واتقوا الله

إنّ حياة الإنسان المتشعّبة تحتاج إلى ضوابط عديدة...


الناشر:

تاريخ الإصدار: 2021-09

النسخة:


الكاتب

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

من مؤسسات جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، متخصص بالتحقيق العلمي وتأليف المتون التعليمية والثقافية، وفق المنهجية العلمية والرؤية الإسلامية الأصيلة.


المقدّمة

المقدّمة


الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

إنّ حياة الإنسان المتشعّبة تحتاج إلى ضوابط عديدة، ترتبط بعلاقته بالله -سبحانه- وبحركته وعلاقاته العامّة المختلفة، ولا بدّ إزاء ذلك من مراعاة تلك الضوابط والتبيّن منها، ضماناً لملازمة الصالح، ودرءاً لما هو فاسد قد يعكّر صفو حياته وأمنه الاجتماعيّ المنشود.

وقد أولى الدين الإسلاميّ الحنيف اهتماماً عظيماً بكلّ ما يودي بحياة الإنسان إلى ذلك الأمن العامّ، فأرشدنا من خلال آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأكرم-  وأهل بيته الأطهار( ، إلى كلّ ما يصلح هذه الحياة بدقّة وعناية فائقتين، وينبغي علينا اتّخاذ تلك الإرشادات والأوامر أساساً في السير نحو هذا الصلاح.

من هنا، جاء هذا الكتاب «واتّقوا الله»، من سلسلة زاد الواعظ، جامعاً لبعض المفاهيم التي يحتاجها الإنسان في مسيرة حياته، استناداً إلى الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة، راجين من المولى العليّ القدير، أن يجعله خطوة من خطوات طريق الإصلاح ونبذ الفساد والإفساد.

والحمد لله ربّ العالمين

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

6

 

 


1

الموعظة الأولى: الفساد والإفساد في الأرض

الموعظة الأولى
الفساد والإفساد في الأرض

 

هدف الموعظة

إيضاح المراد بالفساد المنهيّ عنه في الإسلام وأشكاله.

محاور الموعظة

ما المراد بالفساد؟

الفساد في الأرض

أشكال الفساد

تصدير الموعظة

﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾([1]).


 


([1]) سورة الروم، الآية 41.

 

7


2

الموعظة الأولى: الفساد والإفساد في الأرض

ما المراد بالفساد؟

الفساد هو الخروج بالشيء عن حدّ اعتداله، وهو ضدّ الصلاح، ويُقال: أصلح الشيء بعد إفساده. ومن معاني الفساد الجدب في البرّ والقحط في البحر([1])، وعلى هذا المعنى فُسِّر الفساد في قوله -تعالى-: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر﴾.

ويُطلق الفقهاء لفظَ الفساد في المعاملات بمعنى البطلان، كما يستعمل بمعنى الخروج عن الاستقامة.

الفساد يكون بالإعراض عن المنهج الّذي رسمه المولى -عزّ وجلّ- وقرّره لما فيه مصالح البلاد والعباد، إذ الإعراض عنه معناه أن يصبح كلّ واحد منّا عبد أهوائه. وإذا صارت الأمور حسب أهواء الناس، كان الشقاء والشرّ والفساد بدلاً من السعادة والخير والصلاح، قال -تعالى-: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾([2]).

الفساد في الأرض

ورد هذا العنوان في أكثر من عشرين آية، منها قوله -تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾([3]).

ولو أنّ الإنسان استقام على الطريقة والتزم بمنهج الله لاستقامت الأمور في الأرض كما استقامت في السماء، قال -تعالى-: ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾([4]).

وما دام الحقّ قد رفع السماء ووضع الميزان، فالسماء لا تقع على الأرض والنظام محكم تماما،

 


([1]) راجع: الزبيديّ، تاج العروس، ج5، ص164-165.

([2]) سورة محمّد، الآية 22.

([3]) سورة البقرة، الآيتان 204 و205.

([4]) سورة الرحمن، الآية 7.

 

8


3

الموعظة الأولى: الفساد والإفساد في الأرض

ويسير في منتهى الدقّة والإبداع، كما قال -سبحانه-: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾([1]).

نعم، الفارق بيننا كبشر مخلوقين وبين مخلوقات السماء من نجوم وكواكب أنّ الله خلقها وأجبرها على ما هي فيه من انتظام وليس لها أن تخالف عن أمره -سبحانه-.

بينما الإنسان قد أعطاه الله -سبحانه- الخيار وضرب له في الخلق نماذج استقامة وانتظام حتّى يتأسّى بها؛ فإذا أراد البشر أن تصلح حياتهم، وأن تستقيم أمورهم كما استقامت هندسة السماء والأرض فما عليهم إلّا أن يأخذوا الميزان القرآنيّ والنبويّ في أعمالهم، وأن يتبعوا قول الحقّ -سبحانه-: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾([2]).

إنّ المطلوب من الإنسان الّذي أنيطت به خلافة الأرض كما قال -تعالى-: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ أن يعمرها ويحفظها ويكون أميناً عليها، قال -سبحانه-: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾([3]).

وإن لم يفعل ذلك ولم يحافظ على هذه النِعم الّتي منحه الله إيّاه، فالعقاب الشديد بانتظاره، قال - تعالى-: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾([4]).

أشكال الفساد

وقد تجلّى الفساد والإفساد في الأرض من خلال مظاهر عديدة ذكرتها الآيات القرآنيّة:

1. الكفر والصدّ عن سبيل الله

﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا

 


([1]) سورة يس، الآية 40.

([2]) سورة الجنّ، الآية 16.

([3]) سورة هود، الآية 61.

([4]) سورة البقرة، الآية 211.

 

9


4

الموعظة الأولى: الفساد والإفساد في الأرض

فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾([1]).

2. النِّـفاق

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾([2]).

3. قتل النفس

قال -جلّ جلاله- عن فرعون: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾([3]).

 4. بخس الموازين والتطفيف بالكيل

قال -تعالى- على لسان شعيب: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾([4]).

5. قطع الأرحام

﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾([5]).

6. الإسراف ومجاوزة الحدّ في الغيّ والتمادي في المعاصي

قال -تعالى- على لسان موسى% : ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾([6]).

7. ارتكاب المنكرات والفواحش

قال -تعالى- على لسان لوط% : ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ﴾.

فكان جواب القوم المفسدين: ﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ

 


([1]) سورة النحل، الآية 88.

([2]) سورة البقرة، الآية 11.

([3]) سورة القصص، الآية 4.

([4]) سورة هود، الآية 85.

([5]) سورة محمّد، الآية 22.

([6]) سورة البقرة، الآية 60.

 

10


5

الموعظة الأولى: الفساد والإفساد في الأرض

إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.

فكانت دعوته: ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴾([1]).

 

نتاج الكلام

إنّ كثيراً من الأمور الإفساديّة والّتي ذكر بعض منها في القرآن الكريم وفي أحاديث السنّة الشريفة يدركها الإنسان بفطرته السليمة ويدرك سوءها وضررها وتأثيرها على نفسه ومجتمعه، ونتيجة لهذا الإدراك فإنّ عليه أن يبادر إلى مواجهتها وتركها وتأديب نفسه وتهذيبها ومن ثمّ نهي مجتمعه عنها حتّى لا يكون من الهالكين أو المهلكين بها، ولنعم ما قال رسول الله- : «عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار!»([2]).

 


([1]) سورة العنكبوت، الآية 30.

([2]) الشيخ الصدوق، الأمالي، ص246.

 

11


6

الموعظة الثانية: الفساد الاجتماعيّ

الموعظة الثانية
الفساد الاجتماعيّ

 

هدف الموعظة

بيان أشكال الفساد الاجتماعيّ وأنواعه، وآثاره على حياة الناس.

محاور الموعظة

أفعال تُفسِد النظام الاجتماعيّ العامّ

مفاسد الاحتكار

مواجهة الاحتكار

أضرار المُسكِرات

تصدير الموعظة

﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾([1]).


 


([1])سورة المائدة، الآية 32.

 

12


7

الموعظة الثانية: الفساد الاجتماعيّ

أفعال تُفسِد النظام الاجتماعيّ العامّ

كما يتعرّض جسم الإنسان للأمراض، كذلك المجتمع البشريّ يُصاب بأمراض اجتماعيّة، كظاهرة الإجرام، والانحرافات السلوكيّة، وهي خطيرة لأنّها تنتشر فتطال الجميع، فلا بدّ من مواجهتها وإيجاد الحلول لها، ومن أخطر الأفعال التي تفسد النظام الاجتماعيّ العام ما يأتي:

1. التعدّي

حرّم الله -تعالى- أنواع التعدّي على الآخرين كلّها، مهما كان نوعه ومقداره، فقال -تعالى-: ﴿وَلاَ تَعْتَدُواْ﴾ وورد عن رسول الله- : «أعتى الناس من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه»([1]).

وأشدّ أنواع المحاربة والتعدّي قتلُ النفس المحترمة، يقول -تعالى-: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾، وقد بيّن الإمام الرضا%  سبب التحريم لما يترتّب عليه من وجوه الفساد، فقال% : «حرّم الله قتلَ النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحلّ، وفنائهم وفساد التدبير»([2]).

2. الاحتكار

هو خزن مواد غذائيّة أساسيّة يحتاجها الناس وقت الاضطرار، يتربّص ارتفاع سعرها أو إضرار الأفراد والدولة. وقد حرّمه الإسلام «للقبح العقليّ المستفاد من ترتّب الضرر على المسلمين، وكون منشئه الحرص المذموم عقلاً، ومنافاته للمروءة، ورقّة القلب المأمور بهما»([3]).

فالاحتكار نوع من التلاعب الصريح بالأسعار واستغلال حاجة المجتمع لسلعة ما، فيتمّ حبس السلعة حتّى تقلّ بين الناس ويعانون من ندرتها،

 


([1])الشيخ الصدوق، الأمالي، ص28.

([2]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص565.

([3]) الشيخ الجواهريّ، جواهر الكلام، ج22، ص480.

 

13


8

الموعظة الثانية: الفساد الاجتماعيّ

ما يؤدّي بهم إلى دفع أيّ سعر للحصول عليها.

من مفاسد الاحتكار

للاحتكار سلبيّات عدّة، لعلّ أهمّها قتل روح المنافسة الشريفة بين الأفراد والدول، والّتي هي السبيل إلى إتقان العمل وتحسين مستوى الإنتاج.

كما يدفع الاحتكار القائم به إلى تبديد جزء من الموارد والتخلّص منها؛ إمّا حرقاً أو رمياً في البحر أو غير ذلك خوفاً من انخفاض الأسعار في السوق العالميّة.

كما أنّ الاحتكار يكون سبباً في انتشار الحقد والكراهية بين الأفراد، ممّا يساعد على تفكّك المجتمع وانهيار العلاقات بين أفراده.

وقد ورد عن الإمام الباقر%  أنّ رسول الله-  قال: «أيّما رجل اشترى طعاما، فكبسه أربعين صباحاً، يريد الغلاء، ثمّ باعه، وتصدّق بثمنه لم يكن كفّارة لما صنع»([1]).

في مواجهة الاحتكار

حرص الرسول الأكرم-  والأئمّة الأطهار(  على توعية الناس من خلال بيان قبح الاحتكار وخطره وعقوبة المحتكر، يقول رسول الله- : «المُحتكِر ملعون»([2]).

وعن الإمام عليّ% : «الاحتكار داعية الحرمان»([3])، وعنه% : «الاحتكار شيمة الفجّار»([4]).

ومن ناحية ثانية أباح الإسلام للإمام أو لنائبه إنذار المُحتكِر ببيع السلعة الّتي يحبسها عن الناس، فإذا رفض يجوز للدولة أن تتدخّل وتأمره

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج100، ص89.

([2]) المصدر نفسه، ج62، ص292.

([3]) الريشهري، ميزان الحكمة، ج1، ص666.

([4]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص23.

 

14


9

الموعظة الثانية: الفساد الاجتماعيّ

ببيع السلعة لرفع الظلم الّذي يتعرّض له المجتمع بسبب الاحتكار.

وقد كان الإمام عليّ%  يطوف في الأسواق يعظ التجّار، فيقول: «يا معشر التجّار، قدّموا الاستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين»([1]).

3. المُسكِرات والمخدِّرات

هي كلّ مادّة تؤثّر على الجهاز العصبيّ بدرجة تُضعِف وظيفتَه أو تُفقِدها منه بصفة مؤقّتة.

والمخدِّرات والمُسكِرات تشتركان في تخدير العقل، وإحداث فتور في البدن، وقد يترتّب على بعضها جرائم وجنايات.

حكمها: جميعها باختلاف أنواعها وتفاوتها في تأثيرها على العقل محرّمة، فيحرم تناولها وتعاطيها والاتّجار بها وترويجها.

قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾([2]).

أضرار المُسكِرات

عن النبيّ الأكرم- : «الخمر جماع الإثم، وأمّ الخبائث، ومفتاح الشرّ»([3]).

