بهذه الطريقة الاقتراب واصطياد الدبابات.

 

خطرت ببالي فكرة، ولأوّل مرة أردت أن أتخطّى الحاج قاسم وأقول ما عندي، لذلك التفتُ إلى الدكتور وقلت له: "سيدي لدي أيضًا أفكار بشأن الدبابات سأطرحها عليكم في الوقت المناسب".

 

ودّعت الدكتور، وخرجت من غرفته وبقيت أنتظر حتى ينفضّ الإخوة من حوله لأقول له ما عندي على انفراد. وقفت عند الدرج أنتظر وإذا بالحاج قاسم يناديني ويقول: "أنا أيضًا أوافقك الرأي يا عزيزي السيد".

 

تعجبت من قوله وسألته: "توافق على ماذا؟".

- على هذا الكلام الذي كنت تنوي أن تقوله للدكتور.

- إذا كنت موافقًا فأخبره بنفسك.

- لا، تعال لنخبره معًا.

 

بعد دقائق دخلنا مجدّدًا إلى غرفة الدكتور، وقال الحاج قاسم له: "بالنسبة لسائقي الدراجات النارية الذين تحدثت عنهم فإن السيد يعرف أين يجدهم، لكنّ جميعهم من الأراذل وحملة السكاكين".

 

نظر الدكتور إلي وقال: "صحيح يا سيد؟ هل ما قاله قاسم صحيح؟".

- نعم سيدي، أعرف أين أجدهم!

 

168


157

..وأيّ درر

- أجل، أنا أريد سائقين ماهرين يغوصون في ساحة القتال بلا خوف، اذهب اليوم إلى طهران وأحضرهم لي. هذا الأمر أهم من أي شيء آخر، لنرَ ما تصنع يا سيد، وفقك الله.

 

في اليوم نفسه، ذهبت بسيارة يقودها "محمد نجفي" إلى طهران، عندما وصلت إلى حيّنا ذهبت مباشرة لرؤية "جليل نقاد"، وهو صديقي ومن أبناء حيّنا، ورغم صغر سنّه وضآلة بنيته، إلا أنه كان من فتوّات الحيّ، وكان الجميع يناديه "جليل قصير الساقين".

 

مع أنّ أخاه التحق بمنظمة "مجاهدي خلق" إلاّ أن جليل كان رجلًا مؤمنًا وحسن السيرة والسمعة، والأهم من كل شيء أنه كان عاشقًا متيّمًا بالدراجات النارية، ويعرف كل شيء عنها وفيها، وحتى إنّه يتقن إصلاحها بمهارة، فكان يشتري الدراجات القديمة ويعمل على إصلاحها وبيعها، فبلمحة بصر يفكّ قطع الدراجات النارية، يصلحها ويعيد تجميعها من جديد، وكانت بالنسبة له كل حياته.

 

وكان يملك دراجة نارية جبلية كبيرة، وبقدر ما كنت متعلّقًا بطيوري وأحبّها، كان جليل يحب دراجته ومتعلّقًا بها.

 

يومها، بعد أن قابلته وسلّمت عليه وسألته عن الحال والأحوال، عرضت عليه موضوع اصطياد الدبابات، وأقنعته بالقدوم إلى الجبهة والمشاركة في الحرب. بعدها ركبت خلفه على الدراجة وذهبنا إلى أصدقائه فتوّات محلّة مولوي، وطلبتُ من كل واحدٍ ألتقي به الحضور إلى مبنى رئاسة الوزراء في تمام الساعة الثامنة صباحًا، وأخيرًا بعد كل هذه الجولات ذهبت إلى منزلي لألتقي أهل بيتي وعيالي.

 

في اليوم التالي، ذهبت باكرًا إلى مبنى رئاسة الوزراء، وقد أتى خمسون

 

169


158

..وأيّ درر

شخصًا من أصحاب الدراجات. ولمّا رآهم مسؤول التجنيد في رئاسة الوزراء وتأمل أشكالهم وهيئاتهم، تبسم مستهزئًا وقال: "هذه الأشكال لا تفيد في الحرب، مَن هؤلاء الذين جمعتهم وأتيت بهم إليّ؟ الحرب تريد رجالًا أشداء وأقوياء، أم تظن أنّ أرض المعركة مكان لتسلية ولعب الشباب الصغار؟".

 

غضبت كثيرًا وأردت أن أخنقه بيديّ هاتين، لكنّي تمالكت نفسي، ففي وقت عصيب كأوقات الحرب ينبغي تجنّب الجدال. اتصلت بمركز محافظة الأهواز وتحدثت إلى الحاج قاسم وشرحت له الموضوع. وبعد ساعة تمامًا، اتصل الحاج قاسم وحلّ مشكلتنا في رئاسة الوزراء، ثم ذهبنا إلى محطة القطار حيث سمحوا لنا بشحن الدراجات في مقصورة الركاب إلى الأهواز.

 

وصلنا في اليوم التالي إلى الأهواز، وأخذنا الدراجات النارية بشاحنات التويوتا الصغيرة إلى مركز المحافظة. ما إن رأى الدكتور شمران الشباب حتى استقبلهم، ورحّب بهم بحفاوة وسلّم عليهم فردًا فردًا وعانقهم على طريقة الفتوّات. هذا الاستقبال وهذه المعاملة جعلاه يدخل إلى قلوبهم منذ البداية، فأحبّوه وأطاعوه حتى النهاية.

 

التفت الدكتور إلي وقال: "حقًا إنك جئتنا بأوراق رابحة، أحسنت يا سيد، بارك الله بك".

 

ثم جلس مع الإخوة سائقي الدراجات وشرح لهم الخطة وقال: "سوف يصعد مع كل واحد منكم أحد الإخوة من رماة الـ""B7" "، فتذهبون إلى قلب العدو، وتقتربون من دباباتهم قدر المستطاع، ثم وفي المكان المناسب تطرحون دراجاتكم أرضًا بانتظار أن يرمي الأخ المرافق دبابة العدو، ثم يقفز ثانية إلى الدراجة، وتنسحبان للخلف بسرعة البرق. هذا

 

170


159

..وأيّ درر

العمل يتطلّب دقة وسرعة عالية".

 

بعد هذه الجلسة التوجيهية استودعت الشباب عند الحاج قاسم، لأنه كان عليّ الذهاب إلى محور "فرسيه"، وبينما أنا خارج من المبنى ناداني الدكتور "شمران" وقال لي: "سلمت يداك عزيزي السيد، إذا وفقنا الله وأعاننا سيتحسّن وضع دفاعنا كثيرًا، ففي حرب العصابات نعقد أملنا على الناس والشباب".

- اطمئن يا سيدي سوف يحصل ذلك، لا تنظر إلى أشكالهم ومظهرهم الخارجي، كل واحد من هؤلاء الشباب يعادل عشرة جنود عراقيين، إنّهم شجعان وقلوبهم طاهرة، وهذا ما تبحث عنه.

- أعلم ما تريد قوله؛ إنّ هؤلاء الشباب كالدّرر التي وقعت في مستنقع موحل، كلهم ذوو معدن طيب، وهم بحاجة فقط إلى التربة الخصبة لتتأصّل جذورهم.

- أجل يا سيدي كما تفضلتم، إن هؤلاء الشباب، وأخجل من قول ذلك، نصفهم ترعرع في مناطق تعجّ بالمشاكل، لذا هم أشقياء، واشتهروا في مناطقهم بأنّهم من القبضايات والفتوّات، لكنهم لم يرفضوا لي طلبًا.

- نحن نريد رجالًا أشداء في الحرب فقط لا غير.

 

بعد ذلك ودّعت الدكتور شمران وعدت إلى محور "فرسيه".

 

من بين الشّباب المتطوّعين الذين التحقوا بالحرب كان هناك قرابة الثلاثين شابًا لبنانيًا، وكلهم رفاق درب وجهاد الدكتور "شمران"، وقد قاتلوا معه في لبنان. جميعهم من ذوي الأجسام الرياضية، ومن المتمرّسين في الحرب، وكان لهم تأثير جيد ومفيد، فمن جهة شاركوا في الحرب وقاتلوا العراقيّين، ومن جهة أخرى اشتغلوا بتعليم وتدريب القوات المحلية على

 

171


160

..وأيّ درر

التكتيكات العسكرية واصطياد الدبابات بقذائف "B7". كانوا يرتدون ثيابًا عسكريّة مرقّطة كزيّ الدكتور شمران، وبعضهم وضع كوفية على كتفيه، وحينها لم تكن الكوفية منتشرة ورائجة بين المقاتلين بعد، وتفرّد اللبنانيون وعناصر الحرس الثوري المحليون العرب بارتدائها.

 

لعلّه كان اليوم الثالث من الحرب، حين سمعت أنباءً عن استشهاد ثلاثة من الإخوة اللبنانيين بعد أن تمكّنوا من ضرب وتدمير دبابتين أو ثلاث، من بينهم "علي عباس" الذي كان ماهرًا في اصطياد الدبابات، وكان من أكثر المقربين إلى الدكتور شمران، ويجيد اللغة الفارسية بطلاقة، كنّا تصادقنا معه بسرعة، وصرنا من أعزّ الأصحاب.

 

صحيح أننا كنا نملك نخبًا في الحرب لا يستهان بها، لكن تقرّر أن يقوم علي عباس بتدريب الدرّاجين على اصطياد الدبابات بدراجاتهم.

 

مرّ على الحرب أسبوع، وكانت المحاور مزدحمة، ولم يتم تنظيمها بشكل جيّد بعد، وكانت القوات الوافدة تُستقبَلْ في المركز مدة يومين كي تستريح وتستعيد أنفاسها، وتتعرّف إلى المنطقة. حينذاك أُخْلِيت المدارس في الأهواز وجُهزت لاستقبال القوات الشّعبية والمتطوّعين.

 

ولاحقًا قيل لنا إنه يجب على كل مسؤول محور أن يعيّن مكانًا كخط خلفي لقواته، أي يجب على مسؤول المحور أن ينقل قواته من المتطوعين إلى الخط الخلفي الخاص به، وبدوري، جهزت مدرسة "مهرآيين" وصرت آخذ كل المتطوعين والإخوة من حيّي ومعارفي إلى هناك، وإن وُجد ما يكفي من الزي العسكري والسلاح جهّزتهم به وأرسلتهم. فكنت كل يوم بعد صلاة الصبح أحضر بعضًا منهم إلى الخطوط الأمامية، وبالمقابل أُرْجع معي إلى الخط الخلفي الجرحى. حينها لم يكن لدينا ما يكفي من

 

172


161

..وأيّ درر

البدلات العسكري والسلاح، ولذا غالبًا ما كانوا يعطوننا سروالًا فضفاضًا (السروال الكردي)[1] كاكي اللون عوضًا عن الزي العسكريّ، وبعض العناصر كانوا يتوجّهون إلى أرض المعركة بسلاح من دون بزة عسكرية. أما أسلحتنا فكانت من طراز G3 - وM1 - وكلاشينكوف وقنابل يدوية. وأنا أيضًا غالبًا ما كنت أرتدي سروالًا كرديًّا كاكي اللّون، وأنتعل حذاءً كتّانيًّا يدوي الصنع، ولم أكن لأضع الخوذة على رأسي أبدًا.

 

صباح أحد الأيام ناداني الحاج قاسم وقال لي: "هذه الورقة هي رسالة من الدكتور شمران، اذهب بسرعة إلى مقر الفرقة 92 المدرّعة، وأحضر لنا من هناك عدة قواذف وقذائف "B7" ".

 

ركبت مع أحد الإخوة في شاحنة صغيرة من نوع "سيمرغ"[2] وتوجهنا إلى مقر الفرقة 92 المدرّعة للجيش، وبقينا حتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا خلف باب غرفة مسؤول التسليح، تنقّلت من غرفة إلى غرفة ومن مسؤول إلى مسؤول، أطلب من هذا وأشرح لذاك، وكل من كان يسمعنا نطلب "B7" كان يضحك علينا ويسخر منا ويذهب.

 

بعد أذان الظهر قدّموا على الغداء حساء البطاطا باللحم، وأعطونا أنا والجندي الذي كان برفقتي حصتين من الطعام، فذهبنا وجلسنا تحت شجرة وتناولناه. في النهاية جاءنا جنديّ يحمل بيده كيسًا من القنب فيه عدة قواذف "B7" لكن من دون قذائف، ووضعه أمامنا.

 

قلت له: "وأين القذائف؟ هذه القواذف لا تنفع في شيء من دون قذائفها!".

 


[1]  البنطال الواسع الذي يرتديه الأكراد.

[2]  سيارة مفتوحة من الخلف لنقل العتاد(من أنواع البيك آب).

 

173


162

..وأيّ درر

أجابني بلهجته الأهوازية: "وما شأنك؟".

 

- لا يا أخي، لن آخذها! إلى أين آخذها؟ وما أصنع بها؟ وهل أبدو لك مجنونًا أم ناقص العقل؟

 

تجادلنا في الأمر مطوّلًا، إلى أن تنازلت أخيرًا! وبعصبية وغضب حملت الكيس، وضعته في الشاحنة الصغيرة وقفلت عائدًا.

 

وصلنا إلى مبنى المحافظة مع الغروب، وهناك قصصت على الحاج قاسم ما جرى معنا، فضحك وقال: "حسنًا لا بأس، أحضرت لنا القواذف ويجب أن نأخذ قذائفها من العراقيين".

 

حينذاك كان السيّد الخامنئي ممثّل الإمام الخميني، وكان يحضر إلى الخطوط الأمامية أحيانًا لتفقّد أحوال المقاتلين والاطمئنان إليهم ورفع معنوياتهم. في إحدى اللّيالي سمعت أنّ السيد ذهب إلى محور "رقابيه"، وحيث كنت في منتهى الشوق لرؤية سماحته قصدت "رقابيه"، وهناك رأيت السيد بالزيّ العسكريّ الكاكي اللون، يتنقّل من متراس إلى آخر، ويتفقّد الإخوة ويطمئن إليهم. كان السيد نحيلًا، طويل القامة ذا وجه بشوش، وكان يمازح الإخوة، فيضحكون ويدخل السرور قلوبهم.

 

بعد ذلك جلس السيد مع الدكتور "شمران" و"ناصر فرج الله" و"الحاج قاسم" في أحد المتاريس، يتجاذبون أطراف الأحاديث، وقد انضممت إليهم إذ دعوني لذلك.

 

كان سماحة السيد من المهتمين بالشعر والأدب، وقد أسمعنا أبياتًا حفظها من "غزل حافظ". أنا أيضًا كنت من محبّي حافظ وأشعاره، لكنّي لم أكن حافظًا، لها وكنت دائمًا أحمل في جيبي كُتيّبًا صغيرًا من ديوانه أقرأ أبياتًا منه كلّما ضاقت بي الدنيا.

 

174


163

..وأيّ درر

في تلك الليلة قرأنا عدة أبيات من أشعار حافظ العرفانيّة، وبقينا نتسامر حتى وقت متأخر من الليل، وقضينا أمتع الأوقات قرب السيد الخامنئي. هذه الاجتماعات وحضور سماحة السيد بين صفوف المقاتلين ترفع من معنوياتنا، وحقًا كانت نعمة كبيرة للإخوة.

 

صلّينا صلاة الصّبح بإمامة السيّد الخامنئي، ونمت ثلاث ساعات بعد الصلاة، وعند الظهيرة تناولت الغداء على عجالة في مبنى المحافظة. كنت مسؤول أحد المحاور، ويقع على عاتقي ألف عمل لأنجزه، لكني لم أكن راغبًا بالابتعاد عن السيد، ووددت البقاء قربه.

 

كان الغداء دجاجًا مقليًا مع الأرز. قدّموا لكلّ عنصرين دجاجة مقلية دسمة، وكانت شهيّتي كبيرة لهذا النوع من الأطعمة.

 

كان الدكتور شمران ينبّهنا ويقول دائمًا: "أعلم أنكم شباب وأجسامكم بحاجة للتغذية، لكن لا تكثروا من الطعام، إن الاكتفاء بالقليل منه هو أول درس في تربية النفس والجهاد الأكبر. عندما يحين وقت الغداء أو العشاء لا تلهثوا وتركضوا بحثًا عن الطعام. وإذا لم يصلكم الطعام يومًا ولم تتناولوا شيئًا اعتبروه تهذيبًا للنفس وبناءً للروح، لا تكونوا من الذين يشار إليهم على السفرة بالبنان من كثرة الشراهة، بل اشتهروا بعفة النفس وتفضيل الأمور المعنوية على الماديّة".

 

كانت نصائح رائعة، لكن هل تطبيقها ممكن بالنسبة لنا؟ لم يكن عرفاننا ليصمد أمام الجوع، كنا في حرب، وهذه الأجساد أيضًا لم تكن لتصمد مع الجوع. فعلى سبيل المثال، توجّب علينا فجأةً أن نسير مسافة ثلاثة كيلومترات على الأقدام. كنا نحتاج إلى المزيد من اللياقة البدنيّة كي نستطيع التصدّي والاستمرار.

 

175

 

 


164

..وأيّ درر

ظنّ الكثيرون أنّ الحرب إن طال أمدها فلن تزيد عن الشهرين أو الثلاثة أشهر، لهذا في بادئ الأمر، أُقيمت المطاعم والمقاهي "الصلواتيّة"[1]، لكن مع مرور الوقت تعقّدت الأمور أكثر، وازدادت الحرب ضراوة، وتوافدت أعداد أكبر من القوات إلى الجبهة. فتمّ التوافق مع اتحاد المطاعم على أن توكّل مهمة الطهي لكلّ مطعم مدة 3 أشهر بالتناوب.

 

عادةً ما كانوا يقدّمون لنا على الغداء وجبة ساخنة مع الأرز، أما العشاء فهو وجبات خفيفة، وبالنسبة للشاي فكنّا نعدّه على الحطب، إلى أن وصلتنا بعد مدة طويلة حافظات الحرارة الكبيرة التي تكفي لمئة شخص، إضافة إلى القدور الكبيرة. في بادئ الأمر كنا نستعمل الخيم الصغيرة والمتاريس المنخفضة السقف التي تسع لشخصين أو ثلاثة، لكن مع قدوم أعداد أكبر من المتطوّعين، استبدلنا بها شيئًا فشيئًا الخيم الكبيرة والمتاريس والدشم الجماعية. وكذلك صار عندنا حلّاق جوّال وحمّام صحراوي (ميداني) أيضًا.

 

في أحد الأيام، حفر الشباب في الأرض قرابة الخمسة أمتار ووصلوا إلى الماء العذب. لذا كان يُقال: "إنّ تراب الأهواز يساوي ذهبًا"، ثم قام الشباب بإحاطة الحفرة بأكياس التراب، وجهّزوها بحبل وسطل، وصنعوا حمّامًا ميدانيًّا، وهكذا صارت أكثر الأمور والأعمال تنجز بهمة الإخوة وابتكاراتهم وإبداعاتهم. وكنّا في بعض الأحيان نقصد حمّامات المدينة، وفي ما بعد تطوّرت الأمور أكثر، وأحضروا لنا مقصورات متنقّلة فيها صنابير ماء للاستحمام كي لا يتجشّم المقاتلون عناء قطع مسافة كيلومترات من أجل الاستحمام.

 

تناقل الجميع أخبار الدمار والخراب الذي أحدثه العراقيون في القرى

 


[1]  أي التي تقدّم الطعام أو الشاي مقابل الصلوات على محمد وآله.

 

176


165

..وأيّ درر

والمدن التي احتلوها، وخاصة الجرائم البشعة التي ارتكبوها في "الهويزه" والتي صارت حديث الناس وأثارت الحنق والغضب. فقد عانى أهالي الهويزه وسوسنكرد والقرى المحيطة الكثير من الظلم والجور في الأيام الأولى للحرب؛ فمن جهة قصف المدنيّين وقتلهم، ومن جهة أخرى أوهام بني صدر وخططه الواهية في الإطباق على العدو داخل حدودنا؛ هذا ما أتعبنا. فبينما كانت حرمة المدن تُنتهك وتقع المجازر الجماعية، هناك من جلس مكتوف اليدين يتفرّج على انتهاك البعثيّين لأرضنا خلال الشهرين الأوّلين من الحرب.

 

رويدًا رويدًا تشكّلت عمليات الاستطلاع، فحين بات العراقيون يخلدون للنوم وتخفّ وطأة نيرانهم، أمسى الأخوة يتسلّلون إلى عمق مواقعهم ويجمعون المعلومات عنهم.

 

في إحدى الليالي ذهبت مع الحاج قاسم وثلاثة من الإخوة إلى محور "رقابيه" لكي نستطلع مواقع العدو. كانوا قد وضعوا دبابة قرب متاريسهم، بدت لنا خالية للوهلة الأولى، اقترب منها أحد الإخوة لتأمين طريقنا، فعبرنا من أمامها بهدوء. في ذلك الزمن، لم نكن نعرف ماذا تعني الإصابة المباشرة بقذيفة الدبابة ورشاشها. توغّلنا في قلب الظلام حوالي نصف ساعة، وما إن اقترب بزوغ الفجر حتى قال الحاج قاسم: "هيا لنعود قبل أن يرونا".

 

في طريق العودة وجدنا رشاشي كلاشنكوف، وخمس قذائف "B7". كانت فرحتنا عارمة بهذه الغنائم فتأبطناها وتابعنا مسيرنا باتجاه سواترنا، لم نكد نتقدّم مترين أو ثلاثة، حتى كشفنا الجندي العراقي الرابض داخل الدبابة، وفتح علينا نار رشاشها، كما ظهر عدد آخر من الجنود العراقيّين، وبلمح البصر انقلبت الأوضاع رأسًا على عقب. كنّا نركض بأقصى سرعتنا

 

 

177

 


166

..وأيّ درر

بشكل متعرّج حاملين الغنائم نحو مواقعنا، وكان الرصاص يمرّ من بين أيدينا وأقدامنا، وقد علقنا وسط مهلكة كبيرة. ناهيك عن احتمال إصابتنا برصاص إخواننا الذين استيقظوا وبدأوا بالرد على مصادر نيران العراقيّين. تابع العراقيّون إطلاق النار العنيف نحونا، وبعضهم كان يعدو هنا وهناك، لا يدري ما يفعل، ويولول باللغة العربية.

 

ما أن ابتعدنا قليلًا عن مواقعهم، حتى أصيب أحد الإخوة برصاصة في قدمه، وعلى الفور أمسكناه أنا والحاج قاسم من إبطيه بيد وباليد الأخرى كنا ممسكين بقذائف "B7"، وهكذا ساعدناه وسحبناه إلى مواقعنا.

 

في الطريق، وقف أحد الإخوة وفتح النار على الأعداء ليؤمّن انسحابًا آمنًا لنا. وبلطف الله مضت تلك الليلة على خير، وعدنا جميعًا أحياء ولم نقع بأيدي العراقيّين.

 

كان ضوء الصباح قد انبلج عندما وصلنا إلى ساترنا الترابي، فارتمينا على الأرض من شدة التعب، وهنا قال الحاج قاسم وهو يلتقط أنفاسه: "يا له من استطلاع! خذوا هذه القذائف، فالآن يحلو استعمالها أكثر. اضربوا بها دباباتهم، لكن ليس بالجملة، اصبروا حتى يقترب الهدف منكم وأصيبوا دبابة بكل قذيفة.

 

كان الدكتور شمران والحاج قاسم يبثّان فينا روح الشجاعة والبسالة ويقولان: "كل واحد منكم يملك قوة تعادل جيشًا كاملًا". طبعًا هما أرادا شدّ عزائمنا لنصمد في مواجهة العدو، وإلا فإنّ صاحب العقل السليم يعرف ويدرك تمامًا أن الجيش العراقي يفوقنا من جميع النواحي، ونحن لا نملك أمامهم شيئًا سوى إرادتنا الصلبة وإيماننا الراسخ.

 

بعد تلك الغزوة، صرنا كل ليلتين أو ثلاث نتسلّل باتجاه العدو، إما

 

178


167

..وأيّ درر

بشكل متعرّج حاملين الغنائم نحو مواقعنا، وكان الرصاص يمرّ من بين أيدينا وأقدامنا، وقد علقنا وسط مهلكة كبيرة. ناهيك عن احتمال إصابتنا برصاص إخواننا الذين استيقظوا وبدأوا بالرد على مصادر نيران العراقيّين. تابع العراقيّون إطلاق النار العنيف نحونا، وبعضهم كان يعدو هنا وهناك، لا يدري ما يفعل، ويولول باللغة العربية.

 

ما أن ابتعدنا قليلًا عن مواقعهم، حتى أصيب أحد الإخوة برصاصة في قدمه، وعلى الفور أمسكناه أنا والحاج قاسم من إبطيه بيد وباليد الأخرى كنا ممسكين بقذائف "B7"، وهكذا ساعدناه وسحبناه إلى مواقعنا.

 

في الطريق، وقف أحد الإخوة وفتح النار على الأعداء ليؤمّن انسحابًا آمنًا لنا. وبلطف الله مضت تلك الليلة على خير، وعدنا جميعًا أحياء ولم نقع بأيدي العراقيّين.

 

كان ضوء الصباح قد انبلج عندما وصلنا إلى ساترنا الترابي، فارتمينا على الأرض من شدة التعب، وهنا قال الحاج قاسم وهو يلتقط أنفاسه: "يا له من استطلاع! خذوا هذه القذائف، فالآن يحلو استعمالها أكثر. اضربوا بها دباباتهم، لكن ليس بالجملة، اصبروا حتى يقترب الهدف منكم وأصيبوا دبابة بكل قذيفة.

 

كان الدكتور شمران والحاج قاسم يبثّان فينا روح الشجاعة والبسالة ويقولان: "كل واحد منكم يملك قوة تعادل جيشًا كاملًا". طبعًا هما أرادا شدّ عزائمنا لنصمد في مواجهة العدو، وإلا فإنّ صاحب العقل السليم يعرف ويدرك تمامًا أن الجيش العراقي يفوقنا من جميع النواحي، ونحن لا نملك أمامهم شيئًا سوى إرادتنا الصلبة وإيماننا الراسخ.

 

بعد تلك الغزوة، صرنا كل ليلتين أو ثلاث نتسلّل باتجاه العدو، إما

 

179


168

..وأيّ درر

في الشهر نفسه، حشد الجيش العراقي قواته لاحتلال سوسنكرد، من ثلاثة محاور، وكان الدكتور شمران يعتبر احتلال مدينة سوسنكرد خطرًا حقيقيًا ومحدقًا على مدينة الأهواز، لذلك أرسل مجموعة من الإخوة المدرّبين على حرب العصابات للدفاع عن سوسنكرد، وكنت أنا من بينهم.

 

وهناك عرفت جيدًا ما معنى الهجوم. حيث استخدم الجيش العراقي أعدادًا كبيرة من دبابات T-52 وقذائف الهاون والمدفعية لدك المدينة وقصفها، حتى إنّهم لم يرحموا المنازل المدمّرة، بل كانوا يقصفونها لتحويلها إلى ركام. هناك رأيت ماذا يحلّ بالفرد عندما تصيبه قذيفة الدبابة، وكيف يتناثر أجزاء وأشلاء، كما شهدت مواجهة الدبابات باللحم الحيّ، وأصبحت أستاذًا ماهرًا في استعمال قواذف الـ "B7" وقصف الدبابات. ولكثرة ما أطلقت من قذائف "B7" صار الدم يسيل من أذنيّ، وجفّ على عنقي وياقتي، كما أُصبت بدوار شديد. لكنّ الدبابات كانت كالسيل تأتي من كل حدب وصوب ولا نهاية لأعدادها.

 

أينما استطعنا بنينا المتاريس وقد تحوّلت المدينة بأكملها إلى دشم ومتاريس لنا، ورددنا على النار بالنار. لكن أين نيراننا من نيران العراق؟

 

في اليوم التالي من المعارك، شدّد الجيش العراقي الحصار حول المدينة وضيّق الخناق علينا. كان الجوّ في تلك الأيام باردًا وماطرًا، والأرض موحلة؛ ما صعّب القتال أكثر فأكثر. أخذ الدكتور "شمران" جهاز اللاسلكي، وطلب من الخطوط الخلفيّة للجبهة مزيدًا من الأسلحة والعتاد، فقالوا له: "العتاد موجود لكن في ظل هذا الحصار لا نستطيع أن نرسله لكم".

 

ناداني الدكتور وقال: "هذه المهمة من اختصاص عباس[1]، أسرع واطلبه

 


[1]  عباس ملا مهدي.

 

180


169

..وأيّ درر

عبر جهاز اللاسلكي وقل له أن يحضر العتاد والأسلحة لنا".

- عباس زاغي؟

- نعم نعم، فقط عباس يستطيع أن يحضر العتاد والسلاح.

- يا سيدي، العدو يحاصرنا، وها هي دباباته تتقدم من خلفنا أيضًا!

- نادِ عباس، أسرع يا سيد ليس لدينا متسع من الوقت.

 

طلبت عباس عبر جهاز اللاسلكي فتحدّث الدكتور إليه وأعطاه التعليمات. كان عباس من أهالي حيّنا، شابّ ذو عينين خضراوين واسعتين، شديد الجرأة ومغامر جنوني بلا حدود.

 

بعد حوالي الساعة لاحت لنا شاحنة تويوتا صغيرة مغبرة متربة، مسرعة نحونا من بين النار والدخان، مطلقةً العنان لبوقها. كان عباس، وقد جاءنا بالسلاح والماء والغذاء. أسرع الإخوة نحوه وأفرغوا السلاح والذخائر بمحاذاة جدار بيت مهدم كي لا تطالها نيران العدو. وبعد ذلك أعطينا لكلّ مجموعة خمسًا وعشرين قذيفة "B7" وشرشورًا من الرصاص. كان بين العتاد عدد من قذائف الهاون من عيار 60 ملم، قسّمناها أيضًا بين المجموعات، ثم قال الدكتور: "قاتلوا يا إخوتي قدر استطاعتكم، المهم أن تصدّوهم".

 

وبناءً على هذا الكلام، لم يكن هناك من خطّة عسكريّة منظّمة، بل بات كل واحد يقاتل كما تملي عليه الظروف والمواقف. وحتى الدكتور شمران كان تارة يرمي بالآر بي جي، وتارة يحمل الكلاشنكوف. همّته وسلوكه هذا بعثا الحماسة في نفوس الشباب وقوّيا عزيمتهم، وكلّما رأيناه ثابتًا في أرض المعركة كالطود، ارتفعت معنوياتنا للقتال.

 

181


170

..وأيّ درر

مع حلول فجر اليوم الثالث من المعركة، كانت بندقية العدو قد أصبحت قاب قوسين منّا، ولم تهدأ نيرانه لحظة واحدة! وسقط عدد كبير من الشهداء، من المقاتلين والناس العاديّين الذين لم يغادروا المدينة وبقوا للدفاع عنها.

 

وعند الصباح قام الجيش العراقي بانسحاب تكتيكي، لا أعلم لماذا، وأنشأ على مسافة 3 كيلومترات من المدينة سواتر ترابية على شكل حدوة الحصان، الأمر الذي استغربناه، وكان يتناقض مع كلّ ما قام به من قصف وتدمير للمدينة.

 

قمنا نحن أيضًا بتحصين مواقعنا وانتظرنا الأوامر. ومع توقف إطلاق النار وعودة الهدوء، جاءتنا شاحنتان صغيرتان محمّلتان بالماء والغذاء والذخائر، لكنّي شخصيًّا رغبت بنيل قسط من الراحة أكثر من رغبتي بالمؤونة والذخيرة، فقد مضت عدة أيام وليالٍ لم أذق فيها طعم النوم.

 

أعتقد أنه في اليوم الثالث، وبعد صمود ومقاومة جبّارة، وتمكّننا من كسر طوق الحصار، اضطررنا للخروج من المدينة مخلّفين وراءنا عددًا من جثث الشهداء. كان مسؤول المحور "رحيم كيلويي" فتركه الدكتور للدفاع عن المدينة، وذهب برفقة ناصر فرج الله والرائد ايرج رستمي والحاج قاسم إلى محور "طراح"، ورافقتهم أيضًا. وفي طريقنا إلى هناك رأينا "بيك آب" عباس زاغي متوقّفة وسط الطريق بالقرب من ركام أحد المنازل، والنار تلتهمها، فقد أُصيبت بقذيفة مباشرة وشبّت النيران فيها. كان جسد عباس داخل السيارة، وقد تناثر القسم العلوي من جسمه وتلاشى. أُعْدِمنا الوسيلة، ولم نملك حيلة سوى أن نقف متفرّجين، ولا وقت ولا إمكانية لسحب جثمانه إلى الخلف. كان وسام الشهادة يليق بعباس، فمنّ الله به عليه.

 

182


171

..وأيّ درر

خلال انسحابنا من المدينة أُصيبت ذراعي بشظيّة كحبّة الحمّص، لم تؤلمني، بل تسبّبت بحرقة خفيفة وما إن شددت عليها منديلًا حتى هدأ ألمها.

 

بعد ساعات، ذهبت إلى المركز الصحّي، نظّفوا الجرح وخاطوه بقطبتين أو ثلاث من دون أن يخرجوا الشّظية، ثم ضمّدوه، وبقيت الشظية في مكانها إلى اليوم.

 

عندما عدت إلى مدينة "سوسنكرد" كانت قوات الدعم التابعة للحرس الثوري، وبمساعدة الجيش الإيراني، قد منعت سقوط المدينة.

 

لكنّ الصباح التالي شهد قيام دبابات العدو بقصف قرية "دهلاوية" ومحيطها، وقد احتمل الدكتور شمران حدوث هجوم من قبل العدو، ولهذا جهّز سائقي الدراجات النارية لنقل رماة الـ"B7" واصطياد الدبابات. ذلك اليوم كان تحت إمرتي اثنا عشر دراجًا، ومع حلول الساعة التاسعة صباحًا بدأ العدو قصفه المكثف. تلا ذلك هجوم بسيل الآليات وقوات المشاة الذين ساروا بين الدبابات وخلفها باتجاه المدينة. تموضع الدرّاجون خلف الخنادق التي حفرها العراقيّون سابقًا خارج المدينة، وكنت قد وزّعتهم على طول الخنادق وعلى مسافات محدّدة، ثم طلبت من رماة الرشاشات تأمين غطاء ناري لهم. وما إن بدأت الرشاشات بإطلاق النار، حتى انطلق الدرّاجون تحت وابل النار والرصاص نحو قلب الأعداء. وهناك أناخوا ركب دراجاتهم وبدأوا بإطلاق قذائف ال"B7" واصطياد الدبابات العراقية التي اشتعلت فيها النيران وتصاعد دخانها إلى عنان السماء. عندها بدأ الإخوة بالصلاة على محمد وآل محمد والتصفيق فرحًا.

في طريق العودة، أُصيب أحد الدرّاجين إصابة مباشرة بقذيفة دبّابة

 

183


172

..وأيّ درر

فتلاشى جسده. لقد أباد الدرّاجون حوالي ربع الدبابات، وكانوا على دراية عالية بدرّاجاتهم، فعدّلوا في محرّكاتها كي يخفّ صوتها فلا يشعر العراقيّون بقدومها.

 

في تلك العمليات، أصابت شظيّة "جليل نقاد"، أمهر الدرّاجين وأمهر صائدي الدبابات.

 

حوالي الظهيرة، انسحبت الدبابات العراقية، وأثناء ذلك قامت الجرافات بتدعيم سواترنا الترابية، خاصة الضلع الشرقي والغربي لسوسنكرد، الواقعين تحت مرمى ومرأى الأعداء. وقُمتُ مع عدد من العناصر بتجهيز المتاريس في قرية "دهلاويه" التي تعتبر درعًا لمدينة "سوسنكرد". ولأنّ بيوت القرية الطينيّة ضعيفة تنهار بسهولة مع كل قذيفة، أقمنا سواتر ترابية هلالية الشكل (حدوة حصان) على مداخل المدينة والمحاور التي يُخشى التسلّل من خلالها، كما جعلنا في أنحاء تلك السواتر دشمًا مدعّمة بالألواح الخشبيّة. وتوزّعت السواتر على محوري اليمين واليسار والمقدمة. هذا وتوزّع حوالي 150 عنصرًا على تلك السواتر.

 

ومن نتائج اصطياد الدبابات المثمرة، أن أصبحنا نمتلك رشاش دوشكا لأوّل مرة. في السابق، كنّا قد رأينا رصاصاتها فقط، التي تعادل رصاصتي رشاش عادي من حيث الحجم، وبتنا نعلم أنها تؤدي إلى تقطيع أوصال من تصيبه، وإذا ما أصابت ناحية البطن فإنها تُحدث فيه ثقبًا وفجوةً بمقدار كفّ اليد من الناحية الأخرى وتقطّع الأمعاء.

 

في اليوم الثاني من الدفاع عن المدينة، أُصيبت قدم الدكتور برصاصة، لكنّه أبى الذهاب للخلف، بل ضمّد جرحه وبقي يدير العمليات بصلابة أكبر. حتى إنّه لم يهتمّ لجرحه ولم أرَه يئنّ أو يتأوّه. كان صلبًا لا يتزعزع.

 

184


173

..وأيّ درر

ربما شتمنا نحن العراقيّين إذا ما أصيب أحد رفاقنا، لكنّه أبدًا لم يغضب أو يتراجع.

 

في تلك الأيام، سمعت من أحد الرفاق أنّ الحاج قاسم قد أُصيب برصاصة دوشكا إصابةً بالغة ناحية الكتف، عندما كان يعطي التعليمات في محور "كرخه كور".

 

لم أكن قد سمعت أخباراً عن الحاج منذ يومين، ذلك أنّني كنت في محور دهلاويه، وانزعجت كثيرًا عندما سمعت الخبر ولم أعد أستطيع البقاء. انقبض قلبي له، فأنا لا أطيق أن أراه يتألم أو يتعذّب. أوكلت العمل إلى الرفاق وركبت الدراجة النارية نحو مبنى المحافظة. هناك رأيت الدكتور شمران وزوجته يجريان مقابلة تلفزيونية. وكان ضماد قدم الدكتور قد تلوّث بالدماء.

 

جلست ألتقط أنفاسي، وعندما انتهت المقابلة، ذهبت إلى الدكتور الذي نهض عندما رآني وربّت على كتفي قائلًا: "ليكن الله معك يا سيّد، عافاك الله، لقد سمعت بما جرى لقاسم وقد نُقل إلى الخطوط الخلفيّة".

- أريد أن أذهب لأراه، لكنّ قلبي لا يطاوعني أن أترك الرفاق وحدهم، وأنا حائر بين الذهاب وعدمه.

- عد إلى الخط، هذا أفضل من تيه الرفاق هناك، كما إنّك لن تستطيع أن تفعل شيئًا لقاسم.

 

وهذا ما فعلته، عدت إلى الخط، ولم يتكرّر الهجوم العراقي في اليوم التالي. هدأت الجبهة نسبيًّا وبقيت عرضةً لقصف متقطّع. لكن لا أثر لأي معارك، وكأنّ العراقيّين قد استنفدوا قواهم.

 

في اليوم نفسه أرسل الدكتور في طلبي، لكنّني لم أذهب قبل الساعة

 

185


174

..وأيّ درر

12 ليلًا. ذهبت إليه في مبنى المحافظة، كان يجلس وحده، فسلّمت عليه وجلست قربه.

 

سألني عن وضع المحاور والرفاق، فأخبرته أنّ الأمور هادئة. لكنّه لم يكن ممّن يكتفون برأي شخص واحد، بل كان يسأل الجميع، فبرأيه، لكلّ شخص وجهة نظره الخاصة. قال الدكتور: "لقد قمت بعمل عظيم بإحضارك لهؤلاء الدرّاجين، كم أتمنّى لو أتمكّن من تشكيل كتيبة من نزلاء السجون من (المشكلجيّين) حملة السكاكين الشرسيين الذين لا يعرفون معنى الخوف، فالمقاتلون المعتادون النوم على ريش النعام لا ينفعون لهذا المكان".

- نعم يا سيد، فهؤلاء لا يهابون الموت، وهذا وحده يكفي للجبهة.

- هم مختلفون عن المعلمين والأساتذة، ولم يكن باستطاعتنا جمع 50 شخصًا من المكتبات لأجل صيد الدبابات. أنا نفسي من أبناء سوق الحدّادين وأعرف روحيّتهم وأحوالهم كثيرًا، على سبيل المثال ذلك الفتى "عباس زاغي"، كان يوازي 10 من العراقيّين، هو لم يكن من أهل الكتب والدراسة، لكنّه كان مقاتلًا جيّدًا. في آخر مرة ذهبت فيها لزيارة والدي، رأيته في أول الزقاق يغطّ بالنوم بعد أن تناول جرعةً من المخدّرات، فقلت له: "يا فلان! أذكر أنّك كنت رجلًا في يوم من الأيام". فقال: "وما زلت، فالسكّين ما زالت معي"، فقلت له: "ربما تحملها لأجل حلاقة ذقنك!". فنظر إليّ ثم طأطأ رأسه.

 

بعد عودتي من زيارة والدي، رأيته في أول الزقاق واقفًا، فناداني وقال: أريد أن أذهب إلى الجبهة!

 

في اليوم التالي أتى إلى مبنى رئاسة الوزراء، وعندما سألته عن أحواله أخبرني أنّه يتعاطى الأفيون 3 مرات في اليوم ولا يستطيع التوقف عن

 

186

 

 


175

..وأيّ درر

ذلك. فقلت له: "أعطِها لي، لأنهم سيعتقلونك إذا وجدوها معك!". فقال عباس خجلًا: "لكنّي أخجل من ذلك". قلت له: "أعطِها لي، لا تخجل وارفع الكلفة بيننا". في النهاية أدّى هذا الأمر لأن يترك الأفيون نهائيًّا، وفي أحد الأيام رميت بالمخدّر في نهر كارون أمام ناظريه.

 

بعد ذلك، أخرج الدكتور ورقة من جيبه، أعطاني إياها وقال: "اذهب في إجازة إلى طهران لمدة 24 ساعة وأوصل هذه الرسالة إلى الحاج قاسم".

 

فرحت كثيرًا ودّعته ومضيت. أردت الذهاب بالقطار لكنّني التقيت أمام مدخل مبنى المحافظة بعبد الله زاده وهو من أبناء "ميدان شوش"، كان ذاهبًا إلى طهران بشاحنة تويوتا (بيك آب).

 

ركبت إلى جانبه، ووصلنا في الساعة الخامسة صباحًا إلى طهران. نزلت في ميدان شوش وتقرّر أن يقلّني معه عندما يريد العودة إلى الأهواز، لذا أخذت رقم هاتف منزله، ثم ودّعته وذهبت إلى المنزل.

 

في ذلك اليوم، كنت أرتدي سروالًا كرديًّا ملوّثًا بالغبار، حتى إنّ رأسي ووجهي كانا معفّرين بالتراب، وقد استطالت لحيتي ونحل جسمي، وكان شعري حينها كثًّا ومجعّدًا.

 

عندما رأتني أمي بُهتت، نظرت إليّ لحظات وقالت: "أهذا أنت يا أبا الفضل؟".

 

لم أمكث في المنزل أكثر من 4 ساعات، حتى إنني لم أستحمّ. تناولت طعام الفطور على عجل وحدّثت أمي وفاطمة والخالة بري ببعض الأمور، لكن ليست بالأمور السيئة كثيرًا، إذ يكفي الحرب وما تخلّف من أحزان وهموم في القلوب.

 

عند الساعة العاشرة صباحًا، ذهبت إلى مسجد "توفيق"، وأقنعت

 

187


176

..وأيّ درر

"حسين محمودي" بمرافقتي إلى الجبهة. صلّيت الظهر في المسجد، ثم ذهبت لعيادة الحاج قاسم.

 

كان الحاج في مستشفى "معيري" مقابل مستشفى الحروق، ما إن رأيته حتى انفجرتُ باكيًا.

 

دنوتُ منه وقبّلت قدمه، فبكى الحاج قاسم أيضًا. كان في حال يرثى لها وقد نحل جسمه كثيرًا، كانت يده قد لُفّت بجبيرة وعُلّقت فيها الأوزان، وقد أُصيب إصابة بالغة في كتفه وجانبه. هناك أدركت معنى الإصابة برصاصة دوشكا، فقد نَهَشَتْ جانبه بالكامل، وكأنما أُصيب بقذيفة دبابة.

 

سلّمت عليه وأعطيته رسالة[1] الدكتور شمران. نظر إليها ثم ناولني إياها مجدّدًا وقال: "جُعلت فداك اقرأها لي فأنا لست بحال جيدة".

 

كتب الدكتور بضعة سطور بخط جميل، حملت معاني دلّت على سموّ روحه، ودلّت على مدى قلقه على قوّاته، ومدى علاقته بالحاج قاسم. بكينا معًا أثناء قراءة الرسالة. بقيت حتى العصر عند الحاج قاسم، ثم قفلت عائدًا إلى المنزل.

وفي اليوم التالي، ذهبت لعيادته ثانيةً. كان طعام الغداء الكباب المشوي، ناولته لقمةً فقال: "أنت سيد ويدك مباركة، وإن تناولت منك اللقمة فمن المؤكد سأُشفى بسرعة".

 

أجاب الحاج قاسم على رسالة الدكتور ببضع كلمات كتبتها له، ثم ودّعته بعد الظهر، واتصلت بعبد الله زاده وتواعدنا في ميدان شوش.

 

عند الساعة الخامسة صباحًا، ركبت شاحنة التويوتا إلى جانب عبدالله،

 

 


[1]  ضُمّت صورة عن الرسالة في الوثائق المنشورة آخر الكتاب.

 

188


177

..وأيّ درر

وكان صندوقها مليئًا بالمتطوّعين للحرب.

 

وصلنا إلى مدينة الأهواز، وكانت باحة مبنى المحافظة تعجّ بالمقاتلين الجدد. اصطحبني "ناصر فرج الله" إلى الدكتور الذي كان يجلس هناك مع زوجته. سلّمت عليه فقال بحزن وأسى: "وعليكم السلام عزيزي السيد، من الجيّد أنك أتيت، هيا اجلس وأسمعني بضع أبيات من حافظ".

 

جلست وفتحت الديوان الجيبي فقرأت هذا البيت:

قال البلبل لنسيم السحر أرأيت ما فعل بنا فراق الوردة

فقال الدكتور: "كفى لا تكمل، أنا أعرف باقي الأبيات، وهي تعبّر عما في قلبي".

 

خجلت أن أسأله عما يزعجه، وكانت زوجته تجلس واجمةً أيضًا. بعد دقائق من الصمت سألني الدكتور: "كيف حال الحاج قاسم؟".

 

أطبقت الديوان وأعدته إلى جيبي، ثم ناولت الدكتور رسالة الحاج قاسم وقلت له: "إنّه يرسل سلامه لك، وهو بخير والحمد لله..". لم يتحدّث الدكتور عن العمليات، وكان شارد الذهن.

 

بعد حوالي الشهر، أي في كانون الثاني من عام 1981، قام الجيش والحرس الثوري إلى جانب القوات غير النظامية بعمليات كبيرة، وبرأيي هي أشبه بعمليات الاستنزاف، لكنها كانت مؤثّرة وواسعة، وقد شارك فيها طلاب النهج الخميني بقيادة "حسين علم الهدى". وكان من أهداف تلك العمليات، تحرير ثكنة عبد الحميد، وإذا ما كتب لها النجاح فسوف تتابع لتحرير خرمشهر والحدود. حينها كانت تلك المرة الأولى التي أذهب فيها مع فريق للقتال في منطقة الهويزة وثكنة عبد الحميد.

 

189

 


178

..وأيّ درر

في تلك الأيام، ذهبت للاستحمام في الأهواز واتصلت بالمنزل للسؤال عن الأحوال فأخبرتني أمي أنّ الله قد رزقني بطفل الليلة الماضية.

- مبارك، وماذا أسميتموه؟

- سعيد.

 

ولأنّنا اقتربنا من موعد العمليات لم أستطعْ الذهاب إلى بيتي. بدايةً، سارت العمليات بنجاح، وقد أنزلنا خسائر كبيرة في صفوف الأعداء، وأسرنا عددًا كبيرًا من جنوده، لكن وبما أنّ القوات لم تكن منسجمة وتفتقد الإدارة والتدبير، أجبرنا وقبل تحقيق أهدافنا على التراجع والانسحاب إلى مواقعنا السابقة. عند الانسحاب أصابت رصاصة أو شظيّة عضلة فخذي الأيمن، ولأنني لم أعد قادرًا على الركض، قفزت إلى ناقلة جند كان الإخوة قد غنموها وعملوا على نقلها إلى الخطوط الخلفيّة، لكن بسبب مرور الناقلة فوق الحفر سقطت منها إلى الأرض، وشعرت بأن إصبع يدي قد انكسر لشدة ما تألمت. نهضت بسرعة وعاودت القفز إلى الناقلة وتشبّثت بإحدى الزوايا إلى أن وصلت إلى المركز الصحي حيث ضمّدوا جرحي بشكل سطحي ومؤقت، ومن ثم نُقلت إلى مطار الأهواز ومن هناك بالطائرة إلى طهران.

 

بقيت في المستشفى مدة 7 أيام، وقد لُفّ إصبعي بجبيرة، وأُجريت عمليّتان جراحيّتان لقدمي، لكنّهم لم يستطيعوا سحب الرصاصة أو الشظيّة منها، وقال الأطباء إنّها استقرّت قرب العظم وعلينا شقّ العضلة عميقًا كي نتمكّن من الوصول إليها وانتزاعها، ما يعني 6 أشهر من الاستراحة المطلقة. فإذا كانت لا تزعجك كثيرًا دعها في مكانها. قبلت الأمر وعدت بعد أسبوع من العملية الجراحية الثانية إلى المنزل.

 

190


179

..وأيّ درر

كنت في بيتي ليلًا عندما أخبرني الإخوة في رئاسة الوزراء أنّ "ناصر فرج الله" قد استشهد وأنّ الدكتور قادم إلى طهران للمشاركة في تشييعه. كان الدكتور يحب ناصر كثيرًا، وعلمت أنّ استشهاده سيسبّب له صدمة كبيرة.

 

في الغد، وبقدمي نصف المشلولة، ذهبت إلى مبنى رئاسة الوزراء لألتقي الدكتور وأطّلع على أخبار الإخوة هناك.

 

كان الدكتور حزينًا وقلقًا كثيرًا، والغمّ والهمّ ينضحان من ملامحه. في ذلك اليوم، رافقت الدكتور لعيادة الحاج قاسم.

 

ومن وداعة الدكتور، أنّه عندما رأى الحاج قاسم ضمّه إليه وقبّله، إذ كان مولعًا به أيضًا ويحبّه كثيرًا. ورغم كونه شخصية بارزة وصاحب منصب رفيع في الدولة، إلا أنه كان يأنس بالجميع ويصادقهم.

 

اجتمع الكادر الطبي حول الدكتور يسألونه عن أحواله. وعند الغروب، تركته عند الحاج قاسم وعدت إلى الحيّ.

 

في اليوم التالي، أقمنا مراسم تأبين للشهيد ناصر في مسجد أبي الفضل، حيث حضر المهندس بازركان، وعدد كبير من الوزراء. وقد ألقى الدكتور كلمة في المراسم. كما جاءت زوجة الدكتور، وكانت صديقة لفاطمة. وهي سيدة عظيمة تشارك في أعمال الخير ورفيقة الدكتور أينما ذهب.

 

في ربيع (نوروز) العام 1981، صرت جليس المنزل، أطمئنّ عن أحوال الحاج قاسم هاتفيًّا، وأنتظر إشارةً منه للعودة إلى الجبهة. ظلّ الحاج يعطيني جرعات الأمل، وكنت كالتائه من دونه، أتفرّد بهذا الشعور وحدي، بل كل المقاتلين في الجبهة كانوا يكنّون له المشاعر نفسها. وعرفوه رجلًا حنونًا ورؤوفًا. ورغم ما يتمتّع به من مكانة وعظمة، إلا أنه لم يكن يتّخذ لنفسه حاشيةً أو يميّز أحدًا على الآخر، بل كان يعامل الجميع

 

191

 

 


180

..وأيّ درر

معاملةً واحدة. امتلك سلطة وصلاحيات، إلا أنه لم يُهن أحدًا أبدًا، ولا سأل مثلًا: يا هذا! لم تضع سلسلة ذهبيّة؟ أو لم تحمل سكّينًا في جيبك؟ ولم تضع الشال اليزدي؟

 

كان الحاج قاسم يقول: "إنّ تراب الجبهة مقدّس، وله حرماته، وأكثر الأشخاص شقاوةً تنقلب أحواله رأسًا على عقب عندما يأتي إلى هنا. هنا لا يوجد أحد غيرك وغير الله، ولا وساطة بينك وبينه، وهذا اللباس العسكري يضع لك إطارًا يحفظك من أن تميد بك أهواؤك أو تحرفك.." لم يكن يتدخّل في أمور أحد، جُلّ ما كان يقوله: "راقبوا راقبوا". وأينما ثقفته ترَه لهجًا بذكر الله، ليس الذكر الظاهري وإنما الباطني العرفاني.

 

وإذا انفرد بي في الدشمة، يبادرني بالقول: "بالمقدار نفسه الذي تحافظ فيه على نظافة ثيابك، عليك أن تحافظ أيضًا على نقاوة عينيك وقلبك ولسانك، وأن تحذر في اختيار رفاقك. الجسم والروح متلازمان، إذا ما فسد أحدهما فسد الآخر..".

 

كان ملهم الصبر للإخوة، يستمع إلى شكواهم وهمومهم.

 

في شهر أيار، عدت إلى الجبهة، إلى محور طراح، لأنني كنت أعرف أغلب مقاتليه. أصبحت قدمي في وضع أفضل، لكنّني بقيت أعرج في مشيتي بعض الشيء، ولم يكن باستطاعتي الضغط عليها كثيرًا.

 

بعد 20 يومًا، أخبرني أحد الرفاق عبر اللاسلكي أنّ الحاج قاسم جاء إلى مبنى المحافظة في الأهواز.

 

سررت كثيرًا، ركبت الدراجة النارية وأسرعت إليه. لم يكن الحاج قد تعافى بشكل كامل، وما تزال يده مضمّدة ومربوطة إلى عنقه. ساعدته في الركوب على الدراجة وانطلقنا نحو محور "طراح". بعد ذلك صرت

 

192


181

..وأيّ درر

أرافقه أينما ذهب لأكون عونًا له وحتى لا تعترضه المشاكل.

 

إحدى المصائب التي كان يعاني منها الحاج هي استعمال المرحاض الميداني في الجبهة، حيث لا ماء فيه. وكان علينا أن نحمل وعاء الماء ونسير مسافة فرسخين أو ثلاثة حتى نملأه بالماء ونعود لقضاء الحاجة.

 

ومع وجود هذه المشقات والصعوبات اقترحت على الحاج قاسم: "من الأفضل أن تبقى في مبنى المحافظة وتتولّى الأمور القياديّة إلى أن تتحسّن حال يدك".

 

لكن الحاج لم يقبل رغم إصراري وقال: "لا أقدر يا سيد، عليّ أن أكون في الخطوط الأمامية إلى جانب الإخوة".

 

ذات يوم جاء إليّ وقد ساءت حاله كثيرًا، قال: "يا سيد ماذا أفعل؟ لم أعد أحتمل!".

 

قلت له: "تعال يا حاج، أنا سوف آخذك إلى مبنى المحافظة".

 

كانت قذائف الهاون تتساقط علينا بين الفينة والأخرى! الجيش العراقي يدك كل شبر من أرض الجبهة، ما اضطرّنا كل يوم لأن نعيد بناء سواترنا الترابية وإصلاح متاريسنا.

 

ركبنا الدراجة واصطحبته إلى مبنى المحافظة، وهناك فتشت في كل مكان حتى عثرت على خرطوم ماء ووصلته بصنبور المرحاض ليسهل على الحاج قاسم استخدامه، ثم أعدته إلى الخط الأمامي.

 

في شهر أيار، كانت الأمور هادئة نسبيًّا، وقد خفّت وتيرة القصف العراقي، لذا وجدنا فرصة كافية لنتحلّق حول بعضنا بعضًا ونتبادل الأحاديث. في أحد الأيام، علمنا أنّ السيد أحمد الخميني اتصل بالدكتور

 

 

193

 


182

..وأيّ درر

شمران وقال له إنّ الإمام قد اشتاق لك ويريد أن يراك. فركب الدكتور مروحيّة وذهب لرؤية الإمام، وعندما عاد إلينا اجتمعنا حوله وسألناه عن أحوال الإمام وأخباره. فقال لنا الدكتور: "عندما وصلت إلى هناك وحضرت في خدمة الإمام، جلس يتأمل في وجهي عدة ثوانٍ ثم قال: مصطفى، أنت فنان، والفنان يجب أن يكون ذا لون واحد، انظر إلى أغلى وأثمن أنواع السجاد المتعددة الألوان تكون تحت الأقدام، لكن انظر إلى السماء كيف تعلو كل شيء، لماذا؟ لأنها ذات لون واحد؛ إن اللون الواحد والأمانة أساس العشق".

 

كان الدكتور شمران بالنسبة لنا حكاية عشقٍ وعرفان، فهو محل ثقة الإمام، ويحظى بمكانة كبيرة عنده. فهو الرجل الحديدي الذي واجه الجيش العراقي بيدين فارغتين، وكنّا نحن مأخوذين بعرفانه وإرادته القوية والثابتة. كان الرجل الذي لم يستطع أحد الوقوف بوجهه.

 

في تلك الأيام بحث الدكتور عن طريقة يوقف فيها تقدّم العراقيّين، فأحضر ما يقارب العشرين جرافة، وأمر بحفر خندق كبير غرب مدينة الأهواز إلى جانب جادة الأهواز - سوسنكرد، ثم بالاستفادة من مياه نهر كارون صنع بحيرة صناعيّة لمنع تقدّم الجيش العراقي، فمن جهة امتدّت قناة المياه والسواتر الترابية إلى مشارف كرخه كور، ومن الجهة الثانية وصلت إلى مشارف فرسيه ورقابيه وشمريه، وعندما أُطلقت مياه النهر عبر تلك الأقنية غمرت السهل الممتدّ بين سوسنكرد والهويزه. كما جُرّت قناة مياه أخرى إلى الأمام من "كوت سيد نعيم" فحالت دون تقدم العراقيّين الذين اضطرّوا للانسحاب إلى ما وراء نهر نيسان، وجُرّت مياه نهر كرخه عبر قناة إلى جلاليه وكوت؛ الخطة التي استخدمها العراقيون في عمليات رمضان.

 

195


183

..وأيّ درر

بعد أن فشل العراقيّون في التقدم ناحية سوسنكرد، انسحبوا إلى تلال "الله أكبر"، وكان الدكتور يعرف أن الجيش العراقي ضعيف في المناطق الرملية، لذا وضع خطة لتحرير هذه الهضاب حتى يُبعد العدو عن سوسنكرد بشكل نهائي.

 

في 11 حزيران، بدأت الاشتباكات على تلال "الله أكبر" تحت اسم عمليات الإمام علي، وشاركت فيها إلى جانبنا قواتُ الجيش من الفرقة 92 المدرّعة في الأهواز وقوات من الحرس الثوري. وكانت تلك أول عملية رسمية تخوضها قيادة الحرب غير الكلاسيكية، فحتى ذلك الحين اقتصر عملنا على الدفاع، وصدّ هجوم الجيش العراقي أو تسديد ضربات له، لكن هذه المرة كان الجيش العراقي مستقرًا على الهضاب ومسيطرًا عليها، وعلينا مهاجمته وتثبيت موطئ قدم لنا.

 

وفي تلك العملية كنت مسؤول أحد المحاور.

 

قبل بدء العمليات، أرسلت ثلاث مجموعات من الإخوة لاستطلاع مواقع العدو، ورافقتهم في إحدى هذه الجولات، حيث رأيت حقل الألغام لأول مرة. كانت مساحة من الأرض مليئة بأنواع مختلفة من الألغام، فعمل الإخوة المختصّون على استكشافها بحربة البندقية ومن ثم تفكيكها وفتح معبر لقواتنا الذين ساروا خلف عناصر التخريب*[1] خطوة بخطوة، وعبروا الحقل بسلام.

 

سارت وتيرة هذه العمليات بسرعة وكان التنسيق والتخطيط جيدًا، وقبل أن تحل الساعة الثانية عشرة كنا مسيطرين على تلال "الله أكبر" كافة، وانسحب العدو مسافة ستة كيلومترات مخلفًا وراءه قرابة الأربعين جثة،

 

 


[1]  مهمتهم فك وتركيب الالغام والمتفجرات.

 

195


184

..وأيّ درر

حينها أمر الدكتور بحفر قبور جماعيّة لدفن جثث العراقيين أعلى التلال التي سيطرنا عليها بعملية ناجحة وسريعة لم تستغرق سوى يوم واحد.

 

ثبّت الدكتور 150 عنصرًا للدفاع عن التلال، وكنت مسؤولًا عن أحد المحاور فيها.

 

اعتاد الدكتور حين يوكل مهمة إلى أحد أو يحمّله مسؤولية، أن يترك كل الأعمال على عاتقه، ولم يكن ليملي عليه ما يفعل وما لا يفعل، بل كان يكتفي بالمراقبة والتوجيه. هناك وقعت جميع الأعمال على عاتقي، القتال وتأمين المؤونة وغيرها. وهناك وجدت نفسي، حاولت أن أُعمل فكري وأُبرز قدراتي. وكانت العناصر تدرك أنني أشكّل ثقلًا، فكانوا يحترمونني وينفّذون ما أقول.

 

دائمًا ما كان الدكتور يقول: "اتباع الأوامر شيء، والاستقلال الفكري شيء آخر".

 

في تلك الأوضاع استشهد علي عباس، ذلك المجاهد اللبناني الذي علّم الإخوة الدراجين على استخدام الـ"B7" واصطياد دبابات العدو. نقلوا جثمانه إلى طهران، فسافر الدكتور شمران إلى هناك ليشارك في تشييعه.

 

في غياب الدكتور حصل اشتباك عنيف في دهلاوية استشهد خلاله صديقه الشجاع ايرج رستمي. وعندما وصله الخبر عاد بالطائرة مسرعًا إلى الأهواز. كنت حينها في محور طراح حيث جاء الدكتور وسائقه "حدادي" والسيد مهدي شمران مع شخصين أو ثلاثة مباشرةً إلى هناك، والأسى بادٍ على محيّاهم. كان مسؤول محور طراح السيد مهدي مقدم بور. عُقِدتْ جلسة وعُيّن مقدّم بور خلفًا للشهيد رستمي في محور دهلاويه. كما عيّن الدكتور الحاج قاسم مسؤولًا لمحور طراح، وحيث كان الحاج قاسم يعاني

 

196

 

 


185

..وأيّ درر

من إصابته في يده، أصبحت عمليًا مسؤول المحور، لكني قلت للدكتور: "أريد أن أكون معك".

 

بعد الظهر، وفي حرّ شهر حزيران، ركبنا جميعًا في السيارة وانطلقنا باتجاه دهلاوية. عند الغروب وصلنا إلى مشارف سوسنكرد، وهناك توقفنا قليلًا للاستراحة. نزلنا من السيارة وشربنا القليل من ماء قواريرنا. بدا الدكتور حزينًا جدًّا لفقد الرائد رستمي، كان مستغرقًا بالتفكير ولم ينطق بكلمة واحدة. وبينما كنت أنظر إليه، رأيته يسير نحو شاحنة متفحّمة متوقفة على بعد مئة متر كأنما أصيبت بقذيفة مباشرة ولم يبقَ منها غير كومة حديد، كان غطاء المحرّك محطّمًا بالكامل، وقد ظهرت قطع المحرّك كلّها. عندما وصل الدكتور إليها، انحنى على محرّكها، ما أثار فينا الفضول ورحنا نتساءل عما يفعله.

 

ذهبت إليه ورأيته مشمّرًا عن ساعديه ويحرك مخزن مبرّد المحرّك، فجأة سمعت زقزقة عصفور. طلب الدكتور مني أن أحضر مفتاح المواسير، فأخذه وراح يطرق على المخزن وصوت العصفور لم ينقطع لحظة واحدة. بعد دقائق رأيت عصفورًا صغيرًا في يد الرجل. كان المسكين عطشًا فحاول الشرب من مخزن مبرّد المحرّك، لكنّ جناحه علق بين سبائكه وحُبس داخله وعندما أنقذه الدكتور أخرجه مبلّلًا وخائفًا ينبض قلبه بشدّة.

 

رفع الدكتور الطير نحو السماء وقال بقلب منقبض: "أنا أحرّرك فاذهب، إلهي أقسم عليك بحرية هذا الطير أن تحرر روحي فقد تعبت".

 

تلك الحال العرفانية عند الغروب الكئيب أربكت كياننا جميعًا، وشعرت بقلبي يعتصر ألمًا، كنت حينها شابًا في مقتبل العمر، فلم أع ما يعانيه الدكتور، وهو الذي جاء إلى هنا بإرادته ومن دون إصرار أو إجبار

 

197


186

..وأيّ درر

من أحد، فما الذي أتعبه يا ترى؟ لعلّه تعب من هذه الأسفار العسكرية وحمل السلاح والعيش في المتاريس باللباس العسكري من دون نوم أو راحة. من لبنان والحرب مع الإسرائيليين، إلى كردستان والحرب مع أعداء الثورة، ومن ثم الحرب العراقيّة-الإيرانية.

 

كان الدكتور بالنسبة لنا رمز المقاومة والاستقامة، بيد أنّه ضاق بالأوضاع ذرعًا. لم أره يومًا كئيبًا تعبًا إلى هذا الحدّ، وكان يعتبرني موضع أسراره، يتحدث إليّ ويبثّني شجونه، وأنا بدوري كلّما مللتُ أو كللت كنت أستمدّ القوّة منه، لكنه في ذلك اليوم أمسى منكفئًا على نفسه. في العادة عند دخوله في حال معنويّة، كان يلجأ إلى التخطيط أو يقرأ الشعر، وأحيانًا يناجي ربّه بشكل جميل. في ذلك الغروب وفي ذلك السهل المقفر، وقف الدكتور قبالة شعاع الشمس القاني وقال: "إلهي أنا عبدك المسنّ التعب مكسور القلب وقد ضاقت بي هذه الدنيا ولا أمل لي بها، ما أطلبه هو الخلوة بك فقط..".

 

بقينا نتأمّل مناجاته حيارى، وبعد حوالي الساعة ركبنا السيارة وانطلقنا، وصلنا مع حلول الظلام إلى دهلاويه. وهناك بكى الدكتور على "رستمي" كثيرًا، وقال: "لقد بذلت الكثير في هذه الحرب يا رستمي". ثم عانق مهدي مقدم بور وبكيا معًا. وبعدها، سلّم على الجميع ورثى الشهيد بما يليق، ثم تحلّقنا حول بعضنا البعض، وفتح أحدهم معلّبات الكرز الحامض وتناولناها جميعًا. ثم التفت إلي وقال لي: "هل ديوان الشعر معك يا سيد؟".

 

أخرجت كتيّب الشعر من جيبي وفتحته، فكان هذا البيت:

لن أشكو الغرباء أبدًا

 

198


187

..وأيّ درر

فكلّ ما ألمّ بي من الأقارب[1]

 

تلك الليلة عرّف الدكتور الحاضرين إلى الأخ مهدي مقدم بور وقدّمه خليفةً للرائد رستمي، ولأنه لم يكن على معرفة بمحور دهلاوية قرّر الدكتور أن يطلعه على الأمور ويوجّهه في الليلة نفسها.

 

في منتصف الليل، نهض الدكتور وقال: "يجب أن أذهب بسرعة، فالإخوة ينتظرونني، عزيزي قاسم سامحني على كل شيء، إذا لم نر بعضنا بعضًا بعد اليوم فسيكون ذلك يوم القيامة".

 

ثم التفت إليّ وقال: "عزيزي يا سيد، أسألك الدعاء، ربما لن نلتقي بعد اليوم".

 

قلت له: "ما هذا الكلام يا دكتور؟ فليحفظك الله ويرعاك".

 

ذهب الدكتور من أجل تعريف السيد مهدي مقدم بور إلى الأخوة وتسليمه المهام، أما أنا والحاج قاسم فركبنا السيارة وعدنا إلى طراح.

 

في الطريق قال لي الحاج قاسم: "أأقول لك شيئًا يا سيد؟ لا أريد أن أتشاءم، لكن الدكتور راحل ولن يعود هذه المرة".

 

مع سماع هذا الكلام انقبض قلبي وقلت له: "أتظنّ ذلك؟".

 

قال: "أعرفه جيدًا، وهو يوحي أنه مفارقنا".

 

وصلنا في الصباح إلى طراح، ورحنا إلى العصر نجول في الخط ونتفقّده، لكنّ القلق صار ينهشني ولا يقرّ لي قرار، كان من المقرّر أن أذهب أنا إلى محور كرخه كور، وأن يبقى الحاج قاسم في طراح، لكننا بقينا معًا ولم نذهب إلى مكان.

 


[1]  من از بيكانكان هركز ننالم كه با من هر جه كرد آنآشنا كرد

 

199


188

..وأيّ درر

في عصر اليوم التالي، أي في 21 حزيران، تمّ الإعلان عبر اللاسلكي أن الدكتور عرج إلى الملأ الأعلى. يبدو أنّه بينما كان يوجّه الإخوة في أطراف دهلاوية، سقطت ثلاث قذائف هاون غادرة[1] إلى جانبه؛ من القذائف التي لا تحدث صوتًا ولا صفيرًا، والتي تسقط بجانب الفرد وتنفجر فجأة، فاستشهد الدكتور شمران على الفور والسيد مهدي مقدم بور وحدادي.

 

صُعقنا لسماع هذا الخبر واضطربنا، ركبنا قرابة العشرين شخصًا في شاحنة التويوتا وأسرعنا إلى دهلاوية، كان الحزن والغم والبكاء حال الجميع، في الطريق التقينا بالإخوة ينقلون جثمان الدكتور إلى دهلاوية، فتحلّقنا مضطربين مغمومين حول جثمانه لنودّع معلّمنا في العشق.

 

في صباح اليوم التالي، نقلوا جثمانه الطاهر إلى طهران، فذهب الحاج قاسم إلى هناك أيضًا، فيما عدت أنا إلى محور طراح، إذ لم يكن بالإمكان أن نترك المحاور جميعنا.

 

بعد شهادة الدكتور شمران أصاب الإخوة حال من اليأس والإحباط وشعور بالوحدة. لا أعلم لماذا، لربما من طبيعة الإنسان أن يكون في كل زمان ومكان بحاجة لمتكأ يعتمد عليه.

 

لقد أحببناه جميعنا، قائدًا في الميدان، وفي الوقت نفسه قائدًا لقلوبنا. ومن دونه تكبّلت أيدينا فلم نقدر على شيء، كالطفل الذي فقد أباه. في تلك المدة عدت إلى طهران مرة واحدة فقط حيث جمعتُ قرابة العشرين شابًا من أبناء محلتنا وأخذتهم إلى محور طراح حتى لا يبقى الخط خاليًا.

 


[1]  عادة ما يسبق سقوط قذائف الهاون صوت خاص وصفير تستطيع أن تعرف وتتنبأ بقدومها فتنبطح على الأرض، لكن قذيفة الهاون من عيار ستين لا تصدر أي صوت، وبشكل فجائي تجدها انفجرت بجانبك، ولا تعلم بقدومها إلا بعد أن تكون قد أصبت بشظاياها وجرحتَ أو استشهدت، ولهذا كنا نسمي قذيفة الهاون من عيار ستين بالقذيفة الغادرة (الراوي).

 

200


189

..وأيّ درر

مضت الأيام ومكثنا في وضعية دفاعية فحسب، إلى أن ناداني الحاج قاسم قبيل تاسوعاء من شهر محرم وقال لي: "خطرت ببالي فكرة، صحيح أنّ شمران قائدنا وقدوتنا؛ لكن نحن أيضًا يجب أن نثبت جدارتنا".

- يعني ماذا علينا أن نفعل؟

- بإمكاننا أن نقوم شيئًا فشيئًا بعمليات استطلاع لخطّ العراقيّين، مثلًا خذ فريقًا واذهب الليلة نحو طراح واستكشفوا مواقع العدو.

- حسنًا، سنذهب.

 

في محور طراح كان الدكتور قد بنى جسرًا وسدًا على نهر كرخه كور وسدّ النهر به. من حافة الجسر إلى جهة الشرق أُنشئ محورنا، حيث رفعنا سواتر ترابيّة، وأقمنا تحصينات محكمة، ومن جهة الغرب نصب العراقيون متاريسهم، وبنوا برج مراقبة يشرف على المنطقة، ومن الجسر باتجاه الجنوب كان خط الدفاع والتحصينات التابعة للجيش الإيراني.

 

اخترت من بين الإخوة شبابًا مدرّبين من أمثال: جعفر محمدي وحسين محمودي وجعفر ابراهيمي ومحمد فرجي وعلي واعظي واكبر خوشابي ومنصور كريمي ومهدي طاهري وعلى برادران وعباس رضابور، وذهبت على مدى ثلاث ليال مع فريق من الإخوة باتجاه الجسر للاستطلاع.

 

رحنا نعبر وسط الأعشاب التي نمت في قعر النهر وأضحت بطول الإنسان، ونمرّ بين الدبابات والمتاريس للاستطلاع. كانوا قد وضعوا دبابتين، واحدة مصوّبة على مواقع جيشنا والأخرى على خطّنا. وخلف الجسر، بنوا متراسين غالبًا ما بقيا فارغين، وكأنّهم كانوا مرتاحي البال لجهة أننا لن نقترب من الطرف الآخر للجسر.

 

كنا دائمًا نذهب قبل الغروب بقليل ونعود آخر الليل إلى دشمنا

 

201

 

 


190

..وأيّ درر

للمشاركة في حلقات اللطم. كان الحاج قاسم يقرأ اللطميات بصوت جميل. وفي تلك الفترة لم تكن مجالس اللطم رائجة في الجبهة بعد. تصدّى الحاج قاسم لتلاوة اللطميات لكنه لم يقبل أن يتقدم لإمامتنا في الصلاة متحجّجًا بإصابة يده.

 

تمتّع الحاج قاسم بروح سامية، وبينما أقبل الشباب اليافعين والإخوة في مقتبل العمر، يتعانقون لالتقاط صور تذكارية، كان الحاج قاسم يهرب من أمام الكاميرا. حلّق في عالم آخر ولم يعبأ بهذه الأمور. وكان دائمًا يتقدمني في جميع المجالات وعليّ أن أهرول وأركض حتى أدرك الحكمة والقصد من أعماله.

 

في إحدى الجولات الاستطلاعية ليلة التاسع من محرم، ذهبت مع فريق الاستطلاع نفسه؛ أي عباس رضابور ومهدي طاهري، وغفور دلاور الذي كان من أبناء كرج، واثنين آخرين من أبناء محلّة الحاج قاسم. بلغ مجموعنا سبعة أشخاص، انطلقنا مع الغروب باتجاه الجسر وخطوط العدو، وهذه المرة كنا عازمين على التقدم إلى ما بعد الدبابات، وإن تسنّت لنا الفرصة نقوم بتدميرها.

 

تلك الليلة غاب القمر، وخيّم الظلام الحالك والسكون المطبق على المكان. كنّا مطمئنين أننا سنصل إلى الجهة الأخرى من النهر بسلام، لكن من سوء حظّنا لم نكد نقطع نصف المسافة حتى سمعنا أصوات ضحك وقهقهة العراقيين، وبدا أنّهم ثملون. تساءلت في نفسي ما الخبر؟ ما الذي يحدث؟ من أين جاء هؤلاء في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، ومن أين ظهروا فجأة في طريقنا؟

 

أبقيت الأخوة في أماكنهم بين الهشيم، وتقدّمت أنا من متراس

 

202

 

 


191

..وأيّ درر

العراقيّين، حيث استمرّت أصوات ضحكهم وكانت أعدادهم كبيرة؛ بدا وكأنهم يحتفلون.

 

ما بين ذهابي وإيابي، حلّ السحر، فتأخر وقت القيام بالمهمة. صلّينا صلاة الصبح وسط النهر، وتوجّب اتخاذ قرار قبل انبلاج الضوء. قلت للإخوة: "إنّنا الآن ضمن مجال الرؤية وسيطلع ضوء الصبح عمّا قليل، وإذا ما رميناهم سينكشف أمرنا ونكون لقمة سائغة، كما إننا سنتسبّب باشتعال الخط بلا طائل، فالأفضل لنا أن نعود إلى مواقعنا.

 

ما إن أنهيت كلامي حتى انهال علينا وابل من الرصاص، ولم تمض ثوانٍ حتى تبعته قذائف الهاون، فلم تسنح لنا الفرصة حتى لالتقاط سلاحنا. زحفت على الأرض وقلت للإخوة: "إنّهم يمتلكون عنصر المباغتة، ولن نستطيع شيئًا، علينا الانسحاب فورًا!".

 

زحفت بسرعة، والتقطت رشاشي الكلاشينكوف ذا القبضة الحديديّة. حملته وعدت زحفًا إلى الوراء باتجاه مواقعنا، وبسبب الزحف السريع على الحجارة والكتل الترابية جُرح مرفقاي ويداي وصارت تؤلمني كثيرًا. لكن لم يكن باليد حيلة، فلو نهضت لطار رأسي من مكانه بدل يديّ.

 

بعد أن زحفنا مسافة ناداني مساعد رامي الـ"B7" "مهدي طاهري" وقال: "يا سيد، أصيب عباس وسقط هناك..".

 

وأشار بيده إلى الخلف. انزعجت منه وقلت له: "الآن تخبرني؟".

 

طلبت من الإخوة أن يُكملوا طريقهم فلم يتبقّ سوى القليل حتى يصلوا إلى مواقعنا، وعدت مع غفور باتجاه العراقيّين، لكن هذه المرة لم أعد زحفًا بل سرت منحني الظهر باتجاه المكان الذي مكثنا فيه وصلّينا صلاة الصبح، وعندما وصلنا رأيت "عباس" ملقًى على الأرض غارقًا بدمائه، وقد قُطعت

 

203


192

..وأيّ درر

يده من المرفق وبقيت متصلة بالجلد فقط. كما أُصيب في بطنه وخرجت أمعاؤه. لشدة الصدمة لم نعلم أنّ "عباس" أُصيب فخلّفناه وراءنا. أسرعت إليه ووضعت يدي تحت رأسه، رفعته قليلًا وناديته: "عباس، عباس، ما الذي حصل؟".

 

لم يجب عباس بشيء، ولم يحرّك ساكنًا. بدا وكأنّه قد استشهد.

 

ربطت ساعده إلى ذراعه بكوفية أو شال يزدي، لم أعد أذكر، كي لا تنفصل عنه وتضيع ثم خلعت وغفور قميصينا وفتحنا أخمص بندقيّتينا وأدخلنا فوهة البندقيتين في كمي القميصين وصنعنا منهما حمالة جرحى، وضعنا عباس على الحمالة ورحنا نتوسّل بالإمام الحسين عليه السلامإذ كنّا في التاسع من المحرم. سرنا وأنا أردّد اسم الإمام الحسين عليه السلام، ناديته ألف ألف مرة. قطعنا مسافة ثلاثة كيلومترات ونحن نحمل عباس إما سيرًا على الأقدام وظهورنا محنية أو سيرًا على ركبتينا. أما العراقيون، فما إن كانوا يرون الأعشاب تتمايل، حتى يرموا المكان بعشر قذائف هاون.

 

عندما اقتربنا من مواقعنا، وضعنا الحمالة على الأرض قرب ساترنا الترابي وارتمينا على الأرض من فرط التعب. بعد دقائق ناديت حسين محمودي الذي أرسل في طلب سيارة الإسعاف، لكن بعد نصف ساعة أخبرنا أنّ سيارة الإسعاف معطّلة ولهذا أرسلوا لنا سيارة ستيشن، وضعنا عباس داخلها وركبت معه أنا وأحد الإخوة من أهالي كرج ويدعى أمير صفري. كان عباس من أبناء محلّتنا، ولطالما لعبنا معًا في الصغر. وكنت أعرف علاقته بأمّه أيضًا، فلم يطاوعني قلبي على إرساله وحيدًا.

 

ما إن انطلقنا حتى بدأ المطر بالهطول. وعند أول تقاطع، كانت الطريق رملية فتحوّلت مع هطول المطر إلى موحلة وعلقت إطارات

 

204


193

..وأيّ درر

السيارة فيها. لم يعد بإمكاننا التحرّك، ترجلت من السيارة لأنظر إلى وضع الإطارات وإذا بي أُفاجأ بأنّنا وا مصيبتاه! عالقون وسط حقل ألغام والأرض على جانبي السيارة مليئة بها، وقد ظهرت رؤوسها من بين الوحل والطين. حرت هل أتقدّم أم أتراجع. لكنّ عظمة الله ورحمته تجلّتا هناك، قلت للسائق: "يا أخي انحرف قليلًا وتابع السير بهدوء".

 

أخرجت سبحتي من جيبي وقرأت سورة "إنا أنزلناه" مع الصلوات، فقال السائق: "رحم الله والدتك دعنا لا نكمل الطريق ونعود، أخشى أن تنفجر إحداها فينا!".

 

تابعنا المسير ووصلنا بسلامة إلى المركز الصحي الواقع في الخط الخلفي لكوت، وهناك ضمدوا جراح عباس، وأرسلوه بسيارة إسعاف إلى مستشفى شريعتي في الأهواز.

 

ما إن وصلنا إلى المستشفى حتى أُدخل مباشرة إلى غرفة العمليات، أما أنا فذهبت مباشرة إلى الحمّام العمومي. كانت ملابسي ملطّخة بالدماء، فأخذت مسحوق الغسيل وغسلتها ثم وضعتها على مدفأة الحمّام لتجفّ، لكن بقيت آثار الدماء عليها.

 

عدت بعد الظهيرة إلى المستشفى، وعندما وصلت إلى باب غرفة العمليات كان عباس لا يزال هناك، مددت يدي إلى جيبي لأخرج السبحة وأسبّح وأدعو له بالشفاء فإذا بها فارغة، وهناك تذكرت أني نسيت سبحة الشاه مقصود في الحمّام. لم يكن لديّ متّسع من الوقت للعودة إلى هناك لأنهم في اللحظة ذاتها أخرجوا عباس من غرفة العمليات. مرّوا به من جانبي فرأيت يده اليمنى مقطوعة، تبعتهم وقلت للممرّضة: "ألم يكن بالإمكان ألا تقطعوا يده، ألم يكن هناك علاج غير القطع؟".

 

205


194

..وأيّ درر

قالت لي: "كانت متصلة بواسطة الجلد فقط، ما كان بإمكاننا فعل شيء".

 

كان بطنه مضمّدًا، ولم يكن بحال جيدة، لكنّي شكرت الله على بقائه حيًا. عندما استفاق واستعاد وعيه تنفستُ الصعداء وارتاح قلبي، فاتصلت بطهران وأخبرت حسين طاهري بإصابة عباس، فنسّق لنقله بالطائرة إلى طهران. بقيت تلك الليلة عند عباس وفي صباح اليوم التالي أرسلته إلى مطار الأهواز وعدت إلى محور طراح.

 

في محور طراح اقتصر عملي على الدفاع، وحفظ المحور وتثبيته مقابل هجمات العدو وقصفه. فمع رحيل الدكتور شمران أصبحت تحركاتنا قليلة، وبتنا شبه مشلولين، وشيئًا فشيئًا شارف ملف أركان الحرب غير الكلاسيكيّة على الإقفال، فلم يكن ثمة من يقود القوات وينظّم العمل. فقط الحاج قاسم وأمثاله كانوا يحثّون الإخوة المجاهدين على القتال ويشدّون عزائمهم. كان الحاج قاسم يرسلنا كل ليلة في مجموعات مؤلفة من عنصرين أو ثلاثة إلى قلب خطوط العدو للاستطلاع والاستكشاف.

 

في تلك الأيام، وصلنا نبأ استشهاد بطل الجبال "أصغر وصالي"، مقتداي في الشجاعة والمروءة، كان رحيله متوقّعًا، ويليق به أن ينال شرف الشهادة في العاشر من محرم الحرام.

 

في إحدى المرات أخذت معي للاستطلاع قاذف "B7"، حيث كنت حينها مبتدئًا وجاهلًا، وغير مدرك أنّه ينبغي للمقاتل في الاستطلاع أن يحمل سلاحًا فرديًا خفيفًا لا أسلحة ثقيلة، كي لا يعيقه عندما يكون في قلب خطوط العدو. تلك الليلة سرنا نحو خطوط العراقيين، لكن وعلى مسافة كيلومتر منها، صبّوا نيرانهم علينا واستقبلونا بقصفٍ مكثف فشُلّت حركتنا. بدوري أطلقت نحوهم عدة قذائف "B7" لكنّني في نهاية الأمر

 

206


195

..وأيّ درر

اضطررت للانسحاب بسرعة.

 

أحد الإخوة اسمه غلام، لشدّة هلعه أطلق قذيفة "B7" نحو السماء بدل أن يصوّبها نحو العراقيين. ما كان منّا في تلك الظروف الصعبة واللحظات العصيبة إلا أن انفجرنا بالضحك ورحنا نسأله أين يريد أن يضرب، ومن يريد أن يصيب بهذه القذيفة، وقال له الإخوة: "غلام، لقد حصل ماس كهربائي (كونتاك) على القمر فانطفأ نوره بفعل قذيفتك". ومنذ ذلك الحين، صار الجميع ينادونه بـ"غلام كونتاك".

 

بعد تحرير دهلاوية التي كانت بمنزلة البقعة التذكارية للدكتور شمران والشهيد مقدم بور، دُعي جميع مسؤولي المحاور لاجتماع، أُعلن فيه أنه سوف يتم تنفيذ عمليات عسكرية تحت قيادة الحرس الثوري، والهدف منها تحرير "بستان" و"تشزابه"، ولربما أمكننا دحر العراقيّين إلى ما وراء الحدود. آخرون قالوا إنّه محبةً بالدكتور شمران يجب أن ننفّذ ضربة موجعة للعدو انطلاقًا من دهلاوية. أراد الجميع معرفة ما الذي سيحلّ بأركان قوات الحرب غير الكلاسيكيّة. في تلك الفترة أعلن الإمام التعبئة العامة، والحرس الثوري كان مؤسسة حديثة التأسيس، فبدأ يجذب العناصر للانتساب إليه، وأصبحنا نتقاضى راتبًا شهريًّا كأي موظف. لكنّني لم أكن معتادًا على هذا، ولم ينسجم الأمر مع طباعي فأنا كنت حرًّا دائمًا ولا أستطيع أن أتقيّد بأي مجموعة. لكنّي حبًّا بالدكتور شمران الذي لم أنسه يومًا، وتخليدًا لذكراه، ذهبت إلى دهلاوية. لم تكن المعارك هناك جديّة كثيرًا، وقد التفتُّ للأمر، فقال بعضهم إنّها مقدّمة لعمليات طريق القدس الكبرى.

 

في خضم تلك الأحداث، رجعت مع الحاج قاسم إلى طهران، ولم أعد أذكر سبب عودتنا. على كل حال، ذهبنا صباح 30 أيلول إلى مبنى رئاسة

 

207

 

 


196

..وأيّ درر

الوزراء، وقبل الظهر غادرناه وعدنا مرة أخرى إليه لتناول الغداء. وبينما نحن في قاعة الطعام، دوّى انفجار هائل ضخم شبيه بذلك الذي أحدثه المنافقون هنا سابقًا، وهزّ صوته المباني المحيطة. خرجنا من المبنى بسرعة ووقفنا في الشارع نشاهد احتراقه وخروج ألسنة النار من الشبابيك، اجتمع الناس وعمّت الفوضى، رفعت رأسي لأشاهد ألسنة اللهب، وإذا بي أرى شخصًا يحترق، وبغتةً رمى بنفسه من الأعلى، فوقع جسده على الأرض أمامنا والناس ينظرون إليه خائفين، فيما بعد عرفنا أنّه السيد كلاهدوز. هذا وقد احترق السيد رجائي والسيد باهنر وهما حيّين. كانت النار شديدة وكبيرة إلى درجة أن رجال الإطفاء لم يستطيعوا فعل شيء ولم يتمكنوا من إطفائها. بعد أن هدأت ألسنة النار دخلنا المبنى وما إن رآني الحاج "تشه بور" حتى ناداني مباشرةً وقال: "سيد، قف هنا واحرس هذا الباب واحذر ألا يدخل أحد، إذ يوجد مقدار من الذهب داخل الغرفة. عمّا قليل سيدخل الناس إلى المبنى وتعم الفوضى".

 

لقد كانت حادثة مريرة وأليمة بالنسبة إلينا جميعًا، خاصة استشهاد السيد رجائي، فسبّب فقدانه كارثة وخسارة كبيرة للبلد، ولنا نحن الذين عايشناه وعملنا بالقرب منه. لقد احترق جسده الطاهر بالكامل إلى درجة أن زوجته تعرفت إلى الجثة من خلال الأسنان فقط.

 

فيما بعد، تمّ التعرف إلى الخلية الإرهابية وإلى الجاني، وتبيّن أنّ أولئك الأشخاص أنفسهم الذين ادّعوا الدين والتدين، وتقدّموا لإمامة صلاة الجماعة، وكانوا محل ثقة الجميع، هم في الحقيقة أعداء للثورة وإرهابيّون أمثال "كشميري" الخائن الذي كان يؤمّنا في الصلاة. ومع أنّني عرفت الكثيرين في رئاسة الوزراء، لكنّني لم أتعرّف إليه. كان يمتلك مفاتيح الغرف، ويحدّد من يستطيع الدخول إلى المبنى ومن يجب أن

 

208


197

..وأيّ درر

يفتّش قبل الدخول إليه. وعندما أصبح على ثقة تامة بعدم افتضاح أمره، وضع قنبلة تحت طاولة الاجتماعات في غرفة رئاسة الجمهوريّة ونسفها. في تلك الآونة، كان أي شخص يستطيع لعب أي دور يريده، ويتقمّص أي شخصية يريدها، والجميع يصدّقه. فيما بعد سمعت أنه تمت تصفية كشميري في الدولة التي هرب إليها على يد رفاقه، هذا دأب عصابات الإرهاب والاغتيالات. على أي حال، كان الشهيد رجائي معلّمًا لنا في رئاسة الوزراء، وشكّل فقده مرارة أخرى في حياتي. لقد تعب كثيرًا من أجل البلاد، وقدّم الكثير من الخدمات، وما تزال آثار أعماله باقية إلى اليوم.

 

بعد كل هذه الحوادث الأليمة عدت إلى الجبهة، وإلى حرب العصابات، والحرب غير الكلاسيكيّة من جديد. أما الحاج قاسم فعاد إلى كرج لأسباب عدة، وقلّ حضوره معنا في الجبهات.

 

كان لدى الحاج قاسم حينها طفل وطفلة، وفي ذهنه أفكار عدة لخدمة الحرب. هو أيضًا مثلي لم يستطع أن يتقيد وينحصر داخل إطار الحرس الثوري وأراد أن يظلّ حرًا في العمل والتحرك.

 

في تلك الأثناء عملت مع مجموعة من أبناء الحي وبعض القوات المتطوعة في المناطق ذات التربة الرملية شمال سهل آزادكان، وتولّينا جزءًا من عمليات طريق القدس، حيث أصبحنا أكثر دراية في عمليات الاستطلاع، والتخريب وفتح المعابر للقوات، وهكذا تشكّلت فرق التخريب بشكل تلقائي.

 

أذكر أنّه في إحدى المهام الليليّة، تمّ إحضار مئة حمار من مدينة همدان، فأطلقوا الأتان أوّلًا (أنثى الحمار) في حقل الألغام كي يلاحقها باقي الحمير الذكور، وبذلك يفتح معبر للإخوة وسط الحقل. لكن ما إن سارت الأنثى حتى وطئت قدمها لغمًا وانفجر فورًا، فتراجع بقية الحميرط

 

209


198

..وأيّ درر

وفزعوا مما رأوا، ومهما دفعناها وحثثناها وضربناها بالحبال وبسلاسل الحديد لم تتقدّم خطوة واحدة، هنالك تذكرت "مشت علي غتشي" من أبناء حيّنا، وحكيت قصته للشباب: "كان لدى مشت علي بغل يحمل عليه الرمال والجصّ والحصى من خارج المدينة ويأتي بها إلى حيّنا ليبيعها، كان عجوزًا بسيطًا طيب القلب حسن المعشر، ويعمل ليأكل من كدّ يده. ذات يوم رأيته غاضبًا جدًا وواقفًا إلى جانب جدول الماء يصيح على بغله ويشتمه ويضربه، تقدمت منه وقلت: "اهدأ يا مشت علي، توقف قليلًا لا تضربه، ما الأمر؟". فقال غاضبًا: "ابن الكلب هذا علقت قدمه بين قضبان المعبر الحديدي فوق الجدول منذ عدة أيام، لذا يرفض اليوم أن يعبره".

 

ضحك الإخوة وقال أحدهم: "نحن أسوأ من هذه الحمير، حتى إن علقت قدمنا مئة مرة في الحوادث فإننا لن نقلع عن فعلنا".

 

وقال آخر: "في النهاية، هل عبر بغل مشت علي الجدول أم لا؟".

 

فقلت له: "طبعًا فعل ذلك تحت وطأة الركل والضرب والصياح".

 

لكن، تلك الليلة لم تستجب الحمير لنا، وعندما فشلت الخطة، قررنا اتّباع خطة جديدة، وهي نوم الإخوة النحاف الجسم على الألغام ليعبرها باقي الإخوة من فوق أجسادهم. في تلك الفترة من الحرب لم تكن قد تشكّلت بعد فرق متمرسة ومتخصّصة بنزع وتفكيك الألغام، لذا كان بعض الإخوة يضحّون بأنفسهم بالنوم على الألغام كي لا تتأخر العمليات ويفتضح أمرها.

 

تلك الليلة، بينما كان المسؤول يختار العناصر المناسبين لهذه المهمة، تقدّم أحد أبناء محلّتنا واسمه "أمير مظاهري"، وكان يبلغ من العمر خمسة عشر ربيعًا، نحو المسؤول، وظلّ يرجوه، وفي نهاية الأمر بكى وقال:

 

210


199

..وأيّ درر

"لماذا لم تخترني من بين الإخوة الذين سينامون في حقل الألغام؟ أريد أن أكون معهم".

 

كانت حكاية نوم الإخوة الخفيفي الوزن على الألغام طويلة تلك الليلة. صحيح أنني لم أبقَ هناك بسبب ما أوكل إليّ من مهام، لكنّي في اليوم التالي من العمليات سمعت أنه في المحور الذي نام فيه أمير، زاد مجموع وزنه ووزن من مرّ فوقه عن الحدّ المسموح، فانفجر بهما اللغم. وسمعت أنّ كعب قدمه تطاير جرّاء ذلك، فذهبتُ لزيارته في المستشفى.

 

من بين الإخوة والأصدقاء الآخرين الذين قاتلت معهم جنبًا إلى جنب في الحرب غير الكلاسيكيّة ونالوا شرف الشهادة: "أبو الفضل ميفه تشي"، وهو من أبناء "زقاق نقاشها"، وكان من أوائل شهداء الحرب المفروضة. لذا عُرف الزقاق فيما بعد باسم زقاق الشهيد "أبو الفضل ميفه تشي"، طابت ذكراه.

 

كما قلت، لم أشارك في المرحلة الثانية من عمليات طريق القدس، وعدت أواسط شهر كانون الأول من عام 1981 إلى طهران.

 

211

 

 


200

قنابل الظلام

قنابل الظلام

 

إن أتيت من أجل الله، فلا تكن أسير المعارف

 

أمضيتُ يومين في البيت فاسترحت قليلًا، وقضيت بعض الوقت مع العائلة. وفي حديث مع فاطمة أخبرتني أنها تطوّعت للعمل في دارٍ للأيتام.

 

ذهبتُ إلى الدار في شارع زيبا لتفقّدها؛ فوجدت آية الله جواد علم الهدى المشرف عليها، وهو من العلماء الأعلام والكبار في طهران، ويتمّ تمويل هذا المجمّع الخيري من قبل بعض التجار وأصحاب المحال التجارية وهيئة "اتفاقيون". كانت فاطمة تذهب كل يوم خميس لتوزيع المعونات والمؤن على عوائل وبيوت الأيتام المكفولين من قبل المجمّع. قررت فاطمة أن تستفيد من وقتها بشكل جيد، وتملأه بالأعمال الصالحة والبر والإحسان، وتزرع لآخرتها، وفيما تعلّق كثيرون في زماننا بالدنيا وتركوا الآخرة، إلا أنّ الدنيا هي التي تعلّقت بفاطمة لكنّها تركتها طلبًا للآخرة.

 

في كل أسبوع كان الحاج حسن جابري يذبح عددًا من الخراف، فتأخذ كل عائلة أُدرجت في جداول الدار نصيبها منها.

 

213


201

قنابل الظلام

ما دُمتَ قادرًا في عالم الحياة ساعد المحتاجين

                               ولو بنفس أو بخطوة أو بقلم أو بمال[1]

 

حقًّا، إنّه لعالم جدير بالمشاهدة ومحفوف بالمخاطر، ولا يوفّق كل شخص فيه لخدمة خلق الله. كان العارف الكبير الشيخ "حق شناس" يقول: "أفضلُ وأثبتُ طريقٍ للوصول إلى المحبوب، طريق خدمة خلق الله".

 

مضت الآن سنوات عديدة على تلك الأيام، وما زال الناس إلى يومنا هذا يذكرون الحاج حسين جابري والسيدة فاطمة وبقية المحسنين والخيّرين عندما تُقدّم اللحوم والمؤن والنذور، ويدعون لهم.

 

أتعرف ما يبقى من الإنسان بعد موته

                         لطفه ومحبته وما عدا ذلك لا يعدل شيئًا[2]

 

على كل حال، صرت حين أزور الصالحين أغتنم الفرصة وأدعو دائمًا، وأطلب من الله عز وجل أن يكون قتالي ورماياتي كلّها لمرضاته.

 

لم تطل إقامتي كثيرًا في المنزل، فلم أكد أذوق طعم الراحة والحياة الطبيعية بجانب الأسرة حتى ناداني الحاج غلام العطار، صاحب الدكان عند مدخل الزقاق، حيث كان الرابط بيني وبين أصدقائي، وخاصة الحاج قاسم، وقال لي: "اتصل الحاج قاسم، وطلب التحدّث إليك".

 

ذهبت وتكلّمت معه عبر الهاتف، فقال لي: "سيد، أتستطيع أن تجهّز مجموعةً؟".

 

 


[1]  الشعر تا تواني به جهان خدمت محتاجان كن يه دمي يا درمي يا قدمي يا قلمي

[2]  داني كه ز آدمي جه ماند بس مرك لطف است ومحبت است وباقي همه هيج

 

214


202

قنابل الظلام

- لأيّ محور؟

- ارتفعت حدّة الاشتباكات في الغرب، ونفّذ الإخوة هناك عمليات "مطلع الفجر" الآن، وهم بحاجة إلى مزيد من القوات لتثبيت النقاط.

- حسنًا، سأرى ما أستطيع فعله.

 

في المساء تحدّثت في مسجد التوفيق إلى الناس، وأخبرتهم بأنّ الإخوة في الجبهة بحاجة إلى مزيد من القوات، فأعلن نصف الإخوة الذين سبق أن شاركوا معنا وقاتلوا تحت راية هيئة الحرب غير المنظّمة عن جهوزيتهم، إضافة إلى الحاج عباس زين العابدين. وكان رجلًا يقارب عمره الخمسين عامًا، ضخم البنية، سمينًا، يزيد وزنه على المئة والثلاثين كيلوغرامًا، لطيفًا وحسن المعشر، عمل بمهنة الحدادة وتصنيع الأبواب والشبابيك والغرف الحديدية لسيارات النقل، وكان دكانه معروفًا في السوق، وكان من أثرياء طهران ذات يوم، لكن مال عليه الزمن وذهبت ثروته أدراج الرياح.

 

عُرف الحاج عباس ببساطته وطيبة قلبه، وأراد أن يأتي إلى الجبهة ويشارك في الجهاد لصفاء روحه ونقائها، كان يجيد الطهي، لكن بما أنها كانت المرة الأولى التي يلتحق فيها بالجبهة فلم يكن يجيد التصرّف.

 

في اليوم التالي، كان الأوّل من شهر دي، تجمّعنا لنذهب إلى الجبهة، وكنّا عشرين شخصًا من أبناء حيّنا، وعشرين شخصًا من حيّ الحاج قاسم، فاستأجرت باصًا وصعدنا جميعًا فيه وانطلقنا.

 

في الطريق قرأنا بعض الأشعار في مديح ورثاء المولى أبي عبد الله عليه السلام، ولطمنا الصدور، مع حلول المغرب وصلنا إلى الخطوط الخلفية لـ"كيلان غرب" حيث استقرّت قوات الحرس الثوري.

 

استقبلونا ووزّعونا على ثلاث خيم، وقالوا لنا: "اقضوا الليلة هنا حتى

 

215


203

قنابل الظلام

يتبيّن مصيركم، وتتعيّن مهامكم غدًا".

 

في منتصف الليل، وبينما أنا نائم سمعت أحدهم يناديني: "سيد، يا سيد".

 

استيقظت على الفور، ونظرت إلى مصدر الصوت، وإذا به الحاج عباس زين الدين، ابن حيّنا.

 

كان ممسكًا ببطنه وهو يتلوّى من الألم، وبدا عليه عدم الارتياح. سألته: "ما الذي حصل يا حاج عباس؟".

- قم يا سيد، تعال أسرع كرمى لله.

 

قمت وحملت الفانوس وتبعته إلى خارج الخيمة حيث كان الجو باردًا ومظلمًا والجميع نائمين. سألت مجدّدًا: "ما الذي حصل؟".

- ذهبت إلى المرحاض وأخذت معي إبريق الماء، وأردت أن أطهّر؛ لكن لا أعلم ما الذي كان في الإبريق بدل الماء: نفط أو بنزين.. لقد احترقت.

- ماذا سأصنع الآن يا حاج عباس؟ على من سنطرح مشكلتك في منتصف الليل؟ افرض أننا وجدنا أحدًا يأخذنا إلى الدائرة الصحيّة وذهبنا ماذا سنقول لهم هناك؟

 

ملأت إبريق ماء وأعطيته إياه وقلت: "اذهب واغسل نفسك بالماء حاليًا، ستتحسن قليلًا وغدًا في الصباح نذهب إلى الدائرة الصحيّة".

 

بالنسبة للمتقدّمين في السنّ امتلأت الجبهة بهذه المتاعب؛ كان عليهم تحمّل الحر والبرد والحرمان من النوم وألف مشكلة أخرى، لكن الكثيرين منهم تحمّلوا مثل هذه الظروف الصعبة أفضل من الشباب، ولم يكن يصدر منهم أي شكوى، بل أصبح بعضهم بالنسبة للشباب والإخوة كالأب

 

216


204

قنابل الظلام

الحنون.

 

في صباح اليوم التالي، تحسّنت حال الحاج عباس، ولم يحتج نقله إلى الدائرة الصحيّة، وأخذته معي إلى مركز الحدادة التابع للجيش، فعرّفتهم إليه وإلى خبرته المهنية ليساعدهم في الأعمال الفنية في الخطوط الخلفية، وعدت أنا إلى الخيم.

 

في ذلك الصباح نفسه، ركبنا عددًا من سيارات التويوتا وتوجّهنا إلى مقصد غير معلوم. كان الجو ماطرًا، والأرض موحلة، والسيارات تسير ببطء. بعد ساعة، توقفت السيارات ونزلنا بالقرب من أخدود، وكان معنا دليل وبضعة أفراد يعرفون المنطقة جيدًا، تقدّمونا وتبعناهم في طابور. ثم أُمرنا بالتوقف، وقيل لنا: هنا الخط الخلفي لـ"بانسيران"، ومهمتكم هي الدفاع والحفاظ على هذا المكان، لذا يجب أن تصعدوا هذه المرتفعات وتستقروا في الأعلى.

 

وهناك، لكوني الأكبر سنًّا والأكثر تجربة من الباقين، أصبحت تلقائيًا المسؤول عن هؤلاء الأربعين نفرًا، وخلف الدليل أكملنا الطريق، وصعدنا متسلّقين الجبل الذي لم يكن عاليًا جدًا.

 

أخبَرَنا الدليل عن أهمية هذا الخط وجباله قائلًا: "قبل عدة ليالٍ نُفّذت من مرتفعات "شياكوه" هذه عمليات "مطلع الفجر"، والآن حيث انتهت المرحلة الأولى فيها، عليكم الحفاظ على ما أنجز، وتثبيت هذا الموقع. ومرتفعات بانسيران عبارة عن ثلاثة جبال متلاصقة، أنتم الآن تدافعون عن الجبل الأوسط والأصغر، والاشتباكات لا تزال مستمرة على المحور الأيسر ولا دخل لكم بها. ولقد أسر الشباب في هذه المرتفعات وجبل 1100 وجبل 1150 الكثير من العراقيّين، ونُفذت هذه العملية على يد الإخوة في الحرس

 

217


205

قنابل الظلام

الثوري، وكانت صعبة جدًا. لكن الجيش العراقي المطلّ على المرتفعات والمشرف على المكان، استفاد من الإنزال الجوي في المواجهات، وتمكّن في نهاية الأمر من استعادة بعض المرتفعات.

