قربان الأتقياء


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2019-11

النسخة: 0


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدمة

المقدمة

 

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم  وعلى آله الطاهرين، وبعد

 

إنّ منزلة الصلاة في دين الله تعالى منزلة عظيمة، ورتبتها رتبة خطيرة، فهي عمود الإسلام - أي قوامه - وهي ركنه الفاصل بين الكفر والإيمان، وموضعها من دين الله تعالى كموضع الرأس من الجسد. وهي أعظم عبادة شرّعها ربّ الأرباب وملك الملوك جلَّ في علاه وتقدّس، وأحبّ الأعمال إلى الله تعالى، وأفضل ما توسّل به المتوسّلون للتقرّب إليه جلّ شأنه، وهي معراج المؤمنين والعارفين، والصلاة أوّل ما افترض الله سبحانه على عباده ليتشرّفوا بعبادته، ويتمتّعوا بطاعته، ويظفروا بمناجاته، ويسعدوا برحمته وهي من المرتكزات الأساسية لصلة الإنسان بالله وإحياء معاني الإيمان في قلبه، كما أنّها أهمّ الوسائل في تزكية النفس، وهي علم ميزان لهذه التزكية، والصلاة أول ما يجب تعلّمه من الفرائض، وهي آخر وصايا أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام إلى أوصيائهم، وأهليهم وأممهم، فمن حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، وإنّ شفاعة أنبياء الله تعالى وأوصيائهم عليهم السلام لا تنال مستخفّاً بالصلاة، كما أنها مَفْزَعٌ وملجأ وطمأنينة لكلّ من حزبه أمر، أو حلّ به كرب، أو أراد أن يرتاح من هموم الدنيا ونكدها حيث يجد فيها فائدة للأبدان، وراحة للأفئدة والألباب، ولقد بلغ من شأن الصلاة أنّها أول ما يُحاسب عليه العبد، فإنْ صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، كما جاء في الحديث الوارد عن مولانا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : "إنّ عمود الدين الصّلاة، وهي أوَّل ما يُنظَر فيه من عمل ابن آدم، فإنْ صحّت نُظِرَ في

 

13


1

المقدمة

عمله، وإن لم تَصِحَّ لم يُنظَر في بقيّة عمله"[1].

 

هذا الكتاب قربان الأتقياء, سلسلة من الدروس المنهجية التي تُعرّف المسلم بحقيقة الصلاة ومكانتها وأهدافها وآثارها في الإسلام، وقد استندنا في تأسيس أفكار دروس الكتاب، وكتابة مضامينه على الآيات والروايات الشريفة، إضافة إلى فتاوى الفقهاء؛ ليكون الكتاب أصيلاً في مضامينه واستدلالاته، ومفيداً للدّارسين والقرّاء الكرّام.

 

والحمد لله رب العالمين

 


[1] الفقيه المُحْدّث الشيخ مُحمّدْ بن الحسن الحُر العاملي، وسائل الشيعة، نشر وتحقيق وتصحيح آل البيت عليه السلام ، قم، الطبعة الأولى، 1409هـ، ج 4، ص 31، 8، باب وجوب إتمام الصلاة و إقامتها.

 

 

14


2

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

الدرس الأول

معنى الصلاة ووجوبها

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعرَّف على معنى الصلاة لغة واصطلاحاً.

2- يستنتج أهمّية الصلاة في الإسلام من خلال الآيات.

3- يستدلّ على وجوب الصلاة من خلال الروايات.

 

15


3

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

مقدّمة

الصلاة عبادة من أهمّ العبادات التي يجب على كلّ مسلم أن يفقه معانيها وأحكامها درساً وتطبيقاً لعظم قدرها، وسموّ مكانتها في الإسلام، ومن هنا ننطلق، فنبدأ أوّلاً بتوضيح معناها اللغوي بإشارة نافعة ماتعة ومقتضبة لأنّ بعض القلوب قد يكون البحث الأدبيّ واللغويّ ثقيلاً عليها أو يشعرها بالملل عند قرائته، فيُبتغى لها طرائف الحكمة كما أوصى بذلك مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.

 

الصلاة لغة

المعروف أنّ الصلاة لغة الدعاء: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1]، أي: ادع لهم، وقد صرّح فقهاء اللغة بأنّ لفظها من الألفاظ المشتركة، فقال ابن منظور: "الصَّلاةُ الرُّكوعُ والسُّجودُ.. والصلاةُ الدُّعاءُ والاستغفارُ،.. ومنه قوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[2], فالصَّلاةُ من الملائكة دُعاءٌ واسْتِغْفارٌ ومن الله رحمةٌ، وبه سُمِّيَت الصلاةُ لِما فيها من الدُّعاءِ والاسْتِغْفارِ..، وقال ابن الأَعرابي الصلاةُ من اللهِ رحمةٌ، ومن المخلوقين الملائكةِ والإنْسِ والجِنِّ القيامُ والركوعُ والسجودُ والدعاءُ والتسبيحُ، والصلاةُ من الطَّيرِ والهَوَامِّ التسبيح، وقال الزجاج: الأَصلُ في الصلاةِ اللُّزوم يُقال قد صَلِيَ واصْطَلَى إذا لَزِمَ، ومن هذا مَنْ يُصْلَى في النار أَي يُلْزَم النارَ..، والقولُ عندي هو: إنّما الصلاةُ لُزومُ ما فرَضَ اللهُ تعالى، والصلاةُ من

 


[1] سورة التوبة، الآية 103.

[2] سورة الأحزاب، الآية 56.

 

17


4

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

أَعظم الفَرْض الذي أُمِرَ بلُزومِه، والصلاةُ واحدةُ الصَّلواتِ المَفْروضةِ، وهو اسمٌ يوضَعُ مَوْضِعَ المَصْدر تقول صَلَّيْتُ صلاةً، ولا تَقُلْ تَصْلِيةً، وصلَّيْتُ على النبي[1] صلى الله عليه وآله وسلم .

 

معنى الصلاة اصطلاحاً (شرعاً)

اختلف الفقهاء في تعريفها شرعاً، وقلّ أن يخلو تعريف منها عن الخلل، ومن أجودها ما عرّف به شيخنا في الذّكرى، وهو: "أنّها أفعال مفتتحة بالتكبير. مشترطة بالقبلة للقربة، ثم زدت فيه ونقصت، فصار إلى قولنا: (أفعال مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتّسليم للقربة)، وأنا زعيم بأنّه أسلم ممّا كان عليه، ولا أضمن عدم ورود شيء عليه[2]، وكلّ فقهائنا ومراجعنا الكرام قالوا: "مشروطة بطهور".

 

ويُمكننا القول إنّها قربة ذات إحرام وسلام كصلاة الجـنازة، ففيها الإحرام والسلام دون الركـوع والسجــود أو مع ركوع وقنوت وسجود كالصلوات المعهودة المشتملة على الإحرام والسلام والركوع والقنوت والسـجود.

 

أو سجود فقط كسجود التلاوة، فهو صلاة، ولكنّه ليس فيه ركوع، ولا إحرام، ولا سـلام.

 

وتُعدّ الصلاة من أعظم العبادات البدنية، وأشرفها، وقد جمع الله فيها لبني آدم أعمال الملائكة كلّهم من قيام وركوع وقنوت وسجود، وذكر وقراءة واستغفار ودعاء، وصلاة على النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  وأصنافاً مهمّة من أعمال بني آدم.

 


[1] محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، ج 14، ص 464، طبعة 1، دار صادر، بيروت.

قال ابن الأَثير: وقد تكرّر في الحديث ذكرُ الصلاةِ، وهي العبادةُ المخصوصةُ، وأَصلُها الدعاءُ في اللغة، فسُمِّيت ببعض أَجزائِها، وقيل أَصلُها في اللغة التعظيم، وسُمِّيت الصلاةُ المخصوصة صلاةً لما فيها من تعظيم الرَّبِّ تعالى وتقدّس، والصلواتُ لله أَي: الأَدْعِية التي يُرادُ بها تعظيمُ اللهِ هو مُسَتحِقُّها لا تَلِيقُ بأَحدٍ سواه، وأَمّا قولنا اللهم صلِّ على محمدٍ، فمعناه عَظِّمْه في الدُّنيا بإعلاءِ ذِكرِهِ، وإظْهارِ دعْوَتِه وإبقاءِ شَريعتِه وفي الآخرة بتَشْفِيعهِ في أُمَّتهِ، وتضعيفِ أَجْرهِ ومَثُوبَتهِ، وقيل: المعنى: لمَّا أَمَرَنا اللهُ سبحانه بالصلاة عليه، ولم نَبْلُغ قَدْرَ الواجبِ من ذلك أَحَلْناهُ على اللهِ، وقُلنا: اللهم صلِّ أَنتَ على محمدٍ لأَنك أَعْلَمُ بما يَليق به.

[2] المحقق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي، جامع المقاصد في شرح القواعد، ج 2، ص 6، كتاب الصلاة، طبعة مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، وهو قول المحقق الأردبيلي أيضاً.

 

18


5

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

معاني الصلاة في القرآن الكريم

لم يقصر القرآن الكريم إطلاق لفظ "الصلاة" على الصلوات الخمس المفروضة؛ بل أطلقه عليها وعلى غيرها، كما لم يقصر التعبير عن الصلاة المفروضة على لفظ "الصلاة" وحدها, بل عبَّر عن الصلاة المفروضة بألفاظ أخرى غير لفظ "الصلاة" وكان مراداً به عِدَّة معانٍ:

المعنى الأول: جاءت الصلاة بمعنى الدعاء في قوله تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1], أي: ادع لهم.

 

والمعنى الثاني: فقد جاءت فيه بمعنى الاستغفار، وذلك في قول الله تعالى: ﴿وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2], وصلوات الرسول: استغفاره لهم.

 

الثالث: بمعنى بيوت الصلاة كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[3].

 

والمعنى الرابع: جاءت فيه بمعنى الإسلام كقوله سبحانه: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾[4]. أي: ولا أسلم.

 

والمعنى الخامس: جاءت الصلاة فيه بمعنى الدين كقول الملأ لنبي الله شعيب عليه السلام: ﴿يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾[5].

 

وفي المعنى السادس: أتت الصلاة بمعنى القراءة كما قال الباري: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾[6] أي بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبّوا القرآن.

 


[1] سورة التوبة، الآية 103.

[2] سورة التوبة، الآية 99.

[3] سورة الحج، الآية 40.

[4] سورة القيامة، الآية 31.

[5] سورة هود، الآية 87.

[6] سورة الإسراء، الآية 110.

 

19


6

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

وفي المعنى السابع: أتت بمعنى الصلاة الشرعية، أو الصلوات الخمس، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[1].

 

وفي المعنى الثامن: جاءت الصلاة بمعنى صلاة الأنبياء والأمم الماضية، كقول المسيح عليه السلام: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾[2], وقول الله تعالى واصفاً حال نبيّه إسماعيل عليه السلام: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾[3].

 

كان هذا بالنسبة لإطلاق لفظ الصلاة في القرآن الكريم على معانٍ متعدّدة، ومنها المعنى الشرعي.

 

اهتمام القرآن بأجزاء الصلاة

كما عبَّر القرآن عن الصلاة بألفاظٍ أخرى غير لفظ "الصلاة" ومنها:

الأول: عبَّر عن صلاة الجمعة بلفظ الذكر، فقال تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾[4], وعبَّر عن الصلوات الخمس بالذكر أيضاً، فقال جلّ شأنه: ﴿فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ﴾[5] أي: صلّوا الصلاة كاملة بدون نقص.

 

الثاني: التعبير عن الصلاة بلفظ الاستغفار. قال تعالى: ﴿وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: يصلّون, لأنَّ في الصلاة سؤال المغفرة.

 

الثالث: كما عبّر الله جلّ شأنه في الفرقان الحكيم عن الصلاة بلفظ الإيمان، فقال تعالى ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾[6], فما أعظم هذه الآية وأطول شأوها في مضمار القلوب.

 


[1] سورة البقرة، الآية 3.

[2] سورة مريم، الآية 31.

[3] سورة مريم، الآية 55.

[4] سورة الجمعة، الآية 9.

[5] سورة البقرة، الآية 239.

[6] سورة البقرة، الآية 143.

 

20


7

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

تلك بعض المعاني التي يشملها لفظ الصلاة في القرآن، وهذه بعض الألفاظ التي عبّر بها القرآن الكريم عن الصلاة، وحين نتأمّل في هذا التعبير القرآني نُدرك اهتمام القرآن بالصلاة، وتفخيمه لشأنها لفظاً ومعنى، فإذا قيل: علّة اهتمام القرآن بأجزاء الصلاة وإطلاقها على كلّ الصلاة ظاهرة لا تخفى، فما عِلَّة اهتمامه باسم (الصلاة) وإطلاقها على غيرها؟ فالجواب: إنَّ المتأمِّل في المعاني التي أُطلق عليها لفظ الصلاة يجدها لا تعدو أربع حالات:

الأولى: استعمال كلمة (الصلاة) في معناها الأصلي (الدعاء)، ومنه الاستغفار.

 

الثانية: إطلاق الكلّ على البعض، مثل إطلاق الصلاة على صلاة الخوف.

 

الثالثة: إطلاق الصلاة على بيوت الصلاة.

 

الرابعة: إطلاق لفظ الصلاة على غيرها؛ لإظهار الصلة الوثيقة بين المعنيين، وجعل اللفظ (الصلاة) بمثابة الرباط القوي بينهما، الذي يجعلهما بالتّالي - كالشيء الواحد الذي لا ينفصل بعضه عن بعض - كإطلاق لفظ الصلاة على الدين في:

﴿أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ﴾[1] (أو على الإسلام في: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾[2]) أي: ولا أسلم، وفي هذا بلا شكّ كشف للتلازم بين الصلاة والدين، أو الصلاة والإسلام، أو إطلاقها على المغفرة في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾[3]، أو على الرحمة في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾[4].

 

ولو لم يكن في استعمالات القرآن كلّها للفظ الصلاة إلاَّ إطلاقه لها على الدين والإسلام لكفى بهما بياناً لمفهوم الصلاة في القرآن الكريم، حيث جعلهما كالشيء الواحد الذي لا ينفصل بعضه عن بعض.

 


[1] سورة هود، الآية 87.

[2] سورة القيامة، الآية 31.

[3] سورة الأحزاب، الآية 43.

[4] سورة البقرة، الآية 157.

 

21


8

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

وهذا المعنى ظاهر في حديث إمامنا الصادق الذي رواه عن أبيه عليهما السلام، عن جابر قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : "ما بين الكفر والإيمان إلاّ ترك الصلاة"[1].

 

فأيّ تلازم بين الصلاة والإسلام أكثر من هذا؟! وكفى بهذا المفهوم للصلاة في القرآن بياناً.

 

وجوب الصلاة

على الرغم من أنّ أحد أعاظم فقهاء الإمامية قد قال وهو مُحقّ في قوله: "صلاة اليوم والليلة خمس... لا خلاف في وجوبها فيهما، بل هي من ضروريّات الدين المستغنية عن الاستدلال بالكتاب المبين، وإجماع المسلمين، والمتواتر من سنّة سيّد المرسلين والأئمّة المهديّين صلوات الله عليهم"[2] إلا أنّه لا بأس من زيادة التوضيح التي قد تلزم بعض القرّاء، فنقول بعد الاستعانة بالله تعالى:

الصلاة واجبة: بالكتاب، والسنّة، وإجماع الأمّة، وجوب عينيّ على كلّ مسلم بالغ عاقل ذكراً كان أو أنثى حرّاً كان أو عبداً... إلا الحائض والنفساء.

 

أمّا وجوبها في كتاب الله، فمن خلال عدّة آيات شريفة كقوله عزّ شأنه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[3]، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[4] وروي عن مولانا الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قول اللهِ عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾[5]: "أي مَوجوباً"[6].

 


[1] الفقيه المُحْدّثِ الشيخُ مُحمّدْ بن الحسن الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏4، ص 41، 11 - باب ثبوت الكفر و الارتداد بترك الصلاة الواجبة جحودا لها أو استخفافا بها.

[2] الشيخ الأجل أستاذ الكل الشيخ محمد حسن الأصفهاني أعلى الله مقامه، جواهر الكلام في شرح شرايع الأحكام، ج 3، ص 11.

[3] سورة البينة، الآية 5.

[4] سورة البقرة، الآية 43.

[5] سورة النساء، الآية 103.

[6] ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 3، ص 271، باب فرض الصلاة، ط: الدار الإسلامية.

 

22


9

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

وأما وجوبها في السنّة النبويّة: روى زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عمّا فرض الله عزّ وجلّ من الصلاة، فقال: "خمس صلوات في الليل والنهار"، فقلتُ: فهل سمّاهنّ وبيّنهنّ في كتابه؟ قال: "نعم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾[1]"..، ثم بيّن مولانا الباقر أوقاتهنّ[2].

 

والأحاديث الشريفة في هذا الباب كثيرة.

 

وأما الإجماع: فمنعقد من جهة الأمّة قولاً وفعلاً على وجوب هذه الصلوات الخمس من الصدر الأول إلى يومنا هذا، ولا يُخالف أحد من العلماء في ذلك.

 

قال الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني قدس سره: "الصلاة واجبة ومندوبة، فالواجبة خمس: اليومية، ومنها الجمعة، وكذا قضاء الولد الأكبر عن والده، وصلاة الآيات، والطواف الواجب، والأموات، وما التزمه المكلّف بنذر أو إجارة أو غيرهما، وفي عدّ الأخيرة في الواجب مسامحة إذ الواجب هو الوفاء بالنذر ونحوه لا عنوان الصلاة، والمندوبة أكثر من أن تُحصى منها الرواتب اليومية.."[3].

 

وقال آية الله العظمى الشيخ محمد تقي بهجت رحمه الله: "وأمّا الشريعة، فهي تتضمّن أحكاماً وتشريعات مختلفة، وفي مجالات متنوّعة. وبعض هذه الأحكام يعرفه المكلّف بالضرورة، لوضوحه وبداهته في دين الإسلام، كوجوب الصلاة وصيام شهر رمضان"[4].

 

جعلنا الله وإيّاكم ممّن قال الله تعالى فيهم: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[5] إنّه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.

 


[1] سورة الإسراء، الآية 78.

[2] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏3، ص 271 - 272، باب فرض الصلاة، ط: الدار الإسلامية.

[3] الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، ج 1، ص 124.

[4] الشيخ محمد تقي بهجت، توضيح المسائل، ج 1، ص 2.

[5] سورة الحج، الآية 41.

 

23


10

الدرس الأوَّل: معنى الصلاة ووجوبها

المفاهيم الرئيسة

- الصلاة لغةً الدعاء, وصرَّح فقهاء اللغة بأنَّها من الألفاظ المشتركة, فالصلاة من اللهِ رحمةٌ، ومن المخلوقين الملائكةِ والإنْسِ والجِنِّ القيامُ والركوعُ والسجودُ والدعاءُ والتسبيحُ والاستغفار، والصلاةُ من الطَّيرِ والهَوَامِّ التسبيح.

 

- اختلف الفقهاء في التعريف الشرعي للصلاة, وأجود التعريفات أنّها أفعال مفتتحة بالتكبير, مختتمة بالتسليم للقربى.

 

- لم يقصر القرآن الكريم إطلاق لفظ "الصلاة" على الصلوات الخمس المفروضة, بل أطلقه على معان أخرى هي: الدعاء, الاستغفار, بيوت الصلاة, القراءة, الإسلام, صلاة الأنبياء والأمم الماضية.

 

- عبّر القرآن عن الصلاة المفروضة بألفاظ أخرى منها: الذكر, الاستغفار, الإيمان.

 

- إنَّ المتأمِّل في المعاني التي أُطلق عليها لفظ الصلاة يجدها لا تعدو أربع حالات: استعمال كلمة (الصلاة) في معناها الأصلي كالدعاء, إطلاق الكلّ على البعض مثل إطلاق الصلاة على صلاة الخوف، إطلاق لفظ الصلاة على بيوت الصلاة, أوعلى غيرها كالإسلام والإيمان والرحمة والمغفرة.

 

- إنَّ إطلاق لفظ الصلاة على غيرها هدفه إظهار الصلة الوثيقة بين المعنيين.

 

- الصلاة واجبة: بالكتاب، والسنّة، وإجماع الأمّة، وجوب عينيّ على كلّ مسلم بالغ عاقل ذكراً كان أو أنثى حرّاً كان أو عبداً, ويسقط وجوبها فقط على الأنثى في حالتي النفاس والحيض.

 

24


11

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

الدرس الثاني

تاريخ الصلاة

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يوضٍّح أنَّ الصلاة فرضت على الأنبياء عليهم السلام.

2- يتعرَّف إلى تاريخ تشريع الصلاة في الإسلام.

3- يشرح مكانة الصلاة في شريعة النبي إبراهيم عليه السلام.

 

25

 


12

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

مقدّمة

ذُكرت بعض التفاصيل المتعلّقة بسِير أنبياء الله تعالى ورسله صلوات الله عليهم في الكثير من سور كتاب الله المجيد، إلاّ أنّ التأكيد في (سورة الأنبياء) كان أغلبه على أنّ هؤلاء العظام عندما كانوا يبتلون بالضائقات أو إذا نزل في ساحتهم بلاء أو مكروه، كانوا يُسارعون بمدّ يد التوسّل والاستعانة بالله تعالى راجين لطفه وعونه، وكان الله سبحانه يفتح أمامهم الطرق المغلقة، ويُنجّيهم من سيول البلايا والرزايا. كيف لا، وهم الذين جعلهم الله تعالى أئمة أبراراً يهدون بأمره آناء الليل وكل النهار، وأخبرنا أنّ ممّا أوحاه إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة، فقال سبحانه: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾[1], فإقامة الصلاة ممّا أوحاه الله تعالى إليهم جميعاً، وقد أخبرنا نبيّنا المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم أنّهم  عليهم السلام  أخوة من أمّهات شتّى دينهم واحد من أولهم إلى خاتمهم، وسُنّتهم واحدة: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا * الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾[2].

 

نهج الأنبياء

قد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتضمّن ما يدلّ على افتراض الصلاة على الأنبياء والمرسلين الذين بعثوا قبل نبيّنا المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن هذه الآيات المباركة ذكرُ الله عزّ وجلّ لجملة من الأنبياء بأوصافهم، ثم قوله جل شأنه: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ

 


[1] سورة الأنبياء، الآية 73.

[2] سورة الأحزاب، الآيتان 38 ـ 39.

 

27


13

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾، وأتبع الله تعالى هذه الآية المباركة بقوله:

﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾[1]، فتأمّل رحمك الله تعالى كيف أنّ النبيّين من ذريّة آدم ومن الذين حملهم الله تعالى مع نوح عليه السلام، ومن ذرية إبراهيم ويعقوب عليهما التحية والسلام، وكلّ من هداه الله واجتباه من ذراريهم هم أهل الصلاة ومقيميها، ثم أخبر تعالى أنّه خلف من بعد المذكورين عليهم السلام خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات توعّدهم الله بملاقاة العقوبة المخزية. من خلال ما تقدّم يظهر لنا بوضوح أنّ الصلاة هي نهج الأنبياء، ومقترن وجودها بوجودهم صلوات الله عليهم، وبناءاً على ذلك يُمكن اعتبار الصلاة أقدم العبادات تاريخاً، وهي من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإن اختلفت صورها من شرع إلى شرع[2]، ونحن فيما يلي سنستعرض شواهد على هذا الأمر وذلك عبر جملة من آيات كتاب الله المجيد كونه تبياناً لا تُهدم أركانه، وهو الثقل الأكبر ومصدر التشريع الأول، ومن خلال الروايات الشريفة التي وردتنا عن الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، كونهم أعدال كتاب الله وسفرته، وورثة خاتم الأنبياء وأحفاد إمام المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم الطيّبين الطاهرين، وهم أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل.

 

صلاة النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ ونوح

حدّد مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام المكان الذي صُلب فيه عمّه زيد الشهيد رضوان الله عليه في الكوفة، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين، وهو آخر السراجين، فنزل، وقال لصاحبه: "انزل فإنّ هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول

 


[1] سورة مريم، الآيتان 58 - 59.

[2] الحسين بن محمد بن المفضل "الراغب الأصفهاني"، مفردات ألفاظ القرآن، ج 1، ص 590، ط: دار القلم، دمشق.

 

28


14

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

الذي خطّه آدم عليه السلام، وأنا أكره أن أدخله راكباً"[1]، فأبونا آدم عليه السلام  قد خطّ مسجداً كي يُصلّي لربّه سبحانه وتعالى. كما بنى البيت الحرام قبل ذلك، ووضع أساسه، وكساه الشعر، وحجّ إليه[2].

 

وسأل أبو بكر الحضرمي مولانا الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قائلاً: أيّ البقاع أفضل بعد حرم الله وحرم رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال عليه السلام : "الكوفة يا أبا بكر هي الزكية الطاهرة فيها قبور النبيّين المرسلين، وغير المرسلين، والأوصياء الصادقين،وفيها مسجد سهيل - السهلة - الذي لم يبعث الله نبياً إلا وقد صلّى فيه..."[3]، وكذلك روى هذه الكلمات أبو بصير عن مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بعين لفظه، فأمعن النظر فيه[4].

 

وروى عبد الله بن سنان، عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام ، أنّه قال: "لمّا مات آدم فبلغ إلى الصلاة عليه، قال هبة الله (نبي الله شيث عليه السلام) لجبرائيل: تقدّم يا رسول الله، فصل على نبي الله، فقال جبرائيل: إنّ الله أمرنا بالسجود لأبيك، فلسنا نتقدّم أبرارولده، وأنت من أبرّهم، فتقدّم فكبّر عليه خمساً عدّة الصلوات التي فرضها الله على أمّة محمد  صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي السنة الجارية في ولده إلى يوم القيامة"[5].

 

وأمّا صلاة نبي الله إدريس عليه السلام: فشاهدها الآية المتقدّمة كونه من الذين ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ﴾, ثم قول إمامنا الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام وهو يوصي صاحبه ابن مهران ويوجّهه: "إذا دخلت الكوفة، فائت مسجد السهلة، فصلِّ فيه، واسأل الله حاجتك لدينك ودنياك، فإنّ مسجد السهلة بيت إدريس النبي عليه السلام

 


[1] ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏8، ص 280، حديث نوح عليه السلام  يوم القيامة... ص: 267.

[2] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج‏2، ص 229. باب في حج الأنبياء والمرسلين

[3] شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، ج‏6، ص31، باب فضل الكوفة والمواضع التي يستحب فيها الصلاة....

[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1403هـ، ج 97، ص 436.

[5] المصدر السابق، ج‏1، ص 163، باب الصلاة على الميت.

 

29


15

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

الذي كان يخيط فيه، ويُصلّي فيه... إلى آخر كلامه سلام الله وتحيّاته عليه"[1].

 

ولقد حظيت الصلاة بالمرتبة الثانية بعد التوحيد في الشريعة التي شرّعها الله لنبيّه نوح عليه السلام وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام مولانا الإمام أبو جعفر الباقر فيما حمله عن آبائه الكرام عليهم السلام حيث قال: "كانت شريعة نوح عليه السلام أن يُعبد الله بالتوحيد، والإخلاص، وخلع الأنداد، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها، وأخذ ميثاقه على نوح عليه السلام، والنبيّين أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئاً، وأمره بالصلاة، والأمر والنهي، والحلال والحرام...."[2] ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾[3].

 

صلاة إبراهيم وآل إبراهيم

قال الله تعالى فيما اقتصّ من خبر خليله إبراهيم حين أسكن أُمّنا هاجر وابنه اسماعيل  عليهم السلام   جوار أسس البيت الحرام، وابتهل إلى الله قائلاً: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾[4], وحكى الباري سبحانه في فرقانه الحكيم ابتهالاً آخر من ابتهالات خليله إبراهيم بعد أن وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق، فحمد الله وتوجّه إليه داعياً: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾[5].

 

كذلك حظيت الصلاة في شريعة إبراهيم عليه السلام بالمكانة عينها التي حظيت بها في شريعة نبيّ الله نوح عليه السلام ، فقد روى مولانا الإمام الصادق فيما حمله عن آبائه

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 11، ص 280.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج‏8، ص 267، حديث نوح عليه السلام  يوم القيامة، ط: الدار الإسلامية.

[3] سورة مريم، الآية 58.

[4] سورة إبراهيم، الآية 37.

[5] سورة إبراهيم، الآية 40.

 

30


16

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

الكرام عليهم السلام: "كان بين نوح وإبراهيم عليهما السلام ألف سنة، وكانت شريعة إبراهيم بالتوحيد، والإخلاص، وخلع الأنداد، وهي الفطرة التي فطر الناس عليها وهي الحنيفية، وأخذ عليه ميثاقه، وأن لا يعبد إلا الله، ولا يشرك به شيئاً، قال: وأمره بالصلاة، والأمر والنهي..."[1].

 

وبعد أن مدح الله تعالى في القرآن الكريم نبيّه المرسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ووصفه بأنّه صادق الوعد حكى لنا شيئاً من سيرته، فقال: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا﴾[2], وهذا النعت من أشرفَ الخِصال وأَجلَّ الصفات، والمراد بأهله: خاصّته من عترته، وعشيرته وقومه كما هو ظاهر اللفظ.

 

ولأنّ الصلاة تدعو إلى التوحيد والتطهير أَمَرَ خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام قومه بالتوحيد، وخلع الأنداد ونهاهم عن بخس المكيال والميزان وأمرهم بإيفاء الحقوق، فما زاد قومه إلا إعراضاً وبعداً عنه قائلين له: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾[3] إِذ كانوا يعتبرون أنفسهم ذوي فهم، وأنّ شعيباً - والعياذ بالله - يجهل الأُمور !! وكانوا يتصوّرون متسائلين أنَّ هذه الصلاة ما عسى أن تؤثّر في تطفيف المكيال وبخس الميزان؟ على أنّه من المعلوم أنّ أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين إقامة الصلاة، وبين الصدق والأمانة.

 

صلاة ذرية نبي الله يعقوب عليه السلام

منهم ثالث أولو العزم من الرسل كليم الله تعالى موسى عليه السلام  عندما أتى الوادي المقدّس طوى، وتلقّى الرسالة، فخاطبه الباري سبحانه: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 73، ص 68.

[2] سورة مريم، الآية 55.

[3] سورة هود، الآية 87.

 

31


17

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[1] وسارت أيام الدعوة إلى الله حتى أوحى الله إليه ولأخيه نبيّ الله هارون عليهما السلام: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[2].

 

وأمّا النبي الشاكر، والأوّاب الذاكر سليمان بن داود عليهما السلام، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ هذا النبي العظيم كان يُصلّي الغداة (الصبح) في الشام، والظهر في بلاد فارس[3].

 

وأمّا خبر صلاة نبي الله زكريا عليه السلام فقد قرنها الله تعالى ببشارته لهذا النبي العظيم لما وهب له يحيى عليه السلام فخلّدها الله تعالى بفرقانه الحكيم آيات تُتلى آناء الليل وأطراف النهار: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾[4], وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن رابع أولي العزم من الرسل عيسى المسيح عليه السلام  بأنّه قال، وهو في المهد صبيّاً: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾[5]. وكذلك أمّه البتول الطاهرة مريم عليها السلام فبعد أن أكرمها الله بعظيم المنزلة عنده جلّ شأنه: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾[6] خاطبتها الملائكة: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[7] لتكون من الشاكرين للمنعم جلّ شأنه على هذه النعمة العظيمة. وينقل لنا القرآن الكريم أنّ الصلاة هي ثاني الوصايا التي أوصى بها لقمان الحكيم ابنه، وهو يعظه، فقال له أولاً: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ

 


[1] سورة طه، الآية 14.

[2] سورة يونس، الآية 87.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 14، ص 99.

[4] سورة آل عمران، الآية 39.

[5] سورة مريم، الآيتان 30 ـ31.

[6] سورة آل عمران، الآية 42.

[7] سورة آل عمران، الآية 43.

 

32


18

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

عَظِيمٌ﴾[1] ثم خاطبه قائلاً له: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[2].

 

ومن الآيات الكريمة الدالّة على أنّ الصلاة كانت مفروضة على أهل الكتاب قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[3], ومن المعلوم لدينا أنّ الله سبحانه وتعالى جمع الأنبياء عليهم السلام ليلة الإسراء والمعراج، فصلّى بهم خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم إماماً، وهم كانوا يُصلّون بصلاته، ولا شكّ أنّ هؤلاء المأمومين من أنبياء الله ورسله كانوا يقتدون بإمام الأئمة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كبّر كبّروا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا قام قاموا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قعد قعدوا، وإذا سلّم سلّموا من ورائه صلوات الله عليه وآله وعليهم جميعاً، فهذا ما يقتضيه الشرع في اقتداء المأموم بالإمام في كلّ أفعاله حذو القذّة بالقذّة، وبالمحصّلة إنّ الروايات الواردة عن أئمّة الهدى من أهل بيت النبوّة عليهم السلام - في ذكر صلاة بقية الأنبياء عليهم السلام - كثيرة، ولولا خوف السأم لأطلقنا في استقصائها عنان القلم، لكن الذي ذكرناه كافٍ لما أردناه، والله الموفّق.

 

تاريخ الصلاة في الإسلام

أجمع علماء الإسلام قاطبة على أنّ الصلوات الخمس قد فُرضت على الأمّة المحمّدية في ليلة الإسراء والمعراج حيث كان خاتم النبيّين  صلى الله عليه وآله وسلم  وافداً على الله تعالى، ولأنّ ضيف الكريم كريم، أتحفه مولاه بهذه التحفة التي هي غرّة الطاعات ورأس المعاملات والقربات، وفضلها على سائر العبادات لمزايا كثيرة، ومن هذه المزايا أنّها فُرضت

 


[1] سورة لقمان، الآية 13.

[2] سورة لقمان، الآية 17.

[3] سورة البينة، الآيتان 4- 5.

 

33


19

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

في ذاك المقام الأسنى على بساط العزّة بحضرة الملأ الأعلى، وفي هذا تنويه بهذه الطاعة، وتشريف لها على سائر الطاعات، واتفقت أقوال من يُعتنى بقوله من علماء الإسلام على أنّ الإسراء كان بمكّة المكرّمة قبل الهجرة النبويّة على مهاجرها العظيم وأهل بيته أفضل الصلاة وأزكى السلام، ثم اختلفوا في السنة التي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما هو مروي عن ابن عباس، وقيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقيل في السنة الخامسة، أو السادسة، وقيل وقيل، وقيل... والأقوال المنقولة في تعيينها مختلفة، ليس فيها ما يُقطع به، ولكن المتتبّع يعلم أنّه لا منافاة بين كونه  صلى الله عليه وآله وسلم  كان يُصلّي صلاة خاصّة، وبين كون الصلوات الخمس فُرضت عليه في السماء ليلة الإسراء، فإنّ فرض أصل صلاته كان قبل ذلك، وإنّ هذا الأمر لم يكن خافياً على من عاداه من قريش فضلاً عن أتباعه. والأخبار التي أوردها جملة من علماء المسلمين وتنصّ على صلاة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  منذ بدء بعثته كثيرة حيث كانَت فَرضاً عَلَيهِ، وسُنَّةً لأمّتِهِ، وكذلك نافلة الليل قد كانت مشروعة له صلى الله عليه وآله وسلم  بنص الكتاب المجيد، والذي فيه أيضاً عدّة من الآيات الكريمة تدلّ على أنّه  صلى الله عليه وآله وسلم  كان يُقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيّاً كقوله تعالى في سورة العلق: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾[1], وسورة العلق هي أول سورة نزلت على رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  كما هو معلوم، وفي تفسير هذه الآيات يقول العلّامة الطباطبائي أعلى الله مقامه: المراد بالعبد الذي كان يُصلّي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم  على ما يُستفاد من آخر الآيات حيث ينهاه  صلى الله عليه وآله وسلم  عن طاعة ذلك الناهي، ويأمره بالسجود والاقتراب، وسياق الآيات - على تقدير كون السورة أول ما نزل من القرآن ونزولها دفعة واحدة - يدلّ على صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم  قبل نزول القرآن، وفيه دلالة على نبوّته قبل رسالته بالقرآن، وأمّا ما ذكره بعضهم أنّه لم تكن الصلاة مفروضة في أول البعثة، وإنّما شُرّعت ليلة المعراج على ما في الأخبار، وقوله تعالى:

 


[1] سورة العلق، الآيتان 9 - 10.

 

34


20

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾[1], ففيه أنّ المسلَّم من دلالتها أنّ الصلوات الخمس اليومية إنّما فُرضت بهيئتها الخاصّة ركعتين ركعتين ليلة المعراج، ولا دلالة فيها على عدم تشريعها قبل، وقد ورد في كثير من السور المكّية، ومنها النازلة قبل سورة الإسراء كالمدّثر والمزمّل وغيرهما ذكر الصلاة بتعبيرات مختلفة[2].

 

صلاة النبي مع خديجة وعلي  عليهم السلام 

قد جاء في العديد من الروايات ذكر صلاة النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم  مع أمّ المؤمنين خديجة وأمير المؤمنين علي عليهما السلام في أول البعثة النبويّة الشريفة، ومن هذه الروايات ما رواه إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع فرفع الغلام والمرأة فقلت: يا عباس أمرٌ عظيم فقال: أمرٌ عظيم. فقلت: ويحك ما هذا؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أنّ الله تعالى بعثه رسولاً وأنّ كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمّد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء. قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه: ليتني كنت رابعاً[3].

 


[1] سورة الإسراء، الآية 78.

[2] المفسر السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، بيان روائي لتفسير سورة العلق.

[3] الثعلبي، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، ج5، ص84.

 

35


21

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

وقال مولانا الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام - في خطبته المسمّاة بالقاصعة -: "ولقد كان  صلى الله عليه وآله وسلم  يُجاور في كلّ سنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يَجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غيرَ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  وخديجة، وأنا ثالثهما؛ أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة"[1].

 

الصلاة على ما هي اليوم عليه

يقول العلّامة المحقّق السيد جعفر مرتضى العاملي - بعد أن أورد روايتين عن نافع بن جبير والحسن البصري مفادهما أنّ صلاة الحضر أول ما فُرضت فُرضت أربعاً -: ولكنّنا لا نستطيع قبول ذلك، لوجود الروايات الثابتة والصحيحة عند الشيعة، وعند غيرهم، الدالّة على أنّ صلاة الحضر قد فُرضت أولاً ركعتين، ثم زيد فيها - إلا أن يكون المراد: أنّ الصلاة أُبلغت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أولاً كاملة - ولكن المصلحة كانت تلزم أولاً بركعتين ثم صارت تلزم بالكل، وفوّض إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم  أمر تبليغ ذلك في الوقت المناسب[2].

 

وفي صحيحة الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: "إنّ الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه، فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[3], ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ليسوس عباده، فقال عزّوجلّ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[4], وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مسدَّداً موفَّقاً مؤيَّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يُخطأ في شيء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب الله، ثم إنّ الله عزّ وجلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  إلى الركعتين ركعتين، وإلى المغرب

 


[1] عز الدين أبن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج 13 ص 198، طبعة 1: دار الكتب العلمية.

[2] السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 4، ص 297، ط 4: دار الهادي..

[3] سورة القلم، الآية 4.

[4] سورة الحشر، الآية 7.

 

36


22

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنّ إلا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب، فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك كله، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة، ثم سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر"[1].

 

ويروي الشيخ الصدوق بإسناده عن سعيد بن المسيب أنّه سأل علي بن الحسين عليهما السلام، فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال عليه السلام: "بالمدينة حين ظهرت الدعوة وقوي الإسلام، وكتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين، وفي العصر ركعتين، وفي المغرب ركعة، وفي العشاء الآخرة ركعتين، وأقرّ الفجر على ما فُرضت بمكة......"[2] إلى أخر كلامه سلام الله عليه، وفي هذا القدر كفاية لأهل العناية، وصلى الله على سيّدنا ومولانا رسول الله مُحمد وآله الطيّبين الطاهرين.

 


[1] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي،ج‏1، ص 266، ط الدار الإسلامية.

[2] محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 454، حديث رقم: 1319، باب علة التقصير في السفر، و علل الشرائع، ج‏2، ص 324، 16 باب العلة التي من أجلها تركت صلاة الفجر على حالها.

 

37


23

الدرس الثاني: تاريخ الصلاة

المفاهيم الرئيسة

- إنّ الصلاة هي نهج الأنبياء، ومقترن وجودها بوجودهم صلوات الله عليهم، وبناءاً على ذلك يُمكن اعتبار الصلاة أقدم العبادات تاريخاً، وهي من العبادات التي لم تنفك شريعة منها، وإنْ اختلفت صورها من شرع إلى شرع.

 

- نستدلّ على وجود الصلاة في شريعة الأنبياء السابقين من خلال الآيات القرآنية، التي بيَّنت وجود الصلاة ضمن شرائع الأنبياء السابقين كثيرة منها: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾ ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾.

 

- أجمع العلماء على أنّ الصلوات الخمس قد فُرضت على الأمّة المحمّدية في ليلة الإسراء واختلفوا في السنة التي أُسري به صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- لا منافاة بين كونه صلى الله عليه وآله وسلم  كان يُصلّي صلاة خاصّة، وبين كون الصلوات الخمس فُرضت عليه في السماء ليلة الإسراء فالنص القرآني يدل على أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيّاً كقوله تعالى في سورة العلق: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾.

 

- إنّ الصلاة أُبلغت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولاً  كاملة - ولكن المصلحة كانت تلزم أولاً بركعتين ثم صارت تلزم بالكل، وفوّض إلى النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أمر تبليغ ذلك في الوقت المناسب وقد قام صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ في المدينة المنوّرة حين ظهرت الدعوة.

 

38


24

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

الدرس الثالث

الصلاة عمود الدين

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يُدرك أهمّية الصلاة ويؤيّد ذلك بالشواهد.

2- يفهم السرّ في عدم جواز ترك الصلاة بحال من الأحوال.

3- يشرح كيف تكون الصلاة عمود الدين.

 

39


25

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

مقدّمة

المعروف والمشهور من سير أنبياء الله ورسله الكرام وأوصيائهم عليهم السلام أنّ الله سبحانه جعلهم سادة الدّاعين إليه، وأنّ أولى مهامهم كانت دعوة الخلق لتوحيد الله تبارك وتعالى وخلع الأنداد، والمعروف من سيرتهم أيضاً أنّ أهمّ ما يُعتنى بالدعوة إليه، وحثّ الناس عليه، وحضّهم على فعله هو الصلاة بعد التوحيد، فهي أهمّ المهمّات، وآكد الفرائض والواجبات، وقد ذكر الله تعالى الصلاة في عشرات الآيات القرآنية الكريمة، وجاءت الأحاديث الشريفة مؤكّدة وجوبها وأهمّيتها، وتحثّ عليها وتُحذّر أشدّ التحذير من تركها أو التهاون بها، وإنّ تركها والتكاسل عنها من صفات المنافقين كما جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة مبيّنة أنّ الصلاة هي الفارق بين المسلم وغير المسلم[1]، وأنّها من صفات المؤمنين المتّقين، وهي قرّة عين المسلم، إليها يُفزع إذا ضاق الصدر، وادلهمّت الخطوب كما كان يفعل مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يسأل السائل لم أولت الشريعة الإسلامية السمحاء كلّ هذه الأهمّية للصلاة؟ وما الميزة التي توجد في الصلاة دون سائر العبادات التي فرضها الله جلّ شأنه؟

 

إنّ وجوه أهمّية الصلاة كثيرة جداً ويصعب استقصاؤها، ومن هذه الوجوه ما قد عرفناه، ومنها ما لم نعرفه، والحقيقة أنّه لا يعلم أهمّيتها تمام العلم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة المعصومون من أهل بيته عليهم السلام، وأما نحن فيُمكننا الاستفادة في التعرّف على وجوه أهمّيتها من خلال تعريفها، ومعناها ووجوبها، وأهدافها، وفضائلها التي وردت في كتاب الله تعالى والروايات الشريفة المروية عن النبي الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  وعترته الطاهرة

 


[1] كما سيأتي في الدرسين الرابع والثامن، حيث استعرضنا العديد من الروايات هناك.

 

41


26

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

عليهم السلام وبذلك يستطيع كلّ كاتب متدبّر لهذا الأمر أن يُدلي بدلوه، فيُضيء على جوانب من وجوه أهمّية الصلاة التي ظهرت له.

 

وصيّة الله وأمره

إذا نظرنا إلى هذه الفريضة العظيمة وجدنا أنّها تحتلّ مكاناً عظيماً في الإسلام بل في كلّ الرسالات، فإنّه ما من نبيٍّ بُعث ولا رسالة نزلت إلا وفيها الأمر بإقامة الصلاة كما فيها الأمر بتوحيد الله عزّ وجلّ، فهي عبادة مشتركة لجميع أمم الأرض لأنّها وصيّة الله وأمره للنبيّين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، وقد قال ربّنا سبحانه حاكياً قول المسيح بن مريم عليه السلام : ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾[1], وأمر الله حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم  بقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾[2], وقال له: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[3]. إلى غير ذلك من الآيات التي تُبيّن أهمّية الصلاة ومكانتها.

 

ومن وجوه أهمّيتها العظمى أنّ النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  قد اقتصر واختصر في رمقه الأخير ساعة وداعه للدنيا على الوصاية بها، وهي كذلك آخر وصايا أنبياء الله تعالى ورسله  عليهم السلام  إلى أوصيائهم، وأهليهم وأممهم، وقد كتب سيّد الوصيّين أمير المؤمنين عليعليه السلام في وصيّته: ".. إنّي أُوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي وولدي، ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربّكم، ولا تموتنّ إلا وانتم مسلمون،..، الله الله في الصلاة، فإنّها خير العمل، إنّها عمود دينكم،... إلى أن قال: فإنّ آخر ما تكلّم به نبيّكم عليه السلام أن قال: أوصيكم بالضعيفين: النساء، وما ملكت أيمانكم. الصلاة الصلاة الصلاة...... إلى أخر ما أوصى به صلوات الله وسلامه عليه"[4].

 


[1] سورة مريم، الآية 31.

[2] سورة الإسراء، الآيتان 78، 79.

[3] سورة هود، الآية 114.

[4] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 7، ص 47، باب صدقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم  و فاطمة و الأئمة  عليهم السلام  و وصاياهم.

 

42


27

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

عمود الدين

احتلّت الصلاة المكانة العالية والرفيعة في دين الله حتى جعلها مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمود الإسلام، ومن المعلوم أنّ العمود إذا سَقط سقط ما بُني عليه، وهذا يدلّ دلالة عظيمة على فضل هذا الركن العظيم وعظم شأنه، وفي ذلك روى إمامنا الصادق عليه السلام عن آبائه الكرام عن جدّه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  قال: "مثل الصلاة مثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود نفعت الأطناب[1] والأوتاد والغشاء، وإذا انكسر العمود لم ينفع طنب ولا وتد ولا غشاء"[2].

 

واستعار مولانا الإمام الباقر عليه السلام من مشكاة جدّه سيد المرسلين قبساً من نور، فقال: "الصلاة عمود الدين، مثلها كمثل عمود الفسطاط، إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب"[3]. وحمل العود على الصلاة من باب التشبيه البليغ دليل واضح على أنّ الصلاة أفضل ما سواها بفسادها يفسد الدين بالكلّية ولا ينتفع به كما أنّ الفسطاط لا ينتفع به مع وجود الطنب والأوتاد بانتفاء العمود[4]. "ومن هنا، تكتسب العبادات، وعلى رأسها الصلاة، هذا القدر من الأهمّية، وتُسمّى (الصلاة) عمود الدين. فالصلاة حينما تؤدّى بانتباهٍ وبحضورِ قلبٍ لا يقتصر تأثيرها على ما تغرسه في قلب المصلّي وروحه، وإنّما يتّسع مداها ليملأ الأجواء المحيطة به نوراً وشذًى يسري أريجه إلى رحاب البيت والأسرة، وإلى محلّ العمل ومجلس الأصدقاء، وإلى كلّ ربوع مدينته، بل، وكلّ آفاق الحياة"[5].

 


[1] الأطناب جمع الطنب، وهو حبل الخباء والخيمة، لسان العرب ج 1، ص 560.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 264، باب فضل الصلاة.

[3] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏4، ص 23، 6 - باب تحريم الاستخفاف بالصلاة و التهاون بها.

[4] المولى محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 12، ص 63.

[5] الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله، من أعماق الصلاة، ص 71، طبعة جمعية المعارف الإسلامية.

 

43


28

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

أفضل الوسائل لذكر الله تعالى

جوهر الصلاة وحقيقتها أنّها ذكر الله وحده، فهي رمز العبودية لله، ودليل التسليم وعلامة الإيمان، وآية الإخلاص لذا قال الله سبحانه مخاطباً نبيّه الكليم موسى عليه السلام: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾,[1] وهذه آية من المحكمات التي تُبيّن مصداقاً من أبرز مصاديق وجوه أهمّية الصلاة، وذلك أنّ الإنسان يحتاج في حياته التي يعيشها في هذا العالم، إلى عمل يُذكّره بالله تعالى، والقيامة ودعوة الأنبياء، وهدف الخلق في فترات زمنية مختلفة، كي يحفظه من الغرق في دوّامة الغفلة والجهل، وتقوم الصلاة بهذه الوظيفة المهمّة. إنَّ هذا الأمر يدلّ على عناية الله سبحانه بهذه الصلاة، وعظم قدرها عنده جلّ وعلا، وأنّ المسلم لا يُطالب بفعل هذه الصلاة كيفما اتفق، وإنّما المطلوب من المسلم أن يُقيمها حقّ القيام، فيُصلّي الصلاة الشرعية بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وخشوعها، ومستحبّاتها، وبروحها، حتى يكون لها الأثر في حياته وسلوكه واستقامته على أمر الله عزّ وجلّ. لذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[2], قال المفسّرون المراد (بذكر الله) في هذه الآية الصلوات الخمس.

 

أوّل الأسئلة في مواقف القيامة

لقد أُشير في المصادر الإسلامية إلى نحو من الأولوية في ترتيب النظر في صحائف أعمال الناس وكتبهم يوم الحساب، فكانت الصلاة أوّل ما يُحاسب عليه العبد، ووجدنا أنّ القرآن الكريم يُصوّر حال أهل النار عندما يُسْأَلُون عن سبب ما هم فيه من عذاب فيقولون: لم نكن من المصلّين. قال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ

 


[1] سورة طه، الآية 14.

[2] سورة المنافقون، الآية 9.

 

44


29

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

الْمُصَلِّينَ﴾[1], فالصلاة من أوّل الأعمال التي كفر بها أولئك المكذّبون، وأوّل ما يندمون على تضييعه يوم القيامة.

 

جاء في الحديث الوارد عن مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : "إنّ عمود الدين الصّلاة، وهي أوَّل ما يُنظَر فيه من عمل ابن آدم، فإن صحّت نُظِرَ في عمله، وإن لم تَصِحّ لم يُنظَر في بقيّة عمله"[2]، وفي نفس المعنى جاء حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أوّل ما يُنظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قُبِلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبَل لم يُنظر في عمله بشيء"[3]، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام مرشداً وموجّهاً: "واعلم أنّ كلّ شيء من عملك تبع لصلاتك، فمن ضَيّع الصلاة، فإنّه لغيرها أضيع"[4].

 

تبيّن لنا ممّا نطق به النبي المصطفى وأخوه علي المرتضى عليهما السلام أنّ الصلاة لا تُعتبر أوّل ما يُحاسب المرء عليه ذلك اليوم فحسب، بل إنّ سلامة صحيفة صلاة المرء شرط في النظر في سائر أعماله أيضاً، قال مولانا الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: "إنّأوّل ما يُحاسب به العبد الصلاة، فإن قُبِلت قُبِل ما سواها"[5]، وقال إمامنا الصادق جعفر بن محمد عليه السلام: ".. وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها سلامة للعبد من النار، وفي قبول صلاة العبد يوم القيامة قبول سائرأعماله، فإذا سلمت له صلاته سلمت جميع أعماله، وإن لم تسلم صلاته وردّت عليه. ردّ ما سواها من الأعمال الصالحة"[6]، وفي حديث آخر قال عليه السلام: "إنّ أوّل ما يُسأل عنه العبد إذا وقف بين يدي الله عزّ وجلّ الصلوات المفروضات،.."[7]

 


[1] سورة المدثر، الآيتان 42 - 43.

[2] الفقيه المُحْدّث الشيخ مُحمّدْ بن الحسن الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 31، 8 - باب وجوب إتمام الصلاة و إقامتها.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 82، ص 227.

[4] الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، الأمالي، ج 1، ص 267، المجلس الحادي والثلاثون، نشر مؤتمر الشيخ المفيد، قم.

[5] بحار الأنوار، ج 83، ص 25.

[6] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج ‏2، ص 359، 77 باب علة التسليم في الصلاة.

[7] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏4، ص 118، 3 - باب استحباب الصلاة في أول الوقت.

 

45


30

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

وفي ذلك يقول الإمام السيّد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله:

حين يتفضّل المعصوم بالقول: إنّ الصلاة لله, إذا قُبِلت قُبِل ما سواها من الخدمات والجهود، وإذا رُدّت رُدّ ما سواها، فهذا كلامٌ يعرض أمامنا حقيقة كبيرة. وتلك الحقيقة هي أنّ الصلاة إذا وضعت في موضعها المناسب في المجتمع الإسلاميّ فسوف تفتح كلّ الجهود المادّية والمعنوية البنّاءة طريقها نحو الأهداف والمبادئ، وتوصل المجتمع إلى المحطة المثاليّة المطلوبة في الإسلام. وإذا كانت هناك غفلة عن أهمّيّة الصلاة, وجرى عدم الاكتراث لها فسوف لن يُطوى هذا الطريق بشكل صحيح، ولن تترك الجهود والمساعي تأثيرها اللّازم في الإيصال إلى القمّة التي رسمها الإسلام للمجتمع الإنسانيّ[1].

 

حرمان الشفاعة

إذا انتصب المؤمن للصلاة بين يدي خالقه وبارئه سبحانه تعالى: أطمأن لقرب الفرج, وهدوء الرَّوع, ونشوة السعادة, ونعمة السكينة، واعتبر أنَّ وقته هذا من أوقات الآخرة, فخرج من دنياه إلى آخرته طوعاً، ورجى ربَّه الذي أدّى له الصلاة في هذه الدنيا, وجعله أهلاً للتكليف, أن يُكرمه يوم القيامة بإذنه, الذي ذكره في كتابه المجيد: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾[2]. ويرجو أن يكون من أهل الشفاعة كالشهداء مثلاً، أو ممّن تناله شفاعة سادة الخلق من أنبياء الله ورسله وأوصيائهم عليهم السلام لا سيما صاحب الشفاعة العظمى رسول الله مُحمد وآله الطيبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فحال المؤمن على عكس الذين يستخفّون بصلاتهم، ولا يُقيمون لها وزنها، فعاقبتهم كما روى مولانا الإمام الباقر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينال شفاعتي من استخفّ بصلاته، لا يرد


 


[1] رسالة الإمام الخامنئي إلى المؤتمر السنوي الحادي والعشرين للصلاة، 1434 هـ.

[2] سورة طه، الآية 109.

 

46


31

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

عليّ الحوض، لا والله"[1]. وروي أنّ الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام أمر بحضور جميع أقربائه قبيل وفاته، ثمّ التفت إليهم وأكّد على أهمّية الصلاة أيّما تأكيد، فدونك الحديث بتمامه:

روى أبو بصير وهو من أصحاب الإمام الصادق قال: دخلت على أُم حَميْدة (زوجة الإمام الصادق) أُعزِّيها بأبي عبد الله عليه السلام ، فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله عليه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه، ثم قال: "اجمعوا كلّمن بيني وبينه قرابة". قالت: فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه، فنظر إليهم، ثم قال: "إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة"[2] إنّ كلّ مستخفّ بالصلاة ومستهين بها فهو مستخفّ بالإسلام مستهين به؛ وما أظنّ في لغات البشر أدلّ من هذا الحديث على خسارة المستخفّ بصلاته لشفاعتهم سلام الله عليهم.