يتّضح من هذا الحديث بيان بعض الأضرار المترتّبة على شرب الخمور والآثار السلبيّة لها؛ منها الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، والعداوة والبغضاء بين الناس، وتفكّك الأسر وعقوق الآباء والأمّهات

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج78، ص54.

([2]) سورة المائدة، الآية 90.

([3]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج76، ص149.

 

15


10

الموعظة الثانية: الفساد الاجتماعيّ

والعدوان عليهم، وانحراف الأبناء، والسمعة السيّئة، وتشوّه المواليد الّذين يكونون من نسل المدمنين أو المدمنات، وغير ذلك من الأضرار الصحيّة كتلف الكبد، وارتفاع نسب هذه السموم في الدم حتّى تصل في الجرعات الزائدة إلى الموت المفاجئ!

 

16
 


11

الموعظة الثالثة: الإيمان والعمل

الموعظة الثالثة
الإيمان والعمل

 

هدف الموعظة

بيان تلازم الإيمان والعمل.

محاور الموعظة

الإيمان والعمل

الإيمان والعمل في كلام الإمام عليّ% 

العمل مكمّل الإيمان

هل يجتمع الإيمان مع المعصية؟

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين% : «الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ»([1]).


 


([1]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص508.

 

17


12

الموعظة الثالثة: الإيمان والعمل

الإيمان والعمل

عن رسول الله- : «الْإِيمَانُ‏ قَوْلٌ‏ مَقُولٌ‏ وَعَمَلٌ مَعْمُولٌ وَعِرْفَانُ الْعُقُول‏»([1]).

وعن أمير المؤمنين% : «الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ أَخَوَانِ‏ تَوْأَمَانِ‏، وَرَفِيقَانِ لَا يَفْتَرِقَان‏»([2]).

من خلال هاتين الروايتين وغيرهما يتّضح أنّ التربية الإيمانيّة لها جناحان لا تكتمل إلّا بهما، وهما: أعمال القلوب وأعمال الجوارح، أو بعبارة أخرى: الإيمان والعمل الصالح. فلو انصبّ اهتمامنا على أعمال القلوب، ولم نهتمّ بالعمل الصالح سيكون الإيمان محدودًا، ولن نستفيد بوجوده الاستفادة الحقيقيّة، ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾([3]).

الإيمان والعمل في كلام الإمام عليّ% 

سُئِلَ أمير المؤمنين%  عَنِ الإيمان، فَقَالَ: «الإيمان مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ»([4]).

يُبيّن الإمام%  في هذه الرواية أنّ الإيمان مركّب من ثلاثة أجزاء، هي:

مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، سواء أكان عن علم أم عن تقليد.

إِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ: إظهار الإيمان بالقول حتّى يُعرَف المؤمن ويُعامَل بما له من الحقّ.

عَمَلٌ بِالأَرْكَانِ: تجسّد الإيمان بالعمل كالجهاد والصوم والصلاة والحجّ والزكاة وغيرها من العبادات والفرائض الشرعيّة.

وبناءً على كلام علماء الإماميّة وغيرهم، فإنّ الإيمان حقيقته التصديق القلبيّ، فالمقصود من

 


([1]) الشيخ المفيد، الأمالي، ص275.

([2]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص22.

([3]) سورة الأنعام، الآية 158.

([4]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص508.

 

18


13

الموعظة الثالثة: الإيمان والعمل

الإيمان في هذه الرواية الشريفة وأمثالها هو الإيمان الكامل([1]).

العديد من الروايات تدلّ على أنّ الإيمان هو التصديق، وأنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان، بل هو كاشف ومصدّق للإيمان، وبالعمل يكمل ويتمّ ويرتقي الإيمان إلى الدرجة العليا ومرتبة الكمال، كما يُشير إليه قول أمير المؤمنين% : «وبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الإِيمَانِ، وبِالإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ»([2]).

وقوله%  عن رسول الله- : «عِشْرُونَ خَصْلَةً فِي الْمُؤْمِنِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيه لَمْ يَكْمُلْ إِيمَانُه، إِنَّ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ يَا عَلِيُّ: الْحَاضِرُونَ الصَّلَاةَ، والْمُسَارِعُونَ إِلَى الزَّكَاةِ، والْمُطْعِمُونَ الْمِسْكِينَ، الْمَاسِحُونَ رَأْسَ الْيَتِيمِ، الْمُطَهِّرُونَ أَطْمَارَهُمْ، الْمُتَّزِرُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمُ، الَّذِينَ إِنْ حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا، وإِذَا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا، وإِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وإِذَا تَكَلَّمُوا صَدَقُوا، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ أُسُدٌ بِالنَّهَارِ، صَائِمُونَ النَّهَارَ قَائِمُونَ اللَّيْلَ، لَا يُؤْذُونَ جَاراً ولَا يَتَأَذَّى بِهِمْ جَارٌ، الَّذِينَ مَشْيُهُمْ عَلَى الأَرْضِ هَوْنٌ، وخُطَاهُمْ إِلَى بُيُوتِ الأَرَامِلِ وعَلَى أَثَرِ الْجَنَائِزِ، جَعَلَنَا الله وإِيَّاكُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ»([3]).

العمل مكمّل الإيمان

ورد عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ [الإمام الباقر% ] قَالَ: «قِيلَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله- ، كَانَ مُؤْمِناً؟ قَالَ: فَأَيْنَ فَرَائِضُ الله؟».

قَالَ (الراوي): وسَمِعْتُه يَقُولُ: «كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ:

 


([1]) ومثله ما رُوي عن الإمام الرضا% ، عن أبي الصلت الهروّي، قال: سألتُ الرضا عن الإيمان؟ فقال: «الْإِيمَانُ عَقْدٌ بِالْقَلْبِ وَلَفْظٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، لَا يَكُونُ‏ الْإِيمَانُ‏ إِلَّا هَكَذا». الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا% ، ج1، ص205.

([2]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص215.

([3]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص232.

 

19


14

الموعظة الثالثة: الإيمان والعمل

لَوْ كَانَ الإيمان كَلَاماً لَمْ يَنْزِلْ فِيه صَوْمٌ ولَا صَلَاةٌ ولَا حَلَالٌ ولَا حَرَامٌ».

قَالَ (الراوي): وقُلْتُ: لأَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّ عِنْدَنَا قَوْماً يَقُولُونَ: إِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله وأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله-  فَهُوَ مُؤْمِنٌ، قَالَ: «فَلِمَ يُضْرَبُونَ الْحُدُودَ؟ ولِمَ تُقْطَعُ أَيْدِيهِمْ، ومَا خَلَقَ الله -عزّ وجلّ- خَلْقاً أَكْرَمَ عَلَى الله -عزّ وجلّ- مِنَ الْمُؤْمِنِ؛ لأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُدَّامُ الْمُؤْمِنِينَ، وأَنَّ جِوَارَ الله لِلْمُؤْمِنِينَ، وأَنَّ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وأَنَّ الْحُورَ الْعِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ؟!» ثُمَّ قَالَ: «فَمَا بَالُ مَنْ جَحَدَ الْفَرَائِضَ كَانَ كَافِراً»([1]).

أي لو كان الإيمان كلاماً لسانيّاً وهو الإقرار بالشهادتين، أو قلبيّاً أيضاً وهو التصديق، لم ينزل هذه الأحكام التي وقع فيها الوعيد والتغليظ أو الكرامة والإثابة([2]).

والنتيجة التي نصل إليها أنّ المراد من الإيمان في هذه الروايات هو الإيمان الكامل والتصديق بالله وبرسوله وجميع ما جاء به، وهذه النتيجة موافقة للآيات القرآنية.

 

هل يجتمع الإيمان مع المعصية؟

إنّ للعمل الصالح دوراً أساسيّاً في نموّ الإيمان وازدهاره وإثرائه وتكامله، فكيف يُمكن أن نتصوّر العلاقة بين المعصية والإيمان؟ خصوصاً أنّنا إذا رجعنا إلى الروايات الشريفة وإلى خطب الإمام%  في نهج البلاغة نجدها قد ركّزت على أنّ المؤمن لا يعصي الله أبداً.

والسؤال الأساس: هل يُمكن الجمع بين ارتكاب المعصية وحقيقة الإيمان؟ وبعبارة أخرى: هل يستطيع المؤمن أن يُحافظ على إيمانه مع ارتكابه المعصية، أو أنّ مخالفة المولى -تعالى- من دواعي زوال الإيمان؟

 


([1]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص33.

([2]) المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، ج8، ص97.

 

20


15

الموعظة الثالثة: الإيمان والعمل

وفي مقام الإجابة، لا بدّ من أن ننظر إلى كيفيّة معالجة الروايات لهذا الموضوع؛ أي الجمع بين الإيمان والمعصية.

الروايات الدالّة على أنّ العاصي يخرج من الإيمان حين المعصية كثيرة جدّاً وتعابيرها مختلفة، منها: خرج من الإيمان([1])، سُلب الإيمان([2])، كافر([3])، فارق روح الإيمان، أو بتعبير بعض الروايات الأخرى يُسلب منه روح الإيمان([4])... والمهمّ في هذه الروايات هو فقهها وإدراك معناها، فلم يتفقّ العلماء على معنى واحد لهذه الروايات، بل تعدّد فهمهم لها ومن آرائهم:

1. حمل هذه الروايات على ظاهرها، وأنّ من ارتكب هذه المعاصي خرج من الإيمان فعلاً.

2. حملها على نفي الكمال؛ أي إنّ مرتكبها مؤمن حقيقة، ولكنّه ناقص الإيمان.

3. حملها على المستحلّ للمعصية.

4. حملها على نفي اسم المدح؛ أي لا يُقال له مؤمن، بل يُقال له زانٍ وشارب الخمر وتارك للصوم وسارق.

5. حملها على زوال النور الناشئ من الإيمان، وهو منقول عن ابن عبّاس، وأيّده بقول رسول الله- : «من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه، فإن شاء ردّه إليه»([5]).

6. حملها على نفي الحياء؛ أي لا يزني الزاني وهو مستحٍ من الله، والحياء خصلة من الإيمان([6]).

 


([1]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص278.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) المصدر نفسه.

([4]) المصدر نفسه، ج2، ص280.

([5]) المازندرانيّ، شرح الكافي، ج9، ص248.

([6]) المصدر نفسه، ج9، ص262 (بتصرّف وزيادة).

 

21


16

الموعظة الرابعة: التوكّل والاستغناء بالله

الموعظة الرابعة
التوكّل والاستغناء بالله

 

هدف الموعظة

بيان حقيقة التوكّل وآثاره.

محاور الموعظة

ما هو التوكّل؟

التوكّل والأسباب الطبيعيّة

التوكّل دعم للروح‏

نماذج من التوكّل في القرآن الكريم

ما يورث التوكّل

تصدير الموعظة

الإمام الصادق% : «إنّ الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»([1]).

 


([1])الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص65.

 

22


17

الموعظة الثالثة: الإيمان والعمل

ما هو التوكّل؟

التوكّل هو الاعتماد على الغير، وبين الاعتماد على المخلوق والاعتماد على الخالق فرق كبير، وبين الوثوق بالفقير والوثوق بالغنيّ المطلق مساحة واسعة.

التوكّل على اللَّه سبيل الراشدين، وديدن العقلاء والمؤمنين، وهو الطريق الطبيعيّ المنطقيّ، باعتبار أنّ اللَّه -تعالى- هو المتّصف بالصفات الكماليّة، فهو الخالق والقويّ والغنيّ والرحيم...

يقول العلّامة الطباطبائيّ !: إنّه -تعالى- متّصف بصفات كريمة يُؤمَن معها أن يَستغِشَّ عباده المتوكّلين عليه المُسلِّمين له أمورهم، فإنّه رؤوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم، ويُجمِع الجميع أنّه أرحم الراحمين، على أنّه لا يُغلَب في أمره ولا يُقهَر في مشيئته. وأمّا الناس إذا أُمِّنوا على أمر واطمئنّ‏ إليهم في شيء، فإنّهم أُسراء الأهواء وملاعب الهوسات النفسانيّة، ربّما أخذتهم كرامة النفس وشيمة الوفاء وصفة الرحمة، فيحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه ولا يخونوه، وربّما خانوا ولم يحفظوا، على أّنهم لا استقلال لهم في قدرة ولا استغناء لهم في قوّة وإرادة([1]).

 

التوكّل والأسباب الطبيعيّة

هل إنّ الاعتماد على اللَّه -تعالى- يعني ترك الأسباب الطبيعيّة في الحياة؟ وهل معنى ذلك ألّا يتعامل الإنسان مع الناس، وينزوي في زاوية بيته منعزلاً عن حركة الحياة ونشاطها؟

بالطبع لا، ليس المراد بالتوكّل على اللَّه ترك الأسباب، فإنّ الإنسان عليه أن يسير وفقاً للأسباب التي وضعها اللَّه -تعالى-، ولكن مع هذا عليه أن

 


([1]) العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص214.