 

كانت عملية كبيرة تحدّث عنها الجميع، وراحوا يتناقلون أخبارها، وكان إبراهيم هادي مسؤول المعلومات فيها، وذاع صيته بعد العملية بطلًا ضرغامًا لا يهاب الموت، وأصيب خلال الاشتباكات برصاص العدو. لقد أذهلتنا قصته، وبطولات من معه من الإخوة المجاهدين. كذلك تناقل الجميع خبر استشهاد المجاهد الكبير العامل والمؤثّر الشيخ محمود غفاري الذي استشهد وهو يؤدّي نوبة الحراسة على برج المراقبة، رحمه الله، كانت روحه عظيمة.

 

في الطريق أخبرنا الدليل أكثر عن العمليات وقال: "في مرتفعات شياكوه هذه، صعد الأخوة في الليلة الأولى من العمليات عند الساعة الحادية عشرة ليلًا من الوديان باتجاه الجبال، فلم يعترضهم أي عراقي، ولم تحدث أيّ اشتباكات، فالعراقيّون إما أنّهم كانوا في الطريق إلى المكان، وإما أنّ أمرًا ما أعاقهم وعرقل تحرّكهم، الله أعلم. وبعد أن صعدوا الجبال واتخذوا مواقعهم بدأت الاشتباكات في اليوم التالي، وتطورت إلى مواجهات فردية ورمي للقنابل اليدوية، إلى أن حان وقت الظهر وتراجع العراقيون قليلًا، هنا قام إبراهيم هادي برفع الأذان حيث اعتاد دائمًا على أن يؤذّن عندما يحين وقت الصلاة، وبينما كان يؤذّن رماه قنّاص عراقي برصاصة أصابت حنجرته*[1]، فسقط إبراهيم على الأرض".

 

اعترض عناصر الجيش الذين اشتركوا مع الحرس الثوري في هذه العمليات بأنّ إبراهيم قد كشفنا، وهل من عاقل يقف ليرفع الأذان

 

 


[1]  تبيّن لاحقًا أن الرصاصة أصابت عضلات رقبته.

 

218


206

قنابل الظلام

وسط المعركة؟

 

لكنّهم بعد عشرين دقيقة سمعوا من الجانب الآخر أصواتًا تردّد: "دخيل الخميني، دخيل الخميني".

 

تقدّم العشرات من العراقيين نحو الإخوة وسلّموا أنفسهم بأيديهم، تحدّث أحد الإخوة إليهم، وكان يجيد اللغة العربية، سألهم: "لماذا تسلّمون أنفسكم؟".

 

أجابه أحدهم: "كنا نظن أننا نقاتل المجوس وأنكم عبدة النار، لكن الآن بعد أن سمعنا صوت الأذان منكم عند وقت الصلاة، عرفنا أنكم مسلمون مثلنا ولا نودّ قتالكم بعد الآن لهذا سلّمنا أنفسنا"[1].

 

لكنّ البعثيين المعاندين الذين أصرّوا على القتال عندما استعادوا السيطرة على قمة الجبل قاموا بكل إجرام برمي جرحانا وحتى جثث الشهداء من أعلى الجبل إلى الوادي، وإلى أن وصلت جثثهم الطاهرة إلى الأرض، كانت قد تلاشت وتناثرت، ولم يعد بالإمكان جمعها لتوارى في الثرى.

 

وهناك أظهر "مرتضى زهره وند" شجاعة وبطولة لا مثيل لها، فقد كان ذا قوة وبأس ويدين كبيرتين وقويّتين، وقاتل تحت راية اللواء الرابع من الحرس الثوري، وشكّل ورقة رابحة على أرض المعركة. اعتاد هذا الرجل أن يسير حافي القدمين، بل لم يكن يسير إنما يركض ركضًا. كان في كل ليلة يستيقظ عند الساعة الثانية يصلي صلاة الليل ويذهب لوحده حافي القدمين إلى الجبال والوديان، يحمل الجثث على ظهره ويسير مسافة

 


[1]  ذُكرت هذه الحادثة في كتاب سلام على إبراهيم في قصة الأذان، بالإضافة إلى مواقف عدة من حياة الشهيد إبراهيم هادي.

 

219


207

قنابل الظلام

وسط المعركة؟

 

لكنّهم بعد عشرين دقيقة سمعوا من الجانب الآخر أصواتًا تردّد: "دخيل الخميني، دخيل الخميني".

 

تقدّم العشرات من العراقيين نحو الإخوة وسلّموا أنفسهم بأيديهم، تحدّث أحد الإخوة إليهم، وكان يجيد اللغة العربية، سألهم: "لماذا تسلّمون أنفسكم؟".

 

أجابه أحدهم: "كنا نظن أننا نقاتل المجوس وأنكم عبدة النار، لكن الآن بعد أن سمعنا صوت الأذان منكم عند وقت الصلاة، عرفنا أنكم مسلمون مثلنا ولا نودّ قتالكم بعد الآن لهذا سلّمنا أنفسنا"[1].

 

لكنّ البعثيين المعاندين الذين أصرّوا على القتال عندما استعادوا السيطرة على قمة الجبل قاموا بكل إجرام برمي جرحانا وحتى جثث الشهداء من أعلى الجبل إلى الوادي، وإلى أن وصلت جثثهم الطاهرة إلى الأرض، كانت قد تلاشت وتناثرت، ولم يعد بالإمكان جمعها لتوارى في الثرى.

 

وهناك أظهر "مرتضى زهره وند" شجاعة وبطولة لا مثيل لها، فقد كان ذا قوة وبأس ويدين كبيرتين وقويّتين، وقاتل تحت راية اللواء الرابع من الحرس الثوري، وشكّل ورقة رابحة على أرض المعركة. اعتاد هذا الرجل أن يسير حافي القدمين، بل لم يكن يسير إنما يركض ركضًا. كان في كل ليلة يستيقظ عند الساعة الثانية يصلي صلاة الليل ويذهب لوحده حافي القدمين إلى الجبال والوديان، يحمل الجثث على ظهره ويسير مسافة

 


[1]  ذُكرت هذه الحادثة في كتاب سلام على إبراهيم في قصة الأذان، بالإضافة إلى مواقف عدة من حياة الشهيد إبراهيم هادي.

 

219


208

قنابل الظلام

1700 متر على قدميه ليوصل أجساد الشهداء سالمة إلى السفح، وعندما يحين الصبح تكون أجساد الشهداء مصفوفة إلى جانب بعضها بعضًا؛ كان هذا عمله في كل ليلة.

 

بقينا نسمع قصصًا وحكايات عن هؤلاء الأبطال إلى أن وصلنا إلى خطوط دفاعنا، وكانت منطقة جديدة علينا لمّا نعرف تفاصيلها بعد، بينما يشرف الجيش العراقي على المرتفع، ويستطيع استهدافنا بقذائف الدبابات والهاون بكلّ سهولة.

 

عندما وصلنا إلى المتاريس والدشم المعدّة مسبقًا حاولنا أن نتوزّع ونحتمي فيها من دون أن نلفت انتباه العراقيين لقدومنا. في يومنا التالي في بانسيران سقطت قذيفة هاون بالقرب من ساترنا الترابي، فأصبتُ بشظية صغيرة في ذراعي. مهما فعلت لم يتوقّف النزف، ربطتها بخرقة بإحكام، عليها لكن من دون فائدة، وبقي الجرح ينزف، ما اضطرني إلى مغادرة الموقع والذهاب إلى الدائرة الصحية في الخط الخلفي لبانسيران. وهناك أخبرني مسؤول المركز أنّ الشظية أصابت الشريان ويحتاج إلى التقطيب، فأرسلوني من هناك بسيارة إسعاف إلى مدينة ايوان حيث خاطوا لي الجرح بلمح البصر، وضمّدوه وأجروا لي القليل من الفحوصات. ولما لم يجدوا أيّ مشاكل صحية عدت من المستشفى في اليوم نفسه.

 

من مدينة "ايوان" ذهبت إلى الخط الخلفي لـ"كيلان غرب" حتى أتفقّد صاحبنا الحاج عباس وأطمئن إليه في مركز الحدادة، وأقضي الليلة عنده. بحثت عنه في مركز التجهيزات والمعدّات، وسألت عنه قائلًا: "أنا من طهران وقبل أمس وصلنا إلى هذا المحور، لديّ صديق حدّاد أتى إلى هنا ليساعد في قسم الحدادة".

 

200

 

 


209

قنابل الظلام

- ذهب في إجازة.

- قبل أمس أتى، بهذه السرعة ذهب؟ هل أنت متأكد؟

 

ذهبت إلى المدينة بحثًا عن هاتف، واتصلت بمنزل الحاج عباس، فأجاب ابنه وقال لي: "والدي في المنزل، كنّا نستعد لإعداد الـ"آش بشت با"[1] على نيّة عودته، وإذا به يدخل علينا". هذه كانت قصة الحاج عباس الذي لم يبق في الجبهة سوى يوم واحد، لكنّه كان يقصد فعل الخير.

 

عدت إلى الإخوة في متاريس الدفاع، وجرت الأمور كعادتها في المواقع الدفاعية، وأول عمل قمنا به كان نصب دشمة للحراسة في موقع متقدّم على المرتفع ورسم خط بالكلس الأبيض على الأرض حتى لا نضلّ الطريق عندما يحلّ الضباب، إذ كان يحجب الرؤية بحيث لا نستطيع أن نرى أمامنا مسافة قدم واحدة.

 

كانت الخنادق والمتاريس التي تحصّنّا فيها قد بنيت على يد الإخوة من مدينة "أروميه"، وقد حُفرت في قلب الجبل، وكانت دشمًا صغيرة لا تزيد عن النصف متر، قليلة الارتفاع، لا يمكننا التحرّك فيها. طلبت من الإخوة أن يعمّقوا حفرها حتى لا يضطروا إلى الانحناء وهم يسيرون داخلها.

 

ولأنّنا كنّا متديّنين ولدينا شيمنا وأخلاقنا، قلت للإخوة إنّه يجب أن نصنع بيتًا للخلاء لائقًا، كي لا تنزل المياه إلى المنحدرات بين الصخور والأشجار. لذلك حفرنا حفرة بعمق مترين وطول وعرض مترين، وغطّيناها بالصفيح والقماش المشمّع، ثم ثبّتنا في طرفها أنبوبًا معكوفًا، وعلى بعد أمتار منها حفرنا حفرة ثانية صغيرة، ووصلناها بالأنبوب، وأعددناها بشكل مناسب

 

 


[1]  نوع من الحساء يعدّه الأهل بعد ثلاثة أيام من مغادرة مسافرهم ويوزّعونه على الأقارب والجيران والفقراء، المترجم-.

 

221


210

قنابل الظلام

للجلوس فوقها، ثم نصبنا حولها أربعة أنابيب ذات سدّادات، وغطّيناها بالقماش والقنب لتصبح بيت خلاء من الطراز الأول.

 

في سفح بانسيران نبع ماء، وكان الإخوة ينزلون إليه بالتناوب، ليملأوا الغالونات بالماء، ثم يحملونها إلى الأعلى بمشقة كبيرة. رأيت من غير الصحيح أن يبقى الوضع على ما هو عليه، وأن تُستنفد طاقات الإخوة بأعمال كهذه، فهؤلاء لم يأتوا لحمل الماء من أسفل الجبل إلى الأعلى. لذا، ذهبت في أحد الأيام إلى مركز التجهيزات التابع للجيش، وبعد عناد وإصرار أخذت من عندهم صهريج ماء، وضعناه في مؤخرة شاحنة، ونقلناه ذات ليلة إلى أعلى المرتفع بهدوء تامّ، ومصابيح الشاحنة مطفأة، حيث كان العراقيون قد وضعوا دبابة على محور بانسيران الأوسط تستهدف كل من يمر من المحور بقذيفة مباشرة، لكنّي والحمد لله، تمكنت من إيصال الصهريج سالمًا إلى الأعلى.

 

وضعناه في مكان آمن داخل أخدود بعيدًا عن مرمى نيران العدو حيث حفرنا الأرض وغطيناه بأكياس من الرمل، وبعدما انتهينا حذّرت الشباب من الإسراف، ومن هدر الماء ووضعت وعاءً مليئًا بالطين إلى جانب صنبور الصهريج حتى يفركوا الأوعية والظروف بالطين قبل أن يغسلوها بالماء.

 

بعد عدة أيام قذف المولى في قلبي شيئًا، ورحت أفكر أنه ينقصنا هنا حسينية ومن الجيّد أن نبني واحدة. ذهبت مع حسين محمودي، ووجدنا أرضًا مناسبة لهذا الغرض، وبدأنا الحفر، وحيث وصلنا إلى صخرة صلبة صعبة الكسر فجّرناها بقنبلة يدوية إلى أن حصلنا في نهاية الأمر على أرض منبسطة بمساحة أربعة في خمسة عشر مترًا وملأنا أكياسًا من الرمل والتراب وصففناها فوق بعضها البعض لنصنع سورًا للأرض، لكن كلّما أردنا رفع الصف الثاني انقلبت الأكياس وعدنا إلى الصف الأول من

 

222


211

قنابل الظلام

جديد، إلى أن جاء أحد الإخوة، وكان من البنّائين الأتراك الماهرين، فرصف الأكياس بطريقة متداخلة واحدًا تلو الآخر، فتماسكت مع بعضها بعضًا. وبقي علينا وضع السقف، لذلك كنّا بحاجة إلى الخشب، فذهبنا إلى مركز قريب لقوات الجيش حيث كانوا قد استقرّوا إلى اليسار منا، وقلنا لهم: "نريد ألواحًا من الخشب هل عندكم منها؟"، فقال أحدهم: "لا، ولو كان عندنا لما أعطيناكم".

 

في الليلة نفسها ذهبت بمفردي إلى مقرّهم، ومن دون أخذ الإذن من أحد أخذت ما نحتاجه من أعمدة الخشب والحديد، ووضعناها على الجدران وغطّيناها بصفائح حديديّة، وبذلك تمّ بناء الحسينيّة، وصرنا نجتمع فيها كل صباح وظهر ومساء، نقيم صلاة الجماعة، ونحيي مراسم دعاء التوسل والمجالس الحسينية واللطم بشكل منظّم ومرتّب. وكان أمير مظاهري مسؤول الحسينية يرتّبها ويبقيها نظيفة على الدوام.

 

وكان "حجت شمسيان" و"علي برادران" مسؤولي التجهيزات والمؤن، وكان عندهما بغلان، يذهبان في كل أسبوع مرة إلى مسؤول التجهيزات في الفرقة، ويأتياننا بالطعام والشراب والذخائر. كان الطعام الرائج في تلك الأيام سمك التونة والسردين المعلّب، وقلّما أكلنا طعامًا مطهوًّا وساخنًا. وكنّا نتناول خبزًا يابسًا مع الجبن ولبنة الضرف[1]، وكلّها في الغالب مساعدات مقدّمة من الأهالي والعشائر في "ملاير" وكانت لذيذة جدًا.

 

كان لكلّ ثمانية أشخاص مسؤول يستلم الطعام والحصص المحدّدة لهم ويجهّز السفرة ويجمعها، وفي المقابل يعفى من الحراسة.

 

في أحد الأيام، عاد حجت شمسيان من مقرّ التجهيزات والمؤن عابسًا

 

 


[1]  لبنة تصنع في القرى والأرياف في كيس معدّ من جلد الماعز.

 

223


212

قنابل الظلام

منزعجًا، سألته: "ما الذي حصل؟".

- لقد سقط لنا جريح.

- آه، متى؟

- بينما كنّا عائدين، رمونا بقذيفة هاون فأصيب بغلي بشظيتين في بطنه.

- وأين هو الآن؟

 

أشار إلى هضبة وقال: "وقع هناك خلف تلك القمة ودمه ينزف، لم أستطع مساعدته".

 

فقلت له: "اذهب وأرحه، الحيوان المسكين، لا تدعه ينزف ويتعذّب هكذا".

- لا أستطيع، فقلبي لا يقوى على هذه الأمور.

 

خلال تلك المهمّة الدفاعيّة، وحيث كان الحراس يمضون فرادى من غير ناصر ولا معين ليؤدّوا نوباتهم، قام العراقيّون باختطاف أحد الإخوة خلال ذهابه في نوبة حراسة إلى وادي "بلنك". وكانت هذه الأمور شائعة في الحرب، فكلّ طرف يختطف العناصر المتقدمة للحراسة من الطرف الآخر لكي يحقّقوا معهم ويأخذوا منهم معلومات عسكرية. لم أعد أذكر اسم ذلك الأخ المختطف، لكني أذكر أننا بقينا نجهل مصيره وما حلّ به ولا أعلم الآن هل استشهد أو ظلّ أسيرًا.

 

وأذكر أخًا حينها يدعى أمير، أسميناه: "أمير النمر"؛ كان نحيلًا، ضعيف البنية، محبوبًا يدخل القلوب، وغير مرتّب بعض الشيء! في بعض الليالي رمى العدو نحونا رصاصًا فسفوريًّا ليحدّد نقطة وجودنا والزاوية التي

 

224


213

قنابل الظلام

سيرمي عنها، ومع كل رصاصة فسفورية أطلقها العراقيون، كان أمير ينبطح أرضًا حتى لا تصيبه الشظايا، ومهما قلنا له إنّه رصاص لا يصدر عنه سوى الضوء والدخان، ولا يشكّل خطورة علينا، لم يكن يصغي إلينا. ذات مرة ظلّ ينبطح ويرتمي هنا وهناك حتى كسر أخمص بندقيته. أخذت سلاحه إلى مركز التسليح وسلّمته إليهم ليصلحوه.

 

وفي اليوم الأخير لوجودنا هناك في المحور، وعند التسليم والاستلام وتسوية الأوضاع قبل المغادرة قال لي مسؤول التسليح: "يا سيد، أحد عناصرك كسر أخمص سلاحه، ما كان سبب ذلك وهل تتحمّل المسؤولية؟".

 

بدوري لم أشأ أن أفضح أمر أمير فقلت له: "في إحدى الليالي بينما كنا ذاهبين في مهمة استطلاع، وقع هذا الشاب على الأرض وانكسر أخمص بندقيته، فليس الذنب ذنبه".

 

قال مسؤول التسليح: "ما اسم هذا الشاب؟".

- أمير النمر.

- وهل نستطيع أن نرى أمير النمر هذا؟

 

عندما أتى أمير، قال مسؤول التسليحات: "يا حبيبي، هذا ليس قطة حتى! وتسمّونه نمرًا؟!".

 

وأخيرًا قبلوا استلام السلاح احترامًا لشيبتي، وقُضي الأمر.

 

وقبل ترك موقع الدفاع ذهبت ذات يوم إلى الخط الخلفي لـ"كيلان غرب"، وهناك التقيت بصديقي "أبرام هادي" الذي كان قد تعافى وخرج من المستشفى لتوّه، وقال لي: "لقد عزمنا على الذهاب إلى دوكوهه، تعال معنا أنت وشبابك".

 

225


214

قنابل الظلام

أعجبني الأمر، وقررت الذهاب معهم إلى هناك، ولكي لا أتأخّر عنهم عدت على الفور إلى المحور، وشرحت الأمر للإخوة هناك فسوّينا أوضاعنا في الليلة نفسها، وسلّمنا مراكزنا وعدنا بباص صغير إلى طهران. كان ذلك على مشارف ربيع العام 1982 وعلى مقربة من عيد النوروز.

 

في طهران تأخرت عن الركب إذ بقيت هناك ليلة واحدة، وفي اليوم التالي ذهبت منفردًا بالقطار، ولم يكن لديّ تذكرة، فدخلت وسط جموع الركاب وانطلقنا إلى دوكوهه، ولم يسبق لي أن ذهبت إليها، فكانت تلك المرة الأولى التي أسمع باسم هذه المدينة، لكنّي علمت أنّ القطار يذهب إلى "أنديمشك" حيث المحطة الأخيرة، وأنّ عليّ أن أنزل منه قبل أنديمشك بمحطتين.

 

من بعيد، لاحت لي الأبنية في دوكوهه، كانت تشبه الأبنية السكنية في المناطق الصناعية أو الأبنية التابعة للإسكان العسكري؛ كلها إلى جانب بعضها البعض بالشكل والحجم والترتيب نفسه. نزلت من القطار، وبعد أن سرت قليلًا وصلتُ إلى المعسكر. في تلك الأثناء كانت قد لاحت في الأفق ملامح تشكيل لواء "محمد رسول الله" بقيادة الحاج أحمد متوسليان وانطلقت بوادره. فقد تألّق الحاج أحمد في كردستان، وذاع صيته، فكان القائد الذي جاء الكثيرون من أمثالي عشقًا له لينضمّوا إلى هذا اللواء، وليكونوا تحت إمرته. ولذلك كان المكان في دوكوهه مزدحمًا يعج بحشود المجاهدين.

 

قمت بجولة في الأنحاء، والتقيت بـ"مرتضى زهره وند"، وكان من أبناء حي "وحيديه". سلّمنا على بعضنا البعض، وسألته: "بأي كتيبة ستلتحق؟".

 

- تعال لنذهب ونلتحق بالكتيبة الرابعة بقيادة "أصغر رنجبران"،

 

226


215

قنابل الظلام

فأكثر قواتها من أبناء طهران، وأكثر أصدقائنا هناك.

 

- بصراحة أنا متردّد ولا أعلم ما هو الأصلح، أنا هنا بصفتي عنصرًا حرًّا، لكنّي سآتي من أجلك. فلنذهب غدًا إلى الحاج أصغر ونعرّفه بأنفسنا.

 

في اليوم التالي عندما حان وقت الذهاب إلى الكتيبة تراجع مرتضى فجأة عن أقواله بالأمس وقال: "لن آتي".

- إإ..، ولماذا لن تأتي؟ أنا ذاهب لأنضمّ إلى الكتيبة الرابعة من أجلك أنت.

- لكنّي أتيت إلى هنا من أجل الله (عزّ وجلّ)، لا أريد أن أكون أسيرًا للمعارف والأصدقاء، سأذهب في الحال وأنضمّ إلى أي كتيبة وأذهب إلى الجبهة وأقاتل من دون أن يعرفني أحد.

 

انقبضت أحوالي لسماع هذا الكلام، وتراجعت عن الالتحاق بالكتيبة الرابعة ونسيت أمرها مع أني كنت حقًا أحب أن أكون مع الإخوة فيها، ومع أصحابي وأصدقائي، لكنّي قررت أن أقاتل حيث لا يعرفني أحد مثل مرتضى، وكنت حينها قد سمعت الكثير (من المدح والثناء) عن "محسن وزوايي" فقادني القدر إلى أن أقاتل تحت لواء "كتيبة حبيب".

 

كان قائد كتيبة حبيب محسن وزوايي من خيرة الرجال والأبطال في الحرب، وفي هذه الكتيبة التحقتُ بالسريّة الثانية بقيادة "عباس وراميني"، وأصبحت المعاون الثاني لقائد السرية، وكان قائد السرية الأولى مجيد رمضان، وقائد السرية الثالثة عمران بستي، وبالمجموع كانت الكتيبة مؤلفة من 1200 مقاتل.

 

في أواخر شهر آذار من العام 1982 انطلقت عمليات "الفتح المبين" بنداء "يا زهراء"، والتي من المقرّر لكتيبة حبيب أن تشارك في المرحلة

 

227

 

 


216

قنابل الظلام

الثانية من العمليات.

 

وللمشاركة في المرحلة الثانية، سارعتُ بالذهاب إلى مقر الفرقة، وفي الوقت المقرّر تحرّكت قوات كتيبة حبيب في طابور، وبعد أن قطعنا قرابة السبعة عشر كيلومترًا داخل "سهل عباس" في قلب الظلام لم نصل إلى مكان محدّد، ولم نبلغ نقطة الانتشار المتفق عليها، ما أثار الشكوك في قلوبنا عن صحة الطريق الذي نسلكه. كنت أسير إلى جانب طابور السرية الثانية، فيما كان عباس وراميني يتقدّم الطابور، حينها لم تكن علاقتي قد توطّدت مع أحد، بل اقتصرت على معرفة طاقم الكتيبة. كنّا نسير والمسافة بين السرية والسرية التي خلفها عدة أمتار، والإخوة يمشون بعضهم خلف بعض. لم يكن يحقّ لأحد أن يخرج من الطابور ويخلّ بنظمه، وبقينا نسير في سهل مظلم في سكوت وهدوء من دون أي سواتر ترابية أو مكان للاحتماء، وحدها القنابل المضيئة أنارت السماء.

 

لم نكن نملك ساعة، لكنّي كنت متيقّنًا من أنها جاوزت الثانية عشرة بعد منتصف الليل، حين أُمرنا بالتوقف. وكنّا قد وصلنا إلى ضفة نهر موسمي مليء بالماء، رفعنا أسلحتنا فوق رؤوسنا ودخلنا في النهر لنعبره، غمرتنا المياه المتدفقة بشدّة إلى أوساطنا. خرجنا منه وقد تبلّلنا من رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا، وتابعنا المسير مئة متر ليصدر الأمر بالتوقف من جديد، وقال لنا عباس وراميني: "هنا هضبة تانكه".

 

جلس الإخوة في أماكنهم ليستريحوا ويلتقطوا أنفاسهم، فتقدّمت بدوري وسرت نحو مقدّمة الطابور. هناك رأيت محسن ممسكًا بجهاز اللاسلكي يتحدّث، أظنّه كان يتكلّم مع الحاج أحمد وكان يقول: "لقد أضعنا الطريق، والدليل لا يعرف شيئًا ولا يستطيع أن يحدّد موقعنا".

 

وكان الحاج أحمد يقول له: "لقد وصل الإخوة إلى الموقع المحدّد

 

228


217

قنابل الظلام

وانتظروكم ولوّحوا لكم أنتم، لماذا لم تلتفتوا لهم!؟".

 

فقال الحاج محسن: "لقد ضللنا الطريق، ونحن الآن تائهون".

 

وهناك علمنا أنّنا تائهون وبدأ الجميع يتهامسون، وشخصت الأنظار نحو الحاج محسن. لم يكن أحد يعرف كيف يحلّ العقدة ويخرجنا من هذه الورطة. هنا قام محسن فجأة وابتعد عن الطابور، وسار في قلب السهل وسط الظلام، لكن ظلّ خياله يرى في الظلام حيث وقف مكبّرًا وشرع بالصلاة.

 

خرج الإخوة من الصف وراحوا يتساءلون: "إن حان وقت صلاة الفجر أخبرونا حتى نلتحق به ونصلّي جماعة".

 

لا أعلم ما حلّ بمحسن تلك الليلة، وما الذي جرى عليه، الله وحده يعلم، ظلّ يصلّي ويتهجّد، وبعد ربع ساعة أو عشرين دقيقة قام وعاد إلينا، وبصلابة ورزانة وثقة عالية بالنفس تقدّم منا وقال: "أيّها الإخوة قوموا واصطفّوا لنتابع المسير".

 

قال له الدليل: "إلى أين؟ إن تقدّمنا أكثر ضللنا وأضعنا الطريق أكثر، هذا السهل ليس له بداية ولا نهاية، وما إن يطلع الفجر حتى يحاصرنا العراقيون".

 

لم يعره محسن اهتمامًا وقال: "هيا يا إخوتي تحرّكوا".

 

كان يتصرّف ويتكلّم بثقة عالية وكأنه يعرف تلك المنطقة منذ خمسين سنة، وطوعًا لأمره اصطففنا وتابعنا المسير. تقدمنا خمسمئة متر تقريبًا ثم قال محسن: "حان موعد صلاة الصبح، لكننا لا نستطيع أن نتوقف للصلاة فصلّوا فيما أنتم تسيرون".

 

تيمّم الإخوة على عجالة وأدّوا صلاة الصبح بحركة شفاههم وهم

 

229


218

قنابل الظلام

يسيرون في الطابور. لكن البعض لم يمتثلوا للأوامر وخرجوا من الطابور وتوقفوا ليؤدّوا الصلاة فاختلّ نظم الطابور قليلًا.

 

فيما بعد عرفت أننا كنا تائهين بالقرب من الطريق المعبّدة الواصلة بين عين خوش وانديمشك. لم تمض نصف ساعة حتى صرنا نسمع أصوات المدفعية من بعيد، وعرفنا حينها أنّ الكتائب عن يميننا وشمالنا قد اشتبكت مع العدو العراقي، هنا قال أحد الإخوة: "لقد عرفت المكان، انظروا إلى تلك التلال، إنّها تلال علي كره زد".

 

عدت إلى جانب طابور الإخوة في السرية الثانية وتقدّمنا قليلًا، ثم أرسل الحاج محسن سريّتين إلى يمين التلال ويسارها حتى تقوما بمساندة الوسط في حال حصل اشتباك، بعدها دخلنا أخدودًا وتقدّمنا إلى جانب سفح هضبيّ وتوزّعنا في الوسط والطرفين مشكّلين قوسًا، وصعدنا التلال وسط الظلام الذي كان يشقّه ضياء الصباح ويرسم لنا معالمها. بعد دقائق، وبعدما صعدنا قليلًا وأشرفنا على الوادي، بدا لنا من هناك ما أدهشنا وحيّرنا، فقد رأينا قرابة الثمانين مدفعًا مصفوفة جنبًا إلى جنب في قعر الوادي. وكان العراقيون قد حفروا في أسفل الجبل حفرًا صغيرة وثبّتوا المدافع داخلها، هنا قال محسن: "لقد كانت قذائف هذه المدافع من نصيب أهالي دزفول، تدك منازلهم وتدمّرها، حاصِروها وطوِّقوها بهدوء". وعلى الفور تفرق الإخوة وخرجوا من الطابور وانتشروا على التلة وسفح الهضبة. وبعد أن حاصرنا مرابض المدفعية، أطلق "علي موحّد" رصاصة في الهواء، تردّد صداها في الأجواء وكسر هدوء الفجر. وتبعتها أصوات العراقيين وجلبتهم، وهم يخرجون من بين المدافع ومن خلف المتاريس التي تحصّنوا فيها رافعين أيديهم فوق رؤوسهم ويصيحون: "دخيل خميني، دخيل خميني".

 

230

 

 


219

قنابل الظلام

وفّقنا الله تلك الليلة ونجحت العمليات نجاحًا باهرًا. ولمّا حصلنا على هذه الغنائم الكثيرة والمهمة وأسرنا جنود العدو سادت فرحة عارمة وعلت أصوات الجميع بالتهليل والتكبير.

 

لقد شاءت العناية الإلهية أن تنتهي العمليات لمصلحة مجاهدي الإسلام، فقد كانت لعبة بغالب واحد، وطرفاها: قلب محسن الأبيض والطاهر، وإيمان الإخوة وصبرهم وعقيدتهم الراسخة من جهة، و(جحافل) العدو البعثي وأربعة وتسعون مدفعًا، من جهة أخرى.

 

كنّا على يقين بأنّ أمرًا غيبيًّا قد حصل في تلك الليلة، وإلا كيف تمكنت كتيبة كاملة من أن تسير كل هذه المسافة حتى تصل إلى فوق رؤوس العراقيين من دون أن يلتفتوا لها، أو يشعر بها أحد؟

 

ذلك اليوم، بقينا حتى الظهر نُنزل الأسرى مجموعات مجموعات إلى الأسفل، ومن بينهم كان يوجد عميد عراقي. ملأنا قربات الأسرى ماءً حتى لا يشعروا بالعطش أثناء المسير، ومن ثم نقلناهم إلى الخطوط الخلفية. مع شروق الشمس، جاء علي رضا ناهيدي ومحسن نورايي ويوسف كابلي على متن سيارة تويوتا، وقد أحضروا معهم أسيرًا عراقيًا لكي يتعلّموا منه كيفية استعمال المدافع والتعامل معها. تلك كانت المرة الأولى التي يمتلك فيها الحرس الثوري مدفعًا، فحتى ذلك الحين كانت معظم هذه الأسلحة بيد الجيش فقط.

 

وقد نُقلت المدافع إلى خلف مرتفعات "رقابية" لتستخدم في صدّ تقدّم الجيش العراقي، وكان الإخوة يقولون: "الآن أصبح بإمكاننا أن نحدّد الزاوية والهدف ونقصف تلال وسفوح رقابية ونسحق العدو فيها.

 

استمرّت تلك العمليات حتى أواخر شهر آذار، وقد أصيب خلالها محسن وزوايي ببعض الجراح.

 

231

 

 


220

قنابل الظلام

وهناك رأيت "مرتضى زهره وند" للمرة الأخيرة، حيث كان قد أُصيب برصاصة في بطنه. لا أعلم كيف تمكّن من المشي وهو على تلك الحال، كان يمشي واضعًا إحدى يديه على بطنه ويمسك باليد الأخرى حقيبة. سألته: "ما هذه الحقيبة؟".

- وجدتها في متاريس العراقيين، وهي مليئة بالأموال. أنا الآن ذاهب لأسلّمها للفرقة.

 

بعد عدة أيام سمعت أنه استشهد في اشتباك آخر مع العدو خلال تلك العمليات نفسها.

 

من بعد حادثة غنيمة المدافع تلك، أصبحت الحرب وكأنها من طرف واحد. فلم يعد العراقيّون يتحرّكون كما في السابق، وكأنهم تلقوا صفعة قوية أفقدتهم زمام المبادرة.

 

على أي حال، في أوائل شهر نيسان عدت إلى طهران، وانشغلت هناك بمراسم تشييع الشهداء وعيادة من جُرح من الأصدقاء، فكنت أذهب كل يوم مع مجموعة لزيارتهم. في تلك الأيام كانت المدينة تنعم بصبغة إلهية، والناس فيها ودودون ورحماء فيما بينهم، وراجت الفضائل كصلة الرحم والإنفاق والإيثار وقضاء حاجات الناس.

 

من المواظبين على الصلاة في جامع الحيّ كان السيد "خير الله" واثنان من أقاربه الذين عملوا معًا ببيع الخضار طلبًا للرزق الحلال، وكانوا يملكون سيارة نقل جعلوها مركبًا للعشق، فكانوا يأخذوننا بها لزيارة قبور الشهداء أو إلى المستشفى لعيادة الجرحى والمصابين.

 

كذلك زوجتي فاطمة، كانت تنظّم البرامج وتأخذ النساء مرة كل أسبوع إلى المستشفيات لعيادة الجرحى. وبالتعاون مع الإخوة: السيد

 

232


221

قنابل الظلام

أمير بطايي والسيد مهدي منفرد والسيد عرب زاده، وبفضل ما بذلوه من جهود، كانت نساء الحيّ يذهبن مرّتين كل أسبوع في رحلة ترفيهيّة في فصل الربيع.

 

كل الأصدقاء كانوا قلبًا واحدًا وذوي طبيعة واحدة، ومستعدّين لخوض الحرب، وشباب تلك الأيام كمسيح وجان فرسا وكاشاني وكاظمي ومظاهري وروح اللهي وفرجي وخوش آبي، كانوا جميعًا يشكّلون فرقة إنشادية، فيما بعد استشهد عدد منهم، وجُرح البعض الآخر.

 

233

 

 


222

.. وتحرّرت خرمشهر

.. وتحرّرت خرمشهر

 

إلهي أقسم عليك بحرية هذا الطير أن تحرّر روحي!

 

في أوائل شهر أيّار من العام 1982م، التقيت بـ"خليل حجازي"، ابن أخي "السيّد فخر الدين حجازي"[1]، فقال: "ستجري عمليّات ضخمة في الأيّام القادمة، وأنا ذاهب غدًا إلى الجبهة".

 

في صباح اليوم التالي، اجتمعت مع "أمير برادران"، و"مصطفى كاشاني"، و"محمّد رضا بقايي"، و"علي واعظي" حول "خليل حجازي" لمرافقته، حجزنا مقصورة في القطار، ووصلنا إلى "أنديمشك" عند الغروب. ومن هناك توجّهنا إلى "دوكوهه" بسيّارة تويوتا. وبسبب قرابته من السيّد "فخر الدين حجازي" صاحب النفوذ في صفوف الإخوة استطاع "خليل حجازي"، أخذ عنوان الكتائب، وعرفنا أنّ القوّات مستقرّة في مبنى الطاقة الذرّيّة الواقع على مسافة 70 كيلومترًا من الأهواز.

 

في الطريق، توقّفنا في الأهواز. قمنا بجولة في المدينة، ومن ثمّ بتنا

 

 


[1]  وُلد السيّد فخر الدين حجازي في العام 1308(1929م) في مدينة سبزوار. تعلّم علومًا كثيرة على يد الأديب السبزواري والشيخ عبد الله نوراني ونافلي. كان من جملة الخطباء الثوريّين في حسينيّة إرشاد، واعتقل مرّات عدّة وسُجن. ألّف العديد من الكتب في المواضيع الإسلاميّة. كان له حضور إلى جانب المجاهدين في بعض العمليّات التي خاضتها قوّات الإسلام. انتقل إلى جوار ربّه في ربيع العام 1386(2007).

 

235


223

.. وتحرّرت خرمشهر

ليلتنا في فندق "ميامي"، أحد الفنادق الكبرى في الأهواز، وقد تحوّل بعد اندلاع الحرب إلى مستشفى.

 

في اليوم التالي، قال الشباب الموجودون في مبنى الطاقة الذرّيّة، إنّ المرحلة الأولى من عمليّات "بيت المقدس" قد أُجريت ليلة الثلاثين من نيسان؛ وقد اقتحمت كتيبتا "حبيب" و"مالك" في الليلة الأولى خطوط دفاع العدوّ، إذ عبرتا نهر "كارون" ووصلتا إلى جادّة الأهواز- خرّمشهر. فمن المفترض أن تتوجّها لتحرير خرّمشهر، ودحر العدوّ إلى الحدود. كان زمام الأمور بيد الحاجّ أحمد، وأردنا أن نكون بمعيّته.

 

طيلة اليوم، بقينا في مقرّ الطاقة الذرّيّة. وقد جاءت أعداد كبيرة من القوّات بحيث لم تعد توجد أماكن يستقرّون فيها. لم أستطع الانتظار لمعرفة ما هو قرار الإخوة وإلى أين سيذهبون. فتوجّهت عند الغروب بمفردي نحو جادّة الأهواز خرّمشهر والخطوط الأماميّة. رحت أفتّش عن كتيبة "حبيب"، لألتحق بـ "محسن وزوايي".

 

خلال الطريق، التقيت بابن محلّتنا "حسين طاهري" وقد صار بريد "محسن". أردفني خلفه على الدرّاجة الناريّة، وتقدّمنا حتى وصلنا إلى مقربة من خطّ دفاع كتيبة "حبيب". وهناك ركبت سيّارة إسعاف محمّلة بالذخائر ومتوجّهة إلى الخطوط الأماميّة. وصلت سيّارة الإسعاف إلى الساتر الترابي لكتيبة "حبيب"، ففرّغت الذخائر ونقلت الجرحى إلى الخطوط الخلفيّة.

 

بدا الخطّ الأمامي هادئًا، إلا من بعض القذائف المدفعيّة التي تسقط من وقت إلى آخر، وفي أوج العمليّات كان ساكتًا. التقيت هناك بـ"علي موحّد" فسألني بعد التحيّة والسلام: "لقد هاجمنا خطّ دفاع الأعداء ليلة البارحة، أين كنت أنت؟".

 

 

236

 


224

.. وتحرّرت خرمشهر

- في طهران، ذهبت وعدت مع شباب من حيِّنا.

- كانت مواجهة قصيرة.

- قصيرة! لِمَ؟! أوَلم تكن الليلة الأولى للعمليّات واقتحام خطوط العدوّ؟

- أظنّ أنّ القوّات العراقيّة تريد أن تفصلنا عن بعضنا البعض، لذا فتحت الطريق أمامنا. ولا أظنّ أنّها انسحبت. بالنهاية، للعراق تنصّتاته، وعملاؤه في هذه الناحية. المسألة ليست عبثيّة، أن ينسحب ويسدّ الخطّ.

- بالنهاية، ما هو الحلّ؟

- من المفترض أن تأتي في المساء كتيبتا "سلمان" و"ميثم"، وأن تعبرا من أمامنا، وأن نكون نحن كقوّات احتياط بالنسبة إليهما.

 

بقيتُ إلى منتصف الليل عند الساتر الترابي لكتيبة "حبيب". فجرًا، حصلت مواجهة قصيرة، لكنّها غير عنيفة. وبقي البعثيّون يمارسون شيطناتهم إلى غروب اليوم التالي. فكنّا نرمي عليهم بنيراننا وبقذائف الـ"B7" من وقت لآخر لنحافظ على الساتر.

 

عند الغروب، التقيت ببريد كتيبة "ميثم" وقوّات "عباس شعف" يسيرون صفًّا. وعلى أساس معرفتي بـمعاون الكتيبة "كاظم رستگار" التحقت بطابورهم وتقدّمت معهم. فقد كان من المعمول به في الجبهة، أنّك إن كنت تعرف شخصين في الكتيبة، تصبح محظيًّا فيها.

 

سرنا قليلًا. تحدّثت في الطريق إلى الإخوة وتعرّفت إليهم. كنت أبحث عن رفيق ولم آنس كثيرًا بأحدهم. سارع بعض شباب كتيبة "ميثم" من أصحاب النخوة والشهامة إلى مصاحبتي.

 

بدأ النهار يطول. فقد كنّا في أواسط شهر أيّار، وأصبحت الشمس تتأخّر

 

237

 

 


225

.. وتحرّرت خرمشهر

في الغروب. صلّينا صلاة المغرب ونحن في الطابور.

 

قرابة الساعة الثانية عشرة، علت أصوات نيران الرشّاشات والقذائف من المحاور الواقعة على شمالنا ويميننا. الصوت ليس قريبًا، إنّما من الواضح أنّ كتيبتي "سلمان" و"مالك" تخوضان مواجهة شرسة. لم يكن من المقرّر أن تبدآ بالمواجهة قبل وصولنا، لكنّهما فعلتا. كانت كتيبة "مالك" تتمركز على يسارنا، وكتيبة "سلمان" على يميننا، من المفترض أن تنطلق الكتائب الثلاث معًا بالمواجهة. لكن يبدو أنّ الأمور تعقّدت.

 

بعد مضيّ وقت على بدء المواجهات، علمنا عبر جهاز اللاسلكي أنّ كتيبة "سلمان" تواجه مشكلة. كنت على معرفة سابقة بقائد الكتيبة "حسين قجه إي"، فهو من شباب أصفهان؛ مصارع، قويّ من أهل النخوة. لقد جمع في شخصيّته القيادة الممتازة والشجاعة العالية.

 

في معمعة العمل ذاك، تناهى إلى سمعي بأنّ أكابر (زقاق نقاشها) قد جاؤوا إلى "بستان" وقد نصبوا مطبخًا صلواتيًّا للفِرَق. في تلك الليلة أحسست بشوق إلى أبناء محلّتنا، وحيث كنت عنصر احتياط فلم أحتج إلى أخذ الإذن للذهاب. وكنت كلّما هام بي الشوق إليهم، ذهبت إلى هناك. في تلك الليلة، ذهبت برفقة عنصرين أو ثلاثة من كتيبة ميثم، وتوجّهنا إلى "الهويزة" وقاعدة "حميد". سألنا أكثر من شخص عن عنوان المطبخ إلى أن وجدناه. كان ذلك في منتصف الليل، لكنّ أحدًا لم يكن نائمًا في مطبخ الفرقة. الجميع مستيقظون، ومنهمكون بالعمل. ویا له من محفل! فقد سقطت ليلة أمس قذيفة بالقرب من بقرة؛ فجرى ذبحها، وانشغلوا بطبخ الرأس والمقادم، ووصلنا نحن في الوقت المناسب. وقد اجتمع في ذلك المحفل كلّ طهاة المحلّة الماهرين الذين كانوا يطبخون أيّام عاشوراء خمسين قدرًا؛ "السيّد عبّاس زين العابدين"، و"الحاجّ محمّد

 

238


226

.. وتحرّرت خرمشهر

نورتاج"، و"الحاجّ قيداني"، والحاج "غلام شاطريان"، و"حسين باقري". ..

 

بعد صلاة الصبح، وقبل شروق الشمس نضج الرأس والمقادم. وبينما نحن جالسون إلى مائدة الطعام، قال الإخوة إنّه وُجد في إحدى قرى الأهواز طائر يتكلّم، وإنّه يصيح بطريقة ما وكأنّه يقول: "واويلاه، لقد قُتل الحسين". أخذتنا الضحكة في بداية الأمر، بعد ذلك خطر ببالنا أن نذهب ونرى ذلك الطائر. فركبنا قرابة الساعة العاشرة صباحًا، سيّارة تويوتّا وتوجّهنا إلى الأهواز.

 

استدللنا من الناس على مكان الطائر، فكان الجميع -بحمد الله- يعرفونه. أشاروا لنا إلى حقل وقالوا: "إنّه يطير هناك، اصبروا الآن يظهر".

 

ذهبنا إلى الحقل، نظرنا حولنا لعدّة دقائق. فقد كان السهل مليئًا بالطيور والحيوانات. أشاروا لنا إلى طائر وقالوا: هذا هو. استمعوا جيّدًا؛ إنّه يقول: واويلاه لقد قُتل الحسين.

 

كان الطائر شبيهًا بالهدهد. وكان يشدو، ويذكر. حسنًا، فجميع الطيور تسبّح الله.

 

دقّقنا السمع، واستمعنا لعدّة دقائق إلى شدو الطائر، لا أدري، لربّما كنّا نسمع هذه العبارة في لاوعينا: "واويلاه، لقد قُتل الحسين"؛ لكنّ الحقيقة الثابتة، أنّ لهذا الطائر، وكما بقيّة الطيور، شدوًا وصوتًا خاصّين.

 

لقد أصبحت هذه القضيّة نكتة الموسم. بدوري، لم أوكّد الأمر ولم أنفِه! ذلك أنّ الناس كانوا يحترمون ذاك الطير، لذا لم أكن أجرؤ على إنكار المسألة. على أيّ حال، إنّ حبّ الحسين عليه السلام هو الذي أوجد هذا الإحساس لدى الناس.

 

بعد الظهر، تركنا الطائر لحاله ورجعنا إلى مقرّ التكتيك.

 

239


227

قنابل الظلام

وهناك كانت قصّة اشتباكات كتيبة "سلمان" و"حسين قجه إي" ما زالت تدور على الألسن. رأيت الحاجّ أحمد يتكلّم على جهاز اللاسلكي، وقد بدا الاستياء واضحًا على وجهه. كان يقول لأحدهم: "حسين وعناصره محاصرون، ومهما قلنا لهم أن ينسحبوا لم يسمعوا كلامنا..".. وما إن لمحني حتّى قال: "سيّد، جزاك الله خيرًا، خذ عدّة أشخاص واذهب إلى حسين، وأجبره على الانسحاب".

 

فورًا، ركبت خلف أحدهم على درّاجة ناريّة واتّجهنا نحو محور كتيبة "سلمان".

 

كانت كتيبة "سلمان" قد تموضعت في محور على هيئة حدوة الفرس [نصف دائري] وقد اجتمع عناصرها من شدّة النيران إلى جانب الساتر، وكان طرفا المحور خاليين. في الجانب الآخر، حيث خطّ دفاع العراقيّين، اختلطت جثث القتلى العراقيّين وجرحاهم مع أجساد شهدائنا. كان الجرحى يئنّون، لكنّ أحدًا لم يجرؤ على الذهاب إلى تلك الناحية. تعقّدت الأمور بنحو كبير، وأُفلتت من أيدينا.

 

عندما طالت المواجهة أُتلفت أعصاب القوّات، وهناك رأيت "حسين" فقط واقفًا كالجبل. يشهد الله أنّه لم يَظْهر أدنى أثر للخوف في وجهه.

 

في الليل، ضرب العراقيّون حولنا نصف طوق. أدركت بوضوح أنّنا نقع شيئًا فشيئًا في الحصار. كان من المفترض أن يُرسلوا إلينا كتيبة دعم؛ لكن لم نجد لها أثرًا إلى منتصف الليل.

 

قرابة السحر، انطلقت الدبّابات من ناحية طريق الأهواز- خرّمشهر باتّجاهنا، وكأنّهم قد استعادوا قوّتهم للتوّ. عند الفجر، أطلقوا نحونا وابلاً من النيران بحيث اهتزّت الأرض من تحت أقدامنا، وكأنّ زلزالًا

 

240


228

قنابل الظلام

حصل. كان الساتر الترابي يتقدّم ويتأخّر. كما إنّهم حرثوا المنطقة بنيران المدفعيّة. وسرعان ما احتلّوا محور كتيبة "مالك" الذي كان على شمالنا وسيطروا عليه. ومن هناك كثّفوا إطلاق النيران، فكانت نيرانهم البعيدة المدى كثيفة إلى حدّ جعلت جنودهم عاطلين من العمل. فقال الإخوة: إنّهم يوفّرون قوّات المشاة خاصّتهم من أجل إطلاق رصاصة الرحمة علينا.

 

التقطتّ سلاح أحد الجرحى، كان مخزنه ممتلئًا. وتمترست في أعلى الساتر.

 

الجرحى المساكين، راحوا يربطون جراحهم بكلّ ما توافر لديهم. وكان عددهم كبيرًا إلى درجة لم يستطع المسعفون إسعافهم جميعًا. وحيث كانت الدماء تنزف من الأبدان، بدأ العطش يحطّ رحاله عندهم. فكانوا يلتقطون جعب الماء، يرتشفون منها رشفة وهم بحالة يُرثى لها، وما يلبثون أن يفارقوا الحياة. هناك تبدّى عالم آخر. كنتَ ترى كلّ شيء؛ الأيادي والأرجل المقطّعة، ورفيقًا من غير رأس ولا يدين. لكنّ شيئًا آخر لم تكن لتراه؛ وهو الخوف من الموت. فكلّ من حضر هناك علم أن لا رجعة في هذا الطريق. وليس ثمة تفريق بين هذه الكتيبة وتلك الكتيبة. كان الجميع قلبًا واحدًا. ففي هذه الناحية، جيش الحقّ، وفي تلك الناحية جيش الباطل، والقتال تحتّم علينا. كلّ شخص التزم جانبًا من العمل، وكان حسين هو الموجّه. يشهد الله أنّه أرشَد جيّدًا، وصارع وكافح ببطولة وشجاعة. فكان سكوته في محلّه وقتاله في محلّه.

 

لقد قسّم الإخوة ووزّع كلّ مجموعة منهم في ناحية من نواحي الساتر وقال: "احملوا الـ"B7" وارموا بها الدبّابات، فلا فائدة من القنّاصة". بعد ذلك، سلّم سلاحي إلى أحد الإخوة وأعطاني الـ"B7" خاصّته، فقمت مباشرة ومن دون تأخير، بوضع قذيفة في رأس القبضة وهدّفت ورميت. انطلقت القذيفة واصطدمت مباشرة في الدبّابة؛ لكن لم تؤثّر فيها. فقد

 

 

241

 

 


229

قنابل الظلام

ارتدّت كطابة مطاطة وسقطت في مكان آخر. رميت عدّة قذائف، ولكن أيضًا بلا فائدة. استغرق الأمر نصف ساعة حتّى أدركت أنّه عليّ أن أصوّب على الجنزير والفوّهة؛ وإلّا لن يجدي ذلك نفعًا. كانت دبّابات من نوع تي 62 وتي 72، لم تكن الـ"B7" تؤثّر فيها. "الملاعين" قد جعلوا سماكة هيكلها 40 سم من الحديد القوي الذي لا يُخترق.

 

في خضمّ المعركة، جاء الحاجّ "همّت" والحاجّ "علي ميركياني". والحكاية كانت نفسها، وهي إقناع حسين بالانسحاب والإصرار عليه واستنكار بقائه هناك. أشار حسين إلى جثث الإخوة وقال: "أنّى لي أن أترك شبابي وأذهب؟".

 

بعد ساعة، عاد الحاجّ "همّت" و"ميركياني" إلى الخطوط الخلفيّة.

 

بعد أن اكتشفتُ طريقة رمي الدبّابات، جمعت ثلاثة أو أربعة عناصر، فشكّلنا فريق صيد الدبّابات. كنّا نرمي بشكل متفرّق، وكان الإخوة يرفعون أصواتهم بالتكبير.

 

قال حسين: "أطلقوا الرصاص الفوسفوري لتعمل مدفعيّتنا. فقد نسوا أنّنا هنا".

 

لكنّ نيران مدفعيّتنا لم تكن ذات أهميّة. فلم يكن مداها يصل إلى العدوّ من على بعد 15 كيلومترًا.

 

في خضمّ المواجهة، جيء بقبضة مدفع من عيار 106، وقد نُصبت فوق سيّارة جيب، فراح الخبراء يستخدمونها.

 

مضت عدّة ساعات، لكنّ عدد الدبّابات لم يقلّ. كنت منهكًا وخائر القوى، مشوّشًا. فمن شدّة ما رميت بقذائف الـ"B7"، بدأ الدم ينزف من أذنيّ.

 

نفدت قذائفي، فاستندت إلى جانب الساتر وطلبت من أحدهم أن

 

242


230

قنابل الظلام

يذهب ويجلب لي القذائف. ذهب وعاد بعد دقائق ببعض القذائف وقال: "لقد سيطر العراقيّون على الجانب الأيسر، والجميع ينسحب..".

 

أخذت القذائف منه وقلت: "اذهب أنت يا أخي، نحن باقون هنا".

 

حقيقةً، تعسًا لذلك الوقت الذي تسيطر فيه خشية الهزيمة أثناء المعركة على قلوب القوّات. وإذا ما انسحب عنصر إلى الوراء، فإن كان لديك مليون عنصر، ستحدّثهم أنفسهم بالانسحاب.

 

صعدت إلى أعلى الساتر، وحقًّا كان. فقد تقدمت الدبّابات إلى الساتر وسيطرت على الجانب الأيسر تمامًا. ولم يبقَ هناك سوى عناصر متفرّقة.

 

كان حسين يحمل بإحدى يديه الـ"B7"، وباليد الأخرى جهاز اللاسلكي. توجّهت نحوه، وهو يتكلّم عبر الجهاز: "لو كنت أستطيع الانسحاب لانسحبت وفككت الحصار. حسنًا، أنا ذاهب إلى الأمام".

 

سكت لبرهة ثم قال: "البحث ليس بحث الولاية. ولو أمرت الولاية لا أقبل بذلك. لقد أحللت قيد الجميع، ولينسحب من يريد الانسحاب". حين رآني قال: "سيّد، أنت عنصر احتياط، ونحن الآن لم نبلِ بلاءً حسنًا، فلا تربط نفسك بي. اجمع من استطعت من العناصر، وانسحب. وأنا لن أقول عن الذي ينسحب إنّه جبان...".

 

قلت: "لا تتكلّم بكلمات كهذه أخي حسين. فأنا لست رفيقًا لنصف الدرب. وقد وقعنا في مأزق الآن، لكنّ أهل المروءة يقولون إن أردت الذهاب إلى جهنّم فاذهب برجولة. وإنّي أسير إلى آخر الطريق مع كلّ من وعدته بأن أكون معه. هذه هي طبيعتي. لكن، أخي حسين، هذه لعبة خاسرة، وليست المسألة مسألة خوف. وأين هو الخوف؟ لو كانت هذه الجماعة ممّن يخافون، لما أتت إلى هنا، ولكانوا بقوا في أحضان أمّهاتهم. تكاد الشمس تطلع الآن، والنيران قد أنهكت الإخوة، هيّا بنا ننسحب!".

 

243


231

.. وتحرّرت خرمشهر

أجاب: "أين أذهب يا عمّ؟ ألا ترى كلّ هؤلاء الجرحى؟ سيأتي هؤلاء الذين لا دين لهم ويطلقون عليهم رصاصة الرحمة. إن أنا انسحبت سأموت كمدًا؛ دعني أمت هنا. لا يمكنني ترك عناصري".

 

قلت: "من حقّك أن لا تتوقّف وأن تكون شجاعًا؛ لكنّ الإدارة بذاتها شكل من أشكال الشجاعة. وإنقاذك لعشرة أشخاص هو بنفسه غنيمة".

 

قرابة الظهر، أصبح هناك تقنين في المياه. فكنّا نأخذ جعبات ماء بعضنا البعض، ونرطّب شفاهنا. فشمس خوزستان لا تعرف المزاح مع أحد! تحرق وتجفّف.

 

لم ينفع البحث والجدل مع حسين. فكان يصعد إلى أعلى الساتر، يرمي قذيفة "B7"، ويقفز من ثمّ وراء الساتر.

 

لا أدري إن كان فعله من أجل الله، أم من قبيل العناد والغرور، لكن مهما كان لم أستطع أن أتركه وحيدًا. كنت أرى العناصر الصغار يلتمسون "نحلّفك بأمّك، خذنا من هنا" أو "لا تبقونا هنا" فينفطر قلبي. أمّا أولئك الذين لم تعد بهم طاقة على الكلام، فكانوا يلتمسون بعيونهم ويطلبون العون؛ كانوا متناثرين كالورود على وجه السهل. إن كنت انسحبت وتركتهم لقال الجميع هذا من أهل الادّعاء. لقد هرب. كان الجميع يتطلّعون إليّ. فقد كنت أكبر سنًّا من الجميع. وكان الصغار يحسبون لي حسابًا.

 

إلى أن حلّ الظهر، كان البعثيون قد حرثوا الساتر الترابي وفعلوا ما حلا لهم. نفد كلّ ما في أيدينا؛ فلا ذخائر ولا أيّ شيء آخر. أصبح الموت على مسافة خطوات منّا. كلّ ما كنّا نملكه هو الصلوات على محمّد وآل محمّد، وذكر الله تعالى.

 

في تلك الأثناء، توجّهت إلى جهاز اللاسلكي وتكلّمت مع الحاج أحمد.

 

244

 

 


232

.. وتحرّرت خرمشهر

قلت: "أنجدنا يا حاج".

 

أجاب الحاجّ باستياء: "لقد أرسلت إليكم قوّات دعم لتؤمّنكم من جانب وترمي على الدبّابات. واعلم أنّ كلّ ما أصاب الدبّابات عن يمينكم فهو فعل شبابنا. لسنا جالسين نتفرّج عليكم. ولقد أرسلنا صندوقًا من قذائف الـ"B7"".

 

كان الحاجّ يرغب بنزول القوّات إلى الأرض، لكنّ يديه كانتا مغلولتين في تلك الحال من الحصار؛ وحتّى لو جيء بألف مقاتل لما أجدى نفعًا. فحرب اللحم والحديد لن تفضي إلى نتيجة.

 

طمأنني صوت الحاجّ، لأنّه دومًا يتابع أعماله ويفهم عناصره.

 

بعد الظهر، وتحت مرمى النيران الكثيفة، صعد حسين إلى أعلى الساتر، وضع قذيفة في القبضة، هدّف على الدبّابات، لكن قبل أن يرمي، أصيب بطلقة دبّابة في صدره مباشرة، فسقط من أعلى الساتر معفّرًا بدمه واستُشهد. كنت على مسافة أمتار منه، نهضتُ ورحتُ أجري نحوه؛ لكن فجأة أحسست بحريق في ساعدي، شمّرت عن كمّي، لأجد أنّ شظيّة أصابت يدي والدم ينزف منها.

 

ربطت الجرح جيّدًا بمنديل كان بحوزتي ليقف النزيف. بقيت جالسًا هناك قرابة الساعة، إلى أن فكّ الإخوة أخيرًا الطوق عنّا ونفذوا في قلب الحصار، بأيّ طريقة، لا أدري. فجاء في البدء المسعفون، ومن ثمّ الحاجّ أحمد.

 

كنت جالسًا إلى جانب الساتر منهكًا مغبّرًا. لم يكن بي قوّة على النهوض. وقف الحاجّ أحمد فوق رأس حسين وراح يبكي.

 

حمّل المسعفون الجرحى ونقلوهم، لكنّ أجساد الشهداء بقيت في

 

245


233

.. وتحرّرت خرمشهر

الجانب الآخر من الساتر.

 

حين أوشك الليل على الهبوط، سكتت نيران العراقيّين. كان هذا دأبهم؛ ففي النهار كانوا يرمون النيران، وفي الليل يهدأون. وهنا يأتي دورنا لنعبّر عن أنفسنا ونستعرض قوّتنا في الليل. جاءت كتيبتا حمزة وأبو ذرّ ومرّتا من أمامنا.

 

مع الغروب، قمت أنا أيضًا وعدت إلى الخطوط الخلفيّة وليس بي رمق. في المستشفى الميداني، ضمّدوا جرحي جيّدًا، لأنتقل بعدها بسيّارة إلى مقرّ الطاقة الذريّة، وأصل إليه في منتصف الليل.

 

في صباح اليوم التالي، جيء بالحاجّ أحمد بواسطة سيّارة إسعاف. وكان قد أُصيب هو أيضًا بشظيّة في رجله. وقد ضُمّد جرحه بضماد أبيض اللون، فراح يتوكّأ على عصا أثناء مشيه.

 

تقدّمت واحتضنته. بقيت إلى ما بعد الظهر مع الحاجّ. فقد كان يصادق الجميع ويخالطهم. في ذلك اليوم سألني عن حسين والحصار، فأخبرته بكلّ ما رأيت وسمعت.

 

قال الحاج: "لقد كان حسين رجلًا. وقد قاتل بشهامة؛ لكن كان يمكنه الانسحاب. لكم أصررت عليه؟ أن يا عمّ! كتيبة ميثم المتواجدة على يمينكم قد واجهت مشاكل وتعقّدت الأمور لديها، وقد أرسلت إليهم "محسن وزوايي" لمتابعة أمورهم وتنظيم صفوفهم، فإذا بقذيفة مدفعيّة تسقط بالقرب منه، ويرتفع شهيدًا في المرحلة الأولى".

 

فوجئت لسماعي خبر شهادة محسن. قلت: "إِ... استُشهد محسن؟".

- نعم، لقد انتهى أمر "خرّمشهر"، وقد اجتثثنا أصول العراقيّين من هناك.

 

246


234

.. وتحرّرت خرمشهر

جلست وبكيت قليلًا على محسن وحسين. نعم، كان كلّ واحد منهما أوحديًّا، ولائقًا بالشهادة.

 

عند الغروب، ودّعت الحاجّ أحمد، وبتّ ليلتي تلك في مقر الطاقة الذرّيّة. حين أفقت، كان الحاجّ أحمد قد رحل. رحت أكيل اللوم لنفسي أن لِمَ لم أستيقظ في الصباح الباكر وأرى الحاجّ قبل أن يرحل!

 

في ذلك اليوم، سألت جماعة ممّن عادوا للتوّ من الخطوط الأماميّة: "أين كنتم؟ وماذا فعلتم؟".

 

فقالوا: "لقد كنّا في المحور الشمالي. وفرقة الإمام الحسين عليه السلام، الآن بالقرب من خرّمشهر".

 

ركبت سيّارة وذهبت إلى الأخوين في معلومات العمليّات، "عباس كريمي" و"ميثم بهرامي"، وكانا مسؤولي المعلومات فقالا: "سنهجم اليوم على الخطّ".

 

عصرًا، وُزّعنا على أربع مجموعات، ضمّت كلّ مجموعة أربعة عناصر، وذهبنا باتّجاه الخطوط الأماميّة. عبرت و"إسماعيل خاني"، و"قاسم الله وردي" و"مجتبى حسيني" ساترًا ترابيًّا وسحبنا المناظير. كانت الدبّابات قد اصطفّت إلى الجانب الآخر من جسر خرّمشهر. فراح "قاسم الله وردي"، وكان صغیر السنّ، يسجّل عدد الدبّابات وأماكنها على ورقة.

 

كان من المقرّر جرّ المعركة إلى شوارع خرّمشهر وإنهاء أمرها.

 

في الليل، ذهبت إلى كتيبة "حمزة" واستقررت في طابور "رضا چراغي". وكانت هذه المرحلة الرابعة من عمليّات "بيت المقدس".

 

بدأ "عباس كريمي" يعطي التعليمات للقوّات ويوجّهها، فقال: "ينبغي لكتيبتي "حمزة" و"حبيب" أن تتقدّما وتقوما بعملهما. وستأتي كتيبتان

 

 

247


235

.. وتحرّرت خرمشهر

من المنطقة الفلانيّة..".

 

ذهبت أنا و"إسماعيل خاني" مع كتيبة "حمزة" إلى الخطوط الأماميّة، كعناصر من معلومات العمليّات. كنت أعرف المنطقة تقريبًا. سرنا قرابة الساعة والنصف إلى أن توقّفنا في مكان، وزّع "رضا چراغی" القوّات وقال: "إنّنا على مقربة من العدوّ، وهذه هي نقطة الانتشار".

 

في عتمة الليل، قمنا بتوديع بعضنا بعضًا وطلب المسامحة كلٌّ من الآخر. وقرابة الساعة الثانية عشرة ليلًا، صدرت الأوامر بالهجوم. بناءً على قانون معلومات العمليّات، كان عليّ العودة إلى الخطوط الخلفيّة ما إن تباشر القوّات عملها؛ لكنّي ألقيت نظرة إلى الأرض فوجدت سلاحًا.

 

مضت بضع دقائق على ابتداء العمليّات، فهجمت القوّات وتقدّمت إلى الأمام. فلو كان سلاح أحدهم وقع، لالتقطه رفيقه. وكنت بدوري أحبّ كثيرًا صيد الدبّابات. وأردت أن أبلي بلاءً حسنًا في هذا الأمر.

 

في تلك الليلة، أصبنا دبّابتين، وبقينا في المواجهة حتى طلوع الفجر.

 

صاح أحد الإخوة: "ما شاء الله، ما شاء الله... لقد سقطت بوّابة "خرّمشهر" في أيدينا".

 

بالتزامن معنا، ظلّت فرقة الإمام الحسين عليه السلام تخوض مواجهة على جسر "خرّمشهر" وآتت المواجهة ثمارها. ذهبنا خلفهم لنستكمل عملهم. نزل لواء "النجف الأشرف" ولواء "الإمام الحسين" عليه السلام إلى الشوارع، ما أدّى إلى إطالة أمد المواجهة، وانجرّ الأمر إلى القتال وجهًا لوجه ومن بيت إلى بيت. لم أكن أعرف طرقات خرّمشهر وأزّقتها جيّدًا. وتطهير المدن يقتضي المعرفة بها. وصلت مجموعة من الإخوة تابعة لفرقة "وليّ العصر"، على إلمام يسير باللغة العربيّة، وتابعت حرب الشوارع تلك.

 

248

 

 


236

.. وتحرّرت خرمشهر

قرابة الظهر، رحنا نقفز في بيوت خرّمشهر الخربة من فوق هذا الجدار إلى خلف ذاك الجدار، وبينما نحن كذلك إذ بنا نسمع أحدهم ينادي: "خرّمشهر تحرّرت... خرّمشهر تحرّرت..".

 

يشهد الله أنّي تسمّرت في مكاني. ظننت أنّي أتخيّل؛ لكنّ مجموعة أخرى راحت تصيح أيضًا وتردّد القول نفسه. لا أستطيع أن أصف حالي في تلك اللحظة؛ انتابتني حال بين البكاء والضحك. في وقت كان الكثير من الإخوة ما زالوا إلى حينها يخوضون المواجهة، والقوّات العراقيّة تقصف المدينة.

 

ما إن سمعت بخبر تحرير "خرّمشهر" حتّى توجّهت مع عدد من الإخوة إلى المسجد الجامع فيها. كان الزحام كبيرًا، فقد اجتمع المواطنون والمجاهدون أمامه وراحوا يذرفون دموع الفرح. وقد آتى العمل أكله، فظهر السرور على الجميع لهذا النصر.

 

جاء الحاجّ أحمد يتوكّأ على عصا ويعرج في مشيته. تحلّقنا حوله وعشنا حالًا لا مثيل لها.

 

كانت أصوات القذائف تدوّي من حين لآخر. فلم يكن العراقيّون ليقبلوا بهذه الخسارة.

 

قال الحاجّ أحمد: "أشكركم جميعًا. سقى الله الإخوة الذين قضوا عطشًا في الصحراء. فهؤلاء هم من حرّروا "خرّمشهر". "محسن وزوايي"، و"حسين قجه إي" قاتلا بشجاعة. علينا أن نعرف قدر شجاعتهما؛ قدر صغار السنّ من الإخوة الذين جاؤوا إلى الجبهة بهويّات إخوتهم الأكبر منهم سنًّا. لم يأتِ أحد على ذكر هؤلاء الذين قضوا غرباء".

 

لقد تحرّرت "خرّمشهر" وانتهى الأمر هناك. كان الجميع يظنّ أنّه بتحرير "خرّمشهر" ستنتهي الحرب؛ لكنّ إيران كانت تبحث عن ورقة

 

249


237

.. وتحرّرت خرمشهر

رابحة، حتّى إذا ما طُرحت قضيّة الصلح، تكون ممسكة بأوراق قوّة في يدها، وتدخل من باب القوّة. لقد حقّقت إيران نفسها، ورفعت اسمها في العالم، وقد تردّد في العالم أن إيران أربكت العراق وهزمته.

 

بعد العمليّات، عدت إلى طهران. ظننت أنّ الأمور قد انتهت، وأنّني لن أعود إلى الحرب ثانيةً.

 

في تلك الأيّام، أُعلنت حال الطوارئ في جنوب لبنان الذي احتلّه العدوّ الصهيوني. وسرت أخبار بأنّ قوّات الحرس الثوري تنوي الذهاب إلى لبنان على شكل فرقة بقيادة الحاجّ أحمد متوسّليان، لقتال إسرائيل.

 

کان جميع الإخوة الذين من المفترض أن يذهبوا إلى لبنان مع الحاجّ أحمد من الحرس. وكان الحاجّ في تلك الأيّام مشغولًا بانتقاء رفاقه. لم أعد أعرف القرار. فطبيعة المغامرة في ذاتي جعلتني لا أعرف الاستقرار. أردت أن أذهب مع الفرقة إلى لبنان بأيّ وسيلة كانت؛ ولو من أجل الزيارة. ومهما طرقت الأبواب، لم يوافقوا على ذهابي، لأنّي لم أكن مستخدمًا رسميًّا في الحرس. طرقت لثلاثة أيّام في الوزارة هذا الباب وذاك، وقابلت هذا وذاك حتّى أخذت مأموريّة لثلاثة أشهر من وزارة الخارجيّة إلى سفارة إيران في دمشق.

 

كانت كلّ رغبتي أن أكون إلى جانب الحاجّ أحمد وشجعان الحرب، وأن أشارك في المواجهة إذا ما حصلت. وكنت أرى من العار أن يكون الحاجّ أحمد في لبنان يقاتل وأبقى أنا هنا في طهران أستريح. وقد رافق الحاجّ أحمد كلّ من أصغر أرسنجاني، وحسن بهمني، وعلي موحّد، وحسين طاهري والكثير من أبطال الحرب. في تلك الفترة، لم تكن صداقتي قد توطّدت بأصغر أرسنجاني؛ بل كانت مقتصرة على التحيّة والسلام، وعلى محبّة خاصّة لكن ضمن حدود.

 

وصلت إلى سوريا بعد الإخوة بيومين أو ثلاثة. وهناك كانت حكاية

 

250


238

.. وتحرّرت خرمشهر

الزيارة واللطم والعشق والحال المعنويّة. ففي الليالي، كان أصغر أرسنجاني ورضا غزلي يقرآن المرثيّات بصوتيهما العذبين في مقام السيّدة زينب عليها السلام فنشرع معهما باللطم.

 

لم تمضِ عدّة أيّام على وجودنا في سوريا حتّى أُبلغنا فجأة بوجوب العودة إلى إيران؛ فالقضيّة الأهمّ الآن هي الحرب العراقيّة-الإيرانيّة، وإذا ما ضعفنا في ذلك المحور، لتلقّينا الضربة من العراقيّين. كان هذا رأي الإمام.

 

ذات ليلة، كنت في السفارة، وأوشكنا على العودة إلى طهران، لكن وردنا اتّصال من مقرّ قوّات الحرس يفيد بأنّ الحاجّ أحمد لم يعد. كانوا مرتاحي البال حيث ظنّوا بأنّ الحاجّ أحمد في السفارة، ونحن بدورنا كّنا نظنّ بأنّه في المقرّ. اجتمعنا فريقين من السفارة ومن المقرّ ورحنا نبحث عن الحاجّ أحمد. اصطدمنا في مكان ما بحائط مسدود، وعلمنا بأنّ الحاجّ أحمد قد اختفى، وبعبارة أخرى، اختُطف.

 

عند المساء، عُقد اجتماع في السفارة؛ وأُجريت الاتّصالات، وعلى حدّ تعبيرهم، المتابعات السياسيّة. وفي اليوم التالي تبيّن بأنّهم قد أُخذوا رهائن.

 

من الذي اختطفهم؟ ولِمَ؟ الله أعلم. لم يكن الأمر واضحًا. بعد عدّة ساعات، قيل إنّهم لم يؤخذوا رهائن، سوف يتمّ التحقيق معهم ومن ثمّ يطلق سراحهم.

 

انقضى بعد ظهر اليوم التالي، ويومان آخران وثلاثة، ولم يأتِ الحاجّ أحمد. جاءت الأوامر من طهران بلزوم العودة إلى إيران بأسرع وقت ممكن.

 

في الثالث عشر من شهر تمّوز، أنهيت أشغالي مع السفارة الإيرانيّة في دمشق وعدت إلى طهران، بعين باكية وقلب دامٍ. بعض الإخوة كانوا

 

251

 


239

.. وتحرّرت خرمشهر

مصدومين وقلقين إلى درجة لم يكونوا فيها مستعدّين للعودة من دون قائدهم؛ أرادوا البقاء لعلّهم يستطيعون القيام بشيء. لكنّ اختطاف الحاجّ أحمد أصبح أمرًا معقّدًا ومشكلًا بحيث لا يمكن حلّه من قبل رجل أو اثنين. لم يستطع أيّ شخص القيام بأيّ عمل؛ أي لم يكن بمقدور أحد القيام بشيء، ففي تلك البلاد الواسعة التي تعيش حالة شبيهة بالنظام العسكري، أين يجب علينا أو أين نستطيع البحث؟

 

حين عدت إلى البيت، قالت لي فاطمة: "ليتك بقيت في سوريا لنذهب نحن أيضًا إلى هناك ونزور".

 

عندما أخبرتهم بقضيّة اختطاف الحاجّ أحمد، شرعت أمّي بالبكاء. فلقد سبق لها ورأته وتعرّفت إليه. وضعت نفسها مكان والدته. فالحاجّ أحمد لم يكن بالإنسان الذي يمكن نسيانه والانقطاع عنه بسهولة.

 

 

252

 

 


240

شدّوا أحزمتهم

شدّوا أحزمتهم

 

وقع الكأس من يدي ولم ينكسر..

 

في الرابع عشر من شهر تمّوز، ركبت القطار وعدت من جديد إلى مقرّ الطاقة الذريّة. أردت أن أكون في الخطوط الأماميّة وفي ساحة القتال من جهة، وأن أستخبر عن الحاجّ أحمد من جهة أخرى. طوال الطريق، كنت أفكّر فيه. تمثّلت صورته أمام عيني ولم تبارح خيالي. لا أعرف ما هو السرّ والحكمة فيما حصل للحاجّ أحمد؟!

 

لقد حصل كلّ شيء بسرعة. وكلّ الذين كانوا يتكلّمون عن الصداقة والأصالة كانوا هادئين؛ وكأنّ شيئًا لم يحصل. ففاتح خرّمشهر وقائد الحرب الكبير قد اختُطف وجميعهم ساكتون. تذكّرت أقواله وأفعاله. حين كان يُسرّ عندما نسأله عن شيء، ونناقشه في أعماله، ويقول: "لا تكونوا مؤدّبين، فتقبلوا بكلّ ما أقوله، وتقولوا سمعًا وطاعة. اسألوا، ارفعوا أصواتكم وطالبوا بحقوقكم".

 

لقد عرفت الحاجّ رجلًا بالفعل، وملاذًا للإخوة وساعيًا وراء الحقّ والحقيقة. وحين كنّا نتكلّم معه عبر جهاز اللاسلكي، كنت أشعر بالدفء وبالطمأنينة في قلبي، وأنسى الصعاب.

 

253

 

 


241

شدّوا أحزمتهم

تميّز بصوته الجهوري والرجولي. وعندما كان يجلس في المقرّ وراء جهاز اللاسلكي ويتكلّم، وكأنّ يدًا قديرة هي التي توجّه القوّات وترشدها. فلا يبقى شيء ناقصًا. وأينما كان موجودًا، إن رأى من المصلحة أن ينزل بنفسه بين النيران ويشرف على عمل القوّات مباشرة، ويتصدّى للأمر، كان يبادر. ولم يكن يجلس في المقرّ ويتحصّن بمتاريس الباطون ويدع القوّات وحيدة.

 

أدعو الله تعالى ببركة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف أن تُعرف أهميّة الجهود التي بذلها من أجل الحرب. جهود ومصاعب لم يبقَ ليرى ثمارها ونتائجها.

 

وصلت منتصف الليل إلى مقرّ الطاقة الذرّيّة. فقيل لي: إنّ المرحلة الأولى من عمليّات رمضان قد تمّت، وإنّ الإخوة قد اقتحموا خطوط دفاع العدوّ. وقد قام بالاستطلاع لهذه العمليّات فريق معلومات سعيد قاسمي. في الفترة التي كان فيها فريق الحاجّ أحمد المحنّك في لبنان، أصبح الحاجّ "محمّد إبراهيم همّت" قائد لواء محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد جرت بعض التبديلات ووزّعت الصلاحيّات على أشخاص آخرين.

 

وكان الحاجّ أحمد قد انتقى "منصور كوتشك محسني" ليحلّ مكانه؛ لكنّ كلّ شيء قد تغيّر بأسره وتبدّل.

 

شارك الجيش والحرس في عمليّات رمضان. كان الجيش يقاتل بشكل كلاسيكي وضمن نطاقات محدّدة، وكان للحرس أيضًا برنامجه.

 

في تلك الفترة التي أُنجزت فيها عمليّات رمضان، خطرت ببالي فكرة، لا أدري إن كانت صحيحة أم خاطئة، وهي أنّ القتال كما في السابق، كعنصر حرّ، وكلّ مرّة مع مجموعة، أكثر صفاءً وأفضل. فأذهب مع كتيبة وأخوض معها العمليّات، ومن ثمّ أخوض في الليلة التالية العمليّات مع كتيبة أخرى. وهكذا لا أضطرّ للبقاء في الخطوط الخلفيّة منتظرًا

 

254


242

شدّوا أحزمتهم

صدور الأوامر. وكلّما سنحت لي الفرصة أُقحم نفسي في طابور وأذهب إلى الخطوط الأماميّة. وبالمناسبة، هكذا أزداد خبرة.

 

في العاشرة صباحًا من اليوم التالي، أخذت درّاجة أحد الإخوة وذهبت إلى خط[1] "بنج ضلعي"* الخلفي، وكنت نوعًا ما على معرفة بالأرض والمنطقة هناك، حيث كلّما التقيت بأحدهم تكلّم عن السواتر الترابيّة المثلّثيّة الشكل.

 

فقد كانت منطقة عمليّات رمضان واسعة وكبيرة؛ وهي عبارة عن صحراء مترامية الأطراف يحدّها من الشمال "كوشك" و"طلائيّة"، ومن الجنوب "شلمجة" ونهر "أروند". الهدف من العمليّات محاصرة البصرة، وكان العراق على علم بذلك، لذا، وضع كلّ إمكانيّاته وطاقاته للدفاع عن البصرة. لكنّه ظنّ أنّنا استرجعنا "خرّمشهر" من أجل تضليله، وإنهاكه عسكريًّا فيها. فكثّف وجوده وإمكانيّاته في "شلمجة"، وراح يبثّ الدعايات المضلّلة ويقول: "لقد انسحبت قواتنا من خرّمشهر لنظهر للعالم أنّنا لا نريد أرض إيران"؛ لكنّه من الناحية الأخرى خدعنا؛ وبالتعاون مع الإسرائيليّين، نصب السواتر الترابيّة المثلّثيّة الشكل، فكان ذلك عملًا موفّقًا بالنسبة له.

 

في الصحراء، التقيت بشباب كتيبة ميثم. أوقفت الدرّاجة وذهبت إلى وراء ساترهم. لم أعرف الكثيرين منهم سوى قائدهم "مختار سليماني"، وعدد من العناصر القدامى.

 

كان شباب ميثم ملتصقين بالأرض. فالقذائف كانت تسقط بالمئات فوق رؤوسهم، والساتر كان يهتزّ. وكانت دبّاباتهم تقصف قصفًا مباشرًا. وقد سقطت بعض جثث العراقيّين من الجهة الأخرى للساتر. وعلى ما يبدو أنّ الإخوة كانوا قد تقدّموا ثمّ انسحبوا. وقال شباب "مختار

 


[1]  مواقع او سواتر خماسية الاضلاع.

 

255


243

شدّوا أحزمتهم

سليماني": لقد رمينا منذ البارحة إلى الآن عشرين دبّابة وعثنا فيها خرابًا.

 

بقيتُ إلى الغروب، مع شباب مختار، وقاتلت إلى جانبهم قليلًا. لم يكن بحوزتي سلاح ولا رمّانات، فاستخدمت أسلحة الإخوة. أوائل الغروب صدر الأمر بالانسحاب، فانسحبت مع شباب الكتيبة. أثناء الانسحاب، اخترقت شظيّة بمقدار حبّة الحمّص ساعدي الأيمن. فنزفت قليلًا، ومن ثمّ توقّف النزيف بعد ساعة، والتحم رأس الجرح. ولأنّ الشظيّة حامية، فإنّها بنفسها تعمل على عدم التهاب الجرح. لكن مهما يكن فإنّها تهدّ حيل الإنسان، وتشلّ قواه[1].

 

بعد ساعتين أو ثلاث، حينما تحسّنت حالي، عدت إلى الخطوط الأماميّة. وفي الطريق، التقيت بشباب كتيبة حبيب سائرين في طابور نحو الخطوط الأماميّة. فالتحقت بهم. توقّفنا في مكان ما وراحوا يعطوننا التوجيهات والمعلومات على عجل، فقالوا: عليكم أن تذهبوا من أسفل موقع زيد باتّجاه الغمر [الفيضان]... والآن أيّ غمر وبأيّ وسيلة، الله أعلم. فالمنطقة كانت كلّها مغمورة بالماء! ووحلها لم يكن كوحل طهران؛ كان لاصقًا كالصمغ. لا أحد يعلم أين يذهب، ففي تلك الصحراء يتيه حتّى عنصر المعلومات الخبير؛ فكيف بعنصر قوّات المشاة تطأ رجلاه لأوّل مرّة تلك الأرض.

 

هناك، تقدّم عدد من شباب المعلومات إلى الأمام قليلًا، عادوا بعد ربع ساعة وقالوا: إنّ الدبّابات منتشرة، فلنصبر ريثما يطلع الصباح، ومن ثمّ نرميها. وما لبثوا أن قالوا: لا، لنصبر حتّى تساعدنا الكتائب الواقعة على يسارنا ويميننا، ومن ثمّ نرميها نحن.

 

ذهبت إلى أوّل الطابور، رأيت الحاجّ همّت يتكلّم عبر جهاز اللاسلكي،

 

 


[1]  فيما بعد عاد الجرح وتقيّح، وظهر رأس الشظيّة مع القيح. فالتقطتُها من رأسها وسحبتها.

 

256


244

شدّوا أحزمتهم

كان جواب عنصر الإشارة: "إن أطلقتم القنابل المضيئة، سيكشفوا مكانكم".

 

بعد ساعة، شُكّل فريق من رماة الـ"B7" المهرة وتقدّموا إلى الأمام. كانت الساعة تقارب الثانية عشرة حين أطلقوا قذيفتي "B7"، فانطلقنا. تقدّمت خطوة بخطوة إلى الأمام ورحت أرمي. التحمت القوّات الإيرانيّة والعراقيّة، فلم أعد أستطيع تمييز جنودنا من غيرهم.

 

بقيت المواجهات إلى قرب السحر. اصطفّت الدبّابات في أعلى السدّ المواجه لنا. كنّا على مقربة شديدة منهم بحيث لم تعد الـ"B7" تجدي نفعًا أو تؤثّر. لكن كنّا نرمي (على خيرة الله وبالتوكّل عليه) كلّ ما يصل إلى أيدينا.

 

هناك يعرف المرء قدر الحاجّ أحمد. فلو كان حاضرًا، لعرف كيف يتدبّر الأمر.

 

قبيل ظهر اليوم التالي، انسحبت القوّات العراقيّة وهي تمطر المنطقة بوابل نيرانها، إلى خلف السدّ، وأحكمت دفاعاتها هناك. انطلقت برفقة سبعة أو ثمانية أشخاص لم أكن أعرف أيًّا منهم، من المنحدر الواقع على يمين السدّ إلى أعلى تحصينات الـ"پنج ضلعی". بدأت درجة الحرارة تشتدّ، وبدأت الشمس تلفح وجوهنا شيئًا فشيئًا. وكنّا نسير في مستنقعات؛ مستنقعات نصف جافّة. ما إن سرنا قليلًا، حتّى صاح أحدهم فينا: "توقّفوا، من أنتم؟".

- من كتيبة حبيب.

 

بعد لحظات، تقدّم قائد كتيبة "حمزة" "نصرت غريب" فعرفني، وبعد التحيّة والسلام، سألنا: "أين كنتم؟".

- كنّا بالأمسِ في الخطوط الأماميّة مع شباب "إسماعيل محمّدي".

 

 

257

 

 


245

شدّوا أحزمتهم

- كان من المفترض بهؤلاء أن يأتوا لمساعدتنا، فلِمَ لم يأتوا؟

- لقد أُجبروا على الانسحاب من موقع واحد وسط المستنقعات إلى الخلف، أعدموا القدرة. وكانت النيران غزيرة، فأقعدتهم أرضًا.

 

ردّ باستياء: "وكيف ذاك؟ هذا لا يصحّ".

 

بعد ذلك اتّجه نحو جهاز اللاسلكي، وراح يتكلّم مع الحاجّ "همّت" وقال: "إنّ كتيبة حبيب قد انسحبت ولم تستطع مساعدتنا، فما العمل؟".

 

جمعت الإخوة وعدنا إلى الخطوط الخلفيّة، ولم أبقَ لأعرف باقي ما جرى مع "نصرت غريب" وكتيبة "حبيب". ذهبت مرّة أخرى في أوائل شهر آب مع كتيبة "المقداد" إلى الخطوط الأماميّة لتنفيذ المرحلة الخامسة من العمليّات. كان بهمن نجفي قائد الكتيبة، فقال: "أريد هذه المرّة أن نستفيد من التجارب السابقة، ولن نتقدّم خطوة من دون استطلاع".

 

كان إسماعيل خاني وقاسم الله وردي مسؤولَي معلومات العمليّات في كتيبة المقداد. وعند الغروب قبل بدء العمليّات، ركبت وبهمن نجفي وإسماعيل خاني وقاسم الله وردي مضافًا إلى ثلاثة من عناصر العمليّات سيّارة تويوتّا وتوجّهنا إلى منطقة "كوت". أوقفنا السيّارة في مكان لا يصل إليه رصاص العدوّ. وذهبنا سيرًا على الأقدام باتّجاه "توك مدادي"[1]، أي إلى جنوب قناة السمك. بعد صلاتي المغرب والعشاء، تناولنا حصّتنا الغذائيّة الحربيّة التي كانت بحوزتنا؛ مخلوط الكاكاو والفستق المسحوق معًا فغدا كقطعة من الشوكولا القاسي. أكلناها مع قطعة من الخبز بمقدار كفّ اليد، ومن ثمّ شربنا جرعة من الماء وانطلقنا مسرعين.

 


[1]  توك مدادي نوك مدادي أي رأس القلم، وهي منطقة تقع إلى الجنوب الشرقي من قناة السمك، وسمّيت بذلك لشباهتها بشبه المنحرف ورأس القلم.

 

258


246

شدّوا أحزمتهم

كان بهمن خبيرًا في معلومات العمليّات والاستطلاع. فعملت بكلّ ما يشير إليّ بثقة واطمئنان. رحت أسير خلف بهمن، وكان يذكّرنا من وقت لآخر بوجوب وضع أقدامنا محلّ قدم الشخص الذي أمامنا وأن نتكلّم بصوت خافت. لقد مشى مسؤولا المعلومات هذان في مقدمة الجميع.

 

تعوّدت أعيننا على العتمة. رأينا الساتر الترابي "ذا الجدارين" المهيب الذي نُصب أمام نهر أروند. لا أدري كم بلغ طوله. لربّما أكثر من عشرين أو ثلاثين كيلومترًا. لم يكن آخره يُرى في العتمة. أمّا من الداخل فكان يوجد فيه ماء، وأجزم أنّهم وضعوا فيه أيضًا الألغام والأسلاك الشائكة وأنواع المفخّخات.

 

جلسنا في مكان ما. سحب قاسم المنظار وراح يعطينا التعليمات ويوجّهنا. كان يتكلّم برويّة وهدوء ويقول: "هنا أوّل المعابر التي هاجمناها من قبل. هذه قناة السمك، وعلى طرفها ذاك "توك مدادي". لربّما يصل عرض القناة إلى كيلومتر. وقد نُصبتْ حولها أنواع الرشّاشات الثقيلة والكمائن والدشم..".

 

بعد ذلك، أرانا شريطًا أبيض اللون قد مُدّ حتّى لا نضلّ طريق العودة. كما ألقينا نظرة بالمناظير على دشم حراسة العراقيّين في جزيرة "بوبيان"، وعلى دشم الدوشكا التابعة لهم والتي لاحت من بعيد. بالقرب من إحدى القنوات المائيّة انتشل الإخوة من تحت التراب أنبوبين من الألومينيوم يبلغ طولهما مترين أو ثلاثة، ووصلاهما معًا بواسطة بعض البراغي المدفونة في کیس تحت التراب، وصنعوا منهما سلّمًا. وضعنا السلّم فوق القناة وعبرناها واحدًا واحدًا، وجلسنا خلف ساتر ترابيّ قليل الارتفاع نسبيًّا. ومن الجهة الأخرى للساتر، ظهرت أرتال الدبّابات وأوّل السواتر الترابيّة المثلّثيّة الشكل. كان ارتفاع الساتر المثلّثي الشكل ثلاثة أمتار، فيما يصل طول كلّ ضلع من أضلاعه إلى الألفي متر. وقد صُفّت الدبّابات ثلاثًا ثلاثًا بموازاة كلّ ضلع من أضلاعه، بحيث كانت فوّهة كلّ واحدة منها موجّهة إلى ناحية؛ أي إنّ

 

259


247

شدّوا أحزمتهم

كلّ دبّابة كان بمقدورها أن ترمي القذائف أمامها، وتشكّل السند والدعم لغيرها. إلى الأمام من الساتر المثلّثي الشكل، توجد أيضًا قناة ذات جدارين، ولربّما تبعد عن الساتر المثلّثي الشكل مسافة تتراوح ما بين الخمسين والمئة متر. لم نرَ في ذلك الوقت من الليل أيّ جنديّ عراقيّ. كان المكان مظلمًا، يسوده الصمت والسكون.

 

قرابة السحر، بدأنا نفكّر بالعودة. تحدّث بهمن عبر الجهاز اللاسلكي قائلًا: "إنّنا عائدون ونحن الآن نروّح عن أنفسنا".

 

بعدها توجّه إلينا وقال: "عليّ أن أرى الطريق. إلى الآن لم يتم توجيهي وإعطائي المعلومات. ولا أدري ما الذي يجب فعله مع هذه السواتر المثلّثيّة الشكل.".

 

بعدها، ذهب مع أحد عناصر معلومات العمليّات، فيما جلست وباقي الإخوة خلف ذلك الساتر ورحنا نتجاذب أطراف الحديث.

 

عند الغروب، عاد بهمن، وعدنا جميعًا إلى الخطوط الخلفيّة، ووصلنا عند منتصف الليل.

 

قبل غروب اليوم التالي، توجّهت مع كتيبة مقداد نحو قناة السمك. كانت ليلة العمليّات، وقوّات الاقتحام موجودة في الخطوط الخلفيّة ومستعدّة للهجوم. وكان من المفترض بنا أن نحكم خطّ الدفاع في الجادّة الشرقيّة الغربيّة لـ "تنومه"، وقد آمن بهمن بأنّ "تنومه" هي مفتاح البصرة.

 

بدأنا تحرّكنا تلك الليلة من جنوب موقع زيد باتّجاه "تنومه". وفي البدء، عبرنا الدشم الإسمنتيّة التي كنّا نسمّيها حصونًا، ووصلنا إلى جادّة صُفّت عليها الدبّابات. ما إن رأيت الدبّابات حتى توجهّت إلى بهمن في أوّل الطابور وقلت له: "البارحة حين الاستطلاع، لم تكن هذه الدبّابات موجودة!".

 

260


248

شدّوا أحزمتهم

أجاب بهمن: "للعراق جواسيس هنا؛ وقد علم بالأمر، ونقلها إلى هنا في فترة الليل. ويتّضح من هذه الموانع والعوائق أنّ العراق علم بأنّنا سنقوم بالعمليّات".

 

بعد مسير نحو ساعتين، أمرنا بهمن بالتوقّف، فتوقّفنا. انتقى فريقًا من مطلقي قذائف الـ"B7"، وكنت أنا من بينهم، فتقدّمنا برفقته إلى الأمام قليلًا، ألقينا نظرة على المنطقة وعدنا إلى صفوف الإخوة.

 

في تلك الليلة، كنت منهكًا، مثقل الجفون. فمنذ ليلتين ونصف الليلة لم ترَ عيناي النوم، ذلك أنّنا جئنا إلى الخطوط الأماميّة بعد الاستطلاع مباشرة. في تلك اللحظات التي لا تفصلنا عن بدء العمليّات إلا قليلًا، أمدّتني حال المناجاة بالقوّة. جلست ناحيةً ورحت أتعبّد. فحلّت السكينة على قلبي جرّاء ذكر بعض الأسماء الإلهيّة.

 

لا أعلم إن كانت خاصّيّة الحرب هذه جيّدة أم سيّئة، وهي أنّ الموت ينضج الإنسان بنحو أسرع. ففي الجبهة يدرك المرء هذا الأمر، ويتخلّى عن رؤية الذات والتكبّر؛ ويصبح صادقًا ومستقيمًا. وفقط في تلك الأيّام والليالي، وبحمد الله لم أدخل في التجارة والشيكات والسندات.

 

كان أكثر الإخوة في حال مناجاة مع الله والوداع الأخير لبعضهم البعض. طلبت السماح من كلّ واحد منهم، وأنشدت هذين البيتين من الشعر:

الليل حالك وطريق الوادي الأيمن إلى الأمام

                      من نار الطور، فأين موعد اللقاء أين

لكلّ من أتى إلى الدنيا دور مخرّب

                    أخبروني من هو الواعي في الخرابات

 

وافق الجميع على كلامي وسادت حال من العشق والهيام.

 

 

261

 


249

شدّوا أحزمتهم

قبّلت وجه كلّ واحد منهم. فكّرت بأنّني قد لا أراهم في الغد؛ وأن أكون ودودًا معهم، فلم يبقَ الكثير من الوقت حتّى نهاية الخط.

 

راح الإخوة یلاحقون بعضهم البعض ويقول أحدهم للآخر: فلان، إن استشهدت، فاشفع لنا، وسامحنا.

 

لكنّ الشيء الذي كان يشعل نارًا في قلبي وقلب الكثيرين من قدامى الحرب حينها، كان غياب الحاجّ أحمد.

 

سألني أحدهم: "بما أنّك من قدامى الحرب، هل تعلم متى سيعود الحاجّ أحمد؟".

 

بالنهاية: أحببت أن أفاجئه بخبر سارّ، فقلت: "لديّ أخبار بأنّ الحاجّ سيأتي".

- من أخبرك بهذا؟

- وزير الخارجيّة قال إنّه سيأتي في الرحلة التالية!

 

قرابة الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، انفصلت وبهمن وأحد عناصر المعلومات عن البقيّة وتقدّمنا إلى الأمام قليلًا، ألقينا نظرةً سريعة وعدنا. حرّكنا الطابور وعبرنا الساتر الترابي. كما عبرنا حقل ألغام كان قد ذُلّل من قبل. قال بهمن: "إنّ الدبّابات الآن على يميننا، ولا شيء ينفعنا الآن سوى الـ"B7"، لا الرصاص ولا القنابل..".

 

لم يكد بهمن يتمّ كلامه حتّى سقطت قذيفة بالقرب من الطابور، فانبطح الجميع أرضًا، وهكذا ابتدأت المواجهة.

 

قال بهمن: "سيّد، ارمِ أنت أوّلًا؛ فيدك مباركة".

 

كنت على معرفة قليلة بصيد الدبّابات، هدّفت، ورميت، فأصبت

 

 

262

 


250

شدّوا أحزمتهم

بتسديد الله برج الدبّابة وانفجرت.

 

صرخ الإخوة "الله أكبر" وهجموا.

 

بينما كنّا نخوض المواجهات، تخطّينا صفوف العدوّ والتحمنا به. بعد نصف ساعة، جمعت عددًا من الإخوة وسحبتهم بعد جهد جهيد إلى خلف القناة الأولى بين قناة "ذات الجدارين" والساتر الترابيّ المثلّثي الشكل. قلت: "عليكم أن تتوزّعوا على الجوانب الثلاثة. فإنّهم يرمون علينا من الأطراف الثلاثة".

 

حينذاك، ساد الهلع القلوب، وبدأ الرمي علينا من كلّ ناحية، نفعتنا السواتر المثلّثيّة الشكل. كانت الرمايات تنهمر علينا من كلّ صوب، بحيث كانت هناك رصاصة موجّهة على كلّ واحد منّا. ويا لها من دوّامة!

 

وكأنّنا وقعنا في فخّ. ذهبت إلى جانب بهمن، الذي كان يطلق قذائف الـ"B7". لقد كان بهمن رجلًا شجاعًا لا یعرف الخوف، فراح يعدو إلى هذه الناحية وإلى تلك، ويوجّه القّوات. ومع أنّه كان خبيرًا بعمله، إلّا أنّه كان يستشيرني في الأمور. كذلك العناصر أظهروا لي مودّة، وكانوا يسمعون كلامي.

 

استمررنا في المواجهة إلى وقت طويل، وقدّمنا خسائر. كانت مواجهة شرسة ومعركةً حقيقيّة. قرابة الفجر، لاحظ بهمن بأنّه لا يجري تحشيد القوّات. فقال: "سيّد، احشد قدر ما تستطيع، وخذهم إلى خلف السدّ".

 

وإلى أن صحت وأبلغت القوّات وجمعتهم، كان العراقيّون قد شغّلوا مضخّة المياه، وضخّوا من قناة "ذات الجدارين" وأراقوا الماء في السهل. لم تمضِ بضع دقائق حتّى طمر الماء السهل. صحت كثيرًا بحيث كادت حنجرتي تتمزّق. أردت للإخوة أن يكونوا ملتفتين وأن لا يُفاجأوا؛ لكنّني لم أستطع جمعهم. فقد ارتمى الجرحى على الأرض من دون عون أو مدد. أرشدتهم مرّات عدّة ليتوجّهوا إلى السدّ. ذهبت إلى السدّ وعدت إلى الإخوة.

 

263

 

 


251

شدّوا أحزمتهم

الإخوة المساكين، وضعوا أرواحهم على أكفّهم وتبعوني عدوًا. ومن خلفنا كانت قذيفة دبّابة تودّعنا ورمایات الأسلحة الرشاشة. وصلنا بعد جهد جهيد إلى خلف السدّ. لكنّ السيل جرف بعض ضعيفي البنية، فيما وصل من بقي حيًّا منهم إلى خلف السدّ.

 

عند الظهر، تطوّع بعض العناصر للذهاب وإحضار الجرحى.

 

ركضوا باتّجاههم، فأُصيب ثلاثة منهم وسقطوا أرضًا، وأخذ اثنان منهم جريحًا بيديه ورجليه وركضوا إلى خلف الساتر. اتّصلنا عبر الجهاز اللاسلكي بالخطوط الخلفيّة. فقالوا: ترسلون العناصر السالمين لإحضار الجرحى، فتزداد خسائركم.

 

بعد ساعة، وصل بعض الجرحى إلى خلف السدّ عطاشى وقد فقدوا الكثير من الدماء. وقد كبّدْنا العراقيّين خسائر فادحة، فغرقت مئات الجثث منهم في وحولهم. لکنّنا أُنهكنا نحن، وعشنا أوقاتًا عصيبة.

 

بعد الظهر، استلقيت وأنا منهك إلى كتف السدّ الترابي. أحضرت إحدى سيّارات التويوتا طعام الغداء. فمرّت ببطء من أمام السدّ ورمت وجبةً غذائيّة لكلّ واحد من الإخوة الذين كانوا خلف السدّ. فكان الإخوة يلتقطونها وهي في الهواء. كان الطعام عبارة عن الأرزّ باللحم الموضوع في علب بلاستيكيّة. بعد ذلك راحت ترمي قناني المياه، فشرع الإخوة يفرّغونها في جعبهم. أمّا أنا فلم يكن بحوزتي جعبة ماء، لذا كنت كلّما شعرت بالعطش شربت جرعة من جعبة رفيقي المجاور لي. أحد الإخوة ويدعى إسرافيل، وكان صغير السنّ، قال لسائق التويوتّا: أخي، إن كنت ذاهبًا إلى الخطوط الخلفيّة، فحبّذا لو تنقل جثّتي معك".

 

كانت اللقمة في أفواهنا، فأخذتنا الضحكة.

 

ذهبت التويوتا إلى آخر السدّ، ووزّعت الطعام على الإخوة. ما إن

 

264


252

.. وتحرّرت خرمشهر

استدارت تريد العودة، حتّى سقطت قذيفة هاون بالقرب من إسرافيل. رميتُ علبة الطعام خاصّتي، وارتميتُ بشكل مائل إلى الأرض؛ لكنّني نهضت مسرعًا، وتوجّهت وسط الدخان والغبار نحو إسرافيل. لأجد أنّ شظيّة أصابت وريده وقضى في لحظته. كما جُرح عدد من الإخوة من حوله، وغرقوا بدمائهم وتناثروا هنا وهناك. وضعنا جثمان إسرافيل والجرحى في مؤخّرة التويوتّا وأرسلناهم إلى الخطوط الخلفيّة. عدت إلى ذلك المكان حيث اختلط دم إسرافيل بالتراب، وبلّل الأرض. لم أستطع بلع طعامي، وضعته جانبًا وتمدّدت إلى جانب الساتر.

 

عصرًا، أطلق العراقيّون نيرانًا كثيفة مهولة. سقطت قذيفة مدفعيّة بالقرب من بهمن فتطاير ثلاثة عناصر في الهواء. وجاءت سيّارة الإسعاف ونقلتهم إلى الخلف.

 

بقينا طوال فترة بعد الظهر مجتمعين حول بعضنا البعض وراء السدّ. ظلّت النيران شديدة إلى درجة لم نكن نستطيع فيها أن نرفع رؤوسنا. فالعراق متفوّق علينا من حیث السلاح. النسبة فيما بيننا وبينه على هذا الصعيد نسبة واحد على مئة. كما لم تكن الأرض هناك إرثًا ورثناه عن آبائنا، بل كانت أرضه ويعرفها كما يعرف كفّ يده. وهو قاد الفيلق الثالث إلى هناك وأحكم خطوط دفاعه من الشمال إلى الجنوب. الشيء الوحيد الذي كنّا نملكه ونتفوّق فيه على العراقيين هو إيمان الشباب، وأرواحهم القويّة التي تسحبهم وتتقدّم بهم إلى الخطوط الأماميّة. فبات كلّ شخص هناك يطوي الأرض بإيمانه.

 

عند الغروب، انهمرت نيران العدوّ علينا بشكل متواصل. وقفت للحظة لأغيّر مكاني، فأصابتني رصاصة أو شظيّة في الجهة الخلفيّة لفخذي الأيسر. لم أشعر بألم في البداية، إنّما بوخز خفيف. مددت يدي إلى الجرح، فامتلأت دمًا. جلست لآخذ نفسًا. كان الإخوة لا يزالون يخوضون المواجهة. أحسست

 

 

265

 


253

شدّوا أحزمتهم

ببرودة في جسمي. اعتراني الوهن والإرهاق، وبدأ الوجع يزداد شيئًا فشيئًا. استعددت للوقوف، فلم أستطع. في تلك اللحظة وصل مسعفان، لكنّهما لم يسعفاني، بل راحا يفتّشان عمّن أُصيب إصابةً بالغة. قمت منحنيًا وسرت قليلًا على كتف الساتر معتمدًا على يديّ ورجليّ، ومن ثمّ وضعت يدي على ركبتي ووقفت. وبصعوبة استطعت إجلاس ظهري. سحبت رجلي على الأرض وعدت إلى الخطوط الخلفيّة وأنا أعرج في مشيتي. تقدّمت بضعة أمتار باتّجاه خطّ دفاعنا، فتوقّفت لي شاحنة تويوتا، ووضعوني في صندوقها. كنّا قرابة الثمانية أفراد، حمّلونا كالبضاعة بعضنا فوق بعض. فأصبحت يد أحدهم متّكأً لغيره. كان جواد صرّاف من بيننا، وهو مسؤول الفصيل وقد أصابته شظيّة في يده وربطها بالكوفيّة. كانت الشاحنة تنزل في حفر الطريق وتعلو، فيعلو معها صراخ الإخوة. وصلنا إلى المستشفى الميداني في عتمة الليل. مدّدوني على الأرض في ناحية. غفوت من شدّة التعب. بقيت نصف واعٍ حين نقلوني إلى أحد الأسرّة. التفتّ إلى أنّ أحدهم يقصّ لي سروالي الكردي. رفعت رأسي وقلت للشخص الواقف أمامي: "أَوَلا يمكن أن تنزعه نزعًا من دون قصّ؟".

