(13) زاد السالكين في شهر الله


الناشر: شبكة المعارف الإسلامية

تاريخ الإصدار: 2020-04

النسخة: 0


الكاتب

المركز الإسلامي للتبليغ

مؤسسة إسلامية، تعنى بالتبليغ المسجدي والعام، ورعاية شؤون أئمة المساجد والمبلغين.


المقدّمة

المقدّمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

جاء في دعاء الإمام زين العابدين(عليه السلام) في استقبال شهر رمضان: «وَأَلْهِمْنَا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ وَإِجْلالَ حُرْمَتِهِ»[1].

من اللازم على الإنسان المؤمن أن يتعرّف حقيقةَ شهر رمضان المبارك ومنزلته، وما له من مكانة عظيمة عند اللّه -تعالى-، وقد اختصّ شهر رمضان المبارك بأوصاف كثيرة جدًّا، يمكن تعرّفها من خلال ملاحظة الآيات المباركة والروايات الشريفة وأدعية أهل البيت (عليهم السلام).

وكانت سلسلة «زاد المبلغ» إسهامًا منّا في زيادة المعرفة عند الإخوة المؤمنين بفضل هذا الشهر وعظمته، وما ينبغي للمؤمن أن يعمل فيه اغتنامًا لفضله، من عبادة وتقرّب إلى الله وتهذيب للنفس...

 

 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج4، ص87.

 

7


1

المقدّمة

وفي هذا العدد من السلسلة، نتحدّث عن فضل شهر رمضان وتعظيم شعيرة الصوم، وتجلّي الرحمة في هذا الشهر المبارك، وما ينبغي للمؤمن أن يتّصف فيه أو يكون عليه في هذا الشهر من الإحسان والورع والتوبة... وتوصيف البرنامج العباديّ للشهر الكريم، وتبيين دور الدعاء ومحوريّة القرآن الكريم في حياة المؤمن، مضافًا إلى ملاحظة بعض الجوانب الاجتماعيّة كوجوب حفظ عائلته، والوقوف عند المناسبات العظيمة في هذا الشهر، كذكرى شهادة أمير المؤمنين(عليه السلام) ووفاة أبي طالب والسيّدة خديجة (عليهما السلام).

«اللّهمّ، أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والعافية المجلّلة والرزق الواسع ودفع الأسقام. اللّهمّ، ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه. اللّهمّ سلّمه لنا وتسلّمه منّا وسلّمنا فيه»[1].

 

والحمد لله ربّ العالمين

 

 


[1]  الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص540.

 

 

8


2

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

 

 

محاور الموعظة

1. أوصاف شهر رمضان المبارك

2. بركات الشهر المبارك

 

هدف الموعظة

تعرّف فضل شهر رمضان وكيفيّة الاستفادة منه، عباديًّا وروحيًّا وتربويًّا واجتماعيًّا.

 

تصدير الموعظة

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد اللّه: يا جابر، هذا شهر رمضان، مَن صام نهاره، وقام وِردًا من ليله، وعفَّ بطنَه وفرْجَه، وكفَّ لسانَه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر»، فقال جابر: يا رسول اللّه، ما أحسنَ هذا الحديث! فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «يا جابر، وما أشدَّ هذه الشروط»[1].

 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط5، ج4، ص87.

 

9


3

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

من اللازم على الإنسان المؤمن أن يتعرّف حقيقةَ شهر رمضان المبارك ومنزلته، وما له من مكانة عظيمة عند اللّه -تعالى-. لذلك، نجد في الروايات الشريفة كيف كان يتعامل المعصومون (عليهم السلام) مع هذا الشهر، ومن ضمنها ما يعلِّمنا إيّاه إمامنا زين العابدين (عليه السلام) من خلال دعائه الشريف: «اللّهمّ، صلِّ على محمّد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته...»[1]. وعلى المؤمن تحصيل الاطّلاع الصحيح على خصوصيّات هذا الشهر المبارك، وذلك قبل القيام بأيّ عمل أو سلوك عباديّ، لتكون صورة الأعمال متناسبة ومنسجمة مع مقام الشهر الشريف؛ لذا نجد الأسلوب الذي كان يلفت فيه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنظار المسلمين إلى أهمّيّة شهر رمضان، وبيانه لفضله ومكانته وخصوصيّاته، وبالتالي كيفيّة التعاطي مع الشهر الفضيل، فقد روى أنس بن مالك قائلًا: لمّا حضر شهر رمضان، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «سبحان اللّه! ماذا تستقبلون، وماذا يستقبلكم...» قالها ثلاث مرّات...[2].

وعن أبي مسعود الأنصاريّ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) -وقد دنا رمضان-: «لو يعلم العبد ما في رمضان، لودّ أن يكون رمضان السنة...»[3].

 

 


[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، تحقيق السيّد محمّد باقر الموحّد الأبطحيّ الأصفهانيّ، نشر مؤسّسة الإمام المهديّ |ومؤسّسة الأنصاريان للطباعة والنشر، إيران - قم، 1411ه، ط1، ص210، دعاؤه في دخول شهر رمضان.

[2] الطبرسيّ، الميرزا حسين النوريّ، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، لبنان - بيروت، 1408ه - 1987م، ط1، ج7، ص425.

[3]  المصدر نفسه، ج7، ص424.

 

10


4

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

وعنه (صلى الله عليه وآله): «لو علمتم ما لكم في شهر رمضان لزدتم لله -تعالى- ذكره شكرًا»[1].

 

أوصاف شهر رمضان المبارك

اختصّ شهر رمضان المبارك بأوصاف كثيرة جدًّا، يمكن تعرّفها من خلال ملاحظة الآيات المباركة والروايات الشريفة وأدعية أهل البيت (عليهم السلام)، وعلى وجه الخصوص أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ومنها دعاء وداع شهر رمضان، والذي يقول فيه: «السلام عليك يا شهر اللّه الأكبر، ويا عيد أوليائه، السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيّام والساعات، السلام عليك من شهر قَرُبت فيه الآمال، ونُشرت فيه الأعمال، السلام عليك من قرين جلّ قدره موجودًا، وأفجع فقده مفقودًا...»[2]. ونقرأ في مصباح المتهجِّد أنّه يستحبّ أن يدعوَ في كلّ يوم بهذا الدعاء، والذي يعدّد فيه جملةً من أوصاف الشهر الفضيل: «اللّهمّ، هذا شهر رمضان الذي أنزلت فيه القرآن، هدًى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، وهذا شهر الصيام، وهذا شهر القيام، وهذا شهر الإنابة، وهذا شهر التوبة، وهذا شهر المغفرة والرحمة، وهذا شهر العتق من النار والفوز بالجنّة، وهذا شهر فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر...»[3].

 

 


[1] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام)، إيران - قمّ، 1414ه، ط2، ج10، ص243.

[2] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص285، دعاء وداع شهر رمضان.

[3]  الكفعميّ، الشيخ إبراهيم، المصباح (جنّة الأمان الواقية وجنّة الايمان الباقية)، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط3، ص618.

 

11


5

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الأوصاف التي جاءت في الروايات الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام)، منها:

1. شهر اللّه: حيث خصّ به اللّه -تعالى- نفسه من بين الشهور، والإضافة هنا تشريفيّة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ [عدّة] الشهور عند اللّه اثنى عشر شهرًا في كتاب اللّه يوم خلق السماوات والأرض، فغرّة الشهور شهر اللّه -عزَّ ذكره-، وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر، ونزل القرآن في أوّل ليلة من شهر رمضان، فاستُقبِل الشهر بالقرآن»[1].

2. شهر رمضان: وهو الاسم الذي ذُكر في القرآن في قوله -تعالى-: ﴿شَهرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلقُرءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلهُدَىٰ وَٱلفُرقَانِ﴾[2]، وفي الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام): «لا تقولوا هذا رمضان، ولا ذهب رمضان، ولا جاء رمضان؛ فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه -عزّ وجلّ-... ولكن قولوا: شهر رمضان»[3].

3. الشهر المبارك: عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، شهر فرض اللّه عليكم صيامه»[4]، ورُوي أنّه كان يدعو في أوّل ليلة من شهر رمضان بقوله: «الحمد للّه الذي أكرمنا بك أيّها الشهر المبارك»[5].

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص66.

[2] سورة البقرة، الآية 185.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص70.

[4]  الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، تهذيب الأحكام في شرح المقنعة، تحقيق وتعليق السيّد حسن الموسويّ الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1364ش، ط3، ج4، ص152.

[5]  ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسنيّ الحسينيّ، الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة، تحقيق جواد القيّومي الاصفهانيّ، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قم، 1414ه، ط1، ج1، ص146.

 

12


6

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه كان يقول في آخر ليلة من شعبان وأوّل ليلة من شهر رمضان المبارك: «اللّهمّ، إنّ هذا الشهر المبارك الذي أنزلت فيه القرآن وجعلته هدًى للناس وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان قد حضر»[1]. وذكر في لسان العرب أنّ معنى «المبارك»: ما يأتي من قِبله الخير الكثير[2].

 

بركات الشهر المبارك

ويمكن تعرّف سرِّ بركة شهر رمضان، ونيله هذا الوصف العظيم، وملاحظة الخيرات الكثيرة التي تحصل منه:

1. بركة التكليف، من خلال تكريم أمّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالتكليف الإلهيّ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّما فرض اللّه صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم، ففضّل به هذه الأمّة، وجعل صيامه فرضًا على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وعلى أمّته»[3].

2. البركات المعنويّة، فكما يحتاج الإنسان إلى تأمين متطلّبات حياته الماديّة وتوفير احتياجاته الجسديّة، كذلك يحتاج إلى تأمين حياته المعنويّة، وإنّ من أهمّ المراحل الحياتيّة التي تغذّي هذا الجانب هو شهر رمضان المبارك.

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ص850-851.

[2] ابن منظور، العلامة محمّد بن مكرم الإفريقيّ المصريّ، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، إيران - قم، 1405ه، لا.ط، ج10، ص396.

[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص240.

 

13


7

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

3. البركات الروحيّة، من خلال تحصيل ملكة التقوى، يقول -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ﴾[1]. والتقوى هي ضبط النفس، والسيطرة عليها من ارتكاب المعاصي والمحرّمات، ومنعها من الالتجاء إلى متطلّبات النفس الشهوانيّة والرغبات الحيوانيّة. والوقت الأفضل لتحقيق معاني التقوى هو شهر رمضان المبارك، والسبيل الأفضل هو الصيام.

4. البركات الجسميّة، فلا تقتصر بركات هذا الشهر الفضيل على الأبعاد المعنويّة والروحيّة، وإنّما تتعدّى ذلك لتشكّل أحد العناوين الرئيسة في سلامة بدن الإنسان وجسمه، فعن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «صوموا تصحّوا»[2].

5. البركات الاجتماعيّة، فإنّ شهر رمضان هو شهر تقوية هذه العلاقات الاجتماعيّة وترميم ما انثلم منها من جهة، فقد رُوي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «رجب شهر اللّه الأصمّ، يصبّ اللّه فيه الرحمة على عباده، وشهر شعبان تنشعب فيه الخيرات، وفي أوّل ليلة من شهر رمضان تُغلّ المردة من الشياطين، ويغفر في كلّ ليلة سبعين ألفًا، فإذا كان في ليلة القدر، غفر اللّه بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم، إلّا رجلٌ بينه وبين أخيه

 

 


[1]  سورة البقرة، الآية 183.

[2]  المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسّسة الوفاء، لبنان - بيروت، 1403ه - 1983م، ط2، ج59، ص267.

 

14


8

الموعظة الأولى: فضل شهر رمضان

شحناء، فيقول اللّه -عزّ وجلّ-: انظروا هؤلاء حتّى يصطلحوا»[1]. ومن جهة أخرى، حتّى يشعر الغنيّ بجوع الفقير، فيودّي إليه حقّه، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «إنّما أُمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش، فيستدلّوا على فقر الآخرة... وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا، فيؤدّوا إليهم ما افترض اللّه لهم في أموالهم»[2].

وعن حمزة بن محمّد، قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السلام) [الإمام العسكريّ]: لِمَ فرض اللّه الصوم؟ فورد الجواب: «ليجد الغنيّ مضض الجوع، فيحنَّ على الفقير»[3].


 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، تصحيح الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1404ه - 1984م، لا.ط، ج2، ص76.

[2]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص9.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص181.

 

15


9

الموعظة الثانية: الصوم من شعائر تعظيم اللّه

الموعظة الثانية: الصوم من شعائر تعظيم اللّه

 

محاور الموعظة

1. الشعيرة الزمنيّة للصوم

2. الأهداف والحِكم من الصوم في القرآن

 

هدف الموعظة

بيان المراد من شعيرة الصوم وحِكَمها وأهدافها، من خلال بعض آيات الصوم.

 

تصدير الموعظة

﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ﴾[1].

 


[1] سورة الحجّ، الآية 32.

 

16


10

الموعظة الثانية: الصوم من شعائر تعظيم اللّه

الشعيرة الزمنيّة للصوم

الصوم من شعائر اللّه -تعالى-. والشعيرة هي ما يُدرَك باللطف والدقّة، حول أمرٍ أو حول عظمة اللّه -تعالى-.

وإذا لاحظنا الآيات الشريفة التي تحدّثَت عن الشعائر، كقوله -تعالى-: ﴿ٱلصَّفَا وَٱلمَروَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ﴾[1]، ﴿وَٱلبُدنَ جَعَلنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ﴾[2]، فموضوعات الْبُدْن[3] والصَّفَا والْمَرْوَة وما يتعلَّق بها، من خلال هذه المعاني الدقيقة، ندرك عظمة اللَّه -تعالى-، ولطائف جلاله المحسوسة المتجلِّية الظاهرة، فيلزم على المؤمن تعظيم هذه الشعائر، والاهتمام بحفظها، وتأديتها على أفضل وجه.

وهذا المعنى إنّما يتحقّق إذا تحقّق حقّ التقوى في القلب، فإنّ التقوى هي حفظ النفس ومراقبتها وصيانتها عن أيّ خلل وانحراف، حتّى يتحصّل حقّ التوجّه والخلوص. وكلَّما ازداد التوجّه والخلوص، ازداد تعظيم شعائر اللّه -تعالى-[4].

وإذا رجعنا إلى شهر اللّه، نرى أنّ اللّه -تعالى- اختار من الأشهر شهرَ رمضان، فجعله الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن: ﴿شَهرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلقُرءَانُ﴾[5].

وجعله -تعالى- محلًّا لشعيرةٍ من أعظم شعائر الإسلام، هي

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 158.

[2] سورة الحجّ، الآية 36.

[3] البُدْن جمع بدنة، وهي الإبل المبدنة بالسمن.

[4] ينظر: المصطفويّ، الشيخ حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مؤسّسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، إيران، 1417ه، ط1، ج6، ص76. (بتصرّف).

[5] سورة البقرة، الآية 185.

 

17


11

الموعظة الثانية: الصوم من شعائر تعظيم اللّه

الصيام: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ﴾[1].

وجعل فيه ليالي القدر، وهي أعظم الليالي في العام كلّه.

وقد طلب اللّه -تعالى- منّا تعظيم شعائره، وإنّ ذلك من تقوى القلوب؛ لأنّها تابعة لتعظيم الذات الإلهيّة وتجلّيلها، باعتبار أنّ مَن عَرَف اللّهَ -تعالى- حقَّ المعرفة عظَّمَه، ومَن عظَّمَ اللّهَ، عظَّمَ كلَّ ما جعلَه اللّهُ معظَّمًا.

وإنّ الصيام، في ذاته، تعظيمٌ للشعيرة الزمانيّة: شهر رمضان.

عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله): «قَالَ اَللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: كُلُّ عَمَلِ اِبْنِ آدَمَ هُوَ لَهُ، إلّا اَلصِّيَامَ، فَهُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَاَلصِّيَامُ جُنَّةُ الْعَبْدِ اَلْمُؤْمِنِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، كَمَا يَقِي أَحَدَكُمْ سِلاَحُهُ فِي اَلدُّنْيَا. وَخُلُوفُ فَمِ اَلصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اَللَّهِ مِنْ رِيحِ اَلْمِسْكِ! وَاَلصَّائِمُ يَفْرَحُ بِفَرْحَتَيْنِ: حِينَ يُفْطِرُ فَيَطْعَمُ وَيَشْرَبُ، وَحِينَ يَلْقَانِي فَأُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ»[2].

 

الأهداف والحِكَم من الصوم في القرآن

لكي نُحقِّق تعظيم هذه الشعيرة، لا بدّ من السعي لتحقيق الأهداف التي من أجلها شَرَّعَ اللّه -تعالى- الصوم:

أوّلًا: حصول التقوى

أبان اللّه -تعالى- هذا الهدف الأساس في قوله: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّم

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 183.

[2]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص403-404.

 

18


12

الموعظة الثانية: الصوم من شعائر تعظيم اللّه

شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى ٱلقُلُوبِ﴾، فالتقوى غايةٌ ومقصَدٌ عظيمٌ من مقاصد الصيام، وهي أن يستشعرَ العبدُ عظمةَ اللّه -تبارك وتعالى- ومراقبتَه لنا في أحوالنا كلّها: حركاتنا وسكناتنا، في خلواتنا وبين الناس؛ وأن لا تتحوّلَ العباداتُ إلى عادات؛ أي أن يكون عندنا، بالإضافة إلى صومِ الجوارح -وهو الكفّ عن تناول المفطرات، كالأكل والشرب وغيرهما-، صومُ الجوانح؛ أي الإمساك والتوقُّف عن تناول ما تشتهيه النفس، وهو ما يريده اللّه من الإنسان في هذا الشهر. فاللّه -تعالى- يريد من الفرد أن يدخل دورةً للسيطرة على جميع جوارحه، فيُمسك عن الطعام والشراب وبقيّة المفطرات، وفي الوقت نفسه، يريد منه أن تصوم جوانحُه؛ أي أن يكون تفكيرُه ومشاعرُه وأحاسيسُه ومَلَكاتُه النفسيّة كلّها داخلةً في إطار الصوم... وبذلك نحقِّق المقصد الأوّل، وهو التقوى.

عن الإمام الصادق (عليه السلام):‏ «إِذَا صُمْتَ، فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَشَعْرُكَ وَجِلْدُكَ... لَا يَكُونُ يَوْمُ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ»[1].

 

ثانيًا: تزكية النفس

من أهداف هذه العبادة العظيمة، أنّ في الصوم تزكيةً للنفس، وتهذيبًا لها؛ فالجوع، بطبعه، يكسر الشهوة، ويكبح جماحها، وفي الأحاديث الشريفة، نرى النبيَّ أرشد الذي لم يستطع الزواج على

 

 


[1]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 10، ص161.

 

19


13

الموعظة الثانية: الصوم من شعائر تعظيم اللّه

الصوم[1]؛ لأنّ الصوم فيه تزكيةٌ للبدن، وتضييقٌ لمسالك الشيطان.

فالصوم يربّي النفس على الصبر وتحمُّل المشاق والصعاب، فهو يجمع أنواع الصَّبر الثَّلاثة:

1. الصبر على المأمور؛ لأنّه يلتزم بأمر اللّه -سبحانه وتعالى- بالصيام ويخالف نفسه.

2. والصبر على المحظور؛ لأنّه يصبر على اجتناب ما نهى اللّه عنه.

3. والصبر على المقدور؛ لأنَّ الصائم يحبس نفسه على الرضا بما قدِر عليه من ألم الجوع والعطش.

ومَن استكمل هذه الأنواع، فقد استكمل حقيقة الصبر، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): الصَّبْرُ ثَلَاثَةٌ: صَبْرٌ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَصَبْرٌ عِنْدَ الطَّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ...»[2].

ثالثًا: الفوائد الاجتماعيّة

من مقاصد هذه العبادة الجليلة وحِكَمها، أنّ العبد يشعر بالجوع والتعب؛ ليتذكّر حال إخوانه الفقراء والمحتاجين الذين يقاسون ويعانون مرارة الجوع والحرمان؛ لذا أمر اللّه -تعالى- نبيَّه بالإحسان إلى اليتيم بعد أن ذكَّره بيُتْمِه ورعايةِ اللّه له: ﴿أَلَم يَجِدكَ يَتِيمٗا فَ‍َٔاوَىٰ ٦ وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ ٧ وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغنَىٰ ٨ فَأَمَّا ٱليَتِيمَ فَلَا تَقهَر﴾[3].

 

 


[1] فعَنْه (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ اَلشُّبَّانِ! مَنِ اِسْتَطَاعَ مِنْكُمُ اَلْبَاهَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ». الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص506-507.

[2]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج15، ص238.

[3] سورة الضحى، الآيات 6 - 9.

 

20


14

الموعظة الثانية: الصوم من شعائر تعظيم اللّه

عن الإمام الصادق (عليه السلام) في علّة الصيام: «إِنَّمَا فَرَضَ اَللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- اَلصِّيَامَ لِيَسْتَوِيَ بِهِ اَلْغَنِيُّ وَاَلْفَقِيرُ، وَذَلِكَ أَنَّ اَلْغَنِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَجِدَ مَسَّ اَلْجُوعِ فَيَرْحَمَ اَلْفَقِيرَ؛ لِأَنَّ اَلْغَنِيَّ كُلَّمَا أَرَادَ شَيْئًا، قَدَرَ عَلَيْهِ؛ فَأَرَادَ اَللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَأَنْ يُذِيقَ اَلْغَنِيَّ مَسَّ اَلْجُوعِ وَاَلْأَلَمِ؛ لِيَرِقَّ عَلَى اَلضَّعِيفِ، فَيَرْحَمَ اَلْجَائِعَ»[1].

وثمّة أهداف وفوائد اجتماعيّة أخرى تقدّم بعضها، من حصول التقوى، وتهذيب الجوانج والغرائز.

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج2، ص73.

 

21


15

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

 

محاور الموعظة

1. معنى الصفات الجماليّة والجلاليّة

2. الرحمة وتجليّاتها في شهر رمضان

3. موجِبات الرحمة الإلهيّة في القرآن

 

هدف الموعظة

تعرّف الصفات الجماليّة والجلاليّة، وبيان تجلّي الرحمة في شهر رمضان وموجِباتها حسب الرؤية القرآنيّة.

 

تصدير الموعظة

﴿تَبَٰرَكَ ٱسمُ رَبِّكَ ذِي ٱلجَلَٰلِ وَٱلإِكرَامِ﴾[1].

 


[1] سورة الرحمن، الآية 78.

 

22


16

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

معنى الجماليّة والجلاليّة

إنّ صفات اللّه -تعالى- تنقسم إلى قسمَين: ثبوتيّة وسلبيّة، أو بتعبير أهل العرفان: جماليّة وجلاليّة. فإذا كانت الصفة مثبِتةً لجمالٍ في الموصوف، ومشيرةً إلى واقعيّةٍ في ذاته، سُمِّيَت «ثبوتيّة ذاتيّة» أو «جماليّة»، فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتيّة المشيرة إلى وجود كمالٍ وواقعيّةٍ في الذات الإلهيّة. وإذا كانت الصفة هادفةً إلى نفي نقصٍ وحاجةٍ عنه -سبحانه-، سُمِّيَت «سلبيّة» أو «جلاليّة»، كنفي الجسمانيّة والتحيُّز والحركة والتغيُّر من الصفات السلبيّة الهادفة إلى سلب ما هو نقص عن ساحته -سبحانه-[1].

 

الرحمة وتجليّاتها في شهر رمضان

الرحمة أبرز صفات اللّه الفعليّة، وهي إفاضة الحياة. وتنقسم الرحمة الإلهيّة إلى قسمَين:

رحمة رحمانيّة: تشمل الوجود كلّه، من أصغر ذرّة إلى أعظم مجرّة: ﴿وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٖ﴾[2].

رحمة رحيميّة: خاصّة بالمؤمنين: ﴿إِنَّ رَحمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلمُحسِنِينَ﴾[3].

وقد عبّر عنهما في القرآن بقوله -سبحانه-: ﴿بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ﴾،

 

 


[1] ينظر: مكّيّ العامليّ، الشيخ حسن، الإلهيّات على هدى الكتاب والسُنَّة والعقل، محاضرات الشيخ جعفر السبحانيّ، الدار الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1409ه - 1989م، ط1، ج1، ص82-83. (بتصرّف).

[2] سورة الأعراف، الآية 156.

[3] سورة الأعراف، الآية 56.

 

23


17

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

فالرحمن تعني الرحمة العامّة، والرحيم تعني الرحمة الخاصّة.

ولكي نفهم معنى تجلّي الرحمة في شهر رمضان، لا بدّ من الالتفات إلى المسألة الآتية:

يعرِّف اللّه -سبحانه وتعالى- شهرَ رمضان بقوله: ﴿شَهرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلقُرءَانُ﴾[1].

ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفًا القرآن: «فَتَجَلَّى لَهُمْ -سُبْحَانَهُ- فِي كِتَابِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ»[2]. والتجلّي لغةً: الظهور، فعندما نقول: إنّ اللّه قد تجلّى في القرآن، نقصد أنّ كلّ الصفات الجماليّة والجلاليّة قد ظهرت فيه. وشهر رمضان هو شهر التجلّي الأعظم للقرآن؛ لأنّه شهر نزول القرآن، وشهر تلاوته، وإفاضة الرحمة الرحيميّة خاصّةً تكون في أعلى تجليّاتها وبروزها وظهورها؛ لذا تكون رحمته قريبًا من المحسنين.

موجبات الرحمة الإلهيّة

ثمّة أعمال وعناوين وردت في القرآن الكريم تُعَدُّ من موجِبات الرحمة الإلهيّة، نذكرها باختصار:

1. الإيمان والهجرة والجهاد

المؤمنون باللّه ورسوله والأئمّة (عليهم السلام)، فيهاجرون في سبيل اللّه إلى مواطن مرضاته، ويجاهدون ابتغاء وجهه الكريم، فحقيقٌ بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمةَ اللّه؛ لأنّهم أتَوا بالأسباب الموجِبة

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 185.

[2] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان - بيروت، 1387ه - 1967م، ط1، الخطبة 147، ص204.

 

24


18

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

للرحمة، كما قال -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ يَرجُونَ رَحمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾[1].

2. طاعة الله ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال -تعالى-: ﴿وَٱلمُؤمِنُونَ وَٱلمُؤمِنَٰتُ بَعضُهُم أَولِيَآءُ بَعضٖ يَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ﴾[2].

فطاعة اللّه والرسول هي سببٌ للرحمة، كما قال -تعالى-: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾[3].

أمّا الصلاة والزكاة، فهما أكبر الطاعات وأجلّهما، وهما جامعتان لحقِّه -تعالى- وحقِّ خلقه؛ للإخلاص للمعبود، وللإحسان إلى العبيد، قال -تعالى-: ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾[4].

ومن الصفات التي أوجبت لهم رحمة اللّه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تقدّم في الآية 71 من سورة التوبة.

فمن استجمع هذه الصفات الأربع المتقدّمة، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرحَمُهُمُ﴾؛ أي إنّ اللّه -تعالى- يتعهّد المؤمنين والمؤمنات برحمته الخاصّة بشكل مستمرّ لا انقطاع له، في حال استمرار هؤلاء بهذه الصفات.

 


[1] سورة البقرة، الآية 218.

[2] سورة التوبة، الآية 71.

[3]  سورة آل عمران، الآية 132.

[4] سورة النور، الآية 56.

 

25


19

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

3. الصبر

قال -تعالى-: ﴿ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيهِم صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِم وَرَحمَةٞ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُهتَدُونَ﴾[1]. «هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم في مسيرتهم الحياتيّة المحفوفة بالمزالق والأخطار؛ لذلك تقول الآية: ﴿وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُهتَدُونَ﴾»[2].

4. العفو

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِالْعَفْوِ تُسْتَنْزَلُ الرَّحْمَةُ».[3]

5. الموت في سبيل الله

قال -تعالى-: ﴿وَلَئِن قُتِلتُم فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَو مُتُّم لَمَغفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحمَةٌ خَيرٞ مِّمَّا يَجمَعُونَ﴾[4].

6. الاستغفار وذكر الله

قال -تعالى-: ﴿لَولَا تَستَغفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾[5]. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «بِذِكْرِ اللَّهِ تُسْتَنْزَلُ الرَّحْمَة»[6].

 

 


[1] سورة البقرة، الآيتان 156-157.

[2] الشيرازيّ، الشيخ ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، إيران - قمّ، 1426ه، ط1، ج1، ص441.

[3]  الليثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين أبو الحسن عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران - قمّ، 1418ه، ط1، ص189.

[4] سورة آل عمران، الآية 157.

[5] سورة النمل، الآية 46.

[6] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص188.

 

26


20

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

7. التقوى

قال -تعالى-: ﴿وَرَحمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيءٖ فَسَأَكتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾[1].

8. صلة الرحم

ولا سيّما في شهر رمضان، ففي خطبة النبيّ (صلى الله عليه وآله): «وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ، وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ، قَطَعَ اللّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ»[2].

9. اتّباع القرآن والاستماع والإنصات له

قال -تعالى-: ﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾[3]. وقال -سبحانه-: ﴿وَإِذَا قُرِئَ ٱلقُرءَانُ فَٱستَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾[4].

10. قيام الليل

قال -تعالى-: ﴿أَمَّن هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحذَرُ ٱلأٓخِرَةَ وَيَرجُواْ رَحمَةَ رَبِّهِۦۗ﴾[5].

11. الإصلاح بين المؤمنين

قال -تعالى-: ﴿إِنَّمَا ٱلمُؤمِنُونَ إِخوَةٞ فَأَصلِحُواْ بَينَ أَخَوَيكُم وَٱتَّقُواْ

 


[1]  سورة الأعراف، الآية 156.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، فضائل الأشهر الثلاثة، تحقيق وإخراج ميرزا غلام رضا عرفانيان، دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1412 - 1992م، ط2، ص78.

[3] سورة الأنعام، الآية 155.

[4] سورة الأعراف، الآية 204.

[5] سورة الزمر، الآية 9.

 

27


21

الموعظة الثالثة: تجلّي الصفات الجماليّة في شهر الرحمة الإلهيّة

ٱللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾[1]. وقد رتّب اللّه على الإصلاح بين المؤمنين، وبتقوى اللّه، الرحمة[2]. وإنّما اختيرت الرحمةُ لأنّ الأمر بالتقوى واقعٌ إثر تقرير حقيقة الأخوّة بين المؤمنين، وشأن تعامل الإخوة الرحمة، فيكون الجزاء عليها من جنسها[3].

 


[1] سورة الحجرات، الآية 10.

[2] السعديّ، عبد الرحمن بن ناصر، تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان، تحقيق ابن عثيمين، مؤسّسة الرسالة، 1421ه - 2000م، لا.ط، ص800.

[3]  ابن عاشور، محمّد بن طاهر، التحرير و التنوير، مؤسّسة التاريخ‏، لبنان - بيروت، لا.ت، ط1، ج26، ص245.

 

28


22

الموعظة الرابعة: الإحسان في شهر رمضان

الموعظة الرابعة: الإحسان في شهر رمضان

 

محاور الموعظة

1. خدمة الناس هي خدمة للّه -تعالى‏-

2. قضاء حاجة المؤمن

3. إطعام الفقراء ومعونتهم

4. الأئمّة (عليهم السلام) وإطعام الفقراء

 

هدف الموعظة

الحثّ على فضيلة الإحسان عامّة، وفي شهر رمضان خاصّة.

 

تصدير الموعظة

﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأمُرُ بِٱلعَدلِ وَٱلإِحسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلقُربَىٰ﴾[1].

 

 


[1] سورة النحل، الآية 90.

 

29


23

الموعظة الرابعة: الإحسان في شهر رمضان

خدمة الناس هي خدمة للّه -تعالى‏-

خدمة الناس والمؤمنين هي في حقيقتها وجوهرها خدمةٌ للّه -سبحانه وتعالى-، وما أجملَ أن يكون الإنسان خادمًا للّه -تعالى-! فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من قضى لأخيه المسلم حاجة، كان كمن خدم اللّه -تعالى- عمره»[1].

ويؤكّد هذا المعنى قول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «ليهيّئ الأحبّةُ الأعزّاءُ أنفسَهم لخدمة الإسلام والشعب المحروم، وليشدّوا الأحزمةَ لخدمة العباد التي تعني خدمةَ اللّه»[2].

 

قضاء حاجة المؤمن

من الأهداف الأساس التي اهتمّ الإسلام بتحقيقها هي جعل المؤمنين كالجسد الواحد، بحيث ما يصيب المؤمن من فاقة أو آفة أو مرض فكأنّه أصاب الآخرين، فيهبّوا إلى خدمته ونجدته ومساندته.

فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه [الإمام الصادق] (عليه السلام) يقول: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد؛ إن اشتكى شيئًا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإنّ روح المؤمن لأشدّ اتّصالًا بروح اللّه من اتّصال شعاع الشمس بها»[3].

 

 


[1]  الأحسائيّ، ابن أبي جمهور، عوالي اللآلي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، تقديم السيّد شهاب الدين النجفي المرعشي، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، لا.ن، لا.م، 1403ه - 1983م، ط1، ج‏1، ص‏374.

[2] راجع: الإمام الخمينيّ (قدس سره)، السيّد روح اللّه الموسوي، صحيفة الإمام (تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره))، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره)، إيران - طهران، 1430ه - 2009م، ط1، ج5، ص342.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص166.

 

30


24

الموعظة الرابعة: الإحسان في شهر رمضان

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «كان عليّ بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدّق به»[1]، وكان (عليه السلام) يقول: «إنّ صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ»[2].

وعنه (عليه السلام): «كان ليخرج [الإمام زين العابدين(عليه السلام)] في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره... حتّى يأتي بابًا بابًا، فيقرعه، ثمّ يناول من كان يخرج إليه، وكان يغطّي وجهه إذا ناول فقيرًا؛ لئلّا يعرفه»[3].

وفي خبر آخر: إنّه [الإمام زين العابدين(عليه السلام)] كان إذا جنّه الليل، وهدأت العيون، قام إلى منزله، فجمع ما يبقى فيه من قوت أهله، وجعله في جراب، ورمى به على عاتقه، وخرج إلى دور الفقراء وهو متلثّم، ويفرِّق عليهم، وكثيرًا ما كانوا قيامًا على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب[4].

وجاء في سيرته أيضًا: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلمّا مات عليّ بن الحسين (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعرفوا أنّه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به. ولمّا

 

 


[1] ابن شهر آشوب، مشير الدين أبو عبد اللّه محمّد بن عليّ، مناقب آل أبي طالب، تصحيح وشرح ومقابلة لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، العراق - النجف الأشرف، 1376ه - 1956م، لا.ط، ج3، ص292.

[2] المصدر نفسه.

[3] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص517.

[4]  ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص293.

 

34


28

الموعظة الرابعة: الإحسان في شهر رمضان

مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل[1].

وكذلك كان الإمام الكاظم (عليه السلام) سخيًّا كريمًا، وكان يصرّ الصرر ثلاثمئة دينار، وأربعمئة دينار، ومائتي دينار، ثمّ يقسّمها بالمدينة. وكان مثل صرر موسى بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرّة فقد استغنى[2].

الإطعام في شهر رمضان

رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان عليّ بن الحسين (عليه السلام) إذا كان اليوم الذي يصوم فيه، يأمر بشاة، فتُذبح وتُقطّع أعضاؤها، وتُطبخ، فإذا كان عند المساء أكبّ على القدور، حتّى يجد ريح المرق، وهو صائم، ثمّ يقول: هاتِ القصاع، اغرفوا لآل فلان، واغرفوا لآل فلان، حتّى يأتيَ على آخر القدور، ثمّ يُؤتى بخبزٍ وتمر، فيكون ذلك عشاءه»[3].

فللإطعام في شهر رمضان آثارٌ وفضائل عظيمة، نذكر منها:

1. مغفرة لما مضى من ذنوبه، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): من فطّر مؤمنًا في شهر رمضان، كان له بذلك عتق رقبة ومغفرة لذنوبه في ما مضى، فإنْ لم يقدر إلّا على مذقة لبن،

 

 


[1] ابن كثير، عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، لبنان - بيروت، 1408ه - 1988م، ط1، ج9، ص123.

[2] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلميّة، لبنان - بيروت، 1417 - 1997م، ط1، ج13، ص29.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج42، ص68.

 

35


29

الموعظة الرابعة: الإحسان في شهر رمضان

ففطّرها صائمًا، أو شربة من ماء عذب، وتمر، لا يقدر على أكثر من ذلك، أعطاه اللّه هذا الثواب»[1].

2. له دعوة مستجابة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أيّما مؤمن أطعم مؤمنًا ليلةً من شهر رمضان، كتب اللّه له بذلك مثل أجر من أعتق ثلاثين رقبة نسمة مؤمنة، وكان له بذلك عند اللّه -عزّ وجلّ- دعوة مستجابة»[2].

3. أفضل من الصيام، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام): «فطرك أخاك الصائم، أفضل من صيامك»[3].

وفي الختام، الإحسان لكلِّ محتاج وإن كان حسنًا، لكنّه إلى الأرحام أحسن وأفضل، خاصّة في أيّام الشدائد وانتشار الأوبئة (كورونا مثلاً)، حيث تتعطّل الكثير من موارد الرزق والإنتاج للعديد من العائلات، ممّا يزيد في حالات الفقر والعوز، فيصبح الإحسان ومدّ يد العون أشدّ ضرورة وحاجة من قِبل مَن أغناهم اللّه من فضله. وقد وعد اللّه المحسنين في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجرَ ٱلمُحسِنِينَ﴾[4].

 

 


[1] البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج2، ص396.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، ثواب الأعمال، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، 1368 ش، ط2، ص136.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص68.

[4]  سورة التوبة، الآية 120.

 

36


30

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

 

محاور الموعظة

1. تعريف الورع

2. أهمّيّة الورع عن محارم اللّه -تعالى-

3. منزلة الورع

4. الارتباط الوثيق بين الورع والولاية

 

هدف الموعظة

تعرّف أهمّيّة الورع عن محارم اللّه -تعالى- في شهر رمضان، وفي غيره من الشهور.

 

تصدير الموعظة

سأل أميرُ المؤمنين (عليه السلام) رسولَ اللّه (صلى الله عليه وآله): «ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟» فقال (صلى الله عليه وآله): «يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم اللّه -عزّ وجلّ-»[1].

 


[1]  الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، مصدر سابق، ج1، ص266.