 

23


18

الموعظة الرابعة: التوكّل والاستغناء بالله

يستشعر في نفسه أنّه ضعيف ولا استقلال له في إدارة أموره، وأنّ الأسباب العاديّة باستقلالها لا تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد، بل عليه أن يلتجئ في أموره إلى وكيل يصلح شأنه ويدبّر أمره أحسن تدبير، فذلك الوكيل هو اللَّه -تعالى- العالِم بتفاصيل الكون كلّها، المطّلع على عباده، مسبّب الأسباب، ومقلِّب القلوب، القاهر الذي لا يقهره شيء، الغالب الذي لا يغلبه شيء، يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد.

 

التوكّل دعم للروح‏

إنّ التوكّل على اللَّه قوَّة للنفس، ودعمٌ قويٌّ للروح، وإصلاح لقلب الإنسان وحياته.

يقول العلّامة الطباطبائيّ !: إنّ مُضيّ الإرادة والظفر بالمراد في نشأة المادّة في الحياة يحتاج إلى أسباب طبيعيّة وأخرى روحيّة، والإنسان إذا أراد الورود في أمر يهمّه وهيّأ من الأسباب الطبيعيّة ما يحتاج إليه، لم يُحل بينه وبين ما يبتغيه إّلا اختلال الأسباب الروحيّة النفسيّة، كوهن الإرادة والخوف والحزن والطيش والشره والسفه وسوء الظنّ والتشاؤم وغير ذلك، وهي أمور هامّة عامّة، وإذا توكّل على اللَّه -سبحانه- وفيه اتّصال بسبب غير مغلوب البتّة، وهو السبب الذي فوق كلّ سبب قويت إرادته قوّة لا يغلبها شيء من الأسباب الروحيّة المضادّة المنافية، فكان نيلاً وسعادة([1]).

نماذج من التوكّل في القرآن الكريم

ورد كثير من الآيات حول صفة التوكّل على اللَّه، نذكر منها:

1. دعوة إلى التوكّل

 


([1])العلّامة الطبطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج4، ص‏65.

 

24


19

الموعظة الرابعة: التوكّل والاستغناء بالله

﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾([1]).

﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون﴾([2]).

2. الأنبياء والصالحون وصفة التوكّل

﴿فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا﴾([3]).

﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾([4]).

﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾([5]).

3. اللَّه كافٍ للمتوكّل عليه

﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾([6])، ﴿وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً﴾([7]).

4. التوكّل على اللَّه لا ينافي إرادة الإنسان وعزمه

﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾([8]).

5. اللَّه يحبّ المتوكّلين

﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾([9]).

ما يُورِث التوكّل

عن الإمام عليّ% : «التوكّل من قوّة اليقين»([10]).

وعنه% : «إنّ حسن التوكّل لمن صدق الإيقان»([11]).

وعنه% : «من وثق باللَّه، توكّل عليه»([12]).

ثمرة التوكّل

1. القوّة: عن رسول اللَّه- : «من سرّه أن يكون

 


([1]) سورة التوبة، الآية 51.

([2]) سورة إبراهيم، الآية 12.

([3]) سورة يونس، الآية 85.

([4]) سورة الممتحنة، الآية 4.

([5]) سورة إبراهيم، الآية 12.

([6]) سورة الطلاق، الآية 3.

([7]) سورة النساء، الآية 81.

([8]) سورة آل عمران، الآية 159.

([9]) سورة آل عمران، الآية 159.

([10]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص24.

([11]) الشيخ الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج4، ص3659.

([12]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص432.

 

25


20

الموعظة الرابعة: التوكّل والاستغناء بالله

أقوى الناس، فليتوكّل على اللَّه»([1]).

عن الإمام عليّ% : «أصل قوّة القلب التوكّل على اللَّه»([2]).

2. التفاؤل: عن الرسول الأكرم- : «الطيرة شرك، وما منّا إلّا، ولكّن اللَّه يذهبه بالتوكّل»([3]).

3. الأمل: عن الإمام عليّ% : «الثقة باللَّه أقوى أمل»([4]).

4. الكفاية والرزق: عن رسول اللَّه- : «من توكّل على اللَّه كفاه مؤنته ورزقه من حيث لا يحتسب»([5]).

5. بقاء الغنى والعزّ: عن الإمام الصادق% : «إنّ الغنى والعزّ يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكّل أوطنا»([6]).

توكّل الإمام الخمينيّ !

من أبرز الصفات الروحيّة للإمام اطمئنان النفس، إذ إنّ كلامه ومظاهر حياته كلّها، كانت تطفح بالاطمئنان والتوكّل.

• عندما أُلقي القبض عليه، وأرادوا نقله إلى طهران، كان بعض أنصاره حول السيارة يبكون والإمام يصبّرهم، وفي الطريق يقول الإمام انحرفت السيارة عن الطريق الأصليّ إلى جادّة ترابيّة، فأيقنتُ أنّهم يريدون قتلي... ولكن رجعت السيارة مجدّداً إلى الشارع العامّ، فتأمّلت في نفسي، فوجدتُ أنّي لم اضطرب أبداً.

 •يقول أحد المقرّبين من الإمام: أنتم تعلمون أنّ عبء حوادث الثورة كان دائماً على كاهل الإمام... ولولا ذلك الاطمئنان والتوكّل لكان من المستحيل أن يستطيع تحمّل هذه المشاكل كلّها.

 


([1]) الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين، ص426.

([2]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص120.

([3]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج55، ص322.

([4]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص40.

([5]) الشيخ الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج2، ص1100.

([6]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص65.

 

26


21

الموعظة الرابعة: التوكّل والاستغناء بالله

كان المسؤولون في أكثر الحوادث يخرجون عن طورهم، ولم يكن وعيهم السياسيّ يكشف لهم عن أيّ مخرج، ولكنّه كان بجملة واحدة يُنهي اضطرابهم كلّه.

 •في مجريات احتلال وكر التجسّس الأميركيّ، كان أكثر المسؤولين غير راضين... وفي كلّ يوم كانوا يطرحون أمراً جديداً، واحد يقول: ليس بالإمكان محاربة أميركا، والثاني يقول: لقد أنزلت أميركا قوّاتها في المنطقة، وآخر يقول: جاء الأسطول الأميركيّ.

وحده الإمام كان يقول: أميركا لا تستطيع أن ترتكب أيّة حماقة... ذات يوم شكى أحد الشخصيّات الثوريّة أمام الإمام المؤامرات... فوضع الإمام بهدوء يده على صدره قائلاً: أنت لماذا تخاف؟ لا يحدث أيّ شيء.

 

27


22

الموعظة الخامسة: القيم الأخلاقيّة

الموعظة الخامسة
القيم الأخلاقيّة

 

 

هدف الموعظة

تعرّف عدد من القيم الأخلاقيّة التي أرشدنا إليها القرآن الكريم والمعصومون الأطهار( .

محاور الموعظة

تعريف الأخلاق وضرورة القيم الأخلاقيّة

القيم الأخلاقيّة

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين% : «فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ ومَحَامِدِ الأَفْعَالِ ومَحَاسِنِ الأُمُورِ»([1]).


 


([1]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص295.

 

28


23

الموعظة الخامسة: القيم الأخلاقيّة

تعريف الأخلاق وضرورة القيم الأخلاقيّة

قبل معرفة القيم الأخلاقيّة، ينبغي معرفة ماذا نعني بالأخلاق؟

الأخلاق هي الصفات النفسيّة التي نحدّد على ضوئها كيف ينبغي أن نكون، وكيف نتصرّف ونتعامل في حياتنا الاجتماعيّة، وكيف يتصرّف بعضنا مع بعضنا الآخر.

فالإنسان الفرد لا يعيش وحده في هذه الحياة، فهو بطبيعته اجتماعيّ يعيش ضمن مجتمع يحتكّ فيه بالآخرين. والقيم الأخلاقيّة مضافاً على كونها كمالاً على المستوى الشخصيّ، لا بدّ منها أيضاً لكمال المجتمع وتحسين العلاقة بين الأفراد، ومن هنا فلا بدّ من تحديد هذه القيم على ضوء العقل والشرع، ثمّ الالتزام بها وتطبيقها على المستوى العمليّ.

وإذا ما التزمنا بالقيم كانت السعادة الفرديّة والاجتماعيّة، في الدنيا والآخرة.

وليصل الإنسان إلى السعادة لا بدّ من أن يلتزم بمجموع القيم؛ لأنّها نظام متكامل يُكمّل بعضه بعضاً.

قال -تعالى-: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾([1]).

القيم الأخلاقيّة

نشير فيما يأتي إلى بعض القيم الأخلاقيّة على ضوء كلام أمير المؤمنين% :

1. التقوى والورع

عن الإمام عليّ% : «التُّقَى رَئِيسُ الأَخْلَاقِ»([2]).

وأكَّد ذلك بقوله% : «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه الَّذِي

 


([1]) سورة البقرة، الآية 85.

([2]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص548.

 

29


24

الموعظة الخامسة: القيم الأخلاقيّة

ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ»([1]).

2. الحلم والعقل والتعقّل

عن الإمام عليّ% : «الْحِلْمُ غِطَاءٌ سَاتِرٌ، والْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ؛ فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ، وقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ»([2]).

3. الصبر والثبات وضبط النفس

أي تقوية القدرة على تحمّل المشاكل والبلاءات، عن الإمام عليّ% : «وعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيمَانِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، ولَا خَيْرَ فِي جَسَدٍ لَا رَأْسَ مَعَه، ولَا فِي إِيمَانٍ لَا صَبْرَ مَعَه»([3]).

4. رزانة الشخصيّة

عن الإمام عليّ% : «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْه نَفْسُه هَانَتْ عَلَيْه شَهَوَاتُه»([4]).

فعلى الإنسان أن يكرم نفسه عن الانزلاق في المفاسد المنبثقة عن جماح الشهوات، وإلا تردّى ولم يُحترم من أبناء مجتمعه ومحيطه، وإذا كان كذلك لم يُسمع له رأي ولا يُعرف له قول.

5. التواضع

وهو من القيم الأخلاقية المهمّة التي يتمكّن من خلالها التغلغل في القلوب، حتّى قلوب الأعداء، وذلك ممّا يكشف عن طيب السريرة وطراوة النفس وحسن العشرة وإدامة الشكر للَّه -تعالى- على نعمه.

عن الإمام عليّ% : «وبِالتَّوَاضُعِ تَتِمُّ النِّعْمَةُ»([5]).

والذي يقدّر نفسه تقديراً مبالغاً فيه، بحيث لا يرى إلّا نفسه، فهو العالم وغيره الجاهل، وهو صاحب الرأي الحصيف وغيره لا رأي له، مثل هذا

 


([1]) المصدر نفسه، ص312.

([2]) المصدر نفسه، ص551.

([3]) المصدر نفسه، ص482.

([4]) المصدر نفسه، ص555.

([5]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص508.

 

30


25

الموعظة الخامسة: القيم الأخلاقيّة

الشخص ستنفر عنه الناس وسيرى نفسه أنّه يعيش لوحده في هذا العالم أو أنّه الوحيد الذي يستحقّ العيش، وعن الإمام عليّ% : «وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ»([1]).

6. حفظ كرامة الآخرين

ينبغي لنا أن نلتزم مبدأ كتم السرّ عند مواجهة زلاّت الآخرين وأخطائهم، وينبغي الحفاظ على سمعتهم وكرامتهم، فنحفظهم في غيبتهم كما نحفظهم في حضورهم، وننتصر لهم عند تعرّضهم إلى ما يفضحهم ويحقّرهم أمام الآخرين.

عن الإمام عليّ% : «فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ، يَسْتُرِ اللَّه مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَه»([2]).

ونحن الذين قد نكون في أيّ لحظة عرضة للخطأ والزلل، أو يصدر منا سلوك أو فعل سيّئ، علينا أن لا نعيب غيرنا، خاصة إن كان العيب نفسه فينا، فعنه% : «أَكْبَرُ الْعَيْبِ أَنْ تَعِيبَ مَا فِيكَ مِثْلُه»([3]).

7. الكلام الطيِّب

هل عوّدنا ألسنتنا على التفوّه بالكلام الحسن، وعلى ألّا نجرح مشاعر الآخرين؟ إذا كنّا نؤمن جميعاً بأدب الحديث فإلى أيّ مدى راعينا هذه القيمة الأخلاقيّة؟

عن الإمام عليّ%  في وصف المتّقين: «بَعِيداً فُحْشُه، لَيِّناً قَوْلُه»([4]).

وحين سمع من أنصاره من يَسبّ الأعداء (جيش معاوية الباغي) نصحهم بمراعاة الأدب في الحديث حتّى مع الأعداء، فقال% : «إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ

 


([1]) المصدر نفسه، ص488.

([2]) المصدر نفسه، ص429.