 

أجاب: "لم يبقَ منه شيء، وما الذي سأنزعه؟".

 

قصّ سروالي من فوق الركبة صعودًا، وساعدني على خلع قميصي. غسلوا جرحي وضمّدوه. ومن ثمّ أركبوني وبعض الجرحى في سيّارة إسعاف وأرسلونا إلى الأهواز.

 

بقينا في الطريق لأكثر من ساعة، حتّى وصلنا إلى أحد مشافي الأهواز. لم يكن مستشفى، بل نادٍ رياضيّ حُوّل إلى مستشفى. كان مغطّى؛ وذا سقف عالٍ. وقد صُفّت الأسرّة فيه بعضها إلى جانب بعض؛ لكن مع ذلك، مدّدونا أرضًا ومتجاورين. بعد نصف ساعة، بدأ الرفاق يظهرون، كما جاء

 

266

 

 


254

شدّوا أحزمتهم

بعض شباب محلّتنا. امتلأت الصالة بالجرحى. وقد جلس بعضٌ ممّن أُصيبوا إصابات طفيفة في أيديهم على السلالم. كان القلق والخيبة باديين على وجوه الجميع وقد نسوا أوجاعهم وانشغل بالهم بأوضاع رفاقهم. خرجوا من القاعة وأشعلوا السجائر. أمّا أولئك الذين لم يستطيعوا الحراك فراحوا يبحثون بهدوء عن [سحبة] سيجارة، فتقاسمت كلّ مجموعة منهم واحدةً. وضع أحدهم السيجارة في فم رفيقه وقال: "لا تنفث الدخان إلى الخارج، حتّى لا يلاحظ الممرّض ذاك".

 

كان الأطبّاء يتابعون من قُطعت أطرافهم والحالات الوخيمة. أمّا من هم أمثالي فتُعتبر حالهم جيّدة. بقيت ملقى في ذلك المكان إلى ما بعد ظهر اليوم التالي. وبدل الغداء جيء لكلّ شخص بجعبتي عصير وكعكة. علا صراخ الإخوة أن "أين طعام الغداء يا أخي؟". قيل: إن تناولتم الطعام، ستبدأ معدتكم بالعمل، وستتأذّون.

 

لم يتعاطَ أحد معي إلى الغروب، حتّى إنّهم لم يعلّقوا لي مصلًا. قرابة الغروب وضعوا كلّ اثني عشر شخصًا في سيّارة إسعاف وأرسلوهم إلى مطار الأهواز. انتظرنا هناك ساعتين، إلى أن أصعدونا الطائرة التي حطّت بعد ساعة، وفهمنا من تردادهم لكلمة "عامو عامو[1]"، أنّنا في أصفهان. قلت لأحدهم: "عامو، إنّنا شباب طهران، أرسلونا إلى هناك، فليس لدينا عمل هنا".

 

فأجاب بلهجة أصفهانيّة: "عامو، ما من أماكن الآن في طهران، نرسلكم فيما بعد".

 

أُدخلت إلى مستشفى في أصفهان. أخذوا منّي سلسلتي العسكريّة

 

 


[1]  أي عمّو، وتقال للعم والأخ والأب.

 

267


255

شدّوا أحزمتهم

ومحرمتي اليزديّة؛ لم يكن بحوزتي شيء آخر. بعد ذلك أجروا لي صورة شعاعيّة ونقلوني إلى غرفة العمليّات.

 

في صباح اليوم التالي، استعدت وعيي ونشاطي بالكامل، جاء الطبيب لمعاينتي، فسألته: "ما الذي كان في رجلي أيّها الطبيب؟".

- مهما كان، لم نستطع إخراجه. وقد اخترق عمق العضلة واستقرّ إلى جانب العظم. فإن أردنا انتزاعه فلا بدّ لنا من شق العضلة عميقًا، وفي تلك الحال عليك ملازمة الفراش لستّة أشهر.

 

في اليوم التالي لنقلي إلى أصفهان، تردّدت في الاتّصال وإخبار العائلة. لكنّ عزّة نفسي لم تسمح لي بذلك. لم أرد أن أتسبّب لهم بأيّ قلق.

 

في اليوم الثالث، نُقلت إلى المطار بسيّارة إسعاف، ومن هناك إلى طهران بالطائرة. أُدخلت إلى مستشفى "بنك ملّي"، فمكثت فيه يومين، ومن ثمّ أوصلتني سيّارة إسعاف إلى أمام باب المنزل.

 

لم أقرع الباب، بل وكما يفعل أهل "الفتوّة" التقطتّ حصاة ورميت بها على زجاج الغرفة العلويّة.

 

فتحت فاطمة الباب، ذُهلت حين رأتني وقالت: "لِمَ لم تخبرنا بأنّك أُصبت؟".

 

دخلت وأنا أعرج في مشيتي وقلت: " أرأيت ماذا فعل بي العراقيّون؟ لقد أرادوا تصفيتي".

 

بقيت في البيت إلى أواخر شهر آب، فكنت طريح الفراش لمدّة أربعة أشهر، إلى أن التأم الجرح. لم أكن أشعر بالرصاصة أو الشظيّة أبدًا، إنّما كنت لا أستطيع المشي بسرعة فحسب، وحين كنت أضغط على رجلي، كنت أشعر بالوجع.

 

268


256

شدّوا أحزمتهم

ذات يوم، ركبت الحافلة مع "حسين محمودي" و"علي برادران" و"الشيخ محمود خدا كرم"، وذهبنا إلى "كرمانشاه" عند شباب معلومات العمليّات. وكان حينها "حسين الله كرم" هو مسؤول معلومات العمليّات.

 

قال حسين: "جرت الليلة الماضية عمليّات فوق مرتفعات "سلمان كشته" و "بنه ريگ"، وقد قامت بهذه العمليّات كتيبة "سلمان"، فجرح قائدها وارتبك طاقمها. لقد أتيتم في الوقت المناسب، هيّا بنا نذهب لنتفقّدهم".

 

عصر ذلك اليوم، أخذنا العنوان ورحنا نسأل هذا وذاك إلى أن وصلنا إلى مستقرّهم. وهناك رأيت الإخوة قد أزهرت شقاواتهم ونصبوا خيمة على ضفاف النهر. كان هناك قرابة الثمانين نفرًا يسبحون بـ(الشورتات والمايّو)، ويطفون على سطح الماء. كان المكان مكشوفًا وفي مرمى نيران طائرات العدوّ، والأرض مسطّحة خالية من أيّ ملجأ ومأوى. تعجّبت؛ لكنّني لم أنبس ببنت شفة. وبتّ ليلتي تلك في الخيمة لدى شباب الكتيبة.

 

في ظهر اليوم التالي، جاء الحاجّ "همّت"، و"رضا دستواره" و"حسين الله كرم"، ونصبوا قائمة جديدة لطاقم الكتيبة. وأصبح السيّد "زهرايي" قائدًا للكتيبة، و"حميد ميرزايي" و"أمير نوري" وأنا مسؤولين للسرايا الثلاث. كما أصبح "علي برادران" الذي كان بارعًا في أمور التجهيزات مسؤولًا عنها، و"حسين محمودي" معاون السرية، فيما عُيّن الشيخ "محمود" عنصر احتياط لدينا.

 

قرابة الساعة الثالثة بعد الظهر، سُلّمنا مئتي عنصر جديد، وكانوا جميعهم في عداد كتيبة "ميثم"، فأُلحقوا بنا.

 

وزّعنا العناصر على السرايا، وكان من المفترض أن نقوم ليلًا بالعمليّات في سدّ "پير علي" و"سلمان كشته". وكانت هذه العمليّات تُسمّى "عمليّات مسلم بن عقيل".

 

269

 

 


257

شدّوا أحزمتهم

بعد الظهر، أقمنا مجلس عزاء ولطم. قرأ أحدهم النعي، فعمّت حال معنويّة خاصّة. اجتمعتُ وسائر مسؤولي السرايا بـ"السيّد زهرائي"، في خيمة تبعد عن خيمة الإخوة مسافة أربعين مترًا، وذلك لإعطائنا التعليمات للعمليّات. وحيث كنت قد التحقت سابقًا في [جبهة] "سومار"، وكنت على معرفة يسيرة بالأرض هناك، لذا، طرحت على الطاولة كلّ ما كان في جعبتي.

 

في أثناء الجلسة، تناهت همهمة الإخوة إلى مسامعي كهدير طائرة، خرجت، ووقفت عند باب خيمتهم للحظات. فسمعت صوت لطمهم. عدت إلى خيمة القيادة، أعدنا تلخيص النقاط الأساسيّة، ومن ثمّ أصدرنا الأوامر للإخوة بالاستعداد للانطلاق.

 

خرج الإخوة، صفّروا أسلحتهم، شدّوا أحزمتهم، وذهب بعضهم إلى ضفّة النهر وتجمّعوا هناك. أمّا أنا فقد ارتديت قميصًا رماديّ اللون واسعًا وفضفاضًا، وسروالًا كرديًّا؛ من دون حزام أو حمّالة للرصاص. وحملت رشّاشًا، وثلاثة مخازن إضافيّة. وانتعلت هذه المرّة بدل الحذاء الكتّاني، شيئًا بينه وبين البوط [نصف بوط]، كان أحدهم قد أهداني إيّاه في مكان ما؛ كان جلديًّا وجميلًا، بمتانة البوط وخفّة الحذاء الكتّاني. فكنت أنتعله في الأرض الموحلة والطريّة، وكذا في الجبال والأراضي الوعرة.

 

عند الغروب، ظهرت شاحنة تويوتّا من بعيد، تقدّمت وتوقّفت أمام الخيمة. كان سائقها شيخًا كبيرًا، ذا لحية بيضاء ووجه نورانيّ، يشبه علماء الدين. كان يرتدي لباسًا رماديّ اللون ويمشي بسكينة ووقار. تقدّم منّا وبعد التحيّة والسلام قال:

"سيّدي، رأيت ذات ليلة أنّني في عداد كتيبتكم، وقد ذهبت معكم للمشاركة في العمليّات، فقُطع رأسي عن جسدي..".

 

269


258

شدّوا أحزمتهم

وبينما أنا أستمع إلى كلامه وأنظر إليه، وإذا بي فجأة أسمع هدير طائرة، لم أعِ بعدها ما حصل؛ أحسست بطعم مرّ في حلقي، دخلت في حال من التشوّش، وكأنّني كنت أسير فوق الغيم. كنت بين النوم واليقظة عندما رفعت رأسي لأجد نفسي مشلولًا من صدري إلى أخمص قدمي، ومياه النهر محمرّة بلون الدم، والأطراف المقطّعة تطفو على وجه الماء، وحسين محمودي ابن محلّتنا، ورفيق أيّامي الصعبة ووحدتي، غارقًا بدمائه على بضعة أمتار منّي، وذاك الشيخ، قد فُصل رأسه عن جسده وسقط فوق رأسي تقريبًا.

 

لم أعِ متى وقع الانفجار، ومتى قصفت الطائرة. ففي لحظة واحدة، اختلطت الأمور ببعضها البعض. غبت عن الوعي. جاءت جماعة وجمعت الأحياء منّا ووضعتهم في صندوق شاحنة تويوتّا. عندما رفعوني، ألقيت نظرة إلى رجلي، لأجد أنّ [مشط] قدمي قد اقتُلع من الوسط مع البوط، وكأنّه شُقّ من وسطه، وكان معلّقًا بقطعة من الجلد فحسب.

 

في صندوق التويوتا، كدت أختنق من شدّة الضغط. كانت أيدي الجرحى وأرجلهم المصابة والمدماة ترزح فوق وجهي وتقطع عليّ أنفاسي. فيما أسرعت سيّارة التويوتّا تعبر المطبّات والمنعرجات، فتهبط وتعلو، وتتعالى معها آهات وأنّات الإخوة. فأحدهم قد أُصيب بشظيّة في رجله، وآخر في كتفه، وثالث في يده، ورابع فاقدٌ للوعي، أو كان واعيًا ولا ينبس ببنت شفة. ماذا أقول بعد؟

 

وصلنا بعد معاناة كبيرة إلى المستشفى الميداني. ووضعوا تحت رأسي بطّانيّة، وعلّقوا لي مصلًا. بدأ الألم يجتاح جسدي بأكمله، ما أشعرني بالضجر. وفي تلك الحال المزرية، جلس أحدهم فوق رأسي وراح يقول لي: "صلّ على محمّد وآل محمّد يا أخي، صلّ على محمّد وآل محمّد..".

 

271

 


259

شدّوا أحزمتهم

سمعنا صوت طائرة مروحيّة. جرى البحث بين الفريق الصحّي أنّه إذا ما أرسلنا هؤلاء في الطائرة المروحيّة فإنّهم سيرمونها وهي في الهواء. وإذا ما أرسلنا وراء طائرة فإنّ الأمر سيستغرق أربع ساعات.

 

أصعدوني وأربعة أشخاص حالهم وخيمة كحالي ويعانون نزيفًا، إلى الطائرة. غلبني النوم في الطائرة، وحين أفقت رأيتني ممدّدًا على الأرض في ممرّ طويل، وكنت ما أزال فاقدّا الشعور بنصف جسدي. نظرت إلى آخر الممرّ، رأيتهم يحضرون من الجهة المقابلة شخصين قد بُترت أرجلهما ورُبطت، وهما شعثٌ غبرٌ ملوّثان بالدماء. جاء شخصان وقلباني رأسًا على عقب. عدت وفقدت الوعي، وحين أفقت رأيت نفسي في قاعة خالية ومظلمة. كنت أرتجف كشجرة صفصاف من شدّة البرد؛ لكني فقدت القدرة على التحرّك. كان ظهري يؤلمني وكنت أشعر بوخز فيه. قلت في نفسي: إن لم أكن مخطئًا فهنا "معراج الشهداء" [برّاد حفظ الموتى]. لقد فقدت الوعي وظنّ هؤلاء أنّني قضيت.

بعد دقائق، دخلتْ جماعة؛ وكانوا يتكلّمون بلهجة كرمانشاهيّة سريعة، وكأنّهم جاؤوا يبحثون عن عزيز لهم.

 

عندما وصلوا إلى مقربة منّي، استجمعت كلّ قواي ورفعت رأسي. حين رأوني صرخوا: "لقد عاد الشهيد إلى الحياة"... وركضوا نحو الصالة.

لقد صحّ حدسي. فقد كنت في برّاد المستشفى. بعد دقائق، جاء عدّة أشخاص، رفعت يدي لأفهمهم بأنّي ما زلت على قيد الحياة. وجّه أحدهم ضوء المصباح إلى عيني وتحسّس نبضي وقال: "لقد كان هذا فاقدًا للوعي وظنّوا بأنّه قد استُشهد، احملوه..".

حملوني ووضعوني على سرير نقّال. سألت أحدهم في قاعة المستشفى عن الوقت فقال: "إنّها الخامسة صباحًا".

 

272

 

 


260

شدّوا أحزمتهم

- أين نحن؟

- إيوان[1].

 

في غرفة العمليّات، حقنوني بإبرة مخدّر في فخذي وأسفل ركبتي وساقي؛ لكنّني بين النوم واليقظة، التفتُّ إلى أنّهم مشغولون برجلي ويتناقشون: "نبترها أو لا نبترها.. فلنعمل الآن على إيقاف النزيف..". بعد ذلك أعادوا القطعة المفصولة من قدمي إلى مكانها وخاطوها.

 

عندما أخرجوني من غرفة العمليّات كنت نصف واعٍ، أفيق وأغيب.

 

بعد ساعة أو ساعتين، شعرت بألم خفيف في بطني. كانت رجلي تؤلمني، لكنّ وجع بطني أُضيف إلى وجعي، وبدأ يزداد ويزداد بحيث صرت أتلوّى على نفسي مثل الأفعى. كدت أصرخ من شدّة الوجع، وضعت المخدّة على وجهي لكي لا يسمع أحد صراخي.

 

في تلك الأثناء، جاء إليّ الشيخ محمود وكان من أبناء محلّتنا. جزاه الله خيرًا، ما إن رأى حالي، حتّى ذهب إلى الطبيب وأخبره. جاء الطبيب وراح يتفحّص بطني ويضغط عليه من هذه الناحية وتلك، فيما كنت أتلوّى من الألم.

 

توجّه إلى الممرّضة وقال: "انقلوه إلى غرفة العمليّات".

 

حلقوا لي شعر بطني، وحقنوني بإبرة، غبت بعدها عن الوعي.

 

عندما أفقت، رأيت الشيخ لا يزال فوق رأسي. وقد خرج رأس أنبوب بلاستيكي رفيع من بطني وما زال معلّقًا، كما عُلّق مصل إلى يدي.

 

قال الشيخ: "كيف حالك يا سيّد؟".

 

 


[1]  مدينة في شمال محافظة إيلام.

 

273


261

شدّوا أحزمتهم

- لا أعلم أيّ وجع كان؟ كدت أُجنّ.

 

قال الدكتور إنّه من المحتمل أن تكون أمعاؤك قد تقطّعت من عصف الانفجار...

 

في اليوم التالي، نُقلت بواسطة سيّارة إسعاف إلى "كرمانشاه"، وأُدخلت المستشفى هناك. في ذلك اليوم، كانت جارتنا السيّدة "ياري" التي لا يفصل بين منزلها ومنزلنا سوى عدّة بيوت، قد جاءت إلى "كرمانشاه" لزيارة أهلها، وأُخبرت عن طريق أقاربها بأنّني أرقد في ذلك المستشفى، فجاءت لعيادتي؛ حاجّة ودودة يبلغ وزنها قرابة المئة والثلاثين كيلوغرامًا؛ من تلك الجماعات التي تطرق هذا الباب وذاك وتتوسّط لتزويج الشبّان السادة. وعلى حدّ تعبيرها، إن من يزوّج ابنته لسيّد فكأنّه صاهر أمير المؤمنين عليه السلام!

 

في ذلك اليوم الذي زارتني فيه السيّدة "ياري"، كان الأطبّاء قد منعوا عنيّ الماء والشاي، وكان العطش حينها قد أخذ منّي كلّ مأخذ. فقد تشقّقت شفتاي من الجفاف، ويبس لساني فأصبح كالخشبة. كنت مستعدًّا لأعطي كلّ مال الدنيا مقابل جرعة من الماء. كنت أتخيّل الماء، وأرى أنّني أشرب الماء البارد بنفس واحد.

 

جلست الحاجّة إلى جانبي وراحت تعاملني كالأمّ الرؤوم. بلّلت المنشفة، وراحت تبلّل بها شفتي، وتجفّف عرقي، وتتكلّم معي بلهجة "كرمانشاهيّة". امتلأ قلبها رحمة وشفقةً عليّ، لم تعد تكترث لكونها محرمًا بالنسبة لي أم لا. أمّا أنا بدوري فكنت مضطّرًّا لأن أخدع الحاجّة. فعندما لم أعد أحتمل العطش، قلت لها: "يا حاجّة، في الصباح، قال الأطبّاء بأنّني ممنوع عن شرب الماء، لكن لا مانع من شرب الشاي".

 

 

274

 


262

شدّوا أحزمتهم

نظرت المسكينة إليّ نظرة ملؤها المحبّة، وذهبت وما لبثت أن عادت بفنجان من الشاي. فراحت تفرغ القليل منه في الصحن ومن ثم تعيده إلى الفنجان، وكرّرت ذلك مرارًا حتّى برد، وأدنته من شفتي. ومباشرةً، رشفت منه رشفة. وبينما كنت أرشف الرشفة الأخرى، أتت الممرّضة، وصاحت بالحاجّة قائلة: "ماذا تقدّمين له أيّتها السمينة؟ ألا تخجلين مع كلّ هذه الضخامة؟".

 

تنحّت الحاجّة جانبًا، ولملمت أطرافها وقالت بمحبّة: "ماذا تقولين يا سيّدة؟ إنّه سيّد!".

- حسنًا، ليكن سيّدًا، إن يشرب الماء يمت.

- ومن الذي قال هذا، فهو في رعاية جدّه، وهو الذي يحفظه. لقد منعوا الماء عن جدّه في كربلاء، وها أنتم تمنعونه عنه الآن. وهل أنتم يزيديّون؟

 

أمّا أنا فتظاهرت كقطّة مسكينة بالمظلوميّة، ورحت أراقبهما بطرف عيني!

 

من شدّة ما دار من جدال بين الحاجّة والممرّضة، علم الطبيب بالأمر فجاء وأخرج الحاجّة من الغرفة.

 

يعلم الله كم كنت خجلًا، وكم رقّ قلبي للحاجّة. فأنا من دبّر الخطّة ولم يكن للحاجّة من ذنب.

 

جاء الطبيب إليّ وقال: "إن شربت الماء ستموت. أتدري ما يعني هذا؟ ستموت. قبل عدّة أيّام مات أحدهم هنا لهذا السبب. لِمَ تفعلون هذا بأنفسكم؟".

 

مضى يوم أو يومان وأنا على هذه الحال من العطش. وأضاف ألم

 

 

275

 


263

شدّوا أحزمتهم

ظهري مصابًا آخر إلى آلامي. كنت أشعر بالوجع في كلّ أنحاء جسدي؛ بطني، ظهري، وسطي ورجلي، بحيث لم يعد المسكّن يؤثّر بي. أحسست بأنّ ظهري قد تورّم، ولم أعد أستطيع الاستلقاء عليه. فكنت أنام على جانب واحدٍ. أُخضعت فورًا لصورة شعاعيّة، فقال الطبيب: "تظهر هذه الصورة ما بين العشر والاثنتي عشرة شظيّة صغيرة وكبيرة قد استقرّت في ظهرك. وهناك شظيّة بحجم (1سم) استقرّت بالقرب من النخاع الشوكي، ولا نستطيع القيام بشيء بالنسبة إليها. عليك الانتقال إلى مستشفى أكثر تجهيزًا من هذا. وهذه الشظايا هي التي تسبّب لك هذه الآلا[1]6".

 

في اليوم التالي، نُقلت إلى مطار "كرمانشاه". وفي المطار، غلبني العطش من جديد. نظرت من حولي، لعلّي أستطيع الحصول على الماء، فلم أستطع النزول عن السرير. مرّت بجانبي ممرّضة، ناديتها مباشرة ورحت أتحايل عليها.

قلت بصوت مرتجف: "أرضى برشفة من الماء في قعر كوب. هلّا تتفضّلين عليّ يا أختاه بإحضار قليل من الماء لأشرب الدواء؟".

- لا يمكن ذلك.

- إِ... لِمَ؟!

- أتعلم ماذا كُتب في ملفّك؟

-لا.

 

 


[1]  إحدى تلك الشظايا، ولم تكن صغيرة كثيرًا، استقرّت بالقرب من القلب. بلطف الله وعنايته، لم يسبّب هذا الضيف غير المرغوب فيه، لي أيّ مشاكل أو إزعاج. لكن مع مرور الوقت والسنوات وجدت طريقًا إلى صمّام القلب. وهناك، صرت أشعر بمناسبة وبغير مناسبة بآلام في القلب، مضافًا إلى الأمراض الناجمة عنه، فتضيّق عليّ دنياي. في العام 1388ه.ش2009م، وبعد مرض طويل، أُجريت لي عمليّة جراحيّة في مستشفى ساسان وأُخرجت الشظيّة من الصمّام.

 

276


264

شدّوا أحزمتهم

- لقد كُتب بأنّك تكذب، وأنّ شرب الماء ممنوع.

- يا أختي، هذا كان قبل خمسة أيّام، لقد تحسّنت حالي الآن. كوني مطمئنّة من هذه الناحية...

 

انطلت الحيلة عليها هذه المرّة، فذهبت وأحضرت قليلًا من الشاي الفاتح اللون في قعر فنجان. شربته فتحسّنت حالي وفتحت عيني واستعدت بعضًا من قوّتي.

 

في الطائرة، التقيت بـ"ميثم غفّاري". سلّمنا على بعضنا البعض فقط، وعندما حطّت الطائرة في مطار أصفهان ذهب كلّ منّا في سبيله. أُدخلت إلى مستشفى من مستشفيات أصفهان. ما إن ملأوا استمارة الإصابة، حتّى أعطيت نمرة هاتف منزل جارنا "رضا طلا" لأحد الممرّضين ليخبر فاطمة.

 

في اليوم التالي، وبينما كنت وحيدًا أسرح في الخيال، وإذا بي أرى سيّدة متوسّطة العمر تدخل غرفتي؛ أنيقة المظهر! ترتدي معطفًا خمريًّا، وإيشاربًا أحمر اللون، تحمل في يدها علبتي عصير تفّاح.

 

ألقت التحيّة، اقتربت منّي وقبّلتني في جبيني! وأنا الذي كنت فتى هيئات دينيّة ولم أعش مثل هذه الحالات؛ شكوت، وقلت في نفسي: ما يعني هذا؟ ومن هذه يا ترى، لتأتي من دون مبرّر، وتطبع مباشرة على جبيني قبلة؟!

 

أخذت نفسًا عميقًا، واستعددت لأقول شيئًا، وإذا بها تصبّ لي كوبًا من عصير التفّاح، تقدّمت وضعت يدها تحت رأسي وأدنت الكوب من فمي، فشربت منه جرعتين وأرجعت رأسي إلى المخدّة.

 

قالت: "كيف الحال يا سيّد؟ إن شاء الله أفضل حالًا؟". كانت ودودة ولطيفة إلى درجة لم أستطع فيها التكلّم بأيّ كلمة؛ كنت فقط أهزّ برأسي.

 

بعد عدّة دقائق، جاءت أمّي وفاطمة وسعيد، وسلّموا على تلك

 

277

 

 


265

شدّوا أحزمتهم

السيّدة سلامًا حارًّا. سألتُ أمّي عن تلك المرأة فقالت:

- هي زوجة السيّد "مشيري"، ابن خالي، بتنا الليلة الماضية في منزلهم. كانت كالفراشة تحوم حولنا وعاملتنا بلطف ومحبّة.

 

بعد دقائق ذهبت أمّي و"سعيد" والسيّدة "مشيري"، وبقيت فاطمة عندي.

 

كانت قد مضت عدّة أسابيع من دون أن أستحمّ، فصرت أشعثَ أغبر متّسخًا. وحيث إنّني من شباب وسط المدينة، لم أستطع أن أطلب من أحد ليحضر لي طشتًا، أو ليأخذني إلى الحمّام. فغروري لم يكن يسمح بذلك.

 

المصيبة الكبرى أنّني لم أكن أستطيع السير على قدميّ. فكلّ الأمور كانت كانتزاع الروح بالنسبة إليّ.

 

وهكذا، أحضرت فاطمة طشتًا، ووضعته إلى جانب السرير، ساعدتني على خلع ملابسي، وغسلت رأسي بالماء والصابون. وكانت قد تجمّعت طبقة من التراب والرمل فيه! حین أصبح شعري نظيفًا، زال التعب عن جسدي. شعرت بحال أفضل، وخفّت أوجاعي. وبينما كنت أرتدي ملابسي، التفتّ إلى أنّ فُصّ خاتمي الخمريّ اللون لم يكن في يدي. كان الخاتم موجودًا في إصبعي، لكنّه كان خاليًا من الفصّ.

 

انحنيت ورحت أفتّش عنه تحت رجليّ وبين طيّات الملاءة. ألقيت نظرة تحت السرير، لكنّني لم أجده. لم أعرف متى وقع من مكانه. انقبضت أحوالي وشعرت بالانزعاج. فذلك الخاتم كان ذكرى من "حسين محمودي". مرّ مشهد شهادة "حسين محمودي" وذلك النهر أمام مخيّلتي. فأنا وحسين كنّا أبناء الزقاق نفسه ورفاق اللعب؛ زقاق النقّاشين ذاك. وكانت لنا معًا جولات كثيرة في حرب الشوارع، وتشاركنا معًا الأفراح والأتراح. أرجعت

 

 

278

 


266

شدّوا أحزمتهم

رأسي إلى الوراء، رأيت فاطمة تنتحب وتبكي. سألتها: "لِمَ تبكين؟".

- إن متّ فماذا سأفعل؟

- الموت بيد الله. بالمناسبة، هذه هي خاصّيّة الحرب. ففي لحظة نكون موجودين، وفي لحظة أخرى تصيبنا شظيّة بمقدار حبّة الحمّص وينتهي كلّ شيء... نموت. يقول الشاعر:

الليل مظلم والطريق ضيّق وأنا سكران

                          وقع الكأس من يدي ولم ينكسر

فحارسه [الله] قد حفظه جيّدًا

                           وإّلا فمئة قدح تنكسر دون أن تسقط[1]

 

بعد يومين، عادت أمّي وفاطمة وسعيد بالحافلة إلى طهران، أمّا أنا فقد نُقلت إليها بالطائرة وأُدخلت إلى مستشفى "بهارلو".

 

خضعت هناك لعمليّتين جراحيّتين في رجلي، لكنّ أعصاب قدمي كانت قد قُطعت، فلم يلتحم الجرح. وبسبب تقطّع أمعائي، تأذّت كليتي والمثانة، فلم أعد أستطيع التحكّم بالإدرار (التبوّل). وكنت أشعر بألم دائم في بطني. خضعت لعمليّة جراحيّة ثانية في بطني. وقالوا لي: لقد جعلنا أمعاءك مستقيمة (قطعة واحدة) لكي لا تشكّل ضغطًا على المثانة.

 

بعد أسبوع، أُجريت لي عمليّة ثالثة في بطني، وقالوا إنّهم وصلوا قطعة أمعاء صغيرة إلى أمعائي. والآن هل هي أمعاء كلب أو أيّ حيوان آخر، لا أدري؛ المهمّ أنّ الوجع قد انتهى. فقد كان بطني يؤلمني كلّما أكلت

 

 


[1]  المغزى من هذه الأبيات أنّ كلّ شيء بإرادة الله تعالى، فقد تتوافر كلّ العلل والأسباب لحدوث أمر، ويكون الأمر محتومًا طبقًا لنظام العلّة والمعلول. لكن، لأنّ مشيئة الله لم تقتضِ ذلك فإنّه لا يحدث. ولا يتأثّر بالعلل والأسباب الخارجيّة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الحياة والموت.

 

279


267

شدّوا أحزمتهم

شيئًا، ولم أعد أستطيع تناول الطعام، وأصبحت نحيلًا لا رغبة لي بالطعام.

 

في تلك الأيّام، كانت فاطمة هي التي تعتني بي، ولا أستطيع أن أصف ما عانته تلك المرأة من أجلي! فقد كانت تذهب في الصباح إلى مجمع الأيتام للعمل هناك، ومن ثمّ تأتي عند الظهر إلى المستشفى فتمكث عندي حتى صباح اليوم التالي.

 

في تلك الفترة، التي التهب فيها جُرح رجلي، وكنت أتلوّى فيها من الألم وأعاني ما أعانيه، كانت تبقى مستيقظة إلى الصباح وهي تدلّك رجلي، فيما أئنّ وأتوسّل بالأنبياء وأطلب منهم المدد. ولا أكاد أغفو قليلًا، حتّى يعود الوجع من جديد فأنادي فاطمة:

- فاطمة، مدّدي رجلي إلى هذه الناحية...

- فاطمة، غيّري وضعيّة رجلي؛ فقد تخدّرت...

 

المسكينة لم تكن تنبس ببنت شفة، بل أظهرت محبّتها، ومحبّتها فقط.

 

في النهار، جاء لعيادتي عدد من الناس؛ الناس العاديّين، المثقّفين، التجّار، والمتعلّمين. كانت قلوب الناس حينذاك ربّانيّة. ذات يوم، حضر الحاجّ قاسم لزيارتي، بعد غياب أكثر من سنة. فبسبب الإصابة البالغة التي أُصيب بها، قلّما صار يذهب إلى الجبهة. وقد التحق بسلك الأعمال الخيريّة، فأسّس مؤسّسة "الخامس عشر من خرداد" في "كرج"، وتابع من خلالها أمور عوائل الشهداء. كما ظلّ فعّالًا في مركز تنظيم صلاة الجمعة، وكان أحيانًا يأتي إلى الجبهة لإيصال التجهيزات. فيده التي أصابتها طلقة دوشكا قد تعطّلت كليًّا.

 

ذات يوم جاء خالي "السيّد علي" لزيارتي. وأحضر معه صندوق برتقال ووزّعه على الجرحى.

 

280

 

 


268

شدّوا أحزمتهم

حين جاء شباب الكتيبة لعيادتي، قلت لهم: "خالي السيّد علي هذا، طبّاخ ماهر، وطبخه لا يُعلى عليه. لديه مقهى، وطبق "الديزي" الذي يعدّه لن تجدوه في أيّ مكان".

 

يومها قال لي خالي السيّد علي: "ماذا سأفعل بهذه الأوشام التي على يدي؟ وكيف أزيلها؟".

 

قلت: "اتركها، ستطلع روحك إن حاولت إزالتها. تسكب عليها الأسيد".

 

لكنّ خالي أصرّ على إزالتها. يومها تخالط خالي مع الإخوة وأصبح صديقًا لهم، وذهب إلى الفرقة ليطبخ لهم. أصبح واحدًا من المجاهدين، وكانت عاقبته إلى خير؛ لكن شاء القدر أن يُصاب بسكتة قلبيّة في العام 1988م، وهو في مخيّم تدريب أُقيم إلى جانب سدّ "لتيان"، انتقل إثرها إلى جوار ربّه. رحمه الله.

 

لا أحد يعلم إلّا الله ماذا يخبئ لنا في الغد الزمان في تلك الأيّام، كان يأتي إلى عيادتي بين اليوم والآخر، كلّ من أمّي و"ننه پری" و"سعيد". ومع أنّ سعيد لم يكن يراني كثيرًا، إلا أنّه لم يتعامل معي كالغرباء. فقد كان يحوم حول سريري، يمسك بيدي مريدًا ملاعبتي. لكنّه كان قد اعتاد عادة سيّئة؛ فعندما كان يغضب من أحدهم كان يبدأ بالصراخ ويكيل له الشتم والسباب.

 

ذات يوم، كنت جالسًا على الكرسيّ المتحرّك فإذا بسعيد و"ننه پري" يأتيان. ألبسوه بزّةً رسميّة، وقد بدا أنيقًا ووسيمًا. جاء وأمسك الكرسيّ بكلتا يديه وراح يحدّثني ويتكلّم بطلاقة. ثمّ أمسك بيديّ بقوّة ولم يتركهما.

 

عندما انتهى وقت الزيارة، جاء الممرّض وقال لسعيد: "هيّا يا بني، تعالَ لأعطيك جائزة".

 

281


269

شدّوا أحزمتهم

فجأة بدأ سعيد بالصراخ، وكال بعض الشتائم للممرّض المسكين. بعدها أمسك بالكرسيّ المتحرّك وبدأ بالبكاء والنحيب. تسمّر الممرّض في مكانه وخاف من بكاء سعيد، وراح يتمتم: "والله لم أفعل له شيئًا..".

 

تقدّمت "ننه پري" وأخذت بيد سعيد وراحت تتملّقه أوّلًا، ثمّ انجرّ الأمر إلى النزاع. وفيما كان سعيد يصرخ ويصيح، ترك الكرسيّ وارتمى أرضًا وراح يتململ ويخبط رجليه بالأرض ويقول: "أريد أن أبقى عند أبي".

 

اجتمع المستشفى حوله. وكلّ من حاول التكلّم معه بكلمة، كال له شتيمتين.

 

بالنهاية، اجتمع طاقم التمريض وأخرجوا سعيد من الغرفة.

 

في صباح اليوم التالي الباكر، جاء بقّال الزقاق السيّد "ناصر"، ممسكًا بيد سعيد. قلت: "إِ... سيّد ناصر، لماذا أتعبت نفسك؟".

 

قال: جاء سعيد إلى المحلّ وألحّ عليّ: "بأنّ بابا يطلب منك أن تأخذني إلى المستشفى".

 

ما إن رآني سعيد حتّى ركض وارتمى في أحضاني. تعجّبت لهذا الطفل الذي لم يكن قد رآني كثيرًا، كيف فرح بي وأحبّ أن يبقى دومًا معي. جاء وجلس في حضني، راح يمسح بيديه على وجهي ورأسي ويتحدّث إلي.

 

في لحظة الوداع أيضًا، كانت لنا أيضًا جولة من بكاء سعيد ونحيبه.

 

ذات يوم، جاء رجل من مرضى المستشفى لعيادتي، رجل متوسّط في العمر، يرتدي لباس المستشفى، ويعرج في مشيته.

 

قال: سلام يا حاجّ، أين أُصبت؟".

 

بلا مبالاة قلت: "الفتح المبين".

 

282


270

شدّوا أحزمتهم

- يا عمّ، ذات يوم التحقت بالجبهة في تلك الناحية.

 

حينها، رددته بطريقة ما وذهب في حال سبيله. شعرتُ بتطفّله.

 

في اليوم التالي، عاد وقال: "سلام يا حاج، أشعر بأنّي أعرفك منذ زمن.

- ممكن.

- أين جُرحت؟

- في مكان ما، لِمَ تسأل؟

- عزيزي، قل لي أين جُرحت؟

- لم أكن في الجبهة أساسًا.

- إذًا، أين كنت؟

- الليلة قبل الماضية، ذهبت إلى مقهى "أفق طلايي"، تنازعت مع أحدهم، فطعنني بخنجر في بطني.

- إِ... إذًا، لِمَ أحضروك إلى هنا؟ فهذا المكان مخصّص لجرحى الحرب.

- هذا المستشفى ملك لعائلتنا، وأنت هل طعنك أحدهم بخنجر؟

- لا يا حاج، روحي فداك، وداعًا.

 

بقي فاغرًا فاه من الحيرة، وراح يرمقني بنظراته. ذهب ونشر في المستشفى كلّه بأنّ هذا المريض قد طُعن بخنجر؛ وجيء به إلى قسم جرحى الحرب!

 

كانت هذه حكاية المستشفى.

 

في تلك الفترة، أخرجوا الشظايا من ظهري واحدة بعد الأخرى، إلّا تلك

 

283


271

شدّوا أحزمتهم

المستقرّة قريبًا من نخاعي الشوكي، فلم يقتربوا منها. خرجت واحدة أو اثنتان منها مع الدم والقيح. كما ظهر رأس واحدة منها، لكنّه علق في اللحم، فكنت كلّما أردت أن ألبس ثيابي علقت بها.

 

كان من المقرّر أن يأتي السيّد "جعفري"، وهو من معارفنا ومن ممرّضي القسم، كلّ عدّة أيّام ليعقّم لي جرح رجلي. كان ذلك الأمر مؤلمًا إلى درجة جعلتني أنا القوي أرتجف خوفًا عندما أرى السيّد جعفري. كما كانت فاطمة تستاء لقدومه. وما إن كان يطرق باب البيت حتّى تضطرب فاطمة وتقول: "أبو الفضل، لقد جاء..".

 

كنت بعد تعقيم الجرح أتلوّى من الألم لساعات. وقد حار الأطبّاء من كلّ هذا الألم.

 

شيئًا فشيئًا، صارت تنبعث من رجلي رائحة عفن كريهة تكاد تقتلني. لم يعد أحد يأتي لزيارتي. فأولئك الذين كانوا يأتون لعيادتي كلّ يوم، كانوا يتهرّبون ويقولون لدينا عمل. وحدها فاطمة، كانت تأتي إلى غرفتي وتتحمّل تلك الرائحة الكريهة.

 

لكن، ذات ليلة جمعة، أُقيمت في بيتنا مراسم دعاء كميل، فاكتسب المجلس أنسًا خاصًّا، وحصل تواصل ما. في اليوم التالي، جاء السيّد جعفري وقال لي متهكّمًا: "كنت تطلب المسكّن من "السيّدة رقيّة"، ألا تكفي كل هذه المسكّنات التي نعطيك إيّاها؟!".

 

أمسك برجلي وراح يحرّكها إلى هذه الناحية وتلك، ويتهكّم بكلماته تلك ويغمز بها من قناتي. فجأة، انفلق رأس الجرح، ونفر منه سائل أسود اللون ولوّث مريلة السيّد جعفري البيضاء.

 

خاف "جعفري" واختفت ضحكته. رجع القهقري وقال: "آخ، آخ...

 

 

284

 


272

شدّوا أحزمتهم

لقد تقيّح الجرح من الداخل واسودّ، كان ملتئمًا من الخارج فقط!".

 

قلت: "هذا تجلّي أهل البيت عليهم السلام. منذ خمسة وعشرين يومًا أئنّ من الوجع، ولا أحد يسمع كلامي".

 

أُخذت في ذلك اليوم صورة لرجلي. كان الالتهاب والقيح قد وصلا إلى ركبتي. قيل ينبغي بتر هذه الرجل، ونقلت فورًا إلى غرفة العمليّات؛ لكنّ الدكتور "طاهري" جزاه الله خيرًا، قال: "لقد لطف الله بك، إذ انفتح رأس الجرح".

 

بعدها، أحضر حقنة كبيرة جدًّا، من دون إبرة، أدخل رأسها في قلب الجرح وسحب القيح منه. كنت واعيًا وأرى كلّ ما يحصل من حولي. كما قصّ كلّ اللحم الزائد على الجرح، وأخذ بعض اللحم من فخذي وزرعه في أسفل قدمي وظاهرها. واقعًا، لقد أبلى الطبيب بلاءً حسنًا، وكانت عمليّة ناجحة. وبلطف الله وعنايته، تحسّنت حالي بعد يومين أو ثلاثة.

 

ذات يوم، استيقظت وأنا أتضوّر من الجوع. تناولت ثلاث وجبات من الطعام. قال لي الطبيب: عليك أن تبدأ تدريجيًّا، بالمشي متّكئًا على العصا، وذلك ليجري الدم في أسفل قدمك وتترمّم أعصابها".

 

عندما التحم الجرح ونبت اللحم، أُذن لي بالخروج من المستشفى.

 

أمضيت عاشوراء تلك السنة على الكرسيّ المتحرّك. وفي ظهر عاشوراء، وبينا كنت في وسط مجلس العزاء، أحسست بدوار في رأسي، وغبت عن الوعي. فنُقلت من جديد إلى مستشفى "بهار لو"، وبقيت فيه أيّامًا بسبب ضعف جسمي والدوار. ومن كثرة ما تناولت الأدوية المضادّة للالتهابات وحُقنت بها، صرت نحيلًا جدًّا؛ تخيّل أنّك وضعت عودين رفيعين فوق بعضهما البعض، وسميّتهما إنسانًا! إلى هذه الدرجة أصبحت

 

 

285

 

 


273

شدّوا أحزمتهم

نحيلًا، فلم أعد أستطيع الوقوف على قدمي. لكنّ بالنهاية، خرجت من المستشفى في شهر آذار.

 

ذات يوم رأيت فاطمة وقد جاءت بعدد من الفرش وفرشتها وسط الغرفة بشكل طولي، كما ربطت حبلين غليظين من أحد جوانب الغرفة إلى الجانب الآخر. تعجّبت وسألتها:

- ماذا تفعلين؟

- تمسّك بهذين الحبلين، وقف شيئًا فشيئًا على رجليك. فإن وقعت تقع على الفرش، ولن يصيبك أيّ أذى.

 

منذ ذلك الحين، صرت كلّ يوم أتدرّب على المشي بواسطة هذين الحبلين. وشيئًا فشيئًا نهضت عن الكرسيّ المتحرّك وصرت أمشي على العكّاز.

 

كنت في النهار أخرج من البيت متّكئًا على العكّاز، وفي الليل أقضي أوقاتي في الهيئة والمسجد وأحيانًا في المطالعة. وقد ذهبت مرّتين لزيارة عائلة الشهيد "حسين محمودي" في شارع "إيران"؛ كان منزلًا تراثيًّا ومفعمًا بالحياة. ولكم حللت و"ناصر كلهر"، و"داود نيازي" و"علي جمشيدي"، و"عرب زاده" ضيوفًا على مائدة والدة الشهيد؛ امرأة راسخة كالجبل، وصبورة، حيث ذاقت لوعة فقد ابنتين من بناتها، وزوجها، وأخوين من إخوانها، كانا من تجّار السجّاد ومن الخيّرين، والأهمّ من هذا كلّه لوعة فقد "حسين محمودي" التي كسرت قلبها؛ لكنّ نفسها وأنفاس أمّهات الشهداء الأخريات كانت وما زالت مصدر البركة والرحمة في هذه البلاد.

 

لقد حيّرت شهادة "حسين محمودي" شباب المسجد والهيئة. وحتّى إمام المسجد الشيخ "صدّيقي"، الخبير بأوجاع الناس والرجل في أيّام الكروب بكى كثيرًا لفراق حسين.

 

286


274

شدّوا أحزمتهم

تذكّرت شيئًا من أعمال الشيخ "صدّيقي" الرائعة: فقد دعا أحد قرّاء العزاء، وكان كبيرًا في السنّ ويدعى الميرزا إبراهيم، ليقرأ المجالس الحسينيّة في المسجد بعد الصلاة في العشر الأوائل من محرّم الحرام. قال لي حينها معظم الإخوة إنّ صوته ضعيف؛ لِمَ لا تدعون قارئًا ذائع الصيت ومعروفًا. نقلت ذلك إلى الشيخ صدّيقي فقال: "عزيزي السيّد، سأقول لك شيئًا، وليكن درسًا لك؛ أوّلًا، لقد كان صوته لسنوات طوال حديث الناس، وها هو اليوم قد أصبح شيخًا كبيرًا. ثانيًا، منذ أشهر وهو يستدين من اللحّام والبقّال ويعدهما بأنّه سيفيهما أموالهما في أيّام محرّم. الإمام الحسين عليه السلام راضٍ [بهذا الأمر]؛ ولقد دعوته ليقرأ في العشر الأوائل من المحرّم؛ ووضعت [بدل العشر] أجرة ستّين يومًا في ظرف لندخل السرور إلى قلبه".

 

إلهي، أسألك بحقّ الإمام الحسين عليه السلام أن تحفظ حرمة الشيخ "صدّيقي"، لأنّه حفظ في أيّام الحرب ماء وجه الكثيرين من دون صخب وضجيج.

 

287

 

 


275

جسور فوق الألغام

جسور فوق الألغام

 

..لا تكسر المملحة في مكان تناولك الملح

 

أواسط شتاء العام 1983م، مشيت وأنا أعرج إلى المسجد لأطلع على أحوال الرفاق وأروّح عن النفس قليلًا. فقال أحد الإخوة فجأة:

- نحن بصدد عمليات مهمة والقوات متأهبة.

 

وأضاف بعد لحظات:

- لقد أوصانا إمام المسجد أن لا نخبرك بالأمر.

 

فقلت:

- لقد اعتدت على رائحة الطين والتبن وأضحى هواء المدينة سمًّا لي.

 

في الحقيقة، وجدتها فرصة لأنسلخ عن المدينة والمنزل، وفكرت بما أنني لا أستطيع المشاركة في قوات الهجوم والخط الأمامي، فلأذهب إلى خيمة استطلاع العمليات خاصة أنني رفيق لعناصر الاستطلاع ولـ"أبرام هادي"[1]، وهناك يمكنني الاضطلاع بمسؤولية ومهمة ما.

 

سألت هذا وذاك إلى أن اهتديت إلى مقر استطلاع العمليات في منطقة

 

 


[1]  إبرام مخفف إبراهيم في اللهجة العامية، هو بطل رواية سلام على إبراهيم. (المترجم)

 

289


276

جسور فوق الألغام

"فكة"، وقد استقبلني أبرام هادي مسؤول الاستطلاع بحرارة وترّحاب.

 

كان "إبراهيم" معلّمًا في وزارة التربية والتعليم، رياضيًا متمرسًا وبطلًا قلّ نظيره في الحرب. كان مدرّب الكرة الطائرة [فاليبول] ومعلّم أخلاق للكثيرين. برغم أوضاعه المالية الجيدة، إلاّ أنّه سلك درب العرفانيّين في الرياضة وبناء الذات. فكان يركب الحافلة في تنقّلاته، ويذهب نهارًا إلى السوق، فيعمل مع الحمّالين في نقل البضائع ليصقل روحه وجسده، ويتغلّب على الغرور والكبرياء. كان "إبراهيم" أيضًا، ضليعًا في الاستطلاع وجمع حوله فريقًا من نخبة العناصر.

 

أثناء مرحلة تحضّر القوات للعمليات، زرتُ ضفة النهر الذي تعرّض للقصف قُبيل عمليات مسلم وجُرحت فيه. كنت آمل أن أجد حصّ الياقوت للخاتم. خيّم صمت مطبق على المكان وقد هبّت عليه الرياح فتماثل مشهد استشهاد "حسين" أمامي ثانية. مهما بحثت في التراب وبين الأعشاب والنباتات لم أجده، فعدت إلى المخيم خالي الوفاض. طبعًا إنّ الأمل بإيجاد جوهرة صغيرة في هذا المكان وبعد هذه المدّة من الزمن لأمر مبالغ فيه.

 

في أحد الأيام جاء "محمد تيموري" من عناصر استطلاع فرقة "سيد الشهداء 10" إلى خيمتنا، وكنا رفيقين مقربين جدًا. محمد من أهالي محلّة شميران المرفهة ووالده صاحب مصنعٍ، ورجل ثريّ معطاء.

 

عُرف محمد بين الرفاق بـ"محمد جماراني"[1]، لسخائه وحبّه للمقاتلين، وما زال كذلك إلى الآن. ظلّ كلّما سنحت له الفرصة يدعو الشباب لتناول الدجاج المحمّر والكباب مع الأرز في منطقة "انديشمك"، يمازحهم

 

 


[1]  نسبة إلى جمران مقر الإمام الخميني (قدس سره) في طهران. بدل شميراني (المرفهة) جمراني (المعطاء والتواضع). (المترجم)

 

290


277

جسور فوق الألغام

ويتودّد إليهم، ويشاكسني دائمًا بقوله:

- أنتم حفنة من الجوعى من جنوب المدينة، جئتم إلى الجبهة لأجل تناول مرق اللحم، بينما أمثالي! عندما يأتون يكون بحوزتهم ما لا يقلّ عن 50 ألف تومان. أنا أملك سيارة "مارسيدس بنز" بينما أعظمكم شأنًا لا يملك حتى سيارة "بيكان" paykan[1].

 

كان محمد طاهر القلب، يقول ذلك فقط بهدف إضحاك الرفاق ومشاكستهم. فالضحك في تلك الأيام القاسية أمسى نعمة حقًا تهوّن علينا مشاق الحرب، خاصة الشّبّان الذين فقدوا كل أنواع المسرّات قد أُصيبوا بالحزن والاكتئاب أحيانًا.

كنّا نصلّي جماعة وندعو ونتوسّل ساعة، ثم نقضي وقتًا في لعب كرة القدم الخماسية [ميني فوتبول]، ولم نكن نقضي كل أوقاتنا في الدعاء والبكاء فقط!

 

في الليل عندما يذهب فريق الاستطلاع للتعرف إلى المنطقة أو فتح المعابر، نتحلّق ونتبادل الأحاديث، وإذا حضر السيد محمد بيننا، أطلق بعض الدعابات لإضحاكنا. حتى إنه ابتدع حديثًا من تأليفه يردّده أينما حلّ ويقول: الشهداء "الشمرون" [نسبة إلى منطقة شمران] أفضل من شهداء "الطهرون" [نسبة إلى طهران]!

ثم يقول أجري وأجركم ليس واحدًا عند الله، ذلك أنني من أبناء "شمران" وأنتم من أبناء طهران. لكثرة ما ألّف من الأحاديث والآيات، اعتقد الرفاق الناطقون باللغة التركية واللهجة اليزدّية أنه رجل دين حقًا، وكانوا يحبّونه ويتودّدون إليه.

 

 


[1]  كانت سيارة بيكان زهيدة الثمن مقارنة مع سيارة مارسيدس، كما أن 50 ألف تومان في ذلك الزمن كان مبلغًا كبيرًا جدًا. (المترجم)

 

291


278

جسور فوق الألغام

تقرّر في أحد الأيام أن نصلّي جماعة بإمامة السيد محمد. وقفنا في صفّ الصلاة داخل الخيمة، وكي لا يُحرج لفّ محمد ملاءة بيضاء بشكل عمامة ووضعها على رأسه، وتقدّم المصلين ثم قال:

- هناك مسألة شرعية... واسمحوا لي أن أقولها باللغة الفارسية كي يفهمها الجميع. هناك رواية تقول: "من داوم على أكل الرمان، حبة في اليوم وزن كيلو غرام واحد ولمدة 20 يومًا، فاز بقصر النور والزمرد الكائن في الجنة".

 

صدّق اليزدْيّون [أهل يزْد] المؤمنون الطيّبون، مقالته تلك وفي اليوم التالي أحضر مسؤول التموين للقوات "اليزدية" 4 صناديق من الرمان وزن الحبة منها كيلوغرامًا تقريبًا.

 

كان محمد يوصيهم دائمًا ونقلًا عن بعض العلماء أنه يجب أن لا تسقط حبة رمان واحدة على الأرض. فكانوا يضحكون كثيرًا من أقواله وأفعاله ويقولون: "يا له من إنسان رائع!".

 

في بعض الأيام، ازداد شغب السيد محمد كثيرًا. فراح يلوّن كفّيه باللون الأسود ويشارك في لعبة "عالي وط وط"[1]، وعندما يقترب الغريم منه للإمساك، يلوّث له وجهه باللون الأسود فيضحك الرفاق.

 

أوائل شهر شباط من عام 1983، جرت عمليات "والفجر التمهيدية" في منطقة "فكة" الرملية، وكان للمعارك في منطقة رملية مصاعبها ومشاكلها الخاصة، هناك عجزنا عن الحركة خطوة واحدة. فكلّ شيء يغوص في الرمال؛ من سيارة الإسعاف إلى ناقلة الجند وغيرها. وكي تتمكن سيارة الإسعاف من نقل المصابين، بسط الإخوة شباكًا كبيرة مصنوعة من

 

 


[1]  لعبة تقليدية يقوم أحدهم بملاحقة المشاركين في مساحة محددة محاولًا الإمساك بهم. لكن المشارك يستطيع الإفلات منه إن وثب على مكان مرتفع. (المترجم)

 

292


279

جسور فوق الألغام

الأسلاك المعدنية على الرمال. حقيقةً، شكّلت الرمال عوائق أصعب من عوائق الجيش العراقي نفسه، ما صعّب مهمة قواتنا وجعل من هذه العمليات مجرّد ترويج إعلامي وعرضٍ للعضلات أمام القوات العراقية.

 

خلال العمليات، ركبت دراجتي قاصدًا الخط الأمامي، لكنها علقت في رمال أحد الكثبان. عانيت الأمرّين بقدمي العرجاء تلك حتى استطعت تخليصها من الرمال والعودة بها إلى خيمة الاستطلاع. بعد عدّة أيام علمت أن "أصغر أرسنجاني" قد جُرح.

 

عندما التحقت بفريق "أبرام هادي"، كانت أعداد أصحاب الفتوة "والعنتريات" قد تنامت بين أفراد الفرقة، ولم يلتزموا بالنظم والانضباط. فقد تعدّدت مشاربهم وطباعهم، واختلفت أخلاقهم، والآن توجّب تنظيمهم والسير بهم على الصراط المستقيم.

 

كان بعضهم يرتدي سروالًا كرديًا وخفًا حريريًا مسنّن الرأس وقبعة حيث عرف مرتدوها آنذاك بـ"إلهي قلبي محجوب"، وآخرون يحملون مناديل يزديّة ويرخون لحاهم ليتّصفوا بالهيبة، أو يخالفون النظام ويعملون على هواهم في الفرقة وأكثرهم من أبناء مدينة طهران. وحاول الشبان اليافعون منهم تقليد مشي وسلوك "قبضايات" وفتوّات الأيام الغابرة، فلم يضعوا حافظ الأحذية العسكرية [Boot Guard][1] ولم يشاركوا في المراسم الصباحية بانتظام، أو لم يرتدوا الزيّ العسكري "الكاكي" اللون بانتظام، وهذا ما لا يتناسب والحرب الكلاسيكية ويسبب الفوضى العارمة.

 

عدد آخر من المقاتلين لُقبوا "بالكبسون" [الكبشة][2] ، وإذا ما قهقهت

 

 


[1]  نوع من القماش السميك أو الجلد يلف على ساق الحذاء العسكري البوتين- لحفظه من التلف ويسمى بالفرنسية getr والفارسية كِتر. (المترجم)

[2]  لأنهم كانوا يضيفون كبشة تحت باقة قمصانهم كي لا يظهر أي جزء من صدورهم. (المترجم)

 

293


280

جسور فوق الألغام

أمامهم تحمرّ وجوههم من الغيظ، ويعضّون على شفاههم ويستغفرون الله ففي رأيهم الضحك والمزاح والمرح من الكبائر. وآخرون لا همّ لهم سوى الحرب والقتال، لا اللباس ولا الطعام، ولا اختيار الخيمة من أولوياتهم، ناهيك عن الفتوّات والبطولات.

 

لكن الحاج "همت" ابتغى التأقلم مع جميع هؤلاء الأصناف والتقرّب منهم، فقد كان قائدًا لفرقة طهرانية، وهو قائد مثقّف ومحنّك أراد التعرف إلى خصائص وممّيزات جميع العناصر ليتمكّن من خلق الانسجام والوحدة في صفوف قوّاته، وبالتالي قيادتهم لتحقيق الأهداف المنشودة.

 

دعاني الحاج "همت" في أحد الأيام، فذهبت إليه برفقة "إبرام" قائد "فُتّوات" الجبهة. كان الحاج ينتظرنا في مقر الفرقة، وبعد التحية والسلام قال لي: "أريد أن أتعلّم منك بعض الأمور. كلّ شخص متفوّق وماهر في مجال معيّن، هيا أخبرني ما هي حكايات "الفتوّات" و"القبضايات" وما هي معاييركم ومفاخركم؟".

 

كالعادة، كنت متأهبًا للإجابة وأخبرته الحكاية والوقائع كما هي:

"كان في طهران رجل اشتُهر بالبطولات والفتوّة اسمه "مصطفى بادكان"، ولأنّه كان يحب أهل البيت عليهم السلام بجنون، لُقب بـ"مصطفى المجنون". لكن مصطفى هذا كان يعاشر في شبابه جماعة من "الفتوات" ويرافقهم للسهر واللهو ليالي الجمعة إلى حديقة "الخالة" في "فرح زاد" شمالي "طهران". في المقابل كان هناك رجل دين فريد من نوعه اسمه السيّد مهدي قوّام، ولا مثيل أو ندّ له في ذلك الزمن غير السيد "طباطبائي" المقيم في شارع غياثي. في إحدى الليالي ذهب السيد مهدي إلى حديقة "الخالة". وعندما رأى تلامذة السيد "مصطفى"، طلبوا منه أن يحسن التصرّف هذه الليلة"، فتقدم أحد الرفاق وسأل: "هل من أخبار الليلة؟" ما إن أخبروه أن السيّد قوّام جاء

 

294

 

 


281

جسور فوق الألغام

إلى هنا، حتى نهض مصطفى من مكانه وذهب إليه فقبّل جبينه وقال له:

- أنا خادم للسادة.

 

فقال السيد قوام:

- أريد أن أصبح فردًا من مجموعتكم فأخبرني عن قوانينكم.

- في قانوننا أن "لا نكسر المملحة في المكان الذي نتناول فيه الملح"[1].

- حسنًا، هذا القانون موجود في عُرفنا أيضًا، لكن هل تنفذون هذا القانون أم هو كلام فحسب؟

 

سكت مصطفى فتابع السيد مهدي:

- أنتم الذين تناولتم من ملح رب العالمين، لماذا تكسرون المملحة؟

 

قيل إنّ كلام السيد هذا قد قلب حال وأحوال مصطفى رأسًا على عقب، فتاب وأصبح من أهل التُّقى، وقد أنشأ في حي "باتشنار" هيئة "محبّي الزهراء عليها السلام" وما زالت ذكرى لمصطفى "مجنون أهل البيت عليهم السلام". لا بدّ من التذكير أن هذه الهيئة قدّمت أكثر من 50 شهيدًا للثورة الإسلامية منهم القائد "عباس فراميني". وهاك قانون البطولة والفتوّة: "حفظ حريم الخبز والملح..".

 

كنت أتكلم من دون أيّ مقاطعة من الحاج "همت" وهو يصغي لكلّ كلمة أقولها، ويدوّن بعض الأمور في دفتره، كما أخبرته الكثير عن سلوك وأخلاق "فتوّات" الفرقة.

 

لقد تمتع الحاج "همت" بروح سامية فلم يظهر أيّ ردّ فعل أو اعتراض، حتى لو أنّه في قرارة نفسه لم يعجبه كلامي، لكنه لم يكشف ذلك بل تصرّف بكثير من التواضع والهدوء. أقبّل يديه لأنه قائد متواضع

 

 

لم يشعرنا أبدًا أنّه قائد فيأمر وينهي لمجرد أنّه قائد.

 


[1]  كناية عن حفظ العهد والوفاء. (المترجم)

 

295


282

جسور فوق الألغام

لم يشعرنا أبدًا أنّه قائد فيأمر وينهي لمجرد أنّه قائد.

كان يقوم بواجبه فحسب، ويسعى لإقرار النظم والانسجام في فرقته، وأيضًا لجمع المقاتلين مهما تعددت مشاربهم وأخلاقهم تحت مظلّة واحدة ولأجل هدف واحد ألا وهو القتال والدفاع، وكم كان موفقًا في مساعيه. منذ ذلك اليوم، كان كلمّا رآني ضحك وقال: "إنها لغنيمة أن أرى جمالك"[1].

 

لكن عندما يلتقي بأصحاب "الكبشة" يحييهم بهدوء وأدب قائلًا:

- السلام عليكم ورحمة الله.

 

بعد ذلك، وقعت حوادث أخرى، فكانت عمليات "والفجر التمهيدية" وعمليات"الفجر الأولى"، حيث قدّمت فرقتا الطهرانيّون العديد من الشهداء والجرحى، واعتبر ذلك ضربة قاسية لقيادتيهما. كم أدمى قلوبنا نبأ استشهاد "إبرام هادي" قائد وحدة استطلاع العمليات، وبدا وكأن اليأس قد سرى إلى قلوب المقاتلين ما صعّب أمر القيام بعمليات أخرى، وربما كان لبعض القادة ما يقال في هذا المجال.

 

لقد شهدنا حجم الخسائر التي مُنينا بها في عدد من العمليات السابقة، وكيف علق عدد من أبطالنا في صحاري العراق الحارقة. وأضحى همّ المقاتلين في تلك الحقبة من الحرب هو التخفيف من الخسائر.

 

وسمعنا رسالة الشهداء من أفواه كبار الحرب أمثال: "علي موحد، كاظم رستكار، أصغر رنجبران، منصور كوتشك محسني، سعيد قاسمي، محمد جوان بخت، حسين الله كرم، حسين اسكندر لو، مجيد زاد بُود" وغيرهم. فقد استعرت تلك النيران في أرواح المقاتلين، لكنّ بعضهم لم يجد الجرأة للإفصاح عنها. وأدّى هذا الأمر لتوقف العمليات العسكرية مدة

 

 


[1]  أي أنه كان يستخدم لغة القبضايات والفتوات في تحيّتهم عندما يلقاهم.(المترجم)

 

296


283

جسور فوق الألغام

3 أشهر، بل وللتراخي في القيام أو الحديث عن عمليات جديدة. صحيح أن الحرب والمعارك كانت الشغل الشاغل في تلك الأيام، لكنّ القادة الأكثر انزعاجًا وقلقًا من العناصر، اجتمعوا في طهران يتبادلون التجارب، ويفصحون عن مكنونات قلوبهم ويناقشون سبل حلّ مشكلات الخط الأمامي في سبيل تسجيل انتصارات أكبر.

 

تقرّر وبقيادة قدامى المحاربين، تقديم اعتراض على أسلوب الحرب "اللحم الحي بمواجهة الدبابة"، ولأنه ينبغي أن يتصدّى أحدهم للمهمة فقد وقع الخيار على حامل لواء الضحايا، السيد "حسن بهمني"، كي يحمل هذا الطراز الجديد من الفكر الذي هو وليد كلام وآراء القادة، لمسؤولي الدولة. حقيقة، لا يوجد من هو أفضل من "حسن بهمني"، الذي وعى حساسية الموقف في تلك الحقبة من تاريخ الحرب لأداء هذا الدور. لقد كان مفكرًا عالمًا بفنون القتال والحرب وسعى لتقديم نماذج وأساليب جديدة في القتال. أراد للحرب أن تكون تحت مظلة العقائد والفكر، وأن تجري في ظل القراءة التحليلية والتخطيط المبرمج.

 

في تلك السنوات، اندفع كثيرون وضحّوا بأرواحهم في حقول الألغام وساحات الوغى، وقدّموا الانتصارات، لكن "حسن" كان مفكرًا وهذا أمر لا يستهان به.

 

كان حسن رفيق 20 عامًا من عمري، درسنا معًا في مدرسة "جمشيد"، هو في الصف الرابع، وأنا في الصف الأول. نشأنا معًا ولعبنا في ذات الحي، لكنه كان متفوّقًا في كل شيء. حسن، هو الابن الأكبر لعائلة ثرية ومؤمنة تتمتع بذكاء رباني وقد حصلوا جميعهم على مراتب علمية عالية.

 

بعد أن حصل على شهادة الثانوية العامة، تم قبوله في جامعتين، جامعة شركة النفط وجامعة الحقوق والقضاء، لكنه لم يلتحق بالجامعة

 

297

 

 


284

جسور فوق الألغام

وفضّل البقاء إلى جانب والده يعينه في إدارة معهد تعليم قيادة السيارات. ربما شعر أنه ليس بحاجة للذهاب إلى الجامعة، فهو كان من المثابرين على المطالعة ويملك كمًا من المعلومات. وفي الزمن الذي انغمست فيه بممارسة رياضة الـ"زورخانه"[1] والتردّد على هيئات ومجالس العزاء وتكيات العبادة، كان هو يقرأ أشعار "مثنوي معنوي وكلستان سعدي"[2]، ويحفظ أشعار "حافظ"، هذا إلى جانب إيمانه واعتقاده الديني العميق. لكنه أبدًا لم يتفاخر أو يدّعي بأنه أكثر إيمانًا من الآخرين.

 

كان حسن، شابًا مليح الوجه ذا جسم رياضي قوي، حسن الهندام يهتم ببنيته الجسمية إلى جانب بنائه الروحي. أذكر أنه منذ حداثة سنّه، كان يختار ملابسه بعناية، وينسّق ما بين القميص والسروال والحذاء، واعتبره نموذجًا يحتذى به بين شبان الحي من حيث الهندام. مع بداية الثورة، لمع نجمه وشارك في أعمالها مع الآلاف من الشبّاب الإيراني وساهموا في انتصارها. كما كان من المؤسسين والأعضاء الرئيسيين في الحرس الثوري وكنت أنزع إلى أن أكون حرًّا في أعمالي، وفي حين لم أكن مهتمًا بوجودي أو عدمه في الحرس الثوري، كان هو يعتقد أن تشكيل الحرس ضرورة لا غنى عنها لحفظ الثورة.

 

أذكر في الوقت الذي نبذ فيه الناس والمجتمع أولئك المدمنين والفقراء، كان حسن يمدّهم بالمال ويقول: "هؤلاء مرضى ويجب معالجتهم".

 

كان كلّما التقى "مش قادر"[3] ضمّه إليه، قبّله بمحبة وعطف ووضع المال في جيبه. عبّرت تصرفاته تلك عن أخلاقه الدمثة وإنسانيته. وأعماله

 

 


[1]  رياضة ألعاب القوى والمصارعة التقليدية في إيران. (المترجم)

[2]  سعدي من الشعراء القدامى المعروفين وكلستان ومثنوي معنوي اثنان من دواوينه الشعرية.(المترجم)

[3]  مش مخفف مشهدي (أي من زار مشهد المقدسة) (المترجم)

 

298


285

جسور فوق الألغام

لم تخطر على بال أيّ شاب في مثل سنّه.

 

لكن لحسن أفكاره الخاصة حول الحرب، باعتقاده يمكن مع هذا العدد الكبير من التعبويين وعناصر الحرس الثوري تحقيق الإنجازات بخسائر أقل.

 

فكّر المقاتلون الفاقدون لزملائهم، والقادة المصابون بالخسائر والذين تلقّوا الضربات القاسية خاصة في فرقتي طهران، مليًا بكلام حسن. وفي صباح أحد الأيام وبتنسيق مسبق، اجتمعنا مع باقي المقاتلين في مقر الحرس الكائن في ثكنة "ولي عصر" في "المنطقة 10"، لنُسمع القادة رأينا وطبعًا بواسطة حسن، وقد انتدب الحرس الثوري السيد "محسن رضائي" ليجيب عن جميع تساؤلاتنا.

 

تقرّر الاجتماع في الباحة بحضور الجميع كي لا يبقى أي مجال للإبهام.

 

حضر الاجتماع كاظم نجفي رستكار، صديق وزميل حسن بهمني، منصور كوتشك محسني، سعيد قاسمي وحسين الله كرم، وهم من قدامى المقاتلين والمشرفين على العمل، كما حضر عالما دين يدركان مرامي الشباب المقاتلين ويمتلكان الجرأة على الكلام. عندما وصل محسن رضائي، وقبل أن يتفوّه حسن بأيّ كلمة، سأل محسن رضائي: هل تشك بوجود مندسين بين هذا الجمع من المقاتلين؟

 

أجاب حسن: أجل

 

قال محسن: لدي كلام لا أستطيع التفوه به أمام هذا الجمع، لذا اختاروا عددًا من المندوبين وتعالوا إلى الطابق العلوي.

 

وافق حسن وصعد إلى الطابق العلوي برفقة "كاظم رستكار، سعيد كاظمي، عباس نجف آبادي، منصور كوتشك محسني، وحسين الله كرم".

 

299

 

 


286

جسور فوق الألغام

وفي المقابل كان "محسن رضائي" إضافة إلى "محمد كوثرى وأكبر نوجوان" مسؤولَي تخطيط العمليات، وهما ناظران وسطيان غير منحازين إلى أي طرف.

 

انتظرنا نتيجة الاجتماع في باحة الثكنة وفي مطعمها، وبعد حوالي 3 ساعات خرج السادة وقالوا إنّ النتيجة ستعلن غدًا الساعة 10 صباحًا.

 

خلاصة الاجتماع أن "محسن رضائي" كان يقول: "يجب عليكم أن تطيعوا أوامرنا"، أما مندوبونا فأوضحوا أن: "على القائد أن يعاين المنطقة ويقرّر إذا ما كانت مناسبة للعمليات أم لا".

 

كان كلام مندوبينا سليمًا، لكن "محسن رضائي" قال لهم: "لنذهب صباحًا إلى الإمام، واطلبوا منه أن يعيّن شخصًا آخر غيري. فالإمام قد اختارني أنا".

 

قال حسن: لم نأت لنعزلك من منصبك، لكننا غير راضين عن أسلوبك في الحرب، حرب اللحم الحيّ مقابل الدبابة، ونريد إيجاد حلّ لتلافي كل هذه الخسائر. نحن نتساءل لم لا يوجد نظم ودقة في التخطيط؟ ولم منعنا دومًا من الكلام وإبداء الرأي؟ فنحن لا نقاتل لأجل أملاك آبائنا وميراثنا. وما نقوله هو عُصارة تجارب 4 سنوات من الحرب".

 

قيل هذا الكلام وتقرّر التجمع في الغد أو بعد غد في ثكنة "ولي العصر" ليأتي مندوب الإمام ويطلعنا على الأوامر.

 

حمل مندوب الإمام رسالة لا أذكر تفاصيلها بدقة، لكنّ فحواها قول الإمام: " إمّا أن يكون عدد من السادة مُضَلّلين، وإما أن يكون كلامهم من باب الشفقة والتعاطف، وأعتقد أنه الاحتمال الثاني. وأنا بصفتي القائد الأعلى للقوات المسلحة آمر السادة بإطاعة القائد حتى لو كان على خطأ".

 

بعد قراءة رسالة الإمام، سرت همهمة بين المقاتلين، وحدث شرخ

 

300


287

جسور فوق الألغام

بينهم. كان حسن مرشد وممثل القوات ويجب سماع رأيه بالأمر، لكنّ عددًا من المجموعات انفصلوا عنا وذهبوا في طريقهم، ورافق الباقون حسن إلى أمام "زورخانه" ثكنة "ولي عصر".

 

جميعنا انتظرنا ما سيقوله حسن، هل نبقى أم نرحل. كنّا على مفترق طرق، فمن جانب أمر الإمام، ومن جانب آخر الخوف من كسر شوكتنا وكبريائنا. كنّا في وضع لا يحسد عليه.

 

قال "أصغر رنجبران": "هيا تجالد وقل ما عندك".

 

بقي حسن صامتًا للحظة ثم قال:

- لقد قلت لهم ما عندي وأسمعتهم اعتراضي. لكنني تابع وموالٍ للإمام. حتى لو طلب مني الإمام تقبيل يد "صدام" فسأفعل. غدًا سأعود إلى الجبهة. فإذا لم نحارب سنعرّض البلاد للتهكّم. ما أردته هو الحصول على "العنب والناطور"*[1] معًا! والآن إذا حصلنا على العنب فسنخسر الناطور، وإذا ما أعطانا "صدّام" شيئًا فبالتأكيد بعد أن يكبّدنا خسائر فادحة. لو أنهم طبّقوا الخطة التي قدّمتها لهم لكنا رفعنا علم إيران في بغداد..".

 

قبل كثيرون كلام حسن وآخرون انفصلوا عنه. في الحقيقة، كنت من الذين انفصلوا وأفلت عائدًا إلى المنزل بعد أن ودّعت الرفاق.

 

في الأيام التي قضيتها في طهران، حدث معي حادث طريف. في إحدى الليالي ذهبت مع "فاطمة" و"سعيد" لزيارة أهلها، وعند عودتنا رأيت ازدحامًا وضوضاء بالقرب من ساحة "بيروزي" أمام معمل "مكعبات السكّر" حيث تجمهر عدد من الأشخاص.

 

انتابني الفضول فقد اعتقدت بداية أنّه حادث اصطدام، لذا ركنت

 


[1]  أردت البحث عن سبيل لاستعادة الأرض والزمان (نربح الزمان والمكان)، والآن نذهب في مسار نسترد الأرض ونخسر الوقت.

 

301


288

جسور فوق الألغام

بينهم. كان حسن مرشد وممثل القوات ويجب سماع رأيه بالأمر، لكنّ عددًا من المجموعات انفصلوا عنا وذهبوا في طريقهم، ورافق الباقون حسن إلى أمام "زورخانه" ثكنة "ولي عصر".

 

جميعنا انتظرنا ما سيقوله حسن، هل نبقى أم نرحل. كنّا على مفترق طرق، فمن جانب أمر الإمام، ومن جانب آخر الخوف من كسر شوكتنا وكبريائنا. كنّا في وضع لا يحسد عليه.

 

قال "أصغر رنجبران": "هيا تجالد وقل ما عندك".

 

بقي حسن صامتًا للحظة ثم قال:

- لقد قلت لهم ما عندي وأسمعتهم اعتراضي. لكنني تابع وموالٍ للإمام. حتى لو طلب مني الإمام تقبيل يد "صدام" فسأفعل. غدًا سأعود إلى الجبهة. فإذا لم نحارب سنعرّض البلاد للتهكّم. ما أردته هو الحصول على "العنب والناطور"*[1] معًا! والآن إذا حصلنا على العنب فسنخسر الناطور، وإذا ما أعطانا "صدّام" شيئًا فبالتأكيد بعد أن يكبّدنا خسائر فادحة. لو أنهم طبّقوا الخطة التي قدّمتها لهم لكنا رفعنا علم إيران في بغداد..".

 

قبل كثيرون كلام حسن وآخرون انفصلوا عنه. في الحقيقة، كنت من الذين انفصلوا وأفلت عائدًا إلى المنزل بعد أن ودّعت الرفاق.

 

في الأيام التي قضيتها في طهران، حدث معي حادث طريف. في إحدى الليالي ذهبت مع "فاطمة" و"سعيد" لزيارة أهلها، وعند عودتنا رأيت ازدحامًا وضوضاء بالقرب من ساحة "بيروزي" أمام معمل "مكعبات السكّر" حيث تجمهر عدد من الأشخاص.

 

انتابني الفضول فقد اعتقدت بداية أنّه حادث اصطدام، لذا ركنت

 


[1]  أردت البحث عن سبيل لاستعادة الأرض والزمان (نربح الزمان والمكان)، والآن نذهب في مسار نسترد الأرض ونخسر الوقت.

 

301


289

جسور فوق الألغام

دراجتي النارية جانبًا واقتربت من الحشد، رآني عدد من أهالي محلة "بيروزي" وكنت أتمتع ببعض الهيبة حينها، فشقّوا لي طريقًا وسط الجموع.

 

رأيت سيارة عروس متوقفة وقد أمسك أحدهم بـ"ربطة عنق" العريس يسحبه للخارج، فخافت العروس وبدأت بالبكاء. وتحوّل العرس إلى حفلة صياح ونواح! ما إن رآني الرجل حتى ترك ما بيده وتراجع.

 

تقدّمت من العريس ورافقته إلى سيارته، ثم ضممته إليّ وقلت له: "إنهم جهلة، أنا في خدمتك، لقد أخطأوا التصرف..".

 

فقال بانزعاج: "لقد أهانني لأنني أضع ربطة عنق".

 

قبلّته وأدخلته سيارته، كما جاءت "فاطمة" وقبّلت العروس وهدّأت من روعها، ثم ودّعناهما وانطلقا.

 

التفتُّ نحو الرجل وقلت له: إن كنت رجلًا فتعال غدًا إلى الخط الأمامي للجبهة، فهذان العريسان لن ينسيا صنيعك إلى يوم القيامة وسيكرهان التعبوي جيلًا بعد جيل. لم فعلتَ ذلك؟ ومتى أصبحت وكيلًا عن الإمام الصادق عليه السلام؟

 

لم يتفوّه الرجل بأي كلمة بل التفّ على عقبيه وانصرف.

 

عندما ركبت دراجتي وانطلقت، قلت لفاطمة: "الأمر بالمعروف جيد، لكن..".

 

قاطعتني وقالت: "جيد، لكن شرط أن يكون الشخص تقيًّا خاليًا من العيوب والذنوب".

 

عندها أدركت لِمَ كانت تتهرّب كلّما قلت لها أن ترشد النسوة عندما تكون بينهن، إذ كانت تقول لي:

-ومن أكون لأرشد الناس، عليّ أن أبدأ بنفسي أولًا..

 

302

 

 


290

جسور فوق الألغام

في تلك الحقبة علمت عبر السيد "محمد كشفي"، صديقي وزميلي في الحرس الثوري، أنّ المتمرّدين أعداء الثورة في "كردستان" قد قويت شوكتهم وراحوا يتواطؤون ويتآمرون على الثورة، واضطر عدد من أبناء ومؤسسي الحرس للذهاب إلى منطقة "سقز" تحت غطاء الاستطلاع والقيام بالأنشطة المتنوعة، بينما الهدف القضاء على التمرّد. قضت الخطة القيام بنوع من حرب العصابات على تلك الجماعات، وهكذا تولّى "محسن شفق" قيادة الحرس الثوري لمدينة "سقز"، و"حسين خالقي" نائبًا له، بينما تولّى السيد "محمد كشفي" مسؤولية التدريب للعمليات، وأصبحت أنا مسؤول التربية البدنية لمدينة "سقز". كما اقترحت أن يرافقنا الحاج "قاسم" في هذه المرحلة.

 

لذا، ذهبت إلى منزل الحاج قاسم بمفردي كي أقنعه بمرافقتنا إلى "سقز". كان والده غاضبًا ومنزعجًا كثيرًا، وكالني أنا والحرب ما استطاع من السباب والشتائم. كان يرغب دومًا في بقاء ابنه قرب عائلته. رغم أنني علمت سبب غضبه وشتائمه، إلّا أنني انزعجت وأردت الردّ عليه، لكن عندما رأيت الحاج قاسم صامتًا مُطرقًا برأسه، عدلت عن الردّ وسكتّ.

 

عندما خرجنا من المنزل سألت الحاج قاسم:

- لماذا لم تقل شيئًا لأبيك؟

- لا يتوقف الأمر على كلامه اليوم، فهذا دأبه، منذ 20 عامًا وهو يقرّعني وأنا لا أردّ عليه. عندما أنزعج من كلامه أتذكر المرشد "تشلوئي"[1] الذي تحمّل وعانى الأمرّين، لكنّه لم ينبس ببنت شفة، ولو أنه ردّ على كلّ

 

 


[1]  الحاج ميرزا أحمد عابد نهاوندي المعروف بالحاج المرشد تشلوئي جلويى- والملقب بساعي العرفانيين المعاصرين، كان يملك مطبخًا في سوق طهران ويحاضر بين الناس بلغة الشعر. لم يسمح بطباعة ديوانه الشعري الذي احترق مع مطبخه، وبعد وفاته طبع ديوانه الذي عُرف بديوان (سوخته) عدّة مرات أي المحترق.(المترجم)

 

303


291

جسور فوق الألغام

كلام أو أذية لما عُرف بالمرشد. لا يحق لي الردّ على والدي أو رفع صوتي في حضوره.

-لكنه نطق بما يخالف الصواب!

- حتى لو فعل ذلك، فهو والدي. كما علينا التصّرف بما تقتضيه الظروف والأشخاص، فأحيانًا علينا الصراخ وأحيانًا أخرى السكوت حتى ولو كان على حساب حفظ ماء الوجه.

 

بالطبع لم أملك ما يُقال أو أعلّق به على كلامه!

 

في النهاية، وبعد أخذ وردّ تمكنت من إقناعه بمرافقتنا إلى "سَقِز". انطلقنا إليها في صباح أحد الأيام برفقة السيد قاسم مشهدي باقر.

 

توقفنا بالقرب من "ديوان درّه"، لتناول طعام الغداء، وقدّم لنا المطعم أرزًا قد تعجّن في الطهي إلى جانب حساء قد طهي إلى أن جفّ المرق فيه. مهما حاولنا لم نستطع تناوله. فطن صاحب المطعم إلى حالنا فقال لنا: "أيها السادة، تناولوا هذا الطعام لأن رميه يُعد إسرافًا".

 

أجابه الحاج قاسم: "ألهذا الطعام تقول إسراف! إنما الإسراف إن تناولناه، لأن معدتنا غير قادرة على هضمه".

 

وأضفت أنا: "بعد أن جُرحت لم يعد بإمكاني تناول طعام متعجّن، فألم معدتي سيقضي عليّ لا محالة".

 

خرجنا من هناك وذهبنا إلى مطعم ومشاوي "سنتز" الذي قدّم لحمًا مشويًا (كباب) لذيذ الطعم والمذاق.

 

قبيل الغروب، وصلنا إلى "سَقِز" واستقررنا في مبنى كان للـ"سافاك" سابقًا، وقد استقرت القوات في القاعة الرياضية، وتولى "حسين خالقي" مهمة توزيع الأعمال والمهام.

 

ليلًا، كانت تجري مباراة في الكرة الطائرة بين عناصر مركز قيادة الحرس

 

304


292

جسور فوق الألغام

الثوري في "سَقِز" وعناصر التدريب، فيسود الهرج والمرج. أحيانًا كنا نجلس إلى مائدة واحدة، ونقيم صلاة الجماعة ومجالس العزاء الحسيني معًا. وعلى الرغم من عدم رضى بعض الأفراد، كنّا بين الحين والآخر نلعب لعبة "تُرنا" [الملك والوزير والحرامي] وهي لعبة تقليدية وقديمة تناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل.

 

اللعبة عبارة عن اختيار شخصٍ ما، يُجري القرعة بواسطة عيدان الكبريت ليختار الملك والوزير الذي ينفذ أحكامه، وأيضًا المجرم الذي يُعاقب! إما بالجلد بواسطة قماشة ملفوفة على شكل حبل طويل، أو يُطلب منه قراءة أشعار في مدح آل البيت عليهم السلام. أحيانًا ومن أجل التسلية يُحكم على المجرم بالجلد بواسطة المنديل اليزدي الملفوف على هيئة حبل. بالطبع كان السادة وكبار السنّ يُعفون من الجلد. على أي حال، وجدنا تلك اللعبة أفضل من الغِيبة والكلام الفارغ والتعرّض بالأذية لخلق الله.

 

في الأيام الأولى لبدء الأعمال، تقرّر عقد اجتماع لتوزيع المهام ووضع خطة لمواجهة المتمردين. رغب الإخوة بتولي "الحاج قاسم" نوعًا من المسؤولية والإفادة من تجاربه، لكنّ "الحاج قاسم" نهض وسط الاجتماع وقال: "اعذروني عليّ أن أجدّد وضوئي".

 

خرج من الاجتماع ومهما انتظرنا لم يعد، لذا خرجت أبحث عنه فلم أجده، لا في مبنى التربية البدنية ولا في الباحة.

 

انتظرت إلى الغروب ثم اتصلت بمنزله في "كرج". رفع هو سماعة الهاتف فقلت له:

- لم غادرتنا يا حاج؟

- اسمع! تقرّر أن أرافقكم بصفتي عنصرًا عاديًّا، فلماذا تضعني في

 

305

 

 


293

جسور فوق الألغام

الواجهة لتولّي المسؤولية؟ أنا لست قادرًا على مواجهة المتمرّدين ولا أستطيع تسلّق تلك المرتفعات. لست أهلًا لهذه المهمة. رفاقك من كبار المسؤولين في الحرس، وسيقولون من هذا التعبوي الذي لا نعرف له قيمة ولا وزنًا، قد جاء ليصبح مسؤولًا؟

 

كنت واثقًا أن "الحاج قاسم" سيكون قائدًا لائقًا وقديرًا، لكنه كان يفرّ من المسؤولية والوجاهة، ولأنني أؤمن به وبقدراته لم أقف على كلامه أو أعارضه.

 

بعد ذلك، علم المتمردون عبر جواسيسهم وعيونهم بوجود قادة الحرس في "كردستان"، ومن خلال دراسة الوضع أدركنا أنهم ينوون السيطرة عليها، وتأسيس "جمهورية كردستان الشعبية الديمقراطية"، على أن تكون "سَقِز" عاصمة لها. من الأعمال التي أكدت نيّاتهم، تعرُّض التعبويين لثلاثة كمائن وقتلهم في "سَقِز". وقد أقام المتمرّدون حفل رقص وموت حوالي تلّة "بنفشهِ" فرقصوا ببنادقهم حول أسرى "التعبئة"، وتناولوا "الكباب" والكحول، ثم قتلوهم. ومرّة ثانية، اختطفوا عددًا من التعبويين وحرس الثورة ودفنوهم أحياء، وثالثة اختطفوا عددًا من عناصر الحرس فدفنوهم حتى الصدور في الأرض، ثم وضعوا بالقرب منهم خلية من النحل راحت تلسعهم حتى الموت، وعندما وصلنا إليهم رأينا وجوههم قد تورمت وانتفخت كقربة الماء[1]، وتمايل لونها إلى الأزرق القاتم والأسود.

 

لقد عاينت وسمعت بوقوع الكثير من أمثال هذه الجرائم التي أحيت ذكرى فاجعة "بافة"[2] الأليمة، فعملنا للحؤول دون تكرارها ثانية. لذا

 

 


[1]  القربة المصنوعة من جلد الغنم أو الماعز. (المترجم)

[2]  فاجعة بافه Paveh- هجوم الأحزاب اليسارية والحزب الكردستاني الديمقراطي على مدن ومناطق مثل مريوان وبافه وارتكاب المجازر فيها بهدف السيطرة على كردستان وفصلها عن الدولة. ومن تلك المجازر محاصرة ثكنة بافه عام 1979 وإسقاط المروحية التي تحمل الجرحى ومن ثم الهجوم على المستشفى والمدينة وقتل الأبرياء وذبح عناصر الحرس الجرحى. (المترجم)

 

306


294

جسور فوق الألغام

قررنا وإلى جانب قمع التمرد المسلح، القيام بأنشطة ثقافية وإعلامية لجذب الناس وتعريفهم إلى الثورة الإسلامية.

 

وخلال تلك المدة، عدت إلى "طهران" مرتين، وبمساعدة أخي ورفيقي "سعيد مجلسي" وبتنسيق مع إمام مسجد "توفيق"، تمكّنت من شراء حوالي 20 طاولة "بينغ بونغ" ونقلها بواسطة الشاحنة إلى محافظة "كردستان".

 

كما أهدى الحاج الخيّر "حسين رحمتي"، مولد كهرباء لمركز التربية البدنية في "سَقِز"، وكان الحاج "حسين" قد قدِم منذ مدة طويلة من مدينة "زواره" وأقام في نُزل "آقا" في مدينة "طهران" مدّة من الزمن قبل أن يصبح من طبقة التجار.

 

وزّعنا طاولات "البينغ بونغ". بين الناس وبناءً على اقتراحي، نظّمنا مباريات في المصارعة شارك فيها حشد كبير، كان مركزها الـ"زورخانه" وسط السوق. الجدير ذكره أن الأكراد رحبوا أيما ترحيب بإقامة تلك المباريات، وما لفت نظري وأثار تعجبي أنهم كانوا يسمحون للنساء بالدخول إلى الـ"زورخانه" ومشاهدة المباريات. على أي حال، كانت تلك أيام طيبة سادها الكثير من المرح والنشاط خاصة عندما كنّا نتبارى مع عناصر الدرك والحرس الثوري الذين "حملوا دماءهم على أكفّهم"، غريبين بعيدين عن الأهل والأحباب، ليحرسوا الأمن في هذه المنطقة، فغدت المباريات متنفّسًا لهم ومبعث سرور. كان لهذه الأنشطة أثرها الطيب ونتائجها المثمرة أكثر من المواجهات المسلحة، خاصة لدى السكان والأهالي الأصليين.

 

بالطبع اكتشفت الجماعات المتمردة أمرنا بعد مدة، وقاموا ليلًا بمهاجمتنا في القاعة الرياضية بعدد كبير من قذائف الآر. بي.جي، ودام

 

307

 

 


295

جسور فوق الألغام

صَدّ الهجوم لساعات طويلة بقيادة كشفي ومرادي.

 

سمعت من الإخوة في "سقز" بأنهم ينوون القيام بعمليات في مرتفعات "بنجوين كرمك"*[1] وقد استقرت القوات في معسكر "الشهيد بروجردي قلاجه". هذه المرّة ولأجل ولعي بالعمليات انطلقت نحو قلاجه.

 

كان الهواء باردًا ينخر العظام، وحرارة شمس الظهيرة منخفضة وخفيفة.

 

يقع معسكر "الشهيد بروجردي"، على سفح جبل قلاجه، وهناك التقيت "أصغر ارسنجاني" ثانيةً، ولم نكن قد أصبحنا مقرّبين بعد، فقد كان المعاون الثاني للواء عمار، ومن كبار القادة المتميّزين.

 

من ذكريات "قلاجه" الرائعةّ، إقامة مراسم الرياضة التقليدية في المعسكر.

 

كان "أصغر رنجبران" من الأبطال المعروفين في هذه الرياضة ومن محبّيها، وهو من أنشأ "الزورخانه" هناك، وقد أُطلق عليها اسمه بعد استشهاده. وقد طُليت أرضها بطبقة رقيقة من الإسمنت، وشيِّد سقفها من القماش السميك المشمّع الذي رُفع على سقالة حديديّة. هكذا قامت أول "زورخانه" في تلك الجبهة، وقد تبعها إنشاء العديد غيرها. لقد صنع "أصغر رنجبران" من حشوات قذائف المدفع الفارغة أوزان [مِيل] هذه الرياضة. وراح كلّ صباح يمارسها مع عدد من أبطالها على وقع نقر وإنشاد "حسين دجبان" ذي الصوت الحسن، والضارب على الطبل كالمرشدين المحترفين لهذه الرياضة. وبما أنني مصاب بقدمي، كنت فقط أحمل الأوزان كي لا أتأخر عن أقراني في ممارسة هذه الرياضة. هناك تعرّفت أكثر إلى أسد الجبال، "مهدي خندان" معاون لواء عمّار، لكننا أصبحنا مقرّبين أكثر فأكثر في منطقة قلاجة. أبحث عن جملة واحدة كي

 

 


[1]  Panjvain Grmalk

 

308


296

جسور فوق الألغام

أصف فيها مهدي، لكنني أعجز عن ذلك، إذ يجب تأليف كتب في وصفه!

 

كان "مهدي خندان" من أبناء لواسان، في 23 أو 24 من العمر آنذاك وهو من عناصر الحرس الثوري الرسميين، وكان من الأشقياء قبل الثورة، وسمحًا وشجاعًا إلى جانب ما يتمتع به من روح الطرفة. وكتب على قميصه من الخلف: "مهدي خندان ها ها ها.." وبسبب ما يتمتع به من أخلاق، اجتمع حوله عدد من الموالين الجسورين الذين لا يعرفون حدًا أو حدودًا. كان مهدي مولعًا بالسجائر ويقول: "الصلاة أولًا، بعد الشاي والسيجارة!".

 

برأيي، كان مهدي يعيش على هواه، حتى في عبادته، متميّز فريد، لم يشابه أحدًا لأعطيكم مثالًا على أخلاقه وسلوكه. وبكلمة أخرى لم يكن كغيره ممن يواظبون على صلاة الليل ودعاء التوسل لأنّهم جاؤوا إلى الجبهة فحسب، وليس ممّن ينجرّون لأي شيء بسهولة. لقد جاء لأجل قلبه، ويصلّي لأجل قلبه.

 

لقد أنست به وأنس بي رغم أننا لم نكن من نفس الحيّ. تشابهنا في بعض الأمور، ولدينا الكثير لنُسرّهُ لبعضنا بعضًا.

 

في أحد الأيام، كنا نجلس في الخيمة غارقين بتبادل الأحاديث، وقد أخبرته بقصة أعجبته كثيرًا. القصة كانت كالتالي:

- في أحد الأيام دخل الناس المسجد وانتظروا "الميرزا جواد ملكي" إلى أن رآه أحدهم يتمشّى في الحديقة فقال له:

"الجميع ينتظرونك في المسجد لإقامة الصلاة، فردّ الميرزا: "قل للناس أن يأتوا للصلاة غدًا. فسأله لماذا؟ قال: لأنني لا أشعر بالرغبة اليوم لإمامتهم في الصلاة".

 

ضحك مهدي عندها وقال: "أجل والله، أنا أيضًا لا أستطيع الصلاة

 

309

 

 


297

جسور فوق الألغام

قبل شرب الشاي وتدخين السيجارة".

كانت الجبهة فسحة وفرصة للبعض لبناء ذاتهم والترويض الروحي والجسدي. فكانوا يسجدون من الليل حتى الصباح، يذرفون الدمع، يصفّون قلوبهم ويصقلون أرواحهم. لكنّ مهدي كان يقوم بذلك على طريقته الخاصة. كان كل يوم قبل شروق الشمس بخمس دقائق، يستيقظ فيتوضأ بماء مطرته العسكرية، يصلّي ثم يندس تحت بطانيته ويقول: "وما العيب في ذلك أيها الإخوة، أحب أن أتلو تسبيحات الزهراء عليها السلام تحت البطانية!".

 

شكّلت تصرّفاته تلك مصدر تساؤل واستغراب الكثيرين، ولم تعجبهم، وآخرون كانوا ينجذبون إليه. بدا مهدي كمن هزأ بكلّ شيء، بالحياة والموت وبكلّ شيء، لكنه في الحرب كان أكثر جديّة. برأيه أن الحرب أمر آخر، ويجب أن يكون لكلّ مقام مقال.

 

عندما ذهبنا إلى "قلاجة"، كانت المرحلة الأولى من عمليات "والفجر4" في مرتفعات "كاني مانغا" قد انتهت. تقع هذه المرتفعات غرب نهر "قزلتشه" شمال بنجوين العراق وتشرف عليها. تتألف هذه المرتفعات من عدّة قمم إحداها عرفت باسم قمّة "1904"، وكان الاستيلاء عليها هو الهدف الرئيس للعمليات، ذلك أنها تطلّ على جميع البلدات والمدن، وتشرف على الطرق الرئيسيّة في منطقة السليمانية في العراق. العدو الذي فطن لذلك وزّع العيون في كلّ مكان. وكي يتمكن من صدّ أي هجوم لنا، قام بعملية إنزال جوي، وزرع على تلك القمة مئات الجنود وأنواع العوائق والألغام.

 

بعد عمليات الاستطلاع، أدركنا أن المنافقين وأعداء الثورة قد شقوا طريقًا خلف المرتفعات لاستخدامها في عمليات التجسس.

 

310


298

جسور فوق الألغام

كان على كتيبة "ميثم" الهجوم على أحد سفوح "قمة 1904"، وكنت قد انضممت إلى صفوفها بقيادة "إبراهيم كسائيان" بعنوان مقاتل غير متفرغ، وبما أنني مقاتل "دولي"، لم يرفض أي من القادة وجودي ومشاركتي. في ذلك الوقت كان "أكبر حاجي بور" قائد اللواء.

 

في الليلة الثانية من المرحلة الثالثة للعمليات، حان دور كتيبة "ميثم" للمشاركة، على أن تقوم الكتائب الأخرى من "فرقة 27"، بتثبيت الخطوط الدفاعية في مرتفعات "كرمك" و"كنكرك"، وقد حُدّد موعد الانطلاق ليلة الجمعة أوائل شهر تشرين الثاني.

 

قبيل الانطلاق، تواصلنا عبر اللاسلكي بالمقرّ لنخبرهم بعدم قدرتنا على نقل الذخائر والرشاش سيرًا على الأقدام إلى الأعلى، لذا أرسلوا لنا حوالي 15 بغلًا للأمر. مع أنّي جررتُ قدمي جرًّا وقد شقّ عليّ تسلّق القمة، لكنّ تخلّفي عن القافلة كان أكثر مشقة وأصعب. لذا تابعت السير بشق النفس. كان إبراهيم حامل لوائنا يتحدّث على جهاز اللاسلكي، وأنا أسير في أثره على مهل. قال: "هناك فريق يتسلّق التلّ من الجهة اليمنى لتلتيّ كرمك وكنكرك".

 

تابعت الصعود، والحصى والرمال تنزلق تحت قدمي مع كل خطوة وتهوي إلى الأسفل. أصبحت الطريق ضيّقة جدًّا، صخريّة كثيرة النتوءات والمنحدرات، ما عرقل حركة الرتل.

 

كان قد ولد لأصغر رنجبران، معاون لواء أبو ذر، طفل أسماه محمد حسين. عندما كنّا نسأل عن أحوال أصغر في اللاسلكي كنّا نقول: "سلمان سلمان، ما هو موقع محمد حسين؟ .. محمد حسين في الموقع الفلاني".

 

قال أحدهم لأصغر مرة:

 

311

 


299

جسور فوق الألغام

- اختر إما الله أو محمد حسين!

 

أجابه: أنا أحب محمد حسين لأجل الله.

 

سار الرتل بهدوء وقد خيّمت أجواء العشق على المقاتلين.

 

تقدّمت أنا وإبراهيم الرتل بنحو 30م، وكانت المنطقة قد حُرّرت الليلة الماضية، لكن لا تزال غير آمنة وفي معرض رصاص العدو.

 

عندما وصلنا إلى النتوءات الصخرية قال إبراهيم: "هذا السكوت مريب، لقد اقتربنا من نقطة الانتشار والمواجهات، ومن الممكن الوقوع في الكمائن. تُرى ما الذي يجري في المحورين عن يميننا ويسارنا؟".

 

بعدها اختار 3 عناصر ووضعهم في آخر الرتل وطلب منهم تذخير بنادقهم والمحافظة على جهوزيتهم حتى لا نخترق من الخلف، ثم طلب من عناصر الاستطلاع اختيار عنصر منهم لمرافقة عنصر من كتيبتنا فيتقدّمنا صعودًا مسافة 50م، وإذا ما كانت الأمور على خير ما يرام، فليخبرونا عبر اللاسلكي ونلحق بهم.

 

صعد مهدي شريفي من الكتيبة برفقة أحد عناصر الاستطلاع، وبعد 10 دقائق اتصلوا باللاسلكي وأخبرونا أن المكان آمن.

 

تلك الليلة وصلنا على مقربة من القمة من دون مواجهة أو حتى إطلاق نار. هناك قال إبراهيم: "أنا واثق أنّ في الأمر ما يريب. بالتأكيد قد جهّزوا لنا كمينًا، وأفسحوا في المجال كي نتقدّم تمهيدًا ليطبقوا علينا بين فكّي الكماشة". عمّ الهدوء والسكوت المكان وتموضعنا بين الصخور طبقًا لأوامر إبراهيم. بعد نصف ساعة تقريبًا، سمعنا أصوات العراقيّين يتحدّثون.

 

اتصل إبراهيم بالحاج همت عبر اللاسلكي وقال: "نحن لم نبدأ المعارك

 

312

 

 


300

جسور فوق الألغام

بعد، فما هي الأوامر؟".

 

هنا ظهرت خبرة ومهارة إبراهيم كسائيان، فقد كان على حق. لقد انتهت الطريق الصخريّة الضيّقة التي تسلّقناها بحقل مفخّخ بأنواع الألغام الصغيرة والكبيرة إضافةً إلى الكمائن. وقد زُرعت الكمائن بشكل تؤمّن لهم الرماية من النتوءات والاخاديد المجاورة إن عجزوا عن ذلك من خلال السفح المنخفض الذي تسلّقناه. ونظرًا لعدم استكمال استطلاع المنطقة، فإنّ لفطنة ووعي وتجارب الفرد الكلمة الفصل.

 

قرابة السحر، وبينما كانت فرقة التخريب تعمل على تفكيك الألغام وفتح الطريق، بدأ الرصاص ينهمر علينا، وبدأت معه المواجهات من دون أن ندرك كيف حصل ذلك. لم يكن الضوء قد انبلج بعد عندما بدأت القذائف تتساقط علينا من كل حدب وصوب، ولم يكن يفصلنا عن القمة أكثر من 400م.

 

ما إن بدأ إطلاق النار حتى أُصيب قائد السرية وسقط أرضًا. كان بحوزة كتيبة ميثم أربع أو خمس بنادق*[1] تطلق قنابل على شكل البيض. وكانت كل قنبلة كفيلة بتفجير متراس أو كمين من كمائن العدو، فتمكّن عناصرنا من تدمير عدد من متاريس العراقيين. بدايةً كان بحوزتي بندقية كلاشنكوف ومن ثم أخذت مُطلق القنابل من أحد العناصر، وتمكّنت من إصابة عدد آخر من المتاريس وتدميرها.

 

اتصل إبراهيم بالمقرّ فقال له الحاج همت: هذه حدودكم وعليكم المحافظة عليها ريثما تصل الكتيبة الأخرى وتستكمل الطريق بعدكم.

 

أجابه ابراهيم: لا نستطيع الاستمرار بالمواجهات، فخسائرنا بازدياد

 

 


[1]  تطلق مقنبلات عيار 40 ملم.

 

313


301

جسور فوق الألغام

بينما العراقيون مسيطرون على الوضع.

 

بعدها نزل من التلّ ليتحدّث إلى الحاج همت مباشرةً. وقد أفلحت مهارة القائد "كسائيان" وتضحيات الشباب هنا، فرحت أراقب اندفاعهم وأتحسّر لأنّني لا أستطيع مجاراتهم. لقد كانوا كالدرر بينما أنا عاجز مع هذه القدم والأنفاس المتقطّعة. جواد طلائي، مهدي شريفي، أحمد حاج خاني، قطبي، السيد أصغر معصومي، وغيرهم من الذين ضحّوا بحياتهم كي نتمكّن من العبور. طاب ثراهم وطابت ذكراهم.

 

عند الظهر، عاد إبراهيم وقال إنّ الحاج همت طلب الثبات في مواقعنا إلى الليل ريثما تصل القوات الأخرى وتستكمل المهمة.

 

قرابة الغروب، كنّا قد تلقّينا نصيبنا من القذائف والرصاص ورمينا العدو ما قدّر الله لنا. لقد تناثرت أجساد الشهداء والجرحى بين الصخور وشقوق المنخفضات واستمرّ الوضع على هذا المنوال إلى أن وصلت كتيبة كميل بقيادة إبراهيم معصومي.

 

قال إبراهيم معصومي لمعاونه: "ابقَ على رأس القوات؛ سنصعد إلى القمة".

 

صعدت قوات كتيبة كميل نحو القمة من المحور الأيسر، وقوات كتيبة حبيب من المحور الأيمن بهدوء تام، من دون أي صوت.