 

37


31

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

أكثر ما يهمّ الناس معرفته في شهر رمضان هو ما يقرِّبهم من اللّه -تعالى- من أعمالٍ وعباداتٍ وطاعات، ومن هنا نجد أنّنا لو سألنا عن أفضل ما يقوم به الإنسان في هذا الشهر سنجد إجابات مختلفة ومتفاوتة، فمنهم من يرى الأفضل هو قراءة القرآن، ومنهم يرى الصلاة، أو الصيام، أو الدعاء أو صلة الرحم... وبالخلاصة، فإنّ كلّ شخصٍ سيلتفت إلى طاعةٍ أو جملةِ عباداتٍ، ويعتبرها أفضل ما يُتعبَّد به في هذا الشهر، ومن هنا سَأل أميرُ المؤمنين (عليه السلام) النبيَّ (صلى الله عليه وآله) عن أفضل الأعمال، فقال (صلى الله عليه وآله): «الورع عن محارم اللّه»، وعبّر عنه الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله: «إنّ أشدّ العبادة الورع»[1].

تعريف الورع

الورع هو المنطلق الأساس لحالة التخلية الأخلاقيّة؛ كونه يشكِّل الملكة التي تعصم صاحبها من الدخول في الشبهات والمحرّمات. وهذا ما نستفيده من الروايات، ومن بينها ما جاء عن عمرو بن سعيد، أنّه قال للإمام الصادق (عليه السلام): إنّي لا ألقاك إلّا في السنين، فأخبرني بشيء آخذ به، فقال (عليه السلام): «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، واعلم أنّه لا ينفع اجتهادٌ لا ورع فيه»[2]. وقد شرح العلّامة المجلسيّ الحديث بقوله: «لعلّ المراد بالتقوى ترك المحرمات، وبالورع ترك الشبهات، بل بعض المباحات، وبالاجتهاد بذل الجهد في

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص77.

[2] المصدر نفسه.

 

38


32

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

فعل الطاعات، ثمّ قال: الورع في الأصل الكفّ عن المحارم، والتحرُّج منها...»[1].

 

أهمّيّة الورع عن محارم اللّه -تعالى-

الملاحظ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) اكتفى بذكر الورع عن محارم اللّه، ولم يتعرّض لباقي الطاعات والعبادت مع ما نعرفه من مكانتها في دين الإنسان وفي مصيره، فلم يذكر الصلاة- مثلًا- مع أنّها عمود الدين، وهي التي قال عنها (صلى الله عليه وآله): «إذا قام العبد المؤمن في صلاته، نظر اللّه إليه -أو قال: قبل اللّه عليه- حتّى ينصرف، وأظلّته الرحمة من فوق رأسه إلى أفق السماء، والملائكة تحفُّه من حوله إلى أفق السماء، وكَّل اللّه به ملكًا قائمًا على رأسه يقول له: أيّها المصلّي، لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفت، ولا زلت من موضعك أبدًا»[2]؛ ذلك لأنّ الصلاة ما لم تحقِّق حالة الورع لدى المصلِّي، فقد تزيد الإنسان بعدًا عن اللّه -تعالى-، فقد جاء عنه (صلى الله عليه وآله): «من لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من اللّه إلّا بُعدًا»[3].

ولم يذكر الصيام مع ما له من الفضل، فقد جاء عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال لجابر بن عبد اللّه الأنصاريّ: «يا جابر، هذا شهر رمضان، من صام نهاره، وقام وِردًا من ليله، وعفَّ بطنَه وفرجَه، وكفَّ لسانَه،

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص296-297.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص265.

[3] الطبرسي، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1415ه.ق - 1995م، ط1، ج8، ص29.

 

39


33

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

خرج من الذنوب كخروجه من الشهر»، فقال جابر: يا رسول اللّه، ما أحسن هذا الحديث! فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «يا جابر، وما أشدَّ هذه الشروط!»[1] ؛ وما ذلك إلّا لأنّ الصيام إن لم يحقِّق الورع في حياة الإنسان، فلا يبقى له قيمة عند اللّه -تعالى-، فقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلّا الظمأ والجوع! وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلّا السهر والعناء!»[2].

وهكذا سائر الطاعات والعبادات، فإنّ قيمتها بمقدار ما تعطيه من الورع عن محارم اللّه -تعالى-، ومن هنا عدّت الرواياتُ الشريفة الورعَ أساس الدين، فعن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «ليجيئنّ أقوامٌ يوم القيامة لهم من الحسنات كأمثال الجبال، جبال تهامة، فيُؤمر بهم إلى النار»، فقيل: يا نبيّ اللّه، أمُصلّون؟! قال: «كانوا يصلّون ويصومون ويأخذون وهنًا من الليل، لكنّهم كانوا إذا لاح لهم شيء من الدنيا وثبوا عليه»[3].

 

منزلة الورع

للورع عن محارم اللّه منزلة رفيعة، وهو من أعظم المنجيات، وقد أكَّدت الروايات الشريفة تقدُّمه على غيره من الأعمال، فعن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «تَرْكُ لقمة الحرام، أحبّ إلى اللّه من صلاة ألفي ركعة

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص87.

[2]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج1، ص72.

[3] ورّام بن أبي فراس المالكيّ الأشتريّ، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1368ش، ط2، ج2، ص536.

 

40


34

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

تطوّعًا»[1]، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «غضّ الطرف عن محارم اللّه، أفضل عبادة»[2].

ولذا جاءت الروايات متحدّثةً عن فضله ومنزلته، فمنها أنّه:

1. للورع ثواب الإسلام كلّه، فعن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «من لقي اللّه -سبحانه- ورِعًا، أعطاه اللّه ثواب الإسلام كلّه»[3].

2. يستحيي اللّه من مساءلتهم، ويدخلهم الجنّة بغير حساب، فعن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «قال اللّه -تعالى-: يا موسى، إنّه لن يلقاني عبدٌ في حاضر القيامة إلّا فتّشته عمّا في يديه، إلّا من كان من الورعِين، فإنّي استحييهم وأجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنّة بغير حساب»[4].

3. أفضل ما يتقرّب به المتقرّبون إلى اللّه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «في ما ناجى اللّه -عزّ وجلّ- به موسى (عليه السلام): يا موسى، ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل الورع عن محارمي، فإنّي أبيحهم جنّات عدن لا أشرك معهم أحدًا»[5].

 

 


[1]  الحلّي، ابن فهد، عدّة الداعي ونجاح الساعي، تصحيح أحمد الموحّدي القمّي، مكتبة وجداني، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص128.

[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج11، ص280.

[3]  النراقيّ، الشيخ محمّد مهدي، جامع السعادات، تحقيق وتعليق السيّد محمّد كلانتر، تقديم الشيخ محمّد رضا المظفّر، دار النعمان للطباعة والنشر، لا.م، لا.ت، لا.ط، ج2، ص135.

[4] الشيخ محمّد الريشهري، ميزان الحكمة، تحقيق ونشر دار الحديث، لا.م، لا.ت، ط1، ج4، ص3512.

[5]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص80.

 

41


35

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

4. العمل من الورِع مقبول، فعن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «الصلاة خلف رجل وَرِع مقبولة، والهديّة إلى رجل وَرِع مقبولة، والجلوس مع رجل وَرِع من العبادة، والمذاكرة معه صدقة»[1].

 

الارتباط الوثيق بين الورع والولاية

1. الورع شرط الولاية، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) - لخيثمة، لمّا دخل عليه ليودّعه-: «أبلغ موالينا السلام عنّا، وأوصِهم بتقوى اللّه العظيم، وأعلمهم -يا خيثمة- أنّا لا نُغني عنهم من اللّه شيئًا إلّا بعمل، ولن ينالوا ولايتنا إلّا بورع»[2].

2. آل محمّد وشيعتهم أحقّ الناس بالورع، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ أحقّ الناس بالورع آل محمّد وشيعتُهم؛ كي تقتدي الرعيّة بهم»[3].

3. الورع دين أهل البيت (عليهم السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «عليكم بالورع؛ فإنّه الدِّين الذي نلازمه، وندين اللّه به، ونريده ممّن يوالينا»[4].

4. عنوان محبّتهم الاستعانة بالورع، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «من أحبّنا فليعملْ بعملنا، وليستعنْ بالورع؛ فإنّه أفضل ما يُستعان به في أمر الدنيا والآخرة»[5].

 


[1] الشيخ محمّد الريشهري، ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج4، ص3512.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص309.

[3]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج1، ص116.

[4] الطوسي، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران - قم، 1414ه، ط1، ص281.

[5] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص614.

 

42


36

الموعظة الخامسة: الورع عن محارم اللّه

5. الورع وصيّة المعصومين (عليهم السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أوصيك بتقوى اللّه والورع والاجتهاد، واعلم أنّه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه»[1].

6. هؤلاء هم أصحاب الإمام (عليه السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّما أصحابي من أشتدّ ورعه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، فهؤلاء أصحابي»[2].

7. في ورعكم كيد الأعداء، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمنًا حتّى يكون لجميع أمرنا متبعًا مريدًا، ألا وإنّ من اتّباع أمرنا وإرادته الورع؛ فتزيّنوا به يرحمْكم اللّه، وكبّدوا أعداءنا به ينعشْكم اللّه»[3].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص78.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص77.

[3] المصدر نفسه، ج2، ص78.

 

43


37

الموعظة السادسة: شهر رمضان شهر التوبة والإنابة

الموعظة السادسة: شهر رمضان شهر التوبة والإنابة

 

محاور الموعظة

1. العلاقة بين اللّه -تعالى- وعباده

2. مفهوم التوبة

3. أركان التوبة وشرائطها وآثارها

 

هدف الموعظة

معرفة الأسس التي تحكم العلاقة بين اللّه وعباده، وبيان معنى التوبة وشرائطها وآثارها.

 

تصدير الموعظة

﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾[1].

 


[1] سورة التوبة، الآية 118.

 

44


38

الموعظة السادسة: شهر رمضان شهر التوبة والإنابة

العلاقة بين اللّه وعباده

إنّ العلاقة التي تحكم اللّه -تعالى- بعباده، هي علاقة الحبّ والرحمة. وفي القرآن الكريم دلائل كثيرة تدلّ على حبّ اللّه -تعالى- ورحمته لعباده، أهمُّها قبول اللّه التوبة من العصاة، والتجاوز عن سيّئاتهم، والإنعام بالرضا، والحبّ بعد الغضب، ومن ذلك قوله -تعالى-: ﴿فَقُلتُ ٱستَغفِرُواْ رَبَّكُم إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠ يُرسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيكُم مِّدرَارٗا﴾[1]، وقوله: ﴿قُل يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسرَفُواْ  أَنفُسِهِم لَا تَقنَطُواْ مِن رَّحمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُۥ هُوَ ٱلغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾[2]، وقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلمُتَطَهِّرِينَ﴾[3]، وقوله: ﴿فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَعَسَىٰٓ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلمُفلِحِينَ﴾[4].

 

مفهوم التوبة

﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ﴾

التوبة هي ترك الذنب عِلْمًا بقبحه، وندمًا على فعله، وعزمًا على ألّا يعود إليه إذا قدر، وتدارُكًا لِما يمكن تداركه من الأعمال، وأداءً لِما ضيع من الفرائض؛ إخلاصًا لله، ورجاءً لثوابه، وخوفًا من عقابه.

وتوبة العبد إلى اللّه ورجوعه عن المعصية توفيقٌ إلهيّ محض؛ لأنّ الإنسان في ذاته فقير، والفقر عين الذات؛ أي متمحِّض في الحاجة؛ ولذلك هو محتاج إلى اللّه -تعالى- قبل توبته، فالذي يريد الرجوع

 


[1] سورة نوح، الآيتان 10-11.

[2] سورة الزمر، الآية 53.

[3] سورة البقرة، الآية 222.

[4] سورة القصص، الآية 67.

 

45


39

الموعظة السادسة: شهر رمضان شهر التوبة والإنابة

إلى اللّه، يحتاج إلى توفيقٍ وعنايةٍ خاصّة منه -تعالى-، وهذا معناه توبة اللّه لعبده قبل توبة العبد لربّه، وهي الإعانة الإلهيّة والتوفيق لذلك، فبواسطة إفاضةِ رحمتِه الهدايةَ، وهي التوبة الأولى إلى العبد، يُوَفَّق للتوبة والاستغفار.

والتوبة الثانية هي رجوع العبد إلى اللّه بالتوبة عن ذنوبه ومعاصيه، فهي تحتاج أيضًا إلى قبول اللّه -تعالى- ومغفرته. فاللّه -تعالى- يبتدئ العبدَ برحمته؛ أي رحمة الهداية، فيتوب العبد إلى ربّه، فيقبله ثانية.

فتوبة العبد محقوقةٌ بتوبتَين: توبة متقدِّمة، وهي التوفيق للتوبة، وتوبة متأخِّرة بعد توبة العبد، وهي قبول التوبة[1].

 

أركان التوبة وشرائطها وآثارها

قَالَ أمير المؤمنين (عليه السلام) لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللّه: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ! أَتَدْرِي مَا الاِسْتِغْفَارُ؟ الاِسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ اَلْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اِسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ:

أَوَّلُهَا: اَلنَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى.

وَاَلثَّانِي: اَلْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ اَلْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَدًا.

وَاَلثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى اَلْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ، حَتَّى تَلْقَى اللّهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ.

 


[1] ينظر: الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417ه‏، ط5، ج 4، ص245. (بتصرف).

 

46


40

الموعظة السادسة: شهر رمضان شهر التوبة والإنابة

وَاَلرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا، فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا.

وَاَلْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اَللَّحْمِ اَلَّذِي نَبَتَ عَلَى اَلسُّحْتِ، فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ، حَتَّى تُلْصِقَ اَلْجِلْدَ بِالْعَظْمِ، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيد.

وَاَلسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ اَلْجِسْمَ أَلَمَ اَلطَّاعَةِ، كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ اَلْمَعْصِيَةِ،

فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللّهَ»[1].

ويمكن تقسيم كلام الإمام (عليه السلام) على الشكل الآتي: الأوّلان من هذه الأمور ركنان للتوبة، والثالث والرابع شرطان لقبول التوبة، والأخيران شرطان لكمال التوبة.

الركن الأوّل: الندم

فإنّ التوبة تعني الرجوع إلى اللّه -سبحانه وتعالى-، أو الرجوع إلى الفطرة الطاهرة التي تدنَّسَت بالذنب، وهذا لا يمكن أن يكون من دون الندم على ما فات.

الركن الثاني: العزم على ترك العود

والندم، في الغالب، يستبطن العزمَ على عدم العود. عن أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ النَّدَمَ عَلَى الشَّرِّ يَدْعُو إِلَى تَرْكِه»[2].

وأمّا باقي الشرائط

فمنها: الثالث: تدارك ما هضمه من حقوق اللّه وحقوق الناس،

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، حكم أمير المؤمنين، رقم 417، ص549 - 550.

[2]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص427.

 

47


41

الموعظة السادسة: شهر رمضان شهر التوبة والإنابة

والرابع: أن تؤدّي حقَّ اللّه في كلِّ فرض... حسب ما ورد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام).

 

وأمّا شرائط الكمال

فالروايات فيها عديدة، منها: ما مضى من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، والذي ذكر فيه إذابة اللحم النابت من الحرام، وإذاقة الجسم ألم الطاعة كما ذاق حلاوة المعصية[1].

عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوبَةٗ نَّصُوحًا﴾[2]، قَالَ: «يَتُوبُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيه‏»[3].

قال محمّد بن الفضيل: سَأَلْتُ عَنْهَا أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَتُوبُ مِنَ الذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ، وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- الْمُفَتَّنُونَ التَّوَّابُون‏».

 

أمّا آثار التوبة

فهي كثيرة، نذكر منها:

1. الفلاح والفوز بسعادة الدارَين

قال -تعالى-: ﴿وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلمُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ﴾[4].

2. تكفير السيّئات

قال -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوبَةٗ نَّصُوحًا عَسَىٰ

 

 


[1] ينظر: الحائريّ، السيّد كاظم الحسينيّ، تزكية النفس، دار البشير، إيران - قمّ، 1430ه.ق، ط5، ص238-249.

[2] سورة التحريم، الآية 8.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص432.

[4] سورة النور، الآية 31.

 

48


42

الموعظة السادسة: شهر رمضان شهر التوبة والإنابة

رَبُّكُم أَن يُكَفِّرَ عَنكُم سَيِّ‍َٔاتِكُم وَيُدخِلَكُم جَنَّٰتٖ تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ﴾[1].

3. تبديل السيّئات حسنات

قال -تعالى-: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّ‍َٔاتِهِم حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا﴾[2].

4. المتاع الحسن ونزول الأمطار والخير

قال -تعالى-: ﴿وَأَنِ ٱستَغفِرُواْ رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيهِ يُمَتِّعكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤتِ كُلَّ ذِي فَضلٖ فَضلَهُۥ﴾[3].

وقال على لسان نوح (عليه السلام): ﴿فَقُلتُ ٱستَغفِرُواْ رَبَّكُم إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا ١٠ يُرسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيكُم مِّدرَارٗا ١١ وَيُمدِدكُم بِأَموَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجعَل لَّكُم جَنَّٰتٖ وَيَجعَل لَّكُم أَنهَٰرٗا﴾[4].

5. محبّة الله

قال -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلمُتَطَهِّرِينَ﴾[5].

6. أنّ الله يفرح بتوبة التائبِين

عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ اَلْعَبْدِ مِنَ اَلظَّمْآنِ اَلْوَارِدِ، وَاَلْمُضِلِّ اَلْوَاجِدِ، وَاَلْعَقِيمِ اَلْوَالِدِ»[6].

 

 


[1] سورة التحريم، الآية 8.

[2] سورة الفرقان، الآية 70.

[3] سورة هود، الآية 3.

[4] سورة نوح، الآيات 10-12.

[5]  سورة البقرة، الآية 222.

[6]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص126.

 

49


43

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

 

 

محاور الموعظة

1. أهمّيّة الأسرة في الإسلام

2. إرشادات الإسلام حول الأسرة

3. الأسرة في قلب التحدّيات

4. مسؤوليّة الأب والأم في شهر رمضان

5. من مصاديق الاهتمام بالجانب الإيمانيّ

 

هدف الموعظة

حثّ المؤمنين على الاعتناء الدينيّ بأسرهم في شهر رمضان المبارك.

 

تصدير الموعظة

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ﴾[1].

 

 


[1] سورة التحريم، الآية 6.

 

50


44

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

أهمّيّة الأسرة في الإسلام

الزواج ارتباط مشروع بين الرجل والمرأة، وهو باب التواصل، وسبب الألفة والمحبّة، والمعونة على العفّة والفضيلة، وبه يتحصّن الجنسان. ومن هنا، كان استحبابه استحبابًا مؤكّدًا، قال -تعالى-: ﴿وَأَنكِحُواْ ٱلأَيَٰمَىٰ مِنكُم وَٱلصَّٰلِحِينَ مِن عِبَادِكُم وَإِمَآئِكُم إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾[1].

وعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «ما بُني بناء في الإسلام أحبّ إلى اللّه -تعالى- من التزويج»[2].

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام): «تزوّجوا؛ فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: مَنْ أحبّ أن يتّبع سنّتي، فإنّ من سنّتي التزويج»[3].

وبالزواج تتشكلّ الأسرة التي أكّد الإسلام أهمّيّتها، وحرص على حفظها، ووجّه العلاقة بين أفرادها على مستوى القيم والأخلاق والسلوك والعاطفة، قبل بيان الحقوق والواجبات؛ فالأسرة هي المجتمع الصغير، ونواة المجتمع الكبير.

إرشادات الإسلام حول الأسرة

إنّ اهتمام الدين الإسلاميّ بالأسرة لم يكن مجرّدًا عن الإرشاد في ما ينبغي على أفراد الأسرة القيام به بغية صلاحها وسيرها في الطريق الصحيح على جميع الأصعدة.

 

 


[1]  سورة النور، الآية 32.

[2] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الفصول المهمّة في أصول الأئمّة (عليهم السلام)، تحقيق وإشراف محمّد بن محمّد الحسين القائيني، مؤسّسة معارف إسلاميّ إمام رضا (عليه السلام)، 1418 - 1376 ش، ط1، ج2، ص321.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص329.

 

51


45

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

ولهذا، فإنّنا نجد العديد من الأحكام والإرشادات التي تتوجّه إلى كلّ أفراد الأسرة، للأب والأم والأولاد جميعًا، سواء أكانت هذه الأحكام والإرشادات تتعلّق بالحقوق أم الواجبات.

 

ولعلّ واجبات الأب والأم هي الأشدّ أهمّيّة وأوسع دائرة من الأولاد؛ ذلك أنّهما البانيان الأساسيّان للأسرة الصالحة.

 

الأسرة في قلب التحدّيات

إنّ التغيّرات الحاصلة في المجتمع البشريّ على الصعيد التكنولوجيّ والفكريّ والاقتصاديّ، تضع الأسرة في مواجهة العديد من التحدّيات، خاصّةً الأخلاقيّة والفكريّة منها، حيث تنتشر الدعوات الباطلة والمنحرفة، التي لا ينتج عنها سوى الشقاق والتفرقة والجفاء، عدا عن التحدّيات الإيمانيّة، التي توجّه الشباب إلى التخلّي عن مبادئهم الدينيّة والعقائديّة.

كلّ ذلك يجعل الاهتمام بالأسرة أمرًا ضروريًّا ولازمًا، تُلقى فيه المسؤوليّة أوّلًا على الآباء والأمّهات، وثانيًا على البيئة المحيطة بها، من جهات تبليغّية دينيّة وتربويّة...

وإنّ أعظم ما ينبغي الاهتمام به تجاه الأسرة هو في حفظ دين أفرادها، ألّا يخرجوا عن طاعة اللّه ورضاه، وإلّا فإنّه أعظم الخسران، كما قال -تعالى-: ﴿قُل إِنَّ ٱلخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُم وَأَهلِيهِم يَومَ ٱلقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلخُسرَانُ ٱلمُبِينُ﴾[1].

 

مسؤوليّة الأب والأم في شهر رمضان

نُلقي الضوء في هذه النقطة على مسؤوليّة الأب والأم تجاه أبنائهما

 

 


[1] سورة الزمر، الآية 15.

 

52


46

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

في خصوص شهر رمضان، حيث تكون الأجواء الاجتماعيّة والمعنويّة مؤاتية للتغيير المعنويّ والتربويّ للأسرة عامّة. وكذلك لتصحيح مسار الأسرة ونبذ النزاعات التي تفرِّق أفرادها.

 

الاهتمام بالجانب الإيمانيّ

من خلال تربية الأبناء وحثّهم على الإيمان باللّه وتقوى اللّه والالتزام بطاعته وعبادته، قال -تعالى-: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلحِجَارَةُ عَلَيهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُم وَيَفعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ﴾[1].

ورُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال الناس: كيف نقي أنفسنا وأهلنا؟ قال: «اعملوا الخير، وذكّروا به أهليكم، وأدّبوهم على طاعة اللّه»[2].

وعن الإمام عليّ (عليه السلام) أيضًا في تفسير الآية: «علّموا أنفسكم وأهليكم الخيرَ، وأدّبوهم»[3].

وفي آية أخرى وُجه الخطاب للأب مباشرة بقوله -تعالى-: ﴿وَأمُر أَهلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصطَبِر عَلَيهَا﴾[4].

 

 


[1] سورة التحريم، الآية 6.

[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 12، ص201.

[3]  المتّقي الهنديّ، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني - تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، مؤسّسة الرسالة، لبنان - بيروت، 1409ه - 1989م، لا.ط، ج2، ص539.

[4] سورة طه، الآية 132.

 

53


47

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

وقد ورد أنّه لمّا نزلت هذه الآية، جلس رجل من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي، وكُلّفت أهلي! فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك»[1].

 

من مصاديق الاهتمام بالجانب الإيمانيّ

1. إقامة الصلوات في أوقاتها

قال -تعالى-: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلوُسطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ﴾[2].

إنّ إقامة الصلوات من الأمور الأساسيّة في تقوية الجانب الإيمانيّ لدى الأبناء، خاصّة في ما لو قام الأب باتّباع أسلوبٍ مناسبٍ في الحثّ على الالتزام بأوقاتها، بل الأجدى من الأب أن يحثّ على إقامة الصلاة جماعةً أيضًا مع إمكان ذلك، فقد ورد فيها العديد من الأحاديث التي تبيّن فضلها، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما يروي الناس أنّ الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين صلاة؟ فقال (عليه السلام): «صدقوا»[3].

2. قراءة القرآن

بأن يكون هناك برنامج محدّد يوميًّا يُتلى فيه القرآن الكريم داخل البيت، وبإشراف الأب أو الأم، ما يُضفي جوًّا قرآنيًّا على الأسرة في هذا الشهر المبارك، وهو المعروف بشهر القرآن الكريم، حيث نزل فيه.

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص62.

[2]  سورة البقرة، الآية 238.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص373.

 

54


48

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «لكلّ شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان»[1].

3. قراءة الأدعية

من الأمور المهمّة التي تضفي جوًّا إيمانيًّا على الأسرة هو تلاوة الأدعية العامّة والخاصّة بشهر رمضان المبارك، خاصّة تلك الأدعية الأساسيّة، والتي تتضمّن مفاهيم رفيعة وجليلة.

أ. وقد ورد الحثّ الشديد على الدعاء: لما فيه من آثار على قلب الإنسان، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء»، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال: «الدعاء»[2].

ب. الاهتمام بالجانب الثقافيّ والفكريّ: لا يقتصر دور الآباء والأمّهات تجاه أبنائهم على الجانب الإيمانيّ، بل لا بدّ من توجيههم للاستفادة من أوقات شهر رمضان بالتدبّر في القرآن الكريم وتعرّف النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، وكذلك التاريخ الإسلاميّ، وغيرها الكثير من أبواب المعرفة التي تعمل على تثبيت الثقافة الأصيلة في أذهانهم.

وقد ورد ما يدلّ على أهمّيّة اهتمام المرء بهذا الجانب تجاه أهل بيته، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يزال المؤمن يورّث أهل بيته العلم والأدب الصالح حتّى يدخلهم الجنّة»[3].

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص630.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص468.

[3] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 12، ص201.

 

55


49

الموعظة السابعة: الأسرة في شهر رمضان

ج. شدّ أواصر العلاقة بين الآباء والأبناء: إنّ في شهر رمضان فرصة للتواجد بين أفراد الأسرة، حيث ينتظرون سويًّا رفع أذان المغرب وإقامة الصلاة والاجتماع على مائدة الإفطار، وكذلك الجلوس معًا بعد تناول الإفطار؛ ما يتيح للأب أن يلامس حياة أبنائه، خاصّةً الآباء الذين يقضون أكثر أوقاتهم خارج منازلهم بفعل الانشغال بأعمالهم وكسب أرزاقهم.

إنّ هذا التواجد والحرص عليه أمرٌ ضروريٌّ في شهر رمضان، بل هو فرصة للتعويض لدى بعض الآباء.

واللافت هنا، أنّ بعض الآباء، ربّما يقضون تلك اللحظات المهمّة خارج منازلهم، فيتناولون أكثر إفطاراتهم هنا وهناك، دون أيّ التفات منهم لضرورة تواجدهم مع أبنائهم وأفراد أسرهم!

اغتنام فرصة التواجد في المنزل

لكن، مع انتشار الوباء (كورونا)، والتزام الناس بالحجر المنزليّ، وتواجد الآباء مع أسرهم في المنزل، ثمّة فرصة ثمينة ينبغي عليهم اغتنامها؛ من توجيهٍ وتربية وتواصل عبر الحوار والنقاش والاستماع إلى الأبناء، ومن تشجيعٍ على العادات الحسنة، وحثٍّ على العبادة من واجباتٍ ومستحبّات، كأداء الصلاة وقراءة القرآن والأدعية جماعةً، بل إنّ نفس تواجد الأب بين عياله له أجره وفضله عند اللّه، وقد ورد عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): «جلوس المرء عند عياله أحبّ إلى اللّه -تعالى- من اعتكافٍ في مسجدي هذا»[1].

 

 


[1]  الأمير ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، مصدر سابق، ج2، ص441.

 

56


50

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

محاور الموعظة

1. أهمّيّة شهر رمضان المبارك

2. البرنامج التربويّ في شهر رمضان عند أهل البيت (عليهم السلام):

- البرنامج العباديّ

- البرنامج الاجتماعيّ

هدف الموعظة

تعرّف البرنامج السلوكيّ للمؤمن في هذا الشهر العظيم، استنادًا إلى بعض عبادات أهل البيت (عليهم السلام).

تصدير الموعظة

عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «فَإِنَّ اَلشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللّهِ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ اَلْعَظِيمِ»[1].

 


[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص313.

 

57


51

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

أهمّيّة شهر رمضان المبارك

لا يوجد في الثقافة الإسلاميّة -حسب تصريح الآيات والروايات- شهرٌ يماثل شهر رمضان؛ فهو فرصة كبرى للحصول على أهمّ أمر في هذا الشهر، وهو مغفرة اللّه. وفي رواية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «فَمَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي رَمَضَانَ، فَفِي أَيِّ شَهْرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟»[1].

ولا شكّ في أنّ الوصول إلى نتائج مُرضِيَة في هذا الشهر يحتاج إلى تطبيق برنامج سلوكيّ، والهدف من ذلك كلّه تنميةُ السلوكيّات الحسنة وتقويتها، واجتناب السلوكيّات الخاطئة.

نبدأ أوّلًا بالتوصيات العامّة، التي يمكن استنتاجها ممّا أكّده النبيّ (صلى الله عليه وآله) في خطبته، والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، وهي:

أوّلًا: الاستفادة من هذا الشهر، الذي تتحوّل فيه الأوقات والأعمال إلى أوقات وأعمال ذات مداليل خاصّة واسعة في الكمّ والكيف، وتتضاعف فيه السيّئات والحسنات، وتتهيّأ فيه الفرصة لِأَنْ يتحوّل كلُّ عملٍ للإنسان إلى عملٍ صالح، وإلى أعلى درجات الصلاح.

في خطبة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ، وَهُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ»[2].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص351.

[2] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، مصدر سابق، ج 1، ص265.

 

58


52

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

ثانيًا: الصوم فيه لا يعني الإمساك عن الطعام والشراب فحسب، بل الورع المطلق عن كلّ المحارم والسيّئات، والابتعاد عن كلّ العيوب والنواقص.

عَنْ محمّد بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ [الإمام الصادق] (عليه السلام):‏ «إِذَا صُمْتَ، فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَشَعْرُكَ وَجِلْدُكَ». وَعَدَّدَ أَشْيَاءً غَيْرَ هَذَا، وَقَالَ: «لَا يَكُونُ يَوْمُ صَوْمِكَ كَيَوْمِ فِطْرِكَ»[1].

ثالثًا: هذا الشهر هو شهر اتّخاذ القرارات المصيريّة بشأن الإنسان من قِبَل اللّه -تعالى-. في هذا الشهر، ولا سيّما في ليلة القدر، الأمر الذي يُراد منه هو نزول الرحمة الإلهيّة بشأن هذا الإنسان.

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقُل: اللَّهُمَّ رَبَّ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ، هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أَنْزَلْتَ فِيهِ الْقُرْآنَ، وَأَنْزَلْتَ فِيهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَالْفُرْقانِ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا صِيَامَهُ، وَأَعِنَّا عَلَى قِيَامِهِ، اللَّهُمَّ سَلِّمْهُ لَنَا، وَسَلِّمْنَا فِيهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا فِي يُسْرٍ مِنْكَ وَمُعَافَاةٍ، وَاجْعَلْ في ما تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْتُومِ، في ما يُفْرَقُ مِنَ الْأَمْرِ الْحَكِيمِ، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، مِنَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُبَدَّلُ، أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الْحَرَامِ، الْمَبْرُورِ حَجُّهُمْ، الْمَشْكُورِ سَعْيُهُمْ، الْمَغْفُورِ ذَنْبُهُمْ، الْمُكَفَّرِ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ، وَاجْعَلْ، في ما تَقْضِي وَتُقَدِّرُ، أَنْ تُطِيلَ لِي فِي عُمُرِي، وَتُوَسِّعَ عَلَيَّ مِنَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ»[2].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص87.

[2] المصدر نفسه، ج4، ص71.

 

59


53

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

البرنامج التربويّ في شهر رمضان عند أهل البيت (عليهم السلام)

نركّز في هذا العنوان على البرنامج العباديّ عند أهل البيت (عليهم السلام)، وما كانوا يقرؤونه من الأدعية والأذكار في الأوقات المختلفة.

 

البرنامج العباديّ

عندما نتعرّف بعضَ هذه الأعمال، فالهدف من ذلك التأسّي بأفعالهم، وإن كانت الأعمال العباديّة التي يقوم بها المعصومون غير متيسّرة عادةً لكلّ إنسان، ولكنّ المطلوب أن تُشكِّل هذه العبادات حافزًا للمؤمنين كلّهم لزيادة العبادات، خاصّةً في الأيّام التي يقضي فيها المرء أكثر أوقاته في المنزل، كما هو الحال الذي تعيشه المجتمعات في ظلّ انتشار الوباء، فيبغي على الإنسان أن يغتنم هذه الأوقات بالعبادات وقضاء ما فاته منها، والاستزادة من المستحبّات، حيث إنّه في أوقات انشغاله بهموم الحياة وأعبائها، قد لا يتسنّى له مثل هذه الفرصة للتفرّغ للعبادة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «في التوراة مكتوب: يابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ قلبَك غنًى، ولا أَكِلك إلى طلبك، وعليّ أن أسدّ فاقتك، وأملأ قلبَك خوفاً منّي، وإن لا تفرّغ لعبادتي أملأ قلبَك شغلًا بالدنيا، ثمّ لا أسدّ فاقتك، وأَكِلك إلى طلبك»[1].

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص83.

 

60


54

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

ويمكن تقسيم هذه الأعمال العباديّة إلى ثلاثة محاور:

1. صلوات

2. أدعية

3. أذكار وتسبيحات

 

الأوّل: الصلوات

حيث أُعِدَّ في هذا الشهر منهاجٌ للنوافل في الليالي والأيّام، يَحسُن بالإنسان أداؤه قدر الإمكان.

منها: يُستحَبّ صلاة ركعتَين في كلّ ليلة، يقرأ في كلّ ركعة الحمد والتوحيد ثلاث مرّات، ثمّ يقول بعد التسليم: «سُبْحَانَ مَنْ هُوَ حَفِيظٌ لا يَغْفُلُ، سُبْحَانَ مَنْ هُوَ رَحِيمٌ لا يَعْجَلُ، سُبْحَانَ مَنْ هُوَ قَائِمٌ لا يَسْهُو، سُبْحَانَ مَنْ هُوَ دَائِمٌ لا يَلْهُو»، ثمّ يسبّح التسبيحات الأربع سبع مرّات، ثمّ يقول: «سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ، يَا عَظِيمُ! اغْفِرْ لِيَ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ»، ثمّ يصلّي على النبيّ عشر مرّات. وجاء في ثوابها أنّ مَن صلّى هذه الصلاة غفرَ اللّهُ له سبعين ألف سيّئة[1].

ومنها: الصلاة ألف ركعة، ولها كيفيّات مختلفة: فالمرويّ عن الإمام الجواد (عليه السلام) أن يصلّي منها في كلّ ليلة من الليالي العشر الأولى والثانية، عشرين ركعة، يُسلّم بين كلّ ركعتَين، فيصلّي منها ثماني ركعات بعد صلاة المغرب، والباقية -وهي اثنتا عشرة ركعة- تُؤَخَّر

 

 


[1] القمّي، الشيخ عبّاس، مفاتيح الجنان، تعريب السيّد محمّد رضا النوريّ النجفيّ، مكتبة العزيزي، إيران - قمّ، 1385ش - 2006م، ط3، ص297.

 

61


55

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

عن صلاة العشاء؛ وفي العشر الأخيرة، يصلّي منها كلَّ ليلة ثلاثين، يأتي بثمانٍ منها المغرب أيضًا، ويؤخّر الباقي عن العشاء، فالمجموع يكون سبعمئة ركعة، وهي تنقص عن الألف ركعة، ثلاثمئة ركعة، وهي تُؤَدَّى في ليالي القدر... فيخصّ كلًّا من هذه الليالي بمئة ركعة منها، فتتمّ الألف ركعة[1].

الثاني: الأدعية

وأمّا الأدعية، فهي كثيرة، نقتصر على بعضها:

1. أن يدعو في كلّ ليلة بدعاء الافتتاح.

2. أن يدعو عند الإفطار: «اللّهُمَّ لَكَ صُمْتُ، وَعَلى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ»، لِيَهبَ له -تعالى- مثل أجر كلّ من صام ذلك اليوم.

3. أن يدعو عند السحر بدعاء (البهاء) المنسوب إلى الإمام الباقر (عليه السلام).

4. أن يدعو عند السحر أيضًا بدعاء أبي حمزة الثماليّ، فقد رُوي أنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان في شهر رمضان يصلّي عامّة الليل، وفي وقت السحر يقرأ هذا الدعاء.

وثمّة الكثير الكثير، فمن أراد المزيد، فعليه مراجعة كتاب (مفاتيح الجنان).

 

 


[1] الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، مصدر سابق، ص297.

 

62


56

الموعظة الثامنة: البرنامج السلوكيّ في شهر رمضان

الثالث: الأذكار والتسبيحات

أفضل الأذكار في شهر رمضان تلاوة القران الكريم، وفي خطبة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): «وَمَنْ تَلَا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُور»[1]. وورد استحباب ختمه عدّة مرّات، وإهداء ثوابها للأئمّة (عليهم السلام)؛ ليكون معهم يوم القيامة[2].

وليُكثِر المرءُ، في هذا الشهر، مِن الدعاء والصلاة والاستغفار، ومِن قول: [لَا إِلَهَ إِلَّا اللّهُ]، وقَد رُوي أنّ الإمام زينَ العابدين (عليه السلام) كانَ إذا دخل شَهر رَمَضان لا يتكلّم إلّا بالدعاء والتسبيح والاستغفار والتكبير. وليهتمّ اهتمامًا بالغًا بالمأثور مِن العبادات، ونوافل الليالي والأيّام[3].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ص78.

[2] راجع: الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص618.

[3] الشيخ عبّاس القمّيّ، مفاتيح الجنان، مصدر سابق، ص288.

 

63


57

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

 

محاور الموعظة

1. المساجد بيوت اللّه -تعالى-

2. فضل المسجد وبركاته

3. الدور الرياديّ للمسجد

 

هدف الموعظة

تعرّف أهمّيّة المسجد ودوره في البناء الفكريّ والاجتماعيّ للمسلمين، والحثّ على عمارته.

 

تصدير الموعظة

﴿إِنَّمَا يَعمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَن ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَم يَخشَ إِلَّا ٱللَّهَ فَعَسَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلمُهتَدِينَ﴾[1].