 

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ

إنّ من أوائل الوجوه التي تَسوَد يوم القيامة وتُسلّط عليها النيران هي وجوه تاركي الصلاة، كونهم من المتكبّرين عن عبادة الله تعالى, وتأمّل معي أيّها القارئ الكريم دعاء المولود الذي ولد في قبلة الصلاة واستشهد في محرابها أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث يقول في الدعاء الذي رواه عنه كميل بن زياد: "وليت شعري يا سيّدي وإلهي ومولاي، أتُسلّط النار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة، وعلى ألسن نطقت بتوحيدك صادقة، وبشكرك مادحة، وعلى قلوب اعترفت بإلهيّتك محقّقة،وعلى ضمائر حوت من العلم بك حتى صارت خاشعة، وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة، وأشارت باستغفارك مذعنة، ما هكذا الظنّ بك ولا أُخبرنا بفضلك عنك

 


[1] أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ج 1، ص 79، عقاب من تهاون بالصلاة.

[2] م. ن.

 

47


32

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

يا كريم"[1]، ومن محراب حفيده السجّاد زين العابدين عليه السلام كانت تنطلق مناجاة الخائفين، فيُسمع صوته بأبي هو وأمي قائلاً: "إلهي هل تُسوّد وجوهاً خرّت ساجدة لعظمتك؟"[2].

 

حاشا لله تعالى العادل أن يُسوّد وجوهاً وضعت على الصعيد تذلّلاً لعظمته, وتقرّباً إليه جلّ شأنه, وعلى العكس تماماً، فمن تكبّر عن عبادة هذا الربّ العظيم بعد أن جاءته البيّنات, فإنّ الأثر الأخروي سوف يكون بحشره يوم القيامة أسود الوجه، وقد سُلب منه نور الإيمان: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾[3].

 

مصداق واضح وجلي

الصلاة هي العبادة الوحيدة التي لا تُترك لأيّ حال من الأحوال حتى للغريق المشرف على التلف، بل تجب ما دامت الحياة، فلا يجوز التفريط بها لا في الإقامة، ولا في السفر، ولا في حالة الصحة، ولا في حالة المرض، ولا في حالة السلم، "ولا في حالة الحرب هناك حيث المقاتل الذي يواجه الأخطار على حياته ووجوده، وتأتي الصلاة في هذه الحال بالذّات - حال الخوف - لتربط الإنسان بمصدر الأمن والسلام والطمأنينة للقلوب وانسجام المشاعر وتلاقيها ليعيش الإنسان في الآفاق الملكوتية روح الطهر والخلوص ليُصبح قادراً على التخلّص ممّا يربطه بهذه الدنيا ويشدّه على هذه الأرض ليخلد إليها ويحجبه ذلك عن مصدر القدرة وعن الانطلاق في رحابه وفي آفاق ملكوته ومعاينة دلائله وتلمّسها والتصديق بها، ولربما يُراود ذهن البعض سؤال

 


[1] قال العلامة المجلسي رحمه الله: إنّه أفضل الأدعية وهُو دُعاء الخضر عليه السلام وقد علّمه أمير المؤمنين عليه السلام كميلاً، وهُو من خواصّ أصحابه، ويُدعى به في ليلة النّصف مِن شعبان وليلة الجمعة ويُجدي في كفاية شرّ الأعداء، وفي فتح باب الرّزق، وفي غفران الذّنوب، وقد رواه الشّيخ والسيّد كلاهما (قدس سرهما).

[2] الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، الصحيفة السجادية الكاملة.

[3] سورة آل عمران، الآيتان 107 - 108.

 

48


33

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

عن السبب في الإصرار على الصلاة جماعة حتى في حال الحرب، مع أنّ بالإمكان أن يُصلّي المسلمون فراداً متفرّقين، مع الاحتفاظ بمواجهة العدوّ بالكثرة العددية في ساحة القتال، خصوصاً مع اتساع الوقت لأداءالصلاة بصورة متوالية من العناصر، بحيث لا يدخل ذلك بالحالة التي يتخذونها تجاه العدو بهدف إرهاقه. أو دفع شرّه. وللإجابة على هذا السؤال لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ هذا أمر مقصود لله عزّ وجلّ، لأنّه يُمثّل مطلباً أساسياً في أكثر من اتجاه.فهو من جهة يُمثّل إصرار المسلمين على الجهر بمعتقداتهم، وممارسة حقّهم بحرّية التعبير عنها، وحرّية ممارسة شعائرهم الدينية. رضي الناس ذلك أم غضبوا. كما أنّه يُمثّل إظهاراً للالتزام بالقيادة المثلى، والاقتداء بها. والتلاقي عليها ومعها لتكون رمز وحدة الأمة، من خلال وحدة الهدف، ثم وحدة الموقف، وانتهاءاً بوحدة المصير... فصلاة الخوف شعار وموقف وبلاغ ودعوة وتصميم ووحدة وخلوص والتفاف حول القيادة وتربية وتعليم وتحدٍّ ثم هي حرب نفسية وسلاح قاطع. وليس ثم رسالة أبلغ منها للعدوّ ليعرف أنّ هؤلاء الناس قد بلغوا من إصرارهم على مواقفهم، وتمسّكهم بمبادئهم وفنائهم فيها حدّاً يجعلهم يرون قضيّتهم ودينهم ودعوتهم هي الأهمّ من كلّ شيء وأنّ حياتهم وكلّ شيء يملكونه لا بدّ أن يكون لها ومن أجلها وفي سبيلها وهم يُمارسون ذلك عملاً، ويُقدمون على البذل والعطاء في سبيله بكل رضى ومحبة وصفاء وسخاء"[1].

 

ولقد كان لسان حال شهداء المقاومة الإسلامية المظفّرة، ومجاهديها الأشاوس ناطقاً على الدوام:

نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم                     والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا

جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبّروا                في مسمع الروح الأمين فكبَّرا

 


[1] العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 8، ص 310، ط 4: دار الهادي..

 

49


34

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

ونستفيد من صلاة الخوف على هذه الكيفيات العجيبة والتنظيم الدقيق: أهمّية الصلاة في الإسلام, وأهمّية صلاة الجماعة بالذّات ; فإنّهما لم يسقطا في هذه الأحوال الحرجة, كما نستفيد كمال هذه الشريعة الإسلامية, وأنّها شرّعت لكلّ حالة ما يُناسبها, كما نستفيد نفي الحرج عن هذه الأمّة, وسماحة هذه الشريعة, وصلاحيّتها لكلّ زمان ومكان.

 

فهل يستبيح مسلم لنفسه بعد أن عرَف أهمّية الصلاة وفضلها أن يتركها أو يتهاون بها؟! والحقّ أنّ أهميّة الصلاة أكبر من أن يستوعبها هذا المختصر لذلك رأينا علينا لزاماً أن نكتب عن مكانة الصلاة ومنزلتها.

 

50


35

الدرس الثالث: الصلاة عمود الدين

المفاهيم الرئيسة

- الصلاة عبادة مشتركة لجميع أمم الأرض لأنّها وصيّة الله وأمره للنبيّين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين.

 

- احتلّت الصلاة المكانة العالية والرفيعة في دين الله حتى جعلها مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  عمود الإسلام.

 

- جوهر الصلاة وحقيقتها أنّها ذكر الله وحده، فهي رمز العبوديّة لله، ودليل التسليم وعلامة الإيمان، وآية الإخلاص.

 

- الصلاة أوّل ما يُحاسب عليه العبد، ويوضح القرآن الكريم حال أهل النار عندما يُسْأَلُون عن سبب ما هم فيه من عذاب فيقولون: لم نك من المصلّين.

 

- إنّ الصلاة تعتبر عنوان الشفاعة يوم القيامة، وتارك الصلاة يحرم من هذه الرحمة الإلهية وهي الشفاعة يوم القيامة، فلا تشمله شفاعة الأنبياء والأولياء.

 

- إنّ من أوائل الوجوه التي تَسوَد يوم القيامة وتُسلّط عليها النيران هي وجوه تاركي الصلاة، كونهم من المتكبّرين عن عبادة الله تعالى.

 

- الصلاة هي العبادة الوحيدة التي لا تُترك لأيّ حال من الأحوال حتى للغريق المشرف على التلف، بل تجب ما دامت الحياة، فلا يجوز التفريط بها لا في الإقامة، ولا في السفر، ولا في حالة الصحة، ولا في حالة المرض، ولا في حالة السلم.

 

51


36

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

الدرس الرابع

مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يشرح كيف تكون الصلاة أحبّ الأعمال إلى الله ورسوله  صلى الله عليه وآله وسلم.

 

2- يتعرف على أنّ الصلاة من مصاديق الإيمان.

 

3- يستدل على أنّ الصلاة وقاية للنفس والأهل من النار.

 

53


37

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

مقدّمة

حظيت الصلاة في هذا الدين بمكانة عظيمة ومنزلة رفيعة لا تعدلها أيّة عبادة أخرى، فهي دعامته وركنه وشعيرته ومظهره الخالد وآيته الباقية، والصلاة عماد الدين، وأوّل ما يسألنا عنه ربّ العالمين، يعني هي مفتاح الحساب، وفاتحة الأبواب، والواقية من العذاب، في الدنيا وتحت التراب، ويوم القيامة حين يقوم الحساب ويقوم الجزاء والعقاب، حيث لا أهل ينفعون ولا أنساب، لا إخوة ولا أصحاب، إلا العمل والفعل الصواب، وهي بعدُ راحة للبدن وراحة للبال، وكما قالها نبيّنا المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم  كلّما ضاق به الحال، أرحنا بها يا بلال..، فبمجرّد إقامتها تنزل من العقول والقلوب الأثقال، ويذوب الهمّ والغمّ مثلما يذوب الجليد عن الجبال، وبعدُ هي خير الخصال التي يوصف بها العبد عند مولاه العظيم، وهي أمتن الحبال التي تربط العبد بربّه ذي الجلال، فهلمّوا بنا كي نتعرّف على بعض الصور التي تُبَيّن لنا شيئاً من مكانتها العظيمة، ولنعلم من أين استمدّت وحَصَلت منزلتها الرفيعة.

 

المكان الذي فُرضت فيه

هي تلك العبادة التي عندما أراد الله فرضها لم يُرسل ذلك مع جبريل عليه السلام  ككّل الفرائض الأخرى، ولكنّه أسرى بنبيّه الأكرم ورسوله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم  إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلى وخاطبه سبحانه، في ذاك المقام الشريف، وفوق تلك السموات فُرضت هذه الشعيرةُ العظيمة التي اختصّها الله من بين سائر شرائع الإسلام بذلك حيث إنّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تلقّى الأمر بها من الله تعالى مباشرة، فأيّ

 

55


38

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

مكانة ومنزلة تلك؟! وأيّ شأن ذاك لهذه الصلاة؟! ولا غرابة حينئذ أن يقول عنها خاتم الأنبياء  صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله جعل قرّة عيني في الصلاة"[1].

 

أحبّ الأعمال إلى الله ورسوله

كم في الصلاة من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات التي لا يعقلها كثير ممّن يؤدّيها، ومن بين هذه الأسرار والحكم أنّ الصلاة أحبّ الأعمال إلى الله ورسوله وأوليائه، وخير الأعمال وأفضلها، فالمؤمن لا همّ لديه إلا رضى الله تعالى، فلذلك تراه مسارعاً إلى كلّ عمل يُحبّه الله ورسوله.

 

قال عبد الله بن مسعود: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال رسول الله: "الصلاة لوقتها. قُلتُ: ثم أيّ شيء؟ قال: برّ الوالدين. قُلتُ: ثمّ أيّ شيء؟ قال: الجهاد في سبيل الله"[2]، وروى أبو الأسود الدؤلي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذر إنّ الله جعل قرّة عيني في الصلاة، وحبّبها إليّ، كما حبب إلى الجائع الطعام، وإلى الظمآن الماء، وإنّ الجائع إذا أكل الطعام شبع، والظمآن إذا شرب الماء روى، وأنا لا أشبع من الصلاة"[3]، وروى زيد الشحّام عن حفيد سيّد المرسلين الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: "أحبّ الأعمال إلى الله عزّ وجلّ الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء عليهم السلام، فما أحسن الرجل يغتسل أو يتوضّأ، فيسبغ الوضوء، ثم يتنحّى حيث لا يراه أنيس،فيشرف عليه وهو راكع أو ساجد، إنّ العبد إذا سجد، فأطال السجود نادى إبليس: يا ويلاه أطاع وعصيت، وسجد وأبيت"[4].

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 79, ص233.

[2] م.ن، ج 71، ص 70.

[3] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 528، 19 مجلس يوم الجمعة الرابع من المحرم سنة سبع وخمسين وأربعمائة ط 1، دار الثقافة قم.

[4] ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني، الكافي، ج 3، ص 264، باب فضل الصلاة، طبعة الدار الإسلامية.

 

56


39

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

وقال مولانا الإمام الصادق عليه السلام  قال أمير المؤمنين عليه السلام : "ليس عمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة، فلا يشغلنّكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ أقواماً، فقال: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾[1] يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها"[2].

 

وفي حديث آخر ذكر فيه عليه السلام  صفات لقمان الحكيم، ووصاياه لابنه، قال عليه السلام: قال لقمان: "وصم صوماً يقطع شهوتك، ولا تصم صوماً يمنعك من الصلاة، فإنّ الصلاة أحبّ إلى الله من الصيام"[3]، وقد تكرَّر طلب القرآن للصلاة مُقترنة بالإيمان في مَوارد كثيرة، وقد ربط بالصلاة ـ من الثمرات الروحية وتطهير الجوارح ـ ما لم يُصرَّح بمثله في الصوم. ودلَّ هذا على مكانة الصلاة عند الله تعالى مِن بين فرائض الإسلام، وعليه فمَن صام، وترك الصلاة، فقد ترك الأهمَّ في شرعة الإسلام.

 

خير الأعمال وأفضلها

روى مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عن آبائه الكرام، عن علي عليهم السلام قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : "نجّوا أنفسكم، اعملوا، وخير أعمالكم الصلاة"[4]، ولا يغيبنّ عن بالك أيّها القارئ الكريم الوصية التي كتبها مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ".. إنّي أوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي وولدي، ومن بلغه كتابي...، الله الله في الصلاة، فإنّها خير العمل"[5].

 

وكذلك روى صاحب مستدرك الوسائل عن جعفر بن أحمد القمي في كتاب الغايات بإسناده إلى الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ أفضل الأعمال عند الله

 


[1] سورة الماعون، الآية 5.

[2] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏4، ص 107، 1 - باب وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج‏13، ص 408، باب 18 قصص لقمان و حكمه..

[4] ابن الأشعث محمد بن محمد، الجعفريات، ص 34، كتاب الصلاة، ط 1، مكتبة لنينوى الحديثة، طهران.

[5] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 7، ص 47، باب صدقات النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  وفاطمة والأئمة  عليهم السلام   ووصاياهم، (ط - الإسلامية).

 

57


40

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

يوم القيامة الصلاة"[1].

 

ووردنا عن إمامنا الرضا عليه السلام أنّه قال: ".. اعلم أنّ أفضل الفرائض بعد معرفة الله جلّ وعزّ الصلوات الخمس.."[2]، وروى جدّه الإمام الصادق عن آبائه الكرام، عن علي عليهم السلام قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : "الصلاة ميزان أمّتي من وفى استوفى[3]. واستفسر أبو ذر الغفاري من النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  قائلاً: إنّك أمرتني بالصلاة، فما الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصلاة خير موضوع، فمن شاء أقلّ، ومن شاء أكثر"[4].

 

وقال باقر العلم عليه السلام لصاحبه سليمان بن خالد: "ألا أُخبرك بالإسلام،أصله وفرعه وذروة سنامه[5]؟ قُلتُ: بلى جُعلتُ فداك، قال: أمّا أصله، فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة سنامه الجهاد"، وكذلك روى ولده الصادق عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحوه[6]. هذه قطرة من ذلك البحر، وشذرة من ذلك البذر، وهي كافية وافية، ولله الحمد والمنة.

 

وقد اجاد السيد مهدي بحر العلوم في منظومته[7]:

إن الصلاة هي أفضل القرب              وأكمل الطاعات طرّاً وأحب

عمود هذا الدين والعنوان                  لسائر الأعمال والميزان

في العقل بان فضلها والنقل               من الكتاب ووصايا الرسل

وفي النصوص عن أئمة الهدى           في فضلها ما ليس يحصى عددا

 


[1] المحدث النوري حسين بن محمد تقي، مستدرك الوسائل، ج 3، ص 39، طبعة 1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

[2] علي بن بابويه القمي، فقه الرضا، ص 100، 7 باب الصلوات المفروضة، طبعة مؤسسة آل البيت.

[3] الجعفريات، ص 32، كتاب الصلاة، ط 1، مكتبة لنينوى الحديثة، طهران.

[4] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏5، ص 247، 42 - باب استحباب تحية المسجد وهي ركعتان.

[5] ذروة سنامه: الاضافة بيانية إذ للسنام الذي هو ذروة البعير ذروة أيضاً هي: أرفع أجزائه.

[6] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 62، باب فضل الصوم والصائم، (ط - الإسلامية).

[7] السيد مهدي بحر العلوم، الدرة النجفية (منظومة في الفقه)، ص 82.

 

58


41

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

رأس مال المسلم وعروة الإسلام

الصلاة دعامة لجميع الشرائع السماوية، فهي أقدم عبادة، ولأنّها من مستلزمات الإيمان لم تخل منها شريعة من الشرائع، ولم تنسخ فيما نُسِخ منها؛ إذ لا خير في دين لا صلاة فيه، ولأهمّية الصلاة وكبير مكانتها في الإسلام جعلها الله حدّاً فاصلاً بين الكفر والإسلام، فقال جل شأنه: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[1], إذاً هي رأس مال المسلم وغنيمته الحاضرة التي يستطيع بعد توفيق الله أن يغنم بها رضا الله والجنّة، وأن ينجو بها من سخط الله والنار، فبالصلاة يرفع الله قدرك ويُطهّر جوارحك وقلبك وتُكفّر سيئاتك، وتفتح أبواب الخير في وجهك، وتجد شرح صدرك والفرح بعبادة ربّك، واعلم أنّ الصلاة هي آخر ما يُفقد من الدين، وآخر عروة من عراه، فإنْ ضاعت ضاع الدين كلّه، قال أبو أمامة الباهلي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لتنقضن عرى الإسلام عروةً عروةً، فكلّما انتقضت عروةٌ تشبّث الناس بالتي تليها، فأوّلهنّ نقضًا الحكمُ، وآخرهنَّ الصلاة"[2]، فإذا كانت الصلاةُ آخرَ ما يبقى من الدين، وقد ضُيّعت، فماذا يبقى من دين المرء، فطوبى لعباد الله ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾[3].

 

من مصاديق الإيمان

ولقد قرن الله تعالى الأمر بالصلاة بالأمر بالصبر في مواجهة الشدائد وتحمّل الصعاب حيث يقول جلّ وعلا للذين آمنوا من عباده: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[4] ويقول عزّ من قائل: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ

 


[1] سورة التوبة، الآية 11.

[2] الشيخ الطوسي، الأمالي، ج1، ص 186، المجلس السابع، ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، ج 4، ص 104.

[3] سورة المعارج، الآية 23.

[4] سورة البقرة، الآية 153.

 

59


42

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[1]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ﴾ يعني الصلاة، أو الوصية المفهومة من الآية بالجمع بين الصبر والصلاة، ولقد كان الأنبياء  عليهم السلام   يفزعون إلى الصلاة عند الشدائد والمكائد، ومن ذلك أمر الله لنبيّه الخاتم  صلى الله عليه وآله وسلم  بالصبر والمحافظة على الصلاة: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾[2].

 

ولِعِظم مكانة الصلاة ومنزلتها سمّاها الله عزّ وجلّ في فرقانه إيماناً، فقال تعالى عن صلاة المسلمين التي صلّوها إلى بيت المقدس: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾[3], وقد عهد النبي الأمّي الذي ما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام أنّ "حبّه إيمان وبغضه نفاق"[4]، فالصلاة إيمان وحبّ إمامك إيمان، فهما بذاك شقيقان، فتأمّل كيف كان أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين مشتغلاً بالحرب والقتال، وهو مع ذلك يُراقب الشمس، فقال له ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين ما هذا الفعل؟ قال: "أنظُر إلى الزوال حتّى نُصلّي"، فقال ابن عباس: هل هذا وقت صلاة؟ إنّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة؟ فقال عليه السلام : "على ما نُقاتلهم؟ إنّما نُقاتلهم على الصلاة"[5].

 

سقر وما أدراك ما سقر

وعن عقيل الخزاعيّ، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام  كان إذا حضر الحرب يوصي المسلمين بكلمات، يقول: "تعاهدوا الصّلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقرّبوا بها، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، وقد علم ذلك الكفّار حين

 


[1] سورة البقرة، الآيتان 45 - 46.

[2] سورة الحجر، الآيتان 97 - 98.

[3] سورة البقرة، الآية 143.

[4] قول أمير المؤمنين عليه السلام : "والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمّي  صلى الله عليه وآله وسلم  إلي أن لا يُحبّني إلا مؤمن ولا يُبغضني إلا منافق"، صحيح مسلم، ج 1، ص 86، طبعة دار أحياء التراث العربي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، ص246.

 

60


43

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

سُئلوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين﴾[1] [2]. فتارك الصلاة هو جار الوليد بن المغيرة الذي قال الله تعالى في حقه: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾[3], وقوله تعالى: وما أدراك ما سقر؟ هذا سؤالٌ لتهويل أمرها، لا تُبقي ولا وتذر أي: لا تُبقي ممّن يدخلها لحمًا ولا عظمًا، ولا تذر منهم شيئًا أبدًا، إنّما تنسفهم نسفاً، ثم يُعيدهم الله كما كانوا: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾[4] لوّاحة للبشر: أي تلفح وجوههم لفحاً، فتتركها أسود من الليل البهيم، قال تعالى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾[5], عليها تسعة عشر: من الملائكة الموصوفين بأنّهم: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[6].

 

وقاية للنفس والأهل من النار

فكما أمرنا الله عزّ وجلّ بالمحافظة على الصلاة بأنفسنا فقد أمرنا بأن نُربِّيَ عليها أهلنا وأبناءنا، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾[7], وقال جلّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[8]. فقد أمرنا الله في هذه الآيات أن نقي أنفسنا وأهلينا من النار، ووقايتهم من النار لا تكون إلا بتربيتهم على الصلاة وطاعة الله عزّ وجلّ، والحال معلوم أنّ أوّل ما يستقبل به المولود النداء الجامع للصلاة وإقامتها، فيستحبّ أن يؤذّن في أذنه اليمنى، والإقامة


 


[1] الكليني، الكافي، ج5, ص 36.

[2] سورة المدثر، الآيتان 42 - 43.

[3] سورة المدثر، الآيات 26 - 30.

[4] سورة النساء، الآية 56.

[5] سورة المؤمنون، الآية 104.

[6] سورة التحريم، الآية 6.

[7] سورة طه، الآية 132.

[8] سورة التحريم، الآية 6.

 

61


44

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

في أذنه اليسرى، واستحباب تلقين المحتضر كلمة التوحيد، وآخر ما يودّع به المسلم في هذه الدنيا بالصلاة عليه صلاة الميّت، وهذا يعني أنّ افتتاح حياة الإنسان وختامها يكون باسم الله تعالى والصلاة والنداء الجامع لها. ولأهمّية الصلاة في حياة المسلمين أُمروا أن يُعلّموها صبيانهم إذا بلغوا سبع سنين، وأن يضربوهم على تركها لعشر سنين. وهذا ممّا يدلّ على عظم شأنها ورفيع منزلتها.

 

صلاة الشهداء خبيب وحجر ومسلم

إذا تعرّض المؤمن للقتل من الكفّار يُريدون بذلك صدَّه عن دينه سُنّ له أن يركَع ركعتين إن أمكنه ذلك، كما حصل مع الصحابي الشهيد خبيب بن عدي رضوان الله عليه، وذلك أنّ كفّار قريش لمّا اشتروه ممّن أسَروه أرادوا قتلَه، وخرجوا به إلى التنعيم، فقال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين، فتركوه فركع ركعتين أتّمهما وأحسنهما ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنّوا أنّي إنّما طوّلت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة، قال: فكان خبيب بن عدي من أول من صلّى هاتين الركعتين عند القتل. قال: ثم رفعوه على خشبة فلمّا أوثقوه قال: اللهم إنّا قد بلّغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يُصنع بنا ثم قال: اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تُغادر منهم أحداً ثم قتلوه رحمه الله[1]، ورأينا نفس هذا الموقف يتكرّر مع رجال من خيرة الشهداء كحجر بن عدي، ومسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليهم.

 

سبيل الرشاد

أورد محمّد بن الحسين الرضي في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في كلام يوصي أصحابه: "تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقرّبوا بها، فإنّها ﴿كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾[2], ألا تسمعون

 


[1] عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، السيرة النبوية، ج4، ص 126، ط دار الجيل، بيروت.

[2] سورة النساء، الآية 103.

 

62


45

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

إلى جواب أهل النار حين سُئلوا: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ  *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾[1],[2] وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق، وتُطلقها إطلاق الربق[3]، وشبّهها رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  بالحمّة[4] تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمسمرّات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن، وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين، الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرّة عين من ولد ولا مال، يقول الله سبحانه: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾[5], وكان رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّة، لقول الله سبحانه: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾[6], فكان يأمر بها أهله ويُصبّر عليها نفسه"[7].

 

ما أكثر الأفراد والجماعات الذين بلغوا قمم التسامي والكمال بمعرفتهم لأهميّة ومكانة الذكر والخشوع والإنابة، التي تعدّ الصلاة مظهرها الكامل، وإرفاقها بالعمل والإبداع الدنيويّ, وما أكثر السذّج وقصيري النظر الذين حرموا أنفسهم من السعادة الكاملة بالغفلة عن هذا السرّ العظيم في الوجود, سواء من خلال الانغماس في العمل الماديّ أو في أوقات الفراغ والكسل، وأينما حلّوا هووا بأنفسهم في مستنقع الحرمان والإخفاق بشكل أو بآخر، والناس الذين جعلوا مساعيهم وجهودهم في ميدان الحياة الإنسانيّة مشفوعة بذكر الله، والأنس به، وعشقه، يُدركون المعنى الحقيقيّ للسعادة، وتنالها أجسادهم وأرواحهم[8].

 


[1] سورة المدثر، الآيتان 42 - 43.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 5، ص 36، باب ما كان يوصي أمير المؤمنين به عند القتال، (ط - الإسلامية).

[3] إطلاق الربق: قال الجوهري. الربق بالكسر حبل فيه عدّة عرى يُشدّ به البهم، والواحدة من العروة ربقة، والمراد أنّها تطلق أعناق النفوس من أغلال الذنوب إطلاق أعناق البهائم من الارباق.

[4] الحمة: في (الصحاح) الحمة العين الحارة يُستشفى بها الأعلّاء، وفي الحديث (العالم كالحمة).

[5] سورة النور، الآية 37.

[6] سورة طه، الآية 132.

[7] نهج البلاغة، ص 316 ـ 317.

[8] الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله، من أعماق الصلاة، ص 73، طبعة جمعية المعارف الإسلامية.

 

63


46

الدرس الرابع: مكانة الصلاة ومنزلتها الرفيعة

المفاهيم الرئيسة

- إن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم  تلقّى الأمر بالصلاة من الله تعالى مباشرة حين أسري به صلى الله عليه وآله وسلم  إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلى، وبهذا الأمر تميَّزت الصلاة عن بقيّة الأحكام الإسلاميَّة.

 

- تُعُّد الصلاة أحبّ الإعمال إلى الله ورسوله وأوليائه، وخير الأعمال وأفضلها عند الله يوم القيامة.

 

- الصلاة رأس مال المسلم وغنيمته التي يستطيع أن يكسب ها رضا الله تعالى والجنّة، وأن ينجو بها من سخطه تعالى ومن النار.

 

- تعتبر الصلاة آخر ما يُفقد من الدين، وآخر عروة من عراه، فإن ضاعت ضاع الدين كله، وإن حفظت حفظ الدين كلّه.

 

- قرن الله تعالى الأمر بالصلاة بالصبر في مواجهة الشدائد وتحمّل الصعاب ولعِظم مكانة الصلاة ومنزلتها سمّاها الله عزّ وجلّ في فرقانه إيماناً.

 

- أُمِر المسلمين بتعاهد أمر الصلاة والحفاظ عليها والتقرُّب بها والاستكثار منها، وأن يُعلِّموها أبناءهم وأهاليهم، قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾، وفي ذلك دلالة واضحة على أهمّية الصلاة.

 

64


47

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

الدرس الخامس

حكمة الصلاة وفلسفتها

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفهم حكمة الصلاة وفلسفتها ويورد الشواهد على ذلك.

 

2- يفهم كيف تكون الصلاة تنزيهاً من الكبر.

 

3- يعرف الحكمة من تشريع الأذان للصلاة.

 

 

65


48

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

مقدّمة

من المعلوم لكلّ مؤمن أنّ أوامر الله سبحانه لا تخلو من حكمة، ضرورة أنّه حكيم عليم خبير، وقضية إيمان العبد بحكمة خالقه وسيّده أن يُنفّذ أوامره دون سؤاله عن حكمة هذه الأوامر، لأنّ هذا يؤدّي إلى أنّه إذا لم يقنع رفض التنفيذ، وهذا هو موقف إبليس من أمر ربه له بالسجود لآدم، حيث إنّه لم يقتنع بصواب هذا الأمر، وتناهى في الغرور بنفسه، وفكره، فبرّر الرفض بأنّه أفضل من آدم: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾[1]. إنّ هذا الموقف يؤول إلى الاستجابة إلى الهوى ورفض ما لا يتّفق معه، وفى ذلك يقول الله سبحانه: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[2], وقال الإمام السَّجاد زين العابدين عليه السلام، في كلام طويل: "نِعْمَ الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضىالله.. "[3].

 

ومن المعلوم أنّ بعض الأحكام الشرعية قد تخفى فيها علّة التشريع أو حكمته وفلسفته علينا، ولكن ما دامت قد ثبتت فلا بدّ من امتثالها، ولعلم الله سبحانه بطبيعة الإنسان الذي يُغريه بالعمل إيمانه بفائدته. يُبيّن كثيراً في تشريعاته الحكم والفوائد المترتبة عليها لكن ذلك يتطلب من المسلم تدبّر آيات القرآن الكريم ليجد أنّ الله تعالى يُشير إلى ذلك في الكثير من آيات كتابه المجيد مثل قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ

 


[1] سورة الأعراف، الآية 12.

[2] سورة الجاثية، الآية 23.

[3] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏8، ص 313، باب رقم 11.

 

67


49

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾[1], وتوضيح ذلك يطول، لكن للعلم والبيان إنّ كثيراً من التكاليف جاء النداء بها بوصف الإيمان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني ما دمتم مؤمنين بالله، فعليكم أن تتقبّلوا كلّ تكاليفه بنفس راضية مطمئنّة، تحقيقاً لعبوديّتكم الخالصة لله سبحانه وإيمانكم القوي بعدله وحكمته. ولو أنّ أهل الإسلام أخذوا بوصية النبي الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  وتمسّكوا بثقليه العظيمين (الكتاب والعترة) لوجدوا في علوم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بياناً واضحاً وجليّاً لحكمة وفلسفة وعلل الشرايع، ومن ذلك:

علّة تشريع الصلاة

وللوقوف على ذلك يتوجّب علينا التوجّه إلى بيت شارعها المقدّس  صلى الله عليه وآله وسلم  ليُطالعنا حفيده الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام بحديث جامع يُبيّن حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها إذ سئل عنها، فأجاب بما يلي: "إنّ علّة الصلاة أنّها إقرار بالربوبيّة لله عزّوجلّ، وخلع الأنداد، وقيام بين يدي الجبّار جلّ جلاله بالذلّ والمسكنة، والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظاماً لله عزّ وجلّ، وأن يكون ذاكراً غير ناسٍ ولا بطرٍ، ويكون خاشعاً متذلّلاً راغباً، طالباً للزيادة في الدين والدنيا، مع ما فيه من الإِيجاب والمداومة على ذكر الله عزّ وجلّ باللّيل والنهار لئلاّ ينسى العبد سيّده ومدبّره وخالقه، فيبطر ويطغى، ويكون في ذكره لربّه، وقيامه بين يديه، زجراً له عن المعاصي،ومانعاً له عن أنواع الفساد"[2].

 

وسألاه صباح بن نصر الهندي وعمران الصابي عن مسائلهما، ومنها عن علّة الصلاة، فقال الرضا عليه السلام : "طاعةٌ أمَرَهم بها، وشريعةٌ حمَلَهم عليها، وفي الصلاة

 


[1] سورة البقرة، الآية 251.

[2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج‏2، ص 317، 2 باب العلة التي من أجلها فرض الله عز و جل الصلاة.

 

68


50

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

توقير له، وتبجيل وخضوع من العبد إذا سجد، والإقرار بأنّ فوقه ربّاً يعبده ويسجد له[1].

 

نستخلص من هذا البيان الجلي جملة من أهداف الصلاة سنتعرّض لبعضها في الفصل الذي يحمل عنوان أهداف الصلاة، وأوّلها: إقرار المصلّي بأنّه عبد مربوب له ربٌّ واحد أحد فرد صمد هو الذي خلقه وبرأه...، لإنّه بإقراره بعبوديّة الله والكفر بكلّ الأنداد الذي اتخذها البشر أرباباً من دون الله تعالى يتحرّر من عبوديّة العبيد, وبهذه الطريق يجعل نفسه في سلك الموحّدين الأحرار، وثاني هذه الأهداف هو إقامة ذكر الله تعالى لأنّ الأذكار تُربّي في المسلم معاني العبودية لله، وتُحرّره وتنزع من قلبه كلّ معاني الطغيان، والتعلّق بغير الله، وثالث هذه الأهداف مستمدّ ممّا سبق، وهو الرادع والوازع الزاجر الذي ينتج عن إقامة ذكر الله تعالى، فيكون مانعاً للعبد عن أنواع الفساد، وكلمة أنواع الفساد تتضمّن الفحشاء والمنكر، و.... وكلّ الأمراض والأوبئة الأخلاقية.

 

الصلاة تنزيهاً لكم من الْكِبْرِ

ومن خلال ما تفضّل به مولانا الإمام الرضا عليه السلام  تبيّن لنا لماذا شَرّع الله تعالى الصلاة، وأهمّ أهدافها أيضاً، وبذلك يكون المؤمن على بيّنة من أمره، ويعلم عندها لماذا قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، وبضعته الطاهرة سيّدة نساء العالمين، وبعلها المؤتمن عليهما السلام: "فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً من الْكِبْرِ.."[2]. إذاً فرض الله تعالى الصلاة تنزيهاً لنا من الْكِبْرِ، فما هو الْكِبْرِ؟

 


[1] ابن شهرآشوب محمد بن علي المازندراني، مناقب آل أبي طالب  عليهم السلام، ج ‏4، ص 350، فصل في علمه عليه السلام .

[2] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 568، حديث رقم: 4940، بسنده عن عقيلة بني هاشم السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي عن أمها السيدة الزهراء (صلوات الله عليها وأبيها وبعلها وبنيها).

 

69


51

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

قال الراغب الأصفهاني: والْكِبْرِ والتكبّر والاستكبار تتقارب، فالْكِبْرِ الحالة التي يتخصّص بها الإنسان من إعجابه بنفسه، وذلك أن يرى الإنسان نفسه أكبر من غيره. وأعظم التكبّر التكبّر على الله بالامتناع من قبول الحقّ والإذعان له بالعبادة[1]، وفي الأساس إنّ غفلة الإنسان عن الله سبحانه بنفسها تكبّر، والتكبّر كما هو معلوم عند أهل العناية منطلق للكثير من الرذائل، ولذا تجد المتكبّر يظلم ويطغى ويفسد..، وقد قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "التكبّر يُظهر الرذيلة"[2]، وقال عليه السلام: "احذر الْكِبْر، فإنّه رأس الطغيان ومعصية الرحمان"[3]. وقال عليه السلام: "التكبّر رأس الجهل"[4]، وقال عليه السلام: "الْكِبْر داع إلى التقحّم في الذنوب"[5].

 

وقال تعالى واصفاً أقواماً من الذين كفروا: ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾[6] حيث إنّ الْكِبْر إذا صار ملكة في الإنسان، فإنّه سيؤدّي إلى المفاسد والموبقات التي لا انتهاء لها، والصلاة تُنزّهنا عنه، وتدعونا للتواضع لأنّ الإنسان المتواضع إذا صار التواضع ملكة له يتقدّم ويترقّى، فإنّ التواضع من أهمّ أسباب التحلّي بالخصال الحميدة والشمائل المجيدة، وبالفضائل والمحاسن، ومن أسس التقدّم والترقّي في طريق السالكين الحكماء، فقد روي عن مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "التواضع لا يزيد العبد إلارفعة، فتواضعوا يرفعكم الله"[7]، وقال أخوه أمير المؤمنين عليه السلام: "التواضع رأس العقل"[8]، وفي الحديث المروي عن إمامنا الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام في وصيّته

 


[1] الحسين بن محمد بن المفضل، مفردات ألفاظ القرآن، ج 2، ص 277، ط: دار القلم، دمشق.

[2] الآمدي التميمي عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 310، ح 7151، الفصل السادس الخيلاء والغرور.

[3] م. ن، ص 309.

[4] غرر الحكم ودرر الكلم ص 248، ح 5137، الفصل الثاني موجبات عزة النفس.

[5] م، ن، ص 310، ح 7152، الفصل السادس الخيلاء والغرور.

[6] سورة الفتح، الآية 26.

[7] الأصول الستة عشر، أصل جعفر بن محمد بن شريح الحضرمي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام  أنّه قال: قال رسول اللّه.. الحديث، ص 240، أخبار عبد الله بن طلحة النهدي‏، طبعة مؤسسة دار الحديث الثقافية، قم.

[8] الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 248، ح 5137، الفصل الثاني موجبات عزة النفس.

 

70


52

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

لهشام: "يا هشام إنّ الزرع ينبت في السهل، ولا ينبت في الصفا، فكذلكالحكمة تعمر في المتواضع، ولا تعمر في المتكبّر الجبّار"[1]. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده الذين خضعت رقابهم لعظمته، ووجلت قلوبهم من خيفتة، وعنت وجوههم لهيبته، فتحطّم كبرياؤهم المزيّف في لحظة سجودهم له، وملامسة جباههم التراب، وقولهم بألسنتهم وقلوبهم: "سبحان ربّي الأعلى وبحمده".. عندها نعرف أماكننا أخيراً، وأنّنا تراب على التراب، وهو السبّوح القدّوس المنزّه الأعلى الذي تفرّد بالكبرياء والآلاء، وحارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام.

 

فلتطهيره النفوس من الشّر                  ك عيون الإيمان قد أجراها

ولـتـنـزيـهـهــا مغـرّرة الـكــبـــــــــــــ     ـر أقـرّ الـصّـلاة في آنـاهـا

 

معرفة السراج المنير وبقاء ذِكرِه

قال هشام بن الحكم: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن علّة الصلاة، فإنّ فيها مشغلة للناس عن حوائجهم ومتعبة لهم في أبدانهم؟ قال: "فيها علل، وذلك أنّ الناس لو تُركوا بغير تنبيه ولا تذكير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم  بأكثر من الخبر الأوّل، وبقاء الكتاب في أيديهم فقط،لكانوا على ما كان عليه الأوّلون، فإنّهم قد كانوا اتّخذوا ديناً، ووضعوا كتباً، ودعوا أناساً إلى ما هم عليه، وقتلوهم على ذلك، فدرس أمرهم وذهب حين ذهبوا، وأراد الله تعالى أن لا يُنسيهم ذكر مُحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ففرض عليهم الصلاة، يذكرونه في كلّيوم خمس مرّات، يُنادون باسمه، وتعبّدوا بالصلاة وذكر الله لكيلا يغفلوا عنه، فينسوه فيدرس ذكره"[2]. وذلك لأنّ التوحيد الحقيقي لا يتمّ إلا من خلال محمد وآله  عليهم السلام   فذكره  صلى الله عليه وآله وسلم  ذكر لمعاني التوحيد الصحيح.

 

ألا ترى معي كيف جاءت إقامة الصلاة مباشرة بعد الأمر بالتوحيد وإخلاص

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 312.

[2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج‏2، ص 317، 2 باب العلة التي من أجلها فرض الله عزّ وجلّ الصلاة.

 

71


53

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

العبودية لله تعالى، وكيف ارتبطت إقامة الصلاة بطاعة الرسول في كلام إمامنا الصادق عليه السلام، وما ذاك إلا لإنّ إقامة الصلاة تُزكّي النفس، وتُهيّئها لقبول طاعة الرسول التي هي عين طاعة الله تعالى، وفي ذلك يقول الإمام الخامنئي دام ظله: إنّ التسليم بأنّ محمّداً  صلى الله عليه وآله وسلم  مرسلٌ من الله هو بمعنى قبول الاستخلاف الإلهيّ، أي إنّ سبيل الله هو في اقتفاء طريق رسوله مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّ أوامره تؤخذ وتُتلقّى من عبده المصطفى... كثيرٌ من عباد الله أخطؤوا في معرفة الطريق المرضيّ من الله.. إنّ تعريفَ النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم  والتسليم بكونه رسول الله، محدّدٌ وموجِّهٌ للجهد والحركة التي ينبغي أن يُظهرها الإنسان العابد في حياته لكي يُثبت صحّة دعواه في عبادة الله[1]، فقد روى حفص بن البختري، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "لما أُسري برسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، وحضرت الصلاة، فأذّن جبرائيل عليه السلام، فلمّا قال: الله أكبر، الله أكبر، قالت الملائكة: الله أكبر، الله أكبر، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قالت الملائكة: خلع الأنداد، فلمّا قال:أشهد أنّ محمداً رسول الله، قالت الملائكة: نبي بعث، فلمّا قال: حي على الصلاة، قالت الملائكة: حثّ على عبادة ربّه، فلمّا قال: حي على الفلاح، قالت الملائكة: أفلح من اتبعه"[2].

 

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[3].

 

إنّها الملّة الحنيفية الغرّاء

كذلك تتجلّى الحكمة في ختم النبوّة برسول الله محمد  صلى الله عليه وآله وسلم ، في أنّ الأسباب التي كانت تستلزم إرسال الأنبياء قد زالت بمجيء نبيّ الهدى والرحمة وإنّ الله تعالى قد

 


[1] الإمام الخامنئي، من أعماق الصلاة، ص 62، طبعة جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت.

[2] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج ‏1، ص 281، باب الأذان والإقامة وثواب المؤذنين.

[3] سورة الأحزاب، الآيتان 45 - 46.

 

72


54

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

أكمل دينه بواسطة حبيبه المصطفى محمد  صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا كانت نبوّته خاتمة للنبوّات، وقد بُعث للناس كافّة إلى أن تقوم الساعة....، وإذا كانت رسالته عامّة لكلّ الناس، فلا بدّ أن تكون شريعته كاملة شاملة لمصالح البشر، لا يحتاج معها إلى شريعة أخرى وبعثة نبي آخر، كما قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[1]. وكانت الصلاة لله ربّ العالمين عموداً لهذه الشريعة المكتملة، وكذلك شكراً للمنّان واعترافاً بفضل الديّان وانقياداً واستسلاماً لإرادة الواحد الأحد، انقياداً قوامه التصديق واستسلاماً أساسه الإيمان العميق، نأياً عن الشرك واقتراباً من لوازم توحيده جلّ شأنه وتصديقاً لوعده وإيماناً بقدرته...، وتعرّضاً لرحمته، وفيما يلي: نتلو عليك ما قاله إمامنا الزكي الحسن العسكري عليه السلام: "إنّ الله تعالى بمنّه ورحمته لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه بل رحمة منه إليكم، لا إله إلا هو، ليميز الخبيث من الطيّب، وليبتلي ما في صدوركم، وليُمحّص ما في قلوبكم ولتتسابقوا إلى رحمته، ولتتفاضل منازلكم في جنّته..."[2]. ومن خلال ما تقدّم يظهر لنا جليّاً أنّ الصّلاة هي أوضح مظهر من مظاهر الارتباط بالله تعالى ورسوله  صلى الله عليه وآله وسلم  لهذا كانت الصلاة أرفع من جميع العبادات منزلة، وأعظم أهدافاً، ولذلك كان إمام المتّقين علي عليه السلام يقول: "إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الإخلاص، فإنّها الفطرة، وتمام الصلاة، فإنّها الملّة"[3] هذا ما قاله مولانا أمير المؤمنين بعين لفظه، فأمعن النظر فيه.

 

الحكمة من تشريع الأذان للصلاة

روى الفضل بن شاذان فيما ذكره من العلل عن إمامنا الرضا عليه السلام ، أنّه قال: "إنّما أمر الناس بالأذان لعلل كثيرة، منها أن يكون تذكيراً للناس، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً

 


[1] سورة المائدة، الآية 3.

[2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج‏1، ص 247، 182 باب علل الشرائع وأصول الإسلام.

[3] م. ن.

 

73


55

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

لمن جهل الوقت واشتغل عنه، ويكون المؤذّن بذلك داعياً إلى عبادة الخالق، ومرغّباً فيهما، مقرّاً له بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، معلناً بالإسلام، مؤذناً لمن ينساها، وإنّما يُقال له: مؤذِّن لأنّه يؤذِّن بالأذان بالصلاة، وإنّما بدأ فيه بالتكبير وختم بالتهليل, لأنّ الله عزّ وجلّ أراد أن يكون الابتداء بذكره واسمه، واسم الله فيالتكبير في أول الحرف، وفي التهليل في آخره، وإنّما جعل مثنى مثنى ليكون تكراراً في آذان المستمعين، مؤكّداً عليهم، إنْ سها أحد عن الأول لم يسهَ عن الثاني، ولأنّ (أصل) الصلاة ركعتان ركعتان، فلذلك جعل الأذان مثنى مثنى، وجعلالتكبير في أول الأذان أربعاً، لأنّ أول الأذان إنّما يبدو غفلة، وليس قبله كلام يُنبّه المستمع له، فجعل الأوليين تنبيهاً للمستمعين لما بعده في الأذان، وجعل بعد التكبير الشهادتين، لأنّ أوّل الإيمان هو التوحيد والإقرار لله بالوحدانية، والثاني الإقرار للرسول بالرسالة، وأن طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان، ولأنّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان، فجعل شهادتين شهادتين، كما جعل في سائر الحقوق شاهدين، فإذا أقرّ العبد لله عزّ وجلّ بالوحدانية، أقر للرسول  صلى الله عليه وآله وسلم  بالرسالة، فقد أقرّ بجملة الإيمان، لأنّ أصل الإيمان إنّما هو الإقرار بالله وبرسوله، وإنّما جعل بعد الشهادتين الدعاء إلى الصلاة لأنّ الأذان إنّما وضع لموضع الصلاة، وإنّما هو نداء إلى الصلاة في وسط الأذان، ودعاء إلى الفلاح وإلى خير العمل، وجعل ختم الكلامباسمه كما فتح باسمه"[1].

 

وجه هذا الدين

من أراد أن يعرف قدر تعظيم دين الله في قلبه، فلينظر إلى قدر عظمة الصلاة فيه، وأهل الإسلام إنّما حظّهم منهُ على قدر حظّهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة، فاعرف يا عبد الله، واحذر أن تلقى الله تعالى ولا قدر

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج ‏2، ص 99، 34: باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان في آخرها أنه سمعها من الرضا علي بن موسى عليه السلام مرة بعده مرة وشيئاً بعد شي‏ء فجمعها ورويت عنه.

 

74


56

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

للإسلام عندك، فقد روى مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن آبائه الكرام  عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "لكلّ شيء وجه، ووجه دينكم الصلاة، فلا يشيننّ أحدكم وجه دينه.."[1]، وهكذا تتجلّى للمؤمن بعض مظاهر حكمة الصلاة في شتّى المجالات، لا سيّما ما تعلّق منها بنفس الإنسان وأخلاق العبد، وضمير الجماعة، ولكن حكم الصلاة لا تقف عند حدّ الهدي النفسي والخلقي والاجتماعي، وإنّما تتّسع لتشمل كلّ حكم هذا الدين.

 

الصلاة جنّة

الصلاة الزاخرة بالخشوع وحضور القلب أوّل ما تخلق في قلب المصلّي جنّة حقيقيّة يسري مداها تدريجيّاً إلى أجواء الحياة، وتهب المرء الصلاح والفلاح. وانطلاقاً من هذه الرؤية، أضحت الصلاة في كلّ الأديان الإلهيّة من أكثر آداب التديّن أصالة، ومن أبرز علامات الإيمان وأوضحها وأشملها، والصلاة الإسلاميّة هي أكمل الصلوات وأجملها[2].

 


[1] ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج‏3، ص 267، ط: الدار الإسلامية، باب من حافظ على صلاته أو ضيعها.

[2] الإمام الخامنئي، من أعماق الصلاة، ص 75، طبعة جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت.

 

75


57

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

المفاهيم الرئيسة

- عدم تبيان علل جميع الأحكام الشرعية لا يعني عدم وجوب امتثالها، فإذا ثبتت الأحكام وجب الامتثال.

 

- أهداف الصلاة ثلاثة: أولها: إقرار المصلي بأنه عبد مربوب له ربٌّ واحد أحد، والثاني: إقامة ذكر الله تعالى، لأن الأذكار تُربّي في المسلم معاني العبودية لله، والثالث: الرادع والوازع والزاجر الذي يَنتُج عن إقامة ذكر الله تعالى.

 

- فرض الله تعلى الصلاة تنزيهاً لنا من الْكِبْرِ، والْكِبْرِ حالة إعجاب المرء بنفسه.

 

- جاءت إقامة الصلاة مباشرة بعد الأمر بالتوحيد وإخلاص العبودية لله تعالى.

 

- ارتبطت إقامة الصلاة بطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فإقامة الصلاة تُزكّي النفس وتُهيّؤها لقبول طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

- الصلاة أرفع من جميع العبادات منزلة، وأعظم أهدافاً.

 

- لتشريع الأذان علل كثيرة، منها: أن يكون تذكيراً للناس، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً لمن جهل الوقت واشتغل عنه.

 

- من أراد أن يعرف قدر تعظيم دين الله في قلبه، فلينظر إلى قدر عظمة الصلاة فيه.

 

- الصلاة الزاخرة بالخشوع وحضور القلب تخلق في قلب المصلي جنّة حقيقة تؤثّر على بيئته وتُشكل أبرز العلامات إلى إيمانه والتزامه.

 

76


58

الدرس السادس: أهداف الصلاة

الدرس السادس

أهداف الصلاة

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدِّد أهداف الصلاة.

 

2- يفهم الأهداف الإصلاحية للصلاة.

 

3- يبيّن كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر.

 

77


59

الدرس الخامس: حكمة الصلاة وفلسفتها

مقدّمة

إنّ العبادات فُرضت لتقوية العلاقة بين الإنسان وربّه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، أمّا إذا اكتفينا بمظهر العبادة دون التطلّع إلى أهدافها فإنّ هذه العلاقات لن تُثمر وبالتّالي لن يكون لها عند الله وزن، ولذلك يتوجّب علينا أن نُدرك أهداف هذه العبادات وغايتها لأنّ إدراكنا أهداف الفرائض التي فرضها الله تعالى هو شرط رئيسي، وأساسي من شروط ضمان التأثير العملي لهذه الفرائض في سلوكنا الذي نسلكه خلال معيشتنا في هذه الحياة، وهذا الحكم يسري على جميع العبادات، والفرائض، والتشريعات، وخصوصاً تلك التي تحتوي على طابع أخلاقي واجتماعي كفريضة الصلاة، والحج، وأداء الزكاة والحقوق الشرعية...، وما إلى ذلك من فرائض يسهم إدراكنا لأهدافها، وأداؤها الواعي إسهاماً عظيماً وفاعلاً في تغيير حياتنا، وتقويم سلوكيّاتنا، وبذلك نكون قد حقّقنا هدفاً من أهمّ أهداف الشريعة وهو إصلاح النفوس وتنشئة الإنسان الصالح الطاهر القلب نقي الثوب الشجاع الأمين الصادق البار الوفي، المخلص العادل الطيّب سليم النية والطوية البعيد عن كل الأدناس والأرجاس الحسّية والمعنوية، وقد جاءت الشريعة بما تضمّنت محقّقة لهذه الغاية على أتمّ الوجوه وأكمل الصور، ومثالاً على ذلك: الأنفس البشرية المستوجبة للشهوة والغفلة والسهو والنسيان والشَرَه في العمل والفَتَرةِ عن الله، اقتضت الحكمة أن تُشرّع الصلاة لتَذكُرَ النفسُ نسيانها وتوقظ غفلتها وتقمع شهوتها بقطعها عن عاداتها، ولتُقبل على الذي كفلها بنعمه وجوده وكرمه وهو الله سبحانه.

 

79


60

الدرس السادس: أهداف الصلاة

الهدف لغة

فيما يخصّ موضوع أهداف الصلاة ننطلق بداية من توضيح معنى الهدف لغة بإشارة مقتضبة ونافعة إن شاء الله تعالى، فنقول: ما ذكره الأزهري في تهذيب اللغة عن الأصمعيّ أنّه قال: الهدَف: كلّ شيءٍ عظيم مرتفع، وما ذكره ابن فارس في معجم مقاييس اللغة جمع خلاصته صاحب مختار الصحاح بسطر واحد فقال: "هدف ه د ف: الهَدَفُ كلّ شيء مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل، ومنه سُمّي الغرض هدفاً"[1]، ولإتمام الفائدة نستضيء بقبس من نور مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام : حيث يقول: "ألا وإن للإسلام غاية، فانتهوا به إلى غايته"[2]، إذاً الغرض والغاية هما ما نحتاجه للتعبير عن محتوى الصفحات القادمة.

 

رمز العبودية لله تعالى

إنّ الصلاة رمز من رموز عبودية الله تعالى، لذا قال الله سبحانه مخاطِباً نبيه المرسل موسى الكليم عليه السلام أول الأمر في بداية الوحي: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾[3], والصلاة لها روح ولبّ، وروحها ولبّها هو ذكر الله وحده، وهذه الآية المحكمة تُبيّن أبرز أهداف الصلاة وغايتها وهو: "أنّ الإذعان والقبول بأنّ العبوديّة ينبغي أن تكون حصراً أمام الله، ولأجله، وهو أحد أهمّ الأصول الفكريّة والعمليّة في الإسلام وفي جميع الأديان السماويّة، والذي يُعبّر عنه بـ "انحصار الألوهيّة بالله" أي أنّ الله فقط هو الذي ينبغي أن يكون إلهاً (معبوداً)، وأن لا يكون هناك عبوديّة لغيره ولا يُعبد سواه"[4]، فالصلاة عبودية خالصة

 


[1] محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، ج 1، ص 705، مكتبة لبنان ناشرون.

[2] أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج ‏10، ص 20، فصل في القرآن، طبعة 1، مكتبة المرعشي النجفي, قم.

[3] سورة طه، الآية 14.

[4] الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي، من أعماق الصلاة، ص 26، طبعة جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت.

 

80


61

الدرس السادس: أهداف الصلاة

لله سبحانه، تدبّر عباراتها لتجد أنّ كلّها تدور في فلك العبودية، وفي فلك التوحيد الخالص، وهي أجمل وأصدق عبارات تُعلن عن حقيقة ما تدعو إليه.

 

والهدف الثاني في الآية المباركة هو: إقامة الصلاة لذكر الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ بكلّ ما تعنيه إقامتها، وفي ذلك يقول سماحة الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله: يظهر أنّ إقامة الصلاة شيءٌ أبعدُ من مجرّد أدائها، أي أنّها ليست فقط أن يقوم الشخص بأداء الصلاة, بل هي أيضاً السير في الجهة والاتجاه (نحو الشيء) الذي تدعو إليه الصلاة، وبعث الآخرين نحوه، فكأنّ إقامة الصلاة، أن يجعل الإنسان، بالسعي المطلوب، فضاءَ حياته وحياة من حوله فضاءَ المصلّين الباحثين عن الله وعبادته، ويحيا الجميع في خطّ الصلاة وجهتها[1].

 

إقامة ذكر الله جل شأنه

إذاً ليس المقصود من إقامة الصلاة لذكر الله تعالى مجرّد الحركات والأذكار التي تشتمل عليها الصلاة بل القيم الملتزمة التي تغرسها الصلاة في نفس المصلّي من خلال طرق تفكيره، وتأمّله بما تحتويه الصلاة من أعمال وتلاوات، ذلك لأنّ المقصود من الذكر تزكية الأنفس وإيقاظ الضمائر وتطهير القلوب، قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "أصلُ صلاحِ القلب اشتغالُه بذكر الله"[2]، ولكي يكون العبد من الله أقرب قال تعالى مخاطِباً حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾[3]. كما أنّ "الصلاة من الأعمال المفعمة بالدوافع لذكر الله، والتي يُمكن أن تجعل الإنسان مستغرِقاً بذكره تعالى، وتكون موقظة له، وتكون شاخصاً وعلامة تُرشد السائرين في طريق الله إلى الصراط المستقيم، وتحفظهم من الضياع والانحراف، وتمنع من وقوع لحظة الغفلة في حياة الإنسان"[4].