 

انضممنا أنا وإبراهيم كسائيان إلى رتل كتيبة كميل، وتابعنا صعود القمة معهم. لم تتوقف النيران المنصبّة علينا لحظة واحدة وكنا نتوقع أن تخفّ حدّتها مع حلول الليل. لكن حصل العكس، فقد زادت حدّتها، وعند الساعة 11 ليلًا بدأوا بقصفنا بقذائف الهاون والمدفعية المباشرة، فكنّا نضطر إلى الانبطاح كل دقيقة وخسائرنا في ازدياد. استمرّ القصف

 

314

 

 


302

جسور فوق الألغام

حتى السحر من دون انقطاع، ما أثّر في سرعة تحرّكنا وتقدّمنا. أدّى قصف العدو المسيطر والمشرف على تلك المرتفعات إلى شلّ حركتنا إلى حدّ كبير، لكننا تمكّنا بعد جهد جهيد من الوصول إلى مقربة من القمة وأضحت في قبضتنا. فجأةً حوالي الساعة 5 صباحًا، بدأ عناصر كتيبة سلمان وحبيب إضافةً إلى مجموعة من مقاتلينا الذين سبقونا في الوصول إلى القمة، بالهبوط سريعًا إلى الأسفل. الجرحى والسالمون على السواء، جميعهم توسّلوا الممرات والمنخفضات في النزول. من مساوئ هذه القمة مساحة سطحها الضيق إذ لا يسمح بالمناورة والتحرّك، كما إنّ العراقيّين قد أنزلوا قوات الحرس الجمهوري في المكان الذي راح يقصف قواتنا بالمدفعية وأجبرهم على الانسحاب.

 

ما إن بدأت قواتنا بالتراجع حتى سيطر العدو على المكان سيطرة كاملة قلبت الأوضاع رأسًا على عقب، فأسرعنا في الهبوط إلى أسفل الجبل، كما إنّ رصاصاتنا لم تعد تنفع في تدمير متاريسهم لبعد المسافة.

 

كان إبراهيم معصومي وإبراهيم كسائيان قد وصلا قبل الجميع إلى القمة. وسمعت من الأخوة المنسحبين أنّ إبراهيم معصومي قد استشهد.

 

كنت أنتعل جزمة بلاستيكية طويلة الساق مع معطف للمطر، لكن لم أضع الخوذة على رأسي. كانت تعرجات السفح والصخور شديدة الانحدار وجعلها ندى الصباح زلقة، لذا كنت أنزلق عليها وسقطتُ على رأسي مرات. ومع كل ذلك، نزلت من الجبل وبمساعدة الاخوة تمكنّا من تثبيت خطنا السابق وإحكام سيطرتنا عليه. بقينا في الخط حتى الظهيرة، بعدها اتجهنا نحو المقرّ مع المقاتلين السالمين وهناك علمنا أنّ إبراهيم كسائيان قد جُرح ونقل إلى الخطوط الخلفيّة. لكن إبراهيم معصومي

 

 

315

 


303

جسور فوق الألغام

الذي استشهد بقيت جثته في الأعلى[1].

 

عندما سمعت بعد أسبوع أنّ كتيبة عمار تنوي الهجوم على القمة مجدّدًا، جهزت نفسي للانضمام إليهم. كنت أرغب أكثر بمواكبة مهدي خندان ومرافقته. تلك الليلة، تولّى مهدي إرشاد القوات؛ إنّه ذكي عارف بفنون القتال ومقدام.

 

وقد رأيته هائجًا تلك الليلة ويردّد باستمرار: "سأجد طريقًا للالتفاف حول جبل "كاني مانكا" وسترون كيف سأصل إلى "قمة 1904" وأبسط سيطرتي عليها. طبعًا لم يكن مهدي ممّن ينطقون عن الهوى، ويستند بكلامه هذا إلى خطة قد رسمها في ذهنه وأراد تطبيقها.

 

كان الليل مقمرًا وبرودة الهواء الشديدة تنخر العظام. التحقت برتل كتيبة عمار، وكان الحاج "بروازي" معنا أيضًا. انطلقت كتيبتا مالك وحبيب الأولى عن يميننا والثانية عن يسارنا؛ والهدف "قمة 1866". كان مهدي يشجّعنا ويقول: "يا شباب! نكاد نصل إلى القمة ولم يبقَ الكثير قبل أن تصبح في قبضتنا".

 

عندما اقتربنا من القمة، اختار مهدي عددًا من عناصر التخريب وانطلقوا لتأمين طريق آمن لنا. قبل أذان الصبح بساعة واحدة، جاء مهدي وقال: "لقد وجدنا طريقًا، لكن العراقيين قد وضعوا فيه الكثير من العوائق من أسلاك شائكة وألغام، ويجب أن يفتتح أحدنا المعبر من دون ضجة ويمهّده لعبور البقية". بحسب الخطة التي وضعها مهدي، والتي كان واثقًا بنجاحها، فإننا سنتمكّن بعد عبور الممرّ من الالتفاف حول قمة "كاني مانكا" والوصول إليها. وبما أنّ العراقيين كانوا يركزون

 


[1]  بعد 15 سنة أحضروا بعضًا من رفاته.

 

316


304

جسور فوق الألغام

على النتوءات والتعرجات الصخرية السابقة للجبل، فمن الممكن أن تنجح الخطة إلى حدّ كبير.

 

قال مهدي: "إذا أرسلت عناصر التخريب لفتح المعبر، فلن يكملوا المهمة قبل الصباح، وعندها سيشلّ العراقيون حركتنا".

 

تقدّم أحد الشباب وقال: "يا سيد مهدي، أنا أريد النوم على اللغم لتتمكّنوا من عبوره".

- ما اسمك؟

- كامبيز روان بخش.

 

لم ينتظر الشاب الإذن وبدأ يخلع قميصه، فسأله مهدي: لمَ تخلع قميصك؟

- هذا القميص لبيت المال ويحب أن نحافظ عليه.

 

قلب كلام الشاب الكتيبة رأسًا على عقب وتقدّم آخرون يريدون النوم على الألغام.

 

جثم الشاب على أحد الألغام وآخر على اللغم المجاور، مرّ مهدي أوّلًا بهدوء وتأنٍّ وتبعه باقي العناصر واحدًا تلو الآخر. كان أحد العناصر ثقيل الوزن وشكّل ثقل وزنه مع وزن الشاب الجاثم على اللغم ضغطًا كبيرًا على الصاعق فانفجر اللغم واستشهد الثلاثة فورًا، فانتبه العدو لوجودنا. ولأنني كنت في آخر الرتل لم أستطع العبور، وبدأ مدفع الرباعي بحصادنا.

 

راح مهدي يصيح من الجهة الأخرى: "فليتقدم كل من هو مع مهدي".

 

حمل علي وهو أحد عناصر التخريب قطّاعة الأسلاك بيده وانطلق في أثر

 

317

 

 


305

جسور فوق الألغام

مهدي. في تلك اللحظة، أمطر الرباعي مهدي[1] برصاصه فسقط على الأسلاك الشائكة، وقال لعلي القريب منه: "تعال يا علي.. تعال علي.. تعال!".

 

قطع علي الأسلاك واحدًا تلو الآخر، وما زالت النيران تنهمر عليه، ثم وصل إلى مهدي ورفع جسده قليلًا. قال مهدي: لا لا، قل للشباب أن يتقدّموا!

 

تابع علي قطع الأسلاك، لكن ما لبث أن أُصيب وسقط أرضًا، ونحن ما زلنا في هذه الجهة منبطحين ملتصقين بالأرض. كنّا نبعد عنه مسافة 20م تقريبًا، لكنّنا لم نستطع التقدم والصعود كما لم نستطع التراجع. أُصبت بالصمم جرّاء صوت الرباعي المخيف والمرعب. وأدّت غزارة النيران إلى فشل جميع مساعي وتضحيات شبابنا. تمركز الأعداء على القمة وتابعوا الصعود من خلف قواتنا. لا أدري أكان لديهم قوة احتياط في المكان أم هي عملية إنزال؟!

 

استشهد عدد من الرفاق وجُرح آخرون، وانتشرت جثث بعضهم في المنخفضات وبين الصخور كجسد الشهيد جواد أفراسيابي وآخرين كثر لم أعد أذكر أسماءهم. وهكذا، أُقفل سجل حياة مهدي خندان، أسد الجبال في تلك العمليات. كانت شجاعة مهدي موروثة من والدته المؤمنة التي امتلكت وحدها شجاعة 10 نساء! الأم التي لم أرها تنزوي وتبكي لذكرى ابنها أبدًا.

 

كثيرون من أهالي "دالاهو"، وبعد مرور كل تلك السنوات، ما زالوا يطلقون اسم مهدي على أبنائهم حبًّا ووفاءً لمهدي خندان. وعندما تتحدّث الأمهات عن مهدي خندان، فحديثهنّ حديث المحبة والعشق ومودة الناس. كان مهدي شهمًا يوزّع المؤونة الإضافية للكتيبة بين أبناء

 


[1]   بعد 14 عامًا عثر فريق البحث على بعض من رفاته.

 

 

318


306

جسور فوق الألغام

القرى المجاورة. ويجمع راتبه ورواتب رفاقه ويقدّمه للناس. كان يتوضّأ بكوب واحد فحسب، لكنه كان يردّد دومًا: "لا يمكن التحدّث إلى الله بحلق جاف!".

 

قرابة الظهر، تركنا سفح الجبل وتعرجاته أنا واثنان من الشباب وهبطنا إلى الأسفل من جهة اليسار.

 

وصلنا أسفل الجبل، وعلمت أنّ أصغر رنجبران وعباس وراميني وأكبر حاجي بور ومجيد زاد بود قد استشهدوا. وهكذا خسرنا في معركة غير متكافئة عددًا من أبطال وقادة الحرب. هذه الخسارة بالنسبة للمقاتلين تعادل خسارة رأسمال وكنز كبيرين.

 

كان أصعب عمل علينا القيام به بعد العمليات هو إخلاء الشهداء والجرحى من المنطقة الجبليّة. توجّب علينا أن نكون كإبراهيم هادي قوّةً وبأسًا كي نتمكّن من حمل الجريح وسحبه إلى الخطوط الخلفيّة، وإلا فسنهلك نحن وإياه، خاصة أنّ هبوط تلك التعرجات والصخور صعب للغاية على الإنسان العادي المعافى فكيف بك وأنت تحمل جريحًا على ظهرك!

 

بعد عناء ومشقّة كبيرين تمكنّا من الوصول إلى معسكر قلاجه. لكنّ مشهد المعسكر الخالي من الرفاق ملأ قلبي ألمًا وحزنًا فلم أستطع تحمّل البقاء فيه دقيقة واحدة. لقد انصبّ جلّ تفكيري على كيفية الوصول إلى طهران للمشاركة في تشييع الشهداء. انطلقت في اليوم ذاته متنقّلًا من سيارة إلى أخرى حتى تمكّنت في النهاية من الوصول إلى طهران. كانت "بهشت زهراء" (جنة الزهراء) تعجّ بالناس والمشيّعين كيوم القيامة. بدا عدد كبير من الرفاق الذين وصلوا قبلي منهكين معفّرين بالتراب من

 

 

319

 


307

جسور فوق الألغام

رأسهم إلى أخمص قدميهم. تقرّر دفن أصغر رنجبران إلى جانب علي موحد، لكنّ حجرًا كبيرًا ما زال عالقًا في قعر القبر ومهما حاول حفّار القبور انتزاعه لم يفلح. حينها نزل حسن بهمني إلى القبر وكان يملك معصمين قويّين فتمكّن بضربة واحدة من قلع الحجر، واستمرّ حفر قبر رنجبران إلى العصر، بعد التشييع عدت إلى المنزل لكنني لم أطق البقاء فيه فقلبي منقبض حزين. كان رفاقي نجومًا أفلوا الواحد تلو الآخر. لم تسلبنا أي من العمليات رفاقًا كما فعلت عمليات "والفجر 4" التي حوّلت طهران إلى دار عزاء، فلم يبق حيّ من أحيائها إلا وفقد واحدًا من أبطاله.

 

كل ليلة تسقط نجمة إلى الأرض لكن السماء لا تزال حُبلى بالنجوم بيد أنّ المرء يُمتحن في تلك الأيام، الرجال يهبون أرواحهم في ميادين الوغى، والنسوة في المدن يؤازرن ويساندن ما استطعن، وآخرون لا مبالين. حقيقة كلام الشهيد شمران عبرة ودرس: "عندما تُقرع طبول الحرب يميّز الرجل من الرعديد".

 

في أحد الأيام، وصلتني دعوة لزيارة الإمام، فذهبت مصطحبًا معي "سعيد"، كان حينها في الرابعة من العمر، وقد ارتدى زيّ الحرس الثوري الذي خاطته له والدته. عندما رأى الإمام "سعيد"، مسح على رأسه وقال: "إن شاء الله تكون من الحرس". كانت تلك المرة الثالثة التي ألتقي فيها الإمام بعد استقباله وزيارته مرقد "شاه عبد العظيم" في شتاء العام 1979. وكان لكلامه عالم من الرموز والأسرار، كلام يمنح الإنسان الهدوء والسكينة وقوة القلب.

 

 

320

 


308

في فم الأسد

في فم الأسد

 

سقى الله ذكرى جميع الرجال الشجعان..

 

ذات يوم في أواخر شهر كانون الثاني1984م، حزمت حقيبتي بغية الذهاب إلى "دوكوهه".

 

جرى الكلام عن المغادرة؛ ولم تخالفني فاطمة في ذلك، وكعادتها تحلّت بروح عالية. يومها، وحين الوداع، وضعت فاطمة في حقيبتي كيسًا من مسحوق سكّر النبات وقالت: "إنّه يفيد كثيرًا لوجع البطن. كلّما تناولت طعامًا رديئًا وآلمتك بطنك، خذ حفنة من سكّر النبات هذا؛ تتحسّن حالك على الفور".

 

كانت امرأة بعيدة النظر شفوقة. حينذاك، أصبح مزاجي سيّئًا، ومعدتي تؤلمني بشدّة ومرتبكة. وكنت تقريبًا كلّما تناولت شيئًا، أشعر بألم فيها وأُصاب بالإسهال. وجب عليّ أن أراعي الدقّة في طعامي. إذ مُنعت عن أطعمة أمثال الحمّص والفاصولياء والآش[1] والثريد التي كنت أحبّها كثيرًا. وهذه شكّلت مصيبة بحدّ ذاتها.

 

إلى جانب مسحوق سكّر النبات، وضعت فاطمة كنزة صوفيّة رماديّة

 

 


[1]  حساء شامل لجميع أنواع الحبوب-.

 

321


309

في فم الأسد

اللون، جميلة، من صنع يديها وقالت: "لقد حكتها لك بنفسي. وثبتُّ لها أزرارًا من الجانبين وحول الرقبة، وذلك ليمكنك ارتداؤها وخلعها بسهولة. ارتدها تحت لباس المطر خاصّتك، حتّى لا تتأذّى كليتاك وجرح معدتك".

 

ظلّت تُخجلني دومًا ببعد نظرها ذاك ومحبّتها. لم تشكُ يومًا من ذهابي وعدم وجودي إلى جانبها. حقًّا، إنّي لأعجب من روح هذه المرأة العالية. كنت كلّما آتي في مأذونيّة أجدها مشغولة؛ إمّا في البيت، في تهيئة الجهيزيّات[1] والصدقات، أو في دار الأيتام. لقد أمدّها الله تعالى بهذه القوّة. وفي كلّ مرّة كان شباب مسجد التوفيق يريدون العودة إلى الجبهة بعد قضاء مأذونيّة في المدينة، كانوا يحلّون عند الغداء الأخير ضيوفًا على مائدة فاطمة. أمسى هذا برنامج منزلنا الدائم. سواء بحضوري أو عدمه. وقد استُشهد الكثير من أولئك الشباب، وهم ليسوا موجودين ليشهدوا على عظمة تلك المرأة ونجابتها.

 

لطالما قالت فاطمة: "لربّما لا يمكنني حمل السلاح والقتال؛ لكنّني بهذه الأعمال أشارك التعبويّين".

 

اليوم، حين أفكّر فيها، أجد أنّها كانت عارفة كاملة؛ لكنّ عرفانها على نمطها؛ نسويًّا وفي الخفاء.

 

في اليوم التالي، ذهبت إلى "دوكوهه"، فصادفت هناك "أمير عطري" فقال: "سيّد، لك عندي خبر جيّد، الحاجّ قاسم موجود في "دوكوهه".

 

فرحت لذلك، وذهبت إلى المباني سعيًا وراء الحاجّ قاسم. فوجدته في عداد شباب كتيبة "حمزة". وكان أيضًا قد جاء بنحو سرّيّ وبمجهوليّة تامّة. ناديته، ولمّا رآني نهض، وذهبنا معًا إلى فناء القاعدة. سألنا عن

 


[1]  جهيزيه ما تعدّه وتهيّئه الأم لابنتها من وسائل معيشة (فرش، أدوات مطبخ..) تُقدّم للبنت عند زواجها. وهذه عادة مشهورة في إيران.(المحرر)

 

322


310

في فم الأسد

الأحوال، وسُررنا ببعضنا بعضًا كثيرًا. قلت: "لِمَ ذهبت من دون أن تخبر أحدًا؟ كان عليك البقاء واستلام مسؤوليّة ما".

- لقد جئت الآن أيضًا بإصرار من أمير؛ وإلّا، فكنت أريد البقاء في "كرج". أنا لا أسعى وراء المسؤوليّة. فالمسؤوليّة دكّان؛ وسيلة تبعدنا عن الناس. أريد أن أحيا حياتي مجهولًا. أخالط الناس وأبقى تعبويًّا.

 

قلت: "ولكنّ الشيء الأهمّ الآن هو الحرب، وإنّنا مسؤولون إزاءها".

- حتّى وإن كانت الحرب قائمة، أنا أفكّر بالتكليف الملقى على عاتقي. فأحيانًا يكون تكليف الشخص أن يعمل من أجل رضى الله فقط من دون ضجيج وفي الخفاء. يجب عليّ أن أقبل بالعمل الذي أبرع به، ويمكنني أداؤه بالنحو الصحيح. وما نفع القيادة التي لا يمكنها القيام بعملها بنحو صحيح؟

 

لم أملك قول شيء. فالحاجّ قاسم تميّز بالتجربة وقد خبر الحياة، وكان يعرف ماذا يفعل. ولأعماله مبرّرات. فلم أستطع ولم أرد توجيهه وإرشاده. وبعد ساعة أو ساعتين من البحث والجدل، ودّعنا بعضنا بعضًا. كانت أجوائي الفكريّة في تلك الفترة مختلفة. ومع أنّه لو حُدّدت لحياتي خمسة أركان أساسيّة لكان الحاجّ قاسم أحدها، وعلى الرغم من إيماني واعتقادي به، لم أستطع اللحاق به.

 

شُكّلت في "دوكوهه" كعنصر حرّ في كتيبة "ميثم". وكان قائد الكتيبة حينها "إبراهيم كسائيان" عائدًا للتوّ من فترة النقاهة التي قضاها بعد الإصابة. فكنت أمضي معظم وقتي مع شباب كتيبة "ميثم"، ذلك أنّ عاداتنا وأخلاقنا متشابهة. كنّا جميعًا من أبناء محلّة واحدة ونعرف أيضًا أسرار بعضنا البعض. يومذاك، جرت العادة والعرف أنّ كلّ قائد يجمع حوله العناصر الملائمين والمناسبين له، ولربّما لأنّ هذا يساعد في انتظام الأعمال

 

323


311

في فم الأسد

واتّساقها أكثر. آنذاك، كان شباب كتيبة الشهادة أو "أبي ذر" التابعة لفرقة "محمّد رسول الله" صلى الله عليه وآله وسلم- طهران، بمنزلة إخوة لي، ورفاقًا من نفس سجيّتي وطينتي؛ لكن بقيت لكتيبة "ميثم" جاذبيّة ومكانة أخرى بالنسبة لي.

 

ذات يوم، في أوائل شهر شباط من العام 1984، ناداني "إبراهيم كسائيان" وقال: "سيّد، هناك أمر لا يقدر عليه أحد غيرك؟".

- ما هو؟

- ستُنفّذ بعد أيّام عمليّات في الجنوب. وقد أُعدّت العدّة لذلك، وجرت عمليّات الاستطلاع أيضًا. وإنّهم في هذه المرحلة يوجّهون القادة ويعطونهم التعليمات للعمليّات. وأنت تعرفني؛ أحبّ أن أكون مطّلعًا على كلّ شيء. ويجب أن أعرف أين ستُنفّذ هذه العمليّات؛ لكن بما أنّي مسؤول، فليس من المصلحة أن أقدم على هذا الأمر بنفسي.

 

أبديت موافقةً، وذهبت يومها برفقة معاون إبراهيم "أحمد حاجّ خاني" إلى شباب معلومات العمليّات للاطّلاع على سير الأمور.

 

كان إبراهيم رفيقي. ولم أرد له أن يقدم على العمل من دون رعاية الاحتياط. وحتّى لو أخطأ في ذلك، لم أكن لأرفض له طلبًا. فحُرمة الصداقة بالنسبة لي أهمّ من أيّ شيء آخر. سألنا واستدللنا على الطريق إلى أن وصلنا إلى صحراء "جفير". وكان شباب المعلومات قد حفروا حفرًا عند أسفل التلّة حيث تستوي الأرض، وبنوا دشمة لهم. بدت فتحة الدشمة السوداء اللون؛ وقد جعلوها بنحو، تظلّ فيه بمأمن من رصاص الأعداء كلّيًّا. وقد أحضروا حولها بعض القوارب ودهنوا أسفلها بالزفت. وكنت على معرفة بمعظم الشباب. واتّضح بأنّ العمليّات ستكون في منطقة مائيّة، وأنّ على الإخوة أن يعبروا بالقوارب.

 

تقدّمنا منهم، وسلّمنا، ودخلنا إلى الدشمة. وكان المسؤولون عن

 

324

 

 


312

في فم الأسد

معلومات العمليّات: "أحمد أستاد باقر"، و"أحمد كوتشکي" و"سرتيبي".

 

بقينا معهم ما بين الأربع والخمس ساعات. قال الإخوة: إنّنا مضطّرون لاستخدام القوارب ذات المحرّكات في هذه العمليّات. ذلك أنّه لا يمكن نقل القّوات بالقوارب العاديّة. وكانت إيران قد اشترت بعض القوارب ذات المحرّكات من اليابان، إلّا أنّهم لم يسمحوا باستلامها بسبب الحظر المفروض، ما اضطّر الإيرانيّين إلى شراء قوارب عن طريق السماسرة من دبي، بسعر أعلى.

 

عند العصر، ودّعنا شباب المعلومات. وأثناء ذلك قالوا لنا إنّ "محسن رضائي"[1] قد تعرّض لمحاولة اغتيال!

 

حين وصلنا إلى "دوكوهه"، كانت قصّة محاولة الاغتيال ما زالت تدور على الألسن. قال البعض إنّه تعرّض لحادث سير، وكان هذا هو الخبر الصحيح. فتّشت عن إبراهيم وقلت له: "تأكّد بأنّ العمليّات ستجري في الهور".

 

قال إبراهيم: "أَوَيمكن ذلك؟ أنّى لهؤلاء أن ينقلوا عناصر غير مدرّبين إلى الهور؟ فالشباب غير مدرّبين على الغوص".

- حقًّا، فواقع الأمر يختلف في الهور عنه في اليابسة. فإن ضلّ المرء طريقه في اليابسة، ينعطف إلى ناحية أخرى. ويمكنه التنقّل ما دام هناك أرض؛ أمّا إن تاه في الهور فإنّه سيعلق فيه إلى يوم القيامة. وأينما انعطف فهناك معابر مائيّة؛ لا مخرج منها. وحقول القصب عالية جدًّا تحول بينه وبين الرؤية.

- عليّ أن أتحدّث مع الحاجّ همّت.

 

 


[1]  قائد الحرس في تلك الفترة.

 

325


313

في فم الأسد

- وهل الحاجّ لديه وقت ليسمع كلامي وكلامك؟

- تعال نذهب معًا.

 

في صباح اليوم التالي، سألنا الإخوة عن نقطة وجود الحاجّ همّت، فقيل لنا إنّه في "موقف الحسينيّة" الواقع بالقرب من "جفير". وفيه مركز الإمداد و"المحطّة الصلواتيّة"[1] للمجاهدين.

 

انطلقنا قبيل الظهر بقليل، كانت شمس الجنوب في شهر شباط دافئة، والجوّ أشبه بجوّ الربيع. في موقف الحسينيّة، رأينا قرابة الثلاثمئة عنصر يرتدون البزّات الرماديّة، جالسين أرضًا تحت السماء يستمعون إلى حديث الحاجّ همّت.

أسرعنا نحوهم. سألت "أبرام": "أيّ كتيبة هي هذه؟".

- إنّهم من قوّات التعبئة الذين وفدوا للتوّ. وقد شكّلوا كتيبة باسم "أبي ذر".

 

كنّا على مسافة مئتي قدم منهم، وإذا بالطائرات العراقيّة تظهر في سماء المنطقة فجأة، وتقصف المنطقة بعدّة صواريخ. زحفنا نحو مرتفع ترابي والتصقنا به. انبعث التراب والغبار وتفرّقت الكتيبة. نهضنا وهرعنا إلى الإخوة. كان من لطف الله بهم أنّ الصواريخ سقطت إلى جانبهم، ولم يسقط منهم سوى بعض الجرحى. أمّا الحاجّ همّت فقد دفعه عصف الانفجار ناحية غير بعيدة، فكان مشوّشًا ولا يمكنه النهوض.

 

باشرت وأبرام بالمساعدة، وضعنا الجرحى في صندوق سيّارة "تويوتّا"، وأرسلناهم إلى الخطوط الخلفيّة.

 

 


[1]  المحطّة أو الموقف الصلواتي مكان تُقدّم فيه الضيافة للناس مجّانًا مقابل إطلاق الضيف الصلوات على محمّد وآل محمّد.

 

326


314

في فم الأسد

بعد الغد، التقينا من جديد بالحاجّ همّت أمام مبنى "دوكوهه". ناداه إبراهيم. فتوجّه الحاجّ همّت نحونا بوقار وأدب، وتبادلنا التحيّة والسلام.

 

قال إبراهيم للحاجّ همّت:

- حاج، هل يوجد ماء في المنطقة التي سنقوم فيها بالعمليّات؟

- محتمل.

 

كان الحاجّ همّت رجلًا محنّكًا، ولا يُستدرج بسهولة. فقال: هل السيّد أخبرك بذلك؟"

- أنّى يكن الذي أخبرني، ما الفرق؟ مشكلتي أنّكم لم تعلّموا القوّات السباحة والغوص.

- سيتعلّمون عندما تسنح الفرصة.

 

لو بنيتم حوضًا في دوكوهه، لأمكن للإخوة تعلّم السباحة فيه. أنا قائد وعليّ مسؤوليّة. أريد أن يتقن عناصري السباحة. ولا أستطيع نقل قوّاتي إلى الخطوط الأماميّة من دون أن أدرّبهم عليها.

- وأين ستعلّمهم السباحة؟

- سآخذهم إلى طريق عام دزفول أنديمشك، فهناك يوجد حوض تابع [لمديريّة] التربية البدنيّة. يتعلّمون فيه السباحة والغوص.

- موافق، افعل ما تراه مناسبًا.

 

لكنّ إبراهيم لم يتمكّن من تنفيذ قوله؛ ذلك أنّ الفرصة لم تؤاته لأخذ القوّات إلى المكان المنشود.

 

استمرّ التدريب على العمليّات الليليّة، والمشي، وعلى القتال إلى أواسط شهر شباط. وخلال فترة تدريبات الأخوة، وبسبب ألم رجلي، بقيت في

 

 

327

 

 


315

في فم الأسد

الخيمة أتابع الأعمال التي لم يتصدّ لها أحد كتصفير السلاح، وتعبئة المخازن بالرصاص وغيرها.

 

شيئًا فشيئًا، اتّضح بأنّ العمليّات ستُنفّذ في "الهور" وجزيرتي "مجنون" الشماليّة والجنوبيّة، باسم عمليّات "خيبر"، وأنّ الهدف منها هو تهديد البصرة عن طريق هاتين الجزيرتين.

 

بدأت العمليّات في ليلة الثالث والعشرين من شهر شباط وبنداء "يا الله"، وسمعنا في اليوم التالي في الإذاعة بأنّ المجاهدين توضّأوا بمياه نهر دجلة.

 

في الليلة الثالثة للعمليّات، جاء دور كتيبة "ميثم". وكان ينبغي للفرقة "27 محمد رسول الله" أن تكسر سدّ "مايلة" وتجرّ المعركة نحو "جسر طلائيّه" لتلتحق هناك بالفرقة "41 ثار الله". ولهذا، أصبحت كلّ من جزيرتي مجنون الشماليّة والجنوبيّة محورًا للعمليّات، ما وسّع من نطاق العمليّات وجعلها أكثر صعوبة. وكان من المفترض بكتيبتي "عمّار" و"أبي ذر" أن تشاركانا العمليّات. ليلتها، سرنا عند الساعة الثانية عشرة راجلين وفي طابور من خطّ "جفير" الخلفي إلى ضفّة الهور. كان البرد لاذعًا وقاتلًا يجعل الحجر يرتجف. بدوري، ارتديت تحت لباسي الرماديّ تلك السترة التي حاكتها لي فاطمة، وفوقه السترة الواقية من المطر، الخضراء اللون. أحببت دومًا أن أنسّق ملابسي. الكثير من الإخوة يومذاك، لم يلبسوا السترات الواقية من المطر أو المعاطف، فراح البرد ينخر أجسامهم ويؤذيهم بنحو أكبر.

 

على الضفّة، بدأ كلّ سبعة أو ثمانية أشخاص يركبون قاربًا من تلك القوارب التي طُلي أسفلها بالزفت.

 

كان سائق الزورق يعرف الطريق جيّدًا. فعبر من بين حقول القصب ونبات البردی من دون إحداث أيّ جلبة أو صوت، وبعد ساعتين أو ثلاث

 

 

328

 


316

في فم الأسد

ترجّلنا على ساحل الجزيرة.

 

تقدّم إبراهيم الطابور، وسرنا خلفه. وعلى كتف أحد السدود الذي لم يكن يُعلم في الظلمة رأسه من قاعدته، أصدر إبراهيم الأوامر بالتوقف. جلسنا في أماكننا، واسترحنا. كانت الأرض رطبة وموحلة، والأقدام تنغرس في الوحل. وحمل الهواء معه مقدارًا صغيرًا من رائحة النفط. جلست إلى جانب إبراهيم، فيما راح الإخوة يتهامسون في هدأة الليل. وهناك تيمّمت، وصلّيت ركعتين. كان الجميع متوجّهين إلى الله. فتلك كانت ليلة الافتراق وطلب المسامحة. وجاء في الكتيبة بعض صغار السنّ الملتحقين للتوّ بالجبهة، فقبّلتهم واحدًا واحدًا. كانوا بريئين جدًا ونورانيّين، ولقد خالطتهم جميعًا وطلبت منهم المسامحة.

 

بعد ساعة، أصدر إبراهيم أوامره لنا بالقيام، فقمنا وسرنا. على بعد عدّة أمتار من هناك، كانت تُسمع أصوات اشتباكات ونيران شديدة، وقد أُلقيت بعض القنابل المضيئة فأنارت سماء الجزيرة. قال إبراهيم: "لقد أُبلغنا عبر جهاز اللاسلكي بأنّ الإخوة عبروا "القرنة"؛ إلّا أنّه لم تتمّ عملية اندماج القوات الأولى بنحو صحيح، لذا، عليكم فتح جسر "طلائيّة" بأيّ وسيلة".

 

لم نكن ندري ماذا سنفعل؛ الكلمة الأخيرة قالها إبراهيم. كان من المفترض أن نقوم بالعمليّات في الطريق الموجود وسط الجزيرة؛ لكنّ العراقيّين كانوا قد نصبوا الكثير من السواتر الترابيّة وبنوا القنوات المتداخلة ببعضها البعض، وجاؤوا بالدبّابات، بحيث سلبوا منّا القدرة على التفكير، وصعّبوا علينا الأمور.

 

إلى جانب السدّ، حيث سرنا، لفت نظري ساتر ترابيّ قليل الارتفاع، فقلت في نفسي: إن تعقّدت الأمور آخذ الإخوة ليحتموا به. ذلك أنّ كتف السدّ لم يكن يتجاوز العشرين سنتمترًا، وهو ضيّق جدًّا لا يمكن المشي والتجوال عليه.

 

وبينما كنّا نسير على امتداد السدّ، إذا بنا نفاجأ برشاش دوشكا، مثبتة على ما يبدو في آخر السدّ، فبدأت بإطلاق النار على سطح السدّ الضيّق.

 

329


317

في فم الأسد

وكما تعلمون، الدوشكا لا تعرف المزاح مع أحد. ناديت الإخوة. كنت أفكّر في ذلك الساتر الذي رأيته وارتأيت أن آخذ الإخوة إليه إذا ما تعقّدت الأمور. ناديتهم وأرشدتهم إليه؛ لكنّني تأخّرت في الحركة. في البداية، سارع أمير عطري وأحمد حاجّ خاني إلى تغطيتنا. بعدها، سقطت قذيفة إلى جانبهما، فتناثرت أشلاؤهما يقينًا ولم يبق منهما شيء.

 

هرعنا إلى خلف الساتر. قال إبراهيم: "سيّد، كيف سنسكت الدوشكا؟ لقد طرحت الجميع أرضًا.

 

قلت: "بالله عليك لا ترسل أحدًا لإسكاتها، ستحصد منّا المزيد".

 

قال: "اتّصلت بالقيادة؛ يطلبون منّي أن أرسل إليها أربعة أشخاص تحت الماء ليسكتوها".

- إن كنت راغبًا، فلتجرّب ذلك.

 

عندها، وثب أربعة أشخاص إلى الماء، وراحوا يسبحون إلى أن وصلوا إلى مقربة من السدّ، فغطسوا تحت الماء؛ وفي ذلك الجانب، ما إن رفعوا رؤوسهم فوق الماء، حتّى أمطرهم العراقيّون بوابل من النيران.

 

بقيت الدوشكا تمطرنا بنيرانها إلى غروب اليوم التالي، فشلّت قدرتنا على الحركة بالكامل. لم يستطع أيّ منّا التقدّم خطوة نحوها. فقدنا أيّ خيار للعودة أو التقدّم. فأمامنا الدبّابات التي كانت تقصفنا بشكل مباشر، وخلفنا الماء الذي بلغت مسافته ثلاثين كيلومترًا. أمّا من الأعلى فنيران الطائرات المروحيّة تحرث كتف السدّ، وتقلبه رأسًا على عقب. وعلى الأرض، تناثرت أجساد الشهداء، وراح الجرحى يئنّون ويرتفعون شهداء واحدًا بعد الآخر. يا له من محفل!

 

عندها، أخذتنا الحميّة شيئًا ما، فانتقمنا من العراقيّين على ما فعلوه بنا.

 

330


318

في فم الأسد

قبيل الغروب، جاء "جعفر جهروتي زاده" وكان معلّمًا في التخريب. فتّش عن طريقة ليسكت الدوشكا. في النهاية، ومع طلوع الفجر، قفز أحد الإخوة التعبويين، ولا أعرف اسمه، إلى الماء، وتقدّم إلى أن وصل إلى مقربة من دشمة الدوشكا، رمى عليها قنبلة وأسكتها، وارتفع شهيدًا في مكانه. عندها، قال إبراهيم: "يا شباب، إنّ القوّات التي توجد على يميننا وشمالنا هي قوّات "أبي ذر". هذا ما أُبلغت به عبر جهاز اللاسلكي".

 

سُررنا لذلك، وظننّا بأنّنا سنتقدّم خطوةً إلى الأمام وأنّ انفراجًا ما سيحصل، وأنّ كتيبة "أبي ذرّ" قد جاءت لتؤازرنا؛ لكن، بدأت القذائف بالمئات تسقط في ناحية الكتيبة، فلم يبقَ منها أحد. وهجم العراقيّون على الساتر، بالقرب من السدّ وأحدثوا جلبة كبيرة "والقتل شغّال"! واقعًا أصبحوا على مسافة قريبة منّا. وتعقّدت الأمور بشدّة. رميت عليهم بشدة وأفرغتُ كلّ مخازني، ورميت بقنابلي وكلّ ما كان بحوزتي. كدت أختنق من رائحة الدخان والبارود والدماء. حينذاك، رأيت من المصلحة الانسحاب. ناديت سبعة أو ثمانية من الإخوة وتراجعنا مسرعين إلى حافّة الماء. رأيت الإخوة يثبون في الماء، فقلت لهم: "أيّها السادة، اركبوا القوارب".

 

لكنّ الإخوة خافوا. فقد كانوا صغارًا في السنّ، ذوي قلوب رقيقة. أنا صدقًا، شعرت بالخوف، فالموت على مسافة خطوة منّا. وإنّما هي جزيرة صغيرة جدًّا عائمة على سطح الماء، كان العراقيّون يحرثونها بوابل نيرانهم شبرًا بشبر قنابل هاون، رصاص، قذائف... إلّا أنّ جماعة صبرت وسط ذاك الجحيم وقرّرت متابعة عملها.

 

بعض الإخوة قاموا بعمل ينمّ عن عدم تجربة. فقد وضعوا ما بين العشرة والخمسة عشر نفرًا في مقدّمة القارب، فانقلب القارب في الماء. يا له من مشهد عجيب! رأيت جثّتين تطفوان على سطح الماء وقد انغرزت

 

331


319

في فم الأسد

فيهما بعض أعواد القصب.

 

صرتُ أفكّر في تلك اللحظة بنفسي. قفزت إلى أحد القوارب وانسحبت. في الطريق، أثناء الانسحاب، شممت رائحة "قورمه سبزى"[1] قويّة، أدركت حينها بأنّي تنشّقت الموادّ الكيميائيّة.

 

استخدم العراق حينها السلاح الكيميائي للمرّة الأولى.

 

وإنّنا ما شاء الله، لم نكن نملك الأقنعة الواقية للغازات السامّة، ولم نكن نعرف ما هي طبيعة السلاح الكيميائي.

 

ما إن وصلت إلى الساحل، حتّى ذهبت إلى مقرّ الفرقة لأستعلم الأوضاع. وجدت هناك كلًّا من "عباس كريمي"، "رضا دستواره"، "الحاجّ همّت" و"الحاجّ إبراهيم". لم أعلم متى انسحب إبراهيم؛ لكنّني فرحت كثيرًا حين وجدته حيًّا يُرزق.

 

كانوا يتحدّثون عن أجواء المعركة. لقد كبّدنا العراقيّين خسائر فادحة، لكنّنا أيضًا قدّمنا شهداء وجرحى كثرًا. صعُب هذا على القادة. لقد كانوا مضطربين ويتداولون في الأمر. قال "عباس كريمي": "لقد أرسلتم الشباب إلى فم الأسد!".

أجابه الحاجّ همّت: "وهل كنّا نرغب بأن نخسر شبابنا هدرًا؟ تكليفنا هو الامتثال للأوامر".

 

كان إبراهيم يصيح بشكل جنونيّ ويقول: "يا أخي، إنّ شجاعتنا لا تعود لنا، إنّها تعود لهؤلاء التعبويّين. لقد أُبيدت كتيبة، فليكن، فداءً للولاية. ليس علينا القيام بعملٍ آخر، يُذهب بقوات الكتيبة هدرًا".

 

 


[1]   من أشهر الوجبات الإيرانيّة تتكوّن من عدّة أنواع من الخضار واللحم، ويُقدّم إلى جانبها الأرزّ. تشتهر هذه الطبخة برائحتها الحادّة.

 

332


320

في فم الأسد

كان همّت مستاءً كثيرًا وقلقًا. مع أنّه رجل ذو معرفة وفهيم؛ لكنّه لم يستطع أن يفعل شيئًا. فحينذاك كان البحث بحث الوقوف في وجه العراق والدفاع، لا بحث المشاعر والأحاسيس.

 

لم يعد بي طاقة على الخوض في مسائل الحرب ونقاشات المقرّ، تعبت كثيرًا وأُنهكت قواي. خرجت بلباسي الرماديّ الملطّخ بالدماء من المقرّ. ظلّت رائحة النفط تزكم أنفي، فرحت أسعل سعالًا هادئًا. أمّا الإخوة الذين وصلوا بعدي إلى الخطوط الخلفيّة وكانوا قد استنشقوا الغاز الكيميائي بشكل كبير، فصاروا يسعلون سعالًا حادًّا ويتقيّأون.

 

بتّ ليلتي تلك في مقرّ الفرقة، وذهبت في اليوم التالي إلى "دوكوهه" ومنها عدت إلى طهران.

 

في اليوم التالي، سمعت بأنّ "الحاجّ همّت" و"أكبر زجاجي" قد ذهبا ليتفقّدا الجزيرة، فأصابتهما قذيفة مدفعيّة واستشهدا هناك. برأيي، لم يكن ينبغي السماح لقائد مثل هذا بالذهاب إلى جزيرة الشؤم تلك. الجزيرة التي كانت قد قُلبت رأسًا على عقب بفعل نيران العراقيّين. لكن وا أسفاه إذ ذهب وخسرناه بهذه الطريقة. وكأنّ العراق علم أنّ العمليّات ستتوقّف برحيل الحاجّ همّت، وأنّ كلّ شيء مرتبط بوجوده المبارك. نقاشات المقرّ تلك أشارت إلى أنّ البعض تحسّس من بعض الأمور. وعلى كلّ حال، لقد فقدنا قائد عمليّات خيبر، وحامل الراية "زجاجي"، والكثير من التعبويّين الشجعان كـ "أحمد حاجّ خاني" و"أمير عطري"؛ الرجل الذي لم يقل يومًا إنّه مسؤول شؤون الافراد أو العديد. فكان يجلس في مؤخّرة الشاحنة كجنديّ مجهول ويذهب إلى المعركة؛ الرجل الذي جعل زوجته ووالديه ينتظرونه لسنوات؛ الرجل الذي دافع عن غربة اللطم والعزاء الحسيني، والذي حفظ ماء وجه الكثيرين وحلّ

 

333

 


321

في فم الأسد

مشاكلهم من دون ادّعاء وبأخلاق عالية. سقى الله ذكراه وذكرى جميع الرجال الشجعان.

 

في تلك الفترة، كان برنامجي اليومي عبارة عن المشاركة في تشييع الشهداء، ومجالس الفاتحة التي أُقيمت عن أرواحهم، وعيادة الجرحى. وفي تلك الفترة، كانت المدينة والبلاد كافّة تفوح برائحة العشق. ومجالس الذكر والتوسّل عمّت سائر الأمكنة. وكانت الخدمة جزءًا من حياة الناس اليوميّة.

 

ذات يوم، قال لي "رضا بور أحمد" إنّ بعض الإخوة شكّلوا هيئة، فلنذهب الليلة إلى هناك".

 

عند المساء، ذهبنا معًا إلى "باتشنار". فمن خلال بيت صغير، وبصوت "داوود عابدي" و"الحاجّ حسن عابدي" العذب والحنون من هيئة محبّي العبّاس، واللذين كانا بالموقع نفسه مع "محمود جوليده" في جماران، أُقيم مجلس أنيس وحافل، وفي آخره شرع "محمود جولیده" یتحدّث بحديث القلب والروح. بعدها بدأ "داوود عابدي" بذكر "يا علي مدد" وهناك رأيت للمرّة الأولى وجوه رجال أمثال "غلام غلياف"، "أصغر أرس"، "مجتبى درودکر"، "مجيد شيخ وند"، السيّد محسن الموسوي"، "رضا اميد علي"، "علي رمضاني" والكثير من الأبطال الآخرين، وتهيّأت الظروف لألتقي رفاق الخندق في "عمليّات بدر" من كتيبة "ميثم".

 

في تلك الفترة، سمعت من "السيّد محمّد كشفي" أحد أبناء محلّتنا، بأنّه قد أعيد إحياء كتيبة "ميثم". فأصبح قادة الكتيبة: "عزيز رحيمي" و"السيّد أصغر معصومي" وهما من أبناء محلّة شميران و"السيّد أبو الفضل كاظمي مزدآبادي"، رفيقي القديم وموافقي في المسلك والأخلاق.

 

 

334

 

 


322

..وفاحت عطور العشق

..وفاحت عطور العشق

 

إن طُردت أيها الحبيب من زقاقك.. سأعود من جديد

 

في أواخر شهر كانون الثاني من العام 1985م حين تردّدت أنباء عن اقتراب موعد العمليّات، ذهبت إلى "دوكوهه". من لطفه وتواضعه جاء السيّد "أبو الفضل كاظمي"[1] إلى محطّة القطار في "أنديمشك" باحثًا عنّي. فقد علم عن طريق "سعيد مجلسي" بأنّني آتٍ إلى الجبهة. لذا، جاء برفقة "عباس بور أحمد" و"عباس رضا بور" إلى محطّة القطار لاستقبالي، من هناك انتقلنا معًا إلى موقع كتيبة "ميثم". كان السيّد "أبو الفضل كاظمي" من القادة المقتدرين والمتمرّسين بالحرب، من شباب محلّة "باغ بيسيم"، وكان هو وأصغر أرسنجاني من المحلّة ذاتها تقريبًا. وقد تعرّفت إليه منذ حوادث الثورة، وآمنت بكفاءته ولياقته للقيادة. في مخيّم "الشهيد بروجردي" حضر الحاجّ عبد المجيد همّت علي، ومجتبى هاديان، وحجّت أمير صوفي، وعلي رمضاني، وأكبر بشت كوهي، وسعيد طوقاني و...، وكانوا جميعًا من شباب محلّتنا القدامى ومن شباب طهران، وشكّلوا جمعًا حميميًّا ومتجانسًا. هذا ما شاءه القدر، بأن يلتحق -لا إراديًّا- الشباب الشجعان وأهل القلب والعشق بكتيبة "ميثم". لقد تجلّى لذلك الجمع

 

 


[1]  أبو الفضل كاظمي قائد كتيبة يماثل اسمه اسم صاحب الذكريات هنا.

 

335


323

..وفاحت عطور العشق

صفاء خاصّ لم أشهد مثله في أيّ من الخيم والكتائب. توافد المضحّون للقتال والشهادة. وكان لا بدّ لشباب كتيبة "ميثم" أن تتشابه عاداتهم وأخلاقهم ليجتمعوا تحت سقف واحد. معظمهم من شباب طهران ورفاق؛ جريئون وشجعان لا يعرفون الانضباط. وجميعهم من أهل مجالس العزاء واللطم محبّون لأهل البيت عليهم السلام، ومن أهل العشق والإخلاص. لم يكونوا باحثين عن المنصب والمسؤوليّة. فكتيبة "ميثم" تعني أن تعيش من أجل عشقك. ولهذا السبب، انجذب مدّاحون من أمثال "محمود جوليده" إليها من تلقاء أنفسهم.

 

كان محمود من أبناء "كذر لوتي صالح"؛ شجاعًا عارفًا بأهل البيت وعاشقًا لهم. حسن الوجه حلو اللسان. كنّا نذهب سابقًا إلى هيئة "باتشنار". وكان "عباس بور أحمد"، "رضا بور أحمد"، "أصغر ارسنجاني"، "حسين طاهري" و"رضا مير كمالي"، من المولعين بـ"كتيبة ميثم". وهم أيضًا مدّاحون، ومن أهل القلب.

 

في الیوم الأوّل، بعد انتهاء المراسم الصباحيّة، حدثت جلبة بين الصفوف. كانت تصدر أصوات ثغاء كثغاء الخراف، وارتفعت قهقهات الإخوة، راحوا يمزحون ويمرحون ويسخرون من بعضهم البعض ممازحين.

 

في تلك الفترة، راجت كلمة بيننا. فبمجرّد أن كان يلتقي أحدنا بالآخر يقول له "أنا حمارك". وذات يوم جاء أحد علماء الدين إلى كتيبة "ميثم". وكان من أبناء محلّة "الشاه عبد العظيم"؛ متوسّط العمر، يميل إلى البدانة شيئًا ما. كان يعتمر العمامة في الصلاة، أمّا فيما عدا ذلك، فكان ينزعها عن رأسه، ويخالط الإخوة ويجالسهم بلباسه الرماديّ. وحين رأى أن الإخوة يظهرون شيئًا من الاحترام لي، جاءني وسأل: "سيّد، ما هذه الكلمات التي أُشيعت وروّجتم لها من أمثال: أنا حمارك؟".

 

336


324

..وفاحت عطور العشق

قلت له: "إن أردت أن تبقى وترسخ في كتيبة "ميثم"، عليك أن تتعرّف إلى ثقافتهم وعاداتهم. عليك أن تعرف كيف تتعامل معهم".

- وما هي ثقافتهم وعاداتهم؟

- عليك أن تحاكيهم وتقلّدهم. وأن تعيش كأيّ واحد منهم. إنّ شباب طهران لا يحبّون المواعظ. لدينا في طهران علماء كثر، ودراويش وذوو خبرة في السلوك والعرفان والعلم والعشق، كـ"الشيخ حق شناس" والسيّد علي النجفي، وهما من أولياء الله وذوي التأثير ومستجابي الدعوة، وممّن يقدّمون الغذاء المعنويّ. إنّنا نحلّ مشاكلنا عند هؤلاء. ونعتقد بكلامهم ونسمع لهم.

- وماذا يقول علماؤكم؟

- إنّهم بدل الكلام والموعظة، يبادرون للعمل أوّلًا، فترى فيهم العرفان العملي. إنّك ترى المعجزة وتسمعها في عملهم وسلوكهم وأقوالهم..

- وما الذي يجب أن أفعله الآن؟

- الأمر الأوّل أن تأتي معنا في الصباح إلى نادي "الزورخانه" وتمارس معنا الرياضة.

 

في صباح اليوم التالي، عقدتُ بنفسي الإزار للشيخ، وأدخلته حلبة الزورخانه. شرعتُ بحركات الليونة شيئًا فشيئًا، وراح الشيخ يتحرّك ويتمايل؛ لكنّه لم يستطع أن يحمل الهراوة. وما إن سلّمته الهراوة حتّى جثا على ركبتيه وجلس. بعد ذلك وقف إلى جانب الحلبة وذهبنا نحن للسباحة[1]؛ فقمنا بممارسة سباحة الرجلين المنفرجتين، والرجلين المضمومتين، وسباحة الاستلقاء

 

 


[1]  إحدى الحركات في رياضة الزورخانه.

 

337


325

..وفاحت عطور العشق

على الظهر. كان "سعيد طوقاني" بطلًا صغيرًا و"عباس دائم الظهور" معلّمًا في الضرب على الدفّ والرياضة التراثيّة القديمة. فكانا يتناوبان على الضرب، ويقومان بحركات ليونة الأرجل التبريزيّة والكرمانشاهيّة كمعلّمين. يتقدّمان إلى الأمام ويرجعان إلى الوراء وينشدان الرباعيّات الصوفيّة.

 

عندما كان المرشد يقول: "علي"، كنّا جميعًا ننحني، ومن ثمّ نقوم ونبقى نفعل ذلك إلى آخر الأمر. أي إنّنا نقوم مرّة ثانية بحركات الليونة ليبقى البدن حاميًا.

 

آخر العمل هو "الخميركيري"[1] ودعاء "محمّد ولي كاظمي" إذ يقرأ بتوجّه: "إلهي لا تخرجنا من الدنيا حتّى ترضى عنّا. إلهي لا تخرجنا من قبورنا سود الوجوه..". وكان يختتم بالصلوات على محمد وآله معلنًا انتهاء الرياضة.

شيئًا فشيئًا، بدأ ذلك يُعجب الشيخ، وأصبح رفيقًا لنا. فيأتي في الصباح إلى نادي الزورخانه، يخالط الإخوة إلى أن احتلّ بالنهاية، مكانًا في قلوبهم.

 

كان "داوود عابدي" شجاعًا وبطلًا آخر من أبطال كتيبة "ميثم"، يقرأ مجالس العزاء بصوت عذب وجهوريّ، ويتلو الأدعيّة باللهجة الطهرانيّة الأصيلة والمشبعة، والإخوة ينادونه بـ"داوود غزلي". مع أنّه لم يلتقِ يومًا بـ"أبرام هادي"، لكنّه أصبح من مريديه، فكان كلّما التقاني سألني عن بطولاته ومسلكه. أراد أن يصبح شهمًا كـ"أبرام". كان ينتعل حذاءً قطنيًّا ذا مقدّمة حادّة، وسروالًا كرديًّا وقبّعة، وهذا ما كان يزيد من بهاء الطلعة.

 

كان داوود يملك سبحة من السندلوس الفاخر، وكلّ صباح يفركها بالزيت لتصبح شفّافة وأكثر لمعانًا. التحق داوود بكتيبة "ميثم" منذ

 


[1]  إحدى حرکات رياضة الزورخانه التراثية وفيها يتمّ تليين الخصر.

 

338


326

..وفاحت عطور العشق

عمليّات "والفجر 4". وفي كلّ مرّة كنت أراه والسبحة في يده.

 

شيئًا فشيئًا، بدأت الأنباء تسري عن اقتراب موعد العمليّات، فكثرت التوجيهات وإعطاء التعليمات، وكثرت الاستطلاعات. وعلمنا بأنّ اسم العمليّات سيكون "بدر"، وأنها ستكون شبيهة بـ"عمليّات خيبر" واستكمالًا لها. فكانت القوّات التي شاركت في "عمليّات خيبر" وتعرف طرقها ومنحدراتها، موجّهة تقريبًا وعلى دراية بالتعليمات، كما كان الخطّ الخلفي ونقطة الانتشار معلومين بالنسبة لهم. لكنّ العراق أصبح حساسًا جدًّا فيما يتعلّق بالمنطقة، ولم يكن واضحًا كيف سيتعامل هذه المرّة؛ وهل سيدعنا نتقدّم أم لا.

 

في أوائل شهر آذار، ذهبنا ذات ليلة بالحافلة إلى خطّ "جفير" الخلفي. وصلنا إليه قرابة السحر. كانت خيمه مُعدّة ومجهّزة. وهناك، لم نقم بأيّ تدريبات وتمارين ليليّة؛ ذلك أنّنا كنّا قريبين من الخطوط الأماميّة. فكنّا نؤدّي صلاتنا في الخيم، ولا نجتمع خارجها. أُنجزت التدابير والإجراءات الإداريّة في الخيم؛ كتسليم الوسائل والممتلكات الشخصيّة إلى تعاون الفرقة، وكتابة الوصايا وأمثالها، ولم أعتد يومًا فعل أيّ منها. فلطالما كنت عنصرًا حرًّا ولم أكن أملك أيّ ممتلكات شخصيّة. وممتلكاتي الشخصيّة الوحيدة هي البلاك خاصّتي، والمنديل الحريري والخاتم وكنت أحملهم معي أينما ذهبت.

 

بدأت المرحلة الأولى من العمليّات في الثامن من آذار، وتمّ اختراق خطّ دفاع العراقيّين. وفي الليلة الثانية للعمليّات كان دور كتيبة ميثم لتهجم على الخطّ.

في صباح اليوم الثاني، ذهبت برفقة "محمود جوليده" و"داوود

 

339


327

..وفاحت عطور العشق

عابدي" إلى خيمة كتيبة "أبي ذر". وكان قائدها "محمّد نوري نجاد"، ومعظم عناصرها من أصحاب المروءة والشهامة وذوي البنى القويّة.

 

ذهبنا لنستعلم الأخبار من "حسن بهمني"، و"كاظم رستکار"، والتحق بالكتيبة حينها "بهمن نجفي" أيضًا، وكان يومًا قائد لواء، وها هو الآن حاضر بين عناصر كتيبة أبي ذر مثله مثلي، كجنديّ بسيط وعاديّ. عندما جلسنا حول بعضنا البعض، أنشد داوود شعرًا صوفيًّا فساد الجوّ حال معنويّة.

 

سألت بهمن إن كان لديه أخبار عن "حسن بهمني" و"كاظم رستکار" أم لا، فقال: "كانا هنا اليوم برفقة "ناصر شيري". وقد التحق كلّ منهما بكتيبة "أبي ذرّ" كعنصر حرّ وتعبويّ، ليشارك في عمليّات بدر".

 

عصر ذلك اليوم أقيم مجلس عزاء حسيني، وقرأ المجلس كلّ من "محمود جولیده" و"داوود عابدي". في زحمة اللطم ناداني شخص وقال لي: "إنّ "كاظم" و"حسن بهمني" خلف الخيمة، اتبعني إن كنت تريد رؤيتهما".

 

قلت: "فلننتظر ريثما ينتهي المجلس".

 

بعد دقائق، علت أصوات النحيب والبكاء، وغمرت المجلس ظلالٌ معنويّة عجيبة. حين قمت وخرجت رأيت كاظم وحسن يغادران.

 

ناديتهما، فعادا. سلّمت عليهما، وأدخلتهما في الخيمة بعد إصرار كبير.

 

وقد أعدّ "عباس بور أحمد" لنا الشاي.

 

بدا حسن منقبض القلب ومضطربًا. سألته: "لِمَ التحقت كعنصر حرّ؟ أنت قائد ذو خبرة وقدير، عليك أن تتسلّم مسؤوليّة ما لتسير الأمور قدمًا..".

 

- عزيزي يا سيّد، لم ولن أسعى يومًا وراء المسؤوليّة. ولم أتاجر مع أحد لآخذ التنويه. إن قالوا لي "اجمع الأحذية، أجمعها، وإن قالوا تسلّم

 

340

 

 


328

..وفاحت عطور العشق

مسؤوليّة أتسلّمها، وإن قالوا تنحَّ، أتنحَّ. لكنّني أردت أن أقول لهؤلاء "لا تظنّوا أنّني لا أفهم الأمور". أنا رجل الحرب، وقد جئت لأقاتل؛ لكنّ لي اعتراضًا على أسلوب قتالكم وحربكم. عليكم أن تزيدوا من التدريبات العسكريّة. وتطوّروا بناء الدشم والدفاع الشخصي. وعلى القنّاصة أن يتدرّبوا بنحو صحيح وعلى الأصول. عليكم أن تقوموا بالأعمال بنحو مدروس.

 

امتدّت جلستنا قرابة النصف ساعة، وبثثنا همومنا لبعضنا البعض. كان كلام حسن بمعظمه عن الحرب وطريقة القيام بالعمليّات. عندما أراد الرحيل، احتضنّا بعضنا البعض وطلبنا المسامحة، وذهب حسن بوضع يُرثى له. كان بحال سيّئة لأنّه كان عاشقًا. فالعشق لا يعرف الحیثيّة والسمعة. لم تعد روح حسن تستطيع البقاء حبيسة جسمه. لم يفهمه أحد في تلك الفترة ويعرفه. لقد كان منقطعًا عن الدنيا، ويعيش حالًا معنويّة كبيرة بحيث بدا وبنحو واضح بأنّه ذاهب من دون عودة.

 

بعد ذهاب حسن، عدت إلى الخيمة حيث يقيم الإخوة مجلس العزاء. قرأ داوود في آخر الليل مجلس أبي الفضل العبّاس عليه السلام، وبقينا جميعًا مستيقظين إلى وقت الانطلاق نحو الخطّ الأمامي. أثناء العمليّات لم يعد هناك فرق بالنسبة لي بين المنديل الحريريّ والكوفيّة، أو بين الحذاء الكتّانيّ والحذاء العسكري، فلبستُ ما حصلت عليه. لم أعد أكترث لشيء، كلّ ما أردته هو الهجوم على خطّ دفاع العراقيّين. حتّى إنّني لم أسعَ لتأمين جعبة الماء ولا السلاح. كنت ذاهبًا من دون سلاح، لأرمي ما لديّ من الرمّانات، الـ"B7" و... كنت أريد أن أقاتل فحسب.

 

في منتصف الليل، ركبنا شاحنة، ووصلنا قرابة الفجر إلى الساحل. كانت القوارب مجهّزة. قبل ركوبها، رحنا نقبّل بعضنا بعضًا وسط العتمة ونطلب المسامحة. كنت أرتدي لباسًا واقيًا من المطر أخضر اللون، وقبّعة، وجزمة بلاستيكيّة تصل إلى أسفل الركبة.

 

341

 

 


329

..وفاحت عطور العشق

وقف "ميثم غفّاري" وكان بطلًا في الدوران في رياضة الزورخانه، وذا عينين خضراوين، في زاوية ساكتًا، يتفرّج على الإخوة.

 

واحدًا بعد واحد، ركبنا القوارب التي كانت ذات مجاديف ومحرّك في آن. وكان كلّ منها يتّسع لاثني عشر شخصًا؛ لكنّنا قُسّمنا إلى فرق مؤلّفة من ثمانية عناصر. وكنّا جميعًا ندندن بهذه الأبيات من الشعر:

ذاك الحسين الذي مجّده الله أضعافًا مضاعفةً

                                     هو الأمير وكل العالمين مساكينه

الماء مهر للزهراء وقضى عطشان إلى جنب الفرات

                                     ليبقى دين محمّد حيًّا

 

ساد السكون المكان ولم تعد تُسمع سوى دندنات الإخوة. سرنا في عتمة الليل وانطلقنا من المعبر المائي. لم نكد نبتعد عن الضفّة حتّى باغتنا رشق من النيران وسط الماء لم أدرِ من أيّ جهة انطلق. حمينا رؤوسنا بأيدينا والتصقنا بأرض المركب. على ما يبدو أنّ دشمة كمين للعراقيّين كانت موجودة في المكان وما علمنا بها. بلطف الله، مرّت الرصاصات من جانب القارب ولم تتسبّب لنا بأيّ خسائر. كان المسير الذي سلكناه معبرًا مائيًّا قد سلكه عناصر المعلومات قبلنا، وتوجّب علينا المسير في الطريق نفسه. ولو انحرفنا يمينًا أو يسارًا، لكان من الممكن لقاربنا أن يصطدم بالألغام. استغرق نقل القوّات إلى الساحل الجنوبي لـ"جزيرة مجنون" إلى ما قبل غروب اليوم الثاني.

 

عندما وصل قاربنا إلى ساحل الجزيرة وترجّلنا منه، قيل لنا: عليكم الانتظار إلى حين اشتداد الظلمة.

عمد العناصر الذين وصلوا قبلنا إلى حفر دشم شبيهة بوجار الثعلب

 

342


330

..وفاحت عطور العشق

في سفح السدّ واحتموا فيها. كان البعض نائمًا، فيما راح آخرون يدردشون ويتناجون فيما بينهم.

 

إلى جانب أحد السواتر سقط جثمان الشهيد "هاشم حمامي" المسؤول عن حمّام الكتيبة، وهو من شباب محلّة "غياثي". وكانت رصاصة مباشرة قد أصابت رأسه فراح الإخوة ينتظرون قاربًا لينقله إلى الخطوط الخلفيّة. كما أُصيب "مهدي بور"، وعلمنا فيما بعد أنّه استُشهد حين وصل إلى الخطوط الخلفيّة. قرابة الساعة الحادية عشرة نهضتُ من مكاني لأقوم بجولة وأستطلع المكان بالقرب من حقول القصب. ذهبتُ إلى حافّة الـ"بد"[1] وإذا بي أرى من البعيد شبح قارب وسط حقول القصب، فيه عدّة أشخاص، يتوجّه نحونا، ويستدير يمنة ويسرة من حين لآخر. وكأنّه قد أضلّ الطريق. كانت المسافة بيني وبينه لا تعدو المئتي متر. صار يدور حول نفسه ولا يتقدّم. احتملت بأنّه علق في الأسلاك الشائكة. رحت أسير إلى جانب الحافّة إلى أن اقتربت منهم بحيث يسمعونني، وقلت بهدوء: "توقّفوا في مكان ما. ولا تتحرّكوا. توجد ألغام في المكان، إن تحرّكتم، انفجرت".

 

سمعوا كلامي وثبتوا في مكانهم. ذهبت وأخبرت شباب المعلومات. فانطلقوا بقارب وجاءوا بهم. عندما وصل القارب، تبيّن أنّهم بعض العناصر المتبقيّة من كتيبة "ميثم".

 

عند الحادية عشرة والنصف ليلًا، جاء إليّ السيّد أبو الفضل كاظمي وقال: "تعالَ يا سيّد لنذهب إلى مكان ما، فلي حديث معك".

 

ذهبت معه إلى ناحية من نواحي الساتر الترابي، قال: "سيّد هناك أمر

 

 


[1]  طرق وتحصينات ترابيّة مستحدثة في الماء والمستنقعات. ورد الحديث مفصلا عنها في كتاب (نور الدين ابن ايران)-سادة القافلة20.

 

343


331

..وفاحت عطور العشق

أخجل من مفاتحتك به".

- لا، قل؛ لا مشكلة في ذلك.

- نريد الآن أن نقطع عدّة كيلومترات راجلين، ستتخلّف أنت عن الركب برجلك المصابة هذه.

- كلا، سآتي، لقد قطعت كلّ هذه المسافة لأكون معكم.

- أنا قلت لك، المسافة طويلة، ولا مزاح في الأمر.

 

بعدها عدنا إلى صفوف الإخوة.

 

بعد ثلاثة أرباع الساعة تقريبًا، جمعنا الإخوة خلف الساتر الترابي.

 

فجأة ناداني أحدهم بصوت خافت: "سيّد أبو الفضل، سيّد أبو الفضل..".

 

التفتّ فإذا بي أراه "داوود عابدي". قلت: "عزيزي داوود ما بك؟".

- بأيّ ذكر تحبّ أن ننطلق نحو العراقيّين؟

- بأيّ ذكر تريد.

- أنت من السادة، وإنّنا لا نبدي رأيًا فوق رأي السادة.

- اختر الآن ما بدا لك.

- أحبّ أن أقول شيئًا في "حيدر".

- وهو كذلك.

- تعالَ واجلس إلى جانبي؛ أريد أن أقرأ مقطعًا أخيرًا من مجلس أمّك الزهراء عليها السلام.

 

344

 

 


332

..وفاحت عطور العشق

بدأ داوود بالقراءة بهدوء، فجاء الإخوة واحدًا بعد آخر والتفّوا حولنا.

 

حسين عزيزي، أصغر أرس، أصغر كلاهدوز، عباس رضا بور، سعيد طوقاني، محمود عطا، الحاجّ همّت علي و...

 

اعترض السيّد أبو الفضل. تقدّم نحونا وقال: "ماذا يجري يا عمّ؟ التزموا الهدوء أكثر، قد ينكشف أمرنا جميعًا".

 

في النهاية، قرأ داوود:

إن طُردت من زقاقك أيّها الحبيب

                        سأعود والله من جديد حتّى ولو لم يريدوني

أصبحت أيّها الحبيب كلب[1] قافلة محضرك

                        على أمل أن يوصلوني إلى زقاقك

 

بكينا جميعًا. حدست بأنّ داوود راحل لا محالة. لقد أصبح حقًّا سماويًّا، وبدا ذلك على وجهه. نظرت إليه، أخرج مشطًا من جيبه وراح يسرّح لحيته.

 

قلت: "داوود وكأنّك على موعد مع حبيب".

 

قال: "أريد الليلة أن أنال مكافأتي يا سيّد!".

 

قرابة الساعة الثانية عشرة، سرنا في الطابور بهدوء تامّ.

 

التقيت بـ"أسد الله بازوكي" في مكان ما. كان العراقيّون قد اخترقوا جانبه*[2] فقاوم شبابه مقاومة شرسة، لكنّهم أُصيبوا واحدًا بعد آخر وسقطوا

 

 


[1]  إشارة إلى كلب أهل الكهف الذي رافقهم في هجرتهم.

[2]  أخذوا شيئًا من خاصرة جبهته.

 

345


333

..وفاحت عطور العشق

شهداء وجرحى. قال الإخوة إنّ العراقيّين موجودون في القناة، ويحملون مناظير ليليّة.

 

تقدّم الطابور حامل لواء الكتيبة "عزيز رحيمي"، والسيّد "أبو الفضل كاظمي"، معاون الكتيبة، فسار الإخوة خلفهما. في البداية، كنتُ في المقدّمة، شيئًا فشيئًا بدأتْ رجلي تؤلمني، فتخلّفت عن الطابور. كان الإخوة يأتون ويمرّون من جانبي. بدأت النيران تعنف وتسبّب الذعر. توجّهنا نحو ساتر ترابيّ هلاليّ الشكل. كان من المفترض بكتيبة "عمّار" أن تقوم بعملها من جانب الماء، وكتيبة "ميثم" من على يمين الساتر الهلالي، وكتيبة "أبي ذر" من الجهة اليسرى له. إلى الأمام على بعد مئة متر منّا، صفّ العدو رتلًا من الدبّابات. وهناك اشتدّ ألم رجلي كثيرًا بحيث تخلّفت حتّى عن السريّة الثالثة وصرت في مؤخّرة الكتيبة. لم تعد رجلي تستطيع حمل جسدي. كان الطابور يبتعد عنّي فيما بقيت ألهث خلفهم.

 

تابعت طريقي وأنا أعرج في مشيتي. إلى الأمام قليلًا، شاهدت شخصين أو ثلاثة ملتفين حول بعضهم البعض. توجّهت نحوهم فوجدت "سعيد طوقاني" قد سقط أرضًا، وقد أُصيب بطلقة دوشكا دخلت من بطنه وأحدثت في ظهره فجوة بمقدار كفّ اليد، والدم يفور من جرحه. كان سعيد يتلوّى من الألم، ويأخذ برأسه وبصدره وينهشهما بأظفاره وينادي: "يا حسين، يا حسين..".

 

جلست، وضعت يدي تحت رأسه وقلت: "عزيزي سعيد، إنّه جرح بسيط، الآن يأتي الإخوة وينقلونك إلى الخطوط الخلفيّة".

 

أمسك بيدي وقال: "يا حسين، يا حسين، أرأيت؟ إنّنا لسنا متخاذلين".

 

لم يكن في كامل وعيه، كان يحتضر.

 

346

 

 


334

..وفاحت عطور العشق

حضر المسعف، ربّت على كتفي وقال: "انهض يا أخي، انهض، تكاد روحه تفيض".

 

مسحت مرّة أخرى على رأسه ونهضت. حدّقت للحظات في وجهه وذهبت. لم يعد به من رمق، كانت أنفاسه الأخيرة. لقد رحل مع صغر سنّه، وبوجهه الطفوليّ ذاك رحيل الرجال الأبطال.

 

تقدّمت إلى الأمام قليلًا، ومرّة أخرى وجدت جماعة متحلّقين حول جريحٍ. اقتربت منهم فرأيت "داوود عابدي" وقد أُصيب بطلقة دوشكا في بطنه. كان يجلس القرفصاء ويرتجف. وقد أمسك بقبضة الـ"B7" بيده ونصبها كعصا واتّكأ عليها. كانت ثيابه مخضّبة بدمائه. ما إن رآني الإخوة حتّى قالوا له: "داوود، انظر ها هو السيّد أبو الفضل قد جاء".

 

كان رأس داوود متكّئًا على القبضة ولم يستطع تحريكه. وإنّما قال فحسب: "يا علي... أرأيت يا سيّد أبا الفضل؟ أنا راحل".

 

قلت: "عزيزي داوود، بلّغ سلامي لأمّي الزهراء".

 

تمتم بعبارة. جلست بجانبه وضعت يدي على كتفه، أدنيت رأسي منه لأسمع نجواه فقال: "سيّد، سأكون هناك بانتظارك!".

 

احتضنته وقبّلته. كنت آخر من ترك "داوود غزلي"*[1] لوحده وتابعت طريقي.

 

ما كان من المفترض بنا أن نبدأ بالمواجهة في تلك المواقع؛ بل اعتماد التقدّم إلى وسط الجزيرة والوصول إلى نقطة الانتشار. عبرت من جانب ساتر ترابيّ قليل الارتفاع وتخلّفتُ من جديد عن الركب وصرت وحيدًا؛

 

 


[1]  لقّبه بذلك فهو قارئ الاشعار والمرثيات.

 

347


335

..وفاحت عطور العشق

لكنّني كنت حين أمعن النظر إلى الأمام جيّدًا، أرى خيال أناس وطابور العناصر يبتعد. رحت أسير ببطء ومنحني الظهر. لم أعد أستطيع التقاط أنفاسي؛ لكنّني أردت اللحاق بالطابور، إلى أن وصلت إليه في النهاية، فرأيتهم جالسين خلف ساتر ترابيّ بكامل الهدوء. ناداني أحد الإخوة بصوت خافت وقال: "تعال، تفصلنا مسافة خمسين مترًا عن كمين العراقيّين".

 

أشار الجميع إليه بأيديهم أن: صه واجلس.

 

جلسنا، التقطتُّ أنفاسي قليلًا، وعدت من جديد أتخطّى الإخوة بهدوء لأصل إلى مقدّمة الطابور. عبرت من جانب "محمود جولیده"، ولم أكن قد وصلت بعد إلى مقدّمة الطابور حتّى اندفع فجأة وفي عتمة الليل، خمسة أو ستّة أشخاص من خلف الساتر الترابي نحونا وعادوا واختفوا في الظلمة. أصابني الهلع. وجفّ حلقي.

 

من كان هؤلاء؟ هل هم من شبابنا أم من العراقيّين؟ لا أحد يعلم.

 

كانت ظلمة الليل تثير الرعب في النفوس. سحبنا الأقسام*[1]؛ لكنّنا لم نطلق النيران لعدم صدور الأوامر بذلك. فقد نطلق النار عليهم ويكونون من شبابنا. ما زال هذا السؤال يتردّد في ذهني: من كان هؤلاء؟

 

بعد دقائق صدرت الأوامر بالتحرّك.

 

تقدّمنا ببطء بظهور منحنية، تارة كنّا نجلس وتارةً ننهض ونتابع مسيرنا. ومجدّدًا أصبحتُ في وسط الطابور، وشيئًا فشيئًا في آخره. كانت الأوامر تصل همسًا من واحد إلى آخر.

 

وصلنا إلى مكان، يوجد على يسارنا ساتر ترابيّ؛ سواتر ترابيّة قليلة الارتفاع أيضًا ووراء بعضها البعض. وقد اصطفّ خلف أحدها عدد

 


[1]  لقّمنا السلاح استعدادًا للرمي.

 

348


336

..وفاحت عطور العشق

من الدبّابات. وكنّا على بعد خمسين مترًا من ذلك الساتر الترابيّ. ورأينا العراقيّين بشكل جيّد.

 

علمنا هناك عن طريق جهاز اللاسلكي، بأنّ كتيبة عمّار قد علِقت إلى الأمام منّا؛ تفاجأنا بأنّ كتيبة عمّار كانت تستقرّ في مكان آخر، ولم نكن نعلم بذلك.

 

غيّرنا مسارنا؛ فأجبرنا الدبّابات على الاستدارة. لو كان طُلب منّا رميها، لكان ذلك الموقع والوقت الأنسب لصيدها؛ لكن، قيل لنا إنّ هدفنا ليس الدبّابات، بل الوصول إلى آخر حدودنا وتثبيت أقدامنا هناك.

 

انتشرنا بالقرب من آخر ساتر ترابيّ كحرّاس السّهل. صاح أحدهم: "يا إخوان، قوموا إلى ذكر الله تعالى، لقد حان موعد صلاة الصبح".

 

أدّى كلّ واحد منّا صلاته بالنحو الذي يستطيع. اغتنمت هذه الفرصة أيضًا للوصول إلى مقدّمة الطابور. توجّهت نحو السيّد "أبي الفضل". ولم أكد أخطو بضع خطوات حتّى سمعت هدير جنازير دبّابة وبعدها مباشرة رأيت فوّهة دبّابة تعلو فوق الساتر الترابي. جلست في مكاني، والتصقت بظلّه.

 

صعدت الدبّابة بسرعة فوق الساتر الترابي، ورمت بطلقة مباشرة علينا. فبدأت المواجهات في أسوأ موقع ممكن. كانت الدبّابات تحيط بنا من كلّ جانب؛ من خلفنا ومن أمامنا. تقدّمت وانحرفت فوق الساتر، كالآليّة التي تريد الانعطاف إلى جهة الشمال. فكانت تصعد وتهبط عنه وترمي علينا.

 

قال السيّد أبو الفضل: "انهضوا يا شباب وتعالوا واحتموا بهذا الساتر".

 

ما إن نهضنا من أماكننا حتّى وجّهت الدوشكا فوّهتها نحونا وحصدتنا. أولئك الذين كانوا في مقدّمة الطابور، كـ "أبي الفضل كاظمي" و"رمضاني" تمزّقا من الخلف إربًا إربًا وسقطا صريعين. لقد شكّلوا درعًا لنا فهرعنا إلى

 

349

 


337

..وفاحت عطور العشق

خلف الساتر حيث أشار السيّد "أبو الفضل".

 

بدأت المواجهات، فكنّا نحن في مقابل الدبّابات. لم نشاهد هناك أيّ جنديّ، وأينما نظرنا لم نكن نرى سوى الدبّابات والدوشكا.

 

أظنّ أنّنا بقينا نقاتل بشكل متواصل إلى قرابة العاشرة صباحًا. كانت الدبّابات تتقدّم خمسًا خمسًا لتكبّدنا الخسائر. وكنّا نحن نرميها بكلّ ما تيسّر لنا؛ لكن هل كانت لتنتهي وتنفد؟

 

في تلك الأثناء، جاءت مجموعة من رماة الـ"B7" التابعة لكتيبة "الشهادة". وفي ظرف دقيقة واحدة، أصابوا ثلاث دبّابات، فتحسنّت الأوضاع قليلًا.

 

في وضح النهار تبيّن لنا بأنّهم نصبوا منصّات لدبّاباتهم وذلك حتّى تصعد بسهولة وترمي، ثمّ تعود إلى خلف الساتر. وقد تركوا بين السواتر مساحة 100 متر خالية وذلك ليتمكّنوا من إرجاعنا القهقريّ.

 

في خضمّ المعركة رحت أفتّش [عن شيء أرميهم به]، فوجدت قاذف "B7" وبعض القذائف، وبدأت بالرمي. في موضع ما، رأيت "عزيز رحيمي" وقد سقط أرضًا. لم يكن على ما يُرام، فقد أُصيب برصاصة وساءت حاله فقال: "سيّد، اسحب الإخوة إلى خلف الساتر".

 

حملت قاذف الـ"B7"، واعتليت الساتر مناديًا الإخوة: "يا شباب، ليلتجئ الجرحى والسالمون منكم إلى خلف الساتر..".

 

بعد ذلك وضعت قذيفة الـ"B7" في رأس القاذف، وقبل أن أطلق أصابت رصاصة كتفي، فرميت، لا شعوريًّا، القاذف من يدي وسقطت على كتف الساتر. انتشر الألم في سائر أنحاء جسمي.

 

ارتميت لبضع دقائق خائر القوى، لا أعي شيئًا. بعدها نهضت وأردت

 

350

 

 


338

..وفاحت عطور العشق

أن أضمّد جرحي بمنديلي اليزدي؛ لكنّني لم أستطع أن أعقد المنديل بيد واحدة.

 

رحت أضغط على الجرح. شعرت بشلل نصفي تقريبًا، وتعطّلت يدي. كما سقط الإخوة حولي جرحى وممزّقين. واحد أُصيب في يده، وواحد في رجله، وثالث استُشهد، ورابع راح يئنّ من شدّة الألم ولا يعي ما يقول: "بحقّ كلّ ما هو مقدّس عندك، بحياة أمّك، انقلني من هنا".

 

عَبَرَ بعض الإخوة من جانبنا جريًا متّجهين نحو الخطوط الخلفيّة. وسقط عالم دين يعتمر عمامة سوداء، وراح "محمود عطايي" يلتقط صورًا لأجساد الشهداء بسرعة.

 

استجمعت كلّ قواي لأنهض وأرجع إلى الخطوط الخلفيّة، وإذا بالسيّد "حَسَني" يأتي إليّ، يأخذ بيدي ويقول: "سيّد ما الذي أصابك؟".

 

وبينما كنت أوضّح له كيف أُصبت، صرخ فجأة: "آخ احترقت".

 

سقط واستُشهد على الفور. لم أستطع الإمساك به، سقط بكلّ ثقله أمام قدميّ. ولقد اخترقت رصاصة قلبه من الخلف. وحيث إنّي لم أكن أستطيع فعل شيء، تركت السيّد وسرت بضع خطوات نحو الخطوط الخلفيّة. ومن جديد التقيت بـ"عزيز رحيمي" فقال: "لم يبقَ لدينا سوى عشرين من العناصر".

 

حين رآني، تقدّم نحوي. أخذ المنديل وربط به جرحي. كان المنديل ممتلئًا بالدماء. قال عزيز: "علينا أن ننقل هؤلاء الجرحى إلى الخلف، أمّا الشهداء، فننقلهم فيما بعد".

 

في تلك الأثناء وصل اثنان من فريق الإنقاذ وتوجّها نحو الجرحى بحمّالتين. كما وصل إلينا أيضًا كلّ من "محمود جوليده" وكان مصابًا

 

 

351

 


339

..وفاحت عطور العشق

والحاجّ "همّت علي" وهما بحالة يُرثى لها.

 

قال عزيز: "سيّد، تعالَ وساعد ناقلي الجرحى".

 

ذهبنا، فأخذ كلّ واحد منّا بيده السليمة قبضة من قبضات الحمّالة، أنا والحاجّ "همّت" من ناحية، و"محمود جوليده" وشخص آخر من الناحية الأخرى، وانطلقنا نحو الخطوط الخلفيّة.

 

كما لحق بنا بعض الجرحى ممّن استطاع المشي. ما إن خطونا بضع خطوات حتّى رأينا عددًا من الشهداء.

 

على مسافة خمسمئة متر إلى الوراء، صرخ أحد الإخوة فجأة وقال: "الدبّابات، الدبّابات آتية". استجمعنا كلّ قوانا وبدأنا بالجري بعيدًا.

 

وبينما كنت أجري، استدرت ونظرت خلفي، فرأيت الدبّابات وقد ضغطت على دوّاسة البنزين. شرعت تتقدّم بشكل متعرّج ومتمايل، وتسحق كلّ ما تجده في طريقها. كما راحت القذائف المدفعيّة تسقط علينا بالعشرات فيغطّي الدخان والنيران كلّ مكان. وصلنا إلى قناة مائيّة. أردنا أن نتذاكى وأن لا نهدر وقتنا في القناة؛ فعبرناها، وإذا برصاصة تصيب فجأة رجل الحاجّ همّت علي، فيترك الحمّالة ويجثو على ركبتيه؛ لكنّه يعود ويقوم من جديد.

 

بعدها، أصابت رصاصة يدي؛ تلك اليد المجروحة نفسها. أحسست بألم وحريق كبير، ولا شعوريًّا التوت يدي إلى الخلف وشعرت بشللها بنحو تامّ. انقطعت أنفاسي من شدّة الوجع. لكنّني لم أترك الحمّالة. كما أصابت رصاصة يد محمود. فتشبّث بالحمّالة أكثر. أمّا الجرحى فوقها، فتقطّعوا إربًا إربًا. ومن شدّة هلعنا، لم نتركهم أرضًا بالرغم من معرفتنا بأنّهم استُشهدوا.

 

352

 

 


340

..وفاحت عطور العشق

راح الحاجّ "همّت علي" يجرّ قدمه على الأرض بصعوبة، ويتقدّم معنا خطوة خطوة بمعاناة كبيرة.

 

إلى الخلف قليلًا، وضعنا الحمّالات على الأرض. حيث تركتنا الدبّابات بعد عبور القناة، وتخلّصنا من نيرانها المباشرة. وبقي رصاص الدوشكا والـBKC ينهمر علينا.

 

جلسنا إلى جانب ساتر ترابي. سقط الإخوة في حالة إعياء شديد. جاء أحدهم إليّ مثل يد الغيب، لا أعلم من أيّ جهة، وربط جرحي بالكوفيّة. رفعت رأسي؛ رأيت وجهه معتمًا وملخبطًا. شعرت بدوّار وغبت عن الوعي. وحده أزيز الرصاص ظلّ يتردّد في أذنيّ. لا أعلم كم من الوقت بقيت مطروحًا على الأرض. عندما أفقت، كنت وحيدًا. والإخوة جميعًا قد غادروا. كان هناك حمّالة واحدة إلى جانبي وعليها شهيد مرمّل بدمائه ومقطّع إربًا. لربّما تركوني ليُرجعني نَقَلَة الجرحى إلى الخلف.

 

بعد بضع دقائق، جاء شخصان يجريان وهما ينقلان جريحًا إلى الخطوط الخلفيّة. مرّا من جانبي. نهضت بعد جهد جهيد، ورحت أسير مترنّحًا في الطريق إلى الخطوط الخلفيّة، إلى أن وصلت إلى حافّة الموقع المائي الـ"بد". كان عباس كريمي هناك أيضًا. بقي قاربان أو ثلاثة على حافّة الـ"اليابسة". وعلى ما يبدو أنّها كانت القوارب الأخيرة. كان جثمان داوود عابدي مرميًّا إلى جانب الـ"بد".

 

ركبتُ ومحمود و"أصغر أرس" وثلاثة أو أربعة أشخاص في القارب. حمل شخصان جثمان "داوود عابدي" ووضعوه في القارب.

 

امتلأ القارب وأصبح ثقيلًا. توقعنا بين لحظة وأخرى أن يجنح وينقلب في الماء. صاح أحدهم: "تحرّكوا، فالدبّابات تأتي من خلفنا".

 

353

 

 


341

..وفاحت عطور العشق

كان "عزيز رحيمي" يتكلّم بسرعة مع "عباس كريمي" ويقول: "هيّا بنا نذهب، الآن يأتون..".

 

وعبّاس يهزّ برأسه معترضًا ويقول: "اذهب أنت!".

 

وبقي حيث ...

 

صعد "عزيز رحيمي" مع عامل الإشارة إلى قاربنا. وكانت القوارب الأخرى قد امتلأت وغادرت. لم يعد أمامنا متّسع من الوقت؛ فالدبّابات كادت تصل إلى حافّة الماء. حين الانطلاق، قال أحدهم: "فليترجّل البعض منكم، فقد ينقلب القارب ونغرق جميعنا".

 

كان عدد منهم يضحكون في تلك الأوضاع وقد جلسوا ثابتين في أماكنهم. فقال أحدهم وكان ضخم البنية: "على السادة أن يغادروا أوّلًا، لأنّ السادة مقدّمون على غيرهم".

 

قلت: "يا عمّ، أنت لوحدك تعادل ثلاثة".

 

فضحك الجميع، وفي النهاية، لم يترجلّ أحد وانطلق القارب بكلّ ثقله. كانت بعض الجثث عائمة على وجه الماء فأزاحها القارب جانبًا. عندما استدرت لأنظر إلى حافّة الـ"بد"، رأیت عباس كريمي واقفًا على الحافّة. لا أدري لِمَ لم يأتِ معنا. ولم أعد أراه بعدها، فقلت في نفسي: إنّ شهادته حتميّة.

 

لم نكد نبتعد عن الساحل حتّى ظهرت مروحيّة صغيرة وأطلقت بعض الصواريخ في الماء. التصقتُ بأرض القارب. ومن ثمّ انخفضتْ وأمطرتْ سطح الماء والقوارب بنيران رصاصها.

 

حمينا رؤوسنا بأيدينا، وجلسنا القرفصاء. أُصيب واحد أو اثنان من الإخوة. كما أصابت رصاصتان جثّة داوود، ورصاصتان أخريان أرض

 

354


342

..وفاحت عطور العشق

القارب. صار الماء ینبع من أسفل القارب مصدرًا صوت بقبقة. رفعت رأسي فرأيت الدبّابات تهدّف علينا. سقطت ثلاث قذائف وسط الماء وانفجرت. فتعثّر القارب وتمايل يمنة ويسرة. انعطف قارب أو قاربان خلفنا إلى إحدى القنوات للاحتماء.

 

قلت للسائق: "بحياة أمّك، أسرع، الآن نكاد نذرّى كلّنا في الهواء".

 

كان السائق المسكين خائفًا، فكان يأخذ القارب يمنة ويسرة. قال: "لقد رأى هؤلاء جهاز اللاسلكي، فظنّوا أنّه قارب القيادة".

 

اقترب القارب من حقول القصب. استندت إلى حافّته ورحت أنزح الماء منه بيدي السليمة وأرميه خارجًا. فقد اجتمع الماء في قعر القارب، وضاعف من إمكانيّة أن يصبح أكثر ثقلًا في كلّ لحظة. هبّ الإخوة للمساعدة، وراحوا ينزحون الماء بأكفّهم؛ لكنّ الماء ظلّ يعلو ويرتفع. شارفنا على الغرق. قرأنا التشهّد. خلع أحد الإخوة، وكانت حاله الصحيّة أفضل من الجميع، سترته الواقية من المطر وربط الكمّين، وجعلها ككيس، ومن ثمّ راح يملأها بالماء ويرميه خارجًا. وقد كرّر هذا الأمر لمرّتين. في المرّة الثالثة، تمزّق الكُمّان فرحنا نضحك بشدّة. لم نستطع رغم تلك الحال المزرية أن نمنع أنفسنا من الضحك! قال أحد الإخوة: "لا تضحكوا، الزموا الصمت فالقوارب العراقيّة تتبعنا. وبالفعل تبعتنا ثلاثة قوارب كبيرة مجهّزة بمعدّات وبرشاش (bkc). عديمو المروءة، عرفوا أنّه لا يوجد غيرنا في حقول القصب؛ فأتوا ليصفّوا حسابهم معنا.

 

دخل القارب عدّة مرّات في حقل القصب وخرج. أصبحنا وكأنّنا نلعب الغمّيضة مع العراقيّين. من ناحية أخرى بدأت الدماء تنزف من الأجساد وبدأ الألم يشتدّ شيئًا فشيئًا. ابتلّت ملابسنا وأجسادنا بالماء وأصبحنا نرتجف كشجر الصفصاف. بدأتُ أرى الأشياء مظلمة من حولي، وأحسست

 

355


343

..وفاحت عطور العشق

بعطش قاتل. مددت يدي إلى مياه الهور وشربت منه غرفة، فإذا رائحته رائحة نفط. أمسك أحد الإخوة بيدي وقال: "لا تشرب الماء... فإنّك إن شربت تموت. إنّك تنزف".

 

قرأت آية السدّ وصلّيت على محمّد وآل محمّد. الموت صعب، لكنّه جميل. أمّا الأسر فأصعب من الموت.

 

واقعًا، أحببت في تلك اللحظة أن أستشهد ولا أقع أسيرًا بيد العراقيّين.

 

قال أحد الإخوة: "إن أسرونا، فسيضربوننا في البداية ضربًا مبرّحًا. فمع هذه اللحية وهذه الهيئة سيظنّون أنّنا على قدر من الأهمّيّة. وسيكون موتنا حتميًّا".

 

بقينا لنصف ساعة لائذين بالصمت في حقل القصب، إلى أن قال سائق المركب: على ما يبدو أنّهم لم يرونا. لا حسّ لهم. والظاهر أنّهم غادروا المكان".

 

عند العصر، وصلنا إلى حافّة الـ"بد" موقعنا وساحلنا. فوجدنا القيامة قائمة حقًّا.

 

كلّ من استطاع، التفّ وذهب. أمّا الجرحى فكانوا مرتمين على الأرض ينازعون، وينتظرون سيّارات الإسعاف، ويئنّون. في تلك الأثناء، صاح أحدهم: ماذا عن "عباس كريمي"؟ هل يعلم أحدكم عنه شيئًا؟

 

قلت: "اصرف النظر عنه. يقينًا استُشهد. لقد رأيت بأمّ عيني الدبّابات وهي تحيط به".

 

أخذ الحاجّ "أكبر نوجوان" بيدي وساعدني على الخروج من القارب. جاءت سيّارة الإسعاف، فنقلونا إليها لتقلّنا إلى المستشفى الميداني في خطّ "جفير" الخلفي.

 

356

 

 


344

..وفاحت عطور العشق

هناك ضمّدوا جرح يدي، وبعد التماس وإصرار أعطوني حقنة مسكّن. فغططت في نوم عميق من شدّة التعب والإعياء. لم أعِ من أخرجني من هناك وأركبني السيّارة من جديد ونقلني إلى مستشفى "الإمام الحسين" عليه السلام في "الأهواز". عندما أفقت، وجدت نفسي في نادٍ رياضي، وفهمت من السقف والمصابيح الموجودة بأنّني في نادي الأهواز الرياضي، ذاك النادي نفسه الذي كنت قد ذهبت إليه في عمليّات رمضان.

 

عند المساء اجتاحني الوجع من جديد. كما كان هناك عدد من الجرحى ممدّدين حولي يئنّون.

 

نهضت وذهبت إلى الطبيب وقلت له: "أريد حقنة أو حبّة مسكّن. فقد أتلفني الوجع".

 

حقنني بإبرة مسكّن، لكنّني لم أنم. كنت قلقًا على الإخوة؛ "محمود جولیده"، "حسين طاهري"، "غلام غلياف"، "تقي غلام نجاد"، "الحاجّ همّت علي" وباقي أبناء الأحياء الطهرانيّة.

 

عند الصباح، اتّصلتُ بمنزل "رضا طلا" وأخبرت فاطمة بإصابتي. كانت فاطمة تتوقّع بعد كلّ مشاركة لي في العمليّات أن أخبرها بأنّ رجلي قد قُطعت. كانت خائفة فقالت بصوت مرتجف: "هل قُطعت رجلك؟".

- لا، لم تُقطع رجلي. إنّما رصاصتان أصابتا يدي.

- حسنًا، رصاصة ورصاصتان هما من لوازم الأمر، لكن أصدقني القول؛ هل رجلك سالمة؟

- نعم، كوني مطمئنّة.

- متى ترجع؟

- بعد يوم أو يومين.

 

357

 

 


345

..وفاحت عطور العشق

وودّعنا بعضنا البعض.

 

في الليلة الثانية، نُقلت بسيّارة إسعاف إلى مطار "دزفول". رأيت الطهرانيّين مجتمعين هناك، وكأنّني كنت آخر الواصلين.

 

وصلت طائرة نقل تابعة للجيش. فأُدخلنا جميعًا إليها. كنّا ما بين الأربعمئة والخمسمئة شخص. والجميع خائرو القوى، متلفو الأعصاب. من بين المصابين جريحان أو ثلاثة قد أُصيبوا بعصف انفجار، فراحوا يكيلون الشتائم لقائد الطائرة ويقولون له: زد من سرعتك يا سيّد، زد من سرعتك! وإذا ما بادر أحدهم في تلك الأثناء ليعظهم ويذكّرهم قالوا له: أقفل فمك يا بائع اللبن...[1]

 

بعد ساعة، هبطت الطائرة في مطار طهران. بعدها بدقائق جاءت طيّارة أخرى فقال أحد الإخوة الموجودين بالمطار: "اصعدوا على متن تلك الطائرة، سيتمّ نقلكم إلى مشهد".

 

اجتمعنا نحن المحنّكين والأكبر سنًّا وكلّنا طهرانيّون وقلنا بصوت واحد: "لا طاقة لنا يا سيّد، ولن نترجّل. أنزلنا هنا في طهران، لن نذهب إلى مشهد".

 

تقدّم أحدهم نحونا وقال: "اسمعوا الكلام، وإلا عاملناكم بأسلوب آخر؟".

 

قال السيّد تقي له: "أقفل فمك يا بائع اللبن".

 

ضحك الجميع، اعترض الأخ، واحتدم الجدال، وحصل شجار ونزاع.

 

قال أحد الإخوة له: "يا عديم المروءة، لقد عاد هؤلاء للتوّ من الحرب... وجميعهم مصابون، بأيّ داعٍ ستنقلون شباب طهران إلى مشهد؟".

 

 


[1]  كنايه عن الشخص الذي لا رأي له في أمر خاصّ، ويبدي رأيه فيه.

 

358


346

..وفاحت عطور العشق

جاء شخص آخر وقال: "لا تنزعجوا، أنا سأصلح الأمر. ترجّلوا الآن من الطائرة؛ ومن ثمّ أبدوا اعتراضكم على الذهاب إلى مشهد".

 

ترجّلنا نحن الثلاثين أو الأربعين فردًا من الطائرة، وافترشنا الأرض هناك وسط المطار.

 

مرّت ساعة. جاء كثيرون وحاولوا إقناعنا بطريقة وبأخرى، فلم يفلحوا. وقلنا لهم: من المستحيل أن نذهب إلى مشهد.

 

جاؤوا بحافلة. أركبونا فيها ونقلونا إلى قاعة. وضعوا قدرين على النار أعدّوا فيهما الشاي وقدّموه لنا مع الجبن والخبز الإفرنجي.

 

لم نكن قد تناولنا الشاي منذ عدّة أيّام، وكنّا جائعين جدًّا. التهمنا الخبز والجبن بنهم شديد، فاستعدنا شيئًا من طاقتنا وقوّتنا.

 

جاء الطبيب وأراد تصنيف حالاتنا. وجاء معه ذلك السيّد السيّئ الأخلاق، وراح يوجّه الطبيب ليتعامل معنا بشكل سيّئ، ولا يسمح لنا بالتمادي كثيرًا.

 

فكتب الطبيب بدوره: ليُحوّل هذا وهذا وهذا إلى المستشفى رقم 2 في جادّة "كرج".

 

تقدّمت منه وقلت: "اسمع أيّها الطبيب العزيز، أنا أتكلّم بلسان هؤلاء. لن نذهب إلى "كرج". ما أنت فاعل؟ أرسلنا إلى طهران، وانتهى الأمر. وبالمناسبة، خالي طبيب في مستشفى "الشفاء"، وأريد أن أذهب إلى هناك".

 

حوّلني الطبيب أنا وأربعة من الإخوة إلى مستشفى الشفاء. وهناك افترقنا عن الرفاق.

 

359

 

 


347

..وفاحت عطور العشق

قرابة الساعة العاشرة صباحًا، نقلونا بسيّارة الإسعاف إلى مستشفى الشفاء. وكانت يدي وصدري من الجهة اليسرى قد تورّما وأصبحا كالمخدّة. أُجري لي عدد من صور الأشعّة، لكنّهم لم يقولوا شيئًا. قرابة الظهر، أجريت اتّصالًا هاتفيًّا بالمنزل. فجاءت فاطمة بعد الظهر إلى المستشفى لرؤيتي برفقة "محمود كلهر"، و"علي جمشيدي"، و"الحاجّ حسن کنجی زاده"، وهم من شباب الهيئة.

 

لم يمرّ وقت قصير حتى عادوا وأجروا لي صورتين وقالوا: إنّ الرصاصة أو الشظيّة لم تظهر في الصورة. قد تكون دخلت من تحت الإبط وخرجت من جانب عظم الترقوة؛ لأنّ مكانها ظاهر لكن هي نفسها غير ظاهرة. وقد ظهر ثقب تحت الإبط وثقب آخر فوق الترقوة.

 

إلى حين العمليّة شُدّت إلى يدي جبيرة وعُلّقت إلى رقبتي.

 

يومذاك جاء عدّة أشخاص من عائلة "داوود عابدي" وأصدقائه لعيادتي.

 

كان المستشفى ملاصقًا لمنزل الشهيد رجائي. وقد ظهر حائط بيت الشهيد رجائي من نافذة الغرفة التي أرقد فيها. فكنت كلّما وقع ناظري على ذلك الحائط، تذكّرت رئيس الوزراء وأيامي الخوالي مع الحاجّ قاسم والشهيد رجائي.

 

في الصباح الباكر من اليوم التالي تناهت إلى سمعي جلبة آتية من ناحية ممرّ المستشفى، وكان الممرّض يقول: "ليس الوقت وقت زيارة". بعدها، دخل "مجيد سيب سرخي" و"رضا بور أحمد" بلباسهما العسكريّ مضطربين.

 

قلت: "ما الخبر؟".

 

 

360

 


348

..وفاحت عطور العشق

- لقد استُشهد "حسن بهمني" في القصف الجوّي. وصديقا حسن الحميمان، "كاظم رستکار" و"ناصر شیري"، تحوّلا رمادًا ولم يبقَ لهما من أثر. يتمّ الآن تشييع جثمان "داوود عابدي" و"حسن بهمني" في "بهشت زهراء".

 

كنت موقنًا بأنّ حسن راحل لا محالة. وأيّ رحيل! ولم أكن أحتمل عدم المشاركة في تشييعه.

 

لم أعد أطيق صبرًا. قلت: هؤلاء لن يسمحوا لي بمغادرة المستشفى. نهضت من سريري، وضعت رجلي على حافّة النافذة، ونزلت إلى سور بيت الشهيد "رجائي".

 

في الجانب الآخر من السور، كان هناك برميل حديد. وضعت رجلي الأخرى عليه وقفزت إلى الزقاق الخلفي، حيث جاء الإخوة بالسيّارة.

 

في البداية، ذهبنا إلى محلّة "نازي آباد" لتشييع الشهيد "داوود عابدي". معظم الحاضرين كانوا من شباب الهيئات. وأُجري له تشييع مهيب. لقد دُفن داوود تحت التراب بعالم من الصفاء والإخلاص ودمع العين وحرقتها. ولقد خسرنا رفيقًا كبيرًا، فكنّا ملتاعين لفراقه. بقي أبوه الحاجّ عباس، صاحب القلب الكبير وحيدًا. وقُدّر لأخيه حميد، وابنه أمير حسين أن يربّيا يتيمين.

 

اجتمعت حشود غفيرة في "بهشت زهراء"! كانت أصوات التكبير تصدح في المكان، ولم تكن تجد محلّ إبرة فارغًا. ما إن رآني بعض أهالي الشهداء الذين بقيت أجسادهم في أرض المعركة، حتّى جاؤوا إليّ. بادرتهم إلى الكلام قائلًا: "لقد تلقّوا رصاصة الخلاص في الجزيرة. اقطعوا أملكم منهم. على أيّ حال، الميدان الآن في يدنا".

 

361

 

 


349

..وفاحت عطور العشق

كان الحاجّ جمشيد، والد حسن، من أبطال وفتوّات العصر. جلس على قبر ولده وقال: "لا نريد رأسه. أتخيفوننا من الرأس المقطوع؟

 

لو كنّا نخاف من الرأس المقطوع لما رقصنا في محفل العشق.

 

خذوه لِمَ أتيتم به؟".

 

يا له من رجل، ويا له من يوم ذاك اليوم.

 

ما إن رآني الحاجّ "جمشيد" حتّى تقدّم نحوي، احتضنني وتوجّه للحشود قائلًا: "هذا من أبناء محلّتنا ورفيق حسن؛ يريد أن يحدّثكم عنه".

 

أعطوني مكبّر الصوت، فرحت أقصّ، وأنا في لباس المستشفى ويدي معلّقة إلى رقبتي، على مسامعهم قصّة وداعي الأخير لحسن. وذكرت الشهداء بالخير.

 

بعد انتهاء مراسم التشييع، أوصلني مجيد ورضا إلى أمام باب المستشفى. عندما دخلت ورآني الممرّض قال: "إِ.... أين كنت؟".

- في فناء المستشفى.

- يريد الطبيب معاينتك.

 

جاء الطبيب، نظر في يدي وقال: "الاحتمال الأكبر أنّ العصب والعظم سالمان ولم يتأذّيا".

 

في اليوم الثاني للعيد (نوروز) العام 1363/1985م، خرجت من المستشفى وقضيت كلّ فترة العيد في البيت. فكان من بقي حيًّا من كتيبة "ميثم" يأتِي لعيادتي.

 

لم تتحسّن حالي. بل شعرت أنّ يدي مشلولة تمامًا، وكنت للتوّ أستطيع التحكّم بها من المفصل، أمّا كفّي وأصابعي فكنت لا أشعر بهما، وعشت

 

362

 

 


350

..وفاحت عطور العشق

تلك الفترة على الأدوية والمسكّنات. وصف لي الطبيب جلسات علاج فيزيائي. فانشغلت كثيرًا بهذا العلاج.

 

بعد عطلة العيد، صرت كلّ يوم أذهب إلى قسم العلاج الفيزيائي في مستشفى الشفاء، فكان هناك ممرّضة تدعى السيّدة "كاشاني" هي التي تتولّى تدليك يدي. وهناك أحواض صغيرة من الماء يُضخّ إليها الماء بشكل مضغوط، فكنت أدخل نصف جسدي في الماء لأدلّك يدي عن طريق ضغط الماء. علمت السيّدة كاشاني بطريقةٍ ما أنّني من أهل الشعر، فأصرّت عليّ أحيانًا وطلبت منّي أن أنشد أشعار حافظ.

 

فأجبتها، وقرأتُ لها بعض الأشعار.

 

أثناء متابعة العلاج، تابعت أيضًا أعمال مراسم مجالس الفاتحة والليلة السابعة وليلة الأربعين للشهداء من أبناء محلّتنا. وقد بذلت جهدًا في مساعدة الإخوة حتّى لا يبقى شيء من أمور الشهداء عالقًا. لكنّني كنت مصدومًا من الناحيتين الروحيّة والنفسيّة، كذا الجسديّة. فلوعة الرفاق كدّرت كياني؛ أبطال لا نظير لهم أمثال "علي رمضاني"، "حجّت أمير صوفي"، "أكبر بشت كوهي"، "عباس دائم الظهور"، "سعيد طوقاني"، "مهدي بور صالح"، "هاشم حمّامي"، "حجّت الإسلام حسني"، "حجّت الإسلام موسوي جزائري"، "داوود عابدي" و"السيّد أبي الفضل كاظمي" الذي حرق قلوب شباب الكتيبة أكثر من باقي الرفاق، وقلب حامل لوائها "عزيز رحيمي"، وما زالت لوعته تستعر في القلوب إلى اليوم.