 


[1] سورة التوبة، الآية 18.

 

64


58

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

بعد الهجرة النبويّة المباركة، كان المسجد أوّل المؤسّسات التي انطلق منها نور التوحيد وضياء العلم والمعرفة إلى الآفاق، وقد حمل المسجد خاصيّة عظيمة بالنسبة للمجتمع المسلم، وأضحى المصدر الأساس لانطلاقة الدعوة الإسلاميّة، ونبعًا للهداية الربّانية، حتّى صار مركز العلم والهداية، ومن على دكّة قضائه يُحكم بالعدل ويُدفع الظلم، ومنه كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يحدِّد سياسة الأمة الإسلاميّة كلّها، وفيه تتخذ قرارات الحرب، وتجري المعاهدات وتُستقبل الوفود، ومنه كانت تنطلق قوافل المجاهدين... وإدراكًا منه لهذا الشأن أعلن الإمام الخمينيّ (قدس سره) الأسبوع الأخير من شهر شعبان أسبوعًا للمسجد.

 

المساجد بيوت اللّه -تعالى-

لكلّ إنسان في هذه الحياة بيته الذي يُمارس فيه حياته الخاصّة، ولكن من أجل أن تتوثّق الصِّلات بين الناس، ومن أجل أن يُديروا شؤونهم العامّة ويُمارسوها، يحتاجون إلى مكانٍ مشترك، فأراد اللّه أن يكون هذا المكان المشترك منسوبًا إليه -تعالى-، فكان هو المسجد: ﴿وَأَنَّ ٱلمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا﴾[1].

وإنّ نفس نسبة المكان إليه -تعالى- يمنحه شرفًا ومنزلة تولّد عند المؤمنين الحافزيّة على توثيق الارتباط به، بحيث تتعلّق قلوب المحبّين لله -تعالى- بتلك الأماكن، خصوصًا إن لاحظنا لسان الروايات التي تتحدّث عن منزلة المسجد وأهمّيّته، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): قال اللّه -تبارك وتعالى-: إنّ بيوتي في الأرض

 

 


[1] سورة الجن، الآية 18.

 

65


59

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

المساجد، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض، ألا طوبى لمن كانت المساجد بيوته! ألا طوبى لعبدٍ توضّأ في بيته ثمّ زارني في بيتي! ألا إنّ على المزور كرامة الزائر! ألا بشِّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة!»[1].

وإنّ من أروع ما وُصف به المسجد في النصوص والأحاديث المأثورة كونه بيـتَ اللّه في الأرض، ويُستفاد من هذا المعنى جملة أمور:

1. أنّك فيما لو كنت تبحث عن اللّه -تعالى- الذي لا يحويه مكان، فإنّه -تعالى- قد اختصّ وشرّف أماكن في الأرض، سمـَّاها بيوته، وأمرنا بالتقرّب إليه فيها.

2. أنّك عندما تأتي بيت شخص ما، فأنت ضيفه، ولك حقوق عليه مراعاتها، فما بالك لو كنت ضيف الكريم المطلق.

3. أنّك عندما تأتي بيت شخص ما، فإنّ عليك واجبات تجاه المزور، عليك احترامها.

4. أنّك عندما تريد تمتين علاقتك بشخص ما وتعميقها، فأفضل السبل إلى ذلك هو زيارته في بيته.

5. أنّك عندما ترتكب جريمة أو تكون مطلوبًا للقصاص، فإنّ المكان المثالي للّجوء والاحتماء فيه، هو بيت شخص عظيم ذي مكانة يستطيع تأمين الحماية لك.

 

 


[1]  البرقيّ، المحاسن، مصدر سابق، ج1، ص47.

 

66


60

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

من هذا المنطلق ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «عليكم بإتيان المساجد؛ فإنّها بيوت اللّه في الأرض، ومن أتاها متطهِّرًا طهّره اللّه من ذنوبه، وكُتب من زوّاره؛ فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء»[1].

 

فضل المسجد وبركاته

لا يخلو التردّد إلى المساجد من فائدة، سواء على الصعيد الأخرويّ أو الدنيويّ، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «إنّ إطلاق ظاهرة المسجد... كان من أجمل وأعمق إبداعات الإسلام في بداية تأسيس المجتمع الإسلاميّ، بيت اللّه وبيت الناس، خلوة الأنس مع اللّه، وتجلّي الحشر مع النّاس، قطب الذكر والمعراج المعنويّ، وميدان العلم، والجهاد، والتدبير الدنيويّ، مكان العبادة ومقرّ السياسة، ثنائيّات مترابطة تُظهر صورة المسجد الإسلاميّ...»[2] هذه البركات تجعل من يترك التردّد إلى بيوت اللّه في منزلة الخسران الكبير.

ويقول (دام ظله) أيضًا: «يمكن للمسجد أن يكون قاعدة الأعمال الصالحة والحسنة كلّها، قاعدة لبناء النفس، وصناعة الإنسان، وإصلاح القلب، وإصلاح الدنيا، ومواجهة العدو، والأرضيّة اللازمة لبناء الحضارة الإسلاميّة، وتقوية مصيرها... المسجد هو قاعدة كهذه»[3].

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة - مؤسّسة البعثة، مركز الطباعة والنشر في مؤسّسة البعثة، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص440.

[2]  الإمام الخامنئيّ دام ظله، خطاب الولي 2010م، إعداد مركز نون للتأليف والترجمة، جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، لبنان - بيروت، 2011م، ط1، ص378.

[3]  من خطاب للإمام الخامنئيّ دام ظله في لقاء جمعٍ من أئمّة الجماعة في مساجد محافظة طهران، بمناسبة يوم المسجد العالميّ، بتاريخ 21/08/2016م.

 

67


61

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

ومن بركات المساجد والتردّد إليها ما جاءت به الروايات:

1. المشي إلى المسجد طاعة وعبادة، فعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «من مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة، كان له بكلّ خطوة سبعون ألف حسنة، ويُرفع له من الدرجات مثل ذلك، وإن مات وهو على ذلك وكّل اللّه به سبعين ألف ملك يعودونه في قبره، ويؤنسونه في وحدته، ويستغفرون له حتّى يُبعث»[1].

2. المسجديّ رابحٌ في جميع أحواله، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخًا مستفادًا في اللّه، أو علمًا مستطرفًا، أو آيةً محكمةً، أو يسمع كلمةً تدلّ على هدًى، أو رحمةً منتظرةً، أو كلمةً تردُّه عن ردى، أو يترك ذنبًا خشيةً أو حياء»[2].

3. أنفاس الجالس في المسجد درجات في الجنّة، فعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «يا أبا ذر، إنّ اللّه -تعالى- يُعطيك ما دمت جالسًا في المسجد بكلِّ نَفَس تنفّست درجة في الجنّة، وتُصلّي عليك الملائكة، وتكتب لك بكلِّ نفس تنفَّست فيه عشر حسنات، وتَمحي عنك عشر سيئات»[3].

4. تسبيح الأرض للماشي إلى المسجد، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «من مشى إلى المسجد، لم يضع رجلًا على رطب ولا يابس إلّا سبّحت له الأرض إلى الأرضين السابعة»[4].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص517-518.

[2]  المصدر نفسه، ص474.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص85.

[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج5، ص200.

 

68


62

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

الدور الرياديّ للمسجد

للمسجد دور أساسيّ في بناء الشخصّية الإسلاميّة؛ فهو يمثّل محور حركة الإنسان الرساليّ والمجتمع، ومنطلق الأعمال الرياديّة؛ ولذلك نجد التأكيد الشديد من قادة الإسلام على ضرورة الاعتناء بالمساجد وعمارتها؛ وما ذلك إلّا لأجل الأدوار العظيمة التي يؤدّيها المسجد، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ثلاثة يشكون إلى اللّه -عزّ وجلّ-: مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالِم بين جهّال، ومصحف معلَّق، قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه»[1].

ويمكن أن نتأمّل في كلمات القادة في مجالي الحثّ على التردّد إلى المساجد والتحذير من هجرانها:

1. هجران المساجد تهديد للمجتمع: يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «يجب أن لا يغفل أيّ منّا، بل لا يستطيع أن يغفل عن الخطر الذي يهدِّد المجتمع، والعوائل، والأجيال القادمة، بسبب قلّة ارتياد المساجد أو ضعفها، أو أن نحرم أنفسنا من البركات العظيمة التي يهديها المسجد»[2].

2. المسجد نواة المقاومة: يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «المسجد نواة المقاومة، غاية الأمر أنّه مركز المقاومة بأنواعها المختلفة؛ المقاومة الثقافيّة، والمقاومة السياسيّة، وكذلك -في الوقت المناسب- المقاومة الأمنيّة والعسكريّة، لقد كانت المساجد هكذا دومًا»[3].

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص613.

[2] الإمام الخامنئيّ دام ظله، خطاب الوليّ 2010م، مصدر سابق، ص378.

[3]  من كلمة للإمام الخامنئيّ دام ظله في اليوم العالميّ للمسجد، بتاريخ 21/8/2016م.

 

69


63

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

3. بيت الوعي السياسيّ، فمن المسجد كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يبثّ الوعي في نفوس المسلمين، وعن هذا قال الإمام الخمينيّ (قدس سره): «المسجد هو مركز الاجتماعات السياسيّة»[1].

4. تكليفكم هو الحضور في المساجد: يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «انطلقوا إلى المساجد واملؤوها، واجعلوها القطب الأكثر أهمّيّة في حياتكم، فهذا تكليف إلهيّ في حدّ ذاته. ويُعدُّ حفظ المساجد والمثابرة على الحضور فيها من أشدّ الأمور ذات الصلة الوثيقة بالإسلام»[2].

5. مركز التربية والتعليم، فمنه كانت تتمّ عمليّة التعليم في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإليه يشير الإمام الخمينيّ (قدس سره) بقوله: «ينبغي أن تكون المساجد محالًّا للتربية والتعليم بالمعنى الحقيقيّ وبجميع الأبعاد»[3].

6. المسجد هو خندق الإسلام ومحراب الحرب: يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «المسجد هو خندق إسلاميّ، والمحراب هو محلّ الحرب، إنّهم يريدون أن يأخذوا هذا منكم، بل إنّ ذلك مقدّمة، وإلّا فاذهبوا وصلّوا ما شئتم»[4].

 


[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، السيّد روح اللّه الموسوي، الكلمات القصار (مواعظ وحكم من كلام الإمام الخميني (قدس سره))، دار الوسيلة، بيروت- لبنان، 1416ه - 1995م، ط1، ص64.

[2] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج13، ص22.

[3] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، الكلمات القصار (مواعظ وحكم من كلام الإمام الخميني (قدس سره))، مصدر سابق، ص64.

[4]  الإمام الخمينيّ (قدس سره)، السيّد روح اللّه الموسوي، منهجية الثورة الإسلاميّة، مقتطافات من أفكار وآراء الإمام الخمينيّ (قدس سره)، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخمينيّ (قدس سره)، طهران - إيران، 2006م، ط2، ص479.

 

70


64

الموعظة التاسعة: فضل المسجد وأهمّيّة عمارته

اتّخذ مسجدًا في بيتك

مع ما للمسجد من فضل ومكانة عند اللّه، لكن في حالات انتشار الأوبئة، ومع احتمال الضرر المعتدّ به على النفس أو الإضرار بالآخرين، ولزوم عدم المخالطة، فقد تتعطّل المساجد والبرامج العباديّة فيها. لذا، ينبغي على المرء أن يتّخذ في بيته مكانًا خاصًّا للصلاة والعبادة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كانَ عليٌّ (عليه السلام) قد جعلَ بيتاً في دارِهِ، ليسَ بالصغيرِ ولا بالكبيرِ لِصلاتِهِ»[1]، وعنه (عليه السلام)أيضًا: «اتَّخِذْ مَسْجِداً فِي بَيْتِكَ»[2].

 

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج73، ص162.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص480.

 

71


65

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

 

محاور الموعظة

1. رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ومجتمع شبه الجزيرة العربيّة

2. أبو طالب المحامي والمدافع عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)

3. السيّدة خديجة (عليها السلام) التفاني والوفاء

4. الحرب الناعمة ضدّ المرأة المسلمة

 

هدف الموعظة

بيان دور السيّدة خديجة وأبي طالب (عليهما السلام) في تأسيس الدعوة الإسلاميّة، وكيفيّة استهداف الغرب لدور المرأة المسلمة.

 

تصدير الموعظة

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «إنّ للمرأة دورًا كبيرًا في المجتمع؛ المرأة هي مظهر تحقّق آمال البشر، المرأة تربّي جمعًا غفيرًا من النساء والرجال العظماء»[1].

 

 


[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج‏7، ص253.

 

72


66

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ومجتمع شبه الجزيرة العربيّة

كان مجتمع شبه الجزيرة العربيّة مجتمعًا بعيدًا عن القيم والمبادئ الإنسانيّة، تشرّبت نفوس أبنائه العادات القبيحة والأعمال الدنيئة، علاوةً على المعتقدات والمفاهيم الفكريّة الباطلة والمنحرفة.

في هذا المجتمع بُعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، بدين المفاضلة بالتقوى، بدين «الناس سواء كأسنان المشط»[1]؛ فكثُر له المتربّصون من كبار المشركين في ذلك المجتمع، وبذلوا قصارى جهدهم في كبح حركته، وتقويض نشاطه، عملوا على مواجهة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ورسالته الغرّاء، وكان له في نشرها الكثير من العناء والتضحية، حتّى أُوذي من قِبل أبناء الجزيرة العربيّة آنذاك ما لم يؤذَ به نبيّ من قبل!

ولأنّ اللّه -تعالى- لا يترك عباده المخلصين، ولا يخذلهم، فإنّه -سبحانه- يسدّدهم ويؤيّدهم ويسخّر لهم ما يعينهم في طريق تبليغهم ونشر دينه ورسالته، فكيف بمن يحمل خاتمة الرسالات وأكملها؟!

فقد كان حول النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) رجالات ونساء، كان لهم دور كبير في الدفاع عنه (صلى الله عليه وآله) ومؤازرته، وعلى رأس هؤلاء أبو طالب والسيّدة خديجة (عليهما السلام).

 

 


[1]  راجع: الحرّانيّ، الشيخ ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قم، 1404ه - 1363ش، ط2، ص368.

 

73


67

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

أبو طالب المحامي والمدافع عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)

قام أبو طالب (عليه السلام) برعاية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحمايته وكفالته منذ طفولته. كان يقدّمه على أولاده في كلّ شيء من دون استثناء، ويصطحبه معه أينما ذهب خوفًا عليه.

كان يحرسه بنفسه أثناء الحصار في شعب أبي طالب. ورضي بعداء قريش ومعاناة الفقر والحرمان والحصار والمقاطعة الاجتماعيّة في سبيل الدفاع عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ورسالته.

عن ابن عباس: دخل النبيّ (صلى الله عليه وآله) الكعبة وافتتح الصلاة، فقال أبو جهل: من يقوم إلى هذا الرجل، فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعريّ وتناول فرثًا ودمًا، وألقى ذلك عليه، فجاء أبو طالب، وقد سلّ سيفه، فلما رأوه جعلوا ينهضون، فقال: «واللّه، لئن قام أحدٌ جلّلته بسيفي»، ثمّ قال: «يابن أخي، من الفاعل بك؟» قال: «هذا عبد اللّه»، فأخذ أبو طالب فرثًا ودمًا، وألقى عليه[1].

ولمّا همَّتْ قريش بقتل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعد أنْ فشلتْ جميع وسائل الإرهاب، والحرب النفسيّة والدعائيّة ضدّه ومَن آمن معه، وأجمع ملَؤها على ذلك، وبلغ ذلك أبا طالب، قال:

«واللّهِ لنْ يصلوا إليك بجمعِهم

حتّى أُغَيّبَ في الترابِ دفينا

ودعوتني وزعمتَ أنّك ناصحٌ

ولـقدْ صدقْتَ وكنتَ ثَمَّ أمينا

وعرضْتَ دينًا قدْ علمْتُ بأنّهُ

مِـن خيرِ أديانِ البريّة دِيْنَا»[2]

 

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج35، ص88.

[2] اليعقوبيّ، تاريخ اليعقوبيّ، دار صادر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص31.

 

74


68

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

فلمّا علمتْ قريش أنّهم لا يقدرون على قتْل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وأنّ أبا طالب لا يسلّمه، قرّرَت مقاطعة أبي طالب وبني هاشم ومحمّدًا (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، مقاطعة اقتصاديّة واجتماعيّة، وكتبوا عهدًا بذلك، وعلّقوه في جوف الكعبة.

إنّ مواقف أبي طالب (عليه السلام) العظيمة التي استحقّ من خلالها لقب «الحامي والمدافع عن الرسول (صلى الله عليه وآله)»،لم تكن بدافع عاطفيّ أو لارتباط قبليّ أو عشائريّ، إنّما كانت بدافع من إيمانه بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وحرصًا على دعوة الإسلام الذي آمن به.

 

السيّدة خديجة (عليها السلام)، التفاني والوفاء

أمّا السيّدة خديجة (عليها السلام)، فقد كانت الزوجة الوفيّة لزوجها (صلى الله عليه وآله)، والصادقة في إيمانها ووفائها.

كانت تستقبل النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقلبها وبشاشة وجهها لتهوّن عليه الشدائد وتخفّف عنه الآلم والمصاعب في طريق الدعوة الإسلاميّة. لقد كانت السيّدة خديجة الزوجة الثريّة التي بذلت وأنفقت مالها وثراءها الواسع كلّه في سبيل إنجاح الدعوة.

كانت صدّيقة هذه الأُمّة، وأوّلها إيمانًا باللّه، وتصديقًا بكتابه، ومواساةً لرسوله (صلى الله عليه وآله)، تدافع عنه بكلّ ما لديها من قولٍ وفعل، وتعزّيه بما يفاجئه به الكفّار، في سبيل اللّه.

عن عائشة، قالت: كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) إذا ذكر خديجة أحسن الثناء عليها، فقلتُ له يومًا: ما تذكر منها، وقد أبدلك اللّه خيرًا منها؟! فقال: 

 

 

75

 


69

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

«ما أبدلني اللّه خيرًا منها، صدّقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني اللّه الولد منها، ولم يرزقني من غيرها»[1].

 

عام الحزن

في السنة العاشرة من البعثة النبويّة الشريفة، كانت وفاة الرجل العظيم أبي طالب (عليه السلام) وبعده بمدّة قصيرة وفاة السيّدة خديجة (عليها السلام)؛ فسمّى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذلك العام بعام الحزن؛ لأنّه فقدَ فيه أحبّ الناس وأعزّهم عنده، فقدَ فيه الناصر والعزيز والمحبّ المخلص والوفيّ والحامي والمدافع عنه وعن رسالته.

وكان لدعمها المادّيّ الدور الكبير في غنى الرسول (صلى الله عليه وآله) والرسالة عمّا في أيدي الآخرين، حتّى عُدّ ذلك من النعم التي أنعمها اللّه -تعالى- عليه (صلى الله عليه وآله): ﴿وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغنَىٰ﴾[2]، وكان (صلى الله عليه وآله) يثمّن ذلك العطاء الوفير، ويشيد بصاحبته قائلًا: «ما نفعني مالٌ قطُّ، ما نفعني مالُ خديجة»[3]. وكان (صلى الله عليه وآله) يعتق بمالها الرقيق، ويؤدّي الديون عن الغارمين، ويساعد الفقراء، ويمدّ يد العون إلى المحتاجين، وكان مصدر إنفاقه في شعب أبي طالب، وعند المحاصرة مال خديجة ومال أبي طالب (عليهما السلام)، حتّى سجّلت ذلك لنا المصادر التاريخيّة قائلة: «فأنفق أبو طالب وخديجة جميع مالهما»[4].

 

 


[1] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإفصاح في الإمامة، تحقيق مؤسّسة البعثة، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414 - 1993م، ط2، ص217.

[2] سورة الضحى، الآية 8.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 19، ص63.

[4] المصدر نفسه، ج 19، ص16.

 

76


70

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

الحرب الناعمة ضدّ المرأة المسلمة

انطلاقًا من الدور العظيم الذي قامت به نساء عظيمات في تاريخ الإسلام، كدور السيّدة خديجة (عليها السلام) في تأسيس الدعوة الإسلاميّة، وكدور السيّدة الزهراء (عليها السلام) في بقاء الإسلام من خلال حفظ الإمامة، وكدور السيّدة زينب (عليها السلام) في حفظ نهضة الطفّ وإيصالها إلى العالم، يرى الإمام الخمينيّ (قدس سره) أنّ النساء الصالحات هنّ السبب في رفعة المجتمع وانتصاره أمام التحدّيات، يقول (قدس سره): «لو جرّدوا الأمم من النساء الشجاعات والمربّيات للإنسان، فسوف تُهزم هذه الأمم، وتؤول إلى الانحطاط»[1].

بهذه الكلمات يُلفت الإمام (قدس سره) إلى ما يقوم به الغرب فعليًّا اليوم تجاه المرأة المسلمة، عبر بثّ الأفكار والثقافات التي تؤثّر سلبيًّا على المجتمعات الإسلاميّة؛ ولهذا ينبغي التحذير من هذه الثقافة، وبيان خطرها في المجتمع الإسلاميّ، ومن هذه الثقافات:

1. الجندريّة: وهي إلغاء الأدوار المنوطة بكلٍّ من الرجل والمرأة، بحيث يمكن للمرأة أن تقوم بأدوار الرجل، ويمكن للرجل أن يقوم بأدوار المرأة، متنكّرين لتأثير الفروقات البيولوجيّة الفطريّة في تحديد الأدوار.

 

 


[1] من حديث للإمام الخمينيّ (قدس سره) في لقاء جمع من نساء قم بتاريخ 06/03/1979م. راجع: الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج‏6، ص238، وفيه: ولو انتزعت النسوة البانيات للانسان من الأمّة فإن الأمّة ستقع في هاوية الخسران والانحطاط وسيقضى عليها وستصبح أمّة منحطّة.

 

77


71

الموعظة العاشرة: دور السيّدة خديجة وأبي طالب في تأسيس الدعوة الإسلاميّة

2. الحرّيّة: التي تتيح أمام الفرد خيارات مفتوحة ما دام لا يمسّ حرّيّة الآخرين. فعلى سبيل المثال، إنّ ربط خروج المرأة من المنزل بإذن الزوج مرفوض بنظر هؤلاء؛ لأنّه يعدّ تحديدًا للحرّيّة، وكذلك تقريرًا للتمييز بين الجنسين.

3. الاقتصاد: أي الاستقلال المادّيّ والعمل للمرأة؛ فهم يرَون أنّ عمل المرأة يعزّز ثقتها بنفسها، ويقلّل من هواجسها في المستقبل، علاوة على أنّه يحصّنهنّ ضدّ التجاوزات المحتملة للزوج.

4. المساواة: بمعنى توحيد الأحكام لكلا الجنسين في قضايا معيّنة، كالقضاء، الشهادة، الإرث، الدية، الزواج، الطلاق، حضانة الأسرة...

 

78


72

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

محاور الموعظة

1. حُسن التدبير

2. من آثار حسن التّدبير

3. من آثار سوء التّدبير

4. الإسراف، تجاوز الحدّ

5. مبغوضيّة الإسراف

هدف الموعظة

بيان فضل حسن التدبير وآثاره، ومبغوضيّة الإسراف، وانعكاساته السلبيّة.

تصدير الموعظة

﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَم يُسرِفُواْ وَلَم يَقتُرُواْ وَكَانَ بَينَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا﴾[1].

 

 


[1] سورة الفرقان، الآية 67.

 

79


73

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

حُسن التدبير

أفصحت روايات أهل البيت (عليهم السلام) عن أهمّيّة الاقتصاد والتدبير في المعيشة، حتّى عدّته مكمّلًا للإيمان، ومقوّمًا للعيش، وصائنًا للمال... ومن هذه الروايات:

1. كمال الإيمان

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يستكمل عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث: التفقّه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا»[1].

2. محبوبيّة الله

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْقَصْدَ أَمْرٌ يُحِبُّه اللّه -عَزَّ وجَلَّ-، وإِنَّ السَّرَفَ أَمْرٌ يُبْغِضُه اللَّه، حَتَّى طَرْحَكَ النَّوَاةَ؛ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ لِلشَّيْءِ، وحَتَّى صَبَّكَ فَضْلَ شَرَابِكَ»[2].

3. هو الكسب كلّه

قال رجل للإمام الصادق (عليه السلام): بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب! فقال (عليه السلام): «لا، بَل هُو الكسبُ كلُّهُ، ومِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعيشةِ»[3].

 

 


[1] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص324.

[2] الفيض الكاشانيّ، المولى محمّد محسن، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسينيّ الأصفهانيّ، مكتبة الامام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) العامة، إيران - أصفهان، 1406ه، ط1، ج10، ص495.

[3] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص670.

 

80


74

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

4. قِوام العيش

عن الإمام عليّ (عليه السلام): «قِوامُ العيشِ حُسنُ التَّقدِيرِ، ومِلاكُهُ حُسنُ التَّدبيرِ»[1].

 

من آثار حسن التّدبير

بالإنفاق السليم، يتسنّى لأكثر الناس الاستفادة من الثروات والإمكانيّات المتاحة لهم، وينجو المجتمع من عواقب الفقر، ومصاعب الغلاء المفتعل والحرمان من النعمة؛ ففي التدبير:

1. نماء المال

عن الإمام عليّ (عليه السلام) قال: «حُسنُ التَّدبيرِ يُنمِي قليلَ المالِ»[2]، و «القَصدُ مَثراةٌ»[3].

2. بقاء النعمة

عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «مَن اقتَصَدَ وَقَنَعَ، بَقِيَت عَلَيهِ النِّعمَةُ، وَمَن بَذَّرَ وَأسرَفَ، زالَت عَنهُ النِّعمَةُ»[4].

3. تحصيل الكفاف

عن الإمام عليّ (عليه السلام): «حسن التدبير مع الكفاف أكفى لكمن الكثير مع الإسراف»[5].

 


[1]  الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص370.

[2] المصدر نفسه، ص227.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص52.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص327.

[5] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص79.

 

81


75

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

4. غزارة العقل

عن الإمام عليّ (عليه السلام): «أدلّ شيء على غزارة العقل حسن التدبير»[1].

 

من آثار سوء التّدبير

المال بيد الإنسان أمانة، ومن لوازم الأمانة عدم تضييعها؛ فإن ضيّعها ولم يؤدِّ حقّها، فسوف يُسأل عنها يوم القيامة، فعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و[عن] شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت»[2].

وفي ما يأتي بعض الآثار المترتّبة على سوء التدبير:

1. الحرمان من محبّة الله

قال -تعالى-: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَ جَنَّٰتٖ مَّعرُوشَٰتٖ وَغَيرَ مَعرُوشَٰتٖ وَٱلنَّخلَ وَٱلزَّرعَ مُختَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّيتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهٗا وَغَيرَ مُتَشَٰبِهٖ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَومَ حَصَادِهِۦ وَلَا تُسرِفُوٓاْ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلمُسرِفِينَ﴾[3].

وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّ اللّهَ يُبغِضُ القِيلَ وَالقالَ، وَإِضاعَةَ المالِ، وَكَثرَةَ السُّؤالِ»[4].

 


[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص117.

[2] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص253.

[3] سورة الأنعام، الآية 141.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج7، ص335.

 

82


76

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

2. زوال النعمة والحرمان من البركة

عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «وَمَن بَذَّرَ وَأسرَفَ زالَتْ عَنهُ النِّعمَةُ»[1].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ مَعَ الإسرافِ قِلَّةَ البَرَكَةِ»[2].

 

3. عدم استجابة الدعاء

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أَرْبَعَةٌ لَا تُسْتَجَابُ لَهُمْ دَعْوَةٌ: رَجُلٌ جَالِسٌ فِي بَيْتِه يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، فَيُقَالُ لَه: ألَمْ آمُرْكَ بِالطَّلَبِ! ورَجُلٌ كَانَتْ لَه امْرَأَةٌ فَدَعَا عَلَيْهَا، فَيُقَالُ لَه: ألَمْ أَجْعَلْ أَمْرَهَا إِلَيْكَ! ورَجُلٌ كَانَ لَه مَالٌ فَأَفْسَدَه، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي، فَيُقَالُ لَه: ألَمْ آمُرْكَ بِالاقْتِصَادِ، ألَمْ آمُرْكَ بِالإِصْلَاحِ! ثُمَّ قَالَ: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَم يُسرِفُواْ وَلَم يَقتُرُواْ وَكَانَ بَينَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا﴾[3]؛ ورَجُلٌ كَانَ لَه مَالٌ فَأَدَانَه بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَيُقَالُ لَه: ألَمْ آمُرْكَ بِالشَّهَادَةِ؟»[4].

 

4. الفقر والحرمان

عن الإمام عليّ (عليه السلام): «سَبَبُ الفَقرِ الإسرافُ»[5].

 

الإسراف، تجاوز الحدّ

«السّرف: تجاوز الحدّ في كلّ فعلٍ يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر»[6].

 


[1] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص403.

[2] الفيض الكاشانيّ، الوافي، مصدر سابق، ج10، ص499.

[3] سورة الفرقان، الآية 67.

[4]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص511.

[5] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج15، ص266.

[6] الراغب الأصفهانيّ، أبو القاسم الحسين بن محمّد، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، طليعة النور، لا.م، 1427ه، ط2، ص407.

 

83


77

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

وفي القرآن الكريم الإسراف هو الطرف المقابل للتقتير، قال -تعالى-: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَم يُسرِفُواْ وَلَم يَقتُرُواْ وَكَانَ بَينَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا﴾[1].

وقد وضّح الإمام الصادق (عليه السلام) الآية المتقدّمة بما ذكره عبد الملك بن عمرو الأحول، قال: تلا أبو عبد اللّه (عليه السلام) هذه الآية: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَم يُسرِفُواْ وَلَم يَقتُرُواْ وَكَانَ بَينَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا﴾[2]، فأخذ قبضةً من حصى، وقبضها بيده، فقال: «هذا الإقتار الذي ذكره اللّه -عزّ وجلّ- في كتابه»، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى كفّه كلّها، ثمّ قال: «هذا الإسراف»، ثمّ أخذ قبضة أخرى، فأرخى بعضها، وأمسك بعضها، وقال: «هذا القوام»[3].

 

مبغوضيّة الإسراف

كثيرةٌ هي النصوص الدالّة على مبغوضيّة الإسراف؛ إذ عدّها اللّه -تعالى-:

- من السُّنَن الفرعونيّة: ﴿فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَىٰٓ إِلَّا ذُرِّيَّةٞ مِّن قَومِهِۦ عَلَىٰ خَوفٖ مِّن فِرعَونَ وَمَلَإِيْهِم أَن يَفتِنَهُم وَإِنَّ فِرعَونَ لَعَالٖ فِي ٱلأَرضِ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلمُسرِفِينَ﴾[4].

- وتوعّد المسرفين بعذاب النار: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدعُونَنِيٓ إِلَيهِ لَيسَ لَهُۥ دَعوَةٞ فِي ٱلدُّنيَا وَلَا فِي ٱلأٓخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلمُسرِفِينَ هُم أَصحَٰبُ ٱلنَّارِ﴾[5].

 

 


[1] سورة الفرقان، الآية 67.

[2] سورة الفرقان، الآية 67.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص55.

[4] سورة يونس، الآية 83.

[5] سورة غافر، الآية 43.

 

84


78

الموعظة الحادية عشرة: حسن التدبير وتقدير المعيشة

ويرى الإسلام أنّ الإسراف والإنفاق المفرط يفضيان إلى إهدار الثروة العامّة، وحرمان الناس منها، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «السَّرفُ مَثواةٌ»[1]؛ أي مهلكة.

لذا، يطلب الإمام السجّاد (عليه السلام) من اللّه -تعالى- أن يُكرمه بعدم الإسراف؛ بدعائه (عليه السلام): «وَاحجُبنِي عَن السّرفِ وَالازدِيادِ، وَقَوّمنِي بالبَذلِ وَالاقتِصادِ»[2].

 

 


[1]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج21، ص552.

[2] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص151، دعاؤه في ذكر التوبة وطلبها.

 

85


79

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

 

محاور الموعظة

1. فضل الدعاء

2. دور الدعاء

3. الدعاء وشهر رمضان

 

هدف الموعظة

الحثّ على الدعاء، وبيان دوره في تحصين النفس وصيانتها.

 

تصدير الموعظة

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَستَجِيبُواْ لِي وَليُؤمِنُواْ بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ﴾[1].

 


[1] سورة البقرة، الآية 186.

 

86


80

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

فضل الدعاء

1. أفضل العبادة

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ اللّه -عزّ وجلّ- يقول: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[1]، قال: هو الدعاء، وأفضل العبادة الدعاء»[2].

 

2. منزلة لا تُنال إلّا بمسألة

عن ميسر بن عبد العزيز، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: قال لي: «يا ميسر، ادعُ، ولا تقل: إنّ الأمر قد فُرغ منه؛ إنّ عند اللّه -عزّ وجلّ- منزلة لا تُنال إلّا بمسألة، ولو أنّ عبدًا سدّ فاه ولم يسأل، لم يُعطَ شيئًا، فسل تُعطَ. يا ميسر، إنّه ليس من باب يُقرع إلّا يوشَك أن يُفتح لصاحبه»[3].

 

3. أفضل القربات

عن سيف التمّار، قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «عليكم بالدعاء؛ فإنّكم لا تقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار»[4].

 

 


[1] سورة غافر، الآية 60.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص466.

[3] المصدر نفسه، ج2، ص467.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج90، ص303.

 

87


81

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

4. أحبّ الأعمال إلى الله

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أحبّ الأعمال إلى اللّه -عزّ وجلّ- في الأرض، الدعاء»[1].

 

5. سلاح المؤمن

عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟»، قالوا: بلى، قال: «تدعون ربّكم بالليل والنهار؛ فإنّ سلاح المؤمن الدعاء»[2].

 

دور الدعاء

1. يردّ البلاء والقضاء

قال -تعالى-: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾[3]، وقال: ﴿وَأَيُّوبَ إِذ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٨٣ فَٱستَجَبنَا لَهُۥ فَكَشَفنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖ﴾[4]، وقال أيضًا: ﴿وَنُوحًا إِذ نَادَىٰ مِن قَبلُ فَٱستَجَبنَا لَهُۥ فَنَجَّينَٰهُ وَأَهلَهُۥ مِنَ ٱلكَربِ ٱلعَظِيمِ﴾[5].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ الدعاء يردّ القضاء، وقد نزل من السماء، وقد أُبرم إبرامًا»[6].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص467-468.

[2]  المصدر نفسه، ج2، ص468.

[3] سورة النمل، الآية 62.

[4] سورة الأنبياء، الآيتان 83-84.

[5] سورة الأنبياء، الآية 76.

[6] الحرّ العامليّ، الفصول المهمة في أصول الأئمّة(عليهم السلام)، مصدر سابق، ج3، ص326-327.

 

88


82

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

2. شفاء من كلّ داء

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «عليك بالدعاء؛ فإنّه شفاء من كلّ داء»[1].

 

3. استفتاح مفاتيح خزائن الله

الإمام عليّ (عليه السلام) -في وصيّته للإمام الحسن (عليه السلام)-: «واعْلَمْ، أَنَّ الَّذِي بِيَدِه خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، وتَكَفَّلَ لَكَ بِالإِجَابَةِ، وأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَه لِيُعْطِيَكَ، وتَسْتَرْحِمَه لِيَرْحَمَكَ، ولَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وبَيْنَه مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْه، ولَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْه... ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِه، بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيه مِنْ مَسْأَلَتِه، فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِه»[2].

 

4. حفظ الأموال

عن عبد اللّه بن هلال قال: شكوت إلى أبي عبد اللّه (عليه السلام) تفرُّق أموالنا وما دخل علينا، فقال: «عليك بالدعاء وأنت ساجد؛ فإنّ أقرب ما يكون العبد إلى اللّه وهو ساجد»[3].

 


[1] المجلسيّ، محمّد تقي بن مقصود عليّ، روضة المتّقين في شرح من لا يحضره الفقيه، تحقيق وتصحيح السيّد حسين الموسويّ الكرمانيّ والشيخ عليّ پناه الإشتهارديّ، بنياد فرهنك اسلامي حاج محمّد حسين كوشانپور، إيران - قم، 1406ه‏، ط2، ج9، ص310.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص398-399.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص324.

 

89


83

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

الدعاء وشهر رمضان

1. دعاؤكم فيه مستجاب

عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في استقبال شهر رمضان: «أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا اللّه ربَّكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة، أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه»[1].

 

2. الدعاء في المسجد

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «عليكم بإتيان المساجد؛ فإنّها بيوت اللّه في الأرض... فأكثروا فيها الصلاة والدعاء»[2].

 

3. بعد قراءة القرآن

عن الإمام الحسن (عليه السلام): «مَن قرأ القرآن كانت له دعوة مجابة؛ إمّا معجّلة، وإمّا مؤجّلة»[3].

 

4. الدعاء ليالي الإحياء والاجتماع

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما اجتمع أربعة رهط قطّ على أمر واحد، فدعَوا اللّه -عزّ وجلّ-، إلّا تفرّقوا عن إجابة»[4].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص154.

[2]  المصدر نفسه، ص440.

[3] قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة اللّه، الدعوات (سلوة الحزين)، مدرسة الإمام المهديّ |، إيران - قم، 1407ه، ط1، ص24.

[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج7، ص104.

 

90


84

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

5. الدعاء ليلة العيد

عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «كان عليّ (عليه السلام) يقول: يعجبني أن يفرّغ الرجل نفسه في السنة أربع ليالٍ: ليلة الفطر، وليلة الأضحى، وليلة النصف من شعبان، وأوّل ليلة من رجب»[1].

6. الدعاء عند الإفطار

عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «إنّ للصائم عند إفطاره دعوة لا تُردّ»[2].

7. الدعاء بعد إطعام المؤمن

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أيّما مؤمن أطعم مؤمنًا ليلةً من شهر رمضان، كتب اللّه له بذلك مثل أجر من أعتق ثلاثين رقبة نسمة مؤمنة، وكان له بذلك عند اللّه -عزّ وجلّ- دعوة مستجابة»[3].

 

قصّة: الدعاء والتوسّل بالسيّدة الزهراء (عليها السلام)

بعد عمليّة «كربلاء 4»، يروي الشهيد الحاج قاسم سليماني (رحمه الله): «في ليلة العمليّات، أعترف أنّي كتبت ثلاث مرّات لقائد المقرّ أنّنا الآن نقوم بأكبر مخاطرة في هذه العمليّات. كتبت ثلاث مرّات أنّ عليكم أن تلغوا الهجوم. وفي اللحظة التي نزل فيها التعبويّون في الماء، ووصلوا إلى خلف الأسلاك الشائكة، حيث كان القمر في الليلة العاشرة مثل النهار المضيء، رأيت في الماء وعبر

 


[1]  الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مصدر سابق، ص852.