 


[1] من أعماق الصلاة، ص 15، طبعة جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت.

[2] التميمي، غرر الحكم و درر الكلم، ص 198، رقم: 257.

[3] سورة العلق، الآية 19.

[4] الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله، من أعماق الصلاة، ص 10، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

 

81


62

الدرس السادس: أهداف الصلاة

فمع توزّع الصلوات الواجبة على أوقات اليوم المختلفة، فإنّ العبد يغسل بها غبار الغفلة والخوف وينطلق مفلحاً منجحاً، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾[1]. كما أنّه يتخلّص بذكر الله من الاضطراب الذي يُنهك القلوب قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[2] لتكون الخاتمة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً*  فَادْخُلِي فِي عِبَادِ ﴾[3] كذلك كانت الصلاة ذكرى للذاكرين: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾[4], وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[5], وذلك أنّ ذكر الله عزّ وجلّ يحمل الإنسان على التزام شرعه في كلّ شأن من شؤونه، ويُشعره برقابة الله تعالى عليه، فيكون له رقيب من نفسه، فيستقيم سلوكه ويصلح حاله مع الله تعالى ومع الخلق، ولذا أمر المسلم بذكر الله تبارك وتعالى في كلّ حين، وعلى كلّ حال فقال الله سبحانه:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾[6], وقال سبحانه: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾[7]. هذا وإنّ للصلاة أسراراً وحكماً يُدركها المسلم إذا أقبل على صلاته بخشوع، وتدبّر وحضور ذهن، وفهم ووعي لما يتلوه من قرآن، وما يذكره من أذكار.

 


[1] سورة الأعلى، الآيتان 14 - 15.

[2] سورة الرعد، الآية 28.

[3] سورة الفجر، الآيات 27- 30.

[4] سورة هود، الآية 114.

[5] سورة الجمعة، الآية 9.

[6] سورة الأحزاب، الآية 41.

[7] سورة النساء، الآية 103.

 

82


63

الدرس السادس: أهداف الصلاة

الأهداف الإصلاحية للصلاة

إنّ من تدبّر آيات الذكر الحكيم التي ذُكرت فيها الصلاة يستخلص من هذا التدبّر أنّ للصلاة أهدافاً إصلاحية كثيرة، وتحقيقاً لهذه الأهداف الإصلاحية، جاءت دعوة القرآن الكريم لإقامة الصلاة مقترنة بالإصلاح الاجتماعي، والاستقامة والدوام على فعل الخير، كما في قوله تعالى:

﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾[1]، وقوله جلّ شأنه: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾[2]، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ ...﴾[3], وقوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[4], وقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾[5] ويُلاحِظ المتدبِّر للنصوص القرآنية الآنفة الذكر أنّ الصلاة جاءت مقترنة بعدّة قيم أخلاقية حميدة منها:

الصلاة والكلمة الطيّبة

أنّ الصلاة جاءت مقترنة بالقول الحسن، ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾[6] لئلّا تصدر عن المصلّي كلمة السوء، ولئلّا يُحرّك لسانه بغير الإصلاح والخير، فلا يكذب، ولا يغتاب، ولا يسبّ، ولا يلعن، ولا ينطق بالكلمة البذيئة، بل ينشر بلسانه الخير والفضيلة. فيستعمل الكلمة الطيّبة التي يؤجر عليها، كلمة الإصلاح والإيمان، ويتعامل بالعبارة

 


[1] سورة البقرة، الآية 83.

[2] سورة النساء، الآية 77.

[3] سورة الأنبياء، الآية 73.

[4] سورة الحج، الآية 41.

[5] سورة العنكبوت، الآية 45.

[6] سورة البقرة، الآية 83.

 

83


64

الدرس السادس: أهداف الصلاة

الجميلة المسرّة، لأنّ للكلمة دورها الفعّال في التأثير على سير حياته الفكرية والثقافية، وإصلاح المجتمع، وتكوين العلاقات والروابط النفسية والاجتماعية فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾[1].

 

الصلاة والهداية إلى الصلاح

من نظر في ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه الكرام (عليهم الصلاة وأزكى السلام) يجد أنّ الصلاة جاءت مقترنة بفعل الخيرات، وكان هؤلاء العظام يهدون بأمر الله جلّ شأنه أناء الليل وكلّ النهار، ومن جوانب هذه الهداية دعوة الإنسان إلى الإصلاح والاستقامة لتربيته على فعل الخير في كلّ مجالات الحياة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ ...﴾[2]. وهو وحي التسديد والهداية إلى الصلاح في مقام العمل، وتـنكير الحكم لتفخيم أمره كما ذكر العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان كما أنّ الصلاة جاءت مقترنة بكفّ الأيدي والألسنة عن الظلم والعدوان على الآخرين ـ العدوان على أموالهم وأرواحهم وأعراضهم، وكلّ ما يتعلّق بهم: ﴿كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾[3], قال مالك الجهني: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "يا مالك أما ترضون أن تُقيمواالصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتكفّوا وتدخلوا الجنّة"[4]، "فالمؤمن، إذاً، أو الأمّة المؤمنة بإقامتها للصلاة تحرق جذور الفساد والمعاصي، والرذيلة في النفس وفي المحيط الاجتماعيّ، وتُميت روحيّة الذنب والنزوع إلى ارتكاب المعاصي، وبواعثها الداخليّة والخارجيّة (أي العوامل النفسيّة والبيئيّة)، حقّاً إنّ الصلاة تردع الفرد والمجتمع عن ممارسة الأعمال الطالحة والقبيحة"[5].

 


[1] سورة إبراهيم، الآيات 24 - 26.

[2] سورة الأنبياء، الآية 73.

[3] سورة النساء، الآية 77.

[4] المولى محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 12، ص 151، وهو الحديث رقم 122 من الكافي الباب 8.

[5] الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي، من أعماق الصلاة، ص 6، طبعة جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت.

 

84


65

الدرس السادس: أهداف الصلاة

الصلاة ميدان العزّة والكرامة

إنّ الصلاة ميدان واسع من ميادين العزّة والكرامة، ومن أراد العزّة والكرامة، فعليه بالصلاة لله ربّ العالمين. إنّ المصلّي عزيز عند الله تعالـى لأنّه يضع أشرف وأكرم أعضاء بدنه على التراب عبودية لله تعالـى، ويُنكّس جوارحه خاضعاً متذلِّلاً له جلّ جلاله، وقد جاء السجود في كتاب الله تعالى مقترناً بالقرب من الله عزّ وجلّ لذلك قال تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾[1]، فالمصلّي يلقى من الله الكرامة ظاهراً وباطناً عاجلاً وآجلاً فـي الدنيا والآخرة، ويُلَقَّى يوم القيامة تحية الكرامة فـي دار المقامة من ربّه الكريم: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾[2] لا يمسّهم فيها نَصَبٌ ولا يمسّهم فيها لُغُوبٌ.

 

نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر

للحديث عن هذا الهدف العظيم من أهداف الصلاة نبدأ بتوضيح معنى الفحشاء لغة واصطلاحاً، والمنكر كذلك، وهما عبارتان بينهما فرق يُدركه المتدبّر على الرغم من أنّ المنكر جاء معطوفاً على الفحشاء.

 

معنى الفحش لغةً

أصل هذه المادّة يدلُّ على قُبح في شيء وشَناعَة، يُقال: فحش الشيء فحشاً، مثل قبح قبحًا وزنًا ومعنًى، وكلّ شيء جاوز الحدّ فهو فاحش،.. وبالمحصّلة الفحشاء في لغة العرب هي الخصال المتناهية بالقبح، وكلّ ذنب استفحشته الشرائع والفطر.

 

معنى الفحش اصطلاحًا: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقصه العقل المستقيم.

 وقال الراغب: الفحش، والفحشاء، والفاحشة: ما عظم قبحه، من الأفعال،

 


[1] سورة العلق، الآية 19.

[2] سورة الأحزاب، الآية 44.

 

85


66

الدرس السادس: أهداف الصلاة

والأقوال[1]، وقال الحرالي: ما يكرهه الطبع من رذائل الأعمال الظاهرة، كما ينكره العقل ويستخبثه الشرع[2].

 

والمنكر في اللغة: اسم مفعول أنكر، وقيل هو: كلّ مستقبح غير معروف، ولا مرضي.

 

وفي الاصطلاح: هو ما أنكره الشرع، ونهى عنه، وأوعد فاعله بالعقاب.

 

قال الراغب الأصفهاني: والمنكر: كلّ فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقّف في استقباحه واستحسانه العقول، فتحكم بقبحه الشريعة،.....، وتنكير الشيء من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف. قال تعالى: ﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾[3], وتعريفه جعله بحيث يعرف[4].

 

والسؤال المطروح الآن: لماذا جاءت الصلاة مقترنة بالأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر؟

لأنّ في الصلاة من الأقوال تكبيراً لله وتحميده وتسبيحه، والتوجّه إليه بالدعاء والاستغفار، وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يُغضبه وما هو ضلال، وكلّها تُذكّر بالتعرّض إلى مرضاة الله، والإقلاع عن عصيانه وما يُفضي إلى غضبه، فذلك صدّ عن الفحشاء والمنكر.

وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلّل لله تعالى من قيام وركوع وسجود، وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته، والتباعد عن سخطه. وكلّ ذلك ممّا يصدّ عن الفحشاء والمنكر.

 

وفي الصلاة أعمال قلبية من نيّة، واستعداد للوقوف بين يدي الله، وذلك يُذكّر بأنّ المعبود جدير بأن تمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، فكانت الصلاة بمجموعها

 


[1] الحسين بن محمد بن المفضل، مفردات ألفاظ القرآن، ج 2، ص 180، ط: دار القلم، دمشق. بتصرف.

[2] عبد الرؤوف المناوي، فتح القدير، ج 2، ص 271، طبعة 1، المكتبة التجارية الكبرى، مصر.

[3] سورة النمل، الآية 41.

[4] الحسين بن محمد بن المفضل، مفردات ألفاظ القرآن، ج 2، ص 453، ط: دار القلم، دمشق. بتصرف.

 

86


67

الدرس السادس: أهداف الصلاة

كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإنّ الله تعالى قال: ﴿تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾[1], ولم يقل تصدّ وتحول أي إنّ الصلاة بمنزلة الناهي بالقول إذا قال لا تفعل الفحشاء والمنكر وذلك لأنّ فيها التكبير والتسبيح، والتهليل والقراءة والوقوف بين يدي الله تعالى، وغير ذلك من صنوف العبادة كما قد سلف، وكلّ ذلك يدعو إلى شكله، ويصرف عن ضدّه، فيكون مثل الأمر والنهي بالقول، وكلّ دليل مؤدّ إلى المعرفة بالحقّ، فهو داع إليه وصارف عن الباطل الذي هو ضدّه، ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزّعة على أوقات من النهار والليل، ليتجدّد التذكير وتتعاقب المواعظ. وبمقدار تكرّر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس، وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها، وإنّ العبد المقيم لها كما أراد الله تعالى، يستنير قلبه، ويتطهّر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقلّ أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة مداومتها، والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها، ووراء ذلك خاصّية إلهية جعلها الله في الصلاة، يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر[2].

 

قال مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : "اعلم أنّ الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلم ما أدرك من نفع صلاته، فلينظر فإنْ كانت صلاته حجزته عن الفواحش والمنكر، فإنّما أدرك من نفعها بقدر ما احتجز، ومن أحبّ يعلم ماله عند الله، فليعلم ما لله عنده،.."[3].

 


[1] سورة العنكبوت، الآية 45.

[2] من تفسير مجمع البيان للفضل الطبرسي، والتحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور (بتصرف).

[3] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 236، باب معنى ما روي أن الصلاة حجزة الله في الأرض.

 

87


68

الدرس السادس: أهداف الصلاة

ما تربّيه الصلاة في النفس

إنّ اقتران الصلاة بالإصلاح الاجتماعي، ومحاربة الفساد، والانحطاط، المتمثّل بالفحشاء والمنكر، يعود بأفضل النتائج الإصلاحية على حياة المجتمع وهكذا يكون الفرد المصلّي، والمجتمع المصلّي، مركزاً لإشعاع الخير والإصلاح والاستقامة، لأنّ الصلاة تُربّي في النفس:

1- يقظة الضمير بدوام الاتصال بالله والخوف من معصيته، والحياء من مخالفته، وكيف لا يستحي المصلّي من فعل الجرائم والمخالفات، وهو يقف في كلّ يوم خمس مرّات بين يدي ربّه يدعوه، ويستغفره، ويطلب عفوه وثوابه.

 

2- تُربّي الصلاة في النفس الرغبة في التوبة والإقبال على الصلاح والاستقامة بدوام الاستغفار وتكرار الاستعاذة من الذنوب، فتتّسع في النفس مسافات البعد بينها وبين الجريمة والمعصية، وتتأكّد فيها الرغبة في الصلاح والاستقامة.

 

3- تربّي الصلاة في نفس المصلّي حبّ الخير للجميع، وتُنقذه من الحقد والأنانية اللّذين هما مصدر كلّ الشرور والمآسي البشرية في كلّ مجالات حياتها، فالمصلّي بدعائه يطلب الخير للجميع، ويدعو لهم بالخير والمغفرة، فتنمو في نفسه مشاعر الحبّ والخير بأوسع صيغها الاجتماعية الشاملة. وليس الدعاء هو كلّ ما يؤدّيه المصلّي للتعبير عن رغبته في حبّ الخير، بل ويمتدّ هذا الإحساس والشعور الإنساني النبيل إلى خارج مواقف الصلاة، ليتجسّد سلوكاً وعملاً تحيا الإنسانية في ظلاله آمنة مطمئنة.

 

هذا جملة من أهداف الصلاة، فإذا أدّى المصلّي واجبات الصلاة الشكلية من حركات وألفاظ، ولكنّه لم يسمح للصلاة أن تتفاعل في نفسه لتزرع هدفها السامي بحيث تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فصلاته حينئذ لا قيمة لها بل هي ويل ووبال

 

88


69

الدرس السادس: أهداف الصلاة

عليه. يقول تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[1]، وقد ورد عن إمامنا الصادق عليه السلام أنّه قال: "من أحبّ أن يعلم أُقبلت صلاته أم لم تُقبل، فلينظر هل منَعَتهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ فبقدر ما منَعَتهُ قُبِلت منه"[2].

 


[1] سورة الماعون، الآيتان 4 - 5.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 79، ص 198.

 

89


70

الدرس السادس: أهداف الصلاة

المفاهيم الرئيسة

- الهَدَفُ لغةً هو كلّ شيء مرتفع من بناء أو كثيب رمل أو جبل، ومنه سُمّي الغرض هدفاً.

 

- أبرز أهداف الصلاة وغايتها: الإذعان والقبول بأنّ العبوديّة ينبغي أن تكون حصراً أمام الله، ولأجله، وذكر الله تعالى, والمقصود من الذكر تزكية الأنفس وإيقاظ الضمائر وتطهير القلوب، والالتزام الكامل بشرع الله تعالى.

 

- جاءت دعوة القرآن الكريم لإقامة الصلاة مقترنة بالإصلاح الاجتماعي، وبعدّة قيم أخلاقية كالقول الحسن، والاستقامة والمدوامة على فعل الخير بكفّ الأيدي والألسنة عن الظلم والعدوان على الآخرين.

 

- إنّ المصلّي يلقى عزّة وكرامة, باطنية وظاهرية, في الدنيا والآخرة؛ لأنّه يضع أشرف وأكرم أعضاء بدنه على التراب عبودية لله تعالـى، ويُنكّس جوارحه خاضعاً متذلِّلاً له جلّ جلاله.

 

- الفحشاء لغة: هي الخصال المتناهية بالقبح، وكلّ ذنب استفحشته الشرائع والفطر, واصطلاحًا: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقصه العقل المستقيم.

 

- جاءت الصلاة مقترنة بالأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر لما في الصلاة من الأقوال والأفعال الظاهرية والقلبية والتي تُذكّر بالتعرّض إلى مرضاة الله، والإقلاع عن عصيانه وما يُفضي إلى غضبه،وفي ذلك صدّ عن الفحشاء والمنكر.

 

- الصلاة تُربّي في النفس: يقظة الضمير بدوام الاتصال بالله والخوف من معصيته، والحياء من مخالفته, والرغبة في التوبة, والإقبال على الصلاح والاستقامة, وحبّ الخير للجميع.

 

90


71

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

الدرس السابع

آثار الصلاة على المصلّي

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدِّد الآثار الروحية والتربوية للصلاة.

 

2- يشرح أثر الصلاة في طهارة النفس وتزكيتها.

 

3- يستنتج كيف تكون الصلاة مفتاحاً لكل خير.

 

91


72

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

المقدّمة

ممّا لا شكّ فيه أنّ للصلاة كما هي الحال في سائر العبادات آثاراً إيجابية على الفرد نفسه وعلى المجتمع، وقد سبّب إهمالها في عصرنا الحالي خواء روحياً واضحاً أثّر في نظرة الفرد إلى المجتمع وإلى الحياة ممّا سبّب في أزمات نفسيّة حادّة هي التي كانت وراء تزايد نسبة الأمراض النفسية والانتحار وغيرها، ونحن نُسلّط الضوء في هذا الفصل على بعض الآثار المهمّة التي تتركها الصلاة على المصلّي، فنذكره في هذا الموضع من الكتاب لأنّه قد هان على كثيرٍ من المصلّين - لطول الأمد وقسوة القلوب، واستحكام الدنيا في النفوس - أن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، وكأنّهم لم يقرؤوا في كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾[1] نحن نُصلّي ولكن لا يتورّع الكثيرُ من المصلّين عن ارتكاب بعض المحرّمات، والتساهل في الواجبات، ولا ريب أنّ مردّ ذلك يعود لأداء الصلاة جسداً. بلا روح. أو لأنّ بعض الناس أصبح ينظر للصلاة على أنّها أضحت عادة اعتاد الناس فعلها، وبالمحصّلة لا تؤدّى كما شرّع الله تعالى وسنّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والحقيقة أنّه لو صلّى المصلّون الصلاة الشرعية، واستحضروا الخشوع والرهبة، وأقاموها وفقاً لما سنّه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لنفعت، وأثّرت وعملت عملها في قلوب الناس، ومجتمعاتهم، وصارت أكبر عونٍ لهم على أمور الدنيا والدين، ألم يقل ربّنا تبارك وتعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[2].

 


[1] سورة العنكبوت، الآية 45.

[2] سورة البقرة، الآية 45.

 

93

 


73

الدرس السادس: أهداف الصلاة

صفات وعلامات

إنّ مراعاة أداء الصلاة كما أوجبها الله تعالى هو سبب رئيس في انحسار كثيرٍ من المنكرات والمحرّمات، وأنت أخي المؤمن ترى أنّ الله عزّ وجلّ قد رتّب الفلاح للمؤمنين، وجعل أوّل صفاتهم وعلاماتهم الخشوع في الصلاة، فقال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[1]، فلا شكّ أنّ المحافظ على صلاته المؤدّيها في وقتها، والذي يتأهّب لها ويستعد قبل دخول وقتها، ويحرص على عدم فوات جزء منها. لا شكّ أنّ هذا ينتفع بصلاته، وتظهر آثارها على جوارحه، وسلوكه، فتعظيمه لهذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ومعرفة حقّ الله سبحانه فيه، دليل لتعظيمه أوامر الله تعالى، والبعد عن نواهيه وهذا من حال الخاشعين لله تعالى الذين يكون الفلاح حليفهم جميعاً، كما جعلها الله سبحانه وتعالى علامة فارقة للمتّقين من أهل الإيمان، فقال عزّ من قائل: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[2], القسم الأخير من الآية المباركة هي ثمرةٌ جنيَّة للمؤمنِ بالغيب والمقيمِ الصلاة، لأنَّ الإنسان كالبذرة المهيَّأة والمستعدَّة التي لو وضعت في أرض قابلة للزراعة لانشقَّت وغرست جذورها فتفتَّحت وأثمرت، فالثمار إذاً ليست إلا نتيجة لاستحكام الجذور وصلابة العود، والإيمان بالغيب هو الذي يُمثِّل باطن الإنسان الذي يظهر في إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله، ثمرتان ذات أُكلٍ دائم.

 

الآثار الروحية والتربوية للصلاة

إنّ الصلاة هي أهمّ الأوامر الإلهية وما يتخلّلها من دعاء وأذكار، وتلاوة للقرآن، ستترك بلا شكٍّ أثراً بالغاً في الأبعاد الدينيّة والروحية عند الفرد المسلم، لأنّ الصلاة

 


[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 - 2.

[2] سورة البقرة، الآيات 1 - 3.

 

94


74

الدرس السادس: أهداف الصلاة

ليست مجرّد تحريك للبدن واللسان، فهذه الحركات والكلمات لها امتدادها في وجدان المؤمن وقلبه ونفسه، وإنّ الخير كلّ الخير، والغنيمة كلّ الغنيمة، أن يستفيد المسلم من العبادات والمناسبات الإسلامية، وأن تؤثّر على مجرى حياته تأثيراً طيّباً, ليكون زاهداً في الدنيا الفانية راغباً في الآخرة الباقية، فإذا صلّى رُئيت آثار الصلاة الإيجابية عليه وعلى مجتمعه، فهلمّوا لنتعرّف على بعض هذه الآثار الحميدة التي تخلعها الصلاة على المصلّي:

أ - قوّة الصلة بالله تعالى

إنّ المتدبّر يعلم أنّ قوّة الصلة بين العبد وربّه هي أوّل آثار الصلاة على المصلّي، وذلك لأنّ الصلاة عبادة تُحقّق دوام ذكر الله، ودوام الاتصال به، وتُمثّل تمام الطاعة والاستسلام لله، والتجرّد له وحده بلا شريك،، بها تتوثّق أسباب الاتصال بالله، ويتزوّد العبد من خلالها بطاقة روحية تُعينه على مشقّة التكليف. فرضها الله على المسلمين للثناء عليه بما يستحقّه وليذكرهم بأوامره، وليستعينوا بها على تخفيف ما يلقونه من أنواع المشقّة والبلاء في الحياة الدنيا. فيها يقف الإنسان بين يدي ربّه في خشوع وخضوع، مستشعراً بقلبه عظمة المعبود، مع الحبّ والخوف من جمال وجلال المعبود، طامعاً فيما عنده من الخير، وراغباً في كشف الضرّ، وجلاً من عقابه الشديد.

 

روى إمامنا الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام عن أبيه، عن آبائه الكرام  عليهم السلام في حادثة مفصَّلة عن أمير المؤمنين عليه السلام  في فضل رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : "إنّه كان إذا قام إلى الصلاة سُمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي[1] من شدّة البكاء، وقد أمنه الله عزّ وجلّ من عقابه، فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه، ويكون إماماً لمن اقتدى به، ولقد قام عليه وآله السلام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك، فقال الله عزّ وجلّ:

 


[1] الأثافي جمع الأثفية: الحجر توضع عليه القدر.

 

95


75

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[1]. بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله أليس الله عزّ وجلّ قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: بلى أفلا أكون عبداً شكوراً"[2].

 

ب- أثر الصلاة في طهارة النفس وتزكيتها:

إنّ للصلاة أثراً كبيراً في تهذيب سلوك المسلم, فهي تجعل منه إنسانًا طاهر النفس، ومصلحاً بكلّ وجوه الإصلاح التي يُطيقها، والصلاة تُربّي النفس وتُهذّب الروح وتُنير القلب بما تغرس فيه من جلال الله وعظمته، خصوصاً أثناء السجود الذي تكمن آدابه القلبية في معرفة حقيقة النفس وأصل وجود الإنسان وأدب وضع الرأس على التراب إسقاط أعلى مقامات نفسه عن عينه، ورؤيتها أقل من التراب، كما أن تحلّي المرء وتجمّله بمكارم الأخلاق خصوصاً إذا منح الله تعالى العبد توفيق الأُنس به حال الصلاة، وذاق حلاوة مناجاة ربّه، فسيُقلع عن اقتراف الذنوب بكلّ سهولة، ولن تعود للخطيئة جاذبيّة في نظره، لذلك يقول العارف بالله الشيخ بهجت رحمه الله: "لو علم ملوك العالم ما في الصلاة من لذّة لتركوا لذّات سلطانهم، وهرعوا نحو الصلاة"[3].

 

إنّ الله تعالى بواسع رحمته جعل الصلاة وسيلة لغسل الذنوب وتطهير النفوس كما جاء في حديث إمامنا أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام الذي يرويه عن جدّه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه سأل أصحابه: "لَو كانَ عَلى بابِ دارِ أحَدِكُم نَهرٌ، فَاغتَسَلَ في كُلِّ يَومٍمِنهُ خَمسَ مَرّات. أكانَ يَبقى في جَسَدِهِ مِنَ الدَّرَنِ شَيءٌ؟ قالوا. لا. قالَ: فَإِنَّ مَثَلَ الصَّلاةِ كَمَثَلِ النَّهرِ الجاري كُلَّما صُلّيَ صَلاةٌ كَفّرَت ما بَينَهُما مِنَ الذُّنوبِ"[4]، وقال

 


[1] سورة طه، الآيتان 1 - 2.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 17، ص 287.

[3] نقل عنه هذا القول آية الله الشيخ مصباح اليزدي في محاضرة ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي (دام ظله) بتاريخ 21 / آب / 2011 م.

[4] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏4 ، ص 15، 2 - باب وجوب الصلوات الخمس... ص: 10.

 

96


76

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

أمير المؤمنين عليه السلام : "الصَّلاةُ صابونُ الخَطايا"[1]، ومن خلال حديث المصطفى وقول المرتضى عليهما السلام يتبيّن لنا أنّ بلسم الصلاة يجعل الجروح التي تُصيب روح الإنسان من جرّاء الذنوب تلتئم بسرعة، ويزول صدؤها الجاثم على القلب.

 

ج - درع المسلم السابغة[2]:

كما تُعدّ الصلاة درعاً سابغة منيعة أمام الذنوب المستقبلية: لأنّها تقوّي روح الإيمان في الإنسان، وتُنمّي نسبة التقوى في القلب، ومن المعلوم أنّ الإيمان والتقوى هما أقوى الدروع التي تواجه الذنوب، وأشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى بعنوان النهي عن الفحشاء والمنكر، وورد في روايات عديدة أنّ المصلّي إذا كان مبتلى ببعض العادات السيّئة، واستمرّ في أداء صلاته، فإنّ الآثار الروحية والتربوية للصلاة كفيلة بأنْ تجعل منه فرداً صالحاً في المستقبل كما حصل عندما جاء أحد الصحابة، فقال: يا رسول الله إنّ فلاناً يُصلّي الليل كلّه، فإذا أصبح سرق، فقال  صلى الله عليه وآله وسلم: "سينهاه ما تقول"[3]، أي: صلاته التي يُصلّيها. كما روي أيضاً أنّ فتى من الأنصار كان يُصلّي الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويرتكب الفواحش، فوصف ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "إنّ صلاته تنهاه يوماً ما، فلم يلبث أن تاب"[4]، والمتأمّل لما تقدّم يتوضّح لديه معنىً من المعاني الكثيرة لقول الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾[5]. أي: إنّها تنهى عن أضدادها إذ كان أهلها يأتونها على الأحوال التي أُمروا أن يأتوا بها عليها.

 


[1] عز الدين بن هبة الله بن محمد ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج 20، ص 313، ط 1، دار الكتب العلمية.

[2] أصلها سَبَغَ: قوله تعالى: ﴿اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ (سورة سبأ، الآية 11)؛ أي دروعاً واسعة ضافية... وإسباغ النعمة: توسعتها... والسبوغ: الشمول، راجع مجمع البحرين للطريحي، ج5، ص11، مادّة "سَبَغَ"،.

[3] محمد بن حبان التميمي، صحيح ابن حبان، ج 6، ص 300، ط 2، مؤسسة الرسالة.

[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 79، ص 198.

[5] سورة العنكبوت، الآية 45.

 

97


77

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

د- إزالة الغفلة من حياة الفرد والمجتمع

إنّ في تكرار الصلوات على امتداد اليوم والليلة الأثر الأكبر لإزالة الغفلة من حياة الفرد والمجتمع المسلم لأنّ الصلاة ومن خلال ذكر الله تعالى الوارد فيها تُنبّههم من رقدة الغافلين باستمرار، وتُذكّرهم بهدف الخلقة والإبداع، وتُلفت انتباههم إلى مكانتهم وأمكنتهم، قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "اعلَم أنَّ الصَّلاةَ حُجزَةُ اللهِ فِي الأَرضِ، فَمَن أحَبَّ أن يَعلَمَ ما أدرَكَ مِن نَفعِ صَلاتِهِ، فَليَنظُر، فَإِن كانَت صَلاتُهُ حَجَزَتهُ عَنِ الفَواحِشِ والمُنكَرِ، فَإِنَّما أدرَكَ مِن نَفعِها بِقَدرِ مااحتَجَزَ"[1]، ومن دعاء مولانا الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: "اللهمّ.. لا تحل بيني وبين المساجد التي يُذكر فيها اسمك، ولا تجعلني من الغافلين عن ذكرك وشكرك"[2]، وما أعظمها من نعمة أن يملك الإنسان وسيلة تُنبّهه من الغفلة مراراً، وعلى طول الخطّ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾[3].

 

هـ ـ قمع التكبّر وتمزيق حجب الغرور

الصلاة تُحبط التكبّر لأنّ فيها الركوع، وهو خضوع للربّ العظيم، والسجود وهو غاية الخضوع للرب الأعلى، والإنسان عندما يخرّ لله ساجداً يضع أشرف عضو من أعضاء جسده - وهو الوجه- على التراب، ويُنكّس جوارحه خاضعاً متذلِّلاً لله تعالى، وينحني لله في سبع عشرة ركعة خلال اليوم والليلة وفي كلّ ركعة مرّتين، عندها يُدرك الإنسان العاقل عظمة الله وكبريائه وجبروته، وفي نفس الوقت يُدرك ذلّته وفقره وحاجته ومسكنته أمام عزّة الله وغناه، هذا الإدراك هو من الآداب القلبية في العبادات، وهو من الآثار المهمّة, التي تُقرّب الإنسان من الله جلّ شأنه، فيضع حجب الغرور جانباً

 

[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏5، ص473، 2 - باب تأكّد استحباب الخشوع في الصلاة...

[2] الصدوق، إقبال الأعمال، ج1، ص 428، ط – القديمة.

[3] سورة الأعراف، الآية 205.

 

98


78

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

ويقمع التكبّر، لهذا السبب قالت سيدة نساء العالمين الطهر البتول أمّ أبيها فاطمة الزهراء عليها السلام في خطبتها التي أوضحت فيها فلسفة العبادات الإسلامية، وبيّنت أنّ أولى العبادات بعد الإيمان هي الصلاة، فقالت عليها السلام ".. ففرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر"[1].

 

نعم قد جعل الإسلام الصلاة تنزيهاً للإنسان من الكبرياء والتعالي، وغرساً لفضيلة التواضع لله ولرسوله وللمؤمنين... ولقاءً مع الله للاستغفار والاستقالة من الذنوب والآثام.

 

و ــ مفتاح لكلّ خير

تهب الصلاة القيمة لسائر أعمال الإنسان، لأنّها تُحيي روح الأخلاق، فهي عبارة عن مجموعة من النية الخالصة، والقول الطاهر، والأعمال النقيّة، وتكرار هذا المجموع في اليوم والليلة يغرس بذور سائر الأعمال الحسنة في روح الإنسان، ويُقوّي روح الإخلاص لديه، فيتيقّن عندها أنّ الصلاة مفتاح لكلّ خير، فهي التي تُعطي القلب أنساً وسعادة، وتُعطي الروح بشراً وطمأنينة، وتُعطي الجسد نشاطاً وحيوية، والإنسان كما هو معلوم لا يستمرّ على حال واحدة، فإنْ وجدته صافياً ساعة تعكّر أخرى، وإنْ وجدته مسروراً من شيء، نكّد عليه شيء آخر، وتتعدّد أنواع الصلاة، فللحضر صلاة، وللسفر صلاة وللمرض صلاة، وللخوف صلاة وللجمعة صلاة، وللعيدين صلاة، وللجنازة صلاة، وللاستسقاء صلاة، وللقيام صلاة،..... وكأنّها بهذا التعدّد تُطبّب الإنسان، فتداوي أسقامه، وتُعالج علله وهمومه وآلامه، وتستجلب بها الأرزاق، وتدفع بها الآفات والمصائب الملمّات لتكون بمثابة صيانة مستمرّة للعبد المسلم، فإذا فتّشت عن أثر الصلاة فيه وجدته صادقاً أميناً قانعاً وفيّاً حليماً متواضعاً عدلاً، ينأى عن الكذب والخيانة والطمع،

 


[1] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 568، حديث رقم: 4940، بسنده عن عقيلة بني هاشم السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي عن أمها السيدة الزهراء (صلوات الله عليها وأبيها وبعلها وبنيها).

 

99


79

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

والغدر والغضب والكبر والظلم، ومن كان كذلك يكون في صلة دائمة بمولاه جلّ ثناؤه، ومن كان متّصلاً بمولاه الكريم يُخلع عليه من الرحمات ما لا يُخلع على غيره، ودونك الحديث المعتبر الذي رواه إسماعيل بن الإمام موسى بن جعفر، عن أخيه الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه، عن جدّه قال: سُـئل علي بن الحسين  عليهم السلام: ما بال المتهجّدين بالليل من أحسن الناس وجهاً؟.. قال عليه السلام: "لأنهم خلوا بالله، فكساهم الله من نوره"[1]، ونثنّي برواية ابن عمّار عن مولانا الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "صلاة الليل تُحسّن الوجه، وتُحسّن الخلق، وتُطيّب الريح، وتدرّ الرزق، وتقضي الدين، وتُذهب بالهمّ، وتجلو البصر"[2]، ولتبيان كثرة هذه الآثار الحميدة نقول روى يعقوب بن زيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كذب من زعم أنّه يُصلّي صلاة الليل وهو يجوع، إنّ صلاة الليل تضمن رزق النهار"[3]، وروى عبد لله بن سنان، أنّه سأل الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾[4]؟ قال: "هو السهر في الصلاة"[5]، وروى مولانا الإمام الصادق، عن آبائه  عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام : "لو يعلم المصلّي ما يغشاه من جلال الله. ما سرّه أن يرفع رأسه من السجود"[6]، وكذلك روى باقر العلوم عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا قام العبد المؤمن في صلاته نظر الله إليه. أو قال أقبل الله عليه حتى ينصرف وأظلّته الرحمة من فوق رأسه إلى أُفق السماء، والملائكة تحفّه من حوله إلى أُفق السماء، ووكّل الله به ملكاً قائماً على رأسه يقول له: أيّها المصلّي لو تعلم من ينظر إليك ومنتُناجي ما التفتّ ولا زلت من موضعك أبداً"[7]، ويكفي لأهل المعرفة هذا

 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج‏8، 157، 39 - باب تأكد استحباب المواظبة على صلاة الليل... ص: 145

[2] المصدر السابق.

[3] البرقي، المحاسن، ج‏1، ص 53، باب (61): ثواب صلاة الليل.

[4] سورة الحجرات، الآية 29.

[5] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج‏1، ص 471، باب ثواب صلاة الليل.

[6] الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الخصال، ج‏2، ص 610.

[7] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، ج‏3، ص264، ط - الإسلامية، باب فضل الصلاة.

 

100


80

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

الحديث الشريف. فما في إقبال الحقّ هذا إلى العبد من الكرامات والأنوار لا يعلمه غير الله ولا تستقيم له عقول البشر، ولا يخطر على قلب أحد[1].

 

مغفرة ورحمة

أطلق القرآن الكريم لفظ الصلاة على مغفرة الله جلّ شأنه لعبيده، وذلك من خلال قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾[2]، وكذلك على الرحمة في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾[3].

 

وفي هذا إشارة هامّة إلى أثرين من آثار الصلاة على العباد، وكأنَّ المغفرة والرحمة لازمتان من لوازم الصلاة المقبولة لا ينفكّان عنها. ولذلك قرأ أمير المؤمنين عليه السلام قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[4]، وأعقبها بقوله: "يقول صلاة الخمس تُكفّرالذنوب، ما اجتنب العبد الكبائر"[5].

 

فصل الخطاب

ونختم هذا الفصل بحديث ضمرة بن حبيب حيث قال: سُئل النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  عن الصلاة، فقال: "الصلاة من شرائع الدين، وفيها مرضاة الربّ عزّ وجلّ، وهي منهاج الأنبياء، وللمصلّي حبّ الملائكة، وهدى وإيمان، ونور المعرفة وبركة في الرزق،وراحة للبدن، وكراهة الشيطان، وسلاح على الكافر، وإجابة للدعاء، وقبول للأعمال، وزاد المؤمن من الدنيا للآخرة. وشفيع بينه وبين ملك الموت، وأنس في قبره، وفراش تحت جنبه، وجواب لمنكر ونكير، وتكون صلاة العبد عند المحشر تاجاًعلى رأسه، ونوراً على وجهه، ولباساً على بدنه، وستراً بينه وبين النار، وحجّة بينه وبين الربّ


[1] الإمام الخميني، سر الصلاة، الفصل الخامس: في كيفية تحصيل حضور القلب

[2] سورة الأحزاب، الآية 43.

[3] سورة البقرة، الآية 157.

[4] سورة هود، الآية 114.

[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 79، ص 274. عن إرشاد القلوب.

 

101


81

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

جلّ جلاله، ونجاة لبدنه من النار، وجوازاً على الصراط، ومفتاحاً للجنّة، ومهوراً للحور العين، وثمناً للجنة، بالصلاة يبلغ العبد إلى الدرجة العليا، لأنّ الصلاة تسبيح، وتهليل، وتحميد، وتكبير، وتمجيد، وتقديس، وقول، ودعوة"[1]، ونكتفي بهذا النزر اليسير من الآثار الحميدة للصلاة، وذلك روماً منّا للاختصار مع أنّ هناك أثاراً روحية ومعنوية، وتربوية وطبية كثيرة لا مقطوعة، ولا ممنوعة حصلها عباد الله:

﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾[2]. نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإيّاكم تعظيم شعائره، إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

 


[1] الشيخ الصدوق، الخصال، ج‏2، ص 522، في الصلاة تسع و عشرون خصلة.

[2] سورة المعارج، الآية 23.

 

102


82

الدرس السابع: آثار الصلاة على المصلّي

المفاهيم الرئيسة

- إنَّ مراعاة أداء الصلاة بالشكل المطلوب من أبرز صفات المؤمنين وعلاماتهم, ويعدُّ خشوعهم في الصلاة السبب الرئيسي لفلاحهم في الدنيا والآخرة.

 

- من الآثار الروحية والتربوية للصلاة: تعزيز وتقوية الصلة بالله تعالى, تربية النفس وتهذيب الروح وإنارة القلب, وغسل الذنوب وتطهير النفوس.

 

- تُشكّل الصلاة درعاً سابغة منيعة أمام الذنوب المستقبلية: لأنّها تقوّي روح الإيمان في الإنسان، وتُنمّي نسبة التقوى في القلب.

 

- إنّ في تكرار الصلوات على امتداد اليوم والليلة الأثر الأكبر لإزالة الغفلة من حياة الفرد والمجتمع المسلم.

 

- جعل الله الصلاة تنزيهاً للإنسان من الكبرياء والتعالي، وغرساً لفضيلة التواضع لوجهه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم  وللمؤمنين.

 

- الصلاة مفتاح لكلّ خير, فهي تهب القيمة لسائر أعمال الإنسان، وتُحيي فيه روح الأخلاق، فتمنح القلب أنساً وسعادة، وتُعطي الروح بشراً وطمأنينة، والجسد نشاطاً وحيوية.

 

- إنَّ المغفرة والرحمة لازمتان من لوازم الصلاة المقبولة لا ينفكّان عنه, وهما أحد أهم آثار الصلاة على العباد.

 

103


83

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

الدرس الثامن

عقوبة تارك الصلاة وحكمه

 

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفهم حكم تارك الصلاة متعمّداً.

 

2- يتعرف على عقوبة تارك الصلاة، ويرفع تقصيره بها.

 

3- يشرح الآثار السلبية لترك الصلاة.

 

105


84

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

مقدّمة

قد وصف الله تعالى أهل الإيمان في فرقانه الحكيم، وجعل التكليف بالصلاة والإتيان بها القاسم المشترك بين جميع صفات المؤمنين من سورة البقرة إلى الناس، فما ذكر الله أهل الإيمان ووصفهم إلا وأبرز صفاتهم وكانت أهمّ صفاتهم ومميّزاتهم إقامة الصلاة، ففي أوّل سورة البقرة يقول عزّ وجلّ: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ *  ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾[1], وفي أوّل سورة الأنفال يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾[2], وقد صُدّرت الآية بأداة الحصر ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ أي: لا يُمكن أن يكون مؤمناً إلا من توفّرت فيه هذه الصفات المحصورة بأداة (إنّما) والأمر بالصلاة في القرآن شيءٌ متتابع ومتواتر، وهي فريضة محكمة افترضها الله تعالى على نبيّنا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمّته، فوجوب أدائها ثابت ومعلوم للجميع، وهي ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام، التي من حافظ عليها حفظه الله في دينه، وأناله مغفرته ورضوانه، فهي الصلة بين العبد وبين ربّ الأنام، ومن فرّط فيها، قطع الصلة بينه وبين ربّه، ولم يقبل الله منه بدونها صرفاً ولا عدلاً، فهي التي إن قُبلت قُبِل ما سواها، وإن رُدّت رُدّ ما سواها، وقد تساهل في أدائها كثير من الناس لأعذار ما أنزل الله بها من سلطان، بل تركها بعضهم مطلقاً، وإنّ الناظر في واقع الكثير من أهل


[1] سورة البقرة، الآيات 1 - 3.

[2] سورة الأنفال، الآيات 2 - 4.

 

107


85

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

الإسلام، يرى الصلاة قد خفّ عندهم قدرها، وطاش ميزانها، وكأنّ الأمر طبيعي عند هؤلاء، ولا غضاضة فيه بل وصل الحال ببعضهم أن تأخذ منه الدهشة كلّ مأخذ حينما يسمع الترهيب المرعب لتارك الصلاة، وما ذلك إلا نتيجة عدم العناية بشعائر الإسلام، وانشغال المسلمين عن دينهم لما غُزيت به مجتمعاتهم المسلمة ممّا يصدّ عن تعاليم الدين الحنيف.

 

حكم تارك الصلاة متعمّداً

ترك الصلاة عمداً هو من الكبائر المنصوصة كما ورد التَّصريح بذلك في صحيحة السيد عبد العظيم الحسني حيث استدلّ أبو عبد الله عليه السلام فيها على كون ترك الصلاة متعمّداً كبيرة بقول رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "من ترك الصلاة متعمّداً من غير علّة فقد برئمن ذمّة الله وذمّة رسوله[1]"[2] وحيث إنّ الصلاة في الإسلام من الأحكام الواجبة والضرورية، فإنّ تارك الصَّلاة مع إنكار وجوبها يُعدّ كافراً، وخارجاً من الإسلام...[3].

 

أمّا إذا لم يكن منكراً لوجوبها، وكان مؤمناً ومعتقداً بأنّها من الواجبات الشرعية التي حكم بها الله تعالى، ولكن تركُه لها إنّما هو عن كسل وإهمال، فإنّ مثل هذا الشخص يُعدّ فاسقاً، والأخبار الواردة في كفر تارك الصلاة ناظرة للصورة الأولى، روي عن النبي الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "من ترك الصلاة متعمِّداً فقد كفر"[4]، وروي عن الإمام الباقر عليه السلام: "تارك الفريضة كافر"[5]، وروى الإمام الصادق عليه السلام عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "ما بين الكفر والإيمان إلا ترك الصلاة"[6]. وهنا يجب التفريق بين من آمن بالصلاة وترك الإتيان بها، وبين من أنكر أصل وجوب

 


[1] الإمام الخميني قدس سره، المكاسب المحرمة، ج 1 ص 249، الطبعة 3، مؤسسة اسماعيليان، قم.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج ‏2 ص 287، باب الكبائر... ص: 276.

[3] المحقق الحلي أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن، شرائع الإسلام، ج 1 ص 106، طبعة دار العلوم.

[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 30، ص 673.

[5] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏4 ص 41، باب 11.

[6] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 79 ص 217، عن الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، ص 207.

 

108


86

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

الصلاة والتكليف بها، فالأوّل لا يعتبر كافراً، بل يحمل الكفر في الروايات على الفسق، وينطبق على الثاني الكفر المصطلح لأنّه أنكر ضرورة من ضروريات الدين.

 

سرّ التشديد على تارك الصلاة

وسرّ هذا التشديد في الحكم على تارك الصلاة، أنّ ارتكاب المحرّمات ينشأ غالباً من غلبة الشهوة على الإنسان، ودفعها إيّاه نحو المعصية، كما هو في الزِّنا، أو من سيطرة الغضب عليه، فتدفعه نحو الذنوب العظام والقذف، والقتل وغيرها من الموبقات، أمّا ترك واجب كالصلاة، فإنّه لا تتدخّل الشهوة ولا الغضب إطلاقاً في دفعه نحو ترك الصلاة، بل الأمر منحصر في استخفاف الإنسان بحكم الله، واستحقاره للأوامر الدينية، فلهذا السبب دخل ترك الصلاة في عنوان الكفر بالله، فقد روى مسعدة بن صدقة قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام وسُئل: ما بال الزاني لا تُسمّيه كافراً، وتارك الصلاة قد تُسمّيه كافراً؟ وما الحجّة في ذلك؟ قال: "لأنّ الزاني - وما أشبهه - إنّما يفعل ذلك لمكان الشهوة، فإنّها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلا استخفافاًبها، وذلك أنّك لا تجد الزاني يأتي المرأة إلا وهو مستلذّ لإتيانه إيّاها قاصداً إليها، وكلّ من ترك الصلاة قاصداً إليها، فليس يكون قصده لتركها اللذّة، فإذا انتفت اللذّة وقع الاستخفاف، وإذا وقع الاستخفاف وقع الكفر"- قال مسعدة بن صدقة: وقيل لأبي عبد الله عليه السلام : ما فرق بين من نظر إلى امرأة، فزنى بها، أو خمر فشربها، وبين من ترك الصلاة حيث لا يكون الزاني وشارب الخمر مستخفّاً كما استخفّ تارك الصلاة؟ وما الحجّة في ذلك؟ وما العلّة التي تفرق بينهما؟ قال عليه السلام: "الحجّة أنّ كلّ ماأدخلت نفسك فيه، لم يدعك إليه داع، ولم يغلبك عليه غالب شهوة - مثل الزنا وشرب الخمر - فأنت دعوت نفسك إلى ترك الصلاة، وليس ثم شهوة، فهو الاستخفاف بعينه، وهذا فرق ما بينهما"[1].


 


[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج ‏2 ص 386.

 

109


87

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

قال الإمام الباقر عليه السلام : "لا تتهاون بصلاتك، فإنّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  قال عند موته: ليس منّي من استخفّ بصلاته، ليس منّي من شرب مسكراً، لا يرد عليّ الحوض لا والله"[1]. عن أبي بصير قال: قال أبو الحسن الأوّل الإمام الكاظم عليه السلام: لمّا حضر أبي الوفاة قال لي: "يا بنيّ، إنّه لا ينال شفاعتنا من استخفّ بالصلاة"[2].

 

فالاستخفاف بالدين واضحٌ في ترك الصلاة، وأظهر من غيره، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾[3].

 

العواقب الوخيمة لترك الصلاة

ترك الصّلاة من الذّنوب التي جاء الوعيد عليها بالعذاب في القرآن المجيد، كما في سورة المدثر: ﴿فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ  * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾[4], ويقول الله في سورة القيامة: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى *  وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾[5], روى السيد عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال: سألت محمد بن علي الرضا عليهما السلام عن قول الله عزّ وجلّ:

﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ قال: يقول الله عزّ وجلّ: "بعداً لك من خير الدنيا، وبعداً لك من خير الاخرة"[6]، "وأنت إذا تأمّلت حال بعض من تسمّى بالإسلام من الناس، وهو تارك الصلاة وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم والحج، والزكاة والخمس، وعامة الواجبات الدينية، ولا يفرق بين طاهر ونجس، وحلال وحرام، فيذهب لوجهه لا يلوي على شيء، ثم إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة

 


[1] الكليني, الكافي، ج 3، ص 269.

[2] م. ن، ج 3، ص 270.

[3] سورة المائدة، الآية 58.

[4] سورة المدثر، الآيات 40 - 46.

[5] سورة القيامة، الآية 31.

[6] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج‏2 ص 54، باب 31.

 

 

110


88

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

ممّا يسقط به التكليف، وجدته مرتدعاً عن كثير ممّا يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به، ثم إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعاً منه وعلى هذا القياس[1].

 

خمس عشرة خصلة

روى السيد علي ابن طاووس الحسني بثلاثة أسانيد[2] حديثاً جامعاً أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدّد في جوابه على سؤال مولاتنا الطهر البتول فاطمة عليها السلام عن عاقبة تارك الصلاة، والآثار الناجمة عن ذلك فقال  صلى الله عليه وآله وسلم: "من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمس عشرة خصلة، ستّ منها في دار الدنيا، وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث يوم القيامة إذا خرج من قبره.

 

فأمّا اللواتي تُصيبه في دار الدنيا: فالأولى يرفع الله البركة من عمره ويرفع الله البركة من رزقه، ويمحو الله عزّ وجلّ سيماء الصالحين من وجهه، وكلّ عمل يعمله لا يؤجر عليه، ولا يرتفع دعاؤه إلى السماء، والسادسة ليس له حظّ في دعاءالصالحين.

 

وأمّا اللّواتي تُصيبه عند موته: فأولهنّ أن يموت ذليلاً، والثانية يموت جائعاً، والثالثة يموت عطشاناً، فلو سُقي من أنهار الدنيا لم يرو عطشه، وأمّا اللّواتي تُصيبه في قبره: فأولهنّ يُوكِل الله به ملكاً يُزعجه في قبره، والثانية يُضيّق عليهقبره، والثالثة تكون الظلمة في قبره، وأمّا اللّواتي تُصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره: فأوّلهنّ أن يُوكِل الله به ملكاً يسحبه على وجهه والخلائق ينظرون إليه، والثانية يُحاسبه حساباً شديداً، والثالثة لا ينظر الله إليه، ولا يُزكّيه وله عذاب اليم"[3].

 


[1] المفسر العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، تفسير سورة العنكبوت، الآيات 41 - 55.

[2] وقد حذف السيد ابن طاووس أسانيدها في فلاح السائل لأنّ له منهجاً معيناً في الرواية ذكره في مقدّمة كتابه.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج 80، ص 21، عن فلاح السائل.

 

111


89

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

من الآثار السلبية لترك الصلاة

الآثار التي تتعلّق بالإنسان عند الموت:

إنّ التارك للصلاة نادراً ما يموت على الإسلام، إلا إذا تداركه الله تعالى بلطفه ورحمته يموت مسلماً، لأنّ في أغلب الأحيان لا يوفّق هؤلاء للموت على الإسلام، وإذا كان عدم الاهتمام ببعض آداب وأجزاء الصلاة مثل عدم مراعاة الطمأنينة، وعدم إتمام الركوع والإصرار على ذلك يؤدّي إلى الخروج عن دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فليت شعري ماذا يُقال لتاركها بالمرّة. قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام : "أبصر عليّ بن أبي طالب عليه السلام  رجلاً ينقر بصلاته، فقال: منذ كم صلّيت بهذه الصلاة؟ فقال له الرجل: منذ كذا وكذا، فقال: مثلك عند الله كمثل الغراب إذا ما نقر، لو متّ متّ على غير ملّة أبي القاسم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ قال علي عليه السلام : إنّ أسرق الناس من سرق صلاته"[1].

 

وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "من ترك الصلاة لا يرجو ثوابها ولا يخاف عقابها، فلا أُبالي أن يموت يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً"[2]، وهذا يُنبئ عن سوء عاقبته في خروجه من الدين إنّ التارك للصلاة حتى إذا مات مسلماً تترتّب مجموعة من الآثار عند موته، ذكرتها الروايات الشريفة الواردة في هذا الشأن ومنها التي أوردناه حول الخصال الخمس عشرة التي يبتلي بها الله من تهاون بصلاته من الرجال والنساء، وتوضح الحالة السيّئة التي يمرّ بها التارك للصلاة.

 

وهناك آثار لترك الصلاة تبرز في حياة الإنسان العملية، قد أُكّد عليها من لدُن النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في حديثه الذي أوردناه حول الخصال الخمس عشرة أكّدت على أنّ الله تعالى ينزع البركة من عمر الإنسان التارك للصلاة، وهذه البركة المنزوعة لها معان:

الأوّل: أنّ الله تعالى لا يُبارك في عمر التارك للصلاة، وبالتّالي يكون عمره قصيراً.

 


[1] البرقي، المحاسن، ج ‏1، ص 79، باب 3 عقاب من تهاون بالصلاة.

[2] محمد بن محمد الشعيري، جامع الأخبار، ص 74، الفصل 34، ط 1: الحيدرية، النجف الأشرف.

 

112


90

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

الثاني: أنّه لا يوفّق للخيرات الأخرى، وهذا المعنى أُشير له في الروايات أنَّ الصلاة عمود الدين إن قُبِلت قُبِل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها، أي، إنَّ جميع الخيرات التي تصدر من لدن الإنسان تكون غير مقبولة بل لا يترتّب عليها أيّ أثر، لأنّه ترك عمود الإسلام وعماده، وكما شبّهه الإمام الباقرعليه السلام بعمود الخيمة، الذي بدونه تسقط الخيمة كلّها، وكذلك، كلّ الأعمال الصالحة تُقبَل وتؤثّر بواسطة قبول الصلاة، فإذا تُركت الصلاة، فإنّ كل تلك الخيرات الأخرى لا تترتّب ولا تُؤثّر.

 

الثالث: يقصد من نزع البركة من عمره بمعنى حرمانه من الذرّية الصالحة، التي تدعو له، لأنّه قد يُوفّق الإنسان في ذرّية صالحة بحيث يُمكن أن يأتي أحد أحفاده ولو بعد خمسين حفيد، فيدعو لهذا الإنسان ويعمل له الطاعات وأعمال البر، التي ترجع عليه بالفائدة والنفع الكبير. ولكن الإنسان التارك للصلاة لا يكتب الله تعالى في ذرّيته البركة، والإنسان الصالح يحفظ الله تعالى له صلاحه، وتنعكس آثار هذا الصلاح على ذرّيته جيلاً بعد جيل، وقد رأينا ذلك في ما قصّه الله تعالى علينا في سورة الكهف ممّا جرى بين العبد الصالح. الخضرعليه السلام، وكليم الله موسى عليه السلام: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾[1]، وفي أقل الروايات الواردة في تشخيص هذا الأب الصالح قيل: هو الجد السابع، فتأمّل.

 

سُرّاق الصلاة:

روي عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أسرق السرّاق من سرق من صلاته ـ يعني لا يتمّ فرائضها"[2]، وربما يتصوّر بعض سرّاق الصلاة أنّ العجلة فيها من علامات الفقه، فكلّما سرق ركوعها وسجودها وأركانها كان ذلك علامة

 


[1] سورة الكهف، الآية 82.

[2] القاضي النعمان بن محمد المغربي، دعائم الإسلام، ج ‏1، ص 133.

 

 

113


91

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

فضيلته وفقهه، هؤلاء ضرب لهم مثلاً مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، فاستمع إليه إذ قال: "مثل الذي لا يتمّ صلاته كمثل حُبلى حملت حتّى إذا دنا نفاسها أسقطت، فلا هي ذات حمل ولا هي ذات ولد"[1] وروي عن سلمان المحمدي وابن مسعود وابن عباس حديث واحد، واللفظ لسلمان قال رضي الله عنه: "الصلاة مكيال، فَمَنْ وَفَّى وفِيَ لَهُ، ومن طفّف فقد علمتم ما قال الله في المطفّفين"[2].

 

قال مولانا الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الشيطان ذَعِراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهنّ, فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فادخله في العظائم"[3].