 

بعد شهرين أو ثلاثة، تمكّنت شيئًا فشيئًا من تحريك إصبعين من أصابع يدي. ذات يوم عدت إلى البيت مسرورًا ضاحكًا وقلت لفاطمة: "انظري يا فاطمة، أصابعي تتحرّك وأستطيع رفع يدي إلى الأعلى!".

المسكينة، هي الأخرى فرحت لهذا الأمر.

 

363

 

 


351

..وفاحت عطور العشق

انشغلتُ لسبعة أو ثمانية أشهر بمتابعة العلاج وزيارة الأطبّاء. وقد أظهر الرفاق محبّتهم وودّهم، فظلّوا يأتون كلّ يوم صباحًا على الدرّاجة الناريّة ويأخذوني إلى مركز العلاج الفيزيائي حتى تمكّنت في نهاية المطاف من رفع يدي فوق كتفي.

 

ذات يوم علمنا بأنّهم يريدون إحياء ذكرى الشهداء في نادي قاعدة "وليّ العصر" للزورخانه. فذهبت مباشرة إلى الزورخانه، وتقرّر أن نحضر بعض عوائل شهداء "بدر"؛ كوالد الشهيد "حسن بهمني"، ووالد الشهيد "جابري"، ووالد الشهيد "عابدي"، ووالد الشهيد "رنجبران"، ووالد الشهيد "شاه مرادي"، وكثيرين مع آباء آخرين، ليزيّنوا المجلس ويضفوا عليه رونقًا.

 

اجتمع معظم المجاهدين، وجرى أداء عرض في رياضة الزورخانه. ومن ثمّ قمت أنا الحقير بالدعاء في دور قدامى هذه الرياضة؛ على الرغم من وجود "حسين کیل" ورياديّين فيها من أمثال الحاجّ "محمّد خوش جان" الذي كان بحقّ من أقوى مديري العصر الرياضيّين وعارفًا بفنّ الزورخانه.

 

في تلك الفترة، بُذلت جهود كثيرة من أجل الرياضة القديمة، ومن ثمّ أصبحت مظلومة ومجهولة. وقد جاء أشخاص لا يميّزون بين سيخ الحياكة وهراوة الزورخانه.

 

لقد حفر العشق جبل "بيستون" ونال فرهاد شهرة ذلك

                                        عانى البلبل معاناة الوردة ولم يلقَ سوى الهباء

 

364

 

 


352

للعرفان لونٌ واحد

للعرفان لونٌ واحد

.. متى تنحلّ العقدة من القلب

 

بعد عمليّات بدر، وبإصابة "عزيز رحيمي" واستشهاد السيّد "أبي الفضل كاظمي"، انفرط عقد كتيبة "ميثم" تقريبًا. ومعظم من بقي من هذه الكتيبة أمسى جريحًا، ولم يكن لهم تشكيل منسجم ليمكّنهم من تأسيس كتيبة أخرى. لهذا السبب، دُمجوا في كتيبة "المقداد" التي كان يقودها "أحمد نوزاد" و"علي جزماني". لكنّ عشق ميثم وذكرى ميثم والأيّام التي قضاها الإخوة فيها معًا، بقيت حيّة في القلوب.

 

بالتزامن مع هذه الافتراقات[1]، شكّل قرابة الأربعين نفرًا من الشباب المصرّين كثيرًا على إعادة إحياء ميثم، لواءً عُرف بـ"لواء الحرّ" بقيادة الأخ "حسين الله كرم"، وكانت مهمّته جمع المعلومات للعمليّات. كنت على معرفة بمعظم شبابه، فأغلبهم من المحلّة نفسها، ومن ذوي التوجّه والمسلك نفسه. وقد أسّس مقرّ مشابه لهذا اللواء في الجنوب باسم مقرّ نصرت "النصرة" ومهمّته استطلاع منطقة الهور، وكان مسؤوله "علي هاشمي". تأسيس هذا المقرّ كان من ابتكارات "محسن رضائي".

 

 


[1]  ربما قصد التغييرات ورحيل واستشهاد أخوة وجرح آخرين وترك بعضهم..

 

365


353

للعرفان لونٌ واحد

وأنا بدوري، التحقت بلواء "الحرّ" لوجود أولئك الرفاق فيه. كنت على معرفة جيّدة بحسين. فنحن من أبناء الجلدة نفسها، وترعرعنا في الزقاق نفسه. كان حسين شابًّا ذكيًّا، مؤمنًا، واقعيًّا، مخلصًا، وذا تدبير. هيئته رجوليّة وبطوليّة، ووجهه جذّاب. أما أداؤه فممتاز في الرياضة التراثيّة القديمة. ولم يكن أحد يتفوّق عليه في لعبة "البینغ بونغ".

 

وإضافةً إلى كونه رائدًا في معلومات العمليّات، جمع حسين حوله فريقًا قويًّا جدًّا من النخبة في هذا الحقل. ومن ذوي الخبرة في استطلاع الجبهة العراقيّة. إلى جانب هذه الأمور، كان يوجد نوع من العرفان الخاصّ في سلوك حسين وتصرّفاته، ولربّما أخذه عن والده. وباعتقادي، لو لم يدخل حسين عالم السياسة، لبقي إلى نهاية الدنيا بطلًا بالنسبة لإيران والإيرانيّين.

 

والد حسين "شوقعلي شاه" من الدراويش "الخاكساريّين"، وقد عمل فی تصليح الأحذية. ومنذ أن أصبحتُ في شبابي رفيقًا لخالي "السيّد علي"، انتعلت الحذاء الكتّاني، ومنذ أن همت في وادي العرفان، تعرّفت عن طريق حسين إلى "شوقعلي شاه". فأصبحت من مريديه، وكذا صرت أشتري أحذيتي الكتّانيّة من دكّانه.

 

لقد حيّرني وأسرني دكّان "شوقعلي شاه" المتواضع وحياته البسيطة. وخلافًا للكثير من أهل هذا المسلك الذين يفتتحون دكاكين من الدروشة، كان سليمَ النظر والفكر. ولم يملك سوى حجرة صغيرة في مستديرة "قيام"، فكان يخيط الأحذية من الصباح حتّى المساء. لقد فرّ من الصخب والضجيج، ولم يسعَ وراء الشهرة. في تلك الفترة، حيث الجميع يفتّشون عن شیخ ومرشد، كان في ليالي الذكر يطفئ مصباحه. فلم يتفاخر على الناس أبدًا بنفوذه في الدروشة.

 

 

366

 


354

للعرفان لونٌ واحد

بدوري كنت فضوليًّا، وأردت أن أتعرّف إلى مسالك الطريقة والعرفان. عندما جلست إلى جانبه، راح بوجهه النوراني ولحيته البيضاء يتكلّم معي بغاية التواضع. جلست إليه لمدّة ساعتين، وأُخذت بكلامه العرفانيّ؛ لكنّه نادرًا ما كان يرفع رأسه وينظر في عيني. لم أرَ إنسانًا خجولًا إلى هذه الدرجة.

 

عندما سألته "لِمَ أطلقت على نفسك لقب الشاه؟" قال: "إنّني أخيط الأحذية منذ خمسين عامًا. لم أسمح لمريدي أن يضع قرشًا في جيبي. فلست أسعى خلف التجارة والربح. أريد أن أكون ملك مملكة وجودي وحسب. فأستطيع أن آمر عينيّ بما ينبغي أن تنظرا إليه وما لا ينبغي أن تنظرا إليه. أن آمر يديّ ورجليّ. أن أكون مسيطرًا على نفسي لتكون تحت تصرّفي. أن يكون زمام وجودي بيدي وأقوده بنفسي..". عرّفني "شوقعلي" إلى الفرق الثلاث؛ "الملامتيّة"، و"الذهابيّة"، و"الخاكساريّة".

 

ذات يوم سألته "كيف يمكن لي أن أصبح عارفًا؟"، فقال: "إذ أردت أن تكون عارفًا فعليك أن تعرف الطريقة، والشريعة والحقيقة. فالطريقة لوحدها ليست عرفانًا؛ بل تجارة. عندما تدّعي العرفان عليك أن لا تبدّل قالبك وتتلوّن. أن تكون على لون واحد هو الخطوة الأولى.

 

إن أردت أن تكون عزيزًا في هذه الدنيا عليك أن تكون على لون واحد

 

فالسجّادة ذات الألوان الكثيرة تطأها الأرجل

 

كان "شوقعلي" يصنع نعال الأحذية من الملابس القديمة. فكان يفصّلها على قياس الرِّجل، ومن ثمّ يطرقها بالمطرقة إلى أن تصبح قاسية ومتينة. بعدها كان يخيط وجه الحذاء به. في كلّ مرّة كنت أشتري حذاءً قطنيًّا

 

 

367

 


355

للعرفان لونٌ واحد

من "شوقعلي"، كان يعطيني معه كيسًا من "طين الأحذية"[1]. حتّى لقد علّمني كيف أصنع طين الأحذية لتبقى أحذيتي دومًا نظيفة.

 

عندما سلكت طريق الحرب والقتال، تحوّلت من العرفان الذي تعلّمته من "شوقعلي" إلى العرفان الأحمر. ولقد علّمني بأنّ العرفان كلّيًّا ينقسم إلى قسمين: النظري والعملي. العرفان النظري هو الحفظ الظاهري، بأن تقرأ أشعار حافظ وتحفظها، وأشعارًا في مدح المولى أمير المؤمنين عليه السلام وأن تمتلك وسائل الدراويش. لكنّ العرفان العملي هو بأن يكون المرء إنسانًا كاملًا؛ من أهل الذكر، قليل الكلام، من أهل العمل، وأهل المعنى، وطاويًا لمنازل السير والسلوك. لكن إلى جانب هذه الأمور، لم يكن الكثير من العرفاء ومدّعي العرفان يتعاطون شؤون الحرب، ولم يقوموا بأدنى عمل للدفاع عن الدين والبلد والشرف في الزمن الصعب ولم يحاربوا. لقد خبرت العرفان الأحمر في الجبهة. وفهمت مظاهره العمليّة والنظريّة بين جموع المجاهدين، وهذا يعني أن يقرأ العارف أشعار حافظ تحت حمم القذائف؛ أن يقيم مجلس "نادِ علي" في الدشمة المحاطة بالخطر، ويؤدّي صلاة الليل تحت مرمى النيران، وينادي في قلب الليل "يا علي". العرفان الأحمر هو أن تقاتل برجولة في جوّ قارس تنخفض درجة حرارته إلى أربعين تحت الصفر، ومن ثمّ تقوم من جديد لتؤدّي صلاة الشكر.

 

ذات مرّة، كان مقرّ معلومات (استطلاع) عمليّات الحرّ، في سفح مرتفعات "آق داغ" في قاعدة "إسلام آباد". في فترة أسبوع أو أسبوعين

 

 


[1]  يُصنع طين الأحذية بهذا الشكل يؤتى بمقدار من الجبس ويُخلط بقليل من اللاجورد والماء إلى أن يصبح على شكل عجينة ناعمة. ومن ثمّ يُترك تحت الشمس إلى أن يجفّ تمامًا، فيُطرق بالمطرقة إلى أن يتحوّل من جديد إلى مسحوق ناعم. يُدهن خليط هذا المسحوق المبلول بالماء على سطح الحذاء الكتّاني، وبعد أن يجفّ الحذاء يُضرب ببعضه بعضًا ليخرج الغبار ويصبح نظيفًا وذا رائحة جيّدة. يُستفاد اليوم من الكلس لتنظيف الأحذية.

 

368


356

للعرفان لونٌ واحد

قضيتها فيه، لم يحدث حدث مهمّ. وسارت الأمور بشكل عاديّ. كانت الفِرق تذهب ليلًا بالتناوب للقيام بعمليّات الاستطلاع، إلى أن استُشهد أحد شباب المعلومات "علي خرّم دل". وكان معروفًا بـ"علي رزقي"؛ مجاهد عظيم، علاوةً على الجهاد؛ كان من أهل الذكر ومن العاشقين لأشعار حافظ ومولوي، ومن أهل الفضيلة. استأت كثيرًا لسماع خبر شهادته. قرّرت والشباب أن نقيم مجلس عزاء عن روحه في مقرّ معلومات العمليّات نفسه. فتحت قناةً، وأحضرت عن طريق جواد آقا كبيري "السيّد علي النجفي"[1] إلى مقرّ المعلومات ليتحدّث في المجلس المُقام تخليدًا لذكرى علي. فالسيّد كان العالم الوحيد الذي لم يرفض أبدًا الحضور في مجلس المجاهدين كلّما دعوته لذلك، بل أبدى موافقة ورغبة في ذلك. أذكر في العام 1981م حين كنت أفتّش و"حسين محمودي" عن شيخ ندرس العرفان على يديه، ذهبنا بتوجيه من والد حسين إلى هيئة [دينيّة] اتخذت من سرداب واقع تحت بيت "جواد آقا كبيري" مقرًّا لها. و"جواد آقا" نفسه كان وليًّا من أولياء الله ومستجاب الدعوة. امتلك محلًّا لصنع الصابون في شارع "صاحب جمع". وقد تعرّفت للمرّة الأولى إلى السيّد علي النجفي في تلك الهيئة، وصرت أحضر مجلسه.

 

 


[1]  وُلد السيّد علي النجفي في العام 1947م في النجف الأشرف، ودرس في قم وطهران. من الناحية السلوكيّة، كان تلميذًا للمرحوم آية الله السيّد إسماعيل شفيعي، فقال له السيّد شفيعي إنّك وصلت إلى مقام الاجتهاد. من عجائب حالاته أنّه لم يكن يشبع من الصلاة. فحين كان يصل قبل موعد محاضرة ونحوها بدقائق، كان يأخذ ناحية ويشرع بالصلاة إلى أن يحين وقت المحاضرة. في شهري محرّم وصفر، كان السيّد يخوض لمدّة عشرين دقيقة في مباحث التوحيد العميقة قائلًا لا أستطيع البدء من دون الكلام عن التوحيد. وما لم يعمر قلبي، لا أستطيع أن أتحدّث لكم بشيء. من خصائصه البارزة أنّه لم يكن يلتفت في المحاضرات إلى عدد الحاضرين. ولمرّات شرع بإلقاء محاضرته والحضور شخصان. وكان يتكلّم في تلك الحال كما لو أنّه يخطب في ألفي شخص. ويقول إذا كان مجلسنا مجلس علم فإنّ الملائكة تحضره والله سبحانه يبارك فيه. وعندما أخطب إليكم وأتحدّث تنكشف لي مطالب جديدة. انتقل هذا العارف المجاهد إلى الملكوت الأعلى جرّاء حادث سير تعرّض له في شهر أيلول من العام 1992 (أفلاكيان خاك نشين، مؤسّسة شمس الشموس الثقافيّة).

 

369


357

للعرفان لونٌ واحد

كان السيّد علي مختصًّا في العشق والعرفان. ولا يتكلّم في السياسة أبدًا. وإذا ما خاض أحيانًا في السياسة، فإنّه ينتقل مباشرة إلى العرفان. كان عالمًا حسن الحديث والوجه، ذا عينين واسعتين للغاية وجميلتين، ولحية طويلة ووجه جذاب جدًّا. أمّا نظراته فثاقبة إلى درجة وكأنّه يرى ويعلم ما في قلب المرء. حين التقيت به للمرّة الأولى لم أفهم أهو معي أم كان يفتّش عن شيء في عينيّ، فطأطأت رأسي مع كلّ ذلك الادّعاء ولم أستطع النظر في عينيه. كان يميل إلى السمنة قليلًا، یمشي بوقار، ومن شدّة ما يتكلّم بطريقة عرفانيّة تظنّ أنّه في حالة سُكر. لا ينفكّ يذكر أسماء الحقّ تعالى ويشرحها، ويشرح دعاء الجوشن الكبير، ويصل كلّ شيء بالقلب والعشق، ويأخذ المرء نحو الله تعالى.

 

درس السيّد علي في حوزة "قم" العلميّة، وتتلمذ في شبابه على يد "آية الله جوادي الآملي"، وطوى منازل السير والسلوك. كان السيّد علي مجتهدًا، أي إنّه بلغ أعلى المراتب العلميّة الحوزويّة، وبمقدوره الجلوس في الحوزة وتدريس الطلبة من دون مشقّة ووجع رأس؛ لكنّه ذات يوم رأى رؤيا فشعر بعدها بالمسؤوليّة، وعزم على المكوث بين الشباب والحضور في خدمتهم. لم أرَ عالم دين مثله، يخالط الشباب ويتحدّث إليهم ببساطة مع تلك المرتبة والمقام العلمي، ولا يكترث لمسؤوليّة الطرف المقابل ولا لمنصبه ولا لتحصيله العلمي. فالصدق والعلم اللذان تحلّى بهما السيّد علي لم أرَ مثلهما في أحد. كان يتكلّم بشهامة ومروءة ويضرب الأمثال المناسبة. وكان كلامه بسيطًا وجذّابًا يفهمه جميع الناس ويتقبّلونه.

 

أذكر أنّه كلّما سمع اسم الإمام الحسين عليه السلام تغيّرت حاله وانهمرت دموعه بنحو عجيب. وكان في مجالس العزاء يخلع عمامته عن رأسه ويبدو مضطربًا وكأنّه ليس في هذا العالم. كانت دموعه تنحدر مدرارة على

 

 

370

 


358

للعرفان لونٌ واحد

خدّيه، تبلّل لحيته وتتقاطر على عباءته.

 

وقد قال أحد الفضلاء: أشمّ في هذا السيّد رائحة أمير المؤمنين عليه السلام.

 

لقد كان واقعًا عارفًا كاملًا. وإحدى خصائصه الجميلة أنّه كان يلبّي دعواتنا للحضور بين جموع المجاهدين ببشر وجه ومن دون تكبّر أو غرور.

 

بقي السيّد ضيفنا في مقرّ معلومات العمليّات لمدّة أسبوع.

 

في النهار يجول في سفوح الجبال وفي مدينة "سومار"، وفي الليل يحضر بين المجاهدين فيلهب المجلس بالعشق والعرفان. انجذب المجاهدون إلى أمثاله ونكاته العرفانيّة. والمحصّلة، كان مجلسه عبارة عن إنشاد الشعر وتفسير الدعاء والعزاء والقرآن. كان كلّ مجاهد يُعجب به من اللقاء الأوّل.

 

وهناك انتشر ذكره على كلّ لسان. وهو نفسه كان ملتاعًا، فقد استشهد أخوه في الحرب. ذات يوم قال لي: "سيّد أبا الفضل، أنا سعيد لدعوة المجاهدين لي، ولاستطاعتي أن أكون بين الشهداء".

 

بعد رجوع السيّد علي إلى طهران، ناداني ذات يوم "حسين الله كرم" وقال: "سيّد، لقد مضت فترة على وجودك في الجبهة؛ أرى الآن الفرصة مناسبة لتثبيت أقدامنا في الفرقة. وكم هو جيّد أن نجمع الرفاق القدامى والشجعان من كتيبة "ميثم" من جديد. تستطيع أنت القيام بهذا الأمر. فاسمك الذي يماثل اسم قائد الكتيبة السابق "أبي الفضل كاظمي"، وكونك من المحلّة نفسها، سيؤدّيان دورًا في طاعة الشباب لك".

 

في تلك اللحظة، لم أعطِ حسين أيّ جواب. فقلبيًّا، كنت مسرورًا وأقنع نفسي بإعادة تشكيل ميثم، وفكرتُ بأنّني أستطيع القيام بذلك. فقد كان لي وللسيّد "أبي الفضل كاظمي" أصدقاء مشتركون، وكنت على يقين بأنّهم سيأتون ويشكّلون كتيبة "ميثم" من جديد؛ لكنّني لم أقبل بكلام

 

371

 

 


359

للعرفان لونٌ واحد

حسين بنحو قاطع. لربّما كنت أفتّش عن شريك ورفیق. صحيح أنّني شاركت في الجبهة لسنوات كعنصر حرّ، إلّا أنّني قاتلت تحت قيادة أبطال وقادة كبار أمثال "أحمد متوسّليان"، "حسين قجه إي"، "حسن بهمني"، "إبراهيم كسائيان" و"السيّد أبي الفضل كاظمي". وتحصّلت لي خبرة تعادل عشرين سنة فكنت أعرف ما عليّ القيام به؛ لكنّ قيادة الكتيبة، مسؤوليّة خطيرة، وفيها تكون أرواح أعداد كبيرة من البشر بيدك، ولا بدّ أن تُساءل يومًا عن ذلك.

 

فكّرت لأيّام فيما بيني وبين نفسي. كنت أفتّش عن شخص لأسلّمه لواء كتيبة "ميثم". الشخص الوحيد الذي بدا لي هو "أصغر أرسنجاني".

 

كان أصغر من شباب شارع "الطيّب" الواقع في آخر "باغ بيسيم"، أنا من أبناء "كوتشه نقاشها". من حيث السليقة والهدف والمسلك تحلّينا بالطباع نفسها. كان أصغر الولد الثالث في أسرته، ومن أبناء تلك العوائل الأصیلة، وعلى حدّ تعبير الطهرانيّين، "ننه بابادار[1]". أما والدته فهي امرأة مؤمنة، مضيافة، حسنة الأخلاق ومن أهل صلاة الليل وخدمة الناس، ووالده فهو الحاجّ عباس، تاجر من أهل الهيئات الدينيّة، محبّ لعائلته، ومن أهل الشهامة والمروءة في شارع "الطيّب"، والذي لم يقدّم يومًا لقمة مشبوهة لأولاده، وربّاهم في جوّ دينيّ، ودائمًا ما كان الذكر والعشق والهيئات الدينيّة، ومجالس العزاء قائمة في منزله.

 

يصغرني أصغر بسنة أو سنتين. وحاز تلك الفترة الشهادة الثانويّة في العلوم الإنسانيّة. كان متعلّمًا وذا تجربة، وضليعًا في اللغة الإنكليزيّة، في وقت أهمل الناس تعلّمها، ولم يهتمّوا بها. لطالما التقيت به في فترة الثورة وفي المظاهرات. كان شابًّا حسن الوجه بشوشًا يتحلّى بمعنويّات عالية.

 

 


[1]  النجيبة.

 

372


360

للعرفان لونٌ واحد

مضافًا إلى هذه الأمور، كان من أهل الصلاة والهيئات الدينيّة. لقد عمل كثيرًا في بداية الثورة على تهذيب نفسه، والأهمّ من ذلك كلّه، أنّ عشق الإمام الحسين عليه السلام جرى في عروقه، وهذا ما أدّى إلى انسجامي وأصغر أحدنا بالآخر.

 

ازدادت معرفتي به في الحرب، وفي كردستان، وخبرت طينته الرفيعة الشأن أكثر في عمليّات "الفتح المبين"، "بيت المقدس"، وفي لبنان.

 

في "دوكوهه"، كان هناك خمسة أشخاص يُعرفون بـ"البكّائين" على الإمام الحسين عليه السلام؛ وهؤلاء وصلوا في عشقهم للإمام الحسين عليه السلام إلى درجة الجنون. وهؤلاء هم: "أصغر أرسنجاني"، "أمير طهراني"، "مصطفى ملكي"، "حسن شيخ آذري"، و"علي روضه إي"[1]، وأصغر في طليعتهم.

 

كان أصغر في غاية الشجاعة، لا يعرف الخوف طريقًا إلى قلبه، وعاشقًا للشهادة. وقد شهدت هذا العشق والشجاعة اللامتناهين في جميع أفعاله وتصرّفاته؛ وذلك على الرغم من افتراقنا عن بعضنا البعض لفترات طويلة، حيث التحقت في الجبهة كعنصر حرّ، وكان هو يعمل في إطار مؤسّسة الحرس.

 

لطالما رأيته يطالع الكتب، فعرفته من أهل المطالعة والعشق والعرفان؛ وكان يقرأ الكتب التاريخيّة والأخلاقيّة وخاصّة قصص الأنبياء عليهم السلام.

 

سمعت مرّات صوته العذب والجميل بين جموع المجاهدين، فقد تعلّم قراءة العزاء على يدي الحاجّ "محمود آلبالويي"، فصار خبيرًا في هذا المجال. بدا حقًّا من أهل الفتوّة والمروءة، يلفّ الكوفيّة حول رقبته، ويحمل المنديل اليزديّ، ويتختّم بخاتم عقيق. كان من أهل العشق والصمت والسكوت، مرح الطباع، ومن أهل

 

 


[1]  استشهد البطل حسن شيخ آذري في دفاعات الفاو؛ وعلي روضه إي في عمليّات بدر. أمير طهراني كان يقطن في حيّ مسيحي، وحين استُشهد بكى جميع المسيحيّين الأرمن عليه. أمّا مصطفى ملكي فقد استُشهد في جزيرة أمّ الرصاص (الراوي).

 

373


361

للعرفان لونٌ واحد

العمل في آن، وكان رياضيًّا وعسكريًّا من الدرجة الأولى. وأخيرًا، كلّ الخصال الفاضلة التي تحلّى بها الصالحون، اجتمعت في أصغر بمفرده. في تلك الفترة التي كنت أفكّر فيها بأصغر، كان كلّ أهلّ المروءة في الجبهة يطلبون رضاه. وهو مضافًا إلى كونه من أبناء محلّة "الطيّب"، وكبير حملة ألوية أهل المروءة في طهران، كان يمتلك فطرة صافية ونفسًا طيّبة وطاهرة.

 

كلّما غاص فكري في الماضي والحرب والعمليّات، أيقنت أكثر بأنّ أصغر هو من أبحث عنه، ولم يخطر ببالي من هو أقدر منه في أمر القيادة.

 

مضت مدّة لم أسمع فيها شيئًا عن أخباره. فبعد إصابته في عمليّات رمضان، جُرح مجدّدًا وبنحو أشدّ وأبلغ في "مرتفعات بمو" وعمليّات "والفجر 4". فطحنت رصاصة "دوشكا" عظم رجله، ليقبع لأربعة عشر شهرًا في مستشفى "الشفاء".

 

كانت إعادة تشكيل كتيبة "ميثم" حجّة للذهاب ورؤيته. ناداني ممرّض القسم وسألني: "أهذا رفيقك أيّها السيّد؟".

- نعم، أوامرك؟

- إنّه يرقد هنا منذ ثلاثة عشر شهرًا، وقد أُجريت له خمس عمليّات في رجله، ولم نسمعه يقول كلمة "آخ". وهو دائمًا في حال ذكر. أيّ نوع من البشر هو؟

- قائد.

- برأيي، هو عارف. العرفاء فقط هم من يصبرون كلّ هذا الصبر. لم يقل لنا يومًا إنّه قائد في الجبهة.

 

بعدها، أرشدني إلى غرفة أصغر. كان ممدّدًا على السرير، وقد أُزيلت

 

374

 

 


362

للعرفان لونٌ واحد

سألت: "متى تقرّر أن يكون موعد العمليّات؟".

 

- لا نعلم. كلّ ما نعلمه أنّ "حسين اسكندرلو" هو القائد.

 

تركت ذينك الشخصين وذهبت إلى مقرّ الفرقة "10 سيّد الشهداء(ع)". فكّرت أن أتابع تفاصيل المسألة وجزئيّاتها، حتّى إذا ما بدأت العمليّات شاركت فيها. التقيت في مقرّ "الفرقة 10" بـ"محمّد جعفر جنكروي"، بطل الحرب وصديقي الحميم، فبقيت عنده بضعة أيّام.

 

قال محمّد جعفر: "العمليّات ستُنفّذ في جزيرة أمّ الرصاص. ولأنّ عمليّتي "بدر" و"خيبر" لم تنجحا، فإنّهم يريدون العمل على منطقة الهور. والعراق أيضًا قام بأعمال من قبيل قطع أشجار النخيل، وصفّها كلّها في الهور. وقد جفّف منطقة من الهور، فصفّ الدبّابات فيها، وأنشأ نقطة حدوديّة، ووضع المفخّخات وما شابهها".

 

سألته: "هل تعلم أيّ كتائب ستقوم بالعمليّات في الهور؟".

- "ستقوم كتيبة "علي الأصغر" بالعمليّات في جزيرة "أمّ الرصاص".

- أريد أن أشارك شباب لواء "الحرّ" و"الحسين" هذه العمليّات.

 

ودّعت محمّد جعفر وذهبت إلى مقر التكتيك التابع للفرقة 10، عند "حسين إسكندر لو".

 

كان حسين من شباب طهران. وقد درس الفنون العسكريّة في قاعدة الإمام الحسين عليه السلام. كانت فطنته وذكاؤه على كلّ لسان. ولقد تعرّفت إليه وهو في لجنة استقبال الإمام الخميني (رضوان الله عليه). وقبل هذا كان قائد كتيبة "زهير" و"سلمان" أيضًا.

 

بعد التحيّة والسلام والسؤال عن الأحوال قلت: "أريد أن أذهب

 

 

معكم إلى الهور".

 

376


363

للعرفان لونٌ واحد

معكم إلى الهور".

- لقد أتى ما بين الثلاثين والأربعين شخصًا من رفاقك، أتوا بأعداد كبيرة من "لواء الحرّ" إلينا. العنصر الحرّ هو رجل المهمّات الصعبة. في أيّ مكان تعقّدت الأمور حلّها...

- مثلًا، من هم هؤلاء؟

- "علي نصر الله"، "رضا بور أحمد"، و"مجيد سيب سرخي"؛ لكن من أين عرفت بأنّ العمليّات ستُنفّذ في الهور؟.

- عن طريق محمّد جعفر.

- إذًا، لتعلم بأنّ العمليّات في "الهور" إنّما هي للتضليل. والعمليّات ستُنفّذ في هذه النواحي. أقول لك هذا فحسب، بأنّ "الفاو" محورها الأساسي. لكن لا تخبر أحدًا بذلك. سنهجم على "الهور" لنشتّت انتباه العراقيّين. لا ينبغي أن ندخل الأراضي العراقيّة. علينا فقط أن نفرّقهم. اذهب إلى رفاقك؛ وقل لهم إنّك فهمت القضيّة بشكل مجمل.

 

ليلًا، ذهبت إلى الشباب. حينها، قادوا آليّات الجيش نحو "الهور" وهي مطفأة المصابيح، وذلك لخداع العراقيّين. وبدل أن يُجعل الخطّ الخلفي على مقربة من الخطّ الأمامي، نصب في مكان يبعد مسافة ساعة ونصف الساعة عن الخطّ الأمامي. في الأوّل من شهر شباط، ذهبت ليلاً إلى الخطّ الخلفي، والتحقتُ بالإخوة، واتّخذت مكاني في طابور كتيبة "علي الأصغر". كانت ليلة صافية مقمرة، والقوارب ذات المجاذيف مستعدّة على حافّة الماء. ركبناها وانطلقنا.

 

بلطف الله تعالى وعنايته، فإنّ مياه نهر "أروند" الهائجة غالبًا، أصبحت هادئة وساكنة كمياه الحوض.

 

377


364

للعرفان لونٌ واحد

سرنا في قلب "أروند" بهدوء وراء بعضنا البعض. بدأ مدّاح كتيبة "علي الأصغر" الأخ "سيب سرخي"، وكان ذا صوت جيّد، يدندن بعض أبيات الشعر، فَرُحْنا نردّد معه:

يا أصغري أصبحت شفتاك صفراوين لاي لاي

                            متى تنحلّ العقدة من القلب لاي لاي

 

بالقرب من جزيرة "أمّ الرصاص"، انقلب أحد القوارب فجأة فسقط الإخوة في الماء. لكنّهم جميعهم كانوا يرتدون سترات النجاة، فراحوا يسبحون إلى أن أوصلوا أنفسهم إلى القوارب الأخرى. لقد جعلت تجربة عمليّات "خيبر" و"بدر" المريرة القادة أكثر دقّة وانتباهًا، فعملوا هذه المرّة عن دراسة وتخطيط.

 

كنت وحسين نسير في قارب واحد في مقدّمة الجميع. بعد ساعة رسونا على ساحل الجزيرة، وشيئًا فشيئًا وصلت القوارب الأخرى. ترجّلنا من القوارب من دون إحداث أيّ جلبة. كان نور القمر ساطعًا بحيث بتنا نرى كلّ شيء من حولنا جيّدًا، وكأنّنا لسنا في الليل. قال حسين: "لا تطلقوا النار، فقط اسحبوا الأقسام وكونوا مستعدّين".

 

"أمّ الرصاص" جزيرة صغيرة تقع بين "الفاو" و"الهور العظيم". أحاط الماء بها من جميع الجوانب، وليس لها طريق للخروج. غطّت أشجار النخيل وحقول القصب سطح الجزيرة. عمّ الصمت والهدوء المكان. لا أعلم كم دقيقة سرنا في الطابور راجلين. كان العراقيّون قد بنوا الدشم وأقاموا الموانع في وسط الجزيرة. لم يعلموا بقدومنا وكانوا يغطّون في نوم عميق. لا أذكر في أيّ ساعة من الليل صدرت الأوامر بالتوقّف، فتوقّفنا. لكن لم تكد تمضي دقيقة واحدة حتّى أطلق أحد الإخوة قذيفة "B7"، فاستفاق العراقيّون وبدأوا بإطلاق النيران.

 

378

 

 


365

للعرفان لونٌ واحد

أحسست للمرّة الأولى في الحرب والعمليّات بأنّ العراقيّين كانوا واقعًا نائمين أثناء هجومنا، وأنّهم لم يدروا بوجودنا، وخُدعوا. لكنّهم عندما استيقظوا، رمونا بنيرانهم الغزيرة. اتّخذنا لأنفسنا دشمًا خلف سواترهم الترابيّة، ولأنّ الطلقة الأولى كانت بيدنا، تقدّمنا من دون خسائر. وجريًا على العادة، وضع العراقيّون جنودهم من الدرجة الثالثة في الجزيرة ليقوموا بالدفاع. فتكبّدوا بعض الخسائر، وبعد ساعة ركبوا القوارب ولاذوا بالفرار.

 

لم نلحق بهم؛ لأنّه كان علینا أن نلهیهم. أقمنا هناك وسط الجزيرة خطّ دفاع. عند الفجر، عاد حسين إلى المقرّ ولا أدري لماذا؟ بدأ العراق بالهجوم، وهذه المرّة راح يرمينا بمدفعيّته البعيدة المدى؛ لأنّه لم يكن يملك قوّات كثيرة في الجزيرة.

 

كان سلاحنا خفيفًا؛ الرشّاشات والـ"B7". وهم يرموننا بالقذائف المدفعيّة. وقالوا: إنّ قائد الجيش الخامس العراقي "سلطان هاشم" قد جاء إلى الجزيرة وأراد استرجاعها.

 

في الصباح حين طلعت الشمس، عاد حسين. كنّا في حال دفاع. بقينا متردّدين، مننتظرين أن يصدر حسين أوامره لنا بالانسحاب، ويقول: قُضي الأمر؛ ارجعوا. سأله الإخوة: "حاجّ حسين، ماذا حصل؟ أننسحب؟".

 

قال: "لا، فما زال لدينا عمل هنا".

 

بعدها، نظر إلى خطّ الدفاع العراقي، ومن ثمّ نظر إلى قادة المراكب ونادى بهم: "شغّلوا المراكب..".

 

تعجّبنا جميعًا، ما الذي يريد حسين أن يقوم به؟ وهل نستطيع البقاء بعدُ لساعات أخرى في هذه الجزيرة الصغيرة تحت مرمى النيران؟

 

379

 

 


366

للعرفان لونٌ واحد

قال: "لتعد القوارب خالية".

 

قال أحد الإخوة: "أخ حسين، مرهم فليرجعوا بعد ربع ساعة".

 

لكنّ حسين لم يكن ليقتنع بهذا الكلام. فجأة وقف في مكانه ثابت القدم، فتح أزرار قميصه وخلعه. توجّه إلينا وأنشد هذا البيت من الشعر:

ليس من العشق أن تعشق معشوقين بقلب واحد

                                  فعليك أن تنسلخ إمّا عن المعشوق أو عن النفس

 

وعاد من جديد ليقول: "ما زال لدينا عمل هنا. علينا انتظار الأوامر من الخطوط الخلفيّة لنستطيع الانسحاب. إنّكم إذ تقاتلون هنا الآن، هناك أيضًا جماعة تقاتل في "الفاو". علينا أن نبقى هنا ونلهي العراقيّين"

 

وحينها أصبح حسين "حسينًا". التقط قاذف الـ"B7" وهدّف وقادنا بعمله وانتقل إلى مكان آخر. الرابح في هذا المحفل هو من يكون جريئًا وشجاعًا؛ ذلك أنّه لم يكن من طريق للعودة، وكانت تلك غاية الشجاعة.

 

وبإبداعه، خلق حسين من الأرض، ومن النيران، ومن المشهد عملًا. كان القائد الذي دافع بيد خالية، وهجم بيد خالية. لقد آتى العمل أكله في يدي حسين.

 

كان حسين ينادي على الدوام: "أشغلوهم، كبّدوهم الخسائر إلى حين صدور الأوامر من الخطوط الخلفيّة".

 

يومذاك، خضنا مواجهة شرسة. فقدّمنا الخسائر وأخذنا أسرى. كانت القوّات العراقيّة قد وصلت إلى الجبهة للتوّ، لكنّهم حين اشتدّت نيراننا وتقدّمنا إلى وسط الجزيرة، وضعوا أيديهم فوق رؤوسهم واستسلموا. كانت تدعمهم الدبّابات وسلاح المدفعيّة؛ ومع ذلك خافوا وانهزموا.

 

380

 

 


367

للعرفان لونٌ واحد

امتدّت المواجهات إلى ما بعد الظهر، حيث أُبلغنا من الخطوط الخلفيّة بأنّ الإخوة قد ثبّتوا أقدامهم في "الفاو". اتّصل حسين عبر جهاز اللاسلكي، فعادت القوارب. لقد سقط لنا في تلك المواجهات شهيدان أو ثلاثة وبعض الجرحى. من بين الشهداء كان ابن محلّتنا "محمّد أمين الرعايا"، المعروف بـ"محمّد وليّ"، ذاك الذي كان المرشد والضارب على الدفّ في نادي "قلاجه" للزورخانه. أرسلنا القوّات بالقوارب إلى "بهمن شير". وهناك، حين كان حسين يغادر على درّاجة ناريّة إلى المقرّ، ركبت خلفه وذهبنا. في المقرّ تردّدت أنباء عن سقوط قذيفة دبّابة وسط كلّ من "جعفر جنك روي" و"يد الله كلهر" و"الحاجّ علي فضلي" حين كانوا متوجّهين نحو "الفاو" لتوجيه القوّات، فارتفعوا شهداء.

 

ركبت وحسين سيّارة تويوتّا وتوجّهنا نحو خطّ "الكوثر" الخلفي للاطمئنان والاستخبار عن حال جعفر، ودخلنا "الفاو". قيل لنا في المقرّ التكتيكي إنّ "علي فضلي" قد جُرح، وإنّ "جعفر جنك روي" و"يد الله كلهر" قد استُشهدا.

 

لكنّ القضيّة الساخنة التي كانت تتردّد في المقرّ هي أنّ الفرقة 27 تخوض مواجهات مع العراقيّين خلف مصنع الملح.

 

رأيت "محمّد كوثري"، كان مستاءً ومضطربًا. فقد عاد فريق معلوماته من استطلاع جادّة "الفاو - أمّ القصر"، وأخبروه بأنّ العراقيّين قد جاؤوا برتل من الدبّابات يتراوح ما بين المئتين والثلاثمئة دبّابة ووضعوها على جادّة الفاوّ - أمّ القصر.

 

قال الحاجّ محمّد: "إنّ كتيبة عمّار تقوم بالدفاع الآن. نريد أن نسلّم الدفّة إلى كتيبة حمزة. وبعد صلاتي المغرب والعشاء سيهجم محمود

 

381

 

 


368

للعرفان لونٌ واحد

أميني على الخطّ".

 

في آخر الليل، ذهبت مع حسين إلى عنبر التخطيط والعمليّات. عندما وصلنا أخبرونا بأنّ كتيبة "حمزة" قد هاجمت الخطّ وأن أمورها قد تعقّدت.

 

قضينا الليلة في العنبر إلى جانب شباب الخطط والعمليّات؛ لكنّنا لم نعرف معنى النوم. كان "سعيد سليماني" و"جعفر طهراني" مسؤولي التخطيط وبرمجة العمليّات. قالا إنّ "محمود أميني" اتّصل وأخبر بأنّ الدبّابات العراقيّة تصطاد شبابه.

 

قرابة الصبح، ركبنا كلّ ما توافر لنا من سيّارات ودرّاجات ناريّة قاصدين الخطّ لرؤية "محمود أميني". لكنّنا مهما تقدّمنا لم نصل إلى الخطّ الأمامي. لربّما كان محمود وشبابه تقدّموا مسافة ستّة عشر أو سبعة عشر كيلومترًا في عمق الأراضي العراقيّة وجادّة الفاو أمّ القصر.

 

حين صرنا على مسافة ثلاثة كيلومترات من جادّة الفاو أمّ القصر، كانت سيّارات الإسعاف مجموعات مجموعات تنقل الجرحى. كان الخطّ مزدحمًا تعمّه الفوضى وقد انقلب رأسًا على عقب. والحال حال انسحاب. فكتيبة محمود قد تفرّقت وأُصيب مسؤول سريّته برصاصة. كان محمود يسعى جاهدًا لجمع الأحياء وإرسالهم إلى الخطوط الخلفيّة. وهناك سمعت بنبأ استشهاد "علي رضا مسيح" و"محسن كاظمي"، وقُطِعَت رجل صديقي وابن محلّتنا "جواد كاشاني".

 

بعد كتيبة "حمزة"، هاجمت الخطّ كلّ من كتيبتي "مالك و"حبيب". فقُصفتا بغارة جويّة. حلّ الليل، فعقّدت الظلمة الأمور أضعافًا مضاعفة.

 

لقد كانت عمليّات "والفجر 8" من أصعب العمليّات. لكنّ إيران حتمًا، قد

 

382

 

 


369

للعرفان لونٌ واحد

أثبتت نفسها وبرهنت عن قوتها. حيث عبرت القوّات الإيرانيّة من نهر "أروند" الهائج واخترقت الحدود العراقيّة. وهذا لم يكن بالشيء القليل في زمانه.

 

عندما استنار الجوّ، عدنا إلى مدينة "الفاو". لكنّ الخطّ الأمامي كان أكثر أمنًا من المدينة، حيث راح العدوّ يحرثها بنيرانه، وأراد أن يحطّم خطّنا الخلفي ويفاجئنا منه ويضيّق علينا. يومها، قال الإخوة في المقرّ إنّ الحاجّ محمّد قد رُزق بمولود؛ لكنّه بقي 75 يومًا من دون أن يراه. ومهما قالوا له، دعك من هذا يا حاجّ، واذهب لترى ابنك، قال: "لا أستطيع أن أترك الخطّ". وكانوا في الغد، يعودون ويصرّون عليه من جديد ويمازحونه قائلين: منذ 76 يومًا لم تر ابنك، ويجيب هو الجواب نفسه بهدوء أعصاب، ويضحك في وجوههم.

 

بقیتُ إلى أواخر شهر آذار 1986 أتنقّل وأجول في مدينة "الفاو". لم يحدث أمر مهمّ. فقد كانت "الفاو" بيد إيران، وكان الإخوة في حال دفاع.

 

في تلك المعمعة، قال أحد الإخوة: تريد كتيبة "علي الأصغر" القيام بعمليّات في "فكّه".

 

ركبت وإيّاه سيّارة وذهبنا إلى "دوكوهه". في المقرّ رأيت حسين جالسًا وقد بدا الغضب على وجهه كثيرًا. لم أفهم ما يجري.

 

فجأة، صاح وقال: "الأحمق لا يفعل ما فَعَلْتُه. غدًا سيكون ختمي هو "الأحمق". ولأنّه كانت لديّ أوامر، ذهبت إلى جزيرة "أمّ الرصاص"، وكنتُ أعلم بأنّ موتنا حتمي ومؤكّد في تلك الجزيرة..". كان من المقرّر أن يذهب بكتيبته إلى منطقة عمليّات "فكّة"، ويقوموا بالعمليّات هناك. وعلى الرغم من رغبتي بالبقاء إلى جانب حسين، إلّا أنّني بسبب وضع المقرّ غير المستقرّ، لم أستطع أن أودّعه ولا أن أذهب إلى "فكّة" معه؛ لأنّ الحاجّ

 

383


370

للعرفان لونٌ واحد

محمّد كان قد أرسل في طلبي. كان حينها قائد الفرقة "27 محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"، ولم أكن حتى ذلك الوقت قد انسجمت معه، ومن المحتمل أيضًا أن يكون هو لم يفهم طباعي بعد.

 

في أواخر شهر حزيران من العام 86، كان الحاجّ محمّد ينتظرني في غرفة القيادة. ذهبت إليه، ألقيت التحيّة، جلست وشرعت بالحديث: "نريد نحن تشكيل كتيبة "ميثم" من جديد.

- من تعني بـ"نحن"؟

- أنا و"أصغر أرسنجاني".

ما إن ذكرت اسم أصغر، حتّى هزّ رأسه علامة على الموافقة وقال: "إنّ أصغر محترم لدينا. وأنت أيضًا لك مكانتك. هل خرج أصغر من المستشفى؟".

- بضعة أيّام ويأتي؛ لكنّه لا يزال يعرج في مشيته، وعليه أن يمشي على العكّاز.

- أنا موافق على هذا الطرح، لكن لا بدّ من أخذ موافقة السيّد رحيم والأخ شمخاني. في هذه المدّة، تعالَ أنت وأصغر إلى التخطيط والعمليّات. شكّل طاقم "ميثم" إلى حين البلاغ التالي.

- إن توجّب عليّ تشكيل الطاقم في ظرف يومين أو ثلاثة، فلا أظنّ أنّ ذلك ممكن؛ لأنّه ينبغي عليّ أوّلًا أن أنسّق مع "حسين الله كرم". فبعض العناصر التي أريد الإتيان بها إلى "ميثم" هي تحت إمرة حسين".

- الأوضاع الآن غير منتظمة. والشباب لا يديرون معلومات العمليّات بنحو جيّد. يلزمنا [طاقم] معلومات عمليّات جيّد. اجمع وأصغر شبابكما

 

384

 

 


371

للعرفان لونٌ واحد

من لواء "الحرّ"، وسنمدّكم أيضًا ببعض الإخوة. عليكم أن تشكّلوا [طاقم] معلومات عمليّات قويًّا.

- عليّ أن أنسّق الأمر مع حسين. فالعناصر المقتدرة والقويّة تحت إمرته.

 

في اليوم نفسه، ذهبت إلى "إسلام آباد غرب"، وقصصت على حسين ما جرى في لقائي بالحاجّ محمّد. قال حسين: "اسمع منّي ولا تقم بهذا الأمر. إن كان من المفترض بنا تشكيل [طاقم] معلومات عمليّات آخر، فلِم كان لواء الحرّ؟ إن أنت تصدّيت لهذا الأمر، فلن تكون حرًّا في عملك، ولن تستطيع المشاركة في اقتحام الخطّ ليلة الهجوم. لن تكون لديك أيّ صلاحية. وستأخذ العناصر إلى موقع العمل، ومن ثمّ تعود بهم إلى الخطّ الخلفي. لا تتابع الأمر الآن. انتظر لمدّة لنرى ما سيحدث".

 

سمعت لكلام حسين، ثمّ ذهبت في إجازة لعدّة أيّام، والتقيت بأصدقاء لم أرهم منذ مدّة طويلة. سمعنا بأنّ العمليّات ستكون عمّا قريب. ركبت و"جواد مجلسي"، "سعيد مجلسي" و"مهدي عموزاده" سيّارة "حسين سازور" الشخصيّة، وتوجّهنا نحو الغرب. ركنّا السيّارة في قاعدة "الله أكبر"، وذهبنا بسيّارة "تويوتا" إلى مقرّ "النجف". وكان "حميد ميرزايي" صلة الوصل فيما بيننا.

 

بعد أيّام، في أوائل شهر تمّوز من العام 86، ذهبت وبعض الأصدقاء إلى مقرّ "النجف" في المرتفعات الواقعة أطراف "كاني سخت". وكان شباب لواء "الحرّ" قد نصبوا مقرًّا لهم مقابل هذه المرتفعات، إلى جانب نهر "کاوی". وكان هذا النهر مهمًّا من الناحية العسكريّة، حيث يمرّ من فوقه طريق "دهلران - مهران".

 

كانت القوّات تعدّ لعمليّات مهمّة هدفها تحرير "مهران". وهناك

 

385

 

 


372

للعرفان لونٌ واحد

توزّع شباب معلومات العمليّات إلى مجموعات مؤلّفة من عدّة أشخاص، وتقرّر أن ينقلوا القوّات إلى مواقعهم في مراحل العمليّات. تقرّر في الليلة الأولى من عمليّات "كربلاء1" أن ينقل "محمود جوليده"، "مرتضى بهزادي"، "علي نصر الله" -ابن محلّتنا- و"حسن عسكري" الفرقة "10 سيّد الشهداء"، والفرقة "41 ثار الله" إلى مواقع عملهم؛ أي أن يذهبوا من "سنك شكن" و"إمام زاده علي صالح"، ويتّجهوا نحو مرتفعات "كاني سخت" و"باغ كشاورزي" على بعد ستّة كيلومترات شمال غرب "مهران".

 

توجّب على المجموعة التي انتميت لها أن تنقل كتيبتين من الفرقة "41 ثار الله - كرمان" من التلّة الرمليّة إلى "باغ كشاورزي"، ومن ثمّ نحطّ عند "الفرقة 10" ونستلم الدفّة منهم؛ لكن قبل أن نصل إلى "باغ كشاورزي" وقرابة الساعة الثانية بعد الظهر، وردنا اتّصال من مقرّ سيّد الشهداء مفاده: "أنّ الأمور تعقّدت، كان من المقرّر لهؤلاء أن يباشروا العمل ليلًا؛ لكنّهم اضطّروا إلى خوض المواجهات. وما إن رموا الرصاصة الأولى، حتّى رفع العراقيّون أيديهم فوق رؤوسهم، واستسلموا مجموعات مجموعات. يمكنكم العودة إلى الخطّ الخلفي".

 

رجعنا إلى الخطّ الخلفي، فوجدنا أمام النهر أكثر من مئتي أسير عراقي. كان الإخوة يلعبون ويمرحون إلى جانب النهر، وقد ألقوا قنبلة في الماء واصطادوا السمك ليصنعوا منه الكباب ويأكلوه.

 

تعجّبت. أَوَلم يكن من المفترض بهؤلاء أن يقوموا بالعمليّات؟ ما هذا الوضع؟ اتّصلت لاسلكيًّا بالمقرّ وسألت: "ما الخبر؟ أَوَلا يوجد عمليّات؟".

 

قيل: لقد تعقّدت الأمور في "باغ كشاورزي". قلت: على حدّ علمي أنّ "الفرقة 41 ثار الله" خلف "الفرقة 10".

 

أجابوا: "إذًا احمل كتيبتيك وصِلْ جناحهم".

 

386

 


373

للعرفان لونٌ واحد

أخذتُ كتيبة من الفرقة 41 ثار الله، وذهبنا من خلف "باغ كشاورزي"، فوصلنا بعد نصف ساعة إلى خلف مواقع الفرقة 10. فجأة، رأيت طابورًا من الجنود مطأطئًا رأسه وآتيًا من بين قوّاتنا وموقع الفرقة 10، سحبنا الأقسام وجلسنا. في البداية ظننّاهم إيرانيّين. حين تقدّموا أكثر وجدنا أنّهم عراقيّون. أطلق أحد الإخوة لا شعوريًّا طلقة نحوهم. فوضعوا أيديهم فوق رؤوسهم، واستسلموا من دون بحث وجدل. وكما هي العادة، أصاب العراقيّين الهلع. وكانوا حين يخافون، يضطربون ولا يعلمون رؤوسهم من أرجلهم؛ ويبدأون برشق كلمات غير مفهومة، ويتوسلّون، وما شابه. بلغ مجموعهم كلّهم قرابة الأربعمئة نفر. في هذه الواقعة، أسرنا جماعة كبيرة من العراقيّين، وسارت الأمور بنحو ممتاز.

 

جاء "الحاجّ حسين الله كرم"، بـ"السيّد "رحيم"، والسيّد "شمخاني"، ليتفقّدوا الأسرى وأداء الإخوة العظيم في عمليّات "كربلاء 1".

 

كان "فرج أصفهاني" المسؤول عن الأسرى. وقد خلع العراقيّون قمصانهم لشدّة ما "انشووا" في حرارة الجوّ وراحوا ينادون: "يا خميني... يا خميني..".

 

كان "أصفهاني" على معرفة باللغة العربيّة. وقد صفّ الأسرى في صفوف منتظمة وراح يتكلّم معهم ويمرّنهم على نداء: يا "علي نصر الله"، يا "أكبر كلاهدوز".

 

عندما جاء السيّد رحيم، نادى سبعمئة شخص بصوت واحد:

"يا علي نصر الله، يا أكبر كلاهدوز".

 

جحظت عينا السيّد رحيم من التعجّب وقال: "ما هذا الذي يقوله هؤلاء؟".

 

في الليلة الثانية، توقّفت العمليّات وهدأت المنطقة إلى حدّ ما؛ لكنّ

 

387

 

 


374

للعرفان لونٌ واحد

"مرتضى بهزادي" أخذني جانبًا وقال: "إنّنا ذاهبون الليلة إلى منطقة أحضر العراق إليها الحرس الجمهوري، وهم ينتظرون أن تتوقّف العمليّات ليهجموا ويستردّوا "مهران".

 

قلت: "دعك منّي يا عمّ... أنا عنصر من عناصر معلومات العمليّات. عليّ الآن أن ألتفّ وأذهب إلى طهران".

 

لم يدعني مرتضى أذهب؛ أخذني بالقوّة إلى مرتفعات "مهران" المحرّرة وقال: "إن لم تأتِ تندم".

 

كان "علي نصر الله" وشخصان آخران معنا أيضًا. استقررنا في إحدى القنوات التي حفرها العراقيّون من قبل في أعلى المرتفع. وكان العراقيّون في أسفل المرتفع. فكنّا نحن المشرفين والمسيطرين عليهم. سحبنا المنظار وألقينا نظرة.

 

قال "علي نصر الله": أنا ذاهب لآسر واحدًا منهم، لنرى إن كان صدّام اللعين قد أحضر واقعًا قوّات الحرس الجمهوريّ أم لا؟".

 

وبينما أنا أناقش علي محاولًا إقناعه بالتخلّي عن هذا الأمر، فجأة سمعنا صوت طلقة، فسقط عليّ ببدنه الثقيل عليّ. فارتميت بدوري على جانبي على أرض القناة. مباشرة وضعتُ يدي تحت جسده ورفعته. وإذا بالرصاصة قد اخترقت رأسه. كان عليّ طويل القامة، وعندما وقف ظهر رأسه خارج القناة، فرماه القنّاص العراقيّ في جبینه.

 

يعلم الله كم نزف عليّ من الدماء. فتخضّبت أرض القناة بدمائه. ربطت جرحه بمنديلي الحريري؛ لكنّ الدم لم ينقطع، بل ظلّ يفور فورانًا. كان عليّ غائبًا عن الوعي، ولم أكن أعرف إن استُشهد أم لا. أصبح جسده ثقيلًا. فما استطعت الوقوف على رجليّ، وما استطعت رفعه. في النهاية،

 

388

 

 


375

للعرفان لونٌ واحد

ربطنا الكوفيّات بالحزام، وصنعنا شيئًا شبيهًا بالحبل المتين. ربطنا أحد طرفيه حول جسد عليّ، وأخذنا نحن الثلاثة بطرفه الآخر ورحنا نجرّه على أرض القناة. سرنا زحفًا نحو دشمنا. لربّما سرنا كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات بمشية البطّة. حين كانت أنفاسنا تنقطع، كنّا نضعه على أرض القناة، نأخذ نفسًا، ومن ثمّ نعود إلى جرّه من جديد.

 

كان علي من أبناء "امامه"؛ وهي قرية تقع في أطراف "أوشان فشم". وقد زرتها عدّة مرّات برفقة الأصحاب. كانت قرية هادئة ذات مناخ جيّد. تشتهر بمحاصيلها الزراعيّة من الكرز والجوز، وقُدّر لنا نصيب منها. وكان والده الحاجّ نصر الله من رجال العصر الكبار.

 

على أيّ حال، بقي عليّ راقدًا في مستشفى "نمازي" لمدّة ستّة أشهر. قال الطبيب أنّ بدن عليّ الرياضيّ والقويّ ساعده وبقي على قيد الحياة، لذا استطاع الاستمرار. فيما بعد، أُصيب بطل الحرب هذا بشلل نصفي، ولم يتمكّن العراق من استعادة "مهران" أبدًا. والحقّ إنّ "علي" من مفاخر هذا البلد.

 

389

 

 


376

معترضون وأصدقاء

معترضون وأصدقاء

 

أو كان العشق ..فاذهب

 

أوائل شهر آب من العام 1986م، بعثت برسالة عبر مسؤول مقر قيادة الفرقة، إلى الحاج محمّد طالبًا فيها اللقاء به. بعد يومين قال لي مسؤول المقرّ إنّ الحاجّ محمّد مستعدّ للقائي.

 

ذهبت في اليوم المحدّد إلى "دوكوهه"، وتوجّهت إلى غرفة القيادة. وجدت الحاجّ بانتظاري. ألقيت التحيّة وجلست إليه فقال: "إلى أين وصل العمل في كتيبة ميثم؟ وماذا حلّ بـأصغر؟".

- إنّني بانتظار تأمين المكان، بالنسبة للطاقم فقد وضعت له تصوّرًا أوّليًّا. وفيما يخصّ أصغر فإنّه سيأتي أيضًا.

- اجمع طاقمك، وبما أنّ مباني "دوكوهه" تقع في الأطراف، فاتّخذ نادي الضبّاط مكانًا لك. لكن قبل ذلك، هناك أمر أعجز عن قوله؛ أي أخجل من مفاتحتك به..

- قل يا حاج!

- أنت وأصغر، كلّ منكما يعاني عيبًا في إحدى رجليه. ولا تستطيعان ليلة العمليّات قيادة الطابور.

 

391

 

 


377

معترضون وأصدقاء

- لا تحمل همّ ذلك. بفضل الله، لا ينقصنا شيء. فـ"حسين طاهري" مسؤول التدريب في قاعدة الإمام الحسين عليه السلام من أهالي محلّتنا. سآتي به وأوكل إليه قيادة الطابور والتدريب والقتال. وحسين نفسه يوازي عشرة من قادة الكتائب.

- أنا موافق.

- وبما أنّك الآن وافقت، فلي شرطان.

- ما هما؟

- الأوّل، أن تُسمّى الكتيبة باسم "ميثم التمّار"، لا غير. الثاني: لقد اتُّخذ الآن في فرقة طهران تدبير يقضي بمعاقبة كلّ من يخلع قميصه ويلطم عاري الصدر. وقد قاموا بتأنيب "رضا پور أحمد" و"محمّد طاهري"، و"مصطفى ملكي"، و"محمّد زماني" لقيامهم بهذا الأمر. لِمَ هذا؟ وما الضير في أن يخلع المرء قميصه في ظهر عاشوراء ويلطم؟ أريد للشباب أن يعبّروا عن عشقهم [للإمام الحسين] بالطريقة التي يريدون. لا أريدهم بسبب هذه المسائل أن يقوموا بتصفية أعمالهم وإنهاء مأموريّاتهم في الجبهة والعودة إلى طهران. من بعد إذنك، أريد أن أفسح لهم المجال لهذا الأمر. هؤلاء جاؤوا ليقاتلوا؛ ومن غير المعلوم هل سيبقون على قيد الحياة أم لا.

- إنّ ما تتكلّم عنه يا سيّد يعود أمره إلى قائد الكتيبة. أمّا في المسائل العسكريّة فعلينا جميعًا أن نسلك طريقًا واحدًا. وأن يكون هدفنا واحدًا. كما إنّنا نأخذ الأوامر من القيادات العليا وننفّذها..

 

بحثنا قرابة الساعة في مسائل مختلفة. تركت بعدها الحاجّ محّمد وذهبت لتفقّد مكان الكتيبة. يقع نادي الضبّاط في آخر "دوكوهه" إلى

 

392

 

 


378

معترضون وأصدقاء

جانب مبنى "النقل". أي أنّ صحراء قاحلة تمامًا تقع خلفه. وهو صالة في طبقة غير مكتملة البناء، تقارب مساحتها الخمسمائة متر، مؤلفة من أربع غرف ومرحاضين.

 

في البداية، أرسلت عددًا من الإخوة فحفروا قناةً وبنوا خمسة مراحيض، واشتغلوا بتوضیب البناء. بعد ذلك ذهبت إلى مقرّ "الفرقة 10"، عند "إبراهيم كساييان" و"عزيز رحيمي". وكان إبراهيم ذات يوم قائدًا لكتيبة ميثم. وكلاهما كانا أسدي حرب، وقد بذلا جهودًا كبيرةً من أجل الجبهة.

 

بعد التحيّة والسلام، طرحتُ عليهما موضوع تأسيس كتيبة ميثم. قلت: "جئت لأستأذنكما. فأنتما الأكبر والأعظم وهذا أمر رسمي وعادة في ثقافة الإخوة؛ ينبغي احترام الأقدمين والقادة..".

 

قال إبراهيم: "إنّ كتيبة ميثم بمنزلة بيتي. وقد استُشهد مئتان من أفضل شبابي في ميثم".

 

بعدها، انشغلت بتأسيس ميثم واستقطاب العناصر. وذات يوم، رآني "حسين سازور" وهو مدّاح وقارئ عزاء، وكان من المقرّر أن يأتي للخدمة في ميثم، فقال لي: "إنّ زوجة الرئيس رجائي تريدك في أمر، حبّذا لو تهاتفها".

 

تعرّفت إلى زوجة الرئيس منذ أمد بعيد أثناء عملي في الوزارة. فقد كانا عائلة أصيلة ومؤمنة. وكان لهما ابنٌ في السابعة عشرة من العمر يُدعى كمال، شقيّ ومشاكس، خلافًا لوالده الذي كان خجولًا وذا حياء. وقد تعرّفت السيّدة رجائي فيما مضى إلى زوجتي فاطمة وشاركت في الأعمال الخيريّة لمجمّع الأيتام. وظلّت كالسيّد رجائي تهتمّ بالأيتام وتحبّ الناس،

 

393

 

 


379

معترضون وأصدقاء

ويعمّ خيرها الفقراء والمحتاجين.

 

اتّصلت بمنزلهم، فأجابتني بنفسها.

 

سلّمت عليها وعرّفتها بنفسي فقالت:

- سلام يا سيّد! جيّد أنّك اتّصلت. لي إليك طلب. إنّ ولدي كمال الآن قد بلغ السابعة عشرة؛ وهو مشاكس وشقيّ. ودائمًا ما يطلب منّي شراء درّاجة ناريّة له. وإنّي في حال الحرب هذه ووضع البلاد المضطرب وعمره الصغير، لا أرى من فائدة في بقائه في المدينة. فلو أمكن المجيء إلى طهران والتحدّث معه. فإن قبل، فاصطحبه معك إلى الجبهة. بالطبع، أبقه فترة في الجبهة ليتمرّس على القتال.

وبسبب المودّة الكبيرة التي كنت أكنّها للسيّد رجائي، عدت في اليوم التالي إلى طهران وتوجّهت مباشرة إلى بيتهم. اصطحبت ابنه كمال وذهبت به إلى المحلّة ليرى مسجد محلّتنا والتعبئة فيها. قلت له: "عندي درّاجة ناريّة تريل 250؛ فإن أنت أتيت معي إلى الجبهة، وضعتها في تصرّفك".

- حسنًا، سأرافقك.

- سننقل الدرّاجة إلى "دوكوهه" عبر القطار؛ وسنذهب إلى هناك بالقطار أيضًا.

 

كان كمال فتًى نجيبًا وذا معدن طيّب. وقد وافقني الرأي وصار يسمع كلامي. وعليه قدم إلى الجبهة برفقتي، وبما أنّه يعشق الدرّاجات الناريّة، سلّمته درّاجة ناريّة لم تخضع للروداج، وبذلك أصبح عامل بريد الكتيبة.

 

صار وجوده في كتيبة ميثم أمرًا محفّزًا للعناصر. وقد ارتفعت معنويّاتهم حينما رأوا أنّ ابن رئيس الجمهوريّة قد التحق بالجبهة أيضًا.

 

بعد يوم أو يومين، جاء أصغر أيضًا إلى دوكوهه، وهو يعرج في مشيته

 

 

394

 


380

معترضون وأصدقاء

قليلًا ويمشي بصعوبة. ذلك أنّ كعب رجله قد انفصل بفعل الإصابة، وقد أُجريت له عمليّة زرع كعب، رُبط برجله عبر سيخين معدنيين ورباط.

 

منذ ذلك اليوم، بدأ استقطاب العناصر إلى كتيبة ميثم. وفي ظرف أسبوع واحد التحق بها 120 عنصرًا من الكتائب الأخرى أو من العناصر التي التحقت حديثًا بالجبهة. وقد أمّنا لهم أمكنة في نادي الضبّاط. فكّرت أن نقوم بشيء جديد في الفرقة وسعيت لذلك. وأردت أن يكون كلّ شيء في كتيبتنا مختلفًا عن الكتائب الأخرى.

 

صباح ذات يوم، وبالاتّفاق مع الأخ أصغر، نصبنا في المراسم الصباحيّة رسمًا بيانيًّا جديدًا للكتيبة، وعرّفنا فيها السرايا. وحيث عُرف أصغر في صمته وهدوئه الروحاني دومًا، وكان ترابيًّا متواضعًا، والسبّاق بالسلام، صرت أنا أتصدّى للخطابات وهو يراقب ويشرف. تغيّرت أحوال الكثيرين عندما أصبحوا قادة سرايا، أمّا أصغر فلم يطلب يومًا ويقول، دعني الآن أتكلّم يا سيّد.

 

وحيث كان عدد العناصر كبيرًا فقد شكّلنا سريّة احتياط من شباب التجهيزات والعتاد وأطلقنا عليها اسم "كوثر"، لكي نوزّعها عند الضرورة وفي العمليّات على السرايا الأخرى.

 

بعد شرح الرسم البياني الجديد قلت: "من لطف الله سبحانه بنا أن التحق بكتيبتنا كلّ من السادة "حسين طاهري" و"جعفري" و"گودرزي" وكلّهم أساتذة في التكتيك والقتال. ضمن برنامج الفرقة، لدينا أسبوعيًّا ثلاثة أيّام للتدرّب على التكتيك. فبرنامجنا سيختلف قليلًا عن برنامج البقيّة. فلن نقوم بالمراسم الصباحيّة سوى في أيّام السبت. أمّا أيام الأحد والثلاثاء والخميس ستكون لدينا تدريبات عسكريّة. وفي ليالي الأربعاء والجمعة سنقرأ دعاءي التوسّل وكميل. يمكنكم النوم في فترات الظهر،

 

 

395

 

 


381

معترضون وأصدقاء

أمّا بعد الظهر فلدينا مباراة صغيرة في كرة القدم وعلى الجميع أن يحضر، لنلعب إلى ما قبل الغروب بربع ساعة".

 

عندما كنت أتكّلم عن اللطم، جاءني شخص وسلّمني ورقة، كُتب فيها: "إنّ الشباب يافعون، عندما يخلعون قمصانهم، قد يقعون في الإثم. هـ. م".

 

قلت: "السيّد هـ. م، لا أدري من تكون ولِمَ كتبت هذا؛ ولكن علينا أوّلًا أن نكتب عريضة نطالب فيها بإقفال الحمّامات العموميّة. فهنا نخلع قمصاننا ونلطم. وهناك (في الحمّام العمومي)، يخلع القوم سراويلهم أيضًا..".

 

علت أصوات الجميع بالضحك.

 

بعدها قلت له: "هذه هي سنّتنا، أيّها الأخ. لا أحتّم عليك خلع قميصك؛ لكنّ اللطم بالفانيلّا لا يعجبنا. والقرار لك الآن [إن كنت ستبقى في الكتيبة أم لا].

 

عندها، خرج البعض من الصفّ والتحقوا بكتائب أخرى.

 

ذات يوم، أرسلت عامل بريد الكتيبة "حميد مشكي"، إلى طهران ليحضر من قيادة إسناد الحرب جهاز تلفاز وقرابة الثلاثين فيلمًا سينمائيًّا. حيث بتنا نعرض الأفلام للإخوة في ليالي الأحد والاثنين.

 

صباح كلّ يوم اثنين كنت أعطي الإخوة درسًا في الأخلاق: "سيرة الرجال الشجعان". وضعت لوحًا أسود اللون في مقدّمة الخيمة وكتبت عليه: "إبراهيم هادي". ومن ثمّ رحتُ أتكلّم عن الأبطال ورجولتهم وشجاعتهم الحاسمة، وما سطّروا من ملاحم في العمليّات الكذائيّة.

 

قصدت الكلام عن هذه الأمور ليتعلّم الشباب منها وتكون مثالًا لهم. بعدها مباشرة كنت أقول للأخ أصغر: "حاج أصغر، الكلام الأخير لك،

 

396

 

 


382

معترضون وأصدقاء

لنفترض أنّها ليلة العمليّات، ونحن في "بهمن شير"، وبعد ساعة سنهجم على خطوط دفاع الأعداء".

 

قال أصغر ذات مرّة: "أريد أن أقول شيئًا واحدًا: ليست الرجولة في أن نصيب أربع دبّابات، الرجولة في أن لا نريق ماء وجه أحدهم إذا ما شعر بالخوف".

 

وهكذا، راح أصغر يعلّم الإخوة ما اكتسبه من تجارب في العمليّات السابقة. أردت أن يقوى شباب ميثم من حيث التدريب. وبالالتفات إلى الخسائر التي تكبّدتها الكتائب في العمليّات السابقة، اتّضح أنّ تدريبنا ضعيف، بل وأحيانًا لا وجود له أبدًا. دائمًا ما كنتُ أتّخذ قراراتي بالتشاور مع أصغر. فكان الكلام الأخير له؛ هو يقدّم الخطّة وأنا أنفّذها.

 

ذات يوم جاء الحاج محمّد إلينا وقال: "إنّ أمركم لعجيب. لماذا أتيتم بكلّ مدرّبي التكتيك هؤلاء إلى كتيبتكم؟".

 

قلت: "لم يأتوا جميعهم من أجل التدريب؛ إنّما من أجل المشاركة في العمليّات. وللعلم، إن احتاجت الكتائب الأخرى إلى مدرّبين، فإنّنا نرسلهم حتّى يرفعوا من مستوى التدريب فيها".

 

تميّزنا بابتكارات وأفكار جديدة لم تكن رائجة في الكتائب الأخرى.فكنّا على سبيل المثال نعقد جلستين أسبوعيًّا مع عديد الكتيبة، ونحلّ المشاكل والأمور من خلال الأخذ برأي البقيّة، وننهيها على خير.

 

أُلقيت مسؤوليّة متابعة أمور الجرحى، وتقديم المساعدات الماليّة والخدمات للإخوة في طهران، على عاتق الحاج "جواد وهابيان". وكان من العناصر القدامى لـ"لجنة الأمر بالمعروف" في ميدان خراسان، وقد التحق بشكل منفرد وكعنصر حرّ بكتيبة ميثم، وصار يقدّم المساعدات الدوائيّة

 

 

397

 


383

معترضون وأصدقاء

للمجاهدين والجرحى، خاصّة للجرحى الكيميائيّين منهم، وإذا ما عانى أحدهم من ضائقة ماليّة، تصدّى لحلّ مشكلته من دون إثارة أيّ ضجيج.

 

بدأنا العمل طبقًا للخطّة التي وضعناها. كانت صلاة الليل والعبادة حتّى طلوع الفجر عادة جميع المجاهدين وسمة الجبهة. ولم تختصّ بهذه الكتيبة أو تلك. وكذلك شباب "ميثم" أيضًا، فمقيمو صلاة الليل فيهم، يبقون مستيقظين حتّى الصباح. وكلّما فاض العاشقون عشقًا، أقاموا صلاة الليل. جميع الكتائب كانت تقرأ زيارة عاشوراء ليلًا، إلّا سريّة "أكبر سرپوشان" تتلوها عصرًا؛ هكذا اعتادوا. ونحن أيضًا لم نتشدّد مع أحد فيما يتعلّق بهذه المسائل، فقد أتينا لنقاتل، والمهم هو إنجاز المهمات والأعمال الأكثر أهمية.

 

كان في سريّة فدك فتى يُدعى "حسين باشي" يردّد كلّ يوم: "السلام عليكم يا عناصر سريّة فدك؛ السلام عليكم يا شباب سريّة البقيع؛ السلام عليكم يا سيّد أبا الفضل؛ السلام عليك يا حاج أصغر أيّها العاشق"، وهكذا ظلّ يذكر الجميع بأسمائهم ويسلّم عليهم، وبفعله هذا كان يمدّ الجميع بالمعنويّات العالية ويبثّ فيهم الروح ويخرجهم من حال اليأس.

 

كان أربعة من بین شباب کتیبتنا متعلّمين، من أهالي "سرچشمه"، وقد درسوا في "المدرسة العلويّة" وهم: "علي أوسط"، "مهدوي"، "قاسم حمامي" الذي كان والده صاحب حمّام عمومي، و"مجتبى جواد زاده" ذو الأخلاق الحميدة، كان ودودًا ونجيبًا وطاهرًا ومستقيمًا. كلّما مازحته قائًلا: "أأنت من الهيئة الحجّتيّة؟"[1]. أجابني ضاحكًا: "إنّنا نتلقّى الضربات من الناحيتين. في الثانويّة يقولون لنا بأنّنا سنصبح وزراء أو نوّابًا، وهنا يقولون

 

 


[1]  إحدى الفرق الضالّة والمنحرفة التي تدعو إلى القعود وترويج الفساد في الأرض، بدعوى أنّ ذلك يعجّل الظهور المبارك للإمام.

 

398


384

معترضون وأصدقاء

لنا: أنتم لا تصلحون حتّى للقتل".

 

عصر كلّ يوم كنّا نقيم مباراة في كرة القدم. وكان هو المساعد، يوزّع الشباب على الفرق. أما أنا وأصغر ولأننا نعرج في مشيتنا، ندخل أحيانًا الملعب ونسدّد بالطابة لندخل السرور على قلوب الإخوة. كان لعب أصغر في الكرة الطائرة على نسق واحد؛ ذلك أنّه طويل القامة ويأتي بكبسات حادّة.

 

أمّا فيما يتعلّق برياضة الزورخانه ومحبّيها، فلم نقصّر. فقد حفرنا حفرة بارتفاع متر ونصف وقطر يبلغ ثلاثة أمتار، إلى جانب حسينيّة الحاجّ همّت؛ فرشنا أرضها وجدرانها من الداخل بالإسمنت. وأصبح السروال الكردي هو اللباس المخصّص للزورخانه، ولففنا قطعة قماش حول الخصر لنكون على نسق واحد. فكان ملوك الزورخانه من أمثال "محمود جولیده"، "علي زاكاني" والحاج "حسين سازور" و... يأتون كلّ يوم ويقيمون هذه الرياضة. وهكذا أجرينا الرياضة القديمة في تلك البقعة البعيدة. بالنسبة لي، كنت فقط أرفع الهراوة. أمّا "حسين سازور" فهو المعلّم في الدوران، يدور لأكثر من دقيقتين.

 

لم تمضِ بضعة أيّام على وجودنا في "دوكوهه" حتّى أرسل الحاجّ محمّد في طلبي وقال: "اجمع عناصرك، ستذهبون لعدّة أيّام إلى "قلاويزان" وخطوط دفاع "مهران"، وستحلّون محلّ كتيبة الشهادة حتّى إشعار آخر. وسنرفدكم بمائتي عنصر جديد".

 

في ذلك اليوم نفسه جئنا بحافلة، ونقلنا الإخوة بمساعدة "حسين طاهري" و"أصغر" إلى دشم "قلاويزان". كنت على معرفة تامّة بمرتفعات "قلاويزان" وممرّاتها، ولم أكن بحاجة إلى التوجيهات الأوّليّة. لذلك، ترك عناصر كتيبة "الشهادة" المنطقة بسرعة.

 

كان محرّم على الأبواب، ففكّرت في إقامة مجلس عزاء حسيني في الكتيبة أكثر حماسة وحرارة.

 

399


385

معترضون وأصدقاء

أمّا في مهران، فلم يحدث في اليوم الأوّل أيّ شيء يُذكر. في اليوم الثاني فقدنا منظارين، ومهما فتّشنا عنهما وسألنا لم نجدهما. شككتُ بأحد العناصر الوافدة للتوّ، وركّزت عليه منذ البداية، إذ إنّه من الأشخاص اللافتين للنظر! وأمثاله في وسط المدينة لم يكونوا ذائعي الصيت [في الأمور السيّئة] فحسب، بل يُشار إليهم بالبنان!

 

كان من شباب "ميدان غار" ومن المحترفين في البلطجة، يسمّيه الإخوة: "حسين سياه".

 

صادف أن ذهبت ذات يوم إلى حسينيّة "الحاج همّت"، فرأيت "حسين" وحيدًا يصلّي. وجدتها فرصة مناسبة لأتعرّف إليه وإلى أعماله وأيّ نوع من الناس هو. قلت: "طيّب الله أنفاسك يا أخي، تقبّل الله".

- يا علي! أنا نفسي سُرقت.

 

قلت متعجّبًا: سُرقت؟ كيف؟

- لقد سُرقت أموالي!

- يعني سُرقت كاميرتك أيضًا؟

- لا، بل سُرق قلبي.

 

تعجّبت، كانت هذه أوّل إشارات حسين. فقد أفهمني بطيّات كلامه ذاك بأنّه لا ينبغي لي إقحامه في مسألة الكاميرا من دون مبرّر.

 

بعدها قال: "أنا أعرفك؛ هل تعرفني؟".

- لربّما التقيتك في مكان ما؟!

- ألست أخا السيّد باقر؟

- بلى، لقد كان أخي في هذه الجماعات ذا وزن! ونافذ الكلمة!

 

400

 

 


386

معترضون وأصدقاء

- سيّد! إنّك من شباب الخطوط الأماميّة؛ أخي أيضًا قد استُشهد. وكلّما سألت أحدًا عن المكان الأفضل لأذهب إليه، أجاب: عليك بـ"ميثم"؛ ففي أيّ مكان آخر لن يقبلوا صحبتك.

- يا علي!

 

كانت هذه بداية صداقتي بـ"حسين إسماعيلي". وبهاتين العبارتين البسيطتين أفهمني أنّ قلبه بحر. بدا واضحًا من هيبته أنّه رجل حرب. لم يظهر الخوف في عينيه. ومع كلّ السوء الذي عُرف عنه، والذي في الواقع لم يكن سوءًا، لم يعرِف التراجع والخوف في الحرب وفي مواطن الخطر.

 

بعد عدّة أيّام جاء حسين إليّ وقال: "سيّد، لي إليك حاجة".

- تفضّل.

- لا أحبّ أن أذهب للاستحمام مع الإخوة المجاهدين. دعني أذهب مع القادة.

- لمَ؟

- لا تسأل لِمَ، بعدها ستفهم.

 

یوم الخمیس، حمل طاقم الكتيبة صُرر ثيابهم، وذهبوا للاستحمام في الحمّام المتنقّل*[1].

 

ناديت "حسين" قائلًا: "تعالَ واذهب للاستحمام مع الإخوة".

 

للحظة، فكّرت في أن أذهب وراءه لأستعلم عن سبب إصراره على الذهاب للاستحمام مع قادة الكتيبة.

 

وضعت شخصًا ينوب مكاني في قيادة الكتيبة، ولحقت الإخوة إلى الحمّام.

 


[1]  صحرائي؛ أي حمّام عمومي ميداني.

 

401


387

معترضون وأصدقاء

كان حسين صاحب جسم رياضيّ. اختلستُ النظر إليه عندما شرع بتبديل ملابسه فرأيت جسده مليئًا بالأوشام؛ في كل بقعة وجزء منه وشمٌ مختلف؛ عشق الأمّ، أسير الرفيق، أسير العشق، مأخوذ بالرفيق، الله والكثير من العبارات الأخرى.

 

كان من عادة المعدمين في جنوب المدينة أن يشِموا أجسادهم ويعرضوها، لكن ليس إلى هذا الحدّ[1].

 

لم أقل شيئًا، وعدت أدراجي.

 

في أيّام محرّم الحرام، جاء الحاجّ محمّد إلى مقرّنا لتفقّد خطّ الدفاع، وكذا للمشاركة في مجالس العزاء الحسينية. فهو من شباب الهيئات، ومتديّن جدًّا. كان يعلم ما نبتغيه، ويعلم بأنّه ستُقام في كتيبتنا مجالس عزاء حسينيّة مطوّلة.

 

قبل "مهران"، كان لدينا خط خلفي عند الكسّارة، يوجد فيه موتور للماء، وقد حفرنا بأنفسنا خندقًا لاستراحة الإخوة، وعندما يشتدّ الحرّ كنّا نأخذهم للسباحة.

 

اعتدنا وضع سريّة في الخطوط الخلفيّة لتقيم مجالس العزاء واللطم، وإرسال سريّتين إلى دشم الدفاع حتّى لا يكون خطّ الدفاع خاليًا. بعد ذلك كنّا دائمًا نجري التبديلات ما بين السرايا ليتمكّن الجميع من المشاركة في مجالس العزاء.

 

في تلك الأيّام، سمعنا بأنّه قد سقط عدد من عناصر كتيبة "الشهادة" شهداء؛ لكن لم يتّضح لِمَ تكبّدوا كلّ هذه الخسائر في خطّ الدفاع.

 

 


[1]  لعل الأخ لم يُرِدْ أن يتعلّم منه العناصر أسلوب الوشم لذا طلب أن يكون استحمامه مع القادة الذين لا يتأثرون بهذه المسائل غالباً.

 

402


388

معترضون وأصدقاء

بعد مدّة علمنا بأنّه كلّما وضع قائد الكتيبة حارسًا في الدشمة، رماه القنّاصة العراقيّون. كانوا مسيطرين ناريًّا على المنطقة. وامتلكوا قنّاصات متينة. أما نحن فعندما تموضعنا كنّا أذكى منهم وأسرع!

 

وجدنا مكانًا مناسبًا يمكننا منه رؤية مواضعهم بنحو جيّد. ونصبنا دشمة للحراسة ووضعنا "خوذة عسكريّة" على رأس البندقيّة ونصبناها على جدار الدشمة بحيث تبدو للعيان. كما وضعنا أكياس الرمل وأعلينا جدار الدشمة. فكانت تصيب هذه الخوذة يوميًّا قرابة الخمسين رصاصة مباشرة. وكان الحرّاس ينظرون من بين شقوق الدشمة ويقومون بمهمّتهم.

 

كانت الطرقات في خطوط الدفاع تحت نظر العراقيّين، ما إن تمرّ سيّارة تويوتا أو شاحنة، حتى تسقط آلاف القذائف على الجادّة. لذا صرنا ننقل الطعام على الدرّاجات الناريّة. أما عاملو البريد فتنقّلوا من وراء السواتر الترابيّة.

 

في اليوم الخامس أو السادس لوجودنا في الخطوط الدفاعيّة، اختفى أحد الحرّاس بطريقة غامضة. احتملنا أن يكون العراقيّون قد أتوا للاستطلاع فاختطفوه ليأخذوا منه المعلومات؛ ذلك أنّه بعد ليلة أو ليلتين، فاجأنا العدو بوابل من النيران على المحور الأيمن. فحرّكنا القوّات إلى هناك وبدأنا بالمواجهة. فبدأوا من الناحية الأخرى برمي نيرانهم أيضًا على المحور الأيسر. تقدّموا ليثبّتوا موطئ قدم لهم. كأنّهم كانوا قد استخرجوا كلّ أسرارنا. بقينا نقاتل حتّى الصباح. وانجلت المعركة بسقوط شهيد وثلاثة جرحى، بالإضافة إلى الحارس المفقود.

 

كان بيننا وبين العراقيّين تلّة. عند طلوع الصباح جلنا بمناظيرنا على المكان، فرأينا جثّة لجنديّ عراقي، وثلاثة من شهدائنا على التلّة. قلت في نفسي، لربّما كان الجندي العراقيّ ثقيلًا فلم يستطع رفاقه سحبه.

 

403

 


389

معترضون وأصدقاء

في الليلة التالية ذهبت وحسين طاهري و"حسين بابايي" وكان من عناصر التخريب وخبيرًا بعمله، إلى التلّة. فكّك حسين بابايي الألغام، وفتح معبرًا فتقدّمنا. كنّا نرى أجساد الشهداء بوضوح؛ لكن كان واضحًا من وضعيّة الجثث والألغام التي كانت حولها، بأنّ العدوّ قد فخّخ الجثث. وكنت واثقًا أنّنا لو اقتربنا منها لوقعنا في المصيدة.

 

قال حسين وهو منزعج: "ذاك الشهيد صديقي؛ إنّه "مجيد حيدر نجاد"، عليّ أن أذهب لسحبه".

 

قلت: "عزيزي حسين، انسَ الأمر فهذا فخّ. إن تقدّمت ينفجر اللغم، والعراقيّون الذين يرون كلّ شيء، سيدكّون التلّة دكًّا، ويحوّلون حياتنا جحيمًا".

 

وبصعوبة، أقنعناه بالتخلّي عن سحب الشهداء. تركنا مكرهين أجساد الأعزّاء، ورجعنا بنيّة سحبهم فيما بعد، بعد القيام بالاستطلاع اللازم ودراسة الوضع والتدقيق فيه.

 

أمضينا أسبوعين في الخطوط الدفاعيّة، وإذا برسالة توّجه لنا عبر جهاز اللاسلكي، تفيد بأنّ كتيبة "مالك" ستصل اليوم، وأنّ علينا توجيهها وتسليم الخطّ لها. لم تستغرق عمليّة تبديل الكتائب بيننا وبين كتيبة مالك يومًا واحدًا. فنقلنا القوّات إلى "دوكوهه" لنتابع هناك أعمال التدريب.

 

عندما استقررنا في مباني دوكوهه، جاءنا الحاجّ محمّد وقال: "سيّد، يوجد في كتيبتك كلّ أنماط البشر؛ ولم ينقصك أيّ طراز منهم".

- وكيف ذاك؟

- في طريقي إلى مقرّكم، صادفت على "جسر كرخه" شابًّا، يقارب طوله المترين، يحمل كيسًا على ظهره، وحيث كانت قيافته تميل إلى شباب "ميثم" أركبته معي. سألته خلال الطريق: "ما اسمك؟" قال: "محمّد

 

404

 

 


390

معترضون وأصدقاء

ضعيف". قلت: "هذا الاسم لا يليق بهيئتك وجسدك الرياضيّ". بعدها سألته: "ما هذا الذي تحمله في الكيس؟" قال: "أذهب في أوقات الفراغ إلى نهر "كرخه"، أصطاد السمك، وفي الليل أدعو الشباب لتناول الكباب".

 

أخذتني الدهشة. فهذا الشابّ يقطع ثلاثة كيلومترات مشيًا على الأقدام حتّى يصل إلى نهر "كرخه" ليصطاد السمك! قلت: "الكلّ هنا ذوو أخلاق عالية؛ وكلّ واحد منهم يظهر أخلاقه بطريقة ما".

 

في تلك الأيّام، كنت عازمًا على السفر برفقة أصغر إلى طهران للمشاركة في اجتماع. فقال لي أصغر: "بما أنّنا شخصان فقط، ويوجد محلّ في السيّارة، فلنأخذ معنا كمال".

 

جئنا إلى طهران، بعد يوم أو يومين. حين أردنا العودة، وجدنا أنّ كميّة البنزين في حوزتنا قليلة. ذهبت إلى السيّدة رجائي وقلت لها: "إمّا أن يذهب كمال بالقطار، أو ينتظر عدّة أيّام ريثما أؤمّن البنزين".

 

قالت السيّدة: "لا، لا... لقد أعطوا اليوم لكل نائب في المجلس مئتي ليتر من البنزين؛ اذهب إلى المكتب الإداري المالي في المجلس، وخذ حصّتي؛ أمّا أنا فسأركب الحافلة في تنقّلاتي".

 

هكذا تمكّنا من العودة بسهولة إلى موقعنا، وإلى منطقة العمليّات.

 

ذات يوم، جاء مسؤول مقرّ الفرقة "علي رضا نوري" إليّ وقال: "غدًا، سيُعقد اجتماع توجيهي. جولة إجماليّة في عمليّات (كربلاء1) و(كربلاء8). وعليك أن تكون حاضرًا وطاقمك. غدًا صباحًا، ستأتي سيّارة ميني باص لتنقلكم".

 

في الصباح الباكر، جاءت سيّارة ميني باص إلى دوكوهه، فركب فيها

 

405

 

 


391

معترضون وأصدقاء

إلى الجانب الأيسر ناحية القلب: يا فاطمة الزهراء عليها السلام.

 

أمّا أنا فقد كنت مرتديًا سروالًا مرقّطًا أهداني إيّاه أحدهم في مكان ما، وقميصًا رماديًّا كُتب على ظهره:

إنّنا جميعًا خجلون من إحسانك يا حسين/ الظفر سيكون حليفنا إن قدّمنا أنفسنا في طريقك.

 

كما كنت أنتعل حذاءً كتّانيًّا، وأحمل في إحدى يديّ سبحة، وفي اليد الأخرى منديلًا حريريًّا مخطّطًا باللونين الرمادي والفضّي.

 

كان "علي رضا نوري" واقفًا لدى الباب، ما إن رآني حتّى تقدّم نحوي غاضبًا وقال: "يا رجل..".

 

لم أتراجع، ورميت الکرة فی ملعبه، ولم أدعه يتكلّم. قلت: "ألا تخجل من نفسك؟! هذه الأعمال ليست من شأنك. إن أردت أن تخجلنا، فاسعَ أن تفعل ذلك بطريقة أخرى؛ لا أمام أعين الجميع. أنا [بلا زغرى[1]] قائد..".

 

تعجّب نوري من جوابي السريع فقال: "ماذا حصل؟!".

- تعطي السيّارات الجيّدة لأصحابك؟ وتميّز بين الإخوة؟ وتعطينا السيّارات الخربة؟!

 

كأنّما أُسقط في يده.

 

كان السيّد "فخر الدين حجازي" يتكلّم مع الإخوة، وكان لسانه قاطعًا كالسيف. فكان يضرب الأمثال ويقول:

"دو دو دو برسبوليس[2]، دي دي دي برسبوليس! من أحرز هدفًا، من

 

 


[1]  أو بلا زغرة تعبير عامي باللهجه اللبنانية؛ معناه مع الاحترام والشأن.

[2]  فريق كرة قدم إيراني.

 

407


392

معترضون وأصدقاء

لم يحرز هدفًا. ماذا فعل هذا؟ وما فعل ذاك؟ إنّ برسبوليس لم يصبح الخبز والماء، والبلد اليوم في حالة حرب. إنّهم يشغلون عقول الشباب بالفوتبول ويخدعونهم..".

 

نظر إليّ أصغر وقال: "هذا هو الوقت المناسب لترمي ورقتك الرابحة".

 

- سيّد حجازي، إن كنت من مشجّعي نادي الاستقلال فقل بشجاعة... لِمَ المبالغة؟ إنّنا -بحمد الله- جميعًا من مشجّعي برسبوليس. إن كان نادي الاستقلال قد أعطاك الأموال لتثير هذه الأجواء فقل بصراحة. فهنا الجبهة، قل بصدق..

 

علت ضحكات الجميع وراحوا يصفّقون، وتغيّرت أجواء الجلسة. بعد ذلك تكلّم السيّد "ميثمي" ممثّل الإمام، وصلّى فينا صلاة الظهرين.

 

وقت الغداء، جاء شباب الدعم*[1] ليتفنّنوا في عرض خدماتهم، فقد أعدّوا شيئًا شبيهًا بالدجاج المقليّ؛ كان لذيذًا! كما قدّموا معه الخيار المخلّل والخبز.

 

بدأ أحدهم بتوزيع الطعام. جامل المؤدّبون بعضهم البعض، فكان الواحد منهم يقول للآخر: تفضّل يا أخي لنتناول الطعام معًا.

 

وصل الدور إلى طاقمنا، جماعة ميدان "شوش". فراحوا يأكلون، ويقولون أعطني واحدة أخرى، بحيث أخذ كلّ واحد منهم ثلاث قطع من الدجاج؛ والدليل عليه أن إحدى عشرة حصّة قد نقصت من الطعام.

 

سرى الخبر من واحد إلى آخر، ودار الهمس والهمهمة. أشار الجميع إلينا بالبنان وراحوا يقولون: لقد أخذ كلّ واحد من هؤلاء ثلاث حصص من الطعام، فجأة قال علي رضا نوري: "سيّد، تعالَ إلى هنا لو سمحت..".

 


[1]  التداركات والمؤن-.

 

408


393

معترضون وأصدقاء

ذهبتُ إليه وقلت: "تفضّل، يا عزيزي الحاج..".

- يا رجل... لقد قلنا إنّكم كتيبة الأبطال وأهل المروءة. لقد نقصت إحدى عشرة حصّة يا أخي! وبقي عدد من الأشخاص جائعين!

- من فعل هذا؟

 

أشار عليّ إلى شبابنا وقال: "هم أولئك، أليسوا شبابك؟".

- هؤلاء ليسوا شبابنا.

 

تذاكيت عليه وقلت طاقمنا جالس إلى تلك الناحية.

 

هزّ برأسه خجلًا وقال: "اِ... سامحني".

- انظر يا سيّد عليّ، كم بلغ عدد المرّات التي اعتذرت فيها هذا اليوم؟ لقد أحرجتنا صباح هذا اليوم مرّة، وها أنت الآن تفعل ذلك...

 

ومرّة أخرى قام عليّ المسكين باحتضاني، وقبّلني قائلًا: "أنا خادمك يا سيّد".

 

بعدها توجّه نحو قائد كتيبة الشهادة "جواد صرّاف". ناداه ومهما حاول إقناع جواد لم يقبل، قال جواد والغضب يملأه: "السيّد يتذاكى فيما يقول. هؤلاء شبابه".

 

نظرت من البعيد لما حلّ بجواد. كان بحال لو طعنته بسكّين لا يخرج منه قطرة دمّ. كان يتكلّم بسرعة ويشير إليّ. فجأة أشار لي وقال: "سيّد، تعالَ هنا لنرى..".

 

کان شبابنا قد أكلوا بسرعة وولّوا هاربين. ذهبت إلى جواد وقلت بصوت عال: "عزيزي نوري، دعك من هذا... لقد قاموا الآن بعمل ما. إنّهم شباب يا عمّ. لا تقل شيئًا للحاجّ محمّد؛ فهو أمر محرج بالنسبة لهم".

 

 

409


394

معترضون وأصدقاء

قال علي رضا نوري: "حسنًا، لن أقول".

 

قلت: أنا سأحضر جواد وأصالحه. تعالَ يا جواد..".

 

أنّبني جواد ببعض الكلمات الثقيلة وقال: "تريد أن تمارس شغبك في كلّ مكان؟ الواحد منكم أكل ثلاثة صحون من الطعام، أرقتم ماء وجوه الجميع. وينادونك بأخي أيضًا؟".

 

طأطأت رأسي إلى الأرض. لم يكن الوقت مناسبًا لمعارضة جواد والبحث والجدل معه. بقيت هذه المسألة حتّى الليل سببًا لانزعاج البعض، ولضحك البعض الآخر.

 

لقد جيء بالطعام المعلّب لأولئك الذين لم يتناولوا طعام الغداء. صلّينا صلاة العشاء، وتناولنا أيضًا السمك المعلّب.

 

بعد الصلاة أُقيمت أيضًا جلسة توجيهيّة في مقرّ الفرقة. وكانت تلك الجلسة التوجيهيّة الأولى لعمليّات "كربلاء 4". ويا لها من ليلة! كانت ليلة الثامن والعشرين من صفر، ولم يكن بي حال لأحضر الجلسة.

 

حضر أصغر وحسين الجلسة. كنت مرتاح البال لناحية توجيه العمليّات وأمثال هذه الأمور. كانت السيّارات قد غادرت؛ ولم تكن هناك أيّ وسيلة لأعود بها إلى "دوكوهه"... فاللطم، والشباب، وليلة الشهادة... لم أعد أطيق صبرًا. خرجت من المبنى حيث تُعقد الجلسة، وتمشّيت قليلًا في تلك الناحية. كانت المنطقة مليئة بمخازن المواد الغذائيّة التي تبرّع بها الناس وأرسلوها. في الطريق، التقيت بـ"مصطفى فرح زادي" بلبل الفرقة وقارئ عزائها. فقال: "لقد أتيت مع سماحة المحقّق".

 

قلت: "مصطفى، إنّها ليلة الشهادة، وقلبي منقبض... ماذا أفعل؟".

 

بينما كنّا نسير من أمام محلّ استراحة خبّازي الفرقة. وقع نظرنا

 

410

 

 


395

معترضون وأصدقاء

على مصباحين يومضان. وكأن الخبّازين كانوا مستيقظين.

 

فجأة خطرت ببالي فكرة؛ تقدّمت، طرقت على زجاج الفرن وناديت الخبّاز، سألته: أيّها المعلّم، كم نفرًا أنتم هنا؟.

- ثلاثون، أربعون نفرًا.

- "إنّ الحاج مصطفى مدّاح أهل البيت هنا. هل تريدون أن تستمعوا إلى مجلس عزاء؟ إنّها ليلة الشهادة".

- نعم يا سيّد نحن من أهل المجالس.

 

دخلنا الصالة. اجتمع الخبّازون. أُزيحت الأسرّة جانبًا، أُطفأت المصابيح، قرأ مصطفى مجلسًا ولطمنا. كان المجلس أنيسًا، وقد أقمنا العزاء.

 

خرجت بعد قراءة المجلس والعرق يتصبّبني، لكنّي كنت أشعر بخفّة كبيرة، فاللطم على الإمام الحسين عليه السلام يجري في عروقي ودمي.

 

من تلك الناحية، كان الحاجّ محمّد يبحث عنّي.

 

لمّا رآني قال: "أين كنت يا أخي؟ لقد انتهت الجلسة".

- كنّا نقيم مجلس عزاء في غرفة الخبّازين.

- سيّد، غدًا صباحًا، ستأتي سيّارة إلى باب الخيمة، علينا أن نذهب في الصباح الباكر إلى طهران لرؤية الإمام، وكذا للقاء الشيخ هاشمي.

- لن نأتي معكم.

- لِمَ؟

- غدًا هو الثامن والعشرون من صفر، علينا إقامة مجلس عزاء.

- وهل الأمر بيدك؟ أنت لم تصبح شيئًا بعد...

 

411

 

 


396

معترضون وأصدقاء

- أنت تعلم، وتعرفني. عندما أقول لن آتي، فلن آتي. غدًا شهادة الإمام الحسن عليه السلام.

- لقد قلت لك مئة مرّة أن لا تتكلّم كلامًا فوق كلامي. لقد نسّقت الأمر. غدًا، عليكم جميعًا أن تكونوا في طهران.

 

عند الساعة الثانية بعد الظهر، وتلافيًا لتهرّبنا، أرسلوا إلينا حافلة نقل مشترك لتنقلنا إلى طهران.

 

استغرق الأمر ساعة ونصف الساعة حتّى جمعنا الإخوة. كنّا ما بين العشرين والثلاثين نفرًا من كتيبة ميثم، وما بين العشرة والاثني عشر نفرًا من كتيبة الشهادة.

 

وصلنا إلى طهران في وقت السحر، توجّهنا مباشرة إلى مقام "الشاه عبد العظيم". أديّنا هناك صلاة الصبح، بعدها قصدنا مطعم داوود للمقادم ورأس "النيفا" في شارع خراسان. رحمة الله على داوود، فقد كان بطلًا ورياضيًّا؛ كما كان محلّه مجمعًا للأقوياء ولهواة ولاعبي رياضة الزورخانة. تعجّب حين رأى عددنا، فقد غَزَوْنا محلّه، وكنّا قرابة الخمسين نفرًا. فقال: "سيّد، أنا لا أقدر عليكم".

 

وزّعنا الإخوة مجموعات مجموعات، دخلنا وجلسنا. تناول كلّ خمسة أشخاص وجبة[1] من المقادم ورؤوس النيفا، وشربنا بعدها فنجانًا من الشاي مع قطع السكّر.

 

بعد ذلك، وصلنا إلى قاعدة "وليّ العصر". كانت طواقم الكتائب الأخرى قد وصلت في الليلة السابقة، وخلدت إلى النوم.

 

 


[1]  الوجبة تحتوي على رأس وأربع مقادم.

 

412


397

معترضون وأصدقاء

هناك، تذكّرت "محمود جوليده" وأهمية الإتيان به إلى كتيبة ميثم. وكان محمود قد أُصيب إصابة بالغة في عمليات كربلاء1، وعلمت بأنّه قد خرجّ للتوّ من المستشفى، فأرسلت إليه أحد الإخوة. فجاءني به إلى أمام باب قاعدة "ولي العصر". لم يكن بعض الإخوة قد تخالطوا معه. أمّا أنا فكنت كتوأمه. شابّ مخلص، شجاع، لا يعرف الخوف، والأهمّ من ذلك كلّه، إنّه مدّاح خبير، وكنّا بحاجة له في "ميثم" ونفتقده كثيرًا. بعد التحيّة والسلام عرضت له مسألة كتيبة ميثم. وبعد أن طرقنا هذا الباب وذاك، بصعوبة أمّنا له لباسًا عسكريًّا وألبسناه إيّاه. كان محمود صغير البنية؛ وقد نحل جسمه أكثر بعد الإصابة، فكان اللباس واسعًا جدًّا عليه، فلا هو كان للّباس ولا اللباس كان له. ارتدى لباسه، وأصبح هو مسؤول السرايا بدل "أمير برادران".

 

كان يوم شهادة الإمام الحسن عليه السلام، ذهبنا إلى أمام باب المجلس [الشورى الإسلامي]. فجاء الأخ كوثري أيضًا وقال: "سيّد، إنّها أيّام الشهادة، فلتقم لنا دودمه"[1].

 

توزّعنا على مجموعتين وبدأنا نلطم على طريقة الـ"دودمه". قرأ أحد الإخوة العزاء. عندما دخلنا الصالة، كانت الكتائب الأخرى قد وصلت قبلنا وجلست في المقدّمة؛ وكأنّ الصالة مسرح. لا أدري... لربّما كانوا يخجلون؛ أو كانوا يعدّون اللطم على طريقتنا أمرًا سيّئًا. وقفت في الوسط وقلت وأنا ألطم: "الرجاء من الجميع الوقوف احترامًا للمولى [الإمام الحسن]..".

 

 


[1]  دودمه في مراسم اللطم وعزاء الإمام الحسين عليه السلام يقوم القارئ أوّلًا بقراءة بعض أبيات الشعر مرّة واحدة، ويكرّر بعض المصارع مرّتين مرّتين. في آخر المجلس وبعد الدعاء، يبدأ بإلقاء الشعر على طريقة الـدودمه، والـسه دمه نوع من أنواع الشعر-، والـچهارباره ای نوع من أنواع الشعر أيضًا-، بحيث ينقسم اللطّيمة إلى مجموعتين، ويردّدون بالتناوب تلك الأشعار معه. (الراوية)

 

413


398

معترضون وأصدقاء

وقف كلّ العناصر، والمساكين تراجعوا قليلًا إلى الوراء. أمّا نحن فأخذتنا الحماسة ورحنا ننادي بصوت عالٍ "أبا الفضل، أبا الفضل..". وتقدّمنا شيئًا فشيئًا وجلسنا في المقدّمة.

 

لقد خُدعت الكتائب الأخرى، فهي من جهة لم تلطم، ومن جهة أخرى أخذنا مكانها.

 

بعدها بقليل، جاء "محمّد كوثري"، و"الشيخ هاشمي"، وحارسه الشخصي "أحمد بارياب". نهضنا جميعًا وقوفًا وأطلقنا الصلوات. قال لي "علي رضا نوري": "سيّد، حبّذا لو يقرأ محمود مجلسه أوّلًا، وعندما يريد الشيخ هاشمي أن يلقي كلمته، لا أريد أن أسمع أيّ صوت".

 

قلت: أوّلًا، لقد خرج محمود منذ أربعة أيّام من المستشفى، وحاله الصحيّة لا تسمح بذلك. ثانيًا، بماذا يريد الشيخ هاشمي أن يتكلّم؟! إن نكّدت على محمود، امتنع عن القراءة! قال: "حسنًا، كما تريد!".

 

وُضع كرسيّ، فجلس عليه الشيخ هاشمي. كما وُضعت أمامه طاولة خشبيّة.