[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص502.

[3] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، مصدر سابق، ص136.

 

91


85

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

منظاري -حيث كنت أراقب- وخلف ميدان الألغام، جدار التعبويّين الممتدّ لكيلومترات، فارتعد بدني وبكيت من الخوف، قلت في نفسي: إنّه لن يصل أيّ واحد من هؤلاء التعبويّين إلى العدوّ. كان ذهني يقول لي هذا، والعلم أيضًا كان يقول هذا، والعقل أيضًا كان يقول هذا، وتجربتي أيضًا كانت تقول لي هذا. هذه القرائن كلّها كانت تخبرني أنّ هؤلاء التعبويّين لن يصلوا إلى الخطوط، وأنّ هذه العمليّة لن تنجح، ولكنّ العشق لم يقل ذلك. كنّا نُنزل الشباب إلى الماء والشهود حاضرون، ولكن ما إن كنّا نطأ الماء حتّى كنا نرى خطوط العدوّ كما ننظر إلى أكفّنا. كنت أراقب عمليّات الهجوم على ضوء القمر لكي نرى إلى أيّ مدى يمكن أن يُرى هؤلاء الشباب. وقد رأيت أنّ جميع صفوف الغوّاصين تُرى حتّى إلى قرب الأسلاك الشائكة، وبمجرّد أن رأيت ذلك ارتعدت وفقدت الأمل.

إخواني، كنت أقول بعجزٍ تامّ: اقرؤوا دعاء التوسّل، واطلبوا المدد من السيّدة الزهراء (عليها السلام)، وكأنّ ستارًا قد نزل وغطّى القمر وأظلمه.

لعلّه لم يكن هناك من يصدّق بأنّ فرقة «ثار اللّه» ستتمكّن من عبور بحيرة السمك»[1].

في الختام، لا ننسَ الدعاء للإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه): «اللَّهمّ كُن لوليِّك الحجّةِ بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعةِ وفي

 

 


[1]  سلسلة سادة القافلة (12)، قاسم سليمانيّ -ذكريات وخواطر-، دار المعارف الإسلامية الثقافية، لبنان – بيروت، 2018م، ط1، ص79-80.

 

92


86

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

كلِّ ساعة، وليًّا وحافظًا، وقائدًا وناصرًا، ودليلًا وعينًا، حتّى تُسكِنَه أرضك طَوعًا، وتمتِّعه فيها طويلًا»[1].

 

الدعاء لرفع الوباء

علينا أن لا نغفل في أيّام هذا الشهر الفضيل، مع انتشار الوباء وتعسّر أوضاع الناس الاقتصاديّة والمعيشيّة، عن دور الدعاء وأهمّيّته في رفع الوباء ودفع البلاء؛ فإنّ الدعاء يغيّر القدر، فعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إنّ الحذر لا يُنجِي من القدر، ولكن يُنجِي من القدر الدعاءُ؛ فتقدّموا في الدعاء قبل أن ينزل بكم البلاء، إنّ اللّه يدفع بالدعاء ما نزل من البلاء وما لم ينزل»[2].

 

 


[1]  ابن المشهدي، محمّد بن جعفر بن عليّ المشهدي الحائري، المزار الكبير، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم‏، إيران - قم، 1419ه، ط1، ص612.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج90، ص300.

 

93


87

الموعظة الثانية عشرة: فضل الدعاء ودوره

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

 

محاور الموعظة

1. القرآن خيرُ كتاب

2. عظمة القرآن

3. من آثار القرآن

4. دور القرآن في حياة الفرد

5. محوريّة القرآن

 

هدف الموعظة

إظهار عظمة القرآن ومحوريّته في حياة الإنسان.

 

تصدير الموعظة

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَد جَآءَتكُم مَّوعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُم وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحمَةٞ لِّلمُؤمِنِينَ﴾[1].

 

 


[1] سورة يونس، الآية 57.

 

94


88

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

القرآن خيرُ كتاب

القرآن الكريم كتابٌ أنزله اللّه -سبحانه- على رسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله) لهداية الناس إلى عبادة اللّه، وإلى ما فيه خيرٌ لدنياهم وآخرتهم؛ ففيه دعائم الحقّ والخير، وسبل النجاة والأمان. وهو يعظ الناس بالموعظة الحسنة، ويشفي القلوب من الأهواء والرذائل، ويهدي للتي هي أقوم، وهو رحمة تنجي المسترشد به من الهلاك والعذاب.

 

فالقرآن الكريم:

1. نور: ﴿قَد جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ﴾[1]، يكشف للإنسان الطريق، ويريه المقصد؛ ليصل إلى مبتغاه وهدفه.

2. قَولٌ فصل: ﴿إِنَّهُۥ لَقَولٞ فَصلٞ﴾[2]، يفصل بين الحقّ والباطل ببيان كلّ واحد منهما.

3. هدًى: ﴿ذَٰلِكَ ٱلكِتَٰبُ لَا رَيبَ فِيهِ هُدٗى لِّلمُتَّقِينَ﴾[3]، يهدي إلى كلّ خير.

4. حكيم: ﴿وَٱلقُرءَانِ ٱلحَكِيمِ﴾[4]، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. واللافت للنظر أنّه -سبحانه- وصف «القرآن» هنا بـ‍ «الحكيم»، في حين أنّ الحكمة عادة صفة للعاقل، كأنّه -سبحانه- يريد طرح القرآن على أنّه موجود حيّ وعاقل ومرشد، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر، ويؤدّي إلى الصراط المستقيم[5].

 

 


[1] سورة المائدة، الآية 15.

[2] سورة الطارق، الآية 13.

[3] سورة البقرة، الآية 2.

[4]  سورة يس، الآية 2.

[5] الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، مصدر سابق، ج14، ص130.

 

95


89

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

5. مجيد: ﴿وَٱلقُرءَانِ ٱلمَجِيدِ﴾[1]، الكريم على اللّه، العظيم في نفسه، الكثير الخير والنفع.

6. حقّ: ﴿إِنَّهُ ٱلحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾[2]، فمَن صدّق به واتّبعه واهتدى بهديه، كان من الناجين والفائزين.

7. شفاء: ﴿قُل هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞ﴾[3]، يشفي من الداء الأكبر، وهو الشرك.

8. رحمة: ﴿وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحمَةٞ لِّلمُؤمِنِينَ﴾[4]، تنطلق تعاليمه وأحكامه كلّها من مبدأ الرحمة بالإنسان والرأفة به.

9. بشير نذير: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَت ءَايَٰتُهُۥ قُرءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَومٖ يَعلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا﴾[5]، يبشّر الصالحين وينذر المجرمين.

10. مُبِين: ﴿وَٱلكِتَٰبِ ٱلمُبِينِ﴾[6]، يبيّن الحلال والحرام، وما يحتاج إليه الأنام من شرائع الإسلام.

 

وقد جاء في فضله الكثير، من قبيل:

1. مَا تَوَجَّه الْعِبَادُ إِلَى الله -تَعَالَى- بِمِثْلِه

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «واعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ، والْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ، والْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ، ومَا

 


[1] سورة ق، الآية 2.

[2] سورة هود، الآية 17.

[3] سورة فصّلت، الآية 44.

[4] سورة النمل، الآية 77.

[5] سورة فصّلت، الآيتان 3-4.

[6] سورة الزخرف، الآية 2. وسورة الدخان، الآية 2.

 

96


90

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْه بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ؛ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى. واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، ولَا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى، فَاسْتَشْفُوه مِنْ أَدْوَائِكُمْ، واسْتَعِينُوا بِه عَلَى لأْوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيه شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وهُوَ الْكُفْرُ والنِّفَاقُ والْغَيُّ والضَّلَالُ، فَاسْأَلُوا اللَّه بِه وتَوَجَّهُوا إِلَيْه بِحُبِّه، ولَا تَسْأَلُوا بِه خَلْقَه، إِنَّه مَا تَوَجَّه الْعِبَادُ إِلَى اللَّه -تَعَالَى- بِمِثْلِه...»[1].

 

2. النظر في المصحف عبادة

لأنّ قراءة القرآن من العبادات المهمّة، جعل الشارع المقدّس النظر إلى المصحف عبادة، فعن إسحاق بن عمار، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: جُعِلتُ فداك! إنّي أحفظ القرآن على ظهر قلبي، فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال (عليه السلام): «بل اقرأه وانظر في المصحف، فهو أفضل، أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة»[2].

 

3. اقرأ وارقَ

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «عليكم بتلاوة القرآن؛ فإنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يُقال لقارئ القرآن: اقرأ وارقَ، فكلّما قرأ آية رقِّي درجة»[3].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ(عليه السلام))، مصدر سابق، ص252.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص614.

[3]  الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص444.

 

97


91

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

عظمة القرآن

وصف اللّه -تعالى- القرآنَ الكريم بالعظمة، قائلًا: ﴿وَلَقَد ءَاتَينَٰكَ سَبعٗا مِّنَ ٱلمَثَانِي وَٱلقُرءَانَ ٱلعَظِيمَ﴾[1].

وبيّن الإمام الخمينيّ (قدس سره) عظمةَ القرآن الكريم ببيانٍ رائع، بقوله:

«اعلم -أيّها العزيز- أنّ عظمة كلّ كلام وكلّ كتاب:

- إمّا بعظمة متكلّمه وكاتبه.

- وإمّا بعظمة مطالبه ومقاصده.

- وإمّا بعظمة نتائجه وثمراته.

- وإمّا بعظمة الرسول والواسطة.

- وإمّا بعظمة المرسَل إليه وحاملُه.

- وإمّا بعظمة حافظه وحارسه.

- وإمّا بعظمة شارحه ومبيّنه.

- وإمّا بعظمة وقت إرساله وكيفيّة إرساله.

وجميع هذه الأمور التي ذكرناها موجودة في هذه الصحيفة النورانيّة (القرآن الكريم) بالوجه الأعلى والأوفى، بل هي من مختصّاته، بحيث إنّ أيّ كتاب آخر إمّا لا يشترك معه في شي‏ء منها أصلًا، أو لا يشترك معه في جميع المراتب.

- أمّا عظمة متكلّمه ومنشئه وصاحبه، فهو العظيم المطلق.

- وأمّا عظمة رسول الوحي وواسطة الإيصال، فهو جبرائيل الأمين والروح الأعظم.

 


[1] سورة الحجر، الآية 87.

 

98


92

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

- وأمّا عظمة المرسَل إليه ومتحمّله، فهو القلب التقيّ النقيّ لأكرم البريّة، وأعظم الخليقة وخلاصة الكون، وجوهرة الوجود... النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله).

- وأمّا حافظه وحارسه، فهو ذات الحقّ-جلّ جلاله-، كما قال في الآية الكريمة المباركة: ﴿إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا ٱلذِّكرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾[1].

- وأمّا شارحه ومبيّنه، فالذوات المطهّرة المعصومون.

- وأمّا وقت الوحي، فليلة القدر، أعظم الليالي و﴿خَيرٞ مِّن أَلفِ شَهرٖ﴾[2] وأنور الأزمنة»[3].

من آثار القرآن

1. الشابّ القرآنيّ

من يقرأ القرآن الكريم، لا شكّ في أنّه سيصيبه رشحات من بركات هذا الكتاب، فـ «مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْه بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ؛ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى»[4]، كما تقدّم عن أمير المؤمنين (عليه السلام). فكلّما جالستم القرآن ونهضتم، فإنّ حجابًا من حجب الجهالة يرتفع عنكم، وينفتح في قلوبكم منبع من منابع النورانيّة، ثمّ يجري. ومقدّمة هذا العمل هو أن نتمكّن من قراءة القرآن، وأن نتمكّن من حفظه»[5].


 


[1] سورة الحجر، الآية 9.

[2] سورة القدر، الآية 3.

[3] انظر: القرآن في كلام الإمام الخمينيّ (قدس سره)، جمعيّة المعارف الثقافيّة الإسلاميّة، لبنان – بيروت، 2015م، ط1، ص18-21.

[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ(عليه السلام))، مصدر سابق، ص252.

[5] من كلام للإمام الخامنئيّ دام ظله في لقاء جمع من قرّاء القرآن الكريم 15/07/2010م.

 

99


93

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

حتّى يصل المداوم على قراءته إلى ما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام): «من قرأ القرآن وهو شابّ مؤمن، اختلط القرآن بلحمه ودمه»[1]، فيقبل بقلبه على القرآن، ويصبح سلوكه قرآنيًّا، وأعماله وأهدافه قرآنيّة كذلك.

 

2. المُخرِج من الفتن

عن الحارث الهمدانيّ قال: دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث، فدخلت على عليّ (عليه السلام) فقلت: ألا ترى أنّ أناسًا يخوضون في الأحاديث في المسجد، فقال: «قد فعلوها»، قلت: نعم، قال: «أما إنّي قد سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول: ستكون فِتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب اللّه...»[2].

 

3. الشفيع يوم القيامة

عن الإمام الصادق(عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن؛ فإنّه شافع مشفَّع...»[3].

 

4. محو السيّئات

عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «من استمع حرفًا من كتاب اللّه -عزّ وجلّ- من غير قراءة، كتب اللّه له حسنة، ومحا عنه سيّئة، ورفع

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص603.

[2]  الدارميّ، عبد اللّه بن الرحمن، سنن الدارميّ، مطبعة الاعتدال، سوريا - دمشق، 1349ه، لا.ط، ج2، ص435.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص599.

 

100


94

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

له درجة، ومن قرأ نظرًا من غير صوت، كتب اللّه له بكلّ حرف حسنة، ومحا عنه سيّئة، ورفع له درجة، ومن تعلّم منه حرفًا ظاهرًا، كتب اللّه له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات... ومن ختمه كانت له دعوة مستجابة مؤخّرة أو معجّلة»[1].

 

5. بيوتٌ تُزهِر بالقرآن

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «البيت الذي يُقرأ فيه القرآن، ويُذكر اللَّه -تعالى- فيه، تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب لأهل الأرض، وإنّ البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن، ولا يذكر اللّه -تعالى- فيه، تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين»[2].

 

6. تخفيف العذاب عن الأبوين

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من قرأ القرآن في المصحف مُتِّع ببصره، وخُفِّف عن والدَيه، وإن كانا كافرَين»[3].

 

دور القرآن في حياة الفرد

القرآن الكريم دستور الإنسان المؤمن، وفي اتّباعه كلّ خير يُرجى في الدنيا والآخرة، فالقرآن آمر وزاجر، حدّ اللّه فيه الحدود، وسنّ فيه السنن، وضرب فيه الأمثال، وشرّع فيه الدين. فعلى الإنسان المؤمن

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص613.

[2] الفيض الكاشانيّ، الوافي، مصدر سابق، ج9، ص1738.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص613.

 

101


95

الموعظة الثالثة عشرة: محوريّة القرآن في حياة الإنسان

أن يحبّ ويبغض على أساس القرآن، ويتولّى ويتبرّأ على أساس القرآن، ويعمل وينزجر على أساس القرآن، فيخلص لله، ويُهذِّب نفسه، ويسلك الصراط المستقيم، ويثبت فيه، فينجو يوم الفزع الأكبر.

 

محوريّة القرآن

يجب على الفرد المؤمن، والمجتمع المتديّن، التمسّك بالقرآن، وتجسيد القرآن في العمل، وفي نمط العيش، والسلوك، والخصال، والحركة العامّة، لا تلاوته فحسب.

 

يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله) في هذا الصدد: «يجب أن نبني أنفسنا ونُطابقها مع القرآن. يجب أن نبني أخلاقنا وسلوكنا مع أصدقائنا ومع معارضينا ومع معاندينا ومع المستكبرين، يجب أن نُنظّمها مع تعاليم القرآن. لقد وعد اللّه -تعالى- الأفراد الذين يتحرّكون بهذه الطريقة أن يُثيبهم ويُؤجرهم. وهذا أجر في الدنيا وفي الآخرة. في الدنيا لهم العزّة والتمتّع بالجمال والخيرات الإلهيّة، ولهم في الآخرة رضوان اللّه وجِنانه»[1].

 

 


[1] من كلام للإمام الخامنئيّ دام ظله في محفل الأنس بالقرآن، 10/07/2013م.

 

102


96

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

 

محاور الموعظة

1. صلح الإمام الحسن (عليه السلام)

2. غياب البصيرة في زمن الإمام الحسن (عليه السلام)

 

هدف الموعظة

بيان الأسباب الداعية إلى الصلح مع معاوية، وقراءة الإمام الخامنئيّ (دام ظله) لدور الإمام المجتبى (عليه السلام).

 

تصدير الموعظة

عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «وَلَوْ كَانَ الْفَضْلُ شَخْصًا[1]، لَكَانَ الْحَسَنَ (عليه السلام)»[2].

 

 


[1] وفي نسخة: العقل.

[2]  ابن شاذان القمي، محمّد بن أحمد بن عليّ، مئة منقبة من مناقب أمير المؤمنين والأئمة من ولده (عليهم السلام) من طريق العامة، تحقيق وتصحيح ونشر مدرسة الإمام المهديّ |‏، إيران - قم، 1407ه، ط1، ص136.

 

103


97

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

إنَّ الظروف الصعبة التي أحاطت بحياة الإمام المجتبى (عليه السلام)، جعلَت من محطّات حياته ودراستها أمرًا يحتاج إلى كثير من الدقّة والتمحيص والإنصاف؛ لأنّ الإمام (عليه السلام) قد عانى مظلوميّةً من أهل زمانه، بل وبعض أصحابه.

 

صلح الإمام الحسن (عليه السلام)، الأسباب والنتائج

إذا راجعنا الروايات التي تحدّثَت عن أسباب الصلح، يمكن تقسيمها إلى قسمَين:

الأولى: تبيّن أنّ في هذا الصلح مصلحةً عظيمةً، ولكن دون ذكر الأسباب الداعية إلى ذلك.

 

ونذكر -كنموذج- الروايةَ الآتية:

عَنْ سَدِيرٍ، أنّه سأل الإمام الباقر (عليه السلام): كَيْفَ يَكُونُ بِذَلِكَ اَلْمَنْزِلَةِ، وَقَدْ كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ دَفَعَهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ؟! فَقَالَ (عليه السلام): «اُسْكُتْ! فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا صَنَعَ؛ لَوْلَا مَا صَنَعَ، لَكَانَ أَمْرٌ عَظِيمٌ!»[1].

الثانية: تؤكّد على أهمّيّة الصلح، وتذكر بعض الأسباب الداعية إليه.

ونذكر -كنموذج- الروايةَ الآتية (الرواية طويلة أخذنا منها موضع الشاهد):

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَقِيصَا، قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَابنَ رَسُولِ اَللَّهِ، لِمَ دَاهَنْتَ مُعَاوِيَةَ وصَالَحْتَهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اَلْحَقَّ لَكَ دُونَهُ، وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ ضَالٌّ بَاغٍ؟! فَقَالَ (عليه السلام):

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدريّة، العراق - النجف الأشرف، 1385ه - 1966م، لا.ط، ج1، ص210.

 

104


98

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

أوّلًا: فعل الإمام المعصوم حجّةٌ على الناس

«يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَلَسْتُ حُجَّةَ اَللَّهِ -تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَلَى خَلْقِهِ، وَإِمَامًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَبِي (عليه السلام)؟»، قُلْتُ: بَلَى...

 

ثانيًا: صُلحُهُ مشابِهٌ لصلح النبيّ (صلى الله عليه وآله)

«يَا أَبَا سَعِيدٍ، عِلَّةُ مُصَالَحَتِي لِمُعَاوِيَةَ عِلَّةُ مُصَالَحَةِ رَسُولِ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِبَنِي ضَمْرَةَ وَبَنِي أَشْجَعَ، وَلِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ اِنْصَرَفَ مِنَ اَلْحُدَيْبِيَةِ؛ أُولَئِكَ كُفَّارٌ بِالتَّنْزِيلِ، وَمُعَاوِيَةُ وَأَصْحَابُهُ كُفَّارٌ بِالتَّأْوِيلِ».

ثالثًا: لا بدّ من التسليم بفعل الإمام (عليه السلام)، حتّى لو التبس وجهُ الحكمة

«يَا أَبَا سَعِيدٍ، إِذَا كُنْتُ إِمَامًا مِنْ قِبَلِ اللّهِ -تَعَالَى ذِكْرُهُ-، لَمْ يَجِبْ أَنْ يُسَفَّهَ رَأْيِي في ما أَتَيْتُهُ مِنْ مُهَادَنَةٍ أَوْ مُحَارَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ وَجْهُ اَلْحِكْمَةِ في ما أَتَيْتُهُ مُلْتَبِسًا، أَلاَ تَرَى اَلْخَضِرَ (عليه السلام) لَمَّا خَرَقَ اَلسَّفِينَةَ...».

رابعًا: حفظ شيعة أهل البيت (عليهم السلام)

«وَلَوْلاَ مَا أَتَيْتُ، لَمَا تُرِكَ مِنْ شِيعَتِنَا عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ أَحَدٌ إلّا قُتِلَ»[1].

وثمّة أسباب أخرى أَجبَرَت الإمامَ (عليه السلام) على قبول الصلح، نذكر منها:

1. عدم رغبة جيش الإمام (عليه السلام) في القتال.

2. التواطؤ مع معاوية من قِبل الكثير من القادة والجنود.

 

 


[1] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص211.

 

105


99

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

3. الخيانات الفعليّة والمتكرّرة، والمتمثِّلة بالالتحاق بمعاوية أو الفرار من المعسكرات.

4. شيوع البلبلة والاضطراب في صفوف القادة والجنود.

5. عدم الإخلاص للقيادة الشرعيّة.

شروط الصلح من طرف الإمام الحسن (عليه السلام)

يمكننا حصر نصِّها في خمسة بنود، كما في الصورة الآتية:

الأوّل: تسليم أمر الخلافة إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب اللّه وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله).

الثاني: أن تكون الخلافة للإمام الحسن (عليه السلام) من بعده، فإنْ حدَثَ به حدَثٌ، فلأخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، وليس لمعاوية أن يعهد بها إلى أحد.

الثالث: أن يترك سبَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) والقنوت عليه في الصلاة، وأن لا يذكر عليًّا (عليه السلام) إلّا بخير.

الرابع: استثناء ما في بيت المال، وهو خمسة ملايين درهم، وتكون بحوزة الإمام الحسن (عليه السلام)، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصِلات على بني أُميّة، وأن يفرّق في أولاد من قُتِل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمل وصفّين مليون درهم، وأن يجعل ذلك من خراج «دَارَ ابْجِرْد»[1].

 


[1] دار ابجرد: هي إحدى المدن الخمس في ولاية فارس قديمًا (لغتنامه دهخدا، كلمة دار أبجرد).

 

106


100

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

الخامس: الناس آمنون حيث كانوا من أرض اللّه، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويَمَنِهم...

فكتب معاوية جميع ذلك بخطِّه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهودَ المؤكَّدةَ والأيمانَ المغلَّظةَ على ذلك جميعُ رؤساء أهل الشام[1].

 

غياب البصيرة في زمان الإمام الحسن (عليه السلام)

قدَّم الإمام الخامنئيّ (دام ظله) قراءةً لسبب هزيمة تيّار الحقّ في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)، نعرضها باختصار ضمن العناوين الآتية:

أوّلًا: انتشار غبار النفاق (الفتنة) في زمان الإمام (عليه السلام)

إنّ أصعب المراحل التي تمرّ بها أيّ ثورة، هي المرحلة التي يلتبس فيها الحقّ بالباطل. ففي عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، كانت الجبهات مفصولةً وواضحةً، أمّا في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان الأمر في غاية الصعوبة؛ لأنّه كان من الصعب التمييز بين المعارضين للإمام وأصحابه المخلصين. فهذه الأمور تعقّد البصيرة، وتعكّر أجواء الوضوح. وعندما تعلو غبرة الفتن الغليظة، نتذكّر عهدَ الإمام الحسن (عليه السلام) -وأنتم تعلمون ما الذي حدث حينذاك، كما تعلمون بوجود طبقة رقيقة من هذه الغبرة في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضًا- وكان بعض الأشخاص مثل عمّار بن ياسر -الذي يُعَدُّ أعظمَ فاضحٍ للأعداء

 

 


[1] يراجع تفصيل معاهدة الصلح في كتاب صلح الحسن (عليه السلام)، تأليف الشيخ راضي آل ياسين، منشورات دار الکتب العراقيّة، العراق - الکاظميّة، لا.ت، ط2، ص259-261.

 

107


101

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

في جبهة أمير المؤمنين (عليه السلام)- وبعض كبار صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) يذهبون إلى الناس ويتكلّمون معهم وينصحونهم، وعلى الأقلّ، كانوا يزيلون بعض آثار تلك الغبرة من أمام أعين بعضهم. أمّا في عهد الإمام الحسن (عليه السلام)، فلم يتحقّق حتّى هذا المقدار القليل، فقد كان عهدُه زمانَ شبهةٍ وحربٍ مع الكفّار المقنَّعين، من الذين يتمكّنون من تسخير شعاراتهم لأهدافهم. لقد كان عهدًا صعبًا للغاية، ولم يكن هناك بدّ من الحذر فيه.

 

ثانيًا: الشهادة والحياة

الشهادة تكون أحيانًا أسهل من البقاء على قيد الحياة. أحيانًا، تصبح الحياة والعمل في أجواء معيّنة أصعب بكثير من القتل والشهادة ولقاء اللّه، والإمام الحسن (عليه السلام) سلك هذا السبيل الأصعب. وفي تلك الأوضاع، كان الخواصّ في حالة انهيار، ولم يكونوا على استعدادٍ للقيام بأيّ تحرُّك. ولهذا السبب، حينما استلم يزيد السلطة، ثار عليه الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّ يزيد، بما يتّصف به من صفات سيّئة، كان من السهولة محاربته، وفيما لو قُتِل أحد في محاربته، لا يذهب دمه هدرًا. كانت الأوضاع في عهده لا خَيار فيها إلا خَيار الثورة، على عكس عهد الإمام الحسن (عليه السلام)، الذي كان فيه خَياران: خيار الشهادة، وخيار الحياة، وكان البقاء على قيد الحياة أكثر ثوابًا وجدوى ومشقّة من القتل، والإمام الحسن (عليه السلام) اختار هذا المسلك الأكثر وُعُورَة[1].

 

 


[1]  الإمام الخامنئيّ دام ظله: لا بدّ من قراءة جديدة بشأن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، نقلًا عن موقع: http://ar.imam-khomeini.ir

 

108


102

الموعظة الرابعة عشرة: غياب البصيرة وضرورة الصلح في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام)

ثالثًا: أسباب الهزيمة

إنّ السبب الأساس لهزيمة تيّار الحقّ في زمن الإمام المجتبى (عليه السلام) -حسب رؤية الإمام الخامنئيّ (دام ظله)- هو: «ضعف الرؤية العامّة، وامتزاج الإيمان بالدوافع المادّيّة. ففي مجال ضعف الوعي العامّ، كان الناس بعيدين كلّ البُعد عن الوعي، وكان إيمانهم الدينيّ ممتزجًا بالدوافع المادّيّة. لقد أضحت المادّيّة عندهم أصلًا، وتزلزلت عندهم القيم لِما يزيد على عشر أو عشرين سنة من بعد الصلح. وحدث ذلك في كلّ مجالات القيم»[1].


 


[1] الإمام الخامنئيّ دام ظله، إنسان بعمر 250 سنة، مركز المعارف للتأليف والتحقيق، لبنان - بيروت، 2013م، ط1، ص152-153.

 

109


103

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

 

محاور الموعظة

1. أهمّيّة العشر الأواخر من شهر رمضان

2. ليلة القدر في العشر الأواخر من الشهر

3. كيف نستثمر العشر الأواخر من الشهر الفضيل؟

 

هدف الموعظة

تعرّف أهمّيّة العشر الأواخر من شهر رمضان وفضلها وكيفيّة الاستفادة منها.

 

تصدير الموعظة

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، إذا كان العشر الأواخر، اعتكف في المسجد، وضُرِبت له قبّة من شعر، وشمّر المئزر، وطوى فراشه»[1].

 

 


[1]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص175.

 

110


104

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

اختصّ شهر رمضان بخصائص عظيمة عن غيره من الشهور، فهو شهر الصيام والقيام والقرآن، وشهر الجهاد والانتصارات، وشهر الجود والخيرات والبركات والنفحات، وتمثّل العشر الأواخر منه روح الشهر وخلاصته، وفيها يستشعر العبد نتائج أعماله الصالحة ويحصد ثمرتها بفضل اللّه -تعالى-.

 

أهمّيّة العشر الأواخر من شهر رمضان

تمتاز العشر الأواخر من شهر رمضان بخصوصيّة مميزّة عن باقي أيّام الشهر الفضيل؛ ففيها خلاصة تلك العبادات والطاعات التي عكف الإنسان نفسه عليها، وسعى من خلالها للارتقاء في مدارج الكمال الإنسانيّ وخطى خطواته نحو الحقّ -جلّ وعلا-، فلا ينبغي أن تفترّ همّة الصائم في أواخر شهر رمضان، بل عليه أن يشمّر عن ساعد الجدّ والاجتهاد في العبادة والطاعة، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لمّا كان أوّل ليلة من شهر رمضان، قام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس، قد كفاكم اللّه عدوّكم من الجنّ والإنس، ووعدكم الإجابة، وقال: ﴿ٱدعُونِيٓ أَستَجِب لَكُم﴾[1]، ألا وقد وكَّل اللّه -سبحانه وتعالى- بكلّ شيطان مريد سبعة من الملائكة، فليس بمحلول حتّى ينقضي شهر رمضان، ألا وأبواب السماء مفتّحة من أوّل ليلة منه إلى آخر ليلة منه، ألا والدعاء فيه مقبول؛ حتّى إذا كان أوّل ليلة من العشر قام فحمد اللّه وأثنى عليه، وقال مثل ذلك، ثمّ قام، وشمّر، وشدّ المئزر، وبرز

 

 


[1]  سورة غافر، الآية 60.

 

111


105

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

من بيته، واعتكف، وأحيا الليل كلّه، وكان يغتسل كلّ ليلة منه بين العشائين»[1].

 

وهذا التأكّيد في الروايات على إحياء العشر الأخيرة من الشهر، يستجيب لما يتطلّع إليه المؤمن من الارتقاء بعبادته وأعماله، بحيث يكون عمله في نهاية الشَّهر أرقى منه في بداياته. وهذه هي الحالة الطبيعيّة التي ينشدها الإنسان؛ لذلك نقرأ في الدّعاء: «تجعل خير أمري آخره، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيّامي يوم ألقاك».

 

ليلة القدر في العشر الأواخر من الشهر

يكفي في شرف العشر الأواخر من الشهر الفضيل وعظمتها أنّ فيها ليلة ليست كباقي الليالي، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها الليلة الأخيرة من الشهر التي ورد فيها غفران الذنوب وقبول التوبة، فقد روى محمّد بن مسلم يقول: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليهما السلام): «إنّ لله -تعالى- ملائكة موكّلين بالصائمين، يستغفرون لهم في كلّ يوم من شهر رمضان إلى آخره، وينادون الصائمين كلّ ليلة عند إفطارهم: أبشروا -عبادَ اللّه- فقد جعتم قليلًا وستشبعون كثيرًا، بوركتم وبورك فيكم، حتّى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان نادوهم: أبشروا -عبادَ اللّه- فقد غفر اللّه لكم ذنوبكم، وقَبِل توبتكم؛ فانظروا كيف تكونون في ما تستأنفون»[2].

 

 


[1]  السيّد ابن طاووس، إقبال الأعمال، مصدر سابق، ج1، ص71.

[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص108.

 

112


106

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

كيف نستثمر العشر الأواخر من الشهر الفضيل؟

من الأمور التي يمكن ملاحظتها حالة التراخي والفتور عن العبادة والطاعة عند بعض الناس، في حين أنّ المطلوب هو مضاعفة الهمّة النشاط وتحصيل الاستفادة القصوى من هذه الليالي والتمسّك بما تبقّى من ساعات هذه الشهر قبل انقضائها والتي يشعر معها المؤمن بالفقد والحزن، وأحيانًا بالندم على ما فرط وضيّع.

 

من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في وداعه للشهر الفضيل: «... السلام عليك من أليف آنَسَ مقبلًا فَسَرَّ، وأوحش منقضيًا فمّضَّ، السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب، السلام عليك من ناصرٍ أعان على الشيطان، وصاحبٍ سهَّل سُبل الإحسان، السلام عليك ما أكثر عتقاء اللّه فيك! وما أسعد من رعى حرمتك بك! السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب وأسترك لأنواع العيوب! السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين، وأهيبك في صدور المؤمنين!».

 

فهذا المقطع يُظهِر مجموعة من الآثار المترتّبة في شهر رمضان، وهي:

1. رقّة القلب.

2. قلّة الذنب.

3. الانتصار على الشيطان.

4. ستر العيوب.

ثمُ يُكمِل الإمام (عليه السلام): «السلام عليك من شهر لا تنافسه الأيّام، السلام عليك من شهر هو من كلّ أمرٍ سلام، السلام عليك غير

 

113


107

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

كريه المصاحبة، ولا ذميم الملابسة، السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات، وغسلت عنّا دنس الخطيئات، السلام عليك غير مودعِّ برمًا، ولا متروك صيامه سأمًا، السلام عليك من مطلوب قبل وقته، ومحزون عليه قبل فوته، السلام عليك كم من سوءٍ صُرِف بك عنّا، وكم من خير أُفيض بك علينا، السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك! وأشدّ شوقنا غدًا إليك! السلام عليك وعلى فضلك الذي حرمناه، وعلى ماضٍ من بركاتك سلبناه...»[1].

 

وهذا المقطع يتحدّث عن علاقة المؤمن بهذا الشهر، فهو يشتاق إليه، ويرى فيه غسلًا من الذنوب، لا يضجر منه، بل ينتابه الحزن على فراقه.

 

وترجع أسباب الفتور عند بعض الناس إلى عدّة أمور، أهمّها:

1. الغفلة عن مكانة هذه الليالي وفضلها.

2. التململ والتعب من مشقّة الصوم، وبدء عدّ الأيام على انقضاء الشهر للعودة إلى ممارسة المباحات.

3. الاستعداد لاستقبال العيد من خلال الاشتغال بالأسواق لتهئية ملابس العيد وإعداد الطعام ليوم الفطر.

4. الاشتغال بالملهيات، وأهمّها البرامج التلفزيونيّة التي تتحوّل إلى برامج يطغى عليها المجون والفسق والفجور.

 

 


[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص296، دعاؤه في وداع شهر رمضان.

 

114


108

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

فعلى المؤمن أن يتوجّه إلى اللّه -تعالى- في شهر اللّه، الذي «هو شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار»[1]، ولا يكون فيه من الأشقياء؛ لأنّ الشقي حقًّا هو من يرتكب المحارم، وخصوصًا في شهر رمضان، وكما قال النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «إنّ الشقي حقّ الشقي من خرج منه هذا الشهر ولم يُغفَر ذنوبه»[2]، وعنه (صلى الله عليه وآله): «فمن لم يُغفَر له في رمضان، ففي أيِّ شهرٍ يُغفر له؟!»[3].

 

ويمكن استثمار هذه الأيّام من خلال ملاحظة كتب السنن والمستحبّات التي تضمّنت أعمالًا لهذه الليالي تشكِّل برنامجًا يأنس به المؤمنون، منها:

1. الاعتكاف، حيث المطلوب تغيير نمط الحياة، وترك ما هو غير ضروريّ، والتفرّغ للعبادة والمناجاة، والاشتغال بما يقرّب إلى اللّه -تعالى-، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجّتين وعمرتين»[4].

2. اجتناب موارد الغفلة واللهو والعبث والصدّ عن ذكر اللّه -تعالى-، كمتابعة التلفزيون وحضور مجالس البطّالين.

3. الاعتراف بالذنوب والمعاصي والتحسّر على ما ضيّع من هذا الشهر؛ ولذلك نقرأ في الدعاء الوارد في العشر الأواخر من شهر رمضان:

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص65.

[2] النيسابوري، الشيخ محمّد بن الفتال، روضة الواعظين، تقديم السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الخرسان، منشورات الشريف الرضي، إيران - قم، لا.ت، لا.ط، ص340.

[3]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص355-356.

[4]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص534.

 

115


109

الموعظة الخامسة عشرة: اغتنام العشر الأواخر

«اللّهمّ، وهذه أيّام شهر رمضان قد انقضت، ولياليه قد تصرّمت، وقد صرت -يا إلهي- منه إلى ما أنت أعلم به منّي، وأحصى لعدده من الخلق أجمعين؛ فأسألك بما سألك به ملائكتك المقرّبون، وأنبياؤك المرسلون، وعبادك الصالحون، أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تفكّ رقبتي من النار، وتدخلني الجنّة برحمتك، وأن تتفضّل عليَّ بعفوك وكرمك، وتتقبّل تقرُّبي، وتستجيب دعائي، وتمنّ عليَّ بالأمن يوم الخوف من كلّ هول أعددته ليوم القيامة. إلهي، وأعوذ بوجهك الكريم، وبجلالك العظيم، أن تنقضيَ أيّام شهر رمضان ولياليه، ولك قِبَلي تبعةٌ أو ذنبٌ تؤاخذني به أو خطيئة تريد أن تقتصّها منّي، لم تغفرها لي»[1].

 

 


[1]  السيّد ابن طاووس، إقبال الأعمال، مصدر سابق، ج1، ص364.

 

116


110

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

 

محاور الموعظة

1. معنى الولاية في القرآن الكريم

2. كيف يكون الولاء؟

3. الولاية والطاعة

4. نماذج من طاعة القيادة

 

هدف الموعظة

بيان معنى الولاية، وضرورة الطاعة للقائد.

 

تصدير الموعظة

﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ ٥٥ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلغَٰلِبُونَ﴾[1].

 

 

117

 

 

 

[1] سورة المائدة، الآيتان 55 و56.


111

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

من أهمّ المسائل التي ستقع موردًا للمساءلة والحساب يوم القيامة، مسألة الولاية؛ وذلك لأنّ الارتباط باللّه -تعالى- والدخول في ولايته لا يكون إلا بتولّي مَن أَمَرَ اللّهُ -تعالى- بتولِّيهم. فإذا تولَّينا من نُهِينا عن ولايتهم، فسندخل في ولاية الشيطان، إذ ليس بعد ولاية اللّه -تعالى- غير ولاية الشيطان، وليس بعد الحقّ إلّا الضلال. وإنّ المنهج الأساس للتمييز بين طريقَي الهداية والضلالة يكمن في الولاية الصحيحة.