 

خاتمة

يا تارك الصلاة عُد إلى رشدك وتُب ما دامت الروح في الجسد قبل أن تغرغر, يا مُفرّطاً في حقّها يا مؤخّراً لها عن وقتها ألم يطرق سمعك قول الله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[4], يا مؤدّيها في بيتك مع النساء تدبّر رعاك الله لمن بُنيت هذه المساجد إن صلّيت أنت في بيتك، وأنا في بيتي، ولزم كلٌّ منّا منزله, فمن لبيوت الله تعالى ألم يتناهى إلى سمعك قول الله في مُحكم كتابه: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[5].

 

أين هذه الأمثال التي ضربها الله تعالى؟ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾[6].

 


[1] المصدر السابق، و كنز العمال، ج 7، ص 509، ح 20006.

[2] يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، الاستذكار، ج 1، ص 67، طبعة:1دار الكتب العلمية.

[3] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 269، حديث 8.

[4] سورة الماعون، الآيتان 4 - 5.

[5] سورة النور، الآية 35.

[6] سورة النور، الآية 36.

 

114


92

الدرس الثامن: عقوبة تارك الصلاة وحكمه

المفاهيم الرئيسة

- ذكر الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز بأنَّ إقامة الصلاة هي من أهمّ صفات المؤمنين ومميّزاتهم.

 

- يجب التفريق بين من آمن بالصلاة وترك الإتيان بها إهمالاً وتكاسلاً، وبين من أنكر أصل وجوب الصلاة والتكليف بها، فالأوّل لا يُعتبر كافراً، بل فاسقاً، ويُحمل الكفر في الروايات على الفسق، أمَّا الثاني فينطبق عليه الكفر بالمعنى الاصطلاحي ويُحكم بخروجه عن الإسلام, لأنّه أنكر ضرورة من ضروريات الدين.

 

- شددّت الشريعة الإسلاميَّة في الحكم على تارك الصلاة, وحكمت بكفره, لأنّ في تركه للصلاة استخفافاً بحكم الله، واستحقاراً للأوامر الدينية.

 

- أكّدت الآيات القرآنيَّة على أنَّ ترك الصّلاة من الذّنوب التي جاء الوعيد عليها بالعذاب في الآخرة.

 

- من الآثار السلبية لترك الصلاة: أنّ التارك للصلاة نادراً ما يموت على الإسلام، إلا إذا تداركه الله تعالى بلطفه ورحمته, ولا يُبارك في عمره، ولا يكتب الله تعالى في ذرّيته البركة والإصلاح, ولا يوفّق للخيرات الأخرى، لأنَّ كلّ الأعمال الصالحة تُقبَل وتؤثّر بواسطة قبول الصلاة، فإذا تُركت الصلاة، فإنّ كلّ تلك الخيرات الأخرى لا تترتّب ولا تُؤثّر.

 

115


93

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

الدرس التاسع

أنواع الصلوات غير اليومية

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدِّد الصلوات غير اليومية وشروط وجوبها.

 

2- يشرح موارد وجوب قضاء الصلاة.

 

3- يذكر فضل الصلاة على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم  وآله ويفهم معانيها وآثارها.

 

117


94

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

صلاة العيد

يُقام العيد الإسلامي ـ وخلافاً لجميع الاحتفالات والأفراح المتعارفة التي تمتزج بمختلف أساليب اللعب واللهو وإرضاء الشهوة ـ بالصلاة والدعاء، والإنفاق والغسل وصلة الرحم. أساساً إنّ كلّ يوم يُقضى في الطاعة والعبادة والتحلّي بالفضائل والأخلاق والسجايا الإنسانية يُعتبر عيداً في الثقافة الإسلامية، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "كلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد"[1].

 

إنّ المسلمين يبدؤون أيام عيد الفطر والأضحى بصلاة العيد وهي صلاة تتألّف من ركعتين، يؤتى في الركعة الأولى منها بعد الحمد بخمس تكبيرات، يتبع كلّ تكبير قنوت، بينما يُكبّر في الركعة الثانية أربع تكبيرات، ويقنت عقب كلّ تكبيرة بقنوت.

 

تؤدّى هذه الصلاة جماعة، وفرادى في عصر الغيبة وقد أُمر في كلّ قنوت منها بدعاء خاص مكبّراً قبله وبعده، وخير صبغة تتّصف بها هذه العبادة الشكر فيما يخصّ التوفيقات والعنايات التي تفضّل بها الله سبحانه على عباده في أداء عباداته وطاعته في شهر رمضان المبارك، أو في الأيام العشرة المباركة من ذي الحجة. وفي هذه الصلاة يسأل العباد الله سبحانه وتعالى أن يُقدّر لهم كلّ خير قدّره للنبي  صلى الله عليه وآله وسلم  وآله عليهم السلام، وأن يقيهم كلّ شرّ وقاهم منه.

 


[1] محمد بن أحمد الفتال النيشابوري، روضة الواعظين، ج ‏2، ص 354، الطبعة 1: منشورات الرضي، قم.

 

119


95

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

صلاة الآيات

إنّ الإنسان مع كلّ ما له من الشرف والكرامة يتعرّض أحياناً إلى أنحاء من الضعف نظير النسيان، والغفلة، والطموح، والبخل، والمنّة، وأمثال ذلك. لذا فالمربّي الأصلي للخلق استغلّ كلّ فرصة وعذر لتخليصه من الأخطار، والانحطاطات الخلقية وإخراجه من حال الغفلة. فعند بروز بعض الحوادث والظواهر الأرضية والسماوية كالزلزلة والخسوف والكسوف يدعو الإنسان إلى موضع رحمة الله سبحانه.

 

ففي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "إنّما جُعلت للكسوف صلاة لأنّه من آيات الله لا يُدرى للرحمة ظهرت أم لعذاب، فأحبّ النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  أن تفزع أمّته إلى خالقها وراحمها عند ذلك ليصرف عنهم شرّها، ويقيهم مكروهها كما صرف عن قوم نبي اللهيونس عليه السلام حيث تضرّعوا إلى الله عزّ وجلّ"[1].

 

ومع أن هوية الزلزلة والخسوف والكسوف قد تُعبّر عن نوع من سخط الله وغضبه، إلاّ أنّ الإسلام حارب كلّ نوع من التفسير الخرافي لها. فقد اقترن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كسوف الشمس مع وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عمر يبلغ 18 شهراً، فربط الناس بين الحادثتين وقالوا: إنّ الشمس كسفت حزناً على ما نزل على النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  من مصاب جلل. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  فيهم خطيباً موضحاً وقال: "يا أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموتأحد، ولا لحياته، فإذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلّوا ثم نزل فصلّى بالناس صلاة الكسوف"[2].

 

تتألّف الصلاة من ركعتين، تشتمل كلّ ركعة على خمسة ركوعات، يعقبه قراءة قسم من سورة. فعقب حدوث أيّ من الحوادث المذكورة يجب على جميع المكلّفين في المنطقة التي وقع فيها الحادث، أن يأتوا بهذه الصلاة. وعليهم أن يقضوها في حال تأخيرها، هذا ما افتى به فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 342.

[2] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 5، ص 143.

 

120


96

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

صلاة الميت

هناك فرصة أُخرى يُمكن أن تكون عبرة للمعتبر هي لحظة مواجهة ختم ملف حياة الناس، وقصور أيديهم عن ساحة العمل والسعي في عالم الدنيا. عندما يضع جمع من المؤمنين جنازة المسلم الفقيد أمامهم، ويُصلّون عليه صلاة الميت، ستتحقّق حينها واحدة من أعظم برامج التعليم السمعي والصوري والبصري، والتذكير غير المباشر للناس. إذ كيف يُمكن البرهنة للناس بأوضح من هذا المشهد على أنّ الموت حقّ، وأنّهم سيواجهون ظروفاً كهذه بعد قطع مرحلة ليست بالطويلة من الممكن أن يُعلن عن انتهائها في كلّ آن وحين.

 

إنّ صفّ تشييع الميت والصلاة عليه، ودفنه من أنفع صفوف جامعة المعارف العينية والواقعية. ففيه يمضي المسلمون دورة في دروس: الحياة السليمة، حقارة الدنيا، ضرورة استثمار الفرص، التوحيد، التعبّد، الإحساس بضرورة التوادّ والتعاون، الفرار من الغفلة وغيرها.

 

يُكبّر في هذه الصلاة خمس تكبيرات، يشهد المصلّي بعد التكبير الأول بوحدانية الله، ونبوّة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، ويُصلّي على النبي وآله بعد التكبير الثاني، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة بعد التكبير الثالث، ويدعو للميت بعد التكبير الرابع، ويختم الصلاة بالتكبير الخامس.

 

والصلاة على الميت قبل الدفن وبعد الغسل والتكفين واجب كفائي بالنسبة إلى كل ميت[1]، وإذا لم يصلّ على ميّت بينهما، لزمت الصلاة على قبره بعد دفنه.

 

وينبغي على جميع المشاركين في الصلاة المحافظة على الهدوء أثناءها وأن يقرأوا الأدعية مع الإمام، ويُحدّثوا أنفسهم ويعظوها، وأنزل نفسك منزلة ميّت قد أمهلت، لترجع إلى الدنيا، فتأتي بما قد نسيت.

 

 


[1] الواجب الكفائي هو العمل الذي يجب على الجميع ابتداءً ويسقط عن الآخرين بفعل الغير له - إن تحقّق الواجب بفعله - سواء كان واحداً أو جماعة.

 

121

 

 


97

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

وقد رأى أمير المؤمنين علي عليه السلام في تشييع جنازة رجلاً يضحك فقال: "كأنّ الموت فيها على غيرنا كُتب، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب، وكأنّ الذي نرى في الأموات سفر عمّا قليل إلينا راجعون، نبّوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم كأنّا مخلّدونبعدهم قد نسينا كلّ واعظ وواعظة"[1].

 

صلاة الاستسقاء

إنّ العصيان والطغيان بوجه مالك السماوات والأرض يؤدّي إلى الحرمان من النعم والخيرات السماوية والأرضية، فالله الذي يغضب عند المعصية، ويُنزل العذاب والنقمة، أوضح السبل لرفع العذاب، واستنزال الرحمة والبركة، قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا غضب الله على أمّة، ثم لم ينزل بها العذاب غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم تربح تجّارها، ولم تزل ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحبس الله عنها أمطارها، وسلّط عليها أشرارها"[2].

 

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام عدّ عدم نزول المطر معلولاً لشيوع الظلم فقال: "إذا فشت أربعة ظهرت أربعة إذا فشا الزنا كثرت الزلازل، وإذا أُمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكّام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذاخفرت الذمّة نُصر المشركون على المسلمين"[3].

 

في ظروف كهذه دُعي الناس إلى تحوّل عاطفي ومعنوي وإقامة مراسم خاصّة بالدعاء والصلاة، لتعود إليهم في ضوء انكسارهم وإنابتهم رحمة الله، وعنايته.

 

وصلاة الاستسقاء التي تُقام جماعة كما تُقام صلاة العيد، وتكون عادة في صحراء أي منطقة بعيدة عن التلوّث بكلّ أنواع الآثام والمعاصي والذنوب، ويشترك فيها الأطفال والدواب الذين حُرموا رحمة الله بما فعله الآخرون، ويُفرّق بين الأطفال الصغار


[1] نهج البلاغة، الحكمة 122.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 5، ص 317.

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 8، ص 13.

 

122


98

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

وأمّهاتهم، ليبعث صراخهم الرقّة في الآخرين، ويقضون ثلاثة أيام بالعبادة والصوم، وينصرفون إلى التوبة والاستغفار، والتكبير قبل الصلاة. ثم يخرج الناس جميعاً حفاة إلى الصحراء، ويؤدّون الصلاة تحت السماء، ويقوم إمام الجماعة بعد الصلاة بوعظ العباد، وإرشادهم ونصحهم، وعرض حالهم على الذي لا تخفى عليه خافية.

 

لقد سجّل التاريخ نماذج كثيرة عن عودة النعمة والرحمة إلى الناس بعد عودتهم روحياً ومعنوياً إلى الله. ومن ذلك ما حدث في عصرنا الحاضر في العام 1363 الهجري القمري حيث طلب أهل قم الذين كانوا يُعانون من قلّة المطر، وانقطاع الرحمة الإلهية عنهم من آية الله العظمى السيد محمد تقي الخونساري رحمه الله أن يخرج معهم لإقامة صلاة الاستسقاء. فأقام هذا الرجل الربّاني الجليل هذه الصلاة مع الناس يومين متتاليين بالرغم من سخرية بعض الجهلة واستهزائهم بذلك. وبعد انتهاء اليوم الثاني من الصلاة، وقبل رجوع الناس إلى المدينة انهمر المطر بقوّة حتى ملأت المياه جميع السواقي، وروّت جميع المحاصيل الزراعية، وعمّت الفرحة الناس، وتجددّ عهدهم وميثاقهم في ارتباطهم بالله في ضوء الغضب والمقاطعة والصلح[1].

 

صلاة القضاء

الصلاة فريضة لا يُمكن تركها في أيّ حال لأيّ أحد إلاّ النساء في عادتهنّ الشهرية حيث يجلسن في مصلاّهن وينصرفن إلى المناجاة والدعاء والتسبيح عوضاً عن الصلاة. ويجب فيما عدا هذه الصورة أداء جميع الصلوات بشكل منظّم وكامل، وبقراءة صحيحة، ولباس طاهر نظيف، ورعاية لسائر الشروط الواجب توفّرها في المصلّي. ولو حدث أن تُركت الصلاة عمداً أو نسياناً، أو جيء بها ناقصة فيجب ـ حيث أمكن ـ الإتيان بها قضاءً. ولا تتحقّق التوبة من الصلوات التي لم تُصلَّ إلاّ بإتيان وأداء كلّ ما كان واجباً على التائب، ولا يوجد ما يكون بديلاً عن ذلك. وحيث يحتمل في كلّ مكلّف عادة بالنظر

 


[1] خزينة العلماء، ج 1، ص 324.

 

123


99

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

لجوانب النقص ونواحي الجهل فيه خصوصاً في المقطع الأول من التكليف فقدانه عدداً من صلواته للشروط الواجبة، أو عدم أدائه لبعضها فينبغي على المكلّف أن يُعيد ما أمكنه ذلك ـ لرفع النواقص المذكورة فلا يُبتلى في يوم الحساب والجزاء.

 

مسك الختام بالصلاة على خير الأنام

قال الله العظيم في مُحكم كتابه وجليل خطابه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾[1]، ومن هذا الملك العظيم الذي آتاه الله لسيد ولد إبراهيم، بل سيد ولد آدم أنّ الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، فقال قولاً كريماً: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[2], يُصلّون على النبي الأمي إجلالاً لقدره، وتعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله، وإشارة إلى قربه من ربّه، فما أحرانا نحن المؤمنين أن نُكثر من الصلاة والسلام عليه امتثالاً لأمر الله تعالى، وقضاءً لبعض حقّه، فقد أخرَجنا الله به من الظلمات إلى النور، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، وكتب لنا به الرحمة التي وسعت كلّ شيء فقال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ﴾[3] وهو الشفيع المشفع هُوَ الحَبيبُ الذي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ... لِكلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهوالِ مُقْتَحَمِ.

 

من معاني الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قولنا اللهم صلِّ على محمدٍ، فمعناه عَظِّمْه في الدُّنيا بإعلاءِ ذِكرِهِ، وإظْهارِ دعْوَتِه وإبقاءِ شَريعتِه وفي الآخرة بتَشْفِيعهِ في أُمَّتهِ، وتضعيفِ أَجْرهِ ومَثُوبَتهِ، وقيل المعنى لمَّا أَمَرَنا اللهُ سبحانه بالصلاة عليه،ولم نَبْلُغ قَدْرَ الواجبِ من ذلك أَحَلْناهُ على اللهِ، وقُلنا اللهم صلِّ أَنتَ على محمدٍ

 


[1] سورة النساء، الآية 54.

[2] سورة الأحزاب، الآية 56.

[3] سورة الأعراف، الآيتان 156 - 157.

 

124

 


100

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

لأَنّك أَعْلَمُ بما يَليق به.."[1]. ويلحق به صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فالقاطعون بهم صلتهُ لا أنالهم الله شفاعتهُ.

 

أعظم ممّا أعطى الله آدم

روى الإمام موسى بن جعفر، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في جواب اليهودي، الذي سأله عن فضل النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  على سائر الأنبياء عليهم السلام، فذكر اليهودي أنّ الله أسجد ملائكته لآدم عليه السلام ، فقال عليه السلام : "وقد أعطى الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من ذلك، وهو أنّالله صلّى عليه وأمر ملائكته أن يُصلّوا عليه، وتعبّد جميع خلقه بالصلاة عليه إلى يوم القيامة، فقال جلّ ثناؤه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[2]، فلا يُصلّي عليه أحد في حياته ولا بعد وفاته إلاّ صلّى الله عليه بذلك عشراً وأعطاه من الحسنات عشراً بكلّ صلاة صلّى عليه، ولا يُصلّي عليه أحد بعد وفاته إلاّ وهو يعلم بذلك، ويردّ على المصلّي والمُسلَّم مثل ذلك؛ لأنّ الله جلّ وعزّ جعل دعاء أُمّته فيما يسألون ربّهم جلّ ثناؤه موقوفاً على الإجابة حتّى يُصلّوا عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا أكبر وأعظم ممّا أعطى الله آدم"[3].

 

من فضل الصلاة على محمّد وآل محمّد

في هذا الشأن العظيم نقتصر على بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي رواها أمير المؤمنين عليه السلام قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الصلاة على النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من عتق رقاب، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من مهج الأنفس، أو قال: ضرب السيوف في سبيل الله"[4].

 


[1] محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، ج 14، ص 464، طبعة 1، دار صادر، بيروت.

[2] سورة الأحزاب، الآية 56.

[3] حسن بن محمد الديلمي، إرشاد القلوب، ج 2، ص 407، طبعة 1: منشورات الشريف الرضي، قم.

[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 91، ص 57، عن ثواب الأعمال.

 

125


101

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

روى الإمام جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من قوم اجتمعوا في مجلس، ولم يذكروا الله عزّ وجلّ ولم يُصلّوا عليّ، إلاّ كان ذلك المجلس حسرة عليهم، فإن شاء أخذهم وإنشاء عفا عنهم"[1].

 

وبنفس الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من ذُكِرت عنده ولم يُصلِّ عليّ خُطِئَ طريق الجنّة"[2].

 

وبنفس الإسناد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاتكم عليّ مجوّزة لدعائكم، ومرضاة لربّكم وزكاة لأبدانكم"[3].

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تُصلّوا عليّ صلاة مبتورة; بل صلّوا على أهل بيتي، ولا تقطعوها، فإنّ كلّ نسب وسبب يوم القيامة منقطع إلاّ نسبي.."[4].

 

وعنه عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "البخيل من ذُكِرْتُ عِنْدَهُ، فلم يُصلِّ عليّ"[5].

 

أربعون فائدة ينالها الإنسان بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  وهي:

(1) امتثال أمر الله (2) موافقة الله سبحانه وتعالى في الصلاة على النبي  صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن اختلفت الصلاتان (3) موافقة الملائكة فيها (4) الحصول على عشر صلوات من الله تعالى، على المصلّي مرة واحدة (5) يرفع العبد بها عشر درجات (6) يكتب له بها عشر حسنات (7) يُمحى له بها عشر سيّئات (8) أنّها سبب في إجابة الدعاء (9) سبب حصول شفاعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم (10) سبب لغفران الذنوب (11) سبب لكفاية الله سبحانه وتعالى العبد ما أهمّه. (12) قرب العبد من النبي  صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة. (13) قيام الصلاة مقام الصدقة لذي العسرة (14) سبب لقضاء الحوائج (15) سبب

 


[1] محمد بن محمد بن الأشعث، الجعفريات، ص 215، طبعة 1: مكتبة النينوى، طهران.

[2] م. ن.

[3] م. ن، ص 215 - 216.

[4] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 7، ص 207.

[5] محمد بن عيسى الترمذي، سنن الترمذي، ج 5، ص 513، حديث 3546، طبعة 2: دار الجيل، بيروت.

 

126


102

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

لصلاة الله وملائكته عليه. (16) سبب زكاة المصلّي وطهارة له (17) سبب تبشير العبد بالجنّة قبل موته (18) سبب النجاة من أهوال يوم القيامة. (19) سبب تذكُّر العبد ما نسيه. (20) سبب ردّ سلام النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  على المصلّي والمسلّم عليه (21) سبب طيب المجلس فلا يعود حسرة على أهله يوم القيامة. (22) سبب نفي الفقر (23) سبب نفي البخل عن العبد (24) سبب نجاته من الدعاء عليه برغم الأنف (25) سبب طريق الجنّة، لأنّها ترمي بصاحبها على طريق الجنّة، وتُخطئ بتاركها عن طريقها (26) النجاة من نتن المجلس الذي لا يُذكر فيه الله ورسوله  صلى الله عليه وآله وسلم  (27) سبب تمام الكلام في الخطب وغيرها (28) سبب وفور (كثرة) نور العبد على الصراط (29) سبب خروج العبد من الجفاء (30) سبب لإبقاء الله سبحانه وتعالى الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض (31) سبب البركة على المصلّي (32) سبب نيل رحمة الله تعالى (33) سبب دوام محبّة الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم  (34) سبب دوام محبّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم  للمصلّي (35) سبب هداية العبد وحياة قلبه (36) سبب عرض اسم المصلّي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (37) سبب تثبيت القدم على الصراط (38) سبب أداء بعض حقّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم  (39) إنّها متضمّنة لذكر الله وشكره تعالى (40) إنّها دعاء لسبب أنّها سؤال الله عزّ وجلّ أن يُثني على خليله وحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم، ويُضاعف الله لمن يشاء، هذا وصلّى الله على سيّدنا ومولانا رسول الله مُحمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

 

 

127


103

الدرس التاسع: أنواع الصلوات غير اليومية

المفاهيم الرئيسة

- تُقام صلاة العيد أيام عيد الفطر والأضحى وهي صلاة مستحبّة في عصر الغيبة, وواجبة في عصر الظهور.

 

- تتألّف صلاة العيد من ركعتين، يؤتى في الركعة الأولى منها بعد الحمد بخمس تكبيرات، يتبع كلّ تكبير قنوت، بينما يُكبّر في الركعة الثانية أربع تكبيرات، ويقنت عقب كلّ تكبيرة بقنوت, وتُؤدّى هذه الصلاة جماعة، وفرادى.

 

- يجب على جميع المكلّفين في المنطقة التي حدثت فيها الظواهر الأرضية والسماوية كالزلزلة والخسوف والكسوف, أن يأتوا بصلاة الآيات.

 

- تتألّف صلاة الآيات من ركعتين، تشتمل كلّ ركعة على خمس ركوعات، يعقبه قراءة قسم من سورة.

 

- الصلاة على الميت قبل الدفن وبعد الغسل والتكفين واجب كفائي، وإذا لم يصلّ على ميّت قبل الدفن، لزمت الصلاة على قبره بعد دفنه.

 

- تتألف صلاة الميت من خمس تكبيرات، يشهد المصلّي بعد التكبير الأول بوحدانية الله، ونبوّة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، ويُصلّي على النبي وآله بعد التكبير الثاني، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة بعد التكبير الثالث، ويدعو للميت بعد التكبير الرابع، ويختم الصلاة بالتكبير الخامس..

 

- صلاة الاستسقاء تُقام جماعة, وتكون عادة في صحراء, تُقام بسبب قلّة المطر.

 

- الصلاة فريضة لا يُمكن تركها في أيّ حال لأيّ أحد إلاّ النساء في عادتهنّ الشهرية ولو حدث أن تُركت الصلاة عمداً أو نسياناً، أو جيء بها ناقصة فيجب الإتيان بها قضاءً.

 

- من معاني الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعَظيمْه في الدُّنيا بإعلاءِ ذِكرِهِ، وإظْهارِ دعْوَتِه وإبقاءِ شَريعتِه, وبتَشْفِيعهِ في أُمَّتهِ في الآخرة، وتضعيفِ أَجْرهِ ومَثُوبَتهِ.

 

- ينال الإنسان أربعون فائدة في الدنيا والآخرة بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

 

128


104

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

الدرس العاشر

في رحاب مقدّمات الصلاة

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدِّد مقدّمات الصلاة.

 

2- يتعرَّف على أوقات فضيلة الصلاة وكيفية مراعاتها.

 

3- يحدّد طرق معرفة القبلة.

 

129


105

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

مقدّمة

إنّ الله تعالى قد عظَّم خطرَ الصلاةِ في القرآن، وعظَّم أمرها وشرَّفها، وكرّم أهلها، وأوصى بها خاصَّة وخصَّها بالذِّكر من بين الطاعات كلِّها في عشرات المواضع من سور كتابه المجيد، والصَّلاة صلةٌ بين العبد وربّه. صلةٌ يستمدّ منها القلب راحته، وتحسُّ فيها الروح بالطمأنينة، وتجد فيها النفس زاداً أنفس من أعراض الدنيا، فهي معين لا ينضب بل يتدفّق عطاء في متناولِ كلِّ مؤمنٍ يريدُ زاداً للطّريقِ، وريّاً في الهجيرِ، ورصيداً حين ينفد الرصيدُ، وهي بعد مفتاح الكنز الذي يغني ويقني، والروح والنّدى والظلال في الهاجرة، ومن المعلوم أنّ أثر الصلاة على من تحرّى الكمال فيها - ليس كأثرها على من فرّط فيها، قال الله تعالى في النوع الأول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[1].

 

وقال جلّ شأنه في النوع الثاني: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[2].

 

إنّ التهيّؤ للحضور في الصلاة يوجب في النفس الطمأنينة، وكنتيجة لذلك يحصل الخشوع في الصلاة، فأنت التزمت بالأعمال التي تنطوي تحت عنوان مقدّمات الصلاة، فستجد أنّ كلّ هذه الأعمال تركت أثراً خاصّاً في نفسك، ومع الأخذ في الاعتبار أنّك تتجمّل لأجل لقاء الله تعالى، فستجد بسبب ذلك آثار النور في قلبك، وستكون صلاتك ذات طابع خاص وجوٍّ روحي مميّز، فالمؤمن الحريص على دينه يأتي بجميع مقدّمات

 


[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 - 2.

[2] سورة الماعون، الآيتان 4 - 5.

 

131


106

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

الصلاة بحال إنابة، فتراه يترك كلّ شيء من أجل إقامة الصلاة، ويُحاول أن لا يمنعه من إقامتها في أول الوقت مانع أبداً، ويرى أنّ أهمّ شيء في حياته هو الصلاة، فتراه مشغولاً بالتمهيد لها والاستعداد لإقامتها، فيتوضّأ وضوءاً تامّاً بكامل شرائطه ومستحبّاته، وضوءاً معنوياً مشفوعاً بالذكر والدعاء والمحبّة الخاصّة بالصلاة. ويتعمّد الأذان والإقامة بصوت رقيق ومحزون، صارفاً بنظره إلى عالم الملكوت ثم يبدأ اللقاء الذي يُمثّل له معراجاً بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى.

 

مقدّمات الصلاة

ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها فما وقّرها"[1].

 

هناك جملة من المقدّمات لا بدّ أن يأتي بها المصلّي قبل أداء الصلاة، وهي: دخول الوقت بالنسبة إلى الصلاة المؤقّتة، واستقبال القبلة ـ التي هي الكعبة المشرّفة ـ وتحصيل الطهارة، ولا بدّ أن يكون لباس المصلّي ساتراً وطاهراً ومباحاً، وأن لا يكون ممّا لا يؤكل لحمه، وأن لا يكون متّخذاً من الذهب أو الحرير بالنسبة إلى الرجال، وأمّا مكان المصلّي، فلا بدّ أن تتوفّر فيه عدّة شروط، من أهمّها: الإباحة، والطهارة والاستقرار، ونحن سنُفصّل فيها تفصيلاً مختصراً نافعاً إن شاء الله تعالى، وأولى هذه المقدّمات الطهارة من الخبث والحدث:

تتحقّق الطهارة الحدثية بالوضوء أو التيمّم عند وجود مانع من الوضوء، لا تُقبل صلاةٌ بدون وضوء، والوُضُوْء: أصله من الوضاءَة وهي النظافة، والصلاة هي ما نستمطر به الرحمة الإلهية، ممّا يعني أنّ الوضوء هو مفتاح لاستقبال رحمة الله تعالى، ونحن لا نعلم مدى البركات التي في الوضوء لكي يجعلها الله شرطاً لقبول الصلاة، ولا بدّ أن هنالك سراً في الوضوء وبركات خاصة لكي يجعله الله سبحانه مفتاح للورود

 


[1]  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج‏20، ص 253، الحكم المنسوبة، ط 1: مكتبة المرعشي النجفي، قم.

 

132


107

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

في محضره، فإنّنا نقرأُ قوله تعالى في سورة المائدة، وهي من أخر ما نزل على قلب النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾[1], وقد ورد الكثير من الروايات الشريفة في فضل الوضوء والبقاء على طهارة دائماً من ذلك ما قاله مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لأنس: "يا أنس، أكثر من الطهور يزيدالله في عمرك، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة، فافعل، فإنّك تكون إذا متّ على طهارة شهيداً"[2]، بالإضافة لذلك، فمع إبقائك للوضوء سوف لن تتورّط فيما لو لم تجد ماءً للوضوء لكي تُصلّي، كما تستطيع الاستخارة في الوقت الذي تريد، وتستطيع لمس كلام القرآن وقتما تشاء، فأنت إذاً على اتصال دائم بالله تعالى، فلا تُشرك بوضوئك أحداً - كأن يصبّ لك أحدهم الماء وأنت تتوضّاً - روى إمامنا الصادق عن آبائه الكرام عن علي  عليهم السلام   قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "خصلتان لاأُحبّ أن يُشاركني فيهما أحد: وضوئي، فإنّه من صلاتي، وصدقتي، فإنّها من يدي إلى يد السائل، فإنّها تقع في يد الرحمان"[3].

 

في رواية الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام وقد سُئِل عن مسائل كثيرة ومنها علّة الوضوء، فقال عليه السلام: "فإن قال (قائل): فلم أُمروا بالوضوء وبدأ به؟ قيل له: إنّما أمر بالوضوء وبدأ به لأن يكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبّار في مناجاتهإيّاه، مطيعاً له فيما أمره نقياً من الأدناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل، وطرد النعاس، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار..."[4].

 


[1] سورة المائدة، الآية 6.

[2] الشيخ المحدث محمد بن الحسن الحُر العاملي أعلى الله مقامه، هداية الأمة إلى أحكام الأئمة  عليهم السلام، ج 1، ص 104، باب 6 - عقيب الحدث للكون على طهارة، الطبعة الأولى، الروضة الرضوية المقدسة.

[3] الجعفريات، ص 17، باب فضل الوضوء، ط 1، مكتبة لنينوى الحديثة، طهران.

[4] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج‏2، ص 99، باب 34.

 

133


108

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

يروى عن أحوال آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني قدس سره أنّه كان يكسر الثلج ليتوضّأ لصلاة الليل، وربما العلّة من هذا العمل هو أنّ الإنسان يتكاسل في تجديد وضوئه، فيما لو انتقض وبطل خصوصاً في ليالي الشتاء الباردة، فكان السيد يريد أن يُعوّد نفسه ويُروّضها بهذا العمل على ما تكره.. والله أعلم، ولأنّ الوضوء ممّا بات يعرفه كلّ مكلف سننتقل للحديث عن مقدّمات الصلاة الأخرى.

 

المحافظة على أوقات الصلاة

إنّ المراد بإقامة الصلاة: الإتيان بها قائمة على وجهها التام، وفي ذلك دليل على شرف الصلاة وفضلها، وأنّها أهمّ أعمال الجوارح، ومن جملة إقامتها المأمور به: المحافظه على مواقيتها، فمن صلّى الصلاة لغير مواقيتها التي وقّتها الله، فلم يُقم الصلاة، بل ضيّعها وفرّط فيها وسها عنها. وقد قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾[1] وقال إمامنا الصّادق عليه السلام: "امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها"[2]، وقال زرارة، وهو من أجلّ أصحاب الصادقين عليهما السلام: سألت أبا جعفر عليه السلام عمّا فرض الله عزّ وجلّ من الصلاة، فقال: خمس صلوات في الليل والنهار، فقلتُ: فهل سمّاهنّ وبيّنهنّ في كتابه؟ قال: نعم قال الله تعالى لنبيّه  صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾[3]، ودلوكها زوالها، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سمّاهنّ الله، وبيّنهنّ ووقّتهنّ، وغسق الليل هو انتصافه، ثم: قال تبارك وتعالى: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ فهذه الخامسة، وقال الله تعالى في ذلك: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾[4]، وطرفاه المغرب والغداة، ﴿وَزُلَفًا مِّنَ

 


[1] سورة النساء، الآية 103.

[2] الشيخ الجليل أبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد، ص 416، طبعة مؤسسة آل البيت.

[3] سورة الإسراء، الآية 78.

[4] سورة هود، الآية 114.

 

134


109

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

اللَّيْلِ﴾، وهي صلاة العشاء الآخرة، وقال تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى﴾[1] وهي صلاة الظهر، وهي أول صلاة صلّاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي وسط النهار، ووسط الصلاتين بالنهار: "صلاة الغداة، وصلاة العصر.."[2].

 

استبقوا الخيرات

قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾[3]: ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ أي: بادروا إليها وأكملوها، فإنّ الخيرات الشاملة لكلّ فرض ومستحبّ، من حقوق الله وحقوق عباده، ولا يصير فاعلها سابقاً لغيره، إلا بأمرين: المبادرة إليها، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به. ويستدلّ بهذه الآية، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أوّل وقتها، حيث يحصل بها السبق. قال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[4]، قال زرارة بن أعين - وهو من أجلّ أصحاب الإمام الباقر -: قُلتُ لأبي جعفر عليه السلام : أصلحك الله وقت كل صلاة أوّل الوقت أفضل أو أوسطه أو آخره؟ فقال: "أوّله، إنَّ رَسولَ اللهِ  صلى الله عليه وآله وسلم  قالَ: " إنَّ اللهَ جلّ جلاله يُحِبُّ مِنَ الخَيرِ ما يُعَجَّلُ"[5]، وكما علمتم إنّ الصلاة لها شروط لا تتمّ بدونها، ومن أهمّ شروطها إقامتها أوّل وقتها، وقد دلّت النصوص الكثيرة على عِظَم فضل من أوقعها في الوقت كما تضافرت الأدلّة الشرعية على عظم جرم من أخرجها عن وقتها ويكفينا في التدليل على ذلك ما رواه الإمام الصادق عليه السلام  عن جدّه أمير المؤمنين عليه السلام قال: "ليس عمل أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة، فلا يُشغلنّكم عن اوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذمّ أقواماً، فقال:

 


[1] سورة البقرة، الآية 238.

[2] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، ج ‏3، ص 271 - 272، باب فرض الصلاة، ط: الدار الإسلامية.

[3] سورة المائدة، الآية 48.

[4] سورة المؤمنون، الآية 61.

[5] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج ‏3، ص 274، باب المواقيت أولها وآخرها وأفضلها..

 

135


110

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[1] يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها"[2].

 

وقال عبد الله بن مسعود: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيّ الاعمال أحبُّ إلى الله؟ قال رسول الله: "الصلاة لوقتها. قُلتُ: ثم أيّ شيء؟ قال: برّ الوالدين. قُلتُ: ثم أيّ شيء؟ قال: الجهاد في سبيل الله"[3].

 

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: قال علي بن الحسين صلوات الله عليهما: "من اهتمّ بمواقيت الصلاة لم يستكمل لذّة الدنيا"[4]، أي: كان من الذين لا يعتنون بها، ولا يطلبون كمالها، كأنه ليس من أبنائها، إنّما يهتمّ بالصلاة في أوّل وقتها لمعرفته بمكانتها العظيمة ومنزلتها الرفيعة.

 

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من صلّى الصلوات المفروضات في أوّل وقتها وأقام حدودها رفعها الملك إلى السماء بيضاء نقيّة، تقول: حفظك الله كما حفظتني استودعتني ملكاً كريماً. ومن صلاّها بعد وقتها من غير علّةٍ ولم يُقم حدودها رفعها الملك سوداء مظلمة، وهي تهتف به: ضيّعك الله كما ضيّعتني، ولا رعاك الله كما لم ترعني"[5]. من هنا يتبيّن أنّ للصلاة حقيقة، وهي تدعو للمصلّي إذا أتى بها في أوّل وقتها ولاحظ آدابها، وإذا لم يُصلّ الصلاة لوقتها ترتفع سوداء وهي تدعو عليه. وهذا ما استفدناه من حديث آخر نطق بها إمامنا الصادق عليه السلام: "إنّ الصلاة إذا ارتفعت في أوّل وقتها رجعت إلى صاحبها وهي بيضاء مشرقة تقول: حفظتني حفظك الله وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت إلى صاحبها،وهي سوداء مظلمة تقول: ضيّعتني ضيّعك الله"[6].

 


[1] سورة الماعون، الآية 5.

[2] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏4، ص 107، 1 - باب وجوب المحافظة على الصلوات في أوقاتها.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 71، ص 70.

[4] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج‏3، ص 275، باب المواقيت أولها وآخرها وأفضلها..

[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏4، ص 118، 3 - باب استحباب الصلاة في أول الوقت.

[6] من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 207، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم‏

 

136


111

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

وقت الفضيلة

ونقرأ في دعاء إمامنا السَجَّاد عليه السلام: "اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وفّقنا فيهِ عَلى مَواقيتِ الصَّلَواتِ الخَمسِ بِحُدودِها الَّتي حَدَّدتَ، وفُروضِهَا الَّتي فَرَضتَ، ووَظائِفِهَا الَّتي وَظَّفتَ، وأوقاتِهَا الَّتي وَقَّتَّ"[1].

 

وروى عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: "لكلّ صلاة وقتان، وأوّل الوقت أفضله، وليس لأحد أن يجعل آخر الوقتين وقتاً إلّا في عذر من غير علّة"[2].

 

قال أبو عبد الله عليه السلام : "لفضل الوقت الأوّل على الأخير خير للرجل من ولده وماله"[3].

 

وقال عليه السلام : "إنّ فضل الوقت الأوّل على الأخر كفضل الآخرة على الدنيا"[4].

 

أوّل الطريق للمسلم الذي يُريد الترقّي في الدرجات هو المحافظة على الصلاة في أوّل وقتها لأنّها حبل الله تعالى، فلا يُشغلك عن ذلك شاغل أو تأويل حتى تؤخّرها عن وقت فضيلتها:

واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الله مُعتَصِماً      فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ

 

القبلة وأحكامها

يجب على المصلّي استقبال القبلة في جميع الصلوات الواجبة سواء أكانت يوميّة أم غيرها حتّى صلاة الجنازة، والقبلة هي اتجاه الكعبة الشريفة بالنسبة إلى جميع البلدان، فتختلف القبلة من مكان إلى آخر باختلاف الأماكن لذلك يجب على المكلّف

 


[1] الإمام زين العابدين علي بن الحُسين عليهما السلام، الصحيفة السجادية، ص 188، (44): وكان من دعائه عليه السلام إذا دخل شهر رمضان.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج‏3، ص 274، باب المواقيت أولها وآخرها وأفضلها..

[3] م. ن.

[4] م. ن.

 

137


112

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

أن يعلم، أو يطمئن بالتوجّه إلى القبلة. قال الله تعالى مخاطِباً نبيّه الخاتم: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾[1].

 

طرق معرفة القبلة

1- العلم: وهو حصول العلم لدى المكلّف باتّجاه القبلة.

2- شهادة عدلين: يعتمدان على أمور حسّيّة تُمكّنهما من معرفة القبلة.

3- الاعتماد على محاريب المساجد، فإنّ محاريب المسلمين تُبنى باتّجاه القبلة.

4- الاعتماد على قبور المسلمين: التي لم يتطرّق إليها التغيير من العلامات التي يستند إليها في القبلة، فإنّ المسلمين يُدفنون باتّجاه القبلة من خلال وضع الميت على جانبه الأيمن باتّجاه القبلة.

5- الاستفادة من الوسائل العلمية كالبوصلة.

6- الاستفادة من الوسائل الطبيعيّة كالشاخص، الشمس، والنجوم، لمن كان خبيراً بكيفيّة الاستفادة منها، ويُشترط في الطريقين الأخيرين حصول الاطمئنان للمكلّف لجهة القبلة بهما.

 

أحكام طرق معرفة القبلة

1- إذا تعذّر على المصلّي معرفة القبلة يبذل تمام جهده ويعمل على ظنّه.

2- في حالة الجهل بجهة القبلة، ولم يحصل للمصلّي الظنّ بجهة معيّنة يجب على الأحوط وجوباً أن يُصلّي في هذه الحالة إلى الجهات الأربع مع سعة الوقت، أو ما يظن أنه القبلة وإن لم يسع الوقت يُصلّي إلى الجهات المحتملة بما يسع الوقت.

 


[1] سورة البقرة، الآية 144.

 

138


113

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

حكم الانحراف عن القبلة

1- إذا صلّى المكلّف إلى غير اتّجاه القبلة عمداً فصلاته باطلة.

 

2- إذا صلّى إلى جهة معيّنة بأحد الطرق المتقدّمة ثمّ تبيّن خطؤه، فهنا يوجد ثلاث صور:

الصورة الأولى: إذا كان الانحراف ما بين اليمين والشمال:

1- إذا كان منحرفاً عن القبلة إلى ما بين اليمين والشمال[1] ولم يعلم إلّا بعد الصلاة صحّت صلاته.

2- إذا كان الانحراف إلى ما بين اليمين والشمال والتفت أثناء الصلاة مضى ما تقدّم منها واستقام في الباقي من غير فرق بين بقاء الوقت وعدمه.

 

الصورة الثانية: إذا تجاوز الانحراف عمّا ما بين اليمين والشمال:

1- إذا انتبه المصلّي إلى ذلك بعد الصلاة، لكن أثناء الوقت أعاد الصلاة. وأمّا إذا انكشف في الأثناء فمع إمكان إدراك ولو ركعة واحدة، فإنّه يُعيد صلاته، وإذا لم يُمكن ذلك استقبل القبلة في الباقي من الصلاة وصحّت صلاته.

2- إذا انتبه المصلّي إلى ذلك خارج الوقت فصلاته صحيحة، ولا يجب عليه القضاء.

 

الصورة الثالثة: إذا كان المصلّي مستدبراً القبلة:

1- وإذا انتبه المصلّي في الوقت أنّه مستدبر القبلة أعاد الصلاة.

2- إذا انتبه المصلّي إلى أنّه مستدبر القبلة خارج الوقت صحّت صلاته ولا شيء عليه.

 


[1] أي كان انحرافه أقل من: 90 درجة.

 

139


114

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

الستر وأحكامه (لباس المصلّي)

ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته لكميل بن زياد النخعي: "اُنظُر فيما تُصَلّي، وعَلى ما تُصَلّي، إن لَم يَكُن مِن وَجهِهِ وحِلِّهِ، فَلا قَبولَ.."[1].

 

الواجب ستره في الصلاة:

1- يجب على الرجل أن يستر عورته في الصلاة، والعورة: هي القبل والدبر والأنثيان.

 

2- يجب على المرأة ستر جميع بدنها في الصلاة ما عدا الوجه الواجب غسله في الوضوء، واليدين إلى الزندين، والقدمين إلى مفصل الساقين مع عدم وجود الناظر الأجنبي، وإلا وجب ستر القدمين.

 

3- لو انكشفت العورة (لريح أو غفلة) أو كانت منكشفة من أوّل الوقت، والمصلّي لا يعلم فصلاته صحيحة، ولكن لو علم أثناء الصلاة عليه أن يُبادر إلى الستر ويُتابع الصلاة[2].

 

شروط لباس المصلي

قال الإمام الصادق عليه السلام : "كل ما أنبتت الأرض فلا بأس بلبسه، والصلاة فيه، وكلّ شيء يحلّ لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي وصوفه وشعره ووبره.."[3]، وقال الإمام الكاظم عليه السلام : "ما أكل الورق والشجر، فلا بأس أن يُصلّى فيه، وما أكل الميتة فلا تُصلِّ فيه"[4]، ولا يُصلّى في جلود الميتة - ولو شسع نعل - حتى لو دبغ سبعين مرّة، سواء كان ساتراً للعورة أم لا، أمّا مع الشك في التذكية فالأصل التذكية - لقاعدة سوق المسلمين - إذا كان في بلادٍ يغلب على أهلها الإسلام - وإن وجد في من يستحلّها بالدبغ أو يستحلّ ذباحة أهل الكتاب - إلا أن يُخبر ذو اليد بعدم التذكية، وللصحاح المستفيضة وفيها عن إمامنا الصادق عليه السلام: "صلّ فيه حتى تعلم أنّه ميت

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 273.

[2] تهذيب تحرير الوسيلة، ج 1، ص، 253 ـ 262، تعليم الأحكام، ص، 133 ـ 142.

[3] الحُر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ج 2، ص 76 باب 3، طبعة 1: مؤسسة الإمام الرضا، قم.

[4] م. ن.

 

140


115

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

 بعينه"[1]، ولقول الإمام الباقر عليه السلام: "ليس عليكم المسألة إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم إنّ الدين أوسع من ذلك"[2].

 

ويشترط في لباس المصلّي:

1- أن يكون طاهراً.

2- أن يكون مباحاً (غير مغصوب).

3- أن لا يكون من أجزاء الميتة.

4- أن لا يكون من غير المذكّى (حيوان زُهقت روحه على غير طريقة الذباحة الشرعيّة).

5- أن لا يكون ذهباً أو حريراً (أي حريراً خالصاً) بالنسبة للرجال.

 

مكان المصلّي

روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ الله تبارك وتعالى أعطى محمداً  صلى الله عليه وآله وسلم شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى.. إلى أن قال "وجعل له الأرض مسجداً وطهورا..."[3].

 

وردت روايات عديدة عن أئمّتنا عليهم السلام في علّة النهي عن السجود على المأكول، والملبوس دون الأرض، وما أنبتت من سواهما، ومنها قول هشام بن الحكم لأبي عبد الله عليه السلام : "أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعمّا لا يجوز؟ قال: السجود لا يجوز إلاعلى الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس فقال له: جُعلت فداك ما العلّة في ذلك؟ قال: لأنّ السجود خضوع لله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل أو يلبس لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في

 


[1] الشيخ محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة، تهذيب الأحكام، ج 2، ص203، باب 11 - باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه من ذلك، طبعة 4: دار الكتب الإسلامية، طهران.

[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج‏1، ص 247، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه..

[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏3، ص 349، 7 - باب جواز التيمم بالتراب و...

 

141


116

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

عبادة الله عزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنّه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزّ وجلّ"[1].

 

ويشترط في مكان المصلّي أمور، من أهمّها:

1- أن يكون مباحاً (غير مغصوب).

 

2- أن يكون غير متحرّك، فيجب أن يكون مكان المصلّي ثابتاً، فلا تصحّ الصلاة في السيارة مثلاً.

 

3- أن لا يكون ممّا يحرم الوقوف فيه، كالمكان الذي فيه خطر على حياة الإنسان، أو فرش مكتوب عليه آيات قرآنية.

4- أن لا يكون متقدّماً على قبر النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  أو أحد الأئمة عليهم السلام.

 

5- أن يكون موضع الجبهة طاهراً.

 

6- أن لا يكون في مواضع السجود الأخرى (غير الجبهة) نجاسة تتعدّى إلى البدن أو اللباس.

 

7- أن يكون مستوياً، أي أن لا يكون موضع سجود المصلّي أعلى أو أخفض من موضع الركبتين والإبهامين واليدين بأزيد من أربعة أصابع مضمومة فلو صلّى المكلّف على جبلٍ عليه تسوية مكانه[2].

 

اللهم علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا بحقّ محمّد وآله الطاهرين.

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج‏ 1، ص 272.

[2] تهذيب تحرير الوسيلة، ج 1، ص 274 ـ 277. تعليم الأحكام، ص، 143 ـ 149.

 

142


117

الدرس العاشر: في رحاب مقدّمات الصلاة

المفاهيم الرئيسة

- من المقدّمات التي لا بدّ أن يأتي بها المصلّي قبل أداء الصلاة المحافظة على مواقيتها، واستقبال القبلة, وتحصيل الطهارة، والالتزام بشروط لباس المصلّي ومكان الصلاة.

 

- تتحقّق الطهارة الحدثية بالوضوء أو التيمّم عند وجود مانع من الوضوء، ولا تُقبل صلاةٌ بدون وضوء.

 

- إنّ المراد بإقامة الصلاة: الإتيان بها قائمة على وجهها التام، ومن جملة إقامتها المأمور به: المحافظه على مواقيتها، فمن صلّى الصلاة لغير مواقيتها التي وقّتها الله، فلم يُقم الصلاة، بل ضيّعها وفرّط فيها وسها عنها.

 

- الخيرات شاملة لكلّ فرض ومستحبّ، ولا يصير فاعلها سابقاً لغيره، إلا بأمرين: المبادرة إليها، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به.

 

- القبلة هي اتجاه الكعبة الشريفة بالنسبة إلى جميع البلدان, ويجب على المصلّي استقبال القبلة في جميع الصلوات الواجبة سواء أكانت يوميّة أم غيرها كصلاة الجنازة.

 

- يُمكن للمكلّف معرفة اتجاه القبلة عبر حصول العلم لديه بشكل مباشر, أو عبر شهادة عدلين, أو باعتماده على محاريب المساجد واتجاه قبور المسلمين, كما يمكنه الاستفادة من الوسائل العلمية كالبوصلة, ومن الوسائل الطبيعيّة كالشاخص، الشمس، والنجوم، ويُشترط في الطريقين الأخيرين حصول الاطمئنان للمكلّف لجهة القبلة بهما.

 

- يشترط في لباس المصلّي أن يكون طاهراً, مباحاً, وأن لا يكون من أجزاء الميتة أو من غير المذكّى وأن لا يكون ذهباً أو حريراً بالنسبة للرجال.

 

- يشترط في مكان المصلّي أمور، أهمّها: الإباحة والثبات وطهارة موضع الجبهة وأن لا يكون في مواضع السجود الأخرى نجاسة تتعدّى إلى البدن أو اللباس, وأن لا يكون ممّا يحرم الوقوف فيه, أو متقدّماً على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  أو أحد الأئمة عليهم السلام.

 

143


118

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

الدرس الحادي عشر

في رحاب أجزاء الصلاة

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعدِّد أجزاء الصلاة.

 

2- يشرح فضل السجود والركوع وآثارهما.

 

3- يذكر فضل السجود على التربة الحسينية وآثارها.

 

145


119

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

مقدّمة

تُعدّ المحافظةُ على هذه الصلاة، والعنايةُ بها سبباً لصلاح القلب وطهارةِ النفس، وتهذيب الأخلاق والسلوك، ولكن لا يتحقَّق لك ذلك إلاَّ إذا خشَعتَ في صلاتك، وأقبلتَ عليها بقلبِك وفرَّغتَ قلبك من كلّ شُغل أثناء أدائها، بقراءَتها، وأذكارِ ركوعها، وسجودِها وجلوسها، وتأمَّلتَ في ذلك حقَّ التأمّل، فإنّك بذلك تخشع في صلاتك. واعلم أنَّ الصلاة شاقّةٌ على الكثير من المصلّين إلاَّ على الخاشعين، فالخاشعون يؤدّون هذه الصلاةَ عن رغبةٍ وحبٍّ وشوق إليها، قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[1]. إذًا فالخاشِعون فيها هم الذين يُصبح أداؤها يسير عليهم، وفعلُها غير شاقّ عليهم وإن طال ركوعهم، وقنوتهم وسجودهم، بل يجدون في أدائها راحةً لقلوبهم وطمأنينةً لنفوسهم، وانشراحَاً لصدورهم، فهي قرّة أعينِ أهل الإيمان وراحتُهم وقد قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[2]، فليقينِهم بملاقاة الله تعالى، وأنّ مردَّهم إليه جلّ شأنه سهُلت تلك الصلاة عليهم، فأقبلوا عليها بقلوبهم مطمئنِّين خاشعين ذليلين مستكينين لربّ العالمين لا همّ لهم إلا رضاه جلّ شأنه.

 

قال إمام الخاشعين مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : "يا كميل ليس الشأن أن تُصلّي وتصوم وتتصدّق، إنّما الشأن أن تكون الصلاة فعَلَتْ بقلب نقي، وعمل عند الله مرضيّ، وخشوع سويّ، إبقاء للحدّ فيها،.... إلى آخر وصيته سلام الله عليه"[3]،

 


[1] سورة البقرة، الآية 45.

[2] سورة البقرة، الآيتان 45 - 46.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار،ج ‏74، ص 266، باب 11 وصيته عليه السلام لكميل بن زياد النخعي.

 

147


120

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يُصلّي العبد صلاة تليق بربّه عزّ وجلّ، فإذا كانت صلاة تصلح لرضى الله تبارك وتعالى، وتليق به كانت مقبولة.

 

القيام في الصلاة

ويُراد به المثول بين يدي مالك الملك، إعلاناً للطاعة والولاء وامتثال الأمر، ولا يخفى أنّ الاستعداد والمثول قياماً بين يدي مالك يوم الدين هو من دلائل الطاعة وعلاماتها. ومن هنا يقتضي أن تكون هيئة المثول وحقيقته متناسبة مع عظمة الملك الذي نقف بين يديه، فكمال القيام بين يدي الله تعالى أن يكون على طمأنينة وسكون وهيبة وحياء، فلا يجعل رأسه مرفوعاً، ولا يُبالغ في طأطأته فيخرج بالحياء عن صورته، بل يجعل نظره إلى محلّ سجوده، مقيماً صلبه ونحره، مرسلاً يديه على فخذيه بوقار، فلا يعبث بهما، ولو استحضر المصلّي أثناء قيامه قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾[1]، وصور الأئمة الطاهرين الذين "كان إذا قام - أحدهم - إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: ما لك؟ فقال: ما تدرون بين يديمن أقوم، ومن أُناجي"[2] لو استحضر المصلّي ذلك لما فارق هذه الهيئة. ويزيد في جلال القيام وهيبته ما وجب فيه من تلاوة بعض سور القرآن الكريم، وبهذا يكون القيام مشهداً من مشاهد الطاعة والولاء والإجلال والتعظيم.

 

الركوع والسجود في القرآن الكريم

وقعت ألفاظ الركوع والسجود في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضعاً، وتنتظم موضوعاتها فيما يلي:

1- سجود المخلوقات جميعها لله ربّ العالمين. 2- سجود الملائكة. 3- سجود

 


[1] سورة الشعراء، الآيات 217 - 219.

[2] محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، الطبقات الكبرى، ج 5، ص 216، طبعة 1: دار صادر، بيروت، و والذهبي في سير أعلام النبلاء ج 4، ص 392، ترجمة علي بن الحسين عليه السلام ، ط 8: مؤسسة الرسالة بيروت.

 

148


121

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

النبيّين. 4- الرُّكع السجود في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام . 5- سجود نبي الله يعقوب عليه السلام وزوجه، وأولاده لنبي الله الصديق يوسف عليه السلام . 6- سجود السحرة من بني إسرائيل.7 - أمر بني إسرائيل بأن يدخلوا القرية سجّداً. 8- ذكر ركوع نبي الله داود عليه السلام . 9- سجود الصدّيقة مريم وركوعها. 10- سجود مؤمني أهل الكتاب. 11- ركوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وتصدّقه بخاتمه حال الركوع.

 

ووقع الركوع والسجود فيما يتعلّق بسيدنا ومولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمته في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً ما بين مكّي ومدني وأمر ومدح وتشريع، ويمكن رصد معاني تلك الآيات ووجوهها من خلال تصنيفها على أربع مجموعات، وهي على النحو التّالي:

1- الركوع مفرداً.

2- الركوع والسجود معاً.

3- ما خوطب به خاتم الأنبياء في ذلك.

4- ما جاء في سجود أمّته.

 

الركوع في الصلاة

وهو صورة أُخرى من صور الامتثال والخضوع، ولا شكّ أنّه يحمل من معاني الخضوع فوق ما يحمله القيام، ولكلٍّ معناه وأبعاده ومغزاه، ومع صورة التعظيم الظاهرة في انحناءة الركوع، يأتي الذكر الذي يصحبها متوّجاً معنى التعظيم، ومركّزاً مغزاه في قلب الراكع: "سبحان ربّي العظيم وبحمده".