 

ذهب الحاجّ محمّد إلى الشيخ هاشمي وقال: "هؤلاء الإخوة من طاقم فرقة طهران. وحيث أنّك إمام جمعة طهران مضافًا إلى كونك ممثّل الإمام، عليك أن تأتي مرّة بنحو مخصوص إلى الفرقة للقاء الإخوة".

 

أطلق الجميع الصلوات مجدّدًا، ليشرع الشيخ هاشمي بكلمته. فجأةً قلت: "إنّها ليلة الشهادة، والأخ "جوليده" قد خرج للتوّ من المستشفى، فكلّ من يحبّ أن يقرأ الحاجّ محمود مجلس عزاء فليرفع صوته بالصلاة على محمّد وآل محمّد".

 

أطلق الإخوة صلوات عالية، فتوجّه الأخ محمود إلى الميكروفون. قرأ

 

414

 

 


399

معترضون وأصدقاء

محمود قصيدة، كان "داوود عابدي" يدندن بها ويردّدها دائمًا.

إن طردوني من زقاقك أيّها الحبيب

فوالله سأعود من جديد حتّى ولو لم يدعوني

أصبحت أيّها الحبيب تابع قافلة عشّاقك

على أمل أن يوصلوني إلى زقاقك

كم ضربت رأسي بباب الخمّارة

حتّى يسقوني رشفة من خمر عشقك

 

سيطرت قصيدة محمود على المجلس. بعد ذلك قرأ النعي، ومن ثمّ ختم بالدعاء. فجأة انبرى "أصغر خروجب"[1]، وبطريقة الحفاة المعدمين، رفع صوته قائلًا: "افسح لنا المجال يا سيّد أبا الفضل. ائذن لنا".

 

قلت: "باسم الله..".

 

قمنا وفتحنا ممرًّا فيما بيننا. خلعنا قمصاننا ووقف بعضنا مقابل بعضنا الآخر، ورحنا نلطم الصدور ونقرأ المراثي بشكل منظّم ورائع. في هذه الأثناء، اشتكى البعض ممّن ليسوا من أهل هذا العالم، واعترضوا أن كيف نخلع قمصاننا بحضور الشيخ هاشمي، ولا نسمح له بالكلام. فعاد محمود وقرأ أبياتًا من الشعر مجدّدًا، ومن ثمّ عرّج على ذكر مصيبة الإمام الحسين عليه السلام وختم بالدعاء.

 

فقال الشيخ هاشمي: "أحسنتم! بماذا سأتكلّم معكم؟".

 


[1]  أصغر عبد الحسين زاده، المعروف بأصغر خروجب، كان مسؤول إحدى سرايا كتيبة الشهادة، وقد لُقّب بهذا اللقب بسبب يديه الكبيرتين وأصابعه القويّة. فيما بعد صاروا ينادونه في الجبهة بأصغر حسن اليد. كان من شباب مفترق قبان وإمام زاده معصوم، وقد فُقد أثره في عمليّات (كربلاء 5).

 

415


400

معترضون وأصدقاء

قلت: "أرأيت يا سيّد كوثري؟ ما الذي سيقوله الشيخ هاشمي بعد؟ القضيّة الأولى، هي الحرب؛ وهذه الجموع منذ أربعة أشهر لم تبارح ساحة الحرب ولم ترَ زوجاتها وأولادها..".

 

تحدّث الشيخ هاشمي حول مشاكل الحرب اليوميّة وشكر الجميع.

 

بعد الجلسة، توجّه الحاجّ محمّد إلى الإخوة وقال: "ليصعد الجميع إلى الحافلة، نريد العودة إلى القاعدة... فالعناصر منتظرة".

 

مباشرةً قلت لـ"أكبر سربوشان" وباقي مسؤولي السرايا: "اذهبوا جميعًا في إجازة. موعدنا غدًا في تمام الثامنة صباحًا أمام قاعدة ولي العصر".

 

بعد ذلك، وقفتُ أمام السيّارات وتظاهرت بأنّني لم أسمع شيئًا. قال الحاج محمّد: "ألن تأتي؟".

- إلى أين؟

- لقد طلبت من الجميع الذهاب إلى قاعدة ولي العصر، ومن هناك إلى الجبهة.

- إِ... متى قلت ذلك، لم أسمعك؛ لقد أرسلت الجميع في إجازة.

 

هزّ الحاجّ محمّد رأسه وقال: "يا أخي، لِمَ أنت هكذا؟ لكنّ صوته لم يعلُ حتّى لا ينتبه الآخرون".

 

قلت: "يا حاج، أنا أدرك ما معنى طاعة القائد؛ لكنّ أصحابنا قد جاؤوا إلى طهران، ويريدون أن يذهبوا لرؤية زوجاتهم وأولادهم. ما معنى العودة بالكتائب هذا؟".

 

تركت الحاجّ محمّد وتهرّبت، وذهبت إلى البيت.

 

416

 

 


401

معترضون وأصدقاء

في صباح اليوم التالي، تجمّعنا في "قاعدة ولي العصر". وقبل أيّ شيء قدّمت لمسؤول التداركات في الفرقة كشفًا بالمصاريف التي أنفقناها، وقلت له: لقد صرفنا 100 ألف تومان؛ سدّد لنا الفاتورة. قال: "إنّنا نقدّم 50 ألف تومان لكلّ كتيبة. فلِمَ أنفقتم 100 ألف؟".

 

رجعنا إلى "دوكوهه". ذات يوم، وبينما كنت أتمشّى وأصغر في الفناء، قال لي أصغر: "كم هو جميل أن نأتي للشباب بخبير محنّك".

- ماذا؟

- ماذا لو أتينا بالسيّد علي (النجفي) ليلقي على مسامع الإخوة ليلًا بعض المواعظ. سيثير حركة وحماسة في الكتيبة!

- غدًا أذهب إلى طهران وأحضره.

 

انطلقتُ في الصباح الباكر، وعند الغروب تشرّفت بزيارة السيّد علي. كان السيّد متواضعًا جدًّا، بحيث لم تكن هناك من حاجة لأخذ موعد مسبق لزيارته. وقد كان باب بيته مشرعًا للمجاهدين. قلت له: "لقد شكّلنا كتيبة "ميثم" والآن هو الوقت المناسب لتشرّفنا هناك".

- حسنًا، غدًا بعد صلاة الصبح ننطلق.

 

وفي ذلك اليوم ذهبت إلى رئيس الحكومة الثانية وأخذت منه بطاقة مأموريّة للسيّد علي.

 

في ذلك اليوم، عندما كنت في طهران، جاء السيّد خضرايي إلى بيتي، وكان من أبناء محلّتنا، فقال لي: "سيّد أريد أن أذهب إلى الخطوط الأماميّة".

- اذهب غدًا إلى قاعدة مالك الأشتر والتحق من هناك.

 

 

417

 

 


402

معترضون وأصدقاء

في صباح اليوم التالي، ركبت والسيّد سيّارة تويوتا وانطلقنا نحو "دوكوهه".

 

في تلك الفترة، قلّما كان يحدث أن يترك عالم دين وواعظ مع كلّ ما له من مريدين ومحبّين، منبره ومكتبه والمساعدين، ويأتي إلى الجبهة، فيخالط المجاهدين، ويعيش على الحجر والمدر تحت سقف خيمة. كانت تلك المرّة الثانية التي يحضر فيها السيّد علي بين صفوف المجاهدين.

 

وصلنا إلى دوكوهه. تحلّق الإخوة حول السيّد. وأراد الوافدون الجدد أن يتعرّفوا إليه. فالعناصر القدامى كانوا ينهلون من فيضه للمرّة الثانية. عند المساء، دعونا السيّد ليخطب فينا. قلت له: "سيّد، لو جاء رفاقنا ومعارفنا من الكتائب الأخرى..".

 

قال: "لا؛ إنّ زمامنا بيد السيّد [السيّد أبي الفضل]".

 

في تلك الليلة، ألهب السيّد كلّ المشاعر! تحدّث عن العشق، وقلب كيان الجميع! تكلّم بكلام جديد، عن العشق والعرفان، فغيّر أفكار الإخوة. أذكر أنّه قال في موضع من خطبته: ".. عليكم أن تقوّوا التوحيد في نفوسكم. السياسة والحكومة فرع هذا الأمر. والفرع ينبغي أن يكون قائمًا على الأصل. على أيّ ركن ينبغي لهذا السقف أن يستند؟ وعلى أيّ عمود؟ على عمود التوحيد. على عمود الإخلاص، وخدمة خلق الله. عليكم أن تدوروا حول هذا المحور. كونوا موحّدين، يهدكم الله...[1] ". بقينا في تلك الليلة متحلّقين حول السيّد إلى الساعة الثانية عشرة منتصف الليل. عشنا حال عشق تامّة وكاملة. انشغل كل واحد منا عن الآخر، الكلّ انشغل مأخوذًا بالعشق، وبالعشق فقط..

 


[1]  تفسير دعاء الجوشن الكبير، خرداد 1367حزيران تموز 1988.

 

418


403

معترضون وأصدقاء

في بعض الليالي، كان السيّد يقول: "سيّد، هلّا نذهب إلى الخمّارة؟".

 

وفورًا نُركب السيّد علي في شاحنة التويوتا ذاتها التي أتينا بها، ونذهب إلى "دزفول" لزيارة مقام "السيّد محمّد سبزقبا". عشِقَ السيّد "السيّد محمّد سبز قبا"، وصرنا نحن نزوره أيضًا.

 

في مقابل مقام "السيّد محمّد سبز قبا"، كان يوجد مقهى، وقد أُعجب القهوجي بالسيّد، فأخذ قطعة الجلد وأحضر متّكأً ووضعه وراء ظهر السيّد. وقدّم له الضيافة.

 

بقينا نحن أيضًا إلى جانب السيّد إلى منتصف الليل. عند عودتنا، قال: "سيّد، إن نحن نمنا الآن فلن نستطيع القيام لأداء صلاة الصبح... سيكون الأمر صعبًا علينا!".

 

عندما عدنا من "سبز قبا" ذهب السيّد للوضوء. فرأيت 300 شخص ينتظرون في صفّ المرحاض.

 

توقّف السيّد وقال: "سيّد، هنا العرش أم الأرض؟ من هم هؤلاء الذين ما زالوا مستيقظين إلى هذه الساعة من الليل؟ أين نحن؟".

 

وضع بعض الإخوة قبّعات على رؤوسهم لكي لا يعرفهم أحد. واستغرقوا في حالاتهم المعنويّة. عندما رأوا السيّد، تنحّوا جانبًا.

 

فقال لهم : "لا يا عزيزي، عليّ أن أنتظر دوري".

 

انتظرنا نصف ساعة. أما السيّد، فلضخامة جثّته وثقل وزنه، تعب من الوقوف وبدأت رجلاه تؤلمانه. رأيته يتّكئ على هذه الرِّجل وتلك.

 

أقمنا صلاة الصبح بإمامته. وكان من عادة السيّد أن يتلو زيارة عاشوراء بعد الصلاة. سادت في وسط الزيارة حال معنويّة، وبكينا؛ نظرت إلى السيّد، فرأيته غاطًّا في النوم.

 

419


404

معترضون وأصدقاء

قمت وتقدّمت نحوه. هززت كتفه بهدوء وأيقظته. رفع رأسه، نظر إليّ وقال: "من هم هؤلاء يا صاح؟ إنّ زيارة عاشوراء تستغرق نصف ساعة، لا ساعة ونصفًا! وقد سهرنا كثيرًا!".

 

أخذتُ بيده وساعدته على النهوض. وأعددت له مكانًا للنوم على السطح. فذهب ونام إلى الساعة الحادية عشرة صباحًا.

 

لم يكن السيّد من أهل الرياء، ولا من أهل التمثيل. كما لم يطلب الكسب والربح. فأحيانًا يقول لي: "سيّد، لا أرغب اليوم بأداء صلاة الجماعة، ولا يصحّ إقامتها إذا لم تكن مستعدًّا لها".

 

وأحيانًا يقول: "سيّد، اتركني قليلًا مع هؤلاء الإخوة. لا تدع هؤلاء الإخوة يتحسّرون".

 

كان يذهب ويجلس بين الإخوة، يسلّيهم، فيترك كلامه أثره فيهم. وقد علّمهم بأن يتناولوا الطعام بأيديهم، قائلًا: "يوجد على رؤوس أصابع الإنسان مادّة تساعد على هضم الطعام. بالمناسبة، إن وُجد في الطعام عظم أو حجر، فيمكنك الالتفات إليه إذا كنت تأكل بيدك، أمّا إن التهمت الطعام بالملعقة، فقد يعلق في حلقومك، أو يكسر سنّك..".

 

بهذه الكلمات دخل قلوب الإخوة، ومع فارق السنّ بينه وبين بعضهم، عاملهم بمحبّة فائقة، يُحسد عليها.

 

ذات يوم، بدأ الكلام عن الانتقال إلى مخيّم "كرخه"، وحكاية التدريب والتكتيك وعذاب الليل والحياة في الخيمة.

 

وكما باقي كتائب الفرقة الأخرى، كان علينا أن نصمّم لوحة وعلامة لموقع كتيبتنا وذلك ليكون موقعنا ونطاق سيطرتنا معلومًا للكتائب الأخرى.وبسبب عمل شباب ميثم بسنّة الأبطال الشجعان، انتقينا اسم الشهيد

 

 

420

 


405

معترضون وأصدقاء

"إبراهيم هادي" الذي كان أمير شجعان الجبهة؛ لوحة حديديّة كُتب عليها بالخطّ العريض: "المولى لا يقبل للرجال الشجعان أن يُذلّوا" وكُتب فوق هذه العبارة بخطّ أصغر حجمًا: "موقع الشهيد البطل إبراهيم هادي". ورحنا في كلّ انتقالاتنا ننصب هذه اللوحة في مدخل الموقع لتكون الدليل عليه.

 

في اليوم الأوّل لدخولنا مخيّم "كرخه"، وصل "السيّد خضرايي".

 

قلت لعلي برادران: "هذا السيّد قويّ وذو نفوذ. اجعله مسؤول المعدّات والتسليح".

 

في يوم، جاءني السيّد خضرايي وقال: "سيّد، أيمكن أن نفعل شيئًا من أجل الله؟".

 

قلت: "إن كان لله يمكن، والآن، ما الذي تريد القيام به؟".

- جميع الكتائب لديها دوشكا؛ أمّا نحن فلا. وقد وصلت إلى الفرقة الآن ثلاث دوشكات جديدة تطلق القذائف (مقنبلات). جديدة ومتينة. لقد علمت بهذا الأمر، وأريد أن أستفيد من هذه الدوشكات الجديدة.

 

في اليوم التالي، ذهب إلى قاعدة "دزفول"، وعاد عند الغروب بثلاث دوشكات. كيف فعل ذلك؟ الله أعلم!

 

عندما وصلت مطلقات القذائف، خطر ببالي أن أجعل مجموعة رياديّة من الشباب في مقدّمة كلّ سريّة؛ مجموعة خاصّة مقدامة ولا تعرف الخوف، وأن أسلّم كلًّا منها واحدة من هذه الدوشكات. انتقيت لهذه المهمّة كلًّا من "حسين إسماعيلي"، و"أصغر كودرزي" و"محمود عطايي". فهؤلاء يمكنهم أن يفدوا الإخوة بأنفسهم من دون أخذ وردّ.

 

كان شباب ميثم مفوّهين وفصيحين. وقد أخلوا في ظرف عدّة أيّام سلاح الفرقة ومعدّاتها وتجهيزاتها. كما كانت لدينا مجموعة جيّدة في

 

421


406

معترضون وأصدقاء

"قسم التسليح" أيضًا، فأحضروا لنا خمسة أجهزة لاسلكيّة فرديّة صغيرة. فسلّمت جهازًا لكلّ واحد من قادة المجموعات الخاصّة.

 

أمّا "جواد حكمي"، فقد جلب لنا من قسم المعدّات والآليّات أربع شاحنات تويوتا جديدة، وسيّارة تويوتا صغيرة أسميناها عربة. يتّسع المقعد الأمامي منها لشخصين، وتتّسع العربة لثلاثة أو أربعة أشخاص. فكنت وأصغر نستعمل واحدة منها، حيث يقودها "حسين سازور". والشاحنات الثلاث كانت في خدمة قسم التجهيزات والمأموريّات. وبالإجمال، أصبح وضع تجهيزاتنا وتسليحنا أفضل من سائر الكتائب الأخرى. كما كان عدد قوّاتنا أكثر من عدد الكتائب الأخرى.

التحق بـ"ميثم" كلّ أصحاب النخوة والشجاعة والمروءة، هواة كرة القدم، والعشّاق، المتشدّدون واللامبالين. والکثیرون منهم، جاؤوا ليس فقط عشقًا لله، ربما من أجلي ومن أجل الصداقة. لِمَ؟ لأنّ قانون ميثم هو قانون العشق والمودّة والصداقة. وقد أصبحت الحرب حجّة لتشكيل صداقات جديدة ودائمة.

 

لطالما ردّد أصغر: "علينا أن لا نقوم بفعل، بحيث إذا ما انتهت الحرب غدًا، والتقى بنا الإخوة، يُعرِضون عنّا ويكيلون لنا الشتائم والسباب. فلنتعامل معهم بنحو تبقى معه لديهم ذكرى طيّبة عن كتيبة ميثم". لهذا، سعينا جاهدين لأن نكون رفاقًا للشباب وكالإخوة بالنسبة لهم. فأنا على سبيل المثال، خلال وجودي في المقرّ، كنت أتكلّم عن الحرب والحصار. وخلال وجودي بين الإخوة، كنت أمزح وأمرح ونلعب كرة القدم المصغّرة، ونقيم احتفال البطّانيّة لأحدهم*[1]. صار الإخوة ملاذًا بالنسبة لي. فعندما

 

 


[1]  ورد تفصيل عنها في كتاب فرقة الاخبار (لشكر خوبان). طريقة في المزاح بين الشباب يوقعون أحدهم وسط الغرفة أو الباحة ويرمونه بالبطانيات حتى ينقطع النفس.

 

422


407

معترضون وأصدقاء

أعود للخطوط الخلفيّة، لا أستطيع شرب جرعة من الماء وحدي. وظلّ قلبي وفكري عند العناصر والقوات في الخطوط الامامية. وصرتُ إنسانًا لا مباليًا، تزوّج ومضى في سبيله.

 

أردت أن أتّخذ مسلكًا يقرّب الأشاوس والأقوياء مني ويقوّي صحبتي لهم؛ ولا يخافني العناصر الصغار والوافدون للتوّ إلى الجبهة، بل يأتون ويبثّون إليّ همومهم وشكاواهم.

 

وإذا كان من المفترض معاقبة أحد وتأنيبه، تولّى حسين طاهري ذلك. فهو رجل متعلّم ومحصّل، صاحب نظم وانضباط. فإن لم يضع أحدهم لفّافة الساق، أو تأخّر في الوصول إلى المراسم الصباحيّة، عوقِبَ.

 

كان حسين معلّمًا في عمله، يُجري كل يوم تمارين الليونة والركض ليكتسب الشباب اللياقة البدنيّة، ويعلّمهم الأخلاق والنظام العسكري على السواء. كثيرون انزعجوا من تشدّده وقساوته، لكن عند رؤيتهم الجهود التي يبذلها من أجل إقرار النظام في الكتيبة، كانوا يصطفّون إلى جانبه. كان حسين يعامل الإخوة كرفاق، ويكنّ لهم المحبّة؛ لكنّ تدريباته وتشديداته أتت في محلّها.

 

أذكر ذات مرّة، عندما أتينا إلى طهران لاستقطاب عناصر جدد وأخذهم إلى المنطقة، ولم يكن قد مضى على عرسه سوى ليلتين، رأيت حسين جالسًا على رأس الزقاق.

 

قلت: "أيّها العريس الجديد، لماذا تجلس هنا؟".

 

قال: "اذهبوا أنتم، سألحق بكم بعد عشرة أيّام".

 

فجأة، أخذ في اليوم التالي العناصر الجدد، وانطلق بهم قبلنا إلى الجبهة.

 

كان لـ"حسين طاهري" في طهران عمل وحياة جيّدة؛ لكنّه من أولئك

 

423

 

 


408

معترضون وأصدقاء

الذين طلّقوا الدنيا ثلاثًا، ولم يتعلّق بالمدينة والحياة والزوجة بأيّ وجه من الوجوه. ترعرع في "زقاق نقاشها". وعُيّن حارس مرمى في فريق كرة قدم محلّي. لكأنّه نُفخ فيه من روح القاسم. تعرّف إلى الهيئات الدينيّة فأحدثت فيه تحوّلًا كبيرًا، كونه امتلك أرضيّة هذا الأمر. فكانت نشأته دينيّة، وعندما أصبح عضوًا في الحرس، التحق بالكتيبة 9 وشارك في عمليّات "بازي دراز" وأبلى فيها بلاءً حسنًا. وبسبب إقدامه وشجاعته أصبح مسؤول التدريب في قاعدة الإمام الحسين عليه السلام، وبعد إعادة تشكيل كتيبة ميثم، تولّى أعمال التدريب فيها. كان حسين يتشدّد في بعض المسائل ويجادلني فيها. فبينما أردت للإخوة أن يعيشوا الحبّ والعشق، وأن يقاتلوا؛ آمن هو بالنظم والقانون. فعلى سبيل المثال، صار دومًا يثير المشاكل بسبب تدخين السجائر في الكتيبة. فبعض الإخوة كانوا مدمنين على السجائر ولا يستطيعون التوقّف عن تدخينها؛ أراد حسين إحداث تحوّل في الكتيبة، واقتلاع التدخين من جذوره في ليلة واحدة. سلك كلّ عنصر من عناصر كتيبة ميثم مسلكًا ومرامًا خاصًّا. فسريّة البقيع منتظمة ومنضبطة تسرّها القوانين. وسريّة "نينوى" ثقيلة*[1]، لا يشارك عناصرها سوى في المراسم الصباحيّة، ولم يتقيّدوا بأيّ شيء؛ أي لا يمكن تقييدهم وربطهم بأيّ شيء. أمّا "أكبر سربوشان" فقد كان "ملك التدخين" وغالبًا ما تشاجر مع حسين حول هذا الموضوع. فكنت مضطرًّا أن أتّخذ نقطة الوسط فيما بينهما.

 

قلت: "كلّ من يريد التدخين فليخرج، وليعدّ خمسين خطوة ويدخّن السجائر هناك".

 

نصب "محمود جوليده" خيمةً خلف خيمة سريّة فدك وأطلق عليها "خيمة التدخين". فكان يجتمع فيها ملوك التدخين ويدخّنون.

 

 


[1]  متقّلة حالها بالعاميّة.

 

424


409

معترضون وأصدقاء

ذات يوم، دعوني إلى خيمتهم. وحين رفعت طرف الخيمة لم أستطع أن أرى من في الداخل لكثرة الدخان الذي ملأ فضاءها.

 

في يوم من الأيّام رأيت "أكبر سربوشان" عابس الوجه متجهّمًا، وقد ارتدى ثيابه مستعدًّا للرحيل وترك المخيّم..

 

قلت: "أخي أكبر، ما بك؟".

- لم أعد أتحمّل البقاء في المخيّم مع حسين هذا. يا عمّ إنّه قاسٍ جدًّا، ودائمًا يمارس الضغط عليّ. لا أستطيع أن أسحب نفسًا من هذه السيجارة في اليوم، ما هذا الكلام يا عمّ؟!

 

لففت يدي حول عنقه وأخذته إلى الخيمة. كنت أعلم أنّ هذه مسرحيّة ليس إلّا. فأكبر لم يكن ممّن يتركون ميثم.

 

وهو نفسه يعلم أنّ حسين طاهري رجل بكلّ ما للكلمة من معنى، وأنّه لا يقوم سوى بخدمة الجبهة وأداء مسؤوليّته. لربّما لم يستطع، أو ضميره لا يسمح له، بالتفكير كما أفكّر أنا وأكبر سربوشان. كان يشعر بمسؤوليّة كبرى إزاء التدريب والنظم والانضباط في الكتيبة. وقد اهتمّ بصغار السنّ الذين اقتدوا وتعلّموا من قدامى المجاهدين. فلم يكن ليسمح بالقيام بأيّ شغب في الكتيبة؛ وكم رأيته يمسك المكنسة بيده ويكنس أرض الخيمة، كالأخ الأكبر يفيض عشقًا ومحبّةً على إخوته الصغار. ولو لم تكن حاله كذلك، لما استطاعت كتيبة ميثم أن تبرز في ميدان الحرب. وكلّما مرّ الوقت، ازددت يقينًا بأنّي وضعت الأمر بين يدي إنسان خبير وفعّال، وأنّه لا أحد سوى حسين يمكنه تدريب كتيبة ميثم.

 

في مخيّم كرخه، وصل عدد عناصر الكتيبة إلى سبع مئة، بحيث أصبحنا نعاني نقصًا في الأمكنة والخيم، ما اضطرّ أصغر لوضع خطّة، تقضي بتناول

 

425

 

 


410

معترضون وأصدقاء

طعام الفطور والغداء والعشاء بنحو جماعيّ على مستوى الكتيبة كلّها.

 

فكنّا نفرش سفرة كبيرة وواحدة؛ يجلس إليها سبعمائة عنصر ويتناولون طعامهم. وتتولّى يوميًّا مجموعة من كلّ سريّة الخدمة على هذه السفرة، فتفرش السفرة وتجمعها، وتغسل الصحون. أمّا طاقم الكتيبة فتولّى الخدمة مرّة في الأسبوع. وكلّما أراد الإخوة شرب الماء نادوا: يا حسين. البعض منهم يلاطفوننا فيقولون: يا حسين، يا حسن؛ فكلاهما جيّد.

 

هذه الأفكار الجيّدة والممتازة، كانت من بنات أفكار أصغر. فمثلًا، أنشأنا صندوق أمانات وكان دومًا بيد أصغر. فكان يوضع فيه مبلغ من المال كأمانة، ويُعطى منه من يريد الذهاب في مأذونيّة، مصروف جيبه وأجرة الطريق.

 

من باب الخبرة، كنّا نرسل الموظّفين من عناصر الحرس، والمتزوّجين والآباء منهم يومي الخميس والجمعة في مأذونيّة. ولهذا العمل فائدة من الناحية الأخلاقيّة. بالمناسبة، حين يذهب هؤلاء إلى أحيائهم ومحلّاتهم، يروّجون لكتيبة ميثم، ويجلبون معهم العناصر الجدد. فجوّ الصداقة والإيثار والصفاء في الجبهة كان يأسر المرء؛ بحيث لا يعود يحتمل أجواء المدينة، فيحارب همومه ومشاكله ويبقى [في الجبهة]. فالمجاهدون في تلك المرحلة، كان عليهم مضافًا إلى محاربة صدّام والصدّاميّين، أن يحاربوا ما يعشقون؛ البيت والأمّ والأب والزوجة والأولاد وأبناء محلّتهم والرفاق؛ وأن يغضّوا الطرف عن كلّ هؤلاء. وهؤلاء ليسوا بالشيء القليل بالنسبة لشابّ في عنفوان شبابه.

 

كما اقترح أصغر أن نعطي مسؤولي السرايا بعض الصلاحيّات، ليحلّوا مشاكل عناصرهم، ولكي لا يحتاجوا إلى إذننا في المسائل العاديّة وصغائر

 

426

 

 


411

معترضون وأصدقاء

الأمور. وهذا الأمر أدّى إلى أن يحسب العناصر حسابًا لمسؤولي السرايا ويأخذوا كلامهم على محمل الجدّ، وإلى تمكين مسؤول السريّة من التخطيط وإعمال فكره وفنّه وإبداعه.

 

لقد كان اقتراحًا جيّدًا. فسلسلة التراتبيّة هذه، بدأ العمل بها شيئًا فشيئًا، وتعلّم الإخوة بأن لا يسارعوا إلى قائد الكتيبة في القضايا الصغيرة، ويحلّوا مشاكلهم مع قائد السريّة.

 

وراجت في الكتائب الأخرى تلاوة صيغة التآخي فيما بين الإخوة؛ الصيغة اللفظيّة الكلاميّة. لكنّها لم تكن رائجة في كتيبة ميثم. في الأصل ينبغي تلاوة صيغة التآخي من خلال امتزاج الدماء واختلاطها ببعضها البعض. لكنّ قانون ميثم كان قانون الأخوّة. ولولا وجوده لما وُجدت الكتيبة؛ لا أشكّ أنّ مثل تلك الصداقة الصافية استمّرت إلى ما بعد الحرب، وما زالت إلى الآن.

 

كان معظم شباب ميثم، أبطالًا وأصحاب تجربة؛ لكنّهم أقسموا أن لا يقبلوا بأيّ مسؤوليّة. فهم قد أتوا من أجل الله لا من أجل المنصب. كما إنهم يحترموننا كثيرًا وينادوننا بـ"القائد". أعرف أنّ القيادة في داخلهم، فبعضهم من أهل المطالعة والدرس والمدرسة. والكثير من عناصر كتيبة ميثم كانوا مديرين وذوي تجربة. ولا شكّ لو أنّ أيّ واحد منهم حلّ مكاني، لكان قائدًا بكلّ ما للكلمة من معنىً.

 

ذات يوم، حين كنت في اجتماع لمجلس قيادة الفرقة، قال لي الحاجّ محمّد: "سيّد، أتيت إلى هنا لتحدث انقلابًا! ماذا فعلت حتّى يقول كلّ من يأتي إلى الجبهة: أريد الالتحاق بكتيبة ميثم؟ لم نكن نجرؤ على القول لهم إنّه لا مكان لدينا. فهذا سيجعلهم يشْكون منّا".

 

427

 

 


412

معترضون وأصدقاء

أجبته: "الكلمة الأولى في ميثم هي للصداقة والعشق. والإخوة من سنخ واحد وطبيعة واحدة".

في معمعة إكمال التدريبات واقتراب زمان العمليّات، ذهبتُ ذات يوم إلى دائرة الاستخدام في الفرقة، وجلبت من هناك قرابة ثلاثين استمارة تصفية حساب، ووقّعت عليها جميعًا. فمنذ مدّة وفكري مشغول بهذه المسألة. كنت أعلم بأنّ بعض الأشخاص لا يستطيعون، أو لا يريدون المشاركة في العمليّات؛ وكان ينبغي أن تُحدّد مسؤوليّاتهم وتكاليفهم. وإن حصل لي أو لأصغر شيء ما، كان ينبغي لهؤلاء أن تكون لديهم ورقة تصفية الحساب هذه.

 

كان هذا رأي أصغر أيضًا. وقال: "إن اشتعلت نيران المعركة ليلة العمليّات وخاف شخص واحد وتراجع، فلو كان لديك مليونا عنصر، سيحدّثون أنفسهم بالانسحاب، وسيتراجعون إلى الوراء. ينبغي للإخوة أن يكونوا مرتاحين وأن يختاروا بأنفسهم. إنّ نيران العراقيّين ليلة العمليّات ليست مزحة. ينبغي أن يعرفوا ماذا ينتظرهم. عليهم أن يكونوا مقدامين ولا يعرف الخوف طريقًا إلى قلوبهم".

 

ذات يوم جمعت الإخوة وقلت: "كلّ شخص لا يستطيع المشاركة في العمليّات لأيّ سبب كان، فليقف جانبًا؛ فلي شغل معه. سوف أعطيه ورقة تصفية حساب مختومة بإمضائي. وإذا ما حصل لنا أمر ما، فليأخذ الورقة إلى دائرة الاستخدام وينسحب من دون أيّ مشكلة. لقد كتبت فيها أنّ كلّ واحد منكم خدم ستّة أشهر في كتيبة ميثم".

 

بالنهاية، وقف بعض الإخوة في ناحية. جاء أحدهم إليّ وقال: "سيّد، أنا أريد المشاركة في العمليّات، وقد أتيت إلى هنا بهذا الهدف؛ لكنّ أمّي..".

 

428


413

معترضون وأصدقاء

- لا تقل شيئًا. إن كان الأمر يشقّ عليك، أو فتر العشق... فاذهب.

 

أعطيته الورقة ومضى.

 

في أواسط شهر كانون الأوّل، ركبنا الآليّات وتوجّهنا إلى مخيّم بالقرب من نهر "بهمن شير".

ما إن وصلنا إلى "بهمن شير" حتّى انهمر المطر بغزارة.

ولكروم النخيل طين لاصق؛ كالصمغ. كانت أحذيتنا العسكريّة تغرق في الوحل ولا تنسحب بسهولة. قيل إنّ هذا الالتصاق مردّه إلى جذور شجر النخيل.

قال مسؤول التجهيزات "علي برادران": "سيّد، الآن وقد حدث هذا الأمر، لا يمكن للسيّارات أن تذهب لجلب الطعام. فالطريق خربة. أتذكر عندما كنت تنكّد عليّ وتقول لا تستهلك الطعام؟ لكنّني بناءً على العادة، خزّنت طعامًا يكفي لثلاثة أيّام. لدينا مئتا علبة من السمك المعلّب، وعشرون كيسًا من الخبز".

بعد ساعة، اتّصل جواد صرّاف عبر اللاسلكي وقال: سيّد، الطريق مقطوعة، وبقينا نحن هنا من دون طعام، فكّر لنا في طريقة توصلون إلينا فيها الطعام".

سألته: "كم عددكم؟"

- 290 شخصًا.

- لقد لطف الله بنا. وخزائن ربّك لا تنفد. تعالَ وأنا أؤمّن طعامك ليوم أو يومين.

- وماذا عنكم، ألا تبقون جائعين؟!

 

 

429

 


414

معترضون وأصدقاء

- هذه هي العناية بأهل الجبهة. إنّنا نقتات على مائدة الحجّة بن الحسن عليه السلام.

 

استاء علي برادران من هذا البذل والعطاء. قلت له: ما هذا الكلام؟ إنّهم جيراننا. إن كان من المفترض أن نجوع فلنجع معًا.

 

خذ بيد من قدرت عليه لتجدَ الآخذ بيدك غدًا

 

ما إن جاء شباب كتيبة الشهادة وحملوا أكياس الطعام، حتّى وصل "عليرضا شهبازي" فجأة وقال: "سيّد، لك البشرى... إنّ جادّة "خسرو آباد"، تلك الجادّة الواقعة إلى الغرب منّا، هي جادّة إسفلتيّة؛ إلّا أنّنا لم نلتفت إليها بسبب الأوحال التي طمرتها".

 

عندها، أرسلت "حسين سازور"، و"جواد شيرازي" وشخصًا آخر تحت المطر إلى الخطوط الخلفيّة ليجلبوا الطعام. فذهبوا عند الظهر وعادوا عند الغروب بشاحنة صغيرة محمّلة بالزاد الممتاز؛ الخبز ومعلّبات السمك والفاكهة.

ما إن سُوّيت الطريق، حتّى ذهبت مع أصغر إلى المقرّ، عند الحاج محمّد كوثري لحضور جلسة توجيهيّة حول العمليّات المقررة في منطقة بالقرب من "آبادان".

عندما وصلنا إلى المقرّ، كان جميع قادة الكتائب قد وصلوا: قائد كتيبة حمزة "محمود أميني"، قائد كتيبة عمّار "رضا يزدي"، قائد كتيبة أنصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم "جعفر محتشم"، قائد كتيبة مالك "نصرت أكبري"، وقادة كتيبة المقداد "علي جزماني" و"أحمد نوزاد" و...

 

ألقيتُ وأصغر التحيّة وجلسنا ناحيةً. وكان يحضر الجلسة عالم دين ممثّلًا للإمام الخميني قدس سره، ولربّما حضر مسؤول التوجيه الثقافي في الفرقة.

 

430

 

 


415

معترضون وأصدقاء

كما حضر الحاج "عباديان" مسؤول التجهيزات، وكان قد عُيّن حينذاك مسؤولًا للهندسة الحربيّة.

 

جلس أحدهم إلى جانب الحاجّ محمّد وفي يده "مسجّل صوت" صغير. وحينها، كانت قد أُقرّت حديثًا مسألة تسجيل أصوات القادة ومتابعة كلّ أقوالهم وتحرّكاتهم. فأصبح هذا الشخص لا يترك القائد إلّا حين ذهابه لقضاء الحاجة. بالطبع، أدركت بعدها بأنّ هذا أمر بالغ الأهميّة. ولو لم تُسجّل هذه الكلمات لذهب كلّ شيء في مطاوي النسيان وضاع. عندما وصلنا كان الحاج محمّد يتكلّم: "نعم، لدينا ستّون قطعة من المطّاط، ومن المفترض أن نأتي ببعض القطع الأخرى" وكلام من هذا القبيل...

 

مضت ربع ساعة. وأنا كنتُ بطبعي قليل الصبر، أحببت أن ندخل مباشرة في صلب الموضوع، وأن لا نخوض في أحاديث لا طائل منها. قلت: "يا حاج، لِمَ لا نبدأ بالجلسة؟".

- وهل كنت نائمًا يا سيّد، إذًا، ما الذي كنّا نتكلّم به إلى الآن؟

- عذرًا... إذًا، من أجل ماذا عيّنت قيادة للفرقة؟ وما دخل المطّاط بقادة الكتائب؟

- تراني أتكلّم. فلِمَ تقاطعني؟!

- أنا أيضًا أسأل، أَوليس لدينا مسؤولو تجهيزات؟ ينبغي لمسؤولي التجهيزات والتسليح أن يجتمعوا ويتكلّموا حول هذه المسائل. أمّا قادة الكتائب فينبغي أن يبحثوا في أمر العمليّات. متى يهجمون؟ المنطقة التي سيهاجمونها، وبماذا سيهجمون. أليس هذا صحيحًا؟ ليرفع السادة الذين يوافقون على كلامي أيديهم.

 

رفع جميع القادة أيديهم.

 

431


416

معترضون وأصدقاء

فقال الحاجّ محمّد: "جئت لتقاتلني أو لتقاتل العراقيّين؟".

 

أجبته: "إنّ السيّد عباديان شيخ الحرب. سيّد قل بجرأة، المطّاط من مهمّات من؟".

 

أجاب الحاجّ عباديان الذي كان يراني للمرّة الأولى: "حسنًا، واضح... أنّه من مهمّات الحاج محمّد".

 

قلت: "أَخِفْت؟".

- لا وممّن أخاف؟

وسألتُ مرّة أخرى: "المطّاط من مهمّات من؟".

- التجهيزات.

- انتهى الأمر. يا سيّد مجتبى، أنت مسؤول معلومات العمليّات؛ أَوَلسنا سنقوم بالعمليّات؟ عليك أن تأخذنا للتوجيه.

- إلى الآن لم أرَ منطقة العمليّات.

- حسنًا، إنّ المسؤول الثقافي الآن قد وُجّه أكثر منّا، ويعرف المنطقة أكثر منّا...

 

دُهش جميع قادة الكتائب. وكأنّ كلامي الحادّ والنابع من الغضب حيّرهم جميعًا. ساد الصمت للحظة. كما ظلّ أصغر صامتًا ولم ينبس ببنت شفة.

 

لقد شكى الحاج محمّد منّي كثيرًا. فأخذ يؤنّبني وقال: "سيّد، هذا اجتماع، كان عليك أخذ الإذن قبل الكلام..".

 

قال الحاج عباديان: "إنّه لا يعرف الحدود".

 

432

 

 


417

معترضون وأصدقاء

أجبتُ: "أيّ حدود، يا أخي؟ فأنا لست من قادة الكتائب الذين تفكّر فيهم. وأنا لست ممثّلك في الفرقة لأنفّذ سياساتك. أنا ممثّل العناصر والقوّات. جئت لأتكلّم وأخبر عن مشاكل الإخوة".

 

أخيرًا، حلّ الظهر وأنا أوجّه له الانتقادات اللاذعة. وإنّني واقعًا وقلبيًّا لم أتحرَّ الحرب والجدل مع الحاجّ. كان على الحاجّ أن يجيب عن أسئلة ألف شخص هم أسوأ حالًا منّي. فقيادة الفرقة ليست مزحة وأمرًا بسيطًا؛ لكنّ التفكير في العناصر ونقص السلاح والإمكانيّات آذاني. حتى بحثت عن سبيل لأطرح هذه المشاكل.

 

أثناء قيامنا للصلاة، توجّهت إلى الإخوة وقلت: لسلامة أسد الجبهات الحاجّ محمّد صلوات على محمّد وآل محمّد..".

 

رفع الجميع أصواتهم بالصلوات، وخفّ استياء الحاجّ قليلًا فقال: يا أخي، إذا أراد المرء أن يقول شيئًا، أو لديه رأي يُدلي به، عليه أن يقوله بنحو خفي؛ لا أمام الجميع. فهذا عمل غير مألوف".

 

قلت: "لست من أولئك الأشخاص الذين يقولون دومًا حاضر سيّدي. فطاعة القائد شيء، وحقّ العناصر شيء آخر. خارج نطاق الحرب أنا خادمك إلى آخر العمر. أمّا الآن حيث الحرب قائمة، فلن أذهب إلى العمليّات بجهاز لاسلكيّ خرب، ومن دون بوصلة".

 

بعد الظهر عادت وافتُتحت الجلسة. دخلت إلى الجلسة وقلت: "عذرًا يا حاجّ".

- ماذا هناك أيضًا.

- على مسؤول المعلومات أن يشرح لنا أوّلًا. يا سيّد مجتبى لِمَ أصبحت أبكم؟ عليك الآن أن تقوم بتوجيهنا وإعطائنا المعلومات عن منطقة

 

433

 

 


418

معترضون وأصدقاء

العمليّات.

 

- ماذا أقول؟ إلى الآن لم أطّلع على المنطقة جيّدًا.

 

حينذاك، بدا أنّ الحاجّ محمّد هو الأكثر اطّلاعًا وخبرة من بين الجميع، فراح يشرح لنا ويرشدنا من خلال الخريطة. فرش الخريطة وشرع بتبيان الحدود عليها وقال: "هذه الأرض هي حدود كتيبة أنصار الحسين عليه السلام- همدان. وهذا الحدّ يصل إلى شطّ العرب. في المرحلة الثانية، تأتي "الفرقة 27" وتستلم الخطّ من كتيبة أنصار الحسين عليه السلام..".

 

انتهت الجلسة مع الغروب، وبينما كنّا خارجين، توجّهت إلى الحاجّ محمّد قائلًا: "يا حاجّ، لا بدّ أنك الآن تكيل الشتائم والسباب لنفسك".

- لا، ولِمَ؟

- لأنّك عيّنتني قائدًا وفتحت لي طريقًا إلى الجلسة.

- لا وقت الآن لمثل هذا الكلام. الآن اتبعني. لا وقت لدينا.

- حاج، أنا مريدك ورفيقك...

 

خرجنا من المقرّ، ومع انبلاج نور الفجر، ركبنا مجموعة في سيّارة تويوتّا وتوجّهنا إلى مكان مجهول. سرنا قليلًا على طريق معبّدة، ومن ثمّ انعطفنا إلى طريق ترابيّة، فسرنا وسرنا في صحراء قاحلة إلى أن توقّفت السيّارة في مكان، لم نكن نرى منه شيئًا ولو وميض مصباح من المناطق النائية. توجّهت إلى الحاجّ محمّد وسألته: "أين نحن يا حاجّ؟ أتريد أن تسلبنا أموالنا؟".

 

فجأةً، فُتح باب في الأرض، فتحته مدهونة باللون الأسود، وموصولة بعدّة سلالم. تقدّم الحاجّ محمّد ونزل السلالم فتبعناه. سرنا في عدّة ممرّات

 

434

 

 


419

معترضون وأصدقاء

متعرّجة إلى أن دخلنا غرفة كبيرة تشبه القاعة. بعد لحظات، فُتح أمامنا باب آخر. توجّه الحاج محمّد إلينا وقال: "أيّها الإخوة، إنّ الإخوة أعلايي، رشيد، شمخاني، ومحسن رضايي موجودون هنا جميعًا..".

 

كنت وجواد صرّاف واقفين إلى جانب بعضنا البعض. جلسنا أرضًا في ذلك المكان نفسه، ومعنا أيضًا، اثنان أو ثلاثة من الإخوة الثقافيّين.

 

في بداية الجلسة، توجّه الحاجّ محمّد كوثري إلى السيّد رحيم وقال: "سيّد أعرّفك بالإخوة".

 

فقال السيّد رحيم: "دعهم هم يعرّفون عن أنفسهم".

 

بدأ كلّ واحد يعرّف عن نفسه. عرّف كلّ من "محمود أميني" و"رضا يزدي" و"حسن محقّق" و"علي جزماني" عن نفسه. حين وصل الدور إليّ، وضعت يدي على خدّي وأشرت إلى ضرسي؛ أي إنّ ضرسي يؤلمني ولا أستطيع الكلام.

 

كان السيّد رحيم يعرفني فقال: "سيّد أبو الفضل، ما هي أخبار الأخ حسين الله كرم؟".

 

ردّ السيّد محسن: "لِمَ تسأل هذا الشخص؟".

 

قال الحاجّ محمّد: "يا عمّ، هذان الشخصان متقاربان جدًّا. عندما قلت له شكّل الكتيبة، ذهب وأخذ الإذن منه".

 

ثمّ قال لي الحاجّ محمّد: "إنّ حسين ورفاقه يريدون المشاركة في العمليّات".

 

قلت: "هؤلاء خبراء بجغرافيّة المنطقة، ومطّلعون على معلومات العمليّات".

 

435

 

 


420

معترضون وأصدقاء

بعد ذلك، جيء بصورة جويّة [للمنطقة]، فُرشت وراح الأخ شمخاني يقدّم بعض الشروحات عن منطقة العمليّات والاتجاهات على الخريطة.

 

قال الحاجّ محمّد: "لنفترض أنّنا الآن نخوض العمليّات. وعبر غوّاصو كتيبة أنصار الحسين عليه السلام النهر، واقتحموا خطّ دفاع الأعداء بالسلاح الأبيض ومن دون إطلاق للنيران. وسلّموا محيط جادّة الفاو البصرة، وأطراف قناة الخندق الاسمنتي، عليكم أنتم أن تعبروا القناة وتصلوا إلى جادّة الفاو البصرة. وفي هذه المرحلة تتولّى كتيبة "ميثم" والفرقة 27 زمام الأمور. كتيبة الشهادة هي قوّات احتياط لكتيبة ميثم، وكتيبة المقداد ستشكّل قوّات احتياط لكتيبة حبيب. هدفنا الأخير هو مقرّ التكتيك بالقرب من قناة الخندق الاسمنتي. أمّا ما هي الخطّة وكيف، هذا فنّ ومهارة قائد الكتيبة".

 

كان السيّدان رشيد وشمخاني محنّكين في هذا العمل. فقد أدّيا دور الطرف المقابل وذلك لنطّلع على تفاصيل العمليّات أكثر، ولنجترح الحلول، وليتّضح ما إذا كنّا نمتلك فنّ القيادة ومهارتها، أم لا! لقد أدّوا دور العراقيّين، وبيّنوا عيوب أعمالنا وخططنا وطروحاتنا.

 

على سبيل المثال، قال السيّد رحيم: "افترضوا أنّنا نحن قوّات العدوّ. وأنّنا جئنا إلى هنا بعشر دبّابات. فكيف يجب أن تدافعوا؟ إن رميتم من هنا، فإنّنا أيضًا نرمي من هنا..".

 

حينذاك، إن وافقنا وقلنا: نعم، سيبطلون مدّعانا ويقولون: كيف تقولون نعم؛ عليكم أن تأتوا بالدليل؛ عليكم أن تعرفوا كيف ستدافعون؟ فها هنا منطقة مائيّة، كيف يمكن لنا إحضار الدبّابات؟

 

وهكذا، طرح جميع القادة خططهم على الطاولة. إلى أن وصل الدور إليّ وإلى جواد. استعدّ جواد للكلام. المسكين أراد أن يطرح خطّة، وكان واقعًا خبيرًا بعمله.

 

436


421

معترضون وأصدقاء

توجّه الحاجّ محمّد إليّ وقال: "أتريد أن تقول ما عندك في ظرف عدّة دقائق؟".

- أنا لن أتكلّم أبدًا.

- حمدًا لله أنّ ألم ضرسك قد زال! يا سيّد، إنّ السيّد أبا الفضل هو قائد كتيبة ميثم.

- إنّنا تشاركنا الكتيبة.

 

أجاب السيّد رحيم: "وكيف هذا؟ وهل هي دكّان بقالة لتتشاركاها؟".

 

قلت: "كيفما كان، نحن شريكان".

- مع من؟

- مع علي أصغر.

 

علت أصوات الجميع بالضحك. فقلت: "إن وصلت إلى هناك سالمًا، فأنا نفسي أعرف ما أفعل".

 

ردّ السيّد رحيم: "سلمت يداك. لا وقت لدينا. دعنا نتكلّم عن المرحلة التالية".

 

بالنهاية، لم يصل الدور إلى جواد ليطرح خطّته. توجّه السيّد محسن إلى الحاجّ محمّد كوثري وقال: "أين هي قوّاتك الآن؟".

 

أجاب الحاجّ: "لقد نقلنا كتيبتين من الكتائب إلى "بهمن شير".

- أيّ كتيبتين؟

- مالك وعمّار.

 

ردّ الأخ شمخاني: "لا يجدر بكم إرسالها إلى هناك في هذا الوقت. اتّصل بهما الآن لتعودا".

 

437

 

 


422

معترضون وأصدقاء

توجّه الحاجّ محمّد فورًا إلى الهاتف. حينذاك كانوا قد أحضروا نوعًا جديدًا من الهواتف اللاسلكيّة*[1].

 

همس "السيّد مجتبى" و"أحمد نوزاد" في أذني وقالا: "سيّد، ارمِ الأصّ خاصّتك".

 

قلت: "اعذروني... فالكتيبتان اللتان سيرجعهما الحاجّ محمّد ليستا كتيبة ميثم، ولو أنّ "ميثم" إحداهما فلن أدعه يرجعها حتّى لو أتى صدّام إلى هنا، وجاء من جاء".

 

ضحك الأخ رحيم.

 

فقلت: "هل تظنّ أنّ قوّات العمليّات التي في الكتائب ليسوا بشيء؟ فكلّ واحد منهم يعطي درسًا لعشرة من أمثالي وأمثالك. وفي كتيبتي أنا يوجد مائة قائد لا يقبل بالمسؤوليّة. لقد أتوا من أجل الله. لقد سار هؤلاء الآن لمدّة ساعة ونصف سيرًا على الأقدام؟ كيف سيرجعون".

 

امتدّت الجلسة إلى منتصف الليل، ودقّ ناقوس عمليّات (كربلاء 4) رسميًّا.

 

خرجنا من المقرّ. كان الحاجّ محمّد مستاءً وغاضبًا منّي بشدّة. وكنت واقعًا أتفهّمه. فکلّ الضغوطات والمسؤوليّات أُلقيت على عاتقه، وتوجّب عليه الإجابة عن أسئلة ألف نفر. إنّه الوسيط بين قادة الكتائب وقيادات الحرب الرفيعة المستوى. كان عليه حفظ الطرفين حتّى لا تنام أمور الحرب، بل تُقاد بنحو جيّد. قلت له: "حاجّ، إن فشلت العمليّات، فسيكون فشلها نابعًا من داخل المقرّ. ينبغي للعمل أن يُصلح من الجذور، حتّى ينمو ويؤتي أكله..".

 

أجاب: "دعك من هذا يا عمّ. تعالَ الآن لنهتمّ بعملنا. لا وقت لدينا.

 


[1]  يمكن من خلالها الاتّصال بالأماكن البعيدة، وقد هاتفت بها الأهل والعيال عدّة مرّات.

 

438


423

معترضون وأصدقاء

فغدًا ينبغي أن نذهب إلى "آبادان" ليقوم السيّد مجتبى بتوجيهكم لساحة العمليّات من على عمود الكهرباء".

 

بتنا ليلتنا تلك في المقرّ.

 

في اليوم التالي ذهبنا إلى آبادان لنلقي نظرة على خطوط دفاع العدوّ من أعلى العمود، الذي يرتفع -ما شاء الله- أربعين مترًا؛ ويضمّ ما بين الأربعين والخمسين درجةً وقضيبًا حديديًّا. عندما رأى "حسن محقّق" العمود، رفع رأسه إلى السماء وقال: "يجب أن يصعد السيّد أوّلًا على هذا العمود؛ فالسادة في المقدّمة".

 

قلت: "ولِمَ أنا؟ فكتيبة مالك هي الكتيبة الأولى. أمّا أنا فكتيبتي في العمليّات هي رقم 6. اصعدوا أنتم الخمسة أوّلًا، ومن ثمّ أصعد أنا".

 

الحقيقة أنّني لم أكن أرغب بصعود ذلك العمود العالي والمرعب. لست أنا وحدي كذلك، فأنا على يقين بأن لا أحد يرغب بالأمر.

 

 

صعد "حسن محقّق" وعَلِقَ في الوسط. فلم يعد يستطيع التحرّك لا صعودًا ولا نزولًا. صرنا نناديه: "إن لم تعد تستطيع الصعود، فانزل".

 

بقي المسكين حائرًا ماذا يفعل. الشخص الخامس الذي صعد كان "جعفر محتشم". بعد ذلك صرخ أحدهم من الأعلى: "سيّد أبا الفضل، لا تصعد... فالجوّ غائم".

تعجّب جميع القادة، فمن هو هذا الشخص الذي لا يعرف أحدًا غيري!

 

لامه الإخوة وعاتبوه قائلين: إن كان الجوّ غائمًا، فلِمَ لم تخبرنا بذلك عندما كنّا في الأسفل، وسحبتنا إلى الأعلى؟!

 

نزل الإخوة، ونزل الراصد خلفهم. ليتبيّن لي أنّه "عباس حاجيان".

 

439

 

 


424

معترضون وأصدقاء

تبادلنا التحيات والقبلات.

 

قال أحد الإخوة: "أهو من معارفك؟".

- بل هو نفسي يا صاح...!

 

توجّهت إلى عباس وهمستُ في أذنه: "والآن يا عبّاس، أحلّفك بنفسي، هل كان هناك ضباب؟".

 

قال: "لا، ولكنّي أدرت المنظار 120 درجة نحو الغيوم؛ فمهما نظروا لم يروا سوى الضباب".

 

ومن جديد، وهذه المرّة بصبر أكبر ألقينا نظرة على خطوط دفاع العدوّ، وتمّ توجيهنا للعمليّات، وذهب كلّ قائد إلى مركزه وعناصره.

 

كانت الفترة التي أمضيتها مع عناصر كتيبة ميثم في كروم نخيل "بهمن شير" من أجمل أوقات عمري. بالنهاية، لكروم النخيل قصّتها! فهناك، بسبب قربنا من الخطوط الأماميّة واحتمال هجوم العدوّ بطائراته، لم نقم بالتدريب على القتال الليلي، ولا بالمسير العسكري، ولا بالتدريبات العسكريّة العاديّة. فالذي كان حاضرًا هو العشق والعرفان، وتضرّع الإخوة العرفاني في الخفاء. حيث أُقيم كلّ ليلة مجلس معنويّ في الخيم. وللقبور خلف الخيم حكايتها أيضًا، حيث مكث الإخوة فيها حتّى الصباح في حال من التضرّع والعبادة.

 

بقي "حسين سازور" يقرأ كلّ ليلة المناجاة "الخمس عشرة" من الصحيفة السجادية، فيجتمع الإخوة حول بعضهم عشقًا لهذا الدعاء. وخاصّة بعد الأيّام التي أتى فيها "الشيخ بروازي" إلى "بهمن شير" واستقرّ فيها إلى جانب الإخوة، فقد عاش الإخوة حالًا معنويّة عالية. كان سماحته من الرجال الشجعان ومتمرّسًا في الحرب، وقد تألّق في عدّة عمليّات. لقد

 

440

 

 


425

معترضون وأصدقاء

حلّ ضيفًا علينا بصفته عنصرًا حرًّا ومرافقًا لـ"جواد شيرازي". ومع أنّ تجربته ضاهت تجربة قائد فرقة إلّا أنّه لم يكبّل نفسه بقيود القيادة. وقد أتى ليقضي بضعة أيّام إلى جانب الإخوة ومعهم. أصبح عدد من الإخوة من مريديه. وهو العالم الذي خبر الدنيا، والمفكّر، والخطيب المفوّه. فكان الإخوة يجتمعون حوله، وهم في شوق لسماع حديثه الجذّاب والعرفاني.

 

كان الشيخ جميل الشَّعر، وحين يرتدي البزّة العسكريّة يصبح حسن المنظر والوجه. وعندما يرى الشباب حسن منظره، يحتلّ مباشرةً مكانًا في قلوبهم.

 

في كروم النخيل تلك، المغمّة والرطبة، رأيت أصغر مرّات ومرّات مستيقظًا حتّى الصباح، يعبد، ويناجي ربّه بكلّ إخلاص، يطلّ على الإخوة ويغطّيهم بالأدثرة حتّى لا يُصابوا بنزلات البرد جرّاء رطوبة كروم النخيل. لقد عطف أصغر على الإخوة، بحيث جعلني أخجل من نفسي. فلم أستطع يومًا أن أكون مثله.

 

ذات يوم، رأيته وقد وضع وعاءً وراح يغسل ملابس "حميد مشكي"- بريد الكتيبة الداخليّة. استاء حميد كثيرًا وخجل عندما علم بالأمر، وجاء إليّ قائلًا: "لِمَ يفعل الحاجّ أصغر هذا الشيء؟ فأنا سأذوب من الخجل..".

 

إنّ تواضع أصغر وصمته وعرفانه جعله حديث الجميع في الكتيبة. وأشهد الله أنّه لمن دواعي سروري أن أُوفّق للخدمة إلى جانب أصغر.

 

ذات يوم، وبينما كنت مستلقيًا في الخيمة وغارقًا في التفكير، إذ بمسؤول الدعم والتجهيزات "رضا هوريا" قد جاء، ووضع في يدي شيئًا، وقال: "سيّد، كُلْ هذا!".

 

ألقيت نظرةً، وإذا به شيء أبيض اللون طريّ شبيه بالجبن. لحست لحسةً منه، فوجدته حلو المذاق لذيذًا!

 

قلت: "يا سبحان الله، من أين أتيت بهذا الشيء؟".

 

 

441

 


426

معترضون وأصدقاء

- انتزعته من أعلى شجرة النخيل، من ذلك المكان نفسه الذي ينبت فيه التمر. يُسمّى "پنیرک" [الجمار أو شحم النخيل]. والتمر يطلع من هذا الجمار، فإن لم تكن النخلة تحتوي على الجمار، لا تثمر. وإنّ حفنة منه تعادل علبتين من التمر؛ من شدّة قوّته.

- كيف صعدت إلى أعلى النخلة؟

- سبق وقطعوا رؤوس النخل ليتمكّنوا من رؤية مواقع العراقيّين؛ فصعدت واقتلعتهم بالخنجر.

 

أكلت كلّ الجمار. كان حقًّا لذيذًا وجيّدًا. لكنّني تحسّست منه ولم أستطع النوم إلى الصباح.

 

شيئًا فشيئًا تعلّم الإخوة طريقة الحصول عليه، فصاروا يصعدون بسرعة إلى أعالى شجر النخيل، ينتزعون منها الجمار ويأكلونه. كان طعامًا حاميًا ومزوّدًا كبيرًا بالطاقة. لهذا، غدا الشباب يسارعون [بعد تناوله] إلى السباحة.

 

لكنّني لم أكن راضيًا كثيرًا بذهاب الإخوة إلى نهر "بهمن شير"؛ ذلك أنّني سمعت من قبل، بأنّ لنا أفراد غرقوا في نهر "كرخه". فأوصيتهم بأن لا يسمحوا للذين لا يعرفون السباحة بالنزول إلى الماء.

 

في ليلة من أواسط شهر كانون الأوّل، جمعت مسؤولي السرايا، وبمساعدة أصغر بلّغتهم بما دار من حديث في المقرّ، وقمنا بتوجيههم وشرح خطّة العمليّات لهم. وكان من المقرّر أيضًا أن يذهب مسؤولو السرايا ويقوموا هم أيضًا بتوجيه مسؤولي المجموعات، ويجمعوا أمتعتهم شيئًا فشيئًا ويستعدّوا للذهاب إلى الخطوط الأماميّة.

 

كنت كلّما اقتربنا من موعد العمليّات، أزداد يقينًا بأنّ ما قيل لنا في

 

 

442

 


427

معترضون وأصدقاء

المقرّ يختلف عمّا يقوله شباب المعلومات. وبالمناسبة، عندما خضنا غمار العمل، اتّخذت الأوضاع منحى آخر.

 

في البين، دامت لدينا ورقة رابحة، وهي معرفتنا بشباب المعلومات وصداقتنا لهم. فقد كنّا على صلة بفريق "حسين الله كرم"، وهم أهل خبرة في معلومات العمليّات. في هذه العمليّات، رحت أعمل على الأمر بشدّة لأتحقّق من عمل المقرّ. وحتّى كتيبة الشهادة لم تكن تملك تلك الورقة الرابحة.

 

وفي الأسبوع الثالث من شهر كانون الأول ذاك نفسه. اتّصلت بالبيت لأطمئنّ عن أحوالهم، فقالت لي والدتي: "بالأمس، نقلنا فاطمة إلى المستشفى..".

 

في اليوم التالي اتّصلت مجدّدًا، فقالت لي والدتي هذه المرّة : "مبارك يا أبا الفضل، لقد رزقك الله صبيًّا".

 

قلت: مبارك لك... فلنسمّه "سجّاد".

 

وبالرغم من أنّ الخروج من منطقة العمليّات كان ممنوعًا، والجميع يستعدّون للتوجّه إلى الخطوط الأماميّة، كنت أنا من أولئك الذين إذا ما قال لي قلبي إنّه عليك الذهاب؛ يجب أن أذهب حتّى لو أُطبقت السماء على الأرض، ولذا، توجّهت في ذلك اليوم نفسه إلى طهران. عندما وصلت إلى البيت، وجدت إمام مسجد التوفيق "الشيخ صدّيقي" قد جاء ليسأل ويطمئن عنا. وقال سماحته: "إنّ هذا الطفل قد وُلد في ذكرى شهادة "حمزة" [عمّ الرسول]؛ وإن شاء الله سيكون شجاعًا. لذا سمّه حمزة".

 

وافقت، وسميّته حمزة.

 

بقيت إلى اليوم التالي في المنزل. لكنّني لم أتفقّد ولو لمرّة حفّاضة الطفل ولفّافته. كما حللت في اليوم التالي ضيفًا على مائدة غداء العائلة. فبعد الإصابة في بطني وأمعائي، منعني الأطباء من تناول الأطعمة المسبّبة للنفخة

 

 

443

 

 


428

معترضون وأصدقاء

وبيض الطيور؛ لكنّ ذلك جعلني مهووسًا بالبيض المقلي؛ وذاك المحضّر في البيت أيضًا. فحضّرت لي زوجتي و"ننه بري" مقلاة بيض كبيرة. فرحت أتناولها بالخبز، وكما في أيّام الطفولة، أشرب مع كلّ لقمة جرعة من العصير. بعدها، وكي لا يصيبني ذلك الوجع المعهود في بطني، شربت كوبًا من سكّر النبات المغليّ مع ماء النعناع، وحملت معي في سفري أيضًا كيسًا من هذا السكّر. عندما عدت إلى الجبهة، كان الإخوة يستعدّون للعمليّات، وكتائب الهجوم تُنقل إلى ضفّة "نهر أروند". فيما بقيت كتيبة ميثم على حال من الجاهزيّة والاستعداد في الخيم المنصوبة على ضفّة "نهر أروند" بانتظار صدور الأوامر بالتحرّك.

 

في الليلة الأولى للعمليّات، أي في الرابع والعشرين من شهر كانون الأوّل ذهبت وأصغر إلى مقرّ القوّات المهاجِمَة على ضفّة "نهر أروند"، للاطّلاع على سير الأمور، والاستخبار وجمع المعلومات. كانت بعض مجموعات الغوّاصين مستعدّة في جوف الليل ومنتظرة أمر الهجوم. تظهر أطيافهم أحيانًا من خلف أشجار النخيل. وكلّ شيء يبدو على ما يُرام.

 

في الليلة الثانية للعمليّات، جاء دور كتيبة ميثم للهجوم على خطوط الدفاع والتثبيت.

 

استعدّت كلّ من كتائب "عمّار" و"مالك" و"حبيب" و"أنصار الحسين" عليه السلام، حتّى إذا ما اقتحمت فرق الغوّاصين دفاعات العدوّ، هجموا هم وواصلوا العمل. كان عمل الغوّاصين محفوفًا بالكثير من المخاطر والخوف. ووجب عليهم أن ينسّقوا تحرّكهم بناءً على حركة المدّ والجزر.

 

عند منتصف الليل، وتحت وطأة السكون، وبنداء محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدرت الأوامر بالهجوم، فهبّ الغوّاصون إلى الماء.

 

بعد مضيّ نصف ساعة، ومن سوء الحظّ، فإنّ العراقيّين كانوا ملتفتين

 

444

 

 


429

معترضون وأصدقاء

تمامًا ومتيّقظين لما يجري، واستقبلوا الغوّاصين بوابل نيران الدوشكا. فتفرّقت كتيبة الغوّاصين عن بعضها البعض أمام أنظارنا. وحتى الساعة الثالثة ظلّ عناصر منهم يعودون متفرّقين إلى الخطوط الخلفيّة، فيما استُشهد الباقون أو وقعوا في الأسر. اتّضح من طبيعة نيران القوّات العراقيّة، أنّهم كانوا على علم بأمر العمليّات. انكشف أمر هذه العمليّات فأُوْقفت. قلت لأصغر: "كانت مشيئة الله، لو كنّا تقدّمنا نحن أيضًا، لحدثت بنا مجزرة كبرى". عند طلوع الفجر، عدنا إلى الخيم وأخبرنا الإخوة المستعدّين جميعًا للعمليّات، بتوقّفها. استاؤوا وانقلبت أحوالهم. فكانوا كالذي يريد أن يصل إلى معشوقه فحيل بينه وبينه. خابت آمال الجميع وشعروا بالقلق.

 

في اليوم التالي، سرت شائعات تفيد بأنّ الطابور الخامس والعملاء المخترقين لصفوفنا، هم الذين كشفوا أمر العمليّات وأمدّوا العدوّ بالمعلومات. فقال بعض أهل القلب والذكر: إنّها مشيئة الله. نقلنا القوّات إلى دوكوهه، وقرّرت وأصغر القيام بزيارة قصيرة إلى طهران. فبقي حسين على رأس الكتيبة، وسرنا نحن إلى مقصدنا.

 

445

 

 


430

مثلثّ النار والوفاء والشوق

مثلّث النار والوفاء والشوق

 

..ما أخبار أهل الهوس من حرقة المحبة؟

 

كان لأصغر ابنة تبلغ من العمر سنتين تُدعى "إلهه"، وقد اشتاق إليها. ذهبت وإيّاه إلى "أنديمشك"، قمنا بجولة في المدينة، واشترينا بعض الهدايا. بالطبع، لم أكن أهتمّ للهدايا كثيرًا. اشترى أصغر قميصًا وسروالًا برتقاليّ اللون لابن أخته. يومذاك تناولنا غداءنا في مطعم "عمو صفر". وفُتحت شهيّة أصغر على الطعام، فراح يتناول الطعام بيديه ويلتهمه ويأكل بالخبز لقمة لقمة. وحتّى الأرزّ أكله بالخبز. كان يحبّ "القيمة" التي تُوزّع على محبّة أبي عبد الله الحسين عليه السلام و"الديزي". وکان يمزح ويمرح عند تناول الطعام ويدخل السرور على من حوله. يومها قال لي إنّ لأخته سبعة أولاد كبار وصغار. فعلّقت بأنّ إمام الزمان يحتاج إلى الجنود.

 

-أنا وأختي مقرّبان جدًّا. كنّا صغارًا نلعب معًا من الصباح إلى المساء لعبة [بأيّ إيد، والزّقّط] آلاف المرّات. وحين أضيق ذرعًا من كتابة فروضي المدرسيّة، كنت أعطيها قِرَانًا من أجل أن تكتبها عنّي. ذات مرّة، بالغتُ بإزعاجي لها فوضعتُ صرصورًا ميتًا عليها، أرعبتها بشدّة، وراحت تصرخ وتصيح.

 

447

 

 


431

مثلثّ النار والوفاء والشوق

كان أصغر يحبّ عائلته كثيرًا، ويساعد أخته ماليًّا، وأنفق مقدارًا كبيرًا من الأموال على "جهيزيّتها"[1]. ساعد عائلته مادّيًا، واحترم والديه، فما رفع رأسه في محضرهما، ولم يتكلّم بكلام فوق كلامهما. خاصّة أمّه التي أحبّها حبًّا جمًّا، وأنا شاهد على ذلك العشق الحاكم بين الولد وأمّه.

 

ذات يوم، خلال مأذونيّة، ذهبتُ وعائلتي لزيارة أصغر في منزلهم، كما جرت العادة. فبين النسوة أنسٌ ومحبّة خاصة. كان منزل والد أصغر من منازل طهران القديمة التي تحوي فناءً واسعًا وحوض مياه في وسطه. وهو عبارة عن غرفتين سفليّتين متداخلتين ببعضهما البعض، وغرفتين علويّتين كانتا محلًّا لسكنى أصغر وعائلته.

 

وقد خطّ أصغر بالريشة والألوان على حائط الفناء بخطٍّ حسنٍ وجميلٍ عبارة: يا مهدي أدركني. كما بنى بيتًا جميلًا للحمام عند عتبة البيت، في أعلى المدخل. لقد كان ذا قلب رحيم وشفوق. وبقدر ما بدا في الجبهة شجاعًا ومقدامًا، فاقت محبّته ورأفته ذلك بآلاف المرّات أعجز عن وصفها. وحين وضع إلى جانب بيت الحمام مصباحًا فضّي اللون [فلوريسّون] ليبقى بيتهم أنيسًا ومنيرًا، قال: "لا ينبغي لهؤلاء الحمام أن يشعروا في منزلنا بالغربة والخوف".

 

كان هذا العشق موهبة إلهيّة تنبع من قلب أصغر. وقد منحه الله سبحانه هذه الهيبة والقوّة لينفذ إلى قلوب الجميع، بدءًا من التاجر والواعظ وانتهاءً برفقاء الهيئة وأبناء المحلّة وعائلته، أمسوا جميعًا يطلبون رضاه؛ ومن جملتهم أنا، كنت وما زلت حائرًا بروحه العالية.

 

في تلك الفترة، اتّفقنا على السفر مع عائلتينا لزيارة الإمام الرضا عليه السلام. حجزنا بطاقات السفر، وفي اليوم المحدّد توجّهتُ وفاطمة إلى المطار ورحنا

 

 


[1]  قسم مهم من أثاث وأدوات المنزل، وغالبًا ما يكون المطبخ ووسائل النوم.

 

448


432

معترضون وأصدقاء

ننتظر أصغر. بعد ساعة أو ساعتين من التأخير، جاء أصغر وحيدًا، والاستياء بادٍ على وجهه! قلتُ: "أخي أصغر، لِمَ أتيت بمفردك؟ أين زوجتك؟".

- هي مريضة، ولا تستطيع المجيء.

 

انزعجتُ وفكّرت في نفسي أنّه لا فائدة من سفر كهذا. توجّهت إليه وقلت: "عزيزي أصغر، كأنّه لم يُكتب لنا أن نسافر معًا. لا يصحّ أن نذهب نحن معًا وتذهب أنت بمفردك. إنّ الله لا يرضى بذلك. إن شاء الله، تسنح الظروف ونسافر معًا في فرصة أخرى".

 

طأطأ رأسه إلى الأرض حياءً وخجلًا وقال: "سيّد، أريد أن أسافر معك، لربّما لن تتسنّى لنا مثل هذه الفرصة".

- لا تغتمّ يا أخي؛ فبالنهاية سنفترق ويذهب كلّ منّا لسبيله.

 

تبسّم وقال: "نعم، فالأفضل أن لا نتعلّق بشيء".

 

ذهبَ، ولم تسنح الفرصة بعدها، وما ذهبنا إلى مشهد معًا.

 

عندما عدنا إلى "كرخه" كانت القوّات على جاهزيّة تامّة. ومن هناك، قصدت و"أصغر" و"حسين سازور" شباب لواء "الحرّ". تردّد الحديث عن عمليّات أخرى. لكنّ الأمر كان في حدّ التخمين، ولم يأخذه شباب المعلومات على محمل الجدّ. بقينا يومًا أو يومين عند حسين وعناصر معلومات العمليّات. قال أحدهم: "في حوزتي خريطة، خريطة عمليّات (كربلاء4). وبما أنّها قد أُلغيت الآن، فيمكنكم الاطّلاع عليها. فقد بطل مفعولها".

 

قلتُ: "إنّه لأمر مثير بالنسبة لي أن أطّلع على برنامج تلك العمليّات".

- لكن ليس من دون ثمن؛ عليكم أن تستضيفوني على السمك بالأرزّ.

- موافق.

 

 

449

 


433

مثلثّ النار والوفاء والشوق

بعدها ركبت و"أصغر" و"ناصر شريفي"، والسيّد "جبّار" وباقي الإخوة سيّارة وانطلقنا نحو الأهواز. تناولنا هناك وجبات الأرزّ بالكباب والأرزّ بالسمك. ومن ثمّ أطلعنا الإخوة قليلًا على منطقة عمليّات (كربلاء4) وأخبرونا أسباب عدم تنفيذها.

 

عدنا بعد الغداء إلى "كرخه" بنيّة إرسال جميع العناصر في مأذونيّة بعد أخذ الإذن من المقرّ. في اللحظة الأخيرة، أرسل الحاجّ محمّد بلاغًا بوجوب تجهّز جميع العناصر وإلغاء كلّ المأذونيّات. فالآن، حيث انكشف أمر العمليّات وخطوط دفاع العراقيين رخوة، كونهم أرسلوا جميع العناصر في مأذونيّة؛ لذا، فإنّها الفرصة الأمثل للهجوم وتثبيت موطئ قدم لنا.

 

بعد إلغاء المأذونيّات ذهبت برفقة أصغر إلى الحاجّ محمّد فوجدنا الحديث يدور حول العمليّات والأعمال تسير قدمًا. عُقدت هناك جلسة توجيهيّة. فرش الحاجّ محمّد خريطة، فرأينا الأماكن نفسها التي أطلعنا عليها شباب لواء "الحرّ"، ومنطقة العمليّات هي منطقة عمليّات (كربلاء4) نفسها، لكن على نطاق أصغر ومحدود.

 

بيّنتُ على الخريطة المعلومات التي أخذتها قبلًا من شباب لواء الحرّ وشرعت بالحديث أكثر عن الموضوع. كان الحاجّ محمّد يستمع إليّ ويبدي ملاحظاته. كما تمّ البحث في تلك الجلسة حول زمن التحرّك نحو مخيّم "كارون".

 

حين انتهت الجلسة وعُدنا إلى الخيم؛ أرسلت "رضا محمّدي" العارف والخبير بالأرض، ليتفقّد الخيم في مخيّم كارون.

 

بعد ذهاب رضا، جاء "مرتضى بهزادي" و"حسين بابايي" وقالا: سيّد، لقد أتيت برضا هذا إلى هنا، بحقّ جدّك، لا تسمح له بالتقدّم أكثر. فهو

 

 

450


434

مثلثّ النار والوفاء والشوق

معيل لأربع عائلات: هو نفسه لديه ثلاثة أولاد؛ وأخته لديها ثلاثة أولاد، وقد توفّي عنها زوجها؛ ومعه أمّه وأخواه. ورضا هو كبير العائلة، عندما يعود أقْنِعْه بالعودة إلى طهران.

 

عندما عاد رضا من مخيّم كارون، ناديته، وما إن فتحت فاهي مريدًا الكلام، حتّى قال: "سيّد، إن أردت قطع رأسي فاقطعه؛ لكن بحقّ أمّك فاطمة، لا تأمرني بالعودة إلى طهران..".

 

لقد خمّن ما أردتُ قوله له. كان ذكيًّا، واحتمل أن يكون الإخوة قد أطلعوني على وضعه العائلي. فألحّ عليّ كثيرًا ورجاني حتّى رضيتُ ببقائه.

 

بالطبع، كان وجوده ضروريًّا لتقدّم العمل، ولم أكن قلبيًّا راضيًا بمغادرته. فـ"رضا" من قدامى رجال الثورة والحرب، وصاحب تجربة عالية. التحق في زمن الشاه بالقوّات الجوّيّة وخضع لدورة تدريبيّة فيها. وكان صاحب خبرة ولياقة عسكريّة عالية. فبعد الثورة خضع لدورة تدريبيّة في قاعدة الإمام الحسين عليه السلام ونال شهادة تقديريّة. تولّى لمدّة مسؤول التعليم والتدريب في قاعدتي "حمزة" و"التوحيد"، يتحلّى بقوّة البيان العسكريّ وإيصال ما لديه من معلومات للطرف المقابل. جُرح مرّات عدّة وذاق طعم الرصاص والشظايا في بدنه، ويستطيع أن ينوب بسهولة عن قائد الكتيبة.

 

عندما عدنا إلى مخيّم "كرخه"، لم يكن قد بقي سوى شادرين وبعض العناصر، فيما انتقل الباقون إلى مخيّم "كارون". لم أتعجّب كثيرًا لهذا الأمر. فنقل العناصر وانتقالهم كان بيد "حسين" الذي دأب على القيام بكلّ أعمال الكتيبة.

 

صلّينا الظهرين في خيم "كرخه"، وعدنا عصرًا إلى مقرّ التكتيك. كانت ليلة الثامن من كانون الثاني، وقد جاء فريق المعلومات ليبحث مع الحاجّ

 

451


435

مثلثّ النار والوفاء والشوق

محمّد كيف سينقلون القوّات إلى مكان العمليّات. وقالوا للحاجّ محمّد إنّ القوّات العراقيّة قد ضخّت المياه في شرق "قناة السمك" فأصبح عمق الماء هناك ما بين المترين والثلاثة أمتار؛ وصار الأمر بنحو لا يمكن فيه للغوّاصين التقدّم خلاله، ولا القوارب؛ فأسفل القارب سيعلق بالطين، كما وضعوا وسط الماء عوائق إسمنتيّة؛ ويمكنهم بالمناظير التي بحوزتهم رؤية البعوضة ورميها بالدوشكا. وفي أيّ وقت من الليل أو النهار ذهبت إلى هناك، ترى ثلاثة قوارب، مجهّزة برشّاشي دوشكا، وbkc تجول في المنطقة.

 

أخيرًا، تقرّر القيام بالعمليّات من جهة "بنج ضلعي" و"کوت سواري" و"أسفل بوييان"؛ أي إنّ الفرق الثلاث: فرقة 25كربلاء، و27محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، و41ثار الله، ستباشر العمل من هذه المحاور الثلاثة وتحت إشراف ثلاثة مقرّات. وكان على فرقة 27محمّد رسول الله، التابعة لمنطقة طهران، أن تعبر "قناة السمك" وتتولّى دفاعات مثلّث الطرق؛ ذلك أنّ المثلّث كان نقطة وصل الفرق الثلاث. ولو سيطر العراقيّون على المثلّث لأبادوا الفرق الثلاث بأكملها. يؤدّي هذا المثلّث من أحد جوانبه إلى "الخندق الثنائي الجدار" و"شلمتشه"، ومن جانب آخر يؤدّي إلى السواتر الترابيّة الهلاليّة وإلى "أروند"؛ ومن جانب ثالث يؤدّي إلى ذلك الجسر الذي يرد منه الإخوة إلى "بنج ضلعي" حتى يصلوا إلى طريق "البصرة" - "تنومه".

 

في تلك الليلة، أي ليلة الثامن من شهر كانون الثاني، ذهبت مجموعة من فرقة 41ثار الله، لتتفقّد الخطّ مرّة أخرى، وعدنا نحن إلى الإخوة في مخيّم "كارون".

 

وعلى الرغم من أنّه شهر كانون الثاني، إلّا أنّ الطقس لم يكن باردًا جدًّا، فقط حين تمطر السماء مطرًا يجرّ معه السيول، ويخيّم الضباب على المكان، كان الجو يتحوّل إلى رطب وقارس. بعض الإخوة ارتدوا اللباس

 

452

 


436

مثلثّ النار والوفاء والشوق

الواقي من المطر، وآخرون كانوا يرتدون المعاطف ويجولون دونما خوف من البرد.

 

هناك، ازداد التشديد علينا؛ بسبب قربنا من خطوط دفاع العدوّ، ورؤيته وإشرافه على المناطق الواقعة على جانبي "أروند" و"كارون"، خاصّة تردّد العناصر وذهابهم وإيابهم، فكان ذلك يحتاج إلى الإذن المسبق، وأن يبقى تحت إشراف [القيادة]. وكما في السابق، كنت هناك على تواصل مع الخطوط الخلفيّة والمقرّ، وتولّى أصغر وحسين مهمّة الإشراف على الكتيبة.

 

في نهار الثامن من كانون الثاني، استعدّت القوّات المهاجمة وانطلقت نحو خطّ "تشمران" الخلفي الواقع في جادّة الشهيد "صفوى" بين جادّة الأهواز خرّمشهر والجادّة التي تبعد ستّة كيلومترات عن الحدود. وكان هناك ما بين الثلاثين والأربعين حفرة (دشمة) وُضعت فيها معدّات الفرقة التي تشمل المؤن والذخائر والحمل والنقل والشاحنات. كما أُعدّت هناك أماكن لخزّانات الوقود والماء تحت التراب، وذلك من أجل تسهيل الحمل والنقل. وعلى اسم الله كانت العمليّات بمشاركة قوّات فرقة 41ثار الله، وفرقة 25 كربلاء التابعة لمحافظة "مازندران". ما بين الساعة التاسعة والعاشرة، ركب بعض قادة الكتائب برفقة عناصر المعلومات قاربًا، وذهبوا ليفتّشوا عن حلّ وتدبير. ومن ثمّ يعودون. رجعوا في منتصف الليل، فرأيتهم جميعًا خائفين مضطرّبين يتكلّمون باستمرار عن أحد شباب "كرمان" وفريقه الذين ما رجعوا من الاستطلاع بعد وتأخّروا. استوضحت الأمر، فقال لي الإخوة إنّ اثنين من شباب "زرند" الكرمانيّة انفصلا عن فريق الاستطلاع وتقدّما إلى الأمام، ولم يعودا حتى اللحظة هذه. بعث تأخّرهما الاضطراب في الكتيبة. ضجّ القادة في الخطوط الخلفيّة من تأخّرهما وتلفت

 

453

 

 


437

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أعصابهم. ظنّوا أنّهما وقعا في الأسر وانكشف أمر العمليّات. لذا، اضطّروا من أجل هذه المسألة التي هي بسيطة في الظاهر، إلى تأجيل العمليّات ليلة واحدة.

 

وعلى الرغم من هذا كلّه، وفي ليلة التاسع من كانون الثاني، حيث كان البدر منيرًا، هجمت مجموعة الاقتحام التابعة لفرقة "ثار الله"، والتي توقّعت بأنّ القوّات العراقيّة غير مستعدّة في أيّ موقع من مواقعها، على خطوط دفاع الأعداء.

 

كان نداء العمليّات "يا زهراء". وحكت الأخبار عن تقدّم قوّاتنا وإفادتهم من إعياء الجانب العراقي فوصلوا إلى أقرب نقطة من "تنومه" و"البصرة"، وكان هدفهم الأساس هو التهديد نفسه، واحتلال البصرة وتنومه إذا ما واتتهم الفرصة.

 

كانت قوّات كتيبة "ميثم" على جاهزيّة من جميع الجوانب؛ فقد حملت ما يلزمها من العدّة والعتاد، ومن ناحية قوّة القلب والمعنويّات تميّزت بشجاعة ومعنويّات عالية. في تلك الليلة، حين كنت أنظر في وجه كلّ واحد منهم، كنت أرى نور الشهادة فيه، وقد أصبحت القلوب إلهيّة.

 

في منتصف الليل، هاجمت كتيبة "عمّار" التابعة للفرقة 27 خطوط دفاع الأعداء من جهة المثلّث، وقاتلت ببسالة. قرابة الساعة الخامسة صباحًا، دخلت كتيبتا "مالك" و"حبيب" المعركة، أمّا كتيبة "عمّار" فشهدت ذروة المواجهة في ناحية المثلّث ما بين السابعة والثامنة صباحًا. ولكثرة ما سقط هناك من الشهداء، عُرف ذلك المثّلث فيما بعد بمثلّث الموت أو الشهادة.

 

بحلول اليوم التالي، أي اليوم العاشر من كانون الثاني، ذُلّلت كلّ حقول الألغام وفُتحت المعابر، وتقدّم العمل بنحو جيّد جدًّا. فقد نجحت الخطط وسارت الأمور قدمًا. كما نزلت الفرقة (25 كربلاء) إلى أرض

 

 

454

 


438

مثلثّ النار والوفاء والشوق

المعركة، وخاضت مواجهة على ذلك الجسر الذي كان العراقيّون قد نصبوا فيه عمودًا فوق قناة تربية السمك. وصل الأمر بالقوّات العراقيّة مع كلّ تلك الموانع والعوائق التي وضعوها، بأن صارت تريد فقط الحؤول دون تقدّمنا. فقد عجزوا تمامًا أمام قوّاتنا ولم يستطعوا الوقوف بوجهها.

 

في صباح ذلك اليوم، كنت في المقرّ حين قال لي الحاجّ محمّد: "سيّد، جاء دورك، سر بقوّاتك".

 

بعد التنسيق مع حسين من أجل تحريك القوّات والانتقال إلى نقطة الانتشار، ركبت وأصغر درّاجة ناريّة وذهبنا باتّجاه المثلّث؛ وحیث کان كلّ منّا يعرج في مشيته، ولا يمكننا الذهاب إلى هناك سيرًا على الأقدام، انعطفنا إلى اليسار عن المثلّث، أوقفنا الدرّاجة الناريّة وألقيناها جانبًا. بما أنّ أصغر كان خبيرًا بالدرّاجات، فقد تلاعب بأشرطتها لتتعطّل عن العمل، ولكي لا يأتي أحد ويديرها فجأة! دخلنا "بنج ضلعی"، كان "محسن دين شعاري" يضع صفّارة في فمه، ويقود العناصر. ما إن رآنا حتّى أطلق صافرة وقال بصوت عالٍ: "جاء شباب جنوب المدينة ليعرجوا إلى الجنان!".

 

قال مسؤول الاتّصالات "حسين بهشتي": "سيّد، إنّكم الآن تدخلون المعركة. عليك الآن أن تحدّد من منكم أنتم الثلاثة هو قائد الكتيبة، حتّى نسجّله في رمز العمليّات..".

 

قلت: "حاجّ حسين، هذه قافلة العشق، ونحن الثلاثة الكلاب [الحارسة] لهذه القافلة. كلّ من ينبح أوّلًا، يكون هو قائد الكتيبة". علت أصوات الجميع بالضحك، ولامست قهقهاتهم عنان السماء. تقدّمنا، فوجدنا أنّ القوّات العراقيّة قد أحدثت مجدّدًا، طريقًا فوق الماء بين ساتر "قناة السمك" والجسر. تعجّبت كيف استطاعوا إحداث طريق وسط الماء.

 

بعدها علمت أنّهم قبل أن يضخّوا الماء إلى هذه الناحية، قد أحدثوا

 

455

 

 


439

مثلثّ النار والوفاء والشوق

طريقًا على اليابسة بارتفاع أربعة إلى ثمانية أمتار. فجاؤوا بأنابيب طويلة وضخمة ووضعوها على الأرض، وأهالوا فوقها التراب لتصبح طريقًا. ومن ثمّ ضخّوا الماء في جانبيها، لتصبح طريقًا وسط الماء. وقد جرّوا إليها الماء من نهري "عرايض" و"جاسم". كما صفّوا إلى جانب الطريق أحجارًا فوق بعضها البعض، ووضعوا فوقها الشباك الفلزيّة لتصبح سدًّا قويًّا ومحكمًا. ووضعوا في وسط المياه المليئة بالأسلاك الشائكة مفخّخات وألغامًا، بحيث إذا ما اصطدم أسفل القارب بها انفجرت. وفوق الأسلاك الشائكة، نُصبت كلّ خمسين مترًا دشمة رشاش "دوشكا". لقد قاموا بكلّ هذه الأشياء، ولكنّ الإخوة تخطّوها جميعًا وتقدّموا، وعبروا القناة "ذات الجدارين"، والتي كانت الأهمّ منها جميعًا. سُررنا عندما عبرنا الجادّة، إذ رأينا عناصر "عمّار" و"مالك" ملتصقين بالخندق الإسمنتي [أو بالقناة المزدوجة]، وأكثرهم في حال تقدّم. كان الأمر يسير على ما يُرام بحيث ظننّا أنّنا سنكون في البصرة عمّا قريب. واقعًا، لقد كان أداء الإخوة جيّدًا، وكان الهدف في يدنا تقريبًا.

 

إلى الأمام، بعد المثلّث بقليل، اشتدّت النيران علينا، فكنّا مضطّرين كلّ عدّة دقائق إلى الزحف والالتصاق بكتف الساتر الترابي. وهناك رأينا "نصرت أكبري" وقد أُصيب وخُضّب بدمائه. كان غائبًا عن الوعي حين كانوا يضعونه على الحمّالة. ظننّا أنّه استُشهد.

 

فتّشنا عن مسؤول المعلومات السيّد "مجتبى حسيني"، لنطّلع منه على سير الأمور. فقد كان خبيرًا متمرّسًا، ويمكنه توجيهنا وإعطاء التعليمات لنا. على بعد عدّة أمتار، رأيت ساترًا ترابيًّا هلاليّ الشكل*[1]، ورأيت "قاسم صادقي" في أعلاه.

 

سألته: "أين السيّد مجتبى؟".

 

 


[1]  أو على شكل نون (ں).

 

456


440

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- هناك، وقد أُصيب للتوّ.

 

أشار إلى ناحية، توجّهت إليها، فرأيت رصاصة قد أصابت جبهة "مجتبى" مباشرة واستُشهد. لم يكن معنا جهاز لاسلكيّ لنخبر القيادة في الخطوط الخلفيّة باستشهاده. اضطُررنا لتركه ريثما يأتي نقلة الجرحى وينقلونه.

 

على مسافة عدّة أمتار إلى الأمام، التقيت بمسؤول البرامج والتخطيط "سعيد سليماني".

 

سألني: "أين قوّاتك الآن؟".

- لقد وصلوا إلى الخطوط الخلفيّة، وعمّا قليل يدخلون المعركة.

- اصبروا قليلًا، ريثما أتبيّن مصير المنطقة هنا.

 

تقدّمت وأصغر قليلًا إلى الأمام من باب الفضول. فرأينا في قلب الخطوط الأماميّة قادة الكتائب. كان قائد كتيبة عمّار "رضا يزدي" مستلقيًا إلى جانب الساتر، و"رضا بختياري" قد أُصيب برصاصة في فمه فارتمى في ناحية ووجهه مخضّب بالدماء، فيما كان "أحمد نوزاد" يغيّر مخزن سلاحه وقد بدا مرهقًا، أشعث أغبر.

 

وهناك، وضعت في فكري مخطّطًا، وهو أين أموضع قوّاتي. استطلعنا الجهة اليمنى واليسرى والمنحدرات والتلال واستبنّا الأمر وماذا سيحصل إن نحن دافعنا، وماذا سيحصل إن هجمنا.

 

في هذه المعمعة، اشتدّت النيران. وكثّفت القوّات العراقيّة ضغوطها محاولة السيطرة على الساتر الترابي. فجأة رأيت شباب كتيبة "حبيب" يهرعون من فوق الساتر الأمامي إلى الخلف. لم أعرف كيف حصل ذلك. هذا هو الفرق بين التعبئة والجيش: فإذا ما تراجع في وسط المعركة، عشرة

 

457

 

 


441

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أشخاص إلى الوراء، صار الجميع يريدون الانسحاب. كان قادة السرايا يهرعون خلف العناصر ويصيحون؛ أرادوا جمعهم وتوجيههم؛ فالعمليّات كانت تشارف على تحقيق النتائج. ولا معنىً للانسحاب؛ لكنّ النيران لا تعرف المعنى واللا معنى؛ فهي تأتي وتحرق. كانت الدبّابات تلاحق الإخوة، وقد سيطرت على جانب من الساتر الترابي النوني [الهلاليّ الشكل].وقد انتشرت خلف الساتر على هيئة نواطير المزارع ومن عدّة جهات، ووجّهت فوّهاتها نحو الإخوة وراحت ترميهم. فكانت كلّ طلقة موجّهة نحو عنصر. الله أكبر! کما وضعوا على الجادّة نفسها دشمة للدوشكا. ووضعوا قوّات الدرجة الثالثة فيها، حتّى إذا ما هجم الإخوة في البداية على الجادّة، بدأ عناصر الدرجة الثالثة بالرمي. وفي النقطة التالية وُضع عناصر الدرجة الثانية. وكان خلفهم سدّ، ومهما رميتهم بالـ"B7"، لم يكن ذلك ليؤثّر فيهم؛ وذلك لشدّة إحكام السدّ ومتانته.

 

هناك قلت لأصغر: "لا بدّ لنا أن نأتي بجرّافة وبشخص خبير، ليحدث ساترًا ترابيًّا يحول دون تقدّم الدبّابات".

 

قال أصغر: "ومن ذا الذي يمكنه التقدّم وسط هذه النيران؟ هذا أمر يحتاج إلى شخص مجنون".

 

وبينما أتحدّث إليه، أخبرنا الإخوة بأنّ الحاجّ محمّد أخبرهم عبر الجهاز اللاسلكي بأنّ كتيبة "ميثم" متوجّهة نحو الخطوط الأماميّة.

 

كانت الساعة تقارب الحادية عشرة صباحًا. وحين عودتنا رأيت القوّات العراقيّة قد سدّت الطريق خلف المثلّث، وتشارف على شقّ قوّاتنا من الخلف. توجّهت لأصغر قائلًا: "عندما جئنا إلى هنا، لم يكن كلّ هذا العدد من القوّات العراقيّة موجودًا. من أين أتوا فجأة؟".

 

لقد أمطرت الدبّابات والجنود العراقيّون طريق انسحاب كتيبة"حبيب"

 

458


442

مثلثّ النار والوفاء والشوق

بوابل نيرانهم، بحيث لم يعد أحد يستطيع التقدّم ولا الانسحاب. ولو كانوا وُفّقوا لأبادوا الفرق الثلاث بأكملها. التقيت بـ"سعيد سليماني" فقلت له: "إن شاهدت قوّاتي عناصر كتيبة "حبيب" ينسحبون ستضعف قلوبهم، ويضخّمون الأمور؛ افعل شيئًا".

- ماذا سنفعل، لقد تعقّدت الأمور[1].

- لقد جاء "حسين" الآن بالقوّات. ولحسين سجلّ حافل في قيادة الكتيبة، ويعرف ماذا سيفعل؛ لكنّي قلق على القوّات، وأخاف أن يتفرّقوا قبل بدء العمل...

 

في الخلف، وعند المثلّث، شاهدتُ "حسين" يقود القوّات في طابور، في حين كانت نيران القوّات العراقيّة تمطر المكان بغزارة. حمل حسين في يده مكبّر صوتٍ، فكان كلّ دقيقة يأمر الإخوة بالانبطاح.

 

فكانت القوّات تنبطح أرضًا مع كلّ انفجار قذيفة ومن ثمّ تنهض. ذهبت إلى حسين وقلت له: "عليك أن تفعل شيئًا، فإن التقى هؤلاء بكتيبة "حبيب" واختلطوا مع عناصرها، يفلت الأمر من أيدينا. علينا أن لا ندعهم يجتمعون".

 

صاح "حسين" بالإخوة بأعلى صوته قائلًا: "شباب، احفروا بخناجركم في قلب الساتر الترابي حفرًا كجحور الثعالب ولوذوا بها إلى أن تصدر الأوامر بالهجوم".

 

انشغل الإخوة بصنع الحفر وتشتّتت حواسهم. مرّت قوّات "حبيب"، من جانبهم بهدوء وانسحبت. وضع حسين مكبّر الصوت في يد "بور أحمد" وسط النيران والرصاص وقال: "إنّ ذكر الله تعالى هو الحلّ

 

 


[1]  المعطيات أو الحيثيات.

 

459


443

مثلثّ النار والوفاء والشوق

الأنجع في وضع مثل هذا".

 

عرّج رضا إلى ذكر الزهراء عليها السلام؛ فاتّجهت النفوس إلى الله تعالى واطمأنّت القلوب.

 

وجدتها أيضًا فرصة وأنهضتهم، وتغيّر الجوّ. فعندما يحضر العشق، فحتّى لو كان أحدهم خائفًا، فإنّه لا يُظهِر ذلك. قويت القلوب بذكر الله. بعد ذلك، أرسلت سريّتي "فدك" و"البقيع" إلى الجهة اليسرى من الساتر النوني، وسريّتي "نينوى" و"الكوثر" إلى الجهة اليمنى.

 

وهناك، كانت نهاية المعركة. فقد ذهبنا لنصفّي حسابنا دفعة واحدةً مع العراقيّين. هجمنا من ثلاث جهات. وتلاطم هناك بحر من النيران والدماء.

 

أنا نفسي، أظهرت كلّ تهوّري. أخذت المذياع وتقدّمت وسط الإخوة لأرتجز وأمدّهم بالمعنويّات. لا أعلم إن كان ذلك من أجل الله أم من أجل نفسي؛ أخفيت خوفي ووقفت منتصبًا. صحت فيهم: "قوموا، لا تقعدوا، ليس لدينا وقت..". وصرت أذكر أسماء الحقّ تعالى.

 

عبرت السواتر الترابيّة وتقدّمت لأتكلّم مع الحاجّ محمّد كوثري. كنت أفكّر في الساعة التالية، وأيّ كتيبة ستستلم الدفّة، إذا ما أُرهق شباب كتيبتنا.

 

قال الحاجّ محمّد: "عليك أن تدع سريّة من سراياك إلى جانب الساتر النوني، وذلك حتّى لا يحتلّ العراقيّون المثلّث. انتبه، فهذا المثلّث مهمّ جدًّا. وإنّ أرواح الفرق الثلاث رهينة الحفاظ على المثلّث". ومن هناك، اتّصلت عبر جهاز اللاسلكي بـ"حسين طاهري" لأوصيه وأوكّد عليه بالحفاظ على المثلّث. فقد كانت تفصلني عنه مسافة خمسمائة متر:

- سليمان، سليمان 2، سليمان، سليمان 2...

 

460


444

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- سليمان 2 معك، أسمعك.

- اجعل سريّة "محمود جوليده" إلى جانب الساتر النوني، ولتكن مهمّتها الدفاع عن المثلّث.

- سليمان 2، حاضر، عُلم.

 

ارتاح بالي عندما علمت أين تتموضع سريّة "محمود جوليده". بعد نصف ساعة اتّصلت عبر الجهاز لأستخبر من حسين عن الأوضاع:

- سليمان، سليمان 2؛ سليمان، سليمان 2...

 

لم يجب أحد!ناديت عدّة مرّات إلى أن أجابني أحدهم قائلًا: "سليمان 2، سليمان أصابه ألم في ضرسه، وضرسه ينزف".

 

عدت سريعًا إلى المثلّث. الله أكبر! وجدتُ أنّ قذيفة قد سقطت وسط الإخوة؛ فاستُشهد حسين في مكانه، وجُرح قائد السريّة. وقد ارتمى كلّ واحد في ناحية وكان مخضّبًا بدمائه. أمّا "أكبر سر بوشان" فقد أُصيب بشظيّة في وجهه، وكان وجهه مخضّبًا. لقد ساءت حاله بشكل ملحوظ. أظلمت الدنيا في عيني، وأصبحتُ لا ظهر لي. اختنقتُ بغصّتي. فحسين كان عمود الكتيبة. وكان من المقرّر أن يقود هو الإخوة إلى مكان مهمّتهم، وأن أقعد أنا وأصغر وراء الجهاز فقط ونتظاهر بالأهمّيّة! لا مصيبة أكبر من هذه المصيبة! تعاونت والإخوة ووضعنا جثمان حسين في صندوق سيّارة تويوتّا، كما وزّعنا الجرحى على صندوق السيارة في المقدّمة وأرسلناهم إلى الخطوط الخلفيّة.

 

لكنّ "أكبر سربوشان" أبى أن يرجع، فضمّد المسعف له جرحه، ومهما ألححت عليه بأن يرجع، لم يفعل.

 

صمد أكبر، وحين رأى الإخوة ممّن كانت جراحهم بسيطة إصراره

 

 

461


445

مثلثّ النار والوفاء والشوق

واستبساله، استمدّوا منه القوّة ونهضوا. حملوا سلاحهم وذهب كلّ منهم لينجز عملًا ما.

 

جمعنا كلّ من بقي من سريّة محمود وانطلقنا. صفّهم "مرتضى بهزادي" خلف الساتر الهلالي من أجل الدفاع.

 

يومذاك ظلّت القوّات العراقيّة تصبّ حمم نيرانها وتكبّدنا الخسائر إلى قرابة الرابعة بعد الظهر. وقرابة الخامسة، انسحبت قوات العدو ميلًا إلى الوراء. سحبت عناصرها واستقدمت إلى أرض المعركة عشرات الدبابات 72T. أرادت لنا أن نتراجع إلى الوراء وأن تختبر نفسها؛ وذلك أيضًا، بالدبّابات لا بالعناصر. فشرعت ترمي علينا مباشرة، فتقلب الساتر رأسًا على عقب.

 

قرابة الغروب، اضطُرّ عدد من الإخوة إلى الاحتماء بالحفر التي حفروها في الساتر، وذلك لينتقموا في وضح النهار من العراقيّين على النيران التي كانوا أطلقوها. تقدّمت الدبّابات إلى مقربة 150 مترًا من الساتر الترابي الهلالي الشكل؛ لكنّها لم تلتصق به. كانت تتقدّم وتتراجع فقط وترمي بنيرانها.

 

لم يكد الغروب يحلّ حتّى سقط صاروخ مباشر على الساتر الترابي الهلاليّ؛ فأُصيب "محمود جولیده" و"حسين بابايي" إصابات بالغة، واستُشهد "رضا محمّدي" في أرضه.

 

ولقد أصابت محمود الشظايا في مائة موضع من بدنه؛ في بطنه، في رجله ووجهه. الجميع قال بأنّه استُشهد قبل أن يُنقل من مكانه. إنّها نيران القذائف، لا تميّز ولا تعرف أحدًا؛ سقطت وأصابت الجميع، وقلبت الكتيبة رأسًا على عقب.

 

عند الغروب، وفي صحراء المحشر تلك، كنت جالسًا خلف الساتر الترابيّ، وكأنّني أرى كربلاء أمامي؛ كتيبة الأبطال التي كانت تتلاشى أمام

 

462

 

 


446

مثلثّ النار والوفاء والشوق

عيني. وحولي الكثير من الجرحى والأيدي والأرجل المقطّعة والشهداء. كنت أدّعي أبوّة الكتيبة؛ لكن في بحر النيران ذاك، كانت يدي قاصرة عن كلّ شيء. أصبح شبابي يُستشهدون أمام ناظري، وصرت أنا المتفرّج على حلبة الـ"زورخانه".

 

وبينما كنت كذلك، إذا بأصغر يأتي إليّ، وقد أصابت شظيّة فكّه وخُضّب وجهه بالدماء. كانت عيناه زائغتين. وقد جمع الكفّيّة بيده ووضعها على خدّه، وجلس إلى جانبي خائر القوى.

 

قلت: "لم يكن من المفترض بك أن تُصاب، أخي أصغر. انهض، واذهب سريعًا إلى الخطوط الخلفيّة. لا تبقَ هنا".

- ليست مسألةً مهمّة، يمكنني متابعة عملي.

- إن رآك الإخوة سينهزمون. ليس من الجيّد للقوّات أن يروا قائدهم مصابًا.

 

المسكين أصغر، كان يسمع كلامي ولا يبدي رأيًا فوق رأيي؛ من شدّة أصالته. نهض وانسحب من دون أن ينبس ببنت شفة.

 

بعد ساعة، نهضت وعبرت من جانب الإخوة لأصل إلى الناحية الأخرى من الساتر الترابي، وإذا بشظيّة تصيب يدي؛ تلك اليد نفسها التي تعرّضت مرّتين للإصابة؛ وقد أصابت الشظيّة الجهة الخلفيّة للعضد ومزّقته. جلست، ولففت الكفّيّة حول الجرح. لكنّ الدم فار إلى الخارج وبلّل ملابسي فجأة. لا أذكر الحال التي انتابتني. لم أكن أفكّر بنفسي. صرتُ ملتاعًا. فالمرء هناك ينسى آلامه. رفعت رأسي ونظرت إلى خطّ دفاع العراقيّين الذين هدأت نيرانهم قليلًا مع حلول العتمة.

 

على أيّ حال، أطلّ رجل الميدان "علي زاكاني" من بين النار والدماء. وكم

 

463

 

 


447

مثلثّ النار والوفاء والشوق

لوصول رجل شجاع وقائد مخلص من أهمّيّة. كنت منهكًا جدًّا فارتحت عند رؤيته. سلّمته جهاز اللاسلكي. كان "علي زاكاني" الرسول الإلهي الذي أُلقي على عاتقه عبء عملي، وشهادة "حسين طاهري" و"رضا محمّدي"، وإصابة "أصغر". كان فراق الأحبّة صعبًا، ولكن التوكّل على الله سبحانه دواءُ دائنا.