 

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْوَلَايَةِ، وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْ‏ءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَة»[1].

 

معنى الولاية في القرآن الكريم

إنّ أهمّ بحثٍ في الولاية هو فهم مدلول هذا اللفظ في القرآن؛ لأنّه على أساسه تُفهَم أهمّيّة «الوليّ» ومنزلته، أو بالمصطلح المعاصر: «القائد»، وإن كان الأفضل استخدام مصطلح الوليّ أو وليّ الأمر؛ وذلك لأصالة المصطلح قرآنيًّا.

1. إنّ الفكر الجديد الذي يحمله النبيّ بوحي الإله، ويدعو فيه إلى بناء حياة جديدة، إنّما يصبح مؤثِّرًا في تحقيق هذه الحياة عندما يتحقّق، في البداية، في فكر مجموعة منظَّمة، وروحها، وعملها.

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص18.

 

118


112

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

2. هذا الجمع، الذي يشكّل جبهة مُحكَمة لا يمكن اختراقها، عليه أن يحفظ وحدتَه وانسجامَه بكلّ ما أوتي من قوّة، وأن يسعى حثيثًا لكي لا يذوب في التيّارات الفكريّة والعمليّة المخالِفة. وهذا ما يتطلّب منه الاحتراز من كلّ أشكال العلاقات والتبعيّات الأخرى التي تؤدّي إلى إضعافه أو تمييعه، بل وأن يقطع مثل هذه الروابط إذا اقتضى الأمر.

 

3. يُسَمَّى هذا النوع من الترابط والاتّحاد الفكريّ والعمليّ في عُرفِ القرآن بـِ «الولاية»، (الموالاة والتولّي).

وفي أصل «الولاية»، نشير إلى أمرين:

أوّلًا: إنّ «وليّ» المجتمع الإسلاميّ؛ أي السلطة التي تقود جميع النشاطات والفعاليّات الفكريّة والعمليّة وتديرها، هو اللّه -تعالى-، وكلُّ من يعيّنه اللّه، بالاسم أو الصفة، في هذا المنصب: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ﴾[1].

ثانيًا: إنّ كلّ ولاية، غير ولاية اللّه وخلفائه، هي ولاية للشيطان والطاغوت. والقَبول بولاية الشيطان يؤدّي إلى تسلُّطه على جميع القوى البنّاءة والخلاّقة التي أُودِعَت في أعماق الإنسان، ليجعلها تصبّ في قناة الهوى والطغيان.

 

كيف يكون الولاء؟

ويتجسّد الولاء للّه -سبحانه وتعالى- عبر الارتباط به -سبحانه-، من خلال:

 


[1] سورة المائدة، الآية 55.

 

119


113

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

2. هذا الجمع، الذي يشكّل جبهة مُحكَمة لا يمكن اختراقها، عليه أن يحفظ وحدتَه وانسجامَه بكلّ ما أوتي من قوّة، وأن يسعى حثيثًا لكي لا يذوب في التيّارات الفكريّة والعمليّة المخالِفة. وهذا ما يتطلّب منه الاحتراز من كلّ أشكال العلاقات والتبعيّات الأخرى التي تؤدّي إلى إضعافه أو تمييعه، بل وأن يقطع مثل هذه الروابط إذا اقتضى الأمر.

 

3. يُسَمَّى هذا النوع من الترابط والاتّحاد الفكريّ والعمليّ في عُرفِ القرآن بـِ «الولاية»، (الموالاة والتولّي).

وفي أصل «الولاية»، نشير إلى أمرين:

أوّلًا: إنّ «وليّ» المجتمع الإسلاميّ؛ أي السلطة التي تقود جميع النشاطات والفعاليّات الفكريّة والعمليّة وتديرها، هو اللّه -تعالى-، وكلُّ من يعيّنه اللّه، بالاسم أو الصفة، في هذا المنصب: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ﴾[1].

ثانيًا: إنّ كلّ ولاية، غير ولاية اللّه وخلفائه، هي ولاية للشيطان والطاغوت. والقَبول بولاية الشيطان يؤدّي إلى تسلُّطه على جميع القوى البنّاءة والخلاّقة التي أُودِعَت في أعماق الإنسان، ليجعلها تصبّ في قناة الهوى والطغيان.

 

كيف يكون الولاء؟

ويتجسّد الولاء للّه -سبحانه وتعالى- عبر الارتباط به -سبحانه-، من خلال:

 


[1] سورة المائدة، الآية 55.

 

119


113

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

1. الطاعة والانقياد والتسليم

﴿إِنَّمَا كَانَ قَولَ ٱلمُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُواْ سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ﴾[1].

 

2. الحبّ والإخلاص لله -سبحانه وتعالى-

﴿قُل إِن كَانَ ءَابَآؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَٰنُكُم وَأَزوَٰجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَٰلٌ ٱقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرضَونَهَآ أَحَبَّ إِلَيكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأتِيَ ٱللَّهُ بِأَمرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهدِي ٱلقَومَ ٱلفَٰسِقِينَ﴾[2].

 

3. النصرة لله ولرسوله وللمؤمنين

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم﴾[3].

﴿وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[4].

 

ومِن أجل أن يمارسَ هذا الدينُ دورَه القياديّ في حياة الإنسان، فإنّه لا بدّ من وجود ممارسة فعليّة للقيادة والحاكميّة في حياة الناس.

ولكي يؤدّي الحاكمُ مهمّاته الصعبة، ويتمكّن من مواجهة التحدّيات، وإزالة العقبات، والاستمرار بالأمّة في المسيرة الصعبة، مسيرة ذات الشوكة، فإنّه:

- لا بدّ من أن يكون موضع نصرة المؤمنين.

- لا بدّ من أن يكون موضع حبّ المؤمنين، وتقديرهم، واحترامهم.

 


[1] سورة النور، الآية 51.

[2]  سورة التوبة، الآية 24.

[3] سورة محمّد، الآية 7.

[4] سورة الحجّ، الآية 40.

 

120


114

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

الولاية والطاعة

نجد في كتاب اللّه مفهومَين مترابطَين: «الولاية» و «الطاعة»، وهما وجها قضيّة واحدة، هي حاكميّة دين اللّه وسيادته على وجه الأرض.

والوجه الأوّل لهذه القضيّة هو الولاية، والوجه الثاني هو الطاعة.

وحتّى تتحقّق الطاعة، لا بدّ من ضرورة توحيد الولاء، قال -تعالى-: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَل يَستَوِيَانِ مَثَلًا ٱلحَمدُ لِلَّهِ بَل أَكثَرُهُم لَا يَعلَمُونَ﴾[1].

 

حيث يضرب اللّه -سبحانه- لنا مثلًا في التوحيد والشرك، برجُلَين:

أحدهما يتنازعه شركاء متشاكسون، لكلّ واحد منهم ولاية عليه وسلطان، فهؤلاء الشركاء مختلفون في ما بينهم، وهو موزّع بينهم.

والآخر قد أسلم أمره إلى رجل واحد فقط، ورجلًا سلمًا لرجل يطيعه في كلّ شيء، وينقاد له في كلّ أمر، ويتقبّل ولايته وحاكميّته في كلّ شأن. وهكذا الأمر في ما يتعلّق بالتوحيد والشرك.

فالموحِّدون من الناس كالرجل الثاني، الذي أسلم أمره لرجل واحد، فهو في راحة من أمره.

والمشركون من الناس كالرجل الأوّل، الذي يتنازعه شركاء متشاكسون.

وواضح من هذا المثال أنّ المقصود بالشرك والتوحيد هو الشرك في الولاء، والتوحيد في الولاء.

 

 


[1] سورة الزمر، الآية 29.

 

120


115

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

الولاية والطاعة

نجد في كتاب اللّه مفهومَين مترابطَين: «الولاية» و «الطاعة»، وهما وجها قضيّة واحدة، هي حاكميّة دين اللّه وسيادته على وجه الأرض.

والوجه الأوّل لهذه القضيّة هو الولاية، والوجه الثاني هو الطاعة.

وحتّى تتحقّق الطاعة، لا بدّ من ضرورة توحيد الولاء، قال -تعالى-: ﴿ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلٗا فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَٰكِسُونَ وَرَجُلٗا سَلَمٗا لِّرَجُلٍ هَل يَستَوِيَانِ مَثَلًا ٱلحَمدُ لِلَّهِ بَل أَكثَرُهُم لَا يَعلَمُونَ﴾[1].

 

حيث يضرب اللّه -سبحانه- لنا مثلًا في التوحيد والشرك، برجُلَين:

أحدهما يتنازعه شركاء متشاكسون، لكلّ واحد منهم ولاية عليه وسلطان، فهؤلاء الشركاء مختلفون في ما بينهم، وهو موزّع بينهم.

والآخر قد أسلم أمره إلى رجل واحد فقط، ورجلًا سلمًا لرجل يطيعه في كلّ شيء، وينقاد له في كلّ أمر، ويتقبّل ولايته وحاكميّته في كلّ شأن. وهكذا الأمر في ما يتعلّق بالتوحيد والشرك.

فالموحِّدون من الناس كالرجل الثاني، الذي أسلم أمره لرجل واحد، فهو في راحة من أمره.

والمشركون من الناس كالرجل الأوّل، الذي يتنازعه شركاء متشاكسون.

وواضح من هذا المثال أنّ المقصود بالشرك والتوحيد هو الشرك في الولاء، والتوحيد في الولاء.

 


[1] سورة الزمر، الآية 29.

 

121


116

الموعظة السادسة عشرة: الولاية والنصرة

نماذج من طاعة القيادة

في الدلالة على مدى الطاعة، بل الذوبان بأوامر القائد ووليّ الأمر الإمام الخامنئيّ (دام ظله)، نقتطف كلامًا للقائد الشهيد الفريق قاسم سليماني في مقابلته الأخيرة عن العلّامة المجاهد القائد السيّد حسن نصر اللّه (دام عزّه)، في كيفيّة تعاطيه مع الإمام الخامنئيّ (دام ظله). قال الشهيد سليماني، بحسب وكالة مِهر الإرانيّة، وما بثّه تلفزيون المنار: إنّ «لدى السيّد نصر اللّه خصوصيّةً لم يصل أيّ واحد منّا إليها بتلك الدرجة نفسها، وأظنّ أنّنا يجب أن نذهب ونتعلّم دروس الولاية منه، لديه إيمان وعقيدة راسخة بكلمات سماحة السيّد القائد [الإمام الخامنئيّ]، ويعتبرها كلمات إلهيّة غيبيّة؛ لذلك يهتمّ اهتمامًا شديدًا بأيّة كلمة أو عبارة تصدر عن سماحة السيّد القائد، ويعتني بها عناية كبيرة».

ولفت القائدُ الشهيد سليماني إلى مدى التزام القائد الحاجّ عماد مغنيّة بقرار القيادة، قائلًا: «إنّه حين كانت تختلف رؤية الشهيد مغنيّة مع رؤية السيّد حسن نصر اللّه، كان يبادر إلى تنفيذ أمر السيّد نصر اللّه والالتزام به، فهو في هذا المجال، كان بمثابة مالك الأشتر بالنسبة إلى الإمام عليّ (عليه السلام)».

 

 

122

 

 


117

الموعظة السابعة عشرة: الاعتكاف بين الجسد والروح

الموعظة السابعة عشرة: الاعتكاف بين الجسد والروح

 

محاور الموعظة

1. تعريف الاعتكاف

2. فضل الاعتكاف

3. فلسفة الاعتكاف

4. الاعتكاف الروحيّ

 

هدف الموعظة

بيان فضل الاعتكاف في الآيات والروايات، وبيان معناه وفلسفته وما يحرم فيه، وأنّ حقيقة الاعتكاف هي اعتكاف الروح.

 

تصدير الموعظة

﴿وَإِذ جَعَلنَا ٱلبَيتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى وَعَهِدنَآ إِلَىٰٓ إِبرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾[1].

 


[1]  سورة البقرة، الآية 125.

 

123


118

الموعظة السابعة عشرة: الاعتكاف بين الجسد والروح

الاعتكاف شرعًا

وهو اللبث في المسجد بقصد التعبُّد به. ولا يُعتَبَر فيه ضمّ قصد عبادة أخرى خارجة عنه، وإن كان هو الأحوط، وهو مستحبّ بأصل الشرع، وربّما يجب الإتيان به لأجل نذر أو عهد أو يمين أو إجارة ونحوها، ويصح في كلّ وقت يصحّ فيه الصوم، وأفضل أوقاته شهر رمضان، وأفضله العشر الأواخر منه[1].

 

فضل الاعتكاف

ورد ذكر الاعتكاف في القرآن الكريم، بمعناه المصطلح، في قوله -تعالى-: ﴿ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيلِ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُم عَٰكِفُونَ فِي ٱلمَسَٰجِدِ تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ﴾[2].

وقد أكّدَت أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) على فضل الاعتكاف، خصوصًا في شهر رمضان، ونذكر منها:

عَنْ الإمام الصادق (عليه السلام) أَنَّ رَسُولَ اللّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: «اِعْتِكَافُ اَلْعَشْرِ اَلْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ يَعْدِلُ حَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ»[3]. وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله): «اِعْتِكَافُ شَهْرِ رَمَضَانَ يَعْدِلُ حَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ»[4].

 


[1]  الإمام الخمينيّ (قدس سره)، السيّد روح اللّه الموسويّ، تحرير الوسيلة، دار الكتب العلميّة، العراق - النجف، 1390ه.ق، ط2، ص304.

[2] سورة البقرة، الآية 187.

[3] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص559.

[4] المصدر نفسه.

 

124


119

الموعظة السابعة عشرة: الاعتكاف بين الجسد والروح

وعَنْ الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ رَسُولُ اللّه (صلى الله عليه وآله) إِذَا دَخَلَ اَلْعَشْرُ اَلْأَوَاخِرُ، ضُرِبَتْ لَهُ قُبَّةُ شَعْرٍ، وَشَدَّ اَلْمِئْزَرَ»[1].

من أسرار الاعتكاف وفلسفته

لقد حرص رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) على هذه العبادة، على الرغم من انشغاله بالدعوة والتربية والتعليم والجهاد، فكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتكف في شهر رمضان عشرة أيّام، فلمّا كان العام الذي قُبِضَ فيه، اعتكف عشرين يومًا. ولا شكّ أنّ هذا الاعتكاف لم يُشَرَّع إلّا لحِكَمٍ عظيمة، منها:

1. الانقطاع إلى الله

إنّ الشهوات والغرائز تحاول، بثقلها، إخضاع النفس الإنسانيّة لمعسكر الشيطان؛ لذا لم تكتفِ الشريعة الإلهيّة بتوجيه الإنسان نحو التأمّل والتفكير، ثمّ العزم وأخذ القرار، بل أرادت أن تدخله في دوراتٍ تدريبيّة، تُعرّفه خلالها قدرتَه على التحكّم بشهواته، بدل أن يكون محكومًا. وبالتطبيق، لم تكتفِ الشريعة بالتنظير لذلك، بل أجرت دوراتٍ عمليّةٍ يُعرَّف فيها الإنسان إلى قدرته على التحكّم بغرائزه، كما دورة الحجّ العباديّة، والصلاة اليوميّة، وصوم شهر رمضان.

وكذلك أتت بحلٍّ عمليٍّ آخر، ألا وهو الاعتكاف، الذي يُعطي للمرء فرصةَ الاختلاء بينه وبين ربّه، فيتأمّل بماضي أيّامه، ويستغفره على ما اقترفه من ذنوب، ويشكره على ما فعله من حسنات.

 

 


[1] المصدر نفسه، ج7، ص560.

 

125


120

الموعظة السابعة عشرة: الاعتكاف بين الجسد والروح

2. خصوصيّة الزمان والمكان

إنّ للزمان في أيّام شهر رمضان ولياليه، أهمّيّةً وقيمةً خاصّة، خصوصًا إذا قُضِيَ في العبادة والدعاء والذكر والتسبيح، فكيف إذا كان مع جماعةٍ من المؤمنين، وفي بيتٍ من بيوت اللّه -تعالى-؟

عن الإمام الباقر (عليه السلام): «أنّه [رسول اللّه] (صلى الله عليه وآله) قَامَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ كَفَاكُمُ اللَّهُ عَدُوَّكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْس‏، وَوَعَدَكُمُ الْإِجَابَةَ، فَقَالَ: ﴿ٱدعُونِيٓ أَستَجِب لَكُم﴾[1]، أَلَا وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِكُلِّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ، فَلَيْسَ بِمَحْلُولٍ حَتَّى يَنْقَضِيَ شَهْرُكُمْ هَذَا، أَلَا وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ مُفَتَّحَةٌ مِنْ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ إِلَى آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، أَلَا وَالدُّعَاءُ فِيهِ مَقْبُولٌ. ثُمَّ شَمَّرَ (صلى الله عليه وآله)، وَشَدَّ مِئْزَرَهُ، وَبَرَزَ مِنْ بَيْتِهِ، وَاعْتَكَفَهُنَّ، وَأَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَكَانَ يَغْتَسِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ»[2].

ويمكن لنا أن نذكر بعض الفوائد المترتّبة على الاعتكاف، وهي:

أ. يوفّر لنا فرصة إحياء ليالي القدر.

ب. يساعدنا على التخلّي عن هموم الدنيا ومشاغلها.

ج. مصاحبة الصالحين والتأسّي بهم.

د. عمارة المسجد.

ه. التبتّل والانقطاع والدعاء.

و. التخلُّص من العادات، وتحقيق معنى العبوديّة.

 


[1] سورة غافر، الآية 60.

[2] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص560.

 

126


121

الموعظة السابعة عشرة: الاعتكاف بين الجسد والروح

الاعتكاف الروحيّ

في اصطلاح السالكين والعرفاء، الاعتكاف هو تفريغ القلب من الاشتغالات الدنيويّة، وتسليم النفس للمولى، وقيل: إنّ الاعتكاف والعُكوف هو الإقامة، ومعناه أنّك إنْ لم تغفر لي، فلن أترك بابك، ولن أغادر عتبتك[1].

 

وفي ظلّ انتشار الوباء، وعدم إمكانيّة الاعتكاف في المساجد، لا ينبغي للمرء أن يترك روحيّة الاعتكاف، من اغتنام الوقت في التوجّه إلى اللّه وتفريغ القلب له -سبحانه-.


 


[1] راجع: الشريف الجرجاني، عليّ بن محمّد بن عليّ، التعريفات، دار الكتب العلمية، لبنان - بيروت، 1983م - 1403ه، ط1، ص31.

 

127


122

الموعظة السابعة عشرة: الاعتكاف بين الجسد والروح

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر

 

محاور الموعظة

1. ليلة التقدير

2. عظمة ليلة القدر وخصوصيّتها

3. إحياؤها

4. حتّى مطلع فجر القائم (عجل الله تعالى فرجه)

 

هدف الموعظة

بيان عظمة ليلة القدر وبركتها وفضل إحيائها.

 

تصدير الموعظة

﴿إِنَّآ أَنزَلنَٰهُ فِي لَيلَةِ ٱلقَدرِ ١ وَمَآ أَدرَىٰكَ مَا لَيلَةُ ٱلقَدرِ ٢ لَيلَةُ ٱلقَدرِ خَيرٞ مِّن أَلفِ شَهرٖ﴾[1].


 


[1] سورة القدر، الآيات 1-3.

 

128


123

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر

ليلة التقدير

هي ليلة من ثلاث ليالٍ في شهر رمضان (19 – 21 – 23)، خيرٌ من ألف شهر (83.333 سنة)، يُقدِّر اللّه فيها كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل من خيرٍ أو شرٍ أو طاعةٍ أو معصيةٍ أو مولودٍ أو أجلٍ أو رزقٍ... ﴿فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ ٤ أَمرٗا مِّن عِندِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرسِلِينَ ٥ رَحمَةٗ مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلعَلِيمُ﴾[1].

 

عظمة ليلة القدر وخصوصيّتها

في ليلة القدر، يتجلّى الفيض الإلهيّ والكرم الربّانيّ بأبهى صوره، وهي ليلة مباركة نزل فيها خير الكتب (القرآن الكريم)، ﴿إِنَّآ أَنزَلنَٰهُ فِي لَيلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍ﴾[2]. وقد حرص النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) على إحيائها بالعبادة والطاعة حتّى الصباح. وقد جاء في الكتاب والسنّة ما يُظهر لنا فضلها وشرفها، ومن ذلك أنّها:

1. ليلة مباركة: ﴿إِنَّآ أَنزَلنَٰهُ فِي لَيلَةٖ مُّبَٰرَكَةٍ﴾[3].

2. ليلة خيرٌ من ألف شهر: ﴿لَيلَةُ ٱلقَدرِ خَيرٞ مِّن أَلفِ شَهرٖ﴾[4]. فـ «العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير، خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر»[5].

 

 


[1] سورة الدخان، الآيات 4-6.

[2] سورة الدخان، الآية 3.

[3] سورة الدخان، الآية 3.

[4] سورة القدر، الآية 3.

[5] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال، مصدر سابق، ص92.

 

129


124

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر

3. ليلة تقدير الأمور: ﴿فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ ٤ أَمرٗا مِّن عِندِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرسِلِينَ ٥ رَحمَةٗ مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلعَلِيمُ﴾[1].

4. ليلة نزول القرآن: ﴿إِنَّآ أَنزَلنَٰهُ فِي لَيلَةِ ٱلقَدرِ﴾[2].

5. ليلة أمن وسلام: ﴿سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطلَعِ ٱلفَجرِ﴾[3].

6. ليلة نزول الملائكة والروح (جبرائيل (عليه السلام) على الأشهر): ﴿تَنَزَّلُ ٱلمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمرٖ﴾[4].

7. ليلة نزول الملائكة والروح على صاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه): عن الإمام الجواد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقول لأصحابه: آمنوا بليلة القدر، إنّها تكون لعليّ بن أبي طالب وولده الأحد عشر من بعدي»[5].

8. ليلة عرض الأعمال بين يدي صاحب العصر والزمان(عجل الله تعالى فرجه): كما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «... إنّ الناس في تلك الليلة في صلاةٍ ودعاءٍ ومسألةٍ، وصاحب هذا الأمر في شُغل، تنزل الملائِكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها،

 


[1] سورة الفرقان، الآيات 4-6.

[2]  سورة القدر، الآية 1.

[3] سورة القدر، الآية 5.

[4] سورة القدر، الآية 4.

[5] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، كمال الدين وتمام النعمة، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1405ه - 1363 ش، لا.ط، ص281.

 

130


125

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر

من كلّ أمرٍ سلام هي إلى أن يطلع الفجر»[1]. وعليه، فلينظر كلٌّ منّا إلى ما يضعه بين يدي الحجّة القائم (عجل الله تعالى فرجه)، وإلى أيّ مدى سيرضى عنها.

9. ليلة تقدير ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام): عن المفضَّل بن عمر قال: ذُكر عند أبي عبد اللّه (عليه السلام) ﴿إِنَّآ أَنزَلنَٰهُ فِي لَيلَةِ ٱلقَدرِ﴾، فقال: «ما أبين فضلها على السور!»، قال: قلت: وأيّ شيءٍ فضلها على السور؟ قال: «نزلت ولاية أمير المؤمنين فيها»، قلت: في ليلة القدر التي نرتجيها في شهر رمضان؟

قال: «نعم، هي ليلة قدّرت فيها السماوات والأرض، وقدّرت ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فيها»[2].

10. ليلة غفران الذنوب: عن الإمام الباقر (عليه السلام): «مَن أحيا ليلة القدر غُفرت له ذنوبه، ولو كانت عدد نجوم السماء، ومثاقيل الجبال، ومكاييل البحار»[3].

 

 


[1]  الصفار، محمّد بن الحسن بن فروخ، بصائر الدرجات، تصحيح الحاج ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، إيران - طهران، 1404ه - 1362ش، لا.ط، ص240.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1379ه - 1338 ش، لا.ط، ص316.

[3]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص358.

 

131


126

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر

إحياؤها

من المستحبّات المؤكّدة إحياء ليلة القدر حتّى مطلع الفجر بالأعمال الخاصّة والعامّة الواردة في كتب الأعمال والأدعية، وبالإكثار من الصلاة والاستغفار والدعاء وقراءة القرآن. وممّا يؤشِّر إلى تلك العظمة أنّ طلب التوفيق لليلة القدر قد تكرّر في أدعية شهر رمضان، كما في دعاء: «اللّهُمَّ، بِرَحْمَتِكَ فِي الصَّالِحِينَ فَأَدْخِلْنا... وَلَيْلَةَ القَدْرِ وَحَجَّ بَيْتِكَ الحَرامِ وَقَتْلًا فِي سَبِيلِكَ فَوَفِّقْ لَنا»[1].

عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدّم من ذنبه»[2].

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «مَن وافق ليلة القدر فقامها، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر»[3].

وقد نهى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عن أن يُغفل عن ليلة إحدى وعشرين، وعن ليلة ثلاث وعشرين، ونهى أن ينام أحد تلك الليلة، كما جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام)[4].

 

 


[1] البروجردي، السيّد حسين الطباطبائي، جامع أحاديث الشيعة، المطبعة العلمية، إيران - قم، 1399ه، لا.ط، ج5، ص397.

[2] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص359.

[3]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص455.

[4]  القاضي النعمان المغربي، دعائم الإسلام، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي، دار المعارف، مصر - القاهرة، 1383ه - 1963م، لا.ط، ج1، ص281.

 

132


127

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر

حتّى مطلع فجر القائم (عجل الله تعالى فرجه)

عن أبي يحيى الصنعانيّ، عن الإمام أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «قال لي أبي محمّد: قرأ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ﴿إِنَّآ أَنزَلنَٰهُ فِي لَيلَةِ ٱلقَدرِ﴾ وعنده الحسن والحسين (عليهما السلام)، فقال له الحسين (عليه السلام): يا أبتاه، كان بها من فيك حلاوة، فقال له: يابن رسول اللّه وابني، اعلم أنّي أعلم فيها ما لا تعلم، إنّها لمّا أُنزلت بعث إليّ جدّك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقرأها عليّ، ثمّ ضرب على كتفي الأيمن، وقال: يا أخي ووصيّي ووليّي على أمّتي بعدي، وحرب أعدائي إلى يوم يبعثون، هذه السورة لك من بعدي، ولولدك من بعدك، إنّ جبرئيل أخي من الملائكة حدّث لي أحداث أمّتي في سنتها، وإنّه ليحدث ذلك إليك كأحداث النبوّة، ولها نور ساطع في قلبك وقلوب أوصيائك إلى مطلع فجر القائم (عليه السلام)»[1].

وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «يا أبا المهاجر، لا تخفى علينا ليلة القدر، إنّ الملائِكة يطوفون بنا فيها»[2].

وروى الصفّار بسنده عن بُريدة أنّه قال: كنت جالسًا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وعليّ معه، إذ قال: «يا عليّ، ألَمْ أُشهِدْك معي في سبعة

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج25، ص71.

[2] القمّيّ، عليّ بن إبراهيم بن هاشم، تفسير القمّيّ، تصحيح وتعليق وتقديم السيّد طيّب الموسويّ الجزائريّ، مؤسّسة دار الكتاب للطباعة والنشر، إيران - قمّ، 1404ه، ط3، ج2، ص290.

 

133


128

الموعظة الثامنة عشرة: ليلة القدر

مواطن: ... الموطن الخامس: ليلة القدر، خُصّصنا ببركتها، ليست لغيرنا»[1].

فلا ننسَ في هذه الليلة الدعاء للإمام (عجل الله تعالى فرجه)بالحفظ والصَون وتعجيل الفرج.

 

صبيحة يوم ليلة القدر

اعلم، أنّك في ليلة القدر قد عاهدت ربّك بأن تطيعه خير طاعة، وبأن تسلك طريق رضاه ومحبّته، فلا تغفل عن صبيحة يوم ليلة القدر، واعمل بها ما استطعت من طاعة، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «صبيحة يوم ليلة القدر مثل ليلة القدر؛ فاعمل واجتهد»[2].

 

 


[1] الصفار، بصائر الدرجات، مصدر سابق، ص242.

[2] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص751.

 

134


129

الموعظة التاسعة عشرة: سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة المخالِفين

الموعظة التاسعة عشرة: سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة المخالِفين

 

محاور الموعظة

1. مظلوميّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

2. كيف طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) بحقّه؟

 

هدف الموعظة

إيضاح مظلوميّة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسياسته في المواجهة.

 

تصدير الموعظة

يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظله): «هل كان ثمّة رجل في عصره أقوى منه، أو له مثل تلك القوّة الحيدريّة؟ لم يَتَحدَّ عليًّا (عليه السلام) أحدٌ، ولم يجرؤ أحدٌ على ادّعاء ذلك حتّى آخر حياته. هذا الإنسان نفسه كان أكبرَ أهلِ زمانه مظلوميّةً، والأكثر ظلامةً منهم، بل يُقال -وهو قول صحيح-: لعلّه أكثر إنسانٍ ظُلِم في تاريخ الإسلام. إنّ القوّة والمظلوميّة شيئان لا يجتمعان؛ فالمتعارف أنّ الأقوياء لا يُظلمون، غير أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ظُلِم!»[1].

 

 


[1] المصدر: دار الولاية للثقافة والإعلام

 

135


130

الموعظة التاسعة عشرة: سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة المخالِفين

مظلوميّة أمير المؤمنين (عليه السلام)

إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) من أبرز الشّخصيّات المظلومة في التاريخ. وقد كانت مظلوميّتُه في جوانب حياته كلّها. لقد ظُلِم في أيّام شبابه، حيث تعرّض للظلم آنذاك من بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وظُلِم في سنوات كهولته، وفي عهد خلافته، واستُشهِد مظلومًا، وظلّ من بعد استشهاده يُسَبُّ على المنابر على مدى سنواتٍ طوال، وتُنسَب إليه شتّى الأكاذيب.

وورد في التاريخ الإسلاميّ اسما شخصيَّتَين، وليُّ دمهما اللّه، فهو الذي يطلب بثأرهما: أحدهما الإمام الحسين (عليه السلام)، والآخر هو أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام): «يَا ثَارَ اَللَّهِ وَاِبْنَ ثَارِهِ»؛ أي إنّ الْمُطالب بدم أبيه هو اللّه -تعالى- أيضًا.

وفي حديث طويل، نأخذ منه هذه الكلمات العظيمة التي قالها أمير المؤمنين (عليه السلام) في آخر مناجاة له: «اَللَّهُمَّ إِنِّي سِرْتُ فِيهِمْ مَا أَمَرَنِي رَسُولُكَ وَصَفِيُّكَ، فَظَلَمُونِي، فَقَتَلْتُ اَلْمُنَافِقِينَ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَجَهِلُونِي، وَقَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّونِي، وَأَبْغَضْتُهُمْ وَأَبْغَضُونِي...»[1].

وبعد أن رجع الناس إليه، وبايعوه على السمع والطاعة له، ابتُلِيَ بأمورٍ: مِن خروج قومٍ عليه، ونكثهم لبيعته، فقادوا جماعةً من الناس لحربه وقتاله؛ ومِن تخلَّفَ معاوية عن بيعته، وإضلال الناس في بلاد الشام؛ وأعظم ما ابتُلِيَ به الإمام، فضاعف من مظلوميّته، هم قومه الذين لا يطيعونه متى دعاهم إلى أمر من الأمور، يقول (عليه السلام): 

 


[1] الأمير ورّام، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام)، مصدر سابق، ج2، ص2.

 

136


131

الموعظة التاسعة عشرة: سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة المخالِفين

«لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ، مَعْرِفَةً واللَّهِ جَرَّتْ نَدَمًا، وأَعْقَبَتْ سَدَمًا. قَاتَلَكُمُ اللّهُ! لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحًا، وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظًا، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسًا، وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ، ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ! للهِ أَبُوهُمْ! وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسًا، وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَامًا مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ، ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ»[1].

 

كيف طالب أمير المؤمنين بحقِّه؟

لم يشأ الإمام عليّ (عليه السلام) أن يقوم بأيّ حركة عسكريّة، ولم يحمل السيف ويأخذ حقَّه بقوّة السلاح؛ وذلك لأمرين:

الأوّل: لأنّه لم يجد تجاوبًا كافيًا لدى المؤيّدين له، يعني فقد الأعوان على ذلك.

الثاني: ولعلّه هو الأهمّ في نظر الإمام (عليه السلام)، وهو خشيته على الإسلام؛ لأنّه في بداية تشكُّلِه وانتشارِه، وخصوصًا خشيته على أن يرتدّ عنه أولئك الذين لَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم.

ولقد أشار النبيُّ (صلى الله عليه وآله) إلى هذَين الأمرَين في وصيّته لأمير المؤمنين (عليه السلام): «يَا أَخِي، إِنَّ قُرَيْشًا سَتَظَاهَرُ عَلَيْكَ، وَتَجْتَمِعُ كَلِمَتُهُمْ عَلَى ظُلْمِكَ وَقَهْرِكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ أَعْوَانًا، فَجَاهِدْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَانًا، فَكُفَّ يَدَكَ، وَاِحْقِنْ دَمَكَ، فَإِنَّ اَلشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ»[2].

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص70-71.

[2] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الغَيبة، تحقيق الشيخ عباد اللّه الطهرانيّ والشيخ عليّ أحمد ناصح، مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، إيران - قمّ، 1411هـ، ط1، ج1، ص334-225.

 

137


132

الموعظة التاسعة عشرة: سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة المخالِفين

وقال، وهو يوضح موقفه من السلطة عمومًا بعد بيعة عثمان: «لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ اَلنَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَاللّهِ، لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ اَلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إلّا عَلَيَّ خَاصَّةً، اِلْتِمَاسًا لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْدًا في ما تَنَافَسْتُمُوهُ، مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ»[1].

صحيحٌ أنّ مطالبة الإمام (عليه السلام) بحقّه الإلهيّ، لا الشخصيّ، لم تكن بالسيف، ولكنّ الإمام (عليه السلام) طالَبَ بحقّه، ومشى إلى المهاجرين والأنصار، وحرّضهم على الدفاع عنه، وأنهض كبار شيعته وأهل بيته لإعلان حقِّه، ممّا جعل الناس يعرفون خطأ مبادرتهم إلى البيعة.

وعلى كلّ حال، يمكن العثور على عشرات الشواهد التاريخيّة التي تؤكّد أنّ الإمام عليًّا (عليه السلام) لم يكن يرغب في تحويل الصراع إلى تنافس سياسيّ على السلطة، ولا يرضى بتصعيده إلى حرب دامية، ولا حتّى باعتزال الساحة السياسيّة، بل كان يشارك الخلفاء في كافّة الشؤون، ويلي أمورهم ويحلّ معضلاتهم.

ومن جهة ثانية، كان الخلفاء يذعنون لفضل الإمام (عليه السلام)، ويعملون بنصائحه وقضائه، ويُشيدون به في أكثر من مناسبة. وتواتر الحديث عن الخليفة الثاني، والذي قاله في موراد مختلفة: «لَوْلاَ عَلِيٌّ، لَهَلَكَ عُمَرُ»[2]. حيث قالها في أكثر من مئة مناسبة. «وكَانَ عُمَرُ يَتَعَوَّذُ بِاللّهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو اَلْحَسَنِ (عليه السلام)»[3].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، خطبة رقم 74 لَمّا عزموا على بيعة عثمان، ص102.

[2] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج1، ص311.

[3] ابن البطريق، عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1407ه، ط1، ج1، ص257.

 

138


133

الموعظة التاسعة عشرة: سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة المخالِفين

ومن الأمور المهمّة التي تبيّن أنّ الأولويّة المطلقة عند الإمام (عليه السلام) في المطالبة بالخلافة أو غيرها -كفدك مثلًا-، لم تكن لأهدافٍ شخصيّة أو أمورٍ ماليّة، أنّ أهلَ البيت (عليهم السلام) -وكما يعلم الجميع- ممّن يُعطُون ما يملكون، ويطوون لياليهم جوعًا، وكانوا دومًا ممّن يُؤْثِرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، والقرآن يشهد بذلك في سورة الدهر، ومطالبتهم بفدك لا تعني حبّهم للتملٌّك والحيازة، بل كان كشفًا لزيف الانقلابيّين، وانحرافهم عن الإسلام.

وممّا يؤكّد وظيفة فدك هذه، أنّ الإمام عليًّا (عليه السلام)، حين استلم الخلافة، لم يُعِد فدكًا إلى نفسه وولده؛ لأنّ فدكًا قد أدّت رسالتها في فضح الأدعياء المتخلِّفين الناكثين، وإعادتها يجعل منها غاية، وهي في الحقيقة ليست كذلك؛ لذا يقول (عليه السلام): «بَلَى، كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْه السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ، وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، ونِعْمَ الْحَكَمُ اللَّه! ومَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وغَيْرِ فَدَكٍ، والنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِه آثَارُهَا، وتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا، لأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ والْمَدَرُ، وسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ؟! وإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى، لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأَكْبَر، ِوتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ...»[1].

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص417.

 

139


134

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

محاور الموعظة

1. الجهاد ومعادلة النصر

2. معركة بدر والمدد الإلهيّ

3. فُزْتُ وَرَبِّ اَلْكَعْبَةِ!

هدف الموعظة

بيان مفهومَي الشهادة والنصر، ومعادلة النصر بنيل ﴿إِحدَى ٱلحُسنَيَينِ﴾[1].

تصدير الموعظة

﴿وَمَن يُقَٰتِل فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقتَل أَو يَغلِب فَسَوفَ نُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمٗا﴾[2].

 

 


[1]  سورة التوبة، الآية 52.

[2] سورة النساء، الآية 74.

 

140


135

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

الجهاد ومعادلة النصر

الجهاد من أعظم أركان الإسلام، وفيه ثواب عظيم، قال -تعالى-: ﴿لَّا يَستَوِي ٱلقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلمُؤمِنِينَ غَيرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَموَٰلِهِم وَأَنفُسِهِم فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلمُجَٰهِدِينَ بِأَموَٰلِهِم وَأَنفُسِهِم عَلَى ٱلقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلحُسنَىٰ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلقَٰعِدِينَ أَجرًا عَظِيمٗا﴾[1].