 

هذه المرتبة من التعظيم أفردها الإسلام لله تعالى وحده، فنهى أن ينحني أحد أمام أحد احتراماً وتعظيماً، ولذلك تميّز الركوع بمرتبة أخصّ من الامتثال قياماً في الولاء والخضوع والتعظيم، فالقيام يقع كثيراً في يوميات الإنسان كالامتثال قياماً بين

 

149


122

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

يدي الوالدين، أو بين يدي المعلِّم، أو القائد، ولكن يحرم الركوع لهؤلاء ولغيرهم, لإنّه من خصائص الخضوع لله تعالى.

 

الراكع الخاشع

قال الله تعالى في مُحكم كتابه وجليل خطابه: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾[1] والآية الكريمة نزلت في أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو راكع، فسأل سائل في المسجد، فلم يُعطه أحد شيئاً، فرفع السائل يديه إلى السماء، وقال: اللهم اشهد أنّي سألت في مسجد نبيّك محمد  صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يُعطني أحد شيئاً، فأومأ أمير المؤمنين عليه السلام إلى السائل بخنصره اليمنى، وفيه خاتم، فأقبل السائل، فأخذ الخاتم من خنصره، وذلك بمرأى من النبي  صلى الله عليه وآله وسلم[2]، وقيل لابن الجوزي: كيف تصدّق عليّ كرّم الله تعالى وجهه بالخاتم، وهو في الصلاة والظنّ فيه بل العلم الجازم أنّ له كرّم الله تعالى وجهه شغلاً شاغلاً فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلّق بها، وقد حكى ممّا يؤيد ذلك كثير، فأنشأ يقول:

يسقي ويشرب لا تُلهيه سكرته           عن النديم ولا يلهو عن الناسِ

أطاعَهُ ســكرُهُ حتّى تمكّن من            فعل الصُحاةِ فهذا واحد الناسِ[3]

 

وجاء في المراد بالركوع في هذه الآية ثلاثة أقوال: الخشوع، الصلاة، الركوع الشرعي، والذي جرى عليه كثير من المحقّقين أنّه الخشوع، وهو أحد معاني الركوع المعتبرة، والمعنى أنّهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال الركوع، وهو الخشوع والإخبات، والتواضع لله تعالى، وهذا كقوله جلّ شأنه: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾[4].

 


[1]  سورة المائدة، الآية 55.

[2] الشيخ الأميني، الغدير، ج 2، ص 52، و ج 3، ص 156، من طبعة 4: دار الكتاب العربي.

[3] أبو الفضل محمود الآلوسي، روح المعاني، ج 6، ص 169، طبعة دار إحياء التراث العربي.

[4] سورة المؤمنون، الآية 60.

 

150


123

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

آداب الركوع

إنّ الركوع ركن من أركان الصلاة تؤدّي الزيادة والنقصان فيه ـ بأيّ نحو من الأنحاء حصلا ـ إلى بطلان الصلاة، والركوع لله تعالى مقام عال من الخضوع, وهو رتبة ممهّدة للسجود حيث ورد في النصّ المبارك عن الإمام الصادق عليه السلام: "والركوع أول والسجود ثان, فمن أتى بالمعنى الأول صلح للثاني, وفي الركوع أدب, وفي السجود قرب, ومن لا يُحسن الأدب لا يُحسن للقرب"[1].

 

جاء عن الإمام الباقر عليه السلام حديثاً عن الذكر في الركوع، وفيه ما يستشعر به المرء حقيقة ما يؤدّيه من امتثال وطاعة وخشوع. يقول عليه السلام: "إذا أردت أن تركع، فقل وأنت منتصب: الله أكبر، ثم اركع، وقل: اللهمّ لك ركعت، ولك أسلمت، وبك آمنت،وعليك توكّلت، وأنت ربّي، خشع لك قلبي وسمعي، وبصري وشعري، وبشري ولحمي، ودمي ومخّي، وعصبي وعظامي وما أقلّته قدماي، غير مستنكفٍ ولا مستكبرٍ ولا مستحسرٍ، سبحان ربّي العظيم وبحمده ثلاثاً"[2].

 

وليكن ظهرك مستوياً مع عنقك, لا منحنياً, وليكن نظرك بين قدميك، واعلم أنّ رجلاً سأل إمامك أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا ابن عمّ خير خلق الله ما معنى مدّ عنقك في الركوع؟ فقال عليه السلام: "تأويله: آمنت بالله، ولو ضُربت عنقي"[3].

 

تلفَّظ بالذكر مستوفياً حروفه كاملة, ولا ترتفع قبل ذلك. لا تنسَ فضل الله عليك أن أمرك بالركوع, ووفِّقت إلى ذلك، ولا بأس في الذكر أن تؤكّده بالتكرار, لأنَّ المرَّة الواحدة ضعيفة الآثار, ورحمة الله تتسارع إلى المُلح الذليل المتواضع، يقول أبان بن تغلب: دخلت على أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، وهو يُصلّي، فعددت في الركوع

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 82، ص108.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج ‏3، ص 319، باب الركوع وما يقال فيه.

[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 311، حديث رقم 927.

 

151


124

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

ستّين تسبيحة[1]، وبعد تمام الذكر الواجب والمستحب ارفع رأسك, وقف وقفة كاملة منتصباً كما كُنتَ في قيامك قائلاً: سمع الله لمن حمده الحمد لله ربّ العالمين، فإنّ تأويله كما جاء عن أمير المؤمنين: الحمد لله الذي أخرجني من العدم إلى الوجود[2].

 

القنوت

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾[3].

 

للقنوت معاني مختلفة منها الدعاء والطاعة والسكون، والامتناع من الحديث، والقيام، والصلاة والخشوع والعبادة، فالقنوت في الصلاة بمعنى الدعاء والطلب الواقع بهيئة خاصة، حيث يؤدّى في الركعة الثانية بعد القراءة وقبل الركوع، وجاء عن النبي المصطفى  صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "أطولكم قنوتاً في دار الدنيا أطولكم راحة يوم القيامة في الموقف"[4]، و"أفضل الصلاة ما طال قنوتها"[5] و "كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يُصلّي مكتوبةً إلاّ قنتَ فيها"[6]، وورد عن الإمام الرضا عليه السلام في رسالته إلى المأمون العبّاسي: "أن القنوت من السنن الواجبة في كل صلاة"[7].

 

السجود منتهى العبادة

إذ إنّه يُمثّل غاية الخضوع، بل هو أبلغ صور التذلّل لله سبحانه وتعالى؛ لأنّه يربط بين الصورة الحسّية والدلالة المعنوية للعبادة في ذلّة العبد، وعظمة الرب، وافتقار العبد لخالقه. ولا يكون الإنسان عبداً لله تعالى إلاّ بهذا التذلّل وبهذه العبودية، ومن هنا


 


[1] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 927.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 81، ص 254.

[3] سورة الزمر، الآية 9.

[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 85، ص 199.

[5] الشيخ الصدوق، الخصال، ج 2، ص 103.

[6] ابن أبي جمهور‏، عوالي اللئالي، ج‏2، ص 42، المسلك الرابع ص 5، ط 1 دار سيد الشهداء.

[7] عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2، ص 123.

 

152


125

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

يظهر أحد أسرار اختصاص السجود بالقرب من الله تعالى قال مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : "أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد"[1].

 

وحيث إنّ العبد في حالة السجود يكون في تمام الذلّة والخضوع والاستكانة لله سبحانه وتعالى، روي عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "السجود منتهى العبادة من بني آدم"[2].

 

السجود في الصلاة

يُعتبر السجود في الصلاة جزءاً منها بل ركناً من أركانها الأساسية، فلا يجوز تركه بأيّ شكل كان سواء كانت الصلاة واجبة أو مندوبة, لأنّه لا تتمّ الصلاة إلاّ بوجوده وإتيانه وفق ما جاء في الشرع، وممّا يؤكّد اهتمام الإسلام المتزايد بالسجود هو تسمية المصلّى، وهو موضع إقامة الصلاة - مسجداً، إذ أصبح له عنواناً خاصّاً متميّزاً، عناية بأهمّ أجزاء الصلاة، باعتبار أنّ السجود هو موضع القرب كما تبيّن، وبه يتجلّى التواضع والخضوع، والتذلّل لله جلَّ وعلا، لذا فقد أولى الباري جلّ شأنه عناية خاصّة بالمساجد، فنسبها له سبحانه كما قال في فرقانه: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[3].

 

ولأهمّية السجود جعله الله تعالى واحداً من العلامات التي تُميّز عباده المخلصين، فقال سبحانه: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾[4]، ومن كلام لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو يصف لنا صفات المؤمن الحقّ، قائلاً: ".. إنّ المؤمن من نفسه في شغل، والناسمنه في راحة، إذا جنَّ عليه الليل فرش وجهه، وسجد لله تعالى ذكره بمكارم بدنه، ويُناجي الذي خلقه في فكاك رقبته. ألا، فهكذا كونوا"[5].

 


[1] السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج 5، ص 463، حديث 8039 + 8311.

[2] الفقيه المحدث قطب الدين الراوندي، الدعوات، سلوة الحزين، ص33، الفصل الثاني في كيفية الدعاء وآدابه..

[3] سورة الجن، الآية 18.

[4] سورة الفتح، الآية 29.

[5] الطبرسي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص 90، باب 2، فصل 4.

 

153


126

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

هيئة السجود وحالته وذكره

إنّ للسجود هيئةً وحالةً وذكراً، تنطوي على جملة أسرارٍ تتجلّى للإنسان المؤمن من خلال صلاته بمقدار درجة الإقبال وحضور القلب ووعي تامّ لما يقوم به من حركات وما يتلفّظه من كلمات.

 

أ- فهيئته: إراءة حالة التواضع وترك الاستكبار والعجب من خلال وضع الجبهة على الأرض، وإرغام الأنف، وهو من المستحبّات الأكيدة ـ إظهاراً لكمال التخضّع والتذكّر والتواضع.

 

ب- وأمّا الحالة: فهي وضع أعضاء السجود السبعة على الأرض، وبما أنّ تلك الأعضاء تُعدّ مظهراً لعقل الإنسان وقدرته وحركته، فيكون إرغامها على التذلّل والخضوع والمسكنة عبر السجود لله عزّ وجلّ مظهراً من مظاهر التسليم التام له سبحانه، وهذا يعني شعور العبد بالندم والتوبة وطلب المغفرة والابتعاد عن الخطيئة بشتّى أشكالها، ومع حصول تلك المعاني في نفس الساجد، فلا شكّ أنّه سيشعر بحالة من الأنس ورهبة حقيقية تمنعه من العدول إلى ارتكاب المعصية من جديد.

 

ج- وأمّا الذكر: وهو (سبحان ربّي الأعلى وبحمده) فإنّه متقوّم بالتسبيحـ وهو التنزيه عن التوصيف ـ والتحميد، وذكره تعالى بأنّه العلي الأعلى، والعلي من الأسماء الذاتية لله تعالى[1].

 

روى الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إذا سجدت فكبّر، وقل: اللهمَّ لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، وعليك توكّلتُ، وأنت ربّي سجد وجهي للذي خلقه وشقّ سمعه وبصره، الحمدُّ لله ربِّ العالمين تبارك الله أحسن الخالقين، ثم قل: سبحانربّي الأعلى وبحمده، ثلاث مرّات، فإذا رفعت رأسك فقل بين السجدتين: اللهمَّ اغفر

 


[1] الإمام الخميني قدس سره، الآداب المعنوية للصلاة، ص 536 -537، ط 1: دار طلاس، دمشق.

 

154


127

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

لي وارحمني، وأجرني وادفع عنّي، إنّي لما أنزلت إليَّ من خير فقير. تبارك الله ربّ العالمين"[1].

 

حركات السجود

من الهوي إلى الأرض، ثم استقرار الجبهة عليها، ثم رفع الرأس، ثم العودة إليها، ثم الرفع منها ثانية استحضار دورة حياة الإنسان كلّها منذ نشأته الأولى من مادّة الأرض، وتكوّنه إنساناً يدبّ عليها، ثمّ عودته فيها بعد موته، ثم خروجه منها يوم البعث والنشور، وقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام أطراف هذا المشهد في جليل جوابه عن سؤال سائل سأله قائلاً:

يا بن عم خير خلق الله، ما معنى السجدة الأولى؟ فقال عليه السلام : "تأويله اللهمّ إنّك منها خلقتنا ـ يعني من الأرض، ورفع رأسك: ومنها أخرجتنا، والسجدة الثانية: وإليها تُعيدنا، ورفع رأسك من الثانية: ومنها تُخرجنا تارة أخرى.."[2].

 

السجود على الأرض

إنّ الذين نقلوا لنا صفة وكيفية سجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قالوا إنّه كان في سجوده يُباشر الأرض بجبهته الشريفة أو يسجد على الحصر، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، وكان مسجده الشريف في حينه مفروشاً بالحصباء، ولم يكن السجود على التربة عند الشيعة من الواجبات في الصلاة ولذا تراهم في المسجد الحرام وفي مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يسجدون على قاع المسجد لأنّ أرضية المسجدين الشريفين مبلّطة بالحجر الطبيعي، وتُسمّى أرضاً ويصحّ السجود عليها، والشيعة الإمامية اعتادوا السجود على التربة الحسينية حيث اجتمعت فيها كلّ الشروط التي يجب توافرها في مسجد الجبهة من طهارة وإباحة الى آخر الشروط المقرّرة في الموسوعات الفقهية،

 


[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 321، 1: باب السجود والتسبيح والدعاء.

[2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج 2، ص 336، باب 32، منشورات مكتبة الداوري قم.

 

155


128

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

وقد أجمع فقهاء الأمّة الإسلامية على أنّ السجود على الأرض هو الأفضل فحملها البعض منهم معه رعاية للاحتياط، وحرصاً على الأفضلية لأنّ البيوت اليوم والأماكن العامة كُسيت أرضيتها بأبسطة قطنية أو بالسجّاد الصوفي أو معبّدة بما يخرجها عن كونها أرضاً فيقع المصلّي بين محذورين إمّا فوات الأفضلية أو بطلان الصلاة.

 

وأمّا السجود على التربة الحسينية واتخاذها مسجداً فإنّ الغاية المتوخّاة منها للشيعة إنّما هي تستند إلى أصلين قويمين. وتتوقّف على:

"استحسان اتخاذ المصلّي لنفسه تربة طاهرة يتيقّن بطهارتها، من أيّ أرض أُخذت، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها في ذلك شرع سواء سواسية، وما ذاك إلا كرعاية المصلّي طهارة جسده وملبسه ومصلّاه، فيتّخذ المسلم لنفسه صعيداً طيّباً يسجد عليه في حلّه وترحاله، وفي حضره وسفره، ولا سيما في السفر. إذ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها، ويتّخذها مسجداً لا تتأتّى له في كلّ موضع من المدن والفنادق وباحات النزل والساحات، ومحال المسافرين، ومحطات وسائل السير والسفر، ومهابط فئات الركاب، ومنازل الغرباء، أنّى له بذلك وقد يحلّ بها كلّ إنسان من الفئة المسلمة وغيرها، ومن أخلاط الناس الذين لا يُبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة، فأيّ وازع من أن يستحيط المسلم في دينه، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته، حذراً من السجدة على نجسة أو متّسخة مما لا يجوز السجود عليها، ولا يقبله العقل السليم، وذلك من التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه.."[1].

 

ولكن من المؤسف أنّ بعض إخواننا المسلمين يرمي الشيعة بالشرك والمروق عن الدين لسجودهم على هذه القطعة من الأرض، وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾[2].

 

 


[1] الشيخ عبد الحسين الأميني النجفي، السجود على التربة الحسينية.

[2] سورة النساء، الآية 94.

 

156


129

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

وهم يعلمون أنّ الشيعي من أهل لا إله إلا الله، وقد انعقدت بها نطفته ثم رضعها من ثديي أمّه، فاشتدّ عليها عظمه، ونبت بها لحمه، وامتلأ من نورها قلبه، ودانت بها جميع جوارحه[1].

 

والشيعة الإمامية تضع جباهها على التربة الحسينية لأنّها أرض طبيعية والأرض أفضل المساجد وقد صحّ عن الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال "جُعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً"[2] ولو كان الشيعة يسجدون للتربة لكانوا يسجدون دونها لا أن يضعوا جباههم عليها، وهناك فرق بين السجود لها والسجود عليها، وليس كلّ مسجود عليه معبوداً، وإلّا لكان الساجد على البساط ساجداً له، والساجد على السجّاد عابداً له، وهكذا … في حين لا يقول بذلك أحد.

 

ويوجد فيض من النصوص التي وردت عن أئمة الهدى من أهل بيت النبوة  عليهم السلام صريحة في أنّ ما يسجد عليه هو الأرض أو نباتها أو القرطاس (الورق) وغير ذلك لا يجوز السجود عليه، وخذ صحيح هشام بن الحكم مثلاً حيث قال للإمام جعفر الصادق عليه السلام: أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعمّا لا يجوز؟ فقال عليه السلام: "لا يجوز السجود إلا على الأرض أو على ما أنبت الأرض إلا ما أكل أو لبس، فقال له: جُعلتُ فداك ما العلّة في ذلك؟ قال عليه السلام: لأنّ السجود خضوع لله عزّ وجلّ، فلا ينبغي أنيكون على ما يؤكل ويلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها[3].

 

والخلاصة يصحّ للمسلم أن يسجد على ما يُطلق عليه أرضاً سواء أكان تراباً أو صخراً أو رملاً أو طيناً أو على الرخام (الحجر الطبيعي) لأنّ كلّ ذلك يُسمّى أرضاً،

 


[1] سيد عاملة المجتهد المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، الفصول المهمة في تأليف الأمة.

[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 240 - 241.

[3] م. ن، ج 1، ص 272.

 

157


130

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

وعلى كلّ نبات بشرط أن لا يكون مأكولاً كسائر الفواكه والبقول التي أعتاد الناس أكلها، أما النوى والقشور وورق الأشجار وأخشابها وسعف النخل فلا مانع من السجود عليها كما لا يجوز السجود على ما يُلبس كالقطن والكتان والقنب والمنسوج منهما.

 

من فضائل تربة سيّد الشهداء

روى الإمام الصادق عليه السلام قال: مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بكربلاء في أناس من أصحابه فأغرورقت عيناه بالبكاء، ثم قال: "هذا مناخ ركابهم وهذا ملتقى رحالهم، وهنا تُهرق دماؤهم، طوبى لك من تربة عليك تُهرق دماء الأحبّة"[1].

 

وكان الإمام جعفر الصادق عليه السلام يُلازم السجود عليها, وقد روى شيخ الطائفة رحمه الله في مصباح المتهجّدين بسنده إلى معاوية بن عمار قال: كان لأبي عبد الله الصادق عليه السلام خريطة من ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله الحسين عليه السلام  فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليها ثم قال: "إنّ السجود على تربة أبي عبد الله يخرق الحجب السبعة"[2].

 

وقد علّق الشيخ كاشف الغطاء على هذا الحديث بقوله: ولعلَّ المراد بالحجب السبعة هي الحاءات السبعة من الرذائل التي تحجب النفس عن الاستضاءة بأنوار الحقّ وهي: "الحقد، الحسد، الحرص، الحدة، الحماقة، الحيلة، الحقارة".

 

فالسجود على التربة من عظيم التواضع والتوسّل بأصفياء الحقّ يُمزّقها ويخرقها ويُبدّلها بالحاءات السبع من الفضائل وهي: "الحكمة، الحزم، الحلم، الحنان، الحصانة، الحياء، الحب"[3]. والله أعلم.

 

أفليست السجدة على تربة هذا شأنها أن يُتقرّب إلى الله بالسجود عليها في أوقات الصلوات، أطراف الليل والنهار، أو ليس السجود عليها أولى وأحرى من غيرها من كلّ


 


[1] جعفر بن محمد أبن قولويه القمي، كامل الزيارات ص 269، الباب الثامن والثمانون، ط 1: المرتضوية، النجف.

[2] الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، مصباح المتهجد، ج 2، ص 733 - 734، طبعة 1: مؤسسة فقه الشيعة.

[3] الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، الأرض والتربة الحسينية، ص 32.

 

158


131

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

أرض وصعيد وقاعة وقرارة طاهرة، أو من البسط والفرش والسجّاد المنسوجة على نول هويات مجهولة؟

 

أليس أجدر بالتقرّب إلى الله، وأقرب بالزلفى لديه، وأنسب بالخضوع والخشوع والعبودية له تعالى أمام حضرته، وضع صفح الوجه والجباه على تربة في طيّها دروس الدفاع عن دين الله، ومجلى التحامي عن ناموس الإسلام المقدّس؟

 

أليس أليق بأسرار السجدة على الأرض. السجود على تربة فيها سرّ المنعة والعظمة والكبرياء والجلال لله جلّ وعلا، ورموز العبودية والتصاغر دون الله بأجلى مظاهرها وسماتها؟... أليس..،.... الخ

 

إنها تربة من قال فيه الذي ما ينطق عن الهوى: "حُسين منّي، وأنا من حُسين أحبّ الله من أحبّ حُسيناً. حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِن الأسباط"[1].

 

تحيا بكم كل أرض تنزلونَ به           كأنَّكم لبقاع الأرض أمطارُ

و نوركم يهتدي الساري برؤيته         كأنّكم في ظلام الليل أقـمـارُ

لا أوحشَ اللَه ربعاً من زيارتكُم         يا من لهم في الحشا والقلب تذكارُ

 

التشهّد

والتشهّد شهادة بوحدانية الله ورسالة المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم  رحمة الله المهداة، وممّا رواه جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه عن أمير المؤمنين عليه السلام: "وتأويل تشهّدك: تجديد الإيمان، ومعاودة الإسلام، والإقرار بالبعث بعد الموت"[2].

 

يتشهّد المصلّي مرّة في كلّ صلاة ثنائية، ومرّتين في كلّ صلاة رباعية بما يأتي: أشهد أن لا إلا الله، وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، اللهُمّ صلّ على

 


[1] محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، صحيح ابن حبان، ج 15، ص 427، حديث رقم 6971،

ذكر إثبات محبة الله جل وعلا لمحبي الحسين بن علي، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة، بيروت.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 84، ص 253.

 

159


132

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

محمّد وآل محمّد..، "وقد أمرك الله بالصلاة على حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأوصل صلاته بصلاته، وطاعته بطاعته، وشهادته بشهادته، وانظر إلى أن لا تفوتك بركات معرفة حرمته، فتحرم عن فائدة صلاته، وأمره بالاستغفار لك والشفاعة فيك، إن أتيت بالواجب في الأمر والنهي والسنن والآداب، وتعلم جليل مرتبته عند الله عزّ وجلّ"[1]، وقد أُشير في الروايات إلى كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: لقيني كعب بن عجرة، فقال ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت بلى، فأهدها لي، فقال سألنا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم، فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإنّ الله قد علّمنا كيف نُسلِّم عليكم؟ قال: "قولوا اللهمّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّكحميد مجيد"[2].

 

يا آل بيت رسول الله حبّكمُ     فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الشأن أنكم            من لم يصل عليكم لا صلاة له

 

وبعد التشهّد من الركعة الأخيرة يُسلّم على النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  في السلام الأول وعلى عباد الله الصالحين في السلام الثاني، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هو السلام الثالث، وبذلك تفرغ الصلاة.

 

سجدة الشكر

إنّ لسجدة الشكر فوائد وعطاءات جمّة تشتمل على غاية ما يصبو إليه الإنسان المؤمن من خير الدنيا والآخرة، كزيادة النعمة، وتوفيق الطاعة، واستجابة الدعاء

 


[1] عن الإمام الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة، ص 93، الباب الثاني والأربعون في التشهد.

[2] محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح، ج 3، ص 1233، حديث رقم (3190)، 12: باب چ ھ چ سورة الصافات، الآية 94، الطبعة 3: دار ابن كثير - اليمامة.

 

160


133

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

فيها، زيادة على ما يكتبه الله عزّ وجلّ من حسنات وما يمحوه من سيّئات كما هو واضح من كلام أهل البيت عليهم السلام.

 

سُئل الإمام الرضا عليه السلام عن سجدة الشكر وعن معنى "شكراً لله"، فأجاب عليه السلام: "إنّ معناها أنّ هذه السجدة هي شكر منّي لله تعالى على أن وفّقني لأن قمت بخدمته وأدّيت فرضه، وشكر الله يوجب زيادة النعمة، وتوفيق الطاعة، وإذا كان قد بقي فيالصلاة تقصير، ولم تتم بالنوافل أتمّتها هذه السجدة"[1]، وروي أيضاً عن الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "سجدة الشكر... تتمّ بها صلاتك، وتُرضي بها ربّك، وتعجب الملائكة منك.."[2].

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 219-220، باب سجدة الشكر والقول فيها.

[2] م. ن.

 

161


134

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

المفاهيم الرئيسة

- الصلاة المقبولة هي الصلاة التي تصلح لرضى الله تبارك وتعالى، وتليق به.

 

- المراد من القيام في الصلاة المثول بين يدي مالك الملك، إعلاناً للطاعة والولاء وامتثال الأمر.

 

- كمال القيام بين يدي الله تعالى أن يكون على طمأنينة وسكون وهيبة وحياء، فلا يجعل رأسه مرفوعاً، ولا يُبالغ في طأطأته فيخرج بالحياء عن صورته، بل يجعل نظره إلى محلّ سجوده، مقيماً صلبه ونحره، مرسلاً يديه على فخذيه بوقار.

 

- وقعت ألفاظ الركوع والسجود في القرآن الكريم في تسعة وأربعين موضعاً ووقع الركوع والسجود فيما يتعلّق بسيدنا ومولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمته في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعاً.

 

- الركوع في الصلاة هو صورة أخرى من الامتثال والخضوع، والتعظيم لله, وهو ركن من أركان الصلاة ورتبة ممهّدة للسجود.

 

- القنوت في الصلاة هو الدعاء والطلب الواقع بهيئة خاصة، يؤدّى في الركعة الثانية بعد القراءة وقبل الركوع.

 

- السجود منتهى العبادة إذ إنّه يُمثّل غاية الخضوع وهو أحد أركان الصلاة, ومنه سُمّي المصلّى مسجداً، وهو موضع القرب وأحد العلامات التي تُميّز العباد المخلصين.

 

- السجود له هيئة وحالة: الهيئة عبارة عن إراءة حالة التواضع وترك الاستكبار والعجب من خلال وضع الجبهة على الأرض، وإرغام الأنف, وأمّا الحالة: فهي وضع أعضاء السجود السبعة على الأرض، وبما أنّ تلك الأعضاء تُعدّ مظهراً لعقل الإنسان وقدرته وحركته، فيكون إرغامها على التذلّل والخضوع والمسكنة عبر

 

162


135

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

السجود لله عزّ وجلّ مظهراً من مظاهر التسليم التام له سبحانه.

 

- كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده يُباشر الأرض بجبهته الشريفة أو يسجد على الحصر، وكان  صلى الله عليه وآله وسلم  إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، وكان مسجده الشريف في حينه مفروشاً بالحصباء.

 

163


136

الدرس الثاني عشر: النيّة والإخلاص في الصلاة

الدرس الثاني عشر

النيّة والإخلاص في الصلاة

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يتعّرف على معنى النية، وفضل النية الصادقة وأثرها.

 

2- يفهم شرطية الإخلاص في النية وما يترتّب عليه.

 

3- يذكر روايتين في فضل الإخلاص في النية.

 

165


137

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

مقدّمة

كان خاتم النبّيين صلى الله عليه وآله وسلم  والأئمّة الهداة المهديّين من أهل بيته سادة العباد المُخلَصين ولذلك غدت أقوالهم نوراً يُستضاء بها في الظلمات، وحكماً تسير بها الركبان، وتأنس بها القلوب والأرواح وصارت أعمالهم مُثلاً يُقتدى بها من بعدهم، وكانوا عليهم السلام  حريصين أشدّ الحرص على إيصاء أهل الإسلام بتصحيح النيّة، وأن لا تكون إلا لله تعالى، ويُطالبونهم بأن لا يقولون قولاً ولا يعملون عملاً إلا بعد استحضار نيّاتهم، فجعلت البركة في أقوال وأعمال وأعمار من أطاعوهم، فضربوا أروع الأمثلة في الأعمال لأنّهم قبل ذلك ضربوا أروع الأمثلة في إخلاص النيّات وتصحيحها، فلم يكن خُلّص أصحاب النبي الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  وأصحاب أئمة الهدى  عليهم السلام   يوقعون العمل كيفما اتفق، لا، وإنّما كانت أعمالهم صادرة عن نيّات تنبعث من القلوب الصافية والزكية التي امتلأت خشية وإيماناً وتقوى، وارتوت حتى تضلعت من علوم رسول الله مُحمد وأهل بيته الطاهرين، والنيّة هي الفيصل في الصلاة، فإنّ الصلاة هي الصلاة في الصورة والظاهر، ولكن القلوب والبواعث تختلف، وهكذا في سائر أعمال البر، فالنيّة أجرها عظيم وخطر فسادها جسيم، فهنيئاً لمن عمل على تصحيحها، ومراقبتها وعدم الغفلة عنها، فإنّ الحساب يوم القيامة إنما يكون على السرائر كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾[1] أي: يتعّرف ويتصفّح ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيّات وغيرها، وممّا أُخفي من الأعمال ويُميّز بين ما طاب منها وما خبث.

 


[1] سورة الطارق، الآية 9.

 

167


138

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

تعريف النيّة

لغة: النيّة مصدر نوى الشيء ينويه نيّة ونواه، وأصلها نِوْيَة على وزن فعلة، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقُلبت الواو ياءً، وأُدغمت في الياء، فصارت "نيّة" ومعناها: العزم على الشيء، يُقال: نويت نيّة أي عزمت[1].

 

والنيّة لفظ يدخل تحته: القصد وانبعاث القلب نحو الشيء، والعزم والإرادة والتوجّه والاعتماد، فكلّ هذه العبارات تدخل تحت لفظ النيّة.

 

اصطلاحاً: النيّة هي قصد الطاعة والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى في إيجاد الفعل[2]. وقال المحقّق الطوسي قدس سره: النيّة: هي القصد إلى الفعل، وهي واسطة بين العلم والعمل، اذ ما لم يعلم الشيء لم يُمكن قصده، وما لم يقصده لم يصدر عنه[3].

 

ومن أجمع القول في هذا الشأن قول مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  في الحديث المتواتر: "إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى.."[4]. وقول الإمام السجّاد عليه السلام: "لا عمل إلا بنيّة"[5]، وقول الصادق عليه السلام: "ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة"[6].

 

وقول الإمام الرضا عليه السلام : "أنّه لا قول ولا عمل إلا بنيّة، ولا نيّة إلا بإصابة السنّة"[7].

 

أي: لا صحّة ولا ثواب لأيّ قول أو فعل يصدر من المكلّف إلا إذا قصد كونه لله ورجاء وجهه ورضاه، أو طلب ثوابه، أو الخلاص من عقابه. وهذا معنى إصابة السنّة.

 


[1] محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، ج 15، ص 347 - 349، طبعة 1: دار صادر.

[2] زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، الأشباه والنظائر، ج 1 ص 29، طبعة دار الكتب العلمية.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 185.

[4] شيخ الطائفة مُحمد بن الحسن الطوسي، الأمالي، ص 618، مجلس يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة سبع و خمسين وأربعمائة بسنده إلى الإمام الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم .

[5] ثقة الإسلام الشيخ أبو جعفر الكليني، الكافي، ج 2، ص 84، باب النية.

[6] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 400.

[7] أحمد بن محمد بن خالد البرقي، المحاسن، ج 1، ص 222، باب 11.

 

168


139

الدرس الثاني عشر: النيّة والإخلاص في الصلاة

فوائد جعفرية في صدق النيّة

قال إمامنا الصادق عليه السلام: "صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم لأنّ سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النيّة لله تعالى في الأمور كلّها قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ  إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾[1]، وأنّ نيّة المؤمن خير منعمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله"[2]، والنيّة هنا بمعنى: الاعتقاد والإيمان، وهو خير من العمل الخارجي، كما أنّ الكفر القلبي شرّ من الفسق العملي، وروى الشيخ الصدوق بسنده إلى زيد الشحّام قال: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام إنّي سمعتك تقول: "نيّة المؤمن خير من عمله، فكيف تكون النيّة خيراً من العمل؟ قال عليه السلام: "لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين، والنيّة خالصة لربّ العالمين، فيُعطي تعالى على النيّة ما لا يُعطي على العمل. قال أبو عبد الله عليه السلام: "إنّ العبد لينوي من نهاره أنيُصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام، فيثبت الله له صلاته ويكتب نفسه تسبيحاً، ويجعل نومه عليه صدقة"[3]، فالعمل إذا كان لله فهو مقبولٌ، وصاحبه مأجورٌ عليه، وإن كان لغير الله فهو مردودٌ على صاحبه، ويكون عليه وزراً، وإن الله ليُجازي الصادقين بمجرّد نيّاتهم الصادقة، حتى ولو لم يوفّقوا إلى العمل، والله جلّ جلاله متّصِف بالحمد والكرم، وإذا أحسنَ العبد القصدَ ولم تتهيّأ له أسباب العمل فإنّه يؤجَر على تلك النيّة وإن لم يعمل, كرَمًا من الله وفضلاً.

 

حديث أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربّ ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير، فإذا علم الله عزّ وجلّ ذلك منه بصدق نيّة كتب له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله. إنّ الله واسع كريم"[4]،

 


[1] سورة الشعراء، الآيتان 88 - 89.

[2] مصباح الشريعة، ص 53، الباب الثالث و العشرون في النية، طبعة 1: مؤسسة الأعلمي.

[3] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج ‏2، ص 524، باب 301.

[4] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 85، باب النية.

 

169


140

الدرس الثاني عشر: النيّة والإخلاص في الصلاة

فإنّ الظاهر من صدق النيّة ليس هو مطابقتها للواقع، بل خلوصها، وعدم كونها بدوية يقصد بها استجلاب الرزق لا غير. فلاحظ[1].

 

حديث حمزة بن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام: ".. ومن هم بسيئة، فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها، فإن لم يعملها كتبت له حسنة"[2]، فانه كالصريح في أن المراد من النية العزم الذي يمكن العدول عنه قبل اختيار الفعل، ويكون العدول عنه حسنة تكتب للعبد[3]، فاجهد أيها المؤمن غاية الجهد في تخليص النية عند الصلاة والعبادات وكل الأعمال من شوائب الرياء وغيرها من الآفات، وأخلص لله في القصد بحيث لا يكون الدافع ولا القصد سوى رضا الله والتقرب إليه، ولا تبتغ عنه بدلاً، ولا عوضا، ولا تقصد في ذلك شيئاً من زخارف الدنيا كي لا تذهب أتعابك سدى، ويصير أجرك بورا.

 

من أحكام النيّة الفقهيّة

تجب النيّة في كلّ عمل عبادي ومنه الصلاة، ومن دونها يبطل العمل، وهي ركن من أركان الصلاة، وتتحقّق النيّة بتوفّر الداعي القلبي؛ بأن يكون الباعث إلى العبادة، كالصلاة مثلاً هو: امتثال أمر الله سبحانه، والدافع القلبي الذي يبعث المرء على قصد امتثال أمر الله تعالى يُمكن أن يكون: معرفة أنّ الله تعالى أهل للطاعة والعبادة، أو أن يكون شكر نعم الله التي لا تُعدّ ولا تُحصى، أو كسب رضا الله واجتناب سخطه، أو لاكتساب الثواب وتجنّب العقاب. وبكلّ هذه الأمور يتحقّق قصد الامتثال والتقرّب.

 

النيّة وهي القصد إلى الفعل لا بدّ أن يكون بعنوان الامتثال أو القربة، ويُعتبر فيها الإخلاص، فلو ضمّ إليها ما يُنافيه بطل خصوصاً الرياء، فإنّه إذا دخل في العمل على أيّ نحو أفسده، وأمّا غيره من الضمائم، فإنْ كانت راجحة لا يضرّ ضمّها. إلا إذا كانت

 


[1] سماحة آية الله السيد محمد سعيد الحكيم رحمه الله، المحكم في أصول الفقه، ج 3، ص 45، مؤسسة المنار.

[2] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص408، باب 63، الأمر والنهي والوعد والوعيد، طبعة 1: جماعة المدرسين، قم.

[3] م. ن، ص 46.

 

170


141

الدرس الثاني عشر: النيّة والإخلاص في الصلاة

هي المقصود الأصلي ويكون قصد امتثال الأمر الصلاتي تبعاً، أو تركّب الداعي منهما بحيث يكون كلّ منهما جزءاً للداعي، وكذا لو استقلّ الداعيان على الأحوط، وإن كانت مباحة كالتبرّد في الوضوء، فيبطل بها إلا إذا دخلت على وجه التبعية، وكان امتثال أمره هو المقصود الأصلي.

 

لا يُعتبر في النيّة التلفّظ ولا الإخطار في القلب تفصيلاً بل يكفي فيها الإرادة الإجمالية المرتكزة في النفس بحيث لو سُئِل عن شغله يقول أصلي، وهذه هي التي يُسمّونها بالداعي، نعم لو شرع في العمل ثم ذهل عنه، وغفل بالمرّة بحيث لو سُئِل عن شغله بقي متحيّراً، ولا يدري ما يصنع يكون عملاً بلا نيّة.

 

كما تجب النيّة في أول العمل كذلك يجب استدامتها إلى آخره، فلو تردّد أو نوى العدم وأتمّ الوضوء على هذه الحال بطل، ولو عدل إلى النيّة الأولى قبل فوات الموالاة، وضمّ إلى ما أتى به مع النيّة بقيّة الأفعال صحّ.

 

يكفي في النيّة قصد القربة، ولا تجب نيّة الوجوب أو الندب لا وصفاً ولا غاية، فلا يلزم أن يقصد أنّي أتوضّأ الوضوء الواجب عليّ، بل لو نوى الوجوب في موضع الندب أو العكس اشتباهاً بعدما كان قاصداً للقربة والامتثال على أيّ حال كفى وصحّ[1]..

 

خير الأعمال المرضية

الأعمال (بالنيّات) جمع مفرده عمل دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية، وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام إذا دخلت على الجمع والمفرد أفادته العموم، فيدخل في ذلك كلّ الأعمال أي أنّ كلّ ما يُسمّى عملاً، فإنّه يدخل تحت هذه القاعدة، ومعنى هذه القاعدة أن يُقال: إنّ الأعمال تختلف نتائجها وما يترتّب عليها من ثواب وعقوبة باختلاف ما يقوم في قلب صاحبها من النيّة، فساداً وقبولاً وردّاً وكمالاً ونقصاً باعتبار اختلاف مقاصدها، فالأعمال وإن اتفقت صورتها في الظاهر إلا أنّها تختلف أحكامها

 


[1] الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني قدس سره، تحرير الوسيلة، ج 1، شرائط الوضوء.

 

171


142

الدرس الحادي عشر: في رحاب أجزاء الصلاة

وآثارها وعواقبها باختلاف النيّات، فالنيّة هي أساس العمل ومبدؤه وباعثه وروحه، وهذا يُفيد أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب، ومن تأمّل الشريعة في مصادرها ومواردها عَلِمَ علْم اليقين هذا الارتباط الوثيق، وعلم أيضاً أنّ أعمال الجوارح لا تنفع بدون أعمال القلوب، وأنّ أعمال القلوب هي المتحكّمة في أعمال الجوارح، وأنّ الجوارح لا تشتغل أبداً إلا بما حواه القلب، فالأعمال كالجسد والنيّة كالروح، ولا خير في جسد بلا روح، والأعمال صور والنيّات حقائق، ولا خير في صورة بلا حقيقة، والأعمال فروع والنيّة أصول وجذور، ولا يستقيم الفرع بلا أصل وجذر، وقد دلّ على هذه القاعدة العظيمة، وعلى أنّ الإخلاص قرين بالنيّات المرضية الأدلّة الكثيرة الوفيرة من الكتاب والسنّة وكلّ آية تقترن العبادة أو الدعاء فيها بالإخلاص، فإنّها دليل على هذه القاعدة.

 

الإخلاص

الإخلاص من الشروط المعتبرة في النية في العبادة، والإخلاصُ، من الشروط الهامَّة التي ينبغي على المصلّي التَّحلِّي بها، لأنّها منشأ كلِّ هداية وتوفيق. فالله سبحانه وتعالى أمرَ النّاس بالعبادة، فقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[1]، ‏وجعلها شرطاً أساسيّاً للارتباط به وتحقّق العبوديَّة، والوصول إلى مقامها الشَّامخ، ولكنّه لم يأمرْ بأيِّ عبادة بل أمر عزّ وجلّ بالعبادة الخالصة له التي لا يُشاركه فيها أحدٌ أبداً: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[2].

 

وورد عن الرسول الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  قال: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدّعاء، ولم يُشغل قلبه بما ترى عيناه"[3]، فالإخلاص هو روح العبوديَّة لله وجوهرها، وحقيقته تخليص النيَّة والدافع نحو العمل من كلّ شيء ما عدا الله سبحانه وتعالى. فالمخلِصُ هو الذي لا يطلب من وراء أيِّ عملٍ يقوم به سوى الله تعالى، ولا يكون له مقصد أو دافع

 


[1] سورة الإسراء، الآية 23.

[2] سورة البينة، الآية 5.

[3] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 16.

 

172


143

الدرس الثاني عشر: النيّة والإخلاص في الصلاة

سوى رضاه والتقرّب إليه.

 

إنَّ الأعمالَ مرهونةٌ بالنيَّات، وإذا لم تكن النَّوايا خالصةً، فهذا يعني أنَّهُ يشوبها الشِّرك، والله تعالى لا يغفر أن يُشركَ به: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ﴾[1]، ولا يقبلُ إلا ما كان له خالصاً كما في الحديث القُدسيِّ المرويِّ عن الإمام الصادق عليه السلام عن جدّه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  قال: "يقول قال الله عزّ وجلّ: أَنا خيرُ شريكٍ من أَشرك معي غيري في عملٍ عملَهُ لم أَقبله إلا ما كان لي خالصاً"[2] وعليه فكلُّ عملٍ لا يكونُ خالصاً لوجه الله فهو شركٌ، والشِّركُ ظلمٌ عظيم: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [3] ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[4] إنّ لأعمال المصلّي بُعداً إلهيّاً يمكن أن يرفعه إلى أعلى علِّيين، ويُقرِّبَهُ من الحقّ نجيّاً، في حال اتَّسمت صلاته وأعماله ونواياه بالإخلاص. أمّا إذا لم تكن النَّوايا خالصةً، ولم يكن الدَّافعُ الأساسيّ من وراء الصلاة رضا الله، فلن تكون الأعمالُ مقبولةً وبالتَّالي لن ينالَ الأجرَ، والثَّوابَ الذي يستحقُّه، وقد قال الله سبحانه موجّهاً أهل الإيمان للعمل الخالص: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[5].

 

فضيلة الإخلاص

ورد عن النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "وأمّا علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه وتسلم جوارحه، وبَذَلَ خيره، وكفّ شرّه"[6]، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "سادة أهل الجنّة المخلصون"[7]، وورد عنه عليه السلام: "الزم الإخلاص في السرّ والعلانية، والخشية

 


[1] سورة النساء، الآية 48.

[2] الكليني، الكافي، ج 2، ص 295.

[3] سورة لقمان، الآية 13.

[4] سورة الصف، الآية 7.

[5] سورة الكهف، الآية 110.

[6] الشيخ الحسن بن علي ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ومن حكمه وكلامه  صلى الله عليه وآله وسلم.

[7] عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، الفصل السابع في الإخلاص.

 

173


144

الدرس الثاني عشر: النيّة والإخلاص في الصلاة

في الغيب والشهادة، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الرضا والسخط"[1]، وقال عليه السلام: "الإخلاص غاية الدين"[2]، وقال عليه السلام: "الإخلاص أعلى الإيمان"[3]، وقال عليه السلام: "الإخلاص خير العمل"[4]، يتلخّص لدينا من معاني الإخلاص أن تكونَ نيّتك فيما تقوم به لله، لا تريد غيرَ الله، لا سمعةً ولا رياء ولا رِفعةً عند أحدٍ، ولا تزلّفًا، ولا تتقرّب من الناس مدحاً، ولا تخشى منهم قَدحاً، والله سبحانه غنيّ حميد، لا يرضى أن يُشرِك العبد معه غيرَه، فإن أبى العبد إلا ذلك ردّ الله عليه عملَه وحمله عواقب ذلك، أعاذنا الله وإيّاكم بحقّ المصطفى مُحمد وآله الطيبين الطاهرين.

 


[1] الآمدي، غرر الحكم، م. ن.

[2] م. ن.

[3] م. ن.

[4] م. ن.

 

174


145

الدرس الثاني عشر: النيّة والإخلاص في الصلاة

المفاهيم الرئيسة

1- النيّة لغة مصدر نوى الشيء ينويه نيّة ونواه، ومعناها: العزم على الشيء، يُقال: نويت نيّة أي عزمت.واصطلاحاً قصد الطاعة والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى في إيجاد الفعل.

 

2- إنَّ العمل إذا كان خالصاً لله فهو مقبولٌ، وصاحبه مأجورٌ عليه، وإن كان لغير الله فهو مردودٌ على صاحبه، وإنَّ الله يُجازي الصادقين بمجرّد نيّاتهم الصادقة، حتى ولو لم يوفّقوا إلى العمل.

 

3- تجب النيّة في كلّ عمل عبادي ومنه الصلاة، ومن دونها يُحكم ببطلان العمل.

 

4- النيّة هي القصد إلى الفعل, ولا بدّ أن يكون بعنوان الامتثال أو القربة، ويُعتبر فيها الإخلاص، فلو ضمّ إليها ما يُنافيه بطل, خصوصاً الرياء، فإنّه إذا دخل في العمل على أيّ نحو أفسده.

 

5- لا يُعتبر في النيّة التلفّظ ولا الإخطار في القلب تفصيلاً بل يكفي فيها الإرادة الإجمالية.

 

6- يجب استدامة النية واستمرارها من بداية العمل إلى آخره، فلا ينبغي أن يغفل العبد أو يتردد في النية, ويكفي في النيّة قصد القربة.

 

7- إنَّ الأعمال وإنْ اتفقت صورتها في الظاهر إلا أنّها تختلف أحكامها وآثارها وعواقبها باختلاف النيّات، فالنيّة هي أساس العمل ومبدؤه وباعثه وروحه، وهذا يُفيد أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب.

 

8- يُعدُّ الإخلاص من الشروط المعتبرة في النيّة في العبادة، وإذا لم تكن النَّوايا خالصةً، فهذا يعني أنَّهُ يشوبها الشِّرك، والله تعالى لا يغفر أن يُشركَ به: ولا يقبلُ إلا ما كان له خالصاً.

 

9- إنّ لأعمال المصلّي بُعداً إلهيّاً يُمكن أن يرفعه إلى أعلى علِّيين، ويُقرِّبَهُ من الحقّ نجيّاً، في حال اتَّسمت صلاته وأعماله ونواياه بالإخلاص.

 

175


146

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

الدرس الثالث عشر

حضور القلب في الصلاة

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفهم معنى حضور القلب في الصلاة.

2- يعرف كيفية تحصيل الخشوع في الصلاة.

3- يدرك أهمية حضور القلب في الصلاة وكيفية تحقيقه.

 

177


147

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

مقدّمة

من الأمور التي يُبتلى بها الكثير من المؤمنين عدم حضور القلب في الصلاة على رغم الأهمية الكبرى لهذا الأمر، فعن الإمام الصادق عليه السلام : "إذا أحرمت في الصلاة فأقبل إليها؛ لأنّك إن أقبلت أقبل الله إليك، وإن أعرضت أعرض الله عنك، فربما لايرفع من الصلاة إلا ثلثها أو ربعها أو سدسها بقدر ما أقبل المصلِّي إليها، وإنّ الله لا يُعطي الغافل شيئاً"[1].

 

وأكّد الإمام الخميني قدس سره على أهمّية حضور القلب في الصلاة، شارحاً له في تحرير الوسيلة بقوله: "ينبغي للمصلّي إحضار قلبه في تمام الصلاة أقوالها وأفعالها، فإنّه لا يُحسب للعبد من صلاته إلا ما أقبل عليه، ومعناه الالتفات التام إليها وإلى ما يقول فيها، والتوجّه نحو حضرة المعبود جلّ جلاله، واستشعار عظمته وجلال هيبته، وتفريغ قلبه عمّا عداه"[2].

 

درجات المؤمن تتسامى بصلاته, فكلّما حافظ عليها أكثر وأقامها بشروطها، بل وأكثر منها وكان حاضر القلب خاشعاً فيها، كلّما ازدادت صلته بالله سبحانه، وقربه منه، وبالتّالي انعكست هذه الصلة على أبعاد حياته. فالصلاة تورث التقوى، والتقوى تنهى النفس عن مرديات الهوى، وإذلال كبرياء النفس والانخلاع عن الأنانية الكاذبة يُعرّفها المبتدأ الطيني والمنتهى الترابي، ويوقفها بين هذه البداية والنهاية بما يُناسبهما من قول وفعل، لأنّ واعظ الله في قلب كلّ مسلم، ومن لم يكن له من نفسه واعظ لم تنفعه

 


[1] السيد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج5، ص36.

[2] روح الله الموسوي الخميني قدس سره،تحرير الوسيلة، ج1، مقدمات الصلاة، ص 148،تحقيق ونشر مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ط. الثانية 1427ق.

 

179


148

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

المواعظ، وكيف ينتفع بالموعظة من كان قلبه غافلاً؟ نعم إنّ الذي ينتفع بكلّ خير هو الذي يعمل ليجعل نفسه طيّعة لقبول الأوامر الإلهية والعمل بها، ومن هؤلاء من إذا قام إلى الصلاة قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربّه عزّ وجلّ ناظراً بقلبه إليه ممتلئاً من محبّته وعظمته كأنّه يراه ويُشاهده، وقد اضمحلّت تلك الوساوس وارتفعت حجبها بينه وبين ربّه، فهو في صلاته مشغول بربّه عزّ وجلّ قرير العين به، مقرّب من ربّه لأنّ له نصيباً ممّن جُعلت قرّة عينه في الصلاة، فمن قرّت عينه بصلاته في الدنيا قرّت عينه بقربه من ربّه عزّ وجلّ في الآخرة، والصلاة من خير الوصال التي تصل العبد بربّه بالأبكار والآصال، والليالي الطوال، وجدير بمن كان متّصلاً بربّه أن ينسى كلّ شيء دونه، وأن يكون حين هذه الصلة حاضر القلب خاشعاً قانتاً مطمئناً مستريحاً، ولذلك كانت الصلاة قرّة عين سيّد النبيّين، وراحة قلوب الصادقين لما يجدون فيها من اللذّة والأنس بربّهم ومعبودهم ومحبوبهم، ومن عرف حقيقة الصلاة، وفائدتها وثمراتها كانت أكبر همه وأولى أولوياته، ومن كان كذلك تجده منتظراً لها مشتاقاً إليها حاضر القلب ينتظر تلك الساعة بغاية الشوق حتى إذا بلغها ظفر بمطلوبه، واتصل اتصالاً كاملاً بمحبوبه، فسمع النداء، يا أولياء الله ادخلوا جنّة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يخطر على بال بشر.

 

في الجسد مضغة

مقامُ الخشوعِ هو القلب، والقلب ملك الأعضاء، كما في الحديث النبويّ المرويّ عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدَت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"[1]، ولأنّ تحقيق الخشوع لله يُعدّ من موجبات الفلاح يتوجّب على المصلّي أن يكون حاضر القلب عند أداء الصلاة، فمقام الخشوع في قلبِ العبد، فإذا كان المصلّي حاضر القلب مقبلاً على الله تعالى في صلاته، خشَع قلبه


 

[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج ‏58، ص 23، باب 42، حقيقة النفس و الروح و أحوالهما..، ص 1.

 

180


149

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

وخشعَت لله جوارحه، وذلك لا يكون بالفتور وإنّما بالحضور، والحضور يحتاج من العبد إلى جدٍّ واجتهاد في العمل على أن يكون قلبه طيّباً طاهراً من الأدناس، فإنّ الأمر كما قال سيّد الخلق مولانا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا طاب قلب المرء طاب جسده، وإذا خبث القلب خبث الجسد"[1].

 

وكذا من قول إمام المتقين عليه السلام: "أشدّ من مرض البدن مرض القلب، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلوب"[2]، وكلّما كان المطلوب أعظم - وهو القرب من الله تعالى - فهو أحرى بالجدّ والاجتهاد.

 

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "اعلم: أنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم، ألا ترى أنّ جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدّية عنه"[3]. قال الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه: قال الوالد رحمه الله لمّا كان صلاة المؤمن الكامل غالباً مع حضور القلب، فيكون قلبه بمنزلة الإمام، وحواسه الباطنة والظاهرة وقواه وجوارحه بمنزلة المقتدين كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه"[4]، إذاً في الصلاة التي هي خير موضوع, الغرض الأهمّ فيها هو حضور القلب، ليتلقّى المصلّي الرحمة النازلة من الربّ. قال المحدّث الجليل الفيض الكاشاني: "اعلم أنّ المعاني الباطنة التي بها يتمّ حياة الصلاة يجمعها ستّ جمل، وهي: حضور القلب والتفهّم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء... فالأولحضور القلب، ونعني به أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلّم به، فيكون العلم بالفعل والقول مقروناً بهما، ولا يكون الفكر جارياً في غيرهما، ومهما انصرف الفكر عن غير ما هو فيه، وكان في قلبه ذكر لما هو فيه، ولم يكن فيه غفلةعنه، فقد حصل حضور القلب"[5].


 


[1] الشيخ الصدوق، الخصال، ج ‏1، ص 31، صلاح العبد في صلاح شي‏ء من جسده.

[2] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج‏19، ص 337، طبعة 1: مكتبة المرعشي النجفي، قم.

[3] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج‏1، ص 109، 96: باب علة الطبائع والشهوات والمحبات... ص 104.

[4] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 85، ص 19.

[5] الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج1، ص 370.

 

181


150

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

قيمة الصلاة

من المحقّق أنّ قيمة الصلاة بحضور القلب، وليس للمصلّي من صلاته إلا ما أقبل عليها بقلبه. وقد دلّت الروايات على ذلك. منها الحديث النبويّ المرويّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كم من قائم حظّه من قيامه السهر"[1]. وروي عنه  صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "لا يقبل الله صلاة عبد لا يَحضُر قلبه مع بدنه"[2].

 

وقال الإمام أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام: "إذا قمت للصلاة، فعليك بالإقبال على الله، فإنّما لك من الصلاة ما أقبلت عليه بقلبك"[3].

 

وقال الإمام الصادق عليه السلام: "لا تجمع الرغبة والرهبة في قلب إلا وجبت له الجنّة، فإذا صلّيت فأقبل بقلبك على الله عزّ وجلّ، فإنّه ليس من عبد مؤمن يُقبل بقلبه على الله عزّ وجلّ في صلاته ودعائه إلا أقبل الله عزّ وجلّ عليه"[4].

 

وقد تكون الصلاة فارغة تماماً من ذكر وإقبال على الله، وليس فيها من الصلاة إلا الشكل والمظهر وروى أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قال: "يا أبا ذر ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه (لاه)"[5]. وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يقبل الله دعاء قلب لاه"[6].

 

الفائدة التي يجنيها المصلّي من صلاته هي الإقبال على الله، والذكر، وانفتاح القلب على الله، والإحساس بالحضور بين يدي الله تعالى قائماً وراكعاً وساجداً. وكلّما كان حظّ الإنسان من هذا الإحساس والانفتاح والإقبال على الله أكثر كانت صلاته أقرب إلى القبول. فجعل القلب ملتفتاً إلى الله لا يحتاج إلى جهد بدنيّ، ولا إلى إنفاق مال، ولا إلى شدّ الرحال والسفر.

 


[1] أبو عبد الله الحاكم، المستدرك، ج 1، ص 596، حديث 1571، طبعة دار الكتب العلمية.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 81، ص 242.

[3] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 299.

[4] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 209.

[5] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 82.

[6] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج ‏2، ص 473، باب الإقبال على الدعاء..

 

182


151

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

كيفية تحصيل الخشوع

من أجل تحصيل الخشوع في العبادات ولا سيّما في الصلاة لا بدّ للعابد من سلوك طريق العلم والإيمان, فإنْ كان الخشوع ناتجاً عن إدراك عظمة العظيم المطلق وهيمنة هذه العظمة على قلب الإنسان، فإنّ إدراك هذه العظمة لمن هم أمثالنا يتأتّى عن طريق العلم بها وإيصال هذا العلم إلى القلب لتحقيق الإيمان بها، والحقّ أنّ العلم بمفرده لا يوجد خشوعاً في القلب، وكلّ فردٍ يُدرك ذلك، فمع كوننا معتقدين بالمبدأ والمعاد، ومع اعتقادنا بعظمة الله وجلاله وجماله، فإنّنا لا نتذوّق طعم الخشوع في قلوبنا، وما ذلك إلا لأنّ ما اعتقد به العقل لم يصل إلى القلب، ولم ينطوِ على الإيمان به.