 

وبينما أنا جريح ومستند إلى الساتر، رأيت شخصًا يتوجّه وسط العتمة نحوي. ظننته من البعيد رجل دين يعتمر عمامة بيضاء.

 

تقدّم وقال بصوت غليظ: "من هو السيّد أبو الفضل هذا؟".

- ماذا تريد منه، يا أخي؟

- لا، يُقال إنّه أتى إلى الجبهة من أجل التظاهر!

 

اعترضت وقلت: "ما هذا الكلام الذي تتشدّق به؟".

- يقولون إنّ شخصًا واحدًا فقط يُدعى "أصغر أرسنجاني"، علي أصغر، له سلطة عليه؟

- علي أصغر ليس موجودًا الآن.

- يقولون إنّك تلميذه؟

 

فجأة نهضت من مكاني، حدّقت ودقّقت في وجهه، يا إلهي... أصغر! كان وجهه مضمّدًا؛ لم أعرفه. كان ضماد وجهه مضمّخًا بالدماء. وعيناه زائغتين، فاقدتين لرونقهما.

 

قلت: "إِ.... أصغر هذا أنت؟".

- نعم، أنا أصغر.

- كيف عدت؟ ولِمَ؟

 

 

464

 


448

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- استخدمت درّاجة الدائرة الصحيّة. أصلحت شريطها وأتيت. لم أحتمل البقاء في الخطوط الخلفيّة.

 

أثبت أصغر شهامته ومروءته. وحين عاد انتعشت آمالي وعاد إليّ نشاطي.

 

فقد أصبح لي سندًا. لم أكن أتوقّع منه غير هذا. فقد أصبح ظهيري في أصعب اللحظات.

 

- تعالَ عزيزي أصغر، اجلس.. منذ ساعات وأنا أتّصل عبر الجهاز ليرسلوا لنا جرّافة. أظنّ أنّ العراقيّين سيعودون إلى هنا للتثبيت. فنحن في هذه الجهة عبارة عن كومة من اللحم مع قبضة "B7"، وفي الجهة المقابلة هناك الحديد والفولاذ الذي لا يؤثّر فيه شيء. لقد فرّغ العراقيّون كلّ مائة متر ما بين السواتر لتتمكّن دبّاباتهم من التحرّك براحة على امتداد الساتر الترابي....

 

وعلى الرغم من أنّ أصغر لم يكن بحال جيّدة، بقي إلى جانبي في الدشمة حتّى الصباح. وساعدني في إدارة الأمور ومتابعة أمر الجرّافة والعناصر الواردين للتوّ.

 

في النهاية، جاءت في آخر الليل جرّافة وسوّت السواتر الترابيّة المتلاشية ووصلتها ببعضها البعض. وما إن وُصلت السواتر ببعضها البعض حتّى استحكم خطّ دفاعنا. كما سكتت نيران العراقيّين تقريبًا. لكنّ النار والقلق في داخلي لم يخمدا. يعلم الله أيّ قلق كنت أعيشه؛ القلق من الغد وهجوم العراق. الهجوم يعني أن تصبّ خمسون دبّابة حمم نيرانها، وأن تساندها القذائف المدفعيّة من الخلف. كنت أعلم بأنّ الدبّابات أتت لتقوم بالهجوم في الغد. وهي إن سكتت الآن، فإنّما تستعدّ للغد. كنت

 

 

465

 


449

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أفكّر بهذه الأمور وإذا بي فجأة أسمع صوتًا يخرج من مكبّر الصوت.

 

نهضت من مكاني ووجّهت نظري نحو خطوطنا، كان الصوت ينبعث من هناك. تعجّبت حين رأیت سيّارة الحاج "بخشي" تتّجه وسط صحراء "شلمتشه"، نحو المثلّث من دون اكتراث.

 

وصلت السيّارة إلى مقربة عشرين مترًا من "قناة السمك" التي تموضعنا خلفها في دشمة. وكان من عادة الحاجّ "بخشي" أن يأتي على هذه الحال إلى جمع الإخوة، فيمدّ الإخوة بالمعنويّات من خلال توزيع الحلوى والطعام عليهم، وقراءة المراثي والأرجاز وأحاديث المروءة والشهامة؛ كان رجلًا نشيطًا، وذا روحيّة عالية، ووجوده واقعًا كان نعمة بالنسبة للبعض.

 

لعلّه يظنّ أنّ "شلمتشه" كـ "الفاو". وبينما هو يرتجز عبر مكبّر الصوت ويتقدّم نحو الخطّ الأمامي، وإذا بقذيفة مدفعيّة تصيب سيّارة اللاندكروزر مباشرة وتشعلها في لحظة. طار الحاجّ "بخشي" خارج السيّارة، وشاهدنا بأمّ أعيننا راكبيها الأماميّين يشتعلان وهما حيّين، ويتفحّمان. كانت ألسنة النيران تتصاعد من السيّارة، وهما يفحصان بأيديهما وأرجلهما وسط النيران. لم يجرؤ أحد على الاقتراب منهما. حاول أحدهما إطفاء النيران بيده، لم يستطع. فغلبته النيران واستُشهدا معًا. لم نستطع القيام بشيء لهما. فقد كنّا تمامًا في مرمى نيران العدوّ، ولو تقدّمنا إلى تلك الناحية، لعرّضنا الخطّ كلّه للخطر ولوابل نيران العدوّ.

 

بقينا تلك الليلة مستيقظين حتى الصباح، في حال دعاء وذكر لله تعالى. وقد مرّ بذاكرتي مشهد احتراق راكبي سيّارة الـ"لاند كروز" آلاف المرّات.

 

عند الصباح، خطر ببالي أن أوزّع الإخوة الشجعان، وأشكّل ثلاث مجموعات رياديّة ليكونوا فدائيّي الكتيبة. ففرزت "حسين إسماعيلي" وخمسة أشخاص آخرين ليلتحقوا بسريّة "نينوى"؛ و"محمود عطا" مع خمسة أشخاص لسريّة "فدك"؛ و"أصغر کودرزي" وخمسة آخرين لسريّة

 

466

 

 


450

مثلثّ النار والوفاء والشوق

"البقيع". وسلّمت كلًّا من هذه الفرق قبضة "B7"، ومساعدَيْ رامي "B7"، وعددًا من القنابل.

 

كان من المفترض أن يتمترسوا في دشمة تبعد مئة متر إلى الأمام من السريّة، وأن يبدأوا بالمواجهة قبل البقيّة ويفدوا الجميع. وحين يطلقون الطلقة الأولى، يهبّ البقيّة ويدخلون المعركة.

 

وبينما كنّا ننتظر، شُغّلت الدبّابات العراقيّة قبل الفجر وراحت تطلق النيران. أصاب "أصغر کودرزي" وفريقه، بادئ الأمر دبّابتين. وشيئًا فشيئًا عرفوا كيف يتعاملون مع الدبّابات. كان عليهم أن يرموها على الجنزير أو مخزن الوقود، ورميها في أيّ مكان آخر لن يؤثّر فيها؛ بل ستصطدم القذيفة بها وترتدّ.

 

ظلّ العدو إلى قرابة الظهر يرمي أعلى السواتر الترابيّة ويصبّ حممه باستمرار.

 

اتّصل بي "محمّد جعفري" عبر جهاز اللاسلكي من الجهة الأخرى، وكان مسؤول إحدى السرايا، وأخبرني بوجود عناصر كثيرة خلف الدبّابات.

 

قلت: "ليس غريبًا. قاوموا أنتم، والله سيأتيكم بالمدد".

 

نزلت عن الساتر الترابي الذي كنت خلفه منذ قرابة الفجر، ألقيت نظرة بالمنظار، فرأيت أنّ الأمر واقعيّ، وأنّ العراقيّين يتقدّمون بين الدبّابات. كما ظلّت القذائف تسقط على الساتر بشكل متتالٍ؛ وكأنّ الساتر يهتزّ من الداخل. أما المياه على جانبي الجادّة فركدت وشكّلت ما يشبه المستنقع. وعندما كانت تسقط قذيفة وسط المستنقع، صارت تتناثر آلاف الأسماك وسط الجادّة. كما سقط جثمانا كلّ من "مجيد رمضان" والحاجّ "عباديان" وسط الأسماك.

 

 

467

 

 


451

مثلثّ النار والوفاء والشوق

وهناك، أصبحت الشظيّة بقيمة مليار تومان. فشظيّة بمقدار حبّة الحمّص كانت كافية لترجع إلى الخطوط الخلفيّة وتتخلّص من ذلك الجحيم. وبعض الإخوة قد أسموا تلك الشظيّة شظيّة "آخ طهران!" وردّدوا قائلين: آه لو تصيبنا شظيّة فنذهب إلى أمّهاتنا!

 

اتّصلت عبر الجهاز بالحاجّ محمّد وأخبرته بأمر جنود المشاة العراقيّين.

 

فقال: سننزل كتيبة "الشهادة" إلى الأرض.

- حسنًا، إن أنزلتهم، فسيسقط مع كلّ قذيفة بدل الثلاثة ستّة شهداء. يجب أن يكون معنا مدفعيّة.

- سيأتي ذلك بنتيجة يا عمّ.

- لدينا قوّات، دع هؤلاء يتابعون مهمّتهم. إن كان من المفترض أن نحقّق نتيجة، فذلك لا علاقة له بعدد القوّات. المشكلة أنّ العراق يملك دبّابات.

 

بينما كنّا نتكلّم، اشتدّ القصف. تركت جهاز اللاسلكي وتوجّهت نحو الشباب لأراهم ملتصقين بالأرض. الدبّابات على بعد مئة متر خلف الساتر تتقدّم وترمي بنيرانها، وقوّاتنا متسمّرة في مكانها. خرج جنود المشاة من وراء الدبّابات وهجموا على الساتر؛ كانت قامة كلّ واحد منهم قرابة المترين، وبنيته ضخمة! فيما شبابنا لا يتجاوزون المتر والنصف.

 

والتحم الفريقان.

 

صرخ "مرتضى بهزادي" وأحد الإخوة كلاهما: "سيّد، سيّد، لقد جاؤوا، لقد جاؤوا، ماذا سنفعل؟".

 

حرتُ ماذا سأقول؟ وماذا أفعل؟ تظاهرت باللامبالاة وقلت لمحمّد

 

468


452

مثلثّ النار والوفاء والشوق

جعفري: "أَوَلست المدرّب؟ أَوَلم تأتِ لتقاتل؟ حسنًا، هذه هي الحرب؛ لِمَ أتيت إذًا؟ خذ قوّاتك إلى المقدّمة ودعهم يقاتلون. أسرع وقف وسط قوّاتك ووجّههم وقدهم".

 

ليسامحني الله؛ رحت أصرخ في وجهه لأحثّه وأشجّعه.

 

بعد ذلك، حملت جهاز اللاسلكي، وصعدت الساتر الترابي إلى جانب الإخوة ليروني ويستمدّوا القوّة منّي. فرأيت الإخوة قد التحموا بالجنود العراقيّين؛ فراحوا يطعنونهم ويرمونهم بالقنابل ويضربونهم بقبضاتهم وكلّ ما توافر في أيديهم. سحب أحد الإخوة قنبلة وفجّر نفسه في جنديّ عراقيّ. بعد ربع أو ثلث ساعة من الالتحام وتقديم قرابة الستّة شهداء، ولّى العراقيّون -بفضل الله- هاربين! كما استدارت الدبّابات ولاذت بالفرار. حمل الإخوة قذائف الـ"B7" ولاحقوهم. كان أمرًا أشبه بالمعجزة. ألحقنا بهم خسائر فادحة. ودمّرت المجموعات الرياديّة اثنتي عشرة دبّابة؛ لكن أُصيب اثنان أو ثلاثة منهم بإصابات مباشرة، فارتفعوا شهداء إلى الرفيق الأعلى.

 

حين نزلت كتيبة الشهادة إلى أرض المعركة، وضعناهم في الجهة اليسرى من المثلّث، وسحبتُ شبابنا إلى الجهة اليمنى منه ليلتقطوا أنفاسهم.

 

كتيبة الشهادة هي كتيبة الاحتياط بالنسبة لكتيبتنا؛ لكنّها لم تكن تعرف الأرض بالقدر الذي نعرفه. أراد جواد صرّاف ومعاونوه المجيء إليّ لأوجّههم وأعطيهم التعليمات؛ لكن من سوء الدهر، أنّ قذيفة سقطت منذ البداية بينهم واستُشهدوا جميعًا. أصبحت كتيبة الشهادة بلا كبير وقائد، فتولّى قيادتها معاون جواد "أكبر عاطفي". جاء أكبر إليّ أيضًا، فوجّهته ووضعته في الأجواء وما حدث في اليومين السابقين، وشرحت له

 

469

 


453

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أوضاع الخطوط الأماميّة وعلى أيّ رِجْل تستقرّ.

 

عندما نزلت كتيبة الشهادة إلى الميدان، تحسّنت الأوضاع. فقد كانوا نشطين واستلموا زمام الأمور. لم يواجه شبابنا الأسر كثيرًا. ففي تلك المواجهة، وقع خمسة أو ستّة من شباب كتيبة الشهادة في الأسر، وفُقد بعض شبابنا ولم يُعرف ماذا حلّ بهم؛ لكنّ العراقيّين انسحبوا، وهذا هو أصل الموضوع.

 

قرابة العصر، نزل شباب لواء "ذي الفقار" إلى الميدان، وبحوزتهم صواريخ "تاو". وما إن وصلوا حتّى انهالوا بها على الدبّابات. بعد نصف ساعة، أبلغنا شباب الجهة اليمنى، أي سريّة "البقيع" و"فدك" بأنّ القوّات العراقيّة يضيّقون عليهم؛ أي كنّا نتعرّض للاختراق من ناحية فرقة "25كربلاء".

 

ألقيت نظرة عبر المنظار، فرأيت أربع دبّابات تشبه ألعاب الأطفال، ملتصقة ببعضها البعض وتصعد من جهة السدّ. وكأنّهم كانوا يريدون أن يشقّونا من الجهة اليمنى. حاول الإخوة منعهم من التقدّم. وبینما أنا أسير من المثلّث باتّجاه الساتر الهلالي وعيناي على ساترنا، سمعت أنين أحدهم. لحقت الصوت فرأيت "مجتبى جواد زاده" قد سقط في ناحية، وقد أصابت شظيّة خاصرته اليمنى، وفلقتها بمقدار راحة اليد. وقد علا التراب والغبار رأسه ووجهه وتضمّخ بدمائه. تقدّمت منه، وضعت يدي تحت رأسه وقلت: "سيّد مجتبى، الأمر بسيط، عمّا قليل يأتي المسعف".

 

لكنّه كان يجود بنفسه. كان مغمض العينين يئنّ من الألم. قال بصوت متقطّع: "أريد... أريد أن أكتب بدمي... يا زهراء".

 

قلت: "مجتبى، ماذا حصل؟ وهل اشترى الله هيئة الحجّتيّة؟!".

 

فتح عينيه وقال بصوت متقطّع: "لا تهتمّ يا سيّد، ... إن قلّ زادك هناك

 

470


454

مثلثّ النار والوفاء والشوق

[في العالم الآخر] سآخذ بيدك!"

 

بعدها مدّ يده إلى جانبه، فارتطمت بالجرح.. امتلأت دمًا، نادى: "يا زهراء... يا زهراء..". رفع يده، وصاح صيحة واستُشهد.

 

وصل المسعف، فنهضت من مكاني. فيما العدوّ يصبّ حممه، والإخوة يبلّغون عبر الجهاز أسماء الشهداء ويقولون: الحمامات رحلت، فلان وفلان حلّقوا.

 

على مقربة من ذلك المشهد، غرق "أحمد فيروز صمدي" بدمائه. وكان حافظًا لديوان حافظ عن ظهر قلب. سقى الله تلك الأيّام، حين كنّا نجتمع في الخيمة حول بعضنا البعض ونتبارى في إلقاء الشعر.

 

اتّصلت لاسلكيًّا بالحاجّ محمّد: "ماذا حدث يا حاجّ؟ يكادون يسيطرون على الجانب الأيمن. أَوليست فرقة 25 كربلاء تقوم بالدفاع هناك؟".

 

أجاب: "لقد انقطع الاتّصال بفرقة 25كربلاء ".

 

قلت لأصغر: "ماذا سنفعل يا أصغر؟ النيران تقترب منّا".

 

قال: "مثّل وتظاهر يا سيّد".

 

وقفت. كانت فوّهات الدبّابات موجّهة إلى الجهة اليمنى من الساتر الترابي. حملت الـ"B7". ناديت يا فاطمة الزهراء وقلت: "إلهي، لا تخيّب قوّاتي".

 

هدّفت ورميت. وبتسديد الله سبحانه، انطلقت القذيفة وأصابت فوّهة الدبّابة ودمّرتها. هبّ الشباب وأخذتهم الحماسة. باشر رماة الـ"B7" عملهم وأصابوا الدبّابات الأربع وأسروا ثمانية عشر جنديًّا عراقيًّا.

 

قلت: ماذا سنفعل بالأسرى في هذه المعمعة؟ لم نستطع أن نرسلهم إلى الخطوط الخلفيّة؛ ربطنا أيديهم وأوقفنا عليهم حارسًا ليحرسهم.

 

 

471

 

 


455

مثلثّ النار والوفاء والشوق

الحقيقة أنّ الإخوة تناسوا تعبهم. كانوا مرهقين منهكين؛ لكنّهم بقوا واقفين على أرجلهم. فهم لم يناموا أو يأكلوا منذ ثلاثة أيّام، لكن يشهد الله أنّهم ثبتوا وأدّوا عملهم جيّدًا. وقد تعاونت جميع الكتائب إلى أن وصل الأمر إلى هذا. ففي الخطوط الأماميّة كان الجميع قلبًا واحدًا وهدفًا واحدًا.

 

دمّرنا الدبّابات؛ لكنّ العراقيّين لم يوفّرونا من أوّل النهار إلى آخره؛ بل كثّفوا النيران علينا. وكنّا إذ نصيب أربع دبّابات، تحضر أربع دبّابات أخرى إلى أرض المعركة.

 

لاذت مجموعة رماة الـ"B7" الفدائيّة بالساتر الترابي، وقد أُرهقت وأُنهكت.

 

ولكثرة ما رمى "حسين إسماعيلي" بقذائف الـ"B7"، تجمّد الدم حول أذنيه وعلى عنقه؛ وحتمًا لقد ثُقبت طبلة أذنه.

 

كان الإخوة يستمدّون القوّة وينشطون عندما يرون "حسين"، وقد لقّبوه "أسد شلمتشه" وهو واقعًا جدير بهذا اللقب. لم يعرف الخوف ولا التعب. وكان لدينا الكثير من أمثال "حسين" في كتيبة "ميثم". وهؤلاء، بثباتهم وعدم خوفهم، هم الذين أرغموا العراقيّين على الانكفاء.

 

اتّصلت عبر جهاز اللاسلكي بالخطوط الخلفيّة ليرسلوا إلينا ناقلي الجرحى والمسعفين. أجابوا: إنّ الجسر مقطوع والطريق مسدود. فقد احترقت على الجسر الكثير من سيّارات التويوتّا وتُركت الدبّابات وصناديق الذخائر والأسلحة على الأرض، ويصعب مرور شخص واحد؛ فكيف بسيّارة الإسعاف.

 

عند الظهر، جاءت جرّافة، فجرفت كلّ ما كان موجودًا على الجسر وألقته في القناة. كان عدد الجرحى كبيرًا ولربّما بلغ المائة.

 

وصل ناقلو الجرحى، تلقفوهم كالزهور ووضعوهم في سيّارة الإسعاف

 

472

 


456

مثلثّ النار والوفاء والشوق

ونقلوهم. غضّ الله الطرف عن استحقاقهم للشهادة أو لا؛ فالجميع يُستشهدون، والله يفيض على المريد وغير المريد، الأكثريّة نالت لياقة الشهادة. للحظة أجلت نظري على الجرحى، فرأيت ابن محلّتنا "عباس شكوهي"، وقد أُصيب بشظيّة في يده.

 

وهو من مَهَرة كتيبة "ميثم"؛ من شباب "باغ فردوس". كان صغير البنية، إلّا أنّه كثير الشجاعة والمعرفة.

 

كنت أراقبه، يقاتل جيّدًا. فعند القتال والرمي لا أحد يقف في وجهه. لطالما قال لأصغر: "نحن شباب "باغ بيسيم"؛ شباب شارع "الطيّب"، لسنا رفقاء نصف الدرب".

 

وضعوا "عبّاس" في سيّارة الإسعاف. تقدّم أصغر، طرق زجاج سيّارة الإسعاف وقال: "قال الحكيم الطيّب، إنّ الخميني ابن الزهراء عليها السلام. أفتترك هذا السيّد وحيدًا وتهرب في ليلة عاشوراء هذه؟!". أجاب عباس: "أنا جريح يا حاج أصغر".

 

قال: "ما هذا الجرح؟ لقد أُصبت بشظيّة صغيرة؛ شظيّة "آخ طهران"أتريد أن تتهرّب وتذهب إلى طهران؟".

 

لم يتفوّه عباس بكلمة، واكتفى بالنظر إلى أصغر، ثمّ انطلقت سيّارة الإسعاف.

 

بعد دقائق عاد عباس. من دون ضماد على رجله، والدم ينزف من رأسه؛ مرهقًا ومنقطع الأنفاس.

 

قلت: "أرأيت يا حاج أصغر، لقد عاد عباس!"

 

توجّه عباس إلى أصغر وقال: "قلت لك يا حاج أصغر، إنّني لست رفيقًا لنصف الدرب".

 

473

 

 


457

مثلثّ النار والوفاء والشوق

توجّه نحو المثلّث، بدا خائر القوى. جاء خلفه رجل متقدّم في السن وقال: "أنا سائق سيّارة الإسعاف تلك، يا أخي ماذا قلت لهذا الصبيّ حتّى طلب منّي التوقّف في وسط الطريق وتحت نيران المدافع والقذائف؟ لم أتوقّف، ظننت أنّه صبيّ ولا يعي بأنّه مجروح. فجأة ثار غضبه وكسر زجاج سيّارة الإسعاف برأسه ورمى بنفسه إلى الخارج".

 

مضت هذه القصّة. عند أذان المغرب، أدّيت صلاتي خلف الساتر في بضع دقائق؛ بالحذاء العسكريّ ومن جلوس. بعد الصلاة طلبني الحاجّ محمّد.

 

ذهبت إليه، كان الحاجّ جالسًا في الدشمة. كان واضحًا من هيئته أن لا جنود كفايةً لديه؛ بدا مضطربًا وقلقًا من الوضع. فمسؤوليّته أثقل من الجميع، وعليه قيادة عدّة كتائب.

 

قال: "أُبلغت من المركز، بأنّه إن أردت التوقّف هنا، فعلينا أن نأخذ من العراقيّين موطئ قدم لنا. فهؤلاء، سيحتلّون المثلّث عاجلاً أو آجلاً. وعليكم القيام بعمل ما..".

 

- أين نذهب يا حاجّ؟ ففي الليلة الأولى من العمليّات، تفتح مجموعات المعلومات المعابر، فنقوم نحن بمهاجمة الخطّ. أمّا الآن فنحن في مكاننا منذ يومين، وهي الليلة الثالثة لاشتباكنا. يريدون لمجموعة من القوّات المتضعضعة أن تهجم على عدوّ متيقّظ تمامًا؟ وذهابنا هو كمن يخفي طبلًا تحت البساط! لا شيء أسوأ بعد من هذا..

- إنّها الأوامر العليا، علينا أن نهجم الليلة.

- أنا لا أقدم على خطوة مثل هذه.

- إنّك إذ تدّعي الشطارة، لم تقم بالهجوم إلى الآن، إنّما قمت بالدفاع

 

 

474

 

 


458

مثلثّ النار والوفاء والشوق

فحسب.

- لا أريد منك أن تعطيني علامة. أوّلًا، إن كان ما قمنا به دفاعًا، فقد قمنا بالدفاع أربع مرّات. ولم نكن عميًا؛ ورأينا ماذا فعل أبناء الناس. فلتذهب الكتائب الأخرى إلى خطّ الدفاع.

- لا، فأولئك أيضًا لن يذهبوا، لقد أصبحت سيرتك على كلّ لسان. فقم أنت بالهجوم.

- لن أفعل.

- هذا أمر.

- ماذا ستفعل لي مثلًا؟ افعل شيئًا إن كنت رجلًا. أنا تعبويّ. يوجد كلّ هؤلاء العناصر من الحرس، استدعهم للنزول إلى الأرض، ودعهم يعملوا. أنا لن أقدم على هذا الأمر.

- أترى يا أصغر؟!

 

قال أصغر: "ينبغي للعمل أن يأتي بنتيجة. لا دخل للأمر بنقاش وجدل السيّد. هذه الأرض لا تستجيب لنا".

 

تعقّدت الأمور. ومهما حاول الحاجّ محمّد لم أقبل.

 

بالنهاية قلت: "فلننزل إلى الأرض ولنرَ ما يجري في تلك الناحية. لن أسمح لقوّاتي أن تنزل الليلة إلى الميدان. أخبر الجميع بأنّني خائف. لا مشكلة لديّ".

 

استاء الحاجّ محمّد كثيرًا. اتّصل عبر الجهاز بقائد كتيبة أنصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم "جعفر محتشم"؛ وذلك لكون كتيبة الشهادة التي كانت كتيبة الاحتياط بالنسبة لنا، قد تلاشت ولا يمكنها القتال. جاء جعفر، فقال له الحاجّ محمّد:

 

475


459

مثلثّ النار والوفاء والشوق

"عليك أنت أن تقوم بالهجوم".

 

قال جعفر: "يوجد من العناصر في كتيبة "ميثم" سبعمائة، ونحن كلّنا مائتا عنصر..".

 

أجاب الحاجّ محمّد: "إنّهم خافوا وانسحبوا".

 

بعد عدّة دقائق، جاء جعفر وبور أحمد، وكانا من أسود هذا الجمع، وقادة كتيبة أنصار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجاء الحاجّ "أميني".

 

وجرى الحديث نفسه الذي جرى بيني وبين الحاجّ محمّد، بين "بور أحمد" و"جعفر".

 

قلت لجعفر: "أنت تعلم أنّك أكثر منّي تجربة ومعرفة؛ لكنّي أنصحك بأن لا تقدم على هذا الأمر".

 

كان الحاجّ محمّد ومن في المقرّ ما بين العشرة والعشرين نفرًا، وبالنهاية رجحت كفّتهم.

 

قال الحاج محمّد لهم: "استعدّوا بسرعة، عليكم أن تهجموا على الخطّ".

 

نقل بور أحمد قوّاته إلى نقطة الانتشار، خلف الساتر النوني. صعدنا نحن الخمسة نحو أعلى الساتر الترابي ووقفنا هناك إلى جانب بعضنا البعض، أنا و"محمّد كوثري" و"أكبر عاطفي"، و"جعفر محتشم". كان الحاجّ محمّد ممتعضًا منّي، والغضب باديًا على وجهه. رأينا الجرحى مطروحين أرضًا إلى الجانب الآخر من الساتر. لم يكن بالإمكان سحبهم، ولا تركهم.

 

تقدّمت قوّات "بور أحمد" في جنح الظلام، بهدوء وبـ"مشية البطّة"، وفي لحظة واحدة اتخذوا مواضعهم وانتشروا. وكما توقّعت، فجأة أُنير

 

476

 

 


460

مثلثّ النار والوفاء والشوق

السهل كما ضوء النهار. فالدبّابات المصطفّة إلى جانب بعضها البعض، شغّلت كشّافاتها الضوئيّة، فأصبح السهل المظلم منيرًا كوضح النهار. ثمّة أكثر من مئتي دبّابة؛ تمامًا كما في الأفلام!

 

يعلم ربّ محمّد، أنّهم شغّلوا الدوشكا وشلّوا حركة الجميع! راح الإخوة يتساقطون كورق الخريف، ولم يستطيعوا حتّى إطلاق رصاصة واحدة. بعض العناصر الذين كانوا ما زالوا في الخلف، انبطحوا أرضًا ليقوا أنفسهم نيران الدبّابات بالحدّ الأدنى.

 

بعد عدّة دقائق، جاء بور أحمد من خلف الساتر الهلالي نحونا. كان غاضبًا جدًا إلى الحدّ الذي لو طعنته بسكّين لا تخرج منه قطرة دم. توجّه إليّ وكال لي بعض الكلمات القاسية وقال: "تظّن نفسك ذكيًّا جدًّا، أليس كذلك؟".

 

قلت: "لا تثر الجلبة يا عمّ! أنت الآن منزعج! ماذا يعني الذكاء؟ لِمَ ذهبت إن كنت لا تريد ذلك. أنا قلت لجعفر بأن لا يقدم على هذه الخطة؛ وليس الآن وقت ذلك".

 

توجّه الحاجّ محمّد إليّ قائلًا: "لا تثر جوًّا معيّنًا".

- أيّ جوّ؟ كان من الواضح أنّ العراقيّين متربصون بنا في السهل؛ أنت أخبر بهذا الأمر..

 

امتدّ الجدال قرابة الساعة؛ لم يفضِ إلى نتيجة؛ فهذه هي القيادة؛ تعني عالمًا من المسؤوليّة؛ وأعصاب المرء تتلف كلّ دقيقة.

 

عند الفجر، انسحب من تبقّى من الكتيبة والجرحى وهم يعرجون أو يزحفون، فنقل المسعفون من كانت حاله وخيمة من الجرحى إلى خلف الساتر حيث غرفة الطوارئ الفوريّة. بناءً على تجربته الخاصّة، لم يرسل جعفر محتشم السريّة الأخيرة، وهجم على خطّ دفاع العدوّ بسريّتين

 

477

 

 


461

مثلثّ النار والوفاء والشوق

فقط، واستمرّ الأمر حتّى الصباح.

 

في الصباح، غيّر العراقيّون تنظيم دبّاباتهم، وكان من الواضح ما الذي يريدون فعله. لقد ملأوا السهل بالدبّابات وجلسوا ينتظروننا.

 

وصادف ذلك اليوم شهادة الزهراء عليها السلام. ناديت "حسين سازور" وقلت: "حسين، اقرأ لنا زيارة عاشوراء!".

 

جلس حسين في مكانه خلف الساتر الترابي وشرع بقراءة زيارة عاشوراء. تحلّقنا حوله. عمّتنا حال معنويّة وبكينا.

 

في تلك الأثناء، كان عناصر كتيبة الإمام الحسين عليه السلام الذين نزلوا إلى الميدان للتوّ، وأرادوا استلام الخطّ منّا، يتموضعون إلى الجانب الأيسر منّا. وحين سمعوا صوت قراءة الزيارة تسمّروا في أماكنهم، جلسوا أرضًا وشاركونا البكاء.

 

كان مسؤول كتيبتهم يناديهم ويقول: "لِمَ لا تأتون؟ لِمَ لا تأتون؟".

 

اشتُهر ذلك المكان بمثلّث الشهادة. وقصّة مثلّث الشهادة تختلف عن كلّ الأمكنة؛ كانت مجزرة، بحيث إنّ كلّ شخص يصل إلى تلك المنطقة ويرى ذلك المنظر الرهيب، تحصل له حال غريبة ويتذكّر مصائب الزهراء عليها السلام. فالإخوة الذين كانت إلى الأمس تُسمع أصوات أحاديثهم، وضحكاتهم، قد سقطوا مظلومين، وتطايرت رؤوسهم وأيديهم بهدوء.

 

ما بين الساعة العاشرة والحادية عشرة صباحًا، جاء "سعيد سليماني" إلى الخطّ. سألته: "أين الحاجّ محمّد؟".

 

قال: "كان متعبًا، ذهب إلى الخطوط الخلفيّة ليستريح. فهو لم ينم منذ عدّة أيّام وقد تلفت أعصابه. ولقد تشاجر مع "بور أحمد" ومع "نصرت غريب" فاقترحت عليه أن يذهب وينام قليلًا.

 

478

 

 


462

مثلثّ النار والوفاء والشوق

اشتكيت وقلت: "أولسنا بشرًا؟ لِمَ لا تبدّلوننا؟".

 

قال: "ليس لدينا قوّات".

 

أشرت إلى كتيبة الإمام الحسين عليه السلام وقلت: "وما هم هؤلاء إذًا؟".

 

قال: "ينبغي أن نحضر هؤلاء إلى سهل "شلمتشه" ليقوموا بعمل ما".

- لدينا سريّتان لا أكثر. قدّمنا 170 شهيدًا، وما بين المائتين والثلاثمائة جريح، وعدد ما بقي منهم يتراوح بين المائة والثلاثين والمائة والأربعين نفرًا، أُصيب نصفهم أيضًا بشظايا صغيرة وكبيرة.

- سأرى ما يمكن فعله.

 

في منتصف الليل، جاء بريد الكتيبة وقال: "السيّد سعيد يتحدّث مع الحاجّ محمّد. الظاهر أنّهم قرّروا سحب كتيبة ميثم إلى الخطوط الخلفيّة. ويقول سعيد سليماني إنّ أيّ كتيبة ستحلّ مكان كتيبة "ميثم" لن تستمرّ، وستنسحب".

 

عدت مرّة أخرى إلى سعيد سليماني الذي كان جالسًا في حفرة الدشمة ويتكلّم عبر الجهاز. كنت أعرف ماذا أفعل. لم أخجل. وقفت خارج الدشمة، توجّهت إلى سعيد وقلت: "انظر عزيزي سعيد، إن بدّلتنا من الآن حتّى الساعة الثانية والنصف، كان به، وإن لم تبدّلنا، سنخلي الخطّ في تمام الساعة الثانية والنصف. أنت تعرفني؛ عندما أقول سأخلي، يعني سأخلي. وتعلم ما سيجري مع العراقيّين..".

- وهل هناك من خصام بيننا؟

- لست على خلاف مع أحد. دعني أقول لك ما هو وضعنا. أخبرني، هل عملت هذه الكتائب الثلاث كما ينبغي؟

- من تلك الكتائب الثلاث، لم يبدُ شيئًا من كتيبة سلمان والأنصار؛

 

 

479

 

 


463

مثلثّ النار والوفاء والشوق

فأنت رأيت أنّهما كشفا كلّ أوراقهما. تبقى كتيبة "كميل" التي هي أيضًا خاضت مواجهة. وكتيبة "مقداد" أيضًا قامت بالعمليّات قبلكم. وقد اختُرق جانبهم. والآن تعقّدت أمورها. كتائب المقداد وحبيب وعمّار قاتلت حتّى الصباح. وعندما نزلتم أنتم إلى الأرض، انسحبوا. وأنت كنت الشاهد على ذلك..

 

- لو عملت كتيبة "25كربلاء" بخبرة، ولم تسلّم الجهة اليمنى، لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه. رأسمالها كان ساترًا ترابيًّا. عندما جئت إلى هنا للاستطلاع، كانت القوّات قد لاذت بالقناة ذات الجدارين، وأنهت العمل. رأيت أنّ كتيبة "كميل" تنقصها القوّات. وما بقي منها لم يكن صلبًا وثابتًا..

 

رفع سعيد رأسه ليجيبني، فجأةً، قطع كلامه. فقد شرع العراق بإطلاق وابل من النيران لم أرَ مثلها طوال الحرب! لم يكن يحرث الأرض؛ بل يزلزلها. كان الساتر الترابي يهتزّ ويرتجّ.

 

حمى سعيد رأسه بيديه وجلس القرفصاء في حفرة الدشمة، أمّا أنا فزحفت ولذت بكتف الساتر. لم تكن المسافة بيني وبين سعيد تتجاوز المتر الواحد. لكن مهما صحت مناديًا "سعيد، سعيد" لم يسمعني من شدّة النيران!

 

نهضت بصعوبة من مكاني، وركضت وسط النار والدماء نحو المثلّث. لم يخطر ببالي أن أذهب إلى سعيد وأنظر ماذا حلّ به. لقد نسيته كلّيًّا. وذهبت إلى المكان الذي يجتمع فيه معظم الإخوة؛ أي مثلّث الموت.

 

كانت الساعة تقارب الثالثة صباحًا حين وصلت كتيبتا حبيب وعمّار لتحلّا مكاننا. جاءت سريّة من سرايا حبيب، فجمعت بدوري سريّة من عناصري وأرسلتها إلى الخطوط الخلفيّة.

 

480


464

مثلثّ النار والوفاء والشوق

خفّت حدّة النيران. وكأنّ العراقيّين أدركوا أنّ العمل شارف على النهاية. كان الإخوة يقولون: إنّ كلّ من ينجو بنفسه من مثلّث الموت فلن يموت بعدها. وينبغي أن يصنعوا له مجسّمًا، يطلوه بماء الذهب، ويضعوه في ساحة المدينة!

وبينما أنا أجمع الإخوة، ناداني "رضا فرجي". ذهبت فرأيت قذيفة سقطت وسط الدشمة؛ فاستُشهد على أثرها كلّ من "عباس شكوهي" و"محمود روح اللهي". كان جسد عباس قد تناثر أشلاءً. لم نعثر على رأسه ويديه. أحضرت كيسًا بلاستيكيًّا، رحت أجمع أشلاءه وأضعها فيه، من ثمّ أغلقت الكيس وسلّمته إلى شخصين لينقلوه إلى الخطوط الخلفيّة.

 

كما كانت رؤوس الإخوة وأبدانهم ملوّثة بالدماء والتراب. وقد يبس الدم على ثيابهم. وقد احمرّت أعينهم من عدم النوم، من البكاء، من فراق الرفاق. بقي جثمان "رضا محمّدي" أربعة أيّام مرميًّا إلى جانب القناة ولم يأتِ أحد لرفعه.

لم يبقَ مكان من تلك الأرض الكربة إلّا وتلوّن بدماء الإخوة. فأينما نظرت، أرَ الدماء والدماء فحسب. وكأنّ الموت كان لعبة. قال الإخوة إنّ شاحنتين أتتا إلى خطّ "بنج ضلعي" الخلفي، وهما الآن تنقلان الشباب. قلت: من كان منكم يستطيع الذهاب إلى الخطوط الخلفيّة ماشيًا فليذهب.

 

استغرق تبديلنا بكتيبتَي "حبيب" و"عمار" حتى الفجر. لم أكن وأصغر مستعدّين لذلك. فقد تورّم وجه أصغر واسودّ، أمّا أنا فلم أعد أشعر بيدي. لكنّنا انتظرنا ريثما يخلو الخطّ من شباب "ميثم". بعدها ذهبنا مشيًا إلى الخطوط الخلفيّة. في منتصف الطريق، جاء بريد الكتيبة وراءنا، فركبنا خلفه وانطلقنا نحو خطّ "تشمران" الخلفي. وكالعادة، ذهب أصغر إلى الإخوة، وذهبت أنا إلى مقرّ الفرقة. وهناك، كان أحدهم قد أشعل موقدًا

 

481

 

 


465

مثلثّ النار والوفاء والشوق

ووضع فوقه إبريق الشاي. كنت منهكًا إلى درجة لم أعِ فيها على من أسلّم ومن يسلّم عليّ. تيمّمت، وأدّيت صلاتي أسفل أحد الأخاديد. ومن ثمّ ذهبت وجلست إلى جانب النار، وخلعت حذائي العسكري الذي لم يفارق رجليّ منذ خمسة أيّام. كنت أشعر بالخدر والارتخاء. لم أكن ملتفتًا لوجعي. كنت كأب قد فُجع بأولاده؛ اجتمعت غموم العالم وهمومه في قلبي، فلم أعد أطيق صبرًا. فالمصائب والفجائع التي حلّت بالإخوة، ومثلّث الموت ذاك، جعلت أحوالي خربة أكثر من الخراب نفسه.

 

لا أعرف إن تكلّمت مع نفسي أم مع الإخوة. كنت أهذي في حال اليقظة. اعترتني غصّة، كادت تخنقني. وإذا بأحدهم يقول: "ما أجمل أن يشرب المرء الشاي مع أحد أبناء الزهراء".

 

ما إن سمعت باسم الشاي حتّى أفقت من هذياني ورأيت مسؤول التجهيزات "شيرازي" يقدّم لي فنجانًا من الشاي ما زال طعمه في حلقي بعد مرور كلّ تلك السنوات. فمنذ أيّام لم أذق طعم الشاي، كان لذيذ الطعم، وقد أزال بعض التعب عنّي.

 

بعد ذلك، دخلت المقرّ لأستخبر عن وضع العمليّات، وانتقلت بعد الظهر إلى مخيّم "كارون"، فقال لي الإخوة: إنّهم أذاعوا في الإذاعة بأنّ غدًا سيتمّ تشييع أجساد كلّ من "عليرضا نوري"، "جواد صرّاف"، جواد واصفي فر"، "الحاج عباديان"، "حسين طاهري" و"مجيد رمضان"، من قاعدة "ولي عصر".

 

سلّمت أمر الكتيبة إلى "أصغر"، وركبت و"حسين عزيزي" و"داود نيازي" و"محمّد جعفري" وبعض الإخوة الآخرين شاحنة " pick up" واتجّهنا نحو طهران؛ وعلى الرغم من أنّنا لففنا حولنا كلّ أكياس النوم

 

482

 

 


466

مثلثّ النار والوفاء والشوق

والبطّانيّات، إلّا أنّ برد شهر كانون الثاني لم يكن يعرف المزاح مع أحد.

 

في وسط الطريق كدنا نتجمّد من البرد، فبدّلنا أماكننا مع الذين كانوا يركبون في مقدّمة الشاحنة. حين كانت يدي تتعرّض للبرد كان ألمها يزداد. وقد شُلّت من الكتف ولم أعد أستطيع تحريكها. لم تتسنَّ لي فرصة للذهاب إلى الدائرة الصحيّة وتضميدها.

 

ما بين الساعة التاسعة والعاشرة صباحًا، وصلنا إلى طهران. كان ميدان "شوش" يعجّ بالمشيّعين الذين حملوا جثمان "حسين طاهري" على أكفّهم. فالتحقنا بهم وانطلقنا نحو "بهشت زهراء". التقيت في القطعة 24 [من بهشت زهراء] بـ"ناصر شريفي"، "عبّاس هادي"، "الشيخ مهدي"، "أمير مخبر" والكثير من الرفاق الأعزّاء. اشتدّ الزحام وعجّ المكان بالحشود. كما سبقنا الكثير من الإخوة المجاهدين بالمجيء من الخطوط الأماميّة ولا يزالون يرتدون اللباس الترابيّ اللون [اللباس العسكري].

 

حملتُ مكبّر الصوت ورحت أتحدّث للناس عن محاسن "حسين طاهري": "لقد تزوّج حسين منذ شهرين، لكنّه لم يقم مع زوجته خمسة أيّام. كان حسين عماد كتيبة "ميثم"..".

 

كانت زوجة حسين مصدومة. لا تبكي ولا تتكلّم، إنّما فقط تتفرّج على الناس وهي مبهوتة وحيرى.

 

أكملتُ: "ما زالت كتيبة ميثم الآن في الخطوط الأماميّة تقاتل العدوّ. وما زال الكثير من شباب "ميثم" الذين، حبًّا بالإمام الحسين عليه السلام، لم يدعوا راية ميثم تسقط أرضًا. فقدنا رجالًا عظماء. ولقد ردّت سريّة البقيع عشرات الهجومات. وقاتل شباب مقرّ الإمام الحسين عليه السلام قتال الرجال. ووقف "يد الله أعلايي" بمجموعة "محمّد قزاقي" بشجاعة أمام الهجومات

 

 

483

 

 


467

مثلثّ النار والوفاء والشوق

المتعدّدة. كما قاتل "مهدوي" بمجموعة الحاجّ "سمندر" العدوّ وجهًا لوجه. وسطّر صادقي، طالبي، الحاجّ رضوي، وإخوان شيرازي، أمير کودرزي، جواد نيا، حسين مجلسي، بور صالح ونجّار، الملاحم وسط سيل الدماء.

 

الحقّ أنّ ليوث الجبهة قد خاضوا معركة اللحم الحيّ في مقابل الحديد. فمحمود جوليده خاض حربًا خالدة مع رفاقه حسين إسماعيلي، محسن تقوايي، آشتياني، آذرنوش، شمسيان، نوروزي، فرجي، عبدي، أمين الرعايا، منفرد، رستمي، حسين باشي، عبد الباقر أستاد آقا ومحمودي. وأخجلت سريّة "فدك" بقيادة "أكبر سربوشان" و"علي سنبله کار" شلمتشه. والشجعان المجهولون، حسن سريري، حسين جليل زاده، جعفر كاظمي، عباس مقدسي، مجتبى توانکر، محمود لطيفيان ورضا بور أحمد، أسماؤهم مصدر فخر لنا. هؤلاء أصبحوا مصدر فخر لصاحبة فدك. والرجال اللامدّعين، محسن قاسمي مسؤول المعدّات والذخائر في سريّة "الكوثر" كان يضع كلّ ما عنده من السلاح الثقيل على طبق الإخلاص ويؤثر على نفسه. والحقّ أنّ الحاجّ علي بارسا، وأمير ترابي والسيّد خضرايي قد أدوّا وظيفتهم على أحسن وجه. وكذلك علي برادران، رضا هوريا، حجّت صادقي، الحاجّ مدني، والحاجّ حسين زاكاني، قدّموا مساعدة تامّة وكبيرة ولقّنوا العدوّ درسًا. أمّا محمّد علي جعفري، حميد مشكي، محمّد الله صفت، مجيد باغبان، عباس بور أحمد وأصغر أرسنجاني، فقد استماتوا في القتال وكانوا مستعدّين للتضحية بأرواحهم.

 

إنّنا الليلة وبالنيابة عن جميع شباب كتيبة "ميثم". سنقيم مجلس فاتحة عن أرواح الشهداء في مسجد المحلّة..".

 

بعد مراسم الدفن، عرّجت على البيت. حين دخلت، لم أسمع أيّ صوت، كان الصمت يسود كلّ أرجاء البيت. صعدت إلى الطبقة العلويّة،

 

 

484

 

 


468

مثلثّ النار والوفاء والشوق

فرأيت فاطمة جالسة في الغرفة، وقد أحضرت وعاءً ووضعته وسط الغرفة التي كان سقفها يرشح ماءً ويتقاطر في الوعاء.

 

بعد التحيّة والسلام، سألتها: "لمَ حدث هذا بالسقف؟".

- مع أنّ الحاجّ "علمدار" يأتي في فصل الشتاء ويجرف الثلج عن سطح المبنى، إلّا أنّ هذا البيت أصبح قديمًا. وليس له مصارف مياه جيّدة.

- حسنًا، لِمَ لم تأتي بأحدهم ليصلحه؟

- لقد تعمّدت عدم إصلاحه. فهذا التقاطر والرشح وبرد الغرفة يذكّرني بالدشمة والجبهة والمجاهدين. أشعر وكأنّي في الدشمة. أحببت أن أعيش تلك الحال. لذا، لم أصلحه.

- قد يسقط، لا قدّر الله، على رأسك فجأة!

 

وبينما أنا أذكر لها الأدلّة والأسباب، رأيت فاطمة منزعجة وقد غرقت في التفكير. كانت سارحة في عالم آخر ولم تستمع إلى كلامي.

 

علمت أنّها ليست منزعجة من قلّة المال والمعاش، وأنّها حتمًا منزعجة من شيء آخر.

 

سألتها: "ممّ أنت منزعجة؟"

- لن أذهب إلى المسجد بعد اليوم.

- لِمَ؟

- يشيرون إليّ في المسجد بالبنان، ويقولون إنّ زوج هذه السيّدة يأخذ أولاد الناس [إلى الجبهة] ويقتلهم...

- أولئك الذين يجب أن يفهموا، يفهمون القضيّة... هذا كلّه كلام في كلام. إنّهم يفتعلون المشاكل من كلام هراء. لا تلقي بالًا لكلامهم.

 

 

485

 

 


469

مثلثّ النار والوفاء والشوق

حاولت أن أشغلها بمواضيع أخرى وأخرجها من حال الانزعاج تلك. هذه أيضًا كانت قصّة من قصص الحرب!

 

في اليوم التالي، ذهبت إلى مستشفى "باستور" الجديد لعيادة "محمود جوليده" الذي نجا من الموت، وعاد جسمه إلى الحياة من جديد. حينذاك كانوا يطلقون عليه اسم "الشهيد الحيّ". فقد فرّغوا إحدى عينيه، وتعطّلت رجلاه، إذ اخترقت شظيّة نخاعه الشوكي فأُصيب بالشلل التامّ. كما طُحن عظم وركه وتقطّعت أمعاؤه. كان غائبًا عن الوعي. وبين الفينة والأخرى يفيق ويئنّ أنّة خفيفة بين النوم واليقظة، ومن ثمّ يغيب عن الوعي.

 

سألته: "كيف حالك يا محمود؟".

 

لم يجبني.

 

في تلك الغرفة أيضًا كان يرقد بريد الكتيبة "حميد مشكي". وقد تأذّت رئتاه، فأعطي بالونًا، فكان ينفخه على الدوام ويفرّغه من الهواء، ويعود ويفعل ذلك من جديد.

 

كما كان "حسين بابايي" ممدّدًا على سرير في ناحية أخرى من الغرفة. وهو أيضًا كان شهيدًا حيًّا، إذ لم يبقَ مكان من بدنه سالمًا، ولم يكن أفضل حالًا من محمود.

 

عدت إلى الجبهة في الصباح الباكر من اليوم التالي. وكان الإخوة قد استقرّوا في مخيّم "كارون". وجدت أصغر فقال لي: "في غيابك، عاش المخيّم في حال تیه وضیاع. وفي هذين اليومين، تشاجر هؤلاء داخل الخيم مع بعضهم البعض عشرات المرّات. لقد تلفت أعصابهم. فمنذ أيّام وليالٍ لم يذوقوا طعم النوم. يمزّقون قمصانهم، أو يجلسون وينتحبون. هؤلاء فقدوا أعزّ أصدقائهم؛ وتجرّعوا غصّتهم. والشخص السليم من بينهم، فهو

 

486

 

 


470

مثلثّ النار والوفاء والشوق

إمّا مصابٌ بصدمة نفسيّة، أو تنشّق الغاز الكيميائي*[1]. بقوا أهل الشهامة هؤلاء جميعًا؛ ومع أنّهم أُصيبوا بشظايا، إلّا أنّهم رفضوا الانسحاب".

 

دخلت الخيمة لأطمئنّ إلى حال الإخوة، فوجدّت أصغر محقًّا في كلامه. كانوا جميعًا معصوبي الأيدي والرؤوس. وقد أُصيب كلّ واحد منهم في موضع ما؛ لكنّه لم ينسحب.

 

قلت لأصغر: "لقد فعل هؤلاء فعل الرجال إذ لم ينسحبوا. لكنّهم أيضًا لا يمكنهم النزول إلى ساحة المعركة والقتال. فأجسادهم خربة، وكذا نفسيّاتهم. تعالَ اليوم لنحييها".

 

أجاب أصغر: "أرسلت بعض الإخوة إلى مقرّ الدعم والتجهيزات ليحضروا الآليّات حتّى نرسل الشباب في إجازة، فقيل: لا يوجد لدينا آليّات، لكن هناك خمس آليّات ستأتي في الساعة الخامسة بعد الظهر لتنقل كتيبة عمّار إلى الخطوط الخلفيّة؛ ولولا ذلك لكنت أرسلتهم إلى طهران منذ الأمس". قلت: "سأحتال هذه الحيلة على شباب التجهيزات لترى نَفَس السيّد![2] "

 

ذهبت واستخدمت لافتة "كتيبة عمّار". وكتبت عليها "ميثم" فوق كلمة "عمّار".

 

في الساعة الخامسة بعد الظهر، أوقفتُ الإخوة في صفوف منتظمة وأحصيت عددهم وقلت: "انظروا... إنّني أرسلكم في مأذونيّة من تلقاء نفسي وباختياري. ستصلون إلى طهران في الصباح الباكر من الغد. تستريحون إلى ما بعد الغد، وفي اليوم الذي يليه عليكم أن تكونوا هنا

 

 


[1]  عبّر حالة نفسية أو كيماوية.

[2]  لترى بنفسك ماذا سيفعل.

 

487


471

مثلثّ النار والوفاء والشوق

ولو أمطرت السماء حجارة".

 

أركبنا الإخوة في الحافلات وأرسلناهم. المساکین، شباب كتيبة عمّار، بقوا منتظرين الحافلات إلى الليل ويتساءلون: لِمَ لم تأتِ الحافلات يا عم؟ّ!

 

قام "محمّد الله صفت" وثلاثة أو أربعة من الإخوة، بعمل رجوليّ ومكثوا في المخيّم ليحرسوا الخيام. وذهبت وأصغر إلى مقرّ الفرقة.

 

وقُدّر في اليوم التالي أن تأتي الطائرات العراقيّة، وتغير على مخيّم كارون؛ لكن من حسن حظّنا، أنّ الخيم كانت خالية، ولم تقع أيّ خسائر في الأرواح.

 

اتّصل الحاجّ محمّد عبر الجهاز بـ"محمّد الله صفت" ليستخبر كم شهيدًا سقط؟ فأجاب "محمّد الله صفت": "ولا واحد، فقد أرسلنا الجميع في مأذونيّة".

 

غضب الحاجّ محمّد وقال: "لِمَ أرسلتموهم؟ ومن الذي أذن لكم أن ترسلوهم في مأذونيّة من تلقاء أنفسكم؟". بعد العودة من المأذونيّة، ذهبت وأصغر إلى مقرّ الفرقة عند الحاجّ محمّد. سلّمنا وجلسنا.

 

لم يردّ الحاجّ محمّد عليّ السلام. كان غاضبًا بحيث إن طعنته بسكيّن لا يخرج منه الدمّ. توجّه إلى أصغر وقال: "لقد حملت جماعة من الناس الجيّدين وجئت بهم معك، .. من الذي أذن لكم بإرسال القوّات في مأذونيّة؟".

 

قلت: "أنا فعلت؟".

 

تصاعد الأمر، واحتدم الجدال بيننا. في النهاية، توجّه الحاجّ إلى أصغر وقال له: "فلتستعدّ، عليك الذهاب إلى خطوط الدفاع. اجمع قوّاتك؛

 

488

 

 


472

مثلثّ النار والوفاء والشوق

لأنّ العراقيّين استعادوا المثلّث من كتيبة "حمزة". وكتيبة كميل في خطّ الدفاع، فلتذهبوا أنتم ولتأخذوا مكانها. من الآن فصاعدًا، سيكون حديثي معك فحسب".

 

أجابه أصغر: "لقد أتينا مع السيّد، وسنذهب معه. إن رحل السيّد، فسأرحل أنا أيضًا في الغد. ولستُ أنا وحدي، كلّ كتيبة ميثم سترحل. ولو كانت العناصر انسحبت بنفسها وتركت الخطّ، لقلتم: ليس لديكم القدرة على جمع قوّاتكم".

قال الحاجّ محمّد: "لقد تحزّبتما إلى بعضكما البعض؟".

 

خرجنا كلانا من المقرّ.

 

كنت أستطيع الردّ على الحاجّ محمّد؛ لكنّني في قرارة نفسي، رأيته محقًّا. لقد كان يريد إعمال قيادته، عالمًا بأنّه لا يستطيع القتال بسيف خشبي. فإن فقدت العناصرُ همّتها وطاقتها، فإنّها ستتلف من دون سبب؛ ولو كان الجميع مثلي، فلن يبقى حجر على حجر وسيسود الهرج والمرج في المقرّ. لم أكن أقصد التمرّد وعصيان الأوامر. أردت أن أحول دون التسبّب بأضرار؛ لكن، لم يتفهّمني أحد حينها.

 

ذهبت وأصغر إلى مقرّ الكتيبة لننظّم القوّات. فبعد تلك الضربة التي تلقّيناها في المثلّث، بقي لدينا مائتان وخمسون عنصرًا، أصيب معظمهم بإصابات طفيفة. ولم يكن لدينا قوّات جديدة. وأنا نفسي كنت مربوط الكتف، ولم أكن مستعدًّا كفاية.

 

قرّرنا من أجل الحؤول دون وقوع الخسائر، أن نأتي بسريّة من العناصر إلى خطّ الدفاع. فأرسلت في البدء سريّة "نينوى" لإحكام [دفاعات] الخطّ، وكان يقودها "أصغر أرس" و"غلام غلياف".

 

 

489

 

 


473

مثلثّ النار والوفاء والشوق

فخطّ الدفاع كان غير ملائم بعض الشيء. ومقرّ التكتيك كان عند بداية "بنج ضلعي"، فعندما استعادت القوّات العراقيّة المثلّث، انسحب الإخوة إلى مكان قريب من مقرّ التكتيك.

 

بنينا دشمة دفاع إلى الأمام قليلًا من مقرّ التكتيك.

 

كانت الدوريّات العراقيّة تجول من وقت لآخر في المنطقة، تراقب الوضع، وإذا ما سنحت لها الفرصة، تكبّدنا الخسائر. كنّا في مرمى نيرانهم تمامًا.

 

كما كانوا هم تحت مرمى نظرنا. فنحن نرى تحرّكاتهم. وهم كلّ يوم يغيّرون طريقة صفّ دبّاباتهم. فيومًا يصفّونها إلى جانب بعضها البعض، وفي اليوم الثاني يصفّونها في طابور، وبعده يضعون واحدة في المقدّمة وواحدة في الخلف.

 

أمّا جرّافاتهم، فظلّت ترفع السواتر الترابيّة ليلًا نهارًا. فكانوا يبنون السواتر العريضة والممتدّة، أو يطيلونها من الطرفين.

 

طلبت من الإخوة أن يحفروا دشمًا على حافّة الماء، وأن يعلوا أسقفها إذا ما كانت منخفضة، وذلك ليكونوا مرتاحين. لم تكن سواترنا الترابيّة عالية كثيرًا لنحفر في كتفها الدشم. ومن كثرة ما أصاب الساتر من قذائف مباشرة، فقد تلاشى، فكان الإخوة يمرّون من خلفه منحني الرؤوس إذا ما اضطّروا لذلك. کان العراقيّون يتموضعون في أعلى الجادّة الترابيّة ويشرفون على المنطقة. وقد نصبوا منصّة قذائف من عيار 60 ملم؛ فكانت كلّ يوم تهزّ الساتر عدّة مرّات.

 

وزّعنا القوّات ابتداءً من أوّل المثلّث، ونشرناهم مجموعات مجموعات إلى الجهة اليسرى، فأحكمنا الخطّ. كما وزّعتُ وأصغر و"علي زاكاني" الأعمال على بعضنا البعض، فكان واحد منّا يبقى في خطّ الدفاع يدير الإخوة. اكتسبنا شيئًا من الخبرة، فبنينا دشمة كبيرة إلى جانب الماء،

 

 

490

 

 


474

مثلثّ النار والوفاء والشوق

وغطّينا سقفها بالصفيح، ودعّمناه بأكياس الرمل. كما بنينا إلى جانبها ممرًّا من أكياس الرمل حتّى لا تسقط القذائف فيه.

 

ذات يوم، عند الساعة الثانية بعد الظهر، جاءت الدوريّات العراقيّة إلى الجادّة وأسرت أحد حرّاسنا. وفيما كانوا يجرّونه بهدوء، التفت الشباب من داخل الدشم لذلك، فراحوا يرمونهم بوابل نيرانهم. أُصيب أحد الجنود العراقيّين من الخلف وسقط أرضًا. كما أُصيب الأخ الحارس؛ فأسرع الإخوة وسحبوه. تفقّدت الدشم عدّة مرّات. فالقوّات تشعر بالاطمئنان حين ترى قائدها. كنت أدخل الدشم، أخالط الشباب وأتسلّى معهم، أخبرهم النكات، وأقصّ لهم القصص والحكايات، وأنشد لهم الأشعار، فنمرح ونضحك معًا. حين أنظر إلى وجوههم أعرف أيّ حال يعيشها المرء؛ هل هو مشتاق لرفيقه [الشهيد]، أم لأمّه. بالنهاية، كان بعضهم صغير السنّ، قليل التحمّل، فأرسلهم إلى الخطوط الخلفيّة على الفور. شباب طهران فحسب، كانوا صبورين؛ وحتّى إن عانوا حال إسهال واستفراغ لا ينبسون بأيّ كلمة. أوصيتهم بعدم التردّد في المكان إلّا عند الضرورة. ففي الصباح كان شباب الدعم يأتونهم بالطعام، حين يكون نور الشمس يسطع في أعين العراقيّين فيمنعهم من الرؤية. ذات مرّة أحضروا الطعام في الليل وقد أطفأوا مصابيح السيّارات.

 

قمت كلّ أربعة أو خمسة أيّام بتبديل مكان القوّات، وذلك ليتنفّسوا هواءً جديدًا، ولا يملّوا من [وضعيّة] الدفاع.

 

وكان الإخوة يقولون لي: "سيّد، تعالَ كلّ ليلة إلينا، فقد انقبضت أحوالنا هنا".

 

أمّا أصغر فظلّ يتفقّد الإخوة في كلّ نقطة؛ لكن مع قلّة الكلام. فقد امتنع عنه دائمًا، تاركًا لي الحديث قائلًا: "أنت تعرف أكثر منّي ماذا تقول

 

491

 

 


475

مثلثّ النار والوفاء والشوق

وكيف ستقوله".

 

كان بصمته وروحه المعنويّة وهدوئه يمدّ العناصر بالمعنويّات والسكينة. وأكثر العناصر شغبًا يهدأ إلى جانب أصغر.

 

سأل أحد الإخوة: "سيّد، أيمكن لنا أن نصنع الكباب من هذه الأسماك التي سقطت [ماتت] في المستنقع ونأكلها؟".

 

فأجاب أصغر: "ينبغي للسمك أن يخرج من الماء حيًّا حتّى يحلّ أكله".

 

ولأنّ "حسين إسماعيلي" يحفظ بعض أشعار حافظ عن ظهر قلب، فكنّا نجلس في الدشمة معًا ونتبارى في إنشاد الشعر، وإذا ما صادف وأخطأت في قراءة بيت، يأخذ بمعصم يدي، ويسجّل عليّ نقطة. كثيرًا ما مزحنا مع بعضنا البعض وتجادلنا. لقد كان منافسًا جيّدًا، ويعرف كيف يختار ردوده ويوجّه الكلمات اللاسعة.

 

انضم حسين في السابق إلى عداد القوّات الخاصّة في القوّة البحريّة، وفي كتيبة ميثم كان من أفضل قوّات النخبة. في هذه الأيّام الأواخر، أخرج نفسه من عالم العسكر. وصار قلّما يخالط أحدًا، وراح يبحث عن الشعر وصناعة الشعر. حينذاك سمعت أنّ له ابنة. وأمكن لخبرته وشجاعته تلك أن تدفعه ليكون من أهل الادّعاء، لكنّه ظلّ ترابيًّا ومتواضعًا. على هذا المنوال مرّت الأيّام. والأيّام الخمسة صارت أسبوعين، ولم يجرِ تبديلنا بأيّ كتيبة؛ وكأنّ الحاجّ محمّد أراد أن يردّ لنا الصاع صاعين!

 

بقي يومان أو ثلاثة لحلول مولد الزهراء عليها السلام، وكان قد مضى قرابة الثمانية والثلاثين يومًا على العمليّات، فذهبت إلى المقرّ عند الحاجّ محمّد. فبعد قضيّة المثلّث، مباشرةً عدنا نرمي التحيّة على بعضنا البعض؛ وكان كلانا ممتعضًا وغاضبًا من الآخر.

 

492

 

 


476

مثلثّ النار والوفاء والشوق

قلت للحاجّ: "إنّنا في خطّ الدفاع منذ خمسة عشر يومًا، ولقد قدّمنا شهيدين وقرابة السبعة أو الثمانية جرحى. لِمَ لا تقوم بتبديلنا؟ فقد أُجهد الإخوة". قال: "يجب عليكم البقاء هذه المدّة".

 

رجعت إلى الخطّ وقلت لأصغر: "لم أستطع أن أقارع الحاجّ. اذهب وقل له إنّنا نريد إقامة احتفال بمناسبة ولادة الزهراء عليها السلام بعد الغد. وينبغي للكتيبة أن تنسحب إلى الخطوط الخلفيّة".

 

ذهب أصغر ونقل الرسالة إلى الحاجّ محمّد الذي أجابه: "سأرى ما يمكن فعله".

 

في اليوم التالي، أرسلت أصغر إليه مجدّدًا وقلت: "قل له إن لم تسحبنا غدًا إلى الخطوط الخلفيّة، سنخلي الخطّ. ها قد رددت الصاع لنا، وأبقيتنا في خطّ الدفاع لخمسة عشر يومًا، بقي..".

 

بعدها أرسلت "رضا هوريا" و"حسن أرسنجاني" و"داوود نيازي" إلى الأهواز ليشتروا الحلوى. وكلّفتهم بأن يذهبوا إلى مخيّم "كارون" ويصلوا الخيم ببعضها البعض، لتكون مهيّأة للاحتفال. في سحر اليوم التالي، جاءت كتيبة "عمّار" لتحلّ مكاننا.

 

حضر ما بين العشرة والعشرين شخصًا منهم إلى الخطّ الأمامي لنعطيهم التعليمات، وليتمّ تبديلنا كلّيًّا عند الخامسة بعد الظهر بكتيبة "عمّار"، فنكون في مخيّم "كارون" قبل أذان المغرب بساعة. أقمنا بعد الصلاة احتفالًا؛ وأيّ احتفال؟! فكلّ منشدينا ومدّاحينا قد استُشهدوا أو جُرحوا، وكنّا نفتقدهم. قرأ المولد تلك الليلة كلّ من "داوود دهقاني"، "الشيخ بايکان"، "حسين سازور"، "يد الله أعلايي" و"أصغر أرسنجاني".

 

وسط الاحتفال، أبلغنا السيّد "مهدي شريفي" بأنّهم سيبترون رجل

 

493

 

 


477

مثلثّ النار والوفاء والشوق

"محمود جوليده" في صباح الغد.

 

عكّر هذا الخبر حال المجلس، فالإخوة محبّون لمحمود ومتعلّقون به. وهو قائد في الكتيبة، وكذا، منشد وقارئ عزاء.

 

انزعج الجميع، وقرأ الجميع المولد بحرقة. اختلطت الدمعة بالفرحة، وحصلت حال عجيبة. ولربّما هذا ما يقال عنه: فرح العشّاق وحزنهم مصدره مكان آخر. تحدّثت إلى الإخوة قرابة العشرين دقيقة، وامتدّ الاحتفال إلى منتصف الليل.

 

في الصباح الباكر من اليوم التالي، ناداني شخص. خرجت من الخيمة، فرأيت طالب علم يرتدي عباءة ويعتمر العمامة على رأسه.

 

سأل: "ءأنت مسؤول الكتيبة؟"

- لا، الحاجّ أصغر هو المسؤول.

 

ردّ أصغر: "لا، إنّ السيّد نفسه هو مسؤول الكتيبة".

 

أجاب طالب العلم: "من هو المسؤول بالنهاية؟".

 

قلت: "مرنا، فكلانا مسؤول الكتيبة".

- هل كنت هنا البارحة ورأيت هذه الكتيبة ترقص؟

 

أجاب أصغر: "إنّ زعيم الرقّاصين هو هذا السيّد!".

 

قال طالب العلم: "عملكم هذا فيه إشكال شرعي".

- ما من إشكال فيه. كنّا نصفّق وننشد الأشعار في مدح الأئمّة الأطهار فحسب.

- ائتني بدليل على أنّ لا إشكال في عملكم هذا.

- ولِمَ آتي أنا بالدليل؟ أنت الذي تدّعي. وهذه منطقتي، كتيبتي، فأتِ

 

494

 

 


478

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أنت بالدليل أنّ هناك إشكالًا.

- أنا أقول إنّ فيه إشكالًا.

 

فجأةً ثارت ثائرتي، فقلت: "سواء كان كلامك صحيحًا أم لا، ما دخلك أنت؟ قسمًا بالله، إن وطئت قدمك مرّة أخرى هذا المكان..".

 

غضب طالب العلم، وذهب في سبيله.

 

حتمًا كانت نيّته جيّدة وكان يقصد الإرشاد.

 

في صباح اليوم التالي، آثر "محمّد الله صفت" على نفسه كما في السابق، وبقي على رأس الكتيبة. وعدت و"حسين سازور" و"أصغر" إلى طهران. ومحمّد كان قبل ذلك في القوّات الخاصّة، وقد خضع لدورة في التدريب العسكري قبل الثورة، ويَخْبرُ عَمَلَه جيّدًا.

 

أردنا الذهاب لعيادة "محمود جوليده". وصلنا إلى طهران في تمام الساعة الثانية عشرة. كنّا في أواخر شهر شباط. والطقس بارد جدًّا. وقد غطّى الثلج الأزقّة والطرقات.

 

أوصلنا أصغر إلى أمام باب بيته في شارع "باغ بيسيم"، وأوصلني حسين إلى منزلي وذهب. رأيت أضواء المنزل مطفأة. لم أطرق الباب، قلت لا بدّ أنّهم نائمون. التقطّت حصاةً صغيرة عن الأرض ورميت بها على النافذة الزجاجيّة، فجاءت فاطمة وفتحت لي الباب.

 

في اليوم التالي، التقيت بوالدة "أصغر" في مسجد "التوفيق" فقالت: "سيّد، لِمَ أنزلت أصغر أمام الباب وذهبت؟ قمت عند أذان الفجر لأؤدّي صلاتي، فسمعت صوتًا قادمًا من جهة الباب. فتحته، فإذا بي أجد أصغر يكاد يتجمّد من البرد. أدخلته وأشعلت له المدفأة. سألته: "أين كنت؟ ولِمَ لم تطرق الباب؟ "جئت مع السيّد في منتصف الليل، رأيتكم نائمين، فلم

 

495

 

 


479

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أطرق الباب، وانتظرت إلى أذان الفجر حيث تستيقظين للصلاة، وتفتحين لي من تلقاء نفسك..".

 

هكذا كان أصغر يحفظ حرمة أمّه ويبرّها. وهذه القصّة واحدة من آلاف الشهامات التي ظهرت فيه. والاحترام الذي كان يكنّه لوالديه بات على كلّ لسان.

 

ذات يوم، ذهبت إلى المستوصف وأريت يدي للطبيب. فأُجريتْ لي صورة شعاعيّة، وعقّموا جرحي وضمّدوه، وحيث كان ظاهر الجرح قد التحم، لم تُجرَ لي عمليّة، إنّما أُعطيت أدوية مضادّات حيويّة لإزالة الالتهاب والورم وتخفيف الألم.

 

ذهبت في يوم أيضًا، إلى منزل رفيقي المحبّب القديم "محمّد تيموري" الذي تحدّثت عنه فيما سبق. كان مجلس دُعي إليه جمع من المجاهدين. وهناك التقيت بحفيد الإمام "الحاج حسن الخميني" وأخبرته بقصّة التصفيق وطلبت منه أن يسأل الإمام عن الأمر. ففعل، وكان جواب الإمام:

"لا تخبر المدّعي بأسرار العشق والسكر

ليموت جاهلًا في ألم عبادة الهوى

قل لأهل الحال من هؤلاء الأصحاب

أن يدعوا لي عندما يطرقون باب أهل البيت".

 

وذهبت ذات يوم لعيادة محمود، فقيل لي إنّه ما زال في المستشفى وحاله ليست على ما يُرام، يجلس على كرسيّ متحرّك، وإنّهم لم يبتروا رجله. عندما عدت إلى الكتيبة قال لي الحاج محمّد إنّه يمكنني أن أرسل عناصري في مأذونيّة.

 

496


480

مثلثّ النار والوفاء والشوق

كنّا في أواخر شهر آذار، حين انصرفت كتائب "حمزة"، "الشهادة" و"ميثم" في مأذونيّة، ولم يبق من كتيبة "ميثم" في الجبهة سوى "حسين إسماعيلي".

 

ذهبت إليه وسألته عن علّة ذلك فأجاب: "لقد انسلخت عن طهران. لا أريد أن أصبح أسير المدينة".

 

عندما وصلت إلى طهران، أخبرني أحد الإخوة بأنّ الحاج "قاسم" قد استُشهد في "شلمتشه".

 

صُعقت من الدهشة. تعجّبت كيف أنّ الحاجّ قاسم كان في "شلمتشه" ولم أعلم بذلك، ولم أره.

 

كان وقتًا عصيبًا. فقد رحل شيخي ومرادي من دون أن أودّعه. في تلك الليلة، ركبت وشباب هيئة المحلّة الحافلة قاصدين منزل الحاجّ قاسم في "كرج". ونُصبت أمام منزله لافتة سوداء أُلصقت عليها صور لسيّارة الحاجّ "بخشي" المحترقة. وقيل: إنّ الحاجّ قاسم كان أيضًا في تلك السيّارة.

 

يشهد الله أنّ ظهري قد يبس حينها! قلت: لقد كنت على بعد مائتي متر منه! وقد شاهدت احتراقه! ولم أعلم أنّ الذي كان يحترق بنار العشق هو مرادي، الحاجّ قاسم! أظلمت الدنيا في عيني، اختنقت بغصّتي، راحت ركبتاي ترتجفان ولم يعد بهما من طاقة، فجلست في مكاني.

 

كان قاسم شيخي. وله حقّ عظيم في عنقي؛ كلّ وجوده بركة ورحمة ومحبّة. كنت أعلم أنّ قاسم لا يبيع نفسه بأدنى من الجنّة ثمنًا، وكان جديرًا بنيل مقام الشهادة.

 

حينذاك بدا مشهد شهادة قاسم كشاشة السينما أمام عيني. وتذكّرت أعمال قاسم وأقواله. يعلم الله كم كان قاسم عارفًا بأصول المروءة،

 

497

 

 


481

مثلثّ النار والوفاء والشوق

وكم كان ذا روح عظيمة. لقد عاش طاهرًا نظيف الكف، فبعد حروب الشوارع، وبالرغم من أنّه قلّما كان يأتي إلى الخطوط الأماميّة، كثّف نشاطاته في مقرّ صلاة الجمعة ودعم الجبهة والحرب.

 

اختُبر لمرّات من خلال الترغيب والترهيب، فكشف بشجاعته وجرأته التي كانت جزءًا من شخصيّته المحتكرين والفاسدين في "كرج"، وفضح [مصادر] أموال ناهبي البشر. وأنشأ مركز مكافحة الاحتكار الذي خافه الكثيرون.

 

وقاسم رجل لم يأكل في حياته لقمة مشبوهة، ولم يجحد ذات يوم بنعمة ربّه، بل كان ذا معدن طيّب. واقعًا، لقد ظُلم كثيرًا، ولم يعرفه أحد في تلك الفترة حقّ المعرفة.

 

ما أخبار أهل الهوس من حرقة المحبّة

                        فنار العشق هذه لا تحرق الجميع

 

كان فقدان قاسم بالنسبة لي ولأصدقائه ومريديه واقعًا صعبًا. فلم أصدّق رحيله أبدًا. يعلم الله أيّ حمل ثقيل من الحزن والغربة حملته في تلك الفترة.

 

بعد أربعين يومًا من شهادة قاسم، وُلد ابنه الثالث؛ كانت زوجته امرأة مؤمنة قديرة، استطاعت بيد فارغة أن تربّي أولاده الثلاثة.

 

لكن، أوائل شهر نيسان من العام 1987م.، أرسل الحاجّ محمّد إليّ برسالة يستدعيني فيها.

 

ذهبت إلى المنطقة بمفردي واتّجهت نحو مقرّ التكتيك. قال الحاجّ: "سيّد، أريد هذه المرّة أن نقوم بالعمليّات خارج سهل "شلمتشه". ستأتي فرقة "کیلان" بثلاث كتائب؛ وسنهجم نحن بكتيبة "الشهادة"، "حمزة"

 

 

498

 


482

مثلثّ النار والوفاء والشوق

و"ميثم" على خطّ الدفاع العراقي".

 

قلت: "أنا أعرف أرض "شلمتشه" ككفّ يدي. وأنا قائم على العمل". قال: "الليلة الماضية، هجمت فرقة "ثار الله"، وقامت بعمليّات في السواتر الترابيّة النونيّة أو الهلاليّة الشكل الواقعة إلى جنوب "قناة السمك"، واخترقت خطّ الدفاع. ينبغي الليلة أيضًا لفرقة "سيّد الشهداء" أن تقوم بالهجوم. وقد أُطلق على هذه العمليّات اسم "كربلاء8"، وسنكمل نحن عملهم".

 

استوضحت والحاجّ محمّد الخطّ والحدود، وعدت إلى طهران لألتقي أصغر، قلت له: "أتيت لتوّي من المقر. وهناك عمليّات مهمّة أمامنا. وقد يرسلون لنا عددًا كبيرًا من القوّات. فإن وصلت القوّات غدًا إلى "دوكوهه"، ستكون بحاجة إلى الطعام. وأنّى لنا أن نشبع بطون ثلاثمائة عنصر؟".

 

قال أصغر: علينا أوّلًا أن نجد "رضا هوريا" و"علي برادران"، ونرسلهما إلى "دوكوهه" ليحضروا الطعام. فهذان يمكن الاعتماد عليهما وهما خبيران بهذه المسائل.

 

قصدت وأصغر منزل "رضا هوريا"، بقينا أمام الباب. كان رضا قويًّا وشجاعًا، ریاضيًّا، وعضوًا في الفريق الوطني للشباب في الكرة الطائرة، معلّمًا لمادّة التربية، ذا مروءة وتربية، صاحب رأي وشهمًا. في كلّ مرّة يلتقيني يطلب منّي أن أحدّثه عن شهامة إبراهيم هادي. فقد كان من مريديه، ويلعب الكرة الطائرة معه، ويأتمّ به في الصلاة.

 

احتضنني وسُررنا جدًّا لرؤية بعضنا البعض.

- ستتوجّه الكتيبة إلى الجبهة، وليس لدينا طعام ومؤن. وقد أتيت إليك، لتذهب معنا وتسوّي الأمور.

- سيّد، اقطع رأسي. فرأس رضا تقدمة لابن الزهراء؛ لكنّ الأمر متوقّف

 

499

 

 


483

مثلثّ النار والوفاء والشوق

على شيء.

- ما هو؟

- أريد أن أودّع والدتي.

- أيّ والدة يا عمّ؟ هناك ثلاثمائة نفر سيذهبون في الغدّ إلى العمليّات. ولم يُسوَّ أمر الدعم والتجهيزات بعد.

- انتظرا أنتما في السيّارة حتّى أعدّ لكم فنجانًا من الشاي، ومن ثمّ آتي.

 

انتظرت وأصغر في السيّارة، فجاء رضا إلينا بفنجانين من الشاي. ومن ثمّ ذهب وراح يطرق هذا الباب وذاك؛ إلّا أنّه لم يجد أمّه. جاء إلينا وقال: "لا أستطيع المجيء معكم يا سيّد. عليّ أن أجد الوالدة وأودّعها. اذهبا أنتما؛ وغدًا في الصباح الباكر أكون في "دوكوهه".

- تعالَ لنذهب، لا شيء سيحدث.

- لا، أنت تعرف حرمة الوالدة..

 

تعجّبت من كلّ هذه الشهامة. قلت في نفسي: ليس عبثًا أن يوفّق البعض للشهادة، ولا يُوفّق البعض الآخر. وكأنّ هناك عائقًا أمامهم. لا أدري ما هو العائق الموجود أمامي حتّى بقيت.

 

قلت لأصغر: لنعرّج في طريقنا على قم، ونأخذ معنا حسن[1]".

 

فرح أصغر، فهو لم يرَ أخاه منذ مدّة. ذهبنا إلى قم؛ لكنّنا وصلنا متأخّرين. كان حسن قد ذهب للتوّ إلى طهران.

 

 


[1]  كان حسن أرسنجاني يتردّد كثيرًا إلى كتيبة ميثم، وهو يكبر أصغر أرسنجاني بعدّة سنوات، وله مزايا وأخلاقيّات مختلفة. استُشهد في عمليّات نصر 7.

 

500


484

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أظلم الليل، وفي تلك الفترة، بدأ صدّام بقصف المدن. فكان كلّ ليلة يقصف مدينة.

 

وكانت عائلة حسن قد أعدّت الـ"كتلت"، فاستبقونا للعشاء. بقينا نصف ساعة هناك، وأكلنا القليل من الخبز والـ"كتلت". وأُطلقت صفّارات الإنذار وسكتت ثلاث مرّات حين كنّا نأكل طعامنا.

 

وقد ألقت الطائرات العراقيّة ثلاث قنابل وذهبت، ولم نعِ كيف أكلنا!

 

انطلقت تلك الليلة وأصغر، ووصلنا في اليوم التالي إلى "دوكوهه".

 

في البداية، ذهبنا إلى مقرّ التجهيزات لننسّق معهم بأن يرسلوا طعام الغداء إلى مخيّم "كارون"؛ إذ لم أكن أريد للإخوة أن يتأخّروا في دوكوهه، وأردت أن أنقلهم مباشرة إلى مخيّم "كارون".

 

مع وصولنا إلى "كارون"، وصلت أيضًا حافلتان تقلّان الإخوة. اتّصل "مصطفى كاشاني" -أحد قياديّي الفرقة- عبر جهاز اللاسلكي، وقال: "سيّد، تعالَ إلى هنا، فالحاجّ محمّد يريدك".

 

ذهبت إلى خيمة قيادة الفرقة، وتكلّمت مع الحاجّ محمّد عبر الجهاز.

 

قال الحاجّ محمّد من الجهة الأخرى: "أوَليس من المفترض بقوّاتك أن تصل اليوم؟".

- لقد وصلت كتيبتان، والباقون في الطريق.

- إنّ العراقيّين يثبّتون مواطئ أقدام لهم. ويكادون يسيطرون على خطّ الدفاع الذي جهد الإخوة للحفاظ عليه. لقد تقدّموا من جهة "بنج ضلعي"، وها هم الآن يتقدّمون إلى هذه الناحية. نريد قوّات جديدة.

- بعد ساعة أخرى، إن شاء الله، يكون الجميع حاضرًا.

 

501


485

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- أحضر الآن سريّة، فلقد أُنهك هؤلاء؛ ولا يمكنهم المتابعة.

 

كانت الحافلات تصل الواحدة وراء الأخرى، وتنزل الإخوة. ومهما انتظرت، لم تصل حافلة طاقم الكتيبة!

 

جهّزنا القوّات، إلّا أن مسؤولي السرايا والفصائل لم يحضروا بعد. كيف يمكن لنا إعطاؤهم التعليمات وتنظيمهم؟ وبعد جهد جهيد، استطعنا تجهيز سريّة، وإرسالها إلى خطّ الدفاع مع "علي زاكاني". وكان من المفترض بقواتنا هذه المرّة، أن تدخل من نهر "دوعيجي" الجادّة التي تقع إلى الجهة اليسرى من "بنج ضلعي".

 

ملأنا أربع شاحنات تويوتّا بالقوّات، وأرسلناهم إلى الخط الأمامي.

 

عند الساعة الخامسة بعد الظهر، جاء أحد الإخوة ويُدعى "فلاح" هلعًا. كان رأسه مزرقًّا وداميًا. وكان هو أيضًا في حافلة طاقم الكتيبة. ألقى السلام.

- ما الذي حدث يا فلاح؟

- لقد وقع لنا حادث سير.

- بماذا اصطدمتم؟ وكيف؟

- كان طاقم الكتيبة كلّه موجودًا؛ حسين سازور، رضا هوريا، علي شهبازي، جواد مجلسي، فلان وفلان... اجتزنا "دوكوهه"، وعلى مقربة من الأهواز، بدأ "حسين سازور" يقرأ زيارة الخمسة عشر. فغفت عينا السائق، وفجأة انقلبت السيّارة إلى اليسار.

 

هذا ما ينقصنا لتكتمل المصيبة.

 

وثبت وأصغر وأكبر سربوشان داخل سيّارة تويوتّا، دسنا على دوّاسة الوقود وانطلقنا نحو الأهواز، وتوجّهنا مباشرة إلى المستشفى. وهناك

 

502


486

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- أحضر الآن سريّة، فلقد أُنهك هؤلاء؛ ولا يمكنهم المتابعة.

 

كانت الحافلات تصل الواحدة وراء الأخرى، وتنزل الإخوة. ومهما انتظرت، لم تصل حافلة طاقم الكتيبة!

 

جهّزنا القوّات، إلّا أن مسؤولي السرايا والفصائل لم يحضروا بعد. كيف يمكن لنا إعطاؤهم التعليمات وتنظيمهم؟ وبعد جهد جهيد، استطعنا تجهيز سريّة، وإرسالها إلى خطّ الدفاع مع "علي زاكاني". وكان من المفترض بقواتنا هذه المرّة، أن تدخل من نهر "دوعيجي" الجادّة التي تقع إلى الجهة اليسرى من "بنج ضلعي".

 

ملأنا أربع شاحنات تويوتّا بالقوّات، وأرسلناهم إلى الخط الأمامي.

 

عند الساعة الخامسة بعد الظهر، جاء أحد الإخوة ويُدعى "فلاح" هلعًا. كان رأسه مزرقًّا وداميًا. وكان هو أيضًا في حافلة طاقم الكتيبة. ألقى السلام.

- ما الذي حدث يا فلاح؟

- لقد وقع لنا حادث سير.

- بماذا اصطدمتم؟ وكيف؟

- كان طاقم الكتيبة كلّه موجودًا؛ حسين سازور، رضا هوريا، علي شهبازي، جواد مجلسي، فلان وفلان... اجتزنا "دوكوهه"، وعلى مقربة من الأهواز، بدأ "حسين سازور" يقرأ زيارة الخمسة عشر. فغفت عينا السائق، وفجأة انقلبت السيّارة إلى اليسار.

 

هذا ما ينقصنا لتكتمل المصيبة.

 

وثبت وأصغر وأكبر سربوشان داخل سيّارة تويوتّا، دسنا على دوّاسة الوقود وانطلقنا نحو الأهواز، وتوجّهنا مباشرة إلى المستشفى. وهناك

 

502


486

مثلثّ النار والوفاء والشوق

رأيت حميد ترابي، إخوان شهبازي، الحاجّ جواد مجلسي، والحاجّ حسين سازور، ممدّدين على الأرض، وقد كُسرت أيديهم وأرجلهم.

 

ذهبنا إلى مركز شرطة المرور، فقالوا لنا: لقد استُشهد ما بين الستّة والثمانية أشخاص من شبابكم.

- أين هم الآن؟

- في البرّاد.

 

كانت هذه المصيبة أسوأ من العمليّات. إلى أيّ نقطة وصل الإخوة، وإلى أين ذهبوا؟

 

توجّهنا نحو البرّاد، لم أعد أفهم نفسي. لا أعلم كيف أصف حالي ذلك اليوم. كانوا نخبة قوّاتي. فتحوا لنا أدراج البرّاد. وجدت حسين مجلسي، وخسرو شادماني والسيّد حجّت فيها، وصادقي رفيق الجهاد في حرب الشوارع، الذي كان ماهرًا في إطلاق صاروخ الـ"دراغون". لم أتعرّف إليه في البداية، فكّرت للحظة، ثم تعرّفت إليه.

 

بعدها عدنا وتفقّدنا المصابين. في هذه الأثناء فُقد رضا هوريا! كان من المقرّر أيضًا أن يأتي بهذه الحافلة، مع طاقم الكتيبة. ويُستبعد أن يكون قد بقي في طهران.

 

مرّة أخرى، قمت وأصغر بإحصاء الإخوة. لم يكن بين المصابين، ولا بين الشهداء. إلهي، ما الذي حصل، وما حلّ به؟

 

قال أصغر: "لا بدّ أنّه بقي تحت الحافلة، ولم يرفعوه". ركبنا السيّارة، وسرنا مسافة 35 كيلومترًا حتّى وصلنا إلى مكان وقوع الحادث. فتّشنا تحت الحافلة وحولها؛ لم نجد لرضا أثرًا. بقينا نفتّش عنه من مستشفى

 

503


487

مثلثّ النار والوفاء والشوق

إلى آخر، حتّى صباح اليوم التالي. في النهاية، تبيّن أنّ رضا كان في عداد المصابين؛ وقد نُقل إلى المستشفى وقضى هناك.

 

قال أصغر: "أنا ذاهب إلى الخط. اذهب أنت إن أحببت إلى طهران وشارك في مراسم دفنهم".

- لا مجال لذلك أخي يا أصغر. ولا وقت لديّ لأجلس في زاوية وأتحرّر من عقدي النفسيّة وأذرف الدموع. فالوقت وقت عمليّات، وكذا أجساد هؤلاء الإخوة هي الآن في أيدينا [لا في أيدي غيرنا].

 

في صباح اليوم التالي، دُفنت أجساد الشهداء في القطعة 26 من "بهشت زهراء". وأثيرت بلبلة. ففي البداية، لم يعدّ السادة الإخوة في عداد الشهداء. وبعد جهد جهيد، وافقوا على دفنهم في القسم الخاصّ بالشهداء.

 

بعد الظهر، عدت مسرعًا إلى الجبهة، وذهبت مباشرة إلى الحاجّ محمّد.

 

قال الحاجّ: "أين كنت؟ استعدّوا، عليكم أن تهجموا على الخطّ".

- لن أذهب.

- وهل السبب تلك القصّة نفسها؟

- لا يا عمّ... فمسؤولو السرايا تعرّضوا لحادث سير، واستُشهدوا. غدًا صباحًا تصل قوّاتي.

- حسنًا، إنّ قوّات "سيّد الشهداء" الآن تخوض مواجهة. دعني أرَ ماذا سيفعلون.

 

عند الساعة الحادية عشرة ليلًا، ذهبت و"سعيد سليماني"، "محمود أميني" وأحد شباب المعلومات إلى "توك مدادي" لنلقي نظرة على

 

504

 

 


488

مثلثّ النار والوفاء والشوق

المنطقة، ونستطلع الأرض عن قرب.

 

تقدّمنا إلى الأمام قليلًا من "توك مدادي"، إلى المكان حيث من المفترض أن قوّات "سيّد الشهداء" تخوض مواجهة فيه، فرأينا مشهدًا عجيبًا. كان الخطّ خاليًا ولا أحد فيه، والدشم خالية. فإلى هذه الناحية كان شباب "سيّد الشهداء" مستندين بنحو متفرّق إلى الدشم؛ وفي تلك الناحية كان العراقيّون یروّحون عن أنفسهم.

 

قلت: "ماذا يحصل هنا؟".

 

قالوا: "هجمنا الليلة الماضية على الخط. سيطرنا عليه ولم نسيطر، قدّمنا عددًا من الشهداء، ورجعنا. لم يعد لدينا من قوّات. ومن تبقّى منهم انسحب".

 

بعد الاستطلاع، عدنا إلى المقرّ. وتمّ التداول في أن نهجم عليهم من أحد الجوانب بدل الهجوم من الناحية الأماميّة. أبدى كلّ واحد رأيه: يمكن، ولا يمكن؛ احتدم الجدال إلى أن توصّلنا إلى نتيجة!

 

تقرّر أن يهجم "محمود أميني" الذي وصل قبلنا بقوّاته وتمركزوا في خطّ "تشمران" الخلفي، على خطّ دفاع الأعداء، وذلك حتّى لا تنام الأمور.

 

وكان الهدف من هذا الهجوم هو المحافظة على السواتر الترابيّة الهلاليّة الملتصقة بـ"قناة السمك". أردنا من خلال السيطرة على السواتر الترابيّة أن نصل إلى طريق فرعيّ، ونهجم من هناك على قلب جادّة "البصرة".

 

بقيت تلك الليلة في المقرّ إلى الصباح.

 

عند الخامسة صباحًا، حرّك "محمود" كتيبته، وانطلقوا مع انشقاق الضوء. ترك إحدى سراياه في خطّ "فاطمة الزهراء عليها السلام الخلفي، وسار

 

505

 

 


489

مثلثّ النار والوفاء والشوق

بالبقيّة إلى الخطّ.

 

عند الساعة التاسعة صباحًا، سمعنا محمود ينادي عبر الجهاز اللاسلكي: "لقد شنّ العراقيّون هجومًا".

 

ابقوا على استعداد.

 

عصر ذلك اليوم، نزلت السريّة الثالثة من سرايا محمود أيضًا إلى ساحة المعركة، وخاضت مواجهة شرسة.

 

لم تكن قوّات كتيبة "حمزة" تعرف المنطقة جيّدًا، لكنّها فعلت كلّ ما بوسعها. بالنهاية، ليست "شلمتشه" أرضنا، ولا نعرف التفاصيل الدقيقة فيها. فكنّا نهجم عليها، ويصيبنا الارتباك والحيرة.

 

في البداية، كانت كلّ قوّات "حمزة" نائمة، فقد أصابهم أذى في أعينهم؛ لكنّ الحاجّ محمود نفسه، امتلك ميزة حسنة لم يمتلكها غيره. فلو انهمرت أثناء العمليّات، مليونا قذيفة، لم يكن يحني رأسه. بل يظلّ دومًا ثابتًا في ميدان الحرب. اختصّ بشجاعة وجرأة هما حقًّا من مميّزاته. وللحقيقة، ينبغي تقدير دور الحاجّ محمود، والسيّد "مجتهدي" وكلّ الشجعان في كتيبة حمزة.

 

قرابة الساعة العاشرة، وصلت قوّات "ميثم" إلى خطّ "فاطمة الزهراء" الخلفي. أحضرنا ستّ ناقلات جند مدرّعة، أركبنا القوّات ونقلناهم إلى غرب "توك مدادي".

 

في الطريق، تقطّعت جنازير ثلاث ناقلات جند. فقسّمنا القوّات، ووضعناهم بصعوبة في ناقلتي الجند الباقيتين. وبقي عدد منهم لننقلهم إلى أرض المعركة في الدفعة الثانية. غرب "توك مدادي" يقع إلى جنوب سهل "شلمتشه" باتّجاه السواتر الهلاليّة الشكل. وكانت المسافة من

 

506

 

 


490

مثلثّ النار والوفاء والشوق

خطّ "فاطمة الزهراء" عليها السلام الخلفي إلى السواتر الهلاليّة الشكل المحاذية لقناة السمك ما بين الكيلومترين والثلاثة؛ وهي مسافة لا يمكن طيّها سيرًا على الأقدام.

 

إلى أن وصلنا إلى نقطة الانتشار، صارت الساعة الثانية والربع. كما تناقشت ربع ساعة أخرى مع سعيد، هل من الجيّد أن نهجم أم لا.

 

قال سعيد: "لقد تأخّرنا، كان من المفترض بك أن تصل إلى نقطة الانتشار عند الساعة الثانية عشرة ليلًا".

- قل للجميع إنّنا وصلنا ...

- لقد أُفلت الأمر من يدي. أمامنا سهل، والسيطرة عليه شاقّة جدًّا! كان عليك أن تكون في خطّ الدفاع مع انشقاق الضوء.

- دعك يا عمّ من هذا الكلام!

- أتأخذ الأمر على عاتقك؟

- لا عاتق لي لآخذه عليه. وأين كان عاتقي؟ أساسًا، أنا لم أعد البارحة لآخذ شيئًا على عاتقي.

- أنت أعلم.

 

صففت القوّات في طوابير، ووضعت الشجعان على رأس كلّ طابور؛ وهم حسين إسماعيلي وأربعة من أمثاله.

 

جمعت سريّة "نينوى" بقيادة "محمّد قاسمي" و"علي زاكاني"، وسريّة "البقيع" بقيادة "محمّد جعفري تك با"، و"أمير تشيذري"، وسريّة "فدك" بقيادة "إبراهيم كاشاني" في مكان واحد، ووضّحت لهم العمل عن طريق الخريطة. جلسنا في الظلام حول بعضنا البعض. المصباح في يد أصغر، وهو ساكت كعادته، يستمع إلى كلامي، ويضيف إليه أشياء عند

 

507

 

 


491

مثلثّ النار والوفاء والشوق

اقتضاء الحاجة. كان يجيل المصباح على الخريطة، فوقع النور للحظة على صدر "عباس بور أحمد"، الذي كان و"محمّد باغبان" بريدَي الكتيبة، وقد وصلا للتوّ من مشهد.

 

قال أصغر: "سيّد، اُنظر إلى صدر عباس".

 

نظرت، فرأيت علمًا صغيرًا مخاطًا على جيب قميصه الأيسر؛ تمامًا فوق قلبه. وقد كُتب عليه: "أنا فداء لك يا إمام رضا". توجّهت إلى عباس وقلت له: "ما هذا الذي وضعته على قميصك؟".

 

قال: "هذا علم الإمام الرضا المبارك؟".

 

أنشد أصغر حينها، في قلب الليل وعلى مقربة من العمليّات، أبياتًا من الشعر في الإمام الرضا عليه السلام خاصّة بذاكرِ أهل البيت (عليهم السلام) والمدّاح المخلص "غلامعلي رجبي":

أنا فداء لحمام حرمك

فداء لكلّ لطفك وكرمك

منذ أن تعرّفت إليك

أصبحت محطّ الرحمة الإلهيّة

قلتَ كلّ من يأتي لزيارتي

سأكون مدده عند الشدائد والصعاب...

 

للحظات، حملنا صوت أصغر الحنون إلى أجواء حرم "الإمام الرضا" عليه السلام، وحلّقت القلوب حول قبّته...

 

ثمّ بعد ذلك، أرسلت سريّة "نينوى" من أسفل "توك مدادي"؛ وسريّة

 

 

508

 

 


492

مثلثّ النار والوفاء والشوق

"فدك" من أعلاه، وتركت سرية "البقيع" كقوّات احتياط. وقفت أنا العبد الفقير، و"سعيد سليماني" و"حسين بهشتي" خلف الساتر الترابيّ؛ بحيث كنّا نشاهد الجانب الآخر بشكل جيّد. انطلق الإخوة بهدوء ومن دون جلبة وضجيج. وأمرتهم بأن يتقدّموا بـ"مشية البطّة"، بحيث لا يُسمع صوت وقع أقدامهم. وهناك التقيت بـ"رضا مير كمالي"، من شباب ميثم المخلصين. كان في عداد الحرس الرسميّين؛ لكنّه التحق بـ"ميثم" حبًّا للرفاق وللصفاء والودّ الموجودين فيها. كان له ولدان: "ربابه" و"علي أصغر". كان "رضا" عاشقًا لأهل البيت عليهم السلام؛ شهمًا ومحبًّا. أتعلم يا أخي... تختلف قصّة العاشق عن قصص الناس العاديّين! فالعاشق يقوم بكلّ ما يقوم به في سبيل عشقه؛ مشيه، لباسه، وحتّى تنفّسه. ارتدى رضا في تلك الليلة زيّ الحرس. وقد طرّز على جيب قميصه عبارة "يا فاطمة الزهراء". كان حسن البنية والقامة ويمشي بثبات، وقد صبغ حذاءه العسكري بحيث بدا لامعًا من النظافة. تعجّبت، كيف تسنّت له الفرصة في معمعة نقل القوّات وانتقالها تلك، لأن يلمّع حذاءه.

 

هذا وقد ربط قطعة قماش خضراء حريريّة حول عنقه. فجاء إليّ بوجه بشّ وابتسامة لطيفة وسلّم بهدوء.

- سلام يا أخي رضا، كيف الحال؟ أأنت ذاهب في موعد؟

- سيّد، اُدعُ لي لقضاء حاجة.

- ومن أنا لأدعو لك؟

- أنت سيّد، دعاؤك مستجاب.

- ما هي حاجتك؟

- إمّا أن أُستشهد، أو أعود سالمًا. لا أحبّ أن أؤسر أو أعود معوّقًا وجريحًا.

 

509

 

 


493

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- لِمَ؟

- لقد تشارطّت هذا العام مع أحد أبناء المحلّة على محبّة الاثنين والسبعين شهيدًا من شهداء كربلاء. أريد أن أرجع حيًّا لأطيّر حماماتي. وقد سحبت ريش 72 حمامة تحضيرًا ليوم المسابقة[1] [سباق الحمام]. إن شاء الله ستأتي أنت أيضًا إلى سطح منزلنا.

- لقد كنت منذ زمن أسير هذه الأمور، وكنت أتعاطاها قبل الثورة. أمّا عندما انتصرت الثورة، تغيّر هواي، وسلكت طريقًا آخر؛ لكنّني ما زلت إلى الآن أحبّ طيوري. لديّ حمامة أعشقها، وأقسم بها قسم صدق.

- أنت أيضًا كنت تراهن؟

- كنت أتشارط وأخي السيّد "باقر". في شهر حزيران، كنّا نذهب إلى المقهى وراء أحدهم لمتابعة أمر ما. حينذاك، امتلك "محمود آهنکر" أربعمائة حمامة. وكان صاحب خبرة في هذا المجال. لا أحد يتفوّق عليه. بل ويتشارط مع ثلاثة أشخاص في وقت واحد، ويربح الشرط مقابلهم جميعًا. كما كان يهزم جميع مربّي الحمام المقتدرين في المحلّة. والمنافس الوحيد له هو "إيرج زاغي"؛ واحد من بين ألف، استطاع أن يهزم محمود. حينذاك، كانا يتنازعان على حمامة، وكان من الممكن لأحدهما أن يقتل الآخر.

- نعم... لقد ربح أحدهما العام الفائت، وهذا العام، يريد الجميع توجيه ضربة إليه. لكنّ المحسوبيّات قليلة؛ ذلك أنّ الحكم ذو خبرة. فإذا ما وضع مربّي الحمام دواءً في طعامها، يدرك ذلك من خلال كثرة تحليقها. فينظر أوّلًا في فمها؛ ومن ثمّ في صدرها. فإن كان صدرها مليئًا بالحَبّ، يتّضح أنّه قد وُضع الدواء في طعامها.

 

 


[1]  وكانوا يسحبون ريش أجنحتها لينبت مكانها ريش جديد يساعدها على التحليق أكثر.

 

510


494

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- كنت في كلّ مرّة أشارط على نيّة الأئمّة الاثني عشر، أو كنت أطيّر 110 حمامات على محبّة الإمام علي عليه السلام، أو خمسًا على محبّة أهل الكساء الخمسة. أمّا الأثرياء، فكانوا يرسلون خمسة أشخاص إلى كربلاء على محبّة أهل الكساء الخمسة؛ أو يوزّعون العملات المعدنيّة إذا ما ربحوا. الكلمة الأخيرة هي للحمامة المتسابقة..

- سيّد، أنا لا أستبدل بحماماتي الطائرة الدنيا وما فيها. وإنّي متحمّس لها حماسةً خاصّة. العام الفائت، في الليلة التي سبقت المسابقة، صعد الحكم إلى السطح وختم على الحمامات، وسجّل أسماءها ومواصفاتها: "ماه بیشوني" -ذكر، قلمكار- أنثى، سوسكي، بلنک، يك كتي، لك دوش، سينه طلائي، ماه رخ، غاره وطوقي وإلى آخره. هذه أسماء الحمامات التي أربّيها.

- عادتنا في تربية الحمام هي عين عادتك. فكنت وأخي السيّد باقر ندعو يوم المسابقة ما بين العشرة والعشرين نفرًا من أصدقائنا على الغداء. فنجهّز المنقل ونشوي الكباب. ويحضر هذا الغداء كلّ مربّي الحمام والأصدقاء.

 

عند الساعة الخامسة صباحًا، يصعد الحكم إلى السطح ويطلق الحمامات في الهواء. فإذا ما حلّقت حمامة ثلاث دورات في الفضاء، ومن ثمّ يبس كتفها، وحطّت بسرعة، لم يكن الحكم ليقبل بذلك، بل يخرجها من المسابقة، لنضع مكانها واحدة أخرى. كان على الحمامات أن تحلّق عاليًا، إلى درجة لا يُرى منها في السماء سوى نقاط بيضاء".

- إنّه لأمر عجيب، فمربّي الحمام، لو أصبح رئيسًا للجمهوريّة، ورأى حمامة تحلّق في الفضاء، فإنّ روحه سترتدّ إليه.

 

 

511

 

 


495

مثلثّ النار والوفاء والشوق

قلت: "ليت البشر يتمتّعون بوفاء الحيوانات. حينذاك ستتبدّل الأرض إلى جنّة. قصّتنا نحن البشر كقصّة الحمام الطهرانيّ الذي ينفصل عن الجماعة. يطير على شكل فريق، ويفترق عن بعضه البعض في الأعلى. حين نطيّره، يحطّ عند الساعة الثامنة صباحًا. ويا له من منظر جدير بالمشاهدة، إذ يتعرّف الجميع إلى العش الموجود على سطحك. يأتي ويحطّ بشكل جميل. يعيّر الحكم ساعته. وفي النهاية، يجمع الساعات ويقسّمها على الحمامات. فالحمامة التي لم تطر لثلاث أو أربع ساعات، يصبح وضعها مزريًا مثلي ومثلك".

 

ضحك رضا؛ ضحكة نشوان!

 

حان موعد الافتراق. ضممته إلى صدري. طبعت قبلة على جبينه وقلت: "إنّنا راضون بما يرضاه الله ويقدّره لنا".