وعن الإمام الرضا، عن آبائه، عن الإمام عليّ بن الحسين (عليهم السلام): «بينما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يخطب الناسَ ويحضّهم على الجهاد، إذ قام إليه شابٌّ، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل اللّه، فقال عليّ (عليه السلام): كنت رديف رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ناقته العضباء، ونحن قافلون من غزوة ذات السلاسل، فسألته عمّا سألتني عنه، فقال: إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب اللّه لهم براءة من النار، فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى اللّه -تعالى- بهم الملائكة، فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحيّة من سلخها...»[2].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «قَالَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وآله): فَوْقَ كُلِّ ذِي بِرٍّ بَرٌّ، حَتَّى يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ، فَإِذَا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ، فَلَيْسَ فَوْقَهُ بِرٌّ»[3].

 

 


[1] سورة النساء، الآية 95.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج97، ص12.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص53.

 

141


136

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

والنصر، في المفهوم الإلهيّ، وكما تعلّمنا من الإمام الخمينيّ (قدس سره)، هو نفسه تحقيق رضا اللّه -تعالى- ونيل رضوانه. ولا يتحقّق هذا الرضا، ولا يُنال الرضوان، إلّا من خلال لزوم أمر اللّه، ودوام طاعته، كما يريد اللّه ويحبّ أن يطاع.

وبهذا المقياس للنصر، لا تعود القيمة لحجم العمل وعظم ساحة القتال، بل للهدف والنيّة والإخلاص وسلامة المنطلق وطهارة النفس، وإصابة ذلك كلّه لمواطن الرضا الإلهيّ.

وعليه، على الإنسان أن يبقى في حالة جهاد دائم، ليصل إلى إحدى الحسنيَين: النصر أو الشهادة، كما قال -تعالى-: ﴿قُل هَل تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحدَى ٱلحُسنَيَينِ وَنَحنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٖ مِّن عِندِهِۦٓ أَو بِأَيدِينَا فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾[1].

«ومعنى الآية أنّا -نحن وأنتم- كلٌّ يتربّص بصاحبه، غير أنّكم تتربّصون بنا إحدى خصلتَين، كلّ واحدة منهما خصلة حسنة، وهما: الغلبة على العدوّ مع الغنيمة، والشهادة في سبيل اللّه، ونحن نتربّص بكم أن يعذّبكم اللّه بعذاب من عنده»[2].

«والمجاهد الذي منطقه: ﴿قُل هَل تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحدَى ٱلحُسنَيَينِ﴾ -أي الوصول إلى إحدى السعادتَين: إمّا النصر أو الشهادة- هو قطعًا مجاهدٌ لا يقبل الهزيمة»[3].

 


[1] سورة التوبة، الآية 52.

[2] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج9، ص308.

[3]  المصدر نفسه، ج14، ص263.

 

142


137

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

فالأمّة المجاهدة في سبيل اللّه -تعالى- تحظى بمعادلة النصر على كلّ حال؛ فالشهادة في سبيل اللّه نصر، والفوز على العدّو نصر.

 

معركة بدر والمدد الإلهيّ

إنّ من أجمل تجلّيات النصر هو مظاهر المدد الإلهيّ والنصرة المبذولة للعباد الصادقين. فالمجاهدون الصابرون المحتسبون عندما تتحقّق منهم الاستقامة في نصرة اللّه، يتنزّل عليهم النصر الإلهيّ الذي يُتَرجَم هدايةً لهم، وفتكًا بأعدائهم، وعونًا لجندهم، يتنزّل من السماء ملائكة ورعبًا، ويكون مصداق الآية الشريفة: ﴿إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم﴾[1].

وبهذا الصدد، يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «إنَّ مع هذه الأمّة حمايةً غيبيّةً، فأنتم بالحماية الغيبيّة، إنّما تسيرون قُدُمًا، وإلّا فأنتم بأنفسكم لا تملكون الإمكانيّات لذلك... إنّ الذي كان بيد أمّتنا إنّما هو اللّه أكبر، هو الإيمان، فالإيمان ونداء اللّه أكبر هو الذي دفعكم إلى الأمام»[2].

ومن النماذج العظيمة التي ذكرها القرآن الكريم للمدد الإلهيّ، معركة بدر، وفي مقام بيان الإمدادات الغيبيّة، وذلك بإرسال الملائكة. والجميل أنّه قد صرّح أيضًا عن أعدادهم، وكمثال، نذكر هذه الآية الشريفة، حيث يقول اللّه -تعالى-: ﴿وَلَقَد نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدرٖ وَأَنتُم أَذِلَّةٞ

 


[1] سورة محمّد، الآية، 7.

[2] الاستقامة والثبات في شخصيّة الإمام، ترجمة الشيخ كاظم ياسين، مركز الإمام الخمينيّ (قدس سره) الثقافيّ، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، 115 - 116.

 

143


138

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ ١٢٣ إِذ تَقُولُ لِلمُؤمِنِينَ أَلَن يَكفِيَكُم أَن يُمِدَّكُم رَبُّكُم بِثَلَٰثَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلمَلَٰٓئِكَةِ مُنزَلِينَ ١٢٤ بَلَىٰٓ إِن تَصبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأتُوكُم مِّن فَورِهِم هَٰذَا يُمدِدكُم رَبُّكُم بِخَمسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلمَلَٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾[1].

تحدّثَت هذه الآيات الشريفة عن معركة بدر، التي كانت أوّل الحروب الإسلاميّة، وفي بدايات تشكيل المجتمع الإسلاميّ، حيث كان المسلمون، من ناحية العديد والعتاد، في أضعف حالاتهم، وقد أشار القرآن أيضًا لهذه الحالة بقوله -تعالى-: ﴿وَأَنتُم أَذِلَّةٞ ﴾. ففي مثل هذه الحالة، نجد أنّه من الطبيعيّ أن يقلق المسلمون من مواجهة معسكر الكفّار بجيشٍ ضعيف، بل كان هذا القلق يكبر عند مشاهدتهم لجيش العدوّ وتجهيزاته؛ لأنّ الكفّار كانوا آنذاك ثلاثةَ أضعاف جيش الإسلام.

لكنّ اللّه نادى، في وسط هذه الحال، رسولَه الكريم (صلى الله عليه وآله)، بأنّني سوف أمدّكم بثلاثة آلاف ملكٍ لنصرتكم، وإذا اقتضى الأمر إرسال المزيد، فسنرسله لكم. وفي نهاية المعركة، كان النصر للمسلمين في معركة بدر بمساعدة المدد الإلهيّ بإرسال أفواج الملائكة، وتَحقَّق نصرٌ قرّت به أعين المسلمين جميعًا.

ثمّ تتابع الآيات الشريفة ذِكْرَ سبب النصر والمدد الإلهيّ، مُوضِحةً بأنّ اللّه -تعالى- قد كافأ المسلمين نتيجة صبرهم وتقواهم. والنكتة المهمّة هنا تكمن في الإلفات إلى أنّ شرط النصر الإلهيّ كان هو

 

 


[1] سورة آل عمران، الآيات 123 - 125.

 

144


139

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

ثبات المسلمين، ورعايتهم لشرط التقوى، وفي صورة تحقُّق هذا الشرط، فإنّ اللّه -تعالى-، وعلى أساس الحكمة والمصلحة الربّانيّة، لن يخذلهم، ولن يترك نصرتهم.

 

فُزْتُ وَرَبِّ اَلْكَعْبَةِ!

إن كلّ لحظة من حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) معبَّدةٌ بالعطاء والتضحية والجهاد والعمل المتواصل في سبيل الرسالة الإلهيّة، وفي خدمة مصالح الآخرين وإسعادهم. ومَن هو في مقام الإمام عليّ (عليه السلام) وعلمه، يعلم ما معنى أن تكون خاتمة حياة المؤمن الفوز بالشهادة في سبيل اللّه مظلومًا؛ ولهذا عاش وهو ينتظر تلك اللحظة، أمنيّة الفوز بالشهادة في سبيل خالقه ورسالته والإنسانيّة.

 

145


140

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

 

محاور الموعظة

1. المؤمنون إخوة

2. الصداقة

3. من لوازم الأخوّة

 

هدف الموعظة

تعرّف عظمة الأخوّة والصداقة في الإسلام وأثرها على النفس والمجتمع.

 

تصدير الموعظة

﴿إِنَّمَا ٱلمُؤمِنُونَ إِخوَةٞ فَأَصلِحُواْ بَينَ أَخَوَيكُم وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ﴾[1].

 

 


[1] سورة الحجرات، الآية 10.

 

146


141

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

المؤمنون إخوة

عدّ اللّه -سبحانه- المؤمنين -بصريح القرآن الكريم- إخوةً، فقال: ﴿إِنَّمَا ٱلمُؤمِنُونَ إِخوَةٞ﴾. وقد تصدّرت الآيةَ أداةُ الحصر ﴿إِنَّمَا﴾ للدلالة على حصر الرابطة بين المؤمنين بالأخوّة. فالإخوة في الدين ينبغي أن يكونوا بمنزلة الإخوة في النسب، فيسود بينهم التراحم والتعاطف، ويجب لهم وعليهم ما يجب للإخوة النسبيّين وما يجب عليهم. وقد أكّد الإمام العسكريّ (عليه السلام) هذا المعنى بقوله: «المؤمن أخو المؤمن لأمّه وأبيه»[1].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه، ولا يغشّه، ولا يعده عدةً فيخلفه»[2].

وعنه (عليه السلام): «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئًا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإنّ روح المؤمن لأشدّ اتصالًا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها»[3].

ذكر بعضُ النحويّين في تسمية الأخ أخًا: «سُمِّي الأَخُ أَخًا؛ لأنَّ قَصْدَه قَصْدُ أَخِيهِ»[4]. فعلى الإخوة أن يبقوا المودّة قائمةً بينهم؛ بأن يتصادقوا، ويتزاوروا، ويتبارّوا، ويتواصلوا، ويدخلوا السرور على بعض، وأن يقضوا حوائج بعضهم بعضًا.

 

 


[1] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج3، ص527.

[2]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص166.

[3] المصدر نفسه.

[4] الزبيدي، تاج العروس، تحقيق علي شيري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1994م، لا.ط، ج19، ص144.

 

147


142

الموعظة العشرون: الجهاد بين النصر والشهادة

وقد ندبت الشريعة الغرّاء إلى الاستكثار من إخوان الصدق، فعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «استكثروا من الإخوان؛ فإنّ لكلّ مؤمن شفاعة يوم القيامة»[1].

 

وكذلك، حثّت على إبقاء رابطة المودّة بين الإخوان، فـ «لا يكون أخوك أقوى منك على مودّته»[2]، و«إن لم تحبّ أخاك، فلست أخاه»[3]، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

 

الصداقة

على المؤمن أن يصادق أخاه المؤمن، ويحنّ إليه، ويأنس به، ويتّخذه سندًا له، يلبّيه عند الحاجة، ويجده في الملمّات، ويعينه على البرّ والإحسان.

 

و«إنّما سُمِّي الصديق صديقًا؛ لأنّه يصدقك في نفسك ومعايبك»[4]، كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، والصديق «مَن وقاك بنفسه، وآثرك على ماله وولده وعرسه»[5].

 

و«لا تكون الصداقة إلّا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منه، وإلّا فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة، فأوّلها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية: أن يرى زينك زينه، وشينك

 

 


[1]  الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، مصادقة الإخوان، اشراف السيّد على الخراساني الكاظمي، مكتبة الإمام صاحب الزمان العامة، لا.ت، لا.ط، ص46.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص165.

[3]  المصدر نفسه، ج74، ص414.

[4]  الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص178.

[5] المصدر نفسه، ص71.

 

148


143

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

شينه، والثالثة: أن لا تغيّره عليك ولاية ولا مال، والرابعة: لا يمنعك شيئًا تناله مقدرته، والخامسة -وهي تجمع هذه الخصال-: أن لا يسلمك عند النكبات»[1].

واعلم أنّ «الصديق أقرب الأقارب»[2]، و«أفضل الذخرَين»[3]، و«من لا صديق له لا ذخر له»[4]، و«لقد عظمت منزلة الصديق، حتّى أهل النار ليستغيثون به، ويدعون به في النار قبل القريب الحميم، قال اللّه مخبرًا عنهم: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَٰفِعِينَ ١٠٠ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٖ﴾[5]»[6].

 

من لوازم الأخوّة

1. مَن سرّ مؤمنًا

إدخال السرور على المؤمن من لوازم الأخوّة، فعلى الأخ أن يُسرّ أخاه، سواء من خلال قضاء حاجته المادّيّة أو مدّ يد العون له، أو تنفيس كربته، أو من خلال الكلام اللطيف والليّن.

 

ولأهمّيّة إدخال السرور على المؤمن، وللتشجيع عليها وبيان فضلها، كان إدخال السرور على المؤمن إدخالًا للسرور على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، بل على اللّه كذلك، ويا لها من غبطة ومنّة!

 

 


[1] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول(صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص366.

[2] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص50.

[3] التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمّد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيّد مهدي رجائي‏، نشر دار الكتاب الإسلاميّ‏، إيران- قم‏، 1410ه‏، ط2، ص89.

[4] المصدر نفسه، ص636.

[5] سورة الشعراء، الآيتان 100-101.

[6] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، مصدر سابق، ص517.

 

149


144

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «مَن سرّ مؤمنًا فقد سرّني، ومَن سرّني فقد سرّ اللّه»[1].

 

وعن رجل من أهل الريّ: ولي علينا بعضُ كتّاب يحيى بن خالد، وكان عليَّ بقايا يطالبني بها... وقيل لي إنّه ينتحل هذا المذهب... فاجتمع رأيي على أن هربت إلى اللّه -تعالى-، وحججت، ولقيت مولاي الصابر [يعني الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)]، فشكوت حالي إليه، فأصحبني مكتوبًا نسخته: «بسم اللّه الرحمن الرحيم، اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلًّا لا يسكنه إلّا مَن أسدى إلى أخيه معروفًا، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سرورًا، وهذا أخوك والسلام»، قال: فعدت من الحجّ إلى بلدي، ومضيت إلى الرجل ليلًا، واستأذنت عليه وقلت: رسول الصابر (عليه السلام)، فخرج إليّ حافيًا ماشيًا، ففتح لي بابه وقبّلني وضمّني إليه، وجعل يُقبِّل بين عينيّ ويكرّر ذلك كلّما سألني عن رؤيته (عليه السلام)، وكلّما أخبرته بسلامته وصلاح أحواله استبشر وشكر اللّه، ثمّ أدخلني داره، وصدّرني في مجلسه، وجلس بين يديّ، فأخرجت إليه كتابه (عليه السلام)، فقبّله قائمًا وقرأه، ثمّ استدعى بماله وثيابه، فقاسمني دينارًا دينارًا، ودرهمًا درهمًا، وثوبًا ثوبًا، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كلّ شيء من ذلك يقول: يا أخي، هل سررتُك؟ فأقول: إي واللّه، وزدتَ عليَّ السرور، ثمّ استدعى العامل، فأسقط ما كان باسمي، وأعطاني براءةً ممّا يتوجّبه عليّ منه، وودّعته وانصرفت عنه.

 

فقلت: لا أقدر على مكافأة هذا الرجل إلاّ بأن أحجّ في قابل،

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص188.

 

150


145

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

وأدعو له، وألقى الصابر (عليه السلام)، وأعرّفه فعله، ففعلت، ولقيت مولاي الصابر (عليه السلام)، وجعلت أحدِّثه ووجهه يتهلّل فرحًا، فقلت: يا مولاي، هل سرّك ذلك؟ فقال: «إي واللّه، لقد سرّني وسرّ أمير المؤمنين، واللّه لقد سرّ جدّي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، ولقد سرّ اللّه -تعالى-»[1].

 

2. مَن نفّس عن مؤمنٍ كُربةً

وفي التفريج عن المؤمن، جاء عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «مَن نفّس عن أخيه المؤمن كربةً من كُرَب الدنيا، نفّس اللّه عنه سبعين كربةً من كُرَب الآخرة»[2]، وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «من فرّج عن مؤمن فرّج اللّه عن قلبه يوم القيامة»[3].

 

3. زوّار الله

في زيارة المؤمنين بعضهم بعضًا إحياءٌ لقلوبهم، وزيادةٌ في المودّة بينهم، وذكرٌ لأحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «تزاوروا، فإنّ في زيارتكم إحياءً لقلوبكم، وذكرًا لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإنْ أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم»[4].

 

وعنه (عليه السلام): «مَن زار أخاه في اللّه، قال اللّه -عزّ وجلّ-: إيّاي زرت، وثوابك عليّ، ولست أرضى لك ثوابًا دون الجنّة»[5].

 


[1]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج13، ص132.

[2]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج71، ص312.

[3] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج11، ص587.

[4]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص186.

[5] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الجواهر السنية، لا.ن، لا.م، 1384ه - 1964م، لا.ط، ص660.

 

151


146

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

4. كسوة المؤمن

كسوة الإنسان أمرٌ ضروريٌّ، ومن أبسط لوازم العيش والحياة. والإنسان الذي لا يمتلك ثوبًا يكسي به جسده حاله مزرية، وهو بحاجة ماسّة إلى العون والمدد.

وقد جاء في ثواب كسوة الأخ أخاه الأجر العظيم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف، كان حقًّا على اللّه أن يكسوه من ثياب الجنّة، وأن يهوّن عليه سكرات الموت، وأن يوسّع عليه في قبره، وأن يلقى الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى، وهو قول اللّه -عزّ وجلّ- في كتابه: ﴿وَتَتَلَقَّىٰهُمُ ٱلمَلَٰٓئِكَةُ هَٰذَا يَومُكُمُ ٱلَّذِي كُنتُم تُوعَدُونَ﴾[1]»[2].

 

وعنه (عليه السلام): «مَن كسا أحدًا من فقراء المسلمين ثوبًا من عري، أو أعانه بشيء ممّا يقوته من معيشته، وكّل اللّه -عزّ وجلّ- به سبعة آلاف ملك من الملائكة، يستغفرون لكلّ ذنب عمله إلى أن يُنفخ في الصور»[3].

 

5. قضاء حاجة الإخوان

أمّا قضاء حاجة المؤمن فهي شرفٌ عظيم، ورتبةٌ رفيعة، لا يوفّق لها إلّا بتوفيقٍ واختيار من اللّه -سبحانه-. وقد كان أهل البيت (عليهم السلام) يقضون الحوائج، حتّى كان بعضهم (عليهم السلام) يُلقّب بـ «قاضي الحوائج».

 


[1] سورة الأنبياء، الآية 103.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص204.

[3] محمّد تقي المجلسيّ، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج9، ص407.

 

152


147

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «اللّه في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه»[1]، وعنه (عليه السلام): «مَن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه -عزّ وجلّ- له يوم القيامة مئة ألف حاجة»[2].

وعلى الأخ أن يبادر إلى قضاء حاجة أخيه دون أن يُلجئه إلى طلبها منه، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «لا يكلِّف أحدُكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته»[3].

أمّا من لم يقضِ حاجة أخيه ولم يجِره، فقد عرّض نفسه للخسران والحرمان، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرًا به في بعض أحواله، فلم يجره بعد أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية اللّه -عزّ وجلّ-»[4].

في الختام، لا بدّ من الإلفات إلى أنّ التواصل بين الإخوة لا يقتصر على التزوار والتلاقي؛ ففي هذه الظروف التي حكم فيها الوباء على الناس بالتزام منازلهم والتباعد الاجتماعيّ، لا ينبغي للمؤمن أن يقطع صلته بإخوته المؤمنين، بل يمكن له أن يبقى على اتّصال معهم، ولو عبر وسائل التواصل الحديثة والمعاصرة.

 

 


[1] الفيض الكاشانيّ، الوافي، مصدر سابق، ج5، ص672.

[2]  الشيخ الصدوق، مصادقة الإخوان، مصدر سابق، ص52.

[3] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص105.

[4]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص367.

 

153


148

الموعظة الحادية والعشرون: المودّة بين الإخوة

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «اللّه في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه»[1]، وعنه (عليه السلام): «مَن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه -عزّ وجلّ- له يوم القيامة مئة ألف حاجة»[2].

وعلى الأخ أن يبادر إلى قضاء حاجة أخيه دون أن يُلجئه إلى طلبها منه، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «لا يكلِّف أحدُكم أخاه الطلب إذا عرف حاجته»[3].

أمّا من لم يقضِ حاجة أخيه ولم يجِره، فقد عرّض نفسه للخسران والحرمان، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن قصد إليه رجل من إخوانه مستجيرًا به في بعض أحواله، فلم يجره بعد أن يقدر عليه، فقد قطع ولاية اللّه -عزّ وجلّ-»[4].

في الختام، لا بدّ من الإلفات إلى أنّ التواصل بين الإخوة لا يقتصر على التزوار والتلاقي؛ ففي هذه الظروف التي حكم فيها الوباء على الناس بالتزام منازلهم والتباعد الاجتماعيّ، لا ينبغي للمؤمن أن يقطع صلته بإخوته المؤمنين، بل يمكن له أن يبقى على اتّصال معهم، ولو عبر وسائل التواصل الحديثة والمعاصرة.

 

 


[1] الفيض الكاشانيّ، الوافي، مصدر سابق، ج5، ص672.

[2]  الشيخ الصدوق، مصادقة الإخوان، مصدر سابق، ص52.

[3] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص105.

[4]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص367.

 

153


149

الموعظة الثانية والعشرون: الوحدة في الرؤية القرآنيّة

الموعظة الثانية والعشرون: الوحدة في الرؤية القرآنيّة

 

محاور الموعظة

1. المساواة الإنسانیّة والأخوّة الإسلامیّة

2. الوحدة في القرآن

3. علاقة المسلم مع غير المسلمين

 

هدف الموعظة

تعزيز وحدة المجتمع الإيمانيّ من خلال بيان الأُسس التي تحكم العلاقة بين الناس.

 

تصدير الموعظة

﴿إِنَّ هَٰذِهِۦ أُمَّتُكُم أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا رَبُّكُم فَٱعبُدُونِ﴾[1].

 


[1] سورة الأنبياء، الآية 92.

 

154


150

الموعظة الثانية والعشرون: الوحدة في الرؤية القرآنيّة

المساواة الإنسانیّة والأخوّة الإسلامیّة

إنّ محتوى العلاقة التي یطرحها القرآن الکریم بين الناس تعتمد على أمرَین، هما: المساواة، والأخوّة.

 

وینبغی-دائمًا- تقویم أساس هذه العلاقة، وتشخیص مضمونها ومحتواها؛ الأمر الذی یجعل العلاقة الاجتماعیّة قائمة على أساس نظرة واقعیّة لحقيقة الإنسان وقيمته من ناحية، وطبيعة العلاقة الاجتماعيّة وتَکَوُّن البنية الاجتماعيّة من ناحية أخرى.

 

وفی هذا المجال، يُقيم الإسلام أفضل العلاقات بين الناس، على أساس أنّهم «متساوون» و«متکافئون» في الأصل، وأنّ بعضهم هو نظير بعضهم الآخر؛ فلا يمتاز أحدهم، بالأصل، على الآخرين، کما قال النبیّ الکريم (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لِآدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ، وَلَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ فَضْلٌ إلّا بِالتَّقْوَى»[1]. وإنّما تنشأ الاختلافات والامتيازات لعوامل وأسباب طارئة، تنشأ من حرکة الإنسان والمجتمع؛ بعضها حقّة وصحيحة، مثل: الامتياز بـ‍ «التقوى»، «العلم»، «الجهاد»... وبعضها باطلة وغير واقعيّة، مثل: الامتياز بکثرة الأموال والأولاد، أو القدرة والسلطة المادّيّة... وأمّا طبيعة العلاقة الاجتماعيّة التی يجب أنْ يقوم عليها البناء الاجتماعيّ ومحتواها، فهی علاقة الأُخوّة الإسلاميّة والإيمانيّة، وهي أيضًا علاقة مساواة بين أبناء المجتمع الذي يقوم على أساس الإسلام والعقيدة الإسلاميّة.

 


[1] الشعيري، محمّد بن محمّد، جامع الأخبار، المطبعة الحيدرية، العراق - النجف، لا.ت، ط1، ج1، ص183.

 

155


151

الموعظة الثانية والعشرون: الوحدة في الرؤية القرآنيّة

قال -تعالى-: ﴿إِنَّمَا ٱلمُؤمِنُونَ إِخوَةٞ﴾[1].

عن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن خطبة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في مسجد الخيف: «الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، تَتَكَافَى دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»[2].

فالمسلمون إخوةٌ، يتکافؤون ويتساوون في قیمتهم المعنويّة؛ وفي الوقت نفسه، فإنّ أواصر العلاقة والصلة بينهم تکون شبيهة بالأواصر والصلات التی تربط بين الناس عندما يکونون من أب وأُمّ واحدة. وبذلك، وضع الإسلام الصلة والعلاقة في العقيدة، اجتماعيًّا، موضعَ الصلة والعلاقة النسبيّة التکوينيّة (الأُخوّة)، وفي قيمتها وأهمّيّتها.

ولم يغفل عن العلاقة بالآخر، التي قوامها العلاقة الإنسانيّة، کما يُفهَم ذلك من قول الإمام عليّ (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر: «وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَاَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاَللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعًا ضَارِيًا تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ»[3].

الوحدة في القرآن

المنطلق الأساس لفهم معنى الوحدة هو قول اللّه -تعالى-: ﴿وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَٱذكُرُواْ نِعمَتَ ٱللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَآءٗ فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِۦٓ إِخوَٰنٗا وَكُنتُم عَلَىٰ شَفَا

 

 


[1] سورة الحجرات، الآية 10.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص404.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص426-427.

 

156


152

الموعظة الثانية والعشرون: الوحدة في الرؤية القرآنيّة

حُفرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُم ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ﴾[1].

ومفهوم الوحدة في هذه الآیة له جانبان: إیجابيّ، وهو الأمر بالاعتصام بحبل اللّه -تعالى-: ﴿وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا﴾، وسلبيّ، وهو النهي عن التفرُّق: ﴿وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾.

والأسلوب التربویّ المعتمد في الآیة هو أسلوب التذکیر بالنعم والنعمة الإلهیّة الکبرى، وهی الوحدة والاتّحاد بین أبناء المجتمع، التي حصلت بعد الإسلام وبعثة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإنّ تَرْك ذلك سیؤدّي -بشکل طبیعيّ، ضمن السنن الکونیّة الإلهیّة- للرجوع إلى المجتمع الجاهليّ، حیث قال -تعالى-: ﴿وَٱذكُرُواْ نِعمَتَ ٱللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَآءٗ فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِۦٓ إِخوَٰنٗا﴾.

ولهذا الأسلوب آثار إيجابيّة جمّة، فعندما يذکر الإنسان النعم الإلهيّة، يُصبح شکورًا حامدًا، وتزداد محبّته لله -تعالى-.

یقول الإمام الخمینيّ (قدس سره): «لقد أمر اللّه -تبارك وتعالى- بالاجتماع والاعتصام بحبل اللّه: ﴿وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا﴾. أمر بالاجتماع والتمسُّك بحبل اللّه، إذ لیس کلّ اجتماع مطلوبًا، بل الاعتصام بحبل اللّه هو المطلوب، والأمر ذاته بالنسبة إلى ﴿ٱقرَأ بِٱسمِ رَبِّكَ﴾[2]. اسم الربّ هو هذا الحبل الذي یجب على الجمیع أن یعتصموا به. ادعوا الناس إلى الوحدة، ادعوهم لئلّا یتشتّتوا فئات وجماعات»[3].

 

 


[1] سورة آل عمران، الآية 103.

[2] سورة العلق، الآية 1.

[3] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج8، ص259.

 

157


153

الموعظة الثانية والعشرون: الوحدة في الرؤية القرآنيّة

علاقة المسلم مع غير المسلمين

يتجلّى مبدأ الوحدة في الرؤیة القرآنیّة من خلال النقاط الآتية:

تأکيد القرآن الکريم على وحدة الجنس البشريّ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلنَٰكُم شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ ٱللَّهِ أَتقَىٰكُم إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾[1].

تأکيد القرآن الکريم على وحدة الأديان السماويّة الحقّة: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوحَينَآ إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِۦٓ إِبرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓ أَن أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾[2].

وقد رسمت الآيات القرآنيّة مسارًا دقيقًا في تعامل المسلمين مع غيرهم، وهو الأصل في أيّ علاقة مع غير المسلم، ما لم يکنْ کافرًا حربيًّا، وهي:

المسار الأوّل: وهو يقوم على أساس المصلحة الاجتماعيّة والخير الإنسانيّ بين المسلمين وغيرهم من أهل العقائد والأديان، يقول -تعالى-: ﴿لَّا يَنهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَم يُقَٰتِلُوكُم فِي ٱلدِّينِ وَلَم يُخرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقسِطُوٓاْ إِلَيهِم إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلمُقسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُم فِي ٱلدِّينِ وَأَخرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُم وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخرَاجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ﴾[3].

 

 


[1] سورة الحجرات، الآية 13.

[2] سورة الشورى، الآية 13.

[3] سورة الممتحنة، الآيتان 8-9.

 

158


154

الموعظة الثانية والعشرون: الوحدة في الرؤية القرآنيّة

المسار الثاني: تأصيل ثقافة الحوار أو الجدال بالتي هی أحسن مع الآخر، وليس ثقافة العدوان، قال -تعالى-: ﴿وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهلَ ٱلكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنهُم وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَينَا وَأُنزِلَ إِلَيكُم وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُم وَٰحِدٞ وَنَحنُ لَهُۥ مُسلِمُونَ﴾[1].

فالنبيّ ما بُعِثَ إلّا رحمةً للعالَمين: ﴿وَمَآ أَرسَلنَٰكَ إِلَّا رَحمَةٗ لِّلعَٰلَمِينَ﴾[2].

 

 


[1] سورة العنكبوت، الآية 46.

[2] سورة الأنبياء، الآية 107.

 

159


155

الموعظة الثالثة والعشرون: أثر الإيمان في حياة الأفراد

الموعظة الثالثة والعشرون: أثر الإيمان في حياة الأفراد

 

محاور الموعظة

1. قيمة الإيمان وأثره في حياة المؤمن

2. الكافر وأعماله يوم القيامة، وأثر عدم الإيمان

3. تأثير الإيمان في كلام العلّامة الطباطبائيّ

 

هدف الموعظة

تعرّف قيمة الإيمان ومدى تأثيره في حياة الإنسان.

 

تصدير الموعظة

﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعتَصَمُواْ بِهِۦ فَسَيُدخِلُهُم فِي رَحمَةٖ مِّنهُ وَفَضلٖ وَيَهدِيهِم إِلَيهِ صِرَٰطٗا مُّستَقِيمٗا﴾[1].

 

 


[1] سورة النساء، الآية 175.

 

160


156

الموعظة الثالثة والعشرون: أثر الإيمان في حياة الأفراد

قيمة الإيمان وأثره في حياة المؤمن

إنّ الإيمان باللّه -تعالى- هو أعلى وأغلى القيم في الإسلام، وهو مفتاح السعادة الحقيقيّة للإنسان؛ لأنّ سعادة الإنسان الحقيقيّة تتحدّد بمقدار سعة إيمانه وأدائه للأعمال الصالحة.

 

فكلّما كان إيمان الإنسان أقوى وأرسخ وأثبت في النفس، كانت أعماله أصلح، والعكس صحيح؛ أي كلّما كان إيمانه باللّه -تعالى- أضعف، كانت أعماله ضعيفة وهزيلة بمقدار ضعف إيمانه؛ لأنّه يفتقد الملاك الأساس للمكفاءة والمجازاة يوم القيامة، وهو الإيمان. نعم، قد يكافئه اللّه -تعالى- في هذه الدنيا، أمّا في عالم الحقائق وانكشاف الأسرار، فإنّه سيكون خالي الوفاض. والذي يراجع مئات الآيات القرآنيّة الكريمة، ومثلها من الروايات الشريفة، يستنتج، وبشكل واضح، أنّ الإيمان والعمل الصالح هما الملاك الأساس لسعادة الإنسان. فالقرآن الكريم قَرَنَ، وبشكل دائم، الإيمانَ بالعمل الصالح، وقد وردت كلمة «وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» عشرات المرّات مقرونةً بالإيمان، كما في قوله -تعالى-: ﴿وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُم جَنَّٰتٖ تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ﴾[1]، وقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ أَصحَٰبُ ٱلجَنَّةِ هُم فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾[2]، ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُمۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾[3]، وغيرها من الآيات الشريفة.

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 25.

[2] سورة البقرة، الآية 82.

[3] سورة آل عمران، الآية 57.

 

161


157

الموعظة الثالثة والعشرون: أثر الإيمان في حياة الأفراد

الكافر وأعماله يوم القيامة وأثر عدم الإيمان

وفي المقابل، الإنسان الكافر لا يقبل اللّهُ -تعالى- منه أيَّ عمل؛ لأنّه يفتقد الملاك الأساس لقبول الأعمال، وهو الإيمان باللّه -تعالى-. وقد ذكر اللّه -تعالى- هذا المعنى بشكل واضح وصريح، ومن ذلك قوله -تعالى-: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم أَعمَٰلُهُم كَرَمَادٍ ٱشتَدَّت بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَومٍ عَاصِفٖ لَّا يَقدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيءٖ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلبَعِيدُ﴾[1]. «فأعمال الإنسان الكافر أشبه بحفنة من رماد اشتدَّت بها الريح في يوم عاصف. يعني أعمالهم التي يعملونها مثل رماد اشتدَّت به الرِّيح وحملته وطيّرته في يوم عاصف؛ أي شديدةٌ ريحُه، لا يقدرون يوم القيامة -ممّا كسبوا من أعمالهم- على شيء، لحبوطه، فلا يرون له أثرًا من الثواب، وذلك يعني ضلالهم مع حسبانهم أنّهم يحسنون، هو الضلال البعيد لكونهم في غاية البعد عن طريق الحقِّ، فقد شَبَّه أعمالَهم -في سقوطها وحبوطها؛ لبنائها على غير أساس من الإيمان باللّه وبرسوله وبالأئمّة (عليهم السلام)- بالرماد المذكور، في عدم إمكان ردِّه بعدما طيّرته الرياح العاصفة»[2].

 

 


[1] سورة إبراهيم، الآية 18.

[2] المازندرانيّ، المولى محمّد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعراني، ضبط وتصحيح السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1421ه - 2000م، ط1، ج5، ص144. (بتصرّف)

 

162


158

الموعظة الثالثة والعشرون: أثر الإيمان في حياة الأفراد

تأثير الإيمان في كلام العلّامة الطباطبائيّ

أمّا تأثير الإيمان، فقد بيّنه العلّامة الطباطبائيّ -رضوان اللّه عليه- في تفسيره الميزان: «فمن يُثبت للكون ربًّا يبتدئ منه وسيعود إليه، وللإنسان حياة باقية لا تبطل بموت ولا فناء، يسير في الحياة سيرةً يراعي في الأعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية، والتنعُّم في الدار الآخرة الخالدة... ومَن لا يهتمّ بأمر الربوبيّة، ولا يرى للإنسان حياة خالدة، كالمادّيّين ومَن يحذو حذوَهم، يبني سُنَّة الحياة والقوانين الموضوعة الجارية في مجتمعه على أساس التمتُّع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت... فالإيمان الذي يتعلَّق به الدعوة، هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحقّ باللّه -سبحانه- ورسله واليوم الآخر وما جاءت به رسله، وهو علمٌ عمليّ»[1].

 

أثر الإيمان على الإنسان

الأثر العلميّ

فتح الإسلام، بنوره، النوافذَ المغلقة أمام عقل الإنسان الجاهليّ، الذي لم يكن له سابق عهد بأبسط العلوم والمعارف التي جاء بها الإسلام العظيم. دَفَعَهُ إلى تعقُّل ما في هذا الكون الفسيح من قوى وأسرار، وطلب منه التأمُّل في أقطار السماوات والأرض؛ ممّا ساعد على ميلاد حركة علميّة ومعرفيّة استفاد منها العلماء، منذ فجر الإسلام إلى يومنا، في مختلف مجالات الحياة.

 

 


[1] راجع: العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج15، ص8-9.

 

163


159

الموعظة الثالثة والعشرون: أثر الإيمان في حياة الأفراد

قال -تعالى-: ﴿هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبدِهِٓ ءَايَٰتِ بَيِّنَٰتٖ لِّيُخرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُم لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾[1]

ويحثّ الإيمان على العلم، ويفضّل أهلَه، قال -تعالى-: ﴿يَرفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُم وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلعِلمَ دَرَجَٰتٖ وَٱللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرٞ﴾[2].

وعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّة... وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ»[3].

 

الأثر العمليّ

ويظهر هذا الأثر واضحًا في أخلاق المؤمن وسلوكه.

وفي الحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ أَكْمَلَ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا»[4].

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ. وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ‏، فَإِنْ أَجَابَهُ، وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه‏»[5].

الأثر النفسيّ

عندما يذكر المؤمن ربَّه، ويتّصل بالقوّة الإلهيّة، يتبدّد خوفُه، ويتغلَّب على ضعفه، ويطمئنّ قلبه، قال -تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ ٱللَّهِ أَلَا بِذِكرِ ٱللَّهِ تَطمَئِنُّ ٱلقُلُوبُ﴾[6].

 

 


[1] سورة الحديد، الآية 9.

[2] سورة المجادلة، الآية 11.

[3] الأحسائيّ، ابن أبي جمهور، عوالي اللآلي، مصدر سابق، ج1، ص358.

[4] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 74، ص151.

[5]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص539.

[6] سورة الرعد، الآية 28.

 

164


160

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

أضف إلى ذلك أنّ الإيمان يؤدّي إلى الأنس والراحة النفسيّة، فيبدِّدُ بذلك الشعور بالعزلة، فمن خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام): «اللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الْآنِسِينَ لِأَوْلِيَائِك‏... إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ، آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ، وَإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ، لَجَؤُوا إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ، عِلْمًا بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِك‏...»[1].

 

أثره في تكوين شخصيّة المؤمن

الإيمان يشكّل محطّة انطلاق أمام الإنسان إلى ذرى المجد والرفعة؛ لكونه يزوّدُه بالقيم والمثل، ويساعده على ضبط نفسه وجوارحه.

في الحديث: «قِيلَ لِلُقْمَان (عليه السلام): أَلَسْتَ عَبْدَ آلِ فُلَان؟ قَالَ: بَلَى، قِيلَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا نَرَى؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي، وَغَضُّ بَصَرِي، وَكَفُّ لِسَانِي، وَعِفَّةُ طَعْمَتِي، فَمَنْ نَقصَ عَنْ هَذَا، فَهُوَ دُونِي، وَمَنْ زَادَ عَلَيْهِ، فَهُوَ فَوْقِي، وَمَنْ عَمِلَهُ، فَهُوَ مِثْلِي».[2]

ثمّ إنّ الإيمان يوفّر للفرد العزّة والمكانة والكرامة: قال -تعالى-: ﴿ وَلِلَّهِ ٱلعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلمُؤمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلمُنَٰفِقِينَ لَا يَعلَمُونَ﴾[3].