([3]) المصدر نفسه، ص536.

([4]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص305.

 

31


26

الموعظة الخامسة: القيم الأخلاقيّة

تَكُونُوا سَبَّابِينَ»([1]).

8. البشاشة

ليس من صفات المؤمن أن يكون مقطِّب الجبين، حزين الوجه كئيباً؛ فإنّ ذلك ينفّر الآخرين منه. لذلك يوصي الإمام%  الإنسان أن يكون مبتسماً، فبالابتسام يدخل الإنسان إلى قلوب الآخرين.

عن الإمام عليّ% : «والْبَشَاشَةُ حِبَالَةُ الْمَوَدَّةِ»([2]).

9. الجدّيَّة

إن كثرة المزاح له آثار سلبيّة على المستوى النفسيّ للإنسان، إذ يجعل الشخصيّة هزيلة، ويقف حاجزاً أمام التفكّر بالقضايا ومواجهتها بشكل جدّيّ، بل له آثاره السلبيّة في المجتمع، فصحيح أنّ المطلوب من المؤمن أن يكون بشوش الوجه مبتسماً، ولكن ليس المطلوب أن يكون كثير المزاح هزليّاً، فالحالة الأولى تشيع حالة من الراحة واللّين في المجتمع؛ أمّا الحالة الثانية فقد تصل إلى أذيّة الآخرين والاستهزاء بهم وتوتير العلاقات الاجتماعيّة.

عن الإمام عليّ% : «إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً»([3]).

10. العفو والصفح

فكما نحب أن يغفر الله لنا، فلنغفر للآخرين، وكما نحب أن يغفر الناس لنا خطايانا، فلنغفر لهم، فكلّنا محتاجون للمغفرة الإلهيّة، عن الإمام عليّ% : «فَاعْفُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ الله لَكُمْ»([4]).

11. الصدق

عن الإمام عليّ% : «والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ

 


([1]) المصدر نفسه، ص323.

([2]) المصدر نفسه، ص469.

([3]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص405.

([4]) المصدر نفسه، ص378.

 

32


27

الموعظة الخامسة: القيم الأخلاقيّة

والصِّدْق»([1]).

 

12. الكرم

عن الإمام عليّ% : «الْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَسَاوِئِ الْعُيُوبِ»([2]).

ذلك أنّ البخيل يسيئ الظن باللَّه -تعالى- وكأنّ الذي رزقه أوّل مرة غير قادر على أن يرزقه، وهو يخشى الفقر مع وجود هذه النعم الكثيرة عنده التي هي من اللَّه -تعالى- أيضاً.

 


([1]) المصدر نفسه، ص430.

([2]) المصدر نفسه، ص543.

 

33

 

 


28

الموعظة السادسة: الأمانة والخيانة

الموعظة السادسة
الأمانة والخيانة

 

هدف الموعظة

تبيين فضل الأمانة وموارد ضرورتها وآثارها في الدنيا والآخرة.

 

محاور الموعظة

الأمانة فضيلة

الأمانة والخيانة في المال

الأمانة والخيانة في السنّة الشريفة

آثار الأمانة الدنيويّة والأخرويّة

 

تصدير الموعظة

رسول الله- : «يـا أبـا الحَسَنِ، أَدِّ الأَمـانَةَ للِبِرِّ والفـاجِرِ فِي مـا قَلَّ وَجَلَّ، حتّى فِي الخَيطِ وَالمخِيطِ»([1]).

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص273.

 

34


29

الموعظة السادسة: الأمانة والخيانة

الأمانة فضيلة

الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقيّة والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة، التي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وقد أولاها علماء الأخلاق أهمّيّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصيّة. وعلى العكس من ذلك (الخيانة) التي تُعدّ من الذنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقيّة في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعيّ. والأمانة في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنسانيّ، والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعيّ وحياتهم الدنيويّة؛ ولهذا شدّد أهل البيت%  عليها كثيراً، وللإمام زين العابدين%  في هذا المجال تعبير عجيب، إذ يقول لشيعته: «عَلَيكُم بِأَداءِ الأَمـانَةِ، فَوالَّذي بَعَثَ مُحَمَّداً-  بِالحَقِّ نَبِيَّاً، لَو أَنَّ قـاتِلَ أَبِي الحُسَينِ بنِ عَلَيّ%  ائتَمَننِي عَلَى السَّيفِ الَّذِي قَتَلَه بِهِ لأدّيتُهُ إِلَيهِ»([1]).

الأمانة والخيانة في المال

﴿وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ﴾([2]).

تتعرّض هذه الآية للأمانات والودائع الماليّة لدى الناس، وتتحدّث في سياقها عن لزوم تنظيم الوثائق والمستندات الحاجة لهذه الودائع والأمانات. وفي هذه السورة على الأمين حفظ الأمانة وردّها إلى صاحبها بالموقع المناسب، وعليه أن يخاف الله فيما لو حدّثته نفسه بالخيانة. وإنّ تعبير الأمانة في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى القروض الماليّة التي يقرضها

 


([1]) الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج19، ص76.

([2]) سورة البقرة، الآية 283.

 

35


30

الموعظة السادسة: الأمانة والخيانة

المسلم لأخيه المسلم، من دون كتابة وثيقة أو تأمين وديعة ورهن، وذلك بسبب الثقة المتبادلة بين الأفراد، أو أنّها إشارة إلى الأموال التي توضع لدى الشخص بعنوان الرهن، أو كليهما. وعلى كلّ حال فانّ الآية فيها دلالة واضحة على لزوم احترام الأمانة وأدائها في أيّة حالة.

وقد ورد تأكيد الأمانة في الأمور الماليّة بشكل خاصّ في النصوص الدينيّة، والحكمة في ذلك واضحة، لأنّه أوّلاً: إنّ بعض الناس يتصوّر أنّ مثل هذه الأموال، بما أنّها لا تقع في دائرة الممتلكات لشخص معيّن، بل هي ملك عموم الناس، فإنّهم أحرار في تصرّفاتهم وتعاملهم بها.

وإذا تفشّت الخيانة بالنسبة إلى الأموال العامّة وبيت المال، فإنّ نظم المجتمع سوف يتلاشى وينهار، فلا يرى مثل هذا المجتمع البشريّ وجه السعادة أبداً. ومن أجل درك أهمّيّة هذا الموضوع يكفي مطالعة قصّة (الحديدة المحمّاة)، إذ ورد أنّ عقيل جاء إلى أخيه الإمام عليّ بن أبي طالب%  وطلب منه أن يزيده قليلاً من حصّته وسهمه من بيت المال، على أساس العلاقة الأخويّة بينه وبين الإمام عليّ% ، فما كان من الإمام عليّ%  إلّا أن أحمى له حديدة وقرّبها منه، فصرخ عقيل من حرارتها، فقال له الإمام% : «أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِه، وتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِه؟! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟!»([1]).

 

الأمانة والخيانة في السنّة الشريفة

أمّا ما ورد من الأحاديث الشريفة عن النبيّ الأكرم-  والأئمّة المعصومين( ، فإنّه يحكي عن الأهمّيّة البالغة لهذه المسألة، حيث وردت

 


([1]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص347.

 

36


31

الموعظة السادسة: الأمانة والخيانة

الأمانة تارةً بعنوان أنّها من الأصول والمبادئ الأساسيّة المشتركة بين جميع الأديان السماوّية، وتارةً أخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرزق والثروة والثقة والاعتماد لدى الناس وسلامة الدين والدنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك؛ ففي حديث عن النبيّ الأكرم- : «لا إِيمـانَ لِمَنْ لا أَمـانَةَ لَهُ»([1]).

وورد عن رسول الله-  تعبير شديد، إذ يقول: «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم، وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمعرُوفِ، وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ، وَلَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمـانَةِ»([2]).

والهدف من هذا التعبير ليس بهدف الإشارة إلى أنّ هؤلاء لا يهتمّون بصلاتهم وصومهم أو يستخفّون بحجّهم وإنفاقهم، بل الهدف هو القول إنّ هذه الأمور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد، بل ثمّة ركنان أساسان لدين الشخص، الصدق والأمانة.

آثار الأمانة الدنيويّة والأخرويّة

بيّنت الروايات الآثار والنتائج الدنيويّة والأخرويّة المهمّة للأمانة والخيانة؛ فقد ورد عن الإمام عليّ% : «الأمانة تَجُرُّ الرِّزقَ، وَالخِيانَةُ تَجُرُّ الفَقرَ»([3]). وعن لقمان الحكيم: «يـا بُنَيَّ، أَدِّ الأَمـانَةَ تَسلمُ لَكَ الدُّنيـا وَآخِرَتُكَ، وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً»([4]).

وعن رسول الله- : «لا تَزَالُ اُمّتِي بِخَير مـا تَحـابُّوا وَتَهـادُوا وَأَدُّوا الأَمـانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقـامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكـاةَ،

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج66، ص121.

([2]) المصدر نفسه، ج72، ص114.

([3]) المصدر نفسه، ج78، ص60.

([4]) المصدر نفسه، ج72، ص117.

 

37


32

الموعظة السادسة: الأمانة والخيانة

فإذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ، ابتلوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ»([1]).

وإذا أردنا أن نتعمّق في خطر الخيانة وشؤمها، فلنستمع إلى الرسول الأكرم-  في حديثه عن بعض عناصر الشر وعوامل الانحراف، إذ يقول: «أَربَعٌ لا تَدخُل بَيتاً وِاحُدَة مِنهُنَّ إلاّ خَرَبَ وَلَم يَعمُرْ بِالبَرَكَةِ: الخِيانَة والسَّرقَةُ وَشُربُ الخَمرِ والزِّنـا»([2]). ومن المعلوم أنّ المجتمع الذي يعيش أحد هذه العناصر الأربعة أو كلّها، فإنّه يكون مصداقاً لهذا الحكم النبويّ، وسوف يخلو من البركة، وبالتالي يُصيبه الدمار والاندثار.

 

تلازم الأمانة والصدق

الأمانة تدعو الإنسان إلى صدق الحديث، كما أنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة؛ لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول، والأمانة نوع من الصدق في العمل، وعلى هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين ترتبطان بجذر مشترك، وتعبّران عن وجهين لعملة واحدة؛ ولذلك ورد عن أمير المؤمنين%  أنّه قال: «الأمـانَةُ تُؤدِّي إِلى الصُّدقِ»([3])، وعنه%  أيضاً: «إذا قَويَتْ الأَمـانَةُ، كَثُرَ الصّدقُ»([4]).

 

طرق الوقاية من الخيانة والعلاج

إنّ تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع والوقاية من الخيانة لا يتسنّى إلّا في ظلّ التقوى والإيمان والالتزام الديني والأخلاقيّ؛ لأنّ أحد جذور الخيانة هو الشرك وعدم الاعتقاد الكامل بقدرة الله -تعالى- ورازقيّته. ولهذا، فالأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان، ويتصوّرون أنّهم سوف

 


([1]) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا% ، ج2، ص32.

([2]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج76، ص125.

([3]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص49.

([4]) المصدر نفسه، ص134.

 

38


33

الموعظة السادسة: الأمانة والخيانة

يعيشون الفقر في حالة تحلّيهم بالأمانة والصدق، وأنّهم سوف لا يحصلون على ما يحتاجونه إلاّ بواسطة الخيانة، يكبّلون أنفسهم بطوق الخيانة، ولكن عندما يتحرّكون من موقع تقوية دعائم الإيمان في قلوبهم وتعميق حالة التوكّل والاعتماد على الله -تعالى- والثقة بوعده، فإنّ ذلك يتسبّب في تصحيح مسارهم في عملية الوصول وتحصيل مواهب الحياة.

ومن جهة ثانية، فإنّ من الأسباب والعوامل المهمّة في الوقاية من التورّط بالخيانة هو التفكّر والتأمّل في عواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، وما يترتّب عليها من فضيحة وحرمان وزوال الثقة وماء الوجه أمام الخلق والخالق، وبالتالي الابتلاء بالفقر المزمن الذي سعى إلى الفرار منه بارتكاب الخيانة. ورد في نصيحة لقمان لابنه، يقول: «يـا بُنَيَّ، أَدِّ الأَمـانَةَ تَسلمُ لَكَ الدُّنيـا وَآخِرَتُكَ، وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً»([1]).

 


([1]) الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج12، ص156.

 

39


34

الموعظة السابعة: الثبات والتزلزل

الموعظة السابعة
الثبات والتزلزل

 

هدف الموعظة

حثّ الناس على الثبات من خلال بيان أسباب التزلزل وعوامل الثبات.

محاور الموعظة

أساليب العدوّ في المحنة

عوامل التزلزل

العوامل المؤثّرة في الثبات

بلاء المؤمنين

تصدير الموعظة

﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾([1]).

 


([1]) سورة هود، الآية 120.