 

قاربت الساعة الثالثة ليلًا. وكان خطّ الدفاع العراقي هادئًا. ظنّوا بأنّنا سنوقف العمليّات بعد كلّ تلك النيران التي أطلقوها على كتيبة "حمزة"؛ وقد أحضروا قوّات نعسانة، صفّوها على حافّة الـ"بد"، وأرادوا الهجوم صباحًا والسيطرة على خطّ دفاعنا كما تصوّروا.

 

لم تكد تمضي نصف ساعة على وصول السرايا إلى نقطة الانتشار، حتّى سقطت قذيفة وبدأت المواجهة. بقيت في دشمة من الدشم مشغولًا بقيادة العمليّات. اتّصلت لاسلكيًّا بـ"أمير تشیذري" وقلت: "إسماعيل، إسماعيل 1... لماذا بدأتم بالمواجهة؟ كان من المفترض أن تهجموا حينما نناديكم".

 

قال: لقد ذهبت واحدة من حماماتنا إلى سطح الخصم".

 

أرسلت البريد ليستوضح الأمر. وهناك، كان البريد هو القائد المتحرّك للكتيبة، حيث يوصل كلّ الرسائل ويقوم بالقيادة نوعًا ما. جاء البريد

 

512

 

 


496

مثلثّ النار والوفاء والشوق

بخبر مفاده أنّ حسين إسماعيلي قد دخل في حقل ألغام. تبيّن أنّ شباب المعلومات أعطوه معلومات خاطئة. وحسين الذي كان على رأس الطابور، وكان عليه أن يتقدّم الباقين بمائة متر، دخل في حقل ألغام. وتقتضي المهمة أن يُطلق حسين الطلقة الأولى وهو الخبير الشجاع. فسار في المقدّمة. وإذا به يدخل بغتةً في حقل الألغام فلم يعد يستطيع التقدّم ولا التراجع، وبُترت رجله فظلّت متّصلة بالجلد فقط. أمّا العراقيّون الذين كانوا إلى حينها مجتمعين في الدشم مطمئنّي البال، فقد هرعوا إلى الخارج وصعدوا فوق الساتر الترابي؛ إلّا أنّ ظلمة الليل حالت دون رؤية الطرفين لبعضهما البعض. حبس الطرفان أنفاسهما في صدروهما، وظنّا بأنّ غرابًا ارتطم بالعوائق فانفجر اللغم. أشعلوا المكان بعدد من القنابل المضيئة، فرأوا بعضهم البعض، في تلك الأثناء، استلّ حسين خنجره وقطع رجله ورماها في ناحية. فوقعت على لغم وانفجر. صاح حسين بالإخوة:

- قوموا، لِمَ أنتم جالسون تتفرّجون؟

 

كانت القنابل المضيئة تُطلق فيستنير المكان كضوء النهار. هبّ الإخوة ونزلوا في القناة. وهناك، أصابت طلقة يد "علي زاكاني" للمرّة الثالثة أو الرابعة. استُشهد العناصر الخمسة عشر الذين كانوا في الصفوف الأولى، فتقدّم باقي الإخوة إلى الأمام وسقطوا أيضًا. كانوا يهجمون برجولة ويجيّرون المعركة إلى مصلحتهم. بُهت العراقيّون، وتلقّوا الضربة. ليتكم شهدتم هؤلاء فما إن يروا أنّهم علقوا وسط المعركة، حتّى يرفعوا أيديهم فوق رؤوسهم ويستسلموا. حين طلع الصباح، وجدنا أنّهم أسروا مائتي جندي عراقي، بينهم أربعة ضخام الجثّة، وكانوا يرتدون السراويل القصيرة فقط.

 

في ساعات الصباح الأولى، رأيت شخصًا يمشي كالقطّة على رجليه ويديه.توجّهت إليه، فوجدت أنّه "حسين إسماعيلي". كان كجبل راسخ. ومع كلّ

 

513

 

 


497

مثلثّ النار والوفاء والشوق

تلك الدماء التي نزفت منه، لم يسقط. فقد كان يمتلك جسمًا وروحًا قويّين.

 

أرسلت "حسين" إلى الخطوط الخلفيّة.

 

كان الحاجّ محمّد يذكّرنا من وقت لآخر: "لا يغيبنّ نظركم عن الساتر، لئلّا يأخذوه منكم، فهم يستطيعون التقدّم من الجهة الجانبيّة". صباح ذلك اليوم، جاء مراسل التلفزيون وأجرى مقابلة معي ومع أصغر. سأل المراسل: "برأيك، ما الشيء الذي تعدّه عامل الانتصار؟".

- برأيي، إنّ عامل انتصارنا هو ذلك العلم الأخضر الموجود فوق جيب عبّاس..

- cut cut، يا حاجّ، هذا الحوار يُبثّ مباشرة على التلفاز. يا أخي، العلم لا يمكن أن يكون عامل الانتصار!

- كما تريد.

 

عاد وسأل من جديد: "ما هو عامل انتصار المجاهدين؟".

- العلم..

 

ما إن سمع اسم العلم حتّى قطع الحوار. وقد قطع كلامي ثلاث مرّات.

- إن كنتَ تسألني، أقول لك كان هذا؛ وإن كنت تريد أن تجيب بنفسك، فما دخلي أنا بالموضوع؟ تفضّل، بسم الله. لِمَ أكذب عبثًا؟ هذا النصر كان لطفًا ومددًا من الله تعالى. أساسًا، لم يكن أحد يعلم أين يذهب. لم يكن يعلم إن كان عليه أن يهجم من الجهة الجانبيّة أم الأماميّة. ولم يكن يعلم لِمَ خربت ناقلة الجند.

 

المراسل المسكين، علق بين يدي شخص مُتعب ثقيل الدم. وكلماتي لذعته بشكلّ جيّد.

 

514

 

 


498

مثلثّ النار والوفاء والشوق

انقضت هذه المسألة. جاء حملة الجرحى لإخلاء الشهداء والجرحى. كان جثمانُ رجل الحماسة "رضا مير كمالي" مرميًّا منذ ساعات على الجادّة بمحاذاة "قناة السمك". وقد نام نومةً هادئة، والمنديل الحريريّ ملفوف حول عنقه. عاشق حقيقي التحق بمعشوقه. و في قمار العشق من الذي ندم أيّها القلب؟

 

استُشهد كلّ من داود دهقاني، الحاجّ سمندر، عباس بور أحمد، حجّت شمسيان، محمود بهرامي، حسين رضا بور ومهدي قناعتي. وجُرح عدد من الإخوة من أمثال محمّد قاسمي، إبراهيم كاشاني، رضا فرجي، مجيد باغبان، محمود طاهر أفشار، مهدي زمام، وعلي فيلسوف، وروت دماؤهم أرض شلمتشه.

 

بعد إخلاء الشهداء، خفّت حدّة النيران. فوجّهتُ سريّة "البقيع" التي كانت سريّة احتياط إلى الدفاع.

 

بعد الظهر، أعلنت الإذاعة ما يلي: "أعزّائي المستمعين، تمكّن مجاهدو كتائب "حمزة" و"ميثم" و"الشهادة" التابعة للفرقة 27، في العمليّات الكبرى في جنوب شرق البصرة، من أسر الجنرال الفلاني والفلاني، والعقيد الفلاني. قلنا في أنفسنا: أيّ عقيد؟

 

سألنا عن الموضوع، وعلمنا بأنّهم هم أولئك الأشخاص الأربعة الضخام الجثّث الذين كانوا يرتدون السراويل القصيرة. وأنّ قنبلة انفجرت بالقرب منهم حال الانسحاب، فأُصيبوا، وعرّفوا عن أنفسهم في المستشفى. واتّضح فيما بعد أنّهم جنرالات وعقداء عراقيّون، وأنّهم عندما يخسرون المعركة، يخلعون بزّاتهم العسكريّة ويرمون أنفسهم في الوحل لكي لا يُعرفوا.

 

قرابة الساعة الثالثة بعد الظهر، قلت للحاجّ محمّد: "لقد قاتل شبابي حتّى الصباح؛ ولا يستطيعون فتح أعينهم من التعب، أَوَلا ترسل كتيبة

 

515

 

 


499

مثلثّ النار والوفاء والشوق

الشهادة؟".

 

أجاب الحاجّ محمّد: "اصبر حتّى الغروب".

 

ارتمت قوّاتي إلى جانب الساتر الترابي. فنام بعضهم وهو جالس في مكانه، وبعضهم كان يقوم بالحراسة. كانت القذائف تسقط الواحدة تلو الأخرى على الساتر، فأوصيتهم بعدم الخروج من الدشم.

 

والساتر الذي احتمينا به كان للعراقيّين. لفتني شكله الهلالي وتصميمه؛ له مقدّمة عميقة وطويلة. وعندما تطلق عليه القذائف تسقط خلف الساتر الترابي في الحفرة [المحيطة] ولا تتسبّب بأضرار. استقرّت قوّاتنا في الساتر الهلالي، ولاذت في عمقه، فقلّما أصابها ضرر. وكان طرفاه بنحو يمكننا الحفاظ عليهما، والاستفادة منهما. هذا بخلاف سواترنا المسطّحة والممتدّة التي ينخفض فيها خطّ الرأس، فكنّا نضطّر إلى خفض رؤوسنا حينما نمرّ من خلفها.

 

عند الغروب، ومع حلول العتمة، جاء شباب كتيبة الشهادة وملأوا الخطّ. قام العراق بنصف هجوم؛ لكنّه لم يثبّت له موطئ قدم وانسحب. ولكم كانت جميلة هناك قصّة أصحاب المروءة والشهامة وحملة المناديل*[1] من شباب ميثم.

 

حين تبديل قوّاتنا بكتيبة الشهادة، قلتُ لسعيد سليماني: "اتصل بالحاجّ محمّد واطلب منه أن يأتي، فلي عمل معه".

- لِمَ؟

- إنّ العراقيّين يخطّطون لأمر ما.

 

 


[1]  اشتهروا بحمل المناديل التي يستعينون بها في مسح العرق عند قيامهم بالاعمال الثقيلة.

 

516


500

مثلثّ النار والوفاء والشوق

والسبب أنّ الخطّ لا يزال في مرمى نيران القوّات العراقيّة التي ترمي الإخوة برصاص القنّاصة. ولم تكن "قوّات التعاون" قادرةً على القيام بمثل هذه المهمّة. بعد نصف ساعة، جاء "علي برادران" وأشخاص آخرون، فنقلنا الشهداء إلى خلف الساتر الترابي بمساعدة باقي الإخوة الذين قاتلوا وأُنهكوا كثيرًا، . كان معظم الشهداء تابعين لسريّتَيْ "فدك" و"البقيع"، وقد قارب عددهم العشرين شهيدًا. ومع الاعتذار من محضر الشهداء كافّة، وضعنا أجساد الشهداء فوق بعضها البعض في مؤخّرة الشاحنة، وربطناها بحبل لكي لا يقع أيّ منها. في تلك الأثناء، جاء والد الشهيد "محسن مدني"، وكان سائق سيّارة إسعاف، إلى الخطّ الأمامي لنقل الجرحى. صفّ سيّارته خلف الساتر الترابي واتّجه نحونا.

 

قال أصغر: "انظر يا سيّد، واخجلتاه".

 

ألقيت نظرة، فوجدته محقًّا. فالحاجّ مدني كان متّجهًا نحو الساتر الترابي. فورًا، ألقيتُ الكوفيّة على وجه محسن ولده، الذي سقطت جثّته في القناة الثانية. فسريّة "نينوى" التي كان محسن في عدادها، قاتلت في القناة الثانية، وبقيت أجساد عدد من شهداء تلك القناة مع جثّة محسن، لسنوات في أماكنها، بعد هجوم القوّات العراقيّة على المنطقة. قلت للحاجّ مدني: "لِمَ أتيت يا حاجّ إلى الخطّ الأمامي؟".

 

أجاب: "جئت لنقل الجرحى".

- اترك المكان فورًا، فقد يشنّ العراقيّون هجومًا في أيّ لحظة.

 

بعد ذلك، وبمساعدة أصغر، وضعنا أربعة من الجرحى في سيّارة إسعاف الحاجّ، ومع شاحنتين صغيرتين محمّلتين بالشهداء الذين كانوا شهادة فخر لكتيبة "ميثم"، وأرسلناهم إلى خطّ "فاطمة الزهراء" الخلفي.

 

 

518

 


501

مثلثّ النار والوفاء والشوق

بعدها بفترة، أقمنا احتفالًا تكريميًّا لشهداء عمليّات "كربلاء 5 وكربلاء8"، في نادي السجّاديّة لرياضة الزورخانه، الواقع في "ميدان غار". فوقفت داخل الحلبة، ورحت أتحدّث للجمع عن حالات عشق كلّ واحد من الشهداء، وأثني على والديه، وإذا بي لا إراديًّا أخبرهم عن قصّة "محسن مدني" وتلك الكوفيّة. لم أكن أعرف بأنّ الحاجّ مدني لا يعلم القصّة، فزادت روايتي هذه القصّة هناك على الملأ، من خجلتي.

 

بعد إخلاء الشهداء، رجعتُ برفقة عدد من الإخوة إلى خطّ "بنج ضلعي" (تشمران) الخلفي. عند الفجر، انخفض منسوب الماء. ذهب أصغر برفقة الإخوة إلى خطّ "فاطمة الزهراء" الخلفي. وبقيت أنا في مكان الاستراحة الذي أحدثوه بالقرب من مقرّ التكتيك وجادّة "خرّمشهر" الإسفلتيّة. أدّيت صلاة الصبح، وتمدّدت قليلًا فغلبني النوم من شدّة التعب.

 

فجأةً، استفقت على صوت "محمّد الله صفت" يقول: "سيّد، انهض، واذهب إلى المقرّ، فالحاجّ محمّد يريدك في أمر".

 

نهضت وذهبت مسرعًا إلى مقرّ التكتيك. كان "أكبر عاطفي" يتكلّم بسرعة ويقول: "لقد هجم العراقيّون... جاؤوا... يكادون يسيطرون على الساتر الترابي، ويأخذون الإخوة أسرى..".

 

توجّهت إلى الحاجّ محمّد قائلًا: "ماذا عن قوّات الدعم، يا حاجّ؟".

 

قال: "اتّصلت بـ"رضا يزدي"؛ إنّه يفتّش في كتيبة عمّار عن القوّات ليجمعها، ويتوجّه بها نحو الخطّ الأمامي. لقد ذهبت القوّات في مأذونيّة. ولدينا نقص في العديد".

 

قلت: "وما هو تكليفنا في هذه الحال؟".

- "لا شيء... فقوّاتك قاتلت للتوّ".

 

519

 

 


502

مثلثّ النار والوفاء والشوق

خرجت من عنده، ركبت درّاجة "محمّد الله صفت" الناريّة، ورحت أفتّش عن أصغر و"أمير تشيذري".

 

قرابة الساعة الحادية عشرة صباحًا وصلت إلى خيم الخطّ الخلفي. كان الإخوة نيامًا. أيقظتهم وأمرتهم بالنهوض. جمعتهم حولي وشرحت الوضع لهم قائلًا: "لا مسؤوليّة الآن على أيّ فردٍ منكم. يمكن لكلّ واحد أن يبقى هنا، أو يذهب إلى طهران. لكن هذا ما حصل. شنّ العراقيّون هجومًا، وبقي الإخوة هناك وحيدين. أنا وأصغر وأمير ذاهبون".

 

بعد ساعة، وصل عدد من شاحنات التويوتّا، وامتلأت إلى آخرها.

 

وبينما كان الأشاوس يستعدّون للانطلاق، ذهبت إلى جانب سيّارة التويوتّا، فرأيت شخصًا يضع الكوفيّة على رأسه ويجلس ساكتًا. مددت يدي نحوه لأنظر من هو. فإذا به يمسك بمعصمي ويقول بصوت أجشّ: "سيّد، إنّني مصاب بالزكام...".

 

في تلك الأثناء، ناداني أصغر، وكان واقفًا على مسافة من شاحنة التويوتّا. ذهبت إليه. نظر إليّ أصغر نظرةً فيها غصة وقال: "أتذكر ذلك اليوم حين أتيت إليّ في مستشفى الشفاء وقلت تعالَ لنشكّل معًا كتيبة "ميثم"، فوافقت بكلّ سرور؟!".

 

قلت: "نعم، أذكر".

- أتذكر أنّني اشترطت عليك شرطًا؟

- نعم، كان شرطك...

 

قطع حديثي وتابع: "كان شرطي أن لا يُعلم أبدًا أيّ منّا هو القائد. أتذكر أنّني كنت دومًا طوع أمرك؟".

- أوَيمكن للمرء أن ينسى هذه الأمور؟

 

520

 

 


503

مثلثّ النار والوفاء والشوق

- لقد تكلّمت لمئات المرّات، وأنا استمعت؛ دعني لمرّة واحدة أتكلّم واسمع أنت.

- ولِمَ لا؟ فلطالما استمعتُ لقولك، وكلّ عمل قمت به، كان بمشورتك. فقد كنت دومًا موضع ثقتي.

- أقسم بالله.

- أقسم بالله.

- إن نزلنا الآن إلى المعركة معًا، وأصابنا مكروه، سيختلّ أمر الكتيبة. لقد استُشهد حسين، وذوو الخبرة الباقون قد جُرحوا. ستتشتّت الكتيبة. لا تنزل اليوم إلى الميدان يا أخي.

- لم يكن من المفترض أن تضغط عليّ بهذا الشكل.

- لقد أقسمت بالله.

- حاضر، سأبقى احترامًا لرفقتنا.

 

ذهب أصغر، وركب الجميع في شاحنات التويوتا وانطلقوا. وبينما كانت التويوتّا تبتعد، قال لي أحدهم: "سيّد، أتعلم من هو ذاك الذي كان يضع الكوفيّة على رأسه؟".

- لا.

- إنّه ابن الشيخ "قناعتي". لم يرد أن يتعرّف إليه أحد.

- ولِمَ فعل ذلك يا عمّ؟ إنّه وحيد لأبويه. ما كان ينبغي له أن يذهب.

 

بعد نصف ساعة، ركبت أنا أيضًا درّاجة ناريّة وتوجّهت نحو الخطّ الأمامي، على مقربة من ذلك الساتر الهلالي الذي سيطر عليه الإخوة

 

521

 

 


504

مثلثّ النار والوفاء والشوق

بالأمس واستعادوه. ألقيت الدرّاجة جانبًا. سُمعت أصوات مواجهات عنيفة. قاتل الإخوة ببسالة، فتراجع العراقيّون قليلًا إلى الوراء، فعاد الإخوة واسترجعوا الساتر. كانوا قرابة العشرين نفرًا من شباب كتيبتنا، والرقم ذاته من شباب كتيبة "الشهادة".

 

تقدّمت إلى الأمام، فرأيت أصغر يجري ويقود القوّات بكفاءة عالية: "اذهبوا... ارموا.. التصقوا بالساتر..".

 

كان منهمكًا بشدّة، ما إن رآني حتّى وقف وقال: "ألم تعدني يا سيّد؟".

- وعدي بعدم المجيء كان حینذاك.

 

بقينا لساعتين أو ثلاث في حال كرّ وفرّ. سيطر الإخوة على الساتر، وعزّزوا خطّ دفاعهم، وأحدثوا خطًّا دفاعيًّا. أمّا أنا فوصلت عند نهاية الأمر تقريبًا، ولم أنشغل كثيرًا. كانت النيران تسقط علينا، لكنّها لم تكن شديدة وضاغطة.

 

قال شباب كتيبة الشهادة: إنّ "أصغر أرسنجاني" كان أوّل من هجم. وقد قاتل بنحو جيّد. وإذا ما ثبتنا واستمررنا إلى الغد، ستنزل كتيبة "عمّار" إلى الخطّ الأمامي.

 

كنّا قد سيطرنا على الساتر، وكان الخطّ هادئًا. تمدّد الإخوة بغية الاستراحة، فيما بقيت عين بعضهم على حشود العراقيّين. تمشّيت وأصغر إلى حافّة القناة، تحت السماء السوداء المليئة بالنجوم. توقّفنا في مكان. كنت أرقب السماء وإذا بأصغر يمدّ يده إلى عنقه، يخلع البلاك خاصّته ويأخذه في يده.

 

تعجّبت وقلت: "إِ... ما هذا الذي تفعله يا أصغر؟".

 

قال بحال عجيبة لم أشهدها منه يومًا: "الشهادة أيضًا هي شكل من

 

523

 

 


505

مثلثّ النار والوفاء والشوق

كان نور الصباح ينشقّ، حين رأيت بعض الإخوة يتجهون نحو الخطوط الخلفيّة، وهم خائرو القوى، ممرّغون بالدم والتراب.

- ماذا حصل؟

- العراقيّون، عديمو المروءة، هجموا علينا في الظلمة. وكأنّهم من قوّات الحرس الجمهوري.

 

أشار أحد الإخوة إلى موضع في الساتر الترابي وقال: "الحاجّ أصغر هناك. هو نفسه أمرنا بالانسحاب وقال: "اذهبوا أنتم، فأنا أتصدّى للعراقيّين..".

 

من شدّة محبّتي لأصغر، لم أدع المسكين يتمّ كلامه. هرعت مسرعًا نحو الساتر الذي كان أصغر مرتميًا عليه بشكل جانبي، ويرمي بنيران رشّاشه على العراقيّين. جلست إلى جانبه والتصقت بالساتر، ورحت أرمي برشّاشي نحوهم. نظر إليّ أصغر بطرف عينه وتابع عمله. وقفت على ركبتي وهدّفت. كان الصبح يسفر عن وجهه، وبدأت أرى أطياف العراقيّين. انحنيت للمرّة الثانية مريدًا الإطلاق، وإذا برصاصة تصيب يدي؛ اليد نفسها التي أُصيبت عدّة مرّات من قبل. أحسستُ بنصف بدني قد شُلّ. تركت الرشّاش، تراجعت إلى الخلف واستندت إلى الساتر الترابي.

 

بدأ الدم يتقاطر من يدي. عندها جاء "محمّد قزاقي" وكان طويل القامة عریض المنكبين، يرتدي بزّة مرقّطة.

- "سيّد، منذ ساعة وأنا أبحث عنك".

- "اذهب يا أخي... اذهب إلى أصغر وساعده. فالعراقيّون يحيطون به".

 

الحقّ أنّ "محمّد قزاقي" كان يقاتل لوحده رجلاً بعشرة، وكان منافسًا لمجموعة من العراقيّين.

 

524


506

مثلثّ النار والوفاء والشوق

وقف برشّاشه أمام الأعداء، فذكّرتني قامته الرشيقة بـ"حسين طاهري". فقد كانا يشبهان بعضهما البعض في الطول، وفي القلب، وفي الهدف.

 

نهضت منحنيًا وألقيتُ نظرةً على المكان الذي تموضع فيه أصغر، فلم أجده. وقفتُ وصعدت خطوتين على كتف الساتر، فرأيته قد أُصيب وسقط إلى الجهة الأخرى من الساتر.

 

ازدادت غزارة النيران إلى درجة لم أتمكّن فيها من الوثوب إلى تلك الناحية ومساعدته. سقط أصغر خائر القوى وسلاحه إلى جانبه. فيما سيطر العراقيّون على الساتر الأمامي، فكانوا يعتلونه وينزلون عنه، وهم يهلّلون مسرورين.

 

لا أعلم ما الذي حدث. كنت على مسافة ثلاثين مترًا عن أصغر؛ لكنّ هذه الثلاثين مترًا كأنّها ألف فرسخ بيننا. لم أستطع النهوض والتوجّه إليه. لربّما صارت نفسي أعزّ عليّ في تلك اللحظة!

 

أغمضت عينيّ للحظة وفقدت الوعي. استفقت بعد دقائق. تذكّرت أصغر. نهضت وألقيت نظرة، لم أجده. لم يكن في المكان الذي سقط فيه، ومهما جلتُ بناظريّ لم أره. لربّما أسره العراقيّون، حتّى رشّاشه لم يكن موجودًا.

 

خطر ببالي أنّه قد يكون أُسر، أو أصابته قذيفة مباشرة فتقطّع إربًا وتناثرت أشلاؤه.. ألف فكرة وفكرة خطرت ببالي.

 

عدتُ ونهضتُ ونظرت خلفي، فجأة حفّت شظيّة بجلد رأسي واقتلعته. أحسست بوخز وألم كبيرين، وشعرت بدوار في رأسي وسقطت أرضًا.

 

اختلطت أصوات الناس من حولي ببعضها البعض. كانت جماعة منهم تتكلّم العربيّة بصوت عالٍ وتصيح. شعرت بثقل في رأسي، وصارت

 

525

 

 


507

مثلثّ النار والوفاء والشوق

الأصوات غير واضحة.

 

بعد دقائق، استعدتُ وعيي، فوجدت نفسي إلى جانب القناة.

 

كان العراقيّون يمرّون من جانبي؛ لكنّهم لم يكترثوا لي. فالمواجهات لا تزال قائمة. وهم يحاولون الضغط علينا لنتراجع. أرادوا أخذ بقيّة الساتر الهلالي بعد أن سيطروا عليه. رحت أزحف شيئًا فشيئًا إلى أن وصلت إلى حافّة القناة ونزلت فيها. كانت القناة خالية من المياه، وقد انخفض منسوب المياه فيها وبقي الطين الذي غرقت رجلاي فيه إلى الركبتين. جلست هناك، كان الدم لا يزال ينزف من رأسي، وقد لطّخ وجهي ورقبتي.

 

ألقيت نظرة على المكان من حولي، وأثنيت على عملي في قلبي، فلن يخطر على بال الجنّ حتّى، بأنّ أحدًا داخل القناة. لقد وجدت ملاذًا آمنًا.في تلك الأثناء، التفتّ إلى وجود شخص جالس في الطين على بعد ثلاثين مترًا منّي، ولم تكن معالمه واضحة. أردت أن أناديه، فكّرت أنّه قد يكون عراقيًّا، وحينذاك سنُضطرّ للعراك في الطين. رفعت يدي السالمة وسحبت بعد جهد جهيد منديلي، ووضعته على جرح رأسي. كنت أنظر إلى ذلك الشخص متردّدًا هل أناديه أم لا.

 

من سوء الحظّ أنّني كلّما تحرّكت غرقتُ في الطين أكثر. وقد التصق بيديّ ورجليّ كمادّة لاصقة. في النهاية، خاطرت وناديته: "هاي... من أنت؟ إيراني؟".

 

توجّه إليّ ونادى: "أنا أمير... أمير رحيمي..".

 

فرحت وناديته من جديد: "تعالَ يا أمير... أنا السيّد".

 

راح كلانا يصارع في الطين. كنت أرفع رجلي، فتنغرز في الطين أكثر. بدأت أصلّي على محمّد وآل محمّد، وطلبت المدد من المولى. وشيئًا فشيئًا

 

526

 

 


508

مثلثّ النار والوفاء والشوق

اقتربت من أمير.

 

عندما وصلنا إلى بعضنا البعض، قلت: "أمير، لقد أُصبت... كيف الطريق للخروج من هنا؟ ماذا سنفعل.

 

أجاب أمير: "سيّد، لقد أُصبت برجلي أيضًا. وأنت أنحف منّي وأخفّ وزنًا. إن خلعت سروالك يمكنك الخروج من الطين".

- إنّنا غارقون في الوحل إلى صدورنا، أنّى لي أن أخلع سروالي؟

- يمكن ذلك، عليك بفكّ الحزام والأزرار، فينخلع.

 

استمعت لكلام أمير ونفّذته.

 

قال أمير: "استند بيدك السالمة على كتفي واصعد. اسحب نفسك إلى الأعلى".

 

انحنى أمير وأدنى كتفه، اتّكأت إلى كتفه، ضغطّت بكلّ ما أوتيت من قوّة وسحبت نفسي إلى الأعلى.

 

عمق القناة حوالي المترين. اتّكأت على أمير، وأوصلت أطراف أصابعي إلى حافّة القناة، فسحب أمير سروالي، ونزعه عنّي. أمسكتُ الحافّة بيد واحدة، سحبت نفسي إلى الأعلى، وارتميت أرضًا، غبت لحظات عن الوعي.

 

كانت أصوات العراقيّين تتناهى إلى سمعي. كنت مشوّشًا، إلّا أنّي كنت واثقًا من أنّهم احتلّوا الساتر وأجبرونا على التراجع.

 

تذكّرت أمير العالق في الطين. نهضت وجلست. إلهي، كيف لي أن أسحب أمير ببدنه الضخم ذاك؟ لقد تعاطى أمير معي بشهامة وأخرجني من الطين قبل نفسه.

 

527

 

 


509

مثلثّ النار والوفاء والشوق

ذكرت الله سبحانه وأطلقت صلوات محمّديّة صلى الله عليه وآله وسلم. وقع ناظري على ملابس ممزّقة مرميّة في المكان. لا أعلم إن كانت لعراقيّين أو إيرانيّين. مهما يكن، صففتها على طول بعضها البعض وربطّتها بإحكام، وصنعت منها حبلًا قصيرًا وعريضًا. وبيدي المصابة التي يسري ألمها في تمام بدني كلّ بضع دقائق ربطت طرف ذلك الحبل بمعصم رجلي، وألقيت بالطرف الآخر في القناة وقلت لأمير: "أمير، خذ وتمسّك به".

- أنّى لك أن تسحبني إلى الأعلى بيد واحدة؟

- لا تخف. ربّك هو المساعد.

 

تمدّدت على الأرض بالقرب من حافّة القناة، وتشبّثت بكلّ قوّتي بالتراب.

 

خلع أمير أيضًا سرواله فخفّ وزنه نسبيًّا. وراح يسحب نفسه شيئًا فشيئًا إلى الأعلى. كنت أنزلق بجسدي الممدّد على التراب وأشعر بألم كبير. كان أمير ثقيل الوزن، فسحبني باتّجاه القناة، وكدت أسقط فيها من جديد؛ إلّا أنّ أمير بالنهاية، أوصل نفسه إلى حافّة القناة. تمدّدنا على حافّة القناة، وكان كلانا مصابًا ملطّخًا بالدماء والتراب.

 

وعلى ما يبدو أنّنا غبنا عن الوعي لدقائق ولم نعِ ما يجري حولنا.

 

شيئًا فشيئًا استعدنا أنفاسنا. نهضنا بظهرين منحنيين. لا أعلم كم ساعة بقينا في القناة.

 

خمّنّا بأنّ "توك مدادي" خلفنا وأنّنا نقع إلى ناحية خطّ دفاعنا؛ أي أنّنا بعيدون عن الساتر الهلالي. شكرنا الله أنّنا لم نكن في مرمى النيران.

 

كانت حولنا بعض الجثث المتساقطة. حينما استعدت تركيزي، تذكّرت أصغر. رجعت ورحت أفتّش عن المكان الذي رأيته فيه للمرّة الأخيرة، لكنّني لم أستطع تحديد الجهة. كان قلبي عنده. تمنّيت لو أنّ ذرّة طاقة

 

528

 


510

مثلثّ النار والوفاء والشوق

وقوّة بقيت فيّ، لأفتّش عنه وأعثر على جثمانه بالحدّ الأدنى؛ لكن وا أسفاه، وألف وا أسفاه...

 

لم تؤاتِ العراقيين الفرصة لسحب جثث قتلاهم. فبقي أكثرهم في أرض المعركة. وكذا شهداؤنا، لكنّ الأمر قد أُفلت من أيدينا، ولم يبقَ أحد لينقلهم إلى الخطوط الخلفيّة.

 

قال أمير: "لن أستطيع المشي".

 

جثا على ركبتيه وزحف عليهما بضع خطوات وراح يتقدّم بهذه الطريقة.

 

قلت: "أمامنا ما بين الكيلومترين والثلاثة كيلومترات للوصول إلى الخطّ الخلفي. لا يمكنك الذهاب بهذه الطريقة".

 

وضعت يدي تحت إبطيه وساعدته على النهوض.

 

استند كلّ واحد منّا على الآخر. اتّكأ هو على يدي السالمة وساعدته، وسرنا ونحن نعرج نحو الخطوط الخلفيّة.

 

مع طلوع النهار، وجدنا أنفسنا على مقربة من خطّ "فاطمة الزهراء" الخلفي.

 

لم يعد بنا طاقة على المشي. ألقينا بأنفسنا إلى الأرض، وكنّا كإنسان مشرف على الموت نذكر الله تعالى ونئنّ.

 

ظهرت من البعيد سيّارة تويوتّا. كانت تسير بسرعة فتثير الغبار والتراب من حولها. ما إن رآنا حتّى كبس على المكابح.

 

قفز السائق من السيّارة، وتناول جعبة الماء وراح يسقينا.

 

قال: أنا من فرقة "ثار الله". وأركبنا في صندوق الشاحنة وانطلق بنا نحو

 

529


511

مثلثّ النار والوفاء والشوق

المستشفى الميداني. وهناك على سرير المستشفى غلبني النعاس ولم أستيقظ إلّا على صوت المؤذّن يؤذّن لأذان المغرب. فرأيتُني أرتدي سروالًا داخليًّا لا غير. كان كلّ جزء من أجزاء بدني منهكًا، وما زلت متعبًا.

 

سألت أحدهم: "أين أنا؟".

 

قال: "في مستشفى الإمام الحسين عليه السلام، على بعد أربعين كيلومترًا من الأهواز".

 

بتّ تلك الليلة في المستشفى الميداني.

 

في الصباح جاء أمير وقال: "أنا عائد إلى الخطوط الأماميّة".

 

أما أنا فضمّدوا جراحي، وخاطوا لي شقّ رأسي. كما ضمّدوا لي يدي وقالوا: "عليك أن تذهب إلى الأهواز وتخضع هناك لصورة شعاعيّة، ليتّضح أين استقرّت الشظيّة أو الرصاصة.

 

وقد تورّمت يدي فأصبحت مثل المخدّة.

 

قلت: "أنا المسؤول؛ ولا وقت لديّ للدواء والعلاج. وكتيبتي مضطربة وحيرى في الخطوط الأماميّة. عليّ أن أعود".

 

استعرنا لباسين رماديّين من المستشفى وارتديناهما.

 

جاءت سيّارة إسعاف ونقلتني وأمير إلى المقرّ، عند الحاجّ محمّد.

 

التقيناه، فساد جوّ من الفرح والمحبّة، واطمأننّا إلى أحوال بعضنا البعض، وقدّم لنا عصير الفاكهة.

 

قصصت للحاجّ محمّد حكاية شهادة أصغر. فحزن كثيرًا؛ إلّا أنّ فكره كان في العمليّات. قال: "لقد وصلت كتيبة "عمّار"، وقامت بمهمّة الدفاع. وقد خسرنا ساترًا أو ساترين هلاليّين. إلّا أنّ كتيبة "عمّار" قد أحكمت

 

530

 


512

مثلثّ النار والوفاء والشوق

الخطّ خلفهما. فطلبت ممّن تبقّى منها أن ينسحبوا".

 

أوصلنا أحد شباب تخطيط العمليّات بسيّارة تويوتّا إلى خطّ "تشمران" الخلفي. وكان هناك عدد من شباب كتيبة ميثم، حائرين لا يعرفون ما يصنعون.

 

جمعتهم ونقلتهم في سيّارة تويوتّا إلى مخيّم "كرخه". بقينا بعد العمليّات عشرة أشخاص من طاقم الكتيبة، وبعض عناصر الحرس الرسميّين الذين أظهروا شهامة عالية وبقوا.

 

وهناك قمت بتسوية حساب بعض الشباب وأرسلتهم إلى ديارهم. بقينا نحن العشرة أشخاص في خيمة خالية. ومن جديد عدت للوحدة ولبيت الأحزان! تذكّرت شباب زقاقنا. وكم من الخطط رُسمت ليبقى ذلك الزقاق زقاقًا.

 

ابن السيّدة "أقدس"، وابن السيّدة "زهراء". ماذا سأجيب هاتين السيّدتين؟ كان الجميع يأملون بي. تذكّرت أصغر رفيق روحي. كيف سأجد جثّة أصغر التي بقيت في مكانها؟ وكيف سأصنع في غمّ فراق أصغر؟ ماذا سأقول لعائلته وأمّه؟ فأصغر صديقي الحميم والمكمّل لي. وقد تركته في منتصف الطريق، ومع كلّ ذلك الذكاء لم أعثر على أثر له.

 

كنت أتحطّم تحت ثقل هذا الضغط، وأتلظّى بلوعتي. لم أعد أحتمل. كنت كأب أضاع أولاده. أصبحت كالمجنون، ضربت رأسي بعمود الخيمة. وددت لو أنّي استُشهدت أو أُسرت ولم أرَ هذه الخيم الخالية. الله أكبر على هذا الغمّ والهجر!

 

بقينا أسبوعًا في الخيم وفي حال يُرثى لها، وفي ذروة الجنون. كنّا نجتمع ونبكي لذكرى الرفاق. نبكي ونبكي ليس إلّا..

 

يعلم الله كم أحببتُ هؤلاء الشباب حبًّا لم أشعر بمثله في حياتي. فحين عُيّنت قائدًا، تعلّقت بالإخوة بشكل عجيب. وكمن فقد شيئًا، رحت أبحث في الخيم خيمة خيمة وأفتّش عن شباب "ميثم". لم أكن عارفًا،

 

531

 


513

مثلثّ النار والوفاء والشوق

لكنّني كنت عاشقًا. كانت أجواء "ميثم" تأخذني معها، وصفاؤها يغرقني فيه؛ ساد جوّ من العشق والمعنويّة. لقد شكّلنا الكتيبة وأردنا أن لا تنقص شعرة من شعر أحد العناصر.

لكنّ الحرب لا تعرف المزاح مع أحد، وحين تقع، لا تميّز بين "ميثم" وغيرها. كنت أتذكّر الإخوة واحدًا واحدًا، فيشتعل قلبي نارًا. كل من بقي حيًّا هناك، كان يحترق بغمّه. لقد أتينا إلى الجبهة لنقطع تعلّقنا بالدنيا، فتعلّقنا بالأصدقاء والرفاق!

 

تذكّرت أصغر حين كان يقول: "أترى هؤلاء الشباب؟ هؤلاء إمّا أن يُستشهدوا أو يبقوا أحياء. فلا نقومنّ بعمل يؤدّي فيما بعد، إذا ما انتهت الحرب، إلى الإعراض بوجوههم عنّا إذا ما صادف والتقينا بهم في أحد شوارع طهران. فإن لم نحلّ لهم مشاكلهم، فلنسعَ بالحدّ الأدنى إلى أن لا نضيف مشاكل إلى مشاكلهم ".

 

وتذكّرته حين قال يومًا: "أنا لا أستبدل بعشق الامام الحسين عليه السلام زعامة العالم كلّه".

 

ولم يفعل، وحقّق أمنيته التي لطالما تمنّاها، وكان لائقًا بها.

 

تحسّرت لِمَ لم أستطع أن أكون كأصغر. لقد تخلّى عن كلّ شيء. ولم يأسره شيء. من أجل ذلك اشتراه الله سبحانه، فكانت الشهادة من نصيبه.

 

بعد أيّام، أُبلغنا بأنّ الشيخ هاشمي قد حضر إلى مبنى الغولف بهدف لقاء القادة.

 

ذهبت إلى ذلك اللقاء. حضر حينها كلّ من بقي من الإخوة القادة حيًّا، فجلسوا أرضًا وتحلّقوا في حلقة دائريّة حول الشيخ هاشمي الذي جلس بدوره على الأرض.

 

532

 

 


514

مثلثّ النار والوفاء والشوق

بدأنا بالتعريف عن أنفسنا بالدور؛

 

رضا يزدي، قائد كتيبة عمّار؛ نصرت غريب، كتيبة سلمان؛ محمود أميني، كتيبة حمزة؛ حسن محقّق، حبيب؛ صالحي، مالك؛ جعفر محتشم، أنصار الرسول و... حين تمّ التعارف، نظر الشيخ هاشمي إلى الإخوة، ومن ثمّ توجّه إلى الحاجّ محمّد قائلًا: "اتركنا قليلًا... لربّما يريد هؤلاء أن يقولوا لنا شيئًا، ولا يستطيعون البوح به في وجودكم".

 

قام الحاجّ كوثري من مكانه وخرج من دون أن ينبس ببنت شفة. بعدها راح الشيخ هاشمي يخاطب الإخوة وقد حفظ أسماءهم: "حسنًا، سيّد يزدي، قائد كتيبة عمّار، قل ما عندك؟ .... وأنت يا سيّد، قائد كتيبة ميثم، ماذا عندك؟ ...

 

ذكر جميع أسماء الإخوة والكتائب التي يقودونها بنحو صحيح. فقد كان متوقّد الذكاء.

 

تحدّثت بدوري عن عمليّات كتيبة ميثم، وما كان ينقصها. عن اللا عدل، وعدم التنظيم والتقصير.

 

قال: "أنا أعلم عمّا تتكلّم؛ صحيح ما تقول، لكن لا سبيل أمامنا سوى القتال. إمّا أن نستسلم، أو نقاتل ونأخذ من العدوّ موطئ قدم. إنّ العالم كلّه يقف إلى جانب العدوّ. وقد حظروا علينا شراء السلاح. كلامك صحيح؛ لكنّ معلوماتك ناقصة. يجب أن تكون لدينا ورقة رابحة في هذه المعادلة..".

 

كان لديّ الكثير من الكلام الذي أردت قوله. فكّرت بأنّ اللقاء بالشيخ هاشمي يختلف عن لقاء الباقين. فهو يعرف عمله، ومنفتح الفكر، ويتفهّم المجاهدين وما يقولونه.

 

533

 


515

مثلثّ النار والوفاء والشوق

أردت أن أطلب منه أن يأتي ولو لمرّة واحدة ويستمع لكلام المجاهدين مباشرة. أن أسأله: لِمَ لا تقدّمون الإمكانات للمجاهدين؟ لماذا في كلّ مرّة نأتي لنتكلّم، لا تسمحون بذلك؟

 

كان لديّ الكثير؛ لكنّني لم أستطع الإفصاح عنه، وبقي كلّه في قلبي.

 

نقلنا الخيم والمتاع إلى "دوكوهه"، ومن ثمّ عدنا إلى طهران.

 

534

 


516

قعر القدر لذيذ

قعر القدر لذيذ

 

"يا جليس الروح الذي نسيت رفاقك.."

 

انشغلت ما بين العشرة والاثني عشر يومًا في متابعة العلاج. في البداية، لم أكن أستطيع ركوب الدرّاجة الناريّة. فإن أردت الذهاب إلى أيّ مكان، كنت إمّا أذهب ماشيًا، أو كان الرفاق يأتون وينقلوني بالسيّارة. شيئًا فشيئًا تحسّنت أحوالي، والتأمت جراحي، فتمكّنت من متابعة أمور شهداء ميثم على الدرّاجة الناريّة. أجريت إحصاءً للشهداء والجرحى، ولمن تُركت أجسادهم في أرض المعركة.

 

بحثت عن حسين إسماعيلي، فعلمت أنّه يرقد في مستشفى "بقيّة الله". في تلك الفترة، ذهبت مرّتين لعيادته برفقة علي برادران. بعدها لم أره إلّا قليلًا. سمعت فيما بعد أنّه كان يسعى وراء عمله في نقل الركّاب والمسافرين. ومرّة سمعت أنّه يمضي أيّامه في بيع السجائر. فكّرت دومًا فيه. لكنّ الزمان لم يسمح لنا بالمقابلة. كان هذا مصير أسد "شلمتشه"، وبطل معركة "كربلاء 8 و5".

 

قرّرت أن أقيم بمساعدة الرفاق مجلس فاتحة عن أرواح شهداء كتيبة "ميثم". دعونا عوائل الشهداء وأقمنا مجلسًا مهيبًا في مسجد "صدريّة".

 

535

 

 


517

قعر القدر لذيذ

كان قد مضى خمسة وعشرون يومًا على العمليّات، ولم تزل المصائب حديثة العهد. وقد التأمت جراح بدني، إلّا أنّ جراح القلب لم تلتئم. بل غدت تنفتح من جديد كلّما التقيت بأحد الرفاق. لم تكن تغيب عن بالي تلك البطولات والتضحيات. كانت حرب الحقّ والباطل. وقد جسّدت جميع الكتائب شجاعة كبيرة، حين صمدت بوجه ذلك الجحيم الذي صنعه العراقيّون.

 

بقي جثمان علي أصغر في "شلمتشه". وبالالتفات إلى وضعيّة العمليّات والمنطقة، كان بقاؤه حيًّا من سابع المستحيلات. لهذا، أقمنا حينها مجلس عزاء عن روحه في مسجد محمّديّة، تحدّث فيه السيّد علي. وأقمنا لـ"رضا مير كمالي" مجلس فاتحة أيضًا في "باغ بيسيم". كما التحق تعبويّا مسجد محلّتنا "رضا بور" و"دهقاني" بجوار الحقّ. ولم يعد من أجساد الشهداء سوى جسد "السيّد حسين كاظمي" ابن أخي الذي كان شابًّا قويًّا وغيورًا، وبناءً على التكليف، انسلخ عن الحياة المرفّهة، وسلّم القلب لله؛ مع أنّ الكثير في ذلك الزمان كانوا من قساة القلوب، ولم تترك شهادته أيّ أثر في قلوبهم. ولقد سلبتنا "شلمتشه" اثنين من الأقارب هما، السيّد "مصطفى هاديان" من كتيبة "عمّار"، والسيّد "إبراهيم شاه مرادي" من كتيبة "مالك"، ومنحت العائلة فخرًا أبديًّا.

 

على أيّ حال، كنت كلّما التقيت بواحد من قوّات ميثم، سألني: متى سنعود إلى الجبهة؟

 

كانوا يظهرون لطفًا ومحبّةً، ويقولون: نحن جاهزون، في أيّ وقت تأمر.

 

بعد انتهاء مراسم التعزية بالشهداء، علمت عن طريق شباب الفرقة، بأنّه تقرّر أن تقوم الفرقة بالعمليّات في المناطق الغربيّة. كانت ليلة

 

536

 

 


518

قعر القدر لذيذ

الذكرى السنويّة لشهادة الشهيد "جعفر جنك روي"، فحضر معظم شباب كتيبة ميثم. وهناك بلّغتهم بأنّ كلّ من يريد الذهاب إلى الجبهة، فإنّ الفرقة تستقرّ في مخيم "كوزران".

 

في أواسط شهر تمّوز من العام 1987م، مضيت أنا أيضًا إلى مخيّم "كوزران"، وجمعت قوّات ميثم التي أصبحت سريّتين؛ سريّة "البقيع" وسريّة "فدك". تدريجيًّا ازداد عدد القوّات. فأعيد تشكيل سريّة "نينوى".ووصل عدد القوّات إلى مائتي عنصر. أقيمت في "كوزران" دورة في التدريب العسكريّ. فكان يقوم بتدريب القوّات كلّ من "أمير تشیذري" و"قاسم كارکر" و"محمّد جعفري". وغالبًا ما كان التدريب يشمل الأفراد الملتحقين بالجبهة حديثًا. أمّا أنا فكنت صلة الوصل بينهم وبين الفرقة، ولا دخل لي في البرامج الصباحيّة ولا في التدريب.

 

هذا وقد أُقيم مقرّ التكتيك على سفح جبل. وكان مسؤولي هذه المرّة أيضًا الحاجّ محمّد كوثري.

 

ذات يوم ذهبت إلى الحاجّ محمّد، وبعد التحيّة والسلام والسؤال عن الأحوال، قال: "ما الأخبار؟".

 

قلت: "جاء ذلك اليوم الذي وعدتك به، فقد حضرت سريّتان؛ يبلغ عدد كلّ منهما مائة عنصر..".

 

نهض الحاجّ محمّد من مكانه وتوجّه نحو جهاز اللاسلكي، قال أشياء، ثم رجع وجلس إليّ.

 

تابعت قائلًا: "وسريّة نينوى أصبحت مستعدّة أيضًا..".

 

ومرّة أخرى، نهض وتوجّه نحو الجهاز، ومن ثمّ عاد بعد عدّة دقائق وقال:"سيّد، جهّز كتيبتك؛ عليكم أن تذهبوا للدفاع".

 

 

537


519

قعر القدر لذيذ

- أين؟

- شلمتشه.

- يا حاجّي العزيز، أين سنذهب؟ أَوَلم تقل إنّنا نريد القيام بعمليّات في غرب البلاد؟ لقد ذهبت وجهّزت القوّات. وهؤلاء أيضًا عملوا على أنفسهم، وتدرّبوا للعمليّات. الكثيرون منهم لم يكونوا يريدون المجيء، فجراحهم لم تلتئم كفاية. والآن حين أتوا أراك تتشدّد في معاملتنا؟

- عدنا إلى المشاكسة مجدّدًا.

- أَوَلم تعدني، ينبغي أن تبقى عند كلامك. لن يمضي أحد من هؤلاء الأفراد الذين جمعتهم إلى الدفاع. إن كنت جادًّا فيما تقوله، اجمع عددًا من عناصر الحرس الرسميّين، وشكّل منهم كتيبة وأرسلها للدفاع.

- أنا مرّة أقول هناك عمليّات، ومرّة أقول ليس هناك عمليّات، هل عدت لتثير تلك المشاكل من جديد؟ عجبًا!

- لا عجبًا ولا شيء آخر يا أخي! فقوّاتي قوّات صلبة، خبرت الحرب جيّدًا، ولا يسعون لفرض أنفسهم على أحد، لقد جاؤوا من أجل العمليّات. أين أذهب بعناصري التعبويّة المتلاشية في هذا الجوّ الحارّ؟ وأين آخذهم عندما لا يكون هناك مواجهات ويكون الوضع هادئًا في [خطوط] الدفاع؟ فأيّام خطوط الدفاع مثل السجن، ونهاراتها اللعينة طويلة جدًّا، تشعر الإنسان بالملل. ويتحتّم علينا أثناء وجود الشمس والنهارات الطويلة التكوّم في الدشم إلى الليل. إنّه لأمر متعب، يتلف أعصاب العناصر. والكثير من قوّاتي، كانوا في عداد عناصر معلومات العمليّات. في لواء الحرّ..".

 

سكت الحاجّ محمّد لبرهة ثمّ قال: "سيّد، لِمَ طباعك مختلفة عن الآخرين؟ أما من ضوابط تحكمك يا رجل؟".

 

 

538

 

 


520

قعر القدر لذيذ

وحتّى لا نبتعد كثيرًا عن أصل الموضوع! لم يبقَ إلّا أن نتعلّق بثياب بعضنا البعض! بقينا نتجادل لساعة أو ساعتين، إلى أن خرجت من المقرّ متلف الأعصاب ومن دون وداع.

 

تبعني ثلاثة من الإخوة، فركبنا سيّارة تويوتّا وتوجّهنا نحو "كوزران" لنتناول وجبة من الطعام. اجتمع الشباب حولي، وراحوا يمزحون ويمرحون ليخفّفوا عنّي.

 

وجدنا محلًّا يشوي الكبد، فدخلنا وطلبنا أربعة عشر سيخًا من الكبد، وأربعة عشر سيخًا من القلب، وأربعة عشر سيخًا من الكلية.

 

أعدّ لنا الطاهي حوالي الثلاثين سيخًا، وتوجّه إلينا قائلًا: "أين تذهبون بهذه يا عمّ؟

 

قلت: "إنّه لإفحام أحدهم، نتشارط لنرى من هو الأسرع والأمهر في الأكل".

 

بعد ذلك، سبحنا في النهر وعدنا مع غروب الشمس إلى الكتيبة.

 

في اليوم التالي، جاء إليّ مسؤول مقرّ الفرقة "جواد حكمي"، وكان إنسانًا هادئًا حسن التعاطي، فأخذني جانبًا وقال: "أنا أتفهّمك يا سيّد، كما أعرف هؤلاء. لكنّ الحاجّ محمّد مصرّ على رأيه ويقول: ها هو السيّد يقف في وجهي من جديد؛ ولا يدعني أقوم بعملي. ينبغي أن يرحل من الفرقة. لا يصحّ أن يعارضني في كلّ شيء أقوله. أمام السيّد خياران: إمّا أن يطيع الأوامر، أو..".

 

قلت: "تلك الأخيرة أفضل يا أخي... على بركة الله! لقد أتيت إلى الجبهة من أجل الحقّ، ولا أستسيغ الكلام غير المحقّ؛ لأنّني لم ولن أخضع يومًا لأحد".

 

جمعت العناصر وقلت لهم: "أنا ذاهب أيّها الإخوة إلى طهران".

 

539

 


521

مثلثّ النار والوفاء والشوق

عدت فعلًا إلى طهران مع عدد من الإخوة. أثناء الطريق، رحت أمازح الإخوة وأضحك، لكنّها كانت ضحكات ظاهريّة. غرقت في التفكير. من ناحية قلت إنّ الحاجّ محمّد محقّ، ولربّما كان موضع مساءلة بعد "كربلاء 5".. من غير الصحيح أن أعارضه في كلّ ما يقوله! من جهتي كنت أحترم الحاجّ محمّد كثيرًا؛ فهو كان رجل الميدان، ولم يعرف طعم الاستراحة والاسترخاء في بيته وطعم الحديث مع عائلته. كان دائمًا في العمل. ومن ناحية أخرى، فمن المؤسف لهؤلاء العناصر أن نستهلكهم في [خطّ] الدفاع. وهذا مثله مثل أن تأتي بجرّافة وتضعها في قرية غير صالحة للزراعة. لربّما كان السبب وراء إصرار الحاجّ على رأيه، هو أنّه لو وقف الجميع بوجهه كما فعلت، لخرجت الأمور عن السيطرة، ولم تسر الأعمال قدمًا...

 

وبينما كنت كذلك، قطع عليّ أحد الإخوة تفكيري قائلًا: "سيّد، لا تغتمّ".

 

قلت: "خيرًا إن شاء الله... المهمّ أن تبقى راية ديننا مرفوعة. وهذه هي سنّة رفاقنا. فعندما تطلّب الأمر الوقوف بصدورنا العارية أمام الرصاص، فعلنا كلّ شيء؛ أمّا الآن...

 

عدت إلى طهران. وبعد مدّة سمعت من الإخوة بأنّ كتيبة "ميثم" قد دُمجت بكتيبة "المقداد". وصار بعض العناصر الشجعان الذين كانوا في كتيبة "ميثم" قادة كتائب أو سرايا.

 

في تلك الفترة، حدث أيضًا حادث مهمّ آخر لشباب "طهران": فقد اختلّ وضع فرقتهم كثيرًا، فعمد الكثير من العناصر إلى تصفية حساباتهم وعادوا إلى طهران.

 

ذات يوم، جاء إليّ "حسين الله كرم" وقال: "لقد طلب منّا السيّد "شمخاني" بأن نشكّل لواءً عمليّاتيًّا مهمًّا من شباب طهران. ما رأيك؟ وماذا سنسمّي هذا اللواء؟".

 

540


522

قعر القدر لذيذ

- لقد راقتني الفكرة. حسنًا، فلنسمّه لواء "الزهراء".

بفضل الله، تأمّن المكان. أحضرنا السيّد علي إلى قاعدة "ولي عصر" وأقمنا مجالس العزاء لخمسة أيّام. فأبدع السيّد علي حينذاك. وقد حضرت كلّ الوجوه القديمة في كتيبة "ميثم" ولواء "الحرّ". فأُقيم مجلس العشق من جديد.

 

أمضت القوّات الجديدة تدريباتها في غابات ومرتفعات "سرخه حصار".وكانت المنطقة في السابق مكانًا يمارس فيه الشاه هواية الصيد؛ لذا امتلأت بحيوانات كالغزلان، والنعاج والظباء. وكانت هناك بركة ماء، ترد إليها الغزلان في ساعة الخلوة لتشرب الماء. فصرنا نحن نكمن أيضًا، وعندما يطلق الصيّادون القرويّون النار على الغزلان، نسارع في الذهاب إليها بسيّارات التدريب، فنحضرها، ونذبحها، نقيم حفل شواء عليها.

 

رأى السيّد شمخاني أنّ المصلحة تقتضي دمج لواء "الزهراء" بفرقة "الرسول" صلى الله عليه وآله وسلم. لذا وضع يد "حسين الله كرم" بيد الحاجّ "محمّد كوثري" وقال: "اذهبا واجلسا ورتّبا الأمر فيما بينكما".

 

بعد أيّام عدّة، جاء الحاجّ حسين من أجل تشكيل الفرقة، وأخبر الإخوة بأنّه تمّ دمجهم بالفرقة 27، وأنّه أصبح هو نائب مسؤول "الفرقة 27".

 

وقد وعدني الحاجّ حسين بأنّه سيمكننا إعادة تشكيل كتيبة "ميثم"، بعد القيام بالعمليّات الأولى.

 

بعد عمليّات (بيت المقدس 2) التي أُقيمت في مرتفعات "ماووت"، والتي كنت فيها من المخطّطين، عدت إلى طهران. وقلّما ذهبت بعدها إلى الجبهة، ذلك أنّ الأعمال كانت جامدة وغير فعّالة.

 

وقد ترك حسين الفرقة لأسباب محدّدة، ولم أتواءم مع الآخرين، ولم أستطع قبول مسؤوليّة ما؛ لكنّني بقيت أتواصل دومًا مع أصدقائي

 

541


523

قعر القدر لذيذ

المجاهدين. وقد أصبح رفاقي القدامى قادة، فصاروا ينقلون لي الأخبار.

 

في أواسط تمّوز من العام 1988م، وبينما كنت جالسًا في المنزل، سمعت عبر الإذاعة بأنّ الإمام وافق على القرار 598، وبأنّ الحرب ستتوقّف نوعًا ما. وعلى ما يبدو كانوا يريدون التوصّل إلى تفاهم مع العراق. صُدمت كثيرًا لهذا الخبر، وتسمّرت في مكاني. لم أكن أتوقّع سماعه أبدًا. ذهبت إلى مسجد المحلّة فرأيت الشباب جالسين هناك يبكون.

 

وعلى الرغم من انزعاجي الكبير قلت: "إنّكم لا تعرفون القضيّة من جانبها الآخر. لربّما كان السبب هو الوضع الاقتصادي وما شابهه!".

 

قال الإخوة: "كان يمكنهم القيام بالصلح قبل هذا..".

 

في تلك اللحظة، مرّت أمام ناظري كلّ أيّام الحرب القاسية، ذكرى جميع رفاقي الذين فقدتهم، كشريط مصوّر، فردّدت لا شعوريًّا هذا البيت من الشعر:

ألا يا جليس الروح الذي نسيت رفاقك

                               لا قدّر الله أن يأتي يوم أنساك فيه

 

أحسست بأوجاع وآلام المجاهدين، الجرحى، جرحى البدن والروح، عوائل الشهداء ومفقودي الأثر. جلست إلى جانب رفاقي الخائبين ورحت أفرّغ ما يعتمل من أسى في قلبي. كانت تلك أيّامًا عصيبة...

 

مضت مدّة حتّى تحسّنت حالي النفسيّة قليلًا. ذات يوم، ذهبت إلى قاعدة مالك الأشتر حاملًا رسالة معي إلى مكتب رئاسة الجمهوريّة. أردت أن أعود إلى العمل وأتابع حياتي.

 

استلموا الرسالة منّي، وقالوا: نردّ عليك فيما بعد.

 

542

 

 


524

قعر القدر لذيذ

بعد أيّام، وردني اتّصال هاتفيّ يستدعونني فيه. ذهبت إلى مكتب التوظيف والقبول. كان يجلس هناك اثنان أو ثلاثة من السادة الأنيقين المرتّبين؛ من أولئك الأشخاص الذين لم تطأ أرجلهم حتّى الأهواز.

 

وعلى اسم الله بدأوا بسيل من الأسئلة:

"في أيّ منطقة خدمت؟ وما كانت مهمّتك؟".

 

وشرعت بدوري بالحديث فقلت: "لم أكن في أيّ مكان. طُعنت بسكّين. وقد حصلت على هذه الرسالة بواسطة أحد المعارف".

 

قالوا: "لِمَ تغمز من قناتنا؟".

 

قلت: "يا أخي، عندما يكون مكتوبًا في ملفّي بأنّني خدمت 78 شهرًا في الجبهة، فهذا يعني أنّني كنت هناك حتمًا. فإن قلت لك الآن بأنّي خدمت في "بند بیر علي" فهل ستعرف أين هي؟".

- لا.

- وهل تعلم أين تقع "كاني سخت"، و"شلمتشه" و"علي کره زد"؟

- لا، لا، لا أعرف.

 

بهتوا، ورضخوا بشكل ما وقالوا: "تعالَ في الغد وباشر العمل".

 

كان الحصول على عمل مهمًّا بالنسبة لي؛ لكنّ الأهمّ من الشغل كان حرّيّتي. ولأنيّ كنت عنصر احتياط، لم أحصل على حكم بتسريحي من الخدمة، واجهتُ مشاكل كثيرة، إلّا أنّي لم أكن أستطيع العيش ضمن أطر وقيود. لم أكن أستطيع الذهاب في الصباح الباكر والجلوس كالمؤدّبين خلف المكتب، وأعود في آخر الوقت إلى البيت. سعيتُ إلى فرض نفسي في عمل ما، في مكان أحصّل فيه رزقي، وأنصرف من ثمّ إلى نشاطات

 

543

 

 


525

قعر القدر لذيذ

الهيئة ورياضة "الزورخانه" وزيارة عوائل الشهداء والالتقاء بالرفاق. كانت الأولويّة لهذه الأمور بالنسبة لي. لذا طلبت منهم أن يرسلوني إلى قسم النقل في رئاسة الوزراء.

 

قالوا: اذهب إلى مركز رئاسة الجمهوريّة رقم 2، في شارع الحرس.

 

صباح اليوم الأوّل، ارتديت ملابسي لأذهب إلى العمل، وكان ذلك في أواخر شهر تمّوز. فإذا بأحد الرفاق يتّصل بي ويقول إنّ المنافقين قد هجموا من الناحية الجنوبيّة والغربيّة للبلاد، وقد احتلّوا "إسلام آباد" و"كرند"، وهم يتّجهون الآن نحو "كرمانشاه". فإن كنت راغبًا بالمجيء، فالحق بنا. بعد ظهر ذلك اليوم نفسه، أخذت "محمود طاهر أفشار" و"علي برادران" و"محمود عطايي" بلباسهم المدني من أمام المسجد، وانطلقنا بواسطة سيّارة "لاند روفر"، نحو "إسلام آباد" فوصلنا بعد ظهر اليوم التالي إلى مقرّ الكتائب فيها.

 

قال الإخوة: لقد بدأت عمليّات الثالث من مرداد [ـ25 تموز]، فاحتلّ المنافقون "إسلام آباد"، وكانوا واثقين من عملهم بحيث إنّهم عمدوا إلى إرسال قوّاتهم إلى المدينة ليلًا بغية الاستطلاع.

 

وصلنا في الليلة الرابعة للعمليّات تقريبًا. كانت كتائب "حمزة" و"المقداد" و"مسلم" تقوم بالإنزال.

 

قال الإخوة: اصبروا، فعند الخامسة بعد الظهر ستنطلق طائرتا هليكوبتر إلى هناك، فتذهبوا فيهما.

 

في تلك المدّة، قمنا بجولة، والتقينا بشباب كتيبة "ميثم" القدامى، الذين أصبح معظمهم مسؤولي سرايا.

 

عند الغروب، نفد صبرنا لم تصل الطائرة المروحيّة، فمضينا بسيّارة

 

 

 

544


526

قعر القدر لذيذ

الـ"لاند روفر" ومن خلال السؤال والاستدلال وصلنا إلى مثلّث "إسلام آباد".

 

التقيت في تلك الليلة "سراج" وكان قد أصبح قائد كتيبة "المقداد"، وأصبح "أمير تشیذري" معاونه.

 

أمّا "محمود أميني" فكان قائد اللواء، ويدير بنفسه العمليّات. كما رأيت من البعيد الحاجّ "محمّد كوثري"، لكنّني لم أذهب إليه لأنّه كان مشغولًا بالحديث مع أحدهم.

 

استقررت ورفاقي في كتيبة "مسلم"، وكان قائدها "قاسم كارکر" ومعاونه "منصور بور" الذي كان شابًّا بسيطًا ذا معرفة، يعمل بصمت ومن دون كلام عمّا يجري من حوله. ومن بين الأصدقاء الذين كان لي شرف العمل تحت لوائهم في تلك العمليّات يمكن أن أذكر مسؤول السريّة عباس مقدسي، حجّت عالي، علي فخار الذي كان أيضًا مسؤول سريّة. كاظم مقصودي، عبّاس غفّاري، سعيد صفاري، رضا جمشيدي، مجيد طلا، زجاجي، عطا بحيرايي، علي عبد الملكي، وعباس خورشيدي.

 

أثناء المسير في الطابور، رأيت أحدهم يعتمر خوذة ويدير ظهره لي. سألني أحد الإخوة: "سيّد، أتعلم من هو ذاك الذي يعتمر خوذة؟".

- لا.

- إنّه غلام علي رجبي.

 

سُررت كثيرًا. فقد كان غلام علي رجبي مدّاحًا لأهل البيت عليهم السلام وشاعرًا، وأكنّ له مودّة خاصّة. كان صوته الجذّاب وأشعاره التي قلّ نظيرها لا يزالان يتردّدان في سمعي، وما زلت أذكرهما إلى الآن. ناديته. التفت إليّ ولوّح لي بيده وضحك. قلتُ بصوت عالٍ: "أهلًا وسهلًا بك، لكن لِمَ تأخّرت في الوصول؟".

 

545

 

 


527

قعر القدر لذيذ

أجاب : "نفسي فداء لك ولجدّتك الزهراء. فقعر القِدر لذيذ؛ وقد أتيت متأخّرًا لآكل من قعر القِدر".

 

أخيرًا، سرنا في الطابور. فانطلقنا من مثلّث "إسلام آباد" نحو الشرق، ومن ثمّ وصلنا إلى تلّة قليلة الارتفاع. أرسلنا فصيلًا إلى التلّة، وشكّلنا نحن خطّ دفاع هناك. في تلك الناحية، يقع جبل "قلاجه" الوعر، والسهل الواسع الذي تقع إلى الجنوب منه "حسن آباد" و"تشارزبر"، وكانت ذروة المواجهات مع المنافقين إلى حينها، في مضيق "تشارزبر".

 

وخلافًا للعمليّات السابقة، ففي هذه العمليّات لا حقول ألغام وموانع وأسلاك شائكة، ولا سواتر ترابيّة وعمليّات استطلاع. إنّما سهل واسع ممتدّ، وعدوّ لا نعلم في أيّ ناحية هو. وجلّ ما كنّا نعلمه بأنّهم إن هجموا فمن المحتمل أن يكون هجومهم من ناحية "إسلام آباد". وإنّ تفكيرهم لن يبلغ أكثر من هذا أيضًا. وأطلقوا على هذا التكتيك اسم "الهجوم المطّاطي"؛ أي بمعنى أن يسيروا على الجادّة بشكل مستقيم ومباشر، ويصلوا خلال خمس مراحل متتالية ومنتظمة إلى طهران. أي لم يكن في عملهم تشكيل ولا حراسة للسهل، ولا تموضع وانتشار.

 

في تلك الليلة، توجّب علينا التخلّص أوّلًا من العتمة التي تواجهنا من أجل البدء بالعمليّات. وكانت قد تمركزت على بعد مائة متر منّا ناقلة جند، بدا أنها خالية؛ لكن توجّب علينا مراعاة الحيطة والحذر. كان الإخوة يحترمونني لسنّي وتجربتي وللحيتي التي دبّ فيها الشيب، وسألوا عن رأيي في الموضوع. استأذنني أحمد شعباني في التقدّم واستطلاع ناقلة الجند تلك، فأذنت له قائلًا: اذهب، على بركة الله..".

 

حين تقدّم في قلب العتمة نحو ناقلة الجند، ارتجفت قلوبنا من الخوف. فمثل هذه اللحظات في الحرب لا تصبح مألوفةً وعاديّة للإنسان

 

 

546

 

 


528

قعر القدر لذيذ

أبدًا. ولو شاركتَ في الهجومات مئة مرّة، فإنّ الخوف والهلع سيصيبانك.

 

فتحنا مغاليق أسلحتنا، وحبسنا أنفاسنا في الصدور. لم نعلم ما يجري في ذلك السهل المترامي الأطراف. وكان من المحتمل في كلّ لحظة أن يرمونا بوابل نيرانهم من داخل ناقلة الجند!

 

ومراعاة للحيطة، نشرتُ الإخوة على هيئة حرّاس للسهل لمراقبة الجهات الثلاث.

 

تقدّم "أحمد شعباني" نحو ناقلة الجند، وحين وصل إلى مقربة منها صاح باطمئنان: "سيّد أبا الفضل، إنّها خالية".

 

فانفجر الشباب ضحكًا. قلت: "عزيزي أحمد، لقد ارتكبت خطأ فادحًا! كان عليك أن تخبرنا عن طريق الإشارة".

 

أردنا أن نراقب السهل ونهجم عليهم بهدوء؛ لكنّ الهجوم بدأ رغمًا عنّا وفقًا لسجيّة أحمد الصافية.

 

ما إن استدرنا، حتّى انتبهنا فجأة إلى ناقلة جند وسيّارة تويوتّا تسيران الواحدة خلف الأخرى على الجادّة وتتّجهان نحونا. اتّضح بأنّ الكتائب الأخرى في المقدّمة قد شنّت هجومًا على المنافقين، فسدّت عليهم طريق مضيق "تشارزبر"، ما اضطرّهم إلى الانسحاب نحو جادّة إسلام آباد - كرمانشاه، واصطدموا بموقعنا.

 

كانت قد نُصبت على سيّارة التويوتّا خاصّتهم، آليّة دوشكا، وراحوا يمشّطون الطريق أمامهم ويتقدّمون.

 

كانت الساعة قرابة الثانية عشرة ليلًا، حين بدأ الاشتباك الجدّي، ولو كان لدينا دوشكا على رأس الهضبة لكنّا أبدناهم. ذلك أنّنا أقمنا خطّ دفاع محكم، وكنّا منظّمين بشكل ممتاز، إلّا أنّه لم تتوافر لدينا إمكانيّات.

 

 

547

 


529

قعر القدر لذيذ

كان الطريق يعلو عن سطح الأرض الترابيّة قرابة النصف متر؛ فأصبح وكأنّه ساتر ترابيّ بعلوّ نصف متر وشكّل الملاذ والملجأ لنا.

 

وما إن بدأت المواجهات، حتّى أُصيب "منصور بور" برصاصة في كتفه. ربط جرحه وجاء إليّ. طلب من عامل الإشارة لديه أن يبقى بجانبي.

 

ومن حينها، أوكلت إليّ مسؤوليّة عمليّات كتيبة "مسلم". حملت الجهاز اللاسلكي ورحت أقود العمليّات. فكنت على اتّصال دائم بقادة السرايا. يشهد الله أنّ الشباب تألّقوا في تلك المواجهات.

 

كان وزن "عبّاس مقدسي" على بعضه لا يتجاوز الثلاثين كيلوغرامًا؛ لكنّه كان غاية في القوّة والشجاعة. ولقد شدّد الضغط بعشرة عناصر وتقدّم إلى الجهة الأخرى من الجادّة. فأسر شبابه في منتصف الليل بعض العناصر من المنافقين.

 

بعد ساعة أو ساعتين من بدء الاشتباكات، وبينما كنت أتكلّم عبر الجهاز اللاسلكي، وأكبس على "بِدَال السمّاعة" وأشجّع الإخوة قائلًا: "أحسنتم... اضربوا... يا علي مدد..".، جاء أمير برادران إليّ وقال: "سيّد، لقد جلبت الأسرى. ماذا سأفعل بهم؟".

 

قلت: "من تقصد؟".

- لقد أسرنا منهم مجموعة.

 

رفعت رأسي، وإذا بي أرى وسط العتمة امرأة شابّة تتقدّم الجميع وتنظر إليّ بجرأة من دون خوف. وما إن تقدّمت لأتكلّم بشيء حتّى فتحت قنبلة وأمسكت بعتلتها، وهي تنظر إليّ بتحدٍّ. قلت لأمير: "انبطح".

 

وانفجرت القنبلة. رحت أزحف على الأرض؛ لكنّني سرعان ما لملمت نفسي ونهضت. هرعت بين التراب والغبار المنبعث نحو الإخوة.

 

 

548

 

 


530

قعر القدر لذيذ

دفع عصف الانفجار بأمير إلى ناحية. فأصبح مشوّشًا ويمشي مترنّحًا. فيما أُصيب أحد شبابنا واثنان من الأسرى بشظايا. أمّا الفتاة ففُصل رأسها عن بدنها وتناثر كلّ منهما في ناحية.

 

تقدّمت منها، كانت ترتدي بزّةً كبزّة فرقة المشاة التي تتقدّم مواكب الرؤساء والملوك. وقد وضعت كمًّا أبيض اللون على يدها كُتب عليه: "جيش التحرير". ومهما فتّشنا في تلك الناحية عن رأسها، لم نجده. كان الإخوة يعاملون الأسرى بلطف. هذا ما تعلّموه من الإمام الخميني وأخلاقه؛ لكن، يا لها من مكافأة جيّدة حصلوا عليها!

 

في منتصف الليل، تحوّلت المعركة إلى مواجهات مباشرة ووجهًا لوجه. صار المنافقون يقصفوننا بشدّة. ولا عجب في ذلك، فقد كانوا مجّهزين بتجهيزات عالية. فناقلات جندهم، وسيّارات التويوتّا، ودبّاباتهم كانت جديدة وعالية الجودة. قرابة الفجر، امتلأ الطريق بالجثث من الطرفين؛ إلّا أنّنا سيطرنا تدريجيًّا على الجادّة وآلت الأمور إلى مصلحتنا.

 

أمّا هم فقد انسحبوا إلى الوراء، واتّخذوا لأنفسهم خطّ دفاع إلى جانب الطريق خلف مصنع السكّر، فراحوا يمشّطون الطريق بالدوشكا حتّى ظهر اليوم التالي؛ وقد شدّدوا الضغط علينا إلى أن أُنْهِكْنَا عند الظهر، وشلّوا حركة الإخوة على الطريق. فلم يبق لدينا من ملجأ ولا تجهيزات. إنّما فقط سهل وكتف طريق، ليس إلّا.

 

إلى الأمام من موقعنا، بين الطريق ومصنع السكّر، كانت توجد بعض البيوت القرويّة، فأرسلت الإخوة المصابين وذوي الإصابات البليغة إليها، ليحتموا فيها ريثما تصل قوّات الدعم.

 

بعد الظهر، تمّ الإعلان عبر جهاز اللاسلكي بأنّ: قوّات "النبيّ الأكرم" صلى الله عليه وآله وسلم و"إسلام آباد" ينقضّون على المنافقين من الخلف ويحاصرونهم. قضي

 

549

 

 


531

قعر القدر لذيذ

الأمر. وقد ترك المنافقون معدّاتهم وسيّاراتهم وولّوا هاربين، وهم الآن يتوجّهون نحوكم...

 

كان هذا أمرًا طبيعيًّا؛ فليس أمامهم طريق آخر للفرار. وقد أُطبق الطوق عليهم، فكانوا حينها يتقدّمون نحونا راجلين ويرموننا بوابل نيرانهم، ما اضطُّرّ الجرحى الذين لاذوا إلى تلك البيوت للاحتماء، إلى الخروج منها وهم خائرو القوى، والبقاء في مرمى نيران المنافقين. وقد سقط كلّ من "محمود طاهر أفشار"، و"حجّت عالي" و"محمّد روح اللهي" و"طوسي زاده" أمام عينيّ.

 

رمى المنافقون بعض القنابل على البيت ودمّروه. بعد الظهر، جاء "محمود أميني"، و"جعفر محتشم"، و"أحمد كوتشكى" ليتفقّدوا الخطّ. وقد صارت القرية خطًّا خلفيًّا للكتيبة.

 

عقدوا جلسة ليجدوا طريق حلّ. فقرّروا الانتظار حتّى حلول الليل، فيشنّوا هجومًا ويثبّتوا موطئ قدم لهم؛ إلّا أنّنا أُبلغنا عند الغروب، بأنّ الإخوة في إسلام آباد قد سيطروا على المكان بنحو كامل، وأنّ المنافقين قد لاذوا بالفرار من الجهة الشماليّة للطريق، وأووا إلى الجبال.

 

في صباح اليوم التالي، لم يكن طائر يجرؤ على التحليق في مواقع المنافقين. وقد اعترفت قيادتهم بالهزيمة رسميًّا. وفرّ "رجوي" وأعوانه الأساسيّون إلى خارج الحدود. كان يوجد بين جثث المنافقين عدد كبير من جثث الشابّات. ومعظم الرجال أيضًا شبّان. وحين فتّشنا في جيوبهم لنتعرّف إلى أسمائهم وهويّاتهم، وجدنا جوازات وتذاكر سفر إلى "فنلندا" و"هولاندا" "بلجيكا". وقد جمعهم قادة المنافقين من جميع أنحاء العالم على أمل السيطرة على إيران والبقاء فيها. وقد جاء كلّ هؤلاء الشباب حبًّا بأمّتهم، فحلّ بهم ما حلّ. لقد غُرّر بهم وضُلّلوا مائة في المائة، وذهبوا هدرًا.

 

ذات يوم، جاء الحاجّ محمّد إلى الموقع. سلّمت عليه. فقال: "كنت

 

550

 

 


532

قعر القدر لذيذ

أظنّ أنّك تنعم بالراحة في بيتك. لكنّني عرفت من خلف الجهاز بأنّك هنا، وذلك من كثرة ما تنادي أمير المؤمنين".

 

ضحكت وقلت: "أنا لا أقول لأحد إنّك وصلت صباح اليوم..".

 

ضحك الحاجّ، تقدّم نحوي واحتضنني وأمطرني بوابل من القبلات. حينها تكلّم الحاجّ محمّد بكلمات ينبغي أن تُكتب بحروف من الذهب. قال: "سيّد، نزاعاتنا أيضًا كانت من أجل الله".

 

حين انتهت العمليّات، عدت وبعض الإخوة إلى "دوكوهه". لم نكن نستطيع التصديق بأنّ الحرب قد انتهت تمامًا، وأنّه لم يعد لدينا أيّ تكليف بشأنها. استرحنا في "دوكوهه" ليومين. فذهبنا يومًا للسباحة في سدّ "دز" وليلة لزيارة "السيّد محمّد سبز قبا"[1]، إلى أن وردنا خبر تشييع الشهداء محمود طاهر أفشار، مجيد طلا، علي زجاجي، وغلام علي رجبي، فعدنا إلى طهران للمشاركة في تشييعهم، وبقينا هناك.

 

منذ ذلك الحين، صرت كلّما أقصد القطعة 26 من "بهشت زهراء" وأرى صور الشهداء، تتفتّح جراح قلبي القديمة. فأفكّر مع أيّ رفاق كنت؟ وأيّ فترة أمضيت؟ وأيّ أعزّة رحلوا؟ كانت القطعة 26 وما زالت ذكرى لي من أفضل رفاقي، فكنت أقضي تلك الفترة مع ذكرى الحرب والرفاق.

 

أحيانًا، كانت تضطرب أوضاعي الجسميّة والروحيّة. وأُصاب بالأوجاع فأضطّر للاشتغال لمدّة بالعلاج والاستشفاء، فكانت تلتهب رئتاي بسبب الغازات الكيميائيّة التي تنشّقتها. وأُصبت أيضًا بأوجاع في الرأس والرِّجل وآلام شديدة في البطن. حينذاك تتحتّمَ عليّ البقاء لمدّة أسبوعين في مستشفى "ساسان"، الذي بات ملتقى للجرحى المصابين بالأسلحة الكيميائيّة.

 

 


[1]  أحد أبناء الإمام الكاظم عليه السلام وله مقام في مدينة دزفول. المترجم-

 

551


533

قعر القدر لذيذ

وبسبب تعرّضي مرّات لعصف الانفجارات، تناولت لفترة طويلة الأدوية المهدّئة للأعصاب، وذلك لأتمكّن بالحدّ الأدنى من التكلّم مع الآخرين بنحو جيّد. ولولا قوّة وفعاليّة أدوية الأعصاب، لكنت أغضب وأخرج عن طوري عند أدنى مشكلة. لم أكن أحتمل أحاديث المدينة والعيش فيها. وقد حطّت ملحمة "كربلاء 5" من معنويّاتي وأمرضتني أكثر من باقي العمليّات الأخرى. أحيانًا، كنت أتفقّد طيوري استذكارًا للماضي. فالحمامات الطائرة المسرّة لقلبي قد كبرت وتعبت، وهي التي سيطرت سابقًا على سماء المحلّة فلا تسمح لأيّ حمامة بالدخول في نطاقها ولم تستطع أيّ حمامة منافستها.

 

وقد نتفت ريش أجنحتها، وتجمّع اللحم حول عينيها، ولم تعد قادرة على الطيران. لربّما ملّت وتعبت مثلي؛ بفارق واحد وهو أنّ الشيء الذي كان يبثّ فيّ الأمل استمرّ من خلال الحفاظ على مجلس المجاهدين قائمًا، وعلى رسالة الشهداء وذكراهم. كنت أفتّش عن سبيل لكي لا يفترق الرفاق عن بعضهم البعض، ولكي لا تغيب ذكرى رفاقنا الشهداء عن البال.

 

على أيّ حال، مضت تلك الأيّام بكلّ عذوبتها وعذاباتها على هذا النحو، إلى أن ذهبت يومًا لعيادة "محمود جوليده". فبعد عمليّات "كربلاء 5"، عاش محمود تسعة أشهر وهو يعاني حالًا صحّيّة مزرية. كان يعيش بين السماء والأرض، ومن ثمّ أُقعد على كرسيّ متحرّك، ولم يعد يستطيع الذهاب إلى الجبهة. في ذلك اليوم عندما زرته رأيته منقبضَ الحال ومحزونًا.

 

لم يكن يئنّ من جراح جسده، إنّما من شيء آخر. كلانا كان طالبًا لشيء واحد. تحادثنا وتباحثنا في الأمر لساعة أو ساعتين، ولمّا كنّا في محرّم الحرام قرّرنا دعوة المجاهدين إلى جلسة نتداول فيها أمر شهر محرّم ونشاط الهيئة.

 

وفي الغد، عقدنا جلسة في منزل "محمود جوليده" وذلك لتنظيم برنامج

 

552

 

 


534

قعر القدر لذيذ

ليوم الأربعين. حينها ما عدت قائد الكتيبة، بل الجامع للمجاهدين، فرحت و"أكبر سربوشان" الذي كان حامل لواء هيئة "نارمك"، و"محمّد عسكري"، "شيخ وند"، "مرتضى طهراني"، "الحاجّ محمّد تيموري" الذي كان حامل لواء هيئة "شميران"، و"الحاجّ رضا بور أحمد"، "جواد شيرازي"، و"الحاجّ أكبر نوجوان" نتابع تشكيل هيئة المجاهدين.

 

في البداية، ذهبنا واستطلعنا المكان، والتقيت باثنين أو ثلاثة من شباب محمود ونظّمنا الأمور. بعدها جلست مع محمود لنؤلّف مرثيّة طهرانيّة جديدة النّمط؛ لا هي على الطرز الناظمي، ولا نمط محبّي الولاية، ولا الزهرائي، ولا نمط صاحب الزمان، ولا الصالحي. شعر باللهجة الطهرانيّة خاصّ بأهل طهران.

 

كان يوم الأربعين هو اليوم الموعود. اجتمعنا في بازار طهران الكبير.

 

وكما في زمن الحرب اصطففنا في صفوف، ارتدينا جميعًا الملابس السوداء، لطّخنا رؤوسنا بالتراب، وسرنا حفاةً، فكنّا تراثيّين تمامًا.

 

وقفت و"أكبر سربوشان" في الوسط، ورحنا نطلق الصرخات وسط اللطميّة ونردّد يا حسين، يا مظلوم.

 

في الصفّ الأوّل اصطفّ عشرون جريحًا ممّن أُصيبوا في النخاع الشوكي وكانوا مقعدين على الكراسي المتحرّكة، وكان على رأسهم "محمود جوليده".

 

وقد ذكّرت الشباب بأن يدندنوا مع قارئ العزاء. الدور الأوّل كان للسيّد علي الذي أدّاه بشكل رائع، فتكلّم عن العشق، فضجّ المجلس وعَمُر! وصار الأربعون أربعين حقيقيًّا.

 

رشف جميع الطهرانيين رشفة من هذه الكأس وثملوا. بكى

 

 

553

 

 


535

قعر القدر لذيذ

الجميع. كان شيئًا فريدًا من نوعه، وليس من الممكن بعدُ، جمع كلّ هذا العشق في مكان ما.

 

جاء حاملو الرايات من جميع الأحياء. وفي كلّ مكان سُدّت الطرق وتعطّل العمل كنت أقول: "انصبوا منصّة..."[1].

 

صعد المنصّة على التوالي "مجيد سيب سرخي" و"علي كرمي" وردّدنا معهما:

"يا رفيق سفر زينب ها قد عادت أختك من السفر..".

 

أدّينا هذا الشعر بالنمط الطهراني، وكان جذابًا ولافتًا جدًّا.

 

فإلى حينها لم يكن أيّ شخص قد قرأ لطميّة بذلك النمط.

 

عندما اختلطنا بالناس في وسط البازار، ترك الناس المجموعات والتفّوا حولنا. أراد الجميع أن يرى ما شكل هذه المجموعة التي كلّ أفرادها من المجاهدين، ومن هم هؤلاء الذين جاؤوا.

 

لقد جئنا لنقول إنّنا شباب الجبهة كلّنا شباب هيئات دينيّة ومحبّون لأهل البيت. أُقيمت ملحمة "كربلاء5" ثانية. أمام سوق السجّاد، صعد "محمّد طاهري" على المنصّة. سيطر على الوضع! جلس الجميع، بكت النساء الموجودات عند تقاطع الطرق! رجعت المجموعات المتقدّمة والتحقت بنا وطاب المجلس. قرأ اللطميّة الأخيرة "رضا بور أحمد". بعدها صعدتُ المنبر وبدأت بالكلام: "إنّ كلّ ما لدينا هو من الإمام الحسين عليه السلام. ولقد تتلمذنا لسنوات على أيدي رجال أمثال أكبر ناظم، حسن ذو الفقاري، أحمد صالح، مرشد باقر، مرشد أسمال، شيخ رضا سراج و"كافي". إنّنا نحترمهم جميعًا. فهؤلاء كانوا من الروّاد والسبّاقين في هذا المجال[2]... وقد أتينا لنقول إنّ 90% من الشهداء والمجاهدين هم من أبناء الهيئات.

 

 


[1]  طرز معروف من اللطميّات في إيران.

[2]  تشكيل الهيئات الدينيّة التي تقيم مجالس العزاء والاحتفالات بمواليد المعصومين عليهم السلام.

 

554


536

قعر القدر لذيذ

وهذه الهيئات المحلّيّة هي التي أدارت الجبهة. وإنّ واحدًا في المائة من السياسيّين حتّى، لم يُشاهد في الجبهة. وإذا ما كان بين مجاهدي الجبهة جامعيّ، أو دكتور أو مهندس، فإنّما كان من أبناء الهيئات والتحق بالجبهة عن طريق هيئة محلّته. ولولا الغيرة والشهامة التي جسّدها أبناء الهيئات، لما كانت هذه المدينة مدينة، ولما كنّا الآن موجودين هنا...".

 

بعد انتهاء المراسم، ذهبنا إلى ثانويّة "حافظ" وتناولنا طعام الغداء هناك، حيث جهد الحاجّ أكبر نوجوان في إعداد الطعام، وأعدّ كلّ من الحاجّ داوود نيازي وقاسم نوري والرفاق الآخرون، وبنفس "جواد آقا كبيري"، الأرزّ بالفول مع قطع اللحم. كان غذاءً معنويًّا ومباركًا، ما زال طعمه في فمي إلى الآن. لكن بعد ذلك، سلبنا السياسيّون ذلك الجمع المعنوي.

 

بعدها، صرنا نعقد الجلسات في مسجد الشهداء. وأصبح المسجد مقرًّا للقاءاتنا وعناقنا وتذكّر الشهداء والحرب. وشُكّلت "هيئة مجاهدي طهران". فكانت أمّهات الشهداء يأتين إلى هناك شوقًا إلى أبنائهنّ ويقلن: إنّنا نشتمّ رائحة أبنائنا في هذا المسجد.

 

كان المجاهدون قلبًا واحدًا. وقد جاؤوا بصفاء الجبهة ونقائها معهم، ولم يتلوّثوا بعد بظلمات المدينة. ولم تكن أرواحهم قد ابتُليت بآفة السياسة بعد. فكان العشق والحبّ ما زال هو المسيطر.

 

ليلة الرابع من حزيران، كنت جالسًا في مسجد الشهداء، حين سمعت خبر ارتحال الإمام الخميني قدس سره عبر مكبّر الصوت في المسجد.

 

سادت حال من الإرباك والاضطراب في المسجد. رحنا جميعًا نبكي، ونكتوي بنار العشق ذاك. لم يكن الإمام يخصّ أحدًا بعينه، بل كان محبوب الجميع، والمسيطر على القلوب. ولقد شهدنا حياته المتواضعة، إذ لم يكن يملك شيئًا؛ سوى ثوب ونعلين. ولقد وهب كلّ ما كان يملك من هذه الدنيا، ورحل.

 

555


537

قعر القدر لذيذ

في اليوم الذي جيء فيه بجثمان الإمام إلى المصلّى وأودع في تابوت زجاجيّ ليودّعه الناس، كنت أنا وفاطمة وسعيد بين الحاضرين. بقينا مستيقظين حتّى أذان الفجر ننظر إلى جسد الإمام المسجّى هناك.

 

بعد عدّة أيّام من ارتحال الإمام، أقمنا مجلس عزاء في مسجد الشهداء حضره بضعة آلاف، وقد أحضرنا التابوت الذي سُجّي عليه الإمام ووضعناه في فناء المسجد، وبقي هناك كذكرى من الإمام الراحل لهيئة المجاهدين. أحد البرامج التي ظلّت مفيدة للغاية، واستمرّت تقرّب بين عوائل الشهداء، هو اللقاءات الدوريّة للمجاهدين مع عوائل الشهداء وآبائهم وأمّهاتهم. حملتُ مهمّة تنسيق هذه اللقاءات على عاتقي. كان لديّ درّاجة ناريّة (2 سيليندر) عريضة، تصدر صوتًا عاليًا. استخدمتها للذهاب والإياب وتنسيق اللقاءات بها.

 

في كلّ شهر، كنّا نتواعد في مكان ما ونذهب بشكل جماعيّ لزيارة عائلة من عوائل الشهداء؛ زيارة تودّديّة نحيي فيها ذكرى الشهداء، وتلقي أثرها علينا نحن الذين خضنا الحرب بعمق أكبر.

 

في آخر ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك من العام 1990، كان من المقرّر أن نجتمع في منزل الشهيد السعيد، والمفكّر الذي لا نظير له، "حسن بهمني".

 

صباح ذلك اليوم، أرسل إليّ "الشيخ قناعتي" أن ائتِ أوّلًا إلى مجلس العزاء الذي نقيمه في القطعة 26 من "بهشت زهراء"، ومن ثمّ نذهب آخر الليل إلى منزل الشهيد "حسن بهمني".

 

بعد الظهر، أردفت "فاطمة" و"حمزة" ورائي على الدرّاجة الناريّة، وانطلقنا نحو "بهشت زهراء"، وصلنا إليها قبيل الغروب. كانت هناك

 

556

 

 


538

قعر القدر لذيذ

قاعتان، واحدة مخصّصة للرجال وأخرى للنساء. أفطرنا يومذاك على بعض الخبز والشاي. ومن ثمّ خرجت من القاعة لتجديد الوضوء. رأيت سيّدة تجلس عند صنبور الماء. تردّدت وقلت في نفسي: أتقدّم أو لا أتقدّم؟ وكيف سأتقدّم؟ من غير اللائق أن أتقدّم نحو الصنبور وتلك السيّدة جالسة هناك.

 

في النهاية، تنحنحت وقلت: "يا الله"، لعلّها تنتبه. تقدّمت وإذا بي أرى أنّها زوجتي "فاطمة".

- إِ.... لِمَ تجلسين هنا؟

- أشعر باضطراب في قلبي.

- لربّما أكلتِ طعامًا رديئًا؟

- أشعر بالقلق، تعال نرجع إلى البيت.

 

إلى حينها، لم أكن قد رأيت فاطمة قلقة ومضطربة إلى هذا الحدّ. قلت: "أين سنذهب؟ لقد قطعنا كلّ هذه المسافة، ولم يبتدئ المجلس بعد". أصرّت عليّ وألحّت حتى بدا عليّ الارباك والحيرة. غضبتُ وقلت: "ما بالك الليلة؟".

 

ركبنا الدرّاجة الناريّة. أجلست حمزة أمامي، فقد كان يحبّ دومًا الجلوس في المقدّمة والإمساك بالمقود.

 

في أثناء الطريق أطلقت فاطمة بعض النكات لتخرجني من حال الانزعاج التي كنت أشعر بها.

 

قالت: "ماذا حصل الآن؟ سنصل إلى البيت قبل ساعة فقط".

 

وصلنا إلى مقربة من محطّة حافلات الجنوب، كانوا يبنون جسرًا.

 

 

557

 


539

قعر القدر لذيذ

فالشارع مزدحم والسيّارات متداخلة بعضها ببعض، وكلّ واحدة منها تتّجه نحو وجهة ما. وكانوا قد نصبوا أعمدة الجسر، وبقيت الطبقة العليا منه.

 

خفّفت من سرعة الدرّاجة لأعبر الإشارة وزحمة الطريق. وصلت إلى العواميد الحديديّة المنصوبة إلى جانب الطريق. خفّفت سرعتي أكثر ورحت أسير بهدوء إلى جانبها. في تلك اللحظة، اقتربت شاحنة مزمجرة منّا بقصد المسارعة من الناحية اليمنى لي. ولم تكد تتخطّاني تمامًا وإذا بعجلتها الخلفيّة تصطدم بعجلة درّاجتي، ففقدت السيطرة على الدرّاجة، وتعثّرت. في البداية، اعتمدت برجلي على الأرض واستجمعت كلّ قواي لكي لا تقع الدرّاجة على الأرض؛ لكنّ الدرّاجة راحت تتأرجح يمينًا وشمالًا، إلى أن سقطت في النهاية على الأرض بقوّة من الجهة اليسرى، فوقعنا ثلاثتنا على الأرض. نهضت سريعًا واستجمعت ولملمت نفسي. كان حمزة يبكي. فقد جُرحت يده، كما جُرح كفّي أيضًا وكان ينزف. أمّا فاطمة فقد سقطت في ناحية. ذهبت إليها، وضعت يدي تحت رأسها. كان رأسها مصدّعًا والدم ينزف منه. ناديتها لأكثر من مرّة؛ لم تجبني، وإنّما كانت فقط تنظر إليّ بعينين نصف مفتوحتين.

 

انهال الناس علينا. توقّفت سيّارة "بیكان" بالقرب منّا. حملت فاطمة ووضعتها داخل السيّارة بمساعدة الناس. جلست بجانبها.

 

كان حمزة لا يزال يبكي. رحت أمرّر بيدي على رأسه حتّى أخفّف من خوفه. في أثناء الطريق، رفعت فاطمة رأسها وبدنها قليلًا؛ وكأنّها استفاقت من نوم عميق، وقالت: "السلام عليك يا فاطمة الزهراء..".

 

فرحت لذلك، ظننت أنّ حالها تحسّنت واستعادت وعيها.

 

قلت: "إِ... سيّدة فاطمة، هل أصبحت أحسن حالًا؟". وأيضًا لم أسمع جوابًا، وكأنّها ما كانت تراني، ولا تسمع صوتي أبدًا.

 

عندما وصلنا إلى مستشفى "كاشاني"، كانت قد رحلت.

 

558

 

 


540

قعر القدر لذيذ

التقيت في المستشفى بأحد الرفاق، "مصطفى تقوايي"، وقصصت له الحكاية. فاشترى لي عصير الفاكهة وراح يواسيني، ومن ثمّ أوصلني إلى أمام باب المنزل. أدخلت حمزة إلى البيت، وذهبت إلى مسجد الشهداء. كان الرفاق ينتظرون أمام باب المسجد. وقد عادوا للتوّ من منزل الشهيد "بهمني".

 

قال الجميع: "انتظرناك كثيرًا... تأخّرت... ذهبنا ورجعنا". لم أستطع أن أقول شيئًا. كنت مضطربًا، استندت هناك على حائط المسجد وجلست أرضًا. كان قلبي مضطربًا بنحو، حتّى البكاء لم يكن ليهدّئه. لم أكن أعي نفسي. هل أنا موجود؟ أم غير موجود؟ وكأنّ كلّ ما جرى كان منامًا وخيالًا. دائمًا ما كنت أسأل نفسي: "لِمَ فاطمة؟ ولِمَ الآن؟ ولماذا ينبغي أن ترحل هي من بين كلّ هؤلاء الناس؟".

 

كنت أريد أن أعوّض كلّ ذاك الفراق، والبعد والهجران. كنت أريد أن أرفع الحمل عن كاهلها...

 

أخذني "رضا فرجي" إلى حضنه وقال: "سيّد، أين كنت؟ لقد تأخّرت! أين السيّدة فاطمة؟".

 

قلت: "لقد رحلت".

- ماذا يعني هذا؟ هل تعي ما أقول لك؟ ماذا يعني أنّها ماتت؟

- كان عليها أن ترحل الليلة. هناك صوت في داخلي يقول لي إنّه كان عليها الليلة أن ترحل.

 

اجتمع الإخوة حولي، وشيئًا فشيئًا عرفوا بالأمر. في تلك الليلة، كان السيّد علي صاحب منبرنا. جاء السيّد علي إلى أمام باب المسجد، وعندما أراد صعود المنبر، أخبره الشباب بما حصل.

 

 

559

 


541

قعر القدر لذيذ

نظر السيّد إليّ وأنشد هذا البيت من الشعر:

"نعم، لا ينبغي الفرار من القسمة

                    فكلّ ما يصبّه الساقي هو عين اللطف

 

هذا من ألطاف الله الخفيّة.

 

لقد أُخذت منك وأُعطيتُ بدلًا منها دمع العين.

 

إنّ الله إذا أحبّ عبدًا، كسر قلبه وملأه بالحزن... وإلّا لكان ملأ كأسك كما كؤوس البقيّة. كلّ من كان مقرّبًا في هذا المحفل يزداد بلاء.

 

في اليوم التالي، شيّعنا جنازة السيّدة فاطمة، ودفنّاها في "بهشت زهراء". وقد أُحضرت حينها أجساد شهداء عدّة، فعجّت "بهشت زهراء" بالناس، وحضر جميع المجاهدين وعوائل الشهداء.

 

بعد عدّة أيّام، أُخبرنا بأنّه تمّ القبض على سائق الشاحنة وأودع السجن.

 

أُقيمت مراسم الثالث وذكرى الأسبوع بنحو جيّد ولائق، وحيث صادف ذلك مع ذكرى عدد من الشهداء احتشدت جموع غفيرة في "بهشت زهراء".

 

لطالما أحبّت فاطمة أن تكون بين المجاهدين، وقد جهدت في تربية وتهذيب نفسها. كانت فاطمة مثالًا للأمّ المضحيّة المؤمنة والزوجة الوفيّة، وكانت حسنة الخَلْق والخُلُق. ومهما تكلّمت عن أخلاق هذه المرأة الحميدة، فإنّه قليل. تذكّرت مرارًا تلك الليلة التي عبّرت فيها عن إجلالي واحترامي لها.

 

كان الجميع يقولون إنّ السيّدة فاطمة كانت لوحدها لبوة لبوات المحلّة. وقد قامت بآلاف الأعمال الخيّرة، وهيّأت آلاف "الجهيزيّات"، وأحيت ذكر أهل البيت آلاف المرّات.

 

لحظاتها الأخيرة كانت لحظات رائعة. فقد حضرت سيّدتها [الزهراء]

 

560

 

 


542

قعر القدر لذيذ

عند موتها، وبقيت -كما تمنت- إلى آخر لحظة بين المجاهدين. حضر الرفاق والمجاهدون وواسوني، وطالما بقوا مجتمعين حولي كنت كمن أُصيب في المعركة للتوّ، لا أعي شيئًا؛ إنّما فقط أشعر بلوعة كبيرة. بعد انتهاء مراسم العزاء وذهاب الجميع، شعرتُ بالغربة، وأدركت للتوّ ما حلّ بي. وجدت نفسي وحيدًا. لقد باعدت الحرب بيني وبين فاطمة، إلّا أنّ روحينا كانتا قريبتين، وأدركت بعد رحيلها كم كنت وما زلت أحبّها.

 

بعد مراسم ذكرى مرور أسبوع على وفاتها، عدت إلى البيت متأخّرًا. كان ولداي نائمين في الفناء إلى جانب حوض الماء. وكانت والدتي تجلس فوق رأسيهما حزينة ومغمومة.

 

قالت: "كيف حالك بنيّ أبا الفضل؟".

- لا أدري ما أقول.

- ماذا تريد أن تفعل بهذين الصبيّين؟

- عادت قصّة بابا وتكرّرت من جديد. ليس لي أحد سواكِ.

- هناك رباعيّة لا أعلم لمن تعود، لكنّها تقول:

لو كنت رأيت في المنام غمّ يوم الفراق

                             لما سمحت للقلب أبدًا بتصوّر الوصال

فالفراق عندما يقع يعرف الحبيب قدر محبوبه

                             وكسير العظم يعرف قيمة المرهم والدواء

 

- أعلم أيّ رابطة كانت تربط بينك وبين فاطمة. فقصّتكما تختلف عن باقي القصص. لكن إن أردت أن أعتني بأولادك، فلي شرط.

- ما هو؟

 

561


543

قعر القدر لذيذ

- أن تذهب في صباح الغد إلى المحكمة وتتنازل عن الدعوى وتطلق سراح السائق.

- فليكن، سمعًا وطاعة.

 

في اليوم التالي، ذهبت إلى المحكمة وقلت لهم إنّني أتيت لأتنازل عن الدعوى وأصفح عن القاتل.

 

كتب القاضي شيئًا ما على ورقة وسلّمها للمأمور.

 

فكبّل المأمور يديّ مباشرة وأودعني السجن.

 

قلت: "لماذا؟".

 

قال: "قد تكون متواطئًا مع القاتل، أي مع سائق الشاحنة، في قتل زوجتك".

 

يا له من دهر، أمضيت ليلة في سجن "القصر"، وفي صباح اليوم التالي، جاء الأهل والأصدقاء والمعارف وأخرجوني.

 

قلت للقاضي: "ما هذا الذي فعلته يا عمّ؟ ألا يمكن للإنسان أن يقوم بعمل جيّد؟".

- لا تبتئس... يا أخي، ففي ظرف أسبوع أتيت وتنازلت عن الدعوى. لقد شككنا فيك بعض الشيء.

- كانت تلك رغبة الوالدة.

- السجن غير مفيد لمثل هذا الشخص. لديه ثلاثة أولاد، وزوجته تأتي كلّ يوم إلينا وتنتحب...

 

منذ ذلك الحين، صرت أذهب كلّ ليلة جمعة وحدي ومن دون الولدين إلى "بهشت زهراء". فالقطعة 26 وقبر فاطمة، كانا ذكرى لأصدقائي الذين

 

 

562

 

 


544

قعر القدر لذيذ

فقدتهم، والمواسيَين لروحي ونفسي المتعبتين. وكأن هذا الغمّ أصبح أنيسي الدائم، فصرت آنس به. في كلّ مرّة أرى فيها صور الرفاق فوق أضرحتهم، كنت أذكر تلك الأيّام الملأى بالأحداث، لكن السعيدة، وتلك الصميميّة العميقة والصداقات المتجذرة والأصيلة. فطوال عمري، لم أشعر في أيّ مكان بصفاء كصفاء الجبهة والدشمة.

 

حقًّا، سقى الله تلك الأيّام! مع أيّ أشخاص كنت! وأيّ أيّام عشناها معًا! ولم يبقَ الآن منهم سوى الذكريات. إنّ الحرب تحدث تحوّلًا في شخصيّة الإنسان. تجعل البعض قليلي صبر وتحمّل، والبعض الآخر صبورًا وجَلودًا. والحرب شكّلت للكثيرين مكانًا للامتحان الإلهي. مكانًا ليختبروا فيه أنفسهم. على أي حال، كلّ من تحلّى بالشجاعة في ميدان الحرب، سواء استُشهد أم بقي حيًّا، فهو المنتصر في تلك الحرب.

 

هذا ما قدّره لي القدر، بأن يتربّى أولادي في كنف والدتي. في العام 1999م، تزوّجت للمرّة الثانية؛ لكنّني لم أنسَ عشقي ومرامي.

 

الحفاظ على مجلس المجاهدين، وتشكيل هيئة "محبّي الولاية" التي هي ذكرى من شيخي ومرادي الحاجّ قاسم، ومواساة عوائل الشهداء، والأخذ بيد رفاقي القدامى والمحبّة لهم، كل ذلك هو عشقي وهدفي. وطالما أنّ في صدري نفسًا، ستبقى هذه البهجة والمشقّة؛ وذلك كي لا أخجل كثيرًا في محضر الحقّ تعالى. هذا المسلك تعلّمته من المرحوم والدي؛ حين كنت صبيًّا أذهب معه إلى الخان.

 

563

 

 


545
زقاق نقاشها