 

ومع أنّنا نُصلّي كلّ يومٍ خمس مرّات ومنذ سنين عديدةٍ من عمرنا، إلّا أنّنا لم نستشعر الخشوع في صلاتنا رغم أنّ الله تعالى يقول في كتابه المجيد مادحاً المؤمنين: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾[1]، فجعل الخشوع في الصلاة من حدود الإيمان وعلائمه. فمن لم يكن خاشعاً في الصلاة فهو خارج زمرة أهل الإيمان طبقاً لما قاله الله تعالى شأنه.

 

قال إمامنا الصادق عليه السلام: "فإذا دخلت في صلاتك فعليك بالتخشّع والإقبال على صلاتك، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾"[2]. من هنا نستنتج أنّه لتحصيل الخشوع في الصلاة ينبغي لنا أن نعمل على تحقيق الإيمان في ما نعتقد به عقلاً، وحتى نُحّصل الخشوع في الصلاة لا بدّ من سلوك مسلك معيّن يُصبح عادة مرافقة لنا في حياتنا لأنّه "إذا قام العبد إلى الصلاة، فكان هواه وقلبه إلى الله تعالى انصرف كيوم ولدته أمّه"[3]، أمّا الأدب "والخشوع" المتأتّي نتيجة حدث أو خوف أو تأثّر دون أن يتمكّن من النفس ويُصبح ملكة... لا يدوم, ويرحل سريعاً. لذلك ينصح المصلّي بعدّة أمور, منها:

 


[1] سورة المؤمنون، الآيتان 1 - 2.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 300.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 81، ص 261.

 

183


152

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

العلم والعقائد الحقّة:

على العابد أن يُحصّل الخشوع بنور العلم أي أن يتعرّف إلى العقائد الحقّة المتعلّقة بالله تعالى وأسمائه وصفاته، والتي توجب الاعتقاد بكونه صاحب العظمة المطلقة التي لا تُقارن، وتستوجب بالتّالي الاعتقاد بأنّه الوحيد الذي يستحقّ الخضوع، والذي لا يُمكننا الحضور في محضره إلا، ونحن مغمورون بحالة الخشوع بشكلٍ حتميٍّ وتلقائيٍّ، على العابد أن يُذكّر القلب على الدوام بالعقائد الحقّة، وبعظمة الله ويعمل بمقتضى هذه الاعتقادات حتى يؤمن القلب بهذه الحقائق، ويدخل الخشوع شيئاً فشيئاً إلى قلبه.

 

على المصلّي أن يُدرك أنّه لن يتمكّن بدايةً من تحصيل حالة الخشوع في جميع صلاته من أوّلها إلى آخرها، ولذلك عليه أن لا ييأس بل أن يفهم أن الأمر ممكنٌ جدّاً مع الممارسة والمجاهدة القلبية.

 

ذكر الله والاهتمام والانتباه:

إنّ الاهتمام من عوامل الانتباه والتركيز، وكلّما يكون اهتمام الإنسان بأمرٍ أكثر يكون انتباهه له أكثر. وبالعكس القضية التي لا تأخذ من اهتمام الإنسان لا ينتبه إليها الإنسان. ولمّا كانت الدنيا أكثر اهتمامات الناس فإنّها لا محالة تُشغلهم عن صلاتهم وتصرفهم عنها، فإذا أقبل الإنسان على صلاته يبقى قلبه مشغولاً بما يهمّه من أمر دنياه، وهذه قضية واضحة، فإنّ الإنسان إذا واجه أمرين وكان اهتمامه إلى أحدهما أعظم من الآخر انصرف إليه بقلبه، وإن كان مشغولاً بالآخر.

 

وإنّما ينصرف الناس عن صلاتهم إلى ما يهمّهم من أمور دنياهم لأنّ اهتمامهم بها أعظم من اهتمامهم بالصلاة. فإذا وعى الإنسان قيمة الصلاة، وما أودع الله تعالى في هذه الرحلة من مباهج ولذّات للعقل والروح، ومن الثواب في الآخرة، ووعى ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[1]. انقلب الأمر لا محالة، وانصرف إلى صلاته وذكره. ولم تؤثّر به موانع


 


[1] سورة الأعلى، الآية 17.

 

184


153

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

حضور القلب، وموانع حضور القلب في العبادات هي كلّ ما يستدعي غفلة القلب عن محضر العبادة ويُذهله عن معاني حركات وأذكار وطقوس العبادات ويسرح به بعيداً عن الحضور في موعد لقاء المعبود عزّ وجلّ.

 

إذن تحضير القلب يتمّ بتحويل الاهتمامات، وإذا تمكّن الإنسان أن يُحوّل اهتمامه من الدنيا ومتاعها إلى الله تعالى، وجعل اهتمامه للدنيا تبعاً لمرضاة الله تعالى وأمره ونهيه كانت صلاته إقبالاً على الله، وذكراً لله وانصرافاً وانقطاعاً إلى الله تعالى. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام  "إنّ الله سبحانه جعل الذّكر جلاء للقلوب"[1] المراد بالذّكر هنا مطلق الذكر من التسبيح والتهليل والتّحميد والدّعاء والمناجاة وتلاوة الكتاب الكريم ونحوها، فإنّ المداومة عليها باللّسان مع حضور القلب وتوجّهه إليها توجب صفاء القلب ونوره وجلائه وطهارته ونقائه من ظلمة الذّنوب ورين المعاصي والغواشي كالمرآة المجلوّة الّتي ليس عليها شيء من الكدر.

 

إذن الخلفية النفسية لمسألة حضور القلب في الصلاة هي قضية الاهتمامات، وما لم يحول الإنسان اهتماماته من (ماذا أريد أنا) "الأنا" إلى (ماذا يُريده الله منّي) "الله"، ومن "الدنيا" إلى "الآخرة". لا يتمكّن من أن يؤدّي الصلاة أداءً حسناً، بالإقبال والذكر والانشداد.

 

تفريغ القلب:

لا علاج لإحضار القلب إلا بالابتعاد عن الغفلة، وبصرف الهمّة إلى الصلاة قولاً وفعلاً، والهمّة لا تنصرف إليها ما لم يتبيّن أنّ الغرض المطلوب منوط بها (أهداف الصلاة)، وذلك هو الإيمان والتصديق بأنّ الآخرة خير وأبقى، وأنّ الصلاة وسيلة إليها، فإذا أُضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهمّاتها حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وما دام القلب متعلّقاً، ومنغمساً في حبّ الدنيا فالطريق

 


[1] الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم، ص 235 / 197، طبعة دار الكتاب الإسلامي، قم.

 

185


154

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

لإصلاح القلوب مسدودٌ، وباب جميع السعادات مغلقٌ في وجه الإنسان. والسبب في ذلك أنّ القلب يتوجّه إلى محبوبه بمقدار تمكّن حبّه منه،فإن كانت الدنيا هي محبوبته وقد استحوذت عليه فإنّها تأخذ بشغافه وعنايته في كافّة حالاته وهنيهاته، وتُشغله بفتنتها، فسيبقى قلب الإنسان مشغولاً بشواغل الدنيا، وتبقى هذه الشواغل تُلاحقه، وتُطارده، وهو يستسلم لها في صلاته، فالقلب معلّقاً بها، وبالتّالي لا يستطيع أن ينصرف إلى ذكر الله تعالى، وهذا من سوء الأدب وتضييع حرمة الصلاة، وهذه الشواغل التي تتعلّق بها أكثر القلوب على نحوين:

شواغل خارجية، وأخرى داخل النفس، والثانية أشقّ من الأولى، أمّا الشواغل الخارجية فهي ما تُحيط الإنسان وتُشغل باله، وأهمّ من الشواغل الخارجية الشواغل الداخلية في النفس، وهي الاهتمامات التي تُشغل المصلّي عن صلاته وذكره، وتُشتّت باله، وتُكدّر صفاء نفسه، وتُرهقه بالطمع والحسد والجشع وطول الأمل، وكلّ ذلك عوامل تُعيق الإنسان عن صلاته، وتُشغله عنها الشواغل، "فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر  صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، وعزاء لمن تعزّى، وأحبّ العباد إلى اللهالمتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره". هكذا نّصح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وقال: "ولقد كان  صلى الله عليه وآله وسلم  يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون السّتر على باب بيته، فتكونفيه التّصاوير، فيقول: يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبيه عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدّنيا وزخارفها. فأعرضَ عن الدّنيا بقلبه، وأماتَ ذكرها من نفسه، وأحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولايرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النّفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئاً أبغض أن ينظر إليه، وأن يُذكر عنده"[1].

 


[1] عز الدين بن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 232، طبعة 1: دار الكتب العلمية.

 

186


155

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما خسر والله قطُّ من أتى بحقيقة السجود ولو كان في عمره مرّة واحدة، وما أفلح من خلا بربّه في مثل ذلك الحال تشبيهاً بمخادع نفسه، غافلاً لاهياً عمّا أعدّ الله تعالى للساجدين من البشر العاجل، وراحة الآجل، ولابَعُدَ عن الله أبداً من أحسن تقرّبه في السجود، ولا قَرُبَ إليه أبداً من أساء أدبه، وضيّع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال السجود.."[1]، وقال عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ لا يستجيب دعاءاً بظهر قلب ساه، فإذا دعوت، فأقبل بقلبك، ثم استيقن بالإجابة"[2]. قال مولانا الإمام أبي مُحمد الحسن سبط النبي المؤتمن عليهما السلام: "إنَّ اللهَ عزّ وجلّ أقربُ إلَيَّ مِن أن يحظُرَ، فيما بَيني، وبينهُ أحد"[3].

 

ومن كلام لإمامنا السجّاد زين العابدين في حادثة مفصّلة قال عليه السلام : "... ولولا أنّ لأهلي عليّ حقّاً ولسائر الناس من خاصّهم وعامّهم عليّ حقوقاً لا يسعني إلّا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتّى أؤدّيها إليهم، لرميت بطرفي إلى السماء وبقلبي إلى الله ثمّ لم أرددها حتّى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين... وبكى عليه السلام[4].

 

فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكُونوا مِثلَهُم                     إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ

 

اللغو والإعراض عنه مثالاً

إنّ الاشتغال باللغو والتكلّم به من العوامل الاختياريّة للوقوع في الغفلة والنسيان. فاللغو يُضعف إرادة الإنسان في المحافظة على القيم الإنسانيّة والإسلاميّة، ويسلب منه توفيق الذكر وحضور القلب في الصلاة، في حين أنّ حضور القلب في الصلاة أساس القيم المذكورة.

 


[1] مصباح الشريعة، ص 91، باب 41 في السجود، طبعة 2، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج‏90، ص 305، باب 17: آداب الدعاء و الذكر، عن عدة الداعي.

[3] الشيخ الصدوق، التوحيد, ص 184، باب 28، الطبعة الأولى: جماعة المدرسين، قم، والحديث عن الإمام الصادق عن أبائه عن الإمام الحسن المجتبى  عليهم السلام   في قضية مفصلة.

[4] العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 46، ص 57.

 

187


156

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

إنّ الشخص الّذي يُوفَّق إلى حضور القلب الكامل في الصلاة لا يجتنب الذنب فحسب، بل يجتنب أعمال اللغو كلّها. ولعلّ تقارُن الإعراض عن اللغو مع الخشوع في الصلاة (في سورة المؤمنون) إشارة إلى هذه النقطة، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[1]، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[2]. أي: إذا سمعوا الكلام القبيح أكرموا أنفسهم عن الدخول فيه، واعلم أنّ اللغو قد يكون كفراً كقوله تعالى: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾[3]، وقد يكون كذباً لقوله تعالى: ﴿لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾[4]، وقوله جلّ شأنه: ﴿لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا﴾[5]. ولكرامتهم عند الله تعالى، فإنّه جلّ شأنه لمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه بوصفهم بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك.

 

وفي الحقيقة تحقيق حالة الخشوع وحضور القلب حال التوجّه إلى الله تعالى تتضمّن النصيحة بالبعد عن كلّ الأفكار السيّئة وتبنّيها، والرذائل الأخلاقية الناتجة عن تبنّي هذه الأفكار.

 

كلمة لا بد منها: (لماذا حضور القلب؟)

إنّ الصلاة التي يُريدها الإسلام هي التي تُمثِّل المعراج الروحي للمؤمن, حيث تعرج به روحه كلّما قام مصلّياً في فريضةٍ أو نافلة، منتقلة من عالم المادّة إلى عالم السموّ والصفاء والطهر والنقاء، وفي ذلك مصدر السعادة والسرور، ومبعث الطمأنينة والحُبور، وكان ذلك ديدن الأنبياء جميعاً  عليهم السلام، ولأنّ الشيء قد يُعرف بنقيضه. نقول: لمّا استحكم ضعف الإيمان في نفوس كثيرٍ من الناس، وملأ حبّ الدنيا والتنافس فيها

 


[1] سورة المؤمنون، الآيات 1 - 3.

[2] سورة الفرقان، الآية 72.

[3] سورة فصلت، الآية 26.

[4] سورة الغاشية، الآية 11.

[5] سورة الواقعة، الآية 25.

 

188


157

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

قلوبهم، وتباعدوا عن آثار النبوّة، وقلّت رغبتهم في الدار الآخرة، أصبحوا يؤدّون هذه الصلاة بقلوب ساهية لاهية، وعلى غير الوجه الشرعي للصلاة، حتى ابتُلي كثيرٌ منهم، بهدم بعض أركانها كالطمأنينة مثلاً، وأصبح يُحاكي الريح في سرعته، والغراب في نقره، وحدِّث اليوم ولا حرج عن عدم خشوع المصلّين الذين جعلوا الصلاة محلّاً للهواجس والخواطر، ومرتعاً للأفكار والوساوس، لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدّبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية؛ لإخلالهم بلُبِّها وروحها وخشوعها، يصلُّون جسداً بلا روح، وبدناً بلا قلب، وحركاتٍ بلا مشاعر وأحاسيس، صلاتهم مرتعٌ للوساوس والهواجس، يأتي الشيطانُ أحدَهم وهو في صلاته فيجعله يصول ويجول بفِكره في مجالات الدنيا، يتحرّك ويتشاغل، يستطيل ويتثاقل، ويلتفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، بل لعلّ بعضَهم لا يعقل منها إلا قليلاً، ولا مخلص من ذلك، إلا شدّة الإقبال على الله، وصدق اللجوء إليه، وإحضار القلب، والتخلّص من مشاغل الدنيا، والاستعانة بالله، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم، وبتمام الطهارة والخشوع والطمأنينة، وسائر الأركان والواجبات والمستحبّات، عملاً بقوله  صلى الله عليه وآله وسلم: "صلّوا كما رأيتموني أُصلّي"[1]، وهمسة في أذن كلّ مغترٍّ بنفسه، مضيّعٍ لفرضه، بأن يتّقي الله عزّ وجلّ، ويؤدّي هذه الفريضة بحضور القلب، واستحضار الخشوع والرهبة، فالآجال محدودة، والأنفاس معدودة، اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج‏82، ص 279،

 

189


158

الدرس الثالث عشر: حضور القلب في الصلاة

المفاهيم الرئيسة

- إنّ قيمة الصلاة بحضور القلب، وليس للمصلّي من صلاته إلا ما أقبل عليها بقلبه.

 

- يُحصّل الخشوع بالتعرّف على العقائد الحقّة المتعلّقة بالله تعالى وأسمائه وصفاته، والتي توجب الاعتقاد بكونه صاحب العظمة المطلقة, وتستوجب بالتّالي الاعتقاد بأنّه الوحيد الذي يستحقّ الخضوع، فيعمل العابد بمقتضى هذه الاعتقادات ويؤمن القلب بهذه الحقائق، ويدخل الخشوع شيئاً فشيئاً.

 

- إنَّ موانع حضور القلب في العبادات هي كلّ ما يستدعي غفلة القلب عن محضر العبادة ويُذهله عن معاني حركات وأذكار وطقوس العبادات ويسرح به بعيداً عن الحضور في موعد لقاء المعبود عزّ وجلّ.

 

- تحضير القلب يتمّ بتحويل الاهتمامات، بأن يُحوّل الإنسان اهتمامه من الدنيا ومتاعها إلى الله تعالى، وجعل اهتمامه للدنيا تبعاً لمرضاة الله تعالى وأمره ونهيه.

 

- من موجبات تحصيل القلب تفريغه عن الشواغل وهذه الشواغل التي تتعلّق بها أكثر القلوب على نحوين: الشواغل الخارجية التي تُحيط الإنسان وتُشغل باله، والشواغل الداخلية في النفس، وهي الاهتمامات التي تُشغل المصلّي عن صلاته وذكره، وتُشتّت باله، وتُرهقه بالطمع والحسد والجشع وطول الأمل..

 

- إنّ الاشتغال باللغو والتكلّم به من العوامل الاختياريّة للوقوع في الغفلة والنسيان, فاللغو يُضعف إرادة الإنسان في المحافظة على القيم الإنسانيّة والإسلاميّة، ويسلب منه توفيق الذكر وحضور القلب في الصلاة.

 

- الصلاة التي يُريدها الإسلام هي التي تُمثِّل المعراج الروحي للمؤمن, حيث تعرج به روحه كلّما قام مصلّياً في فريضةٍ أو نافلة، منتقلة من عالم المادّة إلى عالم السموّ.

 

190


159

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

الدرس الرابع عشر

آداب الصلاة ومستحبّاتها

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفرِّق بين الآداب الظاهرية والباطنية.

 

2- يعدِّد الآداب الظاهرية للصلاة.

 

3- يفهم فضل وقيمة أداء الصلاة في المسجد.

 

191


160

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

مقدّمة

لا يُمكن للمصلّي أن يطوي أيّ طريق من طرق معراج الصلاة، إلاّ بالبدء بالآداب الظاهرة للصلاة، وما لم يتأدّب المصلّي بآداب الصلاة، وينتهي عمّا نهت عنه، فلن يحصل على شيء من حقيقة الصلاة وآدابها المعنوية، كما لا يُمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة، وتتكشّف له أسرار عبوديّته لله تعالى، وتظهر له أنوار المعارف في قلبه إذا لم يواظب على الاستمرار في التأدّب بالآداب الشرعية الظاهرية أيضاً، فإنْ كان من أهل الحرص على ذلك عندها يتمكّن الإنسان من إصلاح صورة صلاته، والسبق برفع لوائها إلى الله تعالى بيضاء نقيّة لتحقّق له معراج الوصول، ففي وصيّة النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم  لأبي ذر رضوان اللَّه عليه: "يا أبا ذر طوبى لأصحاب الألوية يوم القيامة يحملونها فيسبقون الناس إلى الجنّة، ألا وهم السبّاقون إلىالمساجد بالأسحار وغير الأسحار.."[1]. كما أنّه لا بدّ للمصلّي من مراعاة حقّ الصلاة لأنّ لها حقّاً عظيماً عليه، ولذلك قال المتصدّق حال الركوع أمير المؤمنين علي عليه السلام: "من أتى الصلاة عارفاً بحقّها غُفر له"[2]، ولمعرفة حقّ الصلاة عليه يتوجّب أن يُصغي لصاحب رسالة الحقوق مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام ، والذي يتفضّل علينا ببيانها، فيقول: "وحقّ الصلاة أن تعلم أنّها وفادة إلى الله عزّ وجلّ، وأنّك فيها قائم بين يدي الله عزّ وجلّ، فإذا علمت ذلك قمت مقام الذليل الحقير الراغب الراهب الراجي الخائف المسكين المتضرّع المعظِّم لمن كان بين يديه بالسكون والوقار، وتُقبل عليها بقلبك، وتُقيمها

 


[1] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 529، 19 مجلس يوم الجمعة الرابع من المحرم سنة سبع و خمسين و أربعمائة.

[2] الشيخ الصدوق، الخصال، ج 2، ص 610، طبعة 1، جماعة المدرسين، قم.

 

193


161

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

 بحدودها وحقوقها"[1]. وفي آداب القيام جاء عن الإمام الرضا عليه السلام: "فإذا أردت أن تقوم إلى الصلاة، فلا تقم إليهامتكاسلاً ولا متناعساً، ولا مستعجلاً ولا متلاهياً، ولكن تأتيها على السكون والوقار والتؤدة، وعليك الخشوع والخضوع، متواضعاً لله عزّ وجلّ متخاشعاً، عليك الخشية، وسيماء الخوف راجياً بالطمأنينة على الوجل والحذر، فقف بين يديه كالعبدالآبق المذنب بين يدي مولاه، فصف قدميك وانصب نفسك، ولا تلتفت يميناً وشمالاً، وتحسب كأنّك تراه، فإنْ لم تكن تراه، فإنّه يراك..."[2].

 

آداب الصلاة

من خلال وصيّة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم ، وقول الوصي، وبيان الإمام السجاد والرضا علي  عليهم السلام   يتّضح لنا أنّ هناك مجموعة من الآداب التي ينبغي لنا حال الصلاة الالتفات إليها والحرص عليها، والإتيان بها، وهذه الآداب تنقسم إلى قسمين:

1- الآداب الظاهرية: والتي منها عدم التهاون بالصلاة مطلقاً، والاهتمام بالطهارة والنظافة وتحسين الثياب، والسكون والتأنّي والطمأنينة، وتخصيص مكان للصلاة، والاهتمام بصلاة الجماعة, وأن تؤدّى الصلاة في المسجد، كما في وصية النبيّ لأبي ذر، ويلحق بها التختّم والتعطّر.... والتعقيبات وغيرها.

 

2- الآداب الباطنية: من الضروري أن تتوفّر في الصلاة بل في جميع العبادات، وإذا لم تتوفّر - هذه الآداب - في نفس وروح العابد، فإنّ عباداته لن تنفع، بل تكون كصورة بلا لبّ، وتمثال بلا حقيقة، وجسد بلا روح، وحركات بلا معنى، ومن هذه الآداب:

1- معرفة الإنسان أمام من يقف، ولمن يُصلّي، ومن يُناجي.

 

2- حضور القلب، عبر الخشوع والمسكنة، والشعور بالفقر والضعف بين يدي الله تعالى.

 


[1] الإمام السجاد علي بن الحسين بن علي  عليهم السلام، رسالة الحقوق.

[2] ابن بابويه القمي، فقه الرضا، ص 101، 7 باب الصلوات المفروضة.

 

194


162

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

3- الإخلاص في النيّة والعمل لأن ليس للعبد من صلاته إلا ما أقبل به على اللَّه.

 

4- أن يُصلّي الإنسان صلاة أخر لحظة في حياته، أي صلاة المودِّع لهذه الدنيا.

 

5- تقديم الصلاة على كلّ أمور هذه الدنيا، وقد مررنا على ذكر هذه الآداب متفرّقة خلال النصف الأول من هذا الكتاب، وأنت أيّها القارى العزيز ممّن تغنيه الكناية عن التصريح، ولا يحتاج مع الإشارة إلى توضيح، كما أنّ صاحب الآداب المعنوية للصلاة قد كفى علماء الأمة الكتابة في هذا المبحث[1].

 

الآداب الظاهرية للصلاة

ومنها التجمّل عند الصلاة، ويُستحبّ للمصلّي الطيب لأنّه من الزينة، والسواك لأنّه من تمام ذلك، فالإسلام دين النظافة فرضها منذ خمسة عشر قرناً وجعلها شعيرة من شعائر الإسلام، وأدباً من أهمّ آدابه الفردية والاجتماعية، وأمر الله تعالى بالوضوء، والاغتسال والزينة عند الصلاة وإتيان المساجد، وهذا كلّه يجعل المسلم حريصاً على النظافة التامّة، في شخصه وفي ملبسه وفي بيته وفي مسجده وفي شارعه.

 

السواك

تنظيفُ الفمّ الذي هو طريق القرآن، وذكر الله تعالى، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام  قال: "قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: نظّفوا طريق القرآن، قيل: يا رسول الله وما طريق القرآن، قال: أفواهكم. قيل بماذا. قال: بالسّواك"[2].

 

وروي عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "ركعَتانِ بِسواك أفضلُ مِن سبعينَ ركعةً بِغَيرِ سِواك"[3]. وقد وردت في فضل السواك الكثير الكثير من الروايات الشريفة.

 


[1] سماحة آية الله العظمى السيد روح الله الموسوي الخميني قدس سره في سفره العظيم الآداب المعنوية للصلاة.

[2] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 2، ص 22.

[3] الشيخ اليرقي، المحاسن، ج 2، ص 382، ح 2344 عن الإمام الصادق عن آبائه  عليهم السلام، والشيخ الصدوق، الخصال، ص 481، ح 52.

 

 

195


163

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

الزّينَة عند كلّ مسجد

قال الله العظيم في محكم كتابه وجليل خطابه: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[1].

 

روي عن خيثمة بن أبي خيثمة أنّه قال: كان الحسن بن علي عليه السلام إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له: يا بن رسول الله، لِمَ تلبس أجود ثيابك؟ فقال: "إنّ الله جميل يُحبّ الجمال، فأتجمّل لربّي، وهو يقول: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾, فأُحبّ أن ألبس أجمل ثيابي"[2].

 

وروى الإمام أبي الحسن الثالث عن آبائه قال: قال الصادق عليه السلام: "إنّ الله تعالى يُحبّ الجمال والتجمّل، ويكره البؤس والتباؤس، فإنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة أحبّ أن يرى عليه أثرها قيل: وكيف ذلك؟ قال: يُنظّف ثوبه، ويُطيّب ريحه، ويُحسّن داره، ويكنس أفنيته، حتى أنّ السراج قبل مغيب الشمس ينفي الفقر، ويزد في الرزق"[3].

 

وقال الإمام الصادق عليه السلام لمّا سَأَلَهُ أبو بَصير عَن قَولِهِ تَعالى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾: "هو المَشطُ عِندَ كل صلاةِ فريضَة ونافِلَة"[4].

 

الطيب

ويُستحبّ التطيّب للصلاة بالمسك وغيره لقول إمامنا الصادق عليه السلام: "كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ممسكة اذا هو توضّأ أخذها بيده وهي رطبة، فكان إذا خرج عرفوا

 


[1] سورة الأعراف، الآية 31.

[2] محمد بن مسعود، تفسير العياشي، ج ‏2، ص 12، سورة الأعراف: آية 31، طبعة 1، المطبعة العلمية.

[3] الشيخ الطوسي، الأمالي، ج 1، ص 281.

[4] تفسير العيّاشيّ، ج 2، ص 13، 25، ومن لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 128، 318، نحوه.

 

196


164

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

أنّه رسول الله برائحته"[1].

 

وروى عبد الله بن الحارث قال: "كانت لعلي بن الحسين عليه السلام قارورة مسك في مسجده، فإذا دخل إلى الصلاة أخذ منه، فتمسّح بِهِ"[2].

 

وقال الإمام الصادق عليه السلام: "صلاةُ مُتطيّب أفضلُ مِن سبعينَ صلاة بِغيرِ طيب"[3]. وذكر الإمام الرضا عليه السلام أنه: "كان يُعرَفُ موضِعُ سُجودِ أبي عبدِ اللهِ عليه السلام بِطيبِ ريحِهِ"[4].

 

التختّم بالفضّة

عن الإمام الرضا عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: خرجَ علَينا رسولُ اللهِ  صلى الله عليه وآله وسلم  وفي يَدِهِ خاتم فضّة[5] جَزعٌ يَمانيٌّ، فصلّى بِنا، فلمّا قضى صلاتَهُ دَفَعَهُ إلَيَّ وقال: "يا عليُّ تختّم بِهِ في يمينِكَ وصَلِّ فيهِ، أوَ ما عَلِمتَ أنَّ الصَّلاةَ فِي الجَزعِ سَبعونَ صَلاةً"[6].

 

وقال أمير المؤمنين عليه السلام : "لا تختّموا بغير الفضّة، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما طهرت كفّ فيها خاتم من حديد"[7]، وسُئل الإمام الصادق عليه السلام  عن الرجل يلبس الخاتم فيه نقش مثال الطير أو غير ذلك؟ قال: "لا تجوز الصلاة فيه"[8].

 

أداء الفرائض في المسجد

ويجب على المسلم أن يعتاد النظافة والطهارة دائماً ويتأكّد هذا أكثر عندما يأتي

 


[1] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3, ص 315، باب 43، ح 1.

[2] ثقة الإسلام الكليني، الكافي، ج 6، ص 514، طبعة الدار الإسلامية.

[3] م. ن، ص 511.

[4] م. ن.

[5] الظاهر أنّ الصحيح: "في يَدِهِ خاتَمٌ فَصُّهُ جَزعٌ يَمانيٌّ" كما نقله المجلسي في البحار: ج 83، ص 188.

[6] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 132.

[7] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 5، ص 303، باب 32، ح 4.

[8] م. ن، ج 4، ص 443، باب 46، ح 3.

 

197


165

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

المسجد، فيكون نظيف الجسد حسن المظهر، قال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[1]، وكما أنّ المسلم مستحبّ له أن يأتي للمسجد متطهّرًا نظيفًا، فكذلك ينبغي أن يكون المسجد مهيّأً للمصلّين بنظافته وصيانته عن كلّ ما يؤذيهم، وإنّه ليُعاب قومٌ مسجدهم يشكو القذى والأذى لمن صلّى فيه، ألا والله ما أعظم أجر الذين يتولّون تنظيف المسجد وتطييبه عند الله تعالى، يُروى في السيرة النبوية أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم حزن على المرأة السوداء التي كانت تقمّ المسجد عندما ماتت، وطلب الوصول إلى قبرها، وصلّى عليها ودعا لها، وأثنى عليها خيراً.

 

قال صاحب الدعائم: روينا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي عليهم السلام أنّه قال: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد إلا أن يكون له عذر، أو به علّة، فقيل له ومن جار المسجد يا أمير المؤمنين قال: من سمع النداء"[2].

 

وروى الإمام الصادق عن آبائه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام "لا صلاة لمن لم يشهد الصلوات المكتوبات من جيران المسجد إذا كان فارغاً صحيحاً"[3].

 

وعن رزيق الخلقاني قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "صلاة الرجل في منزله جماعة تعدل أربعاً وعشرين صلاة، وصلاة الرجل جماعة في المسجد تعدل ثمان وأربعين صلاة مضاعفة في المسجد، وإنّ الركعة في المسجد الحرام ألف ركعة فيسواه من المساجد، وإنّ الصلاة في المسجد فرداً بأربع وعشرين صلاة، والصلاة في منزلك فرداً هباءً منثوراً لا يصعد منه إلى الله شيء، ومن صلّى في بيته جماعة رغبة عن المساجد فلا صلاة له، ولا لمن صلّى معه، إلا من علّة تمنع من المسجد"[4].

 


[1] سورة الأعراف، الآية 31.

[2] القاضي النعمان، دعائم الإسلام، ج1، ص148، ومسند زيد، ج 1، ص 113 عن الإمام زين العابدين عن أبيه عن الإمام عليّ  عليهم السلام، وليس فيه "إلاّ أن يكون له عذر أو به علّة".

[3] الشيخ الطوسي، التهذيب، ج 3، ص 261، ح 735 عن طلحة بن زيد، والحميري في قرب الإسناد، ص 145، ح 523 نحوه عن أبي البختري كلاهما عن الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام.

[4] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 696، ح 1486.

 

198


166

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

روى إبراهيم بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام  قال: قلتُ له إنّ رجلاً يُصلّي بنا نقتدي به، فهو أحبّ إليك أو في المسجد؟ قال: "المسجد أحبّ إليّ"[1].

 

الدعاء عند الافتتاح

يقول السيد الشريف المرتضى عن افتتاح الصلاة: يفتتح الصلاة بالتوجه ويقول: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأَرْضَ حَنِيفاً مسلما وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَلَهُ وبِذلِكَ أُمِرْتُ وأنا من المسلمين"[2].

 

روى السيد بن طاووس بسنده عن ابن أبي عمير عن الأزدي عن الصادق عليه السلام في حديث: "كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول لأصحابه: "من أقام الصلاة، وقال قبل أن يُحرم ويُكبّر: يا محسن قد أتاك المسيء، وقد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسيء، وأنت المحسن وأنا المسيء، فبحقّ محمد وآل محمد صلِّ على محمد وآل محمد، وتجاوز عن قبيح ما تعلم منّي، فيقول الله: ملائكتي اشهدوا أنّي قد عفوت عنه، وأرضيت أهل تبعاته"[3].

 

وفي صحيح زرارة عن مولانا الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام قال: "يجزيك في الصلاة من الكلام في التوجّه إلى الله أن تقول: وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملّة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين إنّ صلاتي ونسكي ومحيايومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين "ويجزيك تكبيرة واحدة"[4].

 


[1] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 3، ص 261، ح 734.

[2] السيد المرتضى، جمل العلم والعمل، ص 59. (نسخة الكترونية).

[3] السيد علي بن موسى ابن طاووس الحسني، فلاح السائل ونجاح المسائل، ص 155، ذكر ما نريد وصفه من أحكام الأذان والإقامة، طبعة 1، بستان الكتاب، قم.

[4] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 2، ص 67 - 68.

 

199


167

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

وروى فضالة عن أبان وابن وهب قالا. قال أبو عبد الله عليه السلام : إذا قمت إلى الصلاة فقل: "اللهم إنّي أُقدّم إليك محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي حاجتي، وأتوجّه به إليك، فاجعلني به وجيهاً عندك في الدنيا والآخرة، ومن المقرّبين، واجعل صلاتي به مقبولةً، وذنبيبه مغفوراً، ودعائي به مستجاباً، إنّك أنت الغفور الرحيم"[1].

 

الاستعاذة

لا بدَّ قبل البدء بالقراءة من الاستعاذة بالله من الشَّيطان الرَّجيم، واللجوء إلى كهفه الحصين لأنّ الشَّيطان قد أقسم على القعود على الصراط المستقيم ليصدّ المؤمنين عنه: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[2]. لذا أمرنا الله تعالى باللجوء إليه، والاستعاذة به من شرّ الشيطان: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[3].

 

وفي هذا الباب روى أبو سعيد الخدريّ عَنِ النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم  أنَّهُ كان يقولُ قبل القِراءَةِ: "أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ"[4].

 

ونقل لنا حَنان بن سَدير قائلاً: صَلَّيتُ خَلفَ أبي عَبدِ اللهِ عليه السلام المَغرِبَ، فتعوَّذَ جِهاراً: "أعوذُ بِاللهِ السَّميعِ العَليمِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم، وأعوذُ بِاللهِ أن يَحضُرونِ" ثم جهرَ بِبِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ[5].

 

كان هذا سرداً سريعاً لبعض الآداب الظاهرية للصلاة وبقدر ما اتّسعت هذه الأوراق، وسنكمل ذكر بقية الآداب متفرّقة في الدروس القادمة إن شاء الله تعالى، وصلى الله على سيدنا مُحمد وآله الطاهرين.

 


[1] ثقة الإسلام الكليني، االكافي، ج‏3، ص 309، باب القول عند دخول المسجد والخروج منه.

[2] سورة الأعراف، الآية 16.

[3] سورة النحل، الآية 98.

[4] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 6، ص 135، ح 7547 نقلاً عن الذكرى.

[5] الحميري، قرب الإسناد، ص 124، ح 436، والشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 2، ص 289، ح 1158، وفيه "فتعوّذ بإجهار ثمّ جهر ببسم الله الرحمن الرحيم".

 

200


168

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

ما يَنبَغي بَعدَ الصَّلاةِ من المستحبّات والآداب

1- التعقيبات, فَضلُ الذِّكرِ والدُّعاء بَعدَ الصَّلاةِ

روي عن الإمام الباقر عليه السلام - في قَولِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾[1]: "إذا قَضَيتَ الصَّلاةَ بَعدَ أن تُسَلِّمَ وأنتَ جالِسٌ فَانصَب فِي الدُّعاءِ مِن أمرِ الدُّنيا والآخِرَةِ، وإذا فَرَغتَ مِن الدُّعاءِ فَارغَب إلَى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى أنيَتَقَبَّلَها مِنكَ"[2].

 

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام - في قَولِ اللهِ عزّ وجلّ: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾: "الدُّعاءُ بَعدَ الفَريضَةِ إيّاكَ أن تَدَعَهُ، فَإِنَّ فَضلَهُ بَعدَ الفَريضَةِ كَفَضلِ الفَريضَةِ عَلَى النّافِلَةِ"[3].

 

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن صلّى صَلاةَ الفَجرِ ثُمَّ قَعَدَ يَذكُرُ اللهَ حَتّى تَطلُعَ الشَّمسُ وَجَبَت لَهُ الجَنَّةُ"[4].

 

وعن الإمام عليّ عليه السلام: "التَّعقيبُ بَعدَ الغَداةِ وبَعدَ العَصرِ يَزيدُ فِي الرِّزقِ"[5].

 

وعن الإمام الباقر عليه السلام: "الدُّعاءُ بَعدَ الفَريضَةِ أفضَلُ مِنَ الصَّلاةِ تَنَفُّلاً"[6].

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ اللهَ عزّ وجلّ فَرَضَ عَلَيكُمُ الصَّلَواتِ الخَمسَ في أفضَلِ السّاعاتِ، فَعَلَيكُم بِالدُّعاءِ في أدبارِ الصَّلَواتِ"[7].

 


[1] سورة الشرح، الآيتان 7 - 8.

[2]  قرب الإسناد، ص 7، 22 عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام .

[3] دعائم الإسلام، ج 1، ص 166.

[4] مسند أبي يعلى، ج 2، ص178، 1485، إتحاف السادة، 5، ص128 كلاهما عن سهل بن معاذ عن أبيه.

[5] الخصال: 504، 2 عن سعيد بن علاقة.

[6] الكافي،ج 3، ص342، 5، التهذيب، ج 2، ص103، 389، الفقيه، ج 1، ص 328، وزاد في آخره "وبذلك جرت السنّة" كلّها عن زرارة، دعائم الإسلام، ج 1، ص166.

[7] الخصال، ص 278، 23 عن حمّاد بن عيسى، تفسير القمّي، ج1، ص67 وليس فيه "الخمس".

 

201


169

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

وعنه عليه السلام: "مَن صَلّى صَلاة فَريضَة وعَقَّبَ إلى أخرى فَهُوَ ضَيفُ اللهِ، وحَقٌّ عَلَى اللهِ أن يُكرِمَ ضَيفَهُ"[1].

 

2- التَّكبيرُ ثَلاثًا

- الإمام الباقر عليه السلام: "إذا سَلَّمتَ فَارفَع يَدَيكَ بِالتَّكبيرِ ثَلاثًا"[2].

 

- المُفَضَّلُ بنُ عُمَر: قُلتُ لأِبي عَبدِ اللهِ عليه السلام: "لأِيِّ عِلَّة يُكَبِّرُ المُصَلّي بَعدَ التَّسليمِ ثَلاثًا يَرفَعُ بِها يَدَيهِ؟ فَقالَ: لاِنَّ النَّبيَّ  صلى الله عليه وآله وسلم  لَمّا فَتَحَ مَكَّةَ صَلّى بِأَصحابِهِ الظُّهرَ عِندَ الحَجَرِ الأَسوَدِ، فَلَمّا سَلَّمَ رَفَعَ يَدَيهِ وكَبَّرَ ثَلاثًاوقالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ وَحدَهُ وحدَهُ، أنجَزَ وَعدَهُ، ونَصَرَ عَبدَهُ، وأعَزَّ جُندَهُ، وغَلَبَ الأَحزابَ وَحدَهُ، فَلَهُ المُلكُ ولَهُ الحَمدُ، يُحيي ويُميتُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ، ثُمَّ أقبَلَ عَلى أصحابِهِ فَقالَ: لا تَدَعوا هذَا التَّكبيرَ، وهذَا التَّكبيرُ في دُبُرِ كُلِّ صَلاة مَكتوبَة، فَإِنَّ مَن فَعَلَ ذلِكَ بَعدَ التَّسليمِ وقالَ هذَا القَولَ، كانَ قَد أدّى ما يَجِبُ عَلَيهِ مِن شُكرِ اللهِ - تَعالى ذِكرُهُ - عَلى تَقويَةِ الإِسلام وجُندِهِ"[3].

 

3- قِراءَةُ آيَةِ الكُرسيِّ

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عَليُّ، عَلَيكَ بِتِلاوَةِ آيَةِ الكُرسيِّ في دُبُرِ الصَّلاةِ المَكتوبَةِ، فَإِنَّهُ لا يُحافِظ عَلَيها إلاّ نَبيٌّ، أو صِدّيقٌ، أو شَهيدٌ"[4].

 

وهن عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن قَرَأَ آيَةَ الكُرسيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاة مَكتوبَة لَم يَحُل بَينَهُ وبَينَ دُخولِ الجَنَّةِ إلاَّ المَوتُ"[5].

 


[1] الكافي، ج 3، ص341، التهذيب، ج 2، ص103، المحاسن، ج 1، ص123، كلّها عن منصور بن يونس عمّن ذكره، عوالي اللآلي، ج 1، ص332.

[2] مستدرك الوسائل، ج 5، ص52، نقلاً عن فلاح السائل عن زرارة ونسخته المطبوعة خالية منها.

[3] مستدرك الوسائل، ج 5، ص52، نقلاً عن فلاح السائل ونسخته المطبوعة خالية منها.

[4] قرب الإسناد، ص118، 415 عن الحسين بن علوان عن الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام، دعائم الإسلام، ج1، ص168.

[5] عمل اليوم والليلة، ص48، المعجم الكبير، ج8، ص114، 7532، إتحاف السادة، ج5، ص98 كلّها عن أبي أُمامة؛ مكارم الأخلاق: 2، 43، 2099 عن الإمام عليّ عليه السلام عنه  صلى الله عليه وآله وسلم ، جامع الأخبار، ص 125، 242.

 

202


170

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

4- قِراءَةُ التَّوحيدِ

- رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن قَرَأَ التَّوحيدَ دُبُرَ كُلِّ فَريضَة عَشرًا زَوَّجَهُ اللهُ مِنَ الحورِ العينِ"[1].

 

- الإمام الصادق عليه السلام: "مَن كانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَلا يَدَع أن يَقرَأَ في دُبُرِ الفَريضَةِ بِقُل هُوَ اللهُ أحَدٌ، فَإِنَّهُ مَن قَرَأَها جَمَعَ اللهُ لَهُ خَيرَ الدُّنيا والآخِرَةِ وغُفِرَ لَهُ ولِوالِدَيهِ وما وَلَدا"[2].

 

5- الصَّلاةُ عَلَى النَّبيِّ وآلِهِ  عليهم السلام 

روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "إذا فَرَغَ العَبدُ مِن صَلاتِهِ فَليُصَلِّ عَلَى النَّبيِّ  صلى الله عليه وآله وسلم ، ويَسأَلُ اللهَ الجَنَّةَ، ويَستَجيرُ بِاللهِ مِنَ النّارِ، ويَسأَلُهُ أن يُزَوِّجَهُ مِنَ الحورِ العينِ"[3].

 

6- تَسبيحُ فاطِمَةَ عليها السلام

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَن سَبَّحَ تَسبيحَ فاطِمَةَ الزَّهراءِ عليها السلام قَبلَ أن يَثنِيَ رِجلَيهِ مِن صَلاةِ الفَريضَةِ غَفَرَ اللهُ لَهُ و ليَبدَأ بِالتَّكبيرِ"[4].

 

عنه عليه السلام: "تَسبيحُ فاطِمَةَ عليها السلام في كُلِّ يَوم في دُبُرِ كُلِّ صَلاة أحَبُّ إلَيَّ مِن صَلاةِ ألفِ رَكعَة في كُلِّ يَوم"[5].

 


[1] مستدرك الوسائل،ج 5، ص105، 5444 نقلاً عن البلد الأمين ونسخته المطبوعة خالية منها, كنز العمّال، ج1، ص599، 2732 عن ابن عبّاس وفيه "أوجَبَ اللهُ لَهُ رِضوانَهُ وَمغفِرَتَهُ" مكان "زَوَّجَهُ...".

[2] الكافي، ج 2، ص622، 11، ثواب الأعمال، ص 156، 4، عدّة الداعي، ص 279 كلّها عن أبي بكر الحضرمي، الدعوات: 216، 583 عن الإمام الصادق عليه السلام ، أعلام الدين: 386.

[3] الخصال، ص 630، 10 عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم عن الإمام الصادق عن آبائه  عليهم السلام، تحف العقول، ص 85 نحوه.

[4]  الكافي، ج 3، ص 342، 6، التهذيب، ج 2، ص105، 395، ثواب الأعمال، ص196، 4، عوالي اللآلي، ج1، ص332، 90 كلّها عن ابن سنان، الفقيه، ج1، ص320، 946، قرب الإسناد، ص 4، 11 وفيه "قبل أن يثني رجليه بعد انصرافه من صلاة الغداة".

ص301، كشف الغمّة، ج2، ص97، عوالي اللآلي، ج1، ص333، 91 عن الإمام الباقر عليه السلام .

[5] الكافي: 3، 343، 15، التهذيب، ج 2، ص105، 399، ثواب الأعمال، ص196، 3، مكارم الأخلاق،ج 2، ص29، 2062، فلاح السائل، ص135 كلّها عن أبي خالد القمّاط، تنبيه الخواطر، ج 1،

 

203


171

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

7- تَعفيرُ الخَدَّين

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "كانَ موسَى بنُ عِمرانَ عليه السلام إذا صَلّى لَم يَنفَتِل[1] حَتّى يُلصِقَ خَدَّه الأَيمَنَ بِالأَرضِ وخَدَّهُ الأَيسَرَ بِالأَرضِ"[2].

 

وعنه عنه عليه السلام: "أوحَى اللهُ عزّ وجلّ إلى موسى عليه السلام أن يا موسى، أتَدري لِمَ اصطَفَيتُكَ بِكَلامي دونَ خَلقي؟ قالَ: يا ربِّ، ولِمَ ذاكَ؟ قالَ: فَأَوحَى اللهُ تَبارَكَ وتَعالى إلَيهِ أن يا موسى، إنّي قَلَّبتُ عِبادي ظَهرًا لِبَطن فَلَم أجِد فيهِم أحَدًاأذَلَّ لي نَفسًا مِنكَ. يا موسى، إنَّكَ إذا صَلَّيتَ وَضَعتَ خَدَّكَ عَلَى التُّرابِ - أو قالَ: عَلَى الأَرضِ"[3].

 


[1] انفتلَ فلان عن صلاته: أي انصرفَ (لسان العرب، ج 11، ص514).

[2] التهذيب، ج 2، ص110، 414، الفقيه، ج1، ص332، 974، علل الشرائع، ص57، 2 كلّها عن إسحاق بن عمّار، مشكاة الأنوار، ص 228.

[3] الكافي، ج 2، ص123، 7 عن عليّ بن يقطين عمّن رواه، الفقيه، ج1، ص 332، 975 عن الإمام الباقر عليه السلام ، علل الشرائع، ج1، ص56، 1 عن عليّ بن يقطين عن رجل عن الإمام الباقر عليه السلام .

 

204


172

الدرس الرابع عشر: آداب الصلاة ومستحبّاتها

المفاهيم الرئيسة

- أكّدت السنَّة الشريفة على مجموعة من الآداب المتعلِّقة بالصلاة والتي ينبغي الالتفات إليها والحرص عليها، والإتيان بها، وهذه الآداب تنقسم إلى قسمين: آداب ظاهرية, وآداب باطنية.

 

- لا يُمكن للمصلّي أن يطوي أيّ طريق من طرق معراج الصلاة، إلاّ بالبدء بالآداب الظاهرة للصلاة، وما لم يتأدّب المصلّي بها فلن يحصل على شيء من حقيقة الصلاة وآدابها المعنوية.

 

- من الآداب الظاهرية الحفاظ على النظافة الجسدية, واستعمال السواك في تنظيف الفمّ الذي هو طريق القرآن، والتزيّن عند كلّ مسجد, والتطيّب بالمسك وغيره, والتختّم بالفضّة.

 

- ينبغي أن يكون المسجد مهيّأً للمصلّين بنظافته وصيانته عن كلّ ما يؤذيهم.

 

- يُستحبّ إتيان الفرائض الخمس في المساجد, عن علي عليهم السلام أنّه قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.

 

- يُستحبّ افتتاح الصلاة بالتوجّه والقول: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والأَرْضَ حَنِيفاً مسلما وما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وبِذلِكَ أُمِرْتُ وأنا من المسلمين"، ولا بدَّ قبل البدء بالقراءة من الاستعاذة بالله من الشَّيطان الرَّجيم.

 

- يُستحبّ بَعدَ الصَّلاةِ التعقيب بأمور عدّة ذُكرت في الروايات وأكّدتها السيرة العملية لأهل البيت عليهم السلام   وهي الذكر والدعاء والتكبير ثلاثاً, وقراءة سورة التوحيد وآية الكرسي, والصَّلاةُ عَلَى النَّبيِّ وآلِهِ عليهم السلام, وتَسبيحُ فاطِمَةَ عليها السلام.

 

- تَعفيرُ الخَدَّين فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: كانَ موسَى بنُ عِمرانَ عليه السلام إذا صَلّى لَم يَنفَتِل حَتّى يُلصِقَ خَدَّه الأَيمَنَ بِالأَرضِ وخَدَّهُ الأَيسَرَ بِالأَرض.

 

205


173

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

الدرس الخامس عشر

الحمد والتوحيد في الصلاة

 

أهداف الدرس
 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفهم تفسير سورة الفاتحة ودلالاتها.

 

2- يفهم تفسير سورة التوحيد ودلالاتها.

 

3- يتفاعل مع معاني السورتين في الصلاة.

 

207


174

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

مقدّمة

بين يدي الأمّة سورتان عظيمتان يقرؤهما المسلمون ويحفظونهما ويتلوهما، الصغير منهم والكبير، الذكر والأنثى، المتعلّم وغير المتعلّم، إحدى هاتين السورتين يقرؤها المسلم والمسلمة في الصلوات كلّها فرضها ونافلتها، والسورتان معاً ترسمان طريق الهداية وسبيل النجاة، بل تحويان مجمل مقاصد القرآن العظيمة، ومعانيه العالية، من الحكم العلمية، والأحكام العملية، فلئن كان مجمل مقاصد القرآن ومعانيه الثناء على الله تعالى ثناءً جامعاً، ووصفه بجميع المحامد، وتنزيهه عن جميع النقائص، وتفرّده بالربوبية والإلوهية، ثم الأمر والنهي والوعد والوعيد وبيان العاقبة والجزاء، وسبيل المؤمنين، وطريق الضالين، والمواعظ والأمثال، والعبادات والمعاملات، وتهذيب الأخلاق، وآداب الشرع من أعمال القلوب والجوارح، لئن كانت كلّ هذه المعاني الجليلة هي المقاصد, فلقد حوت كلّ ذلك هاتان السورتان العظيمتان إنّهما فاتحة الكتاب أم القرآن والسبع المثاني وأختها سورة التوحيد والإخلاص الشفاء التام، والدواء الناجع، ودافعتا الهمّ والغمّ، ومفتاح الغنى والفلاح، لمن عرف قدرهما وأعطاهما حقّهما، وأحسن تلاوتهما وفهم معناهما، وتدبّر المراد منهما، فالتدبّر طريق الخشوع، والفهم معينٌ على حسن العمل، والمسلم في أمسّ الحاجة إلى معرفة معاني هاتين السورتين وإدراك مراميها. فمن تأمّل معانيهما العظيمة، ونظر بنور البصيرة، فوقف على أسرارهما وما اشتملتا عليه من أُمّهات المطالب العالية، ودقائق التوجيهات السامية، والحكم والأحكام، تبيّن له أنّ أمّ الكتاب أوّلها رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة، وحظّ العبد من النعمة على قدر حظّه من الهداية، وحظّه من الهداية على قدر حظّه من

 

209


175

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

الرحمة، فعاد الأمر كلّه إلى نعمة الله وهدايته ورحمته، وعرف أنّ رؤية التوحيد المحكيّة في كلّ القرآن وفي مئات الآيات, بسياقات وعبارات مختلفة؛ جاءت في سورة التوحيد نافيةً ومبطلةً لأيّ مُدّعٍ للألوهية، فمن حقّق معاني سورة الفاتحة وسورة التوحيد عِلماً ومعرفةً وعملاً وحالاً، فقد فاز بأوفر نصيب، وصارت عبوديّته مع التوفيق والإخلاص عبودية الذين ارتفعت درجتهم نحو مراتب الكمال والإصابة.

 

سورة الفاتحة وأسماؤها

بعد أن يتلفّظ المصلّي بتكبيرة الإحرام يكون عمليّاً قد أصبح في حالة صلاة، وعليه أن يقرأ فاتحة الكتاب ثمّ سورة كاملة من القرآن، وهو في حال الوقوف، وسورة الفاتحة التي يقرؤها المصلّي في الصلوات كلّها فرضها ونافلتها سورة مكية، وهي سبع آيات بلا خلاف، وأسماؤها:

1- أمّ القرآن.

 

2- أمّ الكتاب، وهما صفتان أطلقهما عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستعملها أهل بيته وأصحابه، والروايات مستفيضة عند جميع المسلمين في ذلك.

 

3- السبع المثاني: لقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي﴾[1].

 

4- القرآن العظيم: لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾[2].

 

5- الحمد: لقول الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[3].

 

6- فاتحة الكتاب: لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"[4]. ولأنّها يُفتح بها القراءة في الصلاة.

 


[1] سورة الحجر، الآية 87.

[2] سورة الحجر، الآية 87.

[3] سورة الفاتحة، الآية 2.

[4] الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي، الغدير، ج 8، ص 174، جاء بمصادر لهذا الحديث تعد خير أرشيف.

 

210


176

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

وروي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربّه: "قُسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد الحمد لله ربّ العالمين، قال الله: حمدني عبدي..الحديث"[1]. فسُمّيت الفاتحة صلاة لأنّها شرط فيها، ولها أسماء أخرى، وفي هذا القدر كفاية.

 

الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

في العيون، عن الإمام الرضا عليه السلام: في معنى قوله: بسم الله قال عليه السلام : "يعني أسِمُ على نفسي بِسِمةٍ من سمات الله عزّ وجلّ، وهي العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة"[2].

 

وقد ورد في فضل ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ الكثير من الروايات الشريفة، وقد قيل لأمير المؤمنين عليه السلام يا أمير المؤمنين: أخبرنا عن ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ أهي من فاتحة الكتاب؟ قال عليه السلام: "نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأها ويعدّها آية منها، ويقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني"[3]، وينبغي الإتيان بها عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليُبارك الله فيه. وقد أجمعنا ــ تبعاً لأئمّة الهدى من أهل بيت النبوّة عليهم السلام على أنّها آية تامّة من السبع المثاني، ومن كلّ سورة من القرآن العظيم ما خلا براءة، وأنّ من تركها في الصلاة عمداً بطلت صلاته سواء أكانت فرضاً أم كانت نفلاً، وأنّه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، وأنّه يستحبّ الجهر بها فيما يُخافت فيه، وأنّها بعض آية من سورة النمل، ونصوص أئمّتنا في هذا كلّه متضافرة متواترة تواتراً معنوياً، وأساليبها ظاهرة في الإنكار على مخالفيهم فيها، كقول الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام "مالهم؟! عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله عزّ وجلّ، فزعموا أنّها

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 300، باب 28، عن الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لقد سمعت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  يقول: قال الله عزّ وجلّ:.. الحديث.

[2] م. ن، ص 301.

[3] م. ن، ص 301.

 

211


177

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

بدعة إذا أظهروها، وهي بسم الله الرحمن الرحيم"[1].

 

وقال الفخر الرازي في تفسيره بعد أن ساق ثلاث حجج على أنّ الجهر بالتسمية مشروع في الصلاة: أن عليّاً رضي الله عنه كان مذهبه الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في جميع الصلوات، وأقول إنّ هذه الحجّة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتّة بسبب كلمات المخالفين،.. وأمّا أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان يجهر بالتسمية، فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله عليه السلام: "اللهم أدر الحقّ مع علي حيث دار"[2].