 

40


35

الموعظة السابعة: الثبات والتزلزل

أساليب العدوّ في المحنة

يبدأ الصراع بين الحقّ والباطل، فيتّهم أهلُ الباطل أنصارَ الحقّ بأنّهم مرفوضون من قبل الناس، ومن قبل المجتمع، ثمّ تتطوّر الأساليب فيتّهمونهم بالكذب والسحر والشعوذة والجنون، كما حصل مع النبيّ الأكرم- ، وصولاً إلى الشتائم والأذى الشخصيّ والمقاطعة والتعذيب والحصار، وانتهاءً بالقتل والتعذيب والإبادة. ومن هنا ندخل للحديث عن عوامل الثبات والتزلزل:

عوامل التزلزل

إنّ دراسة عوامل التزلزل عن الحقّ تعرّفنا عوامل الثبات، وأسباب التزلزل تشير إلى أسبابا الثبات، تماماً كتعرّف أسبابِ المرض حتّى يعرف الإنسان أسباب الصحّة والسلامة. ومن هذه العوامل والأسباب:

1. الخوف من الموت

في البداية يصمد صاحب الحقّ قليلاً، ولكن عندما تصل مسألة الثبات على الحقّ إلى روحه وعائلته وأحبّائه، وأنّه قد يتعرّض للقتل عندئذٍ قد يتزلزل، وشواهد ذلك من التاريخ كثيرة جدّاً، منها ما حصل في الكوفة، إذ بايعوا مسلم بن عقيل، لكن عندما هدّدهم عبيد الله بن زياد بالقتل (مع استخدامه لقليل من الحرب النفسيّة عبر بثّ شائعة أنّ جيش الشام في الطريق إليهم) تزلزلوا وسقطوا في هذه المحنة، وتخلّوا عن مسلم بن عقيل، وخذلوا الإمام الحسين عليه السلام .

وعلاج هذا الأمر يكون عبر اليقين بأنّ تقدير الموت بيد الله -تعالى-، وأن لا خلود في هذه الدنيا، وأنّ الإنسان لن يستطيع أن يفرّ من الموت إذا انقضى أجله، يقول -تعالى-: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى 

 

41

 


36

الموعظة السابعة: الثبات والتزلزل

مَضَاجِعِهِمْ﴾([1]).

فالنفس تتوهّم أنّ التأخّر والهروب من الحرب والمعركة والابتعاد عن خطّ الحقّ سوف يبعدنا عن الموت، والصحيح أنّ الموت له أجل: ﴿الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾([2]).

2. الخوف على الأموال والرزق

والصحيح أنّ الجهاد هو الّذي يجلب الرزق ويحفظ النفس، وما حصل في المدينة المنوّرة في واقعة خير شاهد على أنّ التخاذل له تبعاته وآثاره في الدنيا، إذ تخلّفت المدينة عن نصرة الإمام الحسين% ، فكانت واقعة الحرّة بعد كربلاء، والتي أُبيحت فيها المدينة ثلاثة أيّام لجيش يزيد!

وشاهد آخر في أيّامنا ما يجري على الأمّة بعد تخلّيها عن فلسطين، بينما إذا أعاد لنا الجهاد في لبنان أهلنا وقرانا وحافظ على أعراضنا...

3. ركون الناس إلى الدنيا

إذ يعتقدون أنّها باقية دائمة، ويغفلون عن كونها زائلة فانية، لم تدم لغيرهم فكيف تدوم لهم؟!

انظر إلى الأمم السالفة إلى الفراعنة والعمالقة، إلى الفرس والروم، إلى حضارات كانت وولّت، إلى من شارك في قتل سيّد الشهداء% ، من بقي منهم؟ وأين هي دورهم وقصورهم؟ أموالهم وكنوزهم؟ عاشوا قليلاً، ورحلوا سريعاً، فلم تبقَ إلّا آثارهم...

يقول الإمام الحسين%  لجيش ابن سعد (لعنه الله): «الحمد لله الّذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور

 


([1]) سورة آل عمران، الآية 154.

([2]) سورة آل عمران، الآية 168.

 

42


37

الموعظة السابعة: الثبات والتزلزل

من غرّته والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيّب طمع من طمع فيها»([1]).

عمر بن سعد رضي بقتل الإمام الحسين%  طمعاً بشيء من حطام الدنيا (ملك الريّ وبعضاً من جرجان)، ولكنّه لم يبقَ بعد الإمام%  إلّا سنوات قليلة، وقُتِل على يد المختار الثقفيّ، فخسر الدنيا والآخرة.

العوامل المؤثّرة في الثبات

يقول -تعالى-: ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.

تعرّضت سورة هود في القرآن الكريم إلى عدد من قصص الأنبياء( ، والقصص المذكورة كلّها في هذه السورة على تنوّعها، إنّما هي لأجل تثبيت فؤاد النبيّ-  وقلوب المؤمنين مع النبيّ- ، فهي موعظة وذكرى للمؤمنين، وهي حقّ ونثبّت بها فؤادك؛ لأنّ القلب إذا كان ثابتاً وقويّاً شجاعاً وصلباً عندها تثبت سائر الأعضاء.

1. العلم والمعرفة

بما أعدّه الله للثّابتين والمضحّين والمجاهدين فيقدّم الله على هواه لجنّة عرضها السماوات والأرض وحياة خالدة ورضوان.

2. اللّجوء إلى الله

فإنّه ركن قويّ وحرز حريز عند التزلزل، وعندما تبدأ النفس والشيطان والناس بالوسوسة وتثبيط العزائم... ﴿وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾([2]).

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج45، ص6.

([2]) سورة البقرة، الآية 250.

 

43


38

الموعظة السابعة: الثبات والتزلزل

﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾([1]).

3. التأسّي

بالأنبياء وبرسول الله-  وما تحمّله وصبر عليه، وبأهل البيت(  الّذين تهون عند مصائبهم كلّ مصيبة.

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾([2]).

بلاء المؤمنين

عن الإمام الصادق% : «وقد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها، فما يردّهم عمّا هم عليه شيء ممّا هم فيه من غير تِرَةٍ وَتَرُوا([3]) من فعل ذلك بهم ولا أذى، ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، فاسألوا ربّكم درجاتِهم، واصبروا على نوائب دهركم، تدركوا سعيهم»([4]).

 


([1]) سورة آل عمران، الآيتان 147 - 148.

([2]) سورة الأحزاب، الآية 21.

([3]) أي مكروه أو جناية أصابوا منهم.

([4]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8، ص248.

 

44


39

الموعظة الثامنة: الغشّ سبيل الشقاء

الموعظة الثامنة
الغشّ سبيل الشقاء

 

هدف الموعظة

بيان المراد من الغشّ وآثاره في الحياة الاجتماعيّة.

محاور الموعظة

أعظم الغشّ

أغشّ الناس

آثار الغشّ

تصدير الموعظة

رسول الله- : «ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره»([1]).

 

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج10، ص367.

 

45


40

الموعظة الثامنة: الغشّ سبيل الشقاء

أعظم الغشّ

الغشّ على أنواع عديدة ودرجات مختلفة، يتفاوت في قبحه بحسب الشيء الذي يتعلّق به، وأكثر ما هو شائع في الغشّ بين الناس يعود إلى الأمور الماليّة وعالم التجارة والمكاسب، وهو الذي كان من الصدر الأوّل للإسلام، حيث نجد أغلب الروايات التي عالجت هذا الموضوع تتعرّض له، وكان المال والتكسّب المحور فيها، وهذه بعض النماذج ممّا حدث في السوق مع رسول الله- :

1. ما قاله-  لرجل يبيع طعاماً، وقد خلط جيّداً بقبيح: «ما حملك على ما صنعت؟!»، فقال: أردتُ أن يُنفق، فقال له النبيّ- : «ميّز كلّ واحد منهما على حدة، ليس في ديننا غشّ»([1]).

2. مرّ النبي-  في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: «ما أرى طعامك إلّا طيّباً»، وسأله عن سعره، فأوحى الله -عزّ وجلّ- إليه أن يدسّ يديه في الطعام ففعل، فأخرج طعاماً رديّاً، فقال لصاحبه: «ما أراك إلّا وقد جمعتَ خيانة وغشّاً للمسلمين»([2]).

3. إنّ رسول الله-  مرّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟!»، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال- : «أفلا جعلته فوق الطعام حتّى يراه الناس؟! من غشّنا ليس منّا»([3]).

ويتشعّب الغشّ التجاريّ إلى شعب كثيرة؛ فمرّة يرتبط بجودة المبيع وفساده، وأخرى بمصدر صنعه، وثالثة في كيفيّة صناعته، وهكذا كما يكون في أصل وجود المبيع وعدم وجوده مثل ما

 


([1]) الشيخ الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج3، ص2295.

([2]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص161.

([3]) الشيخ الريشهريّ، ميزان الحكمة، ج3، ص2295.

 

46


41

الموعظة الثامنة: الغشّ سبيل الشقاء

يمارسه بعض العاملين في مجال صيانة السيّارات حيث يقبضون أثمان بعض القطع الغياريّة بدعوى تبديل القديم بجديد غيره مع إبقائهم لما كان فيها، إلّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى.

لكنّ الغشّ الأفظع والأعظم هو ما تعلّق بأمر أهمّ وشكّل خطورة أكبر، حينما يكون الغشّ غشّاً في الدين وفي مسائل تُعدّ أساساً في حياة الأمّة، وتتّصل بأشخاص لهم مكانة ودور في نظام البلاد وشؤون العباد، فعن أمير المؤمنين% : «وإِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الأُمَّةِ، وأَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الأَئِمَّةِ»([1]).

أغشّ الناس

ربّما يعيش الإنسان حياة طويلة لا يتجرّأ فيها أن يغشّ غيره ولا يخون أحداً من أصحابه، فيخلص إلى أنّه قضى حياة بيضاء في تعامله مع الغير ولم يسجّل اسمه في لائحة أهل الغشّ والخيانة، بينما يكون هذا الشخص أغشّ الناس وأكثرهم غفلة عن واقع حاله؛ لأنّ الغشّ لا يقتصر على الآخرين، إنّما أحد أنواعه غشّ الإنسان نفسه، وهو ما يقع فيه من دون أن يشعر بذلك أو يكون شاعراً به، لكنّه متغافل فيما بعد عن سوء حاله.

وقد عدّ آل البيت(  الغاشّ لنفسه أغشّ الناس، عن أمير المؤمنين% : «إنّ أغشّ الناس أغشّهم لنفسه وأعصاهم لربّه»([2]).

آثار الغشّ

1. الغاشّ مع اليهود يوم القيامة

عن النبيّ- : «من غشّ المسلمين حُشِر مع اليهود يوم القيامة؛ لأنّهم أغّش الناس للمسلمين»([3]).

 


([1]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص383.

([2]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص142.

([3]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص373.

 

47


42

الموعظة الثامنة: الغشّ سبيل الشقاء

2. اللّعنة الإلهيّة

عن الإمام الكاظم% ، عن آبائه( : «ملعون من غشّ مسلماً أو ماكره أو غرّه»([1]).

3. نزع بركة الرزق، فساد المعيشة، الوكالة إلى النفس

جمع هذه الأمور الثلاثة حديث النبيّ الأكرم- : «من غشّ أخاه المسلم نزع الله عنه بركة رزقه، وأفسد عليه معيشته، ووكله إلى نفسه»([2]).

4. المسبّة

عن أمير المؤمنين% : «الغشّ يكسب المسبّة»([3]).

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج100، ص82.

([2]) المصدر نفسه، ج73، ص365.

([3]) الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص32.

 

48


43

الموعظة التاسعة: الفتنة وأخطارها

الموعظة التاسعة
الفتنة وأخطارها

 

هدف الموعظة

إيضاح معنى الفتنة، وأخطارها وكيفيّة الوقاية منها.

محاور الموعظة

معنى الفتنة

الفتنة في القرآن الكريم

أهداف الفتنة

الشيطان عمود الفتنة

واجبنا عند وقوع الفتن

الوقاية من الفتنة خير من علاجها

تصدير الموعظة

رسول الله- : «ليغشينّ من بعدي فتن كقطع اللّيل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل»([1]).
 


([1]) المتّقي الهنديّ، كنز العمال، ج11، ص127.

 

49


44

الموعظة التاسعة: الفتنة وأخطارها

معنى الفتنة

الفتنة في كلام العرب: الابتلاء، والامتحان وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفضّة والذهب، أذبتهما بالنار ليتميّز الرديّ من الجيّد، ومن هذا قول الله -عزّ وجلّ-: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾([1])؛ أي يحرقون بالنار.

وقال ابن الأثير: الفتنة: الامتحان والاختبار... وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار من المكروه، ثمّ كثر حتّى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء([2]).