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اللّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فَوَّضَ إِلَى الْمُؤْمِنِ أُمُورَهُ كُلَّهَا، وَلَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلًا»[4].

 

 


[1]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص349.

[2] السيّد البروجورديّ، جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج13، ص506.

[3] سورة المنافقون، الآية 8.

[4]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص63.

 

165


161

الموعظة الثالثة والعشرون: أثر الإيمان في حياة الأفراد

الإيمان والبلاء

إنّ للإيمان أثرًا مهمًّا في ثبات المؤمن وصبره عند الشدائد والبلاءات، فارتباط الإنسان باللّه يجعله في حالة من السكينة والاطمئنان، ويجعله على يقينٍ من أنّ اللّه -تعالى- بيده كلّ شيء، وأنّه القادر على نصر المؤمنين ونجاتهم. كذلك، فإنّ المؤمن يعتقد اعتقادًا جازمًا بأنّ كلّ ما يصيبه من بلاءات، وإن كان ظاهرها النقمة، فإنّ في باطنها الرحمة.

 

166

 


162

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

 

محاور الموعظة

1. الصوم بين العبادة والعادة

2. الصوم تثبيت الإخلاص وتقوية الإرادة

 

هدف الموعظة

تعرّف حكمة الصوم، وبيان فضله وآثاره.

 

تصدير الموعظة

عن السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): «فَرَضَ اللّهُ اَلصِّيَامَ تَثْبِيتًا لِلْإِخْلاَصِ»[1].

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص368.

 

167


163

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

الصوم بين العبادة والعادة

من أخطر الأمور على العبادات، أن تتحوّل إلى عادات يمارسها المكلَّف في حياته العاديّة، من دون الالتفات إلى الأهداف الرئيسة لتشريع العبادات، بل يمكن القول: إنّه عندما تتحوّل العبادات في حياتنا، بحكم التكرار، إلى عادة، تتعطّل وظيفتُها، وتفقد روحَها وحقيقتَها، ويضعف أثرُها في صناعة الإنسان صناعةً ربّانيّة، وتضيع الأهدافُ التي من أجلها شُرِّعت، فلا تعود الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا الصدقة تطهيرًا للمال وتزكيةً للنفس، ولا الصيام سبيلًا لتقوية الإرادة، ولا الحجّ صياغةً لولادةٍ جديدة، بل تصبح تلك الشعائرُ طقوسًا فارغةً من الجوهر والمضمون.

ولا بدّ للمكلَّف من أن يستعيد حقيقة العبادات، وأن يُفعِّلها في حياته العمليّة. ومن هذه العبادات الصوم، فعليه تحقيق أهداف الصوم؛ لكي لا نكون ممّن يدخل الشهر بالجوع والعطش، ولا يخرج منه بغير ذلك.

فالصيام، شرعًا، هو الكفُّ عن المفطرات -والتي بعضُها مباحٌ بالأصل، كالأكل والشرب- من الفجر حتّى الغروب.

وهو فعلٌ ذو تأثيرٍ تهذيبيٍّ على النفس، يظهر على الجوارح سلوكًا إراديًّا واعيًا، كما جاء في الدعاء الشريف: «اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ، خَيْرِ اَلْأَسْمَاءِ، اَلَّتِي تُنْزِلُ بِهَا اَلشِّفَاءَ، وَتَكْشِفُ بِهَا اَلْأَدْوَاءَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى محمّد وَآلِ محمّد، وَأَنْ تُنْزِلَ عَلَيَّ مِنْكَ عَافِيَةً وَشِفَاءً، وَتَدْفَعَ عَنِّي بِاسْمِكَ كُلَّ سُقْمٍ وَبَلاَءٍ، وَتَقَبَّلَ صَوْمِي، وَتَجْعَلَنِي مِمَّنْ

 

168


164

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

صَامَتْ جَوَارِحُهُ، وَحَفِظَ لِسَانَهُ وَفَرْجَهُ، وَتَرْزُقَنِي عَمَلًا تَرْضَاهُ، وَتَمُنَّ عَلَيَّ بِالسَّمْتِ وَاَلسَّكِينَةِ وَوَرَعًا يَحْجُزُنِي عَنْ مَعْصِيَتِكَ، يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ»[1]، فهو تدريبٌ للنفس على الانضباط والالتزام، وتجاوزٌ لأنانيّة الذات إلى الغيريّة والعطاء وتحسّس آلام الآخرين من الفقراء والمعوزين، واستشعار حاجاتهم، وترويضٌ للنفس على التحلّي بمعالي الخصال، والاهتمام بجواهر الأمور، دون سفاسفها.

 

وهذا يعني أنّ أحد الأهداف الرئيسة للصوم هو تقوية الإرادة؛ لأنّ هذا معنى تحريم بعض الأمور التي كانت مباحة، كالأكل والشرب وما شابه ذلك.

 

وتتجلّى تقوية الإرادة في مدرسة الصوم في أنّ الصوم، في حقيقته، هو مواجهةٌ مع رغبات النفس وطلباتها، وهو الجهاد الأكبر؛ لذا نجد أنّ كلّ لحظة في الصوم لها قيمة عظيمة، وأثر الصوم يطال كلّ حركة وسكنة للصائم، فنومه عبادة، ونفسه تسبيح، وعمله مقبول، كما قال (صلى الله عليه وآله): «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَللَّهِ بِالْبَرَكَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَاَلْمَغْفِرَةِ، شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اَللَّهِ أَفْضَلُ اَلشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ اَلْأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اَللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ اَلسَّاعَاتِ، هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اَللَّهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اَللَّهِ، أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ»[2].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص22.

[2]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج10، ص313.

 

169


165

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

ولأنّ الصوم يمثّل أعلى درجات جهاد النفس، فله أجرٌ لا يحصيه إلّا اللّه -تعالى-، كما ورد في الحديث القدسيّ، عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: كُلُّ عَمَلٍ لِبَنِي آدَمَ اَلْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ، إِلّا اَلصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أُجْزَى بِهِ؛ يَتْرُكُ اَلطَّعَامَ بِشَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِي، هُوَ لِي، وَأَنَا أُجْزَى بِهِ؛ وَيَتْرُكُ اَلشَّرَابَ بِشَهْوَتِهِ لِأَجْلِي، هُوَ لِي، وَأَنَا أُجْزَى بِهِ؛ لَخُلُوفُ فَمِ اَلصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اَللَّهِ رَائِحَةً مِنَ اَلْمِسْكِ!»[1].

 

الصوم تثبيت الإخلاص وتقوية الإرادة

فِي خُطْبَةِ السيّدة فَاطِمَةَ (عليها السلام) فِي أَمْرِ فَدَكَ: «فَرَضَ اللّهُ اَلصِّيَامَ تَثْبِيتًا لِلْإِخْلاَصِ»[2].

 

الصوم يختلف عن أيّ عبادة أخرى، كالصلاة والحجّ؛ فكلّها تحتاج إلى حركات خاصّة، أمّا الصوم، فهو لا يحتاج فيه إلى أداء حركات محدّدة للدلالة عليه، وإنّما هو حضورٌ داخليٌّ واعٍ بما هو عليه من الصيام، والتزامٌ بما يقتضيه. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «...وَالصِّيَامَ ابْتِلاَءً لِإِخْلاَصِ الْخَلْقِ»[3]. فعملٌ كهذا، لا تكاد تجد فيه مكانًا للرياء؛ ولهذا شرّعه اللّه تثبيتًا للإخلاص، كما ورد عن السيدة الزهراء (عليها السلام).

وتظهر ثمرة الصوم في قوّة الإرادة، والقدرة على التحكّم في الشهوات، وتحسُّس حاجات الفقراء وأحوالهم، وقد اختصرها القرآنُ

 

 


[1]  الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج7، ص503.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج93، ص368.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص512.

 

170


166

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

بقوله: ﴿لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ﴾[1]،  فليس هناك أفضل من شهر رمضان دورةً لتقوية الإرادة. ومن تقوية الإرادة، نصل لثمرة الصيام، وهي التقوى. والتقوى: جعل النفس في وقاية ممّا يُخاف. والتقوى، في عرف الشرع، حفظ النفس عمّا يُؤثم، وذلك بترك المحظور، ويتمّ ذلك بترك بعض المباحات[2].

وعُرِّفَت بــ «وقاية النفس من عصيان أوامر اللّه ونواهيه وما يمنع رضاه»، أو «حفظ النفس حفظًا تامًّا عن الوقوع في المحظورات، بترك الشبهات»، فقد رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبهاتِ، ارتكبَ المُحَرَّمات، وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُ»[3]، «فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الحِمى، أوشكَ أَنْ يَقَعَ فيهِ»[4].

وقد سُئِل الإمام الصادق (عليه السلام) عن تفسير التقوى، فقال: «أَنْ لاَ يَفْقِدَكَ اَللَّهُ حَيْثُ أَمَرَكَ، وَلاَ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ»[5].

ولكي ينجح الإنسان المؤمن في هذا الأمر، فهو يحتاج إلى إرادة قويّة، وهمّة عالية.

فالإرادة لا تعني فقط أن تريد شيئًا وتقرّر اختياره، بل لا بدّ من أن تصرّ على تنفيذه والوصول به إلى خواتيمه. وإنّ الوصول إلى هذه الإرادة القويّة، فإنّ أهمّ جسر عبور لذلك، وأعظم مدرسة روحيّة

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 183.

[2]  الراغب الأصفهانيّ، مفردات ألفاظ القرآن، مصدر سابق، ص881.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص68.

[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج27، ص167.

[5]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج67، ص285.

 

171


167

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

في هذا المجال، هي مدرسة الصوم، وهذه المدرسة هي التي تُقَوّي الإرادة لنستمر على الطاعة، وعلى الخوف من اللّه -سبحانه وتعالى-.

فالصيام من أقوى العبادات التي تهذِّب النفوسَ، وتسمو بالأرواح، وتُقوّي الإرادة؛ لِما فيه من مجاهدةٍ للنفس، والتخلُّق بالأخلاق الفاضلة، والتحلّي بالصبر، والعمل على كبح جماح الشهوات، مع الحرص على أداء الطاعات وهجر المعاصي والمنكرات. فالصيام يُعلِّم الناسَ كيف يترفّعون عن مظاهر الحيوانيّة، التي غاية همِّها الأكل والشرب وإشباع الغريزة. يعلّمهم الصومُ كيف يسمون بأنفسهم إلى مستوى تغبطهم الملائكة عليه. والصائم، إذا قويت إرادته، سيتحكّم في نفسه، ويتغلَّب على هواه، ويقاوم شهواته، فالصيام يُعَدُّ فرصةً رائعةً لتقوية الإرادة.

 

الصبر والصيام

عن الإمام الصادق(عليه السلام) في قول اللّه -عزّ وجلّ-: ﴿وَٱستَعِينُواْ بِٱلصَّبرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ﴾[1]، قال: «الصبر الصيام»[2].

الصيام الذي هو كفّ النفس عن ميولها ورغباتها وما تشتهيه، يعلّم الناس الصبر والتحمّل والقدرة، فالإنسان الذي يصوم في شهر اللّه متحمّلًا الجوع والعطش، ومانعًا نفسه عمّا تشتهي من أصناف المباحات طيلة شهرٍ كامل، ثمّ تأتي الفرحة بالعيد، عليه أن يعلم أيضًا أنّ ثمّة فرحة كبيرة بعد صبره على البلاءات والشدائد ﴿وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾[3]،

 

 


[1] سورة البقرة، الآية 45.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص64.

[3]  سورة البقرة، الآية 155.

 

172


168

الموعظة الرابعة والعشرون: تقوية الإرادة في مدرسة الصوم

وعليه أن يغتنم فرصة شهر الصيام، شهر الصبر، لكي يقوى على تحمّل الصعاب ويتخطّاها بإذن اللّه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إذا نزلت الرجل النازلة أو الشدّة فليصم؛ فإنّ اللّه -عزّ وجلّ- يقول: ﴿وَٱستَعِينُواْ بِٱلصَّبرِ﴾[1] يعني الصيام»[2].

 


[1] سورة البقرة، الآية 45.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج4، ص64.

 

173


169

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

 

محاور الموعظة

1. السعي

2. الكدّ

3. الهمّة

 

هدف الموعظة

إيضاح منزلة العمل ورفعة العامل عند اللّه وفي المجتمع.

 

تصدير الموعظة

عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثماليّ: «اللّهُمَّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ، وَالفَشَلِ، وَالهَمِّ، وَالجُبْنِ، وَالبُخْلِ، وَالغَفْلَةِ، وَالقَسْوَةِ، وَالمَسْكَنَةِ، وَالفَقْرِ، وَالفاقَةِ، وَكُلِّ بَلِيَّةٍ، وَالفَواحِشِ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ»[1].

 


[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص333.

 

174


170

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

كثيرة هي المفاهيم الإسلاميّة التي حثّت المؤمن على عدم اليأس والاستسلام أمام العوائق والصعوبات التي تواجهه، وأمام ظروف الحياة وضغوطاتها، فدعت إلى السعي وبذل الجهد، والكدّ، وعلوّ الهمّة، والإيمان بقدرة الإنسان على النجاح وتجاوز العوائق والمحن، والعيش بعزّة وكرامة.

 

السعي

الإسلام دينٌ يؤمن بفاعليّة الإنسان، ويحبّ السعي في طلب الرزق الحلال وفي قضاء الحوائج بالعمل وبذل الجهد، ويبغض من يكون كسولًا ولا يتكرّر منه السعي.

 

والإنسان الذي لا يسعى، تفوته الفرص، ويتحسّر عليها، أمّا من هو في حالة سعيٍ دؤوب فقد يدرك الفرصة ويغتنمها، ويكون له مغنمها، يقول -تعالى- حاثًّا على إدراك فضيلة صلاة الجمعة وأجرها وثوابها قبل فوات وقتها: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَومِ ٱلجُمُعَةِ فَٱسعَواْ إِلَىٰ ذِكرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلبَيعَ ذَٰلِكُم خَيرٞ لَّكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ﴾[1].

 

ويعلّمنا اللّه -سبحانه- من خلال فريضة الحجّ سرًّا من أسرار السعي بين الصفا والمروة، من خلال العودة إلى خلفيّتهما التاريخيّة، فالنبيّ إبراهيم (عليه السلام) بعد أن رزقه اللّه، من جاريته هاجر، «إسماعيل»، لم تطق «سارة»، زوجته الأولى، الحالة الجديدة، وقد رُزق إبراهيم (عليه السلام) ولدًا من غيرها؛ فأمر اللّه إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأمّ إلى مكّة،

 

 


[1] سورة الجمعة، الآية 9.

 

175


171

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

حيث الأرض القاحلة المجدبة آنذاك، ويسكنهما هناك. امتثل إبراهيم أمر ربّه، وأسكنهما في تلك الأرض، وهَمّ بالرجوع، فضجّت زوجته بالبكاء! إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟! بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع، هزّ إبراهيم من الأعماق، فناجى إبراهيم (عليه السلام) ربّه قائلًا: ﴿رَّبَّنَآ إِنِّيٓ أَسكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ ٱلمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجعَل أَف‍ِٔدَةٗ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهوِيٓ إِلَيهِم وَٱرزُقهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَٰتِ لَعَلَّهُم يَشكُرُونَ﴾[1]، ثمّ ودّع زوجه وطفله. لم يمضِ وقت طويل حتّى نفد طعام الأمّ وماؤها، وجفّ لبنها. بكاء الطفل أضرم في نفس الأمّ نارًا، ودفعها إلى أن تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتّجهت أوّلًا إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثرًا، فلفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة»، فأسرعت إليه، فوجدته سرابًا! ثمّ رأت عند «المروة» بريقًا لدى «الصفا»، أسرعت إليه فما وجدت شيئًا! وهكذا جالت سبع مرات بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء. وفي النهاية، وبعد أن أشرف الطفل على الموت، انفجرت عند رجليه فجأةً عين زمزم، فشرب الطفل وأمّه، ونجيا من الموت المحقّق.

الماء، رمز الحياة، وانفجار العين جرّ الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض، والقوافل شاهدت حركة الطيور، فاتجهت هي -أيضًا- نحو الماء، وببركة هذه العائلة تحوّلت أرض مكّة إلى مركز حضاريّ عظيم.

السعي بين الصفا والمروة يعلّمنا أن نعيش دائمًا أمل النجاح

 


[1] سورة إبراهيم، الآية 37.

 

176


172

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

والانتصار، حتّى في أشدّ لحظات الشدّة، فهاجر بذلت سعيها، وجاءها رزق اللّه من حيث لا تحتسب[1]، وبقي علينا أن نحقّق السعي حتّى ننال بركاته.

 

الكدّ

الكدّ والكدح أشدُّ السعي، والشدّة في العمل وطلب الكسب، وهو ممدوح في الشريعة؛ إذ به يكفي الإنسانُ نفسَه، ويكفّها عن الناس.

ولقد كان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) يكدّون في العمل، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا تكسلوا في طلب معايشكم؛ فإنّ آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها»[2].

 

وعنه (عليه السلام): «إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أنّ مثل عليّ بن الحسين يدع خَلَفًا -لفضل عليّ بن الحسين- حتّى رأيتُ ابنه محمّد بن عليّ، فأردت أن أعظه فوعظني.

 

فقال له أصحابه: بأيّ شيءٍ وعظك؟

 

قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيت محمّد بن عليّ وهو متّكئ على غلامين له، فقلت في نفسي: شيخ من شيوخ قريش، في هذه الساعة، على هذه الحال في طلب الدنيا! أشهد لأعظنّه! فدنوت منه، فسلّمت عليه، فسلّم علي ببهر[3]، وقد

 


[1]  انظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب اللّه المنزل، مصدر سابق، ج1، ص452-453.

[2] الفيض الكاشانيّ، الوافي، مصدر سابق، ج17، ص36.

[3]  البهر: تتابع النفس.

 

177


173

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

تصبّب عرقًا، فقلت: أصلحك اللّه، شيخ من أشياخ قريش، في هذه الساعة، على مثل هذه الحال في طلب الدنيا! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحال؟!

 

قال: فخلّى عن الغلامين من يده، ثمّ تساند، وقال: لو جاءني -واللّه- الموت وأنا على هذه الحال، جاءني وأنا في طاعةٍ من طاعات اللّه، أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصيةٍ من معاصي اللّه.

 

فقلت: يرحمك اللّه! أردت أن أعظك فوعظتني»[1].

 

وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ مِنَ الرِّزْقِ مَا يُيَبِّسُ الْجِلْدَ عَلَى الْعَظْمِ»[2]. وفي هذا دلالة على أنّ تحصيل الرزق الحلال لقلّته قد يحتاج إلى الكدّ والجهد الكبيرَين.

 

الهمّة

الهمّة هي العزم الجازم المتأكّد في تحصيل الإنسان ما ينبغي أن يحصّله من تعرّف الأمور واختيارها، والنظر في مصادرها ومواردها، وتحديق البصيرة نحو الأمور المعقولة، وإرسال الوهم والخيال وسائر الحواسِّ نحو المعاني والصور المحسوسة المعيّنة لدرك المقاصد والمطالب، مع التألّم والغمّ والهمّ بسبب فقدها[3].

 

 


[1]  انظر: المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد، تحقيق مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1414ه - 1993م، ط2، ج2، ص162.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص318.

[3] المولى المازندراني، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج3، ص270.

 

178


174

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

وبالهمّة يرتقي الإنسان من الحضيض إلى أوج الكمال، ويخرج من الذلّة إلى العزّة. و«قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِه»[1]، «ولا شرف كبُعد الهمّة»[2]، و«كمال الرجل بستّ خصال: بأصغرَيه وأكبرَيه وهيئتَيه، فأمّا أصغراه: فقلبه ولسانه، إن قاتل قاتل بجنان، وإن تكلّم تكلّم بلسان، وأمّا أكبراه: فعقله وهمّته، وأمّا هيئتاه: فماله وجماله»[3].

 

وبوجود الهمّة يتحقّق اليأس، بل عزّ اليأس عمّا في أيدي الناس، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال لجابر بن يزيد الجعفيّ: «واطلب بقاء العزّ بإماتة الطمع، وادفع ذلّ الطمع بعزّ اليأس، واستجلب عزّ اليأس ببعد الهمّة»[4].

 

وإنّ مَن لم تعرف الهمّة طريقًا إليه، وكان حظّه الفتور والخمول، فلن يصل إلى معالي الأمور، فقد جاء في الخبر: «ثلاث يحجزن المرء عن طلب المعالي: قصر الهمّة، وقلّة الحيلة، وضعف الرأي»[5].

 

وأخيرًا، ليكن سعينا وكدّنا وهمّتنا في تحصيل رضا اللّه -سبحانه-، ونيل القرب منه، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات يوم جالس مع أصحابه يعبّئهم للحرب، إذ أتاه شيخ عليه شحبة السفر، فقال: أين أمير المؤمنين؟ فقيل: هو ذا، فسلّم عليه، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين، إنّي أتيتك من ناحية الشام،

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص477.

[2]  الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص286.

[3] الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مصدر سابق، ص150.

[4] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج12، ص69.

[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص231.

 

179


175

الموعظة الخامسة والعشرون: عقيدة العمل

وأنا شيخ كبير، قد سمعت فيك من الفضل ما لا أحصي، وإنّي أظنك ستُغتال، فعلّمني ممّا علّمك اللّه.

قال (عليه السلام): نعم يا شيخ، مَنِ اعتدل يوماه فهو مغبون، ومن كانت الدنيا همّته اشتدّت حسرته عند فراقها...»[1].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص478.

 

180


176

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

 

محاور الموعظة

1. العملُ جهادٌ آخر

2. أهل البيت والأنبياء (عليهم السلام) والعمل باليد

3. تارك العمل لا دعوة له

4. الزراعة خير مصاديق كسب اليد

5. الاعتماد على النفس

 

هدف الموعظة

بيان أهمّيّة عمل اليد، والتشجيع عليه، والتحذير من عواقب تركه.

 

تصدير الموعظة

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدحٗا فَمُلَٰقِيهِ﴾[1].

 

 


[1] سورة الانشقاق، الآية 6.

 

181


177

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

العملُ جهادٌ آخر

منح الإسلامُ العاملَ مكانةً متميِّزة؛ لما للعمل من قيمة مهمّة بالنسبة إلى الإنسان؛ إذ كلَّما سعى الإنسان وجدّ وكدّ وكدح، وزاد نشاطه، برزت استعداداته، وقويت شخصيّته. وعليه، على الإنسان أن يعمل ويبذل الجهد، ويتحمّل المسؤوليّة.

ولأهمّيّة العمل، كان النبيّ (صلى الله عليه وآله)، مع ما له عظمة ومنزلة، يُقبّل يد العامل؛ فقد جاء في التاريخ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندما عاد إلى المدينة بعد غزوة تبوك، استقبله أحد الصحابة، فصافحه النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ثمّ سأله: «ما هذا الذي أرى بيدك؟»، قال: من أثر المَرّ[1] والمسحاة، أضرب وأنفق على عيالي، فقبّل (صلى الله عليه وآله) يده! وقال: «هذه يدٌ لا تمسّها النار»[2].

وقد تناول الإمام الخمينيّ (قدس سره) قصّة تقبيل النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ليد أحد العمّال في كلمته للعمّال، قائلًا: «انظروا إلى تلك المكانة التي وضعها الإسلام لكم، ولا بدّ من أنّكم سمعتم ما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) من أنّه قبّل يد العامل؛ أي تلك اليد التي أصبحت خشنة بسبب العمل، وهذه الحادثة تعكس مكان العامل على طول التاريخ، فالنبيّ الأكرم الذي هو أعظم إنسان كامل، وهو أوّل أفراد الإنسان، تواضعَ للعامل بهذا الشكل، وقبّل يده التي هي علامة على العمل. وقد قبّل باطن اليد لا ظهر اليد، وهذه ملاحظة مهمّة؛ إذ إنّ آثار العمل تظهر في باطن اليد، وإنّه يريد من ذلك أن يبيّن قيمة

 

 


[1] أداة تُستخدم في حفر الأرض.

[2] الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد، مصدر سابق، ج7، ص354.

 

182


178

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

العمل لبني الإنسان، ويقول للمسلمين: إنّ قيمة العمل تتجلّى هناك حيث عمل العامل، وقد ظهرت علامة بسبب العمل، وأنا أقبّل ذلك المكان لكي تدرك الشعوب الإسلاميّة والبشريّة قيمة هذا العمل»[1].

 

ولقد عظُم أجر العامل في الإسلام فكان كأجر المجاهد في سبيل اللّه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه»[2]، بل قد يزيد على أجر المجاهد، كما عن الإمام الرضا (عليه السلام): «الذي يطلب من فضل اللّه -عزَّ وجلَّ- ما يكفّ به عياله، أعظم أجرًا من المجاهد في سبيل اللّه!»[3].

 

أهل البيت والأنبياء (عليهم السلام) والعمل باليد

عمِل أهل البيت والأنبياء (عليهم السلام) بأيديهم، وهم القدوة والأسوة، فرسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان يرقع ثوبه ويخصف نعله، ويحلب شاته، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله[4].

 

عن الإمام الصادق (عليه السلام): «كانَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) يَحتطِبُ ويَستقِي ويَكنِسُ، وكانتْ فاطمةُ (عليها السلام) تَطحَنُ وتَعجِنُ وتَخبُزُ»[5].

 

 


[1] راجع: الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج‏16، ص180.

[2]  الفيض الكاشانيّ، الوافي، مصدر سابق، ج17، ص97.

[3]  الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص88.

[4] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، سنن النبيّ (صلى الله عليه وآله) (مع ملحقات)، تحقيق وإلحاق الشيخ محمّد هادي الفقهيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قم، 1419، لا.ط، ص117.

[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص86.

 

183


179

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

وكذلك كان الإمامان الصادق والكاظم (عليهما السلام) يجهدان في العمل، فعن أبي عمرو الشيبانيّ: رأيتُ أبا عبد اللّه (عليه السلام) وبيده مسحاةٌ، وعليه إزارٌ غليظٌ يعمل في حائطٍ له، والعرقُ يتصابُّ عن ظهرهِ، فقلتُ: جُعِلتُ فداك! أعطني أكفِكَ، فقال (عليه السلام) لي: «إنِّي اُحبُّ أنْ يَتأذَّى الرّجُلُ بِحرِّ الشَّمسِ في طَلبِ المعيشَةِ»[1].

 

وعن عليّ بن أبي حمزة: رأيتُ أبا الحسن (عليه السلام) يعمل في أرضٍ له، وقد استنقعت قدماه في العرَق، فقلت: جُعِلتُ فداك! أين الرجال؟ فقال (عليه السلام): «يا عَليُّ، قَد عَملَ بِاليدِ مَن هُو خيرٌ مِنّي في أِرضِهِ، ومِن أبي». فقلت: ومَن هو؟ فقال: «رَسولُ اللّهُ (صلى الله عليه وآله) وأَميرُ المؤمِنينَ (عليه السلام)، وآبائي كُلُّهُم كانوا قَد عَملُوا بأَيدِيهِم، وهُو مِن عَملِ النَّبييِّنَ والْمُرسَلينَ والأوصياءِ والصّالِحينَ»[2].

 

أَكرِم نفسك

إنّ العمل باليد يحفظ للإنسان كرامته وعزّته، ولا يجعله في معرض الحاجة إلى الناس والطلب منهم، مع ما في الطلب من بذلٍ لماء الوجه وإظهار لذلّ السؤال في وجه السائل.

 

لذا، لا ينبغي للإنسان أن يخجل من العمل، مهما كان نوعه؛ إذ المهمّ هو الاستغناء عن سؤال الناس والحاجة إليهم، فبذلك يحفظ الإنسان عزّه وكرامته، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) لمولًى له: «يا عبدَ 

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص76.

[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، تصحيح السيّد هاشم الرّسولي، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1404ه - 1363ش، ط2، ج19، ص19.

 

184


180

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

اللّهِ، احفظْ عِزَّكَ». قال: وما عزِّي؟ جُعِلتُ فداك! قال (عليه السلام): «غُدُوُّكَ إلى سُوقِكَ، وإكرامُكَ نَفسَكَ»[1].

 

رُوي عن زرارة: أنّ رجلًا أتى الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال له: إنّي لا أُحسن أن أعمل عملًا بيدي، ولا أُحسن أن أتّجر، وأنا محارفٌ[2] محتاجٌ! فقال له الإمام (عليه السلام): «اعْمَلْ، فَاحمِلْ على رَأسِكَ، واسْتغنِ عَن النّاسِ، فإنَّ رَسولَ اللّهِ (صلى الله عليه وآله) قَد حَمَلَ حَجَرًا عَلى عُنُقِهِ، فَوَضَعَهُ في حائطٍ مِن حيطانِهِ...»[3].

 

تارك العمل لا دعوة له

إنّ ترك الكسب ليس من الإسلام في شيء، وقد حذّر الأئمّة (عليهم السلام) شيعتهم من ذلك، فعن عليّ بن عبد العزيز أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) سأله: «ما فعل عمر بن مسلم؟»، فأجابه: جُعِلتُ فداك! أقبل على العبادة، وترك التجارة. فتألّم الإمام (عليه السلام) وأزعجه ذلك! واندفع يقول: «ويحه! أما علِم أنّ تارك الطلب لا تُستجاب له دعوة؟!»[4].

 

وسأل العلاء بن كامل الإمامَ الصادق (عليه السلام) أن يدعو له اللّه في أن يرزقه في دعة[5]، ويوسّع عليه، فقال له الإمام (عليه السلام): «لا أدعو لك، اطلب كما أمرك اللّه»[6].

 

 


[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج17، ص13.

[2] المحارف: المحروم.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص76.

[4] الحرّ العامليّ، الشيخ محمّد بن الحسن، هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة (عليهم السلام)، تحقيق ونشر مجمع البحوث الإسلاميّة، إيران - مشهد، 1412ه، ط1، ج6، ص13.

[5] أي في راحة.

[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج5، ص78.

 

185


181

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

الزراعة خير مصاديق كسب اليد

نظر الإسلام إلى الزراعة نظرةً بالغة الأهمّيّة؛ كونها من العناصر الرئيسة التي تتوقّف عليها حياة الناس، فدعا إليها وحثّ عليها، وقد قام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بنفسه يغرس النخل. وكذلك عمل أمير المؤمنين والأئمّة (عليهم السلام) في الزراعة؛ ليؤكّدوا للمسلمين أنّ العمل والإنتاج من ضروريّات الحياة.

 

وقد ورد العديد من النصوص الحاثّة عليها، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «سُئل النبيّ (صلى الله عليه وآله): أيّ الأعمال خير؟ فقال: زرعٌ يزرعه صاحبه وأصلحه، وأدّى حقّه يوم حصاده»[1].

 

وسأل رجل الإمامَ الصادق (عليه السلام): جُعِلتُ فداك! أسمع قومًا يقولون: إنّ الزراعة مكروهة؟ فقال (عليه السلام): «ازرعوا، واغرسوا، فلا واللّه، ما عمِل الناس عملًا أحلّ ولا أطيب منه»[2].

 

ودخل (صلى الله عليه وآله) على أمّ مبشر الأنصاريّة في نخل لها، فقال (صلى الله عليه وآله) لها: «من غرس هذا النخل، أمسلم أم كافر؟»، فأجابته: بل مسلم، فقال (صلى الله عليه وآله): «لا يغرس مسلم غرسًا، لا يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان أو دابّة أو سبع، إلّا كانت له به صدقة»[3].

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص431.

[2] الفيض الكاشانيّ، الوافي، مصدر سابق، ج17، ص130.

[3] البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، دار الفكر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج6، ص137.

 

186


182

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

عدم الاعتماد على الناس

يقول -تعالى-: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسعَهَا لَهَا مَا كَسَبَت وَعَلَيهَا مَا ٱكتَسَبَت﴾[1]، وقال: ﴿كُلُّ نَفسِ بِمَا كَسَبَت رَهِينَةٌ﴾[2]، وقال أيضًا: ﴿وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعيَهُۥ سَوفَ يُرَىٰ﴾[3].

 

تُبيّن هذه الآيات الثلاث مدى أهمّيّة تحمّل المسؤوليّة الشخصيّة، وقيمة أفعال الإنسان بالنسبة إليه، حيث إنّ تبعات الأفعال الصالحة أو الطالحة لكلٍّ منّا إنّما تعود عليه نفسُه، وأنّ سعادة الفرد رهينة عمله.

 

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِه»[4].

 

في المقابل، نهي الإسلام كثيرًا عن الاعتماد على الناس، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس. ومن لم يرجُ الناس في شيء، وردّ أمره إلى اللّه -عزّ وجلّ- في جميع أموره، استجاب اللّه -عزّ وجلّ- له في كلّ شيء»[5].

 

وفي الختام، ينبغي الإشارة إلى السعي للخروج من ثقافة الاستهلاك، والرجوع إلى الإنتاج المحلّي قدر المستطاع، خصوصاً في ظلّ ما نعيشه من حجر والتزامٍ في البيوت، فبعد انتشار الوباء، يجدر

 


[1] سورة البقرة، الآية 286.

[2] سورة المدّثّر، الآية 38.

[3] سورة النجم، الآيتان 39-40.

[4]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص477، الحكمة 47.

[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص148.

 

187


183

الموعظة السادسة والعشرون: بركة عمل اليد

بالإنسان إعادة النظر في اعتماده على الأمور الجاهزة والسريعة من الأسواق، والعمل على تخصيص وقتٍ لإنتاج ما يحتاجه في بيته بنفسه، من خلال الاعتماد على الزراعة وإعداد المؤن وما شاكل؛ فإنّ لذلك أثرًا كبيرًا من الناحية الصحّيّة والمادّيّة في الدنيا، وأجرًا عظيمًا في الآخرة كما مرّ في الروايات.

 

 

188


184

الموعظة السابعة والعشرون: مركزيّة القدس في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

الموعظة السابعة والعشرون: مركزيّة القدس في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

 

محاور الموعظة

1. المسجد الأقصى في القرآن والروايات

2. قدسيّة المسجد الأقصى

3. بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى

4. القدس والأقصى في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

 

هدف الموعظة

الحثّ على تعزيز الارتباط بالقدس والأقصى، وبيان مكانتهما في الثقافة الإسلاميّة.

 

تصدير الموعظة

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره): «إنّ يوم القدس يومٌ عالميّ، وليس يومًا يخصّ القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعَفين للمستكبرين»[1].

 


[1] من كلمة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بتاريخ 16/7/1979م.

 

189


185

الموعظة السابعة والعشرون: مركزيّة القدس في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

المسجد الأقصى، من المساجد الكبيرة والمقدَّسة عند المسلمين، وأولى القبلتَين في الإسلام. وهو وجهة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في رحلته المعروفة باسم الإسراء والمعراج. ويقع المسجد داخل البلدة القديمة بالقدس في فلسطين.

 

المسجد الأقصى في القرآن والروايات

ذُكِر اسم المسجد الأقصى صريحًا في القرآن الكريم، بقوله -تعالى-: ﴿سُبحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسرَىٰ بِعَبدِهِۦ لَيلٗا مِّنَ ٱلمَسجِدِ ٱلحَرَامِ إِلَى ٱلمَسجِدِ ٱلأَقصَا ٱلَّذِي بَٰرَكنَا حَولَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِن ءَايَٰتِنَآ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ﴾[1].

 

«أوحى اللَّه إلى عبده ورسوله بتلك الدروس في عظمة الكون وخلق السماوات والأرض، خَصَّه من دون الخلق أجمعين برحلة أرضيّة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ورحلة سماويّة من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى»[2]. الحديث عن الإسراء جاء في سورة الإسراء، أمّا الحديث عن المعراج، فقد جاء في سورة النجم.

 

للمسجد الأقصى عدّة أسماء، منها:

المسجد الأقصى: وكلمة «الأقصى» تعني الأبعَد، وسُمِّي الأقصى للبعد ما بينه وبين المسجد الحرام.

بيت المَقدِس: وهو الاسم الذي كان متعارَفًا عليه قبل أن يُطلَق

 

 


[1] سورة الإسراء، الآية 1.

[2] مغنيّة، الشيخ محمّد جواد، التفسير الكاشف، دار العلم للملايين، لبنان - بيروت، 1978م، ط2، ج5، ص12.

 

190


186

الموعظة السابعة والعشرون: مركزيّة القدس في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

عليه اسم المسجد الأقصى في القرآن الكريم، وهذا الاسم هو المستَخدَم في مُعظم أحاديث النبيّ (صلى الله عليه وآله)، مثل ما قاله يوم الإسراء والمعراج: «حَتَّى أَتَيْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ...»[1].

 

قدسيّة المسجد الأقصى

أوّلًا: كان لمسجد الأقصى في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) أهمّيّةً خاصّة، إذ كان القبلة الأولى للمسلمين بعد هجرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة المنوَّرة عام 1هـ، فقد كان المسلمون يتوجّهون إلى المسجد الأقصى في صلواتهم، ومكثوا على ذلك مدّةً من الزمن؛ في بعض الروايات 7 أشهر، وفي بعضها 16 شهرًا، وأكثرها 17 شهرًا[2].

 

ورُويَ عَنِ الإمام اَلصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: «تَحَوَّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى اَلْكَعْبَةِ بَعْدَ مَا صَلَّى اَلنَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) بِمَكَّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ. وَبَعْدَ مُهَاجَرَتِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ، صَلَّى إِلَى بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ، قَالَ: ثُمَّ وَجَّهَهُ اَللَّهُ إِلَى اَلْكَعْبَةِ...»[3].

 

ثانيًا: استحباب الصلاة في المسجد الأقصى

وعن أمير المؤمنين عَلِيٍّ (عليه السلام): «صَلاَةٌ فِي بَيْتِ اَلْمَقْدِسِ تَعْدِلُ أَلْفَ صَلاَةٍ، وَصَلاَةٌ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْأَعْظَمِ تَعْدِلُ مِئَةَ أَلْفِ صَلاَةٍ، وَصَلاَةٌ فِي

 


[1] النيسابوريّ، أبو عبد اللّه الحاكم، المستدرك على الصحيحين، إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشليّ، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج4، ص606.

[2] ينظر: الشهيد الأوّل، محمّد بن مكيّ العامليّ، ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، إيران - قمّ، 1419ه، ط1، ج3، ص155-156.

[3] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج1، ص414.