 

أعمّ المدائح

في الصلاة يتعرّف المصلّي على مضامين قسمٍ من القرآن، وتعوّده الصلاة أيضاً على التفكّر في مفاهيم القرآن تدبّره، والارتباط الفكريّ به، وأول مضامين القرآن الكريم التي يبدأ بها المصلي هي سورة الحمد ﴿الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾[3]، أدّب الله هذه الأمّة، فعلَّمها الابتداء بذكر أسمائه الحسنى، وحمده على آلائه العظمى، أمام كلّ ذي بالٍ من أفعالهم وأقوالهم، وقبل المهم من شؤونهم وحاجاتهم، فتكون بداية المصلّي بالحمد الذي هو أوسع الصفات، وأعمّ المدائح، وقد سُئِل أمير المؤمنين عليه السلام عن تفسيرها، فقال: "هو أنّ الله عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملاً إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أكثر من أن تُحصى أو تُعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا ربّ العالمين.."[4] وكلّ حمدٍ ومدحٍ وتسبيح وتنزيهٍ وتقديسٍ وجلالٍ وإكرام، فلربّنا جلّ شأنه أكمله وأتمّه وأدومه.

 

﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: ربّ كلِّ شيءٍ وخالقه والقادِر عليه، كلُّ ما في السموات

 


[1] شرف الدين والملة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، مسائل فقهية، ص 23، مركز الأبحاث العقائدية.

[2] فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي، مفاتيح الغيب، ج 1، ص 168، طبعة 1: دار الكتب العلمية.

[3] سورة الفاتحة، الآيتان 2 - 3.

[4] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 282، باب 28.

 

212


178

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

والأرض عبدٌ له وفي قبضَتِه وتحت قَهرِه، فيُدرك المصلّي أنّ ربّه الذي يقف بين يديه ربّ جميع الكائنات ﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾: صِفةٌ تستغرِق كلَّ معاني الرحمةِ وحالاتها ومجالاتها، وهما مأخوذان منَ الرّحمة، فالرّحمن رحمةٌ عامّة بجميع الخلقِ، والرّحيم رحمةٌ خاصّة بالمؤمنين، وقد قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "والله إله كلّ شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصّة"[1]، ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، وقُرئ مَلِكِ، والفَرقُ بين الوصفَين بالنّسبة إلى الربِّ سبحانه أنّ الملِك صِفةٌ لذاتِه والمالِكَ صِفةٌ لفِعلِه، ويومُ الدين يومُ الجزاء من الربِّ سبحانه، وهو يوم يدين الله العبادَ بأعمالهم أي: يُجازِيهِم بها.

 

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: لسان حال المصلّي: نخصُّك بالعبادة، ونخصّك بالاستعانة، لا نعبد غيرَك، لا نطلُبُ إلاّ عونَك، لا نستعِين بغيرك، لا نستَغني عن فضلِك طرفة عين، وهنا قُدِّمت العبادة على الاستعانَةِ لكون الأولى وسيلةً إلى الثانية، وقُرِنَت العبادةُ بالاستعانة للدّلالة على أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يقومَ بعبادةِ الله إلاّ بإعانةِ الله له وتوفيقِه، وهو إقرارٌ بعجزِ الإنسان عن القيامِ بالعباداتِ وحملِ الأمانةِ إذا لم يُعِنه الله. ﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾[2].

 

الصراط المستقيم

﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾: دعاءٌ صريح من المصلّي، وحظُّ العبد من الله التضرُّع إليه والإلحاح علَيه أن يرزقَه هذا المطلبَ العظيم الذي لم يُعطَ أحدٌ في الدّنيا والآخرة أفضل منه، كما منَّ الله على رسوله بعدَ الفتحِ بقوله: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾[3] أي: قوِّ هدايَتَنا، وفِّقنا إلى معرفةِ الطريق الصحيح وثبِّتنا حتى لا ننحرفَ أو نزيغَ عنه، فقد يكون الإنسان اليومَ مهتديًا وغدًا من الضالّين.

 


[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 114، باب معاني الأسماء واشتقاقها.

[2] سورة الأعراف، الآية 43.

[3] سورة الفتح، الآية 2.

 

213


179

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾: هو الدعاء الوحيد المفروض على المسلم قوله، فيتوجَّب على المسلم قولُه عِدّةَ مرّات في اليوم، وهذا يدلّ على أهمّيّة الطّلَب وأثره في الدنيا والآخرة. وفي قوله: اهْدِنَا ولم يقل: "اهدِني" تربِيةٌ للمسلم على تذكُّر إخوانِه وتقوية معاني الأُلفة، وفيه إِزالةٌ لمشاعِرِ الأثَرَة والأنانية، فكما أنّك تُحبّ لإخوانِك ما تُحبّ لنفسك فادعُ لهم بما تدعو لنفسِك. والاجتماعُ على الهدى مطلَبُ المؤمِنين، وكَثرةُ السّالكين أُنس وثباتٌ للسّائرين، والسّالِكُ وحدَه قد يضعُف وقد يملّ أو يسقُط أو...

 

﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾: وهم رسولُ الله والمعصومون من أهل بيته والذين أنعم الله عليهم من النّبيِّين والصِّدِّيقين والشّهداءِ والصالحين الذين حازوا الهدايةَ التامّة، ويلحق بهم الذين سلَكوا الصراطَ المستقيم، وعرفوا الحقَّ وعمِلوا بمقتَضَاه، أمّا الذين عرَفوا الحقَّ وخالفوه، فهم المغضوبُ عليهم، والعامِلون بلا عِلمٍ هم الضالّون، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[1] قدَّمَ المغضوب عليهم على الضّالّين لأنَّ أمرَهم أخطر وذنبَهم أكبَر، فإنَّ الإنسان إذا كان ضلالُه بسبَبِ الجهل، فإنّه يرتفِع بالعلم، وأمّا إذا كان هذا الضّلالُ بسبب الهوَى فإنّه لا يكاد ينزِع عن ضلاله، ولهذا جاء الوعيد الشديدُ في شأنِ من لا يعمَل بعَلمهِ والله تعالى أعلم.

 

﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾: هي مناسِبَة لكلِّ ما ورد في السّورة من أوَّلها إلى آخرها، فمَن لم يحمَدِ الله تعالى، فهو مغضوبٌ عليه وضالّ، ومن لم يؤمِن بيومِ الدِّين، وأنَّ الله سبحانه وتعالى مالِكُ يومِ الدّين ومَلِكه، ومَن لم يخصَّ الله تعالى بالعبادةِ والاستعانة، ومن لم يهتدِ إلى الصراط المستقيم، فهم جميعًا مغضوبٌ عليهم وضالّون.

 


[1] سورة الكهف، الآيتان 103 - 104.

 

214


180

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

سورة التوحيد

"سورة الإخلاص، أو سورة التوحيد" سورة مكّية وقيل مدنية، وهي كما هو واضح من اسمها تُركّز على توحيد الله جلّ شأنه في أربع آيات قصار تصف التوحيد بشكل جامع لا يحتاج معه إلى أيّة إضافة أخرى. وقد ورد في فضلها وفضل تلاوتها وأسرارها الكثير من الروايات الشريفة التي ينشقّ منها عمود الصباح ونترك الإضاءة على ألفاظها وبعض من معانيها لسماحة الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله في سفره العظيم من أعماق الصلاة:

﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ﴾ أيها الرسول، قل واعلم وبلّغ الآخرين بهذه الحقيقة, أنّ:

 

﴿هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ فليس له شريكٌ ولا مثيلٌ ولا نِدٌّ من الآلهة التي تُعرّفها (تُقدّمها) عقائد الأديان المنحرفة.

 

ليست ساحة الخليقة مسرحاً لتنازع الآلهة وصراعهم، بل إنّ جميع سنن العالم وقوانينه صادرة عن إرادة واحدة وقدرة واحدة. ولهذا السبب، يسودُ عالمَ الخليقةِ النظامُ والانسجامُ والتناسق, فجميع القوانين والتحوّلات والتحرّكات الطبيعيّة في العالم تتحرّك باتجاه واحد في الحركة والعمل. الإنسان وحده الذي متّعه الله بالإرادة والاختيار والقدرة على اتخاذ القرار, ويُمكنه أن يتمرّد على هذا النظام ويعزف لحناً شاذاً كما يُمكنه أيضاً أن يصنع لنفسه حياةً تنسجم مع هذه القوانين.

 

﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ الله غير محتاج (إلى أيّ شخص وأيّ شيء) من جميع الجهات، فالله سبحانه الذي أتواضع أمامه وأُعظّمه وأحمده ليس كباقي الأرباب المفترضة, المحتاجة إلى الرعاية والمساعدة في وجودها واستمرارها في الحياة، وفي قدرتها وحياتها. فمثل هكذا إلهٍ (محتاج) لا يستحقّ التكريم ولا التعظيم، لأنّه موجود كالإنسان أو أدنى منه. فالإنسان, ذلك الموجود العظيم, لا يجعل تعظيمه وثناءه وعبوديّته إلّا لتلك القدرة التي لا تكون محتاجة أدنى احتياج إلى أيّ وجود وأيّ عنصر. أي أنّ وجودها وقدرتها وخلودها نابعة من ذاتها.

 

215


181

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

﴿لَمْ يَلِدْ﴾: ليس هو ما تطرحه أوهامُ الأديان المنحرفة وعقائدُ الشّرك وأساطيرهم. ليس إله المشركين المتوهّم حيث تصوّروا له ولداً أو أولاداً، إنّه خالق وموجد كلّ شيء وكلّ شخص، لا أنّه أبوهم؛ وجميع سكّان السموات والأرض هم عباده لا أولاده.

 

إنّ نسبة "الربوبيّة والعبوديّة" بين الله والإنسان هي التي تمنع عباد الله الواقعيّين من عبادة أيّ شيء أو أيّ أحد غير الله، فليس بالإمكان عبادة ربّين.

 

أولئك الذين تصوّروا الله أباً عطوفاً للمخلوقات، وظنّوا أنّ البشر أبناؤه, ولم يُدركوا معنى نسبة "الربوبيّة والعبوديّة" التي تليق بالإنسان ومقامه وكرامته, قد فتحوا - في الحقيقة - طريقاً لعبادة غير الله، وأصبحوا عمليّاً عبيداً للكثير من أرباب الدنيا عديمي المروّة، وصاروا آلة بيد النخّاسين والمسترقّين.

 

﴿وَلَمْ يُولَدْ﴾ فهو ليس بظاهرة (حادثة), حتّى يوماً لا يكون ويوماً آخر يأتي إلى ساحة الوجود. وهو ليس وليد أحدٍ أو فكرةٍ أو ظنٍّ وتخيّل. وليس وليد نظامٍ أو طبقةٍ أو شكلٍ من أشكال حياة البشر.

 

إنّه أعزّ الحقائق وأرفعها شأناً، إنّه حقيقة أزليّة، كان دائماً وسيبقى أبداً.

 

﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ ليس بالإمكان تشبيهه بأحد ولا يُمكن لأحدٍ أن يُماثله أو يُشاكله، ومن غير الممكن تقسيم مناطق نفوذه ومناطق حكمه، وهي عالم الكون بتمامه، بينه وبين شخص آخر، ولا يُمكن أن يكون جزء من حياة الإنسان له والجزء الآخر لغيره, من الأرباب الأحياء وغير الأحياء، ومن مدّعي القدرة والألوهيّة.

 

هذه السورة, كما يظهر من تسميتها, هي بحقّ سورة التوحيد. إنّ رؤية التوحيد المحكيّة في كلّ القرآن وفي مئات الآيات, بسياقات وعبارات مختلفة؛ جاءت في هذه السورة بنحو صياغة مكثّفة وبعبارات ناظرة إلى المعتقدات الخرافيّة الملوّثة بالشرك التي شاعت في ذلك الزمان, وقد بُيّنت بشكل حاسمٍ وصريحٍ، نافيةً ومبطلةً لأيّ مُدّعٍ للألوهيّة يُمكن أن يُطرح.

 

216


182

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

تُعرّف هذه السورة المسلمينَ وجميعَ العالمين, من جهة, بالإله الذي يستحقّ العبادة والتمجيد بنظر الإسلام: إنّ الإله الذي لا يكون هو الأوحد، بل له مئات وآلاف المشاكلين، ليس جديراً بالربوبيّة والألوهيّة، وإنّ المقتدر أو القدرة المحتاجة في وجودها واستمرارها إلى مساعدة موجودٍ آخر، لا يُمكن ولا ينبغي أن تُفرض على البشر. إنّ الذي يُعظّم الأرباب المزيّفة المحتاجة والمحدثة والمعرّضة للزوال وينحني أمامها, إنّما يدوس كرامته الإنسانيّة، ويجرّ نفسه والإنسانيّة القهقرى. هذه هي الجنبة المثبِتة في سورة التوحيد التي تستعرض مميّزات المعبود وربّ الإنسان، وتُثْبِت زيف الأرباب على طول التاريخ.

 

ومن جهة أخرى، تُحذّر عباد الله من تلويث أنفسهم بالأبحاث العقليّة المثيرة للشبهات والوساوس بشأن ذات الله وصفاته، وأن يذكروا الله ويدعوه بكلام بسيط (ومختصر), يُخرج أصحاب التُّرَّهات والهاذرين ويطردهم من مقام قدس الربوبيّة. فبدل أن يستغرق الإنسان في التفلسف والذهنيّات، عليه أن يُفكّر في الالتزامات النابعة من عقيدة التوحيد، وكما جاء في حديث الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ، علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، والآيات من سورة الحديد إلى قوله ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، فمن رام وراء ذلك فقد هلك"[1].

 

كأنّ سورة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تقول للمصلّي: إنّ الله قدرة فريدة, رفيعة سامية ومتعالية، وهو مستغنٍ ذاتاً وغير محتاج ﴿  ﴾ وليس له مشابه ولا مشاكل.. ليس سوى هذا وكفى، والعلم والرؤية (أنّه بصير)، والحكمة وباقي صفات الله تعالى التي يلزم على المسلم أن يُدركها ويفهمها، والتي تكون مؤثّرة في شكل ونمط حياته وارتقاء روحه، ذُكرت أيضاً في آيات أخرى من القرآن، فلا تتعمّق أكثر من هذا

 


[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 91، باب النسبة.

 

217


183

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

في ذات الله وكيفيّة صفاته, وستحصل على معرفة أكثر خلال العمل. لا تكن في صدد الحصول على معرفة أكثر من خلال البحث والتنقيب الذهنيّ العميق، بل حاول تحصيل المعرفة عن طريق التحلّي بالصفاء وروحانيّة الباطن والروح، ومن خلال العمل بلوازم التوحيد.. وهكذا كان الأنبياء والصدّيقون، عباد الله المخلصين، والموحّدين والصادقين والعارفين[1].

 


[1] سماحة الإمام السيد علي الحُسيني الخامنئي دام ظله، من أعماق الصلاة، ص 39 - 44، من طبعة جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

 

218


184

الدرس الخامس عشر: الحمد والتوحيد في الصلاة

المفاهيم الرئيسة

- يقرأ المصلّي سورة الفاتحة في الصلوات كلّها, فرضها ونافلتها, وهي سورة مكية تتألّف من سبع آيات بلا خلاف.

- فسَّر الإمام الرضا عليه السلام معنى البسملة قال عليه السلام: "يعني أسِمُ على نفسي بِسِمةٍ من سمات الله عزّ وجلّ، وهي العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة".

 

- البسملة آية تامّة من كلّ سورة من القرآن العظيم ما خلا براءة، ومن تركها في الصلاة عمداً بطلت صلاته، يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة.

 

- أدّب الله هذه الأمّة، فعلَّمها الابتداء بذكر أسمائه الحسنى، وحمده على آلائه العظمى، أمام كلّ ذي بالٍ من أفعالهم وأقوالهم، وقَبِل المهم من شؤونهم وحاجاتهم، فتكون بداية المصلّي بالحمد الذي هو أوسع الصفات.

 

- قُدِّمت العبادة على الاستعانَةِ في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ لكون الأولى وسيلةً إلى الثانية، وقُرِنَت العبادةُ بالاستعانة للدّلالة على أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يقومَ بعبادةِ الله إلاّ بإعانةِ الله له وتوفيقِه، وهو إقرارٌ بعجزِ الإنسان عن القيامِ بالعباداتِ وحملِ الأمانةِ إذا لم يُعِنه الله.

 

- ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ هو الدعاء الوحيد المفروض على المسلم قوله، ويتوجَّب على المسلم قولُه عِدّةَ مرّات في اليوم، وهذا يدلّ على أهمّيّة الطّلَب وأثره في الدنيا والآخرة.

 

- "سورة الإخلاص، أو سورة التوحيد" سورة مكّية وقيل مدنية، تُركّز على توحيد الله جلّ شأنه في أربع آيات قصار تصف التوحيد بشكل جامع لا يحتاج معه إلى أيّة إضافة أخرى.

 

- تستعرض سورة التوحيد صفات المعبود وربّ الإنسان، وتُثْبِت زيف الأرباب على طول التاريخ, فتبيّن: أنّ الله قدرة فريدة, رفيعة سامية ومتعالية، وهو مستغنٍ ذاتاً وغير محتاج: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ وليس له مشابه ولا مشاكل.

 

219


185

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

الدرس السادس عشر

أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

 

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يدرك أهمية الاقتداء بالمعصومين عليهم السلام في أداء الصلاة.

 

2- يشرح حالة الإمام علي الروحيّة عليه السلام في الصلاة.

 

3- يشرح أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم  في العبادة.

 

221


186

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

مقدّمة

إنّ من تمام كريم الأخلاق هو التأدّب مع الله ربّ العالمين، وذلك بأن يعرف العبد حقّ ربّه سبحانه وتعالى عليه فيسعى لتأدية ما أوجب الله عزّ وجلّ عليه من الفرائض ثم يُتمّم ذلك بما يسّر الله تعالى له من النوافل، وكلّما بلغ العبد درجةً مرتفعةً عاليةً في العلم والفضل والتقى كلّما عرف حقّ الله تعالى عليه، فسارع إلى تأديته، وفي ذلك قال إمامنا الصادق عليه السلام : "من عرف الله خافه، ومن خاف الله حثّه الخوف من الله على العمل بطاعته، والأخذ بتأديبه، فبشّر المطيعين المتأدّبين بأدب الله،والآخذين عن الله، إنّه حقّ على الله أن يُنجيه من مضلّات الفتن"[1]، وإنّ من كريم أخلاق سيّد ولد آدم نبيّنا الخاتم مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان عبداً لله شكوراً، فقد كان قمّة العارفين بالله، وبحقّه عزّ وجلّ عليه، وهو الذي فتح عليه فتحاً مبيناً، وقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وعلى الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطّر قدماه، ويسجد فيدعو ويُسبّح، ويُثني على الله تبارك وتعالى، ويخشع لله عزّ وجلّ حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، فقد كان بحقّ أعبد الناس، ورحم الله عبداً تأمّل في الشمائل الكريمة والخصال الحميدة لهذا النبي العظيم والأئمة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام، فتمسّك بها، واتبعهم ليحوز شفاعتهم يوم الفزع الأكبر ويرضى الله عنه، وباستعراضنا لبعض الصور من عبادته صلى الله عليه وآله وسلم، وعبادة أخيه أمير المؤمنين، والأئمة من ولده عليهم السلام، وأحوالهم الظاهرة نتمنّى أن يطمع كلّ مؤمن يستعرض ما نورده في هذا الباب في أن يقتفي آثارهم ويسلك سبيلهم، وهذا ما نرجوه من كتابة هذه الصور المشرقة من

 


[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 400.

 

223


187

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

عبادتهم عليهم السلام، وتقديمها لكم على الرغم من أنّ الحديث عن ذلك يتطلّب مجلّدات كثيرة.

 

الأسوة الحسنة

قال الله العظيم في مُحكم كتابه وجليل خطابه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[1] ".. اللّهمّ إنّي لو وجدت وسيلةً أقرب إليك من محمّد وأهل بيته الأخيار الأئمّة الأبرار عليه السلام لجعلتهم شفعائي إليك.."[2]. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر  صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، وعزاء لمن تعزّى، وأحبّ العباد إلى الله المتأسّي بنبيّه، والمقتصّ لأثره..."[3]، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم  يجد في الصلاة مجلّى راحته، وميدان نعيمه، حيث كانت قرّة عينه فيها، فكان ينتظر وقت الصلاة، ويشتدُّ شوقُه ويترقّب دخوله، ويقول حين يريد القيام للصلاة قوله المشهور: "أرحنا بها يا بلال".

 

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

"كان لا يُؤثر على الصلاة عشاءً، ولا غيرَه، وكان إذا دخل وقتها كأنّه لا يعرف أهلاً، ولا حميماً"[4] (الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام).

 

و "كان يُحدّثنا ونّحدّثه، فإذا حضرتِ الصلاةُ، فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرِفه"[5] (الحديث عن عائشة).

 

و"كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون في المُصلّين إلاّ كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذاكرين إلاّ كان أكثرهم ذكراً"[6] (الحديث عن عبد الله بن مسعود).

 


[1] سورة الأحزاب، الآية 21.

[2] اللفظ مروي عن مولانا الإمام الجواد عليه السلام ، بسند الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2 ، ص 272.

[3] عز الدين بن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 232، طبعة 1: دار الكتب العلمية.

[4] وارم بن أبي فراس مسعود بن عيسى، تبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج 2، ص 78، طبعة 1: مكتبة الفقيه، قم.

[5] العلامة المولى محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 67، ص 400، عن عدة الداعي.

[6] أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء، ج 7، ص 112، طبعة 4: دار الكتاب العربي.

 

224


188

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

و "كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يُصلّي مكتوبةً إلاّ قنتَ فيها"[1] (الحديث عن البراء بن مالك).

 

"وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسمع صوتَ الصبي يبكي، وهو في الصلاة، فيُخفّف الصلاة، فتصير إليه أُمُه"[2] (الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام).

 

"وكان صلى الله عليه وآله وسلم  يُصلّي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلمّا قضى الصلاة وضعهما في حجره"، فقال: "من أحبّني فليحبّ هذين"[3].

 

بكاؤه حال صلاته  صلى الله عليه وآله وسلم

لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم في كلّ أحواله، وخصوصاً عند أداء الفرائض نديّ الجفن، سريع العبرة، سخيّ الدمع، رقيق القلب، جيّاش العاطفة، تنطلق دمعته في صدق وطهر، ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات، يترك بكاؤه في قلوب أهل بيته وأزواجه وأصحابه آثاراً من التربية والاقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثّرة، ومن ذلك ما رواه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام عن آبائه الكرام، عن الحسين بن علي عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام في فضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ".. إنّه كان إذا قام إلى الصلاة سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل على الأثافي[4] من شدّة البكاء، وقد أمّنه الله عزّ وجلّ من عقابه، فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه، ويكون إماماً لمن اقتدى به، ولقد قام عليه وآله السلام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه، واصفرّ وجهه، يقوم الليل أجمع حتى عوتب في ذلك، فقال الله عزّ وجلّ: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[5].

 

بل لتسعد به، ولقد كان يبكي حتى يُغشى

 


[1] ابن أبي جمهور محمد بن زين الدين‏، عوالي اللئالي، ج‏2 ، ص 42، المسلك الرابع ، ص 5، ط 1 دار سيد الشهداء.

[2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج ‏2 ، ص 344، باب: 49.

[3] محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، صحيح ابن خزيمة، ج 2، ص 48، حديث رقم 887، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت.

[4] الأثافي جمع الأثفية: الحجر توضع عليه القدر، يعني أن لصوته وقلبه أنينا كصوت غليان القدر على النار.

[5] سورة طه، الآيتان 1 - 2.

 

225


189

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

في دينه، ولا نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شديدة قطّ إلّا وجّهه فيها ثقةً به، ولا أطاق أحدٌ من هذه الأُمّة عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده غيره، (إلى أن قال) وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبهاً به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليه السلام ، ولقد دخل ابنه أبو جعفر عليه السلام  عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر عليه السلام: "فلم أملك حين رأيتهبتلك الحال من البكاء، فبكيت رحمةً له، وإذا هو يُفكّر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي، وقال: يا بنيّ أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ، فأعطيته فقرأ منها شيئاً يسيراً ثم تركها من يده متضجّراً وقال: "من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ؟.."[1].

 

حاله عند حضور وقت الصلاة

كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن، فيُقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: "جاء وقت أمانة الله التي عرضها على السماوات والأرض (والجبال)، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، فلا أدري أحسنأداء ما حُمّلت أم لا"[2].

 

من حديث للإمام الصادق عليه السلام ذكر فيه مواقف من عبادة أمير المؤمنين عليه السلام: "وإن كان ليقوم إلى الصلاة، فإذا قال: وجّهت وجهي تغيّر لونه، حتى يعرف ذلك في وجهه"[3].

 


[1] الكليني، الكافي، ج ‏8، ص 163، حديث 172 و 173، وهو في بحار الأنوار، ج 46، ص 75 بتمامه.

[2] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب  عليهم السلام، ج ‏2، ص 122، فصل في المسابقة بصالح الأعمال.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 41، ص 133.

 

227


190

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

قال إمامنا الصادق عليه السلام: "كان علي عليه السلام إذا هاله شيء فزع إلى الصلاة، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾[1]،[2] وفي صفّين كان أمير المؤمنين عليه السلام يفرش له بين الصفين والسهام تتساقط حوله، وهو لا يلتفت عن ربّه ولا يُغيّر عادته ولا يفتر عن عبادته، وكان إذا توجّه إلى الله تعالى توجّه بكليّته، وانقطع نظره عن الدنيا وما فيها، حتى أنّه يبقى لا يُدرك الألم، إنّهم كانوا إذا أرادوا إخراج الحديد، والنشاب من جسده الشريف تركوه حتى يُصلّي، فإذا اشتغل بالصلاة، وأقبل إلى الله تعالى أخرجوا الحديد من جسده ولم يحس، فإذا فرغ من صلاته يرى ذلك فيقول لولده الحسن عليه السلام: إن هي إلا فعلتك يا حسن ، ولم يترك صلاة الليل قطّ حتى في ليلة الهرير[3].

 

روي عن الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: "كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يُصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، كما كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام"[4].

 

في محراب علي عليه السلام:

قال ضرار بن ضمرة الكناني عندما وصف مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: "فأشهد بالله إنّي لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وكأنّي أسمعهالآن وهو يقول: يا ربّنا يا ربّنا يتضرّع إليه، ثم يقول للدنيا إليّ تغرّرت أم إليّ تشوّفت هيهات هيهات غرّي غيري قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير وخطرك يسير آهٍ آه من قلّة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق"[5].

 


[1] سورة البقرة، الآية 45.

[2]ثقة الإسلام الكليني، الكافي، ج ‏3، ص 480، باب صلاة من خاف مكروها، طبعة الدار الإسلامية.

[3] حسن بن محمد الديلمي، إرشاد القلوب، ج 2، ص 217، فصل: في عبادته و زهده.

[4] الشيخ الصدوق، الخصال، ج 2، ص 517، طبعة 1: جماعة المدرسين، قم.

[5] أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ج 1، ص 85، طبعة 4: دار الكتاب العربي، بيروت.

 

228


191

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

وقد عَلم الله تعالى شدّة ارتباط عبده أمير المؤمنين علي عليه السلام بالصلاة، شاء الله أن تكون ولادته في جوف البيت الحرام، وأن يختم له حياته، وهو ساجدٌ في محراب مسجد الكوفة[1].

 

أبــــــا حســـــنٍ والليل مرخٍ ســـــــــدولهُ        وأنـــــت لـــــوجه الله عــان تناجـيهِ

براك الضنا من خوف باريك في غد               وقد أمن المغرور مـــن خوف باريه

وغالتك كـف الرجس فانفجع الهدى               وهدّت من الدين الحنــــيف رواسيه

 

خليفة الماضين وثمال الباقين

قال مولانا الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ أبي علي بن الحسين عليهما السلام ما ذكر لله عزّ وجلّ، نعمة عليه إلا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عزّ وجلّ فيها سجود إلا سجد، ولا دفع الله عزّ وجلّ عنه سوء يخشاه، أو كيد كائد إلا سجد، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد، ولا وفّق لإصلاح بين اثنين إلا سجد، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسُمّي السجّاد لذلك"[2].

 

قال الباقر عليه السلام: "كان علي بن الحسين يُصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وكانت الريح تميله بمنزلة السنبلة، وكانت له خمسمائة نخلة، وكان يُصلّي عند كل نخلة ركعتين، وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لون آخر، وكان قيامه في صلاتهقيام عبد ذليل بين يدي الملك الجليل، كانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يُصلّي صلاة مودّع يرى أنه لا يُصلّي بعدها أبداً"[3].

 

وقال إمام المالكية مالك بن أنس: "لقد أحرم علي بن الحسين، فلمّا أراد أن يقول لبّيك، قالها، فأُغمي عليه حتى سقط من ناقته، فهشم، ولقد بلغني أنّه كان يُصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يُسمّي بالمدينة زين العابدين لعبادته"[4].

 


[1] الأبيات للشيخ الدكتور أحمد الوائلي رحمه الله.

[2] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج‏1، ص 232، 166 باب العلة التي من أجلها سمي علي بن الحسين عليه السلام  السجاد.

[3] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب  عليهم السلام، ج ‏4، ص 150.

[4] جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي، تهذيب الكمال، ج 20، ص 390، طبعة 4: مؤسسة الرسالة.

 

229


192

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

بين يدي الله تعالى

وقال محمد بن سعد[1]، عن علي بن محمد، عن عبد الله بن أبي سليمان: كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذيه، ولا يخطر بيده، قال: وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له: ما لك؟ فقال: ما تدرون بين يدي من أقوم ومن أُناجي ! وقال عبيد الله بن محمد القرشي، عن عبد الرحمن بن حفص القرشي: "كان علي بن الحسين إذا توضّأ اصفرّ، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: تدرون بين يدي من أُريد أن أقوم".

 

قال أبو حمزة الثمالي: "رأيت علي بن الحسين عليهما السلام يُصلّي، فسقط رداؤه عن أحد منكبيه، قال: فلم يُسوِّه حتى فرغ من صلاته قال: فسألتُه عن ذلك فقال:... أتدري بين يدي من كنت؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه"[2]، وقال أبان بن تغلب: قُلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: إنّي رأيت علي بن الحسين عليهما السلام في الصلاة غشي لونه لون آخر، فقال لي: "والله إنّ علي بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه"[3].

 

وقال أبو نوح الأنصاري: وقع حريق في بيت فيه علي بن حسين، وهو ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار، يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه حتى طُفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ قال: "ألهتني عنها النار الأخرى"[4].

 

قال علي بن أبي حمزة: سألت مولاة لعلي بن الحسين عليه السلام بعد موته، فقُلتُ: صفي لي أمور علي بن الحسين، فقالت: أُطنب أو أختصر؟ فقُلتُ: بل اختصري. قالت: ما

 


[1] محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، الطبقات الكبرى، ج 5، ص 216، طبعة 1: دار صادر، بيروت.

[2] الشيخ الصدوق, علل الشرائع, ج, ص 231, باب 165.

[3] م. ن.

[4] الحُر العاملي في وسائل الشيعة، والذهبي في سير أعلام النبلاء، وابن عساكر الدمشقي في تاريخ دمشق، والحافظ أبو بشر الدولابي في الكنى والأسماء، وغيرهم.

 

230


193

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

أتيته بطعام نهاراً قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط[1].

 

كانت هذه نبذة يسيرة لبعض الصور من صلاة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأخيه أمير المؤمنين علي، وحفيدهم السجّاد زين العابدين عليهم السلام بقدر ما اتّسعت لها هذه الأوراق، ومصادر التراث الإسلامي زاخرةٌ تشهد على عباداتهم التي لا مثيل لها، وانقطاعهم التام إلى الله تعالى.

 


[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج 1، ص 232، باب 165.

 

231


194

الدرس السادس عشر: أحوال المعصومين عليهم السلام في الصلاة

المفاهيم الرئيسة

- ينبغي للمؤمن اتخاذ الرسول وآله عليهم السلام أسوة وقدوة، فيتمسّك بالشمائل الكريمة والخصال الحميدة, ويتبعهم ليحوز شفاعتهم يوم الفزع الأكبر، قال الله العظيم في مُحكم كتابه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾.

 

- كان صلى الله عليه وآله وسلم يجد في الصلاة مجلّى راحته، وميدان نعيمه، حيث كانت قرّة عينه فيها، فكان ينتظر وقت الصلاة، ويشتدُّ شوقُه ويترقّب دخوله، ويقول حين يريد القيام للصلاة قوله المشهور: "أرحنا بها يا بلال" وكان لا يُؤثر على الصلاة عشاءً، ولا غيرَه، وكان إذا دخل وقتها كأنّه لا يعرف أهلاً.

 

- لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم في كلّ أحواله، وخصوصاً عند أداء الفرائض نديّ الجفن، سريع العبرة، سخيّ الدمع، رقيق القلب، جيّاش العاطفة، تنطلق دمعته في صدق وطهر، ويسمع نشيجه في قنوت وإخبات، يترك بكاؤه في قلوب أهل بيته وأزواجه وأصحابه آثاراً من التربية والاقتداء والصلاح ما لا تتركه الخطبة البليغة والمواعظ المؤثّرة، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "وكان صلى الله عليه وآله وسلم يبكي حتى يبتلّ مصلاّه خشية من الله عزّ وجلّ من غير جُرمٍ".

 

- كان أمير المؤمنين عليه السلام يتّبع رسول الله اتّباع الفصيل أثر أمّه[1] لذلك كانت عبادته لله تعالى كعبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته وخشوعه، حتى إنّه لم يقدر أحدٌ أن يُصلّي صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أمير المؤمنين عليه السلام.

 

- كان الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن، فيُقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: "جاء وقت أمانة الله التي عرضها على السماوات والأرض (والجبال)، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، فلا أدريأحسن أداء ما حُمّلت أم لا".

 


 [1]إشارة إلى فرط ملازمته له، وعدم مفارقته إيّاه ليله ونهاره سفراً وحضراً، وفي خلواته.

 

232


195

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

الدرس السابع عشر

صلاة الجماعة

 

أهداف الدرس

 على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يفهم فضل صلاة الجماعة وحكمها.

 

2- يعرف فوائد صلاة الجماعة وآثارها.

 

3- يشرح أسباب العزوف عن صلاة الجماعة.

 

233


196

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

مقدّمة

إنّ من أعظم شعائر الإسلام صلاة الجماعة في المساجد، فقد شرع الله لهذه الأمّة الاجتماع في بيوته في أوقات معلومة لأداء هذه الشعيرة، فالمسلمون يجتمعون في اليوم والليلة خمسّ مرّات لأداء هذه الصلاة، وقد اتفق المسلمون على أنّ أداء الصلوات الخمس في المساجد من أوكد الطاعات وأعظم القربات، بل هي من أعظم وأظهر شعائر الإسلام، ولقد أثنى الله تعالى على الذين يُعمّرون مساجد الله وشهد لهم بالإيمان، وعمارتها تكون بالعمارة الحسّية وهي بناؤها، وبالعمارة المعنوية وهي عمارتها بالذكر والطاعة والعبادة، ومن ذلك إقامة الصلاة فيها مع المسلمين، فيجب على المسلم أن يُحافظ عليها في جماعة إلا من عذر، ولقد كان سيّدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج إلى المسجد في أيام مرضه الشديد، وهو بين أمير المؤمنين عليه السلام والعبّاس بن عبد المطلب، وقدماه تخطّان في الأرض، لا يمنعه ذلك من أن يُقيم للمسلمين الصلاة جماعة.

 

الجماعة لغة

الجماعة لغة: عدد كل شيء وكثرته، والجمعُ: تأليف المتفرِّق, والمسجدُ الجامعُ: الذي يجمع أهله، نعتٌ له؛ لأنّه علامة للاجتماع، ويجوز: مسجد الجامع بالإضافة، كقولك: الحقُّ اليقينُ وحقُّ اليقين، بمعنى: مسجد اليوم الجامع، وحقّ الشيء اليقين, لأنّ إضافة الشيء إلى نفسه لا تجوز إلا على هذا التقرير، والجماعة: عدد من الناس يجمعهم غرض واحد[1].

 


[1] ابن منظور لسان العرب، فصل الجيم، باب العين، ج 8, ص 55، والقاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب العين، فصل الجيم، ص 917.

 

235


197

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

الجماعة في الاصطلاح الشرعي: تُطلق على عدد من الناس، مأخوذة من معنى الاجتماع، وسُمّيت صلاة الجماعة: لاجتماع المصلّين في الفعل: مكاناً وزماناً.

 

صلاة الجماعة في القرآن الكريم

ومن مظاهر الحالة الدينية الجمعية ما نشهده في صلاة الجماعة، حيث شرّعها الله سبحانه ورغّب في حضورها، من خلال العديد من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، ومن محكمات الكتاب المجيد أمر الله تعالى بالصلاة جماعة حال الخوف، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾[1]، فالله عزّ وجلّ أمر بالصلاة في الجماعة في شدّة الخوف أثناء الجهاد، ففي الأمن إقامتها وأداؤها أولى، ثم أعاد هذا الأمر سبحانه مرّة ثانية في حقّ الطائفة الثانية، ولو لم تكن مطلوبة لرخَّص فيها حالة الخوف، ولم يُجِز الإخلال بواجبات الصلاة من أجلها.

 

أمر الله تعالى بالصلاة مع جماعة المصلّين فقال: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[2] ويُعاقب الله تعالى من لم يُجب المؤذّن فيُصلّي مع الجماعة، بأن يحول بينهم وبين السجود وتخشع أبصارهم وترهقهم الذلّة يوم القيامة، قال عزّ وجلّ: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾[3]، هذا لمن لم يُجب الداعي إلى الصلاة مع الجماعة وأن ظهورهم يوم القيامة تكون طبقاً واحداً: أي فقار الظهر كله يكون كالفقارة الواحدة، فلا يقدرون على السجود[4].


 


[1] سورة النساء، الآية 102.

[2] سورة البقرة، الآية 43.

[3] سورة القلم، الآيتان 42 - 43.

[4] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، ج 3, ص 114.

 

236


198

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

حكم صلاة الجماعة

يتّفق جميع المسلمين على أصل تشريع صلاة الجماعة في جميع الصلوات الواجبة، كما يتّفقون على عدم صحة صلاة الجمعة والعيدين ـ في حال وجوب صلاة العيدين ـ إلاّ جماعة.

 

ووقع الخلاف بين الفقهاء في حكم صلاة الجماعة في الفرائض اليومية، والآراء في حكمها ثلاثة:

الأول: واجبة فرض عين: وهو رأي أتباع المذهب الحنبلي، وبعض الأحناف.

 

الثاني: أنّها واجبة فرض كفاية: وهو رأي أتباع المذهب الشافعي.

 

الثالث: الجماعة في الفرائض غير الجمعة سنّة مؤكّدة، للرجال العاقلين القادرين عليها من غير حرج وهذا ما ذهب إليه الجعفرية، والأحناف والمالكية.

 

ومن عبارات أحد كبار فقهاء الجعفرية في الترغيب في صلاة الجماعة ما يلي: هي من المستحبّات الأكيدة في جميع الفرائض، خصوصاً اليومية منها وخصوصاً في الأدائية، ولا سيّما في الصبح والعشاءين، وخصوصاً لجيران المسجد أو من يسمع النداء، وقد ورد في فضلها وذمّ تاركها من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات... إلى أن قال رحمه الله: وكلّما كان المأمومون أكثر كان الأجر أزيد، ولا يجوز تركها رغبة عنها أو استخفافاً بها... فمقتضى الإيمان عدم الترك من غير عذر سيما مع الاستمرار عليه، فإنّه كما ورد لا يمنع الشيطان من شيء من العبادات منعها[1].

 

علّة تشريع صلاة الجماعة

روى الشيخ الصدوق بإسناده إلى الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "إنّما جُعلت الجماعة لئلّا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلا ظاهراً

 


[1] الفقيه السيد محمد كاظم اليزدي، العروة الوثقى، ج 1, ص 417، فصل في الجماعة، ط 2: مؤسسة الأعلمي.

 

237


199

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

مكشوفاً مشهوراً، لأنّ في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكونالمنافق والمستخفّ مؤدّياً لما أقرّ به، يُظهر الإسلام والمراقبة، وليكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البرّ والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عزّ وجلّ"[1].

 

فضل الصلاة في المسجد

تعقد صلاة الجماعة غالباً في المسجد، ولذا فإنّ المواظبة على الحضور إلى المساجد والمشاركة في الجماعات يحقّق ثواب الجماعة والصلاة في المسجد، وقد ورد الحثّ على الحضور في المساجد في العديد من الروايات.

 

قال مولانا رسول الله صلى الله عليه: "لا صلاة لجار المسجد إلا في مسجده"[2].

 

وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "لا صلاة لمن لم يشهد الصلوات المكتوبات من جيران المسجد إذا كان فارغاً صحيحاً"[3].

 

وروى صاحب الدعائم: عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن آبائه الكرام عن أمير المؤمنين علي عليهم السلام أنّه قال: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، إلا أن يكون له عذر، أو به علّة، فقيل له ومن جار المسجد يا أمير المؤمنين قال: منسمع النداء"[4].

 

وقال الإمام الباقر عليه السلام: "من ترك الجماعة رغبة عنها، وعن جماعة المسلمين من غير علّة فلا صلاة له"[5]، وكذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "مَنْ لم يُصلِّ جماعة فلا صلاة له بين المسلمين"، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا صلاة لمن لم

 


[1] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج ‏2, ص 109، 34 باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان..

[2] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3, ص 478، كتاب الصلاة، ابواب احكام المساجد، الباب 2, حديث 1.

[3] م. ن، حديث 3.

[4] القاضي النعمان، دعائم الإسلام، ج 1, ص 148، ومسند زيد الشهيد، ج 1, ص 113 عن الإمام زين العابدين عن أبيه عن الإمام عليّ عليه السلام، وليس فيه "إلاّ أن يكون له عذر أو به علّة".

[5] م. ن, ص 373.

 

238


200

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

يّصلِّ في المسجد مع المسلمين إلا من علّة"[1].

 

ما رواه الإمام الباقر عليه السلامأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبرئيل عليه السلام: "يا جبرئيل أيّ البقاع أحبّ إلى الله تعالى"؟

قال: "المساجد، وأحبّ أهلها إلى الله أوّلهم دخولاً وآخرهم خروجاً منها"[2].

 

وروى حفيده عبد الله بن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: "ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد، تُضيء لأهل السماء كما تُضيء النجوم لأهل الأرض، ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته، ألا طوبى لعبدتوضّأ في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"[3].

 

من فضائل صلاة الجماعة

المصلّي مع الجماعة يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد خمس وعشرين مرّة، وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة"[4].

 

وقد سأل زرارة الإمام الصادق عليه السلام: عن ما يروي الناس أنّ الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة، فقال عليه السلام: "نعم، صدقوا، فقُلتُ: الرجلان يكونان جماعة، قال عليه السلام: نعم ويقوم الرجل عن يمين الإمام"[5].

 

وروي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ الله يستحي من عبده إذا صلّى في جماعة ثم سأله حاجته أن ينصرف حتى يقضيها"[6].

 


[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج ‏2, ص 325، 18 باب علة الجماعة.

[2] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3، الباب 68, ص 554، حديث 2.

[3] م. ن، ج ‏1, ص 381، 10 - باب استحباب الطهارة لدخول المساجد..

[4] الشيخ الصدوق، الخصال، ج 2, ص 521.

[5] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3, ص 371، باب فضل الصلاة في الجماعة.

[6] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج ‏85, ص 4، باب 1 فضل الجماعة..

 

239


201

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

وروى الشيخ الصدوق بسنده إلى الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وإنّ الله عزّ وجلّ ليهمّ بعذاب أهل الأرض جميعاً حتى لا يُحاشي منهم أحداً، فإذا نظر إلى الشيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلوات، والولدان يتعلّمون القرآن رحمهم الله فأخّر ذلك عنهم"[1].

 

فضل المشي إلى صلاة الجماعة

قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[2] المشي لأداء الصلاة جماعة من الأعمال الصالحة ومن أعظم الطاعات والقربات، وقد ثبت في ذلك فضائل عظيمة وكثيرة، منها:

جاء عن الإمام الصادق عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة كان له بكلّ خطوة سبعون ألف حسنة، ويرفع له من الدرجات مثل ذلك،.."[3].

 

إنّ التخلّف عن صلاة الجماعة ليس من شأن أهل الإيمان وعاداتهم، بل إنّه مناف لأحوالهم, بل هو مطابق لأحوال غيرهم، قال عبد الله بن مسعود: "لقد رأيتُنا وما يتخلَّف عن الصلاة إلا منافق قد عُلِم نفاقه، أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّمنا سُنن الهُدى، وإنّ من سُنن الهُدى الصلاة في المسجد الذي يؤذّن فيه"[4].

 


[1] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال, ص 39، ثواب نقل الأقدام إلى الصلاة و تعليم القرآن.

[2] سورة النحل، الآية 97.

[3] م. ن، ج 8, ص 287.

[4] سليمان بن أحمد الطبراني، المعجم الكبير، ج 9, ص 120، حديث 8608، ط 2: مكتبة العلوم والحكم.

 

240


202

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

من فوائد صلاة الجماعة

صلاة الجماعة فيها فوائد كثيرة، ومصالح عظيمة، ومنافع متعدّدة شُرّعت من أجلها، ومن هذه الفوائد والحكم التي شُرّعت من أجلها ما يأتي:

1- شرّع الله عزّ وجلّ لهذه الأمّة الاجتماع في أوقات معلومة، منها ما هو في اليوم والليلة كالصلوات الخمس، ومنها ما هو في الأسبوع وهو صلاة الجمعة، ومنها ما هو في السنة متكرّراً وهو صلاة العيدين لجماعة كلّ بلد، ومنها ما هو عامٌّ في السنة وهو الوقوف بعرفة, لأجل التعبّد لله تعالى بهذا الاجتماع, طلباً للثواب وخوفاً من عقاب الله ورغبة فيما عنده، والتواصل بين أهل الإسلام والإحسان، والعطف، والرعاية, ولأجل نظافة القلوب، والدعوة إلى الله عزّ وجلّ بالقول والعمل.

 

2- التوادد، وهو التحاب, لأجل معرفة أحوال بعضهم البعض، فيقومون بعيادة المرضى، وتشييع الموتى، وإغاثة الملهوفين، وإعانة المحتاجين, ولأنّ ملاقاة الناس بعضهم لبعض توجب المحبّة، والألفة والتعارف, لأنّ الناس إذا صلّى بعضهم مع بعض حصل التعارف، وقد يحصل من التعارف معرفة بعض الأقرباء فتحصل صلته بقدر قرابته، وقد يعرف الغريب عن بلده فيقوم الناس بحقّه.

 

3- إظهار شعيرة من أعظم شعائر الإسلام, لأنّ الناس لو صلّوا كلّهم في بيوتهم ما عرف أنّ هنالك صلاة، فصلاة الجماعة هي في الأصل أداء للواجب والتكليف الشرعي ومظهر من مظاهر التديّن، فتعزيزها تعزيز للحالة الدينية الاجتماعية.

 

4- التوجيه والمعرفة الدينية: لأنّ كثيراً من الناس يستفيد من خلال حضورهم للصلاة باستماع الخطب والمواعظ الدينية وعرض أسئلتهم واستفتاءاتهم الدينية على إمام الجماعة إذا كان من أهل المعرفة والعلم.

 

5- استشعار المسلم وقوفه في صف الجهاد كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ

 

241


203

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾[1]، فالمجاهدون الذين صاروا صفّاً واحداً في الجهاد لا شك أنّهم إذا تعودّوا ذلك في الصلوات الخمس سوف يكون ذلك وسيلة إلى ائتمامهم بقائدهم في صفّ الجهاد، فلا يتقدّمون ولا يتأخّرون عن أوامره.

 

6- شعور المسلمين بالمساواة، وتحطيم الفوارق الاجتماعية, لأنّهم يجتمعون في المسجد: أغنى الناس بجنب أفقر الناس، والأمير إلى جنب المأمور، والصغير إلى جنب الكبير، وهكذا، فيشعر الناس بأنّهم سواء، فتحصل بذلك الألفة، ويتفقّد أحوال الفقراء والمعوزين، والمرضى.

 

العزوف عن صلاة الجماعة

وقد يتساءل البعض: ما دامت لصلاة الجماعة هذه الفوائد والآثار الطيّبة على المجتمع، إضافة إلى ما ورد من النصوص الدينية في الحثّ عليها وتبيين عظيم ثوابها عند الله تعالى، فلماذا نجد العزوف عند الكثيرين عن حضورها، حيث لا يُمثّل الحضور لصلاة الجماعة إلا نسبة قليلة محدودة من المجتمع؟

 

لا بدّ أن هناك أسباباً لعلّ من أبرزها ما يلي:

الأول: ضعف الاهتمام الديني

فمن يهتم بتعاليم الدين لا يترك صلاة الجماعة، إذا كان عارفاً بقيمتها وفضلها عند الله، ومن يرغب في ثواب الله تعالى، لا يتأخّر عن صلاة الجماعة، مع ما ورد فيها من الأجر العظيم والثواب الكبير.

 

لكن يبدو أنّ الكثيرين يفتقدون رغبة الإقبال على هذه الشعيرة العظيمة، بسبب ضعف الاهتمام الديني في نفوسهم. إذا كان هذا مستوانا في الصلاة وهي عمود

 


[1] سورة الصف، الآية 4.

 

242


204

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

الإسلام، فكيف بباقي شرائع الدين كيف ترتقي أمّة لا تُحسن المعاملة مع الله؟ كيف تُفلح أمّة لا تُقدّس شعائر الله؟ كيف تكون صادقة في الحرب، أو في التعليم أو في الحضارة أو في الإدارة؟ وهي لا تُحسن الاتصال بربّها في صلاة فرضها الله عليها.

 

الثاني: الكسل

إنّ قسماً من الناس يستثقل الذهاب إلى صلاة الجماعة، لأنّها تأخذ جزءاً من وقته، وتصرف شيئاً من جهده، فيرى صلاته منفرداً في البيت أسهل وأيسر، مع أنّ الوقت والجهد اللذين تستلزمهما صلاة الجماعة محدود ضئيل، وهو يصرف أضعاف ذلك الوقت والجهد على سائر شؤون حياته من الكماليات والرفاهيات. كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، في مقابل ما نُضيّعه في الأكل والشرب والنوم والمرح، إنّها دقائق معدودة، ألا يستحقّ صرفها لمناجاة الله تعالى، والوقوف بين يديه والاتصال به جلّ شأنه، فهل استغنيت عن الله يوم أن قطعت الصلة بينك وبينه؟

 

إنّ الله أمر نبيّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّته بصلاة الخوف جماعة في حال الحرب، وهو وقت عصيب، يواجه المسلمون فيه عدوّهم، فقال جلّ وعلا: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ﴾[1]، فهل تظنّ يا أخي الحبيب أنّ صلاة الجماعة تجب على هؤلاء في هذه الظروف الحالكة، ولا تجب على رجل يتقلّب في فراشه الناعم آمناً مطمئناً معافى؟!

 

الدعوة لصلاة الجماعة

يحتاج مجتمعنا إلى حملة مكثفة من التوعية والتوجيه لحثّ الناس على صلاة الجماعة، بنشر الكتب والمقالات التي تتناول فضلها وأهمّيتها، وينبغي أن تفتح المنتديات على مواقع الإنترنت باب النقاش والبحث حول أسباب العزوف عن صلاة

 


[1] سورة النساء، الآية 102.

 

243


205

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

الجماعة في المجتمع، وطرق التشجيع على المواظبة عليها، والعلماء والخطباء عليهم أن يُكرّروا الدعوة إليها والحثّ على الاهتمام بهذه الشعيرة العظيمة.

 

ويُمكن الاستفادة من الجّوال، بإرسال رسائل قصيرة إلى الأصدقاء والأقرباء، لدعوتهم لصلاة الجماعة.

 

ولو تشكّلت في كلّ مسجد لجنة للدعاية والإعلام لصلاة الجماعة، وابتكار الوسائل والأساليب المؤثّرة في جذب الناس لها، فإنّها ستُحقّق نتائج جيّدة.

 

وعلى كلّ فرد منّا أن يحثّ ويُشجّع أقرباءه وأصدقاءه، ولا يسأم من دعوتهم لصلاة الجماعة، فإنّ الدال على الخير كفاعله. وذلك مصداق من مصاديق الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف.

 

جعلنا الله وإيّاكم ممّن استعملهم الله تعالى بطاعته وجعل رغبتنا إليه، وفيما عنده إنّه على ما يشاء قدير.

 

 

244


206

الدرس السابع عشر: صلاة الجماعة

المفاهيم الرئيسة

- تعتبر صلاة الجماعة في المساجد من أعظم شعائر الإسلام، ومن أوكد الطاعات وأعظم القربات.

 

- أثنى الله تعالى على الذين يُعمّرون مساجد الله وشهد لهم بالإيمان، والمقصود من العمارة العمارة الحسّية, وهي بناء المساجد، والعمارة المعنوية, وهي عمارتها بالذكر والطاعة والعبادة، وإقامة الصلاة فيها.

 

- الجماعة في اللغة هي عدد كل شيء وكثرته، وتُطلق الجماعة في الاصطلاح الشرعي على عدد من الناس، وهي مأخوذة من معنى الاجتماع، وسُمّيت صلاة الجماعة: لاجتماع المصلّين في الفعل: مكاناً وزماناً.

 

- يتّفق جميع المسلمين على أصل تشريع صلاة الجماعة في جميع الصلوات الواجبة، وعدم صحّة صلاة الجمعة والعيدين ـ في حال وجوب صلاة العيدين ـ إلاّ جماعة, ووقع الخلاف بين الفقهاء في حكم صلاة الجماعة في الفرائض اليومية وفق ثلاثة أراء: القول بوجوبها العيني, والقول بوجوبها الكفائي, وقول اعتبر أنَّ الجماعة في الفرائض(باستثناء صلاة الجمعة) سنّة مؤكّدة وهذا ما ذهب إليه الجعفرية، والأحناف والمالكية.

 

- للصلاة جماعة فوائد عديدة أبرزها: التعبّد لله تعالى, طلباً للثواب وخوفاً من عقاب الله ورغبة فيما عنده، والتوادد، والتحاب والتواصل, والتعارف بين المسلمين, وإظهار شعيرة من أعظم شعائر الإسلام, والتوجيه والمعرفة الدينية, واستشعار المسلم وقوفه في صف الجهاد, وشعور المسلمين بالمساواة، وتحطيم الفوارق الاجتماعية.

 

- من أبرز أسباب العزوف عن صلاة الجماعة ضعف الاهتمام بالتعاليم الدينية, واستثقال الهمّة، والكسل.

 

245


207

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

الدرس الثامن عشر

النوافل وصلاة الليل

         

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يذكر فضل النوافل وآثارها.

 

2- يتعرّف على فضل صلاة الليل.

 

3- يفهم الآثار الدنيوية والأخروية لمصلّي صلاة الليل.

 

247


208

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

مقدّمة

في طبيعة الإنسان أنّه لا يستمرّ على حال واحدة، فإنّ وجدته صافياً ساعة تعكّر أخرى، وإن وجدته مسروراً من شيء، نكد عليه شيء آخر، فمن كان من بني الإنسان مؤمناً بالله تعالى، فإنّه يعلم أنّ لديه منهاجاً يُعدّ مفتاحاً لكلّ خير يُعطي قلبه أنساً وسعادة، وروحه بشراً وطمأنينة، وجسده نشاطاً وحيوية، نعم إنّ هذا المنهاج هو الصلاة التي تتكرّر لتكون بمثابة صيانة مستمرّة للعبد، يعرض المسلم فيها نفسه على خالقه، فيظلّ في رحاب الله، تحرسه مراقبته، يستمدّ منه سبحانه طاقات إيمانية تُعينه على شواغل الحياة، فلا ينخدع بفتن الدنيا، ولا تُشغله مادة، لأنّ قلبه يُشحن من صلاة إلى صلاة، بزاد يُنمّي دوافع الخير فيه، ويقضي على دوافع الشر، وفي الحديث الوارد عن الإمام الرضا عليه السلام : ".. ومن انتظر الصلاة فهو في صلاة في حكم التمام"[1]، هذا وإنّ للصلاة المفروضة مكمّلات ومتمّمات، تسدّ خللها، وتجبر نقصها، وهذه المتمّمات تُسمّى النوافل، وقد تركها الله تعالى حرّة من قيد الجماعة، ليتزوّد فيها العباد من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقلّ منهم من يستقلّ، ويستكثر من يستكثر، فإنّها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سادة البشر، ومن الأخطار الجسيمة على مستوى تربية النفس وتزكيتها أن لا يعي الإنسان أهميّة هذه النوافل والمستحبّات، فيُحرم من بركاتها العظيمة وآثارها التي لا تُعدّ ولا تُحصى، والتي يسّرها الله للإنسان، وفتح له من خلالها أسباب قوّة الإيمان ومنعته، ومن أهمّ هذه النوافل "صلاة الليل" التي لها أثر كبير في نيل مقام القرب الإلهيّ وتزكية

 


[1] الحرّ العاملي, وسائل الشيعة, ج7, ص 313.