 

الفتنة في القرآن الكريم

لله سنن كثيرة في خلقه، منها فتنه الناس؛ أي اختبارهم، ليعلم المؤمن من الكافر. وقد فتن الله -سبحانه- الذين ولدوا وعاشوا قبل نزول الوحي على النبيّ محمّد- . والغاية -قديماً وحديثاً- تمييز الصادقين وتحديدهم في إيمانهم من الكاذبين، قال -تعالى-: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾([3])، فلا يكفي أن يتلفّظ الإنسان بلسانه أنّه مؤمن بالله، وأنّه لا إله إلّا الله. فالقول باللّسان غير كافٍ، وقد كان إيمان بعض الناس بأفواههم من دون قلوبهم يُحزن الرسول- ، فجاء الردّ من الله -سبحانه وتعالى- بأن لا يحزنك ذلك، فقال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن

 


([1]) سورة الذاريات، الآية 13.

([2]) ابن الآثير، النهاية، ج3، ص410.

([3]) سورة العنكبوت، الآيات 1-3.

 

50


45

الموعظة التاسعة: الفتنة وأخطارها

قُلُوبُهُمْ﴾([1]).

فلا بدّ من أن يرافق القول والنطق صدق القلب، كما لا بدّ من أن يؤكّده صدق العمل؛ لهذا دائماً ما يرد ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾. فمسألة الإيمان وقبوله لا تعتمد على القول أو كثرة السجود، بل صدق القلب والعمل، ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾([2]). فهذه صفات صادقي الإيمان والمتّقين؛ إذ يجب أن ينتفع المؤمن ويكسب خيراً من إيمانه في الدنيا والآخرة، فإذا لم ينتفع من إيمانه فهو إيمان وهميّ، لم يصدّقه العمل ولم يؤكّده، وبالتالي فإنّ إيمانه هذا لن ينفعه ولن يكسبه خيراً، هذا إذا أحسنّا الظنّ، ولم نحسبه من المنافقين.

أهداف الفتنة

1. الاختبار

لا يريد الله لنا الكفر، بل يريد لنا الإيمان والحقّ، ولكن عن بيّنة وقوّة، وإصرار وتميّز، ورد في القرآن الكريم الكثير من الفتن التي تعرّض لها الأنبياء والرسل( ، بل وفي سيرة الرسول محمّد-  صوّر القرآن كيف ألمّت به وبالمسلمين المحن والفتن، من قتلٍ وتهجيرٍ ومقاطعةٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّة، وهزيمةٍ في معركة أحد... والهدف منها جميعاً الاختبار، وتقوية إيمان

 


([1]) سورة المائدة، الآية 41.

([2]) سورة البقرة، الآية 177.

 

51


46

الموعظة التاسعة: الفتنة وأخطارها

المؤمن، وجعله أكثر صلابة وقوة، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾([1]). فهي عمليّة غربلة وتقوية للمسلمين؛ فالمؤمن ينجح في الاختبار، والمنافق ينهار ويفشل، فينكشف أمام الله -تعالى- وأمام نفسه وأمام المسلمين.

2. الانصياع التامّ لله

يفتن الله المؤمن، لكي يجعله منصاعاً للمنهج الحقّ، حتّى يصل إلى الانصياع التاّم، وحتّى يغدو هوى نفسه متوافقاً ومتطابقاً لمنهج الله -سبحانه-، فلا يجد في نفسه حرجاً من اتّباع الحقّ ودين الله -عزّ وجلّ-، ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾([2]).

الشيطان عمود الفتنة

الشيطان الرجيم أحد أعمدة الكفر، والعمود الفقري لفتنة الإنسان، وقد ينسى الإنسان أنّ إبليس وحزبه هو عدوّه الأول، والشيطان يسعى جاهداً إلى تحقيق هدفه الأول والأساسي، وهو إضلال الإنسان وخداعه: ﴿بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ﴾([3]).

قصّة الإنسان وإبليس والحياة الدنيا والآخرة، كلّها تتلخّص في كلمة واحدة وهي الاختبار، نحن هنا في الحياة الدنيا في مرحلة اختبار لفترة زمنية محدّدة، الناجحون لهم الجنة والراسبون لهم النار.

الأوجه العديدة للفتن

الفتنة هنا عمليّة صرف الإنسان عن الحقّ بالقوّة،

 


([1]) سورة البقرة، الآيتان 155 و156.

([2]) سورة النساء، الآية 65.

([3]) سورة الأعراف، الآية 27.

 

52


47

الموعظة التاسعة: الفتنة وأخطارها

كأن يفرض نظام جائر على الناس شيئاً لا يريدونه ولا ينسجم مع ما يرونه أو يعتقدونه، وفي هذه الحالة إذا رفضوا يُعذّبهم ويفتنهم. هذا النوع من الفتنة الذي يُراد منه أن يحمل الناس على تغيير معتقداتهم وآرائهم وتصوّراتهم هي أشدّ من القتل؛ لأنّ الحرّيّة جوهر إنسانيّة الإنسان، والإنسان الذي تُسلَب حرّيّته، سواء أكان في الاعتقاد أو التعبير عن الرأي أو التصرّف المشروع، إنّما تُسلَب منه إنسانيته.

وقد عبّر الإمام عليّ%  عن كيفيّة نشوء الفتنة، فقال: «إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه، ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنى»([1]). ففي يوم الفتنة تتمكّن الفتنة من عقول الناس، وتغلب على نفوسهم وأفكارهم، وتُسلب منهم الرؤية والبصيرة، فيلتبس عليهم الحقّ بالباطل، ويلتبس عليهم أهل الحقّ بأهل الباطل، فلا يميّزون هؤلاء عن أولئك، ولا هذا عن ذاك، ولكنّ الفتنة تفرز قلّة يعصمهم الله -تعالى- منها، ويرزقهم بصيرة نافذة، فيقفون إلى جانب الحقّ، وإن قلّ أهله وروّاده، ويقارعون الباطل، وإن كثر أهله.

 

واجبنا عند وقوع الفتن

يقول أمير المؤمنين% : «كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لَا ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ ولَا ضَرْعٌ فَيُحْلَب»([2]).

 


([1]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص88.

([2]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص469.

 

53


48

الموعظة التاسعة: الفتنة وأخطارها

وابن اللّبون عبارة عن جمل ذي سنتين، هذا الجمل لا يقوم بخدمة، لا ظهر فيُركَب، ليست له قوّة حمل الإنسان من بلد إلى بلد، وليس له ضرع فيُحلَب، إنّما الإنسان يستبقي عنده ابن اللّبون ليكبر يومًا من الأيّام، ويصبح ظهرًا يركبه، أو يصبح ذا ضرع يحلبه.

وليس معنى ذلك أن يعتزل الإنسان الساحة في الفتنة؛ فليست السلامة من الفتنة بالانسحاب من الساحة، إنّما معنى ذلك ألّا يعطي الإنسان من نفسه شيئاً للفتنة.

 

الوقاية من الفتنة خير من علاجها

وللسلامة من مضلّات الفتن، جعل الله -تعالى- للإنسان ملاذاً يلوذ به من الفتنة، ويمكّنه من التفريق بين الحقّ والباطل، يمكن جمعه في الآتي:

1. الله؛ فإنّه -عزّ وجلّ- يعيذ عبده إذا استعاذ به من مضلاّت الفتن، وقد ورد في الدعاء: «وأعوذ بك من مضلّات الفتن»([1])، وعن رسول الله- : «إِذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ؛ فَإِنَّه شَافِعٌ مُشَفَّعٌ ومَاحِلٌ مُصَدَّقٌ. ومَنْ جَعَلَه أَمَامَه، قَادَه إِلَى الْجَنَّةِ، ومَنْ جَعَلَه خَلْفَه، سَاقَه إِلَى النَّارِ وهُوَ الدَّلِيلُ، يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ»([2]).

2. التقوى؛ فإنّها معاذ وفرقان لمن يتحصّن بها، فاذا حصّن الإنسان نفسه في حدود الله -تعالى-، ولم يتجاوز حدوده في قول أو فعل، عصمته التقوى من الضلال والفتنة، وطردت عنه الشيطان، وبصّره الله -تعالى- بكيد الشيطان ومكره، فلا يتمكّن منه، ولا يستطيع أن يكيد به، أو أن يمكر به، عن أمير المؤمنين% : «واعْلَمُوا أَنَّه مَنْ يَتَّقِ الله، يَجْعَلْ لَه

 


([1]) الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص76.

([2])الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص599.

 

54


49

الموعظة التاسعة: الفتنة وأخطارها

مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ ونُوراً مِنَ الظُّلَمِ»([1]). ومن التقوى مخالفة الهوى.

فاذا حلّت الفتنة بالإنسان ووقع في شراكها، فخالف هواه، كلما تردّد بين أمرين يميل إلى أحدهما ويرغب عن الآخر، جعل الله -تعالى- له من تلك الفتنة فرجاً ومخرجاً، ورزقه بصيرة يهتدي بها؛ رُوي عن الإمام الكاظم% : «إذا حزّبك (مرّ بك) أمران، لا تدري أيّهما خير وأصوب، فانظر أيّهما أقرب إلى هواك فخالفه؛ فإنّ كثيرَ الصواب في مخالفة هواك»([2]).

3. الإخلاص والخلوص للّه؛ فإنّ الشيطان لا سلطان له على عباد الله المُخلصِين، كما جاء في قوله -تعالى-: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾([3]).

وعن رسول الله- : «طوبى للمخلصين! أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة»([4]).

 


([1]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص266.

([2]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج1، ص155.

([3]) سورة ص، الآيتان 82 - 83.

([4]) المتّقي الهنديّ، كنز العمال، ج3، ص24.

 

55


50

الموعظة العاشرة: القرض الحسن

الموعظة العاشرة
القرض الحسن

 

هدف الموعظة

بيان المراد من القرض الحسن وأقسامه وفضله.

محاور الموعظة

تعريف القرض الحسن

أقسام القرض

ما هو القرض الحسن؟

مضاعفة العطاء أضعافًا كثيرة

تصدير الموعظة

﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾([1]).
 


([1]) سورة البقرة، الآية 245.

 

56


51

الموعظة العاشرة: القرض الحسن

تعريف القرض

القرض في اللّغة: ما يَتَجازَى به الناسُ فيما بينهم ويَتَقاضَوْنَه، وجمعه: قرُوضٌ، وهو ما أَسْلَفَه من إِحسانٍ، والقِرْضُ بالكسر، لغة فيه حكاها الكسّائيّ([1]).

وفي الاصطلاح الفقهيّ: معروف أثبته الشارع إمتاعاً للمحتاجين مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً([2]).

فالقرض فعل خيرٍ، يؤدّيه الإنسان مع أخيه، وهو من البلاء الحسن.

والقرض يأتي بمعنى القطع، يعني يقتطع المقرِض من نفسه وماله ما يربطه بالمقترض.

أقسام القرض

وقد قُسّم القرض إلى قسمين:

1. قرض حاجة: وهذا لا يُتصوَّر في حقّ الله -تعالى-، فهو الغنيّ المطلق غير المحتاج لأحدٍ، والكلّ محتاج إليه، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾([3]).

2. قرض ربحٍ: أي إنّ هذا المال المستَقرَض يرجع إلى المقرِض مع الربح الحلال، وهذا متصوّر في حقّه -تعالى-، وهو محور فكرة القرض الحسن، فيصرف المقرِض المالَ في المنافع العامّة، ومن ثمّ يعود النّفع إلى صاحبه، بشرط خضوعه للموازين الشّرعيّة.

والمعنى المراد في المقام أنّ جميع ما يقدّمه الإنسان من أفعال خيّرة، ترجع منفعتها إلى النفس أو المجتمع، وتعبيره -تعالى- بالقرض إنّما هو للتنظير وتقريب الفكرة، وليس المراد القرض الاصطلاحيّ الّذي يُؤخذ لرفع الحاجة والعَوَز.

 


([1]) انظر: لسان العرب، مادّة (قرض).

([2]) الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي، الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة، ج3، ص318.

([3]) سورة فاطر، الآية 15.

 

57


52

الموعظة العاشرة: القرض الحسن

الإقراض لله

ارتبط القرض بالله -تعالى- في هذه الآيات الكريمة للحثّ والتشجيع والترغيب على البذل والإنفاق في سبيل النفس الإنسانيّة والمجتمع.

وتَتبيّنُ هذه الفكرة في قوله -تعالى-: ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾([1]).

 فهذه الآية توضّح لنا المراد من القرض الّذي يقدِّمه الإنسان إلى الناس على صعيد الفرد والمجتمع.

والدليل على هذا قوله -تعالى-: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾، من جهة كون القرض تقدمة لنفس المقرِض عبر مساعدته للآخرين، فالمنفعة الحقيقيّة هي لصاحب القرض، وليس لمن طلب القرض والمساعدة!

ولمَّا كانت رغبة الإنسان في الإنفاق ضعيفة بشكل عامّ، حثّ الله -تعالى- الإنسان على الإنفاق، ورَبَط القرض بذاته المقدّسة كتشجيع على فعل الخير والبذل والعطاء لوجهه -عزّ وجلّ-.