 

191


187

الموعظة السابعة والعشرون: مركزيّة القدس في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

مَسْجِدِ اَلْقَبِيلَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلاَةً، وَصَلاَةٌ فِي مَسْجِدِ اَلسُّوقِ تَعْدِلُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ صَلاَةً، وَصَلاَةُ اَلرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ تَعْدِلُ صَلاَةً وَاحِدَةً»[1].

 

بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى

المسجد الأقصى يشبه المسجد الحرام من وجوه:

1. إنّهما في الشرق.

2. يرجع تاريخ كلٍّ منهما إلى عهد قديم، إلّا أنّ المسجد الحرام أقدمُ وأعظمُ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلعَٰلَمِينَ﴾[2].

3. إنّ كلًّا من الكعبة ومدينة القدس، التي فيها المسجد الأقصى، قد أسَّسها وأنشأها العرب، أو شاركوا في بنائها أو تأسيسها.

4. إنّ المسلمين يقدِّسون كُلًّا من المسجد الحرام والمسجد الأقصى، حيث توجّهوا إليه في صلاتهم ثلاثة عشر عامًا بمكّة، وبضعة أشهر بالمدينة[3].

القدس والأقصى في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)[4]

قام الإمام الخمينيّ (قدس سره)، ومنذ إنشاء الكيان الإسرائيليّ الغاصب، بتنبيه العالم الإسلاميّ إلى خطورة ذلك الكيان، لا على القدس

 

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج1، ص233.

[2] سورة آل عمران، الآية 96.

[3] محمّد جواد مغنيّة، التفسير الكاشف، مصدر سابق، ج5، ص10.

[4] ينظر: يوم القدس العالميّ في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره) والإمام الخامنئيّ دام ظله، نقلًا عن: http://ar.imam-khomeini.ir

 

192


188

الموعظة السابعة والعشرون: مركزيّة القدس في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

وفلسطين التي احتلّها فقط، بل على مجمل عالمنا العربيّ والإسلاميّ، باعتبار الأهمّيّة والمكانة الدينيّة والتاريخيّة والمعنويّة الرفيعة شأنًا ومنزلةً للقدس عند المسلمين.

 

وإذا أردنا أن نوجز نظرةَ الإمام إلى خطر الكيان الصهيونيّ، فيمكن ذلك ضمن الآتي:

أوّلًا: خطر إسرائيل لا يقتصر على القدس وفلسطين، وإنّما وفق رأي الإمام الخمينيّ (قدس سره): «هي جرثومة الفساد إسرائيل، لن تكتفي بالقدس، ولو أُعطِيَت مهلةً، فإنّ جميع الدول الإسلاميّة ستكون معرَّضةً للخطر»[1].

«منذ ما يقرب من عشرين سنة، وأنا أوصي الدول العربيّة أن يتّحدوا ويطردوا مادّة الفساد إسرائيل هذه؛ إذ لو وجدت الفرصة، فإنّها لن تكتفي باحتلال بيت المقدِس»[2].

ثانيًا: الخطر الإسرائيليّ على الدين الإسلاميّ؛ ويقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا الشأن أيضًا:

«إنّ إسرائيل لا تريد أن يكون في هذه الدولة -إيران قبل الثورة الإسلاميّة- عالِمٌ، ولا قرآنٌ، ولا رجال دين، ولا أحكام إسلاميّة؛ كي تحقِّق (إسرائيل) أهدافها، فإنّ حكومة الشاه (البهلويّ) تقوم بإهانتنا تنفيذًا لأوامر إسرائيل»[3].

 

 


[1] من كلمة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بتاريخ 18/8/1979م.

[2] من كلمة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بتاريخ 5/5/1979م.

[3]  من كلمة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بتاريخ 3/6/1964م.

 

193


189

الموعظة السابعة والعشرون: مركزيّة القدس في فكر الإمام الخمينيّ (قدس سره)

ثالثًا: استنهاض الشعوب الإسلاميّة وحكّامها ضدّ الكيان الغاصب: «يجب على المسلمين -دولًا وشعوبًا- أن يضعوا أيديهم في أيدي بعضهم بعضًا، فإنّ الذين يهاجمون الإسلام، كالصهيونيّة التي هي أشدّ عداوة للإسلام، بصدد الاستيلاء على بلاد المسلمين، الواحدة تلو الأخرى...»[1].

وقد كانت قمّة استنهاض الإمام الخمينيّ (قدس سره) للأمّة من أجل قيامها بواجب الجهاد، ولتحرير القدس وفلسطين، هو إعلان «يوم القدس العالميّ» في آخر يوم جمعة من شهر رمضان في كلّ عام؛ لتنبيه الأمّة وتحذيرها من خطر إسرائيل، ولتحضير الأمّة الإسلاميّة كلّها لليوم الذي سيتمّ فيه تحرير القدس وكلّ فلسطين من العصابات الصهيونيّة المتحالفة مع قوى الكفر والاستكبار العالميّ لإذلال الأمّة وإركاعها. وقد قال الإمام (قدس سره) في هذا المجال الكثير، نقتطف منه ما يأتي:

«إنّ يوم القدس يومٌ عالميّ، وليس يومًا يخصّ القدس فقط، بل هو يوم مواجهة المستضعَفين للمستكبرين»[2].

«جدير بالمسلمين في يوم القدس، الذي هو من أواخر أيّام شهر اللّه الأعظم، أن يتحرّروا من أَسْرِ وعبوديّة الشياطين الكبار وقوى الاستكبار، وأن يرتبطوا بالقدرة اللامتناهية لله، وأن يقطعوا أيدي مجرمي التاريخ عن دول المستضعَفين وبلادهم»[3].

 

 


[1] من كلمة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بتاريخ 14/1/1982م.

[2] من كلمة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بتاريخ 16/7/1979م.

[3] من كلمة للإمام الخمينيّ (قدس سره) بتاريخ 31/7/1981م.'

 

194


190

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

 

محاور الموعظة

1. الشيطان عدوُّ الإنسان

2. التحذير من فتن الشيطان

3. الشيطان وغواية الإنسان

4. إنّ كيد الشيطان كان ضعيفًا

5. أمريكا «الشيطان الأكبر»

 

هدف الموعظة

تعرّف خطر العدوّ المتربّص بالإنسان شرًّا، والمتمثّل بالشيطان وأعوانه.

 

تصدير الموعظة

﴿إِنَّ ٱلشَّيطَٰنَ لَكُم عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُواْ حِزبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِن أَصحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ﴾[1].

 

 


[1]  سورة فاطر، الآية 6.

 

195


191

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

الشيطان عدوُّ الإنسان

حذّرت الآيات الكريمة والروايات الشريفة من الشيطان وفتنه باعتباره عدوًّا للإنسان، حيث جاءت كلمة (عدوّ) في حقّ الشيطان في أكثر من 10 آيات. هذا العدوّ لا يفترّ ولا يملّ ولا يكلّ، وله حبائله، ولديه خبرة بمواطن الضعف عند الإنسان... هدفه غواية الإنسان وإسقاطه عن رسم العبوديّة لله -تعالى-؛ فنهت الشريعة المقدّسة عن اتّباعه، بل عرّته من خلال بيان كلّ ما يجعل المؤمن في منعةٍ وحصنٍ يحميه من مكائده ووسوساته.

 

يقول -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلشَّيطَٰنَ لَكُم عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُواْ حِزبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِن أَصحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ﴾[1]، ويقول: ﴿إِنَّ ٱلشَّيطَٰنَ عَدُوّٞ مُّبِينٞ﴾[2].

 

يظهر من الآيتين أنّ اللّه -سبحانه- عندما يتحدّث عن عداوة الشيطان في القرآن يأتي بأداة التأكيد (إنّ) قبل كلامه، وهذا من أجل أن يشدّد على تلك العداوة ويؤكّدها بوضوح للإنسان.

 

والآية الأولى أوجبت على المؤمنين أن يتّخذوا الشيطان عدوًّا لهم ﴿فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾؛ فإنّه لا عمل لديه ولا غاية سوى الإضلال وغواية من اتّبعه وسَوقه إلى النار ﴿إِنَّمَا يَدعُواْ حِزبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِن أَصحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ﴾.

 

والآية الثانية تبيّن أنّ عداوة الشيطان للإنسان ظاهرة بيّنة؛ فعلى

 


[1] سورة فاطر، الآية 6.

[2] سورة يوسف، الآية 5.

 

196


192

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

الإنسان التوقّي منه، والابتعاد عنه، والتيقّظ له حتّى لا ينزل المكروه به.

 

وفي مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام): «إِلهِي أَشْكُو إِلَيْكَ عَدُوًّا يُضِلُّنِي، وَشَيْطانًا يُغْوِينِي، قَدْ مَلأَ بالوِسْواسِ صَدْرِي، وَأَحاطَتْ هَواجِسُهُ بِقَلْبِي، يُعاضِدُ لِيَ الهَوى، وَيُزَيِّنُ لِي حُبَّ الدُّنْيا، وَيَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ الطَّاعَةِ وَالزُّلْفى»[1].

 

التحذير من فتن الشيطان

في سورة الأعراف (الآية 27)، نهيٌ عن الوقوع في فتنة الشيطان الذي يدعو إلى نكران آيات اللّه، وعدم التورّع عن القبائح، فيخرج الإنسان من محالّ فضل اللّه ومواضع رحمته، فيسلبه نعمة اللّه وستره عليه، ويحرمه -بالتالي- الجنّة.

 

يقول -تعالى-: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيطَٰنُ﴾[2]، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيطَٰنِ وَمَن يَتَّبِع خُطُوَٰتِ ٱلشَّيطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأمُرُ بِٱلفَحشَآءِ وَٱلمُنكَرِ﴾[3].

 

وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «الفتن ثلاث: حبّ النساء وهو سيف الشيطان، وشرب الخمر وهو فخّ الشيطان، وحبّ الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان»[4].

 

 


[1] الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص403.

[2] سورة الأعراف، الآية 27.

[3] سورة النور، الآية 21.

[4] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص113.

 

197


193

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

الشيطان وغواية الإنسان

يقول -تعالى- على لسان الشيطان الرجيم: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ ٨٢ إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ ٱلمُخلَصِينَ﴾[1]، ويقول كذلك: ﴿قَالَ فَبِمَآ أَغوَيتَنِي لَأَقعُدَنَّ لَهُم صِرَٰطَكَ ٱلمُستَقِيمَ ١٦ ثُمَّ لَأٓتِيَنَّهُم مِّن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَٰنِهِم وَعَن شَمَآئِلِهِم وَلَا تَجِدُ أَكثَرَهُم شَٰكِرِينَ﴾[2]، ويقول أيضًا: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغوَيتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي ٱلأَرضِ وَلَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ ٣٩ إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ ٱلمُخلَصِينَ﴾[3]، ويقول في آية أخرى: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُم مِّن سُلطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوتُكُم فَٱستَجَبتُم لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم﴾[4].

 

يُستفاد من الآيات المتقدّمة أمور عدّة، هي:

1. الخطر الكامن من وسوسة إبليس خطر جدّيّ؛ إذ إنّه أقسم على أن يضلّ الناس بأيّ وسيلة وسبيل، ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغوِيَنَّهُم﴾.

2. يحاول الشيطان وقبيله ومن يتّصفون بصفاته نسبة أخطائهم إلى اللّه -جلّ اسمه- ﴿أَغوَيتَنِي﴾.

3. تزيين القبائح والمساوئ هو أهمّ وسائل الشيطان في إغواء الآخرين ﴿لَأُزَيِّنَنَّ﴾.

4. إنّ أساليب الشيطان في الإغواء والخداع متعدّدة ﴿لَأٓتِيَنَّهُم مِّن بَينِ أَيدِيهِم وَمِن خَلفِهِم وَعَن أَيمَٰنِهِم وَعَن شَمَآئِلِهِم﴾، فكن على حذرٍ منه.

 

 


[1] سورة ص، الآيتان 82-83.

[2] سورة الأعراف، الآيتان 16-17.

[3] سورة الحجر، الآيتان 39-40.

[4]  سورة إبراهيم، الآية 22.

 

198


194

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

5. إنّ الإنسان هو الذي يمسك بطرف حبل إغواء الشيطان وتزيينه، ويتّجه نحو المعصية بإرادةٍ واختيارٍ منه ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُم مِّن سُلطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوتُكُم فَٱستَجَبتُم لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم﴾.

6. إنّ الطاهرين والمخلصين محروسون من حبائل الشيطان ومكائده ﴿ٱلمُخلَصِينَ﴾، ولا سلطان له عليهم، لكنّ الإخلاص والخلوص ليسا كافيين؛ إذ لا بدّ من عناية اللّه التي هي أمر ضروريّ؛ لأنّ كلمة (المخلَص) تعني المنتخَب والمنتجَب والمختار والمصطفى.

7. هدف الشيطان هو جحود الإنسان ﴿وَلَا تَجِدُ أَكثَرَهُم شَٰكِرِينَ﴾.

 

إنّ كيد الشيطان كان ضعيفًا

كما يؤكّد اللّه -سبحانه- عداوة الشيطان الشديدة للإنسان، وغوايته له باستعماله الوسائل والإمكانيّات كافّة، يؤكّد -سبحانه- أنّ كيد الشيطان ضعيف وبإمكان المؤمن، من خلال الاعتصام والالتجاء إلى اللّه -تعالى-، الإفلات من قبضته وسطوته، وعدم الوقوع في شراكه، وبالتالي تكون عاقبة الشيطان هي الفشل والخسارة، يقول -تعالى-: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَولِيَآءَ ٱلشَّيطَٰنِ إِنَّ كَيدَ ٱلشَّيطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[1]، ﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيكُم مِّن سُلطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوتُكُم فَٱستَجَبتُم لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُم﴾[2].

 


[1] سورة النساء، الآية 76.

[2] سورة إبراهيم، الآية 22.

 

199


195

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) -في وصيّته لهشام-: «فله -أي لإبليس- فلتشتدّ عداوتك، ولا يكوننّ أصبر على مجاهدته لهلكتك منك على صبرك لمجاهدته، فإنّه أضعف منك رُكنًا في قوّته، وأقلّ منك ضررًا في كثرة شرّه، إذا أنت اعتصمت باللّه فقد هُديت إلى صراط مستقيم»[1].

أمريكا «الشيطان الأكبر»

لقد أطلق الإمام الخمينيّ (قدس سره) على أمريكا شعار «الشيطان الأكبر»؛ لأنّ ما ينطبق على الشيطان من صفات، وما يقوم به من أعمال ينطبق تمامًا على أمريكا، التي تزيّن أعمالها السيّئة، وتستحوذ على الشعوب والبلاد التي تقع في شراكها.

فهو (قدس سره) يحذّر من أمريكا، التي هي على دراية بشعوب منطقتنا، فيقول: «لا تغفلوا عن هؤلاء الشياطين؛ لأنّهم قد تدّبروا الأمور... إنّهم درسوا طبيعة البلدان، لا لتسعة أعوام أو عشرة، بل على طول التاريخ، كما أنّهم استغرقوا مدّة طويلة للتعرّف على هذه البلدان واكتشاف مواردها الطبيعيّة، وكانوا يرسلون خبراءهم قبل اختراع السيّارة والطائرة وما إلى ذلك من وسائل المواصلات الحديثة، فكانوا يمشّطون بلاد الشرق شبرًا شبرًا، ويسجّلون كلّ ما يحصلون عليه ويرسمون له خريطة. إنّ كلّ ما يعرفونه عنّا الآن ليس وليد

 

 


[1]  الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص400.

 

200


196

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

اللحظة، بل هو نتائج خبرات الماضي»[1].

 

ويكشف الإمام الخامنئيّ (دام ظله) عن أنّ عداءها بيّن وواضح، فيقول: «على رأس هذا الهجوم الشامل على الإسلام -طبعًا- الشيطان‏ الأكبر؛ أي حكومة الولايات المتّحدة الأميركيّة، فكلّ عين بصيرة تستطيع أن ترى يد هذه الحكومة المعادية للإسلام، أو إرادتها وراء ما يحلّ بالإسلام والمسلمين من مصائب»[2].

 

ويقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) مشجّعًا المؤمنين، ومظهرًا وهن كيد أمريكا وضعفه قائلًا: «اقتلعوا جذور الخوف والضعف من قلوبكم؛ فإنّ كيد أعداء اللّه وعلى رأسهم الشيطان‏ الأكبر كان ضعيفًا، مهما تفوّقوا في وسائل القتل والدمار والإجرام».

 

وفي الختام، نقف مع دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) إذا ذُكر الشيطان: «اللَّهُمَّ، إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وكَيْدِه ومَكَايِدِه، ومِنَ الثِّقَةِ بِأَمَانِيِّه ومَوَاعِيدِه وغُرُورِه ومَصَايِدِه، وأَنْ يُطْمِعَ نَفْسَه فِي إِضْلَالِنَا عَنْ طَاعَتِكَ، وامْتِهَانِنَا بِمَعْصِيَتِكَ، أَوْ أَنْ يَحْسُنَ عِنْدَنَا مَا حَسَّنَ لَنَا، أَوْ أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْنَا مَا كَرَّه إِلَيْنَا... اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محمّد وآلِه، واشْغَلْه عَنَّا بِبَعْضِ أَعْدَائِكَ، واعْصِمْنَا مِنْه بِحُسْنِ رِعَايَتِكَ، واكْفِنَا خَتْرَه، ووَلِّنَا ظَهْرَه، واقْطَعْ عَنَّا إِثْرَه»[3].

 

 


[1] الإمام الخمينيّ (قدس سره)، صحيفة الإمام، مصدر سابق، ج12، ص93-94.

[2] مجلّة بقيّة اللّه، العدد 33، ص21.

[3]  الإمام زين العابدين (عليه السلام)، الصحيفة السجّاديّة، مصدر سابق، ص84، من دعائه (عليه السلام) إذا ذُكر الشيطان.

 

201


197

الموعظة الثامنة والعشرون: عداوة الشيطان

الموعظة التاسعة والعشرون: مواجهة الفتن

 

محاور الموعظة

1. مقاصد البعثة النبويّة

2. اشتباه الحقّ بالباطل

3. أنواع الفتن وأهمّيّة الثبات والصبر

4. وسائل مواجهة الفتنة

 

هدف الموعظة

التنبيه والتحذير من مخاطر الفتن، وبيان وسائل مواجهتها.

 

تصدير الموعظة

﴿فَإِنَّهَا لَا تَعمَى ٱلأَبصَٰرُ وَلَٰكِن تَعمَى ٱلقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾[1].

 

 


[1] سورة الحجّ، الآية 46.

 

202


198

الموعظة التاسعة والعشرون: مواجهة الفتن

أشار أمير المؤمنين (عليه السلام)، في خطبة له في نهج البلاغة، إلى أنّ مِن أسباب العمى -أي عمى القلوب الذي يصيب الإنسان- هو تشتُّت أمر المسلمين، وتفرُّق كلمتهم؛ وذلك بسبب تورّطِهم في الفتن والشبهات الموجِبة لتفرّق كلمتهم، فعند ذلك ضاق مخرجهم منها، وعمى عليهم طريق صدورهم منها، وهو العمى المشار إليه في الآية الكريمة.

 

مقاصد البعثة النبويّة

قال أمير المؤمنين (عليه السلام)، واصفًا بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله): «أَرْسَلَه بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ، والْعَلَمِ الْمَأْثُورِ، والْكِتَابِ الْمَسْطُورِ، والنُّورِ السَّاطِعِ، والضِّيَاءِ اللَّامِعِ، والأَمْرِ الصَّادِعِ».

 

فأشار إلى المقاصد العليا والقريبة للبعثة النبويّة الشريفة، وهي على الشكل الآتي:

«إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ»: فإنّ حَذْفَ شواغل الدنيا وشبهات الباطل عن قلوب الخلق أهمّ مقاصد الشارع.

 

«واحْتِجَاجًا بِالْبَيِّنَاتِ»: الثاني سبب تلك الإزاحة، وهو الاحتجاج على الخلق بالحجج الواضحة لهم، والخطابات الواصلة إلى أقصى أذهانهم، كما قال -تعالى-: ﴿وَجَٰدِلهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ﴾[1].

 

«وتَحْذِيرًا بِالآيَاتِ وتَخْوِيفًا بِالْمَثُلَاتِ»[2]: التحذير بالآيات النازعة بالعصاة، والتخويف بالعقوبات الواقعة بأهل الجنايات، كما قال

 

 


[1] سورة النحل، الآية 125.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص46.

 

203


199

الموعظة التاسعة والعشرون: مواجهة الفتن

-تعالى-: ﴿أَفَلَم يَهدِ لَهُم كَم أَهلَكنَا قَبلَهُم مِّنَ ٱلقُرُونِ يَمشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِم إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ﴾[1].

 

اشتباه الحقّ بالباطل

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه، ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ، ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ويَنْجُو ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَت﴾ مِنَ اللَّه ﴿ٱلحُسنَىٰٓ﴾[2]»[3].

إنّ الفتنة تقع حينما يختلط الحقّ بالباطل، والباطل بالحقّ، ويغدو التمييز بينهما دقيق؛ لذا يحتاج الإنسان إلى بصيرة قويّة تُمكّنه من تشخيص الأمور واتّخاذ الموقف المناسب.

وقد حدّد الإمام (عليه السلام) أمورًا في غاية الأهمّيّة، والتي تُعَدُّ من أخطر موانع البصيرة:

«أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ»: اتّباع الهوى والآراء الباطلة والأحكام المبتدعة الخارجة عن أوامر اللَّه. وذلك أنّ المقصود من بعثة الرسل ووضع الشريعة إنّما هو نظام أحوال الخلق في أمر معاشهم ومعادهم،

 

 


[1] سورة طه، الآية 128.

[2] سورة الأنبياء، الآية 101.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص88.

 

204


200

الموعظة التاسعة والعشرون: مواجهة الفتن

فكان كلُّ رأيٍ ابتُدِع أو هوى اتُّبِع خارجًا عن كتاب اللَّه وسنّة رسوله، سببًا لوقوعِ الفتنة وتبدُّدِ نظام الموجود في هذا العالم.

«ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه»: أي يتّخذ طائفةٌ من المائلين إلى تلك الأهواء والأحكام طائفةً أخرى منهم أولياء ونواصر في تربيتها وتقوية تلك الأحكام، التي ابتدعها ضالٌّ في الشريعة، على خلاف الكتاب والسنّة.

ثمّ أشار (عليه السلام) إلى أنّ أسباب تلك الآراء أيضًا، إنّما هي امتزاج المقدّمات الحقّة بالباطلة في الحجج التي يستعملها المبطلون في استخراج المجهولات، ونَبَّه على ذلك بشرطيّتَين متّصلتَين:

الأولى: «فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ»: أمّا وجه الملازمة، فهو ظاهر، فإنّ مقدّمات الشبهة إذا كانت كلّها باطلة لا يشوبها شيء من الحقّ، أدرك العاقلُ الطالبُ للحقّ وجهَ فسادها بأدنى تأمّل، ولم يخْفَ عليه وجهَ بطلانها.

الثانية: «ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ»: ووجه الملازمة أنّ مقدّمات الحجّة الَّتي استعملها المبطلون، لو كانت كلُّها حقّةً مرتّبةً ترتيبًا حقًّا، لكانت النتيجةُ حقًّا تنقطع ألسنتهم عن العناد فيه والمخالفة له.

«فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه»: أي إنّه يزيّن لهم اتّباع الأهواء والأحكام الخارجة عن كتاب اللَّه؛ بسبب إغوائهم عن تمييز الحقّ من الباطل في ما سلكوه من الشبهة.

«ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللّهِ الْحُسْنى»: أي مَن أخذت عنايةُ

 

205

 

 


201

الموعظة التاسعة والعشرون: مواجهة الفتن

اللَّه بأيديهم في ظلمات الشبهات، فقادَتهم فيها، بإضافة نور الهداية عليهم، إلى تميّز الحقّ من الباطل، وأولئك هم عن النار مبعدون[1].

 

أنواع الفتن وأهمّيّة الثبات والصبر

الفتنة نوعان: فتنة الشبهات -وهي أعظم الفتنتَين- وفتنة الشهوات. ففتنة الشبهات تنشأ من ضعف البصيرة وقلّة العلم، وفساد القصد، وحصول الهوى، وتنشأ أيضًا من فهمٍ فاسدٍ، وتارةً من نقلٍ كاذب، وتارةً من غرضٍ فاسد وهوًى مُتَّبَع، فهي من عمى في البصيرة، وفسادٍ في الإرادة.

وفتنة الشهوات تُدفَع بالصبر، وفتنة الشبهات تُدفَع باليقين؛ ولهذا، جعل اللّه -عزَّ وجلَّ- إمامةَ أئمّة الهدى (عليهم السلام) بالصبر واليقين، فقال -سبحانه-: ﴿وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةٗ يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ﴾[2]. فبكمال العقل والصبر، تُدفَع الشهوة؛ وبكمال البصيرة واليقين، تُدفع الشبهة.

 

وسائل مواجهة الفتنة

1. التمسُّك بالقرآن

عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «فَإِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ 

 

 


[1] راجع المصادر الآتية: محمّد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، مصدر سابق، ج2، ص234. و البحراني، ابن ميثم، شرح نهج البلاغة، مركز النشر مكتب الإعلام الإسلاميّ - الحوزة العلمية، إيران - قمّ، 1362 ش، ط1، ج2، ص133. و الخوئيّ، حبيب اللّه الهاشميّ، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقيق السيّد إبراهيم الميانجي، بنياد فرهنگ امام المهديّ |، لا.م، لا.ت، ط4، ج4، ص292 - 295.

[2] سورة السجدة، الآية 24.

 

206


202

الموعظة التاسعة والعشرون: مواجهة الفتن

الْمُظْلِمِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ[1]، وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ، قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ، سَاقَهُ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيل‏...»[2].

2. الإخلاص

قال -تعالى- في الكتاب العزيز، عن لسان إبليس: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغوَيتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُم فِي ٱلأَرضِ وَلَأُغوِيَنَّهُم أَجمَعِينَ ٣٩ إِلَّا عِبَادَكَ مِنهُمُ ٱلمُخلَصِينَ﴾[3].

3. التقوى

قال -تعالى-: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجٗا﴾[4].

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنَ الْفِتَنِ، وَنُورًا مِنَ الظُّلَم‏»[5].

4. مخالفة الهوى

عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «وَإِذَا حَزَبَكَ[6] أَمْرٌ أَنْ لَا تَدْرِيَ أَيُّهُمَا خَيْرٌ وَأَصْوَبُ، فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى هَوَاكَ، فَخَالِفْهُ، فَإِنَّ كَثِيرَ الثَّوَابِ فِي مُخَالَفَةِ هَوَاك‏»[7].

 

 


[1] شافع مُشَفَّع: أي مقبول الشفاعة. ويُقال: مَحَلَ به إذا سعى به إلى السلطان، وهو مَاحِلٌ ومحولٌ، وفي الدعاء: «فَلَا تَجْعَلْهُ مَاحِلًا مُصَدَّقًا»، ولعلّه من هنا قيل في معناه: يمحل بصاحبه؛ أي يسعى به، إذا لم يتّبع ما فيه إلى اللّه -تعالى-.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص599.

[3] سورة الحجر، الآيتان 39 و40.

[4] سورة الطلاق، الآية 2.

[5] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص266.

[6] في نسخة: مرّ بك.

[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 1، ص24.

 

207


203

الموعظة التاسعة والعشرون: مواجهة الفتن

5. البصيرة

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ، وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ، ثُمَّ سَلَكَ جَدَدًا وَاضِحًا يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي‏»[1].

 

الثبات في الفتنة

من أهمّ الأمور التي ينبغي القيام بها في عصر الفتن، ومن أيّ نوع كانت، وبالأخصّ فتن ما قبل ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)، هو الثبات في الفتن.

 

عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «سَتَكُونُ بَعْدِي فِتَنٌ... يَكُونُ فِيهَا حَرْبٌ وَهَربٌ، ثُمَّ بَعْدَهَا فِتَنٌ أَشَدُّ مِنْهَا، ثُمَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ، كُلَّمَا قِيلَ: اِنْقَطَعَتْ، تَمَادَتْ، حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتٌ إِلَّا دَخَلَتْهُ، وَلَا مُسْلِمٌ إِلَّا شَكَّتْهُ، حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي»[2].

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص213.

[2]  المتّقي الهنديّ، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، مصدر سابق، ج 14، ص269.

 

208


204

الموعظة الثلاثون: عيد الفطر

الموعظة الثلاثون: عيد الفطر

 


محاور الموعظة

1. العيد، يوم الفرح والجوائز

2. ليلة العيد من ليالي اللّه

3. من جوائز العيد

4. بركات الصوم على الفرد والمجتمع

5. مَن يفرح يوم العيد

 

هدف الموعظة

تعرّف فضل ليلة العيد، وبيان جوائز العيد وبركات الصوم.

 

تصدير الموعظة

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّما هو عيدٌ لمن قَبِلَ اللّه صيامه، وشكر قيامه»[1].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام علي (عليه السلام))، مصدر سابق، ص551.

 

209


205

الموعظة الثلاثون: عيد الفطر

العيد، يوم الفرح والجوائز

سُمِّيَ العِيدُ عيدًا لأَنّه:

1. يعود كلَّ سنة بِفَرَحٍ مُجَدَّد[1].

2. يعود كلُّ إنسان إلى ما وعد اللّه له في ذلك اليوم.

3. يعود كلُّ إنسان فيه إلى اللّه بالتوبة والدعاء، والربّ يعود عليهم بالمغفرة والعطاء.

4. يعود اللّهُ -تعالى- على عباده المؤمنين بالفوائد الجميلة والعوائد الجزيلة، والعائد هو المعروف والصلة.

5. يجتمع الناسُ فيه من الآفاق.

 

ويوم العيد هو يوم الجزاء؛ لقول النبيّ (صلى الله عليه وآله): «يقول اللّه لملائكته يوم العيد: ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: يا ربّنا، جزاؤه أن يوفّى أجره، فيقول: اشهدوا ملائكتي أنّي غفرت لهم»[2].

 

وعلى هذا، يكون عيد الفطر هو الرجوع إلى ما كان قبل الصوم، والرجوع إلى اللّه - سبحانه - بالتوبة، وعود اللّه - تعالى - على عباده بالأجر والمغفرة والعطاء والصلة.

 

وهو يوم الفرح، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «للصائم فرحتان: فرحةٌ عند إفطاره، وفرحةٌ عند لقاء ربّه -عزَّ وجلَّ-»[3]. وقيل في معنى «عندَ إفطارهِ»: إنّه «عندَ فطره في العِيد»؛ إذ الصائم فيه يفرحُ بأنَّ اللّهَ -سبحانه- قد أعانه على صيامه.

 

 


[1]  ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، ج3، ص319.

[2] النيسابوري، روضة الواعظين، مصدر سابق، ص352.

[3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج2، ص76.

 

210


206

الموعظة الثلاثون: عيد الفطر

ليلة العيد من ليالي اللّه

إنّ ليلة عيد من الليالي التي يُستحبّ إحياؤها مؤكّدًا، فعن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «مَن أحيا ليلة العيد وليلة النصف من شعبان، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»[1]، وعن الإمام الصادق، عن أبيه (عليهما السلام): «كان عليّ (عليه السلام) يُعجبه أن يفرّغ نفسه أربع ليالٍ من السنة: أوّل ليلة من رجب، وليلة النحر، وليلة الفطر، وليلة النصف من شعبان»[2].

ولعلّ استحباب إحياء هذه الليلة بشكلٍ مؤكَّد لأجل أن يكمل الإنسان المؤمن حياته بعد شهر رمضان بالروحيّة نفسها التي عاشها واكتسبها في الشهر الفضيل، وأن يبقى الإشراق والصفاء في قلبه، وأن يتجلّى في يوم العيد بصور وأشكال مختلفة. وليلة العيد مقدِّمة له، وبالتالي ليوم العيد فضل كبير أيضًا.

 

من جوائز العيد

يوم العيد هو يوم الجوائز، فعن جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): إذا كان أوّل يوم من شوّال، نادى منادٍ: أيّها المؤمنون، اغدوا إلى جوائزكم، ثمّ قال: يا جابر، جوائز اللّه ليست بجوائز هؤلاء الملوك، ثمّ قال: هو يوم الجوائز»[3].

 

وأهمّ جائزة في يوم العيد هي غفران الذنوب وقَبول التوبة:

1. غفران الذنوب

يكفي في فضل يوم العيد أنّ أوّل ما للصائمين والصائمات في شهر

 

 


[1] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج8، ص105.

[2] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ص46.

[3]  الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج5، ص140.

 

211


207

الموعظة الثلاثون: عيد الفطر

رمضان أنّهم يُصبحون وقد غُفرت لهم ذنوبهم؛ «فإنّ الشقيّ من حُرم غفران اللّه في هذا الشهر العظيم»[1]، كما في خطبة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في استقبال شهر رمضان.

 

وقد خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) بالناس يوم الفطر، فقال: «... واعلموا -عبادَ اللّه- أنّ أدنى ما للصائمين والصائمات أن يناديَهم ملك في آخر يوم من شهر رمضان: أبشروا عبادَ اللّه! فقد غُفر لكم ما سلف من ذنوبكم، فانظروا كيف تكونون في ما تستأنفون؟!»[2].

 

2. استجابة الدعوات

من جوائز يوم العيد، أنّ في غداته يستجيب اللّه -تعالى- لعباده ما يسألونه من أمور الدنيا والآخرة، فقد جاء في الحديث: «... يقول -جلّ جلاله- [غداة يوم العيد]: يا عبادي، سلوني؛ فوعزّتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئًا في جمعكم لآخرتكم إلّا أعطيتكم، ولدنياكم إلّا نظرت لكم. وعزّتي، لأسترنّ عليكم عثراتكم ما رأيتموني. وعزّتي، لا أخزينّكم ولا أفضحنّكم... انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني، فرضيت عنكم...»[3].

 

بركات الصوم على الفرد والمجتمع

يتحدّث الإمام الخامنئيّ (دام ظله) عن بركات شهر رمضان، على صعيدَي الفرد والمجتمع، والتي ينبغي أن تظهر يوم العيد وما يتلوه: «صام الناس، وبواسطة الصيام حقّقوا في أنفسهم صفاءً، حيث سيكون

 

 


[1] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص154.

[2] النيسابوري، روضة الواعظين، مصدر سابق، ص354.

[3] الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، مصدر سابق، ص127-128.

 

212


208

الموعظة الثلاثون: عيد الفطر

لهذا الصفاء وهذه النورانيّة والأُنس بركات كثيرة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة. فهذا الصفاء النفسانيّ يُعطي الإنسان حُسن الفكر وتطهير النفس من الحسد والبخل والكبر والشهوات. الصفاء في نفس الإنسان يجعل بيئة المجتمع بيئةً آمنةً وأمينةً على المستوى الروحيّ والمعنويّ، يُقرّب القلوب ويجعل المؤمنين يتراحمون بعضهم مع بعض، ويزداد التعاطف والتراحم بين أبناء المجتمع الإيمانيّ. هذه كلّها هي ثمار شهر رمضان المبارك للنّاس الفائزين والسعداء»[1].

وعلى الصعيد الاجتماعيّ، ينبغي للمؤمنين أن يواسوا بعضهم بعضًا، وأن يساعد غنيُّهم فقيرَهم؛ وما إيجاب زكاة الفطرة على الصائمين وجعلها من تمام الصوم إلّا وجهٌ من أوجه التعاون والتآزر بينهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ من تمام الصوم إعطاء الزكاة -يعني الفطرة-، كالصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) من تمام الصلاة، ومَن صام ولم يؤدِّها فلا صوم له إذا تركها متعمّدًا، ومَن صلّى ولم يصلِّ على النبيّ، وترك ذلك متعمّدًا، فلا صلاة له، إنّ اللّه -تعالى- قد بدأ بها قبل الصلاة، فقال: ﴿قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ﴾[2]»[3].

وما يؤكّد ضرورة الاهتمام بعموم المؤمنين، والاعتناء بهم، والوقوف إلى جانبهم، وتفقّدهم، ومساعدتهم، ما يدعو به الصائم عقيب كلّ صلاة في شهر رمضان: «اللّهمّ، أدخل على أهل القبور السرور، اللّهمّ أغنِ كلَّ فقير، اللّهمّ أشبع كلَّ جائع، اللّهمّ اكسُ كلَّ عريان، اللّهمّ اقضِ

 


[1]  من كلمة للإمام الخامنئيّ دام ظله في عيد الفطر السعيد، 31/08/2011م.

[2] سورة الأعلى، الآيتان 14-15.

[3] الطوسي، الشيخ محمّد بن الحسن، الاستبصار، تحقيق وتعليق السيّد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، إيران - طهران، 1363ش، ط4، ج1، ص343.

 

213


209

الموعظة الثلاثون: عيد الفطر

دين كلِّ مَدين، اللّهمّ فرِّج عن كلِّ مكروب، اللّهمّ ردَّ كلَّ غريب، اللّهمّ فُكّ كلَّ أسير، اللّهمّ أصلح كلَّ فاسد من أمور المسلمين، اللّهمّ اشفِ كلَّ مريض، اللّهمّ سُدَّ فقرَنا بغناك، اللّهمّ غيّر سوءَ حالنا بحسن حالك، اللّهمّ اقضِ عنّا الدين، وأغنِنا من الفقر، إنّك على كلِّ شيء قدير»[1].

إنّ تَكرار فقرات هذا الدعاء العابقة بروح المواساة والأخوّة والمحبّة والرحمة والرأفة بالمسلمين، يساعد المؤمن على ترجمة مضامينه عمليًّا، وبالتالي تتحقّق إحدى غايات الصوم.

مَن يفرح يوم العيد

إنّ يوم العيد هو يوم الفرح والسرور بجوائز اللّه وعطاياه؛ هذه الجوائز والعطايا التي يحظى بها مَن أطاع اللّه في هذا الشهر الكريم دون سواه، فعن الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّما هو عيدٌ لمن قَبِلَ اللّه صيامه، وشكر قيامه»[2]. أمّا مَن لم يُحسن الطاعة في شهر رمضان، عليه أن يحاسب نفسه، وينظر إلى تقصيره بعين من يريد التعويض في قابل، فقد جاء أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) مرَّ في يوم فطر بقومٍ يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم، فقال: «إنّ اللّه جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قومٌ ففازوا، وقصّر آخرون فخابوا، فالعجب كلّ العجب من ضاحكٍ لاعبٍ في اليوم الذي يُثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون. وأيم اللّه، لو كُشف الغطاء لعلموا أنّ المُحسِنَ مشغولٌ بإحسانه، والمسيءَ مشغولٌ بإساءته»، ثمّ مضى[3].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص120.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ (عليه السلام))، مصدر سابق، ص551.

[3] الشيخ الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، مصدر سابق، ص236.

 

214


210
(13) زاد السالكين في شهر الله