 

249


209

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

النفس، فقد أمر تعالى بها نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ووعده عليها بالمقام الرفيع وقد حثّت عليها كثيراً الأحاديث والإرشادات الشريفة.

 

النوافل

النافلة كلمة تحتوي الكثير من المعاني الجميلة ومهما قيل في تفسيرها لغة، فإنّها على كلّ حال تتضمّن معنى: الزيادة، وهي تعني في الشرع الزيادة في العبادة على مقدار الفريضة، من جنس تلك الفريضة وتجدر الإشارة إلى أنّ النوافل ليست محصورة في الصلاة؛ وإنّما لكلّ عبادة فروضها ونوافلها التي سيكون العبد يوماً ما بأمسّ الحاجة إليها، وباستثناء الذين سبقت لهم من الله الرحمة، فإنّه يغيب عن المسلم أنّه لا يخلو من تقصير في واجب، أو وقوع في معصية، وأنّه بحاجة إلى هذه النوافل التي تجبر نقصه، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾[1]. إنّ في النوافل من الفوائد والمعاني والدلالات العظيمة ما لا يُدركه إلا من فتح الله عين بصيرته، وأزاح الرين عن قلبه.

 

من فضائل النوافل

النوافل يجبر بها يوم القيامة ما قد يكون في الفرائض من نقص أو خلل غير مبطل، فهي سور منيع، وسياج يحمي الفرائض من تسرّب الضعف إليها، فمن حافظ على النوافل كان على الفرائض أشدّ محافظة، ومن تهاون بها سهل عليه أن يُفرّط بالفرائض، والعياذ بالله، فإنّ الشيطان والنفس الأمّارة أول ما يُشجّعان المرء على ترك النافلة، معلّلين له بأنّها ليست فريضة، فإذا نجحا في ذلك خطيا خطوة أخرى مع العبد المخدوع الخاضع لإيحاءات النفس ووسوسة الشيطان.

 


[1] سورة هود، الآية 114.

 

250


210

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

النفس، فقد أمر تعالى بها نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ووعده عليها بالمقام الرفيع وقد حثّت عليها كثيراً الأحاديث والإرشادات الشريفة.

 

النوافل

النافلة كلمة تحتوي الكثير من المعاني الجميلة ومهما قيل في تفسيرها لغة، فإنّها على كلّ حال تتضمّن معنى: الزيادة، وهي تعني في الشرع الزيادة في العبادة على مقدار الفريضة، من جنس تلك الفريضة وتجدر الإشارة إلى أنّ النوافل ليست محصورة في الصلاة؛ وإنّما لكلّ عبادة فروضها ونوافلها التي سيكون العبد يوماً ما بأمسّ الحاجة إليها، وباستثناء الذين سبقت لهم من الله الرحمة، فإنّه يغيب عن المسلم أنّه لا يخلو من تقصير في واجب، أو وقوع في معصية، وأنّه بحاجة إلى هذه النوافل التي تجبر نقصه، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾[1]. إنّ في النوافل من الفوائد والمعاني والدلالات العظيمة ما لا يُدركه إلا من فتح الله عين بصيرته، وأزاح الرين عن قلبه.

 

من فضائل النوافل

النوافل يجبر بها يوم القيامة ما قد يكون في الفرائض من نقص أو خلل غير مبطل، فهي سور منيع، وسياج يحمي الفرائض من تسرّب الضعف إليها، فمن حافظ على النوافل كان على الفرائض أشدّ محافظة، ومن تهاون بها سهل عليه أن يُفرّط بالفرائض، والعياذ بالله، فإنّ الشيطان والنفس الأمّارة أول ما يُشجّعان المرء على ترك النافلة، معلّلين له بأنّها ليست فريضة، فإذا نجحا في ذلك خطيا خطوة أخرى مع العبد المخدوع الخاضع لإيحاءات النفس ووسوسة الشيطان.

 


[1] سورة هود، الآية 114.

 

250


210

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

لذلك يُعدّ أداء النوافل دلالة على أنّ الفرائض محمية مصانة، وأنّ التهاون بها مستبعد، وهي أمارة على أنّ هذا العبد الذي يحرص على أداء النوافل سيكون على أداء الفرائض أشدّ حرصاً، والنوافل دليل من أدلّة العبودية لله تعالى، لأنّ الإنسان بطبعه يميل إلى الراحة، ولكن ما الذي يجعل جنبه يتجافى عن مضجعه؟ وما الذي يبعثه من فراشه ليقف في جوف الليل البهيم، وبرد الشتاء متذلّلاً خاشعاً بين يدي مولاه؟ إنّه الشوق إلى لقاء الله ومرضاته، والأنس بمولاه الكريم، والراحة التي يجدها في خلوته به.

 

أحباب الله

والنوافل كذلك علامة على أنّ العبد يرغب بالتقرّب إلى الله سبحانه، ويبتغي الزلفى لديه عزّ وجلّ، وهذا ينقله إلى مرتبة رفيعة؛ هي مرتبة المحبوبية. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[1]، وقال الحبيب المصطفى مُحمد  صلى الله عليه وآله وسلم  يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلاً يُحبّ الله ورسولَه، ويُحبّه اللهُ ورسولُه" فتطاول القوم لها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ادعوا لي علياً"[2]، فلا يكفي أن تكون محبّاً، فالأهمّ والأرقى أن تكون محبوباً سائراً على خطى إمامك أمير المؤمنين، وحبيب رسول ربّ العالمين علي بن أبي طالب عليهما السلام

ربيب طه حبيب الله أنت ومن                   كان المربّي له طه فقد برعا

سمّتك أمّك بنت الليث حيدرة                    أكرم بلبوة ليثٍ أنجبت سبعا

لك الكساء مع الهادي وبضعته        وقرَّتي ناظريه ابنيك قد جمعا


 


[1] سورة المائدة، الآية 54.

[2] مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، ج 4، ص 1870، حديث رقم 32 - (2404)، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

 

251


211

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

وفي الحديث القدسي المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "يقول تعالى: من عادى لي وليّاً فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أُحبّه"[1].

 

المتهجّد العظيم

رأى بعض العلماء أنّ هذه الزيادات على الفرائض لا تُعدّ في حقيقتها نوافل إلا في حقّ النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم, لأنّ سلوكه وعباداته وأخلاقه قد بلغت الكمال البشري الذي قدّره الله له، وهو مك صلى الله عليه وآله وسلم  سيّد من عصمهم الله تعالى عن الوقوع في المعاصي، وقد خاطبه الله تعالى قائلاً: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا﴾[2].

 

والتّهجّد هو: ترك الهجود - النوم - للصلاة، والمتهجّد هو: القائم من النوم إلى صلاة الليل، وكلمة من تبعيضية، أي: وبعض اللّيل أُترك النوم به لصلاته.

 

أجمع المفسّرون على أنّ الخطاب خاصٌّ للرسول الأعظم  صلى الله عليه وآله وسلم ، فالمعنى أنّه يا محمد.. اُترك الهجود بعض الليل لأجل الإتيان بنافلته التي هي لك فريضة.

 

وحبّذا لو تُلاحظ كلمة ﴿لَكَ﴾، التي وردت في الآية المباركة، فكأنّها إشارة إلى اقتصار المعنى الحقيقي للنافلة على ما يؤدّيه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  من عبادات زائدة على الفرض، أمّا بحقّ غيره، فهي مكفّرات للذنوب، وجوابر للنقص، ومندوبة على الأمة اقتداء به، وتأسّياً بطريقته، واستناناً بسنّته بمنطوق قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[3].

 


[1] الحافظ الكبير والشيخ المحدث محمد بن الحسن الحُر العاملي، الجواهر السنية في الأحاديث القدسية، ص 244، الباب 11: فيما ورد بشأن سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله  صلى الله عليه وآله وسلم ، طبعة 3، منشورات دهقان، طهران.

[2] سورة الإسراء، الآية 79.

[3] سورة الأحزاب، الآية 21.

 

252


212

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

الرواتب اليومية

عدد النوافل بعد عدّ وتيرة العشاء ركعة، أربع وثلاثون ركعة ضعف عدد الفرائض، وتسقط في السفر الموجب للقصر ثمانية الظهر وثمانية العصر، وتثبت البواقي، والأحوط الإتيان بالوتيرة رجاء.

 

والمندوبة أكثر من أن تُحصى، وهي كالآتي:

1- ثمان ركعات للظهر قبله. ووقت نافلة الظهر من الزوال إلى الذراع - أي سبعي الشاخص.

 

2- وثمان للعصر قبله، ووقت نافلة العصر إلى الذراعين - أي أربعة أسباعه - فإذا وصل إلى هذا الحد يُقدّم الفريضة.

 

3- وأربع للمغرب بعده.

 

4- وركعتان من جلوس للعشاء بعده تُعدّان بركعة تُسمّى بالوتيرة، ويمتدّ وقتها بامتداد وقت صاحبها.

 

5- وركعتان للفجر قبل الفريضة، ووقتها الفجر الأول، ويمتدّ إلى أن يبقى من طلوع الحمرة مقدار أداء الفريضة، ويجوز دسها في صلاة الليل قبل الفجر ولو عند نصف الليل، بل لا يبعد أن يكون وقتها بعد مقدار إتيان صلاة الليل من انتصافها، ولكن الأحوط عدم الإتيان بها قبل الفجر الأول إلا بالدسّ في صلاة الليل.

 

6- وإحدى عشرة ركعة نافلة الليل، صلاة الليل ثمان ركعات ثم ركعتا الشفع ثم ركعة الوتر، وهي مع الشفع أفضل من صلاة الليل، وركعتا الفجر أفضل منهما، ويجوز الاقتصار على الشفع والوتر، بل على الوتر خاصة عند ضيق الوقت، وفي غيره يأتي به رجاءً، ووقت صلاة الليل نصفه إلى الفجر الصادق، والسحر أفضل من غيره، والثلث الأخير من الليل كله سحر، وأفضله القريب من الفجر، وأفضل منه التفريق كما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

253


213

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

صلاة الليل شرف المؤمن

تُعتبر صلاة الليل أهمّ النوافل، فهي تمسّكٌ بأخلاق النبيين، وهي المانعة من نزول العذاب، وهي النور والأنيس في القبر، وهي التي تنفي السيئات، وتدرّ الأرزاق، غذاء القلوب، وزاد الأرواح، مناجاةٌ ودعاء، خضوع وثناء، تذلّل وبكاء، وتوسّل ورجاء، واعتصام والتجاء، وتواضع لكبرياء الله، وخضوع لعظمته، وانطراح بين يديه، وانكسار وافتقار إليه، تذلّلٌ وعبودية بين يديه، إنّها ملجأ المسلم، وملاذ المؤمن، فيها يجد البلسم الشافي، والدواء الكافي، والغذاء الوافي، إنّها خير عدّة وسلاح، وأفضل جُنَّة وكفاح، وأعظم وسيلة للصلاح والفلاح والنجاح، تنشئ في النفوس، وتذكي في الضمائر قوةً روحية, وإيمانًا راسخًا، ويقينًا عميقًا، ونورًا يُبدّد ظلمات الفتن، ويقاوم أعتى المغريات والمحن، وكم فيها من الأسرار والحكم، والمقاصد والغايات، فما أعظم الأجر، وأوفر الحظّ لمن واظب على أدائها:

 

الشرف الوضاح:

لتبيان ماهية هذا الشرف ننقل عن الإِمام جعفر بن محمد الصادقعليه السلام قوله: "ما مِن عمل حسن يعملهُ العبد إِلاَّ ولهُ ثواب في القرآن إِلاَّ صلاة الليل، فإِنَّ الله لم يُبيّن ثوابها لعظيم خطرها عنده فقال: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*  فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[1].[2]

 

وفي معتبر هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "جاء جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنّك ميت، وأحبب ما شئت، فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنّك تجزى به.. واعلم أنّ شرف الرجل قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس"[3].

 


[1] سورة السجدة، الآيتان 16 - 17.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 87، ص 140.

[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 472، باب ثواب صلاة الليل.

 

254


214

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

وفي صحيح عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "ثلاث من فخر المؤمن وزينه في الدنيا والآخرة: الصلاة في آخر الليل، ويأسه ممّا في أيدي الناس، وولايته الإمام من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم"[1].

 

تمسُّك بأخلاق النبيّين:

وبالرغم مِن أنّنا نعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يترك صلاة الليل أبداً، ولكن نظراً لأهمّية هذه الصلاة فإنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  أوصاهُ بها في جملة مِن وصاياه لهُ، رواها حفيده الصادق عليه السلام ، فقال: كان في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام أن قال: "يا علي. أُوصيك فينفسك بخصال احفظها عنّي، ثم قال: اللهم أعنه.. إلى أن قال.. وعليك بصلاة الليل.. وعليك بصلاة الليل.. وعليك بصلاة الليل.."[2].

 

وروي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "خيركم مَن أطابَ الكلام، وأطعم الطعام وصلّى بالليل والناس نيام"[3].

 

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "قيام الليل مصحّة للبدن، ومرضاة للرّب عزّ وجلّ، وتعرّض للرحمة، وتمسّك بأخلاق النّبيّين"[4]، وفي سيرته العطرة صلوات الله عليه لم يترك صلاة الليل قطّ حتى في ليلة الهرير[5].[6]

 

أبا حــــــســـــــــــنٍ والليل مرخٍ ســـــــــــــــــــدوله    وأنت عان لوجـــــــــــــه الله تُناجــيـــــــــــــــهِ

براك الظنا من خوفِ باريك في غدٍ                        وقد أمن المغرور من خوف باريهِ

على شفتيك الذكر يطفحح سلسلاً                           فتنهل علاً من ســــموِّ معانيهِ

 


[1] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 8، ص 234.

[2] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 91.

[3] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 87، ص 142 - 148.

[4] م. ن.

[5] حسن بن محمد الديلمي، إرشاد القلوب، ج 2، ص 217، فصل: في عبادته وزهده سلام الله عليه.

[6] الأبيات للشيخ العميد الدكتور أحمد الوائلي رحمه الله.

 

255


215

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

غفران الذنوب:

روي عن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[1] قال: "صلاة المؤمن باللّيل تَذهَب بما عمل من ذنب بالنّهار"[2].

 

روى اسحاق بن عمار أنّ الإمام الصادق عليه السلام وقف على رجلٍ يُصلّي فقال له: (يا عبدَ اللهِ أيَّ شيءٍ تُصلّي؟) فقال: "صلاة الليلِ فاتتني أقضيها بالنهارِ". فقال عليه السلام (لصاحبه) حُطَّ رَحلك حتَّى نتغدَّى مع الذي يقضي صلاةَ الليلِ. فقال: جُعلت فداكَ تروي فيه شيئاً، فقال عليه السلام: حدّثني أبي، عن آبائه، قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ اللهَ يُباهي بالعبدِ يقضي صلاةَ الليلِ بالنهارِ، يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي كيف يقضي ما لم أفترضْ عليه، أُشهِدُكم أنّي قدْ غفرْتُ له"[3].

 

وروي عن الصادق عليه السلام عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: "إذا قامَ العبدُ من لذيذِ مضجعِه، والنعاسُ في عينه، ليُرضي ربَّه تعالى بصلاةِ ليلِه. باهى اللهُ تعالى به الملائكةَ، وقالَ أَما ترَون عبدي هذا قد قام من لذيذِ مضجعِه لصلاةٍ لم أفترضْها عليه،اشهَدوا أنّي قد غفرتُ له"[4].

 

للمتهجـّدون بالأسحار:

صلاة الليل لها أثر كبير في ترقّي العبد وعلوّ درجاته، فإنّ انفراد مؤدّيها ـ في جوف الليل بربّه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويُناجيه ملحّاً عليه، متوسّلاً بسعة رحمته إليه، راجياً لاجئاً، راهباً راغباً، منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلاّ إليه، فإنّ عوائد الله ستترادف على هذا العبد.

 


[1] سورة هود، الآية 114.

[2] ثقة الإسلام الشيخ الكليني، الكافي، ج 3، ص 266.

[3] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 4، ص 278 - 279.

[4] الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان أعلى الله مقامه، المقنعة، ص 120، 9: باب كيفية الصلاة و صفتها.

 

256


216

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

روى الإمام علي بن موسى الرضا عن أبيه، عن جدّه قال: سُـئل علي بن الحسين عليهم السلام: ما بال المتهجّدين بالليل من أحسن الناس وجهاً؟.. قال عليه السلام : "لأنّهم خلوا بالله، فكساهم الله من نوره"[1].

 

روى عبد الله بن سنان، أنّه سأل الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾[2]؟ قال: "هو السهر في الصلاة"[3].

 

وروى ابن عمار عنه عليه السلام قال: "صلاة الليل تُحسّن الوجه، وتُحسّن الخلق، وتطيب الريح، وتدرّ الرزق، وتقضي الدين، وتذهب بالهمّ، وتجلو البصر"[4].

 

ولتبيان كثرة هذه الآثار الحميدة نقول روى يعقوب بن زيد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كذب من زعم أنه يُصلّي صلاة الليل وهو يجوع، إنّ صلاة الليل تضمن رزق النهار"[5].

 

قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ البيوت التي يُصلّى فيها بالليل بتلاوةِ القرآنِ تُضيءُ لأهلِ السماءِ كما تُضيءُ نجومُ السماء لأهلِ الأرض"[6].

 

التحذير من ترك صلاة الليل

قال الإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام : "ليس منّا من لم يُصلّ صلاة الليل"[7].

 

قال الإمام الباقر عليه السلام : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يبيتنّ إلا بوتر"[8].

 


[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج ‏8، ص 157، 39 - باب تأكد استحباب المواظبة على صلاة الليل.

[2] سورة الفتح، الآية 29.

[3] من لا يحضره الفقيه، ج‏1، ص 471، باب ثواب صلاة الليل.

[4] م. ن.

[5] البرقي، المحاسن، ج‏1، ص 53، باب 61، ثواب صلاة الليل.

[6] الحُر العاملي، وسائل الشيعة، ج 5، ص 294.

[7] الشيخ الصدوق، المقنع، ص 131، 19، باب صلاة الليل، طبعة 1: مؤسسة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، قم.

[8] شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 2، ص 341، ح 1412.

 

257


217

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

عن محمد بن سليمان الدليمي، عن أبيه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "يا سليمان. لا تدع قيام الليل، فإنّ المغبون من حرم قيام الليل"[1].

 

أسباب الحرمان من صلاة الليل

تؤكّد الروايات أنّ من أسباب الحرمان من صلاة الليل الذنوب على اختلافها.

 

ـروي أنّه جاء رجل إِلى أمير المؤمنين علي عليه السلام وقال لهُ: إِنّي محروم مِن صلاة الليل، فأجابه عليه السلام: "أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك"[2].

 

في حديث آخر عن الإِمام الصادق عليه السلام قال: "إِنَّ الرجل ليكذب الكذبة، ويُحرم بها صلاة الليل، فإِذا حرم بها صلاة الليل حُرِمَ بها الرّزق"[3].

 

نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم من عباده ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾[4].

 


[1] م. ن، ج 2 ص 122.

[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 87، ص 142 - 148.

[3] المصدر السابق.

[4] سورة الزمر، الآية 18.

 

258


218

الدرس الثامن عشر: النوافل وصلاة الليل

المفاهيم الرئيسة

- النافلة كلمة تحتوي الكثير من المعاني الجميلة ومهما قيل في تفسيرها لغة، فإنّها على كلّ حال تتضمّن معنى: الزيادة، وهي تعني في الشرع الزيادة في العبادة على مقدار الفريضة، من جنس تلك الفريضة.

 

- من فضائل النوافل أنه يجبر بها يوم القيامة ما قد يكون في الفرائض من نقص أو خلل غير مبطل, وهي سور منيع، وسياج يحمي الفرائض من تسرّب الضعف إليها، فمن حافظ على النوافل كان على الفرائض أشدّ محافظة، ومن تهاون بها سهل عليه أن يُفرّط بالفرائض.

 

- النوافل علامة على أنّ العبد يرغب بالتقرّب إلى الله سبحانه، ويبتغي الزلفى لديه عزّ وجلّ، وهذا ينقله إلى مرتبة المحبوبية.

 

- المعنى الحقيقي للنافلة مقتصرٌ على ما يؤدّيه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  من عبادات زائدة على الفرض؛ لأنّ سلوكه وعباداته وأخلاقه قد بلغت الكمال البشري الذي قدّره الله له, أمّا بحقّ غيره، فالنوافل مكفّرات للذنوب، وجوابر للنقص، ومندوبة على الأمة، اقتداءً به وتأسّياً بطريقته، واستناناً بسنّته.

 

- تُعتبر صلاة الليل أهمّ النوافل، فهي تمسّكٌ بأخلاق النبيين، وهي المانعة من نزول العذاب، وهي النور والأنيس في القبر، وهي التي تنفي السيّئات، وتدرّ الأرزاق، غذاء القلوب، وزاد الأرواح,...وغيرها من الأسرار والفضائل.

 

- بالرغم من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يترك صلاة الليل أبداً، فإنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  أوصاهُ بها في جملة مِن وصاياه لهُ, تأكيداً على أهميتها.

 

- أكّدت الروايات أنّ من أسباب الحرمان من صلاة الليل الذنوب على اختلافها.

 

259


219

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

ملحق

 

آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة[1]

 


 

[1] بحسب ما وردت في تحرير الوسيلة للإمام الخميني قدس سره، ولم نورد الرواتب اليوميّة هنا لإدراجها ضمن الدرس الثامن عشر.

 

 

261


220

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

الإتيان بالنوافل جالساً

يجوز إتيان النوافل الرواتب وغيرها جالساً حتى في حال الاختيار، لكن الأولى حينئذ عدّ كلّ ركعتين بركعة حتّى في الوتر فيأتي بها مرّتين كلّ مرّة ركعة.

 

تقديم النافلة

1- لا إشكال في جواز تقديم نافلتي الظهر والعصر على الزوال في يوم الجمعة، بل يزاد على عددهما أربع ركعات فتصير عشرين ركعة، وأمّا في غير يوم الجمعة فعدم الجواز لا يخلو من قوّة، ومع العلم بعدم التمكّن من إتيانهما في وقتهما فالأحوط الإتيان بهما رجاءً.

 

2- يجوز تقديم نافلة الليل على النصف للمسافر والشاب الذي يخاف فوتها في وقتها، بل وكل ذي عذر كالشيخ وخائف البرد أو الاحتلام، وينبغي لهم نيّة التعجيل لا الأداء.

 

وقت الفضيلة

1- وقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ الظلّ الحادث مثل الشاخص.

 

2- كما أن منتهى فضيلة العصر المثلان، ومبدأ فضيلته إذا بلغ الظلّ أربعة أقدام - أي أربعة أسباع الشاخص - على الأظهر، وإن لا يبعد أن يكون مبدؤها بعد مقدار أداء الظهر.

 

3- وقت فضيلة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق، وهو الحمرة المغربية، وهو أول فضيلة العشاء إلى ثلث الليل، فلها وقتا إجزاء: قبل ذهاب الشفق وبعد الثلث إلى النصف.

 

263


221

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

4- ووقت فضيلة الصبح من أوله إلى حدوث الحمرة المشرقية، ولعلّ حدوثها يساوق مع زمان التجلل والأسفار وتنور الصبح المنصوص بها.

 

مكروهات

1- الأقوى صحّة صلاة كلٍّ من الرجل والمرأة مع المحاذاة أو تقدّم المرأة، لكن على كراهية بالنسبة إليهما مع تقارنهما في الشروع، وبالنسبة إلى المتأخّر مع اختلافهما، لكن الأحوط ترك ذلك، ولا فرق فيه بين المحارم وغيرهم، ولا بين كونهما بالغين أو غير بالغين أو مختلفين، بل يعمّ الحكم الزوج والزوجة أيضاً، وترتفع الكراهة بوجود الحائل وبالبعد بينهما عشرة أذرع بذراع اليد، والأحوط في الحائل كونه بحيث يمنع المشاهدة، كما أنّ الأحوط في التأخّر كون مسجدها وراء موقفه وإن لا تبعد كفاية مطلقهما.

 

2- يُكره تعطيل المسجد، وقد ورد أنّه أحد الثلاثة الذين يشكون إلى الله عزّ وجلّ يوم القيامة، والآخران عالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه، وورد أنّ من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكلّ خطوة خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات.

 

3- تُكره الصلاة في الحمّام حتى المسلخ منه، وفي المزبلة والمجزرة والمكان المتخذ للكنيف ولو سطحاً متخذاً مبالاً وبيت المسكر، وفي أعطان الإبل، وفي مرابط الخيل والبغال والحمير والبقر ومرابض الغنم والطرق إن لم تضر بالمارة، وإلا حرمت، وفي قرى النمل ومجاري المياه وإن لم يتوقّع جريانها فيها فعلاً، وفي الأرض السبخة، وفي كلّ أرض نزل فيها عذاب، وعلى الثلج، وفي معابد النيران بل كلّ بيت أُعدّ لإضرام النار فيه، وعلى القبر وإليه وبين القبور، وترتفع الكراهة في الأخيرين بالحائل، وببعد عشرة أذرع، ولا بأس بالصلاة خلف قبور الأئمة عليهم السلام ولا عن يمينها وشمالها، وإن كان الأولى الصلاة عند الرأس على وجه لا يساوي الإمام عليه السلام ، وكذا تكره وبين يديه نار مضرمة أو سراج أو تمثال ذي روح، وتزول

 

264


222

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

في الأخير بالتغطية، وتكره وبين يديه مصحف أو كتاب مفتوح، أو مقابله باب مفتوح أو حائط ينز من بالوعة يُبال فيها، وترتفع بستره، والكراهة في بعض تلك الموارد محلّ نظر، والأمر سهل.

 

آداب

1- الظاهر جواز الصلاة مساوياً لقبر المعصوم عليه السلام بل ومقدّماً عليه، ولكن هو من سوء الأدب، والأحوط الاحتراز منهما، ويرتفع الحكم بالبعد المفرط على وجه لا يصدق معه التقدّم والمحاذاة ويخرج عن صدق وحدة المكان، وكذا بالحائل الرافع لسوء الأدب، والظاهر أنّه ليس منه الشباك والصندوق الشريف وثوبه.

 

مستحبّات

1- الأفضل (في مسجد الجبهة) التربة الحسينية التي تخرق الحجب السبع، وتنوّر إلى الأرضين السبع على ما في الحديث.

 

2- يُستحبّ الصلاة في المساجد، بل يُكره عدم حضورها بغير عذر كالمطر خصوصاً لجار المسجد حتى ورد في الخبر: "لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد" وأفضلها مسجد الحرام، ثم مسجد النبي  صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم مسجد الكوفة والأقصى، ثم مسجد الجامع، ثم مسجد القبيلة، ثم مسجد السوق، والأفضل للنساء الصلاة في بيوتهنّ، والأفضل بيت المخدع، وكذا يستحب الصلاة في مشاهد الأئمة عليهم السلام، خصوصاً مشهد أمير المؤمنين عليه السلام وحائر أبي عبد الله الحسين عليه السلام.

 

3- من المستحبّات الأكيدة بناء المسجد، وفيه أجر عظيم وثواب جسيم، وقد ورد أنّه قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: "من بنى مسجداً في الدنيا أعطاه الله بكلّ شبر منه - أو قال: بكلّ ذراع منه - مسيرة أربعين ألف عام مدينة من ذهب وفضة ودور ياقوت وزمرد وزبرجد ولؤلؤ" الحديث.

 

265


223

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

الأذان والإقامة

1- لا إشكال في تأكد استحبابهما للصلوات الخمس، أداء وقضاء، حضراً وسفراً، في الصحة والمرض، للجامع والمنفرد، للرجال والنساء، حتى قال بعض بوجوبهما، والأقوى استحبابهما مطلقاً وإن كان في تركهما حرمان عن ثواب جزيل.

 

2- يسقط الأذان في العصر والعشاء إذا جمع بينهما وبين الظهر والمغرب من غير فرق بين موارد استحباب الجمع مثل عصر يوم الجمعة وعصر يوم عرفة وعشاء ليلة العيد في المزدلفة، حيث إنّه يُستحبّ الجمع بين الصلاتين في هذه المواضع الثلاثة وبين غيرها.

 

العدول في الصلاة

1- إذا دخل في الحاضرة فذكر أنّ عليه قضاء، فإنّه يُستحب أن يعدل إليه مع بقاء المحلّ إلا إذا خاف فوت وقت فضيلة ما بيده، فإنّ في استحبابه تأمُّلاً، بل عدمه لا يخلو من قوّة.

 

2- ومنها العدول من الفريضة إلى النافلة، وذلك في موضعين: أحدهما في ظهر يوم الجمعة لمن نسي قراءة سورة الجمعة وقرأ سورة أخرى وبلغ النصف أو تجاوز، ثانيهما فيما إذا كان متشاغلاً بالصلاة وأُقيمت الجماعة وخاف السبق، فيجوز له العدول إلى النافلة وإتمامها ركعتين ليلحق بها (لم يصرّح بالاستحباب إنّما بالجواز).

 

مستحبّات خاصّة بالمرأة

تختصّ المرأة في الصلاة بآداب الزينة بالحلي والخضاب والإخفات في قولها، والجمع بين قدميها حال القيام، وضمّ ثدييها بيديها حاله، ووضع يديها على فخذيها حال الركوع، غير رادة ركبتيها إلى ورائها، والبدأة للسجود بالقعود، والتضمّم حاله لاطئة بالأرض فيه غير متجافية، والتربّع في جلوسها مطلقاً.

 

266


224

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

مستحبّات ومكروهات أجزاء الصلاة

التكبير:

1- يُستحبّ زيادة ستّ تكبيرات على تكبيرة الاحرام قبلها أو بعدها أو بالتوزيع، والأحوط الأول، فيجعل الافتتاح السابعة، والأفضل أن يأتي بالثلاث ولاء ثم يقول: "اللهمّ أنت الملك الحقّ المبين لا إله إلا أنت سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنّه لايغفر الذنوب إلا أنت" ثم يأتي باثنتين فيقول: "لبّيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت لا ملجأ منك إلا إليك، سبحانك وحنانيك تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت" ثم كبّر تكبيرتين ثم يقول: "وجّهت وجهي للذي فطرالسماوات والأرض عالم الغيب والشهادة حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين".

 

ثم يشرع في الاستعاذة والقراءة.

 

2- يُستحبّ للإمام الجهر بتكبيرة الإحرام بحيث يُسمع من خلفه، والإسرار بالست الباقية.

 

3- يُستحبّ رفع اليدين عند التكبير إلى الأذنين، أو إلى حيال وجهه مبتدءاً بالتكبير بابتداء الرفع ومنتهياً بانتهائه، والأولى أن لا يتجاوز الأذنين، وأن يضمّ أصابع الكفّين، ويستقبل بباطنهما القبلة.

 

القراءة:

1- الأقوى جواز قراءة أزيد من سورة واحدة في ركعة من الفريضة على كراهية، بخلاف النافلة فلا كراهة فيها، والأحوط تركها في الفريضة.

 

2- يُستحبّ للرجال الجهر بالبسملة في الظهرين للحمد والسورة كما أنّه يُستحبّ له

 

267


225

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

الجهر بالقراءة في ظهر يوم الجمعة، ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالإخفات.

 

3- يُستحبّ قراءة عم يتسائلون أو هل أتى أو الغاشية أو القيامة وأشباهها في صلاة الصبح، وقراءة سبح اسم أو والشمس في الظهر وإذا جاء نصر الله وألهيكم التكاثر في العصر والمغرب، والأولى اختيار قراءة الجمعة في الركعة الأولى من العشاءين والأعلى في الثانية منهما في ليلة الجمعة، وقراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى والمنافقين في الثانية في الظهر والعصر من يوم الجمعة، وكذا في صبح يوم الجمعة، أو يقرأ فيها في الأولى الجمعة والتوحيد في الثانية، وفي المغرب في ليلة الجمعة في الأولى الجمعة وفي الثانية التوحيد، كما أنّه يُستحبّ في كلّ صلاة قراءة سورة القدر في الأولى والتوحيد في الثانية.

 

الركوع:

يُستحبّ التكبير للركوع وهو قائم منتصب، والأحوط عدم تركه، ويُستحبّ رفع اليدين حال التكبير، ووضع الكفّين مفرجات الأصابع على الركبتين حال الركوع، والأحوط عدم تركه مع الإمكان، وكذا يُستحبّ ردّ الركبتين إلى الخلف وتسوية الظهر ومدّ العنق والتجنيح بالمرفقين، وأن تضع المرأة يديها على فخذيها فوق الركبتين، واختيار التسبيحة الكبرى، وتكرارها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً بل أزيد، ورفع اليدين للانتصاب من الركوع، وأن يقول بعد الانتصاب: "سمع الله لمن حمده" وأن يُكبّر للسجود ويرفع يديه له، ويكره أن يطأطأ رأسه حال الركوع، وأن يضمّ يديه إلى جنبيه، وأن يدخل يديه بين ركبتيه.

 

السجود:

1- يُستحبّ التكبير حال الانتصاب من الركوع للأخذ في السجود وللرفع منه، والسبق باليدين إلى الأرض عند الهوي إليه، واستيعاب الجبهة على ما يصحّ السجود عليه، والإرغام بمسمّاه بالأنف على مسمّى ما يصحّ السجود عليه، والأحوط عدم تركه،

 

268


226

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

وتسوية موضع الجبهة مع الموقف، بل جميع المساجد، وبسط الكفّين مضمومتي الأصابع حتى الإبهام حذاء الأذنين موجّهاً بهما إلى القبلة، والتجافي حال السجود بمعنى رفع البطن عن الأرض، والتجنيح بأن يرفع مرفقيه عن الأرض مفرجاً بين عضديه وجنبيه مبعداً يديه عن بدنه جاعلاً يديه كالجناحين، والدعاء بالمأثور قبل الشروع في الذكر وبعد رفع الرأس من السجدة الأولى، واختيار التسبيحة الكبرى وتكرارها، والختم على الوتر، والدعاء في السجود أو الأخير منه بما يُريد من حاجات الدنيا والآخرة سيما طلب الرزق الحلال بأن يقول: "يا خير المسؤولين ويا خير المعطين ارزقني وارزق عيالي من فضلك فإنّك ذو الفضل العظيم "والتورّك في الجلوس بين السجدتين وبعدهما، بأن يجلس على فخذه الأيسر جاعلاً ظهر القدم اليمنى في بطن اليسرى، وأن يقول: بين السجدتين: "أستغفر الله ربّي وأتوب إليه" ووضع اليدين حال الجلوس على الفخذين: اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى، والجلوس مطمئناً بعد رفع الرأس من السجدة الثانية قبل أن يقوم، وهو المسمّى بالجلسة الاستراحة، والأحوط لزوماً عدم تركها، وأن يقول إذا أراد النهوض إلى القيام "بحول الله وقوّته أقوم وأقعد" وأن يعتمد على يديه عند النهوض من غير عجن بهما، أي لا يقبضهما بل يبسطهما على الأرض.

 

2- سجود السهو: نعم يُستحبّ التكبير للرفع عنه، ولا يجب فيه الذكر، بل يُستحبّ ويكفي مطلقه، والأولى أن يقول: "لا إله إلا الله حقّاً حقّاً، لا إله إلا الله إيماناً وتصديقاً، لا إله إلا الله عبودية ورقّاً، سجدت لك يا ربّ تعبّداً ورقّاً، لا مستنكفاً ولا مستكبراًبل أنا عبد ذليل خائف مستجير".

 

3- السجود لله تعالى في نفسه من أعظم العبادات، وقد ورد فيه أنّه ما عُبِد الله بمثله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد.

 

269


227

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

ويُستحبّ أكيداً للشكر لله عند تجدّد كلّ نعمة، ودفع كلّ نقمة، وعند تذكّرهما، وللتوفيق لأداء كلّ فريضة أو نافلة، بل كلّ فعل خير حتى الصلح بين اثنين، ويجوز الاقتصار على واحدة، والأفضل أن يأتي باثنتين بمعنى الفصل بينهما بتعفير الخدّين أو الجبينين، ويكفي في هذا السجود مجرّد وضع الجبهة مع النيّة، والأحوط فيه وضع المساجد السبعة، ووضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه، بل اعتبار عدم كونه ملبوساً أو مأكولاً لا يخلو من قوّة كما تقدّم في سجود التلاوة، ويُستحبّ فيه افتراش الذراعين وإلصاق الجؤجؤ والصدر والبطن بالأرض، ولا يشترط فيه الذكر وإن استحبّ أن يقول: "شكراً لله" أو "شكراً شكراً" مائة مرّة، ويكفي ثلاث مرّات بل مرّة واحدة، وأحسن ما يُقال فيه ما ورد عن مولانا الكاظم عليه السلام قل وأنت ساجد:

"اللهمّ إنّي أُشهِدك وأُشهِد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنّك أنت الله ربّي والإسلام ديني ومحمداً نبيّي وعلياً والحسن والحسين - تعدّهم إلى آخرهم - أئمّتي بهم أتولّى ومن أعدائهم أتبرّأ، اللهمّ إنّي أُنشدك دم المظلوم - ثلاثاً - اللهمّ إنّيأُنشدك بإيوائك على نفسك لأعدائك لتهلكنهم بأيدينا وأيدي المؤمنين، اللهمّ إنّي أُنشدك بإيوائك على نفسك لأوليائك لتظفرنهم بعدوك وعدوهم أن تصلّي على محمّد وعلى المستحفظين من آل محمّد - ثلاثاً - اللهمّ إنّي أسألك اليسر بعد العسر" ثلاثاً، ثم تضع خدّك الأيمن على الأرض وتقول: "يا كهفي حين تُعييني المذاهب وتضيق عليّ الأرض بما رحبت، يا بارئ خلقي رحمةً بي وقد كُنتَ عن خلقي غنيّاً صلِّ على محمّد وعلى المستحفظين من آل محمد" ثم تضع خدّك الأيسر وتقول: "يا مذلّ كلّجبّار ويا معزّ كلّ ذليل قد وعزّتك بلغ مجهودي" ثلاثاً ثم تقول: "يا حنّان يا منّان يا كاشف الكرب العظام" ثم تعود للسجود فتقول مائة مرّة: "شكراً شكراً" ثم تسأل حاجتك تُقضى إن شاء الله.

 

270


228

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

التشهّد:

1- ويُستحبّ الابتداء بقوله: "الحمد لله" أو "بسم الله وبالله والحمد لله وخير الأسماء لله - أو الأسماء الحسنى كلّها لله" وأن يقول بعد الصلاة على النبي وآله: "وتقبّل شفاعته في أمّته وارفع درجته".

 

2- ويُكره الإقعاء، وهو أن يعتمد بصدر قدميه على الأرض ويجلس على عقبيه، والأحوط تركه، ويُستحبّ فيه التورّك كما يُستحبّ ذلك بين السجدتين وبعدهما كما تقدّم.

 

التسليم:

1- التسليم واجب في الصلاة، وجزء منها ظاهراً، والثاني على تقدير الإتيان بالأول جزء مستحب، وعلى تقدير عدمه جزء واجب على الظاهر.

 

2- وله صيغتان: الأولى "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" والثانية "السلام عليكم" بإضافة "ورحمة الله وبركاته" على الأحوط، وإن كان الأقوى استحبابه.

 

3- وأمّا "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فهي من توابع التشهّد لا يحصل بها تحليل، ولا تبطل الصلاة بتركها عمداً ولا سهواً، لكن الأحوط المحافظة عليها.

 

القنوت:

1- يُستحبّ القنوت في الفرائض اليومية، ويتأكّد في الجهرية، بل الأحوط عدم تركه فيها، ومحلّه قبل الركوع في الركعة الثانية بعد الفراغ عن القراءة.

 

2- ويُستحبّ أيضاً في كلّ نافلة ثنائية في المحلّ المزبور حتى نافلة الشفع على الأقوى، والأولى إتيانه فيه رجاءً، ويُستحبّ أكيداً في الوتر، ومحلّه ما عرفت قبل الركوع بعد القراءة.

 

3- لا يُعتبر في القنوت قول مخصوص، بل يكفي فيه كلّ ما تيسّر من ذكر ودعاء، بل يجزي البسملة مرّة واحدة، بل سبحان الله خمس أو ثلاث مرّات، كما يجزي الاقتصار على الصلاة على النبي وآله، والأحسن ما ورد عن المعصوم عليه السلام من

 

271


229

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

الأدعية، بل والأدعية التي في القرآن، ويُستحبّ فيه الجهر، سواء كانت الصلاة جهرية أو إخفاتية، إماماً أو منفرداً، بل أو مأموناً إن لم يسمع الإمام صوته.

 

4- لا يُعتبر رفع اليدين في القنوت على إشكال، فالأحوط عدم تركه.

 

5- يجوز الدعاء في القنوت وفي غيره بالملحون مادة أو إعراباً إن لم يكن فاحشاً أو مغيّراً للمعنى، وكذا الأذكار المندوبة، والأحوط الترك مطلقاً، أمّا الأذكار الواجبة فلا يجوز فيها غير العربية الصحيحة.

 

التعقيب:

1- يُستحبّ التعقيب بعد الفراغ من الصلاة ولو نافلة وفي الفريضة آكد خصوصاً في الغداة، والمراد به الاشتغال بالدعاء والذكر والقرآن ونحو ذلك.

 

2- يُعتبر في التعقيب أن يكون متّصلاً بالفراغ من الصلاة على وجه لا يُشاركه الاشتغال بشيء آخر يذهب بهيئته عند المتشرّعة كالصنعة ونحوها، والأولى فيه الجلوس في مكانه الذي صلّى فيه، والاستقبال والطهارة، ولا يُعتبر فيه قول مخصوص، والأفضل ما ورد عنهم  عليهم السلام   ممّا تضمّنته كتب الأدعية والأخبار.

 

ولعلّ أفضلها تسبيح الصديقة الزهراء عليها السلام، وكيفيّته على الأحوط أربع وثلاثون تكبيرة، ثم ثلاث وثلاثون تحميدة، ثم ثلاث وثلاثون تسبيحة، ولو شكّ في عددها يبني على الأقل إن لم يتجاوز المحل، فلو سهى فزاد على عدد التكبير أو غيره رفع اليد عن الزائد وبنى على الأربع وثلاثين أو الثلاث وثلاثين، والأولى أن يبني على نقص واحدة ثم يكمل العدد بها في التكبير والتحميد دون التسبيح.

 

ومن التعقيبات قول: "لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده وغلب الأحزاب وحده، فله الملك وله الحمد يُحيي ويُميت وهو على كلّ شيء قدير".

 

ومنها قول: "اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد وأجرني من النار، وارزقني الجنّة، وزوّجني من الحور العين".

 

272


230

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

ومنها قول: "اللهمّ اهدني من عندك، وأفض عليّ من فضلك، وانشر عليّ من رحمتك، وأنزل عليّ من بركاتك".

 

ومنها قول: "أعوذ بوجهك الكريم، وعزّتك التي لا تُرام، وقدرتك التي لا يمتنع منها شيء من شرّ الدنيا والآخرة، ومن شرّ الأوجاع كلّها، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم".

 

ومنها قول: "اللهمّ إنّي أسألك من كلّ خير أحاط به علمك، وأعوذ بك من كلّ شرٍّ أحاط به علمك، اللهمّ إنّي أسألك عافيتك في أموري كلّها، وأعوذ بك من خزي الدنيا وعذاب الآخرة".

 

ومنها قول: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" مائة مرّة أو ثلاثين، ومنها قراءة آية الكرسي والفاتحة وآية "شهد الله أنه لا إله إلا هو" وآية "قل اللهمّ مالك الملك" ومنها الإقرار بالنبيّ والأئمّة عليهم السلام، ومنها سجود الشكر، وقد مرّ كيفيته سابقاً.

 

مبطلات الصلاة - المكروهات

يُكره في الصلاة مضافاً إلى ما سمعته سابقاً نفخ موضع السجود إن لم يحدث منه حرفان، وإلا فالأحوط الاجتناب عنه، والتأوّه والأنين والبصاق بالشرط المذكور والاحتياط المتقدّم، والعبث وفرقعة الأصابع والتمطّي والتثأب الاختياري، ومدافعة البول والغائط ما لم تصل إلى حدّ الضرر، وإلا فيجتنب وإن كانت الصلاة صحيحة مع ذلك.

 

صلاة الآيات

1- يُستحبّ فيها الجهر بالقراءة ليلاً أو نهاراً حتى صلاة كسوف الشمس، والتكبير عند كلّ هوي للركوع وكلّ رفع منه، إلا في الرفع من الخامس والعاشر فإنّه يقول: "سمع الله لمن حمده" ثم يسجد، ويُستحبّ فيها التطويل خصوصاً في كسوف الشمس،

 

 

273


231

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

وقراءة السور الطوال في المصلّى مشتغلاً بالدعاء والذكر إلى تمام الانجلاء، أو إعادة الصلاة إذا فرغ منها قبل تمام الانجلاء، ويُستحبّ فيها في كلّ قيام ثان بعد القراءة قنوت، فيكون في مجموع الركعتين خمس قنوتات، ويجوز الاجتزاء بقنوتين: أحدهما قبل الركوع الخامس لكن يأتي به رجاءً، والثاني قبل العاشر، ويجوز الاقتصار على الأخير منها.

 

2- يُستحبّ فيها الجماعة، ويتحمّل الإمام عن المأموم القراءة خاصّة كما في اليومية، دون غيرها من الأفعال والأقوال، والأحوط للمأموم الدخول في الجماعة قبل الركوع الأول أو فيه من الركعة الأولى أو الثانية حتى ينتظم صلاته.

 

صلاة القضاء

يُستحبّ قضاء النوافل الرواتب، ويُكره أكيداً تركه إذا شغله عنها جمع الدنيا، ومن عجز عن قضائها استُحبّ له التصدّق بقدر طوله، وأدنى ذلك التصدّق عن كل ركعتين بمدّ، وإن لم يتمكّن فعن كل أربع ركعات بمدّ، وإنْ لم يتمكّن فمدّ لصلاة الليل ومدّ لصلاة النهار.

 

صلاة الجمعة

الأحوط بل الأوجه وجوب الإصغاء إلى الخطبة، بل الأحوط الإنصات وترك الكلام بينها، وإن كان الأقوى كراهته، نعم لو كان التكلّم موجباً لترك الاستماع وفوات فائدة الخطبة لزم تركه.

 

آداب المأمومين:

والأحوط الأولى استقبال المستمعين الإمام حال الخطبة عن الحدث والخبث، وكذا المستمعين.

 

274


232

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

آداب الإمام:

والأحوط الأولى للإمام أن لا يتكلّم بين الخطبة بما لا يرجع إلى الخطابة، ولا بأس بالتكلّم بعد الخطبتين إلى الدخول في الصلاة، وينبغي أن يكون الخطيب بليغاً مراعياً لمقتضيات الأحوال بالعبارات الفصيحة الخالية عن التعقيد، عارفاً بما جرى على المسلمين في الأقطار سيّما قطره، عالماً بمصالح الإسلام والمسلمين، شجاعاً لا يلومه في الله لومة لائم، صريحاً في إظهار الحقّ وإبطال الباطل حسب المقتضيات والظروف مراعياً لما يوجب تأثير كلامه في النفوس من مواظبة أوقات الصلوات والتلبّس بزيّ الصالحين والأولياء، وأن تكون أعماله موافقة لمواعظه وترهيبه وترغيبه، وأن يجتنب عمّا يوجب وهنه ووهن كلامه حتى كثرة الكلام والمزاح وما لا يعني، كل ذلك إخلاصاً لله تعالى وإعراضاً عن حبّ الدنيا والرئاسة - فإنّه رأس كلّ خطيئة - ليكون لكلامه تأثير في النفوس.

 

مستحبّات الإمام:

ويُستحبّ له أن يتعمّم في الشتاء والصيف، ويتردّى ببرد يمني أو عدني، ويتزيّن ويلبس أنظف ثيابه متطيّباً على وقار وسكينة، وأن يُسلّم إذا صعد المنبر، واستقبل الناس بوجهه ويستقبلونه بوجوههم، وأن يعتمد على شيء من قوس أو عصا أو سيف، وأن يجلس على المنبر أمام الخطبة حتى يفرغ المؤذِّنون.

 

صلاة المسافر

يُستحبّ أن يقول عقيب كل صلاة مقصورة ثلاثين مرة: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".

 

275


233

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

صلوات مستحبة:

1- صلاة جعفر:

صلاة جعفر بن أبي طالب عليه السلام من المستحبّات الأكيدة، ومن المشهورات بين العامّة والخاصّة، وممّا حباه النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  ابن عمّه حين قدومه من سفره حبّاً له وكرامة عليه، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه: "قال النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  لجعفر حين قدومه من الحبشة يوم فتح خيبر: ألا أمنحك؟ ألا أُعطيك؟ ألا أحبوك؟ فقال: بلى يا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  - قال: - فظنّ الناس أنّه يُعطيه ذهباً أو فضة فأشرف الناس لذلك، فقال له: إنّي أُعطيك شيئاً إنْ أنت صنعته في كلّ يوم كان خيراً لك من الدنيا وما فيها، فإنْ صنعته بين يومين غفر الله لك مابينهما، أو كلّ جمعة أو كلّ شهر أو كلّ سنة غفر لك ما بينهما".

 

وأفضل أوقاتها يوم الجمعة حين ارتفاع الشمس، ويجوز احتسابها من نوافل الليل أو النهار تحسب له من نوافله وتحسب له من صلاة جعفر كما في الخبر، فينوي بصلاة جعفر نافلة المغرب مثلاً.

 

وهي أربع ركعات بتسليمتين، يقرأ في كلّ ركعة الحمد وسورة ثم يقول: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" خمس عشرة مرّة، ويقولها في الركوع عشر مرّات، وكذا بعد رفع الرأس منه عشر مرّات، وكذا في السجدة الأولى وبعد رفع الرأس منها، وفي السجدة الثانية وبعد رفع الرأس منها يقولها عشر مرّات، تكون في كلّ ركعة خمس وسبعون مرّة، ومجموعها ثلاثمائة تسبيحة، والظاهر الاكتفاء بالتسبيحات عن ذكر الركوع والسجود، والأحوط عدم الاكتفاء بها عنه.

 

ولا تتعيّن فيها سورة مخصوصة، لكن الأفضل أن يقرأ في الركعة الأولى إذا زُلزلت وفي الثانية والعاديات، وفي الثالثة إذا جاء نصر الله، وفي الرابعة قل هو الله أحد.

 

276


234

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

- يجوز تأخير التسبيحات إلى ما بعد الصلاة إذا كان مستعجلاً، كما يجوز التفريق في أصل الصلاة إذا كانت له حاجة ضرورية، فيأتي بركعتين وبعد قضاء تلك الحاجة يأتي بالبقية.

 

- لو سها عن بعض التسبيحات في محلّه فإنْ تذكّره في بعض المحال الأُخر قضاه في ذلك المحلّ مضافاً إلى وظيفته، فإذا نسي تسبيحات الركوع وتذكّرها بعد رفع الرأس منه سبّح عشرين تسبيحة، وهكذا في باقي المحال والأحوال، وإن لم يتذكّرها إلا بعد الصلاة فالأولى والأحوط أن يأتي بها رجاءً.

 

- يُستحبّ أن يقول في السجدة الثانية من الركعة الرابعة بعد التسبيحات:

"يا من لبس العزّ والوقار، يا من تعطّف بالمجد وتكرّم به، يا من لا ينبغي التسبيح إلا له، يا من أحصى كلّ شيء علمه، يا ذا النعمة والطول، يا ذا المن والفضل، يا ذا القدرة والكرم، أسألك بمعاقد العزّ من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظمالأعلى وكلماتك التامّات أن تُصلّي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي كذا وكذا"، ويذكر حاجاته.

 

ويُستحبّ أن يدعو بعد الفراغ من الصلاة ما رواه الشيخ الطوسي والسيد ابن طاووس عن المفضّل بن عمر قال: "رأيت أبا عبد الله عليه السلام يُصلّي صلاة جعفر، ورفع يديه ودعا بهذا الدعاء يا ربّ يا ربّ حتى انقطع النفس، يا ربّاه يا ربّاه حتى انقطع النفس، ربّ ربّ حتى انقطع النفس، يا الله يا الله حتى انقطع النفس، يا حيّ يا حيّ حتى انقطع النفس، يا رحيم يا رحيم حتى انقطع النفس، يا رحمان يا رحمان سبع مرّات، يا أرحم الراحمين سبع مرّات، ثم قال: "اللهمّ إنّي أفتتح القول بحمدك وأنطق بالثناء عليك وأمجّدك ولا غاية لمدحك وأُثني عليك ومن يبلغ غاية ثنائك وأمد مجدك وأنى لخليقتك كنه معرفة مجدك وأيّ زمن لم تكن ممدوحاً بفضلك موصوفاً بمجدك عوّاداً على المذنبين بحلمك تخلّف سكان أرضك عن طاعتك فكُنتَ عليهم عطوفاًبجودك جوّاداً بفضلك عوّاداً بكرمك يا لا إله إلا أنت المنّان ذو الجلال والإكرام".

 

277


235

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

ثم قال لي: يا مفضّل إذا كانت لك حاجة مهمّة فصلِّ هذه الصلاة وادع بهذا الدعاء وسل حاجتك يقضها الله إن شاء الله وبه الثقة.

 

2- صلاة الغفيلة:

الأقوى ثبوت صلاة الغفيلة، وليست من الرواتب، وهي ركعتان بين صلاة المغرب وسقوط الشفق الغربي على الأقوى، يقرأ في الأولى بعد الحمد. ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ وفي الثانية بعد الحمد ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾. فإذا فرغ رفع يديه وقال: "اللهمّ إنّي أسألك بمفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا أنت أن تُصلّي على محمد وآل محمد وأن تفعل ليكذا وكذا". فيدعو بما أراد ثم قال: "اللهمّ أنت وليّ نعمتي والقادر على طلبتي تعلم حاجتي فأسألك بحقّ محمّد وآل محمّد عليه وعليهم السلام  لما قضيتها لي".

 

وسأل الله حاجته أعطاه الله عزّ وجلّ ما سأله إن شاء الله.

 

صلاة الجماعة

1- وهي من المستحبّات الأكيدة في جميع الفرائض خصوصاً اليومية، ويتأكّد في الصبح والعشاءين، ولها ثواب عظيم.

 

2- الأقوى وجوب ترك المأموم القراءة في الركعتين الأوليين من الاخفاتية وكذا في الأوليين من الجهرية لو سمع صوت الإمام ولو همهمته، وإن لم يسمع حتى الهمهمة جاز بل استُحبّ له القراءة، والأحوط في الأخيرتين من الجهرية تركه القراءة لو سمع قراءته وأتى بالتسبيح، وأمّا في الإخفاتية فهو كالمنفرد فيهما يجب عليه القراءة أو التسبيح مخيّراً بينهما سمع قراءة الإمام أو لم يسمع.

 

278


236

ملحق: آداب ومستحبّات ومكروهات الصلاة

3- لو تشاح الأئمة فالأحوط الأولى ترك الاقتداء بهم جميعاً نعم إذا تشاحوا في تقديم الغير وكلّ يقول تقدّم يا فلان يرجّح من قدّمه المأمومون، ومع الاختلاف أو عدم تقديمهم يُقدّم الفقيه الجامع للشرائط، وإن لم يكن أو تعدّد يُقدّم الأجود قراءة ثم الأفقه في أحكام الصلاة ثم الأسن، والإمام الراتب في المسجد أولى بالإمامة من غيره وإن كان أفضل، لكن الأولى له تقديم الأفضل، صاحب المنزل أولى من غيره المأذون في الصلاة والأولى له تقديم الأفضل، والهاشمي أولى من غيره المساوي له في الصفات، والترجيحات المذكورة إنّما هي من باب الأفضلية والاستحباب لا على وجه اللزوم والإيجاب حتى في أولوية الإمام الراتب، فلا يحرم مزاحمة الغير له وإن كان مفضولاً من جميع الجهات، لكن مزاحمته قبيحة بل مخالفة للمروة وإن كان المزاحم أفضل منه من جميع الجهات.

 

4- يكره إمامة الأغلف المعذور في ترك الختان ومن يكره المأمومون إمامته والمتيمّم للمتطهّر، بل الأولى عدم إمامة كلّ ناقص للكامل.

 

 

279


237
قربان الأتقياء