ومن الأدلّة، ما في الخبر الصحيح، عن فضيل بن يسار، عن الإمام الصادق% : «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ أَقْرَضَ مُؤْمِناً يَلْتَمِسُ بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلَّا حَسَبَ الله لَهُ أَجْرَهُ بِحِسَابِ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ»([2]).

فالمؤمن عندما يقرض الله، هو في حقيقة الأمر يقدّم لنفسه الخير والأجر الجزيل الّذي يفوق كلّ أجرٍ آخر، فيُعَدّ القرض كالصدقة من جهة رجوع الصدقة إلى صاحبها مضاعفة، كذلك القرض يرجع إلى صاحبه أضعافاً كثيرة، وهو في بعض الروايات يتخطّى الصدقة بثمانية أضعاف، فالصدقة بعشرة،

 


([1]) سورة المزمّل، الآية 20.

([2]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص34.

 

58


53

الموعظة العاشرة: القرض الحسن

والقرض بثمانية عشر!

ما هو القرض الحسن؟

كلّ قرض كان مُخلَصاً لله -تعالى-؛ أي كان خالياً عن الشوائب من الشرك، والرياء والسّمعة، ومن المنِّ والأذى، وفيه الخير والمنفعة العامّة العائدة على الصالح العامّ، فهو من القرض الحسن. من أجل ذلك علينا أن نتنبّه إلى كمائن الشيطان الّذي لا يترك فرصة إلّا وينتهزهَا ليُوقِعنا في شرك الرياء والسمعة، فنقدّم المال لأجل أن نُذكر على المنابر، أو يقال انظروا إلى فلان وفلان ما الّذي قدّمه لبناء المسجد، وغير ذلك من الحبائل الّتي قد يَحيكها إبليس بطريقة يغفل الإنسان عنها!

نعم، في بعض الأحيان قد يكون من باب التشجيع للآخرين كي يقدّموا ويَبذلوا قروضاً حسنة، فهذا شيءٌ ممدوحٌ ومطلوب، ولكن لا بدّ من الاحتياط والالتفات إلى خدع الشيطان الّتي تَقتنص كلّ فرصة لتسقطنا في حفر المعاصي والذنوب، فنكون من الّذين يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً، وما لهم في الآخرة من نصيب، قال -تعالى-: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾([1]).

 

مضاعفة العطاء أضعافً كثيرة

إنّ الله -تعالى- قد طلب منّا في أوّل هذه الآية الكريمة طلباً، فقال: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، ثمّ جاء الجواب من قِبَلِهِ -تعالى-: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾، أنْ يَا عباديَ أجيبوني، فأعطيكم من العطاء المضاعف، ومن العطاء الكثير، ما لا عين رأت، فما تقدِّمه من قرضٍ لأخيك المؤمن لا يضيع عندي، بل يعود عليك

 


([1]) سورة الكهف، الآيتان 103 - 104.

 

59


54

الموعظة العاشرة: القرض الحسن

بمنافعَ ليس لها إحصاء.

وهنا أشار بعض أهل اللّغة إلى الفرق بين الضعف والذي هو أداء المثل وزيادة، وبين قوله -تعالى- (أضعاف)، فإنّ فيه تأكيداً على معنى الزيادة أكثر من كلمة (يضعّف)؛ لأنّ معنى ضعّفت، أي: ضعّفت مرّتين، بينما ضاعفت، يعني جعلته مرّتين فصاعداً.

وفي الصحيح عن إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق% : «مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ، وَالْقَرْضُ‏ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ»([1]).

فالقرض بثمانية عشر ضعفاً، والصّدقة أقلّ منه في الأجر والثّواب كما هو ظاهر الحديث الشريف، ومع ذلك لم يكتفِ الله -تعالى- بذلك، فعقَّب التضعيف بالكثير؛ أي أضعافًا كثيرة!

فجزاء القرض الحسن أضعافٌ كثيرة، وهذا الجزاء قد يختلف باختلاف مراتب الإخلاص في إعطاء القروض الحسنة، فتارة يكون بعشرة كما في قوله -تعالى-: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾([2])، وتارة أخرى يكون بسبعمئة، كما في قوله -تعالى-: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾([3]).

هذا هو بعض جزاء من يقرض الله قرضاً حسناً، فالله يُعطي كلّ من يُنفق في سبيله الكثير الكثير، كمثل حبّة أنبَتت سبعَ سنابلَ، وكلّ سنبلة تُعطي مئة حبّة، وبعد ذلك يضاعف الله -تعالى- لمن يشاء من عباده أضعافًا كثيرة!

يقبض ويبسط

بعد هذا العطاء كلّه الّذي قرنه الله -تعالى-

 


([1]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص33.

([2]) سورة الأنعام، الآية 160.

([3]) سورة البقرة، الآية 261.

 

60


55

الموعظة العاشرة: القرض الحسن

بذاته المقدّسة، وأنّ الّذي يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له، علينا أن نبقى متيقّظين إلى أنّ ما نبذله ونقدّمه لا يساوي شيئاً أمام كرم الله -تعالى- علينا، ولا يُمكن في لحظة ما أن يقوم الإنسان بالتفكير فيما بينه وبين نفسه أنّه قد فعل الكثير، وأعطى ما لا يمكن أن يعطيَه غيره.

من هنا كان تنبيه الله -تعالى- لنا عندما قال: ﴿وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

لكي نضع في بَالِنا أنّنا مهما قدّمنا يبقى تقديمنا قليلاً جدّاً مقابل قدرة الله القابض والباسط علينا، من نعمة الخلق، والصحة والعافية، والأمن، والأمان في شعب حياتنا كلّها، فالله -عزّ وجلّ- إذا أراد منعَ عنّا كلّ شيء، وإذا أراد أعطانا كلّ شيء...

فيا أيّها المؤمن، أقرض الله قرضاً حسناً يُضاعفه لك أضعافًا كثيرة جدًّا، ولا تغفل عن أنّ الله -سبحانه- هو المعطي الحقيقيّ، وهو المانع الحقيقيّ أيضاً، فإذا أراد أن يُضَيِّق علينا منع عنّا الهواء الّذي نتنفّسه.

 

61


56

الموعظة العاشرة: القرض الحسن

بذاته المقدّسة، وأنّ الّذي يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له، علينا أن نبقى متيقّظين إلى أنّ ما نبذله ونقدّمه لا يساوي شيئاً أمام كرم الله -تعالى- علينا، ولا يُمكن في لحظة ما أن يقوم الإنسان بالتفكير فيما بينه وبين نفسه أنّه قد فعل الكثير، وأعطى ما لا يمكن أن يعطيَه غيره.

من هنا كان تنبيه الله -تعالى- لنا عندما قال: ﴿وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

لكي نضع في بَالِنا أنّنا مهما قدّمنا يبقى تقديمنا قليلاً جدّاً مقابل قدرة الله القابض والباسط علينا، من نعمة الخلق، والصحة والعافية، والأمن، والأمان في شعب حياتنا كلّها، فالله -عزّ وجلّ- إذا أراد منعَ عنّا كلّ شيء، وإذا أراد أعطانا كلّ شيء...

فيا أيّها المؤمن، أقرض الله قرضاً حسناً يُضاعفه لك أضعافًا كثيرة جدًّا، ولا تغفل عن أنّ الله -سبحانه- هو المعطي الحقيقيّ، وهو المانع الحقيقيّ أيضاً، فإذا أراد أن يُضَيِّق علينا منع عنّا الهواء الّذي نتنفّسه.

 

61


56

الموعظة الحادية عشرة: المال الحرام

الموعظة الحادية عشرة
المال الحرام

 

هدف الموعظة

تعرّف بعض الوسائل المحرّمة في تحصيل المال وضوابط التصرّف به.

محاور الموعظة

ضوابط الاستفادة من المال

جمع المال من الحلال والحرام

وسائل محرّمة في جمع المال

آثار الإسراف

تصدير الموعظة

﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾([1]).

 


([1]) سورة التوبة، الآية 34.

 

62


57

الموعظة الحادية عشرة: المال الحرام

ضوابط الاستفادة من المال

المال أمر يحتاجه الناس، وهو في نفسه ليس مذموماً أو ممدوحاً، بل هو تابع في حكمه لمصدره ووجوه إنفاقه، وهذا يظهر من خلال الروايات، منها ما عن الإمام الباقر%  -لمّا سُئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس فيها-: «هي خواتيم الله في أرضه، جعلها الله مصلحة لخلقه، وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم، فمن أكثر له منها فقام بحقّ الله -تعالى- فيها، وأدّى زكاتها، فذاك الّذي طابت وخلصت له، ومن أكثر له منها فبخل بها ولم يؤدِّ حقّ الله فيها، واتّخذ منها الآنية، فذاك الّذي حقّ عليه وعيد الله -عزّ وجلّ- في كتابه، قال الله: ﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾([1])»([2]).

ولكنّ المشكلة هي في سوء استفادة الناس من هذا المال، إذ نجدهم على أحوال شتّى، وقد ذكر رسول الله-  ثلاثة أصناف من الناس، وذكر في وصف الصنف الثالث أنّهم: «يحبّون جمع المال ممّا حلّ وحرم، ومنعه ممّا افتُرض ووجب، إن أنفقوه أنفقوا إسرافاً وبداراً، وإن أمسكوه أمسكوا بخلاً واحتكاراً، أولئك الّذين ملكت الدنيا زمام قلوبهم حتّى أوردتهم النار بذنوبهم»([3]).

من خلال هذه الأحاديث وغيرها، يمكن الحديث عن وجوه الفساد الماليّ، سواء من جهة تحصيل هذا المال أم من جهة إمساكه ومنع الحقوق منه أم من جهة صرفه وطرق إنفاقه.

جمع المال من الحلال والحرام

قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ

 


([1]) سورة التوبة، الآية 35.

([2]) الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص520.

([3]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص185.

 

63


58

الموعظة الحادية عشرة: المال الحرام

أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾([1]).

وقد بيّن -تعالى- ما حرّم وما أحلّ من وسائل جمع المال، فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾([2]).

فأمّا الحلال البيّن فلا حرج من الاستفادة منه، وأمّا الحرام البيّن فلا رخصة في إتيانه في حالة الاختيار. وثمّة منطقة بين الحلال البيّن والحرام البيّن، هي منطقة الشبهات الّتي يلتبس فيها أمر الحلّ بالحرمة على بعض الناس؛ إمّا لاشتباه الأدلّة عليه، وإمّا للاشتباه في تطبيق النصّ على هذه الواقعة أو هذا الشيء بالذات. وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنّب المسلم هذه الشبهات، ولكن أكثر الناس لا يكتفون بالحلال، بل يُقدمون على الحرام ولا يعبؤون بالشبهات، وهذا ما أدّى بهم إلى الوقوع في حبائل الشيطان.

عن الإمام الصادق% : «يقول إبليس (لعنه الله): ما أعياني في ابن آدم، فلن يعييني منه واحدة من ثلاث: أخذ مال من غير حلّه، أو منعه من حقّه، أو وضعه في غير وجهه»([3]).

وسائل محرّمة في جمع المال

1. الاعتداء على أموال الآخرين

ويتمّ بأشكال مختلفة، منها السرقة والغصب، وتندرج تحت عنوان الظلم والمنكر.

وكذلك الاعتداء على أموال الناس، من خلال السطو على البيوت وسرقة أموال الناس، ويطلق على هذا النوع من الاعتداء الماليّ عنوان (السرقة). وأحياناً يسلبون من الآخرين أموالهم حيلة وتزويراً، وله أشكال مختلفة. وهذا كلّه محرّم بلا

 


([1]) سورة النساء، الآية 29.

([2]) سورة البقرة، الآية 275.

([3]) الشيخ الصدوق، الخصال، ص132.

 

64


59

الموعظة الحادية عشرة: المال الحرام

إشكال.

قال -تعالى-: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾([1]).

2. أكل مال اليتيم

يؤكّد القرآن الكريم مراراً على ألّا يتصرّف الكبار في أموال اليتامى أو لا يقتربوا منها إلّا لمصلحة اليتيم.

قال -تعالى-: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾([2]).

3. التطفيف في الميزان

يُعَدّ التطفيف في الميزان من أقبح أنواع الظلم في التبادل التجاريّ، وقد شدّد القرآن الكريم النهي عنه، كما في قوله -تعالى- عن لسان النبيّ شعيب% : ﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾([3]).

4. التدليس والغشّ

وهما من المحرّمات، لما يترتّب عليهما من مفاسد وينطبق عليهما عنوان أكل المال بالباطل الوارد النهي عنه في الآية الكريمة.

عن الإمام الباقر% : «مرّ النبيّ-  في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلّا طيّباً، وسأله عن سعره، فأوحى الله -عزّ وجلّ- إليه أن يدسّ يديه في الطعام، ففعل، فأخرج طعاما رديًّا، فقال لصاحبه: ما أراك إلّا وقد جمعت

 


([1]) سورة المائدة، الآية 38.

([2]) سورة النساء، الآية 2.

([3]) سورة هود، الآيتان 84 - 85.

 

65


60

الموعظة الحادية عشرة: المال الحرام

خيانة وغشًّا للمسلمين»([1]).

هذا وتتعدّد مظاهر الغشّ، منها:

أ. الغشّ في البيع والشراء

ويكون الغشّ فيهما بمحاولة إخفاء العيب، وفي ذاتيّة البضاعة أو عناصرها أو كمّيّتها، أو وزنها أو صفاتها الجوهريّة، كخلط الحنطة الجيّدة بالرديئة وشوب اللّبن بالماء والذهب بالنحاس، ونحو ذلك.

ب. الغشّ في الزواج

كأن يتظاهر الخاطب بأنّه صاحب جاه ولديه من الممتلكات الكثير، لكنّه لا يملك في الحقيقة شيئاً.

ومن الغشّ كذلك أن يعمد بعض الناس إلى تزكية الخاطب عند من تقدّم لهم، ومدحه والإطراء عليه وأنّه من الصالحين، مع أنّه ليس كذلك. كما أنّه من الغشّ إخفاء عيوب المطلوبة للزواج وإظهار أنّها في صحّة مثلاً بينما هي مريضة بمرض لا شفاء منه أو بها عاهة مزمنة...

5. الربا

وهو من المعاملات الماليّة الّتي نهى القرآن الكريم والسنّة الشريفة المسلمين بشدّة عن ممارستها، قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾([2]).

والآيتان تشيران إلى أنّ الربا يؤدّي إلى تكدّس الثروات وتمركزها بدون عمل وجهد وبنحو غير مشروع، ويكون منشأً للخلل والفساد الاقتصاديّ في المجتمع عدا تبعاته الأخلاقيّة القبيحة، إذ يدفع

 


([1]) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص161.

([2]) سورة البقرة، الآيتان 278 - 279.

 

66


61

الموعظة الحادية عشرة: المال الحرام

مجموعة من الأفراد نحو الكسل وطلب الراحة بدلاً من العمل والسعي النافع.

6. إنفاق المال في غير وجه الحقّ

وهذا يشمل صرف المال في الحرام أو في الحلال، ولكن على نحو الإسراف والتبذير، يقول الإمام عليّ% : «من كان له مال، فإيّاه والفساد! فإنّ إعطاءك المال في غير وجهه تبذير وإسراف، وهو يرفع ذكر صاحبه في الناس، ويضعه عند الله. ولم يضع امرؤ ماله في غير حقّه وعند غير أهله إلّا حَرَمه شكرهم، وكان خيره لغيره، فإن بقي معه منهم من يريه الودّ ويظهر له الشكر، فإنّما هو ملق وكذب»([1]).

وإذا كان لمال الغير حرمة تمنع التصرّف به إلّا بإذن مالكه، فإنّ لمال الإنسان نفسه حرمة أيضاً بالنسبة لصاحبه تمنعه أن يضيّعه، أو يسرف فيه، وقد نهى الله -تعالى- المؤمنين عن الإسراف والتبذير، كما نهى عن الشحّ والتقتير، إذ قال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾([2]).

آثار الإسراف

هذا وللإسراف آثار ضارّة، وهو قد يؤدّي إلى الانهيار في ساعات المحن والشدائد؛ فالمسرف الّذي قضى حياته في الاسترخاء والترف ولم يألف المحن والشدائد لا يلبث أن يضعف وينهار؛ لأنّه لم يربِّ نفسه على تحمّل الجوع والفقر والبلاء. كما وأنّه لا يُؤمَن عليه من الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام؛ ذلك أنّ المسرف قد تضيق به السبل، فلا يرعوي عن الدخول في الحرام حفاظاً على حياة الترف والنعيم الّتي ألفها، وقد يرتكب مختلف أنواع المفاسد، كالسرقة والترهيب

 


([1]) ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص185.

([2]) سورة الأعراف، الآية 31.

 

67


62

الموعظة الحادية عشرة: المال الحرام

وأكل المال بالباطل، طمعاً بما في أيدي الناس، وتلبيةً لحاجاته الّتي اعتادها.

 

68


63

الموعظة الثانية عشرة: مفاسد الفراغ

الموعظة الثانية عشرة
مفاسد الفراغ

هدف الموعظة

إيضاح خطورة الفراغ وآثاره النفسيّة والاجتماعيّة على الفرد.

محاور الموعظة

نعمة الوقت

نعمة العمر

الفراغ جالب للشرور والمفاسد

الفراغ سبب للهمّ والغمّ

كيف نواجه الفراغ؟

تصدير الموعظة

﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾([1]).

 


([1]) سورة المؤمنون، الآية 115.

 

69


64

الموعظة الثانية عشرة: مفاسد الفراغ

نعمة الوقت

عن الرّسول الأكرم- : «خصلتان كثير من الناس مفتون فيهما، الصحّة والفراغ»([1]).

الوقت والعمر والأيّام، اللّيل والنهار والدقائق واللّحظات رأس مال العبد، وهو نعمة من أعظم نعم الله -عزّ وجلّ- عليه. وقد أقسم الله -عزّ وجلّ- بالزمان لأهمّيّته في العديد من آيات القرآن.

وقيمة الزمن تكمن في أنّ الله -عزّ وجلّ- جعله فرصة للإيمان، والعمل الصالح، وهما سبب السعادة في الدنيا والآخرة.

نعمة العمر

عن النبيّ- : «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت»([2]).

فيُسأل العبد يوم القيامة سؤالين عن الزمن، عن عمره فيما أفناه عامّة، وعن شبابه فيما أبلاه خاصّة.

والمغبون هو الّذي باع شيئاً بأقلّ من ثمنه، أو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه، فالصحّة والوقت نعمتان عظيمتان، أكثر الناس لا يستفيد منهما ويضيّعهما ثمّ يندم عليهما. وخطر الأوقات والأنفاس كذلك مع كونهما رأس مال العبد وفرصة الأعمال الصالحة، أنّ عدد الأنفاس الّتي قدّرها الله -عزّ وجلّ- لنا غيب، فلا ندري متى تذهب أنفاس حياتنا.

عن الإمام عليّ% : «نَفَس المرء خطاه إلى أجله»([3]).

فالله -عزّ وجلّ- قدّر لنا عدداً محدَّداً من الأنفاس؛

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج81، ص170.

([2]) المصدر نفسه، ج7، ص258.

([3]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج70، ص128.

 

70


65

الموعظة الثانية عشرة: مفاسد الفراغ

فكلّما تنفّس العبد نفساً سُجِّل عليه، حتّى يصل العبد إلى آخر العدد المقدّر له، عند ذلك يكون خروج النفس، وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب، إلى دار الحساب ولا عمل.

وإنّما يدرك العبد خطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة، فعند ذلك يتمنّى أن يرجع إلى الدنيا لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله -عزّ وجلّ-.

قال -تعالى-: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾([1]).

الفراغ جالب للشرور والمفاسد

لا ينبغي للمؤمن أن يعيش الفراغ، بل لا بدّ من أن يكون جادّاً متهيّئاً للقاء الله -عزّ وجلّ-، فالأمم المتحضّرة في عالم المادّة تحسب الثواني لأنّها تسابق الزمن، والمؤمن أولى وأحرى وأجدر وأقدر.

لام الله المفرّطين في أوقاتهم، فقال: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾([2]).

ومن الأزمات الّتي نعاني منها عدم الإحساس بقيمة الوقت، ولا ندري كيف نستفيد منه وكأنّه عبء على ظهورنا نريد التخلّص منه.

فالوقت يمضي سدىً، لا مطالعة، لا ذكر، لا قراءة، لا عمل، بل بطالة وتضييع بانتظار ما هو أشدّ وأدهى ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ

 


([1]) سورة المنافقون، الآيتان 10 - 11.

([2]) سورة المؤمنون، الآيات 112 - 115.

 

71


66

الموعظة الثانية عشرة: مفاسد الفراغ

الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾([1]).

إنّ أخطر حالات الذهن يوم يفرغ صاحبه من العمل، فيبقى كالسيّارة المسرعة في انحدار بلا سائق، تجنح ذات اليمين وذات الشمال.

والسبب هو أنّ هذا الفارغ لا همّ له إلّا أن يقتل وقته كيفما كان، فهو لا يملك قيادة نفسه، بل هو منقاد لكلّ ما يحقّق له تجاوز هذا الزمن، وإن بما حرّم الله.

لذلك كان الفراغ من جملة الأسباب الداعية إلى ارتكاب المفاسد، ومن هنا كان الإمام زين العابدين%  يرشدنا في دعائه إلى خطورته، فيقول% : «فإن قدّرتَ لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة، لا تدركنا فيه تبِعة، ولا تلحقنا فيه سآمة، حتّى ينصرف عنّا كتّاب السيّئات بصحيفة خالية من ذكر سيّئاتنا، ويتولّى كتّاب الحسنات عنّا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا»([2]).

ويقول في دعاء مكارم الأخلاق: «اللّهمّ صلِّ على محمّد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعملني بما تسألني غداً عنه واستفرغ أيّامي في ما خلقتني له»([3]).

الفراغ سبب للهمّ والغمّ

إنّ الفراغ أشبه بالتعذيب البطيء الّذي يمارَس في سجون مدّعي الحضارة، حيث يوضع السجين تحت أنبوب يقطر كلّ بضع ثوان قطرة، وفي فترات انتظار هذه القطرات يُصاب السجين بالجنون...

الفراغ محرّك لكلّ النوازع المكبوتة والرغبات الشهوانيّة، وينعكس على صورة الفرد عند ذاته حيث يرى نفسه وقد أصبح بلا جدوى ولا منفعة.

 

يقول الشاعر:

 


([1]) سورة النبأ، الآية 40.

([2]) الإمام زين العابدين% ، الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 11.

([3]) المصدر نفسه، الدعاء 20.

 

72


67

الموعظة الثانية عشرة: مفاسد الفراغ

إنّ الشبابَ والفراغَ والجدة

مفسدةٌ للمرءِ أيّ مفسدة

إنّ استغلال الوقت واستثماره له فوائد عظيمة على الشابّ نفسه والأسرة والمجتمع، كما إنّ ضياع الوقت أو العبث قد يكون سبباً في تدهور شخصيّة الشاب.

كيف نواجه الفراغ؟

لا بدّ للمؤمن وهو يعيش في هذا المجتمع المحاط بالأجواء الموبوءة من أن يحصّن نفسه ضدّ عوارض الفراغ ومخاطره، ولا بدّ له من أن يخلق الأجواء الدينيّة المناسبة لهذا التحصين، عملاً بقوله -تعالى-: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، والتزاماً بقول رسول الله- : «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته»([1])، وأوّل ما سنُسأل عنه هو هذه النفس، أين وضعناها؟ وفي أيّ طريق سلكنا بها؟

ويتمّ ذلك التحصين من خلال أمور، منها:

1. الالتزام بالمواظبة على تلاوة بعض من آيات القرآن الكريم كلّ يوم بقدر الإمكان، أو أقلّه بالإنصات إلى مقرئيها بخشوع وتدبّر وتفكر، ففيها ﴿بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾([2])؛ ذلك أنّه «مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْه بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ - زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى»([3])، كما عن أمير المؤمنين% .

2. قراءة ما تيسّر من الأدعية والمناجاة والأذكار.

3. كثرة التردّد إلى المسجد، فعن النبيّ-  في وصيّته لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ، إنّ الله يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكلّ نفَس تتنفّس فيه درجة في

 


([1]) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج72، ص38.

([2]) سورة الأعراف، الآية 203.

([3]) السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص252.

 

73


68

الموعظة الثانية عشرة: مفاسد الفراغ

الجنّة، وتصلّي عليك الملائكة، ويُكتب لك بكلّ نفس تنفّست فيه عشر حسنات، ويُمحى عنك عشر سيّئات»([1]).

4. اتّخاذ أصدقاء صالحين في الله، يرشدهم ويرشدونه، ويتخلّص بهم من قرناء السوء، ومن العزلة وسلبيّاتها، عن الإمام الصادق% ، عن آبائه(  قال: «قال رسول الله-  في حديث، ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام مثل أخ يستفيده في الله»([2]).

5. محاسبة الإنسان نفسه كلّ يوم، أو كلّ أسبوع، عمّا فعله وعن وقته وساعات حياته أين أمضاها، فإن كان خيراً شكر الله على ذلك واستزاد منه، وإن كان شرّاً استغفر وتاب عنه، وعزم على ألّا يعود إليه كرّة أخرى، فقد أوصى النبيّ الكريم محمّد-  أبا ذرّ بذلك قائلاً: «يا أبا ذرّ، حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وِزن نفسك قبل أن تُوزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تُعرض، لا تخفى على الله خافية... يا أبا ذرّ، لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه»([3]).

 


([1]) الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج12، ص233.

([2]) المصدر نفسه، ج4، ص117.

([3]) المصدر نفسه، ج16، ص98.

 

74


69
واتقوا الله